وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثّبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها ولكن لم يكن الظّفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات المنون، والاصطلاء بجمرات الحرب الزّبون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدّر أنّه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السّيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفّقت بحارهم على جداول من معه ولولا حكم القدر لا نتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد فلم يفد له الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملي للكافرين بما قدّر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوّضوا بما لم يعرفوه من الإقدام عمّا ألفوه من الفرار. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
«1» وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالا فلا ينسب إلى من كانت عليه [وبالا] «2» إذا اجتهد ولم يساعده القدر أنه قصّر، مع أنه قد اشتهر بما فعله في مجاله، من الذّبّ عن رجاله، وما أبداه في قتاله، من الضّرب الذي ما تروّى فيه خصمه إلّا بدره بارتجاله، وأن الرّماح التي امتدّت إليه أخرس سيفه ألسنة أسنّتها، والجياد التي أقدمت عليه جعل طعنة أكفالها مكان أعنّتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله، ووقف وما في الموت شكّ لواقف ليحمي خيله ورجله، حتّى تحيّز أصحابه إلى مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النّصر، إذ فاته النّصراء وفاته النّصر، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد وفقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر، [وكذا فليكن قلب] «3» الجيش كالقلب يقوى بقوّته الجسد، وإذا حقّ اللّقاء فلا يفرّ عن كناسه إلّا الظّبي ولا يحمي [عرينه] «4» إلّا الأسد، وما بقى إلّا أن تعفو الكلوم، وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من فلول المضارب صدور الصّفاح،(8/301)
وتنهض لاقتضاء دين الدّين، من غرمائه المعتدين، وتبادر إلى استنجاز وعد الله بأن الله يمحّص المؤمنين، ويمحق الكافرين، واللّيث إذا جرح كان أشدّ لثباته، وأمدّ لوثباته، والموتور لا يصطلى بناره، والثّائر لا يرهب الإقدام على المنون في طلب ثاره، والدهر ذو دول، والزمان متلوّن إن دجت عليكم منه بالقهر ليلة واحدة فقد أشرقت لكم منه بالنّصر ليال أول، فالمولى لا يلتفت إلى ما فات، ويقبل بفكره على تدبير ما هو آت، ويعدّ للحرب عدّته، ويعجل أمد الاستظهار ومدّته، ولا يؤخر فرصة الإمكان، ولا يعيد ذكر ما مضى فإنه دخل في خبر كان، ولا يظهر «1» بما جرى عجزا، فإن العاجز من ظنّ أنه يصيب ولا يصاب، ولا يتّخذ غير ظهر حصانه حصنا فلا حرز أمنع من صهوة الجواد ولا سلّم أسلم من الرّكاب، وليعلم أن العاقبة للمتقين، ويدّرع جنّة الصّبر ليكون من النّصر على ثقة ومن الظّفر على يقين، فإن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كانت يده الطّولى، وإذا لقي عدوّ الله وعدوّة فليصبر لحملته فإنّ الصبر عند الصّدمة الأولى والله تعالى يكلؤه بعينه، ويمدّه بعونه، ويجعل الظّفر بعدوّه موقوفا على مطالبته له بدينه.
ومن ذلك ما كتبه على لسان المهزوم يتضمن الاعتذار، ويصف الاحتفال بأخذ الثّار:
هذه المكاتبة إلى فلان: أتبع الله ما ساءه من أمرنا مع العدوّ بما يسرّه، وبلّغه عنّا من الانتصاف والانتصار ما يظهر من صدور الصّفاح وألسنة الرّماح سرّه، وأراه من عواقب صنعه الجميل بنا ما يتحقّق به أنّ كسوف الشمس لا ينال طلعتها وأنّ سرار القمر لا يضرّه. توضح لعلمه أنه ربما اتّصل به خبر تلك الوقعة التي صدقنا فيها اللّقاء، وصدمنا العدوّ صدمة من لا يحبّ البقاء، وأريناه حربا لو أعانها التأييد فلّلت جموعه، وأذقناه ضربا لو أنّ حكم النّصر فيه إلى النّصل أوجده(8/302)
مصارعه وأعدمه رجوعه. وحين شرعت رياح النّصر تهب، وسحاب الدماء من مقاتلهم تصوب وتصب، وكرعت الصّفاح في موارد نحورهم، وكشفت الرّماح خبايا صدورهم، وما بقي إلّا أن تستكمل سيوفنا الرّيّ من دمائهم، وتقف صفوفنا على ربوات أشلائهم، وتقبض بالكفّ من صفحت الصّفاح عن دمه، وتكفّ بالقبض يد من ألبسته الجراح حلّة عندمه،- أظهروا الخرع «1» في عزائمهم، وحكّموا الطّمع في غنائمهم، فحصل لجندنا عجب أعجل سيوفنا أن تتمّ هدم بنائهم. وطمع منع جيوشنا أن تكفّ عن النّهب إلى أن تصير من ورائهم، فاغتنم العدوّ تلك الغفلة «2» التي ساقها المهلكان، العجب والطّمع، وانتهز فرصة الإمكان «3» ، التي أعانه عليها [المطمعان] «4» إبداء الهلع، وتخلية ما جمع، فانتثر [من جمعنا] «5» بعض ذلك العقد المنظّم، وانتقض من حزبنا ركن ذلك الصّفّ الذي أخذ فيه الزّحام بالكظم، وثبت الخادم في طائفة من ذوي القوّة في يقينهم، وأرباب البصائر في دينهم، فكسّرنا جفون السّيوف، وحطّمنا صدور الرّماح في صدور الصفوف، وأرينا تلك الألوف كيف تعدّ الآحاد بالألوف، وحلنا بين العدوّ وبين أصحابنا بضرب يكفّ أطماعهم، ويردّ سراعهم، ويعمي ويصمّ عن الآثار والأخبار أبصارهم وأسماعهم، إلى أن نفّسنا للمنهزم عن خناقه، وآيسنا طالبه عن لحاقه، ورددناه عنه خائبا بعد أن كادت يده تعتلق بأطواقه، وأحجم العدوّ مع ما يرى من قلّتنا عن الإقدام علينا، ورأى منا جدّا كاد لولا كثرة جمعه يستسلم به إلينا، وعادوا ولنا في قلوبهم رعب يثنيهم وهم الغالبون، [ويدركهم وهم الطالبون] «6» ويسلبهم رداء الأمن وهم السالبون، وقد لمّ الخادم شعث رجاله، وضم فرقهم «7» بذخائر ماله،(8/303)
وأمدّهم بنفقات أصلحت أحوالهم، وأطلقت في طلب عدوّ الله أقوالهم، وسلاح جدّد استطاعتهم، وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوّهم، وتحضّهم على أخذ حظّهم من اللقاء كأنّها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوّهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوّة جلدهم ولا بحدّة أسيافهم، وسيعجلون العدوّ- إن شاء الله تعالى- عن اندمال جراحه، ويتعجّلون إليه بجيوش تسوء طلائعها في مسائه وتصبّحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنّة نصره من يدنا.
الصنف التاسع (المكاتبة بتوبيخ المهزوم وتقريعه والتّهكّم به)
وهذا النوع من المكاتبات قليل الوقوع، ولذلك لم يتعرّض إليه في «موادّ البيان» . والذي ينبغي أن تبنى المكاتبة فيه عليه ذكر هزيمة المهزوم وما استولى عليه من الغلبة والقهر، وصورة الحال في النّصرة عليه، والاستيلاء على بلاده وأمواله وسائر ذات يده، وأسر رجاله، واسترقاق ذراريّهم ونسائهم، وما يجري مجرى ذلك، ممّا فيه إيلام خاطره، وتقطيع قلبه حسرات على ما ناله، ونحو ذلك ممّا يدعو المكتوب إليه إلى الطاعة، ويوجب الانقياد.
وهذه نسخة كتاب من هذه النّمط، كتب به القاضي محيي الدّين «1» بن عبد الظاهر رحمه الله، إلى البولس بيمند «2» ملك الفرنج، المستولي على طرابلس من(8/304)
الشام، وأنطاكية من بلاد العواصم حين غزاه الملك «1» في طرابلس، ثم قصد أنطاكية فأخذها من عانيه «2» ، وهي:
قد علم القومص الجليل المنتقلة مخاطبته- بأخذ أنطاكية منه- من البولسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النّصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض ودارت الدّوائر على كلّ دائر، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قطّرت الرجال واستخدمت الأولاد وتملّكت الحرائر، وكيف قطّعت الأشجار ولم يترك إلّا ما يصلح لأعواد المجانيق- إن شاء الله تعالى- والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيّتك الأموال والحريم والأولاد والحواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهّل العازب واستخدم الحريم وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشيّ عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا: عليّ هذا الصّوت، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخّرناك وما كان تأخيرك إلّا لأجل معدود، وكيف فارقنا بلادك وما بقيت فيها ماشية، إلّا وهي لدينا ماشية، ولا جارية، إلّا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية، إلّا وهي بين أيدي المعاون سارية، ولا زرع إلّا وهو محصود، ولا موجود إلّا وهو منك مفقود، وما منعت تلك المغاير «3» التي هي في رؤوس الجبال الشّاهقة، ولا تلك الأودية التي في التّخوم مخترقة وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدّق أننا نبعد عنك وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تمّ، ونفهمك بالبلاء الذي عمّ.
كان رحيلنا عنك من طرابلس يوم الأربعاء، ونزولنا أنطاكية في شهر(8/305)
رمضان، وفي حال النّزول خرجت عساكرك للمبارزة وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كبد اسطبل «1» فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك، وإن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشّرّ واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنّهم قد قدّر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن السّاعة لكم نحاصر، وهذا هو الأوّل في الإنذار والآخر، فرجعوا به متشبّهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففي بعض ساعة مرّشان المرشان، وداخل الرّهب الرّهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كلّ مكان، وفتحناها بالسّيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كلّ من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا فما بقي أحد منّا إلّا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيّالتك وهي صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهّابة فيها تصول والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك وكلّ أربع منها تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسّرت ونثرت، وصحفها من الأناجيل المزوّرة قد نشرت، وقبور البطارقة وقد تغيرت، ولو رأيت عدوّك المسلم وقد داس مكان القدّاس، والمذبح وقد ذبح فيه الرّاهب والقسّيس والشّمّاس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء المملكة وقد دخلوا في المملكة، ولو شاهدت النّيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بونصر وكنيسة القسيّان وقد زلّت كلّ منهما وزالت- لكنت تقول: ياليتني كنت ترابا، ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفيء تلك النيران بماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت، ومراكبك وقد أخذت في السّويديّة بمراكبك، لصارت شوانيك من شوانيك، ولتيقّنت أن الإله الذي أنطاك «2» أنطاكية منك استرجعها،(8/306)
والرّبّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها ومن الأرض اقتلعها. ولتعلم أنّا قد أخذنا- بحمد الله- منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام، وهو دركوش «1» ، وشقيف تلّ منّس «2» ، وشقيف كفردبّين «3» ، وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية في هذه المدّة إقامة (؟) وكونك ما كنت بها، فيكون إما قتيلا، وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعلّ الله إنّما أخّرك لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولمّا لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولمّا لم يقدر أحد [أن] يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشّرناك، لتتحقّق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أنّ بعيد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل عمّا جرى.
وهذه نسخة في هذا المعنى، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
هذه المكاتبة إلى فلان أقاله الله عثرة زلّته، وأقامه من حفرة ذلّته، وتجاوز له عن كبيرة فراره من جمع عدوّه على قلّته.
بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها [العدوّ] «4» بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المجال، من الظّلّ في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف(8/307)
الخيال، يمشون «1» إليه بقلب واجب، ويهتدون من تخرّصه برأي «2» بينه وبين الصّواب ألف حاجب، ويأتمّون منه بمقدّم يرى الواحد من عدوّه كألف، ويتسرّعون منه وراء مقدام يمشي إلى الزّحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره طالعة، وطلائعه كالنّجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعدّ لمحارب فتعدّ لهارب، وأنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوّه لما رأى «3» من عدده وعدده معاجلة الحين، أعجل نصول العدا عن وصولها، وترك غنيمة الظّفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة أسنّته: الكرّة الكرّة فلا يلوي إلى ندائها، وتشكو إليه سيوفه الظّمأ وقد رأت موارد الوريد فيردّها إلى الغمود بدائها، فمنح عدوّه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلّى لهم خزائن سلاحه التي أعدّها لقتالهم فأصبحت معدّة لقتاله، فنجا منجى الحارث ابن هشام، وآب بسلامة أعذب منها- لو عقل- شرب كأس الحمام، واتّسم بين أوليائه وأعدائه بسمة الفرار، وكان يقال: النّار ولا العار، فجمع له فراره من الزّحف بين النّار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح، لا علم بما جرى عند أسيافهم، ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظّبا في أكتافهم، فبأيّ جنان يطمع في معاودة عدوّه من هذا قلبه، وهؤلاء حزبه، [وذلك القتال قتاله وتلك الحرب حربه] «4»
وبعد، فإن كانت له حميّة فستظهر آثارها، أو أريحيّة فستشبّ نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدّنيّة، وتبعثه على طلب غايتين: إما شهادة مريحة أو(8/308)
حياة هنيّة، والله تعالى يوقظ عزمه من سنته، ويعجل له الانتصاف من عدوّه قبل إكمال سنته.
الصنف العاشر (في المكاتبات بالتضييق على أهل الجرائم)
قال في «موادّ البيان» : لم يزل السلطان يكتب إلى الولاة- عندما ينتهي [إليه] من إقدام الرّعايا على ارتكاب الجرائم، واستباحة المحارم، واقتراف المآثم، كالزّنا واللّواط، وشرب الخمر، وقطع الطّرق، والغصب والتّظالم، وما يجري هذا المجرى- بالتضييق عليهم، وإقامة حدود الله تعالى فيهم.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله الباديء بنعمته قبل افتراض طاعته، الممتنّ بفضله قبل إيجاب شكره، خالق الخلائق جودا وكرما، وموسعهم منّا ونعما، الذي اختار دين الإسلام وطهّره من الأرجاس، ونزّهه عن الأدناس، واختصّ به صفوته من الناس، وابتعث به محمدا سيّد المرسلين: لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين
«1» يحمده أمير المؤمنين أن فوّض إليه إيالة خلقه، وأقدره على القيام بخدمته، ونصبه لإعزاز دينه، والمحافظة على مفروضه ومسنونه، وذيادة العباد عن محارمه التي نهى عن التعدّي إليها، وإقامة الحدود عليهم فيها، ويسأله الصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثم يقال: وإنّ أمير المؤمنين يرى أنّ من أعظم نعم الله تعالى عليه توفيقه لحفظ ما استحفظه من شريعته، ورعاية ما استرعاه من بريّته، وتوفير القيام على من قلّده النّظر فيهم، واعتماد ما يعود بالصّلاح في الدّين والدّنيا عليهم، ومساواته بين قريبهم وبعيدهم في تفقّده، ومماثلته بين قاصيهم ودانيهم في تعهّده، فلا ينال القريب [فقط] نصيبا من رعايته ويعلّم جاهلهم، ويهدي حائرهم، ويشحذ بصائرهم، ويثقّف مائدهم، ويصلح فاسدهم، ويتخوّلهم من مواعظه بما يبرّد(8/309)
الغلل، ويشفي العلل، وينسخ الشّك باليقين، ويقبس مقابس النّور المبين، [فمن] أصغى إلى إرشاده سعد جدّه، وورى زنده، وأحمد يومه وغده، ومن خالف عن أمره ضلّ مسعاه، وخسر آخرته ودنياه، ودعا إلى اتباع أمر الله تعالى في تقويمه وإصلاحه، والكفّ بإقامة الحدود عليه من جماحه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين ما أقدم عليه الأحداث وأهل الدّعارة قبلكم من احتقاب الآثام، واستدماث مراكب الحرام، والاستهتار بمحظور اللّذّات، والإكباب على دنيء الشّهوات التي تسلخ من الدّين، وتخرج عن دائرة المسلمين، وتدفع عن تأدية العبادات، وإقامة الصّلوات، وتنظم في سلك البهائم المرسلة، والسوائم المهملة، وتقصير مشايخهم وعلمائهم عن كفّهم، والأخذ على أكفّهم، وتعريفهم وجوه مراشدهم وتقويم أودهم «1» ، فامتعض من ذلك، وأشفق من نزول القوارع والمثلات، وحلول البليّات والآيات، وارتجاع ما أودعكم الله تعالى من نعمته، وانتزاع ما ألبسكم من رحمته، وبادر بكتابه موقظا لغافلكم، ومبصّرا لذاهلكم، وباعثا لكم على مراضيه الأولى، ومعاودة الطريقة المثلى، ومبادرة آجالكم بأعمالكم، والأخذ لأخراكم من أولاكم، ولسقمكم من صحتكم، ولنومكم من يقظتكم، عالمين بأن الدنيا لعب ولهو، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنكم فيها كسفر شارفوا المنزل، فاجهدوا عباد الله واحتشدوا، وأقلعوا وارجعوا، واسمعوا وعوا، فكأنكم والله وقد توضّحت خدعها، وتصرّم متاعها، وجلّ متوقّعها، والسعيد من وثق بما قدّم لنفسه بعد نفاد أيّامه، وورود حمامه، والشّقيّ من أفرط وفرّط، وندم حيث لا مندم- وأوعز إلى والي الحرب فلان بقراءة ما نصّ فيه عليكم، واختبار سيركم بعد مروره على أسماعكم، فمن رغب في التّقوى، وآثر الآخرة على الدنيا، عرف ذلك وتوخّاه بتكرمته وتخوّله، ومن أبى إلّا غواية وضلالا، وبطالة ومحالا، أقام حدّ الله تعالى عليه غير مراقب فيه، فرحم الله عبدا صان نفسه في هذه الدار عن العار، وحماها في الآخرة من عذاب النّار، وأمير(8/310)
المؤمنين يرجو أن ينفعكم الله بهدايته، ويشفي صدوركم بموعظته، ويرشدكم إلى ما يفضي بكم إلى الكفاية والحماية. فليعلم فلان بن فلان ذلك من أمير المؤمنين ورسمه، وليعمل عليه بجملته، إن شاء الله تعالى.
الصنف الحادي عشر (الكتب في النّهي عن التّنازع في الدّين)
قال في «موادّ البيان» : من أهمّ ما صرف إليه السلطان تفقّده، ووقف عليه [تعهّده] أمر الرعايا في أعماله، وتنفيذ الكتب إليهم بالنّهي عن التنازع في الدين، وحسم أسباب المجادلة والمراء، والتّحذير من اتّباع البدع والأهواء، والإخلاد إلى مضلّ النّحل والآراء؛ لأنه متى فسّح لهم في هذا الباب صاروا شيعا متباينين، وفرقا متحاربين، وانشقّت عصاهم، وانقضت حيلهم، وخرجوا عن أحكام أهل السلامة إلى أحكام أهل الفتنة، وعاد ضرر ذلك على الدّين والسّلطان. ولهذا صرف إليه السّاسة الحزمة من الملوك الاهتمام، ولم يبخلوا بحسم مادّته على تغاير الأيام.
ثم قال: والرسم فيها أن تصدّر بحمد الله تعالى على نعمه في تأليف كلمة أهل الإسلام، وما منّ به عليهم من الاتفاق والالتئام، وشكره على موهبته في نزع الغلّ من صدورهم، والتأليف بين قلوبهم، وتصييرهم إخوانا متصافين، وخلّانا متوافين، وعونهم بما وفّقهم له من إظهارهم على من شقّ عصاهم، وإقدارهم بما منحهم من الألفة على مراماة من راماهم، والصّلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. ثم يشفع هذا بأن أمير المؤمنين بما مكّنه الله تعالى من مراضيه، ووفّقه له من القيام بفرضه، والنّهوض بحقوق طاعته، والعمل بكتابه وسنّته، ورغبته في الخير العام وشمول الصّلاح لكافّة الأنام- لا يزال يحضّ رعيّته على ما يقضي بسداد دنياهم، وحسن المنقلب في أخراهم، ويرى أن أنفع ذلك عائدة، وأجزله فائدة، ما رفع عنهم أسباب التّنافر، ودعاهم إلى التّعاضد والتّظافر، وحال بينهم وبين الخوض في محدث النّحل والآراء، والإصغاء إلى مضلّ البدع(8/311)
والأهواء التي تصدّ عن سنن الهدى، وتلقي في مهاوي الرّدى، وتدعو إلى شقّ العصا، وتقضي بانتثار النّظام، واختلاف الأنام، وانفصام عرى الإسلام، وكفّهم عن المماراة في الدّين، والإصغاء إلى سنّة المضلّين، المعطّلة للسّنن، القادحة للفتن، الداعية إلى احتقاب الآثام، وإراقة الدّماء الحرام، ونحو هذا مما يضاهيه.
ثم يقول: وانتهى إلى أمير المؤمنين التفاتكم عن معايشكم التي جعلها الله لدنياكم قواما، وعبادتكم التي صيّرها لآخرتكم نظاما، وإقبالكم على المماراة والمنازعة، والمناظرة والمجادلة، إلى شكوك يقيمها من يرغب في الرّياسة والتّقدّم، ليفوز بخبيث المطعم الذي يعمي البصائر، ويفسد السرائر، ويقدح زند الضّلال، ويشبّ نار المحال والانتحال، فامتعض أمير المؤمنين من ذلك وخاف عليكم أليم عاجلته، وذميم آجلته، وبادركم بكتابه هذا منبّها لغافلكم، ومرشدا لجاهلكم، وباعثا لكم على التّشاغل بما أطاب أخباركم، وحسّن آثاركم، من تلاوة كتاب الله الذي آثركم بتلاوته، وزيارة بيوت عبادته، والتأدّب بأدب نبيّه وعترته، وأوعز إلى النائب في الحرب بتقويم من خرج عن أمره، وتثقيف من أصرّ على غيّه، وأن يحسم الداء قبل استشرائه، ويستدركه دوين استفحاله، فاصغوا إلى زواجر أمير المؤمنين ومواعظه، واقتدّوا بهديه ومراشده، لتفوزوا بطاعته، وتسعدوا برضاه، وتسلموا في الحاضر، من مهانة أنتم بغيرها أولى، إن سلكتم الطريقة المثلى، وفي الغابر مما أعدّه الله لمن خالف عن أمره من العقاب في الدار الأخرى، فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله تعالى.
قال: وقد يكتب السلطان إلى الرّعيّة بالنّهي عن التّفاخر بالبادية والتنازع في العصبيّة. ثم قال: والطريقة في هذا المعنى مشتقة من طريقة هذا الرسم.
الصنف الثاني عشر (المكاتبة بالأوامر والنواهي)
قال في «موادّ البيان» : على هذه الكتب مدار أشغال السلطان في أعماله؛(8/312)
لأنها النافذة في تصريف الأمور وتنفيذ المراسيم ولاية وعمالة.
قال: وليس لهذا أمثلة فنوردها، لكنّه ينبغي للكاتب أن يؤكّد القول بها، فإن الأمر فيها والنّهي- وإن اختلف نظمهما- نوع واحد؛ لأن كلّ مأمور به منهيّ عن ضدّه، وكلّ منهيّ عنه مأمور بضدّه، فينبغي له أن يؤكّد القول في امتثال ما أمر، والعمل عليه والإنفاذ له، والانتهاء عما نهى عنه، والحذر من الإلمام به.
ويجزم الأمر في العبارة عنهما جزما تامّا لا يتمكّن معه من الإخلال ببعضهما والنّقص فيهما لهوى، ويأتي من المبالغة بما يضيّق العذر، ومتى وقع تقصير أو تثاقل عما حدّد فيهما، فإنّما يمثّل ذلك بمثل جامعة مع تفنّن المعاني التي يأمر بها وينهى عنها. ثم قال: والكاتب إذا عرف الترتيب الواقع في هذين الغرضين على طريق الإجمال، أمكنه أن يبسطه إذا احتاج إلى التفصيل والبيان بمشيئة الله تعالى.
واعلم أنه كان للخلفاء والملوك وولاة الأمور في قديم الزمان عناية بالكتابة إلى الرعايا بالأوامر والنّواهي المتعلقة بالدّين، من الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وما يجري مجرى ذلك، وإلى العمّال بالوصيّة بالرعايا، والاجتهاد فيما لديهم من جباية الخراج، والاهتمام بأمر الدّواوين، وما أشبه ذلك.
فأما الأوامر والنواهي المتعلقة بالدّين، فقد تقدّم في الكلام على مصطلح أهل الغرب في أوائل هذه المقالة من إنشاء أبي زيد «1» الفازازي ما أغنى ذكره هناك عن إعادته هنا أو ذكر غيره.
وأما الأوامر والنواهي المتعلقة بأمور السّلطنة، فمن ذلك ما كتب به أبو عبد الله بن الجنان «2» ، عن الأمير أبي عبد الله بن «3» هود أحد ملوك الطوائف(8/313)
بالأندلس في الرّفق بالرّعيّة، وهو:
أما بعد حمد الله تعالى معلي منار الحقّ ورافعه، ومولي متوالي الإنعام ومتتابعه، والصلاة على سيدنا محمد رسوله مشفّع الحشر وشافعه، المبعوث ببدائع الحكم وجوامعه، وعلى آله وصحبه المبادرين إلى مقاصده العليّة ومنازعه، والذّابّين عن حوزة الإسلام بمواضي الاعتزام وقواطعه، والرّضا عن الخليفة الإمام العباسيّ أمير المؤمنين ذي المجد الذي لا ينال سموّ مطالعه.
فإنا كتبنا إليكم، كتب الله لكم عزّة قدحها بالثبوت فائز، وسعادة قسطها للنّماء حائز، من فلانة: وكلمة الحقّ منصورة اللّواء، منشورة الأضواء، والتوكّل على الله في الإعادة والإبداء، والتسليم إليه مناط أمرنا في الانتهاء والابتداء، وحمد الله تعالى وشكره وصلتنا إلى نيل مزيد النّعماء والآلاء، ومكانتكم لدينا مكانة السّنيّ المناصب، المنتمي إلى كرام المنتميات والمناسب، المتحلّي في الغناء والاكتفاء، والخلوص والصفاء، بأكرم السّجيّات والمناقب، المعلوم ما لديه من المناصحة السّالكة بأكرم السّجيّات في المناحي الحسان على المهيع الأوضح والسّنن اللّاحب.
وقد وقفنا على كتابكم معلما بخبر فلانة وبما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في سبب تأمينها، ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح،(8/314)
وتتوخّون ما تتوسمون فيه النّجاح، لكن أهمّ الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرّفق بالرّعيّة، وحملها على قوانين الإحسان المرعيّة، وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب [أهل] فلانة المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرّفين فيهم، ويتظلّمون من متحيّفيهم ومتعسّفيهم، وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم، فإنه إذا كان الناظر في خدمة ممّن لا يحسن سياسة الأمور، ولا يعلم طريق الرّفق الحاوية لرفق الخاصّة والجمهور، أعاد التّسكين تنفيرا، والتّيسير تعسيرا، وتعلمون أنا لا نقدّم على إيثار العدل في عباد الله المسلمين عملا، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلا، وأنتم أوّل وأولى من يعتقد فيه أنه يكمّل هذا المقصد، ويتحرّى في مصالح الرعايا هذا السّنن الأرشد، وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، ويبسط أملهم، وعرّفناهم بأنكم لو علمتم ما هو جار عليهم من [بعض] الخدمة لأخذتم على يده، وجازيتموه بسوء معتمده، وأشعرناهم بأنّا قد استوصيناكم بهم خيرا، ونبّهناكم على ما يدفع عنهم ضيما ويرفع ضيرا، وأنتم- إن شاء الله- تستأنفون نظرا جميلا، وتؤخّرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السّياسة سبيلا، وتقدّمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشية الرّفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكّد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطيّ ويصاحبه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث عشر (المكاتبات عند حدوث الآيات السّماويّة)
قال في «مواد البيان» : جرت العادة أن يكتب السلطان إلى الرعايا- عند حدوث الآيات المهوّلة التي يريد الله تعالى بها إرشاد عباده إلى الإقلاع عن معصيته، والإقبال على طاعته، كالرّياح العواصف، والزّلازل والصواعق، واحتباس القطر وخروجه في التّسكاب عمّا جرت به العادة- كتبا يضمّنها من الوعظ الشافي الرّقيق ما يأخذ بمجامع القلوب، ويشعرها التّقوى والرّهبة، ويبعث على المراقبة والنّظر في العاقبة.(8/315)
قال: وينبغي للكاتب أن يتلطّف في الموعظة، ويبالغ في الذّكرى التي تخطر الخواطر وتقدح الأنفس، وتحرّك العزائم نحو الإخلاص، فإنه إذا أبرز هذه المعاني في صور [تشعر] «1» الخيفة من غضب الله تعالى وعقابه، وترغّب في عفوه وثوابه، نفع الله بذلك (؟) من رغب عن الهوى، ورغب في التقوى بكتابه.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على آلائه التي يفيضها ابتلاء واختبارا، وآياته التي يرسلها تخويفا وإنذارا، وموهبته في التوقيف بسابغ نعمته على طاعته، والتحذير بدافع نقمته من معصيته، والصلاة على رسوله الذي أنقذ بشفاعته، وعصم من نزول القوارع بنبوّته. ثم يقدّم مقدّمة تتضمن أن الله تعالى يقدّم الإعذار أمام سخطه وعذابه، ويبدأ بالإنذار قبل غضبه وعقابه، فمن استيقظ من سنته، ونظر لعاقبته [ونهض] «2» إلى طاعته، وأقلع عن معصيته، كشف الرّين «3» عن قلبه، وضاعف أجره، ومن أضرب عن موعظته، وتعامى عن تبصيره وتذكيره، أخذه على غرّته، وسلبه سربال نعمته.
ثم يأخذ في حثّ الأمة على الفزع إلى الصّلوات، والمسارعة إلى بيوت العبادات، والإكثار من التّضرّع والخشوع، والاستكانة والخنوع، بإذراء سحائب الدموع، وإخلاص التّوبة عن محتقب الآثام ومخترع الأوزار، والتّوسّل إلى الله تعالى في قبول الإنابة بقلوب نقيّة، وطويّات على الطهارة مطويّة، وسرائر صريحة، ونيّات صحيحة، يصدّقها النّدم على الماضي، وعقد العزم على الإقلاع في الآتي، والرّغبة إليه في رفع سخطه وإنزال رحمته، وما يجاري هذا.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات قد ترك في زماننا، فلا عناية لأحد به أصلا، وإن كان مما يجب الاهتمام به وتقديمه.(8/316)
الصنف الرابع عشر (المكاتبات في التنبيه على شرف مواسم العبادة وشريف الأزمنة)
قال في «موادّ البيان» : إن الله وقّت لعباده أوقاتا عظّم شانها، ورفع مكانها، وأمرهم أن يتقرّبوا فيها إليه بتأدية ما فرضه عليهم لطفا بهم ورأفة، وحنانا ورحمة.
قال: ولم يزل السلطان يكتب إلى عمّاله بتنبيه الرعايا عليها، وتعريفهم فضل العبادة فيها، ليستقبلوها بالإخبات والخشوع، ويتلقّوها بالتّضرّع والخضوع، ويتوسلوا في قبول التّوبات، وغفران الخطيّات، حفظا لنظام الدين، وتفقّدا لمصالح المسلمين.
قال: وينبغي للكاتب أن يحسن التّأتّي في هذه الكتب «1» ويذكّر النّاسي وينبه الغافل اللّاهي، والمهمل السّاهي، ويحرّك النفوس نحو مصالحها، ويبعثها على الأخذ بفاضل الأعمال وصالحها.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على أن وهب لعباده أوقاتا يتقبل فيها قربهم وأعمالهم، ويخفّف بالإنابة إليه عند حلولها أوزارهم وأثقالهم، فيغفر لمستغفرهم، ويعفو عن مسيئهم، ويتقبل التّوبة عن تائبهم، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله. ثم يقدّم مقدّمة مبنية على تعظيم هذه الأوقات، والإنابة عما في قصرها على العبادات، والمسابقة إلى الخيرات، من عظيم الثواب. ويشفع ببعث الولاة على أخذ الرعايا بالمحافظة على السّنن، وتعهّد حقّ الله تعالى فيها، والتّوسّع في توكيد الحجّة، ونفي الشبهة، وإيراد المواعظ الرادعة، والزواجر الوازعة، التي تعود بشحذ البصائر، وصفاء الضّمائر، والإتيان بحقوق هذه الأوقات وواجباتها، والفوز بما يوفّره من جزيل بركاتها، والتّوفّر على حسن مجاورتها، والتقرّب إلى الله تعالى ببذل الصّدقات، والإقبال على الصّلوات وزيارة(8/317)
بيوت العبادات، ومذاكرة أهل الدّين، والسّعي في مصالح المسلمين، ونحو ذلك مما يناسبه.
ثم قال: فإن كان الكتاب مقصورا على الدعاء إلى الحجّ افتتح بالحمد لله على أن جعل لعباده حرما آمنا يمحّص ذنوبهم بزيارته، ويمحو آثامهم بحجّه ووفادته، ويلي ذلك ما يليق به من الحثّ على تأدية المناسك، وتكميل الفرائض والسّنن، وزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الحكم في سائر الأبواب الدّينية.
الصنف الخامس عشر (المكاتبة بالسلامة في الركوب في المواسم والأعياد وما ينخرط في سلكها من المواكب الجامعة)
قال في «مواد البيان» : جرت العادة أن يكاتب السلطان عمّاله وولاته بسلامة المواسم الإسلامية كلّها؛ لأنها تشاهد لجميع أصناف الرّعايا وذوي الآراء المختلفة والمذاهب المتباينة، والقلوب المتعادية والمتصاحبة في أمر الدين والدنيا، وكلّ متربّص لفتنة ينتهز فرصتها. فلا تكاد هذه المشاهد تخلو من ثورة وحدوث أحداث منكرة تفضي إلى الفتن التي لا ترفع. فإذا أنعم الله تعالى بالسلامة منها، وجب التّحدّث بنعمته، والشّكر لمشيئته، وأن يكتب أمير المؤمنين بسلامة ما قبله إلى عمّاله، لتسكن الكافّة إلى ذلك، ويشتركوا في حمد الله تعالى عليه.
واعلم أن المواسم التي كان يعتاد الخلفاء الركوب فيها والكتابة بالسلامة منها هي: عيد الفطر، وعيد النّحر. وكان الخلفاء الفاطميّون بالديار المصرية يعتادون مع ذلك الركوب في غرّة السّنة، وفي أوّل رمضان، وفي الجمعة الأولى، والجمعة الثانية، والجمعة الثالثة منه، على ما تقدّم ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية. وكذلك «عيد الغدير» : وهو عيد من أعياد الشّيعة كما سيأتي ذكره. ونحن نشير إلى ذكر مواكبها موكبا موكبا، ونذكر ما جرت به العادة في الكتابة في البشارة بالسلامة في ركوب كلّ موكب منها.
الأوّل- البشارة بالسلامة في الركوب في غرّة السنة
. وقد تقدّم الكلام على(8/318)
صورة الموكب في الكلام على ترتيب المملكة في الدّولة الفاطمية بالديار المصرية في المقالة الثانية.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، أورده أبو الفضل الصّوريّ في تذكرته، وهي:
الحمد لله الذي لم يزل يولي إحسانا وإنعاما، وإذا أبلى عبيده عاما أجدّ لهم بفضله عاما، فقد أمدّكم معاشر [الخلفاء «1» ] كرما ومنّا، وآتاكم من جوده أكثر ممّا يتمنّى، ومنحكم من عطائه ما يوفي على ما أردتموه، وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه «2»
وقد استقبلتم هذه السّنة السعيدة، وإذا عملتم بالطاعة كنتم مستنجزين من ثواب الله الأغراض البعيدة.
وصلّى الله على سيدنا محمد نبيّه الذي غدت الجنة مدّخرة لمن عمل بهداه لمّا سمعه، ومهيّأة لمن آمن به واتّبع النّور الذي أنزل معه، وبيّن بإرشاده ما تجري أمور السّنين عليه في العدد والحساب، ونسخ ما كانت الجاهلية [تفعله] فيه زيادة في الكفر وضلالا عن الصّواب، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كمّل الله الإسلام بإمامته، وضاعف الأجر لأهل ولايته، ومنح شيعته مقبول شفاعته، وعلى الأئمة من ذرّيتهما خلفاء الله على خلقه، والقائمين بواجب حقّه، والعاملين في سياسة الكافّة بما يرضيه سبحانه، ويضمن غفرانه ورضوانه، وسلّم عليهم أجمعين، سلاما باقيا إلى يوم الدّين.
وإنّ أحق النّعم بنشر الذّكر وأوجبها للوصف وإعمال الفكر، نعمة رفعت الشّكّ وأزالت اللّبس، ووضح ضياؤها لأولي الألباب وضوح الشمس، واشترك الناس فتضاعفت الفائدة لديهم، وانتفعوا بذلك في تواريخهم ومعاملاتهم ومالهم وعليهم، وتلك [هي] المعرفة باليوم الذي هو مطلع السّنة وأوّلها، ومبدؤها(8/319)
ومستقبلها، وحقيقة ذلك ظهور إمام كلّ زمان. وكان ظهور إمام زماننا مولانا وسيّدنا الإمام فلان- ليتساوى في الشرف برؤيته العامّة والخاصّة، فيكون استقلال ركابه إشعارا بأن اليوم الذي تجلّى فيه لأوليائه، ولرعاياه المتفيّئين ظلّ لوائه، هو افتتاح السنة وأوّل محرّمها، وعليه المعتمد في عدد تامّ الشهور وناقصها من مفتتحها إلى مختتمها- يوم كذا غرّة المحرّم من سنة كذا، في عساكر لا يحصر عددها، وقبائل لا ينقطع مددها، وإذا اضطرمت نار الكفر والتهبت، طفئت بأنوارهم وخبت، وقد تقلّدت هندّية تروع إذا أشرقت وسكنت، فما الظّنّ إذا اصطحبت، والأرض بمرورها عليها مبهجة مونقة، وملائكة الله عزّ وجلّ حافّة به محدقة، فآذن بأن اليوم المذكور هو غرّة السّنة المعيّنة، وأن اليوم الفلانيّ أمسه انسلاخ كذا سنة كذا المتقدمة، لتستقيم أمورهم على أعدل نهوجهم، وليحفظ نظام دينهم في صومهم وفطرهم وحجّهم، وكذلك أصدر هذا الكتاب ليتلوه الأمير على من يسكن عمله، وجميع من قبله، ويتماثلوا في معرفته، ويحمل كلّ منهم الأمر عليه في معتقده وأسباب معاملاته، ويشكروا الله على النّعمة عليهم بهدايته.
وهو يعتمد ذلك ويطالع بكائنه فيه إن شاء الله تعالى، وكتب في اليوم المذكور.
الثاني- البشارة بالسّلامة في الرّكوب في أوّل شهر رمضان
، وهي على نحو مما تقدّم في الركوب في غرّة السّنة.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن «1» الصّير فيّ، وهو:
الحمد لله كاليء خلقه في اليقظة والمنام، والكافل لهم بمضاعفة الأجر في شهر الصّيام، وصلّى الله على سيدنا محمد الذي بعثه رحمة للأنام، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أخلص وليّ، وأشرف وصيّ، وأفضل إمام، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما الدّاعين إلى دار السّلام، صلاة دائمة الاتّصال، مستمرّة في الغدوّ والآصال.(8/320)
وإن من المسرّة التي تتهادى، والنّعمة الشاملة للخلق جميعا وفرادى، ما منّ الله به من ظهور مولانا وسيدنا الإمام فلان، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم كذا غرّة شهر رمضان من سنة كذا، إعلاما بأوّل الشّهر وافتتاحه، وأن الصيام الأوّل من فجره الأوّل قبل تنفّس صباحه، وتوجّهه إلى ظاهر المعزّيّة القاهرة المحروسة في عساكره المظفّرة وجنوده، وأوليائه وأنصاره وعبيده، والمنّة برؤيته قد تساوى فيها الكافّة، وملائكة الله مطيفة حافّة، وعوده إلى قصوره الزاهرة، وقد شمل المستظلين بأفيائه بسعادتي الدنيا والآخرة.
أصدر إليك هذا الأمر لتقف على الجملة، وتشكر النّعمة السابغة على أهل الملّة، وتتلوها على أهل عملك، وتطالع بكائنك في ذلك، فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
الثالث- الكتابة بالبشارة بالسلامة في ركوب الجمعة الأولى من شهر رمضان.
وهذه نسخة كتاب من ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ أيضا، وهي:
أفضل ما سيّر ذكره، ووجب حمد الله تعالى عليه وشكره، ما عاد على الشريعة بالجمال والبهجة، وأضحى واصفه صحيح المقال صادق اللهجة، فضاعف حسنه ومحّص سيّئه، وجعل أسباب السعادة متسهّلة متهيّئة، وذلك ما يسرّه الله تعالى من استقلال ركاب سيّدنا ومولانا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، مؤدّيا خطبتها وصلاتها، وضامنا لأمّة ائتمّت به خلاصها يوم الفزع الأكبر ونجاتها، في وقار النبوّة وسكينة الرّسالة، والهيبة المستولية على العظمة والجلالة، والعساكر الجمّة التي تقلق بمهابتها وتزعج، وتظنّ لكثرتها واقفة والرّكاب يهملج، ولما انتهى إليه، خطب ووعظ ففتح أبواب التّوبة، وآب إلى الطاعات من لم يطمع منه بالأوبة، وصلّى صلاة تقبّلها جلّ وعزّ بقبول حسن، وقصّر في وصفها ذوو الفصاحة واللّسن، وعاد إلى مستقرّ الخلافة، ومثوى الرحمة والرافة، وعين الله له(8/321)
ملاحظة، وملائكته له حافظة. أعلمت ذلك لتذيعه في أهل عملك، وتطالع بكائنك.
الرابع- المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب الجمعة الثانية من شهر رمضان.
قد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة بالديار المصرية في الدّولة الفاطميّة، في المقالة الثانية، أن الخليفة كان يركب في الجمعة الثانية من شهر رمضان إلى الجامع الأنور، وهو جامع باب البحر، الذي عمره الحاكم بأمر الله، وجدّده الصّاحب شمس الدين المقسيّ.
وهذه نسخة كتاب في المعنى، من إنشاء ابن الصّيرفيّ أيضا، وهي:
لم يزل غامر كرم الله وفضله، يفوق حاضره ما كان من قبله، فنعمة الله تعالى سابغة، ومننه متتابعة، وملابسها ضافية، ومغارسها نامية، وسحائبها هامية، وهو جلّ وعزّ يضاعفها على من صلّى وصام، ويواليها عند من تمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصال لها ولا انفصام، وتجدّد من ذلك ما كان من بروز مولانا وسيدنا الإمام فلان، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، يوم الجمعة من شهر رمضان من سنة كذا، في شامخ عزّه، وباذخ مجده، وتوجّهه إلى الجامع الأنور المنسوب إلى مولانا الإمام الحاكم بأمر الله جدّه، سلام الله عليه وصلواته، وبركاته وتحيّاته، وعساكره قد تجاوزت الحدّ، وكثرت عن الإحصاء والعدّ، فإذا تأملها الطّرف انقلب عنها خاسئا وارتدّ.
ولما وصل إلى الجامع المذكور خطب فأورد من القول أحسنه، ووعظ فأسمع من الوعظ أوضحه وأبينه، وصلّى صلاة جهر بالقراءة فيها ورتّلها، وعاد إلى قصوره الشريفة وقد شملت البركات برؤيته، ووفّق من عمل بموعظته، ونجا من اقتدى به في صلاته، واستولى على السّعد من جميع أرجائه وجهاته. أعلمناك ذلك لتعرف قدر النّعمة به، فاشكر الله سبحانه بمقتضاه، واعتمد تلاوة هذا الأمر على رؤوس الأشهاد، فاعلم ذلك.(8/322)
الخامس- المكاتبة بالسّلامة في الرّكوب في الجمعة الثالثة من شهر رمضان.
قد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة في المقالة الثانية أن الخليفة كان يركب في الجمعة الثالثة منه إلى الجامع العتيق «1» بمصر، فيخطب فيه ويعود إلى قصره.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهي:
من عوائد الله- سبحانه- الإحسان إلى عبيده، وتعويضهم للشّكر عليه بنموّه ومزيده، والامتنان بتيسير عصيّه، وتعجيل قصيّه، وتقريب بعيده، فهو لا يخليهم من نواجمه، ولا يعفيهم من هواجمه.
ولما أقبل هذا الشهر الشريف كان من عموم بركاته، وشمول خيراته، أن مولانا وسيدنا الإمام الفلانيّ صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، والى فيه بركاته، وزكيّ أعمال المؤمنين في استماع اختطابه والائتمام بصلاته، وفي هذا اليوم وهو يوم الجمعة من شهر رمضان، أعمل ركابه إلى الجامع العتيق بمصر ليسهم لهذه المدينة من حظّي الدنيا والآخرة، مثل ما أسهمه وعجّله لأهل المعزّيّة القاهرة. فكانت هيبته يعجز وصفها كلّ لسان، وظهر- عليه السّلام- في الرّداءين: السّيف والطّيلسان، والجيوش قد انبسطت وانتشرت، والنفوس قد ابتهجت واستبشرت، والألسنة قد عكفت على الدعاء بتخليد ملكه وتوفّرت. وعند وصوله خطب فأحسن في الألفاظ والمعاني، وحذّر من تأخير التّوبة(8/323)
والتّضجيع فيها والتّواني، وصلّى صلاة شرّفها الله وفضّلها، ورضيها تبارك وتعالى وتقبّلها، وانكفأ عائدا إلى قصوره ومنازله المعظمة، ضاعف الله له ثوابه وأجره، وأوجب شكره ورفع ذكره، ويجب أن تعتمد إذاعة ذلك ليبالغ الكافّة في الاعتراف بالنّعمة فيه، ويواصلوا شكر الله تعالى عليه، والمطالعة بما اعتمد فيه.
السادس- ما يكتب بالبشارة بالسّلامة في ركوب عيد الفطر.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب الدّولة الفاطمية في المقالة الثانية، أن الخليفة كان يركب لصلاة عيد الفطر صبيحة العيد، ويخرج من باب العيد من أبواب القصر، ويتوجه إلى [المصلّى] «1» فيصلّي ويخطب، ثم يعود إلى قصوره، ويكتب بذلك إلى أعمال المملكة، تارة مع خلوّ الدّولة عن وزير، وتارة مع اشتمالها على وزير.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، مع خلوّ الدّولة عن وزير، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهو:
الحمد لله ناشر لوائه في الأقطار، ومعوّض المطيعين من جزائه ببلوغ الأوطار، الذي نسخ الإفطار بالصّيام ونسخ الصّيام بالإفطار، وكلّف عباده ما يطيقونه ووعد عليه جزيل أجره، وأسبغ من نعمه ما لا يطمع [في القيام] بواجب حمده عليه وشكره، وصلّى الله على سيدنا محمد نبيّه الذي أعلن بالإيمان وباح، وبيّن المحظور في الشّريعة والمباح، وأرشد إلى ما حرّمه الإسلام وحلّله، ومهّد سبل الهدى لمن استغواه الشّيطان وضلّله، وأوضح مراتب الأوقات ومنازلها، وعرّف تفاوت الأيام وتفاضلها، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي مضت في الله عزماته، وبيّضت وجه الدّين الحنيف مواقفه ومقاماته،(8/324)
وعلى الأئمة من ذرّيّتهما الذين تكفّلوا أمر الأمة نصّا، وامتطوا على منارها فلم يألوا جهدا ولم يتركوا حرصا، فالحاضر منهم يوفي على من كان [من] قبله، وأحزاب الحقّ فرحون بما آتاهم الله من فضله، وسلّم عليهم أجمعين سلاما لا انقطاع لدوامه، وشرّفهم تشريفا لا انفصام لإبرامه، وأسنى ومجّد، وتابع وجدّد.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم كذا عيد الفطر من سنة كذا: بعد أن وفّى الصّيام حقّه، وحاز أجر من جعل الله على خزائنه رزقه، وبعد أن أفطر بحضرته الأولياء من آله وأسرته، والمقدّمون من رؤساء دولته، والمتميّزون من أوليائه وشيعته. وكان من نبإ هذا اليوم أنّ أمير المؤمنين لمّا ارتقب بروزه من قصوره، وتجلّى فأشرقت الأرض بنوره، توجه إلى المصلّى قاضيا لسنّة العيد، فكانت نعمة ظهوره بالنّظر [للحاضر] وبالخبر للبعيد، واستقلّ ركابه بالعساكر المنصورة التي أبدت منظرا مفتنا معجبا، وجعلت أديم الأرض بالخيل والرّجل محتجبا، وذخرت الانتقام ممّن شقّ العصا، وتجاوزت في الكثرة عدد الرّمل والحصا، وزيّنت الفضاء بهيئتها، وروّعت الأعداء بهيبتها، وجمعت بين الطّاعة وشدّة الباس، وادّرعت من التّقوى أمنع جنّة وأحصن لباس، ولم يزل سائرا في السّكينة والوقار، ناظرا للدّنيا بعين الاحتقار، والثّرى بالجباه والشّفاه مصافح ملثوم، فهما موسومتان به وهو بهما موسوم، إلى أن وصل إلى مقرّ الصّلاة، ومحلّ المناجاة، فصلّى أتمّ صلاة وأكملها، وأدّاها أحسن تأدية وأفضلها، وأخلص في التّكبير والتّهليل إخلاص من لم يفت أمرا ويخشى الله ويتّقيه ونصح في إرشاده ووعظه، وأعرب ببديع معناه وفصيح لفظه، وعاد إلى مثوى كرامته، وفلك إمامته، محمود المقام، مشمولا بالتوفيق في النّقض والإبرام. أعلمك أمير المؤمنين ذلك لتذيعه فيمن قبلك، وتشكروا الله على النّعمة الشاملة لهم ولك، فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى. وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدّولة مشتملة على وزير، عن الحافظ(8/325)
لدين الله «1» العلويّ خليفة الديار المصريّة، في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهي:
الحمد لله الذي أعزّ الإسلام وشيّد مناره، وأيّد أولياءه ونصر أنصاره، وأظهر في مواسمه قوّته واستظهاره، وختم الشّرائع بشرف أبديّ فكان حظّها منه إيثاره، وحظّ الإسلام استبداده به واستئثاره، وصلّى الله على جدّنا محمد الذي كرّمه باصطفائه، وأسعد من حافظ على اتّباع نهجه واقتفائه، وبيّن بشرعه ما حلّله وحرّمه، ودعا الأمة بإرساله إلى دين قيّم أعلى بناءه وأحكمه، ووعدهم على مفروضه ومسنونه جزيل الأجر، وأمر في اعتقاد خلافه بالدّفع والمنع والزّجر، وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أوّل الأئمة الخلفاء، والمشتهرة فضائله اشتهارا ليس به من خفاء، ومن حباه الله المحلّ الرفيع والمنّ الجزيل، وخصّه من الشّرف بما جاء فيه من محكم التّنزيل، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما القائمين بفرض الله والمؤدّين لحقوقه، والذين كفلت أمانتهم بانبساط نور الحقّ وانتشار لوائه وخفوقه، وسلّم وكرّم، ومجّد وعظّم.
وكتاب أمير المؤمنين إليك يوم كذا عيد الفطر من سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، الذي أمر الله فيه بما نهى عنه من قبله، وضاعف الأجر بكرمه وفضله، فرفع تكاليف الصّوم، وأوجب الإفطار في هذا اليوم، وساوى في ذلك [بين] كلّ متهم ومنجد، وأمر بني آدم فيه بأخذ الزّينة عند كلّ مسجد، وكان من خبره أن الفجر لمّا طلع مبشّرا بالشمس، ومؤذنا ببعثها من الرّمس، تتابعت الجيوش الموفورة، والعساكر المنصورة، إلى أبواب القصور الزاهرة توكّفا لأنوار أمير المؤمنين، وترقّبا لظهوره قاضيا حقّ الدّين، فلما أسفر الصّبح وأضاء، وملأت الخلائق الفضاء، تجلّى من أفلاك إمامته، وبرز فأغبط كلّ مؤمن بثباته على المشايعة وإقامته، وكان ظاهرا وهو محتجب بالأنوار، وممتنعا وهو منتهب(8/326)
بالأبصار، والكافّة يصافحون الأرض ويجتهدون في الدعاء بإخلاص نيّاتهم، والعساكر المؤيّدة لو أنّها عمّت الأرض بتطبيقها، وساوت بين قريبها وسحيقها، وصارت كالجبال الرّواسي فيها، لكانت قد تزلزلت ومادت بأهليها، وهي مع تباين أجناسها وطوائفها متظافرة على معاندي الدّولة ومخالفيها، متلائمة على الولاء، متمالئة على الأعداء، تتلفّت إلى المجاهدة كأنها الأسود إقداما وباسا، وكأنّما فصّلت جوامد الغدران سلاحا لها ولباسا، والسيّد الأجلّ الأفضل التي عظمت به المواهب وجلّت، وذهبت بوزارته الغياهب وتجلّت، وتهلّل بنظره وجه الملّة وكان عابسا، وأعاد الدّولة معصرا وقد كانت قبله عانسا، وحسنت الدّنيا بأيامه إذ ليس فيها من يضاهيه، وانتظمت أمورها على الإرادة بصدورها عن أوامره ونواهيه، ترتّب المواكب بمهابته، ويستغنى بتوغّلها في القلوب عن إيمائه وإشارته، وكلّ طائفة مقبلة على شانها، لازمة لمكانها، متصرّفة على تهذيبه وتقريره، عاملة بآدابه، فوقوفها بوقوفه ومسيرها بمسيره.
وتوجه أمير المؤمنين إلى المصلّى محفوفا بأنوار تجلّي ما أنشأته سنابك الخيل، وتمحو آية نقع قام مثارها مقام ظلام اللّيل، وعليه من وقار الإمامة، وسكينة الخلافة، ما خصّه الله تعالى به دون البريّة وحده؛ لأنه مما ورث أمية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله وجدّه «1» ، ولما انتهى إليه قصد [المحراب] «2» وأمّه، وأدّى الصّلاة أكمل أداء وأتمّه، ثم انتهى إلى المنبر «3» فعلاه، ومجّد الله تعالى وحمده على ما أولاه، ووعظ وعظا خوّف عاقبة المعاصي والذّنوب، وحلّ وكاء العيون وداوى مرض القلوب، وأمر بسلوك سبيل الطّاعات وأفعال البر، وحثّ على التّوفّر عليها في الجهر والسّر، وعاد إلى قصوره المكرمة، ومواطنه المقدّسة،(8/327)
وقد بذل في نصحه لله ولرسوله وللمؤمنين جهده، وفعل في الإرشاد والهداية ما لا غاية بعده.
أنبأك أمير المؤمنين خبر هذا اليوم لتشكر الله على النّعمة فيه، وتذيعه قبلك على الرسم فيما يجاريه، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
السابع- ما يكتب بالبشارة بالسلامة في ركوب عيد النّحر.
قد تقدّم في الكلام على ترتيب دولة الفاطميّين في المقالة الثانية أن الخليفة كان يركب لصلاة عيد النّحر كما يركب لصلاة عيد الفطر، تارة مع اشتمال الدّولة على وزير، وتارة مع عدم اشتمالها على وزير.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، من إنشاء ابن «1» الصّيرفيّ، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي أعلى منار الملّة، وشرّف مواسم أهل القبلة، وكفّل أمير المؤمنين أمر الأيّام، كما كفّله أمر الأنام، فرأى الناس من حسن سيرته أيقاظا ما لا يرونه مجازا في المنام، وصلّى الله على جدّنا محمد نبيّه الذي أرسله إلى الناس كافّة، وجعل العصمة محيطة به حافّة، فأطلع في ظلام الشّرك شمس التوحيد وبدره، وآمن به من شرح الله للإسلام صدره، وعصاه من تمرّد فأثقل الوزر ظهره، وبيّن عبادات كرم أجرها وعظم ثوابها، وألزم طاعات جعل الجنّة للعاملين بها مفتّحة أبوابها، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مظافره ومظاهره، والمساوي في حكمه بين باطنه وظاهره، ولم يزل حاملا على المحجّة البيضاء جاعلا ذلك من قربه وذخائره، قائما بحقوق الله جاهدا في تعظيم حرماته وشعائره، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما نجوم الأرض وهداة أهلها، والواجبة طاعتهم على من في وعرها وسهلها، والذّابّين بالمشرفيّة عن حمى الشريعة، والّذين متابعتهم من أوجه ذريعة.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم كذا عيد النّحر سنة كذا وكذا، وهو يوم(8/328)
أظهر الله فيه قوّة الدّولة واقتدارها، وأوجب فيه- رغبة ورهبة- مسارعة النفوس المخالفة إلى الطاعة وابتدارها، وذلك أن عساكر أمير المؤمنين توجهت إلى قصوره الزاهرة عند انفجار الفجر، وحافظت على ما تحرزه من كريم الثّواب وجزيل الأجر، واستنزلت الرّحمة برؤية إمام الأمّة، وأعدّت الإخلاص في خدمته من أوفى الحرمات وأقوى الأذمّة، وأقامت إلى أن برز أمير المؤمنين والأنوار الساطعة طوالعه، ومهابته تمنع كلّ طرف من استقصاء تأمّله وتدافعه، وقصد المصلّى في كتائب لجبة، ومواكب للتعظيم مستوجبة، وعزّة تتبين في الشّمائل والصّفحات، وقوّة يشهد بطيب وصفها أرج النّفحات، قد غدت عددها محكّمة، وخيولها مطهّمة، وذوابلها إذا ظمئت كانت مقوّمة، وإذا رويت عادت محطّمة، تتقلّد صفائح متى انتضيت أنصفت من الجائر الحائف، ومتى اقتضبت عملا كان اقتضابها مبيّضا للصّحائف، وفي ظلّها معاقل للّائذين، وبحدّها مصارع للمنابذين، وهي للدّماء هوارق، وللهامات فوالق، ولمستغلق البلاد مفاتح ولمستفتحها مغالق.
ولما انتهى إلى المصلّى قضى الصلاة أحسن قضاء وأدّاها أفضل تأدية، واستنزل رحمة لم تزل بصلاته متمادية، وانتهى إلى المنبر فرقيه، وخطب خطبة من استخلفه الله فكان مراقبه ومتّقيه، ووعظ أبلغ وعظ، وأبان عمّا للعامل بنصحه في الدّنيا والآخرة من فائدة وحظّ، وعطف على الأضاحي المعدّة له فنحرها جريا في الطاعات على فعلها المتهادي، وأضحت تتوقع التّكميل بإنجازه وعيده في الأعادي، فالله يقضي بتصديقه، ويمنّ بتخيّله وتحقيقه، وعاد إلى قصوره المكرّمة مشكورا سعيه، مضمونا نفعه، مرضيّا فعله، مشمولا عبيده منه بما هو أهله.
أعلمك أمير المؤمنين ذلك فاعلم هذا واعمل به. وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، والدولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن(8/329)
قادوس «1» ، وهي:
أما بعد، فالحمد لله ماحي دنس الآثام بالحجّ إلى بيته الحرام، وموجب الفوز في المعاد لمن عمل بمراشد أئمة الهدى الكرام، ومضاعف الثّواب لمن اجتهد فيما أمر الله به من التّلبية والإحرام، ومخوّل الغفران لمن كان بفرائض الحجّ ونوافله شديد الولوع والغرام، وصلّى الله على جدّنا محمد الذي لبّى وأحرم، وبيّن ما أحلّ الله وحرّم، وعلى أخيه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي ضرب وكبّر، وحقّر من طغى وتجبّر، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما أعلام الدّين، وحتوف المعتدين، وسلّم وكرّم، وشرّف وعظّم.
وإنّ من الأيام التي كملت محاسنها وتمّت، وكثرت فضائلها وجمّت، ووجب تخليد عزّ صفاتها، وتعيّن تسطير تأثيراتها، يوم عيد النّحر من سنة كذا، وكان من قصصه أن الفجر لما سلّ حسامه، وأبدى الصّباح ابتسامه، نهض عبيد الدّولة في جموع الأولياء والأنصار، وأولي العزيمة والاستبصار، ميمّمين القصور الزاهرة متبرّكين بأفنيتها، ومستملين بسعادتها، وتألّفوا صفوفا تبهر النواظر، ويخجل تألّفها تألّف زهر الرّوض الناضر، مستصحبين فنونا من الأزياء تروق، ومستتبعين أصنافا من الأسلحة يغضّ لمعها من لمع اللهب والبروق، والأعلام خافقة، والرّايات بألسنة النّصر، على الإخلاص لإمام العصر، متوافقة، فأقاموا على تشوّف لظهوره، وتطلّع للتّبرّك بلامع نوره.
ولما بزغت شمس سعادته، وجرت الأمور على إيثاره وإرادته، وبدت أنوار الإمامة الجليّة، وظهرت طلعتها المعظّمة البهيّة، خرّ الأنام سجودا بالدعاء والتمجيد، والاعتراف بأنّهم العبيد بنو العبيد، واستقلّ ركاب أمير المؤمنين، ووزيره السّيّد الأجلّ الذي قام بنصر الله في إنجاد أوليائه، وتكفّل للإسلام برفع(8/330)
مناره ونشر لوائه، وناضل عن حوزة الدّين وجاهد، وناصل أحزاب الكفّار وناهد، يقوم بأحكام الوزارة، وتدبير الدولة تدبير أولي الإخلاص والطّهارة، ويتّبع آراء أمير المؤمنين فيما تنفذ به أوامره، ويعمل بأحكام الصّواب فيما تقتضيه موارده ومصادره، ويحسن السّياسة والتدبير، ويتوخّى الإصابة في كلّ صغير من أمور الدّولة العلويّة وكبير، ويخلص لله جلّ وعزّ ولإمامه، ويكفكف من الأعداء ببذل الجهد في إعمال لهذمه «1» وحسامه، وسار أمير المؤمنين والعساكر متتابعة في أثره، متوافقة على امتثال أمره، قد رفعت السّنابك من العجاج سحابا، وخيّلت جنن الجند للناظرين في البرّ عبابا. والجياد المسوّمة تموج في أعنّتها، وتختال في مراكبها وأجلّتها، وتسرع فتكسب الرّياح نشاطا، وتفيد المتعرّض لوصفها إفراطا، وتهدي لمن يحاول مماثلتها غلوّا واشتطاطا، وأصوات مرتفعة بالتهليل، وأصوات الحديد تسمع بشائر النّصر بترجمة الصّليل، ويكاد يرعب الأرض تزلزل الصّهيل، وترضّ سنابكها الهضاب وتغدو صلابها كالكثيب المهيل.
ولما انتهى ركاب أمير المؤمنين إلى المصلّى والتوفيق يكتنفه، والسعادة تصرّفه، قصد المحراب فأقام الصلاة، ونحا المنبر فشرّفه إذ علاه، وأدّى الصّلاة على أكمل الأوضاع وأتمّها، وأجمع [الأحوال] لمراضي الله وأعمّها، وانثنى للبدن المعدّة فنحر ما حضر تقرّبا لخالقه، وأجرى القانون على حقائقه، وعاد إلى قصوره الزاهرة وقد غفر الله بسعيه الذّنوب، وطهّر برؤيته القلوب، وبلّغ الأمم من المراشد نهاية المطلوب.
أعلمك أمير المؤمنين نبأ هذا اليوم الّذي تشتمل المسارّ على جميعه أوّلا وآخرا، وباطنا وظاهرا، لتذيع نبأه في عمل ولايتك، وتشيع خبره في الرعايا على جاري عادتك، فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النّظر السيديّ الأجليّ بما اعتمدته في ذلك، إن شاء الله تعالى. وكتب في اليوم المذكور.(8/331)
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات قد رفض وترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا.
الصنف السادس عشر (المكاتبة بالبشارة بوفاء النّيل والبشارة بالسّلامة في الركوب لفتح الخليج)
وهذه المكاتبة من خصائص الديار المصريّة، لا يشاركها فيها غيرها من الممالك. ولم يزل القائمون بالأمر بالديار المصريّة من قديم الزمان وهلمّ جرّا يكتبون بالبشارة بذلك إلى ولاة الأعمال اهتماما بشأن النّيل، وإظهارا للسّرور بوفائه، الّذي يترتب عليه الخصب المؤدّي إلى العمارة وقوام المملكة، وانتظام أمر الرّعيّة. وقد كان للخلفاء الفاطميّين القائمين بأمر الديار المصرية بذلك كبير العناية ووافر الاهتمام، وكانت عادتهم في ذلك أنّهم يكتبون بالبشارة بوفاء النّيل كتبا مفردة، وبفتح الخليج وهو المعبر عنه في زماننا بالكسر كتبا مفردة. ولعلّ فتح الخليج كان يتراخى في زمنهم عن يوم الوفاء، فيفردون كلّ واحد منهما بكتب.
فأما وفاء النّيل المبارك فهذه نسخة كتاب بالبشارة به في الأيام الفاطميّة، من إنشاء ابن قادوس، وهي:
النّعم وإن كانت شاملة للأمم، فإنّها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر في الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمة يشترك في النّفع بها العباد، وتبدو بركتها على النّاطق والصّامت الجماد، وتلك النّعمة النيل المصريّ الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حلل الرّياض على القيعان والبسابس، وترى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرّجة بالجواهر واللّجين والعقيان، فسبحان من جعله سببا لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفّر به موادّ الأرزاق والأقوات، وهذا الأمر صادر إلى الأمير، وقد منّ الله جلّ وعلا بوفاء النّيل المبارك، وخلع على القاضي فلان بن أبي الرّدّاد في يوم كذا وكذا، وطاف بالخلع والتشريفات، والمواهب المضاعفات، بالقاهرة(8/332)
المحروسة ومصر على جاري عادته، وقديم سيرته، ونودي على الماء بوفائه ستة عشر ذراعا وإصبعا من سبعة عشر ذراعا، واستبشر بالنّعمة بذلك الخلائق، وواصلوا بالشّكر مواصلة لا تستوقفهم عنها العوائق، وبدا من مسرّات الأمم وابتهاجهم ما يضمن لهم من الله المزيد، وينيلهم المنال السعيد، ويقضي لهم بالمآل الحميد. وموصّل هذا الأمر إليك فلان، فاعتمد عند وصوله إليك إكرامه وإعزازه، وإجمال تلقّيه وإفضاله، إلى ما جرت به عادة مثله من رجاء، وتنويه واحتفاء، وإكرام واعتناء، ليعود شاكرا. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة أخرى من ذلك، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، وهي:
أولى ما تحدّث به ناقله وراويه، وتعجّل المسرّة به حاضره ورائيه، ما كانت الفائدة به شائعة لا تتحيّز، والنّعمة به ذائعة لا يتخصّص أحد بشمولها ولا يتميز، إذ كان علّة لتكاثر الأقوات، وبها يكون التّماثل في البقاء والتساوي في الحيات، وذلك ما منّ الله تعالى به من وفاء النّيل المبارك، فإنه انتهى في يوم كذا في سنة كذا، إلى ستة عشر ذراعا وزاد إصبعا من سبعة عشر ذراعا، وقد سيّرنا، أيّها الأمير، فلانا بهذه البشرى إليك، وخصّصناه بالورود بها عليك، فتلقّها من الشّكر بمستوجبها، واستقبلها من الابتهاج والاغتباط بما يليق بها، واجعل الرّسوم التي جرت العادة بتوظيفها لفلان بن أبي الرّدّاد محمولة من جهتك إلى حضرتنا، لتولى إليه من جهتنا، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، وكتب في اليوم المذكور.
وهذا الصّنف من المكاتبات متداول بالديار المصريّة إلى آخر وقت، يكتب به في كلّ سنة عن الأبواب السلطانية إلى نوّاب السّلطنة بالممالك الشاميّة عند وفاء النّيل، وتسير به البريديّة، وربّما جبي للبريديّ من الممالك شيء بسبب ذلك.
وإذا كانت الدّولة عادلة ضمّن الكتاب أنه لا يجبى للبريديّ شيء بسبب ذلك.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك:(8/333)
ولا زال يروى عنه وإليه حديث الوفاء والنّدا، ويورد على سمعه الكريم نبأ الخصب الذي صفا موردا، ويهنّى بكلّ نعمة تكفّلت للرعايا بمضاعفة الجود ومرادفة الجدا، ويخصّ بكلّ منّة عمّت مواهبها الأنام فلن تنسى أحدا.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، وبحر كرمها لا ينتهي إلى مدى، وبشر بشراها دائم أبدا، تهدي إليه سلاما مؤكّدا، وثناء أضحى به الشّكر مردّدا، وتوضّح لعلمه الكريم أن الله تعالى قد أجرى على جميل عاداته، وأراد بالأمّة من الخير ما هو المألوف من إراداته، ومنح مزيد النّعم التي لم تزل تعهد من زياداته، فأسدى معروفه المعروف إلى خلقه، وأيّدهم بما يكون سببا لمادّة عطائه ورزقه، فبلّغهم تأميلهم، وأجرى نيلهم، وزادهم بسطة في الأرض، وملأ به الملا وطبّق به البلاد طولها والعرض، ونشر على الخافقين لواء خصبه، وأتى بعسكرريّه لقتل المحل وجدبه، وبينما هو في القاع إذ بلغ بإذن ربّه، فجعل من الذّهب لباسه، وعطّر بالشّذا أنفاسه، ولم يترك خلال قطر إلّا جاءه فجاسه، ونصّ السّير فسيّر نصّ مجيئه في الأرض لمّا صحّح بالوفاء قياسه، وغازلته الشمس فكسته حمرة أصيلها لما غدت له بمشاهدتها ماسه، ولم يكن في هذا العام إلّا بمقدار ما قيل: أقبل إذ قيل: وفّى، ومدّ في الزيادة باعا وبسط ذراعا، وأطلق بمواهب أصابعه كفّا، وعاجل إدراك الهرم في ابتداء أمره مطال شبابه، ومرّ على الأرض فحلا في الأفواه لمّا ساغ شكر سائغ شرابه، واعتمد على نصّ الكتاب العزيز فكاد أن يدخل كلّ بيت من بابه.
ولما كان يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا من شهور القبط بادرت إلى الوفاء شيمه، وأغنت أمواجه عن منّة السّحب فذمّت عندها ديمه، وزار البلاد منه أجلّ ضيف فرشت له صفحة خدّها للقرى فعمّها كرمه، وبلغ من الأذرع ستة عشر ذراعا ورفع لواءه بالمزيد ونشر، وجاء للبشر بأنواع البشر، فرسمنا بتعليق ستر مقياسه، وتخليقه وتضويع أنفاسه، وفي صبيحة اليوم المذكور كسر سدّ خليجه على العادة، وبلغ الأنام أقصى الإرادة، وتباشر بذلك العامّ والخاصّ، وأعلنت الألسنة بحمد ربّها بالإخلاص، وسطّرها وهو بفضل الله ورحمته متتابع المزيد،(8/334)
بسيط بحره المديد، متجدّد النّموّ في كلّ يوم من أيّام الزّيادة جديد. فالجناب العالي يأخذ من هذه البشرى بأوفر نصيب، ويشكر نعمة الله على ما منح- إن شاء الله- هذا العام الخصيب، ويذيع لها خبرا وذكرا، ويضوّع بطيّ هنائها نشرا، ويتقدّم بأن لا يجبى عن ذلك بشارة بالجملة الكافية، لتغدو المنّة تامة والمسرّة وافية، وقد جهزنا بهذه المكاتبة فلانا، وكتبنا على يده أمثلة شريفة إلى نوّاب القلاع الفلانية [جريا] «1» على العادة، فيتقدّم بتجهيزه بذلك على عادة همّته، فيحيط علمه بذلك.
وهذه نسخة أخرى في معنى ذلك، كتب بها في سابع عشر ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة، وصورتها بعد الصّدر:
وبشّره بأخصب عام، وأخصّ مسرّة هناؤها للوجود عامّ، وأكمل نعمة تقابل العام من عيون الأرض بمزيد الإنعام.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه أتمّ سلام، وأعمّ ثناء تام، وتوضح لعلمه الكريم، أن الله تعالى- وله الحمد- قد جرى في أمر النيل المبارك على عوائد ألطافه، ومنح عباده وبلاده من مديد نعمه مزيد إسعافه، وأورد الآمال من جوده منهلا عذبا، وملأها به إقبالا وخصبا، وأحيا به من موات الأرض فاهتزّت وربت، وأنبتت كلّ بهيج وأنجبت، وأينعت الرّياض فجرت فيها الرّوح ودبّت، وامتلأت الحياض ففاضت بالمياه وانصبّت، وطلع كالبدر في ازدياده، وتوالى على مديد الأرض بأمداده، إلى أن بلغ حدّه، ووصّل الفرج ومنع الشّدّة، وفي يوم كذا من شهر كذا الموافق لكذا وكذا من شهور القبط، وفّاه الله ستة عشر ذراعا فاه فيها بالنّجح، وعمّ ثراه الأرض فأشرق بعد ليل الجدب بالرّخاء أضوأ صبح، وفي ذلك اليوم علقّ ستره، وخلّق مقياسه فاشتهر ذكره، وكسر سدّه،(8/335)
وتوالى مدّه، ونجز من الخصب وعده، وعلا التّرع والجروف، وقطع الطريق فأمّن من الجدب المخوف، وأقبل بوجهه الطّلق المحيّا، وأسبل على الأرض لباس النّفع فبدّلها بعد الظّمإ ريّا، فحمدنا الله تعالى على هذه النّعم، ورأينا أن يكون للجناب العالي أوفر نصيب من هذا الهناء الأعم، وآثرنا إعلامه بذلك، ليكون في شكر هذه النّعمة أكبر مشارك، فالجناب العالي يأخذ حظّه من هذه البشرى، ويتحقق ماله عندنا من المكانة التي خصّته في كلّ مبهجة بالذّكرى، ويتقدّم أمره الكريم بأن لا يجبى عن ذلك حقّ بشارة، ولا يتعرّض إلى أحد بخسارة، وقد جهّزنا بذلك فلانا.
الصنف السابع عشر (فيما يكتب في البشارة بركوب الميدان الكبير بخطّ اللّوق عند وفاء النّيل في كلّ سنة)
وهو مما يتكرر في كلّ سنة عند ركوب الميدان، ويكتب به إلى جميع النوّاب الأكابر والأصاغر، وتجهّز إلى أكابر النوّاب خيول صحبة المثال الشريف، ويرسم لهم بالركوب في ميادين الممالك للعب الكرة، تأسّيا بالسلطان، فيركبون ويلعبون الكرة. والعادة في مثل ذلك أن تنشأ نسخة كتاب من ديوان الإنشاء الشريف، ويكتب بها إلى جميع النيابات، لا يختلف فيها سوى صدرها، بحسب ما يقتضيه حال ذلك النائب.
وهذه نسخة مثال شريف في معنى ذلك، كتب به في ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة لنائب طرابلس، وصورته بعد الصّدر:
ولا زال تحمل إليه أنباء ما يبرد غلّته من مضاعفة السّرور، وتبثّ له أقوال الهناء بما يجبّ علته من النّصر الموفور، ونخصّه من إقبالنا الشريف بأكمل تكريم وأنمّ حبور.
صدرت هذه المكاتبة تهدي إليه من السّلام والثناء كذا كذا، وتوضّح لعلمه الكريم أننا نتحقّق مضاء عزائمه حربا وسلما، واعتلاء هممه التي تحرس بها(8/336)
الممالك وتحمى، وأنّ صوافنه «1» ترتبط لتركض، وتحبس لتنهض، فلذلك نعلمه من أنباء استظهارنا ما يبهج خاطره، ويقرّ ناظره، وهو أنّنا لما كان في يوم السبت المبارك خامس شوّال، توجّه ركابنا الشريف إلى الميدان السعيد وفاض به جودنا فاخضرّت مروجه، وظهر به نيّرنا الأعظم فأشرقت آفاقه وتشرّفت بروجه، وأقرّ العيون منير وجهنا المبارك وبهيجه، وغدا كلّ وليّ بموالاة إنعامنا مشمولا، وبمنالات إكرامنا موصولا، وركض الأولياء بين أيدينا جيادا ألفت نزالا وعرفت طرادا، وانعطفت لينا وانقيادا، وعدنا إلى مستقرّ ملكنا الشريف وقد جدّد الله تعالى لنا إسعادا، وأيّد لعزمنا المعان مبدأ ومعادا، وآثرنا إعلام الجناب العالي بهذه الوجهة الميمونة، والحركة التي هي بالبركة مقرونة، ليأخذ حظّه من السّرور بذلك والهنا، ويتحقق من إقبالنا الشريف عليه ما يبلغ به المنى.
وهذه نسخة مثال شريف في المعنى، كتب به في العشرين من شعبان، سنة أربع وخمسين وسبعمائة. وصورته بعد الصّدر:
ولا زالت ميادين سعده لا تتناهى إلى مدى، وكرات كرّاته في رحاب النّصر تلمع كنجم الهدى، ومدوّر صوالجه كشواجر المرّان «2» تحلو بتأييدها للأولياء وتغدو مريرة للعدا.
صدرت هذه المكاتبة وظفرها لا يزال مؤيّدا، ونصرها لا برح مؤبّدا، تهدي إليه سلاما مؤكّدا، وثناء كنشر الأرض بالنّدى، وتوضّح لعلمه أننا لم نزل بحمد الله نتّبع سنن سلفنا الشريف، ونجري الأمور على عوائد جميلهم المنيف، ونرى تمرين الأولياء على ممارسة الحروب، ونؤثر إبقاء آثار الجهاد فيهم على أحسن أسلوب، فلذلك لا نخلّ في كلّ عام بالتّعاهد إلى الميدان السعيد، والركوب إليه(8/337)
في أسعد طالع يبديء النّصر ويعيد؛ لما في ذلك من ابتهاج يتجدّد، وأسباب مسرّة لكافّة الأنام تتأكّد، ودعوات ألسنتها تتضاعف من الرعية وتتردّد.
ولما كان في يوم السبت المبارك سادس عشر شهر رجب الفرد، ركبنا إلى الميدان السعيد في أتمّ وقت أخذ من السّعد بمجموعه، وأظهر في أفق العساكر من وجهنا الشريف البدر عند طلوعه، ولم نبرح يومنا المذكور في عطاء نجيده، وإنعام نفيده، وإطلاق نبدئه ونعيده، والأولياء بين أيدينا الشريفة يمرحون، وفي بحار كرمنا المنيف يسبحون، وفي ميدان تأييدنا المطيف يسيحون، والكرات كالشمس تجنح تارة وتغيب، وتخشى من وقع الصّوالجة فتقابلها بوجه مصفرّ مريب. ثم عدنا إلى القلعة المنصورة على أتمّ حال، وأسعد طالع بلّغ الأنام الأمان والآمال، والعساكر بخدمتنا الشريفة محدقون، ومماليكنا بعقود ولائنا مطوّقون، والرّعايا قد ألبسها السّرور أثوابا، وفتح لها من الابتهاج أبوابا، وقد آثرنا إعلام الجناب بذلك ليأخذ حظّه من هذه المسرّة والبشرى، ويشترك هو والأنام في هذه النّعمة الكبرى، ومرسومنا للجناب أن يتقدّم بالركوب بمن عنده من الأمراء في ميدان طرابلس المحروسة، ويلعب بالكرة على جاري العادة في ذلك، ليساهم أولياء دولتنا القاهرة في ذلك، ويسلك من طرقهم الجميلة أجمل المسالك.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لم يزل مستعملا بديوان الإنشاء، يكتب له كلّما ركب السلطان إلى الميدان الصّالحيّ بخطّ اللّوق، إلى أن عطّل جيده من الركوب في أواخر الدّولة الظاهرية «برقوق» واقتصر على لعب الكرة في الميدان الذي جرت به العادة، فتركت المكاتبة بذلك من ديوان الإنشاء ورفض استعمالها.
الصنف الثامن عشر (المكاتبة بالبشارة بحجّ الخليفة)
لما كانت الأسفار، محلّ الأخطار، وموقع الاختلاف وحدوث الفتن، كانت الخلفاء يكتبون الكتب إلى عمّالهم بالسلامة عند الإياب من السّفر للحجّ وغيره.(8/338)
والرّسم فيها أن يذكر أن الحجّ من أجلّ العبادات، وأن من النعمة [أن يمنّ] «1» الله تعالى بقضاء المناسك، والوقوف بالمشعر الحرام، والطّواف بالبيت العتيق، والسّعي بين الصّفا والمروة، وما يجري مجرى ذلك من شعائر الحجّ، ثم بعد بزيارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفاق الكلمة في جميع هذه الأحوال، على كثرة الخلائق ومزيد الجيوش والعساكر.
وهذه نسخة كتاب بالسلامة من سفر الحجّ، وهي:
الحمد لله الذي جعل بيته مثابة للناس وأمنا، وحرما من دخله كان آمنا، الذي اختار دين الإسلام على الأديان، وابتعث به صفوته من الإنس والجان، محمدا أكرم بني معدّ بن عدنان.
يحمده أمير المؤمنين أن أعانه على تأدية حقّه، ونصبه لكفالة خلقه، ووفّقه للعمل بما يرضيه ويدني إليه، ويسأله أن يصلّي على خير من غار وأنجد، وصدر وورد، وركع وسجد، ووحّد ومجّد، وصلّى وعبد، وحلّ وأحرم، وحجّ الحرم، وأتى المستجار والملتزم، والحطيم «2» وزمزم، محمد سيّد ولد آدم، وعلى أخيه وابن عمّه مصباح الدّلالة، وحجاب الرّسالة، إمام الأمّة، وباب الحكمة، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ممزّق الكتائب، ومفرّق المواكب؛ ومحطّم القواضب، في القلل والمناكب، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما الهادين، صلاة باقية في العالمين.
وإنّ أولى النّعم بأن يستعذب ذكرها، ويستعطر نشرها، وتتحدّث بها الألسنة، وتعدّ في مواهب الله الحسنة، نعم الله تعالى في التوفيق لحجّ بيته الذي جعله مثابة لزائريه، والإطافة بحرمه الذي يوجب المغفرة لقاصديه، والنّزول(8/339)
بأفنيته التي من يخدم بها فقد انسلخ من السّيّئات، وتلبّس بالحسنات، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم النّفر الأوّل، وقد قضى بحمد الله تفثه «1» ، ووفّى نذره، وتمّم حجّه، وكمّل طوافه، وشهد منافعه، وأدّى مناسكه، ووقف الموقف بين يدي ربّه قانتا داعيا، وراغبا راجيا، وعرّفه بعرفات إعلامه قبول سعيه، وإجابة تلبيته، وبلّغه في منّى أمانيّه من رأفته، وأراه من مخايل الرّحمة، ودلائل المغفرة، ما تلألأت أنواره، وتوضّحت آثاره، وأجراه على تفصيل العبارة في شمول السّلامة لكلّ من حجّ بحجّه، ووقف موقفه من أوليائه وخاصّته، وعامّته ورعيّته، وأنعم باتفاق كلمتهم، واجتماع أهويتهم، واكتناف الدّعة والسّكون لهم، وزوال الاختلاف والمباينة بينهم.
فإن أراد زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: وهو يصدر بإذن الله تعالى عن موقفه هذا من البيت الحرام، إلى زيارة قبر النبيّ عليه السّلام.
فإن أزمع الانكفاء إلى مقرّه، قال:
وأشعرك أمير المؤمنين ذلك وهو عائد بمشيئة الله تعالى إلى مقرّ خلافته، في عزّ من قدرته، وعلوّ من كلمته، وامتداد من سلطانه، وتضاعف من جنده وأعوانه، لتأخذ بحظّك من الابتهاج والجذل، وتذيعه بين أهل العمل، ليشاركك العامّة في العلم بهذه النّعمة فيخلصوا لله الشّكر عليها، ويرغبوا إليه في الزيادة منها، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب بسلامة الخليفة من سفر في الجملة.
والرسم فيه أن تذكر نعمة الله تعالى بما منح أمير المؤمنين في سفره ذلك، من بلوغ المآرب، وتسهيل المقاصد، وإدراك الأوطار، وشمول النّعمة في الذّهاب والإياب، وما يجري مجرى ذلك ممّا ينخرط في هذا السّلك، وهذه نسخته:(8/340)
الحمد لله ذي الطّول والإنعام، والفضل والإكرام، والمنن العظام، والأيادي الجسام، الذي أرعى أمير المؤمنين من حياطته عينا لا تنام، واستخدم لحراسته والمراماة دونه اللّيالي والأيام، وقضى له بالتوفيق والسّعادة في الظّعن والمقام.
يحمده أمير المؤمنين أن استخلصه لإمامة الأنام، وعدق به أساليب النّقض والإبرام، ويسأله الصلاة على من اختصّه بشرف المقام، وابتعثه بدين الإسلام، وجلا به حنادس الظّلام، محمد خاتم الأنبياء الكرام، وعلى أخيه وابن عمّه الهمام الضّرغام، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مكسّر الأصنام، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما أعلام الأحكام، وأدلّة الحلال والحرام.
وإن أمير المؤمنين لا يزال يتحدّث بنعم الله مستدرّا لأخلافها، منتصبا لقطافها، ويفيض في ذكرها، مستدعيا للزيادة بشكرها، ويطلع خلصاءه على حسن آثارها لديه، وسبوغ ملابسها عليه، ليأخذوا بحظّ من الغبطة والاستبشار، ويسرحوا في مسارح المباهج والمسارّ، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك حين استقرّ ركابه بناحية كذا، مبشرا لك بنعمة الله في حياطته، وموهبته في سلامته، وما أولاه من إنارة (؟) الدّليل، وتسهيل السّبيل، وطيّ المجاهل، وتقريب المنازل، وإعذاب المناهل، وإنالة الأوطار، وتدميث الأوعار، وبركة المتصرّف، وسعادة المنصرف، ووصوله إلى مقصده قرير العين، قليل الأين «1» ، محفوظا ساريا وآئبا، مكلوءا عائدا وذاهبا، مشرّد النّصب مسرورا، موفور النّصيب محبورا، في اجتماع من كلمة أوليائه على طاعته، ونفوذ بصائرهم في نصر رايته، وإعانته على ما استحفظه من عباده، واسترعاه من بلاده: ليأخذ بالحظّ الأجزل، من الابتهاج والجذل، ويشكر الله تعالى على هذه النّعمة المتجدّدة، ويضيفها إلى سوالف نعمه التّالده، ويذيعها بين رعيّته، وأنصار دعوته، ليشتركوا في ارتشاف لعابها،(8/341)
والتحاف أثوابها، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية قليل الوقوع، فإن وقع مثله للكاتب في زماننا، خرّجه على نسبة الأسلوب المتقدّم.
الصنف التاسع عشر (الكتابة بالإنعام بالتشاريف والخلع)
وهذا الصّنف ممّا أغفله صاحب «موادّ البيان» ولا بدّ منه.
والرسم فيه أن يكتب عن الخليفة أو السلطان إلى من أخلص في الطاعة، أو ظهرت له آثار كفاية، كفتح أو كسر عدوّ، وما يجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة «1» كتاب كتب به أبو إسحاق «2» الصّابي عن الطائع «3» لله، إلى صمصام «4» الدّولة بن عضد الدّولة بن بويه، قرين خلعة وفرسين بمركبين من ذهب وسيف وطوق، وهي:
من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى صمصام الدّولة وشمس الملّة أبي كاليجار بن عضد الدّولة وتاج الملّة مولى أمير المؤمنين.(8/342)
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على جده «1» محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد- أطال الله بقاءك- فإن أمير المؤمنين وإن كان قد بوّأك المنزلة العليا، وأنالك من أثرته الغاية القصوى، وجعل لك ما كان لأبيك عضد الدّولة وتاج الملّة- رحمة الله عليه- من القدر والمحلّ، والموضع الأرفع الأجلّ، فإنه يوجب لك عند كلّ «2» أثر يكون منك في الخدمة، ومقام حمد تقومه في حماية البيضة، إنعاما يظاهره، وإكراما يتابعه ويواتره. والله يزيدك «3» من توفيقه وتسديده، ويمدّك بمعونته وتأييده، ويخير لأمير المؤمنين فيما رأيه مستمرّ عليه من مزيدك وتمكينك، والإبقاء بك وتعظيمك، وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.
وقد عرفت- أدام الله عزّك- ما كان من [أمر كردويه] «4» كافر نعمة أمير المؤمنين ونعمتك، وجاحد صنيعته وصنيعتك، في الوثبة التي وثبها، والكبيرة التي ارتكبها، وتقديره «5» أن ينتهز الفرصة التي لم يمكّنه الله منها، بل كان من وراء [ذلك] دفعه وردّه عنها، ومعاجلتك إياه الحرب التي أصلاه الله نارها، وقنّعه عارها وشنارها «6» ، حتّى انهزم والأوغاد «7» الذين شركوه في إثارة الفتنة، على أقبح أحوال الذّلّة والقلّة، بعد القتل الذّريع، والإثخان الوجيع. فالحمد لله على هذه النعمة التي جلّ موقعها، وبان على الخاصّة والعامّة أثرها، ولزم أمير المؤمنين خصوصا والمسلمين عموما نشرها والحديث بها، وهو المسؤول إقامتها وإدامتها برحمته.(8/343)
وقد رأى أمير المؤمنين أن يجازيك عن هذا الفتح العظيم، والمقام المجيد الكريم، بخلع «1» تامّة، ودابّتين بمركبين «2» من ذهب من مراكبه، وسيف وطوق وسوار مرصّع، فتلقّ ذلك بشكر الله «3» تعالى عليه، والاعتداد بنعمته فيه، والبس خلع أمير المؤمنين وتكرمته، وسر [من بابه] «4» على حملاته، وأظهر ما حباك به لأهل حضرته، ليعزّ الله بذلك وليّه ووليّك، ويذلّ عدوّه وعدوّك، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمته وبركاته. وكتب فلان «5» لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، أطال الله بقاءك، وأدام عزّك، وأجزل «6» حفظك وحياطتك، وأمتع أمير المؤمنين بك وبالنعمة فيك وعندك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية باق على الاستعمال، متى أنعم السلطان على نائب سلطنة أو أمير أو وزير أو غيره بخلعة بعث بها إليه وكتب قرينها مثال شريف بذكر ذلك، إلّا أنه أهمل في ذلك السّجع والازدواج، واقتصر فيه على الكلام المحلول كما في غيره من المكاتبات، إلّا في النادر المعتنى بشأنه.
الصنف العشرون (المكاتبة بالتّنويه والتلقيب)
قال في «موادّ البيان» : جرت عادة الخلفاء بالكتابة بالتلقيب، لأن اللّقب موهبة من مواهب الإمام، أمضاها وأجازها، فإذا جرت عليه كانت كغيرها من نعمه التي يمنحها على عبيده، والكنية تكرمة يستعملها الناس فيما بينهم، فليس حكمها كحكم اللّقب.(8/344)
قال: والرسم في هذه الكتب أن تفتتح بحمد الله على نعمه السّابغة الضّافية، ومواهبه الزّاهية النامية، وعوارفه التي جعلها جزاء للمحسنين، وزيادة للشّاكرين، ونحو هذا مما يليق أن يفتتح به هذا الغرض، والصّلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم يقال:
وإنّ أمير المؤمنين بما خوّله الله تعالى من نعمه، وبوّأه من قسمه، وخصّه به من التمكين في أرضه، والمعونة على القيام بفرضه، يرى المنّ على خلصائه، وإسباغ النّعم على أوليائه، واختصاصهم بالنّصيب الأوفر من حبائه، والإمالة بهم إلى المنازل الباذخة، والرّتب الشّامخة، وإن أحقّ من وفر قسمه من مواهبه، وغزر سهمه من عطاياه ورغائبه، من تميّز بما تميزت به من إخلاص ومطاوعة، وولاء ومشايعة، وانقياد ومتابعة، وصفاء عقيدة وسريرة، وحسن مذهب وسيرة، ولذلك رأى أمير المؤمنين أن ينعتك بكذا لاشتقاقه هذا النّعت من سماتك، واستنباطه إياه من صفاتك، وشرّفك من ملابسه بكذا، وطوّقك بطوق أو بعقد وقلّدك بسيف من سيوفه، وعقد لك لواء من ألويته، وحملك على كذا من خيله وكذا من مراكبه.
وبحسن الوصف في كلّ نوع من هذه الأنواع واشتقاق الألفاظ من معانيه، يعرب عن قدر الموهبة فيه. ثم يقال: إبانة لك عن مكانك من حضرته، وإثابة على تشميرك في خدمته، فالبس تشريفه وتطوّق، وتقلّد ما قلّدك به، واركب حمولاته، وابرز للخاصّة والعامّة في ملابس نعمائه، وارفل في حلل آلائه، وزيّن موكبك بلوائه، وقل رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي*
«1» وأعنّي على ما يسترهنها لديّ، وخاطب أمير المؤمنين متلقبا بسمتك متنعّتا بنعتك.
وهذه نسخة مكاتبة إلى الأفضل «2» بن ولخشي، وزير الحافظ «3» لدين الله(8/345)
الفاطميّ، أحد خلفاء الفاطميين بالديار المصريّة، حين قرّر الحافظ نعوته:
السيد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي تفرّد بالإلهية، وتوحّد بالقدم والأزليّة، وأبدع من برأ وخلق، وأنشأهم من غير مثال سبق، واصطفى لتدبيرهم في أرضه من بعثه برسالته، وجعل ما جاءوا به من الشرائع من أمارة لطفه بهم ودلالته، وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي جعل رتبته أخيرا ونبوّته أولى فكان أفضل من تقدّمه نبيّا وسبقه رسولا، وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي ذخره لخلافته، وأيّده بوزارته، مع كونه من منزلة الاصطفاء، وتأييد الوحي الظاهر من غير خفاء، بحيث لا يفتقر إلى وزير، ولا يحتاج إلى ظهير، وإنما جعل ذلك تعليما لمن يستخلفه في الأرض من عباده، وتمثيلا نصّ- جلّ وعزّ- إلى قصده واعتماده، لما فيه من ضمّ النّشر، وصلاح البشر، وشمول المنافع، وعموم الخيرات التي أمن فيها من مدافع، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما العالمين بمرضاته، والمتّقين له حقّ تقاته، والكافلين لكلّ مؤمن بأمانه يوم الفزع الأكبر ونجاته، وسلّم عليهم أجمعين، سلاما متصلا إلى يوم الدّين.
والحمد لله الذي جعل النّعم التي أسبغها على أمير المؤمنين، بحسب ما اختصّه به من منزلته التي فضّله بها على جميع العالمين، فجعله خليفة في الأرض، والشّفيع لمن شايعه يوم الحساب والعرض، وأجزل له من مننه ما لا يناهضه شكر إلّا كان ظالعا، ولا يقابله اعتداد إلّا استولى عليه العجز فلم يكن بما يجب له طامعا، وإنّ من أرفعها مكانا، وأعظمها شانا، وأفخمها قدرا، وأنبهها ذكرا، وأعمّها نفعا، وأحسنها صنعا، وأغزرها مادّة، وأثبتها قاعدة إذا غدت النّعم شاردة نادّة، وأعودها فائدة على الخاصّ والعام، وأضمنها للسّعد المساعد والحظّ الوافر التّامّ- ما كان من المنّة الشامخة الذّرى، والمنحة الشاملة لجميع الورى، والعارفة التي اعترف بها التوحيد والإسلام، والموهبة التي [إذا] أنفق كلّ أحد عمره(8/346)
في وصفها وشكرها فما يعذل ولا يلام، والآية التي أظهرها الله للملّة الحنيفيّة على فترة من الرّسل، والمعجزة التي هدى أهله لها دون كافّة الأمّة إلى أعدل السّبل، والبرهان الذي خصّ به أمير المؤمنين وأظهره في دولته، والفضيلة التي أبانت مكانه من الله وكريم منزلته، وذلك ما منّ الله به على الشريعة الهادية، والكلمة الباقية، والخلافة النّبويّة، والإمامة الحافظيّة، منك أيّها السيد الأجلّ الأفضل، ولقد طال قدرك في حلل الثّناء، وجلّ استحقاقك عن كلّ عوض وجزاء، وغدت أوصافك مسألة اجتماع وائتلاف، فلو كانت مقالة لم يقع بين أرباب الملل شيء من التّناقض فيها والاختلاف، وأين يبلغ أمد استيجابك من منتحيه، أو يتسهّل إدراك شأوه على طالبه ومبتغيه؟ والإيمان لو تجسّم لكان على السّعي على شكرك أعظم مثابر، والإسلام لو أمكنه النّطق لقام بالدعاء لك خطيبا على المنابر، فأما الشّرك فلو أبقيته حيّا لتصدّى وتعرّض، لكنّك أنحيت عليه وأدلت التوحيد منه فانهدّ بناؤه بحمد الله وتقوّض، فكان لك في حقّ الله العضب الذي تقرّبت به إليه فأرضيته، والعزم الذي صمّمت عليه في نصرة الحقّ فأمضيته، والباطن الذي اطّلع عليه منك فنصرك ولم ترق دما، ولا روّعت مسلما، ولا أقلقت أحدا ولا أزعجته، ولا عدلت عن منهج صواب لما انتهجته، وذلك مما اشترك الكافّة في معرفته، وتساووا في علم حقيقته، مع ما كان من تسييرك العساكر المظفّرة صحبة أخيك الأجلّ الأوحد، أدام الله به الإمتاع وعضّده، وأحسن عنه الدّفاع وأيّده، مما جرت الحال فيه بحسن سياستك، وفضل سيادتك، على أفضل ما عوّدك الله من بلوغ آمالك، من غير أذى لحق أحدا من رجالك، والأمر في ذلك أشهر من الإيضاح، وأبين من ضياء فلق الصّباح، وهذا إذا تأمّله أمير المؤمنين أوجب عليه أن يقابلك من إحسانه، بغاية ما في إمكانه، وأن يوليك من منّته، أقصى ما في استطاعته وقدرته، ولم ير أحضر من أن قرّر نعوتك «السيّد، الأجلّ، الأفضل، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبو الفتح رضوان الحافظيّ» إذ لا أولى منك بكفالة قضاة دولته وإرشادهم، وهداية دعاتها إلى ما فيه نجاة المستجيبين في معادهم، وجدّد لك ما(8/347)
كان قدّمه من تكفيلك أمر مملكته، وإعادة القول فيما أسلفه من ردّه إليك تدبير ما وراء سرير خلافته التذاذا بتكرار ذلك وترديده، وابتهاجا بتطرية ذكره وتجديده، فأمور الملّة والدّولة معدوقة بتدبيرك، وأحوال الأداني والأقاصي موكولة إلى تقريرك، وقد جمع لك أمير المؤمنين من استخدام الأقلام، وجعل السيادة لك على سائر القضاة والدّعاة والحكّام، وأسجل لك بالاختصاص بالمعالي والانفراد، والتّوحّد بأنواع الرّياسات والاستبداد، ولك الإبرام والنّقض، والرّفع والخفض، والولاية والعزل، والتقديم والتأخير، والتّنويه والتأمير، فالمقدّم من قدّمته والمحمود من حمدته، والمؤخّر من أخّرته، والمذموم من ذممته، فلا مخالفة لما أحببته، ولا معدلة عما أردته، ولا تجاوز لما حدّدته، ولا خروج عمّا دبّرته، وأين ذلك ممّا يضمره لك أمير المؤمنين وينويه، ويعتقده فيك فلا يزال مدى الدّهر يعيده ويبديه؟ ولو لم يكن من بركاتك على دولة أمير المؤمنين، ويمن تدبيرك العائد على الإسلام والمسلمين، إلّا أنّ أوّل عسكر جهّزته إلى جهاد الكفرة الملاعين- وكان له النّصر العزيز الذي تبلّج فجره، والفتح المبين الذي جلّ قدره وانتشر ذكره، والظّفر المبهج للدّين- العسكر المنصور على الطائفة الكافرة، قتلا لأبطالها وأسرا لأعناق رجالها، وأخذا لقلاع الملسرة «1» منها، وأنه لم يفلت من جماعتها إلّا من يخبر عنها، ولو علم أمير المؤمنين تعظيما يخرج عما تضمّنه هذا السّجلّ لما اقتصر عليه، إلّا أنه عاجله ما يسرّه فجاهر «2» لك بما هو مستقرّ لديه، والله عزّ وجلّ يخدمك السّعود، ويخصّك من مواهبه بما يتجاوز المعهود، ويمدّك بموادّ التوفيق والتأييد، ويقضي لك في كلّ أمورك بما لا موضع فيه للمزيد، إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: وهذا الصّنف من الكتب السلطانية قد رفض وترك استعماله في(8/348)
زماننا فلا معوّل عليه أصلا.
الصنف الحادي والعشرون (المكاتبة بالإحماد والإذمام)
قال في «موادّ البيان» : السلطان محتاج إلى مكاتبة من يقف منه على طاعة واجتهاد، ومناصحة وإخلاص، بالشّكر والإحماد، والبعث على الازدياد من المخالصة وحسن السّعي في الخدمة وغيرها، مما يرتبط به النّعمة، ويستوجب معه حفظ الرّتبة، ومكاتبة من يعثر منه على تقصير وتضجيع، وتفريط وتضييع، بالذّمّ والتقريع والتّأنيب؛ لأنه لا يخلو أعوان السلطان من كفاة يستديم كفايتهم بتصويب مراميهم، واستحسان مساعيهم، وإحمادهم على تشميرهم، وشرح صدورهم ببسط آمالهم، والعدة برفع منازلهم ومحالّهم، وتمييزهم على نظرائهم وأشكالهم، وتحذيرهم من التوبيخ وتقديم الأعذار، والتخويف من سقوط المراتب، وقبح المصاير والعواقب.
قال: وينبغي للكاتب أن ينتهي في خطاب من انتهى في الحالين إلى غايتيهما، إلى المعاني الناجعة في الغرضين، ويتوسط فيهما سيّما التوسط الذي يقتضيه الحال المفاض فيها؛ لأنّ في ذلك تقريرا للمحسن على إحسانه، ونقلا للمسيء عن إساءته؛ لأنه إذا علم النّاهض أنه مثاب على نهضته، والواني أنه معاقب على ونيته، اجتهد هذا في الاستظهار بخدمته بما يزيد في رتبته، وخاف هذا من حطّ منزلته وتغيّر حالته، ثم قال: والرسوم في هذه المكاتبات تختلف بحسب اختلاف أغراضها، وتتشعب بتشعّب معانيها، والأمر في ذلك موكول إلى نظر الكاتب العارف الكامل، ووضعه كلّ شيء في موضعه، وترتيبه إياه في مرتبته.
فأمّا المكاتبة بالإحماد، فكما كتب «1» عن صمصام «2» الدولة بن عضد(8/349)
الدّولة بن بويه، إلى حاجب الحجّاب أبي القاسم سعد «1» بن محمد وهو مقيم بنصيبين «2» على محاربة باد «3» الكرديّ:
كتابنا، ووصل كتابك مؤرّخا بيوم كذا، تذكر فيه ما جرى عليه أمرك في الخدمة التي نيطت بكفايتك وغنائك، ووكلت إلى تدبيرك ووفائك، من ردّ باد الكرديّ عن الأعمال التي تطرّقها، وحدّث نفسه بالتّغلّب عليها، وتصرّفك في ذلك على موجبات الأوقات، والتّردّد بين أخينا وعدّتنا أبي حرب، زياد بن شهراكويه وبينك من المكاتبات، وحسن بلائك في تحيّفه، ومقاماتك في حصّ جناحه، وآثارك في الانقضاض على فريق بعد فريق من أصحابه، واضطرارك إيّاه بذلك وبضروب الرياضات التي استعملتها، والسّياسات التي سست أمره بها، إلى أن نزل عن وعورة المعصية إلى سهولة الطاعة، وانصرف عن مجاهل الغواية إلى معالم الهداية، وتراجع عن السّوم إلى الاقتصار، وعن السّرف إلى الاقتصاد، وعن الإباء إلى الانقياد، وعن الاعتياص إلى الإذعان، وأن الأمر استقرّ على أن قبلت منه الإنابة، وبذلت له فيما طلب الاستجابة، واستعيد إلى الطاعة،(8/350)
واستضيف إلى الجماعة، وتصرّف على أحكام الخدمة وجرى مجرى من تضمّه الجملة، وأخذت عليه بذلك العهود المستحكمة، والأيمان المغلّظة، وجدّدت له الولاية على الأعمال التي دخلت في تقليده وضربت عليها حدوده، وفهمناه.
وقد كانت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب [زياد بن شهراكويه] «1» مولى أمير المؤمنين ترد علينا، وتصل إلينا، مشتملة على كتبك إليه، ومطالعاتك إياه، فنعرف من ذلك حسن أثرك [وحزم رأيك] «2» وسداد قولك، وصواب اعتمادك، ووقوع مضاربك في مفاصلها، وإصابة مراميك أغراضها، وما عدوت في مذاهبك كلّها، ومتقلّباتك بأسرها، المطابقة لإيثارنا، والموافقة لما أمرت به عنا، ولا خلت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب من شكر لسعيك، وإحماد لأثرك، وثناء جميل عليك، وتلويح وإفصاح بالمناصحة الحقيقة بك، والموالاة اللّازمة لك، والوفاء الذي لا يستغرب من مثلك، ولا يستكثر ممّن حلّ في المعرفة محلّك، ولئن كنت قصدت في كلّ نهج استمررت عليه، ومعدل عدلت إليه، مكافحة هذا الرجل ومراغمته، ومصابرته ومنازلته، والتماس الظّهور عليه في جميع ما تراجعتماه من قول، وتنازعتماه من حدّ، فقد اجتمع لك إلى إحمادنا إياك، وارتضائنا ما كان منك، المنة عليه إذ سكّنت جاشه، وأزلت استيحاشه، واستللته من دنس لباس المخالفة، وكسوته حسن شعار الطاعة، وأطلت يده بالولاية، وبسطت لسانه بالحجّة، وأوفيت به على مراتب نظرائه، ومنازل قرنائه، حتّى هابوه هيبة الولاة، وارتفع بينهم عن مطارح العصاة.
فالحمد لله على أن جعلك عندنا محمودا، وعند أخينا وعدّتنا أبي حرب مشكورا، وعلى هذا الرّجل مانّا، وفي إصلاح ما أصلحت من الأمر مثابا مأجورا، وإياه نسأل أن يجري علينا عادته الجارية في إظهار آياتنا، ونصرة أوليائنا، والحكم لنا على أعدائنا، وإنزالهم على إرادتنا، طوعا أو كرها، وسلما أو حربا، فلا يخلو(8/351)
أحد منهم من أن تحيط لنا بعنقه ربقة أسر، أو منّة عفو، إنه جلّ ثناؤه بذلك جدير، وعليه قدير.
ويجب أن تنفّذ إلى حضرتنا الوثيقة المكتتبة على باد الكرديّ إن كنت لم تنفّذها إلى أوان وصول هذا الكتاب، لتكون في خزائننا محفوظة، وفي دواويننا منسوخة، وأن تتصرّف في أمر رسله وفي بقيّة- إن كانت بقيت من أمره- على ما يرسمه لك عنّا أخونا وعدّتنا أبو حرب، فرأيك في العمل على ذلك، وعلى مطالعتنا بأخبارك وأحوالك، وما يحتاج إلى علمه من جهتك، موفّقا إن شاء الله تعالى.
وأما الإذمام فيختلف الحال فيه باختلاف الملوم فيه والمذموم بسببه. فمن ذلك الذمّ على [ترك] الطاعة وشقّ العصا.
كما كتب عمارة «1» يصف شخصا بأنه لمّا ارتفع مكانه، وعلا قدره، بطر معيشته، وخرج عن طاعة الخليفة، وأن فلانا كان ممّن عرفت حاله، في غموض أمره، وخمول ذكره، وضيق معيشته، وقلّة عدده وناهضته، ولا تجاوز حياته ما يقوله، ولا يتعاطى ما وراء ذلك ولا يرومه، ولا يمنّيه نفسه، ولا يدفع يد لامس عنه بقوّة تنوء بملأ، ولا عزّ يلجأ إليه، فأنعم عليه أمير المؤمنين وأكرمه وشرّفه، وبلغ به الغاية التي لم يكن يرجوها ولا ترجى له، وبسط له من الدّنيا، وآتاه من غضارتها ونعمتها، وعزّها وسلطانها، ما لم يؤت أحدا من أهل زمانه، فلما مكّن الله له في الدنيا طغى وتجبّر، وعلا وتكبّر، وظنّ أن الذي كان فيه شيء قاده إلى نفسه بحوله وقوّته، تهويلا من الشّيطان واستدراجا منه له.
وكما كتب عبد الحميد «2» في مثله:(8/352)
أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلّا ما أحبّ من ربّ صنيعته قبلك، واستتمام معروفه إليك، وكان أمير المؤمنين أحقّ من أصلح ما فسد منك، وإنّك إن عدت لمثل مقالتك، وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معاجلتك رأيه، فإن النّعمة إذا طالت بالعبد ممتدّة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستثقل العافية، ونسب ما هو فيه إلى حيلته، وحسن نبته ورهطه وعشيرته، وإذا نزلت به الغير، وانكشفت عماية العشى عنه، ذلّ منقادا، وندم حسيرا، وتمكّن منه عدوّه، قادرا عليه، وقاهرا له. ولو أراد أمير المؤمنين مكافأتك بلفظك، ومعاجلة إفسادك، جمع بينه وبين من شهد فلتات خطئك وعظيم زلّتك، ولعمري لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بلفظك في مجلسك، وجحودك فضله عليك، لردّك إلى ما كنت عليه، ولكنت مستحقّا.
وفي مثله: فإن صاحب البريد كتب إليّ عن أصحابك بكذا، فقلت: إنهم لم يقدموا على ما أقدموا عليه حتّى عجموك، فعرفوا خور عودك، وضعف مكسرك ومهانة نفسك، وأنّه لا غير عندك ولا نكير.
ومن ذلك الذّمّ على الخطأ، كما كتب أحمد «1» بن يوسف:
كأنّ البخل والشّؤم صارا معا في سهمه، وكانا قبل ذلك في قسمه، فحازهما لوارثه، واستحقّ ما استملك منهما بالشّفعة، وأشهد على حيازتهما أهل الدين والأمانة حتّى خلصا له من كلّ ممانع، وسلما له من تبعة كلّ منازع، فهو لا يصيب إلّا مخطئا، ولا يحسن إلّا ناسيا، ولا ينفق إلّا كارها، ولا ينصف إلّا صاغرا.(8/353)
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لا يمتنع وقوعه في وقت من الأوقات؛ فإن عرض له موجب، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وكتب على ما يوجبه المقام، وتقتضيه تلك الوقعة.
الصنف الثاني والعشرون (ما يكتب مع الإنعام لنوّاب السّلطنة بالخيل والجوارح وغيرها من أنواع الإنعامات وهذا الصّنف من المستعمل في زماننا كلّ وقت)
فأما ما يكتب مع الإنعام بالخيل، فقد جرت العادة أن السلطان ينعم بالخيل على نوّاب السلطنة بالشام، ويكتب بذلك مثالات شريفة إليهم، وربّما أنعم بالخيل وكتب بها في غير ذلك.
وهذه نسخة مثال شريف من ذلك:
ضاعف الله تعالى نعمة الجناب وخصّه من النّعم بما لا تحصى له آثار، ولا يتعلّق له بغبار، ولا يوصف بحال واحدة؛ لأنه إن جرى فبحر، وإن وقف فنار.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بكلّ سلام لا تدرك لسوابقه غاية، ولا تحصى له نهاية، ولا يردّ منه كل ما جاء وله في وجهه كفلق الصّبح آية، ولا يتقدّم في ميدان إلّا وقد حمل له في كلّ مكان راية. وتوضّح لعلمه الكريم أنه قد جهّز له قرينها ما جرت به عادته من الحصن التي لا يدّعي البرق أنه لها نظير، ولا تجاري الرّياح من سوابقها ما يطير، كم لها في ميدان مجال، وكم لها في رؤية دوّيّة ارتجال، وكم دعي الوغى بها على كلّ ضامر فأتت رجالا تقدح سنابكها نارا، وتفيض جوانبها من الرّكض عقارا، ويتكفّل بديعها بكلّ مرام، وتعطي ما في يديها لأنها من الكرام، وقد تشرّفت من نعمنا الشريفة بالسّروج واللّجم والعدّة المكمّلة، وتحلّت من الذّهب والفضّة ما يغني بجملته المفصّلة، وأرسلناها إليه ترقص في أعنّتها زهوا، وتترك بطيب صهيلها كلّ بحر تخوضه إلى المنايا رهوا، وتوجّه بها فلان كالعرائس المجلوّة في حللها، والنّجوم لولا ما تميزت به من حلي عطلها، والسّحاب إلّا أنّها لا تحتاج منّة الرّياح في تنقّلها.(8/354)
فليقابل هذه النّعمة الشريفة بشكرها، وليتسلّم هذه الصّدقات العميمة التي تعترف كلّ نعمة بقدرها، وليحمد الله من تفقّداتنا الشريفة على كرم فرس جاء وهو سابق، وجود جواد لا يدور معه السّحاب في طابق، ويعتمدها لارتقاء كلّ صهوة منيفة، وجهاد أعداء الله عليها بين أيدينا الشريفة، ويعيد الواصل بها إلى خدمة أبوابنا العالية، والله تعالى يديم عليه بنا النّعم المتوالية، إن شاء الله تعالى.
آخر: ولا زال إقبالنا يمدّه من الصّافنات الجياد بما يباري الرّياح، ويتيمّن بغررها الصّباح، ويطلق أعنّتها في حلبة السّباق فتسبق بركضها ذوات الجناح، ولا برح إنعامنا يتحفه بكلّ طرف يبهج الطّرف، ويثلج الصّدر بما استمدّ عليه من الملاحة التي تروق العين وتفوق الوصف، ويفرده بما اجتمع فيه من الحسن واليمن، إذ هو واحد كالألف- تهدي إليه سلاما تعبق بطيب نشره أرجاءه، وثناء يعرب عما في ضميره من علوّ قدره وسموّ ذكره فيشرق سناؤه ويضاعف ثناؤه، وتوضّح لعلمه الكريم أنه غير خاف عنه ما يصل إلى أبوابنا الشريفة من الخيول البرقيّة في كلّ عام، وما نخصّه منها بكلّ ميمون الغرّة مبارك الطّلعة هنيء السّير على الإنعام، وقد أرسلنا إلى جنابه الكريم من ذلك سهمه، وأضفنا إلى ذلك ما استصلحناه من الخيل العربيّة الغربية والعتاق العجيبة العربية (؟) مما الخير معقود بنواصيها، فتزهق على صهواتها نفوس الأعداء وتستنزلها من صياصيها «1» ، فيأخذ الجناب العالي ما يخصّه من ذلك، ويفرّق الباقي على من رسمنا له به بيمن رأيه المبارك الذي لا يساهمه فيه أحد ولا يشارك، ويجهّز الخيل المخصوصة بفلان إليه، والله تعالى يضاعف عزّ ظهورها عند امتطائها لديه.
وأمّا ما يكتب مع الإنعام بالجوارح [فممّا يكتب] «2» مع إرسال سنقر «3» :(8/355)
وقد بعثنا إليه بسنقر كأنّه ملك متوّج، ورزق مروّج، تجرّأ على سفك الدّماء، وأبى أن يطلب رزقه إلّا من السماء، يودّ الكركيّ «1» لو خلص من مخاليبه، ويخاف أن يسلم من خرط «2» الشّبكة ويقع في كلاليبه، يدرك الصّيد ولا يؤجّله، ويرفع «3» صدره ثم يومي إليه برأسه كأنّه يستعجله، قد جمع من المحاسن كلّ الصّنوف، وكتبت عليه أسطر تقرأ بما تقرى به الضّيوف.
ومما يكتب مع إرسال صقر»
:
وقد وجّهنا إليه بصقر لا تؤسى «5» له من الصّيد جراح، ولا يدع من وحش يسرح ولا طائر يطير بجناح، أينما توجّه «6» لا يأت إلّا بخير، وحيثما أطلق كان حتف الوحش والطّير، يدع أقطار الفلاة مجزرة، أو روضة بالدماء مزهرة، يجدّ إلى الطير في عنقه، ويحلّق إلى السماء فيرجع وطائره في عنقه، تخافه العفر على نفوسها، وتخضع له ولأمثاله فما تخرج إلّا والطّير على رؤوسها، يزيد خبره في مظانّ الصّيد على الخبر، وتخرج الظّباء وقد تسجّت «7» خوفا منه في ملاءة من العجاج مخيطة من قرونها بالإبر، شديد الأيد، قد بنى على الكسر حروف(8/356)
الصّيد، يحمد مقتنيه أيامه الغرّ، ويقول له إذا تلفّت إلى الصيد: إن جلبت ضبعا «1» فأنت حر، لا يصحب مستصحبه معه إلّا مزاده، وأينما سار حامله- وهو «2» معه- كان معه زاده.
ومما يكتب مع إرسال شاهين «3» :
وقد وجّه إليه بشاهين إذا حلّق وراء الطّير شاهت به الوجوه، وشاهدت الآمال به ما ترجوه، قد أصبح كلّ محلّق الجناح «4» رهين يده، وكلّ سارب من الوحش طعام يومه أو غده، لا يتعبه خلف الطّريدة بعد المدى، ولا يردّه خوف مسافة ولا تقحّم ردى، ربيّة عام لم يمتّع بطول «5» ما دهر، وممتدّة «6» منه في الطّلق مثل ريح سليمان «7» غدوّها شهر ورواحها شهر.
ومما يكتب مع إرسال كوهيّة «8» :
وقد جهّزنا إليه كوهيّة، هي بالمحاسن حريّة، ولكثرة الإقدام جريّة «9» ، يكل بها صاحبها أمر مطبخه، ويمدّها «10» من الطير من ليس بمصرخه، لا نعفّ عن دم، ولا ترى أطرافها إلّا مثمرة «11» بعنّاب أو مخضّبة بعندم، قد أخلت من كلّ(8/357)
سانح «1» ، ولبست زيّ الرّاهب المتعبّد وفتكت بكلّ سائح.
ومما يكتب مع سقاوة «2» :
وقد جهزنا إليه بسقاوة، مخاليبها على الطّير كالحديد أو أشدّ قساوة، تسيل دماء الصيد كالمذانب «3» ، وتكسو الأرض حبرا من رياش الحبارى وفراء من جلود الأرانب، وجعلت في قبضة الكفّ ما كانت العين عليه تدور، وتكفّلت بكفاية المطبخ وملأت القدور.
ومما يكتب مع إرسال باز «4» :
وقد بعثنا إليه بباز مهما لقي لقف، ومهما خطا لديه خطف، كأنّما خطّ جوهره «5» بقلم، أو ريش عليه من الصّباح والظّلم، قد أعدّ «6» للطوارق، وادّرأ بمثل الطّوارق، قد دحض حجج الحجل، وكسرها حتّى أبان عليها حمرة الخجل، لا يسأل في «7» الصيد عما نهب، ولا تعرف له قيمة إلّا أنّ له عينا من الذّهب.
ومما يكتب مع الفهد «8» :(8/358)
وقد أنعمنا عليه بفهد أهرت الشّدق، ظاهر الحذق، بادي العبوس، مدنّر الملبوس، شثن البراثن، ذي أنياب كالمدى ومخالب كالمحاجن، قد أخذ من الفلق والغسق إهابا، وتقمّص من نجل الحدق جلبابا، يضرب المثل في سرعة وثوب الأجل به وبشبهه، وتكاد الشّمس مذ لقّبوها بالغزالة لا تطلع من الوجل على وجهه، يسبق إلى الصيد مرامي طرفه، ويفوت لحظ مرسله إليه فلا يستكمل النظر إلّا وهو في كفّه، وتتقدّمه الضّواري إلى الوحش فإذا وثب له تعثّرت من خلفه.
وأما ما يكتب مع الإنعام بالسلاح:
فمن ذلك: وقد جهزنا إليه سيفا تلمع مخايل النّصر من غمده، وتشرق جواهر الفتح في فرنده، وإذا سابق الأجل إلى قبض النّفوس، عرف الأجل قدره فوقف عند حدّه، ومتى جرّد على ملك من ملوك العدا وهت عزائمه، وعجز جناح جيشه أن تنهض به قوادمه، وعلم أنه سيفنا الذي على عاتق الملك [الأعز] «1» نجاده وفي يد جبّار السموات قائمه.
الصنف الثالث والعشرون (المكاتبة بالبشارة عن الخليفة بولد رزقه)
والرسم فيها أن يذكر شرف الخلافة وعلوّ رتبتها، ويشير إلى تخصيص الخلافة بمصيرها إليه دون سائر البريّة، وانتقالها إليه بالتّوارث من آبائه الطاهرين كابرا عن كابر، وبقائها في عقبه إلى الأبد. ثم يتخلص إلى ذكر النّعمة على أمير المؤمنين التي أنعمها الله تعالى عليه، وأنّ من أعظمها نعمة أن رزقه الله تعالى ولدا، ويذكر اسمه وكنيته، ويصفه بما يناسبه.
وهذه نسخة كتاب في معنى ذلك، وهي:
الحمد لله مؤيّد الإسلام بخلفائه الراشدين، ومظهر الإيمان بأوليائه الهادين، الذي جعل الإمامة كلمة باقية فيهم إلى يوم الدّين، وأقام منهم الحاضر المتّبع،(8/359)
والمرجوّ المتوقّع، وأطلع منهم في سماء الهداية شهبا لا يخبو منها شهاب حتّى يتوقّد شهاب، وفتح بهم للإرشاد أبوابا لا يرتج منها باب حتّى يفتح باب.
يحمده أمير المؤمنين أن فوّض إليه منازل آبائه، ووفّقه (؟) بانتقال ما ورثه من آبائه إلى أبنائه، ويسأله أن يصلّي على من كرّمه بولادته وشرّفه بالانتساب إلى شجرة سيدنا محمد خاتم رسله، المترجم عن توحيده وعدله، وعلى أخيه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب قسيمه في فضله، ووصيّه على أمّته وأهله.
وإن أولى النّعم بأن يفاض في شكرها، وتعطّر المحافل بنشرها، نعمة حاطت دعائم الدّين، وأمرّت حبل المسلمين، وتساوى في [تناول] «1» قطافها الكافّة، وآذنت بشيوع الرّحمة والرافة، وأضحت بها النّبوّة مشرقة الأنوار، والإمامة عالية المنار، والخلافة مختالة المنبر والسّرير، رافلة في حلل الابتهاج والسّرور.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد رزقه الله تعالى ولدا ذكرا مباركا رضيّا، سمّاه فلانا، وكنّاه أبا فلان، فجلا بنهار غرّته الدّامس، وافترّ بمقدمه العابس، واخضرّ بيمن [نقيبته] «2» اليابس، ووثقت الآمال بسعادة مقدمه، وتطلّعت الأعناق إلى جوده وكرمه، مبشّرا لك بهذه النّعمى الحسنة الأثر، القليلة الخطر، علما بمكانك من ولائه ومخالصته، وسرورك بما يفيضه الله عليه من شآبيب نعمته، لتأخذ من المسرّة والجذل بحظّ المولى المخلص، والعبد المتخصّص، ولتشيع مضمون كتابه فيمن قبلك من الأولياء، ليشاركونا في الشّكر والثّناء؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
[قلت] «3» وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية مستعمل في البشارة عن السلطان إذا حدث له ولد، فيكتب بالبشارة به إلى نوّاب السلطنة وأهل المملكة.(8/360)
الصنف الرابع والعشرون (ما يكتب عن السلطان بالبشارة بعافيته من مرض)
وهذه نسخة كتاب بعافية الملك النّاصر «محمد «1» بن قلاوون» من مرض، إلى صاحب ماردين «2» ، وهو:
ولا زالت البشائر على سمعه الكريم متواترة، والمسارّ إلى مقام ملكه سائرة، والتّهاني، ببلوغ الأماني، من كمال شفائنا تجعل ثغور الثّغور باسمة ووجوه الدّهور ناضرة، ونعم الله تعالى مقابلة بالشّكر الجزيل على أن أجدّ ملك الإسلام بافتقاده، وأبقي للدّين المحمديّ ناصره. أصدرناها إلى المقام العالي ومواردنا من الصّحّة حلوة في الأفواه، وألسنتنا شاكرة لنعم الله، وعافيتنا تجدّد في كلّ جديد، وصحّتنا قد بلغت من المزيد ما نريد، وقد ألبسنا الله تعالى من الشّفاء ثوبا قشيبا، ونصرنا نصرا عزيزا وفتح لنا فتحا مبينا، تهدي إليه سلاما تتأرج به أرجاء ملكه، وثناء تنتظم الأثنية في سلكه، وتوضح لعلمه الكريم ما حصل من عافيتنا التي تضاعف بها فرح الإسلام والمسلمين، ووجب الشّكر عليهم والحمد لله ربّ العالمين.
الضرب الثاني (من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب عن السلطان في الجواب)
وكلّ معنى من المعاني الوارد بها الكتاب إليه يستقّ جوابه منها، وغالب ما يعتنى به من ذلك جواب ما يرد من المكاتبات بالتّقادم والهدايا، وما في معنى ذلك.
وهذه أدعية من ذلك يستضاء بها في أوائل الأجوبة عن المعاني التي ترد فيها.
جواب سلطانيّ عن وصول خيل: ولا زال يتحف بكلّ صاهل في الجحفل،(8/361)
جمال في المحفل، وأجرد إذا أمّ غاية لمعت في أثره البروق تتطفّل، ومسوّم يلتزم جلاله بمزيد جلاله، وكيف لا وهي إذا أسدلت عليه يتكفّل؟ أصدرناها والعطر يضوع من سلامها، والمسك يفوح من ختامها، وآثار الندى تحكي آثار أقلامها.
آخر في المعنى: ولا زال محتفلا بالجياد وإرسالها، ومهديا لركابنا الشّريف السّوابق التي إذا لم يسابقها شيء من الحيوان تجلّت في مسابقة ظلالها، وينتقي لمواكبنا الخيول التي إذا أصبحت في مدّى أصبحت الرياح تتعلق بأذيالها.
أصدرناها.
آخر في مثله: ولا زال يهدي إلينا من الجياد بحرا، ويقود من العراب «1» ما تملأ غرّته المواكب بشرا، وإذا طلع في الكتيبة يزيدها عزّا ونصرا، من كلّ طرف تأصّل حسنا وحسن إهابا وجلّ قدرا.
آخر في مثله: وأعلى له على صهوات العتاق مرتقى، وخصّه بكلّ جواد وهو منتقل إليه منتقى، وأطلع عليه نواصي الصّوافن «2» التي عقد الخير بها عقدا موثقا.
أصدرناها ونور التّحايا من أرجائها ينير، ومفاخرها تشرّف بها كلّ منبر وسرير، وركائب أثنيتها تسير إلى مقامه فتطيب راحلة في ذلك المسير.
آخر في مثله: ولا زال يهدي من الجياد المسوّمة أصائلها، ويتحف مما يحييه عند الوفادة عليه صاهلها، ويقابل أكرم غرّة، الخير معقود بناصيتها واليمن يقابلها، ويمتّع بأعزّ جواد حلية الشّفق دون إهابه إذ يماثلها، وسرعة البرق خفّته إذ يساجلها.(8/362)
الضرب الثالث (من الكتب السلطانية الكتب الصادرة عن نوّاب السلطنة إلى النوّاب بسبب ما يرد عليهم من المثالات السلطانية)
اعلم أنه قد جرت العادة بأنّه إذا ورد على نائب السلطنة بالشّام مثال شريف من الأبواب السلطانية، يأمرهم «1» كتب نائب الشّام إلى نوّاب السلطنة بورود المثال الشريف مبشّرا بذلك، ويجهز إلى كلّ منهم مع المثال الوارد إلى كلّ نائب من نوّاب السلطان معنى المثال الوارد من الأبواب السلطانية بذلك. إلّا أنه يكون حاكيا لصورة المثال الوارد بذلك، لا أنّه مبتدئه، ويشتمل ذلك على عدّة أمور:
فمن ذلك جلوس السلطان على تخت الملك، فيخبر نائب الشّام في الكتاب الصادر عنه إلى بعض النوّاب بأنّ المثال الشريف ورد عليه بذلك، وأنه ورد كتاب إلى المكتوب إليه فجهزه إليه.
[وهذه نسخة كتاب من ذلك] كتب به عن نائب الشّام إلى بعض نوّاب «2» السلطنة، بالبشارة بسلطنة السلطان الملك الصّالح إسماعيل «3» بن الناصر محمد ابن قلاوون، وقد ورد على يد بعض الحجّاب، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن «4»(8/363)
نباتة، في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي بعد الصدر:
أمتعه [الله] من البشائر بما يتوضّح على جبين الصّباح بشره، وبما يترجّح على ميزان الكواكب قدره، وبما ينفسح من أوقات أمن لا يختصم في ظلّها زيد وعمرو حتّى يقال: ولا زيد النّحو وعمره. وينهي بعد دعاء يتبلّج في الليل فجره، وثناء يتأرّج في طيّ النّسيم نشره، وولاء يتساوى في درجات الصّفاء سرّه وجهره، أنّ خير البشائر ما خصّ أولياء الدّولة الشريفة وعمّ الرعايا، وسما إلى ثغور الإسلام خبره الجليّ فقال: (وافر) «أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا» «1» وقسمت مسرّته على كافلي الممالك فقالت مملكة مولانا (وافر) «لنا المرباع منها والصّفايا» . وسلك المملوك من الإسراع بإشاعته الحقّ الواجب وجهّز خدمته بين يدي المثال الشريف الذي سبق طائر يمنه ولكنّه جاء في خدمته حاجب، وهي البشرى الواردة في الأمثلة الشريفة السلطانية، المالكية الملكيه، الصالحية العماديه، العريقة في نسب النّصر بالأنساب النّاصريّة المنصورة، أعلى الله تعالى أبدا على قواعد الملك عمادها، وصرّف بها الأعنّة لما سرّ وصرفها عمّا دهى، بجلوسه على كرسيّ المملكة الذي هو آية سعده الكبرى، وتخت السّلطنة الذي عاينه ملك الجود والعلم فقال: السّلام عليك بحرا، وإجماع الأمة على أنه صالح المؤمنين، وكفاة الحلّ والعقد على أنه سلطان الإسلام والمسلمين، وأركان البيت النّاصريّ على أنه عماده، وعلى أنه سنده المكمّل وإذا انقضّ بيت سناده، فيا له جلوسا قامت فيه كواكب السّعد مشدودة المناطق، وياله إجماعا اتفق فيه- حتى من تصميم السيوف وتعبير الأقلام- كلّ صامت وناطق،(8/364)
وياله بيت ملك أبى الله إلّا أن يقيم وزنه أفضل الأفاعيل، وياله ملكا قال الدّهر الطويل انتظاره: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل
«1» ويا له أمرا بلّغ خبره وخبره الأوطار والأوطان، ونفذت برده المصرية على حين فترة تالية له السّعود: فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان
«2» وحشر الناس ضحى ليوم الزّينة، وجاءوا إليها مستبشرين من أدنى وأقصى كلّ من في المدينة، وضربت البشائر ويا عجبا! إنّها تضرب ومكانتها من القلوب مكينة.
حتّى إذا أخذت مصر حظّها من الهناء قسّمت على الأمصار، وأضاء بارق نشرها من كلّ وجه فسمت بالشّامات غرّة الأبصار، وركض بريد الخير بمبارك باب البريد ووصل نيل النّيل إلى أنهار دمشق فبردى على الشّكر ثابت ويزيد، وبشّر الإسلام من وجه الخلف الصّالح بأكرم من برّ، واستفاض الاسم الشريف، فلو كلّف مشتاق فوق وسعه لسعى إليه المنبر.
فالحمد لله على أن سرّ البيت الشريف النّاصريّ بجمع شمله، وعلى أن أتى الملك العقيم الصّالح من أهله، وقد جهّز المملوك المثال الشّريف المختصّ بمولانا، ومولانا أولى من انتظمت لديه درر هذه الأخبار الثّمينة، وعظّمت بناحيته شعائر هذه الدّولة المكينة، وكمّل لخير حماه خير قرينة، والله تعالى يعزّ الإسلام بعزمه، ويمضي الآجال والأرزاق على يدي حربه وسلمه، وينجز لرأيه ورايته النّصر قبل أن يطوف الأولياء بعلمه، وقبل أن يحيط الأذكياء بعلمه.
ومن ذلك الكتابة بورود مثال شريف بعافية السلطان الملك الصالح عماد الدّين إسماعيل، بن الناصر محمد بن قلاوون، في خلافة الحاكم بأمر الله أحمد ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان «3» من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباتة، وهي بعد الألقاب:(8/365)
أورد الله عليه من الهناء كلّ سريّ يسرّه، وكلّ سنيّ يقرّ أمام ناظره الكريم ويقرّه، وكلّ وفيّ إذا طلع في آفاق حلب قيل: لله درّه، ولا زالت البشائر تلقاه بكل وجه جميل، وبكلّ جليّ جليل، وبكلّ خبر تصحّ الدنيا بصحّته فليس بها غير النسيم عليل، تقبيلا يزاحم عقود الثّغور، ويكاد يمنع ضمّ الشّفتين للّثم طول الابتسام للسّرور، وينهي بعد رفع اليد بدعائه، وضمّ الجوانح على ولائه، وجزم الهناء المشترك بمسرّة مولانا وهنائه، أن المثال الشريف زاده الله شرفا، وزاد فضل سلطانه على العباد سرفا، ورد بالبشارة العظمى، والنّعماء التي ما ضاهتها الأيام قبل بنعمى، والمسرّة التي يأكل حديثها أحاديث المسرّات أكلا لمّا، ويحبّها الإسلام والمسلمون حبا جمّا، بسلامة جوهر الجسد الشريف من ذلك العرض، وشفائه الذي في عيون الأعداء منه شفار تطعن وفي قلوبهم مرض، وأن مادّة الأدواء بحمد الله قد انحسمت، والواردة من الافتقاد بالأجر والعافية قد ابتسمت، وأن ظنون الإشفاق قد اضمحلّت، ونسمات الرّوض قد فدت الجسم الشّريف فاعتلّت، وأخبار الهناء يعيّنها كلّ بريد نشوان من الفرح [ينشد] أسائلها أيّ المواطن حلّت، فيالها بشارة خصّت الإسلام وعمّت بنيه، وسارت فوق الأرض وسرت تحتها أسلاف الملك ومبتنيه، وشملت البلاد وعبادها، والسّلطنة وقد حجب الله عمادها عمّا دهى، والملك السليمانيّ وقد ثبّت الله به على الدنيا من السماء خيمتها ومن الجبال أوتادها، والطّير وقد حملت ورقه أوراق السّرور، والوحش وقد قالت مهاه: على عيني أتحمّل ذلك السّقام أو ذلك الفتور، ذلك الفضل من الله وكفى(8/366)
بالله عليما «1» والألطاف الرّاحم بها المؤمنين من خلقه وكان بالمؤمنين رحيما
«2» وكان ورود هذا المثال الشّريف على يد فلان، فياله من وارد لمشارع الأمن أورد، ولروائع الناس عن القلوب حجب أو ردّ، وقد جهزه المملوك بالمثال الشريف المختصّ بمولانا وهذه الخدمة بعد أن ضربت البشائر مسوّغة في كلّ ضرب من التهاني، وزيّنت البلد زينة ما نظمت فيها غير العقود أيدي الغواني، فيأخذ حظّه من هذه البشرى، ونصيبه من هذا الوجه الذي ملأ الوجود بشرا، وشطره من الهناء المخصوص الذي تعجّل منه المملوك شطرا، والله تعالى يسرّه بكلّ خير تشرق زواهره، وتعبق في كمائم الدّروج أزاهره، ويتألّق على يد بريده من المخلقات كلّ كوكب صبح تملأ الدنيا بشائره.
ومن ذلك المكاتبة بورود المثال الشريف بوفاء النّيل:
إذا ورد على نائب الشام بوفاء النّيل المبارك، كتب نائب الشّام عن نفسه إلى نائب حلب وغيره، من نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، بورود المثال الشريف عليه بذلك، ويكتب عنه، كما يكتب عن السلطان، من السّجع، وإيراده مورد البشارة، وإظهار الفرح والسرور بذلك، لا يكاد يخالفه إلّا في كونه واردا مورد الحكاية لمثال السلطان، ومثال السلطان مخبر بذلك ابتداء.
وهذه نسخة مثال كريم من ذلك عن نائب الشّام، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباته، كتب به لسنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي بعد الصدر:
لا زالت مبشّرة بكلّ مبهجة، معطّرة الأرجاء بكلّ سائرة أرجة، ميسّرة الأوقات بمقدّمتي سماع وعيان، كلاهما للمسارّ منتجة، مستحضرة في معالي الكرم كلّ دقيقة تشهد بسطة النّيل أنها ارفع درجة، وينهي بعد دعاء ما الرّوض أعطر من شذاه، ولا ماء النّيل وإن كرم وفاء بأوفى من جداه، أن المرسوم الشريف(8/367)
زاده الله تعالى شرفا، ورد بوفاء النّيل المبارك وحبّذا هو من وفيّ موافي «1» ، ومتغيّر المجرى وعيش البلاد به العيش الصّافي، وحسن الزّيارة والرّحيل ما ضاهته الغيوث في ولافي، ووارد من معبّد بعيد، وحميل «2» لا جرم أن مدّه ثابت «3» ويزيد، وجائد إذا تتابع حيث تيّاره يقلّد برّه ودرّه من الأرض وساكنها كلّ جيد، وإذا ذكر الخصب لمكان عيده المشهود ألقى السّمع وهو شهيد، وذلك في يوم كذا، وأن البلاد جبرت بكسر خليجه، واستقامت أحوالها بتفريجه، وأثنت عليه بآلائه، ووسمت لونه الأصهب على رغم الصّهباء بأحسن أسمائه، وخلّق فملأت الدّنيا بشائر مخلّقه، وعلّق ستره المصريّ التّبريّ فزكا على معلّقه، وحلّق مسير تراعه على القرى فبات على النّدا ضيف محلّقه، وحدّث عن البحر ولا حرج، وانعرج على البقاع يلوي معصمه فلله أوقات ذلك اللّوى والمنعرج، واستقرّت الرعايا آمنين آملين، وقطع دابر الجدب بسعود هذه الدّولة القاهرة وقيل الحمد لله رب العالمين
«4» ورسم أن لا يجبى حقّ بشارة، ولا تعبث يد التنقيص منها ليزداد الخبر نورا على نور، ويكون في إيثاره وحسنه الخبر الحسن المأثور، ووصل بهذا الخبر فلان وعلى يده مثال شريف يختص بمولانا وقد جهز به، فيأخذ مولانا حظّه من هذه البشرى، ويوضّح بها على كلّ الوجوه بشرا، والله تعالى يملأ له بالمسرّات صدرا، ويضع بعدله عن الرعية إصرا «5» ، ويسرّهم في أيامه بكلّ وارد يقول الإحسان لمتحمّله: لو شئت لاتخذت عليه أجرا
«6» إن شاء الله تعالى.(8/368)
وهذه نسخة كتاب آخر في المعنى إلى بعض النوّاب، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباتة أيضا، وهي بعد الصدر:
وضاعف موادّ نعمه ونعمائه، ومسرّته وهنائه، وحفظ عليه ما وهبه من المناقب التي يروي النّيل عن كرمه ووفائه، وشرّف السّيوف لكونها من سمات كرمه والسّيول لكونها من سمائه.
المملوك يجدّد الخدمة بنفحات سلامه وثنائه، ويصف ولاء لو تجسّم لا ستمدّت عين الشمس من سنائه، وينهي أن المرسوم الشريف زاده الله تعالى شرفا، ورد مبشّرا بوفاء النيل المبارك في يوم كذا، فياله ربيعا جاء في ربيع، وحاملا في مفرده الفضل الجميع، وداعيا بالخصب ينشد كلّ ثانية اثنين ريحانة الدّاعي السميع، ومتغنّيا على منصّة المقياس عرسه يجلى عليه من شباكها السّتر الرفيع، وأنه أقبل والبلاد أشهى ما تكون للقياه، وأشوق ما ترى لمباشرة ريّه وريّاه، وقد امتدّت أيدي الجسور لفمه، واستعدّت شفاه الحروف اللّعس للثمه، فكرم عليها زائره، وصحبها بالنّجح ساريه وسائره، ودارت على الجدب من خطوط الأمواج دوائره، وعمّت المنافع، وتلقت عيون الفلا ناهلة بالأصابع، وفاض البحر ببرّه، ونشر رداءه على الأرض وسيضوع روضها بنشره، وخلّق المقياس فيالك من قياس بشرى غير ممنوع، وكسر الخليج فياله غصن قلم على النيل وطائر سجعه على الفرات مسموع، ورسم أن لا يجبى حقّ بشارة، ولا يدخل فيها النقيص لدار ولا التنغيص لدارة، ووصل بهذا الأمر فلان وقد جهّز بما على يده، والله تعالى يمتّع مولانا من أقسام المسارّ بصنوف، ويدفع عن حصون الإسلام بيمنه أيدي الصّروف، وينفعها بظلاله التي آواها ملكه الكريم إلى جنّة، وكذلك الجنّة تحت ظلال السّيوف.(8/369)
الضرب الرابع (من المكاتبات السّلطانية ما يكتب عن النّوّاب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان، وفيه مهيعان)
المهيع الأوّل (في الأجوبة عن الكتب السلطانية السابقة في الضّرب الأوّل)
قد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات في أوّل هذه المقالة ذكر الخلاف: هل الكتب الابتدائية [أعلى رتبة] «1» في الإتيان بها أم الجوابية؟ وذكر الاحتجاج لكلّ من المذهبين، وذكر التحقيق في ذلك، فليراجع من موضعه هناك. ونحن نذكر الكلام على أجوبة الكتب السابقة على الترتيب المتقدّم، جارين في ذلك على ما قرّره في «موادّ البيان» .
فأما الجواب عن الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إلى الخليفة، فإنّ الكتاب إن كان متضمنا التعزية في سلفه، والهناء بمتجدّد النعمة عنده في انتقال الخلافة إليه فالرّسم فيما يكاتب به عن الخليفة أن يبنى على الاستبشار بالنّعمة في خلافته، والمسارعة بإخلاص الضمير إلى الدّخول في طاعته وبيعته، وانفساح الآمال في دولته، والشّكر لله تعالى على جبر الوهن وعلوّ كلمة الإسلام والمسلمين بدعوته، وتعزيته عن أبيه، بما يوجبه محلّ المحنة ويقتضيه، يعني إن كان الخليفة الميّت أباه، فالدعاء له بأن ينهضه الله تعالى بما حمّله، ويعينه على ما كفّله، ويقرن ملكه بالجدّ السعيد، والخلود والتأييد، وإدالة الأولياء، وإذالة الأعداء، ونحو هذا مما يجاريه.
وإن كان الكتاب الوارد بانتقال الخلافة إليه عن أبيه، ومن في معناه ممّن يواليه في المحبّة، فإن الكاتب يحوم في الجواب على ما حصل بذلك من صلاح حال الأمّة، واستقامة أمر الرّعيّه بانتقال الخلافة إليه، من غير أن يصرّح بذمّ(8/370)
الذاهب قبله. ولا يخفى أن الجواب عن ورود الكتاب بانتقال السلطنة إلى السلطان وجلوسه على تخت الملك في معنى الجواب في انتقال الخلافة إلى الخليفة، لا يكاد يفرق بينهما، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالدعاء إلى الدّين، فإنما يتكلّفها كتّاب مخالفي الملّة؛ لأنها إنما تصدر إليهم. قال في «موادّ البيان» «1» : إلّا أنه لا غنى لكتّاب الإسلام عن علم ما يقع فيها، لتتقدّم عندهم المعرفة بما يجيب به المخالفون، فيأخذوا عليهم بأطراف الحجّة إذا كاتبوهم ابتداء أو جوابا.
قال: ولا تخلو أجوبة هذه الكتب من أربعة معان:
أحدها- إجابة الدعاء إلى الدّين، وقبول الإرشاد والهدى، والنّزوع عن الغيّ، والإقبال على التّبصرة والتذكرة، بعقائد خالصة، ونيّات صريحة.
والثاني- الإصرار على ما هم متمسّكون به، وتمحّل الشّبهة في نصرته، وادّعاء الحقّ فيما يعتقدونه، والمغالطة عن الإجابة إلى قبول ما دعوا إليه.
والثالث- بذل الجزية والمصالحة، والجنوح إلى السّلم والموادعة.
والرابع- إظهار الحميّة، والقيام في دفاع من يروم اقتسارهم على مفارقة شرائعهم وأديانهم، وبذل الأنفس في مقارعته.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحثّ على الجهاد، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنها لا تخرج عن معنيين:
أحدهما- إجابة الصّريخ، والمبادرة إلى التّشمير في الجهاد، والقيام في معونة الأولياء، على كفاح الأعداء.
والثاني- الاعتذار والتّعلّل والتّثاقل.
هذا إن كانت الكتب صادرة إلى القوّاد والمقدّمين، أما إذا كانت مقصورة(8/371)
على الاستنفار، فلا جواب لها إلّا النّفور أو الإمساك. قال في «موادّ البيان» :
والطريق إلى إقامة العذر للمستصرخ في التأخّر عن مستصرخه متى أراد الاعتذار عنه صعب على الكاتب، ولا سيّما إذا كانت الأعذار متكلّفة غير صحيحة.
قال: وينبغي أن يتأتّى لذلك ويحسن التلطّف فيه، ولا يعتلّ بكذب صراح ينكشف للمعتذر إليه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالحثّ على لزوم الطاعة، إذا وردت على النوّاب والولاة وأمروا بقراءتها في أعمالهم على الرّعايا، فإنه يكون: إما بانقياد الرّعايا إلى ما دعوا إليه، أو استدامتهم لمركب النّفاق، واستدعاء مادّة لتقويمهم.
وأما الجواب عن الكتب إلى من نكث عهده من المعاهدين، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنها لا تخلو من أحد أربعة معان:
أوّلها- الاعتذار والاستقالة من مراجعة النّكث، والرغبة في الصفح عن النّبوة، والمسامحة بالهفوة.
والثاني- المغالطة والمراوغة، واستعمال المداهنة والمخادعة.
والثالث- التّجليح والمكاشفة.
والرابع- إيجاب الحجّة على المجوب (؟) عنه في أنه المبتديء بفسخ ما عاقد عليه. قال: والكاتب إذا كان ماهرا كسا كلّ معنى من هذه المعاني الغرض اللّائق به في الصناعة.
وأما الجواب عن الكتب إلى من خلع الطاعة، فقد قال في «موادّ البيان» :
إنها تحتمل معنيين: أحدهما الاعتذار، والآخر الإصرار، وكلّ واحد منهما محتاج إلى عبارة لائقة به، ثم قال: والكاتب إذا كان حاذقا، عرف سبيل التّخلّص فيها بمشيئة الله تعالى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالفتوح، فإنّها إن صدرت من السلطان إلى ولاته، فينبغي أن يبنى جوابها على الاستبشار بموقع النّعم في الظّفر بالعدوّ،(8/372)
والجذل بمتجدّد الفتح، وأنّ ذلك إنّما تهيّأ بسعادته، وعلوّ رأيه وانبساط هيبته، وما عوّده من إظهار أوليائه، وخذلان أعدائه، وأنّهم قد أشاعوا هذا النبأ في الخاصّة والعامّة من رعاياه فابتهجوا به، وشكروا الله تعالى عليه ودعوا له بصالح الدعاء.
وإن صدرت من ولاة الحرب إلى السلطان، فينبغي أن يكون ما يجيبهم به مبنيّا على حمد الله تعالى على عوارفه، والرّغبة في مضاعفة لطائفه، وشكره على إنجاز وعده في الإظفار بأعداء الملّة والدّولة ونحو هذا. ومخاطبة أهل الطاعة بما يرهف عزائمهم، ويقوّي شوكتهم، وتقريظ والي الحرب ووصفه بما يشحذ بصيرته في الخدمة، والثّناء على الأجناد، ووعدهم بجزيل الجزاء على الجهاد والإبلاء، إلى غير هذا مما يقتضيه الحال، ويوجبه تدبير الأمر الحاضر.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالاعتذار عن السلطان عند ما يحصل له زلل في التدبير أو [في] الظّفر بقبض الأعداء على جيش من جيوشه، فإنما تقع الإجابة عنها إذا نفّذت إلى أحد العمّال خصوصا. قال في «موادّ البيان» : وحينئذ فينبغي أن يكون الجواب عنها مبنيّا على تقوية نفس السلطان وتوثيقه بالأدلّة، وأن ما ناله لا يتوجّه كثيرا على ذوي الحرم، إلّا أن عواقب الفلج والظّفر والإصابة في الرّأي والتدبير تكون لهم، ونحو هذا مما يجاريه ويليق به.
قال: أما إذا كانت المكاتبة في ذلك إلى الكافّة، ممهّدة لعذر السلطان، قاطعة قالة «1» الرّعية عنه، فإنه لا جواب عنها؛ لأنها إذا لم توجّه إلى واحد بعينه لا تستدعي خطابا.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن السلطان بالنّهي عن التّنازع في الدّين، إذا صدرت إلى العمّال، وأمروا بقراءتها على الرّعايا على منابر أعمالهم، فإنه يبنى الأمر فيها على امتثال الأمر، والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامّة ليبصروا ما فيها ويعلموا عليه، فإنه لا جواب عنها؛(8/373)
لأنها إنما تشتمل على مواعظ ومراشد تتخوّل بها الأئمة رعاياهم.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالأوامر والنّواهي، فقد ذكر في «موادّ البيان» أن الكتاب الوارد في ذلك، إن كان شيئا قد جزم المتبوع فيه الأمر، وضيّق على التّابع في إيثاره سبيل المراجعة فيه، فإن الجواب عنه سهل؛ لأنه إنما يجيب بجواب جامع، وهو وقوفه على أمر به وإنفاذه له. وإن كان الوارد أمرا محتملا للمراجعة، من حيث إنّ في إمضائه إذا أمضي إفسادا للعمل، وإخلالا بأسباب الملك والسلطان، فالجواب عنه شاقّ صعب؛ لأنه ينبغي أن يبنى على تلطّف شديد في الإبانة عما ينتجه ذلك المأمور به إذا أنفذ على وجهه من فتق وخلل، ومورد المراجعة في ألفاظه لا يتبيّن فيه إزراء على رأي الرئيس ولا طعن في تدبيره، بأن تكون ناطقة بأنّ رأيه الأعلى، وتدبيره الأصوب، فيكون باطن الكلام توقيفا على الصّواب، وظاهره تصويبا وتقريظا؛ لأن كثيرا من الرؤساء والملوك يعجبون بآرائهم، وينزلون أنفسهم بحكم الرياسة في منزلة من لا يراجع ولا يعارض فيما يأمر به.
قال: وقد تأتي من كتب الأوامر كتب يأمر الرئيس فيها المرؤوس بشرح حال واقتصاص أمور. ثم قال: وأجوبة هذه الكتب يجب أن تكون مستقصية للمعنى المنشرح، مستولية على حواشيه، غير مخلّة بشيء مما يحتاج إلى تعرّفه منه.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام عند حدوث الآيات السماوية، وهي مشتملة على مواعظ ومراشد يتخوّل بها الأئمة رعاياهم، فإذا صدرت إلى العمّال وأمروا بقراءتها على الرّعايا، فأجوبتها إنما تبنى على امتثال الأمر والمطالعة بارتسام القوم ما رسم لهم فيها. أما إذا كانت صادرة لتقرأ على العامّة ليتبصّروا بما فيها ويعملوا عليه، فإنه لا جواب عنها.
وأما الجواب عن التّنبيه على مواسم العبادة، فإنه يصدر عمّن ورد عنه إلى الإمام بعد شهود ذلك الموسم، والانفصال عنه على حال السلامة، كما في صلاة(8/374)
العيد ونحوها. قال في «موادّ البيان» : وأجوبتها تصدر إلى الخلفاء مقصورة على ذكر ما منّ الله تعالى به من قضاء الفريضة على حال الائتلاف والاتّفاق، وشمول الأمن والهدي والسّكون، وسبوغ النّعمة على الكافّة، وأن ذلك بسعادة وعناية الله تعالى بدولته وبرعيّته، ونحوها ممّا يقتضيه المعنى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الإمام إلى ولاة أمره بالسلامة في ركوب أوّل العام وغرّة رمضان، والجمعة الأولى والثانية والثالثة منه، وعيدي الفطر والأضحى، وفتح الخليج بعد وفاء النيل، فقد قال في «موادّ البيان» : إنّه إن كان الكتاب عن السلامة في صلاة العيدين أو جمع رمضان، فينبغي أن يكون مبنيّا على ورود كتبه متضمنة ما أعان الله تعالى عليه أمير المؤمنين من تأدية فريضته، والجمع في صلاة عيد كذا برعيّته، وما ألبسه الله تعالى من الهدي والوقار، وأفاضه عليه من البهاء والأنوار، وبروزه في خاصّته وعامّته إلى مصلّاه، وسماع خطبته وعوده إلى قصره الزاهر، وعليه تلألأ القبول لصلاته ودعائه، مما أجراه الله تعالى فيه على عادة آلائه، ووقف عليه وقابله بالشكر والإحماد، والاعتراف والاعتداد، وافتضّه على رؤوس الأشهاد، فأغرقوا في شكر الله تعالى على الموهبة في أمير المؤمنين، ورغبوا إليه في إطالة بقائه مراميا عن الإسلام والمسلمين، ونحو هذا مما يجاريه.
ثم قال: فإذا نفّذت هذه الكتب من العمّال إلى أمير المؤمنين مبشّرة باجتماع رعاياه لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم سالمين، فينبغي أن يكون الجواب عنها: «وصل كتابك متضمّنا ما لا يزال الله تعالى يوليه لأمير المؤمنين في رعيّته، وخاصّته وعامّته، من اتفاق كلمتهم، وائتلاف أفئدتهم وسلامة كافّتهم، وما منّ الله به عليه وعليهم من اجتماعهم لتأدية فريضتهم، وعودهم إلى منازلهم، على السّلامة من ضمائرهم، والطّهارة من سرائرهم، فحمد أمير المؤمنين الله تعالى على ذلك وسأله مزيدهم منه، وتوفيقهم لما يرضيه عنهم، وشكر مسعاك في سياستهم، وامتداد يدك في إيالتهم، وهو يأمرك أن تجري على عادتك، وتسير فيهم بجميل سيرتك» وما يليق بهذا.
ثم بنى على ذلك سائر كتب السلامة، وقال: ينبغي أن يستنبط من نفس كلّ(8/375)
كتاب منها المعنى الذي تجب الإجابة به، مثل أن يكون الكتاب ورد من أمير المؤمنين إلى أحد عمّاله، مبشّرا بسلامته من سفره، فينبغي أن يبنى جوابه على ما صورته: «ورد كتاب أمير المؤمنين مبشّرا عبده بما هيّأه الله تعالى له من السلامة ويمن الوجهة، مع تقريب الشّقّة، وإنالة المسارّ، وتسهيل الأوطار، وإدناء الدار، فوقف العبد عليه، وامتثل المرسوم في إطلاع الأولياء على ما نصّ فيه من هذه البشرى، فعظمت المنحة لديهم، وجلّت النّعمة عندهم، وانشرحت صدورهم، وانفسحت آمالهم، ووفّقوا بصنع الله تعالى لهم، وارتفعت أيديهم إلى الله سبحانه بالرغبة في حياطة أمير المؤمنين قاطنا وظاعنا، وحسن صحابته حالّا وراحلا، وجميل الخلافة على من خلفه من حامّته «1» وعامّته، وأهل دعوته وخاصّة دولته، والله تعالى يجيب في أمير المؤمنين صالح الدّعاء، ويمدّه بطول البقاء» وما ينتظم في سلك هذا الكلام ويضاهيه.
قلت: وقد تقدّم في الكلام على المكاتبة السلطانية الابتدائية، أن المكاتبة بالبشارة بالسلامة في ركوب العيدين وما في معناهما من قدوم السّفر وغيره، قد ترك استعماله بديوان الإنشاء في زماننا. فإن قدّر مثله في هذه الأيام، أجراه الكاتب على نحو مما تقدّم، على ما يقتضيه مصطلح الزمان في المكاتبات السلطانية.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالخلع وما في معنى ذلك، فينبغي أن يكون مبنيّا على تعظيم المنّة، والاعتراف بجزالة المنحة، وجميل العطية، وزائد الفضل، وأن ما أسدي إليه من ذلك تفضّل عليه، وتطوّل من غير استحقاق لذلك، بل فائض فضل، وجزيل امتنان، وأنه عاجز عن شكر هذه النّعمة والقيام بواجبها، لا يستطيع لها مكافأة غير الرّغبة إلى الله تعالى بالأدعية لهذه الدّولة. وما يناسب ذلك من الكلام ويلائمه.
وأما الجواب عن الكتب بالتّنويه والتلقيب إذا صدرت إلى نوّاب المملكة،(8/376)
فالذي ذكره في «موادّ البيان» أن المنوّه به يجيب عمّا يصله من ذلك بوصول الكتاب إليه، ووقوفه عليه، ومعرفته بقدر العارفة مما تضمنته الرّغبة إلى الله تعالى في إيزاعه الشّكر، ومعونته على مقابلة النّعمة بالإخلاص والطاعة. أما إذا كتبت بالتّنويه والتلقيب لأحد من المقيمين بحضرة الخلافة، فإنه لا جواب لها.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالإحماد والإذمام، فيختلف الحال فيه؛ فإن كان الكتاب الوارد بالإحماد والتّقريظ، فجوابه مقصور على الشّكر الدال على وقوع ذلك الإحماد موقعه من المحمود، ومطالبته لنفسه بالخروج من حقّه باستفراغ الوسع في الأسباب الموجبة للزيادة منه. وإن كان الكتاب بالإذمام، فإن كان ذلك لموجدة بسبب أمر بلغه عنه من عدوّ أو حاسد نعمة أو منزلة هو مخصوص بها من رئيسه، كان الجواب بالتّنصّل والمقابلة بما يبرّيء ساحته، ويدلّ على سلامة ناحيته، وأن يورد ذلك بصيغة تزيل عن النفس ما سبق إليها، وتبعث على الرّضا. وكذلك في كل واقعة بحسبها، مما يحصل به التّنصّل والاسترضاء ونحو ذلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة مع الإنعام السلطانيّ، فعلى نحو ما سبق في الخلع، من تعظيم المنّة، والاعتراف [بجزالة المنحة] «1» وجميل العطية، وزيادة الفضل، وما في معنى ذلك مما تقدّم ذكره.
وأما الجواب عن الكتب الواردة عن الخليفة أو السلطان بتجدّد ولد، فإنه يكون بإظهار السرور والاغتباط، وزيادة الفرح والسّرور بما منّ الله تعالى به من تكثير العدد، وزيادة المدد، والرّغبة إلى الله تعالى في أن يوالي هذا المزيد ويضاعفه. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بعافية الخليفة أو السلطان من مرض كان(8/377)
قد عرض له، فطريقه حمد الله تعالى وشكره على ما منّ الله تعالى به من العافية، وتفضّل به من إزاحة المرض، ووقاية المكروه، وإظهار الفرح والسرور بذلك.
وما ينخرط في هذا السّلك.
وأما الجواب عن الكتب الواردة بالتعزية بولد أو قريب، فإنه يظهر فيه الغمّ «1» والحزن والكآبة، وحمد الله تعالى على سلامة نفسه، والرغبة إلى الله تعالى في الخلف عليه، إن كان الميّت ولدا، مع الدعاء بطول البقاء وخلود الدّولة، وما يجري هذا المجرى.
وهذه نسخ أجوبة عن مكاتبات سلطانية، ممّا يكثر وقوعه، ويتعدّد تكراره، يستضيء بها الكاتب في كتابة الأجوبة، وينسج على منوالها.
نسخة جواب عن كتاب وصل من الخليفة بانتقال الخلافة إليه، كتب به إلى أمير الأمراء، قرين خلعة وسيف وتاج وسوارين، من إنشاء أبي الحسين «2» بن سعد، وهو:
فإن كان سيّدنا أمير المؤمنين، بما أعلم من فضل مراعاته لأمور الدّين، وصدق عنايته بمصالح المسلمين، وأفيض له (؟) من مواهب الله عندهم، وصنوف نعمه عليهم، فيما هداه من طرق الرّشاد، وبصّره إياه من مناهج الصّواب، وقرنه به من التّوفيق في عزائمه، والجدّ في مراسمه، وتوعّده فيه بالخيرات التّامّة، والكفاية العامّة، في كلّ أمر يمضيه، ورأى يرتئيه، اعتماد له بحسن المعونة على ما استرعاه، ووصله بالمزيد فيما خوّله وأعطاه، وحراسة ما ساقه إليه من إرث النّبوة، وحمّله إياه من ثقل الإمامة، لما عرفه من نهوضه بالعبء، وقيامه بالحقّ فيما ناطه وأسنده إليه، وتأمّله ما تأمّله من حال عبده الذي لم(8/378)
يزل لطاعته معتقدا، وبعصمة ولايته معتضدا، ولوقت يبلّغه منزلة الإحماد، ويحوز له عائدة الاجتهاد، فيما أرضاه مرتصدا، ولسعيه ونيّته، وظاهره وطويّته، معتمدا، ووجوده أيّده الله في يسير ما امتحن به بلاءه، وعرف فيه غناءه، موضعا للصّنيعة، محتملا للعارفة، مقرّا بحقّ النّعمة، عارفا بقدر الموهبة، وترقّبه فرصة ينتهزها في إبداء عزمه، وإمضاء رأيه، وأنّه [واثق] بالاستظهار بمكانه، والإسهام له في عزّ سلطانه، حتّى أسفرت رويّته، واستقرّت عزيمته، فاختصّ عبده بجميل الأثر، واصطفاه بلطيف الحظوة، واعتمد عليه في إمارة الأمراء، موفيا به على رتبة النّظراء، وكاسيا له حلّة المجد والسّناء، وردّ إليه تدبير الرجال، وتقدير أمور العمّال، وشفع ذلك بالتّكنية والتّلقيب في مشاهد حفلته، ومجالس خلوته، وأكمل الصّنع عنده بإلحاق عبده فيما قسم لكلّ واحد منهما من شريف حبائه، وسنيّ عطائه، وتجاوز في التّكرمة له إلى أعلى الأحوال، وأرفع الرّتب والمحالّ، فيما أمر- أعلى الله أمره- بحمله إليه من الخلعة التي يبقى شرف لباسها [على] الأيام، ويخلّد ذكرها على الدّهور والأعوام، والسّيف الذي تفاءل لعبده فيه بما يرجو يمن مولاه وسعادة جدّه، أن يحقّقه الله في الاعتماد به على أعدائه، وغمده في نحور مشاقّيه وغامصي نعمائه، والتّاج المرصّع الذي نظم له جوامع الفخر، والوشاح الموشّى الذي وشّحه حلية الجمال مدى الدهر، والطّوق الذي طوّقه قلائد المجد، والسّوارين اللّذين آذناه بقوّة العضد وبسطة اليد، واللّواء المعقود به مفاتح العزّ في طاعته، المرفوع به معالم النّصر على شانيء دولته، ووصل إليّ وفهمته.
وسيّدنا أمير المؤمنين- فيما أكرمه الله به من خلافته، وأتمنه من الحكم على بريّته، ووكله إليه من حقوق الدّين، وحياطته كرم المسلمين، وإحياء السّير الرّضيّة، والسّنن الحميدة، وإماطة الأحكام الجائرة، والمظالم الظاهرة، وتقويم أود المملكة بعد تزعزع أركانها، وتصدّع بنيانها، وإعزاز الأمة وإيناسها، بعد أن اشتملت [الذّلّة «1» ] عليها وتمكنت الوحشة فيها، وحكم اليأس في آمالها، وغلب(8/379)
القنوط على أطماعها، وتفاءل بما اعتمده له، وفوّضه إلى نظره، من الحلية بحقائقه، والتوكيد بما لم تزل المخايل فيه لائحة، والأمارات منه واضحة، والشّواهد به صادقة، والدّلائل عليه ناطقة، حتّى تدارك بنعمة الله الدّين بعد أن طمس مناره، وتعفّت آثاره، ودرست رسومه، وغارت نجومه، وأنحى الشيطان بجرانه، واشرأبّ لتبديله بعدوانه، وانتدب لنصرة الإسلام برأي يستغرق آراء الرّجال، وحلم يستخفّ رواسي الجبال، ورويّة تستخرج كوامن الغيوب، وتكشف عنها حنادس الشكوك، وباع لما يمتدّ إليه بسيط، وذراع لما ينتظم عليه رحيب، وصدر يتّسع لمعضلات الأمور، ويشرق في مدلهمّات الحوادث، فشرّد أعداء الله بعد أن اتصلت بهم مهلة الاغترار، وتطاولت بهم مدّة الإصرار، ومدّ رواق الملك وضرب قبابه، وثبّت أواخيه وأحصد «1» أسبابه، وقطع أطماع الملحدين، وأبطل كيد الكافرين، وفتّ في أعضاد المنابذين، فتحصّنت البيضة، واجتمعت الكلمة، واتّفقت الأهواء المتفرّقة، وانتظمت الآراء المتشعّبة، وسكنت الدّهماء المضطربة، وقرّت القلوب المنزعجة، وصدقت خواطر الصّدور المثلجة، وظهر الحقّ ورسخ عموده، وبهر جماله ونضر عوده، ونشرت أعلامه وطلعت سعوده، وعزّ أولياؤه ونصرت جنوده، وساخ بالباطل قدمه، وانقطعت وصائله وعصمه، وانبتّت حباله ورممه، وانحلّت أسبابه وذممه- حقيق بما بان من فضله، واستفاض في الأمّة من عدله، وعمّ كافّة الرّعية من طوله، ووصلت إلى الملّيّ والذميّ والدّاني والقاصي عائدة الخير في أيامه، وفائدة الأمن بمملكته وسلطانه، ومأمول لأفضل ما بدا لعبده من ثمرة اجتبائه واصطفائه، وما تغمّده به من النّعم العظيمة، والمواهب الجسيمة، وأسبغه عليه من العوارف السّنيّة، ورفعه إليه من المنازل العليّة، التي تقصر عنها همم ذوي الأقدار، وتقف دونها آمال أولي الأخطار، مقدّما له على أهل السّوابق من أنصار دولته، وأشياع دعوته.
فلو ترادفت ألسن العباد- أيّد الله أمير المؤمنين- على اختلاف لغاتهم،(8/380)
وتباين طبقاتهم، وتفاوت حالاتهم، في مقابلة نعمة سيّدنا التي أعشى العيون بهاؤها، وتأدية حقوقه التي أعيا المجتهدين قضاؤها، لكانت- حيث انتهت، وأنّى تصرّفت، على استفراغ القدرة واستنفاد الطاعة- غير مقاربة حدّا من حدودها، ولا مؤدّية فرضا من فروضها، وإذا كان الأمر على ذلك- أيّد الله أمير المؤمنين- في فوت الإحسان مقادير الشّكر، وإيفائه على مبالغ الوسع، فقصد عبده في جبر النّقيصة، وسدّ الخلّة، الازدياد في الطّاعة، والإخلاص في الموالاة والمشايعة، وإدامة الابتهال إلى الله تعالى، ورفع الرّغبة في معونة عبد أمير المؤمنين على مجافاة «1» بلائه، والتّفرّد بجزائه، وتجديد المسألة في إطالة بقائه، في عزّ لا تبلى جدّته، وسلطان لا تنتهي مدّته، وموادّ من مناسجه وموائده، وروادف من عوائده، متظاهرة لا ينقطع منها أوّل حتّى يلحق تاليه، ولا ينصرم سالفه حتّى ينصرف آتيه، ويكون المآل بعد استيفاء شروط الأمل، وتقضّي حدود المهل، إلى النّعيم المقيم، في جوار العزيز الكريم.
ومن تمام إفضال سيّدنا على عبده، ونظام معروفه عنده؛ بدؤه إيّاه بما يمتحن به خفّة نهضته، وسرعة حركته، وقعوده لأمره بحدّ حديد، وبعيش عتيد، وصمده لما يحظيه لذلك مولاه، ويحوز له حمده ورضاه، بصدق بصيرة، وخلوص سريرة، واستسهال لكلّ خطّة، وتجشّم لكلّ مشقّة، دنت المسافة أم شسعت، قربت الطّيّة أم نزحت، وسيّدنا أهل لاستتمام يد ابتداها، وإكمال عارفة أنشأها وكرامة ابتناها، باستعمال عبده بأمره ونهيه، واعتماده لمهمّاته بحضرته وفي أطراف مملكته، إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذه نسخة كتاب أنشأته ليكتب به إلى أمير المؤمنين المستعين بالله، أبي الفضل العبّاس خليفة العصر، عن نائب الغيبة بالديار المصريّة، حين(8/381)
وردت كتبه الشريفة من الشأم إلى الديار المصريّة بالقبض على النّاصر فرج بن الظاهر برقوق بالشّأم، واستبداده بالأمر دون سلطان معه، في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة، مفتتحا له ب «يقبّل الأرض» التي يكاتب بها الملوك. وإن كان قد تقدّم من كلام المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله أن المكاتبة إلى أبواب الخلافة بالدعاء للديوان، لا يختلف فيه ملك ولا سوقة، وهو:
يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الأشرف الميمون طائره، المرقوم على صفحات الأفلاك تهانيه المحمول على متن السّحاب بشائره، الشّاهد بالفتح المبين أوائله وبالنّصر العزيز أواخره، متضمّنا ما منّ الله تعالى به من جميل الصّنع الذي وكفت بالخير سحائبه، وخفيّ اللّطف الذي بهرت العقول عجائبه، بما منح الله تعالى به مولانا أمير المؤمنين مدّ الله تعالى على الإسلام وارف ظلّه، وأنام الأنام بمدّ رواق الإمامة المعظمة في مهاد عدله، ومكّن له في الأرض كما مكّن لآبائه الخلفاء الراشدين من قبله، من جلوسه على سدّة الخلافة المقدّسة التي وصل منقطع حديثها بإسناده، وحاز منها بأشرف مقعد تراث آبائه الكرام وأجداده، وابتسم ثغر الخلافة بعبّاسه، وتآنس منها جانب الدّين بعد الاستيحاش بإيناسه، فقبّل المملوك له الأرض خاضعا، ولبّى أوامره الشّريفة ضارعا، وأجاب داعيه بالامتثال سامعا طائعا، وسجد سجود الشّكر لذلك فعرف بسيماه، وانتسب إلى الولاء الشّريف الإماميّ انتسابا شاملا لاسمه ومعناه، وأعلم من قبله من الأمراء والأجناد بذلك فقابلوه بالاستبشار طرّا، وتلقوها تلقّيا يليق بمثلها وإن كان لا مثل لهذه البشرى، وقرئت المطلقات الشريفة على المنابر فسكنت الدّهماء وقرّت، وسرت ألفاظها إلى الأسماع الشّيّقة فسرّت، وكرّرت ألفاظها العذبة مرارا فحلت لدى النفوس إذ مرّت، وارتفعت الأصوات بالدعاء بدوام هذه الدّولة النّبويّة دواما لا يستشعر مستشعر خلافه، فحقيق ظهور معجزة أكرم مرسل بعد الثمانمائة بقوله لعمّه العباس: «ألا أبشّرك يا عمّ، بي ختمت النّبوّة وبولدك تختم الخلافة» .(8/382)
وهذه نسخة جواب عن نائب طرابلس عن مثال شريف ورد بوفاة السلطان الملك الناصر «محمد «1» بن قلاوون» واستقرار ولده السلطان الملك المنصور «أبي «2» بكر» مكانه في الملك بعهد من أبيه، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البار نباريّ، بعد التّعزية بأبيه السلطان الملك الناصر، وهي:
وينهي ورود المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، يتضمن أمر المصاب الذي كادت لوقوعه الأرض تتزلزل بأهلها، والعقول تتزيّل عن محلّها، وبلغت القلوب الحناجر، واستوحشت القصور واستأنست المقابر، وتصدّعت له صدور السيوف ورؤوس المنابر، وقصم الظّهور، وشيّب السّود من الشّعور، وجرّع كؤوسه، وصدّع الحوزة المحروسة، وذلك بما قدّر الله تعالى من انتقال مولانا السلطان السعيد، الشهيد، والد مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- إلى رحمته ورضوانه، فأجرى المملوك عوض الدّموع دما، وأقام الإسلام والمسلمون عليه مأتما، وتغير البدر المنير لفقده فأمسى مظلما، وندبه الإسلام في سائر محاريبه ومصلّاه، وأسف عليه البيت الحرام وركناه إنا لله وإنا إليه راجعون
«3» :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
«4» لمّا دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة، أشرق منها ذلك اليوم كلّ شيء، ويوم قبض أظلم منها كلّ شيء، وكان أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه أثبت النّاس يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وهو الخليفة من بعده، ومولانا السلطان الشهيد- قدّس الله روحه- كان(8/383)
متشرّفا باسم نبيّه، ومتبرّكا في ذرّيّته الشريفة بذكر سميّه «1» ، ولو ذابت المهج أسفا عليه لما أنصفت، وقد أسفت عليه الأمم بأسرها وحقّ لها أن أسفت، نبتت لحومنا من صدقاته، وغمرت المملوك والممالك مجزلات هباته، وما نقل من قصره إلّا إلى جنّات النّعيم، وما فارق ملكه إلّا وبات في جوار الله الكريم، وكان سلطاننا وهو اليوم عند الله سلطان، فسقى الله عهده صوب الرّحمة والرّضوان.
وبحمد الله قد جبرت القلوب المنصدعة بجلوس مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- على تخت السّلطنة المعظمة والله معه، وما جلس على كرسيّ الملك إلّا أهله، ولا قام بأمر المسلمين إلّا من علم فضله، ومولانا السلطان وارث الملك الناصريّ المنصور حقّا، والقائم بشأن السلطنة غربا وشرقا، وخلاصة هذا البيت الشريف زاده الله نصرا، وأدام ملكه دواما مستمرّا، والعيون الباكية قد قرّت الآن بهذه البشرى، والقلوب الثّاكلة قد ملئت بهجة: إن مع العسر يسرا*
«2» واستقرّ الإسلام بعد قلقه، ونام على جفنه بعد أرقه، واستقبلت الأمّة عاما جديدا وسلطانا منصورا سعيدا، واستبشرت القبلتان، وتناجى بالمسرّة الثّقلان، والّذين كفروا أمسوا خائبين، والّذين آمنوا أضحوا فرحين هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين
«3» ومولانا السلطان هو العريق في سلطنة الإسلام، والإمام الأعظم ابن الإمام، فخلّد الله ملكه ما دامت الأيام، وأحسن عزاءه في خير سلطان الأنام، وابتهلت الألسنة بالتّرحّم على مولانا السلطان الشهيد- قدّس الله روحه- بدموع سائلة، وقلوب موجوعة بجراحات النّياحات ثم عوّضوا بالمسرّات الكاملة، والدعاء مرفوع لمولانا السلطان- خلّد الله ملكه- برّا وبحرا، والبلاد مطمئنّة والعساكر على ما يجب من التّمسّك بالطاعة الشريفة، والتشريف بإقبال دولة سلطانهم، ووارث سلطانهم، وكان المملوك يودّ لو شاهد مولانا السلطان- خلّد(8/384)
الله ملكه- على ذلك السّرير والمنبر، وقبّل الأرض بين يدي المواقف المعظّمة والمقام الأكبر، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن ورود المثال الشريف بركوب السلطان بالميدان والإذن للنوّاب في لعب الكرة، وهي:
ينهي ورود المثال الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، يتضمن الصّدقة التي أجرت أولياءها على أجمل عادة من الاحتفال، والمراحم الشاملة التي وسّعت لهم كرمها سافرة عن أوجه الإقبال، والبشرى التي جمعت من أنواع المسرّات ما بلغته الآمال، وهو أنّ الرّكاب الشريف استقلّ إلى الميدان السعيد نهار السّبت في كذا من شهر كذا، في أسعد طالع وأيمن وقت مطاوع، وفي الخدمة الشريفة من الأمراء- كثّرهم الله تعالى- من جرت العادة بهم من كلّ كميّ مقنّع، قد لبس من الطاعة بردا وبالإخلاص تدرّع، وامتطى من فائض الصّدقات الشريفة صهوة سابق قد شمّر للسّبق ذيلا، وفرّ كبرق لمع ليلا.
وأنّ مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- طلع عليهم طلوع البدر عند الكمال، وحوله المماليك الشريفة كالأنجم الزاهرة التي لا تعدّ ولا تشبّه بمثال، والجياد لا يرى لها أثر من الرّكض، والكرة تتشرّف بالصّولجان كما تتشرّف بالتقبيل الأرض، وعاد الرّكاب الشريف- زاده الله شرفا وعظّمه- إلى القلعة المنصورة، إلى محلّ المملكة الشريفة، وفي دست السلطنة المعظّمة، محفوظا من الله تعالى بلطفه له معقبات من بين يديه ومن خلفه
«1» .
وما اقتضته الآراء الشريفة، والمراحم المطيفة، وآثرت به إعلام المملوك بذلك، والمرسوم الشريف- شرّفه الله تعالى وعظّمه- أن يتقدّم المملوك بالنّزول إلى ميدان فلانة المحروسة، ومعه مماليك مولانا السّلطان- خلّد الله تعالى ملكه-(8/385)
والأمراء، فقابل المملوك هذه الصّدقات، بتقبيل الأرض ورفع الدّعوات، وجمعوا بين الكرة والصّولجان، وحصل لهم من المسرّات ما لا يحصره بيان، وانبسطت نفوسهم إذ أصبحوا في أمن وأمان، وابتهلوا إلى الله تعالى بدوام هذه الأيام التي نوّعتهم بأنواع الإحسان، وضجّوا بالأدعية لمولانا السلطان- خلّد الله ملكه- التي عمّت مواهبه وفاق بمكارمه الماضين، وأربى على سلفه الشريف بالعطاء والتّمكين، جعل الله أعداءه تحت قهره إلى يوم الدّين، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب بوفاء النّيل المبارك كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
وينهي ورود المثال الشريف- شرّفه الله تعالى وعظّمه- الذي أشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّرت بفيض فضل الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عميم النّعمة، ووفاء النّيل المبارك الذي ما برح في هذه الأيام الزاهرة يفي بعهده، ويسلّ سيف الخصب من غمده، ويقتل المحل بحمرة متنه وجوهر حدّه، مهنّئا للأولياء بهذه الدّولة التي أصبحت قلوبهم مطمئنّة بالأمن والرّخاء، مسرورة بما منّ الله به من ترادف الآلاء وعموم النّعماء، وحال ما ورد المرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وأخذ كلّ حظّه من هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمة بيمن بركة هذه الأيّام الشريفة بعد عسر يسرا، وقد عاد فلان البريديّ ومن معه إلى الأبواب الشريفة بالجواب الشريف، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
آخر في المعنى:
وينهي ورود المثال الشريف زاده الله علوّا وشرفا، وبيّض له في القيامة صحفا، يتضمّن أنواع الإنعام الجزيل. وإبداء آثار السّرور بما يسّر الله من وفاء النّيل، فأشرقت أنوار تهانيه، وتألّقت بروق ألفاظه ومعانيه، فبشّر بفيض فصل(8/386)
الرّحمة، وعموم الرعايا بتواتر عموم النّعمة، إذ جاء محيّاه في هذا العام طلقا وسلك في عوائد البرّ والإحسان طرقا، وأذن ببلوغ المرام والمراد، وكسر سدّ خليجه جبرا للعباد والبلاد، حيث ملأ الأرض ريّا، وأهدى من نفحات الأمن والمنّ ريّا، والمرسوم الشريف- شرّفه الله وعظّمه- بأن لا يجبى على ذلك حقّ بشارة، ولا يتعرّض إلى أحد بخسارة، فقابل المملوك المثال الشريف والمرسوم الشريف بتقبيل الأرض والسّمع والطّاعة، وبادر المملوك إلى إذاعة هذه البشرى، التي عمّت تهانيها برّا وبحرا، وجعلت أمور هذه الأمّة بيمن بركة هذه الأيام الشريفة بعد عسر يسرا، واستنطق الألسنة بالدّعاء لهذه الدّولة القاهرة، وجلا وتلا صور الهناء وسور الآلاء بهذه النّعمة الوافية والمنّة الوافرة، وسأل الله تعالى أن يخلّد ملك مولانا السلطان، ويوالي أنباء البشائر في أيّامه الشريفة مرويّة بالأسانيد الحسان، وقد عاد فلان البريديّ بالأبواب الشريفة- شرّفها الله تعالى وعظّمها- بهذا الجواب الشريف، وقد عاين ابتهال أهل هذه الملكة الفلانية بالدعاء بدوام هذه الأيام الزّاهرة السّارة بهذه البشائر بخلوّها من الكلف والخسارة، طالع بذلك.
إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن مثال شريف بوصول فرس إنعام، كتب به عن نائب طرابلس، وهي:
يقبّل الأرض وينهي ورود المرسوم الشريف أعلاه الله تعالى وشرّفه، يتضمن ما اقتضته الآراء الشريفة من الخير التّامّ، والإنعام العامّ، والصّدقة الوافية الوافرة الأقسام، التي ما برحت مماليك هذه الدّولة الشريفة في إنعامها العميم تتقلّب، والخيل السّوابق بسعادتها الأبديّة تجلب وتجنب وتركب، من تجهيز الحصان البرقيّ بسرجه ولجامه وعدّته الكاملة، وشمول المملوك بالصّدقات التي ما برحت مترادفة متواصلة، ولعبد هذا البيت الشريف شاملة، وقبّل المملوك الأرض وقبّل حوافره، واعتدّ بهذه النعمة الباطنة والظّاهرة، وأعدّه ليومي تجمّل وجهاد، ولقاء(8/387)
عدوّ وطراد، والله تعالى يخلّد هذه الصّدقات الشريفة التي ما برحت تشمل القريب والبعيد، والموالي من أولياء هذه الدّولة الشريفة والعبيد، طالع بذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب عن وصول خيل من الإنعام السّلطانيّ، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود «1» الحلبيّ:
وينهي وصول ما أنعهم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها، وتتّخذ «2» صهواتها حصونا يعتصم في الوغى بصياصيها.
فمن أشهب غطّاه النّهار بحلّته، وأوطاه اللّيل على أهلّته، يتموّج أديمه ريّا، ويتأرّج ريّا، ويقول من استقبله في حليّ لجامه: هذا الفجر قد طلع بالثّريّا، إن انفلت «3» في المضايق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مرّ مرور الغيم، كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين [طرف] «4» السّنان مقاتل العدوّ في ظلام النّقع بنور أشعّته، لا يستنّ داحس في مضماره، ولا تطمع الغبراء في شقّ غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من [عطفه] «5» .
ومن أدهم حالك الأديم، حالي الشّكيم، له مقلة غانية وسالفة ريم، قد ألبسه اللّيل برده، وأطلع بين عينيه سعده، يظنّ من نظر إلى سواد طرّته، وبياض حجوله وغرّته، أنه توهّم النّهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة، ليّن الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كاللّيل، ويمرّ كجلمود(8/388)
[صخر] «1» حطّه السّيل، يكاد يسبق ظلّه، ومتى جارى السّهم إلى غرض بلغه قبله.
ومن أشقر وشّاه البرق بلهبه، وغشّاه الأصيل بذهبه، يتوجّس «2» ما لديه بدقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على شقيقتين، له من الرّاح لونها، ومن الرّيّاح لينها، إن جرى فبرق خفق، وإن أسرع فهلال على شفق، لو أدرك أوائل حرب بني وائل لم يكن للوجيه وجاهة، ولا للنّعامة نباهة، ولكان ترك إغارة [سكاب لؤما وتحريم بيعها سفاهة] «3» يركض ما وجد أرضا، وإذا اعترض به راكبه بحرا وثب عرضا.
ومن كميت نهد، كأنّ راكبه في مهد، عندميّ الإهاب، شماليّ الذّهاب، يزلّ [الغلام] «4» الخفّ عن صهواته، وكأنّ نغم الغريض ومعبد «5» في لهواته، قصير المطا، فسيح «6» الخطا، إن ركب لصيد قيّد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحش اللّوابد، وإن جنّب إلى حرب لم يزورّ من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم يردون بلوغ الغاية- وهي ظفر راكبه- ثانيا من عنانه، وإن(8/389)
سار في سهل اختال بصاحبه كالثّمل، وإن أصعد في جبل طار في عقابه كالعقاب وانحطّ في مجاريه كالوعل، متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهّل.
ومن حبشيّ أصفر يروق العين، ويشوق القلب «1» بمشابهته العين، كأن الشّمس ألقت عليه من أشعّتها جلالا، وكأنّه نفر من الدّجى فاعتنق منه عرفا واعتلق أحجالا، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسدّ إذا استدبرته منه فرجه، قد أطلعته الرّياضة على مراد فارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده وتوشيع ملابسه، له من البرق خفّة وطئه وخطفه، ومن النّسيم لين مروره «2» ولطفه، ومن الرّيح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه، يطير بالغمز، ويدرك بالرّياضة مواقع الرّمز، ويعدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.
ومن أخضر حكاه من الرّوض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه النّهار واللّيل حلّتي وقار وسنا، واجتمع فيه من السّواد والبياض ضدّان لمّا استجمعا حسنا، ومنحه البازي حلّة وشيه، ونحلته الرّياح ونسماتها قوّة ركضه وخفّة مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولمّا لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حبّ الظّفر بمسابقة خياله، كأنه [تفاريق] «3» شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدّجى، فما سجى، ومازج ظلامه النهار، فما أنار، يختال لمشاركة اسم الجري بينه وبين الماء في السّير كالسّيل، ويدلّ بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللّوامع وبين البرقيّة من الخيل، ويكذب [المانويّة] «4»(8/390)
لتولّد اليمن فيه بين إضاءة النّهار وظلمة اللّيل.
ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرّف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما تريد الكفّ والقدم، قد طابق الحسن البديع بين ضدّي لونه، ودلّت على اجتماع النّقيضين علّة كونه، وأشبه زمن الرّبيع باعتدال اللّيل فيه والنّهار، وأخذ وصف حلّتي الدّجى في حالتي الإبدار والسّرار، لا تكلّ مناكبه، ولا يضلّ في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحتاج ليله المشرق بمجاورة نهاره إلى أن تسترسل فيه كواكبه، ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يملّ السّرى إلّا إذا ملّه مشبهاه: النّهار واللّيل، ولا تتمسّك البروق اللّوامع من لحاقه بسوى الأثر فإن جهدت فبالذّيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمحاربه العكس وله الطّرد، قد أغنته شهرة نوعه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرّياح عن مباراته لسلوكها له في الاعتراف جادّة الإنصاف.
فترقّى المملوك إلى رتب العزّ من ظهورها، وأعدّها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها، وكلف بركوبها فكلّما أكمله عاد، وكلما أملّه شره إليه فلو أنّه زيد الخيل «1» لما زاد، ورأى من آدابها ما دلّ على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنّها ليومي سلمه وحربه جنّة الصّائد وجنّة الصائل «2» ، وقابل إحسان مهديها «3» بثنائه ودعائه، وأعدّها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه [والله تعالى يشكر برّه الذي أفرده في النّدى بمذاهبه، وجعل الصّافنات الجياد من بعض مواهبه] «4»(8/391)
المهيع الثاني (من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب به عن نوّاب السلطان والأتباع إلى السلطان ابتداء)
وهو على أنواع كثيرة، نذكر منها ما يستضيء به الكاتب في مثله.
فمن ذلك ما يكتب عن نائب كلّ مملكة إذا وصل إلى محلّ ولايته.
قد جرت العادة أن النائب إذا وصل إلى مملكته ومقرّ ولايته، كتب إلى السّلطان يخبره بذلك وبما المملكة عليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك، كتب بها عن نائب حلب في معنى ذلك، وهي:
يقبّل الأرض وينهي أن المملوك وصل إلى المملكة الفلانية المحروسة، وحلّ محالّها المأنوسة، التي شملته الصّدقات الشريفة بكفالتها، وأهّلته المراحم المنيفة لإيالتها، رافلا في حلل الإنعام الشريف، متفيّئا ظلّ العزّ الوريف، صحبة فلان مسفّره، ودخلها يوم كذا من شهر كذا لا بسا تشريفه الشريف المنعم به عليه، ماشيا لمحلّ الكرامة الذي سار إليه [بحضور من جرت العادة بحضوره] «1» من قضاة القضاة والأمراء والحجّاب، والعساكر المنصورة والأصحاب، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، وقبّل الأرض بباب القلعة المنصورة، ودخل دار العدل الشريف وقطوف الأمانيّ له مهصورة، وقريء بها بحضرة أولياء الدّولة تقليده، وعظّم المراسم الشريفة تأييده، وتصدّى لما نصبته له المراسم الشريفة من إنصاف المظلوم، وتنفيذ كلّ مهمّ شريف ومرسوم، وتصفّح أحوال المملكة، وسلك كلّ أحد مسلكه، واستجلبت الأدعية لمولانا السلطان، واجتهد في حياطة البلاد ممّن يمدّ إليه شيطان المفسدين بأشطان، وانتظم له أمر المملكة بالمهابة(8/392)
الشريفة أحسن انتظام، وبلغ به كلّ وليّ من قهر العدوّ غاية المرام؛ وقد أعاد المملوك فلانا مسفّره إلى خدمة الأبواب الشريفة مزاح الأعذار، مبلّغ الأوطار، على العادة- طالع بذلك- ولا زال منه مزيد الشّرف والعلوّ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب في المعنى إلى الأبواب السلطانية عن نائب طرابلس، وهي:
يقبّل الأرض وينهي أنّه وصل إلى طرابلس المحروسة مغمورا بالصّدقات الشريفة، والإنعامات المطيفة، صحبة مملوك مولانا السلطان فلان خلّد الله تعالى ملكه، وألبس تشريفه الشريف، وقريء تقليده الشريف بدار العدل، وقبّل الأرض مرارا على العادة، وتقدّم المملوك بالحلف الشّريف على النّسخة المجهّزة صحبة المشار إليه من الأبواب الشريفة عظّمها الله تعالى، بحضور من جرت العادة بحضوره، من قضاة القضاة والأمراء، وكتب خطّه عليها، وانتصب المملوك لخلاص الحقوق، وإزالة المظالم، ونشر لواء العدل الشريف، لينتصف المشروف من الشريف، وينزجر القويّ عن الضّعيف، واتّباع الحقّ في القضايا واستجلاب الأدعية بدوام هذه الدولة العادلة من الرّعايا، ورتّب أمور الآزاك المنصورة على أكمل عادة وأجمل قاعدة، وقد عاد فلان إلى الأبواب الشريفة، شرّفها الله تعالى وعظّمها، لينهي بين يدي الأيادي المعظّمة، ما عاينه من المملوك من إخلاصه في الطاعة الشريفة ومغالاته، طالع بذلك، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما يكتب به في التّهنئة بالخلافة:
أما التهنئة بالخلافة، فقد قال في «موادّ البيان» : من الأدب المستفيض ترفيه الخلفاء عن الهناء والعزاء، إكبارا لهم وتعظيما، إلّا أنّنا رأينا ذوي الأخطار من القدماء قد شافهوهم بالعزاء مسلّين، وبالهناء داعين، وربّما دفع الكاتب إلى صحبة رئيس يقتضي محلّه أن يهنّيء الخليفة بمتجدّد النّعم لديه، ويعزّيه لمتطرّق النوائب إليه، فاحتيج إلى أن يرسم في هناء الخلفاء وعزائهم، ما يحتذى عليه،(8/393)
عند الحاجة إلى استعمال مثله.
وهذه نسخة تهنئة بالخلافة، أوردها في «موادّ البيان» : وهي:
أولى النّعم- خلّد الله ملك مولانا أمير المؤمنين- بأن تنطق بها ألسن الذّاكرين يضوع عطرها، وتتناقلها أفواه الشّاكرين يفوح نشرها- نعمة إيلائه في خلافته التي جعلها ذخرا للأنام، وعصمة للإسلام، وحاجزا بين الحلال والحرام، وقواما للائتلاف والاتّفاق وزماما عن الاختلاف والافتراق، ونظاما لصلاح الخاصّة والعامّة، وسبيلا إلى اجتماع الكلمة وسكون الأمّة، وسببا لحقن الدّماء، ودعة الدّهماء، ومجاهدة الأعداء، وإقامة الصّلوات، وإيتاء الزّكوات، والعمل بالفرائض والسّنن، وحسم البدع والفتن، وعدقها بالأخيار ورثة نبيّه وعترته، والأبرار الطّهرة من أرومة رسوله وشجرته، الّذين نصبهم دعاة إلى طاعته، وهداة لبريّته، وأعلاما لشريعته، يأمرون بالمعروف ويأتمرون، وينهون عن المنكر وينتهون، ويقضون بالحقّ وبه يعدلون؛ وكلّما لحق منهم سلف بمقرّ أوّليّته أقام خلفا يختصّه بانتخابه وتكرمته.
والحمد لله الذي قصر خلافته على أمير المؤمنين وآبائه، وجعل منهم الماضي الّذي كانت مفوّضة إليه، والآتي الّذي أقرّت عليه، وأنجز لهم ما وعدهم من إبقاء الإمامة، في عقبهم إلى يوم القيامة، واستخلص لها في عصرنا هذا وليّها الحامي لحقيقتها، المرامي عن حوزتها، المعزّ لكلمتها، الرّافع لرايتها، المحدّد لحدودها، الحافظ لعقودها، وسلّم قوسا منه إلى باريها، وناطها بكفئها وكافيها، وأفضى إليه بشرف الولادة والأبوّة، وميراث الإمامة والنّبوّة، وألّف به بين القلوب الآبية، وجمع عليه النفوس النّائية، واتّفقت الآراء بعد تباينها وتنافيها، وتطابقت الأهواء على اختلافها وتعاديها، واستدّت ثلمة الدّين بعد انثغارها، واطمأنّت الدّهماء بعد نفارها، حمدا يكون لنعمته كفاء، ولموهبته جزاء.
وخلافة الله وإن كانت الغاية التي لا تنزع الهمم إليها، ولا تتطلّع الأماني عليها، لاختصاص الله بها صفوته من بريّته، وخالصته من أهل بيت نبيّه وعترته، فإنّ أمير المؤمنين يتعاظم عن تهنئته بوصولها إليه، وسبوغ ملابسها عليه، إذ لا(8/394)
يسوغ أن يهنّأ بإدراك ما كتب الله له أن يدركه بأقلام الأقدار على صفحات اللّيل والنّهار، والعبد يسأل الله تعالى ضارعا إليه في إنهاض أمير المؤمنين بما حمّله وكلّفه، وتوفيقه فيما كفّله واستخلفه، وأن يمكّن له في الأرض، ويعلي يده بالبسط والقبض، ويمدّه بعزّ السلطان، وعلوّ الشّان، وظهور الأولياء، وثبور الأعداء، وإعزاز الدّين، وابتزاز الملحدين، وتقوية يده في نصرة الإسلام، وسياسة الأنام، ويعرّف رعيّته من يمن دولته، وسعادة ولايته، ما يجمعهم على الطاعة والموافقة، ويعصمهم من المعصية والمفارقة، ويوفّقهم من الإخلاص في موالاته، لما يوفّر حظّهم من مرضاته، ويجعل ولايته هذه مقرونة بانفساح المدّة والأجل، وبلوغ المنى والأمل، وصالح القول والعمل، ويبلّغه في مملكته ودولته أفضل ما بلّغه خليفة من خلفائه، ووليّا من أوليائه.
ومن ذلك ما يكتب في البشارة بالفتوح:
قد جرت العادة أن السلطان إذا وجه جيشا لفتح قلعة أو قطر من الأقطار وحصل الفتح على يديه أن يكتب السلطان مبشّرا بذلك الفتح، منوّها بقدره، معظما لأمره، وما كان فيه من عزيز النّصر وقوّة الظّفر.
[فمن مكاتبة في البشارة بفتح حصن «1» المرقب، وهي:] «2» قد أسفر عن الفتح المبين صباحه، والتّأييد وقد طار به محلّق التباشير فخفق في الخافقين جناحه، والإسلام وقد وطيء هامة الكفر بمقدمه، والدّين وقد عزّ بفتكات سيفه المنصور فأنف أن يكون الشّرك من خدمه، والأفلاك وقد علمت أنّه لهذا الفتح القريب كان اجتماع كواكبها، والأملاك وقد نزلت لتشهد(8/395)
أحمد النّصرة البدريّة في صفوفها ومواكبها، وحصن المرقب وقد ألقت عليه الملّة الإسلامية أشعّة سعدها، وأنجزت له الأيام من الشّرف بها آماله بعد ما طال انتظاره لوعدها، وأمّنته الأقدار التي ذلّلته للإسلام أن تطاول إليه الحوادث من بعدها، وقد أحاطت العلوم بأن هذا الحصن طالما شحّت الأحلام، أن تخيّل فتحه لمن سلف من الأنام، فما حدّثت الملوك أنفسها بقصده إلّا وثناها الخجل، ولا خطبته ببذل النّفائس والنّفوس إلّا وكانت من الحرمان على ثقة ومن معاجلة الأجل وقته على وجل، وحوله من الجبال كلّ شامخ تتهيّب عقاب الجوّ قطع عقابه، وتقف الرّياح خدما دون التّوقّل في هضابه، [وحوله من] «1» الأودية خنادق لا تعلم منها الشّهور إلّا بأنصافها، ولا تعرف فيها الأهلّة إلّا بأوصافها، وهو مع ذلك قد تقرّط بالنّجوم، وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السّماء ورسا أصله في التّخوم، تخال الشّمس إذا علت أنّها تتنقّل في أبراجه، ويظنّ من سما إلى السّها أنّه ذبالة في سراجه، فكم من ذي جيوش قد مات بغصّة، وذي سطوات أعمل الحيل فلم يفز من نظره على البعد بفرصة، لا يعلوه من مسمّى الطير سوى نسر الفلك ومرزمه، ولا يرمق متبرّجات أبراجه غير عين شمسه والمقل التي تطرف من أنجمه، وقد كان نصب عليه من المجانيق ما سهامه أنفذ من سهام الجفون، وخطراته أسرع من لحظات العيون، لا يخاطب إلّا بوساطة رسله بضمير الطّلاب، ولا يرى لسان سهمه إلّا كما ترى خطفات البرق إذا تألّق في علوّ السّحاب، فنزلت عليه الجيوش نزول القضاء، وصدمته بهممها التي تستعير منها الصّوارم سرعة المضاء وروعة الانتضاء، فنظرت منه حصنا قد زرّر عليه الجوّ جيب غمامه، وافترّ ثغره كلّما جذب عنه البرق فاضل لثامه، فتذلّلت صعابه، وسهلت عقابه، وركزت للجنوبات (؟) في سفحه وطالما رامت الطّير أدناه فلم تقو عليه القوادم، وكم همّت العواصف بتسنّم رباه فأصبحت مخلّفة تبكي عليها الغمائم، فضرب بينها وبين الحصن بسور باطنه فيه الرّحمة(8/396)
وظاهره من قبله العذاب، ونصبت فوقه من الأسنّة ثغور برّاقة الثّنايا ولكنّها غير عذاب، فعاد ذلك السّفح مصفّحا بصفاحها، مشرقا بأعلام أسنّة رماحها، فأرسلت إلى أرجائها ما أربى على الغمائم، وزاد في نفحه «1» على التّمائم (طويل) .
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثت القتلى عليها تمائم
ونصبت عليها المجانيق فلم ترع حقّ جنسها، وسطت عليها فأصبح غدها في التّحامل أبعد من أمسها، واستنهضتها العدا فاعلمتهم أنّها لا تطيق الدّفاع عن غيرها بعد أن عجزت عن نفسها، وبسطت أنفها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها، إما إجابة أن تذلّ للتّشهّد وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخاف العدا من ظهور هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق فحول لا تثبت لها الإناث التي عريت من النّفع بأيديهم فاستعانوا عليهن مع العدا بطول الجدار، فعند ذلك غدت تكمن كمون الأساود وتثب وثوب الأسود، وتباري بها الحصون السّماء فكلّما قذفت هذه بكواكبها النّيّرة قذف هذا بكواكبه السّود، ولم يكسر لهم منجنيق إلّا ونصبوا آخر بمكانه، ولا قطعت لأحد إصبع إلّا وصل الآخر ببنانه، فظلّت تتحارب مثل الكماة، وتتحامل تحامل الرّماة، حتّى لقحت وفسحت للرّضا مجالا، ومالت وميل فيها وكذلك الحرب تكون سجالا.
هذا والنّقوب قد دبّت في باطنه دبيب السّقام، وتمشّت في مفاصله كما تتمشّى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أضالعه نارا تشبه نار الهوى، تحرق الأحشاء ولا يبدو لها ضرام، قد داخلت مرسلة الوجل، فتحققوا حلول الأجل، وعلموا أن هذا الفتح الذي تمادت عليه الأيام قد جاء يسعى إلى ما بين يديه على عجل، وأيقن الحصن بالانتظام في سلك الممالك الشريفة فكاد يرقصه بمن فيه فرط الجذل، وزاد شوقه إلى التشريف ويا صبابة لوسمها واسمها مشتاق لكنهم أظهروا الجلد، وأخفوا ضرام نار الجزع وكيف تخفى وقد وقد، وتدفّقت إليهم الجيوش فملأت الأفق، وأحاطت بهم إحاطة الطّوق(8/397)
بالعنق، ونهضت إليهم مستمدّة من عزمات سلطانها، مستعدّة لانتزاع أرواح العدا على يديها من أوطانها، فانقطعت بهم الظّنون، ودارت عليهم رحى المنون، وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون
«1» وحطّت بساحتها عقبان تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في أرجائها أنهار الدّماء فهلكوا بالسّيف والنّبل والنّار، وتحكّمت هذه الثلاثة في أهل التّثليث فبدّلوا بالخوف من أمنهم، وهربوا منها إلى مخايل حصنهم.
ولما ركب الأوّل للزّحف في جيوشه التي كاثرت البحر بأمواجه، تزلزل الحصن لشدّة ركضه، وتضعضع من خوف عصيانه فلحقت سماؤه بأرضه، وتحلّلت قواعد ما شيّد من أركانه فانحلت، وألقت الأرض ما فيها وتخلّت، ومشت النّار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصّور بل في السّور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلّا أن قابلت العساكر ذلك البرج حتّى أهوى يلثم التّراب، وتأدّب بآداب الطاعة فخرّ راكعا وأناب، فهاجمتهم الجيوش مهاجمة الحتوف، وأسرعت المضاء والانتضاء فلم تدر العدا: أهم أم الّذين في أيمانهم السّيوف التي تسبق العذل؟ وثبت منهم من لم يجد وراءه مجالا فلجأوا إلى الأمان، وتمسّك دنيء كفرهم بعزّة الإيمان، وتشبّثوا بساحل العفو حتّى ظنّوا أنّهم أحيط بهم وجاءهم الموج من كلّ مكان، وسألونا أن يكونوا لما من جملة الصّنائع، وتضرّعوا في أن نجعل أرواحهم لسيوفنا من جملة الودائع فنتصدّق عليهم بأرواحهم كرما، وظلّوا على معنى الحديث النّبويّ: يرون الممات يقظة والحياة حلما وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الآمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض في قبضتها، فمتى تشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجرّدت حتّى من الأجسام، ومقل طلّقت الكرا خوفا من الصّوارم التي تسلّها عليهم الأحلام، وسطّرت والمدينة قد تسنّم أعلاها، وشعار الإيمان قد جرّدها من لباس الكفر وأعراها، والأعلام قد(8/398)
سلكت إلى ذلك الحصن أعلى مرقى، والسّعادة قد بدّلت بيعه مساجد ومحاريبه قبلة وكانت شرقا، فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة فأخرس جرس الجرس به صوت الأذان، إن شاء الله تعالى.
[ومن ذلك] ما يكتب به في التّعازي إلى الخلفاء:
وقد تقدّم في الكلام على التّهنئة بولاية الخلافة، أنه كما ينبغي أن لا يهنّأ الخليفة بالخلافة إعظاما، فكذلك ينبغي أن لا يعزّى في مصابه، إلّا أنه ربّما دعت ضرورة الكاتب إلى ذلك؛ لإكرام بعض أخصاء الخليفة إياه بالكتابة بذلك إلى الخليفة. ولا يخفى أن الحال في ذلك تختلف باختلاف المعزّي، من والد أو ولد أو غيرهما.
[وهذه نسخة مكاتبة في معنى ذلك] «1» ذكرها في «موادّ البيان» وهي:
أما بعد، فإن الله تعالى جعل خلافته لخلقه قواما، ولبريّته نظاما، وجعل له خلفاء يدّخرهم لميراثها، ويختصّهم بتراثها، فإذا انقضت مدّة ماضيهم، لما يريده الله من استدنائه إلى مقرّ خلصائه، نقلها إلى نوره باصطناعه واصطفائه.
والحمد لله الذي قصر خلافته على أمير المؤمنين وآبائه، وجعل منهم زعيمهم الماضي الذي كانت بيديه مواريثها، والآتي الذي صار إليه [تراثها] .
والحمد لله الذي ختم لأمير المؤمنين المنتقل إلى دار الكرامة بأفضل الخاتمة وأحسن له الجزاء عن السّعي في الأمّة، وأنعم باستخلاص أمير المؤمنين لإمامة خليقته، وحياطة سريعته، وحماية بلاده، وسياسة عباده، ولوراثة تراث آبائه وأجداده، وجعل الماضي منهم مرضيّا عنه، والآتي مرضيّا به، وأعتدت الرّعيّة من عدل أمير المؤمنين ما جبر كسرها في خليفته، وصبرها في رزيّته، وهو المسؤول أن يلهمه على المصيبة في سلفه الطاهر صبرا، وعلى ما أخلفه عليه في تأهيله لخلافته التي لا كفاء لها شكرا، بمنّه وفضله إن شاء الله تعالى.(8/399)
[وهذه نسخة كتاب في التّعزية أيضا] «1» وهي:
إنّ الله خصّ أمير المؤمنين بما هو أهله من خلافته، وعظّم محلّه بما نصبه له من إمامة بريّته، وجعله عمادا لأهل الإسلام تجتمع عليه أهواؤهم، وتسكن إليه أملاؤهم، ويصلح به دينهم ودنياهم، ويستقيم به أمر أولاهم وأخراهم، فإذا أسبغ نعمة من نعمه عليه، وظاهر موهبة من مواهبه لديه، شركوه فيها، ونهضوا معه على الشّكر عليها، وإذا ابتلاه ببليّة، وامتحن صبره برزيّة، أخذوا بالنّصيب العظيم من الحادث، والحظّ الجسيم من الكارث، [و] ما أفردوه بثواب الله فيها وما جعله جزاء من الأجر عليها.
وإن الله تعالى كان أعار أمير المؤمنين من ولده فلان- رضي الله عنه- عارية من عواريه، وبلّغه من الاستمتاع بها ما احتسب من أمانيه، ثم استرجعها ليثقّل بها ميزانه، ويضاعف إحسانه، ويجعلها له ذخرا، ونورا يسعى بين يديه وأجرا، فعظم بذلك المصاب على رعيّته، وكبر الرّزء على أهل دعوته، لما كانوا يرجونه من سكون القلوب، ونقع الخطوب، واستقرار قواعد الخلافة، وشمول الرّحمة والرّافة، وقد حصل أمير المؤمنين على نعم كثيرة من موهبته وثوابه في استعادته، وحصل كافّة خاصّته على القلق لفقده، والأسى من بعده، وقد جعله الله تعالى صلاح كلّ فساد، وثقاف كلّ ميّاد، ومهبط كلّ رحمة، وطريق كلّ نعمة، وهو خليق بأن يظهر من صبره، ورضاه بقضاء الله وتسليمه لأمره، ما يبعث على التّأسّي به، والتّأدّب بأدبه؛ والله تعالى يحسن لأمير المؤمنين الخلف، ويعوّضه أحسن العوض في المؤتنف، ويوفّر حظّه من الثّواب، ويعظم له الأجر على المصاب، ويريه في أوليائه وأحبابه، أعظم محابّه وغاية آرابه، وينقل المنقول إلى إيوان الكرامة والاحتفاء، بأفاضل الأجداد والآباء، بفضله ورحمته، إن شاء الله تعالى.(8/400)
[وهذه] نسخة كتاب، كتب به إلى الأبواب السلطانية عند فتح «1» (آياس) قاعدة بلاد الأرمن وانتزاعها من أيديهم، وهي «2» :
يقبّل الأرض وينهي أن ليلة الانتظار أطلعت صباحها، ومواعيد الآمال بعثت على يد الإقبال نجاحها، والعساكر المنصورة جرّدت رابع ربيع الأوّل بمدينة آياس صفاحها، وأوردت إلى الصّدور رماحها، فلم يكن إلّا كلمح البصر، ولسان صدق القتال قائل بأنّ الجيش النّاصريّ قد انتصر، وانقضى ذلك النّهار، بإيقاد نار حرب الحصار، على أبراج وأسوار، أديرت على المينا كما أدير المعصم على السّوار، فما أشرق صباح الصّفاح ولاح، إلّا والأعلام النّاصريّة على قلّة «3» القلعة مائسة الأعطاف من الارتياح، معلنة ألسنتها بحيّ على الفلاح وحيّ على النّجاح، وعزّ الإسلام يقابل ذلّ الكفر، بهذا النّصر وهذا الافتتاح، وجمع الأرمن الملا تفرّق ما بين قتل وأسر وانتزاح، ولعبت أيدي النّيران في القلعة وجوانبها، وتفرّقت من الأسوار أعضاء مناكبها، ونطق بالأقدار لسان النّار: هذي منازل أهل النّار في النّار.
ثم انتقلت المحاصرة إلى قلعة البحر، وضمّ الأرمن الملا إليها سيف القدرة والقهر، وهذه القلعة عروس بكر في سماء العزّ شاهقة، لم يسبق لأحد من الملوك الأوائل إلى خطبتها سابقة، قد شمخت بأنفها، ونأت بعطفها، وتاهت على وامقها، وغضّت عين رامقها، فهي في عقاب لوح الجوّ كالطائر، وسوّرها البحر والحجر فلا يكاد يصل إلى وكرها النّاظر، وقد أوثقت بحلقات الحديد،(8/401)
وقيّدت كأنّها عاصية تساق بالأصفاد إلى يوم الوعيد، فأرسل عليها المنجنيق عقابه، وأعلق بها ظفره ونابه، فكشف من شرفاتها شنب ثغرها، وسقاها بأكفّ أسهمه كؤوس حجارة فتمايلت من شدة سكرها، وفضّ من أبراجها الصّناديق المقفلة، وفصّل من أسوارها الأعضاء المتّصلة، فتزلزل عمدها، وزيل عن مكانه جلمدها، وعلت الأيدي المرامية بها، وغلّت الأيدي المحامية عنها، واشتدّ مرضها من حرارة وهج الحصار، وضعفت قوّتها عن مقاومة تلك الأحجار، ولم يبق على سورها من يفتح له جفنا، وشنّ المنجنيق عليها غارته إلى أن صارت شنّا، فأرسل إليها من سماء غضبه رجوما، ووالى ذلك عليها سبع ليال وثمانية أيّام حسوما، فبادرت إلى الطّاعة واستسلمت، وكرّر نحوها ركوعه فسجدت، وركبت الجيوش المنصورة عوض الصّافنات اللّجج، وسمحت في سبيل الله عزّ وجلّ بالمهج، فعند ذلك سارع أهلها إلى التّعلّق بأسباب الهرب، وكان خراب قلعة المينا هذي لخراب قلعتهم من الجرب، وأحرقوا كبدها من أيديهم بنار الغضب، وانتزحوا منها ليلا، وجرّوا من الهزيمة ذيلا، وتسلّمها المسلمون، وتحسّر عليها الحسرة الكبرى الكافرون، وهدمت حجرا حجرا، وصافحت بجبهتها وجه الثّرى، وأعدمت من الوجود عينا وأثرا، فما أعجب هذا الفتوح «1» وأغرب! وما أحلى ذكره في الأفواه وما أعذب!! وما ألذّ حديثه في الأسماع وما أطرب!! وما أسعد هذا الجيش النّاصريّ وما أنجب!!!! (بسيط) .
بشراك بشراك هذا النّصر والظّفر ... هذا الفتوح الّذي قد كان ينتظر
فتح مبين ونصر جلّ موقعه ... سارت به وله الأملاك والبشر
عجائب ظهرت في فتحه بهرت ... لم تأت أمثالها الأيام والسّير
لو كان في زمن ماض به نزلت ... في وصف وقعته الآيات والسّور(8/402)
هذي أياس الّتي قد عزّ جانبها ... وعزّ خاطبها حتّى أتى القدر
جاءت إليها جيوش كم بها أسد ... بيض الصّفاح لها الأنياب والظّفر
جيش لهام كبحر زاخر لجب «1» ... إذا سرى لا يرى شمس ولا قمر
يسير بالنّصر أنّى سار متّجها ... ما زال يقدمه التّأييد والظّفر
جيش له الله والأملاك ناصرة ... مليكه ناصر للدّين منتصر
يوم الخميس رأيت الخيل حاملة ... على رؤوس عداة هامها أكر «2»
وقلعة البحر كانت آية لهم ... فعن يسير فأضحت للورى عبر
كانت بأفق سماء العزّ شاهقة ... أبراجها باسقات خرتها «3» خطر
فركب المسلمون البحر باذلة ... أرواحها في سبيل الله تدّخر
لم يبق منهم أمير لا ولا ملك ... يأوي مقرّا إلى أن مدّت الجسر
وعجّل الله بالفتح المبين لهم ... هذا الفتوح الّذي توفى له النّذر
يرضى به الله والإسلام قاطبة ... وشاهد القول فيه العين والأثر
تم الجزء الثامن. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوّله القسم الثاني (من مقاصد المكاتبات الإخوانيات) والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(8/403)
ثبت بأسماء المصادر والمراجع الجزء الثامن من صبح الأعشى
1 1- الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (1- 4) .
طبعة مصر، 1319 هـ.
2- اختصار القدح المعلّى في التاريخ المحلّى لابن سعيد الأندلسي.
تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري، القاهرة، 1959.
3- اختصار القدح المعلّى في التاريخ المحلّى لابن سعيد الأندلسي.
تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري.
دار الكتب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني.
الطبعة الثانية، 1980.
4- أزهار الرياض في أخبار عياض للمقّري التلمساني (1- 3) .
تحقيق الأساتذة السقا والأبياري وشلبي، القاهرة، 1939- 1942.
5- أساس البلاغة للزمخشري.
تحقيق عبد الرحيم محمود.
دار المعرفة، بيروت، 1979.
6- الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لأحمد ابن خالد الناصري السلاوي (1- 4) ، مصر، 1312 هـ.
7- الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى لأحمد 2 ابن خالد الناصري السلاوي (1- 4) .
طبعة الدار البيضاء، 1373 هـ.
8- الأعلام للزركلي (1- 8) .
دار العلم للملايين، بيروت، 1980.
9- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (1- 25) .
طبعة دار الثقافة، بيروت، 1955- 1961.
10- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (1- 25) .
طبعة بولاق.
11- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لإسماعيل باشا البغدادي، 1945.
12- البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (1- 14) ، مصر، 1351- 1358 هـ.
13- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس للضبي.
دار الكاتب العربي، 1967.
14- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي.
دار المعرفة، بيروت.
15- البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (1- 4) .
تحقيق ج. س. كولان وإ. ليفي(8/405)
1 بروفنسال والدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت.
16- تاريخ ابن خلدون (1- 14) .
دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981.
17- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1- 14) .
دار الكتاب العربي، بيروت.
18- تاريخ الخلفاء للسيوطي، بيروت.
19- التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري.
مطبعة العاصمة بمصر، 1312 هـ.
20- تهذيب الأسماء واللغات لابن شرف النووي، الجزء الأول من القسم الثاني.
دار الكتب العلمية، بيروت.
21- جذوة الاقتباس فيمن حلّ من الأعلام بمدينة فاس لابن القاضي، فاس، 1309 هـ.
22- حسن التوسّل إلى صناعة الترسّل لشهاب الدين الحلبي.
مطبعة أمين هندية بمصر، 1315 هـ.
23- الدرر الكامنة في أعيان الماية الثامنة لابن حجر العسقلاني (1- 4) ، حيدرآباد، 1945- 1950.
24- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون المالكي، مصر، 1351 هـ.
25- ديوان امريء القيس.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
دار المعارف بمصر، 1969.
26- ديوان لبيد، نشر الدكتور إحسان عباس.
الكويت، 1962.
27- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني.
2 تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 1978- 1979.
28- الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (1- 6) .
تحقيق الأستاذين محمد بن شريفة وإحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 1973.
29- الرد الوافر لابن ناصر الدين، تحقيق زهير الشاويش، بيروت، 1393 هـ.
30- ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب، المجلد الأول.
تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي.
المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1980.
31- زبدة كشف الممالك للظاهري، باريس، 1894.
32- السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (1- 2) .
تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1934- 1942؛ (3- 4) .
تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، 1970- 1972.
33- شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (1- 8) . القاهرة، 1350- 1351 هـ.
34- الشعر والشعراء لابن قتيبة (1- 2) .
دار الثقافة، بيروت، 1969.
35- صورة الأرض لابن حوقل النصيبي.
دار مكتبة الحياة، بيروت.
36- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع(8/406)
1 للسخاوي (1- 12) ، مصر، 1353- 1355 هـ.
37- الطالع السعيد لكمال الدين أبي الفضل الأدفوي.
تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة، 1966.
38- طبقات الشعراء لابن سلام، نشر الألماني جوزف هل.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
39- العقد الفريد لابن عبد ربه (1- 7) شرح أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري.
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1949- 1965.
40- عيون الأخبار لابن قتيبة (1- 2) شرح وضبط الدكتور يوسف طويل؛ (3- 4) شرح وضبط الدكتور مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
41- الفهرست للنديم.
تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971.
42- فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (1- 5) .
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 1973- 1974.
43- القاموس المحيط للفيروز ابادي (1- 4) ، مصر، 1330 هـ.
44- قرآن كريم.
دار الفكر، بيروت، 1403 هـ.
45- قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي.
تحقيق إبراهيم الأبياري.
دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
2 46- قلائد العقيان لابن خاقان.
طبعة بولاق، 1283 هـ.
47- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (1- 2) ، إستانبول.
1941- 1943.
48- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (1- 2) .
دار الفكر، 1982.
49- الكامل في التاريخ لابن الأثير (1- 13) دار صادر، بيروت، 1982.
50- الكامل في اللغة والأدب للمبرّد (1- 2) .
مكتبة المعارف، بيروت.
51- لسان العرب لابن منظور (1- 15) .
دار صادر، بيروت.
52- اللمحة البدرية في الدولة النصرية لابن الخطيب.
المطبعة السلفية، مصر، 1347 هـ.
53- مجمع الأمثال للميداني (1- 2) .
تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
مطبعة السنة المحمدية، 1955.
54- محيط المحيط لبطرس البستاني.
مكتبة لبنان، بيروت، 1977.
55- المختار من رسائل أبي إسحاق بن زهرون الصابي، نقّحه وعلّق حواشيه الأمير شكيب ارسلان.
دار النهضة الحديثة، بيروت.
56- المختصر في أخبار البشر (ويعرف بتاريخ أبي الفداء) للملك المؤيّد إسماعيل أبي الفداء صاحب حماة، سبعة أجزاء في مجلدين.
دار الكتاب اللبناني.
57- مروج الذهب للمسعودي (1- 4) شرح(8/407)
1 وتقديم الدكتور مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
58- المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية.
تحقيق الأساتذة إبراهيم الأبياري وحامد عبد المجيد وأحمد أحمد بدوي.
دار العلم للجميع، بيروت، 1955.
59- معجم الأدباء لياقوت الحموي (1- 7) .
طبعة مرجليوت، مصر، 1907- 1925.
60- معجم البلدان لياقوت الحموي (1- 5) .
دار صادر، دار بيروت، 1984.
61- معجم الشعراء للمرزباني، ومعه المؤتلف والمختلف للآمدي، تصحيح الدكتور ف. كرنكو.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
62- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (1- 15) .
مطبعة الترقي، دمشق، 1959.
63- معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا (1- 5) .
دار مكتبة الحياة، بيروت، 1960.
64- المغرب في حلى المغرب لابن سعيد الأندلسي (1- 2) .
تحقيق شوقي ضيق.
دار المعارف بمصر، 1953- 1955.
65- مفتاح الأفكار في النثر المختار للشيخ أحمد مفتاح، مصر، 1314 هـ.
66- المقتضب من كتاب تحفة القادم لابن الأبّار.
تحقيق إبراهيم الأبياري.
دار الكتاب اللبناني، دار الكتب 2 الإسلامية، الدار الإفريقية العربية، 1983.
67- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (5- 10) ، حيدرآباد الدكن، 1357 هـ.
68- المنجد في اللغة والأعلام.
دار المشرق، بيروت، 1978.
69- ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي (1- 3) ، مصر، 1325 هـ.
70- نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان لابن الأحمر، دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية.
دار الثقافة، بيروت، 1967.
71- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغزي بردي (1- 16) .
دار الكتب المصرية.
72- نظم دولة سلاطين المماليك للدكتور عبد المنعم ماجد (1- 2) .
مكتبة الأنجلو المصرية، 1967.
73- نفاضة الجراب في علالة الاغتراب لابن الخطيب.
تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي.
دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة.
74- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري (1- 8) .
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار صادر، بيروت، 1968.
75- نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي، مصر، 1329 هـ.
76- الوافي بالوفيات للصفدي (1- 22) ، إستانبول وفيسبادن، 1931- 1983.(8/408)
1 77- وفيات الأعيان لابن خلّكان (1- 8) .
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار صادر، بيروت، 1977- 1978.
78- الولاة والقضاة لمحمد بن يوسف الكندي، بيروت، 1908.
2 79- يتيمة الدهر للثعالبي (1- 4) .
دار الكتب العلمية، بيروت، 1979.
80- هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا البغدادي (1- 2) ، إستانبول، 1951- 1955.(8/409)
فهرس الجزء الثامن من كتاب صبح الأعشى للقلقشنديّ
المقصد الثالث- في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ، من العرب والسودان، وفيه ثلاث جمل 3 الجملة الأولى- في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان 3 الجملة الثانية- في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السودان 4 الجملة الثالثة- في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة 10 المقصد الرابع- في المكاتبة إلى أهل الجانب الشمالي، وفيه ثلاثة أطراف 11 الطرف الأوّل- في المكاتبات إلى أمراء الأتراك ببلاد الروم المسماة الآن ببلاد الدروب 11 الطرف الثاني- في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية إلى ملوك الكفر 25 الطرف الثالث- في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم، ويشتمل على أربعة مقاصد 26 المقصد الأوّل- في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد الشرق 27 المقصد الثاني- في المكاتبة إلى ملوك الكفار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها 34 المقصد الثالث- في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الجنوبي 40 المقصد الرابع- في المكاتبة إلى ملوك الكفار بالجانب الشماليّ من الروم والفرنجة على اختلاف أجناسهم 44 الفصل الخامس- من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية من أهل المملكة وغيرها، وفيه نوعان 56 النوع الأوّل- المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين 56(8/411)
القسم الأوّل- في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وفيه ضربان 56 القسم الثاني- في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية عن أهل الممالك الإسلامية، ويشتمل على أربعة مقاصد 63 المقصد الأوّل- في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف 63 الطرف الأوّل- الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكزخان 63 الطرف الثاني- في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق 72 الطرف الثالث- في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة 72 الطرف الرابع- في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند 77 المقصد الثاني- في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب، وفيه جمل 79 الجملة الأولى- في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس 80 الجملة الثانية- في المكاتبات الواردة عن صاحب تلمسان من بني عبد الواد 85 الجملة الثالثة- في المكاتبات الواردة عن صاحب فاس 88 الجملة الرابعة- في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس 107 المقصد الثالث- في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السودان، وفيه ثلاثة أطراف 118 الطرف الأوّل- في المكاتبات إلى صاحب مالّي 118 الطرف الثاني- في المكاتبات الصادرة عن صاحب البرنو 119 الطرف الثالث- في المكاتبات الصادرة عن ملك الكانم 122 المقصد الرابع- في الكتب الواردة من الجانب الشمالي وهي بلاد الروم 122 النوع الثاني-[كتب خطأ القسم الثالث] من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفار، وهي على أربعة أضرب 123 الفصل السادس- من الباب الثاني من المقالة الرابعة في رسوم المكاتبات الإخوانيات، وفيه طرفان 130(8/412)
الطرف الأوّل- في رسوم إخوانيات السلف من الصحابة والتابعين 130 الطرف الثاني- في رسوم الإخوانيات المحدثة بعد السلف، وفيه ثلاثة مقاصد 131 المقصد الأوّل- في رسوم إخوانيات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع 131 المهيع الأوّل- في صدور الابتداءات 131 المهيع الثاني- في الأجوبة على هذا المصطلح 143 المهيع الثالث- في خواتم الإخوانيات على هذا المصطلح 145 المهيع الرابع- في عنوانات الكتب على هذا المصطلح 148 المقصد الثاني- في رسوم إخوانيات أهل المغرب، وفيه جملتان 151 الجملة الأولى- في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان 152 المهيع الأوّل- في ابتداء المكاتبات 152 المهيع الثاني- في الأجوبة 163 الجملة الثانية- في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم 163 المقصد الثالث- في الإخوانيات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات 165 المصطلح الأوّل- ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية وفيه ثلاثة مهايع 165 المهيع الأوّل- في الصدور 165 المهيع الثاني- في خواتم الكتب 170 المهيع الثالث- في عنوانات الكتب 170 المصطلح الثاني- من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيوبية 171 المصطلح الثالث- من مصطلحات الديار المصرية في الإخوانيات ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التركية، وفيه مهيعان 172 المهيع الأوّل- في رتب المكاتبات المصطلح عليها وهي على قسمين 173 القسم الأوّل- الابتداءات 175(8/413)
القسم الثاني- من المكاتبات الإخوانيات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة الأجوبة 213 المهيع الثاني- في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم من أعيان الدولة 217 الفصل السابع- من الباب الثاني من المقالة الرابعة في مقاصد المكاتبات، وهي قسمان 236 القسم الأوّل- مقاصد المكاتبات السلطانيّات، وهي على نوعين 236 النوع الأوّل- ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب [صوابه أربعة] 236 الضرب الأوّل- ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم، وهو على أصناف 236 الصنف الأوّل- الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة 237 الصنف الثاني- من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدين 247 الصنف الثالث- من الكتب السلطانية الكتب بالحث على الجهاد 249 الصنف الرابع- من الكتب السلطانية الكتب في الحث على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف 255 الصنف الخامس- من الكتب السلطانية الكتب إلى من نكث العهد من المخالفين 262 الصنف السادس- من الكتب السلطانية الكتب إلى من خلع الطاعة 266 الصنف السابع- الكتب في الفتوحات والظفر 277 الصنف الثامن- المكاتبة بالاعتذار عن السلطان في الهزيمة 296 الصنف التاسع- المكاتبة بتوبيخ المهزوم الخ 304 الصنف العاشر- في المكاتبات بالتضييق على أهل الجرائم 309 الصنف الحادي عشر- الكتب في النهي عن التنازع في الدين 311 الصنف الثاني عشر- المكاتبة بالأوامر والنواهي 312 الصنف الثالث عشر- المكاتبات عند حدوث الآيات السماوية 315 الصنف الرابع عشر- المكاتبات في التنبيه على شرف مواسم العبادة الخ 317(8/414)
الصنف الخامس عشر- المكاتبة بالسلامة في الركوب في المواسم والأعياد 318 الصنف السادس عشر- المكاتبة بالبشارة بوفاء النيل والبشارة بالسلامة في الركوب لفتح الخليج 332 الصنف السابع عشر- فيما يكتب في البشارة بركوب الميدان الكبير الخ 336 الصنف الثامن عشر- المكاتبة بالبشارة بحج الخليفة 338 الصنف التاسع عشر- الكتابة بالإنعام بالتشاريف والخلع 342 الصنف العشرون- المكاتبة بالتنويه والتلقيب 344 الصنف الحادي والعشرون- المكاتبة بالإحماد والإذمام 349 الصنف الثاني والعشرون- ما يكتب مع الإنعام لنوّاب السلطنة بالخيل والجوارح 354 الصنف الثالث والعشرون- المكاتبة بالبشارة عن الخليفة بولد رزقه 359 الصنف الرابع والعشرون- ما يكتب عن السلطان بالبشارة بعافيته من مرض 361 الضرب الثاني- من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب عن السلطان في الجواب 361 الضرب الثالث- من الكتب السلطانية الكتب الصادرة عن نوّاب السلطنة الخ 363 الضرب الرابع- من المكاتبات السلطانية ما يكتب عن النوّاب والأتباع إلى الخليفة أو السلطان، وفيه مهيعان 370 المهيع الأوّل- في الأجوبة عن الكتب السلطانية 370 المهيع الثاني- من مقاصد المكاتبات السلطانية ما يكتب به عن نوّاب السلطان والأتباع إلى السلطان ابتداء 392 (تم فهرس الجزء الثامن من كتاب صبح الأعشى)(8/415)
[الجزء التاسع]
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
[تتمة المقالة الرابعة]
[تتمة الفصل السابع]
وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
القسم الثاني من مقاصد المكاتبات، الإخوانيّات (مما يكتب به الرئيس إلى المرؤوس والمرؤوس إلى الرئيس والنظير إلى النظير)
قال في «موادّ البيان «1» » : ولها موقع خطير من حيث تشترك الكافّة في الحاجة إليها. قال: والكاتب «2» إذا كان ماهرا، أغرب معانيها، ولطّف مبانيها، وتسهّل له فيها ما لا يكاد أن يتسّهل في الكتب الّتي لها أمثلة ورسوم لا تتغيّر ولا تتجاوز، وهي على سبعة عشر نوعا:(9/3)
النوع الأوّل (التّهاني)
قال في «مواد البيان» : كتب التّهاني من الكتب الّتي تظهر فيها مقادير أفهام الكتّاب، ومنازلهم من الصّناعة، ومواقعهم من البلاغة. وهي من ضروب الكتابة الجليلة النفيسة، لما في التهنئة البليغة من الإفصاح بقدر النعمة، والإبانة عن موقع الموهبة، وتضاعف السّرور بالعطيّة. وأغراضها ومعانيها متشعّبة لا تقف عند حدّ، وإنما نذكر منها الأصول الّتي تفرّعت منها فروع رجعت إليها، وحملت عليها.
قال: ويجب على الكاتب أن يراعي فيها مرتبة المكتوب إليه والمكتوب عنه في الرسالة اللائقة بهما مما لا يتسامح بمثله.
ثم التهاني على أحد عشر ضربا:
الضرب الأوّل (التهنئة بالولايات، وهي على تسعة أصناف)
الصنف الأوّل- التهنئة بولاية الوزارة
«1» : قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب المملكة أنّ الوزارة كانت في الزمن المتقدّم هي أرفع وظائف المملكة وأعلاها رتبة، وأنّها الرتبة الثانية بعد الخلافة. وكانت في زمن الخلفاء تكاد أن تكون كالسلطنة الآن، فهي «2» من(9/4)
الأتباع ومن في معناهم على نحو ما كانت في الزّمن المتقدّم بين الرّؤساء والأكابر، ومن الرؤساء والأكابر بحسب ما تقتضيه رتبة المهنّإ.
وهذه نسخ تهان من ذلك على ما كان عليه الحال في الزّمن القديم.
تهنئة بوزارة: من إنشاء أبي «1» الحسين بن سعد، كتب بها إلى الوزير محمد «2» بن القاسم بن عبيد رحمه الله، وهي:
من كانت النعمة- أيد الله الوزير- نافرة عنه وبفنائه غريبة، فهي تأوي من الوزير إلى مثوى معهود، وكنف محمود، وتجاور منه من يوفّيها حقّها، ويقابلها بحسن الصّحبة لها، ويجري في الشكر لما يولّاه، والرّعاية لما يسترعاه، على شاكلة مضى عليها السّلف من أهله، ونشأ في مثلها الخلف، مقتديا بالأوّل الآخر، وبالماضي الغابر، تشابها في كرم الأفعال، ورعاية لحقوق الآمال، واعتمادا للرأفة والرّحمة، وعموما بالإنصاف والمعدلة، إلى ما خصّ الله به أهل البيت رضي الله عن الماضين منهم وأقام عزّ الباقين وحراستهم: من العلم بالسياسة والدّرابة «3» بتدبير المملكة ورعاية الأمّة، والهداية فيهم لطرق الحيطة ونهج المصلحة.
والحمد لله على ما خصّ به الوزير من فضله الذي رفع قدره فيه عن(9/5)
مساماة ومشاكلة المقادر «1» والشّبيه، وجعله فيما حباه به نسيج وحده، وقريع دهره، وجمع له من مواهب الخير، وخصائص الفضل ما أبان به موقعه في الدّين، وأعطاه معه الولاية من جميع المسلمين.
والحمد لله حمدا مجدّدا على ما جدّده له من رأي أمير المؤمنين واجتبائه، ومحلّه من اختياره واصطفائه.
والحمد لله على ما منحه من كرامته، وجدّد له من نعمته، فيما أعاد إلى تدبيره من وزارته، وأشركه فيه من أمانته، احتياطا منه للمملكة، ونظرا للخاصّة والعامّة، فإنّ عائدة رأيه سوّت بين الضّعيف والقويّ، ووصلت إلى الدّاني والقضيّ؛ وأعادت إلى الملك بهاءه، وإلى الإسلام نوره وضياءه، فاكتست الدنيا من الجدّة بعد الإخلاق «2» ، والنّضارة بعد الإنهاج «3» ، ما لم يكن يوجد مثله إلّا بالوزير في شرف منصبه، وكرم مركّبه، فهنّأ الله الوزير ما آتاه وتابع له قسمه، ووصل له ما جدّد له بالسّعادة، وأمدّه فيه بالزّيادة؛ وأعطاه من كلّ مأمول أعظم حظّ وأوفر نصيب وقسم، تراخيا في مدّة العمر، وتناهيا في درجة العزّ، وأحتياطا بالموهبة في العاجلة، وفوزا بالكرامة في الآجلة، إنه فعّال لما يشاء.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله، وهي:
التهنئة بالوزير للزّمان وأهله بما جمّلهم به، وجدّد لهم من ميسم العزّ، وسربلهم إياه من حلّة الأمن بولايته، والنعمة على أوليائه ورعاياه على حسب مواقعهم من مشاركته وحظوظهم من معدلته ظاهرة، ولله على ذلك الحمد الفاضل، والشكر الكامل. وللوزير من هذه النعمة الجليلة، والدولة السعيدة، أهناها موقعا، وأسراها ملبسا، وأدومها مدّة، وأجملها نغية، وأثراها مبوّءا، وأسلمها(9/6)
عقبى، فتولّاه الله بالمعونة والحراسة، وأيّده الله بالنصر والكفاية، وأنهضه بما قلّده واسترعاه، وبلّغه محابّه ومناه، وأرجو أن يكون موقعي من ثقة الوزير يلحقني عنده بمن مكّنته الأيام من قضاء الحقّ في التلقّي والإبعاد، ويعوّضني بتفضيله مما حرمته منها محلّ ذوي الإخلاص والاعتداد.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله أيضا، وهي:
وهذا أوّل يتلوه ما بعده بلا تناه ولا نقص بإذن الله ومشيئته، بل يكون موصولا لا تبلغ منه غاية إلّا شفعتها درجة ترقى، تكنف ذلك كفاية من الله شاملة كاملة، وغبطة في البدء والعاقبة بلا انقطاع ولا ارتجاع، حتّى يكون المنقلب منه بعد بلوغ العمر منتهاه، إلى فوز برحمة الله ورضاه. فهنيئا للوزير بما لا يقدر أحد أن يدّعي فيه مساعفة المقدار، ولا يناله بغير استحقاق، إذ لا مثل ولا نظير للوزير: فضلا ظاهرا، وعلما على العلوم موفيا، وسابقة في تقليب الخلافة ظهرا لبطن، وحلب الدّهر شطرا بعد شطر، وجمعا من مال السلطان «1» لما كان متفرّقا، وحفظا لما كان ضائعا، وحماية لبيضة «2» الملك، وضبطا للثّغور، وتلقّيا للخطوب بما يفلّ حدّها، ويطفيء نارها ولهبها ويقيم أودها «3» ، وما وهب الله في رأيه من فتح البلاد المرتجة، وقمع الأعداء المتغلّبة، وسكون الدّهماء، وشمول الأمن، وعموم العدل، والله يصل ذلك بأحسنه.(9/7)
تهنئة أخرى في مثل ذلك: من إنشاء عليّ «1» بن خلف في «مواد البيان» وهي:
أطال الله بقاء حضرة الوزارة السامية، فارعة من المعالي أسمقها نجودا، كارعة من المنن أعذبها ورودا، ساحبة من الميامن أرقّها برودا، ممتّعة بالنّعم الّتي يرامي الشّكر عن حوزتها، ويحامي البشر عن حومتها، مبلّغة في أوليائها وأعدائها، قاضية ما ترتمي إليه رحابها، فلا ترى لها وليّا إلّا لا حب المذهب، ثاقب الكوكب، سامي الطّرف، حامي الأنف، ولا عدوّا إلّا ضيّق المطرح، وعر المسرح، صالد الزّند، مفلّل الحدّ، راغم العرنين، متلولا للجبين. ولا زالت أزمّة الدنيا بيدها حتّى تبلغ بآمالها منتهاها، وتجري بأيّامها إلى أقصى مداها، [فهي] من أعظم النّعم خطرا، وأحسنها على الكافّة أثرا، وأولاها بأن يفاض في شكرها، وتتعطّر الآفاق بذكرها. ولسيدنا الوزير الأجلّ يراع يستيقظ في صلاحهم وهم هاجعون، وينصب في الذّبّ عنهم وهم وادعون، وكل تدبيرهم فيه، إلى مدبّر يخاف الله ويتّقيه، ويعمل فيمن استرعاه بما يرتضيه، ولا يمدّ يد الاقتدار عليهم متسلّطا، ولا يتّبع دواعي الهوى فيهم متسقّطا، واضعا الأشياء في حقائقها، سالكا بها أمثل طرائقها، ملاينا من غير ضعف، مخاشنا من غير عنف، قريبا من غير صغر، بعيدا من غير كبر، مرغّبا بلا إسراف، مرهبا بإنصاف، ناظرا إلى محقّرات الأمور وأطرافها، كما ينظر في معاظمها وأشرافها، آخذا بوثائق الحزم، متمسّكا بعلائق العزم، راميا بفكرته من وراء العواقب، خاطما بآرائه أنوف المصاعب، ناظما بإيالته عقود المصالح، موطّئا برياضته ظهور الجوامح، إن ثقّف ذا النّبوة الفريدة، والهفوة الوحيدة، اقتصر على ما يوافقه الوالد الحدب، من مقوّم الأدب [وإن قبض] «2» على المرتكس في غوايته، المفلس في عنايته، ضيّق عليه مجال العفو، وأحاق به أليم العذاب والسّطو،(9/8)
فقد سكنت الرعيّة في عدله، وأوت حرما منيعا من ظلّه، ووثقت أنّ الحق بنظره شامخ شاهق، والباطل سائخ زاهق، والإنصاف مبسوط منشور، والإجحاف محطوط مبتور، والشّمل منظوم، والشّرّ مضموم. فنطقت ألسنتها بإحماده، واشتملت أفئدتها على وداده، واتفقت أهواؤها على رياسته، وتطابقت آراؤها المسابقة على دوام سيادته، وعرف أمير المؤمنين عدق النظر في دولته، وسلّم أمور مملكته إلى النّصيح المأمون، والنّجيح الميمون، الذي وفّقه الله تعالى لاختياره، ويسّره لاصطفائه وإيثاره، وأنّه قد ناط أموره بمن لم يستخفّ ثقيل حملها، وينوء بباهظ ثقلها، فتمتّع بلذيذ الكرى، وتودّع بعد السّير والسّرى، وألم من إلمام ملمّ معضل، وحدوث حدث مشكل. وهذه نعمة تعمّ الخاصّة والعامّة عموم الغيث إذا همع «1» وتدفّق، وتشملهم شمول النهار إذا لمع وتألّق، وهم أولى بالتهنئة فيها وشكر الله تعالى عليها.
وسيدنا الوزير حقيق بأن يهدى إليه الدعاء المرفوع، والتضرّع المسموع، بأن ينهضه الله تعالى بما حمّله، ويعينه على ما كفّله، ويتولّاه بتوفيق يثقب أنواره، وتأييد يطبّق غراره، وتسديد يحسّن آثاره، وإجراء ما يتولّاه على أوضح سبيل وأقصده، وأرجح دليل وأرشده، إذ لا يجوز أن يهنّأ بما له عياؤه وكلّه، ولمذعنيه صلاحه كلّه. والعبد يسأل الله ضارعا لديه، باسطا يده إليه، في أن يقبل صالح أدعيته لحضرة الوزارة السامية، وأن يجعل ما أحلّه في محلّه من رياستها، وأوقعه في موقعه من سياستها، دائبا لا ينتزع، وخالدا لا يرتجع، وأن يؤيّدها فيه بما يقضي له بالإحراز والتّخويل، ويحميه من الابتزاز والتحويل، إنّه سميع الدعاء، فعّال لما يشاء، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني- التهنة بكفالة السلطنة
:(9/9)
وهذه نسخة من ذلك، كتب بها عن نائب «1» الشام، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة «2» ، وهي بعد الألقاب:
لا زال دائرا بهنائه الفلك، منيرا بضياء عدله وبشره الحلك، قريرا بحسن كفالته الملك، شاهدا بفضل أسمائه وسماته الملك، مقسوما بأمر الله نداه وبأسه ليحيا من حيّ ويهلك من هلك، تقبيلا يشافه به التّراب، ويشاهد شرف مطلعه على السّحاب. وينهي قيامه على قدم ولاء ودعاء: هذا ينزل القلب وهذا يصعد إلى الأفق، ومقامه على بشرى وحمد منهما الأمن يحلّى بوصفه النّطق كما تحلّى الأعطاف «3» بالنّطق، وأنه ورد مثال شريف على يد فلان يتضمّن البشارة العامّة، والمسرّة التامّة، والنعمة الّتي يعوّذ سنا جبينها من كل عين لامّة، وخبر الخير الذي حيّت أزهاره المتضوّعة ندّ مصر فأوّل ما بلّغه منافس الشام شامّة، بأنّ المواقف الشريفة- أعزّ الله تعالى سلطانها- قد فوضت إلى مولانا كفالة الإسلام وبنيه، وكفاية الملك بصالح مؤمنيه، ونيابة «4» السلطنة الشريفة وما نسقت، وتدبير الممالك وما وسقت، فيالها بشرى ابتسمت لها ثغور البشر، ومسرّة(9/10)
استجلى سناها من آمن وبهت الذي كفر، وخبرا تلقّت الأسماع بريده منشدة:
قل وأعد بأطيب الخبر، هنالك أخذ المملوك حظّه من خير بشرى، ونصيبه من مسرّة حمد بصباح طرسها المسرى؛ وحمد الله تعالى على أن أقام لسلطان البسيطة من يبسط العدل والإحسان لمنابه، ويقلّد رعيّته عقود النّعم إذا تقلّد ما وراء سريره وبابه، ومن إذا كفل سيفه ممالك الإسلام وثقت بالمغنم والسّلامة، وإذا كتب قلمه قالت، ولا سيّما أخبار جند المسلمين: هكذا تكون العلامة، وجهّز المملوك هذه الخدمة نائبة عنه في تقبيل الأرض، وعرض الهناء بين يدي من يسرّ المملوك بولائه إليوم ويرجو أن يسرّ به يوم العرض، ولو وصف المملوك ما عنده من السّرور والشّوق لضاق الورق عن تسطير الواجب منه وضاق الوقت عن أداء الفرض. والله تعالى يجدّد لمولانا ثمرات الفضل الواضح، والرأي الرابح، والقدر الذي هو على ميزان الكواكب راجح، ويمتّعنا كافّة المماليك «1» بدولة سلطانه الذي علم البيت الشريف أنّه على الحقيقة الخلف الصّالح.
وهذه نسخة تهنئة لأمير «2» جاندار بولاية إمرة «3» جاندار، من إنشاء الشيخ(9/11)
جمال الدين بن نباتة، وهي بعد الألقاب:
أعلى الله منارها ومنالها، وخلّد قبولها وإقبالها، وأجزل من الغضّ الذي تناولته ثمرها وأسبغ به ظلالها، ولا زال في سيفها وعصاها مآرب للملك، وفي بأسها ونداها مواقع للنّجاة والهلك، ولا برحت القضب من سيوف وغصون:
هذه حاكمة بسعدها حكم الملك، وهذه مسخّرة في تجريدها تسخير الفلك، تقبيل مخلص في ولائه ودعائه، مهنّا القلب مسرور بما يتجدّد من مسرّات مولانا وهنائه، وينهي أنه بلغه ما أفاضته الصدقات الشريفة على مولانا من المبرّات، وما جدّدت له من المسرّات، وأنها ضاعفت مزيد الإحسان إليه، ودعته أمير جاندار ودّت العصيّ النّجوميّة لو قدّمت نفسها بين يديه، وأنّ المواقف الشريفة قرّت به عينا وأقرّت، وأنّ الدولة القاهرة ألقت عصاها إليه واستقرّت؛ وكما سلّمت إليه العصا في السّلم سلّمت إليه السيف في الحرب، وكما قرّبته في مواقف العدل والإحسان قرّبته في مواقف الطّعن والضّرب، فأخذ المملوك حظّه من البشرى، وأوجب على نفسه الفرح وسجد لله شكرا، وودّ لو حضر يشاقه بهذا الهناء الشامل، ومثل قائما لديه بحقّ التهنئة القيام الحقيقيّ الكامل. وحيث بعدت داره، ونأت عن العيان أخباره، فقد علم الله تعالى مواصلته بالأدعية الصالحة ليلا ونهارا، والموالاة والمحبّة الّتي يشهد بها الخاطر الكريم سرّا وجهارا. والله تعالى المسؤول أن يزيد مولانا من فضله، ويسرّه بمتجدّدات الخير الذي هو من أهله، ويمتّعنا كافّة المماليك بدوام سلطان هذه الدولة الذي شمل بظله، وغني بنصره عن نصله، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث- التهنئة بالإمارة
«1» .(9/12)
من كلام الأقدمين:
تهنئة من ذلك، أوردها أبو الحسين بن «1» سعد في ترسّله، وهي:
وهنأ الله الأمير مواهبه الهنيّة، وعطاياه السّويّة، وأدام تمكينه وقدرته، وثبّت وطأته، وحرس ما خوّله، وجعل ما هيّأ له من مؤتنف الكرامة أيمن الأمور فاتحة وأسعدها عاقبة، ووصل أيّامه بأجمل الولاية، وأجلّ الكفاية، حتّى ينتهي [من] استيفاء سعادات الحظوظ وحوز القسم والآمال، [إلى] الدرجة الّتي تليق بما أفرده الله به من الكمال، وخصّه به من الفضل في جميع الخصال. ومن أفضل ما أعتدّ به من نعم الله عليّ بالأمير وبجميل رأيه، ومحلّي من طاعته وخدمته، أنّي لا أخلو في كل وقت وحال من بهجة تتجدّد لي، ومسرّة تصل إليّ، وتتوفّر عليّ، بما يسهّله الأمير على يده من مستصعب الأمور، ومستغلق الخطوب، الّتي تبعد عمّن يزاولها، ويجعل الله بطوله وحوله للأمير القدرة عليها، ويتوحّد بالكفاية فيها، فينمو بجميل تدبيره ولطيف نظره، ويطّرد بصاعد نجمه ويمن نقيبته وعزّ دولته، وذلك من فضل الله ونعمته، يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
الصنف الرابع- التهنئة بولاية الحجابة.
وقد كان لها في الزّمن القديم المحلّ الوافر في الدولة وعلوّ الرتبة فيها.
من كلام الأقدمين:
تهنئة من إنشاء أبي الحسين بن سعد، كتب بها إلى أبي بكر «2» بن ياقوت(9/13)
حين ولي الحجابة بعد نكبة أصابته، وهي بعد الصدر:
وقد كانت أنفسنا معشر عبيد سيدنا وحملة إنعامه، ومؤمّلي أيامه، في هذه الأحوال الّتي نفد سيدنا منها فيما ابتلاه صبره، وأبان فيه قدره، وزاد العارف بفضله نفوذا في البصيرة، وأعاد ذوي الارتياب فيه إلى الثّقة، فاستوى المنازع والمسلّم، واستوى العالم والمعاند- نعمة منه تعالى ذكره خصّه بها وصانه عن مشاكلة النظير، ومزاحمة الأكفاء- على سبيل من القلق والارتماض «1» ، والسّقوط والانخفاض، جزعا من تلك الحال الغليظة، وإشفاقا على تلك النّفس النّفيسة، وخوفا على معالم البرّ والتّقى، وبقيّة العلم والحجا، وتاريخ الكرم والنّدى، أن يدرس منارها، وتطمس آثارها، ولولا ما منّ الله به من الخلاص منها وما منح بكرمه في عاقبتها، لأوشكت أن تأتي عليها وتعجلها عن مواقيت آجالها، لكنه عظمت آلاؤه، وتقدّست أسماؤه، أتى بالأمن والفرج، بعد استيلاء الكرب والوجل، وانبتات أسباب الرّجاء والأمل، فعرف سيدنا موقع الخيرة فيما قضاه، وميّز له الخبيث من الطيّب ممّن عاداه وتولّاه، وجعل النعمة الّتي جدّدها له فيما ردّه أمير المؤمنين إلى تدبيره من أمر داره ومملكته، وحراسة بيضة رعيّته، مشتركة النّفع والفائدة، مقسومة الخير والعائدة، بين كافّة الأمّة فيما عمّ من المعدلة، وشمل من المصلحة، ولاح من تباشير الخير، وأمارات البركة، في استقامة أمور البلاد وصلاح أحوال العباد، وأفرد الله سيدنا بحظّ من الموهبة وفّاني فيه على حظوظ الأولياء، وزادني على سهام الشّركاء. وأنا أرغب إلى الله في إسعاد سيدنا بما جدّده له، وتعريفه بركة مفتتحه ويمن خاتمته.
والحمد لله في مبتداه، والسلامة في عقباه، وتبليغه من حظّ مأمول، وخير(9/14)
مطلوب، وحال عليّة، ورتبة سنيّة، أفضل ما بلّغ أحدا اختصّه بفضله، واصطفاه من خلقه، إنه جواد ماجد. فإن رأى سيدنا أن يتطوّل بإجراء عبده على كريم عادته في تشريفه بمكاتبته، وتصريفه في أمره ونهيه، محقّقا بذلك أمله، وزائدا في نعمه عنده، فعل إن شاء الله تعالى.
تهنئة أخرى من ذلك، من إنشاء عليّ»
بن خلف أوردها في «موادّ البيان» وهي:
إنما يهنّأ بالولاية- أطال الله بقاء الحاجب «2» الجليل سيّدي ومولاي- من انبسطت إليها يده بعد انقباض، وارتفع لها قدره من انخفاض، وأوجدته الطريق إلى إحراز جزيل الأجر والجزاء، واكتناز جميل البركة والثّناء، وأفضت به إلى اتّساع السّلطان، وانتفاع الأعوان، فأمّا من جعل الله يده الطّولى، وقدره الأعلى، ورياسته حاصلة في نفسه وجوهره، وسيادته مجتناة من سنخه «3» وعنصره، فالأولى- إذا استكفي رغبة في إنصافه وعدله، وحاجة إلى سداده وفضله، وافتقارا إلى فضل سيرته، واضطرارا إلى فاضل سياسته- أن تهنّأ الرعيّة بولايته، وتسرّ الخاصّة والعامّة بما عدق من أمورها بكفايته؛ وغير بدع ربط «4» أمير المؤمنين بالحاجب الجليل أمر حجابته، ونصبه الزّحمة «5» عن حضرته، وجعله الوسيط والسفير بينه وبين خواصّ دولته، وقد وثق بيمن نقيبته، واطّلع(9/15)
على خلوص نيّته، وسكن إلى صدق طاعته، وعرف طهارة جيبه، وسلامة غيبه، وصدق لهجته، وحصافة أمانته، واعتماده للحقّ فيما يورد ويصدر، وينهي ويجيب، وابتلاه فعرف طيب طعمته، وخفّة وطأته، ورأفته بالضّعيف المهضوم، وغلظته على العسوف الظّلوم، [فرأى] أن يحلّه محلّ من لا يغيب عمّا شهده، ولا يرتاب بما سمعه، على أنّني المهنّأ بكل نعمة يجدّدها الله لديه، وسعادة يسبغها عليه. [ولو أنصفت] لسلكت من الصّواب سننا، واعتقدت جميلا حسنا؛ لاستشعاري بالأنفس من لبوس سيادته، وتحلّيّ بالأنصع من عقود رياسته، وإذا كانت رعيّته أجدر أن تهنّأ بولايته، وتعرف قدر ما لها من الحظّ في نظره، فأنا أعدل من هنائه إلى الدّعاء له بأن يبارك الله تعالى له فيما قلّده، ويوفّقه فيما ولّاه ويسدّده، ويلهمه ادّخار الثواب والأجر، واكتناز الحمد والشكر، والهداية إلى سنن الاستقامة، وما عاد بمحبّة الخاصّة والعامّة، وإنهاضه في خدمة أمير المؤمنين، والعمل من طاعته بما يزلف في الدنيا والدين. والله يستجيب في الحاجب الجليل هذا الدعاء ويسمعه، ويتقبّله ويرفعه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس- التهنئة بولاية القضاء.
التهنئة بذلك من كلام الأقدمين:
تهنئة من ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف، أوردها في «موادّ البيان» وهي:
أولى المنح أن يتفاوض شكرها والتحدّث بها، ويتقارض حمدها والقيام بواجبها، نعمة شمل عطافها، وعمّت ألطافها، واشترك الناس فيها اشتراك العموم وحلّت منهم في النفع محلّ الغيث السّجوم «1» . وهذه صورة النعمة في(9/16)
ولاية قاضي «1» القضاة- أطال الله بقاءه- لما تتضمّنه من إثبات العدل والإنصاف، وانحسار الجور والإجحاف، واعتلاء الحقّ وظهوره، واختلاء الباطل وثبوره، وعزّ المظلوم وإدالته، وذلّ الظّلوم وإذالته، وتمكين المضعوف واقتداره، وانخزال العسوف واقتساره. وإن هنّأته حرس الله علاه بموهبة أتى بارقها بجميل الثّناء، وجزيل الجزاء، قد ناء من تحمّلها بباهظ الشيء ومتعبه، وقام من سئلها بكل الأدب ومنصبه، عدلت عن الأمثل وضللت عن الطريقة المثلى، لكنّي أهنّئه خصوصا بالمواهب المختصّة به اختصاص أطواق الحمائم بأعناقها- والمناقب المطيفة به إطافة كواكب السّماء بنطاقها، في أن ألّف الله القلوب المتباينة على الإقرار بفضله، وجمع الأفئدة المتنافية على الاعتراف بقصور كلّ محلّ عن محلّه، وجعل كلّ نعمة تسبغ عليه، ومنّة تسدى إليه، موافقة الآمال والأماني، مفضية للبشائر والتّهاني؛ لأنّ من أحبّ الحقّ وآثره، ولبس الصّدق واستشعره، ينطق بلسان الإرادة والاختيار، ومن تركهما وقلاهما، وخلعهما وألقاهما، ينطق بلسان الافتقار والاضطرار- والخصائص الّتي هو فيها نسيج وحده، وعطر يومه وغده- والمحاسن الّتي هي أناسيّ عيون الزّمان، ومصابيح أعيان الحسن والإحسان. ثم أعود فأهنّئه عموما بالنّعم المشتركة الشّمول، الفضفاضة الذّيول، الّتي أقرّت القضاء في نصابه، وأعادت الحكم إلى وطنه بعد نجعته واغترابه، وأعلتهما في الرّتبة الفاضلة، وقدعت «2» بهما(9/17)
أنف الذّروة العالية. وأرفع يدي إلى الله تعالى داعيا في إمداد قاضي القضاة بتوفيق يسدّد مراميه، ويرشد مساعيه، ويهذّب آراءه ويصحّحها «1» ، ويبلج أحكامه ويوضّحها، ويخلّد عليه النعمة خلودها على الشاكرين، ويبصّره بحسن العقبى في الدنيا والدّين، وهو سبحانه يتقبّل ذلك ويرفعه، إن شاء الله تعالى.
التهنئة بذلك، من كلام أهل العصر:
تهنئة من ذلك: أوردها الشيخ شهاب «2» الدين محمود الحلبيّ في كتابه «زهر الربيع في الترسّل البديع» وهي:
أنفذ الله تعالى أحكامه، وشكر إحسانه وإنعامه، وخلّده ناصرا للشريعة المطهّرة وأدامه، وجدّد سعده وأسعد أيّامه، وجعله المسترشد والمقتفي بأمر الله والرّاشد والمستنجد والمستنصر والناصر والعاضد، والحاكم القائم بأمر الله ... «3» ... من القضاة الثلاثة الواحد.
المملوك يقبّل اليد العالية تبرّكا بتقبيلها، وأداء لواجب تعظيمها وتبجيلها، ويهنّيء المولى بما خصّه الله تعالى من مضاعفة نفاذ كلمته ورفع منزلته، وإمضاء أحكامه الشريفة وأقضيته، وتقليده أمور الإسلام، وتنفيذ أوامره في الخاصّ والعام، ويهنّيء بالمولى من ردّت أموره إليه، وعوّل في ملاحظة مصالحه عليه،(9/18)
فإنّ مولانا ما زال بالعلم والعمل مشهورا، وسعيه في الدنيا والآخرة سعيا مشكورا، ويقظة مولانا جديرة بزيادة الاهتمام، والاحتياط التامّ، بملاحظة طلبة العلم والمشتغلين، والفقهاء والمدرّسين، وسبر أحوال النّوّاب «1» ، وأن لا يكفيه الاعتماد على حسن البزّة وطهارة الأثواب، بل يمعن في الاطّلاع على ما يعتمدونه النّظر، ويلاحظ كلّا منهم إن غاب عن مجلسه أو حضر، فمن رآه يهدي إلى الحقّ وإلى الطريق المستقيم، ولا يقرب إلّا بالتي هي أحسن مال اليتيم، فيحقّق له من العناية أملا، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، حرس الله المولى ومتّع بحياته، وأعاد على الكافّة بركة صيامه المقبول وصلاته، ونفع الإسلام بمستجاب دعواته، إن شاء الله تعالى.
الصنف السادس- التهنئة بولاية الدعوة على مذهب الشّيعة.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة في الدّولة الفاطميّة، بالديار المصرية، ذكر موضوعها وعلوّ رتبتها عندهم، وإنما ذكرناها حفظا للأصل ولاحتمال وقوعها.
تهنئة من ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف، أوردها في «موادّ البيان» وهي:
أطال الله بقاء داعي «2» الدّعاة لصباح من الرحمة يبلجه، وطريق من(9/19)
الحكمة يظهر بيانه، وليل من السّنّة ينزع طيلسانه، وحرسه على الإيمان يجدّد ما أخلق من بروده، وينظّم ما وهي من عقوده، وعلى المؤمنين يفتح لهم أبواب الرّشاد، ويهمي إليهم سماء الإفادة والإمداد، ولا زالت الحقائق مقصودة منه بالميزة الّتي رشّحته لحفظ مبانيها، وأهّلته للعبارة عن معانيها، حتّى يرقمها في الأخلاد، ويمحو بها رسوم العناد، وينشر بشرها في الآفاق والبلاد. أنا أعدل عن هناء داعي الدّعاة- أطال الله بقاءه- بما عدق به من أمر الدّعوة الهاديّة العلويّة، ونصب له من فرّ مضاحك المشكلات عن أسرار الحقائق الإلهيّة، والترجمة عن غوامض الحكم الشّرعيّة، والتوقيف على موارد الهدى ومشارعه، والإرشاد إلى مشارق الحق ومطالعه، إلى هناء الدّعوة وأهلها بما قيّضه الله تعالى لهم من محلّه الرفيع الذي ألحقه العقل نحو هذا الكمال، ووطّأ له مدارج الترقّي والاتّصال، فشفّت نفسه وشرفت، وتطلّعت على عالم الملكوت وأشرفت، وجنى بيد التّبصرة ثمار الحكمة، واستنزل بمنزل الموادّ غيوث النّعمة، وجرّد الضّياء من الظلام، تجريد الأرواح من الأجسام إلى دار السّلام، واستمدّ بلطيفته موائد علوم عالم اللّطافة، وأمدّ بمركّب ألفاظها تحاكم الكافة، وحلّ في الغبراء محلّ الغرّاء في الخضراء، إن أوضحت سبيل سائر بجنب طريق جائر توصّل بنزوعها غاشية إظلام، حسر عن الحق قناع إبهام، أو فعلت «1» في الجواهر زيادة وثمرة (؟) أخذت تعاديا (؟) فأدلته للهمم العاملة شرفا وسموّا؛ لما أعلى بذلك من قدرها وقدرهم، وطيّب من ذكرها وذكرهم، وأعطف إلى الدعاء لداعي الدّعاة بأن يجعل الله تعالى ما خوّله من هذه الرّياسة راهنا لا يرتجع، وما نوّله من هذه السيادة مستقرّا لا ينتزع، وأن يؤيّده بالتوفيق، ويعبّد له مناهج التحقيق، ويطلق لسانه بالبيان، ويمدّه بروح منه في نصرة الإيمان، وقد حتم الله(9/20)
تعالى بإجابة داعيه، ولا سيما داعي الدّعاة [فإنه] جدير بأن يجاب الدعاء فيه، إن شاء الله تعالى.
قال في «موادّ البيان» : وإنما أوردت هذا المثال بهذه الألفاظ؛ لأن ألفاظ هذا الدّاعي يجب أن تكون مشتقّة من ألفاظ الدعوة، مناسبة لمذهبها، ولولا ذلك لأغنى عنه مثال تهنئة قاضي القضاة، ومن تأملهما عرف ما بينهما من الفرقان.
الصنف السابع- التهنئة بالتقدمة على الرجال.
رقعة من ذلك:
[من حلّ] محلّ سيدي- أطال الله بقاءه- من السّؤدد الناطق الشّواهد، المنتظم المعاقد، المتضارع الطارف والتالد، المنتقل في الولد عن الوالد- والمجد الذي قصر عن مطاولته الطّراز الأوّل، وتطأطأ له الإنعام المخوّل، وحاز ما حازه من شرف الرّياسة، وفضل السّياسة، والاستقلال بحقوق ما تولّاه، وتسديد ما نوّله واستكفاه، فتشوّقت إليه أعالي الرّتب وتشوّقت إليه المنازل السنيّة من كثب- خطبته العلا سائقة عنه مهرها، وتطامنت له موطّئة ظهرها، فلم يكثر له أن يتقدّم على [أهل] عصره فضلا عن قبيلته، ويتأمّر على جميع نوعه فضلا عن طائفته، لأنه المقدّم عليهم بالرّتبة والطّبع، لا بالاصطلاح والوضع، فشكر المملوك الله تعالى على بزوغ هلاله وإبراقه، وطلوعه لميقات العز وتنفاقه، وسأله أن يجعل ما أقرّ العيون من سيادته، وحقّق الظنون في سعادته، خالدا راهنا، ومقيما قاطنا، وأن يزيده من السعادة، ويرقّيه كلّ يوم في درج السيادة، لتكون هذه الرتبة على امتناع مرقبها، وارتفاع مركبها، أوّل درجة تخطّاها، ومنزلة فرعها وعلاها، ثم لا يزال راقيا فيما يتلوها حتّى يحتذي بكواكب الجوزاء، ويطحو دارة على الحلفاء، مهنّأ غير منغّص، ومزيّدا غير منقّص، والله تعالى يجيب هذه الأدعية الواقعة مواقعها، والمستحقّات الموضوعة مواضعها.(9/21)
الصنف الثامن- التهنئة بولاية الديوان «1»
. رقعة من ذلك:
وينهي أنّ من حلّ محلّ مولانا- أطال الله بقاءه رافلا في لبوس السّعادة، متحفّلا بسلوس السّيادة، متنقّلا في رتب المجد، متوقّلا إلى غدن «2» الجدّ، مستوليا على شعاب العلا، متمكّنا من رقاب الأعداء- في الاستقلال والاضطلاع، والمعرفة بحقوق الاصطفاء والاصطناع، ورفعة مذهبه على الكفاية والغناء، والنهوض بثقيل الأعباء، خطبته التصرّفات حاملة عنه صداقها، وتشوّفته الولايات مادّة إليه أعناقها، وقد اتصل بالمملوك ما جدّده الله تعالى من سعادته، وأنجزه من مواعيد سيادته، الّتي كانت واضحة في مخايل فضله، لائحة في دلائل نبله، مكتوبة في صفحات الأقدار، مرقومة بسواد اللّيل على بياض النهار، فجذل المملوك بذلك، جذل الحميم المشارك، وسرّبه سرور الخليط المشابك، وليس ذلك لأنّ الذي تولّاه مولانا وجد [فيه] خللا فرقعه، وخمولا فرفعه؛ بل لأنّ الحقّ غالب الحظّ فغلبه، والواجب سالب الممكن(9/22)
فسلبه، وأناخ ركاب الرّياسة في المحلّ الخصب الذي يحمده ويرتضيه، والله تعالى يتفضّل على رعيّته، المتوطّنين بفاضل سياسته، من حبائه ولطفه، ورأفته وعطفه، بما يسبغ عليهم ظلال العدل، ويقلّص عنهم سدول الجور والحيف، إن شاء الله تعالى.
قلت: وكتبت للمقرّ البدريّ محمود «1» الكلستاني الشهير بالسّراي مهنّئا له باستقراره في كتابة السّرّ الشريف بالديار المصرية في الدولة الظاهرية «برقوق» «2» في سلطنته الأولى (بسيط) .
رفعت للمجد مذ ولّيت بنيانا ... وشدت للفضل بعد الوهن أركانا
وأصبح الملك في زهو، ومالكه ... يميس عجبا، وهنّا التّخت «3» إيوانا
قدمت مصرا فأمست منك في فره «4» ... تهزّ بالبشر من لقياك أردانا
وغودر النّيل مذ وافيت مبتهجا ... وقد رمى الصّدّ والإبعاد جيحانا(9/23)
ألفاظك الغرّ صارت للورى مثلا ... وكتبك الزّهر بعد اللّثم تيجانا
تفوق قسّا إذا تبدو فصاحتها ... وتفضح المصقع الملّاق سحبانا
قد أفحمت في مجازات بلاغتها ... تركا وروما وبعد الفرس عربانا
كلّ الموالي إذا ولّوا فلا أسف ... إذ أنت باق، ويبقي الله مولانا
مولّى به قد تشرّفنا وجمّلنا ... بوجهه، ولذكر القوم أنسانا
الصنف التاسع- التهنئة بولاية عمل.
أبو الفرج «1» الببّغاء:
عرّف الله سيدي بركة هذا العمل الجليل، بنبيل نظره الجميل، وحميد أثره المحروس، وتناصر سياسته الشريفة بسمة رياسته، ووفّق رعيّته لشكر ما وليها من فائض عدله ومحمود فعله، فالأعمال منه- أيده الله تعالى- بالتهنئة أولى، وبالتّطاول بما شملها من بركات تدبيره أحرى، والله بكرمه يسمع فيه صالح الدعاء، ويبلّغه أبلغ مدد البقاء، في أسبغ نعمة، وأرفع منزلة، وأصدق أمنيّة، وأنجح طلبة، بمنّه.
وله في مثله:
لولا ما يشرك التّهاني من بركات الدّعاء الذي أرجو أن يسمع الله فيك صالحه، ويجيب أحسنه، لأجللناك عن التّهنئة بمستجدّ الأعمال، ومستحدث الولايات، لقصورها عن استحقاقك، وانحطاطها وإن جلّت عن أيسر واجباتك، وتعجّلها بمأثور كفايتك، وبركات نظرك، ومواقع إنصافك. فهنأك الله نعمة(9/24)
الفضل الّتي الولاية أصغر آلاتها، والرّياسة بعض صفاتها، ولا أخلاك من موهبة مجدّدة، ومنحة مؤبّدة.
وله في مثله:
سيدي- أيده الله- أرفع قدرا، وأنبه ذكرا، وأعظم نبلا، وأشهر فضلا، من أن نهنّئه بولاية وإنّ جلّ خطرها، وعظم قدرها؛ لأنّ الواجب تهنئة الأعمال بفائض عدله، والرّعيّة بمحمود فعله، والأقاليم بآثار رياسته، والولايات بسمات سياسته، فعرّفه الله يمن ما تولّاه، ورعاه في سائر ما استرعاه، ولا أخلاه من التوفيق فيما يعانيه، والتسديد فيما يبرمه ويمضيه.
الأجوبة عن التّهاني بالولايات قال في «موادّ البيان» : هذه الكتب إذا وردت، وجب على المجيب أن يستنبط من كل كتاب منها المعنى الذي يجيب به. قال: والطريقة المستعملة فيها أنّ كتاب المجيب يجب أن يبنى على أن المهنّيء قسيم في النّعمة المتجدّدة، وشريك في المنزلة المستحدثة، وأن الحظّ الأوفر فيما ناله المهنّى للمهنّي وببركة دعائه، وتوقعه لما يرد من حاجاته وتبعاته لينفّذها، نازلا على أخلص مخالصته، وعاملا بشروط مودّته، ونحو هذا مما يضارعه. فإن كان المجيب رئيسا أو مرؤوسا، وجب أن يرتّب الخطاب على ما تقتضيه رتبة كلّ واحد منهما.
وهذا مثال من ذلك:
زهر الربيع:
وردت المشرّفة الكريمة، أتمّ الله على مرسلها نعمته، وأعلى قدره ومنزلته، وجعل جناح العدا مخفوضا، وعيشه في دعة وخفض، وقدره للتمييز مرفوعا، وعدوّه للتقصير في انحطاط وخفض، فتلقّاها باليمين، وظنّها الريح الجنوب لما تحمّلته من رقّة الحنين، وعلم ما أبداه فيها من تفضّلاته، واعترف بالتقصير عن مجاراته ومجازاته، فشنّف سمعه بألفاظ كأنّهنّ اللّؤلؤ والمرجان،(9/25)
وبيّنت البون الذي بينه وبين غيره تلك الفصاحة والبيان، وقابل أياديه بشكر لسانه، وجازاه بحسن الدّعاء عن إحسانه، ولا يقوم بشكر فضله اللسان ولا الجثمان، وهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟
فأمّا ما أشار إليه من الهناء بالمكان الذي تولّاه، وأبداه من المحبّة الّتي أوجبت عليه أن يتوالاه، فالله تعالى يعينه على ما هو بصدده، ويجعل الحقّ والخير جاريين على لسانه ويده، ويرزقه اتباع محكم كتابه وسنّة رسوله، ويحصّل له من الرّشد غاية سوله ومأموله، فإن هذه الولاية صعبة المراس، وجوادها كثير الشّماس، لكن ببركات المولى يحصل من الله الأرب، ويسهل لأوليائه القصد والإسعاد والطّلب، أدام الله ظلّ المولى وأسعده، وأوضح لديه طريق السعادة ومهّده، ومنحه من الألطاف الخفيّة أفضل ما عوّده، بمنّه وكرمه.
الضرب الثاني (التهنئة بكرامة السلطان وأجوبتها)
وفيه ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل- التهنئة بالإنعام والمزيد ولبس الخلع «1» وغير ذلك.
من كلام الأقدمين:
وينهي أنه اتّصل بالمملوك ما أهّل مولانا السلطان مولانا له: من المحلّ السّنيّ،(9/26)
والمكان العليّ، الذي لم يزل موقوفا عليه، متشوّفا إليه، نافرا عن كلّ خاطب سواه، جامحا على كلّ راكب إلّا إيّاه، فأقرّ الله عين المملوك بذلك لصدق ظنه، وعلم أنّ ما أصاره الله تعالى إليه من هذه المنزلة المنيفة، والرّتبة الشريفة، مدرجة تفضي إلى مدارج، ومعرجة تنتهي إلى معارج، والله تعالى يزيد معاليه علوّا، ويضاعف محلّه سموّا، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ومنه- وينهي أنه اتّصل بالمملوك نبأ الموهبة المتجدّدة لديه، والنعمة المسبغة عليه، وما اختصّه به مولانا السلطان من الاصطفاء والإيثار، والاجتباء والاختيار، وتقديمه للرّتبة الأثيرة، والإنافة إلى المنزلة الخطيرة، فسرّ المملوك للرّياسة إذ أحلّها الله تعالى في محلّها، وأنزلها على أهلها، ووصلها بكفئها وكافيها، وسلّم قوسها إلى راميها، والله تعالى يجعل هذه الرتبة أوّل مرقاة من مراقي الآمال، ومكين الرّتب الّتي يفرعها من رتب الجلال، إن شاء الله تعالى.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبي:
أدام الله أنصاره، وجعل التّقوى شعاره، وألبسه من المحامد أكرم حلّة، ونوّله من المكارم أحمد خلّة، ولا زالت الخلع تتشرّف إذا أفيضت عليه، والمدائح تستطاب بذكره لا سيّما إذا أنشدت بين يديه.
الخادم ينهي إلى علم المولى أنه اتّصل به خبر أهدى إليه سرورا، ومنحه بهجة وحبورا، وهو ما أنعم به المولى السلطان خلّد الله سلطانه، وضاعف إحسانه، من تشريفه بخلعته، وما أسبغه عليه من وارف ظلّه ووافر نعمته، وأبداه من عنايته بالمولى ومحبّته، وقد حصل له من المسرّة ما أجذله، وبسط في مضاعفة سعد المولى أمله، فإنه بلغه أنّ هذه الخلعة كالرّياض في نضارتها، وحسن بهجتها، وأنها كلّما برقت برق لها البصر، وظنّها لحسنها حديقة وقد(9/27)
حدّق إليها النظر، وقد جمعت ألوان الأزهار، وأربى ناسجها في اللّطف على نسمة الأسحار، وأسكنت حبّها حبّات القلوب الّتي في الصّدور، وسمت عن المدح برائق المنظوم وفائق المنثور، وأن ابن سليمان «1» لو رآها، لاعترف بأنّ في لبسها لكلّ فتى شرفا لا ريب فيه، ونسب البيت المنسوب إليه إلى أعاديه، وأنّه لو نظر نضرة نضارها لما جعل لها في الحسن نظيرا، ولو ألقاها على وجهه لارتدّ لوقته بصيرا؛ فلذلك أصدر هذه الخدمة مهنية، ومعربة عما حصل له من الفرح ومنبّية، ولجيد مدحه العاطل من مثل هذه الألفاظ محلّية، نوّله الله في كلّ يوم مسرّة وبشرى، وأجرى له على الأسن حمدا وشكرا، وجعله لكلّ خير أهلا، وشكر له تفضّلا شاملا وفضلا، ومتّعه من العافية بلباس لا يبلى، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني- التهنئة برضى السلطان بعد غضبه.
فمن ذلك:
وتنهي أنه اتصل بي ما جدّده الله تعالى لمولاي- أطال الله بقاءه- من حسن عاطفة مولانا أمير المؤمنين- خلّد الله ملكه- وانعطافه عليه بعد انصرافه، وإعادته إلى رتبته الّتي نشزت عنه دلالا لا ملالا، وهجرته هجر المستصلح المستعتب، لا هجر القالي المتجنّب، وكيف تقلاه، وهي لا تجد لها كفؤا سواه، ولتوقّع المملوك بما وقع من هذه الحال، وعلمه أنّ عودها إليه كعودة المودع [إلى مودعه،] لا عودة المنتجع إلى مربعه، وأنّ الذي وقع من(9/28)
الانحراف إصلاح باديه تهذيب وتقويم، وخافيه توقير وتعظيم، لما في عتاب أمير المؤمنين من شرف الرّتبة، والدّلالة على استقرار الأثرة والقربة، وحلوله محلّ الصّقال، من أبيض النّصال، والثّقاف من العسّال، ولا سيّما ورياسته محفوظة، وسيادته ملحوظة، وهيبته في النّفوس مائلة، وجلالته في القلوب حاصلة، ولم «1» ير المملوك أجلّ موهبة من الله سبحانه من شكر يسترهن هذه النعمة ويخلّدها، وحمد يرتبطها ويقيّدها، ورغبت إلى الله سبحانه أن يجعل هذا العزّ الحادث لابثا لا يتحوّل، والسعد الطارف ماكثا لا يتنقّل، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك:
وينهي أنّ من عادة الزمان أن يكف سحابه ثم يكفّ، ويرفّ نباته ثم يجفّ، ويدرّ حلبه ثم ينقطع، ويقبل خيره ثم يرتجع، إلّا أنّه إذا سلب النعمة ممن يستوجب إمرارها عليه، وانتزع الموهبة ممن يستحقّ استمرارها لديه، كان كالغالط الذي يراجع نفسه فيندم على ما فرط، ولا يلبث أن يستدرك الغلط، معقبا نبوته بإنابته، متعقّبا هفوته باستقالته، ماحيا إساءته برأب ما ثلم، وأسو ما كلم، وإصلاح ما أفسد، وتأليف ما شرّد. فلا جرم «2» أنّ النفوس بإقباله على من هذه صفته واثقة، والآمال لانصرافه إلى من هذه صورته متحقّقة، وإذا سلبها هرول في إيداعها لديه، وأخذ [في] إفاضتها عليه. وما زال المملوك- مذ عامل الزمان مولانا بسوء أدبه، ونأى عنه بجانبه، وقبض بنانه، وغيّر عليه سلطانه- عارفا أنّ هذه الفعلة فلتة من فلتاته الّتي يتوقّى شرّها، ولا يرجع إلى مثلها، وأنّ الاستبصار، يقوده إلى الاعتذار، والاضطرار، يحدوه على ردّ ما انتزعه بالإجبار؛ لأنه لا يجد من يحلّ محلّ مولانا في ارتباطه بإيناسه، وتعهّده بسقي أغراسه، وقيامه بشكره، وتزكيته ببرّه- متوقّعا لأن تتيقّظ عينه، وينكشف رينه «3» ،(9/29)
فيرى ما صنعت يداه، ويبادر لاستقالة ما جناه، حتّى طرق البشير بما سهّله الله تعالى من انحسار الكربة، وعود مولانا إلى شرف الرّتبة، وصلاح ما فسد، وعود السلطان أعزّ الله نصره إلى ما عهد، وركوبه إلى حضرته، وانقلابه عنه رافلا في تشريفه ومكرمته، فكان معتقد المملوك فيه هلالا في السّرار فأهلّ، وجنينا في الحشا فاستهلّ، فاستولى على المملوك من السّرور ما عمّ جوارحه، وعمر جوانحه، وأطار بجناح المرح، وألبس حلّة الفرح، إذ ما جدّده الله تعالى له من السعادة يحلّ به في العموم، محلّ الغيث السّجوم «1» ؛ لأنّه حرس الله عزّه لا يستأثر بعوارف الله عنده، ولا يكزّ على عطاياه يده، بل يمنح مما منح، ويولي مما تولّى، ولا يضنّ بمال ولا جاه، ولا يقعد عمن أمّله ورجاه، والله تعالى يجعل ذلك مما أقرّبه العيون، وصدّق فيه الظّنون، لا تخلقه الأيام ولا تبليه، ولا تزويه الحوادث ولا تؤثّر فيه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث- التهنئة بالخلاص من الاعتقال.
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي:
جدّد الله سعده، وضاعف جدّه، وأنجح قصده، وأعذب منهله وورده، ولا انفكّت الأيّام زاهية ببقائه، والأنفس مسرورة بارتقائه إلى رتب عليائه.
أصدرها تفصح عن شوق يعجز عن سوقه الجنان، ويقصر عن طوله اللّسان، وسرور تزايد حتّى أبكاه، ولا عج بمشاهدة طلعته السعيدة أغراه، وتهنّيه بما جدّد الله له بعد الاعتقال من الفرج والفرح، ومنّ به بعد ضيق الخواطر من الابتهاج والمرح، فهذه المسرّة ماء زلال برد بها الأوام، وإنعام عامّ، حمد الله عليها الخاصّ والعامّ، فالحمد لله الذي عوّضه عن مأتم الحزن بما تمّ من السرور، و [عن] الهمّ المانع عن الورود والصّدور بانشراح الصّدور، فإنّ القلوب شعفها حبّه وشغفها، وضاعف لتعويقه أساها وأسفها، بحيث اعترى المناطق قلق(9/30)
وعلاها اصفرار، وعطّلت يد كل غانية من الحليّ فما ضمّها قلب «1» ولا سوار، ولبس الخطباء حزنا وألبسته المحابر، وكادت لغيبته وفقد اسمه تندبه الجوامع وتبكيه المنابر، خلّد الله سعادته، وسهّل له من خيري الدنيا والآخرة قصده وإرادته، بمنّه وكرمه.
الأجوبة عن التهنئة بكرامة السلطان ورضاه بعد غضبه قال في «موادّ البيان» «2» : يجب أن تكون أجوبة هذه الرّقاع مودعة من الثناء على المهنّي- لمحافظته على رسوم المودّة وقيامه بشروط الخلّة- ما تقتضيه رتبته ورتبة المجيب، وأنّه مشارك له في متجدّد النعمة، مفاوض في حديث المسرّة، والتيمّن بالدعاء، ونحو هذا مما يحسن موقعه عند المبتديء بالهناء، ويضعه بحيث وضع نفسه من الاختصاص بمن كاتبه.
وهذا مثال من ذلك:
زهر الربيع: [جواب] هناء بخلعة:
أدام الله علاءه، وشكر آلاءه، وضاعف سناءه، وحمد مننه الّتي أثقلت لكلّ معتف ظهرا وخفّفت همّا، وأنالت لكلّ وليّ نصيبا من عوارفها وقسما.
المملوك ينهي إلى العلم الكريم ورود المكاتبة الّتي كستها يده حلّة جمال، وألبستها ثوب إفضال، وأعدّتها بكرمها، وحسّنت وجهها بلسان قلمها، فأمطرته سحاب جود أربى على السّحاب الهتون «3» ، وأوقفته منها على ألفاظ كأمثال اللّؤلؤ المكنون، فاجتنى ثمار الفضائل من أغصانها، واجتلى عروس محاسنها وإحسانها، وفهم ما أشار إليه من التهنئة بالخلعة الّتي أنعم المولى «4» بها على(9/31)
خادمه وتصدّق، وحقّق الأمل في مكارمه وصدّق، وإنعامه خلّد الله دولته، وأعزّ نصرته، قد كثر حتّى أخجله، وميّزه على كثير من مماليك بيته العالي وفضّله، وأناله من المنزلة ما سما بها على أمثاله، ورقي بها بعد رقّة حاله، فالله يخلّد سلطانه، ويثبّت بالسعادة أركانه، وهذا بسعادة مولانا ومساعدته، ومعاونته ومعاضدته، فإنه كان السبب في الاتّصال ببابه أوّلا وآخرا، وممّن أغاثه بذلك وأعانه عليه باطنا وظاهرا. (بسيط) .
وكلّ خير توخّاني الزّمان به ... فأنت باعثه لي أو مسبّبه
الضرب الثالث (من التهاني التهنئة بالعود من الحجّ)
وهذه نسخ من ذلك ينسج على منوالها.
فمن ذلك:
وينهي أنه طرق المملوك البشير بعود مولانا- أطال الله بقاءه- من مقام الطائفين، إلى مقام المعتفين، وأوبته من كعبة الإحرام، إلى كعبة الإكرام، وتنقّله من موقف الحجّاج، إلى موقف المحتاج، وحلوله بمنزله الذي هو قبلة ذوي الآمال، ومحطّ الرّحال، بالسّعي المشكور، والحجّ المبرور، والنّسك المقبول، والأجر المكتوب، فحمدت الله تعالى على موهبته، وسألته زيادته من مكرمته، واستنجحت هذه المكاتبة أمام ما أرومه من مشاهدته، وأرجوه من الاستسعاد بملاحظته، وبرد أوار الشوق بمحاضرته، ومجدّدا عهود التيمّن بمباسمته، فإن اقتضى رأيه العالي أن يعرّف المملوك جملة من خبره في بدئه وعوده، ومنقلبه ومتوجّهه، وما تفضّل الله تعالى به من أمان سبيله، وهداية دليله، وتخفيف وعثاء سفره، وتسهيل وطره، لأسكن إلى ذلك إلى حين التمثّل بنظره، فله الفضل في ذلك، والله تعالى يبلّغه سوله، ويوصّله مراده ومأموله، بمنّه وكرمه.
ومن ذلك:(9/32)
وينهي أنّ مولانا لا يزال حاجّا إلى كعبة الحرم، أو كعبة الكرم، وطائفا بشعائر الوفود، أو بشعائر الجود، وواقفا بموقف الاستفتاح، أو موقف السّماح، وناحر البدن «1» بمنى «2» ، أو ناثر البدر للمنى، فلا يرتفع في حال من الأحوال برّه، ولا ينقطع عن الله تعالى ذكره، ومن كان بهذه المثابة، في إحراز الأجر والإنابة، فهو حقيق أن تعمر بالتهنئة أوقاته وأزمانه، كما عمرها سعيه وإحسانه، وقد عرف المملوك انكفاءه- أدام الله علوّه- عن مقام الطائفين والعاكفين، إلى مقام القاصدين والمعتفين، وعوده إلى منزله المعمور، بعد قضائه فريضة السّعي المشكور، فعدلت في مخاطبته عن الهناء إلى الدعاء بأن يتقبّل الله تعالى نسكه ويثقّل ميزانه، ويطلق في حلبة الخيرات عنانه، ويحييه لأجر يحرزه، وثواب يكنزه، والله تعالى يجيب ذلك فيه، ويريه في نفسه وأحبّته ما يرتضيه.
ومن ذلك:
وتنهي أنّه قد طرقني البشير بانكفاء مولانا إلى مقرّ علائه، وانفصاله عن ملاذ النّسّاك والعبّاد، إلى معاذ الزّوّار والقصّاد، فعرفت أنّ ذلك النسيم العليل من تلقائه، وذلك النّور الصادع من آلائه، وذلك الافترار من أسرّته ومخايله، وتلك العذوبة من شيمه وشمائله، فكاد المملوك يطير- لو طار قبلي غير ذي مطار- فرحا، وأخرق الأرض وأبلغ الجبال لو أمكن ذلك مرحا، وانفتح قلبي حتّى كادت مهجته تفيض سرورا، وطاش حلمي حتّى تفرّق مجموعه بهجة وحبورا، والله تعالى يجعل نعمه موصولة الحبل، مجموعة الشّمل، بمنّه وكرمه.(9/33)
أبو الفرج «1» الببّغاء:
جعل الله سعيك مشكورا، وحجّك مبرورا، ونسكك مقبولا، وأجرك مكتوبا، وأجزل من المثوبة جزاءك، ومن عاجل الأجر وآجله عطاءك، وقرن بالطاعات عزماتك، وبالسّعي إلى الخير نهضاتك، ووفّقك من صالح الأعمال، وزكيّ الأفعال، لما يجمع كلّ خير الدارين. ولمّا طرقتني البشارة بقدومك، بدأت بإهداء الدعاء، وتجديد الشكر لله تعالى والثّناء، واستنبت في ذلك المكاتبة، أمام ما أنا [عازم] عليه، من المشافهة والمخاطبة. ولن أتأخّر عن حظّي من المسير إليك للتيمّن بالنظر إلى غرّتك، ومداواة ما عانيته من ألم الشوق بمشاهدتك.
الضرب الرابع (من التهاني، التهنئة بالقدوم من السّفر)
من كلام المتقدمين:
عليّ «2» بن خلف:
وينهي أنّه اتّصل بالمملوك خبر توجّهه «3» إلى الناحية الفلانية، فعرف المملوك أنه قصدها ليخصّ قاطنيها، بنصيب من مواهبه، ويفيض على ساكنيها، سجالا من رغائبه، ويسوّي بينهم وبين من راشه بحبائه، وجبره بنوافله وآلائه، فسألت الله تعالى أن يطيل عمر المكارم بإطالة بقائه، ويجمع شمل السّؤدد بدوام علائه، ثم اتّصل بي عوده إلى مقرّه، خفيف الحقائب من وفره، ثقيلها من ثنائه وشكره، فحمد المملوك الله تعالى على إسفار سفره عن بلوغ الأوطار، وانحسار أمنيّته عن أذيال المسارّ، وما خصّه به من السّير الشّحيح، والسّعي(9/34)
النّجيح، والسّلامة المفرّقة على الوجهة والمنقلب، والمفتتح والمعتقب، ولمّا عرض للمملوك ما قطعه عن مشافهته بالدعاء، رفع يده إلى الله تعالى ضارعا لديه في أن يتولّاه في هذا المقدم الميمون، بالسعد المضمون، وإنالة الأمانيّ المقرّة للعيون، وأن يمنحه في الحلّ والتّرحال، والقطن «1» والانتقال، توفيقا يقارن ويصاحب، ويساير ويواكب، وأن يجعل ما خوّله من نعمه راهنا خالدا، وما أولاه من مواهبه بادئا عائدا، إن شاء الله تعالى.
وله أيضا:
وينهي أنه طلع عليه البشير، طلوع القمر المنير، مؤذنا بمقدم حضرته، ومعلما بظهور طلعته، وحلوله في معانه «2» الذي هو معان الإقبال، وعون الرجال، وقرارة الأقيال، ومحطّ الرّحال، وقبلة الجود، ومعرّس الوفود، فسألت الله تعالى أن يبقيه جمالا للأيّام، وثمالا «3» للأنام، وعمادا للقصّاد، ومرادا للرّوّاد، والله تعالى لا يخليه في تصرّفاته، وجميع حركاته وسكناته، من سعي سعيد، وعيش رغيد، بمنّه وكرمه.
أبو الفرج الببّغاء:
من كانت غيبة المكارم مقرونة بغيبته، وأوبة النّعم موصولة بأوبته، سافرت الأنفس حيث كان إليه، وقدمت الآمال عند قدومه عليه، وما زالت الأنفس إلى الأمنيّة بقربه متطلّعة، ولورود السّرور بوروده متوقّعة، إلى أن أنست(9/35)
بعد الوحشة بلقائه، وتنسّمت أرج منّه ونعمائه، فوصل الله قدومه من الكرامة، بأضعاف ما قرن به مسيره من السّلامة، محروسا من طوارق الغير، مبلّغا أبعد العمر.
وله في مثله:
من كانت مادّة سروره، بمغيبه وحضوره، لم يجد مع بعدك مؤنسا يسكن إليه، ولا عوضا يعوّل في السّلوة عليه، وما زلت أيام غيبتك- لا أوحش الله منك- بالوحدة مستأنسا، وبالشّوق إليك مجالسا، ألاقيك بالفكر، وأشاهدك باتّصال الذّكر، إلى أن منّ الله من أوبتك بما عظمت به النعمة، وجلّت لديّ معه الموهبة، فوصل الله بالسلامة نهضاتك، وبالسعادة حركاتك، وبالتوفيق آراءك وعزماتك، وحرسني ببقائك وبقاء النعمة عندك، وهنأني النعمة الجليلة بقربك.
وله في مثله:
من كنت نهاية أمنيّته، وقطب مسرّته، كان من نفسه مستوحشا مع بعدك، وبدهره مستأنسا مع قربك، وما زلت معك بالنّيّة مسافرا، وبالشّوق سائرا، وبالفكر ملاقيا، وبالأمانيّ مناجيا، إلى أن جمع الله شمل سروري بأوبتك، وسكّن نافر قلقي بعودتك، على الحال السارّة من كمال السّلامة، ووفور الكلفة، فأسعدك الله بمقدمك سعادة تكون بها من الزمان محروسا، وللإقبال مقابلا، وبالأمانيّ ظافرا، ولا أوحش الله منك أوطان الفضل، وعضّد إخوانك ببقائك وبقاء النعمة عندك.
وله في مثله:
لو كان القلب يجد عنك منصرفا، أو يرى منك في اكتساب المسرّة خلفا، لاستراح إليه من ألم بعدك، واستنجده على مرارة فراقك، لكنّك- أيّدك الله- جملة مسرّته، ونهاية أمنيّته، فليس تتوجّه أمانيّه إلّا إليك، ولا تقف آماله إلّا عليك، فالحمد لله الذي أقرّ بفيئتك أعين إخوانك وأودّائك، وافاك الله من السّعادة في أوبتك أضعاف ما اكتنفك من الكفاية في ظعنك.(9/36)
ابن أبي «1» الخصال:
سرّ الله مولاي ورئيسي، وربّ تشريفي وأنيسي، بلقاء الأحباب، واتّصال الأسباب، وأوبة الغيّاب، ولا زالت الأيام تتصنّع لإقباله، وتقبّله أوجه العزّ في اقتباله، وتوفيه على رغم الحاسد حقّ جلاله.
البشرى- أدام الله اعتزازه- بمقدم الوزير فلان قد أوضعت ركابها، واتّصل بالنفوس أعلاقها وأسبابها، فهنيئا معشر الأولياء بسبوغ هذه النعمة الجليلة، والمنحة الجزيلة، ولا أستوفي شكر ما به أتى معظّم قدره، وملتزم برّه، من ثناء كعرف الطيب يهدى، ومذهب في الإنهاض لا يقضى واجبه ولا يؤدّى، ولا زالت حياة مولاي تفدّى، وأفعال برّه تتعدّى، وقد لثمت مواقع أنامله ودّا، ووردت من محاسن بيانه منهلا عذبا [ووردا] فأمتعني الله بحياته العزيزة الأيّام، الطيّبة الإلمام، الموصولة العهد والذّمام، وأقرأ على سيدي من سلامي ما يلثم يده، ويقضي حقّ اليراع [الذي] أنشأ به البر وولّده، والسّلام المعاد عليه وعلى جملته ورحمة الله وبركاته.
الشيخ جمال الدين بن نباتة «2» عن نائب الشام إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله «3» كاتب «4» السرّ الشريف، بالأبواب الشريفة بالديار(9/37)
المصرية، عند عوده من الكرك «1» إلى الديار المصرية، في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، مهنّئا له بعوده إلى منزله بالديار المصرية، واستقراره وعوده إلى كتابة السرّ الشريف بالأبواب الشريفة السلطانية، وهي:
تقبّل الباسطة الشريفة- إلى آخر الألقاب- لا زالت خناصر الحمد على فضل بنانها معقودة، ومآثر البأس والكرم لها ومنها شاهدة ومشهودة، وبواتر السّيوف مسيّرة القصد إلى مناظرة أقلامها المقصودة، تقبيلا يودّ لو شافه بشفاهه مورد الجود من الأنامل، وكاثر بثغره عند المثول للتقبيل ثغور الأماثل، فكان يشافه بشوقه موردا كثير الزّحام، وكان يكاثر بعقد قبله على يد الفضل عقودا جزيلة الانتظام، وكان يحاكم جور الضّيم إلى من أبى الله لجار مشاهدته أن يضام، وينهي ما وصل إليه وإلى الأولياء من السّرور، وما رفع بينهم وبين الابتهاج من الشّرور، وما طولع في أخبار المسرّة من السّطور، بوصول مولانا ومن معه إلى مساكن العزّ ساكنين، ودخولهم كدخول يوسف عليه السّلام ومن معه إلى مصر آمنين، واستقراره في أشرف مكان ومكانة، واستنصار مصر بأقلامه على العادة، فإنّ هذه سهام وهذه كنانة، وإسفار غمام السّفرة عن كوكب علا طالما حرس بيمينه أفق الملك وهداه وزانه، وما كانت إلّا غيبة أحمد الله عقباها، وغيابة بعد منّ الله عزّ وجلّ وجلاها، وفترة ثنى فترتها فتنفّس خناق المنصب المشتاق لوجهه الكريم، وهجرة صرف الله هجيرها فسقى طرس الإنشاء الذي ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم؛ وما محاسن مولانا إلّا زينة من زين الدنيا فعليها يتشاكس المتشاكسون، وما مزاج كلماته إلّا من تسنيم وَفِي(9/38)
ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
«1» .
فالحمد لله على أن أقرّ العيون بمعاودة ظلّه الوريف، وعلى أن شفى الصّدور بقربه وأوّلها وأولاها صدر السرّ الشريف، وعلى أن أجزل الهناء وقد شمل ظلّه، وقد كمل بابن الفضل فضله، وقد بهر سناؤه وسناه، وقد تسعّب «2» القريب والبعيد فإن أجدى على مصر مورده فقد جادت على الشام سماه، وقد أخذ المملوك حظّه من هذه البشرى، ووالى السّجود لله شكرا، وجهّز خدمته هذه نائبة عنه في تقبيل بنان إن سمّاه مولى الكرم بحرا، فقد سمّاه مربّي الملك برّا، لا زالت الممالك متحفة بيمن مولانا ظاعنا ومقيما، متّصفة بحمده وحمد سلفه الكريم حديثا وقديما، تالية على مهمّات الملك بصحبة بيته الشريف وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
«3» .
الشيخ شهاب الدين محمود «4» الحلبي في تهنئة بقدوم من سفر:
أدام الله ظلّه، ورفع محلّه، وشكر إنعامه وفضله، وأعزّ أنصاره، وضاعف اقتداره، ولا زال مؤيّدا في حركاته، مسدّدا في سائر فعلاته، مصحوبا بالسلامة في المهامه والقفار، مخصوصا من الله تعالى بالأعوان والأنصار.
المملوك ينهي بعد تقبيل الأرض، والقيام بما يجب من سننه والفرض، علمه بحلول ركابه العالي بمغناه، واستقرار خاطره الشريف في محلّه ومثواه، وجمع الشّمل بالأهل بعد طول الغيبة، وبعد القفول والأوبة، فتضاعف لذلك فرحه وسروره، وزال عن قلبه قليل الهمّ وكثيره، فالله يمنح المولى أطيب المنازل، وأسرّ الرّواحل، ويجعل تجارة مجده رابحة، وأوامر دوام عزّه لائحة،(9/39)
حتّى تنشد نفسه الكريمة قول أبي الطيّب «1» (كامل) .
أنا من جميع النّاس أطيب منزلا ... وأسرّ راحلة وأربح متجرا «2»
لا زالت الأعين قريرة برؤيته، وقلوب الإخوان قارّة بمشاهدته، والأوجه وسيمة، والنّعم الظاعنة مقيمة، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالقدوم من السفر قال في «موادّ «3» البيان» : أجوبة هذه الرّقاع ينبغي أن تبنى على الاعتراف للمهنّيء بحقّ تعهّده، وكرم تفقّده، وإطلاعه على الحال في السّفر، وما أفضت إليه من السلامة، والتأسّف على ما تقضّى من الأيّام في مباعدته، والتخلّف عن مباسمته، وأنه لم يزل يدرّع الإدلاج، ويقطع الفجاج، رغبة في القدوم إليه، والوفادة عليه، وبلّ الغلّة برؤيته، وترويح النفس بمحاضرته، وما يليق بهذا النّمط من الكلام.
الضرب الخامس (من التهانيء التهنئة بالشهور والمواسم والأعياد)
وهي على ثمانية أصناف:(9/40)
الصنف الأوّل- التهنئة بأوّل العام وغرّة السّنة.
من كلام المتقدّمين:
تهنئة من ذلك: من إنشاء أبي مسلم محمد «1» بن بحر:
أسعد الله سيّدي بعامه، والفضل منه وما حوى من الأعياد والأيّام الخطيرة وسائر شهوره وأيّامه، ومتصرّف أحواله، وبما يأتي ويكرّ عليه من زمانه، سعادة تسوق إليه حظوظ الدّين والدنيا كاملة، وتجمع له فوائد الأمدين تامّة وافية، وترتهن إليه النّعم فلا تزال لديه زائدة نامية، وبلّغه بها الأمل، ومدّ له في البقاء إلى أنفس المهل.
ولأبي «2» الحسين بن سعد:
عظّم الله على مولاي بركة الشهر والسنة المتجدّدين، ووهب له فيهما وفيما يتلوهما من أيام عمره، وأزمان دهره، سعادة تجمع له أشتات الحظوظ، وتصل لديه موادّ المزيد، وتيسّر له بلوغ الأمل في كلّ ما يطالع وينازع، والأمن من كلّ ما يراقب ويحاذر.
وله في مثله:
عظّم الله على سيّدي بركة الشهر والسنة، وأعاشه لأمثالهما مدّة اختلاف الجديدين، وتجاور الفرقدين، ممتّعا بالنّعم السابغة، والمواهب المترادفة، والسّعادة والغبطة، والعزّ والمسرّة.
وله في معناه:(9/41)
جدّد الله لسيّدي في الأيّام الحاضرة «1» والمستقبلة، والأحوال الراهنة والمتنقّلة، حظوظا من السّعادات، وأقساما من الخيرات، لا يحصى عددها، ولا ينقضي مددها.
وله في مثله:
عظّم الله [على مولاي] بركة الشهر والسنة المتجدّدين عليه، وعرّفه فيهما وفي الأيّام بعدهما من حادث صنعه، ولطيف كفايته، ما تدوم فيه السعادة، وتعظم به المنّة، وتحسن فيه العاقبة.
وله في مثله:
عظّم الله على مولاي بركة هذا الشهر، الماضي [من] أيّامه وباقيها، وهذه السنة، وجعلها أيمن سنة حالت عليه وأسعدها.
ومنه: وينهي أنّ المملوك يهنّيء غرّة الأيّام، بغرّة الأنام، وصدر العام، بصدر الكرام، بل يهنّيء الزمن كلّه نعم وأهله بالحضرة الّتي واست المعالي.
الصنف الثاني- التهنئة بشهر رمضان.
من كلام المتقدّمين:
لأبي الحسين بن سعد:
جمع الله لمولاي في هذا الشهر الشريف شروط آماله وأحكام أماليه، في حاضر أمره وعاقبته، وعاجل دنياه وآخرته، وأبقاه لأمثاله بقاء لا يتناهى أمده، في ظلّ عيش يرضاه ويحمده.
وله في مثله:
عرّف الله سيدي بركة هذا الشهر الشريف وأعاشه لأمثاله، ما كرّ الجديدان «2» ، واختلف العصران، ممتّعا بسوابغ النّعم، محروسا من حوادث(9/42)
الغير، وموفّقا في شهره، وأزمان دهره، لأزكى الأعمال، وأرضى الأحوال، ومقبولا منه ما يؤدّيه من فرضه، ويتنفّل به قربة إلى ربّه.
وله في مثله:
عرّفه الله بركة إهلاله، وأبقاه طويلا لأمثاله، موفّقا فيه من عمل الخير، ومراعاة الحقّ، وتأدية الفرض، والتنفّل بالبرّ، لما يرضيه، ويستحقّ جزيل المثوبة عليه، ممتّعا بعده بسنّي المواهب، وجسيم الفوائد، مع اتصال مدّة العمر، واجتماع أمنيّات الأمل.
وله في مثله:
عرّف الله مولانا بركة هذا الشهر الشريف وأيّامه، وأعانك على صيامه وقيامه، ووصل لك ما يزيد من فضله وإنعامه، وتابع لك المزيد من منائحه وأنعامه، وختم لك بالسعادة العظمى بعد الانتقال [في الجاه والرياسة إلى] أبعد المدى، وفي العزّ والثّروة إلى أقصى المنى.
أبو الفرج «1» الببغاء:
جعل الله ما أظلّه من هذا الصيام مقرونا بأفضل قبول، مؤذنا بإدراك البغية ونجح المأمول، ووفّقه فيه وفي سائر أيّامه، ومستأنف شهوره وأعوامه، لأشرف الأعمال وأفضلها، وأزكى الأفعال وأكملها، ولا أخلاه من برّ مرفوع، ودعاء مسموع، وسعي مشكور، وأمر مبرور، إلى أن يقطع في أجمل غبطة وأتمّ مسرّة أمثاله.
وله في مثله:
عرّفك الله بركة هذا الشهر المعظّم قدره، المشرّف ذكره، ووفّقك فيه لصالح الأعمال، وزكّي الأفعال، وقابل بالقبول صيامك، وبتعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك، ولا أخلاك في سائر ما يتبعه من الشّهور، ويليه من الأزمنة(9/43)
والدّهور، من أجر تذخره، وأثر تشكره.
قلت: ومما كتبت به تهنئة بالصوم للمقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن «1» البارزيّ كاتب السرّ الشريف المؤيّديّ بالممالك الإسلامية، في سنة ستّ عشرة وثمانمائة نظما (طويل) .
أيا كاتب السّرّ الشّريف ومن به ... تميس نواحي مصر تيها مع الشّام
ومن جلت الجلّى كتائب كتبه، ... ومن ناب عن وقع السّيوف بأقلام
تهنّ بهذا الصّوم والعيد بعده، ... ومن بعده بالعيد والعام فالعام
وترقى رقيّ الشّمس في أوج سعدها ... وتبقى بقاء الدّهر في فيض إنعام
الصنف الثالث- ما يصلح تهنئة لكلّ شهر من سائر الشّهور.
لأبي الحسين بن سعد:
عظّم الله بركة إهلاله، وأعاشه لأمثاله، أطول المدّة، ممتّعا بأدوم النّعمة، ومشفّعا (؟) بأفضل الأمل والأمنيّة.
وله: أسعد الله سيّدي بانصرامه وإهلال ما بعده، وأبقاه ما بقي الزمان ممتّعا بالعزّ والنّعمة، محروسا من الآفات المخوفة، والحوادث المحذورة.
وله: عظّم الله على سيدي بركة الماضي والمستقبل من الأيام والشّهور [والأعوام] والدّهور، ووصل لي السعادة باتّصالها، وجدّد له النّعمة بتجدّدها.
وله: عظّم الله بركة انسلاخه، وإهلال ما يتلوه، مجدّدا لك بتجدّده فوائد الخيرات، وأقسام البركات، تدوم فيها المدّة، وتطول بها النّعمة.(9/44)
وله: أسعدك الله بإهلاله، وأعاشك أبدا لأمثاله، ممتّعا بدوام العزّ والنعمة، واجتماع أسباب الرّخاء وشروط المحبة، إنّه جواد كريم.
[وله: عظّم الله على مولاي بركات هذا الشّهر وما يتلوه، وبلّغه ما يحاوله وينحوه، في مستأنف الشّهور، ومؤئنف الدّهور، مضاعفا له العزّ والتأييد، وموصولا له أصل النعمة بحسن المزيد] «1» .
وله: عظّم الله على مولاي بركة الشّهر، وأدام له سلامة الدّهر، موفورا من العزّ والسلطان، غير مذعور بنوائب الزّمان.
وله: عظّم الله على سيدي بركة الأيّام والشّهور، والسّنين والأحقاب، وجمع له المواهب كاملة، والفوائد فاضلة، دينا ودنيا، وحاضرة وعقبى.
وله: عظّم الله عليك بركته، وعرّفك يمنه وسعادته، وجدّد لك الخيرات، تجديد الأوقات والسّاعات، حتّى تحوز منها أسنى الحظوظ وتبلغ مما تتمنّاه أقصى الغايات.
الصنف الرابع- التهنئة بعيد الفطر.
من كلام المتقدّمين:
لأبي الحسين بن سعد:
عظّم الله على سيّدي بركة هذا العيد، وأعاشه لأمثاله، من الأعياد المشهودة، والأيّام الجديدة [في] أهنإ عيش وأرغده، وأطول مدّى وأبعده.
أبو الفرج الببغاء «2» :
أسعدك الله بهذا الفطر الجديد، والعيد السّعيد، ووصل أيّامك بعده بأكمل السّعادات، وأجمل البركات، وجعل ما أسلفته من الدّعاء مقبولا(9/45)
مسموعا، ومن التهجّد زاكيا مرفوعا، ولا أخلاك من نعمة يحرس الشكر مدّتها، ولا يخلق الدّهر جدّتها.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبي:
المولى أدام الله نعمه، وحرس شيمه، هو سيّد الأفاضل، ورئيس الأماثل وحسنة الزّمان، وليث الأقران، وهو في الأنام «2» ، كالأعياد في الأيّام، فإنّ الأنام ليل والمولى المصباح بل الصّباح، وسائر الأيّام أجساد وسائر الأعياد هي الأرواح، فإذا كان المولى قد زهي على أبناء جنسه، ويوم العيد على غده وأمسه، فقد صار كلّ منكما إلى صاحبه يتقرّب، ويلزم ويلزب، وهو أحقّ الناس بأن يبهجه مقدمه، وأن يهنّى بيومه الذي هو مجمع السّرور وموسمه.
والخادم يهنّيء المولى بهذا العيد، واليوم السّعيد، فإنه وافى في أوان الرّبيع وزمانه، ليباهي بغصن قدّه أغصان بانه «3» ، ويستنشق في صدره وورده، رائحة ريحانه وورده، ويختال في رياضه وحدائقه، ويلاحظ بهجة أزهاره وشقائقه، والعيد والرّبيع ضيفان ومكارم المولى جديرة بإكرام الضيف، والتمتّع بالملاذّ فيهما قبل رحيلهما وقدوم حرّ الصّيف، وأن يحسّن وجه عيده، بحلوله في مغناه ووجوده، بما يوليه لعفاته من إنعامه وجوده، لا زالت الأعياد تهنّى ببقائه، وألسنة الأيام تشكر سوابغ نعمائه، وتحمد جزيل عطائه، وتنطق بولائه وثنائه، أبدا، إن شاء الله تعالى.
قلت: ومما كتبت به مهنّئا للمقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن البارزي(9/46)
صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية في الدولة المؤيّديّة «شيخ» «1» بعيد الفطر نظما، بعد أن سألته حاجة فقضاها، وأسنى لي الجائزة على نثر كتبته له (طويل) .
سألت نظام الملك كاتب سرّه ... إزالة ضنك «2» أرهف الدّهر حدّه
فمنّ بجاه زعزع الأرض وقعه، ... وجاد بمال لا يرى الفقر بعده
وبالبارزيّ ازدان وصف مكارم ... فأشبه في فضل أباه وجدّه
فيهناه صوم ثمّ عيد مسرّة ... وطالع إقبال يقارن سعده
ورفع دعاء لا يغبّ تتابعا، ... وطيب ثناء خامر المسك ندّه
الصنف الخامس- التهنئة بعيد الأضحى.
من كلام المتقدمين:
أبو الحسين بن سعد:
كتابي والنحر- نحر الله أعداء مولاي وحسّاد نعمته، وأمتعه بمواهبه عنده، وبارك له في أعياده ومتجدّد أيّامه، بركة تنتظم السّعادات، وتتضمّن الخيرات، متصلة غير منقطعة، وراهنة غير فانية.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (طويل) .
تهنّ فأيّام السّرور أواهل ... وكلّ مخوف عن جنابك راحل
ونجمك من فوق الكواكب طالع، ... ونجم امريء يشنا سموّك آفل
ألا أيّها المولى الذي عمّ جوده ... فدتك العوالي والجياد الصّواهل
تمتّع بعيد النّحر، وافاك خاضعا ... يحقّق من دنياك ما أنت آمل(9/47)
ودم كابت الأعداء وابق مخلّدا ... على المال عال، بالرعيّة عادل
لقد راق مدحي في معاليك مثل ما ... صفت منك أوصاف ورقّت شمائل
جعله الله أبرك الأعياد وأسعدها، وأيمن الأيّام وأمجدها، وأجمل الأوقات وألذّها وأرغدها، ولا برح مسرورا مستبشرا، منصورا على الأعداء مقتدرا، مسعودا محمودا، معانا بملائكة السماء معضودا، مهنّأ بالسّعود الجديدة، والجدود السّعيدة، والقوّة والناصر، والعمر الطويل الوافر (طويل) .
ولا زالت الأعياد لبسك بعده ... [فتخلع] «1» مخروقا وتعطى مجدّدا
فذا اليوم في الأيّام مثلك في الورى ... كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا
وأعاده على المولى في صحّة دائمة، وسلامة ملازمة، وأصار عيده مطيعا لأوامره كسائر العبيد، وعبيده في كلّ يوم من المسرّة ببقائه لها كالعيد، والأيّام به ضاحكة المباسم، والأعوام جميلة المواسم، ومتّعنا بدوام حياته، واستجلاء جميل صفاته، واستحلاء مدائحه بإنشاد عفاته، وأراه نحر أعاديه، بين يديه كأضاحيه، وأصار الحجّ إلى بابه غافرا سيّئات الإفلاس والإعدام، ومبيحا لبس المخيط من إنعام العامّ، ألبسه الله من السعادة أجمل حلّة، ومنحه من المكارم أحسن خلّة.
الصنف السادس- التهنئة بعيد الغدير من أعياد الشّيعة:
وكان لهم به اهتمام في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، والطريق في التهنئة به على نحو غيره من الأعياد.
ما يصلح تهنئة لكلّ عيد.
أبو الفرج الببغاء:
لولا العادة المشهورة، والسّنّة المأثورة، بالإضافة في الدّعاء، والمشافهة بالتهنئة والثناء، في مثل هذا اليوم الشريف قدره، الرفيع ذكره، لكان أيّده الله(9/48)
دون رؤساء الدّهر، وملوك العصر يجلّ عن التهنئة؛ إذ كانت سائر أيّامه بما يودعها من أفعال الخير معظّمة، وبما يبثّها من المحاسن مكرّمة، فبلّغه الله أمثاله محروسا في نفسه ونعمته، محفوظا في سلطانه ودولته، موفيا على أبعد أمانيه، مدركا غايتها فيما يؤمّله ويرتجيه.
وله في مثله:
عرّفك الله يمن هذا العيد وبركته، وضاعف لك إقباله وسعادته، وأحياك لأمثاله في أسبغ النّعم وأكملها، وأفسح المدد وأطولها، وأشرف الرّتب وأرفعها، وأعزّ المنازل وأيفعها، وحرس منحتك من المحذور، ووقى نعمتك من عثرات الدّهور.
الصنف السابع- التهنئة بالنّيروز.
وهو من أجلّ أعياد الفرس، على ما تقدّم ذكره في الكلام على أعياد الأمم، في المقالة الأولى. وكان للكتّاب به اهتمام في أوائل الدّولة العبّاسية بالعراق، جريا على ما كان عليه الفرس من قديم الزمان.
وفيه «1» لأبي الحسين بن «2» سعد:
هذا يوم شرّفته العجم، ورعى ذمامه الكرم، وهو من أسلاف سيّدي ذوي النباهة، وأخلافه ذوي الطّهارة، بين منشيء رسمه، ومؤدّي حقّه، وكاس له بقبول انتسابه إليه جمالا يبقى على الأيام، وحالا ينفق بها لدى الأنام، فليس أحد أحق بالتهنئة [به] ممن سنّه آباؤه، وشيّدته آلاؤه، فصارت إلى أوّليّته نسبته، وبكرم سجيّته عصمته.
وفيه له: هذا- أيد الله سيّدي- يوم عظّمه السّلف من العجم، وسيّدي وارث سنّة الكرم، وللسادة على العبيد في هذا اليوم رسم في الإلطاف،(9/49)
وعليها لهم حقّ في القبول والإسعاف، وقد بعثت بما حضر جاريا على سنّة الخدمة، وعادلا عن طريق الحشمة، ومقتصرا على ما اتّسعت له الحال، وما يوجبه قدر سيّدي من المبالغة في الاحتفال، فإن رأى أن يشرّف عبده بالاحتمال إليه، وإجرائه مجرى الأنس عنده، فعل، إن شاء الله تعالى.
وفيه للكرجيّ «1» :
هذا يوم تسموله العجم، ويستعجم «2» في العرب، تشريفا له واعترافا بفضله، واقتداء بأهله، وأخذا بسنّتهم فيه، فليهن «3» لإحراز الدولة في العزّ [منزلا] بحيث لا يرام، ولا يضام، ولا ترقى إليه الأماني، ولا يطمع في مساواته المساوي، وإنّهم بعد تصرّم الدولة على حميد آثارها، وجميل الذّكر فيها، أعلام تضرب بهم الأمثال، وتزهو بأيّامهم الأيّام، وآثارهم تقتفى، وأعيادهم تنتظر، يتأهّب لها قبل الأوان، ويعرف فيها أثر الزمان، وإنك منهم في الذّروة السامية، والرّتبة العالية، وبمحلّ لا عار معه على حرّة في الخشوع لك، والتعلّق بحبلك. وقد وجدت الأتباع عند ساداتها في مثل هذا اليوم على عادة في الإلطاف جسّمتها، وسيّرت بها على أقوام منحتهم ظهور الدّعوى فيها، فأقبل قائلهم يقول: «لو كان باب الإهداء مفتوحا غير مسدود، ومباحا غير ممنوع، لأتحفت بالغراب الأعصم، والكبريت الأحمر، والأبلق العقوق، وبيض الأنوق» . وقد بعثت بهديّة لا تردّ (يعني الدعاء) .
وفيه: من كان محلّك من العزّ، ونباهة الذّكر، وارتفاع الدّرجة، وعلوّ(9/50)
المنزلة، وسعة البلد، وبعد الأمد، لم يتقرّب متحلّ بالعلم والأدب إليه في يوم جديد إلّا بصالح الدّعاء، وحسن الثناء.
وفيه: لو أخّرنا هذا انتظارا لوجود ما تستحقّه، لانقضت أيّامنا، بل أعمارنا، قبل أن نقضي حقّا، أو نؤدّي عن أنفسنا فرضا؛ لارتفاع قدرك عمّا تحويه أيدينا، وعلوّ حالك عما تبلغه آمالنا، وقد اقتديت بسنّة الخدم والأولياء في الأعياد، وأوضحت العذر في ترك الاجتهاد، وبعثت في هذا اليوم، الذي أسأل الله أن يعيده عليك ألف عام، في نماء من العز، وعلوّ من القدر، وتمام من السّرور، ومزيد من النّعمة........
الصنف الثامن- التهنئة بالمهرجان.
وهو أحد أعياد الفرس، على ما تقدّم ذكره في المقالة الأولى، في الكلام على أعياد الأمم. وكان للكتّاب من الاحتفال بالتهنئة به في أوائل الدولة العبّاسيّة مالهم بالنّيروز.
فيه «1» - لأبي الحسين بن سعد:
لسيّدي عليّ في الأعياد المشهورة، والأيّام الجديدة، عادة اختزلني عن بعضها في هذا الفصل، كلال الطّبع عن البعض، ووقوع الخطر (؟) بعرضه من الثناء نظما ونثرا، ومن الإهداء عرضا وبرّا، دعاء تزيد قيمته على الأعلاق الثّمينة، وموقعه على الذخائر النّفيسة، ولطفه على التّحف البديعة، فأسعد الله سيدي بهذا اليوم سعادة تقيم، ولا تريم، وتزيد، ولا تبيد، وتتوطّن، ولا تظعن، وتجمع حظوظا من الخيرات، وفوائد من البركات، يتّصل سندها، ولا ينتهي أمدها، وأبقاه في أسبغ عزّ وأرفع رتبة وأرغد عيشة، مكنوفا بحراسة تقيه [وآله] عوادي الزمان، وتصرف عنهما طوارق الحدثان، ما طرد الليل النّهار، وطلع نجم وغار، وعلى ذلك- أيد الله سيدي- فإنّ الحرص على إقامة الرّسم والتطيّر(9/51)
من إضاعة الحقّ بعثاني على مراجعة القريحة، واستكداد الرّويّة، فأسعفا بما قبلته الضرورة، ولم أطع في إهدائه سلطان الحشمة، وفضل سيدي يتّسع لقبول الميسور، وتحسين القبيح، والله المعين على تأدية حقّه، والقيام بواجب فرضه.
وله فيه أيضا، إلى من منع أن تهدى إليه فيه هدية.
لو كنت فتحت باب الإلطاف، ونهجت إليه سبيلا، لتنازع أولياؤك قصب السّبق وتنافسوا في السّرف، فبان للمجتهد فضله، والتمس العذر في التقصير ملتمسه، وعمّت المنحة كافّتهم بما يظهر من مواقعهم، وينكشف من أحوالهم، لكنّك حظرت ذلك حظرا استوى فيه الفريقان في الحكم، وامتدّ فيه على ذوي الخلل السّتر، ولم تحظر الدّعاء، إذ حظرت الإهداء، فأنا أهديه ضرورة واختيارا، وإعلانا وإسرارا، فأسعدك الله بهذا العيد الجديد، الذي زاد بك في قدره، وشرّفه بأن جعلك من أربابه وولاة أمره.
أبو الفرج «1» البّبغاء:
هذا اليوم من غرر الدّهور المشهورة، وفضائل الأزمنة المذكورة، معظّم في العهد الكسرويّ، مستظرف في العصر العربيّ، باعث على عمارة المودّات، مخصوص بالانبساط في الملاطفات، ولست استزيده- أيّده الله- من برّ يوليه، ولا تطوّل إليّ يسديه؛ غير إدخالي في جملة من بسطته الأنسة، وثقّفته المحبّة، وتقرّبت منه بوكيد الخدمة، في قبول ما إن شرّف بقبوله، كان كثيرا مع قلّته، جليلا مع نزارته، فإن رأى أن يقوّي منه ثقتي، ويقابل بقبول ما أنفذته رغبتي، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
قد أطعت في الانبساط إليك دواعي الثّقة، وسلكت في التحرّم بك سبل(9/52)
الأنسة، وتوصّلت بملاطفتك إلى حسم موادّ الحشمة، فاستشهدت على ثقتي بك فيما أنفذته بمفارقة الحفلة «1» ، وكلف المكاثرة، فإن رأيت أن تكلني في تقبّله إلى سعة أخلاقك، وتسلك في ذلك أخصر طريق إلى ما أخطبه من مودّتك، وأزاحم عليه في إخائك، فعلت، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
هذا اليوم- أيد الله سيدي- من أعياد المروّة، ومواسم الفتوّة، وأوطان السرور، ومحاسن الأزمنة والدّهور، بلّغه [الله] أمثاله في أنضر عيش وأسبغ سلامة، وأبسط قدرة، وأكمل مسرّة، وقد توثّبت إلى الاقتداء فيه بأدبه، والأخذ بمعرفة فروضه بمذهبه، وأطعت في الانبساط إليه دواعي الثّقة، وأنفذت ما اعتمدت في قبوله على مكاني منه، عائذا بالتقليل من كلف المكاثرة، ومستثقل الكلفة، فإن رأى أن يأتي فيما التمسته ما يناسب شرف طبعه، وسعة أخلاقه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
لو كانت الملاطفات بحسب الرّتب وقدر المنازل، لما انبسطت قدرة ولا اتسع مكان لما يستحقّه نبل محلّه، وواجبات رياسته، ولكنت من بين خدمه ضعيف المنّة عن خدمته في هذا اليوم السعيد، بلّغه الله أمثاله في أفسح أجل، وأنجح أمل، بما يخدمه به ذوو الخدمات الوكيدة عنده، المكينة لديه، غير أنّي أثق منه- أيده الله- بحمل قليلي على علمه بإخلاصي في ولائه، وانتسابي إلى جملته، واختلاطي بأنسابه، فإن رأى أن يجريني في قبول ذلك على سنّة أمثاله من ذوي الجلالة، عند أمثالي من الأولياء والحاشية، فعل.
وله في مثله:
لو كانت الهدايا لا تتقبّل ما لم تناسب في نفاسة القدر، وجلالة الذكر،(9/53)
محلّ من يتقرّب بها إليه، ومنزلة من أهداها إليه عليه، لما سمت همّة، ولا اتّسعت قدرة، لما يستحقّه- أيده الله- بأيسر واجباته، وأصغر مفترضاته، غير أنّ الأنسة بتفضّله، والاعتداد بسالف تطوّله، والتحقّق بخدمته، والانتساب إلى جملته، بسطني إلى إنفاذ ما إن شرّفني بقبوله كان مع قلّته كثيرا، ومع نزارته جليلا، فإن رأى أن يقوّي بذلك منه ثقتي، ويحسم مادّة احتشامي، فعل.
أجوبة التهنئة بالمواسم والأعياد قال في «موادّ البيان» «1» : هذه الكتب والرّقاع مضمونها الهناء بالموسم الجديد، والدعاء للمهنإ فيه بتملّيه. قال: وهذا المعنى مفاوض بين المهنّي والمهنّى، وينبغي أن تكون أجوبتها مشتقّة منها. ثم قال: وقد يتصرّف الكتّاب فيها إذا كاتبوا الرّؤساء تصرّفا يخرج عن هذا الحكم.
وهذه أمثلة من ذلك:
أبو الفرج الببغاء:
سمع الله دعاءك، وبدأ في تقبّل المسألة بك، وأجزل من أقسامه حظّك، وبلّغك أمثاله في أفسح مدد البقاء، وزاد فيما خوّلك من المواهب والنّعماء، ولا أخلاني من برّك، وأنهضني بواجباتك.
وله في مثله:
كلّ يوم أسعد فيه بمشاهدتك، وأقطعه في ظلّ مودّتك، حقيق بالإحماد، موف على محاسن الأعياد، فسمع الله دعاءك، وأطال ما شئت البقا بقاءك، وجعل سائر أيّامك مقرونة بالسّعادات، موصولة بتناصر البركات.
من زهر الربيع:
يخدم المجلس العالي جعل الله قدره على الأقدار ساميا، وجزيل نواله(9/54)
على من هام به من العفاة هاميا، ونصره نصرا عزيزا، وأسكنه من حراسته حصنا حصينا وحرزا حريزا، ولا زالت الأيّام حالية الجيد بوجوده والأيدي تهشّ إلى تناول أياديه وجوده، وأخبار المكارم عنه مرويّة وإليه معزوّة، وآيات فضله وفضائله بكلّ لسان متلوّة.
وينهي إلى علمه ورود مشرّفته الّتي حلّت الأسماع عندما حلّت، وسمت عن الرّياض لمّا جلّيت عروس فضلها وجلّت، وزهت على زهورها، برقم سطورها، وطيب عرفها ونشرها، بما فاح من طيّها عند نشرها، وفائق حسنها وبهجتها، برائق براعة عبارتها، ومعاملتها بما يجب من فروض إكرامها والسّنن، والمشي في تبجيلها على الطريق المألوف من موالاته والسّنن، وعلمه بما أشار إليه من الهناء بالعيد، واليوم السعيد، وقد تحقّق بذلك إحسانه الذي ما برح متحقّقا بجميله وجزيله، وشاكرا لكثيره وقليله، وحصلت له البشرى، والمسرّة الكبرى، ليس للعيد بمفرده، ولا لهذا الهناء بمجرّده، بل لبقاء المولى ودوام سعادته، وتخليد سيادته، فإنّه لكلّ إنسان عين ولكلّ عين إنسان، وهو روح والأيّام والأنام جثمان، فالمملوك ببقائه كلّ يوم يتجدّد له عيد جديد، ويتضاعف له جدّ سعيد، حرس الله شرفه الرفيع من الأذى، وأراه في عين أعاديه جذعا ناتئا وسلّم لحظه المحروس من القذى، وأصار أيّامه كلّها أيام هناء، وبداية سعادته بغير حدّ وانتهاء.
الضرب السادس (التهنئة بالزواج والتسرّي) «1»
من كلام المتقدّمين:
أبو الفرج الببغاء:(9/55)
وصل الله هذا الاتّصال السعيد، والعقد الحميد، بأحمد العواقب، وأجمل المنح والمواهب، وجعل شمل مسرّتك به ملتئما، وسبب أنسك بإقباله منتظما، وعرّفك به تعجّل البركات، وتناصر الخيرات، ولا أخلاك فيه من التّهاني بنجباء الأولاد، وكبت بكثرة عددك سائر الحسّاد، وهنأني النعمة الجليلة بإخائك، وعضّدني وسائر إخوانك ببقائك.
وله في مثله:
قرن الله بالخيرة ما عقدت وبالسعادة ما جدّدت، وبجميل العاقبة ما أفدت، وعرّفك بركات هذا الاتّصال، ولا أخلاك فيه من موادّ السعادة والإقبال، وعضّدك بالبررة من عقبك، والسادة من ذرّيّتك.
وله في مثله:
إنّي وإن كنت ملتحفا بلحف مودّتك، ومتمسّكا بعصم أخوّتك، أولى بالتهنئة بما يحدث لك من ورود نعمة، واتّصال موهبة، فإنّي ما أجد فرض الدعاء لك ساقطا، ولا واجب الشكر لله تعالى على ما أولاني فيك زائلا، فعرّفك الله بركة هذا الاتصال الحميد، والاقتران السّعيد، وجعله للسّرور مكثّرا، وباليمن مبشّرا، وأحياك للتهاني بمثله في السادة من ولدك، والنّجباء من ذرّيّتك.
وله في مثله:
وصل الله هذا الاتصال الميمون بأرجح البركات وأفضلها، وأنجح الطّلبات وأكملها، وأحمد بدأه وعقباه، وبلّغك الآمال في سائر ما تهواه، وأحياك للتّهاني بأمثاله في البررة من ولدك، والنّجباء من عقبك.
من كلام المتأخرين:
للشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبي:
جعل الله الخيرة له فيما يذره ويأتيه، والنجاح مقرونا بما يعيده من الأوامر(9/56)
ويبديه، والألسنة شاكرة بما يوليه من الإنعام ويسديه. صدرت هذه الخدمة معربة عن ثناء تأرّج عرفه، وولاء أعجز الألسنة شرحه ووصفه، وتهنئة بهذه الوصلة المباركة جعلها الله للاتصال بالسعادة سببا، ومحصّلة من الخيرات مراما وافرا وأربا، وعرّفه بركة هذا العرس الذي أصبح الخير بفنائه معرّسا، ونور الشمس من ضياء بهجته مقتبسا، فنحمد الله على هذه الوصلة سرّا وجهرا، ونشكره أن جعل بينه وبين السّعد نسبا وصهرا، منح الله المولى الرّفاء والبنين، والعمر الذي يفني الأيام والسّنين، ورزقه إسعافا دائما وإسعادا، وأراه أولاد ألاده آباء بل أجدادا، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالزّواج والتّسرّي قال في «موادّ البيان» : أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تكون شكرا للمهنّي على العناية والاهتمام، و [مشتملة على] الإبانة عن موقع دعائه من التبرّك والتيمّن به، إلّا أن تكون البداية بمعنى يخرج عما هذا جوابه، فينبغي أن يجاب عنه بما يقتضي الإجابة عن ذلك.
الضرب السابع (من التّهاني التهنئة بالأولاد، وهو على ثلاثة أصناف)
الصنف الأوّل- التهنئة بالبنين.
مما أورده أبو الحسين بن سعد في ترسّله:
إنّه ليس من نعم الله وفرائد قسمه وإن حسن موقعها، ولطف محلّها، نعمة تعدل النعمة في الولد، لنمائها في العدد، وزيادتها في قوّة العضد، وما يتعجّل من عظيم بهجتها، ويرجى من باقي ذكرها في الخلوف والأعقاب، ولا حق بركتها في الدعاء والاستغفار.
ومنه: إنّه ليس من النّعم نعمة تشبه النعمة في الولد، لزيادتها في قوّة العضد، وحسن موقعها في الخلف والعقب، واتصل بي خبر مولود فسرّني ما(9/57)
وصل الله به من العارفة إليك، وشركتك في جميل الموهبة فيه شركة من له مالك وعليه ما عليك، وسألت الله أن يوزعك شكر النّعمة ويؤنس بهذا المولود ربعك، ويكثّر به عددك، ويعظّم بركته ويمن طائره عليك، ويزيد به في النعمة كذلك، ويفعل الله ذلك، بمنّه وطوله.
وفيه لأبي الحسين بن سعد «1» إلى أبي مسلم «2» بن بحر يهنّئه بابن حدث له:
فأمّا ما جدّد الله من النعمة في القادم والموهوب لك ولدا وأنسا، ولنا سندا وذخرا، فقد جلّ قدر هذه الموهبة عن أن يحاط لها بوصف، أو يوفى لها بشكر.
وفيه لعلي بن خلف «3» :
وينهي أنه اتّصل بالمملوك بزوغ نجم سعد في مشارق إقباله، مؤذن باتّساق سموّه وجلاله، فأحدث من الحلال والاستبشار بمقدمه، والتبرّك والتيمّن بقدمه، ما تلألأت على المملوك أنواره، وحسنت عنده آثاره، وسألت الله تعالى راغبا إليه في أن يعرّفه سعادة مولده، ويمن موفده، ويجعله شادّا لعضده، وموريا لزنده، ويشفعه والسادة السابقين، بنجباء متلاحقين، يتبلّجون في نطاق سعادته، ويتوسّمون في آفاق سيادته، ويصون سلكهم من الانفصام، وشملهم من الانهدام، ويبقيهم غررا في وجوه الأيّام، وأقمارا في صفحات الظّلام، بمنّه وفضله، إن شاء الله تعالى.
وفيه له: وينهي أنّ المملوك يشكر الله تعالى على ما أنزله عند مولانا من عوارفه، واختصّه به من لطائفه، شكر من شاركه في النعمة المسبغة عليه، وانتهى إليّ خبر السّند المتجدّد لمولانا، فطار المملوك بخوافي السّرور(9/58)
ومقادمه، وأخذ من الابتهاج بأوفى قسمه، وسأل الله تعالى أن يبارك له في عطيّته، ويردفه بزيادته، ويوفّر عدده، ويشدّ بصالح الولد عضده، ويجنيه من هذا القادم ثمار المسرّة، ويري عينه منه أقرّ قرّة، ويشفع المنحة في موهبته بإطالة مدّته.
وفيه: وينهي أنّ أفضل النّعم موقعا، وأشرفها خطرا وموضعا، نعمة الله تعالى في الولد؛ لزيادتها في العدد وقوّة العضد، وما يتعجّل من عظم جمالها وزينتها، ويرجى من حسن مآلها وعاقبتها، في حفظ النّسب والأصل، وحسن الخلافة على الأهل؛ وجميل الذّكر والثّناء، ومتقبّل الاستغفار والدّعاء، وقد اتصل بالمملوك بزوغ هلال سماء المجد، ومتعلّق الإقبال والسّعد، فأشرقت الأيام بإشراقه، ووثقت الآمال باجتلائه واتّساقه، فقام المملوك عن مولانا بشكر هذه النعمة المتجدّدة، والموهبة الراهنة الخالدة، وهنّأت نفسي بها، وأخذت بحظّي منها، والله تعالى يعرّفه يمن المولود من أطهر والدة وأطيب والد، ويعمّر به منزله، ويؤنس ببقائه رحله، ويبلّغ محبّيه، من الآمال فيه، ما بلّغهم في الماجد أبيه، إن شاء الله تعالى.
وفيه: وينهي أنّ نعم الله تعالى وإن كانت على مولانا متظاهرة، ولديه متناصرة، فقد كان المملوك يرغب إلى الله تعالى في أن يجمّل الأيام من نسله، بمن يحفظ عليها شرف أصله، ويخلفه بعد العمر الطويل في نبله وكرم فعله، ولمّا اتّصل بالمملوك نبأ هذا الهلال البازغ في سمائه، المقرّ لعيون أوليائه، المخيّب لظنون أعدائه، حمدت الله تعالى على موهبته، وسألته إقرار نعمته، وأن يعرّف مولانا بركة قدمه، ويمن مقدمه، ويوفّر حظّه من زيادته، وسعادة وفادته، وأن يجعله برّا تقيّا، مباركا رضيّا، ويفسّح في أجله، ويبلّغه فيه أمله، إن شاء الله تعالى.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي (كامل)(9/59)
هنّئت بالإسعاف والإسعاد ... ونفاذ أمر في العدا بنفاد
وبقيت ما بقي الزمان مهنّأ ... ووقيت شرّ شماتة الحسّاد
يا مالك الرّق الّذي أضحى لنا ... من جوده الأطواق في الأجياد
خلّدت في عيش هنيّ أخضر ... يسطو ببيض ظبا وسمر صعاد
حتّى يخاطبك الزمان مبشّرا: ... متعت بالإخوان والأولاد
جدّد الله في كلّ يوم له مسرّة وبشرى، وأطاب لعرفه عرفا ونشرا، وشدّ له بولده السعيد الطلعة أزرا وأسرا، وسرّى به الهموم عن القلوب وأصارها لديه أسرى، ورفع درجته إلى سماء المعالي ليقال: سبحان الذي بعبده أسرى.
المملوك يخدم المولى ويهنّيه ويشكره ويطلعه على ما حصل له من الابتهاج للسبب الذي ينهيه ويذكره، وهو أنه اتّصل به قدوم المسافر بل إسفار البدر، وظهور ميمون الغرّة الذي جاء لأهله بأمان من صروف الدّهر، وهو الولد العزيز الموفّق النّجيب، فلان، أبقاه الله تعالى ليحيا مشكورا محمودا، وأدام عزّه وعلاه، وأعلى نجمه وخلّد شرفه وبهاه، وضاعف سناءه وسناه، وأرانا منه ما أرانا من السعادة في أبيه، فسرّ وابتهج بهذه النعمة غاية السّرور والابتهاج، واتّضح له في شكر إحسان المولى وحسن ولده كلّ طريق ومنهاج، وسأل الله تعالى أن يطوّل له عمرا، ويجعله لإسعاد والده وإسعافه ذخرا، ليرتعا في رياض الدّعة في صحّة وسلامة، ويجعلا في فناء العلا لهما دار إقامة، ويبلغا من السعادة درجة لا تريم عالية ولا ترام، وتخضع لهما اللّيالي والأيّام، ويرشقاهما بسهام الصّروف ويطعناهما بأسنّتها، ويفهما دعاء الأيّام لهما من صدورها ويسمعاه من ألسنتها، مخاطبة لأبيه، ومنشدة لسائر أهله ومحبّيه (رجز)
مدّ لك الله الحياة مدّا ... حتّى ترى نجلك هذا جدّا
الصنف الثاني- التهنئة بالبنات.
من كلام المتقدّمين:
أبو الحسين بن سعد:(9/60)
النّعمة نعمتان، إحداهما تعجّل الأنس، والأخرى تدّخر الأجر، وعلى حسب ما تتلقّى به من الشّكر على ظاهر المحبوب، والتّسليم فيما يجري مجرى بعض المكروه، يكون المتاع عاجلا، والثواب آجلا، وما قدّمت القول [إلّا] لما ظننته يعرض لك من الوجوم في هذه الموهبة، في المولودة الّتي أرجو أن يعظّم الله بركتها، ويجعلها أيمن مولود في عصرها، ودالّة على سعادة أبيها وجّدها، و [لئن] كان في الطبع حبّ الذّكور والشّعف بالبنين، فإنّ البنين من البنات، وهنّ باليمن معروفات، وبالبركات موصوفات، وبالذّكور في أثرهنّ مبشّرات، فهنأك الله النّعمة فيها تهنئة لا تنقضي سعادتها، ولا يعترض النقص والتقدير «1» شيئا منها، وأبقى هذه الصبيّة ممتّعا أبوها بها، ومنشأ له الحظّ من حداثتها، وبلّغها أفضل مبالغ الصالحات القانتات من أمّهاتها، وجعل في مولدها أصدق دليل على طول عمر أبيها وسعادة جدّة، وتضاعف نعم الله عنده، إنه لطيف جواد.
أبو مسلم «2» محمد بن بحر:
مرحبا ببكر النّساء، وبكر الأولاد، وعقيلة الخباء، والمأمولة للبركة، والمشهورة باليمن، وقد جرّبناه فوجدناه معهودا مسعودا، والله يعرّفك أضعاف ما عرّف من قبلك، ويبارك لك فيما رزقك، ويثنّي لك بأخ للمولودة ويجعله رديفها، وفي الخير قرينها وشريكها.
عليّ «3» بن خلف.
وينهي أنّ المملوك اتّصل به ارتماض «4» مولانا بمقدم الكريمة الوافدة،(9/61)
بطالع السّعادة المتجدّدة، فعجب المملوك من وقوع ذلك من مثل مولانا مع كمال نبله، وشرف عقله وعلمه، فإنّ الله تعالى جلّ اسمه يقول: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ
«1» وإنّ ما جدّده الله تعالى من مواهبه جدير أن يتلقّى بالسّرور والفرح، لا بالاستياء والتّرح، لا سيّما والذّكر إنما يتفصل على الأنثى بنجابته، لا بحليته وصورته، وقد يقع في الإناث من هو أشرف من الذكور طبعا، وأجزل عائدة ونفعا، وقد روي أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا رزق العبد الأنثى نادى مناد من السماء: يا أهل الدار، أبشروا بالرّزق، وإذا رزق ذكرا نادى مناد من السماء: يا أهل الدار، أبشروا بالعزّ» فليستقبل مولانا الرّزق بالشّكر فإنّ العزّ يتبعه، ولا يعارض الله تعالى في إرادته، ولا يستقلّ شيئا من هبته، والله تعالى يعرّفه يمن عهودها، وسعادة قدومها، وأن يسرّه بعدها بإخوة متتابعين متلاحقين، يؤيّدون أمره، ويحيون بعد العمر الأطول ذكره.
أبو الفرج الببغاء:
لو كان الإنسان متصرّفا في أمره بإرادته، قادرا على إدراك مشيئته، لبطلت دلائل القدرة، واستحالت حقائق الصّنعة، ودرست معالم الآمال، وتساوى الناس ببلوغ الأحوال، غير أنّ الأمر لمّا كان بغير مشيئته مصنوعا، وعلى ما عنه ظهر في الابتداء مطبوعا، كان المخرج له إلى الوجود من العدم، فيما ارتضاه له غير متّهم، ومولانا- أيده الله- مع كمال فضله، وتناهي عقله، وحدّة فطنته، وثاقب معرفته، أجلّ من أن يجهل مواقع النّعم الواردة من الله تعالى عليه، أو يتسخّط مواهبه الصادرة إليه، فيرمقها بنواظر الكفر، ويسلك بها غير مذاهب الشكر.
وقد اتّصل بالمملوك خبر المولودة كرّم الله غرّتها، وأطال مدّتها، وعرّف مولانا البركة بها، وبلّغه أمله فيها، وما كان من تغيّره عند اتّضاح الخبر، وإنكار(9/62)
ما أختاره له سابق القدر، فعجب المملوك من ذلك واستنكره، من مولانا وأنكره، لضيق العذر في مثله عليه. وقد علم مولانا أنّهن أقرب إلى القلوب، وأنّ الله تعالى بدأ بهنّ في الترتيب فقال جلّ من قائل: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ
«1» وما سمّاه الله هبة فهو بالشّكر أولى، وبحسن التقبّل أحرى، ولكم نسب أفدن، وشرف استحدثن، من طرق الأصهار، والاتّصال بالأخيار، والملتمس من الذّكر نجابته، لا صورته وولادته، ولكم ذكر الأنثى أكرم منه طبعا، وأظهر منه نفعا، فمولانا يصوّر الحال بصورتها، ويجدّد الشّكر على ما وهب منها، ويستأنف الاعتراف له تعالى بما هو الأشبه ببصيرته، والأولى بمثله، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث- التهنئة بالتّوءم.
أحسن ما رأيت من ذلك قول بعض الشّعراء مما كتب به إلى بعض أصحابه، وقد ولد له ذكر وأنثى من جارية سوداء، وهو قوله (طويل)
وخصّك ربّ العرش منها بتوءم ... ومن ظلمات البحر تستخرج الدّرر
وابرك أضحى وارثا علم جابر «2» ... فأعطاك من ألقابه الشّمس والقمر
الأجوبة عن التهنئة بالأولاد قال في «موادّ البيان» : أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تبنى على شكر اهتمام المهنّيء ورعايته، والاعتداد بعنايته، وأنّ الزيادة في تجدّد المهنّى [به](9/63)
زيادة في عدده، وأن نصيبه من تحرّك السرور فيما يخلص إليه من المواهب كنصيبه؛ لتناسبهما في الإخاء، وتوافيهما في الصّفاء، وأن تراعى مع ذلك مرتبة المهنّي والمهنّى، ويبنى الخطاب على ما يقتضيه كلّ منهما.
وهذا مثال من ذلك:
زهر الربيع:
وينهي ورود الكتاب الذي تشرّف المملوك بوروده، وأشرقت الأيّام بكمال سعوده، وأرغم ببلاغته معطس مناويه وحسوده، فشكر أيادي من أنعم بإرساله، واكتسى بالوقوف عليه حلّة من حلل فخره وجماله، وبالغ في إكماله، حتّى وقف إجلالا له بين يديه، ثم تلا آيات حسنه على أذنيه، فوجده مشتملا على إحسان لم يسبقه إلى مثله أحد، ومنن أودعها فيه فلا يحصيها حصر ولا عدد، فهيّج بوروده رسيس الأشواق، وتقلّد بإنعام مرسله كما قلّدت الحمائم بالأطواق، ووجد لوعة لا يحسن وصفها لسان اليراع في الأوراق، وعلم ما أشار إليه المولى من التهنئة بالولد الجديد، بل بأصغر الخدم والعبيد، وما أبداه من الابتهاج لميلاده وأظهره من التفضّل المعروف من آبائه الكرام وأجداده، ولم لا يكون الأمر كذلك والوالد مملوكه؟ وهو مملوك السادة الأجلّاء أولاده، حرس الله مجده ومتّعه بثوب مكارمه، وخفض قدر محاربه ورفع كلمة مسالمه، ولا زال مماليكه تتزيد تزيّد الأيّام وسعادته باقية بقاء الأعوام، وعين العناية تحرسه في حالتي السفر والمقام، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثامن (من التهاني التهنئة بالإبلال من المرض والعافية من السّقم)
فمن ذلك:
وينهي أنه ما زالت أجسام أهل التّصافي، تشترك في الأسقام والعوافي، كما تشترك أنفسهم في التخلّص والتّوافي، ولمّا ألم بمولانا هذا الألم الذي تفضّل الله تعالى بإماطته، ومنّ فيه على السّؤدد بحراسة مولانا وحياطته، فرأيته(9/64)
حالّا في جوارحي، محرقا لجوانحي، ممازجا لأعضائي، متملّكا لأنوائي «1» .
ولئن كنت قد تحمّلت من ذلك عبّا، وارتقيت من تحمّله مرتقى صعبا، فلقد فخرت بمماسّته، وأحمدت طبعي على مشاكلته، وشكرت الله تعالى إذ جعلني شعبة من سرحته، وجبلّة من طينته، وعلى ما سرّ به من إقالته وإنعاشه، ومصافاته وإبشاشه، وسألت الله تعالى أن يبقيه نورا يوضّح مغرب الدّهر ومشرقه، ودرّا يرصّع فود المجد ومفرقه، ويحسن الدّفاع عن حوبائه «2» وهو سبحانه يجيب ذلك ويتقبّله، ويرفعه ويسمعه، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
المملوك يهنّيء مولاه خاصّة إذ جعله الله تعالى من صفوة أوليائه، وخالصة أحبّائه، الذين يبتليهم اختبارا، وينتابهم اختيارا؛ ليجمع لهم بين تمحيص وزرهم، ومضاعفة أجرهم، والحضّ على طاعته، والانصراف عن معصيته، ويهنّيء الكافّة عامّة بالموهبة في نوره المطلعة لأمل الإقبال، المروية لماحل الآمال، ثم أعطف على حمد الله على ما منّ به من إبلاله، ويسّره من استقلاله، والرّغبة إليه في أن يمنحه صحة تخلّد وتقيم، وعافية ترهن ولا تريم، وأن يحميه من عوارض الأسقام، ويصونه من حوادث الأيّام، بفضله وجوده، إن شاء الله تعالى.
أبو الفرج الببغاء:
أفضل ما يفزع إليه العبد المخلص، والمولى المتخصّص، فيما ينوب سيّده ويهمّ وليّ نعمته، الدعاء المقترن بصدق النية، وصفاء الطويّة [فالحمد لله الذي منّ بالصحّة وتصدّق بالإقالة، وتدارك بجميل المدافعة، وعمّ سائر خدمه أيّده الله بالنّعمة، وأعاده إلى أجمل عاداته من السلامة والصّحّة، فائزا بمدّخر(9/65)
الأجر، متعبّدا بمستأنف الشّكر، فلا أخلاه الله من زيادة فيما يوليه، ولا قصدنا بسماع سوء فيه، وحرس من الغير مهجته، ومن المحذور نعمته.
وله في مثله:
ما كنت أعلم أنّ عافيتي مقرونة بعافيتك ولا سلامتي مضافة لسلامتك، إلى أن تحقّقت ذلك من مشاركتي إيّاك في حالتي الألم والصّحّة، والمرض والمحنة، فالحمد لله الذي شرّف طبعي بمناسبتك وجمّل خلقي بملاءمتك، فيما ساء وسرّ، وإيّاه تعالى أشكر على ما خصّني به من كمال غافيتك، وسبوغ سلامتك وسرعة إقالتك، وبه- جلّ اسمه- أثق في مزيدك من تظاهر النّعم، وتوفّر القسم.
وله في مثله:
ولولا أنّ متضمّن كتابك قرن ذكر المرض الهاجم عليك، بذكر ما وهبه الله لك من عود السلامة إليك، لما اقتصر بي القلق على [ما] دون المسير نحوك، والمبادرة لمشاهدتك، غير أنّ السّكون إلى ما أدّاه كتابك سابق الجزع، والطّمأنينة إلى ما وهبه الله من كفايتك حالت دون الهلع، فالحمد لله الذي منّ بالإقالة، وتصدّق بالسّلامة وعمّ بالكفاية، وهو وليّ حراستك وحراستي فيك.
وله في مثله:
سيّدنا في سائر ما يذكّره الله من هجوم ألم مؤذن بصحّة، واعتراض محنة مؤدّية إلى منحة، مرموق بالعافية، محروس من الله جلّ اسمه بالحفظ والكلاءة، فهو مع العلة فائز بذخائر الأجر، ومع العافية موفّق لاستزادة الشّكر، فالحمد لله الذي عقد الكرم ببقائه، وشفى مرض الآمال بشفائه، وكفاه اعتراض المخوف، وعوارض الصّروف.
وله في مثله:
ما انفرد جسمك بالعلّة دون قلبي، ولا اختصّت نفسك- حرسها الله تعالى- بمعاناة المرض دون نفسي، ولم أزل بالقلب تاليا، وفي سائر ما شكوته(9/66)
بالنّيّة مساويا، إلى أن كشف الله الغمّة، وأقال العثرة، ونفّس الكربة، ومنّ بالسلامة، وتصدّق بالكفاية، وأوجب بالعافية علينا جميعا فروض الشكر، بعد ما ادّخره لك بالألم من كثرة الأجر، فالحمد لله على ذلك حمدا يؤدّي إلى حراسة ما خوّلك، ويؤذن بالمزيد فيما منحك.
ومن كلام المتأخرين:
أعلى الله قدر الجناب الفلاني، ولا زالت شموس أيامه لا تخاف كسوفا ولا أفولا، وأقمار لياليه تغرس في قلوب أوليائه ومحبّيه فروعا وأصولا.
المملوك يخدم خدمة من تحمّل جميلا، ونال من تفضّل الجناب «1» الكريم جزيلا.
وينهي ما حصل له من السّرور بعافية مولانا، فالشكر لله على ما جدّد من النّعمة التامّة، وسمح به من الكرامة العامّة، حين أعاد البدر إلى كماله، والسّرور إلى أتمّ أحواله، وما كانت إلّا غلطة من الدّهر فاستدركها، وصفقة خارجة عن يده فملّكها، فقرّت بذلك العيون، وتحقّقت في بلوغ الأمل الظّنون؛ وانجبر قلبه بعد ما وهن، وعاد جفنه بعد الأرق إلى الوسن؛ وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
«2» ولقد كان يتمنّى المملوك لو فاز من الرّؤية الشريفة بحظّ السمع والبصر، وتملّى بمشاهدة وجهه الكريم فإنّ فيه البغية والوطر «3» .
والمملوك فما يعدّ نفسه إلّا من المحبين الذين بذلوا نفوسهم لمحبته وأعدّوها، والله تعالى يسرّ الأولياء بتضاعف سعوده، ويديم بهجة الأيّام بميمون وجوده، ويطيل في مدّته ويحرسها من الغير، ويحرس أحوال مزاجه الكريم على(9/67)
القانون المعتبر، ويكفي أولياءه ومحبّيه فيه كلّ مكروه وحذر، إن شاء الله تعالى.
من زهر الربيع (متقارب) :
ولمّا شكوت اشتكى كلّ ما ... على الأرض واهتزّ شرق وغرب
لأنّك قلب لجسم الزّمان ... وما صحّ جسم إذا اعتلّ قلب
حرس الله جنابه، وأسبل عليه رداء السعد وأثوابه، ومتّعه ببرود العافية وجلبابها، وفتح له إلى نيل السعادة سائر أبوابها، ومنحه الكفاية والأمن في سربه، والعافية في جسمه من قلق كلّ مرض وكربه، وجمع له بين الثّواب والأجر وجازاه بجزيل الغفران عن جميل الصّبر.
المملوك يبشّر نفسه ومولاه بما منّ الله به من صحّة مزاجه الكريم، والإبلال من مرض كاد يدير كؤوس الحمام «1» على كلّ صديق حميم، ويحمد الله على عافيته حمدا جزيلا، ويشكره عليها بكرة وأصيلا، فإنّه قد عوفي لعافيته المجد والكرم، وزال عنه إلى أعدائه الألم، فالمولى حفظ «2» الله صحّته من السّقم، وحماه من ألم ألمّ، وجعل سعادته تتزايد على ممرّ الأنفاس، وجسده سالما من الأذى كسلامة عرضه من الأدناس، إن شاء الله تعالى.
الشيخ جمال الدين «3» بن نباتة:
وقى الله من الأسواء شخصه الكريم، وشمله النّظيم، وقلب محبّه الذي هو في كلّ واد من أودية الإشفاق يهيم.(9/68)
ولا زالت الصحة قرينه حتّى لا يعتلّ في منازله غير مرور النّسيم، ويصف شوقا يزيد بالأنفاس وقدا، ويجدّد للأحشاء وجدا، ويباشر القلب المغرم فيمدّ له من عذاب الانتظار مدّا.
وينهي أنه جهّز هذه الخدمة نائبة عنه في استجلاء وجه أكرم الأحبّة، وتصافح اليد الّتي أقلام كتبها في شكوى البعاد أطبّة، مبدية إلى العلم الكريم أنّه مع ما كان يكابده من الأشواق، ويعالجه من خواطر الإشفاق، بلغه ضعف الجسد الموقّى، وعارض الألم الذي استطار من جوانح المحبّين برقا، فلا يسأل الجناب الكريم عن قلب تألّم، وصدر صامت بالهموم ولكنّه بجراح الأشجان تكلّم، ولسان أنشد (طويل) :
ألا ليتني حمّلت ما بك من ضنى ... على أنّ لي منه الأذى ولك الأجر
ثم لطف الله تعالى وعجّل خبر العافية المأمولة، والصحة المقبلة عقيب الدّعوات المقبولة، فيا لها مسرّة شملت، ومبرّة كملت، وتهنئة جمعت قلوب الأودّاء وجملت، وأعضاء فدتها «1» عيون المها فنقلت عنها صفات السّقام وحملت، وعافية حوّلت إلى قلوب الأعداء المرض، وجوهر جسد طاهر زال [عنه] بأس العرض، فهنيئا له بهذه الصحة المتوافرة الوافية، والحمد لله ثم الحمد لله على أن جمع بين حصول الأجر ووصول العافية، وعلى أن حفظ ذاته الكريمة وحفظها هو المقدّمة الكافية الشافية (كامل)
وتقاسم النّاس المسرّة بينهم ... قسما فكان أجلّهم قسما أنا
والله تعالى يسبغ عليه ظلال نعمه ويحفظه حيث كان في نفسه وأهله وخدمه، وكما سرّ الأحباب بخبر عافيته كذلك يسرّهم بعيان مقدمه.(9/69)
أجوبة التهنئة بالإبلال من المرض والعافية قال في «موادّ البيان» «1» : أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تكون مبنيّة على وصف الألم وصورته وما تفضّل الله تعالى به من إماطته، وشكر المهنّي باهتمامه وعنايته.
وهذه أمثلة من ذلك:
من زهر الربيع:
أدام الله نعمته، وشكر منّته، وأدال دولته، وأعلى قدره وكلمته، وحتّم على الألسنة شكره والقلوب محبّته، ولا زالت التهاني من جهته وافدة، والبشائر واردة.
وينهي ورود الكتاب الذي أعدّته يد المعالي فعاد كريما، وشاهد حسن منظره فصار وجهه وسيما، وأنه وقف عليه، وأحاط علما بكلّ ما أشار المولى إليه، فذكّره أنسا كان بخدمته لم ينسه، وجدّد له وجدا ما زال يجد في قلبه ونفسه عينه ونفسه، ونشر من مآثره المأثورة، وفضائله المرقومة في صفائح الصّحائف المسطورة، ما شنّف به وشرّف، وشوّق إلى لقائه وشوّف، وأقام البرهان على ذكيّ فطنته، وزكيّ فطرته، وعلم ما أنعم به وتفضّل، وأحسن وتطوّل، من تهنئة المملوك بالإبلال من مرضه، والبرء من سقمه، والتخلّص من يدي وجعه وألمه، وسرّ بورود كريم مشرّفته، أعظم من سروره بلباس ثوب عافيته، وبدوام مجده وسعادته، أكثر من صحّة مزاجه واستقامته، فإنّ مكارم المولى كالحدائق النّاضرة، ومنزلته أعز في القلوب من الأحداق الناظرة.
فالحمد لله الذي منّ بالعافية من ذلك المرض، والداء الذي ألمّ بعرضيه فاحتوى منهما على الجوهر والعرض، وطال حتّى أسأمه من نفسه وعوّاده، وآيسه من(9/70)
الحياة لولا لطف الله والله لطيف بعباده، وهذا ببركة المولى ودعائه الذي كان يرفعه والخواطر والأسماع مع بعد الشّقّة تشهد به وتسمعه، جعل الله التهاني مع الأبد واردة منه وإليه، وشكر إنعامه وأتمّ نعمته عليه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وكتبت للمقرّ العلائيّ علاء الدين الكركيّ «1» وهو يومئذ كاتب «2» السّرّ الشريف في الدولة الظاهرية «برقوق» «3» في سلطنته الثانية، وقد برأ من مرض نظما (بسيط) .
أفديه من جسد قد صحّ من سقم ... فبات جوهره خال «4» من العرض
فاستبشرت بعليّ القوم شيعته ... ومات حاسده بالسّقم والمرض
الضرب التاسع (التهنئة بقرب المزار)
الشيخ شهاب الدين محمود «5» الحلبي:
قرّب الله مزاره، وأدنى جواره، وأعان أعوانه ونصر أنصاره، ولا زالت الأنفس لقربه مسرورة، ورايات مجده في الملإ الأعلى وأحزاب الإسلام بهيبته على أعداء الدّين منصوره.
المملوك يقبّل الباسطة العالية بسط الله ظلّها، وشكر على الأولياء فضلها، وينهي أنه اتّصل به طيّب أخباره، وقرب مزاره، فتضاعف شوقه، وتزايد توقه، وهيّجت صبابته لا عجه، وسهّلت إلى نيل المسرّة طرقه ومناهجه (وافر) .(9/71)
وأبرح ما يكون الشّوق يوما ... إذا دنت الدّيار من الدّيار
فالله يقرّب من أمد التّلاقي بعيدا، ويجعل رداء الاجتماع بخدمته قشيبا جديدا.
الضرب العاشر (التهنئة بنزول المنازل المستجدة)
فمن ذلك [من إنشاء] عليّ بن «1» خلف:
أشرف المنازل رقعة، وأترفها بقعة، وأرفعها رفعة، ما اتّخذه مولانا لنفسه موطنا، وجعله بنزوله فيه حرما آمنا، وصيّره بمخصب مكارمه للعفاة مرادا ومقصدا، وبمعذب نوافله للظّماة مشرعا وموردا، وللسّؤدد بمجده معقلا، وللرّياسة بشرفه منزلا، والله تعالى يجعل هذه الدار الّتي تديّرها وحلّها، وحطّ بها رحله ونزلها، مأهولة ببقائه، آنسة بسبوغ نعمائه، عامرة بسعادته، مشيدة بتناصر عزّه وزيادته، لا تخطئها حوائم الآمال، ولا تتخطّاها ديم الإقبال، ويعرّفه من بركتها، ويمن عتبتها، ما يقضي بامتداد الأجل، وانفساح الأمل، وبلوغ الأماني، واتّصال التّهاني، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك:
وينهي أنه قد اتّصل بالمملوك تحوّل مولانا إلى المنزل المنشإ الجديد، ذي الطالع السعيد، والطائر الحميد، فسألت الله تعالى أن يبوّئه منه المبوّأ الكريم، ويمتّعه فيه بالدّعة والنّعيم، والنّماء والمزيد، والعيش الرّغيد، ويجعله واصلا لحبله، مأهولا بأهله، ويعرّفه بركة عتبته، ويملّيه ببهائه ونضارته، وحصل للمملوك السّرور بأن بلّغه الله الوطر، في سكنى ما عمر، وأناله الأمل والالتذاذ بخدمته، والسّرور بافتضاض عذرته، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك:(9/72)
مولانا- أمتع الله بوجوده- غنيّ عن الهناء بمنزل ينزله ومحلّ يحلّه، إذ الله سبحانه وتعالى قد كثّر أوطانه وآدره «1» ، وبلّغه في تمام عمارتها وانفساحها وطره، وخصّه بأفضلها معانا، وأشرفها مكانا، والمستوجب في الحقيقة للهناء هو الموضع الذي اختاره دارا، وارتضاه مستقرّا، وعرف المملوك انتقاله- لا زال يتنقّل في بروج السّعد، ويأوي إلى ظلّ ظليل من المجد- إلى الدار الفلانية لا زالت جامعة لشمله، مأنوسة بأهله، فعدل عن خدمته بالهناء، إلى إخلاص الدّعاء، بأن يعرّفه الله تعالى يمنها وبركتها، ويريه إقبالها وسعادتها، ويقرن تحوّله إليها بأيمن طائر، وأبرك طالع، فإنّ للحركات أوقاتا محمودة ومذمومة؛ فإذا اعتنى الله تعالى بعبد من عبيده، وفرض له نصيبا من تأييده، وفّقه للحركة في الزّمن السعيد، والوقت الحميد، لتكون مصايره مشاكلة لمباديه، وأعجازه مشابهة لهواديه، والله تعالى يجعل بابها محطّا للقصّاد، ومناخا للوفّاد، ومزارا للعفاة، وملاذا [للعناة] «2» ويصل بها حبله، وينشي بها طفله، ويضاعف باستيطانها أنسه، ويسر بتبوّئها نفسه، إن شاء الله تعالى.
أبو الفرج «3» الببغاء:
أسعد المنازل وأشرف المواطن ما استوطنه أيّده الله وتبوّاه، وتخيّره لنفسه وارتضاه، فغدا بشخصه وطن الإقبال، وبفائض كرمه حرم الآمال، وبشرفه للسّؤدد معقلا، وبنبله للرّياسة منزلا، فعرّفه الله يمن هذه الدار المعمورة بحلول البركات، المحفوفة بتناصر السّعادات، وجعلها وكلّ ربع يقطنه، ومحلّ يسكنه، مبشّرا بامتداد بقائه، وآهلا بالزّيادة في نعمائه.
وله في مثله:(9/73)
كلّ وطن يحلّه- أيده الله- ويقطنه، ومحلّ يتخيّره ويسكنه، مقصود بالشّكر والثناء، آهل بالحمد والدّعاء، لا يتخطاه متوارد الآمال، ولا تنقطع عنه موادّ الإقبال، ولذلك صار هذا المنزل السعيد من فضائل الأرض ومحاسنها، ونجع الآمال ومعادنها، فعرّفه الله يمنه وبركته، وإقباله وسعادته، وقرن انتقاله إليه بأسبغ نعمة، وأكمل سلامة وأبسط قدرة وأعلى رتبة.
وله في مثله:
عرّفه الله [من] بركة هذا المنزل المورود، والفناء المقصود، ما يوفي على سالف ما أولاه من تكامل البركات، وتناصر السّعادات، وجعل مستقرّه فيه مقرونا بنموّ الحال، وتتابع الإقبال، في أفسح المدد وأطولها، وأنجح المطالب وأفضلها، وعمر أوطان المكارم بإقباله «1» ، وعضّد الأمانيّ باتّساع نعمائه.
أجوبة التهنئة بقرب المزار، ونزول المنازل المستجدّة قال في «موادّ البيان» : أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تبنى على الاعتداد للمهنّي بتعهّده، والشكر له على تودّده، والابتهاج بهنائه، والتبرّك بدعائه، وأن المستجدّ غير مباين لمنزله، ولا خارج عن أحكام محله، وأنّ تمام بركته، أن يؤنس فيه بزيارته، وما يشابه هذا.
الضرب الحادي عشر (نوادر التهاني، وهي خمسة أصناف)
الصنف الأوّل- تهنئة الذّميّ بإسلامه.
فمن ذلك ما أورده أبو الحسين «2» بن سعد في ترسّله، وهو:
وما زالت حالك ممثّلة لنا جميل ما وهب الله فيك حتّى كأنّك لم تزل(9/74)
بالإسلام موسوما، وإن كنت على غيره مقيما، وقد كنّا مؤمّلين لما صرت إليه، ومشفقين لك مما كنت عليه، حتّى إذا كاد إشفاقنا يستعلي على رجائنا، أتت السعادة فيك بما لم تزل الأنفس تعد منك، ونسأل الله الذي نوّر لك في رأيك، وأضاء لك سبيل رشدك، أن يؤهّلك لصالح الأعمال، وأن يؤتيك في الدنيا حسنة ويقيك عذاب النار.
ومن ذلك، من كلام أبي «1» العيناء:
ولتهنئك نعمة الله عليك في أخوّة المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، والحمد لله الذي فوّز قدحك [وأ] على كعبك، وأنقذ من النار شلوك «2» ، وخلّصك من لبس الشّك، وحيرة الشّرك، فأصبحت قد استبدلت بالأديار المساجد، وبالآحاد الجمع، وبقبلة الشام، البيت الحرام، وبتحريف الإنجيل، صحّة التنزيل، وبأوثان المشركين، قبلة الموحّدين، وبحكم الأسقفّ رأس الملحدين [حكم] أمير المؤمنين وسيّد المرسلين، فهنأك الله ما أنعم به عليك، وأحسن فيه إليك، وذكّرك شكره، وزادك بالشّكر من فضله.
أجوبة التهنئة بإسلام ذميّ قال في «موادّ البيان» : أجوبة هذه الرّقاع ينبغي أن تكون مبنيّة على شكر المهنّإ للمهنّيء؛ واعترافه بنعمة الله تعالى عنده، وابتهاجه بممازجته في الدّين، الذي جعل الله أهله إخوانا متصافين، وخلّانا متوافين، ومنّ عليهم به، وبإماطة(9/75)
الحسائف «1» من قلوبهم، ونحو هذا.
الصنف الثاني- التهنئة بالختان وخروج اللّحية.
فمن ذلك تهنئة لأمير بختان ولدين له:
فمن خصائص ما حباه الله بعد الذي قدّم له في نفسه- نفّس الله مدّتها، ووسّع له مهلتها، وأفنى الأعداد دون فنائها، والأعمار دون تصرّمها وانتهائها، [من] الفضائل المشهورة، والمحاسن المذكورة، والمناقب المأثورة، وأقسام الفضل الذي ينقضي دون تصرّم (؟) منازله وصف الواصف إذا أفرط، وينتهي دون أيسرها أمل الآمل إذا اشتطّ- ما وهب الله له من أولاد سادة فضّلهم في الأخلاق والصّور، وأكملهم في الأجسام والمرر، وقدّمهم في العقول والأفهام، والقرائح والألباب، ولم يجعل للمعيب فيهم سيمة، ولا للإناث بينهم شركة، حتّى يكون مسلّما لهم قصب العلا والمفاخر، وصدور الأسرّة والمنابر، من غير منازع، ولا مقارع، ولا مساهم، ولا مقاسم، وزادهم من النّماء في النّشء والبركة واليمن بما يؤذن الحاضر منه بالغابر، ويدلّ البادي على الآخر، وعدا من الله تعالى ذكره لهم بأوفى السعادات، وأكمل الخيرات وأعلى الدرجات، أرجو أن يجعل الله النّجح قرينه، والنجاة ذريعته، وما أولاه فيهم في هذه الحال الحادثة الّتي يعدق الله بها أداء الفريضة، وكمال الشريعة، ويقع التطيّر بالختان، الذي جعله الله من شروط الإيمان، وفرضه على جميع الأديان، من السّلامة على عظم الخطر، وشدّة الغرر، في إمضاء الحديد على أعضاء ناعمة، وإيصال الألم إلى قلوب وادعة، لم تقارع نصبا «2» ، ولم تعان وصبا «3» ،(9/76)
واجتمع فيه إلى رقّة الصّبا، وضعف الأسر والقوى، اعتياد الرحمة، ومخالفة الترفّه والتنقّل بين الشهوات، على أن كلّ واحد من الأميرين شهد المعركة أعزل حاسرا، وباشر الحرب مغرّرا مخاطرا، فثبت لوقع السّلاح، وصبر على ألم الجراح، وأبلى بلاء الفارس المدجّج، والكميّ «1» المقنّع، ثم خرج خروج شبل الليث، وفرخ العقاب، كالقدح المعلّى والشّهاب الساطع، والنّجم الثاقب، وكان فلان أكثرهما تغيّرا في وجه قرنه، وسطوة على منازله، وكلّ قد حصّل فوق الخصل، وحوى فضيلة السّبق، واستحقّ اسم البأس والشّدّة، وحلية البسالة والنّجدة.
ومن ذلك ما أورده أبو الحسين بن سعد في كتابه:
الحمد لله الذي كساك باللّحية حلّة الوقار، وردّاك رداء ذي السّمت من الأبرار والأخيار، وصانك عن ميسم الصّبا، ومطامع أهل الهوى، بما جلّلك من اللحية البهيّة، وألبسك من لباس ذوي اللّبّ والرّويّة، وألحقك في متصرّفاته بمن يستقلّ بنفسه ساعيا، ويستغني عمّن صحبه حافظا، وجعل ما جمّل من صورتك، وكمّل من أداتك وآلتك، قرنا لمن جاذبك، وخصما لمن نازعك، ونفى عنك ذلّة الاحتقار، من أهل المراتب والأخطار، تستوي [بهم] في المجالس الحافلة، وتجري مجراهم في المشاهد الجامعة، مسموعا قولك إذا قلت، ومصغى إليك إذا نطقت، آمنا من انصراف الأبصار عنك لقرب ولادك، ومن [عدم] الاستماع لحديثك لقلّة الثّقة بسدادك، وجاريا مجرى كملة الرجال على الجملة، إلى أن يكشف الله مخابرك بالمحنة، وتعطى المهابة من الدّاعر العادي، ومن السّبع الضاري، ولو كان عاريا من هذه الكسوة الشريفة، والحلية الملحوظة، لسيقت إلى الازدراء بالأعين، والاستصغار بالقلوب والألسن، أصناف الحيوان، من البهيمة والإنسان، ثم لا يحسّ من نفسه قوّة على الدّفع عنها، ولا من صرعته ثباتا (؟) على يدها فيه. وتلك نعمة من الله جل وعزّ حباك(9/77)
بمرتبتها في جمال غشاك «1» ، وكمال أتاك، فليصدّق بها اعترافك وشكرك، وليحسن ثناؤك ونشرك، قضاء لحق الله عليك، واستدرارا في المزيد من إحسانه إليك.
الصنف الثالث- التهنئة بالمرض.
أبو الفرج الببغاء:
في ذكر الله سيدي بهذا العارض- أماطه «2» الله وصرفه، وجعل صحة الأبد خلفه- ما دلّ على ملاحظته إيّاه بالعناية، إيقاظا له من سنة الغفلة، إذ كان تعالى لا يذكّر بطروق الآلام، وتنبيه العظات، غير الصّفوة من عباده، الخيرة من أوليائه، فهنأه الله الفوز بأجر ما يعانيه، وحمل عنه بألطافه ثقل ما هو فيه، وأعقب ما اختصّه من ذخائر المثوبة والأجر بعافية تقتضيه، ولا سلب الدنيا جمال بقائه، ولا نقل ظلّه عن كافّة خدمه وأوليائه.
الصنف الرابع- التهنئة بالصّرف عن الولاية.
أبو الفرج الببغاء:
من حلّ محلّه- أيده الله تعالى- من رتب الرّياسة والنّبل، كان معظّما في حالتي الولاية والعزل، لا يقدح في قدره تغيّر الأحوال، ولا ينقله عن موضعه من الفضل تنقّل الأعمال، إذ كان استيحاشها للفائت من بركات نظره، بحسب أنسها كان بما أفادته من محمود أثره، فهنأه الله نعمة الكفاية، وأوزعه شكر ما احتازه من النزاهة والصّيانة، ولا أخلاه من التوفيق في سائر متصرّفاته، والخيرة الضامنة لعواقب إراداته.
وله في مثله:
لو كان لمستحدث الأعمال ومستجدّ الولايات زيادة على ما اختصّك به(9/78)
من كمال الفضل، ومأثور النّبل، لحاذرنا انتقال ذلك بانتقال ما كنت تتولّاه بمحمود كفايتك، وتحوطه بنواظر نزاهتك وصيانتك، غير أنّ الله تعالى جعلك بالفضل متقمّصا، وبالمحامد متخصّصا، فالأسف فيما تنظر فيه عليك لا منك، والفائدة فيما تتقلّده بك لا لك، ولذلك كنت بالصّرف مهنّأ مسرورا، كما كنت في الولاية محمودا مشكورا، فلا أخلاك الله من تواصل آلائه، وتظاهر نعمائه، في سائر ما تبرمه وتمضيه، وتعتمده وترتئيه.
أبو الحسين بن سعد- عمّن تولّى عملا إلى من صرف عنه:
قد قلّدت العمل بناحيتك، فهنأك الله تجديد ولايتك، وأنفذت خليفتي لخلافتك، فلا تخله من تبصيرك وهدايتك، إلى أن يمنّ الله بزيارتك.
تهنئة بصرف عن ولاية:
لو كانت رياسة سيّدي مجنيّة من عروش الولايات، وسيادته خارجة عن سانح التصرّفات، لأشفق أولياؤه من زوالهما بمزايلتهما، وحذروا من انتقالهما بنقلهما، لكن ما وسم به من الكمال، وعلا به من رتب الجلال، موجود في غريزته وجود الفرند «1» في السيف المأثور، واللألاء في النور، وإذا تصرّف، أورد الله الرعيّة من مشارعها نطافا، وأسبغ عليهم من ظلّها عطافا، وإذا انصرف فخير مسبل تقلّص، وعيش رائع تنغّص، والأسف على العمل السّليب من حلل سياسته الفاضلة، العاطل من حلى سيرته العادلة، ولهذا أصبح- أيده الله- بالعزل مبتهجا مسرورا، كما كان في الولاية محمودا مشكورا، وانطلقت ألسنة أوليائه، في هنائه، بما وهبه الله من الرّفاهية والدّعة، وحطّه عنه من الأثقال المقلقة، ولا سيّما وقد علم الخاصّ والعامّ أنّ الأعمال إذا ردّت إليه، وعوّل فيها عليه، تسلّم المودع وديعته، والناشد ضالّته، وإذا عدل فيها إلى غيره تناولها(9/79)
تناول الغاصب، واستولى عليها استيلاء السّالب، فلا تزال نازعة إلى ربّها، متطلّعة إلى خطبها، حتّى تعود إلى محلّها، وترجع إلى نصلها، والله تعالى أسأل أن يقضي لمولانا ببلوغ الأوطار، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالصرف عن الولاية والخدمة قال في «مواد البيان» : يجب أن تكون أجوبتها مبنيّة على شكر الاهتمام والاعتداد بالمشاركة في الأحوال، مع وقوع ما ورد من الخطاب الموقع للطيف، وما ينتظم في هذا السلك.
جواب من ورد عليه كتاب من ولي مكانه في معنى ذلك.
فمن ذلك:
ما انصرفت عنّي نعمة أعديت إليك، ولا خلوت من كرامة اشتملت عليك، وإنّي لأجد صرفي بك ولاية ثانية، وحلّة من الوزر واقية، لما آمله بمكانك من حميد العاقبة وحسن الخاتمة.
الصنف الخامس- تهنئة «1» من تزوجت أمّه بزواجها.
قد تقدّم في أوّل المقالة الأولى في حكاية حائك الكلام مع عمرو «2» بن مسعدة وزير المأمون «3» ، أنه قال: يكتب إليه:(9/80)
أما بعد، فإنّ الأمور تجري على خلاف «1» محابّ المخلوقين [والله يختار لعباده] «2» ، فخار الله لك في قبضها [إليه، فإن القبور أكرم الأكفاء] «3» والسّلام.
أبو الفرج الببغاء: وقد أمره سيف الدولة «4» بن حمدان بالكتابة في معنى ذلك امتحانا له:
من سلك إليك- أعزّك الله- سبيل الانبساط، لم يستوعر مسلكا من المخاطبة فيما يحسن الانقباض عن ذكر مثله. واتّصل بي ما كان من خبر الواجبة الحقّ عليك، المنسوبة بعد نسبتك إليها إليك- وفّر الله صيانتها- في اختيارها ما لولا أنّ الأنفس تتناكره، وشرع المروءة يحظره، لكنت في مثله بالرضا أولى، وبالاعتداد بما جدّده الله في صيانتها أحرى، فلا يسخطنّك من ذلك ما رضيه وجوب الشّرع، وحسّنه أدب الدّيانة، ومباح الله أحقّ أن يتّبع، وإيّاك أن تكون ممن لمّا عدم اختياره تسخّط اختيار القدر له، والسّلام.(9/81)
النوع الثاني (من مقاصد المكاتبات: التّعازي)
قال في «مواد البيان» : المكاتبة في التعزية بالأحداث العارضة في هذه الدنيا واسعة المجال؛ لما تتضمّنه من الإرشاد إلى الصّبر، والتسليم إلى الله جلّت قدرته، وتسلية المعزّى عما يسلبه بمشاركة السابقين فيه، ووعده بحسن العوض في الجزاء عنه، إلى غير ذلك مما ينتظم في هذا المعنى. قال:
والكاتب إذا كان جيّد الغريزة حسن التأتّي فيها، بلغ المراد. ثم قال: وحكمها حكم التّهاني من الرئيس إلى المرؤوس، ومن المرؤوس إلى الرئيس، ومن النظير إلى النظير.
ثم التعزية على أضرب:
الضرب الأوّل (التعزية بالابن)
أبلغ ما كتب به في ذلك ما كتب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلى معاذ بن «1» جبل، معزّيا له بابن له مات، فيما ذكره أبو الحسين بن سعد في ترسّله، وأبو جعفر النحّاس»
في صناعة الكتّاب، وهو:(9/82)
«من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل:
«سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا اله إلّا هو.
أما بعد، فعظّم الله لك الأجر، وألهمك الصّبر، ورزقنا وإيّاك الشّكر، ثم إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا «1» من مواهب الله السنيّة، وعوارفه «2» المستودعة، تمتّع «3» بها إلى أجل معدود، وتقبض لوقت معلوم، ثم افترض علينا الشّكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنيّة، وعوارفه المستودعة، متّعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير: الصلاة «4» والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت «5» ، فلا تجمعنّ عليك يا معاذ خصلتين «6» : أن يحبط «7» جزعك صبرك فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك قد أطعت ربّك وتنجّزت موعوده، عرفت أنّ المصيبة قد قصرت عنه. واعلم أنّ الجزع لا يردّ ميّتا، ولا يدفع حزنا، فأحسن الجزاء وتنجّز الموعود، وليذهب أسفك ما هو نازل بك فكأن قد «8» » .
من كلام المتأخرين:
تعزية بولد، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة «9» ، وهي بعد الألقاب.
وأحسن عزاءه بأعزّ فقيد، وأحبّ حبيب ووليد، وعوّض بجميل الصبر جوانحه الّتي سئلت عن الأسى فقالت: ثابت ويزيد. صدرت هذه المفاوضة(9/83)
تهدي إليه سلاما يعزّ عليه أن يتبع بالتعزية، وثناء يشقّ عليه أن يطارح حمائم سجعه المطربة بحمائم الشّجو المبكية المنكية، وتوضّح لعلمه ورود مكاتبته المؤلمة، فوقفنا عليها إلّا أنّ الدّمعة ما وقفت، وخواطر الإشفاق عليه وعلى من عنده طفت حرقها وما انطفت، وعلمنا ما شرحه ولم يشرح الصّدر على العادة- من وفاة الولد فلان، سقى الله عهده ولحده، ونضّر وجهه وتغمّد بالرّضوان خاله «1» وخدّه، وما بقي إلّا التمسّك بأسباب الصبر، والتفويض إلى من له الأمر، والدّنيا طريق والآخرة دار ودهليزها القبر، وللمرء من تثبّته وازع، والاجتماع بالأحبّة الراحلين واقع، إن لم يصيروا إلينا صرنا إليهم، وإن لم يقدموا في الدار الفانية علينا قدمنا في الدار الباقية عليهم، نسأل الله تعالى أن يجمعنا في مستقرّ رحمته، ويحضرنا مع الأطفال أو مع المتطفّلين ولائم جنّته، والله تعالى يدارك بالصبر الجميل قلبه، ولا يجمع عليه فقد الثواب وفقد الأحبّة.
الشيخ شهاب الدين محمود «2» الحلبي:
رزقه الله تعالى ثباتا على رزيّته «3» وصبرا، وجعل له مع كلّ عسر يسرا، وأبقاه مفدّى بالأنفس والنّفائس، وكان له أعظم حافظ من نوب الدهر وأجلّ حارس.
المملوك ينهي علمه بهذه النازلة الّتي فتّتت القلوب والأكباد، وكادت أن تفرّق بين الأرواح والأجساد، وأذالت ذخائر العيون، وابتذلت من المدامع كلّ مصون، وأذابت المهج تحرّقا وتلهّبا، وجعلت كلّ قلب في ناري الأسى والأسف متقلّبا، وهي وفاة ولده الذي صغر سنّه، وتزايد لفقده همّ المملوك وحزنه (طويل) .
ونجلك لا يبكى على قدر سنّه ... ولكن على قدر المخيلة والأصل(9/84)
وكان الأمل يحدّث بأنه يشدّ للمولى أزره، ويشرح ببرّه صدره، ويؤثّل مجده، ويبقي الذكر الجميل بعده، ففقد من بين أترابه، وذوى عندما أينع غصن شبابه، وغيّب منظره الوسيم في لحده وترابه، وسيّدنا يعلم أنّ الموت منهل لا بدّ من ورده «1» ، وابن آدم زرع لا بدّ من حصده، وأنّ المنية تشمل الصغير والكبير، والجليل والحقير، والغنيّ والفقير، فينبغي له استعمال صبره، والاستبشار بمضاعفة أجره، والله يمتّعه بأهله وطول عمره.
وله «2» (كامل)
لهفي وما لهفي عليك بنافع! ... كلّا ولا وجدي ولا حرقاتي
يا من قضى فقضى سروري بعده ... وتحدّرت أسفا له عبراتي
عقد التجلّد حلّها فرط الأسى ... والقلب موقوف على الحسرات
لو كنت ممّن يشترى أو يفتدى ... لفديت بالأرواح والمهجات
كنت المعدّ لنصرتي في شدّتي ... فقضى الحمام «3» بفرقة وشتات
والله لا أنسيت ندبك والبكا «4» ... أبدا مدى الأنفاس واللّحظات
ويسوءني أن عشت بعدك ساعة ... أسفا لفقدك ميّتا وحياتي
أعظم الله أجر مولانا ومنحه صبرا جميلا، وأجرا جزيلا، وثناء عريض الشّقّة لثباته على هذه الفادحة طويلا، وجعل هذه الرزيّة خاتمة الرّزايا، وممحّصة جميع الذنوب والخطايا، ولا فجعه بعدها في قرّة عين، ولا أورد محبوبا شغف به قلبه الكريم منهل الحمام ولا سقاه كأس الحين «5» .(9/85)
المملوك يقبّل البساط الذي ما فتيء لنشر المعدلة مبسوطا، وكلّ أمل ببرّه منوطا.
وينهي إلى العلم الشريف علمه بهذه المصيبة الّتي أصابت فؤاد كلّ محبّ فأصمته، وطرقت سمع كلّ وليّ فأصمّته، وولجت كلّ قلب فأحرقته صبابة وحزنا، ومرّت على الصّلد فصدّعته ولو كان حزنا، وهي وفاة فلان سقى الله عهده، وأسكن الرحمة ثراه ولحده، فشقّ أسفا على المفقود جيب كلّ جنان وطوى الأكباد على جراحها، وحسّر الأجساد على أرواحها (طويل) .
وما هي إلّا نكبة، أيّ نكبة ... أهاجت سعيرا في الحشا يتلهّب!
فلا جسم إلّا بالتحرّق ذائب ... ولا قلب إلّا في الأسى يتقلّب
بكى كلّ جفن مصرع السيف فاغتدت ... عيون عليه في الأباطح تسكب
لقد هال عذّالي بكائي تعجّبا ... وإنّ بكائي بعد فقده أعجب
فلو رام قسّ وصف حزني ولوعتي ... لقصّر في أوصافه حين يسهب
فو الله لا جفّت جفوني من البكا ... وإن زاد عذّالي العتاب وأطنبوا
ولهذا أصدر المملوك هذه المطالعة يدعو لمولانا فيها ويعزّيه، ويندب فقيده بألسنة الأقلام ويبكيه، ويبشّره بما وعد الله الصابرين على مثل هذه الرزيّة ويسلّيه، فيا لها نازلة فجعت بغصن رطيب، وقمر يرفل من الشّبيبة في ثوب قشيب، وصدعت القلوب بفقد حبيب وأيّ حبيب (سريع) .
والموت نقّاد على كفّه ... جواهر يختار منها الجياد
وبعد، فللمملوك في هذه الرزيّة مشاركة كادت تباين بين روحه والجسد، وهو المصيب لهذه المصيبة ما تجده الوالهة على فقد الولد، لا يستقرّ به قرار، ولا ينجيه من يد الحزن فرار، دأبه البكاء والعويل، وحزنه العريض الطّويل، فواضعفاه عن حمل هذا المصاب، وواأسفا على مسافر لا ينتظر له قدوم ولا إياب، وواعجباه لضدّين اجتمعا لوالده الكريم الجناب (طويل) .
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرّجل(9/86)
وعلى كلّ حال فهو أجدر من استعان على هذه الحادثة بصبره، وشرح لما قد قدّر فسيح صدره، وشكر الله على حلو القضاء ومرّه، فما كان إلّا أحد العمرين فقد فخلفه عمر، وثاني القمرين أفل فقام مقامه هلال قدم من سفر، وفي بقاء المولى ما يوجب التسليم للقدر والقضاء، والشكر لله تعالى في حالتي الشّدّة والرّخاء، جعله الله في حرز لا يزال حريزا مكينا، وحصن على ممرّ الأيام حصينا.
وله: أعظم الله أجره، وأطال عمره، وشرح صدره، وأجزل صبره، وسخّر له دهره.
المملوك ينهي أنه اتّصل به خبر صدع قلبه، وسرق رقاده ولبّه، وضاعف أسفه وكربه، وهو [موت] فلان تغمّده الله برحمته، وأهمى عليه سحائب مغفرته، وعامله بلطفه، وجعل الخيرة له في حتفه، فشقّ ذلك قلبه وعظم عليه، وقارب لشديد حزنه أن يصل إلى ما وصل المرحوم إليه، لكنّه ثبّت نفسه وثبّطها، ورفع يده بالدعاء للمولى وبسطها، وسأل الله أن يطيل بقاءه، ويحسن عزاءه، ويحرسه من أزمات الزمان، فإنه إذا سلّم كان الناس في السّلامة والأمان، ويجعله عن كل فائت عوضا، كما أصاره جوهرا وجعل غيره من الأنام عرضا، ولقد جلّت هذه الرزيّة على كلّ جناب، ودخل حزنها إلى كلّ قلب من كلّ باب، جعل الله أجره للمولى من أعظم الذّخائر، ومنحه الحياة الأبديّة الّتي لا تنتهي إلى أمد ولا آخر، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (التعزية بالبنت)
من كلام المتقدّمين:
ابن أبي «1» الخصال المغربي:(9/87)
الشيخ فلان عزّاه الله على احتسابه، وجعل الثواب المرتقب أفضل اقتنائه واكتسابه. معزّيه عن فلذة كبده، ومساهمه في أرقه وسهده، والفاتّ في عضد صبره الجميل وجلده، فلان: فإنّي كتبته- كتب الله لكم خيرا يذهب جزعكم، وحسّن منجاكم بالتفدّي الجميل ومنزعكم- عندما وصلني وفاة ابنتكم المرحومة نفعها الله بإيمانها، وتلقّاها بروح الجنّة وريحانها، وهي- أعزّك الله- وإن آلمك فقدها، وأوجعك أن استأثر بها لحدها، فليعزّك عنها مصابنا بنبينا عليه السّلام، وعلمك بأنّا جميعا بمدرجة الحمام، أفتجد على الأرض خالدا، وقديما ثكلنا وليدا نجيبا ووالدا، فمن خلق للفناء، واختلس بمرّ الساعات والآناء، جدير أن يتّعظ بنفسه، ولا يحزن لذهاب من ذهب من ذوي أنسه، فاحمد الله عزّ وجلّ إذ رجّحت ميزانك، وضمنت لك يوم المعاد جنانك، والله عز وجل يرزقنا احتسابا جميلا وصبرا، ويؤنسك وقد اختار لك الصّهر قبرا، ويعظّم لك ثوابا جزيلا على مصابك وأجرا، ويعمّ فقيدتك بالرّحمى، ويسكب على جدثها مزنها الأوكف الأهمى، ويؤويك إلى كنفه الأعظم الأحمى، بمنّه ورحمته، لا ربّ غيره، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
الضرب الثالث (التعزية بالأب)
من كلام المتقدمين:
ابن أبي الخصال معزّيا بوزير:
يا سيّدي وواحدي، ومحلّ الابن المبرور، والأخ المشكور، عندي، أعزّك الله بالتقوى، ورضّاك بما قضى، وأمدّك بالنّعمى، وشملك بالحسنى.
كتبته- أعزك الله- وقد وصل كتابك الكريم بما نفذ به القدر الذي هو في العباد حتم، وله في كلّ عنق ختم، في الوزير الفقيه الشهيد أبيك كان، رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الحسنى الّتي أعدها لأوليائه مقرّه ومأواه، فأسفت كلّ الأسف لفقدانه، وقد كان عين زمانه، وعمدة إخوانه، تغمّده الله بغفرانه، ونقله(9/88)
إلى رضوانه، وتلك- أعزك الله- غاية الأحياء، وسبيل الأعداء والأحبّاء، كان على ربّنا- جلّ وعلا- حتما مقضيّا، ووعدا مأتيّا، والأسوة- أعزّك الله- في غمره الفضفاض، وبرّه الفيّاض، وأنه ختم له بالخير والانقباض، وكان آخر ذلك [الحسب] القديم، والجيل الكريم، وقد أمرك الخير فافعل ما أمرت به وكن كما ظنّك وقدّرك وتركك، وإنك بفضل الله تسدّ مسدّه، وتبلغ في كل فضيلة حضره السابق وشدّه، وتعدّ للأيام في الجدّ والاعتزام ما أعدّه، وإخوتك- أعزك الله- لك أظهار وأعضاد، وفيهم غزو مضادّ، فاشتمل عليهم، وارفق بهم؛ فإنهم ينزلونك منزلة أبيهم، وتجد أخلاقه وعونه فيهم. وأما ما أعتقده من تكريمك، وأراه من تفضيلك وتقديمك، فشيء تشهد به نفسك، ويدركه يقينك وحدسك، أشدّ به اعتناء، وأجمل له استواء، وأوفى عنك ردءا وغناء، جعلنا الله من المتحابّين في خلاله، والمتقلّبين في ظلاله، وأمّننا من الزمان واختلاف أحواله، بمنّه والسّلام.
الضرب الرابع (التعزية بالأم)
أبو محمد بن «1» عبد البر المغربي (منسرح) .
ما مات من أنت بعده خلف ... والكلّ في البعض غير ممتنع
كتب عبده القنّ، من الأسى لأجله بعض ما يجنّ، المنطوي على قلب تطمئن القلوب سلوّا ولا يطمئن، فلان: بعد وصول كتابه الكريم بصدع يصمي القلوب، ويقدّ أقوياء الجيوب، ويترك الأحباب مصرّعين على الجنوب، فوقف العبد عليه مترقرق المدامع، منحرق الأضالع، رائيا سامعا سجا الأبصار وأسى(9/89)
المسامع، فيا أسفي لخطب ضعضع ركن الجدّ وكان وثيقا، وصوّح «1» روض الفضل وكان وريقا، ونغّص حسن الصبر ولم يزل صديقا، وترك العبد خليقا بهذا القول ومثله معه حقيقا، فآه لدين ومروءة فقدا في قرن، وعلى صون وعفاف أدرجا في كفن، وحصان رزان لا تعرف بوصمة ولا تزنّ؛ لقد أصمّ بها الناعي وإن كان أسمع، وأرّق ما شاء الفؤاد وأراق المدمع، ولم يبق قلبا للصبر إلّا صدعه، ولا أنفا للسّلوّ إلّا جدعه، ولا بابا للتعزّي إلّا أرتجه، ولا عقيما للتأسّف إلا أنتجه، ولو قبل في الموت فدا وصحّ أن يؤخذ فيه فداء لما خلص إليكم ولا ألمّ، ولا عداكم في صروف المنايا المخيفة سلّم، لكن أبى الله إلّا أن تعمّ الحرقة، وتستولي على الوقت الفرقة.
الضرب الخامس (التعزية بالأخ)
أبو محمد بن عبد البر:
وكتبت والأنفس مرتمضة، والعين غير مغتمضة، والأنفاس تتصعّد، والأحزان تتأكّد، أسفا للمصاب الذي عمّ وغمّ، وأسمع نعيه فأصمّ، وقال للفرح: كفّ من عنانك، وللتّرح انتظر لأوانك، بوفاة [الفرد] الذي في رأسه نور، وسداد الآراء المختلفة وسداد الثّغور، والفذّ الذي شهد الرجال بفضله، وعقم النساء فما تجيء بمثله، أبي فلان صنوكم، السابق الذي لا يجارى، والشارق الذي لا يسارى، والغيث الذي عمّ المنيل والمستنيل، والليث الذي ورد الفرات زئيره والنّيل، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون! تسليما للقدر وإن ساء، وشمل المرؤوسين والرّؤساء، فياله مصابا ترك كلّ رأس أميما، وأودع صميم كلّ فؤاد ثكلا صميما، لقد أنصل السّمر اللهاذم، وأغمد البيض الصّوارم، وعطّل الكتائب والمقانب، وأوحش المفاوز والسّباسب، ولم يبق مشيد علا إلا(9/90)
هدّه، ولا مديد ثناء إلّا صدّه. ولم لا وهو الشخص يموت بموته بشر كثير، ويبكيه قلم وحسام ومنبر وسرير؟ وعند الله نحتسبه جميعا، ونوسعه بمحض الصّفاء وصفو الثناء توديعا وتشييعا، ونفارقه فراق الصّدر خلده، والمصاب جلده، فوا أسفي لرزئه ما أفظعه موقعا! وواحربا ليومه ما أظلمه مطلعا! وواحزنا لنعيه ما أشنعه مرأى ومسمعا!!! فلئن جرت الدموع له دما، وأضمرت الضلوع به مضطرما، لما أدّت حقّه ولا كربت، ولا دانت بعض الواجب فيه ولا اقتربت، ولولا أنّ المنيّة منهل لا يحلّأ وارده، ومعلم يهدى إليه على أهدى سمت مباعده، لم يبق في أنس مطمع، ولا لحزن مستدفع، ولكان الثاكل غير ما ترى وتسمع، وما أنتم أيّها الشيخ المكرّم ممن ينبّه على ذخر من العمل الصالح، يكتسبه، وصبر في الرّزء الفادح، يحتسبه، فصبرا فالمنون غاية الممسين والمصبحين، والنبأ الذي يعلم ذوقا ولو بعد حين؛ وهو تعالى المسؤول أن يرقع بمكانكم هذا الخرق المتّسع، ويصل بجنابكم ذلك الشّمل المنصدع.
ابن أبي «1» الخصال:
الشيخ فلان أبقاه الله يتلقّى الأرزاء بحسن الصبر، وجميل الاحتساب، ويتقاضى بالتعزي مرتقب الأجر، ومنتظر الثّواب، معزّيه في أخيه الكريم علينا، العظيم مصابه الفادح لدينا، فلان: فإني كتبته- كتب الله لكم صبرا تجدون ذخره، وأوجب لكم عزاء تحمدون يوم القيامة شأنه وأمره- عندما وصل من وفاة الشيخ أبي فلان أخيكم رحمه الله تعالى ما كدّر العيش ونغّصه، وجشّم جرع الحمام المقطوعة وغصصه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! استسلاما لقدره وقضائه، وأخذا فيما يدني ويقرّب من إرضائه، وما نحن إلّا بنو الأموات الذين درجوا، وسنخرج من الدّنيا كما قبلنا خرجوا، جعلنا الله جميعا ممن ينظر لمعاده، ويجعل التقوى خير ما أوعاه بجداده، وسلك بنا نهج هدايته وطريق رشاده. وهو جلّ وعلا يجزل لكم على مصابكم ثوابا عميما موفورا، ويجعل فقيدكم بين(9/91)
أيديكم في يوم القيامة نورا، ويلقّيه في دار الفردوس ملكا كبيرا وحبورا، ولولا كذا لسرت إليكم لأعزّيكم شفاها، وأحدّثكم عن ضلوع أحرق هذا المصاب حشاها، لكن امتثال أمره المطاع، حمل على البدار إلى ما أمر به والإسراع، والله عزّ وجلّ يديم لنا بكم الإمتاع، بمنّه وكرمه، والسّلام.
الضرب السادس (التعزية بالزوجة)
من كلام المتقدّمين:
أبو محمد بن عبد البر:
وقد تقرّر عند ذوي الألباب، وثبت ثبوتا لا يعلّل بالارتياب، أنّ الدنيا قنطرة دائرة، ومعبرة إلى الآخرة، وأنّ ساكنها وإن طال عمره، وطار في الخافقين أمره، لديغ سمّها، وصريع سهمها، فما تضحك إلّا لتبكي، ولا تؤنس إلا لتنكي، وقد نفذ القدر الذي ماله ردّ، ولا منه بدّ، بوفاة فلانة ألحقها الله رضوانه، وأسكنها بفضله المرجوّ جنانه، فإنّا لله وإنا إليه راجعون!! تأسّيا بالسّلف الصالح، وتسلّيا عن ماء الدّمع السّافح، وزند القلب القادح. وعند الله نحتسبها عقيلة معدومة المثيل، مفقودة الدّين والعفّة في هذا الجيل، متحلّية من دعاء الفقراء، وثناء الصّلحاء، بالغرّة الشادخة والتحجيل، لقد ذهب لذهابها الرّفق والحنان، وعدم لعدمها الشّيم البرّة والأخلاق الحسان، وإنّ فقدها لخرق لا يرقع، وغلّة لا تنقع، وخطب لا يزال الدهر يتذكّر فيصدع، ولولا العلم بأن اللّحاق بها أمر كائن، وأن المخلّف في الدّنيا لا محالة عنها بائن، وأن التنقّل للآخرة ما لا ننفكّ نسمعه ونعاين، لما بقيت صبابة دمع إلّا ارفضّت، ولا دعامة صبر إلّا انقضّت، ولكان الحزن غير ما تسمع وترى، والوجد فوق ما يجري وجرى، لكن لا معنى لحزن لما يقع فيه الاشتراك، ولا وجه لأسف على ما لا يصحّ فيه الاستدراك. وما أنتم بحمد الله ممن يذكّر بما هو فيه أذكر، ولا ممن ينبّه على ما هو بالتنبيه عليه أخلق وأجدر، ولولا أنّ التّعازي مما اطّرد به العمل،(9/92)
وسنّه الصالحون الأول، لما سلك سبيله معكم وأنتم ممن قدر الأمور قدرها، وعلم أنّ الحياة ولو طالت فالموت أثرها، وإذا لم يكن من الموت بدّ، ولم يمنع منه صدّ ولا سدّ، فالصبر خير من الجزع، وأدلّ على كرم المنحى والمنزع، وأحرى أن يكون الثواب جزيلا، والجزاء حسنا جميلا، والله يبقيكم أتمّ البقاء، ويرقّيكم أتم الارتقاء.
ابن أبي الخصال:
الشيخ الأجلّ فلان آنس الله وحشته، وجدّد على فقيدته رحمته. معزّيه عن أهله الهالكة وسكنه، ومساهمه بأوجب حزن في القلوب وأسكنه. فلان:
فإنا كتبناه عن دموع تصوب وتنسرب، وضلوع تخفق من وجيبها وتضطرب، وأنس يشرد منا ويحتجب، بموت فلانة رحمها الله الّتي أودعت في جوانحنا من الثّكل ما أودعت، ورضّت أكبادنا بمصابها وصدعت، عزّانا الله جميعا فيها، وأولاها نعيما في الفردوس الأعلى وترفيها، وأعقبنا من الوحشة أنسا، وعمر بالرّحمى جدثا مباركا ورمسا، وجعلنا كلّا ممن يردع عن الانحطاط إلى الدنيا نفسا، بمنّه وكرمه.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبي:
لمّا علم مملوك المجلس «2» السامي أطال الله بقاءه، وأعظم أجره وأحسن عزاءه، وفاة السيدة المرحومة سقى الله عهدها عهدا يبلّ الثّرى، وجعل الرحمة لمن نزلت به لها القرى، تألّم لفقدها غاية الألم، ووجد حرقة كسته ثوبي ضنّى وسقم، وحزنا لا يعبّر عنه بعبارة بيانه، ولا يستوعب وصفه بلسان قلمه وبنانه (وافر) .(9/93)
ولو كان النّساء كمن فقدنا ... لفضّلت النّساء على الرّجال
والمولى أولى من عزّى نفسه، واستحسن رداء الصبر ولبسه، وعلم أنّ الموت غريم لا ينجي منه كثرة المطال، ولا يدافع بالأطلاب والأبطال، وأنه إذا طالب بذمّة كان ألدّ الخصام، وإذا حارب فعل بيده ما لا تفعله الكماة بحدّ الحسام.
الضرب السابع (التعازي المطلقة مما يصلح إيراده في كلّ صنف)
من ذلك، من ترسّل أبي الحسين «1» بن سعد:
من صحب الأيام وتقلّب في آنائها، اعتورته أحداثها، واختلفت عليه احكامها، بين مسرّة ومساءة يعتقبان، وفرحة وترحة يتناوبان، [وكان] فيما تأتيه من محبوبها على غير ثقة من دوامه واتّصاله، ولا أمن من تغيره وانتقاله، حتّى تعقب السلامة حسرة، وتستحيل النعمة محنة، والسعيد من وفّق في كلّ حال لحظّه، وأعين على ما فيه سلامة دينه، من الشّكر على الموهبة، والصبر على النازلة، وتقديم حقّ الله تعالى في حال الغبطة والرّزيّة. ولم تكن بالفجيعة به مفردا عنّي وإن كان النّسب يقرّبه منك، والرّحم تصله بك؛ لما كنت أوجبه من حقّه، وأرعاه من مودّته، وأختصّه بالاعتداد فيه دون أداني أهلي والثّقة من إخواني، فمضى رحمه الله أقوى ما كان الأمل فيه، وأكمل ما كان عليه في لبّه وأدبه، واجتماع فهمه وكمال هديه، وانتظام أسباب الخير وأدوات الفضل فيه.
ومنه: لا ينكر للعبد أن يتناول مولاه عند وقوع المحنة في أهل خاصّته، وتخوّن ريب المنون من حاشيته، بالتعزية عن مصيبته، والإخبار عما يخصّه من ألم فجيعته وعظم رزيّته، لا سيّما إذا كان بحيث لا يرى شخصه في الباكين، ولا تسمع صرخته بين المتفجّعين، ولو سعيت على حدقتي.
ومن ذلك:(9/94)
إنّ الله تعالى أمر أهل طاعته، بتنزيل هذه الدنيا بمنزلتها من إهانته، وسوّى بين البرّ والفاجر في رغائبها ومصائبها، ولم يجعل العطيّة دليلا على رضاه، ولا الرزيّة دليلا على سخطه، ولكنّه ألزم كلّ واحد من أهل الرّضا والسّخط من نعمها بنصيب، وسقاهم من حوادثها بذنوب؛ ليبتلي أهل رضاه في أهون الدارين عليه، ويحسن لهم الجزاء في أكرمهما لديه، ولذلك حبّب إليهم الزّهادة في زهيد فائدتها، وممنوح زهرتها، وسمّاها لعبا ولهوا؛ لئلّا يعلقوا بحطامها، وينغمسوا في آثامها، وختمها بالموت الذي كتبه على خليقته، وسوّى بينهم في سكرته: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «1»
، ويقرّبهم بدار يفنى الموت ويبقون فيها بعده، كما فنوا في هذه الدار وبقي الموت بعدهم، فإن تأخّر الأجل فإلى غاية، وإن تطاول الأمد فإلى نهاية. ولا بدّ أن يلحق التالي الماضي، والآنف بالسالف، وهذه حال نصب الأفكار، وتلقاء الأبصار، لا تحتاج أن يرتاض الصبر على آلامها، والتحمل لمعضلات سهامها، والجزع عند وقوعها قادح في البصائر والأفهام، دالّ على الجهل بالليالي والأيام، وقد طرق المملوك ناعي فلان فهدّ جلدي، وفتّت كبدي، لا ارتياعا للحادثة؛ لأنّها لو لم تكن فيه لكانت في المملوك، ولو لم تتطرّق إليه لتطرّقت إلى المدرك (؟) ولكن الأسف على عطل الزمان من حلية فضله، وتعرّيه من حلّة نبله، وخلوّ عراصه من الأنس بمثله، وما نال سيّدي لفقده، وتحمّله من بعده، وإلى الله تعالى يرغب المملوك أن يربط على قلبه بالصبر، ويوفّقه لتنجّز ما وعد به الصابرين من الأجر، إن شاء الله تعالى.
عليّ بن خلف:
رقعة: ليس عند المصيبة- أطال الله بقاء سيدي- خير من التسليم إلى الله والرّضا بقضائه، والصبر على بلائه، فإنه تعالى مدح الصابرين في كتابه، ووعدهم بصلواته، فقال جلّ قائلا: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا(9/95)
إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «1»
. وقال جلّ قائلا: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ
«2» . ولم تزل الأولياء من القدماء يحضّون على الصبر وهم لا يرجون عليه ثوابا، وينهون عن الجزع ولا يخافون عليه عقابا. ومن عرف الأيّام وتداولها، والأحوال وتحوّلها، وسّع صدره للنوائب، وصبر على تجرّع المصائب، ومن «3» اغترّ بطول السّلامة، وطمع في الاستمرار والإقامة.
رقعة: وقد اتصل بالمملوك خبر الفجيعة بفلان، فأفيضت المدامع، وتضعضعت الأضالع، وزفرت الأنفاس، وهمدت الحواسّ، وأذاب الطرف سواده على الوجنات بدلا من الأنقاس، وخلعت القلوب سويداءها على الأجساد، عوضا عن جلابيب الحداد، وعضّت الأنامل جزعا، ومزّقت الثياب تفجّعا وتوجّعا، وكل هذا وإنّ فارق حميد التّماسك، ووافق ذميم التّهالك، غير موف بحقّ ذلك الدارج الذي بلغ المعالي وهو في مهده، وشدّ دعائم الفضل ولم يبلغ أوان رشده، وعلم سيدي أنّ غاية الجازع وإن صدعت المصيبة قلبه، وأطاشت الفجيعة لبّه، الصبر والسّلو، وأنّ نهاية القلق وإن هجمت عليه الحرقة بما لا تتوفّر عليه الأضالع، ولا تتماسك معه المدامع، القرار والهدوّ، والله تعالى لا يريه بعد هذا الرّزء رزءا بفنائه، وينقل ذلك عنه إلى حاسديه وأعدائه.
رقعة: من علم أنّ الأقضية لا تخطيء سهامها، والأقدار لا تردّ أحكامها، سلّم الأمر في السّرّاء والضّرّاء، ورضي بما مناه في البلاء والابتلاء، ولا سيّما(9/96)
في مصيبة الموت الّتي سوّى بين الخليقة في تجريع صابها، واقتحام عقابها، وقد اتّصل بالمملوك خبر الحادث الفاصم لعرى الجلد، البارح «1» في الجلد، فاستحالت في عين المملوك الأحوال، ومالت عنه الآمال، ورأى السماء وقد تكدّر جوّها، والشمس وقد تعكّر ضوّها، والسّحائب وقد أخلف نوّها، والنّهار وقد اظلم، والليل وقد ادلهم، والنسيم وقد ركد، والمعين وقد جمد، والزمان وقد سهمت وجنته، وسلبت حليته، وأفرجت قبضته عن التماسك، وقبضت على التهالك، وعدلت عن التجلّد، إلى التبلّد، ثم أفاق من غمرة فجيعته، وهبيب سنة رويّته، فسلّم لله راضيا بأقضيته، راغبا في مثوبته.
أبو الفرج «2» الببغاء:
إذا كان أيّده الله أهدى في النّعم إلى سبل الشكر، وأعرف في المحن بطرق الصبر، فكيف نحاذر عليه من المصائب، ونذكّره التسليم لمحتوم النّوائب، والمصيبة بفلان أعظم من أن نهتدي فيها إلى سلوة غير مستفادة منه، أو نقتدي في العزاء بغير ما نأخذه عنه، إذ كانت قلوبنا تبع قلبه- سرّه الله- في طروق السّراء والضّرّاء، وحالتي الشّدّة والرّخاء. وأحسن [الله] عن الفجيعة عزاءه، وأجزل من المثوبة عطاءه، ولا شغله عن حلاوة شكر النّعم بمرارة الصبر على ورود المحن، وجعل ما نقل الماضي إليه، أنفع له ولسيّدي من الجزع عليه.
وله في مثله:
اتصل بي خبر المصيبة فجدّد الحسرة، وسكب العبرة «3» ، وأضرم الحرقة، وضاعف اللّوعة، وكان الأسف عليه، بقدر تشوّف الآمال كانت إليه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! أخذا بأمره، وتسليما لحكمه، ورضا بمواقع أقضيته،(9/97)
وأحسن الله في العزاء هدايته، وحرس من فتن المصائب بصيرته، وحمل عن قلبه ما أظلّه من ثقل المصيبة وعظم الرزيّة.
ولا أزال على جملة من القلق إلى أن يرد عليّ كتابه- أيده الله- بما أكون فيه بأدبه مقتديا، وبهدايته إلى سبيل العزاء والصبر مهتديا، فإن رأى إجرائي من تشريفه بذلك على مشكور العادة، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
اشتراك القلوب فيما ألمّ بقلب سيّدي بحسب تساويها في المسرّة بما سرّه، إذ كان لا يختصّ دون أوليائه بنعمة، ولا ينفرد دون مؤمّليه بحلول موهبة، والمصيبة بفلان وإن جلّ موقعها وعظمت الفجيعة [بها]- جلل»
مع سقوط الأقدار دونه، وتجاوزها عنه، ومسامحتها به، فلا شغل الله قلبه بعدها بمرارة الصبر عمّا توجبه النّعم من حلاوة الشّكر، ولا جاوره برزيّة في حميم ولا نعمة.
وله في مثله:
بصيرتك إلى العزاء تهديك، واغتباطك بثواب الله يسلّيك، وعلمك بقلّة الغناء عن الجزع يثنيك، وجمعنا بك في الصبر مقتدون، ولرأيك في الرّضا بما اختاره الله تعالى متّبعون، فحمل الله عن قلبك ثقل المصيبة، وحرس يقينك من اعتراض الشبهة، وأحسن إلى جميل الصبر هدايتك، وتولّى من فتن المحن رعايتك، وجعل ما نقل الماضي إليه، أنفع لك وله من الأسف عليه.
وله في مثله:
اتصل بي خبر المصيبة فأضرم الحسرة، وسكب العبرة، وقدح اللّوعة، وامترى «2» الدّمعة، وكانت مشاركتي إيّاك في المصيبة به، والفجيعة لفقده، بحسب اختصاصي بمواهب الله عندك، واغتباطي بمنحه لديك، فإنّا لله وإنّا إليه(9/98)
راجعون!! تسليما لأمره، وانقيادا لحكمه، ورضا بمواقع أقداره، وأحسن الله على العزاء توفيقك، وإلى السّلوة إرشادك، ولا أخلاك فيما تطرقك به مصيبة من مصاحبة الصبر، وفيما تفد به عليك نعمة من الاستزادة بالشكر، وحرسك في نفسك وأحبّتك، وذوي عنايتك ونعمتك.
وله في مثله:
قدرك أكبر، وبصيرتك أنور، وثقتك بالله تعالى أعظم من اعتراض الشّكوك عليك فيما يطرقك من عظاته بالحوادث وإن عظمت، والمحن وإن جلّت، اختبارا بالمصائب لصبرك، وبما يظاهره عليك من النّعم لشكرك، ومثلك، أيدّك الله، من قابل الفجيعة بفلان- إذ كانت من الواجب المحتوم- بأحسن عزاء وأفضل تسليم، غير مرتاب بما اختاره الله له ولك فيه، فعظّم الله به أجرك وحرسك وحرس فيك.
الأجوبة عن التّعازي قال في «موادّ البيان «1» » : أجوبة التّعازي يجب أن تبنى على وقوف المعزّى على كتاب المعزّي، وأنّ إرشاده نقع غلّته، ووعظه نفع علّته، وتبصيره سكّن أواره، وتذكيره أخمد ناره، وتنبيهه أيقظ منه بحسن العزاء غافلا، وهدى إلى الصبر ذاهلا، وحسّن عنده الرزيّة بعد جهامتها، ودمّث نفسه للمصيبة بعد فدامتها، فسلّم لله تعالى متأدّبا بأدبه، وعمل بالحكم مقتديا بمذهبه، وغالب الرّزء بالعزم، وأخذ فيه بالحزم، وسأل الله تعالى أن يحسن له العوض في ردّه، ويجعله له خلفا ممن أصيب بفقده، ونحو هذا مما ينخرط في سلكه.
جواب عن تعزية: من زهر الربيع:
أعزّ الله سيدنا وأسعده، وسهّل له طريق المسرّة ومهّده، وصان عن حوادث الأيّام حجابه، وعن طوارق الحدثان جنابه، وجعله في حمى عن(9/99)
عوارض الغير والغرر، وأصار أيّامه محسّنة لوجوه الأيّام كالغرر.
ورد الكتاب الذي أنعم بإرساله، بل المشرّف الذي كسته اليد العالية حلّة من حلل جماله، فوقف عليه وفهمه وتذكّر به إحسانه الذي لا ينساه، وتفضّله الذي لا يعرف سواه، فأما التعزية بفلان، فإنه ردّ بعذب لفظها قوّته، وبلّ بماء حسنها غلّته، وصبّره على حادثته بفلان بعد أن عزّ عليه العزاء وأعوزه، وطلب وعده من صبره فما أنجزه، لأنه كان وجد لموت المذكور حزنا ما استطاع له تركا، وفقد لموته خلّا مثله يناح عليه ويبكى، وفي بقاء مولانا مسرّة تطرد كلّ حزن، وفي بهاء طلعته عوض عن كل منظر حسن، جعله الله ساميا على أترابه، مقدّما على أضرابه، ما سمت الأسماء على الأفعال، وتقدّم الحال على الاستقبال.
آخر: ضاعف الله بقاءه وأطال عمره، وشرح لإسداء المكارم صدره، وأنفذ نهيه وأمره، ولا زال إلى أوليائه محسنا، وفضله يحصّل لمحبّيه غاية السّول والمنى، ورد مشرّفه المعزّي بوفاة فلان سقى الله عهده عهاد رضوانه، وأسكنه في غرف غفرانه، فجبر مصابا، وفتح إلى الصّبر أبوابا، وهدى إلى طريق الخير وقال صوابا، وسكّن نفسه، وذكّره إحسانه الذي لم ينسه، وأزال الوحشة وزاد أنسه، بعد أن كان فقد المذكور قد هدّ ركنه وفتّ عضده، وأوصله إلى أمد الحزن وضاعف على الأيام أمده، وألبسه رداء الاكتئاب، على تربه الذي أصبح تحت التّراب، وصديقه الموصوف بالصدق، الذي فاق سناه ذلك الأفق، جعله الله أصلا في تحصيل المسرّة إذا ذوت الفروع، وسيفا يقهر به وليّه الحوادث الّتي تروع، إن شاء الله تعالى.
آخر: جعل الله أجره عظيما كقدره، والقلوب مجمعة على حبّه كإجماع الألسنة على شكره.
المملوك يعلمه بورود كتابه الكريم المعزّي بفلان- قدّس الله روحه، وأمطر سحائب الرحمة ضريحه- عليه، وعنده من شديد الحزن، ما أعدمه لذيذ(9/100)
الوسن، ومن زائد الاكتئاب، ما كاد يحرمه التقمّص بثوب الثّواب، بحيث إنّه عوّض بالزّمن الأسود عن العيش الأخضر، وذاق من موجب لبس الأبيض طعم الموت الأحمر، وأنه ضمه إليه ضمّ المحبوب، وابتهج به ابتهاج من ظفر بغاية السّول والمطلوب، فأغمدت الكآبة خوفا من قلمه سيفها، وأزالت الدنيا الدنيّة عنه حيفها، وعزّى نفسه وسلّاها، وشغله إحسانه عن محاسن محا الموت سناها، فرفض من توجّعه ما فرضته حادثته، وسلك منهجا غير المنهج الذي فتّتت فيه حشاه ومهجته، فالله تعالى يكفينا ما نحاذره في المجلس ويحرس سناه، ويديم سعده وعلاه.
النوع الثالث (من مقاصد المكاتبات التّهادي والملاطفة)
قال في «موادّ البيان» : رقاع التّهادي يجب أن تودع من الألفاظ المستحسنة ما يمهّد لقبول الملاطفة والمبرّة الّتي تتميز في المودّة. قال: وينبغي أن يطرف الكاتب إذا كان مهديا أو مستهديا، وقد جرت العادة أن تودع هذه الرقاع من أوصاف الشيء المهدى ما يحسّنه في نفس المهدى إليه. قال:
وينبغي لمن ذهب هذا المذهب أن لا يعتمد تفخيم هديّته، ولا الإشارة إلى جلالة خطرها، فإنّ ذلك يخلّ بشروط المروءة ويتحاماه الكرماء.
ثم هي على ثلاثة أضرب:
الضرب الأوّل (ما يكتب مع التّقادم إلى الملوك من أهل مملكتهم إلى القائمين بإيصال التّقدمة إلى الملك وكاتب السّرّ ونحوهما)
الشيخ جمال الدين بن «1» نباته: إلى كاتب «2» السرّ بالأبواب السلطانية(9/101)
صحبة تقدمة من نائب الشام إلى السلطان «1» :
لا زالت أقلامها لنتائج الفضل مقدّمة، ولمراكض الكرم والبأس جيادا مسوّمة «2» ولكتائب الملك من كتبه أعلاما بشعارها العبّاسيّ معلمة، وفي يد صاحبها من أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآيات الله ونعمها من أصحاب المشأمة، تقبيل محبّ لا تفسخ عقود ولائه المحكمة، ولا تنسخ إلّا في الكتب عقود ثنائه المنظّمة، ولا تطوف الأشواق ببيت قلبه إلّا وهي من ملابس السّلوان المحرّم محرمة.
وينهي أنه قد اختار من عناية مولانا بمقاصده أحسن الخير، وبورك له في قصدها (ومن بورك له في شيء فليلزمه) كما جاء الخبر، وقد جهّر فلانا إلى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها بتقدمته على العادة في كلّ سنة، واتّبع سفارة مولانا بين يدي المواقف الشريفة فاتّبع من القول أحسنه، وسأل حسن نظر مولانا الذي إذا لا حظ قصدا أعلنه وسعدا عيّنه، وقد جهّز المملوك برسم مولانا ما هو بمقتضى الورقة المجهّزة عطفها، المؤمّلة وإن كانت ورقة قطفها، وسأل مقابلتها بالجبر الذي يحسب الأمل حسابه، ويستفتح ببنان القلم بابه، والإصغاء لما يملى من رسائل الشّوق فإنّها من رسائل إخوان الصّفا المستطابة، لا برح القاصدون مرحين بأيّام مولانا وحقّ لهم أن يمرحوا، تالين نسبة بيته ورحمى الله على يده: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
«3» .
وله إليه أيضا مع الجهاز الشريف السلطاني:
أمتعها الله من خيري الدنيا والآخرة بكرم الأمرين، وبشرف الذّكرين، وسرّها بما يجهّز في الثّناء والثّواب من الوفرين، وأعلى منارها المحلّق إلى السماء على وكر النّسرين. ولا زالت الآمال لا تبرح حتّى تبلغ من تلك اليدين(9/102)
مجمع البحرين، تقبيل مخلص في الولاء والدّعاء، مستشهد بالخواطر الكريمة على ثبوت الادّعاء، وارد لموارد النّعم قبل صدور بل قبل ورود الرّعاء.
وينهي أنه ليس للمملوك فيما يؤمّله ويتأمّله، ويفصّله من عقود المطالب ويجمله، غير إحسان مولانا الذي لا يملّ على طول الإيناس والإلباس، وعوارف بيته المستجدة تالية: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ*
«1» . وقد جهّز المملوك الولد فلانا بالجهاز المبارك إلى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها، وملأ به جواهر حبّات القلوب وريحانها، وهو على قدر المملوك ومقداره، لا على قدر مراده واختياره، ولو أن المراد مما يحمله العبد إلى سيّده، ويقدّمه من سبد الحال ولبده، على قدر المحمول إليه، والمقدّم بين يديه، لضعفت قوى أكثر العبيد عن ذلك، ويئس من الرّضوان جهدهم المالك، وإنما على العبيد أن تنصب على قدرتها الحال، وعلى السادات أن تصرّف بعوامل الخبر مستقبل الأفعال.
وعلم مولانا الكريم محيط بتنقّل المملوك في هذه السّنين من بلد إلى بلد، ومن أمد كلّفه إلى أمد، وبما حصل في ذلك من التمحّق في إقطاعات كاد أن يخني عليها الّذي أخنى على لبد. وكان المملوك يودّ لو كان هذا المحمول من الجهاز من جواهر النّجوم المنثورة، وأخبية السّعود المأثورة، وجميع ما زيّن للناس من الشّهوات المذكورة، أضعاف أضعافه الآن، بل أضعاف أضعاف ما حمل الأوّلون من فلان وفلان، كالحسن «2» بن سهل مع الجهة المأمونيّة الّتي حلا ذكرها، وابن طولون «3» مع المعتضديّة الّتي كاثر هذا الغيث قطرها،(9/103)
والسّامانيّ وما أدراك، والسّلجوقيّ وما أسراك، وجميع ما تضمّنته التواريخ الّتي لو عاينت تاريخ هذه الدولة الشريفة عنت في الحال لمجده، وكان كلّ مجلّد منها يموت للهيبة في جلده؛ لما خلّدته أيامها الشريفة من أخبار حكمها وخيرها، وكرمها وبرّها، وعطفها على مماليك بيتها الشريف، تتقبّل ميسورهم، وتكمّل سرورهم، ويملأ بجيوش الانشراح صدورهم، وتبلّغهم من همم مطلوبهم، وتقبل على زاهرات نجاياهم ورياحين قلوبهم (متقارب) .
ولو لم تطعه نيات القلوب ... لما قبل الله أعمالها
والمملوك يسأل من إحسان مولانا الذي ألفه، ومعروفه الذي عرفه، ملاحظة الولد فلان بين يدي المواقف الشريفة خلّد الله سلطانها، وإقامة عذر المملوك بعبارته الّتي أحلّ الله سحرها وبيانها. فما للمملوك في مقاصده مثل مودّة مولانا الوافية المتوافيه، ومقدّمة عبارته الكافية الشافية، والله تعالى يعين على شكر مننه، والقيام بفرائض حمده وسننه، والنهوض بأوصاف أياديه الّتي يغرّد بها قلم الكتّاب كما يغرّد القمريّ «1» على فننه.(9/104)
الضرب الثاني (ما يكتب مع الهديّة عند بعثها)
وهو على عشرة أصناف:
الصنف الأوّل- ما يكتب مع إهداء الخيل.
علي بن «1» خلف: في إهداء جواد أدهم أغرّ محجّل.
وقد خدم المملوك ركابه الأكرم، بجواد أدهم «2» مطهّم، قد سلب الليل غياهبه وكواكبه، فاشتمل بأديمه، وتحلّى بنجومه، وأطلع من غرّته السّاذجة قمرا متّصلا بالمجرّة، وتحلّى من رثمته «3» بالثّريّا أو النّثرة، صافي القميص، ممحوض الفصوص، حديد الناظر، صليب الحافر، وثيق القصب، نقيّ العصب، قصير المطا، جعد النّسا، كأنما انتعلت بالرّياح الأربع أربعه، وأصغى لاستراق السّمع مسمعه، إن ترك سار، وإن غمز طار، وإن ثني انحرف، وإن استوقف وقف، أديب نجيب، متين صليب، صبور شكور، والله تعالى يجعل السعادة مطلع غرّته، والإقبال معقد ناصيته.
من كلام المتأخرين:
كتاب عن نائب الشام إلى الملك الصالح: شمس الدين صاحب «4»(9/105)
ماردين قرين خيل منعم بها إليه، عن السلطان الملك الصالح، عماد الدين إسماعيل «1» بن الناصر محمد بن قلاوون- من إنشاء الشيخ جمال الدين «2» ابن نباتة، وهو بعد الألقاب:
وأجرى بالنّصر جياده، وبالظّفر مراده، وعلى عوائد السّعد مطالع شمسه الّتي يسمّيها عرف المملكة بلاده، ولا زالت منيرة بسعادة شمسه الأحلاك، نظيمة بدرّ محامده الأسلاك، ماثلة خيول سعده حتّى حمر السّوابق من البروق والشّهب السّوانح في الأفلاك.
المملوك يقبّل اليد الّتي إذا بسطت فلأن تجود وتستلم، وإذا قبضت فعلى سيف أو قلم.
وينهي بعد ولاء وثناء للإخلاص شارحين، وفي الضمائر والآفاق سانحين، واشتياق وعهد كانا أحقّ بالانتماء لاسمه ونعته وكان أبواهما صالحين، أنّ المرسوم «3» الشريف زاده الله تعالى شرفا، ورد يتضمّن تشريف مولانا على العادة وإعظامه، واستقرار مكانته من الخواطر الشريفة في دار مقامه، واستمرار(9/106)
كرامته من الآراء المعظّمة ولا ينكر بين الصالح والصّالح استمرار الكرامة، وأنّ الصّدقات الشريفة أنعمت على مولانا بثلاثة أرؤس من الخيل كثلاثة الراح، إلّا أنّ حبابها عرق سبقها، وثلاثة الشجر (؟) كما قال الطائي: تساوي شرف ثمرها وزهرها وعرفها، ما منها إلا من «1» تقصر الرّياح أن تسلك فجّه، والبروق أن تتبع نهجه. ومن تودّ الثّريّا أن تكون لجامه والهلال أن يكون سرجه. ومن يتمطّر «2» كالغمام ويركض كالسّيل. ومن كملت حلاه ولبس حلّه الفخار فمشى على الحالتين في الحلّتين مسبل الذّيل. ومن عقد بناصيته كلّ الخير وعقد له لواء الفخار على كلّ الخيل، من كلّ خضراء معجبة فهي على المجاز حديقة، وكل أحمر سابق فهو البرقيّ على الحقيقة، وكلّ أصفر شفقيّ إلّا أنّ الرياح من مجاراته على نفسها شفيقة.
وكيف لا يشبّه بالشّفق وهو من الأصائل؟ وكيف لا يفتخر العسكريّ بهذه الخيل وخناصر عددها فى الحسن أوائل؟ قد صرفت وجوهها المقبّلة، لباب مولانا أحسن المصارف، وكتبت عوارف الفضل في معارفه المسبلة، فناهيك منها بكتاب عوارف المعارف، ووصل لمولانا بذلك مثال «3» شريف، ورسم للمملوك بتجهيزها مع من يراه، وقد جهّز المملوك لخدمة مولانا الخيل المذكورة مع المثال الشريف صحبة فلان، ومولانا أدرى بنفحات رياض الحمد بهذه الدّيم المطلّة، وبالتقبيل في الأرض الّتي هي سماء حوافر هذه الخيل الّتي هي أهلّة، وأولى أن يشرّف المملوك بمهمّاته، ويؤنس لحظه بطيف اليقظة من مشرّفاته،(9/107)
والله تعالى يجدّد لمعاليه في كل قصد نجحا، ويعلي لمجده «1» في كل حال قدحا، ويروّع الأعداء من خطوات خيله في بلادهم بالمغيرات صبحا، ومن خطرات ذكره في قلوبهم بالموريات قدحا.
وفي معناه:
يقبّل الباسطة الشريفة أعلى الله شانها، وجمّل ببقائها زمانها، وضاعف على الأولياء برّها وإحسانها.
وينهي: أنه ابتاع جوادا أعجبه، وطرفا انتخبه، وقد قدّمه لوليّ نعمته، ومالك عهدته؛ لأنّ الكرام لا تكون إلّا عند سيّد الكرام، والذي يصلح للمولى على العبد حرام، فالله تعالى يجعل التوفيق ضياء غرّته، واليمن معقد ناصيته، والإقبال تحجيل أوظفته، والسعادة موضع الجلوس من صهوته، والمملوك يسأل الإنعام بقبوله، و [أن] يبلّغه من ذلك [غاية] مأموله، مضافا إلى ما سبق به سابق إحسانه العميم، وفضله الجسيم، والله تعالى يحرسه بعينه الّتي لا تنام، آمين.
الأجوبة بوصول الخيل جواب عن نائب الشام إلى أمير آخور «2» بالأبواب الشريفة، عن وصول خيل إليه من الإنعام الشريف- من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الألقاب:
لا زالت مبشّرة بأعظم الخير وكرام الخيل، ميسّرة النعماء «3» بسوابق السّير(9/108)
كدوافق السيل، مسفرة عن إيجاد سوابح إلّا أنها في الفخار والشّية ضافية الذّيل، سفيرة في الجوادّ بكلّ جواد تبتسم غرّته ابتسام النهار ويدرك طلبه إدراك الليل، تقبيلا يستبق استباق الجياد، ويتّسق على الدّرج اتّساق العقود على الأجياد.
وينهي بعد ثناء وولاء: هذا يهيم في كل واد، وهذا يهيم بمثله كلّ وادّ، ورود مشرّفة مولانا الكريمة بما ملأ القلب مسرّة، والعين قرّة، ودرج عام «1» الفيل من نجب الخيل السيارة مستهلّ وغرّة، فقابلها المملوك بتقبيله، وقام لها على قدم تبجيله، ثم قام إلى الخيل الشريفة المنعم بها عليه فقبّل من حوافرها أهلّة ثم من غررها نجوما، وتأمّل شياتها البرقيّة واستمطر من السّعود غيوما، فأذنت له من الإقبال أمد قاصيها، وظلّ بمنزله الخير المعقود بنواصيها، وتضاعفت أدعيته الصالحة لهذه الدولة القاهرة الصالحيّة زادها الله من فضله، والوقت الذي ملأ الدنيا بسحاب جوده ورياح جياده ورياض عدله، والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، ولولا شهود العهد الشهيديّ لقال: ولا لأحد من قبله، وأعدّ المملوك هذه الثلاثة من الخيل ليفني عليها بالقتال أهل التعطيل والتّثليث، ويستخفّ بها آجال الأعداء بين يدي مالكه، فإنها من ذوات العزّ والعزم الحثيث، وما هي إلّا كواكب سعد تمددها أسنّتها الوقّادة، وزهرات حسن حيّت بها على البعد سفارته المعتادة؛ لا برح مولانا يقلّد بعنايته وإعانته المنن الجسام، وينصر بعزائمه القاطعة، وكيف لا ينصر ويقطع وهو الحسام؟
وله في جواب وصول أكديش «2» وباز «3» [وكوهيّة] «4» :(9/109)
لا زال جزيلا سماحه، جميلا من الحمد رباحه، جليلا برّه الذي يشهد به طائر الخير ويمنه وطائل الخيل ونجاحه. هذه المفاوضة تهدي إليه سلاما يخفق جناحه، وثناء تشرق غرره وأوضاحه، وتوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته سريعة الاحتثاث، طائرة بيمن طرسها وهديّتها بأجنحة مثنى وثلاث، فحصل الوقوف عليها، وتجدّد عهد الارتياح لديها، وفهمنا ما لم نزل نفهمه من ودّ الجناب العالي، وبرّه المتعالي، ووفاء عهده الذي تتلقّاه المحامد بأمالي المحبّ لا بأمالي القالي «1» ، ووصل الأكديش الايكر ظاهرا حسنه، وسافرا عن وفق المراد يمنه، تتجمّل به المواكب، وتماشيه الرّياح وبعضها من خلفه جنائب، وكذلك وصل البازي والكوهيّة، وكلاهما بديع الأوصاف، سريع الاقتطاف لأزاهر الطير(9/110)
والاختطاف، يسبق الطّرف بجناحه اللّموح، ويستعجل من الأفق وارد الرّزق الممنوح، ويواصل الخير والمير إلى المطبخ، فكأنّ حوائج كاش تغدو إليه وتروح، لا برح إحسان الجناب «1» العالي واصلا، وذكره في ضمير الاعتداد حاصلا، وحكم سماحته وشجاعته باستحقاق الثناء فاصلا.
جواب بوصول جوارح:
كتب به عن نائب الشام، جوابا لمطالعة وردت على نائب الشام من الصالح صاحب ماردين «2» من بقايا بني أرتق، صحبة سناقر «3» ، هديّة للصالح «4» إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، صاحب الديار المصرية. من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة:
وأيّد هممه السّوابح، ونعمه السوافح، وشيمه الّتي تنتظم منها عليه درر المحامد والمادح، وشكر هداياه الّتي منها جوارح طير تخفق لفرط استحسانها الجوارح، ولا زال من أجنحة نصره حتّى السّماك الرامح، ومن جنود سعده للأولياء سعد السّعود، وفي الأعداء سعد الذابح، ومن جياد ركابه الشّهب إلا أنها شهب الأفلاك السّوابح، ولا برح سلطان البسيطة مكافئا عمل قلبه الوفيّ، ولا ينكر العمل بالقلوب بين الصالح والصّالح.
المملوك يقبّل الأرض الّتي تستمدّ السّحب من سمائها، وتستعدّ منازل(9/111)
الأنجم للتعلّم من أنوائها، تقبيلا يودع ورق الرسائل أزاهره، ويطلع في ليالي السّطور زواهره، ويدّخر في أيدي الحروف إلى أن تصل إلى أجياد المنابر جواهره.
وينهي- بعد دعاء صالح، إذ جدّد تجدّد، وولاء ناجح، إذا انعطف تأكّد، وثناء سانح، إذا سرى لا يتوقّف إلّا أنّ نسيمه في الآفاق يتردّد، وارتياح لما يرد من أخبار دياره السارّة إذا شافه سروره سمع الوليّ شهد وسمع الحاسد تشهّد، حيث يتلقّى ببلاده النّجح والمقاصد، وصلات البرّ والعوائد، ووفود الآمال من كل أوب، فديار بكر ديار زيد وعمرو وخالد- ورود المشرّف الكريم، بل الغيث السائر بخصب المقيم، على يد فلان ونعم اليد العائلة لأيادي البرّ العميم، ونعم المشرّف الوارد عن مقرّ، هذا للأمل كهف وهذا للتأميل رقيم، ففضّه المملوك عن علامة اسم لحسنها رسوم، ولها رسوم، واستجلى مواقع تلك الأنامل المضيّة وأقسم على فضلها بمواقع النّجوم، وانتهى إلى الإشارات العالية، وعلم ما كان القلب يعلمه من ضمائر الودّ الحاليّة لا الخالية، وقابل كلّ أمر حسن بما يجب من مذاهب الودّ المتواليه، ووصلت السّناقر المنير سنا فضلها، المبير في معارك الصيد شبا نصلها، القائمة في كواسر الطير مقام الملوك الأكاسرة «1» إلّا في حكمها وعدلها، لا جرم «2» أنها إذا دخلت آفاق طير أفسدتها وجعلت أعزّة أهلها أذلّة، وإذا انقضّت على سرب وحش جذبتها من دم الأوردة بأرسان حيث كستها من قوادم الأجنحة أجلّة، لا يسأل كاسرها في الطّيور بأيّ ذنب قتلت، ولا يحملها جانب الطير والوحش إذا عاندته، فيا عجبا لها(9/112)
على أيدي البشر كيف حملت، تظلّ الصيد فلا عجب أن يفزع بها من ظلّه، وتكتب علائم اليمن والظّفر بما في لونها من شبه الخطّ وشكله، نعم الجالبة للخير والمير، والسائرة بما يخيف المتصيّدات وكيف لا؟ وعلى رؤوسها الطير، أزاهر حسن لا بدع أن يكون لها كمائم، وبوارق العزم لا جرم أنّ أجنحتها عمائم، ونواقل البأس والكرم عن مرسلها فمهما جمعته الشّجاعة فرّقته المكارم. استجلاها المملوك بعد ألفاظ المشرّف الكريم فقال: (تلك الرياض وهذه السّحب، وتلك الأنوار الهادية وهذه في أفق مطارها الشّهب) ؛ وجهّز المملوك المطالعة المحضر للأبواب الشريفة أعلاها الله وشرّفها على يد فلان المذكور فقوبل بالإكرام والكرم، ومثل بالمواقف الشريفة مثولا رقى بهمّته إلى الكواكب لا جرم، وذكّر بصالح بيت الارتقاء صالح بيت أرتق حتّى أنشد (بسيط) .
فهل درى البيت أنّي بعد فرقته ... ما سرت من حرم إلّا إلى حرم
وقد عاد معلما من البشر بما يراه مولانا عليه، معلما بما تقدّم من نجوى الإنعام بين يديه، حاملا من كرم وجاه يعدّان للأولياء في يوم نزل وللأعداء في يوم نزال، قائلا برجاء سعيه المؤمن: (يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا) ولن تزال، والله تعالى يجري كرم مولانا على عوائد إسعاده، ويحرس بعينه وملائكته نفاسه نفسه وبلاده، ويدخله باسمه ومسمّاه لدى الدّنيا والآخرة في الصّالحين من عباده.
وله جواب بوصول بازيين:
ولا زالت بزاة كرمه على الحمد مطلّة، وسحائبه مستهلّة، وهممه مستقلّة بأعباء المكارم وإن كانت لكثير ما يهديه مستقلّة. هذه المفاوضة تهدي إليه من السّلام أجلّه، وتوضّح لعلمه الكريم وصول مكاتبته العالية فوقفنا عليها، وعوّذناها بكلمات الثناء التامّة من خلفها ومن بين يديها، وعلمنا ما لم نزل نعلمه من موالاته وآلائه المسند في الشكر عنها والمستند في الولاء إليها، ووصل كلا(9/113)
البازيين الحسنين المحسنين كأنّهما فرقدا سماء قد اجتمعا، وقمرا حسن طلعا، وعلى محاسن الصيد اطّلعا، يسرّان القلوب والأبصار، ويحمل كلّ منهما على اليمين فيحصل به اليسار، وما هما بأول إحسانه الأسنى، وبرّه الأهنى، وأياديه الّتي أبى الكرم إلّا أن ترد مثنى مثنى، وعلم اعتذاره عن الكوهيّة الّتي كان ادّخرها فنفقت، ولو أقيمت بها أسواق الصيد نفقت، وأرسل بروايتها تحقيقا لدعوى المكارم الّتي من زمان تحقّقت، والله تعالى يشكر برّه، ويملأ بذكره بحر الثناء وبرّه.
وله جواب بوصول كوهيّتين على يد شخص اسمه باشق.
لا زالت المحامد من مصايد إنعامه، وفوائد أيّامه، وثمرات البأس والكرم من قضب سيوفه وأقلامه، تقبيل معترف بإحسانها، مغترف من موارد امتنانها، متحف منها بعالي تحف تدلّ على مكانها في الفضل وإمكانها.
وينهي ورود مشرّف مولانا الكريم على يد الولد «باشق» فيا له باشق جاء بكوهيّتين جميلتين، وطار للسّرعة وهو حامل منّتين جليلتين، وقد وصلتا و [كلتا] هما حسنة الخبر والخبر، حميدة الورد والصّدر، يحسن مسرى كلّ منهما وسيره، ويتجمّل بهما باب الشّكر خاناه وصدرها ويكثر خير المطبخ وميره، فمدّ المملوك إليهما اليد المتحمّلة الحاملة، وإلى المشرّف الكريم اليد المتولّية المتناولة، وعلم ما تضمنه من الحسن والإحسان، وذكر الموالاة الّتي يحكم بها القلب العالم قبل شهادة اللّسان، واعتذار مولانا عن تعذّر وجود الشاهين، وكلّ إحسان مولانا شهيّ كافي، وكلّ موارد نعمه هنيّ صافي، وما فات مقصد وإنعام مولانا وراء طلبه وإن طال الأمد، ولا فرّ مطلوب حتّى يأتي به سعد مولانا مقرونا في صفد، والله تعالى يشكر عوائد فضله، ولا يضحي «1» الآمال الملتجئة [إليه] من ظلّه.
جواب بوصول طيور، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن «2» نباتة:(9/114)
وشكر هداياه المتقبّلة، وسجاياه الّتي هي بأفواه المحامد مقبّلة، ولا زال بدر سعادته المأمولة وطائر هديّته المتأمّلة.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه من السّلام أتمّه، ومن الثناء أنمّه، وتوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته الكريمة، ومكارمه العميمة، وطيور هديّته الّتي كلّ منها في الحسن بدرتمّ، وظهرت ظهور البدر لتمامه فأبت محاسنها أن تنكتم، فحسن ورودها، ورعي بفضل التلطّف والتودّد مقصودها، وأقبلت تلك الطيور التّمّيّة تامّة الإنعام، دالّة بيمن طائرها على بركة عامّة وكيف لا؟ وقد جاءت بيضاء عدد شهور العام، والله تعالى يزيده من فضله، ويجري الأقدار بالسّعود الشاملة لجمعه الجامعة لشمله، إن شاء الله تعالى.
جواب في المعنى، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا:
لا زالت الجوارح شاهدة ببرّه، والجوانح حائمة الجناح على شريف ذكره، والمحامد من مصايد أقلامه ورماحه في السلم والحرب؛ فإمّا بقوادم سمره، وإما بمناسر حمره، تقبيلا يبعثه على أجنحة أوراق الرّسائل، ويتصيّد به على البعد مشافهة تلك الأنامل الجلائل.
وينهي بعد دعاء، تحلّق إلى السماء كلماته الحسنة، وولاء وثناء: هذا تخفق بتشوّقه أجنحة القلوب، وهذا تخفق بذكره أجنحة الألسنة- أنّ كتاب مولانا ورد على المملوك فأورد عليه المسارّ، و [ملأ] يده بالمبارّ، ومصايده بالمير، ومنازله بالخير، وآماله بأمالي الكرم لذي السرحات المنشرح بآية عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ
«1» فقابله المملوك بتقبيله، وواصل فضل الاعتداد بتفضيله، وحصل من هداياها وهداها على جملة الإحسان وتفصيله، وانتهى إلى الإشارات العالية الّتي زكت على العيان وتأمّله وأربت على الجنان وتأميله.
فأمّا الإنعام بالكوهيّتين اللتين ما قذف البحر إلى الساحل أبهى من(9/115)
دررهما المكنونة، وأزهر من وجوههما المباركة الميمونة، فقد وصل كلا الطائرين بيمنه، والسابقين بمنّه، والغائبين في جوّ السماء الآتيين من الصّيود بأوفى من قطرات مونه، واستقبل المملوك منهما وجوه المسارّ، وحملت يمينه الثّروة وحملت على اليسار، وتناولت يده يدي إحسان يسرّ الناظرين والسامعين، واستخدما للشّكر خاناه ولحفظ مطبخ يملأ عيون المشبعين والجائعين، وقال صنع الله لصناعتهما: ائتيا بصيود السّماء طوعا أو كرها قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ
«1» .
قد كتبت باليمن في مطاوي ريشها أشباه الحروف، وقضى الجود لتلك الأحرف أن تقري ما تقتري عواصي الطير له بطاقة تقيّد السابح في طلقه «2» ، ويعود مطلقها وقد ألزم نجاح الطير طائره في عنقه، فشكر الله إحسان مولانا الذي ألحف الأمل جناحه، والقصد نجاحه؛ وبرّه الذي أحمد في سوانح الطير وبوارحه مساءه وصباحه، وعلم ما أشار مولانا إليه في أمر فلان وأمره علم الله تعالى في الخاطر حاضر، وما يؤخّر شغله عن إهمال وعائب الإمهال غادر، وما أشار إليه في أمر فلان أمير شكاره وأمير شكر المملوك، وتقدّم بخلاص حقّه، واستنزل بهديّته قضاء الشّغل من أفقه، لا برح مولانا ممتثل الأوامر، هامي سحب البرّ الهوامر، مجدّدا في كل وقت نعمى، مالئا بهداياه قلوب «3» محبّيه وبيوتهم شحما ولحما، إن شاء الله تعالى.
وله جواب في وصول طيور العقعق «4» :(9/116)
لا زالت متّصلة منن إرفادها وإرفاقها، نازلة على حكمها [الأشياء] حتّى الطّير العاقّة من آفاقها، خافقة أعلام نصرها بالأجنحة مؤمّنة لظنون القاصدين من إخفاقها، تقبيل مطلق لسان الحمد على عوائد إطلاقها، مجتن لثمرات الإحسان من غصون أقلامها وغصون أوراقها.
وينهي ورود مشرّف مولانا العالي على يد الولد فلان فوقف المملوك عليه، وعلم من جميل الاحتفال ما أشار إليه، وأنه موقّع على المقصود من طيور العقعق فأوقعها من مطارها، واستنزلها من أوكار أفقها وأفق أوكارها، وأرسلها قرين مشرّفه الكريم، وقلد عنق الأمل بعقدها النّظيم، ووصلت سبعة كعدد أيام الجمعة الكاملة، والكواكب الماثلة، والسّموات لا جرم أن سحب يمنها هاملة، حسنة الشّكل الموصوف والوصف وإن كان مع عقوقه المألوف، طائعة لأوامر توقيعه فما عقّ منها شيء غير تضعّف اسمها المعروف، لا برح إحسان مولانا متنوّعا، وبرّه الجزيل متبرّعا، وغصن قلمه بأنواع المكارم متفرّعا.
وله جواب بوصول تمّات «1» ، وإوزّ صينيّ، وطلب إمرة عشرة:
حمى الله تلك النّعمة من الغير، وأطلعها عليه بأيمن الغرر، ولا برح طائر منّه كوصفه أبيض الخبر والخبر. هذه المفاوضة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما يشوق الصّباح، وثناء خفّاق الجناح، وتوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته الكريمة جميلة الفوائد، جليلة المصايد، تمّيّة البدور المتناولة من منال الفراقد، فوقفنا بالأشواق عليها، وعطفنا على العادة بتأكيد الولاء إليها، ووصلت تلك التّمّات واضحة الأنوار، لائحة كبياض النّوّار، تامّة تمام ميقات موسى عليه(9/117)
السّلام، إلّا أنّها لبياضها كأربعين نهار، وكذلك البطّ الصّينيّ كأيّام الحجّ عشرة كاملة، مفترضا على عشرتها ولاء القلوب المتأمّلة الآملة، صينيّة مملوءة بمحاسن الألوان الّتي هي بغير مثل ماثلة، وحصل الاعتداد ببرّه، والازدياد لحمده وشكره، وفهمنا ما ذكره من إمرة العشرة الّتي انحلّت عن فلان، وقد طالعنا بأمرها، وعجّلنا بذكرها، ونرجو أن يعجّل بأمانيّها المنتظرة، وأن يقابل بخوافق أعلامها خوافق بطّه فتقابل عشرة بعشرة، والله تعالى يعجّل لمعاليه الصّعود، ويؤكّد لمساعيه السّعود، إن شاء الله تعالى.
الأجوبة عن وصول الصّيود ولحومها جواب عن نائب الشام إلى نائب حلب بوصول [لحم] طير صيد قديد وصحبته بطّيخ أخضر، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة. وهو بعد الألقاب:
لا زالت تقتنص المحامد بعاطاياه المكرّرة، وأوابد الصيّد برماياه المقرّرة، ورقاب الإنس والوحش، إمّا بسهام نعمه المتواترة، وإمّا بسهام قسيّه الموتّرة، ولا برحت نفحات مكارمه، تشهد أنّ المسك بعض دم الغزال «1» ، وسرحات عزائمه، تمتدّ في صيد الوحش لقرى نزيل أو في صيد الأعداء لتقرير نزال، تقبيلا تتعطف أجياد الظّباء لمحاولة عقوده، وتزدحم أفواه الأولياء على مشافهة وروده.
وينهي بعد ولاء تقوم الخواطر الكريمة في دعواه مقام شهوده، وشوق لا تزال النّسمات الشّماليّة قاضية باستمرار وفوده- أنّ مشرّف مولانا الكريم ورد(9/118)
على المملوك على يد فلان وصحبته الإنعام المتجدّد، وإن كان قديما في المعنى، واللحم القديد، وإن كان أطرى من الروض النّضير حسنا، والسّمين المحبوب وإن كان كحال عداه الذين تقدّد جسومهم في الحياة قبل الممات حزنا، فقابل المملوك المشرّف الكريم، بتقبيل أحرفه، والإنعام العميم، بقبول مسعده ومسعفه، وعانقهما بجوانح آماله، وأخذ الكتاب والبرّ كما يقال بيمينه وشماله، فيا لها من ظباء تعشق وإن بليت محاسنها، وغزلان تغازل وإن بادت عيونها إلّا أنه ما باد حبّ من يعاينها، وصيود توصف وإن قصدتها قصد السّهام بطعن، ويتّقى بقرونها القتال والقسيّ تالية: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ*
«1» . سلكت خيول مولانا لقنصها المصاعب واتّخذها الآكلون سهلا، وتصيّدها من الفلاة واصطادها القاعدون من المقلى، ووصل معه البطّيخ الأخضر فشبهه بثمار الجنة المشبّهون، وقيل: هكذا ترتيب مآكل الجنة لهم فيها فاكهة ولحم طير مما يشتهون، لا زالت منن مولانا مشروحة مشروعة، وثمرات نعمه من الدنيا كثمرات أهل الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، بمنّه وكرمه.
أجوبة هدايا الفواكه وما في معناها الشيخ جمال الدين بن نباتة:
جواب وصول مشمش لؤلؤيّ ودغميشيّ من حماة.
بسط الله ظلّها ونداها، وأطلع باليمن نجوم هديّتها وهداها، ولا زالت مواهب بحرها لؤلؤيّة، وشواهد يمنها كوكبيّة، وثمرات جودها فضّية الأعيان ذهبيّة، تقبيلا حلت مواقعه، وجلّت مطالعه.
وينهي بعد ولاء وحمد: هذا قد ثبتت في القلب شريعته وهذا قد عذبت في السمع مشارعه، أنّ مشرّفة مولانا الكريمة وردت على المملوك تتضمّن الحسن والإحسان ويمين البرّ الشامل لكلّ إنسان، وعهد المحبّة الّتي حكمت(9/119)
فيه بعلمها القلوب فما تحتاج إلى بيّنة لسان، فقابلها المملوك مقبّلا، واستجلى وجه الودّ والإحسان مقبلا، ووصل المشمش الذي شفى لؤلؤيّه نظر الناظرين، ونوعه الآخر الدغميشي الذي هو الشهد بحسنه ولا يدغمش باسمه على الحاضرين، فتناول المملوك عوارف برّه المعروف والمبتكر، واستضاء نجومه المتردّدة منشدا قول المعرّي: (كم درن، وكم يدرن هذه الأكر) ، وقال: شكر الله هذه المنن الحلوة الثمرات، المتّصلة الخطرات، وهذه المجاني الّتي طابت أصولها وفروعها فلا أبعدهنّ الله من شجرات، وحيّا حماة وما جلبت، وجنبات ذلك الوادي وما أنجبت، وحدائق ذلك العاصي الذي أطاع ببركة مولانا فأنبت أحلى وأحلّ ما نبت، وقد جهّز المملوك هذه الخدمة منطوية على وظائف الحمد المستجادة، ولطائف الحبّ المستفادة، وحمد المنن الّتي لا تزال من مولانا عادة ومن المحبّين شهادة، لا برحت يد مولانا الكريمة إن بسطت فبعوائد إنعامها، وإن قبضت فعلى سيوفها لمصالح الدّول وأقلامها، وإن زهت «1» فروع المكارم، تساقطت ثمرات برّها من زهرات أكمامها.
جواب بوصول مشمش وبطّيخ حلبيّ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة.
وينهي بعد ولاء وثناء: لهذا في الأسماع أزهى وأزهر ثمرة، ولهذا في القلوب أرسى وأرسخ شجرة- ورود المشرّف الكريم على يد فلان بما ملأ السّمع من أخبار مولانا المرتقبة سرورا، والعين من آثار يده الكريمة نورا، والفم من هدايا المشمش الحمويّ كؤوس لذّة كان مزاجها كافورا، فقبّل المملوك أسطره مستحليا مواقع رشفاته، وقابله بعوائد المحامد مستجليا عوائد افتقاداته وصلاته، ومدّ يده وفكره فالتقط النّجوم المشرقة من هداياه وكلماته، وتقلّد جواهر المبرّات الحسنة المحسّنة، والثمرات الّتي، جاءت بدريّة القدوم وإن كانت نجوميّة الهيئات المكوّنة، واستصوب نتائج الغيث فقال: لعلّ هذه بنادق(9/120)
قوس السماء الملوّنة، وصفا وطاب ظاهرها وقلبها وكذا تكون صفات ذوي القلوب المؤمنة، والمؤمن حلويّ لا جرم، والحمويّ على عجمه الخراسانيّ أولى بفصاحة الفخار والكرم، لا زالت فعلات منن مولانا مستجادة ونعمه لا سيّما المشمشيّة مستزادة، وافتقاداته المشهورة لدى مماليكه ومحبّيه منه عادة ومنهم شهادة، وجاءت فاكهة البطّيخ الحلبيّ وقد رضع حلب الغمام فأنجب، واستوى باطنه وظاهره في الحسن فأعجب من حين أعشب، واستطاب الذوق والشمّ مطعمه وأنفاسه، ووصف بالرّؤوس فضمّه كلّ متلقّ وقبّل راسه، وقال:
نعم الهديّة السريّة، والفاكهة الّتي طلعت حزز [ها] هلاليّة وثمرتها بدرية.
جواب عن وصول بطّيخ حلبيّ، من إنشائه أيضا، [وهو] بعد الألقاب:
وشكر سجاياه الّتي علت، وهداياه الّتي تكرّرت فحلت، وافتقاداته الّتي طاب ظاهرها وباطنها فكأنها من أخلاقه الجميلة نقلت، أصدرناها تهدي إليه سلاما يتقدّم كهديته نسيمه العاطر، وثناء ينتج أطايب الثّمر مقدّمات غيثه الماطر، وتوضّح لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمة وردت فحسّنت بالودّ مشافهتها، وأقرّت في الأسماع فاكهتها ومفاكهتها، ووصل البطّيخ فلله درّ حلبه ودرّ جلبه، لقد حسنت في ملاذّ المطاعم طريقته المرضيّة، ولقد أشبه القناديل بتكوينه وفتيلة عرقه فلا جرم أنّ قناديله عند الشّكر مضيّة، ولقد ملأ خبره وخبره عين البصر وأذن المصيخ، ولقد خلق دواء للأجسام حتّى صحّ قول الحلبيين للأرمد: دواؤك البطّيخ، فشكر الله إحسان الجناب العالي، وبرّه المتوالي، وعلى الوالد والولد ومن عندهما سلام المحبّ المتغالي، والله تعالى يحفظ عليهم من الفضل ما وهب، ويرزقهم بغير حساب ويرزق الظنّ فيهم ما حسب إن شاء الله تعالى.
وله أيضا جواب بوصول بطّيخ حلبيّ، وهو بعد الألقاب:
وشكر إحسانه الذي حلا مذاقه، وزكت أعراقه، وحيّا على البعد تحيّة طيّبة نفحت بها أزهار الكتاب وأثمرت أوراقه، هذه المفاوضة تهدي إليه سلاما طيّبا كهديّته، وثناء زاكيا كطويّته، وتوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته الجامعة(9/121)
حسن الأقوال والأفعال، المطلعة بوارد غمامها أطيب الثمر في الحال، فأحيت ولاء حاشى لوجوده من العدم، وجدّدت عهد البشر- وما بالعهد من قدم- ووصل البطّيخ الحلبيّ أصله، الحمويّ فصله، الدّمشقيّ ضمّه وشمّه وأكله، الفلكيّ ولا سيّما من الأهلّة المجتمعة شكله، فكرم مطلعا، وحسن من الأفواه موقعا، وعمّ الحاضرين نوالا، واشتملهم بعطف الإحسان اشتمالا، وأخذ الغلام السّكّين: (متقارب) .
فقطّع بالبرق شمس الضّحى ... وناول كلّ هلال هلالا
لا بل أهلّة كثّر تعدادها، وكرّر تردادها، ورصد قربها، ولا نقول كما يقول أصحاب الهيئة أبعادها، فشكر الله إحسان الجناب العالي حاضرا وغائبا، وبرّه الذي يطلع كلّ وقت من هداياه وكتبه أهلّة وكواكبا، ومرباه الذي نقل عن ملوك كانت منازلهم للمحامد روضا وكانت أيديهم للكرم سحائبا، إن شاء الله تعالى.
وله جواب بوصول قصب سكّر وأترجّ «1» وقلقاس:
لا زالت أوصاف شيمها، تطرب كما يطرب القصب، وألطاف كرمها، مما يغذّي الحسد وينعش الرّوح ويشفي الوصب «2» ، وأصناف نعمها من الحلو إلى الحامض مما يعدي الأيدي المتناولة فهي على الأعداء تنتصب، تقبيل محبّ حلت له المنن فتناولها، ومواقع اللّثم فعاج إليها وعاجلها.
وينهي ورود مشرّف مولانا الكريم، على يد فلان يتضمّن الحسن والإحسان، والبرّ المأثور بكلّ فم، المشكور بكلّ لسان، فقابله المملوك بما يجب من الخدمة لمثله، ولاقاه بعوائد تحمد عوائد فضله، ووصل قرينه الإنعام(9/122)
الذي تنوّع فنونا وأفنانا، وملأ فم الشراب خاناه سكّرا ويد المطبخ إحسانا، وذكّر نباته الطرابلسيّ عهود الديار المصرية، وأوقات الأنس بخدمة مولانا السنيّة، سقيا لها من أوقات وعهود، وشكرا لجود مولانا الذي هو في كلّ واد موجود، ولتدبيره الشمسيّ الذي أحيا الله به على عباده عناصر هذا الوجود، ولا برحت مكارمه متنوّعة، ونعم أياديه متفرّعة، فمنها ما حلا فرعه فأصبح لكلّ حلو أصلا، ومنها ما طاب ريحه وطعمه فكان للمؤمن مثلا، ومنها ما لذّ طعامه الشهيّ فما هو مما يهجر وإن كان مما يقلى.
وله جواب بوصول باكورة خيار وملوخيّة:
لا زالت تشرح بمكارمها الصّدور، وتفتح بركات الأعوام والشّهور، وتمنح من لطائف مننها كلّ جماعة السّرور، وتلمح في هداياها المستبقة إلى الأولياء خيار الأمور، تقبيل محبّ لا تغيّر ولاءه الدّهور، ماش من طريق المصافاة والموافاة في نور على نور.
وينهي ورود مشرّفة مولانا على يد فلان تتضمّن المعهود من ولائه وآلائه والمشهود المشهور من إحسان نداه قبل ندائه، فقابلها المملوك مقابلة الشّيّق إلى قرب الديار، الممضي في المحبّة قلبه لمولاه قبل شرط الخيار، ووصلت لطائف هديّته الخضرة النّضرة، وطرائف الفضل الباكرة كمعاني اللفظ المبتكرة، فتنجّز المملوك الفاكهة قبل أوانها البديع، ورصد من أفلاك العلب في ذي الحجّة غرّة ربيع، وتفاءل بالهديّة المجمّعة الأحباب في أن يعود الشّمل وهو جميع، وقد عاد فلان حاملا من رسائل الشوق والشّكر ما يؤدّيه بين أيدي مولانا الكريمة، ويجدّد بذكراه عهود الأنس القديمة، لا برح مولانا سابق الكرم، مخضرّ المرابع ببيض النّعم.
قلت: وكتبت جوابا لبعض الأصحاب وقد أهدى لي سمكا (بسيط) :
أهدى لنا سمكا قد طاب مطعمه ... أكرم به سمكا لم يسكن البركا!
لا شكّ أنّ له بالبحر شاكلة ... والبحر عادته أن يهدي السّمكا(9/123)
الضرب الثاني (من كتب التهادي الاستهداء)
واعلم أنّ كل ما يكتب مع إهدائه قد يكتب مع استهدائه، إلّا أنّ الغالب مما جرت به عادة الكتّاب في الاستهداء طلب الأشياء المستظرفة الخفيفة المنّة دون ما يعظم خطره، اللهم إلّا أن يكون الاستهداء من الملوك ونحوهم فيطلب فيه ما جلّ وعظم.
والذي جرت عادة الكتّاب بالكتابة في استهدائه على أصناف:
الصنف الأوّل- آلات الكتابة: من الأدوية «1» والمداد والأقلام
: مما تقدّم ذكره في الإهداء.
أبو الفرج «2» الببغاء في استهداء دواة:
أنفس الذّخائر وأشرف الآمال ما كان للفضل نسبا، وللصّناعة والحظوة سببا، وبالدّويّ تجتنى ثمرة الصّناعة، ويحتلب درّ الكتابة، وقد أوحش المملوك الدّهر مما كنت أقتنيه من نفائسها، وضايقه في وجود الرّضيّ على الحقيقة منها، فإن رأى مولانا أن يميط ببعض ما يستخدمه من حاليها أو عاطلها سمة عطلة المملوك، ويسمح بإهدائها إلى أهل تصريفه ويقابل بالنّجح والتقبّل رغبته، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في استهداء مداد:
التّنافس- أيدك الله- في أدوات الكتابة وآلات الصّناعة بحسب التّفاخر في ظهور النعمة، والتخيّر لبيان الإمكان والقدرة، وإلّا فسائر الدّويّ سواء فيما تصدره الأقلام عنها، وتستمدّه بطون الكتب منها؛ وأولى آلاتها بأن تتوفّر العناية(9/124)
عليه، وينصرف التّخيّر بالضّرورة إليه، المداد الذي هو ينبوع الآداب، وعتاد الكتّاب، ومادّة الأفهام، وشرب الأقلام، فجعلها الله بواجب القضيّة والحكم، في حيّز وصفه من الحمد والذّم، وما زلت لنفائس الأخلاق موطنا، ولنجع الإخوان في المحل معدنا، ولا معدل بي عن استماحة خزائنك عمرها الله الممكن من جيّده، فإن رأيت أن تستنقذ دواتي من خمول العطلة، وتنزّه قلمي عن ظمأ الغلّة، وتكشف عنها سمة النّقصان والخلّة، فعلت، إن شاء الله تعالى.
عليّ بن خلف «1» ، في مثله:
أولى ما أنبسط في استهدائه، وتسمح [نفسي] في استماحته واستجدائه، ما كان ناقعا لغلّة الأقلام، مقيّدا لشوارد الأفهام، محبّرا لبرود البيان، حاليا في معارض الحسن والإحسان، وكتبت هذه الشّكوى أطال الله بقاء سيدي.
الصنف الثاني- الشّراب.
في استهداء مشروب.
أبو الفرج الببغاء:
أنا- أيّد الله سيّدي- ومن سامحني الدّهر بزيارته من إخواني وأوليائه، عضّد الله جمعنا ببقائه، وقوف بحيث يقف بنا اختياره، من القبول والانبساط، ويرتضيه لنا إيثاره من الهمّ والسّرور، لأنّ الأمر في ذلك مما يوليناه من المساعدة بالممكن من المشروب إليه، والاعتماد دون كلّ أحد في اجتماع شمل المسرّة لنا به عليه، فإن رأى أن يكلني إلى أولى الظّنين به وأحقّهما بمأثور فتوّته، فعل.
وله في مثله:
ألطف المنن موضعا، وأجلّها من الأنفس موقعا، ما عمر أوطان المسرّة، وطرد عوارض الهمّ والفكرة، وجمع شمل المودّة والألفة، وأدّى إلى اجتناء ثمرة(9/125)
اللّذّة، وبذخائرك من المشروب مع هذه الأوصاف [ما] يسترقّ حرّ الشكر، ويحرز قصب السّبق إلى الثناء وجميل الذّكر، فإن رأيت أن تنجد بالممكن منه مروّتي، على قضاء حقّ من أوجب المنّة عليّ بزيارتي، فعلت.
وله في مثله:
من كان للفضل نسبا، ولفلك الفتوّة قطبا، لم تفزع القلوب من الهمّ إلّا إليه، ولم تعوّل الأنفس في استماحة المسارّ إلّا عليه، وقد طرقني من إخواني من كان الدّهر يماطلني بزيارته، وينفس «1» عليّ بقربه ومشاهدته، فصادفني من المشروب معسرا، ووجدت الانبساط في التماسه من غيرك عليّ متعذّرا، وإلى تفضّلك تفزع مروءتي في الإسعاف منه بما يلمّ شعث الألفة، ويجمع شمل المسرّة، ويجعلنا لك في رقّ الاعتداد بالمنّة، ويقضي عني بتفضّلك حقوق المودّة.
عليّ بن خلف:
قد انتظم لنا- أطال الله بقاء سيدي- مجلس واقف بين النّشاط والفتور، والكآبة والسّرور، لغروب نجوم الخمر عن سمائه، وعطله من حليّ نوره ولألائه، وقد عوّلنا في إطلاقه إلى إحدى الجهتين عليه، وجعلنا زمامه بيديه، فإن رأى أن يروّح أفكارنا بشيء من راحه المشابهة عبقا وعتقا لأخلاقه وأعراقه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
أفضل ما أهدى سيدي ما أهدى السرور إلى أحبّته، ونظم شمل المتحقّقين بخدمته، وحسم عنهم هواجس الفكر، وأعداهم على الدّهر، وقد جمعنا مجلس وهبناه للثناء عليه، وزفّت عرائس الخمر إليه، فإن رأى إيثارنا بما(9/126)
يكمّل نشاطنا، ويتمّم انبساطنا، فليعقر همومنا بشيء من عقاره، وينظم [جمعنا] في سلك أياديه ومبارّه، إن شاء الله تعالى.
النوع الرابع (الشّفاعات والعنايات)
قال في «موادّ «1» البيان» : وهذه الكتب إنما تصدر عن ذوي الرّتب والأخطار، والمنازل والأقدار، الذين يتوسّل بجاههم إلى نيل المطلوب ودرك الرغائب.
قال: والملتمس فيها ممن تنفّذ إليه أحد ثلاثة أنواع؛ إمّا بذل ماله ولا يبذل ماله إلّا ذو مروءة يفرض على نفسه حقّا فيه لقاصديه، وإما بذل جاهه وفي بذل الجاه إراقة ماء الوجه والتعرّض لموقف الرّدّ، وإمّا الاستنزال عن سخيمة وموجدة في النزول عنهما كفّ حدّ الغضب وغضّ طرف الحنق، وهما صعبان إلّا على من فضل حلمه، ولطف فهمه.
ثم قال: والكاتب يحتاج إلى التلطّف فيهما وإيداعهما من الخطاب ما يخرج به الشافع عن صورة المثقّل على المشفوع إليه بما كلّفه إيّاه، ويؤدّي إلى بلوغ غرض المشفوع له ونجاح مطلبه، ثم أتبع ذلك أن قال: وسبيل ما كان في استماحة المال، أن يبنى على الإبانة عن موقع الإفضال، وفضيلة النّوال، واغتنام فرص الاقتدار، في معونة الأحرار، وما جارى هذا- وسبيل ما كان منهما في طلب الانتفاع بالجاه أن يبنى على هزّ الأريحيّة لاصطناع الصّنائع، وتحمّل المشاقّ في تقليد المنن، وادّخار الفعل الحسن، واغتنام الأجر والشّكر- وسبيل ما كان منهما في الاستنزال عن السخائم أن يبنى على الملاطفة، والإشارة إلى فضيلة الحلم والصّفح عن الخاطيء، وما في ذلك من حسن السّمعة في العاجلة، ومتوفّر المثوبة في الآجلة، ونحو ذلك.(9/127)
وذكر أنّ أحسن ما قصد في هذا الفنّ مسلك الإيجاز والاختصار، وأن يسلك به مسلك الرّقاع القصار المجملة، لا الكتب الطّوال المفصّلة، وأن يرجع فيما يودعه إلى قدر الشافع والمشفوع فيه، والكاتب إذا كان مرتاضا ماهرا لم يضلّ عن تنزيل كلّ شيء [في] منزلته، وترتيبه في مرتبته.
قلت: ومن أحسن ما يطابق هذا النوع ما رأيته في بعض المصنّفات، أنّ عمرو بن مسعدة وزير المأمون كتب إلى المأمون في رقعة:
أما بعد، فإنّ فلانا سألني أن أشفع له إلى أمير المؤمنين، فأخبرته أنّي لم أبلغ عند أمير المؤمنين مبلغ الشّفاعة- فلمّا وصلت الرّقعة إلى المأمون وقّع عليها بخطّه: قد فهمنا تصريحك به وتعريضك بنفسك، واجبناك إليهما وأتحفناك بهما.
من كلام المتقدّمين:
الحسن «1» بن سهل:
كتابي إليك كتاب معتن بمن كتب له واثق بمن كتب إليه، ولن يضيع حامله بين عناية وثقة، والسّلام.
أبو الحسين «2» بن سعد:
وقد توجّه إليك فلان بقصد فيه مستجمع، وأمل فيما قبلك منبسط، وليس بعد إصابتك عنده موضعا وعندنا متجمّلا لليد الحسنة إلّا افتراض ذلك منه ومنّا في أمره على يسر في حاجته، وتخفيف من مؤونته، فإن رأيت أن تأتي في ذلك بما يشبه أمله وظنّه، وتوجب عليه الحقّ به، ونشكر لك منه ما يبقى عندنا، بأنك بحيث تأتي الفضل وتتوخّى الصّلة، [فعلت] إن شاء الله تعالى.
آخر: معرفتي بأنك لا تتجاوز في العقوبة سبيلها من مواقع الأدب،(9/128)
تحملني على مساءلتك ما أنت موجب له والذّكرى تنفع المؤمنين، ولولا ذلك لا ستغنى صاحب كتابي عنه، فإن كان ذنبه صغيرا فالصغير يخرجه من حبسه، وإن كان كبيرا فالعفو يسعه. وكتابي متقاض لك تقديم العفو على العقوبة، والحسنة على السيّئة، والاستصلاح على القوّة في التأديب.
طفال بن شبّة:
وأحقّ من يعطف على أهل البيوتات، ويجود لهم بما يبقى ذكره، ويحسن به ذخره، مثلك، وقد وجّهت إليك فلانا، وهو من ذوي قراباتي، وذوي الهيئة من أسرتي، وعرّضته لمعروفك، وأحببت أن تلبسه نعمتك وتصرفه إليّ وقد أودعتني وإيّاه ما تجده باقيا على البشر «1» الجميل في الغيب والحضر.
ولغيره:
وقد جعلك الله غياثا، وجعل عندك لمؤمّليك وراجي رفدك، أبلغ ذريعة من كرمك وفضلك، وقد أصبحت مفزع كلّ ذي همّ، وملجأ كلّ ذي أرب، وموضع كلّ أمل، وأصبحت ملتقى السّبل، ومجمع الأصناف المختلفة، والطوائف المتصرّفة.
أبو مسلم «2» محمد بن بحر:
قد شهّرتني باصطناعك [حتّى] تكافأ في معرفة خبرها أهل بلدان المشرق والمغرب، والذين عرفوني فصديقي منهم مغتبط بذلك لي، وشريك في النعمة به عليّ، وقويّ الظهر بما منحنيه الله من رأيك، وإذا نابت بعضهم نائبة يرجوك لكشفها ولم يكن له إليك طريق يدنيه ولا حرمة تقربه وتعطفك عليه، سألني الشفاعة له إليك، ففعلت ذلك مدلّا بما أعتقده من الشّكر على نعمتك عندي، والإخلاص في طاعتك المفروضة عليّ، واثقا بتسويغك إيايّ ما(9/129)
رقّيت إليه من درجة الشافع لغيره، والسائل (؟) في طريقه وذوي الحقّ عليه، لتكون قد أكملت عليّ النّعمة، ووكّدت لديّ العارفة، واستتممت عندي الصّنيعة.
أبو الخطّاب بن الصابي:
أبسط الشفاعة وجها، وأقربها نجحا، وأوقعها في القلوب، وأسرعها إلى القبول، ما وقع من أقسام ثلاثة؛ من إدلال السائل بحسن الظنّ، وارتياح المسؤول إلى فعل الخير، واستحقاق المسؤول فيه لقضاء الحقّ، فإذا اجتمع لها ذلك كانت الثّقة بها زائدة، والفتوّة لها رائدة، والفضل عليها قائما، والنّجح بها قادما، وكان الشّكر من أقلّ موجوداتها، والمنّة من أجلّ مذخوراتها.
وله: إن دلّ المملوك فبصدق المودّة، أو عوّل فعلى حسن النيّة، أو استظهر فبقديم الحرمة، أو استنصر فبكريم الرّعاية، ووراء ذلك همّة من مولانا بعيدة المرامي، طويلة المساعي، شامخة الأنف، سابقة الطّرف، توجد الآمال سراحا، وتوسعها نجاحا، وتأخذها خماصا، وتردّها بطانا، وتوردها هزالا «1» وتصدرها سمانا «2» ، وثقة منّي قد أحكم عقدها الزّمان، وأوثق شدّها الامتحان، فصارت لأعراض المملوك رائدة، وفي قوّة نفسه زائدة، فالمملوك من اجتماع هذه الأقسام، ووجوب ما تقتضيه من الأحكام، بين ظنّ جميل لا مجال للشكّ عليه، ويقين صحيح لا وصول للارتياب إليه.
آخر: ولئن كان المملوك أسرف في مجاري التثقيل على مولانا، فإنّ المملوك لم يردّ بعضا من دواعي الأمل فيه، فإنّ المظنون من فتوّة مولانا رائد الثّقة بجميل نيّته، ولن يعدم النجاح من اعتمد على الفتوّة والثّقة.
آخر: وينهي أنّ المملوك إن أدلّ، فبحقّ لدى مولانا أكّده، أو استرسل،(9/130)
فبفضل منه عوّده، وبين الدّالّة من المملوك والعادة من مولانا موضع لنجاح الحاجة، وبلوغ الإفادة، وقد فعل المملوك ما تعلّق به واثقا بالكرم من مولانا، فليفعل مولانا ما يتعلّق به محقّقا للأمل فيه.
آخر: وينهي أنّ المملوك إن انبسط، فمدلّ بالحرمة الوكيدة، ومعوّل على النية الكريمة، أو انقبض، فلهيبة الإقدام على مولانا ومراعاة التخفيف عنه، ولفضله فيما بين ذلك مسلك وغلبة تسلّط يدعوان إلى حسن الظن بمولانا، ويوثّقان من وجود النجاح لديه.
آخر: بذل الجاه في إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، والترويح عن المضغوط، والتفريج عن المكروب المكدود، كبذل المال في إسعاف المعسر، وإسعاد المقتر، ومواساة المحروم، والتعطّف على المزحوم، وما في الحالتين إلّا ما الدّيانة له ضامنة، والمروءة له قائمة، والحقّ به مستوجب، والأجر به مكتسب، والصنيعة به معتقدة، والمثوبة به مدّخرة.
آخر: وينهي أنّ حرمة الجوار من أوجب الحرمات حقّا، وأحكمها عقدا، وأخصّها بالعناية، وأحقّها بالرّعاية، وما رعاها إلّا ذو قدر عظيم، وخلق كريم، وأصل عريق، وعهد وثيق. وفلان ممن يضرب بدالّتها، ويمتّ بوسيلتها، ويتخفّر بذمّتها، ويتعلّق بعصمتها، ويعتدّها وزرا مانعا، وذخرا نافعا، وعدّة موجودة عند الحاجة، وله أمر يذكره مشافهة، فإن رأى مولانا أن يحقّق من ظنّه ما كان جميلا، ويصدّق من أمله ما كان فضل مولانا إليه سبيلا، فهو المعهود من إحسانه، والمؤمّل من فضله.
آخر: من سافر إلى سيّدي بأمله ورغبته، ومتّ إلى حضرته بوفادته وهجرته، فقد استغنى عن الشافع، وكفي أمر الوسائل والذّرائع، وحامل كتابي هذا قد تجشّم القدوم إليه، وتمسّك بذمام «1» الوفادة عليه، مع ما يتحقّق به من(9/131)
حقّ المشاركة في الصّناعة، ويستوجبه بفضيلة الكفاية والأمانة، وإنّما أصدر المملوك هذه الخدمة عن يده ممهّدة لأنسه، ومقوّية لنفسه، وإذا مثل بحضرته، ونظره بعين نباهته، فقد غني عن الشفاعة وبلغ الإرادة.
آخر: وينهي أنّ ما يفرضه مولانا لمن أمّه بالرجاء، ومتّ له بإخلاص الحمد والثناء، من إدرار أخلاف الإفضال، وتحقيق الرّغبات والآمال، يغني قاصديه عن الشّفاعات والوسائل، ويكفي آمليه تحمّل الذّرائع والمسائل، والواصل إليه بهذه الرقعة فلان، ومولانا يعرف حقّه على المملوك وماله من المواتّ لديه، وقد توجّه إلى حضرته، راجيا أن يلحفه من ظلّ سعادته ما يتكفّل بمصلحته، ويقضي على الزمن بإعدائه ومعونته، ومولانا أحقّ من تولّاه بحسن خلافته فيه، والتفضّل على المملوك بتحقيق ما يرجّيه.
آخر في معتقل: علم المملوك بأنّ مولانا لا يتعدّى في العقاب موضع الإصلاح والتأديب، ولا يتجاوز في الغضب موقع التقويم والتهذيب، عملا بالعدل، وتمسّكا بالفضل، يبعثه على تنبيهه لما أغفله، وانقياده لما أصّله، وفلان قد تطاول اعتقاله، فإن كان جرمه صغيرا فقد ظلم في القصاص، وإن كان كبيرا فقد استحقّ الخلاص، والمسؤول من إحسانه أن يعاود جميل عادته، ويراجع كريم شيمته، فيعمل في أمره بالعدل، إذا لم يره أهلا للفضل، وإن كانت حقوقه متأكّدة، وحرمته مؤكدة، فلا يحسن أن يضاع ويخفر، ولا ينبغي أن يجحد وينكر، وهو حريّ أن يحقّق الظنّ فيه، ويقابل هذا السّؤال بما يقتضيه.
آخر: على حسب أخطار الودائع يكون الإشفاق عليها، والشكر ممن صرف رعايته إليها، وقد كان المملوك أودع كنف مروءته، وفناء همّته، فلان، وهو درّة المحاسن الفريدة، ونادرة الدّهر الشريدة، والجامع لأسباب المحامد بفضائله ومناقبه، والناظم لنثار المآثر بخلقه وأدبه، مع ما خصّ به من المعرفة بقدر الصنيعة، والتعويض بالشّكر عن قليل العارفة، والمملوك يرجو أن يكون مولانا قد أحسن خلافته فيه، ونزّله من حياطته وتولّيه، بما يوجبه مكانه من(9/132)
المملوك ويقتضيه، متعوّضا من شكر المملوك وشكره بما هو خليق أن يطوّق أجياد معاليه، وينتظم في سلك مساعيه.
رقعة- وينهي أن الأيّام، إذا قعدت بالكرام، فأنزلتهم بعد السّعة ضيقا، أوجدتهم إلى التثقيل على من يمتّون إليه بسالف الخدمة طريقا، وممن تحدّاه الزمن بنكده، وعوّضه ببؤسه من رغده، فلان، وكان قد فزع إلى جماعة من الخلّان، واثقا منهم بالامتنان والإحسان، فألفى وعدا جميلا، ومطلا طويلا، فعدل عنهم إلى سيدي وعزل عنهم إليه، وتوجه إليه معتمدا بعد الله في مقصده عليه، ثقة بفضل غيره «1» ، وحسن أثره، وتحمّل عبوديّة المملوك هذه ذريعة تبسط له من مولانا محيّاه، وتوصّله إلى ما يرجوه من معروفه ونداه. وما أولى مولانا بأن يحقّق ظنّ المملوك وظنّه، ويجوز شكره وشكره، إن شاء الله تعالى.
رقعة- وينهي أنّ رغبة سيدي في إسداء المعروف، وغوث الملهوف، تبعث على السّفر إليه، والتقدّم بالرّغبات عليه، والله تعالى يواصل المنح لديه، كما وصلها من يديه، وقد سبقت له عوارف لا ينساها المملوك، ولا يؤمّل جزاءها إلّا بمرفوع الدعاء، وكريم الثّناء، حتّى تقتضي ضرائرها، وتستدعي نظائرها، وحامل عبوديّتي هذه، فلان، والمملوك يرضى لمولانا لسان شكره، كما يرضاه لتحمّل برّه، وقد ركض ظهر الأمل إلى حضرته، ووثق ببلوغ الوطر «2» من جهته، وأن ينظم في سلك من أسبغت عليه عوارفه، وعمّته لطائفه، وعزّز ذلك باستصحاب كتاب المملوك إلى بابه، وتقديمه ذريعة في التزام حقّه وإيجابه.
رقعة- من كان سيدي شافعه انبسط في المنى، ولم يرض بغير العلا،(9/133)
وقد علم مولانا أنّ للشّفاعة أحوالا ثلاثا؛ حالا تخصّ الشافع، وحالا تخصّ المستشفع، وحالا تخص [المشفوع «1» إليه] ولكلّ حدّ يجب الانتهاء إليه، ولا يجوز التقصير فيه، فعلى المستشفع ارتياد أخصب جناب، وأسكب سحاب، وقصد الجهة الّتي لا تصدّ عن البغية سائلا، ولا تردّ عن الأمل آملا، وأن ينهض بالشّكر على العارفة، ويحدّث بالنّعم عنه في الأحوال الطارفة، وعلى الشافع أن يهريق «2» ماء وجهه في السّؤال، ويجرّد رغبته في تسهيل المنال، ويعتقد أنّ ذلك من الدّين المقترض، والدّين المفترض، ويتكفّل بالقيام بما يستدعي منه من المكافاة، ويلتمس من العوض والمجازاة. وعلى المشفوع إليه أن يعلم أنّ الشافع والمستشفع ما قصداه إلّا بعد الثّقة بأحديّته، ولا اعتمداه إلّا بعد السّكون إلى أريحيّته، وأنه لا ينبغي أن يخسر متجرهما، ولا يضيع سفرهما، وقد اجتمعت هذه الأحوال الثلاث للرئيس المشفوع إليه، ولسيّدي الشافع، ولخادمه المستشفع به، ولم يبق إلّا عزمة منه تهزّ أفنان الإقبال فتسّاقط أثمارها، وتنشيء عوارض الآمال فيتهافت قطارها.
أبو الفرج «3» الببغاء:
وموصّل كتابي هذا غنيّ عن شفاعتي له بما يمتّ من حرمات الرّغبة إليك، والوقوف دون كلّ مقصد عليك، وبما يشفع ذلك من التقدّم في الصّناعة، والتوصّل بوجيه الكفاية، وإنما زوّدته هذه الأحرف لأفتح له باب الأنسة، وأسهّل السّبل إلى التّعلّق بالخلّة، وأدلّ بها على ما تكشف منه المطاولة والخيرة، وأنت أيّدك الله وليّ التطوّل بالتقدّم في إيناسه وبسطه في الخدمة بما يستزيد له محمود الأثر فيها من حسن النظر وجميل الرأي.(9/134)
وله في مثله:
وموصّل كتابي فيما يؤمّله منك ويبلغه بك متمسّك من رجائك بأوكد ذمّة، ومن شفاعتي بأوجب حرمة، ومهما متّ به بعد ذلك من ظهور كفاية أو تقدّم في صناعة كان غير ضائع عند رعايتك، ولا مجهول مع تيقّظ عنايتك، وأرجو أن يحلّ من تقبّلك، بحيث أحلّه حسن النظر بتطوّلك.
وله في مثله:
وفي علمك ما آخذ به نفسي، وأروض به أخلاقي، من الانقباض عن التّسرّع إلى مسألة، والاحتشام من الانبساط في حاجة، ما دلّك على موضع فلان ومكانه من إيثاري بواجبات حقوقه، وسالف مواتّه، ولذلك سمحت بالكتاب له إليك، وفارقت رسمي بالتثقيل في قضاء حقّه عليك، وقد قصد نحوك بأمله، واختارك لرجائه، وقدّر بك بلوغ البغية، واختصر بشفاعتي إلى تفضّلك السبيل إلى إدراك المحبّة «1» ، فإن رأيت أن تأتي في بابه ما يشبه فضلك، ويناسب وكيد ثقته بك، وأني أشركه في الشكر وأساهمه في الاعتداد، فعلت.
آخر (متقارب) :
رأيت المساكين قد أجمعوا ... على أنّك الوزر المعتمد
فأنت لطفلهم والد ... وأنت لشيخهم كالولد
السّلام العميم ورحمة الله وبركاته على من جعله الله للمساكين ظلّا يقيهم، وطلّا يسقيهم، ونعمة تعمّهم، ورحمة تضمّهم، أبو فلان، أبقاه الله في عزّة تالدة طارفة، وسعادة لا تزال طارقة بكلّ عارفة.
من أقامه الله مقامك أيّها الشيخ المبرور بالترفّق بالفقراء، والإحسان إلى(9/135)
الضّعفاء، لم يعدم مريضا يقصده في الشّفاء، ولا يعدم فيضا يعتمده للاكتفاء، لا سيّما إذا توسّل وحده، وتشفّع بمن لا يضيع عمل عامل عنده، ومتحمّلها فلان قصّ الفقر جناحه، وأخنى عليه الدّهر واجتاحه، ولما رأى الفقراء ببرّكم مرتفقين، وعلى شكركم متّفقين، أمّكم حسن الظنّ بالمنّ، ولم يقدّم شفيعا دنيويّا، ولا طريقا واضحا سويّا، وأنتم أيّها الشيخ الموقّر تنزلونه منزلة سواه، ممّن ثوى مثواه، ونوى فيكم من الأجر والشّكر ما نواه، إن شاء الله تعالى، والسّلام الكريم العميم، يخصّ جنابكم ورحمة الله وبركاته (بسيط) :
فالله سبحانه يبقيك في دعة ... وحسن حال وتيسير وإقبال
مقدّم المجد في عزّ وفي كرم ... مؤمّل النّفع من جاه ومن مال
الشفاعات من كلام المتأخّرين:
الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبي:
شفاعة في استخدام كاتب «2» درج:
جعل الله تعالى دوره رحبة العراص «3» ، وسعادته في الازدياد وأعاديه في الانتقاص، والدعاء لإحسانه مقرونا بصدق النيّة والإخلاص (طويل) :(9/136)
وهذا دعاء لو سكتّ كفيته ... فإنّي سألت الله فيك وقد فعل
صدرت هذه الخدمة تستمطر سحاب كرمه، وهامي ديمه، وتسأل جميل شيمه، في معنى مملوك المولى وداعيه، والشاكر لأياديه، والملازم على رواية أخبار فضائله وبثّها، ونشر تفضّلاته ونثّها، فإنّه من بيت كريم النّجار، زائد الفخار، وله على مولانا حقّ خدمة، وهو يمتّ بسالف معرفة، ومحبّة المملوك له شديدة، والصّحبة بينهما قديمة وشقّة المودّة جديدة، ولولا ذلك ما ثقّل على خدمته، وتهجّم على المولى بمكاتبته، وقد توجّه إلى بابه العالي مهاجرا، وناداه لسان جوده فلبّاه وأجابه مبادرا، وغرضه أن يكون كاتبا بين يديه، ومملوكا تقع عين العناية عليه، وهو من الكرام الكاتبين، والراغبين في الانتظام في سلك خدمه والمؤثرين، وصفاته بالجميل موصوفة، وفصاحته معروفة، وقلمه الذي يقلم ظفر المهمّات ويكفّ كفّ الحدثان، ولسانه الذي يغني بشباته عن حدّ السّنان، ورأيه المقدّم في الهيجاء على شجاعة الشّجعان، فإذا أنعم المولى باستخدامه، وتحقيق مرامه، كان قد وضع الشيء في محلّه، وصنع المعروف مع أهله، وبيّض وجه المملوك وشفاعته، وصدّق الأمل في إحسانه ومروءته، ورأيه العالي، إن شاء الله تعالى.
وله شفاعة في استخدام جنديّ:
لا زال برّه مطلوبا، وجوده مخطوبا، وذكر إحسانه في الملإ الأعلى مكتوبا، ولا برحت رياض جوده أزهر وأنضر من روض الرّبا، ويده البيضاء ترقم له في سواد القلوب سطور حمد أحسن من نور تفتّحه الصّبا. هذه الخدمة صدرت على يد فلان تهدي إلى المولى سلام المملوك وتحيّته، ودعاءه الصالح الذي أخلص فيه نيّته، وتشفع إليه في تنزيله في الحلقة المنصورة واستخدامه، وترتيبه في سلك جيشه المؤيّد وانتظامه، فإنه من الأجناد الجياد، وذوي الجلد على الجلاد، وهو الغشمشم «1» الذي لا يردّ، والشّهم الذي لا يصدّ، والباسل(9/137)
الذي لا تحصر بسالته بوصف ولا تحدّ، والنقيب الميمون الغرّة والنّقيبة، الموصوف في الهيجاء بحزم الكهول وجهل ذوي الشّبيبة، والمولى وإن كان بحمد الله غير محتاج إلى مساعد، ولا مفتقر إلى معاضد، فإنّ أسنّته لا تحتجب عن روج محتجب ونفسه الشريفة تقوم وحدها يوم الكفاح مقام عسكر لجب، وقلبه يغنيه عن الأطلاب والأبطال، وجيوش سطوته لا تكلّفه المقام في منازل النّزال، فإنّ المملوك يعلم أنّ نفسه الشريفة تهوى تزيّد عسكره وجنده، وترعى حرمة قاصده وقصده، فلهذا توسّل بشفع وتر الشّافعة، وتوصّل إلى إزالة ضرع حاله بكثرة الضّراعة، فإذا أنعم بقبول شفاعة المملوك فيه، وحقّق له من العناية ما يؤمّله ويرتجيه، كان قد شدّ للمشار إليه، ما أضعفته العطلة من منّته، وقلّد المملوك جميل منّته.
شفاعة في ردّ معزول إلى ولايته:
يقبّل اليد العالية لا زالت مقبّلة، ولإسداء الخير إلى أهله مؤهّلة، وبأياديها على الكافّة متفضّلة.
وينهي ملازمته على شكر مواهبه، ونشر فضائله الجسيمة ومناقبه، وحمده كريم شيمه، والاعتذار من تثقيله على خدمة المولى بخدمه وسؤال إنعامه بوجوه مكاتبته ولسان قلمه، وما ذاك إلّا لما يتحقّقه من كريم نجاره، وشدّة تطلّبه لإسداء العوارف وإيثاره، والموجب لهذه الوسيلة وسؤال مكارمه، واستمطار سحائب مراحمه، ما بلغه من عزل مملوك المولى وعبده، وواصف جميل أوصافه بلسان شكره وحمده فلان، أفاض الله عليه إحسان المولى وإنعامه، وخلّد لنا وله دولته وأيّامه، فإنه صاحب المملوك وصديقه، وشريكه في الدّعاء لمولانا ورفيقه، وهو من العدول الأمناء، والثّقات الاتقياء، وهو قليل الجدة كثير العيال، لا يجد حيلة إذا بطل بخلاف ما يحكى عن البطّال، وقد تشفّع بالمملوك ومكاتبته في ملاحظة المولى له بعين عنايته، والتقدّم بردّه إلى جهة ولايته، فلهذا كتب إليه وأكّد في معناه السّؤال وعلّق بتحصيل أمله الآمال، يعلم ذلك موفّقا.(9/138)
شفاعة في خلاص مسجون:
فسّح الله في مدّته، وسهّل أداء ما يجب من شكر نعمته، وألزم الألسنة بحمده والقلوب بمحبّته، وجعله مفرّجا كلّ كرب، ومسهّلا من المقاصد كلّ صعب.
وبعد، فإنّ كافّة الأمّة قد تحقّقت رحمة قلب المولى ورأفته، وتيقّنت إحسانه ومروءته، وأنه يؤثر إعانة كلّ عان وإغاثة كلّ ملهوف، وأنه لا يمسك إلّا بالإحسان ولا يسرّح إلّا بالمعروف، بحيث سارت بحسن سيرته الرّكاب عوضا عن الرّكبان، ودرأت مكارمه «1» عن الأولياء نوب الزّمان، وعلا على حاتم فلو تشبّه بكرمه لقلنا له: (مرعى ولا كالسّعدان) «2» . وللمملوك من إحسانه أوفر نصيب، وهو يرفل من جوده في ثوب قشيب، وقد اشتهر ما يعامل به من الإكرام، وأنّ قسمه من العناية أوفر الأقسام، وكان يعدّ من جملة العبيد فأصبح مضافا إلى الألزام «3» ، وهذا مما يوجب على المملوك أن يبتهل إلى الله في تخليد دولته ويتضرّع، وعلى حلم مولانا إنه إذا شفع إليه في مذنب أن يشفّع، وهو يشفع إليه في مملوكه وعبده، والملازم على رفع رايات مجده وتلاوة آيات حمده، فلان، رزقه الله رضا الخواطر الشريفة، وأسبل عليه حلّة عفوه المنيفة على الحلل بظلالها الكثيفة، فإنه قد طالت مدّة حبسه، واعترف بأنه الجاني على نفسه، والمعترف بذنبه كمن لا أذنب، والمغترف من بحر جوده يروى دون أن يشرب،(9/139)
والطالب لبرّه ينال سؤله والمطلب، فإن حسن في رأيه العالي زاده الله علاء وضاعف له سناء، المشي على منار جوده ومنهاجه، وبروز أمره المطاع بإطلاقه وإخراجه، اغتنم أجره، وجبر كسره، وربح في هذا الشهر المبارك دعاءه الصالح وشكره، وكان قد أنعم على المملوك بقبول شفاعته إليه، وفعل ما يوجب على كلّ مسلم الثناء عليه، والله الموفّق.
شفاعة بسبب خلاص حق:
يخدم المجلس «1» السامي لا فتيء بالتحيات مخدوما، وحبل سعده مبروما، ودرّ المدائح لجيد جوده منظوما، وعدله بين الأخصام قاضيا فما يترك ظالما ولا مظلوما. ولا زالت الآمال متعلّقه بهمّته، منوطة بسعيد عزمته، راجية خلاص كلّ حقّ ممن هو في جهته، وتوضّح لعلمه أنّ فلانا أدام الله سعادته، وخلّد سيادته، ذكر أنّ له دينا، في جهة غريم مماطل مدافع، وخصم ممانع، وقد جعل هذه الخدمة ذريعة إلى خلاص حقّه، وخالها إلى الوصول إلى عناية المولى أقرب طرقه، وهو جدير بالتقدّم بإحضار غريمه ومحاققته، وأخذ ما للمملوك في ذمّته، وأن لا يفسح له في تأخيره، ولا يسمح بقليل الصبر ولا كثيره، فإنه يعلم أنّ المولى المشار إليه واجب الخدمة، وافر الحرمة، وقد تعلّق أمله في خلاص حقّه بالمولى، ولا يجاوب عن هذه الخدمة بلو ولولا، بل يبذل جهده، ويطلق في تحصيل الغرض لسان الاجتهاد ويده، ويعتمد من الاهتمام ما يليق بأمثاله، ويبيّض وجه الشافع وسؤاله، موفّقا. شعر (طويل) :
ولو كان [لي] في حاجتي ألف شافع ... لما كان فيهم مثل جودك شافع
شفاعة فيمن اسمه سراج الدّين إلى من اسمه جمال الدين:
الشيخ جمال الدين «2» بن نباتة:(9/140)
وينهي بعد؟؟؟ ولا ويحكم على القلوب شافع جماله، وثناء يجرّ على أكمام الزّهر فضل أذياله، أنّ العلوم الكريمة محيطة بإيجاب حق من هاجر إلى بابها، وشكا غلّة الفاقة إلى منهل منهلّ سحابها، وأنّ الماثل بهذه الخدمة، فلان، ذكر احتياجه إلى عاطفة من عواطف مولانا الّتي شملت، وعارفة من عوارفة الّتي لو استمدّت من غررها الليالي لما أظلمت ولا ظلمت، وأنّ بيده وظيفة شهادة بيت لحم بتواقيع شريفة نظرت في حاله، ونشرت حال عياله وأطفاله، وأنّ ثمّ من ينازعه في جهته المعتادة، ويقصد نزعه والنّزع عن «1» تلك الشهادة المسطّرة أخفّ من نزع الشّهادة، ومولانا أولى من رحم منه ضعفا، واشتمل عليه عطفا، ودارك بكرمه هذا السّراج قبل أن يطفى، ورعى سيرة مباشرته الحسنة الآثار، واغتنم أدعيته وأدعيته أولاده الذين هم كقطع الشّطرنج صغار وكبار، وكفّ يد التعرّض إليه في أيام عدله فإنها أيام لا ضرر فيها ولا ضرار، وعلى الجملة فقد تركته الأيّام قطعة لحم، فمباشرة بيت لحم أولى به، ورجاله فرجانية وأخواتها أحقّ أن يتعلّق سببها بأسبابه، والله تعالى ينير بمنن مولانا أحوال المضرورين فإنّها ظلام، وينصرهم على حرب الأيّام بسيوفه الّتي هي أقلام، ويمتّع بأيّام عدله وإحسانه الّتي تتنافس فيها أعمار الرعايا فإنهم يتبعون أيّاما بأعوام.
وله إلى شخص اسمه شمس الدين:
وينهي بعد قيام بوظائف ثناء يتمسّك بنفحاته [المتوالية] ، وولاء يتمسّك بحباله المتينة وما كلّ شمس حبالها واهية، أنه يرتاد الأوقات لخطاب مولانا بالأقلام، حيث حبس البعد خطاب الكلام، ويتخيّر حملة رسائل الشّوق، وإن أضعف عطف النّسيم رسائل السّلام، ولما حضر من مكان كذا، عارض هذه الخدمة فلان، وذكر توجّهه إلى حمى حماة المحروسة، وقصد كتابا يكون في وحشة الاغتراب أنيسه، فوافق ذلك غرض المملوك، وسلك طريق مراده ولا(9/141)
ينكر من جهة هذا الرجل الصالح السّلوك، فأعلمته أنّ المكارم الحمادية لا تحتاج غير الحمد والأجر شافعا إليها، والمنازل الشمسيّة لا تفتقر إلى دليل ينبّه عليها، وطالما جمعت لقاصدها الفعل والقول السخي، وطالما قال يوسف رحمه الله، أخو مولانا أبقاه الله للقاصد: أنا يوسف وهذا أخي، ولكن المملوك يذكّر الخاطر الكريم بهذا القادم فإنه من أهله، ويلقاه قبل ذلك بالبشر المنشد (طويل) :
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله
فإنّه من أصحاب وليّ لله طالما فاض وليّ معروفه، واستفاضت نسبته المرشديّة فكان وليّا مرشدا قامت صفته مقام موصوفه، وإنّ آثار هذه البركات على هذا القادم لائحة، وإن على يده تجارة ذكر وأجر وهي في سوق همم مولانا تجارة رابحة، والله تعالى يجعل له في كلّ ثناء وثواب نصيبا ويديم قلمه الكريم مقصد رفد وجاه (فطورا رشاء وطورا قليبا) .
وله: عن نائب الشام إلى نائب حماة شفاعة في شخص اسمه شهاب الدين، وهو بعد الألقاب:
لا زالت الأقدار تسعده، والملائكة تنجده، ومواطن النصر تجرّد حدّ بأسه ومواطن الحلم تغمده، والجناة تلوذ بظلّه، فأيّ جاني ذنب ما يعفو عنه، وأيّ جاني برّ ما يرقّ عليه ويرفده، تقبيلا يترادف مدده، ولا تنتهي في القرب والبعد مدده.
وينهي بعد ولاء وثناء: هذا لا يبلى جديده وهذا لا تخفى جدده، وشوق وارتياح كلاهما يروى عن ابن شهاب توقّده، ويحمل على يد شهاب سنده، أنّ العلوم الكريمة محيطة بمقدار الحلم وفضله، والعفو ومحلّه، والتجاوز عن هفوات المخطئين من القوم، وطلب العفو من الله غدا بالعفو عن عباده اليوم،(9/142)
قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
«1» . ولمّا سمع الصدّيق رضي الله عنه هذه الآية، قال: (بلى والله إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي) ثم عفا عمن نزلت بسببه، ومملوك مولانا أعزّ الله أنصاره فلان، قد اعترف بهفوة بدت منه، وزلّة نقلت عنه، ما يسعها إلّا عفو مولانا ومراحمه، وقدم على المملوك فكأنّه ما خرج عن ظلّ مولانا ولا فارقته معالمه، وسأل سؤال مولانا أن يشمله بالعفو، ويتجاوز له عن السّهو، ويرحم كبر سنّه وكبيرة جهله، ويرعى قدم هجرته لخدمة هذا الباب الذي نشأ عمرا طويلا في ظلّه، أهلا لأن تشمله عواطف أهله، وهو- كما عرف المملوك واطّلع عليه حيث كان في نيابة حماة- مشكور السّيرة بالاعتبار، ناهض الخدمة بالاختبار، ملازم لثرى الباب بعزم ما عليه غبار، وله على المملوك بالأمس حقّ خدمة وباليوم حقّ سؤال يشفع بهما في القلوب وهي كبار، والمسؤول من صدقات مولانا تجاوزه عن هفوته، وردّه إلى أمنه ووظيفته، وإجراؤه على عادة إقطاعه، وحاشاه في أيّام مولانا أن يقطع، بل حاشى المذكور أن لا يستخبر وأن لا يقطع، واستقراره في مكان خدمته، وإجابة سؤال المملوك في كل ما يتعلق بنجاح هجرته وعزمته، لا برح مولانا مأمول المنن الغائبة والحاضرة، والمقيمة والسائرة، مأهول الخواطر برفع ذكره وقدره في الدنيا والآخرة.
الشيخ جمال الدين بن نباتة:
لا زالت المحامد بذكرها متوّجة، ومقدّمات الفضل والفضائل من تلقاء شيمها منتجة، ومطالع الكرم والإكرام هادية إلى حرمها من اتّجه، تقبيل مواظب على الدعاء يرفعه، والولاء يجمعه، والثناء يقول بضّاع أرجه لا مما نضيّعه بل مما نضوّعه، [وينهي] أن عارض هذه الخدمة على عارض كرم مولانا الممطر، وبابه الذي هو لكبد الحاسد وفم الوارد مفطّر، فلان، لقضاء تعلّقات(9/143)
له أوّلها التعلّق بحبل رجائه المحصد، وانتمائه المرصد، والتجمّل بقصد باب مولانا الذي هو المهمّ المقدّم على كل مقصد، وهو من الفضلاء الذين يعرفهم انتقاد مولانا معرفة الخبير، وله اتصال بالأكابر الذين سلّم منهم زمام المفاخر كلّ كبير، وقصد من المملوك هذه الخدمة لمولانا تؤنس اغترابه، وتنشد المقرّ الذي ما قرع سنّ الندامة من قرع بابه (خفيف) :
يا غريب الصّفات، حقّ لمن كان ... غريبا أن يرحم الغرباء
والمملوك يسأل من إحسان مولانا ملاحظة المذكور بعين عنايته الّتي ما أغفت عن القاصدين ولا غفلت، وعواطفه الّتي طالما فتحت أبوابها فأثنت عليها الركائب الّتي قفلت؛ والله تعالى يديم تقليد الأعناق بكلمه وبرّه، ويمتّع الممالك الساحليّة بما قذف لها من درر بحره.
النوع الخامس (التشوّق)
قال في «موادّ «1» البيان» : وينبغي للكاتب أن يجمع لها فكره، ويظهر فيها صناعته، ويأخذ في نظمها مأخذا من اللّطافة والرّقّة يدلّ على تمازج الأرواح، وأتلاف القلوب، وما يجري هذا المجرى، وأن يستخدم لها أعذب لفظ وألطف معنى، ويذهب فيها مذهب الإيجاز والاختصار، ويعدل عن سبل الإطناب والإكثار، لئلا يستغرق جزءا كبيرا من الكتاب فيملّ ويضجر، وينتظم في سلك الملق والتكلّف اللذين لا يعتادهما المتصافون من الأصدقاء.
وهذه نسخ من ذلك:
أبو الفرج «2» الببغاء:(9/144)
شوق المملوك إلى مولانا بحسب مكانه من تفضّله، وحظّه من جميل نظره، واختصاصه بإنعامه، واغتباطه بشرف خدمته، ومكانه من إيثاره، والله يجمع للمملوك شمل السعادة بمشاهدة حضرته، و؟؟؟ «1» من الدّهر بالنظر إلى غرّته، على الحال السارّة فيه وبه.
وله: شوق المملوك إليه شوق الظّمآن إلى القطر، والسّاري إلى غرّة الفجر.
وله: شوقي إليه شوق من لم يجد مع بعده عوضا عنه، فتقوده الزيادة إلى الانصراف بالرّغبة عنه.
وله: شوقي إليه شوق من فقد بالكره سكنه، وفارق بالضّرورة وطنه.
وله: لو كان ما يصدره من خطاب، ويناجيه به من متضمّن كتاب، بقدر ما أعانيه من ألم الشوق إلى غرّته، ومضض الفائت من مشاهدته، لما أحاطت بذكره بسطة لسان، ولا ناب في إثباته استخدام بنان.
وله: أمّا الدهر فما يستحقّ من إبعاد المملوك عنه عتبا، ولا يعدّ ما جناه من ذلك ذنبا، إذ كان إنما نقل من حشمة المخاطبه، إلى انبساط المكاتبة.
وله: وقدره- أبقاه الله تعالى- يرتفع عن ذكر الشّوق إليه، فالمملوك يعبّر عنه بذكر الشوق إلى ما فارقه من تفضّله، وبعد عنه من أوطان تطوّله.
وله: ولولا أنّ المملوك يخمد نار الاشتياق، ويبرّد أوار الفراق، بالتخيّل الممثّل لمن نأت محلّته، والتفكّر المصوّر لمن بعدت شقّته، لألهبت أنفاسه، وأسعرت حواسّه، وهمت دموعه، وأنقضت ضلوعه، والله المحمود على ما وفّق له من تمازج الأرواح، عند تباين الأشباح.
وله: ولا بدّ أن يكفّ بالمكاتبات، من غرب الاشتياق، ويستعين بأنس(9/145)
المراسلات، على وحشة الفراق، فإنها ألسن ناطقة، وعيون على البعد رامقة.
وله: عند المملوك لمولانا خيال مقيم، لا يبرح ولا يريم، يجلو عليه صورته، ويطلع على عين فكرته طلعته، إن سهر المملوك سامر معينا على السّهاد، أو رقد تصوّر معذبا طعم الرّقاد، لا يمطله بزيارته، ولا يوحشه بغيبته، كأنما تصوّر بصورته في الوفاء، وتخلّق بخلقه في المحافظة على الإخاء.
وله: إن تزايلت الأشباح، فقد تواصلت الأرواح، وإن نزحت الأشخاص وبعدت، فقد دنت الأنفس وتقاربت، فلا تمضّ الفرقة وتؤلم، وتنغّص النّوى وتكلم، وقد ينال بتناجي الضّمائر، وتحاور السّرائر، ما لا تصل إليه الإشارة، ولا تدلّ عليه العبارة، إذ الأنفس البسيطة أرقّ مسرى، وأبعد من الألسنة مرمى.
التشوّق من كلام المتأخرين:
نسخة كتاب من ذلك، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الصدر:
لا زال الدّهر يقضي خدمه، ويمضي رأيه وسيفه وقلمه، ويرضي الدّول الشاكرة تقديمه فيها وقدمه، ولا برحت الأقدار المعربة تجزم أمره وتكسر ضدّه وترفع علمه، تقبيلا إذا لثم التّرب التثمه، وإذا أودع القلب في ذلك التّرب ختمه.
وينهي مواظبته على ولاء لا ينسخ البعد محكمه، ودعاء يقابل النّجوم ولا تنقطع من القبول إدراراته المنجّمة.
وينهي أنه سطّرها عن شوق يعزّ عليه أن ينوب فيه سعي القلم، عن سعي القدم، وارتياح إلى القرب الذي بأنسه يؤنسه أنوارا على أعلى علم، وتطلّع لمعاودة الأخبار أوفى من تطلّع العامريّ إلى معاودة أيّام ذي سلّم، وتعلّل بقول القائل (وافر) .
بعثت لكم سوادا في بياض ... لأنظركم بشيء مثل عيني
وهيهات! أين نظرات الحروف المرقومة من نظرات العيون الرامقة، وأين(9/146)
منال السّلوّ من شجو يقول (بسيط) :
أعيذها نظرات منك صادقة.
ما يحسب المملوك من النظر إلّا ما يملأ العين من ذلك الوجه الكريم، ولا يلبس من خلع الأيّام إلّا ما تخيط الأهداب على شبا ذلك القرب الرّقيم، وعلى ذلك فقد جهّزها المملوك على يد فلان، وحمّله من رسائل الشّوق ما يرجو أن ينهض فيه بأعباء الرّساله، ويسأل الإصغاء والملاحظة فيما توجّه فيه وإن أدّت الأمالي إلى الملالة، والله تعالى المسؤول أن يبلّغ في امتدادها مولانا الأمنيّة، ويمتّع الدّول منه بهذه البقيّة النقيّة، إن شاء الله تعالى.
نسخة كتاب في المعنى عن نائب الشام، إلى القاضي «1» علاء الدين بن فضل الله، كاتب «2» السّرّ بالأبواب السلطانية، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا، وهو بعد الألقاب:
لا زال قلمها مفتاح الرّزق لطالبه، والجاه لكاسبه، والظّفر لمستنيب كتبها عن كتائبه، والنّجح لرائد مطالبة الدّهر بعد المطال به، ولا برح البأس والكرم يتحدّثان عن بحرها ولا حرج عن عجائبه، تقبيلا تغبطه في مرابعها، ثغور الأزاهر، لا بل تحسده في مطالعها، ثغور الزّواهر.
وينهي بعد دعاء أحسنت فيه الألسنة وأخلصت الضّمائر، وولاء وثناء لهما مصاعد النّجمين إلّا أنّ هذا في القلوب واقع وهذا في الآفاق طائر- أنه جهّز هذه الخدمة معربة عن شوق يتجدّد، وارتياح لا يتعدّى ولا يتعدّد، ساعية عنه بخطوات الأقلام، أن منع الوقت خطوات الأقدام، نائبة في تقبيل الأنامل الّتي تستسقى ديمها على القرب والبعد ولا كيد ولا كرامة للغمام، وجهّزها على يد فلان بعد أن حمّله من رسائل الشوق ما إنّ حملنا من إحسانه لينضي عقود الأنجم لو تعدّدت، ومفاتيح أبوابه لتنوء بالعصبة أولي القوّة لو تجسّدت، وهو بين(9/147)
يديه يقدّم نجواها، ويستشهد بالخاطر الكريم قبل حضور دعواها، والمسؤول إصغاء السّمع الكريم إليه، والملاحظة فيما توجّه فيه متّكلا على الله وعليه، وإذا عاد مشمولا بعناية مولانا المعهودة، مكفولا برعايته المقصورة على نجح الآمال الممدودة، فلينعم على المملوك من المشرّفات الكريمة بما يسكّن على جور البعد خواطره الدّهشة، ويعينه على الوحشة الّتي حرّكها نحوه البعاد فهي الوحشة، والله تعالى يشكر همم مولانا غائبا وحاضرا، وشافعا لرسائل خدمه وناظرا، ويخصّ بابه العلويّ بسلام كسلام سقيط الطّل عن ورق الغصن ناضرا.
آخر من كلامه: كتب به إلى بعض رؤساء مصر.
وينهي أنه سطّرها معربة عن شوق مقيم، وعهد لا يبرح على صراطه المستقيم، وآرتياح لجنابه، أو لكتابه، ليتلو لإنصات شجوه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ
«1» ، متطلّعا لما يرد من أخبار مولانا السارّة البارّة، مرتقبا لأنبائه ارتقاب الزّهيرة الفاغرة إلى ضرع الغمام الدّارّة، ولو أنّ كلّ ما يتمنى المرء يدركه، وكلّ ما يقترح على الدّهر يملكه، لغني بقرب المخاطبة، عن بعد المكاتبة، واستجلى كوكب الجمال المشرق وأقصر في ليالي الانتظار عن المراقبة. وقد جهّزها على يد فلان، وحمّله من رسائل الشوق أوفى وأوفر من رسائل الصّفا، وسأل الإصغاء والملاحظة من مولى كجاره النيل معروف المنافع والوفا، ولآمال المملوك بمشرّفاته وأوامره جمال حين يريح وحين يسرح، وحين يقتصر على مقترحات الأيام حين يشرح، فينعم مولانا بمواصلتها على هذه المقدّمة، ويجعل ذلك من إدرارات صلاته المنجّمة، والله تعالى لا يعدم المملوك في حال كرمه، إما أن يفيض في القرب بحره وإما أن يبعث على البعد ديمه.
وله إلى كاتب السر:(9/148)
أعلى الله أمر قلمها على الأقلام، وأدام بفيض أنامله عليه بسط كلمة الإسلام، وراع بكتائب كتبه العدا إذا انتبهوا، فإذا أغفوا «سلّت عليهم سيوفها الأحلام» .
ولا زالت تلك الأقلام العالية في تلك اليد الكريمة إن لم تكن من المنشئات، فإنها من المنشآت في البحر كالأعلام، تقبيل مواظب على دعاء يطلع طلوع طرّة الصبح تحت ذلك الظلام، وولاء إذا اعتبر الخاطر مسعاه وخدمته، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ
«1» .
وينهي أنه جهّز هذه الخدمة مقصورة على وصف الأشواق الممدودة، وجوانح الشّجو المعهودة، وأنفاس التذكّر الّتي لولا شرف مذكورها لم تكن عنده من الأنفاس المعدودة، فيالها مقصورة على شوق ما فيها غير طيور الجوانح خفّاقة الجناح، سبّاقة الارتياح، ويا لها أنفاس ذكر أغنت منادمتها عن كيس كأس واقتراح وقت راح، ويا لها ورقة فازت بمشافهة لثم اليد الشريفة فكرمت وصفا، ونأت عن فخار الروض عطفا، واستطابت بشفاه السّطور على تلك البنان رشفا (طويل) .
وسطّرتها والجسم أنحل ما يرى ... فيا ليتني أصبحت في طيّها حرفا
واصلة إلى الباب الكريم بسلام وصل عبقه قبل ما وصلت، واردة على يد فلان وقد حمل من رسائل الصّفاء والودّ مثل ما حملت، وحصلت على القرب، ويا أسفى على ما حصل وحصلت. والمملوك يسأل الإصغاء إليها وإليه بفضل النظر والسّمع، والإنعام على المحبّ المفارق بمشرّفات تجلو عليه أيام جمع، وتعينه على أوقات وحشة إذا وصفها المشتاقون وأقلامهم ولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع، لا برح ذكر مولانا عليّا، وبرّه بملء الآمال مليّا، ووصفه بالتّقى وسحاب الجود على الحالين وليّا (سريع) .(9/149)
يا منية النّفس ويا مالكي ... مذغبت عنّي لم تنم مقلتي.
إن بنت عن عيني برغمي فقد ... سكنت في قلبي وفي مهجتي
لا أوحش الله من طلعته، ولا أخلى من كريم مساعدته، وجمع شمل الأنس بخدمته.
المملوك يشكو من المولى فراقا أوجب له على نفسه فرقا «1» وجيش صدود منحه من العزائم طوائف وفرقا، وداء صبابة كلّما ترجّى الإفراق «2» منه ازداد تلهّبا وحرقا، ووجوب قلب تحتّم لغيبته ووجب، ودمع عين يمحو مهما عبّر عنه لسان قلمه أو كتب، وقد أطال الهجر تألّمه وعتبه، وأطار سنته ولبّه، مذ وصل المولى غيره وقطع عنه كتبه، والمولى يعلم أنّ المملوك لفظ والمولى معناه، وسعده شخص وأنت وجهه الميمون ويمناه، فيواتر إرسال مكاتباته، ويتحف بمأثوره ولباناته، ويعطّر بذكره الجميل الأماكن ويشنّف المسامع، كما شرّف بحلوله فيها الأضالع، والله يديمه ويمدّه بالإسعاف والإسعاد، وينصره على الأضداد والحسّاد (وافر) .
أقاسي من بعادك ما أقاسي ... وقلبك راحم وعليّ قاسي
وأحمل من نواك بضعف نفس ... عناء يعجز الشّمّ الرّواسي
وتبعدني وأمرك إن أتاني ... جعلت محلّه عيني وراسي
قرّب الله أوبته، وعجّل رؤيته، وحرس نفسه من الغير والحادثات، وصان حجابه المنيع عن الملمّات المؤلمات، وجمّل الأيام بوجوده، والأنام بجوده، ولا زالت الدنيا به مجمّلة، وأعناق أبنائها لمننه متحمّلة.(9/150)
صدرت هذه الخدمة إلى خدمته متضمّنة إهداء سلامه، وشاكية لغيبته جور أيّامه، ومنهية شدّة أشواقه الّتي أفنت بالصّبابة قلبه، وأذهبت حشاشته ولبّه، وهي في ذلك نائبة مناب سائر الخدم، ومعبّرة عن ألسنة الأقاليم بلسان القلم، فإنّ الأعين متطلّعة إلى رؤيته، والقلوب متعطّشة إلى قفوله ورجعته، كما تتطلّع إلى السماء عيون النّرجس، وتتعطّش الرّياض إلى الوابل الغدق بعد اليوم المحرّ المشمس، فالمولى يجعل مواصلته بأخباره فرضا لازما، ويمتنع من إغفاله كما يمتنع من لذّة الطعام إذا كان صائما، فإنّ المولى هو صورة الجود ومعناه، وبيته الكريم فناء الخير ومغناه، والناس ما لم يروك أشباه؛ حرسه الله وتولّاه، وضاعف علاه، والسّلام. (رجز) .
يا أجمل الناس سناء وسنا ... جفت جفوني لجفاك الوسنا
ثمار آلام، إلام أجتني؟ ... يا ليتني أعلم حظّي ما جنا
وأنتم يا أهل بان لعلع ... مذ بنتم لم أر شيئا حسنا
أقمتم بمنحنى أضالعي ... وسرتم يا أهل وادي المنحنا
في بعدكم منيّتي لا تبعدوا ... وقربكم غاية سؤلي والمنا
خلّد الله سعادته، وبلّغه من العلياء إرادته، وأثّل مجده، وأدام سعده، وأعذب منهله وورده.
المملوك يتشوّق إلى لقائه، ويتشوّف إلى أنبائه، ويصف شديد أشواقه وصبابته، وحنينه إلى مشاهدة المولى ومشافهته، وما يجده لذلك من ألم في جوارحه الجريحة، وسقم في جوانحه الصحيحة، ويلتمس مواصلته بكتبه آناء الليل وأطراف النهار، وأخباره السارّة ليتضاعف له مزيد الاستبشار، فإنّ القلب بنار الصّبابة قد وقد، وأما صبره على [بعده] فقد فقد، ومتى ورد كتاب المولى شفي الغليل، وأبلّ «1» العليل، ونجع طعم الحياة ونجح التأميل، فليصيّر وتر(9/151)
مكاتباته شفعا، ولا يجعل لوصلهنّ قطعا، والله يمنح عيشه خفضا ومكانه رفعا، والسّلام.
شعر في معنى التشوّق (بسيط)
قد كان لي شرف يصفو برؤيتكم ... فكدّرته يد الأيّام حين صفا
غيره (طويل) .
كتبت «1» للكتاب مجلّد ... على أنّه قبلي بلقياك يسعد
النوع السادس (في الاستزارة)
قال في «موادّ «2» البيان» : رقاع الاستزارة إنما تشتمل على وصف حالات «3» الأنس ومجالس اللّذّات، ومشاهد المسرّات. قال: ويجب على الكاتب أن يودعها حلو الألفاظ، ومؤنق المعاني وبارع التشبيهات، ويبالغ في تشويق المستزار إلى الحضور، ويتلطّف فيه أحسن تلطّف.
وهذه نسخ من ذلك:
علي بن خلف:
رقعتي- أطال الله بقاء سيدي- ومجلسي بمن حلّه من خدمه، ونزله من صنائع كرمه، فلك مزيّن بأنجمه، فإن رأى أن يطلع فيه بدرا بطلوعه وينقل قدمه إليهم، ويكمّل نقصهم بتمامه، ويضيف ذلك إلى تليد إنعامه، فعل، إن شاء الله تعالى.(9/152)
وله في مثله:
قد انتظم لنا- أطال الله بقاء سيدي- مجلس رقّت حواشيه، وتبسّمت راحه عن حبب، كلأليء على ذهب، وقامت فيه سوق السّرور، لا يكسدها إلا تخلّفه عن الحضور، فإن رأى أن يكمّل جذلنا بإطلاع طلعته علينا، ويصدّق ظنّنا بنقل قدمه إلينا، سرّ وأبهج، وتمّم من الإحسان ما أخدج، إن شاء الله تعالى.
وله: هذا- أطال الله بقاء مولانا- يوم صفيق الظّلّ، رقيق غلالة الطّلّ، قد ترفّعت شمسه ببرج أنسه «1» ، وافترّ جذلا عن مضاحك برقه، وترنّم طربا بزمجرة رعده، ووشت مدارج نسيمه، بأرج شميمه، وقام على منابر السّرور يخطب ابنة الكرم لابناء الكرام، وينادي بأعلى صوته: حيّ على المدام، فقد وجب على كلّ موفّق لاجتناء ثمار السّرور، والتحاف عطاف الحبور، أن يلبّي دعوته، وينتهز فرصته، ويعوّضه من شمسه الآفلة، براح لإظهار ما اختفى من شعاعها كافلة، ويقفه على التّملّي بالكاس والنّدمان، ويجعله سلكا ينتظم فيه الإخوان. ورقعتي هذه صادرة إلى مولاي وقد تهيّأ لنا مجلس من مجالس الأنس، يبسط تجعّد النفس، فيه بغم «2» ونغم، ومزهر وزهر، وخلّان قد تراضعوا لبان العقار، وتساهموا نقل «3» الوقار، وشجعوا في معارك الخمّار، وأدمنوا على المماساة والابتكار، إلّا أنّ هذا المجلس مع تمامه مخدج، وعلى كماله مختلج، لبعد مولاي الحالّ منه محلّ الواسطة من النّظام، والأرواح من الأجسام، فإن رأى أن يكمّل منه ما نقص، ويميط عنه [ما نغّص] فليجمّلنا بالمصير إلينا، والطّلوع(9/153)
علينا، وإعفائنا من إضجار الانتظار، معتدّا بذلك في كريم الأيادي والمبارّ، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله:
هذا اليوم- أطال الله سيدي- يوم أعرس فيه الجوّ بالجارية البيضاء فخدّرها، وحجبها بسجف «1» الغمام وستّرها، واختال اختيال المعرّس في معرّسه، بمصندله وممسّكه ومورّسه، واتّخذ من ذهب البوارق نثارا، واستنطق من زنّار الرّواعد أوتارا، ودعا إلى حضور وليمته، والسّرور بمسرّته، فإن رأى أن يلبّي طلب «2» هذا اليوم الصّفيق، ويتمتّع بعيشه الرافغ «3» الرّفيق، فليطلع علينا طلعته الّتي تبهر القمر المزهر، وتصدع الليل المعتكر، لينهض غرّة الإصباح، بغرّة الراح، ويقطف ثمار الأنس والمحاضرة، ويتملّى بالسّماع والمذاكرة، ويأخذ بحظّ من لذاذة الفيخة الشبيهة بشمائله، ويعدّ ذلك من مبارّه وفواضله، [فعل] إن شاء الله تعالى.
وله في الاستزارة في بستان:
كتبت- أطال الله بقاء سيّدي- وقد غدوت في هذا اليوم [إلى] بستاني والطّير في الأوكار، والأنداء «4» تهبط كالتّيّار، والليل مشتمل على الصّباح اشتمال الأدهم على الأوضاح، عازما على مشارفته ومشارفة ما استمددت من عمارته، لا للخلوة فيه بمعاطاة المدام، ومؤانسة النّدام، فحين سرّحت الطّرف في ميادينه وجداوله، وأقبلت على تصفّح حلاه وحلله، رأيت مناظره تعتلق القلوب اعتلاق الأشراك؛ وتعتاق المستوفز عن الحراك، وتقيم قاعد المزاج والنّشاط، وتوقظ هاجد الفرح والانبساط؛ فمن أشجار كالأوانس، في ريحانيّ الملابس، حالية من موشّع الزهر والثمر، بأنصع من الياقوت والجوهر، كأنما تحفّلت لاجتلاء(9/154)
عروس، أو معاطاة كؤوس، ما بين نخيل قد نشرت عذب السّندس على ذراها، وأطلعت طلعا كالخناجر غشيها صداها، ونارنج يحمل أكبر العقيان، أو وجنات القيان، وأترجّ «1» قد استعار ثمرة أشواق العشّاق، إذا صالت عليهم يد الفراق. ومن ريضان «2» زاهية بنشرها، وقضبها مختالة في ملابس زهرها، ونرجسها كعين محبّ حدّق إلى الحبيب، وثنى جيده خوف الرّقيب، إذا عبث به النّسيم جمع بين كلّ قضيب وإلفه، وسعى بالاعتناق من شوقه وكلفه، ووردها كمداهن ياقوت فيها نضار، وشقيقها كمدامات عقيق فيها صوار «3» ، وبنفسجها فخذ تمضي فيه من القرص آثار، أو جام لجين عليه من النّدى نثار. ومن أنهار قدّت حافاتها قدّ الأديم، وحدّت على صراط مستقيم، بجرة مسجورة، كالسّيوف المشهورة أو المهارق المنشورة، إذا خمشها الهوى خلع عليها متون المبارد، أو سلوخ الأساود، يتخرّق ذلك كلّه نسيم رقيق الغلائل، حلو الشمائل، يسعى بالنّميم، في المعاطس والشّميم، انصبّت إلى مجلس فسيح البناء، ضيّق الأقناء، موشّى الجدران والسّماء، في صدره شاذروان «4» يرمي بكسر البلّور، وفي وسطه نهر ينساب ماؤه انسياب الشّجاع المذعور، وتتوسّطه بركة منمنمة ينصبّ الماء إليها بالدّوالي إلى أربع شاذروانات، ويخرج عنها من أربع فطيمات، يحتفّها كلّ شجر مثمر، وروض مزهر، فقلت: هذا المراد الذي(9/155)
يحطّ به الرائد رحله، ويوفد إليه أهله، ويدعو إلى اختيار من يهبّ إلى السّرور، ويساعد على الحضور، للمشاركة في التملّي ببهجته، والتمتّع بنضرته، فكان مولاي أوّل من جرى إليه ذكري، ووقع عليه طرف فكري؛ لأنه الساكن في فؤادي، الحالّ في محلّ رقادي، فإن رأى أراه الله ما يقرّ العين أن يكمّل مسرّتي بنقل قدمه إليّ، وإطلاع سعد طلعته عليّ، ليتمّم محاسن ما وصفته، ويكمل الالتذاذ بما شرحته، فعل، إن شاء الله تعالى.
أجوبة رقاع الاستزارة قال في «موادّ البيان» : لا يخلو المستزار من الإجابة إلى الحضور أو التثاقل عنه فإن حضر على الفور، فلا جواب لما نفذ إليه، وإن وعد الحضور وتلوّم ليقضي شغلا ويحضر، فينبغي أن يبني الجواب على سروره بما دعي إليه، وحسن موقعه منه، وأنّ تلوّمه للعائق الذي قطعه عن أن يكون جوابا عما ورد عليه، وأن حضوره يشفع رقعته. وإن أيس من الحضور، وجب أن يبنى الجواب على ما يمهّد عذره، ويقرّر في نفس مستزيره أنه لم يتأخّر عن المساعدة على الأنس إلّا لقواطع صدّت عنه، يعلم المعتذر إليه صحّتها لينحرس ما بينهما من المودّة، فإنّ كثيرا ما تتفاسد الخلّان من مثل هذه الأحوال.
النوع السابع (في اختطاب المودّة وافتتاح المكاتبة)
قال في «موادّ البيان» : الرّقاع الدائرة بين الإخوان في اختطاب المعاشرة، وانتماء المكاثرة، وطلب الخلطة والمؤانسة، يجب أن يقدّر الخطاب فيها على أن يصل المرغوب في عشرته إلى الانخراط في سلك أحبّائه، والانحياز إلى أهل ولائه، ويبعث على قصده، في الالتحاق بودّه، ويدلّ على المماحصة، والصّفاء والمخالصة، وما جرى هذا المجرى مما يتعامل به أخلّاء الصّدق، ويجعلونه مهرا لما يلتمسونه من الممازجة، ويرومونه من الاختلاط والمواشجة.
قال: وينبغي أن يذهب الكاتب في هذه الرّقاع مذهبا لطيفا، ويحسن(9/156)
التوصّل إلى الإفصاح عن أغراضها، ليأخذ بمجامع القلوب، ويعين على نيل المطلوب.
وهذه نسخ من ذلك:
رقعة: وينهي أنّ المملوك لم يزل مذ وقع طرفه على صورته، وولج سمعه بعد شيمته، يناجي نفسه بافتتاح مكاتبته ومراسلته، واختطاب ممازجته ومواصلته، رغبة في الاعتقاد بإخائه، والارتشاف من مشارع صفائه، والمقادير تطوي الطّويّة على ما فيها، والعوائق تمطل النيّة بنجاز ما تنويه وتلويها، إلى أن أذن الله تعالى بإعراض الأعراض، وانقباض أسباب الانقباض، فأظهر المملوك ما في القوّة، واثقا من مولانا بحسن المروّة، وأنه يوجب القبول بإجابته، ويجيب إلى مساعدته، ويرضى المملوك أهلا لاصطفائه، ومحلّا لإخائه، عالما بإيجابه للحقّ، والمعرفة بالسّبق، وأن تلقى هذه الرغبة بالقبول، ويسلّم إليها مفتاح المأمول.
رقعة: لو كانت المودّة لا تحصل إلّا عن ألفة تالدة، ومواصلة سالفة، لم يستطرف المرء صفيّا، ولم يستحدث وليّا. وما زال البعداء يتقاربون، والمتناكرون يتعارفون. ولمّا نمي إلى المملوك من أنباء مولانا ما تضوّع عطره، وطاب نشره، سافر بالأمل إليه، وقدم بالرّغبة عليه، طالبا الانخراط في سلك أوليائه، والاختلاط بخاصّته وخلصائه، ومثل مولانا من أجاب السّول، وصدّق المأمول، والمملوك يرجو أن تكشف الأيام لمولانا منه عن خلّة صادقة، ومودّة صحيحة، لا تضيع معها إجابته، ولا تخسر صفقته.
رقعة: وينهي أنّ المملوك ما زال مذ وقع طرفه على صورته البدريّة، وأحاط علما بخلائقه المرضيّة، راغبا في مواشجته، باعثا نفسه على اختطاب مودّته، وإكباره يقعده، وإعظامه يبعده، فلما تطاول يراع همّته، شجعت على إنفاذ عزمته، فقدّم مكاتبته أمام مشافهته، فإن حظي بالإجابة وتنويل الطّلبة، فقد فاز قدحه، وتبلّج صبحه، ونال مناه، وبلغ رضاه، وصادف هناه، وديدا موثوقا(9/157)
بودّه، مسكونا إلى عقده وعهده، يحمده عند الاختبار، ويعرف به صحّة رأيه عند الاختيار، والمملوك يرجو أن يصحّ ما سأله وكفله، إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أنّ من عمر الله تعالى بثنائه المحافل، وعطّر بأنبائه الفضائل، وأقام من مساعيه الكرام خطيبا يخطب بسودده وفضله، ويعرب عن شرف محتده «1» وأصله، تطلّعت الآمال للانتظام في سلك أحبّائه، وتشوّفت الهمم إلى الامتزاج بخلصائه وأوليائه، لما يضفو على المعتصم بعرى مصافاته من لباس جماله، ويحلّي المعتزي إلى ولائه من خلى جلاله، وأحقّ من أسعفه مولانا بالمودّة إذا خطبها، وأجابه إلى المصافاة إذا طلبها، من بدأه بالرّغبة، ومتّ إليه بالمحبّة، لا لمرغب ولا مرهب، واختاره لنفسه على علم بكماله، ومعرفة بشرف خلاله.
وما زال المملوك مذ أطلعه الله على ما خصّ به مولانا من المحاسن المتعذّرة إلّا لديه والفصائل الممتنعة إلّا عليه، يحوم على مسارع ممازجته ولا يردها، ويروم مواقع مواشجته ولا يعتمدها، إكبارا لقدره، وإعظاما لخطره، وخوفا من تصفّحه ونقده، وإبقاء على ماء وجهه من ردّه. والمملوك وإن كان عالما بأنّ كرم مولانا يرقع الخلل، وفضله يصدّق الأمل، فإنه لا يعدم مذ رغب في قرب مولانا ما لعلّه يجده فيه، مما يخالف مذهبه وينافيه، إذ كان لا يبلغ تضاهيه في التّمام وتوافيه، إلى أن أذن الله تعالى بأن أبلغ نفسه الأمنيّة، وأظهر ما طويت عليه الطّويّة، فكتب هذه الرّقعة وجعلها فيما رامه من الاعتلاق بحبل مودّته سفيرا، وعلى ما التمسه من الانضمام إلى جملته ظهيرا، وقدم بها عليه وظنّه يترجّح عن الإعراض إلى القبول، ثقة بقرب نيل المأمول، فإن رأى أن يجيبه إلى ما سأله، ويسرّه بتنويل ما اقترحه، فعل، إن شاء الله تعالى.(9/158)
اختطاب المودّة ومفاتحة المكاتبة من كلام المتأخرين:
الشيخ جمال الدين بن نباتة:
وضاعف للممالك ببقائه الانتفاع، وبارتقائه الارتفاع، وسرّ بمحاسن نظره وخبره العيان والسّماع.
ولا زال للمحبّين من ودّه عطف المتلطّف وللأعداء من بأسه خطف الشّجاع، أصدرها المملوك منطوية على ما عهد من صدق المحبّة، ووفاء العهود المستتبّة، ودرر المحامد الّتي لا تسوى «1» لديها درر العقود حبّة، مبدية لعلمه الكريم أنّ المودّات إذا صفت، والقلوب إذا تجنّدت وتعارفت، حثّت المحبّين في البعاد على المفاتحة بكتبهم ورسائلهم، والمخاطبة في ظلال الأوراق بألسنة أقلامهم من لهوات أناملهم، إيثارا لتجديد الأنس وإن صحّ الميثاق، وتذكارا لخواطر الودّ، وإن رسخت منه الأصول ونمت الأعراق، ولذلك فاتح بها مخاطبا، وارتقب لمناديها بالأخبار السارّة مجاوبا، نائبة عنه في مشاهدة الوجه الكريم، ومصافحة اليد في حديث برّها القديم، تستطلع أخباره، وتستعرض أوطاره، وتحيّي بالسلام وجهه وعهده ودياره، على يد فلان، وقد حمل من المودّات والمشافهات ما يعيده على السّمع الكريم المنعم بإصغائه، المصغي بنعمائه، المتحف بالمهمّات الّتي يحصل فوز القيام بها، والمشرّفات الّتي كلّ أسباب السّرور متصل بسببها، والله تعالى يبهج من تلقائه سمعا ونظرا، ويبقي عيش حاسده هشيما وعيش محبّيه نضرا، ويديم رياض ذكره تالية على المسامع: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً
«2» .
أجوبة اختطاب المودّة قال في «موادّ الليان» : لا يخلو من يرام ذلك منه من أن يجيب أو يعتلّ،(9/159)
فإن أجاب بنى الجواب على وقوع رغبة المختطب أحسن مواقعها، وابتهاج المختطب بها، ومعرفته بقدر ما رآه أهلا له ومسارعته إليه، وإن اعتلّ بنى الجواب على أنه قد عرض له ما يقصر عنه، ولا ترضى نفسه به، وأنّ العذر [ليس] بعادة له في المزايلة، وطريقة في الانفراد والمجانبة.
النوع الثامن (في خطبة النّساء)
قال في «موادّ البيان» : الرّقاع في التماس الصّهر والمواصلة يجب أن تكون مبنيّة على وصف المخطوب إليه بما يقتضي الرّغبة، ويدل الخاطب عن نفسه بما يؤدّي إلى الكفاية والإسعاف بالطّلبة.
قال: وينبغي للكاتب أن يودعها من ألفاظ المعاني المنتظمة في هذا الباب أوقعها في النّفوس، وأعودها بتقريب المرام، وأدلّها على صدق القول فيما تكفّله من حسن معاشرة، ولين معاملة، وأن يذهب بها إلى الاختصار والإيجاز.
وهذه نسخ من ذلك:
مما أورده أبو الحسين بن «1» سعد في ترسّله:
وأفضل تلك المواهب موقعا وألطفها وأحمدها عاقبة، وأرهنها يدا، ما يؤلّف الله به القربات، ويؤكّد به الحرمات، ويوجب به الصّلات، ويجدّد به المكرمات، ويحدث به الأنساب، ويقوّي به الأسباب، ويكثّر به من القلّة، ويجمع به من الفرقة، ويؤنس به من الوحشة، ويزداد به في الحقوق وجوبا، وفي المودّات ثبوتا، ثم لا مثل لما كان لله طاعة ورضاء، وبأمره أخذا واقتداء،(9/160)
وبكتابه قدوة واحتذاء، فالله نسأل الخيرة في قضائه، والبركة فيما يقوم «1» بناؤك عليه.
ومنه: تصل رحما، وتعقد سببا، وتحدث نسبا، وتجدّد وصلة، وتؤكّد ألفة.
رقعة: من خصّه الله تعالى بما خصّ به سيّدي، من طهارة الأعراق والأنساب، وشرف الأخلاق والآداب، وأفرده باجتماع خلال الخير المتفرّقة في الأنام، وعطّر بثنائه ملابس الأيّام، رغب الأحرار في مواصلته، وهان عليهم بذل الوجه في اختطاب ممازجته، والتماس مواشجته ومناسبته، وجدير من رغب إليه، وطلب ما لديه، واختير للمشابكة في الولد واللّحمه، والمشاركة في المال والنّعمة- أن يجيب ولا يمنع، ويصل ولا يقطع، مصدّقا لأمل من أفرده بارتياده، وتوحّده باعتماده، عارفا حقّ ابتدائه بالثّقة الّتي لا يجوز ردّ من اعتقدها، ولا صدّ من حسّن ظنّها، وقد علم الله تعالى أن [مضى] للمملوك مدّة طويلة [وهو يبحث] متطلّبا مربعا للتأهّل، مؤثرا لعمارة المنزل، راغبا في سكن تطمئنّ النفس إليه، وتعتمد في الفواتح والمصاير عليه، وكلّما عرض للمملوك بيت أباه، أو ذكر له جناب قطع عنه رجاه، لعدم بعض الشروط الّتي يريدها فيه، وتعذّرها عليه، فلما قرع سمعه ذكر سيدي علم أنّه الغاية الّتي لا مرقى بعدها، والنهاية الّتي لا مطمح وراءها، وأنه قد ظفر بالثّقة، ووصل إلى الأمنيّة، ووجد من يجمع الخلال المرضيّة ويزيد، ويحوز من الفضل الشأو البعيد، وكتب المملوك هذه الرقعة خاطبا كريمته فلانة [ليكون لها] كالغمد الضامن للمهنّد، والجلد الحافظ للمجلّد، ويكون لمولانا كالولد البرّ بأبيه، ولأخيها كالصّنو الشفيق على أخيه، فإن رأى سيدي أن يتدبّر ما كتبه المملوك ويتسمّع من توكيد رقعته، ويجيبه إلى ما سأله فله علوّ الرأي في ذلك إن شاء الله تعالى.(9/161)
رقعة: وينهي أنّ مولانا بما تمّم الله من محاسنه ومناقبه، جدير أن يلقى من خطب الاعتصام بعرى ممازجته، وسعى في نيل علقه من مواشجته، بالقبول، القاضي بنيل المأمول، ودرك الرّغب والسّول، ولا سيّما إذا كان عارفا من سموّ خطره، واعتلاء قدره، ما يقضي عليه بخفض الجناح في معاشرته، وغضّ الطّرف في معاملته، والوقوف دون درجة المساواة والمماثلة، والتزحزح عن رتبة المباراة والمطاولة، والانتظام في سلك الأتباع والحاشية، والخدّام والغاشية، وكثيرا ما وجد المملوك البركة في مشاركة من هذه صفته أوفر منها في مشاركة النّظراء، وكانت العاقبة في مشابكة من هذه حاله أجمل منها في مشابكة الأكفاء، الذين يصادفون في الحقوق شططا، ولا يغضّون عن يسير الواجبات تبسّطا؛ لأنهم يرون أنّ الوصلة ممّن داناهم في الرّتبة والمنزلة ليست عائدة عليهم بشرف، ولا مظهرة لهم من خمول؛ ولأن يستخلص مثل سيّدي من الرّؤساء، مثل المملوك من الأولياء، ويختصّه بأثرة الاجتباء والاصطفاء، فيكون مفخره إليه منسوبا، وما يرقّيه الله تعالى إليه ببركته من درج الفضل في نفسه محسوبا، أولى من طلب مماثل يناويء بقدره ويطاول. على أنه لو طلب ذلك لطلب معوزا، ورام معجزا؛ لما أفرده الله تعالى به من السّيادة الّتي لا يترامى إلى منزلتها، ولا يتسامى إلى مطاولتها، وإذا كان النظير معدوما، والكفؤ مفقودا، ولو وجد لمال متسلّطا، ووقع سومه «1» منبسطا، ومولانا يطلب إليه ولا يطلب، ويرغب فيما عنده ولا يرغب، فقد سهلت السبيل إلى ما يرومه المملوك من جهته، ويؤثره من مواصلته، واتّسع المجال فيما يقدم عليه من الرّغبة في تقليده شرف مصاهرته، وإضافته بذلك إلى بطانته وأهل خاصّته، ويخرجه على ما يخرج عليه الوالد ولده، والسيّد عبده، وقد حمّل المملوك موصّل مطالعته هذه ما لم تسع إيداعه(9/162)
المكاتبة، فإن رأى مولانا أن يصغي إليه ويجيب عبده بما يعتمده المملوك في ذلك فله الفضل، إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أن لذوي المناجب الطيّبة الأنساب، والمناحت الزّكية الأحساب، والأخلاق الكريمة والآداب، بين الأنام لسان صدق يخطب لهم بالمحاسن والمحامد، ويعطّر بثنائهم الصادر والوارد، ويدعو القلوب إلى نيل علقه من ممازجتهم، والتمسّك بطرف من مواصلتهم، وقد جمع الله لمولانا من كريم المتلد «1» والمطرف، وقديم وحديث الفضل والشّرف، ما تفرّق في السّيادات، وتوزّع على أهل الرياسات، وجعله في طهارة المولد، وطيبة المحتد «2» ، واستكمال المآثر، واستتمام المفاخر، علما ظاهرا، ونجما زاهرا، فما من رئيس سوى مولانا تعجزه خلّة من خلال الرياسة إلّا وجدها لديه، ولا نفيس تعوزه خصلة من خصال النّفاسة إلّا استماحها من يديه، ولذلك امتدّت الأعناق إلى التمسّك بحبله، وتطلّعت الهمم إلى مواشجته في كريم أصله، وصار مرغوبا إليه لا راغبا، ومطلوبا لديه لا طالبا، وهو جدير بما وهبه الله من هذا الفضل الذّائع، والنّبل الشائع، أن يجيب سائله، ويصدّق آمله، ولا يتجهّم في وجه قاصده، ولا يردّه عن مقصده، ولا سيّما إذا كان قد أسلفه الظنّ الجميل، وبدأه بالثّقة والتأميل، وتعذّر عليه قدر العارف بقدره، العالم بخطره، المرتضي بشرائطه، النازل على حكمه، المتدبّر برأيه، وقد علم الله تعالى أنّ المملوك مذ نشأ وصلح للتأهّل مرغوب فيه، مخطوب إليه، من عدّة جهات جليلة، وجنبات رئيسة، والمملوك صادّ عن الإجابة، صارف عن المطاوعة؛ لشذوذ بعض الشّروط الّتي يروم أن تكون مجتمعة في النّسب، الذي أعدّه شريكا في الولد والنّشب «3» ، ومفاوضا في الحال والسّبب، مرتاد من يقنع(9/163)
بالموافقة، ويرتضي بالعشرة والمرافقة، حتّى أفضى في الانتقاد إلى مولانا فوجد المراد على اشتراط، وألفى المقصود على اشتطاط، فدعاه ذلك إلى التهجّم بعد الإحجام، وحمله على التجاسر والإقدام، والتوسّل إلى مولانا بما يتوسّل به الأحرار، إلى الأخيار، وأمّه بصادق الرغبة وصميم المحبة والانبساط، في خطبة كريمته فلانة، على أن يعاشرها بغاية الأنس، ويصحبها صحبة الجسد للنّفس، ويعرف لها من قدر أبوّتها وأمومتها ما تستحقّ برياستها، وقد أصدر هذه الرقعة نائبة عنه في ذلك، فإن رأى مولانا أن يتحفه بالقبول، ويجعله أهلا لإجابة السّول، فله الفضل في ذلك، إن شاء الله تعالى.
ومن النادر الغريب ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في «حسن التوسّل» في الكتابة إلى شخص في تزويج أمه، وهو:
هذه المكاتبة إلى فلان- جعله الله ممن يؤثر دينه على الهوى، وينوي بأفعاله الوقوف مع أحكام الله تعالى فإنما لكلّ امريء ما نوى، ويعلم أنّ الخير والخيرة فيما يسّره الله من سنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ الشّرّ والمكروه فيما طوى، نعرّض له بأمر لا حرج عليه في الإجابة إليه، ولا خلل يلحقه به في المروءة وهل أخلّ بالمروءة من فعل ما حضّ الشرع المطهّر عليه؟ وأظهر الناس مروءة من أبلغ النفس في مصالح حرمه عذرها، ووفّى من حقوق أخصّهنّ ببرّه كلّ ما علم أنّ فيه برّها، وإذا كانت المرأة عورة، فإنّ كمال صونها فيما جعل الله فيه سترها، وصلاح حالها فيما أصلح الله به في الحياة أمرها، وإذا كانت النساء شقائق الرجال في باطن أمر البشريّة وظاهره، وكان الأولى تعجيل أسباب العصمة فلا فرق بين أوّل [وقت] «1» الاحتياج [إلى ذلك] «2» وآخره، وما جدع الحلال أنف الغيرة إلّا ليزول شمم الحميّة، وتنزل على حكم الله فيما شرع لعباده النّفوس الأبيّة، ويعلم أنّ الفضل في الانقياد لأمر الله لا في اتّباع الهوى بعضل الوليّة، وإذا كان برّ الوالدة أتمّ، وحقّها أعمّ، والنظر في صلاح حالها أهمّ،(9/164)
تعيّنت الإجابة إلى ما يصلح به حالها، ويسكن إليه بالها، ويتوفّر به مالها، ويعمر به فناؤها، ويحصل به عن تقلّد المنن استغناؤها، وتحمل به كلفة خدمها عنها، وتدفع به ضرورات لا بدّ لذوات الحجاب والحجال منها، ويصفو به ستر الإحصان والحصانة عليها، ويظهر به سرّ ما أوجبه الله لها من تتبّع مواقع الإحسان إليها.
وقد تقدّم من سادات السّلف من تولّى ذلك لوالدته بنفسه، واعتدّه من أسباب برّ يومه الذي قابل به ما أسلفته إليه في أمسه، علما منهم أنّ استكمال البرّ مما يعلي قدر المرء ويغلي، وقد أجاب زيد «1» بن زيد العابدين هشاما لمّا سأله: لم زوّجت أمّك بعد أبيك؟ فقال: لتبشّر بآخر مثلي، لا سيّما والراغب [إلى المولى] «2» في ذلك ممن يرغب في قربه، ويغبط على ما لديه من نعم ربّه، ويعظّم لاجتماع دنياه ودينه، ويكرم ليمن نقيبته وجود يمينه، ويعلم أنّ العقيلة تحلّ منه في أمنع حرم، وتستظلّ من ذراه بأضفى ستور الكرم، مع ارتفاع حسبه، واشتهار نسبه، وعلوّ قدره في منصبه وحاله وسببه، وأنه ممن يحسن أن يحلّ من المولى محلّ والده، وأن يتجمّل من ذرّيته بمن يكون في الملمّات بنانا ليده وعضدا لساعده، فإنّ المرء كثير بأخيه، وإذا أطلق عليه بحكم المجاز لفظ العمومة، فإن عمّ الرجل صنو أبيه، وأنا أتوقّع من المولى الجواب بما يجمع شمل التّقى، ويعلم به أنه تخيّر من البرّ أفضل ما ينتقى، ويتحقّق بفعله(9/165)
أنّ مثله لا يهمل واجبا، ولأمر ما قال الأحنف «1» وقد وصف بالأناة: لكنّي أتعجّل أن لا أردّ كفؤا خاطبا.
النوع التاسع (في الاسترضاء والاستعطاف والاعتذار)
قال في «موادّ البيان» : المكاتبة في استعطاف الرّؤساء، وملاطفة الكبراء، تحتاج إلى حسن تأتّ؛ لما تشتمل عليه من إيجاب حقوق الخدمة، وما أسلفوه من مرعيّ الخدم، وما يتبع هذا من التنصّل والاعتذار الذي يسلّ السخائم من القلوب، ويستنزل الأوغار من الصّدور، ويطلع الأنس وقد غرب، ولها موقع في تأليف الكلام.
قال: وينبغي للكاتب أن يستعمل فيها فكره، ويوفّيها حقّها من جودة الترتيب، واستيفاء المعاني، وأن يذهب إلى استعمال الألفاظ الجامعة لمعاني العذر، الملوّحة بالبراءة مما قرف «2» به، ولا يخرج لفظه مخرج من يقيم الحجة على براءة الساحة مما رمي به، فإنّ ذلك مما يكرهه الرؤساء؛ لأنّ عادتهم جارية بإيثار اعتراف الخدّام لهم بالتقصير والتفريط والإخلال بالفروض، ليكون لهم في العفو عند الإقرار عارفة توجب شكرا مستأنفا، فأما إذا أقام التابع الحجة على براءته وسلامته مما رفع عنه، فلا يوضع الإحسان إلا «3» إليه في إقراره على منزلته، والرّضا عنه والاستعطاف، بل ذلك واجب له، في منعه منه ظلم.(9/166)
وهذه نسخ من ذلك:
لابي الحسين بن سعد:
فإن رأيت أن تنظر في أمري نظرا يشبه أخلاقك المرضيّة ويكون لحسن ظنّي بك مصدّقا، ولعظيم أملي [فيك] محقّقا، ولما لم تزل تعدنيه منجزا، ولحقّ حرمتي بك وقديم اتّصالي بأسبابك قاضيا، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لسليمان «1» بن وهب:
من انصرف في الاحتجاج إلى الإقرار بما يلزمه وإن لم يكن لازما، فقد لطّف الاستعطاف، واستوجب المسامحة والإنصاف.
ومنه: وقد نالني من جفوة الأمير بعد الذي كنت أتعرّف من برّه وألطافه أمر أحلّني محلّ المذنب في نفسي مع البراءة من الذّنب، وألزمني الإساءة مع الخروج من التقصير، وزاده عندي عظما وشدّة أنّي حاولت الخروج منه بالاعتذار، فلم أجد لي إلى الأمير ذنبا أعتذر منه، ولا عليّ فيما ألزمني من معتبته حجة أحاول دفعها والتخلّص منها، فأصبحت أعالج من ذلك داء قد خفي دواؤه، وأحاول صلاح أمر لم أجن فساده، فإن رأيت أن تفعل كذا وكذا فتصل قديم ما أصبح عندي من معروفك بحديثه، فليس عندي في مطالبة حجّة أنجح من التوجّه إلى الأمير بنفسه، والثقة عنده بفضله، فإن كنت مذنبا عفا، وإن كنت بريئا راجع.
ومنه: لأبي «2» عليّ البصير:(9/167)
وأنا أحد من أسكنته ظلّك، وأعلقته حبلك، وحبوته بلطيف برّك، وخاصّ عنايتك، وانتصف بك من الزّمان، واستغنى بإخائك عن الإخوان، فهو لا يرغب إلّا إليك، ولا يعتمد إلّا عليك، ولا يستنجح طلبه إلّا بك، وقد كان فرط منّي قول: إن تأوّلته لي، أراك أوجه عذري، وقام عندك بحجّتي، فأغناني عن توكيد الأيمان على حسن نيّتي، وإن تأوّلته عليّ، أحاق «1» بي لائمتك وحبسني على [أسوإ] حال عندك، وقد أتيتك معترفا بالزّلة، مستكينا للموجدة، عائذا بالصّفح والإقالة، فإن رأيت أن تقرّ عينا قرّت بنعمتك عندي، ولا تسلبني منها ما ألبستني، وأن تقتصر من عقوبتي على المكروه الذي نالني بسبب عتبك عليّ، وتأمر بتعريفي رأيك بما يطأمن هلعي، وتسكن إليه نفسي، ويأمن به روعي، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لأبي الحسين بن أبي «2» البغل:
نبوّ الطّرف من الوزير دليل على تغيّر الحال عنده، والجفاء ممن عوّد الله البرّ منه شديد، وقد استدللت بإزالة الوزير إيّاي النّحل الذي كان نحلنيه بتطوّله، على ما سؤت له ظنّا بنفسي، وما أخاف عتبا؛ لأني لم أجن ذنبا، فإن رأى الوزير أن يقوّمني لنفسي، ويدلّني على ما يريده منّي، فعل، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لأبي «3» الرّبيع:(9/168)
أصدق المقال، ما حقّقه الفعال، وأفضل الخبر، ما صدّقه الأثر.
ومنه: لمولانا سيرة في الفضل والإحسان ما أمّلها آمل إلّا جادت وسخت ومنحت، وعوائد في العفو ما رجاها راج إلّا صفحت وسمحت، وأحقّ من تلقّاه عند العثار، بالإقالة والاغتفار، ووقف به عند حدّ التقويم والإصلاح، ولم يعرّضه لنقيصة الإقصاء والاطّراح، من شفع الهفوة بالاعتذار، وخطب التغمّد بلسان الإقرار، ودلّت التجارب منه على حسم الأضرار، وكان له من سالف الخدم وسائل وذرائع، ومن صحيح الإخلاص ممهّد وشافع، فلا عجب أنّ المملوك يهفو فيعفو، ويظلم فيكظم، ويجهل فيحلم، ويخطيء فيصيب، ويدعو متنصّلا فيجيب، وقد جعل الله سهمه المعلّى، ويده الطّولى، وألهمه التفضّل بالإنعام، والتغميض عن زلّات الكرام، وقد حصل للمملوك في هذه النّبوة من إزرائه على عقله، وتقبيحه لفعله، أعظم تجربة، وأكبر مأدبة، والمملوك يسأل إحسان سيّدي أن يعيده إلى رضاه ولطفه، ويؤنس منه مستوحش إقباله وعطفه، ويصدّق رجاءه فيه، ويجزل ثواب وفادته عليه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: المملوك يخطب صفح سيّده وإقالته بلسان الاغتفار، ويستعيد ما عرف من رضاه وعاطفته بوسائل الاعتذار، ليكون المتفضّل في كلّ الحالات، والمنعم من كلّ الجهات، وقد عرف السّهو والنّسيان، المعترضين للإنسان، وأنّهما يحولان بينه وبين قلبه، ويزوّران عليه خطأه في صورة صوابه، فيتورّط في السّقط غير عامد، ويتهوّر في الغلط غير قاصد، وقد قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «1»
. وما أولى مولانا بأن يحفظ على المملوك جميل آرائه، ولا يسلبه ما شمله من ظلّ آلائه، ولا يسمه بميسم العقوق فإنه يجد نفسه بخلاف ذلك في طاعته، ومرتبتها بغير هذه الرتبة في خدمته.
فصل: وقد آوى سيدي المملوك من ظله، وأعلقه من حبله، وأسبغ عليه(9/169)
من فضله، ما أنصفه به من الزّمان، وأغناه عن الإخوان، ووقف رغباته عليه، وصرف آماله إليه، ونزّله منزلة من لا يشكّ في اعتقاده، ولا يستريب بوداده، وكان المملوك أرسل لفظا على سبيل الإشفاق ذهب به الحاسد إلى غير معناه، وخالف في تفسيره حقيقة مغزاه، وأحاله عن بنيته، وعرضه عليه على غير صورته، ليوحش محلّ المملوك المأنوس من رعايته، وينفّر سربه المطمئنّ بملاحظته وعنايته، وقد أرسل المملوك هذه العبوديّة سائلا في محو إظلام موجدته، وأن يعيد المملوك إلى مكانه من حضرته، إن شاء الله تعالى.
لا أتوسّل إليك إلّا بك، ولا آتيك إلّا من بابك، ولا أستشفع إليك بسواك، ولا أكل رجعة هواك إلّا إلى هواك، ولا أنتظر إلّا عطفتك الّتي لا تقودها زخارف الأموال، ولا تعيدها شفاعات الرجال (طويل) .
إذا أنت لم تعطفك إلّا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع
شعر في معنى ذلك (سريع) .
هبني تخطّيت إلى زلّة ... ولم أكن أذنبت فيما مضى
أليس لي من قبلها خدمة ... توجب لي منك سبيل الرّضى
غيره (وافر)
وحقّك ما هجرتك من ملال ... ولا أعرضت إلّا خوف مقت
لأنّ طبائع الإنسان ليست ... على وفق الإرادة كلّ وقت
اعتذار عن التأخر، من ترسل أبي الحسين بن سعد:
إن لم يكن في تأخّري عنك عذر تقبله، فاجعله ذنبا تغفره.
علي بن خلف:
الأعذار- أطال الله بقاء سيّدي- تنأى على الامتناع، وتضيق على الاتّساع، وذلك بحسب ما تصادفه من قبول وردّ، ومسامحة ونقد، وأنا أحمد الله(9/170)
على أن جعل عذري إلى من يتمحّل العذر للمعتذر، ويصفح صفح المالك المقتدر، كأنّما ائتمّ بقول الشاعر (طويل) :
إذا ما أتت من صاحب لك زلّة ... فكن أنت محتالا لزلّته عذرا
ولم يجعله إلى من يغلّب هاجس الظّنون، على واضح الحجّة، ومعتلّ الشكّ على صحيح اليقين. ونمي إليّ أنّ غابطا «1» لمكاني من حضرته، حسدني على محلّي من مودّته، وزوّر ما ينكشف عن الإفك والبهتان، ودلّس الكذب في صورة البرهان، فلما جلّاه في معارض زخارفه أظهر لسيدي عواره»
، وأبدى لطرفه شواره «3» ، فشلّ «4» سمعه عن وعيه، وطرف طرفه عن رعيه، واستنمّ علائم شيمته، في حسن الضّنّ بأحبّته، فقدّمت من الاعتذار ما يقدّمه المذنب نزولا على طاعته، وتأدّبا في خدمته، وشفعته من الشّكر بما يقتضيه إحسانه ويوجبه.
أبو الفرج «5» الببغاء:
أحقّ المعاذير بالتقبّل وأولاها بسعة القلوب ما صدر عن استكانة الأقدار، ودلّ على حسم موادّ الأضرار، وصفا من كدر الاحتجاجات، وتنزّه عن تمحّل الشّبهات، ليخلص به ملك العفو، وتتكامل نعمة التّجاوز. ولست أكره شرف تأديبه، ونبل تثقيفه وتهذيبه، ما لم يتجاوز في العقوبة والتقويم إلى مؤلم الإعراض، ومضيض التنكّر والانقباض، ولا أخطب الإقالة من تفضّله إلّا بلسان الثّقة وشافع الخدمة، هاربا إلى سعة كرمه مما دفعتني المحبّة إليه، وأشفى بي عدم التوفيق عليه، فإن رأى أن يكون عند أحسن ظنّي به في الصّفح، كما هو عند أصدق أملي فيه بالإنعام، فعل.(9/171)
وله في مثله:
ليس يخلو الإغراق في التنصّل والمبالغة في الاعتذار من إقامة لحجّة، أو تمسّك باعتراض شبهة، وأنا أجلّ ما أخطبه من عظيم عفوه، وأكبر ما أحاوله من نعمة تجاوزه، عن المقابلة بعين الاعتراف بالزّلل وبعد الاستحقاق من الصّفح، ما لم يوجب لي بسعة تأوّله، ويعد عليّ فيه بعادات تفضّله، لتصفو منه الأعضاء، وتلزمني واجبات الشكر والثّناء، غير ممتنع مع ذلك من التبرّي إليه مما أنكره من تجاوز السّهو إلى العمل، والتوجّه إلى ما فرط بالاختيار والقصد اللذين يغفر بتجنّبهما مذموم الأفعال، ويتغمّد سيّيء الأعمال، فإن رأى أن يحمل أمري فيما قصدتني الأيام بتوجّه الظّنون فيه على غير النيّة لا ظاهر الفعل، إذ كانت صفات الإنسان بالأشهر من أخلاقه والأكثر من أفعاله، ولا صفة لي أعرف بها وأنسب إليها غير الاعتراف بإنعامه، والتّطاول من اصطناعه، آخذا من كلّ حال بالفضل، ومشفّعا بسطة الرياسة والنّبل.
وله في مثله:
لست أخلو في المدّة الّتي تجاوز الدهر لي عنها في خدمته من توصّل بفرط الاجتهاد، إلى ما وصل من رأيه إلى رتبة التقبّل والإحماد، وليس يحبط ما أتيته من مرضيّ الخدمة بالنيّة والعمد بما لعلّه فرط من غير مراد، إذ كان- أيده الله بفائض طوله، ومأثور فضله- آخذا من آداب الله بما أحاكمه منه «1» : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
«2» . و [لو] لا إيثاري «3» مفترض الطاعة واستكانة الاعتداد، وأن لا أخطب رضاه بلسان الاحتجاج، ولا ألتمس عفوه بوجوب الاستحقاق، لتسلم له صفات التفضّل، ولي مواتّ الاعتراف بسالف التطوّل، لبرهنت على سلامتي مما قصر عليّ بتوجّه الظّنون واعتراض الأوهام، ولا أقول(9/172)
بشعث النيّة وفساد الرأي، فإن رأى أن يحفظ ما ابتدأه مختارا من اصطناعي بما يصونه عن التنكّر، ويصون عادتي في شكر ذلك والاعتداد به عن الفتور والتغيّر، فعل.
أجوبة الاسترضاء والاستعطاف قال في «موادّ البيان» : لا يخلو المعتذر إليه من أمرين؛ أحدهما أن يقبل العذر، والآخر أن يستمرّ على الموجدة ويرفض ما يأتي به من حجّة، فإن كان قد قبل العذر، وجب أن يبنى الجواب على وصول الكتاب، والوقوف عليه، والتقبّل لما تضمّنه، وتبرئة المعتذر عن الحاجة إلى الاعتذار، والانقياد إلى الاعتراف بالجرم والإقرار، إكراما لخلّته عن التّهمة، وللمودّة عن الظّنّة، فإن الأمر الذي أوجب العذر لو صدر منه، لا قتضى وداده التأوّل له بأنّه ما صدر إلا عن باطن سليم ومصلحة أوجبته. قال: وليس هذا المعنى هو الذي يجاب به من قبل عذره فقط؛ لأنه يجوز أن يجيب بأنه قد قبل العذر، وصفح عن الجرم، على أن لا يعود إلى مثله. وإن استمرّ على القصد «1» ، بني الجواب على إبطال العذر ومعارضته بما يقتضيه، والدلالة على خطإ المعتذر، وأنه مما لا يسوغ الصفح عنه، ولا يليق بالحزم إقالته.
قال: وهذان معنيان يحملان من العبارة ما لا يكاد ينحصر في قول مشروح مبسوط، فضلا عن قول مجمل موجز، إلّا أن المتدرّب بالصناعة إذا مرّت به هذه الأصول أمكنه التفريع عليها.
النوع العاشر (في الشكوى- أعاذنا الله تعالى منها)
قال في «موادّ البيان» : رقاع الشّكوى- عصمنا الله من موجباتها- يجب(9/173)
أن تكون مبنيّة من صفة الحال المشكية، على ما يوجب المشاركة فيها ويقضي بالمساعدة إن استدعيت عليها، من غير إغراق يفضي إلى تظليم الأقدار وإحباط الأجر، وشكوى المبتلي بالخير والشرّ سبحانه وتعالى، ويدلّ على التهالك بالجزع، وضعف التماسك وقوّة الهلع، باستيلاء القنوط والإياس، وأن يشفع الشكوى بذكر الثقة بالله سبحانه، والتسليم إليه، والرّضا بأحكامه، وتوقّع الفرج من عنده، وتلقّي اختباره بالصبر، كما تتلقّى نعمه بالشكر، ونحو هذا مما يليق به ويجري مجراه. قال: وقد يكتب الأتباع للرؤساء رقاعا بشكاية الأحوال ومساءلة النظر، ثم ذكر أنّ سبيل هذه الرّقاع أن يعدل بها عن التصريح بالشّكوى إلى لفظ الشّكر ومعناه، وطلب الزيادة والإلحاق بالنّظراء في الإحسان، لما في إطلاق الشكاية، والتصريح بها من التعريض بإخلال الرئيس بما يلزمه النظر فيه من أحوال خاصّتهم وتعهّد مرافقهم من الكفاية.
وهذه نسخ من ذلك:
رقعة شكوى هموم:
كتب المملوك هذا الكتاب وهو رهين فكر وغمّ، وقلق وهمّ، وحليف جوّى قد سكن القلب، وخوف قد أطار اللّبّ، وبالله العياذ، وهو الملاذ، وبيده تحلّ العقدة، وبأمره تزول الشّدّة، وقد ألهم الله سبحانه المملوك صبرا يسّر أمره، وأملا في الفرج خفّف ضرّه، وليس بآئس من عطفته، ولا قانط من نعمته.
رقعة في معنى ذلك:
كتب المملوك وهو شاك لتجاهل الأيام، وقيذ «1» من مواقع سهامها الرّغيبة الكلام، منهوم بهموم تضعف الجليد، وتسوء الوديد، وتسرّ الحسود، لاق من قسوة الدهر وفظاظته، ونبوة العيش ونفرته، ما يردّ الجفون عن(9/174)
الهجوع، ويغرق العيون بالدّموع، ولله تعالى في عباده أقضية يقضيها، وأقدار يمضيها، والله أسأل حسن العاقبة والختام، وتمحيص الأوزار والآثام.
رقعة: كتب المملوك وجسمه صحيح، وقلبه قريح، وجنانه سليم، وجنابه سقيم، لما يتبادر إليه من نكايات تقدح وتقرح، وحادثات تكلم وتجرح، ونوب تهضّ، وتهدم وترضّ، وخطوب تخاطب شفاها، وتوصّل من اليد إلى اليد أذاها، إلّا أنّ الله يهبّ ريح المنح، وقد تداكت المحن فينشفها، ويشقّ عمود الفرح، وقد ادلهمّت فيكشفها، وظنّ المملوك بالله تعالى جميل، وله في صنعه ولطفه تأميل.
رقعة: وينهي أنه قد كتب هذه العبوديّة بيد قد أرعشتها الآلام، يملي عليها قلب قد قلبته الأسقام، فجسمه ناحل، وجسده بعد النّضرة قاحل، وقواه قد وهنت، وجلادته قد وهت، وصبره قد تخلّى واضطرب، وتحمّله قد نأى واقترب، وعاد شبحا من الأشباح، وهباء تذروه الرّياح، فلو اعتلق بشعرة لم تنصرم، أو ولج خرت «1» إبرة خيّاط لم تنفصم، ولولا الثّقة بالله وأنه يتبع السّقم بالصّحّة، ويشفع المحنة بالمنحة، لذهب ما بقي من ذمائه «2» ، وأطلّ على شفا شقائه، والمملوك يستشرف منه تعالى لطفا يعيد الكليل حديدا، والمخلق جديدا.
رقعة: وينهي أنه قد كتب هذه الرّقعة، وقد ساء أثر الأيّام عليه، وقبح صنعها لديه، وابتلته بمؤلم البلوى، وأنطقته بلسان الشّكوى، فهو محترق بنار الغيظ، يدعو على نفسه بالفيظ، إن لم يكن فرج يفرّج بين الأضداد، ولطف يريح من هذا الجهاد، وكلّما طلب المزايلة عوّق، أو طلب الفكاك اعتلق، فهو قاطن في صورة الظّاعن، وحالّ في حال الرّاحل، والله يمنّ بالمخرج، ويأتي بالفرج.(9/175)
رقعة: وقد سطّر المملوك هذه العبوديّة، وقد انجلت هذه النّبوة، عن البلاء والشّقوة، ونفاد المال، واستحالة الحال، واستيلاء العدوّ، واستعلاء السّو، وكذا الدهر خدوع غرور، خؤون غدور، إن وهب ارتجع، وإن ألبس انتزع، وإن أعطى أعطى قليلا وقلع، وإن أحلى أمرّ، وإن نفع ضرّ، وإن أبرم نقض، وإن رفع خفض، وإن أقبل أعرض، وإن وعد أمرض، فنعمه مقرونة بالزّوال، ومنحه معرّضة للانتقال، وصفوه مشوب بالكدر، وعيشه ممزوج بالغير، ما أجنّ إلّا أوجد خللا، ولا أمّن إلّا أتبع الأمن جللا، والمملوك يحمد الله تعالى على أن أوسعه في حال البلاء شكرا، وفي حال الابتلاء صبرا.
أجوبة رقاع الشكوى قال في «موادّ البيان» : يجب أن تبنى أجوبة هذه الرّقاع على الارتماض في الحال المشكية، والتوجّع منها، وبذل الوسع في المعونة عليها، والمشاركة فيها، وما يجري هذا المجرى مما يليق به.
النوع الحادي عشر (في استماحة الحوائج)
قال في «موادّ البيان» : ورقاع الاستماحة يختار أن تكون مودعة من الألفاظ ما يحرّك قوى السّماح، ويبعث دواعي الارتياح، ويوجب حرمة الفضل المسهّلة بذل المال الصّعب بذله، إلّا على من وفّر الله مروءته، وأرخص عليه أثمان المحامد وإن غلت.
قال: وينبغي للكاتب أن يتلطّف فيها التلطّف الذي يعود بنجاح المرام، ويؤمّن من الحصول على إراقة [ماء] الوجه، والخيبة بالردّ عن البغية، ويعدل عن التثقيل والإلحاف المضجرين ولا يضيّق العذر على السّماح إلّا أن يتمكّن للثقة به، ويعلم المشاركة في الحال.
وهذه نسخ من ذلك:(9/176)
من كتاب [أبي] الحسين بن سعد.
أفضل القول أصدقه، وأهنى المعروف أعجله، وأبلغ الشّكر أظهره.
ومنه: إن حضرتك نيّة في قضاء حاجة فعجّلها، فإنّ أهنى المعروف ما عجّل، وأنكده ما تنازعته العلل، واعترضته كثرة الاقتضاء.
ومنه: أنت، أعزّك الله، واجد السبيل إلى اصطناع المعروف واكتساب الثّواب، وأنت أعرف بما في استنقاذ أسير من أسرى المسلمين، من وارد الأسر، وعرصة الكفر، وانتياشه من الذّلّة والفاقة، والبلاء والمشقّة، من جزيل ثواب الله وكريم جزائه [وأجلّ] من أن تخاطب في ذلك مخاطبة من يحتاج إلى زيادة في بصيرته، وتقوية لنيّته، وبالله توفيقك وعونك.
عليّ بن خلف:
قد تمسّك أملي بضمانك، وتطلّع رجائي إلى إحسانك، وكفل لي النجاح مشهور كرمك، ورغبتك في ربّ نعمك، ولي من فضلك نسيب أعتزي إليه، ومن شكري شفيع أعتمد عليه.
وله: المواعيد- أطال الله بقاء مولاي- غروس، حلو ثمرها الإنجاز والتعجيل، ومرّه المطل والتطويل، وقد شام أملي من سحائب فضله، حقيقا بأن ينهمر ويهمي، وارتاد من روض نبله، جديرا بأن يزيد وينمي، فإن كانت هذه المخيلة صادقة، فلتكن منه همّة للرجاء محقّقة، إن شاء الله تعالى.
وله: هممت أن أستصحب إلى مولاي ذريعة تحجب مطلي، وتكون حجابا على وجهي في المطالعة بأربي، فلاح لي من أساريره برق أوضح مقصدي، ومن أخلاقه انبساط أمال تجعّدي، ولست مع معرفته بحقّ نعمة الله تعالى وحقّ مؤمّله، محتاجا عنده إلى ذريعة ولا مفتقرا إلى وسيلة.
وله: ولا يحملني مولاي على ظاهر تجمّلي، وجميل توكّلي، على «1»(9/177)
حال قد أحالتها العطلة، وتخلّلتها الخلّة، وإنما أبقي بالتجمّل على ديباجة همّتي، وأصون بالتخفيف عن الصديق مروّتي، ولولا أنّ الشكوى تخفّف متحمّل البلوى، لأضربت عن مساءلته، وأمسكت عن تذكيره، ولكن لا بدّ للوصيب «1» الشاكي، من ذكر حاله للطبيب الشافي، وقد كان برق لي من سحاب وعده ما هو جدير بالانهمار، وأورق من نمائه، ما هو حقيق بالإثمار، فإن رأى أن يسم وجه التأميل، بعد الإنجاز والتعجيل، فعل.
وله: ما حامت آمالي- أطال الله بقاءه- إلّا وقعت بحضرته، ولا صعبت عليّ جوانب الرّجاء إلّا سهلت من جهته، ولا كذبتني الظّنون إلّا صدقها بعلوّ همّته، فلذلك أعتلق في المهمّ بحبله، وأعتصم في الملمّ بظلّه، وقد عرض لي كذا وعليه فيه المعوّل، وهو المرجوّ والمؤمّل، وما أولاه بالجري على عادته في ريش جناحي، والمعونة على صلاحي.
في طلب كسوة، من كلام المتأخرين: (طويل) .
ألا أيّها المولى الّذي نهر جوده ... يزيد وعاصي أمره الدّهر ينقص
إليك اشتكائي من دمشق وبردها ... وما أنا فيه من أمور تنغّص
وإنّي في عرس من البرد دائم ... تصفّق أسناني وقلبي يرقص
المملوك ينهي بعد الابتهال إلى الله تعالى في إدامة نعمته، وإدالة دولته، أنّه ما ألف من إحسانه إلّا أنّه يضاعف رسم الإنعام، ويواتر إرساله على ممرّ الأيّام والأعوام، وللمملوك في خزانته الشريفة في كلّ عام تشريف يفيضه على جسده، ويسرّ به قلوب أوليائه ويفتّ أكباد حسّده، ويتّقي به سورة الشتاء وقرّه، ويجعله قرّة ويحمل به من الدّعة وقره، وقد درس رسمه، وفقد من الدّيوان المعمور اسمه، وهو يسأل بروز الأمر العالي بإجرائه على عادته المستمرّة،(9/178)
وقاعدته السالفة المستقرّة، بتشريفه بأخذ التشريف ولبسه، ليدفع بذلك شدّة البرد وأليم مسّه، ويتذكّر بها في يومه ما يوجب حمد المولى وذمّ أمسه، ورأيه العالي.
وله في طلب ورق (سريع) .
يا أسمح الناس ويا من غدا ... جبينه يخجل ضوء الشّفق
جودك بالورق «1» عميم [فلم] ... أخّرت يا مولاي بعث الورق؟
وله في طلب رسم (مجزوء الرجز)
رسمي «2» مولاي غدا ... مؤخّرا ولو حضر
ولو أراد سيّدي ... إحضاره، كان أمر
فقد مضى محرّم ... وراحتي منه صفر
وكتب كاتب إلى مخدومه، وقد تأخّر صرف معلومه (متقارب)
وتعلم أنّي كثير العيال ... قليل الجراية والواجب
فلست على ظمإ قانعا ... بورد من الوشل «3» الناضب
ولا شكّ في أنّني هارب ... [ف] قدّر لنفسك في كاتب
قلت: وكتبت نظما لأمير المؤمنين المستعين «4» بالله أبي الفضل العبّاس،(9/179)
خليفة العصر، أستميحه حاجة في مجلس كان فيه هو وولده يحيى وأخواه داود ويعقوب ما صورته (طويل) .
إذا رمت أن تحظى بنيل مآرب ... فبادر إلى العبّاس من آل عبّاس
إمام به ثغر الخلافة باسم ... وعرنينها يسمو على قمّة الراس
أبى الفضل إلّا أن يكون لأهله ... [دواما] وأن يدعى أبا الفضل في الناس
فللمستعين اقصد تجد خير منجد ... حريص على المعروف برّا بإيناس
فيحيا له يحيى وداود صنوه ... ويعقوب أعضادا وحصنا من الباس
وكتبت لقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدّين «1» عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام عمر البلقينيّ أستميحه حاجة أيضا (طويل) .
أيا شيخ إسلام وقاضي قضاته ... ومن قد سما في الناس علما ومنصبا
لقد عمّ نوء منك كلّ مؤمّل ... وحاشى لبرق شمت يظهر خلّبا
أأحرم معروفا له كنت أرتجي ... ويحجب ذو بعد من القوم أقربا
وما زلت أرجو في زمانك رفعة ... ولكن جواد الحظّ بالبعد قد كبا
ولن يستعيض الخفض بالرّفع ماجد ... خصوصا ومن أخّرت ما نال مطلبا
ولست ترى منّي إليك وسيلة ... سواك وحسبي باعتلاك تقرّبا(9/180)
وكتبت لقاضي القضاة جمال الدين محمود «1» القيسراني، وهو يومئذ قاضي قضاة الحنفية وناظر «2» الجيوش المنصورة، أذكر بطالة عرضت لي من وظيفة مباشرة كانت بيدي (طويل) .
إلى الله أشكو من زماني بواره ... فأمسيت في الحرمان بي يضرب المثل
تماديت بطّالا وأعوزت حيلة ... ولم يبرح البطّال تعرف له الحيل
فلا ملتجى جاه ولا عزّ صاحب ... ولا مالك يحنو فيا قوم ما العمل؟
ولكنّ (محمود) العواقب أرتجي ... ومن يحمد العقبى على القصد قد حصل
وكتبت للقاضي شمس الدين العمريّ كاتب «3» الدّست الشريف في حاجة نجّرها (بسيط) :(9/181)
إن لا أرى عمرا حتّى ألمّ به ... ألفيت من نسله من كان لي عمرا
لم يغف عن حاجتي حتّى أنبّهه ... وكيف يغفو وفي المعروف كم سهرا؟
جعلته مبتدا في رفعه خبري ... وعادة المبتدا أن يرفع الخبرا
أجوبة استماحة الحوائج قال في «موادّ البيان» : لا يخلو المستماح والمكلّف حاجة من أن يسعف أو يمنع، فإن أسعف فقد غني عن الجواب، وربما أجاب المسعف بجواب مبنيّ على حسن موقع انبساط المستميح، والاعتذار عن التقصير في حقّه وإن كان قد بلغ به فوق ما يجب له- تكرّما وتفضّلا، وإن منع فربّما أجاب بعذر في الوقت الحاضر أو عذر في المستأنف، وربما أخلّ بالجواب تغافلا.
وهذه نسخة جواب بالإسعاف بالمقصود، كتب بها في جواب لكاتب «1» السرّ عن نائب الشام، في طلب إقطاع «2» ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن «3» نباتة إجابة للمطلوب، وهي:
لا زال قلمها يمدّ على الإسلام ظلّا ظليلا، ويستجدّ صنعا جميلا، ويأخذ بأمر الله أعداء دينه أخذا وبيلا، ويقوم باجتهاده في مصالح الملك النّهار كلّه والليل إلّا قليلا، تقبيل مواظب على ولاء لا يجد له تبديلا، وثناء لو سمعه المحبّ فشافه الأحباب إذا لاتّخذوه خليلا.(9/182)
وينهي ورود مشرّفة مولانا القديم فضلها، الكريم وصلها وأصلها، فوقف المملوك عليها، وأصغى بجملته إليها، وعلم ما رسم به مولانا، وأشار إليه تبيانا، وكذلك بلّغه مملوكه الولد فلان المشافهة الكريمة فحبّذا من صاحب السّرّ إسرارا وإعلانا، وشكر لهما مشرّفة ومشافهة أوردا الإحسان مثنى مثنى، وسرّا سمعه المملوك لفظا واستهداه معنى، فما مننهما في الإحسان إلّا زائدة، ولا في الصّلات إلّا عائدة، لا جرم «1» أنّ المملوك أقبل على قبيلهما بسمعه وناظره، وقلبه وخاطره، وجملته وسائره، وامتثل الإشارة العالية الّتي من حقّها أن تقدّم على كلّ مهمّ يرد عليه، وأمر يتوجّه إليه، ويد الزمان مشكورة يأخذها منه بكلتا يديه، وعيّن المملوك لوقته الإقطاع المطلوب، وتقدّم بكتابة مربّعته حسب ما رسم من تجري السعادة من سطره تحت مكتوب، وجهّزها قرين هذه الخدمة ومن ذا يقارن سبق ذلك البرّ المديد، وكيف توازي المربّعة كتابا هو بالإحسان للعنق تقليد؟ لا برحت مراسم مولانا معدودة من رسوم نعمه، ومشرّفاته محسوبة من تشريفاته الّتي يخلعها على أبناء محبّيه وخدمه.
النوع الثاني عشر (في الشكر)
قال في «موادّ البيان» : رقاع الشكر يجب أن تكون مودعة من الاعتراف بأقدار المواهب، وكفاية الاستقلال بحقوق النعم، والاضطلاع بحمل الأيادي، والنّهوض بأعباء الصنائع، ما يشحذ الهمم في الزيادة منها، ويوثّق المصطنع بإفاضة الصّنع، ويعرب عن كريم سجيّة المحسن إليه.
قال: وينبغي للكاتب أن يفتنّ فيها، ويقرّب معانيها، وينتحل لها من ألفاظ الشكر أنوطها بالقلوب، لتستيقن نفس المتفضّل أنه قد اجتنى ثمرة تفضّله، وحصل من الشكر على أضعاف ما بذله من ماله أو جاهه، إلّا أنه ينبغي(9/183)
أنها إذا كانت صادرة من الأتباع إلى رؤسائهم، ومن يرجع إلى اختصاص وأثرة، أن لا تبنى على الإغراق في الشكر؛ لأن الإغراق في الشكر يحمل هذه الطبقة على التملّق الذي لا يليق إلّا بالأباعد الذين يقصدون الدّلالة على استقلالهم بحقوق ما أسدي إليهم، فأما من ضفا عليه من النعم ما يدفع الشكّ في اعترافه بالذّلّ لديه، فإنه يغنى عن المبالغة في الشكر والاعتداد. ثم قال:
وإنما يجب أن يذهب فيما يكتب عن هؤلاء من هذا الفنّ مذهب الاختصار، والإتيان بالألفاظ الوجيزة الجامعة لمعاني الشكر، دون مذهب الغلوّ والإفراط، وذو الطبع السليم، والفكر المستقيم، يكتفي بيسير التمثيل.
وهذه نسخ من ذلك:
أبو الفرج «1» الببغاء، في شكر تابع لمتبوع:
أنا في شكره- أيده الله- مبرهن عن مواقع إحسانه إليّ، وتظاهر إنعامه عليّ، لا مقدّر أنّي مع المبالغة والإسهاب، والإطالة والإطناب، أجازي عفو تفضّله، ولا أجامل أيسر تطوّله، وقد وسمني أيده الله من شرف اصطناعه، بما بوّأني به أرفع منازل خدمه وأتباعه، وإلى الله أرغب في توفيقي من مقابلة ذلك بالاجتهاد في خدمته، والمبالغة في طاعته- لما أكون به للمزيد مستوجبا، وللحظوة مستحقّا.
وله في شكر قريب:
فرّض الشكر- أعزّك الله- لا يسقط بقرب الأنساب، ولذلك لا أستجيز إغفال الواجب عليّ منه، ولا أجد عدولا في التسامح فيه والإضراب عنه، وإن كنت غنيّا عن الإفاضة فيما أعتقده من ذلك وأضمره، وأبديه وأظهره، بالمتعالم من خلوص النية وصحة الاعتقاد، فلا أخلاك [الله] من جميل تسديه، وتفضّل توليه، يمتري لك المزيد من سوابغ النّعم وفوائد الشكر.(9/184)
وله: قد استنفد مادّة شكري، ووسع اعتدادي ونشري، تتابع تفضّلك، وتوالي تطوّلك، ولست أقدر على النّهوض بشكر منّة حتّى تطرقني منك منّة، ولا أحاول مجازاة نعمة حتّى تفد عليّ منك نعمة، فبأيّ عوارفك أعترف؟ أم بأيّ أياديك بالثّناء أنتصف؟ فقد فزعت إلى الإقرار بالعجز عمّا يلزم من فروضك، وواجبات حقوقك، وانصرفت إلى سؤال الله جلّ اسمه بإيزاعي شكر ما وهب منك، والتّجاوز للمكارم والفضل عنك.
وله: وقد شكرت برّك الجليل موقعه، اللطيف موضعه، الخفيف محمله، العذب منهله، وشافهتك من ذلك بما اتّسعت له القدرة لا ما تقتضيه حقوق المنّة.
وله: أنا في الشكر بين نعمة تنطقني، وعجز عما يجب لك يخرسني، ولست أفزع إلى غير تجاوزك، ولا أعتمد على غير مسامحتك، ولا أتطاول إلا بمكاني منك، ولا أفاخر إلّا بموقعي من إيثارك، فالحمد لله الذي جعلني بولائك مشهورا، وفي شكرك مقصورا.
علي «1» بن خلف:
رقعة: وينهي أنّ الله تعالى لمّا ألهم مولانا البرّ، ألهم المملوك الشّكر، فهو لا يزال يوسع في البرّ ويزيد، والمملوك لا يزال يبدي في الشكر ويعيد، ولكن شتّان بين فاعل وقائل، ومعط وقابل، وواهب وسائل، ورافد وحامد، وشاكر وشاكد «2» ، والمملوك يحمد الله تعالى إذ جعل يده الطّولى، وحظّه الأعلى.
رقعة: وصل برّ مولانا وقد أحالت الخلّة من المملوك حاله، وأمالت آماله،(9/185)
فلأمت ما صدعه الدهر من مروته، وجدّدت ما أخلقه من فروته، فكفّ المملوك يديه [عن] امتحان الخلّان، وقبض لسانه عن شكاية الزّمان، وأقرّ ماء وجهه في قرارته، وحفظ على جاهه لباس وجاهته، فيا له من برّ وقع من الفقر، موقع القطر من القفر، ولم يتقدّمه من قدامة الوعد، ما يتقدّم القطر من جهامة الرّعد، وكلّ معروف وإن فاضت ينابيعه، وطالت فروعه، قاصر عن الأمل في كرمه، واقع دون غايات هممه، كما أنّ الشكر ولو واكب النّجم، وساكب السّجم «1» ، قاصر عن مكافاة تفضّله، ومجازاة تطوّله، والمملوك يسأل الله تعالى الذي جعله قدوة الكرام، وحسنة الأيّام، وربّ الإنعام، وواحد الأنام، أن يلهم المملوك من حمده، بقدر ما أسبغه عليه من رفده.
رقعة شكر: عند المملوك لسيّدي أياد وصلت سابقة هواديها، وظلّت لا حقة تواليها، فصارت صدورها نسبا أعتزي إليه، وأعجازها [سببا أعوّل في الملمّات عليه] .
رقعة: لولا أنّ الله تعالى جعل الشّكر ثمرة البرّ، والحمد جزاء الرّفد، وأراد إقرارهما على أهلهما من الغابرين، وأن يجعل لهم منّا لسان صدق في الآخرين، لكان الذي غمر به مولانا من الإنعام، يتحدّث عنه تحدّث الرّياح بآثار الغمام، ويكفى المملوك بالإشارة، مؤونة العبارة، والمملوك وإن رام تأدية ما يلزمه من شكره، قاصر عن غاية برّه، ولو استخدم ألسنة الأقلام، واستغرق أمدي النّثار والنّظام، ومولانا جدير بقبول اليسير، الذي لا تمكن الزّيادة عليه، والصّفح عن التقصير، الذي تقود الضرورة إليه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: لو أنّ هذه العارفة بكر عوارفه، وباكورة لطائفه، لعجزت عن شكرها، وقصّرت عن نشرها، فكيف وقد سبقها قرائن ونظائر، وتقدّمها أتراب وضرائر [مما] أثقل من المملوك كاهله، وبسط به يدي أمله؟ فما يعدم شيئا(9/186)
فيرجّيه، ولا يفقده فيرغب فيه، والذي تربّه من المملوك جوارحه، وتحويه جوانحه، علمه بأنه لا يجاري أياديه، ولا يجازي مساعيه، والله تعالى يخصّه من الفضائل، بمثل ما تبرّع به من الفواضل.
رقعة: ومثل مولانا من [ذوي الشّرف «1» ] والسّودد من حسن محضره، وطاب محبره، وكرم غيبه ومشهده، وصحّ على تغاير الأحوال عقده وودّه، وقد اتّصل بالمملوك ما أعاره له مولانا من أوصافه، وجرى فيه على عادة فضله وإنصافه، فطفق لفضله شاكرا، ولطوله ناشرا، وأضاف ذلك إلى توالد إحسانه، ونظمه في عقد امتنانه.
رقعة: قد طوّق مولانا [مملوكه] من فضله طوقا كأطواق الحمائم لا ينزع، وألبسه بردا من برّه لا يخلع، وأولاه من مزيده ما قصّرت الهمّة عن تمنّيه، ولم تهتد القريحة إليه فتستدعيه، ولو وجد المملوك جزاء على عارفته، وكفاء لمثوبته، غير الموالاة الصّريحة، وعقد الضمائر على المودّة الصحيحة، واللهج بالشّكر، في السّر والجهر، لرمى من وراء عنايته، ولا استبعد طول شقّته، ولكن المملوك عادم لما يقابل به يده الغرّاء، عاجز عمّا يقضي به حقّ موهبته الزّهراء، ما لم يحسن كرمه أمره، ويقبل منه على التقصير شكره، ويضف ذلك إلى لطائفه، وينظمه في سلك عوارفه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: واجتهاد المملوك في نشر أياديه وشكرها، كاجتهاد مولانا في كتمانها وسترها، فكلّما أبديتها بالثّناء أخفاها، أو نشرتها بالإشادة طواها، وهيهات أن يخفى عرف كعرف المسك نشرا، ومنّ كالروضة نورا والغزالة نورا، ولو كان المملوك والعياذ بالله ستر هذا العرف بكفر، واغتمصه مانعا لشكر، لنمّ عليه حسنه نموم الصّباح، وتوقّد توقّد المصباح، فكيف وللمملوك مقول لا يسامى [يعجم سواد] «2» الليالي بالإحماد، ويرقم صفحات النهار بالاعتداد؟(9/187)
الأجوبة عن رقاع الشكر قال في «موادّ البيان» : [إن كانت] هذه الرّقاع من المرؤوسين إلى الرّؤساء فلا جواب لها، وإن كانت من النّظير فالواجب أن يستعمل في أجوبتها مندوب التناصف والتفاوض.
جواب عن فعل المعروف والشكر عليه من كلام المتأخرين من ذلك، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الصدر:
خلّد الله على الممالك نعمه، وعلى المماليك ديمه، وحرّم ببقائه ذمّ الزمان وأوجب ذممه، ولا برح نحو المحامد ينادي يوم الكرم مفرده ويوم الهياج علمه، تقبيلا يسحب في الفخار بروده المعلمة، ويتذكّر بالقرب فلا يزال الشوق ينتجه حيث كلا التّذكار والعهد مقدّمه.
وينهي ورود المثال العالي بما ملأ القلب خيرا واليد برّا، والسمع بشارة والوجه بشرا، حتّى تنافست الأعضاء على تقبيله، والجوارح على تأميله، فاليد تسابق إلى مننه بالامتداد، والقلب يسابق إلى كرم عهده بالاعتداد، والوجه يقلّب ناظره في سماء مواقع القلم، والسمع ينعم بما تقصّ عليه المسارّ من أخبار جيرة العلم، حتّى كاد المملوك يمحو بالتقبيل أسطره، ويشتغل بذلك عن استجلاء ما ذكره المنعم لا عدم المملوك في مصر والشام تكرّره، وفهم ما أشار مولانا إليه من الفضل الذي مولانا أهله، وكرم العهد الذي لا ينكر من مثله وأين مثله؟
وقابل المملوك جميع ذلك بجهده من الأدعية الصالحة، وبسماحة الحمد المتفاوحة، والاعتداد بنعمة مولانا الّتي لولا [موالاتها «1» ] كلّ وقت لقيل فيها «ما أشبه الليلة بالبارحة» وتضاعف نهوض المملوك على قدم الموالاة الّتي [يستشهد] في دعواها بشهادة الخاطر الشريف، ويتقدّم بها تقدّما تحت لواء(9/188)
الولاء وتأتي بقيّة الأولياء في اللّفيف، والله تعالى يوزع المملوك شكر هذه النّعم المتصل مددها، والمنن الّتي لا يعدمها ولا يعدّها، ويطيل بقاء مولانا لحمد يجتليه ويجتنيه، وشرف دنيا وأخرى يهدم وفره وعمره ويبتنيه.
النوع الثالث عشر (العتاب)
قال في «موادّ البيان» : المكاتبة بالمعاتبة على التحوّل عن المودّة والاستخفاف بحقوق الخلّة من المكاتبات الّتي يجب أن تستوفى شروطها، وتكمّل أقسامها؛ لأن ترخيص الصّديق لصديقه في المقاطعة والمصارمة دالّ على ضعف الاعتقاد، واستحالة الوداد.
من كلام المتقدّمين.
إنّني ما أحدثت نبوة، إلّا بعد أن أحدثت جفوة، ولا أبديت هجرا، إلّا بعد أن أبديت غدرا، ولا لويت وجها عن الصّلة، إلّا بعد أن ثنيت عطفا إلى القطيعة، والأوّل منّا جان، والثاني حان؛ والمتقدّم مؤثر، والمتأخّر مضطّرّ، وكم بين فعل المختار والمكره، والمبتدع والمتّبع؟
آخر: إن أمسكت يا سيدي عن عتابك، مرخيا من عنانك، كنت بين قطع لحبلك، ورضا بفعلك، أو اقتصرت فيه على التّلويح به لم يغن ذاك مع كثرة جموحك، وشدّة جنوحك، وما ارتكبته من رائك، واستخرجته من جفائك.
رقعة عتاب: لمولانا لدى المملوك عوارف لا يهتدي إلى معرفتها فيوفّيها كنه المراد، وأياد لا يبلغ ما تستحقّه من الإحماد، ولو عضّدته خطباء إياد، أجلّها في نفسه خطرا، وأحسنها عليه أثرا، ما يفرضه له من برّه وإكرامه، وتعهّده واهتمامه، وقد غيّر مولانا عادته، ونقض شيمته، وبدّل المملوك من الانعطاف بالإعراض، ومن الانبساط بالانقباض، وحمّله من ذلك ما أوهى قوى صبره، وأظلم بصائر فكره، فإن يكن ذلك لخطإ واقعه المملوك ساهيا، وجرم اجترمه لاهيا، فمثل مولانا لا يطالب إلّا بالقصد، ولا يعاقب إلّا على العمد، إذ كان(9/189)
المملوك لا يعصم من زلل، ولا يسلم من خلل، اللهمّ إلّا أن يكون مولانا أراد من المملوك تقويمه وتأديبه، وإصلاحه وتهذيبه، ليحسن أثره في خدمته، ويسلك السبيل الواضح في تباعته، فلا أعدم الله المملوك تثقيفه، ولا سلبه تبصيره وتعريفه، وإن كان ذلك لشكّ عرض من المملوك «1» في وداده، وارتياب خامر في حسن اعتقاده، فأعيذه بالله من القطع بالشّبهات، والعمل بمنغل «2» السّعايات، ومولانا خليق بأن يطلع من أنس المملوك ما غرب، وينبط من سروره ما نضب، ويعيده لرضاه، ويجريه على ما أحمده منه وأرضاه.
رقعة: ليس المملوك يرفع مولانا في إعراضه، إلّا إلى فضله، ولا يحاكمه على انقباضه، إلّا إلى عدله، ولا يستعين عليه إلّا بما يستمليه من آدابه، ولا يناظره إلّا بما أخذه عنه من محافظته وإيجابه، إذ كان المملوك مذ وصلته السعادة بحباله، ناسجا على منواله، متقبّلا شرائف خلاله. وما عهدته عمر الله معاهده، وكبت حاسده، يغضب تقليدا قبل الاختبار، ويحوج البريء إلى موقف الاعتذار، ولا سيّما إذا كان المظنون به عالما بشروط الكرم؛ عارفا بمواقع النّعم، لا ينسخ الشكر بالكفر، ولا يتعوّض عن الحمد بالجحد، وقد عرف مولانا ثناء المملوك على تفضاله، ووقف على بلائه لأعماله، وهو وفيّ بربّ عوارفه وصنائعه، وتثمير ما رهن لديه من ودائعه، وتنزيه سمعه عن الإصغاء إلى ما يختلقه حاسد، ويصوغه كائد، وقد حكّم المملوك على نفسه نقده الذي لا يبهرج عليه ولا يدلّس، وكشفه الذي لا يغطّى عليه ولا يلبّس، فليحكّ أفعال المملوك على محكّ بصيرته، وليجل في تأمّل مقاصده طرف فكرته، فإنه ممن لا تحيله الأحوال ولا تحوّله، ولا تغيّره الغير ولا تبدّله، إن شاء الله تعالى.(9/190)
رقعة: أفعال شكر «1» المملوك في الحلم والغضب، والرّضا والسّخط، إذا لم يقتض الحزم إيقاعها موقع الفضل، واقعة موقع الإنصاف والعدل، ولا يغلّب هواه على رأيه، ولا بادرته على أناته، وقد جانب مع المملوك عادته، وباين فيه شيمته، وناله من إعراضه، وجفائه وانقباضه، وتغيّر رأيه، ما وسم المملوك فيه بالذّنب ولم يذنبه، وحمله على الجرم ولم يحتقبه، وأوقفه لديه موقف الاعتذار، وأحوجه إلى الاستقالة والاستغفار، وليس المملوك يحاكمه إلّا إليه، ولا يعوّل في الانتصاف إلّا عليه، وما أولاه بأن يعيد المملوك إلى محلّه من رضاه، فإنه لم يواقع في خدمته إلّا ما يرضاه، وحسبه شاهدا بذلك ما يعلم من المملوك من سلامة غيبه، وطهارة جيبه، وفضل ودّه، وصحّة معتقده، إن شاء الله تعالى.
رقعة بمعاتبة على «2» .
كلّ مانع ما لديه من رغبه، دافع عمّا عنده من طلبه، فمستغنى عنه إلّا الله تعالى المبتديء بالنّعم، العوّاد بالكرم، ولو عرف مولانا بطعم شجرة «3» المعروف، لأسرع إلى احتذائها، ولو علم ما لله تعالى عليه من الحقوق في ماله وجاهه، لم يقصّر عن أدائها، غير أنه ظنّ أنّ الفوز بالوجد «4» ، غاية المجد، وأنه إذا أحمد النّسب غنيّ عن الحمد، وأنّ النعمة ترتبط بالرّبط عليها، وتنصرف بالتّصرّف فيها، وما ساء المملوك أن تنزّه عن تقلّد منّة لئيم، وحرم محمدة من كريم، وهذا الحرمان أحسن والله في عين المملوك من النّوال، وهذا الإكداء أبرّ لديه من بلوغ الآمال، وسينشر المملوك مذهبه في كلّ ناد، ويكفّ عنه أمانيّ القصّاد، ويكفيه مؤونة الاعتذار، ويصونه عن أن تبذل إليه وجوه الأحرار، ليعلم(9/191)
أنّ المملوك على منعه لم يقصّر في بلوغ أوطاره، والسّعي في إيثاره، إن شاء الله تعالى.
رقعة في المعنى: ما ردّ المملوك برّ مولانا مستنزرا لقليله، ولا لائما لنفسه على تأميله، لكنّه انتجعه انتجاع من ظنّه عارفا بقدره، راغبا في شكره، فلو أغضى المملوك منه على الاطّراح لأمره، لاستدلّ منه على قصر الهمّة، وظنّ أنه قوّمه بدون القيمة، ولا سيّما وهو يفرض لمن لا يجاري المملوك في مضمار، ولا يساويه في مقدار، من غير قصد بتأميل ورجاء، وتقديم ذريعة من تقريظ وثناء، ما تضيق عنه الهمم الفساح، ولا يصل إليه الاقتراح.
رقعة عتاب، على تقصير في خطاب:
حوشي مولاي أن يجرّ الذّيل على آثار فضله، ويميت من غروس إحسانه ما هو جدير أن يتعهّده بوبله، ويعفّي منّي رسوم كرمه، ويصدع بمجانبة الإنصاف صفاة صفاته وصفائه، وينطق الألسن بعتابه، ويصلت سيف التأنيب من قرابه، بما استحسنه من مستقبح المصارمة في المخاطبة، واستوطاه من جامح التّرييث في المكاتبه، ولا سيّما وهو يعلم أنّ موقع الإكرام من الكرام، ألطف من موقع الإنعام، وأن محلّ القال، أفضل من محلّ النّوال، وأنّ تغيّر العادة في البرّ، مقوّض لمعاهد الشّكر، ونسيح (؟) السنة في الإنصاف، قاض بالانصراف بعد الانعطاف، وقد كان المملوك أزمع أن يتحمّل تقصيره به، وأن يفلّ من غربه، غير مطاوع للحميّة، ولا منقاد لنفس العصبية، ولا يقرع سمعه بعتاب، ولا يورد عليه ممضّ خطاب. ثم رأى المملوك أن يرشده إلى الأزين، ويبعثه على اعتماد الأحسن، ويحضّه على مراجعة الأفضل، ومعاودة الأجمل، ليتحفّظ مع سواه، ولا يجري مجراه، فليس كلّ أحد يتحمّله، ويرضى رضى المملوك بما يفعله، فمولانا حبّب الله إليه الرّشد «1» ، ووفّقه إلى المنهج الأسد،(9/192)
هل هو من شيء سوى بشر؟ فما هذا التّيه والبطر؟ ولم هذا الأزل «1» والأشر؟ وما فعل الرئيس إلى ما يصغر عنه قدر، ولا ييأس من نيله عمر، ولا مضت أقلامك في الأقاليم، ولا أشير إليك ببنان التعظيم، ولا فوّضت إليك الوزارة والرّدافة، ولا تأمّرت على الكافة، ولا طاولت الأكفاء فطلت، ولا ناضلت القرناء فنضلت، وإنما سرق إليك الحظّ من ثماده «2» وشلا «3» مصرّدا، وأدرّ لك الدّهر من أخلافه مجدّدا، فافتتحت المعاملة بظلم الإخوان، ونسخ شرائع الإحسان، كذبتك نفسك، وغرّك حدسك، كيف بك غدا إذا استردّ الزمن ما خوّلك، واسترجع ما نوّلك؟ وصحوت بالعزل من سكرة الولاية، وتقرقرت «4» بعد طلب الغاية؟
وعدت إلى إخوانك فوجدت أوطان أنفسهم بك نابية، ونفوسهم للإقبال عليك آبية؟ ولو كان الزمن أمكنك من رقبتي، وطرّق لك الطريق إلى إيداع عرفك في جهتي، لقبح بك أن تطول بطولك، وتّدعي الفضل بفضلك، ولم يحسن أن تبدّل الإنعام، وتضنّ بالالتزام، فإن كنت تفخر بسلفك وأبوّتك، وتطاول بأوّليّتك وأسرتك، فلو كان أبوك كسرى «5» ، لما جبر منك كسرا، ولو كان جدّك بخت نصّر «6»(9/193)
لما انتفعت به في مظاهرة ولا نصّر، فدع أكثر ما فات، ولا تعوّل على العظام الرّفات، فما استند إليها إلّا عار من الفضل عاطل من الحلى. على أنّك لو فاخرتنا بها لفخرناك، وتقدّمنا وأخّرناك، وإن كنت تستند إلى ديانتك، وتعتمد على نسكك وأمانتك، فهذه خالص حال لا تخلص مرتبتها ولا تتمّ فضيلتها إلا باستشعار التّواضع، والأخذ بمكارم الأخلاق لدى التنازع، فارجع هديتك «1» إلى الأجلّ، واعمل بالأفضل، وقف بحيث رتبتك، ولا تتشوّف إلى غير درجتك، وإن أبيت ذاك فاقطع المراسلة، وأعفها من المواصلة، والسّلام.
رقعة عتاب على تأخر المكاتبة:
من حكم الوداد- أطال الله بقاء سيدي- الزيارة عند المقاربة، والمكاتبة عند المباعدة، وإن كانت المودّة الصريحة لا يغيّرها اجتناب، إلّا أنّ الكتب ألسن البعاد، والأعين الّتي تنظر حقائق الوداد، ولها في القلوب تأثير، وموقعها فيها أثير، وحوشي مولانا أن أهزّ أريحيتّه لما يؤكّد الثقة بإخائه، ويشهد ب بوفائه، ولا سيّما وهو يفرض ذلك لأحبّته، وقوله واجب في شرع مودّته.
رقعة في معناه:
إن ابتدأ المملوك مولانا لم يجب، وإن سأله الابتداء لم يوجب، فلا حقّ لإجابة تؤدّيه، ولا ناجز المسألة تقضيه، فإن كان إذا شخص غابت عن فكره أشخاص أحبّته، وإذا بعد عاملهم بتجافيه وجفوته، فقد كان ينبغي أن يتكلّف ويتجمّل، ويتصنّع ويتعمّل، فإنه لو علّل مشوبا بالانتظار، أو اعتذر ممرّضا بالاعتذار، لأقمت ذلك مقام المكاتبة، وصنته عن محض المعاتبة، لكنّه مال مع الملال، ورضي الاطّراح والإهمال، ودلّ على أنه مستقلّ بالإخوان، متنقّل مع الزمان، وأرجو أن تصدق المخيلة، ويرجع إلى العادة الجميلة.
رقعة معاتبة رجل كريم الأصل لئيم الفعل:(9/194)
قد عرف مولانا وفّقه الله ووقفه على منهج الرّشاد، أنّ جناية الغضب الذّميم، تقدح في كرم الجنث «1» الكريم، وأنّ قبيح الصّلف، ينسخ تليد الشّرف، وخبيث الذّرّية، يعفّي على طيب المناحت الزّكيّة، وأنه ليس لمن تحلّى بالظّلم والجور، وتلبّس بالنّكث والغدر، وسامح نفسه باطّراح الحقوق، واستيطاء العقوق، إلّا إضاعة الحرم، وإخفار الذّمم.
المعاتبة من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود «2» الحلبي:
يقبّل الأرض وينهي أنه قد صار يرى قربه أزورارا، وطويل سلامه اختصارا، ويغالط في ذلك حتّى شاهده عيانا مرارا، هذا وبكر الولاء، صقيلة الجلباب، وعروس الثناء، جميلة البزّة حسنة الشّباب، وهو لا يفتأ من الموالاة في صعد وقدره في صبب، فكلّما مكّن وتد الاستعطاف يرجو عدم تخلخله فصل بأيسر سبب، بحيث أطفأ الإهمال نار المساعفة والمساعدة، وانتقل توهّم عدم العناية إلى تيقّن وجوده بالمشاهدة، وقد كان يرفع قدره فخفض، وعوّض في الحال عن الرّفع بالابتداء، أنه مفرد وينصب كالنكرة في النّداء، وأهمل حتّى صار كالحروف لا تسند ولا يسند إليها، وألغي حتّى شابه ظننت إذا وقعت متأخّرة عن مفعوليها، ومتى يقلق لأمر، أنشد نفسه (كامل) :
ما في وقوفك ساعة من باس
«3» .
وكان يغشى مجلسه الكريم خدمة وأداء للواجب، وطلبا لعادة أكّدها(9/195)
إحسانه حتّى صارت ضربة لازب، فلا يخلو مجلس من إظهار تغيّر عادة وطّد الجود أساسها، وانتقاض قاعدة أبرم الكرم أمراسها، فينقطع سلوكا للأدب وتخفيفا عن الخواطر، ويتلقّى ما يصدر بقلب شاك ولسان شاكر، فإن كان قد عزم مولاه على طرده، وعوّضه عن منحة القرب المحنة ببعده، فإنه يأبى ذلك جوده ولطفه، ومعرفة يشكر ويزيد، لا يمكن صرفه، ولو جاز الصّرف لمجرّد «1» بالعبودية لمنعه العدل من سيّده، والحلم الذي عرف من كريم محتده «2» ، فكان المملوك يستحسن في حبره وسبره، ويعوّض عن مقابلته بجبره، فقد صار سمينه غثّا وشحمه ورما، وحديثه رثّا وسهله علما (طويل) .
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا
وما ثمّ بحمد الله ما يوجب ذلك ولا بعضه، ولا يحدث ذمّ المملوك وبغضه، ولو بدا منه زلل، أو لمح منه خطل، فمكارم مولانا أوسع من إبقاء ذلك في صدور الصّدور، و [أحرى ب]- محو آيات السيّئات فإنه لمن عزم الأمور.
وله: يخدم بدعائه، وصادق ولائه، وينهي أنه انكسر خاطره، وأرق جفنه وناظره، وتضاعف بلباله، وتزايدت في النّقص أحواله، مذ تأخّرت الأمثلة الكرام وانقطعت عنه بانقطاعها المنن الجسام، وهو يسأل العفو عن ذنب وقع، وتشريفه بمثال يرفع من قدره ما وضع، واستعمال الصّفح عنه كسائر عاداته، وإجراءه على اللّطف الذي ألفه من تفضّلاته، فقد ضعف صبر المملوك وجنانه، وتفرّق للفراق جفنه وإنسانه، وصغر قدره، وأهمل جانبه وممّن أمر بإهانته فخره، ولهذا ضاقت عليه المسالك، وكان لسان حاله [ينشد] في ذلك (كامل) .
وأهنتني فأهنت نفسي عامدا ... ما من يهون عليك ممّن يكرم(9/196)
والمملوك معترف بأنه ما زال يجهل ما يجب عليه من الخدم، ومقرّ بتقصيره عن القيام بحمل ما يواصل به من النّعم، لكنّه ألف من مولانا أن يقابل إساءته بالإحسان، وجهله بصفح لا يقوم بشكره اللّسان، بل جميع الجثمان، فإن كان ذنب من المملوك هو الذي أوجب اطّراحه، وأوجد أسفه وأذهب أفراحه، وكان أيسر مما تقدّمه من جهله وإساءته، فحلمك جدير أن يلحقه بإخوته، وإن كان قد تزايد مقداره، فالمولى قد تضاعف على العفو اقتداره، وإذا كبرت الخطيئة كثر أجر غفرانها، وعلت المجاوزة عنها على أقرانها، وعلى كلا الأمرين فقد استحقّ المملوك المغفرة بكلّ طريق، وأن يقابل رجاؤه بالتحقيق، وأمله بالتصديق.
وله: وينهي أنه ما زال يتلو آيات محاسنه وحمده، ويرفع رايات إحسانه ومجده، ويتولّاه ولا يتولّى عن محبّته، ويكثر الثناء على ألمعيّ فطنته وجزيل مروءته، وقد صار يشاهد من المولى ملالا وصدودا، وإعراضا يغيظ به صديقا ويسرّ به حسودا، واطّراحا أوهمه أنه ألف وصل درجت، أو لفظة هجر لفظت، ولا يعرف له ذنبا يوجب إبعاده، ولا جرما يستوجب به أن ينقض حبل وصله ويرفض وداده، ولا يعلم سببا يوجب سبّه، ولا شيئا يحدث عتبه، مع أنّ المملوك أحقّ أن يبدأ بالإعراض، ويرفل من إغفال مودّته في الثّوب الفضفاض، فإنّ المولى آلمه بالقول مرارا، وجعل سحابة حيفه تهمي عليه مدرارا، وهو يحتمل الأذى ويغضي على القذى، ولا يظهر إلّا محبّة، ولا يبطن له إلّا مودّة، فإن شاهد المولى بعد إعراضه إعراضا فليلم نفسه، أو أحرقه لهب نار الجفاء فلا يشكو مسّه، يحيط بذلك علما، ورأيه العالي.
شعر في العتاب (كامل) .
مولاي قد طال التّباعد بيننا ... أو ما سئمت قطيعتي وملالي؟
إن لم ترقّ لحالتي يا هاجري ... مولاي قل لي من يرقّ لحالي(9/197)
غيره (طويل) .
يباعدني عن قربه ولقائه ... فلمّا أذاب الجسم منّي تعطّفا
غيره (منسرح) .
إن كان هجراننا يطيب لكم ... فليس للوصل عندنا ثمن
غيره (كامل) .
شمّتّ بي الأعداء حين هجرتني ... والموت دون شماتة الأعداء
غيره (سريع) .
تنام عيناك وتشكو الهوى ... لو كنت صبّا لم تكن نائما
ولبعضهم: سيدي بادأني بلطف من غير خبرة، وأعقبني جفاء من غير ذنب، فأطمعني أوّله في إخائه، وآيسني آخره من وفائه، فسبحان من لو شاء لكشف بإيضاح المبهم عن عزيمة الرأي فيه، والمملوك يقول: (متقارب)
عجبت لقلبك كيف انقلب ... وصفو ودادك أنّى ذهب
وأعجب من ذا وذا أنّني ... أراك بعين الرّضا في الغضب
أجوبة رقاع العتاب قال في «موادّ البيان» : حكم أجوبة هذه الرّقاع حكم رقاع أجوبة الاعتذار، إلّا أنها لا تخلو من الإجابة بالإعتاب أو الإصرار على العتاب. قال:
ويجب أن يسلك فيها المجيب مذهب المجيب عن رقاع الاعتذار.
زهر الآداب:
في جواب العتب على تأخّر مكاتبة:
وعلم المملوك ما أشار به من العتب بسبب تأخّر خدمه عن جنابه، وما توهّمه من اشتغال المملوك بأهله وأصحابه، وحاشاه أن يتوهّم في المملوك غير الولاء، والملازمة على الحمد والثّناء، فهو لا يعتمد ذلك إلّا تخفيفا عن خاطره،(9/198)
ووثوقا بما يتحقّقه المولى من خالص مودّته في باطنه وظاهره، حرسه الله ووفّقه، وفتح له باب السعادة ولا أغلقه، بمنّه وكرمه.
زهر الربيع:
جواب عتاب:
زاد الله جنابه حنانا، وأسبغ عليه إنعاما وإحسانا، وخلّد له على كلّ عدوّ سلطانا.
ولا زالت همّته سماء لمناكب الكواكب، وأياديه تفيض على الأولياء غرائب الرّغائب، ولا برحت سحائب إنعامه هامية، وقطوف إحسانه دائمة دانية، وشرائع مياه جوده تجفّف جفونا من الفاقة دامية.
المملوك يجدّد خدمته، ويواتر للمولى أدعيته، ويعترف بمننه الّتي أقرّت بها ألسنة جوارحه فلا يستطيع أن ينكرها، ويغترف بيد تضرّعه من بحار جوده الّتي تثعب الوليّ من سحابها إلى كل وليّ وتقذف له جواهرها.
وينهي ورود المكاتبة والعلم بمضمونها، والاحتواء على سائر معاني فنونها، وما أشار إليه من العتب الذي يرجو به بقاء الوداد، واستصحاب حال التّواصل من غير نفاد، والمملوك فلا ينكر ذنبه، ولا يتنصّل ولا يتوصّل بل يعترف بجرمه وقلّة خدمه، ويستمسك بالعروة الوثقى من إحسانه وحلمه، ويسأل مكارمه إجراءه على عادته بالصّفح عنه ورسمه، وهو يرجو أنّ أمّ هذه الهفوة لا تلد لها أختا، وأنه لا يعتمد إلّا ما يزيده إلى المولى مقة ويزيل مقتا، فإنّ معاتبة مولانا قد وعتها أذن واعية، ومراضيه لا تخفى على المملوك بعد ذلك منها خافية، إن شاء الله تعالى.
آخر: أسعد الله المجلس وعطف للأولياء قلبه، ونصر كتائبه وأنفذ كتبه، وأرهف في نصرة الإسلام سنانه وعضبه، وألهم حبّة قلب الزمان حبّه، وأقدره على الحلم الزائد حتّى يغفر به لكلّ مذنب ذنبه.
[وينهي] ورود الكتاب الذي أعدّته يد مولانا فصار كريما، وكسته عبارته(9/199)
ثوب براعته فأصبح منظره وسيما، واستنشق عرف نسيمه المبارك فطاب شميما، وعلم المملوك منه شدّة عتبه، ومرّ التجنّي الذي ظهر من حلو لفظه وعذبه، ولم يعرف لعتبه موجبا، ولا لتغيّر مودّته سببا، فإنه ما حاد عن طريق ولائه ولا حال، ولا زلّت قدمه عنه ولا زال، ولا ماد عن منهج المودّة ولا مال، وما فتيء لمحاسنه ناشرا، ولإحسانه شاكرا، فإن كان قد نقل عنه إلى مولانا شيء أزعجه، وأخرجه عن عادة حلمه وأحرجه، فإن الوشاة قد اختلقوا قولهم ونقلهم، وقصدوا تشتيت المصاحبة شتّت الله شملهم (طويل) .
وقد نقلوا عنّي الّذي لم أفه به ... وما آفة الأخبار إلّا رواتها
آخر: وردت المشرّفة العالية أعلى الله نجم مرسلها، وأسبغ أياديه وشكر جسيم تفضّلها، فابتهجت الأنفس بحلولها وحلل جمالها، وعوملت بما يجب من إكرامها وإجلالها، وفضّ ختامها ففاح منها أرج العبير والعنبر، وتليت ألفاظها الّتي هي أبهى من الرّياض وأحلى من السّكّر، فأغنت كؤوس فصاحتها عن المدام، وأزال ماؤها الزّلال البارد حرّ الأوام «1» ، وأعرب منشيها عمّا في ضميره من العتب، والضيق الذي حصل في ذلك الصّدر الرّحب، وهو يقسم بنعمته، وبصادق محبّته، أنه لم يبد منه ما يوجب عليه عتبا، ولا انثنى عن الثّناء على [محاسنه «2» ] الّتي شغفته حبّا، فإن كان المولى قد توهّم شيئا أحرجه وأقلقه، وإلى أليم العتب شوّقه، فليزل ذلك الوهم من خاطره، وليثق بما تحقّق من موالاته في باطنه وظاهره، ورأيه العالي.
آخر: أعزّ الله عزماته، وشكر جسيم تفضّلاته.
ولا زالت نعمته باقية، وقدمه إلى درج المعالي راقية، وهمّته إلى السّموّ على الكواكب سامية، وسماء جوده على العفاة هامية، وعزمته لثغور الإسلام حامية،(9/200)
عبد نعمه، وغرس كرمه، يعلمه بصدق ودّه، والمداومة على شكره وحمده، وأنه وقف على مشرّفه وفهمه، وشاهد منه عتبه وعلمه، وهو لا يشكو من المولى جفاء ولا يعيب، و [عن] طريق المصافاة والمخالصة فلا يغيب، بل يقول (كامل)
أنت البريء من الإساءة كلّها ... ولك الرّضا وأنا المسيء المذنب
والمرجوّ من لطافة أخلاقه، وطهارة أعراقه، أن يصفح عن زلّته، ويعفو عن ذنبه وإساءته (طويل)
فأنت الّذي ترجى لتخفيف زلّتي ... وتحقيق آمالي ونيل مآربي
وقربك مقصودي وبابك كعبتي ... ورؤياك يا سؤلي أعزّ مطالبي
قلت: وكتبت إلى المولى شهاب الدين «1» الدّنيسريّ، وقد بلغني عنه مساعدة بعض الجهّال عليّ في بعض الأمور (طويل) .
عهدت شهاب الفضل يرمي بسهمه ... شياطين جهل أن تداني جنابه
فما بال مولانا على فرط فضله ... يعرّف شيطان الجهالة بابه؟
النوع الرابع عشر (العيادة والسّؤال عن حال المريض)
رقعة عيادة:
وينهي أنه اتّصل بالمملوك من ألم مولانا- أطال الله بقاءه- وحرس حوباءه «2» - ما أهمى مدامعه، وأحمى أضالعه، ومزّق جلده، وحرّق خلده «3» ،(9/201)
وأطار الوسن «1» عن عينه، ونفّر الهدوء عن مضجعه، حتّى تدارك الله تعالى بكتابه الناطق بإقلاع الملمّ، المعرب عن دفاع المهمّ، فرقأ «2» من دموعي ما ارفضّ، وجبر من ضلوع المملوك ما ارتضّ، والتأم من جلده ما تفطّر، وبرد من خلده ما توقّد «3» ، وجثم ما طار من وسنه وآنس من الهدوء ما نفر عنه، والتأمت الآمال بعد انثلامها، وبرزت ثمار الأمانيّ من أكمامها، وطلع من الرجاء آفله، وروي من السّرور ماحله، وتجدّد من السّؤدد طامسه، وضحك من الزمان عابسه، والله تعالى يغضّ طرف الحدثان، عن مهجته، ويصرف صروف الزمان، عن ساحته، ويهنّيه بما أعاده إليه من الإبلال، ويملّيه بما أفاضه عليه من الاستقلال، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أن ما خامره من قلق وجزع، وفرق وهلع، بسبب ما بلغه من شكوى مولانا لا تحصره الأوهام، ولا تسطّره الأقلام، ولولا ثقة المملوك بالله تعالى لوهت عقد صبره، ولا نخلع فؤاده من صدره، وقد علم الله تعالى أنّ هذا الألم لو نقل إلى المملوك لما ثقل عليه، وكيف يستثقل ما يخفّف عن مولانا وصبه «4» ويحسمه، ويعكّف له سلك الشّفاء وينظمه، والله تعالى يجعله في أمان من كفايته، وضمان من حياطته، إن شاء الله تعالى.
أجوبة كتب الشفاعات «5» والعنايات قال في «موادّ البيان» : هذه الكتب إذا أجيب الملتمس إلى حاجته فينبغي(9/202)
أن تبنى أجوبتها على شكر مقصد الشافع، والإدلال والاسترسال وإنالة المشفوع له وطره إيجابا لحقّ الشافع، وإن وقع الامتناع والتوقّف عن الإجابة إلى الملتمس، فالواجب أن تبنى على إقامة العذر لا غير.
زهر الربيع:
جواب شفاعة في حقّ كاتب:
جدّد الله [له] السعادة وخلّدها، وأصارها له شعارا وأبّدها، ووطّد به الممالك ومهّدها، وعضد به طائفة الإسلام وأيّدها، وشكر له صنائع يعدّ منها وليّ ولا كلّ يستطيع أن يعدّدها.
المملوك يقبّل اليد الشريفة أداء للفرض اللازم، وشكرا لما أولته من الأيادي والمكارم، وحمدا لألطافه الّتي أطمعته بالتمييز فأصبح برفع قدره كالجازم.
وينهي ورود المشرّف الذي نزّه ناظره، وجبر قلبه بحسن ألفاظه وخاطره، والعلم بما أمر به، وشفع إلى المملوك بسببه، وهو الكاتب الذي أشار إليه، وقد ركن إلى ما شكره به المولى وأثنى به عليه، واعتقد يمن إغارة «1» الشافع فعقد على المشفوع فيه خنصره، وتقدّم بترتيبه في ديوان إنشائه، وجعله من جملة خواصّه وخلصائه، وفعل ذلك كلّه اتّباعا لإشارته، وقبولا لشفاعته، فالمولى يواصل بمراسمه وأمثلته، فإنّها ترد على مرتسم ممتثل.
ومنه: جواب شفاعة في استخدام جنديّ:
ضاعف الله تعالى نعمه، وأرهف في نصرة الإسلام سيفه وقلمه، ولا برحت ألسنة الأنام ناطقة بولائه، وأيدي ذوي الرجاء مملوءة من فواضل نعمائه.
المملوك يواصل بأدعيته الصالحة، ويستنشق روحانيّ ريحكم فيسكن منه(9/203)
بلذيذ تلك الرائحة، ويشكر له ما منحه من المكارم، ويباهي بعزماته اللّيوث الضّراغم، فلا يجد مضاهيا لتلك العزائم.
وينهي ورود المثال «1» الذي أشرقت الوجوه بنوره، وابتهجت الأنفس ببلاغة منشيه ووشي سطوره، وعلم إشارة المولى في معنى فلان، أدام الله سعده، وأعذب منهله وورده، والتوصية بأمره، وما أبداه من حمده وشكره، وأن يقطع إقطاعا يليق بأمثاله، ويتفيّأ من خراجها ضافي ظلاله، وعند مثول مثاله العالي امتثل والتثم، واستخدم المشار إليه لإشارته وخدم، وهذا بعض ما يجب من قبول أمره، وتعظيم كتابه وتبجيل قدره، فيواصل بمراسمه فإنها تقابل بالارتسام، ومشرّفاته فإنها تعامل بوافر الإكرام.
جواب شفاعة في الجملة (كامل) .
قل ما تشاء فإنني لك طائع ... ما أنت عندي شافع بل آمر
جعله الله لكلّ خير سببا، وحقّق به لأوليائه ظنونا وحصّل أربا، ووفّر له من أجر شفاعته الحسنة نصيبا، وأدامه عن كلّ شرّ بعيدا وإلى كلّ خير قريبا.
المملوك ينهي تألّمه لفراقه، وما يجده من صبابته وشدّة أشواقه، ويعانيه من حنينه وأتواقه، وأنه ورد عليه كتابه فاستلمه ولثمه، وبجّله وعظّمه، وعلم ما أشار إليه، وأخذ أمر المشفوع فيه بكلتا يديه، وجعل قضاء أربه أمرا لازما، وما فتيء على ساق الاجتهاد قائما، إلى أن حصّل غرضه، وأدّى من حسن القيام بأمره ما أوجبه مشرّفه العالي وافترضه، والمولى آمر غير شفيع، ومهما ورد من جهته على المملوك فوارد على سميع مطيع، فيواصل من مراسمه بما سنح، ومن أخباره بما تأرّج طيب عرفه ونفح، ورأيه في ذلك العالي.
آخر: شكر الله عوارفها، وتالد جودها وطارفها، ووافر(9/204)
ظلالها ووارفها، وينهي ثناءه على معاليه، وملازمته ومداومته على بثّ محاسنه ونثّ أياديه، وحمد عواقب إحسانه ومباديه، وشدّة أشواقه إلى جنابه، ولذيذ مشاهدته وخطابه، وما يعانيه من غرام لازمه ملازمة الغريم، وداء صبابة يضاعف شوقه إلى رؤية وجهه الوسيم، ومداومته على التعوّض بشكر محاسنه عن المدامة والنّديم، ونظم جواهر مدحه لجيد جوده، وحمد المولى على ذلك التنظيم، وأنه ورد عليه مشرّفه العالي فقبّله، ودعا لمرسله دعاء يرجو من الله تعالى أن يستجيبه ويتقبّله، وحصل له بوصوله ابتهاج عظيم، وقال لمن حضر وروده يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ «1»
وفهم مضمونه وفحواه، وعلم معناه وما أظهره فيه وأبداه، من الوصيّة بفلان وما يؤثره من تسهيل مطالبه، وتيسير مآربه، ووصل المشار إليه وحصل الأنس برؤيته، وتمتّعت النّواظر والمسامع بمشاهدته ومشافهته، وقام المملوك في أمره قياما تامّا، وجعل عين اجتهاده في مصلحته متيقّظة لا تعرف مناما، وشمّر عن ساق الاجتهاد، في تحصيل المرام والمراد، إلى أن حصل له الفوز بنيل أمله، وعاد راتعا من العيش في أخضره وأخضله، رافلا من السّرور في أبهى حلله، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يعضّد به الدّول والممالك، إن شاء الله تعالى.
آخر: جعله الله مفتاحا لكلّ باب مرتج، وصدّق به [أمل] كلّ آمل وحقّق رجاء كلّ مرتج، ولا زالت سحائب جوده هامية بالوسميّ «2» والوليّ «3» ، ماطرة بوبلها وطلّها على الوليّ.(9/205)
المملوك يخدم بتحيّة أرقّ من النّسيم، وسلام أطيب عرفا من بان النّقا «1» إذا تحمّلت عرفه ريح الصّريم «2» .
وينهي إلى علمه الكريم ورود مشرّفته وأنه أحاط بمضمونها علما، وشاهد منها في حال طيّها مكارم أصارت تفضيله على حاتم الطائيّ حتما، ووقف منها على درّ لفظ قذفه بحر خاطره نثرا ونظما، وبراعة عبارة زادت قلب مواليه غراما وأنف مناويه رغما، وفصاحة عرّفته قوله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ من البيان لسحرا وإنّ من الشّعر لحكما «3» » وفهم عنايته بفلان نفع الله بعلمه وعمله، وقرّب له من الخير ما لا يطمعه به بعيد أمله، وإشارته بسبب التنبيه والإرشاد على جمل فضائله، ومفصّل مناقبه المشهورة في البلاد، وإيضاح كفايته في وجيز تلك الفصول الصّحاح الإسناد، فحال قدوم المذكور وحلوله، وورود مشرّفه ووصوله، أنهى المملوك أمره إلى مخدومه، وطالع به شريف علومه، ولا زال يحسن سعيه، ويعتمد على مشيئة الله ولا يترك حرصه ومشيه، إلى أن حقّق قصده بقضاء شغله، وقرّب له أمد أمله، وكتب توقيعه ولم يرد الله تعويقه، ونجع طعم قصده وأنجح الله طريقه، وقد عاد مصحوبا بالسّلامة، معروفا بتحصيل هذا القصد بأنه (طلّاع الثّنايا) من غير وضع العمامة، حسب إشارة المولى وأمره، والله تعالى يمدّه بصونه ونصره.
آخر: في استخلاص حقّ.
شكر الله إحسانه وإنعامه، وحصّل به لكل وليّ مرامه، وحمد تطوّله وتفضّله، وأنال به لكلّ آمل أمله، وخلّد دولته، وأدام نعمته، وأنفذ كلمته، ولا(9/206)
زال فضله كاملا، وإحسانه إلى الأولياء واصلا، ونواله لبني الآمال شاملا.
المملوك يخدم أحسن من نور الرّبا، وثناء ألطف من ريح الصّبا، وسلام أطيب بمروره من تذكّر أيّام الصّبا.
وينهي ورود الكتاب الذي طاب بالمولى محتده «1» ونجاره، وزاد على كتائب الكتب فخاره، وأنه وقف عليه وقوف مشتاق إلى مرسله، شاكر أنعم فضله وجسيم تفضّله، فأسكرته تلك الفصاحة بشذاها الأرج، ونزّهت لحظه في درّ لفظها البهج، فظنّها لمّا استنشق رائحتها راحا قرقفا «2» ، ولمّا أبهجه لفظها بألفاظ تزهي على الرّياض روضة أنفا «3» ، وعلم الإشارة الكريمة في معنى فلان والوصيّة بخدمته، وما أمر به من مساعدته ومساعفته، وعند وصول مشرّف المولى وقبل وضعه من يده، نوى المملوك مساعدة المذكور على مقصده، فتقدّم بإحضار غريمه فوجده عن البلد غائبا، فانتظره إلى أن عاد آئبا، فعند وصوله طلبه وأحضره، وسأله عمّا يدّعيه عليه خصمه فأنكره، وطلب الحضور إلى القاضي «4» ، وحثّ على ذلك حتّى أوهم أنه المتقاضي، فلمّا رأى المملوك أن حجّة المشفوع فيه لا تقوم بصدق دعواه وحجج، ولا يظهر بها على غريمه إلا من طريق حرج، بذل في مصالحتهما جهد الاجتهاد، وما زال يرشدهما إلى طريق الرّشاد، ويدلّهما على سبيل السّداد، ويعرّفهما أن التضارر ضير، وأنّ الصّلح خير، فكل منهما يهيم في واد، ويسلق خصمه بألسنة حداد، إلى أن تراضيا(9/207)
وتوافقا، وسلكا طريق الرّفق وترافقا، وصدّق الخصم خصمه فتصادقا، وانفصلا وكلّ منهما قد أرضى خدنه «1» ، وعن المحاكمة والمحاققة أغضى جفنه.
آخر: أيّد الله سعد المولى وأبّده، وأثّل مجده ومجّده، وأعانه على إسداء العوارف «2» وعضّده، وأمدّه من المسرّات بما يزيل عن الأيّام أبده «3» ، وأناله سعدا لا تبلغ الأنام أمده، ولا زال برد جدّه من السعادة جديدا، ونجم عدوّه آفلا ونجمه سعيدا.
الذي نحيط به علمه الكريم أنّ كتابه ورد فسرّى همّ الأنفس وسرّها، وضاعف بما ضاع من نشره بشرها، وفاح منه شذا عند إقباله، فقيل: قد هبّت القبول، ورنّح الأولياء، فقيل: قد هبّت ريح الشّمال وأديرت الرّاح الشّمول «4» وأنّ المملوك وقف منه على ألفاظ سقته كؤوس سرور لا كؤوس مدام، وروت له أخبار حلم لو أسندت إلى سواه لتوهّمت أضغاث أحلام، وروّت أكبادا أضرّ بها لغيبته حرّ ظمإ وأوام «5» ، وبيّنت سحر البيان، وأعربت بلسان حسنها عمّا لمنشيها بل موشّيها من الإحسان، وأغربت في الفصاحة فخلنا كلّ كلمة تنطق عن سحبان بلسان، وزهت بيانع ثمار فضلها فنزّهت كلّ عين في بستان، وعلم إشارة المولى في معنى فلان، وما أبداه من العناية في حقّه، والإيثار لصلة رزقه، وأنه من الألزام «6» ، والذين تجب معاملتهم بالإكرام والاحترام التام، وعند ما شاهد(9/208)
المملوك كتاب من شرّفه، وسمع ألفاظه الّتي بلطفها أتحفه، بل بردائها على البرد ألحفه، تقدّم بإجابة سؤاله، وترتيبه في جهة تليق بأمثاله، وقمّصه من العناية قميصا لا يبلى، وجمع لخاطره والدّعة شملا، وهذا حسب إشارة المولى الّتي لا تخالف، وأمره الذي يقف كلّ أحد عنده ولا يستوقف ولا يواقف «1» .
كتاب إلى مريض بالسؤال عنه من كلام المتأخرين (مجزوء الكامل) .
حاشى مزاجك من أذى ... وكريم جسمك من وصب «2»
يا غاية المأمول و ... المرجوّ، يا كلّ الطّلب
مذ غبت عنّي لم أزل ... من بعد بعدك في نصب «3»
جفني غريق بالدّموع ... وماء صبري قد نضب
والله ما لي في البقاء ... وأنت ناء من أرب
فترى «4» أبشّر سيّدي ... أنّ اللّقاء قد اقترب؟
حرس الله مزاج المولى! وأصار العافية له شعارا، والصّحّة له دثارا، ولا زالت ساكنة في جوانحه، مقيمة حشو أعضائه المباركة وجوارحه.
أصدرها المملوك تعرب عن شوق يكلّ عن وصفه اللّسان، وتوق لا يحسن وصفه البنان، ولا عج يعجز عن حمل بعضه الجنان، ملتمسا المواصلة بأخباره، وواصفا ما يجده القلب من ألم الشوق وناره، وشاكيا من جور أيّام الفراق، وراجيا أن يبشّر بالإبلال من مرضه والإفراق، وداعيا إلى الله بتعجيل أيّام التّلاق. ومع ذلك فلو رمت أن أشرح كلّ ما أجده من الصّبابة لأسأمت(9/209)
وأسهبت، بل لو ذكرت ما أعانيه لألمه لثقّلت على خاطره وشوّشت «1» ، لكن خاطر المولى شاهد بوجدي، وعارف بما تحمّلته من الكآبة الّتي لم يحملها أحد قبلي ولا تحمل بعدي، فيواصل بأخباره، والله يحرسه آناء ليله وأطراف نهاره، إن شاء الله تعالى.
في معناه (كامل) .
يا من شكا فشكا فؤادي حرقة ... لا تنطفي وصبابة لا تبرح
وغدا سقيم الجسم يوما واحدا ... فنزحت دمعا للمدامع يجرح
وازداد شوقي نحو طلعته الّتي ... أبدا بيمن بهائها أستنجح
لا زلت في عزّ وسعد دائم ... أيّامنا ببقائه تتبجّج
وبقيت ما بقي الزّمان مؤيّدا ... تمسي قرير العين فيه وتصبح
كمّل الله عافية المولى وحرسه، ولا سلبه ثوب الصّحّة بل قمّصه إيّاه وألبسه، وأخدمه الأيّام فلا تستطيع مخالفة أمره ولا الخروج عن حكمه، ورزقه أن يملك الدّنيا بحذافيرها وهذا يحصل بعافية جسمه.
المملوك ينهي أنه اتّصل به تألّمه فشقّ ذلك عليه، ووصل من القلق إلى حدّ لم يصل المولى والحمد لله إليه، وابتهل إلى الله في معافاة جسده، وأن يعضّده ببقاء والده وولده، ويضاعف تسهيل مآربه ومقاصده، ويرفع كلمته وقدره على رغم معطس شانيه الأبتر وحاسده، إن شاء الله تعالى.
جواب إلى من قنطره «2» فرسه:(9/210)
ثبّت الله قواعد مجده، وبلّغه سعدا لا تبلغه الآمال لبعده، وأهمى على محبّيه سحائب جوده ورفده.
المملوك يخدم بتحيّة أرقّ من النّسيم، ويشكر مواهبه الّتي ما زالت تحنو عليه حنوّ المرضعات على الفطيم.
وينهي ورود الخبر بأنه كبا به جواده عندما زلّت قوائمه، وأثقلته فضائل المولى ومكارمه، فانزعج لذلك وتألّم، وكاد قلبه لولا المبشّر بسلامته أن يتكلّم، وجواد المولى لا سبيل إلى ذمّه، فإنه أسمح جواد، ولا اتّهامه بالعجز، فإنّه عرف بإتهام وإنجاد (بسيط) .
لكنّه نظر الأفلاك ساجدة ... إلى علاك فلم تثبت قوائمه
والمولى أولى من قابل عذر طرفه بطرف القبول، واعتمد عليه دون سائر الخيول، فإنّ المولى ولله الحمد في صحة دائمة، وسلامة ملازمة، وهذا هو القصد والمراد، والاستبشار الذي تفترّ له ثغور الثّغور وتعمر به البلاد، جعله الله في سعد ما له فراغ ولا نفاد، ورزقه ما دعا به العماد الفاضل والفاضل العماد، إن شاء الله تعالى.
أجوبة كتب العيادة قال في «موادّ البيان» : يجب أن تبنى هذه الأجوبة على وصول الرّقعة، وما صادفت المريض عليه من المرض، وأنها أهدت روح الهدوء، وأركدت رياح السّوء، وأقبلت بنسيم الإبلال، وتضوّعت بأرج الاستقلال، وبشّرت بالعافية والسّلامة، وآذنت بالصّلاح والاستقامة، وأشباه هذا.(9/211)
ابن نباتة «1» المصري:
شكر الله افتقادها وأنسها، وقلمها وطرسها، وحمى من عارض الخطب لا من عارض الخصب شمسها، ولا أعدم الأولياء قصدها الجميل، وودّها الجليل، وإحسان رسائلها الّتي كرمت فما صوب الغمام لها رسيل، وأمتع الممالك بيمنها الّتي صحّت بتدبيره فليس غير النّسيم عليل.
وينهي ورود المشرّف الكريم فتلقّاه المملوك حبيبا واردا، وطبيبا بإحسانه وللجسد عائدا، وفهم المملوك ما انطوى عليه من الصّدقات الّتي ما زالت في فهمه، والمحبة الصادقة الّتي ما عزبت عن علمه، وما تضمّن من فصول كانت أنفع من فصول أبقراط «2» لمعالجة جسمه، وأين أبقراط من بركات كتاب مولانا الذي طالع منه كتاب الشّفاء على الحقيقة، والنّجاة من عروة البأس الوثيقة؟
وأدنى ورقته الحمراء لرأسه تبرّكا وإكراما وقال: نعم الجلّنارة المعوّذة من الشّقيقة، واستطبّ حروفها فإنها عن أيدي الكريم والكرامات، ولثم العلامة وتمسّك بالسّطور فإنها من أسباب الصّحّة والعلامات؟ ووافقت عيادة مولانا مبادي العافية وآذنت بالزّيادة، وصلح خطّه الكريم عائدا وما كلّ خطّ يصلح للعيادة، وما تلك الجارحة المتألّمة إلّا يد أثقلتها منن مولانا فأعيت وتألّمت، ثم أعانتها بركته هي والقدم بالحمل العظيم وتقدّمت، وما بقيّة الجوارح إلّا عيون كانت تنتظر لطف الله تعالى وبركته وقد قدمت، فشكرا لها من بركات تنعم بها قبل الجسوم أرواحها، وأدوية قلبيّة تعالج بها ذوات النّفوس فكيف أشباحها، لا برح جوهر كلمات مولانا يؤذن بالشّفاء من العرض، وسهام أقلامه إذا كتبت عائدة أو جائدة أصابت الغرض وفوق الغرض.(9/212)
وله: تقبّل الله منه وفيه صالح الأدعية، وملأ بمحاسن ذكره وبرّه الآفاق والأندية، وشكر هباته وبركاته الّتي تنزل بعارض الغيث قبل الاستمطار وترفع عارض الألم قبل الأدوية، تقبيل معترف بسابق النّعم، مقيم على صحّة العبودية والولاء في حالتي الصّحّة والسّقم.
وينهي ورود مشرّف مولانا الكريم على يد فلان عائدا من جهة العيادة، وعائدا من جهة الصّلات المعتادة، ومفتقدا لا عدم الأولياء في الشّدّة والرّخاء افتقاده، ما كان إلّا ريثما نشق العليل نسماته الصحيحة، وتناول كأس ألفاظه الصّريحة، وإذا بقانون المزاج قد همّ باعتداله، وكتاب الشفاء والنجاة قد تسنّت فوائد إقباله، فتميّز حال الصحّة من المرض، واستعمل جوهر الألفاظ فعزم على زواله العرض، وبلّغ الولد فلان المشافهة وكلّ مقاصد مولانا مبتدأة مبتدعة، والمملوك «1» جوابها وكلّ أجوبته منوّلة منوّعة، شكر الله عوارف مولانا المتّصلة، ورسل افتقاده الّتي منها العائد ومنها الصّلة.
وله في جواب كتاب عيادة وارد في يوم عيد على يد من اسمه جمال الدين محمود:
شكر الله مننها الّتي إذا أبدت أعادت، وإذا جادت أجادت، وإذا كرّرت الافتقاد حلا، وإذا تصدّت لمودّات القلوب صادت، تقبيل مخلص في ولائه وابتهاله، مقيم على صحة العهد والحمد في صحّته واعتلاله.
وينهي ورود مشرّفة مولانا الكريمة على يد الولد جمال الدين محمود متفقّدا على العادة، مكرّرا لعيادة الإحسان وإحسان العيادة، فقابل المملوك بالحمد واردها، وبعوائد الاعتداد عائدها، وفهم ما تضمّنته من تألّم قلب المالك على ضعف المملوك وقلق خاطره على بدن كبيت «2» العروض منهوك، وأنه كان(9/213)
ابتدأ ضعف المملوك فتألّم، ثم تلا خبر الصحة فتلا، ولكنّ الله سلّم، ثم بلغه أنّ آلاما تراجعت، وموادّ واصلت بعد ما قاطعت، فحملته خواطر الإشفاق عليّ على تكرير العيادة، وارتقاب فعلات الشفاء المستجاده، جاريا من إحسانه وافتقاده على أجمل معهود، باعثا مشرّفته وحاملها وكلاهما حسن الحال محمود، فعندما وصلا أوصلا كمال العافية، وحقّقت أخيلة البرء الشافية، وما كان المشكوّ إلّا مادّة يسيرة وزالت، وبقيّة ضعف تولّت بحمد الله وبركة مولانا وما توالت، وما عيّد المملوك إلّا وشفاء الجسد في ازدياد، والنفس بالوقت وبالمشرّفة في عيدين قائمين بأعياد، لا زالت منن مولانا إزاء اللّحظ حيث دار، وودّه وحماه جامعين فضل الجار والدّار.
زهر الربيع:
لا زال محروس الشّيم، هاطلة سحائبه بالدّيم، مشكورا بلساني الإنسان والقلم.
المملوك يقبّل يده الشريفة مؤدّيا للواجب، ويواصل بدعاء صالح أصاره إنعامه ضربة لازب.
وينهي إلى كريم علمه ورود مشرّفه الذين أبهج الأنفس وضاعف الصّبابة، وأفنى الصبر عن محيّاه وإن كان ما أفناه أيسر صبابة، وأنّه علم منه إنعامه وتشوّفه إلى المملوك وإلى سماع أخباره، وما أبداه من شفقة ألفت من إحسانه وعرفت من كريم نجاره، وتحقّقت من شيمه على من ينأى عن بابه العالي وداره، فالله يحرس هذه الأخلاق الّتي هي أرقّ من الماء الزّلال، والشمائل الّتي تفعل بلطفها فعل الجريال «1» ، والمملوك فو الله لا يحصي شوقه إلى الخدمة العالية ولا يحصره، ولا يقدر على وصف ما يسرّه من الأتواق ويظهره، إنما الاعتماد في ذلك على شاهدي عدل من خاطره وقلبه، وهما يغنيان المملوك عن شرح ولائه بألسنة أقلامه ووجوه كتبه، وأما السؤال عن أخبار مزاج المملوك فإنه كان في ألم دائم، وسقم ملازم؛ لشدّة المرض، الذي كان يحتوي على جوهر جسمه(9/214)
والعرض، فمذ ورد كتاب المولى انتعشت قوّته، واشتدّت منّته، وصدقت في طلب تناول الغذاء شهوته، وترجّى الشفاء بعد أن كان على شفا التّلف، وكان له كالطبيب الآسي في إزالة مرض الأسا والأسف. وقد حصلت للمملوك مسرّتان بكتاب المولى وعافيته، وفرحتان بما أهداه إليه من عفو إنعامه ومحو أثر الألم وتعفيته، وكلّ ذلك بسعادته.
ومنه: ورد المشرّف العالي لا زال قدر مرسله شريفا، وشرفه الباذخ يجعل كلّ شريف مشروفا، وسحائب جوده تهدي إلى الأولياء من مكارمه تليدا وطريفا، وقواضبه تردّ [طرف] حوادث الأيّام عنه مطروفا، وأياديه تبعث لمحبيه تحفا، وهيبته تهدي إلى الأعداء خوفا، والدهر بخدمة جنابه العالي مشغوفا، فوقف عليه وقوف مشتاق إلى مسطّره، متنزّه في ربيع ألفاظه وحسن أسطره، وعرف منه إحسانا ما فتيء يعرفه، وتفضّلا ما زال المولى بمثله يتحفه، وما أشار إليه من شدّة إيثاره، لرؤية المملوك وسماع أخباره، والذي ينهيه أنّ جسده كان قد تضاعف ضعفه، حتّى أتعب الألسنة وصفه، فلما وقف من مشرّف المولى على خطّ هو الوشي المنمنم، وألفاظ هي الرّحيق المختّم بل الدّرّ المنظّم، وسحر هو محلّل وكلّ سحر محرّم، أبلّ المملوك وبردت غلّته، وبرأت علّته، وكان كمن استوفى نصيبه من النّصب، وأخذ قسمه من السّقم والوصب «1» ، فسقاه مشرّفه الصحة في كاس، وأفاض عليه من العافية أفخر لباس.
آخر (كامل) .
ورد الكتاب فعمّت الأفراح ... وأضاء في ليل الأسا الإصباح
وافترّ ثغر للزّمان بفرحة ... وللفظه طربت ربّى وبطاح
وتضوّعت أرواح طيب عرفها ... تحيا به الأجسام والأرواح
وسقى سلاف فصاحة وبلاغة ... ما المسك عند شميمها ما الرّاح
شكر الله مننه، وأخدمه زمنه، ومنحه من العيش أغضّه وأحسنه، وشرّف(9/215)
ببقائه الدهر وشنّف بمدحه أذنه.
المملوك ينهي إلى علمه وصول مشرّفه الذي تنزهّت الأعين في حسن منظره، ويانع ثمار لفظه البديع ووشي أسطره، وأنه استنشق من ريحه أطيب نفحة، وتقمّص منه ثوبي دعة وصحّة، فشفى داء شفّ منه جسمه، وزاد لوروده سروره وزال همّه، وعلم إنعام المولى الذي لا يشكّ فيه، وإحسانه الذي لا يحصره لسان مادح ولا يحصيه، وما ذكره من الألم الملمّ به واشتغال خاطره الكريم لما ألمّ بجسمه، والمرض بسعادة المولى قد بقي منه قلّه، وتقلّص بعدما امتدّ ظلّه، والعافية تتكمّل إن شاء الله تعالى برؤية محيّاه الكريم ومشاهدته، والمثول بين يديه العاليتين في خدمته.
النوع الخامس عشر (في الذّمّ)
ذمّ بخيل لأحمد «1» بن يوسف:
كأنّ البخل والشّؤم صارا معا في سهمه، وكانا قبل ذلك في قسمه، فحازهما بالوراثة، واستحقّ ما استملك منهما بالشّفعة، وأشهد على حيازتهما أهل الدّين والأمانة، حتّى خلصا له من كلّ مانع، وسلما له من تبعة كلّ منازع، فهو لا يصيب إلّا مخطيا، ولا يحسن إلّا ناسيا، ولا ينفق إلّا كارها، ولا ينصف إلّا صاغرا.
وفي مثله: وصل كتابك فرأيناك قد حلّيته بزخارف أوصافك، وأخليته من حقائق إنصافك، وأكثرت فيه الدّعاوى على خصمك، من غير برهان أتيت به على دعواك وزعمك.(9/216)
ومنه: ولو أراد غير ذلك من الأخلاق السّنيّة، الشريفة الهنيّة، لاستوحش في سبلها، ووقع في مضّة منها، ولن يجد من سلفه ولا نفسه دليلا عليها، ولا هاديا إليها.
ومنه: لأبي العيناء «1» :
أما بعد، فلا أعلم للمعروف طريقا أحذر ولا أوعر من طريقه إليك، ولا مستودعا أقلّ زكاء ولا أبعد ثمرة خير من مكانه عندك، لأنه يحصل منك في حسب دنيّ، ولسان بذيّ، ونسب قصيّ، وجهل قد ملك طباعك، فالمعروف لديك ضائع، والشّكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف [أن] تحرزه، وفي وليّه أن تكفر به.
ومنه: لمحمد»
بن الليث:
بكم علن الظّلم، وظهرت البدع، واندفن الحقّ، وعزّ الفاجر، وظهر الكافر، وفشت الآثام، ونقضت الأحكام، واتّخذ عباد الله خولا، وأمواله دولا، ودينه دخلا.
ومنه: لأبي عليّ «3» البصير:
عدوّك منعزل عنك، وصديقك على وجل منك، إن شاهدته عاقّك، وإن غبت عنه حاقّك، تسأله فوق الطاقة، وترهقه عند الفاقة، وإن اعتذر إليك لم تعذره، وإن استنصرك لم تنصره، وإن أنعم عليك لم تشكره، ولا يزيدك السّنّ إلّا نقصا، ولا يفيدك الغنى إلّا حرصا، تسمو إلى الكبير، بقدر الصغير، وتشفّ للتّطفيف لا للتخفيف، تعترض الناس بالسّؤال، غير محتشم من الإملال، ولا(9/217)
كاره لأن ينظر إليك بعين الاستقلال، حتّى لقد أخرجت الأضغان، وقبّحت الإحسان، وزهّدت في اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، والناس منك بين أسرار تفشى، وبوائق تخشى، وشناعات واردة، ونوادر باردة. ودّك تخلّق، وشكرك تملّق.
ومنه: لسعيد «1» بن حميد:
رجل يعنف بالنّعم عنف من قد ساءته بمجاورتها، ويستخفّ بحقّها استخفاف من لا يخفّ عليه محملها، ويقصّر في شكرها تقصير من لا يعلم أنّ الشكر يرتبطها، ومن كانت هذه حاله في اختياره لنفسه، فكيف أرجو حسن اختياره لي؟ ومن كان في مدّة من ابتلاء الله بعيدة ما بين الطّرفين لا أدري أينفذ بي الأجل إلى أقصاها؟ أم يقصّر بي في أدناها؟ فكيف يتّسع الصدر للصبر عليه؟ إنّ الله لا يخاف الفوت فهو يمهله، وإنه إن مات لم يخرج من سلطان الله جلّ وعزّ إلى سلطان غيره فيعاجله، وأنا على خوف من إعجال المدى عن بلوغ [مناي فأذهب] «2» حرجا صدري، وعلى ثقة من الشّغل في الآخرة بنفسي عن التّشفّي من أهل عدواتي وترتي «3» ، وأحمد الله على المحنة، وأسأله تعجيل روح النّعمة، وفسحة العافية.
النوع السادس عشر (في الأخبار)
قال في «موادّ البيان» : كتب الأخبار وإن كانت من الكتب الكثيرة الدّوران في الاستعمال فليست مما يمكن تمثيله، ولا حصر المعاني الوامقة «4»(9/218)
فيه برسوم تشتمل عليها، نعم ولا أن نقدّم له مقدّمة تكون توطئة لما بعدها، كما يجري الأمر في سائر فنون المكاتبات الأخر الّتي لا تخلو من مقدّمات تحلّ منها محلّ الأساس من البنيان، والرأس من الجثمان، لكن المقدّمات الّتي توضع في الكتب من شرطها أن تكون مشتقّة من نفس معنى الكتاب، ومنهي الخبر لا يمكنه أن يستنبط من كل خبر ينهيه مقدّمة تكون باسطا له، وإنما يقول: كتبت من موضع كذا يوم كذا، والذي أنهيه كذا، بل الذي يلزمه أن يتحدّاه بطاقته، ويتحرّاه بجهده، أن يبيّن ما يطالع به من الأخبار، ويكشفه ويوضّحه ويفصح عنه، ولا يقف منه إلّا عند الشفاء والإقناع لتتقرّر صورته في نفس من ينهيه إليه، اللهم إلّا أن يكون الخبر مما يوجب الأدب العدول عن لفظه الخاصّ به، والإخبار عنه بألفاظ تؤدّي معناه، ولا يهجم على المخبر بما يسوء سماعه، كأن يكون خبرا يرفعه إلى سلطان «1» عن عبد له قد أطلق فيه ما يضع منه ويسقط مهابته، أو نحو من ذلك مما يثقل على السلطان المنغص منه، فإنه ينبغي أن يعدل في هذا وأمثاله عن التصريح إلى التعريض، ومن التصحيح إلى التّمريض، وعن المكاشفة إلى التّورية، وأن يأتي بألفاظ تدلّ على معاني ما يروم إبداءه، ويحرص [على] صورة منزلة السلطان وتوقيره عن قرع سمعه بما يكرهه ولا تجوز مقابلته به، وأن يقصد إلى استعمال الإيجاز والإطناب في المواضع الّتي تحتمل كلّا منهما، فهذا ما يمكن أن يتعرّف من رسوم هذا الباب.
قال: ومن نفذ فهمه وخاطره في الصناعة وتدرّب فيها، يكتفي بهذه اللّمعة.
ولا يحتاج إلى زيادة عليها.
في الإخبار بوقوع مطر وسيل من ترسّل أبي الحسين «2» بن سعد:(9/219)
فالماء منه يفيض على العمران، بعد أن ضاقت به المغايص والغدران، فأتى على كثير من التّلال والرّوابي، فضلا عن الرّساتيق «1» والقرى، وصار الوادي على اتّساع عرضه، وامتداد طوله، وسعة مصبّه، وفسحة مغيضه، لا يفي بهضمه، ولا يقوم بحمله، ففاض منه ما عطّل العمران ونسق الدّور ومحق الزّروع، فعظم به البلاء، وكثر له الجلاء، وشمل الفساد، وعظم الخراب.
صدر كتاب بإخبار عن الخليفة:
كتبت، ومولانا أمير المؤمنين في توطّد من خلافته، وتمهّد من دولته، وعلوّ من رأيه، ونفاذ من كلمته، وعزّ من سلطانه، وارتفاع من شانه، ونعم سابغة عليه وعلى أهل طاعته، قالصة عن أعدائه وأهل مخالفته، واستقامة من أطرافه وثغوره، واستتباب من أحواله وأموره، الحمد لله على إحسانه حمدا لا يقف دون رضاه، ولا يحيط بمقداره سواه.
صدر بإخبار عن الوزير:
كتبت، وحضرة الوزارة السامية في نعم مخصبة الأكناف، بعيدة الأطراف، سادرة الويل، ساحبة الذّيل، وما أنظر فيه من أمر دولته منتظم، وأراعيه من أحوال رعيّته ملتئم، وقد وطّأ الله له أوعار السّياسة والتّدبير، ووقفه على جوادّ المصلحة في التقديم والتأخير، والحمد لله حمدا يستقلّ بحقّه فيقضيه، وبواجبه فيؤدّيه، وينتهي إليه عزّ سلطانه فيرضيه.
صدر بإخبار عن أمير:
كتبت، والأمير في علوّ من سلطانه، وارتفاع من شانه، وظفر يواكب ألويته، ونصر يصاحب دولته، ووافى عليّ من ظلّه، وشملني من فضله، ما سبغ لباسه، وطابت أغراسه، والحمد لله اعترافا بنعمته، حمدا يوجب شمول منّته،(9/220)
ويستدعي الشكر عليها، ويقضي بمزيد منها.
صدر بأخبار عن عافية المكتوب عنه:
كتبت، وأنا صالح الحال، وقد منّ الله تعالى بالعافية والإنعاش، والإقالة والا «1» اش، وأعاد إليّ الصحة بعد نبوها وذهابها، والسلامة بعد نجعها وإغرابها، وأسبل النّعمة بعد الإنذار، والتحذير من الاغترار، ممحّصّا بما ألمّ من الآلام عصب الأيّام، والحمد لله أولى ما تليت به النّعم، وطرّز به المفتتح والمختتم، حمدا يؤمّن من التغيير والتبديل، ويعيذ من الانتقال والتّحويل.
أبن أبي «2» الخصال، في الإخبار عن زلزلة عظيمة وقعت بمدينة قرطبة «3» من الأندلس.
الشيخ الأجلّ، الوليّ الأكرم الأفضل، أبو فلان، الذي أطرفه الله تعالى بعجائب الأخبار، وأذهب به في مسلك الاتّعاظ ومنهج الادّكار، أبقاه الله آخذا في سنن الانزعاج ونهج الازدجار. المخلص له المحض الناصع من الولاء، ومعرفة غريب الآثار وعجيب الأنباء، فلان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمّا بعد حمد الله الذي جعل عبره أنواعا متلوّنة وصنوفا، وأرسل الآيات وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً
«4» . والصلاة على سيدنا محمد المصطفى(9/221)
صلاة طيّبة تعبق تأريجا وتضوع تعريفا، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الذين حضروا حروبا وشهدوا زحوفا، والدعاء لسيدنا الإمام أمير المؤمنين في نصر عزيز يؤنّس مذعورا ويؤمّن مخوفا، فإني كتبته- كتب الله لكم دعة حافظة وأمانا، وتصديقا بآيات الله البيّنة وبرهانا- من موضع كذا، عند ما طرأ علينا ما كحل العيون بقذاها، ومنعها لذيذ كراها، وأخفق الضّلوع الحانية وأقلق مصارين حشاها، وهو أنّ الله، عزّ وجلّ، ذكّر عباده إن نفعت الذّكرى، ونبّههم إن تنبّهوا ولم يأمنوا منه كيدا مبيرا ولا مكرا، وذلك بزلزال قضى به على قرطبة وبعض أعمالها، وملأ نفوس ساكنيها من روعاتها وأوجالها، وحالت لذلك في الخوف «1» والارتفاع أقبح حالها، حتّى نحوا إلى الاستكانة والضّراعة، وأطاع الله من لم يكن له قبل ذلك طاعة، وخشوا بل كانوا يوقنون أنّها زلزلة الساعة. وكان من عظيم آثارها، وكريه إيرادها وإصدارها انهدام القبّة العظمى في المسجد الجامع صانه الله، وكانت قبّة أسّس على التّقوى بناؤها، وذهب في المشارق والمغارب ذكرها العاطر وثناؤها، وتهدّمت بسبب ذلك الهدم ديار كثيرة، وحدث به حوادث مبيرة. وأما تلوكة من أعمالها، وكان فيها مبنى من مباني الرّوم، فإنه غادرها قاعا صفصفا، وقرا نفنفا، واضطرّ ذلك الخطب الفادح، والرّيح القادح، إلى أن خرج السيّد أبو إسحاق وكافّة أهل قرطبة من ديارهم، وفرّوا من الموت بأقواتهم وأصحابهم، ثم إنّ الله عزّ وجلّ تدارك بالرّحمى، وكشف تلك الغمّى، جعل الله ذلك صقلا لقلوبنا، وتوبة عما سبق من ذنوبنا، وعصمنا من جرمنا الموبق وحوبنا «2» وأولانا وإيّاكم أمنا من الغير، وازدجارا بما ظهر من العبر، وجعل كلانا «3» جميل الحوادث طيّب الخبر، بمنّه، والسّلام الطيب المبارك ورحمة الله وبركاته.(9/222)
من كلام المتأخرين في الإخبار بقدوم نائب إلى نيابة.
من ذلك نسخة كتاب عن نائب الشام إلى كافل الممالك الإسلامية مخبرا له بوصوله إلى دمشق، من إنشاء الشيخ جمال الدين «1» بن نباتة، وهو بعد الألقاب:
لا زالت آفاق الممالك مضيّة بأنوار شمسه، هنيّة بأنس سعادته وسعادة أنسه، سنيّة المقاصد الّتي قام في كفالتها بنفاسة نفسه، ولا برح يستثمر من خير الدّنيا والآخرة ما قدّم صنعه الجميل من غرسه، تقبيلا يشافه به القلم القرطاس، ويودّ المملوك لو شافه به الخدم ساعيا سعي القلم على الرّاس. وينهي قيامه بوظائف دعاء ينير الحلك، وولاء يدور بكواكب الإخلاص إدارة الفلك، وحمد تذهب به صفحات الصّحف حيث ذهب وتسلك عقود الأفلاك حيث سلك، وأنّه خدم بهذه العبوديّة عند وروده إلى دمشق المحروسة لنيابة كانت عناية مولانا سفيرة أمرها، ومميّزة برّها، يوم كذا، وسعادة مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- تعلّمه وتعلمه، والغيث ببركات الدولة القاهرة يسايره ويقدمه، وثغر المطر يسابق ثغر المملوك إلى مشافهة الثّرى ويلثمه، والرعيّة منه آمنة في سربها، وادعة بظلال الأبواب الشريفة مع بعدها دعة الصّوارم في قربها، وباكر المملوك يوم الاثنين الذي بورك فيه، في الخميسين من يوم وجيش، وانتصب لمهمّات على مثلها في الخدمة يطيب أن يرفغ لين العيش، مجتهدا فيما هو بصدده، مستمدّا من ربّه، عزّ وجلّ، وسعادة سلطانه برشده، معتدّا نعم مولانا فيما يأتي [في] ذلك من أوفى وأوفر عدده ومدده، والله تعالى يعين المملوك على شكر منن مولانا الباطنة والظاهرة، والغائبة والحاضرة، والمقيمة والمسافرة، ويصل نفع المملوك بولائه في الدنيا والآخرة، ويقيم الرّعايا بالأمن من كفالته الّتي ما(9/223)
برحت بعيون الأعداء فإذا هم بالسّاهرة.
الأجوبة عن كتب الأخبار قال في «موادّ «1» البيان» : الأخبار على أكثر الأحوال لا أجوبة لها، وإنما هي مطالعات بأمور ينهيها الخدّام، وأصحاب البرد إلى السلاطين، مما تخرج أوامرهم إلى الولاة «2» بما تضمّنته، مما يقتضيه كلّ خبر ينهى من سياسة عامّة، أو مصلحة تامّة، قال: فأما ما يستعمله الإخوان في المكاتبة بالأخبار الّتي يكل بعضهم إلى بعض الإخبار بها، فمنها ما يقتضي الجواب، ومنها ما لا يقتضيه.
قال: وأجوبة ما يقتضي الجواب منها تفتنّ بحسب افتنان الأخبار والأغراض الّتي يجيب المجيب بها، وهو أيضا مما لا يعبّر عنه بقول جامع ولا برسم رسم كلّيّ، وإنما يرجع فيه إلى الأمور الّتي يبتدأ بها ويجاب عنها.
النوع السابع عشر (المداعبة)
قال في «موادّ البيان» : ومعاني المداعبات الّتي يستعملها الإخوان غير متناهية، والأغراض الّتي ينتظمها المزاح وتعدّ من طلاقة النفس لا تقف عند قاصية؛ لأنها مستملاة من أحوال متباينة، ومأخوذة من أمور غير معينة، وحصرها في رسوم جامعة يستحيل، وتمثيلها غير مفيد؛ لأنه لا تعلّق لبعضها ببعض، ولا نسبة بين الواحد والآخر، ثم قال: والأحسن بأهل الوداد والصّفاء، والأليق بذوي المخالصة والوفاء، أن يتنزّهوا في المداعبة الدائرة بينهم عن بذيء اللفظ ومفحشه، ومؤلم الخطاب ومقذعه، ويكفّوا اللسان واليد عن الانطلاق بما يدل(9/224)
على خفّة الأحلام، والرّضا بالرّذل من الكلام اللائق بسفهاء العوامّ، ويتحرّجوا من إرسال قول يبقى وصمة على [مدى الأيّام] إذ لا فرق بين جرح اللّسان وجرح اليد، وقد نطق بها المثل؛ لما في ذلك من الترفّع عن دنايا الأمور الّتي لا يتنازل إليها الكرماء، والتنزّه عن المساقط الّتي لا يستعملها الأدباء، وصيانة المروءة عما يشينها ويخدشها، وتوقيرها عما ينقصها، والأمن من الجواب الذي ربّما قدح في النفس وأثّر، وأحمى الصدر وأوغر، ونقل عن التّوادد إلى التّضادد، وعن التّداني إلى التّباعد، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه بقوله من أبياته المنسوبة إليه (متقارب) .
فربّ كلام يمضّ الحشا ... وفيه من الضّحك ما يستطاب
مع مراعاة السلامة من المداخلة المنطوية على الغلّ، والمراآة المبنيّة على المكر، إذا لم يكن للمقابلة على الابتداء الممضّ بالجواب المريض، وغير ذلك مما لا تؤمن عاقبته، ولا تحسن عائدته. قال: ويكون المستعمل في هذا الفنّ ما خفّ موقعه، ولطف موضعه، وهشّ له سامعه، وتلقّاه الوارد عليه مستحليا لثماره، مستدعيا لأنظاره، ولا يعدل به عن سمت الصّدق، وطريق الحقّ، ومذهب التحرّز من المذق «1» ، ويقتصر فيه على النادرة المستطرفة، والنّكتة المستظرفة، واللّمعة المستحسنة، والفقرة المستغربة، دون الإطالة المملّة، ولا يجعل المزح غالبا على الكلام، مداخلا لجميع الأقسام، فإنّ ذلك يفسد معاني المكاتبة، ويحيل نظام المخاطبة، ويضع من معناها وإن كان شريفا، ويوخم لفظها وإن كان لطيفا، ويذهب بجدّها في مذهب الهزل ويميله عن القصد؛ وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله (طويل) .
أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة ... بلهو وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما يعطى الطّعام من الملح(9/225)
وأن يقتصد مع ذلك. ثم قال: وينبغي أن يقصد إلى استعمال الدّعابة في المواضع اللائقة بها، والأحوال المشابهة لها، ولا يودع بابا من الأبواب ما لا يحتمله من الخطاب، فإنّ القصد في هذا النّوع من المكاتبات إنما هو الإعراب عن الظّرف والبراعة، والإبانة عن طلاقة النّفس، والانسلاخ من تعبيس الفدامة «1» والجهامة، ثم عقّب ذلك بأن قال: ومن وقف من ذلك عند الحدّ الكافي، ولزم فيه الأدب اللائق بأهل التّصافي، دلّ على ما ذكرناه، وشهد لمستعمله بإحراز ما وصفناه، ومن تعدّى ذلك عدّ من المجون والملاعبة، وحسب من رذالة الطبع ونذالة الخيم وسفه اللسان، وغير ذلك من الأمور الّتي لا تليق بالكاتبين الكرام، الذين هم خيار الأنام، وولاة النقض والإبرام. وختم ذلك بأن قال: والكاتب إذا كان مهيّأ الطبع للانطباع برسوم الصّناعة ومناسبة أوضاعها، أغناه الوقوف على هذا القول المجمل في استعمال ما يقع في هذا الباب عن تمثيل مفصّل، ولم يذكر له مثالا.
ابن أبي الخصال:
سيّدي وواحدي الذي اجمّل ذكره، وأوالي شكره، لا زال مغناك رحيبا، وزمانك خصيبا، ولا زلت تأخذ لأخراك نصيبا، عبدك فلان مؤدّيها ينتجع الكرام، ويباري في جريها الأيّام، فتارة يجمع، وأخرى يفرّق، وطورا يغرّب، وطورا يشرّق، وأمّ الحضرة- وصل الله حراستها وأدام بهجتها ونفاستها- والملك بها غضّ الشّباب، وأخضر الجلباب، وإحسانك إحسانك، ومكانك من المروءة مكانك، فأوسعه قرى، واملأ عينيه على الشّبع كرى، أستغفر الله، بل أمجده تبنا وعلفا، وأركبه حزنا «2» من الأرض ظلفا «3» ، ودونكه لم يقلّب أرضه بيطار، ولا لجناية به جبّار، وجرحه جبار، وعنده كما علمت دعاء مباح، وثناء في الشكر(9/226)
مساء وصباح، والسلام.
من كلام المتأخرين:
كتب بعضهم إلى كمال الدّين بن الأثير، وقد جاء إليه في بستانه فلم يجده ولا وجد من أنصفه:
حضر المملوك البستان، مستدنيا قطوف الإنعام والإحسان، واستمطر سحائب فضله، وهزّ إليه بجذع نخله، فلم تتساقط عليه رطبا جنيّا، فعلم أنه قد جاء شيئا فريّا، فثّبت نفسه مع تصاعد الأنفاس، والطمع ينشده (كامل) .
ما في وقوفك ساعة من باس
«1» فانطلق حتّى أتى القرية مستطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوه، مستعطفا حاشيته الرقيقة فأبوا «2» حاشيته أن يستعطفوه، وقال كلّ منهم: تطالب بالقرى كما تطالب بدينك، ارجع حيث شئت هذا فراق بيني وبينك. وعلم أنه لو أقام بها جدارا لما أعطي عليه أجرا، ولو حاول قرى لسمع من التوبيخ ما لم يستطع عليه صبرا، فرجع بخفّي حنين، بعد مشاقّ جرّعت كاسات الحين، فأين هذه المعاملة مما نشيعه عنه من كريم الخلال؟ وكيف نشكو نقص حظّ وله كمال الإحسان وإحسان الكمال؟
الأجوبة عن رقاع المداعبة قال في «موادّ البيان» : ينبغي للمجيب عن المداعبة أن يشتقّ من نفس الابتداء جوابا مناسبا لها، وأن يبنيه متى أحبّ الأخذ بالفضل على المسامحة، واطّراح المناقشة، والإغضاء عمّا يمضّ إبقاء على المودّة، وتحسينا لقبح الصّديق، وتعوّدا لعادة الحلم والاحتمال، وأن يذهب في الجواب مذهب الاختصار، وإيراد النّكت الرائعة كما في الابتداء، على ما تقدّم.(9/227)
الفصل الثامن «1» (في إخفاء ما في الكتب من السّرّ)
وهو مما تمسّ الحاجة إليه عند اعتراض معترض من عدوّ ونحوه يحول بين المكتوب عنه والمكتوب إليه، من ملكين أو غيرهما حيث لم تفد الملطّفات «2» لضرر الرّصد وزيادة الفحص عن الكتب الواردة من الجانبين، وهو على نوعين.
النوع الأوّل (ما يتعلّق بالكتابة، وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يتعلّق بالمكتوب به)
وذلك بأن يكتب بشيء لا يظهر في الحال، فإذا وصل إلى المكتوب إليه فعل فيه فعلا مقرّرا بين المتكاتبين من إلقاء شيء على الكتابة، أو مسحه بشيء، أو عرضه على النار ونحو ذلك.
وقد ذكروا لذلك طرقا:(9/228)
منها- أن يكتب في الورق بلبن حليب قد خلط به نوشادر فإنه لا ترى فيه صورة الكتابة، فإذا قرّب من النار ظهرت الكتابة.
ومنها- أن يكتب في الورق أيضا بماء البصل المعتصر منه فلا ترى الكتابة، فإذا قرّب من النار أيضا ظهرت الكتابة.
ومنها- أنه يكتب فيما أراد من ورق أو غيره بماء قد خلط فيه زاج «1» ، فلا تظهر الكتابة، فإذا مسح بماء قد خلط فيه العفص «2» المدقوق، ظهرت الكتابة.
ومنها- أن يكتب في الورق غير المنشّى بالشّبّ «3» المحلول بماء المطر، ثم يلقيه في الماء أو يمسحه به، فإنه إذا جفّ ظهرت فيه الكتابة.
ومنها- أن يكتب بمرارة السّلحفاة فإنّ الكتابة بها ترى في الليل ولا ترى في النهار.
ومنها- أن تأخذ الليمون الأسود وعروق الحنظل المقلوّة بزيت الزيتون جزءين متساويين وتسحقهما ناعما، ثم تضيف إليهما دهن صفار البيض وتكتب به على جسد من شئت، فإنه ينبت الشّعر مكان الكتابة، وهو من الأسرار العجيبة، فإذا أريد إرسال شخص بكتاب إلى مكان بعيد، فعل به ذلك، فإنه إذا نبت الشّعر قرئت الكتابة.
الضرب الثاني (ما يتعلق بالخطّ المكتوب)
بأن تكون الكتابة بقلم اصطلح عليه المرسل والمرسل إليه لا يعرفه(9/229)
غيرهما ممن لعلّه يقف عليه، ويسمّى التعمية، وأهل زماننا يعبّرون عنه بحلّ المترجم، وفيه نظر؛ فإنّ الترجمة عبارة عن كشف المعمّى، ومنه سمّي المعبّر لغيره عن لغة لا يعرفها بلغة يعرفها بالتّرجمان، وإليه ينحلّ لفظ الحلّ أيضا، إذ المراد من الحلّ إزالة العقد فيصير المراد بحلّ المترجم ترجمة المترجم أو حلّ الحل، ولو عبّر عنه بكشف المعمّى لكان أوفق للغرض المطلوب.
ثم مبنى ذلك على قاعدتين:
القاعدة الأولى- كيفية التعمية.
اعلم أنّ التعمية بالنّسبة إلى كلّ واحد من الناس باعتبار ما يجهله من الخطوط، فيعمّى على العربيّ في اللغة العربيّة بالخطوط غير العربيّة، كالرّوميّة والعبرانيّة ونحوهما، إذا كانت حروف تلك اللغة توافق لغة العرب، أو بقلم مصطلح عليه على وفق حروف العربية، وكذلك يعمّى على غير العربيّ من الرّومي ونحوه ممن يجهل الخطّ العربيّ بالقلم العربيّ، وعلى ذلك.
ثم للناس في التعمية مذهبان:
المذهب الأوّل- أن يكتب بالأقلام القديمة
الّتي ليست بمتداولة بين الناس مما لا يعرفه إلّا الآحاد، إذا وافق ذلك القلم اللغة الّتي تريد الكتابة [بها] .
وقد ذكر ابن الدّريهم «1» أنّ أقلّ اللّغات المغل «2» وهو سبعة عشر حرفا،(9/230)
وأطولها الأرمنيّ، وهو ستة وثلاثون «1» حرفا. ثم قال: والتركيّ عشرون «2» حرفا، وكذلك الفارسيّ إلّا أنّ في الفارسيّ ثلاثة أحرف ليست في التّركيّ، وهي الهاء والفاء والدال. وفي التركيّ ثلاثة ليست في الفارسي، وهي الصاد والطاء المهملتان والقاف، والعبرانيّ والسّريانيّ اثنان وعشرون حرفا [من أوّل أبجد إلى آخر قرشت. واليونانيّ والروميّ القديم أربعة وعشرون حرفا] «3» ولهم قلم آخر ثلاثون حرفا، والقبطيّ اثنان وثلاثون حرفا، وذكر أنّ جميع الأقلام مقطّعة الحروف على اصطلاح أبجد، خلا العربيّ والمغليّ والسّريانيّ فإنّ حروفها توصل وتقطع، وقطع السرياني كالعربي، وأقلام المتقدّمين المقرّرة، كالرّوميّ والفرنجيّ وغيرهما معلومة لا حاجة إلى التمثيل بشيء منها.
المذهب الثاني- أن يصطلح الإنسان مع نفسه على قلم يبتكره وحروف يصوّرها
، وقد ذكر ابن الدّريهم أنّ الناس اختلفت مقاصدهم في ذلك؛ فمنهم من يصطلح على إبدال حرف معيّن بحرف آخر معيّن حيث وقع في القلم المعروف بالقمّي، وهو أنهم جعلوا مكان كلّ حرف من حروف العربية حرفا آخر من حروفها، فجعلوا الكاف ميما وبالعكس، والألف واوا وبالعكس، والدّال المهملة راء مهملة وبالعكس، والسين المهملة عينا مهملة وبالعكس، والفاء ياء مثناة تحتية وبالعكس، فيكتب محمد «كطكر» وعلي «سهف» ومسعود «كعسار» وعلى ذلك، وقد نظم بعضهم ذلك في بيت واحد ذكر فيه كلّ حرف تلو ما يبدل به، وهو (سريع) .
كم أو حط صلا له در سع ... في بز خش غضّ ثج تدفق(9/231)
قال: ومنهم- من يعكس حروف الكلمة فيكتب محمد «دمحم» وعلي «يلع» .
ومنهم- من يبدل الحرف الأوّل من الكلمة بثانيه مطلقا في سائر الكلام فيكتب محمد أخو علي «حمدم خا عويل» إلى غير ذلك من التمييزات.
ومنهم- من يبدل الحروف بأعدادها في الجمّل، فيكتب محمد أربعون، وثمانية، وأربعون، وأربعة، وتعمل التعمية صفة محاسبة.
ومنهم- من يكتب عوض عدد الحرف حروفا وهو أبلغ في التعمية، فيكتب محمد «لي بو لي أج» لأنّ اللام والياء بأربعين وهي عدد ما للميم الأولى، والباء والواو بثمانية وهي عدد ما للحاء، واللام والياء أيضا بأربعين وهي عدد ما للميم الثانية، والألف والجيم بأربعة وهي عدد ما للدال، فكأنه قال:
م ح م د. وإن شاء أتى بغير هذه الحروف مما يتضمن هذه الأعداد.
ومنهم- من يجعل لكلّ حرف اسم رجل أو غيره.
ومنهم- من يضع الحروف على منازل القمر الثمانية والعشرين على ترتيبها على حروف أبجد، فيجعل الألف للشّرطين، والباء للبطين، والجيم للثّريّا، وهكذا إلى آخرها، فيكون بطن الحوت للغين من ضظغ. وربما اصطلح على الترتيب على أسماء البلدان أو الفواكه أو الأشجار أو غير ذلك، أو صور الطير وغيره من الحيوانات، إلى غير ذلك من ضروب التّعامي الّتي لا يأخذها حصر. وأكثر أهل هذا الفنّ على أن يرسم الحروف أشكالا يخترعها قلما له مقطّعة على ترتيب حروف المعجم. والطريق في ذلك أن يثبت حروف المعجم ثم يرتّب تحت كل واحد شكلا لا يماثل الآخر، فكلما جاءه في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع عليه غلط، ثم يفصل بين كلّ كلمتين، إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك، وأكثر المتقدّمين يجعلون الحرف المشدّد بحرفين، والمتأخرون يجعلونه حرفا واحدا، وهذه صور حروف مترجم كان قد وصل إلى الأبواب السلطانية من مناصحين في بغداد يقاس عليه.(9/232)
؟؟؟؟ القاعدة الثانية- حلّ المعمّى، وهو مقصود الباب ونتيجته
. ويحتاج المتصدّي لذلك مع جودة الحدس وذكاء الفطرة أن يعرف اللغة الّتي يروم حلّ مترجمها مما وقع به التعمية فيها، ومقدار عدد حروفها، ولا خفاء في أن حروف العربية ثمانية وعشرون حرفا، ويجب أن يعرف الحروف الّتي تدخل كلّ لغة والحروف الممتنعة الوقوع فيها كما تقدّم.
ثم المعوّل عليه، والمنصبّ القول إليه، فيما هو متعارف في هذه المملكة لغة العرب الّتي [هي] أشرف اللغات وأبذخها.
والناظر في حلّ مترجمها يحتاج إلى أصلين:
الأصل الأوّل- معرفة الأسّ الذي يترتّب عليه الحلّ
، والذي تمسّ إليه الحاجة من ذلك سبعة أمور:
أحدها- أن يعرف مقادير الحروف الّتي تتركّب منها الكلمة.
واعلم أنّ كلام العرب منه ما يبنى على حرف واحد مثل «ق» من الأمر بالوقاية، و «ع» من الأمر بالوعي، ومنه ما يبنى على حرفين من الأفعال مثل «قم» في الأمر بالقيام، و «كل» في الأمر بالأكل، ومن الحروف نحو: من في ربّ هل بل وما أشبه ذلك. ومن الأسماء المبنيّة نحو: ذي، ذا، من، كم، ومن الضمير مع حروف الجرّ نحو: بك، له. ومنه ما يبنى على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة في الحروف والأفعال والأسماء، ثم تدخل فيه أحرف الزيادة العشرة، وهي «هويت السّمان» وثلاثة أحرف أخر، وهي الفاء وباء الجرّ وكاف التشبيه وكاف الخطاب إلى أن تبلغ الكلمة على اصطلاح الكتّاب [أربعة] عشر حرفا، كقولك مخاطبا لرجلين [أنشآ] جنينة: أفلمستنزهاتكما أعددتماها.(9/233)
قال ابن الدّريهم: وليس في كلام العرب كلمة رباعيّة الأصل أو خماسيّة الأصل ليس فيها حرف من الحروف الذّلقيّة «1» كاللام والنون والواو، والشّفوية كالفاء والميم والباء إلّا ما شذّ مثل «عسجد» من أسماء الذّهب.
قال: ونهاية الأسماء العربيّة قبل الزّيادة خمسة، وشذّ (؟) مثل عندليب، والأفعال قبل الزيادة أربعة، وليس في القرآن كلمة خماسيّة الأصل سوى الأسماء الأعجميّة مثل إبراهيم، ولا يمكن أن يتكرر حرف [في] كلمة واحدة أكثر من خمسة كقول القائل ما رأينا [كككا كككككم «2» ] جمع ككّة وهو المركب الكبير مثل عكّة وعكك، وأربع كافات في قولك «3» وككعكك.
الثاني- أن يعرف الحروف الّتي لا يقارب بعضها بعضا بمعنى أنها لا تجتمع في كلمة واحدة.
واعلم أنّ في الأحرف ما لا يقارب بعضه بعضا مطلقا بتقديم ولا تأخير كالثاء المثلّثة، فإنها لا تقارب الذال المعجمة والزاي المعجمة والسين والصاد المهملتين والضاد المعجمة، وكذلك الجيم لا تقارب الطاء المهملة ولا الظاء المعجمة ولا الغين المعجمة ولا القاف ولا الكاف، وما وقع من ذلك في الكلام نحو: نغجة وبرجق وجرموق وجولق وجلاهق ومنجنيق وجوقة وجوسق وضنجق(9/234)
وسنجق «1» وجردق ونحو ذلك فليست عربية؛ لأنه لا يجتمع في كلام العرب جيم وقاف في كلمة واحدة، وكذلك الدال المهملة لا تقارن الظاء المعجمة والذال المعجمة لا تقارن الزاي المعجمة والصاد والضاد والطاء والظاء، وما وقع في الكلام من ذلك فليس بعربيّ، مثل طبرزد فارسيّ والزّطّ نبطيّ، ولا تقارن السين المهملة الصاد المهملة والضاد المعجمة والظاء المعجمة، ولا تقارن الصاد المهملة الضاد المعجمة ولا الظاء المعجمة، ولا تقارن الضاد المعجمة الشين والظاء المعجمتين، ولا تقارن الطاء المهملة الظاء المعجمة، ولا تقارن القاف الغين «2» المعجمة ولا الكاف في كلمة أصلية، وشدّ نغق الغراب وناقة نغيق، ولا تقارن الكاف الخاء المعجمة في كلمة أصلية، ولا تقارن الميم الباء الموحّدة والفاء في كلمة أصليّة إلّا في فم وأصله فوه، وأما بمّ لأحد أوتار العود فليس بعربيّ، والحروف الحلقيّة لا يقارن بعضها بعضا خلا الهاء فإنها تعقبها زائدة، كهاء الضمير وهاء التأنيث، وتعقب العين أصلية كالعهد والعهر وعهر، وليس في كلمة أصلية حرفان حلقيّان سوى ما تقدّم من الهاء، وقد تعقب بواسطة كغيهب وعبهر، أما حيهل فمركّبة، ولا يجتمع حرفان من هذه الخمسة؛ وهي الهاء والطاء المهملة (؟) والعين والغين والخاء المعجمة في أوّل كلمة سوى ما ذكر، ولا في أثناء الكلمة إلّا الهاء مع العين كهلع والهاء مع الغين كأهيغ، والخاء مع الغين كأخيغ «3» ، والهاء مع الخاء المعجمة في كلمة واحدة وهي هبيّخة، ولا تجتمع الهاء الأصلية مع الخاء المعجمة، ولا الحاء المهملة(9/235)
والعين المهملة إلّا أن تكون مركّبة، مثل: هرقصع (؟) والحيعلة.
الثالث- أن يعرف الحروف الّتي لا تقارن بعض الحروف في الكلمات إلّا قليلا
، كمقارنة السّين المهملة للشّين المعجمة في شسع والشين مع الزاي كشزر والراء مع اللام كورل.
[وأعلم] أنّ الحرف الواحد يتكرر في الكلمة الواحدة كثيرا مثل دهده وتهته ونهنه وحصحص وحبحب وحمحم وجلجل وخلخال وشعشعة وزعزع ودغدغ وبغبغ ونعنع وعسعس وزعازع وغوغاء وضحضاح وخوخ وما أشبه ذلك.
الرابع- أن يعرف ما يجوز تقديمه على غيره من الحروف وما يمتنع،
فالثاء لا تتقدّم الشّين المعجمة، والدال المهملة لا تتقدّم على زاي «1» ولا صاد مهملة ولا طاء مهملة بدليل أنهم لما عرّبوا مهندر، أبدلوا الزاي سينا فقالوا مهندس وهندسة، والذال المعجمة لا تتقدّم الجيم ولا السّين المهملة ولا الشين المعجمة والا العين المهملة، ومن هنا لمّا عرّبوا الفالوذج من الفارسيّ قالوا فالوذق، والشين المعجمة لا تتقدّمها الزاي المعجمة ولا السين المهملة ولا الصاد المهملة، والطاء المهملة لا تتقدّم الكاف في كلمة أصلية، والسين المهملة لا تتقدّم على الدال المهملة إلّا قليلا كسداب «2» ، والذال المعجمة لا تتقدّم على الدال المهملة إلّا قليلا كقولك في الأمر ذد الغنم.
الخامس- أن يعرف ما لا يقع في أوّل الكلمات من الحروف
كالجيم لا تقع بعدها التاء المثناة فوق ولا الصاد المهملة ولا الضاد المعجمة ولا الغين(9/236)
المعجمة، أما الجصّ فمعرّب.
السادس- أن يعرف أنه لا يتكرّر حرف في أوّل كلمة إلّا من هذه العشرة الأحرف
وهي: الكاف واللام والميم والنون والتاء المثناة فوق والألف والباء الموحّدة والواو والقاف والياء المثناة تحت ويجمعها قولك «كلّ من تاب وقي» وأقلّها وقوعا كذلك الياء.
السابع- أن يعرف أكثر الحروف دورانا في اللّغة
، ثم الذي يليه من الحروف في الكثرة إلى أقلّها دورانا.
واعلم أنّ كلام العرب أكثر ما يقع فيه على ما دلّ عليه استقراء القرآن الكريم الألف ثم اللام ثم الميم ثم الياء المثناة تحت ثم الواو ثم النّون ثم الهاء ثم الراء المهملة ثم الفاء ثم القاف ثم الدال المهملة ثم الذال المعجمة ثم اللام ألف ثم الحاء المهملة ثم الجيم ثم الصاد المهملة ثم الخاء المعجمة ثم الشين المعجمة ثم الضاد المعجمة ثم الزاي المعجمة ثم الثاء المثلّثة ثم الطاء المهملة ثم الغين المعجمة ثم الظاء المعجمة، وقد جمع بعضهم أحرف الكثرة في قوله (اليمونة) وبعضهم يجمعها في قوله (اليوم هن) وجمع الحروف المتوسطة في قوله (رعفت بكدس «1» فخج) وجمع أحرف القلّة في قوله (طظغ صخدز قش) .
قال ابن الدّريهم: وقد يقع في لفظ غير القرآن على خلاف ذلك كما يتعمّدون الظم والنثر بغير ألف أو بغير نقط أو بغير عاطل الحروف أو ألفاظ قليلة، وقد يكون الكلام ألفاظا قلائل لا تستوعب الحروف.
الأصل الثاني- كيفية التوصّل بالحدس إلى حلّ المترجم.
قال ابن الدّريهم: إذا أردت حلّ ما ترجم لك، فابدأ أوّلا بعدد الحروف،(9/237)
وكم تكرّر كلّ شكل منها مرة فأثبته أوّلا فأوّلا. قال: وأوّل ما تستخرج الفاصلة إن كان الذي عمّى قد بالغ في التعمية، يعني بإخفاء الفاصلة في ضمن الحروف، وذلك أنك تأخذ حرفا فتظنّ أنّ الفاصلة تكون الثاني فتجريه على ما تقرّر من الكلمات من المقادير على ما تقدّم، فإن وافق وإلّا أخذت الثالث، فإن وافق وإلّا الرابع وهكذا حتّى يصحّ لك انفصال الكلمات، ثم تنظر أكثر الحروف دورانا في الكلام فتقاربه من الترتيب المتقدّم في أكثر الحروف دورانا على ما تقدّم، فإذا رأيت حرفا قد وقع في الكلام أكثر من سائر الحروف فتظنّ أنه الألف، ثم الأكثر وقوعا بعده فتظنّ أنه اللام، ويؤيد صحة ظنك أن اللام يدار في أكثر استعمالاته تابعا للألف، ثم تنظر إن كان في الكلام حرف مفرد فتظن أنه اللام ألف، ثم أوّل ما تلفّق من الكلام الثنائية بتقريب حروفها حتّى يصحّ معك شيء منها فتنظر أشكالها وترقم عليها، وتجري الكلام في الثّلاثيّات حتّى يصحّ معك شيء منها فترقم نظائره، ثم تجري الكلام في الرّباعيّات والخماسيّات على الوزن المتقدّم، وكلّ ما اشتبه فاحتمل احتمالين أو ثلاثة أو أكثر تثبته إلى حين يتعيّن من كلمة أخرى، فما انتظم لك من ذلك فتثبت الباقي عليه، وإذا رأيت حرفا قد تقدّم الألف واللام في أوّل الكلمة فتظن أنه إما باء واحدة وإما فاء وإما كاف غالبا.
قال: وينبغي أن يكتب للمبتديء أوّلا كلّ كلمة على حدتها منفصلة، وأن يكتب له الشّعر دون النثر، فإنّ الوزن يساعده على ظهور بعض الحروف، كهاء التأنيث وتاء التأنيث الساكنة وتاء المتكلّم والساكن الذي لا يمكن أن يكون إلا أحد حروف العلة الدائرة في الكلام وأمثال ذلك، ثم ضرب لذلك مثلا بأنك إذا رأيت هذه الأسطر مكتوبة بهذا القلم.
؟؟؟(9/238)
؟؟؟ قال: فينبغي قبل كلّ شيء أن يبدأ فيرقم تحت كلّ شكل من هذه الأشكال كم تكرر مرّة أوّلا فأوّلا على هذا المثال:
؟؟؟ فيجد قد تكرّر معه هذا الشكل 5 أكثر من كلّ الأشكال بكثير، فيعلم أنّه الألف فيرقم عليه في مواضعه، ثم المكرّر بعده أكثر من باقي الأشكال هذا الشكل فيظنّ أنه اللام ويحقّق ظنّه كونه تابعا للألف في سبعة مواضع من الكلام، ثم ينظر فيجد فيه حرفا واحدا كلمة فيظنّ أنها اللام ألف، ثم يجد الكلمة الثالثة ثنائيّة ثانيها اللام ألف فيمكن أن تكون إحدى هذه: بلا تلا جلا حلا خلا سلا علا غلا فلا كلا هلا ولا، ثم يجد هذا الشكل الذي مع اللام ألف قد ورد مكررا في أوّل كلمة امتنع أن يكون جيما أو حاء أو خاء أو سينا أو عينا أو غينا أو هاء فلم يبق معنا سوى بلا تلا فلا كلا ولا، ثم يجد الكلمة الخامسة ثنائيّة ثانيها ألف فيمكن أن تكون إحدى هذه با جا دا ذا سا شا ضا فا ما نا يا، ثم يترجّح أنها ما أو يا لأن هذا الشكل قد تكرر أكثر من باقي الحروف فيكون إمّا الميم أو الياء وإن قاربهما النون لكن ما ويا أكثر وقعا في الكلام من نا فإنها غريبة الوقوع، ثم رأينا هذا الشكل المتقدّم قد تلا الشكل الذي مع اللام ألف الذي ظننّا أنه أحد هذه هـ ب ت ف ك وفي الكلمة الثلاثية(9/239)
المكرر أوّلها فجرّبنا الحروف مع الميم فظهر منها لفظة «ففي» لا غير ثم نظرنا هذا الحرف فوجدناه وقع في أربعة مواضع في الكلام لا غير، فقلنا إنه الفاء؛ لأن الياء بنسبة هذا الكلام تقع أكثر من ذلك غالبا، فصحّ معنا أنّ الكلمة الثالثة «فلا» والكلمة الخامسة «يا» والحرف المفرد «لا» والكلمة الخامسة منه هي رايد ذلك أننا وجدنا الكلمة الحادية عشرة قد تكرر [فيها] بعد الألف واللام حرفان تلاهما ألف بعده حرف آخر، ولا يمكن أن يتكرّر حرف في مثل هذا المكان سوى الميم إذا جرّبته على جميع الحروف، فقلنا: الممات المماح الممار المماس المماع، ورأينا هذا الشكل الذي هو آخر الكلمة قد تكرر أكثر من باقي الحروف بعد الألف واللام والباء، فبقي أن تكون هذه ر س ت ع لأن الميم قد صح معنا ولم يكن النون فعلّمنا على الميم في مواضعه، ونظرنا فرأينا هذا الشكل أوّل الكلمة الرابعة الثّلاثيّة وقد صح ثانيها اللام وثالثها الميم فجرّبناها على هذه الحروف فسقطت الراء وبقي أحد هذه: سلم تلم علم، ثم نظرنا الكلمة المجارية للممات المماع المماس، فرأينا قبل الألف واللام حرفا يكون أحد هذه ب ل و؛ لأن الفاء علّمناها، ونظرنا هذا الحرف قد تبع الألف واللام قبل الياء، ووجدناه بين البين في كلمة ثلاثية تكون إحدى هذه أبا أذا أسا أنا، فجرّبنا الكلمة على الباء والدال والسين والنون على أن يكون الحرف الآخر السين فلم يتفق منه لفظ فسقط «سلم» ثم جرّبناها على أن تكون العين فحصل منه بعد الحرف الأوّل البياع، ثم على أن تكون تاء فحصل منه الثبات السيات فسقط وبقي أبا أسا أنا ثم نظرنا الكلمة السابعة وهي ثلاثية أوّلها اللام وثانيها هذا الحرف الذي قبل الياء وثالثها هذا الدائر بين العين والتاء قلنا يقوم منها «لست» وسقط الباء والنون، وإنما لم يقم منه «كسع» لأنه لما سقطت الباء سقطت العين من البياع، فصح أن تلك «السيئات» ونظيرها «الممات» والثلاثية «تلم» وسقط علم، فرقمنا على التاء في مواضعها وعلى السين في مواضعها، فصارت الثلاثية «أسا» فقد صح معناه من الكلمات: «فلا تلم يا لست الممات لا أسا ففي»(9/240)
وبقي الحرف الذي قبل السيئات ثم نظرنا الكلمة العاشرة الثّلاثية فيها ت ي فجرّبناها على الحروف فظهر منها «حتّى» لا يشاركها شيء فعلّمنا على الحاء في مواضعها، ثم نظرنا كلمة خماسية قد بقي منها الحرف الوسط، فجربناها على الحروف فقام من ذلك: «حسرات حسكات حسنات» فعلمنا أنه حسنات؛ لأن هذا الشكل؟؟؟ تكرر أكثر من باقي الحروف بعد الألف واللام والياء والتاء، وقد صحّ الميم فأثبتنا النّون في موضعها. ثم نظرنا هذا الشكل؟؟؟ في أوّل كلمتين ثلاثيّتين وقد صح من إحداهما ن ي ومن الأخرى ل ي، فجرّبنا الحرف فوجدناه إمّا عينا أو واوا، فيقوم منهما عني علي وبي ولي فتعين أن يكون عينا لقلة الحرف عن مرتبة الواو. ثم نظرنا كلمة سباعيّة قد بقي منها حرف مجهول، جرّبناها على الحروف فصحت «البيان» لا يشاركها لفظة أخرى، وللحرف هذا الشكل الذي قبل السّيئات فتعيّنت الباء في مواضعها. ثم نظرنا كلمة سداسيّة ثالثها حرف مجهول، فجرّبناها فظهر منها «الكتاب» ثم نظرنا كلمة خماسيّة قبل الّتي قبل «هذه» قد بقي حرف الوسط [منها] مجهولا، فجرّبناها على الحروف فقام لمحيف لمدنف لمصنف فتعينت «لمصنف» بسبب سياق الكلام بلفظ «الكتاب» ورقمنا على الصاد. ثم نظرنا الكلمة الأخيرة قد بقي منها رابعها مجهولا، فجرّبناها على الحروف فصحّت «الموصل» وصحّت الكلمة الّتي بعد لست أنها «أسلو» فرقمنا على الواو. ثم نظرنا الكلمة الأولى وهي ثنائية أوّلها ص فجرّبناها فصحت صدّ، وإنما كنا أخّرناها لقلّة وقع حروفها، ثم علّمنا على الدال فوجدنا كلمة ثنائية آخرها «د» فجرّبناها على باقي الحروف الّتي لم تظهر، فقام منها جد حد قد هد. ثم نظرنا كلمة ثلاثية فصح أوّلها ت وآخرها ل وسطها هذا الحرف الذي قبل الدال في الثّنائية، فجرّبناها على الجيم والخاء والقاف والهاء، فسقطت الهاء وبقي تجل تقل تخل. ونظرنا فرأينا سياق الكلام يدل على أن الكلمة قبل أسا «قد» والثلاثية «تقل» فانتظم الكلام «لا تقل قد أسا» . ثم نظرنا الكلمة السادسة قد بقي منها ثانيها مجهولا، فجرّبناها على باقي الحروف فصحت «عذولي» ،(9/241)
فرقمنا على الذال في مواضعه، ثم نظرنا الكلمة الثلاثية الّتي بين «لمصنف» وبين «الكتاب» أوّلها هذا الشكل قد صح منها «ذا» فعلمنا أنّها «هذا» ورقمنا على الهاء، ثم نظرنا الكلمة الخماسيّة الّتي بين «ففي» وبين «منه» قد بقي رابعها، فجرّبناها على باقي الحروف فصحت «الوجه» . ثم نظرنا الكلمة السباعية الّتي قبل الأخيرة وقد بقي منها رابعها مجهولا، فجرّبناها فظهر منها الدّريهم، فتكمل الحلّ وظهر الكلام (خفيف) .
صدّ عنّي فلا تلم يا عذولي ... لست أسلو هواه حتّى الممات
لا تقل قد أسا ففي الوجه منه ... حسنات يذهبن بالسّيّئات
هذا البيان لمصنّف هذا الكتاب، عليّ «1» بن الدّريهم الموصليّ.
وعلى مثل هذا المنوال يجري الحلّ، ثم انظر إلى حروف هذا الكلام كيف جاءت أحدا وعشرين حرفا، ونقص منه ثمانية لم توجد فيه، فإذا نظرت إلى ما قرّرت لك من ترتيب وقع الحروف كما جاءت في الكتاب العزيز، رأيت الثمانية الناقصة هي آخر الترتيب سواء لم يختلط منها شيء بتقديم أو تأخير، وهذا اتفاق؛ لأنه قد يقع الحرف قريبا من رتبته كما تقدّم وكما تقدّمت الياء على الميم في هذا الكلام، والفاء على الميم والنّون، وتقدّمت الهاء على الميم أيضا، لكن الأصل معرفة وقع الحروف بالتقريب وتجربة الكلمات، ومقاربة ما دلّ عليه سياق الكلام.
ولنضرب مثالا آخر: لتتضح أنواع الحلّ.
وهذا مثال آخر أورده ابن الدّريهم، وهو:؟؟؟(9/242)
؟؟؟ فتعدّد المكررات من الأشكال كما مرّ وترقمها على هذه الصفة.
؟؟؟ فتنظر فإذا أكثرها وقعا؟؟؟ ثم؟؟؟ ثم؟؟؟ ثم هذين؟؟؟ ثم هذين ثم هذا ثم هذه فتظن أن هذا الشكل الألف، وهذا اللام؛ لكونهما أكثر وقعا من الجميع فلم يوافق؛ لأنه قد تقرّر أن اللام تكون تابعة للألف في أكثر المواضع ولم نجده تبعه البتة، بل وجدنا العكس فعلمنا أن هذا هو الألف وهذا هو اللام، ورقمنا عليهما في مواضعهما فإذا الكلمة الثانية الثّلاثية فيها لامان، بقي حرف آخرها مجهول، فجرّبناها على الحروف فظهرت الهاء لا يمكن غيرها، فعلمنا أنها «لله» ورقمنا على الهاء في مواضعها، ثم وجدنا الكلمة الخماسيّة قد بقي رابعها مجهولا، فجرّبناها فظهر الهما ألهجا ألهما الهنا، ووجدنا الحرف قد تكرر أكثر من كلّ الحروف بعد الألف واللام، فظننا أنه الميم، لكنه يحتمل أن يكون النون، وسقط الباء والجيم فوجدناه في الثنائيات في كلمتين قبل الألف،(9/243)
فعلمنا أنها «ما» فرقمنا على الميم في مواضعها، ثم رأينا الميم قد تبعه في الثّنائيّات حرف يحتمل أن يكون مد مر مس مص مط مع من، ورأينا الحرف كثير الوقوع، وقد تكررت ثلاث لفظات، فعلمنا أنها «من» ورقمنا على النون في مواضعه، ثم رأينا هذا الشكل؟؟؟ أكثر من غيره وهو قبل الألف واللام وفي أوائل الكلمات فقلنا إنه الواو، ثم رأينا آخر كلمة قد بقي منها رابعها مجهولا، فجرّبناها فظهر والبهم والتهم والجهم والدهم والسهم والشهم والفهم واليهم، ثم وجدنا هذا الحرف الذي فيها قد جاء قبل حرف في الثّنائيّات وذلك أكثر ما وقع بعد الألف واللام والميم، فيحتمل أن يكون الياء، ووجدنا قد بقي من كلمة هذا الحرف فصحّ أن يكون النّهي وأخرى أولي، فعلمنا أنها الياء، فجربنا الحرف معها، فظهر بي ني، ووجدنا كلمة خماسيّة هذا الحرف رابعها وبعد حرف آخر، جربناها على الياء والفاء فظهر اللبث اللبد اللبس اللبط اللبك اللفت اللفج اللفح اللفظ اللفق. ثم وجدنا هذا الحرف الآخر أوّل كلمة بعده لامان وهاء، فجرّبناها فظهر منها الحرف الثالث مجهولا، جرّبناها ظهر التّمام الحمام الذّمام الشمام الغمام الكمام، فرأينا سياق الكلام يدلّ على أنه «ظلّل الغمام» وتعينت تلك اللفظة والأخرى الفهم والثنائية، فرقمنا على الفاء، ثم رأينا الكلمة الثالثة الثّلاثيّة ثانيها لام وآخرها ياء وبعدها «ما ألهما» فدل سياق الكلام على أنها «على» فرقمنا على العين، فرأينا الرّباعيّة الّتي بعد «وآله» قد بقي ثالثها مجهولا، فجرّبناها فظهرت معجن معدن فتعين معدن والثنائية الّتي بعدها، وقيل «علم كل» فرقمنا على الدال في مواضعه ورأينا الكلمة الأولى قد بقي وسطها مجهولا، فجرّبناها وظهرت الثمد الحمد الصمد، فدلّ سياق الكلام أنها الحمد؛ لأن بعدها «لله على ما ألهما» فرقمنا على الحاء في مواضعها، ورأينا الثالث من الرّباعيّة الّتي بين على وظلّله، فجرّبناها فظهرت «الذي» ورأينا الكلمة الخماسيّة الّتي بعد «محمّد» قد بقي رابعها [مجهولا] ، فجرّبناها فظهرت «النبي» فرقمنا على الياء في مواضعها ورأينا قد بقي ثالث السّداسيّة الّتي بعد «من» هذا الشكل وهو ثالث رباعيّة أوّلها الألف وثانيها(9/244)
فاء وآخرها حاء، وثاني خماسيّة أوّلها واو وثالثها حاء ورابعها باء وخامسها هاء، فتعينت الصاد، فالأولى «الصّواب» والأخرى «أفصح» والأخرى «وصحبه» وتعينت الثنائية الّتي هي أوّل البيت الثاني بعد السطر الأوّل «ثم» والّتي تليها «صلاة» وتعين السين في السّلام، فصار، «ثمّ صلاة الله والسّلام» وكلما تمرّن الإنسان في ذلك ظهر له أسرع بكثرة المباشرة، ثم تعين رابع السّداسيّة الّتي بعد أفصح من أنه الضاد، وتعين بسياق الكلام أن بعد بالضاد «في اللّفظ نطق» فرقمنا على القاف فرأينا مجاريها الثلاثية من رأس المصراع «خلق» فرقمنا على الخاء، وتعيّنت الكلمة الّتي قبل «من خلق» أنها «خير» فتكلمت الأبيات وظهر أنها (رجز) .
الحمد لله على ما ألهما ... من الصّواب وعلى ما علّما
ثمّ صلاة الله والسّلام ... على الّذي ظلله الغمام
محمد النبيّ خير من خلق ... أفصح من بالضادفي اللّفظ نطق
وآله معدن كلّ علم ... وصحبه أولي النّهى والفهم
قلت: ومما يلتحق بتعمية الخطّ المتقدّمة الذّكر ما حكاه ابن «1» شيث في معالم الكتابة، أنّ بعض الملوك أمر كاتبه أن يكتب عنه كتابا إلى بعض أتباعه يطمّنه فيه ليقبض عليه عند انتهاز فرصة له في ذلك، وكان بين الكاتب والمكتوب إليه صداقة فكتب الكتاب على ما أمر به من غير خروج عن شيء من رسمه، إلّا أنه حين كتب في آخره «إن شاء الله تعالى» جعل على النّون صورة شدّة، فلما قرأه المكتوب إليه، عرف أنّ ذلك لم يكن سدى من الكاتب فأخذ(9/245)
في التأويل والحدس فوقع في ذهنه أنه يشير بذلك إلى قوله تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ
«1» . فأخذ حذره، واحترز على نفسه، وبلغ الملك احترازه على نفسه فاتّهم الكاتب في أنه ألحق في الكتاب شيئا نبّهه به على قصد الملك، فأحضره وسأله عن ذلك، وأمره بأن يكتب الكتاب على صورة ما كتب به من غير خروج عن شيء منه، فكتبه ولم يغيّر شيئا من رسمه حتّى إنه أثبت صورة الشدّة على النّون، فلما قرأه الملك ونظر إلى صورة الشدّة أنكرها عليه، وقال: ما الّذي أردت بذلك؟ قال: أردت قوله تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ
. فأعجب بذلك وعفا عنه لصدقه إيّاه.
النوع الثاني (الرّموز والإشارات الّتي لا تعلّق لها بالخطّ والكتابة)
وهي الّتي يعبّر عنها أهل المعاني والبيان بالاستعارة بالكناية «بالنون بعد الكاف» وقد يعبّر عنها بالوحي والإشارة.
ومن غريب ما وقع في ذلك ما حكاه العسكريّ «2» في «الصناعتين» : أنّ رجلا من بني العنبر أسر في بني «3» حنظلة، وفهم عنهم أنهم يقصدون الغارة على قومه بني العنبر، فقال لبني حنظلة: إنّ لي حاجة عند أهلي وأريد رسولا من قومكم أرسله فيها، فأجابوه إلى ذلك بشرط أن يخاطبه في حاجته بحضورهم، فأحضروا له رجلا في الليل وقد أوقدت العرب نيرانها، فأقبل على(9/246)
الذي أتوه به وقال له: أتعقل؟ قال: إنّي لعاقل. فقال: انظر إلى السماء ونجومها، فنظر، ثم قال: انظر إلى نيران العرب، فنظر، فقال له: ما أكثر؟
نجوم السماء أو نيران العرب؟ فقال: إنّ كلّا منها لكثير، قال: إنك إذا لعاقل، ثم دفع إليه حنظلة وصرّة فيها رمل وصرّة فيها شوك، وقال: اذهب إلى قومي فادفع إليهم هذه الحنظلة وهاتين الصّرّتين، وقل لهم يعروا ناقتي الحمراء، ويرحلوا جملي الأورق، وسلوا أخي الأعور يخبركم الخبر. فقال الحاضرون:
ليس في هذا ما ينكر، اذهب في حاجته، فذهب إلى بني العنبر ودفع إليهم ذلك وقصّ عليهم القصّة ورجع، فبعث القوم إلى أخيه الأعور فحضر، فأخبروه الخبر. فقال: إنه يقول: أتاكم بنو حنظلة في عدّ الشّوك والرّمل، وإنّ نيران العرب تعادّ نجوم السماء، ويأمركم أن ترحلوا عن الدّهناء وانزلوا مكان كذا، ففعلوا ورحلوا لوقتهم فصبّحهم بنو حنظلة فلم يدركوا منهم أحدا.
وفي معنى ذلك ما حكاه المقرّ الشّهابيّ «1» بن فضل الله في كتابه «التعريف» ، فى الكلام على المكاتبة إلى الأذفونش «2» ملك الفرنج بطليطلة من بلاد الأندلس، كان خبيث النية، سيّيء المقاصد لأهل الإسلام، وأنه «3» أرسل مرّة إلى الملك الناصر محمد «4» بن قلاوون، صاحب الديار المصرية(9/247)
هدية فيها سيف وثوب بندقيّ وطارقة مستطيلة تشبه النّعش كأنه يقول: أقتلك بهذا السّيف، وأكفّنك في هذا الثوب، وأحملك على هذا النّعش. قال:
وكان «1» الجواب أن أرسل إليه حبلا أسود وحجرا، أي إنه كلب يرمى بهذا الحجر أو يربط في هذا الحبل.
قلت: ومما وقع من ذلك في زماننا أنه في الدولة الظاهريّة «برقوق» «2» وتمرلنك يومئذ ببلاد العراق يغاور الممالك الشامية لقصد الاستيلاء عليها ورد عليه كتاب من المملكة الحلبية فيه: أنه وقع بتلك البلاد سيل عظيم ساق جملة من الأسد والنّمورة والحيّات، وأنه دفع حيّة عظيمة سعة رأسها بقدر قوس، وقريء الكتاب بحضرة السلطان، وحملوا ذلك على ظاهره، من أنّ المراد حقيقة السيل، وأنه لقوّته ساق تلك الحيّة والسّباع وغيرها، وشاع ذلك بين الكافّة من الأمراء «3» وأهل الدولة وسائر الرعيّة، ومضى الأمر على ذلك، ثم ظهر أنّ(9/248)
المقصود بذلك السيل وما فيه هو تمرلنك وعساكره، وأنه كني بالحية العظيمة عن «1» نفسه، وبالسّباع والحيّات عن عساكره.
ومن لطيف ما وقع في ذلك أنه ورد على السلطان الملك الناصر «فرج «2» بن برقوق» في أواخر دولته كتاب عن صاحب «3» تونس من بلاد المغرب في آخره خطابا للسلطان (وعلى إحسانكم المعوّل، وبيت الطّغرائيّ في لاميّة العجم لا يتأوّل) فسألني بعض أعيان ديوان «4» الإنشاء عن المراد من ذلك ولم يكن الكتاب متضمّنا لغير الوصية على حجّاج المغاربة، وكان ركب المغاربة قبل تلك الحجّة قد عرض لهم عارض من عرب درب الحجاز اجتاحوهم فيه، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ونهبوا منهم أموالا جمّة، فعرضت ذلك على أبيات اللامية، فلاح لي أنه يشير إلى قوله فيها (بسيط) .
فقلت أرجوك للجلّى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل «5»
والجلّى بضم الجيم هي الأمر الجليل العظيم، والجلل بفتح الجيم في(9/249)
اللّغة من أسماء الأضداد، يقع على الشيء الجليل وعلى الشيء الحقير، كأنه يقول: أنا كنت أرجوك للأمور العظام لتنصرني فيها فخذلتني في هذا الأمر الخسيس، وهو الأخذ بثأر حجّاج بلادي ممن اعتدى عليهم من عرب بلادك، فخاب ظنّي فيما كنت أرجوه فيك، وأؤمّله منك، وأشار بقوله لا يتأوّل إلى أنه لا يحمل الجلل في قول الطّغرائيّ «1» على الشيء الجليل كما قال الصّلاح «2» الصفديّ في شرح اللامية، بل على الأمر الخسيس؛ لأنه هو اللائق بالمقام.
وأعلم أنّ مثل هذه الأمور تحتاج إلى قوّة ذكاء واحتدام قريحة من الذي يقع منه الرمز، وإلى قوّة حدس من الذي يحاول إدراك المقصد من تلك [المعامي] كما يقع في الألغاز والأحاجيّ للملغز، والمتصدّي لحلّ ألغازه والجواب عنه، والله تعالى هو الهادي إلى سبيل الصّواب.(9/250)
المقالة الخامسة في الولايات، وفيها [أربعة] «1» أبواب
الباب الأوّل في بيان طبقاتها وما يقع به التفاوت، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل في بيان طبقات الولايات، وهي على ثلاث طبقات
الطبقة الأولى- الخلافة
؛ ولما يكتب في ولايتها طريقان: إمّا عهد من الخليفة الأوّل، وإما بيعة من أهل الحلّ والعقد إن لم يوجد عهد من الخليفة قبله على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية- السّلطنة
؛ ولما يكتب في ولايتها طريقان: أحدهما العهد من الخليفة، والثاني العهد من السلطان قبله. قال في «التعريف» : أمّا من قام من الملوك بغير عهد، فلم تجر العادة أن تكتب له مبايعة.
الطبقة الثالثة- الولايات عن الخلفاء والملوك
وما يكتب عن السلطان بالديار المصريّة في أقطار المملكة بمصر والشام والحجاز، مما يكتب من ديوان(9/251)
الإنشاء التشريف بالأبواب السلطانية.
وهي على خمسة أنواع:
النوع الأوّل (ولايات أرباب «1» السّيوف، وهم على ثلاثة أصناف)
الصّنف الأوّل- النوّاب من الأمراء وغيرهم من أرباب «2» الوظائف،
وغالب من يكتب له منهم بالبلاد الشامية ومضافاتها، كنوّاب «3» السلطنة بدمشق وحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك، ومقدّمي «4» العسكر بغزّة وسيس «5» ،(9/252)
ونوّاب القلاع «1» بالمدن العظام ذوات القلاع الرفيعة القدر، كالنائب بقلعة دمشق، والنائب بقلعة حلب، والنائب بقلعة صفد. أمّا طرابلس وحماة، فليس بهما قلعة، وكذلك النّيابات الصّغار المضافة إلى القواعد الكبار، كالقدس الشريف وحمص ومصياف «2» من مضافات دمشق، وقلعة المسلمين والرّحبة والبيرة «3» والرّها «4» وشيزر «5» وعين تاب «6» وبهسنا «7» وملطية «8» وآياس «9»(9/253)
والأبلستين «1» وأذنة وطرسوس من مضافات حلب، واللّاذقيّة وحصن عكّار من مضافات طرابلس وما يجري مجرى ذلك، على ما سيأتي بيانه مفصلا في مواضعه، إن شاء الله تعالى.
أمّا ما دونها من النّيابات فإنّ نوّاب السلطنة بالمملكة يستقلّون بالتولية فيها.
قلت: والضابط في ذلك أنّ كلّ نيابة كان نائبها تقدمة ألف، فولايتها عن السلطان بمرسوم «2» شريف من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية، وكلّ ولاية كان نائبها جنديّا أو مقدّم حلقة فولايتها عن نائب السلطنة بالمملكة الّتي هي مضافة إليها بتوقيع كريم من ديوان الإنشاء بها، وكلّ نيابة كان نائبها أمير طبلخاناه «3» أو عشرة «4» ربّما ولّى فيها السلطان وربما ولّى فيها نائب السلطنة،(9/254)
إلا أنّ تولية السلطان لنوّاب الطبلخاناه أغلب، وتولية نوّاب السلطنة لنوّاب العشرة أغلب.
أمّا الديار المصرية فإنه كان يكتب فيها أوّلا لولاة «1» الوجهين: القبليّ والبحريّ جريا على ما كان الأمر عليه في زمن الخلفاء الفاطميين، وكذلك والي الإسكندريّة قبل أن تستقرّ نيابة «2» ، وواليا الولاة بالوجهين قبل أن يستقرّا نيابتين، في جماعة أخرى من أرباب الوظائف، كالنائب «3» الكافل وأتابك «4» الجيوش كإستادار «5» وأميراخور «6» ومقدّم المماليك وواليي مصر والقاهرة. ثم صارت الكتابة لذوي الوظائف من أرباب السّيوف قاصرة على النائب الكافل إذا كان موجودا والنّوّاب المستجدّين بالإسكندرية والوجهين: القبليّ والبحريّ، وبطل ما عدا ذلك مما كان يكتب، وكأنّ المعنى فيه القرب من مقرّة السلطان. والكتابة(9/255)
إنما تقع في الغالب مع البعد؛ لتكون حجة للمتولّي على بعد المدى، ولا ينتقض ذلك بما يكتب للخلفاء والملوك في الحضرة، فإنّ ذلك من الأمور العامّة الّتي يخاف انتقاضها أو جحودها، إذ مثل ذلك لا يجوز في الولايات عن السلطان؛ لأنه متى شاء عزل من ولّاه.
الصّنف الثاني- ولاية أمراء العربان
، وهؤلاء لا حظّ لهم في الكتابة بالولاية بالديار المصريّة الآن، وربّما يكتب لأمرائهم بالمملكة الشاميّة، كأمير آل «1» فضل، وأمير آل مرا، وأمير آل عليّ، ومقدّم جرم، وكذلك أمير مكة المشرّفة، وأمير المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام، والتحية والإكرام، والنائب بالينبع من البلاد الحجازيّة. والمعنى في اختصاص من بعد منهم ما تقدّم في الكلام على أرباب السّيوف مع ضعف شأن عرب الديار المصريّة وعدم الاهتمام بأمرهم.
الصنف الثالث- ولاية المقدّمين على الطّوائف
كمقدّمي التّركمان «2» ، والأكراد «3» ، والجبليّة بالبلاد الشامية، وأتابك «4» طائفة الإسماعيلية بقلاع(9/256)
الدّعوة، وحاكم البندق ونحوهم، وهذه الطوائف ممّن يكتب له إلى الآن، أما حاكم البندق، فإنه لم يعهد له كتابة من ديوان الإنشاء بمصر والشام. على أنّ المقرّ الشهابيّ «1» بن فضل الله قد ذكر وصيّته في «التعريف» ولعلّه ممن كان يكتب [له] في زمانه أو قبله ثم ترك، وإنما يكون ذلك يحسب اعتناء السلطان بشأن البندق وعدمه كما في لباس الفتوّة، وأنه ربّما اعتنى به بعض الملوك فكتب له ثم ترك.
النوع الثاني (ولاية أرباب الأقلام، وهم صنفان)
الصّنف الأوّل (أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على ثمانية أضرب)
الضرب الأوّل- أكابر القضاة بأقطار المملكة
، كقضاة «2» القضاة بالحضرة السلطانية بالدّيار المصرية وثغر الإسكندرية، وكذلك قضاة القضاة بدمشق(9/257)
وحلب وطرابلس وحماة وصفد والكرك، وقضاة «1» العسكر بالديار المصرية، أما القضاة بالنّيابات «2» الصّغار المضافات إلى دمشق وحلب ونحوهما فولايتهم إلى قضاة القضاة بها، وقضاة العسكر بدمشق وحلب وما في معناهما إلى النّوّاب بتلك الممالك.
الضرب الثاني- المفتون بدار «3» العدل بالديار المصرية
، أما المفتون بدار العدل بالممالك الشاميّة فولايتهم إلى نائبها.
الضرب الثالث- أكابر المحتسبين
، كمحتسبي «4» مصر والقاهرة، أما الممالك الشاميّة فلا يولّي فيها إلّا نوّابها.
الضرب الرابع- أكابر المدرّسين في عامّة العلوم بأماكن مخصوصة،
كالزّواية الخشّابيّة «5» بالجامع «6» العتيق بمصر، والمدرسة الصّلاحية «7» بتربة(9/258)
الإمام الشافعيّ بالقرافة «1» ، ونحو ذلك بأقطار المملكة من مدرّسي الفقه والحديث والتفسير وغير ذلك من العلوم الدّينيّة.
الضرب الخامس- أكابر الخطباء بجوامع مخصوصة بأقطار المملكة،
كجامع الناصريّ بقلعة الجبل، والجامع «2» الأمويّ بالشام ونحوهما.
الضرب السادس- وكلاء بيت المال بالدّيار المصرية
وغيرها.
الضرب السابع- المتحدّثون على الوظائف المعتبرة
، كنقابة «3» الأشراف، ومشيخة «4» الشّيوخ، فما كان بالدّيار المصرية فولايته من السلطان، وتوقيعه من(9/259)
ديوان الإنشاء، وما كان منها بالممالك الشاميّة فولايتها إلى نوّاب السّلطنة بها.
الضرب الثامن- المتحدّثون على جهات البرّ العامّة المصلحة
، كنظر «1» الأحباس وأنظار البيمارستانات «2» ونحوها، فما كان منها بالدّيار المصريّة، كنظر الأحباس والبيمارستان «3» المنصوريّ وما أشبه ذلك فتوليته «4»
إلى نوّابها، ما لم يكن لها ناظر خاصّ فيكون ذلك مختصّا به.
الصنف الثاني (أرباب الوظائف «5» الدّيوانية)
ودواوينها على ثلاثة أضرب:
الضرب الأوّل- دواوين المال
؛ وأرباب الخدم بها ممن تكتب ولاياتهم(9/260)
من ديوان الإنشاء إمّا ناظر «1» ، أو وزير، أو صاحب ديوان، أو شهادة، أو استيفاء. فأمّا الوزارة فلا يصرّح بها إلّا للوزير بالأبواب السّلطانية، وربما صرّح بها لوزير دمشق إذا وليها من ارتفعت مرتبته، وإلّا عبّر عنه بناظر المملكة.
وأما النّظر، فكنظر الدّواوين المعبّر عنه بنظر الدّولة، ونظر «2» الخاصّ، ونظر الخزانة «3» الكبرى، ونظر البيوت «4» والحاشية، ونظر بيت «5» المال، ونظر الإصطبلات «6» السلطانية، ونظر دار الضّيافة «7» والأسواق، ونظر خزائن «8»(9/261)
السّلاح، ونظر البهار «1» والكارميّ، ونظر الأهراء «2» ، ونظر المواريث «3» الحشريّة، ونظر ثغر الإسكندريّة المحروس، وغير ذلك من وظائف الأنظار بالديار المصرية. وكذلك نظر «4» المملكة بدمشق إذا لم يصرّح لمتولّيه بالوزارة، ونظر المملكة بحلب، ونظر المملكة بطرابلس، ونظر المملكة بحماة، ونظر المملكة بصفد، ونظر المملكة بسيس، ونظر المملكة بغزّة، ونظر المملكة بالكرك.
وأمّا صحابة الدّيوان، فكصحابة «5» ديوان الجيش وصحابة ديوان الخاصّ، ونحو ذلك.(9/262)
وأمّا الشّهادة فكشهادة الخزانة الكبرى، وشهادة خزانة الخاصّ ونحوهما.
وأمّا الاستيفاء، فكاستيفاء «1» الصّحبة، واستيفاء «2» الدّولة، واستيفاء «3» الخاصّ، ونحو ذلك. ولا حظّ لغير النّظّار من دواوين الأموال بالممالك الشاميّة، من صاحب «4» ديوان ولا شاهد «5» ولا مستوف «6» ، في الكتابة بالولاية من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية، بل ولايتها من نوّاب الممالك الشاميّة بتواقيع من دواوين الإنشاء بها.
الضرب الثاني- دواوين الجيوش بالديار المصرية
وغيرها من الممالك الشاميّة. وأرباب «7» الخدم بها لا يخرجون عن ناظر، وصاحب ديوان، وشاهد، ومستوف.(9/263)
والذين يولّون عن السلطان منهم [و] تكتب تواقيعهم من ديوان الإنشاء الشريف ناظر «1» الجيش بالأبواب السلطانية، وناظر الجيش بدمشق، وناظر الجيش بحلب، وناظر الجيش بطرابلس، وناظر الجيش بحماة، وناظر الجيش بصفد، وناظر الجيش بغزّة، وناظر الجيش بسيس، وناظر الجيش بالكرك، وصاحب ديوان «2» الجيش بالأبواب السلطانية، والشّهود والمستوفون بها، أمّا من عدا هؤلاء، من نظّار الجيش وأصحاب الدواوين والشّهود بالممالك الشامية، فولايتهم إلى نوّاب السلطنة بها.
الضرب الثالث- دواوين الإنشاء
؛ وأرباب الخدم بها لا يخرجون عن كاتب سرّ «3» ، وكاتب دست «4» ، وكاتب «5» درج.
والذين يولّون عن السلطان من كتّاب هذه الدّواوين وتكتب تواقيعهم من ديوان الإنشاء السلطانيّ صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية، وصاحب ديوان الإنشاء بدمشق، وصاحب ديوان المكاتبات بحلب، وصاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، وصاحب ديوان المكاتبات بحماة، وصاحب ديوان المكاتبات بصفد، وكاتب الدّرج بسيس، وكاتب الدّرج بغزّة، وكاتب الدّرج بالكرك، وكاتب الدّرج بالإسكندريّة، وكتّاب الدّست وكتّاب الدرج بالأبواب السلطانية؛ أما كتّاب الدّست وكتّاب الدّرج بالممالك الشامية فإلى نوّابها بتواقيع من دواوين الإنشاء بها.(9/264)
النوع الثالث (ولايات أرباب الوظائف الصّناعيّة)
كالأطبّاء، والكحّالين «1» ، والجرائحيّة، ومن جرى مجراهم من سائر أرباب الوظائف الّتي هي من تتمّة نظام الملك، فما كان منها بالأبواب السلطانية فولايته عن السلطان بتوقيع من ديوان الإنشاء السلطاني، وما كان منها بالممالك الشامية فولايته إلى نوّاب السلطنة بها.
النوع الرابع (ولايات زعماء أهل «2» الذّمّة، وهي ضربان)
الضرب الأوّل- ولاية بطاركة «3» النّصارى
من اليعاقبة والملكانيّة «4» .
الضرب الثاني- ولاية رئيس اليهود
الحاكم على طوائفهم.
النوع الخامس (ما لا يختصّ بطائفة ولا يندرج تحت نوع)
كصغار الأمور الّتي يكتب فيها لكلّ فرد فرد، إما ابتداء، وإما بالحمل على ما بيده من ولاية سابقة، من نائب أو قاض أو ناظر «5» وقف أو غير ذلك، مما لا ينحصر كثرة.(9/265)
قلت: وربّما ولّى السلطان في بعض الوظائف بالممالك الشاميّة مما تختصّ توليته بنوّاب السلطنة إذا كانت الوظيفة وضيعة المنزلة وأدركت المولّى عنايته، وربّما ولّى بعض نوّاب السلطنة ما تختصّ توليته بالسلطان إذا عظمت رتبة النائب وارتفعت منزلته، خصوصا إذا كان نظام المملكة محلولا وأمرها مضطربا.(9/266)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الخامسة (في بيان ما تجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال)
قال الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبيّ رحمه الله في «حسن التوسل» : يجب على الكاتب أن يراعي في ذلك أمورا.
منها- براعة الاستهلال بذكر الرّتبة، أو الحال، أو قدر النّعمة، أو لقب صاحب الولاية، أو اسمه، بحيث لا يكون المطّلع أجنبيّا من هذه الأحوال، ولا بعيدا منها، ولا مباينا لها، ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق القصد من أوّل الخطبة إلى آخرها.
ومنها- أن يراعي المناسبة وما تقتضيه الحال، فلا يعطي أحدا فوق حقّه، ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله، ويراعي أيضا مقدار النعمة والرّتبة فيكون وصف المنّة بها على مقدار ذلك.
ومنها- أن لا يصف المتولّي بما [يكون «2» ] فيه تعريض بذمّ المعزول [وتنقيص له «3» ] ، فإنّ ذلك مما يوعز الصّدور، ويورث الضّغائن في القلوب، ويدلّ على ضعف الآراء في اختيار الأوّل، مع إمكان وصف الثاني بما يحصل به(9/267)
المقصود من غير تعريض بالأوّل.
ومنها- أن يتخيّر الكلام والمعانيّ فإنه مما يشيع ويذيع، ولا يعذر المقصّر في ذلك بعجلة ولا ضيق وقت، فإنّ مجال الكلام متّسع، والبلاغة تظهر في القليل والكثير.
قلت: ومنها أن يحرص الكاتب على أن تكون نهاية السجعة الأولى في السّطر الأوّل أو الثاني ولا يؤخّرها عن ذلك. ومما كان يراعى في ذلك أن تكون الخطبة من أوّلها إلى آخرها على رويّ واحد في السّجع، وكذلك الدعاء في أوّل صغار التواقيع والمراسيم المبتدأة بلفظ «رسم» بخلاف ما بعد ذلك إلى آخر ما يكتب، فإنه يتّفق فيه رويّ السجعتين والثّلاث فما حولها، ثم يخالف رويّها إلى غيره، ولا يكلّف الكاتب الإتيان بجميعها على رويّ واحد، وعلى ذلك كانت طريقة فحول الكتّاب بالدولة التركية، كالقاضي محيى الدّين «1» بن عبد الظاهر، والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، والمقرّ الشهابيّ بن «2» فضل الله، ومن عاصرهم إلّا في القليل النادر، فإنه ربّما وقع لبعضهم مخالفة رويّ الخطبة، وإلى هذا قد جنح غالب كتّاب ديوان الإنشاء في زماننا ومالوا إليه؛ لما في التزام الرّويّ الواحد في جميع الخطبة من التكلّف وعسر التلفيق على من يتعاناه.
ثمّ الكلام فيما يكتب في الولاية قد يكون جميعه بلفظ الغيبة، مثل أن يقال: عهد إليه بكذا، أو قلّده كذا، أو فوّض إليه كذا، أو أن يستقرّ في كذا، ونحو ذلك، ثم يقال: وأمره بكذا، أو ونحن نوصيه بكذا، أو فعليه بكذا، وما(9/268)
أشبه ذلك، وقد يكون جميعه بلفظ الخطاب، مثل أن يقال: وقد عهد إليك بكذا، أو قلّدك كذا، أو فوّض إليك كذا ثم يقال: ونحن نوصيك بكذا، أو فعليك بكذا، ونحوه، وقد يصدّر بلفظ الغيبة ثم يلتفت منها إلى الخطاب، وقد يصدّر بلفظ الخطاب ثم يلتفت منه إلى الغيبة بحسب ما يؤثره الكاتب وتؤدّي إليه بلاغته مما ستقف على تنويعه في خلال كلامهم في أصناف الولايات الآتية في هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.(9/269)
الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة الخامسة (في بيان ما يقع به التفاوت في رتب الولايات، وذلك من سبعة أوجه)
الوجه الأوّل (الألقاب، وهي على ثلاثة أنواع)
النوع الأوّل (ألقاب الخلفاء)
وسبيلها الاختصار دون البسط، اكتفاء بما هو ظاهر من أبّهة الخلافة، وعلوّ مقام الإمامة، إذ هي الزّعامة العظمى، والرتبة الّتي هي أعلى الرّتب وأسمى.
وهي صنفان:
الصنف الأوّل- ألقاب الخلفاء أنفسهم
، وغاية ما ينعت به الإمام وأمير المؤمنين.
الصنف الثاني- ألقاب أولياء العهد بالخلافة
، وألقابهم نحو السيّد الجليل وذخيرة الدّين، ونحو ذلك على ما سيأتي بيانه في عهود الخلفاء عن الخلفاء.
النوع الثاني (ألقاب الملوك، وهي صنفان أيضا)
الصنف الأوّل- ألقاب السلطان نفسه
، والكتّاب تارة يبتدئونها بالسلطان،(9/270)
وتارة يبتدئونها بالمقام، ولكلّ منهما نعوت تخصّه، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في الكلام على عهود الملوك عن الخلفاء، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني- ألقاب أولياء العهد بالملك
، والملوك المنفردين بولاية صغار البلدان عن السلطان الأعظم، وهي لا تفتتح إلّا بالمقام ليس إلّا، ولها نعوت تخصّها، يأتي الكلام عليها في الكلام على عهودهم أيضا.
النوع الثالث (ألقاب ذوي الولايات الصادرات عن السلطان من أرباب الوظائف الواقعة في هذه المملكة)
وقد تقدّم في الكلام على الألقاب في مقدمة الكتاب أنّ أصول الألقاب المستعملة في ذلك خمسة ألقاب على الترتيب، وهي المقرّ «1» ، ثم الجناب «2» ، ثم المجلس «3» ، ثم مجلس مضافا كمجلس «4» الأمير، ومجلس «5» القاضي،(9/271)
ومجلس «1» الشيخ، ومجلس الصّدر «2» ، ثم الاقتصار على المضاف إليه وحذف المضاف، كالامير والقاضي والشيخ «3» والصّدر، ويلتحق بذلك لأهل الذّمة الحضرة، وحضرة الشيخ، والشيخ مجرّدا عن حضرة، وتقدّم في الفصل الأوّل من هذا الباب أنّ أرباب الولايات خمسة أنواع: أرباب «4» السّيوف، وأرباب»
الأقلام، وأرباب الوظائف الصّناعية، وزعماء أهل الذمّة، ومن لا يختص بطائفة لصغرهم. وجميع هذه الأنواع على اختلاف أصنافهم لا يخرجون عن الألقاب المتقدّمة، وقد تقدّم الكلام على هذه الألقاب ونعوتها لمن يكاتب عن الأبواب الشريفة السلطانية من أرباب الوظائف مستوفى في المكاتبات، إلّا أنه قد يولّى عن السلطان من لم يؤهّل للمكاتبة عنه، كأكثر أرباب الوظائف من حملة الأقلام وغيرهم، فاحتيج إلى تعريف مراتب الألقاب لكلّ نوع من أرباب الولايات.
فأما أرباب السّيوف، فأعلى ألقابهم المقرّ، وأدناها مجلس الأمير، ثم الأمير مجرّدا عن مجلس.
وأما أرباب الوظائف الصّناعيّة، فأعلى ألقابهم المجلس وأدناها مجلس(9/272)
الصّدر، ثم الصّدر مجرّدا عن مجلس.
وأما من لا يختص بطائفة لصغره، فيقتصر فيه على لقب التعريف وهو فلان الدّين إن عظّم وإلّا اقتصر على اسمه خاصّة.
وأما زعماء أهل الذّمة، فأعلى ألقابهم الحضرة، ثم حضرة الشيخ، ثم الشيخ مجرّدا عن حضرة.
واعلم أنّ كلّ من كانت له مكاتبة عن الأبواب السلطانية من أرباب السّيوف والأقلام وغيرهم، فلقب ولايته ونعوته كما في مكاتبته، غير أنه يزاد في آخر النّعوت المركّبة ذكر اسمه العلم، ونسبته إلى السلطان، كالناصريّ، والظاهريّ، ونحوهما إن كان ممن ينتسب إليه بنيابة ونحوها، ثم إن كانت مكاتبته تفتتح بالدعاء نقل ذلك الدعاء من أوّل المكاتبته إلى ما بعد اسمه والنسبة إلى السلطان في الولاية، كما إذا كانت مكاتبته، أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ «1» الكريم، فإنه يدعى له عقيب اسمه والنسبة إلى السلطان- إن كانت- بأعزّ الله تعالى أنصاره، وكذلك في البواقي.
وإن كانت مكاتبته تفتتح بغير الدعاء، كصدرت هذه المكاتبة ونحو ذلك، فإنه يدعى له في الولاية عقب الاسم والنسبة إلى السلطان- إن كانت- بما يدعى له في مكاتبته في آخر الألقاب، كما إذا كان من أرباب السّيوف ومكاتبته صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس «2» العالي أو المجلس «3» الساميّ بالياء فإنه يدعى له بمثل: أدام الله سعادته، وأدام الله رفعته، ونحو ذلك، وإن لم تكن له مكاتبة عن الأبواب السّلطانية كتب له في الولاية ما يناسبه من اللّقب(9/273)
والنّعوت، ثم يذكر اسمه والدعاء له إن كان مستحقّا للدعاء، وسيأتي لقب كلّ ذي ولاية من الأنواع الخمسة المتقدّمة الذّكر ونعوته عند ذكر ولايته فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
ثم للألقاب في الولايات محلّان:
أحدهما- الطّرّة. ويقتصر فيها على اللّقب، من المقرّ أو الجناب أو المجلس أو مجلس مضافا وما بعده من النعوت إلى اللّقب المميّز للوظيفة كالأميريّ والقضائيّ ونحوهما، ثم يذكر لقبه الخاصّ به وهو الفلانيّ أو فلان الدين، ثم يذكر اسمه وانتسابه إلى السلطان إن كان، على ما سيأتي بيانه مفصّلا، إن شاء الله تعالى.
الثاني- في أثناء الولاية. وهناك تستوفى النّعوت ويؤتى بما في الطّرّة في ضمنه إلّا أنه يجعل لقب التعريف- وهو الفلانيّ أو فلان الدّين- بين النعوت المفردة والمركّبة فاصلا بينهما.
الوجه الثاني (ألفاظ إسناد الولاية إلى صاحب الوظيفة، ولها ستّ مراتب)
الأولى- لفظ العهد
، مثل أن يقال: أن يعهد إليه، وهي خاصّة بالخلفاء والملوك.
الثانية- لفظ التّقليد
، مثل أن يقال: أن يقلّد كذا، ويكون مع المقرّ الكريم والجناب الكريم.
الثالثة- لفظ التّفويض
، مثل أن يقال: أن يفوّض إليه كذا، ويختصّ بالجناب لأرباب السيوف، وكذلك الجناب والمجلس العالي لأرباب الأقلام.
قلت: وكتّاب زماننا يستعملونها «1» مع المقرّ أيضا، ولا يستعملون لفظ(9/274)
«يقلّد» في التقاليد لتوهّمهم الاكتفاء بلفظ تقليد عنها، ولم يعلموا أنّ يقلّد فوق يفوّض كما تقدّم. على أنّ المقرّ الشهابيّ بن فضل الله قد صرّح بذلك في «التعريف» كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
الرابعة- لفظ الاستقرار والاستمرار
، مثل أن يقال: أن يستقرّ في كذا، أو يستمرّ في كذا. ولفظ يستقرّ مختصّ بالمستجدّ، ولفظ يستمرّ مختصّ بالمستقرّ، ويكونان مع المجلس الساميّ بالياء، والمجلس السامي بغير ياء لأرباب السيوف والأقلام وغيرهم، أما المجلس العالي فإن كانت مكاتبته تفتتح بالدعاء، مثل: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي كنائب «1» السلطنة بالكرك، فإنه يقال فيه أن يفوّض إليه، وإن كانت مكاتبته تفتتح بصدرت هذه المكاتبة كنائب القدس ونحوه، فإنه يقال فيه: أن يستقرّ.
الخامسة- لفظ الترتيب
، مثل أن يقال: أن يرتّب في كذا، ويكون مع مجلس مضافا، مثل مجلس الأمير ومجلس القاضي ونحوهما، وربّما استعملت مع السامي بغير ياء.
السادسة- لفظ التقدّم
، مثل أن يقال: أن يقدّم فلان على الطائفة الفلانيّة ونحو ذلك.
قلت: وهاتان المرتبتان أعني السادسة والخامسة قد ذكرهما المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» فقال: وقد يقال أن يرتّب وأن يقدّم. وهما موجودان في كتابة معاصريه بمصر والشام. أما كتّاب زماننا فقد رفضوهما جملة وأضربوا عن استعمالهما بكلّ حال، واكتفوا عنهما بالمرتبة الرابعة وهي لفظ الاستقرار، والواجب إثباتهما لتفاوت ما بين المراتب. على أنّ استعمال لفظ يرتّب موجود في كلامهم بكثرة، ولفظ يقدّم لم يستعملوه إلّا في النّزر اليسير، والله أعلم. وهذه الألفاظ تقع في الطّرّة وفي أثناء الكلام على حدّ واحد.(9/275)
الوجه الثالث (الافتتاحات، وهي راجعة إلى أربع مراتب)
المرتبة الأولى- الافتتاح بلفظ: هذه بيعة
، أو هذا ما عهد، ونحو ذلك في البيعات والعهود على المذهب القديم، أو بالحمد لله. ويقع الابتداء به في العهود والبيعات إذا ابتديء العهد أو البيعة بخطبة على ما عليه استعمال أهل زماننا. وكذلك في التقاليد لأرباب السيوف والأقلام، والمراسيم المكبّرة لأرباب السيوف، والتواقيع الكبار لأرباب الأقلام.
المرتبة الثانية- الافتتاح بأمّا بعد حمد الله
. ويقع الابتداء به في المرتبة الثانية من أرباب المراسيم المكبّرة من أصحاب السّيوف، والمرتبة الثانية من أرباب التّواقيع من أصحاب الأقلام.
المرتبة الثالثة- الافتتاح برسم بالأمر الشريف
، ويقع الافتتاح به في المرتبة الثالثة لأرباب التّواقيع والمراسيم من سائر أرباب الولايات.
المرتبة الرابعة- ما كان يستعمل من الافتتاح «بأما بعد فإنّ كذا «1» » .
أو «من حسنت طرائقه، وحمدت خلائقه، فإنه أحقّ» ، وما أشبه ذلك، كما أشار إليه في «التعريف» إذ كان الان قد رفض وترك على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد كان ذلك يستعمل فيما تقدّم لأرباب السّيوف والأقلام جميعا.
الوجه الرابع (تعدّد التحميد في الخطبة أو في أثناء الكلام واتحاده)
فقد قال في «التعريف» في الكلام على عهود الملوك للملوك: «وكلّما كثرت التحميدات في الخطب، كان أكبر؛ لأنها تدلّ على عظم قدر النّعمة» «2»(9/276)
وذكر في الكلام على عهود الخلفاء عن الخلفاء أنه ينتهى في التحميد إلى سبعة «1» .
الوجه الخامس (الدعاء، وله ثلاثة مواضع)
الموضع الأوّل- في طرّة الولاية
بعد ذكر ما يكتب في الطّرّة «2» من ألقابه، ولا يزاد فيه على دعوة واحدة تناسبه.
الموضع الثاني- في أثناء الولاية
بعد استيفاء الألقاب وذكر الاسم، وهو ما في الطّرّة من الدعوة المناسبة له بغير زائد على ذلك.
الموضع الثالث-[في] آخر الولاية بالإعانة ونحوها
. قال في «التثقيف» «3» : وأقلّها دعوتان، وأكثرها أربع. قال في «التعريف» : ومن استصغر من المولّين لا يدعى له في آخر ولايته.
ثم قد تقدّم في المكاتبات أنّ الدعاء مع تنزيه الله تعالى، كأعزّ الله تعالى أنصار المقرّ، وضاعف الله [تعالى] نعمة الجناب ونحو ذلك أعلى من حذفه «4» ، كأدام الله سعده، وأعزّه الله ونحو ذلك، ولا شكّ أنه في الولايات كذلك.(9/277)
الوجه السادس (طول الكلام وقصره، فكلّما عظمت الوظيفة وارتفع قدر صاحبها كان الكلام فيها أبسط)
قال في «حسن التوسل» : ويحسن أن يكون الكلام في التقاليد منقسما أربعة أقسام متقاربة المقادير؛ فالرّبع الأوّل في الخطبة، والرّبع الثاني في ذكر موقع الإنعام في حق المقلّد، وذكر الرتبة وتفخيم أمرها، والربع الثالث في أوصاف المولّى «1» ، وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت وسمعة وشجاعة إن كان نائبا، ووصف الرأي والعدل وحسن التدبير والمعرفة بوجوه الأموال وعمارة البلاد، وصلاح الأحوال، وما يناسب ذلك إن كان وزيرا، وكذلك في كلّ رتبة بحسبها، والربع الرابع في الوصايا.
قال في «التعريف» : والذي أختاره «2» اختصار مقدار التحميدة [الّتي] «3» في الخطبة والخطب مطلقا وإطالة ما بعد ذلك، والإطناب في الوصايا [اللهم] «4» إلّا لمن جلّ قدره [وعظم أمره] «5» فإن الأولى الاقتصار في الوصايا على أهمّ الجمليّات، ويعتذر في الاقتصار «6» بما يعرف من فضله، ويعلم «7» من علمه، ويوثق به من تجربته ومن هذا ومثله. قال: والكاتب في هذا [كلّه] «8» بحسب ما يراه، ولكلّ واقعة مقال يليق بها، ولملبس كلّ رجل قدر معروف لا يليق به غيره، وفي هذا غنى لمن عرف، وكفاية لمن علم، على أن المقرّ الشهابي تابع في ذلك القاضي «محيى الدين بن عبد الظاهر «9» » رحمه الله، فإنك إذا تأملت تقاليده وتواقيعه، وجدتها كلّها كذلك، ولكلّ وجه ظاهر، فإنّ المطوّل للخطبة لا(9/278)
يخليها من براعة الاستهلال، المناسبة للحال، والمقصّر لها مراع لزيادة الإطناب في الوصف.
قلت: ولا يخفى أن ما ذكراه في التقاليد يجيء مثله في العهود لجريها على موجبها من مولّ ومولّى.
أما إذا كانت الولاية بيعة فإنه يجعل موضع الوصايا ذكر التزام الخليفة البرّ والإحسان للخلق، ووعد النظر في أمور الرعيّة، وصلاح أحوالهم، وذكر التحليف للخليفة، أو له وللسلطان إن كان معه سلطان قام بعقد البيعة له على الوفاء بالعهد والدّخول تحت الطاعة. قال في «حسن التوسل» : والأمر الجاري في ذلك على العادة معروف لكنه قد تقع أشياء خارجة عن العادة فيحتاج الكاتب فيها إلى حسن التصرّف على ما يقتضيه الحال، وذكر من ذلك تقليدا أنشأه لمتملّك سيس «1» ، وتقليدا كتبه بالفتوّة، وسيأتي ذكر ذلك مع ما شاكله في مواضعه إن شاء الله تعالى.
الوجه السابع (قطع الورق)
واعلم أنّ الولايات من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بجملتها ينحصر قطع الورق فيها في خمسة مقادير لا يتعدّاها:
أحدها- قطع البغداديّ الكامل
؛ وهو مختصّ بالبيعات والعهود مطلقا على أيّ الافتتاحات كان.
الثاني- قطع الثلثين من المنصوريّ
؛ وهو لأجل الولايات السّلطانيات لأرباب السّيوف وبعض أرباب الأقلام، ولا يفتتح فيها إلّا بالحمد.
الثالث- قطع النّصف منه
؛ وهو لما دون ذلك، ولا يفتتح فيه إلّا بالحمد أيضا.(9/279)
الرابع- قطع الثّلث منه
؛ وهو لما دون ذلك.
واعلم أنه إذا ولّي صاحب وظيفة تستحقّ قطع النصف وظيفة أخرى تستحق قطع العادة، فإنه يراعى مقدار صاحبها ويزاد على مقدار العادة، إلّا أنه لا يبلغ مبلغ رتبة وظيفته العليا، بل ينبغي أن يتوسّط بينهما، فيكتب له في قطع الثلث لتكون رتبة بين رتبتين فتحصل مراعاة تعظيمه من حيث الزيادة على قطع العادة، ومراعاة قدر الوظيفة من حيث إنها لم تبلغ شأو وظيفته العليا، أما إذا ولّي منحطّ القدر وظيفة تستحق القطع الكبير، فإنه يكتب له فيه، وتكون توليته لها رفعا إلى درجتها.
الخامس- قطع العادة؛ وهو أصغرها
. والأصل أن يفتتح فيه بلفظ «رسم بالأمر الشريف» وربما علت رتبة صاحب الولاية ولم يؤهّل للكتابة في قطع الثلث فيكتب له فيه: أما بعد حمد الله، وهو قليل الاستعمال، فإن استعمل أما بعد فإن كذا، أو إنّ أولى، أو إن أحقّ ونحو ذلك كتب في قطع العادة أيضا.(9/280)
الباب الثاني من المقالة الخامسة في البيعات، وفيه فصلان
الفصل الأوّل (في معناها)
البيعات جمع بيعة، وهي مصدر «1» بايع فلان الخليفة يبايعه مبايعة، ومعناها المعاقدة والمعاهدة، وهي مشبّهة بالبيع الحقيقيّ. قال أبو السّعادات ابن الأثير «2» في نهايته في غريب الحديث: كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ويقال: بايعه، وأعطاه صفقة(9/281)
يده، والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه.
وقد عظّم الله تعالى شأن البيعة وحذّر من نكثها بقوله خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«1» . وأمر بمبايعة المؤمنات في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«2» . وبايع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الصحابة رضوان الله عليهم بيعتين.(9/282)
الفصل الثاني (في ذكر تنويع البيعات، وهي نوعان)
النوع الأوّل (بيعات الخلفاء، وفيها سبعة مقاصد)
المقصد الأوّل (في أصل مشروعيتها)
فالأصل في ذلك بعد الإجماع ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها «أنّه لمّا توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اجتمعت «1» الأنصار «2» إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول:
ما أردت بذلك إلّا أنّي قد هيّأت كلاما أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر؛ ثم تكلّم أبو بكر فتكلّم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء «3» . فقال الحباب بن المنذر: لا والله لا نفعل! منّا أمير ومنكم أمير.(9/283)
فقال أبو بكر: لا ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء. فبايعوا عمر أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك فأنت سيّدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايع الناس» .
وهذه أوّل بيعة بالخلافة كانت في الإسلام، ولكن لم ينقل أنه رضي الله عنه كتب له مبايعة بذلك، ولعلّ ذلك لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا بايعوا لا يجحدون البيعة بعد صدورها، بخلاف ما بعد ذلك.
المقصد الثاني (في بيان أسباب البيعة الموجبة لأخذها على الرّعيّة
وهي خمسة أسباب:
السبب الأوّل- موت الخليفة المنتصب من غير عهد بالخلافة لأحد بعده،
كما في قصّة الصّدّيق المتقدّمة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو بتركها شورى في جماعة معيّنة، كما فعل عمر، رضي الله عنه، عند وفاته حيث تركها شورى في ستة:
عليّ بن أبي طالب، والزّبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، رضي الله عنهم.
السبب الثاني- خلع الخليفة المنتصب لموجب يقتضي الخلع
، فتحتاج الأمة [إلى] مبايعة إمام يقوم بأمورها، ويتحمّل بأعبائها.
السبب الثالث- أن يتوهّم الخليفة خروج ناحية من النّواحي عن الطاعة
فيوجّه إليهم من يأخذ البيعة له عليهم، لينقادوا لأمره، ويدخلوا تحت طاعته.
السبب الرابع- أن تؤخذ البيعة للخليفة المعهود إليه بعد وفاة العاهد
، كما كانت الخلفاء الفاطميّون تفعل في خلافتهم بمصر، وكانوا يسمّون البيعة سجلّا(9/284)
كما كانوا يسمّون غيرها بذلك.
السبب الخامس- أن يأخذ الخليفة المنتصب البيعة على الناس لوليّ عهده بالخلافة
بأن يكون خليفة بعده إمضاء لعهده، كما فعل معاوية رضي الله عنه في أخذه البيعة لولده يزيد.
المقصد الثالث (في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة البيعة)
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة البيعة أمورا:
منها- أن يأتي في براعة الاستهلال بما يتهيّأ له من اسم الخليفة أو لقبه كفلان الدّين، أو لقب الخلافة، كالمتوكّل أو المستكفي، أو مقتضى الحال الموجب للبيعة من موت أو خلع ونحوهما، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى.
ومنها- أن ينبّه على شرف رتبة الخلافة وعلوّ قدرها ورفعة شأنها، وأنها الغاية الّتي لا فوقها، والدرجة الّتي لا بعدها، وأن كلّ رتبة دون رتبتها، وكلّ منصب فرع عن منصبها.
ومنها- أن ينبّه على مسيس الحاجة إلى الإمام «1» ، ودعاية الضّرورة إليه، وأنه لا يستقيم أمر الوجود وحال الرعيّة إلّا به، ضرورة وجوب نصب الإمام بالإجماع، وإن شذّ عنه الأصمّ فخالف ذلك.
ومنها- أن يشير إلى أنّ صاحب البيعة استوعب شروط «2» الإمامة واجتمعت فيه، ويصفه منها بما يعزّ وجوده، ويتمدّح بحصوله، كالعلم(9/285)
والشّجاعة والرأي والكفاية، بخلاف ما لا يعزّ وجوده ولا يتمدّح به وإن كان من الشروط، كالحرّية والذّكورة والسمع والبصر ونحو ذلك، فإنّ الوصف بذلك لا وجه له.
ومنها- أن ينبّه على أفضلية صاحب البيعة وتقدّمه في الفضل واستيفاء الشّروط على غيره، ليخرج من الخلاف في جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل.
ومنها- أن ينبّه على أنّ المختارين لصاحب البيعة ممن يعتبر اختياره من أهل الحلّ والعقد، من العلماء والرّؤساء ووجوه الناس الذين يتيسّر حضورهم على الوجه المعتبر.
ومنها- أن ينبّه على تعيين المختارين للبيعة، إن كان الإمام الأوّل نصّ عليهم، إذ لا يصحّ الاختيار [من] غير من نصّ عليه، كما لا يصحّ إلّا تقليد من عهد إليه.
ومنها- أن ينبّه على جريان عقد البيعة من المختارين، ضرورة أنه إن انفرد شخص بشروط الإمامة في وقته لم يصر إماما بمجرّد ذلك.
ومنها- أن ينبّه على سبب خلع الخليفة الأوّل إن كانت البيعة مترتّبة على خلع، إذ لا يصح خلع الإمام القائم بلا سبب.
ومنها- أن ينبّه على قبول صاحب البيعة العقد وإجابته إليه إذ لا بدّ من قبوله.
ومنها- أن ينبّه على أنّ القبول وقع منه بالاختيار؛ لأنه لا يصحّ الإجبار على قبولها، اللهم إلّا إن كان بحيث لا يصلح للإمامة غيره فإنه يجبر عليها بلا خلاف.
ومنها- أن ينبّه على وقوع الشهادة على البيعة، خروجا من الخلاف في أنه هل يشترط الإشهاد على البيعة أم لا؟(9/286)
ومنها- أن ينبّه على أنها لم تقترن ببيعة في الحال ولا مسبوقة بأخرى، إذ لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعد إقليماهما، خلافا للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني «1» حيث جوّز نصب إمامين في إقليمين.
ومنها- أن ينبّه على أنه بمجرّد البيعة تجب الطاعة والانقياد إليه، ويجب على كافّة الأمة تفويض الأمور العامّة إليه، وطاعته فيما وافق حكم الشرع وإن كان جائرا.
ومنها- أن يعزّي في الخليفة الميت ويهنيّء بالمستقرّ إن كانت البيعة مبنيّة على موت خليفة، وأن يبيّن «2» سبب خلع الخليفة الأوّل إن كانت مرتّبة على خلع.
أما التعزية والتهنئة بموت الأوّل، فعليه جرى عامّة الكتّاب، إلّا أنه يختصّ في عرفهم بما إذا كان الخليفة الأوّل شديد القرب من الثاني، كأبيه وأخيه وابن عمّه.
وكان الأوّلون يتعانون ذلك في خطاب الخلفاء بالتهنئة بالخلافة بعد أقاربهم، وقد روي أنّ عطاء «3» بن أبي صيفيّ دخل على يزيد بن معاوية فهنّأه بالخلافة وعزّاه في أبيه فقال:
رزئت «4» بأمير المؤمنين خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، قضى معاوية(9/287)
نحبه، فغفر الله ذنبه، وولّيت الرّياسة، وكنت أحقّ بالسّياسة، فاحتسب عند الله جليل الرّزيّة، واشكره على جزيل العطيّة، وعظّم الله في معاوية أجرك، وأحسن على الخلافة عونك.
وتعرّضت أعرابيّة للمنصور في طريق مكّة بعد وفاة أبي العبّاس السّفّاح، فقالت:
يا أمير المؤمنين، احتسب الصّبر، وقدّم الشّكر، فقد أجزل الله لك الثّواب في الحالين، وأعظم عليك المنّة في الحادثين، سلبك خليفة الله، وأفادك خلافة الله، فسلّم فيما سلبك، واشكر فيما منحك، وتجاوز الله عن أمير المؤمنين، وخار لك فيما ملّكك من أمر الدّنيا والدّين.
وأما التعريف بسبب «1» الخلع، فلأنه لا يصحّ خلع الإمام بغير موجب للخلع.
ومنها- أن يشير إلى ذكر السلطان القائم بالبيعة إن كان القائم بها سلطانا على ما استقرّت عليه قاعدة الكتّاب في ذلك.
ومنها- أن ينبّه على أنّ من استحلف في البيعة من وجوه الدولة وأعيان المملكة إن جرى حلف، ويذكر صفة حلفهم وما التزموه من الأيمان المؤكّدة، والمواثيق المغلّظة.
المقصد الرابع (في بيان مواضع الخلافة الّتي يستدعي الحال كتابة المبايعات فيها)
وهي أربعة أمور:
أحدها- موت الخليفة المتقدّم عن غير عهد لخليفة بعده
، وهو موضوعها(9/288)
الأصليّ الذي عليه بنيت.
الثاني- أن يعهد الخليفة إلى خليفة بعده
، ثم يموت العاهد ويستقرّ المعهود إليه بالخلافة بالعهد بعده، فتؤخذ له البيعة العامّة على الرّعية، إظهارا لوقوع الإجماع على خلافته، والاتّفاق على إمامته.
الثالث- أن تؤخذ البيعة للخليفة بحضرة ولايته
، ثم تنفّذ الكتب إلى الأعمال لأخذ البيعة على أهلها، فيأخذ كلّ صاحب عمل له البيعة على أهل عمله.
الرابع- أن يعرض للخليفة خلل في حال خلافته
، من ظهور مخالف أو خروج خارجيّ، فيحتاج إلى تجديد البيعة له حيث وقع الخلاف.
ولكلّ من هذه الأحوال ضرب من الكتابة يحتاج فيه إلى بيان السبب الموجب لأخذ تلك البيعة.
المقصد الخامس (في بيان صورة ما يكتب في بيعات الخلفاء، وفيها أربعة مذاهب)
المذهب الأوّل (أن تفتتح المبايعة بلفظ «تبايع فلانا أمير المؤمنين» خطابا لمن تؤخذ عليه البيعة)
ويذكر ما يقع عليه عقد المبايعة، ويأتي بما سنح من أمر البيعة، ثم يذكر الحلف عليها، وعلى ذلك جرى مصطلح كتّاب خلفاء بني أميّة، ثم خلفاء بني العبّاس بعدهم ببغداد.
واعلم أنه قد تقدّم في المقصد الأوّل من هذا الفصل أنه لم ينقل أنه كتب للصدّيق رضي الله عنه ولا لمن ولي الخلافة بعده من الصّحابة من غير عهد بيعة. ولما كانت خلافة بني أميّة، وآل الأمر إلى عبد الملك بن مروان، وأقام الحجّاج ابن يوسف على إمارة العراق، وأخذ في أخذ البيعة لعبد الملك بالعراق، رتّب أيمانا(9/289)
مغلّظة تشتمل على الحلف بالله تعالى والطّلاق والعناق والأيمان المحرجات يحلف بها على البيعة، واشتهرت بين الفقهاء بأيمان البيعة، واطّرد أمرها في الدولة العبّاسية بعد ذلك، وجرى مصطلحهم في ذلك على هذا الأسلوب.
وهذه نسخة مبايعة، ذكرها أبو الحسين «1» بن إسحاق الصابي في كتابه «غرر البلاغة» وهي:
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع واختيار، وتبرّع وإيثار، وإعلان وإسرار، وإظهار وإضمار، وصحّة من نغل، وسلامة من غير دغل «2» ، وثبات من غير تبديل، ووقار من غير تأويل، واعتراف بما فيها من اجتماع الشّمل، واتّصال الحبل، وانتظام الأمور، وصلاح الجمهور، وحقن الدّماء، وسكون الدّهماء، وسعادة الخاصّة والعامّة، وحسن العائدة على أهل الملّة والذّمّة- على أنّ عبد الله فلانا أمير المؤمنين عبد الله، الذي اصطفاه، وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحق، وموجبة على الخلق، وموردة لهم موارد الأمن، وعاقدة لهم معاقد اليمن، وولايته مؤذنة لهم بجميل الصّنع، ومؤدّية بهم إلى جزيل النّفع، وإمامته الإمامة الّتي اقترن بها الخير والبركة، والمصلحة العامّة المشتركة، وأمّل فيها قمع الملحد الجاحد، وردّ الجائر الحائد، ووقم العاصي الخالع، وعطف الغازي المنازع- وعلى أنّك وليّ أوليائه، وعدوّ أعدائه، من كلّ داخل في الجملة، وخارج عن الملّة، وحائد عن الدّعوة. ومتمسّك بما يدليه، عن إخلاص من رأيك، وحقيقة من وفائك، لا تنقض ولا تنكث ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع، ولا تداجي ولا تخاتل، علانيتك مثل نيّتك،(9/290)
وقولك مثل طويّتك- وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على مرّ الأيام وتطاولها، وتغيّر الأحوال وتنقّلها، واختلاف الأزمان وتقلّبها- على أنّك في كلّ ذلك من أهل الملّة الإسلامية ودعاتها، وأعوان الدولة العبّاسيّة ورعاتها؛ لا يداخل قولك مواربة ولا مداهنة، ولا تعترضه مغالطة ولا تتعقّبه مخالفة، ولا تخيس به أمانة، ولا تغلّه خيانة، حتّى تلقى الله تعالى مقيما على أمرك، وفيّا بعهدك، إذ كان مبايعو ولاة الأمور وخلفاء الله تعالى في الأرض إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«1» .
عليك بهذه البيعة- الّتي أعطيت بها صفقة يدك، وأصفيت فيها سريرة قلبك، والتزمت القيام بها ما طال عمرك، وامتدّ أجلك- عهد الله إنّ عهد الله كان مسؤولا، وما أخذه على أنبيائه ورسله وملائكته وحملة عرشه من أيمان مغلّظة وعهود مؤكّدة، ومواثيق مشدّدة، على أنك تسمع وتصغي، وتطيع ولا تعصي، وتعتدل ولا تميل، وتستقيم ولا تحيد، وتفي ولا تغدر، وتثبت ولا تتغيّر، فمتى زلت عن هذه المحجّة حاقرا لأمانتك، ورافعا لديانتك، فجحدت الله تعالى ربوبيّته، وأنكرته وحدانيّته، وقطعت عصمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وجذذتها، ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها، ولقيت الله يوم الحشر إليه، والعرض عليه، مخالفا لأمره، وخائنا لعهده، ومقيما على الإنكار له، ومصرّا على الإشراك به، وكلّ ما حلّله الله لك محرّم عليك، وكلّ ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك، وارتجاعك ما أعطيته في قولك، من مال موجود ومذخور، ومصوغ ومضروب، وسارح ومربوط، وسائم ومعقول، وأرض وضيعة، وعقار وعقده، ومملوك وأمة، صدقة على المساكين، محرّمة على مرّ السّنين، وكلّ امرأة لك تملك شعرها وبشرها، وأخرى تتزّوجها بعدها، طالق ثلاثا بتاتا، طلاق الحرج والسّنّة لا رجعة فيه ولا مثنويّة، وعليك الحجّ إلى بيت الله الحرام الذي بمكّة ثلاثين دفعة(9/291)
حاسرا حافيا، راجلا ماشيا، نذرا لازما، ووعدا صادقا، لا يبرّئك منها إلّا القضاء لها، والوفاء بها، ولا قبل الله منك توبة ولا رجعة، وخذلك يوم الاستنصار بحوله، وأسلمك عند الاعتصام بحبله، وهذه اليمين قولك قلتها قولا فصيحا، وسردتها سردا صحيحا، وأخلصت فيها سرّك إخلاصا مبينا، وصدقت فيها عزمك صدقا يقينا، والنية فيها نية فلان أمير المؤمنين دون نيّتك، والطّويّة [فيها طويّته] دون طويّتك، وأشهدت الله على نفسك بذلك وكفى بالله شهيدا، يوم تجد كلّ نفس عليها حافظا ورقيبا.
وهذه نسخة بيعة أخرى من هذا الأسلوب، أوردها ابن «1» حمدون في تذكرته، وربّما وافق فيها بعض ألفاظ البيعة السابقة، وهي:
تبايع الإمام أمير المؤمنين فلانا بيعة طوع وإيثار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويّتك، وصدق من نيّتك، وانشراح صدرك وصحّة عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرّا بفضلها، مذعنا بحقّها، معترفا ببركتها، ومعتدّا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافّة، واجتماع الكلمة [من] الخاصّة والعامّة، ولمّ الشّعث، وأمن العواقب، وسكون الدّهماء، وعزّ الأولياء، وقمع الأعداء- على أنّ فلانا عبد الله وخليفته، المفترض طاعته، والواجب على الأمة إقامته وولايته، اللازم لهم(9/292)
القيام بحقّه، والوفاء بعهده، لا تشكّ فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن في أمره ولا تميل. وأنك وليّ وليّه، وعدوّ عدوّه، من خاصّ وعامّ، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسّك في بيعته بوفاء العهد، وذمّة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وظاهرك فيه وفق باطنك- على أن أعطيت الله هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إيّاها في عنقك، لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك- على أن لا تتأوّل عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها، ولا تقعد عن نصره في الرّخاء والشّدّة، ولا تدع النصر له في كلّ حال راهنة وحادثة، حتّى تلقى الله مؤذنا بها، مؤدّيا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر، وخلفاء الله في الأرض إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «1» .
عليك بهذه البيعة- الّتي طوّقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت فيها صفقتك، وما شرط عليك فيها، من وفاء وموالاة، ونصح ومشايعة، وطاعة وموافقة واجتهاد ومتابعة- عهد الله إنّ عهد الله كان مسؤولا. وما أخذ الله تعالى على أنبيائه ورسله عليهم السّلام، وعلى من أخذ من عباده، وكيدات مواثيقه ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسّك بها ولا تبدّل، وتستقيم ولا تميل، وإن نكثت هذه البيعة أو بدّلت شرطا من شروطها، أو عفّيت رسما من رسومها، أو غيّرت حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا أو محتالا أو متأوّلا، أو زغت عن السبيل الّتي يسلكها من لا يحقّر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود، فكلّ ما تملكه من عين أو ورق أو آنية، أو عقار أو سائمة «2» ، أو زرع، أو صرع «3» ، أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتدّة، والأموال المدّخرة،(9/293)
صدقة على المساكين، محرّم عليك أن ترجع من ذلك إلى شيء من مالك بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه، وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الأيمان، وكلّ ما تعتدّه في بقيّة عمرك من مال يقلّ خطره أو يجلّ فتلك سبيله إلى أن تتوفّاك منيّتك أو يأتيك أجلك، وكلّ امرأة لك «1» اليوم، وأخرى تتزوجها بعدها مدّة بقائك طالق ثلاثا بتاتا، طلاق الحرج والسّنّة لا مثنويّة فيه ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة حافيا، حاسرا راجلا، لا يرضى الله منك إلّا بالوفاء بها، ولا يقبل الله منك صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج إليه، وبرّأك من حوله وقوّته، وألجأك إلى حولك وقوّتك، والله عزّ وجلّ بذلك شهيد، وكفى به شهيدا.
وهذه نسخة أخرى من هذا الأسلوب، أوردها أبو الحسين الصابي في «غرر البلاغة» وهي:
تبايع أمير المؤمنين بقوّة من بصيرتك، وصحّة من سريرتك، وصفاء من عقيدتك وصدق من عزيمتك، على الرّضا [به] والوفاء له، والإخلاص في طاعته، والاجتهاد في مناصحته، وعقد النيّة على موالاته، وبذل القدرة في ممالاته، وأن تكون لأنصاره عونا، ولأوليائه حزبا، ولأعدائه حربا، عارفين بما في ذلك من الحظّ، ومعترفين بما يلزم فيه من الحقّ، ومحافظين على ما حرس الملّة الإسلاميّة، والدولة العبّاسية، ثبّت الله قواعدها، وأحكم معاقدها، وزادها استمرارا على مرّ الدّهور، واستقرارا على كرّ العصور، وعزّا على تنقّل الأمور، واشتدادا على تغلّب المقدور، فإن خالفت ذلك مسرّا أو معلنا، وحلت عنه مظهرا أو مبطنا، وحللت عقوده ناكثا أو ناقضا، وتأوّلت فيه محاولا للخروج منه،(9/294)
واستثنيت عليه طالبا للرّجوع عنه، فبرّأني الله من حوله وقوّته، وسلبني ما وهب من فضله ونعمته، ومنعني ما وعد من رأفته ورحمته، وخلّاني من يديه، يوم الفزع الأكبر لديه، وحنث كلّ يمين حلفها المسلمون على قديم الأيّام وحديثها، والتّناهي في تأكيدها وتشديدها، وأعروها من لباس الشّبهة، وأخلوها من دواعي المخاتلة، وهذه اليمين يميني، أوردتها على صدق من نيّتي، وصحّة من عزيمتي، واتّفاق من سرّي وعلانيتي، وسردتها سردا متتابعا من غير فصل، وتلفظت بها تلفّظا من غير قطع، والنية فيها نية فلان، على حضور منه وغيب، وبعد وقرب، وأشهد الله تعالى بما عقدته على نفسي منها، وكفى بالله شهيدا على من أشهده، وحسيبا على من اجترأ على إخفار عهده، ونقض عقده.
قلت: فإن كان من تؤخذ عليه المبايعة اثنين، أتي في المبايعة بصيغة التثنية، أو ثلاثة فأكثر، أتي بصيغة الجمع. ولم أقف على كيفية وضعهم لذلك في الكتابة، والذي يظهر أن المبايعة كانت تكتب على الصورة المتقدّمة، ثم يكتب المبايعون خطوطهم بصدورها عنهم، كما يفعل الآن في تحليف من يحلّف من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف بالمملكة المصرية والممالك الشامية، أو يشهد عليهم في آخر البيعة بمعاقدتهم عليها ورضاهم بها ونحو ذلك.
المذهب الثاني (مما يكتب في بيعات الخلفاء)
أن تفتتح المبايعة بلفظ «من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلاني» إلى أهل دولته، ونحو «1» ذلك بالسّلام عليهم، ويؤتى بما سنح من الكلام، ثم يقال: أمّا بعد، فالحمد لله، ويؤتى على وصفه بشريف المناقب، واستحقاقه للخلافة، واستجماعه لشروطها، وما يجري هذا المجرى، ثم(9/295)
ينخرط في سلك البيعة، ويذكر القائم بأخذها على الناس من سلطان أو وزير عظيم أو نحو ذلك، ويذكر من أمر ولاية الخليفة ما فيه استجلاب قلوب الرعية والأخذ بخواطرهم وما ينخرط في هذا السّلك.
وهذه نسخة بيعة من هذا الأسلوب، لوليّ عهد بعد موت العاهد، كتب بها لبعض خلفاء الفاطميين، ليس فيها تعرّض لذكر الوزير القائم بها، وهي:
من عبد الله ووليّه «أبي فلان فلان بن فلان» الإمام الفلانيّ، بأمر الله تعالى أمير المؤمنين، إلى من يضمّه نطاق الدولة العلوية، من أمرائها وأعيانها، وكبرائها وأوليائها، على اتّساع شعوبهم، وعساكرها على اختلاف ضروبهم، وقبائل عربها القيسيّة واليمنيّة، وكافّة من تشمله أقطارها من أجناس الرعيّة، الأمير منهم والمأمور، والمشهور منهم والمغمور، والأسود والأحمر، والأصغر والأكبر، وفّقهم الله وبارك فيهم.
سلام عليكم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما.
أما بعد، فالحمد لله مولي المنّ الجسيم، ومبدي الطّول العميم، ومانح جزيل الأجر بالصّبر العظيم، مفيد النعم المتشعبة الفنون، ومدني المهج المتعالية لتناول المنون، ومبيد الأعمار ومفنيها، وناشر الأموات ومحييها، والفاتح إذا استغلقت الأبواب، والقائل: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ
«1» الذي لا يغيّر ملكه مرور الغير، ولا يصرف سلطانه تصرّف القدر، ولا يدرك قدمه وأزليّته، ولا ينفد بقاؤه وسرمديّته، مسلم الأنام «2» للحمام، ومصمي الأنفس بسهام(9/296)
الاخترام، ومورد البشر من المنيّة منهلا ما برحوا في رنقه «1» يكرعون، ولمرّه المشرق يتجرّعون، ومعزز ذلك بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ
«2» .
والحمد لله الذي نصب الأنبياء لمراشده أعلاما، وحفظ ببعثهم من الحقّ والهدى نظاما، وجعل نبوّة جدّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، لنبوّاتهم ختاما، وعضّد بوصيّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كمالا للدّين وإتماما، واستخلص من ذرّيتهما أئمة هادين إتقانا لصنعته وإحكاما، وأقام الحجّة على الأمم بأن أقام لكلّ زمان منهم إماما، وعاقب بين أنوار الإمامة فإذا انقبض نور انبسط نور، وتابع ظهور بدوره ليشرق طالع إثر غارب يغور، رحمة شاملة للعالمين، وحكمة تامّة حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولم يخل نبيّا مع ما شرّفه [به] من تناول وحيه وتلقّيه، ولا عصم إماما مع اختصاصه بفروع منصب الإمامة وترقّيه، من لقاء المنيّة، ووداع الأمنيّة، بل أجّل لكلّ منهم أجلا مكتوبا، وفسّح له أمدا محصورا محسوبا، لا يصرفه عن وصوله فضيلة، ولا يصل إلى تجاوزه بقوّة ولا حيلة، قدرة محكمة الأسباب، وعبرة واضحة لأولي الألباب، وقضيّة أوضحها فرقانه الذي أقرّ بإعجازه الجاحدون، إذ يقول مخاطبا لنبيه: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ
«3» .
والحمد لله الذي منح أمير المؤمنين من خصائص الإمامة وأنوارها، وحاز له من ذخائرها وأودعه من أسرارها، ما خوّله فاخر تراثها، وأصار له شرف ميراثها، وجعله القائم بحقّه، والمرشد لخلقه، والماحي بهداه ليلا من الضّلال بهيما، والحاوي بخلافته مجدا لا يزال ثناؤه عظيما: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ(9/297)
وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً
«1» .
يحمده أمير المؤمنين على أن أوضح بآبائه الأئمة سبل الحقائق، فأصبحوا خلفاء الخالق وأئمّة الخلائق، وخوّله ما اختصّهم به من الإمامة، ورفعه بها إلى أشمخ منازل العلا وأرفع مواطن الكرامة، ويستمدّه شكرا يوازي النّعم الّتي أثبتت [له] على سرير الخلافة وسرّها قدما، وصبرا يوازن الفجيعة الّتي قلّ لها فيض المدامع دما.
ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي فضّ بجهاده جموع الإلحاد، وحصد باجتهاده من مال عن الهدى وحاد، وصدع بما أمر به حتّى عمّ التوحيد، ودانت لمعجزاته الأمم وقد دعاها وهو المفرد الوحيد، ولم يزل مبالغا في مرضاة ربّه، حريصا على إظهار دينه بيده ولسانه وقلبه، حتّى استأثر به وقبضه، وبدّله من الدنيا شرف جواره وعوّضه، وأصاره إليه أفضل نبيّ بصّر وبشّر، وأحيا دين الله وأنشر، وعلى أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إمام الأمّة، وأبي الأئمّة، وقدوة السعداء، وسيّد الشّهداء، وعاضد الدّين بذي الفقار، ومن لم يزل الحقّ إلى ذبّه شديد الافتقار، صلّى الله عليه وعلى آبائه والأئمة من ذرّيّتهما الذين أيقظوا العقول بإرشادهم من السّنة، وأفاضوا من العدل والإحسان ما ألهج بتمجيدهم الألسنة.
وإنّ الإمام الفلانيّ لدين الله أمير المؤمنين كان وليّا لله شرّفه الله واستخلصه، وأفرده بإمامة عصره وخصّصه، وفوّض إليه أمر خلافته، وأحلّه محلّا تقع مطارح الهمم دون علوّه وإنافته، فقام بحقّ الله ونهض، وعمل بأمره فيما سنّ وفرض، وقهر الأعداء بسطواته وعزائمه، وصرّف الأمور بأزمّة التدبير وخزائمه، وبالغ في الذّبّ عن أشياع الملّة، واجتهد في جهاد أعداء القبلة، ووقف على مصلحة العباد والبلاد أمله، ووفّر على ما يحظي عند الله قوله(9/298)
وعمله، ولم يترك في مرضاة خالقه مشقّة إلّا احتملها، ولا رويّة إلّا صرّفها في إرشاد خلقه وأعملها، حتّى بلغ الغاية المحدودة، واستكمل الأنفاس المعدودة، وأحسن الله له الاختيار، واثر له النّقلة من هذه الدار والزّلفى «1» بسكنى دار القرار، والفوز بمصاحبة الأنبياء الأبرار، والحلول في حظائر قدسه مع آبائه الأئمّة الأطهار، فسار إليه طاهر السّريرة، جميل المذهب والصّورة، مستوجبا بسعيه أفضل رضوانه، ممهّدا بالتقوى لتدبيره أكناف جنانه.
وأمير المؤمنين [يحتسب] عند الله هذه الرّزيّة الّتي عظم بها المصاب، وعظم عند تجرّعها الصّاب، وأضرمت القلوب نارا، وأجرت الآماق دما ممارا «2» ، وأطاشت بهولها الأكباد بالحرق، وكحلت الأجفان بالأرق، وكادت لهجومها الصدور تقذف أفئدتها، والدنيا تنزع نضرتها وبهجتها، وقواعد الملّة تضعف وتهي، والخطوب الكارثة تصرّ «3» ولا تنتهي، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! تسليما لأمره الذي لا يدفع، وإذعانا لقضائه الذي لا يصدّ ولا يمنع.
وكان الإمام الفلانيّ لدين الله أمير المؤمنين عند نقلته جعل لي عقد الخلافة، ونصّ عليّ بارتقاء منصبها المخصوص بالإنافة، وأفضى إليّ بسرّها المكنون، وأودعني غامض علمها المصون، وعهد إليّ أن أشملكم بالعدل والإحسان، والعطف والحنان، والرحمة والغفران، والمنّ الرائق الذي لا يكدّره امتنان، وأن أكون لأعلام الهدى ناشرا، وبما أرضى الله مجاهرا، ولأحزاب القبلة مظافرا مظاهرا، ولأعداء الملة مرغما قاهرا، ولمنار التوحيد رافعا، وعن حوزة الإسلام بغاية الإمكان دافعا، مع علمه بما خصصت به من كرم الشّيم،(9/299)
وفطرت عليه من الخلال «1» القاضية مصالح الأمم، وأوتيته من استحقاق الإمامة واستيجابها، ومنحته من الخصائص المبرمة لأسبابها.
فتعزّوا جميع الأولياء، وكافّة الأمراء «2» ، وجميع الأجناد، والحاضر من الرّعايا والباد، عن إمامكم المنقول إلى دار الكرامة، بإمامكم الحاضر الموجود الذي أورثه الله مقامه، وادخلوا في بيعته بصدور مشروحة نقيّة، وقلوب على محض الطاعة مطويّة، ونيّات في الولاء والمشايعة مرضيّة، وبصائر لا تزال بنور الهدى والاستبصار مضيّة، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يجعل إمامته محظوظة بالإقبال، دائمة الكمال، صافية من الأكدار، معضودة بمواتاة الأقدار، ويوالي حمده على ما منحه من الاصطفاء الذي جعله لأمور الدّين والدنيا قواما، وأقامه للبريّة سيّدا وإماما، فاعلموا هذا واعملوا به، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا.
وهذه نسخة بيعة، كتب بها عن الحافظ «3» لدين الله الفاطميّ بعد وفاة ابن عمه الآمر «4» بأحكام الله، قام بعقدها الوزير أبو الفتح يانس الحافظي، اقتصر(9/300)
فيها على تحميدة واحدة، وعزّى بالخليفة الميّت، ثم انتقل إلى مقصود البيعة، وهي:
من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون، الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى كافّة أهل الدولة شريفهم ومشروفهم، وأميرهم ومأمورهم، وكبيرهم وصغيرهم، وأحمرهم وأسودهم، وفّقهم الله وبارك فيهم.
سلام عليكم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلي على جدّه محمد خاتم النبيين وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فالحمد لله اللطيف بعباده وبريّته، الرؤوف في أقداره وأقضيته، المهيمن فلا يخرج شيء من إرادته ومشيئته، ذي النّعم الفائضة الغامرة، والمنن المتتابعة المتظاهرة، والآلاء المتوالية المتناصرة، القائل في محكم كتابه:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
«1» مدبّر أرضه بخلفائه، الذين هم زينة للدنيا وبهجة، وهادي خلقه بأوليائه، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة، فسبحان الذي هو للنعم مسبغ وبالكرم جدير، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
«2» .
يحمده أمير المؤمنين أن جعله خليفة دون أهل زمانه، وأوجب ثواب(9/301)
المستجيبين له بكفالته وضمانه، وجعلهم يوم الفزع الأكبر مكنوفين بحفظه مشمولين بأمانه، وأوزعه الشّكر على ما استرعاه إيّاه من أمر هذه الأمّة، ونقله إليه من تراث آبائه الهداة الأئمّة، وكشفه بإمامته من أفجع نائبة وأفظع ملمّة.
وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي أخبر الأنبياء المرسلون بصفته ونعته، وتداولوا البشرى بما يستقبل من زمانه وبعثه، وذكروه فيما أتوا به من كلّ كتاب أوحاه الله وأنزله، واعترفوا بأنه أفضل من كلّ من نبّأه الله وأرسله، فيسّر الله سبحانه ما كان مرتقبا من ظهوره، وأذن في إشراق الأرض بما انتشر في آفاقها من نوره، وبعثه- جلّت قدرته- إلى الأمّة بأسرها قاطبة، وجعل ألسنة الأغماد مجادلة لمن خالف شرعه مخاطبة، فكان لآية الكفر ماحيا، وفي مصالح البريّة ساعيا، وإلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة داعيا، إلى أن لمعت آيات الحقّ وسطعت، وانحسمت مادّة الباطل وانقطعت، وظهر من آياته ما كبّر له المخبتون، واشتهر من معجزاته ما خصم به المتعنّتون، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
«1» . فحينئذ نقله الله إلى ما أعدّ له من جنّاته، وخصّه بشرف الشّفاعة في يوم مجازاته، وصدقه وعده فيما بوّأه من النعيم المقيم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*
«2» .
وعلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أولى الناس بالنّبيّ، وأوّل من اتّبعه من ذوي قرابة وأجنبيّ، وابن عمّه الذي اختصّه بمؤاخاته، وجعله خليفة على كافة الناس بعد وفاته، وتحمّل بأمر الله، فيما ولّاه وأولاه، وخطب الناس في حجّة الوداع فقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ، وعلى آلهما الكرام الأبرار، وعترتهما المصطفين الأخيار، وهداة المسلمين وقدوتهم، وأمراء المؤمنين وأئمّتهم، الذين حكموا فأقسطوا وما قسطوا، وسلك الحاضرون منهم(9/302)
سنن أسلافهم الذين فرطوا، واقتفوا آثارهم في السّياسة فما قصّروا ولا فرّطوا، ولم يزل كلّ منهم عاملا من ذلك بما حسّن أيامه، فاعلا في أمر الدّين ما رفع مناره ونشر أعلامه، حتّى اختار الله له ما عنده فنصّ على من أقامه الاستحقاق مقامه، وسلّم عليهم أجمعين سلاما لا انقضاء لأمده، ولا انقطاع لمدده، فنيل المطالب بكرمه وملكوت كل شيء بيده.
وإنّ الحقّ إن خفي حينا فلا بدّ لهلاله من الإبدار وانبساط النّور، وإن الشمس إن تورات بالحجاب فما أوشك عودتها إلى البزوغ والظّهور، وأنّ حسن الصبر إلى يبلغ الكتاب أجله يؤمن من تدلية الشيطان بالغرور، قال الله عزّ وجلّ في كتابه الذي هدانا به: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» .
وإنّ الله تعالى لرأفته بمن أبدعه من خلقه وأنشاه، ولسابق علمه في عمارة هذه الدار على ما أراده عزّ وجلّ وشاه، لا يخلي الأرض من نور يستضيء به الساري في الليل البهيم، ولا يدع الأمّة بلا إمام يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، فهو جلّ وعلا أعدل من أن يجعل جيد الإيمان من حلى الإمامة عاطلا، أو يترك الخلق هملا وقد قال: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «2»
بل يقطع أعذار العباد فيما خلقهم له ووقفهم، ويهديهم بالأئمة إلى التوفّر على عمل ما ألزمهم وكلّفهم، فالأمور محروسة الترتيب محفوظة النّظام، والأرض إذا أظلمت لفقد إمام، أضاءت وأشرقت لقيام إمام. وقد علم الكافّة أنّ حجة الله في أرضه، والمجتنب من الأعمال ما لم يرضه، والمحسن إلى البريّة ببعثه على المصالح وحضّه، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين الذي آتاه الله الحكم صبيّا، ورفعه من إرث النبوّة مكانا عليّا، واستخلفه على خلقه فكان(9/303)
للفضل باسطا ولراية العدل ناشرا، وجعله لشمل المحاسن جامعا ولأئمة الخلفاء الراشدين عاشرا، لم يزل ناظرا في البعيد والقريب، عاملا في سياسة الأمّة عمل المجتهد المصيب، مستقصيا حرصه في المحافظة على إعزاز الملّة، مستنفدا جهده في الجهاد فيمن خالف أهل القبلة، باذلا من جزيل العطاء وكثيره ما لا يعرف معه أحد من خاصّته بالفقر ولا ينسب معه إلى القلّة، حتّى استوفى مدّته الموهوبة، واستوعب غايته المكتوبة، وناله من القضاء ما أخرجه من الدّنيا سعيدا، وأقدمه على الله شهيدا، وأصاره إلى ما أعدّ له من نعيم لا يريد به بديلا ولا يطلب عليه مزيدا، وكان انتقاله إلى جوار ربّه تبارك وتعالى، كانتقال أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بغيا من الكافرين واغتيالا. وقد كان يذكر ما يعلمه من حقّ أمير المؤمنين «1» تارة مجاهرا وتارة مخافتا، إلى أن صار على بسط القول في ذلك وتبيينه مثابرا متهافتا، وأفصح بما كان مستبهما مستعجما، وصرّح بما لم يزل في كشفه ممرّضا وعن إفصاحه محجما، وذلك لمّا ألفاه أشرف فرع من سنخ «2» النبوّة، ورآه أكرم في فخارة الأبوّة، وعلمه أبيه «3» الأمير أبي «4» القاسم عمّه سلام الله عليه الذي هو سليل الإمامة القليل المثل، ونجل الخلافة المخصوص من الفخر بأجزل حظّ وأوفر كفل، كان المستنصر بالله أمير المؤمنين سمّاه وليّ عهد المسلمين، وتضمّن ذلك ما خرجت به توقيعاته وتسويغاته إلى الدواوين، وثبّت في طرز الأبنية، وكتب الاتبياعات والأشرية، وعلمته الكافّة علما يقينا ظلّت فيه غير مرتابة ولا ممترية، وفي ضمن ذلك باطن لا يعقله إلا العالمون، ولا ينكره إلّا من قال فيهم: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ «5» .
وذلك أنّ أمير المؤمنين الغرض والمقصد، والبغية والمطلب، وله عهد بالتلويح(9/304)
والإشارة، وإليه أوحى بالنّصّ وإن لم يفصح فيه بالعبارة، وكان والده الأمير أبو القاسم- قدّس الله روحه- بمنزلة الأشجار الّتي يتأنّى بها إلى أن يظهر زهرها، والأكمام الّتي ينتظر بها إلى أن يخرج ثمرها، والزّرجونة الّتي نقلت الماء إلى العنقود، والسّحابة الّتي حملت الغيث فعمّ نفعه أهل السّهول والنّجود، ومما يبيّن ذلك ويوضّحه، ويحقّقه ويصحّحه، وتثلج به للمؤمنين صدور وتقوى أفئدة، وتشهد البصائر أنّ النعمة به على الإسلام متتابعة متجدّدة، أنّ الأمرين إذا تشابها من كلّ الجهات، وكانت بينهما مدد متطاولات متباعدات، فالسابق منهما يمهّد للتالي، والأوّل أبدا رمز على الثاني، ولا خلاف بين كافّة المسلمين في أنّ الله تعالى أمر جدّنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعقد ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليه فعقدها له يوم غدير خم، وأمير المؤمنين عليّ ابن عمّه وكان له حينئذ عمّ حاضر، وأمضى ما أمر به والإسلام يومئذ غضّ وعوده ناضر، وكذلك أنّ أمير المؤمنين، هو ابن عم الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين، وقد نصّ مع حضور عمومته عليه، وفعل ما فعل ندّه رسول الله اقتداء به وانتهاء إليه، وكان أبو عليّ «1» المنصور الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، جعل ابنه عبد الرّحيم إلياس وليّ عهد المسلمين، وميّزه بذلك على كافّة الناس أجمعين، ونقش اسمه في السّكّة، وأمر بالدعاء له على المنابر وبمكّة، وألبسه شدّة الوقار المرصّعة بالجوهر، واستنابه عنه إمام الأعياد في الصلاة وفي رقيّ المنبر، وأقامه مقام نفسه في الاستغفار لمن يتوفّى من خواصّ أوليائه، وفي الشّفاعة لهم بمتقبّل مناجاته ومسموع دعائه، مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة، ولا يبلغ درجة الإمامة، وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله- صلّى الله عليه- هو الذي خلق لها، وحين حمّل أعباءها أقلّها وما استثقلها، وإنما تحت ذلك معنى لطيف غامض، وسرّ عن جمهور الناس مستتر وبرقه لأولي البصائر وامض، وهو أنّ مكنون الحكمة، ومكتوم علم الأمة، يدلّان على أنّ الإمام المنصور أبا عليّ، سيفعل فيمن(9/305)
يستخلفه بعده مثل فعل النبيّ، وقد علم الإمام الحاكم- عليه السّلام- أنّ المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله، لأنّ ولده حاضر والمقصود من لا ولد له، فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيسا لما سيكون، ونقلا للنّفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطّمأنينة والسّكون. فلمّا أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي عليّ الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة الّتي جعلها واجبا له حقّا، ووافق جدّه- عليه السّلام- وكان لقبه من لقبه مشتقّا، ظهر المنكتم، ووضح المستتر، وعاد التعريض تصريحا، والتمريض تصحيحا، والرّمز إبانة، والنصّ على أمير المؤمنين أمانة، فاقتدى بجدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته، وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيّته، وكشف عمّا أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدّس الله لطيفته فتساوى الخاصّ والعامّ في معرفته، ثم حلّه أمير المؤمنين محلّ نفسه في الجلوس على الأسمطة «1» ، وعمل لأوليائه ورعيّته في ذلك بالقضايا المحيطة، ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله، وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله، وإذ قد تبيّن هذا الأمر الواضح الجليّ، وتساوى في علمه الشانيء والوليّ، وعلم هو ما خصّ الله به أمير المؤمنين من الإمامة، وأزاله عن العقول من ضباب متكاثف وغمامة، وشمله به من فضله ورافته، ونصبه فيه من منصب خلافته الّتي أيّدها بوليّه ووزيره، وعضّدها بصفيّه وظهيره، السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظيّ الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل، وصرف به عن مملكته محذور الصّروف والغوائل، وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصا جمع فيه أسباب(9/306)
المناقب والفضائل، وأيده بالتوفيق في قوله وفعله فأربى على الأواخر والأوائل، ودلّت سيرته الفاضلة على أنه قد عمر ما بين الله وبينه، وحكمت سنّته العادلة أن كلّ مدح لا يبلغ ثناءه وكلّ وصف لا يقع إلّا دونه، والله يضاعف نعمه عنده ولديه، ويفتح لأمير المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها على يديه، وهذا يحقّق أنّ الإسلام قد أحدث له قوّة وتمكينا، وأن ذوي الإيمان قد ازدادوا إيمانا واستبصارا ويقينا، فيجب عليكم لأمير المؤمنين أن تدخلوا في بيعته منشرحة صدوركم، طيّبة نفوسكم، مجتهدين له في خدمة تقابلون بها إحسانه، متقرّبين إليه بمناصحة تحظيكم عند الله سبحانه، عاملين بشرائط البيعة المأخوذة على أمثالكم الذين يتّبعون في فعلهم، ويقع الإجماع بمثلهم، ولكم على أمير المؤمنين أن يكون بكم رحيما، وعن الصغائر متجاوزا كريما، وبالكافّة رؤوفا رفيقا، وعلى الرّعايا عطوفا شفيقا، وأن يصفح عن المسيء ما لم يأت كبيرة، ويبالغ في الإحسان إلى من أحسن السّيرة، ويولي من الإفضال ما يستخلص الضمائر، ويسبغ من الإنعام ما يقتضي نقاء السرائر، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يعرّفكم بركة إمامته، ويمن خلافته، وأن يجعلها ضامنة بلوغ المطالب، كافلة لكافّتكم بسعادة المباديء والعواقب، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذهب الثالث (أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله،
ثم يؤتى بالبعديّة ويتخلّص إلى المقصود، وقد يذكر السلطان القائم بها وقد لا يذكر، وعلى ذلك كانت تكتب بيعات خلفاء بني أميّة بالأندلس، ومن ادّعى الخلافة ببلاد المغرب) وهذه نسخة بيعة كتب بها طاهر «1» الأندلسيّ، في أخذ البيعة على أهل(9/307)
دانية «1» من الأندلس، للرشيد بن المأمون الأمويّ، وهو منتصب في الخلافة؛ لخلف توهّمه من الرعية، اقتصر فيها على تحميدة واحدة، وليس فيها تعرّض لسلطان قائم بعقدها، وهي:
الحمد لله الذي أسبغ إنعامه باطنا وظاهرا، وسوّغ إفضاله هاملا وهامرا، وأعجز عن وصف إحسانه ناظما وناثرا، وقهر الخلق ناهيا وآمرا، وتعالى جدّه فلا ترى له مضاهيا ولا مظاهرا، ولا موازيا ولا موازرا، ونصر الحقّ وكفى به وليّا وكفى به ناصرا، وجعل جدّ المطيع صاعدا وجدّ العصيّ عاثرا، وحذّر من الخلاف باديا وحاضرا، وماضيا وغابرا.
نحمده سبحانه على نعمه حمد من أصبح لعلق الحمد ذاخرا، ونشكره على مننه ولن يعدم المزيد منه شاكرا، ونضرع إليه أن يجعل حظّنا من بركة الاعتصام وافرا، ووجه نيّتنا في الانتظام سافرا، وأن يمنح أولياءه النصر ظاهرا والفتح باهرا، وأعداءه الرّعب شاجيا والرّمح شاجرا، ونشهد أن لا إله إلّا الله شهادة من أقرّ له بالوحدانيّة صاغرا، وأضحى لأوامره ممتثلا ولنواهيه محاذرا، ونسأله أن يجعل حزب الإيمان ظافرا، ويمدّه بنصره طالبا للثار ثائرا، وصلّى الله على سيدنا محمد رسوله الذي انتخبه من صفوة الصّفوة كابرا فكابرا، وجعله بالفضيلة أوّلا وبالرّسالة آخرا، فأيقظ بالدّعاية ساهيا وناسيا وسكّن بعد الإبانة منافيا ومنافرا، وأذهب بنوره ليلا من الجهالة ساترا، وقام بجهاد الكفرة ليثا خادرا «2» ، وباشر بنفسه المكاره دارعا وحاسرا، وشهد بدرا مبادرا، وحنينا منذرا بالخبر نادرا، وظهر عليهم في كلّ المشاهد غالبا وما ظهروا نادرا، وعلى آله وأصحابه الذين منهم صاحبه وخليفته، المعلومة رأفته، أبو بكر الذي اقتحم لهول الرّدّة مصابرا، وسلّ في قتال الرّوم أهل الجلد والشّدّة سيفا باترا، ومنهم(9/308)
القويّ في ذات الله عمر الذي أصبح به ربع الإسلام عامرا، ولم يخش في الله عاذلا ولم يرج غادرا «1» ، ومنهم الأصدق حياء عثمان ملاقي البلوى صابرا، والخفر الذي لم ير للأذمّة خافرا، ومنهم أقضاهم عليّ الذي قاتل باغيا وكافرا، وبات لخوف الله ساهرا، ورضي الله عن الإمام المهديّ الذي أطلعه نورا باهرا، وبحرا للعلم زاخرا، وأتى به والضّلال يجرّ رسه سادرا، والباطل يثبت وينفي واردا وصادرا، فجدّد رسم الحقّ وكان داثرا، وقام بآرائه علما هاديا وقرما «2» هادرا، وعن الخلفاء الراشدين المرشدين من أصبح حائدا عن الحقّ جائرا، المجاهدين خاتلا بالعهد خاترا.
أما بعد، فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة للناس عصمة، ومنجاة من ريب الالتباس ونعمة، بها تتمهّد عمارة الأرض، ويتجدّد صلاح الكلّ والبعض، ولولاها ظهر الخلل، واختلط المرعيّ والهمل، وارتكبت المآثم، واستبيحت المحارم، واستحلّت المظالم، وانتقم من المظلوم الظالم، وفسد الائتلاف وافترق النّظام، وتساوى الحلال والحرام، فاختار لأمرهم رعاة أمرهم بالعدل فعدلوا، وبالتواصل في ذات الله والتّقاطع فقطعوا في ذات الله ووصلوا، وعدلوا بين أهليهم وأقربيهم فيما ولّوا، ونهضوا بأعباء الكفاية والحماية واستقلّوا، وألزمهم الاتّفاق والانقياد، وحظر عليهم الانشقاق والعناد، فملكوا بأزمّة العقل قياد الأمور، وأشرقت بسيرتهم المباركة أقاضي المعمور، وشاهد الناس فواضل إمامهم، وتبينوا من سيرتهم العادلة علوّ محلّهم في الخلائف ومقامهم، ولم يطرق في مدّتهم للإسلام جناب، ولا اقتحم له باب، وأنّى وسيوفهم تقطر من دماء الأعداء، وبلادهم ساكنة الدّهماء، والكفرة بالرّعب المخامر والداء العياء،(9/309)
وأهل الإيمان، يجرّون ذيول العزائم، وعبدة الصّلبان، يعثرون في ذيل الهوان الدائم، إلى أن عدمت الأرض منهم بحارها الزّواخر، وأنوارها البواهر، ورأت بعدهم العيون الفواقيء والمتون الفواقر، واكفهرّ وجه اللأواء «1» ، وتفرّقت الفرق بحسب الأهواء، وسفكت الدّماء وركبت المضلّة العمياء، واحتقبت الجوائر، وأهمل الشرع والشّعائر، ثم إن الله تعالى أذن في كشف الكرب، وأطلع بالغرب نورا ملأ الدّلو إلى عقد الكرب، وهو النّور الذي أضاء للبصائر والأبصار، وطلع على الآفاق طلوع النّهار، وذخرت أيّامه السعيدة لدرك الثار، وكلفت به الخلافة وطال بها كلفه، وقام بالإمامة مثل ما قام بها الخلفاء الراشدون سلفه، وذلك هو الخليفة الإمام أمير المؤمنين الرشيد بالله ابن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، وخلّد في عقبهم الإمامة إلى يوم الدّين، وهو الأسد الهصور «2» ، ومن أبوه المأمون وجده المنصور، العريق في الخلافة، والحقيق بالإمامة والإنافة، فجمع ما افترق، ونظّم الأمور ونسّق، ومنع الحوزة أن تطرق والملّة أن تفترق أو تفرّق.
وهذه نسخة بيعة كتب بها أبو المطرّف بن عميرة الأندلسيّ «3» بأخذ البيعة على أهل شاطبة من الأندلس لأبي جعفر المستنصر «4» بالله العبّاسيّ، قام(9/310)
بعقدها أبو عبد الله محمد «1» بن يوسف بن هود صاحب الأندلس، ثم أخذ البيعة بعد ذلك عليهم لنفسه، وأن يكون ابنه وليّ عهده بعده، وهي:
الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا، وأرسل السّماء مدرارا، وسخّر ليلا ونهارا، وقدّر آجالا وأعمارا، وخلق الخلق أطوارا، وجعل لهم إرادة واختيارا، وأوجد لهم تفكّرا واعتبارا، وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا.
نحمده حمد من يرجو له وقارا، ونبرأ ممن عانده استكبارا وألحد في آياته سفاهة واغترارا، وصلّى الله على سيدنا محمد الشريف نجارا، السامي فخارا، فرفع «2» الله من شريعته للأمّة منارا، وأطفأ برسالته للشّرك نارا، حتّى علا الإسلام مقدارا، وعزّ جارا ودارا، وأذعن الكفر اضطرارا، واستسلم ذلّة وصغارا، فمضى وقد ملأ البسيطة أنوارا، وعمّها بدعوته أنجادا وأغوارا، وأوجب لولاة العهد بعده طاعة وأتمارا، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيّا مختارا، ورسولا اجتباه اختصاصا وإيثارا، صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين آثارا واختبارا، وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصارا، صلاة نواليها إعلانا وإسرارا، ونرجو بها مغفرة ربّنا إنّه كان غفّارا.(9/311)
أما بعد، فإنّ المستأثر بالدّوام، اللّطيف بالأنام، أنشأهم على التغاير والتباين، واضطرهم إلى التّجاور والتعاون، وجعل لهم مصلحة الاشتراك، ومنفعة الالتحام والاشتباك، طريقا إلى الأفضل في حياتهم، والأسعد لغاياتهم، وبعث النبيين مرغّبين ومحذّرين، ومبشّرين ومنذرين، فأدّوا عنه ما حمّل، وبيّنوا ما حرّم وحلّل، وكان أعمّهم دعوة، وأوثقهم عروة، وأعلاهم في المنزلة عنده ذروة، وأعطفهم للقلوب وهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، المخصوص بالمقام المحمود، والحوض المورود، وشفاعة اليوم المشهود، ولواء الحمد المعقود، صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أفضل صلاة تفضي إلى الظلّ الممدود، وتبلغنا من شفاعته أفضل موعود، بعثه الله للأحمر والأسود، والأدنى والأبعد، فصدع بأمره وظلام الليل غير منجاب، والدّاعي إلى الله غير مجاب، وأهل الجاهلية كثير عددهم، شديد جلدهم، بعيد في الضّلالة والغواية أمدهم، فسلك من هدايتهم سبيلا، وصبر لهم صبرا جميلا، يحبّ صلاحهم وهم العدوّ، ويلين لهم إذا جدّ بهم العتوّ، ويجهد في أظهار دينه ولدين الله الظهور والعلوّ، حتّى انقادوا بين سابق سبقت له السّعادة، ولا حق تداركته المشيئة والإرادة، ولما رفعت راية الإسلام، وشفعت حجّة الكتاب حجّة الإسلام «1» ، ودعي الناس إلى التزام الأحكام، ونهوا عن الاستقسام بالأزلام «2» ، أخبتوا إلى الربّ المعبود، وأشفقوا من تعدّي الحدود، ووعظوا في الأيمان والعهود، فأتمروا للشرع حين أمر، وخافوا وخامة من إذا عاهد غدر، فكان الرجل يدع الخوض فيما لا يعلمه، ويترك حقّه لأجل يمين تلزمه، وشرعت الأيمان في كلّ فنّ بحسب المحلوف عليه، وعلى قدر الحاجة إليه، فواحدة في المال لحقّ الأداء، وأربع مخمّسة عند ملاعنة النّساء، وخمسون انتهي إليها في أحكام الدّماء، فتوثّق للحدود على مقاديرها، وجرت أمور(9/312)
العبادات والمعاملات على أفضل تقديرها، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والعدل قائم، والشرع على القوي والضعيف حاكم، والربّ جلّ جلاله بما تخفي الصدور عالم، وقام بعده الخلفاء الأربعة أركان الدّين، وأعضاد الحقّ المبين، يحملون الناس على سننه الواضح، وينفّذون أمور المصالح، ويتفقّهون في الأحكام وقوفا مع الظاهر وترجيحا للراجح، وكانوا يتوقّفون في بعض الأحيان، ويطلبون للشّبه وجه البيان، ويستظهرون على تحقيق كثير من الوقائع بالأيمان، حتّى كان عليّ كرم الله وجهه يستثبت في الدّراية، ويستحلف الراوي على الرّواية، وما أنكر ذلك أحد، ولا أعوزه من الشرع مستند، رضي الله عنهم أئمة بالعدل قضوا، وعلى سبيله مضوا، والسّيرة الجليلة تخيّروا وارتضوا، وعن سيد الأنام، ومستنزل درّ الغمام، عمّ نبيّنا عليه أفضل الصلاة والسّلام، الحامي الحدب، والمعقل الأشب «1» ، والغيث الهامل المنكسب، أبي الفضل العبّاس بن عبد المطّلب، وعن الفائزين بالرّتبة الكريمة، والصّحبة القديمة، والمناقب العظيمة، بدور الظّلام وبحور الحكم، وصدور أندية الفضل والكرم، وسائر صحابه عليهم السّلام الذين أسلموا على عمره «2» ، وأسلفوا جدّا في نصره، وأدركوا من بركة عيانه وزمانه ما لا مدرك لحصره، كرّم الله مآبهم، وأجزل ثوابهم، وشكر لهم صبرهم واحتسابهم، فلقد عقدوا نيّة الصّدق عند قيامهم لأداء فريضة الإطاقة، واستباحوا صلاة الشكر حين رفعوا حدث الرّدّة وأراقوا سؤر «3» الشّرك وقد استحقّ بنجاسته الإراقة، وابتزّوا كسرى زينته فأبرزوها على سراقة، فرأوا عيانا ما أخبر به سيد المرسلين، وملكوا ما زوي له منها فاطّلع عليه بحقّه المبين، وذهبوا فأظلمت الأرض من بعدهم، وتنكّرت المعارف لفقدهم، واختلط الهمل والمرعيّ، وتشابه الصّريح والدّعيّ، وثارت الفتن من كل(9/313)
جانب، وصارت الحقوق نهبة [كل] ناهب، ولمّا برحت «1» العهود، وتعدّيت الحدود، بلغ الوقت المحدود، وطلعت ببياض العدل الرايات السّود، تحتها سادات الناس، وذادة موقف الباس، وشهب اليوم العماس «2» ، ونجب البيت الكريم من بني العبّاس، فأعادوا إلى الأمر رونقه، ونفوا عن الصّفو رنقه، وحموا حرم المسلمين، وأحيوا سنّة ابن عمّهم سيّد المرسلين، فأصبحت الأمور مضبوطة، والثّغور محوطة، والسّبل آمنة، والرعيّة في ظلّ العدل والأمن ساكنة، وكان الناس قبلهم قد ركبوا الصّعب والذّلول، وامتطوا الحزن والسّهول، فوثقوا منهم بطاعتهم، واستحلفوهم على بيعاتهم، ذلك بأنهم ألزموهم منها واجبا على القطع، لازما بإلزام الشّرع، ووجدوا لمصلحة الارتباط بالأيمان شواهد من الآثار المنقولة، والأصول المقبولة، ومن أعطى من نفسه كلّ ما عليها، وراعى جملة المصالح وكلّ ما تطرّق إليها، فكيف لا يكون في سعة من هذا التكليف المستند إلى الآثار الشرعية، الداخل في أقسام المصالح المرعيّة؟ كما سلف من الأئمة المهتدين، آباء أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين، ابن عمّ سيّدنا وسيّد المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.
لمّا دعا الناس بالمملكة الفلانيّة حماها الله إلى حجّتهم القويّة، وإمرتهم الهاشميّة، مجاهد الدين، بسيف أمير المؤمنين، جمال الإسلام، مجد الأنام، تاج خواصّ الإمام، فخر ملوكه، شرف أمرائه، المتوكّل على الله تعالى أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، أسعد الله أيامه، ونصر أعلامه، وقام لذلك متوحّدا المقام الكريم، مشمّرا عن ساعد التّصميم،(9/314)
ماضيا على الهول مضاء الحسام القاضب، غاضبا لأمر الله ورضاه على غاية هذا الغاضب، مالت إليه الأجياد، وانثالت عليه البلاد، فانتظمها مدينة مدينة، وجعل التوكّل على الله سبحانه شريعة منيعة وذريعة معينة، وتقدّم- أيده الله- بأخذ البيعة على نفسه وعلى أهل الملّة قاطبة للقائم بأمر الله سيّدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أبي جعفر أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين، وكان له في ذلك المرام السّعيد، والمقام الحميد، والقدم «1» الذي رضي إبداءه وإعادته المبديء المعيد، وخاطب الدّيوان العزيز النبويّ- خلّد الله شرفه- متضرّعا لوسائل خدمته، متعرّضا لعواطف رحمته، وبعث رسوله على أصدق رجاء في القبول، وأثبت أمل في الإسعاف بالمأمول، وأثناء هذه الإرادة القويمة، والسّعادة الكريمة، تفاوض أهل البلاد في توثيق عقدهم للسلطان فلان المشار إليه الذي هو حكم من أحكام الإجماع المنعقد، وأصل أفضى إليه نظر الناظر واجتهاد المجتهد، إذ أجالوا الأمر فيما يزيده وثاقة، ويكسو وجهه على الأيّام بشرا وطلاقة، ويجعل القلوب مطمئنّة برسوخه في الأعقاب، وثبوته على الأحقاب، فلم يروا رأيا أسدّ، ولا عملا أحصف وأشدّ، من أن يطلبوه بعقد البيعة لابنه الواثق بالله المعتصم به أبي بكر محمد بن مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، على أن يكون وليّ عهدهم مدّة والده مدّ الله في حياته، وأميرهم عند الأجل الذي لا بدّ من موافاته، فأمضى لهم ذلك من اتّفاقهم، وأثبتوا على ما شرطته بيعته في أعناقهم. وبعد ذلك أتى صولة الإسلام، وصلة دار السّلام، وورد رسول مثابة الجلالة، ونيابة الرّسالة، وملتزم الملائك، ومعتصم الممالك، ومعه الكتاب الذي هو نص أغنى عن القياس، بل هو نور يمشي به في الناس، وأدّى إلى السلطان فلان المشار إليه من تشريف الدّيوان العزيز النبويّ ما وسمه من الفخار بأجلّ وسمه، وقلّده السيف الصارم وسمّاه باسمه، فتلاقى السيفان المضروب والضارب، واشتبه الوصفان الماضي(9/315)
والقاضب، وبرزت تلك الخلع «1» فابيضّ وجه الإسلام من سوادها، ووضع الكتاب فكادت المنابر تسعى إليه شوقا من أعوادها، وقرئت وصايا الإمام، على الأنام، فعلموا أنها من تراث الرّسالة، وقالوا: كافل الإسلام جدّد له بهذا الصّقع الغربيّ حكم الكفالة، وسمعوا من التقدّم بإنصافهم، والتهمّم بمواسطهم وأطرافهم، جملا عفّروا لها الجباه جودا بالجهد، وسجدوا للشّكر والحمد، فأدركوا من بركة المشاهد أثبت شرف وأبقاه، ورأوا حقيقة ما كادت الأوهام تزول عن مرقاه، وازدادوا يقينا بفضل ما صاروا إليه، ورأوا عيانا يمن ما بايعوا عليه، فتوافت طوائفهم المتبوعة، وجماهيرهم المجموعة، بدارا إلى المراضي الشّريفة، وبناء على وصايا عهد الخليفة، أن يجدّدوا البيعة لمجاهد الدّين، سيف أمير المؤمنين، تولّى الله عضده، ولابنه الواثق بالله المعتصم به أنهضه الله بإمرته بعده، ولم تعد أن تكون الزّيادة الطارئة شرطا في تقرير الإمرة «2» المؤدّاة وإثباتها، أو جارية مجرى السّنن الّتي يؤمر المصلّي بالإعادة عند فواتها، فأعادوا بيعته أداء للفريضة ورجاء للفضيلة، واستندوا إلى الإشارات الجليلة، بعد الاستخارات الطويلة، ورأوا أن يأخذوا بها عادة البيعات العبّاسية، واتّخاذ حكم الأصل طريق الإلحاقات القياسيّة، فبايعوا على تذكّر بيعة أكّدوها بالعهود المستحفظة، ووثّقوها بالأيمان المغلّظة، وبادروا بها نداء مناديهم، وأعطوا على الإصفاق بها صفقة أيديهم.
ولمّا انتهى ذلك إلى الملإ من أهل فلانة وجهاتها، رأوا أن يحلف من سبق، ويصدقوا النّيّة مع من صدق، ويعقدوا ما عقدوا على ما صرّح به العهد الشريف ونطق، فحضر منهم العلماء والصّلحاء، والأجناد والوزراء والفقهاء، والكافّة على تباينهم في المراتب، وتفاوتهم في المناصب، واختلافهم في المواطن والمكاسب، فأمضوها بيعة كريمة المقاصد، سليمة المعاقد، عهدها محكم،(9/316)
وعقدها مبرم، وموجبها طاعة وسمع، والتقيّد بها سنّة وشرع، ويعمرون بها أسرارهم، ويفنون عليها أعمارهم، ويدينون بها في عسر ويسر، وربح وخسر، وضيق ورفاهية، ومحبّة وكراهية، تبرعوا بذلك كلّه طوعا، واستوفوه فصلا فصلا ونوعا نوعا، وعاهدوا عليها الذي يعلم السّرّ وأخفى، وأضمروا منها على ما أبرّ على الظاهر وأوفى، وتقبّلوا من الوفاء به ما وصف الله به خليله إذ قال:
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى
«1» ، وأقسموا بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، وبما أخذه على أنبيائه الكرام من العهود المؤكّدة، والمواثيق المشدّدة، على أنهم إن حادوا عن هذه السبيل، وانقادوا لداعي التحريف والتّبديل، فهم برآء من حول الله وقوته إلى حولهم وقوّتهم، تاركون ذمّته الوافية لذمّتهم، والأيمان كلها لازمة لهم على مذهب إمام دار الهجرة، وطلاق كل امرأة في ملك كل واحد منهم لازم لهم ثلاثا، وأيّما امرأة تزوّجها في البلاد الفلانية فطلاقها لازم له، كلّما تزوّج واحد منهن واحدة خرجت طالقا ثلاثا، وعلى كلّ واحد منهم المشي إلى بيت الله الحرام على قدميه، محرما من منزله بحجّة كفّارة لا تجزيء عن حجّة الإسلام، وعبيدهم وأرقّاؤهم عتقاء لاحقون بأحرار المسلمين، وجميع أموالهم عينا وعرضا، حيوانا وأرضا، وسائر ما يحويه المتملّك كلّا وبعضا، صدقة لبيت مال المسلمين، حاشى عشرة دنانير. كلّ ذلك على أشدّ مذاهب الفتوى، وألزمها لكلمة التّقوى، وأبعدها من مخالفة الهوى والظاهر والفحوى، أرادوا بذلك رضا الخلافة الفلانية والفلانية (بلقبي السلطنة) للسلطان وولده المأخوذ لهما البيعة بعد بيعته، وأشهدوا الله على أنفسهم، وكفى بذلك اعتزاما والتزاما، وشدّا لما أمر به وإحكاما:
وفَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
«2» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً
«3» .
وهم يرفعون دعاءهم إلى الله تضرّعا واستسلاما، ويسألونه عصمة وكفاية افتتاحا(9/317)
واختتاما، اللهم إنّا قد أنفذنا هذا العقد اقتداء واهتماما، وقضينا حقّه إكمالا وإتماما، وأسلمنا وجهنا إليك إسلاما، فعرّفنا من خيره وبركته نماء ودواما، واكلأنا بعينك حركة وسكونا ويقظة ومناما، وهَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً «1»
إنك أنت الله منتهى الرّغبات، ومجيب الدّعوات، وإله الأرض والسّموات.
وهذه نسخة بيعة مرتبة على موت خليفة، أنشأتها على هذه الطريقة لموافقتها رأي كتّاب الزمان في افتتاح عهود الملوك عن الخلفاء «بالحمد لله» كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وتعرّضت فيها إلى قيام سلطان بعقدها؛ لمطابقة ذلك لحال الزّمان وهي:
الحمد لله الذي جعل الأمّة المحمدية أبذخ الأمم شرفا، وأكرمها نجارا وأفضلها سلفا، وجعل رتبة الخلافة أعلى الرّتب رتبة وأعزّها كنفا، وخصّ الشجرة الطيبة من قريش بأن جعل منهم الأئمة الخلفا، وآثر الأسرة العبّاسيّة منها بذلك، دعوة سبقت من ابن عمّهم المصطفى، وحفظ بهم نظامها على الدّوام فجعل ممن سلف منهم خلفا.
نحمده على أن هيّأ من مقدّمات الرّشد ما طاب الزّمان به وصفا، وجدّد من رسوم الإمامة بخير إمام ما درس منها وعفا، وأقام للمسلمين إماما تأرّج الجوّ بنشره فأصبح الوجود بعرفه معترفا.
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص تمسّك بعهدها فوفى، وأعطاها صفقة يده للمبايعة فلا يبغي عنها مصرفا، وأنّ محمدا عبده ورسوله الذي تدارك الله به العالم بعد أن أشفى فشفى، ونسخت آية دينه(9/318)
الأديان، وجلا «1» بشرعته المنيرة من ظلمة الجهل سدفا «2» ، وجعل مبايعه مبايعا لله يأخذه بالنّكث ويوفّيه أجره على الوفا، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار وعترته الشّرفا، ورضي الله عن أصحابه الذين ليس منهم من عاهد الله فغدر ولا وادّ في الله فجفا، خصوصا من جاء بالصّدق وصدّق به فكان له قرابة وصفوة الصّفا، والمرجوع إليه في البيعة يوم السّقيفة «3» بعد ما اشرأبّت نحوها نفوس كادت تذوب عليها أسفا، والقائم في قتال أهل الرّدّة من بني «4» حنيفة حتّى استقاموا على الحنيفيّة حنفا، ومن استحال دلو الخلافة في يده غربا فكان أفيد عبقريّ قام بأمرها فكفى، وعمّت فتوحه الأمصار وحملت إليه أموالها فلم يمسكها إقتارا ولم يبذّر فيها سرفا. ومن كان فضله لسهم الاختيار من بين أصحاب الشّورى هدفا، وجمع الناس في القرآن على صحيفة واحدة وكانت قبل ذلك صحفا، ومن سرى إليه سرّ: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى» فغدا يجرّ من ذيل الفخار سجفا، واستولى على المكارم من كلّ جانب فحاز أطرافها طرفا طرفا، وعلى سائر الخلفاء الراشدين بعدهم ممّن سلك سبيل الحق ولطريق الهدى اقتفى، صلاة ورضوانا يذهبان الداء العضال من وخامة الغدر ويجلبان الشّفا، ويرفعان قدر صاحبهما في الدنيا ويبوّئان منتحلهما من جنّات النعيم غرفا.
أما بعد، فإنّ عقد الإمامة لمن يقوم بأمر الأمّة واجب بالإجماع، مستند(9/319)
لأقوى دليل تنقطع دون نقضه الأطماع، وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع، إذ العباد مجبولون على التباين والتغاير، مطبوعون على التحالف والتناصر، [مضطّرّون إلى التّعاون والتّجاور، مفتقرون إلى التعاضد والتّوازر «1» ] ، فلا بدّ من زعيم يمنعهم من التظالم، ويحملهم على التناصف في التداعي والتحاكم، ويقيم الحدود فتصان المحارم عن الانتهاك، وتحفظ الأنساب عن الاختلاط والاشتراك، ويحمي بيضة الإسلام فيمنع أن تطرق، ويصون الثّغور أن يتوصّل إليها أو يتطرّق، ليعزّ الإسلام دارا، ويطمئنّ المستخفي ليلا ويأمن السارب نهارا، ويذبّ عن الحرم فتحترم، ويذود عن المنكرات فلا تغشى بل تصطلم، ويجهّز الجيوش فتنكأ العدوّ، وتغير على بلاد الكفر فتمنعهم القرار والهدوّ، ويرغم أنف الفئة الباغية ويقمعها، ويدغم الطائفة المبتدعة ويردعها، ويأخذ أموال بيت المال بحقّها فيطاوع، ويصرفها إلى مستحقّها فلا ينازع، لا جرم اعتبر للقيام بها أكمل الشّروط وأتمّ الصّفات، وأكرم الشّيم وأحسن السّمات.
وكان السيد الأعظم الإمام النبويّ، سليل الخلافة، ووليّ الإمامة، أبو فلان فلان العبّاسيّ المتوكّل على الله «مثلا» أمير المؤمنين، سلك الله تعالى به جدد آبائه الراشدين، هو الذي جمع شروطها فوفّاها، وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها، ورامت به أدنى مراتبها فبلغت إلى أغياها، وتسوّر معاليها فرقي إلى أعلاها، واتّحد بها فكان صورتها ومعناها- وكانت الإمامة قد تأيّمت ممن يقوم بأعبائها، وعزّت خطّابها لقلّة أكفائها، فلم تلف لها بعلا يكون لها قرينا، ولا كفئا تخطبه يكون لديها مكينا، إلّا الإمام الفلانيّ المشار إليه، فدعته لخطبتها، وهي بيت عرسه، وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ
«2» فأجاب خطبتها، ولبّى دعوتها؛ لتحقّقه رغبتها إليه وعلمه بوجوب إجابتها عليه، إذ هو شبلها الناشيء بغابها، وغيثها المستمطر من سحابها، بل هو أسدها الهصور، وقطب فلكها الذي عليه تدور، ومعقلها الأمنع الحصين، وعقدها الأنفس(9/320)
الثّمين، وفارسها الأروع وليثها الشّهير، وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير، وتلادها العليم بأحوالها، والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها، وترجمانها المتكلّم بلسانها، وعالمها المتفنّن في أفنانها، وطبيبها العارف بطبّها، ومنجدها الكاشف لكربها.
وحين بلغت من القصد سولها «1» ، ونالت بالإجابة منه مأمولها، وحرم على غيره أن يسومها لذلك تلويحا، أو يعرّج على خطبتها تعريضا وتصريحا، احتاجت إلى وليّ يوجب عقدها، وشهود تحفظ عهدها، فعندها قام السلطان الأعظم الملك الفلانيّ (بالألقاب السلطانية إلى آخرها) خلّد الله سلطانه، ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه، فانتصب لها وليّا، وأقام يفكّر في أمرها مليّا، فلم يجد أحقّ بها منه فتجنّب عضلها، فلم تكن تصلح إلّا له ولم يكن يصلح إلّا لها، فجمع أهل الحلّ والعقد، المعتزين للاعتبار والعارفين بالنّقد، من القضاة والعلماء، وأهل الخير والصّلحاء، وأرباب الرأي والنّصحاء، فاستشارهم في ذلك فصوّبوه، ولم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه، فاستخار الله تعالى وبايعه، فتبعه أهل الاختيار فبايعوا، وانقادوا لحكمه وطاوعوا، فقابل عقدها بالقبول بمحضر من القضاة والشّهود فلزمت، ومضى حكمها على الصحة وانبرمت. ولمّا تمّ عقدها، وطلع بصبح اليمن سعدها، التمس المقام الشريف السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ المشار إليه أعلى الله شرف سلطانه ورفع محلّه، وقرن بالتوفيق في كلّ أمر عقده وحلّه، أن يناله عهدها الوفيّ، ويرد منها موردها الصّفيّ، ليرفع بذلك عن أهل الدّين حجبا، ويزداد من البيت النبويّ قربا، فتعرّض لنفحاتها من مقرّراتها، وتطلّب بركاتها من مظنّاتها، ورغب إلى أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، أن يجدّد له بعهد السلطنة الشريفة(9/321)
عقدا، ويأخذ له على أهل البيعة بذلك عهدا، ويستحلفهم على الوفاء لهما بما عاهدوا، والوقوف عند ما بايعوا عليه وعاقدوا، ليقترن السّعدان فيعمّ نوءهما، ويجتمع النّيّران فيبهر ضوءهما، فلبّاه تلبية راغب، وأجابه إجابة مطلوب وإن كان هو الطالب، وعهد إليه في كلّ ما تقتضيه أحكام إمامته في الأمة عموما وشيوعا، وفوّض له حكم الممالك الإسلاميّة جميعا، وجعل إليه أمر السلطنة المعظّمة بكلّ نطاق، وألقى إليه مقاليدها وصرّفه فيها على الإطلاق، وأقامه في الأمة لعهد الخلافة وصيّا، وجعله للإمامة بتفويض الأمر إليه وليّا، ونشر عليه لواء الملك وقلّده سيفه العضب، وألبسه الخلعة السّوداء فابيضّ من سوادها وجه الشرق والغرب، وكتب له بذلك عهدا كبت عدوّه، وزاد شرفه وضاعف سموّه، وطولب أهل البيعة بالتّوثيق على البيعتين بالأيمان فأذعنوا، واستحلفوا على الوفاء فبالغوا في الأيمان وأمعنوا، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، بعد أن أشهدوا الله عليهم في إسرارهم وإعلانهم، وأعطوا المواثيق المغلّظة المشدّدة، وحلفوا بالأيمان المؤكّدة المعقّدة، على أنهم إن أعرضوا عن ذلك أو أدبروا، وبدّلوا فيه أو غيّروا، أو عرّجوا عن سبيله أو حادوا، أو نقصوا منه أو زادوا، فكلّ منهم بريء من حول الله وقوّته إلى حول نفسه وقوّته، وخارج من ذمّته الحصينة إلى ذمّته، وكلّ امرأة في نكاحه أو يتزوّجها في المستقبل فهي طالق ثلاثا بتاتا، وكلّما راجعها فهي طالق طلاقا لا يقتضي إقامة ولا ثباتا، وكلّ مملوك في ملكه أو يملكه في المستقبل حرّ لا حق بأحرار المسلمين، وكلّ ما ملكه أو يملكه من جماد وحيوان صدقة عليه للفقراء والمساكين، وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام، والوقوف بعرفة وسائر المشاعر العظام، محرما من دويرة أهله ماشيا، حاسرا عن رأسه وإن كان به أذى حافيا، يأتي بذلك في ثلاثين حجّة متتابعة على التمام، لا تجزئه واحدة منها عن حجّة الإسلام، وإهداء مائة بدنة «1» للبيت العتيق كلّ سنة(9/322)
على الدّوام، وعليه صوم جميع الدّهر إلّا المنهيّ عنه من الأيّام، وأن يفكّ ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفر في كلّ عام، يمين كلّ منهم في ذلك على نيّة أمير المؤمنين، وسلطان المسلمين، في سرّه وجهره وأوّله وآخره، لا نيّة للحالف في ذلك في باطن الأمر ولا في ظاهره، لا يورّي في ذلك ولا يستثني، ولا يتأوّل ولا يستفتي، ولا يسعى في نقضها، ولا يخالف فيها ولا في بعضها، متى جنح إلى شيء من ذلك كان آثما، وما تقدّم من تعقيد الأيمان له لازما، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، ولا يجزئه عن ذلك كفّارة أصلا، كلّ ذلك على أشدّ المذاهب بالتخصيص، وأبعدها عن التساهل والتّرخيص. وأمضوها بيعة ميمونة، باليمن مبتدأة بالنّجح مقرونة، وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام، والشّهود والحكّام، وجعلوا الله تعالى على ما يقولون وكيلا، فاستحقّ عليهم الوفاء بقوله عزّت قدرته: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا «1»
. وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيّتهم الأجور، ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممّن أشار تعالى إليه بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «2»
. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بيعة مرتّبة على خلع خليفة، أنشأتها على هذه الطريقة أيضا، وتعرّضت فيها لذكر السلطان القائم بها، على ما تقدّم في البيعة المرتّبة على موت خليفة، وهي:(9/323)
الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة للناس وأمنا، وأقام سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا، وشدّ لها بالعصابة القرشيّة أزرا وشاد منها بالعصبة العبّاسيّة ركنا، وأغاث الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى، وجمع قلوبهم عليه فلم يستنكف عن الانقياد إليه أعلى ولا أدنى، ونزع جلبابها عمّن شغل بغيرها فلم يعرها نظرا ولم يصغ لها أذنا، وصرف وجهها عمّن أساء فيها تصرّفا فلم يرفع بها رأسا ولم يعمر لها مغنى.
نحمده على نعم حلت للنفوس حين حلّت، ومنن جلت الخطوب حين جلّت، ومسارّ سرت إلى القلوب فسرّت، ومبارّ أقرّت العيون فقرّت، وعوارف أمّت الخليقة فتوالت وما ولّت، وقدم صدق ثبتت إن شاء الله في الخلافة فما تزلزلت ولا زلّت.
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لنا من درك الشّكوك كالئة، ولمهاوي الشّبه دارئة، وللمقاصد الجميلة حاوية، ولشقّة الزّيغ والارتياب طاوية، وأنّ محمدا عبده ورسوله الذي نصح الأمّة إذ بلّغ فشفى عليلها، وأوردها من مناهل الرّشد ما أطفأ وهجها وبرّد غليلها، وأوضح لهم مناهج الحقّ ودعاهم إليها، وأبان لهم سبل الهداية: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «1»
صلّى الله عليه وعلى آله أئمة الخير وخير الأئمّة، ورضي عن أصحابه أولياء العدل وعدول الأمّة، صلاة ورضوانا يعمّان سائرهم، ويشملان أوّلهم وآخرهم، سيّما الصديق الفائز بأعلى الرّتبتين صدقا وتصديقا، والحائز قصب السبق في الفضيلتين علما وتحقيقا، ومن عدل الأنصار إليه عن سعد بن عبادة بعد ما أجمعوا على تقديمه، وبادر المهاجرون إلى بيعته اعترافا بتفضيله وتكريمه، والفاروق الشديد في الله بأسا واللّيّن في الله جانبا، والموفي للخلافة حقّا والمؤدّي للإمامة واجبا، والقائم في نصرة الدّين حقّ القيام حتّى عمّت فتوحه الأمصار مشارق ومغاربا، وأطاعته العناصر الأربعة؛ إذ(9/324)
كان لله طائعا ومن الله خائفا وإلى الله راغبا، وذي النّورين المعوّل عليه من بين سائر أصحاب الشّورى تنويها بقدره، والمخصوص بالاختيار تفخيما لأمره، من حصر في بيته فلم يمنعه ذلك عن تلاوة كتاب الله وذكره، وشاهد سيوف قاتليه عيانا فقابل فتكاتها بجميل صبره، وأبي الحسن الذي أعرض عن الخلافة حين سئلها، واستعفى منها بعد ما اضطّرّ إليها وقبلها، وكشف له عن حقيقة الدنيا فما أمّ قبلتها بقلبه ولا ولّى وجهه قبلها، وصرّح بمقاطعتها بقوله: «يا صفراء غرّي غيري، يا بيضاء غرّي غيري» لمّا وصلها من وصلها، وسائر الخلفاء الراشدين بعدهم، الناهجين نهجهم والواردين وردهم.
أما بعد، فإنّ للإمامة شروطا يجب اعتبارها في الإمام، ولوازم لا يغتفر فواتها في الابتداء ولا في الدّوام، وأوصافا يتعيّن إعمالها، وآدابا لا يسع إهمالها، من أهمّها العدالة الّتي ملاكها التّقوى، وأساسها مراقبة الله تعالى في السّرّ والنّجوى، وبها تقع الهيبة لصاحبها فيجلّ، وتميل النّفوس إليها فلا تمل، فهي الملكة الداعية إلى ترك الكبائر واجتنابها، والزاجرة عن الإصرار على الصّغائر وارتكابها، والباعثة على مخالفة النفس ونهيها عن الشّهوات، والصارفة عن انتهاك حرمات الله الّتي هي أعظم الحرمات، والموجبة للتعفّف عن المحارم، والحاملة على تجنّب الظّلامات وردّ المظالم، والشّجاعة الّتي بها حماية البيضة والذّب عنها، والاستظهار بالغزو على نكاية الطائفة الكافرة والغضّ منها، والقوّة بالشوكة على تنفيذ الأوامر وإمضائها، وإقامة الحدود واستيفائها، ونشر كلمة الحق وإعلائها، ودحض كلمة الباطل وإخفائها، وقطع مادّة الفساد وحسم أدوائها، والرأي المؤدّي إلى السياسة وحسن التدبير، والمغني في كثير من الأماكن عن مزيد الجدّ والتشمير، والمعين في خدّع الحرب ومكايده، والمسعف في مصادر كلّ أمر وموارده.
هذا وقد جعلنا الله أمّة وسطا، ووعظنا بمن سلف من الأمم ممن تمرّد وعتا أو تجبّر وسطا، وعصم أمّتنا أن تجتمع على الضّلال، وصان جمعنا عن الخطل في الفعال والمقال، وندبنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوّغ(9/325)
لأئمّتنا الاجتهاد في النّوازل والأحكام فاجتهادهم لا ينكر، خصوصا في شأن الإمامة الّتي هي آكد أسباب المعالم الدينيّة وأقواها، وأرفع المناصب الدّنيويّة وأعلاها، وأعزّ الرّتب رتبة وأغلاها، وأحقّها بالنظر في أمرها وأولاها. وكان القائم بأمر المسلمين الآن فلان بن فلان الفلانيّ ممّن حاد عن الصّراط المستقيم، وسلك غير النّهج القويم، ومال عن سنن الخلفاء الراشدين فأدركه الزّلل، وقارف المآثم فعاد بالخلل، فعاث في الأرض فسادا، وخالف الرّشد عنادا، ومال إلى الغيّ اعتمادا، وأسلم إلى الهوى قيادا، قد انتقل عن طور الخلافة، وعزيز الإنافة، إلى طور العامّة فاتّصف بصفاتهم، واتّسم بسماتهم، فمنكر يجب عليه إنكاره قد باشره، وصديق سوء يتعيّن عليه إبعاده قد وازره وظاهره، إن سلك فسبيل التّهمة والارتياب، أو قصد أمرا نحا فيه غير الصّواب، منهمك على شهواته، منعكف على لذّاته، متشاغل عن أمر الأمّة بأمر بنيه وبناته، الجبن رأس ماله، وعدم الرأي قرينه في أفعاله وأقواله، قد قنع من الخلافة باسمها، ورضي من الإمامة بوسمها، وظنّ أنّ السّودد في لبس السّواد فمال إلى الحيف، وتوهّم أنّ القاطع الغمد فقطع النظر عن السّيف.
ولمّا اطّلع الناس منه على هذه المنكرات، وعرفوه بهذه السّمات، وتحقّقوا فيه هذه الوصمات، رغبوا في استبداله، وأجمعوا على خلعه وزواله، فلجأوا إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني (بالألقاب السلطانية إلى آخرها) نصر الله جنوده، وأسمى جدوده، وأرهف على عداة الله حدوده، ففوّضوا أمرهم في ذلك إليه، وألقوا كلّهم عليه، فجمع أهل الحلّ والعقد منهم، ومن تصدر إليهم الأمور وترد عنهم، فاستخاروا الله تعالى وخلعوه من ولايته، وخرجوا عن بيعته، وانسلخوا عن طاعته، وجرّدوه من خلافته، تجريد السّيف من القراب، وطووا حكم إمامته، كطيّ السّجلّ للكتاب. وعندما تمّ هذا الخلع، وانطوى حكمه على البتّ والقطع، التمس الناس إماما يقوم بأمور الإمامة فيوفيها، ويجمع شروطها ويستوفيها، فلم يجدوا لها أهلا، ولا بها أحقّ وأولى، وأوفى بها وأملى، من السيّد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة، ووليّ الإمامة أبي(9/326)
فلان فلان العباسيّ الطائع لله «مثلا» أمير المؤمنين، لا زال شرفه باذخا، وعرنينه الشريف شامخا، وعهد ولايته لعهد كلّ ولاية ناسخا، فساموه بيعتها فلبّى، وشاموا برقه لولايتها فأجاب وما تأبّى، علما منه بأنها تعينّت عليه، وانحصرت فيه فلم تجد أعلى منه فتعدل إليه، إذ هو ابن بجدتها «1» ، وفارس نجدتها، ومزيل غمّتها، وكاشف كربتها، ومجلي غياهبها، ومحمد عواقبها، وموضّح مذاهبها، وحاكمها المكين، بل رشيدها الأمين، فنهض المقام «2» الشريف السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ المشار إليه، قرن الله مقاصده الشريفة بالنّجاح، وأعماله الصالحة بالفلاح، وبدر إلى بيعته فبايع، وأتمّ به من حضر من أهل الحلّ والعقد فتابع، وقابل عقدها بالقبول فمضى، ولزم حكمها وانقضى، واتّصل ذلك بسائر الرعيّة فانقادوا، وعلموا صوابه فمشوا على سننه وما حادوا، وشاع خبر ذلك في الأمصار وطارت به مخلّقات البشائر إلى سائر الأقطار، فتعرّفوا منه اليمن فسارعوا إلى امتثاله، وتحقّقوا صحّته وثباته بعد اضطرابه واعتلاله، واستعاذوا من نقص يصيبه بعد تمامه لهذا الخليفة وكماله، فعندها أبانت الخلافة العبّاسية عن طيب عنصرها، وجميل وفائها وكريم مظهرها، وجادت بجزيل الامتنان، وتلا لسان كرمها الوفيّ على وليّها الصادق: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ
«3» فجدّد له بالسّلطنة الشريفة عهدا، وطوّق جيده بتفويضها إليه عقدا، وجعله وصيّه في الدّين، ووليّه في أمر المسلمين، وقلّده أمر الممالك الإسلامية وألقى إليه مقاليدها، وملّكه أزمّتها وحقّق له مواعيدها، وعقد له لواءها ونشر عليه أعلامها، وصرّفه فيها على الإطلاق وفوّض إليه أحكامها، وألبسه الخلعة السّوداء فكانت لسؤدده شعارا، وأسبغ عليه رداءها(9/327)
فكان له دثارا، وكتب له العهد فسقى المعاهد صوب العهاد، ولهج الأنام بذكره فاطمأنّت العباد والبلاد، وعندما تمّ هذا الفصل، وتقرّر هذا الأصل، وأمست الرّعايا بما آتاهم الله من فضله فرحين، وبنعمته مستبشرين، طولب أهل البيعة بما يحملهم على الوفاء، ويمنع بيعتهم من التكدّر بعد الصّفاء، من توثيق عقدها بمؤكّد أيمانها، والإقامة على الطاعة لخليفتها وسلطانها، فبادروا إلى ذلك مسرعين، وإلى داعيه مهطعين، وبالغوا في المواثيق وأكّدوها، وشدّدوا في الأيمان وعقّدوها، وأقسموا بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشّهادة، عالم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور في البدء والإعادة، على الوفاء لهما والموالاة، والنّصح والمصافاة، والموافقة والمشايعة، والطاعة والمتابعة، يوالون من والاهما، ويعادون من عاداهما، لا يقعدون عن مناصرتهما عند إلمام ملمّة، ولا يرقبون في عدوّهما إلّا ولا ذمّة، جارين في ذلك على سنن الدّوام والاستمرار، والثّبوت واللّزوم والاستقرار، على أنّ من بدّل منهم من ذلك شرطا أو عفّى له رسما، أو حاد عن طريقه أو غيّر له حكما، أو سلك في ذلك غير سبيل الأمانة، أو استحلّ الغدر وأظهر الخيانة، معلنا أو مسرّا في كلّه أو بعضه، متأوّلا أو محتالا لإبطاله أو نقضه، فقد بريء من حول الله المتين وقوّته الواقية، وركنه الشديد وذمّته الوافية، إلى حول نفسه وقوّته، وركنه وذمّته. وكلّ امرأة في عصمته الآن أو يتزوّجها مدّة حياته طالق ثلاثا بصريح لفظ لا يتوقّف على نيّة، ولا يفرق فيه بين سنّة ولا بدعة ولا رجعة فيه ولا مثنويّة، وكلّ مملوك في ملكه أو يملكه في بقيّة عمره من ذكر أو أنثى حرّ من أحرار المسلمين، وكلّ ما هو على ملكه أو يملكه في بقيّة عمره إلى آخر أيّامه من عين أو عرض صدقة للفقراء والمساكين، وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة بثلاثين عمرة راجلا حافيا حاسرا، لا يقبل الله منه غير الوفاء بها باطنا ولا ظاهرا، وإهداء مائة بدنة «1» في كل حجّة(9/328)
منها في عسرته ويسرته، لا تجزئه واحدة منها عن حجّة الإسلام وعمرته، وصوم الدهر خلا المنهيّ عنه من أيّام السّنة، وصلاة ألف ركعة في كل ليلة لا يباح له دون أدائها غمض ولا سنة، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، ولا يؤجر على شيء من ذلك قولا ولا فعلا، متى ورّى في ذلك أو استثنى، أو تأوّل أو استفتى، كان الحنث عليه عائدا، وله إلى دار البوار قائدا، معتمدا في ذلك أشدّ المذاهب في سرّه وعلانيته، على نيّة المستحلف له دون نيّته، وأمضوها بيعة محكمة المباني ثابتة القواعد، كريمة المساعي جميلة المقاصد، طيّبة الجنى جليلة العوائد، قاطعة البراهين ظاهرة الشّواهد، وأشهدوا على أنفسهم بذلك من حضر مجلس هذا العقد من قضاة الإسلام وعلمائه، وأئمة الدّين وفقهائه، بعد أن أشهدوا الله عليهم وكفى بالله شهيدا، وكفى به للخائنين خصيما: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«1» . والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى، ومن يسرى إلى يمنى، ويحقّق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«2» . إن شاء الله تعالى.
المذهب الرابع (مما يكتب في بيعات الخلفاء أن يفتتح البيعة بلفظ: هذه بيعة،
ويصفها ويذكر ما يناسب، ثم يعزّي بالخليفة الميّت، ويهنّيء بالخليفة المستقرّ، ويذكر في حقّ كلّ منهما ما يليق به من الوصف على نحو مما تقدّم) وهذه نسخة بيعة أنشأها المقرّ الشّهابيّ «3» بن فضل الله، على ما رأيته في «الجواهر الملتقطة» المجموعة من كلامه، للإمام الحاكم «4» بأمر الله «أبي(9/329)
القاسم» «1» «أحمد بن أبي الرّبيع سليمان المستكفي «2» بالله ابن الإمام الحاكم «3» بأمر الله، بعد موت أبيه.
وذكر القاضي تقيّ الدين «4» بن ناظر الجيش في «دستوره» أنه إنما عملها(9/330)
تجربة «1» لخاطره، وهي مرتّبة على موت خليفة.
ونصها بعد البسملة الشريفة:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«2» .
هذه بيعة رضوان وبيعة إحسان، وبيعة رضا تشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، وتحوم بشائرها على الأفق، وتحمل أنباءها البراريّ والبحار مشحونة الطّرق، بيعة تصلح لنسبها الأمّة، وتمنح بسببها النّعمة، وتؤلّف بها الأسباب وتجعل بينهم مودّة ورحمة، بيعة تجري بها الرّفاق، وتتزاحم زمر الكواكب على حوض المجرّة للوفاق، بيعة سعيدة ميمونة، بيعة شريفة بها السلامة في الدّين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعيّة، بيعة ملحوظة مرعيّة، بيعة تسابق إليها كلّ نيّة وتطاوع كلّ طويّة، وتجمع عليها أشتات البريّة، بيعة يستهلّ بها الغمام، ويتهلّل البدر التّمام، بيعة متّفق على الإجماع عليها، والاجتماع لبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الإجماع، وانعقدت صحّتها بمن سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كلّ امريء ما استطاع، وحصل عليها اتّفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحقّ إلى مستحقّه وأقرّ الخصم وانقطع النّزاع، وتضمّنها كتاب كريم يشهده المقرّبون، ويتلقّاه الأئمة الأقربون.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ
«3» :
ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
«4» . وإلينا ولله الحمد وإلى بني(9/331)
العبّاس. أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحلّ، وأصحاب الكلام فيما قلّ وجلّ، وولاة الأمور والأحكام، وأرباب المناصب والحكّام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السّيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسراوات قريش ووجوه بني «1» هاشم والبقيّة الطاهرة من بني العباس، وخاصّة الأئمة وعامّة الناس، بيعة ترسى «2» بالحرمين خيامها، وتخفق على المأزمين أعلامها، وتتعرّف عرفات ببركاتها وتعرف بمنى أيّامها، ويؤمّن عليها يوم الحجّ الأكبر، وتؤمّ ما بين الرّكن والمقام والمنبر، ولا يبتغى بها إلّا وجه الله الكريم، وفضله العميم، لم يبق صاحب سنجق»
ولا علم، ولا ضارب بسيف ولا كاتب بقلم، ولا ربّ حكم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو فتيا يسأل فيجيب، ولا من بين جنبتي المساجد ولا من تضمّهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطيء أو يصيب، ولا متحدّث بحديث، ولا متكلّم بقديم وحديث، ولا معروف بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساع على قدم ولا طائر بغير جناح، ولا مخالط للناس ولا قاعد في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلّة، ولا من يستقلّ بالحوزاء لواؤه، ولا يقلّ فوق الفرقد ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أوّل ولا آخر، ولا مسرّ في باطن ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا إبدار، ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار، ولا ملجّج في البحار الزاخرة والبراريّ القفار، ولا من يتوقّل صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل، ولا من تظلّه السماء وتقلّه الأرض، ولا من تدلّ عليه(9/332)
الأسماء على اختلافها وترتفع درجات بعضهم على بعض، حتّى آمن بهذه البيعة وأمّن عليها، ومنّ الله عليه وهداه إليها، وأقرّ بها وصدّق، وغضّ لها بصره خاشعا وأطرق، ومدّ إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، رضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«1» .
والحمد لله الذي نصب الحاكم ليحكم بين عباده وهو أحكم الحاكمين، والحمد لله الذي أخذ حقّ آل بيت نبيّه من أيدي الظالمين، والحمد لله ربّ العالمين، ثم الحمد لله ربّ العالمين، ثم الحمد لله ربّ العالمين، والحمد لله رب العالمين.
وإنه لمّا استأثر الله بعبده سليمان أبي الرّبيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين- كرّم الله مثواه- وعوّضه عن دار السّلام بدار السّلام، ونقله فزكّى بدنه عن شهادة السّلام بشهادة الإسلام، حيث آثره ربّه بقربه، ومهّد لجنبه وأقدمه على ما أقدمه من يرجوه لعمله وكسبه، وخار له في جواره رقيقا، وجعل له على صالح سلفه طريقا، وأنزله مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
«2» . الله أكبر ليومه لولا مخلّفه كادت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كلّ نفس بما كسبت، وتنبيء كلّ سريرة بما أدّخرت وما خبّت، لقد اضطرم سعير، إلّا أنّه في الجوانح، لقد اضطرب منبر وسرير، لولا خلفه الصالح، لقد اضطرب مأمور وأمير، لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، لقد غاضت البحار، لقد غابت الأنوار، لقد غالب البدور ما يلحق الأهلّة من المحاق ويدرك البدر من السّرار، نسفت الجبال نسفا، وخبت مصابيح النّجوم وكادت تطفى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا(9/333)
صَفًّا
«1» لقد جمعت الدنيا أطرافها وأزمعت على المسير، وجمعت الأمّة لهول المصير، وزاغت يوم موته الأبصار: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ
«2» .
وبقيت الألباب حيارى، ووقفت تارة تصدّق وتارة تتمارى، لا تعرف قرارا، ولا على الأرض استقرارا: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
«3» .
ولم يكن في النّسب العباسيّ ولا في جميع من في الوجود، لا في البيت المسترشديّ ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهي عاقر غير ولود، من تسلّم إليه أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم عقد نيّاتها، وسرّ طويّاتها، إلّا واحد وأين ذلك الواحد؟ هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده ولا شيء هو إلّا ما اشتمل عليه رداء الليل والنّهار، وهو ابن المنتقل إلى ربّه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأنام، فرد الأيّام، وواحد وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زرّرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفائز بملك ما بين الشارق والغارب، الراقي في صفيح السماء هذه الذّروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين رضي الله عنهم ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتّضع لله وهو من بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي تصفّح السّحاب نائله، والذي لا يغرّه عاذره ولا يغيّره عاذله، والذي (طويل) .
تعوّد بسط الكفّ حتّى لو انّه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
والذي (طويل) .
لا هو في الدّنيا مضيع نصيبه ... ولا ورق الدّنيا عن الدّين شاغله(9/334)
والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلّا قال ناصره وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلّا وعرف بأنّه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم بمقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخليفته وابن عمّه، وتابع عمله الصالح ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله ووليّه «أحمد أبو العبّاس» الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، أيّد الله تعالى ببقائه الدّين، وطوّق بسيفه [رقاب] الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكفّ بجهاده طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممّن لا يدين بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدّر اقتداره، وأسكن في قلوب الرعيّة سكينته ووقاره، ومكّن له في الوجود وجمع له أقطاره.
ولمّا انتقل إلى الله ذلك السيد ولحق بدار الحقّ أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مربدّ الليل بأنواره، ووارث بني بمثله ومثل أبيه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم عن نبيّ مقتف على آثاره، ونسي ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النصّ إلّا الإجماع، وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كلّ طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
«1» . فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلّف، ولم يربأ «2» معه وقد مدّ يده طائعا بمن مدّها وقد تكلّف، واجتمعوا على رأي واحد واستخاروا الله تعالى فيه فخار، وناهيك بذلك من مختار، وأخذت يمين تمدّ إليها الأيمان، ويشدّ بها الإيمان، وتعطى عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كلّ فريق، حتّى تقلّد كلّ(9/335)
من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحطّ يده على المصحف الكريم وحلف بالله العظيم وأتمّ أيمانه، ولم يقطع ولم يستثن ولم يتردّد، ومن قطع من غير قصد أعاد وجدّد، وقد نوى كلّ من حلف أنّ النية في يمينه نيّة من عقدت هذه البيعة له ونية من حلف له، وتذمّم بالوفاء في ذمّته وتكفّله، على عادة أيمان البيعة بشروطها وأحكامها المردّدة، وأقسامها المؤكّدة، بأن يبذل لهذا الإمام المفترضة طاعته الطاعة، ولا يفارق الجمهور ولا يظهر عن الجماعة انجماعه، وغير ذلك مما تضمّنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثّقات عمّن لم يكتب وأذنوا لمن يكتب عنهم، حسب ما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تمّ بمشيئة الله تمامها، وعمّ بالصّوب الغدق غمامها، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
«1» . ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي وعده، المّوافي لمن يضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعم يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب إلّا أن يقاتل أعداء الله بأمدادها، ويرأب بها ما آثر فيما أثر مماليكه (؟) ما بان من مباينة أضدادها.
نحمده والحمد لله، ثم الحمد لله كلمة لا نمل من تردادها، ولا نبخل بما يفوّق السّهام من سدادها، ولا نظلّ إلّا على ما يوجب كثرة أعدادها، وتيسير إقرار على أورادها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يتقايس دم الشهداء ومدّ مدادها، وتتنافس طرر الشّباب وغرر السّحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبّجة وما تلبسه الدولة العباسيّة من شعارها، والليالي من دثارها، والأعداء من حدادها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى جماعة آله من سفل من أبنائها ومن سلف من أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(9/336)
وبعد، فإنّ أمير المؤمنين لما أكسبه الله تعالى من ميراث النّبوّة ما كان لجدّه، ووهبه من الملك السليمانيّ عن أبيه ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلّمه منطق الطير بما تتحمّله حمائم البطائق من بدائع البيان، وسخّر له من البريد على متون الخيل ما سخّر من الرّيح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء ما أمدّه به أبوه سليمان وتصرّف، وأعطاه من الفخار ما أطاعه به كلّ مخلوق ولم يتخلّف، وجعل له من لباس بني العبّاس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على كحل الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السّواد، ويمدّ ظلّه على الأرض فكلّ مكان حلّه دار ملك وكلّ مدينة بغداد، وهو في ليله السّجّاد، وفي نهاره العسكريّ وفي كرمه جعفر الجواد- يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه، والابتهاج بما يغصّ كلّ عدوّ بريقه، ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهمّ من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال مما يتحلّى به الإمام، ويقدّم التقوى أمامه، ويقرن عليها أحكامه، ويتّبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين حمله بالسّيف غصبا على الرّاس، ويعجّل أمير المؤمنين بما يشفي به النّفوس، ويزيل به كيد الشيطان إنه يؤوس، ويأخذ بقلوب الرّعايا وهو غنيّ عن هذا ولكن يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله وخليفته عليه أنه أقرّ كلّ امريء من ولاة الأمور الإسلاميّة على حاله، واستمرّ به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وتفرّقهم في الممالك والثّغور، برّا وبحرا، سهلا ووعرا، وشرقا وغربا، وبعدا وقربا، وكلّ جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملوك وأمير، وجنديّ يبرق له سيف شهير، ورمح طرير «1» ، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتّاب، ومن له يد تبقى في إنشاء وتحقيق حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في الدّورس والمدارس والرّبط والزّوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلّقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب،(9/337)
وأصحاب الرّواتب، ومن له في مال الله رزق مقسوم، وحقّ مجهول أو معلوم، واستمرار كلّ أمر على ما هو عليه، حتّى يستخير الله ويتبيّن له ما بين يديه، فما زاد تأهيله، زاد تفضيله، وإلّا فأمير المؤمنين لا يريد سوى وجه الله، ولا يحابي أحدا في دين، ولا يحامي [عن] أحد في حقّ، فإن المحاماة في الحقّ مداجاة على المسلمين، وكلّ ما هو مستمرّ إلى الآن، مستقرّ على حكم الله مما فهّمه الله له وفهّمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه، معتبر مستمرّ بما شكر الله على نعمه وهكذا يجازى من شكر، ولا يكدّر على أحد موردا نزّه الله به نعمه الصافية عن الكدر، ولا يتأوّل في ذلك متأوّل ولا من فجر النعمة أو كفر، ولا يتعلّل متعلّل فإنّ أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيّامه من الغير، وأمر أمير المؤمنين- أعلى الله أمره- أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن تضرب باسمهما النّقود المتعامل بها على الإطلاق، ويبتهج بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرّح منه بما يشرق به وجه الدّرهم والدّينار، وتباهي به المنابر ودور الضرب، هاتيك ترفع اسمهما على أسرّة مهودها، وهذه على أسارير نقودها، وهذه تقام بسببها الصّلاة، وتلك تدام بها الصّلات، وكلاهما تستمال به القلوب، ولا يلام على ما تعيه الآذان وتوعيه الجيوب، وما منهما إلّا من تحدّق بجواره الأحداق، وتميل إليه الأعناق، وتبلغ به المقاصد، ويقوى بهما المعاضد، وكلاهما أمره مطاع، من غير نزاع، وإذا لمعت أزمّة الخطب طار للذّهب شعاع، ولولاهما ما اجتمع جمع ولا انضمّ، ولا عرف الأنام بمن تأتمّ، فالخطب والذهب معناهما واحد، وبهما يذكر الله قيماء «1» المساجد، ولولا الأعمال، ما بذلت الأموال، ولولا الأموال، ما ولّيت الأعمال، ولأجل ما بينهما من هذه النّسبة، قيل إنّ الملك له السّكّة والخطبة، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا الجمع المشهود ما يتناقله كلّ خطيب، ويتداوله(9/338)
كلّ بعيد وقريب، وإنّ الله أمر بأوامر ونهى عن نواه وهو رقيب، وتستفزع الأولياء لها السّجايا، وتتضرّع الخطباء فيها بنعوت الوصايا، وتكمّل بها المزايا، ويتكلّم بها الواعظ ويخرج من المشايخ الخبايا من الزّوايا، وتسمر بها السّمّار ويترنّم الحادي والملّاح، ويروق شجوها في الليل المقمر ويرقم على جنب الصّباح، وتعطّر بها مكة بطحاءها وتحيا بحديثها قباه، ويلقّنها كلّ أب فهم ابنه ويسأل كلّ ابن أن يجيب أباه، وهو لكم أيّها الناس من أمير المؤمنين رشد وعليكم بيّنة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربّه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرّعايا بها ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحقّ وجاءت إليه الخلافة تجرّ أذيالها، وأخذها دون بني أبيه ولم تكن تصلح إلّا له ولم يكن يصلح إلّا لها، وقد كفاكم أمير المؤمنين السّؤال بما فتح لكم من أبواب الأرزاق، وأسباب الارتفاق، وأحسن لكم على وفاقكم وعلّمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق، ولم يبق على أمير المؤمنين إلّا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل بما ينتفع به من يجيء- أطال الله بقاء أمير المؤمنين- من بعده، ويزيد على كل من تقدّم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد، وأمير المؤمنين يقيم على عباده موسم الحجّ في كل عام، ويشمل سكّان الحرمين الشريفين وسدنة «1» بيت الله الحرام، ويجهّز السبيل على عادته ويرجو أن يعود إلى حاله الأوّل في سالف الأيّام، ويتدفّق في هذين المسجدين بحره الزاخر ويرسل إلى ثالثهما البيت المقدّس ساكب الغمام، ويقوم بقومة قبور الأنبياء- صلوات الله عليهم- أين كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيّام أمير المؤمنين بمن انضمّ إليه، وبما يتسلّمه من بلاد الكفّار ويسلم على يديه.(9/339)
وأمّا الجهاد، فيكتفي باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بأموره، المقلّد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكل إليه- خلّد الله سلطانه- عناء الأيّام، وقلّده سيفه الراعب بوارقه ليسلّه واجده على الأعداء [وإلّا] سلّ خباله عليهم في الأحلام، ويؤكّد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا، وانتزاع [ما بأ] يديهم من بلاد الإسلام فإنّه حقّه وإن طال عليه المدى، وقد قدّم الوصية بأن يوالي غزو العدوّ المخذول برّا وبحرا، ولا يكفّ عمّن يظفر به منهم قتلا وأسرا، ولا يفكّ أغلالا ولا إصرا «1» ، ولا ينفكّ يرسل عليهم في البحر غربانا، وفي البرّ من الخيل عقبانا، يحمل فيهما كلّ فارس صقرا، ويحمي الممالك ممن يحوز أطرافها بإقدام، ويتخوّل أكنافها الأقدام، وينظر في مصالح القلاع والحصون والثّغور، وما يحتاج إليه من آلات القتال، وما تجتاح به الأعداء ويعجز عنه المحتال، وأمّهات الممالك الّتي هي مرابط البنود «2» ، ومرابض الأسود، والجناح الممدود، ويتفقّد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد [بالعجاج] «3» ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد مصون، وبيض مسّها ذائب ذهب فكانت كأنّها بيض مكنون، وسيوف قواضب، ورماح لكثرة طعنها من الدّماء خواضب، وسهام تواصل القسيّ «4» وتفارقها فتحنّ حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها تطييب قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، وماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلّا ما أباح الشرع(9/340)
المطهّر، ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر.
وأما جزئيّات الأمور، فقد علمتم بأنّ فيمن تقلّد عن أمير المؤمنين غنى عن مثل هذه الذّكرى، وفتى حقّ لا يشغل بطلب شيء فكرا، وفي ولاة الأمور، ورعاة الجمهور، ومن هو سداد عمله، ومداد أمله، ومراد من هو منكم معشر الرعايا من قبله، وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين ومن خوّلكم وأنتم وهم فيما منكم إلّا من استعرف أمير المؤمنين وتمشى في مراضي الله على خلقه، وينظر ما هو عليه ويسير بسيرته المثلى في طاعة الله في خلقه، وكلّكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين وله عليكم أداء النّصحية، وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة، وقد دخل كلّ منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رأفته، ولزم حكم بيعته، وألزم طائرة في عنقه، ويستعمل كلّ منكم في الوفاء ما أصبح به عليما: وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«1» .
هذا قول أمير المؤمنين، وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فهو فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وهو يعمل في ذلك كلّه ما تحمد عاقبته من الأعمال، ويحمل منه ما يصلح به الحال والمآل، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ بالله من الإهمال، ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، ويحمد الله وهو من الخلق «أحمد» وقد آتاه الله ملك سليمان، والله تعالى يمتّع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملّكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، ولا يزال على أسرّة العلياء قعوده، ولباس الخلافة به أبّهة الجلالة كأنّه ما مات منصوره ولا ردى مهديّه ولا ذهب رشيده.
المقصد السادس (فيما يكتب في آخر البيعة)
إذا انتهى إلى آخر البيعة، شرع في كتابة الخواتم على ما تقدّم، فيكتب:(9/341)
«إن شاء الله تعالى» ثم يكتب التاريخ. ثم الذي يقتضيه قياس العهود أنه يكتب المستند عن الخليفة فيكتب «بالإذن العالي المولويّ الإماميّ النبويّ المتوكّليّ- مثلا- أعلاه الله تعالى» وكأنّ الخليفة الذي عقدت له البيعة هو الذي أذن في كتابتها.
قلت: ولو أسقط المستند في البيعات فلا حرج بخلاف العهود؛ لأنها صادرة عن مولّ وهو العاهد، فحسن إضافة المستند إليه، بخلاف البيعة فإنها إنما تصدر عن أهل الحلّ والعقد كما تقدّم. ويكتفى في المستند عنهم بكتابة خطوطهم في آخر البيعة كما سيأتي، ثم بعد كتابة المستند- إن كتب- تكتب الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والحسبلة، على ما تقدّم في الكلام على الفواتح والخواتم في مقدّمة الكتاب.
ثم يكتب من بايع من أهل الحلّ والعقد والشهود على البيعة.
فأما من تولّى عقد البيعة من أهل الحلّ والعقد فيكتب: «بايعته على ذلك، وكتب فلان بن فلان» ويدعو في خلال ذلك قبل اسمه بما يناسب، مثل أن يقال «بايعته على ذلك قدّس الله خلافته» أو «زاد الله في شرفه» أو «زاد الله في اعتلائه» وما أشبه ذلك.
وأما الشهود على البيعة فالواجب أن يكتب كلّ منهم: «حضرت جريان عقد البيعة المذكورة، وكتب فلان بن فلان» كما يكتب الشاهد بجريان عقد النكاح ونحوه، ولا بأس أن يدعو في رسم شهادته قبل كتابة اسمه بما يناسب، مثل «قرنها الله تعالى باليمن أو بالسداد» أو «عرّف الله المسلمين بركتها» وما أشبه ذلك.
المقصد السابع (في قطع الورق الذي تكتب فيه البيعة، والقلم الذي تكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها)
واعلم أنّ البيعات لم تكن متداولة الاستعمال لقلّة وقوعها، فلم يكن لها(9/342)
قطع ورق، ولا تصوير متعارف فيتبع، ولكنه يؤخذ فيها بالقياس وعموم الألفاظ.
فأمّا قطع ورقها، فقد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق نقلا عن محمد بن عمر المدائنيّ «1» في كتاب «القلم والدّواة» أنّ قطع البغداديّ الكامل للخلفاء والملوك، ومقتضى ذلك أنّ البيعات تكتب فيه، وهو قياس ما ذكره المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» من أنّ للعهود قطع البغداديّ الكامل على ما سيأتي ذكره.
قلت: لكن سيأتي في الكلام على عهود الخلفاء أنها الآن قد صارت تكتب في قطع الشامي الكامل، وبينهما في العرض والطّول بون كبير على ما تقدّم بيانه في الكلام على قطع الورق، وحينئذ فينبغي أن تكون كتابة البيعات في قطع الشاميّ مناسبة لما تكتب فيه عهود الخلفاء الآن.
وأمّا القلم الذي يكتب به فبحسب الورق الذي يكتب فيه؛ فإن كتبت البيعة في قطع البغداديّ، كانت الكتابة بقلم مختصر الطّومار «2» إذ هو المناسب له، وإن كتبت في قطع الشاميّ، كانت الكتابة بقلم الثلث الثقيل إذ هو المناسب له.
وأما كيفيّة الكتابة وصورة وضعها، فقياس ما هو متداول في كتابة العهود وغيرها، أنه يبتدأ بكتابة الطّرّة في أوّل الدّرج بالقلم الذي تكتب به البيعة سطورا متلاصقة لا خلوّ بينها، ممتدة في عرض الدّرج من أوّله إلى آخره من غير(9/343)
هامش. ثم إن كانت الكتابة في قطع البغداديّ الكامل، جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء على ما سيأتي ذكره، ويترك بعد الوصل الذي فيه الطّرّة ستة أوصال بياضا من غير كتابة، لتصير بوصل الطرّة سبعة أوصال، ثم يكتب البسملة في أوّل الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاته تكاد تلحق الوصل الذي فوقه بهامش عريض عن يمينه قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة، ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أوّل البيعة ملاصقا لها، ثم يخلّي مكان بيت العلامة قدر شبر جريا على قاعدة العهود وإن لم تكن علامة تكتب، كما يخلّى بيت العلامة في بعض المكاتبات ولا يكتب فيه شيء، ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة في بقيّة الوصل الذي فيه البسملة، ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في أثناء السطر الأوّل أو الثاني، ثم يسترسل في كتابة بقيّة البيعة ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع القماش كما سيأتي في العهود، ويستصحب ذلك إلى آخر البيعة، فإذا انتهى إلى آخرها كتب «إن شاء الله تعالى» ثم التاريخ، ثم المستند، ثم الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ والحسبلة، على ما تقدّم بيانه في الفواتح والخواتم في مقدّمة الكتاب، ثم يكتب من بايع من أهل الحلّ والعقد خطوطهم، ثم الشهود على البيعة بعدهم.
وإن كانت الكتابة في القطع الشاميّ، فينبغي أن ينقص عدد أوصال البياض الذي بين الطرة والبسملة وصلين فتكون خمسة، وينقص الهامش فيكون قدر ثلاثة أصابع على ما يقتضيه قانون الكتابة.
وهذه صورة وضعه في الورق ممثّلا لها بالطّرّة الّتي أنشأتها لذلك، والبيعة الثانية من البيعتين اللتين أنشأتهما.
بياض بأعلى الدرج بقدر إصبع هذه بيعة ميمونة، باليمن مبتدأة بالسعد مقرونة، لمولانا السيد الجليل الإمام(9/344)
النبويّ المتوكل «1» على الله أبي عبد الله محمد أمير المؤمنين، ابن الإمام المعتضد «2» بالله أبي الفتح أبي بكر العبّاسي، زاد الله تعالى شرفه علوّا، وفخاره سموّا. قام بعقدها السلطان السيد الأعظم، والشاهنشاه «3» المعظّم، الملك الظاهر أبو سعيد «4» برقوق، خلّد الله تعالى سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه، بمجمع من أهل الحلّ والعقد، والاعتبار والنقد، من القضاة والعلماء والأمراء، ووجوه الناس والوزراء والصّلحاء والنّصحاء، وإمضائها على السّداد، والنّجح والرشاد. على ما شرح فيه.
بياض ستة أوصال بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة وأمنا؟؟؟ وأقام(9/345)
بيت العلامة تقدير شبر هامش سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا، وشدّ منها بالعصابة تقدير ربع ذراع القرشيّة أزرا وشاد منها بالعصبة العبّاسيّة ركنا، وأغاث تقدير ربع ذراع الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى.
ثم يأتي على الكلام إلى آخر البيعة على هذا النّمط إلى أن ينتهي إلى قوله: والله تعالى يجعل انتقالهم من أدنى إلى أعلى ومن يسرى إلى يمنى، ويحقّق لهم بمن استخلفه عليهم وعده الصادق بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«1» .
إن شاء الله تعالى كتب في الثاني من جمادى الأولى مثلا سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بالإذن العالي المولويّ الإماميّ النبويّ المتوكليّ مثلا أعلاه الله تعالى الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل(9/346)
بايعته على ذلك/ بايعته على ذلك/ بايعته على ذلك قدّس الله تعالى خلافته/ زاد الله تعالى في شرفه/ زاد الله تعالى في اعتلائه وكتب/ وكتب/ وكتب فلان بن فلان/ فلان بن فلان/ فلان بن فلان حضرت/ حضرت/ حضرت جريان عقد/ جريان عقد/ جريان عقد البيعة المذكورة/ البيعة المذكورة/ البيعة المذكورة قرنها الله تعالى/ قرنها الله تعالى/ عرّف الله المسلمين باليمن والبركة/ بالسّداد/ بركتها وكتب/ وكتب/ وكتب فلان بن فلان/ فلان بن فلان/ فلان بن فلان
النوع الثاني (من البيعات، بيعات الملوك)
واعلم أنّ المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله قد ذكر في «التعريف» «1» أنّ من قام من الملوك بغير عهد ممن قبله لم تجر العادة بأن تكتب لهم مبايعة، وكأنّه يريد اصطلاح بلاد المشرق والديار المصرية، أما بلاد المغرب فقد جرت عادة مصطلحهم بكتابة البيعات لملوكهم، وذلك أنه ليس عندهم خليفة يدينون له، يتقلّدون الملك بالعهد منه، بل جلّهم أو كلّهم يدّعي الخلافة فهم يكتبون البيعات لهذا المعنى.(9/347)
وهذه نسخة بيعة من هذا النوع، كتب بها للسلطان أبي «1» عبد الله محمد ابن السلطان أبي الحجّاج بن نصر بن الأحمر الأنصاريّ، صاحب حمراء غرناطة من الأندلس، مفتتحة بخطبة على قاعدتهم في بيعات الخلفاء على ما تقدّم ذكره، وربما تكرّر الحمد فيها دلالة على عظم النعمة، من إنشاء الوزير أبي عبد الله محمد بن الخطيب «2» صاحب ديوان إنشائه، على ما رأيته في ديوان ترسّله، وهي «3» :
الحمد لله الذي جلّ شانا، وعزّ سلطانا، وأقام على ربوبيّته الواجبة في كلّ شيء خلقه برهانا، الواجب الوجود ضرورة إذ كان وجود ما سواه إمكانا، الحيّ القيّوم حياة أبديّة سرمديّة منزّهة عن الابتداء والانتهاء [فلا تعرف وقتا ولا(9/348)
تستدعي زمانا، العليم الذي يعلم السّرّ وأخفى «1» ] فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء إلّا أحاط بها علما وأدركها عيانا، القدير الذي ألقت الموجودات كلّها إلى عظمته يد الخضوع استسلاما «2» له وإذعانا، المريد الذي بمشيئته «3» تصريف الأقدار، واختلاف الليل والنّهار، فإن منع منع عدلا وإن منح منح إحسانا، شهد تداول الملوك»
بدوام ملكه، ودلّ حدوث ما سواه على قدمه، وأثنت ألسنة الحيّ والجماد على مواهبه وقسمه، وفاض على عوالم السماء والأرض بحر جوده العميم النّوال من قبل السؤال «5» وكرمه، وإن «6» من شيء إلّا يسبّح بحمده ويثني على نعمه سرّا وإعلانا «7» ، فهو الله الذي لا إله إلّا هو، ليس في الوجود إلّا فعله، ألا له الخلق والأمر وإليه يرجع الأمر كلّه، وسع الأكوان على تباينها فضله، وقدّر المواهب والمقاسم عدله، منعا ومنحا وزيادة ونقصانا.
والحمد لله الذي بيده الاختراع والإنشاء، مالك الملك «8» يؤتي الملك من يشاء وينزع «9» الملك ممّن يشاء، سبق في مكنون غيبه القضاء، وخفيت عن خلقه الأسباب وعميت عليهم الأنباء، وعجزت عقولهم أن تدرك «10» منها كنها أو تكشف منها بيانا.
والحمد لله الذي رفع قبّة السماء ما اتّخذ لها عمادا، وجعل الأرض فراشا(9/349)
ومهادا، وخلق الجبال الراسية أوتادا، ورتّب أوضاعها أجناسا متفاضلة، وأنواعا متباينة متقابلة، فحيوانا ونباتا وجمادا، وأقام «1» فيها على حكمة الإبداع دلائل باهرة الشّعاع وأشهادا، وجعل الليل والنهار خلفة «2» والشمس والقمر حسبانا، وقدّر السياسة سياجا لعالم الإنسان يضمّ منه ما انتشر «3» ، ويطوي من تعدّيه ما نشر، ويحمله «4» على الآداب الّتي ترشده إذا ضلّ وتقيمه إذا عثر، وتجبره على أن يلتزم السّنن ويتّبع الأثر، لطفا منه شمل البشر وحنانا.
ولما عمر الأرض بهذا الجنس الذي فضّله وشرّفه، ووهب له العقل الذي تفكّر «5» به في حكمته حتّى عرفه، وبما يجب لربوبيّته الواجبة وصفه، جعلهم درجات بعضها فوق بعض فقرا وغنى وطاعة وعصيانا، واختار منهم سفرة الوحي وحملة الآيات، وأرسل فيهم الرّسل بالمعجزات «6» ، وعرّفهم بما كلّفهم من الأعمال المفترضات: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
«7» . يوم اعتبار «8» الأعمال واعتبار الحسنات، ونصب العدل والمجازاة في يوم العرض عليه قسطاسا وميزانا.
نحمده وله الحمد في الأولى والآخرة، ونثني على مواهبه الجمّة وآلائه الوافرة، ونمدّ يد الضّراعة، في موقف الرّجاء والطّماعة «9» ، إلى المزيد من مننه(9/350)
الهامية الهامرة، ونسأله دوام ألطافه الخافية وعصمه «1» الظاهرة، واتّصال نعمه الّتي لا نزال «2» نتعرّفها مثنى ووحدانا، ونشهد أنّه الله الذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له. [شهادة نجدها في المعاد عدّة واقية، ووسيلة للأعمال الصالحة إليه راقية، وذخيرة صالحة باقية، ونورا يسعى بين أيدينا ويكون على الرضا والقبول فينا عنوانا] «3» . ونشهد أنّ سيدنا ومولانا محمدا النبيّ العربيّ القرشيّ الهاشميّ عبده ورسوله الذي اصطفاه واختاره، ورفع بين النبيين والمرسلين مقداره، وطهّر قلبه وقدّس أسراره، وبلّغه من رضاه اختياره، وأعطاه لواء الشفاعة يقفو آدم ومن بعده من الأنبياء الكرام آثاره، وجعله أقرب الرّسل مكانة وأرفعهم مكانا. رسول الرحمة، ونور الظّلمة، وإمام الرسل الأئمّة، الذي جمع له بين مزيّة السّبق ومزية التّتمّة، وجعل طاعته من العذاب المقيم أمانا، صاحب الشّفاعة الّتي تؤمّل، والوسيلة الّتي إلى الله بها يتوسّل، والدرجة الّتي لم يؤتها الملك المقرّب ولا النبيّ المرسل، والرتبة الّتي لم يعطها الله سواه إنسانا. انتخبه من أشرف العرب أمّا وأبا، وأزكى البريّة طينة وأرفعها نسبا، وابتعثه إلى كافّة الخلق عجما وعربا، وملأ بنور دعوته البسيطة جنوبا وشمالا ومشرقا ومغربا، وأنزل عليه كتابه الذي آمنت به الجنّ لمّا سمعته، وقالوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «4»
، تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكلّ شيء وتبيانا، فصدع صلّى الله عليه وسلّم بأمر من اختار ذاته الطاهرة واصطفاها، وأدّى أمانة الله ووفّاها، ورأى الخلائق على شفى المتالف فتلافاها، وتتبّع أدواء الضّلال فشفاها، ومحا معالم الجهل وعفّاها، وشاد للخلق «5» في الحقّ بنيانا، مؤيّدا بالمعجزات الّتي حجحها تقبل وتسلّم،(9/351)
فمن جذع لفراقه يتألّم، وجماد بصدق «1» نبوّته يتكلّم، وجيش شكا الظّمأ «2» ففجّر لديه المعين منه بنانا. وأيّ معجزة ككتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه، فهو اليمّ والعلوم النافعة كلّها مذانبه، وأفق الحق الذي تهدي في ظلمات البرّ والبحر كواكبه، والحجّة البالغة الّتي أصبحت بين الحق والباطل فرقانا، فأشرقت الأرض بنور ربّها وآياته، وتمّت كلمة الله صدقا وعدلا، لا مبدّل لكلماته، وبلغ ملك أمّته ما زوي له من أقطار المعمور وجهاته، حتّى عمر من أكناف البسيطة، وأرياف البحار المحيطة، وهادا وكثبانا، ونقلت كنوز كسرى بعزّ دعوته الغالبة، وظفرت بفلج «3» الخصام أيدي عزائمها المطالبة، وأصبح إيوان فارس مجرّ رماح العرب العاربة، وقذفت قيصر من ذوابلها «4» بالشّهب الثاقبة، حتّى فرّ عن مدرته الطيبة آئبا بالصّفقة الخائبة، وخلصت إلى فسطاط مصر بكتائبها المتعاقبة، فلا تسمع الآذان في إقامتهم «5» إلّا إقامة وأذانا. ولا دليل أظهر من هذا القطر الأندلسيّ الغريب الذي خلّصت «6» إليه سيوفها أثباج البحار، على بعد المراحل ونزوح الدّيار، وتكاثف العمالات واختلاف الأمصار، ومنقطع العمارة بأقصى الشّمال ومحطّ السّفّار، طلعت عليه كلمة الله طلوع النهار، واستوطنته قبائل العرب الأحرار، وأرغمت فيه «7» أنوف الكفّار، ضرابا في سبيل الله وطعانا.
ولمّا استقام الدّين، وتمّم معالم الإيمان الرسول الأمين، وظهر الحقّ المبين، وراق من وجه الملّة الحنيفيّة السّمحة الجبين، وأخذ المسالك والمآخذ(9/352)
الإفصاح والتبيين، وتقرّرت المستندات المعتمدات سنّة وقرآنا، أشعره «1» الوحي بالرحلة عن هذه الدار، والانتقال إلى محلّ الكرامة ودار القرار، وخيّره «2» الملك فاختار الرّفيق الأعلى موفّقا إلى كرم «3» الاختيار، [و] وجد صحبه رضي الله عنهم، في الاستخلاف بعده والإيثار، حججا مشرقة الأنوار، أطلقت بالحقّ يدا وأنطقت بالصّدق لسانا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحابته، وأسرته الطاهرة وعصابته، وأنصاره «4» وأصهاره وقرابته، الذين»
كانوا في معاضدته إخوانا، وعلى إعلاء إمرة الحقّ أعوانا، نجوم الملّة وأقمارها، وغيوثها الهامية وبحارها، وسيوف الله الّتي لا تنبو شفارها، وأعلام الهدى الّتي لا تبلي آثارها، ودعائم الدّين الّتي رفعت «6» منه على البرّ والتقوى أركانا.
وحيّا الله وجوه حيّ الأنصار بالنعيم «7» والنّضرة، أولي البأس عند الحفيظة والعفو عند القدرة، والراضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ويذهبوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنعمت المنقبة والأثرة، الحائزون ببيعة الرّضوان فضلا من الله ورضوانا. ووزراؤه وظهراؤه في كل أمر، وخالصته «8» يوم أحد وبدر، لم يزالوا صدرا في كلّ قلب وقلبا في كلّ صدر «9» يصلون دونه كلّ جمر، ويفدونه بنفوسهم في كلّ سرّ وجهر، ويعملون في إعلاء دينه بيضا عضابا وسمرا لدانا، صلاة لا تزال سحائبها ثرّة، وتحية دائمة مستمرّة، ما لهجت الألسن بثنائهم،(9/353)
ووقفت المفاخر على عليائهم، وتعلّمت المواهب من آلائهم، وقصرت المحامد على مسمّياتهم وأسمائهم، وكان حبّهم «1» على الفوز بالجنة ضمانا.
ونسألك اللهم لهذا الأمر النّصريّ «2» الذي سببه بسببهم موصول، وهم لفروعه السامية أصول، فيالها من نصول خلّفتها نصول، أنجزت وعد النصر وهو ممطول، وأحيت ربوع الإيمان وهي طلول، نصرا عزيزا وفتحا مبينا، وتأييدا على أعدائك وتمكينا، وملكا يبقى في الأعقاب وأعقاب الأعقاب وسلطانا.
وأعنّا اللهمّ على ما أوجبت «3» له من مفروض الطاعة، وتأدية الحقّ بجهد الاستطاعة، واعصمنا بإيالته العادلة من الإضاعة، واحملنا من مرضاته على سنن السّنّة والجماعة، واجعلها كلمة باقية [في عقبة «4» ] إلى قيام الساعة وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا «5» .
أما بعدما افتتح به من تحميد الله وتمجيده، والثناء الذي تتعطّر الأندية بترديده، فإنّ من المشهور الذي يعضّده الوجود ويؤيّده، والمعلوم الذي هو كالشمس ضلّ من ينكره أو يجحده، والذائع بكلّ قطر ترويه رواة الأنباء وتسنده، ما عليه هذا الملك النّصريّ الحمى، الأنصاريّ المنتمى، الذي يصيب شاكلة الحقّ إذا رمى، ويعمّ العباد والبلاد غيثه مهما همى، من أصالة الأعراق، وكرم الأخلاق، والفضل الباهر الإشراق، والجهاد الذي هو سمر الرّكب «6» وحديث الرّفاق، وإنّ قومه الملوك الكرام إن فوخروا بنسب ذكروا سعد بن عبادة ومجده، أو كوثروا «7» بعدد غلبوا بالله وحده، أو استنصروا فرّجوا كلّ شدّة، واستظهروا(9/354)
من [عزّهم] «1» الموهوب، وصبرهم على الخطوب، بكلّ عدد وعدّة، دارهم الثغر الأقصى ونعمت الدّار! وشعارهم «لا غالب إلّا الله ونعم الشعار! زهّاد إذا ذكر الدّين، أسود إذا حميت الميادين، جبال إذا زحفت الصّفوف، بدور إذا أظلمت الزّحوف، غيوث إذا منع المعروف، أفراد إذا ذكرت الألوف، إن بويعوا فالملائكة وفود [وحملة العلم] «2» وحملة السّلاح شهود، وإن ولدوا فالسّيوف تمائم والسّروج مهود، وإن أصحروا للعدوّ فالظّلال بنود، وجنود السبع الطّباق «3» جنود، وإن أظلم الليل أسهروا جفونهم في حياطة المسلمين والجفون رقود.
وإنّ هذا القطر الذي انتهى سيل «4» الفتح الأوّل إلى ناحيته «5» ، وأحيلت قداح الفوز بالدّعوة الحنيفيّة على الأقطار «6» فأخذ الإسلام بناصيته، كان من فتحه الأوّل ما قد علم، حسب ما سطّر ورسم، وإنّ موسى بن نصير وفتاه، حلّ من فرضة مجازه محلّ موسى وفتاه، وحلّ الإسلام منه دار قرار، وخطّة خليقة «7» بارتياد واختيار، وبلدا «8» لا يحصى خيره، ولا يفضله بشيء من المزيّة ما عدا الحرمين غيره، وامتدّت الأيّام حتّى تأنّس العدوّ لروعته، وخفّ عليه ما كان من صرعته، وقدح فأورى، وأعضل داؤه واستشرى «9» ، وصارت الصّغرى الّتي كانت الكبرى، فلولا أنّ الله عمد «10» الدّين منهم بالعمدة الوثيقة، حماة الحقيقة،(9/355)
وأئمة الخليقة، وسلالة مفتتحي اليمامة ومفتتحي «1» الحديقة، لأجهز النصل، واجثثّ من الدّين الفرع «2» والأصل، لكنّهم انتدبوا إلى إمساك الدّين بها انتدابا، ووصلوا للإسلام أسبابا، وتناولها منهم صقر قبيل الخزرج، ذو الحسام المضرّج، والثناء المؤرّج، أبو عبد الله الغالب «3» بالله محمد بن يوسف بن نصر، أمير المسلمين، المنتدب لإقامة سنّة سيد المرسلين، قدوة الملوك المجاهدين، نضّر الله وجهه وتقبّل جهاده، وشكر دفاعه عن حوزة الإسلام [وجلاده فأقشعت الظّلمة، وتماسكت الأمّة، وكفّ العدوّ وأقصر، ورأى الإسلام بمن استنصر، واستبصر في الطاعة «4» ] من استبصر، وهبّت «5» بنصر الله العزائم، وكثرت على العدوّ الهزائم، وتوارثوا ملكها ولدا عن أب، مستندين إلى عدل وبذل وبسالة وجلالة وحسب، تتّضح في أفق الجلال نجوم سيرهم هادية للسائرين، وتفرق من سطواتهم في الله أسود «6» العرين، إلى أن قام بالأمر وسطى سلكهم، وبركة ملكهم، الخليفة «7» الواجب الطاعة بالحق على الخلق، الشهير الجلالة والبسالة في الغرب والشّرق، أمير المسلمين بواجب الحق، ساحب «8» أذيال العفاف والطّهارة، السعيد الإيالة والإمارة، البعيد الغارة، من ذعر العدوّ لبأس «9» حسامه، وذخر الفتح الهنيّ «10» لأيّامه، صدر الملوك(9/356)
المجاهدين، وكبير الخلفاء العادلين، البعيد المدى في حماية الدّين، السعيد الشهيد، أبو الوليد، ابن المولى الهمام الأوحد، الرفيع الممجّد، الطاهر الظاهر الأعلى، الرئيس الكبير الجليل المقدّس الأرضى، «أبي سعيد» بن أبي»
الوليد، بن نصر، فأحيا رحمه الله معالم الكتاب والسنّة، وجلّى بنور «2» عدله غياهب الدّجنّة، وأعزّ الإسلام وحماه، ورمى ثغرة الكفر فأصماه، قدّس الله روحه الطيّب، وسقى لحده من الرحمة الغمام الصيّب، وأورث الملك الجهاديّ من ولده خير ملك قبّلت منه كفّ، واستدار به موكب للجهاد ملتفّ، وشمخ بخدمته أنف، وسما إلى مشاهدته طرف، وتأرّج من ذكره عرف، وجرى «3» إلى بابه حرف، مولانا «4» الملك الهمام، الخليفة الإمام، من أشرق بنور إيالته الإسلام، وتشرّفت بوجوده الليالي والأيّام، بدر الملك وشمسه، وسرّ الزمان الذي قصر عن يومه أمسه، الذي اشتهر عدله، وبهر فضله، وظهرت عليه عناية ربّه، وكان الخضوع «5» له في سلمه وحربه، مولانا أمير المسلمين، وقدوة الملوك المجاهدين والأئمّة العارفين «6» ، السعيد، الشهيد، الطاهر، الظاهر، الأوحد الهمام، الخليفة الإمام، (أبو الحجّاج) رفع الله درجته في أوليائه، وحشره مع الذين أنعم [الله] «7» عليهم من أنبيائه وشهدائه، فوضحت المسالك وبانت، وأشرقت المعاهد وازدانت، وشمل الصّنع الإلهيّ، واللّطف الخفيّ، أقطار هذه الأمة حيث كانت. ولما اختار الله له ما عنده، وبلغ الأمد «8» الذي(9/357)
قدّره سبحانه لحياته وحدّه، وقبضه «1» إليه مستغفرا لذنبه، مطمئنا في الحالة الّتي أقرب ما يكون العبد فيها من ربّه، كأنما تأهّب للشهادة [فاختار] مكانها «2» وزمانها، وطهّر بالصوم نفسه الّتي كرّم الله شانها، وطيّب روحها «3» وريحانها، فوقعت «4» آراء أرباب الشّورى الّتي تصحّ الإمامة باتّفاقها، وتنعقد بعقد ميثاقها، من أعلام العلم بقاعدة [ملكه] غرناطة حرسها الله تعالى الّتي غيرها لها تبع، وحماة الإسلام الذين في آرائهم للدين والدنيا منتفع، وخلصان «5» الثّقات، ووجوه الطّبقات، على مبايعة وارث ملكه بحقّه، الحائز في ميدان الكمال وإحراز ما للإمامة من الشروط والخلال خصل سبقه، كبير ولده، وسابق أمده، ووارث ملكه، ووسطى سلكه، وعماد فسطاطه، وبدر الهالة من بساطه، مولانا قمر العلياء، ودرّة الخلفاء، وفرع الشجرة [الشّمّاء] الّتي أصلها ثابت وفرعها في السماء، الذي ظهرت عليه مخايل الملك ناشئا ووليدا، واستشعرت الأقطار به وهو في المهد أمانا وتمهيدا، واستشرف «6» الدّين الحنيف فأتلع جيدا، واستأنف شبابا جديدا، ناصر الحقّ، وغياث الخلق، الذي تميّز بالسكينة والوقار، والحياء المنسدل الأستار، والبسالة المرهوبة الشّفار، والجود المنسكب الأمطار، والعدل المشرق الأنوار، وجمع الله فيه شروط الملك والاختيار «7» ، مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الفاضل، والإمام العادل، والهمام الباسل، الكريم الشمائل، شمس الملك وبدره، وعين الزمان وصدره، أمير المسلمين، وقرّة أعين «8» المؤمنين، أبو عبد الله، وصل الله(9/358)
أسباب سعده، كما حلّى أجياد المنابر بالدّعاء لمجده، وجعل جنود السماء من جنده، ونصره بنصره العزيز فما النّصر إلّا من عنده، ورأوا أن قد ظفرت بالعروة «1» الوثقى أيديهم، وأمن في ظلّ الله رائحهم وغاديهم، ودلّت على حسن الخواتم مباديهم، فتبادروا وانثالوا، وتبختروا في ملابس الأمن واختالوا، وهبّوا إلى بيعته تطير «2» بهم أجنحة السّرور، ويعلن انطلاق وجوههم بانشراح الصّدور، واجتمع منهم طوائف الخاصّة والجمهور، ما بين الشريف والمشروف، والرّؤساء أولي المنصب المعروف، وحملة العلم وحملة السّيوف، والأمناء ومن لديهم من الألوف، وسائر الكافّة أولي البدار لمثلها والخفوف.
فعقدوا له البيعة الوثيقة الأساس، السعيدة بفضل الله على الناس، البريء عهدها «3» من الارتياب والالتباس، الحائزة شروط الكمال، الماحية بنور البيان ظلم الإشكال، الضّمينة حسن العقبى ونجح المآل، على ما بويع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن له من الصّحابة والآل، وعلى السّمع والطاعة، وملازمة السنّة والجماعة، فأيديهم في السّلم «4» والحرب ردء ليده، وطاعتهم إليه خالصة في يومه وغده، وأهواؤهم متّفقة في «5» حالي الشّدّة والرّخاء، وعقودهم «6» محفوظة على تداول السّرّاء والضّرّاء. أشهدوا عليها الله وكفى بالله شهيدا، وأعطوا صفقات أيمانهم تثبيتا للوفاء بها وتأكيدا، وجعلوا منها في أعناقهم ميثاقا وثيقا وعهدا شديدا. والله عزّ وجلّ يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«7» . ومن أصدق من الله وعدا أو(9/359)
وعيدا؟ وهم قد بسطوا أيديهم يستنزلون رحمة الله بالإخلاص والإنابة، وصرفوا وجوههم إلى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، يسألونه «1» خير ما يقضيه، والسير على ما يرضيه.
اللهمّ بابك عند تقلّب الأحوال عرفنا، ومن بحر نعمك العميمة «2» اغترفنا، وعفوك ستر من عيوبنا «3» كلّ ما اجترحنا [السيئات «4» ] واقترفنا، ومن فضلك أغنيتنا، وبعينك الّتي لا تنام حرستنا وحميتنا [فانصر حيّنا وارحم ميّتنا «5» ] وأوزعنا شكر ما أوليتنا، واجعل لنا الخير والخيرة فيما إليه هديتنا.
اللهمّ إنّ قطرنا من مادّة الإسلام بعيد، وقد أحدق بنا بحر زاخر وعدوّ شديد، وفينا أيّم وضعيف وهرم ووليد [وأنت مولانا ونحن عبيد. اللهمّ من بايعناه في هذا العقد «6» ] فأسعدنا بمبايعته وطاعته، وكن له حيث لا يكون لنفسه بعد استنفاد جهده في التحفّظ واستطاعته، وكفّ عنه كفّ عدوّك وعدوّه، كلّما هبّت به رياح طماعته، يا من يفرده العبد بضراعته، ويعوذ بحفظه من إضاعته.
اللهمّ، أدّ عنّا حقّه، فإنا لا نقوى على أدائه، وتولّ عنّا شكر ما حمدناه «7» من سيرته وسيرة آبائه، واحمله من توفيقك على سوائه.
اللهمّ إنّا إليه ناظرون، وعن أمره صادرون، ولإنجاز وعدك في نصر من ينصرك منتظرون، فأعنه على ما قلّدته، وأنجز لديننا على يديه ما وعدته، فما فقد شيئا من وجدك، ولا خاب من قصدك، ولا ضلّ من اعتمدك، آمين آمين يا ربّ العالمين.(9/360)
وكتب الملأ المذكورون أسماءهم بخطوط أيديهم في هذا الكتاب، شاهدة عليهم بما التزموه دنيا «1» ودينا، وسلكوا [منه] سبيلا مبينا. وذلك في الثاني والعشرين لشوّال من عام خمسة «2» وخمسين وسبعمائة.
قلت: وقد أخبر آخر هذه البيعة بأن المبايعين للسلطان تؤخذ خطوط أيديهم في كتاب البيعة شاهدة عليهم بما بايعوا عليه. والظاهر أن كتابة البيعة عندهم كما في مكاتباتهم في طومار»
واحد كبير متضايق السّطور، وأنه ليس له طرّة بأعلاه كما في كتابة المصريين.(9/361)
الباب الثالث من المقالة الخامسة في العهود، وفيه فصلان
الفصل الأوّل (في معنى العهد)
العهد لفظ مشترك يقع في اللغة على ستة معان:
أحدها- الأمان. ومنه قوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ
«1» .
الثاني- اليمين. ومنه قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ
«2» .
الثالث- الحفاظ. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حسن العهد من الإيمان» .
الرابع- الذّمّة. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده» .
الخامس- الزّمان. ومنه قولهم: «كان ذلك على عهد فلان» .(9/362)
السادس- الوصيّة. ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
«1» وهو المراد هنا.
قال الجوهريّ: ومنه اشتقّ العهد الذي يكتب للولاة «2» .(9/363)
الفصل الثاني (في بيان أنواع العهود، وهي ثلاثة أنواع)
النوع الأوّل (عهود الخلفاء عن الخلفاء، ويتعلّق النظر به من ثمانية أوجه)
الوجه الأوّل (في أصل مشروعيّتها)
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قيل لعمر عند موته: «ألا تعهد؟ فقال: أأتحمل أمركم حيّا وميّتا؟ إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي، [يعني أبا بكر «1» ] : وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . فأثبت استخلاف أبي بكر رضي الله عنه بذلك، مشيرا إلى ما روي: «أنّه لما اشتدّ بأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه الوجع، أرسل إلى عليّ وعثمان ورجال من المهاجرين والأنصار، فقال: قد حضر ما ترون، ولا بدّ من قائم بأمركم، فإن شئتم استخرتم لأنفسكم، وإن شئتم استخرت لكم. قالوا: بل اختر لنا، فأمر عثمان فكتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (على ما سيأتي ذكره) - فقال عمر: لا أطيق القيام بأمور(9/364)
الناس- فقال أبو بكر هاتوا سيفي. وتهدّده فانقاد عمر، ثم دخل عليه طلحة فعاتبه على استخلاف عمر. فقال: إنّ عمر والله خير لكم وأنتم شرّ له، والله لو ولّيتك لجعلت أنفك في قفاك، ولرفعت نفسك فوق قدرها حتّى يكون الله هو الذي يضعها. أتيتني وقد وكفت عينك، تريد أن تفتنني عن ديني وتردّني عن رأيي، قم لا أقام الله رجلك، والله لئن بلغني أنك غمصته وذكرته بسوء لألحقنّك بحمضات قنّة حيث كنتم تسقون ولا تروون، وترعون ولا تشبعون، وأنتم بذلك بجحون راضون، فقام طلحة فخرج» .
قال العسكريّ: الحمضات جمع حمضة ضرب من النّبت، والقنّة أعلى الجبل.
قال الماورديّ «1» : وكان استخلاف أبي بكر رضي الله عنه عمر باتّفاق من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا.
وقد عهد عمر رضي الله عنه إلى ستة، وهم عثمان، وعليّ، وطلحة، والزّبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وتركها شورى بينهم، فدخلوا فيها وهم أعيان العصر وأشراف الصّحابة رضوان الله عليهم.
الوجه الثاني (في معنى الاستخلاف)
قال البغويّ «2» رحمه الله في كتابه «التهذيب» في الفقه: الاستخلاف أن(9/365)
يجعله خليفة في حياته ثم يخلفه بعده. قال: ولو أوصى بالإمامة فوجهان «1» ؛ لأنه يخرج بالموت عن الولاية فلا يصحّ منه تولية الغير. واستشكل الرافعيّ رحمه الله هذا التوجيه بكلّ وصية، وبأنّ ما ذكره من جعله خليفة بعده، إن أريد به استنابته فلا يكون ذلك عهدا إليه بالإمامة. وإن أريد جعله إماما في الحال، فهو: إمّا خلع نفس العاهد، وإمّا اجتماع إمامين في وقت واحد. وإن أريد جعله خليفة أو إماما بعد موته فهو الوصية من غير فرق.
قلت: وهذا جنوح من الرافعيّ رحمه الله إلى صحّة الخلافة بالوصيّة أيضا، كما تصحّ «2» بالاستخلاف.
الوجه الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته)
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة العهد بالخلافة أمورا:
منها: براعة الاستهلال بذكر ما يتّفق له، من معنى الخلافة والإمامة واشتقاقهما، وحال الولاية، ولقب العاهد والمعهود إليه، ولقب الخلافة، إلى غير ذلك مما سبق بيانه في الكلام على البيعات.
ومنها: أن ينبّه على شرف رتبة الخلافة، وعلوّ قدرها، ورفعة شأنها، ومسيس الحاجة إلى الإمام، ودعاية الضرورة إليه، ونحو ذلك مما سبق في البيعات أيضا.
ومنها: أن ينبّه على اجتماع شروط الإمامة في المعهود إليه من حين(9/366)
صدور العهد بها من العاهد، فقد قال الماورديّ «1» : إنه تعتبر شروط الإمامة في المعهود إليه من وقت العهد، حتّى لو كان المعهود إليه صغيرا أو فاسقا وقت العهد وبالغا [عدلا] عند الموت، لم تصحّ خلافته حتّى يستأنف أهل الاختيار بيعته. قال الرافعيّ «2» رحمه الله: وقد يتوقّف في هذا. قال النوويّ «3» رحمه الله في «الروضة» : لا توقّف، والصواب ما قاله الماورديّ.
ومنها: أن ينبّه على اجتهاد العاهد وتروّي نظره في حقّيّة المعهود إليه؛ فقد قال الماورديّ: وإذا أراد الإمام أن يعهد بالإمامة، فعليه أن يجهد رأيه في الأحقّ بها، والأقوم بشروطها، فإذا تعيّن له الاجتهاد في أحد، عهد إليه.
ومنها: أن يشير إلى تقدّم الاستخارة على العهد، وأنّ استخارته أدّته إلى المعهود إليه؛ فإنّ الاستخارة أمر مطلوب في كل أمر، خصوصا أمر المسلمين وعموم الولاية عليهم، فإنّ اختيار الله للخلق خير من اختيارهم لأنفسهم، والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل.
ومنها: أن ينبّه على أنّ عهده إليه بعد مشورة أهل الاختيار ومراجعتهم في(9/367)
ذلك، وتصويبهم له، خروجا من الخلاف. فقد حكى الرافعيّ رحمه الله، وجهين فيما إذا كان المعهود إليه أجنبيّا من العاهد ليس بولد ولا والد، هل يجوز أن ينفرد بعقد البيعة له وتفويض العهد إليه ولا يستشير فيه أحدا؟ أصحّهما الجواز؛ لأنّ العهد إلى عمر، رضي الله عنه، لم يوقف على رضا الصحابة رضوان الله عليهم، ولأنّ الإمام أحقّ بها، فكان اختياره فيها أمضى، وقوله فيها أنفذ.
وحكى الماورديّ في جواز انفراد العاهد بالبيعة فيما إذا كان المعهود إليه والد أو ولدا ثلاثة مذاهب:
أحدها- ما اقتصر الرافعيّ، رحمه الله، على نسبته إلى الماورديّ، ومقتضى كلامه ترجيحه: أنه يجوز الانفراد بعقدها للولد والوالد جميعا؛ لأنه أمير للأمة نافذ الأمر لهم وعليهم، فغلّب حكم المنصب على حكم النسب، ولم يجعل للتّهمة طريقا على أمانته، ولا سبيلا إلى معارضته.
والثاني- أنه لا يجوز انفراده بها لولد ولا والد حتّى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا لها، فيصحّ منه حينئذ عقد البيعة، لأن ذلك [منه] تزكية [له] تجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم، والشهادة والحكم ممتنعان من الولد والوالد للتّهمة، لما جبل عليه من الميل إليهما.
والثالث- أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده دون ولده؛ لأنّ الطبع إلى الولد أميل، فأما عقدها لأخيه وغيره من الأقارب والمناسبين فكعقدها للأجانب في جواز الانفراد بها.
ومنها: أن ينبّه على العلم بحياة المعهود إليه ووجوده إن كان غائبا، فقد قال الماورديّ: إنه لو عهد إلى غائب مجهول الحياة لم يصحّ عهده، وإن كان معلوم الحياة صح، ويكون موقوفا على قدومه.
ومنها: أن ينبّه على أن المعهود إليه منصوص عليه بمفرده، أو وقع العهد شورى في جماعة وأفضت الخلافة إلى واحد منهم بإخراج الباقين أنفسهم منها،(9/368)
أو اختيار أهل الحلّ والعقد أحدهم، إذ يجوز للخليفة أن يعهد إلى اثنين فأكثر من غير تقديم البعض على البعض، ويختار أهل الاختيار بعد موته واحدا ممن عهد إليه، فإنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جعلها شورى في ستة، فقال: الأمر إلى عليّ وبإزائه الزّبير بن العوّام، وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقّاص. فلما توفّي عمر، رضي الله عنه، جعل الزبير أمره إلى عليّ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف، فخرج منها ثلاثة، وبقيت شورى «1» في عثمان وعليّ، ثم بايع عليّ عثمان. والمعنى في الشّورى أنه لا يجوز أن تجعل الإمامة بعد العاهد في غير المعهود إليهم.
ومنها: أن ينبّه على عدد المعهود إليهم وترتيبهم إن كان قد رتّب الخلافة في أكثر من واحد، إذ يجوز أن يعهد إلى اثنين فأكثر على الترتيب. فلو رتّب الخلافة في ثلاثة مثلا- فقال: الخليفة بعدي فلان، فإذا «2» مات، فالخليفة بعده فلان، [فإن مات فالخليفة بعد فلان جاز] «3» وكانت «4» الخلافة منتقلة إليهم على ما رتّبها. ففي صحيح البخاريّ من رواية ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استخلف على جيش مؤتة زيد بن حارثة- وقال: إن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا، فتقدم زيد فقتل، فأخذ الراية جعفر وتقدّم فقتل، فأخذ الراية(9/369)
عبد الله بن رواحة وتقدّم «1» فقتل، فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد» . قال الماورديّ: وإذا «2» جاز ذلك في الإمارة جاز مثله في الخلافة. قال: وقد «3» عمل بذلك في الدولتين من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر.
فعهد سليمان بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، ثم بعده إلى يزيد بن عبد الملك، وأقرّه عليه من عاصره من الناس، ومن لا تأخذه في الله لومة لائم.
ورتّبها الرشيد في ثلاثة من بنيه: الأمين، ثم المأمون، ثم المؤتمن، من غير «4» مشورة من عاصره من فضلاء العلماء.
ولو قال العاهد: عهدت إلى فلان، فإن مات فلان بعد إفضاء الخلافة إليه، فالخليفة بعده فلان، لم تصحّ خلافة الثاني، ولم ينعقد عهده بها؛ لأنه لم يعهد إليه في الحال، وإنما جعله وليّ عهده بعد إفضاء الخلافة إلى الأوّل، وقد يموت قبل إفضائها إليه فلا يكون عهد الثاني بها منبرما.
ومنها: أن ينبّه على أنّ صدور العهد في حال نفوذ أمر العاهد وجواز تصرّفه، فإنه لو أراد وليّ العهد قبل موت العاهد أن يردّ ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز؛ لأنّ الخلافة لا تستقرّ إلّا بعد موت المستخلف. وكذا لو قال:
جعلته وليّ عهد إذا أفضت الخلافة إليّ لم يجز؛ لأنه ليس في الحال بخليفة، فلم يصحّ عهده بالخلافة.
ومنها: أن ينبّه على قبول المعهود إليه العهد، فإنه إذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصحّ العهد إليه على الشّروط المعتبرة فيه، كان العهد موقوفا على قبول(9/370)
المعهود إليه؛ فإن قبل صحّ العهد وإلّا فلا، حتّى لو امتنع من القبول بويع غيره. والعبرة في زمن القبول بما بين عهد العاهد وموته على الأصح، لتنتقل عنه الإمامة إلى المعهود إليه مستقرّة بالقبول المتقدّم. وقيل: إنما يكون القبول بعد موت العاهد؛ لأنه الوقت الذي يصحّ فيه نظر المعهود إليه.
ومنها: أن يورد من وصايا العاهد للمعهود إليه ما يليق به. وقد ذكر الماورديّ أنّ الذي يلزمه من أمور الأمّة عشرة أشياء:
أحدها- حفظ الدّين على أصوله المستقرّة، وما أجمع عليه سلف الأمّة، وأنه إن «1» نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجّة، وبيّن له الصّواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدّين محروسا من الخلل، والأمّة ممنوعة من الزّلل.
الثاني- تنفيذ الأحكام، بين المتشاجرين، وقطع الخصام، بين المتنازعين، حتّى تعمّ النّصفة فلا يتعدّى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث- حماية البيضة، والذّبّ عن الحرم «2» ليتصرّف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع- إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف «3» والاستهلاك.
الخامس- تحصين الثّغور بالعدّة المانعة، والقوّة الدافعة، حتّى لا يظفر «4» الأعداء بغرّة ينتهكون بها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.
السادس- جهاد من عاند الإسلام بعد الدّعوة حتّى يسلم أو يدخل في(9/371)
الذّمّة ليقام بحقّ الله تعالى في إظهاره على الدّين كلّه.
السابع- جباية الفيء «1» والصّدقات على ما أوجبه الشرع نصّا واجتهادا من غير حيف «2» ولا عسف.
الثامن- تقدير العطاء وما يستحقّ في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع- استكفاء الأمناء، وتقليد النّصحاء، فيما يفوّضه [إليهم من الأعمال] «3» ويكله إليهم من الأحوال لتكون الأعمال بالكفاة «4» مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة، وحراسة الملّة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشّ الناصح. وقد قال تعالى: يا داوُدُ، إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
«5» . فلم يقتصر الله تعالى «6» على التفويض دون المباشرة، بل «7» أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه. وقد قال «8» صلّى الله عليه وسلّم: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» ولله درّ محمد «9» بن يزداد وزير المأمون «10» ، حيث قال مخاطبا له (بسيط) .(9/372)
من كان حارس دنيا إنّه قمن ... أن لا ينام وكلّ الناس نوّام
وكيف ترقد «1» عينا من تضيّفه ... همّان من أمره: حلّ وإبرام؟
وحينئذ فيجب على الكاتب أن يضمّن هذه الأمور العشرة في وصايا المعهود إليه. وقد ذكر المقرّ الشّهابيّ بن فضل «2» الله في «التعريف» في وصيّة وليّ العهد بالخلافة ومن في معناه من الملوك وولاة عهدهم هذه الأمور ممتزجة بأمور أخرى من مهمّات الملك وحسن تدبيره وسياسته.
قلت: إنما يحسن إيراد هذا كلّه في وصايا ولاة العهد إذا كان الأمر على ما كانت الخلافة عليه أوّلا من عموم التصرّف، أما الآن فالواجب أن يقتصر في وصاياهم على حسن التأنّي في العهد بالسلطنة لمن يقوم بأعبائها، وأن يكون ما تقدّم مختصّا وصايا الملوك في العهود عن الخلفاء.
الوجه الرابع (فيما يكتب في الطّرّة، وهو تلخيص ما يتضمّنه العهد)
وهذه نسخة طرّة أنشأتها لينسج على منوالها، وهي:
هذا عهد إماميّ قد علت جدوده، وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده، وفصّلت الجواهر قلائده ونظّمت بنفيس الدّرّ عقوده. من عبد الله ووليّه الإمام المتوكّل على الله أبي عبد الله محمد بن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر، بالخلافة المقدّسة، لولده السيّد الجليل ذخيرة الدّين، ووليّ عهد المسلمين،(9/373)
أبي الفضل العباس، بلّغه الله فيه غاية الأمل، وأقرّ به عين الأمة كما أقرّ به عين أمير المؤمنين وقد فعل. على ما شرح فيه.
الوجه الخامس (فيما يكتب لأولياء العهد من الألقاب)
[وهو] كما سيأتي في الطريقة الثانية من المذهب الأوّل مما يكتب في متن العهد من كلام المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» أنه يقال فيه:
الأمير السّيّد الجليل، ذخيرة الدّين، ووليّ عهد المسلمين، أبي فلان فلان.
وفي المذهب الثالث فيما كتب به للمستوثق بن المستكفي ما يوافقه، وقد تقدّم أنه لا يقع في ألقابهم إطناب، ولا تعدّد ألقاب، فليقتصر على ذلك أو ما يشابهه.
الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهد، وفيه ثلاثة مذاهب)
المذهب الأوّل (أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «هذا» )
مثل: «هذا ما عهد به فلان لفلان» أو «هذا عهد من فلان لفلان» أو «هذا كتاب اكتتبه فلان لفلان» ونحو ذلك.
وللكتّاب فيه طريقتان:
الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)
وهي أن لا يأتي بخطبة في أثناء العهد، ولا يتعرّض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه، أو يتعرّض لذلك باختصار، ثم يأتي بالوصايا، ثم يختمه بالسلام أو بالدعاء أو بغير ذلك مما يناسب. وعلى ذلك كانت عهود السّلف من الصّحابة والتابعين فمن بعدهم، اتّباعا للصّدّيق رضي الله عنه فيما كتب به لعمر بن الخطّاب، كما تقدّمت الإشارة إليه في الاستشهاد.(9/374)
ونسخته فيما رواه البيهقيّ «1» في «السّنن» واقتصر عليه الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ في «حسن التوسّل» .
«هذا ما «2» عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن برّ وعدل فذلك ظنّي به، وإن بدّل أو غير فلا علم لي بالغيب، والخير أردت بكم، ولكلّ امريء ما اكتسب من الإثم، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«3» » .
وذكر أبو هلال العسكريّ «4» في كتابه «الأوائل» عن المدائنيّ «5» أنه حين دعا عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، لكتابة العهد بالخلافة بعده قال: اكتب «هذا ما عهد [به] «6» أبو بكر بن أبي قحافة «7» في آخر عهده بالدنيا [نازحا(9/375)
عنها] «1» وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يتوب الفاجر، ويؤمن الكافر، ويصدق الكاذب، وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، وقد استخلف» - ثم دهمته غشية فكتب عثمان: «عمر بن الخطّاب» . فلما أفاق، قال: أكتبت شيئا؟ قال نعم عمر بن الخطاب. قال: «رحمك الله، أما إنّك لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها، اكتب قد استخلف عمر بن الخطاب ورضيه لكم، فإن عدل فذلك ظنّي به ورأيي فيه، وإن بدّل فلكلّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«2» » .
وعلى هذه الطريقة كتب عهد عمر بن عبد العزيز بالخلافة عن سليمان بن عبد الملك، ثم من بعده إلى أخيه يزيد بن عبد الملك.
وهذه نسخته فيما ذكره ابن قتيبة «3» في تاريخ الخلفاء:
هذا ما عهد به عبد الله سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، عهد أنه يشهد لله عزّ وجلّ بالرّبوبيّة والوحدانيّة، وأن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، بعثه إلى محسني عباده بشيرا، وإلى مذنبيهم نذيرا، وأنّ الجنة «4» والنار مخلوقتان حقّا، خلق الجنة رحمة وجزاء «5» لمن أطاعه، والنار «6» نقمة وجزاء لمن عصاه، وأوجب العفو [جودا وكرما] «7» لمن عفا عنه، [وأن إبليس(9/376)
في النار] «1» ، وأنّ سليمان مقرّ على نفسه بما يعلم الله من ذنوبه، وبما «2» تعلمه نفسه من معصية ربّه، موجبا على نفسه استحقاق ما خلق من النّقمة، راجيا لنفسه ما خلق من الرحمة ووعد من العفو والمغفرة، وأن المقادير كلّها خيرها وشرّها مقدورة بإرادته، مكوّنة بتكوينه، وأنه الهادي فلا مغوي ولا مضلّ لمن هداه وخلقه لرحمته، وأنه يفتن الميت في قبره بالسؤال عن دينه ونبيّه الذي أرسل إلى أمّته، لا منجى لمن خرج من الدنيا إلى الآخرة من هذه المسألة [إلا لمن استثناه عزّ وجلّ في علمه] «3» . وسليمان يسأل الله الكريم بواسع فضله، وعظيم منّه، الثبات «4» على ما أسرّ وأعلن من معرفة حقّه وحقّ نبيه عند مسألة رسله، والنّجاة من هول فتنة فتّانيه. ويشهد أنّ الميزان يوم القيامة حقّ يقين، يزن سيئات المسيئين، وحسنات المحسنين، ليري عباده من عظيم قدرته، ما أراده من [الخير] لعباده بما لم يكونوا يحتسبون، وأنّ من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفّت موازينه يومئذ «5» فأولئك هم الخاسرون. وأنّ حوض محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم المحشر والموقف للعرض «6» حقّ، وأنّ عدد آنيته كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا. وسليمان يسأل الله بواسع رحمته أن لا يردّه «7» عن حوض نبيّه عطشان. وأنّ أبا بكر وعمر خير هذه الأمة، بعد نبينا، والله يعلم بعدهما حيث الخير، وفيمن الخير من هذه الأمة، وأنّ هذه الشهادة «8» كلّها المذكورة في عهده هذا يعلمها الله من سرّه وإعلانه وعقد ضميره، وأنه بها عبد ربه في سالف أيّامه وماضي عمره، وعليها أتاه يقين ربه، وتوفّاه أجله،(9/377)
وعليها يبعث بعد موته «1» إن شاء الله، وأن سليمان كانت له بين هذه الشهادة بلايا وسيّئات لم يكن له عنها محيد «2» ولا بدّ، جرى بها المقدور من الرّبّ النافذ إلى إتمام ما حدّ، فإن يعف ويصفح فذاك ما عرف منه قديما ونسب إليه حديثا، وتلك صفته «3» الّتي وصف بها نفسه في كتابه الصادق، وكلامه الناطق، وإن يعاقب وينتقم فبما قدّمت يداه، وما الله بظلّام للعبيد. وأن «4» سليمان يحرّج على من قرأ عهده هذا وسمع ما فيه من حكمة أن ينتهي إليه في أمره ونهيه، بالله العظيم، ومحمد «5» رسوله الكريم، وأن يدع الإحن المضغنة «6» ، ويأخذ بالمكارم المدجنة «7» ، ويرفع يديه «8» إلى الله بالضمير النّضوح والدّعاء الصحيح، والصّفح الصّريح، يسأله العفو عنّي، والمغفرة لي، والنجاة من فزعي، والمسألة في قبري، لعلّ الودود، أن يجعل منكم مجاب الدعوة بما «9» من الله عليّ من صفحه يعود، إن شاء الله، وأنّ «10» وليّ عهد سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين، وصاحب أمره بعد موته، في جنده ورعيّته وخاصّته وعامته، وكلّ من استخلفني الله عليه، واسترعاني النظر فيه، الرجل الصالح «عمر بن عبد العزيز» بن مروان ابن عمّي، لما بلوت من باطن أمره وظاهره،(9/378)
ورجوت الله بذلك [وأردت] رضاه ورحمته إن شاء الله. ثم «1» من بعده تسلّم إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان إن بقي بعده، فإنّي ما رأيت منه إلّا خيرا ولا اطّلعت له على مكروه. وصغار ولدي وكبارهم إلى عمر، إذ رجوت أن لا يألوهم رشدا وصلاحا، والله خليفتي عليهم [وعلى جماعة المؤمنين والمسلمين] «2» وهو أرحم الراحمين، واقرأوا «3» عهدي عليكم السّلام ورحمة الله. ومن أبى أمري هذا أو خالف عهدي هذا- وأرجو أن لا يخالفه أحد من أمة محمد- فهو ضالّ مضلّ يستعتب، فإن أعتب وإلّا فإني لمن صاحب (؟) عهدي فيهم بالسيف السيف والقتل القتل، فإنهم مستوجبون لهم، وهم لهيبته ملقحون، والله المستعان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله القديم الإحسان.
[تم ذلك والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله] «4» .
وعلى نحو من ذلك كتب المأمون «5» العباسيّ عهد عليّ «6» بن موسى العلويّ (المعروف بالرّضيّ) بالخلافة بعده.(9/379)
وهذه نسخته فيما ذكر صاحب «1» العقد:
هذا كتاب كتبه عبد الله «2» بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين، بيده، لعليّ بن موسى بن جعفر وليّ عهده:
أما بعد، فإنّ الله عزّ وجلّ اصطفى الإسلام دينا، واصطفى له من عباده رسلا داليّن عليه، وهادين إليه، يبشّر أوّلهم بآخرهم، ويصدّق تاليهم ماضيهم، حتّى انتهت نبوّة الله إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم على فترة من الرّسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين وجعله شاهدا لهم، ومهيمنا عليهم، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «3»
. فأحلّ وحرّم، ووعد وأوعد، وحذّر وأنذر، وأمر به «4» ونهى عنه «5» ، لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ولِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
«6» . فبلّغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة حتّى قبضه(9/380)
الله إليه، واختار له ما عنده صلّى الله عليه. فلمّا انقضت النبوّة وختم الله بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، الوحي والرسالة، جعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين، بالخلافة وإتمامها وعزّها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة الّتي تقام بها فرائض الله وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوّه. فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حقّ الله وعدله، وأمن السّبل وحقن الدّماء، وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي إخلال ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم، واختلاف ملّتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوّهم، وتفرّق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة. فحقّ على من استخلفه الله في أرضه، وأتمنه على خلقه [أن] يؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ويعد [ل] فيما الله واقفه عليه وسائله عنه، ويحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما حمّله الله وقلّده، فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيه داود عليه السّلام: يا داوُدُ، إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ
«1» . وقال عزّ وجلّ: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
«2» . وبلغنا أنّ عمر بن الخطّاب قال: «لو ضاعت سخلة «3» بجانب الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها» . وايم الله إنّ المسؤول عن خاصّة نفسه، الموقوف على عمله، فيما بين الله وبينه، لمتعرّض لأمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمّة، وبالله الثّقة، وإليه المفزع والرّغبة في التوفيق مع العصمة، والتّسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجّة، والفوز من الله بالرّضوان والرحمة. وأنظر الأئمة لنفسه، وأنصحهم في دينه وعباده وخلافته في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه وسنّة نبيه عليه السّلام في(9/381)
مدّة أيّامه، واجتهد وأجهد رأيه ونظره فيمن يولّيه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علما لهم، ومفزعا في جمع ألفتهم، ولمّ شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فإن الله عزّ وجلّ جعل العهد بالخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزّه وصلاح أهله؛ وألهم خلفاءه من توسيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النّعمة، وشملت منه العافية، ونقض الله بذلك مرّ «1» أهل الشّقاق والعداوة والسعي في الفرقة والرّفض «2» للفتنة، ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقتها، وثقل محملها وشدّة مؤونتها، وما يجب «3» على من تقلّدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمّله منها، فأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عزّ الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمّة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسّنّة، ومنعه ذلك من الخفض والدّعة بهنيّ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبّة أن يلقى الله مناصحه في دينه وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمّة من بعده، أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام بأمر الله وحقّه، مناجيا لله بالاستخارة في ذلك، ويسأله إلهامه ما فيه رضاه وطاعته في ليله ونهاره، ومعملا في طلبه والتماسه من أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعليّ بن أبي طالب فكره ونظره، ومقتصرا فيمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة عمّن خفي عليه أمره جهده وطاقته، حتّى استقصى أمورهم بمعرفته، وابتلى أخبارهم مشاهدة، وكشف ما عندهم مساءلة، فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقّه وبلاده، من البيتين جميعا(9/382)
«عليّ بن موسى بن جعفر» بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، لما رأى [من] فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخلّيه من الدنيا، وتسلّمه من الناس، وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة. ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشئا، وحدثا ومكتهلا، فعقد له بالعقد والخلافة إيثارا لله والدّين، ونظرا للمسلمين، وطلبا للسلامة وثبات الحجّة والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لربّ العالمين.
ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وخاصّته، وقوّاده، وخدمه، فبايعوه مسرعين مسرورين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك به رحما وأقرب قرابة، وسمّاه «الرّضيّ» إذ كان رضيّا عند أمير المؤمنين.
فبايعوا معشر بيت أمير المؤمنين ومن بالمدينة المحروسة من قوّاده وجنده، وعامة المسلمين «الرّضيّ» من بعده، على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدوركم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من نصاحته في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائده في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولمّ شعثكم، وسدّ ثغوركم، وقوّة دينكم، ورغم عدوّكم، واستقامة أموركم. وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإنّه الأمر إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظّ فيه، إن شاء الله تعالى.
وعلى هذه الطريقة كتب الوزير أبو حفص بن «1» برد عهد «2» الناصر لدين(9/383)
الله عبد الرحمن «1» بن المنصور بن أبي عامر العامريّ، عن المؤيّد بالله هشام «2» بن الحكم الأمويّ، الخليفة بالأندلس. وهذه نسخته:
هذا ما عهد «3» هشام المؤيّد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامّة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصّة، وأعطى به صفقة يمينه، بيعة تامة، بعد أن أنعم «4»(9/384)
النظر وأطال الاستخارة وأهمّه ما جعل الله «1» إليه من الإمامة، وعصب به من أمر المؤمنين، واتّقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدوره به، ولم يرفع لهذه الأمّة علما تأوي إليه، وملجأ «2» تنعطف عليه- أن يكون يلقى «3» ربّه تبارك وتعالى مفرّطا ساهيا عن أداء الحق إليها. ويغمص «4» عند ذلك من أحياء قريش وغيرها، من يستحقّ أن يسند هذا الأمر إليه، ويعوّل في القيام به عليه، ويستوجبه «5» بدينه وأمانته، وهديه وصيانته «6» ، بعد «7» اطّراح الهوى والتحرّي للحق، والتزلّف إلى الله جلّ جلاله بما يرضيه. وبعد «8» أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب [عالما أن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، وموقنا أن لا وسيلة إليه أزكى من الدين الخالص «9» ] ، فلم يجد أحدا أجدر أن يولّيه «10» عهده، ويفوّض «11» إليه الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف مرتبته، وعلوّ منصبه، مع تقاه «12» وعفافه، ومعرفته وحزمه ونقاوته، من المأمون الغيب، الناصح الجيب [النازح على كل عيب، ناصر الدولة «13» ] أبي المطرّف عبد(9/385)
الرحمن بن المنصور بن أبي عامر [محمد بن أبي عامر «1» ] وفّقه الله إذ «2» كان أمير المؤمنين- أيده الله- ابتلاه «3» واختبره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعا في «4» الخيرات، سابقا في الحلبات، مستوليا على الغايات، جامعا للمأثرات، [يجذب بضبعه إلى أرفع منازل الطاعة ويسمو بعينيه إلى أعلى درج النصيحة] «5» ومن كان المنصور أباه، والمظفّر أخاه، فلا غرو أن يبلغ من سبيل «6» البرّ مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه، مع أنّ أمير المؤمنين- أيده الله «7» - بما طالعه من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، يرى «8» أن يكون وليّ عهده القحطانيّ الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص [بتحقيق ما أسنده «9» ] أبو هريرة «10» أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتّى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه» . فلما استوى «11» له الاختيار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهبا، ولا إلى غيره معدلا، صرّح «12» إليه في تدبير الأمور في حياته، وفوّض «13» إليه الخلافة بعد وفاته «14» ، طائعا(9/386)
راضيا مجتهدا [متخيرا غير محاب له ولا مائل بهوادة إليه ولا شرك نصح الإسلام وأهله فيه وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها أن رأى ذلك في بقاء أمير المؤمنين أعزّه الله بعده] «1» وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه «2» وأنفذه، ولم يشترط فيه مثنويّة ولا خيارا، وأعطى على الوفاء به «3» به في سرّه وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه، وذمة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه «4» ، وذمّة نفسه، أن لا يبدّل، ولا يغيّر، ولا يحوّل، ولا يزول «5» ، أشهد الله على ذلك والملائكة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «6» *
. وأشهد من أوقع اسمه في هذا «7» ، وهو جائز الأمر، ماضي القول والفعل، بمحضر من وليّ عهده المأمون [ناصر الدولة «8» ] أبي المطرّف عبد الرحمن بن المنصور وفّقه الله، وقبوله «9» ما قلّده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع «10» وتسعين وثلاثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم بذلك.
الطريقة الثانية (طريقة المتأخّرين من الكتّاب)
أن يأتي بالتحميد في أثناء العهد، ويأتي من ألقاب وليّ العهد بما يناسب(9/387)
على الاختصار، وعليها اقتصر المقرّ الشّهابي بن فضل الله في «التعريف» فقال «1» : واعلم أنّ عهود الخلفاء عن الخلفاء لم تجر عادة من سلف من الكتّاب أن يستفتحها إلّا بما يذكر، وهو:
«هذا ما عهد [به] عبد الله ووليّه فلان أبو فلان الإمام الفلانيّ أمير المؤمنين، عهد إلى ولده، أو [إلى] أخيه الأمير السيد الجليل، ذخيرة الدّين، ووليّ عهد المسلمين أبي فلان فلان، أيده الله بالتمكين، وأمدّه بالنصر المبين، وأقرّ به عين أمير المؤمنين» . ثم ينفق كلّ كاتب بعد هذا على قدر سعته، ثم يقول:
«أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويصلّي على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم» ويخطب في ذلك خطبة يكثر فيها التحميد وينتهي فيه إلى سبعة «2» ، ثم يأتي بعد ذلك بما يناسب من القول، يصف «3» فكر الذي يعهد فيمن بعده، ويصف المعهود إليه بما يليق من الصّفات الجليلة. ثم يقول:
«عهد إليه وقلّده بعده جميع ما هو مقلّده، لما رآه من صلاح الأمة، أو «4» صلاح الخلق، بعد أن استخار الله تعالى في ذلك، ومكث مدّة يتدبّر ذلك ويروّي فيه فكره وخاطره، ويستشير أهل الرأي والنظر، فلم ير أقوم منه بأمور الأمة ومصالح الدنيا والدّين، ومن هذا ومثله. ثم يقال: إنّ المعهود إليه قبل «5» ذلك منه، ويأتي في ذلك بما يليق من محاسن العبارة وأحاسن الكلام.
قلت: ولم أظفر بنسخة عهد على هذا الأسلوب الذي ذكره المقرّ(9/388)
الشهابيّ، وقد أنشأت عهدا على الطريقة الّتي أشار إليها امتحانا للخاطر لأن يكون عن الإمام المتوكّل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي الفتح أبي بكر، خليفة العصر، لولده العباس، ليكون أنموذجا ينسج على منواله.
ومن غريب الاتفاق أنّي أنشأته في شهور سنة إحدى وثمانمائة امتحانا للخاطر كما تقدّم، وضمّنته هذا الكتاب وتمادى الحال على ذلك إلى أن قبض الله تعالى الإمام المتوكّل- قدس الله تعالى روحه- في سنة ثمان وثمانمائة، فأجمع أهل الحلّ والعقد على مبايعته بالخلافة، فبايعوه وحقّق الله تعالى ما أجراه على اللّسان من إنشاء العهد باسمه في الزّمن السابق، ثم دعتني داعية إلى التمثّل بين يديه الشريفتين في مستهلّ شهر ذي القعدة الحرام سنة تسع وثمانمائة، فقرأته عليه من أوّله إلى آخره، وهو مصغ له مظهر الابتهاج به، وأجاز عليه الجائزة السنية. ثم أنشأت له رسالة وضمنته إيّاها وأودعت بخزانته العالية عمرها الله بطول بقائه.
وهذه نسخته:
هذا عهد سعيد الطالع ميمون الطائر، مبارك الأوّل جميل الأوسط حميد الآخر، تشهد به حضرات الأملاك، وترقمه كفّ الثّريّا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك، وتباهي به ملوك الأرض ملائكة السماء، وتسري بنشره القبول إلى الأقطار فتنشر له بكلّ ناحية علما، وتطلع به سعادة الجدّ من ملوك العدل في كلّ أفق نجما، وترقص من فرحها الأنهار فتنقّطها شمس النّهار بذهب الأصيل على صفحات الماء، عهد به عبد الله ووليّه أبو عبد الله محمد المتوكل على الله أمير المؤمنين إلى ولده السيد الجليل عدّة الدّين وذخيرته، وصفيّ أمير المؤمنين من ولده وخيرته، المستعين بالله أبي الفضل العبّاس بلّغ الله فيه أمير المؤمنين غاية الأمل، وأقرّ به عين الخلافة العبّاسيّة كما أقرّ به عين أبيه وقد فعل.
أما بعد، فالحمد لله حافظ نظام الإسلام وواصل سببه، ورافع بيت الخلافة ومادّ طنبه، وناظم عقد الإمامة المعظّمة في سلك بني العباس وجاعلها(9/389)
كلمة باقية في عقبه.
والحمد لله الذي عدق أمر الأمة منهم بأعظمهم خطرا، وأرفعهم قدرا، وأرجحهم عقلا وأوسعهم صدرا، وأجزلهم رأيا وأسلمهم فكرا.
والحمد لله الذي أقرّ عين أمير المؤمنين بخير وليّ وأفضل ولد، وشدّ أزره بأكرم سيد وأعزّ سند، وصرف اختياره إلى من إذا قام بالأمر بعده قيل هذا الشّبل من ذاك الأسد.
والحمد لله الذي جمع الآراء على اختيار العاهد فما قلوه «1» ولا رفضوه، وجبل القلوب على حبّ المعهود إليه فلم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه.
والحمد لله الذي جدّد للرعيّة نعمة مع بقاء النّعمة الأولى، وأقام لأمر الأمّة من بني عمّ نبيّه المصطفى الأولى بذلك فالأولى، واختار لعهد المسلمين من سبقت إليه في الأزل إرادته فأصبح في النّفوس معظّما وفي القلوب مقبولا.
والحمد لله الذي أضحك الخلافة العبّاسية بوجود عبّاسها، وأطاب بذكره ريّاها فتعطّر الوجود بطيب أنفاسها، ورفع قدره بالعهد إليه إلى أعلى رتبة منيفة، وخصّه بمشاركة جدّه العبّاس في الاسم والكنية ففاز بما لم يفز به قبله منهم ستة «2» وأربعون خليفة.
والحمد لله الذي أوجب على الكافّة طاعة أولي الأمر من الأئمّة، وألزمهم الدّخول في بيعة الإمام والانقياد إليه ولو كان عبدا أسود فكيف بمن أجمع على سؤدده الأمّة، وأوضح السبيل في التعريف بمقام الآل والعترة النبويّة؟ ثُمَّ «3» لا(9/390)
يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً
«1» .
يحمده أمير المؤمنين على ما منحه من طيب أرومة «2» سمت أصلا وزكت فرعا، وحباه من شرف محتد «3» راق نظرا وشاق سمعا، ووصله به من نعم آثرت نفّاعا وأثّرت نفعا، ويشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يتوارثونها كالخلافة كابرا عن كابر، ويوصّي بها أبدا الأوّل منهم الآخر، ويؤذن قيامهم بنصرتها أنّهم معدن جوهرها النّفيس ونظام عقدها الفاخر، ويشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله، الذي خصّ عمّه العباس بكريم الحباء وشريف الإنافة، ونبّه على بقاء الأمر في بنيه بقول ضلّ من أظهر عناده أو أضمر خلافه، حيث أسرّ إليه: «ألا أبشّرك يا عمّ بي ختمت النبوّة وبولدك تختم الخلافة» صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تعمّ بركتها الولد والوالد، ويشمل معروفها المعهود إليه ويعرف شرفها العاهد، ويعترف بفضلها المقرّ ولا يسع إنكارها الجاحد، ما نوّه بذكر الخلافة العباسيّة على أعواد المنابر، وخفقت الرايات السّود على عساكر المواكب ومواكب العساكر، وسلّم تسليما كثيرا.
هذا وكلّ راع مسؤول عن رعيّته، وكلّ امريء محمول على نيّته، مخبر بظاهره عن جميل ما أكنّه في صدره وما أسرّه في طويّته، والإمام منصوب للقيام بأمر الله تعالى في عباده، مأمور بالنصيحة لهم جهد طاقته وطاقة اجتهاده، مطلوب بالنظر في مصالحهم في حاضر وقتهم ومستقبله وبدء أمرهم ومعاده، ومن ثمّ اختلفت آراء الخلفاء الراشدين في العهد بالخلافة وتباينت مقاصدهم، وتنوّعت اختياراتهم بحسب الاجتهاد واختلفت مواردهم، فعهد الصّديق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه متثبّتا، وتركها عمر شورى في ستّة وقال:
«أتحمّل أمركم حيّا وميّتا!» وأتى رضي الله عنه لكلّ من المذهبين بما أذعن له(9/391)
الخصم وسلّم، فقال: «إن أعهد فقد عهد من هو خير منّي، أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» فأخذ الخلفاء في ذلك بسنّتهما، ومشوا فيه على طريقتهما، فمن راغب عن العهد وراغب فيه، وعاهد إلى بعيد وآخر إلى ابنه أو أخيه، كلّ منهم بحسب ما يؤدّي إليه اجتهاده، وتقوى عليه عزيمته ويترجّح لديه اعتماده.
ولمّا كان أمير المؤمنين- أحسن الله مأبه- قد نوّر الله عين بصيرته، وخصّه بطهارة سرّه وصفاء سريرته، وآتاه الله الملك والحكمة، وأقامه لمصالح الرعيّة وصلاح أمر الأمّة، وعلّمه ممّا يشاء فكان له من علم الفراسة أوفر قسم، واصطفاه على أهل عصره وزاده بسطة في العلم والجسم، فلا يعزم أمرا إلّا كان رشادا، ولا يعتمد فعلا إلّا ظهر سدادا، ولا يرتئي رأيا إلّا ألفي صوابا، ولا يشير بشيء إلّا حمدت آثاره بداية ونهاية واستصحابا، ومع ذلك فقد بلا الناس وخبرهم، وعلم بالتجربة حالهم وخبرهم، واطّلع بحسن النظر على خفايا أمورهم، وما به مصلحة خاصّتهم وجمهورهم، وترجّح عنده جانب العهد على جانب الإهمال، ورأى المبادرة إليه أولى من الإمهال، ولم يزل يروّي فكرته، ويعمل رويّته، فيمن يصلح لهذا الأمر بعده، وينهض بأعبائه الثقيلة وحده، ويتّبع فيه سبله ويسلك طرائقه، ويقتفي في السّيرة الحسنة أثره ويشيم في العدل بوارقه، ويقبل على الأمر بكلّيّته ويقطع النظر عمّا سواه، ويتفرّغ له من كلّ شاغل فلا يخلطه بما عداه.
وقد علم أنّ الأحقّ بأن يكون لها حليفا من كان بها خليقا، والأولى بأن يكون لها قرينا من كان بوصلها حقيقا، والأجدر أن يكون لديها مكينا من اتخذ معها يدا وإلى مرضاتها طريقا، والأليق بمنصبها الشريف من كان بمطلوبها مليّا، والأحرى بمكانها الرفيع من كان بمقصودها وفيّا، والأوفق لمقامها العالي من كان خيرا مقاما وأحسن نديّا، وكان ولده السيد الأجلّ أبو الفضل المشار إليه هو الذي وجّهت الخلافة وجهها إلى قبلته، وبالغت في طلبه وألحّت في خطبته،(9/392)
على أنه قد أرضع بلبانها وربّي في حجرها، وانتسب إليها بالبنوّة فضمّته إلى صدرها، وكيف لا تتشبّث بحباله، وتتعلّق بأذياله، وتطمع في قربه، وتتغالى في حبّه، وتميل إلى أنسه، وتراوده عن نفسه، وهو كفؤها المستجمع لشرائطها المتّصف بصفاتها، ونسيبها السامي إلى أعاليها الراقي على شرفاتها، إذ هو شبلها الناشيء في آجامها، بل أسدها الحامي لحماها ومجيرها الوافي بذمامها، وفارسها المقدّم في حلبة سباقها ووارثها الحائز لجميع سهامها، وحاكمها الطائع لأمرها، ورشيدها المأمون على سرّها، وناصرها القائم بواجبها، ومهديّها الهادي إلى أفضل مذاهبها؟ قد التحف من الخلافة بردائها، وسكن من القلوب في سويدائها، وتوسّمت الآفاق تفويض الأمر إليه بعد أبيه فظهر الخلوق في أرجائها، واتّبع سيرة أبيه في المعروف واقتفى أثره في الكرم، وتشبّه به في المفاخر (ومن يشابه أبه فما ظلم) وتقبّل الله دعاء أبيه فوهب له من لدنه وليّا، وأجاب نداءه فيه فمكّن له في الأرض وآتاه الحكم صبيّا، فاستوجب أن يكون حينئذ للمسلمين وليّ عهدهم، واليا على أمورهم في حلّهم وعقدهم، متكفّلا بالأمر في قربه وبعده، معينا لأبيه في حياته خليفة له من بعده، وأن يصرّح له بالاستخلاف ويوضّح، ويتلو عليه بلسان التفويض اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ
«1» .
واقتضت شفقة أمير المؤمنين ورأفته، ورفقه بالأمة ورحمته، أن ينصب لهم وليّ عهد يكون بهذه الصّفات متّصفا، ومن بحره الكريم مغترفا، ومن ثمار معروفه المعروف مقتطفا، ولمنهله العذب واردا، وعلى بيته الشريف وسائر الأمّة بالخير عائدا، فلم يجد من هو مستكمل لجميعها، مستوعب لأصولها وفروعها، وهو بمطلوبها أملى، وعلى قلوب الرعيّة أحلى، وللغليل أشفى، وبالعهد الجميل أوفى، من ولده المشار إليه. فاستشار في ذلك أهل الحلّ والعقد من قضاته وعلمائه، وأمرائه ووزرائه، وخاصّته وذويه، وأقاربه وبنيه،(9/393)
وأعيان أهل العصر وعامّته، وجمهوره وكافّته، فرأوه صوابا، ولم يعرهم فيه ظنّة ولا مسترابا «1» ، ولا وجد أحد منهم إلى باب غيره طريقا ولا إلى طريق غيره بابا، فاستخار الله تعالى فيه فأقبل خاطره الشريف عليه، وكرّر الاستخارة فلم يجد عنه مجيدا إلّا إليه.
فلمّا رأى أنّ ذلك أمر قد انعقد عليه الإجماع قولا وفعلا، وعدم فيه المحالف بل لم يكن أصلا، حمد الله تعالى وأثنى عليه، وسأله التوفيق ورغب إليه، وجدّد الاستخارة وعهد إليه بأمر الأمّة، وقلّده ما هو متقلّده من الخلافة المقدّسة بعده على عادة من تقدّمه من الخلفاء الماضين، وقاعدة من سلف من الأئمة المهديّين، وفوّض إليه ما هو من أحكامها ولوازمها، وأصولها ومعالهما، من عهد ووصاية، وعزل وولاية، وتفويض وتقليد، وانتزاع وتخليد، وتفريق وجمع، وإعطاء ومنع، ووصل وقطع، وصلة وإدرار، وتقليل وإكثار، جزئيّها وكلّيّها، وخفيّها وجليّها، ودانيها وقاصيها، وطائعها وعاصيها، تفويضا شرعيّا، تامّا مرضيّا، جامعا لأحكام الولاية جمعا يعمّ كلّ نطاق، ويسري حكمه في جميع الآفاق، ويدخل تحته سائر الأقاليم والأمصار على الإطلاق، لا يغيّر حكمه، ولا يمحى رسمه، ولا يطيش سهمه، ولا يأفل نجمه.
قبل المعهود إليه- أعلى الله مقامه- ذلك بمحضر من القضاة والحكّام، والعلماء الأعلام، ولزم حكمه وانبرم، وكتب في سجلّات الأفلاك وارتسم، وحملت رسائله مع برد السّحاب فطافت به على سائر الأمم، وهو- أبقاه الله- مع ما طبعت عليه طباعه السليمة، وجبلت عليه سجاياه الشريفة وأخلاقه الكريمة، قد تلقّى عن أمير المؤمنين من شريف الآداب ما غذّي به في مهده، وتلقّف منه من حسن الأدوات ما يرويه بالسّند عن أبيه وجدّه، مما انطبع في صفاء ذهنه الصّقيل وانتقش في فهمه، واختلط من حال طفوليّته بذمه ولحمه(9/394)
وعظمه، حتّى صار طبعا ثانيا، وخلقا على ممرّ الزمان باقيا، واجتمع لديه الغريزيّ فكان أصلا ثابتا، وفرعا على ذلك الأصل القويّ نابتا، لكن أمير المؤمنين يوصيه تبرّكا، ويشرح له ما يكون به- إن شاء الله- متمسّكا، والمرء إلى الأمر بالخير مندوب، ووصيّة الرجل لبنيه مطلوبة فقد قال تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ
«1» .
فعليك بمراقبة الله تعالى فمن راقب الله نجا، و [اجعل] التّقوى رأس مالك، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
«2» والجأ إلى الحق فقد فاز من إلى الحق لجا، وكتاب الله هو الحبل المتين، والكتاب المبين، والمنهج القويم، والسبيل الواضح والصّراط المستقيم، فتمسّك منه بالعروة الوثقى، واسلك طريقته المثلى واهتد بهديه فلا تضلّ ولا تشقى، وسنّة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم عليك بالاقتداء بأفعالها الواضحة، والإصغاء لآثار أقوالها الشارحة، عالما بأنّ الكتاب والسنة أخوان لا يفترقان، ومتلازمان بحبل التباين لا يعتلقان، والبلاد والرّعايا فحطهما بنظرك ما استطعت، وتثبّت في كل قطع ووصل فأنت مسؤول عن كل ما وصلت وقطعت، والآل والعترة النبويّة ففهما «3» حقّ القرابة منك ومن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أشرقت به، واعلم أنك إذا أكرمت أحدا منهم فإنما أكرمته بسببه، واتّبع في السّيرة سيرة آبائك الخلفاء الراشدين لا تزغ عنها، ولا تعمل إلّا بها وبما هو- إن استطعت- خير منها، واقف في المعروف آثارهم المقدّسة لتحوي من المآثر ما حووا، واحذ حذوهم في طريقهم المباركة وابن المجد كما بنوا، وأحي من العمل سنّة سلفك المصطفين الأخيار، واحرص أن تكون من الأئمة الذين يظلّهم الله تحت عرشه، يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
«4» . وأسلف خيرا تذكر به على ممرّ(9/395)
اللّيالي، وينتظم ذكره في عقود الأيّام كما تنتظم في السّلك اللّالي، وليكن قصدك وجه الله ليكون في نصرتك فإنّ من كان الله تعالى في نصرته لا يبالي، ولتعلم حقّ اليقين أنّ حسنة الإمام تضاعف بحسب ما يترتّب عليها من المصالح أو يتجدّد بسببها، وسيّئته كذلك فمن سنّ سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها، ودر مع الحقّ كيف دار ومل معه حيث مال، واعلم بأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال، ولا تخطر ببالك أنّ هذا الأمر انتهى إليك بقوّة، أو يغرّك ما قدّمناه من الثناء عليكم فالتأثّر بالمدح يخلّ بالمروّة، ولا تتّكل على نسبك فمن أطاع الله أدخله الجنة ولو كان عبدا حبشيّا، ومن عصاه أدخله النار ولو كان هاشميّا قرشيّا، واستنصر الله ينصرك واستعن به يكن لك عونا وظهيرا، واستهده يهدك وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً
«1» وكن [من] الله خائفا ومن مكره من المشفقين، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، ووصيّته تملى عليك، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
«2» والله تعالى يبلّغه منك أملا، ويحقّق فيك علما ويزكّي بك عملا، والاعتماد على الخطّ المقدّس الإماميّ المتوكليّ- أعلاه الله تعالى- أعلاه، حجة فيه إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «من فلان إلى فلان» كما يكتب في المكاتبات ثم يأتي بالبعدية
ويأتي بما يناسبه مما يقتضيه الحال من ذكر الولاية، ووصف المتولّي، واختيار المولّي له ونحو ذلك) ثم قاعدة كتّابهم أنهم يأتون بعد ذلك بالتحميد في أثناء العهد.(9/396)
وهذه نسخة عهد من ذلك، كتب بها عن الحافظ «1» لدين الله الفاطميّ، لولده حيدرة «2» بأن يكون وليّ عهد الخلافة بعده، وليس فيها تعرّض لتحميد أصلا، وهو:
من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى ولده ونجله، وسلالته الطاهرة ونسله، والمجمع على شرفه والعامل بمرضاة الله في قوله وفعله، وعقده وحلّه، الأمين أبي تراب حيدرة وليّ عهد أمير المؤمنين، عليه السّلام.
سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّى على جدّه محمد خاتم النبيين، وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما.
أما بعد، فإنّ الله تعالى لبديع حكمته، ووسيع رحمته، استودع خلفاءه من خلقه وبرأه، واستكفى أمناءه من صوّره وذرأه، ورتّبهم مرتبة النفوس من الأجساد، ونزّلهم بمنزلة الضّياء من الأزناد، وجعلهم مستخدمين لأفكارهم في مصالح البريّة الّتي غدت في أمانهم، وحصلت في ضمانهم، فظلّت في ذمامهم، وسعدت في عزّ مقامهم وظلّ أيّامهم؛ لأنّهم نصبوا للنظر فيما جلّ(9/397)
ودقّ، وتعبوا لراحة الكافّة تعبا صعب وعظم وشقّ، وكان ذلك سرّا من أسرار الحكمة، وضربا من أفضل تدبير الأمّة، إذ لو ساوى بين الرئيس والمرؤوس، والسائس والمسوس. لا ختلط الخصوص بالعموم، ولم يبق فرق بين الإمام والمأموم.
وقد استخلص الله أمير المؤمنين من أشرف أسرة وأكرم عصابة، وأيّده في جميع آرائه بالحزامة والجزالة والأصالة والإصابة، وقضى لأغراضه أن يكون السعد لها خادما، وحتم لمقاصده أن يصاحبها التوفيق ولا ينفكّ لها ملازما، وجمع له ما تفرّق في الخليقة من المفاخر والمناقب، وألهمه النظر في حسن الخواتم وحميد العواقب.
ولما كان وليّ عهد أمير المؤمنين أكبر أبناء أمير المؤمنين، والمنتهي لأشرف المراتب من تقادم السّنين، وقد استولى على الفخر باكتسابه وانتسابه، وتصدّت له مخطوبات الرّتب ليحوزها باستحقاقه واستيجابه، وله من فضيلة ذاته ما يدلّ على النبإ العظيم، وعليه من أنوار النبوّة ما يهتدي به الساري في الليل البهيم، وحين حوى تالد الفخر وطارفه ولم يستغن بالقديم عن الحديث ولا بالحديث عن القديم، والصّفات إذا اختلفت أربابها لا تقع إلا دونه، والثواب الجزيل مما أعدّه الله للذين يخلصون فيه ويتولّونه، وليفخر بأن خصّ من العناية الملكوتيّة بالحظّ الأجزل، وليتسمّح على البرايا ليكون ممدوحا بالكتاب المنزّل، وليبذخ فإنّ وصفه لا تبلغ غايته وإن استخدمت فيه الفكر، وليبجح فإن فضله لا يدرك حقيقة إلّا إذا تليت السّور، فأمتعه الله بمواهبه لديه وأمتع أمير المؤمنين به، وأجرى أموره عاجلا وآجلا بسببه.
رأى أمير «1» المؤمنين أن يختصه بولاية عهد أمير المؤمنين تمييزا له بهذا(9/398)
النعت الشريف، وسمّوا به إلى ما يجب لمجده الشامخ ومحلّه المنيف، واقتداء بأسلافه الأئمة الأطهار فيما يشرّفون به أبناءهم الأكرمين، وتخصيصا له بما يبقى فخره على متجدّد الأزمان ومتطاول السّنين. وأمر أمير المؤمنين أن يتخيّر من رجال دولته، ووجوه أجناده وشيعته، طائفة يكون إليه انتماؤها، وإلى شرف هذا النعت انتسابها واعتزاؤها، فتوسم بالطائفة العهديّة، وتحظى إذا أخلصت في الولاية بالسّعادة الدائمة الأبديّة، وتظلّ موقوفة على خدمته، متصرّفة على أوامره وأمثلته، منتهية في طاعته إلى أغراضه ومآربه، وملازمة للّازم المتعيّن من ملازمة الخدمة في مواكبه، والله تعالى يجعل ما رآه أمير المؤمنين من ذلك كافلا بالخيرات، ضامنا لشمول المنافع وعموم البركات، إن شاء الله تعالى. والسّلام على وليّ عهد أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
وهذه نسخة بولاية العهد من خليفة لولده بالخلافة على هذه الطريقة، من إنشاء القاضي «1» الفاضل، أتى فيها بالتحميد بعد التصدير ثلاث مرّات، وهي:
من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلانيّ إلى فلان الفلاني، والصلاة والسّلام على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على نحو ما تقدّم في العهد قبله:
أما بعد، فالحمد لله الذي استحقّ الحمد بفضله، وأجرى القضاء [على ما أراده] «2» ووسع الجرائم بعفوه وعدله، وصرّف المراحم بين قوله وفعله، وأعلى منار الحق وأرشد إلى أهله، واختار الإسلام دينا وعصم المعتلقين بحبله، وأوضح سبل النّجاة بما أوضح لسالكيه من سبله، وتعالى علاه إلى(9/399)
الصّفات، فلم يوصف بمثل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ
«1» وتنزّه عن اشتراك التشبيهات، في كلّ جليل الوصف مستقلّه وغير مستقلّه، علم ما اشتملت عليه خطرات الأسرار، وأشارت إليه نظرات الأبصار، وانفرجت عنه غمرات الأخطار، وأخفته سترات الظلماء وباحت به جهرات الأنوار: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ
«2» .
والحمد لله الذي جعل الدّين عنده الإسلام، فمن ابتغى غيره ضلّ المنهج، وأبعد المعرج، واستلقح المخدج، وغلط المخرج، وفارق النّور الأبلج، وركب الطريق الأعوج، وأتى يوم القيامة باللّسان الملجلج، ومن أسلم وجهه إليه فاز بالسّعي النّجيح، وحاز المتجر الرّبيح، وورد المورد الأحمد، ويمّم القصد الأقصد، ووجد الجدّ الأسعد، وسلك المنهج الأرشد، فهو العروة الوثقى، والطريقة المثلى، والدرجة العليا، وأمر به خير المرسلين، المنعوت في سير الأوّلين، المبعوث بالحق المبين، والقائم رسولا في الأمّيين، والهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، والداعي الذي من أجابه وآمن به غفر له ما تقدّم من ذنبه وأجير من عذاب أليم، والمستقلّ [بالعبء] «3» العظيم، بفضل ما منح من الخلق العظيم، والممدوح بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
«4» والحمد لله الذي وصل النبوّة بالإمامة، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة، وخصّها بالخصائص الّتي لا تنبغي إلّا لتامّ الكرامة، وأجار بها خلقه من متالف الطامّة وبوادي النّدامة، وهدى بشرف مقامه إلى دار المقامة، واستردّ بأنوار تدبيره من ظلام الباطل الطّلامة، وأحسن بما أجراه من نظره النظر(9/400)
للخاصّة والعامّة، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ
«1» .
يحمده أمير المؤمنين أن رفعه إلى ذلك المحلّ المنيف، واستعمر به المقام الشريف، وأظهر كلمة الدّين الحنيف، ونفى عنه تغالي التعمّق وتجديف التحريف، وبيّن بموافقة توفيق هديه طريق التكليف، وأمدّه بموادّ إلهيّة تشتهر فتستغني عن التعريف، وتتّصل فتقطع موادّ التكييف.
ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي نسخ بشريعته الشرائع، وهذّب بهدايته المشارع، وأيّده بالحجج القواطع، والأنوار السّواطع، وجعل من ذرّيّته جبال الله القوارع، ومن مشكاته نجوم الهدى الطّوالع، وعدقت صنائعه بالله إذا افتخرت المنعمون بالصّنائع، وعلى أخيه وأبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب المخصوص بأخوّته، وأبي الثقلين من عترته، والسابق إلى الإسلام فهو بعده أبو عذرته، وإلى تفريج الكرب عن وجهه في الحرب فهو ابن بجدته. وعلى الأئمة من ذرّيتهما مصابيح الظّلمات، ومفاتيح الشّكوك المبهمات، والممنوحين من شرف السّمات، ما جلّ عن المسامات، والممدوحين بفضل الجاه في الأرضين والسّموات.
وإن الله بحكمته البديعة، ورحمته الوسيعة، أقام الخلفاء لخلقه قواما وبحقّه قوّاما، وجعل نار الحوادث بنورهم بردا وسلاما، وجعل لهم الهداية بأمره لزاما، واستصرف بهم عن الخلق عذاب جهنّم إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً «2»
، فهم أرواح والخلائق أجسام، وصباح والمسالك أظلام، وثمرات والوجود أكمام، وحكّام والحقائق أحكام، يسهرون في منافع الأنام وهم نيام، وينفردون بوصب النّصب ويفردونهم بلذّات الجام، ويهتدون بهداياتهم إلى ما تدقّ عنه(9/401)
حوائط الأفهام، ولا يدرك إلّا بوسائط إلهام. وقد اصطفى الله الأمير من تلك الأسرة، ورقّاه شرف تلك المنابر وملك تلك الأسرّة، وأنار بمقامه نجوم السعادة المستسرّة، واستخدم العالم لأغراضه، وسدّد كلّ سهم في رميه إلى أغراضه، وأقرض الله قرضا حسنا فهو واثق بحسن عواقب إقراضه، وافترض طاعته في خلقه فالسعيد من تلقّى طاعة أمير المؤمنين بافتراضه، وأمضى أوامره على الأيّام فما يقابلها صرف من صروفها باعتراضه، وأدار الحقّ معه حيث دار، وكشف له ما استجنّ تحت أستار الأقدار، ووقف الخيرة والنّصرة على آرائه وراياته فهو المستشار والمستخار، وألهمه أن يحفظ للأمة غدها كما حفظ لها يومها، وأن يجري لها موارد توفيق الارتياد ولا يطيل حومها، وأن يجعل المؤمن على ثلج من الصّدور، وفلج من الظّهور، ويودع عندها برد اليقين بالإشارة إلى مستودع النّور، ويجعلها على شريعة من الأمر فتتّبعها، ويحلّها بمنزلة الخصب فترتبعها، ويعلم نديّ خيره ليكون غايتها ومفزعها، ويعرّفها من تنتظره فتتّخذه مآلها ومرجعها، ويقتدي في ذلك بسيد المرسلين في يوم الغدير ويشير إلى من يقوم به المشير مقام البشير.
ولمّا كنت حافظ عهد أمير المؤمنين والسيّد الذي لا بدّ أن يتوّج به السّرير، والنّجم الذي لا بدّ أن نستطيل إلى أنواره ونستطير، والذّخيرة الّتي ادّخرها الله لنيل كل خطر ودفع كلّ خطير، والسّحاب الذي فيه الثّجّ المطير، والنّجم المنير، والرّجم المبير، وقد تجلّت لك أوجه الكرامات وتبدّت، وتبّرجت لك مخطوبات المقامات وتصدّت، وطلبتك كفؤا لنيل عقيلتها وسكنى معقلها فما تعدّت، وأدّت إليك لطائف فهمك من أسرار الحقائق ما أدّت، وعرفت من سيماك هدي النبوّة، واجتمع لك مزيّة الشرفين من الطّرفين الأبوّة والبنوّة، وأخذت كتاب الحكمة ومصون العصمة بقوّة، وأجرت القلوب الّتي بعوارض الشّكّ ممنوّة، وآثرت العقائد الّتي بنواقض العقد مملوّة، وغدت وجوه الأنام بأيّامك مجلوّة، وتوافقت الألسن على مدحك ولا مثل ما مدحت من الآيات المتلوّة، وكنت بحيث تذهب بالأهوال المسلوّة، وتقبل بالآمال المرجوّة، ولو أنّ ركبا(9/402)
ضلّ لهداه نورك في الليل البهيم، ولو أنّ ذكرك شذّ لتبدّى في الآيات والذّكر الحكيم، ولو أنّك طلعت على الأولين لما تساءلوا ولا اختلفوا في النّبإ العظيم، ولو أنّ قديما علا فوق كلّ حديث لقام لك الحديث مقام القديم، ولو أنّ جميع الأنام في صعيد واحد لصعدت دونهم المقام الكريم، ولو أنّ يدك البيضاء تجسّمت للناظرين لأعدت آية موسى الكليم، ولو أنّ هدايتك الغرّاء تنسّمت للذاكرين لأحييت بها العظام وهي رميم، ولو أنّ علومك انتشرت بين العلماء لتلوا: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«1» ولو أنّ ليلة ولادتك رصدتها البصائر، رأت كيف يفرق فيها كلّ أمر حكيم، والصّفات إذا احتفل أربابها وقفت لك عبيدا، والأيام إذا كانت ظروفا لفضائلك كان كلّ يوم منها للعبيد عيدا، والأنساب إذا عددتها كان الجدّ سعيدا، فلتفخر قبل السير بأن أمليت عليها السّور، وأبشر بأن المنتظر من فضل الله لك فوق ما تعجّله النظر، واشمخ بأنّ سادة القبائل مضر وأنك بعد أمير المؤمنين سيّد مضر، وابذخ بأنك عوض من كلّ من غاب وما عنك عوض في كل من حضر، وابجح بأنك قد أهّلت لأمر أبى الله له إلّا أولي العزم والخطر، واشكر الله على نعمة خلقك لها بقدر، ومزيّة لا يوفّي حقّها من أضمر فأغرق أو نطق فشكر، وقل الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ
«2» ، وقل «3» رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ*
«4» .
فإليك هذا الأمر يصير، وأنت له والله لك نعم المولى ونعم النّصير، وتأهّب له في درجته الّتي لا ينالها باع قصير، ولا يمتطيها إلّا من اختاره الله على علم من أهل الثقلين ولو أنّ بعضهم لبعض ظهير، ولا ترى لها أهلا إلّا من أراه الله من(9/403)
آياته أنه هو السّميع البصير، وفاوض أمير المؤمنين في مشكلات الأمر ولا ينبّئك مثل خبير، واقتد منه بمن هو [في] أهل دهره وصيّ الوصيّ ونظير النّذير، واهتد بنوره الذي هو بالنّور البائن دون الخلق بشير، وسر إذا استعملك الله فيهم بما رأيت أمير المؤمنين به فيهم يسير، وادع الله بأن ييسّر على يدك مناجحهم إنّ ذلك على الله يسير، واعرف ما آثرك الله به من أنه لم يجعل ليدك كفؤا إلّا ذا الفقار ولا لقدمك كفؤا إلّا المنبر والسرير، وتحدّث بنعمة الله وإجرائها فأمير المؤمنين اليوم عليك أمير وأنت غدا على المؤمنين أمير: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
«1» .
وأما العدل وإفاضته، والجور وإغاضته، والصّعب ورياضته، والجدب وترويضه، والخطب وتفويضه، والجهاد ورفع علمه، والذبّ عن دين الله وحفظ حرمه، والأمر بالمعروف ونشر ردائه، والنهي عن المنكر وطيّ اعتدائه، وإقامة الحدّ بالصّفح والحدّ، والمساواة في الحقّ بين المولى والعبد، وبثّ دعوة الله في كل غور من البلاد ونجد، وأمر عباد الله إن عباد الله في زمنك الرغد، فذلك عهد الأئمة الراشدين، وهو إليك من أمير المؤمنين، عهد مؤكّد العقد، وهو سنّة فضل الخلفاء الّتي لا تجد لها تحويلا، ومعنى العهد الذي أمر الله بالوفاء به فقال: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا
«2» .
وهل يوصى البحر بتلاطم أمواجه وتدافع أفواجه وبتزاخر عجاجه؟ وهل يحضّ البدر المنير على أن ينير سراجه، ويطلع ليتّضح للسالك منهاجه أو ينبّه على هدايته إذا تهادته أبراجه؟ وعليك من سرائر أنوار الله ما يغنيك أن توصى، ولديك من ظواهر لطائف الله ما تميّز به عن الخلق إذ أضحيت به مخصوصا، ومن شواهد اختيار الله ما تظاهرت عليك آياته نصوصا، فبسلام الله يحيّيك المؤمنون، وبالاعتلاق بعصمة ولائك في يوم الفزع الأكبر يأمنون، والله منجز(9/404)
لك وعده كما أنجزه لمن جعلهم أئمة لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون، والله سبحانه يهدي إليك تحية من عنده مباركة طيّبة، ويسدي إلى مقام شرفك سحابة رحمة غدقة صيّبة، ويجعل ما رآه أمير المؤمنين من ولايتك عهده، وكفالتك للأمّة بعده، للمسرّات ناظما، وللمساءات حاسما، وللبركات جامعا، وللباطل خافضا وللحق رافعا. وأمر أمير المؤمنين أن يعيّن على رجال من أولياء دولته، ووجوه شيعته، وأنصار سريّته، عدّة يكون إليك اعتزاؤها وبك اعتزازها، وببابك العالي إقامتها وإلى جنابك انحيازها، فتكون موسومة بالعبوديّة، ومتعرّضة بالولاء للسعادة الأبديّة، فتمتثل «1» على ما تمثّله من المراسم، وتتصرّف على ما تصرّفها عليه من العزائم، وتكون أبدا لما ينفذ عنك من أحكام الهبات والمكارم، وتقوم من ملازمة الخدمة في مواكبك بما هو لكل خادم فرض لازم، وتسارع في مطالبك إلى ما يسارع إليه الحازم، وتجود يا سماء الإنعام بالغدق الساجم.
وتقدّر لها من الواجبات والزّيادات ما تقتضيه همم المكارم، تبذل في الخدمة الاجتهاد، وتنافس فيما تستمدّ [به] الحظوة بحضرته والإحماد، وعرّضها من الإحسان الجمّ للازدياد، وبلّغها المراد بما تبلغ بها من المراد، لتتشرّف بأن تكون تحت ركابه العالي متصرّفة، وتفتخر بأن تكون أنسابها باسمه العالي متشرّفة، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثالث (أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» ثم يأتي بالبعديّة
ويأتي بما يناسب الحال على نحو ما تقدّم، وعليه عمل أهل زماننا مع الاقتصار على تحميدة واحدة، والاختصار في القول) وهذه نسخة أوردها عليّ «2» بن خلف من إنشائه في كتابه «موادّ البيان» لترتيب الكتابة في زمن الفاطميين، وهي:(9/405)
الحمد لله معزّ دينه بخلفائه الراشدين، ومرتّب حقّه بأوليائه الهادين، الذي اختار دين الإسلام لصفوته من بريّته، وخصّ به من استخلصه من أهل طاعته، وجعله حبله المتين، ودينه الذي أظهره على كلّ دين، وسبيله الأفسح، وطريقه الأوضح، وابتعث به نبيّه محمدا صلّى الله عليه فصدع بأمره، وأعلن بذكره، والناس في فترة الضّلالة، وغمرة الجهالة، فلما أنجز في نصرة حقّه، وتأييده لسعداء خلقه [قبضه] «1» إليه محمود الأثر، طيّب الخبر [وقام] «2» بخلافته، من انتخبه من طهره عترته، وأودعهم حكمته، وكفّلهم شريعته، فاقتفوا سبيله، واتبعوا دليله، كلّما قبض منهم سلفا إلى مقرّ مجده، اصطفى خلفا للإمامة من بعده.
يحمده أمير المؤمنين أن أفضى إليه بتراث الإمامة والرّسالة، وهدى به كما هدى بجدّه من الزّيغ والضّلالة، واختصّه بميراث النّبوّة والخلافة، ونصبه رحمة للكافة، وأتمّ نعمته [عليه] كما أتمّها على آبائه، وأجزل حظّه من حسن بلائه، وأعانه على ما استرعاه، ووفّقه فيما ولّاه، وأنهضه بإعزاز الملّة، وإكرام الأمّة، وإماتة البدع، وإبطال المذهب المخترع، وإحياء السّنن، والاستقامة على لاحب السّنن، ووهبه من بنيه وذريّته مؤازرين على ما حمّله من أعباء خلافته، ومظاهرين على ما كلّفه من إمعان النظر في بريّته.
ويسأله الصلاة على محمد خاتم أنبيائه، والخيرة من خلصائه، الذي شرّفه بختام رسله، وإقرار نيابته في أهله، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه وباب حكمته، عليّ بن أبي طالب وصيّه في أمّته، وعلى الأئمة الطّهرة من ذرّيّته، مناهج رحمته، وسرج هدايته، وسلّم تسليما.
وإنّ الله تعالى جعل الخلافة للكافّة عصمة، ولأهل الإيمان رحمة، تجمع كلمتهم، وتحفظ ألفتهم، وتصلح عامّتهم، وتقيم فرائضه وسننه فيهم،(9/406)
وتمدّ رواق العدل والأمنة عليهم، وتحسم أسباب الكفر والنّفاق، وتقمع أهل العناد والشّقاق، ولذلك وصل الله حبل الإمامة، وجعلها كلمة باقية في عقب أوليائه إلى يوم القيامة.
ولما نظر أمير المؤمنين بعين اليقين، واقتبس من الحقيقة قبس [الحق] المبين، عرف ما بنيت عليه الدنيا من سرعة الزّوال، ووشك التحوّل والانتقال، وأنّ ما فوّض الله إليه من خلافته لا بدّ أن ينتقل عنه إلى أبنائه الميامين، كما انتقل إليه عن آبائه الراشدين، فلم يغترّ بمواعيدها المحال، وأضرب عمّا تخدع به من الأمانيّ والآمال، وأشفق على من كفّله الله بسياسته، وحمّله رعايته من أهل الإسلام المعتصمين بحبل دعوته، المشتملين بظلّ بيعته، عند تقضّي مدّته ونزوعه إلى آخرته، في الوقت المعلوم، بالأجل المحتوم، من انتشار الكلمة، وانبتات العصمة، وانشقاق العصا، وإراقة الدّما، واستيلاء الفتن، وتعطيل الفروض والسّنن، فنظر لهم بما ينظم شملهم، ويصل حبلهم، ويزجر ظلمتهم، ويجمع كلمتهم، ويؤلّف أفئدتهم، ورأى أن يعهد إلى فلان ولده؛ لأنه قريعه في علمه وفضله، وعقيبه في إنصافه وعدله، والملموح من بعده، والمرجوّ ليومه وغده، ولما جمع الله له من شروط الإمامة، وكمّله له من أدوات الخلافة، وجبله عليه من الرّحمة والرّافة، وخصّه به من الرّصانة والرّجاحة، والشّجاعة والسّماحة، وآتاه من فصل الخطاب، وجوامع الصّواب ومحاسن الآداب، ووقاية الدّين، والغلظة على الظالمين، واللّطف بالمؤمنين، بعد أن قدّم استخارة الله تعالى فيه، وسأله توفيقه لما يرضيه، ووقف فكره على اختياره، ولم يكن باختياره مع إيثاره، ويلوح في شمائله، ويستوضح في مخايله، أنّه الوليّ المجتبى، والخليفة المصطفى، الذي يحمي الله به ذمار الحقّ، ويعلي بسلطانه شعار الصّدق، وأنه- سبحانه- قد أفضى إليه بما أفضى به إلى الخلفاء من قبله، وأفاض عليه من الكامنات ما أفاضه على أهله، وبعد أن عاقده وعاهده على مثل ما عاهده عليه آباؤه، من تقوى الله تعالى وطاعته، واستشعار خيفته ومراقبته والعمل بكتابه وسنّته، وإقامة(9/407)
حدود الله الّتي حدّها، بفروضه الّتي وكّدها والاقتداء بسلفه الراشدين، في المكافحه عن الدّين، والمسامحة عن أوزار المسلمين، وبسط العدل على الرعيّة، والحكم بينهم بالسّويّة، وإنصاف المظلوم من الظّلوم، وكفّ يد المغتصب الغشوم، وصرف ولاة الجور عن أهل الإسلام، وتخيّر من ينظر بينهم في المظالم والأحكام، وأن لا يولّي عليهم إلّا من يثق بعدالته، ويسكن إلى دينه وأمانته، ولا يفسح لشريف في التعدّي على مشروف، ولا يقوى في التسلّط على مضعوف، وأن يحمل الناس في الحقوق على التّساوي، ويجريهم في دولته على التناصف والتّكافي، ويأمر حجّابه ونوّابه بإيصال الخاصّة والعامّة إليه، وتمكينهم من عرض حوائجهم ومظالمهم عليه ليعلموا: الولاة والعمّال، أنّ رعيته على ذكر منه وبال، فيتحاموا التثقيل عليهم والإضرار بهم. وأشهد عليه بكلّ ما شرطه وحدّده، والعمل بما يحمد إليه فيما تقلّده. على أنه غنيّ عن وصيّة وتبصير، وتنبيه وتذكير، إلّا أنّ محمدا سيد المرسلين يقول لعليّ صلّى الله عليهما «أرسل عاقلا إلّا فأوصه» «1» .
فبايعوا على بركة الله تعالى طائعين غير مكرهين، برغبة لا برهبة، وبإخلاص لا بمداهنة، بيعة رضا واختيار، وانقياد وإيثار، بصحّة من نيّاتكم، وسلامة من صدوركم، وصفاء من عقائدكم، ووفاء واستقامة فيما تضعون عليه أيمانكم، ليعرّفكم الله [من] سبوغ النّعمة، وشمول الحبرة، وحسن العاقبة، واتفاق الكلمة، ما يقرّ نواظركم، ويبرّد ضمائركم، ويذهب غلّ صدوركم ويعزّ جانبكم، ويذلّ مجانبكم، فاعلموا هذا واعملوا به إن شاء الله.
وقد يغني هذا الكتاب الذي ذكرناه مغنى العهد، فلا يحتاج إلى عهد.
وعلى ذلك كتب عن الإمام المستكفي «2» بالله أبي الربيع سليمان بن(9/408)
الحاكم «1» بأمر الله أحمد، عهد ولده المستوثق «2» بالله «بركة» بالخلافة بعده.
وهذه نسخته:
الحمد لله الذي أيّد الخلافة العبّاسيّة بأجلّ والد وأبرّ ولد، وجعلها كلمة باقية في عقبه والسّند كالسّند، وآواهم من أمرهم إلى الكهف فالكهف وإن تناهى العدد، وزان عطفها بسؤدد سواد شعارهم المسجّلة أنوارهم ولا شكّ أن النّور في السّواد، وعدق «3» بصولتهم النبويّ معجزها كلّ منادّ.
نحمده على ما منّ به من تمام النّعمة فيهم، ونزول الرحمة بتوافيهم، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة محضة الإخلاص، كافلا محضها بالفكاك من أسر الشّرك والخلاص، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بما أوضح سبل الرّشاد، وقمع أهل العناد، والشفيع المشفّع يوم التّناد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا انقضاء لها ولا نفاد، وسلّم تسليما كثيرا.(9/409)
وبعد فإن أمير المؤمنين (ويذكر اسمه) يعتصم بالله في كلّ ما يأتي ويذر مما جعل الله [له] من التفويض، ويشير إلى الصّواب في كل تصريح منه وتعريض، وإنه شدّ الله أزره، وعظّم قدره، استخار الله سبحانه وتعالى في الوصيّة بما جعله الله له من الخلافة المعظّمة المفخّمة الموروثة عن الآباء والجدود، الملقاة إليه مقاليدها كما نصّ عليه ابن عمّه صلّى الله عليه وسلّم في الوالد من قريش والمولود، لولده السيّد، الأجلّ المعظّم المكرّم، فلان، سليل الخلافة وشبل غابها، ونخبة أحسابها وأنسابها، أجلّه الله وشرّفه، وجمّل به عطف الأمانة وفوّفه، لما تلمّحه فيه من النّجابة اللائحة على شمائله، وظهر من مستوثق إبداء سرّه فيه بدلائل برهانه وبرهان دلائله؛ وأشهد على نفسه الكريمة- صانها الله تعالى- مولانا أو سيدنا أمير المؤمنين، من حضر من حكّام المسلمين: قضاة قضاتهم، وعلمائهم، وعدولهم، بمجلسه الشريف، أنه رضي أن يكون الأمر في الخلافة المعظّمة، الذي جعله الله له الآن لولده السيّد الأجلّ فلان بعد وفاته، فسّح الله في أجله، وعهد بذلك إليه، وعوّل في أمر الخلافة عليه، وألقى إليه مقاليدها، وجعل بيده زمام مبدئها ومعيدها، وصّى له بذلك جزئيّه وكلّيّه، وغامضه وجليّه، وصيّة شرعية بشروطها اللازمة المعتبرة، وقواعدها المحررة، أشهد عليه بذلك في تاريخ كذا.
الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد وليّ الخلافة عن الخليفة
، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في ذيل العهد بعد إتمام نسخته من قبول المعهود إليه، وشهادة الشّهود على العهد) أما ما يكتب في المستند، فينبغي أن يكون كما يكتب في عهود الملوك عن الخلفاء، على نحو ما تقدّم في البيعات، وهو أن يكتب: «بالإذن العالي، المولويّ، الإماميّ، النبويّ، الفلانيّ (بلقب الخلافة) أعلاه الله تعالى» أو نحو ذلك من الدعاء.(9/410)
وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، فينبغي أن يكتب: «عهدت إليه بذلك» ؛ لأنه اللفظ الذي ينعقد به العهد. ولو كتب: «فوّضت إليه ذلك» كما يكتب الخليفة في عهد السلطان الآن على ما سيأتي، كفى ذلك. والأليق بالمقام الأوّل.
وأما ما يكتب في ذيل العهد بعد تمام نسخته، فالمنقول فيه عن المتقدّمين ما كتب به «عليّ الرّضيّ «1» » تحت عهد المأمون «2» إليه بالخلافة، وهو:
الحمد لله الفعّال لما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، وصلواته على نبيّه محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين. أقول وأنا عليّ بن موسى بن جعفر: إنّ أمير المؤمنين عضّده الله بالسّداد، ووفّقه للرشاد، عرف من حقّنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وأمّن أنفسا فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، متّبعا رضا ربّ العالمين، لا يريد جزاء من غيره وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين، وإنه جعل إليّ عهده، والإمرة الكبرى إن بقيت بعده، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدّها، أو فصم عروة أحبّ الله إيثاقها، فقد أباح حريمه وأحلّ محرّمه، إذ كان بذلك زاريا على الإمام، منتهكا حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف فصبر منهم على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفا على شتات الدّين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية ورصد فرصة تنتهز، وباقية تبتدر. وقد جعلت لله تعالى على نفسي إن استرعاني على المسلمين، وقلّدني خلافته، العمل فيهم عامّة وفي بني العبّاس بن عبد المطّلب خاصّة بطاعته وبسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن لا أسفك دما حراما، ولا أبيح فرجا ولا مالا، إلّا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتخيّر الكفاة جهدي(9/411)
وطاقتي. جعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكّدا يسألني [الله] عنه، فإنه عزّ وجلّ يقول: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا
«1» . فإن أحدثت أو غيّرت أو بدّلت، كنت للغير مستحقّا، وللنّكال متعرّضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، (في عامّة المسلمين، والخاصّة والحضر يدلان على ضدّ ذلك) «2» : وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ
«3» : إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ
«4» . لكنّني امتثلت رضاه، والله يعصمني وإيّاه، وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفى بالله شهيدا. وكتبت بخطّي بحضرة أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- والفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكثم، وبشر بن المعتمر، وحمّاد بن النّعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين.
ثم كتب فيه من حضر من هولاء وهذه صورة كتابتهم.
فكتب الفضل «5» بن سهل وزير المأمون ما صورته:
«رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب، ظهره وبطنه، بحرم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بين الروضة والمنبر على رؤوس الأشهاد،(9/412)
ومرأى ومسمع من وجوه بني هاشم وسائر الأولياء والأجناد، وهو يسأل الله أن يعرّف أمير المؤمنين وكافّة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع المسلمين، وأبطل الشّبهة الّتي كانت اعترضت آراء الجاهلين: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
«1» . وكتب «الفضل بن سهل» في التاريخ المعيّن فيه» .
وكتب عبد الله «2» بن طاهر ما صورته «أثبت شهادته فيه بتاريخه عبد الله بن طاهر بن الحسين» .
وكتب يحيى بن «3» أكثم القاضي ما صورته: «شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها وبطنها، وكتب بخطه بالتاريخ» .
وكتب حمّاد «4» بن النّعمان ما صورته: «شهد حمّاد بن النعمان بمضمون ظهره وبطنه، وكتب بيده بتاريخه» .
وكتب بشر بن «5» المعتمر ما صورته: «شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر، وكتب بخطه بالتاريخ» .(9/413)
قلت: وعلى نحو ما تقدّم من كتابة المعهود إليه بالقبول وشهادة الشّهود على العهد ينبغي أن يكون العمل أيضا في زماننا، ليجتمع خطّ العاهد بالتفويض على ما تقدّم، وشهادة الشهود. ولو اقتصر المعهود إليه في الكتابة على قوله: «قبلت ذلك» كان كافيا، وإن كان أمّيّا اكتفي بشهادة الشهود.
الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها وصورة وضعها)
أما قطع الورق فمقتضى قول المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» أنّ للعهود قطع البغداديّ الكامل، وأن عهود الخلفاء تكتب في البغداديّ كما هو مستعمل في عهود الملوك عن الخلفاء، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وهو مقتضى ما تقدّم «1» في الكلام على قطع الورق في مقدّمة الكتاب نقلا عن محمد بن عمر «2» المدائني في كتاب «القلم والدواة» أنّ القطع الكامل للخلفاء.
قلت: وقد أخبرني من يوثق به أنه وقف على عهد المعتضد «3» بالله أبي الفتح أبي بكر، والد المتوكل «4» على الله، أبي عبد الله محمد خليفة العصر، وهو مكتوب في قطع الشاميّ الكامل، وأنه كتب عهد المتوكلّ على ظهره بخط الشهود دون كاتب «5» إنشاء. وكأنهم لما تقهقرت الخلافة وضعف شأنها، وصار(9/414)
الأمر إلى الملوك المتغلّبين على الخلفاء، تنازلوا في كتابة عهودهم من قطع كامل البغدادي إلى قطع الشاميّ. وهذا هو المناسب للحال في زماننا.
وأما القلم الذي يكتب به، فالحكم فيه ما تقدّم في البيعات، وهو إن كتب العهد في قطع البغداديّ، كتب بقلم مختصر الطّومار «1» . وإن كتب في قطع الشاميّ، كتب بقلم الثلثين الثّقيل.
وأما كيفيّة الكتابة وصورة وضعها، فعلى ما تقدّم في كتابة البيعات، وهو أن يبتدأ بكتابة الطّرّة في أوّل الدّرج بالقلم الذي يكتب به العهد سطورا متلاصقة ممتدة في عرض الدّرج من أوّله إلى آخره من غيرهامش. ثم إن كانت الكتابة في قطع البغداديّ الكامل، جرى فيه على القاعدة المتداولة في عهود الملوك عن الخلفاء، فيترك بعد الوصل الذي فيه الطرّة ستّة أوصال بياضا من غير كتابة، ثم يكتب البسملة في أوّل الوصل الثامن بحيث يلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه، بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة، ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أوّل العهد ملاصقا لها، ثم يخلّي مكان بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك، ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة. ويحرص أن تكون نهاية السجعة الأولى في السطر الأوّل أو الثاني، ثم يسترسل في كتابة بقيّة العهد إلى آخره، ويجعل بين كلّ سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش. فإذا انتهى إلى آخر العهد، كتب «إن شاء الله تعالى» ثم المستند، ثم الحمدلة، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والحسبلة، على ما تقدّم في الفواتح والخواتم. ثم يكتب المعهود إليه والشهود بعد ذلك. وإن كتب في قطع(9/415)
الشاميّ، فعلى ما تقدّم في البيعات، من أنه ينبغي أن يقتصر في أوصال البياض على خمسة أوصال، ويكون الهامش قدر ثلاثة أصابع.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثّلا فيها بالطرّة الّتي أنشأتها، على ما تقدّم ذكره في العهد الذي أنشأته على لسان الإمام المتوكل على الله خليفة العصر لولده العبّاس. وهو العهد الأخير من المذهب الأوّل من عهود الخلفاء عن الخلفاء.
بياض بأعلى الدرج تقدير إصبع هذا عهد إماميّ قد علت جدوده، وزاد في الارتقاء في العلياء صعوده، وفصّلت بالجواهر قلائده ونظّمت بنفيس الدّرّ عقوده، من عبد الله ووليّه الإمام المتوكّل على الله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر، بالخلافة المقدّسة لولده السيد الجليل، ذخيرة الدّين، ووليّ عهد المسلمين، أبي الفضل العبّاس، بلّغه الله تعالى فيه غاية الأمل، وأقرّ به عين الأمّة كما أقرّ به عين أبيه وقد فعل على ما شرح فيه.
بياض ستة أوصال بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد سعيد الطالع ميمون الطائر مبارك الأوّل عهدت إليه بذلك وكتب فلان بن فلان
جميل الأوسط حميد الآخر ... تشهد به حضرات الأملاك
وترقمه كفّ الثّريّا بأقلام القبول في صحائف الأفلاك وتباهي به ملائكة الأرض ملائكة السما، وتسري بنشره القبول إلى الأقطار(9/416)
هامش: فتنشر له بكل ناحية علما، وتطلع به سعادة الجدّ من ملوك العدل في كلّ أفق نجما.
ثم يأتي على الكلام إلى آخر العهد على هذا النّمط إلى أن ينتهي إلى قوله فيه «والله تعالى يبلّغه منك أملا، ويحقق فيك علما ويزكّي بك عملا» .
إن شاء الله تعالى كتب في اليوم الأوّل من المحرّم سنة إحدى وثمانمائة بالإذن العالي، المولويّ، الإماميّ، النبويّ، المتوكّليّ، أعلاه الله تعالى الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل قبلت ذلك شهد على العاهد والمعهود إليه وكتب فلان وليّ فيه زادهما الله شرفا عهد أمير المؤمنين وكتب فلان بن فلان وكذا بقية الشهود
النوع الثاني (عهود الخلفاء للملوك، ويتعلّق النظر به من سبعة أوجه)
الوجه الأوّل (في أصل مشروعيّتها)
والأصل فيها ما رواه ابن إسحاق وغيره، أنه لما رجع وفد بني الحرث بن كعب إلى قومهم باليمن بعد وفود [هم] على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بأربعة أشهر، بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن ولّى وفدهم عمرو بن حزم، يفقّههم في الدّين، ويعلّمهم السنّة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له كتابا(9/417)
عهد فيه عهده، وأمره فيه أمره، على ما سيأتي ذكره في أوّل نسخ العهود الواردة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقد فوّض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر اليمن في حياته إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه. وذلك أصرح دليل وأقوم شاهد لما نحن فيه.
الوجه الثاني (في بيان [معنى] الملك والسّلطنة اللتين يقع العهد بهما)
قد تقدّم في الكلام على الألقاب نقلا عن «الفروق» في اللغة للعسكريّ أن الملك أخصّ من السّلطنة، لأن الملك لا يطلق إلّا على الولاية العامّة، والسّلطنة تطلق على أنواع الولايات، حتّى أنّ الفقهاء يعبّرون عن القاضي ووالي البلد في أبواب الفقه بالسّلطان «1» .
ثم تفويض الخليفة الأمور في البلاد والأقاليم إلى من يدبّرها ويقوم بأعبائها على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل- وهو أعلاها وزارة التفويض
، وهو أن يستوزر الخليفة «2» من يفوّض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها «3» على اجتهاده، وينظر فيها على العموم. وعلى ذلك كانت السلطنة في زمن الخلفاء الفاطميين بمصر على ما سيأتي ذكره. قال الماورديّ في «الأحكام السلطانية» : ولا «4» يمتنع جواز مثل ذلك؛ لأنّ كلّ ما وكل إلى الإمام من تدبير [الأمة] «5» لا يقدر على مباشرة(9/418)
جميعه إلّا بالاستنابة «1» ، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصحّ في تنفيذ الأمور، [من تفرّده بها] «2» ليستظهر به على نفسه ولنفسه «3» ، فيكون «4» أبعد من الزّلل، وأمنع من الخلل. قال: وتعتبر «5» في [تقليد] «6» هذه الوزارة شروط الإمامة إلّا النسب وحده. وقد تقدّم بيان شروط الإمامة في الكلام على البيعات.
ثم قال: وكلّ ما صحّ من الإمام صحّ من «7» وزير التفويض إلّا في ثلاثة أشياء:
أحدها- ولاية العهد. فإنّ للإمام أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير.
الثاني- أنّ للإمام أن يستعفي الأمّة من الإمامة وليس ذلك للوزير.
الثالث- أنّ للإمام أن يعزل من قلّده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلّده الإمام.
وتفارق هذه الوزارة الخلافة في عموم النظر فيما عدا ذلك من وجهين:
أحدهما- مختصّ بالإمام وهو أن يتصفّح أفعال الوزير وتدبير الأمور ليقرّ منها ما وافق الصّواب، ويستدرك ما خالفه؛ لأنّ تدبير الأمة إليه موكول، وعلى اجتهاده محمول.
والثاني- مختصّ بالوزير، وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير، وأنفذه من ولاية وتقليد، لئلا يصير بالاستبداد كالإمام.
أما وزارة التنفيذ فسيأتي الكلام عليها في تقليد الوزارة إن شاء الله تعالى.(9/419)
القسم الثاني- إمارة الاستكفاء.
وهي الّتي تنعقد عن اختيار من الخليفة، وتشتمل على عمل محدود ونظر معهود، بأن يفوّض الخليفة إليه إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، ونظرا في المعهود من سائر أعماله، فيصير عامّ النظر فيما كان محدودا من عمل، ومعهودا من نظر. قال الماورديّ: فينظر فيما إليه في تدبير الجيش، وترتيبه في النّواحي، وتقدير أرزاقهم إن لم يكن الإمام قد قدّرها، وإدرارها عليهم إن كان الإمام قدّرها، وكذلك [النظر في] الأحكام، وتقليد القضاة والحكّام، وجباية الخراج، وقبض الصّدقات والعمل فيهما، وتفريق ما يستحق منهما، وحماية الحريم، والذّبّ عن البيضة، ومراعاة الدّين من تغيير أو تبديل، وإقامة الحدود في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، والإمامة في الجمع والجماعات بالقيام بها، والاستخلاف عليها، وتسيير الحجيج من عمله ومن يمرّ عليه من غير عمله، وجهاد من يليه من العدوّ، وقسم الغنائم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس. وله أن يتّخذ وزير تنفيذ لا وزير تفويض.
وعلى هذا كانت الأمراء والعمّال في الأقاليم والأمصار من ابتداء الإسلام إلى أن تغلّب المتغلّبون على الأمر واستضعف جانب الخلفاء.
قال الماورديّ: ويعتبر في هذه الإمارة ما يعتبر في وزارة التفويض من الشروط، إذ ليس بين عموم الولاية وخصوصها فرق في الشروط المعتبرة فيها.
القسم الثالث- إمارة الاستيلاء.
وهي أن يقلّده الخليفة «1» الإمارة على بلاد ويفوّض إليه تدبيرها، فيستولي عليها بالقوّة، فيكون [الأمير] باستيلائه مستبدّا بالسياسة والتدبير، والخليفة(9/420)
بإذنه ينفّذ «1» أحكام الدين لتخرج عن الفساد إلى الصّحّة، ومن الحظر إلى الإباحة، نافذ التصرّف في حقوق الملة وأحكام الأمّة. وهذا ما صار إليه الأمر بعد التغلّب على الخلفاء، والاستبداد بالأمر بالغلبة والقوّة.
قال الماورديّ: وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه [من] حفظ قوانين «2» الشرع وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلّا مدخولا، ولا فاسدا معلولا، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار، ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار؛ لوقوع الفرق بين شروط المكنة «3» والعجز: قال: والذي يتحفّظ بتقليد المستولي من قوانين الشريعة «4» سبعة أشياء، يشترك في التزامها الخليفة المولّي والأمير المستولي، ووجوبها في جهة المستولي أغلظ.
أحدها- حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوّة، وتدبير أمور الأمة «5» ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظا، وما تفرّع عنها من الحقوق محروسا.
والثاني- ظهور الطاعة الدّينية الّتي يزول معها حكم العناد في «6» الدين، وينتفي بها مأثم المباينة له.
والثالث- اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر ليكون المسلمون «7» يدا على من سواهم.
والرابع- أن تكون عقود الولايات الدينيّة جائزة، والأحكام والأقضية(9/421)
[فيها] نافذة، لا تبطل بفساد عقودها، ولا تسقط بخلل عهودها.
الخامس- أن يكون استيفاء الأموال الشرعيّة بحقّ تبرأ به ذمّة مؤدّيها، ويستبيحه آخذها ومعطيها «1» .
السادس- أن تكون الحدود مستوفاة بحقّ، وقائمة على مستحقّ، فإنّ جنب المؤمن حمى إلّا من حقوق الله تعالى وحدوده.
السابع- أن يكون للأمّة «2» في حفظ الدين وازع عن محارم الله تعالى، يأمر بحقّه إن أطيع، ويدعو إلى طاعته إن عصي. ثم قال: فإن كملت فيه شروط الاختيار المتقدّمة «3» ، كان تقليده حتما استدعاء لطاعته، ودفعا لمشاقّته ومخالفته، [وصار بالإذن له نافذا لتصرّف في حقوق الملة وأحكام الأمة] «4» ، وجرى على من استوزره أو استنابه أحكام من استوزره الخليفة أو استنابه. وإن لم تكمل «5» [فيه] شروط الاختيار، جاز له «6» إظهار تقليده استدعاء لطاعته وحسما لمخالفته ومعاندته، وكان نفوذ تصرّفاته «7» في الحقوق والأحكام موقوفا على أن يستنيب الخليفة له «8» من تكاملت فيه الشّروط. قال: وجاز مثل هذا وإن شذّ عن الأصول «9» ؛ لأنّ الضرورة تسقط ما أعوز من شروط المكنة.(9/422)
قلت: ومملكة الديار المصرية من حين الفتح الإسلاميّ وهلمّ جرّا إلى زماننا دائرة بين هذه الأقسام الثلاثة، لا تكاد تخرج عنها؛ فكانت في بداية الأمر «إمارة استكفاء» يولّي عليها الخليفة في كلّ زمن من يقوم بأعبائها، ويتصرّف في أمورها، قاصر الولاية عليها، واقف عند حدّ ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنّواهي، إلّا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان. فلمّا استولى عليها الفاطميّون واستوزروا أرباب»
السّيوف في أواخر دولتهم، وعظمت كلمتهم عندهم، صارت سلطنتها «وزارة تفويض» . وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرّف في المملكة كالملوك الآن أو قريب منهم. وكانوا يلقّبون بألقاب الملوك الآن، كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ، وهو أوّل من لقّب بالملك منهم فيما ذكره المؤيّد صاحب حماة في تاريخه. والملك الصالح طلائع بن رزّيك وزير الفائز ثم العاضد.
والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي وزير العاضد، وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيّوب وزير العاضد أيضا، قبل أن يستقلّ بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العبّاس ببغداد. ولا نكر في تسمية الوزير ملكا، فقد قيل في قوله تعالى في قصّة يوسف عليه السّلام: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
«2» إنّ المراد بالملك الوزير لا الملك نفسه. ولما انتزعت من الفاطميين وصارت إلى بني أيّوب «3» ، وكانوا يلونها عن خلفاء بني العبّاس، صارت «إمارة استيلاء» لاستيلائهم عليها بالقوّة، واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده. وكان الرشيد قد لقّب «جعفر بن يحيى البرمكيّ» في زمن وزارته له بالسلطان، ولم يأخذ الناس في التلقيب به. فلمّا تغلّب الملوك بالشّرق على الخلفاء واستبدّوا عليهم، صار لقب السلطان سمة لهم،(9/423)
مع ما يختصّهم به الخليفة من ألقاب التشريف، كشرف الدّولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعزّ الدولة، وعزّ الدولة، ونحو ذلك. وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي، فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيّوب، وتلقّب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطميّ بعد وزارته له، ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة، وصارت الوزارة عن السلطان معدوقة بقدر مخصوص من التصرّف. وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك، مع أصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك، وهي على ذلك إلى زماننا، إلّا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء، من حين قتل التتار «1» «المستعصم» «2» آخر خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين إقامة الخليفة بمصر في الدولة الظاهريّة بيبرس «3» . على أنّ في السلطنة الآن شبها من وزارة التفويض، فإن الخليفة يفوّض إليه في تقليده تدبير جميع الممالك الإسلامية بالتفويض العامّ لا يستثني منها شيئا. وغير هذه(9/424)
المملكة وإن كان خارجا عن يده فهو داخل في عموم ولايته، حتّى لو غلب على شيء منها أو فتحه لم يحتج فيه إلى تولية جديدة من الخليفة. ولا مانع لذلك، فسيأتي في الكلام على المناشير أنه يجوز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح، وإذا جاز ذلك في الإقطاع «1» ففي هذا أولى. وحينئذ فتكون سلطنة الديار المصريّة الآن مركّبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء.
الوجه الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته فيه)
واعلم أنه يجب على الكاتب مراعاة أمور:
منها: براعة الاستهلال بما يتهيّأ له من اسم السلطان أو لقبه الخاصّ، مثل فلان الدين، أو لقبه بالسلطنة، مثل الناصر، والظاهر، ونحوهما، أو غير ذلك مما يدلّ على ما بعده قبل الإتيان به كما تقدّم في البيعات وعهود الخلفاء.
ومنها: التنبيه على شرف السّلطنة وعلوّ رتبتها، ووجوب القيام بأمر الرعيّة، وتحمّل ذلك عن الخليفة.
ومنها: الإشارة إلى اجتهاد الخليفة وإعمال فكره فيمن يقوم بأمر الأمّة، وأنه لم يجد بذلك أحقّ من المعهود إليه ولا أولى به منه، فيصفه بالصّفات الجميلة، ويثني عليه بما يليق بمقام الملك.
ومنها: الإشارة إلى جريان لفظ تنعقد به الولاية من عهد أو تقليد أو تفويض، وقبول ذلك، ووقوع الإشهاد على الخليفة بالعهد.
ومنها: إيراد ما يليق بالمقام من الوصيّة، بحسب ما يقتضيه الحال، من علوّ رتبة الخلافة وانخفاضها، مبيّنا لما يلزمه القيام به، من حفظ الدّين على أصوله المستقرّة، وما أجمع عليه سلف الأمّة، وتنفيذ الأحكام، وإنصاف المظلوم من الظالم، وحماية البيضة، والذّبّ عن الحرم، وإقامة الحدود،(9/425)
وتحصين الثّغور، وجهاد أعداء الله وغزوهم، وجباية الفيء «1» والصّدقات على ما أوجبه الشرع من غير حيف ولا عسف، وتقدير العطاء، وصرف ما يستحقّ في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، في وقت الحاجة إليه، واستكفاء الأمناء، وتقليد النّصحاء للأعمال والأموال، ومباشرة الأمور بنفسه وتصفّح الأحوال، إلى غير ذلك من الأمور المتعلّقة بالإمامة، من إقامة موسم الحجّ، وتأمين الحرم الشريف وإكرام ضرائح الأنبياء وبيت المقدس، وتحرير مقادير المعاملات، وغير ذلك مما يقتضيه أمر المملكة.
الوجه الرابع (فيما يكتب في الطّرة، وهو نمطان)
النّمط الأوّل- ما كان يكتب في وزارة التفويض في دولة الفاطميين.
وكان الخليفة هو الذي يكتب بيده. وهذا أمر وإن كان قد ترك فالمعرفة به خير من الجهل، خصوصا وقد أثبت المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله عهدي أسد الدين شيركوه «2» وابن أخيه السلطان صلاح الدّين «3» يوسف بن أيوب بالوزارة(9/426)
عن العاضد «1» ، في جملة عهود الملوك على ما سيأتي ذكره. وسنوردهما في جملة عهود الملوك عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك ما كتب به العاضد في طرّة عهد أسد الدّين شيركوه المتقدّم ذكره، وهو:
«هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، وتقليد أمانة رآك الله تعالى وأمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوّة النبوّة، واتّخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا
«2» » .
ومن ذلك ما كتب به العاضد أيضا في طرّة العهد المكتتب عنه بالوزارة للسلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب قبل استقلاله بالسلطنة، وهو:
«هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عند الله تعالى عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك، ولمن مضى بجدّنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن أسوة، ولمن بقي بقربنا أعظم سلوة تِلْكَ الدَّارُ(9/427)
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
» «1» .
النمط الثاني- ما يكتب في طرّة عهود الملوك الآن.
وهو قريب مما كان يكتب أوّلا مما تقدّم ذكره، إلّا أنه يبدّل فيه لفظ الوزارة بالملك والسّلطنة، ويكون الذي يكتبه هو الذي يكتب العهد دون الخليفة. ثم هو بحسب ما يؤثره الكاتب مما يدلّ على صدر العهد على ما يقتضيه الحال.
وهذه نسخة طرّة عهد، كتب بها القاضي محيي «2» الدين بن عبد الظاهر، في نسخة عهد أنشأه للسلطان الملك الناصر «3» محمد بن قلاوون، في سنة سبع عشرة وسبعمائة، وهو:
«هذا عهد شريف تجدّدت مسرّات الإسلام بتجديده، وتأكدت أسباب الإيمان بتأكيده، ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده، ووفد اليمن والإقبال على الخليقة بوفوده، وورد الأنام مورد الأمان بوروده، من عبد الله ووليّه الإمام المستكفي «4» بالله أبي الرّبيع سليمان أمير المؤمنين، ابن الحاكم «5» بأمر الله أبي العباس أحمد، عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح «6» محمّد، خلّد الله سلطانه، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون «7» الصالحيّ قدّس الله روحه» .(9/428)
تم الجزء التاسع. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء العاشر وأوّله
الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)
والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(9/429)
ثبت بأسماء المصادر والمراجع (الجزء التاسع)
1- الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (1- 4) .
تحقيق محمد عبد الله عنان.
مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1319 هـ.
2- الأحكام السلطانية للماورديّ.
مطبعة الوطن، القاهرة، 1298 هـ.
3- أزهار الرياض في أخبار عياض للمقّري التلمساني (1- 3) .
تحقيق الأساتذة السقا والأبياري وشلبي، القاهرة، 1939- 1942.
4- أساس البلاغة للزمخشري.
تحقيق عبد الرحيم محمود.
دار المعرفة، بيروت، 1979.
5- الأعلام للزركلي (1- 8) .
دار العلم للملايين، بيروت، 1980.
6- البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (1- 14) ، مصر، 1351- 1358 هـ.
7- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس للضبيّ.
دار الكاتب العربي، 1967.
8- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي.
دار المعرفة، بيروت.
9- البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (1- 4) .
تحقيق ج. س. كولان وإ. ليفي بروفنسال والدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت.
10- البيان والتبيين للجاحظ، أربعة أجزاء في مجلدين.
تحقيق وشرح عبد السّلام محمد هارون، الطبعة الرابعة، بيروت.
11- تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي (1- 10) .
الطبعة الأولى، مصر، 1306 هـ.
12- تاريخ ابن خلدون (1- 14) .
دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981.
13- تاريخ إسبانيا الإسلامية أو كتاب أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام للسان الدين ابن الخطيب،.
تحقيق إ. ليفي بروفنسال.
دار المكشوف، بيروت، 1956.
14- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي(9/431)
(1- 14) .
دار الكتاب العربي، بيروت.
15- تاريخ الخلفاء أو الإمامة والسياسة لابن قتيبة، جزءان في مجلد، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1981.
16- تاريخ العلوم عند العرب، تأليف الدكتور أسعد السكّاف والأستاذ محمود مطرجي.
دار مارون عبود، بيروت، 1982.
17- ترتيب القاموس المحيط للأستاذ طاهر أحمد الزاوي (1- 4) .
مطبعة الاستقامة بالقاهرة، 1959.
18- تعريف القدماء بأبي العلاء بإشراف الدكتور طه حسين.
دار الكتب، القاهرة 1944.
19- التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري.
مطبعة العاصمة بمصر، 1312 هـ.
20- تفسير الجلالين.
دار الفكر، بيروت.
21- التكلمة لكتاب الصلة لابن الأبار (1- 2) .
طبعة مصر، 1955.
22- تهذيب الأسماء واللغات لابن شرف النووي، الجزء الأول من القسم الثاني.
دار الكتب العلمية، بيروت.
23- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس للحميدي.
الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966.
24- جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة لأحمد زكي صفوت (1- 4) .
المكتبة العلمية، بيروت.
25- حسن التوسّل إلى صناعة الترسّل لشهاب الدين الحلبي.
مطبعة أمين هندية بمصر، 1315 هـ.
26- حياة محمد لمحمد حسين هيكل.
مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1968.
27- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي (1- 4) ، مصر، 1299 هـ.
28- دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين في علم الكلام للدكتور أحمد محمود صبحي، مؤسّسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1978.
29- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (1- 4) ، حيدرآباد الدكن، 1945- 1950.
30- ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي.
تحقيق محمد عبده عزام.
دار المعارف بمصر، 1951.
31- ديوان أبي الطيّب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري المسمّى بالتبيان في شرح الديوان (1- 4) ، ضبطه وصحّحه مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي.
دار المعرفة، بيروت.
32- ديوان امريء القيس.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
دار المعارف بمصر، 1969.
33- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني، أربعة أقسام في ثمانية مجلدات.
تحقيق الدكتور إحسان عباس،(9/432)
دار الثقافة، بيروت، 1978- 1979.
34- الرد الوافر لابن ناصر الدين.
تحقيق زهير الشاويش، بيروت، 1393 هـ.
35- الروض المعطار في خبر الأقطار لمحمد ابن عبد المنعم الحميري.
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1980.
36- ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب، المجلد الأول.
تحقيق محمد عبد الله عنان.
مكتبة الخانجي.
المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1980.
37- السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (1- 2) .
تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1934- 1942؛ (3- 4) تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، 1970- 1972.
38- شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (1- 8) ، القاهرة، 1350- 1351 هـ.
39- الصحاح في اللغة والعلوم للجوهري (1- 2) .
دار الحضارة العربية، بيروت، 1974.
40- صحيح مسلم (1- 2) ، القاهرة، 1290 هـ.
41- صورة الأرض لابن حوقل النصيبي.
دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979.
42- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي (1- 12) .
مكتبة القدسي، القاهرة، 1353- 1355 هـ.
43- الطالع السعيد لكمال الدين أبي الفضل الأدفوي.
تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة، 1966.
44- طبقات الشافعية لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي (1- 2) .
تحقيق عبد الله الجبوري، بغداد، 1390- 1391 هـ.
45- العقد الفريد لابن عبد ربّه (1- 7) ، شرح أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري.
دار الكتاب العربي، بيروت.
46- عيون الأخبار لابن قتيبة (1- 2) شرح وضبط الدكور يوسف طويل؛ (3- 4) شرح وضبط الدكتور مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
47- عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، شرح وتحقيق الدكتور نزار رضا.
دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965.
48- الفهرست للنديم.
تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971.
49- فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (1- 5) .
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار الثقافة، بيروت، 1973- 1974.
50- القاموس المحيط للفيروز آبادي.
مؤسسة الرسالة، بيروت، 1986.
51- قرآن كريم.
دار الفكر، بيروت، 1403 هـ.(9/433)
52- قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي.
تحقيق إبراهيم الأبياري.
دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
53- قلائد العقيان لابن خاقان، طبعة بولاق، 1283 هـ.
54- الكامل في التاريخ لابن الأثير (1- 13) .
دار صادر، بيروت، 1982.
55- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (1- 2) ، إستانبول، 1941- 1943.
56- لسان العرب لابن منظور (1- 15) .
دار صادر، بيروت.
57- اللمحة البدرية في الدولة النصرية لابن الخطيب، المطبعة السلفية بمصر، 1347 هـ.
58- مجمع الأمثال للميداني (1- 2) .
تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
مطبعة السنة المحمدية، 1955.
59- محيط المحيط لبطرس البستاني.
مكتبة لبنان، بيروت، 1977.
60- مختار الصحاح للرازي.
مؤسسة الرسالة.
دار البصائر، بيروت، 1985.
61- المرجع لعبد الله العلايلي.
دار المعجم العربي، بيروت، 1963.
62- مروج الذهب للمسعودي (1- 4) ، الطبعة الرابعة.
دار الأندلس، بيروت، 1981.
63- المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية.
تحقيق الاساتذة إبراهيم الأبياري وحامد عبد المجيد واحمد أحمد بدوي.
دار العلم للجميع، بيروت، 1955.
64- معجم الأدباء لياقوت الحموي (1- 7) .
طبعة مرجليوت، مصر، 1907- 1925.
65- معجم البلدان لياقوت الحموي (1- 5) .
دار صادر، دار بيروت، 1984.
66- معجم الشعراء للمرزباني، ومعه المؤتلف والمختلف للآمدي، تصحيح الدكتور ف. كرنكو.
دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
67- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (1- 5) ، مطبعة الترقي، دمشق، 1959.
68- معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا (1- 5) .
دار مكتبة الحياة، بيروت، 1958- 1960.
69- مفتاح الأفكار في النثر المختار للشيخ أحمد مفتاح، مصر، 1314 هـ.
70- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (5- 10) ، حيدرآباد الدكن، 1357 هـ.
71- المنجد في اللغة والأعلام.
دار المشرق، بيروت، 1978.
72- نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان لابن الأحمر، دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية.
دار الثقافة، بيروت، 1967.
73- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي.(9/434)
دار الكتب المصرية، 1348- 1375 هـ.
74- نفاضة الجراب في علالة الاغتراب لابن الخطيب.
تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي.
دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
75- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري (1- 8) .
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار صادر، بيروت، 1968.
76- الوافي بالوفيات للصلاح الصفدي (1- 22) ، إستانبول وفيسبادن، 1931- 1983.
77- الوزراء والكتّاب لأبي عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري.
الطبعة الأولى، مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي بمصر، 1938.
78- وفيات الأعيان لابن خلّكان (1- 8) .
تحقيق الدكتور إحسان عباس.
دار صادر، بيروت، 1977- 1978.
79- الولاة والقضاة لمحمد بن يوسف الكندي، بيروت، 1908.
80- يتيمة الدهر للثعالبي (1- 4) .
دار الكتب العلمية، بيروت، 1979.
81- هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا البغدادي (1- 2) ، إستانبول، 1951- 1955.(9/435)
فهرس الجزء التاسع من كتاب صبح الأعشى للقلقشندي
القسم الثاني- من مقاصد المكاتبات الإخوانيات. وهي على سبعة عشر نوعا 3 النوع الأوّل- التهاني، وهي على أحد عشر ضربا 4 الضرب الأوّل- التهنئة بالولايات 4 الضرب الثاني- التهنئة بكرامة السلطان، وأجوبته 26 الضرب الثالث- التهنئة بالعود من الحج 32 الضرب الرابع- التهنئة بالقدوم من السفر 34 الضرب الخامس- التهنئة بالشهور والمواسم والأعياد 40 الضرب السادس- التهنئة بالزواج والتسري 55 الضرب السابع- التهنئة بالأولاد 57 الضرب الثامن- التهنئة بالإبلال من المرض والعافية من القسم 64 الضرب التاسع- التهنئة بقرب المزار 71 الضرب العاشر- التهنئة بنزول المنازل المستجدّة 72 الضرب الحادي عشر- نوادر التهاني 74 النوع الثاني- من مقاصد المكاتبات: التعازي، وهي على أضرب 82 الضرب الأوّل- التعزية بالابن 82 الضرب الثاني- التعزية بالبنت 87 الضرب الثالث- التعزية بالاب 88(9/436)
الضرب الرابع- التعزية بالأمّ 89 الضرب الخامس- التعزية بالأخ 90 الضرب السادس- التعزية بالزوجة 92 الضرب السابع- التعازي المطلقة 94 النوع الثالث- من مقاصد المكاتبات: التهادي والملاطفة 101 النوع الرابع- الشفاعات والعنايات 127 النوع الخامس- التشوّق 144 النوع السادس- في الاستزارة 152 النوع السابع- في اختطاب المودّة وافتتاح المكاتبة 156 النوع الثامن- في خطبة النساء 160 النوع التاسع- في الاسترضاء والاستعطاف والاعتذار 166 النوع العاشر- في الشكوى 173 النوع الحادي عشر- في استماحة الحوائج 176 النوع الثاني عشر- في الشكر 183 النوع الثالث عشر- في العتاب 189 النوع الرابع عشر- في العيادة والسؤال عن حال المريض 201 النوع الخامس عشر- في الذم 216 النوع السادس عشر- في الأخبار 218 النوع السابع عشر- في المداعبة 224 الفصل الثامن- في إخفاء ما في الكتب من السر، وهو على نوعين 228 النوع الأوّل- ما يتعلق بالكتابة، وهو على ضربين 228 الضرب الأوّل- ما يتعلق بالمكتوب به 228 الضرب الثاني- ما يتعلق بالخط المكتوب 229 النوع الثاني- الرموز والإشارات الّتي لا تعلق لها بالخط والكتابة 246 المقالة الخامسة- في الولايات، وفيها أربعة أبواب 251 الباب الأوّل- في بيان طبقاتها وما يقع به التفاوت، وفيه ثلاثة فصول 251 الفصل الأوّل- في بيان طبقات الولايات 251(9/437)
الطبقة الأولى- الخلافة 251 الطبقة الثانية- السلطنة 251 الطبقة الثالثة- الولايات عن الخلفاء والملوك وما يكتب عن السلطان بالديار المصرية في أقطار المملكة بمصر والشام والحجاز، وهي على خمسة أنواع 251 النوع الأوّل- ولايات أرباب السيوف 252 النوع الثاني- ولاية أرباب الأقلام 257 النوع الثالث- ولاية أرباب الوظائف الصناعية 265 النوع الرابع- ولايات زعماء أهل الذمة 265 النوع الخامس- ما لا يختص بطائفة ولا يندرج تحت نوع 265 الفصل الثاني- من الباب الأوّل من المقالة الخامسة في بيان ما تجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال 267 الفصل الثالث- من الباب الأوّل من المقالة الخامسة في بيان ما يقع به التفاوت في رتب الولايات. وذلك من سبعة أوجه 270 الوجه الأوّل- الألقاب، وهي على ثلاثة أنواع 270 النوع الأوّل- ألقاب الخلفاء 270 النوع الثاني- ألقاب الملوك 270 النوع الثالث- ألقاب ذوي الولايات الصادرات عن السلطان 271 الوجه الثاني- ألفاظ إسناد الولايات إلى صاحب الوظيفة 274 الوجه الثالث- الافتتاحات 276 الوجه الرابع- تعدّد التحميد في الخطبة أو في أثناء الكلام واتحاده 276 الوجه الخامس- الدعاء 277 الوجه السادس- طول الكلام وقصره 278 الوجه السابع- قطع الورق 279 الباب الثاني- من المقالة الخامسة في البيعات، وفيه فصلان 281 الفصل الأوّل- في معناها 281 الفصل الثاني- في ذكر تنويع البيعات، وهي نوعان 283 النوع الأوّل- بيعات الخلفاء، وفيها سبعة مقاصد 283(9/438)
المقصد الأوّل- في أصل مشروعيتها 283 المقصد الثاني- في بيان أسباب البيعة الموجبة لأخذها على الرعية 284 المقصد الثالث- في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة البيعة 285 المقصد الرابع- في بيان مواضع الخلافة الّتي تستدعي الحال كتابة المبايعات فيها 288 المقصد الخامس- في بيان صورة ما يكتب في بيعات الخلفاء، وفيه أربعة مذاهب 289 المذهب الأوّل- أن تفتتح المبايعة بلفظ «تبايع فلانا أمير المؤمنين» خطابا لمن تؤخذ عليه البيعة 289 المذهب الثاني- مما يكتب في بيعات الخلفاء أن تفتتح المبايعة بلفظ «من عبد الله ووليه فلان أبي فلان الإمام الفلاني» إلى أهل دولته 295 المذهب الثالث- أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله الخ 307 المذهب الرابع- مما يكتب في بيعات الخلفاء أن تفتتح البيعة بلفظ «هذه بيعة الخ 329 المقصد السادس- فيما يكتب في آخر البيعة 341 المقصد السابع- في قطع الورق الذي تكتب فيه البيعة، والقلم الذي تكتب به، وكيفية كتابتها وصورة وضعها 342 النوع الثاني- من البيعات بيعات الملوك 347 الباب الثالث- من المقالة الخامسة في العهود، وفيه فصلان 362 الفصل الأوّل- في معنى العهد 362 الفصل الثاني- في بيان أنواع العهود، وهي ثلاثة أنواع 364 النوع الأوّل- عهود الخلفاء عن الخلفاء، ويتعلق النظر به من ثمانية أوجه 364 الوجه الأوّل- في أصل مشروعيتها 364 الوجه الثاني- في معنى الاستخلاف 365 الوجه الثالث- فيما يجب على الكاتب مراعاته 366 الوجه الرابع- فيما يكتب في الطرّة وهو تلخيص ما يتضمنه العهد 373(9/439)
الوجه الخامس- فيما يكتب لأولياء العهد من الألقاب 374 الوجه السادس- فيما يكتب في متن العهد، وفيه ثلاثة مذاهب 374 المذهب الأوّل- أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «هذا» مثل هذا ما عهد به فلان لفلان، وللكتاب فيه طريقتان 374 الطريقة الأولى- طريقة المتقدّمين 374 الطريقة الثانية- طريقة المتأخرين 387 المذهب الثاني- أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «من فلان إلى فلان» 396 المذهب الثالث- أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله 405 الوجه السابع- فيما يكتب في مستند عهد وليّ الخلافة عن الخليفة الخ 410 الوجه الثامن- في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الخلفاء والقلم الذي يكتب به، وكيفية كتابتها وصورة وضعها 414 النوع الثاني- عهود الخلفاء للملوك، ويتعلق النظر به من سبعة أوجه 417 الوجه الأوّل- في أصل مشروعيتها 417 الوجه الثاني- في بيان معنى الملك والسلطنة اللتين يقع العهد بهما 418 الوجه الثالث- فيما يجب على الكاتب مراعاته فيه 425 الوجه الرابع- فيما يكتب في الطرّة؛ وهو نمطان 426 النمط الأوّل- ما كان يكتب في وزارة التفويض في دولة الفاطميين 426 النمط الثاني- ما يكتب في طرّة عهود الملوك الآن 428 (تم فهرس الجزء التاسع من كتاب صبح الأعشى)(9/440)
[الجزء العاشر]
[تتمة الباب الثالث]
[تتمة النوع الثاني]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمّد وآله وصحبه
الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)
النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)
وهو أن يقتصر على ما يلقّب به الملك أو يكنّى به من ديوان الخلافة، ثم يقال: «مولى أمير المؤمنين» ولا يزاد على ذلك.
كما كتب أبو إسحاق الصابي «1» في عهد فخر الدولة بن بويه «2» عن الطائع لله «3» :
«هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين، إلى فخر الدّولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين» .
وإلى هذا أشار في «التعريف» «4» بقوله: على أنّ لهذا ضابطا كان في قديم(10/3)
الزمان وهو أنه لا يكتب للرجل «1» إلّا ما كان يلقّب به من ديوان الخلافة [بالنصّ] «2» من غير زيادة ولا نقص.
النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)
وقد حكى في «التعريف» في ذلك مذهبين:
الأوّل- أن يكتب فيها: السّلطان، السيّد، الأجلّ، الملك الفلانيّ، مع بقيّة ما يناسب من الألقاب المفردة والمركّبة: كما كتب القاضي الفاضل «3» في عهد أسد الدّين شيركوه «4» الآتي ذكره عن العاضد الفاطميّ «5» :
«من عبد الله ووليّه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيّد، الأجلّ، الملك، المنصور؛ سلطان الجيوش، وليّ الأمّة، فخر الدولة، أسد الدّين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحرث شير كوه العاضديّ» .
وعلى هذه الطريقة بزيادة ألقاب كتب ابن القيسرانيّ «6» في العهد للملك الناصر محمد بن قلاوون «7» : قدّس الله روحه ونحو ذلك. قال في «التعريف» :(10/4)
وأنا إلى ذلك أجنح، وعليه أعمل.
الثاني- أن يكتب: المقام الشريف، أو الكريم، أو العالي مجرّدا عنهما.
ويقتصر على المفردة [دون المركبة] «1» .
كما كتب به الصاحب فخر الدّين بن لقمان «2» ، في عهد الظاهر بيبرس «3» بعد ذكر أوصافه ومناقبه: ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصّة بالمقام «4» العالي المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الظاهريّ، الرّكنيّ، شرّفه الله تعالى وأعلاه.
قلت: وربّما أبدل المتقدّمون «المقام» في هذه الحالة ب «المقرّ» «5» وأتى بالألقاب من نحو ما تقدّم.
وكما كتب به القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر «6» في عهد المنصور قلاوون بعد استيفاء مناقبه وأوصافه، وذكر إعمال الفكر والرّويّة في اختياره:
«وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرّفه الله أن يكون للمقرّ العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، أجلّه الله ونصره، وأظفره وأقدره، وأيّده وأبّده؛(10/5)
كلّ ما فوّضه الله لمولانا أمير المؤمنين» ونحو ذلك «1» .
وبقي مذهب ثالث- وهو أن يأتي بنظير ألقاب المذهب الأوّل، مقتصرا على الألقاب المفردة دون المركّبة. وعلى ذلك جرى الوزير ضياء الدّين بن الأثير «2» في العهد الذي كتب به معارضة لعهد السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب «3» الآتي ذكره- فقال بعد ذكر مناقبه: «وتلك مناقبك أيّها الملك، الناصر، الأجلّ، السيد، الكبير، العالم، العادل، صلاح الدين أبو المظفّر يوسف بن أيوب» . ولم يتعرّض لحكايته في «التعريف» . على أنّ ابن الأثير إمام هذا الفنّ، وحائز قصب السّبق فيه، ومقالته مما يحتجّ بها ويعوّل عليها.
فإن قيل: لعله في «التعريف» أراد مذاهب كتّاب زمانه، فالجواب أنّ حكاية المذهب الثاني عن المتأخّرين يؤذن بأنّ المراد متقدّمو الكتاب ومتأخّروهم.
الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب) «4»
المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)
أن يفتتح العهد بلفظ «هذا» مثل: «هذا ما عهد به فلان لفلان» أو «هذا ما أمر به فلان فلانا» أو «هذا عهد من فلان لفلان» أو «هذا كتاب اكتتبه فلان لفلان» وما أشبه ذلك.(10/6)
وللكتّاب فيه طريقتان:
الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)
وهي أن لا يأتي بتحميد في أثناء العهد في خطبة ولا غيرها، ولا يتعرّض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه أصلا، أو يتعرّض إلى ذلك باختصار ثم يقول: «فقلّده كذا وكذا» ويذكر ما فوّض إليه، ثم يقول: «وأمره بكذا» حتّى يأتي على آخر الوصايا، ثم يقول في آخره: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحّجته لك وعليك» ويأتي بما يناسب ذلك، ويختمه بقوله: «والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» أو «والسلام عليك» أو بغير ذلك من الألفاظ المناسبة على اختلاف طرقهم في ذلك، وتباين مقاصدهم. وعلى هذا النّهج وما قاربه كانت عهود السلف فمن بعدهم، تأسّيا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما كتب به لعمرو بن حزم «1» حين وجّهه إلى اليمن «2» ، كما تقدّمت الأشارة إليه في الاستشهاد لأصل عهود الملوك عن الخلفاء.
وهذه نسخته بعد البسملة فيما ذكره ابن هشام وغيره:
هذا بيان من الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
«3» عهد «4» من [محمد] «5» النبيّ رسول الله لعمرو بن حزم [حين بعثه إلى اليمن] «6» أمره بتقوى الله في أمره كلّه، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره «7» الله، وأن يبشّر الناس بالخير ويأمرهم(10/7)
به، ويعلّم النّاس القرءان ويفقّههم فيه «1» ، وينهى النّاس فلا يمسّ القرءان «2» إنسان إلّا وهو طاهر، ويخبر الناس بالّذي لهم والّذي عليهم، ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم، فإنّ الله كره الظّلم ونهى عنه فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
«3» ويبشّر الناس بالجنّة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها «4» ، ويستألف «5» الناس حتّى يفقهوا «6» في الدّين، ويعلّم الناس معالم الحجّ وسنّته وفريضته وما أمر الله به، والحجّ الأكبر الحجّ الأكبر، والحجّ الأصغر هو العمرة «7» ؛ وينهى الناس أن يصلّي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون ثوبا «8» يثني طرفيه على عاتقيه، وينهى [الناس] «9» ان يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السّماء، وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه، «10» وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدّعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله [عز وجلّ] «11» وحده لا شريك له [فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتّى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له] «12» ويأمر الناس بإسباغ الوضوء: وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برؤوسهم «13» كما أمرهم الله، وأمر «14» بالصلاة لوقتها، وإتمام الرّكوع(10/8)
[والسّجود] «1» والخشوع؛ ويغلّس بالصّبح «2» ، ويهجّر بالظّهر «3» حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشّمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخّر حتّى تبدو النّجوم في السماء، والعشاء أوّل اللّيل. وأمر «4» بالسّعي إلى الجمعة إذا نودي لها، والغسل عند الرّواح إليها. وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين في الصّدقة من العقار «5» عشر ما سقت العين وسقت السّماء، وعلى ما سقى الغرب «6» نصف العشر. وفي كلّ عشر من الإبل شاتان، وفي كلّ عشرين أربع شياه. وفي كلّ أربعين من البقر بقرة، وفي كلّ ثلاثين من البقر تبيع جذع «7» أو جذعة، وفي كلّ أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة؛ فإنّها فريضة الله تعالى التي افترض على المؤمنين في الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له. وأنّه من أسلم من يهوديّ أو نصرانيّ إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام، فإنّه من المؤمنين: له مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيّته أو يهوديّته، فإنّه لا يردّ «8» عنها وعلى كلّ حالم: ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد دينار واف، أو عوضه ثيابا؛ فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منع ذلك فإنّه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا.
صلوات الله على محمّد والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته.
وعلى نحو ذلك كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه عهد(10/9)
مالك بن الأشتر النخعيّ «1» حين ولّاه مصر، وهو من العهود البليغة جمع فيه بين معالم التّقوى وسياسة الملك.
وهذه نسخته فيما ذكره ابن حمدون «2» في تذكرته:
هذا «3» ما أمر [به عبد الله] «4» عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحرث الأشتر؛ في عهده إليه، حين ولّاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه «5» التي لا يسعد أحد إلا باتّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنّه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزّه. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشّهوات، ويزعها عند الجمحات؛ فإنّ النفس لأمّارة بالسّوء إلّا ما رحم الله.
ثم اعلم يا مالك أنّي قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك: من عدل وجور، وأنّ الناس ينظرون «6» من أمورك [في مثل] «7» ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم. وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك؛ فإنّ الشّحّ بالنفس الانتصاف منها فيما أحبّت وكرهت. وأشعر قلبك بالرحمة للرّعيّة، والمحبّة لهم،(10/10)
واللّطف بهم؛ ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، وإمّا نظير لك في الخلق: يفرط منهم الزّلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ: فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه: فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولّاك. وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم؛ ولا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي «1» لك بنقمته؛ ولا غنى بك عن عفوه ورحمته؛ ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجّحن بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة «2» وجدت عنها مندوحة؛ ولا تقولنّ إنيّ امرؤ «3» آمر فأطاع: فإن ذلك إدغال في القلب، ومهلكة في الدّين، وتقرّب من الغير «4» . وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك، وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك؛ فإنّ ذلك يطامن إليك من طماحك ويكفّ عنك من غربك «5» ، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإيّاك ومساماة الله تعالى في عظمته، والتشبّه به في جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبّار، ويهين كلّ مختال.
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك وممّن لك فيه هوى من رعيّتك: فإنّك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله، أدحض حجّته وكان لله حربا حتّى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم [فإنّ الله سميع يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد] «6» .(10/11)
وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها «1» في العدل، وأجمعها لرضا الرّعيّة؛ فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة؛ وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء، وأقلّ معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف «2» ، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدّهر، من أهل الخاصّة؛ وإنما عمود الدّين، وجماع المسلمين، والعدّة للأعداء العامّة من الأمّة. فليكن صغوك لهم، وميلك معهم؛ وليكن أبعد رعيّتك منك، وأشنؤهم عندك، أطلبهم لمعايب الناس: فإنّ في الناس عيوبا الوالي أحقّ بسترها؛ فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر [لك] «3» والله يحكم على ما غاب عنك منها «4» . فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحبّ ستره من عيبك «5» .
أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كلّ وتر، وتغاب عن كلّ ما لا يضح لك؛ ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع: فإنّ الساعي غاشّ وإن تشبّه بالناصحين؛ ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزيّن لك الشّره بالجور: فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله.
إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شاركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظّلمة؛ وأنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل اصارهم وأوزارهم «6» : ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه؛ أولئك أخفّ عليك مؤونة، وأحسن(10/12)
لك معونة؛ وأحنى عليك عطفا، وأقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك [وحفلاتك] «1» ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم [لك] «2» بمرّ الحقّ، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصّدق، ثم رضهم على أن لا يطروك «3» ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله:
فإنّ كثرة الإطراء «4» تحدث الزّهوّ وتدني من الغرّة. ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان [في الإحسان] «5» وتدريبا لأهل الإساءة [على الإساءة] «6» :
وإنّك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد!
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد!
وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر، ... وللحلم أبقى للرّجال وأعود!
وعلى ذلك كتب أبو إسحاق الصابي عن «7» الخليفة «الطائع لله» إلى فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه، في جمادى الأولى سنة ستّ وستين وثلاثمائة.
وهذه نسخته:
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم [الإمام] «8» الطائع لله أمير المؤمنين [إلى فخر الدّولة أبي الحسن بن ركن الدّولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين] «9» حين عرف غناءه وبلاءه، واستصح دينه ويقينه، ورعى قديمه وحديثه، واستنجب عوده ونجاره. وأثنى عزّ الدولة أبو منصور بن معزّ الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين(10/13)
[أيده الله] «1» عليه، وأشار بالمزيد في الصّنيعة إليه؛ وأعلم أمير المؤمنين اقتداءه به في كلّ مذهب ذهب فيه من الخدمة، وغرض رمى إليه من النّصيحة؛ دخولا في زمرة الأولياء [المنصورة، وخروجا عن جماعة الأعداء المدحورة] «2» وتصرّفا على موجبات البيعة التي هي بعزّ الدولة أبي منصور منوطة، وعلى سائر من يتلوه ويتبعه مأخوذة «3» مشروطة؛ فقلّده الصلاة وأعمال الحرب، والمعاون «4» ، والأحداث، والخراج، الأعشار، والضيّاع، والجهبذة «5» ، والصّدقات، والجوالي «6» ، وسائر وجوه الجبايات [والعرض] «7» والعطاء، والنّفقة في الأولياء [والمظالم وأسواق الرقيق] «8» والعيار في دور الضرب والطّرز «9» والحسبة بكور همذان، وأستراباذ، والدّينور، وقرميسين، والإيغارين، و [أعمال] «10» أذربيجان، وأرّان، والسّحانين، وموقان. واثقا منه باستبقاء النعمة واستدامتها، والاستزادة بالشّكر منها، والتجنّب لغمطها وجحودها، والتنكّب لإيحاشها وتنفيرها، والتعمّد لما مكّن له الحظوة والزّلفى، وحرس عليه الأثرة والقربى؛ بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح، والولاء الصّريح، والغيب الأمين، والصّدر السليم، والمقاطعة لكل من قاطع العصبة، وفارق الجملة، والمواصلة لكلّ من حمى البيضة وأخلص النّيّة- والكون تحت ظلّ أمير المؤمنين وذمّته، ومع عزّ الدولة «11» أبي منصور وفي حوزته، والله جلّ اسمه يعرّف أمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض، وسداد الرأي فيما(10/14)
رفع وخفض؛ ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة، محجوبة عن موارد النّدامة؛ وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة، والجنّة الحصينة، والطّود الأرفع، والمعاذ الأمنع، والجانب الأعزّ، والملجأ الأحرز؛ وأن يستشعرها سرّا وجهرا، ويستعملها قولا وفعلا، ويتخذها ردءا دافعا «1» لنوائب القدر، وكهفا حاميا من حوادث الغير؛ فإنها أوجب الوسائل، وأقرب الذّرائع، وأعودها على العبد بمصالحه، وأدعاها إلى سبل «2» مناجحه، وأولاها بالاستمرار على هدايته، والنّجاة من غوايته؛ والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها، وتردي مردياتها؛ وفي آخرته حين تروّع رائعاتها وتخيف مخيفاتها. وأن يتأدّب بآداب الله في التواضع والإخبات «3» ، والسّكينة والوقار، وصدق اللهجة إذا نطق، وغضّ الطّرف إذا رمق؛ وكظم الغيظ إذا أحفظ «4» وضبط اللسان إذا أغضب «5» ؛ وكفّ اليد عن المآثم، وصون النفس عن المحارم. وأن يذكر الموت الذي هو نازل به، والموقف الذي هو صائر إليه، ويعلم أنه مسؤول عمّا اكتسب، مجزيّ بما ترّمك «6» واحتقب؛ ويتزوّد من هذا الممرّ، لذاك المقرّ، ويستكثر من أعمال الخير لتنفعه، ومن مساعي البرّ لتنقذه؛ ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها، ويزدجر عن السيّئات قبل أن يزجر عنها؛ ويبتديء بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيّته: فلا يبعثهم على ما يأتي ضدّه؛ ولا ينهاهم عمّا يقترف مثله، ويجعل ربّه رقيبا عليه في خلواته، ومروءته مانعة له من شهواته؛ فإنّ أحقّ من غلب سلطان الشّهوة، وأولى من صرع أعداء «7»(10/15)
الحميّة؛ من ملك أزمّة الأمور، واقتدر على سياسة الجمهور؛ وكان مطاعا فيما يرى، متّبعا فيما يشاء، يلي على الناس ولا يلون عليه، ويقتصّ منهم ولا يقتصّون منه؛ فإذا اطّلع الله منه على نقاء جيبه، وطهارة ذيله، وصحّة سريرته، واستقامة سيرته، أعانه على حفظ ما استحفظه، وأنهضه بثقل ما حمّله؛ وجعل له مخلصا من الشّبهة ومخرجا من الحيرة، فقد قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
«1» . وقال عز من قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
«2» . وقال: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
«3» إلى آي كثيرة حضّنا بها على أكرم الخلق، وأسلم الطّرق، فالسعيد من نصبها إزاء ناظره، والشقيّ من نبذها وراء ظهره؛ وأشقى منه من بعث عليها وهو صادف عنها، وأهاب إليها وهو بعيد منها، وله ولأمثاله يقول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«4» .
وأمره أن يتخذ كتاب الله إماما متّبعا، وطريقا موقّعا «5» ؛ ويكثر من تلاوته إذا خلا بفكره، ويملأ بتأمّله أرجاء صدره؛ فيذهب معه فيما أباح وحظر، ويقتدي به إذا نهى وأمر، ويستبين ببيانه إذا استغلقت دونه المعضلات، ويستضيء بمصابيحه إذا غمّ عليه في المشكلات؛ فإنه عروة الإسلام الوثقى، ومحجّته الوسطى، ودليله المقنع، وبرهانه المرشد «6» ، والكاشف لظلم الخطوب، والشافي من مرض القلوب، والهادي لمن ضلّ، والمتلافي لمن زلّ؛ فمن لهج «7» به فقد فاز وسلم، ومن لهي عنه فقد خاب وندم، قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ(10/16)
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
«1» .
وأمره أن يحافظ على الصلوات، ويدخل فيها في حقائق الأوقات؛ قائما على حدودها، متّبعا لرسومها؛ جامعا فيما بين نيّته ولفظه، متوقّيا لمطامح سهوه ولحظه؛ منقطعها إليها عن كلّ قاطع لها، مشغولا بها عن كلّ شاغل عنها؛ متثّبتا في ركوعها وسجودها؛ مستوفيا عدد مفروضها ومسنونها؛ موفّرا عليها ذهنه، صارفا إليها همّه؛ عالما بأنه واقف بين يدي خالقه ورازقه، ومحييه ومميته، ومثيبه ومعاقبه؛ لا تستتر «2» دونه خائنة الأعين وما تخفي الصّدور «3» . فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم، أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها، [ويستمع باستماعها] «4» ، ولا يتعدّى فيه مسائل الأبرار، ورغائب الأخيار: من استصفاح واستغفار، واستقالة واسترحام، واستدعاء لمصالح «5» الدّين والدنيا، وعوائد الآخرة والأولى؛ فقد قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً
«6» ، وقال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
«7» .
وأمره بالسّعي في أيّام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضّاحية، بعد التقدّم في فرشها وكسوتها؛ وجمع القوّام والمؤذّنين والمكبّرين فيها، واستسعاء الناس إليها، وحضّهم عليها؛ آخذين الأهبة،(10/17)
متنظّفين في البزّة؛ مؤدّين لفرائض الطّهارة، بالغين في ذلك أقصى الاستطاعة «1» ؛ معتقدين خشية الله وخيفته، مدّرعين تقواه ومراقبته؛ مكثرين من دعائه- عز وجلّ- وسؤاله، مصلّين على محمد رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ بقلوب على اليقين موقوفة، وهمم إلى الدّين مصروفة، وألسن بالتسبيح والتقديس فصيحة، وآمال في المغفرة والرحمة فسيحة، فإنّ هذه المصلّيات والمتعبّدات بيوت الله التي فضّلها، ومناسكه التي شرّفها؛ وفيها يتلى القرآن [ومنها ترتفع الأعمال؛ وبها يلوذ اللائذون] «2» ويعوذ العائذون؛ ويتعبّد المتعبّدون، ويتهجّد المتهجّدون، وحقيق على المسلمين أجمعين: من وال ومولّى عليه أن يصونوها ويعمروها، ويواصلوها ولا يهجروها. وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين ثم لنفسه على الرّسم الجاري فيها، قال الله تعالى في هذه الصلاة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
«3» . وقال في عمارة المساجد: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
«4» .
وأمره بأن يراعي «5» أحوال من يليه، من طبقات جند أمير المؤمنين ومواليه؛ ويطلق لهم الأرزاق، في وقت الوجوب والاستحقاق؛ وأن يحسن في معاملتهم؛ ويجمل في استخدامهم، ويتصرّف في سياستهم: بين رفق من غير ضعف، وخشونة من غير عنف؛ مثيبا لمحسنهم ما زاد بالإبانة في حسن الأثر، وسلم معها من دواعي الأشر؛ ومتغمّدا «6» لمسيئهم ما كان التغمّد له نافعا، وفيه ناجعا، فإن(10/18)
تكررت زلّاته، وتتابعت عثراته؛ تناوله من عقوبته بما يكون له مصلحا، ولغيره واعظا. وأن يختص أكابرهم وأماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في الملمّ «1» ، والإطلاع على بعض المهمّ؛ مستخلصا نخائل «2» قلوبهم بالبسط والإدناء، ومستشحذا بصائرهم بالإكرام والأحتفاء: فإنّ في مشاورة هذه الطبقة استدلالا على مواقع الصواب، وتحرّزا من غلط الاستبداد، وأخذا بمجامع الحزامة، وأمنا من مفارقة الاستقامة؛ وقد حضّ الله تعالى على الشّورى حيث قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
«3» .
وأمره بأن يعمد «4» لما يتصل بنواحيه من ثغور المسلمين، ورباطات المرابطين، ويقسم لها قسما وافرا من عنايته، ويصرف إليها طرفا بل شطرا من رعايته؛ ويختار لها أهل الجلد والشّدّة، وذوي البأس والنّجدة: ممن عجمته الخطوب، وعركته الحروب؛ واكتسب دربة بخدع المتناوبين «5» ، وتجربة بمكايد المتقارعين؛ وأن يستظهر بتكثيف عددهم، واختيار عددهم؛ وانتخاب خيلهم، وإستجادة أسلحتهم؛ غير مجمّر «6» بعثا إذا بعثه، ولا مستكرهه إذا وجّهه؛ بل يناوب بين رجاله مناوبة تريحهم ولا تملّهم؛ وترفّههم ولا تؤودهم: فإنّ في ذلك من فائدة الإجمام؛ والعدل في الاستخدام؛ وتنافس رجال النّوب فيما عاد عليهم بعز الظّفر والنّصر، وبعد الصيّت والذّكر، وإحراز النفع والأجر؛ ما يحقّ على الولاة أن يكونوا به عاملين «7» ، وللناس عليه حاملين. وأن يكرّر على أسماعهم، ويثبّت(10/19)
في قلوبهم؛ مواعيد الله لمن صابر ورابط، وسمح بالنفس وجاهد، من حيث لا يقدمون على تورّط غرّة، ولا يحجمون عن انتهاز فرصة؛ ولا ينكصون عن تورّد معركة، ولا يلقون بأيديهم إلى التّهلكة؛ فقد أخذ الله تعالى ذلك على خلقه، والمرامين عن دينه، وأن يزيح العلّة فيما يحتاج إليه من راتب نفقات هذه الثّغور وحادثها، وبناء حصونها ومعاقلها؛ واستطراق طرقها ومسالكها، وإفاضة الأقوات والعلوفات للمترتّبين فيها والمتردّدين إليها والحامين لها. وأن يبذل أمانه لمن طلبه، ويعرضه على من لم يطلبه. ويفي بالعهد إذا عاهد، وبالعقد إذا عاقد، غير مخفر ذمّة، ولا جارح أمانة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء فقال جلّ من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
«1» ونهى عن النّكث فقال عزّ من قائل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
«2» .
وأمره أن يعرض من في حبوس عمله على جرائرهم «3» [وإنعام النظر في جناياتهم وجرائمهم] «4» فمن كان إقراره واجبا أقرّه ومن كان إطلاقه سائغا أطلقه.
وأن ينظر في الشّرطة والأحداث نظر عدل وإنصاف؛ ويختار [لها من الولاة] «5» من يخاف الله تعالى ويتّقيه، ولا يحابي ولا يراقب «6» فيه، ويتقدّم إليهم بقمع الجهّال، وردع الضّلّال؛ وتتبّع الأشرار، وطلب الدّعّار؛ مستدلّين على أماكنهم؛ متوغّلين إلى مكامنهم؛ متولّجين عليهم في مظانّهم؛ متوثّقين ممن يجدونه منهم، منفذين أحكام الله تعالى فيهم بحسب الذي يتبيّن من أمرهم، ويتّضح من فعلهم؛ في كبيرة ارتكبوها، وعظيمة احتقبوها؛ ومهجة أفاظوها «7» واستهلكوها، وحرمة أباحوها وانتهكوها: فمن استحقّ حدّا من حدود الله المعلومة أقاموه عليه غير مخفّفين منه،(10/20)
وأحلّوه به غير مقصّرين عنه، بعد أن لا يكون عليهم في الذي يأتون به حجّة، ولا يعترضهم في وجوبه شبهة: فإنّ الواجب «1» في الحدود أن تقام بالبيّنات، وأن تدرأ بالشّبهات؛ فأولى ما توخّاه رعاة الرّعايا فيها أن لا يقدموا عليها مع نقصان، ولا يتوقّفوا عنها مع قيام دليل وبرهان. ومن وجب عليه القتل احتاط عليه بما يحتاط به على مثله: من الحبس الحصين، والتوثّق الشديد؛ وكتب إلى أمير المؤمنين بخبره، وشرح جنايته، وثبوتها بإقرار يكون منه، أو بشهادة تقع عليه، ولينتظر من جوابه ما يكون عمله بحسبه، فإنّ أمير المؤمنين لا يطلق سفك دم مسلم أو معاهد إلا ما أحاط به علما، وأتقنه فهما، وكان ما يمضيه فيه عن بصيرة لا يخالطها شكّ، ولا يشوبها ريب. ومن ألمّ بصغيرة من الصغائر، ويسيرة من الجرائر، من حيث لم يعرف له مثلها، ولم تتقدّم منه أختها، وعظه وزجره، ونهاه وحذّره؛ واستتابه وأقاله، ما لم يكن عليه خصم في ذلك يطالب بقصاص منه، وجزاء له؛ فإن عاد تناوله [من] التقويم والتهذيب، والتّعزير «2» والتأديب؛ بما يرى أن قد كفى فيما اجترم، ووفى بما قدّم؛ فقد قال تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«3» وأمره أن يعطّل ما في أعماله من الحانات والمواخير، ويطهّرها من القبائح والمناكير؛ ويمنع من تجمّع أهل الخنا فيها وتألّف شملهم بها: فإنه شمل يصلحه التّشتيت، وجمع يحفظه التفريق؛ وما زالت هذه المواطن الذّميمة والمطارح الدّنيئة، داعية لمن يأوي إليها، ويعكف عليها؛ إلى ترك الصلوات؛ [وإهمال المفترضات] «4» وركوب المنكرات، واقتراف المحظورات؛ وهي بيوت الشيطان التي في عمارتها لله تعالى مغضبة، وفي إخرابها للخير مجلبة؛ والله تعالى يقول لنا(10/21)
معشر المؤمنين: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
«1» ويقول عزّ من قائل لغيرنا من المذمومين: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
«2» .
وأمره أن يولّي الحماية في هذه الأعمال، أهل الكفاية والغناء من الرجال؛ وأن يضمّ إليهم كلّ من خفّ ركابه، وأسرع عند الصّريخ جوابه، مرتّبا لهم في المسالح «3» ، وسادّا بهم ثغر المسالك؛ وأن يوصيهم بالتيقّظ؛ ويأخذهم بالتحفّظ، ويزيح عللهم في علوفة خيلهم؛ والمقرّر من أزوادهم وميرهم؛ حتى لا تثقل لهم على البلاد وطأة، ولا تدعوهم إلى تحيّفهم وثلمهم حاجة؛ وأن يحوطوا السابلة بادئة وعائدة، ويتداركوا «4» القوافل صادرة وواردة؛ ويحرسوا الطّرق ليلا ونهارا، وينفضوها «5» رواحا وإبكارا؛ وينصبوا لأهل العيث الأرصاد، ويتكمّنوا لهم بكلّ واد؛ ويتفرّقوا عليهم حيث يكون التفرّق مضيّقا لفضائهم؛ ومؤدّيا إلى انفضاضهم؛ ويجتمعوا حيث يكون الاجتماع مطفئا لجمرتهم، وصادعا لمروتهم؛ وأن لا يخلوا هذه السّبل من حماة لها وسيّارة فيها: يتردّدون في جواديها «6» ، ويتعسّفون في عواديها «7» ، حتى تكون الدماء محقونة، والأموال مصونة، والفتن محسومة والغارات مأمونة؛ ومن حصل في أيديهم من لصّ خاتل، وصعلوك خارب؛ ومخيف لسبيل، ومنتهك لحريم؛ امتثل فيه أمر أمير المؤمنين الموافق لقول الله عزّ وجل: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي(10/22)
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ
«1» .
وأمره بوضع الرّصد على ما يجتاز في أعماله من أبّاق العبيد، والاحتياط عليهم وعلى ما «2» يكون معهم، والبحث عن الأماكن التي فارقوها، والطّرق التي استطرقوها؛ ومواليهم الذين أبقوا منهم، ونشزوا عنهم؛ وأن يردّوهم عليهم قهرا، ويعيدوهم إليهم صغرا؛ وأن ينشدوا الضالّة بما أمكن أن تنشد، ويحفظوها على ربّها بما جاز أن تحفظ، ويتجنّبوا الامتطاء لظهورها والانتفاع بأوبارها وألبانها مما يجزّ ويحلب؛ وأن يعرّفوا اللّقطة ويتّبعوا أثرها، ويشيعوا خبرها. فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلّمت إليه، ولم يعترض فيها عليه؛ فإنّ الله عزّ وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«3» . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ضالّة المؤمن حرق النّار» .
وأمره أن يوصي عمّاله بالشدّ على أيدي الحكّام، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام؛ وأن يحضروا مجالسهم حضور الموقّرين لها، الذابّين عنها، المقيمين لرسوم الهيبة وحدود الطاعة فيها؛ ومن خرج عن ذلك من ذي عقل سخيف، وحلم ضعيف، نالوه بما يردعه، وأحلّوا به ما يزعه؛ ومتى تقاعس متقاعس عن حضور مع خصم يستدعيه، وأمر يوجّه الحاكم إليه فيه؛ أو التوى ملتو بحقّ يحصل عليه، ودين يستقرّ في ذمّته، قادوه إلى ذلك بأزمّة الصّغار، وخزائم الاضطرار؛ وأن يحبسوا ويطلقوا بأقوالهم، ويثبتوا الأيدي في الأملاك والفروج وينزعوها بقضاياهم؛ فإنّهم أمناء الله في فصل ما يفصلون وبتّ ما يبتّون، وعن كتابه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم يوردون [ويصدرون] «4» وقد قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي(10/23)
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ
«1» . وأن يتوخّى بمثل هذه المعاملة «2» عمّال الخراج في استيفاء حقوق ما استعملوا عليه، واستنطاف «3» بقاياهم «4» فيه، والرّياضة لمن تسوء طاعته من معامليهم، وإحضارهم طائعين أو كارهين بين أيديهم؛ فمن آداب الله تعالى للعبد التي يحقّ عليه أن يتخذها [أدبا] «5» ويجعلها إلى الرضا عنه سببا، قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
«6» .
وأمره أن يجلس للرعيّة جلوسا عامّا، وينظر في مطالبها «7» نظرا تامّا؛ ويساوي في الحق بين خاصّها وعامّها، ويوازي في المجالس بين عزيزها وذليلها؛ وينصف المظلوم من ظالمه، والمغصوب من غاصبه، بعد الفحص والتأمّل والبحث والتّبين، حتّى لا يحكم إلّا بعدل، ولا ينطق إلّا بفصل؛ ولا يثبّت يدا إلّا فيما وجب [تثبيتها فيه، ولا يقبضها إلا عمّا وجب] «8» قبضها عنه؛ وأن يسهّل الإذن لجماعتهم، ويرفع الحجاب بينه وبينهم؛ ويوليهم من حصانة الكنف، ولين المنعطف، والاشتمال والعناية، والصّون والرّعاية، ما تتعادل فيه أقسامهم، وتتوازن «9» منه أقساطهم؛ ولا يصل المكين «10» منهم إلى استضامة من تأخّر عنه، ولا ذو السلطان إلى هضيمة من حلّ دونه. وأن يدعوهم إلى أحسن العادات [والخلائق] «11» ويحضّهم على أجمل «12» المذاهب والطرائق؛ ويحمل عنهم(10/24)
كلّه، ويمدّ عليهم ظلّه؛ ولا يسومهم خسفا «1» ، ولا يلحق بهم حيفا؛ ولا يكلّفهم شططا، ولا يجشّمهم مضلعا؛ ولا يثلم لهم معيشة، ولا يداخلهم في جريمة «2» ؛ ولا يأخذ بريئا منهم بسقيم، ولا حاضرا بعديم؛ فإنّ الله جل وعز نهى أن تزر وازرة وزر أخرى، وجعل كلّ نفس رهينة بمكسبها بريئة من مكاسب غيرها. ويرفع عن هذه الرعيّة ما عسى أن يكون سنّ عليها من سنّة ظالمة، وسلك بها من محجّة جائرة، ويستقري آثار الولاة قبله عليها، فيما ازجوه من خير أو شرّ إليها: فيقرّ من ذلك ما طاب وحسن، ويزيل ما خبث وقبح: فإنّ من يغرس الخير يحظى بمعسول ثمره، ومن يزرع الشّرّ يصلى بممرور ريعه؛ والله تعالى يقول: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
«3» .
وأمره أن يصون أموال الخراج وأثمان الغلّات، ووجوه الجبايات، موفّرا ويزيد ذلك مثمّرا، بما يستعمله من الإنصاف لأهلها، وإجرائهم على صحيح الرّسوم فيها: فإنه مال الله الذي به قوّة عباده، وحماية بلاده، ودرور حلبه، واتصال مدده؛ وبه يحاط الحريم، ويدفع العظيم؛ ويحمى الذّمار، وتذاد الأشرار. وأن يجعل افتتاحه إيّاه بحسب [إدراك] «4» أصنافه، وعند حضور مواقيته وأحيانه؛ غير مستسلف شيئا قبلها، ولا مؤخّر لها عنها؛ وأن يخصّ أهل الطاعة والسلامة بالتّرفيه لهم، وأهل الاستصعاب والامتناع بالتشدّد «5» عليهم: لئلا يقع إرهاق لمذعن، أو إهمال لطامع. وعلى المتولّي لذلك أن يضع كلّا من الأمرين موضعه، ويوقعه موقعه؛ متجنّبا إحلال الغلظة بمن لا يستحقّها، وإعطاء الفسحة لمن ليس من(10/25)
أهلها؛ والله تعالى يقول: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى
«1» .
وأمره بأن يتخيّر عمّاله على الأعشار، والخراج، والضيّاع، والجهبذة، والصّدقات، والجوالي، من أهل الظّلف «2» والنّزاهة، والضّبط والصيّانة، والجزالة والشّهامة؛ وأن يستظهر مع ذلك عليهم بوصيّة يوعيها أسماعهم «3» ، وعهود يقلّدها أعناقهم «4» ؛ بأن لا يضيّعوا «5» حقّا، ولا يأكلوا «6» سحتا؛ ولا يستعملوا «7» ظلما، ولا يقارفوا غشما. وأن يقيموا العمارات، ويحتاطوا [على الغلّات] «8» ويتحرّزوا من ترك حقّ لازم أو تعطيل رسم عادل؛ مؤدّين في جميع ذلك الأمانة، مجتنبين للخيانة. وأن يأخذوا جهابذتهم باستيفاء وزن المال على تمامه، واستجادة نقده على عياره؛ واستعمال الصّحّة في قبض ما يقبضون، وإطلاق ما يطلقون. وأن يوعزوا إلى سعاة الصّدقات بأخذ الفرائض من سائمة مواشي المسلمين دون عاملتها، وكذلك الواجب فيها؛ وأن لا يجمعوا فيها متفرّقا ولا يفرّقوا مجتمعا، ولا يدخلوا فيها خارجا عنها، ولا يضيفوا إليها ما ليس منها: من فحل إبل أو أكولة «9» راع، أو عقيلة مال؛ فإذا اجتبوها على حقّها، واستوفوها على رسمها، أخرجوها في سبيلها، وقسّموها على أهلها الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، إلّا المؤلّفة قلوبهم الذين «10» سقط سهمهم، فإنّ الله تعالى يقول: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ(10/26)
اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
«1» . وإلى جباة [جماجم] «2» أهل الذّمّة أن يأخذوا منهم الجزية في المحرّم من كل سنة [بحسب] «3» منازلهم في الأحوال، وذات أيديهم في الأموال؛ وعلى الطّبقات المطبقة فيها والحدود [المحدودة] «4» المعهودة لها؛ وأن لا يأخذوها من النساء، ولا ممن لم يبلغ الحلم من الرجال؛ ولا من ذي سنّ عالية، ولا ذي علّة بادية؛ ولا فقير معدم، ولا مترهّب متبتّل؛ وأن يراعي جماعة هؤلاء العمّال مراعاة يسرّها ويظهرها، ويلاحظهم ملاحظة يخفيها ويبديها: لئلّا يزولوا عن الحقّ الواجب، أو يعدلوا عن السّنن اللّاحب «5» ؛ فقد قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا
«6» .
وأمره أن يندب لعرض الرجال وإعطائهم، وحفظ جراياتهم وأوقات إطعامهم، من يعرفه بالثّقة في متصرّفه، والأمانة فيما يجري على يده، والبعد عن الإسفاف إلى الدّنيّة، والاتّباع للدناءة؛ وأن يبعثه على ضبط [حلى] «7» الرجال وشيات الخيل، وتجديد العرض بعد الاستحقاق، وإيقاع الاحتياط في الإنفاق؛ فمن صحّ عرضه ولم يبق في نفسه شيء منه: من شكّ يعرض له، أو ريبة يتوهّمها، أطلق أموالهم موفورة، وجعلها في أيديهم غير مثلومة؛ وأن يردّ على بيت المال أرزاق من سقط بالوفاة والإخلال، ناسبا ذلك إلى جهته، وموردا له على حقيقته. وأن يطالب الرجال بإحضار الخيل المختارة، والآلات «8» المستكملة المستعملة على ما توجبه مبالغ أرزاقهم «9» ، وحسب منازلهم ومراتبهم؛ فإن أخّر «10» أحدهم شيئا من ذلك قاصّه به من رزقه، وأغرمه مثل قيمته، فإنّ المقصّر فيه خائن(10/27)
لأمير المؤمنين، ومخالف لرب العالمين؛ إذ يقول الله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
«1» .
وأمره أن يعتمد في أسواق الرقيق ودور الضرّب والحسبة والطّرز، على من تجتمع فيه آلات هذه الولايات: من ثقة ودراية «2» ، وعلم وكفاية، ومعرفة ودراية؛ وتجربة وحنكة، وحصافة ومسكة؛ فإنها أحوال تضارع الحكم وتناسبه، وتدانيه وتقاربه. وأن يتقدّم إلى ولاة أسواق الرقيق بالتحفّظ فيمن يطلقون بيعه، ويمضون أمره؛ والتحرّز من وقوع تجوّز «3» فيه، وإهمال له؛ إذ كان ذلك عائدا بتحصين الفروج، وتطهير الأنساب. وأن يبعدوا «4» عنه أهل الرّيبة، ويقرّبوا «5» أهل العفّة؛ ولا يمضوا بيعا على شبهة، ولا عقدا على تهمة. وإلى ولاة العيار، بتخليص عين الدّرهم والدينار: ليكونا مضروبين على البراءة من الغشّ، والنّزاهة من المشّ «6» ؛ وبحسب الإمام «7» ، المقرّر بمدينة السّلام؛ وحراسة السّكك من أن تتداولها الأيدي المدغلة، وتتناقلها الجهات الظّنينة «8» ؛ وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما يضرب منها ذهبا وفضّة، وإجراء ذلك على الرّسم والسنّة. وإلى ولاة الطّرز بأن يجروا الاستعمال في جميع المناسج على أتم النّيقة «9» ، وأسلم الطّريقة؛ وأحكم الصّنعة، وأفضل الصّحّة؛ وأن يثبتوا اسم أمير المؤمنين على طرز الكسا، والفرش والأعلام والبنود. وإلى ولاة الحسبة بتصفّح أحوال العوامّ في حرفهم ومتاجرهم،(10/28)
ومجتمع أسواقهم ومعاملاتهم؛ وأن يعايروا الموازين والمكاييل، ويفرزوها على التعديل والتكميل؛ ومن اطّلعوا منه على حيلة أو تلبيس، أو غيلة أو تدليس؛ أو بخس فيما يوفيه، أو استفضال فيما يستوفيه، نالوه بغليظ العقوبة وعظيمها، وخصّوه بوجيعها وأليمها؛ واقفين به في ذلك عند الحدّ الذي يرونه لذنبه مجازيا، وفي تأديبه كافيا فقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
«1» .
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك؛ وقد وقفك به على سواء السبيل، وأرشدك فيه إلى واضح الدّليل؛ وأوسعك تعليما وتحكيما، وأقنعك تعريفا [وتفهيما] «2» ولم يألك جهدا فيما عصمك وعصم على يدك، ولم يدّخرك ممكنا فيما أصلح بك وأصلحك؛ ولا ترك لك عذرا في غلط تغلطه، ولا طريقا إلى متورّط تتورّطه؛ بالغا بك في الأوامر والزّواجر إلى حيث يلزم الأئمة أن يندبوا الناس إليه، ويحثّوهم عليه؛ مقيما لك على منجيات المسالك، صارفا بك عن مرديات المهالك؛ مريدا فيك ما يسلّمك في دينك ودنياك، ويعود بالحظّ عليك في آخرتك وأولاك؛ فإن اعتدلت وعدلت فقد فزت وغنمت، وإن تجانفت واعوججت فقد خسرت وندمت؛ والأولى بك عند أمير المؤمنين مع مغرسك الزّاكي، ومنبتك النامي، وعودك الأنجب، وعنصرك الأطيب، أن تكون لظنّه بك «3» محقّقا، ولمخيلته فيك مصدّقا؛ وأن تستزيد بالأثر الجميل قربا [من رب العالمين] «4» وثوابا يوم الدين؛ وزلفى عند أمير المؤمنين، وثناء حسنا من المسلمين؛ فخذ ما نبذ إليك أمير المؤمنين من معاذيره، وأمسك بيدك على ما أعطى من مواثيقه؛ واجعل عهده [هذا] «5» مثالا تحتذيه، وإماما تقتفيه؛ واستعن بالله يعنك،(10/29)
واستهده يهدك، وأخلص إليه في طاعته، يخلص لك الحظّ من معونته؛ ومهما أشكل عليك من خطب، أو أعضل عليك من صعب؛ أو بهرك من باهر، أو بهظك من باهظ، فاكتب إلى أمير المؤمنين به منهيا، وكن إلى ما يرد [من جوابه] «1» عليك منتهيا؛ إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
[وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وستين وثلاثمائة] «2» .
وعلى هذا الأسلوب كتب أمين الدين أبو سعيد، العلاء بن وهب بن موصلايا «3» عن القائم بأمر الله «4» عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين «5» ، بسلطنة الأندلس وبلاد المغرب، بعد العشرين والأربعمائة، فيما رأيته في ترسّل ابن موصلايا المذكور.
وهذه نسخته بعد البسملة الشريفة:
هذا ما عهد عبد الله ووليّه، عبد الله القائم بأمر الله أمير المؤمنين، إلى فلان حين انتهى إليه ما هو عليه من ادّراع جلابيب الرّشاد، في الإصدار والإيراد؛ واتّباع سنن من أبدى وأعاد، فيما يجمع خير العاجلة والمعاد؛ والتخصيص من حميد الأنحاء والمذاهب، بما يستمدّ منه أصناف الآلاء والمواهب؛ والتحلّي من(10/30)
السّداد الكامل، بما فاز فيه بامتطاء الغارب «1» من الجمال والكاهل «2» ؛ واتّضح ما هو متشبّث به من صحّة الدّين واليقين، والمواظبة من اكتساب رضا الله تعالى على ما هو أقوى الظّهير والمعين؛ في ضمن ما طوى عليه ضلوعه، وأدام لهجه به وولوعه: من موالاة لأمير المؤمنين يدين الله تعالى بها، ويرجو النجاة من كل مخوف باستحكام سعيها؛ ومشايعة لدولته ساوى فيها بين ما أظهر وأسرّ، وأمّل في اجتناء ثمرها كلّ ما أبهج وسرّ؛ فولّاه الصّلاة بأعمال المغرب، والمعاون، والأحداث»
، والخراج، والضيّاع، والأعشار، والجهبذة، والصّدقات، والجوالي، وسائر وجوه الجبايات، والعرض، والعطاء، والنّفقة في الأولياء، والمظالم، وأسواق الرقيق، والعيار في دور الضّرب، والطّرز، والحسبة، ببلاد كذا وكذا: سكونا إلى استقلاله بأعباء ما استكفاه إيّاه، واستقباله النعمة عليه في ذلك بكلّ ما ينشر ذكره ويطيب ريّاه؛ وثقة بكونه للصّنيعة أهلا، وبأفياء الطاعة الإماميّة مستظلّا؛ وتوفرة على ما يزيده بحضرة أمير المؤمنين حظوة تردّ باع الخطوب عنه قصيرا، وتمدّ مقاصده من التوفيق بما يضحى له في كلّ حالة نصيرا؛ وعلما بما في اصطناعه من مصلحة تستنير أهلّتها، وتستثير من شبه الغيّ شواهدها وأدلّتها؛ والله تعالى يصل مرامي أمير المؤمنين بالإصابة، ويعينه على ما يقرّ كلّ أمريء في حقّه ويحلّه نصابه؛ ويحسن له الخطرة في كلّ ما يغدو له ممضيا، ولمطايا الاجتهاد في فعله منضيا؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب.
وأمره باعتماد تقوى الله تعالى في الإعلان والإسرار، واعتقاد الواجب من الإذعان بفضلها والإقرار؛ وأن يأوي منها إلى أمنع المعاقل وأحصنها، ويلوي عنان(10/31)
الهدى فيها إلى أجمل المقاصد وأحسنها؛ ويجعلها عمدته يوم تعدم الأنصار، وتشخص الأبصار: ليجتني من ثمرها ما يقيه مصارع الخجل، ويجتلي من مطالعها ما يؤمّنه من طوارق الوجل؛ ويرد بها من رضا الله تعالى أصفى المشارب، ويجد فيها من ضوالّ المنى أنفس المواهب: فإنها أبقى الزّاد، وأدعى في كلّ أمر إلى وري الزّناد؛ وقد خصّ الله بها المؤمنين من عباده، وحضّ منها على ما هو أفضل عدّة المرء وعتاده؛ فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
«1» .
وأمره أن يأتمّ بكتاب الله تعالى مستضيئا بمصباحه، مستضيما لسلطان الغيّ بالوقوف عند محظوره ومباحه؛ ويقصد الاستبصار بمواعظه وحكمه، والاستدرار لصوب التوفيق في الرّجوع إلى متقنه ومحكمه؛ ويجعله أميرا على هواه مطاعا، وسميرا لا يرى أن يكشف عنه قناعا؛ ودليلا إلى النّجاة من كلّ ما يخاف أثامه، وسبيلا إلى الفوز في اليوم الذي يسفر عن فصل الحساب لثامه؛ ويتحقّق موقع الحظّ في إدامة درسه، وصلة يومه في التأمّل بأمسه؛ فإنه يبدي طريق الرّشد لكل مبدي في العمل به معيد: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
«2» .
وأمره أن يحافظ على الصّلوات قائما بشروطها وحدودها، وشائما «3» بروق التوفيق في أداء فروضها وحقوقها؛ ومسارعا إليها في أوقاتها بنيّة عائفة مناهل الكدر والرّنق «4» ، عارفة بما في إخلاصها من نصرة الهدى وطاعة الحقّ؛ وموفّرا عليها من ذهنه، ما الحظّ كامن في طيّه وضمنه؛ وموفّيا لها من الرّكوع والسّجود، ما الرّشاد فيه صادق الدلائل والشّهود؛ متجنّبا أن يلهيه عنها من هواجس الأفكار،(10/32)
ووساوس القلب العون منها والأبكار؛ ما يقف فيه موقف المقصّر الغالط، وينزل فيه منزلة الجاحد للنّعم الغامط؛ وقد أمر الله تعالى بها وفرضها على المؤمنين وأوجبها وحثّ من إقامتها، على ما يفضي إلى صلاح المقاصد واستقامتها؛ فقال عزّ من قائل: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً
«1» .
وأمره بالسّعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضاحية؛ بعد أن يتقدّم في عمارتها، وإعداد الكسوة لها؛ بما يؤدّي إلى كمال حلاها، ويحظي من حسن الذكر بأعذب الموارد وأحلاها؛ ويوعز بالاستكثار من المكبّرين فيها والقوّام، وترتيب المصابيح العائدة على شمل جمالها بالاتّساق والانتظام: فإنها بيوت الله تعالى التي تتلى بها آياته، وتعلى فيها أعلام الشّرع وراياته. وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين، ولوليّ عهده العدّة للدّين؛ أبي القاسم عبد الله بن محمد ابن أمير المؤمنين «2» ، أدام الله تعالى به الإمتاع، وأحسن عن ساحته الدّفاع؛ ثم لنفسه جاريا في ذلك على ما ألف من مثله، وسالكا منه أقوم مسالك الاهتداء وسبله؛ وقد بيّن الله تعالى ما في عمارتها من دلائل الإيمان، والفوز بما يعطي من سخط الله تعالى أوثق الأمان، في قوله سبحانه: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
«3» . وقال في الحثّ على السعي إلى الجوامع التي يذكر فيها اسمه، ويظهر عليها منار الإسلام ورسمه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ
«4» .(10/33)
وأمره أن يعتمد في إخراج الزكاة ما أمر الله تعالى به، وهدى منه إلى أرشد فعل وأصوبه؛ ويقوم بذلك القيام الذي يحظيه بجميل الذّكر، وجزيل الأجر، ويشهد له بزكاء المغرس وطيب النّجر «1» ؛ ويقصد في أداء الواجب منه ما يصل أمسه في التوفيق بيومه، ويطلق الألسنة بحمده ويكفّها عن لومه، متجنّبا من إخلال بما نصّ عليه في هذا الباب، أو إهمال فيه لما يليق بذوي الدّيانة وأولي الألباب؛ ومتوخّيا في المسارعة إليه ما يتطهّر به من الأدناس، ويتوفّر به حسن الأحدوثة عنه بين الناس؛ فقد جعل الله تعالى الزكاة من الفروض التي لا سبيل إلى المحيد عنها، ولا دليل في الفوز أوفى منها؛ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذها من أمّته، وأبان عن كونها مما يجتنى كلّ مرغوب فيه من ثمرته؛ ووصل الأمر له في ذلك بما يوجب فضل المسابقة إلى قبوله: لما فيه من الحظّ الكامل في استنارة غرره وحجوله، في قوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«2» .
وأمره أن يهذّب من الدّنس خلاله، ويصل بأقواله في الخير أفعاله؛ ويمتنع من تلبية داعي الهوى المضلّ، ويتّبع سنن المتفيّء بالهدى المستظلّ؛ ويقبض يده عن كل محرّم توثق أشراكه وتوبق غوائله، وتؤذن بسوء المنقلب شواهده ودلائله، ويجعل له من نهاره رقيبا على نفسه يصونها عن مراتع الغيّ ومطارحه، وأمينا يصدّ عن مسارب الإثم ومسارحه؛ فإنّها لا تزال أمّارة بالسّوء إن لم تقد إلى جدد الرّشد، وتقم لها سوق من الوعظ يبلغ فيها أقصى الغاية والأمد؛ فالسعيد من أضحى لها عند سورة الغضب وازعا، وأنحى عليها بلوم يغدو معه عن كلّ ما يسخط الله تعالى نازعا، وأن يتنزّه عن النّهي عمّا هو له مرتكب، والأمر بما هو له مجتنب: إذ كان ذلك بالهجنة حاليا، وبين المرء وبين مقاصد هديه حائلا، قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ(10/34)
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«1» .
وأمره أن يضفي على من قبله من أولياء أمير المؤمنين وجنوده، أصناف جلابيب الإحسان، وبروده؛ ويخصّهم من جزيل حبائه بما يصلون منه إلى أبعد المدى، ويملكون به نواصي الآمال ويدركون قواصي المنى؛ ويميّز من أدّى واجبه في الطاعة وفرضه وأبدى صفحته في الغناء بين يديه بمزيد من الاشتمال يرهف بصيرة كلّ منهم في التوفّر على ما وافقه، ووصل بأنفه في التقرّب إليه سابقه، ويدعو المقصّر إلى الاستبصار في اعتماد ما يلحق فيه رتبة من فازت في الحظوة قداحه، وفاتت الوصف غرره في الزّلفة وأوضاحه: ليمرح به في الاغتذاء بلبان النّعمة، كما انتهج جدده في إحسان الخدمة، وأن يرجع إلى آراء ذوي الحنكة منهم مستضيئا بها مسترشدا، وطالبا ضوالّ الرأي الثاقب ومنشدا؛ وقد بيّن الله فضل المشورة التي جعلها للألباب لقاحا، وفي حنادس «2» الشّكوك مصباحا؛ حيث أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها، وبعثه منها على أسدّ الأفعال وأصوبها؛ فقال تعالى:
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
«3» .
وأمره أن يعدل في الرّعايا قبله، ويحلّهم من الأمن هضابه وقلله، ويمنحهم من الاشتمال، ما يحمي به أمورهم من الاختلال، ويحوي به من طيب الذّكر بحسب ما اكتسب من رضيّ الأنحاء والخلال؛ ويضفي على المسلم منهم والمعاهد من ظلّ رعايته ما يساوي فيه بين القويّ والضّعيف، ويلحق التليد منهم بالطّريف: ليكون الكلّ وادعين في كنف الصّون، راجعين إلى الله تعالى في إمدادهم بالتوفيق وحسن الطاعة والعون. وأن ينظر في مظالمهم نظرا ينصر الحقّ فيه، وينشر علم العدل في مطاويه، وينصف معه بعضهم من بعض، وينصب «4» به(10/35)
لهم من اهتمامه أسنى قسم وحظّ؛ ملينا لهم في ذلك جانبه، ومبينا ما يظلّ به كاسب الأجر وجالبه؛ ويزيل عنهم ما شرعه ظلمة الغلمان بتلك الأعمال، ويديل من تلك الحال باستئناف ما يوطؤهم كواهل الآمال؛ جامعا لهم بين العدل والإحسان، وجاعلا أمر الله تعالى في ذلك متلقّى بالطاعة الواضحة الدليل والبرهان؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«1» .
وأمره بأن يكون بالمعروف آمرا، وعن المنكر زاجرا، ولله تعالى في إحياء الحقّ وإماتة الباطل متاجرا، وأن يشدّ من الساعين في ذلك والدّاعين إليه، ويعدّ القيام بهذه الحال من أفضل ما يتقرّب به إلى الله تعالى يوم العرض عليه. ويتقدّم بتعطيل ما في أعماله من المواخير ودحضها، وإزالة آثارها ومحوها، فإنها مواطن بالمخازي آهلة، ومن مشارب المعاصي ناهلة؛ قد أسّست على غير التّقوى مبانيها، وأخليت من كل ما يرضي الله تعالى مغانيها؛ وقد أبان الله تعالى عن فضل الطائفة التي ظلّت بالمعروف آمرة وعن المنكر ناهية، وضنّت بما ترى فيه عن مقاصد الخير ذاهلة لاهية، فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
«2» .
وأمره أن يرتّب لحماية الطّرقات من يجمع إلى الصّرامة والشّهامة، سلوك محاجّ الرّشاد والاستقامة، ويجعل التعفّف عن ذميم المراتع شاهدا بتوفيق الله إيّاه، وعائدا عليه بما تحمد مغبّته وعقباه، ويأمر بحفظ السابلة، واختصاصهم بالحراسة السابغة الشاملة، وحماية القوافل واردة وصادرة، واعتمادها بما تغدو به إلى السلامة مفضية صائرة: لتحرس الدماء مما يبيحها ويريقها، والأموال مما يقصد فيه سبيل الإضاعة وطريقها؛ وأن يخوّفهم نتائج التقصير، ويعرّفهم مناهج التّبصير؛ وأنّ عليهم رقباء يلاحظون أمورهم ويوضّحونها، ليكون ذلك داعيا إلى(10/36)
التحوّط والتحرّز، واعتماد الميل إلى جانب الصّحّة والتحيّز؛ ويوجب لهم من بعد ما يكفي أمثالهم مثله، ويكفّ أيديهم عن الامتداد إلى ما تذمّ سبله؛ فإن أخلّ أحدهم بما حدّ له، أو مزج بالسّوء عمله، جزاه بحسب ذلك وموجبه، قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
«1» .
وأمره أن يتقدّم إلى نوّابه في الأعمال بوضع الرّصد على من يجتاز بها من العبيد الأبّاق، والاستظهار عليهم بحسب العدل والاستحقاق؛ واستعلام أماكنهم التي فصلوا عنها، ومواطنهم التي بعدوا منها؛ فإذا وضحت أحوالهم وبانت، وانحسمت الشّكوك في بابهم وزالت، أعادوهم إلى مواليهم أبوا أم شاءوا، وأصفوا نيّاتهم في الرجوع إليهم أم شابوا. وأن يقصدوا إنشاد الضّوالّ، ويجتهدوا من إظهار أمرها بما يغدو جمال الذّكر به في الظّلال، ويتجنّبوا أن يمتطوا ظهورها بحال، أو يمدّوا أيديهم إلى منافعها في إسرار وإعلان؛ حتّى إذا حضر أربابها سلّمت إليهم بالنّعوت والأوصاف، وأجري الأمر في ذلك على ما يضحى به علم العدل عالي المنار حالي الأعطاف؛ فقد أمر الله تعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، وهدى من ذلك إلى أوضح محاجّ الصّحّة وسبلها، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
«2» .
وأمره أن يختار للنظر في المعاون والأجلاب من يرجع إلى دين يحميه من مهاوي الزّلل وصلف «3» عن مدّ اليد إلى أسباب المطامع، وكلف بما يعود على ما كلّف إيّاه بصلاح مشرق المطالع، ومعرفة بما وكل إليه كافية وافية، ولما يوجب الاستزادة «4» له ماحية نافية، ويوعز إليهم بالتشمير في طلب الدّعّار، من جميع الأماكن والأقطار، وحسم موادّ العار في بابهم والمضار. وأن يمضوا فيهم حكم(10/37)
الله بحسب مقاصدهم في الضّلال، وتجرى أمورهم على قانون الشرع المنير في حنادس الظلام، ممتنعين أن يراقبوا من لم يراقب الله تعالى في فعله، ويجانبوا الصواب بقبول الشّفاعة فيمن شهدت آثاره بذميم سبله، وإذا وقع الظّفر بجان قد كشف في الغيّ قناعه، وأظهرت مساعيه إباه من إجابة داعي الرّشد وامتناعه؛ أقيم حدّ الله تعالى فيه من غير تعدّ للواجب، ولا تعرّ من ملابس السالكين للجدد اللّاحب، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«1» .
وأمره أن يوعز إلى أصحاب المعاون، بأن يشدّوا من القضاة والحكّام، ويجدّوا في إجراء أمورهم على أوفى شروط الضبّط والإقدام، ويأمرهم بحضور مجالسهم لتنفيذ أحكامهم وإمضائها، والمسارعة إلى حثّ مطايا التشمير في ذلك وإنضائها، والتصرّف على أمثلتهم في إحضار الخصوم إذا ما امتنعوا، وسوقهم إلى الواجب إذا زاغوا عنه وانحرفوا، وأن يتقدّم بإمداد عمّال الخراج بما يؤدّي إلى قوّة أيديهم في استيفاء مال الفيء واجتبائه، واعتماد ما ينصر الحقوق في مطاويه وأثنائه، إذ كان في ذلك من الصّلاح الجامع، وكفّ المضارّ وحسم المطامع، ما المعونة عليه واجبة، وللتوفيق مقارنة مصاحبة، قال الله تعالى:
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
«2» .
وأمره بعرض من تضمّه الحبوس من أهل الجرائم والجرائر، وتأمّل أحوالهم في الموارد والمصادر؛ والرّجوع إلى متولّي الشّرطة في ذكر صورة كلّ منهم والسبب في حبسه، والتعيين من ذلك على ما يعرف به صحّة الأمر من لبسه؛ فمن ألفي منهم للذّنوب آلفا، وعن سنن الصّواب منحرفا، ترك بحاله، وكفّ بإطالة اعتقاله عن مجاله في ميادين ضلاله؛ وإن وجد منهم من وجب عليه الحدّ، أقيم فيه بحسب ما يقتضيه الحقّ، ومن اعترضت في بابه شبهة تجوّز إسقاط الحدّ عنه(10/38)
ودرأه، اعتمد إلحاقه في ذلك بمن اتّصل إليه صوب الإحسان ودرّه، ومن لم يكن له جرم وتظهر صحّة شاهده ودليله، قدّم الأمر في إطلاقه وتخلية سبيله، وإن غدا لأحدهم سعي في الفساد واضح وبان، وغوى به في محاربة الحقّ وخان، قوبل بما أمر الله تعالى به في كتابه حيث يقول: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ
«1» . وأمره باختيار المرتّب للعرض والعطاء، والنّفقة في الأولياء؛ من ذوي المعرفة والبصيرة، والمشهورين في العفّة بتساوي العلانية والسّريرة؛ وممن تحلّى بالأمانة جيده، واعتضد بطرفيه في الرّشاد تليده؛ وكان بما يسند إليه قيّما، وفي مقرّ الكفاية ثاويا مخيّما. وأن يتقدّم إليه بضبط حلى الرّجال وشيات الخيول، وأن يقصد في كل وقت من تجديد العرض ما يشهد بالاحتياط السابغ الأهداب والذّيول، فإذا وضح وجه الإطلاق، وسلم مال الاستحقاق؛ كانت التفرقة على قدر المنازل في التقديم والتأخير وبحسب الجرائد «2» التي تدلّ على الصغير من ذلك والكبير، ومتى طرق أحدهم ما هو محتوم على خلقه، أعاد على بيت المال من رزقه بقدر قسطه وحقّه. وأن يلزمهم إحضار جياد الخيول وخيار الشّكك «3» ، ويأخذهم من ذلك بأوضح ما نهج المرء الطريق فيه وسلك؛ فإن أخلّ أحدهم بما يلزمه البروز فيه يوم العرض، أو قصّر في القيام بالواجب عليه الفرض، حاسبه بذلك من الثابت باسمه والمطلق برسمه؛ تنبيها له على تلافي الفارط، وتبصيرا لغيره في البعد، عن مقام المخطيء الغالط؛ إذ كان في قوّتهم وكمال عدّتهم إرهاب للأعداء والأضداد، وإرهاف للبصائر فيما يؤدّي إلى المصالح الوافية(10/39)
الأعداد والأمداد، قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
«1» .
وأمره باختيار عمّال الخراج، والضيّاع، والأعشار، والجهبذة، والصّدقات، والجوالي، وأن يكونوا محتضنين من الأمانة والكفاية بما يقع الاشتراك في علمه، ومتقمّصين من ملابس العفّة والدّراية ما تحمد العواقب في ضمنه، ومتميّزين بما يغنيهم عن الأفكار بنتائج الاتّعاظ والاعتبار ويغريهم بالاستمرار على السّنن المنجي لهم من مواقف التنصّل والاعتذار، وأن يأمر عمّال الخراج بجباية الأموال، على أجمل الوجوه والأحوال؛ سالكين في ذلك جددا وسطا، يحمي من مقام من ضعف في الاستخراج أوسطا. و [أن يتقدّم] إلى الناظرين في الضّياع بتوفية العمارة حقّها والزراعة حدّها، والتوفير من حفظ الغلّات الحاصلة على ما يقتفى فيه أرشد المذاهب وأسدّها، متحرّزين من أمر ينسبون فيه إلى العجز والخيانة، فكلّ من الحالين مجز في وضوح أدلّة الفساد ومخز. وإلى الجهابذة بقصد الصحّة في القبض والتقبيض، وحفظ النّقد من التدليس والتلبيس؛ أداء للأمانة في ذلك، واهتداء فيه إلى أقوم المسالك. وإلى سعاة الصدقات بأخذ الفرائض من مواشي المسلمين السائمة دون العاملة، والجري في ذلك على السّنّة الكاسبة للمحمدة الوافية الكاملة؛ متجنّبين من أخذ فحل الإبل وأكولة الراعي، وعقائل الأموال المحظورة على سائر الأسباب والدّواعي؛ فإذا استوفيت على المحدود من حقّها، أخرجت في المنصوص عليه من وجوهها وسبلها. وإلى جباة جماجم أهل الذّمّة بأخذ الجزية منهم في كلّ سنة، على قدر ذات أيديهم في الضّيق والسّعة، وبحسب العادة المألوفة المتّبعة، ممتنعين من مطالبة النّسوان، ومن لم يبلغ الحلم من الرجال ومن علت سنّه عن الاكتساب وتبتّل من الرّهبان ومن غدا فقره واضح الدليل والبرهان، وفاء بالعهد المسؤول، وتلقّيا لأمر الله تعالى بالقبول حيث(10/40)
يقول: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا
«1» .
وأمره أن يردّ أمر المظالم وأسواق الرقيق ودور الضّرب والطّرز والحسبة إلى من عضّد بالظّلف «2» الورع، وانتظم له شمل الهدى واجتمع، فكان ذا معرفة بما يحرم ويحلّ، وبصيرة يتفيّأ «3» بها من عوارض الشّبه ويستظلّ؛ وأن يكون النظر في ذلك مضاهيا للحكم ملائما، ولن يقوم به إلّا من لا يرى عاذلا له في فعله لائما، وأن يتقدّم إلى من يلي المظالم بتسهيل الإذن للخصوم في الدّخول عليه، وتمكين كلّ منهم من استيفاء الحجّة بين يديه، والتوصّل إلى فصل ما بينهم بحسب ما يقود الحقّ إليه، وأن يقصد فيما وقع الخلف معهم فيه، الكشف الذي يقوم به ويستوفيه؛ فإن وضح له الحقّ أنفذه وقطع به، وإلا ردّهم إلى مجالس القضاء لإمضاء ذلك على مقتضى الشّرع وموجبه، وإلى المرتّبين في أسواق الرقيق بالتحفّظ فيما يبتاع ويباع، وأن يستعمل في ذلك الاقتفاء للسّنن الجميل والاتّباع:
ليؤمن اختلاط الحرّ بالعبد، وتحرس الأنساب من القدح والفروج من الغصب؛ في ضمن حفظ الأموال، والمنع من مزج الحرام بالحلال. وإلى ولاة العيار بتصفية عين الدّرهم والدّينار من الغشّ والإدغال «4» ؛ وصون السّكك من تداول الأيدي الغربية لها بحال من الأحوال، متحذّرين من الاغترار بما ربّما وضح الفساد فيه عند الاعتبار، ومانعين التّجّار المخصوصين بالإيراد، من كل قول مخالف للإيثار في الصحّة والمراد، ومعتمدين إجراء الأمر فيما يطبع على القانون بمدينة السلام، من غير خلاف لمستقرّ القاعدة في ذلك ومتّسق النظام؛ وأن يثبت ذكر أمير المؤمنين، ووليّ عهده في المسلمين؛ على ما يضرب من الصّنفين «5» معا، والمسارعة في ذلك إلى أفضل ما بادر إليه المرء وسعى. وإلى المستخدمين في الطّرز بملاحظة(10/41)
أحوال المناسج والإشراف عليها، وأخذ الصّنّاع بالتجويد على العادة التي يجب الانتهاء إليها؛ وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما ينسج من الكسا والفروش والأعلام والبنود، جريا في ذلك على السّنن المرضيّ والمنهاج المحمود. وإلى من يراعي الحسبة الشريفة بالكشف عن أحوال العوامّ في الأسواق، والانتهاء في ذلك إلى ما ينتهي به شمل الصّلاح إلى الانتظام والاتّساق، وأن يتقدّم [إليهم] بما يجب من تعبير ما يختصّ بهم من المكاييل والموازين، وحملها على قانون الصّحّة الواضحة الدلائل والبراهين؛ وأن يقصد تبصيرهم مواضع الحظّ في الاستقامة، ويحذّرهم مواقع الانتقام الذي لا تفيد فيه أسباب الاستفصاح والاستقالة، فإن عرف من أحد منهم إقداما على إدغال فيما يزن أو يكيل، قوبل من التأديب بما هو الطريق إلى ارتداعه والسّبيل قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
» .
وأمره أن يعرف قدر النعمة التي ضفت «2» عليه برودها، وحلّت جيده عقودها، وزفّت منه إلى أوفى أكفائها، وحفّت بجزيل القسم من جميع أكنافها وأرجائها؛ وأن يقابلها بإخلاص في الطاعة يساوي فيه بين ما يبدي ويسرّ وسعي في الخدمة يوفي على كل مجاز ومبرّ، ويبدأ أمام ما يتوخّاه بأخذ البيعة لأمير المؤمنين ووليّ عهده على نفسه وولده، وكافّة الاجناد والرّعايا في بلده، عن نيّة صفت من الكدر والقذى، ووفت للتوفيق بما ضمنت من خذلان البغي ونصرة الهدى، ويتبع ذلك بالحقوق في كل خدمة ترضي، والوقوف عند الأوامر الإماميّة في كلّ ما يؤدّي إلى الوفاق ويفضي؛ وأن يحمل إلى حضرة أمير المؤمنين من الفيء والغنائم ما أوجبه الله تعالى وفرضه، من غير تأخير لما يجب تقديمه من ذلك ولا تقصير منه فيما يقتضي التّلافي والاستدراك ليأمر أمير المؤمنين بصرفه في سبيله المشار إليها، ووجوهه المنصوص عليها، قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ(10/42)
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
«1» .
ثم إنّ أمير المؤمنين آثر أن يضاعف له من الإحسان، ما يقتضيه مقامه لديه من وجيه الرتبة والمكان، وشرّفه بما يرفل من حلاه في حلل الجمال، وتكفّل له علاه ببلوغ منتهى الآمال؛ وبوّأه بما أولاه محلّا تقصر عن الوصول إليه الأقدام، وتعجز عن حلّ عراه الأيّام، ولقّبه بكذا، وأذن له في تكنيته عن حضرته، وتأهيله من ذلك لما يتجاوز قدر أمنيّته إنافة به على من هو في مساجلته من الأقران طالع، وإضافة للنّعمة في ذاك إلى ما اقترن بها فيما هو لشمل الفخر عنده جامع، وأنفذ لواء يلوي به إلى الطاعة أبيّ الأعناق، ويحوي به من العزّ ما أنواره وافية الإشراق.
فتلقّ يا فلان هذه الصّنيعة الغرّاء، والمنحة التي أكسبت زنادك الإيراء «2» ؛ بالاستبشار التّام، والاعتراف فيها بسابغ الطّول والإنعام؛ وأشع ذكر ذلك عند كلّ أحد، وانته في الإبانة عنه إلى أبعد أمد؛ واعتمد مكاتبة حضرة أمير المؤمنين متسمّيا، ومن عداه متلقّبا متكنّيا وتوفّر على شكر تستدرّ به صوب المزيد، وتستحقّ به إلحاق الطّريف من الإحسان بالتّليد، والله تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
«3» .
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، والحّجة لك وعليك؛ قد أوضح لك [فيه] الصّواب، وأذلّ به الجوامح الصّعاب؛ وحباك منه بموهبة كفيلة بخيري البدء والمعاد، وفيّة فيها المنى بسابق الضّمان والميعاد؛ وضمّنه من مواعظه ما هدى به إلى كلّ ما الجنيّ ثمره، وغدا محظيّا بما تروق أوضاحه في المجد وغرره؛ ولم يألك فيه تجمّلا يكسبك الفخر النامي، ويجعل ذكرك زينة المحفل والنادي؛ وتقديما ينبيء عمّا خصصت به(10/43)
من المنح المشرقة الّلآلي، وإكراما يبقى صيته على تقضّي الأيّام والليالي؛ وتبصيرا يقي من فلتات القول والعمل، ويرتقي المستضيء بأنواره إلى ذرى الأمن من دواعي العثار والزّلل؛ فأصغ إلى ما حواه، إصغاء الفائز بأوفى الحظ، وتدبّر فحواه، الناطق بفضل الحثّ على الهدى والحضّ؛ وكن لأوامر أمير المؤمنين فيه محتذيا، ومن تجاوز محدوده في مطاويه محتميا؛ وبمواعظه الصادقة معتبرا، وفي العمل بما قارن الحق مستبصرا، تفز بالغنم الأكبر، وبالسلامة في المورد والمصدر؛ وإيّاك واعتماد ما تذمّ فيه مكاسبك، فإنّ لك بين يدي الله تعالى موقفا يناقشك فيه ويحاسبك. واعلم أنّ أمير المؤمنين قد قلّدك جسيما، وخوّلك جزيلا عظيما؛ فلا تنس نصيبك من الله تعالى غدا، ولا تجعل لسلطان الهوى المضلّ عليك يدا؛ وإن خفي عليك الصواب في بعض ما أنت بصدده، أو اعتراض فيه من الشّبه ما يحول بينك وبين طريق الرشاد وجدده «1» ؛ فطالع حضرة أمير المؤمنين به، واستنجد الله في ذلك بأسدّ رأي وأصوبه؛ يبدّلك من الشكّ يقينا، ويبدلك ما يغدو لكلّ خير ضمينا؛ إن شاء الله تعالى.
الطريقة الثانية (طريقة محقّقي المتأخّرين ممّن جرى على هذا المذهب: كالشيخ شهاب الدين محمود الحلبي «2» ، والمقرّ الشهابيّ بن فضل الله «3» ، ومن والاهم)
وهي أن يأتي في أثناء العهد بخطبة أو تحميد على عادة المكاتبات، وأن يذكر بعد صدر العهد حميد أوصاف المعهود إليه، ويطنب فيها ويثني عليه بما يليق بمقامه. قال في «التعريف» : على نحو ما تقدّم في عهود الخلفاء عن الخلفاء.(10/44)
قال في «التثقيف» «1» : وصورته أن يكتب:
«هذا ما عهد به عبد الله ووليّه أمير المؤمنين المتوكل على الله (مثلا) أبو فلان فلان بن فلان، إلى السيّد الأجلّ الملك العالم العادل المؤيّد المظفّر المنصور المجاهد» ويذكر اللّقب هنا، مثل الناصر أو الكامل أو غيره «فلان الدنيا والدين، فلان، ابن السلطان السعيد الشهيد الملك الفلاني خلّد الله تعالى ملكه.
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويصلّي على ابن عمّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم» ويكمل الخطبة بما أمكنه. ثم يقال: «عهد إليه وقلّده جميع ما هو مقلّده من مصالح الأمّة وصلاح الخلق، بعد أن استخار الله تعالى في ذلك، ومكث مدّة يتدبّر هذا الأمر ويروّي فكره فيه وخاطره، ويستشير أهل الرأي والنظر، فلم ير أوفق منه لأمور الأمّة ومصالح الدنيا والدّين» . ومن هذا وشبهه. ثم يقال: «وإن المعهود له قبل ذلك منه» ويأتي فيه بما يليق من محاسن العبارة وأجناس الكلام.
قلت: وقد يؤتى بعد «أما بعد» بخطبة، مثل أن يقال: «أما بعد فالحمد لله» ونحو ذلك، ويكمّل الخطبة بما يليق بالمقام. ثم قد يقتصر على تحميدة واحدة، وقد يكرره إلى ثلاث، وإن شاء بلغ به سبعا. فقد قال في «التعريف» في الكلام على عهود الملوك للملوك: إنه كلّما كثر التحميد، كان أدلّ على عظم النعمة. وقد يقال في آخره: «والاعتماد على الخطّ الفلاني (بلقب الخلافة) أعلاه حجّة بمقتضاه أو «والخطّ الفلاني أعلاه حجّة فيه» ونحو ذلك.
وعلى هذه الطريقة كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ عهد الملك(10/45)
العادل «كتبغا» «1» عن الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبي العبّاس أحمد «2» ، ابن الإمام الذي استحضره الملك الظاهر بيبرس من بغداد وبايعه، وهذه نسخته «3» :
هذا عهد شريف في كتاب مرقوم يشهده المقرّبون، ويفوّضه آل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة الأقربون. من عبد الله ووليّه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العبّاس أحمد أمير المؤمنين، وسليل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديّين، رضوان الله عليهم أجمعين، إلى السلطان الملك العادل زين الدنيا والدين «كتبغا المنصوريّ» أعزّ الله سلطانه.
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي جعل له منك سلطانا نصيرا، وأقام له بملكك على ما ولّاه من أمور خلقه عضدا وظهيرا؛ وآتاك بما نهضت به من طاعته نعما «4» وملكا كبيرا، وخوّلك بإقامة ما وراء سريره من مصالح الإسلام بكلّ أرض منبرا وسريرا، وجاء بك لإعانته على ما استخلفه الله فيه من أمور عباده على قدر وكان ربّك قديرا؛ وجمع بك الأمة بعد أن كاد يزيغ قلوب فريق منهم، وعضّدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم؛ وخصّك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم نازهون «5» وأظهرك على الذين ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ(10/46)
كارِهُونَ
«1» واصطفاك لإقامة الدّين وقد اختلفت الأهواء في تلك المدّة، ولمّ بك شعث الأمّة بعد الاضطراب فكان موقفك ثمّ موقف الصّدّيق يوم الرّدّة.
ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حاكم بأمره، مستنزل لك بالإخلاص ملائكة تأييده وأعوان نصره؛ مسترهف بها سيف عزمك على من جاهر «2» بشركه وحاربه بكفره، معتصم بتوفيقه في تفويضه إليك أمر سرّه الذي استودعه في الأمّة وجهره؛ ويصلّي على سيدنا محمد رسول الله الذي استخرجه الله من عنصره وذويه، وشرّف به قدر جدّه بقوله فيه: «عمّ الرّجل صنو أبيه» وأسرّ إليه بأنّ هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه؛ وعلى آله وصحبه والخلفاء الراشدين من بعده، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وجاهدوا أئمة الكفر الذين لا أيمان لهم والذين هم بربّهم يعدلون؛ وسلّم تسليما كثيرا.
وإنّ أمير المؤمنين لما آتاه الله من سرّ النبوة، واستودعه من أحكام الإمامة الموروثة عن شرف الأبوّة؛ واختصّه من الطاعة المفروضة على الأمم، وفرض عليه من النظر في الأخصّ من مصالح المسلمين والأعمّ؛ وعصم آراءه ببركة آبائه من الخلل، وجعل سهم اجتهاده هو المصيب أبدا في القول والعمل؛ وكان السلطان فلان هو الذي جمع الله به كلمة الإسلام وقد كادت، وثبت به الأرض وقد اضطربت بالأهواء ومادت؛ ورفع به منار الدين بعد أن شمخ الكفر بأنفه، وألّف به شمل المسلمين وقد طمح العدوّ إلى افتراقه وطمع في خلفه، وحفظ به في الجهاد حكم الكتاب الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
«3» ؛ وحمى به الممالك الإسلاميّة فما شام الكفر منها برق ثغر إلّا رمي من وباله بوابل، ولا أطلق عنان طرفه إلى الأطراف إلا وقع من سطوات جنوده في كفّة حابل؛ ولا اطمأنّوا في بلادهم إلا أتتهم سراياه من حيث لم يرتقبوا، ولا ظنّوا أنهم ما نعتهم حصونهم من(10/47)
الله إلا وأتاهم بجنوده «1» من حيث لم يحتسبوا؛ وألّف جيوش الإسلام فأصبحت على الأعداء بيمنه يدا واحدة، وقام بأمور الأمّة فأمست عيون الرّعايا باستيقاظ سيوفه في مهاد الأمن راقدة؛ وأقام منار الشريعة المطهّرة فهي حاكمة له وعليه، نافذ أمرها على أمره فيما وضع الله مقاليده في يديه؛ ونصره الله في مواطن كثيرة، وأعانه على من أضمر له الشّقاق والصّلاة وإنّها لكبيرة «2» ؛ وأظهره «3» بمن بغى عليه في يومه بعد حلمه عنه في أمسه، وأيّده على الذين خانوا عهده ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
«4» ؛ وتعيّن لملك الاسلام فلم يك يصلح إلّا له، واختاره الله لذلك فبلغ به الدّين آماله؛ وضعضع بملكه عمود الشّرك وأماله، وأعاد بسلطانه على الممالك بهجتها وعلى الملك رونقه وجلاله؛ وأخدمه النّصر فما أضمر له أحد سوءا إلا وزلزل أقدامه وعجّل وباله، وردّه إليه وقد جعل من الرّعب قيوده ومن الذّعر أغلاله، وأوطأ جواده هام أعدائه وإن أنف أن تكون نعاله.
عهد إليه حينئذ مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين في كلّ ما وراء خلافته المقدّسة، وجميع ما اقتضته أحكام إمامته التي هي على التّقوى مؤسّسة:
من إقامة شعار الملك الذي جمع الله الاسلام عليه، وظهور «5» أبّهة السلطنة التي ألقى الله وأمير المؤمنين مقاليدها إليه؛ ومن الحكم الخاصّ والعامّ، في سائر ممالك الإسلام، وفي كل ما تقتضيه أحكام شريعة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي خزائن الأموال وإنفاقها، وملك الرّقاب وإعتاقها، واعتقال الجناة وإطلاقها؛ وفي كل ما هو في يد الملّة الاسلامية التي سيرجعها الله بجهاده إليها؛ وفي(10/48)
تقليد الملوك والوزراء، وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء؛ وفي الأمصار يقرّ بها من شاء من الجنود، ويبعث إليها ومنها ما شاء من البعوث والحشود؛ ويحكم في أمرها بما أمر «1» الله من الذّبّ عن حريمها، ويتحكّم بالعدل الذي رسم «2» الله به لظاعنها ومقيمها؛ وفي تقديم حديثها واستحداث قديمها، وتشييد ثغورها، وإمضاء ما عرّفه الله به وجهله سواه من أمورها؛ وإقرار من شاء من حكّامها، وإمضاء ما شاء من إتقان القواعد بالعدل وإحكامها؛ وفي إقطاع خواصّها، واقتلاع ما اقتضته المصلحة من عمائرها وعمارة ما شاء من قلاعها؛ وفي إقامة الجهاد بنفسه الشريفة وكتائبه، ولقاء الأعداء كيف شاء من [تسيير] سراياه وبعث مواكبه؛ وفي مضايقة «3» العدوّ وحصاره، ومصابرته وإنظاره «4» ، وغزوه كيف أراه الله في أطراف بلاده وفي عقر داره؛ وفي المنّ والفداء والإرقاق، وضرب الهدن التي تسألها العدا وهي خاضعة الأعناق؛ وأخذ مجاوري العدوّ المخذول بما أراه الله من النّكاية إذا أمكن من نواصيهم، وحكم عفوه في طائعهم وبأسه في عاصيهم، وإنزال الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ
«5» . وفي الجيوش التي ألف الأعداء فتكات ألوفها، وعرفوا أنّ أرواحهم ودائع سيوفها؛ وصبّحتهم سرايا رعبها المبثوثة إليهم، وتركهم خوفها كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ
«6» وهم الذين ضاقت بمواكبهم إلى العدا سعة الفجاج، وقاسمت رماحهم الأعداء شرّ قسمة ففي أيديهم كعوبها وفي صدور أولئك الزّجاج «7» ، وأذهبت عن الثّغور الإسلامية رجس الكفر وطهّرت من ذلك ما جاور العذب الفرات والملح الأجاج؛(10/49)
وعرفوا في الحروب بتسرّع الإقدام، وثبات الأقدام، وأدّخر الله لأيّامه الشريفة أن تردّنها بهم «1» دار السلام إلى ملك الإسلام: فيدرّ عليهم ما شاء من إنعامه الذي يؤكّد طاعتهم، ويجدّد استطاعتهم؛ ويضاعف أعدادهم، ويجعل بصفاء النيّات ملائكة الله أمدادهم؛ ويحملهم على الثّبات إذا لقوا الذين كفروا زحفا، ويجعلهم في التعاضد على اللّقاء كالبنيان المرصوص فإنّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا. وفي أمر الشرع وتولية قضاته وحكّامه، وإمضاء ما فرض الله عليه وعلى الأمة من الوقوف عند حدوده وا «2» مع أحكامه؛ فإنّه لواء الله الممدود في أرضه، وحبله المتين الذي لا نقض لإبرامه ولا إبرام لنقضه، وسنن نبيّه الذي لا حظّ عند الله في الإسلام لغير متمسّك بسنّته وفرضه؛ وهو- أعزّ الله سلطانه- سيف الله المشهور على الذين غدوا وهم من أحكام الله مارقون، ويده المبسوطة في إمضاء الحكم بما أنزل الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«3» .
وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشدّ أيضا إليه الرّحال. وإقامة سبيل الحجيج الذين يفدون على الله بما منحهم «4» من برّه وعنايته في الإقامة والارتحال.
وفي عمارة البيوت التي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ
«5» وفي إقامة الخطب على المنابر، واقتران اسمه الشريف مع اسمه بين كلّ باد وحاضر، والاقتصار على هذه التثنية في أقطار الأرض فإنّ القائل بالتثليث كافر؛ وفي سائر ما تشمله الممالك الإسلامية ومن تشتمل عليه شرقا وغربا، وبعدا وقربا؛ وبرّا وبحرا، وشاما ومصرا؛ وحجازا ويمنا، ومن يستقرّ بذلك إقامة وظعنا. وفوّض إليه ذلك جميعه وكلّ ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه، ما ذكر وما لم يذكر تفويضا لازما، وإمضاء جازما، وعهدا محكما، وعقدا(10/50)
في مصالح ملك الاسلام محكّما؛ وتقليدا مؤبّدا، وتقريرا على كرّ الجديدين مجدّدا؛ وأثبت ذلك وهو الحاكم حقيقة بما علمه من استحقاقه والحاكم بعلمه، وأشهد الله وملائكته على نفوذ حكمه بذلك: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
«1» .
وذلك لما صحّ عنده من نهوض ملكه بأعباء ما حمّله الله من الخلافة، وأدائه الأمانة عنه فيما كتب الله عليه من الرحمة اللّازمة والرافة؛ واستقلاله بأمور الجهاد الذي أقام الله به الدين، واختصاصه وجنوده بعموم ما أمر الله به الأمة في قوله تعالى:
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
«2» . وأنّه في الجهاد سهمه المصيب وله به أجر الرامي المسدّد، وسيفه الذي جرّده على أعداء الدين وله من فتكاته حظّ المرهف المجرّد؛ وظلّ الله في الأرض الذي مدّه بيمن يمينه، وآية نصره الذي اختاره الله لمصالح دنياه وصلاح دينه؛ الناهض بفرض الجهاد وهو في مستقرّ خلافته وادع، والراكض عنه بخيله وخياله إلى العدوّ الذي ليس لفتكات سيوفه رادع «3» ؛ والمؤدّي عنه فرض النّفير في سبيل الله كلّما تعيّن، والمنتقم له من أهل الشّقاق الذين يجادلون في الحقّ بعد ما تبيّن، والقائم بأمر الفتوح التي تردّ بيع الكفر مساجد يذكر فيها اسم الله واسمه، ويرفع على منابرها شعاره الشريف ورسمه؛ وتمثّل له بإقامة دعوته صورة الفتح كأنه ينظر إليها؛ والناظر عنه في عموم مصالح الإسلام وخصوصها تعظيما لقدره، وترفيها لسرّه؛ وتفخيما لشرفه، وتكريما لجلالة بيته النبويّ وسلفه؛ وقياما له بما عهد إليه، ووفاء من أمور الدّين والدنيا بما وضع مقاليده في يديه.
وليدلّ على عظم سيرته بكرم سيره، وينبّه على كمال سعادته إذ قد كفي به في أمور خلق الله تعالى والسعيد من كفي بغيره، لم يجعل أمير المؤمنين على يده يدا في ذلك، ولا فسّح لأحد غيره في أقطار الأرض أن يدعى بملك ولا مالك، بل بسط(10/51)
حكمه وتحكمه في شرق الأرض «1» وغربها وما بين ذلك؛ وقد فرض طاعته على سائر الأمم، وحكم بوجوبها على الخاصّ والعامّ ومن ينقض حكم الحاكم إذا حكم؛ وهو يعلم أنّ الله تعالى قد أودع مولانا السلطان سرّا يستضاء بأنواره، ويهتدى في مصالح الملك والممالك بمناره، فجعل له أن يفعل في ذلك كلّ ما هدى الله قلبه إليه، وبعثه بالتأييد الإلهيّ عليه؛ واكتفى عن الوصايا بأنّ الله تعالى تكفّل له بالتأييد، وخصّه من كلّ خير بالمزيد؛ وجعل خلقه التقوى وكلّ خير فرع عليها، ونوّر بصيرته بالهدى فما يدلّ على حسنة من أمور الدنيا والآخرة إلّا وهو السابق إليها؛ والله تعالى يجعل أيّامه مؤرّخة بالفتوح، ويؤيّده بالملائكة والرّوح، على من يدّعي الأب والابن والرّوح؛ ويجعل أسباب النصر معقودة بسببه، والملك كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ
«2» .
ويشهد بهذا العهد الشريف مع من شهده من الملائكة المقرّبين «3» ، كلّ من حضر تلاوته من سائر الناس أجمعين: لتكون حجّة الله على خلقه أسبق، وعهد أمير المؤمنين بثبوته أوثق؛ وطاعة سلطان الأرض قد زادها الله على خلقه بذلك توكيدا، وشهد [الله] وملائكته على الخلق بذلك وكفى بالله شهيدا. والاعتماد على الخط الحاكميّ أعلاه حجّة به، إن شاء الله تعالى.
وعلى نحو ذلك كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ عهد الملك المنصور «حسام الدّين لاچين» «4» عن الخليفة الحاكم بأمر الله بن أبي الربيع(10/52)
سليمان المتقدّم ذكره «1» . وهذه نسخته «2» :
هذا عهد شريف تشهد به الأملاك لأشرف الملوك، وتسلك فيه من قواعد العهود المقدّسة أحسن السّلوك؛ من عبد الله ووليّه الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، للسلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين؛ أبي الفتح لاچين المنصوريّ، أعزّ الله سلطانه.
أما بعد، فالحمد لله مؤتي الملك من يشاء من عباده، ومعطي النصر من يجاهد فيه حقّ جهاده؛ ومرهف حسام انتقامه على من جاهر بعناده، ومفوّض أمر هذا الخلق إلى من أودعه سرّ رأفته في محبّته ومراد نقمته في مراده؛ وجامع كلمة الإيمان بمن اجتباه لإقامة دينه وارتضاه لرفع «3» عماده، ومقرّ الحق في يد من منع سيفه المجرّد في سبيل الله أن يقرّ في أغماده، وناصر من لم تزل كلمة الفتوح مستكنّة في صدور سيوفه جارية على ألسنة صعاده، وجاعل ملك الإسلام من حقوق من إذا عدّ أهل الأرض على اجتماعهم كان هو المتعيّن على انفراده، الذي شرّف أسرّة ملك الإسلام باستيلاء حسام دينه عليها، وزلزل ممالك أعدائه بما بعث من سرايا رعبه إليها؛ وثبّت به أركان الأرض التي ستحتوي ملكه في طرفيها، وضعضع بسلطانه قواعد ملوك الكفر فودّعت ما كان مودعا لأيّامه من ممالك الإسلام في يديها؛ وأقامه وليّه بأمره فلم يختلف عليه اثنان من خلقه، وقلّده أمر بريّته لما أقدره عليه من النّهوض بحقّهم وحقّه؛ وأظهره على من نصب له الغوائل وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ
«4» ونصره في مواطن كثيرة لما قدّره في القدم من رفعة(10/53)
شأنه واعتلاء قدره؛ وجعل عدوّه وإن أعرض عن طلبه بجيوش الرّعب محصورا، وكفاه بنصره على الأعداء التوغّل في سفك الدّماء فلم يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً «1»
؛ ونقل إليه الملك بسيفه والدّماء مصونة، وحكّمه فيما كان بيد غيره من الأرض والبلاد آمنة والفتن مأمونة؛ فكان أمر من ذهب سحابة صيف، أو جلسة ضيف «2» ؛ لم تحلّ له روعة في القلوب، ولم يذعرها- وقد ألبسه الله ما نزع عن سواه- سالب ولا مسلوب، إجراء لهذه الأمة على عوائد فضله العميم، واختصاصا بما آتاه من ملكه وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ «3» .
يحمده أمير المؤمنين على ما منح في أيّامه الدّين من اعتضاده بحسامه، والاعتماد في ملك المسلمين على من يجعل جباه ملوك الشّرك تحت أقدامه، والاعتداد بمساعي من حصونه في الجهاد ظهور جياده وقصوره أطراف حسامه.
ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حاكم بما أراه، حامد له في ملك الإسلام على تيسّر ما وطّده ورفع ما عراه «4» ، معتصم به في كلّ ما أثبته بالحق من قواعد الدّين «5» في جهاد أعداء الدّين عن سيره في ذلك وسراه؛ وأن محمدا عبده ورسوله الذي جعله «6» من عصبته الشريفة وعصبته، وشرّفه بوراثة خلافته في أمّته [ورفع] قدر رتبته، وقصره على إقامة من يرهب العدا بنشر دعوته في الآفاق مع مواقع رغبته؛ ويسأله أن يصلّي عليه صلاة تفتح له في الدنيا إلى العصمة طريقا، وتجعله في الأخرى معه ومع الّذين أنعم الله عليهم من آبائه الشّهداء(10/54)
والصالحين وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
«1» ؛ وسلّم تسليما كثيرا.
وإنّ أمير المؤمنين لما اختصّه الله به من البرّ «2» المودع في قلبه، والنّور الذي أصبح فيه على بيّنة من ربّه؛ والتأييد المنتقل إليه عمّن شرف بقربه، والنصّ الذي أسرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جدّه العبّاس من بقاء هذا الأمر في ورثته دون أقاربه وصحبه؛ لم يزل يرغب إلى الله سبحانه «3» ويستخيره في إقامة من ينهض في ملك الإسلام حقّ النّهوض، ويفوّض إليه الأمانة إلى من يرى «4» أداء الأمانة فيهم من آكد الفروض؛ ومن إذا قال النفير يا خيل الله اركبي سابقت خيله خياله، وجازت عزائمه نصاله؛ وأخذ عدوّ الدّين من مأمنه، وغالب سيفه «5» الأجل على انتزاع روحه من بدنه؛ وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجاهد لإقامة منار الإسلام لا للتعرّض إلى عرض الدنيا؛ وقدّمت له ملوك الدنيا حصونها، وبذلت له مع الطاعة مصونها؛ وأقيم له بكلّ قطر منبر وسرير، وجمع ملوك العدا في رقّ طاعته وهو «6» على جمعهم إذا يشاء قدير؛ ومن يقيم العدل على ما شرع، والشرع على ما أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع؛ ويميت البدع بإحياء السّنن، ويعلم أنّ الله جعل لخلقه على لسان نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم سننا ولا يعدل بهم عن ذلك السّنن.
ولما كان السّلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدّين أبو الفتح «لاچين المنصوري» - خلّد الله سلطانه- هو الذي جعل [الله] صلاح الأمة على يديه، واختاره لإقامة دينه فساق ملك الإسلام عنوة إليه؛ وأنهضه بذلك وقد أمدّه بجنود نصره، وأنزل سكينته عليه وجمع قلوب أهل الإسلام على حبّه؛ وفرّق أعداء الدّين(10/55)
خوف حربه، وجعل النصر حيث توجه من أشياخه «1» وحزبه؛ وعضّده لنصرة الإسلام بملائكة سمائه، وأقام به عمود الدين الذي بالسّيف قام ولا غرو فإن الحسام من أسمائه؛ وأقبلت إليه طوائف جيوش الإسلام مذعنين، وأدّى في كرامتهم حقوق طاعة الله الذي أيده بنصره وبالمؤمنين، وتلقّاهم بشير كرامته ونعمه وقال:
ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين؛ فطارت مخلّقات البشائر بملكه في الآفاق، وأغصّ العدا سلطانه «2» فما توهّموا في أمر الإسلام الاختلاف حتّى تحقّقوا بحمد الله ويمن أيّامه الوفاق؛ واختالت المنابر الإسلاميّة بذكر أمير المؤمنين وذكره، وأعلنت الأمة المحمديّة بحمد الله الذي أقرّبه الحقّ في مركزه وردّ به شارد الملك إلى وكره؛ وتحقّق أمير المؤمنين أنه المكنون في طويّته والمستكنّ في صدره «3» ؛ والقائم في عمارة بيته النبويّ وسلامته مقام سلمانه وعمّاره «4» ، فعهد إليه حينئذ في كلّ ما تقتضيه أحكام إمامته في أمّة نبيّه، وجعله في التصرّف المطلق عنه قائما مقام وصيّه في الملّة ووليّه؛ وقلّده أمر ملك الإسلام تقليدا عامّا، وفوّض إليه حكم السلطنة الشريفة تفويضا تامّا؛ وألبسه من ذلك ما خلعه عن سواه، ونشر عليه لواء الملك الذي زوى ظلّه عن غيره وطواه؛ وحكّمه في كل ما تقتضيه خلافته المقدّسة، وتمضيه إمامته التي هي على التقوى مؤسّسة: من إقامة منار الإسلام، والحكم العام في أمّة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي تقليد الملوك والوزراء، وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء؛ وفي تجهيز العساكر والسّرايا، وإرسال الطّلائع والرءايا «5» ، وتجريد الجنود الذين ما ندبهم إلى الأعداء «6» إلا آبوا»
بالنّهاب وبالسّبايا؛ وفي غزو العدوّ كيف أراه الله إن بنفسه أو جنده، وفي(10/56)
استرسال «1» النصر بالثبات والصبر فإنّ الله يجزي الصابرين وما النّصر إلا من عنده؛ وفي محاصرة العدوّ ومصابرته، وإنظاره ومناظرته، وإنزالهم على ما شرع الله فيهم من الأحكام، والتوخّي في ذلك ما حكم به سعد بن معاذ «2» في زمن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي ضرب الهدن وإمضائها، والوفاء بالعقود المشروعة إلى انتهاء مددها وانقضائها، وفي إرضاء السيوف ممن نكث ولم يتمّ عهده إلى مدّته فإنّ إسخاط الكفر في إرضائها؛ وفي الأمصار يقرّ بها من شاء من الجنود، ويبعث إليها من شاء من البعوث والحشود؛ وفي سداد الثغور بالرجال الذين تفترّ بهم عن شنب النصر، وتأمن بهم أعدادها من غوائل الحصر، وتوفير سهامها من سهام القوّة التي ترمي «3» بشرر كالقصر؛ وإمداد بحرها بالشّواني «4» المجرّبة المجدّدة «5» ، والسّفن التي كأنها القصور الممهّدة على الصّروح الممرّدة؛ فلا تزال تدبّ إليهم من ذوات الأرجل عقاربها، وتخطف غربانهم الطائرة بأجنحة القلوع مخالبها؛ وفي تقدمة «6» وتنفيذ السّرايا التي لا تزال أسنّتها إلى نحور الأعداء مقوّمة، وإنفاق ما يراه في مصالح الإسلام من القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة؛ وفي إعلاء منار الشرع الشريف والانقياد إليه، والمسارعة إلى نفوذ حكمه فيما له وعليه، وتقوية يد حكّامه على كلّ أمير ومأمور أقرّ الشرع في يده شيئا أو انتزعه من يديه، وتفويض الحكم إلى كلّ من يتعيّن لذلك من أئمة الأمّة، وإقامة الشرع الشريف على قواعده الأربعة «7» فإن اتفاق(10/57)
العلماء حجّة واختلافهم رحمة؛ وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشدّ الرحال أيضا إليه، وفي إقامة سبل الحجيج الذين «1» دعاهم الله فلبّوه واستدعاهم فقدموا عليه؛ وفوّض إليه كلّ ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه: ما ذكر وما لم يذكر، تفويضا لازما، وتقليدا جازما، وعقدا محكما، وعهدا في مصالح الإسلام والمسلمين محكّما، واكتفى عن الوصايا بما جبل عليه خلقه الشريف من التقوى، وهدى نفسه النفيسة إليه من التمسك بالسند «2» الأقوم والسبب الأقوى؛ فما ينبّه على حسنة إلّا وهو أسبق إليها، ولا يدلّ على خلّة «3» إلا وفكره الشريف أسرع من فكر الدالّ عليها؛ وقد وثق ببراءة الذّمّة من حقّ قوم أضحوا لفضل مثله راجين، وتحقّق حلول النعمة على أمّة أمسوا إلى «لاچين» لاجين «4» ؛ وقد استخار أمير المؤمنين الله في ذلك كثيرا، ولجأ إلى الله في توفيقه وتوقيفه على الصواب مما يجده في الحكم بذلك هاديا ونصيرا؛ وسارع إلى التسليم بأمر الله تعالى فيما فوّض إليه من أمور عباده إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا.
وأشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على نفسه بما تضمّنه هذا العهد الكريم، وحكم على الأمّة بمقتضاه فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«5» . والخطّ الشريف الإماميّ الحاكميّ أعلاه، حجة بمقتضاه؛ إن شاء الله تعالى.
وعلى قريب منه كتب القاضي شمس الدين إبراهيم بن القيسرانيّ عهد(10/58)
الملك الناصر «محمد بن قلاوون» عن الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان «1» .
وهذه نسخته «2» :
هذا عهد يعمر بك للإسلام المعاهد، وينصر منك الاعتزام فتغنى عن الموالي والمعاضد «3» ؛ ويلقي إليك مقاليد الأمور: لتجتهد في مراضي الله وتجاهد، ويبعثك على العمل بالكتاب والسنّة: ليكونا شاهدين لك عند الله في أعظم المشاهد؛ فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة تبرّكا بأخذ يحيى عليه السلام للكتاب، وحاسب نفسك محاسبة تجد نفعها يوم يقوم الحساب، واعمل صالحا فالّذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
من عبد الله ووليّه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العبّاس أحمد أمير المؤمنين:
إلى السلطان الأجلّ، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المظفّر، الملك، الناصر؛ ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، سيّد الملوك والسلاطين؛ فاتح الأمصار، مبيد الأرمن والفرنج والتّتار؛ وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك؛ خادم الحرمين، صاحب القبلتين؛ أبي الفتح محمد قسيم أمير المؤمنين أعز الله سلطانه، ولد السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاوون، قدّس الله روحه.
أما بعد، فالحمد لله الذي أقام ناصر الإسلام وأهله بخير ناصر، وأحلّ في السلطنة المعظّمة من استحقّها بذاته الشريفة وشرف العناصر؛ ووضع الإصر «4»(10/59)
بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الرّعايا الأواصر «1» ، وعقد لواء الملك لمن هو واحد في الجود ألف في الوغى ففي حاليه تعقد عليه الخناصر؛ وجمع كلمة الأمّة بمتفرّد في المعالي متوحّد في المفاخر، متّصف بمناقب أربى بها على أربابها من الملوك الأوائل والأواخر؛ وأقرّ النواظر والخواطر بمن أشرق عليهما نوره الباهر، وظهرت آثار وجوده وجوده على البواطن والظّواهر؛ وأعاد شبيبة الأيّام في اقتبال سرّ السرائر، وسارت بشائر مقدمه في الآفاق سير المثل وما ظنّك بالمثل السائر؛ وفعلت مهابته في التمهيد والتشييد فعل القنا المتشاجر، وشفت الصّدور بوجود الاتّفاق وعدم الشقاق بعد أن بلغت القلوب الحناجر؛ وأورث البلاد والعباد صفوة ذرّية ورثوا السيادة كابرا عن كابر، وسرى سرّه إذا ولد المولود منهم تهلّلت له الأرض واهتزّت إليه المنابر.
والحمد لله الذي اجتبى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلم من أشرف بيت وقبيلة، ومنح الأمّة برسالته من خيري الدنيا والآخرة الوسيلة، وأوجب الشفاعة لمن سأل الله له أعلى درجة لا ينالها إلا رجل واحد وهي الوسيلة؛ وجعل شملهم بمبايعته ومتابعته في الهداية نظيما، وحضّ على ذلك بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«2» . وبلّغهم به من السعادة غاية مطلوبهم، وأيده بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم؛ وزان شريعته المطهّرة بمحاسن أبهى منظرا ومخبرا من العقود، وفرض على المؤمنين أن يوفوا بالعهود وبالعقود؛ وأقدرهم على حمل الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها، وأنزل في كتابه العزيز: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«3» .(10/60)
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين من سلالة عمّ نبيّه العباس، واصطفى بيته المبارك من خير أمّة أخرجت للناس؛ وقوّى به جأش المسلمين وجيوش الموحّدين على الملحدين، وآتاه بسيادة جدّه وسعادة جدّه ما لم يؤت أحدا من العالمين؛ وحفظ به للمؤمنين ذماما، وجعله للمتّقين إماما؛ وخصّه بمزيد الشرفين: نسبه ومنصبه، وجعل مزيّة الرتبتين كلمة باقية في عقبه، وصان به حوزة الدّين صيانة العرين بالأسود، وصيّر الأيدي البيض مشكورة لحاملي راياته السّود.
يحمده أمير المؤمنين حمد من اختاره من السّماء فاستخلفه في الأرض، وجعل إمرته على المؤمنين فرضا لتقام به السّنّة والفرض؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «1»
«2» ؛ ويشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كشف بمبعثه عن القلوب حجب الغيّ، وأشرقت أنوار نبوّته فأضاء لها يوم دخوله المدينة كلّ شيّ؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أقامه في الإمامة مقامه وأشار إلى الاقتداء به من بعده، ومنهم من أعزّ الله به الإسلام في كلّ قطر مع قربه وبعده؛ ومنهم من كانت اليد الشريفة النبويّة في بيعة الرّضوان خيرا له من يده، ومنهم من أمر الله تعالى بالمباهلة «3» بالأبناء والنّفوس فباهل «4» خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم به وبزوجه وولده؛ وعلى بقيّة العشرة، الذين غدت بهم دعوة الحقّ مشتهرة منتشرة؛ وعلى عمّيه «5» أسد الله وأسد رسوله عليه السلام، وجدّ الأئمة المهديّين أمراء المؤمنين وخلفاء الإسلام، وسلم تسليما كثيرا.
وإنّ الله تعالى جعل سجيّة الأيّام الشريفة الإماميّة الحاكميّة أدام الله إشراقها، وقسم بها بين الأولياء والأعداء آجالها وأرزاقها؛ ردّ الحقوق إلى نصابها، وإعادتها(10/61)
إلى مستحقّيها ولو تمادت الأيّام على اغتصابها، وإقرارها عند من هو دون الورى أولى بها: ليحقّق أنّ نسبه الشريف أظهر على أوامره دلائل الإعجاز، وحلّى كلماتها بالإيجاز وهباتها بالإنجاز؛ وإنّ الله جعل الاسم الشريف الحاكميّ في الحكم بأمره على خير مسمّى، وقوّى منه في تأييد كلمة الحقّ جنانا وعزما، ولم يخرج من أحكامه عن اتّباع أمر الله قضيّة ولا حكما؛ وكنت أيّها السيد، العالم العادل، السلطان، الملك، الناصر؛ ناصر الدنيا والدين، أبو الفتح محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور، سيف الدين قلاوون- قدّس الله روحه- أولى الأولياء بالملك الشريف: لما لسلفك من الحقوق، وما أسلفوه من فضل لا يحسن له التناسي ولا العقوق؛ ولما أوجب لك على العساكر الإسلامية سابق الأيمان، وصادق الإيمان: ولأنك جمعت في المجد بين طارف وتالد، وفقت بزكيّ نفس وأخ ووالد؛ وجلالة، ما ورثتها عن كلالة؛ وخلال، مالها بالسّيادة إخلال؛ ومفاخر، تكاثر البحر الزاخر؛ ومآثر، أعجز وصفها الناظم والناثر؛ وكان ركابك العالي قد سار إلى الكرك المحروس، وقعدت عنك الأجسام وسافرت معك النّفوس؛ ووثقت الخواطر بأنّك إلى السلطنة تعود؛ وأنّ الله تعالى يجدّد لك صعودا إلى مراتب السّعود؛ وأقمت بها وذكرك في الآفاق سائر، والآمال مبشّرة بأنك إلى كرسيّ مملكتك صائر. فلمّا احتاج الملك الشريف في هذه المدّة إلى ملك يسرّ سريره، وسلطان تغدو باستقراره عيون الأنام والأيّام قريرة: لما للمسلمين في ذلك من تيسير أوطار وتعمير أوطان، ولأنهم لا ينفذون في المصالح الإسلاميّة إلا بسلطان؛ لم يدر في الأذهان، ولا خطر لقاص ولا دان؛ إلّا أنك أحقّ الناس بالسلطنة الشريفة، وأولاهم برتبتها المنيفة، ولا ذكر أحد إلّا حقوق بيتك وفضلها، ولا قال عنكم إلّا بقول الله: وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها
«1» : لأنّ البلاد فتوحات سيوفكم، ورعاياها فيما هم فيه من الأمن والخير بمنزلة ضيوفكم؛ ولأنّ العساكر الإسلاميّة استرقّهم ولاؤك، ووالوك لأنهم أرقّاؤك؛ فلم يقل أحد:
أنّى له الملك علينا؟ بل أقرّ كلّ منهم لك باليد وقرّ بولايتك عينا؛ وأخلصوا في(10/62)
موالاتك العقائد، واستبشروا منك بمبارك الوجه ماجد جائد؛ ولم يغب غائب خليفته جيش أبيه وجدّه الصاعد؛ ورفعت الممالك يد الضّراعة سائلة وراغبة، وخطبتك لعقائلها ومعاقلها والخطباء على المنابر لك خاطبة وبدعائك مخاطبة؛ وقصدت لذلك أبوابك التي لا تزال تقصد، ودعيت للعود المبارك وعود محمّد للأمّة المحمديّة أحمد؛ وفعلت الجيوش المنصورة من طاعتك كلّ ما سرّ، وأربت في صدق النيّات وبرّها على كل من برّ:
ولو انّ مشتاقا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر!
فما ضرّ بحمد الله بعد الدار والآمال بساكنها مطيفة، بل كان لك الذّكر «1» في قلب الخليفة نعم الخليفة؛ وكنت لديه- وإن غبت- حاضرا بجميل الذّكر، ونأيت دارا فقرّ بك إليه حسن التصوير في الفكر. وكان أمير المؤمنين قد شاهدك يافعا، وشهد خاطره أن ستصير للمسلمين نافعا؛ وتأمّل منك أمائر أضحى لها لترقّيك آملا، وهلالا دلّته كرامته- ولا تنكر الكرامة- على أن سيكون بدرا كاملا؛ وبلغه عنك من العدل والإحسان، ما أعجز وصفه بلاغتي القلم واللّسان؛ فناداك نداءه «2» على بعد المزار، ولم يجد لك نظير أفأطال وأطاب لمقدمك السعيد الانتظار؛ إلى أن أقدمت إقدام اللّيث، وقدمت إلى البلاد المتعطّشة إلى نظرك الشريف قدوم الغيث؛ فلاح بك على الوجود دليل الفلاح، وحمد الرعايا سراك عند الصبّاح والاستصباح وشاهدوا منك أسدا فاق بوثباته وثباته الأول، وشخصا لا يصلح إلّا لإدالة دول ولا تصلح إلا لمثله الدّول؛ وقامت باختبارك على اختيارك الدّلائل، وعرفك سرير الملك وعرف فيك من أبيك شمائل؛ ورأى أمير المؤمنين من نجابتك فوق ما أخبرت به مساءلة الرّكبان، ومن مهابتك ما دلّ على خفض الشانيء ورفع الشان؛ ومن محامدك كلّ ما صغّر الخبر عنها الخبر، وأعلنت ألسنة الأقدار(10/63)
بأنه لم يبق عن تقليدك الممالك الإسلاميّة بحمد الله تعالى عذر؛ فاختارك على علم العالمين، واجتباك للذّبّ عن الإسلام والمسلمين؛ واستخار الله تعالى في ذلك فخار؛ وأفاض عليك من بيعته المباركة مع فخرك المشتهر حلل الفخار؛ وعهد إليك في كلّ ما اشتملت عليه دعوة إمامته المعظّمة، وأحكام خلافته التي لم تزل بها عقود الممالك في الطاعة منظّمة؛ وفوّض إليك سلطنة الممالك الإسلاميّة برّا وبحرا، شاما ومصرا؛ قربا وبعدا، غورا ونجدا؛ وما سيفتحه الله عليك من البلاد، وتستنقذه من أيدي ذوي الإلحاد؛ وتقليد الملوك والوزراء، وقضاة الحكم العزيز وتأمير الأمراء؛ وتجهيز العساكر والبعوث للجهاد في سبيل الله ومحاربة من ترى محاربته من الأعداء، ومهادنة من ترى مهادنته منهم؛ وجعل إليك في ذلك كله العقد والحلّ، والإبرام والنقض والولاية والعزل؛ وقلّدك ذلك كلّه تقليدا يقوم في تسليم الممالك إليك مقام الإقليد «1» ، ويقضي لقريبها وبعيدها بمشيئة الله تعالى بمزيد التمهيد والتّشييد: لتعلم أنّ الله قد جعل الأيام الشريفة الحاكمية- أدامها الله تعالى- فلكا أبدى سالفا من البيت الشريف المنصوري أقمارا، وأطلع منهم آنفا بدرا ملأ الخافقين أنوارا؛ فكلّما ظهرت لسلفه مآثر بدت مآثر خلفه أظهر، ومن شاهدهم وشاهد شمس سعادته المنزّهة عن الأفول قال هذا أكبر؛ وكلّما ذكر لأحدهم فضل علم أنه في أيامه متزيّد، وأنه إن مضى منهم سيّد في سبيله، فقد قام بأطراف الأسنّة منهم سيّد؛ وصيّر الدولة الشريفة الخليفيّة غابا إن غاب منهم أسود، خلفهم شبل بشّرت مخايله أنّه عليها يسود.
فليتقلّد السلطان الملك الناصر ما قلّده أمير المؤمنين، وليكن لدعوته الهادية من الملبّين وعليها من المؤمّنين؛ وليترقّ إلى هذه الرّتبة التي استحقّها بحسبه، واسترقّها بنسبه؛ وليباشرها مستبشرا، ويظهر من شكر الله تعالى عليها ما يغدو به مستظهرا؛ فقد أراد أمير المؤمنين القيام في نصرة الدين الحنيف فأقامك(10/64)
أنت مقامه، وصرّف بك بين أهل الطاعة والعصيان إكرامه وانتقامه؛ رعيا لعهد سلفك الكريم، ولما استوجبته نفسك النفيسة من وفور التعظيم والتكريم؛ وعناية بالعساكر المؤيّدة الذين وجّهوا وجوه آمالهم إليك، وأبت كلمتهم التي صانها الله عن التفرّق أن تجتمع في الطاعة والخدمة إلّا عليك ولديك؛ ومنّة عليهم بسلطان ما برحوا من الله تعالى يطلبونه، وملك نشأوا بأبوابه العالية فلهذا يحبّهم ويحبّونه.
فاحمد الله تعالى الذي جعل لك في إعادة الملك أسوة بسليمان عليه السلام، وردّه إليك ردّا لا انفصال لعروته ولا انفصام؛ فأضحيت لأمور عباده سدادا، ولثغور بلاده سدادا، وللخليفة عضدا في الخليقة، وفي الدهر سامي الحقيقة حامي الحقيقة، وللملك وارثا، ورقّاك رقيّا أصبحت به في السلطنة واحدا وللخلافة المعظمة ثانيا وللقمرين ثالثا.
وبشراك! أنّ الله أبرم سبب تأييدك إبراما لا تصل الأيدي إلى نقضه، وأنك سئلت عن أمر طالما أتعب غيرك سؤاله في بعضه؛ وأن الله يحسن لك العون وبك الصّون، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرّحمن بن سمرة! «1» لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» .
وبشراك! أن أمير المؤمنين خصّك بمزيد الاعتناء، وأقامك مقامه في حسن الغناء، وحقّق أنّ السعادة في أيامه موصولة منكم بالآباء والأبناء؛ وبلّغك بهذا التقليد الشريف الأماني، وتوّجه بيمين قريبة عهد باستلام الرّكن اليماني؛ واصطفاك بقلب أظهر له الكشوف إشراق تلك السّتور، وغدا مغمورا بالهداية ببركة البيت المعمور، ونظر زادته مشاهدة الحرم الشريف النبويّ نورا على نور؛ فقابل «2» ذلك بالقيام في مهمات الإسلام، وتدقيق النظر في مصالح الخاصّ والعام؛(10/65)
واجتهد في صيانة الممالك اجتهادا يحرس منها الأوساط والأطراف، وتنتظم به أحوالها أجلّ انتظام وتأتلف أجمل ائتلاف.
والوصايا كثيرة وأولاها تقوى الله: فليجعلها حلية لأوقاته، ويحافظ عليها محافظة من يتّقيه حقّ تقاته؛ ويتّخذها نجيّ فكره وأنيس قلبه، ويعظّم حرمات الله:
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
«1» .
والشرع الشريف فهو لعقد الإسلام نظام، وللدّين القيّم قوام؛ فتجتهد في اقتفاء سننه، والعمل بمفروضه»
وسننه؛ وتكريم أهله وقضاته، والتوسل بذلك إلى الله في ابتغاء مرضاته.
وأمراء دولتك فهم أنصار سلفك الصالح، وذو والنصائح فيما آثروه من المصالح؛ وخلصاء طاعتهم في السّرّ والنّجوى، وأعوانهم على البرّ والتقوى؛ وهم الذين أحلّهم والدك من العناية المحلّ الأسنى، والذين سبقت لهم بحسن الطاعة من الله الحسنى؛ ولو لم يكن لهم إلّا حسن الوفاء، لكفاهم عندك في مزيد الاعتماد والاستكفاء؛ فإنهم جادلوا في إقامة دولتك وجالدوا، وأوفوا بالعهد فهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا؛ وهم للوصايا بخدمتك واعون، وفيما ائتمنتهم عليه لأماناتهم وعهدهم راعون؛ قد أصفوا لك النّيّات بظهر الغيب، وأخلصوا الطويّات إخلاصا لا شكّ معه ولا ريب؛ ونابوا عنك أحسن مناب، وكفّوا كفّ العدوّ فما طال له لا فتراس ولا اختلاس ظفر ولا ناب؛ واتخذوا لهم بذلك عند الله وعندك يدا، وأثّلوا لهم به مجدا يبقى حديثه الحسن الصحيح عنهم مسندا.
فاستوص بهم وبسائر عساكرك المنصورة خيرا، وأجمل لهم سريرة وفيهم سيرا؛ وأحمدهم عقبى هذه الخدمة، وأوردهم منهل إحسان يضاعف لهم النّعمة(10/66)
والنّعمة: لتؤكّد طاعتك على كل إنسان، ويثقوا بحسن المكافأة: وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ
«1» . ولتزداد أوامرك ونواهيك امتثالا، ولا يجدوا عن محبّة أيّامك الشريفة انتقالا، وليقال في حسن خدمهم وإحسانك: هكذا هكذا وإلّا فلا لا.
وأما الغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما أوجبه فيهما قوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا
«2» ، فأقلّ ما يجزيء فرض الكفاية منه مرّة في كل عام، وأما فرض العين فوجوبه على ذوي الاستطاعة من المسلمين عامّ؛ وقد عرفت سنن السلطانين الشهيدين: والدك وأخيك «3» - قدّس الله روحهما «4» - في الاعتناء بجهاد الكفار، وغزوهم في عقر الدار؛ وموقف أحدهما في موطن زلّت فيه الأقدام عن الإقدام، واجتمع فيه الكفر على الإسلام؛ وشاب من هوله الوليد، ومصابرته تجاه سيف من سيوف الله تعالى الإمام خالد بن الوليد؛ واستنقاذا لآخر البلاد الساحليّة التي أنقذها الله من أيدي المشركين على يد الصّلاحين «5» ، وفتح لهما أبواب الجنة ببركة الافتتاحين؛ وأنّ والدك وأخاك سدّا على المشركين الفجاج، وطهّرا من أرجاسهم العذب الفرات والملح الأجاج؛ فالكتائب المنصوريّة «6» ، أبادت «7» التّتار بالسّيوف المشرفيّة؛ والممالك الإسلامية، زهت نظاما بالفتوحات الأشرفيّة «8» ؛ فاجتهد في إعلاء كلمة الدين أتمّ اجتهاد، وعزّزهما بثالث في الغزو والجهاد.(10/67)
وأما الرّعايا «1» بعيدهم وقريبهم، ومستوطنهم وغريبهم، فيوفّيهم من الرّعاية حظّهم، ويجزل صيانتهم وحفظهم؛ وكما يرى الحقّ له فلير الحقّ عليه، ويحسن إلى رعاياه كما أحسن الله إليه.
وأما العدل فإنّه للبلاد عمارة، وللسّعادة أمارة، وللآخرة منجاة من النّفس الأمّارة؛ فليكن له شعارا ودثارا «2» ، وليؤكّد مراسمه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة من ذلك على ما يذكر به عند الله ويشكر.
والحدود الشرعيّة فليحلّ بإقامتها لسانه وطرسه، ولا يتعدّها بنقص ولا زيادة وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
«3» . والله يخلّد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه، ويديمه ناصرا للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة؛ ويجعل سبب هذا العهد الشريف مدى الأيّام متينا، ويجدّد له في كلّ وقت نصرا قريبا وفتحا مبينا. والخطّ «4» الحاكميّ أعلاه، حجة بمقتضاه؛ إن شاء الله تعالى.
الحمد لله وحده؛ وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى نحو من ذلك كتب القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر «5» عن المستكفي بالله، أبي الرّبيع سليمان «6» ، عهد الملك المظفّر ركن الدين «بيبرس(10/68)
المنصوري» الجاشنكير «1» . وهذه نسخته:
هذا عهد شريف انتظمت به عقود مصالح الملك والممالك، وابتسمت ثغور الثّغور ببيعته التي شهدت بصحّتها الكرام الملائك؛ وتمسّكت النّفوس بمحكم عقده النّضيد ومبرم عقده النّظيم، ووثقت بميثاقه فتركت الألسن مستفتحة بقول الله الكريم: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«2» .
الحمد لله الذي جعل الملّة الإسلامية تأوي من سلطانها إلى ركن شديد، وتحوي من متابعة مظفّرها كلّ ما كانت ترومه من تأبيد التأييد، وتروي أحاديث النصر عن ملك لا يملّ من نصرة الدّين الحنيفّي وإن ملّ الحديد من الحديد؛ مؤتي ملكه من يشاء من عباده، وملقي مقاليده للوليّ المليّ بقمع أهل عناده؛ ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه مرهوبا مرغوبا، وموليه ومولّيه من غدا محبوّا من الأنام بواجب الطاعة محبوبا، ومفوّض أمره ونهيه إلى من طالما صرف خطّيّه عن حمى الدين أخطارا وخطوبا.
والحمد لله مجري الأقدار، ومظهر سرّ الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسيّة بحسن الاختبار من المصطفين الأخيار؛ جامع أشتات الفخار، ورافع لواء الاستظهار؛ ودافع لأواء «3» الأضرار، بجميل الالتجاء إلى ركن أمسى بقوّة الله تعالى عالي المنار، وافي المبارّ، بادي الآثار الجميلة والإيثار.
والحمد لله على أن قلّد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها، وأسند عقدها وحلّها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها، وأيّد(10/69)
الكتائب الإيمانيّة بمن لم تزل عواليه تبلّغها من ذرى الأمانيّ معاليها.
يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها، وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تبرح الألسنة ترويها والقلوب تنويها، والمواهب تجزل لقائلها تنويلا وتنويها؛ ويشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكمل نبيّ وأفضل مبعوث، وأشرف مورّث لأجلّ موروث؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تنمي بركاتها وتنمّ «1» ، وتخصّ حسناتها وتعمّ؛ ورضي الله عن عمّه العباس جدّ أمير المؤمنين، وعن آبائه الأئمة المهديّين؛ الذين ورثوا الخلافة كابرا عن كابر، وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم ذرى المنابر.
أما بعد، فإن الله عزّ وجلّ لما عدق «2» بمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور، وعقد له البيعة في أعناق أهل الإيمان فزادهم نورا على نور، وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمّة، وكشف بمصابرته من بأس العدا ظلام كلّ غمّة؛ وأنزل عليه السكينة في مواطن النصر والفتح المبين، وثبّته عند تزلزل الأقدام وثبّت به قلوب المؤمنين؛ وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله، وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبله- بايع الله تعالى على أن يختار للتّمليك على البرايا، والتحكيم في الممالك والرّعايا؛ من أسّس بنيانه على التقوى، وتمسّك من خشية الله تعالى بالسبب الأقوى؛ ووقف عند أوامر الشرع الشريف في قضائه وحكمه، ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالي عزمه وحزمه؛ وكان المقام الأشرف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المظفّريّ، الرّكنيّ، سلطان الإسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين؛ ناصر الملّة المحمدية، محيي(10/70)
الدولة العبّاسية؛ أبو الفتح «بيبرس» قسيم أمير المؤمنين: أعزّ الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل، وبلّغ في بقاء دولته الأمل- هو الملك الذي انعقد الإجماع على تفضيله، وشهدت مناقبه الطاهرة باستحقاقه لتحويل الملك إليه وتخويله؛ وحكم التوفيق والاتّفاق بترقّيه إلى كرسيّ السلطنة وصعوده، وقضت الأقدار بأن يلقي إليه أمير المؤمنين أزمّة عهوده، والذي كم خفقت قلوب الأعادي عند رؤية آيات نصره، ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره، واهتزّت أعطاف المنابر شوقا للافتخار باسمه، واعتزّت الممالك بمن زاده الله بسطة في علمه وجسمه؛ وهو الذي ما برح مذ نشأ يجاهد في الله حقّ جهاده، ويساعد في كل معركة بمرهفات سيوفه ومتلفات صعاده؛ ويبدي في الهيجاء صفحته للصّفاح فيقيه الله ويبقيه: ليجعله ظلّه على عباده وبلاده، فيردي الأعداء في مواقف تأييده فكم عفّر من خدّ لملوك الكفر تحت سنابك جياده؛ ويشفي بصدور سيوفه صدور قوم مؤمنين، ويسقي ظماء أسنّته فيرويها من مورد وريد المشركين؛ ويطلع في سماء الملك من غرر آرائه نيّرات لا تأفل ولا تغور، ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسّن به الممالك وتحصّن الثّغور؛ فما من حصن استغلقه الكفر إلا وسيفه مفتاحه، ولا ليل خطب دجا إلا وغرّته الميمونة صباحه؛ ولا عزّ أمل لأهل الإسلام إلا وكان في رأيه المسدّد نجاحه، ولا حصل خلل في طرف من الممالك إلّا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه؛ ولا اتّفق مشهد عدوّ إلا والملائكة الكرام بمظافرته فيه أعدل شهوده، ولا تجدّد فتوح للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد؛ (والجود بالنّفس أقصى غاية الجود) .
كم أسلف في غزو أعداء الدّين من يوم أغرّ محجّل، وأنفق ما له ابتغاء مرضاة الله سبحانه فحاز الفخر المعجّل والأجر المؤجّل؛ وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كلّ داثر، وحثّه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكلّ تال وذاكر: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
«1» . وهو الذي ما(10/71)
زالت الأولياء تتخيّل مخايل السّلطنة في أعطافه معنى وصورة، والأعداء يرومون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعّة أنواره: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
«1» . طالما تطاولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانبا، وتطفّلت على قربه فكان لها- رعاية لذمّة الوفاء- مجانبا؛ حتّى أذن الله سبحانه لكلمة سلطانه أن ترفع، وحكم له بالصّعود في درج الملك إلى المحلّ الأعلى والمكان الأرفع، وأدّى له من المواهب ما هو على اسمه في ذخائر الغيوب مستودع.
فعند ذلك استخار الله تعالى سيدنا ومولانا الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، ابن الإمام الحاكم (وذكر نسبه على العادة) جعل الله الخلافة كلمة باقية في عقبه، وأمتع الإسلام والمسلمين بشرفي حسبه ونسبه؛ وعهد إلى المقام العالي السلطانيّ بكلّ ماوراء سرير خلافته، وقلّده جميع ما هو مقلّده من أحكام إمامته؛ وبسط يده في السلطنة المعظّمة، وجعل أوامره هي النافذة وأحكامه هي المحكّمة، وذلك بالديار المصرية، والممالك الشاميّة، والفراتيّة، والجبليّة، والساحليّة، والقلاع والثّغور المحروسة، والبلاد الحجازيّة، واليمانية، وكلّ ما هو إلى خلافة أمير المؤمنين منسوب، وفي أقطار إمامته محسوب، وألقى إلى أوامره أزمّة البسط والقبض، والإبرام والنّقض، والرّفع والخفض؛ وما جعله الله في يده من حكم الأرض، ومن إقامة سنّة وفرض؛ وفي كلّ هبة وتمليك، وتصرّف في ولاية أمور الإسلام من غير شريك؛ وفي تولية القضاة والحكّام، وفصل القضايا والأحكام؛ وفي سائر التحكّم في الوجود، وعقد الألوية والبنود، وتجنيد الكتائب والجنود، وتجهيز الجيوش الإسلامية من التأييد «2» إلى كلّ مقام محمود؛ وفي قهر الأعداء الذين نرجو بقوّة الله تعالى أن يمكّنه من نواصيهم، ويحكّم قواضبه «3» في استنزالهم من صياصيهم «4» ، واستئصال شأفة عاصيهم؛ حتّى يمحو(10/72)
إن شاء الله تعالى بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشّرك المدلهمّة، وتغدو سراياه في اقتلاع قلاع الكفر مستهمة؛ وترهبهم خيل بعوثه وخيالها في اليقظة والمنام، ويدخل في أيامه أهل الإسلام «مدينة السلام» بسلام- تفويضا تامّا عامّا، منضّدا منظّما محكّما محكما؛ أقامه مولانا أمير المؤمنين في ذلك مقام نفسه الشريفة، واستشهد الكرام الكاتبين في ثبوت هذه البيعة المنيفة.
فليتقلّد المقام الشريف العالي السلطاني- أعز الله نصره- عقد هذا العهد الذي لا تطمح لمثله الآمال، وليستمسك منه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انفصال؛ فقد عوّل أمير المؤمنين على يمن آرائك التي ما برحت الأمّة بها في المعضلات تستشفي، واستكفى بكفايتك وكفالتك في حياطة الملك فأضحى وهو بذلك المستكفي؛ وهو يقصّ عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص، وينصّ لديك ما أنت آخذ منه بالعزائم إذا أخذ غيرك فيه بالرّخص؛ فإن نبّهت على التقوى فطالما تمسّكت منها بأوثق عروة؛ وإن هديت إلى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروة؛ وإن استرهفنا عزمك الماضي الغرار، واستدعينا حزمك الذي أضاء به دهرك واستنار، في إقامة منار الشرع الشريف، والوقوف عند نهيه وأمره في كل حكم وتصريف، فما زلت- خلّد الله سلطانك- قائما بسنّته وفرضه، دائبا في رضا الله تعالى بإصلاح عقائد عباده في أرضه؛ وما برح سيفك المظفّر للأحكام الشرعيّة خادما، ولموادّ الباطل حاسما، ولأنوف ذوي البدع راغما؛ فكلّ ما نوصيك به من خير قد جبلت عليه طباعك، ولم يزل مشتدّا فيه ساعدك ممتدّا إليه باعك؛ غير أنّا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى في الاقتداء بالتّذكرة في كتابه المبين، وأوجبها نصّ قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
«1» . ويندرج تحت أصولها فروع يستغني بدقيق ذهنه الشريف عن نصّها، وبفكره الثاقب عن قصّها؛ فأعظمها للملّة نفعا، وأكثرها للباطل دفعا، الشرع الشريف: فليكن- أعز الله نصره- عاملا على تشييد قواعد إحكامه، وتنفيذ أوامر أحكامه؛ فالسعيد من قرن أمره بأمره،(10/73)
ورضي فيه بحلو الحق ومرّه. والعدل فلينشر لواءه حتّى يأوي إليه الخائف، وينكفّ بردعه حيف كلّ حائف، ويتساوى في ظلّه الغنيّ والفقير، والمأمور والأمير؛ ويمسي الظّلم في أيّامك وقد خمدت ناره، وعفت آثاره.
وأهمّ ما احتفلت به العزائم، واشتملت عليه همم الملوك العظائم، وأشرعت له الأسنّة وأرهفت من أجله الصوارم؛ أمر الجهاد الذي جعله الله تعالى حصنا للإسلام وجنّة، واشترى فيه أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة؛ فجنّد له الجنود واجمع له الكتائب، واقض في مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضي «1» القواضب؛ واغزهم في عقر الدار، وأرهف سيفك البتّار: لتأخذ منهم للمسلمين بالثّار. والثّغور والحصون، فهي سرّ الملك المصون، وهي معاقل النفوس إذا دارت رحى الحرب الزّبون «2» ؛ فليقلّد أمرها لكفاتها، ويخصّ حمايتها بحماتها، ويضاعف لمن بها أسباب قوّتها ومادّة أقواتها. وأمراء الإسلام وجنود الإيمان فهم أولياء نصرك، وحفظة شامك ومصرك؛ وحزبك الغالب، وفريقك الذين تفرق منهم قلوب العدا في المشارق والمغارب؛ فليكن المقام العالي السلطانيّ- أعزه الله تعالى- لأحوالهم متفقّدا، وببسط وجهه لهم متودّدا، حتّى تتأكد لمقامه العالي طاعتهم، وتتجدّد لسلطانه العزيز ضراعتهم. وأما غير ذلك من المصالح، فما برح تدبيره الجميل لها ينفّذ ورأيه الأصيل بها يشير، فلا يحتاج مع علمه بغوامضها إلى إيضاحها وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
«3» . والله تعالى يخصّ دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب، ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجّل والفتح القريب؛ إن شاء الله تعالى.(10/74)
المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة،
«إلى فلان» باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات، ثم يأتي بعد ذلك بلفظ «أما بعد» ) ثم تارة يأتي بعد البعدية بتحميد، مثل أن يقول: «أما بعد فالحمد لله» ويتخلص إلى ذكر أمر الولاية وما ينخرط في سلكها، وتارة يأتي بعد البعدية بخطاب المولى والدعاء له، ويتخلّص إلى مقاصد العهد: من الوصايا وغيرها، على اختلاف مقاصد الكتّاب، وعلى ذلك كانت العهود في دولة الفاطميين بمصر.
قلت: وقد يستحسن هذا المذهب فيما إذا كان المعهود إليه غائبا عن حضرة الخليفة: لأن العهد يصير حينئذ كالرسالة الصريحة إليه، بخلاف ما إذا كان بحضرته فإنه لا يكون في معنى الرسالة الصريحة.
وعلى هذا المذهب كتب أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله عهد شرف الدولة شيرزيك «1» بن عضد الدولة بن بويه، وهذه نسخته «2» :
من عبد الله «عبد الكريم الإمام الطائع لله» أمير المؤمنين، إلى شيرزيك «3» بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع مولى أمير المؤمنين:
سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد- أطال الله بقاءك، وأدام عزّك وتأييدك وسعادتك ونعمتك وأمتع أمير المؤمنين بك وبالموهبة فيك وعندك- فإنّ أمير المؤمنين يرى أن يحفظ على كل(10/75)
وليّ أحمد مذاهبه، وأرضى ضرائبه، وانصرف عن الدنيا متمسّكا بطاعته، متديّنا بمشايعته، حقوقه المتوحّدة، وحرماته المتمهّدة، فيمن يخلفه بعده من ولد أمّل أن يرث عنه محلّه، ويقوم فيه مقامه؛ وفاء لأهل الولاية، وتصرّفا على أحكام الرّعاية، وسياقة للصنيعة من سالف إلى خالف، وإمضائها من تالد إلى طارف. هذا على الأمر الجامع، والعموم الشامل؛ فإذا اتّفق أن منتهى «1» وارثة القرب إليه، والمنازل لديه، إلى النّجباء الأفاضل، والحصفاء الأماثل، الذين يستحبّون استئناف الاصطناع لهم، واستقبال التفويض إليهم بالمناقب الموجودة فيهم؛ لو انفردت عما حازوه عن آبائهم وأوليائهم، أجرى أمير المؤمنين ما يفضيه عليهم من الأيادي، ويرقّيهم إليه من هضاب «2» المعالي، مجرى الأمر الواجب الذي كثرت الدّواعي إليه، واتّفق الرأي والهوى «3» عليه؛ وتطابق الإيثار والاختبار فيه، واقترن الصواب والسّداد به؛ واشترك المسلمون في استثمار فائدته وعائدته، والانتفاع بتأديته وعاقبته؛ والله يخير لأمير المؤمنين فيما يمضيه من العزائم، ويبنيه من الدّعائم؛ ويعتمده من المصالح، ويتوخّاه من المناجح، إنه على ذلك قدير، وبه جدير، وهو حسب أمير المؤمنين ونعم الوكيل.
وقد علمت- أدام الله عزّك وأمتع أمير المؤمنين بك- أنّ شجرة بيتك [هي] «4» التي تمكّنت في الخدمة أصولها والفضيلة منوطة بها، وأسباب التّمام والدوام مجتمعة فيها، فلذلك سبغت النعمة عليكم، وامتدّ ظلّها إليكم؛ ونقّلت(10/76)
فيها أقداحكم «1» ، وتوفّرت منها حظوظكم، فتداولتموها بينكم كابرا عن كابر بمساعيكم الصالحة، ومناهجكم الواضحة؛ وتعاضدكم على ما لمّ تشعّث «2» الدولة الجامعة، وطرف عنها الأعين الحاسدة، وكان شيخك عضد الدولة، وتاج الملة؛ أبو شجاع رضوان الله عليه، صاحب الرتبة الزّعمى «3» عند أمير المؤمنين وهمامها، والممتطي غاربها وسنامها؛ فعاش ما عاش مشكورا محمودا، ثم انقلب إلى لقاء ربه سعيدا رشيدا، وأوجب أمير المؤمنين لك وله منك الحلول بمكانه، وحيازة خطره وشانه، إذ كنت أظفر ولده، وأوّل المستحقّين لوراثته، وكانت فيك مع ذلك الأدوات المقتضيات لأن يفوّض الأمور إليك، ويعتمد فيها عليك: من كفاية وغناء، واستقلال ووفاء، وسياسة وتدبير، وشهامة وتشمير، وتصرّف على طاعة أمير المؤمنين، وإشبال «4» على إخوتك أجمعين؛ وحسن أثر فيما أنفذ أمرك فيه، وإفاضة أمن فيمن أمضيت «5» ولايتك عليه؛ وإحاطة بدلائل الحوالة «6» ومخايل الأصالة، بمثلها تنال الغايات الأقاصي، وتفترع الذوائب والنّواصي؛ فنوّلك أمير المؤمنين تلك المأثرة «7» ، وخوّلك تلك المفخرة «8» وجعل أخاك صمصام الدولة، وشمس الملة، أبا كاليجار- أمتع الله [بكما] أمير المؤمنين- بك تأييده «9» والمتقدّم بعدك على ولد أبيك، وأجراكما في التطبيق بينكما والتقرير لمنازلكما على مثل ما جرى الأمر عليه بين ركن الدولة أبي عليّ ومعزّ الدولة أبي(10/77)
الحسين سالفا، ثم بين عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع ومؤيّد الدولة أبي منصور آنفا؛ تولّاهم الله بالرحمة؛ ونفعهم بما قبضهم عليه من وثائق العصمة؛ وخصّك أمير المؤمنين بعد ذلك بما يخصّ به ذو القدر الشامخ «1» والقدم السابقة، والمحلّة السامية، فذكرك بالتكنية، ورفعك عن التسمية، ولقّبك لقبين: أحدهما «شرف الدولة» لتشريفه بك أولياءه الذين أوطأهم عقبك، وأعلقهم حبلك «2» ، والآخر «زين الملة» لزينة أيّامه بمعاليك، وتضاعف جمالها بمساعيك، وعقد لك بيده لواءين يلويان إليك الأعناق بالطوع ممن سرّاه وأبهجاه، والكره ممن راعاه وأزعجاه؛ وأمر بأن تقام لك الدعوة على منابر مدينة السلام وما يجري معها من الأعمال بين الدّعوة لأمير المؤمنين وبين الدّعوة لصمصام الدولة وشمس الملّة، أمتع الله أمير المؤمنين بكما، وأحسن الدّفاع له عنكما: إلحاقا لك وله بعدك بأبيكما فيما كان شرّف به من هذه الحال التي لم يبلغها «3» غيره ولا أهّل لها أحد قبله، وأن يثبت ذكرك باللقب والكنية فيما ينقش من سكك العين والورق في دور الضرب باديا وذكر صمصام الدولة- كلأكما الله- تاليا، وحباك أمير المؤمنين مع ذلك بخلع تامّة تفاض عليك، وفرسين من جياد خيله يقادان إليك؛ بمركبي ذهب من خاصّ مراكبه، وسيف ماض من خيار أسيافه، يعزّ الله منكبيك بنجاديه، ويذلّ مناكب أعدائك بغراريه، وطوق وسوارين. وأن تجرى في المكاتبة عنه إلى الغاية التي أجري أبوك رحمه الله إليها، وهذا الكتاب ناطق بها ودالّ عليها. وندب لإيصال الجميع إليك عليّ بن الحسين الهاشميّ الزّينيّ «4» ، وأحمد بن نصر العباسيّ حاجبه ووحى «5» خادمه، فتلقّ شرف الدّولة وزين الملة وأبا الفوارس [ذلك]- أدام الله عزك- بما يحقّ عليك من تقوى الله في سرّك وجهرك، ومراقبته(10/78)
في قولك وعملك، وابتغاء رضاه في مختلج خطراتك وفكرك، واتباع طاعته في مخارج أمرك ونهيك، وقابل ما أنعم به عليك، وأحسن فيه إليك، بالشكر الذي موقعه من النعمة موقع القرى من الضيف، فإن وجده لم يذم، وإن فقده لم يقم، وامدد على من ولّيت عليه من الخاصّة والعامّة ظلّك، ووطّيء لهم كنفك واغمرهم بطولك؛ وسسهم سياسة يكون بها صلاحهم مضمونا، وحريمهم مصونا، وبلادهم معمورة، ومنافعهم موفورة، وحلبهم دارّا، وعيشهم رغدا، وثغورهم مسدودة، وأعاديهم مذودة، ومسالكهم محميّة، ومساكنهم مرعيّة، ومرهم بالمعروف، وانههم عن المنكر، وابعثهم على الحسنات، واكففهم عن السّيئات؛ وساو في الحق بين شريفهم ومشروفهم، وقويّهم وضعيفهم، وقريبهم وغريبهم؛ وملّيّهم وذمّيّهم وقوّم سفهاءهم وجهّالهم، وانف دعّارهم وخرّابهم، وأكرم صلحاءهم وعلماءهم، وشاور فضلاءهم وعقلاءهم؛ وجالس أدنياءهم وأعلياءهم، وأنلهم «1» مراتبهم، ونزّلهم منازلهم؛ وأرهم تمسّكك بالدين ليقتدوا بك فيه، ورغبتك في الخير ليتقرّبوا إليك به، وخذ الحقّ وأعطه؛ وابسط العدل وقل به، وادرإ الحدود بالشّبهات، وأقمها «2» وأمضها بالبيّنات: لتكون الرغبة إليك في رغب، والرّهبة منك في رهب «3» ؛ وبالجملة فاحمل الناس على كتاب الله- جلّ وعز- وآدابه، وسنة الرسول وما جاآ به «4» .
واعلم أنّ أمير المؤمنين قد جعل كتابه هذا عهدا إليك، وحجة لك وعليك؛ وأنّ الأوامر والنواهي في العهود تكون كثيرة: وإنما قصّر فيه عن استيفائها،(10/79)
لارتفاع طبقتك عن الحاجة إلى استقصائها، وللخروج إلى الله من الحق في تضمينه هذه الجمل منها؛ فإذا وصل ذلك إليك مع كرامات أمير المؤمنين المقدّم ذكرها لك، فالبس خلعه، وتقلّد سيفه؛ وتحلّ بحلاه، وابرز لمن يليك على حملانه «1» ، وأظهر لهم ضروب إحسانه وامتنانه، وانصب أمامك اللّواءين، وتكنّ وتلقّب باللقبين؛ وكاتب من تكاتب من طبقات الناس متلقّبا بهما متكنّيا، إلا أمير المؤمنين فإنّ الأدب أن لا تكاتبه متلقّبا بل متسمّيا؛ وليس ذلك ناقصا لك فيما أعطيته، ولا مرتجعا شيئا مما حبيته، ولكنّه الأمر بالمعروف، والرسم المألوف، وصل ما بينك وبين أخيك صمصام الدولة وشمس الملة- أدام الله الإمتاع بكما- بالمودّة، كما وصله الله بالأخوّة؛ واتّفقا على مسالمة المسالمين، وتعاضدا في محاربة المحاربين؛ فإنّ ذلك أرأب للصّدع، وأحتم للبشر «2» ، وانظم للشّمل، وأليق بالأهل. وأقم الدعوة لنفسك على منابر الممالك بعد إقامتها لأمير المؤمنين؛ وكاتب أمير المؤمنين بأخبارك، وطالعه بآثارك، واستدع أمره فيما استعجم من التدبير عليك، ورأيه فيما استبهم من الأمور دونك؛ واسترشده إلى الحظّ يرشدك، واستهده في الخطوب يهدك، واستمدّه من المعونة يمددك، واشكر آلاءه يزدك، إن شاء الله تعالى.
أطال الله بقاءك وأدام عزّك وتأييدك، وسعادتك ونعمتك؛ وأمتع أمير المؤمنين بك وبالرّغبة «3» فيك وعندك؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعلى هذا النمط كتب القاضي الفاضل عهد أسد الدين شير كوه بالوزارة عن(10/80)
العاضد الفاطميّ، والوزارة يومئذ قائمة مقام السلطنة على ما تقدّم ذكره، وهذه نسخته:
من عبد الله ووليّه، عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد، الأجلّ الملك، المنصور، سلطان الجيوش، وليّ الأمة، فخر الدولة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضديّ، عضّد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته.
سلام عليك: فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على سيدنا محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين؛ صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فالحمد لله القاهر فوق عباده، الظاهر على من جاهر بعناده، القادر الذي يعجز الخلق عن دفع ما أودع ضمائر الغيوب من مراده، القويّ على تقريب ما عزبت «1» الهمم باستبعاده؛ المليّ بحسن الجزاء لمن جاهد في الله حقّ جهاده، مؤتي الملك من يشاء بما أسلفه من ذخائر رشاده، ونازعه ممّن يشاء بما اقترفه من كبائر فساده، منجد أمير المؤمنين بمن أمضى في نصرته العزائم، واستقبله الأعداء بوجوه النّدم وظهور الهزائم، وفعلت له المهابة ما لا تصنع الهمم، وخلعت آثاره على الدّنيا ما تخلعه الأنوار على الظّلم، وعدمت نظراؤه بما وجد من محاسنه التي فاق بها ملوك العرب والعجم، وانتقم الله به ممّن ظلم نفسه وإن ظنّ الناس أنه ظلم، وذاد عن موارد أمير المؤمنين من هو [منه] «2» أولى بها ويأبى الله سبحانه إلا إمضاء ما حتم، ورام إخفاء فضائله وهل يشتهر طيب المسك إلا إذا اكتتم؟ مؤيّد(10/81)
أمير المؤمنين بإمام أقرّ الله به عينهم، وقضى على يده من نصرة الدين دينهم:
لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
«1» .
والحمد لله الذي خصّ جدّنا محمدا بشرف الاصطفاء والاجتباء، وأنهضه من الرسالة بأثقل الأعباء وذخر له من شرف المقام المحمود أشرف الأنصباء، وأقام به القسطاس، وطهّر به من الأدناس، وأيّده بالصابرين في البأساء والضّرّاء وحين الباس «2» ، وألبس شريعته من مكارم الأفعال والأقوال أحسن لباس، وجعل النّور ساريا منه في عقبه لا ينقصه كثرة الاقتباس: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
«3» .
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لأن يقوم في أمّته مقامه، وهدى بمراشد نوره إلى طرق دار المقامة، وأوضح به منار الحقّ وأعلامه، وجعله شهيد عصره، وحجّة أمره، وباب رزقه، وسبيل حقّه، وشفيع أوليائه، والمستجار من الخطوب بلوائه، والمضمونة لذويه العقبى، والمسؤول له الأجر في القربى، والمفترض الطاعة على كل مكلّف، والغاية التي لا يقصّر عنها بولائه إلا من تأخّر في مضمار النّجاة وتخلّف، والمشفوع الذكر بالصلاة والتسليم، والهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم؛ لا يقبل عمل إلا بخفارة «4» ولائه، ولا يضلّ من استضاء بأنجم هدايته اللّامعة، ولا دين إلّا به ولا دنيا إلّا معه: ليتّضح النهج القاصد»
، ولتقوم الحجة على الجاحد، وليكون لشيعته إلى الجنة نعم الشافع والرائد، وليأتي الله به بنيان الأعداء من القواعد، وليبيّن لهم الذي اختلفوا فيه(10/82)
وليعلموا أنّما هو إله واحد.
يحمده أمير المؤمنين على ما حباه من التأييد الذي ظهر فبهر، وانتشر فعمّ نفعه البشر، والإظهار الذي اشترك فيه جنود السماء والأرض، والإظفار الذي عقد الله منه عقدا لا تدخل عليه أحكام النّقض، والانتصار الذي أبان الله به معنى قوله:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ*
«1» .
ويسأله أن يصلّي على سيدنا محمد الأمين، المبعوث رسولا في الأمّيين، الهادي إلى دار الخلود، المستقلّ «2» بيانه استقلال عواثر الجدود، والمعدود أفضل نعمة على أهل الوجود، والصافية بشريعته مشارع النعمة، والواضحة به الحنيفيّة البيضاء لئلّا يكون أمر الخلق عليهم غمّة؛ وعلى أبينا أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ناصر شريعته وقسيمه في النّسب والسّبب، ويد الحقّ التي حكم لها في كلّ طلب بالغلب، وعلى الأئمة من ذرّيتهما وسائط الحكم، ومصابيح الظّلم ومفاتيح النّعم، والمخفقين «3» دعوى من باهاهم وفاخر، والباذلين جهدهم في جهاد من اتّخذ مع الله إلها آخر؛ وسلّم وردّد، ووالى وجدّد.
وإن أمير المؤمنين لما فوّضه الله تعالى إليه من إيالة «4» الخليقة، ومنحه من كرم السّجية وكرم الخليقة «5» وبسطه من يده على أهل الخلاف، وأنجزه من موعوده الذي ليس له إخلال ولا إخلاف، وأوضحه من براهين إمامته للبصائر، وحفظ به على الإسلام من طليعة المباديء وساقة المصاير، وأورثه من المقام الذي(10/83)
لا ينبغي إلّا له في عصره، واستخدم فيه السّيوف والصّروف من تأدية فرائض نصره، وأظهر له من المعجزات، التي لا يخلو منها زمن، وظاهر له من الكرامات، التي زادت على أمنيّة كل متمنّ، وأتمنه عليه من أسرار النّبوّة التي رآه الله تعالى لها أشرف مودع وعليها أكرم مؤتمن؛ وأجرى عليه دولته من تذليل الصّعاب وتسهيل الطّلاب، وتفليل أحزاب الشّرك إذا اجتمعوا كما اجتمع على جدّه صلى الله عليه وسلم أهل الأحزاب- يواصل شكر هذه النّعم التّوامّ، ويعرف بعوارفها الفرادى والتّؤام؛ ويقدّم بين يدي كلّ عمل رغبة إليه في إيضاح المراشد، ونية لا تضلّ منها الهداية ولا سيّما وهو الناشد؛ ويستخيره عالما أنه يقدّم إليه أسباب الخير، ويناجيه فيطلعه الإلهام على ما يحلّي السّير ويجلّي الغير، ويأخذ بيد الله حقّه إذا اغتصبت حقوقه، ويستنجد بالله إذا استبيح خلافه واستجيز عقوقه، ويفزع إلى الله تعالى إذا قرع الضائر، ويثق بوعد الله تعالى إذا استهلكت الشّبه البصائر، فما اعترض ليل كربة إلا انصدع له عن فجر وضّاح، ولا انتقض عقد غادر إلا عاجله الله سبحانه بأمر فضّاح؛ ولا انقطعت سبل نصرة إلا وصلها الله تعالى بمن يرسله، ولا انصدعت عصا ألفة إلا تدارك الله تعالى بمن يجرّده تجريد الصّفاح؛ وإذا عدّد أمير المؤمنين هذه النّعم الجسيمة، والمنح الكريمة، واللطائف العظيمة، والعوارف العميمة؛ والآيات المعلومة، والكفايات المحتومة والعادات المنظومة، كنت أيّها السيد الأجلّ- أدام الله قدرتك، وأعلى كلمتك- أعظم نعم الله تعالى أثرا، وأعلاها خطرا وأقضاها للأمّة وطرا، وأحقّها بأن تسمى نعمة، وأجدرها بأن تعدّ رحمة، وأسماها أن تكشف غمّة، وأنضاها في سبيل الله سبحانه عزمة، وأمضاها على الأعداء حدّا، وأبداها في الجهاد جدّا، وأعداها على الأعداء يدا، وأحسنها فعلا لليوم وأرجاها غدا، وأفرجها للأزمة وقد كادت الأمة تصير سدى، وأحقّ الأولياء بأن يدعى للأولياء سيّدا، وأبقاهم فعلة لا ينصرم فعلها الذي بدا أبدا.
فليهنك «1» أنّك حزب الله الغالب، وشهاب الدين الثاقب، وسيف الله(10/84)
القاضب، وظلّ أمير المؤمنين الممدود، ومورد نعمته المورود، والمقدّم في نفسه وما نؤخّره إلّا لأجل معدود؛ نصرته حين تناصر أهل الضّلال، وهاجرت إليه هاجرا برد الزّلال وبرد الظّلال، وخضت بحار الأهوال، وفي يدك أمواج النّصال؛ وها في جيدك اليوم عقد جواهر منّه ونظم لآل، بل قد بلغت السماء وزيّنت منك بنجوم نهار لا نجوم ليال، وكشفت الغمّاء وهي مطبقة، ورفعت نواظر أهل الإيمان وهي مطرقة، وعقصت أعنّة الطّغيان وهي مطلقة، وأعدت بحنكتك على الدولة العلويّة بهجة شبابها المونقة، وأنقذت الإسلام وهو على شفى جرف هار «1» ، ونفذت حين لا تنفذ السّهام عن الأوتار، وسمعت دعوته على بعد الدار، وأبصرت حقّ الله ببصيرتك وكم من أناس لا يرونه بأبصار، وأجليت طاغية الكفر وسواك اجتذبه «2» ، وصدقت الله سبحانه حين داهنه من لا بصيرة له وكذبه، وأقدمت على الصّليب وجمراته متوقّدة، وقاتلت أولياء الشيطان وغمراته متمرّدة؛ وما يومك في نصرة الدولة بواحد، ولا أمسك مجحود وإن رغم أنف الجاحد؛ بل أوجبت الحقّ بهجرة بعد هجرة، وأجبت دعوة الدين قائما بها في غمرة بعد غمرة، وافترعت صهوة هذا المحلّ الذي رقّاك إليه أمير المؤمنين باستحقاقك، وأمات الله العاجزين بما في صدورهم من حسرات لحاقك؛ وكنت البعيد القريب نصحه، المحجوب النافذ بحجّته المذعورة أعداء أمير المؤمنين [به] «3» إن فوّق سهمه أو أشرع رمحه؛ وما ضرّك أن سخطك أعداء أمير المؤمنين وأمير المؤمنين قد ارتضاك، ولا أن منعك(10/85)
المعاند حقّك وقد قضى لك واقتضاك؛ وما كان في محاجزتك عن حظّك من خدمة أمير المؤمنين الذي أنت به منه أولى، ومدافعتك عن حقّك في قرب مقامه الذي لا يستطيع طولا، إلّا مغالبة الله فيك والله غالب على أمره، ومباعدتك وقد قرّبك الله من سرّ أمير المؤمنين وإن بعدت من جهره، استشرفتك الصّدور، وتطلّعت إليك عيون الجمهور، واستوجبت عقيلة النّعم بما قدّمت من المهور «1» ، ونصرت الإيمان بأهله، وأظهرت الدّين بمظاهرتك على الدّين كلّه، وناهضت الكفرة بالباع الأشدّ والرأي الأسدّ، ونادتهم سيوفك: «ولا قرار على زأر من الأسد «2» - وأدال الله بك ممن قدم على ما قدّم، وندم فما أغنى عنه النّدم، حين لجّ في جهالته، وتمادى في ضلالته، واستمرّ على استطالته، وتوالت منه عثرات ما أتبعها باستقالته، فكم اجتاح للدّولة رجالا، وضيّق من أرزاقهم مجالا، وسلب من خزائنها ذخائر وأسلحة وأموالا، ونقلها من أيدي أوليائها إلى أعداء الله تبارك وتعالى، واتّسعت هفواته «3» عن التعديد، وما العهد منها ببعيد؛ وقد نسخ الله تعالى بك حوادثها فوجب أن تنسخ «4» أحاديثها، وأتى الأئمّة منك بمن هو وليّها والأمّة بمن هو مغيثها، ودعاك إمام عصرك بقلبه ولسانه وخطّه على بعد الدار، وتحقّق أنك تتصرف معه حيث تصرّف وتدور معه حيث دار، واختارك على ثقة من أنّ الله تعالى يحمده فيك عواقب الاختيار، ورأى لك إقدامك ورقاب الشرك صاغرة، وقدومك وأفواه المخاوف فاغرة، وكرّتك في طاعته وأبى الله تعالى أن تكون خاسرة، وسطا بك(10/86)
حين تمالى بك المشركون، وتمثّل لرسلهم بقوله سبحانه: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ
«1» وأنفت عزّته هجنة «2» الهدنة. وقال لأوليائه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ*
«3» وازدرى بخنازيرهم انتظارا لوصولك بأسود الإسلام، وصبر على أنّك تلبّي نداءه بألسنة الأعلام قبل ألسنة الأقلام؛ فكنت حيث رجا وأفضل، ووجدت بحيث رعى وأعجل، وقدمت فكتب الله لك العلوّ، وكبت بك العدوّ، وجمع على التوفيق لك طرفي الرّواح والغدّو، ولم يلبس الكافر بسهامك جنّة «4» إلا الفرار، وكان كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ
«5» فلله درّك حين قاتلت بخبرك، قبل عسكرك، ونصرت بأثيرك، قبل عشيرك؛ وأكرم بك من قادم خطواته مبرورة، وسطواته للأعداء مبيرة «6» ، وكلّ يوم من أيامه يعدّ سيرة؛ وإنك لمبعوث إلى بلاد أمير المؤمنين بعث السّحاب المسخّر، ومقدّم في النّية وإن كنت في الزمان المؤخّر، وطالع بفئة الإسلام غير بعيد أن يفيء الله عليها بلاد الكفّار، ورجال جهاد عددناهم عندنا من المصطفين الأخيار، وأبناء جلاد يشترون الجنة بعزائم كالنار، وغرر نصر سكون العدّو بعدها غرور ونومه غرار «7» .
ولما جرى من جرى ذكره على عادته في إيحاشك والإيحاش منك بكواذب الظّنون، ورام رجعتك عن الحضرة وقد قرّت بك الدار وقرّت بك العيون؛ وكان كما قال الله تعالى في كتابه المكنون: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ
«8» هنالك غضبت «9» نفوس الإسلام(10/87)
ففتكت به أيديها، وكشفت له عن غطاء العواقب التي كانت منه مباديها، وأخذه من أخذه أليم شديد، وعدل فيه من قال وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
«1» : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
«2» .
ولما نشرت لواء الإسلام وطواه، وعضّدت الحقّ وأضعف قواه، وجنيت عقبى ما نويت وجنى عقبى ما نواه، وأبيت إلا إمضاء العزم في الشّرك وما أمضاه، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ
«3» ودفعت الخطب الأشقّ، وطلعت أنوار النصر مشرقة بك وهل تطلع الأنوار إلّا من الشّرق «4» ، وقال لسان الحق:
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُ
«5» ، قضى الله تعالى إلى أمير المؤمنين عدّة قدّمها ثم قضاها، وولّاه كما ولّى جدّه صلى الله عليه وسلم قبلة يرضاها وانتصر له بك انتصاره لأهل البيت بسلمانه وعمّاره «6» ، وأنطق أمير المؤمنين باصطفائك اليوم وبالأمس كنت عقد إضماره؛ وقلّدك أمير المؤمنين أمر وزارته، وتدبير مملكته وحياطة ماوراء سرير خلافته، وصيانة ما اشتملت عليه دعوة إمامته، وكفالة «7» قضاة المسلمين، وهداية دعاة المؤمنين، وتدبير ما(10/88)
عدقه «1» الله بأمير المؤمنين من أمور أوليائه أجمعين، وجنوده وعساكره المؤيّدين، المقيمين منهم والقادمين، وكافّة رعايا الحضرة بعيدها ودانيها، وسائر أعمال الدول باديها وخافيها؛ وما يفتحه الله تعالى على يديك من البلاد، وما تستعيده من حقوقه التي اغتصبها الأضداد، وألقى إليك المقاليد بهذا التقليد، وقرّب عليك كلّ غرض بعيد، وناط بك العقد والحلّ، والولاية والعزل، والمنع والبذل؛ والرّفع والخفض، والبسط والقبض، والإبرام والنّقض، والتّنبيه والغضّ، والإنعام والانتقام، وما توجب السياسة إمضاءه من الأحكام، تقليدا لا يزال به عقد فخرك نظيما، وفضل الله عليك وفيك عظيما ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً
«2» .
فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من هذه الرّتبة التي تتأخّر دونها الأقدام، والغاية التي لا غاية بعدها إلّا ما يملّيك الله به من الدّوام؛ فلقد تناولتها بيد في الطاعة غير قصيرة، ومساع في خدمة أمير المؤمنين أيّامها على الكافرين غير يسيرة، وبذلت لها ما مهّد سبلها، ووصلتها بما وصل بك حبلها، وجمعت من أدواتها ما جمع لك شملها، وقال لك لسان الحق وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها
«3» .
وتقوى الله سبحانه: فهي وإن كانت لك عادة، وسبيل لاحب «4» إلى السعادة، فإنها أولى الوصايا بأن تتيمّن باستفتاحها، وأحقّ القضايا بأن تبتديء الأمور بصلاحها؛ فاجعل تقوى الله أمامك، وعامل بها ربّك وإمامك، واستنجح بها عواقبك ومباديك، وقاتل بها أضدادك وأعاديك، قال الله سبحانه في كتابه المكنون: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ(10/89)
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
«1» .
والعساكر المنصورة فهم الذين غذوا بولاء أمير المؤمنين ونعمه، وربوا في حجور فضله وكرمه؛ واجتاحهم من لم يحسن لهم النّظر، واستباحهم بأيدي من أضرّ لما أصرّ؛ وطالما شهدوا المواقف ففرّجوها، واصطلوا المخاوف وتولّجوها، وقارعوا الكفّار مسارعين للأعنّة، مقدمين مع الأسنّة، مجرين إلى غايتين: إما إلى النّصر وإمّا إلى الجنّة؛ ودبّروا الولايات فسّدّدوا وتقلّدوا الأعمال فيما تقلّدوا؛ واعتمد أحمرهم وأسودهم، وأقربهم وأبعدهم؛ وفارسهم وراجلهم، ورامحهم ونابلهم، بتوفير الإقطاع وإدرار النفقات، وتصفية موارد العيش المونقات؛ وأحسن لهم السياسة التي تجعل أيديهم على الطاعة متّفقة، وعزائمهم في مناضلة أعداء الدّين مستبقة، وأجرهم على العادات في تقليد الولايات، واستكفهم لما هم أهله من مهمّات التصرّفات؛ وميّز أكابرهم تمييز الناظر بالحقائق، واستنهضهم في الجهاد فهذا المضمار وأنت السابق، وقم في الله تعالى أنت ومن معك فقد رفعت الموانع والعوائق: ليقذف الله بالحق الذي نصرته على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق «2» .
والشرع الشريف فأنت كافل قضاته، وهادي دعاته؛ وهو منار الله تعالى الأرفع، ويده التي تمنع الظّلم وتدفع، فقم في حفظ نظامه، وتنفيذ أحكامه «3» ؛(10/90)
وإقامة حدوده، وإمضاء عقوده؛ وتشييد أساس الدعوة وبنائها، وتمييز آخذي عهودها وأنبائها، قيام من يعوّل في الأمانة على أهل الدّيانة، ويستمسك بحقوق الله تعالى الحقيقة بالرعاية والصّيانة.
والأموال فهي سلاح العظائم، ومواد العزائم، وعتاد المكارم، وعماد المحارب والمسالم؛ وأمير المؤمنين يؤمّل أن تعود بنظرك عهود النّضارة وأن يكون عدلك في البلاد وكيل العمارة.
والرّعايا فقد علمت ما نالهم من إجحاف الجبايات وإسراف الجنايات، وتوالى عليهم من ضروب النّكايات، فاعمر أوطانهم التي أخربها الجور والأذى، وانف عن مواردهم الكدر والقذى، وأحسن حفظ وديعة الله تعالى منهم، وخفّف الوطأة ما استطعت عنهم؛ وبدّلهم من بعد خوفهم أمنا، وكفّ من يعترضهم في عرض هذا الأدنى.
والجهاد فهو سلطان الله تعالى على أهل العناد، وسطوة الله تعالى التي يمضيها في شرّ العباد على يد خير العباد؛ ولك من الغناء فيه مصرا وشاما، وثبات الجأش كرّا وإقداما، والمصافّ التي ضربت فكنت ضارب كماتها، والمواقف التي اشتدّت فكنت فارج هبواتها «1» ؛ والتّدريب الذي أطلق جدّك، والتجريب الذي أورى زندك، [ما] «2» يغني عن تجديد الوصايا البسيطة، وتأكيد القضايا المحيطة؛ وما زلت تأخذ من الكفّار باليمين، وتعظم فتوحك في بلاد الشّمال فكيف تكون في بلاد اليمين، فاطلب أعداء الله برّا وبحرا، وأجلب عليهم سهلا ووعرا، وقسّم بينهم الفتكات قتلا وأسرا، وغارة وحصرا، قال الله تعالى في كتابه المكنون: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً(10/91)
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
«1» .
وتوفيق الله تعالى يفتح لك أبواب التدبير، وخبرتك تدلّك على مراشد الأمر: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
«2» فأنت تبتدع من المحاسن ما لا تحيط به الوصايا، وتخترع من الميامن ما يتعرّف بركاته الأولياء والرّعايا؛ والله سبحانه وتعالى يحقّق لأمير المؤمنين فيك أفضل المخايل، ويفتح على يديك مستغلق البلاد والمعاقل؛ ويصيب بسهامك من الأعداء النّحور والمقاتل؛ ويأخذ للإسلام بك ماله عند الشرك من الثارات والطّوائل «3» ؛ ولا يضيع لك عملك في خدمة أمير المؤمنين إنه لا يضيع عمل عامل، ويجري الأرزاق والآجال بين سيبك «4» الفاضل وحكمك الفاصل؛ فاعلم هذا من أمر أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه؛ إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعلى نحو منه كتب القاضي الفاضل أيضا عهد الملك الناصر، صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالوزارة عن العاضد أيضا، وهذه نسخته:
من عبد الله ووليّه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيّد الأجلّ (على نحو ما تقدّم «5» في تقليد عمّه أسد الدّين شيركوه) .
أما بعد، فالحمد لله مصرّف الأقدار ومشرّف الأقدار، ومحصي الأعمال والأعمار، ومبتلي الأخيار والأبرار، وعالم سرّ الليل وجهر النهار، وجاعل دولة أمير المؤمنين فلكا تتعاقب فيه أحوال الأقمار: بين انقضاء سرار «6» واستقبال(10/92)
إبدار، وروضا إذا هوت فيه الدّوحات أينعت الفروع سابقة النّوّار باسقة الثّمار؛ ومنجد دعوته بالفروع الشاهدة بفضل أصولها، والجواهر المستخرجة من أمضى نصولها، والقائم بنصرة دولته فلا تزال حتّى يرث الله الأرض ومن عليها قائمة على أصولها.
والحمد لله الذي اختار لأمير المؤمنين ودلّه على مكان الاختيار، وأغناه باقتضاب الإلهام عن رويّة الاختبار، وعضّد به الدين الذي ارتضاه وعضّده بمن ارتضاه، وأنجز له من وعد السّعد ما قضاه قبل أن اقتضاه، ورفع محلّه عن الخلق فكلّهم من مضاف إليه غير مضاه؛ وجعل مملكته عرينا لاعتزازها بالأسد وشبله، ونعمته ميراثا أولى بها ذوي الأرحام من بني الولاء وأهله، وأظهر في هذه القضيّة ما أظهره في كلّ القضايا من فضل أمير المؤمنين وعدله؛ فأولياؤه كالآيات التي تتّسق دراريّ أفقها المنير، وتنتسق درر عقدها النظيم النّضير: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
«1» .
والحمد لله الذي أتمّ بأمير المؤمنين نعمة الإرشاد، وجعله أولى من للخلق ساد وللحقّ شاد، وآثره بالمقام الذي لا ينبغي إلّا له في عصره، وأظهر له من معجزات نصره ما لا يستقلّ العدد بحصره، وجمع لمن والاه بين رفع قدره ووضع إصره «2» ، وجعل الإمامة محفوظة في عقبه والمعقّبات تحفظه بأمره، وأودعه الحكم التي رآه لها أحوط من أودعه، وأطلع من أنوار وجهه الفجر الذي جهل من ظنّ(10/93)
غير نوره مطلعه، وآتاه ما لم يؤت أحدا، وأمات به غيّا وأحيا رشدا، وأقامه للدّين عاضدا فأصبح به معتضدا، وحفظ به مقام جدّه وإن رغم المستكبرون، وأنعم به على أمّته أمانا لولاه ما كانوا ينظرون ولا يبصرون، وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
«1» .
يحمده أمير المؤمنين على ما آتاه من توفيق يذلّل له الصّعب الجامح، ويدني منه البعيد النّازح، ويخلف على الدّين من صلاحه الخلف الصالح، ويلزم آراءه جدد السّعود الواضح، ويريه آيات الإرشاد فإنّه نازح «2» قدح القادح، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي أنجى أهل الإيمان ببعثه، وطهّر بهديه من رجس الكفر وخبثه، وأجار باتّباعه من عنت الشيطان وعبثه، وأوضح جادّة التوحيد لكلّ مشرك الاعتقاد مثلّثه، وعلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي جادلت يده بلسان ذي الفقار، وقسّم ولاؤه وعداوته بين الأتقياء والأشقياء الجنّة والنار؛ وعلى الأئمة من ذرّيتهما الذي أذلّ الله بعزّتهم أهل الإلحاد، وأصفى بما سفكوه من دمائهم موارد الرشاد، وجرت أيديهم وألسنتهم بأقوات القلوب وأرزاق العباد، وسلّم ومجّد، ووالى وجدّد.
وإن الله سبحانه ما أخلى قطّ دولة أمير المؤمنين التي هي مهبط الهدى ومحطّ النّدى، ومورد الحياة للولّي والرّدى للعدا، من لطف يتلافى الحادثة ويشعبها ويرأبها، ونعمة تبلغ بها النفوس أربها؛ وموهبة تشدّ موضع الكلم، وتسدّ موضع الثّلم، وتجلّي غمائم الغمم، وتحلّي مغانم النّعم، وتستوفي شرائط المناجح، وتستدني فوارط المصالح؛ ولم يكن ينسى الحادثة في السيد الأجلّ الملك المنصور «3» رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلّبه ومثواه، التي كادت لها(10/94)
أواخي «1» الملك تتزعزع، ومباني التدبير تتضعضع؛ إلّا ما نظر فيه أمير المؤمنين بنور الله من اصطفائك أيّها السيد الأجل الملك الناصر:- أدام الله قدرتك- لأن تقوم بخدمته بعده، وتسدّ في تقدمة جيوشه مسدّه، وتقفو في ولائه أثره، ولا تفقد منه إلا أثره؛ فوازت الفادحة فيه النعمة فيك، حتّى تستوفي حظّه من أمير المؤمنين بأجر لا يضيع الله فيه عمله، فاستوجب مقعد صدق بما اعتقده من تأدية الأمانة له وحمله، واستحقّ أن ينضرّ الله وجهه بما أخلقه الله من جسمه في مواقف الجهاد وبدّله؛ ومضى في ذمام رضا أمير المؤمنين: وهو الذّمام الذي لا يقطع الله منه ما أمره أن يصله، وأتبع من دعائه بتحف أوّل ما تلقاه بالرّوح «2» والرّيحان، وذخرت له من شفاعته ما عليه معوّل أهل الإيمان في الأمان؛ فرعى الله له قطعه البيداء إلى أمير المؤمنين وتجشّمه الأسفار، ووطأه المواطيء التي تغيظ الكفّار، وطلوعه على أبواب أمير المؤمنين طلوع أنوار النهار، وهجرته التي جمعت له أجرين: أجر المهاجرين وأجر الأنصار، وشكر له ذلك المسعى الذي بلغ من الشّرك الثار، وبلّغ الإسلام الإيثار. وما لقي ربّه حتّى تعرّض للشّهادة بين مختلف الصّفاح، ومشتجر الرّماح، ومفترق الأجسام من الأرواح؛ وكانت مشاهدته لأمير المؤمنين أجرا فوق الشّهادة، ومنّة لله تعالى عليه له بها ما للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة؛ وحتى رآك أيّها السيد الأجلّ الملك الناصر- أدام الله قدرتك- قد أقررت ناظره، وأرغمت مناظره، وشددت سلطانه، وسددت مكانه؛ ورمى بك فأصاب، وسقى بك فصاب «3» ، وجمعت ما فيه من أبّهة المشيب إلى ما فيك من مضاء الشّباب، ولقنت ما أفادته التّجارب جملة، وأعانتك المحاسن التي هي فيك جلّة، وقلّب عليك إسناد الفتكات فتقلّبت، وأوضح لك منهاج البركات فتقبّلت، وسدّدك سهما، وجرّدك شهما، وانتضاك فارتضاك غربا «4» ، وآثرك على آثر ولده إمامة في(10/95)
التدبير وحربا؛ وكنت في السلم لسانه الآخذ بمجامع القلوب، وفي الحرب سنانه النافذ في مضايق الخطوب، وساقته إذا طلب، وطليعته إذا طلب، وقلب جيشه إذا ثبت وجناحه إذا وثب؛ ولا عذر لشبل نشأ في حجر أسد، ولا لهلال استملى النّور من شمس واستمدّ.
هذا ولو لم يكن لك هذا الإسناد في هذا الحديث، وهذا المسند الجامع من قديم الفخر وحديث، لأغنتك غريزة عزيزة وسجيّة سجيّة وشيمة وسيمة، وخلائق، فيها ما تحبّ الخلائق، ونحائز «1» ، مثلها حائز، ومحاسن، ماؤها غير آسن، ومآثر، جدّ غير عاثر، ومفاخر، غفل عنها الأوّل، ليستأثر بها الآخر، وبراعة لسان، ينسجم قطارها، وشجاعة جنان، تضطرم نارها، وخلال جلال عليك شواهد أنوارها تتوضّح، ومساعي مساعد لديك كمائم نورها تتفتّح؛ فكيف وقد جمعت لك في المجد بين نفس وأب وعمّ، ووجب أن سألك من اصطفاء أمير المؤمنين ماذا حصل ثم على الخلق عمّ؛ فيومك واسطة في المجد بين غدك وأمسك، وكلّ ناد من أندية الفخار لك أن تقول فيه وعلى غيرك أن يمسك؛ فبشراك أنّ أنعم أمير المؤمنين موصولة منكم بوالد وولد، وأن شمس ملكه بكم كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد.
ولما رأى الله تقلّب وجه أمير المؤمنين في سمائه ولّاه من اختيارك قبلة، وقامت حجّته عند الله باستكفائك وزيرا له ووزرا للملّة؛ فناجته مراشد الإلهام، وأضاءت له مقاصد لا تعقلها كلّ الأفهام؛ وعزم له على أن قلّدك تدبير مملكته الذي أعرقت في إرثه وأغرقت في كسبه، ومهّد لك أبعد غاية في الفخر بما يسّر لك من قربه؛ ولقد سبق أمير المؤمنين إلى اختيارك قبل قول لسانه بضمير قلبه، وذكر فيك قول ربه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
«2» . وقلّدك لأنك سيف من(10/96)
سيوف الله تعالى يحقّ به التقلّد وله التّقليد، واصطفاك على علم بأنك واحد منتظم في معنى العديد؛ وأحيا في سلطان جيوشه سنّة جدّه الإمام المستنصر بالله «1» في أمير جيوشه الأوّل «2» ، وأقامك بعده كما أقام بعده ولده وإنه ليرجو أن تكون أفضل من الأفضل «3» ؛ وخرج أمره إليك بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ لك بتقليدك وزارته التي أحلّك ربوتها، وأحلّ لك صهوتها؛ وحلّاك نعمتها، و «4» لك نغمتها؛ فتقلّد وزارة أمير المؤمنين من رتبتها التي تناهت في الإنافة، إلى أن لا رتبة فوقها إلّا ما جعله الله تعالى للخلافة، وتبوّأ منها صدرا لا تتطلّع إليه عيون الصّدور، واعتقل منها في درجة على مثلها تدور البدور:
وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
«5» : وقل الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
«6» . وباشر مستبشرا، واستوطن متديّرا «7» ؛ وابسط يدك فقد فوّض إليك أمير المؤمنين بسطا وقبضا، وارفع ناظرك فقد أباح لك رفعا وخفضا؛ وأثبت على درجات السعادة فقد جعل لحكمك تثبيتا ودحضا، واعقد حبى العزمات للمصالح فقد أطلق بأمرك عقدا ونقضا؛ وانفذ فيما أهّلك له فقد أدّى بك نافلة من السّياسة وفرضا؛ وصرّف أمور المملكة فإليك الصّرف والتصريف، وثقّف أود الأيام فعليك أمانة التهذيب والتثقيف، واسحب ذيول الفخار حيث لا تصل التّيجان، واملأ لحظا من نور الله تعالى حيث تتّقي(10/97)
الأبصار لجين الأجفان؛ إنّ هذا لهو الفضل المبين فارتبطه بالتقوى التي هي عروة النّجاة وذخيرة الحياة والممات، وصفوة ما تلقّى آدم من ربّه من الكلمات؛ وخير ما قدّمته النفوس لغدها في أمسها، وجادلت [به] «1» يوم تجادل كلّ نفس عن نفسها؛ قال الله سبحانه ومن أصدق من الله قيلا: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
«2» . واستتمّ بالعدل نعم الله تعالى عليك، وأحسن كما أحسن الله إليك، وأمر بالمعروف فإنّك من أهله، وانه عن المنكر كما كنت تنزّهت عن فعله. وأولياء أمير المؤمنين، وأنصاره الميامين، ومن يحفّ بمقام ملكه من الأمراء المطوّقين «3» ، والأعيان المعصّبين، والأماثل والأجناد أجمعين؛ فهم أولياؤه حقّا، ومماليكه رقّا، والذين تبوّءوا الدار والإيمان سبقا، وأنصاره غربا كما أنّ عسكرك أنصاره شرقا؛ فهم وهم يد في الطاعة على من ناواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم؛ وتحكّم فيهم وأنت عند أمير المؤمنين أعلاهم.
هذا وقد كان السيد الأجلّ الملك المنصور- رضي الله عنه- استمطر لهم [من] «4» إنعام أمير المؤمنين المسامحة بعلقهم، وواسى «5» في هذه المنقبة التي استحقّ بها حسن الذكر بين طوائفهم وفرقهم، فصنهم من جائحات «6» الاعتراض، وابذل لهم صالحات الأغراض؛ وارفع دونهم الحجاب، ويسّر لهم الأسباب، واستوف منهم عند الحضور إليك غايات الخطاب؛ وصرّفهم في بلاد أمير المؤمنين ولاة وحماة، كما تصرّفهم في أوقات الحرب لماة «7» وكماة؛ وعرّفهم بركة(10/98)
سلطانك، واقتد قلوبهم بزمام إحسانك.
وأما القضاة والدّعاة فهم بين كفالتك وهديك، والتصريف على أمرك ونهيك؛ فاستعمل منهم من أحسن عملا، فأمّا بالعنايات فلا.
والجهاد فأنت راضع درّه، وناشئة حجره؛ وظهور الخيل مواطنك، وظلال الجبل مساكنك؛ وفي ظلمات مشاكله، تجلى محاسنك، وفي أعقاب نوازله، تتلى ميامنك؛ فشمّر له عن ساق من القنا، وخض فيه بحرا من الظّبا «1» ؛ واحلل فيه عقدة كلمات الله سبحانه وثيقات الحبى «2» ؛ وأسل الوهاد بدماء العدا وارفع برؤوسهم الرّبا؛ حتّى يأتي الله بالفتح الذي يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخورا لأيّامك، ومشهودا به يوم مقامك بين يديه من لسان إمامك.
والأموال فهي زبدة حلب اللّطف لا العنف، وجمّة يمتريها «3» الرّفق لا العسف، وما برحت أجدّ ذخائر الدّول للصّفوف، وأحدّ أسلحتها التي تمضي وقد تنبو السّيوف؛ فقدّم للبلاد الاستعمار «4» ، تقدّم لك الاستثمار، وقطرة من عدل تزخر بها من مال بحار.
والرّعايا فهم ودائع الله لأمير المؤمنين وودائعه لديك، فاقبض عنهم الأيدي وابسط بالعدل فيهم يديك، وكن بهم رؤوفا، وعليهم عطوفا، واجعل الضعيف(10/99)
منهم في الحقّ قويّا والقويّ في الباطل ضعيفا، ووكّل برعايتهم ناظر اجتهادك، واجعل ألسنتهم بالدّعاء من سلاحك وقلوبهم بالمحبّة من أجنادك؛ ولو جاز أن يستغني عن الوصيّة قائم بأمر، أو جالس في صدر، لا ستغنيت عنها بفطنتك الزّكيّة، وفطرتك الذّكيّة؛ ولكنّها من أمير المؤمنين ذكرى لك وأنت من المؤمنين، وعرابة بركة فتلقّ رايتها باليمين؛ والله تعالى يؤيّدك أيّها السيد الأجل- أدام الله قدرتك- بالنصر العزيز، ويقضي لدولة أمير المؤمنين على يديك بالفتح الوجيز، ولأهلها في نظرك بالأمر الحريز، ويمتّع دست الملك بحلى مجدك الإبريز، ويقرّ عيون الأعيان بما يظهر لك في ميدان السعادة من السّبق والتّبريز، ويملّيك من نحلة أنعم أمير المؤمنين بما ملّكك إيّاه ملك التحويز؛ ويلحق بك في المجد أوّلك، ويحمد فيك العواقب ولك؛ فاعلم ذلك من أمر أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثالث «1» (أن يفتتح العهد بخطبة)
وهو ما حكاه في «التعريف» عن الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان «2» فيما كتب به للظاهر بيبرس، وذكر أن ابن لقمان ليس بحجّة. ثم قال:
على أن الفاضل «3» محيي الدين بن عبد الظاهر «4» قد تبعه فيما كتب به للمنصور قلاوون.(10/100)
قلت: ليس ابن لقمان هو المبتكر لهذا المذهب، بل كان موجودا معمولا به. استعمله كتّاب الإنشاء بديوان الخلافة ببغداد قبل ذلك بزمن طويل، وهو منبع الكتابة الذي عنه يصدر الترتيب، وقاعدتها التي يبنى عليها المصطلح. وعليه كتب عهد العادل «1» أبي بكر بن أيّوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف «من بغداد» . وإليه مال ابن الأثير في «المثل السائر» «2» . وذكر أن الافتتاح ب «هذا ما عهد» قد ابتذل بكثرة الاستعمال، وابن لقمان تابع لا متبوع. على أن إنشاءه يدلّ على تقدّمه في الكتابة، وهو وإن كان ليس بحجة فابن الأثير حجة في هذا الشأن، يرجع إليه ويعمل بقوله، ويؤيّده حديث: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» ولذلك مال أهل العصر إلى اختياره والعمل عليه؛ إلا أنّ فيه مخالفة لما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم وغيره من عهود الصحابة على ما تقدّم ذكره.
وبكلّ حال فأهل هذا المذهب لا يخرجون فيه عن ضربين: ضرب يعبّرون عن الأوامر الواردة في العهد عن الخليفة بقوله: «أمره بكذا وأمره بكذا» وهي طريقة المتقدّمين منهم، وعليها كتب عهد العادل أبي بكر «3» المشار إليه. وضرب يعبّرون بقولهم «أن يفعل كذا وكذا» وما يجري هذا المجرى، وهي طريقة أهل زماننا.
وهذه نسخة العهد المكتوب به من ديوان الخلافة ببغداد على هذه الطريقة،(10/101)
للعادل أبي بكر بن أيّوب أخي «1» السلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» «2» وهي:
الحمد لله الذي اطمأنّت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره، ووسعت كلّ شيء رحمته، وظهرت في كل أمر حكمته، ودلّ على وحدانيّته بعجائب ما أحكمه صنعا وتدبيرا، وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا، ممدّ الشاكرين بنعمه «3» التي لا تحصى عددا، وعالم الغيب الذي لا يظهر على غيبه أحدا، لا معقّب لحكمه في الإبرام والنّقض، ولا يؤوده حفظ السموات والأرض، تعالى أن يحيط بحكمه الضمير «4» ، وجلّ أن يبلغ وصفه البيان والتفسير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
«5» .
والحمد لله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ بشيرا ونذيرا، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً
«6» . وابتعثه هاديا للخلق، وأوضح به مناهج الرّشد وسبل الحق، واصطفاه من أشرف الأنساب وأعزّ القبائل، واجتباه لإيضاح البراهين والدّلائل، وجعله لديه أعظم الشّفعاء وأقرب الوسائل، فقذف صلى الله عليه وسلم بالحقّ على الباطل؛ وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجّة البيضاء والسّنن العادل، حتّى استقام اعوجاج كلّ زائغ ورجع إلى الحقّ كلّ حائد «7» عنه ومائل، وسجد لله كلّ(10/102)
شيء تتفيّا ظلاله عن اليمين والشّمائل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام الأفاضل، صلاة مستمرّة بالغدوات والأصائل، خصوصا على عمّه وصنو أبيه العبّاس بن عبد المطلب الذي اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل، ودرّت ببركة الاستسقاء به أخلاف السّحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول على عقبه في الخلافة بما لم يفز به أحد من الأوائل.
والحمد لله الذي حاز مواريث النبوّة والإمامة، ووفّر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبيّه ومحيي شريعته، الذي أحلّه الله عزّ وجلّ من معارج الشرف والجلال في أرفع ذروة، وأعلقه من حسن التوفيق الإلهيّ بأمتن عصمة وأوثق عروة؛ واستخرجه من أشرف نجار «1» وعنصر، واختصّه بأزكى منحة وأعظم مفخر، ونصبه للمؤمنين علما، واختاره للمسلمين إماما وحكما، وناط به أمر دينه الحنيف، وجعله قائما بالعدل والإنصاف بين القويّ والضّعيف، إمام المسلمين، وخليفة ربّ العالمين؛ أبي جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين؛ ابن الإمام السعيد التقيّ، أبي نصر محمد الظاهر بأمر الله، ابن الإمام السعيد الوفيّ «2» ، أبي العبّاس أحمد الناصر لدين الله، ابن الإمام السعيد «3» أبي محمد «4» المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، صلوات الله «5» عليهم أجمعين، وعلى آبائه الطاهرين، الأئمة المهديين، الذين قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض وهم عنه راضون.
وبعد، فبحسب ما أفاضه الله على أمير المؤمنين- صلوات الله «6» عليه وسلامه- من خلافته في الأرض، وفوّضه إلى نظره المقدّس في الأمور من(10/103)
الإبرام والنّقض، وما استخلصه له من حياطة بلاده وعباده، ووكله إلى شريف نظره ومقدّس اجتهاده، لا يزال- صلوات الله عليه- يكلأ العباد بعين الرّعاية، ويسلك بهم في المصالح العامّة والخاصّة مذاهب الرّشد وسبل الهداية، وينشر عليهم جناحي عدله وإحسانه، وينعم لهم النظر في ارتياد «1» الأمناء والصّلحاء من خلصاء أكفائه وأعوانه، متخيّرا للاسترعاء من استحمد إليه بمشكور المساعي، وتعرّف إليه في سياسة الرّعايا بجميل الأسباب والدّواعي، وسلك في مفترض «2» الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل، وعلم منه حسن الاضطلاع في مصالح المسلمين بالعبء الثّقيل؛ والله عز وجلّ يؤيّد آراء أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- بالتأييد والتّسديد، ويمدّه أبدا من أقسام التوفيق الإلهيّ بالموفور والمزيد، ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنّجاح، ويسنّي له فيما يأتي ويذر أسباب الخير والصّلاح؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله، عليه يتوكّل وإليه ينيب.
ولما وفّق الله تعالى نصير «3» الدين محمد بن سيف الدّين أبي بكر بن أيوب من الطاعة المشهورة، والخدم المشكورة، والحظوة في جهاد أعداء الدين بالمساعي الصالحة، والفوز من المراضي الشريفة الإماميّة- أجلها الله تعالى- بالمغانم الجزيلة والصّفقة الرابحة، لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه، وشفع تالده في تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه، واستوجب بسلوكه في الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل، وضرع في الإنعام عليه بمنشور شريف إماميّ يسلك في اتّباعه هداه والعمل بمراشده سواء الصّراط وقصد السبيل- اقتضت الآراء الشريفة المقدّسة- زادها الله تعالى جلالا متألّق الأنوار، وقدسا يتساوى في تعظيمه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار- الإيعاز بإجابته إلى ما(10/104)
وجّه أمله إلى الإنافة فيه به إليه، والجذب بضبعيه «1» إلى ذروة الاجتباء الذي تظهر أشعّة أنواره الباهرة عليه؛ فقلّده- على خيرة الله تعالى- الزّعامة والغلّات «2» ، وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضّياع والصّدقات، والجوالي وسائر وجوه الجبايات، والعرض والعطاء، والنّفقة في الأولياء، والمظالم والحسبة في بلاده، وما يفتتحه ويستولي عليه من بلاد الفرنج الملاحين «3» ، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من الشاذّين «4» عن الإجماع المنعقد من المسلمين؛ و [من] «5» يتعدّى حدود الله تعالى بمخالفة من يصل «6» من الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة، وطاعته ضاعف الله جلاله بطاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولة؛ حيث قال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«7» . واعتمد- صلوات الله عليه وسلامه- في ذلك على حسن نظره ومدد رعايته، وألقى مقاليد التفويض إلى وفور اجتهاده وكمال سياسته، وخصّه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره، ويخلّد له على ممرّ الزمان حسن ذكره وجزيل فخاره؛ وحباه بتقليد يوطّد له قواعد الممالك، ويفتح بإقليده «8» رتاج الأبواب والمسالك، ويفيد قاعدته في بلاده زيادة تقرير وتمهيد، ويطير به صيته في كلّ قريب وبعيد، ووسمه بالملك الأجلّ، السيد، الكامل، المجاهد، المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام، أثير الأنام، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر(10/105)
الخوارج والمتمرّدين «1» غازي بك محمد، بن أبي بكر، بن أيوب، معين أمير المؤمنين، رعاية لسوابق خدمه وخدم أسلافه وآبائه، عن وفور اجتبائه، وكمال ازدلافه، وإنافة من ذروة القرب إلى محلّ كريم، واختصاصا له بالإحسان الذي لا يلقّاه إلّا من هو كما قال تعالى: لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*
«2» ، وثوقا بصحّة ديانته التي يسلك فيها سواء سبيله، واستنامة إلى أمانته في الخدمة التي ينصح فيها لله تعالى ولرسوله، وركونا إلى [كون] «3» الإنعام عليه موضوعا بحمد الله تعالى في أحسن موضع، واقعا به لديه في خير مستقرّ ومستودع.
وأمير المؤمنين- صلوات الله عليه (لا زالت الخيرة موصولة بآرائه، والتأييد الإلهيّ مقرونا بإنفاذه وإمضائه) يستمدّ من الله عز وجلّ حسن الإعانة في اصطفائه الذي اقتضاه نظره الشريف واعتماده، وأدّى إليه ارتياده المقدّس الإماميّ واجتهاده، وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله تعالى التي هي الجنّة الواقية، والنّعمة الباقية، والملجأ المنيع، والعماد الرفيع؛ والذخيرة النافعة في السّرّ والنّجوى، والجذوة المقتبسة من قوله سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى
«4» وأن يدّرع بشعارها، في جميع الأقوال والأفعال، ويهتدي بأنوارها، في مشكلات الأمور والأحوال، وأن يعمل بها سرّا وجهرا، ويشرح للقيام بحدودها الواجبة صدرا؛ قال الله تعالى:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
«5» .
وأمره بتلاوة كتاب الله متدبّرا غوامض عجائبه، سالكا سبيل «6» الرّشاد(10/106)
والهداية في العمل به؛ وأن يجعله مثالا يتّبعه ويقتفيه، ودليلا يهتدي بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه؛ فإنّه الثّقل «1» الأعظم، وسبب الله المحكم، والنور «2» الذي يهدي به إلى التي هي أقوم؛ ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال، وبيّن لهم بهداه الرّشد والضّلال، وفرّق بدلائله الواضحة بين الحرام والحلال؛ فقال عز من قائل: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
«3» . وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ
«4» .
وأمره بالمحافظة على مفروض الصلوات، والدّخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات «5» ؛ وأن يكون نظره في موضع سجوده «6» من الأرض، وأن يمثّل لنفسه في ذلك موقفه بين يدي الله تعالى يوم العرض؛ قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ
«7» ، وقال تعالى:
إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً
«8» . وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة، ولا يلهو بسبب عن إقامة سننها الراتبة، فإنها عماد الدين الذي نمت أعاليه، ومهاد الشرع الذي تمّت «9» قواعده ومبانيه؛ قال الله تعالى:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ
«10» ، وقال سبحانه: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
«11»(10/107)
وأمره أن يسعى إلى صلوات الجمع والأعياد، ويقوم في ذلك بما فرضه الله تعالى عليه وعلى العباد، وأن يتوجّه إلى الجوامع والمساجد متواضعا، ويبرز إلى المصلّيات الضاحية في الأعياد خاشعا، وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب، ويعظّم باعتماد ذلك شعائر الله التي هي من تقوى القلوب، وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكمال نظره وإرعائه، بيوت الله التي هي محالّ البركات، ومواطن العبادات؛ والمساجد التي تأكّد في تعظيمها وإجلالها حكمه، والبيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأن يرتّب لها من الخدم من يتبتّل لإزالة أدناسها، ويتصدّى لإذكاء مصابيحها في الظّلام وإيناسها، ويقوم لها بما تحتاج إليه من أساب الصّلاح والعمارات، ويحضر إليها ما يليق من الفرش والكسوات.
وأمره باتّباع سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم التي أوضح جددها، وثقّف- عليه السلام- أودها «1» ، وأن يعتمد فيها على الأسانيد التي نقلها الثّقات، والأحاديث التي صحّت بالطرق السليمة والرّوايات، وأن يقتدي بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بسببها، ورغّب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها، قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
«2» . وقال سبحانه وتعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ
«3» .
وأمره بمجالسة أهل العلم والدّين، وأولي الإخلاص في طاعة الله تعالى واليقين «4» ؛ واستشارتهم «5» في عوارض الشّكّ والالتباس، والعمل بآرائهم في التمثيل والقياس، فإن الاستشارة لهم عين الهداية، وأمن من الضّلالة «6» والغواية،(10/108)
وبها تلقح عقم الأفهام والألباب، ويقتدح زناد الرّشد والصواب؛ قال الله تعالى في الإرشاد إلى فضلها، والأمر في التمسك بحبلها: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
«1» .
وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره، مستصلحا نيّاتهم بإدامة التلطّف والتعهّد، مستوضحا أحوالهم بمواصلة التفحّص والتفقّد، وأن يسوسهم سياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم، ويهديهم في انتظامها واتّساقها إلى الصّراط المستقيم، ويحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتمسّك منها «2» بأقوى الأسباب وأمتن العصم، ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والائتلاف، ويصدّهم عن موجبات التخاذل والاختلاف، وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع، وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أساب الخفض والرّفع، وأن يثيب المحسن على إحسانه، ويسبل على المسيء ما وسعه العفو واحتمله الأمر ذيل صفحه وامتنانه، وأن يأخذ برأي ذوي التّجارب منهم والحنكة «3» ، ويجتني بمشاورتهم في الأمر ثمر الشّركة، إذ في ذلك أمن من خطإ الانفراد، وتزحزح عن مقام الزّيغ والاستبداد.
وأمره بالتبتّل لما يليه من البلاد، ويتّصل بنواحيه من ثغور أولي الشّرك والعناد، وأن يصرف مجامع الالتفات «4» إليها، ويخصّها بوفور الاهتمام بها والتطلّع عليها، وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان، وينتهي في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان، وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذّخائر، ويمدّها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخيّر لحراستها [من يختاره] «5» من الأمناء التّقاة، ولسدّها من «6»(10/109)
ينتخبه من الشّجعان الكماة؛ وأن يؤكّد عليهم في استعمال أسباب الحفظة والاستظهار «1» ، ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار، وأن يكون المشار إليهم ممن ربوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد، وتدرّبوا «2» في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد، وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد، وكثرة العدد؛ والتّوسعة في النفقة والعطاء، والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والغناء، إذ في ذلك حسم لمادّة الأطماع في بلاد الإسلام، وردّ لكيد المعاندين من عبدة الأصنام؛ فمعلوم أنّ هذا الغرض أولى ما وجّهت إليه العنايات وصرفت، وأحقّ ما قصرت عليه الهمم ووقفت؛ فإن الله تعالى جعله من أهمّ الفروض التي كرّم فيها القيام بحقه، وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه، فقال سبحانه وتعالى هاديا في ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرّضا لعباده على قيامهم بفروض الجهاد: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
«3» . وقال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ*
«4» . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر» . وقال عليه السلام: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس» . هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حقّ من سمع هذه المقالة فوقف لديها، فكيف بمن كان كما قال عليه السلام: «ألا أخبركم بخير الناس: ممسك بعنان فرسه كلّما(10/110)
سمع هيعة «1» طار إليها» .
وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه؛ وأن يسلك في السياسة سبل الصّلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح، ويمدّ ظلّ رعايته على مسلمهم ومعاهدهم، ويزحزح الأقذاء والشّوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم، وينظر في مصالحهم نظرا يساوي فيه بين الضعيف والقويّ، ويقوم بأودهم قياما يهتدي به ويهديهم فيه إلى الصّراط السّويّ؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«2» .
وأمره باعتبار أسباب الاستظهار والأمنة، واستقصاء الطاعة المستطاعة والقدرة الممكنة، في المساعدة على قضاء تفث «3» حجّاج بيت الله الحرام، وزوّار نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن يمدّهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التخطّف والأذى في حالتي الظعن والمقام؛ فإنّ الحجّ أحد أركان الدين المشيّدة، وفروضه الواجبة المؤكّدة؛ قال الله تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
«4» .
وأمره بتقوية أيدي العاملين بحكم الشرع في الرّعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا، والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوي الاستحقاق، والشدّ على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق، وأنه متى تأخّر أحد الخصمين عن إجابة داعي الحكم، أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والعدم، جذبه بعنان القسر(10/111)
إلى مجلس الشّرع، واضطرّه بقوّة الإنصاف إلى الأداء بعد المنع، وأن يتوخّى عمّال الوقوف التي تقرّب المتقرّبون بها، واستمسكوا في ثواب الله بمتين حبلها، وأن يمدّهم بجميل المعاونة والمساعدة، وحسن الموازرة والمعاضدة، في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء، وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء؛ قال الله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى
«1» .
وأمره أن يتخيّر من أولي الكفاءة «2» والنّزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب: من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال، وأن يكونوا من ذوي الاضطلاع بشرائط الخدم المعيّنة وأمورها، والمهتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها، وأن يتقدّم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقّنة، وجبايتها في أوقاتها المعيّنة، إذ ذاك من لوازم مصالح الجند ووفور الاستظهار، وموجبات قوّة الشوكة «3» بكثير الأعوان والأنصار، وأسباب الحفظة «4» التي تحمى بها البلاد والأمصار، ويأمرهم بالجري في الطّسوق «5» والشّروط على النمط المعتاد، والقيام في مصالح الأعمال على أقدام الجدّ والاجتهاد، وإلى العاملين على الصّدقات بأخذ الزكوات على مشروع السّنن المهيع «6» ، وقصد الصراط المتّبع، من غير عدول من ذلك عن المنهاج الشرعيّ، أو تساهل في تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعيّ؛ فإذا أخذت من أربابها، الذين يطهّرون ويزكّون بها، كان العمل في صرفها إلى مستحقها بحكم الشريعة النبوية وموجبها، وإلى جباة الجزية من(10/112)
أهل الذّمّة بالمطالبة بأدائها في أوّل السنة، واستيفائها منهم على حسب أحوالهم بحكم العادة في الثّروة والمسكنة، إجراء في ذلك على حكم الاستمرار والانتظام، ومحافظة على عظيم شعائر الإسلام.
وأمره أن يتطلع على أحوال كلّ من يستعمله في أمر من الأمور، ويصرّفه في مصلحة من مصالح الجمهور، تطلّعا يقتضي الوقوف على حقائق أماناتهم، وموجب «1» تهذيبهم من حركاتهم وسكناتهم، ذهابا مع النّصح لله تعالى في بريّته، وعملا فيه بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .
وأمره أن يستصلح من ذوي الاضطلاع والغناء، من يرتّب العرض والعطاء، والنفقة في الأولياء، وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة، والموسومين في المناصحة بإخلاص الطويّة وإصفاء السريرة، حالين من الأمانة والصّون بما يزين، ناكبين عن مظانّ الشّبه والطمع الذي يصم ويشين، وأن يأمرهم باتّباع عادات أمثالهم في ضبط أسماء الرجال، وتحلية الأشخاص والأشكال، واعتبار شيات الخيول وإثبات أعدادها، وتحريض الجند على تخيّرها واقتناء جيادها، وبذل الجهد في قيامهم من الكراع «2» واليزك «3» والسّلاح بما يلزمهم، والعمل بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
«4» . فإذا نطقت جرائد(10/113)
الجند المذكورين بما أثبت لديهم، وحقّق الاعتبار والعيان قيامهم بما وجب «1» عليهم، أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم، وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقاتهم: فإن هذا الحال أصل حراسة البلاد والعباد، وقيام الأمر بما «2» أوجبه الله تعالى من الاستعداد بفرض الجهاد؛ قال الله تعالى:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
«3» .
وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعا، وللسّنّة النبويّة في إقامة حدودها متّبعا، فيعتمد في الكشف عن أحوال العامّة في تصرّفاتها الواجب، ويسلك في التطلع إلى معاملاتهم السبيل الواضح والسّنن الّلاحب،.... «4» .... في الأسواق لاعتبار «5» المكاييل والموازين، ويقيمه في مؤاخذة المطفّفين «6» وتأديبهم بما تقتضيه شريعة الدين، ويحذّرهم في تعدّي حدود الإنصاف شدّة نكاله، ويقابل المستحقّ المؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله؛ قال الله تعالى: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
«7» . وقال سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ
«8» .
فليتولّ الملك السيد الكامل، المجاهد، المرابط، نصير الدين، ركن(10/114)
الإسلام أثير الأنام «1» ، جلال الدولة، فخر الملّة، عزّ الأمة، سند الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمرّدين، أمير المجاهدين، غازي بك معين أمير المؤمنين- ما قلّده عبد الله وخليفته في أرضه، القائم له بحقّه الواجب وفرضه، أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، تقليد مطمئنّ بالإيمان، وينصح لله ولرسوله وخليفته- صلوات الله عليه- في السّرّ والإعلان، وليشرح بما فوّض إليه من هذه الأمور صدرا، وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سرّا وجهرا، وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الإماميّة، وليقف آثار مراشدها المقدّسة النبويّة، وليظهر من أثر الجدّ في هذا الأمر والاجتهاد، وتحقيق النظر الجميل لله والإرشاد، ما يكون دليلا على تأييد الرأي الأشرف المقدّس- أجله الله تعالى- في اصطناعه واستكفائه، وإصابة مواقع النّجح والرّشد في التفويض إلى حسن قيامه وكمال اعتنائه، فليقدر النعمة في هذه الحال حقّ قدرها، وليمتر «2» بأداء الواجب بما غلب عليه من جزيل الشكر غزير درّها «3» ، وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض؛ ولينه إلى العلوم الشريفة المقدّسة- أجلها الله تعالى- ما يلتبس عليه من الشكوك والغوامض «4» ؛ ليرد عليه من الأمثلة ما يوضّح له وجه الصواب في الأمور، ويستمدّ من المراشد الشريفة التي هي شفاء لما في الصدور بما يكون وروده عليه وتتابعه إليه نورا على نور؛ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة العهد الذي كتب به الصاحب فخر الدين: إبراهيم بن لقمان، للظاهر بيبرس «5» ، التي أنكر عليه القاضي شهاب الدين بن فضل الله في(10/115)
«التعريف» ابتداءها بخطبة، وهي: الحمد لله الذي أضفى [على الإسلام] «1» ملابس الشّرف، وأظهر درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصّدف، وشيّد ما وهى من علائه حتى أنسى ذكر ما سلف، وقيّض لنصره ملوكا اتفق على طاعتهم من اختلف.
أحمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الرّوض الأنف «2» ، وألطافه التي وقفت الشكر عليها فليس له عنها منصرف؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمنا، وتسهّل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي جبر من الدّين وهنا؛ وصفيّه الذي أظهر من المكارم فنونا لا فنّا، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدّين فاستحقّوا الزيادة من الحسنى.
وبعد، فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقّهم أن يصبح القلم ساجدا وراكعا في تسطير مناقبه وبرّه، من سعى فأضحى بسعيه الجميل متقدّما، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد من المكرمات إلّا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرمه نارا وأجراه دما.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي، المولوي، السلطاني، الملكيّ، الظاهريّ، الركنيّ، شرفه الله تعالى وأعلاه، ذكره الديوان العزيز، النبويّ، الإماميّ، المستنصريّ- أعز الله تعالى سلطانه- تنويها بشريف قدره، واعترافا بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره؛ وكيف لا؟ وقد أقام الدولة العبّاسية بعد أن أقعدتها زمانة «3» الزّمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن(10/116)
وإحسان، واستعتب «1» دهرها المسيء فأعتب، وأرضى عنها زمانها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف اهتمامه فرجع كلّ متضايق من أمورها واسعا رحبا، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوّا وعطفا، وأظهر له من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بالبيعة أمرا لو رامه غيره لا متنع عليه، ولو تمسّك بحبله متمسّك لا نقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله ادّخر هذه الحسنة ليثقّل بها في الميزان ثوابه، ويخفّف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفّف حسابه؛ فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلّدها في صحيفة صنعه، وتكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل الإياس من جمعه؛ وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصّنائع، ويعرف أنه لولا اهتمامك لا تّسع الخرق على الراقع، وقد قلّدك الديار المصريّة والبلاد الشامية، والديار البكريّة والحجازية واليمنيّة والفراتيّة؛ وما يتجدّد من الفتوحات غورا ونجدا، وفوّض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت في المكارم فردا؛ ولم يجعل «2» منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون مستثنى، ولا جهة من الجهات تعدّ في الأعلى ولا الأدنى.
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملا، وخلّص نفسك من التّبعات اليوم ففي غد تكون مسؤولا لا سائلا، ودع الاغترار بالدنيا فما نال أحد منها طائلا، وما رآها أحد بعين الحقّ إلا رآها خيالا زائلا؛ فالسعيد من قطع آماله الموصولة، وقدّم لنفسه زاد التقوى فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة؛ وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل والإحسان في مواضع من القرآن، وكفّر به عن المرء ذنوبا وآثاما، وجعل يوما واحدا فيه كعبادة العابد ستّين عاما؛ وما سلك أحد سبيل العدل والإحسان، إلا واجتنيت ثماره من أفنان، وتراجع الأمر فيه بعد تداعي(10/117)
أركانه «1» وهو مشيّد الأركان، وتحصّن به من حوادث الزمان «2» ، وكانت أيّامه في الأيّام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلّي بها عطل «3» الأجياد.
وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نوّاب وحكّام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقّب عليه تنقيبا، واجعل عليه في تصرّفاته رقيبا، وسل عن أحواله ففي القيامة تكون عنه مسؤولا وبما أجرم مطلوبا، ولا تولّ منهم إلّا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا، وأمرهم بالأناة في الأمور والرّفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلّة الحقّ، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثّغر الباسم والوجه الطّلق، وأن لا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلّا بما يستحقّ، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعية إخوانا، وأن يوسعوهم برّا وإحسانا، وأن لا يستحلّوا حرماتهم إذا استحلّ الزمان لهم حرمانا، فالمسلم أخو المسلم ولو كان عليه أميرا وسلطانا، والسعيد من نسج ولايته «4» في الخير على منواله، واستسنّ بسنّته في تصرّفاته وأحواله، وتحمّل عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله.
ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيّء السّنن، وجدّد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد رخيصة بأغلى ثمن؛ ومهما جبي «5» منها من الأموال فإنما هي باقية في الذّمم «6» حاصلة، وأجياد الخزائن إن(10/118)
أضحت بها حالية فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة؛ وهل أشقى ممن احتقب «1» إثما، واكتسب بالمساعي الذميمة ذمّا، وجعل السّواد الأعظم [له] «2» يوم القيامة خصما، وتحمّل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً
«3» .
وحقيق بالمقام الشريف المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الظاهريّ، الرّكنيّ أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وطاعته تخفّف ثقلا لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادرا، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدّم من الملوك وإن جاء آخرا؛ فاحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى يوجب لك مزيّة التقديم، وينبّه الخلائق على ما خصّك الله به من الفضل العظيم؛ وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، ويوالى عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا، وقد تبين لك أنّك صرت في الأمور أصلا وصار غيرك فرعا.
ومما يجب أيضا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمّة فرضا، وهو العمل الذي يرجع به مسودّ الصحائف مبيضّا؛ وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعدّلهم عنده المقام الكريم، وخصّهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم؛ وقد تقدّمت لك في الجهاد يد بيضاء أسرعت في سواد الحسّاد، وعرفت منك عزمة وهي أمضى مما تجنّه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال وهي أشهر وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الاسلام أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدّول، وسيفك أثّر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقرّ الخلافة إلى ما كان عليه في الأيّام الأول؛ فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا، وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا، وأيّد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعا سامعا، ولا تخل(10/119)
الثّغور من اهتمام بأمرها تبسم له الثّغور، واحتفال يبدّل ما دجا من ظلماتها بالنّور «1» ، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وعلى العدوّ داعية افتراق لا اجتماع، وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاورا، والعدوّ إليه ملتفتا ناظرا، لا سيّما ثغور الديار المصرية فإنّ العدوّ وصل إليها رابحا وراح خاسرا، واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثرا، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلّة، وركائبه سابقة بغير سائق مستقلّة، وهو أخو الجيش السّليماني، فإنّ ذاك غدت الريح له حاملة، وهذا تكفّلت بحمله الرّياح السابلة، وإذا لحظها الطّرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبّهها قال: هذه ليال تقلع بالأيام؛ وقد سنّى الله لك من السعادة كلّ مطلب، وآتاك من أصالة الرأي الذي يريك المغيّب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحقّ وما زلت مهتديا إليها، وألزمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها؛ والله تعالى يمدّك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإنّ النعمة تستتمّ بشكره؛ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة عهد كتب بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، للسلطان الملك المنصور قلاوون، عن الخليفة الإمام أبي العبّاس أحمد الحاكم بأمر الله «2» المتقدّم ذكره على هذه الطريقة، وهي:
الحمد لله الذي جعل آية السيف ناسخة لكثير من الآيات، وفاسخة لعقود أولي الشّكّ والشّبهات، الذي رفع بعض الخلق على بعض درجات، وأهّل لأمور البلاد والعباد من جاءت خوارق تملّكه بالذي إن لم يكن من المعجزات فمن الكرامات «3»(10/120)
ثم الحمد لله الذي جعل الخلافة العبّاسية بعد القطوب حسنة الأبتسام، وبعد الشّحوب جميلة الاتّسام، وبعد التشريد كلّ دار إسلام لها أعظم من دار السّلام.
والحمد لله على أن أشهدها مصارع أعدائها، وأحمد لها عواقب إعادة نصرها وإبدائها، وردّ تشتيتها بعد أن ظنّ كلّ أحد أنّ شعارها الأسود ما بقي منه إلا ما صانته العيون في جفونها والقلوب في سويدائها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتلذّذ بذكرها اللّسان، وتتعطّر بنفحاتها الأفواه والأردان، وتتلقّاها ملائكة القبول فترفعها إلى أعلى مكان، ونصلّي على سيدنا محمد الذي أكرمنا الله به وشرّف لنا الأنساب، وأعزّنا به حتّى نزل فينا محكم الكتاب؛ صلّى الله عليه وعلى آله الذين انجاب الدّين منهم عن أنجاب، ورضي الله عن صحابته الذين هم خير صحاب، صلاة ورضوانا يوفّى قائلها أجره يوم الحساب من الكثرة بغير حساب يوم الحساب.
وبعد حمد الله على أن أحمد عواقب الأمور، وأظهر للإسلام سلطانا اشتدّت به للأمة الظّهور وشفيت الصّدور، وأقام الخلافة العباسية في هذا الزمن بالمنصور كما أقامها فيما مضى بالمنصور، واختار لإعلان دعوتها من يحيي معالمها بعد العفاء ورسومها بعد الدّثور، وجمع لها الآن ما كان جمح «1» عليها فيما قبل من خلاف كلّ ناجم، ومنحها ما كانت تبشرها به [صحف] «2» الملاحم، وأنفذ كلمتها في ممالك الدّولة العلوية بخير سيف مشحوذ ماضي العزائم، ومازج بين طاعتها في القلوب وذكرها في الألسنة وكيف لا والمنصور هو الحاكم؟ وأخرج لحياطة الأمّة المحمّديّة ملكا تقسّم البركات عن يمينه، وتقسّم السعادة بنور جبينه، وتقهر الأعداء بفتكاته، وتمهر عقائل المعاقل بأصغر راياته، ذو السعد الذي ما زال نوره يشفّ(10/121)
حتّى ظهر، ومعجزه يرفّ إلى أن بهر، وجوهره ينتقل من جيّد إلى جيّد حتّى علا الجبين، وسرّه يكمن في قلب بعد قلب حتّى علم- والحمد لله- نبأ تمكينه في الأرض بعد حين، فاختاره الله على علم، واصطفاه من بين عباده بما جبله الله عليه من كرم وشجاعة وحلم، وأتى به الأمة المحمديّة في وقت الاحتياج عونا وفي إبّان الاستمطار غيثا، وفي حين عيث الأشبال في غير الافتراس ليثا، فوجب على من له في أعناق الأمّة المحمديّة مبايعة رضوان، وعند أيمانهم مصافحة أيمان، ومن وجبت له البيعة باستحقاقه لميراث منصب النبوة، ومن تصحّ به كلّ ولاية شرعيّة يؤخذ كتابها منه بقوة، ومن هو خليفة الزمان والعصر، ومن بدعواته تنزل بالنصر عليكم معاشر الإسلام ملائكة النصر «1» ، ومن نسبه بنسب نبيكم صلى الله عليه وسلم متّشج «2» ، وحسبه بحسبه ممتزج، أن يفوّض ما فوّضه الله إليه من أمر الخلق، إلى من يقوم عنه بفرض الجهاد والعمل بالحقّ، وأن يولّيه ولاية شرعية تصحّ بها الأحكام وتنضبط أمور الإسلام، وتأتي هذه العصبة الإسلاميّة يوم تأتي كلّ أمة بإمامهم من طاعة خليفتهم هذا بخير إمام؛ وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين- شرفه الله- أن يكون للمقرّ العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، أجلّه الله ونصره، وأظفره وأقدره، وأبّده وأيّده، كلّ ما فوّضه الله لمولانا أمير المؤمنين من حكم في الوجود، وفي التّهائم والنّجود «3» ، وفي المدائن والخزائن، وفي الظّواهر والبواطن، وفيما فتحه الله وفيما سيفتحه، وفيما كان فسد بالكفر والرجاء من الله أنه سيصلحه، وفي كل جود ومنّ، وفي كلّ عطاء ومنّ «4» ، وفي كل هبة وتمليك، وفي كل تفرّد بالنّظر في أمور المسلمين بغير شريك «5» ، وفي كلّ تعاهد ونبذ، وفي كلّ(10/122)
عطاء وأخذ، وفي كل عزل وتولية، وفي كل تسليم وتخلية، وفي كل إرفاق وإنفاق، وفي كل إنعام وإطلاق، [وفي كل استرقاق وإعتاق، وفي كل تكثير وتقليل، وفي كل اتّساع وتقتير] «1» وفي كلّ تجديد وتعويض، وفي كل حمد وتقريض، ولاية عامة تامّة محكمة محكّمة، منضدة منظّمة، لا يتعقّبها نسخ من خلفها ولا من بين يديها، ولا يعتريها فسخ يطرأ عليها، يزيدها مرّ الأيام جدّة يعاقبها حسن شباب، ولا ينتهي على الأعوام والأحقاب، نعم ينتهي إلى ما نصبه الله للإرشاد من سنّة وكتاب، وذلك من شرع لله أقامه للهداية علما، وجعله إلى احتياز الثواب سلّما، فالواجب أن يعمل بجزئيّات أمره وكلّيّاته. وأن لا يخرج أحد عن مقدّماته. والعدل، فهو الغرس المثمر، والسّحاب الممطر، والروض المزهر، وبه تتنزّل البركات، وتخلف الهبات، وتربي الصّدقات، وبه عمارة الأرض، وبه تؤدّى السنّة والفرض؛ فمن زرع العدل اجتنى الخير، ومن أحسن كفي الضّرر والضّير؛ والظّلم، فعاقبته وخيمة، وما يطول عمر الملك إلا بالمعدلة الرحيمة، والرعية، فهم الوديعة عند أولي الأمر، فلا يخصّص بحسن النظر منهم زيد ولا عمرو؛ والأموال، فهي ذخائر العاقبة والمآل، والواجب أن تؤخذ بحقّها، وتنفق في مستحقّها؛ والجهاد برّا وبحرا فمن كنانة الله تفوّق سهامه، وتؤرّخ أيامه، وينتضى حسامه، وتجري منشآته «2» في البحر كالأعلام وتنشر أعلامه، وفي عقر دار الحرب يحطّ ركابه، ويخطّ كتابه، وترسل أرسانه، وتجوس خلالها فرسانه، فليلزم منه ديدنا، ويستصحب «3» منه فعلا حسنا؛ وجيوش الإسلام وكماته، وأمراؤه وحماته، فهم من قد علمت قدم هجره «4» ، وعظم نصره، وشدّة باس، وقوّة مراس، وما منهم إلا من شهد الفتوحات والحروب، وأحسن في المحاماة عن الدّين الدّؤوب، وهم(10/123)
بقايا الدّول. وتحايا «1» الملوك الأول، لا سيّما أولو السّعي الناجح، ومن لهم نسبة صالحيّة إذا فخروا بها قيل لهم: نعم السلف الصالح، فأوسعهم برّا، وكن بهم برّا، وهم بما يجب من خدمتك أعلم وأنت بما يجب من حرمتهم أدرى؛ والثغور والحصون، فهم «2» ذخائر الشّدة، وخزائن العديد والعدّة، ومقاعد للقتال، وكنائن الرّجاء والرّجال «3» ، فأحسن لها التحصين، وفوّض أمرها إلى كلّ قويّ أمين، وإلى كلّ [ذي] «4» دين متين، وعقل رصين، ونوّاب الممالك ونوّاب الأمصار، فأحسن لهم الاختيار، وأجمل لهم الاختبار، وتفقّد لهم الأخبار.
وأمّا ما سوى ذلك فهو داخل في حدود هذه الوصايا النافعة، ولولا أنّ الله أمرنا بالتذكير، لكانت سجايا المقرّ الأشرف السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، مكتفية بأنوار ألمعيّته الساطعة، وزمام كلّ صلاح يجب أن يشغل به جميع أوقاته، هو تقوى الله، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ
«5» .
فليكن ذلك نصب العين، وشغل القلب والشّفتين، وأعداء الدين من أرمن وفرنج وتتار، فأذقهم وبال أمرهم في كل إيراد للغزو وإصدار؛ وثر لأن تأخذ للخلفاء العباسيّين ولجميع المسلمين منهم الثّار، واعلم أنّ الله نصيرك على ظلمهم وما للظّالمين من أنصار.
وأما غيرهم من مجاوريهم من المسلمين فأحسن باستنقاذك منهم العلاج، وطبّهم باستصلاحك فبالطّبّ الملكيّ والمنصوريّ ينصلح المزاج «6» ؛ والله الموفّق بمنّه وكرمه.(10/124)
وعلى هذه الطريقة مشى المقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن البارزيّ «1» الحمويّ صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية: جمّل الله تعالى الوجود بوجوده، وأناف بقدره على كيوان «2» في ارتقائه وصعوده، وجعله لسلطانه المؤيّد ردءا ما بدا سعد الملك صاعدا إلا كان له سعد سعوده.
فكتب على ذلك عهد «3» السلطان الملك المؤيّد أبي النصر «شيخ» «4» خلّد الله سلطانه، عن الإمام المستعين بالله أبي الفضل العباس أمير المؤمنين خليفة العصر- أيّد الله تعالى به الدّين- في شعبان المكرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة، بعد خلع «5» الناصر فرج، فأتى فيه بما أخجل الرّوض المنمنم والنجم الزاهر، وأوجب على العارف بنقد الأمرين أن يقول: كم ترك الأوّل للآخر، عدّد فيه وقائعه(10/125)
المشهورة، وذكر مناقبه التي صارت على صفحات الأيام مرقومة وعلى مرّ الليالي مذكورة، وفي بطون التواريخ على توالي الجديدين «1» وتعاقب الدّهور مسطورة؛ (فكتب على ذلك عهد السلطان الملك المؤيّد أبي النصر شيخ خلد الله سلطانه) «2» ، ونصّه:
الحمد لله الذي جعل الدّين بنصره مؤيّدا، وانتضاه لمصالح الملك والدّين فأصبح ومن مرهفات عزمه بادية بائدة العدا، وفتح على فقر الزمان بشيخ ملك زويت «3» له عوارف العدل ومعارف الفضل فاستغنى- ولله الحمد- بسعيد السّعدا، وأصلح فساد الأحوال بأحكام رأيه وإحكام حكمه فأصبحت مأمونة الرّداء آمنة من الرّدى، وامتنّ على أولياء الدولة الشريفة بمن لم يزل سهم تدبيره الشريف فيهم مسدّدا، ومياه الظفر جارية من قناة غوره الذي بذلك تعوّدا، وبحر إحسانه الكامل وإن قدم العهد المديد مجدّدا.
والحمد لله الذي جعل وجوه هذه الأيام بالأمن مسفرة، وليالي جودها بالعدل مقمرة، وعذبات أوليائها بالأفراح مزهرة، وحدائق أخصّائها بالنجاح مثمرة، ومنازل أعدائها مقفرة موحشة، ونوازلهم مذعرة مدهشة، وأجسادهم بأمراض قلوبهم مشوّشة، وأكبادهم بلواعج زفراتهم معطّشة.
والحمد لله الذي جعل هذه الأيام الفاضلة الجلال جليلة الفضل، شاملة النّظام ناظمة الشّمل، هامية بالمكرمات هائمة بالعدل، دانية القطوف، معروفة بالمعروف، مغيثة الملهوف، مرهبة للألوف، متصرّفة في الآفاق صارفة الصّروف، حمدا يبهج النّفوس، ويزيل البوس، ويديم السّرور، ويذهب(10/126)
المحذور، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
«1» .
نحمده على هذه النّعم التي تفيّأت الأمم بظلالها، وبلغت بها النفوس غاية آمالها، ورويت بعد ظمإ الخوف من حياض أمن زلالها، واستسرّت بعد الحزن بأفراح قبولها وإقبالها، وارتفعت بعد انخفاضها رؤوس أبطالها وأقيالها.
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تديم النّعماء، وتجزل العطاء، وتكشف الغمّاء، وتقهر الأعداء، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي قرن طاعة أولي الأمر بطاعته، وأيّد من اهتدى منهم بهدايته، وأعانه لمّا استعان بعنايته، وأظلّه تحت ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه في دار كرامته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين انحازوا إلى حوزته واحتموا بحمايته، وأثمر لهم غرس دينه فرعوه حقّ رعايته، وشرّف وكرم.
وبعد، فلمّا كانت رحمة الله تعالى لغضبه سابقة، ورأفته بعباده متلاحقة، وكانت الممالك الشريفة قد اختلّت أمورها، وصار إلى الدّثور معمورها، وأشرف على البوار أميرها ومأمورها، فالشرائع متغيّرة شرائعها، والعوائد مفقودة مآثرها، والمظالم قويّ سلطانها، كثير أعوانها، ضعيف مضاددها، قليل معاندها، فلا نائب سياسة إلا مشغول بالنّوائب، ولا حاكم شرع إلا وقد سدّت عليه المذاهب، ولا تاجر إلا وقد خسرت تجارته فما ربحت، ولا ذو قراض إلا ورؤوس أمواله قد انقرضت، ولا صاحب تراث إلا وقد محيت آية ميراثه ونسخت، ولا ركن مملكة إلّا وقد انهدم أساسه، ولا عضد دولة إلا وقد بطل إحساسه، أقام سبحانه وتعالى لإزالة هذه النّوازل الفادحة، وإخماد نار هذه القبائح القادحة، من توفّرت الدّواعي على استحقاقه السلطنة الشريفة، وأجمعت الأمّة على انحصار ذلك في أوصافه المنيفة، ودلّت أمائر السّعود على محلّه الجليل، وجنابه الذي إذا لاذ به من خاف الدّهر رجع وطرف الدّهر عنه كليل؛ طالما أصفى موارد العدل، وأضفى أذيال(10/127)
الفضل، وأمّن الخائف، وروّع الحائف «1» وأمضى في الجهاد عزمه، وأنفذ في السّرايا إليه حكمه، وسدّد إلى معاونه في غرض الكفّار سهمه، وفتح الطريق إلى بيت الله الحرام بعد الانسداد، وأنعم على القانع والمعترّ «2» بالراحلة والزّاد، وعمر المساجد، وجعلها آهلة بالراكع والساجد، وجلا عروس الأمويّ في حلل التهليل والتكبير، وأعاد عود منبره الذابل وهو نضير، هذا مع شجاعة شاهدها وشهد بها أبطال الإسلام، وسطوة تخشاها الأسود في الآجام، ووقار يخضع بالهيبة رؤوس الأعلام، وبشر يطلع فجره من طالع جبهته، ونور ساطع من جهة جبهته، وحياء متطلّع من طلعته، وحباء متدفّق من أنملته، وكنت أيّها الملك الجليل المؤيّد- لا زال شمل الدين بك مجموعا، وعلم الإسلام مرفوعا، وقلب أهل الشّرك والنّفاق مروعا- أنت المتّصف بهذه الصّفات الحميدة، والكاشف لتلك الشدائد الشّديدة؛ فلم يرعك خطر الخطّارة، ولا انحلال أهل صرخد «3» حيث اشتهرت عزائم صوارمك البتّارة، ولا خطرتك من القيساريّة «4» إلى الرّيدانيّة «5» في أسرع من غفوة، والشّيخ لا تنكر له الخطوة، ولا مشاهدة الحمام في الحمّام، ولا زاغ بصرك باللّجّون «6» حين أظلم القتام، حتّى زال المانع، وهجع الهاجع، وأمنت الخطوب، وفرّجت الكروب، وخلا دست السلطنة ممن نكث الأيمان، وأصرّ على(10/128)
الإثم والعدوان، وأقررت اسم الخلافة على الانفراد، ليستخير الله في الأصلح للعباد والبلاد.
هذا ورأي أهل الحلّ والعقد من ملوك الإسلام وأمرائه، وقضاته وعلمائه، ومشايخه وصلحائه، وخاصّته وعامّته، ورأي مولانا أمير المؤمنين، أعزّ الله تعالى به الدّين، وجمع بيمن بركته شمل الإسلام والمسلمين، مجمع على تفويض أمر المسلمين وولاية عهدهم وكفالة السلطنة الشريفة والإمامة العظمى إليك- خلّد الله سلطانك، وجعل الدهر خديمك والملائكة أعوانك، فقدّم أمير المؤمنين من الاستخارة أمام هذا التقليد ما يعتبر في السّنّة الشريفة ويقدّم، وعلم أنّ المصلحة فيما خاره الله له وللأمّة من ولايتك أيّها الملك المبجّل والسلطان الأعظم، وأنك أبرأ للذّمّة، وأبرّ بالأمّة، وشاهد بإجماع الأمّة على سلطنتك من التآلف والاتّفاق، ما نفى الخلاف والشّقاق، وما سرّ الجمهور الطائعين من غير دفاع، والجمّ الغفير لبديع آرائك ورفيع راياتك مذعنين لحسن الاتّباع، وأهل الحلّ والعقد لأمرك ونهيك قد خضعت منهم الرّقاب، وسارعوا إلى إجابة دعوتك حين اتضحت لهم أدلّة الصواب، والزمان بإفضاء الأمر إليك قد طاب واعتدل، والأرض في مشارقها ومغاربها بمهابتك قد أمنت من الوجل، والنفوس الأبيّة قد أذعنت لمبايعتك من غير مهل، والفتنة وقد ردّ الله بالغيظ مثيرها، والألفة وقد برقت من سرائر أهل التوحيد أساريرها، والعساكر المنصورة قد أحاطت به كما أحاطت بالبدور الهالة، وقد أنزل الله عليك ناموس المهابة والجلالة، وفوّض إليك ما ولّاه الله من أمور الإسلام والمسلمين، وأسند إليك ما في يده من مصالح عباده المؤمنين: لتقيم على أساس أحكامك دعائم الدّين القويم، وتسيّر الخلائق على منهاج طريقك المستقيم، وتحسن- إن شاء الله- برعايتك عاقبة الرعيّة كما أصبحت قلوبهم بك راضية مرضيّة.
وعهد إليك أمير المؤمنين في كلّ ما وراء سرير خلافته، وفي كلّ ما يرتبط بأحكام إمامته، وقلّدك ذلك شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وبرّا وبحرا، وسهلا(10/129)
ووعرا، وفي كلّ ماله من الملك والممالك، وما يفتحه [الله] «1» على يدك بعد ذلك، تفويضا شاملا، وتقليدا كاملا، وعهدا تامّا، وإسنادا عامّا، ولاية مكمّلة البنيان، مؤسّسة على تقوى من الله ورضوان، وسلطنة آخذة بالذّمم، مشتملة على جميع الأمم، يدخل في هذا العهد العامّ والتفويض التامّ، والرأي الذي شهد له إجماع الأمّة بالإحكام، [يدخل في ذلك] «2» مفضول الناس وفاضلهم، وعالمهم وجاهلهم، وخاصّهم وعامّهم، وناقصهم وتامّهم، وشريفهم ومشروفهم، وقويّهم وضعيفهم، وآمرهم ومأمورهم، وقاهرهم ومقهورهم، والجمع والجماعات، وبيوت العبادة والطاعات، والقضاة وأحكامها، والخطباء ومنابرها وأعلامها، والجيوش والعساكر والكتائب، وربّ سيف وكاتب إنشاء وقلم حاسب، وطوائف الرّعايا على اختلاف أطوارهم، وتفاوت أرزاقهم وأقدارهم، والعربان والعشائر، وبيوت الأموال والذّخائر، وداني الأمم وقاصيها، وطائعها وعاصيها، والخراج وجباياته والمصروف وجهاته، والصدقات ومستحقّوها، والرّزق ومرتزقوها، والإقطاعات والأجناد، وما يستعدّ [به] «3» لمواطن الجهاد، والمنع والعطاء والقبض والإمضاء، والخمس والزّكوات، والهدن والمعاهدات، والبيع والقمامات «4» ، وما يظهر من أمور الملك وما يخفى، وما تستدعيه براعتك في السرّ والخفا، وشعار السلطنة وأهبتها، ونواميس الملك وحرمتها.
فأجبت- رعاك الله- دعوة أمير المؤمنين ودعوتهم لقبول ذلك مسؤولا، معتمدا على أن الله سينزل إليك من يسدّدك من الملائك فعلا وقولا؛ فاجلس- أيّدك الله- على تخت ملك قد هيّأه الله لمواقفك المطهّرة، وسرير سلطنة علّقت(10/130)
سرير سعدك الامجد فتقاعست الهمم عنه مقصّرة.
فالحمد لله ثم الحمد لله عن الدّهر وأبنائه، ولا مثل هذه النعمة بهذا الخبر وأنبائه، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
«1» وهذا ما كان من قضيّة الدين على رغم الوسواس الخنّاس «2» ، وهذا ما كانت الآمال تنتظر وروده، وجواري القدم ترتقب سعوده:
والله ما زادوك ملكا إنّما ... زادوا أكفّ الطالبين نوالا!
وأمّا الوصايا، فأنت بحمد الله طالما ملأت بها الأسماع، وكشفت عاطفتك لمن أردت ترتيبه عنها القناع؛ ولكن عهد من تعبّداتك السماع لشدوها، والطّرب لحدوها، فعليك بتقوى الله، فيها تورق أغصان الأرب الذّوابل، ويغرّد طائر عزّك الميمون بالأسحار والأصائل؛ فاجعلها ربيع صدرك، وأينع بها حدائق فكرك، وروّح «3» بعرفها الأريج أرجاء ملكك، وأجر الشرع الشريف على ما عوّدته من نصرك، والعلماء على ما ألفوه من برّك وخيرك، فهم ورثة الأنبياء عليهم السلام، والدالّون على الشريعة بأسنّة أقلامهم ما يكلّ عنه حدّ الحسام، وطهّر منصب الشرع الشريف من الرّذائل، وصن أيّام ملكك الشريف عن الجهّال، والآكلين أموال الناس بالباطل؛ والعدل- ونستغفر الله- فإنك مثمّر لغراسه، رافع ما انهدم من أساسه؛ قد جعلته مجلس محاكماتك، وأنيس خلواتك؛ والفضل- وبرّك أخجل الأقلام- فلو مرّ بك راجيك على الصّفا لا رتاح للمعروف، أو شاهد هباتك حاتم لرجع طرفه عنها وهو مطروف؛ ولا سرف في الخير، ولا ضرر ولا ضير؛ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فأنت المسؤول بين يدي الله عن ذلك، وانه(10/131)
نفسك عن الهوى بحيث لا يراك الله هنالك؛ وحدود الله فلا تتعدّاها، والرعايا فحطها بعين رعايتك وارعاها، وجنّد الجنود برّا وبحرا، وأنل أعداءك قهرا وقسرا، وراجع النظر في أمر نوّاب السلطنة الشريفة مراجعة الناقد البصير، وتيقّظ لصيانة قلاع الممالك ومعاقلها وحصونها، وتخيّر لها من ليس بمشكوك المناصحة ولا مظنونها، وحطها مع عمارتها بالعدّة والعدد، والأقوات لكي تطمئنّ النفوس بمددها منها إذا طالت المدد، وتفقّد أحوال من فيها من المستخدمة، وارع حقوق من له بها خدمة متقدّمة، واجعل الثّغور باسمة بحفظتها ولا حظ الأمور بحسن تدبيرك المألوف في سياستها، واستوص خيرا بأمرائك الخالصين من الشّكوك، السالكين في طاعتك أحسن السّلوك، وضاعف لهم الحرمة، وارع لهم الذّمّة، لا سيّما أولي الفكر الثاقب، والرأي الصائب؛ فشاورهم في مهمّات الأمور، واشرح بإحسانك منهم الصّدور، وارع حقوق المهاجرين والأنصار، الذين سلكت معك مطاياهم البطاح والقفار، وهجروا محبوبهم من الوطن والدار، وجالدوا وجادلوا، وآووا في سبيلك وقاتلوا، وأنل كلّا منهم ما يرجوه، واشرح صدورهم بإدراك ما أمّلوه؛ وجيوش الإسلام فاغرس محبتك في قلوبهم بإحسانك، وكما سبقتهم بإحسانك فتحبّب إليهم بجزيل امتنانك؛ وجيوش البحر فكن لها محيطا، وبجليّات مشيها محيطا «1» ؛ فإنها توجّه للأصقاع، سليمانيّة الإسراع، تقذف بالرّعب في قلوب أعداء الدين، وتقلع بقلوعها آثار الملحدين، فواصل تجهيز السّرايا لركوب ثبجه «2» ، والغوص إلى أعداء الله في عميق لججه، وأجمل النظر في بيت الله الحرام، وحرم رسوله، عليه أفضل الصلاة والسلام: لتسلك عين الأمن الأباطح، وتقرّ عيون حمره بالمائح والماتح «3» ، وتتعرّف بعرفانك عرفات، وترمى مخاوف(10/132)
الخيف من أيدي مهابتك بالجمرات، وصل جيرانهما بصلاتك: لتسهر أعينهم بالدعاء لك وأنت في غفواتك. والقدس الشريف الذي هو أحد المساجد التي تشدّ إليها الرحال فزد تقديسه، واجعل ربوع عباداته بالصّلوات مأنوسة. وإقامة موسم الحج كلّ سنة فأنت بعد حركة تيمور فاتح سبيله، وكاسي محمله حلل توقيره وتبجيله.
هذه الوصايا تذكرة للخاطر الشريف وحاشاك من النّسيان، وهذا عهد أمير المؤمنين ومبايعة أولي الحلّ والعقد قد تقاضيا إلى حقّك على الزمان، وعندك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ضلّ من تمسّك بهما ولا مان «1» ؛ فاتّبع أحكام الله يوسّع الله لك في ملكك، واجعل هديك بهما إمام نهيك وأمرك، وأدّ ما قلّدك الله من حقوق الإمامة والأمانة إلى خلقه أداء موفورا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً
«2» .
قلت: ولما كان هذا العهد قد ادّرع جلباب العجائب فأعجب، وارتدى برداء الغرائب فأغرب، وسقي غرسه ماء البلاغة فأنجب، وشنّف الأسماع إذ أسمع فأرقص على السماع وأطرب، وامتطى صهوة جياد البيان فتنقّل فيها من كميت إلى أشقر ومن أحوى إلى أشهب- أحببت أن آتي له بطرّة «3» هي له في الحقيقة ذيل، ونغبة «4» من بحر وقطرة من سيل، لا جرم جعلتها في الوضع في الكتاب له لا حقة، وإن جرت العادة أن تكون الطّرّة للعهد سابقة، وهو:
هذا عهد شريف ترقمه أقلام أشعّة الشمس بذهب الأصيل على صفحات الأيام، وتعجمه كفّ الثريّا بنقط النجوم الزواهر وإن كان لا عهد للعهود بالإعجام،(10/133)
وتعترف ملوك الأرض أنّ صاحبه شيخ الملوك والسلاطين فتقدّمه في الرأي وتجلّه في الرتبة وتعامله بالإجلال والإعظام، من عبد الله ووليّه، وخليفته في أرضه وصفيّه، وسليل خلفائه الراشدين وابن عم نبيّه، الإمام الفلاني (إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني إلى آخر الألقاب) .
وهذه نسخة عهد على هذا المذهب، كتب به عن أمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العباس خليفة العصر، للملك العادل شمس الدنيا والدين «مظفّر شاه» «1» بالسلطنة بالمملكة الهنديّة، في شوّال سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بدمشق المحروسة، من إنشاء الشيخ الإمام علّامة العصر، جامع أشتات الأدب ومالك زمامه، تقيّ الدّين محمد بن حجّة «2» ، الشاعر الحمويّ، ومفتي دار العدل(10/134)
بحماة المحروسة، مما كتب بخطّ المولى تاج الدين عبد الرحمن بن التاج، أحد كتّاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة، في قطع البغداديّ الكامل بخفيف الطّومار، وكانت الطرّة المكتتبة في الوصل الأوّل خمسة أسطر بالقلم المذكور، وسطرين بخفيف المحقّق، والطرّة البيضاء خمسة أوصال، والبياض بين كلّ سطرين ثلث ذراع، وبيت العلامة الشريفة ضعف ذلك، والهامش ربع الورق على العادة. وصورة الطرّة:
عهد شريف عهد به عبد الله ووليّه، سيّدنا ومولانا الإمام الأعظم العبّاس أبو الفضل المستعين بالله أمير المؤمنين، وابن عمّ سيد المرسلين، أعزّ الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين، إلى المقام الأشرف، العالي، السلطانيّ، العادليّ، الشمسيّ، أبي المجاهد «مظفّر شاه» أعزّ الله تعالى أنصاره. وقلّده السلطنة المعظّمة بحضرة «دهلى» «1» وأعمالها ومضافاتها على عادة من تقدّمه في ذلك، ولاية عامّة شاملة كاملة جامعة، وازعة قاطعة ساطعة، شريفة منيفة: في سائر الممالك الهندية وأقاليمها، وثغورها، وبلادها، وعساكرها وأكابرها وأصاغرها، ورعاياها ورعاتها وحكّامها، وقضاتها، وما احتوت عليه شرقا وغربا، بعدا وقربا؛ على ما شرح فيه.
الصدر بعد البسملة الشريفة:
الحمد لله الذي وثّق عهد النّجاح للمستعين به وثبّت أوتاده: ليفوز من تمسّك من غير فاصلة بسببه، وزيّن السماء الدنيا بمصابيح وحفظا، وأفرغ على أعطاف الأرض حلل الخلافة الشريفة، وعلم أنّ خلفها الشريف زهرة الحياة الدنيا فقال عز من قائل: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
«2» . واختارها من بيت براعة استهلاله في أوّل بيت وضع للناس، وسبقت إرادته- وله الحمد- أن تكون(10/135)
هذه النّهلة من سقاية العبّاس.
فالحمد لله على أن جعل هذه السّقاية عينا يشرب بها المقرّبون، ومن علم شرفها تميّز وتمسّك بقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
«1» .
والحمد لله الذي استخلف آله في الأرض وفضّلهم، فإن تحدّث أحد في شرف بيت فالله سبحانه قد جعل البيت والحديث لهم؛ فأكرم به بيتا من أقرّ بعبوديّته كان له بحمد الله من النار عتقا، وتمتّع بنعيم بركته التي لا يتجنّبها إلا الأشقى؛ وهو البيت الذي بعث الله منه شاهدا ومبشّرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وصفّى أهله من الأدناس وأنزل في حقّهم: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
«2» ، وصيّر علمهم الخليفتيّ «3» على وجنة الدّهر شامة، وخصّهم بالتقديم فالحمد لله والله أكبر لهذه الإمامة؛ وإذا كان النسيب مقدّما في المدح وهو في النظم واسطة العقود، فهذا هو النّسب الذي كأنّ عليه من شمس الضّحى نورا ومن فلق الصباح عمود، وهذا هو الركن الذي من استلمه واستند إليه قيل له: فزت بعلوّ سندك، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمّه العباس: «يا عمّ ألا أبشّرك؟ قال: بلى يا رسول الله- قال: إنّ الله فتح الأمر بي ويختمه بولدك» . وهذا الحديث يرشد إلى التمسّك بطيب العهود العباسيّة لتفيض على المتمسك بها نيل الوفاء، وتعين من استعان بالمستعين وعلم أنّ النبيّ عليه السلام قال لجدّه: «أنت أبو الخلفاء» . وناهيك أنّه صلى الله عليه وسلم قال لأمّ فضل وهي شاكّة في الحمل: «اذهبي بأبي الخلفاء» فكان عبد الله المنتظم به هذا الشّمل فاحبب بها شجرة زكا غرسها ونما، وتسامت بها الأرض وكيف لا؟ وأصلها ثابت وفرعها في السّما؛ فسلام على هذا الخلف الذي منه المستعين بالله والمتوكل عليه(10/136)
والواثق به والمعتصم والرشيد، ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد.
نحمده حمد من علم أنّ آل هذا البيت الشريف كسفينة نوح وتعلّق بهم فنجا، ونشكره شكر من مال إلى الدّخول تحت العلم العبّاسيّ وتنصلّ من الخوارج فوجد له من كلّ ضيق مخرجا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن تكون مقبولة عند الحاكم وقت الأدا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي حرّضنا على التمسك بالعهود وأرشدنا إلى طريق الهدى؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وفّوا بالعهود، وكانوا في نظام هذا الدّين وجمعه فرائد العقود، صلاة يسقي عهاد الرحمة- إن شاء الله- عهدها، وينتظم في سلك القبول عقدها، وسلّم تسليما.
أما بعد حمد الله الذي ألهمنا الرّشد وجعل منّا الخلفاء الراشدين، وهدانا بنبيّه صلى الله عليه وسلم وخصّنا من بيته الشريف بالأئمة المهديّين، واصطفى من هذا الخلف خلائف الأرض، وسنّ مواضي العقول التي قطعت أنّ طاعتنا فرض؛ فإنّ لعهدنا العبّاسي شرفا لا يرفل في حلله إلّا من اتّخذ مع الله عهدا وأتاه بقلب سليم، فقد قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
«1» . لا يتمسّك بهذا العهد إلّا من صحا إلى القيام بواجب الطاعة وترك أهل الجهل في سكرتهم يعمهون، وانتظم في سلك من أنزل الله في حقّهم: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
«2» ؛ فمن نهض إلى المشي في منهاجه مشى بعين البصيرة في الطّريق القويم، وتلا له لسان الحال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ(10/137)
مُسْتَقِيمٍ
«1» ؛ وهو قبضة من آثار البيعة النبويّة، وشعار يتشرّف به من مشى تحت ألويته العباسيّة، وما أرسل هذا العهد النبويّ إلى أحد من ملوك الأرض إلا عمّه الشرف من جميع جهاته، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ
«2» وشدت أعواد منبره طربا، وأزهرت رونقا وأثمرت أدبا، واستطالت بيد الخلافة لإقامة الحدّ، وكيف لا ويد الخلافة لا تطاولها يد؛ وكان المقام الأشرف (إلى آخر الألقاب المذكورة في التعريف واسمه المكتتب في الطرّة) «3» هو الذي رغب في التمسّك بهذا العهد الشريف ليزيل عن ملكه الالتباس، واستند إليه ليروي بسنده العالي عن ابن عبّاس؛ فإنه الملك الذي ظفّره الله بأعداء هذا الدّين وسمّاه مظفّرا ولقّبه بالشمسيّ واختار له أن يقارن من الطّلعة المستعينيّة قمرا؛ أينع زهر العدل من حضرة «دهلى» فعطّر الآفاق، وضاع نشره بالهند فعاد الشّمّ إلى المزكوم بالعراق، وصارت دمن «سمنات» «4» عامرة بقيام الدّين، وأيّده الله فيها بعد القتال بالفتح المبين، ولم يترك للعدوّ في بيت بيت ليلة، وأبطل ما دهّره أهل دهلى بحسن اليقظة وقوّة الصّولة، وأباد الكفرة من أهل ديو ولم يقبل لهم دية، وفاءوا إلى غير أمر الله فأبادهم بسيفه الهنديّ فلم تقم لهم فية «5» ، وفطّر أكباد من ناوأه بها فلازموا عن رؤيتها الصّوم، ونادى منادي عدله بالبلاد الهندية: لا ظلم اليوم، ودانت له تلك الممالك برّا وبحرا، وسهلا ووعرا، ما نظم الأعداء على البحر المديد بيتا إلا أبان زحافه وأدار عليه دوائره، فكم نظم شمل الرعايا بالعدل ونثر رؤوس الطّغاة بالسيف فلا عدم الإسلام ناظمه وناثره؛ سئلت الرّكبان في البرّ عن مناقبه الجميلة وعمّ(10/138)
يتساءلون وقد صار لها عظيم النبا، وصرّح راكب البحر بعد التسمية باسمه وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً
«1» فظلّه في البرّ ظليل، وعدله في البحر بسيط وطويل.
هذا ولم يبق في تلك الممالك الهنديّة بقعة إلا ولم «2» يصغر الله بسنابك الخيل فيها ممشاه، ولا نفس خارجة عن الطاعة إلا وماتت في رقعة الأرض بمظفّر شاه؛ فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولويّ، السيّديّ، الإماميّ، الأعظميّ، النبويّ، المستعينيّ، سيدنا ومولانا أمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العبّاس (ونسبه إلى الحاكم بأمر الله، والدعاء) «3» بعد أن استخار الله تعالى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين كثيرا، واتخذه هاديا ونصيرا، وصلّى على ابن عمه سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يفوّض إلى المقام الأشرف المشار إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة المعظّمة، بحضرة دهلى وأعمالها كما في الطرّة كما هو المعهود:
ليهطل جود الرحمة على تلك البقاع المباركة إن شاء الله ويجود: لما رآه من صلاح الأمّة ومصالح الخلق، استخلافا تتحلّى بذكره الأفواه، وتستند إليه الرّواة، وتترنّم به الحداة، وتستبشر به كافّة الأمم، ويقطع به ويحفظه ربّ كل سيف وقلم، ويعتمد عليه كلّ ذي علم وعلم؛ فلا زعيم جيش بها إلّا وهذا التفويض يسعه ويشمله، ولا إقليم من أقاليمها إلا ومن به يقبّله، ويقبله، ويتمثّل به ويمتثله، ولا منبر بجوامعها إلا وخطيبه يتلو برهان هذا التفويض ويرتّله.
وأما الوصايا فعنده- إن شاء الله- تهبّ نسمات قبولها، وتعرب عن نصب مفعولها؛ وهو بحمد الله تعالى لوصايا هذا العهد المبارك نعم القابل، ففي الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه منهم الإمام العادل» والوصيّة بالرّعايا واجبة والعدل فيهم قد حرّض النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وقال: «يوم من(10/139)
إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون الأرض إليه» . وقال ابن عمّنا عليّ رضي الله عنه «الملك والدّين أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، ونشرهما في الرعيّة ضائع «1» ، فالدّين أسّ والملك حارس، فما لم يكن له أسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع» فليأمر بالمعروف وينه عن المنكر عالما أنه ليس يسأل غدا بين يدي الله عز وجل عن ذلك سوانا وسواه، وينه نفسه عن الهوى فلا يحسن لعود قدّه أن يميل مع هواه- وليترك الثّغور بعدله باسمة، وقواعد الملك بفضله قائمة- وليجاهد في الله حقّ جهاده، ويلطف بالرعايا ويعلم أن الله لطيف بعباده- وليشرح لهم بالإحسان صدرا، ويجرهم إذا وقف على أحوالهم أحسن مجرى؛ وهو بحمد الله غير محتاج إلى التأكيد: لأنه لم يخل له من القيام في مصالح المسلمين فكر، ولكنه تجديد ذكر على ذكر، والله تعالى يمتّع بطول بقائه البلاد والعباد، ولا برحت سيوفه الهندية تكلّم أعداء هذا الدين بألسنة حداد، وثبّت ملكه بالعدل وشيّد أقواله وأفعاله، وختم بالصالحات أعماله، والاعتماد على الخط الإماميّ المستعينيّ أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت: ولم يعهد أنه كتب عن الخلفاء العباسيين القائمين بالديار المصرية عهد لملك من غير ملوك الديار المصرية سوى هذا العهد.
المذهب الرابع
( [أن يفتتح العهد بقوله أما بعد] «2» «فالحمد لله» أو «أما بعد فإنّ أمير المؤمنين» أو «أما بعد فإن كذا» ونحو ذلك) ويأتي بما يناسب من براعة الاستهلال وحال المتولّي والمولّي وما يجري مجرى ذلك مما يسنح للكاتب ذكره مما يناسب الحال، ويأتي من الوصايا بما يناسب المقام: إما بلفظ الغيبة أو بلفظ الخطاب كما في غيره من المذاهب(10/140)
السابقة، وهي طريقة اقترحها الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» أنشأ عليها عهدا في معارضة «1» المكتوب للسّلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» من ديوان الخلافة ببغداد الاتي ذكره في المذهب الخامس، وهذه نسخته:
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكلّ خطبة قيادا، ولكلّ أمر مهادا، ويستزيده من نعمه التي جعلت التّقوى له زادا، وحمّلته عبء الخلافة فلم يضعف عنه طوقا ولم يأل فيه اجتهادا، وصغّرت لديه أمر الدنيا فما تسوّرت له محرابا ولا عرضت عليه جيادا، وحقّقت فيه قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً
«2» ؛ ثم يصلّي على من أنزلت الملائكة لنصره إمدادا، وأسري به إلى السماء حتّى ارتقى سبعا شدادا، وتجلّى له ربّه فلم يزغ منه بصرا ولا أكذب فؤادا؛ ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقا وأعوادا، وورثت النّور المبين تلادا، ووصفت بأنّها أحد الثّقلين هداية وإرشادا، وخصوصا عمّه العباس المدعوّ له بأن يحفظ نفسا وأولادا، وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا.
وإذ استوفى القلم مداده من هذه الحمدلة، وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة، فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفا لقرطاسه، واستدام سجوده على صفحته حتّى لم يكد يرفع من راسه، وليس ذلك إلا لإفاضته في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار، واشتبه التطويل فيها بالاختصار؛ وهي التي لا يفتقر واصفها إلى القول المعاد، ولا يستوعر سلوك أطوادها ومن العجب وجود السّهل في سلوك الأطواد؛ وتلك مناقبك أيّها الملك الناصر الأجلّ، السيد، الكبير، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، صلاح الدين، أبو المظفّر، يوسف بن أيوب، والديوان العزيز يتلوها عليك تحدّثا(10/141)
بشكرك، ويباهي بك أولياءه تنويها بذكرك، ويقول: أنت الذي تستكفى فتكون للدولة سهمها الصائب، وشهابها الثاقب، وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب، وما ضرّها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب، فاشكر إذا مساعيك التي أهّلتك لما أهّلتك، وفضّلتك على الأولياء بما فضّلتك، ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار، فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار، وفرق بين من أمدّ بقلبه ومن أمدّ بيده في درحات الإمداد، وما جعل الله القاعدين كالذين قالوا «لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك «1» الغماد» .
وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها، فطمست على الدّعوة الكاذبة التي كانت تدّعيها «2» ؛ ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقّها محفوف من الباطل بمحرابين، ورأت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السّوارين اللّذين أوّلهما كذّابين فبمصر منهما واحد تاه بمجرى أنهارها من تحته، ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته «3» ، ولعب بالدين حتّى لم يدر يوم جمعته من [يوم أحده ولا] «4» يوم سبته، وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمى والصّمم، واتخذوه صنما [بينهم] «5» ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم؛ فقمت أنت في وجه باطله حتّى قعد، وجعلت في جيده حبلا من مسد، وقلت ليده: تبّت فأصبح [وهو] «6» لا يسعى [بقدم] «7» ولا يبطش بيد، وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته، وسامت فيه سائمته، فوضع بيته موضع الكعبة اليمانية، وقال: هذا ذو الخلصة «8» الثانية؛ فأيّ مقاميك يعترف الإسلام بسبقه، أم أيّهما يقوم بأداء حقّه، وهاهنا فليصبح القلم للسيف من الحسّاد، ولتقصر مكانته عن مكانته وقد كان له(10/142)
من الأنداد، ولم يحظ بهذه المزيّة إلا أنّه أصبح لك صاحبا، وفخر بك حتّى طال فخرا كما عزّ جانبا، وقضى بولايتك فكان بها قاضيا لمّا كان حدّه قاضبا.
وقد قلّدك أمير المؤمنين البلاد المصريّة واليمنيّة غورا ونجدا، وما اشتملت عليه رعيّة وجندا، وما انتهت إليه أطرافها برّا وبحرا، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا؛ وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدّنة، والمراكز المحصّنة؛ مستثنيا منها ما [هو] «1» بيد نور الدّين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه الله: وهو حلب وأعمالها، فقد مضى أبوه على آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين، وتخلفه في عقبه في الغابرين، وولده هذا قد هذّبته الفطرة في القول والعمل، وليست هذه الرّبوة إلا من ذلك الجبل، فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا ويصبح وهو [له] «2» كالبنيان يشدّ بعضه بعضا؛ والذي قدّمناه من الثناء عليك ربّما تجاوز بك درجة الاقتصاد، وألفتك عن فضيلة الازدياد، فإياك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب، وتقول: هذه بلاد افتتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب، ولكن اعلم أنّ الأرض لله ولرسوله ثم لخليفته من بعده ولا منّة للعبد بإسلامه بل المنّة لله بهداية عبده؛ وكم سلف قبلك ممّن لو رام مارمته لدنا شاسعه، وأجاب مانعه؛ لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه، وفي الدنيا برقم طرازه؛ فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم، وقل: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
«3» .
وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الاسم شعارا، وفي الرّسم فخارا، وتناسب محلّ قلبك وبصرك وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا؛ ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق، ويشير إليك بأنّ الإنعام قد أطاف بك إطافة الأطواق بالأعناق؛ ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطاب(10/143)
يقضي لصدرك بالانشراح، ولأملك بالانفساح، وتؤمر معه بمدّ يدك إلى العلياء، لا بضمّها إلى الجناح؛ وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السّيادة، وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال: إنّها الحسنى وزيادة، فإذا صارت إليك فانصب لها يوما يكون في الأيّام كريم الأنساب؛ واجعله لها عيدا وقل: هذا عيد التقليد والخلعة والخطاب، هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانة تجعلك لديه حاضرا وأنت ناء عن الحضور، وتضنّ أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضنّة من شيم الغيور؛ وهذه المكانة قد عرّفتك نفسها وما كنت تعرفها، وما نقول إلا أنّها لك صاحبة وأنت يوسفها؛ فاحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها، واعمل لها فإنّ الأعمال بخواتيمها، واعلم أنك قد تقلّدت أمرا يفتن به تقيّ الحلوم، ولا ينفكّ صاحبة عن عهدة الملوم، وكثيرا ما ترى حسناته يوم القيامة وهي مقتسمة بأيدي الخصوم؛ ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار، وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار، وعلم أنّ الولاية ميزان إحدى كفّتيه في الجنة والأخرى في النار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذرّ إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم» . فانظر إلى هذا القول النبويّ نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال، ومثّل الدنيا وقد سيقت [إليك] «1» بحذافيرها أليس مصيرها إلى زوال؟. والسعيد من إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم، واتّخذ منها وهي السّمّ دواء وقد تتّخذ الأدوية من السّموم؛ وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصّباح؟ وهو كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ
«2» والله تعالى يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تبعاتها التي لا بستهم ولا بسوها، وأحصاها الله عليهم ونسوها؛ ولك أنت من هذا الدعاء حظّ على قدر محلّك من العناية التي جذبت بضبعك [ومخلّك من الولاية التي بسطت من درعك] «3» . فخذ هذا الأمر الذي تقلّدته أخذ من لم يتعقّبه بالنسيان؛ وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان.(10/144)
وملاك ذلك كلّه في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب، وقدّر يوما منه بعبادة ستّين عاما في الحساب، ولم يأمر به آمر إلا زيد قوّة في أمره وتحصّن به من عدوّه ومن دهره؛ ثم يجاء به يوم القيامة وفي يديه كتابا أمان، ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن؛ ومع هذا فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه، وغلبت لمّة «1» ملكه على لمّة شيطانه، ومن أوكد فروضه أن يمحي السّنن السيئة التي طالت مدد أيّامها، ويئس الرّعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمدا لانحسار ظلامها؛ وتلك هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة، ولا غنى للأيدي الغنيّة إذا كانت ذا [ت] «2» نفوس فقيرة؛ وكلّما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرا زادها الله محقا وقد استمرّت عليها العوائد حتّى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسمّوها حقّا؛ ولولا أنّ صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه، ومثّلت توبة المرأة الغامديّة بمتابه؛ وهل أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصما، ويصبح وهو مطالب منهم بما يعلم وبما لم يحط به علما. وأنت مأمور بأن تأتي هذه الظّلمات فتنحي على إبطالها، وتلحق أسماءها في المحو بأفعالها، حتّى لا يبقى لها في العيان صور منظورة، ولا في الألسنة أحاديث مذكورة؛ فإذا فعلت ذلك كنت قد أزلت عن الماضي سنّة سوء سنّتها يداه، وعن الآتي متابعة ظلم وجده طريقا مسلوكا فجرى على مداه؛ فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من لم يضق به ذراعا، ونظر إلى الحياة الدّنيا بعينه فرآها في الآخرة متاعا، واحمد الله على أن قيّض لك إمام هدى يقف بك على هداك، ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك؛ وهذه البلاد المنوطة بنظرك تشتمل على أطراف متباعدة، وتفتقر في سياستها إلى أيد مساعدة، وبهذا تكثر فيها قضاة الأحكام، وأولوا تدبيرات السّيوف والأقلام؛ وكلّ من هؤلاء ينبغي أن يفتن على نار الاختبار، ويسلّط عليه شاهدا عدل من أمانة الدّرهم(10/145)
والدّينار، فما أضلّ الناس شيء كحبّ المال الذي فورقت من أجله الأديان، وهجرت بسببه الأولاد والإخوان، وكثيرا ما يرى الرجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان؛ فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإنّ الأحوال تتنقّل تنقّل الأجساد، وإيّاك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بالرّبيع ابن زياد «1» ؛ وكذلك فأمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم أن يأمروا بالمعروف مواظبين، وينهوا عن المنكر محاسبين، ويعلموا أنّ ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الغالبين، وليبدأوا أوّلا بأنفسهم فيعدلوا بها عن هواها، ويأمروها بما يأمرون به من سواها، ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البرّ وهو عنه حائد، وانتصب لطبّ المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد، فما تنزل بركات السماء إلّا على من خاف مقام ربّه، وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه؛ فإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم، وهم لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كلّ قوم إلا بمصباحهم.
ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في الاصطحاب، وأعوانا في توزّع الحمل الذي يثقل على الرّقاب؛ فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا، وأولى الناس باستعمال الرّفق من كان فضل الله عليه كبيرا، وليست الولاية لمن يستجدّ بها كثرة اللفيف، ويتولّاها بالوطء العنيف، ولكنّها لمن يمال على جوانبه، ويؤكل من أطابيه، ولمن إذا غضب لم ير للغضب عنده أثر، وإذا ألحف في سؤاله لم يلحق الإلحاف بخلق الضّجر، وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر؛ فذلك الذي يكون لصاحبه في أصحاب اليمين، والذي يدعى بالحفيظ العليم وبالقويّ الأمين؛ ومن سعادة المرء أن يكون(10/146)
ولاته متأدّبين بآدابه، وجارين على نهج صوابه، وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانت حسناته مثبتة في كتابه.
وبعد هذه الوصية فإنّ هاهنا حسنة هي للحسنات كالأمّ الولود، ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجنود، وتيقّظت لنصره والعيون رقود، وهي التي تسبغ لها الآلاء، ولا يتخطّاها البلاء، ولأمير المؤمنين بها عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه، والرغبة في المغفرة لما تقدّم وتأخّر من ذنبه، وتلك هي الصدقة التي فضّل الله بعض عباده بمزيّة إفضالها، وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها.
وهو يأمرك أن تتفقّد أحوال الفقراء الذين قدرت عليهم مادّة الأرزاق، وألبسهم التعفّف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق، فأولئك أولياء الله الذين مسّتهم الضرّاء فصبروا، وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذ نظروا، وينبغي أن يهيّىء لهم من أمرهم مرفقا، ويضرب بينهم وبين الفقر موبقا.
وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاما بأنها من المهمّ الذي يستقبل ولا يستدبر، ويستكثر منه ولا يستكثر، وهذا يعدّ من جهاد النفس في بذل المال، ويتلوه جهاد العدوّ الكافر في مواقف القتال؛ وأمير المؤمنين يعرّفك من ثوابه ما تجعل السيف في ملازمته أخا، وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا؛ ومن صفاته أنه العمل المحبوّ بفضل الكرامة، الذي ينمي أجره بعد صاحبه إلى يوم القيامة، وبه تمتحن طاعة الخالق على المخلوق، وكلّ الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهو مختصّ دونها بزينة الخلوق «1» ، ولولا فضله لما كان محسوبا بشطر الإيمان، ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان؛ وقد علمت أن العدوّ هو جارك الأدنى، والذي يبلغك وتبلغه عينا وأذنا، ولا يكون للإسلام نعم الجار حتّى تكون له بئس الجار، ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار؛ وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مكافحا، أو تطرق(10/147)
أرضه مماسيا أو مصابحا، بل يريد أن تقصد البلاد التي في يده قصد المستنقذ لا قصد المغير، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد «1» في بني قريظة والنّضير؛ وعلى الخصوص البيت المقدّس فإنه تلاد الإسلام القديم، وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم، والذي توجّهت إليه الوجوه من قبل بالسّجود والتسليم؛ وقد أصبح وهو يشكو طول المدّة في أسر رقبته، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته؛ فانهض إليه نهضة توغل في قرحه، وتبدّل صعب قياده بسمحه، وإن كان له عام حديبية فأتبعه بعام فتحه؛ وهذه الاستزادة إنما تكون بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملا فحميت موارده، أو مستهدما فرفعت قواعده؛ ومن أهمّها ما كان حاضر البحر فإنه عورة مكشوفة، وخطّة مخوفة؛ والعدوّ قريب منه على بعده، وكثيرا ما يأتيه فجأة حتّى يسبق برقه برعده؛ فينبغي أن ترتّب بهذه الثغور رابطة تكثر شجعانها، وتقلّ أقرانها، ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها؛ وحينئذ يصبح كلّ منها وله من الرجال أسوار، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار، ومع هذا لا بدّ من أصطول يكثر عدده، ويقوى مدده، فإنه العدّة التي تستعين بها في كشف الغمّاء، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء، وجيشه أخو الجيش السّليمانيّ: فذاك يسير على متن الريح وهذا على متن الماء، ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدّة الأعمار؛ وإذا أشرعت قيل جبال متلفّعة بقطع من الغيوم، وإذا نظر إلى أشكالها قيل: إنها أهلّة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنّجوم؛ ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالى في جيادها، ويستكثر من قيادها، وليؤمّر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ولكن قتلها بخبره؛ وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه،(10/148)
وزحمتها مناكبه، وممّن يذلّ الصّعب إذا هو ساسه وإن سيس لان جانبه؛ وهذا الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هزّة بالرياسة، وإن كان في الساقة «1» ففي السّاقة أو في الحراسة ففي الحراسة، ولقد أفلحت عصابة اعتصبت من ورائه، [وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنصر من رائه] «2» .
واعلم أنه قد أخلّ من الجهاد بركن يقدح في عمله، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أنّ صدق النيّة يأتى في أوّله؛ وذلك هو قسم الغنائم فإنّ الأيدي قد تداولته بالإجحاف، وخلطت جهادها فيه بغلولها فلم ترجع بالكفاف؛ والله قد جعل الظّلم في تعدّي حدوده المحدودة، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة، [ونحن نعوذ به] «3» أن يكون زماننا هذا شرّ زمان وناسه شرّ ناس، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيّع ولا [إهمال] «4» ناس؛ والذي نأمرك به أن تجري [هذا] «5» الأمر على المنصوص من حكمه، وتبرّيء ذمّتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشاميّة ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما؛ فتصفّح ما سطّرناه لك في هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات، بل آيات محكمات، وتحبّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كتابها، وابن لك منها مجدا يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها؛ وهذا التقليد ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها، وأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزّل من كلّ أمير بمنزلة نظامه، ثم قال:
اللهمّ إني أشهدك على من قلّدته شهادة تكون عليه رقيبه، وله حسيبه؛ فإنّي لم آمره إلا بأوامر الحقّ التي فيها موعظة وذكرى، وهي لمن اتّبعها هدى ورحمة وبشرى؛(10/149)
فإذا أخذ بها فلج «1» بحجّته يوم يسأل عن الحجج؛ ولم يختلج دون رسول الله عن الحوض في جملة من يختلج، وقيل له: لا حرج عليك ولا إثم إذ نجوت من ورطات الإثم والحرج، والسلام.
المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)
وهي طريقة غريبة «2» ، كتب عليها عهد السلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» بالديار المصرية من ديوان الإنشاء ببغداد. وهو الذي عارضه الوزير ضياء الدين بن الأثير في العهد المتقدّم ذكره في المذهب [الرابع] «3» . وهذه نسخته.
إنّ أولى من جادت رباعه سحب الاصطناع، وخصّ من الاصطفاء والاجتباء بالصّفايا والمرباع «4» ، من ترسّم انتهاج «5» الجدد القويم، والطريق الواضح المستقيم، واعتلق من الولاء بأوثق عصمه وحباله، والفناء الذي يهتدي بأنواره في متصرّفاته وأعماله، والتحلّي بجميل الذكر في سيرته، وخلوص الاعتناء بأمور رعيّته «6» ؛ وكان راغبا في اقتناء حميد الخلال، مجتهدا في طاعة الله بما يرضيه «7»(10/150)
من العدل الممتدّ الظّلال، عاملا فيما يناط به بما يتضوّع نشر خبره «1» ، ويجتنى بحسن صنعه يانع ثمره، باذلا وسعه في الصلاح، مؤذنة مساعيه بفوز القداح.
ولمّا كان الملك الأجلّ، السيد، صلاح الدين، ناصر الإسلام، عماد الدولة، جمال الملك «2» فخر الملة، صفيّ الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمرّدين، عزّ المجاهدين؛ ألب غازي بك ابن «3» يوسف بن أيّوب- أدام الله علوّه- على هذه السّجايا مقبلا، وبصفاتها الكاملة مشتملا، مؤثرا تضاعف المأثرات، مثابرا على ما تزكو به الأعمال الصالحات، متحلّيا بالمحامد الرائقة، مستبدّا بالمناقب التي هي لجميل أفعاله موافقة مطابقة، محصّلا من رضا الله تعالى ما يؤثره ويرومه من طاعة الدّار العزيزة- لا زالت مشيّدة البناء، سابغة النّعماء، دائمة الاستبشار، عزيزة الأنصار- من استمرار الظّفر ما يستديمه، اقتضت الآراء الشريفة- لا زال التوفيق قرينها، والتأييد مظافرها ومعينها- إمضاء تصرّفه وإنفاذ حكمه في بلاد مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والإسكندرية، وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها ويستخلصه «4» بعد من ولايتها، والتعويل في هذه الولايات عليه، واستنقاذ «5» ما استولى عليه الكفّار من البلاد، وإعزاز كلّ من أذلّوه واضطهدوه من العباد: لتعود الثّغور بيمن نقيبته ضاحكة المباسم، وبإصابة رأيه قائمة المواسم.
أمره بادئا بتقوى الله التي هي الجنّة الواقية، والذّخيرة الباقية، والعصمة الكافية، والزاد إذا أنفض وفد الآخرة وأرملوا «6» ، والعتاد النافع إذا وجدوا شاهدا(10/151)
لهم وعليهم ما عملوا: فإنّها العلم المنصوب للرّشد، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ
«1» .
(وأمره أن يتّخذ كتاب الله سبحانه العلم الذي به يقتدي، وبأنواره إلى حدود الصواب يهتدي، ويستمع لزواجره ومواعظه، ويعتبر بتخويفه وملاحظه، ويصغي إليه بسمعه وقلبه، وجوارحه ولبّه) «2» ، ويعمل بأوامره المحكمة، ويقف عند نواهيه المبرمة، ويتدبّر ما حوته آياته من الوعد والوعيد، والزّجر والتّهديد؛ قال الله عزّ وجل: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
«3» .
وأمره أن يكون على صلاته محافظا ولنفسه عن الإخلال والتقصير في أداء فرضها واعظا، فيغتنم الاستعداد أمام أوقاتها للأداء، ويحترز من فواتها والحاجة إلى القضاء، موفّيا حقّها من الرّكوع والسّجود، على الوصف الواجب المحدود، مخلصا سرّه عند الدّخول فيها، وناهيا نفسه عمّا يصدّها بالأفكار ويلهيها، مجتهدا في نفي الفكر والوسواس عن قلبه، منتصبا في إخلاص العبادة لربّه: ليغدو بوصف الأبرار منعوتا، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً
«4» .
وأمره بقصد المساجد الجامعة في أيّام الجمع، امتثالا لأمر الله المتّبع، بعزيمة في الخير صادقة، ونيّة للعبادة موافقة، وفي الأعياد إلى المصلّيات المصحرة المجمّلة بالمنابر الحالية، التي هي عن الأدناس مطهّرة نائية «5» ، فإنّها من(10/152)
مواضع العبادة ومواطنها، ومظانّ تلاوة القرآن المأمور بحفظ آدابها وسننها؛ فقد وصف الله تعالى من وفّقه [لتجميل بيوته بالعمارة] «1» ، بما أوضح فيه الإشارة، وشرّفه بوضع سمة الإيمان عليه بالإكرام الفاخر، فقال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
«2» : فيقيم الدعوة الهاديّة على المنابر على عادة من تقدّمه، ومنتهيا فيها إلى أحسن ما عهده وعلمه.
وأمره بلزوم نزاهة الحرمات، واجتناب المحرّمات، والتحلّي من العفاف والورع بأجمل القلائد الرائقة، والتقمّص بملابس التقوى التي هي بأمثاله لائقة، وسلوك مناهج الصّلاح الذي يجمل به فعله، ويصفو له علّه ونهله، وأن يمنع نفسه من الغضب، ويردّها عمّا تأمر به من سوء المكتسب، ويأخذها بآداب الله سبحانه في نهيها عن الهوى، وحملها على التّقوى، وردعها عن التورّط في المهاوي والشّبه، وكلّ أمر يلتبس فيه الحقّ ويشتبه، ويلزمها الأخذ بالعفو والصّفح، والتأمّل لمكان الأعمال فيه واللّمح؛ قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«3» .
وأمره بإحسان السّيرة في الرعايا بتلك البلاد، واختصاصهم بالصّون الرائح الغاد، ونشر جناح الرّعاية على البعيد منهم والقريب، وإحلال كلّ منهم محلّه على القاعدة والترتيب، وإشاعة المعدلة فيهم، وإسهام دانيهم من وافر ملاحظته وقاصيهم، وأن يحمي سرحهم من كلّ داعر، ويذود عنهم كلّ موارب بالفساد ومظاهر، حتّى تصفولهم من الأمن الشّرائع، وتصفو عليهم من بركة ولايته المدارع، وتستنير بضوء العدل منهم المطالع، ويحترم أكابرهم، ويحنو على أصاغرهم، ويشملهم بكنفه ودرعه، وينتهي في مصالحهم إلى غاية وسعه، ولا يألوهم في النّصح جهدا، ولا يخلف لهم في الخير وعدا، ويشاورهم في أمره فإنّ(10/153)
المشورة داعية إلى الفلاح، ومفتاح باب الصّلاح؛ قال الله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
«1» .
وأمره بإظهار العدل في الرعيّة التي تضمّها جميع الأكناف والأطراف، والتحلّي من النّصفة بأكمل الأوصاف، وحمل كافّتهم على أقوم جدد، وعصيان الهوى في تقويم كلّ أود، والمساواة بين الفاضل والمفضول في الحقّ إذا ظهر صدق دليله، والاشتمال عليهم بالأمن الذي يعذب لهم برد مقيله، وكشف ظلامة من انبسطت إلى تحيّفه الأيدي والأطماع، وأعجزته النّصرة لنفسه والدّفاع، وتصفّح أحوالهم بعين لا ترنو إلى هوى يميل بها عن الواجب، وسمع لا يصغى إلى مقالة مائن «2» ولا كاذب، ولا يغفل عن مصلحة تعود إليهم، ويرجع نفعها عليهم، ولا عن كشف ظلامات بعضهم من بعض، وردّهم إلى الحقّ في كلّ رفع من أحوالهم وخفض؛ فلا يرى إلّا بالحق عاملا، وللأمور على سنن الشريعة حاملا، مجتنبا إغفال مصالحهم وإهمالها، وحارسا نظامها على تتابع الأيّام واتّصالها: ليكون ذلك إلى وفور الأجر داعيا، وبحسن الأحدوثة قاضيا، مقتديا بما نطق به القرآن: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
«3» .
وأمره أن يأمر بالمعروف ويقيم مناره، وينهى عن المنكر ويمحو آثاره؛ فلا يترك ممكنا من إظهار الحقّ وإعلانه، وقمع الباطل وإخماد نيرانه، ويعتمد مساعدة كل مرشد إلى الطريق الأقصد، وناه عن التظاهر بالمحظور في كل مشهد؛ فإنه «4» تضحي معونته مشاركة في إحراز المثوبة ومساهمة، ومساومة في(10/154)
اقتناء الأجر ومقاسمة، وأن يوعز بإزالة مظانّ الرّيب والفساد في الدّاني من الأعمال والقاصي، فإنّها مواطن الشيطان وأماكن المعاصي، وأن يشدّ على أيدي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويعينهم على ذلك بما يطيب ذكره في كل مشهد ومحضر، ويجتهد في إزالة كلّ محظور ومنكر، مقدّم في الباطل ومؤخّر؛ قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
«1» .
وأمره أن يقدّم الاحتياط في حفظ الثّغور ومجاوريها من الكفّار، ويستعمل غاية التيقّظ في ذلك والاستظهار: ليأمن عليها غوائل المكايد، ويفوز من التوفيق لذلك بأنواع المحامد، ويتجرّد لجهاد أعداء الدين، والانتقام من الكفرة المارقين، أخذا بقول رب العالمين: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
«2» . وأن يعمل فيما يحصل من الغنائم عند فلّ جموعهم، وافتتاح بلادهم وربوعهم، بقول الله وما أمر به في قسمتها، وإيفاء كلّ صاحب حصة حصته منها، سالكا سبل من غدا لآثار الصلاح مقتفيا، وللفرض في ذلك مؤدّيا، وبهدى ذوي الرشد مهتديا. قال الله تعالى في محكم التنزيل: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
«3» .
وأمره أن يجيب إلى الأمان من طلبه منه «4» ، ويكون وفاؤه مقترنا بما تضمّنه، غير مضمر خلاف ما يعطي به صفقة أمانه [ولا مخالف باطنه ما أظهره من مقاربته إلى عقد الهدن وإتيانه] «5» ويجتنب الغدر وما فيه من العار، وإسخاط الملك الجبّار؛ قال الله عز وجل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ(10/155)
تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
«1» .
وأمره بأن يأمر أصحاب المعاون بمساعدة القضاة والحكّام، ومعونتهم بما يقضي [بلمّ] «2» شمل الصلاح في تنفيذ القضايا والانتظام، وأخذ الخصوم بإجابة الداعي إذا استحضر [وا] «3» إلى أبوابهم للإنصاف، والمسارعة إلى الحقّ الواجب عليهم من غير خلاف؛ قال الله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ
«4» .
وأمره بالتعويل في المظالم وأسواق الرقيق ودور الضّرب والحسبة على من يأوي إلى عفاف ودين، وعلم بأحكام الشريعة وصحّة يقين، لا يخفى عليه ما حرّمه الله تعالى وأحلّه، ولا يلتبس على علمه ما أوضح إلى الحقّ الواضح سبله، وإلى من يتولّى المظالم بإيصال الخصوم إليه، وإنصافهم كما أوجبه الله تعالى عليه، واستماع ظلاماتهم، وإحسان النظر في مشاجراتهم؛ فإن أسفر للحق ضياء تبعه، أو اشتبه الأمر ردّه إلى الحكّام ورفعه. و [إلى] «5» الناظر في أسواق الرقيق بالاحتراز والاستظهار، وتعرية الأحوال من الشّبه في امتزاج العبيد بالأحرار: لتضحى الأنساب مصونة مرعيّة، والأموال عن الثّلم محروسة محميّة. وإلى من ينظر في الحسبة بتصفّح أحوال العامّة في متاجرهم وأموالهم، وتتبّع آثار صحّتهم في المعاملة واعتلالهم؛ واعتبار الموازين والمكاييل، وإلزام أربابها الصّحّة والتعديل؛ قال الله سبحانه وتعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ*
«6» .
وأن يعمل الجفن في تطهير البلاد، من كلّ مدخول الاعتقاد، معروف بالشّبه في دينه والإلحاد، ومن يسعى منهم في الفساد، ويأمر المرتّبين في المراكز والأطراف باقتناصهم، وكفّ فسادهم وإجلائهم عن عراصهم، وأن يجري عليهم في السّياسة ما يجب على أمثالهم من الزّنادقة والذين توبتهم لا تقبل، وأمرهم على(10/156)
حكم المخاطبين لا يحمل. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
«1» .
وأمره أن يتلقّى النعمة التي أفرغت عليه، وانساقت إليه، بشكر ينطق به لسانه، ويترجم عنه بيانه: ليستديم بذلك الإكرام، ويقترن الإحسان عنده بالالتئام، وأن يوفّيها حقّها من دوام الحمد، والقصد إلى شكرها والعمد؛ قال الله تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
«2» .
وليعلم أن أمير المؤمنين «3» قد بيّن له من الصلاح ما اتّضحت أعلامه، وأثبتت في المرامي سهامه، وأرشد إلى ما أودع هذا المنشور من جدد الفوز بمرضاة الله تعالى وشكر عباده، عاملا في ذلك بمقتضى جدّه واجتهاده: ليحرز السّبق في دنياه وعقباه، ويتوفّر عنده ما منح به مما أرهف عزمه وحباه، وغدا بمكانه رافلا في ملابس الفخر والبهاء، نائلا مني «4» ما طال به مناكب القرناء، واختصّ بما أعلى درجته فتقاعست عنه آمال حاسديه، وتفرّد بالمكانة عن مقام من يباريه ويناويه، وأولي من الإنعام ما أمّن به سرب النعمة عنده، وأصفى من مناهل الإحسان ورده، وأهدى إليه من المواعظ ما يجب أن يودعه واعية الأسماع، ويأخذ بالعمل به كلّ راع، فينهج- أدام الله علوّه- محاجّ الولاء الذي عهده من أمثاله من الأولياء، متنزّها عن تقصير منه في عامّة الأوقات، ومراعيا أفعاله في جميع التصرّفات، ويعلم أنّه مسؤول عن كل ما تلفظ «5» به لسانه ناطقا، ونظر طرفه إليه رامقا، قبل أن يجانب هواه، ويبقى رهينا بما اكتسبت يداه، ولا يغترّ من الدنيا وزخرفها بغرّار ليس الوفاء من طباعه، ومعير ما أقصر مدّة ارتجاعه!؛ وسبيل كافّة القضاة والأعيان(10/157)
ومقدّمي العساكر والأجناد، ورؤساء البلاد، متابعته وموافقته، وطلب مصالحهم من جنابه «1» والتصرف على استصوابه؛ وقد أكّدت وصاته في الرفق بهم والاشتمال عليهم، والإحسان إليهم، وإجمال السّيرة فيهم؛ وكلّما أشكل عليه أمر من المتجدّدات يطالع به الديوان العزيز- مجده الله تعالى- لينهج له السبيل إلى فتح رتاجه، وسلوك منهاجه؛ والله وليّ التوفيق والهداية، وجمع الكلمة في كلّ إعادة وبداية، والمعونة على العصمة من الزّلل، والتأييد في القول والعمل؛ إن شاء الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)
أما ما يكتب في المستند، فقد جرت العادة أن يكتب فيه نحو ما تقدّم في البيعات وعهود ولاة العهد بالخلافة: وهو: «بالإذن العالي، المولويّ، الإماميّ، النّبويّ، الفلانيّ (بلقب الخلافة) أعلاه الله تعالى» .
وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، فإنه يكتب علامته وتحتها: «فوّضت إليه ذلك، وكتب فلان بن فلان» . ورأيت في بعض الدساتير نقلا عن الحاكم بأمر الله أبي العباس [ابن الخليفة] «2» المستكفي بالله أبي الربيع سليمان [أنه] «3» كان يكتب: «وكتب أحمد ابن عمّ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم» .
وأما ما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة، فقد جرت العادة أن يكتب قاضيان فأكثر من قضاة القضاة الأربعة في حاشية العهد أو في ذيله ما صورته:
«أشهدني مولانا أمير المؤمنين العاهد المشار إليه فيه- أدام الله تعالى أيامه- بما نسب إليه فيه من العهد إلى فلان بن فلان» أو ما في معنى ذلك.(10/158)
قلت: والواجب أن يضمّوا في رسم شهادته الشهادة على السلطان بقبول العهد، بأن يقال قبل على ما نصّ وشرح فيه: «وعلى مولانا السلطان المشار إليه فيه بقبول ما فوّض إليه فيه» أو نحو ذلك: لأنه كما يعتبر العهد من العاهد يعتبر القبول من المعهود إليه كما تقدّم في موضعه.
الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)
أما قطع الورق فلا نزاع في أنه يكتب في قطع البغداديّ الكامل، على ما هو مستقرّ العادة إلى الآن. وقد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق في المقالة الأولى «1» من الكتاب أنّ عرضه ثلاثة أشبار وخمسة أصابع، وطول الوصل كذلك.
وأما القلم الذي يكتب به، فمختصر قلم الطّومار لمناسبته له على ما تقدّم فيما يناسب كل قطع من الورق من الأقلام.
وأما كيفيّة كتابة العهد وصورة وضعه في الورق، فعلى ما تقدم في البيعات وعهود أولياء العهد بالخلافة: وهو أن يبدأ بكتابة الطّرّة في أعلى الدرج من أوّل عرض الورق إلى آخره سطورا متلاصقة من غيرهامش، وفي أعلاه قدر إصبع بياضا، ثم يترك ستة أوصال بياضا من غير كتابة غير الوصل الذي فيه الطّرّة؛ ثم تكتب البسملة في أوّل الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاتها تكاد تلحق بالوصل الذي فوقه، بهامش عن يمين الدّرج قدر أربعة أصابع مطبوقة أو خمسة؛ ثم يكتب سطرا من أوّل العهد تحت البسملة ملاصقا لها بحيث تكاد أعالي ألفاته تلحق بالبسملة، ثم يخلّي بيت العلامة قدر شبر، ثم يكتب السطر الثاني من العهد على سمت السطر الذي تحت البسملة، ويسترسل في كتابة بقية العهد.(10/159)
ثم الذي رأيته في دستور معتمد ينسب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنه يكون بين كلّ سطرين قدر ربع ذراع. وأخبرني بعض فضلاء الكتّاب أنه رأى في بعض الدساتير أنّ سطوره تكون مزدوجة على نظير البسملة والسطر الأول، وبين كل سطرين بعد بيت العلامة تقدير خمسة أصابع مطبوقة.
قلت: ولعل ذلك تفنّن من الكاتب وتطريز للكتابة، لا على سبيل اللّزوم.
فإن قيل: لم كان مقدار البياض بين سطور العهد مع كبر قطع الورق دون بياض ما بين سطور التقاليد ونحوها مما يكتب عن السلطان على ما سيأتي ذكره؟
فالجواب أن العهد كالمكاتبة من العاهد للمعهود إليه، كما أنّ التقليد كالمكاتبة من المقلّد للمقلّد، والأعلى في حقّ المكتوب إليه أن تكون السطور متضايقة على ما تقدّم في الكلام على المكاتبات؛ فناسب أن تكون سطور العهد أكثر تقاربا من سطور التقليد وما في معناه، تعظيما لشأن السلطان في الحالتين.
فإن قيل: ينقض ذلك بعظم قلم العهد، ضرورة أنه كلّما غلظ القلم كان أنزل في رتبة المكتوب إليه على ما تقدّم أيضا، فالجواب: أن غلظ القلم في العهد تابع للورق في كبر قطعه، وقاعدة ديوان الإنشاء أنه كلّما كبر قطع الورق في المكاتبات، كان تعظيما للمكتوب إليه، بدليل أنّ كلّ من عظم مقداره من الملوك كان قطع الورق في مكاتبته أكبر، ولو كتب العهد بقلم دقيق مع ضيق السّطور وسعة الورق لجاء في غاية القصر. ثم قد جرت العادة أن تكون كتابة العهد من أوّله إلى آخره من غير نقط ولا شكل، وعليه عمل الكتّاب إلى آخر وقت.
قلت: هذا بناء على المذهب الراجح في أن المكاتبة إلى الرئيس تكون من غير إعجام ولا ضبط: لما في الإعجام والضّبط من استجهال المكتوب إليه ونسبته للغباوة وقلّة الفهم، بخلاف من ذهب إلى أن الكتابة إلى الرئيس تقيّد بالإعجام والضبط كي لا يعترضه الشكّ، ولا يكلّف إعمال الفكر، على ما تقدّم ذكره في أوائل المكاتبات، فإنه يرى نقط العهد وشكله.
وإذا انتهى إلى آخر العهد كتب المشيئة، ثم التاريخ، ثم المستند، ثم(10/160)
الحمدلة والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم الحسبلة، على ما تقدّم في الكلام على الفواتح والخواتم في أوائل المقالة الأولى من الكتاب.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثّلا له بالطرّة التي أنشأها القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر، والعهد الذي أنشأه القاضي شمس الدين إبراهيم بن القيسراني «1» للملك الناصر «محمد بن قلاوون» وهو العهد الأخير من المذهب الأوّل.
الطرّة هذا عهد شريف تجدّدت مسرّات الإسلام بتجديده، وتأكّدت أسباب الإيمان بتأكيده، ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده، ووفد اليمن والإقبال على الخليفة بوفوده، وورد الأنام مورد الأمان بوروده. من عبد الله ووليّه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين، ابن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد خلّد الله سلطانه، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قدّس الله روحه على ما شرح فيه.
بسم الله الرحمن الرحيم الهامش هذا عهد شريف يعمر بك للإسلام المعاهد، وينصر منك الاعتزام بيت العلامة فتغنى عن الموالي والمعاضد، ويلقي إليك مقاليد الأمور لتحمي في مرضاة(10/161)
تقدير ربع ذراع الهامش الله وتجاهد، ويبعثك على العمل بالكتاب والسّنّة: ليكونا شاهدين لك تقدير ربع ذراع عند الله في أعظم المشاهد- إلى أن يأتي إلى قوله في آخره: والله تعالى يخلّد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه، ويديمه ناصرا للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، ويجعل سبب هذا العهد مدى الأيام متينا، ويجدّد له في كل وقت نصرا قريبا وفتحا مبينا؛ والخطّ الحاكميّ أعلاه، حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى كتب في من شهر كذا سنة كذا بالإذن العالي المولويّ الإماميّ النّبويّ الحاكميّ أعلاه الله تعالى الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل
النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)
وهو أن يعهد الملك بالملك بعده لمن يختاره من أولاده أو إخوته أو غيرهم من الأقارب أو الأجانب.
ويتعلق النظر به من سبعة أوجه:(10/162)
الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)
لمّا صحّت إمارة الاستيلاء إخمادا للفتن، وتنفيذا للأحكام الشرعيّة على ما تقدّم من كلام الماورديّ في النوع الثاني من العهود، اقتضت المصلحة تصحيح العهد بالملك لما فيه من المعنى المتقدّم. وقد جرت عهود من الملوك لأبنائهم بالديار المصرية وغيرها بحضرة الجمّ الغفير من العلماء وأهل الحلّ والعقد فأمضوا حكم ذلك ولم ينكروه، وذلك منهم دليل الجواز.
فإن قيل: قد تقدّم في النوع الثاني من العهود من كلام الماورديّ أن وزير التفويض لا يجوز له أن يعهد بالوزارة لغيره، ووزارة التفويض في معنى السلطنة الآن أو قريبة منها على ما تقدّم هناك، فالجواب: أنه قد تقدّم أن السلطنة الآن مركّبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء، بل السلطان الآن كالمستبدّ بالأمر، والشوكة مصحّحة لأصل الولاية فلأن تكون مصحّحة لفرعها أولى.
الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)
ينبغي أن يكون ما يكتب فيها على نحو ما يكتب في طرر عهود الملوك عن الخلفاء، إلا أنه يزاد فيها: «عهد إليه بالملك بعده» كما يقال في عهود الخلفاء عن الخلفاء: «عهد إليه بالأمر بعده» .
وهذه نسخة طرّة:
«هذا عهد شريف جليل قدره، رفيع ذكره، عليّ فخره، متبلّج صبحه ضوّيّ فجره. من السلطان الأعظم الملك الفلانيّ فلان الدنيا والدين فلان، خلّد الله تعالى سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه- بالسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ، بلّغه الله تعالى فيه غاية الآمال، وحقّق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال، على ما شرح فيه» .(10/163)
الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)
وقد ذكر في «التعريف» أنه يكتب له: المقام الشريف أو الكريم، أو العالي مجرّدا عن الشريف والكريم، ويقتصر فيها على الألقاب المفردة دون المركّبة.
قلت: وعلى هذه الطريقة كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ألقاب الملك الصالح عليّ بن المنصور قلاوون في عهده بالسلطنة عن والده المذكور، فقال: «ولمّا كان المقام العالي الولديّ السلطانيّ الملكيّ الصالحيّ العماديّ» .
وعلى نحو من ذلك كتب المشار إليه ألقاب الملك السعيد بركة «1» بن الظاهر بيبرس في عهده بالسلطنة عن والده المذكور، فقال: «وخرج أمرنا بأن يكتب هذا التقليد لولدنا الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد» إلا أنه قد خالف ذلك فيما كتب به في ألقاب الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون في عهده بالسلطنة عن والده فجمع بين الألقاب المفردة والمركّبة، فقال: «هذا عهدنا للسيّد الأجل الملك الأشرف صلاح الدّنيا والدين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين» ولم يتعرّض في «التعريف» لحكاية هذا المذهب مع كون كلام ابن عبد الظاهر حجة يرجع إليه في هذا الفن.
الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)
ويتعين أن يكتب فيه «حسب المرسوم الشريف» لصدوره عن السلطان كما يكتب في التقاليد.(10/164)
الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)
وللكتّاب فيه طريقتان:
الطريقة الأولى
- أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «هذا» ونحوه على ما تقدّم في عهود الملوك عن الخلفاء.
وعلى هذه الطريقة كتب أبو بكر بن القصيرة المغربيّ الكاتب عن أمير المسلمين «يوسف بن تاشفين» «1» سلطان المغرب بولاية عهده لابنه أبي الحسن على ما بيده من الغرب والأندلس في ذي الحجة سنة ستّ وتسعين وأربعمائة، وهو:
كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، مهّدت على الرضا قواعده، وأكّدت بيد التقوى معاقده، وأبعدت عن الغواية والهوى مصادره وموارده، أنفذه أمير المسلمين وناصر الدّين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، أدام الله أمره، وأعزّ نصره، وأطال فيما يرضيه ويرضى به عنه عمره، غير محاب، ولا تارك في النصيحة لله عز وجلّ ولرسوله موضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجلّ أبي الحسن عليّ ابنه المتقبل شيمه وهممه، المتأثّل حلمه وتحلّمه، الناشيء في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرّف بين يدي متحديه «2» وتهذيبه، أدام الله عزّه وتوفيقه وأنهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمّم بمن تحت عصاه من المسلمين، وهذا فيمن يخلفه فيهم هدّى للمتقين، ولم ير أن يتركهم سدّى غير مدينين، فاعتام «3» في النّصاب(10/165)
الرفيع واختار، واستنصح أولي الرأي منهم ومن غيرهم واستشار، واستضاء بشهاب استخارة الله عزّ وجلّ واستنار؛ فلم يوقع الله بعد طول تأمّل، وتراخي مدّة وتمهّل، اختياره ولا اختيار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحكمة والتجربة واستشاره إلّا عليه، ولا صار به وبهم الاجتهاد إلّا إليه، ولا التقى ورّاد التّرائي والتشاور إلا بين يديه، فولّاه على استحكام بصيرة وبعد طول مشورة عهده، وأفضى إليه بالأمر والنهي والبسط والقبض بعده، وجعله خليفته في رعايا مسنده وأوطأ عقبه جماهير الرجال، وناطه بمهمّات الأموال والأحوال، وعهد إليه أن يتّقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنّة في أحد عصى أو أطاع، ولا ينام به عن حماية من أسهره الحيف والخوف والاضطجاع، ولا يتلهّى دون معلن شكوى، ولا يتصمّم عن مستصرخ لدفاع بلوى، وأن ينتظم أقصى بلاده وأدناها في سلك تدبيره ولا يكون بين القريب والبعيد من رعيّته بون في إحصائه وتقديره؛ ثم دعا- أدام الله تأييده- لمبايعته من دنا ونأى من المسلمين، فلبّوا مسرعين وأتوا مهطعين «1» ، وأعطوا صفقة أيمانهم متبرّعين متطوّعين، وبايعوه على السّمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة، وإصفاء النّيّات الصحيحة، وموادّة من صاحبه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدّخرون في ذلك على حال المكره والمنشط مقدرة، ولا يحتجّون في وقتي السّخط والرضا بمعذرة، ثم أمر بمخاطبة أهل البلاد لتبايعه كلّ طائفة في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر صفقة يدها، حتّى يستوي في التزام بيعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغائب والشهيد، وتطمئنّ من أعلام الناس وخيرهم قلوب كانت من تراخي ما انتجز قلقة، ولم تزل ببقية التأخّر أرقة، ويشمل الناس السرور والاستبشار، وتتمكّن لهم الدّعة ويتمهّد القرار، وتنشأ في الصّلاح لهم آمال، ويستقبلهم جدّ صاعد وإقبال، والله يبارك(10/166)
لهم فيها بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة إيمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير.
شهد على أمير المسلمين «1» ناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين- أدام الله أمره، وأعزّ نصره- بكلّ ما ذكر عنه من التزام البيعة المنصوصة فوق هذا، وأعطى صفقة يمينه متبرّعا بها، وبالله التوفيق؛ وذلك بحضرة قرطبة حماها الله تعالى.
الطريقة الثانية
- أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله، وهي طريقة المصريين، وعليها اقتصر المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» وعلى هذه الطريقة كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن الظاهر بيبرس عهد ولده الملك السعيد بركة، وهذه نسخته:
الحمد لله منمّي الغروس، ومبهج النّفوس، ومزيّن سماء المملكة بأحسن الأهلّة وأضوإ البدور وأشرق الشّموس، الذي شدّ أزر الإسلام، بملوك يتعاقبون مصالح الأنام، ويتناوبون تدبيرهم كتناوب العينين واليدين في مهمّات الأجساد وملمّات الأجسام.
نحمده على نعمه التي أيقظت جفن الشّكر المتغافي، وأوردت نهل الفضل الصافي، وخوّلت الآلاء حتّى تمسّكت الآمال منها بالوعد الوفيّ وأخذت بالوزن الوافي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد كثّر الله عدده وعدده، وأحمد أمسه ويومه ويحمد- إن شاء الله تعالى- غده، ونصلّي على سيدنا محمد الذي أطلع الله به نجم الهدى، وألبس المشركين به أردية الرّدى، وأوضح به مناهج الدين وكانت طرائق قددا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة لا تنقضي أبدا.(10/167)
وبعد، فإنا ألهمنا الله من مصالح الأمم، وخوّلنا من الحرص على مهمّات العباد الذي قطع به شأفة الكفر وختم، وأتى به والشرك قد علم كلّ أحد اشتعال ناره فكان علما بنار مضرمة لا نارا على علم، وقدّره من رفع الكفر من جميع الجوانب، وقفوهم من كل جهة حتّى رماهم بالحتف الواصل والعذاب الواصب «1» ، فأصبح الشّرك من الإبادة في شرك، والإسلام لا يخشى من قتل ولا يخاف من درك، وثغور الإسلام عالية المبتنى، جانية ثمار الادّخار من هنا ومن هنا، تزاحم بروجها في السماء البروج، وتشاهد الأعداء منها سماء قد بنيت وزيّنت وما لها من فروج، وعساكر الملّة المحمديّة في كلّ طرف من أطراف الممالك تجول، وفي كلّ واد تهيم حتّى تشعر بالنصر ولكنّها تفعل ما تقول: قد دوّخت البلاد فقتلت الأعداء تارة بالإلمام وتارة بالإدهام «2» ، وسلّت سيوفها فراعتهم يقظة بالقراع ونوما بالأحلام، ترى أنا قد لذّ لنا هذا الأمر التذاذ المستطيب، وحسن لدينا موقعه فعكفنا عليه عكوف المستجيد ولبّيناه تلبية المستجيب، وجعلنا فيه جميع الآلات والحواس، وتقسّمت مباشرته ومؤامرته سائر الزمن حتّى غدا أكثر تردّدا إلى النّفس من الأنفاس، واستنفدنا الساعات في امتطاء المضمّر الشّموس، وادّراع محكم الدّلاص «3» التي كأنها وميض برق أو شعاع شموس، وتجريد المرهفات التي جفت لحاظها الأجفان، وجرت فكالمياه وأضرمت فكالنّيران، وتفويق السهام التي غدت قسيّها مرابعا نبالها بان «4» ، واعتقال السّمهريّة التي تقرع الأعداء سنّها ندما كلّما قرعت هي السّنان، إلى غير ذلك، من كلّ غارة شعواء تسيء للكفّار الصّباح، وتصدم كالجبال وتسير كالرّياح، ومنازلات كم استلبت من موجود، وكم استنجزت من نصر موعود، وكم مدينة أضحت لها مدينة ولكن أخّرها الله إلى أجل معدود.(10/168)
وكانت شجرتنا المباركة قد امتدّ منها فرع تفرّسنا فيه الزيادة والنموّ، وتوسّمنا منه حسن الجنى المرجوّ، ورأينا أنّه الهلال الذي قد أخذ في ترقّي منازل السّعود إلى الإبدار، وأنه سرّنا الذي صادف مكان الاختبار له مكان الاختيار، فأردنا أن ننصبه في منصب أحلّنا الله فسيح غرفه، ونشرّفه بما خوّلنا الله من شرفه، وأن تكون يدنا ويده تلتقطان من ثمره، وجيدنا وجيده يتحلّيان بجوهره، وأنّا نكون للسلطنة الشريفة السمع والبصر، وللملكة المعظّمة في التناوب بالإضاءة الشمس والقمر، وأن تصول الأمّة منّا ومنه بحدّين، ويبطشوا من أمرنا وأمره بيدين، وأن نرتّبه على حسن سياسة تحمد الأمّة- إن شاء الله تعالى- عاقبتها عند الكبر، وتكون الأخلاق الملوكية منتشئة منه ومنتشئة به من الصّغر، ونجعل سعي الأمّة حميدا، ونهب لهم منه سلطانا نصيرا وملكا سعيدا، ونقوّي به عضد الدين ونريش جناح المملكة، وننجح مطلب الأمة بإيالته وكيف لا ينجح مطلب فيه بركة؟.
وخرج أمرنا، لا برح مسعدا ومسعفا، ولا عدمت الأمة منه خلفا منبلا «1» ونوءا محلفا، بأن يكتب هذا التقليد لولدنا السعيد ناصر الدين «بركة خاقان محمد» جعل الله مطلع سعده بالإشراق محفوفا، وأرى الأمّة من ميامنه ما يدفع للدّهر صرفا ويحسن بالتدبير تصريفا- بولاية العهد الشريف على قرب البلاد وبعدها، وغورها ونجدها، وقلاعها وثغورها، وبرورها وبحورها، وولاياتها وأقطارها، ومدنها وأمصارها، وسهلها وجبلها، ومعطّلها ومغتلّها، وما تحوي أقطاره الأحلام، وما ينسب للدولة القاهرة من يمن وحجاز ومصر وغرب وسواحل وشام بعد شام، وما يتداخل ذلك من قفار ومن بيد في سائر هذه الجهات، وما يتخلّلها من نيل وملح وعذب فرات «2» ، ومن يسكنها من حقير وجليل، ومن يحلّها من صاحب رغاء وثغاء «3» وصليل وصهيل، وجعلنا يده في ذلك كلّه المبسوطة،(10/169)
وطاعته المشروطة ونواميسه المضبوطة، ولا تدبير ملك كلّيّ إلا بنا أو بولدنا يعمل، ولا سيف ولا رزق إلا بأمرنا هذا يسلّ وهذا يسأل، ولا دست سلطنة إلا بأحدنا يتوضّح منه الإشراق، ولا غصن قلم في روض أمر ونهي إلّا ولدينا ولديه تمتدّ له الأوراق، ولا منبر خطيب إلا باسمنا يميس، ولا وجه درهم ولا دينار إلا بنا يشرق ويكاد تبرّجا لا بهرجا يتطلّع من خلال الكيس.
فليتقلّد الولد ما قلّدناه من أمور العباد، وليشركنا فيما نباشره من مصالح الثّغور والقلاع والبلاد، وسنتعاهد هذا الولد من الوصايا بما سينشأ معه توءما، ويمتزج بلحمه ودمه حتّى يكاد يكون ذلك إلهاما لا تعلّما، وفي الولد بحمد الله من نفاذ الذّهن وصحّة التصوّر ما تتشكّل فيه الوصايا أحسن التشكيل، وتظهر صورة الإبانة في صفائه الصّقيل، فلذلك استغنينا عن شرحها هاهنا مسرودة، وفيه- بحمد الله- من حسن الخليقة ما يحقّق أنها بشرف الإلهام موجودة، والله لا يعدمنا منه إشفاقا وبرّا، ويجعله أبدا للأمة سندا وذخرا، إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أيضا عن المنصور «قلاوون» عهد ولده الملك الأشرف صلاح الدين «خليل» «1» وهذه نسخته:
الحمد لله الذي لم يزل له السّمع والطاعة فيما أمر، والرضا والشّكر فيما هدم من الأعمار وما عمر، والتفويض في التعويض إن غابت الشمس بقي القمر.
نحمده على أن جعل سلطاننا ثابت الأركان، كلّ روضة من رياضه ذات أفنان، لا تزعزعه ريح عقيم، ولا يخرجه رزء عظيم عن الرّضا والتسليم، ولا يعتبط من حملته كريم إلا ويغتبط من أسرته بكريم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزيد قائلها تفويضا وتجزل له تعويضا، وتحسن له على الصبر(10/170)
الجميل في كلّ خطب جليل تحريضا، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه في التسليم: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
«1» . والنبيّ الذي أوضح به المناهج وبيّن به السّبل، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تجاوبت المحابر والمنابر في البكر والأصل، وما نثرت عقود ونظمت، ونسخت آيات وأحكمت، ونقضت أمور وأبرمت، وما عزمت آراء فتوكّلت وتوكّلت فعزمت، ورضي الله عن أصحابه الذين منهم من كان للخليقة نعم الخليفة، ومنهم من لم يدرك أحد في تسويد النفس الحصيفة ولا في تبييض الصّحيفة مدّه ولا نصيفه، ومنهم من يسّره الله لتجهيز جيش العسرة فعرف الله ورسوله معروفه، ومنهم من عمل صالحا أرضى ربّه وأصلح في ذرّيته الشريفة.
وبعد، فإن من ألطاف الله تعالى بعباده، واكتناف عواطفه ببلاده، أن جعلنا كلّما وهى للملك ركن شديد شيّدنا ركنا عوضه، وكلما اعترضت للمقادير جملة بدّلنا آية مكان آية وتناسينا- تجلّدا- تلك الجملة المعترضة، فلم يحوج اليوم لأمسه، وإن كان حميدا، ولا الغارس لغرسه، وإن كان ثمره يانعا وظلّه مديدا، فأطلعنا في أفق السلطنة كوكبا سعيدا كان لحسن الاستخلاف معدّا، ومن لقبيل المسلمين خير ثوابا وخير مردّا، ومن يبشّر الله به من الأولياء المتّقين وينذر من الأعداء قوما لدّا، ولم يبق [إلا] «2» به أنسنا بعد ذهاب الذين تحسبهم (كالسيف فردا) «3» والذي ما أمضى حدّه ضريبة إلا (قدّ البيض والأبدان قدّا) «4» ، ولا جهّز راية كتيبة إلا أغنى غناء الذاهبين وعدّ الأعداء عدّا، ولا بعثه جزع فقال: (كم من أخ لي صالح) «5» إلّا لقيه ورع فقال: (وخلقت يوم خلقت جلدا) «6» ، وهو الذي(10/171)
بقواعد السلطنة أدرى وبقوانينها الأعرف، وعلى الرّعايا الأعطف وبالرّعايا الأرأف، وهو الذي ما قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى إلّا وقيل هذا بناء مثله منه أسمى ملك أشرف، والذي ما برح النصر يتنسّم من مهابّ تأميله الفلاح، ويتبسّم ثغره فتتوسّم الثغور من مبسمه النّجاح، ويقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلّا وهو يشرئبّ إلى ملاحظة جبين عهده الوضّاح، ويتفتّق اشتقاق النّعوت فيقول التسلّي للتملّي: سواء الصالح والصّلاح، والذي ما برح لشعار السلطنة إلى توقّله وتنقّله أتمّ حنين، وكأنما كوشفت الإمامة العبّاسيّة بشرف مسمّاه فيما تقدّم من زمن سلف ومن حين، فسمّت ووسمت باسمه أكابر الملوك وأخاير السلاطين، فخوطب كلّ منهم مجازا لا كهذه الحقيقة «بخليل» أمير المؤمنين؛ والذي [كم] «1» جلا ببهيّ جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن آرائه يهيم، وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه إبراهيم، ومن تشخص الأبصار لكماله يوم ركوبه حسيرة، وتلقي البنان سلاحها ذهلا وهي لا تدري لكثرة الإيماء إلى جلاله إذا يبدو مسيره، والذي ألهم الله الأمة لجوده ووجوده صبرا جميلا، وآتاهم من نفاسة كرمه وحراسة سيفه وقلمه تأمينا وتأميلا، وعظم في القلوب والعيون بما من برّه سيكون فسمّته الأبوّة الشريفة ولدا وسمّاه الله «خليلا» .
ولمّا تحتّم من تفويض أمر الملك إليه ما كان لوقته المعلوم قد تأخّر، وتحيّن حينه فكمل زيادة كزيادة الهلال حتّى بادر تمامه فأبدر، اقتضى حسن المناسبة لنصائح الجمهور، والمراقبة لمصالح الأمور، والمصاقبة لمناجح البلاد والثّغور، والمقاربة من فواتح كلّ أمر ميسور، أن نفوّض إليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظّمة، المكرّمة المفخّمة المنظّمة، وأن يبسط يده المنيفة لمصافحتها بالعهود، وتحكّمها في العساكر والجنود، وفي البحور والثّغور وفي التّهائم(10/172)
والنّجود، وأن يعدق «1» ببسطها وقلمها كلّ قطع ووصل، وكلّ فرع وأصل، وكلّ نصر ونصل، وكلّ ما يحمي سرحا، ويهمي منحا، وفي المثيرات في الإعداء على الأعداء نقعا وفي المغيرات صبحا، وفي المنع والإطلاق، وفي الإرفاد والإرفاق، وفي الخميس «2» إذا ساق، وفي السيوف إذا بلغت التراقي وقيل من راق، وفي الرّماح إذا التفّت الساق بالسّاق، وفي المعاهدات والهدن، وفي الفداء بما عرض من عرض وبالبدن «3» بالبدن، وفيما ظهر من أمور الملك وما بطن، وفي جميع ما تستدعيه بواعثه، في السرّ والعلن، وتسترعيه نوافثه، من كبت وكتب متفرّقين أو في قرن، عهدا مباركا عوذه وتمائمه، وفواتحه وخواتمه، ومناسمه ومياسمه، وشروطه ولوازمه، وعلى عاتق الملك الأعزّ نجاده وفي يد جبّار السموات قائمه، لا رادّ لحكمه ولا ناقض لبرمه، ولا داحض لما أثبتته الأقلام من مكنون علمه.
[و] «4» يزيده مرّ اللّيالي جدّة ... وتقادم الأيام حسن شباب
وتلزم السّنون والأحقاب استيداعه للذراريّ والأعقاب؛ فلا سلطان ذو قدر وقدرة، ولا ذو أمر وإمرة، ولا نائب في مملكة قربت أو بعدت، ولا مقدّم جيوش أتهمت أو أنجدت؛ ولا راع ولا رعيّة، ولا ذو حكم في الأمور الشرعيّة؛ ولا قلم إنشاء ولا قلم حساب ولا ذو وأنساب ولا ذو وأسباب، إلا وكلّ داخل في قبول هذا العقد الميمون، ومتمسّك بحكم كتابه المكنون، والتسليم لنصّه الذي شهد به من الملائكة الكرام الكاتبون، وأمست بيعته بالرّضوان محفوفة، والأعداء يدعونها تضرّعا وخيفة، وليشكروا الصنيع الذي بعد أن كانت الخلفاء تسلطن الملوك قد(10/173)
صار سلطانهم يقيم من ولاة العهد خليفة بعد خليفة.
وأمّا الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف- أعزّك الله- بها الدّرب، ولسماع شدوها وحدوها الطّرب، الذي للّغو لا يضطرب، فعليك بتقوى الله عز وجلّ فإنها ملاك سدادك، وهلاك أضدادك، وبها يراش جناح نجاحك، ويحسن اقتداء اقتداحك؛ فاجعلها دفين جوانح تأميلك ووعيك، ونصب عيني أمرك ونهيك؛ والشرع الشريف فهو قانون الحق المتّبع، ومأمون الأمر المستمع، وعليه مدار إيعاء كلّ إيعاز، وبه يتمسّك من أشار وامتاز، وهو جنّة والباطل نار: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ
«1» ؛ فلا تخرج في كلّ حال عن لوازمه وشروطه، ولا تنكب عن معلّقه ومنوطه. والعدل فهو مثمّر غروس الأموال، ومعمّر بيوت الرّجاء والرّجال، وبه تزكو الأعمار والأعمال؛ فاجعله جامع أطراف مراسمك؛ وأفضل أيّام مواسمك؛ وسم به فعلك، وسمّ به فرضك ونفلك، ولا تفرد به فلانا دون فلان، ولا مكانا دون مكان، واقرنه بالفضل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
«2» . وأحسن التخويل، وأجمل التّنويل، وكثّر لمن حولك التموين والتّمويل، وضاعف الخير في كلّ مضاف لمقامك، ومستضيف بإنعامك، حتى لا تعدم في كلّ مكان وكلّ زمان ضيافة الخليل؛ والثّغور فهي للممالك مباسمها، وللمسالك مناسمها؛ فاجعل نواجذها تفترّ عن حسن ثنايا الصّون، ومراشفها شنبة «3» الشّفاه بحسن العون؛ ومنها، بما يحمي السّرح منها، وأعنها، بما يدفع المكاره عنها، فإنها للنصر مقاعد، وبها حفظ البلاد من كلّ مارّ من الأعداء مارد؛ وأمراء الجيوش فهم السّور الواقي بين يدي كلّ سور، وما منهم إلا كلّ بطل بالنصر مشهور، كما سيفه مشهور، وهم ذخائر الملوك، وجواهر السّلوك، وأخاير الأكابر الذين خلصوا من الشكوك؛ وما منهم إلا من له خدمات سلفت، وحقوق عرفت،(10/174)
ومواتّ «1» على استلزام الرّعاية للعهود وقفت؛ فكن لجنودهم متحبّبا، ولمرابعهم مخصبا، ولمصالحهم مرتّبا، ولآرائهم مستصوبا، ولاعتضادهم مستصحبا، وفي حمدهم مطنبا، وفي شكرهم مسهبا، والأولياء المنصوريّون الذين هم كالأولاد، ولهم سوابق أمتّ «2» من سوابق الإيجاد؛ وهم من علمت استكانة من قربنا، ومكانة من قلبنا، وهم المساهمون فيما ناب، وما برحوا للدولة الظّفر والناب، فأسهم لكلّ منهم من احترامك نصيبا، وأدم لهم ارتياحك، وألن جماحك؛ وقوّهم بسلاحك، تجد منهم ضروبا، وترى كلّا منهم في أعدائك ضروبا.
وكما أنا نوصيك بجيوش الإسلام، كذا نوصيك بالجيش الذي له الجوار المنشآت في البحر كالأعلام؛ فهو جيش الأمواه والأمواج المضاف إلى الأفواج من جيش الفجاج؛ وهو الجيش السّليمانيّ في إسراع السير، وما سمّيت شوانيه «3» غربانا إلا ليجتمع بها لنا ما اجتمع لسليمان صلى الله عليه وسلم من تسخير الريح والطّير؛ وهي من الديار المصرية على ثبج «4» البحر الأسوار، فإن قذفت قذفت الرعب في قلوب الأعداء وإن أقلعت قلعت منهم الآثار، فلا تخله من تجهيز جيشه، وسكّن طيش البحر بطيشه، فيصبح لك جيشان كلّ منهما ذو كرّ وفرّ، هذا في برّ بحر وهذا ببحر برّ؛ وبيوت العبادات فهي التي إلى مصلّى سميّك «خليل» الله تنتهي محاريبها، وبها لنا ولك وللمسلمين سرى الدّعوات وتأويبها؛ فوفّها نصيبها المفروض غير منقوص، ومر برفعها وذكر اسم الله تعالى [فيها] «5» للأمر المنصوص؛ وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات «6» الواجبات، من حيث إنها كلّها بيوت الله عز وجل: هذه(10/175)
للصّلاة وهذه للصّلات، وهذه كهذه في رفع المنار وجمع المبار؛ وإذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدّرهم والدّينار؛ فاصرف إليها اجتهادك فيما يعود بالتثمير، كما يعود على تلك بالتّنوير، وعلى هذه بإشحانها «1» بأنواع الصّروف، كإشحان «2» تلك باستواء الصّفوف، فإنها إذا أصبحت مصونة، أجملت بحمد الله المعونة، وكفلت بالمؤونة وبالزيادة على المؤونة، فتكمّل هذه لكل ولي دنياه كما كمّلت تلك [لكلّ] وليّ دينه؛ وحدود الله فلا يتعدّاها أحد، ولا يرأف فيها ولد بوالد ولا والد بولد؛ فأقمها وقم في أمرها حتى تنضبط أتمّ الضبط، ولا تجعل يد الفتك مغلولة إلى عنقها ولا تبسطها كلّ البسط؛ فلكلّ من الجنايات والقصاص شرط شرطه الله وحدّ حدّه فلا يتجاوز أحد ذلك الحدّ ولا يخرج عن ذلك الشرط، والجهاد فهو الدّيدن المألوف من حيث نشأ نشأ ونشأتك ... «3» وفي ظهور الخيل، فمل على الأعداء كلّ الميل، وصبّحهم من فتكاتك بالويل بعد الويل، وارمهم بكلّ شمّريّ «4» قد شمّر من يده عن الساعد ومن رمحه عن الساق ومن جواده الذّيل، واذهب لهم من كلّ ذلك مذهب، وأنر بنجوم الخرصان «5» كلّ غيّ وغيهب، وتكثّر في غزوهم من الليل بكلّ أدهم، ومن الشّفق، بكلّ أحمر وأشقر، ومن الأصيل بكلّ أصفر، ومن الصبح بكلّ أشهب، واستنهب أعمارهم واجعلها آخر ما يسلب وأوّل ما ينهب؛ ونرجو أن يكون الله قد خبأ لك من الفتوحات ما يستنجزها لك صادق وعده، وأن ينصر بك جيوش الإسلام، في كلّ إنجاد وإتهام، وما النّصر إلّا من عنده؛ وبيت الله المحجوج من كلّ فجّ، المقصود من كلّ نهج، فسيّر سبيله، ووسّع [له] «6» الخير وأحسن تسبيله، وأوصل من برّك(10/176)
لكلّ من الحرمين ما هو له، لتصبح ربوعه بذلك مأهولة، واحمه ممّن يريد فيه بإلحاد بظلم، وطهّره من مكس وغرم: ليعود نفعك على البادي والعاكف، ويصبح واديه وناديه مستغنيين بذلك عن السّحاب الواكف «1» ؛ والرعايا فهم للعدل زروع، وللاستثمار فروع، ولا ستلزام العمارة شروع؛ فمتى جادهم غيث أعجب الزّرّاع نباتهم، ونمت بالصّلاح أقواتهم، وصلحت بالنّماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلّاتهم، وتوفّرت زكواتهم وتنوّرت مشكاتهم، والله يضاعف لمن يشاء.
هذا عهدنا للسيد الأجلّ، الملك، الأشرف، صلاح الدنيا والدين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين، أعزّ الله تعالى ببقائه الدّين؛ فليكن بعروته متمسّكا، وبنفحته متمسّكا، وليتقلّد سيف هذا التقليد، ويفتح مغلق كلّ فتح منه بخير إقليد؛ وها نحن قد كثّرنا لديه جواهره فدونه ما يشاء تحليته من تتويج مفرق وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد، ففي كلّ ذلك تبجيل وتمجيد؛ والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إماما، وللدّين قواما، وللمجاهدين اعتصاما، وللمعتدين انفصاما، ويطفيء بمياه سيوفه نار كلّ خطب حتى يصبح كما أصبحت نار سميّه صلى الله عليه وسلم بردا وسلاما؛ إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، عن المنصور «قلاوون» المتقدّم ذكره، عهد ولده الملك الصالح «علاء الدين علي» وهذه نسخته «2» :
الحمد لله الذي شرّف سرير الملك منه بعليّه، وحاطه منه بوصيّه؛ وعضّد منصوره بولاية عهد صالحه، وأسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عديّه، وأبهج(10/177)
خير الآباء من خير الابناء بمن سموّ أبيه منه بشريف الخلق وأبيّه، وغذّى روضه بمتابعة وسميّه «1» وبمسارعة وليّه.
نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزّهر الثّمر، وداركت بالبحر وباركت في النّهر، وأجملت المبتدأ وأحسنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيبها بين رونق الآصال ورقّة البكر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نلبس الألسنة منها في كلّ ساعة [ثوبا] «2» جديدا، ونتفيّأ منها ظلّا مديدا، ونستقرب من الآمال ما يراه سوانا بعيدا؛ ونصلّي على سيدنا محمد الذي طهّر الله به هذه الأمّة من الأدناس، وجعلها بهدايته زاكية الغراس؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصّلاة بالناس «3» ، ومنهم من بنى الله به قواعد الدّين وجعلها موطّدة الإساس «4» ومنهم من جهّز جيش العسرة «5» وواسى بماله حين الضرّاء والباس، ومنهم من قال عنه صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله» «6» فحسن الالتماس بذلك والاقتباس، وزاد في شرفه بأن طهّر أهل بيته وأذهب عنهم الأرجاس، صلاة لا تزال تتردّد تردّد الأنفاس، ولا تبرح في الآناء حسنة الإيناس.
وبعد، فإنّ خير من شرّفت مراتب السلطنة بحلوله، وفوّفت ملابس التحكيم بقبوله، ومن تزهى مطالع الملك بإشراقه، وتتبادر الممالك مذعنة لاستحقاقه، ومن يزدهي ملك منصوره- نصره الله بولده ووليّ عهده مكنة- بانيه، ومن يتشرّف إيوان عظمته: إن غاب والده في مصلحة الإسلام فهو صدره وإن حضر فهو ثانيه، ومن يتجمّل غاب الإيالة منه بخير شبل كفل ليثا، ويتكفّل غوث الأمّة بخير وابل(10/178)
خلف غيثا؛ ومن ألهم الأخلاق الملوكيّة وأوتي حكمها صبيّا، ومن خصّصته الأدعية الشريفة بصالحها ولم يكن بدعائها شقيّا، ومن رفعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها عليّا؛ ومن هو أحقّ بأن ينجب الأمل وينجح، وأولى بأن يتلى له:
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ
«1» ، ومن هو بكلّ خير ملي، ومن إذا فوّضت إليه أمور المسلمين كان أشرف من لأمورهم يلي، ومن يتحقّق من والده الماضي الغرار، ومن اسمه العالي المنار، أن لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
ولما كان المقام العالي، الولديّ، السلطانيّ، الملكيّ، الصالحيّ، العلائيّ- عضّد الله به الدّين، وجمع إذعان كلّ مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين، حتى يصبح وهو صالح المؤمنين- هو المرجوّ لتدبير هذه الأمور، والمأمول لصلاح البلاد والثّغور «2» والمدّخر في النصر لشفاء ما في الصّدور، والذي تشهد الفراسة لأبيه وله بالتحكم: أو ليس الحاكم أبو عليّ هو المنصور؟؛ فلذلك اقتضت الرحمة والشفقة على الأمّة أن ينصب لهم وليّ عهد يتمسّكون من الفضل بعروة كرمه، ويسعون بعد الطواف بكعبة أبيه لحرمه، ويقتطفون أزاهر العدل وثمار الجود من كلمه وقلمه، وتستسعد الأمة منه بالملك الصالح الذي تقسم الأنوار لجبينه وتقسّم المبارّ من كراماته وكرمه.
فلذلك خرج الأمر العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، السيفيّ- أخدمه الله القدر، ولا زالت الممالك تتباهى منه ومن وليّ عهده بالشمس والقمر- أن يفوّض إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة المعظّمة، ولاية تامّة عامّة شاملة كاملة، شريفة منيفة، عطوفة رؤوفة، في سائر أقاليم الممالك «3»(10/179)
وعساكرها وجندها، وعربها وتركمانها وأكرادها ونوّابها وولاتها، وأكابرها وأصاغرها ورعاياها ورعاتها وحكّامها وقضاتها، وسارحها وسانحها، بالديار المصرية ثغورها وأقاليمها وبلادها، وما احتوت عليه، والمملكة الحجازيّة، وما احتوت عليه، ومملكة النّوبة، وما احتوت عليه، والفتوحات الصفدية والفتوحات الإسلاميّة الساحلية وما احتوت عليه، والممالك الشاميّة وحصونها، وقلاعها ومدنها، وأقاليمها وبلادها، والمملكة الحمصيّة، والمملكة الحصنية الأكراديّة والجبلية وفتوحاتها، والمملكة الحلبية وثغورها وبلادها، وما احتوت عليه، والمملكة الفراتيّة، وما احتوت عليه، وسائر القلاع الإسلامية برّا وبحرا، وسهلا ووعرا، شاما ومصرا، يمنا وحجازا، شرقا وغربا، بعدا وقربا، وأن تلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة، وأن تستخلفه سلطنة والده- خلد الله دولته- لتشاهد الأمة منه في وقت واحد سلطانا وخليفة، ولاية واستخلافا تسندهما الرّواة، وتترنّم بهما الحداة، وتعيهما الأسماع وتنطق بهما الأفواه، تفويضا يعلن لكافةّ الأمم، ولكلّ ربّ سيف وقلم، ولكل ذي علم وعلم، بما قاله صلى الله عليه وسلم لسميّه رضي الله عنه حين أولاه من الفخار ما أولاه: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «1» فلا ملك إقليم إلّا وهذا الخطاب يصله ويوصّله، ولا زعيم جيش إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله، ولا إقليم إلّا وكلّ من به يقبّله ويقبله، ويتمثّل بين يديه ويمتثله، ولا منبر إلّا وخطيبه يتلو فرقان هذا التقديم ويرتّله.
وأمّا الوصايا فقد لقّنّا ولدنا ووليّ عهدنا ما انطبع في صفاء ذهنه، وسرت تغذيته في نماء غصنه؛ ولابدّ من لوامع للتبرّك بها في هذا التقليد الشريف تنير، وجوامع تعتزّ لخير بها «2» حيث يصير، وودائع ينبّئك عنها ولدنا- أعزنا الله ببقائه- ولا ينبّئك مثل خبير: فاتّق الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، وانصر(10/180)
الشرع فإنّك إذا نصرته ينصرك الله على أعداء الدّين وعداك، واقض بالعدل مخاطبا ومكاتبا حتى يستبق إلى الإيعاز به لسانك ويمناك، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالما أنه ليس يخاطب غدا بين يدي الله عن ذلك سوانا وسواك، وانه نفسك عن الهوى حتى لا يراك الله حيث نهاك، وحط الرعيّة، ومر النّوّاب بحملهم على القضايا الشرعية، وأقم الحدود، وجنّد الجنود، وابعثها برّا وبحرا من الغزو إلى كلّ مقام محمود، واحفظ الثّغور، ولا حظ الأمور، وازدد بالاسترشاد بآرائنا نورا على نور؛ وأمراء الإسلام الأكابر وزعماؤه، فهم بالجهاد والذّبّ عن العباد أصفياء الله وأحبّاؤه؛ فضاعف لهم الحرمة والإحسان، واعلم أنّ الله اصطفانا على العالمين وإلّا فالقوم إخوان، لا سيّما أولو السعي الناجح، والرأي الراجح، ومن إذا فخروا بنسبة صالحية قيل لهم: نعم السّلف الصالح، فشاورهم في الأمر، وحاورهم في مهمّات الأمور في كلّ سرّ وجهر، وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين هم من تحايا الدّول، وذخائر الملوك الأول؛ أجرهم في هذا المجرى، واشرح لهم بالإحسان صدرا؛ وجيوش الإسلام هم البنان والبنيان، فوال إليهم الامتنان، واجعل محبّتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المربى، وطاعتك في عقائدهم قد شغفها حبّا: ليصبحوا بحسن نظرك إليهم طوعا، وليحصّل كلّ جيش منهم من التقرّب إليك بالمناصحة نوعا، والبلاد وأهلها فهم عندك الوديعة فاجعل أوامرك [لهم] «1» بصيرة وسميعة.
وأما غير ذلك من الوصايا، فسنخوّلك منها بما ينشأ معك توءما، ونلقّنك من آياتها محكما فمحكما، والله تعالى ينمّي هلالك حتى يوصّله إلى درجة الإبدار، ويغذّي غصنك حتّى نراه قد أينع بأحسن الأزهار وأينع الثّمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعتّ بنعته تبرّكا، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنّته، حتى تصبح كتمسّكنا بذلك متمسّكا، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان حتى لا تخشى سوءا ولا تخاف دركا، والاعتماد على الخط الشريف- أعلاه الله تعالى- أعلاه إن شاء الله تعالى.(10/181)
الوجه السادس
(فيما يكتب في مستند عهد وليّ العهد بالسلطنة، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، وما يكتب في ذيل العهد) أما ما يكتب في مستند العهد وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، فكغيره من سائر الولايات من التقاليد وغيرها: وهو أنه يكتب في المستند «حسب المرسوم الشريف» كما يكتب في المكاتبات التي هي بتلقّي كاتب السر على ما تقدّم ذكره في بابه، ويكتب السلطان في بيت العلامة اسمه واسم أبيه.
وأما ما يكتب في ذيل العهد وشهادة الشهود على السلطان بالعهد، فمثل أن يكتب: «شهدت على مولانا السلطان الملك الفلانيّ العاهد المشار إليه فيه خلّد الله ملكه، أو خلّد الله سلطانه» وما أشبه ذلك من الدعاء «بما نسب إليه فيه من العهد بالسلطنة الشريفة، إلى ولده المقام الشريف العالي السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، وعلى المعهود إليه- أعزّ الله أنصاره- بقبول العهد المذكور، وكتب فلان بن فلان» .
الوجه السابع
(في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به، وكيفيّة كتابته، وصورة وضعه في الورق) أما قطع ورقه فمقتضى إطلاق المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» أن للعهود قطع البغدادي الكامل أنه يكتب في البغدادي أيضا.
قلت: وهو المناسب لعظمة السلطنة، وشماخة «1» قدرها، إذ الملك إلى وليّ العهد آئل، وللدّخول تحت أمره صائر، خصوصا إذا كان المعهود اليه ولدا أو أخا، وحينئذ فيكتب بمختصر قلم الطّومار لمناسبته له، على ما تقدّم في غير موضع.
وأما كيفية كتابته وصورة وضعها في الورق، فهو أن يخلّي من أعلى الدّرج(10/182)
قدر إصبع بياضا، ثم يكتب في وسطه بقلم دقيق ما صورته «الاسم الشريف» كما يكتب في التقاليد وغيرها على ما سيأتي، ثم يبتديء بكتابة الطّرّة بالقلم الذي يكتب به العهد من أوّل عرض الورق من غيرهامش سطورا متلاصقة إلى آخر الطّرّة، ثم يترك ستة أوصال بياضا من غير كتابة غير الوصل الذي فيه الطرة، ثم يكتب البسملة في أوّل الوصل الثامن بحيث تلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه، بهامش عن يمين الورق قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة، ثم يكتب تحت البسملة سطرا من أوّل العهد ملاصقا لها، ثم يخلّي بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك عن الخلفاء، ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة، ويسترسل في كتابة بقيّة العهد إلى آخره، ويجعل بين كلّ سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش؛ فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب «إن شاء الله تعالى» ثم المستند، ثم الحمدلة والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم والحسبلة، على ما تقدّم في الفواتح والخواتم؛ ثم يكتب شهود العهد بعد ذلك.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثّلا له بالطرّة التي أنشأتها لذلك، وبالعهد الذي أنشأه القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر عن المنصور «قلاوون» بالعهد بالسلطنة لولده الملك الصالح «علاء الدّين عليّ» وهي:
هذا عهد شريف جليل قدره، رفيع ذكره، عليّ فخره، متبلّج صبحه، ضوّيّ فجره، من السلطان الأعظم الملك الظاهر، ركن الدنيا والدّين «بيبرس» خلّد الله تعالى سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه، با لسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطانيّ، الملكيّ، السعيديّ، بلّغه الله تعالى فيه غاية الآمال، وحقّق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال. على ما شرح فيه بسم الله الرحمن الرحيم هامش الحمد لله الذي شرّف سرير الملك منه بعليّه، وحاطه منه بوصيّة، وعضّد منصورة بولاية عهد صالحه، وأسمى حاتم جوده. بمكارم حازها بسبق عديّه، وأبهج خير الآباء من خير الأبناء بمن سموّ أبيه منه بشريف الخلق وأبيّه،(10/183)
هامش وغذّى روضه بمتابعة وسميّه، وبمسارعة وليّه. نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزّهر الثمر إلى أن يأتي إلى قوله: ولا يخاف دركا ولاعتماد على الخطّ الشريف- أعلاه الله تعالى- أعلاه.
إن شاء الله تعالى كتب في سنة حسب المرسوم الشريف الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل
النوع الرابع
(من العهود عهود الملوك بالسّلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان) ويتعلّق النظر به من أربعة أوجه:
الوجه الأوّل
(في بيان أصل ذلك وأوّل حدوثه في هذه المملكة إلى حين زواله عنها) قد تقدّم في المكاتبات، في الكلام على مكاتبة صاحب حماة أنّ ذلك مما كان في الدولة الأيّوبية، ثم في الدولة التّركيّة في الأيام المنصوريّة «قلاوون» والأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» ثم بطل ذلك؛ وذلك أنّ السلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» حين استولى على البلاد الشاميّة مع الديار المصريّة بعد موت السلطان نور الدين «محمود بن زنكي» صاحب الشام، فرّق أقاربه في ولاية الممالك الشامية: كدمشق وحلب وحمص وغيرها واستمرّت.
وكان السلطان صلاح الدين قد ولّى حماة لابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيّوب، فبقيت بيده حتّى توفّي سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فوليها بعده ابنه المنصور ناصر الدين محمد وبقي بها حتّى توفّي سنة سبع عشرة(10/184)
وستّمائة، فوليها ابنه الناصر قليج أرسلان فبقي بها إلى أن انتزعها منه أخوه المظفّر «1» في سنة ستّ «2» وعشرين وستمائة، وأقام بها إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وستّمائة. فوليها ابنه المنصور محمد، فبقي بها إلى أن غلب هولاكو ملك التتار على الشام وقتل من به من بقايا الملوك الأيّوبية، فهرب المنصور إلى مصر وأقام بها إلى أن سار المظفّر قطز «3» صاحب مصر إلى الشام، وانتزعه من يد التتار، وصار الشام مضافا إلى مملكة الديار المصريّة، فردّ المنصور إلى حماة، فبقي بها حتى توفّي سنة ثلاث وثمانين وستّمائة، فولّى المنصور قلاوون ابنه المظفّر شادي مكانه، وكتب له بها عهدا عنه، فبقي بها حتى توفّي سنة ثمان وتسعين وستمائة، في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» في سلطنته الثانية «4» بعد «لا جين» «5» ، فولّى الملك الناصر قرا سنقر «6» أحد أمرائه نائبا؛ فلما استولى غازان «7» ملك التتار على الشام، كان العادل كتبغا بعد خلعه من سلطنة الديار المصرية نائبا بصرخد، فأظهر في قتال التتار قوّة وجلادة «8» فولّاه الملك الناصر حماة، وحضر هزيمة التتار مع الملك الناصر سنة اثنتين وسبعمائة ورجع إلى حماة فمات بها، فولّى الملك(10/185)
الناصر مكانه سيف الدين قبجق «1» نائبا، ثم نقله إلى حلب، وولّى أسندمر كرجي نيابة حماة مكانه. ولما رجع السلطان الملك الناصر من الكرك نقل أسندمر كرجي «2» من حماة إلى حلب، وولّى المؤيّد عماد الدّين إسماعيل بن الأفضل عليّ ابن المظفّر عمر مكانه بحماة سنة ستّ عشرة وسبعمائة على عادة من تقدّمه من الملوك الأيّوبية، فبقي بها إلى أن توفّي سنة ثنتين وثلاثين وسبعمائة، فولّى الملك الناصر ابنه الأفضل محمدا مكانه، فبقي بها حتى مات الملك الناصر في ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، واستقرّ في السلطنة بعده ابنه المنصور أبو بكر، وقام بتدبير دولته الأمير قوصون. فكان أوّل ما أحدث عزل الأفضل بن المؤيّد عن حماة، وولّى مكانه بها الأمير قطز نائبا. وسار الأفضل إلى دمشق فأقام بها حتى توفّي بها سنة ثنتين وأربعين وسبعمائة، وهو آخر من وليها من بني أيّوب.
وقد ذكر المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «مسالك الأبصار» أنّ سلطانها كان يستقلّ بإعطاء الإمرة والإقطاعات، وتولية القضاة والوزراء وكتّاب السرّ وكلّ الوظائف؛ وتكتب المناشير والتواقيع من جهته. ولكنه لا يمضي أمرا كبيرا في مثل إعطاء إمرة أو إعطاء وظيفة كبيرة حتّى يشاور صاحب مصر، وهو لا يجيبه إلا أنّ الرأي ما يراه. ومن هذا ومثله. قال: وإن كان سلطانا حاكما وملكا متصرّفا فصاحب مصر هو المتصرّف في تولية وعزل، من أراد ولّاه ومن أراد عزله.
قلت: وكان للمملكة بذلك زيادة أبّهة وجمال: لكون صاحبها تحت يده من هو متّصف باسم السلطنة، يتصرّف فيه بالولاية والعزل. على أنّ هذا القسم لم يتعرّض له المقرّ التّقوىّ بن ناظر الجيش «3» في «التثقيف» لخلوّ المملكة الآن عن(10/186)
مثله؛ وإنما أشار إليه المقرّ الشهابيّ بن فضل الله رحمه الله في «التعريف» حيث قال: وأما ما يكتب للملوك عن الملوك، مثل ولاة العهود والمنفردين بصغار البلدان فإنه لا تستفتح عهودهم إلا بالخطب. وذلك أنّ حماة كانت في زمنه بأيدي بني أيّوب على ما تقدّم ذكره، ولذلك قال في «مسالك الأبصار» : ومما في حدود هذه المملكة ممن له اسم سلطان حاكم وملك متصرّف صاحب حماة.
الوجه الثاني
(في بيان ما يكتب في العهد؛ وهو على ضربين)
الضرب الأوّل
(ما يكتب في الطرّة، وهو تلخيص ما يشتمل عليه العهد) وهذه نسخة عهد كتب بها المقرّ الشهابيّ بن فضل الله عن الملك الناصر «محمد بن قلاوون» للملك الأفضل «محمد ابن المؤيّد عماد الدين إسماعيل» بسلطنة حماة أيضا، في رابع صفر سنة اثنتين «1» وثلاثين وسبعمائة. وهو آخر من ملكها من بني أيّوب، وهي:
الحمد لله الذي أقرّبنا الملك في أهلّة أهله، وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم يكن له شبيه في فضله، ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا ما يلحق به كلّ فرع بأصله، ويظهر به رونق السيف في نصله.
نحمده على ما أفاض بمواهبنا من النّعم الغزار، وأدخل في طاعتنا الشريفة من ملوك الأقطار، وزاد عطايانا فأضحت وهي ممالك وأقاليم وأمصار، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة أفلح من مات من ملوك الإسلام عليها،(10/187)
وحرّض بها في الجهاد على الشّهادة حتى وصل إليها، ومدّ يده لمبايعتنا على إعلائها فسابقت الثّريّا ببسط يديها، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شرّف من تسمّى باسمه أو متّ بالقربى إلى نسبه، وصرّف في الأرض من تمسّك من رعاية الأمّة بسببه، وأكرم به كريم كلّ قوم وجعل كلمة الفخار كلمة باقية في عقبه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ناح الحمام لحزنه ثم غنّى من طربه، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّنا- ولله الحمد- ممّن نحفظ بإحساننا كلّ وديعة، ونتقبّل لمن أقبل من الملوك على سؤال صدقاتنا الشريفة كلّ ذريعة، ونتكفّل لمن مات على ولائنا بما لو رآه في ولده لسرّه ما جرى، وعلم أنّ هذا الذي كان يتمنّى أن يعيش حتى يبصر هذا اليوم ويرى؛ وكان السلطان الملك المؤيّد عماد الدين- قدّس الله روحه- هو بقيّة بيته الشريف، وآخر من حلّ من ملوكهم في ذروة عزّه المنيف ولم يزل في طاعتنا الشريفة على ما كان من الحسنى عليه، ومن المحاسن التي لقي الله بها ونور إيمانه يسعى بين يديه؛ فوهبنا له من المملكة الحمويّة المحروسة ما كان قد طال عليه سالف الأمد، ورسمنا له بها عطيّة باقية للوالد والولد، فلمّا قارب انقضاء أجله، وأشرف على ما قدّمه إلى الله وإلينا من صالح عمله، لم يشغله ما به عن مطالعة أبوابنا الشريفة والتّذكار بولده، وتقاضي صدقاتنا العميمة بما كان ينتظره قمره المنير لفرقده، وورد من جهة ولده المقام الشريف، العالي، الولديّ، السلطانيّ، الملكيّ، الأفضليّ، الناصريّ،- أعزّ الله أنصاره- ما أزعج القلوب بمصابه في أبيه، وأجرى العيون على من لا نقع له على شبيه، فوجدنا من الحزن عليه ما أبكى كلّ سيف دما، وأنّ كل رمح يقرع سنّه ندما، وتأسّفنا على ملك كاد يكون من الملائك، وأخ كريم أو أعزّ من ذلك، وسلطان عظيم طالما ظهر شنب «1» بوارقه في ثغور الممالك، وقمنا من الحزن في مشاركة أهله بالمندوب، ثم قلنا: لكم في ولده العوض ولا ينكر لكم الصّبر يا آل أيّوب.(10/188)
فاقتضت مراسمنا المطاعة أن نرقّيه إلى مقامنا العالي، ونعقد له من ألوية الملك ما تهتزّ به أطراف العوالي، ونركبه من شعار السلطنة بما تتجمّل به مواكبه، وتمتدّ به عصائبه، وتميس من العجب وتمتدّ رقابها بالرّقبة السلطانية جنائبه، تنزيها لخواطركم الكريمة علينا عن قول ليت، وتنويها بقدر بيتكم الذي رفع لكم إسماعيل به قواعد البيت: لما نعلمه من المقام العالي الملكيّ الأفضليّ الناصريّ- أمتع الله ببقائه- من المناقب التي استحقّ بها أن يكون له عليكم الملك، والعزائم التي قلّد بها من الممالك ما تجول به الجياد وتجري به الفلك، مع ماله من الكرم الذي هو أوفى من العهاد بعهده، والفضل الذي اتّصل به ميراث الأفضليّة عن جدّه، والجود الذي جرى البحر معه فاحمرّت من الخجل صفحة خدّه، والوصف الذي لم يرض بالجوزاء واسطة لعقده، والعدل الذي أشبه فيه أباه فما ظلم، والعلم الذي ما خلا به بابه من طلب: إمّا لهدى وإمّا لكرم، ولم يخرج من كفالة والده إلّا إلى كفالتنا التي أظلّته بسحبها، وحلّت سماء مملكته بشهبها، وخاطبناه كما كنّا نخاطب والده- رحمه الله- بالمقام الشريف، وأجريناه في ألقابه مجرى الولد زيادة له في التشريف، وصرّفنا أمره في كل ما كان لملوك أهله فيه تصريف، وسنرشده إلى أوضح طريقة، ويقوم مقام أبيه أو ليس «الناصر» هو أبو الأفضل حقيقة، ورسمنا بطلبه إلى [ما] «1» بين أيدينا الشريفة لنجدّد له في نظرنا الشريف ما يتضاعف به سعوده، ويزداد صعوده، ويتماثل في هذا البيت الشاهنشاهيّ أبناؤه وآباؤه وجدوده: لتعمل معه صدقاتنا الشريفة ما هو به جدير، وترفعه إلى أعزّ مكان من صهوة المنبر والسّرير، وتكاثر به كلّ سلطان وما هو إلّا جحفل يسير، لتشيّد به أركان هذا البيت الكريم، وتحيا عظامه وهي في اللّحود عظم رميم، وتعرف الناس أن عنايتنا الشريفة بهم تزيد على ما عهدوه لجدّهم القديم من سميّنا الملك الناصر القديم، فخرجت المراسيم الشريفة، العالية، المولويّة، السلطانية، الملكية، الناصريّة: لا زالت الملوك تتقلّد مننها في أعناقها، ولا(10/189)
برحت الممالك من بعض مواهبها وإطلاقها، أن يقلّد هذا السلطان الملك الأفضل- أدام الله نصره- من المملكة الحموية وبلادها، وأمرائها وأجنادها، وعربها وتركمانها وأكرادها، وقضاياها وقضاتها، ورعاياها ورعاتها، وأهل حواضرها وبواديها، وعمرانها وبراريها، جميع ما كان والده- رحمه الله- يتقلّده، وبسيفه وقلمه يجريه ويجرّده: من كلّ قليل وكثير، وجليل وحقير، وفي كل مأمور به وأمير، يتصرّف في ذلك جميعه، ويقطع إقطاعاتها بمناشيره ويولّي وظائفها بتواقيعه، وينظر فيها وفي أهلها بما يعلم أنّ له ولهم فيه صلاحا، ويقيم من هيبة سلطانه ما يغنيه أن يعمل أسنّة ويجرّد صفاحا.
وليحكم فيها وفيمن هو فيها بعدله، ويجمع قلوب أهلها على ولائه كما كانوا عليه لأبيه من قبله، وليكن هو وجنوده وعساكره أقرب في النّهوض إلى مصالح الإسلام من رجع نفسه، وأمضى في العزائم مما يشتبه بها «1» من سيفه وقبسه.
وأما بقيّة ما يملى من الوصايا، أو يدلّ عليه من كرم السّجايا، فهو- بحمد الله تعالى- غريزة في طباعه، ممتزج به من زمان رضاعه؛ وإنما نذكّره ببعض ما به يتبرك، ونحضّه على اتّباع أبيه فإنها الغاية التي لا تدرك؛ والشرع الشريف أهمّ ما يشغل به جميع أوقاته، وتقوى الله فما ينتصر الملك إلا بتقاته، والفكرة في مصالح البلاد والرعايا فإنها مادّة نفقاته، واستكثار الجنود فإنهم حصنه المنيع في ملاقاته، ومبادرة كلّ مهم في أوّل ميقاته، وولايات الأعمال لا يعتمد فيها إلّا على ثقاته، وإقامة الحدود حتّى لا ينصت في تركها إلى رقي رقاته، ورعاية من له على سلفه خدمة سابقة، واستجلاب الأدعية الصالحة لنا وله فإنها للسهام مسابقة؛ وليمض في الأمور عزمه فإنه مذرّب «2» ، ويبسط العدل والإحسان فإنه بهما إلينا يتقرّب، وليأخذ بقلوب الرعايا فإنها تتقلّب، وليكرم وفادة الوفود ليقف بهم- لنجاح(10/190)
مقاصدهم- على باب صحيح مجرّب، وليجتهد في الجهاد، ويتيقّظ والسّيف مكتحل الجفن بالرّقاد، ويهتمّ فإنّ الهمم العالية تقوّم بها عوالي الصّعاد، ويقوّم البريد فإنّ في تقويمه بقاء الملك وعمارة البلاد، وليقف عند مراسمنا الشريفة لتهديه إلى سبيل الرّشاد، ويحسن سلوكه ليطرب بذكره كلّ أحد ويترنّم كلّ حاد؛ وغير هذا من كلّ ما عهدنا والده- سقى الله عهده- له سالكا، ولأزمّة أموره الجميلة مالكا، مما لا يحتاج- مما نعرفه من سيرته المثلى- إلى شرحه، ولا يدلّ نهاره الساطع على صباحة صبحه، وليبشر بما جعل له من فضلنا العميم، ويتمسّك بوعدنا الشريف أن هذه المملكة له ولأبنائه وأبناء أبنائه ما وجد كفء من نسبهم الصميم؛ والله تعالى يمدّك- أيها الملك الأفضل- بأفضل مزيده، ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك «المؤيّد» من تأييده؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى «1» .
الوجه الثالث
(فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد، وما يكتبه السلطان في بيت العلامة) والحكم في ذلك على ما مرّ في عهود أولياء العهد بالسلطنة: وهو أن يكتب في مستند العهد «حسب المرسوم الشريف» كما في غيره من الولايات، ويكتب السلطان في بيت العلامة اسمه من غير زيادة.
قلت: ولا يكتب فيه شهادة على السلطان كما يكتب في عهود أولياء العهد بالسلطنة: لأن العهد بالسلطنة العظمى شبيه بالبيعة، والشهادة فيها مطلوبة للخروج من الخلاف، على ما تقدّم في موضعه، والعهد بولاية سلطنة بعض الأقاليم شبيه بالتقليد، والشهادة في التقاليد غير مطلوبة، وذلك أن السلطنة لا تنتهي إلى وليّ العهد إلا بعد موت العاهد، وربّما جحد بعض الناس العهد إليه؛ وولاية بعض البلدان إنما تكون والسلطان المولّي منتصب فلا يؤثّر الجحود فيها.(10/191)
الوجه الرابع
(في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به، وكيفيّة الكتابة، وصورة وضعها في الورق) أما قطع الورق فمقتضى عموم قول المقرّ الشهابي بن فضل الله في «التعريف» إن للعهود قطع البغداديّ الكامل أنه يكتب في قطع البغداديّ أيضا.
قلت: والذي يقتضيه القياس أن تكون كتابته في الورق البغداديّ لمعنى السلطنة، ولكن في قطع دون القطع الكامل: لنقصان رتبة هذه السلطنة عن السلطنة العظمى؛ ألا ترى مكاتبة صاحب مملكة إيران كانت في زمن القان «أبي سعيد» تكتب في قطع البغداديّ الكامل كما ذكره في «التعريف» وغيره، ومكاتبة صاحب مملكة بيت بركة المعروفة بمملكة أزبك من مملكة توران تكتب له في قطع البغداديّ بنقص أربعة أصابع مطبوقة كما ذكره في «التثقيف» لا نحطاط رتبته عن رتبة القان أبي سعيد، على ما تقدّم ذكره في المكاتبات.
وأما قلمه الذي يكتب به، فينبغي إن كتب في قطع البغداديّ الكامل أن يكون بمختصر قلم الطّومار كما في غيره من العهود التي تكتب في القطع الكامل.
وإن كتب في دون الكامل، فينبغي أن يكون القلم دون ذلك بقليل.
وأما صورة وضعه في الورق، فعلى ما مرّ في عهود أولياء العهد بالسلطنة من غير فرق: وهو أن يكتب في رأس الدرج بقلم دقيق الاسم الشريف، ثم يبتديء بكتابة الطرّة في عرض الورق من غيرهامش سطورا متلاصقة إلى آخر الطرّة، ثم يخلّي ستّة أوصال بياضا، ثم يكتب البسملة في أوّل الوصل الثامن بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة، ثم يكتب سطرا من أوّل العهد ملاصقا للبسملة، ثم يخلّي بيت العلامة قدر شبر على ما تقدّم، ويكتب السطر الثاني على سمت السطر الذي تحت البسملة، ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره، ويكون بين كلّ سطرين قدر ربع ذراع على قاعدة العهود. فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب «إن شاء الله تعالى» ثم التاريخ، ثم المستند، ثم الحمد لله والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم(10/192)
الحسبلة. وتكون كتابته من غير نقط ولا شكل كسائر العهود.
قلت: ولو وسّع ما بين سطوره ونقطت حروفه وشكلت: لما فيه من معنى التقاليد، لكان به أليق.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثّلا لها بالطرّة التي أنشأتها في معنى ذلك، والعهد الذي أنشأه المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله للملك الأفضل «محمد» بن الملك المؤيد «عماد الدين إسماعيل» آخر ملوك بني أيّوب بها «1» ، وهي:
هذا عهد شريف عذبت موارده، وحسنت بحسن النيّة فيه مقاصده، وعاد على البريّة باليمن عائده. من السلطان الأعظم ناصر الدنيا والدين الملك الناصر أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد «قلاوون» - خلّد الله تعالى ملكه، وجعل الأرض بأسرها ملكه- للمقام الشريف العالي السلطانيّ، الملكيّ، الأفضليّ، محمد ابن المقام العالي المؤيّديّ إسماعيل أعزّ الله تعالى أنصاره، وأحمد آثاره، بالسلطنة الشريفة بحماة المحروسة وأعمالها، على أكمل العوائد وأتمّها، وأجمل القواعد وأعمّها، على ما شرح فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم هامش الحمد لله الذي أقرّبنا الملك في أهلّة أهله، وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم يكن لهم شبيه في فضله، ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا من يلحق به كلّ فرع بأصله، ويظهر به رونق السيف في نصله. إلى أن يأتي إلى قوله في آخره: والله تعالى يمدّك أيها الملك الأفضل بأفضل مزيده، ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك المؤيّد من تأييده؛ والاعتماد على الخط الشريف- أعلاه الله تعالى- أعلاه.(10/193)
إن شاء الله تعالى هامش كتب في سنة حسب المرسوم الشريف الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل(10/194)
الباب الرابع من المقالة الخامسة
(في الولايات الصادرة عن الخلفاء لأرباب المناصب من أصحاب السّيوف والأقلام، وفيه [ثلاثة «1» ] فصول)
الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)
الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)
وكان الرسم في ذلك أن يفتتح العهد بلفظ: «هذا ما عهد» أو «هذا عهد من فلان لفلان» ويؤتى على المقصد إلى آخره. ويقال فيه: «أمره بكذا وأمره بكذا» .
والأصل في ذلك ما كتب به أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، لأمرائه الذين وجّههم لقتال أهل الرّدّة «2» ، وعليه بنى من بعده. وهذه نسخته:
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفلان حين بعثه [فيمن بعثه] «3» لقتال من رجع عن الإسلام. عهد إليه أن يتّقي الله ما استطاع في أمره كلّه، سرّه وجهره. وأمره بالجدّ في أمر الله [تعالى] ، ومجاهدة من تولّى عنه ورجع عن الإسلام إلى أمانيّ الشيطان، بعد أن يعذر إليهم: فيدعوهم بدعاية الإسلام: فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتّى يقرّوا له؛ ثم ينبّئهم(10/195)
بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا ينظرهم ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم، فمن أجاب إلى أمر الله عزّ وجلّ وأقرّ له، قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله:
فإذا أجاب الدّعوة لم يكن له عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسرّ به. ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمه «1» ، لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلّا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ به قبل منه وعلّمه؛ ومن أبى قاتله: فإن أظهره الله عز وجلّ عليه، قتل فيهم كلّ قتلة بالسّلاح والنّيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلّا الخمس فإنه مبلّغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وأن لا يدخل فيهم حشوا حتّى يعرفهم ويعلم ما هم: لئلّا يكونوا عيونا، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم؛ وأن يقصد بالمسلمين ويرفق بهم في السّير والمنزل، ويتفقّدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصّحبة ولين القول.
وهذه نسخة عهد كتب به أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، لأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، حين ولّاه القضاء:
«2» أمّا بعد، فإنّ القضاء فريضة محكمة، وسنّة متّبعة؛ فافهم إذا أدلي إليك «3» ، وانفذ إذا تبيّن لك: فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له، آس «4»
بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك «5»
حتّى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عونك «6»
. والبيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، والصّلح جائز(10/196)
بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. لا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس «1»
فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقّ «2»
: فإن الحقّ قديم «3»
، ومراجعة الحق خير من التّمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنّة «4»
؛ ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله «5»
وأشبهها بالحقّ، واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة [أمدا] «6»
ينتهي إليه:
فإن أحضر بينة، أخذت له بحقّه وإلا استحللت القضيّة عليه «7»
؛ فإنّه أنفى للشّكّ، وأجلى للعمى «8»
. والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حدّ، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا»
في ولاء أو نسب؛ فإن الله تولّى منكم السّرائر ودرأ بالبيّنات والأيمان. وإيّاك والقلق «10»
والضّجر؛ والتّأذّي بالخصوم، والتنكّر عند الخصومات: فإنّ الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر، ويحسن عليه «11»
الذّخر والجزاء؛ فمن صحّت نيّته «12»
وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلّق للناس «13»
بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله؛ فما(10/197)
ظنّك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام «1» .
قلت: هذا ما ذكره ابن عبد ربّه في «العقد» . ويقع في بعض المصنّفات ابتداؤه: من عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس- سلام عليك أما بعد.
ووقع في مسند البزّار «2»
أن أوّله: اعلم أنّ القضاء فريضة محكمة، مع تغيير بعض الألفاظ وتقديم بعض وتأخير بعض.
الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)
كتب عبد الحميد بن يحيى الكاتب، عن مروان بن محمد لبعض من ولّاه «3» .
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين- عند ما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدوّ الله الجلف الجافي الأعرابيّ، المتسكّع في حيرة الجهالة، وظلم الفتنة، ومهاوي الهلكة، ورعاعة الذين عاثوا في أرض الله فسادا، وانتهكوا حرمة الإسلام استخفافا، وبدّلوا نعمة الله كفرا، واستحلّوا [دماء أهل] «4»
سلمه جهلا- أحبّ أن يعهد إليك في لطائف أمورك، وعوامّ شؤونك، ودخائل أحوالك، ومصطرف «5»(10/198)
تنقّلك عهدا يحمّلك فيه أدبه، ويشرع لك به عظته، وإن كنت بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطنعك الله لولاية العهد مختصّا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك. ولولا ما أمر الله تعالى به، دالّا عليه، وتقدّمت فيه الحكماء آمرين به: من تقديم العظة، والتّذكير لأهل المعرفة وإن كانوا أولي سابقة في الفضل وخصيّصاء «1»
في العلم، لا عتمد أمير المؤمنين على اصطناع الله إيّاك، وتفضيله لك بما رآك أهله في محلّك من أمير المؤمنين، وسبقك إلى رغائب أخلاقه، وانتزاعك محمود شيمه، واستيلائك على مشابه تدبيره. ولو كان المؤدّبون أخذوا العلم من عند أنفسهم، أو لقّنوه إلهاما من تلقائهم ولم نصبهم تعلّموا «2»
شيئا من غيرهم، لنحلناهم «3»
علم الغيب، ووضعناهم بمنزلة قصّر بها عنهم خالقهم «4»
المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيّته في فردانيّته وسابق لا هوتيّته، احتجابا منه لتعقّب في حكمه، وتثبّت في سلطانه وتنفيذ إرادته، على سابق مشيئته، ولكنّ العالم الموفّق للخير، المخصوص بالفضل، المحبوّ بمزيّة العلم وصفوته، أدركه معانا عليه بلطف بحثه، وإذلال كنفه، وصحّة فهمه، وهجر سآمته.
وقد تقدّم أمير المؤمنين إليك، آخذا بالحجّة عليك، مؤدّيا حقّ الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقّك، وما ينظر به الوالد المعنيّ الشّفيق لولده. وأمير المؤمنين يرجو أن ينزّهك الله عن كل قبيح يهشّ له طمع، وأن يعصمك من كلّ مكروه حاق بأحد، وأن يحصّنك من كلّ آفة استولت على امريء في دين أو خلق، وأن يبلّغه فيك أحسن ما لم يزل يعوّده ويريه من آثار نعمة الله عليك، سامية بك(10/199)
إلى ذروة الشرف، متبحبحة بك بسطة الكرم «1»
، لائحة بك في أزهر معالي الأدب، مورثة لك أنفس ذخائر العز؛ والله يستخلف عليك أمير المؤمنين ويسأل حياطتك، وأن يعصمك من زيغ الهوى، ويحضرك داعي التوفيق، معانا على الإرشاد فيه، فإنه لا يعين على الخير ولا يوفّق له إلّا هو.
اعلم أنّ للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمّها سالكا، وركب أخطارها «2»
قاصدا، إلى سعة عاقبتها، وأمن سرحها «3»
، وشرف عزّها، وأنها لا تعار بسخف الخفّة، ولا تنشأ بتفريط الغفلة «4»
، ولا يتعدّى فيها بامريء حدّه؛ وربما أظهرت بسطة الغيّ مستور العيب. وقد تلقّتك أخلاق الحكمة من كلّ جهة بفضلها، من غير تعب البحث في طلبها، ولا متطاول لمناولة ذروتها «5»
؛ بل تأثّلت «6»
منها أكرم نبعاتها، واستخلصت [منها] «7»
أعتق «8» جواهرها؛ ثم سموت إلى لباب مصاصها «9» ، وأحرزت منفس ذخائرها، فاقتعد «10» ما أحرزت، ونافس فيما أصبت.
واعلم أنّ احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع(10/200)
أمورك مؤثرا لها، وإضمار «1» طاعته منطويا عليها، وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرا له، مرتبطا فيه للمزيد بحسن الحياطة له والذّبّ عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة ضياع، أو سنة تهاون، أو جهالة معرفة: فإنّ ذلك أحقّ ما بديء به ونظر فيه، معتمدا عليه بالقوّة والآلة والعدّة والانفراد به من الأصحاب والحامّة «2» ، فتمسّك به لا جئا إليه، واعتمد عليه مؤثرا له، والتجيء إلى كنفه متحيّزا إليه «3» :
فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله، وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابا، وأعوده نفعا، وأعمّه صلاحا؛ أرشدك الله لحظّك، وفهّمك سداده، وأخذ بقلبك إلى محموده.
ثم اجعل لله، في كل صباح ينعم عليك ببلوغه، ويظهر منك السلامة في إشراقه، [من نفسك] «4» ، نصيبا تجعله له شكرا على إبلاغه إيّاك يومك ذلك بصحّة جوارح وعافية بدن، وسبوغ «5» نعم، وظهور كرامة. وأن تقرأ فيه من كتاب الله- تبارك وتعالى- جزءا تردّد رأيك في آيه «6» ، وترتّل «7» لفظك بقراءته، وتحضره عقلك ناظرا في محكمه، وتتفهّمه مفكّرا في متشابهه: فإنّ في القرآن شفاء الصّدور من أمراضها، وجلاء وساوس الشيطان وصعاصعه «8» ، وضياء معالم النّور، تبيانا لكل شيء وهدّى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهّد نفسك بمجاهدة هواك: فإنّه مغلاق الحسنات، ومفتاح السّيّئات، وخصم العقل.
واعلم أنّ كلّ أهوائك لك عدوّ يحاول هلكتك، ويعترض غفلتك: لأنّها(10/201)
خدع إبليس، وخواتل «1» مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانبا لها، وتوقّها محترسا منها، واستعذ بالله عزّ وجلّ من شرّها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لاونية «2» فيه، وحزم نافذ لا مثنويّة «3» لرأيك بعد إصداره، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه، ومضاءة صارمة لا أناة «4» معها، ونيّة صحيحة لا خلجة شكّ فيها: فإنّ ذلك ظهريّ «5» صدق لك على ردعها عنك، وقمعها دون ما تتطلّع إليه منك، فهي واقية لك سخطة ربك، داعية إليك رضا العامّة عنك، ساترة عليك عيب من دونك، فازدن بها متحلّيا، وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوقّ عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها، وتقصّر بك دون شأوها: فإنّ المؤونة إنما اشتدّت مستصعبة، وفدحت باهظة أهل الطّلب لأخلاق أهل الكرم المنتحلين سموّ القدر، بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها، حتّى فرّط أهل التقصير في بعض أمورهم فدخلت عليهم الآفات من جهات أمنوها، فنسبوا إلى التفريط، ورضوا بذلّ المنزل، فأقاموا به جاهلين بموضع الفضل، عمهين «6» عن درج الشّرف، ساقطين دون منزلة أهل الحجا، فحاول بلوغ غاياتها محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع، محصّنا أعمالك من العجب: فإنه رأس الهوى، وأوّل الغواية، ومقاد الهلكة؛ حارسا أخلاقك من الآفات المتّصلة بمساوي الألقاب وذميم تنابزها «7» ، من حيث أتت الغفلة، وانتشر الضّياع، ودخل الوهن. فتوقّ(10/202)
غلوب «1» الآفات على عقلك، فإنّ شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق آرائك عند ذوي الحجا، وحال الرأي وفحص النظر، فاجتلب لنفسك محمود الذّكر وباقي لسان الصّدق بالحذر لما تقدّم إليك فيه أمير المؤمنين، متحرّزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلّة ثقتك بمحكمها: من ذلك أن تملك أمورك بالقصد، وتداري جندك بالإحسان، وتصون سرّك بالكتمان، وتداوي حقدك بالإنصاف، وتذلّل نفسك بالعدل، وتحصّن عيوبك بتقويم أودك «2» ، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي. وأناتك فوقّها الملال وفوت العمل، ومضاءتك فدرّعها رويّة النظر واكنفها بأناة الحلم، وخلوتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانف عنه عيّ اللّفظ، وخف سوء القالة «3» ؛ واستماعك فأرعه حسن التفهّم، وقوّه بإشهاد الفكر، وعطاءك فامهد «4» له بيوتات الشّرف وذوي الحسب، وتحرّز فيه من السّرف واستطالة البذخ وامتنان الصّنيعة، وحياءك فامنعه من الخجل، وبلادة الحصر «5» ، وحلمك فزعه «6» عن التّهاون وأحضره قوّة الشّكيمة، وعقوبتك فقصّر بها عن الإفراط، وتعمّد بها أهل الاستحقاق، وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق، وخذ به واجب المفترض، وأقم به أود الدّين، واستئناسك فامنع منه البذاء وسوء المناقثة «7» ، وتعهّدك أمورك فحدّه أوقاتا، وقدّره ساعات، لا تستفرغ قوّتك، ولا تستدعي سآمتك، وعزماتك فانف عنها عجلة الرأي، ولجاجة الإقدام؛ وفرحاتك فاشكمها «8» عن البطر،(10/203)
وقيّدها عن الزّهوّ، وروعاتك فحطها من دهش الرأي، واستسلام الخضوع، وحذراتك فامنعها من الجبن، واعمد بها الحزم، ورجاءك فقيّده بخوف الفائت، وامنعه من أمن الطّلب.
هذه جوامع خلال، دخّال النقص منها واصل إلى العقل بلطائف أبنه وتصاريف حويله «1» ، فأحكمها عارفا بها، وتقدّم في الحفظ لها، معتزما على الأخذ بمراشدها والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله.
ثم لتكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك، ودخلاؤك في سرّك، أهل الفقه والورع من خاصّة أهل بيتك، وعامّة قوّادك ممن قد حنّكته السّنّ بتصاريف الأمور، وخبطته فصالها بين فراسن «2» البزّل منها، وقلّبته الأمور في فنونها؛ وركب أطوارها: عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرّأي وعين المشورة؛ مأمون النصيحة، منطوي «3» الضمير على الطاعة. ثم أحضرهم من نفسك وقارا يستدعي لك منهم الهيبة، واستئناسا يعطف إليك منهم المودّة، وإنصاتا «4» يفلّ إفاضتهم له عندك بما تكره أن ينشر عنك من سخافة الرأي وضياع الحزم، ولا يغلبنّ عليك هواك فيصرفك عن الرأي، ويقتطعك دون الفكر. وتعلّم أنك- وإن خلوت بسرّ فالقيت دونه ستورك، وأغلقت عليه أبوابك- فذلك لا محالة مكشوف للعامّة، ظاهر عنك وإن استتر [ت] «5» بربّما ولعلّ وما أرى إذاعة ذلك وأعلم «6» ، بما يرون(10/204)
من حالات من ينقطع به في تلك المواطن. فتقدّم في إحكام ذلك من نفسك، واسدد خلله عنك: فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامّة بخير أو شرّ ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله والأمل المرجوّ المنتظر فيك. وإيّاك أن يغمز «1» فيك أحد من حامّتك «2» وبطانة خدمتك بضعفة يجد بها مساغا إلى النّطق عندك بما لا يعتزلك عيبه، ولا تخلو من لائمته، ولا تأمن سوء الأحدوثة فيه، ولا يرخص سوء القالة به إن نجم ظاهرا أو علن «3» باديا، ولن يجترئوا على تلك عندك إلّا أن يروا منك إصغاء إليها، وقبولا لها، وترخيصا لهم في الإفاضة بها. ثمّ إيّاك وأن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يستخفّ بها أهل البطالة، ويتسرع نحوها ذو والجهالة، ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يذيعونه «4» وطعنا في حقّ يجحدونه؛ مع ما في ذلك من نقص الرأي، ودرن العرض، وهدم الشرف، وتأثيل «5» الغفلة، وقوّة طباع السّوء الكامنة في بني آدم ككمون النار في الحجر الصّلد، فإذا قدح لاح شرره، وتلهّب وميضه، ووقد تضرّمه؛ وليست في أحد أقوى سطوة، وأظهر توقّدا، وأعلى كمونا، وأسرع إليه بالعيب وتطرّق الشّين منها لمن كان في مثل سنّك: من أغفال «6» الرجال وذوي العنفوان في الحداثة، الذين لم تقع عليهم سمات الأمور، ناطقا عليهم لائحها، ظاهرا فيهم وسمها، ولم تمحضهم «7» شهامتها، مظهرة للعامّة فضلهم، مذيعة حسن الذكر عنهم، ولم يبلغ بهم الصّيت في الحنكة مستمعا يدفعون به عن أنفسهم نواطق السن أهل البغي، وموادّ أبصار أهل الحسد.(10/205)
ثم تعهّد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة: من أبطال الذرع «1» ونخوة الشّرف والتّيه وعيب الصّلف، فإنها تسرع بهم إلى فساد وتهجين «2» عقولهم في مواطن جمّة، وأنحاء مصطرفة، منها قلّة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامّة: فمن مقلقل شخصه بكثرة الالتفات عن يمينه وشماله، تزدهيه الخفّة، ويبطره إجلاب «3» الرجال حوله، ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمفاكهة له والتّضاحك إليه، والإيجاف «4» في السّير مرحا، وتحريك الجوارح متسرّعا، يخال أنّ ذلك أسرع له وأحثّ لمطيّته، فلتحسّن في ذلك هيأتك، ولتجمّل فيه دعتك؛ وليقلّ على مسايرك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر، غير ملتفت إلى محدّث، ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته، ولا موجف في السير مقلقل لجوارحك بالتحريك والاستنهاض؛ فإنّ حسن مسايرة الوالي واتّداعه «5» في تلك الحالة دليل على كثير من عيوب أمره ومستتر أحواله.
واعلم أنّ أقواما يتسرّعون «6» إليك بالسّعاية، ويأتونك على وجه النّصيحة «7» . ويستميلونك بإظهار الشّفقة، ويستدعونك بالإغراء والشّبهة، ويوطئونك عشوة «8» الحيرة: ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال «9» العامّة بموضعهم(10/206)
منك في القبول [منهم «1» ] والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة، أو أسرعوا بك في أمره إلى الظّنّة، فلا يصلنّ إلى مشافهتك ساع بشبهة، ولا معروف بتهمة، ولا منسوب إلى بدعة [فيعرّضك «2» ] لإيتاغ «3» دينك، ويحملك على رعيّتك بما لا حقيقة له عندك، ويلحمك أعراض قوم لا علم لك بدخلهم «4» ، إلا بما أقدم [به] «5» عليهم ساعيا وأظهر لك منهم منتصحا. وليكن صاحب شرطتك المتولّي لإنهاء ذلك هو «6» المنصوب لأولئك، والمستمع لأقاويلهم، والفاحص عن نصائحهم؛ ثمّ لينه ذلك إليك على ما يرفع إليه منه لتأمره بأمرك فيه، وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامّة: فإن كان صوابا نالتك خيرته «7» ، وإن كان خطأ أقدم به عليك جاهل أو فرطة سعى بها كاذب فنالت الساعي «8» منهما أو المظلوم عقوبة، أو بدر من واليك إليه عقوبة «9» ونكال، لم يعصب ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تفريط، وخلوت من موضع الذّمّ فيه «10» : محضرا إليه ذهنك وصواب رأيك، وتقدّم إلى من تولّي ذلك الأمر وتعتمد عليه فيه أن لا يقدم على شيء ناظرا فيه، ولا يحاول أخذ أحد طارقا له، ولا يعاقب أحدا منكّلا به، ولا يخلّي سبيل أحد صافحا عنه: لإصحار «11» براءته، وصحّة طريقته، حتّى يرفع إليك أمره، وينهي إليك قضيّته على جهة الصّدق، ومنحى الحق، ويقين الخبر، فإن رأيت(10/207)
عليه سبيلا لمحبس أو مجازا لعقوبة، أمرته بتولّي ذلك من غير أدخاله عليك، ولا مشافهة لك منه، فكان المتولّي لذلك ولم يجر على يديك مكروه رأي ولا غلظة عقوبة، وإن وجدت إلى العفو [عنه] «1» سبيلا، أو كان مما قرف به خليّا كنت أنت المتولّي للإنعام عليه بتخلية سبيله، والصفح عنه بإطلاق أسره، فتولّيت أجر ذلك واستحققت ذخره، وأنطقت لسانه بشكرك، وطوّقت قومه حمدك، وأوجبت عليهم حقّك، فقرنت بين خصلتين، وأحرزت حظوتين: ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذّكر في الدّنيا «2» .
ثم وإيّاك «3» أن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصّتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك، أو حاجة يبدهك بطلبها، حتّى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذي أهدفته «4» لذلك ونصبته له، فيعرضها عليك منهيا لها على جهة الصّدق عنها، وتكون على معرفة من قدرها: فإن أردت إسعافه بها ونجاح ما سأل منها، أذنت له في طلبها، باسطا له كنفك، مقبلا عليه بوجهك، مع ظهور سرورك بما سألك، وفسحة رأي وبسطة ذرع، وطيب نفس، وإن كرهت قضاء حاجته، وأحببت ردّه عن طلبته، وثقل عليك إجابته إليها، وإسعافه بها، أمرت كاتبك فصفحه «5» عنها، ومنعه من مواجهتك بها، فخفّت عليك في ذلك المؤونة، وحسن لك الذّكر، ولم ينشر عنك تجهّم الردّ «6» ، وينلك سوء القالة في المنع، وحمل على كاتبك في ذلك لائمة أنت منها بريء الساحة.
وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرّسل، فلا يصلنّ إليك أحد منهم إلّا بعد وصول علمه إليك، وعلم ما قدم له عليك، وجهة(10/208)
ما هو مكلّمك به، وقدر ما هو سائلك إيّاه إذا هو وصل إليك، فأصدرت رأيك في حوائجه «1» ، وأجلت فكرك في أمره، واخترت معتزما على إرادتك في جوابه «2» ، وأنفذت مصدور رويّتك في مرجوع مسألته قبل دخوله عليك، وعلمه بوصول حاله إليك، فرفعت عنك مؤونة البديهة، وأرخيت عن نفسك خناق الرّويّة، وأقدمت على ردّ جوابه بعد النّظر وإجالة الفكر فيه؛ فإن دخل إليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك، دفعته عنك دفعا جميلا، ومنعته جوابك منعا وديعا «3» ، ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له، والغلظة عليه، ومنعه من الوصول إليك، فإنّ ضبطك لذلك مما يحكم لك تلك الأسباب، صارفا عنك مؤونتها، ومسهلا عليك مستصعبها «4» .
احذر تضييع رأيك وإهمالك أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما «5» إيّاك، فلا يزدهينّك إفراط عجب تستخفّك روائعه، ويستهويك منظره، ولا يبدرنّ منك ذلك خطأ ونزق خفّة لمكروه إن حلّ بك، أو حادث إن طرأ عليك، وليكن لك من نفسك ظهريّ ملجأ تتحرّز به من آفات الرّدى، وتستعضده «6» في موهم النازل، وتتعقّب به أمورك في التدبير، فإن احتجت إلى مادّة من عقلك، ورويّة من فكرك، أو انبساط من منطقك، كان انحيازك إلى ظهريّك مزدادا مما أحببت الامتياح منه والامتيار «7» ؛ وإن استدبرت «8» من أمورك بوادر جهل أو مضى زلل أو معاندة حقّ أو خطل تدبير، كان ما احتجنت «9» إليه من(10/209)
رأيك عذرا لك عند نفسك، وظهريّا قويّا على ردّ ما كرهت، وتخفيفا لمؤونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر، وحصنا من غلوب الآفات عليك، واستعلائها على أخلاقك.
وامنع أهل بطانتك وخاصّة خدمك «1» من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة، والتقرّب إليك بالسّعاية، والإغراء من بعض ببعض، أو النّميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك، أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النّصيحة ومذهب الشّفقة: فإنّ ذلك أبلغ بك سموّا إلى منالة الشرف، وأعون لك على محمود الذكر، وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمّة وقوّة التدبير.
واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانفهاق «2» ، وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحّله: فإنّ ذلك ضعف عن ملك سورة الجهل «3» ، وخروج من انتحال اسم الفضل، وليكن ضحكك تبسّما أو كشرا في أحايين ذلك وأوقاته، وعند كلّ رائع مستخفّ مطرب، وقطوبك إطراقا في مواضع ذلك وأحواله، بلا عجلة إلى السّطوة، ولا إسراع إلى الطّيرة، دون أن يكنفها رويّة الحلم، وتملك عليها بادرة الجهل.
إذا كنت في مجلس ملئك، وحيث حضور العامّة مجلسك، فإيّاك والرمي بنظرك إلى خاصّ من قوّادك، أو ذي أثرة عندك من حشمك، وليكن نظرك مقسوما في الجميع، وإراعتك «4» سمعك ذا الحديث بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم مجتمع، وقلّة تضجّر بالمحدّث، ثم لا يبرح وجهك إلى بعض حرسك وقوّادك متوجّها بنظر ركين، وتفقّد محض، فإن وجّه إليك أحد منهم نظره محدّقا، أو رماك ببصره ملحّا، فاخفض عنه إطراقا جميلا باتّداع وسكون،(10/210)
وإيّاك والتسّرع في الإطراق، والخفّة في تصريف النظر، والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إيّاك رامقا بنظره.
واعلم أنّ تصفّحك وجوه جلسائك وتفقّدك مجالس قوّادك، من قوّة التدبير، وشهامة القلب، وذكاء الفطنة، وانتباه السّنة، فتفقّد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك، عالما بمواضعهم من مجلسك، ثم اعدبهم عن ذلك سائلا لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك، وعاقتهم بالتخلّف عنك «1» .
إن كان أحد من حشمك وأعوانك تثق منه بغيب ضمير، وتعرف منه لين طاعة، وتشرف منه على صحة رأي، وتأمنه على مشورتك، فإيّاك والإقبال عليه في كلّ حادث يرد عليك، والتوجّه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك، وأن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أنّ بك حاجة إليه موحشة، أو أن ليس بك عنه غنّى في التدبير، أو أنّك لا تقضي دونه رأيا، إشراكا منك له في رويّتك، وإدخالا منك له في مشورتك، واضطرارا منك إلى رأيه في الأمر يعروك: فإنّ ذلك من دخائل العيوب التي ينتشر بها سوء القالة عن نظرائك فانفها عن نفسك خائفا لاعتلاقها ذكرك، واحجبها عن رويّتك قاطعا لأطماع أوليائك عن مثلها عندك، أو غلوبهم عليها منك.
واعلم أنّ للمشورة موضع الخلوة وانفراد النظر، ولكلّ «2» أمر غاية تحيط بحدوده، وتجمع معالمه، فابغها محرزا لها، ورمها طالبا لنيلها، وإيّاك والقصور عن غايتها أو العجز عن دركها، أو التفريط في طلبها. إن شاء الله تعالى.
إيّاك والإغرام عن حديث ما أعجبك، أو أمر ما ازدهاك بكثرة السؤال، أو(10/211)
القطع لحديث من أرادك بحديثه حتّى تنقضه عليه بالخوض في غيره أو المسألة عمّا ليس منه: فإن ذلك عند العامّة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة بمساويها، ولكن أنصت لمحدّثك وأرعه سمعك حتّى يعلم أن قد فهمت حديثه، وأحطت معرفة بقوله: فإن أردت إجابته فعن معرفة بحاجته وبعد علم بطلبته، وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجّب «1» من حديثه بالتبسّم والإغضاء، فأجزى عنك الجواب، وقطع عنك ألسن العتب.
إيّاك وأن يظهر منك تبرّم بطول مجلسك، أو تضجّر ممن حضرك؛ وعليك بالتثبّت عند سورة الغضب، وحميّة الأنف، وملال الصبر في الأمر تستعجل به والعمل تأمر بإنفاذه، فإنّ ذلك سخف شائن، وخفّة مردية، وجهالة بادية؛ وعليك بثبوت المنطق، ووقار المجلس، وسكون الريح، والرّفض لحشو الكلام، والتّرك لفضوله، والإغرام «2» بالزّيادات في منطقك والترديد للفظك: من نحو اسمع، وافهم عنّي، ويا هناه «3» ، وأ لا ترى، أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصّرة بأهل العقل، الشائنة لذوي الحجا في المنطق «4» ، المنسوبة إليهم بالعيّ، المردية لهم بالذّكر. وخصال من معايب الملوك والسّوقة عنها غبيّة النظر إلا من عرفها من أهل الأدب، وقلّما حامل لها، مضطلع بها، صابر على ثقلها، آخذ لنفسه بجوامعها، فانفها عن نفسك بالتحفّظ منها، واملك عليها اعتيادك إيّاها معتنيا بها: منها كثرة(10/212)
التنخّم «1» ، والتبصّق، والتنخّع، والثّؤباء، والتمطّي، والجشاء، وتحريك القدم، وتنقيض «2» الأصابع، والعبث بالوجه واللّحية أو الشارب أو المخصرة «3» أو ذؤابة السيف، أو الإيماض بالنظر، أو الإشارة بالطّرف إلى بعض خدمك بأمر إن أردته، أو السّرار في مجلسك، أو الاستعجال في طعمك أو شربك، وليكن طعمك متّدعا، وشربك أنفاسا، وجرعك مصّا، وإيّاك والتسرّع إلى الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور، والشّتيمة بقول يا ابن الهناة «4» ؛ أو الغميزة «5» لأحد من خاصّتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بحيث محضرك أو دارك وفناؤك: فإنّ ذلك كلّه مما يقبح ذكره، ويسوء موقع القول فيه، وتحمل عليك معايبه، وينالك شينه، وينتشر عليك سوء النبإ به «6» فاعرف ذلك متوقّيا له، واحذره مجانبا لسوء عاقبته.
استكثر من فوائد الخير: فإنها تنشر المحمدة، وتقيل العثرة، واصبر «7» على كظم الغيظ: فإنه يورث الراحة «8» ، ويؤمّن الساحة، وتعهّد العامّة بمعرفة دخلهم، وتبطّن «9» أحوالهم، واستثارة دفائنهم، حتّى تكون منها على رأي عين، ويقين خبرة، فتنعش عديمهم، وتجبر كسيرهم، وتقيم أودهم، وتعلّم جاهلهم، وتستصلح فاسدهم: فإنّ ذلك من فعلك بهم يورثك العزّة، ويقدّمك في الفضل، ويبقي لك لسان الصّدق في العاقبة «10» ، ويحرز لك ثواب الآخرة، ويردّ عليك(10/213)
عواطفهم المستنفرة منك، وقلوبهم المتنحّية عنك «1» .
قس بين منازل أهل الفضل في الدّين والحجا والرأي، والعقل والتدبير، والصّيت في العامّة، وبين منازل أهل النّقص في طبقات الفضل وأحواله، والخمول عند مباهاة النّسب «2» ؛ وانظر بصحبة أيّهم تنال من مودته الجميل، وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل، وتبلغ درجة الشرف في أحوالك المتصرّفة بك، فاعتمد عليهم مدخلا لهم في أمرك، وآثرهم بمجالستك لهم مستمعا منهم، وإيّاك وتضييعهم مفرّطا، وإهمالهم مضيّعا.
هذه جوامع خصال قد لخّصها لك أمير المؤمنين مفسّرا، وجمع لك شواذّها «3» مؤلّفا، وأهداها إليك مرشدا، فقف عند أوامرها، وتناه عن زواجرها، وتثّبت في مجامعها، وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الرّدى، وتنل أنفس الحظوظ ورغيب الشّرف، وأعلى درج الذّكر، وتأثل سطر العز «4» والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد، وتتابع المزيد وبلوغ الأمل، وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوّغك إيّاها، وعافية يحلّك أكنافها، ونعمة يلهمك شكرها: فإنه الموفّق للخير، والمعين على الإرشاد؛ منه تمام الصالحات، وهو مؤتي الحسنات، عنده مفاتيح الخير، وبيده الملك وهو على كلّ شيء قدير.
فإذا أفضيت نحو عدوّك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي منالة الظّفر به، وتكتهف به لمعالق الحذر تقوى الله مستشعرا لها بمراقبته،(10/214)
والاعتصام بطاعته متبعا لأمره، مجتنبا لسخطه، محتذيا سنّته، والتوقّي لمعاصيه في تعطيل حدوده، أو تعدّي شرائعه، متوكّلا عليه فيما صمدت «1» له، واثقا بنصره فيما توجّهت نحوه، متبرّئا من الحول والقوّة فيما نالك من ظفر، وتلقّاك من عزّ، راغبا فيما أهاب «2» بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد ورمى بك إليه، محمود الصبر فيه عند الله من قتال عدو «3» المسلمين، أكلبهم عليه وأظهره عداوة لهم، وأفدحه ثقلا لعامّتهم، وآخذه بربقهم «4» ، وأعلاه عليهم بغيا، وأظهره عليهم فسقا وفجورا «5» ، وأشدّه على فيئهم الذي أصاره الله لهم «6» وفتحه عليهم مؤونة وكلّا «7» والله المستعان عليهم، والمستنصر على جماعتهم، عليه يتوكّل أمير المؤمنين، وإيّاه يستصرخ عليهم، وإليه يفوّض أمره وكفى بالله وليّا وناصرا ومعينا، وهو القويّ العزيز.
ثم خذ من معك من تبّاعك وجندك بكفّ معرّتهم، وردّ مشتعل جهلهم «8» ، وإحكام ضياع عملهم «9» ، وضمّ منتشر قواصيهم، ولمّ شعث أطرافهم، وتقييدهم عمّن «10» مرّوا به من أهل ذمّتك وملتك بحسن السيرة، وعفاف الطّعمة، ودعة الوقار، وهدي الدّعة، وجمام المستجم «11» ، محكما ذلك منهم، متفقّدا لهم تفقّدك إيّاه من نفسك. ثم اصمد لعدوّك المتسمّي بالإسلام، الخارج من جماعة أهله،(10/215)
المنتحل ولاية الدّين مستحلّا لدماء أوليائه، طاعنا عليهم، راغبا عن سنّتهم، مفارقا لشرائعهم، يبغيهم الغوائل، وينصب لهم المكايد، أضرم حقدا عليهم، وأرصد عداوة لهم، وأطلب لغرّات فرصهم من التّرك «1» ، وأمم الشرك، وطواغي الملل، يدعو إلى المعصية والفرقة، والمروق من دين الله إلى الفتنة، مخترعا بهواه للأديان المنتحلة والبدع المتفرّقة خسارا وتخسيرا، وضلالا وتضليلا، بغير هدى من الله ولا بيان، ساء ما كسبت له يداه [وما الله بظلّام للعبيد] «2» وساء ما سوّلت له نفسه الأمّارة بالسّوء، والله من ورائه بالمرصاد: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«3» .
حصّن «4» جندك، واشكم نفسك بطاعة الله في مجاهدة أعدائه، وارج نصره، وتنجّز موعوده، متقدّما في طلب ثوابه على جهادهم، معتزما في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم: فإنّ طاعتك إيّاه فيهم، ومراقبتك له ورجاءك نصره مسهّل لك وعوره، وعاصمك من كل سبّة، ومنجيك من كلّ هوّة، وناعشك «5» من كلّ صرعة، ومقيلك من كل كبوة، وداريء عنك كلّ شبهة، ومذهب عنك لطخة كلّ شك، ومقوّيك بكلّ أيد «6» ومكيدة، ومعزّك في كل معترك «7» قتال، ومؤيّدك في كلّ مجمع لقاء، وكالئك عند كل فتنة مغشية «8» وحائطك «9» من كل شبهة مردية؛ والله وليّك ووليّ أمير المؤمنين فيك، والمستخلف على جندك ومن معك «10» .(10/216)
اعلم أنّ الظفر ظفران: أحدهما وهو أعمّ منفعة، وأبلغ في حسن الذكر قالة، وأحوطه سلامة، وأتمّه عافية [وأعوده عاقبة] «1» وأحسنه في الأمور [موردا] «2» وأعلاه في الفضل شرفا، وأصحّه في الرويّة حزما، وأسلمه عند العامّة مصدرا- ما نيل بسلامة الجنود، وحسن الحيلة، ولطف المكيدة [ويمن النّقيبة] «3» واستنزال طاعة ذوي الصّدوف بغير إخطار «4» الجيوش في وقدة جمرة الحرب، ومبارزة «5» الفرسان في معترك الموت؛ وإن ساعدتك «6» طلوق الظّفر، ونالك مزيد السعادة في الشرف؛ ففي مخاطرة التّلف مكروه المصائب، وعضاض السيوف وألم الجراح، وقصاص الحروب وسجالها بمغاورة أبطالها. على أنك لا تدري لأيّ يكون الظفر في البديهة، ومن المغلوب بالدولة «7» ، ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص، فحاول إصابة أبلغهما في سلامة جندك ورعيّتك، وأشهرهما صيتا في بدوّ تدبيرك ورأيك، وأجمعهما لألفة وليّك وعدوّك، وأعونهما على صلاح رعيّتك وأهل ملّتك، وأقواهما شكيمة في حزمك، وأبعدهما من وصم عزمك، وأعلقهما بزمام النجاة في آخرتك «8» ، وأجزلهما ثوابا عند ربّك.
وابدأ بالإعذار إلى عدوّك، والدّعاء لهم إلى مراجعة الطاعة، وأمر الجماعة، وعزّ «9» الألفة، آخذا بالحجّة عليهم، متقدّما بالإنذار لهم، باسطا أمانك لمن لجأ إليك منهم، داعيا [لهم إليه] «10» بألين لفظك وألطف حيلك، متعطّفا برأفتك عليهم، مترفّقا بهم في دعائك، مشفقا عليهم من غلبة الغواية لهم،(10/217)
وإحاطة الهلكة بهم، منفذا رسلك إليهم بعد الإنذار، تعدهم إعطاء كلّ رغبة يهشّ ليها طمعهم في موافقة الحق، وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم ومن تبعهم، موطّنا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بعهدك، والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عقدك، قابلا توبة نازعهم «1» عن الضّلالة، ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة، مرصدا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوته إليه وبصّرته إيّاه من حقّك وطاعتك، بفضل المنزلة، وإكرام المثوى، وتشريف الجاه، وليظهر من أثرك عليه، وإحسانك [إليه] «2» ما يرغب في مثله الصادف عنك، المصرّ على خلافك ومعصيتك، ويدعو إلى اعتلاق حبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام عاجلا، وأنجى له من العقاب آجلا، وأحوطه على دينه ومهجته بدءا وعاقبة، فإنّ ذلك مما يستدعي به من الله نصره عليهم، ويعتضد به في تقديمه الحجّة إليهم، معذرا أو منذرا، إن شاء الله.
ثم أذك عيونك «3» على عدوّك متطلّعا لعلم أحوالهم التي يتقلّبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قدمدّوا أعناقهم نحوها، وأيّ الأمور أدعى لهم إلى الصّلح، وأقودها لرضاهم إلى العافية، وأسهلها لاستنزال طاعتهم، ومن أيّ الوجوه مأتاهم: أمن قبل الشّدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد، أو التّرغيب والإطماع، متثبّتا في أمرك، متخيّرا في رويّتك، مستمكنا من رأيك، مستشيرا لذوي النصيحة الذين قد حنّكتهم السّنّ، وخبطتهم «4» التّجربة، ونجّذتهم «5» الحروب، متشزّنا «6» في حربك، آخذا بالحزم في سوء الظن، معدّا(10/218)
للحذر، محترسا من الغرّة، كأنّك في مسيرك كلّه ونزولك أجمع مواقف لعدوّك رأي عين تنتظر حملاتهم، وتتخوّف كرّاتهم، معدّا أقوى مكايدك، وأرهب عتادك، وأنكأ جدّك «1» ، وأجدّ تشميرك «2» ، معظّما أمر عدوّك لأعظم مما بلغك، حذرا يكاد يفرط: لتعدّ له من الاحتراس عظيما، ومن المكيدة قويّا، من غير أن يفثأك «3» ذلك عن إحكام أمورك، وتدبير رأيك، وإصدار رويّتك، والتأهّب لما يحزبك «4» ، مصغّرا له بعد استشعار الحذر، واضطمار الحزم، وإعمال الرّويّة، وإعداد الأهبة: فإن ألفيت عدوّك كليل الحدّ، وقم الحزم «5» ، نضيض «6» الوفر، لم يضرّك ما اعتددت له من قوّة، وأخذت له من حزم، ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه، وتسرّعا إلى لقائه. وإن ألفيته متوقّد الحرب «7» ، مستكثف الجمع، قويّ التّبع، مستعلي سورة الجهل، معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعّرا، ويتقدّم إلى لقاء أبطالها متسرّعا، كنت لأخذك بالحزم، واستعدادك بالقوّة، غير مهين الجند، ولا مفرّط في الرأي، ولا متلهّف على إضاعة تدبير، ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهّب مبادرة تدهشك، وخوفا يقلقك. ومتى تغترّ بترقيق المرقّقين، وتأخذ بالهوينى في أمر عدوّك لتصغير المصغّرين، ينتشر عليك رأيك، ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك، وإهمال للحزم في جندك، وتضييع له وهو ممكن الإصحار، رحب المطلب، قويّ العصمة، فسيح المضطرب، مع ما يدخل رعيّتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أحراسهم «8» ، وضبط مراكزهم، لما(10/219)
يرون فيه من استنامتك إلى الغرّة، وركونك إلى الأمن، وتهاونك بالتدبير، فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف، وضياع الأحكام، ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره، ولا يدفع مخوفه.
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوّك، وإيّاك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتّهمته فيه أو سؤت به ظنّا وأتاك غيره بخلافه، أو أن تكذّبه فيه فتردّه عليه ولعله أن يكون قد محضك النصيحة وصدقك الخبر، وكذبك الأوّل، أو خرج جاسوسك الأوّل متقدما قبل وصول هذا من عند عدوّك، وقد أبرموا لك أمرا، وحاولوا لك مكيدة، وأرادوا منك غرّة، فازدلفوا «1» إليك في الأهبة ثم انتقض بهم رأيهم، واختلف عنه جماعتهم، فأرادوا «2» رأيا، وأحدثوا مكيدة، وأظهروا قوّة، وضربوا موعدا، وأمّوا مسلكا لمدد «3» أتاهم، أو قوّة حدثت لهم، أو بصيرة في ضلالة شغلتهم؛ فالأحوال بهم متنقّلة في الساعات، وطوارق الحادثات. ولكن البسهم «4» جميعا على الانتصاح، وارضخ «5» لهم بالمطامع، فإنّك لن تستعبدهم بمثلها، وعدهم جزالة المثاوب «6» ، في غير ما استنامة منك إلى ترقيقهم أمر عدوّك، والاغترار إلى ما يأتونك به دون أن تعمل رويّتك في الأخذ بالحزم، والإستكثار من العدّة، واجعلهم أوثق من تقدر عليه، وآمن من تسكن إلى ناحيته: ليكون ما يبرم عدوّك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت ذلك، فتنقض عليهم برأيك وتدبيرك ما أبرموا، وتأتيهم من حيث أمنوا، وتأخذ لهم أهبة ما عليه أقدموا «7» ، وتستعدّ لهم بمثل ما حذروا.(10/220)
واعلم أنّ جواسيسك وعيونك ربّما صدقوك، وربّما غشّوك، وربّما كانوا لك وعليك فنصحوا لك وغشّوا عدوّك وغشّوك ونصحوا عدوّك، وكثيرا ما يصدقونك ويصدقونه، فلا تبدرنّ منك فرطة عقوبة إلى أحد منهم، ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتّهمته على ذلك، واستنزل نصائحهم بالمياحة والمنالة، وابسط من آمالهم فيك من غير أن يرى أحد منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتّبع له، أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه، أو رددته عليه ردّ المكذّب به، المتهم له، المستخفّ بما أتاك منه، فتفسد بذلك نصيحته، وتستدعي غشّه، وتحترّ عداوته. واحذر أن يعرفوا في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع، وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرّك، ويكون هو الموجّه لهم، والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم.
واعلم أن لعدوّك في عسكرك عيونا راصدة، وجواسيس متجسّسة «1» ، وأنه لن يقع رأيه عن مكيدتك بمثل ما تكايده به «2» ، وسيحتال لك كاحتيالك له، ويعدّ لك كإعدادك فيما تزاوله منه، ويحاولك كمحاولتك إيّاه فيما تقارعه عنه، فاحذر أن يشهر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوّك ويعرف موضعه، فيعدّ له المراصد، ويحتال له بالمكايد. فإن ظفر به فأظهر عقوبته، كسر ذلك ثقات عيونك، وخذلهم عن تطلّب الأخبار من معادنها، واستقصائها من عيونها، واستعذاب اجتنائها من ينابيعها، حتّى يصيروا إلى أخذها مما عرض من غير الثّقة ولا المعاينة، لقطا لها بالأخبار الكاذبة، والأحاديث المرجفة. واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضا: فإنّك لا تأمن تواطؤهم عليك، وممالأتهم عدوّك، واجتماعهم على غشّك، وتطابقهم على كذبك، وإصفاقهم «3» على خيانتك، وأن(10/221)
يورّط بعضهم بعضا عند عدوّك؛ فأحكم أمرهم فإنّهم رأس مكيدتك، وقوام تدبيرك، وعليهم مدار حربك، وهو أوّل ظفرك، فاعمل على حسب ذلك وحيث رجاؤك به، تنل أملك من عدوّك وقوّتك على قتاله، واحتيالك لإصابة غرّاته وانتهاز فرصه، إن شاء الله.
فإذا أحكمت ذلك وتقدّمت في إتقانه، واستظهرت بالله وعونه، فولّ شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوّادك عندك، وأظهرهم نصيحة لك، وأنفذهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة «1» ، وأصدقهم عفافا، وأجزأهم غناء «2» ، وأكفاهم أمانة، وأصحّهم ضميرا، وأرضاهم في العامّة دينا، وأحمدهم عند الجماعة خلقا، وأعطفهم على كافّتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظرا، وأشدّهم في دين الله وحقّه صلابة؛ ثم فوّض إليه مقوّيا له، وابسط من أمله مظهرا عنه الرضا، حامدا منه الابتلاء، وليكن عالما بمراكز الجنود، بصيرا بتقدّم المنازل، مجرّبا، ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة، له نباهة في الذّكر، وصيت في الولاية، معروف البيت، مشهور الحسب، وتقدّم إليه في ضبط معسكره، وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره؛ ثم حذّره أن يكون منه إذن لجنوده في الانتشار والاضطراب، والتقدّم لطلائعك، فتصاب لهم غرّة يجتريء بها عدوّك عليك، ويسرع إقداما إليك، ويكسر من إياد «3» جندك ويوهن من قوتهم: فإنّ الصوت في إصابة عدوّك الرجل «4» الواحد من جندك أو عبيدهم مطمع لهم فيك، مقوّ لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك، وتوهينهم تدبيرك، فحذّره ذلك وتقدّم إليه فيه، ولا يكوننّ منه إفراط في التضييق عليهم، والحصر لهم، فيعمّهم أزله «5» ،(10/222)
ويشملهم ضنكه، وتسوء عليهم حاله «1» وتشتدّ به المؤونة عليهم، وتخبث له ظنونهم؛ وليكن موضع إنزاله إيّاهم ضامّا لجماعتهم، مستديرا بهم جامعا لهم، ولا يكون منبسطا منتشرا متبدّدا، فيشقّ ذلك على أصحاب الأحراس، وتكون فيه النّهزة «2» للعدوّ، والبعد من المادة إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته. وأو عز إليه في أحراسه، وتقدّم إليه فيهم كأشدّ التقدّم وأبلغ الإيعاز، ومره فليولّ عليهم رجلا ركينا مجرّبا جريء الإقدام، ذاكي الصّرامة، جلد الجوارح، بصيرا بمواضع أحراسه، غير مصانع ولا مشفّع للناس في التنحّي إلى الرّفاهية والسّعة، وتقدّم العسكر والتأخّر عنه، فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولّاه ذلك وأمنه به على جيشه.
واعلم أنّ مواضع الأحراس من معسكرك، ومكانها من جندك، بحيث الغناء عنهم والرّدّ عليهم، والحفظ لهم، والكلاءة لمن بغتهم طارقا، أو أرادهم خاتلا، ومراصدها المنسلّ منها والآبق «3» من أرقائهم وأعبدهم؛ وحفظها من العيون والجواسيس من عدوّهم. واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه عن الصّرامة بمؤامرتك «4» في كلّ أمر حادث وطاريء إلا في المهمّ النازل والحدث العام: فإنك إذا فعلت ذلك به، دعوته إلى نصحك، واستوليت على محصول ضميره «5» في طاعتك، وأجهد نفسه في ترتيبك «6» ، وأعمل رأيه في بلوغ موافقتك وإعانتك، وكان ثقتك وردأك «7» وقوّتك ودعامتك، وتفرّغت أنت لمكايدة عدوّك، مريحا(10/223)
لنفسك من همّ ذلك والعناية به، ملقيا عنك مؤونة باهظة وكلفة فادحة، [إن شاء الله] «1» .
واعلم أنّ القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام، ولا بمثل محلّه أحد من الولاة: لما يجري على يديه من مغاليظ الأحكام ومجاري الحدود، فليكن من تولّيه القضاء في عسكرك [من ذوي] «2» الخير في القناعة والعفاف والنّزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع، والبصر بوجوه القضايا ومواقعها، قد حنّكته السّنّ وأيّدته التجربة وأحكمته الأمور، ممن لا يتصنّع للولاية ويستعدّ للنّهزة، ويجتريء على المحاباة في الحكم، والمداهنة في القضاء، عدل الأمانة، عفيف الطّعمة، حسن الإنصاف «3» ، فهم القلب، ورع الضمير، متخشّع السّمت «4» ، بادي الوقار، محتسبا للخير. ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه، وفرّغه لما حمّلته، وأعنه على ما ولّيته: فإنك قد عرّضته لهلكة الدنيا وبوار الآخرة، أو شرف الدنيا وحظوة الآجلة، إن حسنت نيّته، وصدقت رويّته، وصحّت سريرته وسلّط حكم الله على رعيّته، مطلقا عنانه، منفّذا قضاء الله في خلقه، عاملا بسنّته في شرائعه، آخذا بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك بحيث ولايتك، الجارية أحكامه عليهم «5» ، النافذة أقضيته فيهم، فاعرف من تولّيه ذلك وتسنده إليه. ثم تقدّم في طلائعك فإنها أوّل مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كلّ قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة وبأس، وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صلوا «6» بالحرب وذاقوا(10/224)
سجالها، وشربوا مرار كؤوسها، وتجرّعوا غصص درّتها، وزبنتهم «1» بتكرار عواطفها، وحملتهم على أصعب مراكبها، وذلّلتهم بثقاف أودها. ثم انتقهم على عينك، واعرض كراعهم «2» بنفسك، وتوخّ في انتقائك ظهور الجلد، وشهامة الخلق، وكمال الآلة. وإيّاك أن تقبل من دوابّهم إلا الإناث من الخيل المهلوبة «3» ، فإنّهنّ أسرع طلبا، وأنجى مهربا، وألين معطفا، وأبعد في اللّحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقداما؛ وخذهم من السّلاح بأبدان «4» الدّروع، ماذيّة «5» الحديد، شاكّة «6» النّسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير وأسوق الحديد، مموّهة الركب، محكمة الطّبع، خفيفة الصّوغ، وسواعد طبعها هنديّ، وصوغها فارسيّ، رقاق المعاطف، بأكفّ واقية «7» وعمل محكم. ويلمق «8» البيض مذهبة ومجرّدة، فارسيّة الصّوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطّبع، مبهمة السّرد «9» ، وافية الوزن كتريك «10» النّعام في الصّنعة واستدارة التّقبيب، واستواء الصّوع معلمة بأصناف الحرير وألوان الصّبغ، فإنّها أهيب لعدوّهم، وأفتّ لأعضاد من لقيهم، والمعلم «11» مخشيّ محذور، له بديهة رادعة، وهيبة هائلة، معهم السّيوف الهندية، وذكور البيض اليمانية، رقاق الشّفرات، مسنونة الشّحذ «12» ، مشطّبة الضرائب «13» ، معتدلة الجواهر، صافية(10/225)
الصّفائح، لم يدخلها وهن الطبع، ولا عابها أمت «13» الصّوغ، ولا شانها خفّة الوزن، ولا فدح حاملها بهور «1» الثّقل، قد أشرعوا لدن القنا، طوال الهوادي «2» ، مقوّمات الأود، زرق الأسنّة، مستوية الثّعالب «3» ؛ وميضها متوقّد، وسنخها «4» متلهّب، معاقص «5» عقدها منحوتة، ووصوم «6» أودها مقوّمة، وأجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة «7» ، وعقدها حبكة، شطبة «8» الأسنان، مموّهة الأطراف، مستحدّة الجنبات، دقاق الأطراف، ليس فيها التواء أود، ولا أمت وصم، ولا بها مسقط عيب، ولا عنها وقوع أمنية، مستحقبي كنائن النّبل وقسيّ الشّوحط والنّبع «9» ؛ أعرابيّة التعقيب «10» ، وروميّة النّصول، مسمومة الصّوغ، ولتكن سهامها على خمس(10/226)
قبضات سوى النّصول، فإنها أبلغ في الغاية، وأنفذ في الدّروع، وأشكّ في الحديد، سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفّين من الآلة والأمتعة والزاد [إلا ما لا غناء بهم عنه] «1» .
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتّابك، فإنّك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم، وفرّطت حيث الرأي، ووقفت دون عزم الرّويّة، ودخل عملك ضياع الوهن، وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدّة ولا حصنا يدّرئون به، ويكتهفون بموضعه. والطلائع حصون المسلمين وعيونهم، وهم أوّل مكيدتك، وعروة أمرك، فليكن اعتناؤك بهم، وانتقاؤك إيّاهم بحيث هم من مهمّ عملك، ومكيدة حربك، ثم انتخب للولاية عليهم رجلا بعيد الصوت «2» ، مشهور الاسم، ظاهر الفضل، نبيه الذّكر، له في العدوّ وقعات معروفات، وأيام طوال وصولات متقدّمات، قد عرفت نكايته، وحذرت شوكته، وهيب صوته، وتنكّب لقاؤه، أمين السّريرة، ناصح الجيب «3» ؛ قد بلوت منه ما يسكّنك إلى ناحيته: من لين الطاعة، وخالص المودّة، وركانة «4» الصّرامة، وغلوب الشّهامة، واستجماع القوّة، وحصافة التدبير، ثم تقدّم إليه في حسن سياستهم، واستنزال طاعتهم، واجتلاب مودّاتهم واستعذاب ضمائرهم، وأجر عليهم وعليه أرزاقا تسعهم، وتمدّ من أطماعهم، سوى أرزاقهم في العامّة، فإنّ ذلك من القوّة لك عليهم، والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهمّ الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمّن معك؛ وأقمعها كبتا لمحادّك وأشجاها غيظا لعدوّك؛ ومن يكن في الثّقة، والجلد، والبأس،(10/227)
والطاعة، والقوّة، والنصيحة والعدّة، والنّجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به، يضع عنك مؤونة الهم، ويرخ من خناقك روع الخوف، وتلتجيء إلى أمر منيع، وظهر قويّ، ورأي حازم، تأمن به فجآت عدوّك، وغرّات بغتاتهم، وطوارق أحداثهم، ويصير إليك علم أحوالهم، ومتقدّمات خيولهم، فانتخبهم رأي عين، وقوّهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك، وحصانة كهوفتك، وقوّة سيّارة عسكرك. وإيّاك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة، أو تحتمله على هوادة، أو تقدّمه لأثرة، أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل «1» ، أو فضل من الظّهر، أو ثقل «2» فادح، فتشتدّ عليهم مؤونة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به عن عدوّهم إن دهمهم منه رائع، أو فجأهم منه طليعة، فتفقّد ذلك محكما له، وتقدّم فيه آخذا بالحزم في إمضائه، أرشدك الله لإصابة الحظّ، ووفّقك ليمن التدبير، وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعا في العاجل والآجل، وأكبته لعدوّك وأشجاه لهم، وأردعه لعاديتهم.
ولّ درّاجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافّهم ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشّرف، محمود الخبرة، معروفا بالنّجدة، ذا سنّ وتجربة، ليّن الطاعة، قديم النّصيحة، مأمون السّريرة، له بصيرة بالحق نافذة تقدّمه، ونيّة صادقة عن الإدهان «3» تحجزه، واضمم إليه عدّة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه؛ ثم تقدّم إليه في إخراج المصافّ، وإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف، وشدّة الحذر، ومره فليضع القوّاد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافّهم، كلّ قائد بإزاء مكانه، وحيث منزله، قد سدّ ما بينه وبين صاحبه بالرّماح(10/228)
شارعة، والتّرسة موضونة»
، والرجال راصدة، ذاكية الأحراس، وجلة الرّوع، خائفة طوارق العدوّ وبياته، ثم مره فليخرج كلّ ليلة قائدا في أصحابه أو عدّة منهم إن كانوا كثيرا، على غلوة «2» أو اثنتين من عسكرك، منتبذا عنك محيطا بمنزلك، ذاكية أحراسه، قلقة التردّد، مفرطة الحذر، معدّة للرّوع، متأهّبة للقتال، آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه، متفرّقين في اختلافهم كردوسا كردوسا «3» ؛ يستقبل بعضهم بعضا [في الاختلاف] «4» ويكسع «5» تال متقدّما في التردّد، واجعل ذلك بين قوّادك وأهل عسكرك نوبا معروفة، وحصصا مفروضة، لا تعر «6» منها مزدلفا منك بمودّة، ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة، إن شاء الله تعالى.
فوّض إلى أمراء أجنادك وقوّاد خيلك أمور أصحابهم، والأخذ على قافية أيديهم، رياضة منك لهم على السّمع والطاعة لأمرائهم، والاتّباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم، وتقدّم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إيّاها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم، واحذر اعتلال أحد من قوّادك عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك، وتقويمهم لطاعتك، وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم؛ فإنّ ذلك مفسدة للجند، مفثأة «7» للقوّاد عن الجدّ والإيثار للمناصحة، والتقدّم في الاحكام.
واعلم أنّ في استخفافهم بقوّادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولا للضياع(10/229)
على أعمالك، واستخفافا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي؛ وأوعز إلى القوّاد أن لا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل، وتثقيف أود؛ فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة حدّ في قطع، أو إفراط في ضرب أو أخذ مال، أو عقوبة في شعر «1» فلا يلينّ ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك، ومتى لم تذلّل الجند لقوّادهم، وتضرعهم لأمرائهم، توجب لهم عليك الحجة بتضييع- إن كان منهم- لأمرك، أو خلل- إن تهاونوا به- من عملك، أو عجز- إن فرط منهم- في شيء مما وكّلتهم به أو أسندته إليهم، ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللّوم وعضّ العقوبة عليهم مجازا تصل به إلى تعنيفهم، بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إيّاهم عليك وعليهم؛ فانظر في ذلك نظرا محكما، وتقدّم فيه برفقك تقدّما بليغا؛ وإيّاك أن يدخل حزمك وهن، أو يشوب عزمك إيثار، أو يخلط رأيك ضياع، والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك.
إذا كنت من عدوّك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربا قد شامت «2» طلائعك مقدّمات ضلالته، وحماة فتنته، فتأهّب أهبة المناجز، وخذ اعتداد الحذر «3» ، وكتّب خيولك، وعبّ جندك، وإيّاك والمسير إلا في مقدّمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة، ونشروا البنود والأعلام؛ وعرّف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم، قد أخذوا أهبة القتال، واستعدّوا للّقاء، ملتجئين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترحّلهم وتنزّلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم، قد عرّف كلّ قائد منهم أصحابه مواقفهم: من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطّليعة، لا زمين لها، غير مخلّين بما استنجدوا له، ولا متهاونين بما أهيب بهم إليه؛ حتّى تكون عساكرك في منهل(10/230)