الطّيّة البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النّوادي، وقرار دموع الغوادي، المتجاسر على تخطّيه، عند تمطّيه، الجسر العادي؛ والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الذي في جوفه كلّ صيد، أقلّ كرسيّه خلافة الإسلام، وأعار بالرّصافة والجسر دار السّلام، وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام، أو تعبّر به عن ذلك الكمال فنون الكلام.
فأعملنا إليها السّرى والسّير، وقدنا إليها الخيل وقد عقد الله بنواصيها الخير.
ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجد منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» - برز من حاميتها المحاميه، ووقود النار الحاميه، وبقية السيف الوافرة على الحصاد الناميه، قطع الغمائم الهاميه، وأمواج البحور الطاميه، واستجنّت بظلال أبطال المجال أعداد الرجال الناشبة والراميه، وتصدّى للنّزال، من صناديدها الصّهب السّبال، أمثال الهضاب الراسيه، تجنّها جنن السّوابغ الكاسيه، وقواميسها المفادية للصّلبان يوم بوسها بنفوسها المواسيه، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله ستور الظّلم الغاشيه، وصخور القلوب القاسيه، فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلي بلجينه ولآليء زينه منها النّحر، حرب لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيّام الحبالى بمثل أجنّة أهوالها، من قاسها بالفجار أفك وفجر، أو مثّلها بجفر الهباءة خرف وهجر؛ ومن شبّهها بحرب داحس والغبراء فما عرف الخبر، فليسأل من جرّب وخبر، ومن نظّرها بيوم شعب جبله، فهو ذو بله، أو عادلها ببطن عاقل، فغير عاقل، أو احتجّ بيوم ذي قار، فهو إلى المعرفة ذو افتقار(6/555)
أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه [غير السّديد،] «1» إنما كان مقاما غير معتاد، ومرعى نفوس لم يف بوصفه لسان مرتاد، وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد، أعلم فيه البطل الباسل، وتورّد الأبيض الباتر وتأوّد الأسمر العاسل، ودوّم الجلمد المتكاسل، وانبعث من حدب الحنيّة إلى هدف الرّمية الناشر النّاسل، ورويت لمرسلات السّهام المراسل. ثم أفضى أمر الرّماح إلى التّشاجر والارتباك؛ ونشبت الاسنّة في الدّروع نشب السّمك في الشّباك؛ ثم اختلط المرعى بالهمل، وعزل الرّدينيّ عن العمل، وعادت السّيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقّت غدر السوابغ خلجانا، واتّحدت جداول الدّروع فصارت بحرا، وكان التعانق فلا ترى إلا نحرا، يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة مناد إلى فراق الأبد وداع، واستكشفت مآل الصبر الانفس الشّفّافه، وهبّت بريح النصر الطلائع المبشّرة الهفّافه، ثم أمدّ السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللّباب، وقال لسان النصر ادخلوا عليهم الباب، فأصبحت طوائف الكفّار، حصائد مناجل الشّفار، فمفارقهم قد رضيت حرماتها بالاعقار، ورؤوسهم محطوطة في غير معالم الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرفة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار «2» ، لولا الانتهاء إلى الحدّ والمقدار، والوقوف عند اختفاء سرّ المقدار.
ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيّقنا حصرها، وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما، وترمي الأرواح ببوارها، وتسلّط النيران على أقطارها، فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر «3» ، فرأينا أن نروضها بالاجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها(6/556)
كرّات رياح الاعتساف، حتّى يتهيّأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنّأ بفضل الله إرث نعمتها، ثم كانت عن موقفها الإفاضة من بعد نحر النّحور، وقذف جمار الدّمار على العدوّ المدحور، وتدافعت خلفنا السابقات المستقلّات تدافع أمواج البحور.
وبعد أن ألححنا على جنّاتها المصحرة، وكرومها المشتجرة، إلحاح الغريم، وعوّضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربّنا فأصبحت كالصّريم «1» ، وأغرينا حلاق النار بحمم الجحيم، وراكمنا في أجواف أجوائها غمائم الدّخان، تذكّر طيّبة البان، بيوم الغميم، وأرسلنا رياح الغارات لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرّميم، واستقبلنا الوادي يهول مدّا، ويروع سيفه الصّقيل حدّا، فيسّره الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرضة [بتلك العرضة] «2» أيدي الانتهاز، وسألنا من ساءله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز فعمّ الاكتساح والاستباح جميع الأحواز، فأديل المصون، وانتهبت القرى وهدمت الحصون، واجتثّت الأصول وحطّمت الغصون، ولم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصافحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس. فهي الآن مجرى السوابق ومجرّ العوالي، على التوالي، والحسرات تتجدّد في أطلالها البوالي، وكأنّ بها قد صرعت، وإلى الدّعوة المحمّديّة قد أسرعت بقدرة من لو أنزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدّعت، وعزّة من أذعنت الجبابرة لعزّه وخنعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللفّ نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى معتلقه، والألسن بشكر نعم الله منطلقه، والسيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسرابيل الدّروع خلقه، والجياد من ردّها إلى المرابط والأواري ردّ العواري حنقه، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقه، تنظر إلينا نظر العاتب،(6/557)
وتعود من ميادين المراح والاختيال تحت حلل السّلاح عود الصّبيان إلى المكاتب؛ والطّبل بلسان العزّ هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرّماح، من بعد ذلك الكفاح، نادر، والقاسم ترتّب بين يديه من السبي النّوادر، ووارد منهل الأجور، غير المحلّإ ولا المهجور صادر، ومناظر الفضل الآتي عقبه أخيّه الثاني على المطلوب المواتي مصادر، والله على تيسير الصّعاب وتخويل المنن الرّغاب قادر، لا إله إلا هو، فما أجمل لنا صنعه الخفيّ! وأكرم بنا لطفه الحفيّ! اللهم لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلا إليك، ولا نلتمس خير الدّنيا والآخرة إلا لديك، فأعد علينا عوائد نصرك يا مبديء يا معيد، وأعنّا من وسائل شكرك على ما ننال به المزيد، يا حيّ يا قيّوم يا فعّالا لما يريد.
وقارنت رسالتكم الميمونة منه لدينا حدق فتح بعيد صيته، مشرئبّ ليته، وفخر من فوق النّجوم العوائم مبيته، عجبنا من تأتّي أمله الشارد، وقلنا البركة في قدوم الوارد، وهو أنّ ملك النّصارى لا طفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت، أدالها الله بمحاولتنا الطيّب من الخبيث، والتوحيد من التّثليث، وعاد إليها الإسلام عودة الأب الغائب، إلى البنات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع الرّقّة عن جفونها، وهي للرّوم خطّة خسف قلّما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود، والى الله علينا وعليكم عوارف الجود!، وجعلنا في محاريب الشّكر من الرّكّع السّجود!.
عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيّات عسير، لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوّج بعزّ الملّة الحنيفيّة جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسؤولة من المنعم الوهّاب ميفاض، وأنتم أولى ما ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ؛ وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيّكم وتراث ميتكم، ولكم مزيّة القدم، ورسوخ القدم، والخلافة(6/558)
مقرّها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالك رضي الله عنه مستقرّها قيروانكم؛ وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد أعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيّامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السّلام وشائج سلطانكم، ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم.
والله عز وجل يتولّى عنا من شكركم المحتوم، ما قصّر المكتوب منه عن المكتوم، ويبقيكم لإقامة الرّسوم، ويحلّ محبّتكم من القلوب محلّ الأرواح من الجسوم، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نعمه عندكم.
والسّلام الكريم، الطّيب البرّ العميم، يخصّكم كثيرا أثيرا، ما أطلع الصبح وجها منيرا، بعد أن أرسل النسيم سفيرا، وكان الوميض الباسم، لأكواس الغمائم على أزهار الكمائم مديرا، ورحمة الله وبركاته، إن شاء الله تعالى.
الطرف الثامن (في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمّال وأمراء السّرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم)
وكان الغالب في مكاتباتهم الافتتاح بأما بعد والتعبير عن المكتوب عنه بلفظ الوحدة، وخطاب المكتوب إليه بالكاف.
كما كتب الحجّاج «1» بن يوسف إلى المهلّب «2» بن أبي صفرة، وهو يومئذ نائب عن الحجّاج على بعض الأعمال والحروب:(6/559)
أما بعد، فإنّك تتراخى عن الحرب حتّى تأتيك رسلي ويرجعون «1» بعذرك، وذلك أنك تمسك حتّى تبرأ الجراح وتنسى القتلى ويجمّ الناس، [ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل وألم الجراح] «2» ولو كنت تلقاهم بذلك الحدّ «3» لكان الداء قد حسم والقرن قد قصم، ولعمري ما أنت والقوم سواء؛ لأنّ من ورائك رجالا وأمامك أموالا، وليس للقوم إلا ما معهم، ولا يدرك الوجيف بالدّبيب، ولا الظّفر بالتعذير.
وكما كتب المهلّب إلى الحجّاج مجيبا له عن ذلك.
أما بعد، فإنّي لم أعط رسلك على قول الحقّ أجرا، ولم أحتج فيهم «4» مع المشاهدة إلى تلقين. فذكرت «5» أني أجمّ القوم، ولا بدّ من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب «6» . وذكرت أن في الجمام تنسى «7» القتلى وتبرأ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم. يأبى ذلك قتل من لم يجن، وقروح لم تعرق «8» ، ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون منّا حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملّوا وقفوا [وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا ونتحرّز إذا وقفوا] «9» ، ونطلب إذا هربوا، فإن تركتني فالدّاء بإذن الله محسوم «10» ، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخطه «11» ومقت الناس.(6/560)
الطرف التاسع (في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم، إلى الملوك ومن في معناهم، على ما كان عليه مصطلح أهل المشرق، وهو على ثلاثة أضرب)
الضرب الأوّل (أن تكون المكاتبة عن ملك إلى غير ملك)
ورسمهم أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابنا إليك في يوم كذا، ومن مكان كذا، والأمر على كذا وكذا» ويذكر الحال التي عليها المكتوب عنه حينئذ أو التي عليها الخليفة إن كان المكتوب عنه من أتباع الخليفة، أو التي عليها الملك إن كان من أتباع الملك ونحو ذلك، ويكون التعبير في هذه المكاتبة عن المكتوب عنه بنون الجمع، والخطاب للمكتوب إليه بالكاف. ولا يقال في المكتوب إليه في هذه الحالة: سيّدي ومولاي، ولا سيدنا ولا مولانا. وبذلك بكتب عن الملوك ومن في معناهم من سائر الرؤساء إلى المرؤوسين.
ثم هو على مرتبتين:
المرتبة الأولى- أن يراعى جانب المكتوب إليه في الرّفعة بعض المراعاة.
كما كتب أبو إسحاق «1» الصابي عن صمصام «2» الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، إلى الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة، في الشفاعة في شخص من بعض ألزامه:
كتابنا- أدام الله تأييد الصاحب الجليل كافي الكفاة- وإن وثقنا من المسؤولين بالإيجاب والإجابة، ومن المأمورين بالامتثال والطاعة، فإنا نخصّ(6/561)
بكتبنا الصادرة عنا في المآرب العارضة لنا، من خصبت «1» من كلا الفريقين نهضته إليها، وظهرت مثابرته عليها، وإذا انتهينا إليه- أدام الله عزّه- في ذلك عددنا مع ما قدّم الله عندنا من رتبته في الطبقة الأولى، وميّزنا مع ما وفّر الله علينا من طاعته عن الطبقة الأخرى، وأنسنا منه عادة مشكورة في اتباع محبوبنا، والإسعاف بمطلوبنا؛ ليسلس لنا إلى مخاطبته قياد يتقاعس عمّن سواه، وتنبسط منا في مكاتبته أنامل تتجعّد عمن لا يجري مجراه، ولا سيما إذا كان ذلك في مكرمة يطيب ثناؤها، ومنقبة يشاد بناؤها، والله يمدّه ويمدّنا فيه من طيب السّجايا، وصالح العطايا، بما هو الوليّ به، والحقيق بالشكر عليه.
وكتابنا هذا- أدام الله عزّ الصاحب الجليل كافي الكفاة- مبنيّ على إذكاره بحقّ لنا رعيناه، وذمام من أجله أوجبناه، وذلك أسدّ لإحكامه وألزم لإيجابه، وأوكد لأسبابه، وقد عرف مكان أبي منصور يزداها دار بن المرزبان من خدمتنا، وموقعه في جملتنا، وتوفّر حظّه من جميل رأينا، وخالص اعتقادنا، ومن أوجه وسائله لدينا، التي أوجبت له ذلك علينا، أنا لانزال عده عليه «2» ، من الاعتداد بإحسان الصاحب الجليل كافي الكفاة إليه، وإلى أبيه من قبله، والاعتراف بأنه أيّده الله أبو عذرة صنعه، والسابق إلى الجذب بضبعه، ولمن كان أقرّ له من ذلك معروف لا ينكر، ودخل من الثناء عليه في إجماع لا يخرق، فقد بيّن عن نفسه أنه ممن يطيق حمل المنن ويحسن مصاحبة النّعم، ويستحق أن تقرّ عنده أسلافها، وتدرّ عليه أخلافها، إذ لم يذهله الرّبوع فيها عن التحيد من اصطرافها وانصرافها، ولم يلهه التوسّط لها عن حياطة أطرافها وأكنافها، ومن لنا اليوم بالشّكور الذي لا يغمط، والذّكور الذي لا ينسى؟ والعليم بما يلزمه، والقؤوم بما يحقّ عليه. وأعلمنا حال قريبين له يقال لهما الفركان بن حرزاد، ورستم بن يزد، وأنهما تصرّفا في بعض الخدمة تصرّفا تزايلا فيه عن نهج السّداد، وسنن(6/562)
الرّشاد، واقتضى ذلك أن طلبا بالتقويم والتهذيب، وولجا مضيق القصاص والتأديب، وأنه قد مضت لهما فيه مدّة طويلة في مثلها ما صلح المعاقب، واكتفى المعاقب، وسؤاله لهما، ومرادنا له فيهما، شفاعة الصاحب الجليل كافي الكفاة إلى مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة في أن يسعهما العفو، ويدركهما العطف إما باستخدام يتطوّقان به المنن، ويأذن لهما بانصراف إلى الوطن؛ وقد استظهرنا بكتاب كتبناه في أمرهما: هذا الكتاب يشتمل عليه، حتّى إذا وجب أن يجعله الصاحب الجليل كافي الكفاة ذريعة إلى الغرض، ومطيّة إلى المقصد، أمضى في ذلك رأيه، وعقد عليه تدبيره. فإن رأى الصاحب الجليل أن يتوصّل في هذا الأمر إلى ما يشاكل عادته عندنا في الأمور الواردة عليه فعل، وتوخّى في الجواب أن يكون متضمّنا لذكر الفعل دون القول، والإنجاز دون الوعد، إن شاء الله تعالى.
وكما كتب الصابي عن صمصام الدولة المقدّم ذكره، إلى الصاحب «1» بن عباد أيضا في حالة أخرى، بسبب ردّ إقطاع إلى أبي جعفر محمد بن مسعود قرين كتاب إلى فخر الدولة:
كتابنا والسلامة لدينا راهنة، وعادة الله لإقرارها ضامنة، والحمد لله رب العالمين، والصاحب الجليل كافي الكفاة- أدام الله تأييده- يعلم أنه لم يزل لممالكنا أفنية تقام بها أسواق المكارم، وتحيا بها سنن المحامد، وقد جعله الله بتفضّله الحافظ لجمال ذلك علينا، والضارب بسهمه فيه معنا، فالحمد لله على أن قرن الحظوظ التي خوّلنا، والمنازل التي نوّلنا، بالخلائق الخليقة بها، الداعية إلى استقرارها، والطرائق المطرّقة إلى ثباتها واستمرارها، وأن زان أيامنا هذه الحاضرة، بآثار الصاحب كافي الكفاة أدام الله عزه فيها النّاضرة ومساعيه(6/563)
الرّشيدة، وأفعاله المستقيمة، وأحاديثه الجميلة، وإيّاه نسأل أن يجرينا وكلّ ناصح على أفضل ما عوّدنا وأحسن ما أولاه ومنحنا بقدرته.
وإذا كان مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمّة، بالمحلّ الذي أهّله الله له، من استعذاب الإحسان إلى أوليائه، وافتراض الإفضال على نصحائه، وكان الصاحب الجليل بالحال التي هو بها من القيام بما حمل به «1» المناب فيه عنه، فقد وجب أن تكون الرّعاية لذوي الحرمات مستحكمة الأسباب، ثابتة الأطناب، واضحة الأعلام، ماضية الأحكام، ولا سيما فيمن تعلق منّا بالعناية، وأخذ من ذمامنا بالوثيقة، و «أبو جعفر محمد بن مسعود» أيده الله جامع للمواتّ، التي يستحقّ بها اجتماع العنايات، سالفا صالحا في الخدمة، وسابقة متمكّنة في الجملة، واشتمالا على كلّ ما وجبت به الحقوق، ولزمت به الرعايات. وذكر أنه كانت له بنواحي الجبل تسويغات ومعايش أنعم بها مولانا الأمير السيد فخر الدولة عليه في حال بعد حال، وشرّفه بها في مقام بعد مقام، منها كذا وكذا، وإذا جمع الجميع كان قليلا في جنب ما يفيضه مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمة على خدمه، من جليل عوارفه الجارية على يد الصاحب الجليل كافي الكفاة أدام الله تأييده، والواصلة إلى مستحقّيها بلطيف توصّله، وجميل معتقده. وكان موقعه جليلا عند أبي جعفر محمد بن مسعود أيده الله في جنب ما يصلح من شأنه، ويقيم من جاهه، ويرب من معايشه، ويلمّ من حاله. وقد كتبنا إلى مولانا في ذلك كتابا مجملا قصرناه على الرّغبة إليه، في ردّ هذه المعايش عليه، وعوّلنا على الصاحب الجليل في إخراج أمره العالي بذلك له، وإحكام المناشير والوثائق بجميعه، والتقدّم بمكاتبة العمّال والولاة بتقوية أيدي أصحابه، في استيفاء ما يجب من الأسلاف والبقايا، على الأكرة «2» والمزارعين، والوكلاء والمعاملين، وتأكيد الكتب بغاية ما تؤكّد(6/564)
به أمثالها، ويبلغ به أبو جعفر محابّه كلّها. فإن رأى الصاحب الجليل أن يأتي في ذلك كلّه ما يجده ويعده ويرعاه ويحفظه، جاريا على المألوف من مثابرته على ما عاد علينا وعليه معنا بطيب الذّكر والبشر، وثناء اليوم والغد، فقد أنفذنا بهذا الكتاب ركائب لنا دلالة على خصوص متضمّنه في تعلقه بالاهتمام منا، فعل إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (أن تكون المكاتبة من ملك إلى ملك)
ورسمهم في ذلك أن يفتتح الكتاب بلفظ: كتابي والأمر على كذا وكذا، ويؤتى بالتعبير عن المكتوب عنه في أثناء الكتاب بلفظ الإفراد دون الجمع، وهنا يفخّم شأن المكتوب إليه، فيعبّر عنه بمولاي وسيدي، ومولانا وسيدنا، ونحو ذلك.
ثم هو على مراتب «1» :
المرتبة الأولى (أن يكون المكتوب إليه ملكا أيضا)
فيخاطبه على قدر مقامه بالسيادة أو غيرها مع الدعاء بما يناسبه، من طول البقاء ونحوه، ثم تارة يقع التعرّض فيها بذكر الطلب وبرفع الحال التي هو عليها، وتارة لا يقع التعرّض إلى ذلك- كما كتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن معز الدولة، بن بويه، إلى عضد الدولة بن بويه في طلب الصّلح، وقد جرى بينهما اختلاف.
كتابي- أطال الله بقاء مولانا الملك الجليل المنصور عضد الدولة- من(6/565)
العسكر بظاهر سوق الأهواز، ومولانا أمير المؤمنين مشمول بالكفاية والتأييد، مخصوص بالعز والتمكين، يجري على أفضل ما عوّد الله خلفاءه في أرضه، وأحبّاءه في رعاية خلقه، من التكفّل لهم بالإظهار والإدالة، وتولّيهم بالإعلاء والإنافة، وأنا مستظلّ بكنف طاعته، مستكنّ في حرم مشايعته، شاكر لله على بلائه، مثن عليه بآلائه، راغب إليه أن يعصمني في مولانا الملك الجليل المنصور وفي نفسي من كل مكروه ومستهجن، ويوفّقني وإيّاه لكل مستحبّ ومستحسن، ويعيذنا من المقام على الفرقة، والزّوال عن سنن الألفة، وهو المحمود ربّ العالمين.
والحقوق بين مولانا الملك وبيني فيما قررته منا اللّحمة، وأكّدته العصمة، وأثّلته الأسلاف، ونشأت عليه الأخلاف، حقيقة بأن لا تتسرّع إليها دواعي النّقض، ولا تتمكّن منها ملمّات النّسخ، ولا يتمّ للشيطان عليها ما يحاوله بنزغه، ويتوصّل إليه بكيده، وأن تنزاح العوارض عنها، وتضمحلّ دون التأثير فيها، وأن نعتقد جميعا أنّ بتقارضنا رعايتها ثبات النعم المتصلة بها، فلا يستنكف مستنكف منّا أن يخفض جناحه لأخيه، ويغضّ من جماحه في مقاربة ذويه، إذ كان ذلك حاميا له في أهول الأحوال ممّا هو أشدّ خفضا، وأبلغ رضّا، وأسوأ مغبّة، وأنكر عاقبة.
وقد علم مولانا الملك المنصور بالثاقب من تأمله، والصحيح من تمييزه وتدبّره، أنّ دولتنا- حرسها الله- مبنيّة على أسّ الترافد والتعاضد، موضوعة على قاعدة التوازر والتظافر، وأنّ مشيختنا وسادتنا رضوان الله عليهم جعلوا الائتلاف رتاجا «1» بين الأعداء وبينها، ثم إن مفتاحه هو الخلاف المتطرّق لهم عليها، ولو حدث التنافر في أيام رياسة أضعفنا منّة، وأوهننا عقدة، وأحدثنا سنّا، وأقلّنا حنكة، لكان ذلك أقلّ في التعجّب من أن يعرض في رياسة أحصفنا رأيا،(6/566)
وأسدّنا تدبيرا، وأوفانا حلما، وأكملنا حزما. وقد تكررت- أيد الله مولانا- على ذات بيننا قوارص احتقرناها حتّى امتلأ الإناء من قطرها، واستقينا منها على العظيمة التي لا ثواء بعدها، وما أعود على نفسي بلوم في ابتداء قبيح ابتدأته، ولا بمركب شنيع ركبته ولا حقّ اطّرحته، ولا استصلاح تركته، ولا أدفع مع ذلك أنني قابلت لما تضاعف بالأقل الأيسر، وجازيت لما ترادف بالأدون الأنزر، إلا أني ما آثرت كثيره ولا قليله، ولا اخترت دقيقه ولا جليله، لكنه لم يصلح في السيرة- وقد أشفينا على التزاحف للحرب، والتّدالف للطّعن والضرب- أن أستعمل ما كنت عليه من توفية الحقوق، وإقامة الرسوم، فيراني الأولياء الذين بهم تحمى البيضة، وتحاط الحوزة، متناقض الفعلين، متنافي المذهبين، وكنت في ذلك الفعل الذّميم، والرأي الذي ليس بمستقيم، مقتديا لا مبتديا، ومتّبعا لا مبتدعا. ولو وقف بي مولانا الملك الجليل قبل أواخر الجفاء، وعطف معي إلى أوّل شرائع الصّفاء، لكانت عريكتي عليه ألين، وطريقه إلى ارتباط طاعتي وولائي أقصد، لكنه، أيّده الله، أقام على ما لا يليق به من مجانبتي ومغالظتي، وبثّ الحبائل لي ودسّ المكايد إليّ، ومتابعته الجواسيس والكتب إلى الأولياء في عسكري الذين هم أولياؤه، إن أنصف وعدل، ونصحاؤه، إن أحسن وأجمل.
وكان الأشبه بمولانا لو كنت الغالط عليه، والباعث لهذه الأسباب إليه، أن يسوسني سياسة الحكيم، ويستخلصني استخلاص الكريم، إذ كنّا لم نقدّمه معشر أهل البيت علينا، ونولّه أزمّة أمورنا، إلا ليأسو جروحنا، ويجبر كسورنا، ويتعهّد مسيئنا، ويستميل نافرنا، فأما أن يحاول منا استباحة الحريم، وإركاب المركب العظيم، فكيف يجوز أن تدوم على هذا طاعة، أو تصلح عليه جماعة، أو يغضي عليه مغض، أو يصفح عنه صافح؟. وكان من أشدّ هذه الجفوة وأفظعها، وأقساها وأغلظها، أن عاد رسولي من حضرته خاليا من جواب بما كتبت إليه، وما أعرف له أيده الله في ذلك عذرا يبسطه، ولا سلك منه السبيل التي تشبهه، وبالله جهد القسم ومنتهاها، وأجلّها وأوفاها، لقد سار مولانا أمير(6/567)
المؤمنين أطال الله بقاءه، وسرت إلى هذا الموضع، واعتقادنا لا يجاوز حفظ الحدود والأطراف، وحياطة النهايات والأكناف، والأغلب علينا أنّ مولانا الملك- أدام الله تأييده- لا يتجاوز معي المعاتبة اللطيفة، والمخاطبة الجميلة، والاستدعاء منّي لما يسوغ له أن يطلبه ولي أن أبذله، من تعفية السالف، وإصلاح المستأنف، وتوفية للحق في رتبة لا أضنّ بها عليه، ولا أستكثر النّزول عنها له، وتقرير أصل بيننا يكون أيده الله به معقلا لي وموئلا، وأكون نائبا له ومظفّرا- إلى أن بدأ الأصحاب بالعيث في هذه البلاد، وألحّوا عليها بالغارات، واعتمدوها بالنّكايات، وكان هذا كالرّشاش الذي يؤذن بالانسكاب، والوميض الذي يوعد بالاضطرام- وأوجبت قبل المقابلة عليه والشّروع في مثله في حقّ مولانا الملك الجليل، الذي لا أدع أن أحفظ منه ما دعاني إلى إضاعته، وأتمسّك بما اضطّرّني إلى مفارقته، أن أقدّم أمام الالتقاء على الحرب التي هي سجال كما يعلم، إبلاغ نفسي عذرها، وإعطاء المقادة منها، داعيا له إلى طاعة الخالق والإمام، وصلة اللّحم والأرحام، وحقن الدماء والمهج، وتسكين الدّهماء والرّهج، وثني العنان عن المورد الذي لا يدري وارده كيف يصدر عنه، ولا يثق بالسّلامة منه، وتعريفي ما يريده منّي لأتّبعه ما لم يكن ثالما لي، وعائدا بالوهن عليّ، والله الشاهد على شهادة قد علم إخلاصي فيها، وسماحة ضميري بها، وأنني أكره أن أنال منه، كما أكره أن ينال مني، وأتألّم من أن أظهر عليه، كما أتألّم أن يظهر عليّ، وأحبّ أن يرجع عني وأرجع عنه؛ وقد التقت قلوبنا، وتألّف على الجميل شملنا، وطرفت أعين الأعادي عنا، وانحسمت مطامعهم فينا، فإن فعل ذلك فحقيق به الفضل، وهو لعمر الله له أهل، ولا عذر له في أن لا يفعله، وقد وسّع الله ماله، ووفّر حاله، وأغناه عمّا يلتمسه الصّعلوك، ويخاطر له السّبروت «1» ، وجعله في جانب الغنى والثّروة، والحزم والحيطة، وإن أبى فكتابي هذا حجّة عند الله الذي تستنزل منه المعونة وعند(6/568)
الناس الذين تلتمس منهم العصبيّة، وقد أنفذت به إسفندار بن خسرويه وإبراهيم ابن كالي، وهما ثقتاي وأميناي، ليؤدّياه ويشافهاه عنّي بمثل متضمّنه ونجواه، والله يعيذنا في مولانا الملك الجليل من أن يختار إلا أولى الأمرين وأليقهما بدينه ومروءته، وهو وليّ ما يراه في الأمر بتعجيل الإجابة بما أعمل عليه، وأنتهي بالتدبير إليه، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثالث (أن تكون المكاتبة عمّن دون الملك إليه)
ورسمهم فيه أن يبتدأ بلفظ كتابي، والدعاء للمكتوب إليه بطول البقاء ونحو ذلك، ويخاطب في أوّل الكتاب بمولانا الملك السيد الأجلّ، وفي أثناء الكتاب بالسيد والملك ونحو ذلك، ويعبّر عن المكتوب عنه بلفظ الإفراد:
كما كتب أبو إسحاق الصابي «1» عن الأمير نصر خوزة فيروز بن عضد الدولة إلى ابن عمه شرف الدولة يذكر له حاله مع أخيه صمصام الدولة.
كتابي- أطال الله بقاء مولانا الملك السيد الأجلّ، شرف الدولة، وزين الملّة، والسلامة لي شاملة بما مدّه الله تعالى عليّ من ظلّه الظليل، ورأيه الحسن الجميل، والحمد لله رب العالمين. وقد تأدّى إلى مولانا الملك السيد من أخباري ما أستغني به عن تطويل المفصّل، وأكتفي به عن إجمال المجمل؛ وذلك أن أسفار بن كردويه وعبد العزيز بن برسف الكافرين لنعماء الله ونعمة الملك السعيد عضد الدولة أبينا رحمة الله عليه قبلنا، الغامطين لما نظاهر عليهما من إحساننا وإفضالنا، هجما علينا بخدعة تظافرا عليها، وشبهة جذباني إليها، وأبرما كذبا من القول لم أظنّهما يقدمان على مثله، ولا يتفوّهان باطلا به، فأصغيت إليهما إصغاء الواثق بهما لا المنخدع لهما، فلما أنزلاني على حكمهما، وأوثقاني بحيث لا أستطيع مخالفتهما، ظهرت الحيلة، ووضحت(6/569)
الغيلة، وفاتني الاختبار، وغلبني المقدار، فجرى ما كانت عاقبته خذلان الله إيّاهما، وإنزاله بأسه ونقمته عليهما، وخلاصي بسلامة الصّدر، واتضاح الغدر، من حبائلهما المنصوبة، وأشراكهما المبثوثة. ولما حصلت في كنف الملك السيد صمصام الدولة أقالني العثرة، وقبل منّي المعذرة، وأحلّني من داره وحماه بحيث لم أعدم عادة، ولا انقطعت عنّي مادّة، وكانت الحال توجب مقامي فيها إلى أن تتعفّى آثار الفتنة التي أثارها ذانكما الخبيثان الجانيان.
ثم ورد فلان في الرسالة، وتمّم الله على يده عقد الصلح والمسالمة، فأخرجت عن الاحتجاب إلى الظّهور، وعن الاحتجار إلى البروز، وأنزلت من الدار المعمورة في جانب يصل إليّ منه سيب «1» وصوله على العموم دون الخصوص، وعاملني الملك السيد صمصام الدولة بما يليق بفضله متّبعا في ذلك مقاطعة السيف بينه وبيني، وطاعة مولانا الملك السيد الأجل شرف الدولة في أمري، وجدّد عندي من الإنعام والتوسعة والإيثار والتكرمة آخرا ما شفع تلك الشّفقة أوّلا، ولقيني فلان دفعات، وشافهني مرّات، وتحمّل عني إلى مولانا الملك موالاتي الشكر كثيرا، واعتدادا طويلا عريضا، ودعاء، الله يسمع مرفوعه، ويجيب مسموعه، بمنّه وقدرته، وحوله وقوّته.
والآن فإذ قد جمع الله الكلمة، ووكّد الألفة وحرس النّعمة، وحصّن الدولة وأخرج عنها من كان يشبّ الفتنة، ويسدي وينير في الفرقة، فإنّي واثق بالله جل وعزّ وبما تترقّى الحال إليه في غاية محبوبي، ونهاية مطلوبي، وأقاصي ما تبلغه أمنيّتي، وتسمو إليه همّتي، وتقتضيه أخوّتي وعصمتي، ولله المشيئة، ومنه المعونة، فإن رأى مولانا الملك السيد أن يسكن إلى سكوني، ويطمئن إلى طمأنينتي، ويجري إليّ غاية فضله وطوله في الأمر الذي أحسن فيه وأجمل، ليشملنا إنعامه، ويتظاهر علينا امتنانه، وأستوفي بقيّة حظّي من ثمرة ذلك(6/570)
وعائدته، وجدواه وفائدته، ويأمر بتشريفي بكتابه، وتأهيلي بجليل خطابه، وتصريفي بين أمره ونهيه، فعل، إن شاء الله تعالى.
تم الجزء السادس. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوّله الطرف العاشر (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية) والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(6/571)
ثبت بأسماء المصادر والمراجع
1 1- الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (1- 4) تحقيق محمد عبد الله عنان.
مكتبة الخانجي بالقاهرة- الشركة المصرية للطباعة والنشر، 1973- 1977.
2- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء لياقوت الحموي (1- 7) طبعة مرجليوت بمصر 1907- 1925.
3- أزهار الرياض في أخبار عياض للمقري التلمساني (1- 3) تحقيق الأساتذة السقا والأبياري وشلبي.
طبعة القاهرة 1939- 1942.
4- أساس البلاغة للزمخشري.
تحقيق عبد الرحيم محمود دار المعرفة بيروت 1979.
5- الأعلام للزركلي (1- 8) دار العلم للملايين- بيروت 1980.
6- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (1- 25) طبعة دار الثقافة ببيروت 1955- 1961.
7- البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (1- 14) مصر 1351- 1358 هـ.
2 8- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني (1- 2) القاهرة 1348 هـ.
9- بغية الملتمس للضبي.
دار الكتاب العربي 1967.
10- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي دار المعرفة بيروت- لبنان.
11- البيان والتبيين للجاحظ (1- 4) مصر 1367- 1369 هـ المطبعة العلمية بمصر 1311- 1313 هـ.
12- البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (1- 4) تحقيق ج. س. كولان. وإ. ليفي بروفنسال والدكتور احسان عباس دار الثقافة- بيروت- لبنان.
13- تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي (1- 10) مصر 1306- 1307 هـ.
14- تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري (1- 2) مصر 1282 هـ.(6/572)
15- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1- 14) دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان.
16- تاريخ ابن خلدون (1- 14) دار الكتاب اللبناني- بيروت 1981.
17- تاريخ الطبري (1- 15) مكتبة خياط- بيروت- لبنان.
18- تاريخ المنّ بالإمامة لابن صاحب الصلاة.
تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي.
العراق- وزارة الثقافة والفنون 1979.
19- تذكرة الحفاظ للذهبي (1- 4) حيدرآباد 1333- 1334 هـ.
20- تفسير الجلالين- دار الفكر- بيروت- لبنان.
21- تهذيب الأسماء واللغات لابن شرف النووي- الجزء الأول، من القسم الثاني دار الكتب العلمية- بيروت.
22- تهذيب تاريخ ابن عساكر لعبد القادر بدران (1- 7) دمشق 1329- 1351 هـ.
23- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (1- 12) حيدرآباد الدكن 1325- 1327 هـ.
24- جذوة المقتبس للحميدي الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966.
25- جغرافية شبه جزيرة العرب لرضا كحالة دمشق 1944.
26- جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي 2 تحقيق عبد السّلام محمد هارون دار المعارف بمصر 1962.
27- حماسة أبي تمام (1- 4) بشرح التبريزي طبعة بولاق.
28- خريدة القصر وجريدة العصر للأصفهاني قسم شعراء مصر (1- 2) تحقيق الدكتور شوقي ضيف- القاهرة 1951.
29- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي (1- 4) مصر 1299 هـ.
30- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لابن حجر العسقلاني (1- 4) حيدرآباد 1945- 1950.
31- دولة سلاطين المماليك (1- 2) مكتبة الانجلو المصرية، سنة 1967.
32- ديوان امرىء القيس تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف بمصر 1969.
33- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسّام الشنتريني تحقيق الدكتور إحسان عباس دار الثقافة ببيروت 1978- 1979.
34- الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (1- 6) تحقيق الاستاذين محمد بن شريفة وإحسان عباس دار الثقافة ببيروت 1973.
35- الرد الوافر لابن ناصر الدين تحقيق زهير الشاويش، بيروت 1393 هـ.(6/573)
1 36- رسائل ابن حزم الأندلسي (1- 4) تحقيق الدكتور إحسان عباس المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت سنة 1980- 1983.
37- ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب، المجلد الأول تحقيق محمد عبد الله عنان القاهرة مكتبة الخانجي المطبعة العربية الحديثة الطبعة الأولى سنة 1980.
38- السيرة النبوية لابن هشام (1- 3) مصر 1295 هـ.
39- شرح المقامات الحريرية للشريشي (1- 2) مصر سنة 1300 هـ.
40- شذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (1- 8) القاهرة 1350- 1351 هـ.
41- الشعر والشعراء لابن قتيبة (1- 2) دار الثقافة بيروت 1969.
42- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي (1- 12) طبع في مصر 1353- 1355 هـ.
43- ضوء الصبح المسفروجنى الدوح المثمر (مختصر صبح الأعشى في كتابة الانشا) للقلقشندي، الجزء الأول.
عني بطبعه وتصحيحه محمود سلامة مطبعة الواعظ بمصر 1906.
44- الطالع السعيد لكمال الدين أبي الفضل الأدفوي، تحقيق سعد محمد حسن، القاهرة 1966.
2 45- طبقات الشعراء لابن سلام.
دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان 1982.
46- العقد الفريد لابن عبد ربه (1- 7) شرح أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري- القاهرة.
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 1949- 1965.
47- عيون الأخبار لابن قتيبة (1- 2) شرح وضبط الدكتور يوسف طويل (3- 4) شرح وضبط الدكتو مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية- بيروت 1986.
47- فتوح البلدان للبلاذري مصر 1319 هـ.
48- الفهرست للنديم تحقيق رضا تجدد طهران 1971.
49- فوات الوفيات للكتبي (1- 5) تحقيق الدكتور إحسان عباس دار الثقافة- بيروت 1973- 1974 50- القاموس المحيط للفيروز آبادي (1- 4) مصر سنة 1330 هـ.
51- قرآن كريم دار الفكر- بيروت 1403 هـ.
52- قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي تحقيق إبراهيم الأبياري دار الكتاب اللبناني- بيروت 1982.
53- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (1- 2) ، استانبول 1941- 1943.(6/574)
1 54- الكامل في التاريخ لابن الأثير (1- 13) دار صادر- بيروت 1982.
55- الكامل في اللغة والأدب للمبرد (1- 2) مكتبة المعارف- بيروت 56- لسان العرب لابن منظور (1- 15) دار صادر- بيروت.
57- المثل السائر لابن الأثير (1- 2) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- القاهرة 1939.
58- مجمع الأمثال للميداني (1- 2) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية 1955 59- محيط المحيط لبطرس البستاني مكتبة لبنان- بيروت 1977.
60- المختار من رسائل أبي إسحاق بن زهرون الصابي.
نقّحه وعلّق حواشيه الأمير شكيب ارسلان دار النهضة الحديثة- بيروت- لبنان 61- المختصر في أخبار البشر (ويعرف بتاريخ أبي الفداء) للملك المؤيّد اسماعيل أبي الفداء صاحب حماة سبعة أجزاء في مجلدين دار الكتاب اللبناني- بيروت.
62- مروج الذهب للمسعودي (1- 4) شرح وتقديم الدكتور مفيد قميحة دار الكتب العلمية- بيروت 1986.
63- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص لعبد الرحيم بن أحمد العباسي (1- 4) مصر 1367 هـ.
2 64- معجم البلدان (1- 5) لياقوت الحموي دار صادر، دار بيروت 1984.
65- معجم الشعراء للمرزباني، ومعه المؤتلف والمختلف للآمدي تصحيح الدكتور ف. كرنكو دار الكتب العلمية- بيروت 1982.
66- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الانصاري المصري (1- 2) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
القاهرة- مطبعة المدني.
67- مفتاح الأفكار في النثر المختار للشيخ أحمد مفتاح مصر 1314 هـ.
68- نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان لابن الأحمر دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية دار الثقافة بيروت 1967.
69- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (1- 16) دار الكتب المصرية 70- نفاضة الجراب في علالة الاغتراب لابن الخطيب تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
71- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقّري (1- 8) تحقيق الدكتور احسان عباس دار صادر- بيروت 1968.(6/575)
1 72- نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي.
مصر 1329 هـ.
73- نهاية الارب في فنون الأدب (1- 30) للنويري مصورة عن طبعة دار الكتب بمصر.
2 74- وفيات الأعيان لابن خلكان (1- 8) تحقيق الدكتور احسان عباس دار صادر بيروت 1977- 1978 75- يتيمة الدهر للثعالبي (1- 4) دار الكتب العلمية- بيروت لبنان سنة 1979.(6/576)
فهرس
المهنيع الثاني- في ذكر الألقاب والنعوت المستعملة عند كتاب الزمان وبيان معانيها؛ وهي نوعان 3 النوع الأوّل- الألقاب الإسلامية؛ وهي صنفان 3 الصنف الأوّل- المذكرة؛ وهي ضربان 3 الضرب الأوّل- الألقاب المفردة المختصة في اصطلاح الكتاب باسم الألقاب 3 الضرب الثاني- المركبة المعبر عنها في اصطلاح الكتاب بالنعوت 35 الصنف الثاني- (وكتب خطأ الضرب الثاني) من الألقاب المؤنثة 76 الصنف الثاني- (لعل الصواب النوع الثاني كما نبه عليه) من الألقاب المفرّعة على الأصول ألقاب من يكتب إليه من أهل الكفر..... وهي على ضربين. 78
الضرب الأوّل- الألقاب المذكرة؛ وهي نمطان 79 النمط الأوّل- المفردة 79 النمط الثاني- الألقاب المركبة 83 الضرب الثاني- من ألقاب أهل الكفر الألقاب المؤنثة 95 الجملة السابعة- في تفاوت الألقاب في المراتب؛ وهي قسمان 96 القسم الأوّل- ما يقع التفاوت فيه في الصعود والهبوط؛ وهو نوعان 96 النوع الأوّل- ما يقع التفاوت فيه بحسب القلة والكثرة 96 النوع الثاني- ما يقع فيه التفاوت في العلوّ والهبوط بحسب ما يقتضيه جوهر اللفظ أو ما وقع الاصطلاح عليه؛ وهو صنفان 97 الصنف الأوّل- الألقاب المفردة؛ وهي على أربعة أنماط 97 النمط الأوّل- التوابع 97(6/577)
النمط الثاني- ما يقع التفاوت فيه بحسب لحوق ياء النسب وتجرّده منها 99 النمط الثالث- ما يقع التفاوت فيه بصيغة مبالغة غير ياء النسب 100 النمط الرابع- ما يقع فيه التفاوت بحسب ما في ذلك اللقب من اقتضاء التشريف لعلوّ متعلقه ورفعته 100 الصنف الثاني- الألقاب المركبة؛ وهي على ضربين 101 الضرب الأوّل- ما يترتب بعضه على بعض لقبا بعد لقب؛ وله اعتباران 101 الاعتبار الأوّل- أن يشترك في رعاية الترتيب أرباب السيوف والأقلام وغيرهم؛ وهو على ثلاثة أنماط (صوابه أربعة) 101 النمط الأوّل- ما يضاف إلى الإسلام 101 النمط الثاني- ما يضاف إلى الأمراء والوزراء ونحوهم 103 النمط الثالث- ما يضاف إلى الملوك والسلاطين 105 النمط الرابع- ما يضاف لأمير المؤمنين 106 الاعتبار الثاني- أن يختص الترتيب في الألقاب بنوع من المكتوب له؛ وهو أربعة أنماط 107 النمط الأوّل- ما يختص بأرباب السيوف 107 النمط الثاني- ما يختص بالوزراء ومن في معناهم 109 النمط الثالث- ما يختص بالقضاة والعلماء 109 النمط الرابع- ما يختص بالصلحاء 109 القسم الثاني- مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب ما يقع التفاوت فيه بالتقديم والتأخير؛ وهو نوعان 113 النوع الأوّل- الألقاب المفردة؛ وهي على ستة أنماط 113 النمط الأوّل- الألقاب التي تلي الألقاب الأصول 113 النمط الثاني- ما يلي العالي أو السامي من الألقاب 113 النمط الثالث- ما يلي لقب الوظيفة 114 النمط الرابع- ما يقع قبل لقب التعريف 114 النمط الخامس- ما يقع فصلا بين الألقاب المفردة والمركبة 115 النمط السادس- ما ليس له موضع مخصوص من الألقاب المفردة 115(6/578)
النوع الثاني- مما تتفاوت فيه مراتب الألقاب بالتقديم والتأخير الألقاب المركبة؛ وهي على ثلاثة أنماط 116 النمط الأوّل- ما يلي لقب التعريف 116 النمط الثاني- ما يقع في آخر الألقاب المركبة 116 النمط الثالث- ما بين أوّل الألقاب المركبة وبين آخرها 116 الجملة الثامنة- في بيان محل اللقب المضاف إلى الملك ولقب التعريف الخاص به 117 الجملة التاسعة- في ترتيب جملة الألقاب الفروع على الألقاب الأصول على قدر طبقاتها؛ وهي قسمان 118 القسم الأوّل- الألقاب الإسلامية 118 الضرب الأوّل- الألقاب المتعلقة بالخلافة وما يلتحق بها؛ وهي ثلاثة أنواع 118 النوع الأوّل- ألقاب الخلفاء 118 النوع الثاني- ألقاب ولاة العهد بالخلافة 119 النوع الثالث- ألقاب إمام الزيدية باليمن 119 الضرب الثاني- الألقاب الملوكية؛ وهي نوعان 120 النوع الأوّل- الألقاب التي اصطلح عليها السلطان بالديار المصرية 120 النوع الثاني- الألقاب التي يكتب بها عن السلطان لغيره من الملوك؛ وهي على ثلاثة أصناف 121 الصنف الأوّل- ألقاب ولاة العهد بالسلطنة 121 الصنف الثاني- ألقاب الملوك المستقلين بصغار البلدان 121 الصنف الثالث- ألقاب المكتوب إليهم من الملوك عن الأبواب السلطانية؛ وهي نمطان 122 النمط الأوّل- ما يصدّر بالألقاب المذكرة 122 النمط الثاني- ما يصدّر بالألقاب المؤنثة 125 الضرب الثالث- من الألقاب الإسلامية، الألقاب العامّة لسائر الطوائف؛ وهي ثمانية أنواع 126 النوع الأوّل- ألقاب أرباب السيوف من أهل المملكة وغيرهم 126(6/579)
النوع الثاني- من الألقاب الإسلامية الألقاب الديوانية 141 النوع الثالث- من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الوظائف الدينية 148 النوع الرابع- من الألقاب الإسلامية ألقاب مشايخ الصوفية وأهل الصلاح 154 النوع الخامس- ألقاب التجار الخواجكية 158 النوع السادس- من الألقاب الإسلامية ألقاب أرباب الصناعات الرئيسية كرياسة الطب 160 النوع السابع- من الألقاب الإسلامية ألقاب الحاشية السلطانية 161 النوع الثامن- من الألقاب الإسلامية ألقاب النساء 162 القسم الثاني- من الألقاب المرتبة ألقاب أهل الكفر؛ وهي على ثلاثة أضرب 164 الضرب الأوّل- ألقاب متديّنتهم، وهي نوعان 164 النوع الأوّل- ألقاب بطاركة النصارى 164 النوع الثاني- ألقاب رؤساء اليهود 165 الضرب الثاني- ألقاب ملوكهم وتختص بالنصارى؛ وهي نمطان 165 النمط الأوّل- الألقاب المذكرة 165 النمط الثاني- الألقاب المؤنثة 170 الضرب الثالث- ألقاب نوّاب ملوكهم وكناصلتهم؛ وهي على نوعين 171 النوع الأوّل- ألقاب النوّاب 171 النوع الثاني- ألقاب الكناصلة 171 الجملة العاشرة- في ذكر ألقاب تقع على أشياء متفرقة قد جرت في عرف الكتاب؛ وهي على ضربين 174 الضرب الأوّل- فيما يجري من ذلك مجرى التفاؤل؛ ويختلف باختلاف الأحوال والوقائع ويتنوّع إلى أنواع 174 الضرب الثاني- ما يجري من ذلك مجرى التشريف، ويختلف أيضا باختلاف الأحوال، ويتنوّع أنواعا 177 الباب الثاني- من المقالة الثالثة في مقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام؛ وفيه فصلان 180 الفصل الأوّل- في مقادير قطع الورق؛ وفيه طرفان 180(6/580)
الطرف الأوّل- في مقادير قطع الورق، في الزمن القديم 180 الطرف الثاني- في بيان مقادير قطع الورق المستعمل في زماننا (زمن المؤلف) ؛ وفيه ثلاث جمل 181 الجملة الأولى- في مقادير الورق المستعمل بديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية 181 الجملة الثانية- في مقادير الورق المستعملة بدواوين الإنشاء بالممالك الشامية 183 الجملة الثالثة- في مقادير قطع الورق الذي تجري فيه مكاتبات أعيان الدولة 184 الفصل الثاني- من الباب الثاني من المقالة الثالثة في بيان ما يناسب كلّ مقدار من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر من الأقلام الخ؛ وفيه طرفان 185 الطرف الأوّل- فيما يناسب كل مقدار منها من الأقلام 185 الطرف الثاني- في مقادير البياض الواقع في أوّل الدرج وحاشيته وبعد ما بين السطور في الكتابة 186 الباب الثالث- من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين؛ وفيه فصلان 188 الفصل الأوّل- في بيان المستندات: وهي التوقيع على القصص وما يجري مجراها؛ وهو على ضربين 188 الضرب الأوّل- السلطانيات؛ وهي صنفان 188 الصنف الأوّل- ما يصدر عن متولي ديوان الإنشاء 188 الصنف الثاني- ما يصدر عن غير صاحب ديوان الإنشاء 191 الضرب الثاني- ما يتعلق بالكتب في المظالم؛ والنظر فيه من وجهين 193 الوجه الأوّل- فيما يتعلق بالقصص 193 الوجه الثاني- فيما يتعلق بالنظر في المظالم وما يكتب على القصص؛ وهو ستة أنواع 195 النوع الأوّل- ما يرفع إلى السلطان في آحاد الأيام 196 النوع الثاني- ما يرفع لصاحب ديوان الإنشاء 197 النوع الثالث- ما يرفع من القصص بدار العدل عند جلوس السلطان للحكم في المواكب 197(6/581)
النوع الرابع- ما يرفع منها للنائب الكافل إذا كان ثمّ نائب 198 النوع الخامس- ما يرفع من القصص إلى الأتابك إذا كان في الدولة أتابك عسكر وهو الأمير الكبير 198 النوع السادس- ما يرفع منها للدوادار 199 الفصل الثاني- في التعيين وكيفية كتابة صاحب ديوان الإنشاء على الرقاع والقصص 201 الطرف الثاني- في كتابة الملخصات والإجابة عنها 203 الباب الرابع- من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق؛ وفيه فصلان 208 الفصل الأوّل- في الفواتح؛ وفيه ستة أطراف 208 الطرف الأوّل- في البسملة 208 الطرف الثاني- في الحمدلة 215 الطرف الثالث- في التشهد في الخطب 217 الطرف الرابع- في الصلاة والسّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه في أوائل الكتب 218 الطرف الخامس- في السّلام في أوّل الكتب 220 الطرف السادس- في أما بعد 221 الفصل الثاني- في الخواتم واللواحق؛ وفيه سبعة أطراف 223 الطرف الأوّل- في الاستثناء بالمشيئة بأن يكتب إن شاء الله تعالى 223 الطرف الثاني- في التاريخ 225 الطرف الثالث- في المستندات 252 الطرف الرابع- في الحمدلة في آخر الكتاب 254 الطرف الخامس- في الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر الكتاب وما يلتحق بذلك 256 الطرف السادس- في الحسبلة في آخر الكتاب 258 الطرف السابع- في اللواحق 260 المقالة الرابعة- في المكاتبات؛ وفيها بابان 263 الباب الأوّل- في أمور كلية في المكاتبات؛ وفيه فصلان 263 الفصل الأوّل- في مقدّمات المكاتبات؛ وفيه ثلاثة أطراف 263(6/582)
الطرف الأوّل- في أصول يعتمدها الكتاب في المكاتبات 263 الطرف الثاني- في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز 303 الطرف الثالث- في أمور تختص بالأجوبة 310 الفصل الثاني- من الباب الأوّل من المقالة الرابعة، في ذكر أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها، وفيه طرفان 315 الطرف الأوّل- في ذكر أصولها وترتيبها 315 الطرف الثاني- في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها 332 الباب الثاني- من المقالة الرابعة، في مصطلحات المكاتبات الدائرة بين كتاب أهل الشرق والغرب والديار المصرية في كل زمن من صدر الإسلام إلى زمننا (زمن المؤلف) ؛ وفيه ستة فصول 351 الفصل الأوّل- في الكتب الصادرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ وفيه ثلاثة أطراف 351 الطرف الأوّل- في ذكر ترتيب كتبه صلّى الله عليه وسلّم في الرسائل على سبيل الإجمال 351 الطرف الثاني- في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الإسلام 353 الطرف الثالث- في كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام 362 الفصل الثاني- من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء؛ وهي على قسمين 369 القسم الأوّل- المكاتبات إلى أهل الإسلام، وفيه تسعة [عشرة] أطراف 369 الطرف الأوّل- في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم 369 الطرف الثاني- في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية 376 الطرف الثالث- في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس ببغداد، وولاة العهد بالخلافة، وفيه ثلاث جمل 378 الجملة الأولى- في بيان ترتيب كتبهم في الرسائل على سبيل الإجمال 378 الجملة الثانية- في الكتب العامة 381 الجملة الثالثة- في الكتب الخاصة مما يصدر عن الخلفاء 403 الطرف الرابع- في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها 410 الطرف الخامس- في الكتب الصادرة عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 420(6/583)
الطرف السادس- في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية بالأندلس 431 الطرف السابع- في الكتب الصادرة عن الخلفاء الموحدين 432 الطرف الثامن- في الأجوبة 436 الطرف التاسع- في الكتب الصادرة عن ولاة العهد بالخلافة 445 الطرف العاشر- من المكاتبات عن الخلفاء؛ المكاتبات إلى أهل الكفر 446 الفصل الثالث- من الباب الثاني من المقالة الرابعة في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم مما الجاري عليه الحال؛ وهو على قسمين 453 القسم الأوّل- المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى أهل الإسلام؛ وفيه أطراف 453 الطرف الأوّل- في مكاتباتهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم 453 الطرف الثاني- في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا إلى الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم 467 الطرف الثالث- في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا أيضا إلى خلفاء بني أمية 469 الطرف الرابع- في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني العباس 472 الطرف الخامس- في المكاتبات الصادرة إلى الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 520 الطرف السادس- في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني أمية بالأندلس 523 الطرف السابع- في المكاتبات الصادرة إلى خلفاء الموحدين بالمغرب 525 الطرف الثامن- في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم 559 الطرف التاسع- في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى الملوك ومن في معناهم على ما كان عليه مصطلح أهل المشرق 561 (تم فهرس الجزء السادس من كتاب صبح الأعشى)(6/584)
المجلد السابع
بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
[تتمة المقالة الرابعة]
[تتمة الباب الثاني]
[تتمة الفصل الثالث]
[تتمة القسم الاول]
الطّرف العاشر في المكاتبات «1» الصادرة عن ملوك الديار المصرية (ولها حالتان)
الحالة الأولى (ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين بها في الدولة الأخشيدية والطّولونيّة وما قبلهما)
والذي وقفت عليه من رسم المكاتبة عنهم أن تفتتح بلفظ: «من فلان إلى فلان» . كما كتب ابن عبد كان «2» عن أحمد بن طولون إلى ابنه العباس حين(7/3)
عصى «1» [عليه] «2» بالإسكندرية، منذرا له وموبّخا له على فعله، وهو:
«من أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين «3» ، إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملمّ بذنبه، المفسد لكسبه؛ العادي لطوره «4» ، الجاهل لقدره؛ الناكص على عقبه، المركوس «5» في فتنته، المبخوس [من] «6» حظّ دنياه وآخرته» !.
سلام على كل منيب مستجيب؛ تائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم «7» ، وحلول الفوت والنّدم.
وأحمد الله الذي لا إله إلا هو حمد معترف له بالبلاء الجميل، والطّول الجليل؛ وأسأله مسألة مخلص في رجائه، مجتهد في دعائه؛ أن يصلي على محمد المصطفى، وأمينه المرتضى ورسوله المجتبى، صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد، فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنملة يكون حتفها في جناحيها، وستعلم- هبلتك الهوابل «8» ! أيّها الأحمق الجاهل؛ الذي ثنى على الغيّ عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه- أيّ موردة هلكة بإذن الله تورّدت، إذ على الله جل وعز تمرّدت وشردت، فإنه تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلا:
قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا(7/4)
اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ
«1» وإنا كنّا نقرّبك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا؛ طمعا في إنابتك، وتأميلا لفيئتك «2» ؛ فلمّا طال في الغيّ انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك؛ ولم نر الموعظة تلين كبدك، ولا التذكير يقيم أودك «3» ، لم تكن لهذه النّسبة أهلا، ولا لإضافتك إلينا موضعا ومحلّا؛ بل لا نكنى بأبي العبّاس إلا تكرّها وطمعا بأن يهب الله منك خلفا نقلده اسمك ونكنى به دونك، ونعدّك كنت نسيا منسيّا، ولم تك شيئا مقضيّا؛ فانظر ولا نظر بك إلى عار نسبته تقلّدت، وسخط من قبلنا تعرّضت، واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلّك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك؛ والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسّيل في الليل، تؤذنك بحرب وبويل؛ فإنّا نقسم، ونرجو أن لا نجور ونظلم، أن لا نثني عنك عنانا، ولا نؤثر على شانك شانا؛ ولا تتوقّل «4» ذروة جبل، ولا تلج بطن واد؛ إلا جعلناك «5» بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أمّمت منهما؛ منفقين فيك كلّ مال خطير، ومستصغرين بسببك كلّ خطب جليل، حتّى تستمرّ من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت؛ حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك؛ وتعرف من قدر الرّخاء ما جهلت، وتودّ أنك هبلت ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلّك من غواتك قبلت؛ فحينئذ يتفرّى «6» لك الليل عن صبحه، ويسفر لك الحقّ عن محضه؛ فتنظر بعينين لا غشاوة عليهما، وتسمع بأذنين لا وقر «7» فيهما؛ وتعلم أنك كنت متمسّكا بحبائل غرور، متماديا في مقابح أمور: من عقوق لا ينام طالبه،(7/5)
وبغي لا ينجو هاربه؛ وغدر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يودى «1» قتيله؛ وتقف على سوء رويّتك، وعظم جريرتك؛ في تركك قبول الأمان إذ هو لك مبذول، وأنت عليه محمول؛ وإذ السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح؛ وتتلهّف والتلهّف غير نافعك إلا أن تكون أجبت إليه مسرعا، وانقدت إليه منتصحا.
وإن مما زاد في ذنوبك عندي ما ورد به كتابك عليّ بعد نفوذي على الفسطاط من التّمويهات والأعاليل «2» ، والعدات بالأباطيل، من مصيرك بزعمك إلى إصلاح ما ذكرت أنه فسد عليّ، حتى ملت إلى الإسكندرية، فأقمت بها طول هذه المدّة؛ واستظهارا عليك بالحجّة، وقطعا لمن عسى أن يتعلّق به معذرة علم بأن الأناة غير صادّة، ولا أنّه خالجني شكّ ولا عارضني ريب في أنك إنما أردت النّزوح والاحتيال للهرب، والنّزوع إلى بعض المواضع التي لعلّ قصدك إيّاها يوديك «3» ، ولعل مصيرك إليها يكفينيك؛ ويبلّغ إليّ أكثر من الإرادة فيك، لأنك إن شاء الله لا تقصد موضعا إلا تلوتك، ولا تأتي بلدا إلا قفوتك؛ ولا تلوذ بعصمة تظنّ أنها تنجيك إلا استعنت بالله عز وجلّ في جدّ «4» حبلها؛ وفصم عروتها؛ فإنّ أحدا لا يؤوي مثلك ولا ينصره إلا لأحد أمرين من دين أو دنيا. فأما الدّين فأنت خارج من جملته لمقامك على العقوق، ومخالفة ربّك وإسخاطه. وأما الدّنيا فما أراه بقي معك من الحطام الذي سرقته وحملت نفسك على الإيثار به، ما يتهيّأ لك مكاثرتنا بمثله، مع ما وهب الله لنا من جزيل النعمة التي نستودعه تبارك وتعالى إيّاها، ونرغب إليه في إنمائها، إلى ما أنت مقيم عليه من البغي الذي هو صارعك، والعقوق الذي هو طالبك.(7/6)
وأمّا ما منّيتناه من مصيرك إلينا في حشودك وجموعك، ومن دخل في طاعتك؛ لإصلاح عملنا، ومكافحة أعدائنا؛ بأمر أظهروا فيه الشماتة بنا، فما كان إلا بسببك فأصلح أيها الصبيّ الأخرق أمر نفسك قبل إصلاحك عملنا، واحزم في أمرك قبل استعمالك الحزم لنا؛ فما أحوجنا الله وله الحمد إلى نصرتك وموازرتك، ولا اضطررنا إلى التكثر [بك] على شقاقك ومعصيتك: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً
«1» وليت شعري على من تهوّل بالجنود، وتمخرق «2» بذكر الجيوش؛ ومن هؤلاء المسخّرون لك، الباذلون دماءهم وأموالهم وأديانهم دونك؟ دون رزق ترزقهم إيّاه، ولا عطاء تدرّه عليهم؛ فقد علمت إن كان لك تمييز، أو عندك تحصيل؛ كيف كانت حالك في الوقعة التي كانت بناحية أطرابلس «3» ، وكيف خذلك أولياؤك والمرتزقة معك حتّى هزمت، فكيف تغترّ بمن معك من الجنود الذي لا اسم لهم معك؛ ولا رزق يجري لهم على يدك؟ فإن كان يدعوهم إلى نصرتك هيبتك والمداراة لك والخوف من سلطانك، فإنهم ليجذبهم أضعاف ذلك منّا، ووجودهم من البذل الكثير والعطاء الجزيل عندنا ما لا يجدونه عندك، وإنهم لأحرى بخذلك، والميل إلينا دونك. ولو كانوا جميعا معك ومقيمين على نصرتك، لرجونا أن يمكّن الله منك ومنهم، ويجعل دائرة السّوء عليك وعليهم، ويجرينا من عادته في النّصر وإعزاز الأمر على ما لم يزل يتفضّل علينا بأمثاله، ويتطوّل بأشباهه. فما دعاني إلى الإرجاء لك، والتسهيل من خناقك «4» والإطالة من عنانك، طول هذه المدّة إلا أمران: أغلبهما كان عليّ احتقار أمرك واستصغاره؛(7/7)
وقلة الاحتفال والأكتراث به؛ وإني اقتصرت من عقوبتك على ما أخلقته «1» بنفسك من الإباق «2» إلى أقاصي بلاد المغرب شريدا عن منزلك وبلدك، فريدا من أهلك وولدك؛ والآخر أنّي علمت أن الوحشة دعتك إلى الانحياز إلى حيث انحزت إليه، فأردت التسكين من نفارك، والطمأنينة من جأشك «3» ، وعملت على أنك تحنّ إلينا حنين الولد، وتتوق إلى قربنا توقان ذي الرّحم والنّسب؛ فإنّ في رفقنا بك ما يعطفك إلينا، وفي تآخينا إيّاك ما يردّك علينا، ولم يسمع منا سامع في خلاء ولا ملإ انتقاصا بك، ولا غضّا منك؛ ولا قدحا فيك، رقّة عليك، واستتماما لليد عندك، وتأميلا لأن تكون الراجع من تلقاء نفسك، والموفّق بذلك لرشدك وحظّك؛ فأما الآن مع اضطرارك إيّاي إلى ما اضطررتني إليه من الانزعاج نحوك، وحبسك رسلي النافذين بعهد كثير إلى ما قبلك؛ واستعمالك المواربة والخداع فيما يجري عليه تدبيرك. فما أنت بموضع للصّيانة، ولا أهل للإبقاء والمحافظة، بل اللعنة عليك حالّه، والذّمّة منك بريّة، والله طالبك ومؤاخذك بما استعملت من العقوق والقطيعة، والإضاعة لرحم الأبوّة، فعليك من ولد عاقّ شاقّ «4» لعنة الله ولعنة اللاعنين، والملائكة والناس أجمعين؛ ولا قبل الله لك صرفا ولا عدلا «5» ، ولا ترك لك منقلبا ترجع إليه، وخذلك خذلان من لا يؤبه له، وأثكلك ولا أمهلك، ولا حاطك ولا حفظك. فو الله لأستعملنّ لعنك في دبر كلّ صلاة، والدعاء عليك في آناء الليل والنهار، والغدوّ والآصال؛ ولأكتبنّ إلى مصر، وأجناد الشامات والثّغور، وقنّسرين، والعواصم، والجزيرة، والحجاز، ومكّة، والمدينة كتبا تقرأ على منابرها فيك، باللّعن لك، والبراءة منك، والدلالة على عقوقك وقطيعتك، يتناقلها(7/8)
آخر عن أوّل، ويأثرها «1» غابر عن ماض، وتخلّد في بطون الصحائف، وتحملها الرّكبان، ويتحدّث بها في الآفاق، وتلحق بها وبأعقابك عارا ما أطّرد الليل والنهار، واختلف الظّلام والأنوار.
فحينئذ تعلم أيّها المخالف أمر أبيه، القاطع رحمه، العاصي ربّه؛ أيّ جناية على نفسك جنيت؟ وأيّ كبيرة اقترفت واجتنيت، تتمنّى، لو كانت فيك مسكه «2» ، أو فيك فضل إنسانيّة، أنك لم تكن ولدت، ولا في الخلق عرفت، إلا أن تراجع من طاعتنا والإسراع إلى ما قبلنا خاضعا ذليلا كما يلزمك، فنقيم الاستغفار مقام اللعنه، والرّقة مقام الغلظه؛ والسلام على من سمع الموعظة فوعاها، وذكر الله فاتّقاه، إن شاء الله تعالى.
وكما كتب الأخشيد محمد بن طغج [صاحب الديار المصرية] «3» وما معها من البلاد الشامية، والأعمال الحجازيّة، إلى أرمانوس: ملك الروم، وقد أرسل أرمانوس إليه كتابا يذكر من جملته بأنه كاتبه وإن لم تكن عادته أن يكاتب إلا الخليفة، فأمر بكتابة جوابه فكتب له الكتّاب عدّة أجوبة ورفعوا نسخها إليه، فلم يرتض منها إلا ما كتبه إبراهيم بن عبد الله النّجيرميّ «4» وكان عالما بوجوه الكتابة.(7/9)
ونسخته على ما ذكره ابن سعيد في كتابه «المغرب في أخبار المغرب» «1» :
من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين، إلى أرمانوس عظيم الروم ومن يليه.
سلام بقدر ما أنتم له مستحقّون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد، فقد ترجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحا بذكر فضيلة الرّحمة، وما نمي عنا إليك، وصحّ من شيمنا فيها لديك؛ وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السّيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من الفداء والتوصّل إلى تخليص الأسرى، إلى [غير] ذلك مما اشتمل عليه وتفهّمناه.
فأما ما أطنبت فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول، الذي يليق بذوي الفضل والنّبل؛ ونحن بحمد الله ونعمه علينا بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيّانا مجتهدون، وبه متواصون وعاملون. وإيّاه نسأل التوفيق لمراشد الأمور وجوامع المصالح بمنّه وقدرته.
وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة، فإنا نرغب إلى الله جلّ(7/10)
وعلا الذي تفرّد بكمال هذه الفضيلة، ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفّقنا لها، ويجعلنا من أهلها، وييسّرنا للاجتهاد فيها، والاعتصام من زيغ الهوى عنها، وعرّة «1» القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفا على طاعته، وموجبات مرضاته، حتّى نكون أهلا لما وصفتنا به، وأحقّ حقّا بما دعوتنا إليه، وممن يستحقّ الزّلفى من الله تعالى، فإنا فقراء إلى رحمته؛ وحقّ لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحمّله من جسيم الأمر ما حمّلنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنا بمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ
«2» وأما ما وصفته من ارتفاع محلّك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم، وأنه الملك القديم الموهوب من الله، الباقي على الدّهر، وإنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحقّقته من حالنا عندك، فإنّ ذلك لو كان حقّا وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد، لكان من الأمر البيّن أن أحظى وأرشد وأولى بمن حلّ محلّك أن يعمل بما فيه صلاح رعيّته، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيبا، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار، ويخوض الغمار، ويعرّض مهجته، فيما ينفع رعيّته؛ والذي تجشّمته من مكاتبتنا إن كان كما وصفته فهو أمر سهل يسير، لأمر عظيم خطير؛ وجلّ نفعه وصلاحه وعائدته تخصّكم، لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منّا في أيديكم فهو على بيّنة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله؛ وإن في الأسارى من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدّة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه، وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه؛ هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم(7/11)
سياستكم، والتوصل إلى استنقاذ أسرائكم؛ ولولا أنّ إيضاح القول في الصواب، أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحا؛ إذ رأينا أنّ نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام من كاتبهم، أو عدا عنهم إلى من حلّ محلّنا في دولتهم، بل إلى من نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يثق من منعه، وردّ ملتمسه ممن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشّرف كلّه في إجابتهم، ولا عار على أحد وإن جلّ قدره في ردّهم؛ ومن وثق في نفسه ممن جاوره، وجد قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسب ما تقدّم لها من تقدّم، وكذلك كاتب من حل محلّك من قصر عن محلنا، ولم يقرب من منزلتنا، فممالكنا عدّة، كان يتقلد في سالف الدهر كلّ مملكة منها ملك عظيم الشأن.
فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره، حتّى ادّعى الإلهية وافتخر على نبيّ الله موسى بذلك.
ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبابعة، والأقيال العباهلة «1» : ملوك حمير، على عظم شأنهم، وكثرة عددهم.
ومنها أجناد الشام التي:
منها جند حمص، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم ومن قبله من عظمائها.
ومنها جند دمشق على جلالته في القديم والحديث، واختيار الملوك المتقدّمين له.
ومنها جند الأردنّ على جلالة قدره، وأنه دار المسيح صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء والحواريّين.(7/12)
ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدّسة، وبها المسجد الأقصى، وكرسيّ النصرانية، ومعتقد غيرها، ومحجّ النصارى واليهود طرّا، ومقرّ داود وسليمان ومسجدهما. وبها مسجد إبراهيم وقبره وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، وبها مولد المسيح وأمّه وقبرها.
هذا إلى ما نتقلّده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة، والدلالات الظاهرة؛ فإنا لو لم نتقلّد غيرها لكانت بشرفها، وعظم قدرها، وما حوت من الفضل توفي على كل مملكة، لأنها محجّ آدم ومحجّ إبراهيم وارثه ومهاجره، ومحجّ سائر الأنبياء، وقبلتنا وقبلتهم عليهم السلام وداره وقبره «1» ، ومنبت ولده، ومحجّ العرب على مرّ الحقب، ومحلّ أشرافها، وذوي أخطارها، على عظم شأنهم، وفخامة أمرهم. وهو البيت العتيق، المحرّم المحجوج إليه من كل فجّ عميق، الذي يعترف بفضله وقدمه أهل الشرف، من مضى ومن خلف؛ وهو البيت المعمور، وله الفضل المشهور.
ومنها مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم المقدّسة بتربته، وإنّها مهبط الوحي، وبيضة هذا الدّين المستقيم الذي امتدّ ظلّه على البرّ والبحر، والسّهل والوعر؛ والشّرق والغرب، وصحارى العرب على بعد أطرافها، وتنازح أقطارها، وكثرة سكّانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدّتها، وصدق بأسها ونجدتها، وكبر أحلامها، وبعد مرامها، وانعقاد النصر من عند الله براياتها. وإن الله تعالى أباد خضراء «2» كسرى، وشرّد قيصر عن داره ومحل عزّه ومجده بطائفة منها. هذا إلى ما تعلمه من أعمالنا؛ وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسيّ من أعظم كراسيّكم: بيت المقدس، وأنطاكية، والإسكندريّة، مع ما إلينا من البحر وجزائره، واستظهارنا(7/13)
بأتمّ العتاد. وإذا وفّيت النظر حقّه علمت أن الله تعالى قد أصفانا «1» بجلّ الممالك التي ينتفع الأنام بها، وبشرف الأرض المخصوصة بالشّرف كلّه دنيا وآخرة، وتحقّقت أن منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كلّ منزلة. والحمد لله وليّ كلّ نعمة.
وسياستنا لهذه الممالك قريبها وبعيدها على عظمها وسعتها بفضل الله علينا وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيّانا كما كتبت إلينا وصحّ عندك من حسن السّيرة، وبما يؤلّف بين قلوب سائر الطّبقات من الأولياء والرعية ويجمعهم على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدّعة في المعيشة ويكسبها المودّة والمحبة.
والحمد لله ربّ العالمين أوّلا وآخرا على نعمه التي تفوت عندنا عدد العادّين، وإحصاء المجتهدين، ونشر الناشرين، وقول القائلين، وشكر الشاكرين. ونسأله أن يجعلنا ممن تحدّث بنعمته عليه شكرا لها، ونشرا لما منحه الله منها [ومن رضي اجتهاده في شكرها، ومن أراد الآخرة] «2» وسعى لها سعيها، وكان سعيه مشكورا، إنه حميد مجيد.
وما كنت أحبّ أن أباهيك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كرّمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة، والقدرة القاهرة، ثم الفوز الأكبر يوم الدّين، لكنك سلكت مسلكا لم يحسن أن نعدل عنه، وقلت قولا لم يسعنا التقصير في جوابه، ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نعوذ به، إذ نحن نكرم عن ذلك، ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك، وما يتّصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير ومحبّتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين، وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدّمك من سلفك؛ ومن(7/14)
كان محمودا في أمره، رغب في محبته، لأن الخيّر أهل أن يحبّ حيث كان، فإن كنت إنما تؤهّل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته، وعظمت دولته، وحسنت سيرته؛ فهذه ممالك عظيمة، واسعة جمّة، وهي أجل الممالك التي ينتفع بها الأنام، وسرّ الأرض المخصوصة بالشرف، فإنّ الله قد جمع لنا الشرف كلّه، والولاء الذي جعل لنا من مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى مالنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا. والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنّه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي فيما يرضيه بلطفه. ولم ينطو عنك أمرنا فيما اعتمدناه. وإن [كنت] تجري في المكاتبة على رسم من تقدّمك فإنك لو رجعت إلى ديوان بلدك، وجدت من كان تقدّمك قد كاتب من قبلنا من لم يحلّ محلّنا، ولا أغنى غناءنا، ولا ساس في الأمور سياستنا، ولا قلّده مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ما قلّدنا، ولا فوّض إليه ما فوّض إلينا؛ وقد كوتب أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وآخر من كوتب تكين مولى أمير المؤمنين ولم يكن تقلد سوى مصر وأعمالها.
ونحن نحمد الله كثيرا أوّلا وآخرا على نعمة التي يفوت عندنا عددها عدّ العادّين، ونشر الناشرين. ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددنا من ذلك حالات: أوّلها التحدّث بنعمة الله علينا؛ ثم الجواب عما تضمّنه كتابك من ذكر المحلّ والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه المسالك، وعندنا قوّة تامة على المكافأة على جميل فعلك بالأسارى، وشكر واف لما توليهم وتتوخّاه من مسرّتهم إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وفّقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة، والتوفيق للسّداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنّه ورحمته.
وأما الملك الذي ذكرت أنه باق على الدهر لأنه موهوب لكم من الله خاصّة، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وإن الملك كلّه لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير. وإن الله عزّ وجل نسخ ملك(7/15)
الملوك وجبريّة الجبّارين بنبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله أجمعين، وشفع نبوّته بالإمامة وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه، وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر، ويلقيها ماض إلى غابر؛ حتّى نجز أمر الله ووعده، وبهر نصره وكلمته، وأظهر حجته وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المشركون حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
وإنّ أحقّ ملك أن يكون من عند الله، وأولاه وأخلقه أن يكنفه الله بحراسته وحياطته، ويحفّه بعزّه وأيده «1» ، ويجلّله بهاء السكينة في بهجة الكرامة، ويجمّله بالبقاء والنّجاء «2» ما لاح فجر، وكرّ دهر، ملك إمامة عادلة خلفت نبوّة فجرت على رسمها وسننها، وارتسمت أمرها، وأقامت شرائعها، ودعت إلى سبلها، مستنصرة بأيدها، منتجزة لوعدها؛ وإنّ يوما واحدا من إمامة عادلة خير عند الله من عمر الدنيا تملّكا وجبريّة.
ونحن نسأل الله تعالى أن يديم نعمه علينا، وإحسانه إلينا بشرف الولاية، ثم بحسن العاقبة بما وفّر علينا فخره وعلاه، ومجده وإحسانه إن شاء الله، وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأما الفداء ورأيك في تخليص الأسرى، فإنا وإن كنّا واثقين لمن في أيديكم بإحدى الحسنيين، وعلى بينة لهم من أمرهم، وثبات من حسن العاقبة وعظم المثوبة، عالمين بما لهم، فإن فيهم من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدّة البأساء على نعيم الدنيا ولذّتها، سكونا إلى ما يتحقّقه من حسن المنقلب وجزيل الثواب. ويعلم أن الله قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه؛ وقد تبيّنّا مع ذلك في هذا الباب ما شرعه لنا الأئمة الماضون، والسلف الصالحون، فوجدنا ذلك موافقا لما آلتمسته، وغير خارج عما أحببته؛ فسررنا بما تيسّر منه، وبعثنا(7/16)
الكتب والرسل إلى عمّالنا في سائر أعمالنا، وعزمنا عليهم في جمع [كلّ من قبلهم وأتباعهم بما وفر الإيمان في إنفاذهم، وبذلنا في ذلك] «1» كلّ ممكن، وأخّرنا إجابتك عن كتابك ليتقدّم فعلنا قولنا، وإنجازنا وعدنا؛ ويوشك أن يكون قد ظهر لك من ذلك ما وقع أحسن الموقع منك إن شاء الله.
وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة، واستشعرته لنا من المودّة والمحبة، فإنّ عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب، وتقتضيه نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل، فإن ذلك من الأسباب التي تخصّنا وإيّاك. ورأينا من تحقيق جميل ظنّك بنا إيناس رسلك وبسطهم، والاستماع منهم والإصغاء إليهم والإقبال عليهم؛ وتلقينا انبساطك إلينا، وإلطافك إيّانا بالقبول الذي يحقّ علينا، ليقع ذلك موقعه؛ وزدنا في توكيد ما اعتمدته ما حمّلناه رسلك في هذا الوقت على استقلالنا إيّاه من طرائف بلدنا وما يطرأ من البلاد علينا؛ وإن الله بعدله وحكمته أودع كلّ قرية صنفا ليتشوّف إليه من بعد عنه، فيكون ذلك سببا لعمارة الدنيا ومعايش أهلها. ونحن نفردك بما سلّمناه إلى رسولك لتقف عليه إن شاء الله.
وأما ما أنفذته للتجارة فقد أمكنّا أصحابك منه، وأذنّا لهم في البيع وفي ابتياع ما أرادوه واختاروه؛ لأنا وجدنا جميعه مما لا يحظره علينا دين ولا سياسة. وعندنا من بسطك وبسط من يرد من جهتك، والحرص على عمارة ما بدأتنا به ورعايته، وربّ «2» ما غرسته، أفضل ما يكون عند مثلنا لمثلك. والله يعين على ما ننويه من جميل، ونعتقده من خير، وهو حسبنا ونعم والوكيل.
ومن ابتدأ بجميل لزمه الجري عليه والزيادة، ولا سيما إذا كان من أهله وخليقا به. وقد ابتدأتنا بالمؤانسة والمباسطة، وأنت حقيق بعمارة ما بيننا،(7/17)
وباعتمادنا بحوائجك وعوارضك قبلنا؛ فأبشر بتيسير ذلك إن شاء الله.
والحمد لله أحقّ ما ابتدىء به، وختم بذكره، وصلّى الله على محمد نبيّ الهدى والرحمة، وعلى آله وسلّم تسليما.
الحالة الثانية (من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية ما كان الحال عليه بعد الدولة الفاطمية في الدولة الأيوبية)
وقد ذكر «عبد الرحيم بن شيث» «1» أحد كتّاب الدولة الأيوبية في أواخر دولتهم مصطلح «2» ما يكتب عن السلطان في خلال كلامه، فقال: إن الناس كانوا لا يكتبون «المجلس» إلا للسّلطان خاصّة، ويكتبون لأعيان الدولة من الوزراء وغيرهم «الحضرة» ثم أفردوا السلطان بالمقام والمقرّ، وصاروا يكتبون «المجلس» لمن دونه، ولم يسوّغوا مكاتبة السلطان بعد ذلك بالمجلس ولا بالحضرة. قال:
ويكتب السلطان إلى ولده المستخلف عنه «بالمجلس» دون المقام. واصطلحوا على الاختصار في نعوت الملوك المكتوب إليهم والدعاء، بخلاف من هو تحت أمر السلطان وتحت حوزته، فإنه كلّما كثرت النعوت والدعاء له في مكاتبة السلطان إليه، كان أبلغ: لأنّ ذلك في معنى التشريف من السلطان، وأنه لا يقال في المقام «السامي» بل «العالي» . وأنه إذا كتب السلطان إلى من هو دونه من ذوي الأقدار عبّر «بالمجلس السامي» ، ولا يزاد على ذلك، ثم يفرد عن النّسب بعد السامي، فيقال: الأمير الأجل من غير ياء النسب. وأنه لا يقال العالي مكان السامي في الكتابة عن السلطان، وقد يجمع بينهما لذوي الأقدار، وأنه يضاف في نعت كل أمير «عمدة الملوك والسلاطين عزّ الإسلام، أو نصرة الإسلام، أو فارس المسلمين» أو ما شابه ذلك من غير ضبط ولا تخصيص لأحد دون أحد إذا أحرزوا(7/18)
النعت الذي اشتهر به المكتوب إليه. وأنه يقال: «عمدة الملوك والسلاطين» و «عدّة الملوك والسلاطين» و «ذخر الملوك» ودونها «اختيار الملوك» . وللأقارب «فخر الملوك» و «جمال الملوك» و «عزّ الملوك» و «زين الملوك» . وللأماثل «معين الملوك» و «نصرة الملوك» وما أشبه ذلك وأنه يكتب للأمراء الأعيان: «حسام أمير المؤمنين» و «سيف أمير المؤمنين» . ولكبراء الدولة من الكتّاب: «خاصّة أمير المؤمنين» و «وليّ أمير المؤمنين» و «صفوة أمير المؤمنين» . و «ثقة أمير المؤمنين» و «صنيعة أمير المؤمنين» على مقدار مراتبهم. وأن نعت الأجلّ يذكر بعد العلوّ والسّموّ بأن يقال: «المجلس العالي الأجلّ» أو «السامي الأجلّ» وربما كان بعد ذكر الإمرة أو القضاء فيقال «الأمير الأجلّ» أو «القاضي الأجلّ» . وأن السلطان لا يبتدىء بالدعاء في كتبه إلى أحد إلا من ماثله في الملك. وأن السلطان لا يكتب إلى أحد ممن هو تحت أمره «بلا زال» «ولا برح» في الدعاء، وإنما يكتب بذلك إلى من ماثله من الملوك، أو إلى ولده المستخلف عنه في الملك. وأن الدعاء للملوك يكون مثل «أدام الله أيّامه» و «خلّد سلطانه وثبّت دولته» وما أشبه ذلك.
وأن التحميد في أوائل الكتب لا يكون إلا في الكتب الصادرة عن السلطان. وأنّ غاية عظمة المكتوب إليه أن يكون الحمد ثانية وثالثة في الكتاب، ثم يؤتى بالشهادتين، ويصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وأنه يكتب في الكتب السلطانية «صدرت» و «أصدرناها» ولا يكتب «كتبت» . وأن الذي تخاطب به الخلافة عن السلطان:
«المواقف المقدّسة الشريفة، والعتبات العالية، ومقرّ الرحمة، ومحلّ الشرف» .
والذي يخاطب به الملوك: «المقام العالي، والمقرّ الأشرف» ولا يقال «المقام السامي» . والذي يخاطب به الوزراء: «الجناب العالي، والمحلّ السامي» . ومن دون ذلك «المجلس السامي» ودونه «مجلس الحضرة» . ودونه «الحضرة» . وأنه لا يكتب عن السلطان لمن هو تحت أمره إلا بنون الجمع لدلالتها على العظمة، ولا يكتب «تشعر» إلا عن السلطان خاصّة بخلاف «تعلم» وأن الكتب الصادرة عن السلطان تكون طويلة الطرّة «1» ، وتكون بقلم جليل غير دقيق. وأنه يوسّع بين(7/19)
السطور حتى يكون بين كل سطرين ثلاث أصابع أو أربع أصابع. وأنه لا يخرج عن سمت البسملة في الكتابة، ولا يحتمل ذلك إلا في الحمدلة. وأنه لا يكثر النقط والشكل في الكتب الصادرة عن السلطان لا سيّما في الألفاظ الظاهرة. وأن الدعاء على العدوّ كان محظورا في الكتب الصادرة عن السلطان إلى من دونه، ثم استعمل ذلك. وأنه لا تترك فضلة في آخر الكتاب بياضا، ولا يكتب في حاشية الكتاب. وأن الترجمة عن السلطان في كتبه لمن تحت أمره أعلاهم وأدناهم، العلامة؛ فإن أراد تمييز أحد منهم كتب له شيئا بخطه في مكان العلامة. وأن العلامة تكون إلى البسملة من السلطان أقرب، وأنه لا حرج على السلطان أن يترجم للقضاة والعلماء والعبّاد بأخيه وولده. وأن عنونة الكتاب وختمه مختصّ بصاحب ديوان الإنشاء ليدلّ ذلك على وقوفه على الكتاب. وأنه لا يجوز عنونة الكتاب قبل أن يكتب عليه السلطان ترجمته أو علامته. وأن الكتب لا تبقى مفتوحة إلا أن تكون بإطلاق مال، لأن كرم الكتاب ختمه، ولا أكرم من كتب السلطان؛ ويكون طيّ الكتاب الصادر عن السلطان عرض ثلاث أصابع.
ثم مشهور مكاتباتهم على أربعة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب)
مثل: أدام الله أيام المجلس، أو أدام الله سلطان المجلس، أو أدام الله نعمة المجلس، أو أدام الله اقتدار المجلس، أو أدام الله سعادات المجلس، أو خلّد الله أيام المجلس أو سلطان المجلس، أو ثبّت الله دولة المجلس، وما أشبه ذلك مما فيه معنى الدوام؛ وربما أبدل لفظ الدوام وما في معناه بالمضاعفة، مثل: ضاعف الله نعمة المجلس. ويؤتى على الألقاب إلى آخرها، ثم يقال: نشعر المجلس أو(7/20)
الأمير بكذا ونحو ذلك، ويؤتى على المقصود إلى آخره. ويختم بالدعاء وقد يختم بغيره.
وهذه نسخة مكاتبة من هذا الأسلوب بالإخبار بفتح غزّة واقتلاعها من الفرنج الديوية «1» ، الذين كانوا مستولين عليها، وهي:
«أدام الله سعادات المجلس، وأحسن له التدبير، وأصفى عيشة من التكدير، وحقّق له وفيه أحسن الرجاء والتقدير، وجعل وجهه من أهلّة الأكابر والتكبير، وأعاذ تأخير أجله من التقديم وتقديم حظّه من التأخير.
نشعر المجلس بما منّ الله تعالى به من فتح غزّة يوم الجمعة الجامع لشمل النصر، القاطع لحبل الكفر؛ وهذه المدينة قد علم الله أنها من أوسع المدائن، وأملإ الكنائن، وأثرى المعادن؛ وهي كرسيّ الدّيويّة «2» ومهبط رؤوسهم، ومحطّ نفوسهم، وحمى كليبهم بل كلابهم، وظهير صليبهم بل أصلابهم؛ وما كانت الأبصار إليها تطمح، ولا الأقدار بها قبلنا تسمح؛ ولها قلعة أنفها شامخ في الهواء، وعطفها جامح عن عطفة اللواء؛ قد أوغلت في الجوّ مرتفعه، وأو مضت في الليل ملتمعه، وبرداء السّحاب ملتفعه؛ قد صافحتها أيدي الأنام بالسلامة من قوارعها، وهادنتها حوادث الأيام على الأمن من روائعها، إلى أن أتيح لها من أتاح(7/21)
لها الحين «1» ، وقيّض لها من اقتضى منها الدّين؛ فصبّحها بما ساء به صباحها.
وزعزعها بالزّئير الذي خرس له نباحها. وكان من خبرها أننا لما أطللنا عليها مغيرين، وأطفنا بها دائرين، ولكؤوس الحرب مديرين؛ تغلّبت الأنجاد والأبطال على الزّحف، وأعجل ارتياح النصر عن انتظام عقد الصّف؛ وانقضّوا عليها، انقضاض البزاة على طرائدها، وأسرعوا إليها، إسراع العطاش إلى مواردها؛ ورفعت الألوية خافقة كذوائب الضّرام «2» ، طالعة برسائل الحمام، مشيرة بالعذبات «3» إشارة لم يطمئنوا إليها بالسّلام؛ وجاءهم الموت من كلّ مكان، وأمطرت الشّهب من كل سنان؛ فرأوا مثواهم الحبيب، ومحلّهم الخصيب؛ وقد ركضت فيه خيول الغير، واعترضت فيه سيول العبر، وجرّدت فيه نصول القدر؛ والنار قد لعبت فيه مجدّه، واحمرّت فيه خدودها مخدّه «4» ؛ وأقواتهم المدّخره، وأموالهم المثمّره؛ نفلا «5» مباحا، وزبدا مطاحا؛ ومغنما مشاعا، ونهبا مضاعا؛ قد ملئت منه الرّحال وأخصبت، واتّسعت به الأيدي وضاقت به الأرض بما رحبت.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار)
مثل: أصدرنا هذه المكاتبة، أو أصدرت، أو صدرت؛ ويؤتى على المقصود على ما تقدّم.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به القاضي الفاضل «6» ، عن(7/22)
السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى أخيه سيف الإسلام سلطان اليمن، يستقدمه إليه معاونا له على قتال الفرنج خذلهم الله! ويبشّره بفتح كوكب «1» ، وصفد، والكرك في سنة أربع وثمانين وخمسمائة وهو:
«أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدّد بحضرتنا فتوح كوكب:
وهي كرسيّ الاستباريّة «2» ودار كفرهم، ومستقرّ صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم؛ وكان بمجمع الطّرق قاعدا، ولملتقى السّبل راصدا؛ فتعلّقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطّرق فيها وأمنت وعمرت بلادها وسكنت؛ ولم يبق في هذا الجانب إلا صور، ولولا أن البحر ينجدها، والمراكب تردها؛ لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن؛ وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم؛ بل هم أسارى وإن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء؛ قال الله عز وجل: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
«3» ولكلّ امرىء أجل لابدّ أن يصدقه غائبه، وأمل لابدّ أن يكذبه خائبه- وكان نزولنا على كوكب بعد أن فتحت صفد بلد الديوية ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم، ومحلّهم الأحصن ومنزلهم؛ وبعد أن فتحنا الكرك وحصونه؛ والمجلس السيفيّ «4» أسماه الله أعلم بما كان على الإسلام من مؤونته المثقلة، وقضيّته المشكلة، وعلّته المعضلة؛ وأن الفرنج- لعنهم الله- كانوا يقعدون منه مقاعد للسّمع، ويتبوّأون منه مواضع للنّفع، ويحولون بين قات (؟) وراكبها، فيذلّلون الأرض بما كانوا منه ثقلا على مناكبها؛(7/23)
والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من أمن بلاد الحرمين؛ فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام؛ وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال من النّصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإنّ بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما. وكان نزولنا على كوكب والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه؛ والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسوا الجبال عمائمها البيض؛ والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت «1» الأرض وبلغت الجبال طولا؛ والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات، فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزمان وقد يحرز الحظّ المكاثر؛ وعلم الله النية فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها، ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من ثقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها؛ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«2» .
والحمد لله ربّ الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطيب على الخبيث؛ فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه؛ والآن فالمجلس- أسماه الله- يعلم أن الفرنج لا يسلون «3» عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا؛ فإنهم- خذلهم الله- أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا «4» ، ويطمع في كل مدينة كسبا؛ ويد الله فوق أيديهم، والله محيط(7/24)
بأقربيهم وأبعديهم؛ وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
«1» ، لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً
«2» وما هم إلا كلاب قد تعاوت «3» ، وشياطين قد تغاوت «4» ، وإن لم يقذفوا من كل جانب دحورا «5» ، ويتبعوا بكلّ شهاب ثاقب مدحورا، استأسدوا واستكلبوا، وتألّبوا وجلّبوا وأجلبوا «6» ، وحاربوا، وحزّبوا؛ وكانوا لباطلهم الداحض، أنصر منّا لحقّنا الناهض؛ وفي ضلالهم الفاضح، أبصر منا لهدانا الواضح. ولله درّ جرير حيث يقول:
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها، ... وابن اللئيمة للّئام نصور!
فالبدار إلى النّجدة البدار! والمسارعة إلى الجنة فإنها لا تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النّار؛ والهمّة الهمة! فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار:
وما هي إلا نهضة تورث العلا ... ليومك ما حنّت روازم نيب! «7»
ونحن في هذه السنة- إن شاء الله تعالى- ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر- أظفره الله- على طرابلس؛ ويستقرّ الركاب العادليّ «8» - أعلاه(7/25)
الله- بمصر؛ فإنها مذكورة عند العدو- خذله الله- بأنها تطرق، وأن الطلب على الشام ومصر تفرّق؛ ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفيّ- أسماه الله- بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا، فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في كل مسمع سمعه «1» ، وفي كل روع روعه «2» ؛ وفي كل محضر محضر «3» ، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر؛ فما يدعى العظيم إلا للعظيم «4» و [لا يرجى] «5» لموقف الصبر الكريم إلا الكريم [هذا] «6» والأقدار ماضيه، وبمشيئة الله جاريه؛ فإن يشإ الله ينصر على العدو المضعّف، بالعدد الأضعف؛ ويوصّل إلى الجوهر الأعلى بالعرض الأدنى؛ فإنا لا نرتاب بأن الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها؛ وأن العدوّ إن خرج من داره بطرا «7» ، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا «8» ؛ وما بقي إن شاء الله إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها؛ وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرشد خاوية من عزمه؛ ونؤثر أن يساهم آل أيّوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر؛ فو الله إنا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشدّ منّا حرصا عى أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة؛ وأنا لا يسرّنا أن ينقضى عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير الكفء المناظر؛ ولا شكّ أن سيفه لو اتصل بلسان ناطق وفم، لقال ما دمت هناك فلست ثمّ «9» ؛ وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا(7/26)
متكّلف قضية بحكمنا يعافها؛ والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقه ونستصغره؛ وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح؛ إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنّا إذا قامت [الحرب] بنفسه وماله؛ فلا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا؛ وليستشر أهل الرّشاد فإنهم [لا يألونه] «1» حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فانهم إنما يتغالون «2» به لمصالحهم أغراضا؛ ومن بيته يظعن، وإلى بيته يقفل «3» ؛ وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوى في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا؛ ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم، ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة؛ فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين فلا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة؛ وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه؛ وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة [وليغضب لله ورسوله ولدينه ولأخيه فانها مكان الاستغضاب والاستشارة] «4» وليحضر حتّى يشاهد أولادا لأخيه يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أن لهم مع عمّهم عمّا؛ والله سبحانه يلهمه توفيقا! ويسلك به إليه طريقا؛ وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر مرقا «5» ولدمه مريقا؛ ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس»
وهذه نسخة كتاب من هذا الاسلوب بالإخبار بفتح أيلة التي تحت العقبة في ممّر حجّاج مصر. وهي:(7/27)
هذه المكاتبة إلى المجلس الفلاني أعلى الله سلطانه، وعمر بالنجاح آماله وبالسعادة أوطانه، ولا زالت يد النصر تصرّف يوم اللّقاء عنانه، ويد لطف الله تفيض على الخلق يوم العلياء عنانه «1» ، وتمكّن من هام الأعداء ونحورهم سيفه وسنانه؛ (نشعره) أنه لم تزل عوائد «2» الله سبحانه عندنا متكفّلة ما يوجب أن يبدأ الحمد ويعاد، مقرّبة لنا من الآمال كلّ ما كان رهين نأي وبعاد، موافقة لنا بالتوفيق فكأننا وإياه على ميعاد، معينة لنا على ما يعتدّه الغاشّ معاش وعيد معاد. وقد كان ما علم من غزوتنا إلى أيلة التي اتخذها العدو معقلا، وتديّرها «3» منزلا، وعدّها موئلا؛ وغاض بها رونق الجملة «4» ، وفاض «5» بها أهل القبلة، وصارت على مدارج الأنفاس، وعلى مراصد الافتراص «6» والافتراس؛ وخصّت الحرمين بأعظم قادح، واشتد عن حادثتها «7» من لطف الله أعظم فاتح؛ ولما توجّهنا إليها، ونزلنا عليها؛ شاهدنا قلعة يحتاج راميها إلى الدّهر المديد، والأمل البعيد، والزاد العتيد، والبأس الشديد؛ تنبو بعطف جامح عن الخطبة «8» ، وتعرض بذكر مانع عن الضربة؛ وتعطف بأنف على السّحاب شامخ، وتطلع في الصباح بوجه شادخ «9» ، كأنما بينها وبين الأيّام ذمام، وكأنّ نار الحوادث إذا بلغت ماءها برد وسلام؛ فأطفنا بها متبصّرين، ونزلنا من ناحية البرّ بها مفكّرين؛ وبينا نحن نأمر بالحرب أن يشبّ أوارها، وبالخيل أن تسيّر أسرارها «10» ، وبنار اللّقاء أن يستطير شرارها، وبقناطير(7/28)
الموت من القسيّ أن تعقّد أوتارها؛ وبالمجانيق أن تعقد حناياها وتحلّ أزرارها، وبالكواكب «1» أن تذيقهم طعم الصّغار كبارها، إذ نادى مناد من أعلى قمّتها، ورأس قلّتها «2» ؛ معلنا بالأمان، ناسخا لآية الكفر بآية الإيمان؛ فأعارته الأسماع إنصاتها، واستحقت القلوب حصاتها؛ وعمدت إليه بنت بحر، عادت باب نصر، وساعة بدهر؛ وبشّرني بغلام على كبر، وبظفر في سفر على قدر؛ فأعطى فرنجها ما طلبوا؛ وأتى اللّطف للمسلمين بما لم يحتسبوا؛ وفي الحال رفعت عليها ألوية الإسلام ونشرت، وأوت إليها فئة الحق وحشرت، وتظاهرت عليها أولياء الله وظهرت؛ وقيل الحمد لله ربّ العالمين.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدم)
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به القاضي الفاضل عن الملك الناصر «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى بعض الأمراء بالشام عند وفاة السلطان نور الدين محمود. وهي:
كتابنا هذا إلى الأمير، معزّين بالرّزء الذي كملت أقسامه وتمّت، ورمت أحداثه القلوب فأصمت، وطرقت أحاديثه الأسماع فأصمّت «3» ، وأبى أن تعفو كلومه «4» ، وكاد لأجله الأفق تنكسف بدوره وتنكدر نجومه، وثلم جانب الدّين لفقد من لولاه لدرست أعلامه ولم تدرس علومه، وفجأ فاستولى على كلّ قلب وجيبه «5» وعلى كلّ خاطر وجومه؛ بانتقال المولى «نور الدين» إلى سكنى دار السلام، وقدومه على ما أعده الله له من جزاء ذبّه «6» عن الإسلام؛ وبكى أهله على فقد عزائمه(7/29)
التي بها حفظت وحرست، وشكت الممالك وحشة بعده وإن ابتهجت الملائكة بقربه وأنست؛ فلله هو! من مصاب أغرى العيون بفيضها، والنفوس بفيظها «1» ؛ ونقل الأولياء من ظل المسرّة ونعيمها إلى هجير المساءة وقيظها؛ وأوجب تناجي الكفّار بالنّجاة من تلك السّطوة التي لم تزل تزيدها غمّا وتردّها بغيظها.
ومهنئين بما أسا الكلم وداواه، وحوى الحقّ إلى الجانب الأمنع وآواه؛ من جلوس ولده «الملك الصالح» «2» ذي التصويب والتسديد مشمولا منّا بالعرف العميم، والطّول الجسيم، جاريا على سننه المعهودة، وعادته المحمودة، في رفع صالح أدعيته عن صفاء سريرته، وخلوص عقيدته، مستمرّا على جميل تحيته، في إمدادنا ببركته، إن شاء الله تعالى.
قلت: والمصطلح الجاري عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في زماننا مأخوذة من الأساليب الثلاثة: الأول والثاني والثالث المقدّم ذكرها. على أن في الدولة الأيوبية أساليب أخرى لا يسع استيعابها، ويغتنى عنها بما تقدّم ذكره.
الطرف الحادي عشر (في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب) وقد انفردوا عن كتّاب المشرق وكتّاب الديار المصرية بأمور
: منها أن المخاطبة تقع للمكتوب إليه بميم الجمع مع الانفراد، كما تقع الكتابة عن المكتوب عنه بنون الجمع مع الانفراد.
ومنها أنهم يلتزمون الدعاء بمعنى الكتابة عند قولهم: كتبنا، بأن يقال «كتبنا إليكم كتب الله لكم كذا» .(7/30)
ومنها أنهم يترضّون عن الخليفة القائمين بدعوته في كتبهم.
ومنها أنهم يذكرون اسم المكتوب إليه في أثناء الكتاب، وباقي مكاتباتهم على نحو من مكاتبات أهل الشرق والديار المصرية؛ وكتبهم تختم بالسلام غالبا، وربما ختمت بالدعاء ونحوه.
ومنها أن الخطاب يقع عندهم بلفظ الرياسة مثل أن يقال: رياستكم الكريمة ونحو ذلك. ولها حالتان:
الحالة الأولى (ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب «1» )
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه ثم يقع التخلّص إلى المقصود بأما بعد، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالسلام)
كما كتب أبو بكر بن هشام عن أبي محمد بن هود «2» ، في قيامه بالدعوة العباسية ببلاد المغرب إلى أهل بلد من رعيته.
«من فلان إلى أهل فلانة، أدام الله كرامتهم وآثرهم بتقواه، وعرّفهم عوارف نعماه، وكنفهم في حرمه المنيع وحماه، وجعلهم ممن وفّق إلى رضاه، وحفّ بخير ما قدّره وقضاه، بسلام.
أما بعد حمد الله على متتابع واسع فضله، هازم الباطل وأهله، ومورّط الجاهل في مهواة جهله؛ الماليء بدعوة الحق ما اتسّع من حزن «3» المعمور وسهله، والصلاة على سيدنا محمد نبيّه المصطفى خاتم رسله، المؤيد بالقرآن الذي عجزت الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله؛ وعلى آله وصحبه الجارين على قويم(7/31)
سنّته وواضح سبله؛ والرضا عن الإمام العباسيّ أمير المؤمنين «1» ، الذي لا إمام سواه للمسلمين؛ المفرّع من محتده الكريم وأصله، المدافع عن حرم أمره بسديد نظره وحديد نصله؛ والدعاء لمقامه العليّ، ومكانه السنيّ، بالسّعد المصاحب بمصاحبة ظلّه، والعضد الفاتح ما لم يفتح لأحد من قبله، فإنا كتبناه لكم- كتبكم الله ممن انتفع بقوله وعمله، وتوجّه إلى رضاه بمبسوط أمله، وجرت له الأقدار بأفضل معتاد وأجمله- من فلانة، والتوكل على الله سبحانه نتائج تبرزها الأيّام، ويستنجدها السّعد والحسام، ويستدنيها التفويض إلى الله سبحانه والاستسلام؛ والدعوة العلية- أدام الله أيّامها، وأسعد أعلامها- الآثار التي تجملت بها المذاهب، والأنوار التي وضحت بها المساري والمسارب، وأضاءت بها المشارق والمغارب. والحمد لله حمدا كثيرا- المكان الذي تتجدّد حرمته، وتتأكّد ذمّته، ولا توضع عن يد الاعتناء والاهتمام أزمّته، وإذا أنهضت العزائم لمصالح العباد تقدّمت كلّ العزمات عزمته، لأنه المكان الذي صرف وجوه الأعداء، وصابر مكابدة الإضرار والاعتداء، واحتمل مكروه الدواء، في معالجة الشّفاء ومعاجلة حسم الداء، فكرمت آثاره، وتعيّن تخصيصه بالمزيد وإيثاره، وطابت أخباره، وطالت في مضايق مجال الرجال أسنّته وشفاره، فنحن نوجب تكريمه، ونؤثر تقديمه، ونتبع حديثه في الاعتناء قديمه، والله يتولى تكميل قصدنا الجميل فيه وتتميمه!.
وقد بلغ- بلّغكم الله أملكم، وأتم نعمته قبلكم- تحرّك ذلكم الخائن «2» للإضرار بالبلاد، وإيثاره دواعي الشر والفساد؛ ومتى احتيج إلى إعلام جهة من الجهات بأحواله، وما يتصوّره بفاسد خياله، وتغلّب كبره المردي واختياله، وما يصدر عنه من قبيح آثاره وأعماله، فإنما يستعلم تحقيقها منكم، ويتعرّف تصديقها من لدنكم، بصدق جواركم، ودنوّ داركم، وتداخل آثاره مع آثاركم؛ فأنتم أقرب(7/32)
اطّلاعا على خبث سرّه، وسوء مكره، وما يضمر للمسلمين من إذايته وضرّه؛ فمتى انصرفت وجوه المسلمين إلى جهادهم واشتغلوا بتأمين بلادهم، انتهز الفرصة في فساد يحدثه، وعقد ينكثه، واستعجال ما يعجّل عليه ولا يلبّثه؛ ونحن نعرض عنه إعراض من يرجو متابه، ويرتقب رجوعه إلى الحق وإيابه؛ وهو متخبّط في أهوائه، مستمرّ على غلوائه، مصرّ على إضراره واعتدائه، لا يكفّ عنه من استطالته، ولا يريه الاستبصار وجهة جهالته، فوجب علينا بحكم النظر للبلاد التي لحقها عدوانه، وأضرّ بها مكانه، وتكرّر عليها امتحانه، أن نعاجل حسم علله، ونسدّ مواقع خلله، ونرد عليه كلّ مضرّة لاحقة من قبله، حتّى يستريح الناس إلى أمن مبسوط، وكنف «1» مضبوط، وحوز «2» بالكفاية والوقاية محوط؛ وقد كنّا عند الفراغ من مصالح البلاد الغريبة، وانتهاء الفتح فيها إلى ما لم يدر بالخاطر ولم يحسب بالنّية، نظرنا في إعداد جموع من أجناد الغرب، وتخيّرنا منهم كلّ من درب بالطّعن والضّرب؛ وسعد لكم «3» من جماهير الأغراب «4» وجزولة «5» وسائر القبائل النازلين بالبلاد، المتأهّبين لما يطلبون به من الغزو والجهاد؛ ورسمنا لهم أن يلحقوا بنا عند الاستدعاء، على ما جدّدنا لهم في الانتخاب والانتقاء، لتأخذ الجموع كلّها من محو أثر هذا الخائن بنصيب، وتضرب فيه، وفي كلّ عمل يعفّيه، بسهم مصيب؛ لكن لما تعجّل حركته التي تعجّل بها الحين «6» ، وساقه إليها القدر الذي أعمى البصيرة والعين؛ رأينا أن ننفذ(7/33)
إليه قصدنا، وأن نعاجله بما حضر عندنا، متوافرة الأعداد، غنيّة عن الاستمداد، غير مفتقرة إلى الازدياد؛ ومع هذا فقد أمرنا أهل الجهات كلّها باللّحاق بنا، وأن ينهض جميع أعدادهم من الخيل والبطل والرّماة على سبيلنا ومذهبنا، لتكون الأيدي في هذه المصلحة العامّة واحدة، والعقائد في دفع هذا الضرر عن الكافّة متعاقدة، حتّى يذهب أثر هذه النكّبة وعينها «1» ، ويزول عن بهجة الإحقاق والاتّفاق شينها «2» ؛ وإذا وجب على أهل هذه الجهات أن ينفروا في هذه الدّعاة خفافا وثقالا، ويبادروا ركبانا ورجالا، كان الوجوب في حقّكم وجوبين، والفرض عليكم فرضين؛ لما يخصّكم من هذه المصلحة التي أنتم أولى من يجتلي صورها، ويجتني ثمرها، ويجدّ في حاله واستقباله إثرها؛ فليكن استعدادكم بحسب ذلكم، واستوعبوا جميع أنجادكم، من خيلكم ورماتكم ورجالكم؛ وكونوا واقفين على قدم التأهّب إلى أن يكون الاجتياز من هنالكم؛ إن شاء الله تعالى والسلام» .
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها، ثم يتخلّص إلى المقصود ويختم بالسلام على نحو ما تقدّم)
كما كتب أبو عبد الله بن الجيان «3» عن أبي عبد الله بن هود «4» أيضا إلى أكابر(7/34)
بلده بالرّفق بالرعية عند ورود كتابهم عليه بتحصين البلد، وبلوغه جور المستخدمين بها على الرعية، وهو:
أما بعد حمد الله تعالى معلي منار الحقّ ورافعه، ومولي متوالي الإنعام ومتابعه؛ والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله مشفّع الحشر وشافعه، المبعوث ببدائع الحكم وجوامعه؛ وعلى آله وصحبه المبادرين إلى مقاصده العلية ومنازعه، والذابّين عن حوزة الإسلام، بمواضي الاعتزام، وقواطعه؛ والرضا عن الخليفة الإمام العباسيّ «1» أمير المؤمنين ذي المجد الذي لا ينال سموّ مطالعه.
فإنا كتبنا إليكم- كتب الله لكم عزّة قدحها «2» بالثبوت فائز، وسعادة قسطها للنماء حائز- من فلانة «3» ، وكلمة الحق منصورة اللواء، منشورة الأضواء؛ والتوكّل على الله في الإعادة والإبداء، والتسليم إليه مناط أمرنا في الانتهاء والابتداء، وحمد الله تعالى وشكره وصّلنا إلى نيل مزيد النّعماء والآلاء؛ ومكانتكم لدينا مكانة السّنيّ المناصب، المنتمي إلى كرام المنتميات والمناسب، المتحلّي في الغناء والاكتفاء، والخلوص والصّفاء، بأكرم السّجيّات والمناقب، المعلوم ما لديه من المصالحة السالكة بأكرم السّجيّات في المناحي الحسان على المهيع الأوضح والسّنن اللاحب «4» .(7/35)
وقد وقفنا على كتابكم معلما بخبر فلانة وما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في أسباب تأمينها؛ ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح، وتتوخّون ما تتوسّمون فيه النّجاح؛ لكن أهمّ الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرفق بالرعيّة، وحملها على قوانين الإحسان المرعيّة- وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب [أهل] فلانة «1» المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرّفين فيهم، ويتظلّمون من متحيّفيهم «2» ومتعسّفيهم؛ وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم؛ فإنه إذا كان الناظر في خدمة ممن لا يحسن سياسة الأمور، ولا يعلم طريقة الرّفق الجارية بوفق الخاصة والجمهور، أعاد التسكين تنفيرا، والتيسير تعسيرا، وتعلمون أنا لا نقدّم على إيثار العدل في عباد الله المسلمين عملا، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلا؛ وأنتم أولى من يعتقد فيه أنه يكمّل هذا المقصد، ويتحرّى في مصالح الرّعايا هذا السّنن الأرشد؛ وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، ويبسط أملهم، وعرّفناهم بأنكم لو علمتم من جار عليهم من الخدمة لأخذتم على يده وجازيتموه بسوء معتقده، وأشعرناهم بأنّا قد استوصيناكم بهم خيرا، ونبّهناكم على ما يدفع عنه ضيما ويرفع ضيرا؛ وأنتم- إن شاء الله- تستأنفون نظرا جميلا، وتؤخّرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السياسة سبيلا، وتقدّمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشيته الرّفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكّد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطيّ ويصاحبه، إن شاء الله تعالى والسلام.(7/36)
الضرب الثاني (أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة ثم يؤتى على المقصود إلى آخره على نحو ما تقدم)
كما كتب أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعيّ المعروف بالأبار «1» ، عن الأمير أبي جميل «2» إلى أهل ناحية بولاية وال عليهم وهي:
أما بعد، فالكتاب- كتب الله لكم ملء الجوانب قرارا، وأرسل عليكم سماء المواهب مدرارا- من فلانة «3» ، وليس إلا الخير الدائم، واليسر الملازم؛ وقد توالى إعلامكم بالغرض الجميل فيكم، والاعتناء المتّصل بتمهيد نواحيكم، وأنتم اليوم بثغر متحيّف «4» ، وجناب متطرّف، يتضاعف الاحتياط عليه، ويجب تيسير المير «5» إليه؛ فالنظر له معمل، والتهمّم به لا يهمل؛ وهذه ألسن «6» قد ملك قيادها، وأوثر بوجوه القرابة إمدادها، وفلان قد خاطب يستأذن في القدوم على(7/37)
الباب الكريم، ويؤكّد ما عنده في الخدمة والتصميم؛ والخيرات بسبيل الاتصال، والمسرّات واردة مع البكور والآصال.
والحمد لله الجسيم فضله، والعظيم نيله، فاحمدوا الله على ما يسّر لنا ولكم، واستوزعوه «1» شكر ما خوّلنا وخوّلكم؛ واعلموا أنّا نرعاكم كما رعى أوّلنا أولاكم؛ وقد عيّن لموضعكم كذا وكذا فأنفذوا إلينا بعضكم معجلا، واستشعروا إنماء الأثرة واطّراد النّصرة، حالا ومستقبلا؛ والحركة الكبرى- يمّنها الله- قد شرع في أسبابها، وأتي ما يؤتي بمشيئة الله الفتح القريب من بابها؛ ولا غنى بما يدار في ذلك عن فلان وقد خوطب بالوصول، ووجّه إليكم فلان واليا عليكم، وثاويا «2» لديكم؛ وهو ممن خبرت كفايته، وارتضيت لجبر أحوالكم سياسته، وشكر هنا فأوثرتم به هنالكم؛ وقد فوّض إليكم من نظر «3» لخاصّتكم وجمهوركم، وقلد بما يستقلّ أتمّ الاستقلال من تدبير أموركم؛ وأمضي معه من الأجناد طائفة يحسنون الدفاع والذّياد، ولا يفارقون الجدّ والاجتهاد؛ ووراء هذا من كريم العناية وجميل النظر، ما يقضي لكم بالفلج والظّفر، ويديلكم بالأمانة الشاملة من الذّعر والحذر، إن شاء الله تعالى والسلام.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا، والأمر على كذا وكذا» ويؤتى على المقصد إلى آخره ويختم بالسلام)
وربما قيل: «هذا كتابنا إليكم» وربما قيل: «كتبنا إليكم» ونحو ذلك.(7/38)
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة «1» عن ابن هود في البشارة بفتح حصن، وهو:
كتابنا إليكم- أطلع الله عليكم من البشائر أنورها جبينا، وأوضحها صبحا مبينا- من فلانة في يوم كذا.
سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي تكفّل بنصر من ينصره، ونصلّي على سيدنا محمد الكريم محتده الزاكي عنصره؛ ونجدّد مشفوع الصلوات، ونردّد مرفوع الدعوات، للإمام الخليفة «المستنصر بالله أمير المؤمنين» ذي المناقب التي لا عادّ يعدّها، ولا حاصر يحصرها.
والحمد لله الذي أنعم علينا بتقليد إمامته، التي لا تعقد معها إمامه، وأقامنا لإقامة دعوته، التي لا تجوز على غيرها إقامه، وجعلنا نرمي الغرض باسمه الأشرف فنصيبه، ونستوهب فضل الله سبحانه فيتوفّر قبلنا نصيبه، ونستنزل بخلافته المباركة جوامع النصر، كما استنزل الفاروق بغرّة «2» جدّه هوامع القطر؛ فتسير أمام رايته السّوداء بالأثر المبيض، وتروى هذه أوام «3» كما أروى ذلك أوام الأرض؛ وما زلنا منذ كان النزول على هذا الحصن نتعرّف فيه من مخايل النّجح، ودلائل الظّفر والفتح، ما أعطانا فثلج اليقين «4» بأنا نفصم عروته، ونفرع ذروته، ولم يزل العزم(7/39)
يذلّل شماسه «1» ، ويقلّل ناسه؛ حتّى أذعنوا لما عرّفتم به من النزول لوقت معدود، وأمد محدود. ثم إنهم خامرهم طارق الوجل، فعجّلوا أداء دينه قبل حلول الأجل؛ وأمكن الله من هذا المعقل الفذّ في المعاقل، وقتل الظانين لا متناعهم والحسام إن شاء الله تعالى في يد القاتل؛ وقد صعدت راياتنا على السّور، وسعدت إدارتنا بالعزم المنصور، وشيّد الله من هذا الفتح الجليل أقصى الفتوح بعلوّ، وأشجاها للعدوّ، وأدلّها على نجح عمل مستأنف وبلوغ أمل مرجوّ.
والحمد لله الذي ردّ حقّنا المغتصب، وكفانا في وجهنا هذا التعب والنّصب؛ وعرّفناكم بهذا الخبر الذي هو غذاء للرّوح، والمنبيء عن فتح الفتوح: لتشكروا الله عليه شكرا، وتوفّوه حقّه إذاعة له ونشرا، وتجدّدوا بحمد الله [على] ما أولى من خالص النّعم، ووافر القسم، ما يطيب به المعرّس «2» والمقيل «3» ، ويستقصر به الأمد الطويل. واكتبوا من خطابنا هذا نسخا إلى الجهات ليأخذ منها كلّ بحظه، وينعم القريب والبعيد بجلالة معناه وجزالة لفظه؛ أعاننا الله وإيّاكم على شكر إحسانه الجزيل، ولا أخلى من لطفه العميم ونظره الجميل، بمنّه والسلام.
الحالة الثانية (ما الأمر مستقرّ عليه الآن مما كان عليه علّامة متأخرى كتّاب المغرب أبو عبد الله محمد بن الخطيب «4» وزير ابن الأحمر «5» : صاحب حمراء غرناطة من الأندلس)
والأمر فيها على نحو ما تقدّم في الحالة الأولى: من التعبير عن المكتوب إليه(7/40)
بميم الجمع وإن كان واحدا، والتزام الدعاء بمعنى الكتابة عند قولهم كتبنا إليكم ونحو ذلك. وعادتهم أن يكتب كتاب السلطان في طومار كامل، فإن استوعب الكلام جميع الطومار كتب على حاشيته، ويكتب صاحب العلامة علامة السلطان في آخره، ويطوى طيّا عريضا في نحو ثلاث أصابع معترضة، ثم يكسر ويطوى نصفين، ويكتب العنوان بالألقاب التي في الصّدر ويخزم «1» بدسرة من الورق، ثم يختم بخاتم السلطان على شمع أحمر كما تقدّم بيانه.
وهي على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالّلقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب)
الضرب الأوّل (أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مختصّ بالكتابة إلى الملوك)
والرسم فيه عندهم أن يقال: «المقام» وينعت بما يليق به، ثم يقال:
«محلّ أخينا، أو محلّ ولدنا، أو محلّ والدنا السلطان» ويؤتى بألقابه ثم يسمّى؛(7/41)
ثم يقال: «من فلان» ويفعل فيه كذلك إلى منتهى نسبه، ويدعى له بالبقاء وما يتبعه؛ ثم يقال: معظّم قدره أو معظّم مقامه، وما أشبه ذلك، ويذكر اسم المكتوب عنه؛ ثم يقال: أما بعد حمد الله ويؤتى بالخطبة إلى آخرها؛ ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم من موضع كذا، ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب أبو عبد الله بن الخطيب المقدّم ذكره عن سلطانه ابن الأحمر المذكور أعلاه، إلى السلطان أبي عنان بن أبي الحسن المرينيّ «1» صاحب فاس، عند موت الطاغية ملك قشتالة «2» من إقليم أشبيلية، وطليطلة، وقرطبة وما معها بعد نزوله على جبل الفتح «3» من مملكة المسلمين بالأندلس لمحاربة المسلمين فيه، ورحيل قومه بعد موته به، وهو:
المقام الذي أنارت آيات سعده، في مسطور الوجود، وتبارت جياد مجده، في ميدان البأس والجود، وضمنت إيالته لمن بهذه الأقطار الغربية تجديد السّعود،(7/42)
وإعادة العهود، واختلفت كتائب تأييد الله ونصره لوقته المشهور فيها ويومه المشهود، مقام محلّ أخينا الذي نعظّمه ونرفعه، ويوجب له الحقّ العليّ موضعه، السلطان أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن، أبن السلطان أبي سعيد، ابن السلطان أبي يوسف، بن عبد الحق- أبقاه الله يتهلّل للبشرى جنابه، ويفتح لوارد الفتح الإلهيّ بابه؛ وتعمل في سبيل الله مكارمه وعزائمه وركابه، ويتوفّر بالجهاد فيه مجده وسعده وفخره وثوابه، معظّم قدره الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلام كريم مشفوع بالبشائر والتّهاني، محفوف [الركاب] «1» ببلوغ الأماني، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله مطلع أنوار الصنائع العجيبة متألّقة الغرر، ومنشيء سحائب الألطاف، الكريمة الأوصاف، هامية الدّرر، الكريم الذي يجيب دعوة المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السّوء وما أمره إلا واحدة كلمح بالبصر؛ حجب كامن ألطافه عن قوى الفطن ومدارك الفطر، فما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ
«2» والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي المعجزات الباهرة والآيات الكبر، الذي بجاهه الحصين نمتنع عند استشعار الحذر، وبنور هداه نستضيء عند التباس الورد والصّدر، فنحصل على الخير العاجل والمنتظر، والرضا عن آله وأصحابه الكرام الأثر، الذين جنوا من أفنان الصبر في الله ثمار الظّفر، وفازوا من إنجاز الوعد بأقصى الوطر، وانتظموا في سلك الملّة الرفيعة انتظام الدّرر، والدعاء لمقامكم الأعلى باتصال المسرّات وتوالي البشر، والسعد الذي تجري بأحكامه النافذة تصاريف القدر، والصّنع الذي تجلى عجائبه في أجمل الصّور، فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من حظوظ فضله وإحسانه أجزل(7/43)
الأقسام، وعرّفكم عوارف نعمه الثّرّة «1» وآلائه الجسام- من حمراء غرناطة- حرسها الله- واليسر بفضل الله طارد الأزمات بعد ما قعدت، وكاشف الشدائد بعد ما أبرقت وأرعدت. ثم ما عندنا من الاعتداد بإيالتكم «2» التي أنجزت لنا في الله ما وعدت، ومددنا إليها يد الانتصار على أعدائه فأسعدت، إلا الصّنع العجيب، واليسر الذي أتاح ألطافه السميع المجيب؛ واليمن الذي رفع عماده التيسير الغريب، ومدّ رواقه الفرج القريب؛ وإلى هذا أيّدكم الله على أعدائه، وأجزل لديكم مواهب آلائه، وحكم للإسلام على يديكم بظهوره واعتلائه، وعرّفكم من أخبار الهنيّ المدفع «3» وأنبائه كلّ شاهد برحمته واعتنائه. فإنا كتبناه إليكم نحقّق لديكم البشرى التي بمثلها تنضى الرّكاب «4» ، ويخاض العباب، ونعرض عليكم ثمرة سعدكم الجديد الأثواب، المفتّح للأبواب، علما بما عندكم من فضل الأخلاق، وكرم الأعراق؛ وأصالة الأحساب، والمعرفة بمواقع نعم الله التي لا تجري لخلقه على حساب، والعناية بأمور هذا القطر الذي تعلّق أذيال ملككم السامي الجناب. [وقد تقرر لدى مقامكم الأسنى ما كانت الحال آلت إليه بهذا الطاغية] «5» الذي غرّه الإمهال والإملاء «6» ، وأقدمه على الإسلام التمحيص المكتوب والابتلاء؛ فتملّأ «7» تيها وعجبا، وارتكب من قهر هذه الأمة المسلمة مركبا صعبا، وسام كلمة الإسلام بأسا وحربا، فكتائب برّه توسع الأرجاء طعنا وضربا، وكتائب بحره تأخذ كلّ سفينة غصبا، والمخاوف قد تجاوبت شرقا وغربا، والقلوب قد بلغت الحناجر(7/44)
غمّا وكربا، وجبل الفتح الذي هو باب هذه الدار، وسبب الاستعداء على الأعداء والانتصار، ومسلك الملّة الحنيفيّة إلى هذه الأقطار، قد رماه ببوائقه، وصيّر ساحته مجرّ عواليه ومجرى سوابقه؛ واتّخذه دار مقامه، وجعله شغل يقظته وحلم منامه، ويسّر له ما يجاوره من المعاقل إملاء [من الله] لأيامه؛ فاستقرّ به القرار، واطمأنّت الدار، وطال الحصار وعجزت عن نصره الخيل والأنصار، ورجمت الظّنون «1» وساءت الأفكار، وشجر «2» نظّار القلوب الاضطرار، إلى رحمة الله والافتقار، فجبر الله الخواطر لمّا عظم بها الانكسار، ودار بإدالة «3» الإسلام الفلك الدّوّار، وتمخّض عن عجائب صنع الله الليل والنهار، وهبّت نواسم الفرج، عاطرة الأرج، ممن يخلق ما يشاء ويختار، لا إله إلا هو الواحد القهّار.
وبينما نحن نخوض من الشّفقة على ذلك المعقل العزيز على الإسلام لجّة مترامية المعاطب «4» ، ونقتعد صعبا لا يليق بالراكب؛ ولولا التعلّق بأسبابكم في أنواء تلك الغياهب، وما خلص إلى هذه البلاد من مواهبكم الهامية المواهب، ومواعيدكم الصادقة ومكارمكم الغرائب، وكتبكم التي تقوم عند العدوّ مقام الكتائب، وإمدادكم المتلاحق تلاحق العظام الجنائب «5» ، لما رجع الكفر بصفقة الخائب، إذ تجلّى نور الفرج من خلال تلك الظّلمة، وهمت سحائب الرحمة والنّعمة على هذه الأمّة، ورمى الله العدوّ بجيش من جيوش قدرته أغنى عن العديد والعدّة، وأرانا رأي العيان لطائف الفرج من بعد الشّدّة، وأهلك الطاغية حتف أنفه، وقطع به عن أمله قاطع حتفه، وغالته أيدي المنون في غيله «6» ، وانتهى(7/45)
إلى حدود القواطع القويّة والأشعّة المرّيخيّة نصير دليله، فشفى الله منه داء، وأخذه أشدّ ما كان اعتدادا واعتداء، وحمى الجزيرة الغربية «1» وقد صارت نهبة طغاته، وأشرقه بريقه وهي مضغة في لهواته؛ سبحانه لا مبدّل لكلماته.
فانتثر سلكه الذي نظّمه، واختلّ تدبيره الذي أحكمه، ونطقت بتبار «2» محلّاته ألسنة النار، وعاجلت انتظامها أيدي الانتثار، وركدت ريحه الزّعزع من بعد الإعصار، وأصبح من استظهر به من الأشياع والأنصار يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ
«3» وولّوا به يحثون التّراب فوق المفارق والتّرائب «4» ، ويخلطون تبر السّبال الصّهب «5» بذوب الذّوائب، قد لبسوا المسوح «6» حزنا، وأرسلوا الدموع مزنا، وشقّوا جيوبهم أسفا، وأضرموا قلوبهم تلهّفا، ورأوا أنّ حصن استطبونة «7» لا يتأتّى لهم به امتناع، ولا يمكنهم لمن يرومه من المسلمين دفاع، فأخلوه من سكّانه، وعاد فيه الإسلام إلى مكانه، وهو ما هو من طيب البقعة، وانفساح الرّقعة؛ ولو تمسّك به العدوّ لكان ذلك الوطن بسوء جواره مكدودا، والمسلك إلى الجبل- عصمه الله- مسدودا، فكان الصنيع فيه طرازا على عاتق تلك الحلّة الضافية، ومزيدا لحسنى العارفة الوافية، فلمّا استجلينا غرّة هذا الفتح الهنيّ، والمنح السّنيّ، قابلناه بشكر الله تعالى وحمده، وضرعنا إليه في صلة نعمه فلا نعمة إلا من عنده؛ وعلمنا أنه عنوان على مزيد ملككم الأعلى وعلامة على سعده، وأثر نيّته للإسلام وحسن قصده، وفخر ذخره(7/46)
الله لأيامكم لا نهاية لحدّه، فإنكم صرفتم وجه عنايتكم إلى هذا القطر على نأي المحلّ وبعده، ولم تشغلكم الشواغل عن إصلاح شأنه وإجزال رفده.
وأما البلد المحصور، فظهر فيه من عزمكم الأمضى ما صدّق الآزال والظّنون، وشرح الصّدور بمقامكم وأقرّ العيون: من صلة الإمداد على الخطر، وتردّد السابلة «1» البحرية على بعد الوطن وتعذّر الوطر، واختلاف الشّواني «2» التي تسري إليه سرى الطّيف، وتخلص سهامها إلى غرضه بعد أنّى وكيف، حتّى لم تعدم فيه مرفقة يسوء فقدانها، ولا عدّة يهمّ شأنها؛ فجزاؤكم عند الله موفور القسم، وسعيكم لديه مشكور الذّمم؛ كافأ الله أعمالكم العالية الهمم، وخلالكم الزاكية الشّيم؛ فقد سعد الإسلام- والحمد لله- بملككم الميمون الطائر، وسرت أنباء عنايتكم بهذه البلاد كالمثل السائر؛ وما هو إلا أن يستتبّ اضطراب الكفّار واختلافهم، ويتنازع الأمر أصنافهم، فتغتنمون إن شاء الله فيهم الغرّة «3» التي ترتقبها العزائم الشريفة، والهمم المنيفة؛ وتجمع شيمكم الغليا، بين فخر الآخرة والدّنيا، وتحصل على الكمال الذي لا شرط فيه ولا ثنيا»
؛ فاهنأوا بهذه النّعمة التي خبأها الله إلى أيّامكم، والتّحفة التي بعثها السعد إلى مقامكم، فإنما هي بتوفيق الله ثمرة إمدادكم، وعقبى جهادكم؛ أوزعنا الله وإيّاكم شكرها وألهمنا ذكرها.
عرّفناكم بما اتّصل لدينا، وورد من البشائر علينا؛ عملا بما يجب لمقامكم من الإعلام بالمتزيّدات، والأحوال الواردات، ووجّهنا إليكم بكتابنا هذا من ينوب عنّا في هذا الهناء، ويقرّر ما عندنا من الولاء، وما يتزيّد لدينا بالأنباء، خالصة إنعامنا المتميّز بالوسيلة المرعيّة إلى مقامنا، الحظيّ لدينا، المقرّب إلينا، القائد(7/47)
الفلانيّ أبا الحسن عبادا وصل الله عزّته، ويمّن وجهته؛ ومجدكم ينعم بالإصغاء إليه، فيما أحلنا فيه من ذلك عليه، والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم؛ والسلام.
وكما كتب عنه أيضا إلى السلطان (أبي سعيد عثمان بن يغمراسن) «1» صاحب تلمسان، عند بعثه بطعام إلى الأندلس، شاكرا له على ذلك، ومخبرا بفتح حصن من حصون الأندلس يسمّى حصن قنيط، وهو:
المقام الذي تحدّثت بسعادته دولة أسلافه، واتّفق به قولها من بعد اختلافه، وعاد العقد إلى انتظامه والشّمل إلى ائتلافه؛ مقام وليّنا في الله الذي هيّأ الله له من جميل صنعه أسبابا، وفتح به من [مبهم] «2» السّعد أبوابا؛ وأطلع منه في سماء قومه شهابا. وصفيّنا الذي نسهب القول في شكر جلاله ووصف خلاله إسهابا؛ السلطان أبو سعيد عثمان، ابن الأمير أبي زيد، ابن الأمير أبي زكريّا، ابن السلطان أبي يحيى يغمراسن، بن زيان، مع ذكر ألقاب كل منهم بحسبه- أبقاه الله للدولة الزّيّانية- يزيّن بالأعمال الصالحة أجيادها، ويملك بالعدل والإحسان قيادها، ويجري في ميدان النّدى والباس، ووضع العرف بين الله والناس، جيادها. سلام كريم كما زحفت للصباح شهب المواكب، وتفتّحت عن نهر المجرّة أزهار الكواكب؛ ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله جامع الشّمل بعد انصداعه وشتاته، وواصل الحبل بعد انقطاعه وانبتاته؛ سبحانه لا مبدّل لكلماته، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الصادع بآياته، المؤيّد ببيّناته، الذي اصطفاه لحمل الأمانة العظمى، وحباه(7/48)
بالقدر الرفيع والمحلّ الأسمى؛ والله أعلم حيث يجعل رسالاته. والرضا عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه وحماته، المتواصلين في ذات الله وذاته، القائمين بنصر دينه وقهر عداته. فإنّا كتبناه إليكم- كتب الله لكم سعدا ثابت الأركان، وعزّا سامي المكان، ومجدا وثيق البنيان، وصنعا كريم الأثر والعيان- من حمراء غرناطة- حرسها الله- والثقة بالله سبحانه أسبابها وثيقة، وأنسابها عتيقة، والتوكّل عليه لا تلتبس من سالكه طريقه ولا تختلط بالمجاز منه حقيقة؛ وعندنا من الاعتداد بكم في الله عقود مبرمة، وآي في كتاب الإخلاص محكمة؛ ولدينا من السّرور، بما سنّاه الله لكم من أسباب الظّهور، الذي حلله معلمه «1» ، وحججه البالغة مسلّمة، ما لا تفي العبارة ببعض حقوقه الملتزمه؛ وإلى هذا- أيد الله أمركم- فإننا ورد علينا فلان وصل الله كرامته، وسنّى سلامته، صادرا عن جهتكم الرفيعة الجانب، السامية المراقب، طلق اللسان بالثناء بما خصّكم الله به من فضل الشمائل وكرم المذاهب، محدّثا عن بحر مكارمكم بالعجائب، فحضر بين يدينا ملقيا ما شاهده من ازدياد المشاهد، بتلك الإياله، واستبشار المعاهد، بعودة ذلك الملك الرفيع الجلاله، الشهير الأصاله؛ ووصل صحبته ما حمّلتم جفنة «2» من الطعام برسم إعانة هذه البلاد الأندلسيّة، والإمداد الذي افتتحتم به ديوان أعمالكم السنيّة، وأعربتم به عمّا لكم في سبيل الله من خالص النّيّة؛ وأخبر أنّ ذلك إنما هو رشّة من غمام، وطليعة من جيش لهام، ووفد من عدد، وبعض من مدد، وأنّ عزائمكم في الإعانة والإمداد على أوّلها، ومكارمكم ينسى الماضي منها بمستقبلها؛ فأثنينا على قصدكم الذي لله أخلصتموه، وبهذا العمل البرّ خصصتموه، وقلنا: لا ينكر الفضل على أهله، وهذا برّ صدر عن محلّه؛ فليست إعانة هذه البلاد الجهاديّة ببدع من مكارم جنابكم الرفيع، ولا شاذّة فيما أسدى على الأيام من حسن الصّنيع؛ فقد علم الشاهد والغائب، ولو سكتوا أثنت عليها الحقائب، ما تقدّم لسلفكم في(7/49)
هذه البلاد من الإرفاق والإرفاد، والأخذ بالحظّ الموفور من المدافعة والجهاد؛ وأنتم أولى من جدّد عهود قومه، وكان غده في الفخر أكبر من يومه؛ وقد ظهرت لله في حيّز تلك الإيالة الزّيّانيّة نتيجة تلك المقدّمات، وعرفت بركة ما أسلفته من المكرمات. وسنّى الله سبحانه بين يدي وصول ما به تفضّلتم، وفي سبيله بذلتم، أن فتح جيشنا حصنا من الحصون المجاورة لغربيّ مالقة يعرف بحصن قنيط من الحصون الشهيرة المعروفة، والبقع المذكورة بالخصب الموصوفة؛ ودفع الله مضرّته عن الإسلام وأهله، ويسّره بمعهود فضله؛ فجعلنا من ذلك الطعام الذي وجّهتم طعمة حماته، ونفقات رجاله ورماته؛ اختيارا له في أرضى المرافق في سبل الخير وجهاته. وأما نحن فإن ذهبنا إلى تقرير ما عندنا من الثناء، على معالي ملككم الأصيل البناء، والاعتداد بمقامكم الرفيع العماد، والاستناد إلى ولائكم الثابت الإسناد، لم نبلغ بعض المراد، ولا وفى اللسان بما في الفؤاد؛ فمن الله نسأل أن يجعله في ذاته، وذريعة إلى مرضاته؛ ومرادنا من فضلكم العميم، وودّكم السليم، أن تحسبوا هذه الجهة كجهتكم فيما يعرض من الأغراض: لنعمل في تتميمها بمقتضى الودّ العذب الموارد، الكريم الشّواهد؛ والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام.
الضرب الثاني (أن يقع الابتداء بالمقرّ)
والرسم فيه أن يقال: المقرّ، وينعت، ثم يقال: مقرّ فلان، وينعت بالألقاب، ثم يذكر المكتوب عنه. ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها؛ ثم يقال: فإنا كتبناه لكم من موضع كذا، ويتخلّص إلى المقصد بلفظ: وإلى هذا فإنّ كذا وكذا، ويؤتى على المقصد إلى آخره ويختم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر إلى عجلان «1» سلطان مكة(7/50)
شرّفها الله تعالى وعظّمها، وهو:
المقرّ الأشرف، الذي فضل المحالّ الدينيّة محلّه، وكرم في بئر زمزم منبط إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم نهله وعلّه، وخصّه بإمرة الحرم الشريف الأمين من بيده الأمر كلّه، فأسفر عن صبح النصر العزيز فضله، واشتمل على خواصّ الشّرف الوضّاح جنسه وفصله، وطابت فروعه لما استمدّ من ريحانتي «1» الجنة أصله.
مقرّ السلطان الجليل، الكبير، الشريف، الطاهر، الظاهر، الأمجد، الأسعد، الأوحد، الأسمى الشهير البيت، الكريم الحيّ والميت، الموقّر، المعظّم، ابن الحسين «2» ، وحافد «3» سيد الثّقلين؛ تاج المعالي، عزّ الدنيا والدّين، أبي السّبق عجلان، ابن السلطان الكبير، الشهير، الرفيع، الخطير، الجليل، المثيل، الطاهر، الظاهر، الشريف، الأصيل، المعظّم، الأرضى، المقدّس، المنعّم، أسد الدين، أبي الفضل «رميثة» بن محمد بن أبي سعيد الحسني- أبقاه الله، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلى قاطنيّ مثواه، على بعد الدار، وتتقرّب فيه إلى الله بالتئام التراب واستلام الجدار، وتجيب أذان نبيّه إبراهيم بالحجّ إجابة الابتدار؛ وهنأه المزيّة التي خصه بها من بين ملوك الأقطار، وأولي المراتب في عباده والأخطار؛ كما رفع قدره على الأقدار، وسجّل له بسقاية الحج وعمارة المسجد الحرام عقد الفخار. وينهي إليه أكرم التحيّات تتأرّج عن شذا الروضة المعطار، عقب الأمطار، معظم ما عظّم الله من شعائر مثواه، وملتمس البركة من أبواب مفاتحته ولكل امرىء ما نواه؛ وموجب حقّه الذي يليق بمن البتول والرّضا أبواه، الشّيّق إلى الوفادة عليه وإن مطله الدهر ولواه؛ فلان. كان الله له في غربته وانفراده، وتولّى عونه على الجهاد فيه حقّ جهاده.(7/51)
أما بعد حمد الله وليّ الحمد في الأولى والآخرة، ومطمح النّفوس العالية والهمم الفاخرة؛ مؤيّد العزائم المتعاضدة في سبيله المتناصرة، ومعزّ الطائفة المؤمنة ومذلّ الطائفة الكافرة، ومنيل القياصرة الغلب والأكاسرة، وتارك أرضها للآذان السامعة والعيون الباصرة.
والصلاة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله نبيّ الرحمة الهامية الهامرة، والبركات الباطنة والظاهرة، المجاهد في سبيل الله بالعزائم الماضية والصّوارم الباترة، مصمت الشّقاشق «1» الهادره، ومرغم الضّلالة المكابره، المنصور بالرّعب من جنود ربّه الناصره، المحروس بحرس الملائكة الوافره، الموعود ملك أمّته بما زوي «2» له من أطراف البسيطة العامره، حسب ما ثبت بالدلائل المتواتره.
والرّضا عن آله وأحزابه، وعترته وأصحابه، المجاهدة الصابره، أولي القلوب المراقبة والألسن الذاكره، والآداب الحريصة على الاهتداء بهداه المثابره، الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده يخوضون، لأن تكون كلمة الله هي العليا، بحار الرّوع الزّاخرة؛ ويقدمون بالجموع القليلة على الآلاف المتكاثرة، حتّى قرّت بظهور الإسلام العيون الناظره، وحلّت في العدوّ الفاقره «3» ، فكأنوا في الذّبّ عن أمّته كالأسود الكاسره، وفي الهداية بسماء ملّته كالنّجوم الزاهرة.
والدعاء لشرفكم الأصيل المناسب الطاهره، والمكارم الزاهية ببنوّة الزّهراء البتول بضعة الرسول الزّاهرة، بالصّنع الذي يسفر عن الغرر المشرقة السّافره، والعزّ الذي يضفو منه الجناح على الوفود الوافره، والفضلاء من المجاوره، ولا زال ذكركم بالجميل هجّيرى «4» الركائب الواردة والصادره، والثناء على مكارمكم(7/52)
يخجل أنفاس الرّياض العاطره، عقب الغمائم الماطره.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم عناية تحجب الأسواء [بجننها] «1» الساتره، ورعاية تجمع الأهواء المختلفة والقلوب المتنافره- من حمراء غرناطة دار الملك الإسلاميّ بالأندلس- حرسها الله ووفّر جموع حاميتها المثاغرة «2» - وسدّ بيد قدرته ما همّ بها من أفواه العدى الفاغره، ولا زالت سحائب رحمة الله الحائطة لها الغامره، تظلّل جموع جهادها الظافره، وتجود رمم شهدائها الناخره، ونعم الله تحطّ ركائب المزيد في نواديها الحامدة الشاكره.
والحمد لله كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله. وجانبكم موفّى حقّه من التعظيم الذي أناف وأربى، وقدركم يعرفه من صام وصلّى فضلا عمن حجّ ولبّى، ومستند ودّكم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
«3» . وإلى هذا- حرس الله مجدكم ومقرّكم الأشرف، كما سحب على البيت العتيق ظلّكم الأورف- فإنّ الجهاد والحجّ أخوان، يشهد بذلك الملوان «4» ؛ مرتضعان ثدي المناسبه، ويكادان يتكافآن في المحاسبة: سفرا وزادا، ونيّة واستعدادا، وإتلافا لمصون المال وإنفادا، وخروجا إلى الله لا يؤثر أهلا ولا ولدا وإن افترقا محلّا فقد اجتمعا جهادا، ورفعا للملة منارا ساميا وعمادا، ووطننا- والحمد لله- على هذا العهد المخصوص بكمال هذه المزيّة، والقيام بفرض كفايتها البحرية والبرية عن جميع البريّة، [السليمة من الضلال البرية] «5» وهذا النسب واشجة «6» عروقه،(7/53)
صادقة بروقه، ومتاته «1» لا يفضله متات ولا يفوقه. ونحن نعرّفكم بأحوال هذا القطر المستمسكة فروعه بتلك الجرثومة الراسية، الممدودة أيديه إلى مثابتها المتصدّقة بالدعاء المواسيه؛ فاعلموا أن الإسلام به مع الحياة في سفط «2» حرج، وفي أمر مرج «3» ؛ وطائفة الحق قليل عددها، منقطع إلا من الله مددها، مستغرق يومها في الشّدّة وغدها؛ فالطلائع في قنن الجبال تنوّر، والمصحر من بيته مغرّر «4» ؛ والصّيحة مع الأحيان مسموعه، والأعداء لردّ ما استخلصه الفتح الأوّل مجموعه؛ والصبر قد لبست مدارعه، والنصر قد التمست مشارعه، والشّهداء تنوش أشلاءهم القشاعم «5» ، وتحتفل منها للعوافي «6» الولائم والمطاعم؛ والصّبيان تدرّب على العمل بالسّلاح، وتعلّم أحكام الجهاد تعلّم القرآن في الألواح؛ وآذان الخيل مستشرفة للصيّاح «7» ، ومفارق الطائحين في سبيل الله تعالى تبلى بأيدي الرياح، والمآذن تجيبها النواقيس مناقضه، وتراجعها مغاضبة معارضه؛ وعدد المسلمين لا يبلغ من عدد الكفّار، عشر المعشار، ولا وبرة من جلود العشار «8» ؛ إلا أن الله عز وجلّ حلّ بولايتنا المخنق المشدود، وفتح إلى التيسير المهيع «9» المسدود، وأضفى ظلال اليمن الممدود، وألهم- وله الشكر على الإلهام، وتسديد السّهام. والحمد لله الذي يفوت مدارك الأفهام- إلى اجتهاد قرن به التوفيق، وجهاد نهج به إلى النجاة المنجية الطريق؛ سبحانه من كريم يلهم العمل(7/54)
ليثيب، ويأمرنا بالدعاء ليجيب؛ فتحرّكنا حركات ساعدها- ولله المنة- السعد، وتولّى أمرها ونصرتها من له الأمر من قبل ومن بعد.
ففتحنا مدينة برغة «1» الفاصلة كانت بين البلاد المسلمه، والشّجا المعترض في نحر الكلمه؛ وتبعتها بنات كنّ يرتضعن أخلاف درّتها «2» ، ويتعلّقن في الحرب والسّلم بأرزتها.
ثم نازلنا حصن آش «3» ، ركاب الغارات الكافرة، ومستقرّ الشوكة الوافره، فرفع الله إصره «4» الثقيل، وكان من عثرة الدّين فيه المقيل.
ثم قصدنا مدينة الجزيرة «5» بنت حاضرة الكفر، وعرين الأسود الغلب وكناس الظّباء العفر؛ فاستبحناها عنوة أضرمت البلاد نارا، ودارت بأسوارها المنيعة سوارا، واستأصلنا أهلها قتلا وإسارا، وملأت الأيدي من نقاوة «6» سبي تعدّدت آلافه، وموفور غنم شذّت عن العبارة أوصافه.
ثم كانت الحركة إلى مدينة جيّان «7» وشهرتها في المعمور، وشياع وصفها(7/55)
المشهور، تغني عن بسط مالها من الأمور؛ ففتحها الله على يدينا عنوة وجعلت مقاتلتها نهبا للسيوف الرّقاق، وسبيها ملكة للاسترقاق، وأهلّة مبانيها البيض دريئة «1» للمحاق، واستولت على جميعها أيدي الهدم والإحراق؛ ثم دكّت الأسوار، وعقرت الأشجار، واستخلف على خارجها النار، فهي اليوم صفصف ينشأ بها الاعتبار، وتعجب الأبصار.
وغزونا بعدها مدينة أبّدة «2» أختها الكبرى، ولدتها ذات المحل الأسرى؛ وكانت أسوة لها في التدمير، والتّتبير «3» والعفاء المبير.
ثم نازلنا مدينة قرطبة «4» وهي أمّ هذه البلاد الكافرة، ودار النّعم الوافره، وذات المحاسن السافره؛ فكدنا نستبيح حماها المنيع، ونشتّت شملها الجميع، ونحتفل بفتحها الذي [هو للدين أجل] «5» صنيع، لولا عوائق أمطار، وأجل منته إلى مقدار؛ فرحلنا عنها بعد انتهاك زلزل الطّود، ووعدناها العود؛ ونؤمّل من فضل الله إنفاذ البشرى بفتحها على بلاد الإسلام، ومتاحفة «6» من بها من الملوك(7/56)
الأعلام، بالإخبار به والإعلام. وبلغ [من] «1» صنع الله لنا وهو كاف من توكّل عليه، وفوّض الأمور إليه، أن لا طفنا النصر بحصون أربعة لم نوجف عليها ركابا «2» ، ولا تملّكتها غلابا؛ فطهّرنا بيوت الله من دنس الأوثان، وعوّضنا النواقيس بكلمة الإيمان. والحمد لله على مواهب الامتنان، ومنه نستزيد عوائد الإحسان.
وهذه المجملات تحتمل شرحا، تسبح في بحره سنان الأقلام سبحا، من أوصاف مغانم شذّت عن الحصر، ومواقف لتنزّل السكينة وهبوب النّصر، وما ظهر من جدّ المسلمين في افتتاح تلك المعاقل المنيعة المنيفه، ومقارعة الجموع الكثيفة؛ وبركة الحرم الشريف في كل حال موجوده، وأقطار الإسلام بها مجوده، والوسائل إلى الله بأهله في القديم والحديث لا مخيّبة ولا مردوده؛ فهو الأصل، والغمد الذي سلّ منه النّصل؛ حتّى بلغ التخوم القاصية، وذلّل الممالك المتعاصية، وقاد من تقاعد أو تقاعس بالناصية.
وقد ظهر لنا أن نوجّه إلى المدينة المقدّسة صلوات الله على من بها وسلامه رسالة نعرّفه بهذه البركات الهامية من سماء عنايته المعدود خارقها آية من آياته، وكلّنا جناه، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله بهداه؛ وأصحبناها أشخاصا من نواقيس الفرنج مما تأتّى حمله، وأمكن نقله؛ وما سواه فكانت جبالا، لا يقبل نقلها احتيالا؛ فتناول درعها «3» المسخ والتكسير، وشفي بذهاب رسومها الاقامة والتكبير، والأذان الجهير؛ ومرادنا أن تعرض بمجتمع الوفود تذكرة تستدعي الإمداد بالدعاء، وتقتضي بتلك المعاهد النّصر على الأعداء؛ ثم تصحب ركاب الزّيارة، إلى أبواب النبوّة ومطالع الإنارة؛ وأنتم تعلمون في توفية هذه الأحوال ورعايتها، وإبلاغها إلى غايتها، ما يليق بحسبكم الوضّاح، ومجدكم الصّراح،(7/57)
وشرفكم المتبلّجة أنواره تبلّج الإصباح (فأنتم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح) ولكم بذلك الحظّ الرّغيب في هذه الأعمال البرّة، والله سبحانه لا يضيع مثقال الذّرّة؛ وهو سبحانه يتولّاكم بما تولى به من أعزّ شعاره وعظّمها، ورعى وسائله واحترمها؛ ويصل أسباب سعدكم، وينفعكم بقصدكم.
والسلام الكريم، الطيّب البرّ العميم، يحيّي معاهدكم الكريمة على الله عهودها، النامية بغمائم الرّحمات والبركات عهودها؛ ورحمة الله وبركاته.
وربما قدّم على لفظ المقرّ صلة يعتمد عليها في البداءة.
كما كتب عنه أيضا في معنى ذلك إلى أمير المدينة النبوية على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسلام.
يعتمد المقرّ «1» الأشرف الذي طاب بطيبة نشره، وجلّ بإمارتها الشريفة أمره، وقدّر في الآفاق شرفه وشرف قدره، وعظم بخدمة ضريح سيد ولد آدم فخره، [أبقاه الله منشرحا بجوار روضة الجنة صدره، مشرقا بذلك الأفق الأعلى بدره،] «2» ذائعا على الألسن المادحة، في الأقطار النازحة، حمده وشكره، مزريا بشذا المسك الأذفر «3» في الجمع الأوفر ذكره؛ تحية معظّم ما عظّم الله من دار الهجرة داره، ومطلع إبداره، الملتمس بركة آثاره، المتقرّب إلى الله بحبّه وإيثاره.
فلان.
أما بعد حمد الله الذي فضّل البقع بخصائصها الكريمة ومزاياها، تفضيل الرياض الوسيمة بريّاها، وجعل منها مثابات رحمة تضرب إليها العباد آباط مطاياها، مؤمّلة من الله غفران زلّاتها وحطّ خطاياها؛ وخصّ المدينة الأمينة بضريح سيد المرسلين فأسعد منها مماتها ومحياها، ورفع علياها.(7/58)
والصلاة على سيدنا ومولانا محمد ورسوله الكريم، الرؤوف بالمؤمنين الرّحيم؛ مطلع أوجه السعادة ببروق محيّاها، وموضّح أسرار النّجاة ومبيّن خفاياها؛ الذي تدارك الخليفة بهديه وكشف بلاياها، ورعى لسنّة الله رعاياها، وجمع بين صلاح دينها ودنياها.
والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه، التي كرمت سجاياها، وعظمت ألطافها الهادية وهداياها، وجاهدت بعده طوائف الكفّار، تشعشع لها في أكواس «1» الشّفار، مناياها، وتطلع عليها في الليل البهيم، سنا الصبّاح الوسيم، من غرر سراياها، وتسدّ بغمام الأسنّة ورياح ذوات الأعنّة ثناياها.
والدعاء لمقرّ أصالتكم الشريفة حيّاها الله وبيّاها، كما شرّفها بولادة الوصيّ الذي قرّر وصاياها وسلالة النبيّ الذي أعظم مواهب فخرها منه وعطاياها، بالسعادة التي تبرز أكفّ الأقدار على مرور الأعصار خباياها، والعزّ الذي يزاحم فرقد السماء وثريّاها.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من مواهب الصّنع الجميل أغياها، كما طيّب بذكركم أطراف البسيطة وزواياها، وجعل فخر الجوار الكريم في عقبكم كلمة صدق لا تختلف قضاياها، ما مرّضت «2» الرّياض مورّسات «3» عشاياها؛ فجعلت من النواسم مشمومها ومن الأزهار البواسم حشاياها. من حمراء غرناطة- حرسها الله- ونعم الله يحوك حللها الجهاد، والسيوف الحداد، وتلبسها البلاد والعباد، وتتزيّاها. وفلول الكفر ناكصة على الأعقاب، من بعد شدّ الوثاق وضرب(7/59)
الرقاب، خزاياها؛ وبركات حرم النبيّ الوجيه على الله يستظلّها الإسلام ويتفيّاها، وينقع الغلل من رواياها.
والحمد لله كثيرا كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله؛ ولمعاهدكم الكريمة الارتياح، كلّما أومضت البروق وخفقت الرّياح؛ ولسنيّ عنايتها الالتماح، إذا اشتجرت الرّماح؛ وفي تأميل المثول بها تعمل الأفكار وإن هيض الجناح، وبهداها الاستنارة إذا خفي للمراشد الصّباح، وبالاعتمال في مرضاة من ضمّه منها الثّرى الفوّاح، والصّفيح الذي تراث ساكنه العوامل المجاهدة والصّفاح والجهاد الصّراح، يعظم في الصّدر الانشراح، ويعزّ المغدى في سبيل الله والمراح.
وإلى هذا أجزل الله مسرّتكم بظهور الدين، واعتلاء صبحه المبين؛ فاننا نعرّفكم أننا فتح الله علينا وعلى إخوانكم المؤمنين بهذه الثّغور المنقطعة الغربيّة، الماتّة على الآماد البعيدة بالذّمم العربيّة، فتوحا حوّزت من مملكة الكفر البلاد، ونفّلت الطارف والتّلاد؛ حسب ما تنصّه مخاطبتنا إلى نبينا الكريم الذي شرّفكم الله بخدمة لحده، واستخلفكم على دار هجرته من بعده؛ إذ لا حاجة إلى التّكرار بعد ما شرحت به الصّدور من الأخبار، في الإيراد والإصدار؛ ووجّهنا صحبتها من النّواقيس التي كانت تشيع نداء الضّلال، وتعارض الأذان بجلاد الحدال «1» ، وتبادر أمر التّمثال بالامتثال، ما يكون تذكرة تحنّ بها القلوب إلى هذه الطائفة المسلمة إذا رأتها، وتنتظر قبول الدعاء لها من الله كلّما نظرتها، وتتصوّر الأيدي المجاهدة التي جنتها من أفنان المستشرفات العالية واهتصرتها «2» إذا أبصرتها.
وهذا كلّه لا يتحصّل على التّمام إلا بمشاركة منكم تسوّغه، وإعانة تؤدّيه وتبلّغه، تشيع لكم عند تعرّفها الثناء الدائم التّرداد، والدعاء بحسن المكافأة من ربّ العباد، وسهمكم في أمر الجهاد؛ وأنتم تعملون في ذلك بما يناسب مثلكم من(7/60)
الشّرفاء الأمجاد، والله عز وجلّ يواليكم بنعمه الثّرّة العهاد، ويعرّفكم عوارف السعادة في المبدإ والمعاد، ويختم لنا ولكم بسعادة المعاد؛ والسلام الكريم يخصّكم عودا على بدء ورحمة الله تعالى وبركاته.
الضرب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة)
بأن يقال: الإمارة التي نعتها كذا وكذا إمارة محلّ أخينا فلان، ويدعى له.
ثم يقال: معظّم إمارته، أو معظم أخوّته فلان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله، ويؤتى بخطبة؛ ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا وكذا من موضع كذا؛ ثم يتخلص إلى المقصود بلفظ وإلى هذا، ويؤتى على القصد إلى آخره، ويختم بالسلام على ما تقدّم في غيره من الضروب، وبذلك يكتب إلى الأمراء من أبناء الملوك وغيرهم. كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر إلى أبي عليّ الناصر ابن السلطان أبي الحسن المرينيّ بفاس، عند ما أرسله والده إلى ناحية من النّواحي لعمارتها وإصلاح حالها، مهنّئا له بما أجراه الله على يديه من الصّلاح، وهو:
الإمارة التي لها المكارم الراضية، والعزائم الماضية، والجلالة الراقية، والأعمال الصالحة الباقية؛ إمارة محلّ أخينا الذي نعظّم مجده السامي الجلال، ونثني على شيمه الطاهرة الخلال، ونعتدّ بودّه الكريم الأقوال والأعمال، ونسرّ بما يسنّيه الله لعزّه الفسيح المجال، من عوائد اليمن والإقبال.
الأمير الأجلّ؛ الأعزّ، الأسمى، الأطهر، الأظهر، الأسنى، الأسعد، الأرشد، الأرضى، المؤيّد، الأمضى، الأفضل، الأكمل، أبو عليّ الناصر ابن محلّ أبينا الذي نعظّمه ونجلّه، ونوجب له الحقّ الذي هو أهله، السلطان الجليل الكذا أبو الحسن ابن السلطان المؤيّد، المعان المظفّر، صاحب الجود الشهير في الأقطار، والفضل المتألّق الأنوار، والمآثر التي هي أبهى من محيّا النهار، أمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين؛ أبي سعيد ابن أمير المسلمين(7/61)
وناصر الدين، قامع الكافرين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف بن عبد الحق. أبقاه الله والسعود إليه مبتدرة مستبقة، والمسرّات لديه منتظمة متّسقة؛ وغرر أيامه واضحة مشرقة، والأهواء على محبته متّفقة. معظّم إمارته الرفيعة الجانب، القائم من إجلالها ونشر خلالها بالحقّ الواجب، المثني على مالها من السّير الفاضلة المذاهب، والأصالة الرفيعة المناسب، والبسالة الماضية المضارب، والمكارم التي تشهد بها مواقف الجهاد، وظهور الجياد، وصحائف الكتب وصفائح الجلاد، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر. سلام كريم، برّ عميم؛ تتأرّج الأرجاء من طيب نفحته، ويشرق نور الودّ الأصيل على صفحته؛ يخصّ أخوّتكم الفاضلة، وإمارتكم الحافلة؛ ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي شرح بالتوكل عليه صدورا، و [جعل الودّ في ذاته كنزا مذخورا] «1» والأعمال التي تقرّب إليه نورا، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بعثه بالحق هاديا وبالرّعب منصورا، ورفع لدعوته العالية لواء من عنايته منشورا، واختاره لإقامة دين الحق والأرض قد ملئت إفكا وزورا، حتّى بلغ ملك أمته ما كان منها معمورا.
والرّضا عن آله وأحزابه الذين اتّسقوا في قلائد ملّته الرفيعة شذورا، وطلعوا في سمائها بدورا، وبذلوا نفوسهم النفيسة في نصره وإعلاء أمره فكانت شفاعته لهم جزاء وكان سعيهم مشكورا.
والدّعاء لإمارتكم العالية بالسعد الذي يصاحب منه ركابها مددا موفورا، والتوفيق الذي يوسع عملها نجحا وأملها سرورا.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم سعدا متجدّد الإحكام، وصنعا مشرق القسام وافر الأقسام؛ وعرّفكم ما عوّدكم من عوارف الإنعام، وعوائد النصر(7/62)
الواضح الأعلام-[ولا زائد بفضل الله سبحانه، ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أوضح برهانه، ثم بما عندنا من التشيّع في مقام محلّ أبينا والدكم السلطان الجليل، أسعد الله سلطانه! ومهّد به أوطانه! إلا ما يرجى من عوائد الله الجميلة، ومننه الجزيلة، وألطافه الكافية الكفيلة] «1» وعندنا من التعظيم لتلك الإمارة الرفيعة ما هو أشهر من الشهير، وأعظم من أن يحتاج إلى التفسير؛ فلا نزال نعتدّ لجانب أخوّتها بالعتاد الكبير، والذّخر الخطير، ونثني على مكارمها بالقلم واللّسان والضّمير. وإلى هذا أيّد الله إمارتكم، وسنّى إرادتكم، وأسعد إدارتكم، فقد علم الغائب والشاهد، والصادر والوارد، ما عندنا لكم من الحبّ الذي صفت منه الموارد، والولاء الذي تضوّعت من طيبه المعاهد؛ وإننا تعرّفنا ما كان من قدومكم السعيد على أحواز المريّة «2» من تلك الأقطار، وطلوعكم عليها بالعزم الماضي والجيش الجرّار. وأن محلّ والدنا وصل الله له علوّ المقدار، قدّم منكم بين يديه مقدّمة اليمن والاستبشار، ورائد السعادة المشرقة الأنوار، بخلال ما يتلاحق بها ركابه العالي قدره على الأقدار؛ وأن مخايل النّجح لإمارتكم الرفيعة قد ظهرت، وأدلّة الصّنع الجميل قد بهرت، ومن بتلك الجهات، من القبائل المختلفات، بالطاعة قد ابتدرت، وبأوامرها الإماريّة قد ائتمرت، وأنكم قد أخذتم في تسكين الأوطان وتمهيدها، واستئناف العزائم وتجديدها، [وإطفاء نار الفتن وإخمادها] «3» وإعلاء أركان تلك الإيالة ورفع عمادها؛ فكتبنا إليكم هذا(7/63)
الكتاب نهنّئكم بما سنّاه الله لمجدكم الرفيع، من حسن الصّنيع، ونقرّر ما عندنا من الودّ الكريم، والحبّ الصّميم، ونستفهم عن أحوال أخوّتكم لنكون من علمها على السّنن القويم، وحتّى لا تزال الأسباب متّصلة، والمودّة جديدة مقتبلة؛ ولولا العوائق المانعة، والشّقّة البعيدة الشاسعة، والأمواج المترامية المتدافعة، لم نغبّ «1» المخاطبة، ولوصلنا المراسلة والمكاتبة؛ ومجدكم يقبل الأعذار الصحيحة بمقتضى كماله، ومعهود إفضاله؛ والله تعالى يصلح بكم الأحوال، ويسكّن الأهوال، ويبلّغكم من فضله الآمال. وغرضنا أن تعرّفونا بما لديكم من المتزيّدات، والصنائع المتجدّدات، وبما عندكم من أحوال محلّ أبينا وصل الله عوائد النّصر لسلطانه، وتكفّل بإعلاء أمره وتمهيد أوطانه. وقد كتبنا إليه صحبة هذا كتابا غرضنا من أخوّتكم الطاهرة، أن يصل إلى حضرته العلية تحت عنايتكم ووصاتكم، والرعاية التي تليق بذاتكم؛ وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم، ويحفظ ولاءكم الكريم وودّكم؛ والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين)
الضرب الأول (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له)
والرسم فيه أن يقال: إلى فلان، وينعت بما يليق به؛ ثم يؤتى بالسلام، ويقال: أما بعد ويؤتى بخطبة، ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا وكذا، من موضع كذا، ويتخلّص إلى المقصود بلفظ «وإلى هذا» ويؤتى على المقصود إلى آخره ويختم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر إلى الأمير يلبغا العمريّ(7/64)
الشهير بالخاصكيّ: أتابك «1» العساكر بالديار المصرية في الدولة الأشرفيّة «شعبان بن حسين» .
إلى الأمير المؤتمن على أمر سلطان المسلمين، المقلّد بتدبيره السديد قلادة الدّين، المثني على رسوم برّه المقامة لسان الحرم الأمين، الآوي من مرضاة الله تعالى ورسوله إلى ربوة ذات قرار ومعين، المستعين من الله على ما تحمّله وأمّله بالقويّ المعين، سيف الدّعوة، ركن الدولة، قوام الملة، مؤمّل الأمّة، تاج الخواصّ، أسد الجيوش، كافي الكفاة، زين الأمراء، علم الكبراء، عين الأعيان، حسنة الزمان، الأجلّ، المرفّع، الأسنى، الكبير، الأشهر، الأسمى، الحافل، الفاضل، الكامل المعظم، الموقّر، الأمير، الأوحد، «يلبغا الخاصكيّ» وصل الله له سعادة تشرق غرّتها، وصنائع تسحّ فلا تشحّ درّتها، وأبقى تلك المثابة قلادة الله وهو درّتها؛ سلام كريم، طيب عميم، يخص إمارتكم التي جعل الله الفضل على سعادتها أمارة، واليسر لها شارة، فيساعد الفلك الدوّار مهما أعملت إدارة، وتمتثل الرسوم كلّما أشارت إشارة.
أما بعد حمد الله الذي هو بعلمه في كل مكان، من قاص ودان، وإليه توجّه الوجوه وإن اختلفت السّير وتباعدت البلدان، ومنه يلتمس الإحسان، وبذكره ينشرح الصدر ويطمئن القلب ويمرح اللّسان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله العظيم الشان، ونبيّه الصادق البيان، الواضح البرهان،(7/65)
والرضا عن آله وأصحابه، وأعمامه وأحزابه، أحلاس «1» الخيل، ورهبان الليل، وأسود الميدان، والدعاء لإمارتكم السعيدة بالعزّ الرائق الخبر والعيان، والتوفيق الوثيق البنيان؛ فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم حظّا من فضله وافرا، وصنيعا عن محيّا السّرور سافرا، وفي جوّ الإعلام بالنّعم الجسام مسافرا. من حمراء غرناطة- حرسها الله- دار الملك بالأندلس، دافع الله عن حوزتها كيد العداة، وأتحف نصلها ببواكر النّصر المهداة؛ ولا زائد إلا الشوق إلى التّعارف بتلك الأبواب الشريفة التي أنتم عنوان كتابها المرقوم، وبيت قصيدها المنظوم، والتماس بركاتها الثابتة الرّسوم، وتقرير المثول في سبيل زيارتها بالأرواح عند تعذّره بالجسوم.
وإلى هذا فإنّنا كانت بين سلفنا- تقبّل الله جهادهم وقدّس نفوسهم وأمّن معادهم- وبين تلك الأبواب السلطانية- ألقى الله على الإسلام والمسلمين ظلالها، كما عرّفهم عدلها وإفضالها- مراسلة ينمّ عرف الخلوص من خلالها، وتسطع أنوار السعادة من آفاق كمالها؛ وتلتمح من أسطار طروسها محاسن تلك المعاهد، الزاكية المشاهد، وتعرب عن فضل المذاهب وكرم المقاصد، اشتقنا إلى أن نجدّدها بحسن منابكم، ونصلها بمواصلة جنابكم، ونغتنم في عودها الحميد مكانكم، ونفضل لها زمانكم؛ فخاطبنا الأبواب الشريفة في هذا الغرض بمخاطبة خجلة من التقصير، وجلة من الناقد البصير؛ ونؤمّل الوصول في خفارة يدكم التي لها الأيادي البيض، والموارد التي لا تغيض؛ ومثلكم من لا تخيب المقاصد في شمائله، ولا تضحى المآمل في ظلّ خمائله؛ فقد اشتهر من عظيم سيرتكم ما طبّق الآفاق، وصحب الرّفاق واستلزم الإصفاق؛ وهذه البلاد مباركة، ما أسلف أحد فيها مشاركة، إلا وجدها في نفسه وماله ودينه وعياله، والله أكرم من وفّى لامرىء بمكياله؛ والله جل جلاله يجمع القلوب على طاعته، وينفع بوسيلة النبيّ الذي نعوّل على شفاعته، ويبقي تلك الأبواب ملجأ للإسلام والمسلمين، وظلّا لله على العالمين، وإقامة لشعائر الحرم الأمين، ويتولى إعانة إمارتكم على(7/66)
وظائف الدّين، ويجعلكم ممن أنعم الله عليه من المجاهدين؛ والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الضرب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين)
الصنف الأول (ما يكتب به إلى بعض الملوك)
والرسم فيه أن يقال: من فلان إلى فلان، بألقابه ونعوته ونعوت آبائه على ما تقدّم؛ ثم يؤتى بالسلام، ويقال أما بعد حمد الله، ويؤتى بخطبة ثم يقال فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا؛ ثم يقال: وإلى هذا فإن كذا وكذا، ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام على نحو ما مرّ.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر إلى بعض ملوك الغرب يهنّئه بدخول مدينة بجاية «1» في طاعته ما صورته:
من أمير المسلمين عبد الله محمد، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجّاج، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيّد الله أمره، وأعز نصره، إلى محلّ أخينا الذي نصل له أسباب الإعظام والإجلال، ونثني عليه بما له من كريم الشّيم وحميد الخلال، ونسرّ له ببلوغ الآمال، ونجاح الأعمال، في طاعة ذي الجلال، السلطان فلان ابن السلطان فلان، بالألقاب اللائقة بكل منهم، وصل الله له سعدا متصل الدّوام دائم الاتّصال، وصنعا تتجلّى وجوهه من ثنايا القبول والإقبال، وعزّا اتتفيّأ ظلاله عن اليمين والشّمال؛ سلام كريم، برّ عميم، يخصّ(7/67)
سلطانكم الأسنى، ويعتمد مقامكم المخصوص بالزيادة والحسنى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الواهب الفاتح، المانع المانح، مظهر عنايته بمن خلّص إليه قصده، وقصر على ما لديه صدره وورده؛ أبدى من محيّا النهار الواضح، الذي وعد من اتّقاه حقّ تقاته، على ألسنة سفرة الوحي وثقاته، بنجح الخواتم والفواتح، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله المبتعث لدرء المفاسد ورعي المصالح، وسعادة الغادي والرائح، منقذ الناس يوم الفزع الأكبر وقد طاحت بهم أيدي الطّوائح، وهاديهم إلى سواء السبيل بأزمّة النّصائح، ومظفرهم من السعادة الدائمة بأربح البضائع وأسنى المنائح، والرضا عن آله وأصحابه، وعترته وأحزابه، الذين خلفوه أمتثالا لأمر الصّحائف وإعمالا للصّفائح، وكانوا لأمّته من بعده في الابتداء بسنّته والمحافظة على سننه كالنّجوم اللوائح، والدعاء لسلطانكم الأسمى، بالسّعد الذي يغنى بوثاقة سببه، ووضوح مذهبه، عن زجر البارح والسانح «1» ، والعزّ البعيد المطارح، السامي المطامح، والصنع الجميل الباهر الملامح؛ ولا زال توفيق الله عائدا على تدبيركم السعيد بالسّعي الناجح، والتّجر الرابح.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من فضله أوفر الأقسام وأوفاها، وأوردكم من موارد عنايته أعذب الجمام وأصفاها، كما أسبغ عليكم أثواب المواهب وأضفاها. [وأبدى لكم وجوه اللطائف الجميلة وأحفاها] «2» - من حمراء غرناطة- حرسها الله- وفضل الله هامية ديمه، وعوائد اللّطف يصلها فضله وكرمه، والإسلام بهذا الثغر الجهاديّ مرعيّة ذممه، وجاه النبوّة المحمديّة يعمل بين إرغام العدوّ الكافر، وإهداء المسرّات والبشائر، سيفه وقلمه، والسّرور بما يبلغ من(7/68)
مزيد سعدكم وميضه خافق علمه، وودّكم ثابت في مواقف الخلوص قدمه.
وقد اتصل بنا ما كان من دخول حضرة بجاية حرسها الله في طاعتكم، وانتظامها في سلك جماعتكم، وانقطاعها إلى عصمتكم، وتمسّكها بأزمّتكم، وعقدكم منها ومن أختها السابقة الذّمام، الخليقة بمزيد الاهتمام، على عقيلتي الأقطار التي لا يجمع بينهما إلا ملك همام، وخليفة إمام، ومن وضحت من سعادته أحكام، وشهّرت بعناية الله له أدلّة واضحة وأعلام، ومن جمع الله له بين البرّ المتراكض الخيول، والجيش المتدافع السّيول، والخصب الذي تنضي مواجده»
المستنجزة ظهور الخيول، وبين البحر الشهير بنجدة الأسطول، وإنجاز وعد النصر الممطول، ومرسى السّفن التي تخوض أحشاء البحار، وتجلب مرافق الأمطار والأقطار، وتتحف على النّأي بطرف الأخبار.
بجاية وما بجاية دار الملك الأصيل العتيق وكرسيّ العزّ الوثيق، والعدّة، إذا توقّعت الشّدّة، كم ثبتت على الزّلزال، وصابرت مواقف النّزال، أمطاكم السّعد صهوتها، وأحلّكم التوفيق ربوتها، من غير مطاولة حصار، ولا استنفاد ذي وسع واقتدار، ولا تسوّر جدار، فأصبحت دولتكم السعيدة تتفيّأ [جنى الجنّتين، وتختال في حلّتين، وتجمع بفتيا] «2» السيوف المالكيّة بين هاتين الأختين؛ أوزعكم الله شكرها من نعمة جلّت مواهبها، ووضحت مذاهبها، وصنيعة بهرت عجائبها. وإذا كانت عقائل النّعم «3» تخطب أكفاءها، وموارد المنن تعرض على الورّاد صفاءها، فأنتم أهلها الذين لكم تذخر، وبمن دونكم تسخر؛ فإنكم تميزتم بخصال العفاف والبسالة، والحسب والجلالة، وأصبحتم في بيتكم صدرا، وفي هالة قومكم بدرا، مواقفكم شهيرة، وسيرتكم في الفضل لا تفضلها سيرة، ونحن(7/69)
نهنّئكم بما منحكم الله من انفساح الإياله، ونموّ الجلاله، والنّعم المنثاله، بسلطان ألقى عنانه إلى مثلكم قد اختار لقياده، وارتاد فسعد في ارتياده؛ وتكفّل الحزم بحفظ بلاده، وصون طارفه وتلاده «1» ؛ وكأنّ به قد استولى على آماده، وتطاول لإرث أجداده. ولنا فيكم- علم الله- ودّ [تأسّس بناؤه، وكرمت أبناؤه] «2» وحبّ وجب بالشرع إنفاذه إليكم وإنهاؤه. وغرضنا الذي نؤثره على الأغراض والمقاصد، ونقدّمه بمقتضى الخلوص الذي زكت منه الشّواهد، أن تتصل بيننا وبينكم المخاطبة، وتتعاقب المواصلة والمكاتبة، والله عزّ وجلّ المعين على ما يجب لودّكم من برّ تكفل واجبه، وتوضّح مذاهبه، واعتقاد جميل يتساوى شاهده وغائبه، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الصنف الثاني (ما يكتب به إلى الرّعايا)
والحكم فيه على نحو ما تقدّم في الصّنف الذي قبله، إلا أنه يخاطبهم بأوليائنا.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر أيضا إلى بعض رعاياه بمدينة المريّة بالأندلس، بالبشارة بموت الطاغية ملك قشتالة بجبل الفتح، ورحيل قومه به إلى بلادهم ما صورته:
من الأمير عبد الله يوسف، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر أيّد الله أمره، وأعز نصره، وأسعد عصره؛ إلى أوليائنا في الله تعالى الذين نبادر إليهم بالبشائر السافرة الغرر، ونجلو عليهم وجوه الصنائع الإلهيّة كريمة الخبر والخبر، ونعلم ما لهم من الودّ الكريم الأثر: القائد بالمريّة، والقاضي بها، والفقهاء، والأشياخ، والوزراء والأمراء والكافّة والدّهماء «3» من(7/70)
أهلها، عرّفهم الله عوارف الأداء، وأوزعهم شكر نعمة هذا الفتح الرّبّانيّ الذي تفتّحت له أبواب السماء، وأنشرت «1» معجزاته ميّت الرجاء في هذه الأرجاء. سلام كريم، طيب برّ عميم، تنشق منه نفحات الفرج، عاطرة الأرج، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله فاتح أبواب الأمل بعد استغلاقها، ومتدارك هذه الأمة المحمديّة بالصّنع الذي تجلّى لها ملء أحداقها، والرحمة التي مدّت على النّفوس والأموال، والحرمات والأحوال، ضافي رواقها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي دعوته هي العروة الوثقى لمن تمسك باعتلاقها «2» ، وأقام على ميثاقها، ذي المعجزات التي بهرت العقول بائتلاقها، الذي لم ترعه في الله الشدائد على اشتداد وثاقها، وفظاعة مذاقها، حتّى بلغت كلمة الله ما شاءت من انتظامها واتّساقها، والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه؛ الفائزين في ميدان الدنيا والدين بخصل «3» سباقها. فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم شكرا لنعمه، ومعرفة بمواقع كرمه، من حمراء غرناطة- حرسها الله- ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا ما أمّن الأرجاء ومهّدها، وأنشأ معالم الإسلام وجدّدها، وأسّس أركان الدين الحنيف وأقام أودها، وأنتم الأولياء الذين نعلم منهم خلوص الأهواء، ونتحقّق ما عندهم من الخلوص والصّفاء. وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النّخوة والخيلاء مع الغبوق والصّبوح، حتّى طفح بسكر اغتراره، ومحّص المسلمون على يديه بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجّهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنّه [يطفيء] «4» نور الله(7/71)
بناره، ونازل جبل الفتح فشدّ مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البرّ والبحر دور السّوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب، وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب؛ وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظّنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمم الكافرة، والبحور الزاخرة، والمرام البعيد. وإننا صابرنا بالله تيّار سيله، واستضأنا بنور التوكّل عليه في جنح هذا الخطب ودجنّة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتلقنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسّحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق؛ وأخلصنا لله مقيل العثار، ومولى أولي الاضطرار، قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا، ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصّر ذلك في إبرام العزم واستشعار الحزم، وإمداد الثّغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاده على الأحيان؛ فرحم الله انقطاعنا إلى كرمه، حين لجأنا إلى حرمه، فجلا بفضله سبحانه ظلام الشّدّة، ومدّ على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدّة، وعرّفنا عوارف الصّنع الذي قدم به العهد على طول المدّة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الرّكاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلص العباد والبلاد من بين الظّفر والناب؛ فقد كان سدّ المجاز بأساطيله، وكاثر كلمة الحقّ بأباطيله، ورمى الجزيرة الأندلسيّة بشؤبوب شرّه، وصيّرها فريسة بين غربان بحره وعقبان برّه، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرفقة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدوّ العنيد، مع توفّر العزائم- والحمد لله- على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدّين بالتأييد.
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرّب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحلّ تلك العزمة «1» ، وموت شاة «2» تلك الرّقعة، وإبقاء الله على(7/72)
تلك البقعة؛ وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغترارا، وأعظم أنصارا؛ وزلزل أرض عزّه وقد أصابت قرارا؛ وأنّ شهاب سعده أصبح آفلا، وعلم كبره انقلب سافلا؛ وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برغم أنفه؛ وأن محلّته عاجلها التّباب والتّبار «1» ، وعاثت في منازله النار، وتمخّض عن سوء عاقبته الليل والنّهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشّمل لسان مناديهم، وتلاحق بنا الفرسان من جبل الفتح: المعقل الذي عليه من عناية الله رواق مضروب، والرّباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيّق، وارتفاع العائق لها عن الطّريق، وبرء الداء الذي أشرق بالرّيق.
وأن النصارى دمّرهم الله جدّت في ارتحالها، وأسرعت بجيفة طاغيتها إلى سوء مآلها، وسمحت [للسّهب] «2» والنّهب والنار بأسلابها وأموالها؛ فبهرنا هذا الصّنع الإلهيّ الذي مهّد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها، وسألنا الله أن يعيننا على شكر هذه النّعمة التي إن سلّطت عليها قوى البشر فضحتها ورجحتها، أو قيست بالنعم فضلتها؛ ورأينا سرّ اللطائف الخفيّة كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطف الإلهيّ والجود، وقلنا إنما هو الفتح الأوّل شفع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيّدت من صنع الله ببيان.
اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، أنت وليّنا في الدنيا والآخرة؛ وأمرنا للحين فقلّدت لبّات «3» المنابر بهذا الخبر، وجلّيت في جماعات المسلمين وجوه هذا الفتح الرائق بالغرر؛ وعجّلنا تعريفكم به ساعة(7/73)
استجلائه، وتحقّق أنبائه، لتسحبوا له أثواب الجذل ضافية، وتردوا به موارد الأمل صافية؛ فإنما هو ستر الله شمل أنفسكم وحريمكم، وأمانه كفل ظاعنكم ومقيمكم، فقرّطوا به الآذان [وبشّروا به الإقامة والأذان] «1» وتملّوا بالعيش في ظلّه، وواظبوا حمد الله وليّ الحمد وأهله، وانشروا فوق أعواد المنابر من خطابه راية ميمونة الطائر، واجعلوا هذه البشارة سجلّا في فرقان البشائر؛ فشكر الله سبحانه يستدعي المزيد من نعمه، ويضمن اتّصال كرمه، وعرّفوا بذلك من يليكم من الرعيّة ليأخذ مثل أخذكم، ويلحظ هذا الأمر بمثل لحظكم، فحقيق عليكم أن تشيدوا بهذا الخبر في الحاضر والباد، وتجعلوا يوم عاشوراء الذي تجلّى فيه هذا الصّنع ثالث الأعياد، والله سبحانه يجعله للمسرّات عنوانا ويطلع علينا وعليكم وجوه صنعه غرّا حسانا، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» )
والرسم فيه أن يقال أما بعد حمد الله، أو أما بعد فالحمد لله، ويؤتى بخطبة.
ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم من موضع كذا كتب الله لكم كذا وكذا؛ ثم يتخلّص إلى المقصود ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر من الأندلس.
أما بعد حمد الله محسن العواقب، ومخلّد المناقب، ومعلي المراقي في درج عليّة المراقب، ومسخّر النجم الثاقب، في الغسق الواقب «2» ، والكفيل بالحسنى للمتوكّل عليه المراقب، ناسخ التمحيص، بالعناية والتخصيص، لتظهر حكمة المثيب والمعاقب.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الماحي الحاشر العاقب، ذي القدر المسامي للزّهر المصاقب.(7/74)
والرضا عن آله الذين كانوا في سماء ملّته لهداية أمته كالشّهب الثّواقب، فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم توالي المواهب، ووضوح المذاهب، ووقوف الدهر لديكم موقف الثائب من القدح النائب، ووالى لديكم مفاتحة الكتب المهنّئة بفتوح الكتائب- من حمراء غرناطة- حرسها الله- وفضل الله بتعرّف صنعه لكم هامي السّحائب، وكفيل بنيل الرغائب؛ والسرور بما سناه الله لكم من استقامة أحوالكم شأن الشاهد والغائب، والرائح والآئب.
والحمد لله على ما توالى من الألطاف والعجائب. وقد وصل كتابكم الذي أكّد السّرور وأصّله، وأجمل مقتضى البشرى وفصّله، ونظّم خبر الفتح ووصّله، وراش سهم السّعادة والسّداد والعناية والإمداد، ونصّله «1» ، وأحرز حظّ السعادة وحصّله، تعرفون ما أتاح لكم اللطيف الخبير، والوليّ النصير، من الصّنع الذي اتّسق نظامه، والنصر الذي سنّت في أمّ الكتاب أحكامه، والعز الذي خفقت أعلامه، والتوفيق الذي قرطست الغرض «2» سهامه، وأنكم من بعد الكائنة التي راش «3» لطف الله بها وجبر، وأحسن الخير وأدال الخبر، وجعل العاقبة الحسنى لمن صبر، جهزتم الجيوش المختارة، والعساكر الجرّارة، يقودها الخلصان من الوزراء، وتتقدّم رايتها ميامن الآراء، فكتب الله ثبات أقدامها، وتولّى نصر أعلامها؛ ولم يكن إلا أن حمي وطيس النّزال، ورجفت الأرض لهول الزّلزال، وتعوطيت كؤوس الآجال، في ضنك المجال؛ ودجا القتام «4» ، وتوهّم مع فضل الله الاغتنام، وعبس الوجه العبّاس وضحك النّصل البسّام، وأورد الخيل موارد الطّعان الإقدام، فكان لحزبكم الظهور الذي حكّم المهنّدة في الرّقاب، والسّمر الطّوال في الثّغر ثم في الأعقاب، وبشّرت برؤية هلال الفتح عيون الارتقاب، وحطّ عن(7/75)
وجه الصنع الجميل ما ران من النّقاب، وأن من بغى عليكم حسب ما قرّرتم، وعلى نحو ما أجملتم وفسّرتم، من شيوخ الغرب المجلبة، ووجوه الخدم المنتمية إلى حسن العهد المنتسبة؛ تحصّل في حكم استرقاقكم، وتحت شدّ وثاقكم؛ وربما أسفر المكروه عن المحبوب، وانجلى المرهوب عن المرغوب، والله مقلّب القلوب؛ وشيمتكم في ائتلاف النافر، والأخذ من فضل العفو بالحظّ الوافر، كفيل لكم بالصّنع السافر؛ والله يحملكم على ما فيه رضاه، ويخير لكم فيما قضاه؛ فسررنا بما اتّصل لكم من الصّنع واطّرد، ورحّبنا بهذا الوارد الكريم الذي ورد، وشكرنا فضلكم في التعريف بخبره المودود، والشرح لمقامه المحمود؛ وكتبنا نهنّئكم به هناء مشفوعا، وبالدعاء لكم متبوعا، والله يطلع من توالي مسرّتكم على ما يبسط الآمال وينجح الأعمال، ويفسح في السد المجال. والذي عندنا من ودّكم أعظم من استيفائه بالمقال، أو نهوض اليراع بوظائفه الثّقال؛ يعلم ذلك عالم الخفيّات، والمجازي بالنّيّات، سبحانه. والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الطّرف الثاني عشر (في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء المنفّذين أمور الخلافة اللاحقين بشأو الملوك، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العبّاس ببغداد ووزراء ملوكها يومئذ)
أما وزراء إقطاعاتها، فقد ذكر أبو جعفر النحاس في «صناعة الكتّاب» «1»(7/76)
أن المكاتبة من الوزير إلى الخليفة في زمانه كانت: «أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأعزّه وأيّده وأتمّ نعمته عليه، وأدام كرامته له» .
قال ابن حاجب النعمان «1» في «ذخيرة الكتاب» : وإن كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه فدعاؤه له: «أطال الله بقاءك وأدام تأييدك وتمهيدك وكرامتك» . ودونه «أطال الله بقاءك وأدام عزّك وحراستك» . قال: وعلى مقدار المكاتب يكون الدعاء. وأقسامه كثيرة. ثم ذكر الأدعية العامّة بعد ذلك على الترتيب فقال: إن أعلاها يومئذ «أطال الله بقاءه وأدام تمكينه ورفعته وبسطته وعلوّه وسمّوه، وكبت أعداءه وحسدته» . ودونه «أطال الله بقاءه، وأدام تمكينه وارتقاه، ورفعته وسناه، وتمهيده وكبت أعداه» . ودونه «أطال الله بقاه وأدام تأييده ونعماه وكبت أعداه» . ودونه «أطال الله بقاه وأدام تأييده وحرس حوباه» «2» ودونه «أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه» . ودونه «أطال الله بقاءه وأدام نعماءه» .
ودونه «أطال الله بقاءه وأدام عزّه» . ودونه «أطال الله بقاءه وأدام توفيقه وتسديده» . ودونه «أطال الله بقاءه وأدام سداده وإرشاده» . ودونه «أطال الله بقاءه وأدام حراسته» . ودونه «أدام الله تأييده وتمهيده» . ودونه «أدام الله توفيقه وتسديده» . ودونه «أدام الله عزّه وسناه» . ودونه «أدام الله عزّه» . ودونه «أدام الله حراسته» . ودونه «أدام الله كرامته» . ودونه «أدام الله سلامته» . ودونه «أدام الله رعايته» . ودونه «أدام الله كفايته» . ودونه «أبقاه الله» . ودونه «حفظه الله» ودونه «أعزّه الله» . ودونه «أيده الله» . ودونه «حرسه الله» .
ودونه «أكرمه الله» ودونه «وفّقه الله» . ودونه «سلّمه الله» . ودونه «رعاه الله» . ودونه «عافاه الله» .(7/77)
ثم المكاتبات الصادرة عنهم على أسلوبين:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» )
والرسم فيه أن يقال كتابي- أطال الله بقاء سيدي، أو بقاء مولانا- والأمر على كذا وكذا، ومولانا أمير المؤمنين، أو والجانب الأشرف ونحو ذلك على حال كذا؛ ثم يتخلّص إلى المقصد بعد ذلك بما يقتضيه المقام ويختم بقوله ورأي حضرة سيدنا أعلى.
كما كتب بعض الكتّاب عن الوزير قوام الدين بن صدقة «1» إلى بعض وزراء ملوك زمانه في معنى أمير مكة المشرّفة، وما كان بينه وبين أمير الحاجّ في بعض السّنين ما صورته:
كتابي- أطال الله بقاء حضرة سيدنا- ومواهب الله سبحانه في أمر مولانا أمير المؤمنين جارية على الإرادة، مقابلة بالشكر المؤذن لها بالدوام والزّيادة؛ والحمد لله ربّ العالمين. وقد تتابعت المكاتبات في أمر النّوبة «2» المكيّة تتابعا علمه السامي به محيط، والعذر في الإضجار بها مع إنعام النظر بسببها مبسوط؛ وبعد ما صدر آنفا في المعنى المذكور وصل كتاب زعيم مكّة بما نفذ على جهته ليعلم منه ومما لا ريب أنه أصدره إلى الدّيوان العالي السلطاني- أعلاه الله- حقائق الأحوال بغير شكّ: أنه قد اتضح تفريط من فرط «3» في هذه النوبة وعجل، وتحقّق(7/78)
المثل السائر «ربّ واثق خجل» وأسباب ثمرة الهوى الذي ما زال يجمح براكبه، ويريه سوء عواقبه؛ وعلم أنه لم يخط فيما شرع فيه، واستمرّت على الخطأ أواخره ومباديه، إلا بوعد أخلف، ومال أتلف؛ وخطر ارتكب، وصواب تنكّب، وحزم أضيع، وهوّى أطيع، حتّى كان قصاراه، دفع اللائمة عنه، فإنه أوصل الحجيج إلى مقصودهم وأعادهم، وأحسن التواصل حتّى أدركوا من أداء الفريضة مرادهم؛ وهل اعترض دون هذا الأمر مانع، أو كان عنه دافع؟ لولا ما صوّره من الأسباب التي أفسد بها الأمور، وأوغر بمكانها الصّدور، وكفل بعد ما قرّره من ذلك ومهّده، ما عكسه سفه الرأي عليه، وأبعده العجز عن الوصول إليه؛ وأيّ عذر في هذا المقام يستمع؟ أم أيّ لائمة عنه تندفع؟ وقد جرت الحال على ما علم، وتحدّث بانخراق حجاب الهيبة كلّ لسان ناطق وفم، ووقع الاتفاق من كافّة الحاجّ على أن تمسّك نائب مكة بطلب الرّضا، وتكفيل خصمه باستدراك ما تلف من التفريط في معايشه ومضى، ونظره في العاقبة التي ينظر فيها ذوو الألباب، وعمله بما أصدره الديوان العزيز من مكاتبة أمر فيها بالطاعة وخطاب؛ وهو الذي لأم النوبة وشعبها، وسهّل عسيرها ومستصعبها؛ ولو افتقرت إلى سعي أمير الحاجّ واجتهاده وإبراقه بعسكره وإرعاده، لكان الحجّ ممتنعا والخطر العظيم متوقّعا، ولم يحصل الوفد إلا على التغرير بالنفوس، والجود منها بكل مضنون به منفوس؛ ثم عرب الطريق الذي ما زال أمير الحاجّ في حقّهم خاطبا، ولإكرامهم بالقول المتكرّر طالبا، وجاعلا ما لعله يتأخّر من رسم أحدهم من دواعي الخطر في سلوك [الطريق] «1» المردية، وموجبات الفساد في المناهل والأدوية، يتلو من النّهب والاجتياح، والأذى العائد على فاعله بالاقتراف العظيم الوزر والاجتراح، بما يؤلم شجاعة القلوب ويحرّقها، ويبكي العيون ويؤرّقها؛ ولقد انتهى أن العسكر المنفّذ أمامه كان يتنقّل في هضاب البرّيّة وغيطانها، وينقّب عن منازل العرب وأوطانها، فيستقري أحياءهم حيّا فحيّا، ويتخلّل الفجاج فجّا ففجّا، فإذا شارفوا قبيلة منهم طلب النجاة منهم بالحشاشات «2» رجالها، وأسلمت إليهم نساؤها وأطفالها(7/79)
وأموالها؛ فيتحكّمون في ذلك تحكّم من استحلّ موقفه في إباحة محارم الله ومقامه، وأمن مكره الحائق بالظالمين وانتقامه؛ ويستبيحون حريم كلّ بريء غافل لم يقارف ذنبا، وطائع لا يستحقّ غارة ولا نهبا؛ فأين كان [من] «1» النظر عند هذا الفعل في حفظ عرب الطريق؟ وكيف عزب عنه في هذا الرأي منهج التوفيق؟ وهل تتصوّر الثّقة بكل قبائل العرب عن إفساد الآبار والمصانع؟ والعبث بكل مستطاع في المناهل والمشارع، خاصّة إذا علموا أن الذي ظلمهم، واباح حرمهم، هو السالك للطريق آنفا، والمتمكّن فيهم من معاودة الأذى الذي أضحى كلّ به عارفا، واستدراك الفارط في هذا الأمر المهمّ متعين، ووجه الرأي فيه واضح متبيّن، والإشارة في كتاب زعيم مكة، إلى ما جرى من المعاهدة واستقرّت القاعدة عليه [من] «2» إعادة ارتفاعه المأخوذ ورسومه على التمام والكمال إليه، أدلّ الأدلّة على بعد النوبة من الالتئام، ودخول الخلل عليها وانحلال النّظام، وتعذّر الحجّ في المستقبل. على أن من أفسدها، لم يتأمّل لنفسه طريق الصّدر حين أوردها؛ والألمعيّة السامية المعزّيّة حرس الله عزّها اللامحة ببديهتها العواقب، المستشفعة سرائرها بالرأي الثاقب، أهدى إلى تدبيرها بما يستدرك الفارط «3» ، ويتلافى غلط الغالط، ويعيد الأحوال إلى جدد «4» الصلاح وسننه، ويجريها على أجمل قانون مألوف وأحسنه، وما أولاه بالتقديم في هذا المهمّ الذي لا أحق منه بالاهتمام والجدّ الصادق التام، بما تطمئنّ به النفوس إلى صلاحه وانتظامه، وارتفاع كلّ مخشيّ من الخلل الداخل عليه وانحسامه، والإعلام في الجواب بما يقع السكون إلى معرفته، ويحصل الأنس والشكر في مقابلته؛ ورأي حضرة سيدنا أعلى إن شاء الله تعالى.(7/80)
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار)
مثل أن يقال: أصدرت هذه المكاتبة، أو هذه الجملة، والأمر على كذا وكذا، بعد أن يدعى للمكتوب إليه بعد لفظ الإصدار، ثم يتخلّص إلى المقصود بما يليق بالمقام، ويؤتى على القصد إلى آخره، ويختم بقوله: ورأي حضرة سيدنا أعلى.
كما كتب عن الوزير قوام الدين بن صدقة أيضا إلى ملك سمرقند جوابا عن كتاب وصل منه إليه:
أصدرت هذه الجملة «1» - أطال الله بقاء حضرة مولانا- ومواهب الله سبحانه في الجناب الأشرف- لا زالت مطالع سعوده منيرة، وأعواد علائه مورقة نضيرة- آهلة الرّبوع، عذبة الينبوع، قارّة لا يظعن ركبها، دارّة لا يعز حلبها «2» ؛ والحمد لله رب العالمين.
ووصل كتابه، أدام الله علوّه، الصادر على يد الشيخ الأجلّ العالم أبي الحسن بن علبك ووقفت عليه وعرفت فحواه، وتضاعف الشكر لله سبحانه بما حواه، من اطّراد الأمور واتّساقها، وطلوع شمس النّجح في سماء مباغية وإشراقها، وأحدث ابتهاجا بوروده متوفّرا، واغتباطا بما أولاه جلّت آلاؤه من صنعه الذي أصبح ذنب الأيّام معه مغتفرا، وعرضت خدمته المقترنة به على مجالس العرض الشريفة قدّسها الله مشفوعة بذكر ما لبيته الكريم وسلفه الزاكى الأرومة من المآثر التي أضحى بها في الفخر علما، وعلى ناصية المجد محتويا محتكما، في ضمن إيضاح المحاسن التي أصبح أيّد الله سموّه بها منفردا، ولنجاد المحامد بحسبها مقلّدا، والمواقف في الطاعة الإمامية التي أصبحت غرّة في جبهة الزمان،(7/81)
ولم يسع في مثلها لغيره قدمان، وانتهت في تمكين القواعد وتوطيدها، وتأكيد الأحوال وتمهيدها، والتجرّد في تحصيل الأرب، وتيسير المطلب، إلى ما يوجبه الودّ المحصف «1» الأمراس، والمصافاة الخالصة من الشوائب والأدناس؛ فآنست في مقابلة ذلك من الالتفات إلى ما أوردته مما يبيّن عن لطف مكاتبته بالموقف الأشرف ويعرب، ويصفو مورد الفخار بمثله ويعذب، وجدّد من التشريف والزيادة فيه ما يؤفي على الذي تقدّمه قدرا، ويجلّ طوقه عن أن يرضى عمرا، وشفع ذلك بتنفيذ التشريفات لولده أيّد الله علوّه والمطيفين بحضرته، واللائذين بحوزته، وابتدائهم بالإحسان والإنعام، والتّكرمة الموفية على المرام، إكبارا لشأنه، وإبانة عن محلّه من الآراء الشريفة ومكانه، وإيثارا لإعظام أمره، وإعلاء قدره، ليعلم- أيد الله علوّه- مكان التجرّد في هذه الحال، وصدق السعي الذي افترّت ثغوره عن نجح الآمال، وأرجو أن يصادف حسن المقام في ذلك عنده موقعه، ويلقى لديه اعترافا يوافق مرآه مسمعه.
فأما الإشارة إلى المشار إليه في التوزّع لتلك الهنات الجارية، التي ما زالت الأيام بمثلها جائية، والاستبشار بزوال ما عرض واضمحلاله، وعود الرأي الأشرف إلى أكمل أحواله، وقد عرفها بمزيد الاعتداد والشكر قائلها، ولم يكن الذي جرى مما يشعّب فكرا، أو يتوزّع سرّا، فإن الاعتداد الأشرف كان بحمد الله محفوظا، والاجتهاد في الخدمة بعين الاعتراف والرضا ملحوظا، لم تحله حال متجدّده، ولا رتعت الحوادث مورده؛ وما زالت ثغور الأيّام في كل وقت عن الزيادة باسمه، وسحبه بنجح اشتطاط «2» الآمال ساجمه، والمندوب لتحمّل المثال وما يقترن به من التشريف فلان، وهو من أعيان العلماء، ومن له في ميدان السبق شأو القرناء؛ وله في الدار العزيزة مجّدها الله الخدمة الوافية، والمكانة الوافرة، وما زالت مذاهبه في خدمه حميدة، ومقاصده على تقلّب الحالات مرضيّة سديدة؛(7/82)
وجدير بتلك الألمعيّة الثاقبة أن تتلقّى ما يورده بالإصغاء، وتقابل النّعم المسداة إليه بالشكر الماطر الأنواء، وتوقظ ناظر اهتمامه للنّهوض بأعباء الخدمة الإماميّة، وحيازة المراضي المكرّمة النبويّة، وتمهي «1» عزيمتها فيما يكون بالإحماد الأشرف محظيا، ولأمثال هذا العرف المصنوع مستدعيا، ولرأي حضرة سيدنا في ذلك علوّ رأي إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية (في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء الفاطميين بالديار المصرية)
فقد ذكر عليّ بن خلف من كتّاب دولتهم في كتابه «موادّ البيان» «2» أنه إذا كانت المكاتبة من الوزير إلى من دونه، تكون بغير تصدير؛ إلا أن الخطاب فيها يجب أن يبنى على أقدار المخاطبين في مراتبهم في الدولة، ولم يزد على ذلك.
والذي وقفت عليه منه أسلوب واحد: وهو أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابنا والأمر على كذا» ويتعرّض فيه لذكر حال الخلافة والخليفة، ثم يتخلّص إلى المقصود بما يقتضيه الحال، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن بعض وزراء العاضد: آخر خلفائهم إلى بعض الملوك ما صورته:
كتابنا- أطال الله بقاء الملك- عن مودّة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشّباب، وعوائد عوارف لا يتنكّر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدّع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقص معروفها ولا ينفض مسوفها «3» ؛(7/83)
وسعادة بالخلافة التي عدق «1» إليه أمرها وأوضح سرّها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها. بمولانا وسيدنا أمير المؤمنين تتوالى ميامنها، وتتلألأ محاسنها، وتشرف درجاتها، وتتضاعف سعادتها؛ والكلمة قائمة على أصولها، وأمور الخلق جارية على ما هو لها، ونظام الإسلام بسياستها لا يهي، وسياقة الدوام في سعادتها لا تنتهي، والله الموزع شكر هذه المنن، المسؤول في الإنهاض لما نهضت فيه النيّة وقصرت عنه المنن؛ ولم نزل- أدام الله إقبال الملك المعظم- معظّمين لأمره، عارفين نبل قدره وجليل فخره، مشيدين بجميل ذكره وجزيل نصره، معيدين لما تتهادى الألسن من مستطاب نشره، قارئين من صفحات الأيام ما أمدّها به من بشره، غير مستيمنين لذكر اسمه الكريم إلا بصيامه وشكره، موردين مما هو يبلغه من بارع ضرائبه بالمقامات الشريفة من آثار سلفه ومآثرهم، ومأثور مكارمهم ومفاخرهم، واستناد المكرمات إلى أوّلهم وآخرهم، ومشهور ذبّهم عن الملّة ودفاعهم عن أهل القبلة، وسدادهم في الأمور، وسدادهم الثّغور، وسيادتهم الجمهور، وإستقلالهم بالمشقّات المتقدّمة، وإخمادهم نيران الخطوب المضطرمة، وكفّهم سيول السيوف العرمة، وموالاتهم أمور الدولة العلويّة التي اشتهر بها منهم الأكابر، وورثها كابر عن كابر، وحافظوا منها على سيرة معروف لا ينسخ، وعقد صفاء لا يفسخ، وسريرة صدق تستقرّ في الضمائر وترسخ، وتتوضّح بها غرّة في جباه السبق وتشدخ «2» ؛ وتستهدي عند إيراد هذا الذّكر العطر، والثناء المشتهر، من الدعوات الشريفة العاضديّة المعضودة بالنّجح، المتوضّحة عن مثل فلق الصّبح، ما يتهلّل لمساعيه بالميامن المستهلّة، ولمراميه بالإصابة المتصلة، بينه وبين هذه الدولة العالية، والخلافة الحالية، بكتاب منه نهجنا فيه طريقها اللاحب «3» ، واستدعينا به إجابته التي تتلقّى بالمراحب؛ وأعلمناه أنّ تمادى الأيام(7/84)
دون المراسلة وتطاولها، وتنقّل الأحوال والدّول وتناقلها، لا يزيد مودّته إلّا استحكام معاقد، وانتظام عقائد، ووفاء مواعد، وصفاء موارد؛ وأنه لا تباعد بين القلوب بغرض المرمى المتباعد، ولا تفرّق المسافات القواصي ما بين النّيات القواصد. فلما تأخرت الإجابة، تقدّمت الاسترابة، وتناجت الظنون المعتلجة، وتراجعت الآراء المختلجة، بأن الرسول عاقته دون المقصد عوائق، وتقسّمته من الأحداث دون الطريق طرائق؛ فلم ترد المكاتبة إلى جنابه، ولا أسعد السعى بطروق جنابه، الذي تنال السعادة وتجنى به، وإلا فلو أنه أمّ له، بلغ ما أمّله، ولو وصله، لأجاب عما أوصله؛ لأن مكارم خلائقه تبعث على التبرّع بالمسنون فكيف بقضاء المفروض، وشرائف طرائقه تأبى للحقوق الواجبة أن تقف لديه وقف المطّرح المرفوض. فجدّدنا هذه المكاتبة مشتملة على ذلك المراد، وفاوضناه بما يعيره الإصغاء، ويجنّبه الإلغاء، ويحسن له الإنصات، ولا يحتاج فيه إلى الوصات «1» ورسمنا أن يكتمه حتّى من لسانه، وأن يطويه حتّى عن جنانه، وأن يتمسك بالأمر النبويّ في استعانته على أمره بكتمانه؛ فمن حسن الحزم سوء الظن، وهل لأرباب الأسرار فرج إلا ما دامت في السجن، وقد استلزمنا المرتهن لما استعظمنا الرهن، وفوّضنا إلى من لا يعترينا فيه الوهم ولا منه الوهن؛ ونحن تحبّبنا بما يعلم به حسن موقع رسالة الاسترسال، وبما يبيّن به عن دلالة الإدلال، وبما يرحّب بمودّته مجال الجمال؛ والله سبحانه يؤيّد الملك بنصر تستخدم له الأقدار، وسعادة لا تتصرّف في تصريفها أحكام الفلك المدار، وإقبال يقابل آراءه وآدابه في فاتحة الورد وعاقبة الإصدار، وعزّ لا يزال منه متوقّلا «2» في درجات الاقتدار إن شاء الله تعالى.(7/85)
الطرف الثالث عشر (في المكاتبات الصادرة عن الأتباع، إلى الملوك ومن في معناهم؛ وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدّم، وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابي» )
ويدعى للمكتوب «1» ........... كذا وكذا، ويتخلّص إلى المقصود بما تقتضيه الحال، ويخاطب السلطان في أثناء الكتاب بمولانا أو بمولانا الملك، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بتاء المتكلم ولفظ الإفراد، ويختم بقوله:
فإن رأى أن يفعل كذا فعل إن شاء الله تعالى. ويدعى للمكتوب إليه بطول البقاء مع التعرّض لذكر الخليفة في أثناء الكتاب.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب، كتب به أبو إسحاق الصابي «2» عن أبي الفضل الشّيرازي: أحد نوّاب بني بويه إلى عضد الدولة بن بويه «3» ، في جواب(7/86)
كتاب وصل منه إليه، يخبره بفتح خراسان وطاعة صاحبها، وهو:
كتابي- أطال الله بقاء مولانا- والأمور التي أخدم فيها جارية على السّداد، مستمرّة على الاطراد؛ والنّعم في ذلك خليفة بالتّمام، مؤذنة بالدّوام.
والحمد لله حقّ حمده، وهو المسؤول إطالة بقاء موالينا الأمراء، وحراسة ما خوّلهم من العز والعلاء؛ وأن لا يخليهم من صلاح الشان، وسموّ السلطان؛ وظهور الوليّ، وثبور «1» العدوّ.
ووصل كتاب مولانا [الأمير أطال الله بقاءه] «2» الصادر من معسكره المنصور بكازرين «3» ، بتاريخ كذا، مخبرا بشمول السلامة، مبشّرا بعموم الاستقامة، موجبا لشكر ما منح الله من فضله وأعطى، مقتضيا [نشر] «4» ما أسبغ من طوله وأضفى، مشروحا فيه الحال فيما كان يجري من الخلاف بين مولانا الأمير السيد «ركن الدولة» وبين ولاة خراسان، وجهاده إيّاهم في حياطة الدّين، وحماية حريم المسلمين، والدعاء إلى رضا رب العالمين، وطاعة مولانا أمير المؤمنين؛ وتذمّمه مع ذلك من دماء كانت باتّصال الحروب تسفك، وحرمات باستمرار الوقائع تنتهك، وثغور تهمل بعد أن كانت ملحوظة، وحقوق تضاع بعد أن كانت محفوظة؛ وأنه لما جدّدت العزيمة على قصد جرجان ومنازعة ظهير الدولة أبي منصور بن وشمكير مولى أمير المؤمنين [على تلك الأعمال، ودفعه عما ولاه أمير المؤمنين] «5» بوسيلة موالينا الأمراء أدام الله تمكينهم منها ومنازعته ومجاذبته فيها، نهض مولانا [الأمير الجليل عضد الدولة] «6» إلى كرمان على اتفاق كان بين مولانا الأمير السيد ركن الدولة وبينه في التوجّه إلى حدود خراسان، فحين عرف(7/87)
القوم الجدّ في ردّهم، والتجريد في صدّهم، وأنه لا مطمع لهم في جنبة «1» إلى طاعة أمير المؤمنين انتسابها، وبذمام سادتنا الأمراء اعتصامها، اتّعظوا واتّزعوا، وعرّجوا ورجعوا سالكين أقصد مسالكهم، منتهجين أرشد مناهجهم، معتمدين أعود الأمور على المسلمين عموما وعليهم خصوصا باجتماع الشّمل، واتّصال الحبل، وأمن السّرب، وعذوبة الشّرب، وسكون الدّهماء، وشمول النّعماء؛ فخطبوا الصّلح والوصلة، وجنحوا إلى طلب السّلم والألفة؛ وأن مولانا [الأمير عضد الدولة] «2» آثر الأحسن واختار الأجمل: فأجاب إلى المرغوب فيه إليه، وتوسّط ما بين الأمير السيد ركن الدولة وبين تلك الجنبة فيه، وتكفّل بتقريره وتمهيده، وتحقّق بتوطيده وتشييده، وأخرج أبا الحسن عابد بن عليّ إلى خراسان حتّى أحكم ذلك وأبرمه، وأمضاه وتمّمه، بمجمع من الشيوخ والصّلحاء، ومشهد من القضاة والفقهاء؛ وأنّ صاحب خراسان عاد على يد مولانا [الأمير عضد الدولة] «3» إلى طاعة مولانا أمير المؤمنين ومشايعته، والإمساك بعلائق ولائه وعصمته؛ وصار وليّا بعد العداوة، وصديقا بعد الوحشة، ومصافيا بعد العناد، ومخالطا بعد الانفراد، وفهمته. وتأمّلت- أيد الله مولانا- ما في ذلك من ضروب النعم المتشعّبة، وصنوف المنح المتفرّعة، العائدة على الملك بالجمال، وعلى الرعيّة بصلاح الحال؛ الداعية إلى الائتلاف والاتفاق، المزيلة للخلاف والشّقاق؛ فوجدت النفع بها عظيما، والحظّ فيها جسيما، وحمدت الله حقّ حمده عليها، وشكرته أن أجراها على يد أولى الناس بها، وأحقّهم بالمكارم أجمعها، وأن قرّب الله بيمنه [ما كان بعيدا معضلا، ويسّر ببركته] «4» ما كان ممتنعا مشكلا؟ فأصلح ذات البين بعد فسادها، وأخمد نيران الفتن بعد تلهّبها واتّقادها، ووافق ما بين نيّات القلوب، وطابق بين نخائل «5» الصدور، وتحنّت الضلوع بنجح سعيه على(7/88)
التّألف، وانضمّت الجوانح بميمون رأيه على التعاطف؛ وحصل له في ذلك من جزيل الأجر، وجميل الذكر؛ وجليل الفخر، وأريج النّشر، ما لا تزال الرّواة تدرسه، والتواريخ تحرسه، والقرون تتوارثه، والأزمان تتداوله؛ والخاصّة تتحلّى بفضله، والعامّة تأوي إلى ظله.
فالحمد لله كثيرا، والشّكر دائما على هذه الآلاء المتواترة، والعطايا المتناصرة، والمفاخر السامية، والمآثر العالية؛ وإيّاه أسأل أن يعرّف مولانا الملك الخيرة فيما ارتآه وأمضاه، والبركة فيما أولاه وأجراه؛ وأن يهنئه نعمه عنده، ويظاهر مواهبه لديه، ويسهّل عليه أسباب الصلاح، ويفتح أمامه أبواب النجاح، ويعكس إلى طاعته الرقاب الآبية، ويذلل لموافقته النفوس النائية؛ ولا يعدمه وموالينا الأمراء أجمعين المنزلة التي يرى معها ملوك الأرض قاطبة التعلّق بحبلهم أمنا، والإمساك بذمامهم حصنا، والانتماء إلى مخالطتهم عزّا، والاعتزاء إلى مواصلتهم حرزا، إنه جل وعزّ على ذلك قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير.
وقد اجتهدت في القيام بحقّ هذه النعمة التي تلزمني، وتأدية فرضها الذي يجب عليّ: من الإشادة بها والإبانة، والإشاعة والإذاعة؛ حتّى اشتهرت في أعماله التي أنا فيها، واستوى خاصّتها وعامّتها في الوقوف عليها، وانشرحت صدور الأولياء معها، وكبت الله الأعداء بها، واعتددت بالنعمة في المطالعة بها والمكاتبة فيها؛ وأضفتها إلى ما سبق من أخواتها وأمثالها، وسلف من أترابها وأشكالها؛ فإن رأى مولانا الأمير الجليل عضد الدولة أن يأمر أعلى الله أمره بإجرائي على أكرم عاداته فيها، واعتمادي بعوارض أمره ونهيه كلّها، فإن وفور حظّي من الإخلاص، يقتضي لي وفور الحظ من الاستخلاص، فعل. ان شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بالإصدار)
مثل: أصدر الخادم أو العبد ونحوه، ويؤتى بالصدر إلى آخره؛ ثم يتخلّص(7/89)
إلى المقصود بما يقتضيه المقام، ويختم بقوله: وللرأي العالي مزيد العلوّ ونحو ذلك.
كما كتب عن بعض وزراء الراشد أو المسترشد إلى السلطان سنجر السّلجوقي «1» ، في حق قطب الدين أبي منصور أزدشير العباديّ: وقد ورد إلى أبواب الخلافة ببغداد رسولا، وكان أبوه وخاله وسلفه من أهل العلم والزّهد، وهو من الفصحاء البلغاء ما صورته:
أصدر خادم المجلس العالي هذه الخدمة عن ضمير معمور بالولاء، وإخلاص دواعيه متصلة على الولاء، وعكوف على ما يرجو به حصول المراضي العليّة، والتحقّق لمشايعته الواضحة شواهدها الجليّة، والحمد لله رب العالمين.
وبعد، فما زال الجناب العالي السلطانيّ الشاهنشاهيّ الأعظميّ أعلاه الله لكلّ خير منبعا، وحرمه الآمن للفوائد الجمّة مغاثا ومربعا، والسعادة والتوفيق مقرونين بسامي آرائه، مطيفين به من أمامه وورائه؛ في كل رأي يرتئيه، ومقرّب يصطفيه، وامرىء يتخيّره ويقلّده، وأمر يحلّه ويعقده، وصنع جميل يصيب من الاستحقاق موضعه، ويعيد طيب الذكر مجهّزه ومبضعه؛ مناقب تفوت الإحصاء عدّا، وترد من مفاخر الوصف منهلا عذبا وتسير بذكرها الرّفاق غورا ونجدا، وتجاوز غايات المدح علاء ومجدا، وكفى على ذلك دليلا قاطعا، وبرهانا ساطعا؛ ما اقتضته الآراء العلية من التعويل على فلان العبّاديّ في تحمّل الرسالة الأعظميّة التي عدقت «2» منه بالنقيّ الجيب، البريء من العيب، العاري من دنس الشكّ(7/90)
والرّيب؛ فإن اختياره لهذا الأمر طبّق مفصل الصواب، ولشاكلة «1» رمي الرأي أصاب؛ إذ هو الفذّ في علمه وفضله، السديد في قوله وفعله، البارع في إيجاز الخطاب وفصله، المعرق في الزّهادة والدّيانة المزيّنين لفرعه وأصله.
ولما وصل إلى الأبواب العزيزة الإماميّة- ضاعف الله تعالى مجدها- مثل بالخدمة مؤدّيا من فرضها ما يلزم أمثاله من ذوي العقائد الصحيحة، والموالاة المحضة الصريحة؛ وصادف من التّكرمة والإنعام ما يوجبه له محلّه من العلم الذي لا تكدّر الدّلاء بحره، ولا تدرك الأرشية «2» بطولها قعره؛ فهو فيه نسيج وحده، وناسج برده، وناشر علمه، ومستغزر ديمه. وألقى من ذلك ما يقتضيه اختبار أحواله الشاهدة بأنه ممن أصحب في يده قياد الفصاحة الأبيّ، وملّكته زمامها الممتنع على من عداه العصيّ، وجمع له من الفضائل ما أصبح في سواه متفرّقا، وخير له منها ما جعل جفن حاسده لفرط الكمد مؤرّقا، إلى ما زان هذه الخصائص التي تفرّد فيها وبرع، وطال مناكب الأقران وفرع: من الإخلاص الدالّ على تمسّكه بحبل الدّين المتين، واستمراره على جدده الواضح المبين، وفصل عن الأبواب العزيزة فائزا من شرف الإرعاء، ما وفّر الحظوظ والأنصباء؛ حاصلا من حميد الآراء، على أنفس العطاء وأجزل الحباء؛ وقد تمهّد له من الوجاهة والمكانة ما يفخر بمكانه، وتنقطع دون بلوغ شأوه أنفاس أقرانه؛ ورسم- أعلى الله المراسيم الإمامية وأمضاها- مطالعة المجلس العالي السلطانيّ أعلاه الله بهذه الحال، تقريرا لها عند العلم الكريم واستمدادا للطّول والإنعام، باختصاص قطب الدّين بالاحترام؛ الذي هو حقيق بمثله، وخليق أن لا يضحى عن وارف ظله، وما يوعز به من ذلك يصادف من دواعي الاستحقاق أوفاها، ويرد من مناهل الذكر الجميل أعذبها وأصفاها، ويتلقّى من شرف المحامد بألطفها وأحفاها، وللرأي العالي علوّ رأي، إن شاء الله تعالى.(7/91)
الجملة الثانية (في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الديار المصرية إليهم، والمختار منه أسلوبان) الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء)
مثل أن يدعى بعزّ الأنصار، أو إدامة السلطان، أو تخليده، أو إدامة بسطة السلطان، أو إدامة الأيّام ونحو ذلك. ويخاطب السلطان فيه بمولانا، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بالمملوك، ويختم بالدعاء. وهي طريقة القاضي الفاضل ومن تلاه من كتاب الدولة الأيوبية بالديار المصرية.
قال ابن شيث في «معالم الكتاب» «1» : ولا يقال في مخاطبة السلطان:
سيدنا مكان مولانا، وإن كان السيد من الألقاب السلطانيّة، لأنّ لفظ سيدنا مما أصطلح عليه لأكابر المتعمّمين من الفقهاء والقضاة والكتّاب، فاجتنب في حق السلطان كي لا تقع المشاركة بينه وبين غيره في الخطاب.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب «2» في جواب كتاب ورد منه بالبشارة بفتح خلاط «3» وهي:
أدام الله سلطان مولانا الملك العادل وزاده من فضله، ومدّ على خلقه وارف ظلّه، وأظهر به دينه على الدّين كلّه، وأوضح إلى مرضاته ما يسلكه من سبله، ولا عدمت يد الإسلام والمسلمين التعلّق بوثيق حبله، وفرّج به الخطط المطبقة، وفتح به البلاد المستغلقة، وأخضع لطاعته الأعناق، وعمّ بفتوحه الآفاق، ودمّر(7/92)
الكفر بمقامه، وطوى أيّامهم بما ينشره ويديمه من أيامه، وأنزل النصر في مواقف النّزال بما ترفعه راياته من أعلامه.
وقف المملوك على ما أنعم به مولانا: من كتاب البشارة التي وصلت إلى كلّ قلب وسمع، وأمّل بها كلّ مسلم كلّ خير ونفع، وعلم ما وراءها من جمع شمل كان عزيز الجمع، وعلم ما يتبعها من عواطف مولانا التي عوّدها منه أكرم طبع، وتحقّق أن الله سبحانه قد قلّد الدين منه سيفا خلقه للوصل وخلق السّيوف للقطع.
وبالجملة إن الله سبحانه نظر إلى هذه الملّة بنظر مولانا لها، وكفالته لأهلها، وسياستهم بشرف السجيّة وعدلها، وإن كل ما اختلس الملك الناصر رحمه الله فإن الله يتمّه على يديه، ويجبر به تارة بصفحة وتارة بحدّيه، ويهب له عمرا نوحيّا «1» إلى أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، وإلى أن يورث الإسلام بسيفه منهم أرضا ومالا وديارا؛ وهذه مخايل «2» لا يخلف الله بارقتها؛ بل يردّ إلى جهة الكفر صاعقتها، فما يحسب المملوك أن جانبا يتلوّى على طاعة مولانا ولا ينحرف، ولا أنّ كلمة عليه بعد اليوم تختلف، ولا أنّ ممتنعا بالأمس يكون معه اليوم إلا أن يرضى عنه مولانا وعليه ينعطف.
وعلى هذا فالشام الفرنجيّ «3» متأخذ بجناح إلى الأخذ وبقية عمر المؤمن كما قال صلّى الله عليه وسلّم لا ثمن لها، والفرص تمرّ مرّ السحاب، والمستعاذ بالله من حسرات الفوت بعد الإمكان وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
«4» وما يشخص «5» لخطاب الله تعالى بالجهاد إلا مولانا: النية خالصة، والبصيرة ثاقبة، والعزيمة ماضية، والشجاعة منحة من الله له موهوبة، والسماحة خليقة من خلائقه الكريمة موجودة،(7/93)
والرجال تطأ عقبيه، والملوك تطيع أمره والشّجعان تبذل أنفسهم بين يديه، والعدو يعرف منه خصما طالما خاطبه بلسان السيف منه إليه. وليس كلّ من قدر عليه أراده، وعكّا أقرب من خلاط وأنفع للمسلمين فتحا، وأعظم في الكفّار قدحا؛ فوالله لئن انغلق باب الشام في وجه الكفر، لتنقطعنّ آمال أهل البحر والبرّ؛ وما دام في الشام بقية من الكفر فهو يقبل الزّيادة، وينتظر النّجدة ويؤمّل الاستعادة؛ وما كرر المملوك هذا الحديث جهلا بما يجب في خدمة الملوك من الأدب في أن يتكلّم في القضية إلا من استشير فيها، ولا يجتريء على الكلام إلا إذا كان مجيبا بما يؤمر بالإجابة عنه، ولكن المملوك غلب على الصّحبة، وانقطع عن الخدمة، وعلم أنه لو كان حاضرا لكان مولانا يبسطه ولا يقبضه، ويستشفّ ما عنده ويستعرضه، ويشفّع قلبه في لسانه إذا هفا، ويحمله على صفاء ضميره فيما يقوله فلا يقابل بالتكدير من صفا؛ فقد علم الله أن المملوك يتمنّى للمسلمين أن يردّ عليهم حقّهم، وترجع إليهم بلادهم، وأن تكون هذه الأمنيّة جارية على يد مولانا ومستفادة من عزيمته، ومكتوبة في صحيفته، ومغتنمة فيما يمدّه الله في حياته؛ فإن الأمور فيما بعد ملموحة، ولكن أبواب قدرة الله مفتوحة؛ فالله يجعل منها أن يفتح على مولانا فيه بلاد الساحل، وأن يأخذ للإسلام به أهبة المقيم وللمقيم أهبة الراحل؛ وما يخلط المملوك هذا المهمّ بغيره، طالع به، ولمولانا علوّ الرأي.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بيقبّل الأرض مصدّرا بالمملوك)
وهي من مصطلحات الدولة الأيّوبية أيضا إذا كان المكتوب عنه دون من تقدّم.
كما كتب القاضي الفاضل عن نفسه إلى السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» يهنئه بمولود ولد له:
المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالي الناصريّ نصر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحقّ بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمدية عقد اعتزائه بكفالتها ومضاء اعتزامه.(7/94)
يهنّيء المملوك المولى بنعمة الله عنده وعند الإسلام وأهله بمن زاده في ولده، وكثّره في عدده؛ وهو الأمير «أبو سليمان داود» أنشأه الله إنشاء الصالحين، ومنّ الله بكمال خلقه، ووسامة وجهه، وسلامة أعضائه، وتهلّل غرّته، وابتسام أسرّته؛ ودل على أن هذا البيت الكريم فلك الإسلام لا يطلع فيه إلا البدور، كما دلّ على عناية الله بأبيه، فإن الله تعالى قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ
«1» فطريق المولى هذه قد توالت فيها البشائر، ونصر الله فيها بألطاف أغنت بلطف الخواطر عن قوة العساكر، واشتملت عليه في الغائب من أمره والحاضر وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
«2» وكيف يحصيها المحصي ويحصرها الحاصر، أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟.
فالحمد لله الذي جعل كتب المولى إلى أوليائه وكتبهم إليه مبتسمة عن المسارّ، ناطقة بأطيب الأخبار، منكشفة أسرارها عمّا يروّح الأسرار؛ وهذا الولد المبارك هو الموفّى لاثني عشر «3» ولدا، بل اثني عشر نجما متوقّدا. فقد زاد الله في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السّلام نجما، ورآهم المولى يقظة ورأى ذلك الأنجم حلما؛ ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق له سجودا، وهو سبحانه قادر أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدودا.
الجملة الثالثة (في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الغرب إليهم، والمختار منه أربعة أساليب)
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلقب المكتوب إليه)
مثل: المقام أو الجناب، وينعت، ثم يقال: مقام فلان، ثم يؤتى بالسلام ثم(7/95)
بالبعديّة، ويؤتى بخطبة، ويتخلّص إلى المقصد، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب ابن البنّاء عن ابن خلاص إلى أمير المسلمين الواثق بالله أبي بكر بن هود، في جواب كتاب ورد عليه منه ما صورته:
المقام العليّ، الواثقيّ المعتصميّ، المبارك السامي السّنيّ، معدن الفضل ومقرّه، ومسحب ذيل الفخر ومجرّه، ومناط حمل أمانة المسلمين التي لا يحملها إلا أبلج الشّرف أغرّه، ولا يتقلّد قلادتها إلا تقيّ المنشإ برّه؛ مقام مولانا جمال الملك وبهائه، والباعث في معطفه أريحيّة النجابة وازدهائه، الأمير الأجلّ المعظم، المكبّر الهمام المكرم، المبارك الميمون السعيد، الموفّق الرشيد، المظفّر المؤيّد، المرفّع الممجّد، وليّ العهد، وواسطة عقد المجد، والملبس سرابيل اليمن والسعد، الواثق بالله، المعتصم به، أبي بكر ابن مولانا مجد الإسلام، وجمال الأنام؛ ومجاهد الدّين، سيف أمير المؤمنين، المتوكّل على الله تعالى أمير المسلمين، أبقاه الله واردا من مشارع التأييد أعذبها، متخوّلا من صنع الله الجميل ما يسدّد أبعد الأمة وأقربها؛ ممتدّا مدّ السعادة ما جلت غرّة الفجر حندس «1» الظلماء وغيهبها. عبد بابه الأشرف، ومملوك إحسانه الأسحّ الأذرف، مسترقّه الآوي إلى ظل سلطانه الأمدّ الأورف، الحسن بن أحمد بن خلاص.
سلام الله الطيب الكريم وتحيّاته، يعتمد الواثقيّ المعتصميّ ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي له الأمر من قبل ومن بعد، والصلاة على سيدنا محمد نبيّه الذي ترتّبت على اجتنابه الشقاوة ووجب باتباعه السعد، وعلى آله وصحبه الذين ناضلوا عن ديانته حتّى وضح السّنن وبان القصد- والرضا عن خليفته وابن عمّه الإمام العباسيّ أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور المستنصر بالله، وارث شرفه(7/96)
النبويّ، ومجده الهاشميّ، بخصائصه التي لا تعفّي أنوارها الأبكار «1» ، ولا يطمس آثارها الحجر. وعن مولانا مجد الإسلام، جمال الأنام؛ مجاهد الدّين، سيف أمير المؤمنين، المتوكل على الله تعالى أمير المسلمين؛ ذي العزمات التي لا تغني غناءها الذّبل «2» التي منبتها الخطّ «3» ، ولا القضب «4» التي منشؤها الهند. والدعاء لمقام الثّقة والاعتصام، ومقرّ الإحسان والإنعام، بالنصر الذي يؤازره الظّفر، ويظاهره العضد.
فكتبه عبد المقام الواثقيّ المعتصميّ- كتب الله له تأييدا يحفظ على الدين نظامه، وتخليدا يرث ليالي الدّهر وأيامه- من إشبيلية حرسها الله تعالى، وللبركات المتوكّليّات والواثقيّات بها انثيال كما تتابع القطر، وسطوع كما ابتسم في مطالعه الفجر، وتعهّد لا تزال تقرّ به العين وينشرح له الصدر؛ والخدمة اللازمة للمثابة العلية الواثقية المعتصميّة- أعلى الله مكانها، وشيّد بعضده أركانها- فرض لا يسع تأخيره، وحقّ لا يعلق به تفريط المتقلّد له ولا تقصيره، ولازم من اللوازم التي لا يشغل بسواها سرّ المملوك ولا ضميره؛ والله ينجد من ذلكم على ما يتسوّغ به صفو المنّ ونميره «5» . وإن الخطاب الكريم الواثقيّ شرّف الله منازعه، ونوّر بأنوار السعادة مطالعه، ورد على العبد مشيدا بذكره، معليا من قدره، مسميا لرتبة فخره، متضمّنا من واسع الإنعام وغمره ما لو وزّع على العالم لشملهم بأسره، وأغرقهم بفيض يسير من بحره؛ فتناوله المملوك بيمين إجلاله وإعظامه، ووفّى الواجب من(7/97)
لثمه واستلامه، وألفى به ريّا ناقعا لغليل الشوق المبرّح إلى اجتلاء غرّته الكريمة وأوامه «1» ؛ وجعل يتتبع سطوره، ويستقري فقره وشذوره، فلا يقف من ذلكم كلّه إلا على ما يملأ حوباءه «2» جذلا، ويخوّله الابتهاج غنما ونفلا «3» ؛ ويبوّئه أسنى مراتب التشريف قننا وقللا «4» ؛ وهو على ما حكمت به الأقضية من شحطه عن المثابة الواثقيّة شرّفها الله وشسوعه، وإيواء مغاني أنسه لذلكم ورجوعه؛ لا يجد أنسا إلا ما يتوالى قبله من متعهّد اهتمامها، وتهديه إليه ألسنة أقلامها؛ فكلما وفد عليه من صحائفها المكرّمة وافد، وورد من حضرتها المعظّمة وارد؛ فقد جدّد الزمان عنده يدا غرّا، وأطلع عليه بدرا، وأفاده من الابتهاج ما يعمر الخلد، وينشر نسيم الاستبشار إذا سكن وركد؛ وما ينفكّ على نأي المكان، وبعد الأوطان، يحافظ على رسمه من خدمها، ويؤدّي وظائف الشكر بجسيم منحها وعميم نعمها، ويجعل على نفسه المتملّكة رقيبا من أن يخلّ في سرّ أو جهر بعهد من عهودها أو ذمّة من ذممها؛ ومهما تجدّد صنع يتعين إهداؤه، ويجب قضاء الحق بالدلالة عليه وأداؤه؛ لم يصحبه في المطالعة به توان، ولم يعبر في جلائه أوانا إلى أوان. وقد كان قدّم مطالعاته قبل إلى الباب الواثقيّ شرفه الله باسطا لتفاصيل الأحوال، وشارحا لها على الاستيفاء والكمال؛ ولم يتجدّد بعد ذلك إلا تمكّن الرجاء في فتح لبلة «5» يسّر الله مرامها عن دنوّ بحول الله وقرب، وأنطق لسان الحال بتيسير كلّ عصيّ من محاولاتها وصعب. ولو أنّ مكانا عضّه الدهر من أنياب حوادثه(7/98)
الجون «1» بما به عضّها، وفضّ الحصار أقفالها التي فضّها منه ما فضّها، لكان قد ذهب شميسه «2» ، وخفي عن أن يسمع حسيسه؛ لكن أبى الشقاء الغالب على أهلها إلا أن يمدّ عليهم أمد العذاب، ويرخي لهم طول المهلة المشفية بهم كلّ يوم مهاوي الخسار والتّباب، حتّى يبلغ الكتاب فيهم أجله، ويصل إلى الحدّ الذي شاء الله أن يصله؛ فيأخذهم أخذ من عمي عن إدراك الحق بصره وبصيرته، وخبث في معاندته سرّه وسريرته؛ ويرجّى أن الوقت في ذلكم دان بإمكان، والله تعالى يديم للمقام الواثقيّ ما عوّده من توالي السّعود واطّرادها، وإصحاب الآمال وانقيادها؛ وسلام الله الطيب يراوحها ويغاديها، وتحياته، ورحماته الموصولة وبركاته.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بالحضرة)
وتوصف ويدعى لها، ثم يقع التخلّص إلى المقصد، ويختم بالدعاء والسلام.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة «3» إلى المتوكل بن هود «4» القائم بالدعوة العباسية بالأندلس عن بعض أتباعه، عند ورود كتابه عليه بخبره بفتح ...
... «5» من الأندلس وقتل الثائر بها، وهو:(7/99)
الحضرة العلية أبقى الله ظلّ ملكها على العباد، وعرّفها من تأييده وإنجاده أفضل المعتاد، وجعل لها من الملجأ إليه والتوكل عليه أكثر الجموع وأكثف الأعداد، ولا زالت أحاديث نصرها سالمة المتون صحيحة الإسناد، وصحائف فتوحها تجمع صلاح العباد، وتطلع صباح البشائر من ليل المراد؛ عبدها ومملوكها، السالك من الخدمة والنصيحة الطريق التي يجب سلوكها، فلان.
وبعد: فكتب العبد- كتب الله للمقام العليّ المجاهديّ المتوكّليّ سعدا يردّ الصّعاب ذللا، ويسدّ من المكاره سبلا؛ وأمدّه بملائكة رسله جاعل الملائكة رسلا- من فلانة وبركاته مروية للظماء وحركاته مسكّنة للدّهماء، وآثاره في يومي سلمه وحربه آثار الأشدّاء على الكفّار والرّحماء؛ والأرض بوضوح محيّاه، وفتوح أسنّته وظباه، تهتزّ أعطافا، وتعتزّ مواسط وأطرافا، وتبرز في أثوابها القشب فيزداد حسنها أضعافا؛ والأيّام بالبشائر التي فضّت ختامها عفوا «1» على قدر، وقضت مسامها صفوا بلا كدر؛ لها أنف الشامخ تيها، ووجه الضاحك المتهلّل إشادة بحالها وتنويها، ودلالة على رحب مجالها وتنبيها. والحمد لله حمد من عرف قدر نعمائه فوفّى حقّ أسمائه تقديسا وتنزيها. وإن الخطاب العليّ الكريم ورد راصفا أجلّ الدّرر، واصفا أجمل الفتوح الغرر، رافلا في حلل الأيد «2» والقهر، رافعا منسأة «3» الحوادث بإحدى حسنات الدهر؛ فيا له من كتاب! أودع بدائع الكلم، وجوامع البيان الملتئم المنتظم؛ لو استمدّ سناءه أوّل الفلقين لم يك كاذبا، ولو أعير محيّاه ثاني الشفقين كان عن ضوء النهار نائبا؛ ذكّر بأيّام الله المشهودة بالملائكة والرّوح، ومدّ باع الكلام في فتح الفتوح؛ وأطال ذيول القول مفتاحا منه(7/100)
للصّعب الجموح، فكان الغزير الصيّب، والكثير الطيّب؛ والمتّبع إن مضى بقلوب وأسماع، والمضاعف حسنه إن كرّر إلى غير انقطاع. كيف لا؟ وقد بشّر خبره بالمراد في المراد «1» ، وأوقع اليقين بما خرق العادات من الإسعاف والإسعاد، وكان من آحاد الاخبار لا من أخبار الآحاد «2» ؛ ومما اقتصّه ما جرى من أوائل الحركة السعيدة، واعترض من المتاعب الشديدة؛ وأن الشتاء كان في ابتدائه، والغيم ساحب لردائه، ساكب فضل أندائه. والمكاره في طيّها النّعم الجسام، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام؛ ولذلك هانت على المقام العلي- أيده الله- تلك المشاقّ، ورجّى من عمله ونظره ما جنى من ثمرة العاقّ؛ فسار إليه بالجحفل الأحفل، والعزيمة الزعيمة بفضّ المقفل، ورضّ الأعلى والأسفل؛ وقد اعتزّ بأجلّ المدائن شانا، وأوثقها بنيانا، وأبعدها صيتا ومكانا؛ وهي التي أعيت رياضتها كلّ رائض، وسخرت بكلّ قاعد بقنونها «3» رابض؛ وجمع إليها من طرد الآفاق، وأعداد الاجتماع والاتّفاق، أتباع كلّ ناعق، وأشياع كل مارد مارق، فاستحلّوا الدماء، وركبوها مضلّة عمياء، وأدرك كلّ منهم مما شاء للإسلام ما شاء، وعدوّ الله يفتل لهم في الذّروة والغارب «4» ، ويضرب لهم سكّان البلد ضرب الغرائب؛ حتّى أباد خضراءهم، وجعلهم شرّ خلف فيمن وراءهم؛ غير مبال بما احتقب من الجرائر «5» ، واقترف من إباحة الحرائر، فاجترأ مدّة بالجلاء، وازداد إثما بالإملاء؛ وحينئذ سمت إليه عساكر الإسلام، وناولته بالموت الزّؤام، ورأى عيانا ما كان يطير(7/101)
إليه قلبه لو رآه في المنام؛ وتداولته المطاولة المستدرجة، والعاجلة المزعجة؛ وفي كلّ ذاق عذاب الهون، فأحسّ بقاصمة المتون وقاضية المنون؛ وانقسمت شدّته إلى المهلكين: خوف وإعدام، واستكملت تسعة أشهر وكان الفتح عندها لتمام؛ وإنه للولد الذي هنّيء به الإسلام، وضنّت بمثله الأيام، واستبشر بوجوده الأنام؛ فما أعلى مقامه! وأبهج يومه وأسعد عامه! ولا غرو أن تكون غرّته أبهى الغرر، ومفتتحه مباركا كالبشر؛ وقد أسفر عن أيمن وجه النّجح، وخرج من عموم الأيام بمخصّص هذا الفتح؛ وانتقم الله فيه من الشقيّ الظالم، العظيم الجرأة على ارتكاب المظالم؛ فطاح بموبق أعماله، وعجّل الله به إلى ما أعدّ لأمثاله؛ وكان دمه شرّ دم أريق، وأديمه أخبث أديم لاقى التمزيق.
والحمد لله الذي نصر الراية العباسيّة وأعلاها، وأظهر آية عنايته وجلّاها، وأسبغ نعمه الجسيمة ووالاها. وحين ورد هذا النبأ العظيم [كان] أندى من قطر النّدى على الأكباد، وسرى في البلاد سريان الأرواح في الأجساد، وكلفت به الأسماع والأسمار، وسمت به وإليه الأمصار والأبصار؛ واستقرّ من ارتجاع البلد، وانتزاع النفس الذاهبة إلى جري الأبد، حكمان مدركهما الفعل والإقرار، وعملان تمّ بهما المراد والاختيار؛ فرفعت الأدعية إلى سامعها، وغصّت الأندية بحاضري مجامعها؛ وذاع بالبشرى فيا حسن ذائعها وشائعها، وأذعنت الآمال لإدناء نازحها وشاسعها، وأخذ العبد من المسرّة بحظّ أخلص العبيد مشهدا ومغيبا، وأجمعهم لمعالي الجدّ تطنيبا، ولمعاني الثناء والحمد تطييبا، وجدّد من شكر الواهب لجزيل هذه الهبة، والفاتح لأعظم المعاقل الأشبة «1» ما يستغرق المدد، ولا يبلغ الأمد؛ وأنّى [لمثلي] أن يصف البشرى الواصلة، أو ينصف المقالة المتطاولة، ولو حلب أشطر الإحسان «2» ، وجلب أبحر البيان؛ وكيف والفكر قد قعد حصرا، والمدى لا(7/102)
يؤاخذه التقدير قسرا، والقول لا يجيب مطوّلا ولا مختصرا؟ فحسبه دعاء هو له رافع، ولأوقات الخلوات به قاطع، وإلى الله سبحانه في قبوله ضارع؛ والله يجيب في المقام العليّ المتوكليّ أفضل دعاء الخلق، ويضاعف له مع السابقين ثواب السّبق، ويجزيه خير الجزاء عما أزاله من الباطل وأداله من الحق؛ وهو تعالى ينصره يوم الباس، ويعصمه من الناس، ويبقي رفده للاكتساب ونوره للاقتباس، ويعرّفه في كل ما يستنبطه من أصل التوكل صحّة القياس، بمنه والسلام.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلّص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام)
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة إلى المتوكّل بن هود المقدّم ذكره، عن نفسه، يهنّئه بوصول هديّة الخليفة العباسيّ إليه من بغداد:
أما بعد، فكتب العبد- كتب الله للمقام العليّ الناصريّ المتوكّليّ مجدا يحلّ الكواكب، وجدّا يفلّ الكتائب. من شاطبة «1» ، وبركات دعوته السعيدة قد طبّقت البسيطة، وكاثرت البحار المحيطة، وأنجزت للإسلام أفضل مواعده، وجدّدت عهده لأهل بيت النبوّة الرافعة لقواعده، وفسّحت له مجال البشرى، وأطلعت عليه أنوار العناية الكبرى؛ فعاد إلى الوطن، ووجد حال السّهد طعم الوسن، وأورق عوده واتّسقت سعوده، وعاد إلى صحّته بالنظر الإماميّ الذي جاء يعوده. وحين صدور رسول دار السلام، ومثابة أهل الإسلام، ومقعد الجلالة، ومصعد إقرار الرسالة؛ ومعه الكتاب الذي هو غريب، أنس به الدّين الغريب، وبعيد الدار نزل به النصر القريب، وآية بأدلّتها الصادقة لتبطيل الشّبه الآفكة، وسكينة من ربّنا وبقيّة مما ترك آل نبيّنا تحمله الملائكة- اطمأنّت القلوب، وحصل المطلوب، ودرّت أخلاف الإيناس، وارتفع الخلاف بين الناس، وعلموا أن السالك قد أضاءت له المحجّة، والحقّ لا يعدو من بيده الحجّة؛ وأن من أمّرته(7/103)
الخلافة العبّاسيّة «فطاعته» تجب قطعا، ومخالفته تحرم شرعا؛ ولم يبق إلا أن يبين للعيان شخصه، ويرد على الآذان نصّه؛ فيكون يومه غرّة الليالي المعتكرات، وعلم الأيام المنكّرات، واليوم الذي به تؤرّخ الأيام المستقبلة، وترفع فيه الأعمال المتقبّلة. وبإقبال الركاب السعيد إلى هذه ينزل به من سماء العلياء محكم وحكمة، ويصل به إلى الأنام فضل من الله ونعمة، ويقتضى دين على الأيام، لا يبقى معه عسرة، ويوجد جبر للإسلام، لا يكون بده كسرة، وشفاء لقلوب الأولياء هو للأعداء حسرة.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بالخطاب بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه)
كما كتب أبو عبد الله بن الخطيب وزير ابن الأحمر صاحب الأندلس عن نفسه إلى السلطان أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن المرينيّ صاحب فاس، عند ورود كتابه إلى الأندلس بفتح تلمسان «1» ، معرّضا بأنّ صدور كتابه من عند قبر والده السلطان أبي الحسن بالأندلس، ما صورته:
مولاي! فاتح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود «2» الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار، مصداق دعاء الأب المولى في الآصال والأسحار. أبقاكم الله! لا تقف إيالتكم عند حدّ، ولا تحصى فتوحات الله عليكم بعدّ، ولا يفيق أعداؤكم من كدّ، ميسّرا على مقامكم الكريم ما عسر على كل أب كريم وجدّ.(7/104)
عبدكم الذي خلص إبريز عبوديّته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة القصور، ويذلّل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور، ويبقي الملك في عقبكم إلى يوم ينفخ في الصّور. فلان.
من الضّريح المقدّس «1» : وهو الذي تعدّدت على المسلمين حقوقه، وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لمّا بسقت فروعه ورسخت عروقه، وعظم بتبوّئكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد سترت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحد الإمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتّل أحزابه، والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي باطنه سؤاله فيجهر بنعرة العزّ جوابه؛ وقد تفيّأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحطّ بجوديّ «2» الحقّ نفسا في طوفان الضّرّ غريقة، والتحف برق الهيبة الذي لا تهتدي للنفس فيها إلا بهداية الله طريقة، واعتزّ بعزّ الله وقد توسّط جيش الحرمة المرينيّة حقيقة، إذ جعل المولى المقدّس المرحوم أبا الحسن مقدّمه وأباه وجدّه سقاه المولى الكريم بهذا المجد سيب رحماه، وطنّب عليه من الرّضا فسطاطا، وأعلى به يد العناية المرينيّة اهتماما واغتباطا، وحرّر له أحكام الحرمة نصّا جليّا واستنباطا، وضمن له حسن العقبى التزاما واشتراطا؛ وقد عقد البصر بطريق رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومدّ اليد إلى اللطائف بشفاعتكم التي تتكفّل بعتق المال كما تكفّلت بعتق الرّقبة، وشرع في(7/105)
المراح بميدان نعمكم بعد اقتحام هذه العقبة؛ لما شنفت الآذان البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دجنّة إلا اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصن عطف إلا مرح؛ بشرى الفتح القريب، وخبر النّصر الصحيح الحسن الغريب، ونبأ الصّنع العجيب، وهداية السميع المجيب: فتح تلمسان «1» الذي قلّد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنيّة عن الهياج، وألحف الخلق ظلّا ممدودا، وفتح باب الحجّ وكان مسدودا، وأقرّ عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياما وقعودا، وأضرع بسيف الحقّ جباها أبيّة وخدودا، وملّككم حقّ أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال، وأخلص في الضّراعة والسّؤال، من غير كدّ يغمز عطف المسرّة، ولا جهد يكدّر صفو النعم الثّرّة، ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته، ويظهر بتكرّر الركوع إنابته.
فالحمد لله الذي أقال العثار، ونظم بدعوتكم الانتشار، وجعل ملككم يجدّد الآثار ويأخذ الثار «2» والعبد يهنيء مولاه، بما أنعم الله عليه وأولاه؛ وما أجدره بالشّكر وأولاه! فإذا أجال العبيد السّرور فللعبد المعلّى والرّقيب «3» ، وإذا استهموا «4» حظوظ الجذل فلي القسم الوافرة والنصيب؛ وإذا اقتسموا فريضة شكر(7/106)
الله تعالى فلي الحظّ والتعصيب «1» ، لتضاعف أسباب العبودية قبلي، وترادف النّعم التي عجز عنها قولي وعملي، وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي؛ فمقامكم المقام الذي نفّس الكربة، وآنس الغربة، ورعى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفكّ الوثاق، [وأدّر الأرزاق، وأخذ على الدّهر بالاستقالة بالعهد والميثاق] «2» وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويتمثّل بين يدي الخلافة العظيمة السّنا والسّناء، ويمدّ بسبب البدار إلى تلك السماء؛ فقد باشر به اليد التي يحنّ مولاي لتذكّر تقبيلها، ويكمّل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبويّة وتكميلها؛ ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح، ووصل في طلب وصالها المساء بالصّباح، وكأن فتحه إيّاها أبا عذرة «3» الافتتاح؛ وقلت يهنيك يا مولاي ردّ ضالّتك المنشودة، وخبر لقطتك المعرّفة المشهودة؛ [ودالتك المودودة] «4» فقد استحقّها وارثك الأرضى، وسيفك الأمضى، وقاضي دينك، وقرّة عينك، مستنقذ دارك من يد غاصبها، ورادّ رتبتك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وستر الأهل والحريم.
مولاي! هذه تلمسان قد أطاعت، وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت؛ وعدوّك وعدوّه قد شرّدته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة؛ وعن قريب تتحكّم فيه يد احتكامه، وتسلمه السلامة إلى حمامه؛ فلتطب يا مولاي نفسك، وليستبشر رمسك، فقد نمت بركتك وزكى غرسك. نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما(7/107)
تفتّح له أبواب السماء قبولا، ويرادف إليك مددا موصولا، وعددا آخرته خير لك من الأولى، ويعتريه بركة رضاك ظعنا وحلولا، ويضفي عليه منه سترا مسدولا.
ولم يقنع العبد بخدمة النّثر، حتّى أجهد القريحة التي ركضها الدهر وأنضاها، واستشفّها الحادث الجلل وتقاضاها؛ فلفّق من خدمة المنظوم ما يتغمّد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرّة العتب وليّه ونصيره؛ وإحالة يا مولاي على الله في نفس جبرها، ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها، وحرمة بضريح مولاي والده شكرها؛ ويطّلع العبد منه على كمال أمله، ونجح عمله، وتسويغ مقترحه، وتتميم مطمحه، إن شاء الله تعالى:
[يا ابن الخلائف يا سميّ محمد ... يا من علاه ليس يحصر حاصر!
أبشر فأنت مجدّد الملك الذي ... لولاك أصبح وهو رسم داثر!
من ذا يعاند منك وارثه الذي ... بسعوده فلك المشيئة دائر!
ألقت إليك يد الخلافة أمرها ... إذ كنت أنت لها الوليّ الناصر!
هذا وبينك للصريح وبينها ... حرب مضرّسة وبحر زاخر!
من كان هذا الصّنع أوّل أمره ... حسنت له العقبى وعزّ الآخر!
مولاي عندي في علاك محبّة ... والله يعلم ما تكنّ ضمائر!
قلبي يحدّثني بأنّك جابر ... كسري وحظّي منك حظّ وافر!
بثرى وجودك قد حططت قريحتي ... ووسيلتي لعلاك نور باهر!
وبذلت سعيي واجتهادي مثل ما ... يلقى لملك سيف أمرك عامر!
وهو المواليّ الذي اقتحم الرّدى ... وقضى العزيمة وهو سيف باتر!
ووليّ جدّك في الشّدائد عندما ... خذلت علاه قبائل وعشائر!
فاستهد منه النّجح واعلم أنّه ... في كلّ معضلة طبيب ماهر
إن كنت قد عجّلت بعض مدائحي ... فهي الرّياض وللّرياض بواكر] «1»(7/108)
الطرف الرابع عشر (فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم)
والرسم فيه أنه إن كان الجواب صادرا عن ملك، فالتعبير عن الملك بنون الجمع، وخطاب المكتوب إليه بالكاف. وإن كان عن بعض أتباع الملك إليه، فالتعبير عن المكتوب عنه بالخادم، أو العبد، أو المملوك ونحو ذلك، ومخاطبة الملك بما تليق به مخاطبة الملوك. ثم الجواب تارة يكون الابتداء [فيه] بنفس ورود المكاتبة، وقد تقدّم في مثل ذلك في الكتب الصادرة عن الخلفاء أن المكاتبة يبتدأ فيها بلفظ عرض. أما الأجوبة المتعلّقة بالملوك فإنه يقال فيها بدل عرض:
وصل، أو ورد، أو نحو ذلك.
ثم هى على ضربين:
الضرب الأوّل (الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في الأجوبة الصادرة عن ملوك المشرق، وفيه أسلوبان)
الأسلوب الأول (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابنا» و «وصل كتابك» )
ويذكر تاريخ الكتاب، ويشار إلى ما فيه، ثم يؤتى بالجواب إلى آخره، ويختم باستماحة الرأي في ذلك الأمر؛ كما كتب أبو إسحاق الصابي «1» عن صمصام الدولة «2» إلى حاجب الحجّاب أبي القاسم سعد بن محمد، وهو مقيم(7/109)
بنصيبين «1» على محاربة باد الكرديّ «2» كتابنا، ووصل كتابك مؤرّخا بيوم كذا، تذكر فيه ما جرى عليه أمرك في الخدمة التي نيطت بكفايتك وغنائك، ووكلت إلى تدبيرك ورأيك: من رد باد الكرديّ عن الأعمال التي تطرّقها، وحدّث نفسه بالتغلّب عليها، وتصرّفك في ذلك على موجبات الأوقات، والتردّد بين أخينا وعدّتنا أبي حرب زياد بن شهرا كويه وبينك من المكاتبات، وحسن بلائك في تحيّفه «3» ، ومقاماتك في حصّ «4» جناحه، وآثارك في الانقضاض على فريق بعد فريق من أصحابه، واضطرارك إيّاه بذلك وبضروب الرياضات التي استعملتها، والسياسات التي سست أمره بها، إلى أن نزل عن وعورة المعصية إلى سهولة الطاعة، وانصرف عن مجاهل الغواية إلى معالم الهداية، وتراجع عن السّوم «5» إلى الاقتصار وعن السّرف إلى الاقتصاد، وعن الإباء إلى الانقياد، وعن الاعتياص «6» إلى الإذعان. وأن الأمر استقرّ على أن قبلت منه الإنابة، وبذلت له فيما طلب الاستجابة؛ واستعيد إلى الطاعة، واستضيف إلى الجماعة، وتصرّف على أحكام الخدمة، وجرى مجرى من تضمّه الجملة؛ وأخذت عليه بذلك العهود المستحكمة والأيمان المغلّظة، وجدّدت له الولاية على الأعمال التي دخلت في تقليده، وضربت عليها حدوده؛ وفهمناه.(7/110)
وقد كانت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب [زياد بن شهراكويه] «1» مولى أمير المؤمنين ترد علينا، وتصل إلينا، مشتملة على كتبك إليه، ومطالعاتك إيّاه؛ فنعرف من ذلك حسن أثرك وحزم رأيك، وسداد قولك، وصواب اعتمادك، ووقوع مضاربك في مفاصلها، وإصابة مراميك أغراضها؛ وما عدوت في مذاهبك كلّها، ومتقلّباتك بأسرها، المطابقة لإيثارنا، والموافقة لما أمرت به عنّا؛ ولا خلت كتب أخينا وعدّتنا أبي حرب من شكر لسعيك، وإحماد لأثرك، وثناء جميل عليك، وتلويح وإفصاح بالمناصحة الحقيقة بك، والموالاة اللازمة لك، والوفاء الذي لا يستغرب من مثلك، ولا يستكثر ممن حلّ في المعرفة محلّك؛ ولئن كنت قصدت في كل نهج استمررت عليه، ومعدل عدلت إليه، مكافحة هذا الرجل ومراغمته، ومصابرته ومنازلته، والتماس الظهور عليه في جميع ما تراجعتماه من قول، وتنازعتماه من حدّ، فقد اجتمع لك إلى إحمادنا إيّاك، وارتضائنا ما كان منك، المنّة عليه إذ سكّنت جاشه، وأزلت استيحاشه؛ واستللته من دنس [لباس] المخالفة، وكسوته من حسن شعار الطاعة، وأطلت يده بالولاية، وبسطت لسانه بالحجّة، وأوفيت به على مراتب نظرائه، ومنازل قرنائه؛ حتّى هابوه هيبة الولاة، وارتفع بينهم عن مطارح العصاة.
فالحمد لله على أن جعلك عندنا محمودا وعند أخينا وعدّتنا أبي حرب مشكورا، وعلى هذا الرجل مانّا، وفي إصلاح ما أصلحت من الأمر مثابا مأجورا؛ وإيّاه نسأل أن يجري علينا عادته الجارية في إظهار راياتنا، ونصرة أوليائنا، والحكم لنا على أعدائنا، وإنزالهم على إرادتنا، طوعا أو كرها، وسلما أو حربا؛ فلا يخلو أحد منهم أن تحيط لنا بعنقه ربقة أسر، أو منّة عفو؛ إنه جلّ ثناؤه بذلك جدير، وعليه قدير. ويجب أن تنفذ إلى حضرتنا الوثيقة المكتتبة على باد الكرديّ إن كنت لم تنفذها إلى أوان وصول هذا الكتاب: لتكون في خزائننا محفوظة، وفي(7/111)
دواويننا منسوخة؛ وأن تتصرّف في أمر رسله وفي بقية [إن كانت بقيت من أمره] على ما يرسمه لك عنا أخونا وعدّتنا أبو حرب، فرأيك في العمل على ذلك، وعلى مطالعته بأخبارك وأحوالك؛ وما يحتاج إلى عمله من جهتك موفقا، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «وصل كتابك» )
والأمر في ترتيبه على نحو ما تقدّم في الأسلوب الذي قبله.
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن صمصام الدولة أيضا إلى أبي العلاء عبيد الله بن الفضل في جواب كتابه الوارد عليه بالظّفر بأهل الاقتباس ما صورته:
وصل كتابك- أدام الله عزك- المؤرّخ بوقت الظهر من أمسنا وهو يوم كذا، تذكر ما سهّله الله لك، وأجراه على يدك، وبيمن تدبيرك، وبركة خدمتك: من الإيقاع بالعصاة أهل الاقتباس، وإذاقتهم وبال ما كانوا عليه: من خلع الطاعة، وشنّ الغارة واستباحة المحارم، وارتكاب العظائم؛ وإثخانك فيهم قتلا وأسرا، وتشريدا وتشتيتا؛ وفهمناه وحمدنا الله عليه، وشكرنا ما أولى فيه، وحسن منا موقع أثرك، وتضاعف فيه جميل معتقدنا فيك ولك، وارتضينا فعل الأولياء في الخفوف إليه، والمناصحة فيه؛ وسبيلك أن تبحث عن أموال هؤلاء القوم وتثمّرها، وتستدركها وتحصّلها، وتكتب بما يصح منها؛ وتتقدّم بقصّ أثر الهاربين حتّى تلحقهم بالهالكين، وتشيع الرهبة في سائر شقّي الفرات، وتتوخّى طوائف الأشرار والخرّاب، ومخيفي السبل والساعين في الفساد بالتتبّع لهم ووضع اليد عليهم؛ فإنّ بحسب النّكاية في أهل الجهل والدّعارة سكون أهل السلامة والاستقامة؛ فرأيك في العمل بذلك والمطالعة بما يوفّقك الله له مستأنفا من مثل هذا الفعل الرشيد، والمقام الحميد؛ وبسائر الأمور التي ترى عينها وتحتاج إلى معرفة مجاريها، موفّقا إن شاء الله تعالى والسلام.(7/112)
الجملة الثانية (في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم)
والذي وقفت عليه منه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ: «وصل» .
كما كتب بعض كتّاب الدولة الفاطمية عن بعض وزراء الحافظ «1» إلى أمين الدولة زنكي كشنكين ما صورته:
وصل كتابك أيها الأمير الأجلّ الدالّ على مصالحته، المعرب عن مناصحته، الشاهد له بمؤثّل «2» الخطوة والأثرة، والموضّح من أفعاله وخلاله ما لم تزل قضيته مرتسمة في النفوس مصوّرة؛ وعرضنا ما اقترن به من مطالعة المقام المقدّس النبويّ الحافظيّ- ضاعف الله أنواره، وشاد مناره، وأعز أشياعه وأنصاره- وشفعناه من الثناء على الأمير الاسفهسلار «3» بما لم تزل عادتنا جارية به مع من نعلم طاعته، ونتحقّق مشايعته، ونرى باطنه يضاهي ظاهره، وسرّه يوافق علانيته؛ ووقفنا على ما أنهاه من حال الفرنج المشركين الملعونين، وما كان من نعم الله تعالى من الظّفر بهم، والإدالة منهم، والخفض من منارهم، والتقويض لغمارهم، والإبادة لفارسهم وراجلهم، وإرشاد السيوف والسّهام إلى مقاتلهم، وتطهير الأرض منهم بدمائهم، والإحاطة بهم عن أيمانهم وشمائلهم، ومن أمامهم(7/113)
وورائهم؛ فابتهجنا بذلك الابتهاج الذي يوجبه التوحيد، وانتهى بنا السّرور إلى الحدّ الذي ما عليه مزيد. على أننا كنا نودّ أن يكون ذلك بصفاحنا وأسنّتنا، وأن يثبته الله لنا في صحيفتنا؛ وإنا لراجون من نعم الله عندنا، وإحسانه إلينا كما عوّدنا، أن يكون من بقي من المذكورين بنا مستأصلا، ويكون أجر هذه الخاتمة لنا حاصلا. وقد عزم الله لنا عند وقوفنا على كتابه، بما خرج به أمرنا إلى جميع من بأعمال الدولة الحافظيّة خلّد الله ملكها، بعيدها ودانيها، وقصيّها ونائيها، من العساكر المظفّرة المؤيّدة، وقبائل العربان المستخلصة، وكافّة الطوائف على اختلاف أنواعها، وتباين أجناسها، وتفاوت منازلها، وتغاير مراتبها، بأن ينفروا خفافا وثقالا، وركبانا ورجالا، بقوّتهم ونجدتهم، ووفور عددهم وعدّتهم، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم، وبالعزمات الماضية، والضمائر الخالصة، والنّيّات المستبقة، والعقائد المتّفقة، وفسّحنا للمتطوّعة أن يختلطوا بالمرتزقة، وأمرناهم بمسيرهم متتابعين، وتوجّههم مترادفين؛ وأن يكونوا كتائب متناصرة، وجحافل متواترة؛ وعساكر متوالية، لا ترى الأرض منها إلى العدوّ خالية؛ ومن الله نطلب مادّة العون والإسعاد، ونسأله توفيقا لما يقض بتضاعف أجرنا في العاجلة والمعاد. وقد شكرنا الأمير الاسفهسلار كون ما أنهاه سببا لهذه الغنيمة المتوقّعة من فضل الله وإحسانه، والنّصرة لدينه التي نؤملها من جزيل كرمه وامتنانه، وأضفنا ما اقتضته مطالعته من جذلنا وغبطتنا، إلى المستقرّ عندنا من محبته لنا، وإيثاره الذي لا يحتاج فيه إلى زيادة على معرفتنا؛ فليعلم هذا وليعمل به. إن شاء الله تعالى.
وكما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى صاحب مكة المشرّفة، جوابا عن كتاب ورد منه عليه في معنى وصول غلال بعث بها إلى مكة ما صورته:
وصل كتابك، أيّها الشريف معربا عن المشايعة الشائعة أنباؤها، والمخالصة الخالصة أسرارها الوافرة أنصباؤها، وحسان الخلال، التي اقتسم طرفي الحمد إعادتها وإبداؤها، ومكرمات الآل، التي تساوى في اقتناء المجد أبناؤها؛ وفضائل الإفضال، التي لا تخفّ على غير أهل العباء صلوات الله عليهم(7/114)
أعباؤها. ونشر كتابك من محاسنك ما انطوى، ووردنا منه منهلا أروى وارده وارتوى؛ ووقفنا منه على أثر فضل اشتمل على عين الكرم واحتوى، ووفقنا وإياه من الحمد ما لا نخلفه نحن ولا هو مكانا سوى «1» ؛ فاقتضانا مزيدا في رفع قدره، واختصاصه من الإنعام بكلّ غريب الموقع ندره، وأصرنا كتابه إلى مستقرّ كاتبه من قلب الودّ وصدره؛ وكيف لا يكون ذلك وقد اشمخرّت لبيته الأنساب، وخرّت الأنصاب، وسجدت الرّقاب، وردّت له بعد ما توارت بالحجاب، وشهد بفضل توقيعهم الحرب وبفضل ليلهم المحراب.
فأمّا ما أشار إليه من الشّكر على ما سيّر من الغلّات التي كان الوعد بها علينا نذرا، وروّحنا بإرسالها قلبا وشرحنا بتسييرها صدرا؛ وأنّها حلّت ربقة الجدب وفكّتها، وجلت هبوة القحط وكفّتها؛ وهوّنت مصاعب المساغب، وخلفت سواحب السحائب، وأطفأت- ولله الحمد- بوار «2» النّوائب، فقد سررنا بحسنتنا جعله الله ممن تسرّه الحسنة، وقد نبّهنا من سنتنا لأن نستقبل بالحمد لولي السنة؛ وقد قوّى النية وقوّمها، واستزاد لهم بلسان الشكر الفصيح، وتناول لهم بباع التلطّف الفسيح، وألقح لهم سحائب محلّه منها محلّ ملقحها من الرّيح؛ واقتضى ما يعرضه أن خرج الأمر بأن يضاعف المحمول في كل عام، ولا يخصّ به خاصّ دون عام؛ وأمرنا أن يوفّر جلب الجلّاب، وتوقر ظهور الرّكاب، ليجمع للحرم الشريف بين برّ البر والبحر، وبين حمل البطن والظّهر؛ فتظلّ السنة ودودا ولودا، ويشاهد المحلّ الشريف وقد نأى عنه المحل شريدا؛ وتحطّ القلوع عما يحطّ عنه أمثالها من السحائب، وتستريح الأنفس اللواغب «3» ، فأما ما ألقاه إلى رسوله، فقد أسمع ما أسنده إليه، وأعيد بما يعيده عليه؛ وقد تكاثرت بولاء الشريف الأشهاد، فغني عن الاستشهاد، وأغنته الحظوة بجميل رأينا عما نأى أخذه لشفعة العطاء بل لشفاعة الاجتهاد، إن شاء الله تعالى.(7/115)
الجملة الثالثة (في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب)
وهي على النحو المتقدّم، وربما صدّر بلفظ: «قد» ونحوها.
كما كتب أبو المطرف بن عميرة عن بعض ملوكهم «1» في جواب كتاب ورد عليه بطاعة بلد.
قد وصل كتابكم- وصل الله معونتكم وكلاءتكم- تذكرون ما تقرّر عندكم هنالك من أحوال تلك الجهة، وباشرتموه من أمورها؛ وأنتم عندنا بمحلّ الصّدق، ومكان الإيثار للحقّ. وقد رسمنا لكم أن تثبتوا في أهل تلكم الجهات كلّها حميد الرأي فيهم، وحسن القبول لإنابتهم، وقصد الرّفق بخاصّتهم وعامّتهم؛ وأنّا قد تقبّلنا أوبتهم، واغتفرنا زلّتهم؛ وأولئكم المتشبّثون بسبب الذّمام، عرّفوهم أنكم رغبتم في شمول الصّفح عنهم، والإقالة لما كان منهم؛ فأسعفنا رغبتكم فيهم، وأدخلناهم في العفو مع غيرهم، وبذلنا لهم الأمان، وأغضينا عن جميع ما كان؛ فعرّفوهم بهذا كلّه، وأخبروهم عنّا بإعطاء التأمين لجميعهم وبذله؛ وإن كان أطيب لنفوسهم أن يصلهم مكتوب بذلك عرفتمونا، ووجّهناه إليكم. وأقيموا أنتم هنالكم أيّاما خلال ما يصلكم من متثاقل الأحوال ما تطالعون به، وتخاطبون بما تعتمدونه إن شاء الله تعالى. أدام الله كرامتكم.(7/116)
أشرتم في خطابكم إلى أنّ عندكم من تلك الأحوال ما تذكرونه مشافهة، وربما يكون ذلك أمدا يبنى عليه نظر، أو يتوجّه بحسبه عمل؛ فمن الجيّد ان تكتبوا بشرحه، إن شاء الله تعالى والسلام.
الضرب الثاني (الأجوبة الواردة على الملوك)
وهي على نحو ما تقدّم في الأجوبة الصادرة عن الملوك من الابتداء بلفظ:
«وصل» إلا في الخطاب، فإن المكتوب عنه يقع الخطاب منه ب «الخادم أو المملوك أو العبد» . ويخاطب الملك المكتوب إليه بمولانا أو مولانا الملك أو نحو ذلك؛ وربما كتب بدل وصل: ورد.
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» في جواب كتاب ورد عليه مخبرا فيه بالحركة للقاء العدوّ ما صورته:
ورد على المملوك- أدام الله أيام المجلس العالي الملكيّ الناصريّ، ونصره على أعدائه، وملّكه أرضه بعدل حكم سمائه، ولا أخلى من نعمتي خيره ونظره قلوب وعيون أوليائه، وأعزّ الإسلام ورفع عن أهله البلوى بلوائه. الكتب القديمة التي تسرّ الناظرين من شعارها الأصفر، وتبشّر الأولياء إن كانوا غائبين مع الغيّب بأنّ حظّهم حاضر مع الحضّر؛ وقد كانت الفترة قد طالت أيامها، واستطالت آلامها، والطّرقات قد سبق إلى الأنفس إبهامها.
فالحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن، وأولى من النعمة ما اشترى الحمد ثمن؛ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ووعد [الله] سبحانه منتظر، إذ يقول في كتابه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«1» وصدق صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إنّ اختيار الله(7/117)
للمؤمن خير من اختياره، وإنّ مواضع الأمل للعبد خير منها مواقع أقضية الله وأقداره» . فقد كانت حركة احتاجت إليها البلاد التي انفصل عنها، والبلاد التي قدم عليها. أما المصرية منها فبكونها على عدة من نجدته آجلا، وأما الشامية فبكونها على ثقة من نصره عاجلا؛ فقد تماسكت من المسلمين الأرماق، وقد انقطعت من المشركين الأعناق:
تهاب بك البلاد تحلّ فيها ... ولولا اللّيث ما هيب العرين!
وعرض المملوك ما وصل إليه من مكاتبات المولى على العلم العادليّ وأدركها تحصيلا، وأحاط بها جملة وتفصيلا؛ والمولى- خلّد الله ملكه- فكلّ ما أشار إليه من عزيمة أبداها، ونية أمضاها، فهو الصواب الذي أوضح الله له مسالكه، والتوفيق الذي قرّب الله عليه مداركه؛ ومن أطاع الله أطاعه كلّ شيّ، ومن استخاره بيّن له الرّشد من الغيّ؛ والله تعالى يجعل له من كلّ حادثة نخوة «1» ، ويكتب أجره في كلّ حركة ونفس وخطوة. إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني (المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان)
الطرف الأول (في الابتداءات، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق من بني بويه فمن بعدهم)
وقد كان الرسم فيها أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي أو كتابنا إلى فلان» ويخاطب المكتوب إليه بملك الروم أو نحو ذلك، ويختم بقوله: فإن رأى ذلك فعل إن شاء الله تعالى.(7/118)
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن القائد أبي الفوارس ختور التركي المعزي، إلى وردس بن قنبر المعروف بعسقلاروس «1» [كتابي إلى] ملك الروم الفاضل، الجليل، النبيل، الخطير، أدام الله كفايته وسلامته، ونعمته وسعادته، وعافيته وحراسته. من الحضرة الجليلة بمدينة السلام لثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وهو اليوم التاسع من أدار، عن شمول السلامة، وعموم الاستقامة؛ وصلاح حالي في ظل(7/119)
الدولة المنصورة. والحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم تسليما.
ووصل كتاب مولانا ملك الروم الفاضل الجليل الصادر عن العسكر بمرج لارضة بتاريخ التاسع من حزيران، وفهمته وجلّ عندي موقعه، وعظم في نفسي خطره؛ وحمدت الله على ما شهد به من انتظام أحواله، واطّراد أموره؛ وسألته أن يتمّم النعمة عليه، ويزيد فيها لديه، ويواصل إحسانه إليه، ويطيل مدّته، في أتمّ رشد وهداية، وأرفع قدم ومنزلة، وأعلى خطر ورتبة، بمنّه وطوله، وجوده ومجده.
فأما ما ذكره سيدنا الملك الجليل: من مقامه على العهد، وافتقاره إلى الميل والودّ، فذاك يوجب فضله البارع، وكرمه الشائع، وخلال الخير التي أهلّه الله لها، وخصّه الله بها، وبالله أحلف إنّني ما خلوت منذ افترقنا من مطالعة أخباره، وتتبّع آثاره، واستعلام مجاري شؤونه، والسرور بكل ما تمّ له ووصل إليه؛ حتّى كأنني حاضر له، وضارب بأوفر سهم فيه، بل مخصوص بجميعه. والله يجريه على أحسن ما أولاه وعوّده، ولا يخليه من الصّنع الجميل فيما أعطاه وقلّده، برحمته.
وكنت قبل ذلك عند ورود رسولي في الدّفعة الأولى على غاية الغمّ وشغل القلب بسبب الغدر الذي لحقه من عدوّه الذي أظفره الله به؛ وأنهيت ذلك في وقته إلى الملك السعيد الماضي، شرف الدولة «1» ، وزين الملة؛ رضي الله عنه.
فاشتغل قلبه- رحمه الله- به، وعمل على إنفاذ العساكر لنصرته؛ ثم أتى من قضاء الله في أمره ما قد عرفه.
ولما انتصب في المملكة مولانا السيد بهاء الدولة «2» ، وضياء الملة- أطال(7/120)
الله بقاءه- شرحت له ما جرى قديما على سياقته، ومهّدت الحال عنده، ووجدته- أدام الله سلطانه- معتقدا لسيدنا ملك الروم الجليل- أدام الله عزّه- أفضل اعتقاد، وسر بما انتهت إليه أموره، وتنجّزت الكتب إلى موصلها الرسول حفظه الله، وسمعت منه ما كان تحمّله عن سيدنا ملك الروم أدام الله تأييده، وأخرجت معه صاحبي أبا القاسم الحسين بن القاسم، وحمّلتهما جميعا ما ينهيانه إليه في سائر الأمور التي يرى عرضها ويحتاج إلى معرفتها.
وأنا أسأل سيدنا الملك الجليل- أدام الله بركته- تعجيل ردّه إليّ، فإنه ثقتي، ومن أسكن إليه في أموري؛ وأن يتفضّل ويكلّفني حوائجه ومهمّاته، وأمره ونهيه لأقوم في ذلك بالحق الواجب له، فان رأى سيدنا ملك الروم الفاضل الجليل، الخطير النبيل، أن يعتمدني من ذلك بما يتضاعف عليه شكري، وتجلّ النعمة فيه عندي، ويشاكل الحال بينه وبيني، فعل إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم)
والذي وقفت عليه من ذلك أسلوب واحد: وهو الابتداء ب «أما بعد» والخطاب فيه بالملك، والاختتام بالدعاء.
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى بردويل أحد ملوك الفرنج، وهو يومئذ مستول على بيت المقدس وما معه،(7/121)
معزّيا له في أبيه ومهنّئا له بجلوسه في الملك بعده، ما صورته: «1» أما بعد- خصّ الله الملك المعظّم حافظ بيت المقدس بالجدّ الصاعد، والسّعد الساعد؛ والحظّ الزائد، والتوفيق الوارد؛ وهنأه من ملك قومه ما ورّثه، وأحسن من هداه فيما أتى به الدهر وأحدثه؛ فإن كتابنا صادر إليه عند ورود الخبر بما ساء قلوب الأصادق «2» ، والنّعي الذي وددنا أنّ قائله غير صادق، بالملك العادل الأعزّ الذي لقّاه الله خير ما لقّى مثله، وبلّغ الأرض سعادته كما بلّغه محلّه؛ معزّ بما يجب فيه العزاء، ومتأسّف لفقده الذي عظمت به الأرزاء؛ إلا أنّ الله سبحانه قد هوّن الحادث، بأن جعل ولده الوارث؛ وأنسى المصاب، بأن حفظ به النّصاب، ووهبه النعمتين: الملك والشّباب؛ فهنيئا له ما حاز، وسقيا لقبر والده الذي حقّ له(7/122)
الفداء لو جاز؛ ورسولنا الرئيس العميد مختار الدين أدام الله سلامته قائم عنا بإقامة العزاء من لسانه، ووصف ما نالنا من الوحشة لفراق ذلك الصديق وخلوّ مكانه؛ وكيف لا يستوحش ربّ الدار لفرقة جيرانه. وقد استفتحنا الملك بكتابنا وارتيادنا، وودّنا الذي هو ميراثه عن والده من ودادنا؛ فليلق التحيّة بمثلها، وليأت الحسنة ليكون من أهلها؛ وليعلم أنّا له كما كنا لأبيه: مودّة صافية، وعقيدة وافية، ومحبّة ثبت عقدها في الحياة والوفاة، وسريرة حكمت في الدنيا بالموافاة؛ مع ما في الدّين من المخالفات. فليسترسل إلينا استرسال الواثق الذي لا يخجل، وليعتمد علينا اعتماد الولد الذي لا يحمل عن والده ما تحمّل؛ والله يديم تعميره، ويحرس تأميره، ويقضي له بموافقة التوفيق، ويلهمه تصديق ظنّ الصديق.
الجملة الثالثة (في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب)
والرسم فيه أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «كتابنا» والمخاطبة بنون الجمع عن المكتوب عنه وميم الجمع عن المكتوب إليه، والاختتام بالسلام مع الدعاء بما يليق.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة عن أبي جميل زيّان «1» ، إلى ملك قشتالة من بلاد الأندلس في مراودة الصّلح:
كتابنا إليكم- أسعدكم الله برضاه، وأدام عزّتكم وكرامتكم بتقواه- من مرسية «2» ، ونحن نحمد الله الذي لا شيء كمثله، ونلجأ إليه في أمرنا كلّه، ونسأله(7/123)
أن يوزعنا شكر إحسانه وفضله- وعندنا لجنابكم المرفّع تكرمة نستوفيها، ومبرّة ننتهي إلى الغاية فيها، وعلمنا بمحلّكم الشهير، وكتابكم الخطير، يستدعي الزيادة من ذلكم ويقتضيها؛ وقد كان من فضل الله المعتاد، وجميل صنعه في انتظام الكلمة في هذه البلاد، ما اكتنفته العصمة، وكملت به النّعمة والمنّة؛ وتيسّر بمعونة الله فتح أقرّ العيون، ورضيه الإسلام والمسلمون، وكانت مطالعتكم به مما آثرنا تقديمه، ورأينا أن نحفظ من الأسباب المرعيّة على التفصيل والجملة [حديثه وقديمه] «1» وحين ترجّحت مخاطبتكم من هذا المكان، ومفاوضتكم في هذا الشان، رأينا من تكملة المبرّة، وتوفية العناية البرّة، أن ننفذ إليكم من يشافهكم في هذا المعنى، ويذكر من قصدنا ما نولع به ونعنى، وهو فلان في ذكر السّلم ومحاولتها، ما يتأدّى من قبله على الكمال بحول الله تعالى. وإن رأيتم إذا انصرف من عندكم، أن توجّهوا زيادة إلى ما تلقونه إليه من رجالكم وخاصّتكم، في معنى هذا العهد وإحكامه، ومحاولته وإبرامه، فعلتم من ذلك ما نرقب أثره، ونصرف إليه من الشكر أوفاه وأوفره، إن شاء الله تعالى: وهو الموفّق لا ربّ سواه، والسلام الأتمّ عليكم كثيرا.
الطّرف الخامس عشر (المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة [وهي] «2» إما أن تصدّر بما يصدّر به الابتداء وقد تقدّم، وإما أن تصدّر بلفظ وصل أو ورد)
كما كتب بعض كتّاب الدولة الأيوبية عن الملك الجواد «3» : أحد ملوكهم،(7/124)
في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر، جواب كتاب ورد عليه من فرانك: أحد ملوك الفرنج في شعبان سنة ثلاثين وستمائة:
وردت المكاتبة الكريمة الصادرة عن المجلس العالي، الملك، الأجل، الأعز الكبير، المؤيّد، الخطير، العالم العامل، الظّهير، العادل، الأوحد، المجتبى، شمس الملة النّصرانية، جلال الطائفة الصليبية، عضد الأمة الفرنجية، فخر أبناء المعموديّة؛ عمدة الممالك ضابط العساكر المسيحية، قيصر المعظّم فلان معزّ إمام رومية؛ ثبّت الله لديه نعمه، وعزّز موارد جوده وديمه، وأمضى صوارم عزائمه وأعلى هممه، ولا برحت أنوار سعده، تتلالا، وأخبار مجده، تبسط وتتعالى، وسحائب الألسنة الناطقة بحمده تستهلّ «1» وتتوالى، إلى أن يتحلّى جيد الضّحى بعقود الليل، وتطلع الشعرى من مطالع سهيل «2» - فجدّد الثناء على جلاله، وأكّد المديح لإحسانه وإفضاله؛ وأنفس أسباب المودّة والحصافة، وشدّد أواخي الإخلاص والموافاة فاستبشرت النفوس بوروده، وسرّت القلوب بوفوده؛ ووقف منه على الإحسان الذي نعرفه، ووجد عقده مشتملا على جواهر الوداد الذي نألفه؛ فشكر الله على هذه الألفة المنتظمة، والمحبّة الصادقة المكرّمة.
والمجلس العالي الملك الأجلّ أعلى الله قدره، ونشر بالخير ذكره، أولى من(7/125)
أهدى المسرّات، بورود المراسم والحاجات، ووصل الأنس بكريم المكاتبات، مضمّنة السوانح والمهمّات.
فأما ما ذكره المقام العالي السلطانيّ الملكيّ الكامليّ الناصريّ- زاده الله شرفا وعلوّا- من أنه لا فرق بين المملكتين، فهذا هو المعتقد في صدق عهده، وخالص ودّه؛ ولا زال ملكه عاليا، وشرفه ناميا، إن شاء الله تعالى.(7/126)
الفصل الرابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة (في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية
، على ما استقر عليه الحال في ابتداء الدولة التركية وإلى زماننا على رأس الثمانمائة مما أكثره مأخوذ من ترتيب الدّولة الأيوبية التي هي أصل الدّولة التركية، وفيه [ثلاثة] «1» أطراف)
الطرف الأول (في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العبّاس)
قد تقدّم في الكلام على المكاتبات الصادرة عن الملوك إلى خلفاء بني العباس أنها على أساليب في ابتداء المكاتبات: منها ما يفتتح بآية من القرآن الكريم ثم بالسلام؛ ومنها ما يفتتح بالسلام ابتداء؛ ومنها ما يفتتح بالصلاة على الخليفة على مذهب من يرى جواز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ ومنها ما يفتتح بالدعاء لديوان الخلافة.
ولكن الذي ذكره المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» «2» مما الحال مستقرّ به أن المكاتبة إلى ديوان الخلافة الشريفة: «أدام الله أيام الدّيوان العزيز، المولويّ، السيّدي، النبويّ، الإماميّ، الفلانيّ» ثم الدعاء المعطوف، والصدر بالتعظيم المألوف؛ وأنها قد تفتتح بغير هذا الدعاء نحو: «أدام الله سلطان» و «خلد الله سلطان» أو «أيام» أو غير ذلك(7/127)
مما يقتضي العزّ والدّوام. وأن الصدر نحو: «العبد، أو المملوك، أو الخادم، يقبّل الأرض أو العتبات أو مواطيء المواقف» أو غير ذلك. وأنّ ختم الكتاب يكون تارة بالدعاء، وتارة ب «يطالع أو أنهى» أو غيرهما مما فيه معنى الإنهاء. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالديوان العزيز، وبالمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف. وبأمير المؤمنين مجرّدة عن سيدنا ومولانا، ومرّة غير مجرّدة، مع مراعاة المناسبة، والتسديد والمقاربة. وأن خطاب المكاتب عنه بحسب من كتب عنه:
فكتب بعض ملوك بني أيوب بالديار الشامية «الخادم» . وبعضهم «المملوك» وبعضهم «العبد» وبعضهم «أقل المماليك» وبعضهم «أقلّ العبيد» . وأن علاء الدين خوارزم شاه «1» : صاحب بلاد خوارزم وما معها، وابنه جلال الدين «2» كانا يكتبان «الخادم المطواع» ، وأن أمّ جلال الدين كانت تكتب «الأمة الداعية» . قال:
في «التثقيف» «3» : وعنوانه «الديوان العزيز» إلى آخر الألقاب، ثم الدعاء يعني من(7/128)
نسبة الصدر، نحو «أدام الله أيامه وخلّد الله سلطانه» وما أشبه ذلك. قال: وعادة العلامة إليه «الخادم» أو «المملوك» أو «العبد» . وكتب بعضهم «أقلّ المماليك» وبعضهم «أقلّ العبيد» . يريد أنّ العلامة تكون مطابقة لما يقع في أثناء المكاتبة عن المكتوب إليه من الخادم وغيره مما تقدّم ذكره، بحسب ما يؤثر الملك المكتوب عنه الخطاب به عن نفسه.
وهذه عدّة صدور مختلفات الابتداءات منقولة من التعريف وغيره.
أما قطع الورق الذي يكتب فيه إلى الخليفة، فقد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق في المقالة الثالثة، نقلا عن ابن عمر المدائنيّ في «كتاب القلم والدواة» أنه يكتب للخلفاء في قرطاس من ثلثي طومار، وأن المراد بالطّومار الفرخة الكاملة، وأن المراد الورق البغدادي «1» ؛ وحينئذ فينبغي أن يجرى الأمر على ذلك تعظيما للخلافة.
صدر: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زالت سيوف أوليائه في رقاب أعدائه محكّمة، وصنوف الكفّار، في أيدي عسكره الجرّار، بالنّهاب مقسّمة، وصفوف أهل الشرك مزلزلة بخوافق أعلامه المطهّرة وسنابك جياده المطهّمة؛ ولا برحت ملائكة النصر من أمداده، وملوك العصر بيض الوجوه بتعظيم شعار سواده.
الخادم ينتهب ثرى العتبات الشريفة بالتقبيل، وينتهي في قصارى الطّلبات، على الوقوف في تلك الرّبوع، ويكلّل ربى تلك الساحات، هو وكلّ ابن سبيل بلآليء الدّموع، خضوعا في ذلك الموقف الذي تنكر القلوب فيه الصّدور، وتلصق منه الترائب بالنّحور «2» ؛ ويظهر سيما «3» الجلالة في الوجود، ويغدق على الأولياء فيعرفون بسيماهم من أثر السّجود. وينهي أن ولاءه القديم، وبلاءه(7/129)
العظيم، وأيّامه السالفة، وأفعاله التالدة والطارفة، وسوابق خدمه في امتثال الأوامر الشريفة التي لم يزل يتسارع إليها، ويقارع عليها، ويصارع غلب الأسود على تنفيذ مراسمها، وإقامة مواسمها، وإطارة صيتها، ودوام تثبيتها، تحمل الخادم على الاسترسال، وتجمل له السؤال، والذي ينهيه كذا وكذا.
صدر آخر: من «التعريف» : أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولا زالت الخلائق بكرمه مضيّفة [والكتائب في هجير وطيسه مصيّفة] «1» ، والأبصار في نصر أنصاره مصنّفة، والمواضي بأوامره في قبضات عساكره مصرّفة، والنقود إلا ما تشرّف باسمه مزيّفة، والقلوب في صدور الأعداء بخواطف رعبه مسيّفة «2» ، والوعود إلا بما تنجزه مواهبه مسوّفة، والوغى لا ترى إلا برماحه مثقّفة، والسماء وإن علت لا تكون إلا لأذيال سيوفه مسجّفة «3» ، والمهابة بسطاه إما للمعاقل فاتحة وإما عمّا يطمع أن تناله الأيدي منها مجحفة، والأمم على اختلافها تحت راياته المنصورة مقاتلة وأخرى له محالفة، والأعلام التي يأوي إليها الإسلام به جوار الجوزاء مخلّفة، والأبطال لقتال الكفر ببوارق سيوفه، قبل مضايق صفوفه، ومخانق زحوفه مخوّفة.
الخادم يقبل بولائه إلى ذلك الجناب، ويقبّل الأرض وكتابه يحسن المناب، ويقيل عثراته إذ كان به قد لاذ، ويقيم معاذيره إذ كان به قد عاذ، ويتسربل بطاعته سرابيل تقيه إذا خاف من سهام الدهر إلى مهجته النّفاذ، ويصول بانضمامه إلى تلك العصابة المنصورة لا بما يطبع من الفولاذ، ويجلّ تلك المواقف المقدّسة أن يبلّ مواطئها بدمعه، وأن يحلّ مواطنها بقلبه قبل أن يعاجل كلّ عدوّ بقمعه؛ ويعدّ ما هدي إليه من الاعتصام بسببها سببا لفوزه، وموجبا لملك رقّ عنق كلّ عاص وحوزه؛ وينهي كذا وكذا.(7/130)
صدر آخر: خلّد الله سلطان الديوان العزيز! ولا زالت أيامه شامخة الذّوائب، شارخة الصبّا [حتى] حيث يلحق الشّيب الشوائب، راسخة الفخار في الظّهور بالعجائب، نافخة في فحم الليل جمر الكتائب، صارخة والرعد ترتعد فرائضة بين السّحائب، ناسخة دولة كلّ علياء بما تأتي به من الغرائب، وتبذله من الرّغائب، فاسخة عقد كلّ خالع يردّه الله إليها ردّة خائب، باذخة على ماضي كلّ زمان ذاهب من عصور الخلفاء الشرفاء وآئب، سالخة لجلدة كلّ أيّم «1» ظنّ أنّ في أنياب رمحه النّوائب.
الخادم يقبّل العتبات الشريفة ساجدا بجبينه، وشاهدا يستأديه له على يمينه، وجاحدا كلّ ولاء سوى ولائه المعقود بيمينه، وعاقدا بشرف الانتساب إليه عقد دينه، وحامدا الله الذي جعله [من] «2» طاعة أمير المؤمنين عند حسن يقينه؛ وعائدا بأمله إلى كرم تثمر به الآمال، وتقمر به اللّيالي لأنها شعاره الذي تضرب به الأمثال، وتمطر به السّحب الجهام «3» فتمحى بها آية الإمحال. وينهي ورود المثال الشريف الذي طلع نيّره فأنار، وسطع متضادّه فألّف بين الليل والنهار؛ وأقبل فما رآه إلا كتابه الذي أوتيه باليمين، وسحابه الذي أعطيه يندى منه الجبين؛ ونصره أكثر من الألوف، وأنصفه أعجل من السيوف، وزاحم به الدهر فضلا عن الصّفوف، وزار به الوغى لا يهابها وخطّيّات القنا وقوف؛ فتشرّف به وطار بغير جناح، وقاتل بغير سلاح، وقرأه وبات قرّى له في السّماح، وتسلّمه كأنما تسنم به المعاقل وتسلّم منه المفتاح.
صدر آخر: خلّد الله أيام الديوان العزيز! ولا زالت سطواته تجمد برعبها(7/131)
الأبطال المدجّحة، وتخمد بفيضها النّيران المؤججة، وتخمل بركز نفاذها إلى القلوب الرّماح المزجّجة «1» ، وتبخّل معها بعوائد كرمها السحب المثجّجة «2» ، وتخفّ لديها أوقار «3» الجبال المفجّجة «4» ، وتخرّ بل تخور خوفا أن تترقّى إليها الأصوات المضجّجة، وتخصّ بالغرق من خاطر في بحارها الملجّجة، وتحلف بسلطانها للموت أشهى من البقاء إلى طرائد سيوفها المهجّجة «5» ، وتخلّد النصر بحججها القائمة على الخصماء المتحجّجة.
الخادم يقلّب وجهه في سماء الفخار بتقبيل الأرض التي طالت السماء، فأطالت النّعماء، وفضلت النّجوم اللّوامع، وأوتيت بمالكها- أعزّ الله سلطانه- كلم الفضل الجوامع، وأحلّت شوامخ المجد من حلّها، وأجلّت قدر من جدّ فأجلّها، وأعطت مفاتيح الكنوز كنوز الشّرف لمن قبّلها كما يقبّل الحجيج الحجر، أو أمّلها كما يؤمّل الساري طلوع القمر؛ وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: قال في «التعريف» : وهو غريب الأسلوب.
أدام الله أيام العدل والإحسان، النّعم الحسان، والفضل المشكور بكلّ لسان؛ الأيّام التي أشرق صباحها السّافر، وعمّ سماحها الوافر، وآمن بيمنها كلّ مسلم ضرب عليه سرادق الليل الكافر؛ وعلت شموسها وقد جنحت العصور الذّواهب، وقدحت أشعّتها فأضاءت بين لابتي الغياهب «6» ؛ أيّام الديوان [العزيز(7/132)
المولوي، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الحاكميّ] «1» ، لا برحت أيامه مفنّنة، «2» وأحكامه مقنّنة، وسحبه على الظّماء محنّنة، وقربه بفقد ما حوته مجنّنة «3» ، وحقائقه غير مظنّنة، وطرائقه للخير مسنّنة، والخلائق تحت جناح رأفته ورحماه مكنّنة؛ ولا زال ولاؤه ضمير من اعتقد، وممير «4» من أخذ من الدهر ما نقد، ومبير الأسود المتضائلة لديه كالنّقد «5» ، وسمير من تنبّه وضجيع من رقد، ومعير البرق ندى كرمه وقد وقد، ومغير متعالي الصّباح من راياته العالية بما عقد، ومجير من لاذبه حتّى لا يضرّه من فقد ومبير عداه برداه الذي إن تأخّر إلى حين فقد «6» الخادم يخدم تلك العتبات الشريفة التي إن تاهت على السماء فما «7» ، وإن دنت للتقبيل فإن الثّريّا تودّ أن تكون فما؛ وينهب تراب تلك الأرض التي هي مساجد، ويقبّل ذلك البساط الذي لا موضع فيه إلا مكان لاثم أو ساجد؛ وينزّهها عن سواكب دمعه: لأنّ ذلك الحرم [الآمن] «8» لا تطلّ فيه الدماء، ويجلّها عن مواقع لثمه لأنها لا تلثم السماء؛ ويرفع صالح الدعاء وإنما إلى سمائها يرفعه، وينهي صادق الولاء وماثمّ من يدفعه، ويدّخر من صحيح العبوديّة ما يرجو أنه ينفعه؛ ويطالع العلوم الشريفة بكذا وكذا.
صدر آخر: أدام الله النعمة على الدين والدنيا بإيالة الديوان العزيز! وأسبغ نعمه فالنّعم في ضمنها، وملأ الآمال منها وأفاض من أنوارها التي علم قرن(7/133)
الشمس أنّه غير قرنها، وأدال دولته التي نزل الخلق من جنّات عدلها جنّات عدنها؛ وأمضى سيوفها التي تعرب فيعرف ضمير النصر في لحنها «1» ، وأعلى آراءها التي تلقى العداة بدروع يقينها، وتلقى الغيوب بسهم ظنّها؛ ولا زالت البشائر تتبارى إليه بردها، ويضفو على أعطاف الإسلام بردها؛ ولا برحت راياته سويدات «2» قلوب العساكر، وأجنحة الدعاء المحلّق إلى أفق السماء من أفق المنابر، وولاؤها السّرّ المبهم الذي هو مما تبلى به السرائر «3» الخادم ...
صدر آخر: أعلى الله الموحّدين على الملحدين، وثبّت كلمة المتّقين على اليقين، بدوام أيّام الديوان العزيز، وروّض بولاته كل ديوان، ووسم بولائه كلّ أوان، وأنطق بحمده كلّ لسان، وألهم الخلق أن يعنونوا بطاعته صحائف الإيمان، وأسعدهم بما يتناولونه في الدنيا من كتب المنن وفي الآخرة من كتب الأمان؛ فكلّها طائر في العنق يكون بالطاعة قلائد برّ في الأطواق، وبالمعصية جوامع أسر في الأعناق.
ورد على المملوك كتاب إن لم يكن أنزل من السماء، فهو من الذين أنزل عليهم كتاب من السماء، وإن لم تنزل ألفاظه بالماء، فهو من الذين أنزلت ألفاظ دعواتهم الماء؛ وإن لم يكن كتاب العمل: لأنه ليس بيوم الكتاب، فإنه قطّ «4» عجّل له قبل يوم الحساب؛ ولولا أن أمّ الكتاب أعقمت «5» لكان ابن أمّ الكتاب، وإن هو إلا طائر ألزم في عنقه وما وكر طائره إلا المحراب.
صدر آخر: أتمّ الله ما أنعم به على الديوان العزيز وعلى الخلق، وأشرك في هذه النّعمة أهل الغرب والشّرق، وميّز الحظوظ فيها بحسب درجات السّبق. فإنه(7/134)
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى
«1» والله لا يخلف موعده؛ والديوان العزيز لا يكدّر مورده، ولا رفع عن أيدي الخلق يده، بل يجري عليها ما ضمّنه، ويمكّنها بما بسط لها في الأرض ومكّنه، ويرسل عليها سحائب رحمته، وينشيء منها ناشئة نعمته، ويوجّه إلى قلبها وجه كلّ أمل، ويفيض طوفانها فلا يكون به للغليل قبل، ولا يأوي إلى حصاة قلب «2» فيعصمها ولو أنه جبل.
قلت: ولم أقف على مكاتبة عن أحد من ملوك الديار المصرية إلى أبواب الخلافة مذ صارت دار الخلافة بالديار المصرية. والظاهر أنه لم تجر مكاتبة عن السلطان إلى الخليفة، لأن الخليفة لا يكاد يفارق السلطان سفرا ولا حضرا مفارقة توجب المكاتبة إليه، كما أشار إليه صاحب «التثقيف» . وقد لوّح في «التعريف» إلى ذلك فقال: وأوّل ما نبدأ بما يكتب به إلى الأبواب الشريفة الخليفتية (كذا) زادها الله شرفا، جريا على قديم العادة، ورجاء لملاحظة السّعادة.
وهذه نسخة مكاتبة من هذا النوع مما كتب به القاضي الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد في أيام الناصر لدين الله بخبر ملك الألمان «3» من الفرنجة والقتال معه، في جواب كتاب ورد عليه، يوضّح في هذا الموضع بيان هذا الأسلوب، ويغني عن مراجعة [كثير] من الأمثلة المذكورة في المكاتبات إلى الخلفاء على ما تقدّم، وهو:
أدام الله ظلّ الديوان العزيز النبويّ، الإماميّ، الشريف الناصريّ، ومدّه على الأمة ظليلا، وجعل الأنوار عليه دليلا، وحاطه بلطفه وتقبّل أعماله بقبول(7/135)
حسن وأنبتها، وأرغم أعداءه وكبتها، ومسّها بعذاب من عنده وسحتها؛ ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرّة المخبر في العداة مسودّة الأثر.
ورد على الخادم ما كوتب به من الديوان العزيز رائدا في استخلاصه، مبرهنا عن اختصاصه، مطلقا في الشّكر للسانه، وفي الحرب لعنانه؛ ومقتضيا لأمنيّة كان يتهيّبها، ومفيضا لمكرمة لو سمت نفسه إليها كان يتهمها؛ فلله هو! من كتاب كأنّه سورة وكلّ آية منه سجدة، قابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة «1» ؛ وتلاه على من قبله من الأولياء مسترفها به لعزائمهم، مستجزلا به لمغانمهم، مستثبتا به للازمهم، مستدعيا به الخدمة للوازمهم، مرهفا به ظباهم في القتال، فاسحا به خطاهم يوم النّزال؛ فأثّر فيه كالاقتداح في الزّند «2» ؛ وكالانبجاس من الصّلد، وكالاستلال من الغمد؛ فشمّر من كان قد أسبل، وانتهى من كان قد أجبل «3» ؛ وكأنّما أعطوا كتابا من الدّهر بالأمان، أو سمعوا مناديا ينادي للإيمان؛ وقالوا: سمعنا وأطعنا، وعلينا من الخدمة ما استطعنا؛ هذا مع كونهم أنضاء زحوف «4» ، وأشلاء حتوف، وضرائب سيوف؛ قد وسمت وجوههم علامات الكفاح، وأحالت عرضهم أقلام الرّماح؛ صابرين مصابرين، مكاثرين مكابرين، مناضلين مناظرين؛ قد قاموا عن المسلمين بما قعد عنه سائرهم، ونزلوا بقارعة القراع فلا يسير عنها سائرهم؛ وسدّست «5» كعوب الرّماح أنملهم، وأثبتوا في معترك الموت أرجلهم؛ كلّ ذلك طاعة لله ولرسوله ولخليفتهما، وإذا رموا فأصابوا قالوا ولكنّ الله رمى.(7/136)
ومن خبر الكفّار أنهم إلى الآن على عكّا يمدّهم البحر بمراكب أكثر عدّة من أمواجه، ويخرج للمسلمين منهم أمر من أجاجه»
؛ قد تعاضدت ملوك الكفر «2» على أن ينهضوا إليهم من كلّ فرقة منهم طائفة، ويقلّدوا لهم من كل قرن يعجز بالكرّة واصفه؛ فإذا قتل المسلمون واحدا في البرّ بعث البحر عوضه ألفا، وإذا ذهب بالقتل صنف منهم أخلف بدله صنفا؛ فالزّرع أكثر من الجداد «3» ، والثمرة أنمى من الحصاد. وهذا العدو المقاتل- قاتله الله- قد زرّ عليه من الخنادق أدراعا متينة، واستجنّ من الجنويات «4» بحصون حصينة؛ مصحرا ومتمنّعا، وحاسرا ومتدرّعا ومواصلا ومنقطعا؛ وكلّما أخرج رأسا قد قطعت منه رؤوس، وكلّما كشف وجها كشف من غطاء أجسادها نفوس؛ فكم من يوم أرسلوا أعنّة السوابق فذمّوا عقبى إرسالها، وكم من ساعة فضّوا فيها أقفال الخنادق فأفضى إليهم البلاء عند فضّ أقفالها؛ إلا أنّ عددهم الجمّ قد كاثر القتل، ورقابهم الغلب قد قطعت النّصل لشدّة ما قطعها النصل. ومن قبل الخادم من الأولياء قد آثّرت المدّة الطويلة، والكلف الثقيلة، في استطاعتهم لا في طاعتهم، وفي أجوالهم «5» لا في شجاعتهم؛ فالبرك «6» قد أنضوه، والسّلاح قد أحفوه، والدّرهم قد أفنوه؛ وكلّ من يعرفهم من أهل المعرفة، ويراهم بالعين فما هم مثل من يراهم بالصّفة؛ يناشد الله المناشدة النبويّة، في الصّيحة البدرية؛ اللهم إن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة. هذا والساحل قد تماسك، وما تهالك؛ وتجلّد، ما تبلّد؛ وشجّعته مواعد النّجدة الخارجة، وأسلته عن مصارع العدّة الدّارجة؛ فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك للصّلبان، وجموع ما(7/137)
وراء البحر، وحشود أجناس الكفر؟ وقد حرّم باباهم «1» - لعنة الله عليهم وعليه- كلّ مباح واستخرج منهم كلّ مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة «2» وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ
«3» اللهم أخفر جواره، واصرف جوره، وأخلف وعده، واكسر ضمانه، وأنكصه على عقبه، وعجّل في الدنيا والآخرة منهم تبابه. وما بدأتنا به من نعمتك فلا تقطعه، وما وهبتنا من نصرك فلا تسلبه، وما سترته من عجزنا فلا تهتكه. [و] في دون ما الدّين مستقبله، وعدوّه خذله الله يؤمّله؛ ما يستغرغ عزائم الرجال، ويستنفد خزائن الأموال، ويوجب لإمام هذه الأمة أن يحفظ عليها قبلتها، ويزيح في قتل عدوّها علّتها؛ ولولا أنّ في التصريح، ما يعود على عدالته بالتّجريح، لقال ما يبكي العين وينكي القلوب، وتنشقّ له المرائر وتشقّ له الجيوب؛ ولكنّه صابر محتسب، منتظر لنصر الله مرتقب، قائم في نفسه بما يجب؛ ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي، وها هو قد هاجر إليك هجرة يرجوها عندك مقبولة، وولدي وقد أبرزت لعدوّك صفحات وجوههم، وهان عليّ محبوبك بمكروهي فيهم ومكروههم. ونقف عند هذا الحدّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ وإن لم يشتك الدّين إلى «ناصره» والحقّ إلى من قام بأوّله وإلى اليوم الآخر يقوم بآخره؛ فإلى من(7/138)
يشتكى البثّ، وعند من يتفرج بالنّفث؟ ومنفعة الغوث قبل العطب، والنّجاء قبل أن يصل الحزام الطّبيين «1» والبلاغ قبل أن يصل السيل الزّبى.
فيا عصبة محمد صلّى الله عليه وسلّم اخلفه في أمّته بما تطمئن به مضاجعه، ووفّه الحقّ فينا؛ فإنّا وإنّ المسلمين عندك ودائعه، وما مثّل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة من وقف بالباب ضارعا، وناجى بالقول صادعا؛ ولو رفعت عنه العوائق لهاجر، وشافه طبيب الإسلام بل مسيحه بالداء خامر؛ ولو أمن عدوّ الله أن يقول فرّ لسافر، وبعد ففيه وإن عضّ الزمان بقيّة، وقبله وإن تدارأت الشّهّاد دريّة «2» ؛ فلا يزال قائما حتّى ينصر أو يعذر، فلا يصل إلى حرم ذرّية أحمد صلّى الله عليه وسلّم ومن ذريّة أيوب واحد يذكر.
أنجز الله لأمير المؤمنين مواعد نصره! وتمم مساعدة دهره! وأصفى موارد إحسانه! وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به فهو خير حافظا «3» ، ونصره ونصر على يديه فهو أقوى ناصرا، إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله قد ذكر في «تعريفه» أيضا أنّ المكاتبة إلى أبواب الخلافة من الملوك والسّوقة لا تختلف، بل تكون على الأنموذج المقدّم ذكره، واستلزم ذلك: فجرى على هذا المصطلح فيما كتب به إلى الديوان العزيز الحاكميّ، أحمد بن أبي الربيع سليمان «4» أحد الخلفاء(7/139)
العباسيّين بالديار المصرية، عن رماة البندق «1» بالشام، جوابا عمّا ورد عليه من كتابهم، وهو متكلّم على رماة البندق يومئذ في أمر ناصر الدين بن الحمصيّ وهو أحد الرّماة.
أدام الله تعالى أيام الديوان العزيز، المولويّ، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الحاكميّ، ونصر به جمع الإيمان، وبشّر بأيّامه الزمان، ومتّعه بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بما ورثه من سليمان؛ ولا زال يخضع لمقامه كلّ جليل، ويعرف لأيامه كلّ وجه جميل، ويعترف لشرفه كلّ معترف بالتفضيل، ويشهد بنفاذ أوامره من ذوي نسبه الشريف كلّ أخ وخليل؛ ولا كان إلّا كرمه المأمول، ودعاءه المقبول، وعدوّه المصروع ووليّه المحمول؛ ولا برحت طاعته يعقد عليها كلّ جمع، ومراسمه ينصت إليها كلّ سمع، وطوائف الذين كذبوا عليه لا تتلى عليهم آياته إلا تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع.
المماليك يقبّلون الأرض بالأبواب العالية التي هي خطّة شرفهم، ومكان تعبّد القدماء منهم ومن سلفهم، ويلوذون بذلك المقام، ويعوذون بذلك الحرم الذي لا يبعد نسبه من البيت الحرام؛ ويؤمّلون ذلك الكرم الذي ما منهم إلا من سعد به طائره، وجاءته به في وجه الصّباح أشائره؛ وفي وجه العشاء بشائره؛ فنالوا به أقصى المرام، وقضوا به من العمر ما إذا قالوا: يا سعد! لا يعنون به إلا ذلك الإمام؛ وينتهون إلى ما ورد به المرسوم الشريف الذي ما من المماليك إلا من متّ لديه بتقديم عبوديّته ورقّه، وسارع إلى طائره الميمون وحمله بسبقه، وفتح له عينه وظنّ أنّه حاكم، وامتثلوا أمره وكيف لا تمتثل الرماة أمر الحاكم؟ ولا سيّما ابن عمّ(7/140)
سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الامام الحاكم؛ وأجلّوه عن رفعه على العين إذ كانت تلك بمنزلة الحاجب، وقدّموا إليه خفوق قلوبهم الطائرة وما علموا إن كانوا قاموا بالواجب؛ ووقفوا على أحكام حاكمه فما شكّوا أنّ زمان هذا الفنّ بحياة ناصره في بغداد قد عاد، وأنّ مثاله المتمثّل في سواد الحدق مما حكته أيامه العبّاسيّة من شعار السّواد؛ وعلموا ما رسم به في معني محمد بن الحمصيّ الذي ما نوّرت الليلة أكاريخه، ولا بعدت في الإقعاد له تواريخه؛ بل أخمدت دموع ندمه نيرانه المشتعلة، وأصبح به لا يحمل القوس في يده إلا أنه مشغلة؛ وما كان أنهاه الدّيوان العزيز مما لم تذكر الخواطر الشريفة بأنه قبة المفترى، وأنه صاحب القوس إلا أن ماله سعادة المشتري؛ وأنه موّه تمويه الجاحد، وتلوّن مثل قوس قزح وإلا فقوس البندق لون واحد؛ وأدلى بغروره، وعرض المحضر الذي حمله على تغريره؛ وذلك في غيبة الأمير بهاء الدين أرسلان البندقدار الحاكمي، الذي لو كان حاضرا لكان حجّة عليه، ومؤكّدا لإبطال رميه وقوسه وبندقه في يديه؛ لما تضمّنه الخطّ الشريف المقيّد اللفظ المكتتب على المصطلح، الساحب ذيل فخاره على المقترح، الذي هدى إلى الخير، وبدا به ما وهب من الملك السليمانيّ الذي أوتي من كلّ شيء وعلّم منطق الطير «1» ؛ فإنّه لم يكتب له إلا بأن يرمي على الوجه المرضيّ واستيفاء شروط البندق، والخروج من جميع الأشكال عملا بقواعده؛ ويعلم بأنه ما رعى حقّ قدمته، ولا فعل في الباب العزيز ما يجب من التحلّي بشعار الصّدق في خدمته؛ وأنه خالف عادة الأدب، وأخطأ في الكلّ لكنه ندب «2» ؛ وذلك بعد أن عمل له جميع رماة البندق، وسئل فأجاب: بأنه سالم من كل إشكال(7/141)
يشكل، وأنه بعد أن أقعد رمى وحمل وحمل؛ فشهد عليه السادة الأمراء ولاة العهد إخوة أمير المؤمنين ومن حضر، وكتبوا خطوطهم في المحضر؛ وما حصل الآن عند عرض قصة المماليك بالمواقف المقدّسة، ووضوح قضيته المدنّسة: من التعجّب من اعتراف المماليك، لكونهم رموا معه بعد أن رأوا الخطّ الشريف وهو لفظ مقيّد، وأمر أيّد به رأي الإمام الحاكم بأمر الله المسترشد بالله والمؤيّد؛ وكلّ ما أمر به أمير المؤمنين لا معدل عن طرقه، ولا جدال إلا به إذا ألزم كلّ أحد طائره «1» في عنقه، وأمير المؤمنين بحر لا يرد إلا من علمه، وهو الحاكم ولا رادّ لحكمه.
وإنما ابن الحمصيّ المذكور عدم السّداد، وخالف جاري العادة في الحمّص فإنه هو الذي سلق في الافتراء بألسنة حداد؛ ولم يوقف المماليك من الخط الشريف إلا على بعضه، ولا أراهم من برقه المتهلّل غير ومضه؛ والذي أوقفهم عليه منه أن يرمي محمد بن الحمصيّ ويرمى معه، وكلمة أمير المؤمنين مستمعة، ومراسيمه متّبعة؛ وإذا تقدّم كان الناس تبعه. غير أن المذكور بدت منه أمور قطع بها الأمير صارم الدين صاروجا الحاكم البندقدار «2» في حقه، وأقعده عن قدمته التي كان يمتّ فيها بسبقه؛ وانتقل عنه غلمانه، وثقل عليه زمانه؛ ونودي عليه في جمع كبير يزيد على تسعين قوسا، وجرح بخطإ بندقه جرحا لا يوسى؛ ثم بعد مدّة سنين توسّل بولد الأمير المرحوم سيف الدين تنكز إلى أبيه، وتوصّل به إلى مراميه؛ فأمر أن يرمى معه وهدّد المخالف بالضرب، ولم يرم معه أحد برضاه إلا خوف أن توقد نار الحرب، فلما مضت تلك الأيّام، وانقضت تلك الأحلام، جمع مملوك الأبواب العالية الأمير علاء الدين بن الأبو بكري الحاكم في البندق الآن من رماة البندق(7/142)
جمعا كبيرا، واهتّم به اهتماما كثيرا؛ وذكر أمر المذكور، وأحضر محضره المسطور؛ ولم يكن عليه تعويل، ولا في حكم الحاكم المتقدّم تعليل، ولا عند هذا الحاكم الذي ادّعى له وادّعى عنده تجوز الأباطيل؛ وتحقّق أنّ الحقّ فيما حكم به عليه فتبع، وترجّح أن لا يقام منه من أقعد ولا يوصل منه ما قطع؛ فنّفذ حكم الحاكم المتقدّم، واستمرّ بقعوده المتحتّم؛ ووافقه على هذا سائر الرّماة بالبلاد الشامية وحكّامها، ومن يرجع إليه في الرّماية وإحكامها؛ وبطلت قدمة لمذكور التي ذهب فيها عمره ضائعا، وزمانه الذي لو اشتريت منه ساعة بالعمر لم يكن نافعا.
ولما ورد الآن هذا المرسوم الشريف زاده الله شرفا قبلوا الأرض لديه، وأوقفوا عليه حاكمهم المسمّى فوقف له وعليه؛ وجمع له جمعا لم يدع فيه من الرّماة معتبرا، ولا من يلقم القوس وترا، ولا من إذا قعد كالعين جرى ما جرى، ثم قرأ عليهم ما تضمّن، ودعو الأمير المؤمنين ولم يبق منهم إلا من دعا أو أمّن؛ وتضاعف سرورهم بحكمه الذي رفع الخلل، وقطع الجدل، وقالوا: لا عدمنا أيام هذا الحاكم الذي أنصف والإمام الذي عدل؛ وبقى ابن الحمصى مثله، ونودى عليه إنّه من رمى معه كان مخطئا مثله؛ ووقرت هذه المناداة في كلّ مسمع، وقرّت استقرار الفضل عليه المجمع، وذلك بما فهم من أمير المؤمنين؛ وبنص كتابه المبين، وبما قضى الله به على لسان خليفته الحاكم والله أحكم الحاكمين؛ وطالعوا بها وأنهوا صورة الحال، وجمعوا في إمضائه الآمال. لا زالت سعادة أمير المؤمنين منزّهة عن الشّبه، آخذة من خير الدارين كل اثنين في وجه، حتّى تحصل كلّ رمية من كثب، ولا يرمى في كل أمنة إلا كلّ مصطحب، ما غبّ في السماء المرزم «1» ، ووقع العقاب على ثنيّة يقرع سنّه ويتندّم، وعلا النّسر الطائر والواقع على آثاره وسائر طيور النّجوم والحوّم؛ إن شاء الله تعالى.(7/143)
قلت: وقد اعترض في «التثقيف» كلام المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» فقال: وفيما ذكره في «التعريف» من التسوية في المكاتبة بين الملوك والسّوقة نظر. وما أشار إليه من النظر ظاهر: فإن الذي تجب مكاتبتهم به ما يكاتب به المرؤوس رئيسه بحسب ما تقتضيه الحال في ابتداء المكاتبات من يقبّل الأرض، كما تكاتب الملوك، بل هم بذلك أحقّ وأجدر. ويكون الخطاب لهم في أثناء المكاتبة بما أشار إليه في «التعريف» بالديوان العزيز، والمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى، ومولانا أمير المؤمنين، ونحو ذلك بحسب ما تقتضيه الحال على ما تقدّم ذكره.
الطرف الثاني (في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة)
أما على المصطلح القديم حين كانت المكاتبة إلى الخلفاء «لفلان من فلان» فقال في «صناعة الكتّاب» : ويكون التصدير في المكاتبة إلى وليّ العهد على ما تقدّم في المكاتبة إلى الخلفاء مع تغيير الأسماء، غير أنه جعل الفرق بين الإمام وغيره ممن يكاتب بالتصدير أن يقال للإمام في التصدير مع السلام: وبركاته، في أوّل الكتاب وآخره. ومن سوى الإمام تحذف وبركاته من التصدير وتثبت في آخر الكتاب.
وقد تقدّم أنّ التصدير إلى الخليفة حينئذ كان «لعبد الله أبي فلان فلان أمير المؤمنين، سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إلى أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله. أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين إلى آخره، ويختم بقوله: والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته» .
وحينئذ فتكون المكاتبة إلى وليّ العهد على ما أشار إليه في «صناعة الكتّاب» من الابتداء بالتصدير مع تغيير الأسماء: «لعبد الله أبي فلان فلان وليّ(7/144)
عهد المسلمين، سلام على وليّ عهد المسلمين؛ فإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلّا هو، وأسأله أن يصلّي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم. أما بعد: أطال الله بقاء وليّ العهد، ويختمه بقوله: والسلام على وليّ عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته» أو نحو ذلك.
وأما على المصطلح الذي حدث بعد ذلك، فقد ذكر المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف» أن رسم المكاتبة إلى وليّ العهد بالخلافة: ضاعف الله تعالى جلال الجانب الشريف، المولويّ، السيديّ، النّبويّ، الفلانيّ؛ ثم الدعاء المعطوف. وأبدل في «التثقيف» لفظ الجانب بالجناب. والخطاب له بمولانا وسيدنا وليّ العهد ونحو ذلك. والتعبير عن المكتوب عنه ب «الخادم يقبل العتبات الشريفة أو اليد الشريفة» أو نحو ذلك. قال في «التثقيف» : والعلامة إليه «الخادم» والعنوان «الجناب الشريف» وبقية الألقاب المذكورة إلى آخرها.
قال: وهو «1» أحسن من الجناب: لعدم اشتراك غيره معه فيه بخلاف الجناب. قال: وهذا أيضا على عادة من تقدّم من الملوك، أما في زماننا وقبله بمدّة مديدة، فلم يتفق وجود وليّ عهد للخلافة؛ وبتقدير وجوده فإذا لم يكن الخليفة يكاتب في هذا الأيام فكيف بوليّ عهده.
وهذه صدور مكاتبات إليه أوردها في «التعريف» .
صدر: ضاعف الله تعالى جلال الجانب وأطلع مع وجود الشمس بدره التّمام، وأحوج مع زاخر الحبر منه إلى مدد الغمام، وقدّمه إماما على الناس وأطال بقاء سيدنا أبيه الإمام؛ ولا عدم منه مع نظر والده الشريف جميل النظر، ولا برح صدر دسته «2» العليّ إذا غاب وثانيه إذا حضر؛ ولا زال الزمان مختالا من جود(7/145)
وجودهما لا عرّف الله الأنام قدره إلا بالزّهر والثّمر، ولا زاد فيض كرم إلا وهو من كفّ أبيه فاض أو من وبله العميم انهمر.
الخادم يخدم تلك العتبات الباذخة الشرف، الناسخة بما وجده من الخير في تقبيلها قول من قال: لا خير في السّرف. وينهي ولاء ما عقد على مثله ضمير، ولا انعقد شبيهه لولّي عهد ولا أمير؛ وإخلاصه في انتماء أشرق منه على الجبين، وأشرف فرآه فرضا عليه فيما نطق به القرآن ورقم في الكتاب المبين.
صدر آخر: أعز الله أنصار الجانب الشريف، ولا حجب منه سرّ ذلك الجلال، ولا معنى ذلك البدر المشرق منه في صورة الهلال، ولا فيض ذلك السحاب المشرع منه هذا المورد الزّلال، ولا تلك المآثر التي دلّ عليها منه كرم الخلال، ولا تلك الشجرة المفرّعة ولا ما امتد منها به من الغصن الممتدّ الظلال، ولا ذلك الإمام الذي هو وليّ عهده وهو أعظم من الاستقلال.
الخادم يقبّل تلك اليد موفيا لها بعهده [ومصفيا منها لورده] «1» ومضفيا منها جلابيب الشرف على عطفه، وحسبه فخارا أن يدعى في ذلك المقام بعبده؛ ويترامى على تلك الأبواب، ويلثم ذلك الثرى ويرجو الثواب.
صدر آخر: ولا زالت عهود ولايته منصوصة، وإيالته بعموم المصالح مخصوصة، وصفوف جيوشه كالبنيان مرصوصة، وقوادم أعدائه بالحوالق محصوصة «2» ، وبدائع أنبائه فيما حلّقت إليه دعوته الشريفة مقصوصة [والوفود في أبوابه أجنحتها بالنّدى مبلولة مقصوصة] «3» الخادم يجدّد بتلك الأعتاب خدمه، ويزاحم في تلك الرّحاب خدمه، ويقف في تلك الصّفوف لا تنقل عن الطاعة قدمه، ويتمثّل بين تلك الوقوف ويتميز عليهم(7/146)
إذا ذكر في السوابق قدمه؛ ويدلي بحجج سيوفه [التي أشهرها، وصروفه التي لاقى أشهرها، ومواقفه] «1» التي ما أنكرها الديوان العزيز مذ أثبتها، ولا حطّ رماحها مذ أنبتها، ولا محا سطورها، مذ كتبها، ليغيظ الأعداء ولا يشفي صدورها، منذ كبتها؛ وينهي كذا وكذا.
صدر آخر: ولا زالت مواعيد الظّفر له منصوصة، ورؤوس من كفر بطوارقه «2» مرضوضة، وصحائف الأيام عما يسرّ به الزمان فيه مفضوضة، وجفون عداه ولو اتصلت بمقل النجوم مغضوضة، وطوارق «3» الأعداء التي تجنّهم منه بسيوفه معضوضة.
الخادم يخدم أرضه المقدّسة بترامي قبله، وتقليب وجهه إلى قبله؛ ويتطوّف بذلك الحرم، ويتطوّل من فواضل ذلك الكرم؛ ويتطوّق بقلائد تلك المنن، وفرائد تلك المواهب التي إن لم تكن له وإلا فمن؛ فإنه، والله يشهد له، لا يعتقد بعد ولاء سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، والقيم بأمور الدنيا والدّين، عليه الصلاة والسلام، إلّا ولاءها، ولا يؤمّل بعد تلك الآلاء إلّا آلاءها؛ ولا يرجو من غير هذه الشجرة المباركة لأمله إثمارا، ولا لليله إقمارا؛ ولا لأيّامه حافظا، ولا لحال إقدامه في قدم صدق ولائه لافظا؛ قائما في خدم هذه الدولة القاهرة يجهد في منافعها [ويجدّ في كبت مدافعها] «4» ويدّخر شفاعتها العظمى إذا جاءت كلّ أمة بشافعها، وينهي كذا وكذا.(7/147)
الطرف الثالث (من المصطلح المستقر عليه الحال
، في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد)
المقصد الأول (في المكاتبات المفردة، وفيه مسلكان)
المسلك الأول (في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين)
الضرب الأول (المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدّم مما لعلّه يعود مثله، وهي الدعاء للمقام، وفيه مكاتبتان)
الأولى- المكاتبة إلى وليّ العهد بالسلطنة
[وهي] «1» على ما ذكره في «التثقيف» :
أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، الملكيّ، الفلانيّ، الأخويّ، أو الولديّ، إن كان أخا أو ولدا. ثم الدعاء اللائق به، ثم يقال: «أصدرناها إلى المقام العالي ويطالع علمه الشريف» والعلامة «أخوه» سواء كان أخا أو غير أخ، و «والده» إن كان والدا. ولم يذكر تعريفه، والذي يظهر أنه يكتب له «وليّ العهد بالسلطنة الشريفة» . ولم يذكر قطع الورق لهذه المكاتبة، والذي يظهر أنه في قطع العادة على قاعدة المكاتبات إلى أهل المملكة. قال في «التثقيف» : ولعل هذه المكاتبة نظير ما كتب به إلى الملك الصالح علاء الدين عليّ ولد المنصور قلاوون: فإنه كان وليّ عهد أبيه المذكور، توفّي في حياته «2» ثم قال: ورأيت(7/148)
أمثلة كثيرة صدرت عنه بخلاص الحقوق، وعلامته عليها «علي بن قلاوون» .
الثانية- المكاتبة إلى صاحب حماة من بقايا الملوك الأيوبية
قبل مصيرها نيابة «1» ، وآخر من كان منهم في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» الملك الأفضل ناصر الدين محمد بن الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل «2» ، لمّا صارت إليه بعد أبيه المذكور.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» في قطع العادة: «أعز الله تعالى أنصار المقام الشريف، العالي، السلطاني، الملكيّ، الأفضليّ، الناصريّ، ونحوهما» . ثم الدعاء، وبعده «أصدرناها إلى المقام الشريف» والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب حماة» . قال في «التثقيف» : ولم يزل الحال على ذلك إلى أن عزل عنها الأفضل المشار إليه بعد الأيام الشّهيدية الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الشهيد الناصر محمد بن قلاوون، واستقرّ بها بعده نائبا الأمير طغاي الحمويّ أمير مجلس «3» كان، فبقيت نيابة بعده إلى الآن.(7/149)
الضرب الثاني (المكاتبات إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم ممن جرت العادة بمكاتبته، وفيه مهيعان)
المهيع الأول (في رتب المكاتبات، وهي على عشر «1» درجات)
الدرجة الأولى (الدعاء للمقرّ)
«2» وصورته على ما ذكره في «التثقيف» : «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم «3» ، العالي «4» ، المولويّ «5» ، الأميريّ، الكبيريّ «6» ، العالميّ «7» ،(7/150)
العادليّ «8» ، المؤيّديّ «9» ، الزّعيميّ «10» ، العونيّ «11» ، الغياثيّ «12» ، المثاغريّ «13» ،(7/151)
المرابطيّ «14» ، الممهّديّ «15» ، المشيّديّ «16» ، الظّهيريّ «17» ، العابديّ «18» ،(7/152)
الناسكيّ «1» ، الأتابكيّ «2» ، الكفيليّ «3» ، الفلانيّ؛ معزّ الإسلام والمسلمين، سيد أمراء العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، ملجإ الفقراء والمساكين، زعيم جيوش الموحّدين، أتابك العساكر، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، عماد الملة، عون الأمة، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين» . ثم الدعاء المعطوف والتصدير المناسب: مثل أن يقال: «ولا زال عزمه مؤيّدا، وعزّه مؤبّدا، وسعده على ممرّ الجديدين مجدّدا؛ أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام أتمّه، ومن الثناء أعمّه» . ثم يقال: «وتبدي لعلمه الكريم كذا وكذا، ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بكذا وكذا، فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه» .
الدرجة الثانية (الدعاء للجناب الكريم)
«4» وصورته على ما أورده في «التثقيف» عما استقر عليه الحال «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، العالى، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ،(7/153)
المؤيّديّ، الزعيميّ، العونيّ، الغياثيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظهيريّ، الكافليّ، الفلانيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة «1» والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، سيف أمير المؤمنين» . ثم الدعاء والتصدير المناسب، مثل أن يقال: «ولا زالت عزائمه مؤيّدة، وأوامره السعيدة مسدّدة؛ صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما طيّبا، وثناء مطنبا؛ وتوضّح لعلمه الكريم كذا. ومرسومنا للجناب الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بكذا وكذا؛ فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه» .
قلت: والذي في «التعريف» : «أعز الله تعالى أنصار الجناب الكريم، بإبدال نصرة بأنصار؛ واختلاف بعض الألقاب المتقدّمة» .
الدرجة الثالثة (الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة)
وصورته على ما في «التثقيف» : «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزّعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظهيريّ، الكافليّ، الفلانيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحدين، مقدّم العساكر، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، عماد الملة، عون الأمّة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين» . ثم الدعاء والتصدير المناسب، مثل:(7/154)
«ولا زال قدره عاليا، ومدحه متواليا، وجيد الدّهر بمحاسنه حاليا؛ وتوضّح لعلمه الكريم كذا؛ ومرسومنا للجناب العالي أن يتقدّم أمره الكريم بكذا؛ فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه» .
الدرجة الرابعة (الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة)
وصورتها على ما أورده في «التثقيف» : «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيديّ، الأوحديّ، النّصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدّولة، عماد المملكة، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين» والدعاء والتصدير المناسب، مثل أن يقال: «ولا زال قدرة رفيعا، وعزّه منيعا، و «1» مريعا. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما طيبا، وثناء صيبّا» ثم يقال: «وتوضّح لعلمه المبارك كذا، فيحيط علمه الكريم بذلك؛ والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه» .
الدرجة الخامسة (الدعاء للمجلس «2» بدوام النعمة)
ورسمها: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، الأوحديّ «3» ، النّصيريّ، الهماميّ»
،(7/155)
المقدّميّ، الظهيريّ، الفلانيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدم العساكر، كهف الملة «1» ، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين» ثم الدعاء والتصدير المناسب، مثل:
«ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي له سلاما، وثناء بسّاما» ثم يقال: «وتوضح لعلمه المبارك كذا. ومرسومنا للمجلس العالي أن يتقدّم أمره المبارك بكذا، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه» .
الدرجة السادسة (صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ بالياء)
وصورتها على ما في «التثقيف» : «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العضديّ، الذّخري، النّصيريّ، الأوحديّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظهيريّ، الفلانيّ؛ مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء المقدّمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، ذخر الدولة، كهف الملة؛ ظهير الملوك والسلاطين» ثم الدعاء المناسب، مثل: «أدام الله سعادته، وأجزل من الخير برّه وإفادته، موضّحة لعلمه المبارك كذا؛ ومرسومنا للمجلس العالي أن يتقدّم بكذا، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه» .(7/156)
الدرجة السابعة (صدرت والسامي «1» ، ويعبر عنها بالساميّ بغير ياء)
وصورتها: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأميريّ، الأجليّ، الكبيريّ، العضديّ، الذّخريّ، النّصيريّ، الأوحديّ، الفلانيّ؛ مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأمراء، زين المجاهدين، عضد الملوك والسلاطين» ثم الدعاء مثل: «أدام الله سعادته، وأجزل من الخير عادته؛ تتضمّن إعلامه كذا، ومرسومنا للمجلس السامي أن يتقدّم بكذا، فليعلم ذلك ويعتمده، والله الموفّق بمنّه وكرمه» .
الدرجة الثامنة
«يعلم مجلس الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد؛ فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الأمراء، زين المجاهدين، عدّة الملوك والسلاطين» والدعاء، مثل: «أدام الله سعده، وأنجح قصده؛ أنّ الأمر كذا؛ ومرسومنا له أن يتقدّم بكذا، فليعلم ذلك ويعتمده، والله الموفّق بمنّه وكرمه» .
قلت: وقد تقدّم في أول المكاتبات أنه يتعين أن يكون الدّعاء للمكتوب إليه مناسبا للحال، مثل أن يكون موافقا لاسم المكتوب إليه أو لقبه أو وظيفته، أو محلّ نيابته، أو الأمر المكتوب بسببه: من استطلاع أمر، واسترهاف عزم، وفتح وظفر وبشارة وغيرها وما يجري مجرى ذلك، وتقدّم هناك ذكر جملة من الأدعية في الأمور المختلفة المعاني.(7/157)
ونحن نذكر هنا نبذة من الأدعية والتصديرات اللائقة المتقدّمة، مما يدعى به للنوّاب ومن في معناهم؛ ليقرب تناوله باقترانه بصور المكاتبات» .
الأدعية والصدور لنوّاب السلطنة (أدعية تصلح للنائب الكافل) «1»
ولا زالت كفالته تبسط المعدلة، وعزائمه على الإنصاف والإسعاف مشتملة، وتقدماته تبلّغ كلّ ذي قصد أمله. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام أكمله، ومن الثناء الحسن أجزله، وتبدي.
آخر: ولا زالت الممالك كلّها في كفالته، والمسالك على اختلاف طرقها آئلة إلى إيالته، والملائك محوّمة على بنوده محتفّة بهالته، والأرائك لا تثنى إلا على دست فخاره ولا تعدّ إلا لجلالته. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تخصّه بأفضل السلام، وأطيب الثناء المرقوم على أعلى الأعلام؛ وتبدي.
آخر: ولا زالت كفاية كفالته تزيد على الآمال، وتتقرّب إلى الله بصلاح الأعمال، وتكفل ما بين الجنوب وأقصى الشّمال. أصدرناها إلى المقرّ الكريم وصدرها بذكره منشرح، وببرّه فرح، وبعلوّ قدره في أيامنا الزاهرة يسرّ ويؤمّل منه ما يزيد على أمل المقترح، وتبدي.
أدعية تصلح لنائب الشام المحروس
و [لا زالت] «2» الممالك [تؤيد] «3» بعزمه ورأيه تأييدا، والدول [تسدّد] «4» بكفالته تسديدا و [تشيد] «5» تشييدا. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه سلاما(7/158)
تضاعف أجزاؤه، وثناء يبهج الخواطر سناؤه، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت النفوس بيمن كفالته فائقه، والخواطر في محبته متوافقة، والألسن بشكر محاسنه ناطقة، وقلوب الأعداء من بأسه ومهابته خافقة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه أنواع السلام المتناسبة وأجناسه المتناسقة، وتثني على أوصافه التي أصبحت الأفواه في ذكرها صادقة، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت عزائمه مرهفة الحدّ، وكفالته كفيلة بنجح القصد، ومغانمه في سبيل الله تعرب عن الاجتهاد في قهر الأعداء والجدّ. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه سلاما يفوق شذاه العنبر والنّدّ، وثناء مجاوزا أبدا الحصر وأمدا العدّ؛ وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت قلوب أهل الإيمان من كفالته مؤتلفة، وفرق أهل «1» من بأسه وخوفه مختلفة، وأحوال أهل العناد بجميل تدبيره في استطلاعها واضحة منكشفة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تثني على همّته التي لم تزل على المصالح معتكفة، وتهدي إليه تحية شموسها مشرقة غير منكسفة؛ وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت سعادته بحكم الأقدار دائمة، والمعدلة بجميل حلمه وصائب رأيه قائمة، والعيون بيمن كفالته في مهاد أمنه نائمة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه تحية طيّبة المسرى، وثناء حسن وصفا وطاب ذكرا، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زال النصر حلية أيامه، وشامة شامه؛ وغمامة ما يحلّق على بلده المحضرّ من غمامه. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام لا يرضى حافر جواده الهلال نعلا، ولا يحظى به إلا بلده ونخص منه الشرف الأعلى؛ وتبدي لعلمه.
آخر: وسقى عهده العهاد «2» ، وشفى بعدله العباد، وزان به حسن بلده التي(7/159)
لم يخلق مثلها في البلاد، وهي إرم ذات العماد. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام تسرّ به النفوس، ويطوّق به فضله الجامع وتتحلّى به العروس؛ وتبدي لعلمه.
آخر: ووقى بسور جيوشه الممتنعة ضرر الضّرّاء، وكسر بأسود جنوده ذئاب الأعداء الضّراء، وسبق دهماء الليل وشهباء النهار [وحمراء الشفق] «1» وصفراء الأصيل وشقراء البرق بسابقته الخضراء. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام يملأ حدق حدائقه نورا، وقلب عساكره سرورا.
أدعية وصدور (تصلح لكلّ من النائب الكافل، ونائب الشام، ومن في معناهما كالأتابك ونحوه)
دعاء من ذلك: ووصل المسارّ بعلمه الذي لا ينكر، وحلمه الذي يشكر، وحكمه الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. أصدرناها إلى المقرّ الكريم بسلام يسرع إليه، وثناء يرد منّا عليه؛ وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت الدّول برأيه مقبلة السّعود، مترقّية في الصّعود، مملوءة الرّحاب: تارة تبعث البعوث وتارة تفد عليه الوفود. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام أشرقه نجوما، ومن الثناء أغدقه غيوما؛ وتبدي لعلمه.
آخر: ولا زالت الممالك بآرائه منيرة، وبراياته لأعدائها وأعداء الله مبيرة، وبرؤياه تتضاءل الشموس المشرقة وتخجل السّحب المطيرة. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه من السلام درره، ومن الثناء غرره، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا برحت آراؤه كالنّجوم بعيدة المدى، قريبة الهدى، متهلّلة كالغمام: للأعداء منها الصّواعق وللأولياء منها النّدى. أصدرناها إلى المقرّ(7/160)
الكريم بسلام حسن الافتتاح، وثناء كما نظم الوشاح؛ وتبدي لعلمه الكريم.
آخر: ولا برحت آراؤه تنير غياهب الخطوب، وعزائمه تثير سنابك الجياد للجهاد فتظفر من التأييد بكلّ مطلوب، وصوارمه تفتك بالأعداء فتهتك منهم كلّ ستر محجوب. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تهدي إليه سلاما أزهى من الزّهر، وأبهى من روض وافى نضارته النظر، وتبدي لعلمه.
آخر: ولا برح التأييد يصحب رايته، والعزم يخدم عزمته، والرّعب يؤمّ طليعته، والظّفر يحكّم في العدو سيفه فلا يستطيع عاصي الحصون عصمته.
أصدرناها إلى المقرّ الكريم تكافي بمزيد الشّكر همّته، وتوافي إليه بثناء واف يحسد المسك نفحته؛ وتنهي لعلمه.
آخر: ولا برحت سيوفه تسيل يوم الرّوع جداولها، وعزائمه تنصر كتائبها وجحافلها، ومنزلته على ممرّ الزمان بين السّماكين منازلها. أصدرناها إلى المقرّ الكريم تثني على محاسنه التي بهرت أوصافها، واختالت في ملابس الحمد أعطافها؛ وتبدي لعلمه.
أدعية وصدور (تصلح لنائب حلب المحروسة)
دعاء من ذلك: ولا زال يعدّ ليوم تشيب منه الولدان، ويعدّ دونه [كلّ محارب] «1» بينه وبين الشّهباء والميدان، ويعمّ حلب من حلى أيامه ما لا يفقد معه إلا اسم ابن حمدان.
فإن كان لقبه سيف الدين، قيل «ويعمّ حلب من حلى أيامه ما لا يفقد معه سيف الدّين إن فقد سيف الدولة بن حمدان. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب(7/161)
الكريم تهدي إليه سلاما ما مرّ على روض إلا انتهب طيبه نهبا، وثناء تعقد له أعلامه على كتيبته الشّهبا؛ وتوضّح لعلمه» .
آخر: وفتح بسيوفه الفتح الوجيز «1» ، وأحلّ عقائل المعاقل منه في الكنف الحريز، وأعاد به رونق بلد ما جفّت بها زبدة حلب وهو فيها العزيز. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم بسلام ذهبه لا يذهب، وثناء لا تصلح لغير عقيلة الشهباء قلادة عنبره الأشهب، وتوضّح لعلمه الكريم.
آخر: ولا زالت هممه مطلّة على النّجوم في منازلها، مطاولة للبروق بمناصلها، قائمة في مصالح الدول مقام جحافلها. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما كالدّرر، وثناء طويل الأوضاح والغرر؛ وتبدي لعلمه.
آخر: وأمدّه بعونه، وجمّله بصونه، ولا زال رأيه في النقيضين: لهذا سبب فنانه ولهذا علّة كونه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما رطيبا، وشكرا يكون على ما تخفي الصدور رقيبا؛ وتوضح لعلمه.
آخر: وأعلى له من الأقدار قدرا، وضاعف لديه من لدنه سرورا وبشرا، ولا أعدم الممالك من عزائمه تأييدا ونصرا. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب الكريم تهدي إليه سلاما يفوق الزّهر، ويسابق في سيره الشمس والقمر، وتبدي لعلمه.
آخر: وخصّه بجميل المناقب، ومنحه من المزيد علوّ المراتب، وضاعف لديه من الإيثار شريف المواهب. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما كرم وفوده، وثناء حسن وصفه وعذب وروده؛ وتوضّح لعلمه.
آخر: ولازالت الخواطر تشهد منه صدق المحبّة، والنفوس تتحقّق أنه قد جعل النصيحة لأيامنا الشريفة دأبه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم(7/162)
تهدي إليه سلاما زاكية أقسامه، وثناء كمل عقده واتّسق نظامه؛ وتوضح لعلمه الكريم.
آخر: وزاد عزمه المبارك تأييدا، ومنح نعمه على ممرّ الأوقات مزيدا، وجعل حظّه من كلّ خير سعيدا، وسعده بتجديد الأيام جديدا. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدى إليه تحية حسن إهداؤها إليه، وثناء يبهج الخواطر وروده عليه؛ وتوضح لعلمه.
آخر: وجعل السعد المؤبّد من مغانمه، وأقامه لإبقاء الخير في معادنه وإثبات العزّ في معالمه. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب الكريم تهدي إليه تحية طاب نشرها العاطر، وثناء أبهج ذكره الخاطر؛ وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زال بالملائكة منصورا، وبمزيد النّعم مسرورا، وبكلّ لسان موصوفا مشكورا. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب الكريم تهدي إليه سلاما يضوع نشره، وثناء يفوح عطره، وتوضح لعلمه.
دعاء وصدر (يصلح لنائب السلطنة بطرابلس)
[ «1» وهو من هذه النّسبة وما يبعد منها.
والدعاء مثل قولنا: وأطاب أيّامه التي ما رقّت على مثلها أسحار، وعدّد في مناقبه العقول التي تحار، وأخذ بنواصي الأعداء بيده لا تنأى بهم البراري المقفرة ولا تحصّنهم البحار.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بسلام وفرت منه أسهمه التي يدرأ بها العدا في نحرها، وثناء مطرب ترقص به الخيل في أعنّتها والسّفن في بحرها.(7/163)
دعاء آخر وصدر
ولا زالت صفوفه تشدّ بنيان الحرب، وسيوفه تعدّ للقتل وإن قيل للضرب، وسجوفه تجرّ على بلد ما مثله في شرق ولا حصل على غير المسمّى منه غرب.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يزيد أفقه تزيينا، وثناء يأتيه من فائق الدّرّ بما يستهون معه بالمينا.
دعاء وصدر (يصلح لنائب السلطنة بحماة)
وأتمّ بخدمه كلّ مبرّة، وبهممه كلّ مسرّة، وصان ما وليه أن يكون به غير النهر «العاصي» أو ينسب إليه سوى البلد المعروف «معرّة» .
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما تمسح أنديته بالسّحائب، وثناء يأتي به حما حماة وقرونها المنشورة بألويته معقودة الذّوائب.
[ «1» دعاء آخر وصدر
وحمى حماه، وزان موكبه بأحسن حماه، وحسّن كنائن سهامه التي لا يصلح لها غير بلده حماه] .
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما تحمله إليه الركائب السائرة، وثناء تشرق منه الكواكب أضعاف ما تريه أفلاك الدواليب الدائرة؛ وتوضح لعلمه.
دعاء وصدر (يصلح لنائب صفد)
وشكر هممه التي وفت، وعزائمه التي كفت، وأعلى به بلدا مذ وليه قيل:(7/164)
صفد قد صفت. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما لا تزال شعائره تقام، وثناء مذ هبّ على بلد قيل: إنّ هواءها يشفي الأسقام؛ وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زالت مساعيه تسوق إليه الحظوظ [البطيّة] «1» وتقدّم له العلياء مثل المطيّة، وتهنّيه بما خصّ به من صفد وهي العطية؛ [صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يحيّيه في محلّه، وثناء يودع في معقله الذي لا تصل أعلى الشوامخ إلا إلى ما سفل من ظلّه] «2» وتوضح لعلمه.
أدعية وصدور (تصلح لكلّ من نوّاب طرابلس وحماة وصفد ومن في معناهم)
دعاء وصدر من ذلك: ولا برح منصور العزمات، مسدّدا في الآراء والحركات، مشيّدا قواعد الممالك بما له من جميل التقدمات. صدرت هذه المكاتبة إلى الباب العالي تهدي إليه سلاما أرجا، وثناء بهجا؛ وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زال سيفه ماضيا، وجيده حاليا، وضدّه خاسيا. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما، وتسدّد لرأيه الصائب سهاما، وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زالت آراؤه سعيدة، وتأثيراته حميدة، وسيوفه لرقاب العدا مبيدة.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يتأرّج، وثناء نشره نشر الثوب المدبّج؛ وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زالت آراؤه عالية، وأجياده حالية، ونعم الله عليه متوالية. صدرت(7/165)
هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه السلام التامّ، والثناء الوافر الأقسام؛ وتوضح لعلمه.
أدعية وصدور (تصلح لنائب الكرك «1» ومن في معناه ممن رتبته المجلس العالي مع الدعاء)
دعاء من ذلك: وأيّد عزمه، وأبّد حزمه، وفوّق «2» إلى نحر العدا سهمه.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وتسدّد لرأيه الصائب سهاما، وتوضح لعلمه.
آخر: ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وثناء بسّاما، وتوضح لعلمه.
المهيع الثاني (في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وما يستحقه كلّ منهم من المكاتبات. وهم ثلاثة أنواع)
النوع الأول (أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام)
القسم الأول (من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف)
الصنف الأول (نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نوّاب)
الأول- النائب الكافل
: وهو نائب السلطنة الشريفة بالحضرة. وقد تقدّم في(7/166)
الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنه أعلى نوّاب السلطان رتبة.
قال في «التثقيف» : وقلّ أن يكاتب إلا إذا كان السلطان مسافرا في غزاة أو سرحة للصيد.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» : أعزّ الله تعالى أنصار الجناب الكريم على ما تقدّم في الدرجة الثانية من الدّرجات العشر «1» قال في «التعريف» : وقد رأيت بعض الكتّاب قد كتب في ألقابه بعد الأميريّ «الآمريّ» .
قال: والكاتب المذكور كاتب صالح في المعرفة وليس بحجّة، وكتابته الآمريّ ليست بشيء، وإنما حمله عليها كثرة الملق. وقد نقل في «التعريف» عن هذا الكاتب أنه كتب في تعريفه «نائب السلطنة وكافل الممالك الشريفة الإسلامية» .
قال: وهو مقبول منه. ثم قال: والذي أراه أن يجمع ذكر النيابة والكفالة في تقليده، فيقال: «أن يقلّد نيابة السلطنة المعظّمة، وكفالة الممالك الشريفة الإسلامية» أو ما هذا معناه، نحو: «وكفالة الممالك الشريفة: مصرا وشاما وسائر البلاد الإسلامية أو الممالك الإسلامية» ونحو ذلك.
فأما في تعريف الكتب، فقد جرت عادة نوّاب الشام أن تقتصر في كتبها إليه على «كافل الممالك الإسلامية المحروسة» . قال: ولعمري في ذلك مقنع وإنّ في الاقتصار عليها ما هو أكثر فخامة. وعليه عمل أكثر الكتّاب بديوان مصر أيضا، ويؤيّده أنهم مقتصرون فيما يكتب باشارته على هذا التعريف، فاعلم ذلك.
ورسم المكاتبة إليه على ما استقر عليه الحال، على ما ذكره في «التثقيف» :
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، كما في الدرجة الأولى من الدرجات العشر، والعلامة إليه «أخوه» . وتعريفه: «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» . قال في «التثقيف» : وإنما كتب له أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ، وزيدت ألقابه على ما كانت عليه لمّا كتب بذلك لنائب الشام في ولاية بيدمر الخوارزميّ «2» ،(7/167)
وكافل المملكة يومئذ الأمير منجك، فلزم أن يكتب له مثله لئلا يكون نائب الشام مميّزا على كافل السلطنة، على ما سيأتي في الكلام على مكاتبة نائب الشام.
قال في «التعريف» : أما نائب الغيبة، وهو الذي يترك إذا غاب السلطان والنائب الكافل وليس إلّا لإخماد النّوائر «1» وخلاص الحقوق، فحكمه كحكمه في المكاتبة إليه.
الثاني- نائب ثغر الإسكندرية المحروس
: وهو ممن استحدثت نيابته في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» عند طروق «2» العدوّ المخذول، في سنة سبع وستين وسبعمائة من الفرنج المخذولين.
ورسم المكاتبة إليه: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، على ما تقدّم ذكره، إلا أنه لا يقال في ألقابه «الكافليّ» والعلامة الشريفة له «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بثغر الإسكندرية المحروس» .
واعلم أن بالإسكندرية حاجبا «3» يكاتب عن الأبواب السلطانية. قال في(7/168)
«التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» إن كان طبلخاناه، «1» و «يعلم مجلس الأمير» إن كان عشرة، والعلامة الشريفة «2» له الاسم بكل حال. وتعريفه «الحاجب بثغر الإسكندرية المحروس» .
الثالث- نائب الوجه القبلي
: وقد تقدّم أن مقرّ ولايته مدينة أسيوط «3» ، وأنّ استحداث نيابته كان في الدولة الظاهريّة «برقوق» في سنة ثمانين وسبعمائة.
ورسم المكاتبة إليه: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» على ما تقدّم ذكره. ولا يقال فيه «الكافليّ» أيضا، والعلامة الشريفة «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالوجه القبليّ» .(7/169)
الرابع- نائب الوجه البحريّ
: وقد تقدّم أن مقرّ ولايته مدينة دمنهور الوحش «1» من أعمال البحيرة، وأن نيابته استحدثت بعد نيابة نائب الوجه القبليّ، ولذلك لم يتعرض له في «التثقيف» .
ورسم المكاتبة إليه: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» كما في نائب الوجه القبليّ. والعلامة الشريفة له «أخوه» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالوجه البحريّ» .
الصنف الثاني (الكشّاف) «2»
وقد تقدّم أنه كان قبل استقرار نيابتي الوجهين: القبليّ والبحريّ كاشفان بالوجهين المذكورين: كاشف «3» بالوجه القبليّ، وكاشف»
بالوجه البحريّ. فلما استقر النيابتان، استقرّ بالفيّوم والبهنساوية «5» كاشف، وبالشرقية وما قاربها كاشف؛ وكل منهما أمير طبلخاناه.
ورسم المكاتبة إلى كلّ منهما: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس(7/170)
السامي» والعلامة لكلّ منهما الاسم الشريف، وتعريف كاشف الفيوم «الكاشف بالفيّوم والبهنساوية» وتعريف الآخر «الكاشف بالوجه البحريّ» .
الصنف الثالث (الولاة بالوجهين: القبلي والبحريّ)
وكلّ من ولاة الوجهين لا يخرج عن طبلخاناه أو عشرة وما في معناها كالعشرين ونحوها.
فأما الوجه القبلي، ففيه ستة ولاة، منهم ثلاثة طبلخاناه: وهم والي قوص «1» وإخميم «2» ووالي الأشمونين «3» ووالي البهنسا.
ومنهم ثلاثة عشرات: وهم والي الجيزيّة، وكان قبل ذلك طبلخاناه. ووالي إطفيح. ووالي منفلوط، وكان قبل ذلك طبلخاناه، وهو اليوم إمرة عشرين.
وأما الوجه البحري، ففيه سبعة ولاة: منهم ثلاثة طبلخاناه. وهم والي الغربيّة. ووالي المنوفيّة «4» . ووالي الشّرقيّة. وكان بدمنهور وال طبلخاناه قبل استقرارها نيابة.(7/171)
ومنهم أربعة عشرات، وهم: والي قليوب. ووالي أشموم «1» : وهي الدقهليّة والمرتاحيّة. ووالي دمياط. ووالي قطيا.
ورسم المكاتبة إلى كلّ من ولاة الطبلخاناه منهم: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» وإلى كلّ من ولاة العشرات منهم «يعلم مجلس الأمير» والعلامة لكل من الطبلخاناه والعشرات الاسم الشريف، وتعريف كل منهم «والي فلانة» .
الصنف الرابع (من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر: لكشف الجسور وعمارتها أو لتخضير البلاد أو لقبض الغلال)
قال في «التثقيف» : فمن كان منهم طبلخاناه، فرسم المكاتبة إليه الساميّ بالياء. ومن كان منهم عشرة، فرسم المكاتبة إليه السامي بغير ياء «2» والعلامة للجميع الاسم الشريف. قال: ولا تذكر الوظيفة التي توجّه بسببها، ولا الإقليم الذي هو به.
الصنف الخامس (باقي الأمراء بالديار المصريّة)
وقد رتّبهم في «التعريف» على أربع مراتب:
المرتبة الأولى- مقدّمو الألوف، وقد ذكر أنّ لكبارهم أسوة كبار النّواب بالممالك الشامية، كالشام وحلب. ولأوسطهم [أسوة أوسطهم] «3» كحماة(7/172)
وطرابلس وصفد. ولأصغرهم أسوة أصغرهم، كغزّة وحمص. ثم قال: فاعلم ذلك وقس عليه. ثم قال بعد ذلك: والذي نقوله أن لكبار المقدّمين بالأبواب السلطانية «الجناب الكريم» [ثم الجناب العالي] «1» ثم «المجلس العالي» .
وهذا على ما كان في زمانه؛ أما على ما استقرّ عليه الحال آخرا، فإنه يكون لكبارهم «المقرّ الكريم» كما يكتب للأتابك الآن، ثم «الجناب الكريم» ثم «الجناب العالي» ثم «المجلس العالي» .
المرتبة الثانية- الطّبلخانات. قد ذكر أن منهم من يكتب له «المجلس العالي» كمن يكون معيّنا للتّقدمة، وله عدّة ثمانين فارسا أو سبعين فارسا أو نحو ذلك، وكالمقرّبين من الخاصكيّة «2» ، أو من له عراقة نسب كبقايا الملوك، أو أرباب وظائف جليلة: كحاجب كبير، أو إستدّار «3» جليل، أو مدبّر دولة «4» لم(7/173)
يصرّح له بالوزارة، أودوادار «1» متصرّف. ثم قال: وهؤلاء وإن كتب لهم بالمجلس العالي، فإنه يكتب لهم بغير افتتاح بالدعاء، والكتابة لهم بالعالي على سبيل العرض لا الاستحقاق، وإلا فأجلّ رسم مكاتبة أمراء الطبلخاناه «الساميّ» بالياء ولجمهورهم «السامي» بغير ياء.
المرتبة الثالثة- العشرات. وذكر أن لكل منهم «مجلس الأمير» ، ثم قال:
فإنّ زيد قدر أحد لسبب ما، كتب له «المجلس السامي» بغير الياء.
المرتبة الرابعة- مقدّمو الجند. وقد ذكر أن لهم أسوة أمراء العشرات في المكاتبة. ثم قال: وأما الجند، فالأمير الأجلّ. وأما جند الأمراء فالطّواشي «2» وكأنه يريد ما إذا كتب بسببهم مكاتبة أو كتب لأحد منهم توقيع، وإلا فالجند لا يكاتب أحد منهم عن الأبواب السلطانية حتّى ولا نوّاب القلاع بالشام، كما سيأتي ذكره هناك إن شاء الله تعالى.(7/174)
الصنف السادس (العربان بالديار المصرية وبرقة)
وقد تقدّم الكلام عليه مستوفى في الكلام على أنساب العرب، فيما يحتاج إليه الكاتب في المقالة الأولى. وقد ذكر في «التعريف» أن العرب بمصر في الوجهين القبليّ والبحريّ جماعات كثيرة وشعوب وقبائل. ثم قال: ولكنهم على كثرة أموالهم «1» واتساع نطق جماعاتهم، ليسوا عند السلطان في الذّروة ولا السّنام، إذ كانوا أهل حاضرة وزرع، ليس منهم من ينجد ولايتهم، ولا يعرق ولا يشئم، ولا يخرجون عن حدود الجدران، وعلى كل حال
فالمندل «2» الرطب في أرجائه حطب.
ثم قد قسّم منازلهم إلى الوجه القبليّ والوجه البحري، وذكر أن بكل من الوجهين من يكاتب عن الأبواب السلطانية.
الضرب الأوّل (عرب البحيرة)
قال في «التعريف» : وأمراؤهم «3» عرب الديار المصرية. قال: وهم أشبه(7/175)
القوم بالتخلّق بخلائق العرب في الحلّ والتّرحال، يغربون إلى القيروان وقابس «1» ، ويفدون على الحضرة السلطانية وفود أمثالهم من أمراء العرب. وذكر أن الإمرة فيهم في زمانه، كانت في محمد بن أبي سليمان وفائد بن مقدّم «2» وقال:
إنّ رسم المكاتبة إلى كلّ منهما: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأمير» والعلامة السلطانية «أخوه» ولم يتعرّض لتعريفهما، والذي يظهر أن تعريف كلّ منهما اسمه.
أما بعده، فقد تغيّرت تلك الأحوال، وتناقصت رتبة عرب البحيرة، وزالت الإمرة عنهم، ولم يبق فيهم إلا مشاع عربان ذو وأموال جمّة، كان منهم في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» رحاب، وموسى بن خضر، وأولاد بدران الغريني، ومن جرى مجراهم، ثم صار اليوم بها «3» بن رحاب، وخضر بن موسى.
الضرب الثاني (عرب الشّرقية)
وقد ذكر في «التعريف» : أنه كان في زمانه منهم نجم بن هجل شيخ عائد «4» وذكر أنه دون محمّد بن أبي سليمان وفائد بن مقدّم «5» : أميري عرب(7/176)
البحيرة. ثم قال: ورسم المكاتبة إليه: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الأمير» .
قلت: ثم تغيرت الأحوال بعد ذلك وصارت رياسة عرب الشرقية متداولة في جماعة، إلى أن كان منهم في الدلة الظاهرية «برقوق» محمد بن عيسى أمير «1» وأولادهم، وكانت الإمرة فيهم أوّلا في «2» ثم قتل بسيف السلطان في الدولة الناصرية «فرج بن برقوق» واستقرّ مكانه ... «3»
وأما عرب الوجه القبليّ، فقد ذكر في «التعريف» أنه كان منهم في زمانه نفران: أحدهما ناصر الدين عمر بن فضل. وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» أيضا. وثانيهما سمرة بن مالك «4» قال: وهو ذو عدد جمّ، وشوكة منكية، يغزو الحبشة وأمم السّودان، ويأتي بالنّهاب والسّبايا؛ وله أثر محمود، وفعل مأثور. وفد على السلطان وأكرم مثواه، وعقد له لواء وشرّف بالتشريف، وقلّد ذلك، وكتب إلى ولاة الوجه القبليّ عن آخرهم وسائر العربان به بمساعدته ومعاضدته، والركوب للغزو معه متى أراد. وكتب له منشور بما يفتح من البلاد، وتقليد بإمرة العربان القبلية مما يلي قوص إلى حيث تصل غايته «5» ثم قال: ورسم المكاتبة إليه «السامي الأمير» كمن تقدّم.
قلت: ثم كان بعد ذلك عدد من أمراء العربان، كان آخرهم أبو بكر بن الأحدب. ثم لما انتقلت هوّارة «6» إلى الوجه القبلي، صارت الإمرة فيهم في(7/177)
الصعيد الأدنى، في بني غريب، وأميرهم الآن «1» وفي الصعيد الأعلى في بني عمر، وأميرهم محمد بن عمر، ورسم المكاتبة إلى كل منهما ... «2»
وأما عرب برقة، فقد ذكر في «التعريف» أنه لم يبق منهم في زمانه من يكاتب إلا جعفر بن عمر»
، وأنه كان لا يزال بين طاعة وعصيان، ومخاشنة وليان؛ وأن أمراء عرب البحيرة كانت تغري به، وتغيّر خاطر السلطان عليه، وأنّ الجيوش كانت تمتدّ إليه، وقلّ أن ظفرت منه بطائل، أو رجعت بمغنم إن أصابته نوبة من الدّهر. وكان آخر أمره أنه ركب طريق الواح «4» حتّى خرج من الفيّوم، وطرق باب السلطان لائذا بالعفو، ولم يسبق به خبر، ولم يعلم السلطان به حتّى استأذن المستأذن عليه وهو في جملة الوقوف بالباب؛ فأكرم أتمّ الكرامة، وشرّف بأجل التشاريف، وأقام مدّة في قرى الإحسان وإحسان القرى. وأهله لا يعلمون بما جرى، ولا يعرفون أين يمّم، ولا أيّ جهة نحا، حتّى أتتهم وافدات البشائر. وقال له السلطان: لأيّ شيء ما أعلمت أهلك بقصدك إلينا؟ قال: خفت أن يقولوا:
يفتك بك السلطان، فأتثبّط. فاستحسن قوله، وأفاض عليه طوله؛ ثم أعيد إلى(7/178)
أهله، فانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء، ولا رثى له صاحب، ولا شمت به عدوّ.
النوع الثاني (ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين:)
الضرب الأوّل (أرباب الدّواوين من الوزراء ومن في معناهم)
قال في «التعريف» ولم تزل مكاتبة أجلاء الوزراء ب «المجلس العالي» . ثم كتب لآخرهم بالديار المصرية «الجناب العالي» . وكتبت بالشام للصاحب عزّ الدين أبي يعلى، حمزة بن القلاقسيّ «1» رحمه الله، لجلالة قدره، وسابقة خدمه، وعناية من كتب إليه بها. ثم قال: والذي استقر عليه الحال للوزير بمصر «الجناب» . أما من يجري مجرى الوزراء ولا صريح له بها: مثل ناظر الخاصّ «2» ، وكاتب السّر، وناظر الجيش، وناظر الدّولة، وكتّاب الدّست، ف «الساميّ» بالياء، ومن دون هؤلاء فبغير ياء؛ ثم «مجلس القاضي أو الصّدر» .
قلت: وكأنه يريد ألقاب هؤلاء في الجملة، إما في مكاتبة تكتب بسبب أحد منهم، وإما في توقيع ونحوه يكتب لأحدهم؛ وإلا فمن ذكره من الأصاغر لا(7/179)
يكاتب عن الأبواب السلطانية عادة. والذي صرح في «التثقيف» بذكر المكاتبة إليه من هذا الضرب نفران:
الأوّل- كاتب السرّ إذا تخلّف عن الرّكاب السلطانيّ لعارض. وذكر أن رسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» على ما تقدّم ذكره، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة» .
الثاني- ناظر الخاصّ الشريف. وذكر أن رسم المكاتبة إليه على ما استقرّ عليه الحال في أيّام ابن نقولا «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» على ما تقدّم ذكره، والعلامة «الاسم» وتعريفه «ناظر الخواصّ الشريفة» .
قلت: ولم يتعرّض لمكاتبة الوزير، إنما ذكر ألقابه في الألقاب العامّة مما يكتب في الولايات وغيرها، ولا يستغنى عن ذكر المكاتبة إليه؛ وقد تقدّم في كلام صاحب «التعريف» أن الذي استقر عليه الحال في المكاتبة إليه «الجناب العالي» ولم يعيّن صورة الدعاء له. والذي ذكره في «التثقيف» في ألقابه أن الدعاء له «ضاعف الله تعالى نعمته» وحينئذ فتكون المكاتبة إليه إن كتب إليه «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» بالألقاب السابقة.
الضرب الثاني (أرباب الوظائف الدينية والعلماء)
قد ذكر في «التعريف» أن كلّا من قضاة القضاة بمصر يكتب له «المجلس العالي» والمحتسب بها «1» يكتب له ب «الساميّ» بالياء، ومن دونهم(7/180)
من أرباب الوظائف الدينية وبقية العلماء وأكابرهم: «السامي» بغير ياء، ومن دونهم «مجلس القاضي» أو «الشيخ» بحسب ما يليق به. وكأنه يريد مطلق الألقاب كما تقدّم في غيره، وإلا فهؤلاء لا يكاتبون عن الأبواب السلطانية. ولم يذكر في «التثقيف» مكاتبة لأحد من أرباب الوظائف الدينية سوى قاضي القضاة تاج الدين الإخنائي «1» المالكي، وقد حجّ في سنة سبع وستين «2» وسبعمائة في الدولة الناصرية «حسن» «3» ، جوابا عما ورد منه، وكتب له الدعاء و «المجلس العالي» . والعلامة الاسم. قال: وأما قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة «4» فإنه كان يحجّ ويجاور كثيرا، ولكني لم أره كتب له قطّ، وأنا شاكّ في أمره.
قلت: رأيت في «إيقاظ المتغفّل» «5» لابن المتوّج، أنه كتب إليه وهو(7/181)
مجاور بمكة: «أعز الله تعالى أحكام المجلس العالي» ولم يتعرّض للعلامة، والظاهر أن العلامة له «أخوه» ، ويكون التعريف «قاضي القضاة الشافعية أو المالكية بالديار المصرية» .
النوع الثالث (ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممّن بالديار المصريّة الخوندات «1» السلطانية: من زوجات السلطان وأقاربه ممن تدعو الضرورة إلى مكاتبته لسفره أو لسفر السلطان)
وقد ذكر في «التثقيف» منهنّ جماعة، نذكرهنّ ليكنّ أنموذجا لمن يكون في معناهنّ.
الأولى- ابنة المقام الشريف الشهيد الناصريّ «محمد بن قلاوون» لمّا كانت بحلب مع زوجها أبي بكر بن أرغون، كتب إليها ما صورته: «الذي يحيط به علم الحرمة الشريفة، العالية، المصونة، الولدية، عصمة الدين، جلال النساء، شرف الخواتين «2» ، سليلة الملوك والسلاطين، ضاعف الله تعالى جلالها» والعلامة «والدها» وتعريفها «الدار السيفيّة بحلب» والأسطر متقاربة كالملطف.
الثانية- طغاي زوجة المقام الشريف الناصريّ المشار إليه، المعروفة بأمّ أنوك، كتب إليها لما توجّهت إلى الحجاز الشريف: «ضاعف الله تعالى جلال(7/182)
الجهة الشريفة، العالية، المعظّمة، المحجّبة، المصونة الكبرى خوند خاتون؛ جلال النساء في العالمين، سيدة الخواتين، قرينة الملوك والسلاطين» . ثم الدعاء، والعلامة الاسم الشريف، وتعريفها «والدة المقرّ الكريم الولديّ السيفيّ أنوك» : والأسطر على ما تقدّم في المكاتبة السابقة.
الثالثة- أخت المقام الشريف الناصر حسن جهة الأمير طاز، كتب لها لما كانت بالحجاز الشريف: «ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة العالية الكريمة المحجّبة المصونة الكبرى الخاتون، جلال النساء في العالمين، جميلة المحجّبات، جليلة المصونات، كريمة الملوك والسلاطين، والعلامة «أخوها» .
الرابعة- الحاجّة السّتّ حدق. كتب لها وهي بالحجاز الشريف عن الناصر حسن: «ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة العالية الكبيرية المحجّبية المصونية الحاجّيّة الوالدية، جلال النساء في العالمين، بركة الدولة، والدة الملوك والسلاطين» . ثم الدعاء والعلامة الاسم الشريف؛ وتعريفها «الحاجّة ست حدق» .
الخامسة- والدة السلطان الملك الأشرف «شعبان بن حسين» . كتب إليها عند توجّهها للحجاز الشريف: «ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة» . ثم قال: وقد كنت أنكرت ذلك: لأنه كان يعظمها كثيرا ويقبل يديها غالبا، فكان يمكن أن يكتب لها بتقبيل اليد.
قلت: وصورة المكاتبة على ما رأيته في بعض الدساتير «1» : «ضاعف الله(7/183)
تعالى جلال حجاب الجهة الشريفة العالية الكبرى، المعظّمة المحجّبة العصميّ الخاتونيّ، جلال النساء في العالمين، سيدة الخواتين، جميلة المحجّبات، جليلة المصونات، والدة الملوك والسلاطين» ثم الدعاء، وكانت الكتابة لها في ورق دمشقيّ في قطع الفرخة بالطول كاملة بقلم الثلث الخفيف أو التوقيع.
القسم الثاني (من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع)
النوع الأوّل (أرباب السيوف من النّواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات)
النيابة الأولى (نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية) والمكاتبون بها عن الأبواب السلطانية ضربان:
الضرب الأوّل (من بمدينة دمشق، وهم ثلاثة)
الأوّل- كافل السلطنة بها
، وهو من أكابر مقدّمي الألوف. وكان رسم المكاتبة إليه على ما أورده المقر الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» : «أعز الله تعالى نصرة الجناب الكريم» . قال في «التثقيف» : ولم تزل المكاتبة إليه كذلك من بعد الدولة الشّهيدية الناصرية محمد بن قلاوون إلى آخر سنة خمس وسبعين وسبعمائة، واستقرّ الأمير بيدمر الخوارزمي نائب السلطنة بها في ولايته الثالثة، في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» فاستقرّ رسم المكاتبة إليه: «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» على الرسم المتقدّم، والعلامة الشريفة إليه «أخوه» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالشام المحروس» . قال في «التثقيف» : «أو كافل المملكة الشامية المحروسة» ولا يقال في نعوته: كافل السلطنة.
الثاني- نائب قلعة دمشق
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى(7/184)
المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة «والده» . قال في «التثقيف» :
ثم استقرّت المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء: لأنه طبلخاناه، والعلامة الشريفة له الاسم. وتعريفه «نائب القلعة المنصورة بدمشق المحروسة» .
الثالث- حاجب الحجّاب «1» بها
. ورسم المكاتبة إليه. «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه، والعلامة الشريفة له «والده» وتعريفه «أمير حاجب بالشام المحروس» .
الضرب الثاني (من بأعمال دمشق «2» من نوّاب المدن والقلاع، وهم خمسة نوّاب)
الأوّل- نائب حمص، قال في «التثقيف» : كان يكتب إليه نظير نائب الكرك، يعني «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» والعلامة الشريفة له «والده» لمّا كان من مقدّمي الألوف بالشام، ثم استقرّ من أمراء الطبلخاناه، واستقرّت مكاتبته «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» فيما أظن؛ وقد(7/185)
تقدّم رسمها. والعلامة الشريفة له الاسم الشريف، وتعريفه «النائب بحمص المحروسة» .
الثاني- نائب الرّحبة «1» وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنه كان من حقّها أن تكون من مضافات حلب. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة الشريفة له «والده» وتعريفه «النائب بالرحبة» .
الثالث- نائب بعلبك «2» قال في «التثقيف» إن كان من أمراء الطبلخاناه فمكاتبته «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة له الاسم الشريف. وإن كان من العشرات، فالمكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير» والعلامة له الاسم الشريف وتعريفه «النائب ببعلبكّ المحروسة» .
الرابع- نائب مصياف «3» وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها كانت مضافة إلى طرابلس في جملة قلاع الدّعوة «4» ، ثم استقرّت في مضافات الشام. ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة الشريفة له الاسم الشريف.
الخامس- نائب القدس الشريف. وهو ممن استحدثت نيابته في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وكانت قبل ذلك(7/186)
ولاية وهو طبلخاناه، وربما أضيف إليه نظر الحرمين: حرم القدس، وحرم الخليل عليه السّلام. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» .
والعلامة «والده» وتعريفه «النائب بالقدس الشريف» .
قال في «التثقيف» : وكان قد استقرّ بأماكن تذكر من البلاد الشامية نوّاب، واستقرّت مكاتبة كلّ منهم: إن كان مقدّما «صدرت» و «العالي» والعلامة «والده» . وإن كان طبلخاناه «الساميّ» بالياء والعلامة الاسم الشريف. وهي تدمر، والسّخنة، والقريتان، وسلمية «1» قال: ثم بطل ذلك. ثم قال: ومن النّوّاب بالقلاع الشاميّة جماعة لم تجر لهم عادة بمكاتبة عن المواقف الشريفة، ولا تصدر ولايتهم من الأبواب الشريفة، بل نائب الشام مستقلّ بذلك. وهم، نائب عجلون، ونائب صرخد، ونائب الصّبيبة، ونائب شقيف أرنون «2» قال: وممن كتب إليه أيضا وليس بنائب ولا وال جمال الدين يوسف شاه الأتابك بمصياف في سنة أربع وسبعين وسبعمائة على يد نافع بن بدران. ورسم ما كتب به إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» وكتب في ألقابه «الأتابكيّ» وكتب تعريفه «يوسف شاه الأتابك» . قال: والظاهر أن العلامة «والده» .(7/187)
النيابة الثانية (نيابة حلب)
والمكاتبون بها عن الأبواب السلطانية أيضا على ضربين
الضرب الأوّل (من بمدينة حلب، وهم ثلاثة)
الأوّل- النائب بها
. وهو من أكابر مقدّمي الألوف. ورسم المكاتبة إليه «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم» على ما تقدّم رسمه. والعلامة الشريفة له «أخوه» وتعريفه «نائب السّلطنة الشريفة بحلب المحروسة» .
الثاني- نائب القلعة بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» على ما تقدّم رسمه. والعلامة له الاسم الشريف. وتعريفه «نائب القلعة المنصورة بحلب المحروسة» .
الثالث- حاجب الحجّاب بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» . والعلامة «والده» وتعريفه «أمير حاجب بحلب المحروسة» .
الضرب الثاني (من بأعمال حلب من النوّاب، وهم أحد وعشرون نائبا)
الأوّل- نائب البيرة
«1» ورسم المكاتبة إليه «المجلس العالي» . والعلامة الشريفة «والده» وتعريفه «النائب بالبيرة المحروسة» .(7/188)
الثاني- نائب قلعة المسلمين المعروفة بقلعة الرّوم
«1» ورسم المكاتبة إليه والعلامة كذلك «2» وتعريفه «النائب بقلعة المسلمين المحروسة» .
الثالث- نائب ملطية
«3» ، ورسم المكاتبة إليه والعلامة الشريفة كذلك، وتعريفه «النائب بملطية المحروسة» .
الرابع- نائب طرسوس
«4» ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» والعلامة «والده» وتعريفه «النائب بطرسوس» .
الخامس- نائب أذنة
«5» ورسم المكاتبة إليه والعلامة له كذلك، وتعريفه «النائب بأذنة المحروسة» .(7/189)
السادس- نائب الأبلستين
«1» ورسم المكاتبة إليه والعلامة الشريفة له كذلك، وتعريفه «النائب بالأبلستين المحروسة» .
السابع- نائب بهسنى
«2» ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة له «والده» وتعريفه «النائب ببهسنى المحروسة» .
قال في «التثقيف» : ولم يعلّم لأحد من أرباب السيوف قديما «والده» مع «الساميّ» بالياء غيره.
الثامن- نائب آياس
»
وهو المعبّر عنه بنائب الفتوحات الجاهانيّة. قال في «التثقيف» : إن كان مقدّما فالمكاتبة إليه بنسبة مكاتبة نائب البيرة، فيكون رسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» والعلامة «والده» .
وإن كان طبلخاناه فيكون «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة(7/190)
الاسم، وتعريفه بكل حال «النائب بآياس» أو «النائب بالفتوحات الجاهانيّة المحروسة» .
التاسع- نائب جعبر
«1» ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» «وهذه المكاتبة إلى المجلس السامي» والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بقلعة جعبر المحروسة» .
العاشر- نائب عينتاب
«2» ورسم المكاتبة إليه على ما في «التثقيف» «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بعينتاب المحروسة» .
قال في «التثقيف» : ورأيت بخطّ القاضي ناصر الدين بن النّشائي أن مكاتبته الاسم و «السامي» بغير ياء. ثم قال: وما تقدّم هو ما استقرّ عليه الحال آخرا. قال: وقد يكون ذلك لأنه كان بها أمير طبلخاناه، وتعريفه «النائب بعينتاب» .
الحادي عشر- نائب درندة
. قال في «التثقيف» : إن كان طبلخاناه ف «السامي» بغير ياء، وإن كان عشرة ف «مجلس الأمير» والعلامة الاسم بكل حال، وتعريفه «النائب بدرندة» .
الثاني عشر- ناب القصير
«3» . قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بالقصير» .(7/191)
الثالث عشر- نائب الرّاوندان
«1» ورسم المكاتبة إليه كمثل نائب القصير، وتعريفه «النائب بالرّاوندان» .
الرابع عشر- نائب الرّها
«2» . قال في «التثقيف» : جرت العادة أن يكون نائبها طبلخاناه، فتكون مكاتبته «السامي» بغير ياء، والعلامة الاسم. ثم قال:
وقد استقرّ في الأيام المنصوريّة في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة مقدّم ألف، فقد يكتب إليه نظير نائب البيرة وقلعة المسلمين، يعنى فتكون مكاتبته «صدرت» و «العالي» . والعلامة «والده» وتعريفه بكل حال «النائب بالرّها» .
الخامس عشر- نائب شيزر
«3» وقد ذكر في «التثقيف» أن مكاتبته «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» فتكون العلامة الاسم، وتعريفه «النائب بشيزر» .
السادس عشر- نائب كركر
«4» ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» «يعلم مجلس الأمير» فتكون العلامة الاسم، وتعريفه «النائب بكركر» .
السابع عشر- نائب الكختا
«5» ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بالكختا» .(7/192)
الثامن عشر- نائب بغراس
«1» ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب ببغراس» .
التاسع عشر- نائب الشّغر وبكاس
«2» . ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بالشّغر وبكاس» .
العشرون- نائب الدّربساك
«3» . ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بالدّربساك» .
الحادي والعشرون- نائب إسفندكار
«4» . ذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إليه كذلك. ثم قال في «التثقيف» لكنّي رأيت بخط القاضي ناصر الدين ابن النّشائي أن مكاتبته الاسم و «السامي» بغير ياء، يعني «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» . قال: وما يبعد أنه كان إذ ذاك طبلخاناه. والمستقرّ عليه الحال ما تقدّم.
قلت: وقد ذكر في «التثقيف» ستّ قلاع استجدّت مكاتبة نوّابها بعد ذلك، ولم يذكر رسم المكاتبة إليه: وهم نائب حجر شغلان، ونائب كومي، ونائب قلعة كولاك، ونائب قلعة باري كروك، استجدّت مكاتبته في سنة ستين وسبعمائة، ونائب قلعة كاورّا، استجدّت مكاتبته في سنة تسع وستين وسبعمائة، ونائب كرزال، استجدّت مكاتبته في سنة سبع وسبعين وسبعمائة. ولم يذكر رسم(7/193)
المكاتبة إليهم. والذي يظهر أن رسم المكاتبة إلى كل منهم «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم، والتعريف «النائب بفلانة» . وحينئذ فيكون المكاتبون من نوّاب أعمال حلب سبعة وعشرين نائبا.
النيابة الثالثة (نيابة طرابلس) «1»
والمكاتبون بها عن الأبواب السلطانية أيضا على ضربين:
الضرب الأوّل (من بمدينة طرابلس، وهم اثنان)
الأوّل- نائب السلطنة بها
؛ ورسم المكاتبة إليه: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» على الرسم المتقدّم. والعلامة «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة» .
الثاني- الحاجب بطرابلس
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت» و «العالي» . والعلامة «والده» وتعريفه «أمير حاجب بطرابلس المحروسة» .
وليس بطرابلس قلعة «2» فيكتب إلى نائبها.(7/194)
الضرب الثاني (من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان)
الصنف الأوّل (نوّاب قلاع نفس طرابلس، وهم سبعة نوّاب)
الأوّل- نائب اللاذقيّة
«1» ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء.
والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب باللاذقيّة» .
الثاني- نائب صهيون
«2» ورسم المكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير» .
والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بصهيون» .
الثالث- نائب حصن الأكراد
«3» ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بحصن الأكراد» .
الرابع- نائب بلاطنس
«4» . ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب ببلاطنس» .
الخامس- نائب المرقب
«5» . ورسم المكاتبة إليه كذلك.(7/195)
السادس- نائب حصن عكّار
«1» . ورسم المكاتبة إليه كذلك، وتعريفه «النائب بحصن عكّار» .
الصّنف الثاني (نوّاب قلاع الدّعوة المضافة إلى طرابلس)
وهي: قلاع الإسماعيلية الذين يسمّون أنفسهم بأصحاب الدعوة الهاديّة.
وكانت سبع قلاع فأضيفت مصياف منها إلى دمشق على ما تقدّم في الكلام على المسالك والممالك؛ وبقي من مضافات طرابلس ستّ قلاع، وهي الكهف، والمينقة، والعلّيقة، والقدموس، والخوابي، والرّصافة. ومكاتبة كلّ منهم «يعلم مجلس الأمير» والعلامة الاسم. وتعريف كلّ منهم «النائب بفلانة» .
النيابة الرابعة (نيابة حماة)
والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة حماة خاصّة، وهما اثنان:
الأوّل- نائب السلطنة بها
. وقد تقدّم في أول هذا الطّرف أنها كانت بيد بقايا بني أيّوب، يطلق عليهم فيها لفظ السلطنة، يتولّونها من ملوك مصر إلى أن كان آخرهم الأفضل محمد بن المؤيّد عماد الدين إسماعيل في الدولة الناصرية محمد ابن قلاوون، ثم صارت نيابة بعد ذلك يتداولها النوّاب نائبا بعد نائب. ورسم المكاتبة إلى نائبها «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» والعلامة «والده» وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بحماة المحروسة» .
الثاني- الحاجب بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» . والعلامة الاسم، وتعريفه «الحاجب بحماة المحروسة» .(7/196)
قال في «التثقيف» : ولم يكن بها قلعة فيكتب إلى نائبها. قلت: وليس بأعمالها نوّاب فيكتب إليها إنما بها ولاة يكاتبون عن نوّابها.
النيابة الخامسة (نيابة صفد) «1»
والمكاتبون بها ضرب واحد أيضا، وهم من بالمدينة خاصّة وهم ثلاثة:
الأوّل- نائب السلطنة بها
. ورسم المكاتبة إليه «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» . والعلامة «والده» . وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بصفد المحروسة» .
الثاني- الحاجب بها
. ورسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» . والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاجب بصفد المحروسة» .
الثالث- نائب القلعة بها
. ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» . والعلامة الاسم. وتعريفه «نائب القلعة المنصورة بصفد المحروسة» .
قلت: ولم يكن بأعمالها نوّاب فيكاتبون عن الأبواب السلطانية، بل بها ولاة يكاتبون عن نائبها خاصّة كما تقدّم في حماة.
النيابة السادسة (نيابة غزّة)
والمكاتبون بها أيضا ضرب واحد، وهم من بالمدينة خاصّة، وهما اثنان:(7/197)
الأول- النائب بها
. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنه إن اجتمع له البلاد الساحليّة والجبليّة، عبّر عنه بنائب السلطنة؛ وإن قصر أمره على البلاد الساحلية فقط، عبّر عنه بمقدّم العسكر وكان تحت أمر نائب دمشق. وبكل حال فإنّ رسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي» والعلامة «والده» . ثم إن أضيف له الجهتان قيل في تعريفه «مقدّم العسكر المنصور بغزّة» .
الثاني- الحاجب بها
. ورسم المكاتبة إليه «يعلم مجلس الأمير» .
والعلامة الاسم، وتعريفه «الحاجب بغزّة المحروسة» .
قلت: وليس بعملها نوّاب، بل ولاة يكاتبون عن نائبها أو مقدّم العسكر بها. إلا أنه قد استحدث في أواخر الدولة الظاهرية «برقوق» مكاتبة كاشف الرّملة، واستقرّت مكاتبته «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» . والعلامة الاسم، وتعريفه «الكاشف بالرّملة» .
النيابة السابعة (نيابة الكرك) «1»
والمكاتبون بها من بالمدينة خاصّة، وهما اثنان:
الأول- نائب السلطنة بها
. ورسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» . والعلامة والده، وتعريفه «نائب السلطنة الشريفة بالكرك» .
الثاني- والى القلعة بها
. ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي» . والعلامة الاسم، وتعريفه «والي القلعة المنصورة بالكرك المحروس» .(7/198)
قلت: ولم يكن بها حاجب يكاتب ولا بأعمالها نوّاب، بل ولاة يكاتبون عن النائب بها خاصّة.
النيابة الثامنة (نيابة سيس) «1»
وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها مما استجدّ فتحه في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» . وقد ذكر في «التثقيف» أن مكاتبة النائب بها كانت «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» كنائب طرابلس ومن في معناه. ثم قال: وقد صحّ لي بعد هذا أنه استقرّت مكاتبته نظير غزّة. وهي «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي» . والعلامة حينئذ «والده» ، وتعريفه «مقدّم العسكر المنصور بغزة» «2» وما ذكره آخرا هو المستقرّ عليه الحال إلى آخر وقت. قال في «التثقيف» : ولم أطّلع على مكاتبة الحاجب بها. ثم قال: وما يبعد أن يكون «مجلس الأمير» لأنه فيما أظنّ أمير عشرة. قال: وإن كان طبلخاناه، فالاسم و «السامي» بغير ياء إن كتب إليه. ولم يكن بها نائب قلعة كما ذكره في الكلام على نوّاب القلاع.
قلت: وهنا أمران أشار إليهما في «التثقيف» ينبغي التّنبّه لهما.
أحدهما- أن القاعدة فيمن عدا أكابر النواب: كنوّاب القلاع والحجاب ونحوهم أنّ المكتوب إليه إن كان مقدّما ف «والده» و «صدرت» و «العالي» .
وإن كان طبلخاناه فالاسم و «السامي» بغير ياء. وإن كان عشرة، فالاسم و «مجلس الأمير» . وحينئذ فلا يتوقف مع المكاتبات السابقة، بل ينظر من هو(7/199)
مستقرّ في ذلك الوقت ويكتب إليه بما تقتضيه رتبته، فإنه تارة تكون عادة تلك النيابة طبلخاناه ثم تستقرّ عشرة وبالعكس، وتارة تكون طبلخاناه يستقرّ فيها مقدّم ألف وبالعكس. والعبرة في ذلك بحال من هو مستقرّ حال الكتابة، خلا ما هو مستقرّ من قديم الزمان لا يتغيّر مثل مكاتبة نائب بهسنى ونحوه.
وثانيهما- أنّ نائب السلطنة بدمشق، ونائب السلطنة بحلب، ونائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السلطنة بصفد، ونائب السلطنة أو مقدّم العسكر بغزّة، ونائب السلطنة بالكرك، ونائب السلطنة بالقدس الشريف يكتب إليهم في جليل كلّ أمر وحقيره من المهمات السلطانية وخلاص الحقوق وغيرها.
أما من عداهم من نوّاب القلاع والنوّاب الصغار الذين بأعمال هذه الممالك والحجّاب، فإنه لا يكتب إليهم في المهمّات والأمور السلطانية: إما في مثال «1» شريف مفرد لأحدهم، أو في مطلق «2» شريف عامّ لجميعهم أو لبعضهم، وكذلك(7/200)
في البشرى بوفاء النيل، فإنه يكتب إلى كلّ واحد منهم مثال بمفرده، خلا الحجّاب فإنه لا يكتب إليهم بذلك.
النوع الثاني (ممّن يكاتب بالممالك الشاميّة أرباب الأقلام، وهم صنفان)
الصنف الأول (أرباب الوظائف الدّيوانية)
والذي يكاتب منهم بالبلاد الشامية الوزير بدمشق، أو ناظر النّظّار «1» القائم مقامه، حيث لم يصرّح له بالوزارة.
أما الوزير بدمشق، فقد ذكر في «التعريف» أنه كتب للصاحب عزّ الدين أبي يعلى حمزة بن القلاقسيّ «2» «الجناب» لجلالة قدره، وسابقة خدمه، وعناية من كتب إليه بذلك، وأن الذي استقرّ عليه الحال للوزير بالشام «المجلس العالي» بالدعاء. كما كتب للصاحب «أمين الدين» «3» أمين الملك في وزارته في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» «ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي، القاضي، الوزيريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، القواميّ، النظاميّ، المدبّريّ، الملجديّ، الأثيريّ، المشيريّ، الفلانيّ؛ صلاح الإسلام والمسلمين، سيّد الوزراء في العالمين، رئيس الأمراء كبير الرؤساء، بقيّة الأصحاب، ملاذ الكتّاب، عماد الملّة، خالصة الدولة، مشير الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين» . والدعاء، ثم «صدرت» . والعلامة «أخوه» . وتعريفه «مدبّر الممالك الشريفة بالشام المحروس» .
قال: ولم يكتب لأحد بذلك بعده ولا قبله. ثم قال: واستقرّ في الدولة الناصرية حسن، الصاحب فخر الدين بن قروينة وزيرا بالشام أيضا على قاعدة(7/201)
جدّه لأمّه، أمين الدين المذكور. ولم أعلم ما كوتب به: هل كما كتب لجدّه المذكور أو دونه؟.
وأما ناظر النظار، فقد ذكر في «التثقيف» أن المكاتبة إليه «حرس الله تعالى مجد المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ الأوحديّ، الرئيسيّ، الأثيريّ، القواميّ، النّظاميّ، المنفّذيّ، المتصرّفيّ، العلّاميّ؛ مجد الإسلام والمسلمين، سيّد الرؤساء في العالمين، أوحد الفضلاء، جلال الكبراء، حجّة الكتّاب، صفوة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين» . والدعاء ثم «صدرت» . والعلامة الاسم، وتعريفه «ناظر النّظّار بالشام المحروس» .
قال في «التثقيف» : وهذا هو الذي استقرّ عليه الحال إلى آخر وقت.
الصنف الثاني (القضاة والعلماء)
قد ذكر في «التعريف» : أن المكاتبة لقاضي القضاة الشافعيّ بالشام ب «المجلس العالي» ولم يذكر صورتها. قال في «التثقيف» : والذي كوتب به الشيخ تقيّ الدين السّبكيّ «1» رحمه الله؛ وهو قاضي القضاة بالشام: «أعزّ الله تعالى أحكام المجلس العالي، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحققيّ، الإماميّ، الأصيليّ، الموفّقيّ، الحاكميّ، الفلانيّ؛ جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة(7/202)
البلغاء، حجّة الأمة، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، جلال الحكّام، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين» . والدعاء ثم «صدرت هذه المكاتبة» . والعلامة «أخوه» . وتعريفه «قاضي القضاة بالشام المحروس» .
ثم ذكر فيما بعد أنه كان يكتب في نعوته: «صدر الشام، معزّ السنة، مؤيّد الملّة» قال في «التثقيف» وكانت مكاتبته «شمس الشريعة، رئيس الأصحاب، لسان المتكلمين» ، ولم يعيّن مكانها. قال: وكتب بذلك إلى ولده قاضي القضاة تاج الدين السبكيّ «1» ، وهو قاضي القضاة بالشام غير مرّة. ثم زيد في ألقاب أخيه الشيخ بهاء الدين «2» عند استقراره في القضاء بالشام مكانه بعد القاضويّ «الشّيخيّ» وبعد المحقّقيّ «الورعيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الإماميّ، العلّاميّ، الأصيليّ، العريقيّ» . وزيد في تعريفه بعد جلال الحكام «بركة الدولة» .
النوع الثالث (ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان)
قد تقدم في الكلام على أنساب العرب في المقالة الأولى، فيما يحتاج إليه الكاتب أنّ عرب الشام عدّة بطون من عدّة قبائل. وقد قال في «التعريف» : إنهم جلّ القوم وعين الناس، لا عناية للملوك إلا بهم، ولا مبالاة بغيرهم.
ونحن نذكر هنا ما يتعلّق بالمكاتبات إلى أمرائهم ومشايخهم خاصّة.
البطن الأول (آل فضل من آل ربيعة)
وقد تقدّم أنهم من طيّء، من كهلان، من العاربة. قال في «التعريف» :(7/203)
وآل فضل منهم هم الذين في نحر العدوّ، ولهم العديد الأكثر، والمال الأوفر.
قال: وقد صاروا الآن أهل بيتين: بيت مهنّا بن عيسى، وبيت فضل بن عيسى «1» قال: وهم في جوار الفرات. ولذلك يضاعف إكرامهم، وتوفّر لهم الإقطاعات وتسنى. والإمرة الآن منهم في بيت مهنّا بن عيسى. وهو المعبّر عنه بأمير آل فضل.
وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان في زمانه قارا بن مهنا، ثم كان في الدولة الظاهرية «برقوق» محمد نعير بن حيار بن مهنّا بن [عيسى بن مهنّا بن ماتع «2» بن حديثة «3» ابن عقبة «4» بن فضل بن ربيعة] ، ثم استقرّ بعده في الدولة الناصرية «فرج» ابنه العجل، وهو المستقرّ إلى الآن.
قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إلى الأمير منهم «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ» بألقاب جليلة معظّمة مفخّمة. وذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، النصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظهيريّ، الأصيليّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، شرف أمراء العربان في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين؛ مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدولة، عماد العرب، ظهير الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين» . ثم الدعاء و «صدرت هذه المكاتبة» . والعلامة «أخوه» . وتعريفه «فلان بن فلان» .(7/204)
قال في «التعريف» أما من هو نظيره أو مدانيه وعدته الإمرة، فرسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» ومن دونه «الساميّ الأميريّ» . قال: ولكلّ هؤلاء العلامة الشريفة «أخوه» ولمن دون هؤلاء «السامي الأمير» والعلامة الشريفة الاسم الشريف.
وقد ذكر في «التثقيف» أسماء جماعة من أكابر بيت مهنّا بن عيسى، وبيت فضل بن عيسى وذكر لكل منهم رسم مكاتبة.
فأما بيت مهنا المذكور، فهم خمسة:
الأول منهم- عسّاف بن مهنّا. ورسم المكاتبة إليه: «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الأصيل؛ فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، فخر القبائل، زين العشائر، عماد الملوك والسلاطين» والدعاء ثم «صدرت» والعلامة «والده» وتعريفه اسمه.
الثاني- عنقاء بن مهنّا أخو عسّاف. مثله في المكاتبة على السواء.
الثالث- زامل بن موسى بن مهنّا، «صدرت» و «السامي» . والعلامة «والده» وتعريفه اسمه.
الرابع- محمد بن حيار بن مهنا: وهو نعير، مثل عمّيه: عسّاف وعنقاء.
الخامس- عليّ بن سليمان بن مهنّا. ذكر أنه كان يكاتب ب «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم. وذكر أنّ أخاه عوّادا لم يعلم أنه كوتب عن الأبواب السلطانية.
وأما بيت فضل، فذكر منهم معيقل بن فضل، وقال: إن رسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة «والده» . ثم قال: ولم يكاتب الآن من بني فضل غيره، فإن أخويه: سيفا وأبا بكر كانا يكاتبان عن الأبواب الشريفة، ثم توفّيا إلى رحمة الله تعالى، ولم يبق من أكابر بني فضل غيره هو وأولاد أخويه، لكنهم لم يكاتبوا(7/205)
بشيء. فإن اتفق أن يكاتب أحد من أولاد أخويه المذكورين أو من أولاد مهنّا، مثل أولاد فيّاض، وبقية أولاد حيار ورميثة بن عمر بن موسى ونحوهم، فأعلاهم الاسم و «السامي» بغير ياء، وأدناهم الاسم و «مجلس الأمير» .
البطن الثاني (آل مرا) «1»
قد تقدّم في الكلام على أنساب العرب فيما يحتاج إليه الكاتب، في المقالة الأولى، أنّ مرا وفضلا أخوان. قال في «التعريف» : ومنازلهم بلاد حوران. وقد ذكر في «التثقيف» أن الإمرة في زمانه كانت مقسومة نصفين بين عنقاء بن شطى «2» ابن عمرو بن نونة «3» ، وعمّه فضل بن عمرو بن نونة «4» ثم قال: ومكاتبة كلّ منهما «صدرت» و «السامي» . والعلامة «والده» وتعريفه «فلان بن فلان» .
البطن الثالث (آل عليّ)
وقد تقدّم في الكلام على الأنساب أنهم من «5» آل فضل. قال في «التعريف» : وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنّا، وبقي عيسى جار الفرات في تلابيب التّتار. قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إلى أميرهم «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» . والعلامة الشريفة «أخوه» . وقد ذكر في «التثقيف» أن أميرهم في زمانه كان «6» عيسى بن رملة(7/206)
ابن جمّاز. وقال: إن رسم المكاتبة إليه كما ذكر في «التعريف» وهي: «صدرت» و «السامي» لكنه ذكر أن العلامة «والده» - وتعريفه «فلان بن فلان» .
البطن الرابع (بنو مهديّ) «1»
وقد تقدّم في الكلام على الأنساب أنّ منازلهم البلقاء من مضافات دمشق.
قال في «التعريف» : والإمرة فيهم في أربعة، رسم المكاتبة إلى كلّ منهم «مجلس الأمير» . وذكر في «التثقيف» أنها كانت في زمانه باسم ببرو بن ذؤيب «2» بن سعيد ابن محفوظ القيسي «3» ، وسعيد بن نجري «4» بن حسن العقيسي، وزامل بن عبيد بن محفوظ العقيسي، ومحمد بن عبّاس بن قاسم بن محمد بن راشد العسري. وأن مكاتبة كل منهم «مجلس الأمير» كما تقدّم في «التعريف» . ثم قال: ومن كان معه نصف الإمرة منهم، كانت مكاتبته الاسم و «السامي» بغير ياء؛ وتعريف كلّ منهم «فلان بن فلان» .
البطن الخامس (بنو عقبة) «5»
وقد تقدّم في الكلام على الأنساب أن مرجعهم إلى جذام، وأنّ منازلهم الكرك والشّوبك. قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إلى أميرهم مثل أمير آل مرا. وكذلك رسم المكاتبة إلى أقاربه كرسم المكاتبة إلى أقارب أمير آل مرا أيضا؛ فتكون مكاتبة أميرهم «صدرت» و «السامي» . ومكاتبة أعيان أقاربه «السامي(7/207)
الأمير» ولمن دونهم «مجلس الأمير» . وقد ذكر في «التثقيف» أن إمرتهم في زمانه كانت باسم خاطر بن أحمد بن شطى بن عبيد «1» وذكر أن رسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء، وتعريفه «فلان بن فلان» ولم يتعرّض لأقربائه.
البطن السادس (جرم) «2»
وقد تقدّم في الأنساب أن مرجعهم إلى طيّىء، وأن منازلهم ببلاد غزّة. وقد ذكر في «التعريف» أن إمرتهم في زمانه كانت باسم فضل بن حجيّ «3» وذكر أن رسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» . والذي ذكره في «التثقيف» أنّ لهم مقدّما لا أميرا، وأنه كان في زمانه عليّ بن فضل. وذكر أن رسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وهذا عجب فإنه إذا كان أميرا ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» فكيف يكون رسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء وهو مقدّم، والإمارة فوق التّقدمة بلا ريب.
قال في «التعريف» : وأما بقيّة عرب الشام، نحو زبيد المرج، وزبيد حوران، وخالد حمص، والمشارقة، وغزيّة إذا أطاعوا، وزبيد الأحلاف، فأجلّ كبرائهم وأشياخهم من يكتب له «مجلس الأمير» . وذكر في «التثقيف» نحوه، ثم قال: هذا إن انفرد أحد منهم بالمكاتبة، وإلا فالعادة أن يكتب لكلّ طائفة من هؤلاء مطلق شريف. ثم قال: على أنه لم تجر العادة بمكاتبة أحد من هؤلاء القبائل، لا على الانفراد ولا على الاجتماع. وهذا كلام متناقض؛ حيث يقول: إنّ(7/208)
العادة أن يكتب لكل طائفة منهم مطلق شريف، ثم يقول: إن العادة لم تجر بمكاتبة أحد منهم لا على الانفراد ولا على الاجتماع.
قلت: وقد تقدّم الكلام على أنساب جميع هذه البطون وأماكنها مستوفى في الكلام على الأنساب في المقالة الأولى «1» ووقع بسط الكلام على ذلك وغيره في كتابنا المسمّى «نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب» «2»
النوع الثالث (ممن يكاتب بالممالك الشاميّة، التّركمان)
قد تقدّم ذكر نسب التركمان في الكلام على أنساب الأمم في المقالة الأولى.
وقد ذكر في «التثقيف» أن التركمان بهذه المملكة طوائف كثيرة، وجماعة كبيرة.
ثم قال: وغالبهم لا يكتب إليه إلا إذا ضمّهم مطلق شريف. فإن كتب إلى أحد من أعيانهم، كتب إليه الاسم و «السامي» بغير ياء إن كان طبلخاناه؛ وإن كان عشرة أو عشرين، كتب إليه الاسم و «مجلس الأمير» لا غير، ثم أخلى بياضا متّسعا ولم يصرّح باسم أحد منهم. ثم ذكر في الكلام على تركمان البلاد الشرقية عدّة طوائف، عدّ منهم الأوسرية، وقال: هم تركمان حلب، والورسق. وقال: وهم تركمان طرسوس، ولم يتعرّض لمواضع غيرهم. وسيأتي كلامه مستوفى عند الكلام على تركمان البلاد الشرقية إن شاء الله تعالى.
النوع الرابع (ممن يكاتب بالممالك الشامية الأكراد)
وقد تقدّم ذكر نسبهم في الكلام على أنساب الأمم في المقالة الأولى. وقد ذكر في «التثقيف» أن بهذه المملكة منهم طوائف كثيرة كالتّركمان، وأنّ غالبهم(7/209)
لا يكتب إليه إلا إذا ضمّهم مطلق شريف، وأنه إن كتب لأحد من أعيانهم، كتب له الاسم و «السامي» بغير ياء، إن كان طبلخاناه. وإن كان أمير عشرة أو عشرين، كتب إليه الاسم و «مجلس الأمير» كما تقدّم في التّركمان من غير فرق.
القسم الثالث (من يكاتب بالبلاد الحجازية، والمعتبر في المكاتبين منهم ثلاثة)
الأوّل- أمير مكّة المعظّمة
. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك ذكر أمرائها من ابتداء الإمرة وهلمّ جرّا إلى زماننا، والقائم بها الآن [حسن بن أحمد] «1» بن عجلان.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» : «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العضديّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الغوثيّ، المفيديّ، الأوحديّ، الظهيريّ، الزّعيميّ، الكافليّ، الشريفيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، الأصيليّ، الفلانيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، جلال العترة الطاهرة، كوكب الأسرة الزاهرة؛ فرع الشجرة الزّكيّة، طراز العصابة العلويّة؛ ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين» ثم الدعاء المعطوف. وبعده «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي بالسلام والثناء وتوضح لعلمه الكريم كذا وكذا» .
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» : «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الشريفيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، العالميّ، المجاهديّ، المفيديّ، الأوحديّ، النصيريّ، العونيّ، الهماميّ، المقدّميّ، الظّهيريّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء الأشراف في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، كهف الملّة، عون الأمة، فخر(7/210)
السّلالة الزاهرة، زين العترة الطاهرة، بهاء العصابة العلويّة، جمال الطائفة الهاشميّة، ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين» ثم الدعاء و «صدرت» .
وهذا دعاء وصدر يليق به ذكره في «التعريف» : «ولا زال حرمه أمينا، ومكانه مكينا، وشرفه يبيّض له بمجاورة الحجر الأسود عند الله وجها ويضيء جبينا. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تحمل إليه سلاما تميل به الرّكائب، وثناء تثني على مسكه الحقائب «1» ، وشوقا أوسق قلبه لمن نسكه مع الحبائب «2» ، وتوضّح لعلمه الكريم» .
صدر آخر: ومتّعه بجوار بيته الكريم، وزاد بجميل مساعيه شرف نسبه الصّميم، وآنسه بقرب الحجر الأسود والرّكن والحطيم «3» صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وثناء تطيب به الصّبا قبل أن تحمل شيحا أو خزامى، وتوضح لعلمه الكريم.
صدر آخر: وأراه مناسكه، وآنس بالتقوى مسالكه، وأشهد على عمله الصالح بطحاءه وما ينزله من الملائكة. صدرت هذه المكاتبة بتحيّاتها المباركة، وأثنيتها التي لا تزال إليه بها أفئدة من الناس سالكة، وتوضّح لعلمه الكريم.(7/211)
الثاني- أمير المدينة النبوية
على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
وقد تقدّم في الكلام على أمرائها في المسالك والممالك من المقالة الثالثة أن إمارتها مستقرّة في بني الحسين، وأنّها الآن في بني جمّاز بن شيحة، وأن جدّهم كان فقيها بالعراق، فقدم على السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» رحمه الله، فولّاه المدينة فاستقرّت فيها قدمه ثم قدم بنيه، وأنّ القائم بها الآن «1» [ثابت بن جمّاز بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة بن نعير] .
ورسم المكاتبة إليه كرسم المكاتبة إلى أمير مكة على الاختلاف السابق في النقل عن «التعريف، والتثقيف» . فقد ذكر كلّ منهما رسم المكاتبة إلى أمير مكة. ثم قال: ورسم المكاتبة إلى أمير المدينة كذلك.
وهذا صدر مكاتبة يليق به، وهو: ولا زال في جوار الله ورسوله، ومهبط الوحي ونزوله، ومكان يردّد فيه من أبويه الطاهرين بين حيدره وبتوله. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي بسلام يحدو ركابها، وثناء يزين في قبا قبابها، وشوق إلى رؤيته في الروضة التي طالما استسقى فيها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم سحابها، توضح لعلمه الكريم كذا وكذا.
صدر آخر: وزاده من الله ورسوله قربا، وأكّد له بحماية حرمه حبّا، وأبهجه كلّما رأى جدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد جاور آلا وجالس صحبا. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي مطربة بالسلام، مطنبة في ثنائه المفصّل النّظام، وتوضح لعلمه الكريم.
الثالث- النائب بالينبع
«2»(7/212)
وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها في بني حسن أيضا «1» قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الأمير» . والعلامة الاسم، وتعريفه «النائب بالينبع» .
أما سائر العربان بالحجاز فقد ذكر في «التثقيف» أن لبني حسن القوّام بمكة «مجالس الأمراء» . والعلامة الاسم. ومن عدا بني حسن فقد ذكر في «التعريف» أنهم على ضربين:
الضرب الأوّل- أهل الدّربين: المصريّ والشاميّ «2» قال: وليس فيهم من هو في عير ولا نفير، ولا يحلّ في ذروة ولا غارب؛ وأجلّ من فيهم إذا كتب له «مجلس الأمير» كان كمن سوّر وطوّق، لا بل طيلس وتوّج.
الضرب الثاني- شيوخ لام، وخالد، والمنيفق، وعائذ الحجاز «3» قال:(7/213)
وهؤلاء من كان منهم المشار إليه كتب إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» والعلامة «أخوه» . ثم من يليهم بالسامي بغير ياء. ثم الأعيان من بقيتهم «مجلس الأمير» .
المسلك الثاني (في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر، وكيفية أوضاعها. وفيه مأخذان)
المأخذ الأوّل- في ترتيب متون المكاتبات
، ولا يكون إلا ابتداء. أما الجواب فإنه لا يتأتّى فيها.
ثم هي على ضربين:
الضرب الأوّل- ما يكتب في خلاص الحقوق
. وهو ما يكتب فيه لنوّاب الإسكندرية، ونائبي الوجهين: القبليّ والبحريّ من الديار المصرية، وولاتهما، ونوّاب الشام، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، والكرك، ومقدّم العسكر بغزّة، من الممالك الشامية على ما تقدّم ذكره في الكلام على مكاتبة أهل المملكة.
والرسم في ذلك إذا كانت المكاتبة إلى نائب الشام مثلا، بسبب قضيّة تتعلّق بالأمير الدّوادار أن يكتب: «أعزّ الله تعالى المقرّ الكريم» إلى آخر الألقاب والصدر؛ ثم يكتب: «وتبدي لعلمه الكريم أن الجناب العالي» ويذكر ألقابه إلى آخرها «ضاعف الله تعالى نعمته عرّفنا كذا وكذا» . ويذكر ما في قصته برمّته. ثم يكتب: «ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بكذا وكذا» ويأتي بما رسم له به إلى آخره؛ ثم يقول: «فيحيط علمه بذلك» ويكمّل على ما تقدّم.
وإن كان المكتوب بسببه أمير عشرة مثلا، كتب بدل «عرّفنا» : «ذكر» .
وإن كان من آحاد الناس كتب بدل ذلك: «إن فلانا أنهى» ويكمل على ما تقدّم.
وهذه نسخة مكاتبة إلى نائب الشام بسبب خلاص حقّ:
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ،(7/214)
العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الزّعيمي، الظّهيريّ، العابديّ، الناسكيّ، الأتابكيّ، الكفيليّ، الفلانيّ؛ معزّ الإسلام والمسلمين، سيد أمراء العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، ملجإ الفقراء والمساكين، أتابك العساكر، زعيم الموحّدين، ممهّد الدول، مشيّد الممالك، عون الأمة، كهف الملّة، عماد الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين، ولا زال عاليا قدره، نافذا أمره، جاريا على الألسنة حمده وشكره.
أصدرناها إلى المقرّ العالي تهدي إليه من السلام أتمّه، ومن الثناء أعمّه وتبدي لعلمه الكريم أنّ الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الغوثيّ، الغياثيّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، الزّعيميّ، المقدّمى، الفلانيّ؛ ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين؛ فلان رأس نوبة «1» الظاهريّ ضاعف الله تعالى نعمته عرّفنا أنّ له دعوى شرعية على أقوام بدمشق المحروسة، وهم فلان وفلان. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بحملهم صحبة فلان قاصد المشار إليه، إلى الأبواب الشريفة، محتفظا بهم، قولا واحدا، وأمرا جازما، ليصل كلّ ذي حقّ إلى حقه، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن المجلس الساميّ، الأميريّ، الكبيريّ، العضديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ؛ عمدة الملوك والسلاطين: فلان أدام الله سعادته، ذكر لنا أن الصّدقات الشريفة شملته بخلاص حقّه من فلان. وقد وكّل(7/215)
في ذلك المجلس الساميّ القضائيّ الأجلّيّ فلان الدين. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب الغريم المذكور، وخلاص الحقّ منه بتمامه وكماله.
وإن امتنع عن ذلك يحمل للأبواب الشريفة مع الوصيّة بوكيله في ذلك، فيحيط علمه بذلك.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن الأمير، الأجلّ، الكبير، فلان الدين، فلان الفلاني؛ أنهى أنّ بيده إقطاعا بالحلقة الشامية، وأن الوزير بالشام المحروس في كلّ وقت يتعرّض إلى إقطاعه، ويأخذ الموجب المقرّر له بغير طريق. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب المباشرين، والارتجاع عليهم بما التمسوه من إقطاعه، على ما يشهد به الدّيوان المعمور، بتمامه وكماله، ويستقرّ هذا المثال الشريف بيده بعد العمل به، فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن فلانا الفلانيّ أنهى أنّ شخصا يسمّى فلانا تزوّج بأخته، وهو مقيم بالشام المحروس، وتوفيت أخته إلى رحمة الله تعالى، ووضع الزوج المذكور يده على جميع مالها. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بخلاص الحق على حكم الشرع الشريف مع الوصيّة به، فيحيط علمه بذلك.
آخر: وتبدي لعلمه الكريم أن قصّة «1» رفعت إلى أبوابنا الشريفة باسم(7/216)
تجّار الفرنج، أنهوا فيها أنهم يبيعون ويبتاعون البضائع، ويقومون بما عليهم من الموجب السلطانيّ. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره بخلاص حقوقهم ممن تتعيّن في جهته على حكم الحق، وكفّ أسباب الضرر عنهم، ومنع من يتعرّض إليهم بغير حقّ ولا مستند شرعيّ، والوصية بهم ورعايتهم وملاحظتهم، فيحيط علمه بذلك.
الضرب الثاني (ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية، وهي صنفان)
الصنف الأوّل (ما يكتب به ابتداء)
ويختلف الحال فيه باختلاف مقتضيه: فإن كان مقتضية بروز أمر السلطان بفعل شيء أو تركه أو الحركة في شيء، كتب: «إنّ المراسيم الشريفة اقتضت كذا وكذا» . أو «إن مراسيمنا الشريفة اقتضت كذا» . أو «إن المرسوم الشريف اقتضى كذا» . أو «إن مرسومنا الشريف اقتضى كذا» : فإن كان ذلك الأمر مما يحتاج إلى إدارة الرأي فيه، كتب: «إنّ الرأي الشريف اقتضى كذا» . أو «إنّ آراءنا الشريفة اقتضت كذا» ، وما يجري هذا المجرى. وإن كان مقتضيه بلوغ خبر من حركة عدوّ أو اطّلاع على أمر خفيّ، كتب: «إنه اتّصل بالمسامع الشريفة كذا وكذا» . أو «إنه اتصل بمسامعنا الشريفة كذا وكذا» . وإن كان بسبب طلب مال أو جباية خراج ونحو ذلك، كتب: «إنّ لديوان خاصّنا «1» الشريف في الجهة الفلانية كذا» . أو «إنّ لنا في الجهة الفلانية كذا» ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السّلك، ثم يكتب: «ومرسومنا للمقرّ الكريم، أو للجناب الكريم، أو الجناب(7/217)
العالي» على حسب المكاتبة «أن يتقدّم أمره بكذا وكذا» على ما تبرز به المراسيم السلطانية.
وهذه مكاتبات من ذلك إلى نائب الشام، ينسج على منوالها.
مكاتبة- باستقرار نائب في نيابة بعض القلاع: وتبدي لعلمه الكريم أن المراسيم الشريفة اقتضت استقرار الأمير فلان الدين في النيابة الشريفة وجهزنا مرسومه «1» الشريفين على يد المتوجّه بهذا المثال الشريف الأمير الأجلّ فلان الدين فلان، أعزه الله تعالى. فيتقدّم المقرّ الكريم بتجهيزه إلى جهة قصده بما على يده من ذلك، وإذا عاد، يعيده إلى الأبواب الشريفة مكرما مرعيّا على عوائد همّته العليّة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- بنقل نائب سلطنة من نيابة إلى نيابة: وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى نقل الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الغوثي، الغياثيّ، المقدّميّ، الكافليّ، الفلانيّ؛ ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين؛ فلان الظاهريّ، أعزّ الله نصرته- من نيابة السلطنة الشريفة بطرابلس، إلى نيابة السلطنة الشريفة بحلب المحروسة. والجناب العالي الأميريّ الكبيريّ الفلانيّ، ظهير الملوك والسلاطين فلان الظاهريّ من نيابة السلطنة بصفد المحروسة، إلى نيابة السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة. والجناب العالي الفلانيّ الظاهريّ من تقدمة العسكر المنصور بغزّة المحروسة، إلى نيابة السلطنة الشريفة بصفد المحروسة. وكتبنا لهم تقاليد شريفة بذلك، وجهّزنا إليهم تشاريفهم وهي واصلة عقيبها على يد متسفّريهم «2» ؛ وجهّزنا الأمير الأجلّ الأعز فلان الدين، مؤتمن الملوك(7/218)
والسلاطين، فلان الخاصكيّ الظاهريّ أعزه الله تعالى للبشارة للمشار إليهم بذلك: ليأخذوا حظّهم من هذه البشرى، وتضاعف أدعيتهم بدوام أيامنا الشريفة، وآثرنا إعلام المقرّ الكريم بذلك: ليكون على خاطرة؛ والله تعالى يويّده بمنّه وكرمه.
مكاتبة- بحمل شخص للأبواب السلطانية: وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى تقدّم المقرّ الكريم حال وقوفه عليها، وقبل وضعها من يده بطلب فلان الفلانيّ وفلان الفلانيّ، وتجهيزهما إلى الأبواب الشريفة في أسرع وقت وأقربه، من غير فترة ولا توان. ونحن نؤكد عليه غاية التأكيد في سرعة تجهيزهما إلى الأبواب الشريفة صحبة الأمير الأجل، فلان الدين فلان، إلى الأبواب الشريفة محتفظا بهما، محترزا عليهما؛ ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضاه مرسومنا الشريف، والاهتمام بذلك، والاحتفال به، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيده بمنّه وكرمه.
مكاتبة- باستقرار بعض الأمراء بالقدس الشريف بطّالا «1» : وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى استقرار الأمير فلان أحسن الله تعالى عاقبته بالقدس الشريف مقيما بها، وشملته الصّدقات الشريفة أن «2» فلانة وفلانة باسمه، بمقتضى مرسوم شريف مجهّز صحبة متسفّره الأمير الأجلّ الكبير الأوحد، فلان الدين فلان، البريديّ «3» بالأبواب الشريفة، أعزّه الله تعالى، المتوجّه بهذا(7/219)
المثال الشريف. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بإثبات المرسوم الشريف المذكور بديوان الجيوش المنصورة بالشام المحروس على العادة؛ وتجهيز البريديّ المذكور إلى حدود الديار المصرية، مكرما مرعيا على العادة؛ فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة- ببيع غلّة للديوان السلطاني: وتبدي لعلمه الكريم أنّ آراءنا الشريفة اقتضت تجهيز كذا وكذا إردبّا «1» من القمح من ديواننا المفرد «2» صحبة فلان. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب فلان الحاجب بالشام المحروس: ليتولّى بيع ذلك بسعر الله تعالى بما فيه الغبطة والمصلحة؛ وتجهيز الثمن إلى الأبواب الشريفة برسالة دالّة على ذلك في أسرع وقت وأقربه، مع مضاعفة الوصيّة بذلك والاحتفال به، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- وتبدي لعلمه الكريم أنّ آراءنا الشريفة اقتضت توجّه الأمير الأجلّ الكبير، الأوحد، فلان الدين فلان؛ إستادار الأمير المرحوم فلان كان، بسبب استخراج الأموال وبيع الغلال والأصناف الدّيوانية المتحصّلة من القرى المستأجرة، المرتجعة للورثة عن المشار إليه بمقتضى التذكرة المسطّرة على يده. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره بمساعدة المذكور وتقوية يده على ما تضمّنته فصول التذكرة ومراعاة أحواله، وإزالة ضروراته، وخلاص الحق منه ممن يتعيّن في جهته، ويشمله بنظره الكريم فيما تعلق بفصول التذكرة. فإنّ تعلّقات الورثة المذكورين تحت نظرنا الشريف. فيبادر المقرّ الشريف إلى ذلك وسرعة عوده بعد قضاء شغله، وتجهيز المتحدّث والمباشرين للأبواب الشريفة، وصحبتهم حسابهم عند نهاية فصول التّذكرة المذكورة. ويقيم عنهم من يعوضهم(7/220)
إلى حين عودهم من الأبواب الشريفة على ما هو المعهود من همّته الكريمة وأحتفاله، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة- بسبب طلب عصيّ الجواكين «1» والكرابيج والأكر: وتبدي لعلمه الكريم أن المرسوم الشريف اقتضى تجهيز عصيّ الجواكين والكرابيج والأكر إلى السّلاح خاناه من الشام المحروس، على العادة في كل سنة سريعا، وآثرنا علمه الكريم بذلك. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضاه مرسومنا الشريف من ذلك كلّه على جاري العادة في كلّ سنة، والاهتمام بذلك، والاحتفال به، بحث لا يتأخّر ذلك غير مسافة الطريق؛ فإن الانتظار واقع لذلك، وفي همّته الكريمة ما يغني عن بسط القول في ذلك، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة- بسبب استقرار قاض بدمشق عوض من كان بها: وتبدي لعلمه الكريم أنّ الصدقات الشريفة شملت المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العلّاميّ، الإماميّ، الفلانيّ، الفريديّ، المفيديّ، المجيديّ، الأصيليّ، العريقيّ، الأثيليّ، الأثيريّ، الأوحديّ، الخطيبيّ، الشّيخيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، إمام البلغاء، خطيب الخطباء، شيخ مشايخ العارفين، ملاذ المريدين، مفتي الفرق، موضّح الطّرق، لسان المتكلمين، مفيد الطالبين، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلانيّ الشافعيّ. أعز الله تعالى أحكامه- بتفويض قضاء قضاة الشافعية بالشام المحروس إليه؛ عوضا عمّن به، بحكم عزله مضافا إلى خطابة الجامع الأمويّ، ومشيخة الشّيوخ بالشام المحروس. وكتبنا توقيعا شريفا له بذلك، وجهّزناه إليه قرين تشريف شريف على يد فلان المتوجّه بهذا المثال الشريف. وآثرنا علمه الكريم بذلك، ليكون ذلك على خاطره الكريم. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بتقرير القاضي فلان الدين فلان الفلاني فيما(7/221)
شملته به الصدقات الشريفة من ذلك كلّه، وتقوية يده في مباشرة ذلك والشّدّ منه، وتأييد أحكامه الشرعية، وتنفيذ كلمته، ورعاية جانبه، وإكرامه واحترامه، على عادة هممه الكريمة، وتقدماته السعيدة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- بسبب حمل الثّلج إلى الأبواب السلطانية: وتبدي لعلمه الكريم أنّ المرسوم الشريف اقتضى تجهيز نقلات الثلج إلى الشّراب خاناه «1» الشريفة على العادة. ومرسومنا للمقر الكريم أن يتقدّم أمره العالي بسرعة تجهيز النّقلة الأولى، بحيث لا تتأخر أكثر من مسافة الطريق على ما هو المعهود من همّته العالية، وتقدماته السعيدة. وقد جهّزنا هذا المثال الشريف على يد الأمير الأجلّ فلان الدين فلان الفلانيّ، أعزه الله تعالى، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة- بتمكين شخص من الحضور للأبواب السلطانية. وتبدي لعلمه الكريم أنّ فلانا كان قصد الاجتماع بأهله وأقاربه بالقاهرة المحروسة. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بتمكينه من الحضور إلى القاهرة المحروسة على خيله: ليجتمع بأهله وأقاربه. وقد جهّزنا بهذا المثال الشريف فلانا البريديّ بالأبواب الشريفة، فيحيط علمه الكريم بذلك.(7/222)
مكاتبة- بمنع العربان من الدخول إلى البلاد قبل فراغ الزّرع. وتبدي لعلمه الكريم أنّ المراسيم الشريفة اقتضت أنه لا يدخل أحد من العربان إلى البلاد الشامية المحروسة: كبيرهم وصغيرهم، جليلهم وحقيرهم، إلى أن يشال الزرع على العادة. ومتى- والعياذ بالله- حصل منهم مخالفة لذلك، حلّ بهم من الانتقام الشريف ما لا مزيد عليه. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضته المراسيم الشريفة من ذلك، مع الاهتمام به، والاحتفال والاجتهاد فيه، قولا واحدا، وأمرا جازما، على عادة همّته العالية، وتقدماته المرضيّة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- بحفظ السواحل: وتبدي لعلمه الكريم أن مرسومنا الشريف اقتضى الاجتهاد في حفظ السواحل والمواني، والاهتمام بأمرها، وإقامة الأيزاك «1» والأبدال «2» في أوقاتها على العادة، وإلزام أربابها بمواظبتها، وكذلك المنوّرون «3»(7/223)
بالدّيدبانات والمناظر والمناور، في الأماكن المعروفة، وتعهّد أحوالها: بحيث تقوم أحوالها على أحسن العوائد وأكملها؛ ولا يقع على أحد درك «1» بسببها.
ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي باعتماد ما اقتضاه مرسومنا الشريف من ذلك، مع مضاعفة الاحتفال بذلك والمبادرة إليه، حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة. وقد جهّزنا بهذا المثال الشريف مجلس الأمير الأجلّ: فلان الدين فلان البريديّ، المقدّم بالأبواب الشريفة؛ فيتقدّم أمر المقرّ العالي بتجهيزه إلى جهة قصده بما على يده، وإعادته عند عوده إلى الأبواب الشريفة، على ما هو المعهود من همّته، فيحيط علمه الكريم بذلك.
مكاتبة- باستعمال قماش. وتبدي لعلمه الكريم أنّ آراءنا الشريفة اقتضت استعمال القماش الجاري به العادة برسم الركابخاناه «2» ، والإصطبلات الشريفة، على ما استقرّ عليه الحال إلى آخر السنة الخالية والتي قبلها. وقد كتبت تذكرة شريفة من ديوان استيفاء الصّحبة «3» الشريفة مفصّلة بذلك، وجهّزناها قرين هذه المفاوضة لتقرأ على مسامعه الكريمة. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بتأمّلها، وبروز أمره بطلب وزير المملكة الشريفة، وناظر المهمّات الشريفة، واستعمال القماش الذي تضمّنته التذكرة الشريفة، والاهتمام بذلك، والاحتفال بسرعته. وقد أكتفينا بهمّة المقرّ الكريم عن تجهيز أميراخورية «4» وأوجاقية «5» من(7/224)
إصطبلاتنا الشريفة لاستعمال ذلك، لأنّ المهمات الشريفة تحت نظره الكريم، فيصرف همّته العالية إلى الإسراع في ذلك، والاحتفال به والاهتمام. وفي اهتمامه وتنفيذه لمراسمنا الشريفة ما يغني عن التأكيد في ذلك، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- بجواز. وتبدي لعلمه الكريم أنّ مرسومنا الشريف اقتضى تجهيز فلان البريديّ بالأبواب الشريفة، أعزّه الله تعالى، إلى جهة فلان بما على يده وما صحبته. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بإزاحة أعذاره، وتجهيزه إلى المشار إليه في أسرع وقت وأقربه. وإذا عاد يتقدّم بتجهيزه إلى خدمة الأبواب الشريفة على العادة في ذلك، على عادة همّته العليّة، وشيمه المرضيّة، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- وتبدي لعلمه الشريف أن مرسومنا الشريف اقتضى أن لا يمكّن أحد من نقل سلاح ولا عدّة حرب إلى جهة البلاد الرّوميّة. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بأن لا يمكّن أحد من نقل سلاح ولا عدّة إلى جهة البلاد المذكورة، والاحتراز على ذلك كلّ الاحتراز، فيحيط علمه بذلك.
مكاتبة- وتبدي لعلمه الكريم أنه اتصل بالمسامع الشريفة أنّ غالب البلاد بالصّفقة الفلانية محميّة متجاهية «1» على الكشّاف والرّعايا، ويؤوون المفسدين.
وأنّ يد الكشّاف لا تصل إلى هذه البلاد، ولا إلى النّصفة ممن بها من المفسدين.(7/225)
وحصل بذلك الضرر للبلاد والعباد. واقتضى الرأي الشريف الكشف عن هذه البلاد وسائر الأعمال، والمناداة في البلاد بإبطال الحماية والرّعاية، والمساواة بين العباد في سائر البلاد بالعدل والإنصاف، وكفّ أكفّ الظلم والعدوان. ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره الكريم بالمناداة في سائر البلاد بإبطال الحماية والرّعاية، والمساواة بين الخاصّ والعامّ، وتطهير الأرض من المفسدين؛ وأن لا يحمى أحد ببلد من البلاد. ومن تظاهر بحماية أو إيواء مفسد ببلد من البلاد، حلّ ماله وروحه. والتأكيد على أهل البلاد في ذلك، والتشديد والفحص عمّن يتجاهر بذلك وردعه ونشر العدل والإنصاف بتلك الأقطار، والاهتمام في ذلك كلّه، على عادة هممه الكريمة، وتقدماته السعيدة، فيحيط علمه الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّده بالملائك.
مكاتبة- وتبدي لعلمه الكريم أنه اتّصل بمسامعنا الشريفة أن فلانا تعرّض للجهة الفلانيّة الجارية في ديوان خاصّنا الشريف، وأخذ منها مبلغ كذا وكذا.
ومرسومنا للمقرّ الكريم أن يتقدّم أمره العالي بطلب الغريم المذكور، وتجهيزه إلى الأبواب الشريفة، وإلزامه بما استأداه من ذلك، محترزا عليه مع مضاعفة الوصيّة بمباشري الجهة المذكورة والإحسان إليهم، فيحيط علمه بذلك.
الصنف الثاني (ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النوّاب وغيرهم)
والرسم فيه أن يكتب بعد التصدير: «إن مكاتبته الكريمة» أو «مكاتبته» على قدر رتبته من ذلك «وردت على يد فلان فوقفنا عليها وعلمنا ما تضمّنته على الصّورة التي شرحها» ثم يذكر ما يناسب الجواب في ذلك من شكر الاهتمام أو غيره. ثم إن اشتملت على مقصد واحد، أجاب عنه.
وهذه مكاتبة ينسج على منوالها، وهي: وتبدي لعلمه الكريم أنّ مكاتبته(7/226)
الكريمة وردت على يد فلان فوقفنا عليها، وعلمنا ما أصدرته من تجهيزه إلى خدمة أبوابنا الشريفة بما على يده من كتاب مخدومه. وقد وصل، وأحاطت علومنا الشريفة بما تضمّنه، وأعدناه الآن بجوابه وبهذا الجواب الشريف. فيحيط علمه الكريم بذلك.
وإن اشتملت المكاتبة المجاب عنها على عدّة فصول، أتى على فصولها فصلا فصلا. وربما قال: «فأما ما أشار إليه من كذا» إذا كان عليّ الرتبة، كنائب الشام ونحوه، «فقد علمناه» وصار على خاطرنا الشريف أو «فقد رسمنا به» أو «فلم نرسم به» . ونحو ذلك على ما يقع به الجواب السلطانيّ في الملخّص المكتوب عن مكاتبة المكتوب إليه بالجواب.
وهذه مكاتبة من هذا النمط ينسج على منوالها، وهي: وتبدي لعلمه الكريم، أنّ مكاتبته الكريمة وردت على يد مملوكه الأمير الأجلّ فلان الدين فلان، أعزّه الله تعالى، فوقفنا عليها، وعلمنا ما تضمّنته على الصورة التي شرحها، وشكرنا همّته العالية، وتقدماته السعيدة، ورأيه السعيد، واعتماده الحميد.
فأما ما أشار إليه من وصوله ومن صحبته، ونائبي السلطنة الشريفة بطرابلس وصفد المحروستين، إلى ملطية المحروسة في التاريخ الفلاني، وتلقّي نائبي السلطنة الشريفة بحلب وحماة المحروستين، المقرّ الكريم ومن معه على ظاهر المدينة المذكورة، واستمرار إقامتهم جميعا بالمنزلة المذكورة إلى تسطير مكاتبته المشار إليها في انتظار من رسم له بالحضور إليهم من عساكر القلاع المنصورة وغيرهم، من أمراء التّركمان والأكراد ومن معهم من أتباعهم وألزامهم، حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة في المهمّ الشريف وما كتب به إلى نائب طرابلس، وإلى قرا يوسف النائب بالرّها المحروسة: من الحضور إلى المهمّ الشريف، وإجابتهما إلى ذلك؛ وكذلك ما كتب به إلى الحاكم بسيواس، وإلى أحمد بن طرغلي، وما أجابا به من الحضور إلى المهمّ الشريف، والملتقى في المكان الذي عيّنه حاكم(7/227)
سيواس، إلى غير ذلك مما بسط القول فيه [فقد علمناه] «1» على الصّورة التي شرحها، وتضاعف شكرنا لهمّته العلية وتقدماته السعيدة.
وأمّا ما أشار إليه من اعتماده ما برزت به المراسيم الشريفة في الجواز الشريف الوارد إليه على يد مجلس الأمير الأجلّ فلان الدين فلان، والمطلق الشريف المجهّز على يده، وامتثال ما تحمّله من المشافهة الشريفة، وتقدّمه بجميع نوّاب السلطنة الشريفة المكتوب إليهم، وعقد المشورة معهم على اعتماد ما اقتضته المراسيم الشريفة؛ وتعيين جاليش «2» العساكر المنصورة ونائب السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة ومن معه من الأمراء المقدّمين وأتباعهم من دمشق وحلب المحروستين، ونائب السلطنة الشريفة بحماة المحروسة، ومن معه من العساكر المنصورة، وسيرهم في التاريخ الفلاني، وسيره في أثرهم بمن بقي معه من العساكر المنصورة الشامية الحلبية؛ وأن سيرهم على جهة بلد كذا على الصّورة التي شرحها لما قصده من ذلك من المصلحة؛ فقد علمنا ذلك على الصّورة التي شرحها؛ وشكرنا همته العالية، وحسن فكرته الصحيحة.
وأمّا ما أشار إليه من أن نائب ملطية جهّز الكتاب الوارد عليه من ابن تمرلنك، على يد قاصد من جهة تلمان «3» باللسان الأعجميّ، وأنه عرّبه وفهم مضمونه وجهّزه ليحيط العلوم الشريفة بمضمونه، وهي على الخواطر الشريفة، فيكون ذلك على الخاطر الكريم، وشكرنا همته العلية.
وأمّا ما أشار إليه من ورود كتاب تلمان «4» عليه، وهديّته على يد قاصده، وأنه لم يقبل هديّته وأعاد جوابه، فإنه إن كان مناصحا في الخدمة الشريفة وهو صادق(7/228)
في كلامه، فيحضر إلى المهمّ الشريف، وما شرح في هذا المعنى فقد علمناه على الصورة التي شرحها، وشكرنا جميل اعتماده وسعيد رأيه. وكذلك أحاطت العلوم الشريفة بما ذكره في أمر حاكم عريركبر «1» وما شرحه في ذلك، فقد علمناه على الصّورة التي شرحها.
وأما ما أشار إليه من أمر ملطية المحروسة، وأنها تحتاج إلى الفكر الشريف، والنظر في أحوالها وترتيب مصالحها، وإقامة عسكر لرجال يحمونها من طوارق الأعداء المخذولين: إلى غير ذلك مما شرحه في هذا المعنى، فقد علمناه على الصّورة التي شرحها، وبقي ذلك على خواطرنا الشريفة. وعقيبها إن شاء الله تعالى تبرز المراسيم الشريفة بما فيه المصلحة للبلد المذكور على أكمل ما يكون.
وقد استصوبوا رأي المقرّ الكريم في هذا الفكر الحسن، فإنه أمر ضروريّ. وقد شكرنا للمقرّ الكريم جميل اعتماده، وحسن رأيه، وبذل همته واجتهاده في هذا المهمّ الشريف. والقصد منه الاستمرار على ما هو فيه من بذل الاجتهاد في المهمّات الشريفة بقلبه وقالبه، والعمل على بياض وجهه عند الله تعالى، من الذّبّ عن عباده وبلاده، وبذل المال والرّوح في رضا الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، واستقرار خواطرنا الشريفة بذلك. فإن المقرّ الكريم يعلم ما نحن مثابرون عليه، ومنقادون إليه، من محبّة رضا الله تعالى في النصيحة بصلاح العباد، وعمارة البلاد، وتسطير ذلك في صحائف حسنات الدهر بين يدي الله تعالى. والمقرّ الكريم يعلم أن جلّ اعتمادنا عليه في أكابر دولتنا الشريفة. ونحن واثقون برأيه السديد في حركاته وسكناته في المهمّات الشريفة والأشغال السلطانية. ولأجل ذلك قرّبناه، ورضينا به لنا وعلينا، وكلّما بلغنا عنه اعتماد حسن تتضاعف منزلته عندنا. والآن فإنّ نوّاب السلطنة الشريفة وأمراء دولتنا كبيرهم وصغيرهم تحت أمره(7/229)
ومشورته، وما بقي مثل هذه الأيام المباركة والأوقات السعيدة، ولم يبق سوى انتهاز الفرص، واغتنام أوقات السعادة، وهو الحاضر والنائب عنّا في كل ما يحصل من المصالح العائد نفعها على البلاد والعباد. والمبادرة إلى عملها من غير معاودة الآراء الشريفة في كل قضيّة تتّفق له، فإن المسافة بيننا وبينه بعيدة، وتضيع المصلحة في وصول الخطاب وعود الجواب. وقد فوّضنا إليه الرأي في ذلك، والعمل بما تقتضيه المصلحة الحاضرة، في جليل الأمور ودقيقها، فيكون ذلك على خاطره الكريم، ويعمل بمقتضاه. وقد أعدنا مملوكه بهذا الجواب، فيحيط علمه بذلك.
وهذه نسخة مكاتبة في معنى الرضا عن ابن دلغادر «1» التّركماني وغير ذلك:
وتبدى لعلمه الكريم أن مكاتبته الكريمة وردت على يد فلان الدين فلان مملوكه، فوقفنا عليها وعلمنا ما تضمّنته.
فأما ما ذكره في معنى ابن دلغادر، وتكرار كتبه بالتصريح والتّرامي عليه في سؤال الصدقات الشريفة في الرّضا والعفو عنه، فقد علمنا ذلك؛ والذي نعرّف به المقرّ الكريم أنا كنا رسمنا بأن لا يكتب له جواب وردّ كتابه وقاصده؛ ولما تكرر استشفاعه بالمقرّ الكريم، ودخل دخول الحريم، وعرفنا أنه ضاقت عليه الأرض برحبها وأخلص في النّدم، عطفت عليه الصدقات الشريفة بالحنوّ والعفو كرامة(7/230)
للمقرّ الكريم، وإعلاء لشأنه، ورفعا لمكانته ومكانه. ورسمنا للمقرّ الكريم أن يكاتب المذكور بهذا المعنى، ويلتزم على نفسه العفو الشريف، والصّفح المنيف؛ وإيصال أنواع الخير وفوق ما في خاطره من الأمان على نفسه وماله، وغير ذلك. والذي نعرّفه أنه كان جرى على اللسان الشريف الحلف أنه لا بدّ من حضوره إلى الأبواب الشريفة ودوس البساط الشريف، ولا بدّ من تحقيق ذلك لحصول البرّ والخلاص من الحلف الشريف، وقيام الناموس عند القريب والبعيد: ليعلموا أنّ سلطاننا غالب على من تمرّد، ومراحمنا شاملة لمن يلتجيء إلى حرم عفونا الشريف، وأنه قريب منه.
وأما ما ذكره في معنى كشف الصّفقة الفلانية، ووقوع الاختيار على فلان الدين فلان، وما عرضه على الآراء الشريفة من تقريره في ذلك، وبروز المراسيم الشريفة بكتابة مرسومه وتقرير غيره «1» ، فقد علمنا ذلك ورسمنا بتقريره، وكتبنا مرسومه الشريف، وجهّزناه على يد فلان العائد بهذا الجواب الشريف.
وأما ما ذكره من جهة الزاوية المستجدّة بشقحب «2» وتجهيز قائمة متضمّنة بما تدعو الضرورة إليه من تقرير السّماط وأرباب الوظائف، وما عرضه على الآراء الشريفة من كتابة مرسوم شريف مربّع «3» على حكمها، أو بما تقتضيه الآراء الشريفة من زيادة أو نقص، فقد علمنا ذلك ورسمنا به حسب ما اقتضته الآراء الشريفة: من استقرار فلان الدين فلان في الولاية في الثّغر المذكور، فقد علمنا ذلك ورسمنا به، وكتبنا مرسومه الشريف، وجهّزناه على يد العائد بهذا الجواب(7/231)
الشريف. فالمقرّ الكريم يوصيه بحسن السّيرة وترك ما كان عليه.
وأما ما ذكره من جهة خفارة الجهة الفلانية، وما عرضه على الآراء الشريفة:
من إمضاء القائمة المجهّزة بأسماء من قرّره في الخفر المذكور، فقد علمنا ذلك ورسمنا بإمضائه حسب ما قصده المقرّ الكريم.
وأما ما ذكره من جهة فلان المعتقل بقلعة دمشق، ووقوف أولاده وعياله وشكواهم حالهم بعد كشف ما نقل عنه وعدم صحّته وما عرضه على الآراء الشريفة من الإفراج عنه، فقد علمنا ذلك ورسمنا به فيتقدّم أمر المقرّ الكريم بالإفراج عنه.
وأما ما ذكره في معنى ما ورد به كتاب النائب بالرّحبة «1» المحروسة: من الأخبار والمتجدّدات، فقد علمناه وصار على خواطرنا الشريفة.
وأما ما ذكره من وصول قاصدي حاكم الدّربند «2» وحاكم القنيطرة «3» بما على أيديهما وتجهيز ما ورد معهما من الكتب واستئذان الآراء الشريفة على ما نعتمده في أمرهما وفيمن يحضر بعدهما، فقد علمنا ذلك، وكتبنا الجواب عن ذلك، وجهّزناه قرين هذا الجواب الشريف، فيتقدّم باعادتهما إلى مرسلهما. وكذلك يفعل في كلّ من حضر من تلك النواحي إلا في مهمّ شريف على عوائد هممه. وقد أعدنا مملوكه إليه بهذا الجواب الشريف، فيحيط علم المقرّ الكريم بذلك.(7/232)
مكاتبة أخرى- من هذا النمط في معنى أمور مختلفة. وتبدي لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمة وردت على يد المجلس الساميّ الأميريّ فلان. فوقفنا عليها وعلمنا ما تضمّنته على الصّورة التي شرحها.
فأما ما أشار إليه: من وصوله إلى دمشق المحروسة عائدا من الأغوار السعيدة، وأنه وجدها وسائر أعمالها وضواحيها والسواحل والمواني في حرز الأمن والسلامة، فقد علمنا ذلك وحمدنا الله تعالى وشكرناه على ذلك.
وأما ما أشار إليه: من أنه جهّز من متحصّل دار الضرب «1» السعيدة بدمشق المحروسة كذا وكذا مثقالا بمقتضى رسالة وما قصد من إعادة رجعة شريفة بذلك، فقد علمناه ووصل المبلغ المذكور، وكتب به رجعة شريفة على العادة في مثل ذلك، وجهّزت على يد فلان المشار إليه، فيكون ذلك على خاطرة الكريم.
وأما ما ذكره: من أمر النّحاس وقلّته من عدم وصول شيء منه، وأنه لم يوجد منه بعد الجهد سوى مبلغ عشرين قنطارا عند الفرنج، وأمر الفلوس العتق «2» وبقائها، وكثرة الفلوس الجدد «3» ، وقلّة وجود الدّرهم والدّينار، وتوقّف المعايش بسبب ذلك، وما عرضه على الآراء الشريفة إن اقتضت الآراء الشريفة إبطال دار(7/233)
الضرب نحو شهرين إلى أن يحضر نحاس يستعمل، وتخفّ الفلوس ويستصرف ما في أيدي الناس، فقد علمنا ذلك وأجبنا سؤاله فيه. ومرسومنا أن يعمل فيه بما تكون [به] المصلحة عامّة للرعية، وتبطيل دار الضرب مدّة يراها المقرّ الكريم.
وأما ما أشار إليه: من أمر الأمير فلان وما قصده من حسن النظر الشريف في حاله، وما شرحه من ذلك، فقد علمناه على الصّورة التي شرحها، وصار ذلك على الخواطر الشريفة.
وأما ما أشار إليه: من أمر فلان، وما اتّفق من الكشف عليه حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة، وما ادّعي عليه من كذا وكذا، وما كتب عليه من المحاضر وتجهيزها إلى الأبواب الشريفة، وتجهيز المشار إليه إلى الأبواب الشريفة صحبة البريديّ المجهّز في طلبه في أثناء ذلك، فقد علمنا ذلك على الصّورة التي شرحها، وأحاطت العلوم الشريفة به جملة وتفصيلا، وبما اشتملت عليه المحاضر المذكورة، وبقي ذلك على الخواطر الشريفة؛ واقتضت الآراء الشريفة إعادته ومن معه للخلاص من شكاته عند المقرّ الكريم، وقد أعدناهم صحبة من يحضر بهم إلى المقرّ الكريم ليكشف عليه وتنظّم المحاضر وتجهّز.
وأما ما أشار إليه من تجهيز «1» وتعريف الحسبة بالأسعار عن البرّ الفلاني على العادة في ذلك إلى الأبواب الشريفة، فقد علمنا ذلك ووصل ما جهّزة من ذلك، وأحاطت العلوم الشريفة بما اشتمل عليه، وشكرنا همة المقرّ الكريم وسعيد تقدماته، وجميل اعتماداته. وقد أعدنا الأمير فلانا بالجواب الشريف، فيحيط علمه بذلك.
قلت: وعلى ذلك يقاس ما يكتب به إلى سائر النّوّاب بالشام والديار المصرية(7/234)
فمن دونهم ممن جرت العادة بمكاتبته من الأبواب السلطانية في الابتداء والجواب.
المأخذ الثاني (في معرفة أوضاع هذه المكاتبات)
أوّل ما يجب من ذلك معرفة قطع الورق الذي يكتب فيه. وقد سبق في المقالة الثالثة في الكلام على قطع الورق بيان مقادير قطعه، وأنّ من جملتها قطع العادة: وهو القطع الصغير. وفي هذا القطع تكتب عامّة المكاتبات المتقدّمة، مما يكتب به لأرباب السّيوف والأقلام بمصر والشام على اختلاف مقاديرهم، وتباين مراتبهم في الرّفعة والضّعة؛ خلا ما تقدّم ذكره: من أنه كتب إلى والدة السلطان الأشرف «شعبان بن حسين» في قطع الشاميّ الكامل. وقد تقدّم هناك أنّ الكتابة في قطع العادة جملة تكون بقلم الرّقاع. فتكون كتابة جميع هذه المكاتبات به.
ثم أوّل ما يكتب الكاتب في المكاتبة التعريف بالمكتوب إليه: وهو أن يكتب في رأس الدّرج، من وجه الوصل، من أوّله، من الجانب الأيمن «إلى فلان» .
ويكتب على سمته في الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا» . ويكتب في وسطهما على سمتهما التعريف بالعلامة التي تكتب. فإن كانت العلامة الاسم، كتب «الاسم الشريف» . وإن كانت بالأخوّة، كتب «أخوه» . وإن كانت بالوالدية، كتب «والده» . ثم يقلب الدّرج فيكتب على ظاهره عنوان المكاتبة في أسفل ما كتب عليه في رأس الورق باطنا من أوّل عرض الدّرج إلى آخر ألقاب المكتوب إليه. ويقلب الدعاء المبتدأ به في المكاتبة، فيدعو له به في آخر الألقاب. ثم يخلي بياضا ويكتب تعريف المكتوب إليه: من نيابة سلطنة أو ولاية أو اسم أو غير ذلك وتكون الأسطر متقاربة متلاصقة.
فإن كان المكتوب إليه النائب الكافل مثلا، كتب في العنوان: «المقرّ، الكريم، العالي الأميريّ، الكبيريّ» إلى آخر ألقابه. فإذا انتهى إلى آخر الألقاب، كتب «أعز الله تعالى أنصاره» . ثم يترك بياضا ويكتب: «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» بحيث ينتهي آخر كتابة ذلك إلى آخر السطر.(7/235)
وإن كان المكتوب إليه كافل السلطنة بالشام، كتب: «المقرّ الكريم» إلى آخر الألقاب «أعز الله تعالى أنصاره» ثم يترك البياض المذكور؛ ثم يكتب:
«كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس» .
وإن كان المكتوب إليه نائب السلطنة بحلب، كتب: «الجناب الكريم» إلى آخر ألقابه «أعز الله تعالى نصرته» ، ثم يترك بياضا ويكتب: «نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة» .
وإن كان المكتوب إليه نائب الإسكندرية، أو نائب طرابلس، أو نائب حماة، أو نائب صفد، كتب: «الجناب العالي» إلى آخر ألقابهم «ضاعف الله تعالى نعمته» ، ثم يترك بياضا ويكتب: «نائب السلطنة الشريفة بثغر الإسكندرية المحروس» ، أو «نائب السلطنة الشريفة بطرابلس المحروسة» ، أو «نائب السلطنة الشريفة بحماة المحروسة» ، أو «نائب السلطنة الشريفة بصفد المحروسة» . وكذا في البواقي بحسب تعريف كلّ من المكتوب إليهم على ما مر ذكره في مواضعه.
ثم إذا كتب العنوان: فإن كان المكتوب إليه ممن يكتب له «المقرّ الكريم» ، أو «الجناب العالي» ، أو «المجلس العالي» مع الدعاء، ترك من أعلى الدرج ثلاثة أوصال بياضا بالوصل المكتوب في ظاهره العنوان، ثم تكتب البسملة في رأس الوصل الرابع بهامش من الجانب الأيمن.
وإن كان المكتوب إليه ممن يكتب له «المجلس العالي» مع «صدرت» فما دون ذلك، ترك في أعلى الدرج وصلان بياضا فقط. وتكتب البسملة في رأس الوصل الثالث؛ ثم يكتب سطران من أوّل المكاتبة تحت البسملة على سمتها ملاصقا لها؛ ثم يخلى بيت العلامة بياضا ويكتب السطر الثاني على رأس «1» إصبع(7/236)
أو نحوه من أسفل ذلك الوصل؛ ثم يكتب السطر الثالث في الوصل الذي يليه على بعد ثلاثة أصابع معترضات من السطر الثاني، ويؤتى على ذلك إلى آخر المكاتبة.
وقد كانت أوصال الورق في الزمن المتقدّم طويلة: فكان يكتب في كلّ وصل ثلاثة أسطر، وبين كلّ سطرين أكثر من عرض ثلاثة أصابع. أما الآن، فقصرت الأوصال، وصار كلّ وصل لا يسع في الغالب أكثر من سطرين. فإذا انتهى إلى آخر المكاتبة، أخلى بياضا يسيرا، ثم كتب في وسط الوصل: «إن شاء الله تعالى» ثم يكتب: «كتب في كذا من شهر كذا» في سطر، وتحته سنة كذا وكذا في سطر تحته، بينهما قدر إصبعين؛ ثم يكتب المستند بعد تقدير إصبعين. فإن كان بتلقّي كاتب السرّ كتب «حسب المرسوم الشريف» . وعلى ذلك يجري الحكم في جميع ما يكتب في البريد، وهو المختصّ بالأمور السلطانية.
وإن كان من دار العدل بتلقّي كاتب السّرّ أو أحد من كتّاب الدّست، كتب:
«حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته «من دار العدل الشريف» في سطر آخر. وإن كان بقصّة «1» مشمولة بخطّ السلطان، كتب: «حسب الخطّ الشريف» بمقتضى أعلى ذلك. وإن كان بخطّ النائب الكافل، كتب: «بالإشارة العالية الأميريّة العالميّة الفلانية» في سطر، وتحته في سطر آخر «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» . وإن كان بأمر الوزير، كتب: «بالإشارة العالية الأميريّة الوزيرية الفلانية» في سطر، وتحته في سطر آخر «مدبّر الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» . وإن كان الوزير صاحب قلم، كتب «بالإشارة العالية الوزيريّة الصاحبيّة الفلانية، مدبّر الممالك الشريفة الإسلامية، أعلاها الله تعالى» سطرين على نحو ما تقدّم. وإن كان برسالة الدّوادار: فإن كان مقدّم ألف، كتب «برسالة الجناب العالي الأميريّ الكبيريّ الفلانيّ» في سطر، وفي سطر آخر تحته «الدّوادار الناصريّ أو الظاهريّ» ونحو ذلك «ضاعف الله(7/237)
تعالى نعمته» . وإن كان طبلخاناه، كتب بدل الجناب «المجلس» ويدعو له «أدام الله تعالى نعمته» . وإن كان بأمر الإستادار، كتب «بالإشارة العالية الأميريّة الفلانية إستادار الفلانية أعلاها الله تعالى» . وإن كان من ديوان الجيوش المنصورة، كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته «من ديوان الجيوش المنصورة» في سطر آخر. وإن كان من ديوان الخواصّ الشريفة، كتب «حسب المرسوم الشريف من ديوان الخواص الشريفة» على ما تقدّم. وإن كان من الدولة الشريفة: بأن يكون بخط ناظر الدواوين وهو قليل، كتب «حسب المرسوم الشريف من الدولة الشريفة» على نحو ما تقدّم. وقد تقدّم الكلام على المستندات في الجملة، في مقدّمة الكتاب عند الكلام على ديوان الإنشاء.
المقصد الثاني (في المكاتبات العامّة إلى أهل هذه المملكة: وهي المطلقات) «1»
قال في «التعريف» : وأقسامها لا تخرج عن ثمانية أقسام: إلى الوجه القبليّ، وإلى الوجه البحريّ، وإلى عامّة الدّيار المصرية، وإلى بعض البلاد الشامية، وإلى البلاد المصرية والشامية، وإلى الممالك الإسلاميّة وما جاورها، وإلى بعض أولياء الدولة؛ كالأمراء بدمشق أو حلب، وإلى قبائل العرب، أو التّركمان، أو الأكراد أو بعضهم.
قلت: والقاعدة في المطلقات أنه إذا اجتمع في المطلق كبار وصغار، يغلّب حكم الأكبر منهم على الأصغر: تعظيما لأمر الأكابر. فإن كان في المطلق من الألقاب ما تختصّ به الأكابر دون غيرهم، استوفي للكبير ما يختصّ به من الألقاب وأتي بالقدر المشترك فيه بعد ذلك.
ثم المطلقات منها ما يختم. قال في «التعريف» : وهو ما كان لبعض أولياء(7/238)
الدولة إذا كان في سرّ يكتم ولا يراد إظهاره إلا عند الوقوف عليه، فيختم على عادة الكتب. وهذا يكون عنوانه بظاهره كما في غيره من المكاتبات المفردة.
ومنها ما لا يختم، وهو سائر المطلقات. قال في «التعريف» : وعنوانها (مخالف لعنوان) «1» الكتب المفردة للآحاد: فإنّ تلك في ظاهر الورق، وهذه في باطن الورق، فوق وصلين أو ثلاثة، فوق البسملة. ويقال فيها: مثال شريف مطلق إلى الولاة والنّوّاب، أو غير ذلك من نحو ما في الصدر، فيضمّن العنوان ملخّص ما فيه. ثم يقال: على ما شرح فيه، أو حسب ما شرح فيه. ومن قاعدتها أن يصرّح بذكر المكتوب إليهم في المطلق، بخلاف غيرها من المكاتبات المفردة. قال في «التعريف» : ثم بعد التعريف في المطلقات الدعاء، ثم الإفضاء إلى الكلام؛ وفي آخرها يتعيّن أن يقال: «فليعلموا ذلك ويعتمدوه» .
وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب:
الضرب الأوّل (المطلقات المكبّرة)
قال في «التعريف» : وهي ما يكتب إلى سائر النّوّاب بالممالك الشريفة، خلا سيس فإنها مستجدّة، غير أنه إن رسم بإضافته إليهم، فيحتاج إلى تحرير الحال في أمره: هل يكتب له بعد نائب طرابلس أو بعد نائب صفد؟ ولا يمكن أن يكون بعد مقدّم العسكر بغزّة، ولا نائب الكرك، لأن رتبتة في المكاتبة أعلى منهما. فإنها نظير مكاتبة نائب طرابلس وحماة وصفد.
قلت: هذا على ما كان الأمر استقر عليه من كونها نيابة في أوّل الأمر، أما بعد استقرارها تقدمة عسكر، فإنه يكون بعد مقدّم العسكر بغزّة: لأن كلّا منهما مقدّم عسكر، ومقدّم العسكر بغزّة أقدم من مقدّم العسكر بسيس. وأيضا فإن غزّة(7/239)
مضافة إلى دمشق وسيس مضافة إلى حلب، ودمشق أكبر من حلب.
قال في «التثقيف» : وصورة هذا المطلق أن يكتب في الطّرّة «1» : «مثال شريف مطلق إلى الجنابين الكريمين، العاليين، الأميريّين، الكافليّين، الفلانيين، نائبي السلطنة الشريفة بالشام وحلب المحروستين، أعزّ الله تعالى نصرتهما، وإلى الجنابات العالية الأميريّة الفلانية أو الفلانيّ والفلانيّ» على الترتيب. ثم يقال: «نوّاب السلطنة الشريفة بطرابلس وصفد وحماة المحروسات. وإلى الجناب العالي والمجلس العالي الأميريّ الأميريّين الفلانيين أو الفلاني والفلاني، مقدّم العسكر المنصور بغزّة المحروسة، ونائب السلطنة الشريفة بالكرك المحروس، أدام الله تعالى نعمتهما، بما رسم لهم به أن يتقدّم أمرهم الكريم بكذا وكذا ويشرح ما رسم به إلى آخره. ثم يخلي بياضا يسيرا. ثم يكتب «على ما شرح فيه» ويترك ثلاثة أوصال بياضا بالوصل الذي تكتب فيه الطرّة. ثم تكتب البسملة في أعلى الوصل الرابع. ثم يكتب قبل آخره بإصبعين ما صورته: «أعزّ الله تعالى نصرة الجنابين الكريمين! وضاعف وأدام نعمة الجناب العالي، والمجلس العالي، الأميريّة، الكبيرية، العالية، العادلية، المؤيّدية، الزعيمية، الغوثية، الغياثية، المثاغريّة، المرابطيّة، المشيّدية، الظهيرية، الكافلية، الفلانية أو الفلانيّ والفلاني» إلى آخرهم: «أعزّاء الإسلام والمسلمين، سادات الأمراء في العالمين، أنصار الغزاة والمجاهدين، زعماء الجيوش، مقدّمي العساكر، ممهّدي الدّول، مشيّدي الممالك، عمادات الملّة، أعوان الأمة، ظهيري الملوك والسلاطين، سيوف أمير المؤمنين، نوّاب السلطنة الشريفة بالشام وحلب وطرابلس وحماة وصفد المحروسات، ومقدّم العسكر المنصور بغزّة المحروسة، ونائب السلطنة الشريفة بالكرك المحروس» ثم الدعاء لهم بصيغة الجمع. ثم يقال: «صدرت هذه المكاتبة إلى الجنابين(7/240)
الكريمين والجنابات العالية، والمجلس العالي، تهدي إليهم من السلام كذا، وتوضّح لعلمهم الكريم كذا وكذا، فيحيط علمهم الكريم بذلك، والله تعالى يؤيّدهم بمنّه وكرمه» . وتكمّل بالمشيئة وما بعدها. والعلامة «أخوهم» . قال:
في «التثقيف» : وإن أضيف إليهم نائب سيس...... «1» ... في الطرّة والصدر حسب ما تقدّم ذكره.
قال في «التثقيف» : ومما ينبّه عليه أنه قد يكتب تارة إلى بعض هؤلاء النواب ويختصر البعض، بحسب ما تدعو الحاجة إليه، فيكتب كذلك ويختصر منه من رسم باختصاره، ويذكر كلّ واحد منهم في محلّه ومرتبته على الصّورة المتقدّمة من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص. ثم قال: وهذا هو الذي لم يزل الحال مستقرّا عليه حين كانت مكاتبة نائب الشام «الجناب الكريم» نظير نائب حلب. أما الآن حيث استقرت مكاتبته «المقرّ الكريم» . فإنه لا يليق أن يكتب لغيره بألقابه الخاصّة به. وإن اختصرت الألقاب الخاصّة به كان فيه نقص لرتبته؛ فيلزم من ذلك أن يكتب إليه على انفراده، ويكتب المطلق لمن رسم به ممّن عداه من النوّاب المذكورين.
قلت: وقد رأيت في بعض الدساتير كتابة المطلق الشامل لكافل الشام وغيره من النوّاب بعد استقرار مكاتبة نائب الشام بالمقرّ الكريم على صورتين:
الصورة الأولى- أن تستوفى ألقاب المقرّ الكريم بدعائه، ويؤتى بألقابه الخاصّة به، ثم يعطف عليه الجناب الكريم، والجنابات العالية، والمجلس العالي، بالألقاب المشتركة؛ ويميّز ما يمكن تمييزه منها، ويكمّل على نحو ما تقدّم: وذلك بأن يكتب في الطرّة «مثال شريف مطلق إلى كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس، أعز الله تعالى أنصاره، ونوّاب السلطنة الشريفة بحلب،(7/241)
وطرابلس، وحماة، وصفد، ضاعف الله تعالى نعمتهم، ومقدّم العسكر المنصور بغزّة وسيس المحروستين، أدام الله تعالى نعمتهما بما رسم لهم به» إلى آخره. ثم يخلي ثلاثة أوصال، على ما تقدّم؛ ويكتب تلو البسملة في أول الوصل الرابع:
«أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العابديّ، الناسكيّ، الأتابكيّ؛ ونصرة الجناب الكريم، وضاعف وأدام نعمة الجنابات، والمجالس العالية، الأميريّة، الكبيريّة، العالمية، العادلية، المثاغريّة، المرابطية، العونية، الذّخرية، الغياثيّة، الممهّدية، المشيّدية، المقدّمية، الظهيرية، الكافلية، الفلاني والفلاني» إلى آخرهم: «معزّ وعزّ الإسلام والمسلمين، سيّدي الأمراء في العالمين، ناصر ونصرة الغزاة والمجاهدين، زعماء الجيوش أتابك ومقدّمي العساكر، ممهّدي الدول، مشيّدي الممالك، أعوان الأمة، كهوف الملة، ظهراء الملوك والسلاطين، عضد وسيوف أمير المؤمنين، كافل السلطنة الشريفة بالشام المحروس، ونوّاب السلطنة الشريفة بحلب، وطرابلس، وحماة، ومقدّم العسكر بغزّة وسيس؛ ونائب السلطنة الشريفة بالكرك المحروس» ولا زال إلى آخره. «أصدرناها إلى المقرّ والجناب الكريم والجنابات والمجالس العالية، تهدي إليهم من السلام كذا، ومن الثّناء كذا، وتبدي لعلمهم الكريم كذا وكذا. ومرسومنا للمقرّ والجناب الكريم والجنابات والمجالس العالية أن يتقدّموا بكذا وكذا، فيحيط علمهم بذلك» .
الصورة الثانية- أن تكتب الطرّة على ما تقدّم؛ ثم تكتب ألقاب المقرّ إلى آخرها. ثم يقال: «وتبدي لعلمه الكريم وعلم الجناب الكريم والجنابات العالية والمجلس العالي الأميرية الكبيرية» إلى آخر الألقاب «أن الأمر كذا وكذا.
ومرسومنا للمقرّ والجناب الكريمين والجنابات العالية والمجلس العالي أن يتقدّموا بكذا وكذا، فيحيط علمهم بذلك» والعلامة في هذا المطلق «أخوهم» اعتبارا بالعلامة إلى كافل الشام ونائب السلطنة بحلب.(7/242)
[الضرب الثاني]
الضرب الثاني (المطلقات المصغّرة)
وقد ذكر لها في «التعريف» قواعد كليّة، وأشار إلى اختلاف مقاصدها في ضمن الكلام الجمليّ، فقال: وفي كلّها يكتب: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس السامية، الأمراء، الأجلّاء، الأكابر، المجاهدين، المؤيدين، الأنصار، الغزاة، الأنجاد، الأمجاد، أمجاد الإسلام، أشراف الأمراء، أعوان الدولة، عدد الملوك والسلاطين: الولاة، والنوّاب، والشادّين «1» ، والمتصرّفين، بالوجه الفلاني، أو بالديار المصرية، أو بالبلاد الشامية، [أو بالبلاد الفلانية، أو بالديار المصرية والبلاد الشامية] «2» وسائر الممالك الاسلامية» . قال: وقد يزاد في هذا لمقتضيه: «والثّغور والحصون والأطراف المحروسة» . قال: فإذا كان إلى الممالك الاسلامية، قيل «بالديار المصرية، والبلاد الشامية، وسائر الممالك المحروسة، وما جاورها من البلاد الشّرقية، والممالك القانيّة» . وقد تكون إلى جهة الرّوم. فيقال: «وما جاورها من البلاد الروميّة وما يليها» . ثم عقّب ذلك بأن قال: فأما إذا كان إلى بعض أولياء الدولة نظر: فإن كان إلى عامّة أمراء دمشق، قيل: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجالس العالية الأمراء» . وبقية الألقاب من نسبة ما يكتب للمجلس العالي. فإذا انتهى إلى أعضاد الملوك والسلاطين، [أو عضد الملوك والسلاطين ويجوز إطلاق هذا الافراد على الجمع] «3» قال: جماعة الأمراء مقدّمي الألوف، وأمراء الطبلخاناه، وسائر [مجالس الأمراء] «4» أمراء العشرات، ومقدّمي الحلقة «5» المنصورة. وإن كان يكتب إلى حلب أو غيرها من(7/243)
الممالك فبالسامية. وإن كان لأمراء العربان أو التّركمان أو الأكراد، كتب على عادة المطلقات بالسامية، وكتب بعد عدد الملوك والسلاطين «الجماعة الفلانية» أو غير ذلك مما يقتضي التعريف بمن كتب إليه.
أما في «التثقيف» فقد رتّب المطلقات المصغّرة على ستة أصناف:
الصنف الأوّل المطلقات إلى جميع نوّاب القلاع بالمملكة الشامية، أو بالمملكة الحلبيّة.
وصورة ما يكتب إليهم في الطرّة: «مثال شريف مطلق إلى المجالس العالية والسامية الأميريّة، ومجالس الأمراء النوّاب بالقلاع الفلانية المحروسة، أدام الله تعالى نعمتهم بما رسم لهم به من كذا وكذا» إلى آخره. ثم يقال: على ما شرح فيه؛ ثم يخلى وصلان بياضا بوصل الطرّة؛ ثم تكتب البسملة في أعلى الوصل الثالث؛ ثم يكتب بعد البسملة: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجالس العالية والسامية الأميريّة» وبقية ألقابهم. «ومجالس الأمراء الأجلّاء، الأكابر، المجاهدين، المؤيّدين، الأنصار، أمجاد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، أنصار الغزاة والمجاهدين، مقدّمي العساكر، كهوف الملّة، أعوان الأمّة، ظهيري الملوك والسلاطين، النوّاب بالقلاع المنصورة بالمملكة الفلانية المحروسة» . والدعاء إلى آخره «موضحة لعلمهم كذا وكذا. ومرسومنا للمجالس العالية والسامية، ومجالس الأمراء أن يتقدّموا بكذا وكذا، فيحيط علمهم بذلك. والله تعالى يؤيّدهم بمنّه وكرمه» . والعلامة «والدهم» .(7/244)
الصنف الثاني- المطلقات إلى أصاغر نواب القلاع، ممن يكتب إليه بالساميّ بالياء، أو بالسامي بغير ياء، أو بمجلس الأمير.
وصورة ما يكتب إليهم في الطرّة: «مثال شريف مطلق إلى المجالس الساميّة، ومجالس الأمراء النوّاب بالقلاع الفلانية، أو بولاية فلانة وفلانة، أدام الله تعالى علوّهم» بما رسم لهم به نظير ما تقدّم. وبعد البسملة: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس الساميّة، ومجالس الأمراء، الأجلّاء، الأكابر، الغزاة، المجاهدين، المؤيّدين، الأنصار، أمجاد الإسلام، أشراف الأمراء، زيون «1» المجاهدين، عمد الملوك والسلاطين، أو عدد الملوك والسلاطين، النّواب بالقلاع الفلانية المحروسة» حسب ما كتب في الطرّة، والدعاء «يتضمن إعلامهم أن الأمر كذا وكذا ومرسومنا للمجالس الساميّة ومجالس الأمراء أن يتقدّموا بكذا وكذا، فليعلموا ذلك ويعتمدوه ويعلموا بحسبه، والله الموفق بمنّه وكرمه» والعلامة الاسم الشريف.
الصنف الثالث- المطلقات إلى عربان الطاعة «2» بالممالك الشاميّة.
والأمر فيه كما في الصنف الذي قبله. قال في «التثقيف» : فإن كان المطلق إلى طائفة من العربان ممن له عادة بمكاتبة جليلة: بأن تكون العلامة «والده» أو نحو ذلك: كآل مهنّا، وآل فضل، وآل عليّ، وآل مرا، ونحوهم، فإنه تكون صورة ما يكتب في الطرّة: «مثال شريف مطلق إلى جماعة العربان، آل فلان» إلى آخره. وفي الصدر بعد البسملة: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس السامية ومجالس الأمراء» وبقية الألقاب «الكشّاف «3» والولاة والنوّاب بالوجهين(7/245)
القبلي والبحريّ» . ثم الدعاء. ثم يقال: «يتضمّن إعلامهم كذا وكذا» . ثم البقية من نسبة ما تقدّم.
قال في «التثقيف» : وغالبا يفرد الوجه القبليّ بمطلق شريف، والوجه البحريّ بمطلق شريف. قال: وقد تضاف إلى الوجه البحريّ الثّغور. فيقال:
«الكشّاف والولاة والنّواب بالوجه البحريّ والثّغور المحروسة» . قال: وإضافة الثّغور لا تقع إلا نادرا، لا سيما وقد صار ثغر الإسكندرية نيابة لا ولاية. ثم قال:
وفي هذا الوقت قد يتعذّر إضافة نائب الوجه القبليّ مع الولاة في المطلق لارتفاع مكاتبته عنهم بدرجات؛ فيفرد بمثال شريف، ويكتب المطلق إلى بقية الكشّاف والولاة. ثم قال: هذا الذي يظهر.
قلت: ويمكن أن يجمع معهم، بأن يكتب: «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي» إلى آخره. ثم يقال: «صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي» إلى آخره «وتوضّح لعلمه الكريم وعلم المجالس السامية ومجالس الأمراء» إلى آخر ألقابهم «الولاة بالوجه القبلي» أن الأمر كذا وكذا: ويكمل على ما تقدّم.
قال في «التثقيف» : ومما جرت العادة به أن يكتب مطلق شريف إلى الأمراء بالمملكة الطرابلسيّة، أو الحموية، أو الصّفدية وغيرها، عند ولاية نائب السلطنة بتلك المملكة بإعلامهم بذلك؛ فيكتب على هذا الحكم، ولكنه بعنوان بغير طرّة.
قال: وصورته في الصدر بعد البسملة: «مثالنا هذا إلى كلّ واقف عليه من المجالس الساميّة، ومجالس الأمراء الأجلّاء الأكابر» إلى آخر الألقاب، والدعاء «يتضمن إعلامهم كذا وكذا» إلى آخره كما تقدّم، ولكنه لا يصرّح بذكر الولاة والنّواب كما يصرّح بذكر من يكتب إليه المطلق في غير هذه الحالة. والعنوان:
«المجالس السامية ومجالس الأمراء الأجلّاء الأكابر» إلى آخر الألقاب والنّعوت جميعها، والدعاء، والتعريف «أمراء الطبلخانات والعشرات بطرابلس المحروسة، أو بحماة، أو بصفد، أو بغزّة. قال: أما مملكتا الشام وحلب، فإنه(7/246)
لم تجر العادة بكتابة مطلق بولاية نائبهما، بل يكتب إلى أمير حاجب «1» بتلك المملكة بإعلامه بذلك. وأما الكرك: فإنه يكتب إلى والي القلعة به بمثل ذلك.
وكذلك يكتب إلى الحاجب بالإسكندرية مثل ذلك.
وهذان شيئان يجب التنبه لهما.
أحدهما كلّ ما كان من ألقاب المطلقات بصيغة الجمع وهو «2» كأعضاد، فإنه يجوز فيه الإفراد فيقال فيه عضد، وهذا مما نبّه عليه في «التعريف» في الكلام على المطلقات.
الثاني. قال في «التثقيف» : فإن قلت: لأيّ شيء تذكر أسماء الولاة والنّواب والعربان وغيرهم في الصّدر بعد تمام النّعوت وقبل الدعاء، ولا تكتب في صدر المطلقات إلى الأمراء المتقدّمة الذكر عند ولاية النائب بها أو غيره؟ فالجواب أن ذلك في صدر المثال الشريف هو التعريف الذي من عادته أن يكون في العنوان ولا يستغنى عنه فهو قائم مقامه، حيث لا عنوان لذلك المطلق، إنما هو بطرّة لا غير، ولها عنوانات، والتعريف مذكور فيها فلا حاجة إلى ذكره في الصدر. ثم قال: ومن الجماعة «3» من ينازع في ذلك، ويدّعى أنّ ذلك في الطرّة كاف ومغن عن ذكره في الصدر، وقائم مقام التعريف في العنوان. ثم قال: وهو خطأ، وليس بشيء. والأصح ما قلناه.
[الصنف] «4» الرابع- قال في «التثقيف» : إذا كان المطلق في أمر يتعلّق بالديار المصرية والبلاد الشامية، تكون صورته «إلى الكشّاف والولاة والنوّاب(7/247)
والشّادين والمتصرفين بالطّرقات المصرية والبلاد الشامية. وإن كان يتعلق بالبلاد الشامية خاصة، اختصر منه ذكر الطرقات المصرية» .
[الصنف] الخامس- ذكر في «التعريف» أنه يقال في آخر المطلقات بعد فليعلموا ذلك ويعتمدوه: «بعد الخط الشريف» . قال في «التثقيف» ولعل هذا كان في الزمن الذي كان هو مباشرا فيه، أما الآن فإنه لم تجر بذلك عادة، ولم يكتب ذلك في مطلق شريف مكبّر ولا غيره أصلا.
[الصنف] السادس- ذكر في «التثقيف» أنه رأى بخط القاضي ناصر الدين ابن النّشائي أنه كتب مطلقا إلى المجاهدين بمصياف؛ يعني الفداوية «1» صورته:
«يعلم كلّ واقف على مثالنا هذا من المقدّمين الأجلاء الغزاة المجاهدين المؤيّدين الأنصار، الأتابك فلان والأتابك فلان جماعة المجاهدين» ثم الدعاء.
الضرب الثاني (من المطلقات، البرالغ) «2»
بالباء «3» الموحدة والراء المهملة والألف واللام والغين المعجمة جمع برلغ، وهي لفظة تركية معناها المرسوم؛ وعليها جرى عرف كتّاب بلاد الشرق، وقلّ أن(7/248)
تكتب بالديار المصرية، ولذلك لم يتعرّض لها في «التعريف» ولا في «التثقيف» :
وهذه صورة برلغ شريف رأيتها في تذكرة المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في الجزء السادس والأربعين منها، بخط أخيه المقرّ العلائيّ بن فضل الله رحمهما الله تعالى؛ كتب في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» . في عاشر شهر رجب الفرد سنة تسع وعشرين وسبعمائة لتمربغا، الرسول الواصل إلى الديار المصرية، عن القان أبي سعيد صاحب مملكة إيران بالإكرام والمسامحة بما يلزمه. وصورته في أوّل الدرج.
مثال شريف مطلق إلى كافّة من يصل إليه، ويقف عليه، للمجلس الساميّ الأميريّ السيفيّ تمربغا؟؟؟ الرسول، بالطّرخانيّة، وتمكين أصحابه من التردّد إلى الممالك الشريفة الإسلامية، وإكرام حاشيتهم وتسهيل مطلبهم، ومسامحتهم في البيع والشّراء بما طلب من الحقوق على اختلافها، وتحذير من سمع هذه المراسيم المطاعة ثم أقدم على خلافها. وبعد البسملة:
الحمد لله الذي بسط أيدينا الشريفة بالجود، ونصب أبوابنا الشريفة كعبة تهوي إليها أفئدة الوفود، وأطاب مناهلها لكافّة الأمم لتنتابها في الصّدور والورود.
نحمده على نعمة التي كم بلّغت راجيا ما يرجوه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبيضّ بها الوجوه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ندب إلى مكارم الأخلاق بقوله: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» ؛ صلّى الله عليه صلاة تزيد من يقرن الثناء بها تكريما، ثم على آله وصحبه وسلّم تسليما.
وبعد: فإنه لما حضر المجلس الساميّ الأميريّ، الاسفهسلاريّ «1» ، السّيفيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء المقدّمين؛ ناصح الدولتين، ثقة المملكتين؛ فخر الخواصّ المقرّبين، عضد الملوك والسلاطين؛ تمربغا الرسول- أنجح الله تعالى مساعيه، وأوجب الرعاية لمن يراعيه- إلى أبوابنا(7/249)
الشريفة ونور ولائه يسعى بين يديه، وإخلاص نيّته يظهر عليه؛ بلّغ إلينا ما أرسل فيه عن الحضرة الشريفة العالية، السلطانية، العالميّة، العادليّة، الشاهنشاهية، القانيّة، الأوحدية، الولدية، العزيزية، المعظّمية، الملكية، العلائية؛ أبي سعيد بهادر خان «1» - زيدت عظمته- وظهر لنا من كمال صفاته ما رمى البدر التمام بنقصه، ومن حسن تأتّيه في خدمة من أرسله ما يعرف به أنه أرسل حكيما ولم يوصّه؛ وعرض على نظرنا الشريف البرلغ الشريف المكتتب له عن الحضرة الشريفة، السلطان الأعظم، الولد العزيز المعظّم؛ الملك بو سعيد، أعز الله تعالى شأنه بالطّرخانيّة، وما نبّه عليه من مكانته العلية، ورفّه مطالبه من تأكيد الوصيّة؛ ثم رغب إلينا في الكتابة على حكمه إلى كافّة الممالك، وأن يسطّر له منها صحائف حسنات تقضي بها الملوك وترضى بها الملائك؛ فأجرته مراحمنا الشريفة على كرمها المعتاد؛ وأجارته نعمنا الجزيلة وجاورته حيث سار من الأرض أو أقام من البلاد؛ وأجابت صدقاتنا الشريفة بتحقيق المأمول، وأكرمت كتابه بما يستحق أن يكرم به كتاب الرّسول. ومرسومنا إلى كلّ واقف عليه من النّواب والولاة والشادّين والمتصرفين والمباشرين «2» والمتحدّثين وبقية الحكام أجمعين إلى كافة الممالك(7/250)
الشريفة الإسلامية شرقا وغربا، وبعدا وقربا، أيّدهم الله بالتوفيق، ويسّر لهم الطريق، وجعل حسن تلقّيهم الوفود يأتي بهم من كلّ فجّ عميق؛ أن يجرى الأمير الكبير المقرّب تمربغا الرسول على ما ألفه في أبوابنا الشريفة من كرم إكرامه، وفارقنا عليه من توقير جانبه وتوفير احترامه؛ ويفسح لكلّ من يصل من جهته في التردّد إلى هذه الممالك الشريفة، والتردّي بملابس النّعم المطيفة؛ وأن تضاعف له الإعانة والعناية، والمراعاة والرّعاية؛ ولا يطلب أحد منهم في البيع والشّراء، والأخذ والعطاء، بشيء من المقرّرات الدّيوانية، والموجبات السلطانية؛ ولا يؤخذ منهم عليها شيء سواء كان قليلا أو كثيرا، جليلا أو حقيرا؛ ولا يتأوّل عليهم أحد في هذا المرسوم الشريف، ولا يتعدّى حكمه في تصرّف ولا تصريف، بل يقف كلّ واقف عليه عنده، ويعمل به في اليوم وما بعده، ويلحظ منه على من خالفه سيفا مسلولا وعلى من تجاوز حدّه؛ فنحن نحذّر وننذر من سطواتنا الشريفة من سمعه ثم زاغ قلبه عنه، أو من بلغه من لا يفهم مضمونه ثم لا يسأل عمّا هو فربّ حامل كلام إلى من هو أوعى منه؛ فلتكن عيونهم له مراعية ومسامعهم منصتة إلى سماعه بإذن واعية؛ والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه الله تعالى وشرّفه.
المقصد الثالث (من المكاتبات، في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في أوراق الجواز)
وهي المعبّر عنه في زماننا بأوراق الطّريق. قال في «التثقيف» : تكون ورقة الطريق في ثلاثة أوصال في قطع العادة، يكتب في أعلاها سطر واحد، صورته:
«ورقة طريق على يد فلان بن فلان الفلانيّ» لا غير. ثم يخلى بيت العلامة تقدير شبر، ويكتب في بقية ذلك الوصل قبل الوصل الثاني بأربعة أصابع مطبوقة بغير بسملة: «رسم بالأمر الشريف العالي المولويّ السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ- أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرّفه- أن يمكّن فلان الفلانيّ» . وتذكر ألقابه إن(7/251)
كان أميرا، أو معتمّما كبيرا، أو ممن له قدر، أو له ألقاب معهودة أو غير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال «من التوجه إلى جهة قصده والعود. ويحمل على فرس واحد أو أكثر من خيل البريد المنصور من مركز إلى مركز على العادة متوجّها وعائدا» فإن كان متميز المقدار كتب: «ويعامل بالاكرام والاحترام، والرّعاية الوافرة الأقسام؛ فليعتمد ذلك ويعمل بحسبه، من غير عدول عنه بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه» . قال: وما تقدّم من كتابة أنه يمكّن من التوجّه والعود، هو فيما إذا كان عائدا ورسم بتمكينه من العود، وإلا فيكتب «أن يمكّن من التوجّه إلى جهة قصده» . فإن كان قد حضر إلى الأبواب وهو عائد، فالأحسن أن يكتب فيه «أن يمكّن من العود إلى جهة قصده» . وكذا «ويعامل بالإكرام والاحترام» لا يكتب إلا الأمير، أو ذى قدر كبير. فإن كان غيره، كتب [بد] له «مع الوصيّة به ورعايته» ونحو ذلك. وإن رسم له بنفقة، كتب بعد ذكر خيل البريد:
«ويصرف له من النّفقة في كلّ يوم كذا وكذا درهما» خلا الأماكن المرسوم بإبطالها. وذلك أن الطّرقات أماكن لا يصرف فيها شيء الآن، فيحتاج إلى أن تستثنى، وكانت قبل ذلك تعيّن! وهي: بلبيس، وطفيس، وأربد «1» وغيرها. ثم كثرت عن التّعداد، فصار يكتب كذلك. ثم قال: ومما ينبّه عليه أن صاحب ورقة الطريق إن كان من مماليك النوّاب أو رسل أحد من أكابر البلاد، ذكر فيه بعد ذكر ما يليق به من الألقاب: «فلان مملوك فلان أو رسول فلان» . وتذكر ألقاب مخدومة التي كوتب بها اختصارا. وإلا «2» تذكر نعوته على يد من رسم بنفيه،(7/252)
كتب: «أن يمكّن الأمير فلان الدين فلان من التوجّه صحبة فلان البريديّ بالأبواب الشريفة، أو أحد النقباء بالباب الشريف ليوصّله إلى المكان الفلانيّ، ويحمل على كذا وكذا فرسا من خيل البريد المنصور» إن كان قد رسم له بشيء من خيل البريد «ويحمل البريدي على كذا من خيل البريد المنصور» أو «ويحمل النقيب على فرس واحد من خيل الكراء «1» من ولاية إلى ولاية على العادة في ذلك، ويمكّن البريديّ إن كان بريديّا أو النقيب إن كان نقيبا من العود إلى الباب الشريف» . ثم يكمل بنسبة ما تقدّم. وإذا فرغ من صورته، كتب بعد ذلك «إن شاء الله تعالى» ، ثم التاريخ والمستند على العادة.
قال: في «التثقيف» : والمستند «2» في أوراق الطريق أحد ثلاثة أمور: إما خطّ كاتب السر، وهو الغالب. أو رسالة الدّوادار، وهو كثير أيضا. أو إشارة نائب السلطان إن كان ثمّ نائب، وهو نادر. فإن كان بخطّ كاتب السر، كتب على الهامش من الجانب الأيمن سطر واحد يكون آخره يقابل السطر الأول الذي هو رسم بالأمر الشريف، وهو «حسب المرسوم الشريف» . وكذا إن كان بإشارة النائب، كتب سطران على الهامش المذكور آخرهما أيضا يقابل أوّل السطر الأول «بالإشارة العالية» كما تقدّم في الكلام على المستندات في المقالة الثانية «3» قال: وفي هاتين لا يكتب في ذيلهما بعد التاريخ سوى الحسبلة لا غير. وإن كان برسالة الدّوادار، كتب على الهامش «حسب المرسوم الشريف» فقط، وكتب تحت(7/253)
التاريخ سطران هما «رسالة المجلس العالي الأميريّ الفلانيّ فلان الدّوادار المنصوريّ أدام الله تعالى نعمته» ثم الحسبلة.
الجملة الثانية (في نسخ البطائق «1» ، وهي على ضربين)
الضرب الأول (أن تكون البطاقة بعلامة شريفة)
قال في «التثقيف» : وتكون نحو ثلثي وصل من ورق البطائق. قال:
وصورتها أن يكتب في رأس الورق المذكور في الوسط سواء «الاسم الشريف» وتحته ملصقا به من غير بياض سطر واحد كامل من يمين الورق بغير هامش بما يأتي ذكره. ثم يخلى بيت العلامة تقدير أربعة أصابع مطبوقة، ثم تكتب تتمة الكلام أسطرا متلاصقة بنسبة الأوّل، بغير هامش أصلا إلى آخره. والذي يكتب من يمين الورق: «الله الهادي. سرّح الطائر الميمون ورفيقه، هداهما الله تعالى في الساعة الفلانية من اليوم الفلانيّ من الشهر الفلانيّ من سنة كذا وكذا، إلى المجلس الكريم، أو السامي، الأمير فلان والي فلانة، أو نحو ذلك، يعلمه أنّ الأمر كذا وكذا. ومرسومنا له أن يتقدّم بكذا وكذا. فليعلم ذلك ويعتمده، والله الموفّق بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى، حسبنا الله ونعم الوكيل» . والمستند لها «حسب المرسوم الشريف» .
الضرب الثاني (أن تكون بغير علامة)
وصورتها أن يكتب في رأس الورقة في الوسط موضع الاسم: «الله الهادي بكرمه» ، والأسطر متلاصقة بغير هامش، ولا يخلى فيها بيت علامة. وصورة ما(7/254)
يكتب فيها: «المرسوم بالأمر الشريف، العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلاني، أعلاه الله تعالى وصرّفه- أنّ يسرّح هذا الطائر الميمون ورفيقه، هداهما الله تعالى في وقت كذا وكذا» . ويكمّل على حسب ما تقدّم «والله الموفق، حسب المرسوم الشريف، إن شاء الله تعالى» . قال في «التثقيف» : وقد يقتضي الحال نقلها من مكان إلى مكان آخر، مثل أن تنقل من بلبيس إلى قطيا «1» ، فيكتب بعد ذكر المرسوم به: «ويتقدّم بنقل هذه البطاقة إلى فلان الفلانيّ ليعتمد مضمونها ويعمل بحسبها» . فإن كانت منقولة إلى مكان ثالث، كتب بعد ذلك: «ثم ينقلها إلى فلان ليعتمد مضمونها أيضا ويعمل بمقتضاها فيعلم ذلك ويعتمده» . والتتمة حسب ما تقدّم.
الطرف الثالث (في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام
، ومن انطوت عليه ممالكهم ممّن دونهم من الملوك والحكّام المنفردين ببعض البلدان، والأمراء والوزراء وسائر من ضمّه نطاق كلّ مملكة من تلك الممالك، ممّن جرت العادة بمكاتبته عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية، ممن هو مستمرّ المكاتبة أو زالت مكاتبته بزواله: ليقاس عليه من لعله يظهر مظهره) واعلم أن كتّاب الديار المصرية يراعون في المكاتبة إلى كلّ مملكة صورة المكاتبة الواردة عن تلك المملكة في غالب حالها: في الابتداء والخطاب والاختتام وغير ذلك.
وفيه أربعة مقاصد:(7/255)
المقصد الأول (في المكاتبات إلى عظماء ملوك الشّرق
، ومن انطوت عليه كلّ مملكة من ممالكهم، ممن جرت العادة بمكاتبته، وفيه أربعة مهايع)
المهيع الأول (في المكاتبة إلى الملوك والحكّام، ومن جرى مجراهم بمملكة إيران
، وهي مملكة الأكاسرة الصائرة إلى بيت هولاكو من بني جنكزخان) وقد تقدّم في المقالة الثالثة في الكلام على المسالك والممالك ذكر حدود هذه المملكة وقواعدها ومدنها، وإلى من تنسب، ومن ملكها جاهليّة وإسلاما إلى زماننا. والمقصود هنا ذكر المكاتبات فقط، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل.
الجملة الأولى (في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها
، على ما كان الأمر عليه من مبدإ ملك بيت هولاكو وإلى آخر دولة أبي سعيد، وله حالتان)
الحالة الأولى- ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التّركية
، والعداوة بعد قائمة بين ملوك الديار المصرية وبين ملوكها «1» وفيه أسلوبان:
الأسلوب الأوّل- أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن
«بقوّة الله تعالى» ويكون «بقوة الله» سطرا و «تعالى» سطرا؛ ثم يكتب من الجانب الأيسر: «بإقبال دولة السلطان الملك الفلاني» . ويكون «بإقبال دولة» سطرا، وباقي الكلام سطرا ثانيا. ثم يكتب تحت ذلك «كلام فلان» سطرا ثانيا «إلى السلطان فلان» سطرا ثالثا. ثم يؤتى ببعديّة وخطبة، ويؤتى بالمقصود.(7/256)
وطريقهم فيه على التكلّم عن لسان صاحب مصر بنون الجمع، والخطاب لسلطان إيران بميم الجمع الغائب، مضاهاة لمكاتبتهم الواردة عنهم في جميع ذلك.
وهذه نسخة كتاب، كتب به عن السلطان الملك المنصور قلاوون، صاحب الديار المصرية، في جواب كتاب ورد عن السلطان أحمد «1» القان بإيران في زمانه. يذكر فيه أنّه أسلم «2» ، إذ كان أوّل من أسلم من ملوكهم، ويذكر فيه أن أخاه الكبير «3» كان قد عزم على دخول ممالك الديار المصرية قبل موته، وأنه منع ذلك؛ وأنه لا يحب المسارعة إلى القتال، وأن المشير بذلك الشيخ عبد الرحمن «4» : أحد صلحاء بلادهم، وأنه حرّم على عساكره الغارات على البلاد، وتعرّض فيه إلى أمر الجواسيس، وأشار إلى أنّ الاتّفاق فيه صلاح العالم، وأشار إلى أشياء حمّلها لرسله «5» يذكرونها مشافهة، ووقع الجواب عن جميع ذلك على ما(7/257)
سيأتي ذكره في الكتب الواردة على الديار المصرية. وكتب بخط ناصر الدين شافع ابن عليّ بن عباس «1» : أحد كتّاب الإنشاء، في رمضان سنة إحدى وثمانين وستمائة. والتكلّم بنون الجمع، والخطاب بالجمع الغائب كما تقدّم في الأسلوب الأوّل، وهي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقوة الله بإقبال دولة تعالى السلطان الملك المنصور كلام قلاوون إلى السلطان أحمد أما بعد حمد الله الذي أوضح بنا ولنا الحقّ منهاجا، وجاء فجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، والصلاة على سيدنا ونبيّنا محمد الذي فضّله الله على كلّ نبيّ نجّى به أمته وعلى كل نبيّ ناجا، صلاة تنير مادجا؛ فقد وصل الكتاب الكريم، المتلقّى بالتكريم، المشتمل على النّبإ العظيم، من دخوله(7/258)
في الدّين، وخروجه عمن سلف من العشيرة الأقربين؛ ولما فتح هذا الكتاب بهذا الخبر العلم المعلم، والحديث الذي صحّح عند أهل الإسلام إسلامه وأصحّ الحديث ما روي عن مسلم، توجّهت الوجوه بالدعاء إلى الله سبحانه في أن يثبّته على ذلك بالقول الثابت، وأن ينبت حبّ حبّ هذا الدين في قلبه كما أنبت أحسن النّبت من أخشن المنابت؛ وحصل التأمّل للفصل المبتدإ بذكره من حديث إخلاصه في أوّل عنفوان الصّبا إلى الإقرار بالوحدانية، ودخوله في الملّة المحمدية، بالقول والعمل والنيّة؛ فالحمد لله على أن شرح صدره للإسلام، وألهمه شريف هذا الإلهام؛ فحمدنا الله على أن جعلنا من السابقين إلى هذا المقال والمقام، وثبّت أقدامنا في كلّ موقف اجتهاد وجهاد تتزلزل دونه الأقدام.
وأمّا إفضاء النّوبة في الملك وميراثه بعد والده وأخيه الكبير إليه، وإفاضة جلابيب هذه النعمة العظيمة عليه؛ وتوقّله «1» للأسرّة التي طهّرها الله بإيمانه، وأظهرها بسلطانه؛ فلقد أورثها الله من اصطفاه من عباده، وصدّق المبشّرات من كرامة أولياء الله وعبّاده.
وأمّا حكاية الإخوان والأمراء الكبار ومقدّمي العساكر وزعماء البلاد في مجمع فوريلياي «2» الذي ينقدح فيه زند الآراء، وأن كلمتهم اتفقت على ما سبقت به كلمة أخيه الكبير في إنفاذ العساكر إلى هذا الجانب، وأنه قد فكّر فيما اجتمعت عليه آراؤهم، وانتهت إليه أهواؤهم؛ فوجده مخالفا لما في ضميره: إذ قصده الصّلاح، ورأيه الإصلاح؛ وأنه أطفأ تلك النائرة، وسكّن تلك الثائرة؛ فهذا فعل(7/259)
الملك المتّقي، المشفق من قومه على من بقي؛ المفكّر في العواقب، بالرأي الثاقب؛ وإلا فلو تركوا وآراءهم حتّى تحملهم الغرّة، لكانت تكون هذه هي الكرّة؛ لكن هو كمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فلم يوافق قول من ضلّ ولا فعل من غوى.
وأما القول منه إنه لا يحبّ المسارعة، إلى المقارعة، إلا بعد إيضاح المحجّة، وتركيب الحجّة؛ فبانتظامه في سلك الإيمان صارت حجّتنا وحجته متركّبة، على من غدت طواغيته عن سلوك هذه المحجّة متنكّبة، فإن الله سبحانه وتعالى والناس كافّة قد علموا أنّ قيامنا إنما هو لنصرة هذه الملة، وجهادنا واجتهادنا إنما هو لله؛ وحيث قد دخل معنا في الدّين هذا الدّخول، فقد ذهبت الأحقاد وزالت الذّحول «1» ؛ وبارتفاع المنافرة، تحصل المظافرة؛ فالإيمان كالبنيان يشدّ بعضه ببعض، ومن أقام مناره فله أهل بأهل في كل مكان وجيران بجيران بكلّ أرض.
وأما ترتيب هذه الفوائد الجمّة على إذكار شيخ الإسلام قدوة العارفين كمال الدين عبد الرحمن، أعاد الله تعالى من بركاته، فلم ير لوليّ قبله كرامة كهذه الكرامة، والرّجاء ببركته وبركة الصالحين أن تصبح كلّ دار إسلام دار إقامة، حتّى تتمّ شرائط الإيمان، ويعود شمل الإسلام مجتمعا كأحسن ما كان؛ ولا ينكر لمن بكرامته ابتداء هذا التمكين في الوجود، أنّ كلّ حقّ ببركته إلى نصابه يعود.
وأما إنفاذ أقضى القضاة قطب الملة والدين، والأتابك بهاء الدين؛ الموثوق بنقلهما في إبلاغ رسائل هذه البلاغة، فقد حضرا وأعادا كلّ قول حسن من أحوال «2» أحواله، وخطرات خاطره، ومسطّرات «3» ناظره، ومن كلّ ما يشكر(7/260)
ويحمد، ويعنعن حديثهما فيه عن مسند أحمد.
وأما الإشارة إلى أنّ النّفوس إن «1» كانت تتطلّع في إقامة دليل، تستحكم [به] دواعي الودّ الجميل؛ فلينظر إلى ما ظهر من مآثره، في موارد الأمر ومصادره: من العدل والإحسان، بالقلب واللسان، والتقدّم بإصلاح الأوقات «2» ، فهذه صفات من يريد لملكه الدوام؛ فلما ملك عدل، ولم يلتفت إلى لؤم من عدا ولا لوم من عذل.
على أنها وإن كانت من الأفعال الحسنة، والمثوبات التي تستنطق بالدعاء الألسنة؛ فهي واجبات تؤدّى، وهو أكبر من أنه يؤخر غيره أو عليه يقتصر، أوله يدّخر؛ إنما يفتخر الملك العظيم بأن يعطي ممالك وأقاليم وحصون، أو يبذل في تشييد ملكه أعزّ مصون.
وأما تحريمه على العساكر والقراغولات «3» والشحاني «4» بالأطراف التعرّض إلى أحد بالأذى، و [تحتيم] إصفاء موارد الواردين والصادرين من شوائب القذى؛ فمن حين بلغنا تقدّمه بذلك تقدّمنا أيضا بمثله إلى سائر النّوّاب، بالرّحبة وحلب «5» وعينتاب؛ وتقدّمنا إلى مقدّم «6» العساكر بأطراف تلك الممالك، بمثل ذلك؛ وإذا اتحد الإيمان، وانعقدت الأيمان؛ تحتّم إحكام هذه الأحكام، وترتب عليه جميع الأحكام.(7/261)
وأما الجاسوس الفقير الذي أمسك وأطلق وأنّ بسبب من تزيّا من الجواسيس بزيّ الفقراء قتل جماعة من الفقراء الصّلحاء رجما بالظن، فهذا باب من ذلك الجانب (ستروه، وإلى الاطّلاع على الأمور صوّروه؛ فظفر النوّاب منهم بجماعة فرفع عنهم السيف، ولم يكشف ما غطّته خرقة الفقر ولا كيف) «1» وأما الإشارة إلى أن في اتفاق الكلمة (يكون صلاح العالم، وينتظم شمل بني آدم؛ فلا رادّ لمن طرق باب الاتّحاد، ومن جنح للسلّم فما جار ولا حاد؛ ومن ثنى عنانه عن المكافحة، كمن يريد المصافحة للمصالحة) «2» ؛ والصّلح وإن كان سيد الأحكام فلا بدّ من أمور تبنى عليها قواعده، وتعلم من مدلولها فوائده؛ فإن الأمور المسطورة في كتابه (عن كلّيّات لازمة ينعم بها كلّ معنى معلوم) «3» إن تهيأ صلح أو لم، وثمّ أمور لا بدّ أن «4» تحكم، وفي سلكها عقود العهود تنظم؛ قدّ تحمّلها لسان «5» المشافهة التي إذا أوردت أقبلت من «6» معنى دخوله في الدين، وانتظام عقده بسلك المؤمنين؛ وما بسطه من عدل وإحسان، وسيرة مشهورة بكلّ لسان، فالمنّة لله في ذلك فلا يشيبها منه بامتنان؛ وقد أنزل الله تعالى على(7/262)
رسوله صلّى الله عليه وسلّم في حقّ من امتنّ بإسلامه: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ
»
ومن المشافهة أنه قد أعطاه الله من العطاء ما أغناه به عن امتداد الطّرف إلى ما في يد غيره من أرض ومال، فإن حصلت الرغبة في الاتفاق على ذلك فالأمن «2» حاصل؛ فالجواب أنّ ثمّ أمورا متى حصلت عليها الموافقة، تمّت المصاحبة والمصادقة؛ ورأى الله تعالى والناس كيف يكون (إذلال معادينا، وإعزاز مصافينا) «3» ؛ فكم من صاحب وجد حيث لا يوجد الأب والأخ والقرابة، وما تمّ أمر الدين المحمديّ واستحكم في صدر الإسلام إلا بمظافرة الصّحابة؛ فإن كانت له رغبة مصروفة إلى الاتحاد، وحسن الوداد، وجميل الاعتضاد، وكبت الأعداء والأضداد، والاستناد إلى من يشتدّ به الأزر «4» عند الاستناد، فقد فهم المراد «5» ومن المشافهة إذا كانت رغبتنا غير ممتدّة إلى ما في يده من أرض ومال، فلا حاجة إلى إنفاذ المغيرين الذين يؤذون المسلمين بغير فائدة تعود؛ فالجواب أنه لو كفّ كفّ العدوان من هنالك، وخلّي لملوك المسلمين ما لهم من ممالك؛ سكنت الدّهماء، وحقنت الدّماء؛ وما أحقّه بأن لا ينهى عن خلق ويأتي مثله، ولا يأمر بشيء «6» وينسى فعله؛ وقنغرطاب «7» بالرّوم الآن، وبين «8» بلاد في أيديكم خراجها يجبى إليكم، فقد سفك فيها وفتك، وسبى وهتك؛ وباع الأحرار، وأبي إلا التمادي على ذلك «9» والإصرار.(7/263)
ومن المشافهة أنه إن حصل التصميم على أن لا تبطل هذه الإغارات، ولا يقتصر «1» عن هذه الإثارات؛ فتعيّن مكانا يكون فيه اللّقاء، ويعطي الله النصر لمن يشاء؛ فالجواب عن ذلك أن الأماكن التي اتّفق فيها ملتقى الجمعين مرّة ومرّة ومرة قد عاف مواردها من سلف «2» من أولئك القوم، وخاف أن يعادوها فيعادوه مصرع ذلك اليوم؛ ووقت اللّقاء علمه عند الله لا يقدر، وما النصر إلا من عند الله لمن أقدر لا لمن قدر؛ وما «3» نحن ممن ينتظر فلته، ولا ممّن له إلى غير ذلك لفته، وما أمر ساعة النصر إلا كالساعة التي لا تأتي إلا بغته؛ والله تعالى الموفّق لما فيه صلاح هذه الأمة، والقادر على إتمام كلّ خير ونعمه؛ إن شاء الله تعالى. مستهلّ شهر رمضان المعظم قدره، سنة إحدى وثمانين وستمائة. الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه. حسبنا الله ونعم الوكيل.
الأسلوب الثاني (أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطها «بقوّة الله تعالى وميامين الملة المحمدية» )
ويكون «بقوّة الله تعالى» سطرا. و «ميامين الملة المحمدية» سطرا ثانيا. ثم يؤتى ببعديّة وخطبة مختصرة؛ ثم يكتب سطران ببياض من الجانبين، فيهما: «بإقبال دولة السلطان الملك» وباقي الكلام في السطر الثاني. ثم يقال:
«فليعلم السلطان فلان» . ويؤتى على المقصود إلى آخره.
وهذه نسخة كتاب من إنشاء القاضي علاء الدين عليّ بن فتح الدين محمد ابن محيي الدين بن عبد الظاهر «4» ، صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية في(7/264)
جواب كتاب ورد عن السلطان محمود غازان، القان بمملكة إيران، يذكر فيه أنّ جماعة من عساكر البلاد الشاميّة أغاروا على ماردين، وأن الحميّة اقتضت الرّكوب في مقابلة ذلك. وذكر أنه قدّم الرسل بالإنذار. ويذكر فيه أنهم صبروا على تماديهم في غيّهم؛ ويذكر فيه نصرته على العساكر الإسلامية في المرّة السابقة. ويذكر فيه أنه أقام بأطراف البلاد. ولم يدخلها خوف التخريب والفساد. ويذكر فيه جمع العساكر وتهيئة المجانيق وغير ذلك من آلة القتال. ويذكر أنه إذا لم تجر موجبات الصلح كانت دماء المسلمين مطلولة؛ ويذكر إرسال رسله بكتابه ويلتمس التّحف والهدايا، مما كتب به عن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، في المحرّم سنة إحدى وسبعمائة وهي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقوّة الله تعالى وميامين الملّة المحمدية أمّا بعد حمد الله الذي جعلنا من السابقين الأوّلين، الهادين المهتدين؛ التابعين لسنّة سيد المرسلين، بإحسان إلى يوم الدين؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين فضّل الله من سبق منهم إلى الإيمان في كتابه المكنون. فقال سبحانه وتعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
«1» بإقبال دولة السلطان الملك الناصر كلام محمد بن قلاوون.(7/265)
فليعلم السلطان المعظّم محمود غازان «1» أنّ كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام، ورعينا له حقّ القصد فتلقيناه منّا بسلام؛ وتأمّلناه تأمّل المتفهّم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه؛ فألفيناه قد تضمّن مؤاخذات بأمورهم بالمؤاخذة عليها أحرى، معتذرا في التعدّي بما جعله ذنوبا لبعض طالب بها الكلّ، والله تعالى يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى *
«2» أمّا حديث من أغار على ماردين من رجالة بلادنا المتطرّفة وما نسبوه إليهم من الأمور البديعة، والآثام الشّنيعة؛ وقولهم: إنهم أنفوا من تهجّمهم، وغاروا من تقحّمهم؛ واقتضت الحميّة ركوبهم في مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التي أقاموها عذرا في العدوان، وجعلوها سببا إلى ما ارتكبوه من طغيان؛ والجواب عن ذلك أنّ الغارات من الطّرفين [و] لم يحصل من المهادنة والموادعة ما يكفّ يدنا الممتدّة، ولا يفترّ هممها المستعدّة؛ وقد كان آباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والشّقاق، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق؛ ولم يزل ملك ماردين ورعيّته منفّذين ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد عنهم، متولّين كبر نكرهم؛ والله تعالى يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
«3» وحيث جعلتم هذا ذنبا للحميّة الجاهليّة، وحاملا على الانتصار الذي زعمتم أنّ همّتكم به مليّة؛ فقد كان هذا القصد الذي ادّعيتموه يتمّ بالانتقام من أهل تلك الأطراف التي أوجب ذلك فعلها، والاقتصار على أخذ الثار ممن ثار، اتباعا لقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
«4» لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملفّقة على اختلاف الأديان، وتطأوا البقاع الطاهرة بعبدة الصّلبان؛ وتنتهكوا حرمة البيت المقدّس الذي هو ثاني بيت(7/266)
الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ وإن احتججتم بأنّ زمام تلك الغارة بيدنا، وسبب تعدّيهم من سنّتنا؛ فقد أوضحنا الجواب عن ذلك، وأنّ عدم الصّلح والموادعة أوجب سلوك هذه المسالك.
وأما ما ادّعوه من سلوك سنن المرسلين، واقتفاء آثار المتقدّمين، في إنفاذ الرّسل أوّلا، فقد تلمحنا هذه الصّورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات المسطورة؛ والجواب عن ذلك أنّ هؤلاء الرّسل ما وصلوا إلينا إلا وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام السّهام، وشارف القوم، ولم يبق للّقاء إلا يوم أو بعض يوم؛ وأشرعت الأسنّة من الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأى العين؛ وما نحن ممن لاحت له رغبة راغب فتشاغل عنها، ولا ممن يسالم فيقابل ذلك بجفوة النّفار، والله تعالى يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
«1» كيف والكتاب بعنوانه! وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «ما أضمر إنسان شيئا إلا ظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه» . ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسّيوف وادعة في أغمادها، والأسنّة مستكنّة في أعوادها؛ والسّهام غير مفوّقة، والأعنّة غير مطلقة؛ لسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم.
وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم، وأبدوه من غليظ كلمهم؛ في قولهم: فصبرنا على تماديكم في غيّكم، وإخلادكم إلى بغيكم؛ فأيّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحة، قبل إرسال رسل المصالحة؛ وجاس خلال الدّيار، قبل ما زعمه من الإعذار والإنذار؟ وإذا فكّروا في هذه الأسباب، ونظروا ما صدر عنهم من خطاب، علموا العذر في تأخير الجواب، وما يتذكّر إلا أولوا الألباب.
وأمّا ما تبجّحوا به مما اعتقدوه من نصرة، وظنّوه من أنّ الله جعل لهم على حزبه الغالب في كلّ كرة الكرّة؛ فلو تأمّلوا ما ظنّوه ربحا لوجدوه هو الخسران المبين، ولو أنعموا النظر في ذلك لما كانوا به مفتخرين؛ ولتحققوا أنّ الذي اتّفق(7/267)
لهم كان غرما لا غنما، وتدبّروا معنى قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً
«1» ولم يخف عنهم ما نالته السيوف الإسلامية منهم، وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا التي لو كانت مجتمعة عند اللّقاء ما ظهر خبر عنهم؛ فإنا كنّا في مفتتح ملكنا، ومبتدإ أمرنا، حللنا بالشام للنظر في أمور البلاد والعباد؛ فلما تحقّقنا خبركم، وقفونا أثركم؛ بادرنا نقدّ أديم الأرض سيرا، وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضررا وضيرا، ونؤدّي من الجهاد السنّة والفرض، ونعمل بقوله تعالى:
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
«2» فاتفق اللّقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقا بقوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
«3» وإلا فأكابركم يعلمون وقائع الجيوش الإسلاميّة التي كم وطئت موطئا يغيظ الكفّار فكتب لها عمل صالح، وسارت في سبيل الله ففتح عليها أبواب المناجح؛ وتعدّدت أيام نصرتها التي لو دقّقتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم أن تنكروها وفي تعب من ينكر ضوء الشمس، وما زال الله نعم المولى ونعم النصير، وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ الاستظهار وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
«4» ؛ وما زالت تتّفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجري المواقف التي هي بتقدير الله فلا فخر فيها للغالب ولا عار على المغلوب؛ وكم من ملك استظهر عليه ثم نصر، وعاوده التأييد فجبر بعد ما كسر؛ خصوصا ملوك هذا الدّين، فإنّ الله تعالى تكفّل لهم بحسن العقبى فقال تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ*
«5» وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا؛ في كوننا لم نسيّر إليهم رسولا عند ما حلّوا بدمشق، فنحن عندما وصلنا إلى الديار المصرية لم نزد على أن(7/268)
اعتدّينا وجمعنا جيوشنا من كل مكان، وبذلنا في الاستعداد غاية الجهد والإمكان؛ وأنفقنا جزيل الأموال في العساكر والجحافل، ووثقنا بحسن الخلف لقوله تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ
«1» ولمّا خرجنا من الديار المصرية، بلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد؛ فتوقّفنا عن المسير توقّف من أغنى رعبه عن حثّ الركاب، وتثبّتنا تثبّت الراسيات وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ
«2» وبعثنا طائفة من العساكر لمقاتلة من أقام بالبلاد فما لاح لنا منهم بارق ولا ظهر، وتقدّمت فتخطّفت من حمله على التأخّر الغرر، ووصلت إلى الفرات فما وقفت للقوم على أثر.
وأما قولهم: إننا ألقينا في قلوب العساكر والعوامّ أنهم فيما بعد يتلقّونا على حلب أو الفرات، وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا إلى الفرات وإلى حلب مرتقبين؛ فالجواب عن ذلك أنهم من حين بلغنا حركتهم جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا؛ وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ابن عم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواجب الطاعة على كلّ مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل منازع ومسلّم؛ طائعين لله ولرسوله في أداء مفترض الجهاد، باذلين في القيام بما أمرنا الله تعالى غاية الاجتهاد؛ عالمين بأنه لا يتمّ أمر دين ولا دنيا إلا بمشايعته، ومن والاه فقد حفظه الله تعالى وتولّاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذلّه الله؛ فحين وصلنا إلى البلاد الشامية تقدّمت عساكرنا تملأ السّهل والجبل، وتبلّغ بقوّة الله تعالى في النصر الرّجاء والأمل؛ ووصلت أوائلها إلى أطراف حماة وتلك النواحي فلم يقدم أحد منهم عليها، ولا جسر أن يمدّ حتّى ولا الطّرف إليها؛ فلم نزل مقيمين حتّى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء والله لا يخلف الميعاد؛ فعدنا لاستعداد جيوشنا التي لم تزل تندفع في طاعتنا اندفاع السيل،(7/269)
عاملين بقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ
«1» .
وأمّا ما جعلوه عذرا في الإقامة بأطراف البلاد وعدم الإقدام عليها، وأنهم لو فعلوا ذلك ودخلوا بجيوشهم ربما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فسدت أمورها؛ فقد فهم هذا المقصود، ومتى ألفت العباد والبلاد منهم هذا الإشفاق؟
ومتى اتّصفت جيوشهم بهذه الأخلاق؟ وها آثارهم موجودة على ملك آل سلجوق وما تعرّضوا لدار ولا جار، ولا عفّوا أثرا من الآثار؛ ولا حصل لمسلم منهم ضرر، ولا أوذي في ورد ولا صدر؛ وكان أحدهم يشتري قوته بدرهمه وديناره، ويأبى أن تمتدّ إلى أحد من المسلمين يد إضراره؛ هذه سنّة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام.
وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا به عنان قلمهم وأطلقوا؛ وما أبدوا من الاهتمام بجمع عساكرهم وتهيئة المجانيق إلى غير ذلك مما ذكره من التهويل، فالله تعالى يقول: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
«2» .
وأما قولهم: وإلا فدماء المسلمين مطلولة، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن لا يصدر إليهم عن ذلك جواب؛ ومن قصد الصّلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول الذي عليه فيه من جهة الله تعالى ومن جهة رسوله أيّ جناح؟ وكيف يضمر هذه النية، ويتبجّج بهذه الطويّة؟ ولم يخف مواقع زلل هذا القول وخلله، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نيّة المرء أبلغ من عمله» وبأيّ طريق تهدر دماء المسلمين التي من تعرّض إليها يكون الله له في الدنيا والآخرة مطالبا وغريما، ومؤاخذا بقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً
«3» ؟ وإذا كان الأمر كذلك(7/270)
فالبشرى لأهل الإسلام بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الاستعداد، وجمع العساكر التي تكون لها الملائكة الكرام إن شاء الله تعالى من الأنجاد؛ والاستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفّرة العدد، المتكاثرة المدد؛ الموعودة بالنصر الذي يحفّها في الظّعن والإقامة، الواثقة [به] «1» من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على عدوّهم إلى يوم القيامة» . المبلّغة في نصر دين الله آمالا، المستعدة لإجابة داعي الله إذا قال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا
«2» .
وأما رسلهم فلان وفلان فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا؛ وأكرمنا وفادتهم، وغزّرنا لأجل مرسلهم من الإقبال مادّتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا عليهم جوابهم؛ هذا مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم؛ وأنهم ما دفعوا لأفواه الخطوب، إلا لما ارتكبوه من ذنوب؛ وما كان ينبغي أن يرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله، ولا ينتدب لمثل هذا الأمر المهمّ إلا من يجمع على فصل خطابه وفضله.
وأما ما التمسوه من الهدايا والتّحف، فلو قدّموا من هداياهم حسنة لعوّضناهم بأحسن منها، ولو أتحفونا بتحفة، لقابلناها بأجلّ عوض عنها. وقد كان عمّهم الملك أحمد راسل والدنا الشهيد، وناجى بالهدايا والتّحف من مكان بعيد؛ وتقرّب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب؛ وأتى البيوت من أبوابها بحسن الأدب، وتمسّك من الملاطفة بأقوى سبب.
والآن فحيث انتهت الأجوبة إلى حدّها، وأدركت الأنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها؛ فنقول: إذا جنح الملك للسّلم جنحنا لها، وإذا دخل في الملّة المحمدية ممتثلا ما أمر الله تعالى به مجتنبا ما عنه نهى، وانتظم في سلك الإيمان، وتمسك بموجباته تمسّك المتشرف بدخوله فيه لا المنّان، وتجنّب التشبّه بمن قال(7/271)
الله تعالى في حقهم: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ
«1» . وطابق فعله قوله، ورفض الكفّار الذين لا يحلّ له أن يتّخذهم حوله؛ وأرسل إلينا رسولا من جهته يرتّل آيات الصلح ترتيلا، ويروق خطابه وجوابه حتّى يتلو كلّ أحد عند عوده: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا
«2» .
صارت حجّتنا وحجّته مركبة على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك في سائر الممالك؛ ومظافرتنا له تكسب الكافرين هوانا، والشاهد لمصافاتنا مفاد قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
«3» . وينتظم إن شاء الله تعالى شمل المصالح أحسن انتظام، ويحصل التمسك من الموادعة والمظافرة بعروة لا انفصال لها ولا انفصام، وتستقرّ قواعد الصّلح على ما يرضي الله تعالى ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
الحالة الثانية (ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية
«محمد بن قلاوون» إلى أبي سعيد بهادرخان بن خدابندا «4» : آخر ملوك بني هولاكو، ملك إيران) قال في «التعريف» : وهو كتاب يكتب في قطع البغداديّ الكامل؛ يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة الغراء المكتتبة بالذهب المزمّك «5» ، بألقاب سلطاننا على عادة الطغراوات «6» ؛ ثم تكمّل الخطبة وتفتتح ببعديّة إلى أن تساق الألقاب،(7/272)
وهي: «الحضرة الشريفة، العالية، السلطانية الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخويّة، القانية، الفلانية» من غير أن يخلط فيها «الملكيّة» لهوانها عليهم وانحطاطها لديهم ثم يدعى له بالأدعية المعظّمة المفخّمة الملوكية: من إعزاز السلطان ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ونشر الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير الوفود. وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ثم يقال ما فيه التلويح والتصريح بدوام الوداد، وصفاء الاعتقاد، ووصف الأشواق، وكثرة الأتواق، وما هو من هذه النسبة. ثم يؤتى على المقاصد، ويختم بدعاء جليل، وتستعرض المراسيم «1» والخدم، ويوصف التطلع إليها، ويظهر التهافت عليها.
وهذا الكتاب تكتب جميع خطبته وطغراه [وعنوانه] «2» بالذهب المزمّك، وكذلك كلّ ما وقع في أثنائه من اسم جليل، وكلّ ذي شأن نبيل: من اسم لله تعالى، أو لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، أو لأحد من الأنبياء، أو الملائكة عليهم السلام، أو ذكر دين الإسلام، أو ذكر سلطاننا، أو السلطان المكتوب إليه، أو ما هو متعلّق بهما. مثاله «عندنا وعندكم» و «لنا ولكم» و «كتابنا وكتابكم» . كلّ هذا يكتب بالذهب؛ وما سواه يكتب بالسّواد.
فأما العنوان، فهو بهذه الألقاب إلى أن ينتهي إلى اللّقب الخاص، ثم يدعى له بدعوة أو اثنتين، نحو: «أعزّ الله سلطانها، وأعلى شانها» أو نحو ذلك. ثم يسمّى اسم السلطان المكتوب إليه؛ ثم يقال «خان» كما كنا نكتب، فنقول: «بو سعيد بهادرخان» فقط. ويطمغ بالذهب بطمغات «3» عليها ألقاب سلطاننا، تكون على الأوصال، يبدأ بالطّمغة على اليمين في أوّل وصل، ثم على اليسار في ثاني(7/273)
وصل، ثم على هذا النمط إلى أن ينتهي في الآخر إلى اليمين. ولا يطمّغ على الطرّة البيضاء. والكاتب يخلي لمواضع الطمغة مواضع الكتابة، تارة يمنة، وتارة يسرة.
وأوضح ذلك في «التثقيف» وبيّنه، فقال: والمكاتبة إليه في عرض البغداديّ الكامل، والطرّة ثلاثة أوصال، والبسملة ذهب مزمّك بألفات طوال بالمسطرة بخطّ الذهب؛ ثم الخطبة، وأولها «الحمد لله» والسطر الذي يلي البسملة الشريفة وثانية من أوائل الورق زائدان عن بقيّة السطور التي من أول السطر الثالث إلى آخر الكتاب. وبين هذين السطرين المذكورين، (وهو موضع بيت العلامة الشريفة) طرّة ذهب بالألقاب الشريفة؛ ثم بعد هذين السطرين الملاصقين للطرّة المذكورة بقيّة السطور بهامش جيّد في يمين الورق على العادة. وجميع السطور مكملة إلى آخر الورق، لا يخلى فيها للطّمغة مكان. وبعد الخطبة ما يناسب الابتداء إن كان، أو الجواب إلى أن يتصل الكلام بالألقاب، وهي: «الحضرة، الشريفة، العالية، السلطانية، الأعظميّة، العالمية، العادلية، الأكمليّة، القانيّة، الشاهنشاهية، الولديّة، العزيزية، الملكية، الفلانية» . ثم الدعاء. وفي أثناء خطابه «الحضرة الشريفة» تارة، وتارة «الحضرة العالية» والدعاء في أوساطه نحو «زيدت عظمته، ودامت معدلته، وأعلى الله مقامه، وأعزّ الله شانه» . والخطبة جميعها بالذهب المزمّك. وبعدها بالأسود خلا ذكر الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو ما أضيف إليهما، أو ما يعظّم ذكره: كالحق والعدل وأمثالهما، أو كلّ لقب أو نعت، أو كلمة مضافة إلى المكتوب عنه أو المكتوب إليه، أو ضمير فيهما، فإنه بالذّهب.
والعنوان بألقابه كاملة، وفي آخرها الدعاء له من غير توقّف.
قال: وكان قد استقر من أمر العلامة الشريفة أن يكتب على جانب يمين السطرين: الثاني والثالث، وهو مما يلي بيت العلامة «المشتاق محمد» . ثم قال: ورأيت بخط القاضي المرحوم ناصر الدين بن النّشائيّ أنّ ذلك نظير الكتاب الوارد منه في رجب سنة تسع وعشرين وسبعمائة. ثم قال: وقد ذكر في «التعريف»(7/274)
ثلاثة أمور زائدة «1» التنبيه عليها.
أحدها- أنه يذكر تعريفه في العنوان. فيكتب بعد ذكر الاسم «خان» .
فيقال: «بو سعيد بهادرخان» .
ثانيها- أنه تستعمل الطّمغات على الأوصال.
ثالثها- أنه لا يكتب في ألقابه «الملكية» . وذكر أنه لم يكتب لأحد بهذه المكاتبة بعد السلطان أبي سعيد، خلا ما ذكر القاضي ناصر الدين بن النّشائي أنه كتب نظير ذلك بعد أبي سعيد لطغاي تمرخان. قال: ولو كتب بالمغلية كتب في القطع المذكور. أما الملطفات «2» ، ففي قطع الثلث.
وهذه نسخة مكاتبة كتب بها المقرّ الشهابيّ بن فضل الله عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» إلى السلطان أبي سعيد بهادرخان المقدّم ذكره، وهي:
الحمد لله الذي جعلنا بنعمته إخوانا، وجمعنا على طاعته أصولا لا تتفرّق أغصانا؛ نحمده على ما أولانا؛ ونشكره على ما ولّانا، ونرغب إليه في مزيد ألطافه التي شملت أقصانا وأدنانا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة كالشمس لا تدع في الأرض مكانا؛ ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي شيّد بنا لشريعته أركانا، وشدّ بعضنا ببعض لنكون كما شبّهنا به بنانا أو بنيانا؛ صلى الله عليه وعلى آله صلاة لا تتوانى، ورضي الله عن أصحابه والتابعين لهم بإحسان وزادهم إحسانا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن من أعظم المبهجات لدينا، المنهجات لطريق السّرور إلينا،(7/275)
الملهجات بوصف أكرم وارد علينا، هو الكتاب الشريف، بل السّحاب المطيف، بل البحر الذي يقذف دررا، ويقصّ عن السحاب أثرا، ويرفع سررا «1» ، ويطلع قمرا؛ ويطوّل أوضاحا وغررا، ويحدّث عن العجائب خبرا؛ بل ينشر الروض حبرا، ويهبّ الرياح سحرا، ويبرق ذهبه المموّة آصالا وبكرا؛ الصادر عن الحضرة الشريفة العالية السلطانية، الأعظمية، العالميّة، العادلية، الشاهنشاهية، الأخويّة، القانيّة، زادها الله شرفا، وأدام بها تحفا، وصاغ بها لكلّ سمع شنفا، وأيّدها بزائد مزيده حتّى تقول: حسبي وكفى؛ فإنه وصل صحبة المجلس السامي الأمير، الكبير، المقرّب، المجتبى، المرتضى، المختار، شرف الدين، مجد الإسلام، زين الأنام، جمال المقرّبين، مرتضى الملوك والسلاطين، الحاجّ أحمد الأشقر، والشوق إليه شديد، والتطلّع إليه كمثل العيد؛ فقرّبناه إلينا نجيّا، وتلقّينا منه مهديّا؛ وكأنّ السماء ألقت منه حليّا، أو أقلّت كوكبا درّيّا، أو مدّت من المجرّة درجا، وعطفت من مهنّدات البروق خلجا؛ وقدّت من سواد القلوب شطر كلّ سطر فيها، وأغارت مقلة كلّ ريم قام بسواد ناظره يفدّيها؛ وسرّحنا منه الحدق في حدائق، ونفحنا به للحقائب حقائق، واستطلعنا به شموس الافتقاد، واطّلعنا منه على نفوس نفائس الوداد؛ وصادف منّا قلبا صاديا إلى ما يروق من أخباره، وشوقا إلى ما يهبّ من نسيم دياره؛ وتطلّعنا إلى من يرد من رسله الكرام، ويقصّ علينا ما لا يستقصى من مواقع الغمام؛ وعلمنا منه ومما ذكره المقرّب الحاجّ شرف الدين أحمد ما للحضرة الشريفة عليه من نعمة يلتحف بملابسها، ويقتطف من مغارسها؛ وتجري في السّيف رونقا، وتزيّن بالكواكب أفقا، وتجرّ على الكثبان من الشّموس رداء مخلّقا «2» . وأحضرنا الحاجّ شرف الدين أحمد بين أيدينا الشريفة، وشملناه بحسن ملاحظتنا التي زادت تشريفه؛ وكان حضوره وركابنا الشريف يهيجان الصيد المحمود، ونحن نلهج بذكره عند انتهاز كل فرصة في الصّيود؛ وما(7/276)
حصلنا فيه على لذّة ظفر إلا وتمنّينا أن يكون له فيها مشاركة شهود، أو أن يكون حاضرا يرى كيف يسهّل الله لنا بلوغ كلّ مقصود؛ وخرج معنا إلى المصايد، وتفرّج على الصائد؛ ورأى ما حفّ بموكبنا المنصور من ذوات الوبر والجناح، وما سخّر لنا من جياد الخيول من الرّياح؛ فشاهد ما أوتينا من الملك السّليمانيّ في سرعة السير، واختلاف ما جمع لنا من الإنس والوحش والطّير؛ واستغرقت أوقاتنا الشريفة في السؤال عن مزاجه الكريم، وما هو عليه من السّرور المستديم؛ والتأييد الذي انقلب به أولياؤه بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم؛ وتجدّدت المسرّات، بهذه البشائر المسرّات «1» ؛ وأضفنا هذه النعمة إلى ما نحمد الله عليه مما أيّدنا به من النصر والظّفر والتأييد، والنعم التي توالت إلينا ونحن نرجو المزيد؛ ونضاعف الحمد والشكر لله على هذه المواهب التي أطافت بنا بطاقاتها الثمينة، وأنارت في آفاقنا أقمارها المبينة؛ وشملت ملوك الإسلام نعمها من كل جانب، وأشرقت شموسها حتّى ملأت بأنوارها المشارق والمغارب.
وأما ما أتحفت به من البلكات «2» الشريفة فقد وصلت، وتقبّلت وقبّلت؛ وأكرمت لأن مهديها كريم، وأعظمت لأنها تحفة من عظيم؛ وأثنينا عليه بما طاب، وشكر بحرنا الزاخر جود أخيه السّحاب.
وأما الإشارة العالية إلى تقاضي تجهيزة من الملاكمين والسوقات فقد رسمنا بالانتهاء إليه، لأنه لا فرق بيننا وبين أخينا فيما يخصّ مراسمنا جميعا عليه؛ وقد(7/277)
جهّز من الملاكمين والطين المختوم ما أمكن الآن، ومنه ما كنّا رسمنا باستعماله من البلكات باسمه الشريف وتأخر؛ فلما فرغ جهّز معه، وبعد هذا نجهّز من يتوجّه إلى حضرته العالية ليجدّد عهدا، ويؤدّي إليه ودّا؛ وما يتأخر إلا ريثما تنجلي السّحب المتوالية، ويمكن التوصّل سالما إلى حضرته العالية.
وأما غير هذا: فهو أنّ الحاج أحمد أحضر إلينا ورقة كريمة، بل درّة يتيمة؛ بخط يد الحضرة الشريفة فأعجبنا بها، ووجدناها في غاية الحسن التي لا يعدّ زهر الرياض لها مشبها؛ وما رأينا مثل ما كتب فيها، كأن السماء قد نظّمت في سطورها النجوم الزّهر من دراريها؛ فأكرم بيد كتبت سطورا اعترف بها الرّمح للقلم! واستمدّ السّحاب من طروسها الكرم! وجرت بجامد ذهب وسائل دم، وتنافست على إثباتها صحائفه وأقلامه ودويّه والجوّ والبروق والدّيم؛ وطلعت منها تباشير النّجاح، وتحاسد عليها مسك الليل وكافور الصّباح «1» ؛ واتفقت على معنى واحد وقد تنوّعت قسما، وأشرقت فتمنّت السماء أن تكون لها صحيفة والبرق قلما؛ فأرخصت قدر ياقوت «2» في التقليب، وحسّنت بمحاسنها هجران حبيب «3» ؛ لقد أوتيت من الخطّ غاية الكمال، وبسطت يد ابن هلال «4» فيه عن فم ابن هلال؛ فأما الوليّ فإنّه من أوليائها، وأنواؤه مما فاض من إنائها؛ طالما حدّق إليه أبو عليّ «5» فاختطف برقه أباه مقله، وفطن ابن أسد أنه لو أدركه أبوه لنسي شبله؛ فسبحان من صرّف في يمينه القلم بل الأقاليم، ووهبه من أفضل كلّ شيء ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*
«6» .(7/278)
وقد أعيد المقرّب شرف الدين أحمد، وحمل من المشافهات الشريفة ما تفضّ على أخينا عقوده، وتفاض بروده؛ والحضرة الشريفة لا نقطع أخبارها عنّا التي تسرّ بأنبائه، وتسيّر بنجوم سمائه؛ لا زالت مناقبه مسموعة، والقلوب على ما يجمع كلمة الإيمان مجموعة. إن شاء الله تعالى.
تنبيه- أما الملطّفات التي كانت تكتب إلى هذا القان، فقد ذكر في «التثقيف» أنها في قطع الثلث، وكذا ما يكتب به بالمغليّ، فإنه يكون في القطع المذكور أيضا.
الجملة الثانية (في المكاتبات إلى من ملك توريز «1» وبغداد بعد موت أبي سعيد)
قد تقدّم أنه ملك توريز وبغداد بعد السلطان أبي سعيد (موسى خان) ثم محمد بن عبدجي «2» ، ثم الشيخ حسن الكبير، ثم ابنه الشيخ أويس، ثم ابنه حسن، ثم أخوه أحمد. ومنه انتزعها تمرلنك. وذكر في «التثقيف» أنّه ملك بعد أبي سعيد أرفاخان، ثم موسى خان، ثم طغاي تمرخان؛ بعد أن ذكر أنه لم يكتب إلى أحد بعد أبي سعيد بالمكاتبة المتقدّمة. ثم قال: ورأيت بخط القاضي ناصر الدّين بن النّشائي أن مكاتبة طغاي تمرخان كانت نظير مكاتبة أبي سعيد. ثم قال:
وهذا يدل على أنه لم يكاتب بذلك بعد أبي سعيد غير طغاي تمرخان المذكور.
قلت: وقد وقفت على مكاتبة عن الملك الناصر «محمد بن قلاوون» إلى(7/279)
موسى خان المقدّم ذكره من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله، فيما ذكره صاحب «الدّرّ الملتقط» «1» جوابا عن كتاب ورد منه يذكر فيه النّصرة على عدوّ له؛ والقائم بتدبير دولته يومئذ علي باشا. بدأ فيها بعد الافتتاح بآية من القرآن الكريم في معنى النصر بقوله:
«إلى الحضرة الشريفة» إلى آخر الألقاب المناسبة «من أخيه ومحبه» ؛ ثم خطبة بعد ذلك مفتتحة ب «الحمد لله» . ثم «وبعد، فقد ورد الكتاب الشريف» . والخطاب ب «الحضرة الشريفة» . والاختتام بالدعاء. ولا خفاء في أن هذه نحو المكاتبة إلى أبي سعيد، لكني لم أقف على مقدار قطع الورق فيها، ولا صورة الكتاب. وهذه نسختها:
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
«2» .
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
«3» .
إلى الحضرة الشريفة العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، العالميّة، العادليّة، الأوحديّة، الشاهنشاهيّة، القانيّة، الأخوية، الأخ العزيز، الكبير، المعظّم، موسى خان، أعزّ الله سلطانه، وثبّت بسعادة ملكه أوطانه. من أخيه ومحبّه، المخلص في حبّه، الصادق المودّة له في بعده وقربه.
الحمد لله الذي أيّد الإسلام بنصره، وضيّق على أعدائه مجال حصره، وجدّد بتأييده في زمانه ما تتحلّى به أعطاف عصره. نحمده عن الدّين الحنيف على نصرة أضاء لها الوجود بأسره، وأوقعت كلّ خارجيّ على الدّين والملك في قبضة أسره؛ ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يخلص قائلها غاية اجتهاده،(7/280)
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حقّ جهاده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تستقلّ ببشائرها أعباء عباده؛ وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فقد ورد الكتاب الشريف من الحضرة الشريفة العالية، السلطانيّة، القانيّة، أخينا وولدنا العزيز، المؤيّد بالنصر على الأعداء والفتح الوجيز؛ لا زالت دولته الشريفة دائمة الإقبال، متزيّدة تزيّد الهلال، على يد المجلسين الساميين، الأميرين، الكبيرين، عضدي الملوك والسلاطين: «دلنجي، وكراي» أدام الله تعالى عزّتهما- بالبشائر بنصرة الإسلام، وتأييد أخينا على عدوّه الخارجيّ على الدّين والملك. وحمدنا الله تعالى على هذه النّصرة، وتضاعفت بها المسرّة؛ ونحن كنّا خارجين بجميع العساكر والجيوش المنصورة الإسلاميّة، لنتساعد كلّنا على نصرة الإسلام. وما تأخّرنا إلا لمّا جاءت إلينا ممارى «1» الأخبار وما كنا تحقّقناها ثم تحقّقنا بحمد الله تعالى هذه الأخبار؛ وضربنا لها البشائر في سائر الأقطار، وعرفنا بها عناية الله تعالى بأخذ المسلمين بنواصي الكفّار؛ وقيام الجناب الكريم العالي الأمير الكبير النّوين «2» العادل المعظّم علي باشا، أعزّ الله تعالى نصرته في إعادة الحقّ إلى أهله، وصبره على ما سبق به كلّ أحد إلى جميل فعله، واجتهاده في هذا الأمر الاجتهاد الذي ما كان يطلب إلا من مثله؛ وكذلك الجنابات العالية الأمراء النّوينات الأكابر، زيدت سعادتهم! فإنّهم سارعوا إلى ما كان يجب ويتعين عليهم في خدمة سلطانه، ومن هو أحقّ بهم وأولى من عظيم عظم قانهم؛ وما من الأمير النّوين العادل علي باشا وبقية الأمراء الأكابر إلا من قام بما كان عليه من العهود، وبذل اجتهاده حتّى حصل بحمد الله المقصود؛ وما قصّروا في قيامهم حتّى تسلم المستحقّ حقّه وميراثه وما هو أحقّ به وأولى. وهم- جزاهم الله الخير-(7/281)
قد عملوا ما يجب عليهم، وبقي ما يجب على الحضرة الشريفة من الإحسان إليهم.
وأما قول الحضرة الشريفة: إنه مثل ولدنا فهو هكذا مثل الولد وأعزّ من الولد، وكلّ أحد منّا لأخيه في الاتّفاق على المصالح الإسلامية عضد ويد، وذخر وسند؛ وقد سبق من تآلف القلوب ما اشتدّت به الآن أواخيه، وأضحى له منّا شفقة الوالد على الولد وتوقير الأخ لأخيه؛ وقد أعدنا رسله الكرام وحمّلناهم مشافهة ووصية للحضرة الشريفة في أمور تقتضيها مصلحته، فإنه عندنا أعزّ من الولد. وما القصد إلّا الاتفاق على مصالح الإسلام، وما فيه نظام كلمة الوفاق [والوثام] ، فيديم المواصلة بكتبه وأخباره السارّة، والله تعالى يديم مسارّه ويضاعف مبارّه؛ إن شاء الله تعالى.
ولم أقف لهذه المكاتبة على قطع ورق، والظاهر أنها في قطع النصف لما سيأتي أنه الذي عليه الحال في مكاتبة صاحب بغداد وتوريز، فيما بعد إن شاء الله تعالى.
واعلم أن صاحب «التثقيف» قد ذكر أن المكاتبة إلى الشيخ أويس «1» :
صاحب بغداد وتوريز، وابنه حسن بعده في ورق قطع النصف. ورسمها: «أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي، الكبيريّ، السلطانيّ، العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيديّ، المرابطيّ، المنصوريّ، الملكيّ، الفلانيّ» بلقب السلطنة «الفلانيّ» بلقبه الخاص. والدعاء بما يناسبه «أصدرناها إلى المقام الشريف تهدي وتبدي» و «القصد من المقام الشريف» . ويختم بدعاء يناسب، مثل: «أعز الله أنصاره» ونحو ذلك. ومخاطبته ب «المقام الشريف» . والعنوان «المقام الشريف» إلى آخر الألقاب المذكورة. والدعاء «أعز الله تعالى أنصاره» . وتعريفه «فلان بهادرخان» مثل أن يقال: «الشيخ حسن(7/282)
بهادرخان» . والعلامة إليه «أخوه» . قال في «التثقيف» : وكان الشيخ أويس المذكور عند استقراره بتوريز وبغداد يكتب له «المقام العالي» ، ثم كتب له بعد ذلك «المقام الشريف» .
وهذه نسخة مكاتبة كتب بها إلى الشيخ أويس المقدّم ذكره، جوابا عن كتاب ورد منه، من إنشاء القاضي تقيّ الدين ابن ناظر الجيش «1» ، حين كان يكتب إليه «المقام العالي» لابتداء أمره، على ما تقدّم، وهي:
أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، إلى آخر ألقابه، ولا زال الملك زاهرا زاهيا بشرف سلطانه، والفلك يجري بإعزاز قدره، وإحراز نصره، مدى زمانه؛ والفتك منه بالأعداء يسرّ الأولياء من أهل مودّته وإخوانه، وسلك جواهر عقد ولائه منظّما من الإخلاص بجمانه؛ ولا برح مؤيّدا بأنصار الإسلام وأعوانه، مجدّدا سعده الذي يبلّغه جميل أوطاره في جميع أوطانه.
أصدرناها إلى المقام العالي تصف ما لدينا من المحبّة التي ظهر دليلها بواضح برهانه، وتبثّ إلينا مكنون المودّة التي تغنى عن صريح القول وتبيانه؛ وتبدي لعلمه الكريم أن كتابه الكريم ورد على يد فلان رسوله فأقبلنا عليه، وصرفنا وجه الكرامة إليه؛ وعلمنا ما تضمّنه من محبّته وموالاته، ومخالصته ومصافاته؛ وما اشتمل عليه ضميره من صحيح الوداد، وصريح الاتّحاد؛ وجميل الاعتقاد، وجزيل المخالصة التي يتم بها الأمل والمراد. وأن المقام العالي جهز رسوله المشار إليه ليوضّح إلينا ما هو عليه من ذلك، وينهي إلينا أسباب الائتلاف التي عمرت أرجاء الجهتين هنا وهنالك؛ ويبدي ما تحمّله عنه من المشافهات، وتفهّمه من الرسائل والإشارات؛ وقد أحطنا علما بذلك ووصل رسوله المذكور، وتمثّل(7/283)
بمواقف سلطاننا المنصور؛ وشمله إقبالنا الشريف، وإنعامنا المطيف؛ وسمعنا جميع كلامه، وما تحمّله من المشافهة الكريمة من عالي مقامه؛ وشكرنا محبّة المقام العالي وودّه الجميل، وأثنينا على موالاته التي لا نميد عنها ولا نميل، وابتهجنا بسلامة مقامه الجليل. وقد أعدنا فلانا رسوله المذكور بهذا الجواب الشريف، إلى المقام العالي أعزّ الله أنصاره، فيتحف بمكاتباته ومهمّاته، والله تعالى يمدّه بالتأييد في حركاته وسكناته، ويعزّ نصره ويزيد في حياته.
أما المنفرد بتوريز خاصّة، فقد ذكر في «التثقيف» أنّ المكاتبة إلى الأشرف (ابن علاء الدين تمرتاش) الذي كان قد وثب على تبريز خاصّة فملكها، في قطع الثلث بقلم التوقيعات «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميريّ الكبيريّ» وبقية الألقاب والنّعوت، ومنها النّوينيّ. ثم الدعاء. «صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي وتوضّح» والعلامة «أخوه» . وتعريفه «الأشرف بن تمرتاش» .
ثم ذكر أنّ أخي حق الذي وثب عليه وقتله واستولى على تبريز بعده استقرّت مكاتبته كذلك، وأنه كان يكتب في تعريفه «أخي» لا غير. ثم قال: وقد ماتا وبطل ذلك.
(أبو بكر بن خواجا على شاه) وزير صاحب تبريز «الاسم» و «السامي» وتعريفه أبو بكر ابن الخواجا المرحوم علي شاه. قال في «التثقيف» : ولم أعلم وزّر في زمن من من المتولّين.
(عمر بك) أحد أمراء الأشرف بن تمرتاش صاحب تبريز في قطع الثلث، الدعاء «1» و «العالي» والعلامة «أخوه» وتعريفه «عمر بك» . قال في «التثقيف» : وهذا ممن بطل حكمه بزوال مخدومه.(7/284)
الجملة الثالثة (في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه مملكة إيران
، ممن جرت عادته بالمكاتبة عن الأبواب السلطانية، في أيام السلطان أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف)
الصنف الأوّل (كفّال المملكة بحضرة القان، وهم على ضربين)
الضرب الأوّل (كفّال المملكة بالحضرة في زمن القانات العظام كأبي سعيد ومن قبله من ملوكهم حين كانت المملكة على أتم الأبّهة وأعلى الترتيب)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثالثة أنّ القائم بتدبير العسكر لهذه الدولة حين كانت قائمة على نمط القانيّة المتقدّم إلى آخر زمن أبي سعيد أربعة أمراء، يعبّر عنهم بأمراء الألوس «1» ، ويعبّر عن أكبرهم ببكلاري بك بمعنى أمير الأمراء «2» . وربما أطلق عليه أمير الألوس أيضا. والقائم بتدبير الأمور العامّة هو الوزير.
فأما الأمراء المذكورون، فقد كان كلّ من الأمراء الأربعة والوزير يكاتب عن الأبواب الشريفة السلطانية. وقد ذكر في «التعريف» أن المكاتبة إلى بكلاري بك في قطع النصف: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم» . وإلى الثلاثة الذين دونه في قطع الثلث: «أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم» . وأنّه يقال لكلّ من الأربعة «النّوينيّ» . ثم قال: ومثل هذا مكاتبة أرتنا «3» بالرّوم، وأمير(7/285)
التّومان «1» بديار بكر: من سوناي وبنيه وكذلك سائر الأمراء النّوينات: وهم أمراء التّوامين «2» .
والذي ذكره في «التثقيف» أن المكاتبة إلى الشيخ حسن الكبير أمير الألوس كانت على ما استقرّ عليه الحال إلى حين وفاته ببغداد في قطع الثّلث بقلم التوقيعات: «أعزّ الله تعالى أنصار الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الزّعيميّ، العونيّ، الغياثيّ، المثاغريّ، المرابطيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، النّوينيّ، الفلانيّ: عون الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين؛ ممهّد الدّول، عماد الملة، عون الأمة؛ كافي الدولة القانيّة، كافل المملكة الشّرقية؛ آمر التّوامين، أمير الألوس، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين» . والدعاء أربع قرائن أو أكثر: «أصدرناها إلى الجناب الكريم» و «تبدي» و «القصد من الجناب الكريم» . والعلامة «أخوه» . وتعريفه «الشّيخ حسن ألوس بك» .
قال في «التثقيف» : ولما توفي الشيخ حسن المذكور إلى رحمة الله تعالى لم يقم غيره مكانه فيما أظن، ولا كوتب أحد بعده بهذه المكاتبة. قال: والنّوينيّ في ألقاب هؤلاء بدل «الكافليّ» في ألقاب النّوّاب، يعني بالمملكة المصريّة والشاميّة. ثم قال: وهو نعت يستعمل دائما لأهل تلك البلاد، ولا يستعمل الكافليّ أصلا. وهذا عجيب منه! فقد أثبت هو «الكافليّ» في الألقاب التي أوردها في المكاتبة إلى الشيخ حسن الكبير.
وأما الوزير بهذه المملكة فقد ذكر في «التعريف» أن رسم المكاتبة إليه(7/286)
في قطع الثلث «ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ الوزيريّ» على عادة المكاتبات إلى الوزراء بألقاب الوزارة. قال: فإن لم تكن له إمرة، فيقال له «الوزيريّ» ولا يقال له «الصاحبيّ» لهوانها لديهم. ولم يتعرّض في «التثقيف» إلى المكاتبة إلى وزير هذه المملكة، ولا إلى الأمراء الثلاثة الباقين من أمراء الألوس، بل عدل عن ذلك إلى المكاتبة إلى الوزير ببلاد أزبك «1» .
وسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد محيت رسوم تلك المملكة، وعفت آثارها بزوال ترتيب المملكة بموت السلطان أبي سعيد: آخر ملوك بني جنكزخان بهذه المملكة. وإنما ذكرنا ذلك حفظا لما كان الأمر عليه: لاحتمال طروّ مثل ذلك فيما بعد، فينسج ما يأتي على منوال ما مضى، ويجري في المستقبل على منهاج الماضي؛ فالأمور ترتفع ثم تنخفض، وربما انخفضت ثم ارتفعت. والله تعالى يقول: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ
«2» .
الضرب الثاني (كفّال المملكة بالحضرة بعد موت أبي سعيد)
قد ذكر في «التثقيف» منهم جماعة: منهم محمد الكازرونيّ وزكريّا وزيرا الشيخ أويس. وقد ذكر أنّ رسم المكاتبة إلى كلّ منهما في قطع العادة «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الشاميّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، الأوحديّ، المقدّميّ، المنتخبيّ، الفلانيّ؛ مجد الإسلام، بهاء الأنام؛ شرف الرؤساء، أوحد الأعيان؛ صفوة الملوك والسلاطين» . ثم الدعاء. والعلامة «الاسم الشريف» وتعريفه «فلان وزير الشيخ أويس بهادرخان» .(7/287)
ومنهم: الطّواشي مرجان، نائب القان أويس ببغداد، ولقبه أمين الدين بالس. ورسم المكاتبة إليه «والده» و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «خواجا مرجان» .
ومنهم: محمد فلتان، نائب الشيخ أويس أيضا. وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى مرجان. والعلامة «الاسم الشريف» . وتعريفه: «فلتان نائب الشيخ أويس» .
قلت: فإن اتفق أن أقيم لصاحب بغداد: كأحمد بن أويس ومن في معناه مثل هؤلاء، كانت المكاتبة إلى كلّ منهم نظير مثله من المذكورين بحسب ما يقتضيه الحال.
الصنف الثاني (ممّن جرت العادة بمكاتبته بمملكة إيران عن الأبواب السلطانية، صغار الملوك المنفردين ببعض البلدان، والحكّام بها ممن هو بمملكة إيران)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنّ مملكة إيران تشتمل على عدّة من الأقاليم داخلة في حدودها، منتظمة في سلكها. وقد ذكر في «التعريف» جملة من المكاتبات عن الأبواب السّلطانية إلى بعض هؤلاء الملوك. وخالفة في «التثقيف» في بعض المواضع وزاد عليه عدّة مكاتبات. وها أنا أذكر ما ذكراه من ذلك، وأزيد ما اتّفق زيادته مميّزا لكلّ إقليم من أقاليم هذه المملكة بمن فيه من الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم.
فممّن جرت العادة بمكاتبته من الملوك والحكّام بالجزيرة الفراتيّة، مما بين دجلة والفرات من ديار بكر وربيعة ومضر وغيرها على ما تقدّم ذكره في المسالك والممالك في المقالة الثالثة.
صاحب ماردين- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة ذات قلعة(7/288)
حصينة بديار بكر من هذه الجزيرة، وأنها بيد بقايا بني أرتق «1» المستقلّين بملكها من قديم الزمان وإلى الآن.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التعريف» : «أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم العالي، الكبيريّ الملكي الفلانيّ الفلاني» يعني باللّقب الملوكي، واللّقب المضاف إلى الدين؛ مثل «الصّالحي الشّمسي» وما أشبه ذلك. ثم الدعاء. قال في «التثقيف» : ثم يقال: «أصدرناها إلى المقرّ الكريم» ، «وتبدي لعلمه الكريم» . «فيتقدّم أمره الكريم» . ويختم بما صورته «فيحيط علمه الكريم بذلك» . والدعاء. والعلامة «أخوه» . وتعريفه «صاحب ماردين» . وورقه قطع العادة. ثم قال: ويتعيّن أن تكون ألقابه إلى آخر اللقب الملوكيّ سطرين سواء، وأن يكون لقبه العاديّ كالفخريّ مثلا أوّل السطر الثالث.
وقد ذكر في «التعريف» ثلاثة صدور لمكاتبة تتعلّق بصاحبها في زمانه، وهو «الصالح شمس الدّين صالح» .
أحدها- ولا زال ملكا تاجه المدائح، ومنهاجه المنائح، وطريقته إذا وصفت قيل: هذه طريقه الملك الصالح. أصدرناها إليه وشكرها تسوقه إليه حداة الركائب، وتشوق منه إلى لقاء الحبائب؛ وتثني على مكارمه التي كلّما أقلعت منها سحائب أعقبت بسحائب؛ وتوضّح للعلم الكريم.
الثاني- ولا زالت شمسه في قبّة فلكها، وسماء ممالكه مملوءة حرسا شديدا وشهبا بملكها؛ ونعمه تتعب البحار إذا وقفت في طريقها، والغمائم إذا جازت في مسلكها. أصدرناها إليه والسلام متنوّع على كرمه، متضوّع بأطيب من أنفاس(7/289)
المسك في نعمه، متسرّع إليه تسرّع مواهبه إلى وفود حرمه. وتوضّح للعلم الكريم.
الثالث- ولا زالت العفاة تلتحف بنعمائه، وتنتجع مساقط أنوائه، وتستضيء منه بأشرق شمس طلعت من الملك في سمائه؛ أصدرناها وثناؤها يسابق عجلا، ومدائحها تجيد متروّيا ومرتجلا؛ وشكرها لو رصّع مع الجواهر لأقام عذر الياقوت إذا اكتسى خدّه الحمرة خجلا، وتوضّح للعلم الكريم.
قلت: وعلى نمط هذه الصدور يجري الكاتب فيما يكتبه إلى صاحبها مناسبا لحاله ولقبه بحسب ما يقتضيه الحال من المناسبات.
وهذه نسخة كتاب، كتب به إلى الملك «الصالح شرف الدّين محمود بن «1» الصالح صالح» ، جوابا عمّا ورد به كتابه: من وفاة والده المنصور أحمد. نقلتها من مجموع بخطّ القاضي تقيّ الدين ابن ناظر الجيش وهو:
أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم، إلى آخر ألقابه- ولا زال الملك باقيا في بيته الكريم، والفلك جاريا بإظهار شرفه العميم؛ وأعظم له الأجر في أكرم ملك انتقل إلى جنّات النعيم، وهنّأه بما أورثه من ذلك المحلّ الأسنى الذي هو الأولى فيه بالتقديم؛ وضاعف لسلطانه الصالح علوّ جدّه، بما منحه من ملكه الموروث عن المنصور أبيه والصالح جدّه، وبما خصّه من إقبالنا الشريف وإحساننا المستديم. أصدرناها معربة عن الودّ الثابت الصّميم؛ مهنّئة له بقيامه بأمور مملكته التي تجمّلت بمحمود صفاته ومن سلف من أسلافه في الحديث والقديم، مبدية لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمه، ومخاطبته التي فضحت من الدّرّ نظيمه، وردت على أبوابنا الشريفة على يد فلان فأقبلنا عليها، وألفتنا وجه الكرامة إليها، وعلمنا ما تضمّنته من استمساك المقرّ الكريم بأسباب الوداد، وإقتفائه في ذلك سبيل الآباء والأجداد؛ وما شرحه في معنى ما قدّره الله تعالى من وفاة والده طاب ثراه، مستمرّا(7/290)
على الإخلاص في الطاعة الذي لم يكن شانه شين ولا اعتراه؛ وأنه مضى- إن شاء الله تعالى- إلى الجنة وقد خلّف من خلّفه، وارتضى بما نال من الرّضا عما قدّمه من العمل الصالح وأسلفه؛ وما أبداه: من أنه إن اقتضت مراسمنا الشريفة وآراؤنا العالية أن يقوم مقامه، ويرعى في حقوقه ومصالح تلك المملكة ذمامه؛ فنرسم بإجرائه على السّنّة المعتاده، من إحسان بيتنا الشريف الذي بدأ به وأعاده؛ وإلا فتبرز الأوامر الشريفة بمن يسدّ اختلالها، ويسدّد أحوالها، ويشيّد مبانيها ويصلح أعمالها؛ ليقصد المقام الشريف بأبوابنا الشريفة سالكا سبيل الطاعة المبين، منتظما في سلك أوليائنا المقرّبين؛ إلى غير ذلك مما حمّله لأستاد داره من مشافهته، وجميل مقاصده ووافر محبّته وطاعته؛ وقد أحطنا علما بذلك وسمعنا المشافهة المذكورة، وشكرنا محبّته المأثورة، وإخلاصه في الخدمة الشريفة، وجميل الموالاة التي تمنحه تكريمه وتشريفه، واستمساكه بسنّة آبائه الكرام، واجتهاده في المناصحة والطاعة التي لا تسامى من مثله ولا تسام؛ ونحن نعرّف المقرّ الكريم أنّ محلّه ومحلّ بيته الكريم لم يزل لدينا رفيعا مقداره، عاليا مناره؛ وأن مكانته من خواطرنا الشريفة متمكّنة، ومنزلته قد صحّت أحاديثها المعنعنة؛ وهو الأحقّ بمحلّ ملكه، والأولى بأن يكون من نظام عقود ملوكه واسطة سلكه؛ وقد اقتضت آراؤنا العالية أن يقوم مقام والده المرحوم، ويحلّ محلّ هذه السلطنة ليعلو قدره بإقبالنا الشريف على زهر النّجوم، وليجلس بمكانه، وليبسط المعدلة لتكون حلية زمانه، وليستنصر على أعدائنا وأعدائه بأنصار الملك وأعوانه، وليستقرّ على ما هو عليه من المحافظة على الوداد، وليستمسك بعرى الإخلاص المبرّإ من شوائب الانتقاد، وليقتف في ذلك سبيل سلفه الكريم، وليواصل بمكاتباته وأخباره على سننهم القويم؛ وقد أعدنا إستاد داره بهذا الجواب الشريف إليه.
واعلم أنه قد ذكر في «التثقيف» أنّ ممن يكتب إليه عن الأبواب السلطانية من أتباع صاحب ماردين نائبه، وذكر أنه كان اسمه في زمنه «بهادر» . وأن رسم المكاتبة إليه الاسم والسامي بغير ياء؛ وكذلك نائب الصالحيّة من عمل ماردين؛(7/291)
وأنّ رسم المكاتبة إليه الاسم و «مجلس الأمير» . فليجر الكاتب على سنن ذلك إن احتيج إلى مكاتبتهما.
صاحب حصن كيفا- وهي مدينة من ديار بكر من بلاد الجزيرة، بين دجلة والفرات. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك نقلا عن «التعريف» أن صاحبها من بقايا الملوك الأيّوبيّة، وممن تنظر إليه ملوك مصر بعين الإجلال:
لمكان ولائهم القديم لهم، واستمرار الوداد الآن بينهم.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التعريف» : «أدام الله نعمة المجلس العالي، الملكي، الفلاني» باللّقب الملوكي «العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ، الأصيليّ، الفلاني» باللقب المتعارف «عزّ الإسلام والمسلمين، بقيّة الملوك والسلاطين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، شرف الدّول، ذخر الممالك، خليل أمير المؤمنين» . وربّما قيل: «عضد أمير المؤمنين» إذا صغّر.
وذكر في «التثقيف» ما يخالف في بعض ذلك، فقال: إنّ مكاتبته: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ، الفلانيّ» باللّقب الملوكي واللّقب المتعارف.
«عزّ الإسلام والمسلمين، زعيم جيوش الموحّدين. ذخر الملة، سليل الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين» . ثم الدعاء. «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي. «والعلامة» أخوه. وتعريفه «صاحب حصن كيفا» . قال:
والكتابة إليه في قطع العادة.
قد ذكر في «التعريف» صدورا لمكاتبته.
صدر: واستعاد به من الدّهر من عهود سلفه ما تسلّف؛ وحاز له من مواريث الملك أكثر مما خلّى له أوّله وما خلّف، وحطّ للرحال في حصن كيفا به على ملك:
أما المستجير به فيتحصّن وأما فضله فلا يكيّف؛ وأعان السحاب الذي كلّ عن مجاراته ويجري هو ولا يتكلف. أصدرت هذه المكاتبة إليه ونوءها يصوب،(7/292)
ولألاؤها تشقّ به الظلماء الجيوب، وثناؤها على حسن بلائه في طاعة ربّه يقول له:
صبرا صبرا كما تعوّدتم يا آل أيّوب.
صدر آخر: وشدّ به بقيّة البيت، وحيّا طلله البالي وأحيا رسمه الميت؛ وذكر به من زمان سلفه القديم ما لا يعرف فيه هيت، وأبقى منه ملكا من بني أيّوب لا يثني وعده اللّيّ ولا يقال فيه ليت؛ ونوّر الملك بغرّته لا بما قرع السمع عن الشّمع وورد المصابيح من الزّيت، وحفظ منه جوادا لو عينه «1» أخوه السّحاب على السّبق، لقال له: هيهات كم خلّفت مثلك خلفي وخلّيت. أصدرت هذه المكاتبة إليه، أعزّ الله جانبه؛ والتحيّات موشّحة بنطقها «2» ، مصبّحة لسجاياه الكريمة بخلقها، ساحبة إليه ذيل خيلائها: لأنها إذا اختالت به تختال، وبسببه على السّرور تحتال.
ملوك كيلان «3» - قال في «التعريف: وهم جماعة كلّ منهم مستقلّ بنفسه، منفرد بملكه، على ضيق بلادهم وقرب مجاورة بعضهم من بعض. وقد تقدّم الكلام على بلادهم في المسالك والممالك. قال في «التعريف» : ورسلهم قليلة، وكتبهم أقلّ من القليل.
ورسم المكاتبة إلى كلّ منهم على ما ذكره في «التعريف» نحو ما يكتب إلى صاحب حصن كيفا. يعني يكتب لكلّ منهم: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الملكي الفلاني» إلى آخر ما تقدّم هناك. قال في «التعريف» : إلا صاحب يومن «4» فإنه يكتب له ب «الجناب» . وهو مثلهم في بقيّة الألقاب. قال في(7/293)
«التثقيف» : ولم أر لهم مكاتبة، ولا كتب لهم في مدّة مباشرتي بديوان الإنشاء الشريف شيء؛ غير أني رأيت بخطّ المولى القاضي المرحوم زين الدين خضر، أنه كتب أمثلة شريفة إلى جماعة، منهم «حرم الدين» . بيومن، ثم قال: وهذا هو الذي ذكر القاضي شهاب الدين أنّ مكاتبته أعلى مكاتباتهم؛ وأنه يكتب إليه «الجناب» . قال: وما يبعد أن الجماعة الذين كتب إليهم على ما ذكر القاضي زين الدين المشار إليه هم من جملة ملوك كيلان. ثم عدّد من كتب إليه منهم فقال: وهم نوباذ شاه، وسالوك ولده، في قطع العادة.
ورسم المكاتبة إليهما: «خلّد الله تعالى سعادة الجنابين الكريمين، العاليين، الكبيريّين، العادليّين، المجاهديّين، المرابطيين، الملكيين: الشّرفيّ والسّيفيّ» . والدعاء والعلامة «أخوهما» . والعنوان سطران. وتعريفهما: نوباذ شاه وسالوك ولده صاحبا كوحسفا «1» .
ناصر الدّين بهلوان، وشرف الدين شرف الدولة صاحبا لاهجان مثل ذلك سواء.
فلك الدين صاحب دشت كذلك.
حسام الدين صاحب بومن كذلك. ثم قال نقلا عن ابن الزّينيّ خضر أيضا:
وقيل إنّ حسام الدين هذا كان صاحب بومن، وصاحبها الآن أخوه على ما ذكره محمود بن إبراهيم بن اسفندار الكيلاني حين كتب إليهم.
قلت: وهؤلاء هم ملوك كيلان، وهذه مدنهم على ما تقدّم في المسالك والممالك. والعجب كيف وقع الشّك في ذلك من صاحب «التثقيف» حتّى قال:
وما يبعد. وأما التسوية في الآخر بين صاحب بومن وغيره، فيجوز أنّ قدره انحطّ بعد زمن صاحب «التعريف» أو جهل الكاتب الثاني مقداره.(7/294)
صاحب هراة «1» - وهي مدينة من خراسان. قال في «التعريف» : ولا يجري على الألسن الآن إلا صاحب هرى. قال: وكان ملكها الملك غياث الدين. ولم أسمع أعجميّا يقول إلا قياس الدين. وكان ملكا جليلا نبيلا مفخّما معظّما، له مكانة عند الملوك الهولاكوهيّة، ومنزلة رفيعة عليّة. وكان بينه وبين النّوين جوبان مودّة أكيدة وصداقة عظيمة؛ فلما دارت به دوائر الزمان وأفضت به الحال إلى الهرب، لجأ إلى صاحب هرى هذا، على أنه يسهّل له الوصول إلى صاحب الهند؛ أو إلى ملك ما وراء النهر، فأجابه وأنزله، وبسط أمله؛ وأسرّ له الخداع حتّى اطمأنّ إليه، فأصعده إلى قلعته ليضيفه، فصعد ومعه ابنه جلوقان، وهو ابنه من خوندة بنت السلطان خدابندا؛ وجلوقان هذا هو الذي أجيب إلى تزويجه ببنت السلطان الملك الناصر، وعلى هذا تمّت قواعد الصّلح. وبنى جوبان أمره على أنه بعد التزويج يأخذ له ملك بيت هولاكو بشبهة أنه ابن بنت خدابندا؛ وأنه لم يبق بعد أبي سعيد من يرث الملك سواه. ثم يستضيف له ملك مصر والشام بشبهة أنّ بنت صاحب مصر هي التي ترث الملك من أبيها؛ فحالت المنايا دون الأماني.
وحال صعود جوبان وابنه جلوقان القلعة أمسكهما غياث الدّين وخنقهما ليتّخذ وجها بذلك عند أبي سعيد؛ وبعث بذلك إلى أبي سعيد، فشكر له إمساكهما، وأنكر عليه التعجيل في قتلهما؛ فاعتذر بأنّني لو لم أقتلهما لم آمن استعداد من معهما لمحاصرتي؛ فقبل عذره، وطلب منه إبهام «2» جوبان ليعرف أنه قد قتله، وكان فيه زيادة سلعة ظاهرة يعرف بها؛ فجهّزه إليه فأكرم رسله وبعث إليه بالخلع؛ وأمر بإصبع جوبان فطيف بها في الممالك. ثم سألت بغداد خاتون بنت(7/295)
جوبان «1» امرأة أبي سعيد، وكان شديد الكلف بها، في نقل أجسادهما فنقلت؛ فعقدت لهما المآتم؛ ثم أمرت بحملهما إلى مكّة المعظّمة، ثم إلى المدينة المشرّفة ليدفنا في التربة الجوبانيّة التي كان جوبان أعدّها لدفنه في حال حياته؛ فمكّنت من ذلك إلا من الدّفن فإنهما دفنا بالبقيع. ثم حضر غياث الدين حضرة أبي سعيد، فأكرم وأعطي العطايا السنيّة؛ ثم لم يلبث أن مات وولي ابنه. قال: ولم يكن صاحب هذه المملكة ممن يكاتب عن السلطان حتّى كانت واقعة جوبان فكتب إليه.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» : «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم، العالي، العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ الملك الفلانيّ، شرف الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين» . قال في «التثقيف» : ولم أطّلع على ما يكتب إليه سوى ما ذكره القاضي شهاب الدّين بعد واقعة جوبان. قال: والذي يظهر لي أنه لم يكاتب بعد ذلك هو ولا من قام مقامه: لأنه لم تكن له مكاتبة مشهورة متداولة بين الموالي الجماعة، ولا كتب إليه في مدّة مباشرتي شيء. على أنّ القاضي شهاب الدين لم يذكر تعريفه.(7/296)
الحكام بهذه المملكة (من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام بالجزيرة الفراتيّة من هذه المملكة)
الحاكم بشمشاط- وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنّها بلدة من ديار مضر بين آمد وخرت برت. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بشمشاط» .
الحاكم بميّافارقين- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قاعدة ديار بكر.
قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بميّافارقين» .
الحاكم بجيزان- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار بكر.
قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم.
وتعريفه «الحاكم بجيزان» وهو معدود في «التثقيف» في جملة الأكراد.
الحاكم بجزيرة ابن عمر- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة صغيرة على دجلة من غربيّها. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة له الاسم. وتعريفه «الحاكم بجزيرة ابن عمر» .
وذكره في «التثقيف» في جملة الأكراد، وقال: كان بها عزّ الدين أحمد اليخشي.
وذكر أن رسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «أحمد بن سيف الدين اليخشي الحاكم» . واستقرّ بعد وفاته ولده عيسى، وورد كتابه في صفر سنة أربع وستين وسبعمائة، أخبر فيه بوفاة والده استقراره مكانه. على أنه قد ذكر معبّرا عنه بصاحب الجزيرة، وسماه بكلمش. وذكر أن المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
الحاكم بسنجار- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار ربيعة. قال في «التثقيف» : وكان قد كتب لشيخو الحاكم بها مرسوم شريف بأن يكون نائبا بها حسب سؤاله في سنة ثلاث وستين وسبعمائة. قال: وكانت المكاتبة اليه أوّلا الاسم و «مجلس الأمير» وكتب له حينئذ «السامي» بغير ياء.(7/297)
الحاكم بتلّ أعفر- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قلعة بين سنجار والموصل. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة له الاسم وتعريفه «الحاكم بتلّ أعفر» .
الحاكم بالموصل- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قاعدة بلاد الجزيرة كلّها في القديم حيث كانت بيد الجرامقة. قال في «التثقيف» :
والمكاتبة إليه في قطع العادة الاسم، و «صدرت» و «السامي» . وتعريفه «الحاكم بالموصل» . ورأيت في بعض الدساتير أن العلامة استقرّت له «والده» عند استقراره نائب السلطنة بها.
الحاكم بالحديثة- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها بلدة على الفرات.
قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بالحديثة» . وهي غير حديثة الموصل. وهي بلدة شرقيّ دجلة تعدّ في بلاد العراق.
الحاكم بعانة- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها بلدة صغيرة على جزيرة في وسط الفرات. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بعانة» . ورأيت في بعض الدساتير أنّ المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء.
الحاكم بتكريت «1» - وفي «التثقيف» صاحب تكريت. وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من آخر مدن الجزيرة بين دجلة والفرات. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه مثل الحاكم بالموصل، فتكون في قطع العادة.
والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بتكريت» .
الحاكم بقلعة كشاف- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها في الجنوب(7/298)
عن الموصل بين الزّاب والشّطّ، وأنه عدّها في «تقويم البلدان» من بلاد الجزيرة مرّة، ومن عراق العجم أخرى. وأنه أوردها في «التثقيف» بإثبات الألف واللام.
قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه مثل حاكمي عانة والحديثة، فتكون المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. ورأيت في بعض الدساتير أن المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء. وتعريفه «الحاكم بقلعة كشاف» .
الحاكم بإسعرد- وهي سعرت. قد تقدّم في المسالك والممالك أنها مدينة من ديار ربيعة. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» .
وحينئذ فتكون في قطع العادة. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بإسعرد» .
صاحب حاني- ويقال لها حنا. وهي مدينة من ديار بكر. وقد ذكر في «التثقيف» أنّ صاحبها تاج الدين. ورسم المكاتبة إليه الاسم «والسامي» بغير ياء.
من جرت العادة بالمكاتبة إليه بالجانب المختصّ ببني جنكزخان من بلاد الرّوم من مارية وما معها
أرتنا «1» ، الذي كان قائما بهذه البلاد عن بني هولاكو من التّتر. ورسم المكاتبة إليه في قطع الثلث: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزّعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظّهيريّ، النّوينيّ، الفلانيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، كهف الملّة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين» . والدعاء والسلام. والعلامة «أخوه» .
وذكر في «التثقيف» أنه كتب إلى ولده محمد بعده كذلك في قطع الورق(7/299)
والمكاتبة والعلامة. وأنه كتب إلى على بك بن محمد المذكور بعده كذلك، إلا في العلامة فإنه استقرّت له «والده» وكتب تعريفه: «علي بك ابن أرتنا» .
من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام ببلاد العراق
الحاكم بهيت- وعبّر عنه في «التعريف» بصاحب هيت. وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها شماليّ الفرات من أعمال بغداد. قال في «التثقيف» :
ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء؛ وتعريفه «الحاكم بهيت» .
الحاكم بالقنيطرة- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها بلدة بالقرب من مرسى الحلّة. قال في «التثقيف» : والمكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. والعلامة الاسم. وتعريفه «الحاكم بالقنيطرة» . ثم قال: وآخر ما استقرّت مكاتبته عليه «السامي» بغير ياء. وعبّر عنه في موضع آخر «بإبراهيم صاحب القنيطرة» .
وذكر أن المكاتبة إليه الاسم و «السامي» . وأن تعريفه اسمه خاصّة.
من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام ببلاد الجبل (وهي عراق العجم)
الحاكم بإربل «1» - وعبّر عنه في «التثقيف» بصاحب إربل. قال في «التثقيف» : كان بها الشريف علاء الدين علي الدلقندي؛ ثم استقرّ بها الشريف يحيى؛ ثم استقرّ بها عليّ ولده. قال: والمستقرّ بها الآن على ما تحرّر في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أسد الدين أسد. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «الحاكم بإربل» .(7/300)
صاحب قاشان «1» - وسمّاها في «التثقيف» قيشان. ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء.
صاحب باب الحديد «2» - المعروفة عند الترك بتمر قابو. وهي باب الأبواب. قال في «التثقيف» : كان بها كاووس، وكتب إليه جواب في ثاني عشر ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين وسبعمائة أويس «3» في قطع الثلث، والدعاء والعالي. وتعريفه اسمه لا غير.
من جرت العادة بمكاتبته من الحكّام، ببلاد فارس
الحاكم بشيراز- وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها قاعدة بلاد فارس.
قال في «التثقيف» : والمستقرّ بها على ما تحرّر في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، شاه شجاع، أخو شاه ولي. وذكر أنه لم يكتب إليه في مدّة مباشرته من ديوان الإنشاء، ولا وقف على مكاتبة إليه. ثم قال: غير أنه يمكن أن تكون المكاتبة إليه نظير المكاتبة إلى الأشرف تمرتاش المستولي على تبريز؛ فإنه قال:
إنّ شيراز قدر تبريز ونظيرها. فعلى هذا يكون رسم المكاتبة إليه في قطع الثلث:
«ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميريّ، الكبيريّ» وبقيّة الألقاب والنّعوت. ويكون فيها «النّوينيّ» كما في مكاتبة المستولي على تبريز.
من جرت العادة بمكاتبته ببلاد كرمان
صاحب هرمز- قد تقدّم في المسالك والممالك أنّ قاعدة كرمان القديمة السّيرجان وأن هرمز فرضة كرمان، وأنها خرّبها التتر عند خروجهم على تلك البلاد بكثرة الغارات، وانتقل معظم أهلها إلى جزيرة ببحيرة بحر فارس على القرب منها(7/301)
تسمّى وزرون «1» . وقد كتب إلى صاحبها عن سلطان العصر «الملك الناصر فرج» ابن الظاهر برقوق في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة مفاتحة في قطع ... «2» .
من جرت العادة بمكاتبته من بلاد أرمينية وأرّان وأذربيجان
النائب بخلاط من أرمينية- قد تقدّم في المسالك والممالك أنها كانت قاعدة بلاد الكرج. قال في «التثقيف» : ويقال إن حاكمها من الأكراد، واسمه أبو بكر ابن أحمد بن أزبك. ثم قال: ورسم المكاتبة إليه الأسم و «الساميّ» بالياء؛ فيكون في قطع العادة. وتعريفه «النائب بخلاط» .
الحاكم بحصن أرزن- وهي أرزن الرّوم. قال في «التثقيف» : وهو- على ما اتّضح آخرا في رمضان سنة ستّ وسبعين وسبعمائة- علاء الدين عليّ بن قرا. وردت مكاتبته أن صاحب حصن كيفا ابن خاله. ورسم المكاتبة إليه على ما في «التثقيف» مثل صاحب حصن كيفا من غير زيادة ولا نقص. على أنه في «التعريف» قد ذكر أنّ المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. قال في «التثقيف» :
والصحيح ما تقدّم، فإني كتبت إليه بهذه المكاتبة مرّات، وهو المتداول بين الموالي الجماعة إلى آخر وقت. وقد تقدّم في المسالك والممالك أنها في آخر بلاد الرّوم من جهة الشرق.
صاحب بدليس «3» - قد ذكر في «التعريف» أنه كان في زمانه الأمير شرف الدين أبو بكر. وقال: إنه يتّهم بمذهب النّصيريّة. ثم قال: وبلده صغير، ودخله(7/302)
يسير، وعمله ضيّق. وهو طريق المارّة وقصّاد الأبواب السلطانية إلى الأردو إذا لم يكن بالعراق وله خدمة مشكورة. وعدّه في «التثقيف» في جملة الأكراد. قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» أسوة الأمراء. وذكر في «التثقيف» أنه كان بها ضياء الدين أبو الفوارس الروشكي أخو الغرس بالو؛ وأن المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه «صاحب بدليس» . وأنّه استقرّ بعده ولده الرحاح، وكوتب بمثل ذلك سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
صاحب موقان «1» - وهي موغان. وسمّاها في «التثقيف» ميوغان. قال في «التثقيف» : وكان بها محمد شاه بن أمير شاه، وكتب إليه مستجدّا في سنة سبع وستين وسبعمائة «السامي» بغير ياء.
النائب بخرت برت «2» - وهي حصن زياد. ذكره في «التثقيف» من جملة تركمان البلاد الشرقية، وذكر أنّ اسمه يومئذ باليس، وأن رسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. وتعريفه اسمه، ثم قال: وهكذا كان يكتب إلى صاحب خرت برت قبله. ثم ذكر أنه رأى بخط القاضي شهاب الدين بن الصّفديّ أنه استقرّ بها علاء الدين بن خالد المليشكي بعد حسام الدين خربندة، وأن مكاتبته «الساميّ» بالياء.
.(7/303)
الصنف الثالث (ممن يكاتب بهذه المملكة العربان، وهم: عبادة وخفاجة)
وقد تقدّم في الكلام على أنساب العرب أن نسبهما في عامر بن صعصعة من قيس عيلان. وأجلّ من يكتب إليه منهم رسمه «هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الأمير» . على أنّ صاحب التثقيف قد ذكر أنه لم يطّلع على مكاتبة إليهم.
الصنف الرابع (ممن يكاتب بهذه المملكة التّركمان)
قال في «التثقيف» : والأكابر في البلاد الشرقية الذين يكتب إليهم من هذه الطائفة مفردا قليل. أما بقيّتهم من تركمان الطاعة الشريفة، فقد يكتب إليهم عند المهمّات مطلقات شريفة، ثم ذكر جماعة ممن يكتب إليه على انفراد، ولم يعيّن لأحد منهم بلدا ولا رياسة قوم معروفين. وها أنا أذكرهم على ما ذكرهم: ليقاس عليهم لدى تحقّق مقامهم.
منهم: مراد خواجا. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
وتعريفه اسمه.
ومنهم: باكيش الكبير ابن أخي توزطوغان. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه اسمه.
ومنهم: زين الملك توزطوغان. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «مقدّم التّركمان بالبلاد الشرقية» .
ومنهم: علي بن إينال التّركمانيّ من الطائفة البوزقية «1» . ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء وتعريفه اسمه.
ومنهم: يعقوب بن علي شار. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ»(7/304)
بالياء وتعريفه اسمه. قال في «التثقيف» : وقد ذكر القاضي ناصر الدين بن النّشائي أنه كتب إليه كذلك في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.
ومنهم: سالم الدّلكريّ، ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء، وتعريفه اسمه.
واعلم أنه قد تقدّم في الكلام على تركمان البلاد الشامية نقلا عن «التثقيف» أن من طوائف التّركمان الذين هم تحت الطاعة من لم يكتب إليه بعد؛ بل إذا كتب في مهمّ شريف، كتب إلى كلّ طائفة منهم أو إلى سائر الطوائف مطلق شريف. وعدّ منهم طوائف:
الأولى- البوزقية: جماعة ابن دلغادر وابن إينال المقدّم ذكره.
الثانية- أولاد رمضان: الأمريّة.
الثالثة- الأوشريّة: تركمان حلب.
الرابعة- الدلكرية: جماعة سالم الدلكريّ.
الخامسة- الخربندليّة: جماعة مصطفى.
السادسة- الأغاجريّة.
السابعة- الورسق: تركمان طرسوس.
الثامنة- القنقيّة.
التاسعة- البابندريّة: وهم النقيبيّة «1» .
العاشرة- البكرلية «2» : أولاد طشحون.
الحادية عشرة- البياضيّة.
ثم قال: وثمّ جمائع كثيرة لا يمكن استيعابهم.
قلت: فإن كان من هذه الطوائف شيء بهذه البلاد، فحكمه ما تقدّم في الكلام على تركمان البلاد الشامية.(7/305)
الصنف الخامس (ممن يكاتب بهذه المملكة الأكراد)
وقد تقدّم الكلام على طوائفهم ومنازلهم من بلاد الجبال من عراق العجم.
قال في «التعريف» : وهم خلائق لا يحصون، ولولا أن سيف الفتنة بينهم يستحصد قائمهم، وينبّه نائمهم، لفاضوا على البلاد، واستضافوا إليهم الطارف والتّلاد؛ ولكنهم رموا بشتات الرأي وتفرّق الكلمة، لا يزال بينهم سيف مسلول، ودم مطلول، وعقد نظام محلول، وطرف باكية بالدماء مبلول. وهم على ضربين:
الضرب الأوّل (المنسوب منهم إلى بلاد ومقرّات معروفة)
قال في «التعريف» : ولهم رأسان كلّ منهما رجل جليل، ولكلّ منهما عدد غير قليل.
أحدهما- صاحب جولمرك «1» ، من جبال الأكراد من عراق العجم. قال في «التعريف» : وهو الكبير منهما الذي تتّفق طوائف الأكراد مع اختلافها على تعظيمه، والإشارة بأنّه فيهم الملك المطاع والقائد المتّبع. وهو صاحب مملكة متسعة ومدن وقلاع وحصون، وله قبائل وعشائر وأنفار. قال: وهم ينسبون إلى عتبة بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. ثم قال:
وكانت الإمرة قد انتهت فيهم إلى أسد الدّين موسى بن مجلّي بن موسى بن منكلان. وكان رجلا كريما عظيما نهّابا وهّابا، تجلّه ملوك الممالك الجليلة، وتعظّمه حكّام الأردو وصاحب مصر. وإشارته مقبولة عند الجميع. وإذا اقتتلت(7/306)
طائفتان من الأكراد فتقدّم إليهما بالكفّ كفّوا، وسمعوا له سمع [مراع لا سمع] «1» مطيع. وذكر أن القائم فيهم إذ ذاك من بنيه الملك عماد الدين مجلّي: وهو رجل يحبّ أهل العلم والفضل، ويحلّ منهم عنده من أتاه أعظم محل. وقد مضى القول على ذلك مستوفى في الكلام على الأكراد عند ذكر عراق العجم من المسالك والممالك، من المقالة الثانية. قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ» والألقاب التامة الكاملة.
الثاني- صاحب عقرشوش من بلاد الجزيرة. قال في «التعريف» :
وملوكها الآن من أولاد المبارزكك. قال: وكان مبارز الدين كك هذا رجلا شجاعا كريما تغلب عليه [غرائب من] «2» الهوس. فيدّعي أنّه وليّ من الأولياء يقبل النّذور. وكانت تنذر له النذور تقرّبا إليه «3» ؛ فإذا أتاه النذر أضاف إليه مثله [من ماله] «4» وتصدّق بهما جميعا. قال: وأهل هذا البيت يدّعون عراقة الأصل في الإمرة وقدم السّودد والحشمة. ويقولون إنهم عقدت لهم ألوية الإمارة وتسلّموا أزمّة هذه البلاد وتسنّموا صهوات الصيّاصي بمناشير الخلفاء؛ وأنهم كانوا لهم أهل وفاء. ولهم في هذا حكايات كثيرة، وأخبار مأثورة؛ وهم أهل تنعّم ورفاهية ونعمة ظاهرة، وبزّة فاخرة؛ وآدر مزخرفة، ورياض مفوّقة؛ وخيول مسوّمة، وجوارح معلّمة؛ وخدم وغلمان، وجوار حسان؛ ومعازف وقيان، وسماط ممدود وخوان «5» . قال: وموقع بلادهم من أطراف بلادنا قريب، والمدعوّ منهم من الرّحبة وما جاورها يكاد يجيب. ثم قال: وملوكنا تشكر لهم إخلاص نصيحة، وصفاء سريرة صحيحة. وذكر أن القائم فيهم في زمانه شجاع الدين ابن الأمير نجم الدين خضر بن المبارزكك، إلا أنه لم يبلغ مبلغ أبيه، بل «6» لا يقاربه، ولا يدانيه؛ على(7/307)
أنه قد ملك ملكه، ونظّم سلكه. وقد تقدّم الكلام على ذلك أيضا في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» مثل صاحب جولمرك، وهي: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ» . وذكر في «التثقيف» أن المكاتبة كانت إلى خضر بن المبارزكك «صدرت» و «العالي» . والعلامة «أخوه» . وتعريفه «خضر بن المبارزكك» . مع عدم تعريجه على ما في «التعريف» جملة. وقد ذكر في «التثقيف» منهم جماعة سوى من تقدّم ممن هم منهم بالجزيرة، كالحاكم بجزيرة ابن عمر، والحاكم بحاني، وصاحب عقرشوش. ولم يذكر بلاد من ذكره منهم ممن يأتي ذكره منهم ومن كان بكل بلد منهم من أكابرهم وحكّامهم؛ ورسم المكاتبة إليهم على ما ذكره، وهم قسمان:
القسم الأوّل- من علمت المكاتبة إليهم، وهم:
صاحب برخو- وهو يومئذ أمير حسين بن الملك أسد. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء.
صاحب البلهتيّة- قال: وكان بها شمس الدين بن البيليق، ثم استقرّ بعده أخوه أحمد. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء أيضا.
صاحب الدّربنده- وهو سيف الدين أصبر بن أزشير الحسيناني. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء. وتعريفه «أمير أزشير الحسيناني صاحب الدّربنده» .
صاحب كرمليس- وهو سحب «1» مسعود. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.(7/308)
صاحب العماديّة- عماد الدين إسماعيل بن عليّ بن موسى. ورسم المكاتبة إليه «السامي» بغير ياء. وتعريفه «صاحب قلعة العمادية» . وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنهم بالقرب من طائفة الجولمركية. قال في «التثقيف» وكان بها أولاد الحاجّي بن عمر، وردت مطالعته كذلك «الحاجّي بن عمر صاحب العمادية» في سنة أربعين وسبعمائة.
صاحب مازكرد- حسن بن إسماعيل. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
صاحب رندشت- بجبال همذان وشهرزور. وهو عبد الله بن حسام الدين رسلان. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
صاحب جرذقيل «1» - بهاء الدين عمر بن إبراهيم الهكّاريّ. ورسم المكاتبة إليه الاسم و «السامي» بغير ياء.
صاحب سكراك- كرجي بك. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» .
والعلامة الاسم.
صاحب فيلبس «2» - سلطان شاه. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» .
والعلامة الاسم.
صاحب شكوش- أمير أحمد. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» والعلامة الاسم.
صاحب جرموك- «مجلس الأمير» . والعلامة الاسم الشريف.(7/309)
صاحب بهرمان- عبد الصمد. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» .
والعلامة الاسم.
صاحب حصن أرّان- وهو حصن الملك- شجاع الدين خضر بن عيسى الشهريّ. ورسم المكاتبة إليه «مجلس الأمير» والعلامة الاسم.
القسم الثاني- من ذكره في التثقيف ولم يذكر مكاتبته وقال: إنه وقف عليه كذلك؛ وهم:
صاحب خفتيان- تاج الدين أخو باشاك.
صاحب سوبخ- أمير عيسى بن باشاك.
صاحب أكريسنا- ملك بن باشاك.
صاحب يزاكرد- بهاء الدين الزّرزاريّ.
صاحب زاب- فخر الدّين عثمان الزّابي.
صاحب الرسه «1» - شمس الدين بن بهاء الدّين.
صاحب الدّربندات القرابلية- عليّ بن كراقي، تعريفه «صاحب دربند القرابليّ» .
صاحب قلعة الجبلين- حسام الدين بن تاج الدين العامليّ.
صاحب سيدكان- أمير عليّ بن حسام الدين الزّرزاريّ.
صاحب هرور- بهاء الدّين حسن بن عماد الدين.
صاحب رمادان- أمير عبد الله الكركانيّ.
صاحب الشّعبانيّة- حسام الدين أمير مري السبيني.
صاحب نمرية- بهاء الدين.
صاحب سياح- سنقر.(7/310)
صاحب المحمدية- الشيخ محمد.
صاحب كزليك-.
الضرب الثاني (من لم يصرّح له بمكان)
وقد ذكر في «التثقيف» منهم جماعة ممن كان في الزمن المتقدّم، وصرّح بذكر المكاتبة إليهم، فذكر منهم أبو بكر بن المبارزكك الاسم و «السامي» بغير ياء، وتعريفه اسمه.
مبارز الدين عبد العزيز أخوه مثله.
عليّ وعمر ولدا ابن بروحى «1» خليل بن بروحى «2» . ورسم المكاتبة إلى كلّ منهما الاسم و «السامي» بغير ياء.
خالد المليكشي كذلك.
أولاده: محمود وأحمد «مجلس الأمير» .
بهاء الدين بن الغرس بالو- الاسم و «السامي» بغير ياء.
عبد الله الشّهريّ- الاسم و «السامي» بغير ياء.
شجاع الدين خضر بن عيسى الشّهري أخو عبد الله الشّهريّ- الاسم و «السامي» بغير ياء.
مبارز بن عيسى بن حسن السّلاري- الاسم و «السامي» بغير ياء. قال في «التثقيف» : ومكاتبته مستجدّة في العشر الأول من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
خضر بن محمد الهكّاريّ- الاسم و «السامي» بغير ياء. قال: وهو مستجدّ(7/311)
المكاتبة أيضا في العشر الآخر من صفر سنة تسع وستين وسبعمائة.
قلت: فإن اتّفق المكاتبة إلى احد من هؤلاء المجهولي الكتابة أو غيرهم من الأكراد كتب له على قدر مقداره بالنسبة إلى من عملت المكاتبة إليه.
قال في «التعريف» هنا: ومما ينبّه عليه أنّ طرق المارّين، ومسالك المسافرين، من بلادنا إلى خراسان ومنها إلينا يظهر في بعض الأحيان أهل فساد يعمدون إلى عميد يقدّمونه عليهم فيقطعون السّبل، ويخيفون الطّرق، وتطير سمعة عميدهم، وتنتشر في قريبهم وبعيدهم؛ فيكاتب ذلك العميد من أبواب الملوك، ويضطرّ إليه لفتح الطريق بالسّلوك؛ ويكون من غير بيت الإمرة، وربّما هوى نجمه، فانقطع بانقطاع عمره اسمه؛ مثل الجملوك الخارج بطريق خراسان، والغرس بالو الخارج فيما يقارب بلاد شهرزور، ومثل الخارجين على دربند القرابلي. قال: وهؤلاء وأمثالهم يطلعون طلوع الكمأة لا أصل ممتدّ، ولا فرع مشتدّ؛ فهؤلاء لا يعرف لأحد منهم رتبة محفوظة، ولا قانون في رسم المكاتبة معروف؛ وإنما الشأن فيما يكتب إلى هؤلاء بحسب الاحتياج وقدر ما يعرف لهم من اشتداد الساعد، وعدد المساعد. قال: ولقد كتبنا إلى كلّ من الجملوك والغرس بالو، بالساميّ بالياء، وجهّزت إليهما الخلع وأتحفا بالتّحف.
الصنف السادس (ممن يكاتب بمملكة إيران أرباب الأقلام)
ذكر في «التثقيف» أنه كتب إلى مجد الدين أخي الوزير غياث الدين: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الصاحبيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، الكافليّ، الماجدّي، الزّيني، الأميريّ، الأوحديّ، المعظّميّ، الذّخريّ، المجاهديّ» . قال في «التثقيف» : هذا ما وجدته بخطّ القاضي ناصر الدين بن النشائي؛ ولم يذكر تعريفه ولا العلامة إليه. وكتب إلى علاء الدين صاحب الديوان مثله. والعلامة إليه «أخوه» . قال في «التثقيف» : هكذا وجدته في خطّ ابن النّشائيّ ولم يذكر تعريفه.(7/312)
الوزير شمس الدين- قال في «التثقيف» : نقلت من خطّ القاضي شهاب الدين بن الخضر أن مكاتبته في قطع العادة الاسم و «الساميّ الأميريّ الشريفيّ الحسيبيّ النسيبيّ» . وبقية الألقاب. ولم يكتب له «الصحابيّ» ولا «الوزيريّ» .
قال: ولم يذكر شيئا غير هذا. ثم قال: ولا أعلم لمن وزّر المذكور، ولا من أيّ بلاد الشرق.
ضاء الدين صاحب الديوان- المكاتبة إليه حسب ما نقله في «التثقيف» عن خط ابن الخضر أيضا الاسم و «السامي الأمير الأجلّ» . وذكر أنه كتب إليه على يد سراج الدين قاضي قيساريّة. قال في «التثقيف» : وعلى هذا أنّ ضياء الدين هذا من من أهل المملكة الرّومية.
معين الدين صاحب الديوان- مثله.
الصنف السابع (ممن يكاتب بمملكة إيران أكابر المشايخ والصّلحاء)
قد ذكر في «التثقيف» ممن كوتب من مشايخ هذه البلاد ثلاثة مشايخ. فنحن نذكرهم ليقاس عليهم، ولئلّا يهمل شيء مما أورده في التثقيف.
الأول- شمس الدين الطّوطيّ. قال في «التثقيف» : وهو فيما أظنّ ممن كان يكتب إليه قديما، ولم يكتب إليه بعد ذلك. قال: ورسم المكاتبة إليه حسب ما نقلته من خط القاضي ناصر الدين بن النّشائيّ: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الشّيخيّ، الأجلّيّ، العالميّ، العامليّ، الكامليّ، الفاضليّ، الزاهديّ، الورعيّ، العابديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، القدويّ، الأوحديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، صدر الأنام، بقيّة السّلف الكرام؛ فخر العلماء، أوحد الكبراء، زين الزّهّاد، عماد العبّاد؛ قدوة المتورّعين، ذخر الدّول، ركن الملوك والسلاطين» . والدعاء «وتصف لعلمه المبارك» . والعلامة الاسم. قال في «التثقيف» : هذا صورة ما وجدته من غير زيادة. ولم يذكر تعريفه ولا محلّه من(7/313)
البلاد. قال: وقد كتب في نعوته: «ركن الملوك والسلاطين» . وهو غريب لأنه خلاف ما جرت به العادة.
الثاني- الشيخ غياث الدين الكججي بتبريز. ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره المشار إليه: «أعاد الله تعالى من بركة المجلس الساميّ الشيخيّ» . وبقية الألقاب «الغياثي» وتكملة النعوت بما يناسب. والعلامة الاسم، وتعريفه «محمد الكججانيّ» .
الثالث- الشيخ حسن بن عبد القادر الجيلانيّ. وكان من المناصحين الذين يكتب إليهم قديما. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه الاسم و «الساميّ» بالياء. ثم قال: ومن ألقابه: «الشيخ العالم العامل القدوة المرشد فلان الدين» .
قلت: هذا ذهول منه، وإلا فمقتضى هذه الألقاب المجرّدة عن الياء أن تكون الكتابة إليه «السامي» بغير ياء.
الصنف الثامن (ممن يكاتب بمملكة إيران النّساء)
وقد ذكر في «التثقيف» المكاتبة إلى أربع «1» منهنّ:
الأولى- دلّ شاد زوج الشيخ حسن الكبير
. كتب إليها في قطع العادة:
«أدام الله تعالى صون الجهة المحجّبة، المصونة، العصميّة، الخاتونيّة، المعظّميّة، سيدة الخواتين، زينة نساء العالمين، جميلة المحجّبات، جليلة المصونات، قرينة نوين الملوك والسلاطين» . والدعاء، والعلامة «أخوها» .
وتعريفها «الخاتون المعظمة دل شاد» .
الثانية- كلمش والدة بولاد مثلها
، غير أنّ العلامة الاسم، وتعريفها اسمها المذكور.(7/314)
الثالثة- زوجة أملكان ابن الشيخ حسن الكبير
على ما استقرّ عليه الحال عند ما كتب جوابها على يد رسولها في ذي القعدة سنة أربعين وسبعمائة مثل دلشاد، والعلامة «والدها» . وتعريفها سلطان نختي.
المهيع الثاني من المكاتبة إلى الملوك (مملكة توران، وهي مملكة الخاقانيّة)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية نقلا عن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف» أنّ هذه المملكة من نهر بلخ إلى مطلع الشمس على سمت الوسط؛ فما أخذ عنها جنوبا كان بلاد السّند، ثم الهند؛ وما أخذ عنها شمالا كان بلاد الخفجاج «1» وهي طائفة القبجاق «2» وبلاد الصّقلب، والجهاركس، والرّوس، والماجار، وما جاورهم من طوائف الأمم المختلفة سكّان الشّمال. فيدخل في هذه المملكة ممالك كثيرة وبلاد واسعة، وأعمال شاسعة، وأمم مختلفة لا تكاد تحصى؛ تشتمل على بلاد غزنة، والباميان، والغور، وخوارزم، ودشت القبجاق؛ وما وراء النهر: نحو بخارا، وسمرقند، والصّغد، والخوجند. وبلاد تركستان، وأشروسنة، وفرغانة. وبلاد صاغون، وطراز، وصريوم. وبلاد الخطا نحو بشمالق والمالق إلى قراقوم، وما وراء ذلك من بلاد الصّين وصين الصّين؛ فإنها كانت في القديم بيد فراسياب، بن شنك، بن رستم، ابن ترك، بن كومر، بن يافث، بن نوح عليه السّلام. وهو ملك الترك في زمان موسى عليه السّلام، على خلاف في نسبه سبق هناك. وأنها الآن بيد بني جنكزخان من ولد طوجي «3» خان ابن جنكزخان.(7/315)
ثم هذه المملكة بيد ثلاثة ملوك عظام من بني جنكزخان.
الأوّل- صاحب خوارزم ودشت القبجاق. وتعرف في القديم بمملكة صاحب السّرير، ثم عرفت في الدولة الجنكزخانيّة ببيت بركة «1» ، نسبة إلى بركة بن طوجي خان بن جنكزخان. وقاعدتها مدينة السّراي «2» وهي مدينة على نهر إتل «3» ، بناها بركة بن طوجي خان المقدّم ذكره. وقد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى في الكلام على المسالك والممالك.
ثم فيها جملتان:
الجملة الأولى (في رسم المكاتبة إلى قانها القائم بها)
قال في «التعريف» : وكان صاحبها في الأيام الناصريّة «4» (يعني محمد بن قلاوون) «أزبك خان» . وقد خطب إليه السلطان فزوّجه بنتا تقرّبا إليه. قال: وما زال بين ملوك هذه المملكة وبين ملوكنا قديم اتّحاد، وصدق وداد؛ من أوّل أيام الظاهر بيبرس وإلى آخر وقت. ثم قال: والملك الآن فيهم [في أولاد أزبك] «5» :
إماتني بك، وإما جاني بك، وأظّنّها في تني بك. وقد تقدّم أن الملك بعد أزبك كان جاني بك لا تني بك، على خلاف ما ظنه في التعريف.
ورسم المكاتبة إلى قانها الجامع لحدودها قال في «التعريف» : والأغلب أن يكتب إليه بالمغليّ. وذلك مما كان يتولّاه ايتمش المحمّدي، وطايربغا الناصري،(7/316)
وإرغدلق التّرجمان. ثم صار يتولّاه قوصون الساقي. ورأيت في بعض الدساتير نقلا عن القاضي علاء الدين بن فضل الله أنه كتب له مسودّة على أن تكتب له بالعربيّ ثم بطل وكتب بالمغلي. قال: فإن كتب له بالعربيّ، فرسم المكاتبة إليه ما يكتب إلى صاحب إيران.
وقد تقدّم نقلا عن «التعريف» أنه يكتب في قطع البغداديّ الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة المكتتبة بالذهب المزمّك- بألقاب سلطاننا على عادة الطّغراوات؛ ثم تكمل الخطبة، ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي:
«الحضرة الشريفة، العالية، السلطانية، الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخوية، القانية. ولا يخلط فيها «الملكيّة» لهوانها عليهم. ثم يدعى له بالأدعية المعظّمة المفخّمة الملوكية: من إعزاز السلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ورفع الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وما يجري هذا المجرى. ثم يؤتى بذكر دوام الوداد والشّوق؛ ثم يذكر القصد؛ ثم يختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم ويوصف التطلّع إليها والتهافت عليها.
قال في «التثقيف» : وكان يكتب إلى أزبك في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» في ورق عرض البغداديّ الكامل. وبعد البسملة الشريفة سطران هكذا:
بقوّة الله تعالى وميامن الملّة المحمدية ثم يخلى موضع بيت العلامة؛ ثم تكتب الألقاب السلطانية، وهي:
«السلطان الأعظم» وبقية الألقاب الشريفة على العادة حسب ما يأتي ذكره. ثم بعد الحمدلة وخطبة مختصرة جدّا: «فقد صدرت هذه [المكاتبة] إلى الحضرة الشريفة العالية، حضرة السلطان الكبير، الاخ، الشّفيق، العالم، العادل، القان الأعظم، الأوحد، شاهنشاه، الملك، أزبك إل خان؛ سلطان الإسلام والمسلمين، أوحد الملوك والسلاطين، عمدة الملك، سلطان المغل والقبجاق والتّرك، جمال ملوك الزمان، ركن بيت جنكزخان، معز طغاج، صاحب التّخت(7/317)
والتاج، عضد المتقين، ذخر المؤمنين. والدعاء بما يناسبه. «فإننا نخصّه بالسلام واستعلام أخباره ونفاوض علمه الشريف» . قال: والكتابة بالذهب والأسود حسب ما تقدّم في المكاتبة إلى أبي سعيد، وكذا العنوان. ثم قال: ولم يكاتب أحد بعده بنظير ذلك. وكان قد ورد على الأبواب الشريفة في سنة ست وخمسين وسبعمائة كتاب جاني بك ابن أزبك، وكتب إليه الجواب الشريف بنظير الكتاب الوارد من عنده، وهو في ورق دون البغداديّ بثلاث أصابع مطبوقة، والافتتاح بخطبة مناسبة مكتتبة بالذهب جميعها، ثم أما بعد بالأسود خلا ما تقدّم ذكره في مكاتبة أبي سعيد. والعنوان بالذهب. والذي كتب إليه من الألقاب: «الحضرة الشريفة، العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، العالمية، العادليّة، الأكملية، القانيّة، الأخويّة، العزيزية، الملكيّة، الشرفيّة زيدت عظمتها» . قال: ولما كان في العشر الآخر من ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة، رسم لي بالكتابة إلى القان محمد ببلاد أزبك، وهو القائم مقام أزبك على ما قيل، على يد رسل الأبواب الشريفة، بالسلام والمودّة واستعلام الأخبار ونحو ذلك فكتبت إليه في عرض البغداديّ الكامل حسب ما رسم به، بخطبة مختصرة بالذهب، والبقيّة بالأسود والذهب على ما تقدّم ذكره في مكاتبة القان أبي سعيد. وكتب له من الألقاب بعد المراجعة: «المقام العالي، السلطانيّ، الكبيريّ، الملكيّ، الأكرميّ، الأعدليّ، الشمسيّ، شمس الدنيا والدين، مؤيّد الغزاة والمجاهدين، قاتل الكفرة والمشركين، وليّ أمير المؤمنين خلّدت سلطنته» . والعنوان بالذهب بغير تعريف. وعلم له في بيت العلامة الشريفة بالمغرة «1» العراقيّة «المشتاق شعبان» .
وهذه نسخة ما كتب إليه بعد البسملة الشريفة.
الحمد لله الذي وهبنا ملكا دانت له ملوك الأقطار؛ وازدانت الأسرّة والتّيجان بما له من عظمة وفخار؛ وأذعنت العظماء لعزّة سلطانه الذي شمل الأولياء وقصم(7/318)
الأعداء ببرّه الجابر وقهره الجبّار؛ وقاد الجيوش إلى أن فتح الله على يديه الشريفتين معاقل الكفّار، بأمره الجاري على الرّقاب وعسكره الجرّار؛ ومنحه خدمة الحرمين الشريفين اللذين لم يزل لهما منه الانتصاب وبهما له الانتصار.
نحمده على أن جعل مملكتنا الشريفة هي محلّ الإمامة العباسية فلا جحود ولا إنكار، ومرتبتنا المنيفة بما عهد به إلينا أمير المؤمنين إلى قيام الساعة عليّة المقدار؛ ونشكره على أن أورثنا ملك أسلافنا الشّهداء فأقرّ العيون وسرّ الأسرار، وجعل السلطنة المعظمة في بيتنا المكرّم تنتقل تنقّل البدور في بروجها إلا أنها آمنة من السّرار «1» . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم نزل قائمين بنصرتها، قانتين بالإخلاص في كلمتها. لنعدّ بذلك من الأبرار، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيّد بملائكته، المخصوص بنبوّته ورسالته، الذي عظّم الله قدره على سائر الرّسل كما جاءت النصوص والأخبار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل الدّار، صلاة دائمة باقية بدوام الليل والنهار، وسلّم.
أما بعد، فإنّ قلوب الأولياء وإن تناءت الأجسام متعارفة بالائتلاف، متقاربة على بعد الديار حيث لا تناكر بينها ولا اختلاف، لا سيّما ملوك الإسلام، الذين هم متّحدون بالمصافة والاستسلام؛ فإن سرائرهم لم تزل متدانية، وضمائرهم متكافية؛ هذا والمحبّة لبيته «2» الكريم قديمة، والمودّة بين الأسلاف لم تزل مستديمة؛ فلم نكن ورثنا ذلك عن كلالة «3» ، بل تبعنا فيه سبيل السلف الصالح على أحسن حالة: لما هو محكم من عقود الاتّحاد والولاء، حيث المحبة في الآباء صلة في الأبناء؛ وكان لنا مدّة مديدة وقد تأخرت رسلنا عن حضرته ولم تصدر من جهتنا الشريفة، كذلك ولا وردت رسل من جهته؛ ولم يشغلنا عن ذلك إلا(7/319)
مواقعة الفرنج المخذولين أعداء الدين، ومقارعتهم في سائر السّواحل بشدّة البأس والتّمكين؛ إلى أن امكن الله عز وجلّ من نواصيهم وصياصيهم بنصر من عنده، كما قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
«1» .
والآن فقد صدرت هذه المكاتبة إلى المقام العالي السلطاني- وبقية الألقاب والنّعوت إلى آخرها حسب ما تقدّم ذكره- تخصّ مقامه بسلام أرقّ من النّسيم، وألطف مزاجا من التّسنيم «2» ؛ وثناء قد ازرى نشره بالعبير، وسرى بشره فغدت تتهلّل به الأسارير. وتبدي لعلم المقام العالي زيدت معدلته أنه لما يبلغنا من عدل الحضرة الشريفة، وإنصافة للرّعايا وتأمين سبل الجور المخيفة؛ وسلوكه سنن الإحسان، وتأكّد عقود المحبة على عادة من سلف في سالف الزمان؛ قصدنا مفاتحته بهذه المكاتبة، وأردنا بداءته بهذه المخاطبة؛ ليعلم ما نحن عليه من صحيح الوداد، وأكيد الاتّحاد، وجميل الاعتقاد، وحسن الموالاة الخالصة من شوائب الانتقاد؛ وجهّزنا بها رسلنا فلان وفلان ومن معهما نستدعي ودّه، ونستدني ولاءه الذي أحكم عقده، لتأكّد المصافاة بين هاتين الدّولتين، والمخالصة من كلتا الجهتين، والموالاة بين المملكتين؛ ويأمر المقام العالي لا زال عاليا بتردّد التّجّار من تلكم الديار، والمواصلة بالأخبار على حسب الاختيار؛ ومتابعة الرّسل والقصّاد، على أجمل وجه معتاد.
وقد وجّهنا إلى المقام العالي أعلى الله شأنه صحبة رسلنا المذكورين من الأقمشة السّكندريّ وغيرها على سبيل الهديّة، والمواهب السنيّة، ما تضمّنته الورقة المجهّزة طيّها؛ فليأمر المقام العالي دامت معدلته بتسليم ذلك، ويتيقّن وفور المحبة من سلطاننا المالك، وتأكّد أسباب المودّة على أجمل المسالك؛ والله تعالى يجمّل ببقاء سلطانه ملك الممالك، ويديم عدله المبسوط على الأولياء(7/320)
ويرمي ببأسه الأعداء في مهاوي المهالك، ويخلّد ملكه الذي تفتخر بالملك من مقامه العالي السّرور والأرائك؛ بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أنّ صاحب «التثقيف» قد ذكر أن المكتوب إليه بهذه المكاتبة هو القائم مقام أزبك، وأن اسمه محمد، وأن المكاتبة إليه كانت في سنة ستّ وسبعين وسبعمائة. وقد تقدّم ذكر من ولي هذه المملكة بعد أزبك ولم يكن فيهم من اسمه محمد. وقد كان القائم بهذه المملكة في سنة ستّ وسبعين المذكورة اسمه «أرص» وهو الذي انتزع المملكة من أيبك خان المقدّم ذكره؛ وأصله من خوارزم على ما مرّ ذكره في الكلام على المسالك والممالك، فيحتمل أن يكون اسمه محمد وأرص لقب عليه، كما كان خدابندا والد أبي سعيد من ملوك إيران، اسمه محمد، ولقبه خدابندا. والأمر في ذلك راجع إلى النقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت: وقد كتب في الدولة الناصرية «فرج» «1» بن الظاهر برقوق، للقان القائم بها في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة في قطع البغداديّ الكامل من الورق المصريّ المعمول على هيئة البغداديّ، ابتديء فيه بعد خمسة أوصال بياض بالبسملة في أعلى الوصل السادس، ببياض من جانبيها عرض إصبعين من كل جهة، والسطر الثاني على سمته في آخر الوصل، بخلوّ بياض من الجانبين بقدر السطر الأوّل، والطّغراة بينهما بألقاب سلطاننا على العادة، مكتوبة بالذهب بالقلم المحقّق مزمّك بالسواد، بأعلى الطّغراة قدر عرض ثلاثة أصابع بياضا، ومثل ذلك من أسفلها، وباقي السّطور بهامش من الجانب الأيمن على العادة، وبين كلّ سطرين قدر نصف ذراع القماش القاهريّ، والأسماء المعظّمة: من اسم الله(7/321)
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، واسم سلطاننا والسلطان المكتوب إليه، والضمير العائد على واحد منهما بالذّهب المزمّك كما تقدّم تقريره في الكلام على مكاتبة صاحب إيران في القديم.
وهذه نسخة مما أنشأته، كتبت بإشارة المقر العالي الفتحيّ: صاحب ديوان الإنشاء الشريف وهي:
الحمد لله مؤيّد سلطاننا «الناصر» بعزيز نصره، ورافع قدر مقامنا الشريف بإعلاء مناره وإعظام ذكره، ومشيّد أركان ملكنا الشامخ بإسعاد جدّه العالي والله غالب على أمره. نحمده على ما جنّب من مواقع الحرج، وجعل أمور رعايانا بمعدلتنا الشريفة بعد الضّيق إلى فرج؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتوارثها عظماء الملوك كابرا عن كابر، ويتناقلها منهم الخلف بعد السّلف فيسندها الناصر عن الظاهر؛ ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ جمع بعموم دعوته مفترق الأمم، ووفّق بحنيفيّ ملّته بين أقيال العرب وأساورة العجم «1» ؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين آخى بينهم فسنّ المؤاخاة، ونقّى من نغل «2» الضّغائن صدورهم ففازوا بأكمل المصافاة وأتمّ الموافاة؛ صلاة تسير بفضلها الرّكائب، وتترنّم بذكرها الحداة فتعمّ نفحاتها المشارق والمغارب، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ الأرواح إذا تمازجت تناجت بالضّمائر، والقلوب إذا تآلفت اغتنت بشواهد الحال عن إبراز ما في السّرائر، والأجساد إذا تباعدت تعلّلت(7/322)
بالمكاتبات في بلوغ الأوطار، والدّيار إذا تناءت اكتفت بالمراسلة عن تقارب الدّار، والمودّة إذا صفت لا يؤثّر فيها البعاد، والمحبّة إذا صدقت لا تزال كلّ يوم في ازدياد؛ (والأذن تعشق قبل العين أحيانا) ، والوصف يحرّك من الشّوق أغصانا وأفنانا.
هذا وإنّ أحقّ ما اتّخذته الملوك ذريعة لدواعي الابتهاج، وأهمّ ما اهتمّ به متخّت بتخت أو متوّج بتاج؛ إحياء مذاهب الملوك السالفة في الوداد، واقتفاء آثارهم الجميلة في موارد المكاتبات على التّنائي والبعاد؛ ومن ثم صدرت هذه المكاتبة إلى المقام العالي، السلطانيّ، الكبيريّ، الأخويّ، الفلانيّ، ركن الملّة الإسلامية، عماد المملكة الجنكزخانيّة، ذخيرة الدين، خليل أمير المؤمنين- زيدت عظمته، ودامت معدلته- تخصّه بسلام تهبّ به الجنوب فتؤثّر به في الشّمال القبول «1» ، وتخصّ به إلى السّراى سراها ليكون لها ببيت بركة أشرف قدم وأكرم وصول؛ وتمدّ على خوارزم والدّشت فضل رواقه المديد؛ وتنشر على مملكة السّرير «2» لواءه فيعم ما بين جيحون وطرنا «3» ويشمل ما بين الخطا «4» والباب الحديد. وتناجي علمه الشريف بأنه غير خاف عن شريف مقامه أن من سلف من ملوك مملكتنا العالية الذّرى، والمملكة القانيّة المرفوعة الذّكر رفع نار القرى؛ لم تزل ملوكهم مجتمعة مع تنائي الدّيار، مؤتلفة على المحبّة وإن شطّ المزار، محافظين على تتابع الرّسل وإن حال دونهم الصّفاح «5» ، مثابرين على توارد الكتب(7/323)
ولو على أجنحة الطير ومتون الرّياح؛ وقد مضت مدّة مديدة لم يقدم علينا من المقام الشريف- عظّم الله تعالى شأنه- رسول يطفيء لواعج الاشتياق، ولا ورد عنه كتاب يتعلّل المحبّ بتلقّيه عن حقيقة التّلاق؛ بل سدّ باب المكاتبة حتّى كأنّ المكاتبة لم تخلق؛ وأغلق باب المراسلة وإن كان باب المحبّة- بحمد الله- لم يغلق؛ فطمح بخاطرنا الشريف طامح الشوق المتزايد، وحملنا موصول المحبّة المستغني بمواصلته عن الصّلة والعائد، أن نفاتح المقام العالي دامت معدلته بهذه المفاوضة: لتجدّد من العهود القديمة رسومها، وتطلع من مشارق المخاطبة نجومها؛ وتنسخ آية الهجران وتمحوها، وتصقل مرآة المصافاة وتجلوها، وتستجلب الأنس وإن صحّ الميثاق، وتذكّر الخواطر الوداد وإن ثبتت منه الأصول ورسخت الأعراق، وتنوب عن نظرنا الشريف في مشاهدة محيّاه الكريم، ومصافحة كفّه التي حديث ودّها قديم، وتستطلع أخباره، وتستعرض على تعاقب الأزمان أوطاره.
وقد اخترنا لتبليغ رسالتها، وأداء أمانتها، المجلس السامي المقرّب الأمين خواجا فلان أعزّه الله تعالى، وحمّلناه من السلام ما يهتدي بضوئه الساري، ويفوق بعرفه العنبر الشّحريّ «1» والمسك الدّاري «2» : ليحكم بحسن السّفارة من المخالصة مبانيها، ويعقد منها بمتابعة الرّسل والقصّاد أواخيها؛ وجهّزنا صحبته كذا وكذا على سبيل الهديّة المندوب بذلها وقبولها، والحاكم بصحة عقد المحبّة كثيرها وقليلها؛ والله تعالى يزيد في ارتفاع قدره الخطير، ويحوط به من ملكه الجنكزخاني ما يحقّق أنه صاحب التاج والسّرير.(7/324)
الجملة الثالثة «1» (في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه هذه المملكة من الأتباع والحكّام؛ وهم على «2» أصناف)
الصّنف الأوّل (كفّال المملكة)
قد تقدّم أن ترتيب هذه المملكة في أمراء الألوس والوزير نحو مملكة إيران، وإن لم يكن لأمير الألوس ولوزير بهذه المملكة من نفاذ الأمر نظير ما هنالك. ومقتضى ذلك أن يكونا منحطّين في الرتبة عن أمراء الألوس بإيران والوزير بها؛ وهذه الرسوم التي وقعت في مكاتباتهم على ما أورده في «التثقيف» .
وأمراء الألوس أربعة، أكبرهم يسمّى بكلاري بك بمعنى أمير الأمراء كما تقدم في مملكة إيران. فقد ذكر في «التثقيف» أنه كان منهم في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة قطلوبغا إيناق، وأنه كتب إليه في عاشر جمادى الآخرة منها ما صورته:
«ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، الزّعيميّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الظهيريّ، النّوينيّ، السّيفيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، كهف الملة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين» . ثم الدعاء والعلامة «أخوه» وتعريفه «قطلوبغا إيناق نائب القان جاني بك» .
ثم ذكر أنّ الأمر كان عند القان محمد بمثابة الأمير يلبغا العمريّ «3» ، يعني(7/325)
الخاصكيّ بالأبواب السلطانية بالديار المصرية، وأنه استحدثت المكاتبة إليه في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وأنه كتب إليه في قطع الثّلث ما صورته:
«أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّدي، الذّخريّ، النّصيريّ، الهماميّ، المقدّميّ، النّوينيّ، السيفيّ؛ عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، مقدّم العساكر، ذخر الدولة، عضد الملوك والسلاطين، حسام أمير المؤمنين» . والدعاء المناسب. والعلامة «والده» . وتعريفه «مماي» . وفي هذا نظر: لأنّه إذا كان بمثابة ما كان عليه يلبغا بالديار المصرية، فمقتضاه أن يكون أكبر أمرائه. وإذا كان كذلك، فكيف يكتب إليه دون أمراء الألوس؟ فقد تقدّم أنه يكتب إليهم: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» .
الوزير بهذه المملكة. قد ذكر في «التثقيف» أن الوزير بها كان اسمه محمودا، ولقبه حسام الدين، وكان يعرف بمحمود الدّيوان. وذكر أن رسم المكاتبة إليه في قطع الثلث ما صورته:
أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الآمريّ، الكبيريّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الاكمليّ، المتصرّفيّ، العونيّ، الوزيريّ، الحساميّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء والوزراء في العالمين؛ جمال المتصرّفين، أوحد الأولياء المقرّبين، ذخر الدولة، مشير الملوك والسلاطين. ثم الدعاء والعلامة «والده» . وتعريفه «خواجا «1» محمود وزير المملكة القانيّة» .
قلت: وقد علمت أنّ المكاتبة إلى أمراء الألوس والوزير بهذه المملكة دون المكاتبة إلى أمراء الألوس والوزير بمملكة إيران، فقد تقدّم أن المكاتبة إلى(7/326)
بكلاري بك أكبر أمراء الألوس بمملكة إيران: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم» . وإلى الثلاثة الذين دونه: «أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم» ، ثم استقر «أعز الله تعالى أنصار الجناب الكريم» . وأن المكاتبة إلى الوزير:
«ضاعف الله تعالى نعمة المجلس العالي» . والمعنى في ذلك ما تقدّم من أنه ليس لأمراء الألوس والوزير بهذه المملكة من التصرّف ما لأمراء الألوس والوزير من التّصرّف بتلك المملكة.
قجا علي بك بهذه المملكة. قال في «التثقيف» : وهو ممن استحدثت المكاتبة إليه في سنة خمس وستين وسبعمائة.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التثقيف» الاسم و «الساميّ» بالياء وتعريفه اسمه.
الصنف الثاني (الحكّام بالبلاد بهذه المملكة)
وها أنا أذكر من ذكر المكاتبة إليه منهم في «التثقيف» .
الحاكم بالقرم «1» : وهو إقليم شماليّ بحر نيطش «2» . وقاعدته مدينة صلغات، وهي مدينة على نصف يوم من البحر، وقد غلب عليها اسم القرم. وقد ذكر في «التثقيف» أن الحاكم بها في سنة خمسين وسبعمائة كان اسمه زين الدين رمضان؛ ثم استقرّ بعده علي بك ابن عيسى بن تلكتمر. وقد رأيت في بعض(7/327)
التواريخ أن الحاكم بها في حدود ستّ وسبعين وسبعمائة كان ماماي «1» المقدّم ذكره.
وقد ذكر في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إلى الحاكم بها في قطع العادة، والعلامة «أخوه» و «صدرت» و «العالي» . والذي رأيته في دستور يعزى في الأصل للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنه يكتب إليه في قطع الثلث وأن المكاتبة إليه «الساميّ» بالياء. وتعريفه «الحاكم بالقرم» .
الحاكم بأوزاق: وهي مدينة على بحر مانيطش «2» المقدّم ذكره في الكلام على المسالك والممالك. وهو المعروف الآن ببحر الأزق «3» ؛ وهي عن القرم في جهة الجنوب والشرق، وبينهما نحو خمس عشرة مرحلة. قال في «التثقيف» :
ورسم المكاتبة إلى الحاكم بها مثل الحاكم بالقرم على السواء. والذي رأيته في الدّستور المقدّم ذكره أنه في قطع الثلث «السامي» بالياء كما في الحاكم بالقرم.
(الثاني (من ملوك توران من بني جنكزخان صاحب ماوراء النهر)) وقاعدة ملكه في القديم بخارا، والآن سمرقند. ومن مضافاتها غزنة «4» وما والاها من متاخم الهند. وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في الكلام على المسالك والممالك. وقد ذكر في «التعريف» أنّ آخر ما استقرّت لترماشيرين، وكان حسن الإسلام عادل السّيرة، طاهر الذّيل، مؤثرا للخير، محبّا لأهله، مكرما لمن يرد من العلماء والصّلحاء، وطوائف الفقهاء والفقراء.
قال: وكتب إليه على رسم المكاتبة إلى صاحب إيران. وقد تقدّم في الكلام على المكاتبة إلى صاحب إيران نقلا عن «التعريف» أنه يكتب إليه في قطع(7/328)
البغداديّ الكامل، يبتدأ فيه بعد البسملة وسطر من الخطبة الغراء المكتتبة بالذهب المزمّك بألقاب سلطاننا على عادة الطّغراوات؛ ثم تكمّل الخطبة ويفتتح ببعدية إلى أن تساق الألقاب، وهي: «الحضرة العالية، السلطانيّة، الأعظميّة، الشاهنشاهيّة، الأوحدية، الأخوية، القانيّة، الفلانية» . ولا يخلط بها «الملكية» لهوانها عليهم؛ ثم يدعى له بالأدعية المفخّمة الملوكية: من إعزاز السّلطان، ونصر الأعوان، وخلود الأيام، ونشر الأعلام، وتأييد الجنود، وتكثير البنود، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ثم يقال ما فيه التصريح والتلويح بدوام الوداد، وصفاء الاعتقاد، ووصف الأشواق، وكثرة الأتواق، وما هو من هذه النسبة؛ ثم يؤتى على المقاصد، ويختم بدعاء جليل وتستعرض المراسيم والخدم، ويوصف التطلّع إليها، ويظهر التهافت عليها؛ وأنه تكتب جميع خطبة الكتاب وطغراة بالذهب المزمّك، وكذلك كلّ ما وقع في أثنائه من اسم جليل، وكل ذي شأن نبيل: من اسم الله تعالى أو لنبيه صلّى الله عليه وسلّم؛ أو ذكر الإسلام، أو ذكر سلطاننا أو السلطان المكتوب إليه، أو ما هو متعلّق بهما، مثل لنا ولكم، وكتابنا وكتابكم، جميع ذلك يكتب بالذهب وما سواه بالسّواد. وأن العنوان يكون بالألقاب إلى أن ينتهي إلى اللقب الخاص؛ ثم يدعى له بدعوة أو اثنتين نحو أعزّ الله تعالى سلطانها، وأعلى شانها؛ ونحو ذلك. ثم يسمّى اسم السلطان المكتوب إليه؛ ثم «يقال» خان: مثل أن يقال: ترماشيرين خان، ويطمغ بالذهب طمغات عليها ألقاب سلطاننا تكون على الأوصال، يبدأ بالطّمغة على اليمين في أوّل وصل، وعلى اليسار في ثاني وصل، ثم على هذا النمط إلى أن ينتهي في الآخر إلى اليمين، ولا يطمغ على الطرّة البيضاء. والكاتب يخلي لمواضع الطّمغة مواضع الكتابة تارة يمنة، وتارة يسرة، إلى غير ذلك مما سبق القول عليه.
قلت: وآخر ما استقرّت هذه المملكة لتمرلنك «1» ؛ وتمر اسمه الذي هو علم(7/329)
عليه، ومعناه بالتركية حديد. ولنك لقب عليه، ومعناه بالفارسية أعرج: لأنّه كان به عرج ظاهر؛ ولذلك تسمّيه التّرك تمر أقصق، إذ أقصق عندهم بمعنى أعرج. وهو يتسمّى في كتبه تيمور كوركان. ومن هذه المملكة انساب على بلاد إيران حتّى استولى على جميعها، وسار إلى بلاد الهند فاستولى عليها؛ ثم طاح إلى الشام في سنة ستّ «1» وثمانمائة وعاث فسادا، وخرّب وأفسد ولقيه السلطان «الملك الناصر» فرج ابن الظاهر برقوق صاحب مصر والشام على دمشق؛ وجرت بينهما مراسلة؛ ثم طرأ للسلطان الملك الناصر ما أوجب عوده إلى مصر لأمر عرض له من جهة(7/330)
بعض أمرائه «1» ، وبقى تمرلنك نازلا بالشام محاصرا لدمشق، إلى أن خدع أهلها وفتحها صلحا، ثم غدر بهم ونهبها وسبى حريمها، ثم حرّقها بعد ذلك بعد أن أسرف في القتل وأثخن في الجراج، وأمعن في الأسر.
وللمكاتبة إليه حالتان:
الحالة الأولى- حين كان السلطان الملك الناصر فرج- عزّ نصره- بالشام محاربا له، وكتبه حينئذ ترد في القطع الصغير على ما سيأتي ذكره، وكان يكتب إليه حينئذ في قطع «2» مما فات المؤلف رحمه الله تعالى ما كتب عن مولانا الشهيد الملك الظاهر أبي سعيد برقوق، تغمّده الله تعالى برحمته ورضوانه، في جواب الأمير تمرلنك المدعو تيمور، عن الكتب الواردة منه قبل ذلك- من إنشاء المرحوم المقرّ البدريّ محمد، ابن المرحوم المقرّ العلائيّ عليّ ابن المرحوم المقرّ المحيوي يحيى، بن فضل الله العمري العدويّ القرشيّ(7/331)
رحمهم «1» الله تعالى- في سنة ست وتسعين وسبعمائة، عند سفر مولانا السلطان المشار إليه إلى حلب المحروسة لملتقى المذكور، في قطع الثلث بغير علامة؛ وسعة ما بين السطور قدر عرض الإصبعين. والطرّة وصلان، طولهما نحو الذّراع الهاشميّ، وكان عنوان كتاب تمرلنك الذي ورد آخرا وهو الذي اقتضى الحركة الشريفة والجواب المشار إليه.
سلام وإهداء السّلام من البعد ... دليل على حسن المودّة والعهد
فكتب العنوان الشريف:
طويل حياة المرء كاليوم في العدّ ... فخيرته أن لا يزيد عن الحدّ!
فلا بدّ من نقص لكلّ زيادة ... لأنّ شديد البطش يقتصّ للعبد!
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العليّ الشان، العظيم السلطان، العميم الإحسان، العليم بما(7/332)
كان وما يكون في كل زمان ومكان؛ تاهت في ميادين فلوات معرفته سوابق جياد الأفهام، وتدكدكت لهيبة جلاله جبال العقول والأوهام؛ وصلّى الله على سيدنا محمد حبيب الرحمن، وسيد الأكوان، وصاحب المعجزات والبرهان، المبعوث إلى الخلق أجمعين من الإنس والجانّ، والمنعوت بالفضل العميم، والخلق العظيم، في التّوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام الحسان، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلّم تسليما كثيرا ما تعاقب الحدثان.
وبعد، فقد وصل إلى أبوابنا الشريفة العالية كلّ ما جهّزته أوّلا وآخرا يا أمير تيمور من كتاب، وأحاطت علومنا الشريفة بما فيها من كلام وخطاب؛ وقصد وعتاب، وإرعاد وإرغاب وإرعاب.
فأما ما ذكرته في أوّل كتبك من ألقابنا الشريفة بالتعظيم، والتّبجيل والتفخيم؛ فقد علمناه وعرفناه، ولكن وجدنا الكلمتين اللتين في الطمغات آخر الكتب وهما راستي رستي منافيتين لذلك التعظيم، وهذا غير مستقيم؛ لأنه متناقض غير متناسب، فعجبنا من هذا التناقض الواضح، والتخالف الفاضح؛ وفي المثل السائر: «أصلح وقابل وأفسد وقابل» .
وأمّا إرسالك السيف والتّركاش «1» لنا، فقد تعجّبنا منه إلى الغاية، وأنكرناه إلى النّهاية: لأنك لم تزل في كتبك كلّها تستشهد بتاريخ جنكزخان وأخباره وأحواله، وتقتدي به في أقواله وأفعاله؛ وما سمعنا في التواريخ ولا أتّفق قطّ من جنكزخان، ولا ممن تقدّمه وتأخّره من ملوك مملكته في زمن من الأزمان، أنّه أهدى إلى خادم الحرمين الشريفين سيفا ولا تركاشا؛ ما اختلف في ذلك اثنان.
فإرسالهما منك إلينا هل هو من باب المحبة أو لا، وإن كان تخويفا، فنحن ما نخاف من سيفك وتركاشك بعناية الله العظيم الأعلى.(7/333)
السّيف والرّمح والنّشّاب قد علمت ... منّا الحروب فسلها فهي تنبيكا!
إذا التقينا تجد هذا مشاهدة ... في الحرب، فاثبت فأمر الله آتيكا!
بخدمة الحرمين الله شرّفنا ... فضلا وملّكنا الأمصار تمليكا!
وبالجميل وحلو النّصر عوّدنا، ... خذ التّواريخ واقرأها تلبّيكا!
والأنبياء لنا الرّكن الشّديد فكم ... بجاههم من عدوّ راح مفلوكا «1» !
ومن يكن ربه الفتّاح ناصره، ... ممّن يخاف؟ وهذا القول يكفيكا!
وقد أجبناك عن السيف والتّركاش فيما مضى قبل هذا الوقت وتقدّم، فاعرف ذلك واعلم.
وأما ما ذكرته من قولك: إنك فتحت معنا باب المحبة والوداد، والصّحبة والاتّحاد، لا باب المخاصمة والمشاورة والعناد؛ فقد علمنا ذلك وفهمناه. والذي نعرّفك به أنّ الذي وقع منك بخلاف ما قلت: لأنك لو كنت صادقا في قولك، كنت لمّا حضر إليك شكر أحمد وأرغون السلامي «2» اللذان هما من بعض ممالكينا ومن جملة رعايانا أمسكتهما وجهّزتهما إلينا بعد أن قيّدتهما؛ فما فعلت ذلك بل عملت بالضدّ منه لأنّك آويتهما، وحميتهما وعظّمتهما وأكرمتهما؛ وجعلتهما من خواصّك وأحبابك، وأوليائك وأصحابك. وأيضا توجّه إليه صولة بن حيار «3» الذي هو قطعة هجّان «4» من هجّانتنا فأكرمته، وألبسته التاج وعظّمته؛ وبعثت معه خلعة إلى نعير»(7/334)
المذكور وإلى غيره من عربانه، ووعدته بالتّقدمة والإمارة، بالتصريح العظيم لا بالتلويح والإشارة؛ وكتبت إليه كتابا ما تركت فيه ولا خلّيت، وأظهرت كلّ ما كان عندك وما أبقيت؛ فجهّزه إلينا وقريء على مسامعنا الشريفة كلمة كلمة، وعرفنا واضح معناه ومبهمه؛ وها نحن نشرحه لك لتعلم وتتحقّق أنه وصل إلينا، واطّلعنا عليه وما خفي أمره علينا. وهذا نصه:
(دام دولته) الأمير الكبير، المعظّم أمير نعير، أدام [الله] دولته شمسا. نعرض لعلوّ علومه المحروسة أنه قد اتّصل بنا طردك عن الشام، ومعاملتهم معك غير الواجب.
حال وقوفك على هذا المثال تسرع في الوصول إلينا بحيث نعطيك ما أعطي المرحوم عمك أمير سليمان طاب ثراه، ونجعلك مقدّم العساكر المنصورة؛ وبهذا برز الحكم المطاع من الحضرة العالية؛ ففي عزم العساكر والجيوش المعظّمة الوصول إلى أطراف البلاد شرقا وغربا وروميّا من سائر النواحي والأمصار، والبلاد والأقطار؛ وإن أبطأ ركابك عن الوصول، فنحن واصلون إليكم في طريقنا إلى مصر وغيره، ولا يبقى لطاعتك مزيّة ولا منّة، فيكون ذلك على الخاطر المبارك.
فينبغي أن لا يكون جواب الكتاب، إلا قدوم الركاب؛ ففيه لكم الفوائد العظيمة، والعطايا الجسيمة؛ ومع [ذلك] إصابة الرأي منكم، تغني عن تأكيد الوصية إليكم؛ ومهما عرض من المهامّ يقضى حسب المراد، ومنهج السّداد؛ والله الموفق.
وبحاشية الكتاب المذكور ما نصّه:
وقد كتبنا إلى السلطان أحمد أن يصل إلينا، فانظر كيف كان عاقبة أمره؟
فينبغي أن تتوجّه أو يتوجّه بعض أولادك إلينا لأجل مصالحك كافّة.
فيا أمير تيمور لو كنت صادقا، وكلامك بالحق ناطقا، ما وقع منك مثل هذا ولا صدر، ولا اتّفق بل ولا ببالك خطر؛ ولكن كلّ ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكلّ وعاء ما ينضح إلا بما فيه.(7/335)
يا فاعلا بالضّدّ من قوله ... فعل الفتى دال على باطنه
والمرء مجزيّ بأعماله ... إذا أظهرت ما كان في كامنه
وأما طلبك منّا السلطان أحمد الحلايري غير مرّة، فقد علمناه. ولكن عرّفنا يا أمير تيمور إيش عمل بك؟ حتّى حلفت له عدّة مرار بأيمان الله تعالى العظيمة وأعطيته العهود والمواثيق بأنك ما تتعرض إليه ولا إلى مملكته ولا توافيه ولا تشوّش عليه، حتّى اطمأنّ بأيمانك، وركن إليك، وأحسن ظنّه فيك، ووثق بك، واعتمد عليك فخنته وغدرته، وأتيته بغتة على حين غفلة وبدرته؛ وأخذت مملكته وبلاده، وأمواله وأولاده. وأعظم من ذلك أنّك أخذت أيضا حريمه وهنّ في عقد نكاحه وعصمته وأعطيتهنّ لغيره، وقد نطق الكتاب والسنة بتحريم ذلك وعظم ذنب فاعله وقبيح جرمه؛ ففي أيّ مذهب من المذاهب يحلّ لك أخذ حريم المسلمين، وإعطاؤهنّ لغير أزواجهنّ من المفسدين الظالمين؟ وهنّ في عصمة أزواجهنّ وعقد نكاحهنّ إنّ هذا لهو البلاء المبين؛ وكيف تدّعي أنك مسلم وتفعل هذه الفعال؟ عرّفنا في أيّ مذهب لك هذا حلال؟ فأعمالك هذه كلّها منافية لدعواك، بل منافية لدين الإسلام، وشرع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
«1» وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«2» وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«3» وقال عز وجل: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
«4» وقد بيّن لنا الخير والشر، والحلال والحرام وأهلها فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
«5» وقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا
«6»(7/336)
وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ
«1» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» . وقال عليه السّلام: «المسلم من سلّم المسلمون من يده ولسانه» .
ففي أيّ مذهب من دين الإسلام تستحلّ هذه المحرّمات العظيمة، والمنكرات القبيحة الشنيعة الجسيمة، التي يهتزّ لها العرش ويغضب الله عز وجلّ لها ورسله والملائكة والناس أجمعون؟ وما كفى ما فعلت مع القان أحمد المشار إليه حتّى تطلبه منا؟. اعلم أنّ القان أحمد «2» المشار إليه قد استجار بنا وقصدنا، وصار ضيفنا؛ وقد ورد: من قصدنا وجب حقّه علينا. وقال تعالى لسيد الخلق أجمعين في حقّ الكفار الذين هم أنحس الناس: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
«3» فكيف بالمسلمين إذا استجاروا بالمسلمين؟ وكيف بالملوك أبناء ملوك المسلمين، الذين لأسلافهم الكرام معنا ومع ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين صحبة ومحبة وأخوّة في الله تعالى؟
ولو لم يكن ذلك كيف يجوز في شرع المروءة والنّخوة الوفاء أن نسلّم ضيفنا ونزيلنا والمستجير بنا؟ خصوصا وجنسنا جركس جنس ملوك الإسلام السالفين، خدّام(7/337)
الحرمين الشريفين الذين اتّفق لهم مع التّتار ما تشهد به التواريخ، ومن عادتنا وشأننا وطباع جنسنا أننا لا نسلّم ضيفنا ولا نزيلنا ولا من استجار بنا لأحد. وإن كنت ما تصدّق ذلك فعندك من هم من جنسنا، سلهم يعرّفوك، فنحن لا يضام لنا نزيل، ونقري الضيف ونعامله بالجميل، وهذه جبلّتنا الغريزيّة وعادة أصلنا الأصيل؛ فإرسال القان أحمد إليك أمر مستحيل.
إنّا ذوو الفضل الغزير الوارف ... أبوابنا هي ملجأ للخائف!
نقري الضّيوف ولا يضام نزيلنا، ... شيم ورثنا فضلها عن سالف!
وكليمة تكفي الذي هو عاقل، ... والرّمز تصريحا غدا للعارف!
وقولك: إن العادة كانت جارية بين من سلف من ملوك الإسلام وملوك التتار، أنّه من هرب من جهة إلى أخرى يمسكه الملك الذي يهرب إليه ويقيّده ويجهّزه إلى الملك الذي هرب من عنده، وأن دمرداش بن جوبان لما هرب في الزمن الماضى من ملكه وجاء إلى سلطان مملكتنا المعظّمة المشرّفة، أمسكه وقيّده وأرسله إليه، فقد علمناه، وليس هذا الذي قلته وحكيته بصحيح، لأن الذي وقع واتّفق بخلافه: وهو أنّ أميرا من أمراء السلطان الملك الناصر كان يسمّى قراسنقر، هرب من عنده وراح إلى أبي سعيد فقطع رأسه، وجهّزه إلى الملك الناصر. وأما دمرداش المذكور فالملك الناصر ما أرسله إلى أبي سعيد مثل ما قلت وما مات دمرداش المذكور إلا في مصر المحروسة، فليكن ذلك في علمك ثابتا؛ وعلى كلّ حال فكلامك حجة عليك لا لك: لأنّك قد آويت شكر أحمد وأرغون السلامي وأكرمتهما وقرّبتهما، وكذلك كلّ من حضر إليك من مماليكنا ورعايانا وخدمنا من أهل مملكتنا، فلو أمسكتهم وقيّدتهم وجهّزتهم إلينا، كنت تكون صادقا في قولك، وكنت إذا طلبت منا أحدا ما تلام على طلبه، فكيف وأنت البادي والمعتمدي؟ فهذا الكلام كلّه شاهد عليك لا لك.(7/338)
وأما قولك: إنّ صاحب تكريت كان حراميّا قاطع طريق، ففعلت معه ما فعلت مقابلة له على نجسه وحرامه وقطعه الطّرقات، فقد علمناه وسلّمنا لك هذا الأمر، بيّض الله وجهك، وما قصّرت فيه، فحبّذا ما عملت، ونعم ما فعلت في حقّه من إعطائه جزاءه. أفأهل بغداد كانوا حراميّة قطّاع طريق حتّى فعلت بهم ما فعلت، وقتلت منهم من التّجّار خاصّة ثمانمائة نفس في المصادرة بالعقوبة والعذاب. ففي أيّ مذهب يجوز هذا؟ وهل يحلّ لمن يدّعي الإسلام أن يعمل بخلق الله تعالى الذين أمر بالشفقة عليهم والإحسان إليهم ونشر العدل فيهم هذه الفعال؟ وقد تعجّبنا منك يا أمير تيمور إلى الغاية! كيف تدّعي أنّك عادل، وتعمل بأهل بغداد المسلمين الموحّدين وبغيرهم من المسلمين هذه العمائل؟ أما تعلم أنّ الشفقة على خلق الله تعظيم لأمر الله! وأنّ الله رحيم يحبّ من عباده الرّحماء، وأن الظّلم حرام في جميع الملل؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى يقول: يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظّالموا» . وقال عليه السلام: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» . وورد: «إن فاتني ظلم ظالم فأنا الظّالم» وحسب الظالمين ربّ العالمين الذي قال في حقهم أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
«1» وقال إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ*
«2» . والباغي له مصرع. ولما جاء هولاكو ومنكوتمر وغازان وقصدوا ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، الذين كانوا من جنسنا كما ذكرنا لك أعلاه، اتّفق لهم ما اتّفق مما هو مشروح في التواريخ ومعلوم عند الناس؛ فمهما أخذه أولئك تأخذه إذا جئت.
وأما قولك في كتبك: إنه إن لم نجهّز إليك السلطان أحمد الحلايري مقيّدا تجيء في أوّل فصل الربيع إذا نزلت الشمس برج الحمل، أو لمّا تنزل الميزان، وإن جهّزناه إليك مقيدا، تتأكد المحبة والصّحبة بيننا وبينك، فقد علمناه؛ والذي(7/339)
نعرّفك به هو أننا كنا نتوقّع أنك تجيء قبل هذا الوقت، فقد أبطأت كثيرا، وملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين الذين كانوا قبلنا ما تصالحوا مع مثل هولاكو وغيره إلا حتّى تزاوروا وتقابلو واجتمعوا، ونحن أيضا كذلك، ما نصطلح إلا بعد أن نتزاور ونتقابل ونجتمع. وأنت طلبت أحمد الحلايري، وها نحن واصلون إليك به، نطلب منك أن تشفّعنا فيه، وتهبنا ذنبه الذي صدر منه، وندخل عليك بسببه، ونسأل إحسانك أن تعيّن لنا موضعا نلتقي معك فيه، حتّى نأتيك بأحمد الحلايري المذكور فيه، ونشفع فيه عندك. فعيّن لنا الموضع المذكور على حسب ما تختار: إما من ذاك الجانب من الفرات، أو من هذا الجانب. وأيّ موضع عينته وسمّيته لنا جئناك بالمشار إليه فيه، وندخل عليك في أمره، ونستوهب ذنبه منك.
وأما ما ذكرته من أمر الرسول، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أن الرسول المذكور كان يكتب المنازل منزلة منزلة إلى بلادنا المحروسة، واطلع عليه في ذلك جماعة من جهتنا؛ ولما وصل إلى الرّحبة المحروسة، قال للنائب بها: بس الأرض للأمير تيمور واقرأ الخطبة باسمه. فلو كان رسولا مصلحا ما كان كتب المنازل، ولا أكثر فضوله، وتحدّث بما لا ينبغي له، وتكلّم فيما لا يعنيه، وتعدّى طوره: لأنه لا ينبغي للرسول أن يكون إلا أعمى أخرس غزير العقل، ثقيل الرأس، كما قال بعضهم:
إذا قصدت الملوك فالبس ... من التّقى والعفاف ملبس!
أدخل إذا ما دخلت أعمى، ... واخرج إذا ما خرجت أخرس!
وكيف يمكن نائبا الذي هو من جملة مماليكنا، وجبل لحمه ودمه على أنعمنا وصدقاتنا، وغذّي وربّي بلبان فضلنا وجودنا [أن] يبوس الأرض لغيرنا، أو يخطب باسم غيرنا؟ وكيف يترك اسم خادم الحرمين الشريفين أستاذه؛ ويذكر اسم غيره؟. فقد تكرّرت منك الفعال القبيحة، الموجبة لما يقدّره الله تعالى؟ ونحن نقسم بالله تعالى لولا قلت لنعير تعال حتّى أعملك مقدّم العساكر، ونمشي على الشام ومصر؛ وقرّبت مماليكنا وآويتهم، وبدأت بهذا كلّه وحصل منك التعدّي، ما(7/340)
كان يتفق لرسلك ما اتّفق. ولكنّ الجزاء من جنس العمل، والخير بالخير والبادي أكرم، والشّرّ بالشر والبادي أظلم.
وأيضا كلّ وقت تسأل عن ممالكنا المصونة، وكثرة عساكرنا المنصورة من قلّتها. فلو كنت طالبا المحبة والصحبة والمصادقة، ما وقع منك هذا.
وأما قولك إنّ هولاكو أخذ من كلّ مائة رجل رجلين وجاء بهم، وأنت قد جئت بالرجلين وبالمائة، واعتمادك على كثرة عسكرك على قولك فقد علمناه، وإن كان اعتمادك على كثرة عسكرك فاعتمادنا نحن على الله تعالى واستمدادنا من الحرمين الشريفين، ومددنا ممّن بهما من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والصحابة والصالحين رضي الله عنهم. فإذا تلاقينا يكون ما يقدّره الله تعالى ويعطي الله النصر لمن يشاء، وتعلم ذاك الوقت لمن العاقبة؛ ويظهر فعل الربّ القادر تعالى، وعوائده الجميلة بنا التي لا شكّ عندنا فيها ولا ريب، وقطّ ملوك التتار ما انتصروا على ملوك الإسلام، بل ملوك الإسلام خدّام الحرمين الشريفين، هم المؤيّدون المنصورون المظفّرون بعون الله تعالى، وببركة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، معوّدون من الله الكريم بالفضل والإحسان والغنائم والفتوحات:
لأنهم أهل الكتاب والسّنّة والعدل والخير والخوف من الله تعالى، لا يقعون في محارمه، ولا يقدمون على ارتكاب ما ينهى عنه، فهم المؤمنون المتّقون. وقال الله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
«1» وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا
«2» وقال: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى
«3» وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
«4» وسوف ينجز الله تعالى وعده، لأنه لا يخلف الميعاد.(7/341)
وأما ما ذكرته من أمر قرا يوسف وبير حسن وغيرهما، وأنّ في معاشهم زغلا، وأنّهم مفسدون. وجعلك لكل واحد منهم ذنبا، وأنك أنت العادل الخيّر المفلح، والناس كلّهم مناحيس وأنت الصالح؛ والله يعلم المفسد من المصلح، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أنّ النّور لا يجتمع مع الظلام، ولا اليقظة والمنام، ولا الخير والشّرّ في حيز واحد: لأنها متضادّة، ليس بينها اتّفاق ولا التئام، وفعل المرء دالّ على نيته وطويّته، قال الله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
«1» وقال: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ
«2» وقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
«3» وشتّان ما بين أهل الخير والفساد، وأهل العدل وأهل البغي والعناد؛ فالخيّر هو المتّقي، ومن يرتكب ما حرّم الله ويعتقد أنه على الحق فهو الشّقي.
إذا المرء لم يعرف قبيح خطيّته ... ولا الذّنب منه مع عظيم بليّته
فذلك عين الجهل منه مع الخطا ... وسوف يرى عقباه عند منيّته
وليس يجازى المرء إلا بفعله ... وما يرجع الصّيّاد إلا بنيّته!
وأما قولك إنّ نعير العرب أرسل بالخفية يطلب السلطان أحمد، وأننا نرسم لنوّابنا أن يحترزوا من توجّهه إليه ولا يمكّنوه من ذلك، فإنه إن اتّفق توجهه إليه يكن ذلك سببا لخراب الدّيار، فقد علمناه. والذي نعرّفك به هو أننا نتحقّق أن ما يحصل خراب الديار والدّمار ومحو الآثار إلا لمن يسعى ويتكلّم بخراب الديار وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
«4» . وستعلم ديار من تخرّب، وعمر من يذهب، وعلى من تكون دائرة السّوء دائرة، وسطوات المنايا قاهرة؟ وَسَيَعْلَمُ(7/342)
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«1» وها نحن واصلون بجيوش وجنود وعساكر مؤيّدة من السّباع أسبع، لا تروى أسلحتهم من دماء البغاة ولا تشبع، والجواب ما ترى لا ما تسمع:
قل للّذي في الورى أضحى يعادينا: ... احذر فأمرك ربّ العرش يكفينا!
ما زال يمنحنا فضلا ويكلؤنا ... وفي العدا بعظيم النّصر يشفينا!
أقامنا رحمة للناس أجمعهم، ... ولم يزل من جزيل الجود يعطينا!
بالعزّ والنّصر والتأييد عوّدنا، ... وزادنا في مديد الأرض تمكينا!
وللجميل وفعل الخير وفّقنا، ... شكرا له ستره الأعلى يغطّينا!
قد أسكن الرحمة الحسنى التي أمنت ... بها الأنام بأقصى ملكنا فينا!
فكلّما بالدّعاء المرتضى نطقت ... لنا الرّعايا، أجاب الكون آمينا!
الله حافظنا، الله ناصرنا، ... من ذا يعاندنا؟ من ذا يقاوينا؟
والله الموفّق بفضله العميم، والهادي إلى الصراط المستقيم؛ بمنّه وكرمه، وجوده ونعمه، إن شاء الله تعالى.
كتب في...... من جمادي الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة «2» .
الحالة الثانية- حين عاد السلطان من الشأم إلى الديار المصرية وخرّب هو دمشق وحرّقها، ثم انتقل عنها، وتردّدت رسله بطلب أطلمش: أحد أمرائه الذي كان قد أسر في أيام السلطان الملك الظاهر «برقوق» .
وفي هذه الحالة كان يكتب له في قطع الثلثين، والعنوان بقلم جليل الثّلث بحلّ الذهب سطران، مضمونهما «المقام الشريف العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، دامت(7/343)
معدلته تيمور كوركان» . والبسملة في أوّل الوصل الرابع، والخطبة جميعها بالذهب، وكذلك البعدية وما يتعلّق بالمكتوب إليه على عادة القانات، والعلامة بجليل الثّلث بحلّ الذهب بالهامش ما صورته: «المشتاق فرج بن برقوق» إلا أنه اختلف مكانها في المكاتبات على ما سيأتي ذكره. إلا أن افتتاح المكاتبة إليه في هذه الحالة كان على ضربين بحسب ما اقتضاه الحال.
الضرب الأوّل (الافتتاح ب «أما بعد» وذلك عند أوّل عقد الصلح)
وهذه نسخة مكاتبة كتبت إليه جوابا عما ورد منه بطلب أطلمش المذكور والتماس الصّلح: جهّزت صحبة الأمير شهاب الدين أحمد بن غلبك، والأمير قاني «1» بيه صحبة رسوله خواجا مسعود الكججانيّ رسوله الوارد بكتابه، في جمادى الأولى سنة خمس وثمانمائة. وعلّم له فيها في الهامش بين السطرين الثاني والثالث بقلم جليل الثلث بحلّ الذهب «المشتاق فرج بن برقوق» على ما تقدّم ذكره؛ والورق قطع الثلثين وهي:
أمّا بعد حمد الله الذي جعل الأرواح أجنادا مجنّدة، ووصل أسباب الرّشد والفلاح بمن افتتح باب الإصلاح ولم يخلف موعده، وكفل لمن توكّل عليه في أموره النجاح يومه وغده. والشهادة له بأنه الله القاهر فوق عباده بقدرته المؤيّدة، والصلاة والسلام على أشرف نبيّ طيّب الله عنصره ومحتده؛ وأصلح ببعض نسله الشريف بين فئتين عظيمتين بلغ كلّ منهما من الخير مقصده. وعلى آله الطاهرين، وذرّيته الظاهرين بالمصالح المرشدة، وأصحابه الذين كانت غالب قضاياهم صلحا بين الناس ورسلهم بالاتّفاق مردّدة ومن عدم الشّقاق غير متردّدة؛ صلاة وسلاما نصل بهما حبل البنوّة بالأبوّة المتجدّدة، ونخمد بهما نار الحرب المتوقّدة.(7/344)
فقد أصدرنا هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجإ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين، تيمور كوركان، دامت معدلته. تهدي إليه سلاما تتلى سوره وآياته، وثناء تتوالى غدواته وروحاته ولا تتناهى غاياته؛ وتبدي لشريف علمه أنّ مفاوضته العالية [التي] وردت أوّلا وآخرا، تضمنت رموزها باطنا وظاهرا، تجهيز الأمير أطلمش لزم المقام الشريف إلى حضرته العليّة: لتنحسم مادّة الحركات، وتسكن القلوب والخواطر في سائر الجهات؛ وتتّحد المملكتان في الصّداقة والوفاء، والمحبّة والصّفاء، على الصّورة التي شرحها، وبيّن مناهجها ووضّحها؛ خصوصا ما أشار إليه من أنّ لجواب الكتاب حقّا لا يضيع؛ فوقفنا عليها وقوف إجلال، وفهمنا ما تضمّنته على التفصيل والإجمال.
والذي نبديه إلى علومه الشريفة أنّ سبب تأخير أطلمش أنّه قدم المقام الشريف إلى حدود الممالك الشاميّة، وتوجّهنا من الديار المصرية، عرض لنا ما أوجب العود إليها سريعا، وكان الحزم فيما فعلناه بمشيئة الله تعالى. ثم تحقّقنا من المفاوضة الواردة على يد سودون، وسودون «1» والنمر، والحاج بيسق «2» أحد أمراء أخورية، قسمه بالله الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا ينام ولا يموت أنه إن جهّز إليه أطلمش المشار إليه، رجع المقام الشريف إلى بلاده، وأنه متوقّع حضوره إليه بقارة «3» ؛ أو سلمية «4» ، أو حمص، أو حماة. فأخذنا في تجهيزه(7/345)
إلى حضرته الشريفة على أجمل ما يكون.
فبينا نحن على ذلك إذ وردت علينا الاخبار بما اتفق لدمشق وأهلها: من أنواع العذاب وتخريب قلعتها وديارها؛ وإحراق جامعها الذي هو الجامع الفرد في الممالك الإسلاميّة، وغيره من المساجد والمدارس والمعاهد والمعابد. فلمّا تواترت هذه الأخبار، وتحقّقت هذه المضارّ، لمحنا من عدم ترحّلكم عن دمشق وهي عامرة نقض ما تقرّر، وعدم التفاتكم إلى الأمير أطلمش المذكور وتجهيزه.
فلما وردت مفاوضته الشريفة المجهّزة إلى صاحب ماردين، أرسلها إلينا [وهي] الواصلة على يد المجلس الساميّ، الشيخي، الكبيريّ، العالميّ، الناسكيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، الشّرفيّ، عبد المؤمن، شيخ الجبال، ابن «1» وليّ الله، إمام العارفين، عبد القادر الكيلانيّ «2» ، أعاد الله تعالى من بركاته، والصّدر الأجلّ فخر الدّين التاجر السّفّار، المؤرّخة بثاني عشر ذي القعدة الحرام من سنة أربع وثمانمائة، المتضمّنة وصول المقام الشريف إلى أرزنكان «3» وكماخ «4» قاصدا للبلاد الرّومية، والقصد فيها تجهيز الأمير أطلمش وأن يفتح باب المصالحة، ويسلك طريق المصادقة؛ رعاية لصلاح المملكتين، ونظرا إلى إصلاح ذات البين؛ وأنّه لا مطمع إلا في صحة المودّة، وإرسال أطلمش صحبة شخص من مقرّبي حضرتنا الشريفة: لينظر ما يصدر بعد وصولهما من تمهيد قواعد المجاملة، وتشييد مبانيّ المحبة. وأنّ المقام الشريف- زيدت عظمته- أقسم بالله الذي هو في السّماء إله وفي الأرض إله، أن يكون في هذه الحياة محبّا لمن يحبّنا، مبغضا(7/346)
لمن يبغضنا، وأنّا نتلفّظ بحضور الأمير أطلمش كما تلفّظتم. فعند ذلك اجتمعنا مع مولانا أمير المؤمنين، المتوكل على الله، أدام الله تعالى أيّامه، والشيخ الإمام الفرد، شيخ الإسلام سراج الملّة والدّين عمر البلقينيّ «1» - أعاد الله تعالى من بركته- وقضاة القضاة ومشايخ العلم والصّلاح، وأركان الدولة الشريفة، وقرئت المفاوضة بحضورهم. فلما سمعوا ما تضمّنته من عظيم القسم، والحلف بباريء النّسم، وعلموا أنّ جلّ القصد فيها تطّلع المقام الشريف إلى تجهيز الأمير أطلمش المذكور، فاجتمعت الآراء على إرساله إلى حضرته الشريفة صحبة من اقتضته الآراء الشريفة. ثم وردت بعد ذلك المفاوضة من المقام الشريف- زيدت عظمته- على يد شخص من أهل أزمير- مؤرّخة بثاني عشر شهر صفر المبارك سنة تاريخه، متضمّنة ما حصل من النصر على ابن عثمان، والظّفر به، والاستيلاء على غالب قلاعه. وزبدة الكلام فيها الإسراع بتجهيز أطلمش المذكور، ليجتمع شمله بأولاده بالحضرة الشريفة. ثم بعد ذلك وردت علينا مفاوضة شريفة على يد المجلس الساميّ، الشيخيّ، الكبيريّ، الأوحديّ، العارفيّ، السالكيّ، المقرّبيّ، مسعود الكججانيّ، رسول المقام الشريف. وصحبته المجلس الساميّ، الشيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأماميّ، القدويّ، الشّمسيّ، شيخ القرّاء، إمام أئمة الكبراء، محمد بن الجزريّ «2» أدام الله النفع به. مؤرّخة بغرّة ربيع الأوّل سنة تاريخه، متضمنة معنى الكتابين المجهّزين من ماردين «3»(7/347)
وأزمير «1» . وجلّ القصد فيها تجهيز الأمير أطلمش لتحصل طمأنينة قلوب العالمين، وإخماد باب الفتن، وأنّ العمدة على المشافهة التي تحمّلها الخواجا نظام الدين مسعود المشار إليه، وأن قوله قول المقام الشريف. ومهما عقد الصلح عليه والتزم به، كان من رأي المقام الشريف وشوره «2» ، لا يخرج عنه ولا يميل إلى غيره بقول ولا فعل. فلما أحضرناه وأصغينا إلى ما تحمّله من المشافهة، فإذا هي مشتملة على خالص المحبّة، وأن يكون المقام الشريف والدنا عوضا عمن قدّس الله تربه، وأن نجهز الأمير أطلمش إليه، وتكون عمدتنا بعد الله عز وجلّ عليه؛ فقابلنا ذلك بالقبول والاستبشار، ومحونا آية ليل الجفاء، وأثبتنا آية نهار الوفاء، في الإعلان والإسرار؛ وقبلنا أبوّته الكريمة على مدى الأزمان وتوالي الأعصار، وشاهد الخواجا مسعود حال أطلمش، وعلم اهتمامنا بتجهيزه قبل وصوله بمدّة اعتمادا على أليّته «3» السابقة، ووثوقا بما صرح به من الاتّحاد والمصادقة، وعقدنا الصّلح مع الشيخ نظام الدين مسعود المذكور بطريق الوكالة الشرعية عن المقام الشريف، وحلفنا نظير ما حلف عليه، بموافقة مولانا أمير المؤمنين- أدام الله أيامه- على ذلك بمحضر من شيخ الإسلام، وقضاة القضاة، ومشايخ العلم والصّلاح، وأركان الدولة الكبار، مع حضور الأمير أطلمش، لزم المقام الشريف، وشهادة من يضع خطه على نسخ الصّلح التي كتبت، وجهّزنا منها نسختين مثبوتتين إلى حضرته(7/348)
الشريفة قرين هذا الجواب الشريف، لتحيط العلوم الشريفة بمضمونها، وبأحدهما خطّنا الشريف لتخلّد بخزانته الشريفة، والأخرى يشملها بخطه الشريف وتعاد إلينا صحبة رسولنا: المجلس العالي الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المقرّبيّ، الأعزّيّ، الأخصّيّ، الأصيليّ، الشّهابيّ، أحمد بن أغلبك الناصري مقرّبنا ومقرّب والدنا الشهيد- أدام الله تعالى نعمته- وجهّزنا صحبته المجلس الساميّ، الأمير، الأجلّ، الكبير، المقرّب، المرتضى، الأخصّ، الأكمل، سيف الدين، قاني باي الخاصكيّ الناصريّ، أدام الله سعادته، المتوجهين بهذا الجواب الشريف، المجهّزين صحبة الأمير أطلمش، وبقية قصّاد المقام الشريف ورسله.
ومما نبديه لعلومه الشريفة أنه مما تضمنه الملخّص الشريف المجهّز عطف الكتاب الواصل على يد الشيخ مسعود الكججاني مضاعفة الوصية بأولاد الشيخ شمس الدين الجزريّ ورعاية أحوالهم وتعلّقاتهم. وقد قابلنا ذلك بالإقبال والقبول وقرّرنا لهم بالأبواب الشريفة. ونحن بشهادة الله- وكفى به شهيدا- قد أخلصنا النية للمقام الشريف، وعاهدنا الله عز وجلّ في التعاضد والتناصر والاجتهاد، في عمل المصالح للعباد والبلاد، وعدم التّقاصر والعمل بما فيه بياض الوجه عند الله في الدنيا والآخرة، وإجراء الأمور على السّداد. بتوفيق الله عز وجلّ، وطلبا لرحمته الباطنة والظاهرة. ثم استقبل لسان الحال ينشدنا:
يا أوّل الصّفو هذا آخر الكدر
فيكون ذلك في علومه الشريفة، والله تعالى يديم عوارفه الوريفة، بمنّه وكرمه.
والمستند «حسب المرسوم الشريف» .(7/349)
الضرب الثاني (ما صار إليه الأمر بعد وصول أطلمش إليه)
وهذه نسخة جواب والعنوان سطران بقلم الثلث بماء الذهب ما صورته:
«المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجأ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين؛ تيمور كوركان- زيدت عظمته-.
والطرّة ثلاثة أوصال، والبسملة الشريفة في أوّل الوصل الرابع. ثم «الحمد لله» وتتمة الخطبة بالذّهب، وبيت العلامة عرض أربعة أصابع مضمومة، وما يليها من الأسطر سعة ثلاثة أصابع، والعلامة الشريفة بين السطر العاشر والحادي عشر من سطور الكتابة، موافقا لانتهاء الخطبة عند «أما بعد فقد صدرت هذه المفاوضة» . والعلامة الشريفة بجليل الثلث بماء الذهب «المشتاق فرج بن برقوق» . وهامش الكتاب أربعة أصابع مطبوقة، والخطبة وما يليها من البعدية وألقاب المقام القطبي المركبة والمفردة الجميع بالذهب. ومضمونه بعد البسملة:
الحمد لله الذي شيّد قواعد الإصلاح، ومهّد مواطن الرّشد والنّجاح، وجعل أذان المؤمن يجيب داعي الفلاح.
نحمده على أن ألفّ بين القلوب بلطيف الارتياح، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله زمّ نفوس المؤمنين بحبل التقوى من حميّة الجماح، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي وضح من نور رسالته فجر الإيمان ولاح، ونفح من نور معجزاته زهر الدين الحنيفيّ وفاح؛ صلّى الله عليه وعلى آله الذين شدّوا ظهور كلمهم من الصّدق بأتقن وشاح، وعلى صحابته الذين بينوا من عهودهم بفقههم في الدين الواجب والمندوب والمحظور والمباح؛ وسلّم تسليما كثيرا.(7/350)
أما بعد، فقد صدرت هذه المفاوضة إلى المقام الشريف، العالي، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدين، ملجإ القاصدين، ملاذ العائذين، قطب الإسلام والمسلمين:
ملك يفوق الخلق طرّا هيبة ... فبه نهاية غاية التّأميل!
تيمور كوركان- زيدت عظمته، ودامت معدلته؛ ولا زالت رايات نصره خافقة البنود، وآيات فضله متلوّة في التهائم «1» والنّجود؛ وسحب فضائله هامية بالكرم والجود، ومهابة سطوته تملأ الوجود- تهدي إليه من السلام ما حلا في حالتى الصّدور والورود، ومن الإخلاص ما صفا وضفت منه البرود.
وتبدي لعلمه الشريف أن مفاوضته الشريفة وردت علينا جوابا عما كتبناه إلى حضرته الشريفة، على يد المجلس العالي الأميريّ الشهابي، أحمد بن غلبك وسيف الدين، قاني بيه الناصري، المجهّزين صحبة المجلس العالي، الأميريّ، الجلاليّ أطلمش، لزم المقام الشريف، بوصول الأمير جلال الدين أطلمش إلى حضرته الشريفة طيّبا، مبديا بين يديه ما حمّلناه من رسائل الأشواق، مبيّنا ما هو اللائق بخلاله الحسنة عن حضرتنا ما دبّج به الأوراق، شاكرا لإنعاماتنا التي هي في الحقيقة من شيم فضلكم الخفّاق، مثبتا منه ومن فحوى الخطاب في نظم الكتاب صدق المقال وصحّة العهد ورسوخ الميثاق، وأنه قد ثبت بما بثّ من غرائب المعاني حصول الأمانيّ، وسرى بعد ما يكون من هدايا التّهاني، وأن الذي اتفق الآن هو المطلوب، والمكتوب به إلى والدنا الشهيد الطاهر أوّلا هو المرغوب؛ وخلافه كان موجبا لنقل الحركات الشريفة إلى جهة البلاد، وما اتفق فيه للعباد، ولكن كلّ بقضاء وقدر. ولما حصل قبول الإشارة بتجهيز الرّسل والأمير أطلمش، صارت القلوب متّفقة، والعيون قارّة؛ وصفت موارد الصّفاء، وضفت برود الوفاء؛(7/351)
وقطعت حبال المنافاة والجفاء. وأنّ المقام الشريف كان أقسم في كتبه قسما وأعاده، ثم فصّل مجمله وأفاده؛ وهو- والله الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا ينام ولا يموت- من يومه هذا لا يخالف ما صدر من عقد الصّلح المسطور، ولا يرجع عن حكمه للعهد المزبور «1» ؛ ويحبّ من يحبّنا ويبعض من يبغضنا؛ ويكون سلما لمسالمينا، حربا لمحاربينا؛ ومتى استنصرنا به على أحد من مخالفينا أمدّنا بما شئنا من العساكر، وأنه أمر ما ناله أحد من الناس غيرنا، وإنه لو كان القسم على الوجه الذي ذكره مصرّحا مذكورا في لفظ الكتاب، وعبارة الخطاب، لكان أوضح والتبيين أملح؛ وأنه حيث كان بأطراف ممالكه المجاورة لممالكنا أحد من المفسدين يجهّزه إلينا مقيّدا. وحيث كان أحد من المفسدين بممالكنا المجاورة لممالكه يعرّفنا به لنجهّزه إليه: لاتفاق الكلمتين، واتحاد المملكتين، وطمأنينة لقلوب الرعايا والسالكين من الجهتين؛ وما تفضّل به: من سؤال المقام الشريف الله عزّ وجل زيادة أسباب دولتنا، ونموّ إيالتنا، وأن الهلال إذا رأيت نموّه، أيقنت أن سيصير بدرا كاملا. وأنّا سنرى ما يصنعه المقام الشريف، من الفضل المنيف، ومن تلافي الأمور، ما يظهر للخاصّة والجمهور، مما يزيد بدرنا نموّا، وقدرنا بين الملوك سموّا: لأنه لنا أكفى كفيل، وأشفق من الولد والصاحب والخليل؛ وإن من علامة الصفا، إظهار ما خفى، وهو أن في أطراف ممالكنا الآن بلادا كانت داخلة في ممالكه، وهي أبلستين، وملطية، وكركر، وكختا، وقلعة الرّوم، والبيرة؛ وأنه كان حمل معناها على لسان المجلس السامي، النظامي، مسعود الكججاني أوّلا، المجهّز الآن صحبة الأمير شهاب الدين بن غلبك وسيف الدين قاني بيه، وأن القصد أن نأمر من بها من النوّاب أن تسلّمها لنوّابه، والمعوّل في انتظام الأمور على ما تحمّله المشار إليه وعوّل عليه؛ وأنه شاكر لمرافقنا، موافق لموافقنا؛ وأنه يصغى إلى ما نبديه، ونتحف به ونهديه، على الصورة التي أبداها، والتحيّة التي بكريم الشّيم أهداها؛ فقد علمنا ذلك(7/352)
جملة وتفصيلا، وشكرنا حسن صنيعه إقامة ورحيلا؛ وتضاعف سرورنا بوصول الأمير أطلمش إلى الحضرة الشريفة. ووصل إلينا الأمير شهاب الدين بن غلبك وسيف الدين قاني بيه مرتّلين من ذكر محاسنكم ترتيلا، وعرضا ما تفضلتم به في حقّنا إكراما وتوقيرا وتبجيلا، وأنهيا بين أيدينا ما عوملا به من الفضل الذي ما عليه مزيد، والبرّ الذي تعجز الفصحاء أن تبديء بعض محاسنه أو تعيد؛ وأنهما كانا كلّ يوم من توفّر الفضل في يوم عيد، وحصل لهما من الإقبال ما لا يحصى بالحصر والتحديد؛ فحمدنا للمقام الشريف الوالديّ حسن هذا الفضل العام، وشكرنا جميل تفضّله ألذي أخجل الغمام؛ وتزايد شوقنا وحبّنا حيث زمزمت «1» ألفاظ المفاوضة الشريفة إلى ذلك المقام.
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد!
وهذا هو اللائق بالخلال الشريفة، والمؤمّل في جلال صفاته المنيفة؛ ووصل الخواجا نظام الدين صحبتهما مبديا عن جنابكم من رسائل المحبّة والصّفاء، والمودّة والوفاء، ما يعجر عن وصفه الناظم والناثر، مظهرا من حسن المودّة وغزير المعرفة ما يفخر به الموالي والمؤاثر؛ سالكا من تأكيد أسباب الصّلح ما تتجمّل به مفارق المفاخر، معتذرا عما تقدّم فما قدّر ربما يكون سببا لإصلاح الآخر؛ متكفّلا عن صفاء طويّتكم لنا بما يسرّ السرائر؛ فضاعفنا إكرامه، ورادفنا إنعامه، ووفّرنا من العزّ أقسامه، وأنزلناه منزلا يليق به، ووصلنا كلّ خير بسببه؛ وما هو إلا مستحقّ لكل ما يراد به من فيض فضل وفضل.
وأمّا ما أشار إليه من إعادة القسم تأكيدا للصّلح، وتوضيحا للنّجح؛ ولو كان القسم الذي أقسمنا به مصرّحا لكان أولى، فقد علمنا ذلك وكتبنا ألفاظ القسم في كتاب الصّلح مصرّحة، وأعدناه إلى حضرته ليقرأ على مسامعه الشريفة؛ ويشمله(7/353)
الخط الشريف ويعاد إلينا، ونحن نكرّر القسم، بباريء النّسم؛ الذي لا إله إلا هو، الطالب الغالب، المدرك المهلك، الحيّ الذي لا ينام ولا يموت، أنّا من يومنا هذا لا نخالف ما انتظم من عقد الصّلح المسطور، إلى يوم البعث والنّشور؛ ولا تحلّ عراه الوثيقة المشار إليها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ونكون حربا لمن حاربه، وسلما لمن سالمه، ومبغضين لمبغضيه، ومحبّين لمحبّيه؛ ومن أشار بإشاره، أو شنّ على أحد من [رعاياه] غاره، رادفنا إسعافه وضاعفنا استظهاره، وأخلصنا القول والعمل في مصافاة المقام الشريف: لأن الصلح بحمد الله قد تمّ وكمل، فيكون ذلك في شريف علمه.
وأمّا ما أشار إليه من أمر القرى التي قصد تسليمها لنوّابه، وأنّها داخلة في حدود مملكته: كأبلستين، وملطية، وكركر، وكختا، وقلعة الرّوم، والبيرة، فقد علمنا ذلك. ونحن نبدي إلى علومه الشريفة أنّ هذه البلاد لا يحصل لنا منها خراج، ولا ينال ملكنا ونوّابنا منها في كلّ وقت إلا الانزعاج؛ وإذا جهّزنا إليها أحدا من النّوّاب، نتكفّل له غالبا بالخيل والرّجل والرّكاب؛ وبضواحيها من سرّاق التّركمان، وقطّاع الطريق من العربان، ما لا يخفى عن مقامه. ولو كانت دمشق أو حلب، أو أكبر من ذلك مماله «1» عن الطّلب؛ ما توقّفنا فيها عن قبول إشارته لتأكيد المحبّة، واتّحاد الكلمتين من الجانبين في أعلى رتبة؛ غير أنّ لتسليمها من الوهن لمملكتنا منافاة لما تفضّل به المقام الشريف من سؤال الله تعالى في زيادة سلطنتنا. خصوصا وقد وعد المقام الشريف الوالديّ بما سنرى، وسوف تظهر نتيجته مما يتفضّل به بين الورى؛ وأنّ الذي سمح لنا به من الاستظهار ما ناله أحد من الناس، وما حصل لنا بما أبداه الخواجا مسعود بين أمراء دولتنا من المشافهة عن مقامه الشريف من قوّة الجاش والإيناس؛ ونحن نترقّب بيمن حركاته، وسديد إشاراته، زيادة الخبر في النّفس والملك والمال، ونتوقّع من جميل كفالته السعادة الأبديّة في الحال والمآل؛ فيكون ذلك في شريف علمه.(7/354)
وقد جهّزنا بهذه المفاوضة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الأعزيّ، الأخصّيّ، المقرّبيّ، المؤتمنيّ، الأوحديّ، النّصيريّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء الخواصّ في العالمين، منتخب الملوك والسلاطين، منكلي بغا الناصري أمير حاجب «1» ، أدام الله تعالى سعده، وأنجح قصده؛ وعلى يده من الهديّة المصرية ما تهيّأ تجهيزه بمقتضى القائمة الملصقة بذيلها، وأعدنا المجلس العالي النّظاميّ: مسعودا ومن معه إلى المقام الشريف، متحمّلين من رسائل الأشواق والاتّحاد، ما لا يقع عليه الحصر والتّعداد؛ وما أخرنا الخواجا نظام الدين مسعودا هذه المدّة بالباب الشريف إلا لأمر عرض من قضيّة السلطان أحمد بن أويس، وهربه «2» من بغداد إلى حلب، وجهّزنا من الباب الشريف من يحضره إلى دمشق ليحصل منه الأرب؛ ثم بعد ذلك بأيّام ورد الخبر من كافل الشام المحروس، بوصول قرا يوسف «3» بن قرا محمد إلى دمشق في نفر قليل. فجهّزنا أحد الأمراء إلى كافل الشام بمثال شريف، يتضمّن القبض على السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف المذكورين، وإيداعهما الاعتقال بقلعة دمشق المحروسة، وفاء للعهد وتأكيدا. وحمّلنا الأمير سيف الدين منكلي بغا المذكور، مشافهة في معناهما. والقصد من جميل محبّته، وجزيل أبوّته، قبول المجهّز من ذلك، وبسط العذر فيه إذا وصل إلى حضرته هنالك: لأن الديار المصرية وأعمالها حلّ بها من المحل لعدم طلوع النّيل في هذه السنة ما لا يحصر ولا يحصى، ولا سمع بمثله.
وشمول نسخة الصلح المعادة بالخط الشريف، ومضاعفة إكرام حاملها الأمير منكلي بغا بالبرّ الوريف؛ والإصغاء إلى ما تحمّله من المشافهة في معنى أحمد بن أويس وقرا يوسف، والله تعالى يشيّد بتمهيده قواعد الدين الحنيف، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.(7/355)
(الثالث (من ملوك توران من بني جنكزخان القان الكبير، صاحب التّخت، وهو صاحب الصّين والخطا)) قال في «التعريف» : وهو أكبر الثلاثة، ووارث تخت جنكزخان. قال:
ولم يكن يكاتب لترفّعه وإبائه، وطيرانه بسمعة آبائه؛ ثم تواترت [الآن] الأخبار بأنه قد أسلم ودان دين الإسلام، ورقم كلمة التوحيد على ذوائب الأعلام. قال: وإن صحّ ذلك- وهو المؤمّل- فقد ملأت الأمة المحمدية الخافقين، وعمّت المشرق والمغرب، وامتدّت بين ضفّتي المحيط. ثم قال: فإن صحّ إسلامه وقدّرت المكاتبة إليه، تكون المكاتبة إليه كالمكاتبة إلى صاحب إيران ومن في معناه من سائر القانات المقدّم ذكرهم، أو أجلّ من ذلك.
قلت: ولم يتعرّض إلى المكاتبة إليه على تقدير بقائه على الكفر، ويشبه أن تكون المكاتبة إليه على ذلك «1» وشدّة سطوته، فيعطى من قطع الورق بقدر رتبته.
ثم يجوز أن تبتدأ المكاتبة إليه كصاحب القسطنطينية ومن في معناه، مع مراعاة معتقده في ديانته بالنسبة إلى «2» كما يرعى مثل ذلك في المكاتبة إلى ملوك النّصرانية، والوقوف في الخطاب وما ينخرط في سلكه عند الحدّ اللائق به. والأمر في ذلك موكول إلى اجتهاد الكاتب ونظره.(7/356)
المهيع الثالث (في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارج عن مضافات الديار المصرية، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في المكاتبات إلى ملوك اليمن، وهم فرقتان)
الفرقة الأولى (أئمة الزيدية)
قال المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» : وهو من بقايا الحسنيّين القائيمن بآمل الشّطّ «1» من بلاد طبرستان، وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتّى كاد يطيح رداءها، ويشمت بها أعداءها. وهذه البقية الآن بصنعاء وبلاد حضر موت وما والاها من بلاد اليمن. قال: والإمامة الآن فيهم في بني المطهّر، وتقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أن أوّل من قام من هذه الأئمة باليمن الإمام (يحيى الهادي) بن الحسين الزاهد، بن أبي محمد القاسم الرّسّيّ، بن إبراهيم طباطبا، بن إسماعيل الدّيباج، بن إبراهيم «2» الغمر، بن الحسين المثنّى، بن الحسن السّبط، ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي(7/357)
الله عنه، في سنة ثمان وثمانين ومائتين في خلافة [المعتضد] «1» ؛ وأنه كان فقيها عالما مجتهدا في الأحكام، حتّى قال فيه ابن حزم «2» : إنه لم يبعد عن الجماعة في الفقة كلّ البعد. ثم [ولي بعده ابنه محمد المرتضى وتمّت له البيعة فاضطرب الناس عليه واضطرّ إلى تجريد السيف فجرده ومات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة لثنتين وعشرين سنة من ولايته و] «3» ولي بعده أخوه (أحمد الناصر) ثم أخوه (القاسم المختار) «4» ثم (الحسين المنتجب) . واطّرد أمرهم بصنعاء إلى أن غلب عليهم السّليمانيّون أمراء مكة عند خروجهم منها، فاستقرّت بأيديهم إلى أن ملك اليمن من جهة الساحل (أحمد الموطّيء) بن الحسين المنتجب المقدّم ذكره، وذلك في أيام سيف الإسلام ابن أيوب سنة خمس وأربعين وستمائة. وبقي أمر الزيديّة هناك في عقبه.
وقد ذكر المقرّ الشهابيّ بن فضل الله أن الإمامة في زمانه، في الدولة الناصرية ابن قلاوون كانت في (حمزة) وذكر في «مسالك الأبصار» أنّ يحيى بن حمزة ولّي بعد أبيه، وكان في زمن المؤيّد داود بن يوسف صاحب اليمن. وذكر قاضي القضاة ابن خلدون أن الإمام قبل الثمانين والسبعمائة كان (عليّ بن محمد) من أعقابهم، وتوفّي قبل الثمانين. وولي ابنه (صلاح) وتابعه الزيدية، وكان بعضهم ينكر إمامته لعدم استكمال الشروط فيه فيقول: «أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان» . ثم مات سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وقام بعده ابنه (نجاح) فامتنع الزيديّة من بيعته فقال: أنا «محتسب لله تعالى» . قال في «التعريف» : وأمراء(7/358)
مكة تسرّ طاعته، ولا تفارق جماعته. قال: ويكون بين هذا الإمام وبين الملك الرّسوليّ باليمن مهادنات، ومفاسخات تارة وتارة. قال: وهذا الإمام وكلّ من كان قبله على طريقة ما غيّروها. وهي إمارة أعرابية لا كبر في صدورها، ولا شمم في عرانينها «1» ؛ وهم على مسكة من التقوى، وتردّ بشعار الزّهد؛ يجلس في نديّ قومه كواحد منهم، ويتحدّث فيهم ويحكم بينهم، سواء عنده المشروف والشريف، والقويّ والضعيف؛ وربما اشترى سلعته بيده، ومشى في أسواق بلده، لا يغلّط الحجاب، ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجّاب، يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسّع، ولا تكثّر غير مشبع؛ هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل، وفضل كامل. قال: في «مسالك الأبصار» : ولشيعة هذا الإمام فيه حسن الاعتقاد، حتّى إنهم يستشفون بدعائه، ويمرّون يده على مرضاهم، ويستسقون به المطر إذا أجدبوا، ويبالغون في ذلك كلّ المبالغة. ثم قال: ولا يكبر لإمام هذه سيرته- في التواضع لله، وحسن المعاملة لخلقه، وهو من ذلك الأصل الطاهر والعنصر الطّيّب- أن يجاب دعاؤه ويتقبّل منه. قال: وزيّ هذا الإمام وأتباعه زيّ العرب في لباسهم والعمامة والحنك، وينادى عندهم بالأذان «حيّ على خير العمل» .
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» : أدام الله تعالى أو ضاعف الله تعالى نعمة، أو جلال الجانب الكريم، العالي، السّيديّ، الإماميّ، الشريفيّ، النّسيبيّ، الحسيبيّ، العلّاميّ، سليل الأطهار، جلال الإسلام، شرف الأنام، بقيّة البيت النبويّ، فخر النّسب العلويّ، مؤيّد أمور الدّين، خليفة الأئمة، رأس العلياء، صالح الأولياء، علم الهداة، زعيم المؤمنين، ذخر المسلمين، منجد الملوك والسلاطين. ولا زال زمانه مربعا، وغيله مسبعا، وقراه مشبعا، وكرمه لفيض نداه منبعا، وهداه حيث أمّ بالصّفوف متّبعا، وملكه المجتمع باليمن لو أدركه(7/359)
سيف بن ذي يزن «1» لم يكن إلا لديه منتضى وتبّع «2» لم يكن له إلا تبعا. ولا فتئت معاقد شرفه بالجوزاء، وعقائد حبّه تعدّ لحسن الجزاء، ومعاهد وطنه آهلة بكثرة الأعزّاء، ومياسم أهل ولائه تعزّ إليه بالاعتزاء، ومباسم ثغور أودّائه «3» ضاحكة السّيوف في وجوه الأرزاء؛ هذه النّجوى إلى روضه الممرع وإلا فما تزمّ «4» الرّكائب، وإلى حوضه المترع وإلا فما الحاجة إلى السّحائب؛ وإلى حماه المخصب وإلا ففيم يسري الرائد، وإلى مرماه المطنّب فوق السماء وإلّا إلى أين يريد الصاعد؛ تسري ولها من هادي وجهه دليل، وفي نادي كرمه مقيل، وإلى بادي حرمه وما فيه للعاكف، وإلى عالي ضرمه ما لا ينكره العارف، وفي آثار قدمه ما يحكم به كل عائف؛ وفي بدار خدمه ما يذر عداه كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف. مبدية وأوّل ما تبدأ بسلام يقدّمه على قول كيت وكيت، وثناء ولا مثل(7/360)
قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
«1» صدر آخر- ولا عطّل محراب هو إمامه، ولا بطل عمل هو تمامه، ولا جفّ ثرى نبات هو غمامه، ولا خفّ وقار امريء بيده المصرّفة زمامه، ولا ارتدّ مضرب سيف رؤوس أعاديه كمامه؛ ولا ارتأى في حصول الخيرة له من كان إلى كنفه انضمامه. وأطال الله باع عليائه، وأطاب بأنبائه سماع أوليائه، وأدام إجماع السّرور عليه، ومصافاته لأصفيائه وتراميه إليه. صدرت بها الركائب إليه مخفّة، وسرت بها النجائب لتقف عليه والقلوب بها محفّة «2» ؛ وأهوت لديه يشمخ بها لوصولها إليه الكبر، وطوت إليه البيد طيّ الشّقّة تقيسها المطايا بالأذرع والثّريّا بالشّبر؛ تأتي بالعجب إذ تجلب إليه المسك الأذفر «3» ، وتجلو له الصّباح وما لاح والليل وما أسفر؛ وتحلّ في مقرّ إمامته، وتحلّي العاطل بما نثره من الطّلّ صوب غمامته؛ موصّلة لعلمه ما لا يقطع، ومضوّعة عنده من عنبر الشّحر «4» ما يستبضع، ومعلمة له كيت وكيت.
قلت: هذا ما أصّله في «التعريف» وحاصله أنه يأتي بالصّدر المقدّم ذكره إلى قوله: «منجد الملوك والسلاطين» ، ثم يأتي بالدعاء المناسب؛ ثم يقول:
«هذه النجوى» إلى آخره «مبدية لعلمه» أو «معلمة» أو «صدرت بها الركائب» ونحو ذلك.
ثم لم يتعرّض في «التعريف» لقطع الورق الذي يكتب إليه فيه، ولا للعلامة له، ولا لعنوان كتابه، ولا لتعريفه، ونبّه على ذلك في «التثقيف» وأنه(7/361)
أهمل ذلك ثم لم ينبّه هو عليه. وقد رأيت في دستور منسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله بيان ما أهملاه من ذلك فقال: والخطاب له بمولانا الإمام، والطلب منه «والمسؤول» وختم الكتاب بالإنهاء، والعنوان بالألقاب والدعاء المقدّم ذكره، والعلامة «الخادم» .
وقد ذكر في «التعريف» أنه وصل إلى الديار المصرية، في الأيام الناصرية «محمد بن قلاوون» سقى الله عهده رسول من هذا الإمام [ابن مطهّر إمام الزيدية] «1» من صنعاء، بكتاب منه يقتضي الاستدعاء. أطال فيه الشّكوى من صاحب اليمن، وعدّد قبائحه، ونشر على عيون الناس فضائحه، واستنصر بمدد يأتي تحت الأعلام المنصورة لإجلائه عن دياره، وإجرائه مجرى الذين ظلموا في تعجيل دماره؛ وقال: إنه إذا حضرت الجيوش المؤيّدة قام معها، وقاد إليها الأشراف والعرب أجمعها؛ ثم إذا استنقذ منه ما بيده أنعم عليه ببعضه، وأعطي منه ما هو إلى جانب أرضه. ثم قال: فكتبت إليه مؤذنا بالإجابة، مؤدّيا إليه ما يقتضي إعجابه؛ وضمن الجواب أنه لا رغبة [لنا] «2» في السلب، وأنّ النّصرة تكون لله خالصة وله كلّ البلاد لا قدر ما طلب.
وهذه نسخته:
ضاعف الله تعالى جلال الجانب- بالألقاب والنعوت- وأعزّ جانبه عزّا تعقد فواضله بنواصي الخيل، وصياصي «3» المعاقل التي لم يطلع على مثلها سهيل «4» ؛ وأقاصي الشرف الذي طلع منه في الطّوق وتمسّك سواه بالذّيل؛ وقدّمه للمتقين إماما، وجعله للمستقين غماما، وشرّفه على المرتقين في علا النسب العلويّ ونوّره وصوّره تماما، ومنّ على اليمن بيمنه، وأعلم بصنعاء حسن صنيعه وبحضر موت(7/362)
[حضور] «1» موت أعدائه، وبعدن أنّها مقدّمة لجنّات عدنه؛ ولا زالت الآفاق تؤمّل من فيضه سحابا دانيا، وتتهلّل إذا شامت له برقا يمانيا، وتتنقّل في رتب محامده ولا تبلغ من المجد ما كان بانيا.
هذه النجوى وكفى بها فيما يقدّم بين يديها، ويقوّم ولا يقوم من كلّ غالي الثمن ما عليها؛ تطوي المراحل «2» ، وتجوب البرّ والبلد الماحل، وتثب إليه البحار وتقذف منها العنبر إلى الساحل؛ وترسي به سفنها، وتحط إليه بل تخط لديه مدنها؛ وتؤذن علمه- سره الله- بما لم يحل إليه من نظر، ولم يخل منه من سبب ألف به النّوم أو نفر، ورود وارد رسوله فقال: يا بشراي ولم يقل هذا غلام، ووصوله بالسلامة والسلام؛ وما تضمّنه ما استصحب منه من صحيفة كلّها كرم، وأخبار صحيحة كلّها مما لو قذف به الماء لاضطرم، ذكر فيها أمر المتغلّب العادي، [والصاحب الذي يفعل فعل الأعادي] «3» ، والجار الذي جار والظالم البادي، وما مدّ الأيدي إليه من النّهاب وما اختطف به القلوب من الإرهاب؛ وتحدّث عن أخباره وعندنا علمه، وأخبر عن أفعاله مما له أجر الصبر عليه وعليه ظلمه، وقصّ رسوله القصص، وزاد الشّجى وضيّق مجال الغصص، وأطار من وكر هذا العدوان طائرا كأنما كان في صدره، وحرّك منه لأمر كان يتجرّع له كأس صبره؛ وقد أسمع الدّاعي، وأسرع الساعي؛ وبلّغ الأمانة حاملها، وأوصل الكلمة قائلها؛ ومرحبا مرحبا بداعي القيام من قبله، وأهلا أهلا بما بلّغ على ألسنة رسله؛ وهلمّ هلمّ إلى قلع هذه الشجرة التي لم ينجب ظنّ غارسها، وقطع هذه الصّخرة التي لم تنصب إلا مزلفة لدائسها؛ والتعاضد التعاضد لما هتف به هاتفه الصارخ، وسمعه حتّى الرمح الأصمّ والسيف المتصاوخ «4» ، فليأخذ لهذا الأمر الأهبة، وليشدّ عليه فقد(7/363)
آنت الوثبة؛ فقد سطّرت وقد نهض إلى الخيل ملجمها، وبادر وضع السهام في الكنائن مزحمها؛ وكأنّه بأوّل الأعنّة، وآذان الجياد تفوّق بين شطري وجهها الأسنّة؛ وكأنه برسوله القائد وفي أعقابه الجيش المطلّ، والألوية وكلّ بطل باسل يبتدر الوغى ولا يستذل؛ ولا أرب لنا في استزادة بلاد وسّع الله لنا نطاقها، وكثّر بنا موادّ أموالها وقدّر على أيدينا إنفاقها؛ وإنما القصد كلّه والأرب جميعه كشف تلك الكرب، وتدارك [ذلك الذّماء «1» الذي] «2» أوشك أو كرب، وإن قدّر فتوح، وتيسّر ما طرف سوانا إليه طموح، كان هو أحقّ بسقبه «3» : لأنه جار الدار، والأوّل الذي كان له البدار؛ ويقلّ له لعظيم شرفه ما نسمح به وإن جلّ، وما نهبه منه وإن عظم- شأن كلّ تبع وهو ببعضه ما استقلّ؛ وكأنّه والخيل قد وافته تجدّ في الإحضار، وتسرع إليه وتكفيه مؤونة الانتظار؛ إن شاء الله تعالى.
الفرقة الثانية (أولاد رسول)
وهم المعروفون بملوك اليمن عند الإطلاق، ومقرّ مملكتهم حصن تعزّ.
ورسول هذا الذي كان ينسب إليه ملوك هذا النّسب من اليمن هو رسول أمير اخور الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيّوب. قال في «التعريف» : ولما بعث الملك الكامل ولده الملك المسعود أطسز، وهو الذي تسمّيه العامّة أقسيس، بعث معه رسولا أمير اخور في جملة من بعثه معه. قال: ثم تنقّلت الأحوال حتّى استقلّ رسول بملك اليمن، وصار الملك في عقبه إلى الآن. والذي ذكره المؤيّد(7/364)
صاحب حماة، وقاضي القضاة وليّ الدين بن خلدون في تاريخيهما «1» وهو الصواب أنّ أوّل من ملك اليمن عليّ بن رسول، ثم ابنه المنصور عمر، ثم ابنه المظفّر يوسف، ثم ابنه الأشرف عمر، ثم أخوه المؤيّد هزبر الدين داود، ثم ابنه المجاهد سيف الدين عليّ، وهو الذي قال المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» إنه كان في زمنه، ثم المنصور أيوب، ثم المجاهد عليّ المقدّم ذكره ثانيا، ثم ابنه الأفضل سيف الدين عبّاس. وهو الذي قال في «التثقيف» إنه كان في زمنه في الدّولة الأشرفية «شعبان بن حسين» ثم ابنه المنصور محمد، ثم أخوه الأشرف إسماعيل، وهو الذي كان في الدولة الظاهرية برقوق. ثم ابنه [الملك الناصر أحمد] «2» وهو القائم بها الآن.
واعلم أنّ المكاتبات بين صاحب مصر وصاحب اليمن من حين استقرّت مملكة اليمن مع بني أيّوب ملوك مصر وصارت المملكتان كالمملكة الواحدة، ثم تواصلت المكاتبات بين ملوكهما وتأكّدت المودّة إلى زماننا هذا، خلا ما وقع في خلال ذلك من حصول تباين وقع بين أهل المملكتين في بعض الأزمان، وهو على ضربين:
الضرب الأوّل (ما كان الأمر عليه في الدولة الأيوبية
، وهو أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أصدرناها» ) وهذه نسخة كتاب عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام، إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن يستقدمه إليه، معاونا له على قتال(7/365)
الفرنج، ويخبره بما وقع له من الفتوحات في سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وهي «1» :
أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدّد بحضرتنا فتوح «كوكب» وهي كرسيّ الاستباريّة ودار كفرهم، ومستقرّ صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم؛ وكان بمجمع الطّرق قاعدا، ولملتقى السّبل راصدا؛ فتعلّقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطرق فيها وأمّنت، وعمّرت بلادها وسكنت؛ ولم يبق في هذا الجانب إلا «صور» ولولا أنّ البحر ينجدها والمراكب تردها، لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن؛ وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم، بل هم أسارى وإن كانو طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء؛ قال الله عز وجلّ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
«2» ولكل امريء أجل لا بدّ أن يصدقه غائبه، وأمل لا بدّ أن يكذبه خائبه.
وكان نزولنا على «كوكب» بعد أن فتحنا «صفد» بلد الدّيويّة ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم ومحلّهم الأحصن ومنزلهم؛ وبعد أن فتحنا «الكرك» وحصونه، والمجلس السيفي- أسماه الله- أعلم بما كان على الإسلام من مؤونته المثقلة، وقضيّته المشكلة وعلّته المعضلة؛ وأن الفرنج- لعنهم الله- كانوا يقعدون منه مقاعد للسّمع، ويتبوّأون منه مواضع للنّفع؛ ويحولون بين قات (؟) وراكبها، فيذلّلون الأرض بما كان منه ثقلا على مناكبها. والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من بلاد الحرمين؛ فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام؛ وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال من النّصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة(7/366)
الإسلام. وإنّ بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما [فادخلوها بسلام] «1» ؛ وكان نزولنا على «كوكب» والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه؛ والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسو الجبال عمائمها البيض؛ والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت الأرض وبلغت الجبال طولا؛ والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات؛ فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزّمان وقد يحرز الحظّ المكاثر؛ وعلم الله النيّة فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها؛ ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من نقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
والحمد لله الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطّيّب على الخبيث؛ فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه؛ والآن فالمجلس- أسماه الله- يعلم أنّ الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا؛ فإنهم- خذلهم الله- أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا، ويطمع في كلّ مدينة كسبا؛ ويد الله فوق أيديهم، والله محيط بأقربيهم وأبعديهم؛ وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.
وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت. وإن لم يقذفوا من كلّ جانب دحورا، ويتبعوا بكلّ شهاب ثاقب مدحورا؛ استأسدوا واستكلبوا، وتألّبوا وجلّبوا وأجلبوا، وحاربوا وخرّبوا؛ وكانوا لباطلهم الدّاحض، أنصر منّا لحقّنا(7/367)
الناهض؛ وفي ضلالهم الفاضح؛ أبصر منّا لهدانا الواضح؛ ولله درّ جرير حيث يقول:
إنّ الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللّئيمة للّئام نصور!
فالبدار إلى النّجدة البدار! والمسارعة إلى الجنة فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النّار، والهمّة الهمة! فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار:
وما هي إلّا نهضة تورث العلا ... ليومك ما حنّت روازم نيب!
ونحن في هذه السنة- إن شاء الله تعالى- ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر- أظفره الله- على طرابلس؛ ويستقرّ الرّكاب العادليّ- أعلاه الله- بمصر فإنها مذكورة عند العدوّ- خذله الله- بأنها تطرق، وأنّ الطلب على الشام ومصر تفرّق؛ ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفي- أسماه الله- بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا؛ فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في كل مسمع سمعه، وفي كلّ روع روعه؛ وفي كل محضر محضر، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر؛ فما يدعى العظيم إلا للعظيم، ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم؛ والأقدار ماضية، وبمشية الله جارية؛ فإن يشإ الله ينصر على العدوّ المضعّف، بالعدد الأضعف؛ ويوصّل إلى الجوهر الأعلى، بالعرض الأدنى؛ فإنّا لا نرتاب بأنّ الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها؛ وأنّ العدوّ إن خرج من داره بطرا، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا؛ وما بقي إن شاء الله تعالى إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها؛ وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرّشد خاوية من عزمه؛ ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر؛ فو الله إنّا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشدّ منّا حرصا على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة، وإنّا لا يسرّنا أن ينقضي عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير(7/368)
الكفء المناظر؛ ولا شكّ أنّ سيفه لو اتّصل بلسان ناطق وفم، لقال: ما دمت هناك فلست ثمّ؛ وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا متكلّف قضية بحكمنا يعافها؛ والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقّه ونستصغره؛ وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح؛ إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنا إذا قامت [الحرب] بنفسه وماله؛ فلا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا؛ وليستشر أهل الرشاد فإنهم [لا يألونه] حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فإنهم إنما يتغالبون به لمصالحهم أغراضا؛ ومن بيته يظعن وإلى بيته يقفل، وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوي في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا، ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم؛ ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة؛ فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين ولا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة؛ وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه؛ وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة، وليغضب لله ولرسوله ولدينه ولأخيه فإنها مكان الاستغضاب والاستثارة. وليحضر حتّى يشاهد أولاد أخيه يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أنّ لهم مع عمّهم عمّا؛ والله سبحانه يلهمه توفيقا، ويسلك به إليه طريقا؛ وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر ممزقا ولدمه مريقا، ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا. إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (من المكاتبات إلى صاحب اليمن ما الأمر عليه من ابتداء الدولة التركية
وهلمّ جرّا إلى زماننا، وهو على ثلاثة أساليب)
الأسلوب الأوّل
(أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أدام الله تعالى نعمة [أيام] المقام العالي» ) وهذه نسخة كتاب كتب عن الملك الناصر محمد بن قلاوون، جواب كتاب(7/369)
ورد من صاحب اليمن في مقابلة البشرى بدخول العساكر المنصورة إلى بلاد الأرمن، وطلب سلامش نائب التتار بالرّوم الدخول في الطاعة؛ وذكر «1» أنّ نائبا كان لأبيه في قلعة طمع وعصى عليه فظفر به فبشّر بذلك؛ ويحرّضه على الجهاد وإنفاذ الأموال، ويهدّده، ويوجّه به قصّاده إليه. من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي «2» رحمه الله، وهي:
أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي! وأنهضه بفرض الجهاد الذي بمثله ينتهج، وأيقظه لمتعيّن الغزو الذي ما «3» له تدرك الرّتب وترتفع الدّرج؛ وأشهده في سبيل الله مواقف النصر التي إذا أودعنا نشر بشرها الطروس عبقت بما فيها من الأرج؛ وأراه مشاهد فتوحنا التي إذا حدّثت الأحلام عن عجائبها حدّثت عن البحر ولا حرج؛ وصان مجده عن إضاعة الوقت في غير حديث الجهاد الذي هو أولى ما بذلت له الذّخائر وابتذلت فيه المهج.
صدرت هذه المكاتبة تخصّه بتحية تتضوّع نشرا، وتتحفه من متجدّدات الظّفر بشرا، يملأ الوجود مسرّة وبشرى، وتقصّ عليه من متجدّدات فتح يأتي على ما أتعبت فيه الأفكار قرائحها من مشتهى التّهاني فلا يدع له ذكرا؛ وتتلو على من ظنّ بعد ما سمع من البلاغ بلاغ العدا أنّ إزالة وال عن مركزه فتح كبير: لقد جئت شيئا نكرا. وتوضّح لعلمه الكريم أنّ مكاتبته الكريمة وردت مقصورة على نبإ لا يعتدّ بذكره، محصورة على خبر لا ينبغي لمثل مجده أن يمرّه على فكره، مطلقة(7/370)
عنان القلم فيما كان ينبغي طيّ خبره وتعفّي أثره، وإخفاء سببه وتركه نسيا منسيّا فضلا عن التبجّح بذكره، والتهنئة به، إذ في ذلك مقابلة البحر بالثّماد «1» ، والرّوح بالجماد؛ والشّمس بالذّبال، والهدى بالضّلال؛ فلم يكمل له في ذلك المراد، وأتى بما قالت له التهاني: (نحن في واد وأنت في واد) ؛ وقابلناها مع ذلك بالقبول الذي اجتلى غررها، وأحمدت لديه وردها وصدرها، فأحطنا علما بما تضمّنته من الأحوال التي أبداها، والمتجدّدات التي عظم موقع نشرها عنده فأهداها.
وأما ما ذكره من أمر القلعة التي كان [النائب بها] لوالده شخصا اعتمد عليه، وولّاه مستحفظا ظنّه مع تغاير الأحوال مؤتمنا على ما في يديه؛ وأن ذلك الشخص بعد انتقال والده رحمه الله طمع فيما استودع فجحد الوديعة والموادعة، ورام المنازعة والمقاطعة، وخالف وحالف، وقارب العصيان وقارف «2» ؛ وأنه في هذا الوقت قلع ذلك النائب، من تلك القلعة المغتصبة، وأراح من همّه الناصب، وأفكاره ووصبه «3» إلى غير ذلك مما أورده على وجه البشرى لهذا السبب الضّعيف، وأبرزه في معرض التهنئة من هذا الأمر الطفيف؛ وأراد أن يتكثّر فيه بما لا مدخل له في كثرة وقلّه، فذكر بروزه بجمعه إلى شخص واحد في قبالة ما اتصل به من نبإكل موطن برز فيه الإسلام كلّه إلى الشّرك كلّه؛ وظاهر الأمر أنّ ذلك الشخص ما عصى بالمكان الذي كان فيه إلا لما رأى بالمملكة اليمنيّة من اضطراب الأحوال، وأسباب الاختلاف والاختلال، والوهن الذي حسّن له الاحتراز والاختزال، والخلوة التي حملته على أن (طلب الطّعن وحده والنّزال) ، وامتداد الأيدي العادية بكلّ جهة إلى ما يليها، وضياع رعايا كلّ ناحية بالاشتغال عن افتقاد أحوال من يباشرها وانتقاد تصرّف من يليها؛ فهو الذي أوجب طمعه، وقوّى ضلعه «4» ، وحمله من مركب العناد، وأراه نظراءه بتلك الجهة ممّن سلك الفساد.(7/371)
وهذا الأمر ما خفي علينا خبره، ولا توارى عنّا ورده ولا صدره؛ فإن أخبار مملكة اليمن ما زالت متواصلة إلينا بما هي عليه من اضطراب واف، واختلاف غير خاف، وهيج لا يرجع الأمر فيه إلى كاف كافّ؛ وما أخّرنا لحق جيوشنا المنصورة، وعساكرنا التي ممالك العدا بمهابتها محصورة، عن الوصول إلى المملكة اليمنية لتقويم أودها، وتمكين شدّها؛ وإقامة أمر الملك فيها، وحسم مادّة الفساد عن نواحيها، وتطمين البلاد، وإنامة الرّعايا من الأمن في أوطإ مهاد، والاحتراز على الخزائن والأموال، وصونها عن الإنفاق في غير جند الله الذين منعوا دعوة الشرك أن تقام وكلمة الكفر أن تقال؛ إلّا لأنّ عساكرنا كانت الآن في الممالك والأقاليم التي بيد الكفر: من التّتار المخذولين، ومن يقول بقولهم من أعداء الدين، تقتل وتأسر، وتلقى الجيوش الكافرة فتكسب وتكسر، وتصحبهم حيث حلّوا طلائع رعبها، وتصبّحهم منها أين طلّوا ريح عاد التي تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها.
وما سطّرنا هذه المكاتبة إلا وجيوشنا المنصورة قد وطئت عقر بلادهم فأذلّتها وأذالتها «1» ، وغيّرت أحوالها وحالتها؛ وقاسمتهم شرّ قسمة فلها منها الحصون والمصون، والجنّات الوارفة الغصون، ولهم منها الخراب والتّباب، والدارس الذي لا يحصل بكفّ دارس بيته إلا التّراب؛ وها هي قادمة إلينا يقدمها النصر، ويتقدّمها من أسر العدا وغنائمهم ما يربي عن الحصر؛ وما بينها وبين ركوب هذا البحر لملك تمهّده، وعدل تجدّده، وبغاة تكفّ غربها، ورعاة تؤمّن بالمهابة سربها، وتصفّي من أكدار الفتن شربها؛ وخزائن لها عن غير الإنفاق في سبيل الله تصونها إلا بمقدار ما تستقرّ بها المنازل استقرار السّنة «2» بالجفون لا النوم «3» ، وأضرمت نواحيها، واستاقت أهلها ومواشيها، وجعلت(7/372)
قصورها صعيدا «1» ، وزرعها حصيدا، وعقائلها «2» إماء، ومعاقلها هباء؛ وابتذلت مصونها الذي جعله الله لها أثقالا، واختارت من حصونها لملكنا ما كانت سيوفنا له مفاتح فلمّا فتح عدن له أقفالا؛ واقتلعت من القلاع التي كانت بيد الكفر كلّ معقل أشب «3» ، وحصن شابت نواصي اللّيل وهو لم يشب؛ قد صفّح بالصّفاح، وشرّف بأسنّة الرّماح، واستدار بقنّة قلة ينهب الترقّي إليها هوج الرّياح؛ فطهّرته من النّجس، وعوضّته بصوت الأذان عن صوت الجرس، وأخرست الناقوس بسورة الفتح الذي عوذّته نوب الدهر بآيات الحرس؛ مع ما أضيف إلى تلك القلاع من بلاد وتلاد، وأغوار ونجاد؛ وجنّات وعيون، وأموال ارتجع بها ما كان للإسلام في ذمّة الكفر من بقايا الدّيون. وكلّ تلك الغنائم منحناها جيوشنا المنصورة وأبحناها، وقوّيناهم على أمثالها من الفتوح برفع العوائق التي أزلناها، بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة وأزحناها؛ وما وصل الآن قصّاده إلى أبوابنا العالية إلا والبشائر تنطق بألسنة التّهاني، وتخفق بمجدّدات هذه الفتوح في الأقاصي من ممالكنا والأداني؛ وقد شاهدوا ذلك وشهدوه، ورأوا ما رأى غيرهم من نوادر الفتوح التي أربت على ما ألفوه من قبل وعهدوه. هذا وما وضعت الحرب إلى الآن أوزارها، ولا خمدت نار الوغى التي أعدّت جيوشنا المنصورة للأعداء أوراها؛ وما يمضي وقت إلا والبشائر متواردة علينا بفتح جديد، ونصر له في كلّ يوم مخلّق تخلّق وفي كل برّ بريد. وقصارى أمر العدوّ الآن أنهم ليس لهم بلد، إلا وقد (أخنى عليه الذي أخنى على لبد) «4» ؛ ولا دار إلا وقد أضحت كدار ميّة التي (أقوت وطال(7/373)
عليها سالف الأمد) «1» ؛ ولا جيش إلا وقد فرّ وأين يفرّ وهو يطوي في قبضتنا المراحل؟، ولا طرائد بحر إلا وهي مطرودة في اللّجج لتيقّنهم أن العطب لا السلامة في الساحل.
فمن أجل ذلك رأينا أنّ اشتغال جيش الإسلام بجانب الكفر هو المهمّ المقدّم على ما سواه، والغرض الذي نيّتنا فيه إنقاذ أهل الإسلام من كلمة الكفر وتحكّمه «ولكلّ آمريء ما نواه» ورأينا أنّ أمر هذه الجهة ما يفوت بمشيئة الله وعونه وتمكينه، وإذا كان الله قد أقام بقدرته منا ملكا لنصرة دينه فإنّ اليمن وغيره في يمينه؛ وهي محسوبة من أعداد ممالكنا المحروسة، ومعدودة من أقسام بلادنا التي هي بوفود الفتوح مأنوسة؛ ولا بدّ من النظر في أمرها، وإعمال الفكر في إزاحة ضرّها، وتجريد العساكر المنصورة إليها، وإقدام الجيوش التي عادتها الإقدام في الوغى عليها؛ ليكون العمل في أمرها بما يرضي الله ورسوله، ويبلغ من كان بتلك الجهات يروم الجهاد ولا يطيقه سوله؛ فإن المملكة المذكورة توالت عليها المدد، ومضى عليها الأبد؛ وهمّة من فيها إلى اللهو مصروفة، وعلى اللّذات موقوفة؛ وأحكام الجهاد عندهم مرفوضة حتى كأنّ الجهاد لم يبلغهم وغره حلمه «2» ، ولا أحاطت أفكارهم بشيء من علمه؛ بل كأنه على غيرهم وجب، وكأنّ ما أعدّ الله من الأجر عليه إنما أريد به الذين يكنزون الذهب؛ وتمادت الأيام وليس في نكاية أعداء الله منهم مصيب، وتفرّقت الأموال وما لجند الله فيما احتووا عليه من ذلك سهم ولا نصيب؛ وأيّ عذر عند الله لمن جعله مؤتمنا على ماله فلم يكن له في(7/374)
سبيل الله إنفاق؟ وأيّ حجة لمن [لم] يقف موقف جهاد وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من مات ولم يغز ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق» .
والآن فإنّ الله سبحانه وتعالى قد أقامنا لنصرة الإسلام ورفع كلمة الإيمان وتمهيد البلاد، وإجراء الأحوال في القريب منها والبعيد على ما يرضي الله تعالى ويرضي رسوله عليه السلام من السّداد؛ وأهمّ الأمور عندنا أمر الغزاة والمجاهدين الذين ما منهم إلا ممسك بعنان فرسه، مكتحل بسهاد حرسه؛ لا يأمن العدوّ مهاجمة خيله في سراه، ولا مفاجأة خياله في كراه، حصنه ظهر حصانه، وجوابه على لسان سنانه، كلّما سمع هيعة «1» أو رقعة طار على متن فرسه يلتمس الموت والقتل في مظانّه؛ وهؤلاء هم جيوشنا الذين دوّخوا البلاد، وأذلّوا أهل العناد؛ وطهّروا السواحل وأجروا في كل مواطن من أنهار الدماء ما يروي البلد الماحل، وهزموا جيوش التتار وهم في أعداد الكواكب، وحصدوهم بسيوفهم عرورة (؟) وهم في نحو المائة ألف راكب؛ حتّى إن ملوك التتار الآن ليتمنّون إرضاءنا وإعضاءنا، ويستدعون ويدّعون للآباد ولاءنا، ويطلبون المسالمة منا، ويودّون نسمة قبول تصدر إليهم عنّا؛ والطويل العمر منهم وممن والاهم هو الذي يهرب من بين يدي جيوشنا المنصورة ليسلم بنفسه، وإن أسلم ما يعزّ عليه من ماله وولده وعرسه. فمثل هؤلاء الذين يستحقّون أموال الممالك الإسلامية ليستعينوا بها في جهازهم لجهادهم، وينفقوها في إعدادهم لأعدائهم؛ ويصرفوها في ذبّهم عن دين ربّهم.
وهذه المملكة اليمنيّة قد اجتمع فيها من الأموال ما يربي عن الحصر والحدّ، ويزيد على الإحصاء والعدّ؛ لا ينفق منها شيء في الجهاد، ولا يعدّ منها مصروف إلا بما لا تحمد عاقبته في المعاد؛ قد صدّ عنها جند الله الذين ينفقونها سرّا وجهرا، ويستنزلون بها أرواح أعداء الله على حكم سيوفهم قسرا وقهرا؛(7/375)
وأبيحت لمن تأبّى الجهاد جانبا، ورضي باللهو صاحبا، واقتنى السّلاح لغير يوم الباس، واعتنى بارتباط الجياد بطرا ورئاء الناس.
وكان كتابنا قد تقدّم في أمر المجاهدين وما يحتاجونه من الإعانة بما يحمل إليهم من الأموال بالمملكة اليمنيّة: ليصرف ذلك في حقه، ويصل إلى مستحقّه؛ ويكون قد أعدّ منها للإنفاق في سبيل الله جانب بحيث لا يضاع، ووصل إلى مجاهدي الأمة نصيب من مال الله الذي هو في يد من ولّاه شيئا من أمور عباده على حكم الإيداع؛ ويدخل ذلك «1» في زمرة الذين يكنزون الذهب والفضّة لا ينفقونها؛ فحصلت المكابرة في الجواب عن ذلك، وأيّ عذر في المكابرة عن مثل هذا الأمر وشغل الوقت بذكره؟ ونحن عندنا في كل وقت من البشائر بمواهب الفتح، وغرائب المنح، ومتجدّدات الظّفر والنصر، ومتحلّيات التأييد التي قسّمت أعداء الله بين الحصد والحصر، ما يهبّ نشره هبوب الرّيح في البرّ والبحار، ويودّ الدهر لو رقمه بذهب الأصيل على صفحات النّهار، وكلّ ذلك في أشدّ أعداء الله تعالى: من التتار، الذين عرف عددهم وجلدهم، والفرنج الذين طال وكثر في عداوة الإسلام أبدهم ومددهم، والأرمن الذين هم أكثر الطائفتين في الظاهر وفاقا، وأشدّ الفئتين في الباطن نفرا ونفاقا؛ وهم لهؤلاء وهؤلاء مادّة تمير وتمير، وتغريهم وتغرّهم فتصير بهم من نار الحرب المضرّسة لسيوفنا إلى جهنّم وبئس المصير؛ وأيّ شيء من ذلك يذكر عند مواقف جيوشنا المنصورة، وظفر عساكرنا المؤيّدة؟، لو كان حصل عنده الفكر الصائب ما وردت مكاتبته إلا وهي مقترنة بما يرضي الله ورسوله وأهل الإسلام: من إمداد الغزاة «2» بالأموال، وإعانتهم على الكلف التي كلّما أعد لها مال [بدت] حال يلائمها الإنفاق في سبيل الله ويسألونك عن الجبال؛ وها هي قادمة إلينا يقدمها النصر، ويتقدّمها من أسرى العدا وغنائمهم ما يربي عن الحصر؛ وما(7/376)
بينها وبين ركوب ثبج «1» هذا البحر لملك تمهّده، وعدل تجدّده، وبغاة تكفّ غربها، ورعايا تؤمّن بالمهابة سربها، وتصفّي من أكدار الفتن شربها؛ وأموال تصونها، وخزائن ينزّه عن غير الإنفاق في سبيل الله مصونها، إلا بمقدار ما تستقرّ بها المنازل استقرار السّنة بالجفون لا النوم، وتأخذ أهبة لذلك المهمّ في يوم أو بعض يوم.
أللهم إلا أن تلبّى دعوة الجهاد من تلك الجهة بألسنة النّفير، وتعبّى صفوف الجلاد في الجواري «2» التي تكاد بأجنحة القلوع تطير؛ أو تنوب عنها خزائن الأموال التي تنفق في سبيل الله تعالى، أو تقوم مقامها النفقات التي تصرف إلى جنود الله التي تنفر في سبيل الله تعالى خفافا وثقالا، ليكون قد استدرّ ببركة ذلك الطّلّ أخلاف الوابل، وأنفق ما اختزنه في سبيل الله الذي مثل ما ينفق فيه كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل؛ وتستعدّ الجيوش المنصورة إلى طود يصون برأيه ملكه ويصول، ويستطيل على الوجود ولو أنّ البرّ سيوف والبحر نصول؛ والله تعالى يرشده إلى ما هو أقرب للتقوى، ويمسّكه من طاعته بالسبيل الأقوم والسّبب الأقوى؛ إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (وهو المذكور في «التعريف» )
أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «أعزّ الله تعالى جانب المقام العالي» إلى آخر الألقاب، ثم الدعاء، مثل: ولا زال يحسن ولاية حسبه، وينهض بجناح نسبه، ويصون ملكه بعدله أكثر من قضبه «3» ، ويثبت في اليمن اليمن في حالة إقامته ومنقلبه.(7/377)
أصدرناها إلى مقامه موشّجة المعاطف بحليّه، شاكرة علا عليّه، ذاكرة من محامده ما يتكثّر السحاب بوليّه، مبدية لعلمه الكريم كيت وكيت.
وهذه أدعية وصدور تناسب كل سلطان بها:
ولا زال به «تعزّ» تعزّ وتفوز ببره زبيد، ويخرج من عدن عدن فضله المديد، وتمتلي بوفود البرّ والبحر: هذا تطير به المراكب وهذه الركائب كلاهما من مكان بعيد؛ ولا برحت به آهلة الأوطان، مشتقّة صفات قطره اليمنيّ من «الأيمان يمان» ؛ محجوبا بالجلالة أو محجوبا لما ينسب إليه من أحد الأركان.
أصدرناها والسلام يباري ما تنبت أرضه من نباتها الطيّب، ويجاري بالثّناء ما ينهلّ في أكنافه الجنوبيّة من سحابها الصيّب «1» ؛ وتسري إليه بتحيّاتنا الشريفة على قادمة كل نسيم، وفي طيّ كلّ عام له وقوف على ربعه وتسليم؛ وتوضّح لعلمه الكريم.
دعاء وصدر يختصّ بالمجاهد عليّ، وهو:
ولا زال أفضل متوّج في يمنه، وأعلى عليّ إذا قيس بابن ذي يزنه، وأشجع من حمى بعهوده ما لا تقدر السّيوف على حمايته من وطنه؛ ولا انفكّ الملك المجاهد عن عرضه المصون، وسيف الدين الذي يقوم في المفروض من مراضي الله بالمسنون؛ وأبا الحسن لما يحسن في فطنته الحسنى أو فطرته من الظّنون، والعليّ قدرا إذا أخذت الملوك مراتبها وحدّقت إليه العيون.
صدرت هذه المفاوضة إلى حضرته وسلامها يتفاوح لديها، ويصافح غمائمه في يديها، وتجري سفائن إخلاصه حتّى تقف عليها، وتسري بتحياتنا محلّقة بالبشرى في صباح كلّ يوم يقرّب من الوصول إليها، وتبدي لعلمه الكريم.
قلت: ولم أقف على صورة مكاتبة مفتتحة بلفظ «أعز الله تعالى جانب(7/378)
المقام» كتب بها إلى بعض ملوك اليمن في زمن من الأزمان؛ فأوردها استشهادا لهذا الأسلوب.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «أعزّ الله تعالى نصرة المقام العالي» )
وهذه نسخة كتاب كتب به إلى صاحب اليمن أيضا، عن السلطان الملك المنصور قلاوون، مبشّرا بفتوح «1» صافيتا «2» ، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله، وهو:
أعزّ الله تعالى نصرة المقام العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المظفّريّ، الشّمسيّ؛ وأشركه في كل بشرى تشدّ الرحال لاستماعها، وتحلّ الحبى «3» لاستطلاعها؛ وتتهافت التواريخ والسّير على استرفاعها، وتتنافس الأقلام والسيوف على الأفهام بأجناسها وأنواعها؛ ولا خلا موقف جهاد من اسمه، ولا مصرف أجر من قسمه، ولا غرض هناء من سهمه، ولا أفق ابتهاج من بزوغ شمسه وطلوع نجمه. سطّر المملوك هذه البشرى والسيف والقلم يستمدّان: هذا من دم وهذا من نقس «4» ، ويمضيان: هذا في رأس وهذا في طرس؛ ويتجاوبان:
هذا بالصّليل وهذا بالصّرير، ويتناوبان: هذا يستميل وهذا يستمير «5» ؛ وكلّ منهما ينافس الآخر على المشافهة بخبر هذا الفتح الذي ما سمت إليه همم الملوك الأوائل، ولا وسمت به سيرهم التي بدت أجيادها من حلاه عواطل؛ ولا دار(7/379)
في خلد أن مثله يتهيّأ في المدد الطويلة، ولا تشكّل في ذهن أنه سيدرك بحول ولا حيلة؛ وهو النّصر المرتّب على حركتنا التي طوى الله لركابنا فيها المراحل، وألقى بدرر عساكرنا في بحر الحديد المالح إلى الساحل؛ وهجومنا على البلاد الفرنجيّة:
وهي طرابلس وصافيتا وأنطرسوس ومرقيّة والمرقب، كما يهجم الغيث؛ ومصادمتنا صدورها كما يصدم الليث، وسلوكنا منها حيث لم يبق حيث؛ وما جرى في هذه الوجهة من إغارات أحسنت متقلّب الأعنّة؛ ومتعلّق السيوف ومخترق الأسنّة؛ وما تهيّأ منها من فتوح صافيتا التي هي أمّ البلاد، ومنتجع الحاضر والباد؛ وكونها قدّمت نفسها في جملة ما يقرى به الضيف، وقالت: هذا فتوح حضر على هذا الفتوح لهذا السيف؛ وتلطّفت في مسح أطراف الأمان، وطلبت شكرا ومنّا شكران؛ وأحضرت إلينا من أهلها الوقت وهدّت السيوف في أعناقهم فتشبّهت بها الأغلال، وأنفت أيمان أهل الإيمان من مصافحتهم لأنهم أصحاب الشّمال؛ فأطلقهم سيفنا وأمله يمتدّ إلى من هو أعزّ منهم مالا، وأكثر احتفالا، وأبزّ مآلا، وأهزّ سيوفا قصارا ورماحا طوالا؛ واستطار منها شرار نار الحرب الموقدة إلى غيرها من القلاع، واستطال إلى سواها من الحصون منهم الباع؛ فلا حصن إلا وافترّت ثنيّته عن نصر مسهّل، وفتح معجل ومؤجّل.
فمن ذلك حصن الأكراد الذي تاه بعطفه على الممالك والحصون، وشمخ بأنفه عن أن تمتدّ إلى مثله يد الحرب الزّبون «1» ؛ وغدا جاذبا بضبع «2» الشام، وآخذا بمخانق بلاد الإسلام؛ وشللا في يد البلاد، وشجا في صدر العباد؛ تنقضّ من عشّه صقور الأعداء الكاسرة، وترتاع من سطوتها قلوب الجيوش الطائرة؛ وتربض بأرباضه آساد تحمي تلك الآجام، وتفوّق من قسيّه سهام تصمي مفوّقات السّهام؛ تعطيه الملوك الجزية عن يد وهم صاغرون، ويصطفي كرام أموالهم وهم(7/380)
صابرون لا مصابرون؛ كم شكت منه حماة تثني بنكرها قلّة الإنصاف، وكم خافته معرّة وما من معرّة خاف؛ ما زالت أيدي الممالك تمتدّ إلى الله بالدعاء عليه تشكو من جور جواره تلك الحصون والصّياصي، وتبكي بمدمع نهرها من تأثير آثاره مع عصيانها وناهيك بمدمع العاصي؛ حتّى نبّه الله ألحاظ سيوف الإسلام من جفونها، ووفّى النّصرة ما وجب من ديونها؛ وذاك بأنّا قصدنا فسيح ربعه، ونزلنا ونازلنا محميّ صقعه، وختمنا بنصالنا على قلبه وسمعه؛ وله مدن حوله خمس هو كالراحة وهي كالأنامل، وتكاد بروجه ترى كالمطايا المقطّرة وهي منها بمنزلة الزّوامل «1» ؛ ما خيّمنا به حتّى استبحنا محميّ تلك المدائن المكنيّ عنها بالأرباض، وأسحنا بساحاتها بحرا من الحديد ما اندفع حتّى فاض؛ وأخذنا الثّقوب في أسوار لا تنقض ولا ينقضّ بنيانها المرصوص، ولا تقرأ المعاول ما لخواتم أبراجها من نقوش الفصوص؛ ونصبنا عليها عدّة مجانيق حملت في شواهق الجبال، على رؤوس الأبطال؛ فتغيّظت السّمهريّة «2» أنّ الذي تقوم به هذه تلك به لا تقوم، وأنّ ما منها إلا له من الأيدي والرّؤوس مقام معلوم؛ وصار يرمي بها كلّ كميّ مختلس، وأروع منتهس «3» ، وكلّ ليث غابة يحميها وتحميه. فشكرا لأسود حتّى غاباتها تفترس؛ إلى أن جئت أسوارها على الرّكب، وكانت سهام مجانيقها تميل من العجب فصارت تميد من العجب، وكانت تطلب فصارت تهرب من الطّلب؛ واشتدّ الأمر على الكفّار فقاتلوا قتالا أقضّ مضاجع الأسلحة، وأطار حجارة مجانيقهم بغير أجنحة، وأشجى بشجو النّصول المترنّمة على غصون السّهام المترنّحة؛ هذا وأهل الإيمان يتلقّون ذلك كلّه بصبر يستطعمون منه شهدا، وإقدام يتلقّى صدى الحديد بأكباد ما زالت إلى موارده قصدا؛ يقتحمون نار الحرب التي كلّما أوقدوها أطفأها الله وقال يا نار كوني بردا، والبلاد الفرنجيّة قد غضّت منها الأبصار وخشعت القلوب،(7/381)
واعتقد كلّ منها في نفسه أنه بعد هذا الحصن المطلوب؛ فهذه تودّ لو أكنّتها البحار تحت جناح أمواجها، وهذه لو أسبلت الرياح العواصف عليها ذيول عجاجها؛ وهذه لو اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهذه لو خسف بها الثّرى وعفت منها الآثار؛ وذلك لما بلغهم وشاهدوه من ويل حلّ بأهل هذا الحصن المنيع، ومن فتك أمحل ربعه المريع، وضيّق مجاله الوسيع؛ وقراع أضجر الحديد من الحديد وا لأبطال لم تضجر، ونضال أسهر كلّ جفن حتّى جفون السيوف لأنا عوّدناها مثل جفوننا أن تسهر؛ فكم شكت النّقوب من مناكبهم زحاما، والشّرفات من ترقّبهم التزاما، والرّقاب من سيوفهم اقتساما؛ وكم حمدت التجارب من رأيهم شيخا وحمد الأقدام من ثبوتهم غلاما؛ قد دوّخوا البلاد فلا موطن إلا لهم به معركة، وأرملوا الحلائل فلا مشرك إلا وقد أرمل من مشركة، وأزعجوا الكفر فلا قلب إلا به منهم خوف ولا سمع إلا لهم به حركة، وملأوا الأرض كثرة وكيف لا يكّثر الله جمعا للإسلام جعل الله فيه بركة.
وكتابنا هذا والمولى بحمد الله أحقّ من هنّيء بهذا الفتح الذي تثني على كتاب بشائره الحقائب، وتجري إلى سماع أخباره الركائب، وتتزاحم على المسير تحت البرد الواصلة به متون الصّبا وظهور الجنائب «1» ؛ وإذا ذكرت ملاحمه، قال كلّ: هذا كتاب أم كتيبة تلوح، وإذا شوهدت حمرة طرسه قيل: وهذا ما صبغته في اليد المعلّمة عليه دم الكفر السمفوح، وينعم- أعز الله نصره- بالإعلان بهذا النبإ الحسن الذي تستروح إليه الأسماع، وتسرّ بالأفهم به أخوات هذا الحصن من مدنه ومن قلاعه العظيمة الامتناع؛ فإنه ما برح الأخ يفرح بأخيه، وإذا كان الهناء عظيما اشترك كلّ شيء فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب آخر إلى صاحب اليمن من هذا الأسلوب: كتب به(7/382)
الفاضل محيي الدين بن عبد الظاهر أيضا، عن الملك المنصور قلاوون، جواب تعزية أرسلها إليه في ولده الملك الصالح في ورق أزرق؛ وكانت العادة أن تكون في ورق أصفر. ونصها بعد البسملة.
أعز الله تعالى نصرة المقام إلى آخر الألقاب، وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كلّ مصاب قرح القرائح وجرح الجوانح؛ وأوفد من تعازيه كلّ مسكّن طاحت به من تلقاء صنعاء اليمن الطّوائح؛ وكتب له جزاء التصبّر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح.
المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخّرها عن وقتها أمر كارث، ولا ينقضها عن تحسينها وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث؛ ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم، لولا زرقة طرسه وزرقة لبسه لقال:
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
«1» . تتضمّن ما كان حدث من رزء تلافى الله بتناسيه، وتوافى بعود الصبر فتولّى التسليم تليين تقاسيه وتمرين قاسيه؛ فشكرنا الله تعالى على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا هذا تثبّت قد انتبذ، ولا توهّمنا أنّ فلذة كبد قد اختطفت إلا وشاهدنا حولنا من ذرّيتنا والحمد لله فلذ؛ وأحسنّا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كل باب، ووفّانا الله عز وجلّ أجر الصابرين بغير حساب؛ ولنا- والشكر لله- صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله سبحانه حسن الاستنابة إلى قضائه، والاستكانة إلى عطائه، عوّض كلّ يوم ما يقول المبشّر به: هذا مولى مولود. وليست الإبل بأغلظ أكبادا ممن له قلب لا يبالي بالصّدمات كثرت أو قلّت، ولا بالتّباريح حقرت أو جلّت، ولا بالأزمات إن هي توالت أو توّلت، ولا بالجفون إن ألقت بما فيها من الدّموع والهجوع وتخلّت؛ ويخاف من الدّهر من لا حلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا بات بنبإ الخطوب الخطرة؛ على أنّ الفادح(7/383)
بموت الولد الملك الصالح- رضي الله عنه- وإن كان منكيا، والنافح بشجوه وإن كان مبكيا، والنائح بذلك الأسف وإن كان لنار الأسف مذكيا، فإن وراء ذلك من تثبيت الله عز وجلّ ما ينسفه نسفا، ومن إلهامه الصبر ما يجدّد لتمزيق القلوب أحسن ما به ترفى. وبكتاب الله تعالى وبسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم عندنا حسن اقتداء يضرب عن كلّ رثاء صفحا، وما كنّا مع ذلك- والمنة الله- نصغي لمن يؤنّب ويؤبّن أذنا، ولا نعيرها لمن يلحا إذ الولد الذاهب في رضوان الله تعالى سالكا طريقا لا عوج فيها ولا أمتا «1» ، وانتقل سارّا بارّا صالحا صالحا وما هكذا كلّ الموتى نعيا ونعتا، ولئن كان نفعنا في الدنيا فها نحن بالصّدقات والترحّم عليه ننفعه، وإذا كان الولد عمل أبيه وقد رفع الله تعالى روح ولدنا إلى أعلى علّيّين تحقّق أنه العمل الصالح يرفعه؛ وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، ما يهوّن ما يهول من الكروب؛ وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء ما بين المرء وقلبه يحول، بل عن تخيّل أسف في الخاطر يجول.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما تمرّ به الوحول!
فلنا بحمد الله تعالى ذرّية دريّة، وعقود والشكر لله كلّها درّيّة.
إذا سيّد منهم خلا قام سيّد ... قؤول لما قال الكرام فعول!
ما منهم إلا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدأ وأن يسدّ حاله بكفالته وكفايته مسدّ الخبر، (والشمس طالعة إن غيّب القمر) ؛ لا سيما من الذي يراد «2» هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهي قيل هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف. وعلى كل حال لا عدم إحسان العمل الذي يتنوّع في برّه؛ ويعاجل قضاء الحقوق فيساعف مرسومه في توصيله طاعة بحره وبرّه؛ وله الشكر على مساهمة المولى في الفرح والتّرح، ومشاركته في(7/384)
الهناء إذا سنح وفي الدمع إذا سفح؛ وما مثل مكارم المولى من يعزب ذلك عن علمها، ولا يعزى إلى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التّجارب التي مخضت له من هذه وهذه الزّبدة، وعرضت عليه منها الهضبة والوهدة. والرغبة إلى الله تعالى أن يجعل تلك المصيبة للرّزايا خاتمة، كما لم يجعلها للظّهور قاصمة؛ وأن يجعلها بعد حمل هذا الهمّ وفصاله على عليه فاطمة، وأن يحبّب إلينا كلّ ما يلهي عن الأموال والأولاد، من غزو وجهاد، وأن يخوّلنا فليس يحدّ لدينا على مفقود تأدّبا مع الله عز وجل غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وأن لا تقصف رماحنا إلا في فود أو فؤاد، ولا تحوّل سروج خيلنا إلا من ظهر جواد في السّرايا إلى ظهر جواد، وأن لا تشق لدينا إلا أكباد النادّ «1» ، ولا تجز غير شعور ملوك التتار تتوّج بها رؤوس الرماح ويصعد بها على قمم الصّعاد؛ والله تعالى يشكر للمولى سعي مراثيه التي لولا لطف الله بما صبّرنا به لأقامت الجنائز، واستخفّت النحائز «2» ، ولأهوت بالنّفوس في استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لبّ المولى بفادحه، ولا خاطره بسانحة من الحزن أو بارحه، ولا أسمعه لغير المسرّات من هواتف الإبهاج صادحه، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي» وعليها كان الأمر في أوّل الدولة التركية)
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب بها عن الملك المظفّر قطز «3» - وصاحب(7/385)
اليمن يومئذ المنصور- بالبشارة بهزيمة التّتار. وأظنها من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، وأعلى مناره، وضاعف اقتداره؛ تعلمه أنه لما كان النّصف من شهر رجب الفرد، فتح الله تعالى بنصر المسلمين على أعداء الدين:
من كلّ من لولا تسعّر بأسه ... لا خضرّ جودا في يديه الأسمر
فصدرت هذه التهنئة إليه راوية للصدق عن اليوم المحجّل الأغر:
يوم غدا بالنّقع فيه يهتدي ... من ضلّ فيه بأنجم المرّان «1»
ففي أذن الدهر من وقعه صمم، وفي عرنين البدر من نقعه شمم؛ ترفعه رواة الأسل عن الأسنّة، ويسندة مجرّ العوالي عن مجرّ الأعنّة، أما النصر الذي شهد الضرب بصحّته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله تعالى استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام:
سعى الطّمع المردي بهم لحتوفهم ... ومن يمسكن ذيل المطامع يعطب
فاعتاضوا عن الصحة بالمرض، وعن الجوهر بالعرض؛ وقد أرخت الغفلة زمامهم، وقاد الشيطان خطامهم «2» ؛ وعاد كيدهم في نحورهم: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ(7/386)
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً
«1»
رامو الأمور فمذ لاحت عواقبها ... بضدّ ما أمّلوا في الورد والصّدر،
ظلّوا حيارى وكأس الموت دائرة ... عليهم شرعا في الورد والصّدر!
وأضعف الرّعب أيديهم فطعنهم ... بالسّمهريّة «2» مثل الوخز بالإبر!
لا جرم أنّهم لسنّ النّدم قارعون، وعلى مقابلة إحساننا بالإساءة نادمون.
تدرّعوا بدروع البغي سابغة ... والمرء يحصد من دنياه ما زرعا!
فأقلعت بهم طرائق الضّلال، وسارت مراكب أمانيّهم في بحار الآمال؛ فتلك آمال خائبة، ومراكب للظّنون عاطبة؛ وأقلعوا في البحر بمراكبه، والبرّ بمواكبه؛ وساروا وللشيطان فيهم وساوس، تغرّهم أمنيّة الظّنون الحوادس؛ فما وسوس الشيطان كفرا إلا وأحرقه الإيمان بكوكب ... «3» .... هذا وعساكر المسلمين مستوطنة في مواطنها، جاذية «4» عقبانها في وكور ظباها، رابضة آسادها في غيل «5» أقناها «6» ، وما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة لها ناسخة؛ ولا عقد [ت] برجمة «7» ناقوس إلا وحلّها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن؛ ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفّار، وأخبار الكفّار تنتقل إلى المسلمين إلى أن خلط الصّباح فضّته بذهب(7/387)
الأصيل، وصار اليوم كأمس، ونسخت آية الليل بسورة الشمس؛ واكتحلت الأعين بمرود السّبات، وخاف كلّ من المسلمين إصدار البيات «1» .
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى الأعادي، فهو يقظان نائم!
إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرم نار الحرب بين الفريقين؛ فلم تر إلا ضربا يجعل البرق نضوا، ويترك في بطن كلّ من المشركين شلوا؛ حتّى صارت المفاوز دلاصا «2» ؛ ومراتع الظّبا للظّبا عراصا «3» ؛ واقتنصت آساد المسلمين المشركين اقتناصا، ورأى المجرمون النار فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مناصا؛ فلا روضة إلا درع ولا جدول إلا حسام، ولا غمامة إلا نقع ولا وبل إلا سهام؛ ولا مدام إلا دماء ولا نغم إلا صهيل، ولا معربد إلا قاتل ولا سكران إلا قتيل؛ حتّى صار كافور الدّين شقيقا، وتلوّن الحصباء من الدّماء عقيقا؛ وضرب النقع في السماء طريقا، وازدحمت الجنائب في الفضاء فجعلته مضيقا؛ وقتل من المشركين كلّ جبّار عنيد، ذلك بما قدّمت أيديهم وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
«4» .
قلت: وهذه النسخة تلقّفتها من أفواه بعض الناس، ذكر أنه وجدها في بعض المجاميع فحفظها منه، وهي في غاية من البلاغة، إلا أنها لا تخلو من تغيير وقع في بعض أماكنها، ولعله من الناقل لها، من حيث إنه ليس من أهل هذه الصناعة. ولم يسعني ترك إيرادها لما فيها من المحاسن، ولانفرادها بأسلوب من الأساليب التي(7/388)
كتب بها إلى ملوك اليمن؛ فأورتها على ما هي عليه، وجزى الله خيرا من ظفر لها بنسخة صحيحة فقابلها عليها وصحّحها وأصلح ما فيها.
الأسلوب الخامس (وهو ما جرى عليه في «التثقيف» أن تفتتح المكاتبة بلفظ أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي)
صدره على ما ذكره في «التثقيف» أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، السلطانيّ، الملكي، الفلاني، الفلاني، مثل أن يقال: الأفضليّ السيفيّ؛ ثم الدعاء؛ ثم يقال: أصدرناها وتبدي لعلمه الكريم كذا وكذا. قال في «التثقيف» والمكاتبة إليه في قطع النصف والطلب منه «والقصد من المقام العالي» وخاتمة الكتاب بالدعاء، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب اليمن» . وفي دستور المقرّ الشهابيّ بن فضل الله أنّ خطابه يكون بالمقام العالي.
وهذه نسخة كتاب إليه، ذكر المقرّ الشهابي بن فضل الله في تذكرته أنه أنشأها جوابا عن هديّته ولم يكتب بها إليه، وهو يومئذ الملك المجاهد سيف الدين عليّ «1» بن داود.
أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي، ولا زالت مكارمه تخصّ من كلّ نوع بأحسنه، وتتحف بأزيده وأزينه، وتجلب كلّ غريب الديار من وطنه، وتمنح من السّوابق بما تمتدّ المجرّة في رسنه، ومن المحاسن بما يملي على (عليّ)(7/389)
أوصاف حسنه، ويعرب عن الفرس والسيف والرمح بأطيب لحن في نصبه وجرّه ورفعه.
صدرت إلى المقام العالي أعزّ الله جانبه تصل بوداده، وتصف حبّا علق بفؤاده؛ وتعرّض ببرحاء يمنيّة أحلام الكرى طمعا أن يرى طيفه في رقاده. وتبدي أن كتابه الكريم ورد جالبا لدرّ مننه، جالبا لليمن من يمنه، نافحا بالطّيب من عدنه، ناقدا من قوّة السيوف بما لا يدّعيه ابن ذي يزنه؛ فتؤمّل ما حوى من كرم لا يجارى، ونعم تملأ البرّ برّا والبحار بحارا؛ وأبدع في الهبة التي قدر «1» مهديها، وقدّر فيها من التّحف ما لا يوجد إلا فيها؛ وجاء بكلّ ما يستعين به المرابط، وتهتزّ به الخزائن والمرابط؛ وتفتخر من الرّماح بكل معتدل قاسط، وبما يردي العدا من أسنّته بكلّ نجم هابط. كم لها من فعل جميل لا يشارك، وكم قال طعين: إنّ لها كعبا مدوّرا وما قدر الطاعن أن يقول إلا أنها كعب مبارك. ومن السّيوف بما لا يطبع النهر في نصله، ولا يطمع البرق في مناضلة مثله، ولا يطمح الهلال أن يستقيم على شكله؛ كم أخمدت أنفاسا ولها التهاب، ولمعت من نواحي الغمود كما نصلت أنمل من خضاب. ومن الخيل بما ترقص في أعنّتها، وتفتخر على البدور بأنها تدوس على أهلّتها: من كلّ أشهب «2» يحسن ابتدارا، ويحسب قمرا قد تكمّل إبدارا، ويطلع في كلّ ناحية نهارا جهارا. وأدهم «3» قد غصب الظلام، واستدارت غرّته فأسفر وجهه تحت برقع من لئام. وأحوى «4» أخضر الجلدة من بيت للعرب، قد حوى من الروض ما سلب. وكميت «5» ينضو النقع وهو سبوق، وتقدّم في ميادينه(7/390)
فجاء مضمّخا بالخلوق. وأشقر قد كشف البرق عذاره، وأطار الرّكض منه شراره؛ ومعها كلّ فيل كأنّه غمام تبدّى، أو ملك مفدّى، بخرطوم يرتدّ كالصّولجان، ويمتدّ كالأفعوان، ويهول منظره كأنه من تمام الخلق بنيان، ويتحرّك فتحسبه كمّ راقصة تشير به إلى النّدمان؛ تقشعرّ منها الجلود، وتقتل نفسها بنيران الحقد محافظة على عهود الهنود؛ كم أحسنت بخراطيمها لها من صدورها الضيّقة مخرجا، وأضاءت فروجها بين أنيابها طرّة صبح تحت أذيال الدّجى؛ وزرافة، لها إنافة، كأنّها شفق بينه نجوم، أو بروق تكلّلت بقطر الغيوم؛ لها في المدخل على القلوب حذاقة، وولوج من باب ودخول من طاقة. وحمارة وحشيّة جاءت بوصف الرّبيع في اعتدال الليل والنّهار، وجمعت الهالات والأقمار، ودلّت على أصل كريم تفتّحت في فروعه الأزهار، وحكت بخطوطها الدّوح مما تراكم ظلّه فأظلم وانفرج فأنار. ونمر يؤلف على نفاره، ويسبح ليله في أنهار نهاره؛ يتدفّق في مثل أنبوب القناة المضطمر «1» ، ويصدّق من شبّه ركود الرّبا على الرّمال بقطعة من جلدة النّمر. وقطّ الزّباد «2» الذي لا تحكيه الأسود في صورها، ولا تسمح غزلان المسك بما يخزنه من عرفه «3» الطيّب في سررها؛ كم تنقّل في بيوت وطابت موطنا، ومشى من دار أصحابه فقالوا: ربّنا عجّل لنا قطّنا؛ وكذلك من الطّيب، ما يطيب، وما يزور بنفحه الحبيب؛ قد بعث أكبره، وأفاد أكثره، واستخدم المتنعّمون به صندله وكافوره وعنبره. وغير هذه الأنواع مما جاد بإرساله، وأتى من كلّ بديع به وبأمثاله؛ فقوبلت بالقبول هذه التّحف، وأكرمت إكرام من لها عرف و [بها] اعترف؛ وحمد سحابه الذي تسرّعت مواطره، وبعثت من طرفها بالروض وما تنوء عنه أزاهره، وشرعت بما اتّصلت بمصر أوائله وباليمن أواخره؛ والله تعالى يشكر هممه التي تعالت، وشيمه العلويّة التي لأجلها المحامد قد توالت. وقد جهّزنا له(7/391)
من التّحف المنعم بها ما أمكن تعجيل حمله، وجرت عوائد ملوك الأقاليم بالتشريف من خزائننا العالية بمثله؛ وحمّلنا رسله من السلام ما تعبق به الفجاج، وتعذب به البحار وهي ملح أجاج. والمراد منه أن يواصل بمكاتباته التي تتناوب الصّدور، وتنوب عن لمحة البدور، وتؤوب بما تقدم به من السرور؛ والله تعالى يديم لسلطانه التأييد، ولملكه التأييد، ولاقتداره ما به تعزّ تعزّ «1» وتميد زبيد «2» . إن شاء الله تعالى.
فائدة- المكاتبة إلى صاحب اليمن عن وليّ العهد بالسلطنة كالمكاتبة إليه عن السلطان نفسه في جميع المكاتبة على السّواء.
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن «الأشرف خليل ابن قلاوون» قرين كتاب أبيه المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن، بالبشرى بفتح طرابلس.
وهذه نسخته:
أعزّ الله تعالى نصرة المقام! وأوفد عليه كلّ بشرى أحسن من أختها، وكلّ تهنئة لا يجلّيها إلا هو لوقتها؛ وكلّ مبهجة يعجز البنان والبيان عن ثبتها ونعتها، وتتبلّج فتودّ الدّرر والدّراريّ لو رقت هذه إلى ترقّيها وسمت هذه إلى سمتها.
وصبّحه منها بكل هاتفة أسمع من هواتف الحمائم، وبكل عارفة أسرع من عوارف الزّهر عند عزائم النّسائم؛ وبكلّ عاطفة أعنّة الإتحاف بالإيجاف الذي شكرت الصّفاح منه أعظم قادر والصحائف أكرم قادم؛ والغزو الذي لا يخصّ تهامة ببشراه بل جميع النّجود والتّهائم، وذوي الصّورام والصّرائم «3» ، وأولي القوى والقوائم، وكلّ ثغر عن ابتهاج الإسلام باسم، وكلّ برّ برّ بتوصيل ما ترتّب عليه من ملاحم؛(7/392)
وكلّ بحر عذب يمون كلّ غاز لا يحبس عن جهاد الكفّار في عقر الدّار الشّكائم، وكلّ بحر ملح كم تغيّظ من مجاورة أخيه لأهل الشرك ومشاركتهم فيه فراح وموجه المتلاطم.
المملوك يخدم خدمة يقتفي فيها أثر والده، ويجري في تجميلها على أجمل عوائده، ويستفتح فيها استفتاحا تحفّ به من هنا ومن هنا تحف محامده، ويصف ولاء قد جعله الله أجمل عقوده وأكمل عقائده؛ ويشفعها بإخلاص قد جعله ميله أحسن وسائله وقلبه أزين وسائده؛ ويطلع علمه على أن من سجايا المتعرّضين إلى الإعلان بشكر الله تعالى في كلّ ما يعرض للمسلمين من نصر، ويفترض لهم من أجر غزو كم قعد عنه ملك فيما مضى من عصر؛ أن يقدروا هذه النعمة حقّ قدرها من التحدّث بنعمتها، والتنبيه بسماع نغمتها، وإرسال أعنّة الأقلام بها في ميادين الطّروس، وإدارة حرباء وصف حرّ حرب (؟) إلى مواجهة خير الشّموس.
ولما كانت غزوات مولانا السلطان ملك البسيطة الوالد خلّد الله سلطانه قد أصبحت ذكرى للبشر، ومواقفه للنصركم جاءت هي والقدر على قدر؛ وقد صارت سيرها وسيرها هذه شدو في الأسمار، وهذه جادّة تستطيب منها حسن الحدو السّفّار؛ فكم قاتلت من يليها من الكفّار، وكم جعلت من يواليها وهو منصورها منصورا بالمهاجرين والأنصار.
ولمّا أذلّ الله ببأسها طوائف التّتار في أقاصي بلاد العجم، وجعل حظّ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجوههم الوجم؛ وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصّرت بهم هممهم حتّى صاروا يخافون الصّبح إذا هجم، والظّنّ إذا رجم؛ وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأجنح من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنّبيل منهم الويل، وما شمّر أحد من الجنود الإسلاميّة عن ساعد إلا وشمّر هو من الذّلّ الذيل؛ ولا أثارت الجياد من الخيل عثيرا منعقدا إلا وظنّوه مساء قد أقبل أو ليل، وانتهت نوبة(7/393)
القتل بهم والإسار إلى التكفور ليفون «1» ملك الأرمن الذي كان يحمي سرحهم، ويمرّد صرحهم، ويستنطق هتف التّتار ويسترجع صدحهم؛ وتعتزّ طرابلس الشام بأنّه خال ابرنسها «2» الكافر، ولسان شورته السّفير ووجه تدبيره السّافر. وطالما غرّ وأغرى، وأجرّ وأجرى وضرّ وأضرى؛ فلما توكّل مولانا السلطان وعزم فتوكّل، وتحقّق أنّ البلاء به قد نزل وما تشكّك أنّ ذلك في ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل؛ وأنّ يومه في الفتك سيكون أعظم من أمنيّته، وأعظم منهما معاداة غده، وأنّ نصر الله لن يخلفه صادق وعده؛ أكل يده ندامة على ما فرّط في جنب الله وساق الحتف لنفسه بيده، فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لهما غير الملك من خمّار. وكانت طرابلس هي ضالّة الإسلام الشّريدة، وإحدى آبقاته «3» من الأعوام العديدة؛ وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت في تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها «4» ، ومرّت وهي لا تغازل ملكا بطرفها، وكلّما تقادم عهدها تكثّرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها إذ البحر لها جلباب والسّحاب لها خمار، وليس لها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار؛ كأنها في سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخطّ، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلّا شطّ واشتطّ.
قدّر الله تعالى أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه إليها كلّ خبر و «ليس الخبر كالعيان» ، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد حرسته عيونها وتلك المخاوف كلّها أمان، وقد اتّخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمدّ عنان؛ وفي خدمته جنود لا تستبعد مفازه، وكم راحت(7/394)
وغدت وفي نفسها للأعداء حزازه؛ فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثّلوج، ومعارج لا مرافق بها غير الرياح الهوج؛ وانحطّت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل؛ واندفعوا في تلك الأوعار، اندفاع الأوعال؛ ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق، ولا جبل شاهق؛ فقال: أهذا منخفض أو عال، وشرعوا في التحصيل لما يوهي ذلك التحصين، وابتنى كلّ سورا أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأي الرّصين؛ فما لبثوا إلا بمقدار ما قيل لهم دونكم والاختطاب، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب؛ حتّى جرّوها بأسرع من جرّ النّفس، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا: السّفينة لا تجري على يبس؛ وفي الحال نقلت إليها فرأوا من متوقّلها من يمشي بها على رجلين ومنهم من يمشي على أربع، ووجّهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عين إلا وكان قدّامها منها إصبع؛ وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق والحجارة من الأسوار، فكم ثقبت ونقبت عن فلذة كبدها، عن «1» وأوقدت نيران المكايد ثمّ فكم حولها من صافن ومن صافر، وكم رمتهم بشرر كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر؛ وما برحت سوق أهل الإيمان في نفاق، على أهل النّفاق، وأكابرهم تساق، أرواحهم الخبيثة إلى السّاق.
وكان أهل عكّا قد أنجدوهم من البحر بكل برّ، ورموا الإسلام بكل شرر وبكل شرّ؛ فصار السهم الذي يخرج بها لا يخرج إلا مقترنا بسهام، وشرفات ذلك الثغر كالثّنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفترّ عن ابتسام.
وما زالت جنود الإسلام كذلك، ومولانا السلطان لا ترى جماعة مقدمة ولا متقدّمة إلا وهو يرى بين أولئك. واستمرّ ذلك من مستهلّ ربيع الأوّل إلى رابع ربيع الآخر، فزحف إليها في بكرة ذلك النهار وهو الثّلاثاء زحفا يقتحم كلّ هضبة ووهدة، وكلّ صلبة وصلدة؛ حتّى أنجز الله وعده، وفتحها المسلمون مجازا وفي(7/395)
الحقيقة فتحها وحده؛ وطلعت سناجق الإسلام الصّفر على أسوارها، ودخلت عليهم من أقطارها، وجاست الكسابة إلى ديارها؛ فاحتازها مولانا السلطان لنفسه ملكا، وما كان يكون له في فتحها شريك وقد نفى عنها شركا؛ وكلّما قيل هذه طرابلس فتحت قال النصر لمن قتل فيها من النّجد الواصلة: وأكثر عكّا وأهل عكّا؛ وأعاد الله تعالى بها قوّة الكفر أنكاثا، فكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة في يوم ثلاثا، واستردّت في يوم الثّلاثا.
ولما عمّت هذه البشائر، وكل بها مولانا السلطان إلى من يستجلي حسان هذه العرائس، ويستحلي نفيس هذه النّفائس.
سيّر مولانا السلطان إلى المولى كلّ بشرى تقعقع بها البريد، لتتلى بأمره على كلّ من ألقى السمع وهو شهيد؛ وكما عمّ السرور بذلك كلّ قريب قصد أن يعمّ الهناء كلّ بعيد.
وأصدر المملوك هذه الخدمة يتجرّب بين يديه نجواها، ويتوثّب بعد هذه الفاتحة المباركة لكلّ سانحة يحسن لدى المولى مستقرّها ومثواها؛ لا برح المقام العالي يستبشر لكماة الإسلام بكلّ فضل وبكل نعمى، ويفرح بسرح الكفر إذا انتهك وبسفح الملك إذا يحمى، وبسمع الشّرك إذا يصمّ وبقلبه إذا يصمى؛ والله الموفق.
الجملة الثانية (في المكاتبات إلى عرب البحرين ومن انضاف إليهم)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنّ بلاد البحرين لم تزل بيد العرب، وأنها صارت الآن بيد بني عقيل- بضم العين- من بني عامر بن صعصعة، من هوازن، من قيس عيلان، من العدنانية. قال في «التعريف» : ومنهم قوم يصلون إلى باب السلطان وصول التّجّار، يجلبون جياد الخيل وكرام المهاري واللّؤلؤ وأمتعة من أمتعة العراق والهند، ويرجعون بأنواع الحباء والإنعام والقماش والسّكّر وغير ذلك؛ ويكتب لهم بالمسامحة فيردون(7/396)
ويصدرون. قال: وبلادهم بلاد زرع وضرع، وبرّ وبحر، ولهم متاجر مربحة، وواصلهم إلى الهند لا ينقطع، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، ولهم قصور مبنيّة، وآطام عليّة، وريف غير متّسع، إلى ما لهم من النّعم والماشية، والحاشية والغاشية؛ إلا أنّ الكلمة قد صارت بينهم شتّى، والجماعة متفرّقة. وقد سبق الكلام على بلادهم مستوفى في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك.
قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إلى كبرائهم «الساميّ» بالياء.
والعلامة الشريفة «أخوه» ثم ما دون ذلك لمن دونهم.
واعلم أنه في «التثقيف» قد جمع بين عرب البحرين وعرب البصرة وما والى ذلك، وجعل المكاتبة إليهم على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى- من يكتب إليه «الساميّ» بالياء والعلامة الاسم، وذكر أنّ بها يكاتب أميرهم، وسماه حينئذ «صدقة بن إبراهيم بن أبي دلف» وأن تعريفه فلان بن فلان. وذكر في رتبته في المكاتبة يومئذ محمد بن مانع، وأخوه حسين بن مانع، وعليّ بن منصور.
المرتبة الثانية- من يكتب إليه «الساميّ» بغير ياء والعلامة الاسم. وذكر منهم بدران بن مانع- روميّ بن أبي دلف- زين بن قاسم- يوسف بن قاسم، سعيد بن معدي- راشد بن مانع- عيسى بن عرفة- ظالم بن مجاشع- إسماعيل ابن صواري- كلبي بن ماجد بن بدران- مانع بن عليّ- مانع بن بدران.
المرتبة الثالثة- من يكتب إليه «مجلس الأمير» والعلامة الاسم. وعدّ منهم جماعة، وهم عظيم بن حسن بن مانع- موسى بن أبي الحسن- سعد بن مغامس- زيد بن مانع- هلال بن يحيى- معمر بن مانع- محمد بن خليفة.
قلت: وحاصل ما ذكره في «التعريف» و «التثقيف» أنّ جملة المكاتبة إليهم لا تجاوز المراتب الثلاث المذكورة، والكاتب يستخبر أخبارهم في المقدار، وينزل كلّ واحد منهم على قدر مرتبته من ذلك كما في الأسماء المتقدّمة الذكر.(7/397)
المهيع الرابع (في المكاتبة إلى صاحب الهند والسّند)
وقد ذكر في «التعريف» أن صاحبه في زمانه كان اسمه أبا المجاهد محمد بن طغلقشاه «1» ثم قال: وهو أعظم ملوك الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وبرّا وبحرا، وسهلا وقفرا؛ وأن سمته في بلاده «الإسكندر الثاني» ثم قال: وتالله إنه يستحقّ أن يسمّى بذلك ويوسم به: لاتّساع بلاده، وكثرة أعداده، وغزر أمداده؛ وشرف منابت أرضه، ووفور معادنه، وما تنبته أرضه، ويخرجه بحره. ويجبى إليه، ويرد من التّجّار عليه. وأهل بلاده أمم لا تحصى، وطوائف لا تعدّ. ثم حكى عن قوم ثقات منهم قاضي القضاة سراج الدين الهنديّ الحنفيّ، وهو يومئذ مدرّس البيدمريّة بالقاهرة، والتاج البزّي، والشيخ مبارك الأنبايتيّ: أن عسكر(7/398)
هذا السلطان نحو التسعمائة ألف فارس، وعنده زهاء ألفي فيل يقاتل عليها، وخلق من العبيد تقاتل رجّالة مع سعة الملك والحال، وكثرة الدّخل والمال، وشرف النّفس والإباء، مع الاتّضاع للعلماء والصّلحاء؛ وكثرة الإنفاق، وعميم الإطلاق؛ ومعاملة الله تعالى بالصّدقة، وإخراج الكفاية للمرتزقة؛ بمرتّبات دائمة، وإدرارات متّصلة؛ بعد أن حكى عن رسوليه دميرخوان «1» وافتخار ما قال: إنه لو سكنت النفوس إلى براءتهما من التعصب [فيه] لحكى منه العجائب، وحدّث عنه بالغرائب؛ ثم ذكر أنه أرسل مرّة مالا برسم الحرمين وبيت المقدس، وهدية للسلطان تزيد على ألف ألف دينار؛ فقطع عليها الطريق باليمن، وقتل محضرها بأيدي مماليك صاحب اليمن، لأمر بيّت بليل؛ ثم قتل قاتلوه، وأخذ أهل اليمن المال وأكلوه؛ وكتب عن السلطان إلى صاحب اليمن في هذا كتاب منه «وقد عددت عليه فعلته» وقيل فيه: «وفعل ما لا يليق، وأمسى وهو يعدّ من الملوك فأصبح يعدّ من قطّاع الطريق» . وقد سبق في الكلام على المسالك والممالك من عظيم هذه المملكة وعظم قدر رجالها ما فيه كفاية عن الإعادة.
قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه رسم المكاتبة إلى القانات الكبار المقدّم ذكرهم، في هيئة الكتاب وما يكتب به والطّغراة والخطبة. وألقابه «المقام الأشرف، العالي، المولويّ، السلطانيّ، الأعظميّ، الشاهنشاهيّ، العالميّ، المجاهديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، المظفّريّ، المؤيّديّ، المنصوريّ، إسكندر الزمان، سلطان الأوان، منبع الكرم والإحسان، المعفّي على ملوك آل ساسان، وبقايا أفراسياب وخاقان، ملك البسيطة، سلطان الإسلام، غياث الأنام؛ أوحد الملوك والسلاطين» ويدعى له. قال: ولم يكتب إليه في ذلك الوقت لقب ينسب إلى الخلافة نحو «خليل أمير المؤمنين» وما يجري هذا المجرى، إذ كان قد بلغنا أنه يربأ بنفسه إلى أن يدّعى الخلافة، ويرى له فضل الإنافة.(7/399)
قلت: مقتضى ما ذكره في «التعريف» حيث قال: إن رسم المكاتبة إليه رسم المكاتبة إلى القانات الكبار في هيئة الكتاب وما يكتب به، والطّغراة والخطبة، أن المكاتبة إليه تفتتح بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله» كما تقدّم في افتتاح المكاتبات إلى القانات. والذي ذكره في «التثقيف» أن المكاتبة إليه تكون في قطع البغداديّ الكامل بالذهب والأسود، كما جرت العادة به، يعني في كتب القانات، إلا أنه جعل رسم المكاتبة إليه: «أعزّ الله تعالى أنصار المقام، العالي، السلطانيّ، العالميّ، العادليّ، الملكيّ، الفلانيّ» . ثم قال: وهذه الألقاب سطران كاملان وبينهما بيت العلامة على العادة، وبعد السطرين المذكورين في الجانب الأيمن من غير بياض «أبو المجاهد محمد ابن السلطان طغلقشاه زيدت عظمته» . ولا يذكر لقبه. والدعاء، والعلامة «أخوه» . وتعريفه «صاحب الهند» . وقد رأيت تصويره في بعض الدساتير على هذه الصورة:
أعز الله تعالى أنصار المقام العالي بيت العلامة السلطانيّ، العالميّ، العادليّ، الملكيّ، الفلانيّ قال في «التعريف» : والعنوان جميعه بالذهب وهو سطران، وتعريفه «صاحب الهند» . وبقية الكتاب بالسواد والذهب أسوة القانات؛ وبه يشعر كلام «التعريف» فيما تقدّم.
وهذا دعاء معطوف وصدر يليق به، ذكره في «التعريف» وهو:
ولا زال سلطانه للأعداء مبيرا، وزمانه بما يقضي به من خلود ملكه خبيرا، وشأنه وإن عظم يتدفّق بحرا ويرسي ثبيرا «1» ، ومكانه- وإن جلّ أن يجلببه مسكيّ الليل- يملأ الأرجاء أرجا والوجود عبيرا، وإمكانه يستكين له الإسكندر خاضعا وإن جاز نعيما جمّا وملكا كبيرا، ولا برحت الملوك بولائه تتشّرف، وبآلائه(7/400)
تتعرّف، وبما تطبع مهابته من البيض ببيض الهند في المهج تتصرّف. المملوك يخدم بدعاء يحلّق الله إلى أفقه، [ويحلّ العلياء والمجرّة في طرقه] «1» ، ويهدي منه ما يعتدل به التاج فوق مفرقة، ويعتدّ له النّجم ولا يثنيه إلّا وسادة تحت مرفقة؛ ويسمو إلى مقام جلاله ولا يسأم من دعاء الخير، ولا يملّ له إذا ملّت النجوم عن السّير؛ ولا يزال يصف ملكه المحمّديّ بأكثر مما وصف به الملك السليماني، وقد قال: وأوتينا من كلّ شيء، وعلّمنا منطق الطير.
قلت: وهذا الدعاء المعطوف مما يؤكد ابتداء المكاتبة بالدعاء، خلافا لما تقدّم أنه مقتضى تصوير كلامه في «التعريف» .
واعلم أنّ في هذه المكاتبة على ما ذكره في «التعريف» شيئين قد خالف فيهما قاعدة المكاتبات عن الأبواب السلطانية.
أحدهما- إتيانه في «التعريف» في ألقابه بالمولويّ. والثاني- قوله في الصدر المتقدّم الذكر «المملوك يخدم» . فقد ذكر صاحب «التعريف» في كتابه «عرف التعريف» «2» : أن السلطان لا يكتب عنه في العلامة «المملوك» وإنما خالف القاعدة في ذلك هنا تعظيما لمقام المكتوب إليه وإعلاء لرتبته، حيث قال في أوّل كلامه: إنه أعظم ملوك الأرض على ما تقدّم ذكره، فعبّر عن مقامه بما يليق به، وخاطبه بما يليق بخطابه، كما تقدّم أنه كان يكتب إلى أبواب الخلافة «المملوك» أو «الخادم ينتهب ثرى الأعتاب» أو «يقبّل الأرض» ونحو ذلك تعظيما لمحل الخلافة، لا سيما وقد تقدّم أن صاحب الهند حينئذ كان يدّعي الخلافة، إلا أنّ(7/401)
نظام هذا الملك قد أختلّ ونقص عمّا كان بموت السلطان محمد بن طغلقشاه حين توفي، واستقر مكانه ابن خالته «1» فيروز شاه «2» ولعل المكاتبة التي ذكرها في «التثقيف» إنما رتّبت على حكم ما كان في أيّامه بعد»
ذكر المكاتبة المذكورة، بعد أن ذكر أنّ محمد بن طغلقشاه مات وقام فيروز شاه مقامه، إلا أنه مثل المكاتبة المذكورة بمحمد بن طغلقشاه، فاقتضى أن يكون هو المعنيّ بالمكاتبة. ثم تفرّقت المملكة بعد ذلك في سلطانين «4» ، فيما أخبرني به بعض أهل الهند؛ ثم تزايد نقصها بعد أن غزا «5» [ها] تمرلنك وغلب(7/402)
عليها؛ ثم نزح عنها. وبكل حال فلا ينبغي أن يقصّر بصاحب الهند عن رتبة القانات. ولم أقف على نص مكاتبة كتب بها إلى صاحب الهند فأذكرها.
المقصد الثاني (من المصطلح المستقرّ عليه الحال من المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في المكاتبات إلى ملوك الغرب
، وفيه أربع جمل)
الجملة الأولى (في المكاتبات إلى صاحب أفريقيّة
، وهو صاحب تونس، وتنضم إليها بجاية وقسنطينة «1» تارة، وتنفرد عنها أخرى) وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك نقلا عن «التعريف» أنّ حدّ هذه المملكة غربا من جزائر بني مزغنّان «2» إلى عقبة برقة الفارقة بين طرابلس وبين برقة، وهي نهاية الحدّ الشرقي؛ ومن الشام البحر «3» ؛ ومن الجنوب آخر بلاد الجريد «4» والأرض السّوّاخة؛ إلى ما يقال إنه موقع المدينة(7/403)
المسمّاة بمدينة النّحاس «1» ثم قال: وهو أجلّ ملوك الغرب مطلقا.
وقد تقدّم هناك أيضا ذكر حال مملكتها ومن ملكها جاهلية وإسلاما، وأنها كانت قبل الإسلام بيد البربر حين كان معهم جميع المغرب؛ ثم انتزعها منهم الرّوم والفرنج إلى أن انتهت حال الفتح الإسلاميّ إلى جرجيس «2» ملك الفرنج في جملة ممالك المغرب، ودار ملكه يومئذ سبيطلة «3» ، إلى أن فتحت في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد عبد الله بن أبي «4» سرح، وتوالت عليها نوّاب الخلفاء، وصارت دار المملكة بها القيروان حتّى صارت منهم إلى [بني الأغلب] «5» ثم إلى العبيديين بني عبيد الله المهديّ؛ ثم الموحّدين أصحاب المهديّ بن تومرت، وهي بأيديهم إلى الآن، وهي مستقرّة الآن بيد الحفصيّين منهم، وهم يدّعون النسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فيقولون: أبو حفص عمر بن يحيى بن محمد بن وانّود بن عليّ بن أحمد بن والّال بن إدريس بن خالد بن اليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد بن نجية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وباعتبار ذلك القائمون بها من بني أبي حفص يدّعون الخلافة، ويدعى القائم منهم في(7/404)
بلاده بأمير المؤمنين، وربّما كاتبه بها بعض ملوك المغرب. قال في «التعريف» : ومن أهل النسب من ينكر ذلك، ويجعلهم تارة بنسب إلى عديّ بن كعب: رهط عمر بن الخطاب دون بني عمر. ومنهم من ينسبهم إلى هنتاتة «1» من قبائل البربر بالمغرب، وهي قبيلة عظيمة مشهورة.
وهي الآن (إلى حدود الثمانمائة) بيد السلطان أبي فارس عزّوز؛ وقد دوّخ البلاد وأظهر العدل ورفع منار الإسلام. وقد ذكر في «التعريف» أنّ السلطان بها في زمانه كان المتوكّل على الله أبو يحيى أبو بكر.
ورسم المكاتبة إليه فيما ذكره في «التعريف» أن يكتب بعد البسملة. «أما بعد حمد الله» بخطبة مختصرة في مقتضى الحال، ثم يقول فهذه المفاوضة، أو النجوى، أو المذاكرة، أو المطارحة، أو ما يجري مجرى ذلك، تهدي من طيب السلام (ومن هذا ومثله) إلى الحضرة الشريفة، العليّة، السنية، السريّة، العالميّة، العادليّة، الكامليّة، الأوحدية، حضرة الإمارة العدويّة، ومكان الإمامة القرشيّة، وبقية السّلالة الطاهرة الزكيّة، حضرة أمير المسلمين، وزعيم الموحّدين، والقائم في مصالح الدنيا والدين، السلطان السيّد الكبير، المجاهد، المؤيّد، المرابط، المثاغر، المظفّر المنصور، المتوكّل على ربه، والمجاهد في حبّه، والمناضل عن الإسلام بذبّه، فلان؛ ويدعى له بما يناسب مختصرا، ثم يذكر ما يليق بكرم الجدود.
صدر آخر- من «التعريف» أيضا:(7/405)
صدرت إليه تهدي إليه من طيب السلام ما ترقّ في جانبه الغربيّ أصائله، ويروق فيما ينصبّ لديه من أنهار النّهار جداوله، ويحمله لكلّ غاد ورائح، وتجري به السّفن كالمدن والركائب الطّلائح «1» ؛ وتخصّ ذلك المقرّ منه بثناء يعزّ لأن ينيب لبعده الدار، ويستطلع ليل العراق به من فرق أفريقيّة النهار؛ وتحامي مصر عن جارتها الممنّعة، وتفخر بجاريتها الشمس التي لا ترى في أفقها إلا مبرقعة.
ولم يذكر في «التعريف» قطع الورق، ولا العنوان، والخاتمة، والعلامة، وما في معنى ذلك. والذي ذكره في «التثقيف» أنّ رسم المكاتبة إليه في قطع بحيث يكون تحتها سواء في الجانب الأيمن من غير بياض ما مثاله «عبد الله ووليّه» ثم يخلّى مقدار بيت العلامة؛ ثم تكتب الألقاب الشريفة من أوّل السطر مسامتا للبسملة. وهي «السلطان، الأعظم، المالك، الملك، الفلانيّ، السيد، الأجلّ، العالم، العادل، المؤيّد، المجاهد، المرابط، المثاغر، المظفّر، الشاهنشاه- وهذه تختصر غالبا- ناصر الدّنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والتّرك؛ فاتح الأقطار، مانح الممالك والأقاليم والأمصار، إسكندر الزّمان، مولي الإحسان، جامع كلمة الإيمان، مملّك أصحاب المنابر والتّخوت والتّيجان، ملك البحرين، مسلّك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه؛ سلطان البسيطة، مؤمّن الأرض المحيطة؛ سيد الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو فلان فلان، ابن الملك الفلاني فلان الدين والدنيا» ويرفع في نسبه إلى منتهاه «خلّد الله سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه. ويجتهد أن يكون «وأعوانه» آخر السطر أو قريبا(7/406)
من آخره. قال: والواجب بدل وليّ أمير المؤمنين قسيم أمير المؤمنين؛ ثم يقول:
يخصّ الحضرة العالية، السّنيّة، الشّريفة، الميمونة، المنصورة، المصونة؛ حضرة الأمير العالم، العادل، العابد، المؤيّد، الأوحد، فلان؛ ذخر الإسلام والمسلمين، عدّة الدنيا والدّين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول، والدعاء بإهداء السلام والشكر. ثم بعد حمد الله بخطبة مختصرة جدّا، فإنا نوضّح لعلمه الكريم؛ وتعريفه «صاحب تونس» .
قلت: وخطابه بالإخاء.
وهذه نسخة كتاب كتب بها عن الظاهر «برقوق» «1» من إنشاء علاء الدين، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من عبد الله ووليّه.
السلطان الأعظم المالك، الملك الظاهر، الأجلّ العالم العادل، المجاهد المرابط، المثاغر المؤيّد، المظفّر، سيف الدّنيا والدّين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، قامع الخوارج والمتمرّدين؛ وارث الملك، ملك ملوك العرب والعجم والتّرك، مبيد الطّغاة والبغاة والكفّار، مملّك الممالك والأقاليم والأمصار، إسكندر الزمان، ناشر لواء العدل والإحسان، مليك أصحاب المنابر والأسرّة والتّخوت والتّيجان، مالك البحرين، صاحب سبل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، سلطان البسيطة، مؤمّن الأرض المحيطة، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين؛ «أبي سعيد برقوق» خلد الله سلطانه، ونصر جنوده وأعوانه، وأفاض على العباد والبلاد جوده وإحسانه؛ تحية تتأرّج نفحا، وتتبلّج صبحا، وتطوي بعرفها نشر الخزامى، وتعيد ميّت الأشواق حيّا إذا ما؛(7/407)
تخصّ الحضرة العلية، السنيّة السريّة، المظفّرة الميمونة، المنصورة المصونة؛ حضرة الأمير العالم، العادل، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، ذخر الإسلام والمسلمين، عدّة الدنيا والدين، قدوة الموحّدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول، المتوكّل على الله أحمد، ابن مولانا الأمير أبي عبد الله محمد، ابن مولانا أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن الأمراء الراشدين، أعزّ الله دولته وأذلّ عداته، وأنجز من صعود أوليائه وسعود آلائه صادق عداته.
بعد حمد الله جامع الشمل بعد تفريقه، راتق خلل الملك عند تمزيقه، والشهادة بأن لا إله إلّا هو مبيد الباطل بحقّ سرّه وسرّ تحقيقه؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله موضّح سبيل التوكّل على الله وطريقه. وإهداء سلام ما الزّهر بأعبق من فتيقه «1» ، وثناء ما الروض بأعطر من خلوقه؛ فإننا نوضّح لعلمه الكريم أنّ كتابه الكريم ورد ورود السّنة على الجفن الساهر، أو المزنة على الروض الزّاهر؛ أو الزّلال على الأوام «2» ؛ أو البرء على السّقام؛ فمددنا إليه يد القبول، وارتحنا له ارتياح الشمائل إلى الشّمول «3» ، وملنا إلى مفاكهته ميل الغصون إلى الرّياح، وامتزجنا بمصافاته امتزاج الماء بالراح؛ وفضضنا ختامه عن فضّيّ كلامه، وذهبنا إلى ذهبيّ نثاره ونظامه؛ وتأمّلناه تأمّلا كلّ نظر عبده وخادمه، ووقفنا عليه وقوف شحيح ضاع في التّرب خاتمه؛ ونظمنا جواهر اعتباره في قلائد الأفكار، وصبونا إلى اختباره كما صبت النفوس إلى الادّكار؛ وفتحنا له جهد الطاقة بابا من المحبة لم يغلق، ونقسم بمن خلق الإنسان من علق أنّها بغير قلوبنا لم تعلق؛ فإذا سطوره جنود مصطفّة، أو قيان بها الحسان محتفّة؛ وإذا رقمه طراز حلّة، أو عقد شدّه البنان وحلّه؛ وإذا لفظه قد رقّ وراق، ومرّ بالأسماع فملأ(7/408)
بحلاوته الأوراق؛ وإذا معناه ألطف من النّسيم الساري، وأعذب مذاقا من الماء الجاري؛ وإذا سجعه يفوق سجع الحمائم، ويزري بالرّوض الضاحك لبكاء الغمائم؛ وإذا سلامه قد حيّته الأزاهر، وطوى بعرفه نشر الروض الزّاهر؛ وإذا هناؤه قد ملك عنان التّهاني، واستمطر عنان الأمان من سماء الأماني؛ فعبّر لنا لفظ عبيره عن معنى المحبّة، وقرّب شاسع الذّكر وإن بعد المدى بين الأحبّة؛ وأقام شاهد الإخاء على دعوى الإخلاص فقبلناه، ونادى مطيع المودّة فاستجبنا له ولبّيناه؛ سقيا له من كتاب غذّي بلبان الفصاحة، وجرى جواد التماحه من مضمار الملاحة؛ لا عيب فيه، سوى بلاغة فيه، ولا نقص يعتريه، سوى كمال باريه؛ لعمري لقد فاق الأواخر والأوائل، فما أجدر كلامه بقول القائل:
وكلام كدمع صبّ غريب ... رقّ حتّى الهواء يكثف عنده!
راق لفظا ورقّ معنى فأضحى ... كلّ سحر من البلاغة عبده!
لله درّه من كتاب حلب درّ الأفراح، وجدّد من أثواب المسرّة ما كان قد أخلقته يد الأتراح؛ فهمنا معناه فهمنا، وشرحنا متن فحواه فانشرحنا؛ وعلمنا ما اتّصل بسماعكم من خبرنا العجيب، وحديث أمرنا القديم الغريب، الذي أظهر فينا لله أسرارا، وكتب لنا منه عناية كبت بها أشرارا؛ جلّ جلاله خافض رافع، معل بحكمته واضع؛ سبحانه أوجد بعد العدم وأنسى ثم أنشأ، قل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشا؛ كسر وجبر، وقرن المبتدأ بالخبر؛ وهب ما كان سلب، وجعل لصبرنا حسن المنقلب؛ أعادنا إلى الملك مع كثرة الأعداء وقلّة الأنصار، وأظهرنا بعد الخفاء فاعتبروا يا أولي الأبصار؛ وأبرز إبريزنا بعد السّبك خالصا يروق الناظر، ويفوق برونقه وجه الروض الناضر؛ فاعلموا أنّ لله في ذلك سرّا خفيّا، لم يزل ببركة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بنا حفيّا؛ قمتم لنا فيه بواجب الهنا، وأحاط بنا طولكم الطويل من هاهنا وهاهنا؛ فاستجلينا من كتابكم عرائس بشراه، وحمدنا عند صباح طرسه ليل مسراه؛ وشكرنا له هذه الأيادي التي تقصر عنها الأيدي المتطاولة، وثنينا إليكم عنان الثناء الذي فاق بمخايله الروض الأريض وخمائله.(7/409)
ولمّا تمثل إلينا رسولكم المكرّم، وصاحبكم الكامل المعظّم، ذو الأصل الطاهر، والنسب الباهر؛ والرأي السّديد، والبأس الشديد، فلان: لا زال عليّ مقامه حسنا، وجفن علمه لا يبعث الجهل عليه وسنا؛ فأبدى إلينا ما في وطابه، وأثلج الصّدور بحكمة فضله وفصل خطابه، وأخذ يجاذبنا عنكم أطراف الأحاديث الطيّبة، ويرسل علينا من سماء محبّتكم مزنها الصّيّبة؛ وأطربنا بسماع أخباركم، ونصر أعوانكم وأنصاركم؛ ونبّه على ما أودعه كتابكم، وتضمّنه من النّصرة خطابكم؛ ودوس جنودكم جزيرة «غودش» وعودهم بالمنّ والمنح، وتلاوتهم عند الانتصار إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
«1» وقفولهم متفيّئين من الجهاد بظلّه، فرحين بما آتاهم الله من فضله، بعد أن نعقت منهم على الكفّار الغربان، واقتنصت الرجال آجالهم اقتناص العقبان، وجاءتهم كالجبال الرّواسي، وظفرت بهم أظافير الرّماة ومخالب المراسي، وغنّت عليهم أوتار القسيّ فأرقصت رؤوسهم على الضّرب، وسقتهم كؤوس الرّدى مترعة ونعم هذا الشّرب لأولئك الشّرب، وأعادت المسلمين بالغنائم إلى الأوطان بعد نيل الأوطار، وبشّرت الخواطر بما أقرّ العيون من النّجاح والنّجاة من الأخطار؛ هذا والعدوّ الملقي السّلم «2» عند الجهاد، جيء بهم مقرّنين في الأصفاد؛ يا لها غزاة أشرق نورها كالغزالة، وأشرق يوم إسلامها على ليل الكفر فأزاله، وتولّد منها الجهاد فلا يرى بعدها إن شاء الله عقيما، وتلا لسان الشّوق إليه يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
«3» . لا زالت رقاب الأعداء لأسيافكم قرابا، وغزواتكم الصالحة تنيلكم من الله أجرا وثوابا.
ولما عرضت علينا من جودكم عند العشيّ الصافنات الجياد، وحلّينا منها بقلائد منّها الأجياد، نقسم لقد حيّرتنا، ألوانها إذ خيّرتنا.(7/410)
فمن أشهب- كأنّ الشّهب له قنيصه «1» ، أو الصّباح ألبسه قميصه؛ أو كأنما قلب من اللّجين في قالب البياض، وسقي سواد أحداقه أقداح الرّباحة من غير حياض.
ومن أدهم- كأن النّقس «2» لمسه «3» في مداده، أو الطرف أمدّ طرفه بسواده؛ أو كأنما تقمّص إهاب الليل، لمّا طلع عليه فجر غرّته فولّى مشمّر الذيل.
ومن احمر- كأنما صيغ من الذهب، أو كوّن من النار واللهب؛ أو كأنّ الشّفق ألقى عليه قميصه ثم أشفق، أو الشّقيق أجرى عليه دمعه دما وجيبه شقّق.
ومن أشقر- كأنما ألبس ثوب الأصيل، وبشّر السريّة يمن طلعته بالنصر والتحصيل؛ أو كأنّ النّضار «4» كساه حلّة العشّاق، وقد ادّرعوا بأسواق المحبّة مطارف الأشواق.
ومن أخضر- كأنما تلّفّع من الروض الأريض بأوراقه، أو صبغ بالعذار المخضرّ وقد شقّت عليه مرائر عشّاقه؛ أو كأنّما الزّمرّد تلوينه، أو من شارب الشادن تكوينه؛ كلّ بطرف منها يسبق الطّرف، ويروق الناظر بالحسن الناضر والظّرف؛ تقام به حجّة الإعراض وهو باعتراف ممتطية قادرملي، وينصب إلى الإدراك حسن السير كجلمود صخر حطّة السّيل من علي- فأسرجنا «5» لها جود القبول، وامتطينا منها صهوة كلّ مأمول؛ وأعددناها مراكب للمواكب، ولليل المهمّات الواقعة بدورا وكواكب؛ وأطلقنا أعنّة شكرها في ميادين المحامد، وطفقنا نرجّع ذكرها بين شاكر وحامد.(7/411)
(مكاتبة وزير تونس) رأيت في الدستور المنسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنه كتب إلى أبي عبد الله بن بعلاص.
صدرت هذه المكاتبة إلى «1» الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الأرشدي، الأمجديّ، الأثيريّ، البليغيّ، الفلاني، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الفضلاء، زين العلماء، نجل الأكابر، أوحد الأعيان، بركة الدّولة، صفوة الملوك والسلاطين؛ (ويدعى له بما يناسبه) . وتوضّح لعلمه المبارك كيت وكيت؛ ولم يذكر قطع الورق ولا العلامة ولا التعريف. والذي يظهر أنّ قطع الورق العادة، والعلامة «أخوه» . والتعريف «وزير تونس» .
الجملة الثانية (في مكاتبة صاحب الغرب الأوسط، وهو صاحب تلمسان)
وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك الكلام على هذه المملكة ومن ملكها جاهليّة وإسلاما؛ وهي الآن بيد بني عبد الواد من زناتة من قبائل البربر- والقائم بها الآن منهم إلى حدود الثمانمائة من الهجرة هو السلطان أبو زيّان «2» ، ابن السلطان أبي حمو: موسى بن يوسف، بن عبد الرحمن، بن يحيى، ابن يغمراسن، بن زيّان، بن ثابت، بن محمد، بن ركدار «3» ، بن(7/412)
تيدوكس، بن طاع الله، بن عليّ، بن القاسم، بن عبد الواد.
قلت: وذكر هذه المملكة في «مسالك الأبصار» مضافة إلى مملكة فاس:
لانضمامها حينئذ إليها في مملكة السلطان أبي الحسن المرينيّ: صاحب فاس في زمانه، ولذلك لم يذكر لصاحبها مكاتبة في «التعريف» . على أنّي رأيت من صاحبها موسى بن يغمراسن مكاتبة إلى الناصر «محمد بن قلاوون» صاحب مصر. وسيأتي إيرادها في جملة المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة. وذكر صاحب «التثقيف» أن صاحبها في زمانه في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» أي سلطانها يومئذ أبو حفص عمر بن أبي عمران موسى، وأن المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى صاحب تونس المقدّم ذكره على السواء. وذكر أنه كتب ذلك إليه ورأى جماعة كتّاب الإنشاء يكتبونه، وكذلك رأيته في الدّستور المنسوب إلى المقرّ العلائي بن فضل الله، ولم أظفر بصورة مكاتبة فأذكرها.
الجملة الثالثة (في المكاتبة إلى صاحب الغرب الأقصى)
وهو صاحب فاس، وتعرف مملكته ببرّ العدوة. وقد تقدّم الكلام على مملكتها وأحوالها ومن ملكها جاهليّة وإسلاما في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك، وأنها الآن بيد بني عبد الحق من بني مرين من زناتة من قبائل البربر، وأنها الآن بيد السلطان أبي فارس عثمان، ابن السلطان أبي العبّاس أحمد، ابن السلطان أبي سالم إبراهيم، ابن السلطان أبي الحسن عليّ، ابن السلطان أبي سعيد عثمان، ابن السلطان أبي يوسف يعقوب، بن عبد الحق، بن محيو، بن أبي بكر، بن حمامة، بن محمد، بن ورصيص «1» ، بن فكّوس، بن كوماط، بن مرين، بن ورتاجن، بن ماخوخ، بن وحريج «2» ، بن قاتن، بن(7/413)
بدر، بن نجفت، بن عبد الله، بن ورتبيص، بن المعز، بن إبراهيم، بن رجيك، بن واشين، بن بصلتن، بن شرا»
، بن أكيا، بن ورشيك، بن أديدت، بن جانا، وهو زناتة.
وقد ذكر في «التعريف» أن السلطنة فيهم في زمانه في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» صاحب مصر كانت في السلطان أبي الحسن عليّ بن عثمان المقدّم ذكره. ثم قال: وورث هذا السلطان ملك العزفيين بسبتة، وملك بنى عبد الواد بتلمسان، وأطاعه ملك الأندلس، ودان له ملك أفريقيّة، وعرض عليه ابنته فتزوّجها، فساقها إليه سوق الأمة. ثم قال: وبنو مرين رجال الوغى وناسها، وأبطال الحرب وأحلاسها «2» ؛ وهم يفخرون بغزارة علمه وفضل تقواه.
قال: وهو اليوم ملك ملوك الغرب، وموقد نار الحرب.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» بعد البسملة:
من السلطان الأعظم الملك الفلانيّ، إلى آخر الألقاب المذكورة في المكاتبة لصاحب تونس، إلى قوله ونصر جيوشه وجنوده وأعوانه. ثم يقول: تحيّة بفتتح بها الخطاب، ويقدّم منها ما زكا وطاب؛ وتقال هنا سجعات مختصرة نحو أربع أو خمس، يخصّ بها الحضرة الشريفة العلية، الطاهرة الزكيّة، حضرة المقام العالي، السلطان، السيد، الأجلّ، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الأسرى، الأسنى، الزّكيّ، الأتقى، [المجاهد في الله] «3» المؤيّد على أعداء الله؛ أمير المسلمين، قائد الموحّدين، مجهّز الغزاة والمجاهدين، مجنّد الجنود، عاقد البنود، ماليء صدور البراري والبحار، مزعزع أسرّة الكفّار، مؤيّد السنة، معزّ الملة، شرف الملوك والسلاطين، بقيّة السّلف الكريم، والحسب الصّميم، ربيب الملك القديم، أبي(7/414)
فلان فلان بن فلان. ويرفع نسبه إلى عبد الحق وهو أوّل نسبه. ويقال في كل منهم: أمير المسلمين أبي فلان فلان؛ ثم يدعى له: نحو أعز الله أنصاره أو سلطانه وغير ذلك من الأدعية الملوكية بدعاء مطوّل مفخّم. ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويخطب خطبة مختصرة. ثم يقال: أصدرت إليه، وسيّرت لتعرض عليه، لتهدي إليه من السلام كذا وكذا. ثم يقال: ومما تبديه كذا وكذا.
صدر: يليق بهذه المكاتبة- تهدي إليه من السلام ما يطلع عليه نهاره المشرق من مشرقه، ويحييه به الهلال الطالع من جانبه الغربيّ على أفقه؛ وتصف شوقا أقام بين جفنيه والكرى الحرب، وودادا يملأ برسله كلّ بحر ويأتي بكل ضرب، وثناء يستروح بنسيمه وإن كان لا يستروح إلا بما يهبّ من الغرب؛ مقدّمة شكرا لما يبهر من عزماته التي أعزّت الدين، وغزت الملحدين؛ وحلّقت على من جاورها من الكفّار [تحليق] «1» صقور الرجال على مسفّة الغربان، وتقيم عند الشجاع عذر الجبان؛ وتبيّن آثارها في أعناق الأعداء وللسّيوف آثار بيان؛ وإن كان فعله أكثر مما طارت به الأخبار، وطافت به مخلّقات البشائر في الأقطار؛ وسار به الحجيج تعرف آثاره عرفات، وصارت تستعلم أخباره وتندب قبل زمانه ما فات.
والذي ذكره في «التثقيف» أنه كان السلطان في زمانه في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون» عبد العزيز بن أبي الحسن عليّ المقدّم ذكره؛ وذكر أنّ المكاتبة إليه في قطع النّصف، وأنه يكتب تحت البسملة في الجانب الأيمن من غير بياض ما مثاله «عبد الله ووليّه» ثم يخلّى بيت العلامة؛ ثم تكتب الألقاب السلطانية في أوّل السطر مسامتا للبسملة «السلطان الأعظم الملك الفلاني» إلى آخر الألقاب السلطانية المذكورة في المكاتبة إلى صاحب تونس، إلى قوله: ونصر جيوشه وأعوانه. ثم يقول: تخصّ المقام العالي، السلطان، الملك، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المعاضد، المرابط، المثاغر، المكرّم،(7/415)
المعظّم، المظفّر، الموقّر، المؤيّد، المسدّد، الأسعد، الأصعد، الأرشد، الأنجد، الأوحد، الأمجد، البهيّ، الزّكيّ، السّنيّ، السّريّ، فلان، أمير المسلمين ابن أبي فلان فلان، إلى عبد الحق المريني. والدعاء بما يناسب ذلك المقام؛ ثم أمّا بعد حمد الله، بخطبة لطيفة، فإنا نفاوض علمه الكريم ونحو ذلك. وأكثر مخاطبته بالإخاء وتختم بالدعاء، والعلامة «أخوه» وتعريفه «ملك الغرب» . وفي الدستور العلائيّ أنّ الطلب منه بالمستمدّ، ويختم باستعراض الحوائج والخدم مكمّلا بالدعاء.
وهذه نسخة كتاب من الملك الناصر «محمد بن قلاوون» إلى السلطان أبي الحسن المرينيّ، في جواب كتاب ورد عليه منه وهي:
عبد الله ووليّه، السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، مؤمّن أولياء الله المؤمنين، ظلّ الله الممدود، وميسّر السّبل للوفود، حامي القبلتين بحسامه من أهل الجحود، وخادم الحرمين الشريفين متّبعا للسنة الإبراهيمية في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، والقائم بمصالح أشرف روضة وطيّبة يعطّر طيبها في الوجود؛ وليّ أمير المؤمنين جمع الله به كلمة الإسلام بعد الافتراق، وقمع برعبه أهل العناد والشّقاق؛ وأوزعه شكر نعم الله التي ألّفت على ولائه قلوب ملوك الآفاق، وأمتعه بها منحة صيّرت له الملك بالإرث والاستحقاق، وسيّرت كواكب مناقبه فلها بالمغارب إضاءة وبالمشارق إشراق. ابن السلطان السعيد الشهيد الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، سقى الله عهده عهاد الرحمة ذوات إغراق، وأبقى مجده بمحمّده الذي للأمة المحمدية على تعظيمه إجماع وعلى تقديمه اتّفاق؛ يخصّ المقام العالى، الملك الأجلّ الكبير، المجير، العاضد، المثاغر، المظاهر، الفائز، الحائز، المنصور، المأثور، الفاتح، الصّالح، الأمكن، الأصون، الأشرف، الأعرف، الكريم، المعظّم، أبا الحسن عليّا أمير المسلمين، ابن السلطان السعيد، الحميد، الطاهر، الفاخر، الماهد، الزاهد، الأورع، الأروع، أمير المسلمين، أبي سعيد عثمان، ابن السلطان، السعيد، الرّشيد،(7/416)
السابق، الوامق، الجامع، الصادع، أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، ناظم مفرّق الفخار، وهازم فرق الفجّار، والملازم لإحياء سنّة الجهاد المتروكة في الأقطار، حتّى يجمع في ملكه أطراف الغرب الأقصى للاستيلاء والاستظهار، ويخضع لفتكه كلّ متكبّر جبّار، ويرصّع في سلكه ما تأبّى وصعب من تلك الديار، ويرفع لنسكه أعمالا من الجهاد والاجتهاد تسرّ الحفظة الأبرار، يظهر فيها لبركة الاسم العلويّ من نشر الهدى، وقهر العداء، أوضح الأدلّة وأبين الآثار، ويؤثر سلطاننا المحمديّ من عليّ عزمه، وحميّ حزمه، بأعزّ الأعوان والأنصار، فتظفر دار الإسلام من قومه بمهاجرين من أبناء البلاد يقرّ لهم بأمّ القرى قرار، ويسير سواهم للبيت ذي الحجر والحجر «1» والباب والميزاب والملتزم والجدار والأستار، بسلام مشرق الغرر، مونق الحبر، وثناء مع ريّاه لا يعبأ بالعبير مع نشره ولا يعتبر، ووداد مخفيّ الخبر، واعتداد يطول منه ألسنة الشكر عن إحصائه واستقصائه قصر، وإيراد لمفاخره التي سارت بها الأخبار والسّير، واعتقاد لمآثره التي سبق عثمانها إلى إحراز مزايا الفضل وجاء عليّها على الأثر.
أما بعد حمد الله الذي أمر أولياءه المؤمنين بالمعاونة والمظافرة، ونهى عباده الصالحين عن المباينة والمنافرة، ورعى لحجّاج بيته حرمة القصد وكتب لهم أجر المهاجرة، ودعا إلى حرمه، من أهّله من خدمه، فأجابه بالتلبية وأثابه وآجره.
والشهادة له بالوحدانيّة التي تسعد بمصاحبة المصابرة، وتصعد إلى الدرجات الفاخرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي المناقب الباهرة، والمواهب الزّاخرة، والمراتب التي منها النّبوّة والرسالة في الدنيا والوسيلة والشفاعة في الآخرة، وعلى آله وصحبه الذين أفنى الله الشرك بصوارمهم الحاصدة وأدنى القتل بعزائمهم الحاضرة، صلاة إلى مظانّ الرّضوان متواترة، ما ربحت وفود مكة البركة الوافرة، ووضحت لقاصدي الكعبة البيت الحرام أوجه القبول سافرة.(7/417)
فإنه ورد- أورد الله تعالى البشرى على سمعه، وأيّد اهتمامه بتأليف شمل السّعد وجمعه- من جانبه المكرّم ومعهده وربعه، كتاب كريم نسبه، فخيم أدبه، عليّ منصبه، مليّ إذا أخلف السّحاب بما يهبه، سريّ سرت إلى بيت الله وحرم رسوله القريب قربه، على يد رسوله: الشيخ الأمين الأزكى، الأروع الأتقى؛ الخطيب البليغ، المدرّس، المفيد أبي إسحاق ابن الشيخ الصالح أبي زيد، عبد الرحمن بن أبي يحيى، نفع الله به، وحاجبه الكبير المختار، المرتضى، الأعزّ، أبي زيّان عريف ابن الشيخ المرحوم أبي زكريّا، أيده الله تعالى، وكاتبه الأمجد الأسعد أبي الفضل ابن الفقيه المكرّم أبي عبد الله بن أبي مدين، وفقه الله تعالى وسدّده، ومن معهم من الخاصّة والزعماء والفرسان الماثلين في خدمة الجهة المصونة بلّغها الله أربها، وقبل قربها، الواصلة بركبكم المبارك الرّواح والمغدى، المعان على إكمال فرض الحج المؤدّى، المرحولين بحمد العقبى كما حمد المبدأ؛ ففضضنا ختامه الذّكيّ، وأفضنا في حديث شكره الزّكي، وعرضنا منه بحضرتنا روضا يانع الروض به محكيّ، وحضضنا نوّابنا على إعانة خاصّة وفده وعامتهم على قضاء النّسك بذلك الحرم المكّيّ، وتلمّحنا فصوله الميمونة فإذا هي مقصورات على مثوبات محضة، ورغبات تؤدّي من الحج فرضه، وهبات يعامل بها من يضاعف أجره ويوفّيه قرضه، وقربات يحمد فاعلها يوم قيام الأشهاد نشره وحشره وعرضه.
فأمّا ما ذكره من ورود الكتابين الواصلين إلى حضرته صحبة الشيخين الأجلّين «أبي محمد عبد الله بن صالح، والحاج محمد بن أبي لمحان» وأنه أمضى حكمهما، وأجرى رسمهما، فقد آثرنا للأجر حوزه، واخترنا بالشّكر فوزه، وقصدنا بهما تجديد جلباب الوداد، وتأكيد أسباب الولاء على البعاد؛ وإلا فمع وجود إنصافه الحقوق من غاصبها تستعاد، والوثوق بنصره للمظلوم وقهره للظالم لا يختلف فيه اعتقاد؛ وقد شكرنا لكم ذلك الاحتفال، وآثرنا حمدكم في المحافل والمحال.
وأما ما نعته مما أشرتم إليه مما يتعيّن له التقديم، ويستحقّ توفية حقه من(7/418)
تكرير التكريم، وهو تجهيز ركبكم المحروس في السّرى والمقام، في خدمة من يقوم مقام الوالدة المرحومة في الاحترام، سقى الله صوب الرحمة صفيحها، ورقّى إلى الغرفات روحها، ومعها وجوه دولتكم الغرّ، وأعيان مملكتكم من سراة بني مرين الذين تبهج مرائيهم وتسر؛ وما نبهتم عليه من ارتفاع شأنهم، واجتماع فرسانهم، واستيداع أمانتنا نفائس أنفسهم وأديانهم، فقد استقبلناهم على بعد بالإكرام، وأحللناهم من القرب في أعلى مقام، وصرفنا إلى تلقائهم وجه الإقبال والاهتمام، وعرّفنا حقّهم أهل الإسلام، ونشرنا لهم بفنائنا الأعلام، ويسّرنا لهم باعتنائنا كلّ مرام، وأمرنا بتسهيل طريقهم، وتوصيل البرّ لفريقهم، وأسدلنا الخلع على جميعهم، واحتفلنا بهم في قدومهم ومقامهم وتشييعهم، وأجزلنا لهم أقسام الإنعام في توجيههم، وكذلك يكون في رجوعهم؛ وعرضوا بين أيدينا ما أصحبتهم من الطّرف والهدايا، التي لا تحملها ظهور البحار فكيف ظهور المطايا، من عقود منظّمة، وبرود مسهّمة «1» ، ومطارف معلمه، ولطائف بالإمكان والإتقان معلمه، وصنائع محكمة، وبدائع للأفهام مفحمة، وذخائر معظّمة، وضرائر للشموس في الكون والسّمة، وبواتر تفرّق بين الهام والأجسام والهام ملحمة، وأخاير بمقدار مهديها في الجلال مفهمة، وخيول مسوّمة بالأهلّة مسرجة وبالنّجوم ملجمة، معوّدة نزال الأبطال معلّمة، ذوات صدور مبقورة وأكفال مسلّمة، تسحب من الحرير أذيالا، وتصحب من الوشي سربالا، وتميس بحللها وحلاها عجبا واختيالا، ويقيس مشبّهها سرعتها بالبرق فلا يتغالى، عاتيات الأجسام، عاليات كالآكام، لفحولها صهيل يذعر الأسود، ولسنابكها وقع يفطر الجلمود، أتعبت الرّوّاض، وركبت منها صهوة كلّ بحر سابح حيث لجج الموت تخاض؛ وقرنت مرابطها بحماية جواهر النّفوس من الأعراض، وجنيبة «2» تجرّ من ذيولها كل فضّاض؛ وحسبت لاختلاف شياتها «3» كأنها قطع الرّياض: من شهب كأنما ارتدت الأقاح،(7/419)
أو غدت رافلة في حلل الإصباح؛ ودهم نفضت عليها الليالي صبغها فلا براح، وربما أغفلت من ذلك غرر وأوضاح؛ وكمت كأنّها فتح «1» صلب البطاح، تطير إلى الظّفر بجناح؛ وحمر كأنها خلقت للنّجاح، وأطلقت أعنّتها فقالت ألسنة أسنّتها للطّرائد: لا براح؛ وخضر كأنها البزاة الموشّاة الوشاح، أو مشيب في الشّباب قد لاح؛ وشقر تكبو في طلبها الرّياح، وتخبو نار البرق إذا أمسى بسنا سنابكها اقتداح.
ووراءها البغال، التي تحمل الأثقال، ولا تزلّ في الأوحال بحال؛ وعليها الزّنّاريّات الموشعة، وحليها الجلال الملمّعة؛ وهي تمشي رويدا، وتبدي قوّة وأيدا «2» ؛ كأن قلامتها قناه عيدا (؟) وهي وافرة الأمداد، فاخرة على الجياد، باهرة العدد متكاثرة الأعداد، راسخات القوائم كأنها أطواد، شامخات الرؤوس حاليات الأجياد، باذخات الأكفال غلاظ شداد، وسارت لها إلى رحابنا انقياد، وصارت من محلّ إسعاد إلى مواطن إصعاد؛ فتقبّلنا أجناسها وأنواعها، وتأمّلنا غرائبها وإبداعها، وجعلنا يوما أو بعض يوم في حواصلنا إيداعها؛ ثم استصفينا منها نفائس آثرنا إليها إرجاعها، وفرّقنا في أوليائنا اجتماعها، وقسمنا مشاعها، وغنمنا لمّا أفاء الله صفاياها ومرباعها «3» ؛ فتوالت لكلّ وليّ منها منح، وسارت إلى كل صفيّ منها ملح؛ وقالت الألسنة وطالت في وصف ما عليه به فتح، فاستبان(7/420)
ووضح؛ وكان لأهل الإيمان بنعته أعظم هناء وأكبر فرح.
وسطّرناها وركبكم المبارك قد رامت السّرى نجائبهم؛ وأمّت أمّ القرى ركائبهم؛ يسايرهم الأمن ويصاحبهم، ويظاهرهم اليمن ويواظبهم؛ فقد أعدّت لهم المير «1» في جميع المنازل، وشدّت لهم الهجان البوازل، وأترعت لهم الموارد والمناهل، وأمرعت لهم بالميرة القفار والمراحل، ووكّلت بهم الحفظة في المخاوف ونصبت لهم الأدلّة في المجاهل، وجرّد معهم الفرسان، وجدّد لهم الإحسان، وأكّد لهم حقّان حقّ مرسلهم وحقّ الإيمان، وقلّد درك حياطتهم أمرا العربان، وشوهد من تعظيمنا لهم ما يحسدهم عليه ملوك الزمان بكلّ مكان؛ وكتبنا على أيديهم إلى أمراء الأشراف بالنّهوض في خدمتهم والوقوف، وأن يحيط بهم كلّ مقدّم طائفة ويطوف، يتسلّمهم زعيم من زعيم، إلى أن تحطّ رحالهم بالحطيم «2» ، ويحلّ كلّ منهم بالمقام ويقيم، وتكمل مناسكهم بشهود الموقف العظيم.
وكذلك كتبنا إلى أمراء المدينة المشرّفة، أن تتلقّى بالقبول الحسن مصحفه، وتحلّه بين الروضة والمنبر، وتجلّه فقد ربح سعي كاتبه وبرّ، وكتبت له بعدد حروفه أجور توفّر؛ ويمكّن من يرقّ لتلاوته في الآصال والبكر، ويهيمن على ذلك فإنّه من بيت هم الملاك الأعلى وعندهم وفيهم جاءت الآيات والسور.
وعمّا قليل يتمّ حجّهم واعتمارهم، ويؤمّ طيبة الطّيّبة العاطرة زوّارهم؛ فيكرم جوارهم ويعظم فخارهم، وتنعم بإشراق تلك الأنوار بصائرهم وأبصارهم، وتفوح أرواح نجد من ثيابهم، وتلوح أنوار القبول على شيبهم وشبابهم؛ ثم يعودون إلينا فنعيد لهم الصّلات، ونفيد كلّا منهم ديم النّعم المرسلات؛ ثم يصدرون إن شاء الله إليكم ركائبهم بالمنائح مثقلات، ومطالبهم بالمناجح مكمّلات؛ ويظفرون من الله في الدارين بقسم النّعم المجزلات حتّى يلقوا(7/421)
برحابكم عصا التّسيار، ويصونوا حرّ وجوههم بالصبر على حرّ الهجير [من] لفح النار، ويدّخروا بما أنفقوا عند الله من درهم ودينار، أجرا جمّا وما عند الله خير للأبرار؛ والله تعالى يقرّبه من تلك المواطن، ويدنيه منها بالظاهر وإن كان يسري إليها بالباطن؛ ويسهّل [له] ذلل الحرم، وإن كان قد أعان القاطن والقادم، حتّى تحلّ ركائبه بين المروتين «1» وتجيز، ويكون له بذلك على ملوك الغرب تمييز، وما ذلك على الله بعزيز.
لا زالت مقبولة على المدى هداياه، مجبولة على النّدى سجاياه، مدلولة على الهدى قضاياه، منصورة على العدا سراياه، مبرورة أبدا تحاياه. والسلام الأتمّ الذي يعبق ريّاه، والثناء الأعمّ المشرق محيّاه، عليكم ورحمة الله وبركاته، والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة جواب الكتاب الوارد على الملك الناصر «محمد بن قلاوون» من ابن «2» أبي الحسن عليّ المرينيّ، صاحب فاس المغرب، بالبشارة بفتح بجاية، والانتصار على تلمسان.
واستفتاحه بعد البسملة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ
«3» ثم المكاتبة المعهودة: من ألقاب الملكين، والدعاء. والصدر:(7/422)
قهر الله ببأسه من ناواه من أئمة الكفر وطغاته، ونصره على من لاواه «1» من حزب الشيطان وحماته. ونشر أعلامه بالظّفر بمن خالفه من عداة الله وعداته.
وأجراه من بلوغ الوطر في سكونه وحركاته، على أجمل أوضاعه وأكمل عاداته، ويسّر له بدوام سعوده فتح ما استغلق من معاقل الحائدين عن مرضاته. ولا زالت ركائب البشائر عنه تسري وإليه من تلقائنا تسير، ومصير الظّفر حيث يصير، ويدور الفلك المستدير، بسعده الأثيل الأثير، وينوّر الحلك بضوء جبينه الذي يهتدي به الضالّ ويلجأ إليه المستجير، وتغور أعين العدا إن عاينوا جحفله الجرّار وناهدوا جيشه المبير. بتحيّة تحكي اللّطائم «2» عرفها الشميم، وتودّ الكمائم لو تفتّقت عن مثل مالها من نضارة أو تسنيم، ويودّ عقد الجوزاء لو انتظم في عقدها النّضيد النظيم.
وكيف لا وهي تحيّة صادرة عن مقام شريف إلى روضة غنّاء تزري بالنّبت العميم، واردة من محلّ عظيم، على محيّا وسيم، منطوية على «3» الأرض من سلامة ولملوك الإسلام من سلام سليم، وطرفة نشرها كالمسك الذي ينبغي أن يختتم به هذا الكتاب، وثناء يستفزّ الألباب، ويستقرّ في حبّات قلوب الأحباب، ويستدرّ أخلاف الودّين المتحابّين في الله فلا غرو أن دخلت عليهم ملائكة النصر من كلّ باب. يتسابقان إلى ذلك المجد الأسنى في أسعد مضمار، ويتساوقان بحياز قصبات السّبق إلى تلك العصبة المشرقة الأنوار، ويزداد فيّهما بالوفود عليه طيبا، ويغدو عود الودّ بهما رطيبا؛ حيث الرّبع مريع، والمهيع منيع، والعزّ مجدّد والقدر مطيع؛ وسحب الكرم ثرّة، ورياض الفضل مخضرّة، وعساكر النصر تحلّ نحوه من المجرّة؛ حيث تستعر الحرب، ويتسحرّ الضرب، وتشرق شموس المشرفيّات لامعة «4» ..(7/423)
أما بعد حمد الله مظهر دينه على كلّ دين، ومطهّر أرجاء البسيطة من الماردين المارقين، ومجرّد سيف النصر على الجاحدين الحائدين، وموهن كيد الكافرين، ومجزل أجر الصابرين، ومنجز وعد من بشّرهم في كتابه المبين بقوله:
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
«1» الذي عصم حمى الإسلام بكل ملك قاهر، وفصم عرى الشّرك بكلّ سلطان غدا على عدوّ الله وعدوّه بالحقّ ظاهر، وقصم كلّ فاجر بمهابة أئمة الهدى الذين ما منهم إلا من هو للمحاسن ناظم ولقمم العدا نائر؛ ناشر علم الإيمان بحماة الأمصار، وناصر علم الإسلام بملوك الأقطار، وجاعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، لا جرم أنّ لهم النّار؛ جامع قلوب أهل الإيمان على إعلاء علم الدّين الحنيف وإن بعدت بينهم شقّة النّوى وشطّ المزار.
والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين ونقمة على الكفّار، ونصره بالرّعب مسيرة شهر وبالملائكة الكرام في إيراد كلّ أمر وإصدار، وألان ببأسه صليب الصّلبوت «2» وأهان بالتنكيس عبدة الأصنام وسدنة النار، وأيّده بآل وأصهار، وأصحاب وأنصار، وجنود تهون النّقع المثار، وأتباع ما أظلم خطب إلا أجالوا سيوفهم فبدا نجم الظّفر في سماء الإيمان وأنار، وأمة ظاهرة على من ناواها، ظافرة بمن عاداها، ما تعاقب الليل والنّهار، صلاة وتسليما يدومان بدوام العشيّ والإبكار.
فقد ورد علينا كتاب مختوم بالتكريم، محتوم بالتبجيل والتقديم، محتو على وصف فضل الله العميم، ونصره العظيم، ومنّه الجسيم؛ فأكرمنا نزله، ونشرنا حلله، وتفهّمنا تفاصيله وجمله؛ فتيمّنّا بوصوله، وتأمّلنا مخايل النصر العزيز من فصوله، ووجدناه قد اشتمل من سعادة مرسله على أنواع، ومن وصف تعداد نصرته على عون من الله ومن يعن الله فهو المنصور المطاع.(7/424)
فأما ما ذكره المقام العالي من أمر الوالدة المقدّس صفيحها «1» المغمور بالرحمة ضريحها؛ وما كانت عزمت عليه من قصد مبرور؛ وتجارة لن تبور، وأمّ إلى البيت الآمن والحرم المعمور، وما فاجأها من الأجل، وعاجلها من أمر الله عزّ وجلّ؛ فالمقام أجزل الله ثوابه يتحقّق أنّ النيّة في الأجور أبلغ من العمل، وأنه من أجاب داعي الحمام فلا تقصير في فعله ولا خلل؛ والله نسأل أن يكتب لها ما نوته من خير، وأن يطيف روحها الزكية ببيته المعمور في جنّات عدن كما أطاف أرواح الشهداء في حواصل ذلك الطّير.
وكنّا نودّ أن لو قدمت ليتلقّاها منّا زائد الإكرام، ويوافي مضاربها وافد الاحتفال والاهتمام، ونستجلب دعواتها الخالصة الصالحة، وتظفر هي من مشاهدة الحرم المعظّم والمثوى المكرّم والبيت المقدّس بالصّفقة الرابحة. على أنّه من ورد من تلقائكم قابلناه من جميل الوفادة بما به يليق، وتقدّمنا بمعاملته بما هو به حقيق، ويسّرنا له السبيل وهديناه الطريق، وأبلغناه في حرز السلامة مع ركبنا الشريف أمله من قضاء المناسك والتّطواف بالبيت العتيق.
وأمّا ما أشار إليه من أمر من كان «بتلمسان» وأنه ممن لا يعرف مواقع الإحسان، وما وصفه المقام العالي من أحوال ليس الخبر فيها كالعيان، وأنه اعتدى على من يتاخمه من الملوك، وخرج عن القصد فيما اعتمده من ذلك السّلوك؛ حتّى أن ملك تونس أرسل إلى المقام ابنه ووزيره، وسأله أن يكون ظهيره على الحق ونصيره، وأن المقام العالي أرسل إلى ذلك الشّخص منكرا اعتماده، طالبا إصلاحه لا إفساده؛ راجيا أن يكون ممن تنفعه الذّكرى، ظانّا أنه ممّن يأبى أن يقال له: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
«2» وأنه بعد ذلك تمادى على غيّه، وأراد أن يذوق طعم الموت في حيّه، وأبى الظالم إلا نفورا، وذكر الملك عنه أنه قتل أباه بعد أن آتاه الله به نعمة وملكا كبيرا. وأن المقام العالي أتاه نبأ عن أخيه المقيم(7/425)
بسجلماسة «1» ، وخبر صدق أوجب أن يعامل بما يليق بجميل السياسة وحريز الحراسة؛ فجنّد المقام له جنودا، وعقد بنودا، وأضرى أسودا أوهنت كيده، وأذهبت أيده، وعاجلت صيده، وأذالت باسه، وأزالت عنه سيما الملك ونزعت لباسه. وأنه في غضون ذلك أتاه سلطان الأندلس «2» يستصرخ به على عدوّ الله وعدوّ المؤمنين، ويستعديه على الكفرة المعتدين، وأنّ المقام لبّى دعوته مسرعا، وأكرم نزله ممرعا، ووعده الجميل، وحقّق له التأميل. وأن صاحب تلمسان لما غرّه الإمهال، وظنّ هذه المهامّ توجب للمقام بعض اشتغال، أعمل أطماعه «3» في التجرّي على بعض ممالكه المحروسة ومدّ، وسار إلى محلّ هو بينهما كالحدّ.
وأنّ المقام عند ذلك صرف إليه وجه العزم، وأخذ في حفظ شأنه بما لأعلام النصر من نصب وما للاعتداء من رفع وما للاهتمام من جزم. وأنه لم يقدر عليه إلا بعد أن حذّره من أليم العقاب حلولا، وتمسك فيه بقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
«4» [ولمّا] «5» لم ينفعه الإنذار، وأبى إلا المداومة والإصرار، أرسل إليه المقام العالي من جيشه الخضمّ، وعسكره الذي طالما تعضّده ملائكة السماء وإلى أعداده تنضمّ، كلّ باسل يقوم مقام الكتيبة، وكلّ مشاهد يشاهد منه في العرين كلّ غريبه، وكلّ ضرغام تعرف العدا مواقع ضربه لكنها تجهل ندّه أو ضريبه، فأذاقوه كأس الحمام صرفا، ولم يبتغوا عن حماه بدون نفسه عدلا ولا(7/426)
صرفا، إلى أن أخذوه في جماعة من بني أبيه، وشرذمة قليلة ممّن كانت تخالصه في الشدائد وتوافيه، وأن المقام العالي بعد ذلك سيّر مطارف العدل في الرعيّة، وأقرّ أحوالهم في عدم التعرّض إلى الأموال والذّرّية، على ما هو المسنون في قتال البغاة من الأمور الشرعيّة. وفهمنا جميع ما شرحه في هذا الفصل، وما أخبر به من هذا الظّفر الذي ابيضّ به وجه الفتح وإن كان قد احمرّ به صدر النصل؛ والله تعالى يزيد ملكه رقيّا، ويجزيه لقبول النّعم لقيّا، ويجعله دائما كوصفه مظفّرا وكاسمه عليّا. وأن المقام العالي لما فرغ وجهه من هذه الوجهة، وحاز هذا الملك الذي لم يحز آباؤه كنهه، عاد إلى المهمّ الذي قدم فيه سلطان الأندلس لأنه أبدى ما المسلمون فيه من محاورة الأذى، ومجاورة العدا؛ وقرب المسافة بين هذين العدوّين كالشّجا، وفي عيونهم كالقذى. وأنه ثوى به من الطّغاة من أسدل على المسلمين أردية الرّدى، وأنه على جانب البحر المعروف بالزّقاق «1» ، وبه قطّان يمنعون الإرفاد والإرفاق، ويصدّون عن السبيل من قصد سلوكه من الرفاق. وأن البرّ أيضا مملوء منهم بصقور صائده، وعلوج مكايده، وكفّار معانده، وفجّار على السّوء متعاضده، والبحر مشحون بغربان طائرة بأجنحة القلوع طارده، صادرة بالموت وارده، جارية في فلك البحر كالأعلام إلا أنّها بالإعلام بالخبر شاهده، تتخطّف كلّ آمّ وقاصد، وتقعد لأهل الإيمان بالمراصد، وتدني الموت الأحمر، ممن ركب البحر الأخضر، وتمنع السالك، إلا أن يكون من أهل الضّلال الحالك، من بني الأصفر.
وأنّ المقام العالي عند ذلك قام لله وغار، وأنجد جنوده في طلب الثار من أهل النار وأغار، وأنجد قاصد حرمه ببعوث كرمه وأعار، وأرسل عقبان فرسانه محلّقة إلى ذلك الجبل الشّامخ الذّرى وأطار، إلى أن أحاطت بهم جنوده إحاطة الآساد بالفرائس لا إحاطة الهالات بالأقمار، فما منهم إلّا من أعمل على العدا(7/427)
رحى المنون وأدار، وسار وناعي البين يقدمه إلى أين سار؛ وقدّم عليهم ولده «1» الميمون النّقيبة، الممنوح غربه من مواقع النصر بكلّ غريبة، الجاري على سنن آبائه الكرام، المظفّر أنّى سرى الممدوح حيث أقام. وأنه مزّق «2» جموعهم الكثيفة، وهدم معاقلهم المنيفة، واستدنى منهم القاصي، واستنزل العاصي، وأخذ بالأقدام والنّواصي، وأحلّ العذاب والنّكال، بمن يستحقّه من أهل الإلحاد والمعاصى، وقرن بين الأرواح والآجال، وأذكرهم بهذا النصر أيّام ابن نصر وأعاد، وأثبت لهذا الجبل حقيقة اسم المدح «3» ، واستقرّ في صحائف فعله المقام إلى آخر هذا المنح.
وعلمنا أيضا ما اعتمده الطاغي المغتال لعنه الله من الحضور بنفسه، وجمعه الملحدين من أبناء خدمته والمارقين من جنسه. وأنّه أعظم هذا الأمر وأكبر، وأيدى الزفير لهذا المصاب وأظهر، وأقسم بمعبوده المصوّر وصليبه المكسّر، أن لا يعود إلا بعد أن يظفر بما سلبه الحقّ إيّاه وتبصّر؛ فأبى الله والمؤمنون أن تكون النّيّة إلا خائبة، وقضت سعادة الإسلام أن تكون الأيّام لما عقده من الطّويّة الرّديّة ناكبة؛ فلمّا طال عليه الأمد وحان الحين، عاد صفر اليدين ولكن بخفّي حنين، ناكصا على عقبه، خاسئا لسوء منقلبه، وأسرع إلى مقرّ طاغوته(7/428)
سرى وسيرا، ولو كان من ذوي الألباب لتعقّل في أمر قول الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً
«1» . وأنّ المقام العالي ألزمه بعد ذلك ما كان على أهل «أغرناطة» «2» له في كلّ عام موظّفا، ووضع عنهم إصر ما برج كالأسر مجحفا.
وهذه عزّة إسلاميّة جدّد الله على يد المقام بذلك القطر صدورها، وسطّر في صحائف حسناته أجورها، وأبقى له مذخورها، وأعدّها له ليوم تجد فيه كلّ نفس ما عملت من خير محضرا إذا شاهدت عرضها ونشرها، ومنّة من الله أربت على العدّ، وتجاوزت الحدّ، ومزيّة لا تطمح الآمال إلى ميلها في جانبها ولا تمتدّ، ورتب جدّ يلحق بها الولد الناجم في سماء المعالي رتب الكرام من أب له وجدّ- والله يجعله مظفّرا على العدا، منصورا على من حاد عن سواء السبيل واعتدى، مستحقا لمحاسن الأخبار على قرب المدّة وبعد المدى.
وقد كان أخونا أمير المسلمين، وسلطان الموحّدين، والدك الشهيد قدّس الله سرّه؛ وبوّأه دار النعيم وبها أقرّه، في كلّ آونة يخبرنا بمثل هذا الفتح، ويذكر لنا ما ناله من جزيل المنح؛ (فهذه شنشنة نعرفها من أخزم) «3» ، وسنّة سلك فيها الشّبل الصائد سنن ذلك الضّيغم الأعظم، ونحن نحمد الله الذي أقام المقام مقام(7/429)
أبيه لنصرة الإسلام وأبقى، وصدّق بما تنشئه من حسن أفعالك وسعيد آرائك أنّك أبو الحسين وأنّ أباك أبو سعيد حقّا.
وحيث سلك المقام سنن والده الشهيد، وأتحفنا من أنبائه بكلّ جديد، وقصّ علينا أحاديث ذلك الجانب الغربيّ المشرق بأنواره، ونصّ متجدّداته مفصّلة حتّى صرنا كأنّا مشاهدون لذلك النصر ومواقع آثاره، فقضى الودّ أن نتحفه من أحاديث جيشنا الذي أشرقت لمعات سيوفه في الشّرق الأعلى بما يشنّف سمعه، ويسرّ معشر الإسلام وجمعه، وموطنه وربعه: ليتحقّق أنّ نعم الله لكلّ من قام بتشييد هذا الدّين المحمّديّ عامّة، ومننه لديهم تامّة، وألطافه بهم حافّة، ومناصرته ليد سلطان الإسلام في أعناق العدا مطلقة ولأكفّ أهل الشّرك كافّة، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
«1» فمما نبديه لعلمه ونهديه لسعيد فهمه، أنّ من جملة من يحمل لأبوابنا الشريفة من ملوك الكفر القطيعة في كلّ عام، ويرى أنّ ذلك من جملة الإفضال عليه والإنعام؛ متملّك سيس، الذي هو في ملّته من ساكني البرّ كالرئيس، وبين بطارقته وطغاته كالكتد «2» الأعظم أو كالقدّيس النفيس؛ وعليه مع ذلك لأبوابنا الشريفة من القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة ما لا يحيد عنه ولا يحيس «3» ، ومرتّب لا يقبل التنقيص ولا يسمح لخناقه بتنفيس، تحمله نوّابه إلى أبوابنا الشريفة عن يد وهم صاغرون، ويقومون به على قدم العبوديّة وهم ضارعون.
ولمّا كان في العام الماضي سوّف ببعضه وأخّر، ودافع عند إبّانه وقصّر، وسأل مراحمنا في تنقيص بعض ذلك المقرّر، وأرسل ضراعاته إلى نوّابنا بالممالك(7/430)
الشامية في هذا المعنى وكرّر، وقدّر في نفسه المراوغة وأسرّ خسرا في ارتعا «1» والله أعلم بما قدّر؛ فاقتضت آراؤنا الشريفة أن نرسل إليه بعثا يذلّل قياده، وينكّس صعاده، ويخرّب بلاده، ويوطيء أطواده، ويوهن عناده، ويذهب فساده، ويفرّق أجناده، ويمزّق أنجاده، ويقلّل أعداده، ويفلّل جموعه، ويدكدك ربوعه، ويذري على ملكه دموعه، ويدني خضوعه، ويفصل تلك الأبدان التي هي للطّغيان مجموعه، فأنهضنا إليه من الأبطال كلّ باسل، وأنهدنا إليه منهم كلّ ضرغام خادر يظنّ الجاهل أنه متكاسل، وأشهدنا حربه كلّ مؤمن يرى الشهادة مغنما، والتخلّف مأثما والتّباطؤ مغرما، والعذر في هذا المهمّ أمرا محرّما، ويعدّ الرّكوب إلى هذا السّفر قربه، والرّكون إلى وطنه غربه، ويرغب فيما وعد الله به جيشه المنصور وحزبه، ويربأ بنفسه أن يكون من الخالفين حبّا لها وتكريما، ويبادر إلى ما أمر به رغبة في قوله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
«2» ، على صافنات جياد، ليس لها غير الطّير في سرعة المرام أضداد، وعاديات عاديات على أهل العناد، وضابحات «3» ذابحات لذوي الفساد، ومغيرات طالما أسفر صبحها عن النّجاح، ومثيرات نقع يتبلّج غيهبها عن تحقّق النّجاة وإزالة الجناح. وصواهل عراب، كم للفضل بها من كمون وللموت اقتراب، وأصائل خيل، تخيّل لراكبها أنها أجرى من الرياح وأسرى من اللّيل، قد عقد الخير بنواصيها، وعهد النصر من أعرافها وصياصيها، وتسنّم راكبوها لذروة العزّ من ظهورها، واحتووا على الكبير الأعلى من نصرتها على العدا وظهورها، بسيوف تبدّد الأوهام، وتزيل الإيهام، وتقدّ الهام، وتدني الموت الزّؤام، وتطهّر بميامنها نجس الشرك ودنسه، وتقرع أجسادهم فتغدو كلّها عيونا ولكن بالدّماء منجسه، قد تسربل كلّ منهم من الإيمان درعا حصينا، واتخذ لبسه جنّة ولكن من الذهب(7/431)
والإستبرق ليكون لفضل الله مظهرا ولإحساننا مبينا، واتّخذ لسهام القسيّ ليوم اللّقاء الألسن الحداد، ومدّ يد المظاهرة ببيض قصار وسمر صعاد.
فلمّا جاسوا خلال تلك الدّيار، وما سوا يرفلون في حلل الإيمان التي تشفي صدور قوم مؤمنين وتغيظ الكفّار، لم يسلكوا شعبا إلا سلك شيطان الكفر شعبا سواه، ولا وطئوا موطئا إلّا وكلّ كافر يأباه؛ ولا نالوا من عدوّ نيلا إلّا كتب لهم به عمل صالح كما وعدهم الله؛ وما أتوا لهم على ضرع حافل إلا جفّ، ولا مرّوا على زرع حاقل «1» إلا أصبح هشيما تذروه الرّياح أو حطيما تكفيه الكفّ؛ ولا هشيم إلا حرّقوه، ولا جمع إلا فرّقوه، ولا قطيع شاء إلا قطّعوه ومزّقوه، ولا ضائز «2» إلا ضنّوا عليه أن يدعوه لهم أو يطلقوه، وما برحوا كذلك إلى أن نازلوا البلد المسمّى بآياس، فحصل لأهله من مسمّاه الأشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر «3» بقطع الأمل منه واتّصال الإياس؛ فناداهم من بذلك الحصن من أسارى المؤمنين.
يا رحمة الله حلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك(7/432)
ويا نصر الله انشر بالظّفر رايات مواجهنا ومنازلنا فطالما كنّا نؤمّلك ونرتجيك؛ ويا خيل الله اركبي، ويا خيل الكفّار اذهبي، ويا جند إبليس ارهبي، من جند الله الغالبين؛ وإن وجدت مناصا فانفري، وياما للإسلام من جنود وأنصار، قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار.
وكانت موافاة عسكرنا المنصور إليهم عند الإسفار «1» ، فلم يملكوا القرار، ولا استطاعوا الفرار، ولم يجدوا ملجأ من الله إلّا إليه. وقال: لا وزر وكيف به لمن يلبّي الأوزار، ورأوا ما أعددنا لحصارهم من مجانيق تقدّ الصّخور، وتدكدك القصور، وتغيض بها مياه نفوس تلك الأجساد الخبيثة فلا يجتمعان إلى يوم البعث والنّشور؛ وأنا أمددنا جيوشنا بجاريات في بحر الفرات، مشحونة بالأموال والأقوات، والعدد والآلآت؛ وأرفدناهم من الذّهب والفضّة بالقناطير المقنطرات، وأوفدنا عليهم من أنجادنا بالديار البكريّة، وأطراف البلاد الشامية، جيوشا كالسّحاب المتراكم، وأطرنا عليهم عقبان اقتناص من عقبان التّراكمين «2» اعتادت صيد الأراقم، وأسر الضّراغم؛ فلمّا تحقّقوا الدّمار، لم يلبثوا إلا كما وصف الله تعالى حال من أهلك من القوم الفاسقين ساعة من نهار.
فعند الظهيرة حمي الوطيس، ونكص عند إعلان الأذان على عقبه إبليس؛ وشاهدوا «3» الموت عيانا، وتحقّقوا الذّهاب أموالا وإخوانا وولدانا، أذعنوا إلى السّلم، ونادوا الأمان الأمان يا أهل الإيمان والعلم، والكفّ الكفّ يا جند الملك الموصوف عند الشّقاق بالحزم، وعند القدرة على العقاب بالحلم. وأرسل طاغيتهم الأكبر ليفون، يقسم بصليبه: إنّا من القوم الذين يقومون بما عليهم من الجزية ويوفون؛ ومن الرّعيّة الذين يطيعون أمر ملكهم الأعظم وعن حمى الإسلام(7/433)
يكفّون؛ فعند ذلك رأى نوّابنا بذلك العسكر أن تكفّ عنهم شقّة الشّقاق وتطوى، ولانت قلوبهم لتذكار قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
«1» وطالعوا علومنا بما سأله القوم من الرحمة والرّأفة، وما ضرعوا إليهم فيه من الأمان والألفة، وإعطاء ما كنّا رسمنا به من تسليم قلاع معدوده، وتسويغ أراض محدوده، تستقرّ بيد نوّابنا وتقطع بالمناشير الشريفة لأهل الجهاد من أبوابنا، مع استقرار ما رسمنا به من قطيعة، وعقد الهدنة على أمور هي عندنا محبّبة ولديهم فظيعة.
هذا بعد أن استولت عساكرنا على قلاع لهم وحصون، ومحرز من أموالهم ومصون؛ وطلعت أعلامنا المحمّديّة على قلعة آياس، ونزل أهل الكفر على حكم أهل الإيمان وزال التحفّظ والاحتراس، وأعلن بالأذان في ذلك الصّرح، وظهرت كلمة الإيمان كما بدأت أوّل مرّة وهذا يغني عن الشّرح؛ وعلت الملّة الحنيفيّة بذلك القطر وقام أهلها وصالوا، وغلّت أيدي الكفّار ولعنوا بما قالوا.
وكان جيشنا قبل ذلك أخذ قلعة تسمّى «بكاورّا» واستنزلوا أهلها قسرا، واستزالوهم عنها ما بين قتلى وأسرى؛ وهي قلعة شامخة الذّرى، فسيحة العرا، وثيقة العرا، يكاد الطرف يرجع عنها خاسئا.
ولما اتّصل بأبوابنا هذا الخبر السّارّ، وشفع لنا من نرى قبول شفاعته في إجابة ما سأله هذا الشّعب من إرجاء عذاب أهل الكفر إلى نار تلك الدار؛ مننّا عليهم بالأمان، وقابلناهم بعد العدل بالإحسان؛ وتقدّم أمرنا إلى نوّابنا بكفّ السيف وإغماده، وإطفاء مسعّر الحرب وإخماده؛ وأن يجرى المنّ على مألوفه منّا ومعتاده، بعد تسليم تلك القلاع، وهدم الأسوار التي كان بها لأهل الكفر الامتناع، واستبقاء الرعيّة، واستحياء الذّرّية، وإجراء الهدنة المسؤولة على القواعد الشرعيّة؛ وعاد عسكرنا منشور الذوائب، مظفّر الكتائب، مؤيّد المواكب، مشحونا بغرائب الرّغائب.(7/434)
وعند وصولهم إلى أبوابنا فتحنا لهم أبواب العطاء الأوفر، وبدّلناهم بالتي هي أحسن وعوّضناهم الذي هو أكثر؛ وأفضنا عليهم من خلع القبول ما أنساهم مشقّة ذلك السّرى وشقّة السّير، وتلا عليهم لسان الإنصاف (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ
«1» وبعد ذلك ورد علينا كتاب بعض نوّابنا بالأطراف من أولاد قرمان، القائمين بمشارق ممالكنا على وجه الأمن وسعة الأمان، بأنّهم عند عودهم من سيس، ونصرتهم على حرب إبليس، استطردوا فأخذوا للكفر تسع قلاع، ما برحت شديدة الامتناع، لا تمتدّ إليها الأطماع؛ فتكمّل المأخوذ في هذه السفرة وما قبلها خمس عشرة قلعة، وبدّد الله شمل الكفر وفرّق جمعه، وآثرنا أن نعلم المقام العالي بلمحة مما لله لدينا من النّعم، ولبره من شارة يستدلّ بها على أثر أخلاف كالدّيم، ونطلعه على درّة من سحاب، وغرفة من بحر عباب، وطرفة نشرها كالمسك الذي ينبغي أن يختتم بها هذا الكتاب.
ونحن نرغب إلى المقام أن يواصل بكتبه المفتتحة بالوداد، المشتملة على النّصرة على أهل العناد، المشحونة بمواقع الفتح والظّفر التي تتضاعف إن شاء الله وتزداد، المحتوية على الطّارف من الإخلاص والتّلاد، المتّصل سببها بين الآباء الكرام ونجباء الأولاد، والله تعالى يجعله دائما لثمرات النصر من الرماح يجتني، ولوجوه الفتح من الصّوارم يجتلي، ويديم على الإسلام مزيد العزّ الذي يتجدّد كلّ آونة من طلائع رايات محمد وبدائع آراء علي «2» ، بمنه وكرمه.(7/435)
وهذه نسخة كتاب جواب إلى صاحب فاس حيث ورد كتابه بالتعرّض لوقعة «تمرلنك» من إنشاء مؤلّفه، كتب بذلك عن السلطان الملك الناصر «فرج بن برقوق» وهو.
عبد الله ووليّه السلطان الأعظم (إلى إخر ألقاب سلطاننا) أجرى الله تعالى الأقدار برفعة قدره، وأدار الأفلاك بتأييده ونصره، وأذلّ رقاب الأعداء بسطوته وقهره، وشحن الأقطار بسمعته وملأ الآفاق بذكره، يخصّ المقام العالي (إلى آخر الألقاب) : رفع الله تعالى له في ملكه الشامخ منارا، وجعل النصر والظّفر له شعارا، وأحسن بحسن مواتاته إلا لأهل الكفر جوارا، بسلام يفوق العبير عبيقه، ويزري بفتيق المسك الداريّ فتيقه، ويخجل الروض المنمنم إذا تزيّن بالبهار خلوقه، وثناء تكلّ الألسنة البليغة عن وصفه، ويعجز بناة المجد الأثيل عن حسن رصفه، وتعترف الأزاهر بالقصور عن طيب أرجه ومسك عرفه؛ وشكر يوالي الورد فيه الصّدر، ويحقّق الخبر فيه الخبر، ويشيع في الآفاق ذكره فتتّخذه السّمّار حديث سمر.
أما بعد حمد الله واصل أسباب المودّة وحافظ نظامها، ومؤكّد علائق المحبّة بشدّة التئامها، ورابط جأش المعاضدة باتّحاد وتناسب مرامها، ومجدّد مسرّات القلوب بتوالي أخبارها المبهجة عن عالي مقامها. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل نبيّ رعى الذّمام على البعاد، وأكرم رسول قرن صدق الإخاء منه بصحّة الوداد، صلاة تبلّغ من رتبة الشّرف منتهاها، وتنطوي الشّقّة البعيدة دون بلوغ مداها؛ فإن ورد علينا على يد رسولكم فلان كتاب كريم طاب وروده،(7/436)
وتهللت بالبشر سعوده، وشهد بصدق المحبة الصادقة شهوده، وطلع من الجانب الغربيّ هلاله فلاحت بالمشرق بحسن التلقّي سعوده؛ فقرّ منه برؤيته الناظر، وابتهج بموافاته الخاطر، ولاحت من جوانبه لوائح البشر فأحسن تلقّيه سلطاننا الناصر.
وقابلناه من القبول بما كاد باطنه لكمال الموافاة يكون عنوانا للظاهر، وفضضنا ختامه المصون عن بديع كلام مخترع، وبنات فكر قبله لم تفترع، وفصاحة قد أحكم اللّسن مبانيها، وبلاغة تناسبت ألفاظها فكانت قوالب لمعانيها، وبراعة قد أحسنت البديهة ترتيبها فجاءت وتواليها تتبع هواديها؛ وفهمنا ما أظهره من كوامن المحبة التي بلغت من القلب الشّغاف، وبوارح الشوق الذي عندنا من مثله أضعاف أضعاف؛ وانتهينا إلى ما أشار إليه المقام العالي من التلويح إلى ما طرق أطراف ممالكنا الشريفة من طارق الاعتدا، وما كان من الواقعة التي كان خبرها لفظاعته يكون كالمبتدا.
ونحن نبدي لعلم المقام العالي ما يوضّح له أنّ ما وقع من هذه القصّة لم يكن عن سوء تدبير، ونورد عليه من بيان السبب ما يحقّق عنده أنّ ذلك لم يكن لعجز ولا تقصير، بل لأمر قدّر في الأزل، ومقدور الله تعالى لا يدفع بالحيل.
وذلك أنه لما اتّصل بمسامعنا الشريفة قصد العدوّ إلى جهتنا، وتجاوزه حدّ بلاده إلى أطراف مملكتنا؛ بادرنا الحركة إليه في عسكر لجب، وجيوش يضيق عن وسعها الفضاء الرّحب؛ من كل بطل عركته الحروب، وثقّفته الخطوب، وحنّكته التّجارب، وعجم عوده بكثرة المنازلات قراع الكتائب. قد امتطى طرفا «1» عربيّ الأصل كريم الحسب، خالص العتق صريح النّسب؛ يفوت الطّرف مدى باعه المديد، ويسبق حافره موقع بصره الحديد. ولبس درعا قد أحكم سردها، وأبرم(7/437)
شدّها، وبالغت في السّبوغ «1» فاتّصفت بصفات الكرام، وضاقت عينها فمنعت شبحا حتّى ذباب السّهام. ووضع على رأسه بيضة «2» يخطف الأبصار وميض برقها، وتزلق السّهام الراشقة صلابة طرقها؛ وترفعها الأبطال على الرؤوس فلا ترى أنها قامت ببعض حقّها. وتقلّد سيفا يمضي على الرقاب نافذ حكمه، ويقضي بانقضاء الأجل انقضاض نجمه، لا ينبو عن ضريبة فيردّ، ولا يقف حدّه في القطع عند حدّ. واعتقل رمحا يجري الدماء سنانه بأنابيبه، ويمدّ إلى الفارس باعه الطويل فيأخذ بتلابيبه، وتتمسّك المنايا بأسبابه فتتعلّق منه بالأذيال، وتضرّس الحرب بزرق أنيابه كأنها أنياب أغوال. وتنكّب قوسا موعز الآجال هلال هلالها، ومورد المنون إرسال نبالها؛ ومدرك الثار رنّة وترها، وموقد نار الحرب قدح شررها، قد اقترن بها سهام تسابق الريح في سرعتها، وتعاجل الموت بصرعتها، وتختطف العيون في ممرّها، وتختلس النفوس من مقرّها؛ تدخل هجما كلّ محتجب، وتأتي الحذر من حيث لا يحتسب. وتناول عمودا يهجم على الأضالع بأضلاعه فيفدغها، ويصافح الرّؤوس بكفّه الملتحمة الأصابع فيدمغها؛ يقرّب من الأجل كلّ بعيد، ويخلق من العمر كلّ جديد، ولا يقاومه في الدّفاع بيضة وأنّى تقاوم البيضة زبرة «3» من حديد.
وتحرّكنا من الديار المصرية في جيوش لا يأخذها حصر، ولا يلحقها هصر، ولا يظنّ بها على كثرة الأعداد كسر؛ ولم نزل نحثّ السير، ونسرع الحركة للقاء العدوّ إسراع الطير، حتّى وافينا دمشق المحروسة فنزلنا بظاهرها، مستمطرين النصر في أوائل حركتنا وأواخرها؛ وانضمّ إلينا من عساكر الشام وعربانها، وتركمانها الزائدة على العدّ وعشرانها، مالا ينقطع له مدد، ولا يدخل تحت حصر(7/438)
ولا عدد. وأقبل القوم في لفيف كالجراد المنتشر، وأمواج البحر التي لا تنحصر:
من أجناس مختلفة، وجموع على تباين الأنواع مؤتلفة، وتراءى الجمعان في أفسح مكان، ورأى كلّ قبيل الآخر رأى العين وليس الخبر كالعيان، واعتدّ الفريقان للنّزال، واحتفروا خنادق للاحتراس وتبوّأنا مقاعد للقتال، ولم يبق إلا المبارزة، والتقاء الصّفوف والمناجزة، إذ ورد وارد من جهتهم بطلب الصّلح والموادعة، والجنوح إلى السّلم وقطع المنازعة؛ فأجبناهم بالإجابة، ورأينا أنّ حقن الدماء من الجانبين من أتمّ مواقع الرأي إصابة؛ وكتبنا إليهم في ضمن الجواب:
لمّا أتانا منكم قاصد ... يسأل في الصّلح وكفّ القتال
قلنا له نعم الّذي قلته ... والصّلح خير وأجبنا السّؤال
فبينا نحن على ذلك، واقفون من المواعدة على الموادعة على ما هنالك، إذ بلغنا أن طائفة من الخونة الذين ضلّ سعيهم، وعاد عليهم بالوبال ولله الحمد بغيهم، توجّهوا إلى الديار المصرية للاستيلاء على تخت ملكنا الشريف في الغيبة، آملين ما لم يحصلوا منه إلا على الخيبة؛ فلم يسع إلا الإسراع في طلبهم، للقبض عليهم وإيقاع النّكال بهم، وجازيناهم بما يجازي به الملوك من رام مرامهم، وظنّ العدوّ أن قصدنا الديار المصرية إنما كان لخوف أو فشل، فأخذ في خداع أهل البلد حتّى سلّموه إليه وفعل فعلته التي فعل، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ثم لم نزل ندأب في تحصين البلاد وترويج أعمالها، وترتيب أمورها وتعديل أحوالها، حائطين أقطارها المتسعة بجيوش لا يكلّ حدّها، ولا يعقب بالجزر مدّها، ليكونوا للبلاد أسوارا، وللدولة القاهرة إن شاء الله تعالى أعوانا وأنصارا؛ وأعاد الله تعالى المملكة إلى حالها المعروف، وترتيبها المألوف، فاستقرّت بعد الاضطراب، وتوطّنت بعد الاغتراب.
وفي خلال ذلك تردّدت الرسل إلينا في عقد الصلح وإمضائه، ودفن ما كان(7/439)
بين الفريقين من المباينة وإخفائه؛ فلم يسعنا التلكّؤ عن المصالحة [بل سعينا] سعيها؛ والله تعالى يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
«1» فعقدنا لهم عقد الصّلح وأمضيناه؛ وأحكمنا قواعده توكّلا على الله تعالى وأبرمناه، وجهّزنا إليهم نسخة منه طمغت بطمغة قانهم عليها، وأعيدت إلينا بعد ذلك ليكون المرجع عند الاختلاف والعياذ بالله تعالى إليها: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«2» .
والله تعالى يجنّب إخاءكم الكريم مواقع الغير، ويقرن مودّته الصادقة بصفاء لا يشوبه على ممرّ الزمان كدر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الرابعة (في مكاتبة ملك المسلمين بالأندلس)
وهو صاحب غرناطة، وقلعتها تسمى حمراء غرناطة. وقد تقدّم في المقالة الثانية في المسالك والممالك ذكر هذه المملكة وأحوالها، ومن ملكها جاهليّة وإسلاما، وأنها الآن بيد بني الأحمر. وقد ذكر في «التعريف» أنهم من ولد قيس ابن سعد بن عبادة سيد الخزرج الأنصاريّ: صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهي منهم الآن بيد السلطان محمد بن يوسف بن محمد المخلوع ابن يوسف بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر؛ وقد أذلّ الله من يجاوره من نصارى الفرنج بسيفه، وامتنع في أيامه ما كان يؤدّيه من قبله من أواخر ملوك الأندلس إلى ملك الفرنج من الإتاوة في كل سنة، لاستقبال سنة ثنتين وسبعين وسبعمائة وإلى آخر وقت.
وقد ذكر في «التعريف» أنّ سلطانها كان في زمانه في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» أبا الفضل يوسف؛ ولعله يوسف بن إسماعيل المقدّم(7/440)
ذكره. قال: وهو شابّ فاضل له يد في الموشّحات. ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» بعد البسملة «أما بعد» بخطبة مختصرة، «فهذه المفاوضة إلى الحضرة العلية، السنيّة، السريّة، العالميّة، العادليّة، المجاهدية، المؤيّديّة، المرابطيّة، المثاغرية، المظفّرية، المنصوريّة، بقيّة شجرة الفخار، وخالصة سلف الأنصار، المجاهد عن الدين، والذابّ عن حوزة المسلمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، خلاصة الخلافة المعظمة، أثير الإمامة المكرّمة، ظهير أمير المؤمنين، أبي فلان فلان» .
وهذا صدر لهذه المكاتبة ذكره في «التعريف» وهو.
صدرت هذه المكاتبة إليه متكفّلة بالنصر على بعد الدار، مجرّدة النصل إلا أنه الذي لا يؤخّره البدار؛ مسعدة بالهمم ولولا الاشتغال بجهاد أعداء الله فيمن قرب لما تقدّمت سرعان الخيل، ولا أقبلت إلّا وفي [أوائل] «1» طلائعها للأعداء الويل؛ ولا كتبت إلا والعجاج يترّب السّطور، والفجاج تقذف ما فيها على ظهور الصّواهل إلى بطون البحور. مبدية ذكر ما عندنا بسببها لمجاورة الكفّار، ومحاورة السيوف التي لا تملّ من النفار؛ مع العلم بما لها في ذلك من فضيلة الجهاد، ومزيّة الجلد على طول الجلاد، ومصابرة السهر لأوقات منيمه، ومكاثرة هذا العدوّ بالصبر ليكون لها غنيمة، ونحن على إمدادها- أيدها الله- بالنصر وبالدعاء الذي هو أخفّ إليها من العساكر، وأخفى مسيرا إذا قدّر حقّه الشاكر؛ ثقة بأن الله سينصر حزبه الغالب، ويكفّ عدوّه المغالب، ويصل بإمداد الملائكة لجنده، ويأتي بالفتح أو بأمر من عنده، لتجري ألطافه على ما عوّدت، ويؤخذ الأعداء بالجريرة، ولينصرنّ الله من ينصره وينظر إلى أهل هذه الجزيرة.
والذي ذكره في «التثقيف» أن رسم المكاتبة إليه مثل صاحب تونس في القطع والخطابة، والاختتام، والعلامة، والتعريف «صاحب حمراء غرناطة» .(7/441)
وهذه نسخة جواب إلى صاحب حمراء غرناطة. وقد ورد كتابه في ورق أحمر يتضمّن قيامه بأمر الجهاد في الكفّار، وما حصل من استيلاء بعض أقاربه على ملكه ونزعه منه، وأنه استظهر بعد ذلك على المذكور وقتله، وعاد إلى ملكه على عادته. في جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة، وهي:
نخصّ الحضرة العلية، حضرة الأمير فلان، وألقابه، جعل الله له النصر أين سار قرينا، والظّفر والاستظهار مصاحبا وخدينا، وزاد في محلّه الأسنى تمكينا وتأمينا، ومنح أفقه الغربيّ من أسرّة وجهه المتلأليء الإشراق، ومهابة بطشه الذي يورد العدا موارد الرّدى بالاتّفاق، تحسينا وتحصينا- بإهداء السلام الذي يتأرّج عرفا، ويتبلّج وصفا، ويكاد يمازح النّسيم لطفا- وإبداء الشّكر الذي جلّله ملابس الإكرام وأضفى، وأجمل منه نفائس عقد المودّة التي أظهرها فلم تكن تخفى.
ثم بعد حمد الله مؤكّد أسباب علاه، ومؤيّد موجبات نصره وما النصر إلا من عند الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أمدّه بملائكته المقرّبين، ونصره بالرّعب مسيرة شهر كما ورد بالنصّ والتعيين، ورفع باسمه ألوية المؤمنين الموحّدين، وقمع ببأسه ثائرة البغاة والمتمرّدين، وعلى آله وصحبه الذين لازموا التمسك بأسباب الدين، وجاهدوا في إقامة منار الإسلام لما علموا مقدار أجرهم علم اليقين، صلاة متوالية متواترة على ممرّ الأحقاب والسّنين؛ فإنا نوضّح لعلمه الكريم أنّ كتابه ورد علينا مشتملا على المحاسن الغرّاء، مغربا بل معربا لنا بحمرة لونه أن نسبته إلى الحمراء، مشبها ورد الخدود والنّقس فيه كالخال، أو شقائق النّعمان كما بدا روضه غبّ السحاب المتوال. فوقفنا على مضمونه جميعه، وتلمّحنا بديع معانيه من جميل توشيعه وترصيعه، وعلمنا ما شرحه فيه: من استمراره على عادة سلفه في القيام بأمر الجهاد، وقطع دابر الكفرة ذوي الشّقاق والعناد، وتوطيد ما لديه من تلك البلاد، وتطمين ما بها من العباد، وما اتفق من قريبه في الصورة لا في المعنى، وكيف أساء إليه فعلا وقد أحسن به ظنّا، وأنه رصد الغفلة من جنابه، وأقدم على ما أقدم عليه من اقتراف البغي والتمسّك بأسبابه، ولم يزل يراعي غيبة الرّقيب وهجوع السامر، إلى أن تمكّن من الاستيلاء على ذلك(7/442)
الملك الذي ظنّ أنّ أمره إليه صائر؛ لكنه مع كونه قد اقتحم في فعلته هذه الأهوال، وتوهّم أنه قد حصل بمكره على بلوغ بعض الآمال، فإنه ما سلّم ولله الحمد والمنّة حتّى ودّع، ولا أقبل سحاب استيلائه حتّى أقشع، بما قدّره الله تعالى لحضرة الأمير من نصرته، وعوده إلى محلّ أمره وإمرته. وأنه آثر اطّلاع علومنا الشريفة على هذه الواقعة، لما يعلم من تأكيد المودة التي غدت حمائهما على أفنان المحبّة ساجعة؛ وقد علمنا هذا الأمر، وشكرنا جميل محبّته التي لم ينسج على منوالها زيد ولا عمرو، وابتهجنا بما يسّره الله تعالى له من ذلك، وانتهزنا فرص السّرور بما منحه الله من ظفره المتقارب المتدارك، وحمدنا الله تعالى على تأييد هذه العصابة الإسلاميّة، وما منّ به من عود شمس هذا الأفق الغربيّ إلى مطالعها السنيّة؛ ولا جرم أن كانت له النّصرة، والاستيلاء والقدرة: لأن الله تعالى قد تكفّل سبحانه لأوليائه بمزيد التكريم والتعزيز، إذ قال عز وجل: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ
«1» إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ*.
وأما غير ذلك، فقد وصل رسول الحضرة العلية إلينا وتمثل بمواقفنا المعظّمة، ومحالّ مملكتنا المكرّمة؛ وأقبلنا عليه، وضاعفنا الإحسان إليه، وأدّى إلينا ما تحمّله من المشافهة الكريمة، ورسائل المحبّة والمودّة القديمة؛ فرسمنا باجابة قصده، وتوفير برّه ورفده، وقضاء شغله الذي حضر فيه، وتسهيل مآربه بمزيد التنويل والتنويه، ومسامحة الحضرة العلية بما يتعيّن على ما قيمته ألفا دينار مصرية حسب ما عيّنه رسوله المذكور، ولو كان سألنا أضعاف ذلك لأجبنا سؤاله من غير تروّ ولا فتور. وقد جهّزنا إليه صحبته ما أنعمت به صدقاتنا الشريفة عليه من الدّرياق ودهن البلسان «2» ، فليتحقّق ماله عندنا من المكانة والمحلّ الرفيع الشان؛ وقد أعدنا رسوله المذكور إلى جهته الكريمة بهذا الجواب الشريف،(7/443)
محترما مكرّما مشمولا من إحساننا بالتّليد والطّريف؛ فيحيط علما بذلك والله تعالى يمدّه بمزيد التأييد، ويمنحه من جميل الإقبال، وجزيل النّوال، ما يربي على الأمل ويزيد!
تم الجزء السابع. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن المقصد الثالث (في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبي ممن جرت العادة بالمكاتبة إليه من العرب والسّودان، وفيه ثلاث جمل) والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(7/444)
مراجع تحقيق الجزء السابع من صبح الأعشى
1 1- أبو العباس القلقشندي وكتابه صبح الأعشى:
مجموعة دراسات- الجمعية المصرية العامة للدراسات التاريخية.
منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1973 2- مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي:
تأليف: د. عبد المنعم ماجد الطبعة الثالثة- مكتبة الانجلو المصرية- 1971.
3- الفهرست ابن النديم.
دار المعرفة- بيروت- 4- الأعلام: خير الدين الزركلي.
دار العلم للملايين- بيروت 1980 الطبعة الخامسة.
5- تاريخ الإسلام:
حسن إبراهيم حسن مكتبة النهضة المصرية.
الطبعة السابعة- 1964.
6- معجم البلدان: 2 ياقوت الحموي.
دار الكتاب العربي- بيروت.
7- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون:
حاجي خليفة.
دار الفكر 1982.
8- فوات الوفيات:
محمد شاكر الكتبي.
تحقيق احسان عباس دار صادر- بيروت 9- صبح الأعشى في صناعة الانشا:
القلقشندي- الطبعة الأميرية- القاهرة.
10- الحلة السيراء:
ابن الأبّار.
تحقيق حسين مؤنس.
الشركة العربية للطباعة والنشر الطبعة الاولى- 1963.
11- دائرة المعارف الإسلامية:
مجموعة من المستشرقين النسخة العربية- منشورات كتاب الشعب القاهرة.
12- تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور(7/445)
1 محي الدين بن عبد الظاهر.
تحقيق: مراد كامل ومحمد علي النجار.
منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي بالجمهورية العربية المتحدة- الطبعة الاولى 1961.
13- منطلق تاريخ لبنان:
كمال سليمان الصليبي منشورات كارافان- نيويورك 1979.
14- الروض المعطار في خبر الأقطار:
محمد بن عبد المنعم الحميري.
تحقيق: إحسان عباس.
مكتبة لبنان 1984.
15- تاريخ اسبانيا الإسلامية (أو كتاب أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام) تأليف: ا. ليفي بروفنسال.
دار المكشوف 1957.
16- صفة جزيرة الأندلس. (منتخبة من كتاب الروض المعطار) .
نشر وتصحيح وتعليق: إ. ليفي بروفنسال. القاهرة 1937.
17- التعريف بمصطلحات صبح الاعشى:
محمد قنديل البقلي.
الهيئة المصرية للكتاب. 1983.
18- نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان:
الخطيب الجوهري، علي بن داوود الصيرفي.
مطبعة دار الكتب- 1973.
19- وفيات الأعيان-:
ابن خلكان.
تحقيق احسان عباس دار الثقافة، بيروت 2 20- معجم ما استعجم:
عبد الله بن عبد العزيز البكري.
تحقيق مصطفى السقا- عالم الكتب- بيروت.
21- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب:
محمود شكري الآلوسي.
تحقيق محمد بهجة الاثري.
دار الكتب العلمية- بيروت.
22- التعريفات:
الجرجاني.
دار الكتب العلمية- بيروت.
23- الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية:
أيوب بن موسى الحسيني الكندي.
تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري.
وزارة الثقافة- دمشق.
24- معجم المؤلفين:
عمر رضا كحالة.
مكتبة المثنى ودار احياء التراث- بيروت.
25- سفرنامة (رحلة ناصر خسرو إلى لبنان وفلسطين ومصر والجزيرة في القرن الخامس الهجري) .
نقله إلى العربية: يحيى الخشاب دار الكتاب الجديد.
26- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) :
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
تحقيق: محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر.
دار المعارف- مصر.
27- الميزان في تفسير القرآن:
محمد حسين الطباطبائي.(7/446)
1 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت.
28- تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل:
أحمد السعيد سليمان.
دار المعارف- مصر.
29- الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة:
علي باشا مبارك.
الهيئة المصرية للكتاب- 1980.
30- الانتصار لواسطة عقد الامصار:
ابن دقماق.
دار الآفاق الجديدة- بيروت.
31- ولاة مصر:
محمد يوسف الكندي.
دار صادر- بيروت.
تحقيق: حسين نصار.
32- الخطط المقريزية (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) .
دار صادر- بيروت.
33- مسالك الأبصار في ممالك الامصار (قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين) .
لابن فضل الله العمري.
دراسة وتحقيق: دوروتيا كرافولسكي.
المركز الإسلامي للبحوث- بيروت.
34- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب:
القلقشندي.
دار الكتب العلمية- بيروت 1984.
35- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة:
عمر رضا كحالة.
مكتبة المثنى ودار احياء التراث- بيروت.
36- الموسوعة العربية الميسرة:
إشراف محمد شفيق غربال. 2 دار الشعب ومؤسسة فرنكلين 1965.
37- مقدمة ابن خلدون:
مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني 1979.
38- في التراث العربي:
مصطفى جواد.
منشورات وزارة الإعلام- العراق 1975.
39- الدولة المملوكية:
انطوان خليل ضومط.
دار الحداثة- بيروت 1980.
40- تاريخ الإسلام في الهند:
عبد المنعم النمر.
دار العهد الجديد- 1959.
41- فتوح البلدان:
البلاذري.
تحقيق عبد الله الطباع. وعمر الطباع.
دار النشر للجامعيين 1957.
42- جمهرة الأمثال:
أبو هلال العسكري.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش.
المؤسسة العربية الحديثة 1964.
43- مجمع الأمثال:
الميداني تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
مطبعة السنة المحمدية- 1955.
44- المستقصى في أمثال العرب:
الزمخشري.
دار الكتب العلمية- بيروت 1977.
45- امثال العرب:
المفضل بن محمد الضبّي(7/447)
1 قدم له وعلق عليه: إحسان عباس.
دار الرائد العربي. بيروت.
46- دراسات في فقه اللغة:
الشيخ صبحي الصالح.
دار العلم للملايين- 1960.
47- فقه اللغة:
علي عبد الواحد وافي.
دار نهضة مصر- الطبعة السابعة.
48- علوم الحديث ومصطلحه:
الشيخ صبحي الصالح.
دار العلم للملايين 1977.
49- معجم الألفاظ والأعلام القرآنية:
محمد إسماعيل إبراهيم.
دار الفكر العربي.
50- الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار:
د. حسن الباشا.
القاهرة 1957.
51- ضوء الصبح: 2 القلقشندي.
القاهرة 1324 هـ.
52- لسان العرب:
ابن منظور.
دار صادر- بيروت.
53- القاموس المحيط:
الفيروزآبادي.
المؤسسة العربية للطباعة والنشر- بيروت.
54- المعجم الوسيط:
مجمع اللغة العربية- القاهرة.
55- مقاييس اللغة:
أحمد بن فارس.
تحقيق عبد السلام هارون. دار الفكر.
56- معجم عبد النور المفصل:
جبور عبد النور.
دار العلم للملايين- بيروت.
57- معجم.Petitlarousse 0891 Librairie larousse(7/448)
فهرس موضوعات الجزء السابع
الوضوع الصفحة الطرف العاشر- في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ولها حالتان 3 الحالة الأولى- ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين 3 الحالة الثانية- من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية، ومكاتباتهم على أربعة أساليب 18 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب 20 الأسلوب الثاني- أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 22 الأسلوب الثالث- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «هذه المكاتبة إلى المجلس» 27 الأسلوب الرابع- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» وباقي الأمر على نحو ما تقدّم 29 الطرف الحادي عشر- في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب، ولها حالتان 30 الحالة الأولى- ما كان الأمر عليه في الزمن المتقدّم، وهو على أربعة أساليب 31 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان» ويدعى للمكتوب إليه 31 الأسلوب الثاني- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» وهو على ضربين 34 الضرب الأول- أن تعقّب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها 34 الضرب الثاني- أن تعقّب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة 37 الأسلوب الثالث- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا إليكم من موضع كذا والأمر على كذا وكذا» 38 الحالة الثانية- ما الأمر مستقرّ عليه الآن مماكان عليه وزير ابن الأحمر، والمكابتة فيه على ثلاثة أساليب 40 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة باللقب اللائق بالمكتوب إليه، وهو على أضرب 41 الضرب الأول- أن يبتدأ بلفظ «المقام» وهو مخصّص بالكتابة إلى الملوك 41(7/449)
الموضوع الصفحة الضرب الثاني- أن يقع الابتداء بالمقرّ 50 الضرب الثالث- أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة 61 الأسلوب الثاني- أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه، وهو على ضربين 64 الضرب الأول- أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيما له 64 الضرب الثاني- أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه، وهو على صنفين 67 الصنف الأول- ما يكتب به إلى بعض الملوك 67 الصنف الثاني- ما يكتب به إلى الرعايا 70 الأسلوب الثالث- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أما بعد» 74 الطرف الثاني عشر- في الكتب الصادرة عن وزراء الخلفاء، وفيه جملتان 6 الجملة الأولى- في الكتب الصادرة عن وزراء خلفاء بني العباس ببغداد، وهي على أسلوبين 76 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 78 الأسلوب الثاني- أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإصدار 81 الجملة الثانية- في الكتب الصادرة عن وزرا خلفاء الفاطميين بالديار المصرية 83 الطرف الثالث عشر- في المكاتبات الصادرة عن الاتباع، إلى الملوك ومن في معناهم، وفيه ثلاث جمل 86 الجملة الأولى- في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك الشرق إليهم في الزمن المتقدم، وهي على أسلوبين 86 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» 86 الأسلوب الثاني- أن تفتتح المكاتبة بالإصدار 89 الجملة الثانية- في المكاتبات الصادرة عن الاتباع ملوك المغرب إليهم والمختار منه أربعة أساليب 95 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بالحضرة 99(7/450)
الموضوع الصفحة الأسلوب الثالث- أن تفتتح المكاتبة بأمّا بعد، ويتخلص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام 103 الأسلوب الرابع- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «سيدي» أو «مولاي» مع حرف النداء أو دونه 104 الطرف الرابع عشر- فيما يختص بالأجوبة الصادرة عن الملوك وإليهم، وهي على ضربين 109 الضرب الأول- الأجوبة الصادرة عن الملوك إلى غيرهم، وفيه ثلاث جمل 109 الجملة الأولى- في الأجوبة الصادرة عن ملوك الشرق، وفيه أسلوبان 109 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابنا» و «وصل كتابك» 109 الأسلوب الثاني- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «وصل كتابك» 112 الجملة الثانية- في الأجوبة الصادرة عن ملوك الديار المصرية من وزراء الخلفاء الفاطميين القائمين مقام الملوك الآن فمن بعدهم، وفيه أسلوب واحد، وهو الافتتاح بلفظ «وصل» 113 الجملة الثالثة- في الأجوبة الصادرة عن ملوك الغرب 116 الضرب الثاني- الأجوبة الواردة على الملوك 117 القسم الثاني- المكاتبات الصادرة عنهم إلى ملوك الكفر، وفيه طرفان 118 الجملة الأولى- في المكاتبات الصادرة إليهم عن ملوك بلاد الشرق ممن بني بويه فمن بعدهم 118 الجملة الثانية- في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إليهم 121 الجلمة الثالثة- في الأجوبة الصادرة إليهم عن ملوك الغرب 123 الطرف الخامس عشر- المكاتبات الصادرة إلى ملوك الكفر في الأجوبة 124 الفصل الرابع- من الباب الثاني، من المقالة الرابعة- في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى ولاة العهد بالخلافة 127 الطرف الأول- في المكاتبات الصادرة عنهم إلى الخلفاء من بني العباس 127 الطرف الثاني- في المكاتبة إلى ولاة العهد بالخلافة 144 الطرف الثالث- من المصطلح المستقرّ عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى أهل المملكة: من مصر والشام والحجاز، وفيه ثلاثة مقاصد 148 المقصد الأول- في المكاتبات المفردة وفيه مسلكان 148(7/451)
الموضوع الصفحة المسلك الأول- في بيان رتب المكاتبات ورتب أهلها، وهي على ضربين 148 الضرب الأول- المكاتبات إلى الملوك على ما كان عليه الحال في الزمن المتقدم 148 الضرب الثاني- المكاتبات إلى من عدا الملوك من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، وفيه مهيعان 150 المهيع الأول- في رتب المكاتبات، وهي على عشر درجات 150 الدرجة الأولى- الدعاء للمقرّ 150 الدرجة الثانية- الدعاء للجناب الكريم 153 الدرجة الثالثة- الدعاء للجناب العالي بمضاعفة النعمة 154 الدرجة الرابعة- الدعاء للجناب العالي بدوام النعمة 155 الدرجة الخامسة- الدعاء للمجلس بدوام النعمة 155 الدرجة السادسة- صدرت والعالي، ويعبّر عنها بالساميّ أيضا 156 الدرجة السابعة- صدرت والسامي، ويعبر عنها بالسامي بغير ياء 157 الدرجة الثامنة- يعلم مجلس الأمير 157 المهيع الثاني- في بيان مراتب المكتوب إليهم من أهل المملكة، وهم ثلاثة أنواع 166 النوع الأول- أرباب السيوف، وهم على ثلاثة أقسام 166 القسم الأول- من هو منهم بالديار المصرية، وهم ستة أصناف 166 الصنف الأول- نوّاب السلطنة الشريفة، وهم أربعة نواب 166 الصنف الثاني- الكشّاف 170 الصنف الثالث- الولاة بالوجهين القبليّ والبحريّ 171 الصنف الرابع- من يتوجه من الأبواب السلطانية من الأمراء لبعض الأعمال المتقدّمة الذكر 172 الصنف الخامس- باقي الأمراء بالديار المصرية 172 الصنف السادس- العربان بالديار المصرية وبرقة 175 النوع الثاني- ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية أرباب الأقلام، وهم على ضربين 179 الضرب الأول- أرباب الدواوين من الوزراء ومن في معناهم 179 الضرب الثاني- أرباب الوظائف الدينية والعلماء 180 النوع الثالث- ممن يكاتب عن الأبواب السلطانية ممن بالديار المصرية الخوندات السلطانية 182(7/452)
الموضوع الصفحة القسم الثاني- من يكاتب بالممالك الشامية، وهم أربعة أنواع 184 النوع الأول- أرباب السيوف من النواب الكفّال وأتباعهم، وهي ثمان نيابات 184 النيابة الأولى- نيابة دمشق، المعبّر عنها في عرف الزمان بالمملكة الشامية، والمكاتبون بها ضربان 184 الضرب الأول- من بمدينة دمشق 184 الضرب الثاني- من بأعمال دمشق من نوّاب المدن والقلاع 185 النيابة الثانية- نيابة حلب، والمكاتبون بها على ضربين 194 الضرب الأول- من بمدينة طرابلس 194 الضرب الثاني- من بأعمال طرابلس من النوّاب، وهم صنفان 195 الصنف الأول- نوّاب قلاع نفس طرابلس 195 الصنف الثاني- نوّاب قلاع الدعوة المضافة إلى طرابلس 196 النيابة الرابعة- نيابة حماة، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة صفد خاصة 197 النيابة الخامسة- نيابة صفد، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السادسة- نيابة غزّة، والمكاتبون بها ضرب احد بمدينة غزّة خاصة 197 النيابة السابعة- نيابة الكرك، والمكاتبون بها ضرب واحد بمدينة الكرك خاصة 198 النيابة الثامنة- نيابة سيس 199 النوع الثاني- ممن يكاتب بالمماليك الشامية أرباب الأقلام، وهم صنفان 201 الصنف الأول- أرباب الوظائف الديوانية 201 الصنف الثاني- القضاة والعلماء 202 النوع الثالث- ممن يكاتب بالبلاد الشامية العربان 203 النوع الثالث- ممن يكاتب بالبلاد الشمية التركمان 209 النوع الرابع- ممن يكاتب بالبلاد الشامية الأكراد 209 القسم الثالث- من يكاتب بالبلاد الحجازية 210 المسلك الثاني- في معرفة ترتيب المكاتبات المقدّمة الذكر وكيفية أوضاعها، وفيه مأخذان 214(7/453)
الموضوع الصفحة المأخذ الأول- في ترتيب متون المكاتبات ولا يكون إلا ابتداء، وهي على ضربين 214 الضرب الأول- ما يكتب في خلاص الحقوق 214 الضرب الثاني- ما يكتب من متعلقات البريد في الأمور السلطانية وهي صنفان 217 الصنف الأول- ما يكتب به ابتداء 217 الصنف الثاني- ما يكتب في الجواب عمّا يرد من النواب وغيرهم 226 المأخذ الثاني- في معرفة أوضاع هذه المكاتبات 235 المقصد الثاني- في المكاتبات العامة إلى أهل هذه المملكة، وهي المطلقات، وحاصل مرجوعها إلى ثلاثة أضرب 238 الضرب الأول- المطلقات المكبّره 239 الضرب الثاني- من المطلقات المصغّره 243 الضرب الثالث- من المطلقات البرالغ 248 المقصد الثالث- من المكاتبات في أوراق الجواز وبطائق الحمام، وفيه جملتان 251 الجملة الأولى- في أوراق الجواز 251 الجملة الثانية- في نسخ البطائق، وهي على ضربين 254 الضرب الأول- أن تكون البطاقة بعلامة شريفة 254 الضرب الثاني- أن تكون بغير علامة 254 الطرف الثالث- في المكاتبات إلى عظماء ملوك الإسلام، وفيه أربعة مقاصد 255 المقصد الأول- في المكاتبات إلى عظماء ملولك الشرق، وفيه أربعة مهايع 256 المهيع الأول- في المكاتبة إلى الملوك والحكّام ومن جرى مجراهم بمملكة إيران، ويشتمل المقصود منها على ثلاث جمل 256 الجملة الأولى- في رسم المكاتبة إلى قانها الأعظم الجامع لحدودها، وله حالتان 256 الحالة الأولى- ما كان الأمر عليه في رسم المكاتبة في أوائل الدولة التركية، وفيه أسلوبان 256 الأسلوب الأول- أن يكتب تحت البسملة من الجانب الأيمن «بقوّة الله تعالى» 256 الأسلوب الثاني- أن يكتب تحت البسملة على حيال وسطا «بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية» 264 الحالة الثانية- ما كان عليه رسم المكاتبة في الدولة الناصرية «محمد بن(7/454)
الموضوع الصفحة قلاوون» إلى أبي سعيد 272 الجملة الثانية- في المكاتبات إلى من ملك توزير وبغداد بعد موت أبي سعيد 279 الجملة الثالثة- في رسم المكاتبة الى من انطوت عليه مملكة ايران، في أيام أبي سعيد فمن بعده، وهم ثمانية أصناف 285 النصف الأول- كفّال المملكة بحضرة القان، وهم على ضربين 285 الصنف الأول- كفّال المملكة بالحضرة في زمن القانات العظام كأبي سعيد ومن قبله من ملوكهم حين كانت المملكة على أتم الأبّهة وأعلى الترتيب 285 الضرب الثاني- كفّال المملكة بالحضرة بعد موت أبي سعيد 287 الصنف الثاني- ممن جرت العادة بمكاتبة مملكة ايران عن الأبواب السلطانية، صغار الملوك المنفردين ببعض البلدان 288 الصنف الثالث- ممن يكاتب هذه المملكة العربان، وهم: عبادة وخفاجة 304 الصنف الرابع- ممن يكاتب هذه المملكة التركمان 304 الصنف الخامس- ممن يكاتب بهذه المملكة الأكراد، وهم على ضربين 306 الضرب الأول- المنسوب منهم إلى بلاد ومقّرات معروفة 306 الضرب الثاني- من لم يصرّح له بمكان 311 الصنف السادس- ممن يكاتب بهذه المملكة إيران أرباب الأقلام 311 الصنف السابع- ممن يكاتب بمملكة إيران أكابر المشايخ والصلحاء 313 الصنف الثامن- ممن يكاتب بمملكة إيران النساء 314 المهيع الثاني- من المكاتبة إلى الملوك مملكة توران، وهي مملكة الخاقانية وفيها جملتان 315 الجملة الأولى- في رسم المكاتبة إلى قانها القائم بها 316 الجملة الثانية- في رسم المكاتبة إلى من انطوت عليه هذه المملكة من الاتباع والحكّام وهم على اصناف 325 الصنف الأول- كفّال المملكة 325 الصنف الثاني- الحكّام بالبلاد بهذه المملكة 327 المهيع الثالث- في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارج عن مضافات الديار المصرية، وفيه جملتان 357 الجملة الأولى- في المكاتبات إلى ملوك اليمن، هم فرقتان 357 الفرقة الأولى- أئمة الزيدية 357 الفرقة الثانية- أولاد رسول 364(7/455)
الموضوع الصفحة المكاتبات بين صاحب مصر وصاحب اليمن، وهي على ضربين 365 الضرب الأول- ماكان الأمر عليه في الدولة الأيوبية، وهو أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أصدرناها» 365 الضرب الثاني- ما الأمر عليه من ابتداء الدولة التركية وهلّم جرّا إلى زماننا، وهو على ثلاثة أساليب 369 الأسلوب الأول- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي» 369 الأسلوب الثاني- وهو المذكور في «التعريف» 377 الأسلوب الثالث- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله» تعالى نصرة المقام العالي» 379 الأسلوب الرابع- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى نصرة المقام الشريف العالي» 385 الأسلوب الخامس- وهو ما جرى عليه في «التثقيف» أن أن تفتتح المكاتبة بلفظ «أعزّ الله تعالى أنصار المقام العالي» 389 الجملة الثانية- في المكاتبات إلى عرب البحرين ومن انصاف إليهم 396 المهيع الرابع- في المكاتبة إلى صاحب الهند والسند 398 المقصد الثاني- من المصطلح المستقرّ عليه الحال من المكتابتات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في المكاتبات إلى ملوك الغرب، وفيه أربع جمل 403 الجملة الثانية- في المكاتبات إلى صاحب أفريقية، وهو صاحب تونس 403 الجملة الثالثة- في المكاتبة إلى صاحب الغرب الأقصى 413 الجملة الرابعة- في المكاتبة ملك المسلمين بالأندلس 440 تمّ بإذن الله فهرس موضوعات الجزء السابع من صبح الأعشى(7/456)
[المجلد الثامن]
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
[تتمة المقالة الرابعة]
[تتمة الباب الثاني]
[تتمة الفصل الرابع]
[تتمة الطرف الثالث]
المقصد الثالث في المكاتبة إلى أهل الجانب الجنوبيّ ممن جرت العادة بالمكاتبة إليه من العرب والسّودان، وفيه ثلاث جمل
الجملة الأولى في المكاتبة إلى من بهذا الجانب من العربان
وقد ذكر في «التثقيف» «1» ممن كوتب منهم جماعة بالطّرقات الموصّلة من الديار المصرية إلى بلاد الحبشة وغيرها، ثم قال: ولعلّ هؤلاء أيضا من عربان الممالك المحروسة، غير أنه لا إقطاعات لهم، وعدّ منهم ثمانية أشخاص، وذكر أنه كتب إلى كل منهم الاسم ومجلس الأمير:
الأوّل- سمرة بن كامل العامريّ.
الثاني- عبّاد بن قاسم.
الثالث- كمال بن سوار. قال: وهو مستحدث المكاتبة في العشر الأوّل من جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة.(8/3)
الرابع- جنيد: شيخ الجوابرة من الهكاريّة بأبواب النّوبة. قال: وهو مستحدث المكاتبة في سنة تسع سنين وستين وسبعمائة.
الخامس- شريف: شيخ النّمانمة، بأبواب النّوبة أيضا، ومكاتبته مستجدّة حينئذ.
السادس- عليّ: شيخ دغيم.
السابع- زامل الثاني.
الثامن- أبو مهنّا العمرانيّ.
الجملة الثانية (في المكاتبة إلى مسلمي ملوك السّودان، وهم أربعة ملوك)
الأوّل- ملك النّوبة «1» . وهو صاحب مدينة دنقلة «2» ، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في الكلام على المقالة الثانية في «المسالك والممالك» . قال «3» في «التعريف» : وهو رعيّة من رعايا صاحب مصر، وعليه «4» حمل مقرّر، يقوم به في «5» كل سنة، ويخطب [ببلاده] «6» لخليفة العصر وصاحب مصر.(8/4)
قلت: هذا كان في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» «1» وهذه الإتاوة كانت مقرّرة عليهم من زمن الفتح، في إمارة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، ثم صارت تنقطع تارة وتحمل أخرى، بحسب الطاعة والعصيان. وهي الآن مملكة مستقلّة بذاتها، ولذلك أوردت مكاتبة صاحبها في جملة الملوك.
ورسم المكاتبة إليه إن كان مسلما على ما ذكره في «التعريف» :
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الجليل، الكبير، الغازي، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، العضد، مجد الإسلام، زين الأنام، فخر المجاهدين، عمدة الملوك والسلاطين «2» وذكر ذلك في «التثقيف» نقلا عنه، ثم قال: ولم أجد له مكاتبة متداولة بين الجماعة. قال: ولم يكتب له شيء في مدّة مباشرتي بديوان الإنشاء، ولم يزد على ذلك.
ورأيت في الدّستور المنسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنّ مكاتبته هذه المكاتبة أيضا، وأنه يقال بعد عمدة الملوك والسلاطين: «أدام الله سعادته، وبلّغه في الدارين إرادته، تتضمّن إعلامه كيت وكيت، فيتقدّم بكذا وكذا، فيحيط علمه بذلك» . ثم قال: والمكاتبة إليه في قطع العادة، والعلامة «أخوة» ولا يخفى أنّ العنوان بالألقاب، ويظهر أن التعريف «صاحب دنقلة» .(8/5)
الثاني- ملك «1» البرنو. قال في «التعريف» : وبلاده تحدّ بلاد [ملك] «2» التّكرور «3» من «4» الشرق، ثم يكون حدّها من الشمال بلاد [صاحب] «5» أفريقيّة، ومن الجنوب الهمج «6» وقد تقدّم الكلام عليها مستوفى في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك. ولم يذكر هذه المملكة في «مسالك الأبصار» .
قلت: وملكها يزعم أنه من ذرّية سيف بن ذي يزن ملك اليمن على ما ورد به كتابه في أواخر المائة السابعة.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» :
أدام الله تعالى نصر الجناب الكريم، العالي، الملك الجليل، الكبير، العالم، العادل، الغازي، المجاهد، الهمام، الأوحد، المظفّر، المنصور، عزّ الإسلام، (من نوع ألقاب ملك التّكرور) «7» يعني شرف ملوك الأنام، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، جمال الملوك والسلاطين، ظهير الإمام، عضد أمير المؤمنين الملك فلان. ويدعى له بما يناسبه، وبعد إهداء السّلام والتشوّق هذه المفاوضة تبدي، على ما سيأتي ذكره في مكاتبته.
وهذا صدر يليق به: ولا زالت همم سلطانه غير مقصرة، ووفود حجّه غير محصرة،(8/6)
وسيفه في سواد من جاوره من أعدائه الكفّار، يقول: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة
«1» صدرت، ولها مثل مسكة أفقه عبق، وعنبرة طينته سواد إلّا أنّه من السّواد اليقق، وشبيبة ملكه الذي يفدّيه سواد الحدق، أوجبها ودّ أسكنه [مسكنه] «2» من سويداء القلب لا يريم، وأراه غرّة الصّباح الوضّاح تحت طرّة الليل البهيم. وحكى ذلك عنه في «التثقيف» ولم يزد عليه.
ورأيت في الدّستور المنسوب للمقرّ العلائيّ بن فضل الله أنّ مكاتبته في قطع الثّلث، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب برنو» .
قلت: ووصل من هذا الملك كتاب في الدولة الظاهرية (برقوق) يتشكّى فيه من عرب جذام المجاورين له، ويذكر أنهم أخذوا جماعة من أقاربه باعوهم في الأقطار، وسأل الكشف عن خبرهم، والمنع من بيعهم بمصر والشام، وأرسل هدية صالحة من زئبق وغيره. وكتب جوابه بخط زين الدين طاهر، أحد كتّاب الدّست، صدره: أعزّ الله تعالى جانب الجناب الكريم، العالي، الملك الجليل، العالم، العادل، الغازي، المجاهد، الهمام، الأوحد، المظفّر، المنصور، المتوكّل، فخر الدين أبي عمر وعثمان بن إدريس، عزّ الإسلام، شرف ملوك الأنام، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، جمال الملوك والسلاطين، سيف الجلالة، ظهير الإمامة.
وبعث إليه به مع رسوله الوارد صحبة الحجيج، فأعيد وقد كتب الجواب على ظهره بعد سنة أو سنتين.
الثالث- ملك «3» الكانم. قال في «مسالك الأبصار» : وقاعدة الملك منها(8/7)
بلدة اسمها «جيمي» ومبدأ مملكته من جهة مصر بلدة اسمها «زلّا» وآخرها طولا بلدة يقال لها «كاكا» وبينهما نحو ثلاثة أشهر. قال: وعسكرهم يتلثّمون، وملكهم على حقارة سلطانه، وسوء بقعة مكانه، في غاية لا تدرك من الكبرياء، يمسح برأسه عنان السماء، مع ضعف أجناد، وقلّة متحصّل بلاد، محجوب، لا يراه أحد إلّا في يوم العيدين بكرة وعند العصر، وفي سائر السنة لا يكلمه أحد ولو كان أميرا إلّا من وراء حجاب.
وقال في «التعريف» : ملوكها «1» من بيت قديم في الإسلام، وجاء منهم من ادّعى النسب العلويّ في بني الحسن، وهو «2» يتمذهب بمذهب الشافعيّ، ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» كرسم مكاتبة صاحب البرنو، بدون الكريم، وتبعه على ذلك في «التثقيف» ناقلا له عنه. ثم قال: ولم أطّلع على مكاتبة له غير الذي قد ذكره.
الرابع- ملك مالّي «3» قال في «مسالك الأبصار» : وهي في نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، وقاعدة الملك بها بنبي. وهي أعظم ممالك السّودان، وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك ذكر أحوالها، وما تيسّر من ذكر ملوكها، وأن مالّي اسم للإقليم، والتّكرور مدينة من مدنه، وكان ملكها في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» منسا موسى، ومعنى منسا السلطان.
وقد ذكر في «مسالك «4» الأبصار» أنه وصل منه كتاب عن نفسه لنفسه فيه ناموسا، وأنه وصل إلى الديار المصرية حاجّا، واجتمع بالسلطان الملك الناصر،(8/8)
فقام له وتلقّاه، وأكرمه وأحسن نزله، على ما هو مبسوط في موضعه.
قال في «التعريف» : وملك التّكرور هذا يدّعي نسبا «1» إلى عبد الله بن صالح بن الحسن، بن عليّ بن أبي طالب.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» : «أدام الله تعالى نصر المقرّ العالي، السلطان، الجليل، الكبير، العالم، العادل، المجاهد، المويّد، الأوحد، عزّ الإسلام، شرف ملوك الأنام، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، جمال الملوك والسلاطين، سيف الجلالة، ظهير الإمامة، عضد أمير المؤمنين، الملك فلان. ويدعى له بما يناسب. وبعد إهداء «2» السّلام والتشوّق هذه المفاوضة تبدي» .
قال: ولا يعرّض له ولا يقرّ بشيء من الألقاب الدالة على النسب العلويّ.
وهذا صدر لهذه المكاتبة ذكره في «التعريف» :
ويسّر له القيام بفرضه، وأحسن له المعاملة في قرضه، وكثّر سواده الأعظم وجعلهم بيض الوجوه يوم عرضه، ومتّعه بملك يجد الحديد «3» سجف سمائه والذهب نبات أرضه. صدرت هذه المفاوضة، وصدرها به مملو، وشكرها عليه يحلو «4» ، ومزايا حبّه في القلوب سرّ كلّ فؤاد، وسبب ما حلي به الطرف والقلب من السّواد، تنزل به سفنها المسيرة في البحر وترسى، وتحلّ عند ملك ينقص به زائده، وينسى موسى منسى، وتقيم عليه والدهر لا يطرقه فيما ينوب، والفكر لا يشوقه إلّا إذا هبّت صبا من أرضه أو جنوب.
والمتداول بين جماعة كتّاب الإنشاء أن المكاتبة إليه: «أعز الله تعالى جانب الجناب الكريم العالي، الملك، الجليل، العالم، العادل، المجاهد،(8/9)
المؤيّد، المرابط، المثاغر، العابد، الناسك، الأوحد، فلان، ذخر الإسلام والمسلمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، عون جيوش الموحّدين، ركن الأمّة، عماد الملّة، جمال الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين» والدعاء.
وذكر نحو ذلك في الدّستور المنسوب للمقرّ العلائي بن فضل الله، ثم قال:
ويقال: «صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي مملوءة الصدر بشكره، باسمة الثغر برفعة قدره، موضّحة لعلمه الكريم كيت وكيت، وذكر أنّ خطابه بالجناب الكريم، والطلب والقصد والختم بالاحاطة، وذكر هو وصاحب «التثقيف» أن المكاتبة إليه في قطع الثلث، والعلامة «أخوه» وتعريفه «صاحب مالّي وغانة» .
الجملة الثالثة (في المكاتبة إلى ملوك المسلمين بالحبشة)
قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أنّ ببلاد الحبشة سبعة ملوك مسلمين، لهم سبع ممالك؛ كلّ مملكة منفردة بملك، وبها الجوامع والمساجد ينادى فيها بالأذان، وتقام بها الجمع والجماعات، وهم مع ذلك تحت أمر صاحب «1» أمحرا ملك ملوك الحبشة، يختار لولاية ممالكهم من شاء توليته ولا يردون ويصدرون إلّا عن أمره، وهي مملكة أوفات والزّيلع، ومملكة دوارو، ومملكة أرابيني ومملكة هدية، ومملكة شرحا، ومملكة بالي، ومملكة دارة.
وقد تقدّم الكلام عليها وعلى أحوالها مستوفى عند الكلام عليها في المقالة الثانية. قال في «مسالك الأبصار» : وهذه الممالك تجاور ناصع، وسواكن،(8/10)
ودهلك، وليس بها مملكة مشهورة.
قال في «التعريف» : ولم يرد «1» من هذه الملوك السبعة كتاب، ولا صدر إليهم خطاب. قال: فإن ورد منهم شيء فتجري مكاتبتهم مثل المكاتبة صاحب الكانم والبرنو. وقد تقدّم أنّ رسم المكاتبة إليهما على ما ذكره في «التعريف» :
«أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، وأعزّ الله تعالى جانب الجناب الكريم» على ما كتب به القاضي زين الدين طاهر في جواب صاحب البرنو على ما هو مذكور في موضعه.
المقصد الرابع (في المكاتبة إلى أهل الجانب الشّماليّ وفيه ثلاثة أطراف)
الطرف الأوّل (في المكاتبات إلى أمراء الأتراك بالبلاد المعروفة ببلاد الرّوم المسمّاة الآن ببلاد الدّروب)
قال في «التعريف» : وهي البلاد المنحصرة بين بحري القرم والخليج القسطنطينيّ، تنتهي في شرقيّها إلى بحر القرم المسمّى بحر نيطش، وفي الغرب إلى الخليج القسطنطينيّ وتنتهي متشاملة إلى القسطنطينية، وتنتهي جنوبا إلى بلاد الأرمن، يحدّها البحر الشاميّ «2» قال: وهذه البلاد بلاد متسعة، وهي مفرّقة لملوك مجتمعة، ولكنه «3» لا يطلق عليهم إلّا اسم الإمارة، ولا انتظام لكلمتهم، ولا اجتماع لجملتهم، ثم قال: وأكبرهم صاحب كرميان «4» ، وله بينهم وضع محفوظ، ونظام مرعيّ.(8/11)
أما «1» ملوكنا، فأجلّ من لديهم منهم جماعة بني قرمان، لقرب ديارهم، وتواصل أخبارهم، ولنكاياتهم في متملّك «2» سيس وأهل بلاد الأرمن، واجتياحهم لهم من ذلك الجانب، مثل اجتياح «3» عساكرنا لهم من هذا الجانب، فمكاتبتنا إلى بني قرمان لا تكاد تنقطع، وأما إلى البقيّة فأقلّ من القليل، وأخفى من مرأى الضئيل. ثم عدّ منهم ستة عشر أميرا، وذكر رسم المكاتبة إلى كلّ واحد منهم:
الأول- صاحب كرميان «4» قال في «التعريف» : ولم «5» يكتب إليه مدّة مقامي بالأبواب السلطانية، ويشبه أن تكون المكاتبة إليه بالمقرّ نظير صاحب ماردين «6» ، لكن بأبسط ألقاب، إذ هي أدعى لا ستحسانهم لقلّة معارفهم، وعلى هذا التقدير يكون رسم المكاتبة إليه: «أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم، العالي، الملكي، الأجلّيّ، العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ،(8/12)
المرابطيّ، المثاغريّ، المظفّريّ، المنصوريّ، الفلاني، عون الأنام «1» ، شرف الملوك والسلاطين، نصير الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، ظهير أمير المؤمنين» .
قال: فإن لم يسمح له بكل هذه المخاطبة، ولم يؤهّل لنظير هذه المكاتبة، كتبت إليه هذه الألقاب مع الجناب الكريم، وخوطب بالإمارة إن لم يسمح له بالمخاطبة بالملك.
قال في «التثقيف» : ولعل مكاتبته بالجناب مع هذه الألقاب كما ذكر ومخاطبته بالإمارة أولى؛ لأنه إذا كان بنو قرمان أجلّ لدى ملوكنا، ومكاتباتهم بالدعاء والمجلس العالي، فيتعين حيث هو أكبر منهم أن يكون هو أعلى منهم رتبة في المكاتبة بدرجتين «2» ، وهي: الجناب الكريم. قال: هذا هو الأولى عندي.
قلت: وهذا كلّه إنما كان قبل أن يعلو قدر ابن عثمان صاحب برسا الآتي ذكره، ويرتفع قدره على من بتلك البلاد جملة. أما بعد ارتفاعه وانحطاطهم دونه فينبغي أن ينظر في قدر المكتوب إليه، ويكتب إليه بحسب ما تقتضيه الحال.
الثاني- صاحب طنغزلو. قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه:
«صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي الأميريّ» ولم يذكر العلامة إليه. قال في «التثقيف» والذي وجدته مسطورا في مكاتبته الاسم والساميّ بالياء.
الثالث- صاحب توازا. قال في «التعريف» : وهو في المكاتبة نظير صاحب طنغزلو، ولم يزد على ذلك، غير أنه ذكر أن اسمه في زمانه كان «على أرينه» وذكر في «التثقيف» أنه لم يقف له على رسم مكاتبة سوى ذلك.
الرابع- صاحب عيدلي. قد ذكر في «التعريف» أن اسمه في زمانه دندار(8/13)
أخو يونس صاحب أنطاليا. وأنه نظير صاحب توازا في المكاتبة، فتكون المكاتبة إليه: صدرت والعالي. قال في «التثقيف» : ولم أقف على رسم مكاتبة إليه سوى ذلك، إلّا أنه ذكر بعد ذلك صاحب عدليو. وقال: إن المكاتبة إليه الاسم والساميّ بالياء، وذكر أن المقرّ الشهابيّ بن فضل الله لم يتعرّض إلى ذكره في «التعريف» ثم قال: وقد تكون هي عيد لي المقدّم ذكرها، وإنما تكرّرت بتغيير الحروف. قال ولم يتحرّر هل هما اثنان أو واحد.
الخامس: صاحب كصطمونية وهي قسطمونية. قال في «التعريف» وكانت آخر وقت لسليمان باشا، وكان أميرا كبيرا، كثير العدد، موفور المدد، ذا هيبة «1» وتمنّع. ثم قال: وورث ملكه ابنه إبراهيم شاه، وكان عاقّا لأبيه، خارجا عن مراضيه، وكان في حياته منفردا «2» بمملكة سنوب. قال: وهي الآن داخلة في ملكه منخرطة «3» في سلكه.
وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي الأميريّ بأكمل الألقاب، وأتمّ ما يكتب في هذا الباب» . وذكر في «التثقيف» نقلا عن القاضي ناصر الدين بن النشائي، وأمين الدين خضر مثل ذلك، وأن العلامة إليه «أخوه» .
السادس- صاحب فاويا. قال في «التعريف» وهو (يعني في زمانه) مراد الدين حمزة، وهو ملك مضعوف، ورجل بمجالس أنسه مشغوف. قال: ورسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ الأميريّ» بالياء.
قال في «التثقيف» وهو غير بعيد.(8/14)
السابع- صاحب برسا «1» وقد ذكر في «التعريف» أنه في زمانه أرخان بن عثمان. ثم قال: وهو نظير صاحب فاويا في المكاتبة، فتكون مكاتبته الساميّ بالياء. قال في «التثقيف» ولم أطّلع على رسم للمكاتبة إليه غير ذلك، إلّا أنه ذكر في الفصل الأوّل من الباب الرابع في الكلام على مكاتبات الحكّام أرخان بن عثمان. وقال: إنّ لقبه سيف الدين. ثم قال: ويقال إنه صاحب برسا، وذكر أن رسم المكاتبة إليه في قطع العادة والدعاء والمجلس العالي، والعلامة أخوه، وتعريفه اسمه.
قلت: وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أن الأمر قد آل في بني عثمان إلى أرخان بن عثمان جق، ثم إلى ابنه مراد بك، وأنه اتّسع ملكه وجاوز في الفتح الخليج القسطنطينيّ حتى قارب خليج البنادقة، ثم إلى ابنه أبي يزيد فزاد في الملك على ما كان بيد أبيه، وتزوّج في بني قرمان، ودخل بنو قرمان وسائر التركمان في طاعته، ولم يبق خارجا عن ملكه إلّا سيواس، فإنها كانت مع قاضيها إبراهيم المتغلب عليها، ولم يزل كذلك حتّى قصده تمرلنك وأسره، ومات في يديه، وملك بعده ابنه سليمان جلبي. ثم مات، وملك بعده أخوه محمد بن أبي يزيد بن مراد بك بن عثمان جق، وهو القائم بها إلى الآن. وكانت المكاتبة قد استقرّت إلى أبي يزيد في الأيام الظاهرية (برقوق) «2» الثامن- صاحب أكبرا. قد ذكر في «التعريف» : أنه كان في زمانه دمر «3» خان بن قراشي، وذكر أن مكاتبته نظير مكاتبة صاحب برسا، يعني الساميّ بالياء، وذكر في «التثقيف» : أنه لم يقف على سوى ذلك.(8/15)
التاسع- صاحب مرمرا. وقد ذكر في «التعريف» : أنه في زمانه كان بخشي بن قراشي. وقال: إن رسم المكاتبة إليه: «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» .
قلت: وقد تقدّم في المسالك والممالك أن هذه البلدة كانت جزيرة بالخليج القسطنطيني بها مقطع رخام، وأنّ النصارى غلبوا عليها.
العاشر- صاحب مغنيسيا. ذكر في «التعريف» : أن اسمه صاروخان.
وقال: إن المكاتبة إليه الساميّ بالياء. وذكر في «التثقيف» : أنها صارت بعده إلى ابنه إسحاق بن صاروخان، وأنه كتب إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة بالاسم والساميّ بالياء.
الحادي عشر- صاحب نيف. ذكر في «التعريف» : أنه في زمانه كان علي باشا أخو صاروخان صاحب «مغنيسيا» المقدّم ذكره، وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه مثل أخيه المذكور، فتكون صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي.
الثاني عشر- صاحب بركي. ذكر في «التعريف» : أنها في زمانه كانت بيد ابن أيدين ولم يصرّح باسمه. قال: وإن المكاتبة إليه «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» بالألقاب التامّة، وذكر في «التثقيف» : أنه لم يقف له على مكاتبة غير ذلك.
الثالث عشر- صاحب فوكه. ذكر في «التعريف» : أنه كان في زمانه أرخان ابن منتشا، وأنّ المكاتبة إليه نظير صاحب بركي، فتكون الدعاء مع العالي بالألقاب التامّة أيضا، وذكر في «التثقيف» : أنه لم يقف في مكاتبته على غير ذلك.
الرابع عشر- صاحب أنطاليا «1» ذكر في «التعريف» أنه كان في زمانه اسمه(8/16)
خضر بن يونس، وقال: إن رسم المكاتبة إليه «صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي» . وذكر في «التثقيف» : أن خضر بن يونس المذكور كان يلقب سنان الدين، وأنه استقرّ بعده دادي بك، ثم استقرّ بها آخرا محمد المعروف بكاجوك، وذكر أن المكاتبة «1» إليه «أخوه» والدعاء والعالي. ثم قال: وهو الأصحّ لأنه آخر ما استقرّ عليه الحال في مكاتبته وكتب به إليه.
الخامس عشر- صاحب قراصار. ذكر في «التعريف» أنه كان في زمانه اسمه زكريّا، وأن رسم المكاتبة إليه: هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ، بلا ياء وذكر في «التثقيف» أنه لم يطلع على مكاتبة إليه سوى ذلك وأنه لم يكتب إليه شيء في مدّة مباشرته.
السادس عشر- صاحب أرمناك. ذكر في «التعريف» أنها كانت في زمانه بيد ابن قرمان «2» ولم يصرح باسمه، وذكر في «التثقيف» أن اسمه علاء الدين سليمان.
قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي بأكمل الألقاب وأكبرها، وأجمعها وأكثرها «3» » . وذكر في «التثقيف» أنّ آخر من استقرّ بها في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة علاء الدين علي بك بن قرمان، ووافق على رسم المكاتبة المذكورة. وقال: إن العلامة إليه «أخوه» وتعريفه «فلان بن قرمان» .
قال في «التعريف» : ولإخوة «4» صاحبها ابن قرمان المذكور رسوم في المكاتبات، فأكبرهم «5» قدرا، وأفتكهم نابا وظفرا، الأمير بهاء الدين موسى. وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنّه «6» حضر إلى الأبواب(8/17)
السلطانية، وحجّ مع الركب الشريف، ثم عاد إلى الأبواب السلطانية، وأجلس في المرتين مع أمراء المشورة، وأشرك في الرأي. وسأل السلطان في كتابة منشور بما يفتحه من بلاد الأرمن فكتب له. قال في «التعريف» : واستقرّت «1» المكاتبة إليه مثل مكاتبة أخيه. قال: أما بقيّة بني قرمان فدونهما في المكاتبة.
واعلم أن صاحب «التثقيف» قد زاد على ذلك من أمراء هذه البلاد ستّة نفر.
أحدهم- الحاكم بالعلايا «2» وذكر أنه كان اسمه حسام الدين محمود بن علاء الدين، وأنه كتب إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة «أخوه» والدعاء، والعالي، في قطع العادة.
الثاني- صاحب بلاط «3» ورئحر «4» ذكر أنه كان بها «أمير موسى» بن إبراهيم بن منتشا، وأن المكاتبة إليه في قطع العادة «والده» والدعاء: «والمجلس العالي» .
الثالث- صاحب أكردور وهي أكردون. ذكر أنه كان بها إلياس بن مصطفى من بني حميد، وأن رسم المكاتبة إليه على ما استقرّ عليه الحال عند ما كتب إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة «والده» والساميّ بالياء.(8/18)
الرابع- صاحب أيا سلوق. ذكر أنه كان بها عيسى بن أيدين، وأنه كتب إليه في شوّال من السنة المذكورة أيضا.
الخامس- صاحب يلي شار. ذكر أنه كان بها الأمير محمد ولم يذكر نسبته.
وقال: إن المكاتبة إليه الاسم والساميّ بالياء.
السادس- الأمير ذروان بن كرمان بن منتشا. ذكر أنه ممن استجدّت مكاتبته في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة.
واعلم أنه قد زاد في «التثقيف» ذكر مكاتبة جماعة لم أتحقّق هل هم من أهل هذه البلاد أم من غيرها.
منهم صاحب قلعة الحنفاء، ذكر أنه كان اسمه سيف الدين قوجي، وأن المكاتبة إليه في قطع الثلث والساميّ بالياء.
ومنهم صاحب قلعة الجوز، في قطع الثلث الاسم والساميّ بالياء، وتعريفه اسمه.
ومنهم صاحب بكجرى: استجدّت الكتابة إليه في شوّال سنة سبع وستين وسبعمائة، وكتب إليه الاسم والسامي بغير ياء.
ومنهم الحاكم بقلعة أبيض كتب إليه الاسم ومجلس الأمير.
ومنهم الحاكم بقلعة نعمة، كتب إليه الاسم ومجلس الأمير أيضا.
ومنهم الحاكم بقلعة أشنى: وهي أشنو كتب إليه كذلك.
على أنه قد ذكر منهم جماعة أيضا ليسوا من أهل هذه البلاد جملة، منهم نائب خلاط، وصاحب موغان، وهي موقان، والحاكم بإسعرد وهي سعرت، وصاحب قيشان وهي قاشان.
وقد تقدم أن خلاط من أرمينية، وموقان من أرمينية، وإسعرد من ديار ربيعة من الجزيرة الفراتيّة، وقاشان من عراق العجم، وبالجملة فقد خلّط في «التثقيف» في البلدان تخليطا كثيرا، وخلط بعض أقاليم البلاد ببعض.(8/19)
قلت: قد تقدّم في صدر الكلام على المكاتبات ذكر أصول يعتمدها الكاتب في كتبه تعمّ الكتب السلطانية وغيرها، وأنا أذكر هنا ما يختصّ منها بالكتب الصادرة عن السلطان على النّمط الجاري عليه الاصطلاح الآن ليسهل القصد إليها لقربها، ويحصل الغرض من ذلك، بذكر [تسعة] أمور:
أوّلها- مقادير قطع الورق، قد تقدّم في الكلام على مقادير قطع الورق المستعملة في دواوين الإنشاء جملة، والذي يختص منها بالكتب الصادرة عن السلطان أربعة مقادير:
أحدها- قطع البغداديّ الكامل، وقد مرّ أنه يكتب فيه للقانات.
وثانيها- قطع النّصف، وفيه يكتب إلى أكابر الملوك ممّن دون القانات.
وثالثها- قطع الثّلث، وفيه يكتب إلى الرتبة الثانية من الملوك.
ورابعها- قطع العادة، وفيه يكتب إلى أصاغر الملوك والولاة وغيرهم.
الثاني- العنوان؛ قد تقدّم في مقدّمة الكتاب أنّ الذي كان يكتب عنوانات الكتب السلطانية في الزمن المتقدّم هو صاحب ديوان الإنشاء دون غيره، أما الآن، فإنّ كاتب كلّ كتاب صار هو الذي يكتب عنوانه بنفسه.
وقد جرت العادة في عامة الكتب السلطانية أن يكون المكتوب فيها هي ألقاب المكتوب إليه ونعوته التي في صدر المكاتبة في الباطن، ثم يدعى للمكتوب إليه في آخر الألقاب بالدّعوة التي صدّر بها الدعاء في الصدر مثل: أعزّ الله أنصاره، أو ضاعف الله نعمته، وما أشبه ذلك من الأدعية التي تفتتح بها المكاتبات، فإن كان الكتاب مفتتحا بالحمدلة أو بلفظ من فلان، كتب في العنوان الألقاب التي في صدر الكتاب بعد ذلك، ثم بعد الدعاء يخلّي بياضا قليلا، ثم يذكر تعريف المكتوب إليه، مثل «صاحب فلانة» ونحو ذلك مما تقدم ذكره من التعريفات. وتكون كتابة العنوان بنظير قلم الباطن في الدّقة والغلظ. وتكون أسطره متصلة من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، وأسطره متلاصقة متتالية.(8/20)
الثالث- الطرّة التي يكتب فيها تعريف المكتوب إليه، والعلامة التي يكتبها المكتوب عنه، والسبب في كتابته.
وقد جرت العادة في ذلك أنه يكتب في رأس الدّرج «1» في الجانب الأيمن «إلى فلان» وفي الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا» وفي الوسط العلامة التي يعلمها السلطان مثل «أخوه» أو «والده» أو «اسمه» ، لينظر عند علامة السلطان على الكتاب فيعلم حال الكتاب، ويجرى الأمر في العلامة «2» على هذا الرسم، وتكون كتابتها بقلم الكتاب من ثلث أو رقاع أو غيرهما، إلّا أن يكون الكتاب بمختصر الطّومار «3» في قطع البغداديّ فيكون ذلك بقلم الثلث. وهذه الطرّة تقطع بعد أن يعلّم على الكتاب.
الرابع- البياض في أعلى الكتاب، وقد جرت العادة في الكتب السلطانية أنّ العلامة إلى المكتوب إليه، إن كانت «أخوه» أو «والده» ترك فيه ثلاثة أوصال بياضا بما فيه من وصل العنوان، ثم تكتب البسملة في رأس الوصل الرابع، وإن كانت العلامة إليه الاسم، ترك وصلان بياضا فقط وكتبت البسملة في أوّل الوصل الثالث، ثم يكتب السطر الأول من الكتاب على سمت البسملة ملاصقا لها، ثم يخلّى موضع العلامة بياضا، ويكتب السطر الثاني على سمت الأوّل في أواخر ذلك الوصل على قدر إصبعين من آخره، ثم يجعل بين كل سطرين أربعة أصابع مطبوقة، إن كان القطع صغيرا، وإن كان القطع كبيرا كان فيه قدر ربع ذراع أو نحوه بحسب المناسبة، فإذا انتهى إلى آخر الكتاب كتب «إن شاء الله تعالى» في(8/21)
الوسط على بعد قدر إصبعين من السطر الآخر. ثم يكتب: «كتب في تاريخ كذا من شهر كذا سنة كذا وكذا» ويكون إلى آخر ذكر الشهر سطر، ومن أوّل سنة كذا إلى آخره سطر. ثم يكتب المستند على نحو البعد المذكور: فإن كان بتلقّي كاتب السّرّ خاصّة كتب «حسب المرسوم الشريف» فقط. وإن كان بتلقّي كاتب السر وكتّاب الدّست من دار العدل كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته بقدر إصبع «من دار العدل الشريف» في سطر. وإن كان برسالة الدّوادار «1» كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر، وتحته بقدر إصبع «برسالة الجناب العالي الأميريّ الفلانيّ الدّوادار الفلانيّ» بلقب السلطان «ضاعف الله تعالى نعمته» . وإن كان من ديوان الخاصّ، كتب «حسب المرسوم الشريف» في سطر وتحته «من ديوان الخاصّ الشريف» . وإن كان بخطّ السلطان، بأن كتب على القصّة بالخط الشريف، كتب «حسب الخطّ الشريف» في سطر واحد. وإن كان بإشارة النائب الكافل كتب «بالإشارة العالية الأميريّة الكبيريّة الفلانية» في سطر، وكتب تحته بقدر إصبع «كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى» .
وإن كان بإشارة أستاد الدار «2» ، كتب «بالإشارة العالية الأميرية الكبيرية الفلانية» في سطر، ثم يكتب تحته بقدر إصبع «أستاد الدار العالية أعلاها الله تعالى» .
على أنه قد تقدّم في الألقاب أن كتابتهم أستاد الدار هو عرف جرى عليه(8/22)
اصطلاحهم، وأنّ الصواب فيه إستدّار بغير ألف بعد التاء. وتكون كتابة المستند ببياض من جانبيه، سواء كان سطرا واحدا أو سطرين، ثم إذا فرغ من كتابة المستند، كتب الحمدلة والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله في سطر كامل على بعد قدر إصبعين من المستند، ثم يكتب الحسبلة على قدر إصبعين من سطر الحمدلة والتصلية.
وقد تقدّم في الكلام على الخواتم في المقالة الثالثة نقلا عن عبد الرحيم بن شيث «1» أن موضعها من ثلث السطر الأخير من أوّله إلى حين تنتهي كتابتها.
الخامس- قد ذكر ابن شيث في معالم الكتابة أنه لا يكتب في حواشي الكتب السلطانية؛ لأن في ذلك شحّا بالورق، وذلك مما لا يليق بالسلطان، ولا خفاء في استقباح ذلك، بل قد يستقبح ذلك في غير السلطان كما سيأتي ذكره في الإخوانيّات.
السادس- العلامة السلطانية على المكتوب، في بيت العلامة من البياض السابق ذكره. قد ذكر في «التعريف» أن أكبر من يكتب إليه من الأمراء ومماليك البيت الشريف فترجمته بالخط الشريف «والده» ومن دون ذلك «الاسم الشريف» ، أما الغرباء كملوك المسلمين والعربان وأكابر القضاة وأهل الصّلاح والأكابر، فترجمته بالخط الشريف «أخوه» ومن دون ذلك الاسم الشريف.
والذي استقر عليه الحال آخرا في زماننا أنّ لأكابر الأمراء من النواب وغيرهم «أخوه» لرفعة مكان الأخ على الولد، ولمن دونهم «والده» ولمن دون ذلك «الاسم»(8/23)
وباقي الحال على ما ذكره، وقد سبقت ترجمة كلّ مكتوب إليه في الكلام على المكاتبة إليه.
أما القانات الكبار فقد تقدّم في الكلام على المكاتبة إليهم أنه تكتب لهم طغراة بالألقاب السلطانية في موضع العلامة، وأما ملوك الكفر، فسيأتي أنه تكتب طغراة بالألقاب السلطانية فوق البسملة.
السابع- طيّ الكتب السلطانية، قد تقدّم في صدر الكلام على المكاتبات نقلا عن ابن شيث من كتّاب الدولة الأيوبية أنّ كتب السلطان يكون طيّها في عرض أربعة أصابع، وأن مقتضى ذلك أن كتب السلطان بالديار المصرية كانت تطوى على هذه الهيئة كما في كتب أهل المغرب الآن، والذي استقر عليه الحال آخرا أنها يجعل طيّها في صورة أنبوب القناة ولا تضغط في طيّها لتكون نبيلة تعظيما لأمر السلطان وإجلالا لقدره.
الثامن- ختم الكتاب، قد تقدّم في الكلام على الخواتم واللّوا حق في المقالة الثالثة أنّ الكتب السلطانية كانت تختم «1» بسحاءة، ويطبع عليها بطين أحمر، يوتى به من سيراف «2» ، وتختم بخاتم كما تختم المغاربة الآن. أما الآن فقد استقرّ الحال على أن الكتب تلصق بالنّشا أو ما في معناه من الكثيراء «3» ونحوها، وقد سأل الشيخ جمال الدين بن نباتة في رسالته التي كتبها إلى الشّهاب محمود رحمه الله حين بلغه وقوع بعض كتّاب دمشق في حقه عمن غيّر طين الختم إلى النّشا، ولم(8/24)
أقف على زمان تغيّر ذلك ولا من غيّره، على أني حللت معظم أسؤولة هذه الرسالة في خلال هذا الكتاب مفرّقة في مواضعها.
التاسع- أن الكتب الصادرة عن الأبواب السلطانية، إن كانت إلى أحد من عظماء الملوك كالقانات ببلاد الشّرق، أو ملوك بلاد المغرب ونحوهم ممن يتعانى البلاغة في الكتب الصادرة عنه، كتبت مسجوعة كلّها، وإن كانت إلى صغار الملوك والحكّام كتبت غير مسجوعة، وإن كانت إلى أحد من أهل المملكة، فإن كانت في أمر بعد وقوعه، كالكتابة بالبشارة بوفاء النيل، أو جلوس السلطان على التّخت لأوّل أمره، أو برئه من المرض، أو ولادة ولد له، أو البشارة بفتح، أو الإعلام بركوب الميدان، أو الإنعام بخيل أو نحوها، كتبت مسجوعة، وإلّا كتبت مرسلة غير مسجوعة.
الطرف الثاني (في المكاتبة عن ملوك الديار المصرية على المصطلح المستقرّ عليه الحال، إلى ملوك الكفر)
واعلم أن ملوك الكفر المكاتبين عن هذه المملكة جميعهم نصارى: من الرّوم، والفرنج، والكرج، والحبشة وغيرهم، إذ كانوا هم المستولين على أكثر الممالك. أما اليهود، فإنهم لم يبق لهم مملكة معروفة، بل هم تحت الذّمّة أين كانوا. قال تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس
«1» قال في «التعريف» وجميع الكتب المكتوبة إلى ملوك الكفر لا يشملها الخطّ الشريف أصلا، بل يكتب فوق البسملة في الكتاب بخط الكاتب عوض العلامة الشريفة أسطر قصيرة ببياض من الجانبين ما صورته:
«من السلطان الأعظم الملك الناصر- مثلا- العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الشاهنشاه، فلان الدنيا والدين،(8/25)
سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والتّرك، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، إسكندر الزمان، مملّك أصحاب المنابر والتّخوت والتّيجان، واهب الأقاليم والأمصار، مبيد الطّغاة والكفّار، حامي الحرمين والقبلتين، جامع كلمة الإيمان، ناشر لواء العدل والإحسان، سيد ملوك الزمان، إمام المتقين، قسيم أمير المؤمنين، أبي فلان، ابن السلطان الشهيد الملك الفلاني فلان، خلّد الله سلطانه، ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه» .
وأوضح ذلك في «التثقيف» فقال: ويكون في الطرّة بعد وصلين بياضا من أوّل الكتاب بهامش جيد من الجانبين يمنة ويسرة ويكونان في قدر بياضهما سواء تقدير أربعة أصابع فأكثر من كل جانب، من الورق العريض، وفي قطع العادة دون ذلك، وتكون الأسطر متقاربة، ما بينهما من البياض تقدير إبهام أو أزيد منه بشيء يسير، وإذا انتهت الألقاب يترك بعدها وصلا أبيض، ثم يكتب البسملة الشريفة، وبعدها رسم المكاتبة للمكتوب إليه.
الطرف الثالث (في المكاتبة إلى من وراء بحر القرم بالجانب الشماليّ منه)
وهو صاحب البلغار والسّرب. وهي بلاد في نهاية الشمال. متاخمة لصاحب السّراي، وقد ذكر في «التعريف» المكاتبة إليه في المكاتبة إلى جملة ملوك المسلمين. وقال: إنّ صاحبها يظهر الانقياد لصاحب السّراي، وإنه أرسل رسله تطلب له الألوية من الأبواب السلطانية فجهّزت إليه مع ما جرت به العادة من السيف والتشريف والخيل المسرجة الملجمة «1» وذكر أن رسم المكاتبة إليه على ما كتب إذ ذاك:
«أعزّ الله نصر الجناب الكريم، العالي، الملكيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ،(8/26)
العالميّ، العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، المرابطيّ، المثاغريّ، الأوحديّ، سيف الإسلام والمسلمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، جمال الملوك والسلاطين، ذخر «1» أمير المؤمنين» .
ثم هذا الطرف يشتمل على أربعة مقاصد مشتملة على الجهات الأربع:
المقصد الأوّل (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار ببلاد الشّرق، وجملة من بها من ملوك النصارى المكاتبين عن هذه المملكة مملكتان)
الأولى- مملكة الكرج «2» من النصارى الملكيّة. قال: في «التعريف» :
ويقال في المسلمين الكرد، وفي النصارى الكرج، قال: وموقع هذه [البلاد] بين بلاد الرّوم وبين بلاد أرمينية، وهي بلاد جليلة، ومملكة مفخّمة، وكأنها مقتطعة من البلادين، ولها ملك قائم، وبها ملك دائم، وأمّها مدينة تفليس، وسلطان بيت هولاكو بمملكة إيران يحكم عليها، ويرالغه تصل إليها، إلّا أنه لا يطغى بها سيله، ولا تجوس خلال ديارها للحرب المضرمة خيله، وإنما له بها تومان اتخذه سدادا لثغرها، وقياما بأمرها، منزلهم فسيح بواديها، أهل حلّ وترحال، وتنقّل من حال إلى حال، قال: وآخر من كان له في هذه البلاد سمعة، وأقيلت به للمهابة صرعة، الشيخ محمود بن جوبان، وكان باسلا لا يطاق، ورجلا مرّ المذاق، ولمّا جرت الكائنة لأبيه، لاذ بالسلطان (أزبك قان) ثم لم تطل له مدّة، ولا انفرجت له حلق شدّة، وأتاه أجله وما استطاع ردّه. ثم قال: وعسكر الكرج «3» صليبة دين الصّليب وأهل البأس والنّجدة، وهم للعساكر الهولاكوهيّة عتاد وذخر، ولهم بهم وثوق وعليهم اعتماد [ولا] سيّما لأولاد جوبان وبنيه، وبقايا مخلّفيه، لسالف إحسان(8/27)
جوبان، إليهم، ويد مشكورة كانت له عندهم، وكان صديقا «1» لملكهم برطلما يغرس عنده الصّنائع، ويسترعيه الودائع، فكان أخصّ خصيص به، وأصدق صديق له، يدعوه للمهم، ويستصرخ به في الملمّ، ويعدّه ردءا لعسكره، ومزيلا «2» لمنكره. وعقّب ذلك بأن قال: وبرطلما المذكور عهدي به حيّ يرزق من أجلّ ملوك النّصرانية، وأعرق أنساب بني المعموديّة، وقد كان كاتب الأبواب «3» السلطانية بسبب كنيسة المصلّبة، وأن ترفع عنها الأيدي المتغلّبة، فبرزت الأوامر المطاعة بإعادتها عليهم وكانت قد أخذت منهم- وهي بظاهر القدس الشريف- واتّخذت مسجدا، وعزّ هذا على طوائف العلماء والصّلحاء وإن لم يعمل هذا سدى، قيل: إنه كان يحسّن لجوبان قصد البلاد، ويبذل له عليه الطارف والتّلاد.
وذكر أن رسم المكاتبة إليه: «أدام الله تعالى بهجة الحضرة العلية، حضرة الملك الجليل الهمام، الباسل، الضّرغام، السّميدع «4» الكرّار، الغضنفر، المتخّت، المتوّج، العالم في ملّته، العادل في رعيّته، بقيّة الملوك الأغريقيّة، سلطان الكرج، ذخر ملك البحار والخلج، حامي حمى الفرسان، وارث آبائه في الأسرّة والتّيجان، سياج بلاد الروم وإيران، سليل اليونان، خلاصة «5» ملوك السّريان، بقيّة أبناء التّخوت والتّيجان، معزّ النصرانية، مؤيّد العيسويّة مسيح «6» الأبطال المسيحية معظّم البيت المقدّس بعقد النيّة، عماد بني المعمودية، ظهير الباب پاپارومية، موادّ المسلمين، خالصة الأصدقاء المقرّبين، صديق الملوك والسلاطين» .(8/28)
وهذا دعاء أورده في «التعريف» يليق به وهو: وحمى ملكه بودّه لا بجنده، وبوفائه بعهده لا بجيشه ومدّ بنده، وبما عندنا من سجايا الإحسان لا بما يظنّ أنه من عنده، وبما في رأينا الموري لا بما يقدح النار من زنده- وربما قيل مصافي المسلمين بدل موادّ المسلمين.
أما في «التثقيف» فقد ذكر أن للكرج ملكين (أحدهما) صاحب تفليس «1» المقدّم ذكره، وذكر أنه كان اسمه إذ ذاك «داود» (الثاني) الحاكم «بسخوم» و «أبخاس» وهما مدينتان على جانب بحر القرم من الجانب الجنوبيّ كما تقدّم ذكره في الكلام على المسالك والممالك في الجانب الشماليّ، وسمّي صاحبها إذ ذاك (ديادان) . قال: ورسم المكاتبة إلى كلّ منهما في قطع النصف: أطال الله تعالى بقاء حضرة الملك الجليل، المكرّم، الخطير الباسل، الهمام، المقدّس، الرّوحانيّ، فلان عزّ الأمّة المسيحية، كنز الطائفة الصليبيّة، فخر دين النّصرانية، ملك الجبال والكرج والجرجان، صديق الملوك والسلاطين.
وتعريف كلّ منهما «ملك الكرج» .
ثم قال: وقد ذكر القاضي المرحوم شهاب الدين بن فضل الله في المكاتبة المذكورة من التغييرات ما لا حاجة إلى ذكره؛ لأنّ ما ذكرته هو المستقرّ في المكاتبة إليه إلى آخر وقت.
قلت: وذلك لأنه في زمن المقر الشهابيّ بن فضل الله كان مرعيّ الجانب بممالأة التّتر وانضمامه إلى جوبان، كما تقدّمت الإشارة إليه، فكانت المكاتبة إليه إذ ذاك أعلى وأفخم، فلما زالت دولة التّتر من إيران وحمدت قسوتهم انحطّت رتبة المكاتبة إلى ملك الكرج عن هذه الرتبة. ثم قد تقدّم في المسالك والممالك في(8/29)
الكلام على مدينة تفليس أنها من إقليم أرّان وأنها كانت قد فتحها المسلمون. ثم غلب عليها الكرج وملكوها فلو «1» عبّر عن صاحبها بمتملّك تفليس كما كان يعبّر عن المستولي على سيس «2» من الأرمن بمتملّك سيس، وعن المستولي على قبرس بمتملّك قبرس على ما سيأتي ذكره على الأثر إن شاء الله تعالى.
الثانية- مملكة الأرمن وقاعدتها مدينة «سيس» قبل فتحها، وقد سبق في الكلام على مدينة سيس عند ذكر مضافات حلب، في الكلام على الممالك الشامية في المسالك والممالك ذكر حدود هذه البلاد وبيان أحوالها، وأنها كانت تسمّى في زمن الخلفاء بلاد الثّغور والعواصم، وأنها كانت بأيدي المسلمين، وأهلها نصارى أرمن، وعليهم جزية مقرّرة يؤدونها إلى الملوك، إلى أن كانت طاعتهم آخرا لبقيّة الملوك السّلاجقة ببلاد الروم، والعمّال والشّحاني على بلادهم من جهة الملك السّلجوقيّ حتّى ضعفت تلك الدولة، وسكنت شقاشق «3» تلك الصّولة، وانتدب بعضهم لقتال بعض، وصارت الكلمة شورى، والرعيّة فوضى، وشوامخ المعاقل مجالا للتخريب، والبلاد المصونة قاصية من الغنم للذّيب، وطمع رئيس النصارى بهذه البلاد حينئذ فيها واستنسر بغاثه، واشتدّ إنكاثه، ورأى سواما لا ذائد عنه فساقه، ومتاعا لا حامية له فملأ منه أوساقه، فاستولى على هذه البلاد وتملّكها، وتحيّف مواريث بني سلجوق واستهلكها. وذكر في «مسالك الأبصار» أن كبيرهم كان يسمّى قليج بن لاون.
قال في «التعريف» : وقد أخذ في أخريات الأيام الناصرية «4» ، يعني (محمد بن قلاوون) بلاد ماوراء نهر جاهان «5» وأمّها آياس، وكان قد أخذ بعض(8/30)
ذلك [أيام] «1» الملك المنصور (لاجين) واستنيب به أستدمر الكرجيّ، ثم أعيدت «2» إلى الأرمن بمواطأة أستدمر حين «3» قتل لاجين وضعفت الدولة. وذكر أنه قرّر على الأرمن لملوك الديار المصرية قطيعة مقرّرة «4» بلغت ألف ألف ومائتي ألف درهم مع أصناف، ثم حطّ لهم منها «5» ، ثم صاروا بعد ذلك بين طاعة وعصيان.
وذكر أنه كان لملوك البيت الهولاكو هيّ عليهم حكم قاهر، وله «6» فيهم أمر نافذ، قبل ضعف شوكتهم، ولين قسوتهم، ولين قسوتهم، وخلوّ غابهم من قسورتهم، ثم قال: ولو تمكّنوا «7» من دمشق لمحوا آثارها، وأنسوا أخبارها، ثم أشار إلى أنّ ملكها يومئذ صاهر صاحب قبرس ليتقوّى به، وأنه مع ذلك أوصى سلطاننا صاحب مصر على ابنه بوصيّة أشهد عليها أهل مملكته، وجعل «8» ذلك وسيلة لبقاء دولته، وكتب «9» له تقليد عوضا عن أبيه وجهّز إليه، وألبس التشريف فلبس وقبّل الأرض به وخدم «10» قال في «التعريف» : ومن ملك منهم سميّ التّكفور، سمة جرت عليهم منذ كانوا وإلى الآن. قال: وملكهم «11» ملك عريق من أبناء الملوك، يزعم أن أصله من البيت القسطنطينيّ. قال: وعندي نظر في دعواهم ذلك، إذ كان أهل ذلك البيت هم «12» صليبة الرّوم ومعتقدهم معتقد الملكانية والبيت التّكفوريّ أرمن(8/31)
ومعتقدهم معتقد اليعاقبة أو ما يقاربه، وبين المعتقدين بعد عظيم، وبون ناء. وقد ذكر في «التعريف» أن اسمه ليفور «1» بن أوشير. وذكر أن رسم المكاتبة [إليه] صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، البطل، الباسل، الهمام، السّميدع، الضّرغام، الغضنفر «2» ، فلان بن فلان، فخر الملّة المسيحيّة، ذخر الأمّة النّصرانيّة، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين.
وهذه أدعية- ذكرها في «التعريف» تناسبه:
وفّقه الله تعالى لطاعة يكنفه ذمامها، ويقيه مصارع السّوء التزامها، وتجري له بالسّلامة في النّفس والمال أحكامها.
آخر: ولا عدم من منننا «3» الكرم الذي أجاره، والأمن الذي أمّن جاره، والأمان الذي وسّع عليه وجاره، والعفو الذي وقاه في الدنيا قبل الآخرة نارا وقودها الناس والحجارة.
آخر: أبقاه الله لولاء يبديه، وفرض من الخدمة يؤدّيه، ودين في ذمّته من الوظيفة «4» يقوم به مع طرائف ما يهديه.
آخر: أراه الله ما يستدفع به من مواضي السّيوف البلاء إذا نزل، والسّمهري «5» الذي لا يرويه البحر إذا نهل، والسّيل الذي لا يقف في طريقه شيء ولا يمشي على مهل.(8/32)
آخر: صان الله تعالى بمصانعته من أهل ملّته كلّ قبيل «1» ، وأمّن الله بمداراته من خوف جيوشنا المنصورة كلّ سبيل، وصدّ عنه بصدق صداقته بعث جنودنا الذي لا يردّ وأوّله بالفرات وآخره بالنّيل.
آخر: ولا زال يتوقّى بطاعته بوادر الأسنة، وعوادي الخيل موشّحة بالأعنّة، وعيث الجيش حيث لا يبقى إلّا أحد الأقسام الثلاثة: القتل أو الأسر أو المنّة.
آخر: جنّب الله رأيه سوء التعكيس، وشرّ ما يزيّن لمثله إبليس، وأخذ جنائب قلاعه وأوّل تلك الجنائب سيس.
والذي ذكره في «التثقيف» أنه كان اسمه كستندين بن هتيوم، وأنّ رسم المكاتبة إليه على ما كان استقرّ عليه الحال إلى حين الفتوح في سنة ستّ وسبعين وسبعمائة، في قطع العادة: «صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، المعظّم، المعزّز، الهمام، الباسل، فلان بن فلان، عزّ دين النصرانية، كبير الطائفة الصليبيّة، عماد بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، أدام الله نعمته، وحرس مهجته، تعلمه كذا وكذا» وتعريفه «متملك سيس» ، قال: وكتبت أنا والجماعة إليه بهذه المكاتبة مرّات.
قلت: وقد بطلت هذه المكاتبة بفتح سيس حين فتحها قشتمر المنصوريّ نائب حلب في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» في التاريخ المقدّم ذكره، واستقرّت نيابة في رتبة نيابة طرابلس وما في معناها، ثم استقرّت تقدمة عسكر في مضافات حلب على ما تقدّم ذكره في المسالك والممالك هناك. وإنما كان يقال له متملّك سيس دون ملك سيس لما تقدّم من أنها كنت أوّلا بيد المسلمين، ثم وثب عليها رئيس الأرمن المقدّم ذكره فملكها من أيدي المسلمين، ولله الحمد في إعادتها إلى يد المسلمين، واستقرارها في جملة الممالك الإسلامية.(8/33)
المقصد الثاني (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار ببلاد المغرب من جزيرة الأندلس وما والاها مما هو شماليّ الأندلس من الأرض الكبيرة)
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك من المقالة الثانية أن المسلمين كانوا قد افتتحوا جزيرة الأندلس في خلافة أمير المؤمنين عثمان «1» بن عفان رضي الله عنه وأنها أقامت بأيدي المسلمين إلى رأس السّتّمائة من الهجرة، ولم يبق منها بيد المسلمين إلّا غرناطة وما معها من شرق الأندلس، عرض ثلاثة أيام في طول عشرة أيام، وباقي الجزيرة على سعتها بيد أهل الكفر من نصارى الفرنج، وأن المستولي على ذلك منهم أربعة ملوك.
الأوّل- صاحب طليطلة «2» وما معها، ولقبه «3» الأذفونش، سمة على كل من ملك منهم، وعامّة المغاربة يسمّونه الفنش وله مملكة عظيمة وعمالات متّسعة تشتمل على طليطلة وقشتالة، وإشبيلية، وبلنسية، وقرطاجنّة، وجيّان وجلّيقيّة، وسائر أعمالها.
الثاني- صاحب أشبونة وما معها، وتسمّى البرتغال «4» ، ومملكته صغيرة واقعة في الجانب الغربيّ عرضا له، تشتمل على أشبونة وغرب الأندلس.
الثالث- صاحب برشلونة، وأرغون، وشاطبة، وسرقسطة، وبلنسية «5» وجزيرة دانية، وميورقة.(8/34)
الرابع- صاحب بيرة «1» : وهي بين عمالات قشتالة، وعمالات برشلونة وقاعدته مدينة ينبلونة، ويقال لملكها ملك البشكنس، ووراء هؤلاء بالأرض الكبيرة صاحب إفرنسة التي هي أصل مملكة الفرنج كما تقدّم في الكلام على المسالك والممالك، وملكها يقال له الرّيد إفرنس. قال في «التعريف» : وهو الملك الكبير المطاع، وإنما الأذفونش هو صاحب السطوة وذكره أشهر في المغرب لقربه منهم، وبعد الرّيد إفرنس.
والمكاتب منهم ملكان:
الأوّل- الأذفونش المبدّأ بذكره. قال في «التعريف» : وبيده جمهور الأندلس، وبسيوفه فنيت جحاجحها «2» الشّمس، وهو وارث ملك لذريق «3» ، ولذريق هذا الذي أشار إليه في «التعريف» هو الذي انتزعها المسلمون من يده حين الفتح في صدر الإسلام. قال صاحب «التعريف» : وحدّثني رسول الأذفونش بتعريف ترجمان موثوق به من أهل العدالة يسمّى صلاح الدين الترجمان الناصري، أن الأذفونش من ولد هرقل المفتتح منه الشام، وأنّ الكتاب الشريف النبويّ الوارد على هرقل متوارث عندهم مصون «4» ؛ يلف بالدّيباج والأطلس، ويدّخر أكثر من ادّخار الجواهر والأعلاق، وهو إلى الآن عندهم لا يخرج، ولا يسمح بإخراجه، ينظر فيه بعين الإجلال ويكرمونه غاية الكرامة، بوصية توارثها منهم كابر عن كابر وخلف عن سلف.
قال: وكان الأذفونش ممن قوي طمعه في بلاد مصر والشام في أخرى ليالي(8/35)
الأيّام الفاطمية «1» ثم قال: ومكاتباته متواصلة، والرّسل بيننا وبينه ما تنقطع على سوء مقاصده، وخبث سرّه وعلانيته، أهدى مرّة إلى السلطان سيفا طويلا وثوبا بندقيّا وطارقة طويلة دقيقة «2» ، تشبه النّعش، وفي هذا ما لا يخفى من استفتاح باب الشر والتصريح المعروف بالكناية، فكان الجواب «3» أن أرسل إليه حبل أسود وحجر، أي إنه كلب إن ربط «4» بالحبل وإلّا رمي بالحجر.
قال في «التعريف» : ورسم المكاتبة إليه أطال الله بقاء الحضرة السامية، حضرة «5» الملك الجليل، الهمام، الأسد، الباسل، الضّرغام، الغضنفر، بقيّة سلف «6» قيصر، حامي حماة بني الأصفر، الممنّع السّلوك، وارث لذريق وذراريّ الملوك، فارس البرّ والبحر، ملك طليطلة وما يليها، بطل النصرانية، عماد بني المعمودية، حامل راية المسيحية، وارث التّيجان شبيه مريحنّا المعمدان، محبّ المسلمين، صديق الملوك والسلاطين. [الأذفنش سرقلان] «7» (دعاء وصدر يليقان به) وكفاه شرّ نفسه، وجناه ثمر غرسه، ووقاه فعل يوم يجرّ «8» عليه مثل أمسه، وأراه مقدار النّعمة بالبحر الذي تمنّع بسوره وتوقّى بترسه. أصدرناها إليه وجند الله لا يمنعهم مانع، ولا يضرّ بهم «9» في الله ما هو جامع، ولا يبالون أكتائب يخلّفونها أم كتبا، وجداول تعرض لهم أم بحار لا تقطعها إلّا وثبا.(8/36)
آخر: ووقاه بتوفيقه تلاف «1» المهج، وكفاه بأس كلّ أسد لم يهج وحماه من شرّ فتنة لا يبلّ البحر الذي تحصّن به [ما يعقده] «2» غبارها من الرّهج.
أصدرناها إليه وأسنّتنا لا تردّ عن نحر، وأعنّتنا لا تصدّ بسور ولو ضرب من وراء البحر.
قلت: وينبغي أن تكون في قطع النّصف.
الثاني- صاحب برجلونة «3» ووهم في «التثقيف» فجعله هو الأذفونش المقدّم ذكره. وقال: إنه يلقّب أتفونش، دون حاكم. ثم قال: وهم طائفة الكيتلان ورسم المكاتبة إليه في قطع النصف بقلم الثّلث الكبير «4» «أدام الله تعالى بهجة الحضرة الموقّرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، الخطير، البطل، الباسل، الهمام، الضّرغام، الرّيد أرغون، فلان، نصير النّصرانية، فخر الأمّة العيسويّة، ذخر الملة المسيحية، حامي الثّغور، متملّك السّواحل والبحور، عماد المعموديّة، ظهير بابا رومية، ملاذ الفرسان، جمال التّخوت والتّيجان، صديق الملوك والسلاطين، صاحب برجلونة» .
قال في «التعريف» : أما الرّيد «5» فرنس فلم يرد «6» له إلّا رسول واحد، أبرق وأرعد وجاء يطلب بيت المقدس على أنه يفتح له ساحل قيساريّة أو(8/37)
عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة مع ولاته، والبلاد مناصفة، ومساجد المسلمين قائمة، وإدارات قومتها «1» دارّة، على أنه يبذل مائتي ألف دينار تعجّل وتحمل «2» في [كل] «3» سنة، نظير دخل [نصف] «4» البلاد التي يتسلّمها على معدّل ثلاث سنين، ويطرف في كل سنة بغرائب التّحف والهدايا، وحسّن هذا كتّاب من كتبة القبط، كانوا صاروا رؤسا في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرّعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد و [إن] «5» سرى في البدن هذا السّم، وتطلّب له الدّرياق فعزّ وقالوا: هذا مال جليل معجّل «6» ثم ماذا عسى أن يكون منهم وهم نفطة «7» في بحر، وحصاة في دهناء.
قال: وبلغ هذا أبي، رحمه الله، فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر عليه، ولولا لاوى السلطان على رأيه إن أصغى إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلّم، ولو خضبت منا ثيابنا بالدّم «8» ، وراسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الاستعداد، فلما بكّرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، حضرت «9» الرسل، وكان بعض أولئك الكتبة حاضرا، فاستعدّ لأن يتكلّم، وكذلك استعدّينا نحن، فما استتم كلامهم حتّى غضب السلطان وحمي غضبه، وكاد يتضرّم عليهم حطبه، ويتعجّل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاء بما بلغه السلطان مما ردّه «10» بخيبته، فصدّ ذلك الشيطان وكفى الله المؤمنين القتال، وردّت(8/38)
على راميها النّصال. وكان الذي قاله السلطان: والكم أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكانوا جماعة أكراد ملفّقة «1» مجمّعة، وما كان «2» بعد هؤلاء التّرك، وما كان يشغلنا عنكم إلّا قتال التتر «3» ، ونحن اليوم بحمد الله تعالى صلح [نحن وإياهم] «4» من جنس واحد ما يتخلّى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلّا الابتداء، فأما الآن فتحصّلوا وتعالوا، وإن لم تجوا فنحن نجيكم ولو أننا نخوض البحر بالخيل، والكم صارت لكم ألسنة تذكرون «5» بها القدس، والله ما ينال أحد منكم منه ترابة إلّا ما تسفيه «6» الرياح عليه وهو مصلوب! وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردّهم أقبح ردّ، ولم يقرأ لهم كتابا، ولا ردّ عليهم سوى هذا جوابا.
قلت: فإن اتفق أن يكتب إلى الرّيد إفرنس المذكور فتكون المكاتبة إليه مثل المكاتبة إلى الأذفونش أو أجلّ من ذلك.
واعلم أن الريد فرنس هو الذي قصد الديار المصريّة بمواطأة الأذفونش، صاحب طليطلة المقدّم ذكره، وملكوا دمياط «7» وكانت الواقعة بينهم في الدولة الأيوبية في أيام الصالح أيّوب، وأخذ الرّيد فرنس وأمسك وحبس بالدار التي كان ينزلها فخر الدّين بن لقمان، صاحب ديوان الإنشاء، بالمنصورة، ورسم عليه الطّواشي صبيح، ثم نفّس عنه، وأطلق لأمر قرّر عليه، وقال في ذلك جمال الدين بن مطروح «8» أبياته المشهورة وهي: (سريع)(8/39)
[قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق من قؤول نصوح «1»
أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب «2» أنّ الزمر يا طبل ريح
وكلّ أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضّريح «3»
خمسين ألفا لا ترى منهم ... غير قتيل أو أسير جريح «4»
وفّقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح
آجرك الله على ما جرى ... أفنيت عبّاد يسوع المسيح «5»
فقل «6» لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد «7» باق والطّواشي صبيح]
«8»
المقصد الثالث (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار بالجانب الجنوبيّ)
والمكاتب بهذا الجانب منهم ملكان:(8/40)
الأوّل- صاحب أمحرا
«1» ، ملك ملوك الحبشة، ولقبه عندهم حطّي- بفتح الحاء وكسر الطاء المشدّدة المهملتين، سمة على كلّ من ملّك عليهم منهم.
قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أنه نصرانيّ يعقوبيّ، يحكم على تسعة وتسعين ملكا، منهم سبعة مسلمون، وهم صاحب وفات، وصاحب دوارو، وصاحب أرابيني، وصاحب شرحا، وصاحب هدية، وصاحب بالي، وصاحب دارة، وأنه لولا أنّ معتقد دين النّصرانية لطائفة اليعاقبة أنه لا يصحّ تعمد معموديّ إلّا باتّصال من البطريرك، وأنّ كرسيّ البطريرك كنيسة الإسكندريّة فيحتاج إلى أخذ مطران بعد مطران من عنده، لشمخ بأنفه عن المكاتبة لكنه مضطرّ إلى ذلك.
قال في «التعريف» ورسم المكاتبة إليه:
أطال الله بقاء الحضرة العالية، الملك، الجليل، الهمام، الضّرغام، الأسد، الغضنفر، الخطير، الباسل، السّميدع «2» ، العالم في ملّته، العادل في مملكته، المنصف لرعيّته، المستمع «3» لما يجب في أقضيته، عزّ الملّة النّصرانية، ناصر الملّة المسيحيّة، ركن الأمّة العيسويّة، عماد بني المعموديّة، حافظ البلاد الجنوبيّة، متّبع الحواريّين، والأحبار «4» الرّبّانيين، والبطاركة القدّسين، معظّم كنيسة صهيون، أوحد ملوك اليعقوبية، صديق الملوك والسلاطين، ويدعى له دعاء مفخّما يليق به [ولا يعلم له] «5» وهذا دعاء وصدر يليقان به، ذكرهما في «التعريف» :(8/41)
وأظهر فضله «1» على من يدانيه من كلّ ملك هو بالتاج معتصب، ولكفّ اللّجاج بالعدل منتصب، ولقطع حجاج كلّ معاند بالحق معتصر أو للحقّ مغتصب.
صدرت هذه المفاوضة إلى حضرته العلية ومن حضرة القدس مسراها، ومن أسرة الملك القديم سراها، وعلى صفاء تلك السّريرة الصافية ترد وإن لم يكن بها غليل، وإلى ذلك الصديق الصّدوق [المسيحيّ] تصل، وإن لم تكن بعثت إلّا من تلقاء الخليل.
ولم يذكر القطع الذي يكتب إليه فيه. أما في «التثقيف» «2» : فإنه ذكر أنه يكتب إليه في قطع الثلث بقلم التوقيعات ما نصه:
أطال الله بقاء الملك، الجليل، المكرّم، الخطير، الأسد، الضّرغام، الهمام، الباسل، فلان بن فلان، العالم في ملّته، العادل في مملكته، حطّي ملك أمحرا، أكبر ملوك الحبشان، نجاشيّ عصره، سند الملّة المسيحية، عضد دين النصرانية، عماد بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، والدعاء، وتعريفه «صاحب الحبشة» .
قال: فإن كانت المكاتبة جوابا، صدّر الكتاب إليه بما صورته: ورد كتاب الملك الجليل، ويذكر بقية المكاتبة. ثم قال: وهذه المكاتبة هي التي استقرّ عليها الحال عند ما كتب جوابه في التاسع من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
وهذه نسخة جواب كتاب ورد عن صاحب الحبشة من سلطنة الملك(8/42)
المظفّر «1» صاحب اليمن، على الملك «الظاهر «2» بيبرس» رحمه الله، بطلب مطران يقيمه لهم البطرك، مما كتب به القاضي محيي «3» الدين بن عبد الظاهر رحمه الله، وهي:
ورد كتاب الملك، الجليل، الهمام، العادل في ملّته، حطّيّ ملك أمحرا أكبر ملوك الحبشان، الحاكم على ما لهم من البلدان، نجاشيّ عصره، صديق الملوك والسلاطين، سلطان الأمحرا، حرس الله نفسه، وبنى على الخير أسّه، فوقفنا عليه وفهمنا ما تضمّنه. فأما طلب المطران فلم يحضر من جهة الملك أحد حتّى كنا نعرف الغرض المطلوب، وإنما كتاب السلطان الملك المظفّر صاحب اليمن ورد مضمونه أنه وصل من جهة الملك كتاب وقاصد، وأنه أقام عنده حتّى يسيّر إليه الجواب. وأما ما ذكره من كثرة عساكره، وأن من جملتها مائة ألف فارس مسلمين، فالله تعالى يكثر في عساكر الإسلام. وأما وخم بلاده فالآجال مقدّرة من الله تعالى، ولا يموت أحد إلّا بأجله، ومن فرغ أجله مات.
واعلم أنّ العادة جرت أنه كلما كتب إليه كتاب عن الأبواب السلطانية كتب(8/43)
قرينه كتاب عن البطريرك. قال في «التعريف» : ولأوامر البطريرك عنده ما لشريعته من الحرمة، وإذا كتب كتابا فأتى ذلك الكتاب أوّل مملكته، خرج عميد تلك الأرض فحمل الكتاب على رأس علم، ولا يزال يحمله بيده حتّى يخرجه من أرضه، وأرباب الديانة في تلك الأرض، كالقسوس والشّمامسة حوله مشاة بالأدخنة، فإذا خرجوا من حدّ أرضهم تلقّاهم من يليهم أبدا كذلك في كلّ أرض بعد أرض حتّى يصلوا إلى أمحرا، فيخرج صاحبها بنفسه، ويفعل مثل ذلك الفعل الأوّل، إلّا أنّ المطران هو الذي يحمل الكتاب لعظمته لا لتأبّي الملك. ثم لا يتصرف الملك في أمر ولا نهي، ولا قليل ولا كثير، حتّى ينادى للكتاب، ويجتمع له يوم الأحد في الكنيسة، ويقرأ والملك واقف، ثم لا يجلس مجلسه حتّى ينفّذ ما أمره به.
الثاني- صاحب دنقلة
«1» قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أن دنقلة هي قاعدة مملكة النّوبة، وأنها كانت في الأصل يكون ملكها من نصارى النّوبة، ومعتقدهم معتقد اليعاقبة، وأنه ربما غلب عليها بعض المسلمين من العرب فملكها، وقد تقدّم ذكر المكاتبة إلى صاحبها إذا كان مسلما، أما إذا كان نصرانيا فقد ذكر في «التثقيف» أن المكاتبة إليه: هذه المكاتبة إلى النائب، الجليل، المبجّل، الموقّر، الأسد، الباسل، فلان، مجد الملّة المسيحية، كبير الطائفة الصليبيّة، غرس الملوك والسلاطين، والدعاء، وتعريفه «النائب بدنقلة» .
المقصد الرابع (في المكاتبة إلى ملوك الكفّار بالجانب الشّماليّ من الرّوم والفرنجة على اختلاف أجناسهم، وجميعهم معتقدهم معتقد الملكانيّة)
وجملة ما ذكر من المكاتبات في «التعريف» و «التثقيف» اثنتا عشرة مكاتبة:(8/44)
الأولى- مكاتبة الباب
، وهو بطريرك الملكيّة، القائم عندهم مقام الخليفة، والعجب من جعله في «التثقيف» بمنزلة القان عند التتار، والقان إنما هو بمنزلة ملكهم الأكبر، والباب ليس من هذا القبيل، بل إليه أمر الدّيانة حتّى في التحليل والتحريم.
وقد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك عند ذكر البطاركة أنهم كانوا يسمّون القسّيس ونحوه أبا، ويسمّون البطريرك أبا، فأحبّوا أن يأتوا «1» على البطريرك بسمة له تميّزه عن غيره من الآباء، فاختاروا له لفظ الباب، وأنه يقال فيه الباب والبابا ومعناه أبو الآباء، ثم لما غلب الروم على المملكة، وعلت كلمتهم على اليعاقبة، خصّوا اسم الباب ببطريركهم، فصار ذلك علما عليه، ومقرّه مدينة رومية على ما تقدّم هناك، ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» ضاعف الله تعالى بهجة الحضرة السامية، الباب الجليل، القدّيس، الرّوحاني، الخاشع، العامل، بابا رومية، عظيم الملة المسيحيّة قدوة الطائفة العيسويّة، مملّك ملوك النّصرانية، حافظ الجسور والخلجان، ملاذ البطاركة والأساقفة والقسوس والرّهبان، تالي الإنجيل، معرّف طائفته التحريم والتحليل، صديق الملوك والسلاطين، والدعاء، وصدرت هذه المكاتبة.
قال في «التثقيف» : هذا ما وجدته مسطورا ولم يكتب إليه شيء في مدّة مباشرتي، ولا أدري في أيّ شيء كان يكتب إليه ولا عرفت تعريفه، ولم يتعرّض له المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» جملة، ورأيت في بعض الدّساتير أنه لم يكتب إليه إلّا مرّة واحدة، وأن الكتابة إليه في قطع النصف مع المكاتبة المتقدّمة.
الثانية- المكاتبة إلى ملك الروم صاحب القسطنطينيّة
. قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك أنها صارت آخرا إلى بني الأشكريّ، فصار الأشكري(8/45)
سمة لهم ملكا بعد ملك. قال في «التعريف» : وقد كان قبل غلبة الفرنج ملكا جليلا، يرجع إليه من عبّاد الصّليب سائر الملوك، ويفتقر إليه منهم الغنيّ والصّعلوك، وكتب التواريخ مشحونة بأخباره، وذكر وقائعه وآثاره، وأوّل من ألبس هامته الذّلّة، وأصار جمعه إلى القلّة، هارون الرشيد حين أغزاه أبوه المهديّ إيّاه، فأزال الشّمم من أنفه، وثنى جامح عطفه، فأما غزوات مسلمة بن عبد الملك ويزيد بن معاوية فإنها لم تبلغ فيه حدّ النّكاية، ولا أعظمت له الشّكاية، قال: وهذا الملك الآن كان السلطان (أزبك) قد كاد يبتزّ تاجه، ويعقم نتاجه، ويخل من جانب البحر المغلق رتاجه، فاحتاج إلى مداراته وبذل له نفائس المال، وصحب أيّامه على مضض الاحتمال، وكانت له عليه قطيعة مقرّرة، وجملة مال مقدّرة، ثم عميت علينا بعده منهم الأخبار، وتولّى بالدنيا الإدبار.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» : ضاعف الله تعالى بهجة الحضرة العالية، المكرّمة، حضرة الملك، الجليل، الخطير، الهمام، الأسد الغضنفر، الباسل، الضّرغام، المعرق، الأصيل، الممجّد، الأثير، الأثيل، البلالاوس، الرّيد أرغون، ضابط الممالك الرّوميّة، جامع البلاد الساحليّة، وارث القياصرة القدماء، محيي طرق الفلاسفة والحكماء، العالم بأمور دينه، العادل في ممالكه، معزّ النّصرانيّة، مؤيّد المسيحيّة، أوحد ملوك العيسوية، مخوّل التخوت والتّيجان، حامي البحار والخلبان، آخر ملوك اليونان، ملك ملوك السّريان، عماد بني المعموديّة، رضيّ الباب بابا رومية، ثقة الأصدقاء، صديق المسلمين، أسوة الملوك والسلاطين، ثم يكتب اسمه هنا ويدعى «1» له، ولم يذكر قطع الورق الذي يكتب إليه فيه.
وهذا دعاء وصدر يليقان به أوردهما في التعريف:
وجعل له من السّلامة «2» يدا لا تزعزعه من أوطانه، ولا تنزعه من سلطانه،(8/46)
ولا توجب له إلّا استقرارا لتيجانه، واستمرارا بملكه على ما دارت على حصونه «1» مناطق خلجانه، ولا برحت ثمار الودّ تدنو من أفنائه، ومواثيق العهد تبوّيء «2» له ما يسرّ به من إشادة معالم سلفه وشدّ بناء يونانه، أصدرناها، وشكره كجاره البحر لا يوقف له على آخر، ولا يوصف مثل عقده الفاخر، ولا يكاثر إلّا قيل: أين هذا القليل من هذا الزاخر؟
آخر له: ونظم سلكه، وحمى «3» بحسن تأتّيه ملكه، وكفى محبّه هلكه، وأجرى «4» بودّه ركائبه وفلكه، ووقاه كذب الكاذب وكفّ إفكه، وأشهد على ودّه الليل والنهار وما جنّ «5» كافور هذا كافوره ولا مسك هذا مسكه.
قلت: هذا الدعاء والصدر وإن أورده في «التعريف» في جملة الأدعية له والصدور، فإنه منحطّ الرتبة عن المكاتبة السابقة، اللهم إلّا أن يخصّ هذا بحالة منابذة أو تهديد، ونحو ذلك.
وذكر في «التثقيف» أن الذي استقرّ عليه الحال في المكاتبة إليه أنه يكتب إليه في قطع النّصف ما نصه: ضاعف الله تعالى [بهجة] «6» حضرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، الأسد، الخطير، البطل، الباسل، الهمام، الضّرغام، فلان، العالم في ملّته، العادل في أهل مملكته، عزّ الأمة المسيحيّة، كبير الطائفة الصّليبيّة، جمال بني المعموديّة، صمصام الملوك اليونانيّة، حسام المملكة الماكصونيّة، مالك اليرغليّة والأملاحية، صاحب أمصار الرّوس والعلّان، معزّ اعتقاد الكرج والسّريان، وارث الأسرّة والتّيجان، الحاكم على(8/47)
الثّغور والبحور والخلجان، الضّوقس الأنجالوس الكمنينوس البالالوغس، صديق الملوك والسلاطين، ثم الدعاء. صدرت هذه المكاتبة إلى حضرته تشكر موالاته، (ومن هذه المادة) وتوضّح لعلمه السعيد.
ورأيت في بعض الدساتير أنه يختمها بقوله: فيحيط بذلك علما، والله تعالى يديم بهجته.
قال في «التثقيف» : وتعريفه «ضابط مملكة الروم» وذكر أن هذه المكاتبة هي المتداولة بديوان الإنشاء بين كتّابه، وأنه هو كتب بها إليه، ولم يتعرّض لإيراد المكاتبة التي ذكرها في «التعريف» ، بل أحال في معرفتها لمن أرادها على النظر فيه.
الثالثة- المكاتبة إلى حكّام جنوة
، وهم جماعة متفاوتو المراتب، وهم:
البودشطا، والكبطان، والمشايخ. ورسم المكاتبة إليهم على ما ذكره في «التثقيف» في قطع الثّلث:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة البودشطا والكبطان الجليلين، المكرّمين، الموقّرين، المبجّلين، الخطيرين، فلان وفلان، والمشايخ الأكابر المحترمين، أصحاب الرأي والمشورة، الكمنون «1» بجنوة، أمجاد الأمّة المسيحية، أكابر دين النصرانية، أصدقاء الملوك والسلاطين، ألهمهم الله تعالى رشدهم، وقرن بالخير قصدهم، وجعل النصيحة عندهم، تتضمن إعلامهم كذا وكذا. وتعريفهم «الحكّام بجنوة» .
قال في «التثقيف» : والذي استقرّ عليه الحال آخرا في مفتتح سنة سبع وستين وسبعمائة إبطال المكاتبة إلى البودشطا والكبطان، بحكم أنهما أبطلا، واستقرّ [ت مكاتبة] الدّوج مكانهما بما نصه:(8/48)
صدرت هذه المكاتبة إلى الدّوج الجليل، المكرّم، المبجّل، الموقّر، الخطير، فلان، والمشايخ، والباقي على ما تقدّم ذكره.
قلت: هكذا هو في «التثقيف» بدال وواو وجيم، والمعروف إبدال الجيم في آخره كافا على ما سيأتي ذكره في الكلام على صاحب البندقية على الأثر.
واعلم أنه قد ذكر في «التثقيف» أنه كان لصاحب جنوة مقدّم على الشّواني بقبرس، وقيل إنه كان بالماغوصة، وأنه كتب إليه في رمضان جوابا عما ورد عنه في قطع العادة ما نصه:
وردت مكاتبة المحتشم، الجليل، المبجّل، الموقّر، الأسد، الباسل، فلان، مجد الملة المسيحية، كبير الطائفة الصّليبيّة، غرس الملوك والسلاطين، ثم الدعاء. وتعريفه «مقدّم الشّواني الجنويّة بقبرس» .
الرابعة- المكاتبة إلى صاحب البندقيّة
. قال في «التثقيف» : ورسم المكاتبة إليه على ما استقرّ عليه الحال عندما كتب إليه جوابه في شهر رجب سنة سبع وستين وسبعمائة، وهو يومئذ مركريادو في قطع الثلث:
وردت مكاتبة حضرة الدّوج، الجليل، المكرّم، الخطير، الباسل، الموقّر، المفخّم، مركريادو فخر الملة المسيحية، جمال الطائفة الصّليبية، دوج البندقيّة والمانسية، دوج كرال دين بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، والدعاء. وتعريفه «صاحب البندقية» : ثم ذكر بعد ذلك نقلا عن خط القاضي ناصر الدين بن النشائي أنه كتب في الجواب إلى دوك البنادقة:
وردت مطالعة الدّوك الجليل، المكرّم، المبجّل، الموقّر، البطل، الهمام الضّرغام، الغضنفر، الخطير، مجد الملة النّصرانية، فخر الأمّة العيسويّة، عماد بني المعمودية، معزّ بابا رومية، صديق الملوك والسلاطين، دوك البنادقة، وديارقة، والرّوسا، والإصطنبوليّة. ثم قال: ولم يذكر تعريفه ولا قطع الورق الذي يكتب إليه فيه، ثم نقل عنه أيضا أن المكاتبة إلى دوك البندقيّة: هذه المكاتبة إلى حضرة المحتشم، الجليل، المبجّل، الموقّر، المكرم، المفخّم، الباسل،(8/49)
الضّرغام، فلان، عزّ الأمة المسيحيّة، جمال الطائفة العيسويّة، ذخر الملّة الصليبية، صديق الملوك والسلاطين. ثم قال: هكذا رأيته من غير ذكر تعريفه ولا القطع الذي يكتب إليه فيه. قال: وما يبعد أنه غير الأوّل ولم يزد على ذلك.
قلت: ومقتضى ما ذكره من جميع ذلك أن الدّوك غير الملك نفسه. على أن المكاتبة الأولى والثانية في الجواب متقاربتان. أما المكاتبة الثالثة فمنحطّة عن الأوّلتين. على أنه قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك عند ذكر البندقيّة نقلا عن ابن «1» سعيد أن ملك البنادقة يقال له الدّوك بضم الدال المهملة وواو وكاف في الآخر، وهذا مما يحتاج إلى تحرير؛ فإن كان الدّوك هو الملك فتكون المكاتبة إليه اختلفت باختلاف الحال، أو باختلاف غرض الكتّاب، أو عدم اطّلاعهم على حقيقة الأقدار والوقوف مع ما يلقى إليهم من المزاحمة في كل وقت، وهو الظاهر.
الخامسة- المكاتبة إلى صاحب سنوب
«2» ، من سواحل بلاد الروم، قبل أن تفتح ويستولي عليها التّركمان. قال في «التعريف» : وهي «3» على ضفّة الخليج القسطنطينيّ، وملكها روميّ من بيت الملك القديم، من أقارب «4» صاحب القسطنطينيّة. قال: ويقال إن أباه أعرق من آبائه في السلطان. قال: ولكن ليس(8/50)
ملكه بكبير، ولا عدده بكثير، ويكون بينه وبين أمراء الأتراك حروب، يكون في أكثرها المغلوب.
وذكر أنّ رسم المكاتبة إليه مثل متملّك سيس «1» فتكون على ما ذكره في مكاتبة متملك سيس:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، البطل، الباسل، الهمام، السّميدع «2» ، الضّرغام، الغضنفر، فلان، فخر الملّة المسيحيّة، ذخر الأمة النّصرانية، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين «3» وهذا دعاء يليق به، ذكره في «التعريف» :
وكفاه شرّ ما ينوب، وروّح خاطره في الشّمال بريّا ما يهبّ من الجنوب، ووقاه سوء فعل يورث النّدم وأوّل ما يقرع السّنّ سنوب «4»
السادسة- المكاتبة إلى صاحب البلغار والسّرب
. قد تقدّم في الكلام على المكاتبات إلى ملوك الإسلام بالجانب الشّماليّ نقلا عن «التعريف» «5» ما يقتضي أنّ ملكها مسلم، وذكرت مكاتبته الإسلامية هناك، وعلى ذلك اقتصر في «التعريف» ، وتقدّم النقل عن «مسالك الأبصار» أنها صارت إلى ملوك النّصرانية، وعليه اقتصر في «التثقيف» وهو المراد هنا.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التثقيف» نقلا عن ابن النشائي «6» في قطع الثلث ما نصه:(8/51)
أطال الله تعالى بقاء حضرة الملك، الجليل، المكرّم، المبجّل، الهمام، الضّرغام، الباسل، الدّوقس، الأنجالوس، الكمنينوس، فلان، عماد النّصرانية، مالك السّرب والبلغار، فخر الأمّة العيسوية، ذخر الملة المسيحية، فارس البحور، حامي الحصون والثّغور، والدعاء، أصدرنا هذه المكاتبة، وتعريفه «صاحب البلغار» .
واعلم أنه في «التثقيف» بعد أن أورد المكاتبة المتقدّمة لصاحب السّرب والبلغار، نقلا عن ابن النشائي، ذكر نقلا عنه أيضا أن المكاتبة إلى صاحب السّرب في قطع الثلث نظير متملّك سيس، فتكون المكاتبة إليه على ما تقدّم أنه الذي استقرّ عليه الحال في المكاتبة لمتملّك سيس:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، المكرّم، المبجّل، المعزّز، الهمام، الباسل، فلان، عزّ دين النّصرانية، كبير الطائفة الصّليبيّة، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين، أدام الله نعمته، وحرس مهجته، تعلمه كذا وكذا، وتعريفه «صاحب السّرب» .
ثم قال: ولم أدر هل يجتمعان لشخص واحد تارة فيكون بهما اثنان تارة وواحد تارة أم لا. ثم قال: على أنه لو كان الأمر كذلك لكان يتعين أن يذكر مكاتبة صاحب البلغار وحده مفردا كما ذكر مكاتبة صاحب السّرب وحده مفردا.
قلت: كلا الأمرين محتمل، فيجوز أنهما كانا مجتمعين لواحد، وأنه كتب تعريفه بالإضافة إلى أحدهما استغناء به عن الآخر، أو أنه كتب إلى صاحب السّرب بمفرده، ولم يحطّ رتبته في قطع الورق عن رتبة من اجتمعاله، ولا يلزم من ذلك أنه كان يكتب لصاحب البلغار بمفرده لاحتمال أنه لم يكتب إليه شيء حينئذ، وبالجملة فهذا أمر راجع إلى النقل.
السابعة- المكاتبة إلى ملك رودس
. قال في «التعريف» : وهي جزيرة تقابل شطوط البلاد الرّوميّة. قال: وأهلها في البحر حراميّة، إذا ظفروا بالمسلم،(8/52)
أخذوا ماله، وأحيوه، وباعوه «1» أو استخدموه، وإذا ظفروا بالفرنجيّ، أخذوا «2» ماله وقتلوه.
ورسم المكاتبة إليه مثل متملك سيس، إلّا أنه لا يقال فيه معزّ بابا رومية، وتختصر بعض ألقابه لأنه دونه، وحينئذ فيتجه أن تكون المكاتبة إليه:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك الجليل، البطل، الباسل، السّميدع، فلان، فخر الملة المسيحية، ذخر الأمة النّصرانية، صديق الملوك والسلاطين، أو نحو ذلك. على أنه في «التعريف» لم يذكر في المكاتبة إلى متملّك سيس، معزّ بابا رومية، فلم يكن ليحتاج أن يقول: إلّا أنه لا يقال فيه معزّ بابا رومية.
وهذا دعاء يليق به، ذكره في «التعريف» وهو:
قدّم الله له الأعذار، وكفاه قوامع «3» الإنذار، وحذّره عاقبة البغي قبل أن لا ينفع الحذار.
آخر: فكّ الله من وثاقه كلّ مأسور، وأقال كلّ غراب له من الرّجوع وجناحه مكسور، وعصمه بالتّوبة مما اقترف، لا بالبحر ولو أنه سبعة أبحر، وسور مدينته ولو أنه مائة سور.
الثامنة- المكاتبة إلى صاحب جزيرة المصطكى
. قال في «التعريف» :
وهي جزيرة صغيرة «4» لا تبعد مدّى من الإسكندريّة، وصاحبها صغير لا في مال ولا في رجال، وجزيرته ذات قحط لا يطرّ شاربها بزرع، ولا يدرّ حالبها بضرع، إلا أنها تنبت هذه الشجرة فتحمل «5» منها وتجلب، وترسى السفن عليها بسببها وتطلب. قال: وفي ملكها خدمة لرسلنا إذا ركبوا ثبج البحر، وتجهيز لهم إلى حيث(8/53)
أرادوا، وتنجيز لهم إذا توجّهوا وإذا عادوا. ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في «التعريف» كالمكاتبة إلى صاحب جزيرة رودس المتقدّمة الذكر آنفا وهي:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك الجليل إلى آخر ما تقدّم.
وهذه أدعية «1» تليق به ذكرها في «التعريف» دعاء من ذلك: «وفّقه الله لطاعته، وأنهضه من الولاء بقدر طاقته» .
آخر: أطاب الله قلبه، وأدام إلينا قربه.
آخر: لا زال إلى الطاعة يبادر، وعلى الخدمة أنهض قادر، ومكانه تزمّ إليه ركائب السّفن بكل وارد وصادر.
التاسعة- المكاتبة إلى متملّك قبرس
. إنما قيل له متملّك قبرس لأنها كانت قد فتحها المسلمون، ثم تغلّب عليها النصارى وملكوها، فقيل لمن غلب عليها متملك ولم يقل له ملك، وذكر في «التثقيف» عن القاضي ناصر الدين بن النّشائي أن المكاتبة إليه [مثل] متملك سيس ولم يزد على ذلك، وحينئذ فتكون المكاتبة إليه مثل ما استقرّ عليه الحال في المكاتبة إلى متملّك سيس في قطع العادة:
صدرت هذه المكاتبة إلى حضرة الملك، الجليل، المكرّم، المبجّل، المعزّز، الهمام، الباسل، فلان، عزّ دين النصرانية، كبير الطائفة الصّليبية، عماد بني المعموديّة، صديق الملوك والسلاطين، أدام الله نعمته، وحرس مهجته.
وتعريفه «متملك قبرس» .
قال صاحب «التثقيف» : ولم أقف على مكاتبة إليه ابتداء ولا جوابا سوى ذلك، إلّا أنه كتب إليه عن الأمير الجاي اليوسفي عند وقوع الصلح في سنة اثنتين وستين وسبعمائة، يعني عند ما كان الجاي أتابك العساكر المنصورة.
العاشرة- المكاتبة إلى ملك مونفراد
. ذكر في «التثقيف» أنه كان بها ابن(8/54)
ملك إصطنبول، وأنه كتب إليه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة:
أصدرناها إلى حضرة الملك الجليل، المكرّم، البطل، الهمام، الأسد، الضّرغام، فلان، مجد النّصرانية، فخر العيسويّة، عماد بني المعموديّة، جمال الطائفتين الرومية والفرنجيّة، ملك مونفراد، وارث التاج، معزّ الباب، أدام الله بقاه، وحفظه ووقاه، وأورثه من أبيه تخته وتاجه وولّاه، تتضمن إعلامه كذا وكذا.
ثم قال: هذا ما وجدته مسطورا في رسم المكاتبة المذكورة، ولم يكتب إليه شيء في مدّة مباشرتي. ولم أدر ما تعريفه، ولا في أيّ قطع يكتب إليه. قال: والذي يظهر أنه يكتب إليه في قطع العادة، وأن يكون تعريفه «ملك مونفراد» .
الحادية عشرة- المكاتبة إلى صاحبة نابل
«1» وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان اسم صاحبتها جوانا، وأنه كتب إليها في أواخر سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة ما صورته:
صدرت هذه المكاتبة إلى الملكة، الجليلة، المكرّمة، المبجّلة، الموقّرة، المفخّمة، المعزّزة، فلانة، العالمة في ملّتها، العادلة في مملكتها، كبيرة دين النّصرانية، بصيرة الأمّة العيسوية، حامية الثغور، صديقة الملوك والسلاطين. ثم الدعاء، تتضمّن إعلامها، وتعريفها «صاحبة نابل» ولم يذكر قطع الورق لمكاتبتها، ولا خفاء أنه يكتب إليها في قطع العادة لصغر مقامها.
قلت: فإن ولي مملكتها رجل، فينبغي أن يكتب إليه بهذه المكاتبة على التذكير أو أعلى من ذلك، لميزة الرجال على النساء. وهؤلاء جملة من تعرّض إلى مكاتبته في «التعريف» و «التثقيف» من ملوك الكفر، فإن اتفقت المكاتبة إلى أحد سواهم فليقس على من هو مثله منهم. ثم قد ذكر في «التثقيف» القنصل بكفا، وذكر أنها جارية في حكم جنوة، وأنه لم يكتب إليه شيء عن المواقف الشريفة، ولا خفاء في ذلك، فإن مقام القنصل دون أن يكاتب عن الأبواب السلطانية.(8/55)
الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الرابعة
(في الكتب الواردة على الأبواب الشريفة السلطانية بالديار المصرية، ممن جرت العادة بمكاتبته إليها من أهل المملكة وغيرها من سائر الممالك المكاتبة عن هذه المملكة، وهي نوعان)
النوع الأوّل (المكاتبات الواردة عن ملوك المسلمين، وهي على قسمين)
القسم الأوّل- في الكتب الواردة عن أهل هذه المملكة
، بالديار المصرية، والبلاد الشامية، ممن يؤهّل للمكاتبة إلى الأبواب السلطانية، من النّواب وغيرهم من الأمراء، وأرباب الأقلام، من الوزراء، والعلماء ومن في معناهم، وهم على ضربين:
الضرب الأوّل (في المطالعات الواردة عن أكابر أهل الدولة بالديار المصرية والبلاد الشامية، من النوّاب ومن في معناهم)
قد جرت عادة من يكتب إلى الأبواب السلطانية من أهل هذه المرتبة، أن يكتب جميعهم كتبهم في قطع العادة، فإن كان بالديار المصرية فمن الورق البلديّ، وإن كان بالبلاد الشامية فمن الورق الشاميّ، وجميع ذلك في الورق الأبيض، إلّا نائب الشام نائب الكرك، فإنهما قد جرت العادة فيهما بأنهما يكتبان إلى الأبواب السلطانية في الورق الأحمر الشاميّ، شيء اختصّا به دون سائر أهل المملكة.(8/56)
ثم قد ذكر في «عرف التعريف» أن الملوك لا يكتب إليهم إلا «يقبّل الأرض» وينهي. ويختم الكتاب بما صورته: طالع المملوك بذلك وللآراء العالية مزيد العلوّ، أو أنهى المملوك ذلك وللآراء العالية مزيد العلوّ، والعنوان «الملكيّ الفلانيّ، مطالعة المملوك فلان» وحينئذ فالذي جرت به العادة في ذلك أن يبتديء الكاتب فيكتب فهرست الكتاب في رأس لدّرج من جهة وجهه، في عرض إصبع، في الجانب الأيمن «إلى الأبواب الشريفة» وفي الجانب الأيسر «بسبب كذا وكذا» ثم يقلب الدّرج ويكتب في ظاهره، بعد ترك ما كتب الفهرست في باطنه، العنوان، فيكتب: «الملكيّ الفلانيّ» في أوّل العنوان، و «مطالعة المملوك فلان» في آخره. ثم بعد ذلك يقلب الدرج، ويترك وصلا أبيض، ويكتب البسملة في رأس الوصل الثاني بعد خلوّهامش من الجانب الأيمن. ثم يكتب تحت البسملة ملاصقا لها ما صورته «الملكيّ الفلاني» بحيث يكون آخر الملكيّ الفلاني مسامتا لجلالة البسملة، بلقب السلطان، كأنه ينسب نفسه إلى سلطانه.
ثم يكتب صورة المكاتبة على سمت البسملة في سطر ملاصق للملكيّ الفلانيّ «يقبّل الأرض وينهي كذا وكذا» فإن كان ابتداء كتب وينهي أن الأمر كذا وكذا، ويأتي بمقاصد المكاتبة، فإن كانت فصلا واحدا ذكره وختم الكتاب بآخر كلامه، وإن كان الكتاب مشتملا على فصول أتى بالفصل الأول إلى آخره. ثم يخلّي بياضا قدر خمسة أسطر. ثم يسرد الفصول بعد ذلك فصلا فصلا، يخلّي بين كل فصلين قدر خمسة أسطر أيضا، ويقول في أوّل كل فصل «المملوك ينهي كذا وكذا» وإذا أتى على ذكر السلطان، قال: خلّد الله سلطانه، أو خلّد الله ظلّه، أو أتى على ذكر المرسوم الشريف، قال: شرّفه الله وعظّمه ونحو ذلك، وإذا سأل في أمر، قال:
والمملوك يعرض على الآراء الشريفة كذا وكذا، أو إن اقتضت الآراء الشريفة كذا فلها مزيد العلوّ، ولا يقال: يسأل الصدقات الشريفة، إلّا في أمر جليل أو شيء مهمّ، والعرض أبلغ في الأدب، ولا يلقّب أحدا بالجناب والمجلس ومجلس الأمير، وإذا ذكر كبيرا في الدولة كالنائب الكافل، ونائب الشام، أو نائب حلب، أو أمير كبير، قال: إن مملوك مولانا السلطان خلّد الله ملكه الأمير فلان الدين فلان(8/57)
الناصري مثلا، كافل الممالك الشريفة، أو نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الشامية المحروسة، أو كافل المملكة الشامية المحروسة، أو نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة، أو الأمير فلان الدين فلان الناصري مثلا، أو القاضي فلان الدين، أو ناظر الجيوش المنصورة بالأبواب الشريفة، وما يجري هذا المجرى؛ ولا يدعى في المطالعة لأحد. وإذا انتهت الفصول إلى آخرها، قال:
وقد جهّز المملوك بمطالعته هذه مملوكه فلانا السّيفيّ مثلا الماثل بها. وإن كان ثم مشافهة، قال: وقد حمّله مشافهة يسأل المسامع الشريفة سماعها إن اقتضت ذلك، أو ينهيها إلى المسامع الشريفة إذا رسم له بإنهائها، طالع بذلك، أو أنهى ذلك.
ثم قد جرت عادة النّوّاب بالبلاد الشامية أن يقدّموا في صدر المكاتبة ما اشتمل على أخبار البلاد الشرقية من مملكة إيران المجاورة لأواخر هذه المملكة، من تجدّد أمر، أو حركة عدوّ، أو حكاية حال مهمّة من أحوال تلك البلاد، مثل أن يقال في أوّل المكاتبة: وينهي أنّ قصّاده عادوا من البلاد الشرقية مخبرين بكذا وكذا، ويشرح الحال التي أخبر بها قصّاده.
وإن كان الخبر نقلا عن نائب من نوّاب الأطراف كالرّها «1» ونحوها، قال: إن مطالعة نائب فلانة وردت بكذا وكذا، ويذكر ما تضمنته ملخّصا- وإن كانت المطالعة جواب مثال شريف ورد فقط، قال: وينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه ورد على المملوك على يد فلان الدين فلان البريديّ بالأبواب الشريفة يتضمّن ما اقتضته المراسيم الشريفة، أو ما اقتضته الآراء الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها، من كذا وكذا، ويذكر نصّ المثال الشريف حرفا حرفا. ثم يقال: وتفهّم المملوك ما رسم له به، وقابل المراسيم الشريفة- زاد الله تعالى(8/58)
شرفها- بتكرار تقبيل الأرض والامتثال، وتقدّم بكذا، إن كان الأمر مما نفذ، أو والذي ينهيه المملوك كذا وكذا إن كان الأمر قد توقّف.
ثم إن كان النائب عظيم القدر كنائب السلطنة الشريفة بالشام أو حلب، جعل بعد ما بين كل سطرين تقدير رأس إصبع، وإن كان دون ذلك جعل ما بينهما أقلّ من ذلك حتّى ينتهي في أقل الرتب إلى ملاصقة السطور بعضها ببعض.
وإن كانت المطالعة في أمر مهمّ كاستقرار نائب أو بشارة بفتح أو نحو ذلك، أتى بجميع الكتاب مسجّعا وإلّا فلا.
وهذه نسخة مطالعة عن نائب الشام ابتداء.
يقبّل الأرض، وينهي أنه ورد على المملوك مكاتبة نائب السلطنة الشريفة بحلب المحروسة، يذكر فيها أن قصّاده عادوا من جهة بلاد الشرق، وأخبروا أن العدوّ المخذول فلانا قد خرج عليه عدوّ من ورائه وقصد بلاده فكرّ راجعا إليه بعد أن كان قاصدا هذه الجهة، وأحبّ المملوك إحاطة الخواطر الشريفة بذلك.
المملوك ينهي أنّ مطالعة نائب الرّحبة المحروسة وردت على المملوك يخبر فيها أن فلانا التّركمانيّ قد عاد إلى الطاعة الشريفة، ولاذ بمراحم الأبواب العالية، وأنه ما كان حمله على ما وقع منه من عدم المقابلة إلّا الخوف من السّطوات الشريفة، وأنه يسأل كتابة أمان شريف له ولجماعته ومن يليه بأن يكونوا آمنين على أنفسهم، وأموالهم، وسائر ذات يدهم، وأنه إذا وصل إليه الأمان قصد الأبواب السلطانية، وتمثل بالمواقف الشريفة، وامتثل ما تبرز به الأوامر المطاعة في أمره وأمر جماعته. والمملوك ينظر ما يرد به الجواب الشريف في أمره لكاتب نائب الرّحبة المحروسة بما يعتمده في أمره.
المملوك ينهي أنه قد بلغ المملوك أنّ البحر مشغول بمراكب الفرنج، ولم يعلم إلى أيّ مكان يقصدون، وقد أخذ المملوك في الاحتراز على السواحل(8/59)
المذكورة بإقامة المركّزين، وأمرهم بالاحتراز والاحتفاظ، وقد عرض المملوك ذلك على الآراء العالية ليكون ذلك على الخواطر الشريفة، ويكاتب به النّواب بالبلاد المجاورة للبحر.
المملوك ينهي أن الأمير فلانا الفلانيّ، أحد أمراء الطبلخاناه «1» بدمشق المحروسة قد توفّي إلى رحمة الله تعالى، والمملوك يسأل الصّدقات الشريفة في استقرار إمرته باسم مملوك مولانا السلطان عز نصره، ولد المملوك فلان، إعانة له على الخدمة الشريفة، وجبرا لخاطر المملوك، فإن حسن ذلك بالآراء الشريفة، وإلّا فللرأي العالي مزيد العلوّ.
المملوك ينهي أن الأمير فلان الدين فلانا، أمير حاجب بالشام المحروس، كان قد برزت المراسيم الشريفة باستقراره في نيابة صفد المحروسة، وقد توجه إلى محلّ نيابته، والمملوك يعرض على الآراء الشريفة إن حسن بالرأي الشريف أن يستقرّ في الوظيفة المذكورة الأمير فلان الدين فلان، أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق المحروسة، فإنه كفء لذلك، أو يستقرّ من تبرز به الآراء الشريفة.
المملوك ينهي أن فلانا: أحد رجال الحلقة المنصورة بدمشق المحروسة، قد درج بالوفاة، وقد كتب المملوك مربّعة باسم فلان الدين فلان باستقراره على إقطاعه، وجهّزها إلى الأبواب الشريفة لتعرض على الآراء العالية، فإن حسن بالرأي الشريف إمضاؤها وإلّا فيستقرّ على إقطاعه من تبرز المراسيم الشريفة باستقراره، وقد جهّز المملوك هذه المطالعة على يد مملوكه فلان إلى الأبواب الشريفة.
طالع بذلك، إن شاء الله تعالى. ثم يكمل.(8/60)
وهذه نسخة مطالعة عن نائب»
الشام أيضا، في جواب مكاتبة شريفة وردت عليه وهي:
يقبّل الأرض وينهي أن المرسوم الشريف- شرّفه الله تعالى وعظّمه- ورد على المملوك على يد فلان الدين فلان البريديّ، بالأبواب الشريفة، يتضمّن أنّ المرسوم الشريف اقتضى الاجتهاد والاهتمام في حفظ السواحل والمواني، وإقامة الأيزاك «2» والأبدال «3» في أوقاتها على العادة، وإلزام أربابها بمواظبتها، وإلزام المنوّرين بالدّيدبانات «4» والمناظر والمناور في الأماكن المعروفة، وتعهّد أحوالها وتفقّدها، وتقويم أحوالها بحيث تقوم أحوالها على أحسن العوائد وأكملها، ولا يقع على أحد درك بسببها، وأنّ المملوك يتقدّم باعتماد ما اقتضاه المرسوم الشريف من ذلك مع مضاعفة الاحتفال بذلك والمبادرة إليه، فوقف المملوك على المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، وتفهّم ما رسم له به، وقابل المراسيم الشريفة زاد الله تعالى شرفها بالامتثال، وتقدم باعتماد ما اقتضته المراسيم الشريفة من ذلك، وأخذ في حفظ السواحل والمواني، وإقامة الأيزاك والأبدال، وإلزام أربابها بمواظبتها، وإلزام المنوّرين بالدّيدبانات والمناظر [فقامت الأحوال] على أحسن العوائد، وجرت على أكمل القواعد، ولم يكن عند المملوك غفلة عما هو بصدده من ذلك، وقد أعاد المملوك فلان الدين فلانا البريدي المذكور بهذه المطالعة ليحصل الوقوف عليها. طالع بذلك.......
وهذه نسخة مطالعة تشتمل على ابتداء وجواب: يقبّل الأرض وينهي أنه قد(8/61)
حضر رسول من القان فلان بالمملكة الفلانية [وقصده التوجه] إلى الأبواب الشريفة، والمملوك يعرض على الآراء العالية أمره، فإن أذن له في التوجّه إلى أبوابه الشريفة، جهّزه المملوك إليها على العادة.
المملوك ينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه ورد على المملوك على يد فلان الدّين فلان المسفّر من الأبواب الشريفة، يتضمّن طلب فلان الفلانيّ، وحمله إلى الأبواب الشريفة محتفظا به، فبادر المملوك ما برزت به المراسيم الشريفة بالامتثال، وتقدّم بطلب فلان المذكور وسلّمه إلى فلان الدين المسفّر المذكور، وبعث معه من يحتفظ به في الطريق إلى حين وصوله إلى الأبواب الشريفة.
صورة وضع المطالعة من نوّاب السلطنة ومن في معناهم، إلى الأبواب الشريفة:
الجانب الأيمن الطرة الجانب الأيسر إلى الأبواب الشريفة بسبب كذا العنوان مطالعة المملوك الملكي الفلاني فلان الصدر بسم الله الرحمن الرحيم*
الملكي الظاهري مثلا يقبل الأرض وينهي أن المرسوم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، ورد على المملوك، على يد فلان الدين فلان البريديّ، ويكمل عليه إلى آخره.
الضرب الثاني (من المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل المملكة)
المطالعات الواردة من الولاة ومن في معناهم «1»(8/62)
القسم الثاني- في الكتب الواردة على الأبواب السلطانية
، عن أهل الممالك الإسلامية المكاتبة عن هذه المملكة. وحالها مختلف باختلاف حال مصطلح أهل البلاد وحال المكتوب عنه في رفعة القدر. وفائدة معرفة ذلك أنه إذا عرف الكاتب نصطلح كلّ مملكة في الكتابة، ظهر له ما هو وارد عن ملكها حقيقة وما هو مفتعل عليه، ولا يخفى ما في ذلك من كبير الفائدة، وعظيم النّفع، وارتفاع قدر الكاتب عند ملكه بإظهار الزّيف بمحكّ المعرفة.
ومن غريب ما وقع في هذا المعنى أنه ورد رسول من الشرق، في الأيام الظاهرية الشهيديّة برقوق سقى الله تعالى عهده، وأظهر لأهل الطّرقات أنه رسول من عند طقتمش صاحب بلاد أزبك، ورفعت بطاقته بالقلعة المحروسة بذلك، فأمر السلطان النائب الكافل وأكابر الأمراء بالخروج لملاقاته على القرب من القاهرة، فخرجوا وتلقّوه بالتعظيم، على أنه رسول طقتمش خان المقدّم ذكره، وأنزل بالميدان الكبير تعظيما لأمره، فلما عرض كتابه نظر فيه المقرّ البدريّ بن فضل الله، تغمّده الله تعالى برحمته، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء الشريف، فوجده غير جار على مصطلح كتب القانات في الورق والكتابة، فاستفسر الرسول المذكور عن ذلك ونوقش في قضيته، فأخبر أنه عن الحاكم بالقرم من أتباع طقتمش خان، فأنكر عليه ذلك، وحطّ رتبته عند السلطان وأهل دولته عما كان عليه، وعلا بذلك مقدار المقرّ البدريّ بن فضل الله المشار إليه عند السلطان، وشكر له ما كان من ذلك.
ويشتمل على أربعة مقاصد:
المقصد الأوّل (في الكتب الواردة عن أهل الشرق، وفيه أطراف)
الطرف الأوّل (الكتب الواردة عن القانات العظام من بني جنكز خان، ولها حالان)
الحال الأولى- ما كان الأمر عليه قبل دخولهم في دين الإسلام
.(8/63)
وكان الأمر يجري في كتابتهم مجرى المخاشنة، والتصريح بالعداوة، ولم أقف على مقادير قطع ورق كتبهم يومئذ ولا ترتيب كتابتها.
وهذه نسخة كتاب كتب به هولاكو «1» بن طوجي بن جنكز خان، المنتزع العراق من أيدي الخلفاء العباسيين، كتب به إلى الملك المظفّر «2» قطز في سنة ثمان وخمسين وستمائة «3» ، وهو:
من ملك الملوك شرقا وغربا القان الأعظم:
باسمك اللهمّ باسط الأرض ورافع السماء.
يعلم الملك المظفّر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم يتمتعون بأنعامه، ويقتلون من كان سلطانه بعد ذلك.
يعلم الملك المظفّر وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أننا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلّطنا على من أحلّ عليه غضبه، فسلّموا إلينا أموركم تسلموا، قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا، وقد عرفتم أنّنا خرّبنا البلاد، وقتلنا العباد، فلكم منّا الهرب، ولنا خلفكم الطّلب،(8/64)
فما لكم من سيوفنا خلاص، خيولنا سوابق، وسيوفنا قواطع، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرّمال، ومن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلّم، فإن أنتم لشرطنا وأوامرنا أطعتم فلكم مالنا، وعليكم ما علينا، فقد أعذر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنّنا كفرة، وثبت عندنا أنكم الفجرة، فأسرعوا إلينا بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها، وترميكم بشرارها، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ، ولا يعصمكم منّا جبل ولا حرز «1» ، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسّلام علينا وعليكم، وعلى من اتّبع الهدى، وخشي عواقب الرّدى، وأطاع الملك الأعلى.
الحال الثانية- ما كان الأمر عليه بعد دخولهم في دين الإسلام
مع قيام العداوة بين الدولتين.
وكان من عادتهم «2» في الكتابة أن يكتب بعد البسملة «بقوة الله تعالى» ثم يكتب بعد ذلك «بإقبال قان فرمان فلان» يعني كلام فلان.
ولهم في ذلك طريقتان.
إحداهما- أن يكتب بسم الله سطرا، ويكتب «الرحمن الرحيم» سطرا تحتها، ويكتب «بقوة الله» سطرا «وتعالى» سطرا آخر تحته، ثم يكتب تحت ذلك في الوسط بهامش من الجانبين «بإقبال قان» سطرا، وتحته «فرمان فلان» باسم السلطان المكتوب عنه سطرا آخر.
والطريقة الثانية- أن تكتب البسملة جميعها سطرا واحدا، ثم يكتب تحت وسط البسملة «بقوة الله تعالى» سطرا «وميامين الملّة المحمّدية» سطرا آخر، ثم يكتب تحت ذلك سطرا آخر بزيادة يسيرة من الجانبين «فرمان السلطان فلان» يعني كلام السلطان فلان.
ولم أقف على قطع الورق الذي كتب فيه حينئذ، والظاهر أنه في البغداديّ(8/65)
الكامل تعظيما لشأن المكتوب عنه عندهم. وبالجملة فإنّ الظاهر أنّ الكتب الواردة عنهم على نمط الكتب الواردة من هذه المملكة إليهم، جريا على قاعدة كتّاب هذه المملكة من أنّ الغالب مضاهاتهم لأكابر الملوك في كتبهم في الهيئة والترتيب شرقا وغربا.
وهذه نسخة كتاب على الطريقة الأولى، ورد عن السلطان «أحمد» صاحب مملكة إيران، من بني هولاكو المقدّم ذكره، وهو أوّل من أسلم منهم، كتب به إلى الملك المنصور «قلاوون» «1» صاحب الديار المصرية، تغمّده الله تعالى برضوانه، ورد مؤرّخا بأوسط جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وستمائة، ورأيت في بعض الدساتير أنه من إنشاء الفخر بن عيسى الموصليّ، وورد بخطه وهو:
بسم الله بقوّة الله الرحمن الرحيم تعالى بإقبال قان فرمان أحمد.
إلى سلطان مصر، أما بعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى بسابق عنايته، ونور هدايته، قد كان أرشدنا في عنفوان الصّبا، وريعان الحداثة، إلى الإقرار بربوبيّته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة لمحمد، عليه أفضل الصلاة والسّلام، بصدق نبوّته، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين من عباده وبريّته فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام
«2» فلم نزل نميل إلى إعلاء كلمة الدين، وإصلاح أمور الإسلام والمسلمين، إلى أن أفضى إلينا بعد أبينا الجليل، وأخينا الكبير، نوبة(8/66)
الملك، فأضفى علينا من جلابيب ألطافه ولطائفه، ما حقّق به آمالنا في جزيل آلائه وعوارفه، وجلّى هذه المملكة علينا، وأهدى عقيلتها إلينا، فاجتمع عندنا في قوريليان «1» المبارك- وهو المجتمع الذي تقدح فيه الآراء- جميع الإخوان والأولاد والأمراء الكبار، ومقدّمو العساكر، وزعماء البلاد، واتّفقت كلمتهم على تنفيذ ما سبق به حكم أخينا الكبير، في إنفاذ الجمّ الغفير، من عساكرنا التي ضاقت الأرض برحبها من كثرتها، وامتلأت الأرض رعبا من عظيم صولتها، وشديد بطشتها، إلى تلك الجهة بهمة تخضع لها صمّ الأطواد، وعزمة تلين لها الصّمّ الصّلاد، ففكّرنا فيما تمخّضت زبد عزائمهم عنه، واجتمعت أهواؤهم عليه، فوجدناه مخالفا لما كان في ضميرنا من اقتفاء الخير العامّ، الذي هو عبارة عن تقوية شعار الإسلام، وأن لا يصدر عن أوامرنا ما أمكننا إلّا ما يوجب حقن الدّماء، وتسكين الدّهماء، وتجري به في الأقطار، رخاء نسائم الأمن والأمان، ويستريح به المسلمون في سائر الأمصار، في مهاد الشّفقة والإحسان، تعظيما لأمر الله، وشفقة على خلق الله، فألهمنا الله تعالى إطفاء تلك النائرة «2» ، وتسكين الفتن الثائرة، وإعلام من أشار بذلك الرأي بما أرشدنا الله إليه، من تقديم ما يرجى به شفاء مزاج العالم من الأدواء، وتأخير ما يجب أن يكون آخر الدواء، وأننا لا نحبّ المسارعة إلى هزّ النّصال للنّضال إلّا بعد إيضاح المحجّة، ولا نبادر لها إلّا بعد تبيين الحق وتركيب الحجّة، وقوّى عزمنا على ما رأيناه من دواعي الصّلاح، وتنفيذ ما ظهر لنا به وجه النجاح، إذ كان، الشيخ قدوة العارفين «كمال الدين عبد الرحمن» الذي هو نعم العون لنا في أمور الدين، فأرسلناه رحمة من الله لمن [لبّى] دعاه، ونقمة على من أعرض عنه وعصاه، وأنفذنا أقضى القضاة قطب الملة والدّين، والأتابك بهاء الدين، اللّذين هما من ثقات هذه الدولة الزاهرة ليعرّفوهم طريقتنا، ويتحقّق(8/67)
عندهم ما تنطوي عليه لعموم المسلمين جميل نيّتنا، وبيّنا لهم أنّا من الله تعالى على بصيرة، وأنّ الإسلام يجبّ «1» ما قبله، وأنه تعالى ألقى في قلوبنا أن نتّبع الحقّ وأهله، ونشاهد أنّ عظيم نعمة الله للكافّة بما دعانا إليه من تقديم أسباب الإحسان، أن لا يحرموها بالنظر إلى سائر الأحوال فكلّ يوم هو في شان، فإن تطلّعت نفوسهم إلى دليل تستحكم بسببه دواعي الاعتماد، وحجّة يثقون بها من بلوغ المراد، فلينظروا إلى ما ظهر من أمرنا مما اشتهر خبره، وعمّ أثره، فإنا ابتدانا بتوفيق الله بإعلاء أعلام الدّين وإظهاره، في إيراه كلّ أمر وإصداره، تقديما لناموس الشرع المحمديّ، على مقتضى قانون العدل الاحمديّ، إجلالا وتعظيما، وأدخلنا السرور، على قلوب الجمهور، وعفونا عن كل من اجترح سيّئة واقترف، وقابلناه بالصّفح وقلنا عفا الله عمّا سلف، وتقدّمنا بإصلاح أمور أوقاف المسلمين من المساجد والمشاهد والمدارس، وعمارة بقاع الدّين والرّبط الدّوارس، وإيصال حاصلها بموجب عوائدها القائمة إلى مستحقّيها بشروط واقفيها، ومنعنا أن يلتمس شيء مما استحدث عليها، وأن لا يغيّر أحد شيئا مما قرّر أوّلا، وأمرنا بتعظيم أمر الحجّاج وتجهيز وفدها، وتأمين سبلها، وتسيير قوافلها، وإنا أطلقنا سبيل التّجار المتردّدين إلى تلك البلاد ليسافروا بحسب اختيارهم على أحسن قواعدهم، وحرّمنا على العساكر والقراغولات «2» والشّحاني في الأطراف التّعرّض لهم في مصادرهم ومواردهم، وقد كان قراغول صادف جاسوسا في زيّ الفقراء كان سبيله أن يهلك، فلم نهرق دمه لحرمة ما حرّمه الله تعالى وأعدناه إليهم. ولا يخفى عنهم ما كان في إنفاذ الجواسيس من الضرر العامّ للمسلمين، فإنّ عساكرنا طالما رأوهم في زيّ الفقراء والنّسّاك وأهل الصّلاح، فساءت ظنونهم في تلك الطوائف، فقتلوا منهم من قتلوا، وفعلوا بهم ما فعلوا، وارتفعت الحاجة(8/68)
بحمد الله إلى ذلك بما صدر إذننا به من فتح الطريق وتردّد التّجار، فإذا أمعنوا الفكر في هذه الأمور وأمثالها لا يخفى عنهم أنها أخلاق جبلّيّة طبيعية، وعن شوائب التّكلّف والتصنّع عريّة. وإذا كانت الحال على ذلك فقد ارتفعت دواعي المضرّة التي كانت موجبة للمخالفة، فإنها إن كانت طريقا للذّبّ والذود عن حوزة الإسلام، فقد ظهر بفضل الله تعالى في دولتنا النّور المبين، وإن كانت لما سبق من الأسباب، فمن يتحرّى الآن طريق الصّواب، فإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب.
وقد رفعنا الحجاب، وأتينا بفصل الخطاب، وعرّفناهم [طريقتنا و] ما عزمنا بنيّة خالصة لله تعالى على استئنافها، وحرّمنا على جميع العساكر العمل بخلافها، لنرضي الله والرسول، ويلوح على صفحاتها آثار الإقبال والقبول، وتستريح من اختلاف الكلمة هذه الأمّة، وتنجلي بنور الائتلاف، ظلمة الاختلاف، والغمّة، ويشكر سابغ ظلّها البوادي والحواضر، وتقرّ القلوب التي بلغت من الجهل الحناجر، ويعفى عن سالف الجرائر، فإن وفّق الله سلطان مصر إلى ما فيه صلاح العالم، وانتظام أمور بني أدم، فقد وجب عليه التّمسك بالعروة الوثقى، وسلوك الطريقة المثلى، بفتح أبواب الطاعة والاتّحاد، وبذل الإخلاص بحيث تعمر تلك الممالك وتيك البلاد، وتسكن الفتنة الثائرة، وتغمد السّيوف الباترة، وتحلّ العامّة أرض الهوينى «1» وروض الهدون «2» ، وتخلص رقاب المسلمين من أغلال الذّلّ والهون. وإن غلب سوء الظن بما تفضّل به واهب الرحمة، ومنع معرفة هذه النعمة، فقد شكر الله مساعينا وأبلى عذرنا، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
«3» والله تعالى الموفّق للرّشاد والسّداد، وهو المهيمن على البلاد والعباد، إن شاء الله تعالى.(8/69)
وهذه نسخة كتاب على الطريقة الثانية، كتب به عن السلطان «محمود غازان» صاحب إيران أيضا، إلى السلطان الملك الناصر «محمد «1» بن قلاوون» صاحب الديار المصريّة وما معها من البلاد الشامية، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم*
بقوّة الله تعالى وميامين الملّة المحمّدية فرمان السلطان محمود غازان ليعلم السلطان الملك الناصر، أنه في العالم الماضي، بعض عساكرهم المفسدة دخلوا أطراف بلادنا، وأفسدوا فيها لعناد الله وعنادنا، كماردين «2» ونواحيها، وجاهروا الله بالمعاصي فيمن ظفروا به من أهليها، وأقدموا على أمور بديعة، وارتكبوا آثاما شنيعة، من محاربة الله وخرق ناموس الشّريعة، فأنفنا من تهجّمهم، وغرنا من تقحّمهم، وأخذتنا الحميّة الإسلامية فجذبتنا إلى دخول بلادهم، ومقابلتهم على فسادهم، فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجّهنا بمن اتفق منهم أنّه حاضر، وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، سلكنا سنن سيّد المرسلين، واقتفينا آثار المتقدّمين، واقتدينا بقول الله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
«3» وأنفذنا صحبة يعقوب السكرجي جماعة من القضاة، والأئمة الثّقات، وقلنا هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة
«4» فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليكم وعلى المسلمين بالإضرار، وخالفتم سنن الملوك، في حسن السّلوك، وصبرنا على تماديكم في غيّكم، وخلودكم إلى بغيكم، إلى أن نصرنا الله، وأراكم في أنفسكم قضاه(8/70)
أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله
«1» وظننّا أنهم حيث تحقّقوا كنه الحال، وآل بهم الأمر إلى ما آل، أنهم تداركوا الفارط من أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، ووجّه إلينا وجه عذرهم، فإنهم ربما سيّروا إلينا حال دخولهم إلى الدّيار المصرية، رسلا لإصلاح تلك القضية، فبقينا بدمشق غير مثحثحين «2» ، وتثبّطنا تثبّط المتمكّنين، فصدّهم عن السعي في صلاح حالهم التّواني، وعلّقوا نفوسهم عن اليقين بالأماني، ثم بلغنا بعد عودنا إلى بلادنا أنهم ألقوا في قلوب العساكر والعوامّ، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلقوننا على حلب والفراه، وأنّ عزمهم مصرّ على ذلك لا سواه، فجمعنا العساكر وتوجهنا للقاهم، ووصلنا الفرات مرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا لعلّ وعساهم، فما لمع لهم بارق، ولا ذرّ شارق، فقدمنا إلى أطراف حلب، وعجبنا من تبطّيهم غاية العجب، وفكرنا في أنه متى تقدّمنا بعساكرنا الباهرة، وجموعنا العظيمة القاهرة، ربّما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، وعمّ الضرر العباد، والخراب البلاد، فعدنا بقيا عليها، ونظرة لطف من الله إليها. وها نحن الآن مهتمّون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون «3» غرار عزائمنا المشهورة، ومشتغلون بصنع المجانيق «4» وآلات الحصار، وعازمون بعد الإنذار وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
«5» وقد سيّرنا حاملي هذا الكتاب الأمير الكبير ناصر الدين علي خواجا، والإمام العالم ملك القضاة جمال الدين موسى بن يوسف، وقد حمّلنا هما كلاما شافهنا هما به،(8/71)
فلتثقوا بما تقدّمنا به إليهما فإنهما من الأعيان، المعتمد عليهما في الديوان، كما قال الله تعالى فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين
«1» فلتعدّوا لنا الهدايا والتّحف، فما بعد الإنذار من عاذر، وإن لم تتداركوا الأرض فدماء المسلمين وأموالهم مطلولة بتدبيرهم، ومطلوبة عند الله في طول تقصيرهم.
فليمعن السلطان لرعيّته النظر في أمره، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم «من ولّاه الله أمرا من أمور هذه الأمّة فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم، احتجب دون حاجته وخلّته وفقره» . وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر، والسّلام على من اتبع الهدى- في العشر الأوسط «2» من شهر رمضان سنة سبعمائة- بجبال الأكراد، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على سيدنا [محمد] المصطفى وآله وصحبه وعترته الطاهرين.
قلت: وقد تقدّم جواب هذين الكتابين في الكلام على المكاتبات إلى القانات ببلاد الشّرق من بني جنكز خان فلينظر هناك.
الطرف الثاني (في المطالعات الواردة إلى الأبواب السلطانية عن أهل الشرق
من الملوك والحكّام بالبلاد أتباع القانات ومن في معناهم) «3»
الطرف الثالث (في رسم المكاتبات الواردة عن صاحب اليمن إلى هذه المملكة)
وعادة مكاتبته أن يحذو حذو الديار المصرية، فيما يكتب إليه عنها، فيبتديء المكاتبة بلفظ: أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف، العالي، المولويّ،(8/72)
السلطانيّ، الفلانيّ بلقب السلطنة، ثم يقول أصدرها من مكان كذا، ويذكر المقصد، ويختم بالدعاء ونحوه، ويكتبون في قطع الشاميّ الكامل بقلم الثلث.
وهذه نسخة كتاب عن الملك الأشرف «إسماعيل» صاحب اليمن، إلى الملك الظاهر «برقوق» «1» صاحب الديار المصرية، في شهور سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، على يد القاضي برهان «2» الدين المحلّي، تاجر الخاص، والطواشي افتخار الدين فاخر دوادار الملك الأشرف صاحب اليمن المذكور، وهو:
أعزّ الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي السلطانيّ الظاهريّ، وزاده في البسطة والقدرة، وضاعف له موادّ الاستظهار والنّظر العزيز، وجعل الظّفر مقرونا براياته أينما يمّمت ما بينهما تمييز، ومحبوبا إلى عساكره المنصورة حيث توجّهت وفتح ببركة أيّامه كلّ مقفل ممتنع بأمر وجيز، ولا زال ممتثل الأوامر والمراسم، رافلا في أردان العزّ والمكارم، ممدودا على الأمة [منه] ظلّ المراحم، بمنّه وكرمه.
أصدرها إليه من زبدة زبيد «3» المحروسة معربة عن صدق ولائه، متمسّكة بوثيق أسباب آلائه، ناشرة طيب ثنائه، مترجمة ناظمة لمنثور الكتاب الكريم الظاهريّ الوارد على يد المجلس العالي البرهانيّ، بتاريخ ذي الحجّة عظّم الله بركاتها، سنة سبع وتسعين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها، فتلقّيناه باليدين،(8/73)
ووضعناه على الرأس والعين، واستدللنا به على شريف همّته، وصفاء مودّته، وتأكيد أخوّته، وسألنا الله تعالى أن يمتّعنا ببقاء دولته القاهرة، وينشر في المشارق والمغارب أقلامه الزاهرة، ففضضنا ختامه، فوجدنا فيه من نشر السّلم الأريج أذكاه، ومن أنوار ما مجّه القلم الشريف ما يخجل منه نوّار الربيع وبهاه، فانشرحت به الصّدور، وتزايد به السّرور، وقرّت به الأعين، وكثر التهجد به لمّا استعذبته الألسن، وامتثلنا المرسوم الشريف في تعظيم المجلس العالي ذي الجلالتين، برهان الدّين إبراهيم بن عمر المحلّي، ومراعاته في جميع أموره وسرعة تجهيزه، على أنّا نجلّه ونبجّله، ونوجب حقّه ولا نجهله، فهو عندنا كما كان في عهد الوالد المرحوم الملك الأفضل، بل أمكن وأفضل، فهو لدينا المكين الأمين، وجهّزنا له المتجر السعيد الظاهريّ، وبرزت مراسمنا إلى النّواب بثغر عدن المحروس أن لا يعترض في عشور ونول، وحملناه على ظهور مراكبنا عزيزا مكرّما، وعرّفناه أن لا يصرف على الحمل السعيد ولا الدّرهم الفرد، وذلك قليل منّا لاجل غلمان بابكم الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه، وجهّزنا الهديّة السعيدة المباركة المتقبّلة، صحبته هو والأمير الأجلّ الكبير الافتخاري، افتخار الدين فاخر الدّوادار، وصارت بأيديهما بأوراق مفصّلة، للمقام الشريف والأمراء الأجلّاء الكبراء، وصحبتهما نفر من المعلّمين البازداريّة، برسم حمل الطيور للصيد السعيد، والمهتاريّة للصافنات الجياد، على أنّا لو أهدينا إلى جلال المقام الشريف الظاهريّ أعزّ الله أنصاره بمقدار همّته الشريفة العالية، ورتبته المنيفة السامية، لا ستصغرت الأفلاك الدائرة، والشّهب السائرة، واستقلّت السبعة الأقاليم تحفه، والأرض وما أقلّته طرفه، ولم نرض أن نبعث إليه الأنام مماليك وخولا، ونجبي إليه ثمرات كلّ شيء قبلا، ولو رام محبّ المقام هذه القضية، لقصر عنه حوله، ولم يصل إليه طوله، ولكنه يرجع إلى المشهور، بين الجمهور، فوجدنا العمل يقوم مقام الاعتقاد «1» ، وليس على المستمرّ على الطاعة سوى الاجتهاد، والمخلص في(8/74)
الولاء محمول على قدرته لا على ما أراد، فوثق بهذه القضيّة، وأنفذ إلى المقام الشريف على يد موصّلها هذه الهديّة، راغبا إلى إنعامه في بسط عذره، وحمله على شروط المحبّة طول دهره، وتصريفه بين أوامره الممتثلة، ومراسيمه المتقبّلة.
والمسؤول الإتحاف بالمهمّات والمراسيم الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها.
ونوضّح لعلمه الكريم ما أفاء الله به علينا من النّصر الذي خفقت بنوده، وأشرقت سعوده، وبرقت سيوفه في رقاب المارقين، واطّردت في راياته المآرب فتناولها باليمين نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين
«1» وفتح القلاع والمصانع، والاستيلاء على المرابع والمزارع، واستئصالنا شأفة «2» المارقين، واسترجاع حصن قاف المحروس بعد طول مكثه تحت يد العرب، فكم من كميّ مقتول، وأسير مكبول، وحصان ترك سبيلها، وربّ حصان كثر عليه عويلها، فخرّبنا المعاقل، وأطلقنا العقائل، وأوطنّاهم الحميم وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
«3» وغير ذلك مما أرسلنا على يد المجلس البرهاني والأمير افتخار الدين، فاخر الدّوادار، لقضاء بعض الحوائج الطارئة من الديار المصرية «ألف وأربعمائة وسبعون قطعة من أصناف البهار، وسبع قطع حرير» والمستمدّ من إحسان المقام الشريف العالي، بروز أمره الأشرف العزيز النافذ المطاع، أنفذه الله تعالى شرقا وغربا، وأمضاه بعدا وقربا، في قضاء حوائجهما وسرعة تجهيزهما وقفولهما إلى يمن اليمن، وعزّ تعزّ قريبا.
وبعد، فإنّ الجلالة والاحترام بهما دوام الموالاة، وتوفير الحرمات، بل هي أعظم الكرامات، والمسؤول من المقام الشريف الظاهريّ أعز الله تعالى أنصاره، وضاعف اقتداره، بروز أمره الأشرف إلى النّوّاب بمصر المحروسة، وثغر(8/75)
الإسكندرية، والشام، بالجلالة والاحترام، لكافّة غلماننا الواردين إلى الديار المصريّة، ومن انتسب إلينا من تاجر وغيره، مسافرا كان أو مقيما، وأن يعار في مهمّاته، جلالة تفيّأ ظلالها، ويشمله إقبالها، كما سبق للوالد المرحوم المقدّس الملك المجاهد، تغشّاه الله برحمته، بل نرجو فوق ذلك مظهرا، إن شاء الله، فثمّ خطوط ناصريّة من السلطان حسن والملك الصالح لخدّامنا القدماء، لمّا أرسلوا إلى الإسكندرية ودمشق، كتب لهم مربّعات ومثالات شريفة، ولا غرو أن يبدي المستعطي ما في ضميره إلى المعطي، والاشتهار بما بيننا وبين المقام الشريف من الأخوّة الممهّدة، والمصافاة المؤكّدة، والمودّات المحكمة، والأسباب الثابتة، أوجب ذلك، وحسن الظنّ الجميل نطق به لسان الحال، في هذا الاسترسال. ولم يخف عن المقام الشريف أنّ لله عوارف يجذب بها القلوب إليه، ولطائف خفيّة يستدلّ بها المحبّ عليه، وتعاطي كأس الوداد، يدلّ على حسن الاعتقاد، ولذلك نطق اللّسان، وكتب البنان، بما افترض على عباده الرحمن، فقال في محكم كتابه المبين ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
«1» ومحبّ المقام الشريف يقدّم الكتاب، ويسأل الجواب، بالإذن الشريف، ليعتمد بعد الله عليه في حجّ البيت الحرام، عند تيسير الله تعالى لذلك، فقد حسّن ظنّه بذلك، وركن إليه لقضاء الفرض والتبرّك بالمشاعر العظام، فلا زالت أيّام المقام الشريف على منابر الدنيا تتلى، وآيات الشكر لله سبحانه على استقراره في الملك العقيم تملى. جميع هذا الخطاب مقدّمة الإيجاب بالإذن بالحج، وتسفير المحمل في كل عام، إلى بيت الله الحرام، فحاجّ اليمن تعذرت عليه الطّرقات، ولم يطق حمل النّفقات، ونرجو من الله تعالى أن يفتح ببركة أيامه الشريفة، وشمول الفكر الشريف، بحلّ عقدة هذه الأسباب، إنه هو الكريم الوهّاب، بمنّه وكرمه.
وأمّا ما نعتقده من أمانة المجلس البرهانيّ فإنها متينة، وشواهدها من أقواله(8/76)
وأفعاله مبينة، خصوصا في المقام الشريف، واستمالته للقلوب بالعبارات اللطيفة، فقد نظم معاقد الائتلاف، وتزايد بشرحه الأنس في محاورته والاختلاف، ولولا المهمّ الشريف لا ستوقفناه عندنا عاما كاملا من بعد هذا التاريخ، ليملي علينا آيات المقام الشريف، شرّفه الله تعالى وعظّمه. وعلى لسانه ما يبديه في المواقف الشريفة شفاها إن شاء الله تعالى.
في سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، أحسن الله تعالى ختامها، والحمد لله أوّلا وآخرا، وباطنا وظاهرا.
قلت: أما إمام الزيدية «1» باليمن فلم أقف له على مكاتبة، وإن كان المقرّ الشهابيّ ابن فضل الله قد أشار في كتابه «التعريف» إلى أنه ورد عنه مكاتبة إلى الأبواب السلطانية الناصرية (محمد بن «2» قلاوون) يستجيشه على صاحب اليمن، والغالب على الظنّ أنّ مكاتبته أعرابية، كما أن إمارته أعرابيّة؛ إذ لا اعتناء لأهل البادية وعربان الوادي بفنّ الإنشاء جملة، وإنما يكتب عنهم بحسب ما يقتضيه حالهم، على أن فيما يأتون به مقنعا من الفصاحة والبلاغة بكل حال، إذ عنهم قد علم اللسان وعليهم فيه يعوّل.
الطرف الرابع (في الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية عن ملوك الهند)
قد تقدّم أن المكاتبة إلى صاحب الهند تشبه المكاتبة إلى القانات العظام بإيران وتوران «3» وتقدّم أن الكتب الواردة عن القانات المذكورين تكون في معنى الكتب الصادرة إليهم في قطع الورق والترتيب، من حيث إن الغالب جريان العادة(8/77)
في الأجوبة بأن تكون على نمط الكتب الواردة، وحينئذ فيكون مقتضى ذلك أن الكتب الواردة من صاحب الهند في هيئة الكتب الصادرة إليه في قطع الورق وغيره، فتكون في البغداديّ الكامل بقلم مختصر الطّومار «1» بالطّغراء والخطبة المكتتبتين بالذهب، إلى ما يجري مجرى ذلك مما تقدّم ذكره في المكاتبات إلى القانات.
قلت: ولم أقف على صورة مكاتبة من ذلك ولا على نسخة شيء ورد، لكن قد تقدّم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية عند ذكر مملكة الهند أن من جملة ممالك الهند مملكة تعرف بالسّيلان «2» ، وقد رأيت في تذكرة (محمد «3» بن مكرّم) التي جمعها في وقائع ديوان الإنشاء بالديار المصرية، أنه في سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وصل كتاب من صاحب السّيلان هذه في صفيحة ذهب رقيقة، عرض ثلاثة أصابع، في طول نصف ذراع، وحوله مدوّرة (حلقة) داخلها شبيه بالخوص «4» أخضر، عليه كتابة تشبه الخط الروميّ أو القبطيّ، فطلب من يقرأه فلم يوجد، فسئل الرسل عما هو مكتوب فيها، فقيل: إنه سيّر رسوله رومان ورفيقه، وقصد أن يسيّر معهما الهديّة إلى الباب الشريف، فقيل له: ما لهم طريق. فقال لهم: سافروا إلى (هرمز) «5» فحضروا إليها، وذكروا أنّ مضمون الكتاب السّلام، والدعاء للسلطان، وأنّ بلاد السّيلان مصر، وبلاد مصر السّيلان، وأنه ترك صحبة صاحب اليمن مرّة واحدة، وتعلق بمحبة مولانا السلطان خلّد الله(8/78)
ملكه، وسأل أن يحضر رسول من عند مولانا السلطان إلى عنده صحبة رسله، ورسول آخر إلى عدن ينتظر حضورهم من تلك الجهة على تلك الطريق، وأن عنده الجواهر والّلآليء والفيلة والقماش الكثير من البزّ وغيره، وكذلك البقّم والقرفة وجميع ما يطلب الكارم، وأن عنده في كل سنة عشرين مركبا يسيّرها إليه، فيطلق مولانا السلطان التّجّار إلى البلاد، وأن رسول صاحب اليمن حضر في هذه السنة يتسلم التّقادم والفيلة حتّى يسافروا إلى اليمن فردّه، ولم يعطه شيئا، وأنه يعبّي التّقادم والفيلة إلى أبواب مولانا السلطان، وأنّ بمملكة سيلان سبعا وعشرين قلعة، وبها معادن الجوهر والياقوت ومغاص اللؤلؤ، ولم يزد على ذلك. ورأيت في كتاب «الذيل» على تاريخ ابن الأثير نحو ذلك، وفيه ذكر البلاد التي مرّت عليها رسل صاحب السّيلان في طرقها.
المقصد الثاني (في المكاتبات الواردة عن ملوك الغرب)
والعادة الجارية في الكتب الواردة عنهم أن تكون على نمط واحد في الورق، مع تقارب الحال في الترتيب، وتكون كتبهم في طومار واحد، في عرض نحو شبرين، في طول نحو ثلاثة أشبار، والبسملة بعد بياض نحو شبر وثلاثة أصابع مطبوقة من أعلى الطّومار، وعرض سبعة أصابع مطبوقة عن يمين البسملة، والسّطور منحطّة الأوائل مرتفعة الأواخر حتّى يصير البياض الذي في أعلاها في آخر سطر البسملة قدر شبر فقط، وبين كلّ سطرين قدر عرض إصبع ونصف إصبع، وكلّ سطر ينقص عن الذي فوقه قليلا من جهة اليمين على التدريج، حتى يكون السطر الآخر قطعة لطيفة في زاوية الطّومار التي على اليسار من أسفل، ثم يكتب بحاشية الطّومار من أسفله آخذا من آخر السطر الأخير، ويكون بين ذلك وبين الكتابة الأصلية قدر رأس خنصر، ويبتديء السطر الأوّل منها بقطعة لطيفة منحطّة الأوّل مرتفعة الآخر ثم السطر الثاني قطعة أطول من ذلك، ولا يزال كذلك حتّى يكمل السطر فيكتب أسطرا كاملة، إلّا أنه في أوّل كلّ سطر ينقصه قليلا عن الذي(8/79)
قبله حتّى يكون السطر الأخير قدر الأنملة في زاوية الطومار من جهة البسملة، ويكون بين كتابة الأصل وبين كتابة الحاشية قدر إصبعين بياضا إلى سمت البسملة، أسطرا متضايقة حتّى ينتهي إلى آخر الكلام، ويكتب في آخره بقلم الثلث: وكتب في التاريخ المؤرّخ، ويزاد فيه هاء مشقوقة راجعة إلى الخلف.
وفيه جمل:
الجملة الأولى (في المكاتبة الواردة عن صاحب تونس)
وعادة مكاتبته أن تفتتح بلفظ: «من عبد الله الفلاني» بلقب الخلافة الخاصّ به، «أمير المؤمنين ابن فلان» . ويقال في كل من آبائه أمير المؤمنين إن كان قد ولي الخلافة ويدعى له «إلى أخينا فلان» ويؤتى بالسلام والتحية، ثم يتخلص بالبعديّة إلى المقصد، ويختم الكتاب.
وهذه نسخة كتاب عن المتوكل على الله أحمد «1» بن أبي عبد الله بن أبي بكر، إلى السلطان الملك الظاهر «2» (برقوق) صاحب مصر، جوابا عن كتابه إليه. وهو:
من عبد الله، المتوكل على الله، أمير المؤمنين «أحمد» ابن مولانا الأمير أبي عبد الله، ابن مولانا أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن الأمراء الراشدين، أعلى الله به كلمة الإسلام، وضاعف نوافل سيفه من عبدة الأصنام، وغضّ عن جانب عزّه عيون حوادث الأيّام.
إلى أخينا الذي لم نزل نشاهد من إخائه الكريم، في ذات الرّبّ الرحيم،(8/80)
قبلة صفاء لم تغيّرها يد بعد ولا انتزاح، ونثابر من حفظ عهده، والقيام بحقّ ودّه، على ما يؤكّد معرفة الخلوص من لدن تعارف الأرواح، ونبادر لما يبعث القلوب على الائتلاف، والأمن بفضل الله من عوائق الاختلاف؛ وإن شحطت الدار وتناءت الصّور والأشباح. ونعترف بما له من مزيد الإعظام، بمجاورة البيت الحرام، والقيام بما هنالك من مطالع الوحي الكريم ومشاعر الصّلاح، ونجتلي من أنوائه الكريمة الشريفة، ومطالعه العالية المنيفة، وجوه البشائر رائقة الغرر والأوضاح. ونستهدي ما يسرّنا من أنبائه، ممّن يرد من تلقائه، حتّى من أنوار الصّباح وسفراء الرّياح، ونبتهل إلى الله بالدعاء أن يخبرنا عنه، ويطلعنا منه، على ما يقرّ عيون الفوز ويشرح صدور النجاح- السلطان الجليل الطاهر، الملك الأعظم «الظاهر» ، جمال الدين والدنيا، مؤيّد كلمة الله العليا، سيف الملّة المرهوب المضاء، بيد القضاء، وركنها الباسق العلاء، في أوج عزّها المنداح للفضاء، المشهود له من لدن حلّ التمائم، ولوث العمائم، بالشّهامة التي ترعب الأسد في أجمها، وتستخدم له سائر الأمم، تركها وعربها وعجمها، المختار للقيام بحقّه بين عباده، في أرضه وبلاده، الفائز من جوار بيت الله ومقام خليله، ومشرع الحجيج إليه وتيسير سبيله، بما أحرز له سعادة الدارين، وعزّ المقامين، كوكب السعد الذي شقيت به أعداوه، وبدر الدين الذي استضاءت به أنحاؤه، ميزان العدل لإنصاف الحقوق، وشمس الهداية النيّرة الغروب والشّروق، (أبي سعيد «1» برقوق) وصل الله له رتبة راقية يتبوّأ محلّها، ونعمة باقية يتفيأ ظلّها، وعزّة واقية تسم وجوه أعدائه خسفها وذلّها، بمنّه وكرمه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد حمد الله ناظم الشّمل وقد راب نثره وشتاته، وجابر الصّدع وقد اتسعت عن الجبر جهاته، ورادّ الأمر وقد أعيا ذهابه وفواته، وواصل الحبل وقد استولى انقطاعه وانبتاته، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة مما تكنّه أرضه(8/81)
وسمواته، الذي قرن بالعسر يسرا، وجعل لكل شيء قدرا، فلا تتحرّك ذرّة إلّا بإذنه ولا يكون في ملكه إلّا ما تنفّذه أحكامه وإرادته.
والصلاة والسّلام الأكملين، على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي صدعت بالحق آياته، وقامت بحجّة دعواه معجزاته، ونطقت بأنه رسول الله على لسان وحيه الصادق الأمين كلماته، المبعوث بالملّة السّمحة، ومن أزكاها حجّ بيت الله المقدّسة أركانه وحجراته، المعظّمة عند الله حرماته، المغفورة لمن سبقت له الحسنى بحجّه سيّئاته، وعلى آله وأصحابه الذين قضوا رضي الله عنهم وهم أولياء دينه الكريم وولاته، وأنصار حزبه المفلح وحماته، وليوث دفاعه في صدور الأعداء وكماته، والرضا عن الإمام المهديّ القائم بهذه الدعوة الموحّديّة قيام من خلصت لله نيّاته، وصدقت في ذاته دعواته، وصمّمت لإظهار دينه القويم عزماته، وصلة الدعاء لهذا المقام الأحمديّ المتوكّل الفاروقيّ، بنصر تمضي به في صدور أعدائه شباته، وعزّ يطّرد به استقلاله وثباته، وسعد تطيب به أيامه المتصلة وأوقاته، وتطول به حياته.
فإننا كتبنا لسلطانكم- كتب الله لكم من إسعاده ما يتكفّل بعزّه ونصره، ويتضمّن إطالة زمنه المبارك وعصره، ويقوم بحفظ قطره الشريف ومصره- من حضرتنا العلية «تونس» كلأها الله تعالى، ووجوه نصر الله العزيز لدينا وضّاحة الأسرّة متبلّجة الصّور، وآيات فتحه المبين ولله المنّة محكمة السّور، وأحاديث الشّكر على نعمه سبحانه مسلسلة الخبر، وبشرنا بما منّ الله به عليكم قد عمل بمقتضاه من تحت «1» إيالتنا الكريمة من البشر. وإلى هذا فموجبه إليكم بعد تقريب حبّ شرعت في ملّة الوفاء قواعده، وقبل في عقد الصّفاء شاهده، واستقلّ بصلة الخلوص عائده، وثبت في مرسوم الصّداقة الصادقة زائده، إعلامكم أنّا علم الله من حين اتّصل بنا خبركم الذي جرّه القدر المقدور، وجرى به في أمّ الكتاب(8/82)
الحكم المسطور، لم نزل نتوجّه إلى الله تعالى في مظانّ قبول الدّعاء، ورفع النّداء، بأن يجبركم بفضله من حيث صدع، ويصلكم بخيره إثر ما قطع، ويعطيكم من نعمته أضعاف ما منع، إلى أن دارك الله بلطفه وأجاب، وتأذن بفضله في قبول الدعاء بظهر الغيب وهو مستجاب، فردّ عليكم ملككم، وصرف إليكم ملككم، فأخذ القوس باريها، وفوّق «1» السهم مقرطسها وراميها، وأنفذ القضايا حكمها ومفتيها، وإذا كان العويل يفضي إلى النّجدة، والبلا يقضي بالجدّة، والفرج يدافع في صدر الشّدّة، فلا جرم غفر الله للأيّام ما اقترفت، لمّا أنابت واعترفت، وهل هو إلّا التمحيص الإلهيّ أراكم الله من باطن الضّرّاء سرّاءكم، وأجزل من جانب الغمّاء «2» نعماءكم، والتّبر بعد السّبك يروق النواظر خلاصة نضاره، والبدر بعد السّرار تتألّق أشعّة أنواره.
ولما جاءنا بنصركم البشير، وطلع من ثنيّة الهناء بأكمام السّرور إلينا يشير، هززنا له أعطاف الارتياح، وتلقينا منه وارد التّهاني والأفراح، وحمدنا الله لكم على ما منّ به من الفوز والنّجاح، ورأينا أنّ تهنئتكم به من فروضنا المؤكّدة، وعهودنا المجدّدة، وأنه لا يقوم به عنّا هنالكم، ويؤدّي ما يجب منه بين يدي كرسيّ جلالكم، إلّا من له من ديار الملوك، قرب الأدب والسّلوك، فاقتضى نظرنا الجميل أن عيّنّا له شيخ دولتنا المستشار، وعلمها الذي في مهمّاتها إليه يشار، فلان.
وقد كان منذ أعوام يتطارح علينا في أن نخلّي للحجّ سبيله، ونبلّغه من ذلك مأموله، ويد الضّنّة لا تسمح به طرفة عين، ونفس الاغتباط لا تجيب فيه دواعي البين، إلى أن تعيّن من تهنئتكم الكريمة ما عيّنه، وسهّل شأنه علينا وهوّنه، فوجّهناه والله تعالى يسعد وجهته، ويجعل حجّته لقبول الأعمال حجّته. وحمّلناه من أمانة الحبّ ما يلقي إليكم، ومن حديث الشّوق ما يقصّ أخباره عليكم، ومن طيّب الثّناء ما يفضّ ختامه بين يديكم، وأصحبناه برسم إصطبلاتكم الشريفة ما(8/83)
يسّر الحبّ سبيلها، وأوضح الخلوص دليلها، ورجونا من فضلكم على نزارتها قبولها، إذ لو كانت الملوك تهادى على قدر جلالها، لما اتّسعت لذلك خزائن أموالها، لكنّها عنوان الحبّ السليم، حسب ما اقتضاه الحديث النبويّ الكريم.
وفي أثناء شروعنا في ذلك، وسلوكنا منه أيمن المسالك، وصل إلينا كتابكم الكريم، تعرف النواظر في وجوه بشائره نضرة النّعيم، فاطّلعنا منه على ما راق العيون وصفا ونعتا، وعبر للخلوص سبيلا لا ترى القلوب فيها عوجا ولا أمتا «1» ، ولله هو من كتاب كتب من البيان كتائب، واستأثر بفلك الإجادة فأحرز به سعادة الكاتب، فقسما بالقلم وما سطّر! والحبر وما حبّر! لو رآه عبد «2» الحميد لتركه غير حميد، أو بصر به لبيد «3» لأعاده في مقام بليد، ولو قصّ على قسّ إياد فصاحته لنزّله عن منبر خطابته بعكاظ، أو سحب على سحبان وائل ذيل بلاغته لأراه كيف يتولّد السّحر الحلال بين المعاني الرائقة والألفاظ.
ولما استقرينا من فحواه، وخطابه الكريم ونجواه، تشوّقكم لأخبار جهادنا، وسروركم بما يسنّيه الله من ذلك ببلادنا، رأينا أن نتحف أسماعكم منه بما قرّت به(8/84)
أعين الإسلام، وأثلج صدور اللّيالي والأيّام؛ وذلك أنّا من حين صدر من عدوّ الملّة في الجزيرة ما صدر، حسب ما جرّه محتوم القدر، لم نزل نبيح لأساطيلنا المنصورة حرمه وحماه، ونطرق طروق الغارة الشّعواء بلاده وقراه، ونكتسح بأيدي الاستلاب ما جمعت بها يداه، إلى أن ذاقوا من ذلك وبال أمرهم، وتعرّفوا عاقبة مكرهم.
وكان من جزائرهم المعترضة شجا في حلوق الخطّار، ومتجشّمي الأخطار، وركّاب البحار، من الحجّاج والتّجار، جزيرة «غودش» وبها من أعداء الله جمّ كثير، وجمع كبير، فأرسلنا عليهم من أسطولنا المنصور غربانا نعقت عليهم بالمنون، وعرّفت المسلمين بركة هذا الطائر الميمون، وشحنّاها عددا وعددا، واستمددنا لها من الله ملائكة سمائه مددا، فسارت تحت أجنحة النّجاح إليها، وتحوم إلى أن رمت مخالب مراسيها عليها، فلما نزلوا بساحتها، وكبّروا تكبيرة الإسلام لإباحتها، بهت الذي كفر، وودّ الفرار والحين يناديه: أين المفرّ؟ فلما قضى السيف منهم أوطاره، وشفى الدّين من دمائهم أواره، وشكر الله من المسلمين أنصاره، عمدوا إلى ما تخطّاه السيف من والد وولد، ومن أخلد إلى الأرض من رجالهم عن المدافعة فلم يعترضه بالقتل منهم أحد، فجمعوا منه عددا ينيف بعد الأربعمائة على الأربعين، وجاؤوا بهم في الأصفاد مقرّنين، وامتلأت بغنائمهم والحمد لله أيدي المسلمين، وانقلبوا فرحين بما آتاهم الله مستبشرين، إلى أن دخلوا حضرتنا العليّة بسلام آمنين.
فعرّفناكم بهذا الفتح لتأخذوا بحظّكم من شكر الله عليه، وتتوجّهوا في مثله بصالح أدعيتكم إليه، وهو سبحانه وتعالى يطلعنا ويطلعكم على ما يسرّ النفوس ويهنّيها، ويجلو وجوه البشائر ويبديها، بمنّه وكرمه، والسّلام العطر المحيا الجميل المحيّا عائد عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الثانية (في المكاتبات الواردة عن صاحب «تلمسان» من بني عبد الواد)
ورسم مكاتبته فيما وقفت عليه في المكاتبة الواردة على صاحب(8/85)
الديار المصرية أن يبتدأ الكتاب بقوله: إلى الحضرة الفلانية حضرة فلان- بالألقاب المعظّمة المفخّمة ثم يدعى له بما يناسب الحال، ويؤتى بخطبة، ثم بالسلام، ويقع الخطاب في أثناء الكتاب بالإخاء بلفظ الجمع، ويختم بالدعاء المناسب.
كما كتب عبد «1» الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن، إلى السلطان الملك الناصر (محمد بن قلاوون) في سنة خمس وعشرين وسبعمائة:
إلى الحضرة العالية السامية، السنيّة، الماجدة، المحسنة، الفاضلة، المؤيّدة، المظفّرة، المنصورة، المالكة، حضرة السلطان، الملك، الجليل، الفاضل، المؤيّد، المنصور، المظفّر، المعظّم، ناصر الإسلام، ومذلّ عبدة الأصنام، الذي أيّده الله بالبراهين القاطعة، والأنوار المنيرة الساطعة، الأعلى، الأوحد، الأكمل، الأرفع، الأمجد، الأسمى، الأسرى، ذي المجد الظاهر، والشّرف الباهر، الملك الناصر، ابن السلطان، الملك، الجليل، العادل، الفاضل، المؤيّد، المظفّر، الأعلى، الأوحد، الأكمل، الأرفع، الأمجد، الأسنى، الأسمى، ناصر الإسلام والمسلمين، ومعلي كلمة الموحّدين، المقدّس، المرحوم، ذي المجد المشهور، والفخر المنشور، والذكر المذخور، الملك المنصور، أدام الله علوّ قدره في الدّنيا والآخرة، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وجعل وجوه محاسنهم في صفحات الدهر سارّة سافرة، وصفقة أعدائهم خائبة خاسرة.
وبعد حمد الله الذي أظهر الأمر العليّ الناصريّ وأيّده، وبسط في قول الحق وفعله لسانه ويده، وسدّد نحو الصّواب منحاه كلّه ومقصده، والصلاة التامة المباركة على سيدنا محمد رسوله المصطفى، الذي خصّه الله بعموم الدّعوة(8/86)
وأفرده، وقرن ذكره بذكره فأبقاه أبد الدّهر وخلّده. والرّضا عن آله الكرام، وصحابته الأعلام، الذين حفظوا بالتوقير والتعزير مغيبه ومشهده، وكانوا عند استلال السّيوف، ومجال الحتوف، عدده المظفّر وعدده. والدعاء لذلكم المقام الشريف بسعد يطيل في شرف الدين والدنيا مدده وأمده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من أخيكم، البرّ بكم، الحريص على تصافيكم، عبد الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن. وإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم أنجح المقاصد وأرجحها، وأثبتها عزّا وأوضحها، من حصن «تلمسان» حرسها الله تعالى، ولا ناشيء بفضل الله تعالى إلّا ما عوّد من بشائر تحثّ جيادها، ومسارّ يتطاول إلى المزيد اعتيادها- وإلى هذا أعلى الله كلمتكم، وأمتع المسلمين بطول بقائكم، فإنا نعرّفكم بوصول كتابكم الخطير الأثير، فتلقيناه بما يجب من التكريم والتعظيم، وتتبّعنا فصوله، واستوعبنا فروعه وأصوله، وتحقّقنا مقتضاه ومحصوله، وعلمنا ما انطوى عليه من المنن والإفضال، واشتمل عليه من التفصيل والإجمال، ومن أعظم ذلك إذنكم لنا في أداء فرض الحجّ المبرور وزيارة سيد البشر، الشفيع في المحشر، الذي وجبت له نبوّته، ومثنّى الغيب عليه منسدل، وآدم صلوات الله عليه في طينته منجدل، وعلم الله أننا لم تزل آمالنا متعلقة بتلكم المشاعر الكريمة، وقلوبنا متشوّقة إلى تلكم المشاهد العظيمة، فلنا في ذلك نيّات صادقة التّحويم، وعزمات داعية التصميم، وكان بودّنا لو ساعدنا المقدار، وجرى الأمر على ما نحبّه من ذلك ونختار، أن نمتّع برؤية المواطن التي تقرّ أبصارا، ويتشفّى بها إيرادا وإصدارا، ولعلّ الله تعالى ينفعنا بخالص نيّاتنا، وصادق طويّاتنا، بمنه وكرمه.
وقد وجب شكركم علينا من كلّ الجهات، واتصلت المحبة والمودّة طول الحياة، غير أنّ في قلوبنا شيئا من ميلكم إلى غيرنا واستئناسكم، ونحن والحمد لله أعلم الناس بما يجب من حقوق ذلكم المقام الشريف، ولنا القدرة على القيام بواجبكم، والوفاء بكريم حقكم، وليس بيننا وبين بلادكم من يخشى والحمد لله من كيده، ولا يبالى بهزله ولا جدّه، وقد توجّه إلى بابكم الشريف قرابتنا الشيخ(8/87)
الصالح الحسيب الأورع الأكمل الزاهد أبو زكريّا يحيى ابن الشيخ الصالح المرابط المقدّس المرحوم أبي عبد الله محمد بن جرار الواديّ، وهو من أهل الدّين والخير، وقد شافهناه بما يلقيه إلى ذلكم المقام الشريف من تقرير الودّ والإخاء، والمحبّة والصّفاء، مما يعجز عنه الكتاب، فالمقام الشريف يثق إلى قوله ويعامله بما يليق ببيته ودينه. وغرضنا أن تعرّفوه بجميع ما يصلح لذلكم المقام الشريف مما في بلادنا، ويصلكم إن شاء الله في أقرب الأوقات، على أحسن الحالات، ولكم بذلك علينا المنّة العظمى، والمزيّة القصوى، والله تعالى يبقي ذلكم المقام الشريف محروس المذاهب، مشكور المناقب، إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة (في المكاتبات الواردة عن صاحب «فاس» إلى الأبواب السلطانية، بالديار المصرية)
وعادة كتبهم أن تفتتح بلفظ «من عبد الله فلان أمير المسلمين» . وأوّل من كتب منهم أمير المسلمين «يوسف بن «1» تاشفين» حين استولى على المغرب، قبل بني مرين، خضوعا أن يتلقّب بأمير المؤمنين مضاهاة للخلفاء. وهو:
من عبد الله عليّ «2» أمير المسلمين، وناصر الدّين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، ومالك العدوتين «3» ، أبي سعيد «4» ، ابن مولانا أمير(8/88)
المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب «1» بن عبد الحق، منح الله التأييد مقامه، وفسّح لفتح معاقل الكفر وكسر جحافل الصّفر أيّامه.
إلى السلطان، الجليل، الكبير، الشهير، العادل، الفاضل، الكامل، الحافل، الملك، الناصر، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد، المظفّر، المنصور، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأوقى، ناصر الدنيا والدين، وقامع البغاة والمعتدين، مفيد الأوطار، مبيد الكفّار، هازم جيوش الأرمن والفرنج والكرج والتّتار، ماليء صدور البراريّ والبحار، حامي القبلتين، خديم الحرمين، غيث العفاة، عون العناة، مصرّف الكتائب، مشرّف المواكب، ناصر الإسلام، ناشر الأعلام، فخر الأنام، ذخر الأيّام، قائد الجنود، عاقد البنود، حافظ الثغور، حامي الجمهور، نظام المصالح، بقيّة السّلف الصالح، ظهير الخلافة وعضدها، وليّ الإمامة وسندها، عاضد كلمة الموحّدين، وليّ أمير المؤمنين، أبي المعالي (محمد) ابن السلطان، الكبير، الجليل، الشهير، الشهيد، الخطير، العادل، الفاضل، الكامل، الحافظ، الحافل، المؤيّد، المظفّر، المعظّم، المبجّل، المكبّر، الموقّر، المعزّز، المجاهد، المرابط، المثاغر، الأوحد، سيف الدين (قلاوون) أدام الله فضل عزمه الماضي بتأييده، وأدار الأفلاك بتشييد ملكه الشامخ وتمهيده، وطهّر أرجاءه من أرجاس المنافقين، وأدناس المارقين، بما يريق عليها من دمائهم، فما كلّ متطهّر يجزيء عنه غسل مائه أو تيمّم صعيده.
سلام كريم، طيّب عميم، أرج الشّميم، متضوّع النّسيم، تستمدّ الشمس(8/89)
باهر سناه، ويستعير المسك عاطر شذاه، يخصّ إخاءكم العليّ، ووفاءكم الوفيّ، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أيّد المؤمنين، على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين، وعرّف الإسلام وأهله من السّرّ العجيب، والصّنع الغريب، ما فيه عبرة للسامعين والنّاظرين، حكمة عجزت عن فهم سرّها المكتوم، وقصرت عن كنهها المختوم، ألباب عبيده القاصرين. والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أرشد به الحائدين الحائرين، وأرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه برغم الجاحدين الكافرين، وعلى آله وصحبه الذين هاجروا إليه وبلادهم هجروا، والذين آووا من أوى إليهم ونصروا، والذين جاهدوا في الله فصبروا، ففازوا بذكر المهاجرين والأنصار وأجر المجاهدين الصابرين، وصلة الدعاء لحزب الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بفضل لا يزالون معه لأعدائهم قاهرين، وسعد لا ينفكّون له بآمالهم ظافرين، ونصر من عند الله وما النّصر إلّا من عند الله وهو خير الناصرين.
فإنا كتبنا لكم- كتب الله لكم مجدا مديد الظّلال، وعضدا حديد الإلال «1» ، وسعدا جديد السّربال- من منصورة «تلمسان» حرسها الله تعالى، والصنائع الرّبّانيّة تكيّف العجائب، وتعرّف العوارف الرغائب، وتشنّف الأسماع بما تسمعها من إجزال المنوح والمواهب، وتفوّف الرّقاع بما تودعها من أحاديث الفتوح الغرائب، والحمد لله على ما يسّر من المآرب، وسهّل من المواهب، وإخاؤكم الصادق مبرور الجوانب، مأثور المناقب، مشرق الكواكب، مغدق السحائب، نامي المراتب، سامي المراقب، والله تعالى يبقيه في ذاته، ويقيه من صرف الدهر وأذاته. وإلى هذا وصل الله لكم سعدا جديدا، وجدّا سعيدا، ومجدا حميدا،(8/90)
وحمدا مجيدا، فقد وصل كتابكم الأثير، المزري بالمسك النّثير، فاجتلينا منه روضة جادها البيان فأمرعها «1» ، ورادها البنان فوشّعها، واجتنينا من غصون سطوره ثمرات وداد ما أينعها، إنباء عما تلقّاه الإخاء الكريم من قبل الشيخ الأجل، أبي عبد الله محمد بن الجرّاح مما عنّا تحمّل، وفي إلفائه وأدائه بحضرتكم الكريمة أحسن وأجمل، وهو ما كان عليه عزم مولاتنا الوالدة ألحقها الله تعالى رضوانه، وبوّأها جنانه، من حجّ البيت المحرّم، وزيارة [القبر] المعظّم المكرّم، والصلاة بالمسجد الحرام ومسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وثالثها في شدّ الرحال للمسجد الأقصى ونعم المغتنم، وقضاء النّسك بتلك المناسك والمشاهد، والتبرّك بتلك المعالم المنيفة والمعاهد، وما وصف مع ذلك بهذا الجانب الغربيّ، ورصف من أمر قتالنا لكلّ مارق أبيّ وكافر حربيّ، وما منحنا الله من نصر لقلوب أهل الإيمان مبهج، ولصدور عبدة الصّلبان محرج، وأن الإخاء الكريم حصل له بذلك أبهى ابتهاج، وحلّ منه محلّ القبول الذي انتهج له من اقتفى سبيل القصد أنهى انتهاج، فعقد العزم على تلقّي الوافد من تلقائنا، والوارد رجاء أداء فرض الحجّ من أرجائنا، بتسهيل سبيله، وتيسير ارتحاله إلى بيت الله ورسوله، وأنه متى وقع الشّعور بمقدم المولاة رحمها الله تعالى على بلاده، وقربها من جهاته المجودة من جود جوده بعهاده، يقدّم للخروج من يتلقّى ركابها، ويعتمد بالبرّ والتكريم جنابها، حتّى تحمد وجهتها الشريفة بجميل نظره وإيابها، وقام عنّا بما نودّه من برّها، وساهم فيما تقدّمه إلى الله عزّ وجلّ من صالح أجرها. وقد قابلنا هذا الفضل من الشّكر بأجزله، ومن البرّ بأحفاه وأحفله، وحصل لدينا بإزائه سليم ودّه وكريم إخائه، من تخليص ولائه، وتمحيص صفائه، منّا ما يزال عهده الأنيق في نهائه، وعقده الوثيق في ازدياده ونمائه، وغصنه الوريق في رونق غلوائه، ولئن كانت المولاة الوالدة قدّس الله روحها، وبرّد ضريحها، قد وافت بما قدّمت عند الله من صالح(8/91)
العمل، وماتت على ما أبرمته في قصد البيت الشريف في نيّة وأمل، إذ كانت رحمة الله تعالى عليها قد تأهّبت لذلك، واعتدّت لسلوك تلك المسالك، وأداء ما فرض الله من السّعاية والمناسك، وعلى الله إجزال ثوابها، وعنده نحتسب ما ألمّ فآلم من مصابها- فإنّ لدينا ممّن يمتّ بحرمة المحرم إلينا، ويلزم بحقّ التربية علينا، من يقوم عندنا مقامها، ويروم من ذلك المقصد الشريف مرامها، وسنوردها إن شاء الله تعالى على تلكم البقاع، ونوردها من تلكم الأقطار والأصقاع، ما يجمل بحسن نظركم مورده ومصدره، ويطّابق في جميل اعتنائكم وحفيل احتفالكم خبره ومخبره، بفضل الله وعونه.
وأما تشوّق ذلكم الإخاء، لمواصلة الكتب بسارّ الأنباء، فإنّ من أقربها عهدا وأعذبها حديثا يهادى ويهدى، ما كان من أمر العاقّ قاتل أبيه، الحالّ من إقليم تلمسان وممالكها بالمحلّ النّبيه، وذلك أنّ أسلافه بني زيّان، كانوا قد استولوا على هذه المملكة في سالف الزّمان، ولم يزل بينهم وبين أسلافي المحتوين على ملك المغرب الأقصى وقائع توردهم الحمام، وتذيقهم الموت الزّؤام، فيدعون المنازعة، ويعودون للموادعة، ثم لم يلبثوا أن ينكثوا، ولم يصبروا أن يغدروا، إلى أن كان من حصار عمّنا المقدّس المرحوم أبي يعقوب قدّس الله تربته إيّاهم، فأكثر موتهم وكدّر محياهم، وتمادى بهم الحصار تسع سنين، وما كانوا غير شرذمة قليلين، وهنالكم اتصلت بينكما المراسلة، وحصلت الصّداقة والمواصلة، ثم حمّ موته، وتمّ فوته، رحمة الله تؤمّه، ورضوانه يشمله ويعمّه، فنفّس خناقهم، وعاد إلى الإبدار محاقهم، وصرف القائم بعده عنهم الحين، عما كان هو رحمه الله قد طوّعه من بلاد مغراوة «1» وتحين، فاتّسعت عليهم المسالك، وملكوا ما لم يكن فيه لأوائلهم طمع من الممالك. لكنّ هذا الخائن وعمّه كانا ممن أسأرته الفتن، وعمّ(8/92)
به فيها غوامر المحن، فسلكا مسلك أسلافهما في إذاعة المهادنة، والرّوغان عن الإعلان بالمفاتنة.
ولما سوّل الشيطان لهذا العاقّ قتل والده، والاستيلاء على طارفه وتالده، لم يقدّم «1» عملا على إشخاص إرساله بحضرة مولانا المقدّس أبي سعيد، قدّس الله مثواه، وجعل الجنة مأواه، في السّلم راغبا، وللحكم بموادعته طالبا، فاقتضى النظر المصلحيّ حينئذ موافقته في غرضه، وإن كان باطنه على مرضه، فقوي أمره، وضري ضرّه، وشري شرّه، ووقد تحت الرّماد جمره، وسرى إلى بلاد جيرانه الموحّدين داؤه، وطال عليهم تضييقه واعتداؤه، واستشعر ضعفهم عن مدافعته، ووهنهم عن مقاومته ومنازعته، فبغى وطغى، ولم يدر أنّ من فوقه سقب «2» السماء رغا، وباطن جماعة من عرب أفريقيّة المفسدين وجرّوه بحبل الأطماع إليها، وأقام على بجاية «3» عشرين سنة يشدّ على بجاية «4» الحصار، ويشنّ على أحواز تونس الغار، حتّى كان من هزيمة جيشه لصاحبها ما كان، بممالأة منهم ومن غيرهم من وراتيه (؟) كابن اللّحياني، وابن الشهيد، وابن عمران، فأدّى ذلك صاحبها السلطان أبا يحيى أعزّه الله تعالى أن بعث إلينا وزيره في طلب النّصرة رسولا، وأوفد علينا أعزّ ولده أبا زكريّا في إذهاب المضرّة عنه دخيلا، فخاطبنا إذ ذاك هذا الخائن العاقّ مبصّرين، وبقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
«5» مذكّرين، فما زادته الموعظة إلّا أشرا، ولا أفادته التذكرة إلّا(8/93)
بطرا، وحين ذكّر فلم تنفعه الذّكرى، وفكّر فلم يتيسّر لليسرى، امتثلنا فيه أمر الله تعالى المرتب على قوله فإن بغت إحداهما على الأخرى
«1» فأزمعنا قدعه «2» ، وأجمعنا ردّه وردعه. وفي أثناء ذلكم وصل إلينا أيضا سلطان الأندلس مستغيثا على النصارى أعداء الله جيرانه على طاغيتهم، المصرّ على عداوته وعداوتهم؛ فجهّزنا معه ولدنا عبد الواحد في أربعة آلاف من الأبطال، وأمددناهم بما كفاهم من الطعام والعدّة والمال، فأجاز من سبتة إلى الخضراء «3» عجلا، ولم يقدّم على منازلة جبل الفتح عملا، وكان هذا الجبل الخطير شأنه منذ استولى عليه العدوّ قصمه الله في سنة تسع وستين شجا في لهوات أهل العدوتين، وغصّة لنفوس الساكنين بالجهتين، لإطلاله عليهما، وإرساله جوارح جواريه إليهما، تحطف من رام العبور ببحر الزّقاق، وما يقرب الملجأ إلى هذا المعقل المستقرّ من اللّحاق، فكم أرمل وأيتم، وأثكل «4» وأيّم- فأحاطت به العاديات السوابح برّا وبحرا، وأذاقت من به من أهماج الأعلاج شرّا وحصرا، إلى أن أسلموا للمسلمين قهرا وقسرا، ومنح الله حزبه المؤمنين فتحا ونصرا، وسمع الطاغية الغادر إجابة الله تعالى بأمره، فطار بما قدر عليه من حشوده وجنوده إلى إغاثته ونصره، فوصله بعد ثمانية أيام، من تسليمه للإسلام، فنزل بخيله ورجله «5» إزاءه، وأقسم بمعبوده لا يبرح فناءه، حتّى يعيد إليه دينه، أو يلقى منونه دونه، فأكذب الله زعمه، وأوهن عزمه، وأحنث «6» يمينه، وأقلع بعد شهرين وأيام مدلجا، وأسرع العود إلى مستقرّه واسأله كيف نجا، وكان ذلك سبب إنابته للسّلم وانقياده، وإجابته لترك ما كان له على أصحاب «غرناطة» من معتاده، وكانوا يعطونه ما ينيف على الأربعين ألفا من(8/94)
الذهب في العام، ضريبة ألزمهم الطاغية أداءها في عقد مصالحته أيّ إلزام، فسمناه تركها وإسقاطها، وألزمناه فيما عقدناه له من السّلم أن يدع اشتراطها، والحمد لله الذي أعزّ بنا دين الإسلام، وأذلّ رقاب عبدة الأصنام، وقد اعتنينا بتحصين حصن هذا الجبل تتميما لها وتكميلا، وابتدأنا من تحصين أسواره وأبراجه بما يغدو على جبينه تاجا وإكليلا. وكنا في هذه المدة التي جرت بها هذه الأحوال، وعرت فيها هذه الأهواء والأهوال، منازلين أخانا الممتنع «بسجلماسة» «1» من بعض بلاد القبلة، ومحاولين من إزاحة ضرّه، والإراحة من شرّه، ما فيه الصلاح والفلاح على التفصيل والجملة، لعثايته في الفساد، ودعايته إلى العناد، ومعاضدته صاحب «تلمسان» ، ومساعدته على البغي والعدوان، فسهّل الله افتتاحها، وعجّل من صنائعه الجميلة منها مباحها، وذلك بعد تسليم جبل الفتح بثلاثة أشهر ونصف، ويسّر الله تعالى في ذلك من بدائع الصنائع ما يقصر عنه كلّ نعت ووصف. وفي خلال تلكم المنازلة، وحال تلكم المحاولة، لاحت للخائن التّلمسانيّ فرصة، جرّع منها غصّة، إذ ظنّ أنّا عنه مشغولون، وفي أمر ما عرض من سجلماسة وجبل الفتح معتملون، فخرج من بلده على حين غفلة بالعزيمة والجدّ، إلى حصن ماوربرت «2» الذي هو بين بلاده وبلادنا كالحدّ، فوجد هنالك ولدنا الأسعد تاشفين، في ثلّة من بني مرين، آساد العرين، فلما نذروا به ثاروا إليه مسرعين، فنكص على عقبه ولم ير له جنّة أوقى من هربه، وعاد لذلك ثانية، فلم تكن عساكرنا عن طرده وانية، بل ردّته في الحافرة، وأنشدته بلسان حالها الساخرة (سريع) .
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره(8/95)
ولما فرغنا والحمد لله من تلكم الشّواغل، وأرغنا من الخائن التّلمساني ترك ما هو فيه من إثارة الفتن واغل، فأعرض وأشاح، وما لاحت عليه مخيلة فلاح، نهدنا نحو أرضه، لنجزيه بقرضه، بجيوش يضيق عنها فسيح كلّ مدى، وخيول تذر الأكم للحوافر سجّدا، تنقضّ على الأقران أمثال الأجادل، وتقضّ الجنادل من حوافرها بأصلب من الجنادل، فكلفنا بتسلّم منازله فمنزلا، وتسنّم معاقله معقلا فمعقلا، وجلّ رعاياه تقرّ بفضلنا، وتفرّ من جوره إلى عدلنا، ومن تمسّك منهم بحبله، أو سلك من الغيّ في سبله، قاده السيف برغمه، واستنزله على حكمه، والعفو مع ذلك يؤمّهم، والإحسان يشملهم ويعمّهم، حتّى لم يبق إلّا معقله الأشب، ومنزله الذي رأى أنه عن عين الشّوائب محتجب، قد شمخ أنفا حميّا، وصافح كفّا للثّريّا، ولم يرض لها منه عمائم إلّا الغمائم، ولا لأنامل شرفاته خواتم، إلّا النّجوم العواتم، فنزلنا بساحه، وأقبلنا على كفاحه، وجعلنا نقذفهم من حجارة المجانيق، بأمثال النّيق، ومن كيزان النّفظ الموقدة، بأمثال الشّهب المرصدة، ومن السّهام العقّارة، بأمثال العقارب الجرّارة، حتّى غدت جدرانهم مهدومة، وجسومهم مكلومة، وثغور شرفاتهم في أفواه أبراجهم مهتومة، وظلّت الفعلة تشيّد إزاء أبراجهم أبراجا، وتمهّد منها لتسوير أسوارهم أدراجا، وللمعاول في أسافلها إعوال، وللعواسل على أعاليها أعمال، وللأشقياء مع ذلك شدّة وجلد، وعدّة وعدد، وحدّة ولدد، يقاتلون حميّة، وينازلون بنفوس أبيّة، وحجارة المجانيق «1» تشدخ هامهم، وبنات الكنائن تزلزل أقدامهم، وهم في مثل ذلك لازمون إقدامهم، إلى أن اشتدّت أزمتهم فلم يجدوا لها من فارج، وأحاطت بهم الأوجال من خارج، وهدمت أبراجهم الشّواهق، وردمت حفائرهم والخنادق، وأخذت الكماة في العروج إلى البروج، والحماة في السّباق إلى الأنفاق، والرماة في النّضال بالنّصال، فمن مرتق سلّما، غير متّق مؤلما، ومشتغل بالنّقب، غير(8/96)
محتفل بشابور الحجارة المنصبّ، وأفرج المضيق، وانتهج الطّريق، واقتحمته أطلاب الأبطال، وولجته أقيال القبائل وولّى الأشقياء الأدبار، وعاذوا بالفرار، وبدت عليهم علامات الإدبار، وسابقوا إلى الأبواب، فكان مجيئهم من أقوى الأسباب، وقتل منهم الزّحام، من أسأره الهدم والحسام، فتملّكنا ما دارت عليه الأسوار الخارجة، كفرار السبع والملعب، وجميع الجنان والعروش التي ما انفكّ الشقيّ يجتهد في عمارتها ويتعب، وأعلنّا بالنّداء أن كلّ من جاءنا هاربا، ووصل إلينا تائبا، منحناه العفو، ومحونا عنه الهفو، وأوردناه من إحساننا الصّفو، فتبادروا عند ذلك يتساقطون من الأسوار، تساقط جنيّات الثّمار، فرادى ومثنى، آئبين إلى الحسنى، فيسعهم الصّفح، ويحسبهم المنّ والمنح.
ولما رأى الخائن قلّة من بقي معه، وشاهد تفرّق من ذلك الموقف جمعه، أمر بسراح من في قبضته وسجنه، واعتقدهم عونا له فكانوا أعون شيء على وهيه ووهنه، واعتمد الناس في بقيّة يومهم السّور تتوسّع أنقابه، وتتخرّق أبوابه، إلى أن جنّهم الليل، وحاق منهم بالأعداء الويل، ولزم كلّ مركزه، ولم يكن الليل ليحجبه من عمله ولا يحجزه، وبات الفرّار إلينا يهربون، ومن كل نفق يتسرّبون؛ فلما ارتفع الضّياء، ومتع «1» الضّحاء، أمرنا ولدينا يعقوب وعبد الواحد، ووزيرنا القاعد له بالمراصد، بأن زحفوا إليها، مع أطلابنا تحت راياتنا المنصورة عليها، فرجفت قلوبهم، ووجبت جنوبهم، ولم يكن إلّا كلا حتّى امتطيت تلك الصّهوة، وتسنّمت فيها الذّروة، وتسلّمت بيد العنوة، وفصمت عراها عروة عروة، وأنزلوا من صياصيهم «2» ، وتمكّنت يد القهر من نواصيهم، وحقّت عليهم كلمة العذاب من معاصيهم، وفرّ الشّقيّ إلى فناء داره، في نفر من ذويه وأنصاره، وفيهم ولداه مسعود وعثمان، ووزيره موسى بن عليّ معينه على البغي والعصيان، وعبد الحق بن(8/97)
عثمان الخائن الغادر، وابن أخيه العامل بعمله ثابت بن عامر، فتكنّفهم هنالك أولياء دولتنا العلية، فأوردوهم ويوسف ولد الشقيّ السالب حياض المنيّة، ونبذت بالعراء أجسامهم، وتقدّمنا للحين، بأن يمدّ على الرعيّة ظلّ التأمين، ويوطّأ لهم كنف التهدئة والتسكين، ويوطّد لهم مهاد العافية، وتكفّ عنهم الأكفّ العادية، حتى لا تمتدّ إليهم كفّ منتهب، ولا يلتفت نحوهم طرف مستلب، ومن انتهب شيئا أمر بردّه، وصدّ عن قصده- وكمل لنا والحمد لله بالاستيلاء على هذا القطر جميع البلاد، الداخلة في ولاية بني عبد الواد، ونسخت منها دولتهم، ومحيت من صحيفتها دعوتهم، وعوّض الرّعايا من خوفهم أمنا، ومن شؤمهم يمنا، وشملتهم كلمتنا الراقية، المنصورة بكلمة الله الباقية، وفي ذلك معتبر لأهل اليقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
والحمد لله على هذه النعمة التي أفاضت على النّعم جلالا، والصّنيعة التي بهرت الصنائع جمالا، وأضفت على المسلمين من الصّلاح والعافية سربالا. وقد رأينا من حقّ هذا الإنعام الجسيم، والصّنع الرائق الوسيم، أن نتبع العفو بعد المقدرة، بالإحسان لمن أسلف لنا غمطه «1» أو شكره، [فمننّا] «2» على قبائل بني عبد الواد، وأضفينا عليهم صنوف الملابس نساء ورجالا، وأوسعنا لهم في العطاء مجالا، وأفعمنا لهم من الحباء سجالا، وأقطعنا لهم من بلاد المغرب حاطها الله تعالى ما هو خير من بلادهم، وحبوناهم منها بما كفل بإحساب مرادهم، وإخصاب مرادهم، وخلطناهم بقبائل بني مرين، وحطناهم باتّحاد الكلمة من تقوّل المتقوّلين، وتزوير المزوّرين، وأعددنا منهم لأوان الجهاد أوفر عدد، وأعتدنا من فرسانهم ورجالهم لطعان الأعادي أكبر مدد، وأزيل عن الرّعايا بهذه البلاد الشّرقيّة إصرهم «3» ، وأزيح عنهم بتوخّي العدل فيهم جورهم ووزرهم، وخفّفنا عنهم ما آد(8/98)
من المغارم، وهاد من المكارم، فانشرحت صدورهم، وصلحت أمورهم.
والحمد لله الذي ثلّ محالّ الباغين ومجالهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وأخذهم بما احتقبوا من المآثم، واكتسبوا من الجرائم واستحلّوا من المحارم، وأباحوا من المسكرات، وأذاعوا من المنكرات، وطالما أصبح ربعهم معدن الفسوق، وموطن العقوق، ومقطن إضاعة الحقوق، لا سيّما في أيام المسرور بهناته، المغرور بما سوّل له الشيطان وأملى له من ترّهاته، المشهور بقتل أبيه، المأثور من مثالبه ومعايبه بما لم يأت الدّهر له بشبيه، ولقد طبّقت الآفاق معاصيه، وبلغت أخبار خيانته من بأطراف المعمور وأقاصيه، ولكنّ الله تعالى أملى له ليكثّر مآثمه، حتّى إذا شاء أخذه أخذ القرى وهي ظالمة.
والحمد لله الذي طهّر بأيدينا هذه الأرجاء من أرجاسه، ورحض «1» عنها بأيدينا أوضار أدناسه وأنجاسه، وأتاح لأهلها بهلاك هذا المريد المراد، وأراح منه ومن شيعته البلاد والعباد، ولو لم «2» يكن إلّا ما نال الحجّاج من تعنّيه وتعدّيه، وطال عليهم من تعرّضه لهم وتصدّيه، حتّى حجز عن الحجاز الشريف قصّاده، وحجر بقطع السبيل عن بيت الله الحرام من أراده، فكم سلب الحجّاج، وسدّ عليهم المسالك والفجاج، وفرّق فريقهم، وعوّق طريقهم. والآن بحمد الله حقّت الحقائق، وارتفعت العوائق، وصحّ العليل، ووضح السبيل، وتسهّل المرام، وتيسّر القصد إلى البيت الحرام، مكان ترده الزّوّار عليكم أرسالا، ووفود الأبرار للسّلم خفافا وثقالا، يأتون من كلّ فجّ عميق، ويقضون ما يقضون من مناسكهم، آمنين في مسالكهم، إلى البيت العتيق، وهكذا أيضا خلا وجهنا لجهاد الرّوم، ولإعداد من يغزونهم في عقر دارهم للقصد المروم، وأن نجدّد من هذا العمل بجزيرة الأندلس حماها الله تعالى ما لسلفنا بها سلف، ونبدّد من شمل عبّاد الصليب ما لخلفهم بفضل الله تعالى خير خلف، فعمل الجهاد، بهذه البلاد، هو(8/99)
الفضيلة التي لنا الله سبحانه ذخرها، والحسنة التي في صحائف أعمالنا سطرها، وبجيوشنا المنصورة عزّ دين الإسلام بهذا المغرب الغريب، وبسيوفنا المشكورة والله المشكور ذلّ بها الصّليب، أوزعنا الله تعالى شكر آلائه، وأمتعنا بتواتر نعمائه، بمنّه وفضله.
وأنهينا لعلمكم الكريم هذه الأنباء السارّة، والآلاء الدّارّة، لما ذكرتم من تشوّفكم لاستطلاعها، وسطّرتم من تشوّقكم لاستماعها، ولعلمنا أنكم تسرّون بقطع دابر الباغين، وتستبشرون بحسم أدواء الطاغين، وتؤثرون الإخبار بائتلاف الكلمة على أعداء الله الكافرين إيثار الحامدين لفعل الله تعالى في إظهار دينه الشاكرين. لا زلتم تشرع نحوكم البشائر، وتفرع بذكركم المنابر، وترفع لاجتلاء آثار أمركم الستائر، واستجلاء أخبار سيركم الباهرة النّواظر، وتجمع لسجاياكم السنيّة العلاء، ومزاياكم العليّة السّناء، ثواقب المناقب وقول خير المفاخر، إن شاء الله. والسّلام الأتمّ، الأضوع الأنمّ، يخصّ إخاءكم الأوفى، ورحمة الله وبركاته.
قلت: جواب هذا الكتاب [تقدّم] في الكلام على المكاتبات عن الأبواب السلطانية في المكاتبات إلى الملوك.
وهذه نسخة كتاب ورد من أبي «1» الحسن المرينيّ صحبة الهدايا، والحرّة الحاجّة في شهر رمضان المعظّم سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ونصّه بعد البسملة:
من عبد الله عليّ أمير المسلمين، ناصر الدين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ملك البرّين، مالك العدوتين، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين،(8/100)
أبي «1» سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ملك البرّين، وسلطان العدوتين، أبي يوسف «2» يعقوب بن عبد الحق، منح الله التأييد مقامه، وفسح لفتح معاقل الكفر وكسر جحافل الصّفر أيّامه.
إلى السلطان الجليل، الكبير، الشهير، العادل، الفاضل، الكامل، الكافل، الملك الناصر، المجاهد، المرابط، المؤيّد، المنصور، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأوقى، الأمجد، الأنجد، الأفخم، الأضخم، الأوحد، الأوفى، ناصر الدين، عاضد كلمة المسلمين، محيي العدل في العالمين، فاتح الأمصار، حائز ملك الأقطار، مفيد الأوطار، مبيد الكفّار، هازم جيوش الأرمن والفرنج والكرج والتّتار، خادم الحرمين، غيث العفاة، مصرّف الكتائب، مشرّف المواكب، ناصر الإسلام، ناشر الأعلام، فخر الأنام، ذخر الأيّام، قائد الجنود، عاقد البنود، حافظ الثّغور، حائط الجمهور، حامي كلمة الموحّدين، أبي المعالي، محمد ابن السلطان، الجليل، الكبير، الشهير، الشهيد، الخطير، العادل، الفاضل، الكافل، الكامل، الحافظ، الحافل، المؤيّد، المكرّم، المبجّل، المكبّر، الموقّر، المعزّر، المعزّز، المجاهد، المرابط، المثاغر، الأوحد، الأسعد، الأصعد، الأوفى، الأفخم، الأضخم، المقدّس، المرحوم، الملك المنصور، سيف الدنيا والدّين، قسيم أمير المؤمنين. أبقى الله ملكه موصول الصّولة والاقتدار، محميّ الحوزة حاميا للدّيار، حميد المآثر المأثورة والآثار، عزيز الأولياء في كلّ موطن والأنصار.
سلام كريم، زاك عميم، تشرق إشراق النهار صفحاته، وتعبق عن شذا الروض المعطار نفحاته، يخصّ إخاءكم العليّ، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي وسع العباد منّا جسيما، وفضلا جزيلا، وألهمهم الرّشاد بأن أبدى لهم من آثار قدرته، على مقدار وحدته، برهانا واضحا ودليلا،(8/101)
وألزم أمّة الإسلام، حجّ بيته الحرام، من استطاع إليه سبيلا، وجعل تعظيم شعائره من تقوى القلوب، ومثابات محطّ الأوزار والذّنوب، فما أجزل نعمته منيلا، وأجمل رحمة ربّه مقيلا، والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد المصطفى من أفضل العرب فصيلة، في أكمل بقاع الأرض فضيلة، وأكرمها جملة وتفصيلا، المجتبى لختم الرسالة، وحسم أدواء الضّلالة، فأحسب الله به النبوّة تتميما والرسالة تكميلا، المخصوص بالحوض المورود، والمقام المحمود، يوم يقول الظالم يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
«1» المبوّإ من دار هجرته، ومقرّ نصرته، محلّا ما بين بيته ومنبره فيه روضة من رياض الجنّة لم يزل بها نزيلا، والرضا عن آله الأبرار، وأصحابه الأخيار، الذين فضّلتهم سابقة السعادة تفضيلا، وأهّلتهم العناية [بأمر الدّين إلى أن يوسعوا الأحكام برهانا ودليلا، فإنا نحيط علم] «2» الإخاء الأعزّ ما كان من عزم مولاتنا الوالدة قدّس الله روحها، ونوّر ضريحها، على أداء فريضة الحجّ الواجبة، وتوفية مناسكه اللازبة، فاعترض الحمام، دون ذلك المرام، وعاق القدر، عن بلوغ ذلك الوطر، فطوي كتابها، وعجّل إلى مقرّ الرحمة بفضل الله مآبها، وعلى الله أجرها، وعنده يحتسب ذخرها، وإنّ لدينا من نوجب إعظامها، ونقيمها بحكم البرّ مقامها، وعزمها إلى ما أمّلته مصروف، وأملها إلى ما كانت أمّته موقوف، وهي محلّ والدتنا المكرّمة، المبرورة الأثيرة، الموقّرة، المبجّلة، المفضّلة، المعزّزة، المعزّرة، المعظّمة، المطهّرة، أسنى الله مكانتها، وسنّى من هذا القصد الشريف لبانتها، وقد شيّعناها إلى حجّ بيت الله الحرام، والمثول بحول الله تعالى ما بين زمزم والمقام، والفوز من السّلام، على ضريح الرسالة، ومثابة الجلالة، بنيل السّول والمرام، لتظفر بأملها المرغوب، وتنفر بعد أداء فرضها لأكرم الوجوب.(8/102)
وحين شخص لذلكم الغرض الكريم، موكبها، وخلص إلى قصد الحرم العظيم، مذهبها، والكرامة تلحفها، والسلامة إن شاء الله تكنفها، أصحبناها من حور دولتنا وأحظيائها، ووجوه دعوتنا العليّة وأوليائها، من اخترناه لهذه الوجهة الحميدة الأثر، والرّحلة السعيدة الورد إن شاء الله تعالى والصّدر، من أعيان بني مرين أعزّهم الله تعالى والعرب، وأولاد المشايخ أولي الديانة والتقوى المالئين دلاء القرب، إلى عقد الكرب، وكلّ من له أثرة مشهورة، وشهرة بالمزايا الراجحة والسّجايا الصالحة مأثورة، وقصدهم من أداء فرض الحجّ قصدها، ووردهم إن شاء الله تعالى من منهل بركاته الجمّة وردها، وهكذا سيّرنا من تحف هذه البلاد إليكم ما تيسّر في الوقت تسييره، وإن تعذّر في كثير مما قصدناه ولهذا الغرض أردناه تيسيره، لطول المغيب عن الحضرة، والشّغل بتمهيد البلاد التي فتحها الله علينا في هذه السّفرة، وعيّنّا لإيرادها لديكم، وإيفادها عليكم، أبا إسحاق ابن الشيخ أبي زكريّا يحيى بن عثمان السّويدي، وأمير الركب الحسن بن عمران وغيرهم، كتب الله سلامتهم، ويمّن ظعنهم وإقامتهم. ومقام ذلك الإخاء الكريم يسنّي لهم من اليسرى والتسهيل القصد والسّول، ويأمر نوّاب ماله من الممالك، وقوّام ما بها من المسالك، لتكمل العناية بهم في الممرّ والقفول. ومعظم قصدنا من هذه الوجهة المباركة إيصال المصحف العزيز الذي خططناه بيدنا، وجعلناه ذخيرة يومنا لغدنا، إلى مسجد سيدنا ومولانا، وعصمة ديننا ودنيانا، محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطيبة «1» زادها الله تشريفا، وأبقى على الأيام فخرها منيفا، رغبة في الثواب، وحرصا على الفوز بحظّ من أجر التلاوة فيه يوم المآب.
وقد عيّنّا بيد محلّ الوالدة المذكورة فيه، كرّم الله جبهتها، ويمّن وجهتها،(8/103)
من المال ما يشترى به في تلكم البلاد المحوطة من المستغلّات ما يكون وقفا على القرأة فيه، مؤبّدا عليهم وعلى غيرهم من المالكيّة فوائده ومجانيه. والإخاء الكريم يتلقّى من الرّسل المذكورين ما إليهم في هذه الأغراض ألقيناه [ويأمر] بإحضارهم لأدائهم بالمشافهة ما لديهم أو عيناه، ويوعز بإعانتهم على هذا الغرض المطلوب، وييسّر لهم أسباب التوصل إلى الأمل والمرغوب، وشأنه العون على الأعمال الصالحة ولا سيما ما كان من أمثال هذا إلى مثل هذه السّبل الواضحة، وشكر بادراتكم موطّد الأساس، مطّرد القياس، متجدّد مع اللّحظات والأنفاس، والله يصل للإخاء العليّ نضرة أيّامه، ويوالي نصرة أعلامه، ويبقي الثّغور القصيّة، والسّبل السّريّة، منوطة بنقضه وإبرامه، محوطة بمعاضدة أسيافه وأقلامه، والسّلام الكريم العميم، يخصّ إخاءكم الأعزّ، ورحمة الله وبركاته- وكتب في يوم الخميس المبارك الخامس والعشرين من ربيع الأوّل عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة.
وهذه نسخة كتاب عن السلطان عثمان «1» بن أبي العباس المرينيّ، في العشر الأوسط «2» من شعبان سنة أربع وثمانمائة، وهو:
من عبد الله ووليّه عثمان أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، سلطان الإسلام والمسلمين، ناشر بساط العدل في العالمين، المقتدي بآثار آبائه الكرام، المقتفي سننهم الحميدة في نصرة الإسلام، المعمل نفسه العزيزة في التهمّم بما قلّده الله من أمور عباده، وحياطة ثغوره وبلاده، سيف الله المسلول على أعدائه، المنتشر عدله على أقطار المعمور وأنحائه، ظلّ الله تعالى في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، عماد الدنيا والدّين، علم الأئمة المهتدين، ابن(8/104)
مولانا السلطان المظفّر القان الخليفة الإمام، ملك الملوك الأعلام، فاتح البلدان والأقطار، ممهّد الأقاليم والأمصار، جامع أشتات المحامد، ملجإ الصادر والوارد، الملك الجواد، الذي حلّت محبّته في الصدور محلّ الأرواح في الأجساد، أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي العبّاس ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي سالم، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، أبي يوسف يعقوب «1» بن عبد الحق، وصل الله تعالى أسباب تأييده وعضده، وقضى باتصال عرف تجديد سعده، وأناله من جميل صنعه ما يتكفّل بتيسير أمره وبلوغ قصده.
إلى محلّ أخينا الذي نؤثر حقّ إخائه الكريم، ونثني على سلطانه السعيد ثناء الوليّ الحميم، ونشكر ما له فينا من الحبّ السليم، والودّ الثابت المقيم، السلطان الجليل، الماجد الأصيل، الأعزّ الخطير المثيل، الشهير الأمجد الأرفع، الهمام الأمنع، السّريّ الأرضى، المجاهد الأمضى، الأوحد الأسنى، المكين الأحمى، خديم الحرمين الشّريفين، حائز الفخرين المنيفين، ناصر الدّنيا والدّين، محيي العدل في العالمين، الأجدّ، الأودّ، المكين، الأخلص، الأفضل، الأكمل، أبي السّعادات فرج، ابن السلطان الجليل، الأعزّ المثيل، الخطير الأصيل، الأرفع، الأمجد، الشهير، الهمام، الأوحد، الأسمى، الأسرى، الأرضى، المجاهد، الأمضى، خديم الحرمين الشريفين، حائز الفخرين المنيفين، الأفضل، الأكمل المبرور، المقدّم المرحوم، أبي سعيد (برقوق) «2» بن أنص، وصل الله تعالى لسلطانه المؤيّد جدّا لا يعجم عوده، وعزّا لا يميل عموده،(8/105)
ونصرا يملأ قطره بما يغصّ به حسوده، وعضدا يأخذ بزمام أمله السنيّ فيسوقه ويقوده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله على سبوغ نعمائه، وترادف لطفه وآلائه، الذي عرّفنا من ولائكم الكريم ما سرّنا من اطراد اعتنائه، وأبهج النّفوس والأسماع من صفاء ولائه، ومواصلة صفائه، والصلاة والسّلام الأكملين على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله وأنبيائه، ومبلّغ رسالاته وأنبائه، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللّواء المعقود، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه، والرضا عن آله وصحبه وأوليائه، الذين هم للدّين بدور اهتدائه ونجوم اقتدائه، وصلة الدعاء لمقامكم الكريم بدوام عزّه واعتلائه، واقتبال النصر المبالغ في احتفاله واحتفائه، وحياطة أنحائه وأرجائه، وتأييد عزماته وآرائه.
فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم سعدا سافرا، وعزما ظافرا، من حضرتنا العلية بالمدينة البيضاء كلأها الله تعالى وحرسها، ونعم الله سبحانه لدينا واكفة السّجال، وولاؤه جلّ جلاله سابغ الأذيال، وخلافتكم التي نرعى بعين البرّ جوانبها، ونقتفي في كل منقبة كريمة سيرها الحميدة ومذاهبها- وإلى هذا وصل الله سعدكم ووالى عضدكم، وكتابنا هذا يقرّر لكم من ودادنا ما شاع وذاع، ويؤكّد من إخلاصنا إليكم ما تتحدّث به السّمّار فتوعيه جميع الأسماع، وقد كان انتهى إلينا حركة عدوّ الله وعدوّ الإسلام، الباغي بالاجتراء على عباده سبحانه بالبؤس والانتقام، الآخذ فيهم بالعيث والفساد، الساعي بجهده في تهديم الحصون وتخريب البلاد، وتعرّفنا أنه كان يعلّق أمله الخائب بالوصول إلى أطراف بلادكم المصرية، وانتهاز الفرصة على حين غفلة من خلافتكم العلية، والحمد لله الذي كفى بفضله شرّه، ودفع نقمته وضرّه، وانصرف ناكصا على عقبه، خائبا من نيل أربه. ولقد كنّا حين سمعنا بسوء رأيه الذي غلبه الله عليه، وما أضمر لخلق الله من الشرّ الذي يجده في أخراه ظلّه يسعى بين يديه [عزمنا على] أن نمدّكم من عساكرنا المظفّرة بما يضيق(8/106)
عنه الفضا، ونجهّز لجهتكم من أساطيلنا المنصورة ما يحمد في إمداد المناصرة ويرتضى، فالحمد لله على أن كفى المؤمنين القتال، وأذهب عنهم الأوجال، ويسّر لهم الأعمال، وهيّأ لخلافتكم السنيّة وللمسلمين هناء يتضمّن السلامة لكم ولهم على تعاقب الأعوام والسّنين.
وبحسب ما لنا فيكم من الودّ الذي أسّست المصافاة بنيانه، والحبّ الذي أوضح الإخلاص برهانه، وقع تخيّرنا فيمن يتوجّه من بابنا الكريم لتفصيل مجمله، وتقرير ما لدينا فيه على أتمّ وجه الاعتقاد وأكمله، على الشيخ، الأجل، الشريف، المبارك، الأصيل، الأسنى، الحظيّ، الأعز، الحاج، المبرور، الأمين، الأحفل، الأفضل، الأكمل؛ أبي عبد الله محمد، ابن الشيخ الأجلّ، الأعزّ، الأسنى، الأوجه، الأنوه، الأرفع، الأمجد، الآثر، الأزهى، الشريف، الأصيل، المعظّم المثيل، الأشهر، الأخطر، الأمثل، الأجمل، الأفضل، الأكمل، المرضيّ، المقدّس، المرحوم أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن نفيس الحسني العراقي، وصل الله تعالى سعادته، وأحمد على حضرتكم السّنيّة وفادته، حسب ما يفي بشرح ما حمّلناه نقله، ويكمل بإيضاحه لديكم يقظته ونبله، إن شاء الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى يديم سعادتكم، ويحفظ مجادتكم، ويسني من كل خير إرادتكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجملة الرابعة (في عادة الكتب الواردة عن صاحب الأندلس)
والرسم في ذلك أن يكتب «الأبواب الشريفة» ويصفها، ثم يقول:
«أبواب السلطان الفلاني» ويصفه، ويذكر ألقابه، ثم يدعو له، ثم يقول:
«سلام كريم» ويصفه، من فلان، ويذكر السلطان المكتوب عنه، ثم يقول: أما بعد حمد الله، ويأتي بخطبة في المعنى تشتمل على التحميد، والتصلية على(8/107)
النبي صلّى الله عليه وسلّم، والرّضا عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم يقول: فإنا كتبنا إليكم، ويأتي على ما يناسب المقام، ثم ينخرط في سلك المقصود إلى آخره ويختم بالدعاء.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن أمير المسلمين السلطان أبي «1» عبد الله محمد ابن أبي الحجّاج يوسف بن نصر بن الأحمر، صاحب غرناطة- من الأندلس، إلى السلطان الملك الأشرف «شعبان «2» بن حسين» ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، إنشاء الوزير أبي عبد الله بن «3» الخطيب، صاحب ديوان إنشائه، يشير فيه إلى حادثة الفرنج بالإسكندرية، الواقعة في سنة سبع وستين وسبعمائة، إلّا أنه وهم في لقبه الملوكيّ فلقبه المنصور. وهي:
الأبواب الشريفة التي تعنو لعزّة قدرها الأبواب، وتعتزي «4» إلى نسب عدلها الحكمة والصّواب، وتناديها الأقطار البعيدة مفتخرة بولائها، واصلة السبب(8/108)
بعلائها، فيصدر بما يشفي الجوى منها الجواب. فإذا حسن مناب عن أئمة الهدى، وسبّاق المدى، كان منها عن عمومة النّبوّة النّوّاب، وإذا ضفت على العفاة بغيرها أثواب الصّلات «1» ، ضفت منها على الكعبة المقدّسة الأثواب- أبواب السلطان الكبير، الجليل الشهير، الطاهر الظاهر، الأوحد الأسعد، الأصعد الأمجد، الأعلى العادل، العالم «2» العامل الكامل الفاضل، الكافل، سلطان الإسلام والمسلمين، رافع ظلال العدل على العالمين، جمال الإسلام، علم الأعلام، فخر الليالي والأيّام، ملك البرّين والبحرين، إمام «3» الحرمين، مؤمّل الأمصار والأقطار، وعاصب تاج الفخار، هازم الفرنج والتّرك والتتار، الملك المنصور أبي الفتوح شعبان، ابن الأمير الرفيع المجادة، الكريم البنوّة والولادة.
الطاهر الظاهر، الكبير الشّهير، المعظّم الممجّد الأسمى، الموقّر الأعلى، فخر الملّة، سيف الأمّة، تاج الإمارة، عزّ الإسلام، جمال الأيّام «4» ، قمر الميادين، أسد أجمة لدين، سمام الطّغاة والمعتدين، المقدّس المظفّر، الأمير أبي «5» عليّ حسين، ابن السلطان الكبير، الشهير، ملك الإسلام «6» والمسلمين، والد السلاطين، [سيف خلافة الله في العالمين، وليّ أمير المؤمنين، وظهير الدين] «7» سلطان الحجّ والجهاد، وكاسي الحرم الأمين، قامع المعتدين، قاهر الخوارج والمتمرّدين، ناصر السنّة، محيي الملّة، ملك البرّين والبحرين، مقيم رسوم الحرمين الشريفين، العادل «8» ، العالم، العامل، الطاهر الظاهر، الأسعد،(8/109)
الأصعد الأوحد، الأعلى المنصور، المؤيّد المعان، المرفّع المعظّم، المبجّل المؤمّل، المجاهد المرابط، الغازي، أبي «1» عبد الله محمد بن قلاوون، الصالحيّ أبقاه الله، وفلق الصباح «2» يشهد بكماله، وخدمة الحرمين الشريفين، طراز مذهب على حلّة أعماله، ومسوّرات الإسلام، آمنة على طول الأيام، من إهماله، ولا زال ركنا للدّين الحنيف، تتزاحم على مستلمه الشريف، شفاه أمّاله.
سلام كريم، برّ عميم، كما استودعت الرياض أسرارها صدر النسيم، وأرسلت مطالع الفجر أنهارها، من بحر الصبّاح الوسيم، يسري من الطّيب، والحمد المطيل «3» المطيب، في الصّوان الكريم، ويقف موقف «4» الأدب والفهامة، بما استحفظ من الأمانة إلى محل «5» الإمامة، وقوف الحفيظ العليم، يعتمد مشارع تلك الأبواب الشارعة إلى الفضل العميم، المقابلة لذمام وسائل الإسلام بالصّدر المشروح، والبرّ الممنوح، والقلب السليم. من معظّم سلطانه، ومجلّ شانه، المفتخر بالانتظام في سلك خلصانه «6» ، أمير المسلمين بالأندلس، عبد الله الغني «7» بالله، محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر، بلّغه الله من رضاه أقصى سؤله، وأعانه على جهاد عدوّ الله وعدوّ رسوله.
أما بعد حمد الله جاعل قلادة الإسلام، على الدوام، آمنة من الانخرام،(8/110)
والانتثار «1» ، مفصّلة النّظام، بخرز «2» المآثر العظام، والآثار، معرّف أهلها، في حزن البسيطة وسهلها عوارف الصّنع المثار، وإقالة العثار، القويّ العزيز، الذي لا يغالب قدره بالاحتشاد والاستكثار، ولا يبدّل غيبه المحجوب، بعد ما عيّن حكمه الوجوب «3» ، في خزائن الاستئثار «4» ، حتّى تظهر خبيئة عنايته بأوليائه، المعترفين بآلائه، بادية للأبصار، فيما قرب وبعد من الأعصار، ورحمته عند الاستغاثة به والانتصار، في مختلف الأقطار والأمصار، الوليّ الذي لا تكدّر هبات فضله شروط الاعتصار «5» ، ولا تشين خطب حمده ضرائر الاقتصار والاختصار.
والصلاة والسّلام «6» على سيدنا محمد رسوله، نخبة الأكوان، وسرّ الدّهور والأزمان، وفائدة الأدوار، نور الله المتميّز باختصاصه، واستصفائه واستخلاصه، قبل خلق الظّلمات «7» والأنوار، ورحمته الوارفة الشاملة، الهامية الهاملة، على الهضاب والوهاد والنّجاد والأغوار، أقرب عوالم الشّهادة والخلق، إلى حضرة الحقّ، على تعدّد الرّتب وتفاضل الأطوار، منقذ الناس من البوار، ومبوّئهم من جوار الله خير الجوار، نبيّ الرحمة والجهاد والغوار، المنصور على الأحزاب عند ما استداروا بمثوى نبوّته على الأطم والأسوار دور السّوار، الواعد عن ربه بظهور دينه الحقّ على الأديان فمهما أوقدوا نار «8» الحرب تكفّل الله لهم بإطفاء النار وإخماد الأوار.
والرّضا عن آله وأصحابه حماة الذّمار، ومقتحمي الغمار، وباذلي كرائم «9»(8/111)
الأموال من دونه ونفائس الأعمار، القائمين في سماء ملّته للاهتداء بسننهم، والاقتداء بسننهم، مقام النجوم الهادية والأقمار، ما صقلت مداوس «1» النّسيم سيوف الأنهار، وخجل الورد من تبسّم البهار، وغازلت عيون زهر المجرّة عيون الأزهار، وطرد أدهم الليل أشهب النهار.
والدّعاء لتلك الأبواب، المتعدّدة الحجّاب، المعوّدة باجتلاء غرر الفتوح، والمطالع المشيدة المصانع على العزّ الممنوح، والأواوين، المؤيّدة الدّواوين، بالملائكة والرّوح، بإعلاء المظاهر والصّروح، وإنارة الله تعالى بأهلّة تلك السّروج ساحات تلك السّروح «2» ، ولا زالت أقلام بشائرها تأتي على سورة الفتح بأكمل الشّروح.
فإنا كتبناه لمثابتكم السلطانية دار العزّ «3» الأحمى، والملك الأشرف الأسمى، والصّيت البعيد المرمى، كتب الله لها من عنايته- وقد فعل- أوفر مقاسم النّعمى، وجعل غيث نوالها الأهمى، وحظّ جلالها من الله الأنمى، ودامت كواكب سعودها تمزّق جلابيب الظّلما، وأخبار بأسها وجودها، وسعادة وجودها، تهديدها على البعد ركائب الدّأما، وترفرف برياح ارتياحها أجنحة بنات الما. من منزلنا المحبور، بسعادة سلطانكم المنصور، وخزي عدوّه المدحور، بحمراء غرناطة، دار ملك الجهاد بجزيرة ثغر «4» الأندلس، والى الله عنها الدّفاع، وأنار بمشكاة نوره، الذي وعد بإتمامه الأعلام منها والأيفاع، ووصل لها بشرف مخاطبتكم الارتفاع والانتفاع، حتّى تشفع بتهانيكم الأوتار وتوتر «5» الأشفاع، وآلاء الله لدينا، بنعمة دين الإسلام علينا، قد أخجلت اللسان الشّكور، وإن استنفدت الرّواح والبكور، والثّقة بالله في هذا الثغر الغريب قد كثّرت العدد المنزور، والحقّ(8/112)
الصّريح «1» قد كافح الزّور، والتّوطين على الشهادة قد شرح الصّدور، واقتطع في الجنة المنازل والدّور، والمعرفة بمقام تلك الأبواب الشريفة عقيدة «2» لا تبدّل وأدواح علائها حمائم الحمد بها تتهدّل، ومحافل ثنائها تتراكم في سمائها الألوّة «3» والمندل، [والحال ما علمتم: بحر زاخر الأمواج، وعدوّ وافر الأفواج] «4» وحرم لولا اتّقاء الله مقتحم السّياج «5» ، وجياد ضمّرتها مصابرة الهياج، وداء على الأيّام متوقّع الاهتياج، وعدد إلى الإصراخ «6» والإنجاد عظيم الاحتياج فالنفوس إلى الله تجهّز «7» وتسلّم، والصّبيان في المكاتب تدرّب على مواقف الشهادة وتعلّم، والألسنة بغير شعار الإسلام لا تنبس غالبا ولا تتكلّم، إلّا أنّ عادة الخبير اللّطيف، تخفيف «8» الذّعر المطيف، ونصر النّزر الضعيف، على عدد التضعيف، والحال تزجى بين الحرب والسّلم، والمكالمة والكلم، وتأميل الجبر، وارتقاب عاقبة الصّبر، على حماة الدّبر.
وإلى هذا فإننا اتّصل بنا ما رامت الرّوم «9» من المكيدة التي كان دفاع الله من دونها سدّا، والملائكة جندا، والعصمة سورا، والرّوح الأمين مددا منصورا، وأنها استنفدت الوسع في احتشادها، حتّى ضاقت اللّجج عن أعوادها، وبلغت المجهود في استنفادها «10» ، حتّى غصّ كافر البحر بكفّارها، يصيح بهم التأليب،(8/113)
ويذمّرهم الصليب، وقد «1» سوّل لهم الشيطان كياد ثغر الإسكندرية شجا صدورهم، ومرمى آمال غرورهم «2» ، ومحوّم قديمهم، ومتعلّل غريمهم، ليهتموا ثغر «3» الإسلام بصدمتها، ويقودوا جنائب «4» الساحل في رمّتها، ويرفعوا عن دينهم المعرّة، ويتلقّفوا في القدس كرة الكرّة، ويقلّصوا ما امتدّ من ظلال الإسلام، ويشيموا «5» سيوف التغلّب على الشام، ويحولوا بين المسلمين وبين محطّ أوزارهم، وحجّهم ومزارهم، وبيت ربّهم، الذي يقصدونه من كل فجّ عميق، ويركبون إليه نهج كلّ طريق، وقبر نبيّهم الذي يطفئون بزيارته من الشّوق كلّ حريق، ويكحلون الجفون بمشاهدة آثاره عن بكاء وشهيق، وشوق بذلك الحبيب خليق، ويقطعوا حبل المسلمين حتّى «6» لا يتأتّى بلوغ فريق ولا غرض تشريق، والله من ورائهم محيط، وبدمائهم مشيط، وبعباده بصير، ولدينه الحقّ وليّ ونصير، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون*
«7» فما هو إلّا أن صمأ «8» جرادهم، وخلص إليها مرادهم، وفاض عليها بحرهم، وعظم من المحاولة أمرهم، حتّى اشترك الشّرك بعض أسوارها، ونال النهب مستطرف ديارها، وظنّت أنها الوهية التي لا ترفع، والمصيبة التي غلّتها لا تنقع، واشتعل «9» الباس، وذعر الناس، وأرى الشّدّة من تدارك «10» بالفرج، وأعاد إلى السّعة من الحرج، وأنشأ ريح النّصر عاطرة الأرج، ونصر حزب الإسلام من(8/114)
لا غالب لمن ينصره، وحصر العدوّ «1» من كان العدوّ يحصره، وظهر الحقّ على الباطل، والحالي بزينة الله على العاطل، فخرج العدوّ الخاسر عما حازه والسّيوف ترهقه حيث تلفيه، والسّهام تثبته وتنفيه، وغرماء كرّة الإسلام تستقضي «2» منه دينها وتستوفيه، والخزي قد جلّل سباله الصّهب، وحنّاءالدّماء قد خضبت مشيخته الشّهب، والغلب قد أخضع رقابه الغلب، فكم من غريق أردته دروعه، لمّا حشي بالرّوع روعه، وطعين نظمت بالسّمهريّ «3» ضلوعه، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته وقطع دابر الكافرين، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
«4» فأيّ رحمة منشورة ضفت على الإسلام ظلالها، وخطّة نعمة اتّسع نطاقها ورحب مجالها، ومجلى صنيعة راق عيون المؤمنين جمالها، فاهتزّت «5» بها الأرض وربت، وبشكر الله جلّ جلاله أعربت، واستبشرت النّفوس، وذهب البوس، وضفا بمنّة الله اللّبوس، وظهرت عناية الله بمقامكم، وإقالة عثرة الإسلام في أيّامكم، فما كان الله سبحانه ليضيع لكم خدمة الحرمين، وإنّها للوسيلة الكبرى، والذّريعة إلى سعادة الدنيا والأخرى، وهي عهدة الله التي يصونها من كل اهتضام، وقلادته التي ما كان «6» يتركها بغير نظام. وكان من لطائف هذا الفتح الذي أجزل البشرى، وأوسع أعلام الإسلام نشرا، وروده بعد أن شفيت العلّة، ونصرت الملّة، وبعد أن جفا الدهر وتجافى، وعادى ثمّ صافى، وهجر ووافى، وأمرض ثم عافى، فلو ورد مقدّمه قبل تاليه، ونقده متأخّرا «7» عن كاليه، أو كانت أواخره بعيدا ما بينها وبين أواليه،(8/115)
لأوحشت «1» الظّنون وساءت، وبلغت الهموم من النّفوس ما شاءت، فإنّ الإسلام كالجسد يتداعى كلّه لتألّم بعضه، ويتساهم إخوانه في بسطه وقبضه، وسماؤه مرتبطة بأرضه، ونفله متعلّق بفرضه، فالحمد لله الذي خفّف الأثقال «2» وألهم حال الضّرّ الانتقال، وسوّغ في الشّكر المقال، وزار وأقال، وجمع بين إيقاظ القلوب، وإنالة المطلوب، وإن وجد العدوّ طعم الإسلام مرّا فما «3» ذاقه، وعوده صلبا فما أطاقه، ورفع عن طريق بيت الله ما عاقه، وقاد إليكم في بيوتكم فضل الجهاد وساقه [وردّ المكر السّيّيء على العدوّ وأحاقه] «4» فما كانت هذه المكيدة إلا داهية للكفر طارقة، ونكثة لعصب «5» التثليث عارقة، ومعجزة من آثار النبيّ الشريف لهذا الدين المنيف خارقة، واستأصلت «6» للعدوّ المال، وقطعت الآمال، وأوهنت اليمين والشّمال؛ فبادرنا عند تعرّف الخبر، المختال من أثواب المسرّة في أبهى الحبر، المهدي أعظم العبر، إلى تهنئتكم تطير بنا «7» أجنحة الارتياح، مبارية للرّياح، وتستفزّنا دواعي الأفراح، بحسب الودّ الصّراح، وكيف لا يسرّ اليسار بيمينه [والوجه بجبينه، والمسلم بدينه، وخاطبناكم مهنئين ولولا العوائق] «8» التي لا تبرح، والموانع التي وضحت حتّى لا تشرح، ومكايدة «9» هذا العدوّ الذي يأسو به الدّهر ويجرح، لم نجتز بإعلام القلم، عن إعمال القدم، حتّى نتشرف [بالورود على تلك المثابة الشريفة، ونمتاز بزيارة الأبواب المنيفة، فيقضى] «10» الفرض تحت رعيها، وبركة سعيها، لكن المرء جنيب أمله، ونيّة المؤمن أبلغ من(8/116)
عمله. فهنيئا بما خوّلكم «1» الله من ظفر شهدت برضى الله مراسمه، وافترّت عن ثغور العناية الربّانيّة مباسمه، وتوفّرت لديكم مواهبه ومقاسمه، ويهنّيء البيت المقدّس مكان فضل الله ومنّه، وسلامة مجنّه، ويهنّيء الإسلام عصمة ثغره المؤشر، وطهارة كتابه المنشر، وجمال عنوانه، وقفل صوانه «2» ، وباب إيوانه، مرفأ «3» الفسطاط، ومركز لواء الرّباط، ومحطّ رحال «4» الاغتباط، ومتخيّر الإسكندر عند البناء والاختطاط. ومما زادنا بجحا «5» بهذا الفتح، وسرورا زائدا بهذا المنح، ما تحقّقنا أنه يثير من شفقة المسلمين لهذا القطر الذي لا يزال يطرقه ما طرق الإسكندرية على مرّ الأيام، وتجلب عليه برّا وبحرا عبدة الأصنام، بحيث البرّ موصول، والكفر بكثرة العدد يصول، ونيران الجوار [مترائية للعيان، والفراسخ القليلة] «6» متوسّطة بين مختلف النّحل والأديان، والعدد لا ينسب، والصّريح إلّا من عند الله لا يحسب، فتنجدنا بالدعاء ألسنة فضلائه، وتسهمنا خواطر صالحيه وأوليائه، والله لا يقطع عن الجميع عوائد آلائه، ويعرّفنا بركة أنبيائه «7» ، وينصرنا في أرضه بملائكة سمائه.
وقد كان اتّصل بنا في هذه الأيّام الفارطة الذّخر الذي ملأ اليد استكثارا، والخلد «8» اعتدادا واستظهارا، والهمم فخارا، وأضاء القطر أنوارا، جوابكم الكريم يشمّ «9» من نفحاته شذا الإذخر «10» والجليل، وتلتمس من خلال حافاته(8/117)
بركات الخليل، وتقرى الوجوه به آثار المعاهد، وتلتمح من ثنايا وفادته بوارق الفوائد، فأكرم به من وافد مخطوب، وزائر مرقوب، صدعنا به في حفل الجهاد انتحاء وافتخارا، ثم صنّاه في كرائم الخزائن اقتناء للخلف وادّخارا، وجعلنا قراه شكرا معطارا، وثناء يبقى في الخافقين مطارا، ودعاء يعلي الله به لمقامكم السنيّ في أوليائه مقدارا، ويجهّز به لملككم كما فعل أنصارا، ويثيبكم الجنة التي لا يرضى السعداء بغيرها قرارا، والله تعالى يجعل لأفلاك الهناء على مخاطبة مقامكم الرفيع العلاء مدارا، ويقيم الشكر ألزم الوظائف لحقّكم ابتدارا، والثناء أولى ما تحلّى به مجدكم شعارا، ويبقيكم للإسلام ركنا شديدا، وظلّا مديدا، وسماء مدرارا، ما استأنفت البدور إبدارا، وعاقب الليل نهارا، والسّلام.
المقصد الثالث (في رسم المكاتبات الواردة عن ملوك السّودان، وفيه ثلاثة أطراف)
الطرف الأوّل (في المكاتبات إلى «1» صاحب مالّي)
وهو المستولي على التّكرور «2» وغانة وغيرهما، وهي أعظم ممالك السّودان المسلمين مملكة، ولم أقف لأحد منهم على صورة مكاتبة إلى الأبواب السلطانية، إلّا أنّ المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في كتابه «مسالك الأبصار» عند الكلام على هذه المملكة تعرض لذكر سلطانها في زمان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» وهو منسى موسى، وذكر أنه ورد منه كتاب يمسك لنفسه فيه ناموسا ولم يورد نسخته.(8/118)
الطرف الثاني (في المكاتبات الصادرة عن صاحب «1» البرنو)
ورسم مكاتبته أن يكتب في ورق مربع بخطّ كخط المغاربة؛ فإن فضل من المكاتبة شيء كتب بظاهرها، وتفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد، ثم يتخلّص إلى المقصد ببعديّة، ويأتي على المقصد إلى آخره، ورأيته قد ختم مكاتبته إلى الأبواب السلطانية بقوله: والسّلام على من اتّبع الهدى. وكأنّ ذلك جهل من الكاتب بمقاصد صناعة الإنشاء، إذ لا يهتدون إلى حقائقها.
وهذه نسخة «2» كتاب ورد على الملك الظاهر «أبي «3» سعيد برقوق» ووصل في شهور سنة أربع وتسعين وسبعمائة، صحبة ابن عمه، مع هديّة بعث بها إلى السلطان بسبب ما يذكر فيه من أمر عرب جذام المجاورة لهم، وهي في ورق مربّع، السطر إلى جانب السّطر، بخطّ مغربيّ، وليس له هامش في أعلاه ولا جانبه، وتتمّة الكتاب في ظهره من ذيل الكتاب وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم*
، صلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما.
الحمد لله الذي جعل الخطّ تراسلا بين الأباعد، وترجمانا بين الأقارب، ومصافحة بين الأحباب، ومؤنسا بين العلماء، وموحشا بين الجهّال، ولولا ذلك لبطلت الكلمات، وفسدت الحاجات. وصلوات الله على نبينا المصطفى، ورسولنا المرتضى، الذي أغلق الله به باب النبوّة وختم، وجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ما ناحت الورق «4» ، وما عاقب(8/119)
الشّروق الأصيل. ثم بعد ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، رضي الله عنهم أجمعين.
من المتوكّل على الله تعالى، الملك، الأجل، سيف الإسلام، وربيع الأيتام، الملك المقدام، القائم بأمر الرحمن، المستنصر بالله المنصور في كلّ حين وأوان، ودهر وزمان، الملك، العادل، الزاهد، التقيّ، النقيّ، الأنجد، الأمجد، الغشمشم «1» ، فخر الدين، زين الإسلام، قطب الجلالة، سلالة الكرماء، كهف الصّدور، مصباح الظلام، أبي عمر وعثمان الملك، ابن إدريس الحاج أمير المؤمنين المرحوم، كرم الله ضريحه، وأدام ذريّة هذا بملكه- هذا اللفظ وارد على [لسان] كاتبنا لآلنا ولا فخر- إلى ملك المصر الجليل، أرض الله المباركة أمّ الدنيا.
سلام عليكم أعطر من المسك الأذفر «2» ، وأعذب من ماء الغمام واليمّ، زاد الله ملككم وسلطانكم، والسّلام على جلسائكم وفقهائكم وعلمائكم، الذين يدرسون القرآن والعلوم، وجماعتكم، وأهل طاعتكم، أجمعين.
وبعد ذاك، فإنا قد أرسلنا إليكم رسولنا، وهو ابن عمّي، اسمه إدريس بن محمد من أجل الجائحة «3» الّتي وجدناها، وملوكنا، فإنّ الأعراب [الذين] يسمّون جذاما وغيرهم قد سبوا أحرارنا، من النساء والصّبيان، وضعفاء الرجال، وقرابتنا، وغيرهم من المسلمين. ومنهم من يشركون بالله، يمارقون للدين، فغاروا على المسلمين فقتلوهم قتلا شديدا؛ لفتنة وقعت بيننا وبين أعدائنا، فبسبب تلك الفتنة قد قتلوا ملكنا، عمرو بن إدريس الشهيد، وهو أخونا ابن أبينا إدريس الحاج بن(8/120)
إبراهيم الحاج، ونحن بنو سيف بن ذي يزن، و [الد] قبيلتنا، العربيّ القرشيّ، كذا ضبطناه عن شيوخنا، وهؤلاء الأعراب قد أفسدوا أرضنا كلّها، في بلد برنو كافّة حتّى الآن، وسبوا أحرارنا وقرابتنا من المسلمين، ويبيعونهم لجلّاب مصر والشام وغيرهم، ويختدمون ببعضهم، فإنّ حكم مصر قد جعله الله في أيديكم من البحر إلى أسوان، فإنهم قد اتخذوا متجرا، فتبعثوا الرسل إلى جميع أرضكم، وأمرائكم، ووزرائكم، وقضاتكم، وحكّامكم، وعلمائكم، وصواحب أسواقكم، ينظرون ويبحثون ويكشفون، فإذا وجدوهم فلينزعوهم من أيديهم، وليبتلوهم، فإن قالوا نحن أحرار ونحن مسلمون فصدّقوهم ولا تكذّبوهم، فإذا تبيّن ذلك لكم فأطلقوهم، وردّوهم إلى حرّيتهم وإسلامهم، فإن بعض الأعراب يفسدون في أرضنا ولا يصلحون، فإنهم الجاهلون كتاب الله وسنة رسولنا، فإنهم يزيّنون الباطل، فاتقوا الله واخشوه ولا تخذلوهم يسترقّوا ويباعوا، قال الله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
«1» وقال الله تعالى لنبيه عليه السّلام فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
«2» وقال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
«3» وكان عليه السّلام يقول: «السلطان ظلّ الله في الأرض يأوي إليه كلّ مظلوم» . وقال: المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا إلى يوم القيامة» .
وقال: «المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه» إلى آخره. وفي الحكمة: ومن الفرائض الأمر بالمعروف على كلّ من بسطت يده في الأرض (أراد به السلاطين) وعلى من تصل يده إلى ذلك (أراد بذلك القضاة والحكّام والأمراء) فإن لم يقدر فبلسانه، (أراد بذلك الفقهاء والعلماء) وإن لم يقدر فبقلبه، (أراد بذلك عامّة المسلمين) أطال الله بقاءكم في أرضكم. فازجروا الأعراب المفسدين عن(8/121)
دعرهم، قال الله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين
«1» وقال عليه السّلام: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .
وقال في الحكمة: لولا السلطان لأكل بعضهم بعضا. وقال تعالى لنبيه داود عليه السّلام يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
«2» والسّلام على من اتبع الهدى- ولم يؤرّخ.
الطرف الثالث (في المكاتبات الصادرة عن ملك «الكانم»
«3» ولم أقف له على مكاتبة إلّا أنه يشبه أن تكون المكاتبة عنه نظير المكاتبة عن صاحب «البرنو» فإنه على قرب من مملكته والله أعلم)
المقصد الرابع (في الكتب الواردة من الجانب الشّماليّ، وهي بلاد الروم)
قد تقدّم ذكر المكاتبة إلى أمرائها، وأنّ كبيرهم الذي صار أمرهم إليه وانقادوا إلى طاعته الآن هو ابن عثمان صاحب برسا «4»(8/122)
النوع الثاني (من المكاتبات الواردة إلى هذه المملكة الكتب الواردة عن ملوك الكفّار، وهي على أربعة أضرب)
الضرب الأوّل
(الكتب الواردة عن ملوك الكرج) «1»
الضرب الثاني (الكتب الواردة عن ملوك الحبشة)
والعادة فيها أن ترد في قطع «2» باللسان «3» ولم أظفر بصورة مكاتبة في هذا المعنى إلّا مكاتبة واحدة وردت على الملك الظاهر بيبرس، ضمن كتاب إلى صاحب اليمن، وصاحب اليمن أرسله إلى هنا فيما وقفت عليه في بعض المصنّفات وهو:
أقل المماليك يقبّل الأرض، وينهي بين يدي السلطان الملك الظاهر، خلّد الله ملكه، أنّ رسولا وصل إليّ من والي قوص «4» ، بسبب الراهب الذي جاءنا، فنحن ما جاءنا مطران مولانا السلطان ونحن عبيده، فيرسم مولانا السلطان للبطريرك [أن] يجهّز لنا مطرانا يكون رجلا جيّدا عالما، لا يجني ذهبا ولا فضّة، ويرسله إلى مدينة «عوان» . وأقلّ المماليك يسيّر إلى نوّاب مولانا الملك المظفّر، صاحب اليمن ما يلزمه، وهو يسيّره إلى نوّاب مولانا السلطان، وما كان(8/123)
سبب تأخير الرّسل عن الحضور إلى [ما] بين يدي مولانا السلطان، إلّا أنني كنت في سكار (؟) والملك داود قد توفّي، وقد ملّك موضعه ولده، وعندي في عسكري مائة ألف فارس مسلمين، وأما النصارى فكثير لا يحصون، والكلّ غلمانك وتحت أمرك، والمطران الكبير يدعو لك والخلق كلّهم يقولون آمين، وكلّ من يصل من المسلمين إلى بلادنا نكون له أقلّ المماليك، ونحفظهم ونسفّرهم كما يحبّون ويختارون، وأما الرسول الذي سفّروه فهو مريض، وبلادنا وخمة، أيّ من مرض لا يقدر أحد يدخل إليه، وأيّ من شمّ رائحته فيمرض فيموت. ونحن نحفظ كلّ من يأتي من بلاد المسلمين، فسيّروا مطرانا يحفظهم.
قلت: وقد تقدّم الجواب عن هذا الكتاب من كلام القاضي «1» محيي الدين ابن عبد الظاهر، في الكلام على الكتب الصادرة عن الأبواب السلطانية إلى أهل الجانب الجنوبي من أهل الكفر، ولكن الكتاب المذكور يخالف ما تقدّم هناك من ادّعائه العظمة، وأنه لولا اضطراره إلى أخذ المطران من بطريرك الديار المصرية لكان يشمخ بنفسه عن المكاتبة، ولعلّ ذلك كان في الزمن المتقدّم.
الضرب الثالث (الكتب الواردة عن ملوك الرّوم، ورأس الكلّ صاحب القسطنطينيّة)
وقد وقفت على كتاب ورد منه في السابع والعشرين من صفر سنة أربع عشرة وثمانمائة في درج ورق فرنجيّ في نحو عشرين وصلا قطع النصف، والبياض في أعلاه وصل واحد، وفي أسفله وصلان، وله هامش عن يمينه وهامش عن يساره، كلّ منهما تقدير إصبعين، ومقدار ما بين السّطور متفاوت، فأعلاه بين كلّ سطرين أربعة أصابع مطبوقة، ثم بعد تقدير ثلث الكتاب بين كلّ سطرين قدر ثلاثة أصابع، ثم بعد ذلك بين كل سطرين قدر إصبعين، ثم بعد ذلك بين كل سطرين قدر ثلاثة أصابع إلى آخر الكتاب، والقلم في غاية [الدقة ب] قلم الرّقاع(8/124)
الدقيق، وفي آخره ثلاثة أسطر وقطعة بالحمرة بقلم أجلّ من الأوّل قليلا.
وهذه نسخة كتاب معرّبة بترجمة بطرك الملكانية بحضور سيف الدين سيف «1» التّرجمان، وهي:
المعظّم، الممجّد، المبجّل، الضابط، السلطان، الكبير، سلطان مصر ودمشق وحلب وغيرها، الملك الناصر (فرج) ابن السلطان الكبير المرحوم الظاهر (برقوق) المحبوب إليّ العزيز أكثر من أولاد مملكتي.
يحيط علمه أنني ومملكتي طيّبون بنعمة الله تعالى، وكذلك تكون- إن شاء الله تعالى- سلطنتك الممجّدة طيبة في خير، وأنّ المحبة والمودّة لم تزل بين والدك المرحوم وبين والدي إلى آخر وقت. ونحن بحمد الله قد تزايدت محبّتنا على ذلك وتكاثرت، وتتوكّد أيضا المحبة بيننا وبين سلطنتك المعظّمة إلى الأبد، فإنّ ذلك واجب، وتتردّد رسلكم بكتبكم إلينا، وكذلك رسلنا بكتبنا إلى ملككم، وكان قصدنا أن نجهّز إليكم رسولا لكنّ الفتن في بلادنا، وما بلغنا من سفر مولانا السلطان من تخت مملكته، ولم نعرف إلى أيّ مكان توجّه، أوجب تأخير ذلك، وأنّ حامل هذا الكتاب المتوجه به إلى السلطان المعظم المسمّى (سورمش) التاجر من اسطنبول هو من جهتنا، وله عادة بالتردّد إلى مملكتكم المعظّمة، ونحن نعلم أنّ سلطنتك تحبّ الطيور الكواهي، فجهّزنا لكم صحبة المذكور خمس كواهي «2» وبازدار «3» ، ليكون نظركم الشريف عليهم، وكذلك على البطاركة(8/125)
والنصارى والكنائس على حكم معدلة السلطان ومحبّته، والوصية بهم، ومعاونتهم ورعايتهم وإجراؤهم على جاري عوائدهم، من غير تشويش على ما ألفوه من إنصافكم أوّلا وآخرا لأجل محبتكم لنا ومحبتنا، واستمرار العناية بهم، مع أنّ البطاركة عرّفونا أنّ مولانا السلطان يبرز مرسومه بمراعاتهم، والإحسان إليهم، ولم يزالوا داعين له شاكرين من معدلته، ونضاعف شكرنا من إحسانكم على ذلك، وتكونوا إن شاء الله تعالى طيبين، والمحبة متزايدة في أيّامكم وأيّامنا، ومهما كان لمولانا السلطان بمملكتنا من أطواع «1» فيرسم يعرّفنا بها ونبادر بذلك.
والذي بآخره بالحمرة علامة الملك مضمونها (مانويك المسيحي بنعمة الله، ضابط مملكة الروم البلالوغس) .
الضرب الرابع (الكتب الواردة من جهة ملوك الفرنج بالأندلس، والجهات الشّمالية، وما والى ذلك)
والعادة فيها أن تكتب باللسان الفرنجيّ، وعادة الكتب الواردة عنهم جملة أن تكتب في فرخة ورق فرنجيّ مربّعة على نحو مقدار الفرخة البلديّ أو دونها، بأسطر متقاربة، باللسان الفرنجيّ وقلمه، ثم يطوى طيّا مسطّحا ويعنون في وسطه، ويطوى من جهتي الأوّل والآخر حتّى يصير العنوان ظاهرا من الطيّ، ثم يخرز ويختم بسحاءة «2» ، ويختم عليه بطمغة في شمع أحمر على نحو ما تقدّم في الكتب الواردة عن ملوك الغرب، فإذا ورد على الأبواب السلطانية فكّ ختمه، وترجم بترجمة التّرجمان بالأبواب السلطانية وكتب تعريبه في ورقة مفردة وألصقت به بعد كتابة الجواب من التعريب على ما تقدّم ذكره في مقدّمة الكتاب.
وهذه نسخة كتاب وارد من دوج البنادقة ميكائيل، على يد قاصده نقولا البندقيّ في سادس عشر صفر المبارك سنة أربع عشرة وثمانمائة، ترجمة شمس(8/126)
الدين سنقر، وسيف الدّين سودون، التراجمة بالأبواب الشريفة، في فرخة ورق فرنجيّ مربعة متقاربة السطور، وهو:
السلطان المعظّم، ملك الملوك «فرج الله» ناصر الملة الإسلامية، خلّد الله سلطانه.
يقبّل الأرض بين يديه نقولا «1» دوج البنادقة، ويسأل الله أن يزيد عظمته، لأنه ناصر الحق ومؤيّده، وموئل الممالك الإسلامية كلّها، وينهي ما عنده من الشّوق والمحبة لمولانا السلطان، وأنه لم تزل أكابر التجار والمحتشمين والمتردّدين من الفرنج إلى الممالك الإسلامية شاكرين من عدل مولانا السلطان وعلوّ مجده، وتزايد الدعاء ببقاء دولته، وقد رغب التّجّار بالتّرداد إلى مملكته الشريفة بواسطة ذلك، ولأجل الصّلح المتصل الآن بيننا والمحبة.
وأما غير ذلك، فإنه بلغنا ما اتّفق في العام الماضي من حبس العنز في ثغر دمياط المحروس، وأن مولانا السلطان مسك قنصل البنادقة والمحتشمين من التّجّار بثغر الإسكندرية المحروس، وزنجرهم بالحديد، وأحضرهم إلى القاهرة، وحصلت لهم البهدلة بين جنوسهم والضّرر والقهر الزائد، وكسر حرمتنا بين أهل طائفتنا، فإن الذي فعل مع المذكورين إنما فعل معنا، وتعجّبنا من ذلك؛ لأنّ طائفتنا لم يكن لهم ذنب، وهذا مع كثرة عدل مولانا السلطان في مملكته، ومحبّتنا له، ومناداتنا في جميع مملكتنا بكثرة عدله، وبمحبته لطائفتنا، وإقباله عليهم، وقولنا لجميع نوّابنا: إنهم يكرمون من يجدونه من مملكة مولانا السلطان، ويراعونه ويحسنون إليه، والمسؤول من إحسانه الوصية بالقنصل والتجّار وغيرهم من البنادقة، ومراعاتهم وإكرامهم والإقبال عليهم، والنظر في أمورهم إذا حصل ما يشبه هذا الأمر، ومنع من يشاكلهم لتحصل بذلك الطّمأنينة للتّجّار، ويتردّدوا إلى مملكته.(8/127)
وهذه نسخة كتاب ورد من كبطان الماغوصة والمستشارين بها، في ثامن عشر صفر المبارك سنة أربع عشرة وثمانمائة، ترجمة شمس الدين سنقر وسيف الدين سودون التّرجمانين بالأبواب الشريفة، وهو:
الملك المعظّم، ملك الملوك، صاحب مصر المحروسة، الملك الناصر، عظّم الله شأنه.
يقبّل الأرض بين أياديه الكبطان والمستشارون، وينهون أنهم آناء «1» الليل داعون بطول بقائه، مجتهدون في استمرار الصّلح والمودّة التي لا يشوبها كدر بين القومون (؟) وبين مولانا السلطان، وأنّ في هذا الوقت ثمّ حراميّة غراب يتحرّمون بأطراف هذه البلاد، والمين الإسلامية، ونحن لم نزل نشحطهم بالمراكب والأغربة، ونمنعهم من ذلك جهدنا وقدرتنا، حتّى إنّ أحدا صار لا يجسر على الدخول إلى مينا الماغوصة جملة كافية، مع أننا كنّا خلّصنا في المدّة الماضية من الحراميّة المذكورين خمسة وعشرين نفرا من المسلمين، وأكرمناهم وأطلقنا سبيلهم [وعزمنا أن] «2» نجهّزهم إلى دمياط أو إلى ثغر الإسكندرية.
وأما غير ذلك، فقد بلغنا أن برطلما أوسق للمواقف الشريفة صابونا في مراكبه، وكان قصده أن يهرب بذلك، فللحال عمّرنا مركبا كبيرا، وأخذنا برطلما المذكور بالمحاربة، وأحضرناه إلى الماغوصة، وعهدنا بطروق المركب إلى شخص يسمّى (أرمان سليوريون) وهو رجل مشكور السّيرة، وقلنا له إنه يتوجّه إلى خازن الصابون المذكور ويستشيره إن كان يوسق شيئا من الأصناق لمولانا السلطان، ويجهّزه إلى أيّ مكان اختاره ليسلمه ليد من تبرز له المراسيم الشريفة بتسليمه، فليفعل، وهذا القول كلّه يكون دليلا عند مولانا السلطان على صدق(8/128)
الولاء والتمسك بالصّلح، والمسؤول من الصدقات الشريفة الإقبال على التّجّار الجنويّة الذين عند مملكته، وكفّ أسباب الضرر عنهم، وينشر معدلته عليهم، والله تعالى يديم بقاءه بمنّه وكرمه.(8/129)
الفصل السادس [من الباب الثاني] من المقالة الرابعة
(في رسوم المكاتبات الإخوانيّات- وهي جمع إخوانيّة نسبة إلى الإخوان جمع أخ- والمراد المكاتبات الدائرة بين الأصدقاء، وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في رسوم إخوانيّات السّلف من الصّحابة
رضوان الله عليهم والتابعين، وهي في الغالب لا تخرج عن ضربين)
الضرب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه)
وكان رسمهم فيه أن تفتتح المكاتبة بلفظ «من فلان إلى فلان، سلام عليك، إنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو» فلما كانت خلافة الرشيد وأمر أن يزاد هنا في السلطانيات «وأسأله أن يصلّي على سيدنا محمد عبده ورسوله» كما تقدّم في موضعه، جرى الكتّاب في الإخوانيات على ذلك أيضا، وكان الخطاب يجري بينهم في ذلك بأنا، وأنت، ولي، ولك، وعندي، وعندك، وما أشبه ذلك من ألفاظ الخطاب، وكانت خاتمه الكتب عندهم بالسّلام.
الضرب الثاني (أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه، تفخيما لأمره، وتعظيما لشأنه)
وكان رسمهم في ذلك أن يفتتحوا المكاتبة بلفظ «إلى فلان من فلان، سلام(8/130)
عليك، فإنّي أحمد اليك الله الذي لا إله إلّا هو» وباقي الكتاب على ما تقدّم في الضرب الأوّل في الخطاب والختام وغيرهما.
الطرف الثاني (في رسوم الإخوانيّات المحدثة بعد السّلف، وفيه ثلاثة مقاصد)
المقصد الأوّل (في رسوم إخوانيّات أهل المشرق، وفيه أربعة مهايع)
المهيع الأوّل (في صدور الابتداآت، وهي على أساليب)
«1» الأسلوب الأوّل- أن تفتتح المكاتبة بالدعاء، وعليه اقتصر أبو جعفر «2» النّحاس في كتابه «صناعة الكتاب» وكان على رأس الثّلثمائة في خلافة الراضي، وقد تقدّم في الكلام على مقدّمات المكاتبات نقلا عن «موادّ البيان» أنّ الأدعية كانت في الزمن الأوّل تستعمل فيما يتعلّق بأمر الدّين، مثل قولك: أكرمه الله، وحفظه الله ووفّقه، وحاطه، وما أشبه ذلك، فعدل عنها قصدا للإجلال والإعظام إلى الدعاء بإطالة البقاء، وإدامة العزّ، وإسباغ النّعمة، ونحو ذلك مما يتنافس فيه أبناء الدنيا، جريا على عادة الفرس. ثم رتّبوا الدعاء على مراتب، فجعلوا أعلاها الدعاء بإطالة البقاء، ثم بإطالة العمر، ثم بالمدّ في العمر، وكذلك سائر المكاتبات على ما تقدّم بيانه هناك.(8/131)
ثم هو على ستة أضرب:
الضرب الأوّل (المكاتبة من المرؤوس إلى الرئيس؛ وهو على صنفين)
الصنف الأوّل (المكاتبة إلى الأمراء)
قد ذكر النحّاس أنه يقال في افتتاح مكاتباتهم: أطال الله بقاء الأمير، فإذا أردت أجلّ ذلك كلّه، كتبت: أطال الله بقاء الأمير في أعزّ العزّ وأدوم الكرامة والسّرور والغبطة، وأتمّ عليه نعمه في علوّ الدّرجة، وشرف من الفضيلة، وتتابع من الفائدة، ووهب له السلامة والعافية في الدنيا والآخرة، وبلغ بالأمير أفضل ما تجري إليه همّته، وتسمو إليه أمنيّته، أو بلغ بالأمير أفضل شرف العاجل والآجل، وأجزل له ثواب الآخرة.
ثم قال: ومن الدعاء له: أطال الله بقاء الأمير في عزّ قاهر، وكرامة دائمة، ونعمة سابغة، وزاد في إحسانه إليه، والفضيلة لديه، ولا أخلى مكانه منه.
قال: ومنه أطال الله بقاء الأمير، وأدام عزّه وتأييده، وعلوّه وتمكينه، وكبت عدوّه.
ثم ذكر أدعية أخرى للأمراء عن الفضل «1» بن سهل. منها- أطال الله بقاء(8/132)
الأمير، ومكّن له في البسطة وتزايد النّعمة، وزاده من الكرامة والفضيلة، والمواهب الجليلة في أعزّ عزّ وأدوم سلامة، وأسبل عافية- ومنها- أطال الله بقاء الأمير، وأدام له الكرامة مرغوبا إليه، وزاد في إحسانه لديه، وأتمّ نعمته عليه، ووصل له خير العاجل بجزيل الآجل.
الصنف الثاني (المكاتبة إلى القضاة)
وقد قال النحاس: إنه يدعى للقاضي بمثل ما يدعى به للأمير، غير أنه يجعل مكان الأمير القاضي، إلّا أنّ الفضل بن سهل قال: يدعى لقاضي القضاة، أطال الله بقاء القاضي، وأدام عزّه وكرامته، ونعمته وسلامته، وأحسن من كلّ جميل زيادته، وألبسه عفوه وعافيته. وإنه يدعى له أيضا: أطال الله بقاء القاضي في عزّ وسعادة، وأدام كرامته، وأحسن زيادته، وأتمّ نعمته عليه في أسبغ عافية، وأشمل سلامة.
قال: وقال غير الفضل: إن الكفء يكاتب كفأه ومن كان خارجا من نعمته: أدام الله بقاءك أيّها القاضي.
الضرب الثاني (المكاتبة من الرئيس إلى المرؤوس، كالمكاتبة عن الوزير وقاضي القضاة وغيرهما، والخطاب في جميعها بالكاف)
قال النحاس: وهي على مراتب، أعلاها في حق المكتوب إليه أطال الله بقاءك وأدام عزّك وأكرمك، وأتمّ نعمته عليك، وإحسانه إليك وعندك. ودونه «أطال الله بقاءك، وأعزّك وأكرمك، وأتمّ نعمته عليك، وعندك» . ودونه «أدام الله عزّك، وأطال بقاءك، وأدام كرامتك، وأتمّ نعمته عليك، وأدامها لك» . ودونه «أعزّك الله ومدّ في عمرك، وأتمّ نعمته عليك، وما بعده على توالي «1» الدعاء الذي تقدّم» . ودونه «أكرمك الله وأبقاك، وأتمّ نعمته عليك، وأدامها لك» . ودونه «أن(8/133)
تسقط وأدامها لك» . ودونه «أبقاك الله وحفظك وأتمّ نعمته عليك، وأدامها لك» .
ودونه «أن تسقط وأدامها لك» . ودونه «حفظك الله وأبقاك، وأمتع بك» . ودونه «عافانا الله وإيّاك من السّوء» .
قال «1» في «صناعة الكتاب» : هذا إذا جرى الأمر على نسبته ولم تتغيّر الرسوم، وإلّا فقد يعرض أن يكون في الدولة من هو مقدّم على الوزير أو مساوى به فتتغير المكاتبة، فقد كان عبد الله بن سليمان (يعني وزير المعتضد) يكاتب أبا الجيش (يعني خمارويه بن أحمد بن طولون) : أطال الله يا أخي بقاك إلى آخر الصدر، للمصاهرة التي كانت بين أبي الجيش وبين المعتضد ولأنّ المعتضد كنّاه.
ثم قال: فإن كان الرئيس غير الوزير، فربما زاد في مكاتبته زيادة لمن له محلّ، فيزيده ويكاتبه بزيادة التأييد ودوام العزّ. قال: ويدعى للفقهاء: أدام الله بقاءك في طاعته وسلامته وكفايته وأعلى جدّك وصان قدرك، وكان لك ومعك حيث لا تكون لنفسك. أو: أدام الله بقاءك في أسرّ عيش وأنعم بال، وخصّك بالتوفيق لما يحبّ ويرضى، وحباك برشده، وقطع بينك وبين معاصيه. أو أطال الله بقاءك بما أطال به بقاء المطيعين، وأعطاك من العطاء ما أعطى الصالحين. أو: أكرمك الله بطاعته، وتولّاك بحفظه، وأسعدك بعونه، وأيّدك بنصره، وجمع لك خير الدنيا والآخرة برحمته، إنه سميع قريب. أو: تولّاك من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وكان لك من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم. أو: أكرم الله عن النار وجهك، وزيّن بالتقوى تجمّلك. أو: أكرمك الله بكرامة تكون لك في الدنيا عزّا، وفي الآخرة من النار حرزا.
الضرب الثالث (المكاتبة إلى النظراء، والمخاطبة فيه بالكاف)
قال في «صناعة الكتّاب» وأعلى ما يكتب في ذلك (يعني بالنسبة إلى(8/134)
المكتوب إليه) «يا سيّدي أطال الله بقاءك وأدام عزّك وتأييدك إلى آخر الصدر» .
ودونه «أطال الله يا سيدي بقاءك» . ودونه «يا سيّدي وأخي أطال الله بقاءك» . ودونه «أدام الله يا أخي بقاءك» .
الضرب الرابع (المكاتبة إلى الأبناء، والخطاب فيه بالكاف)
قال في «صناعة الكتاب» يكتب الرجل إلى ابنه: بأبي أنت، أو: فداك أبوك. أو: مات قبلك. أو: أسأل الله عزّ وجلّ حفظك وحياطتك ورعايتك. أو:
أرشدك الله أمرك. أو: أحسن البلاغ بك. أو: بلّغ الله بك أفضل الأمل، وأتمّ السرور بك، وجعلك خلفا صالحا، وبقيّة زاكية.
الضرب الخامس (المكاتبة إلى الفتيان، والخطاب فيه بالكاف)
قال النحاس: يدعى لهم: صرف الله السوء عنك، وعن حظّي منك. أو:
أطال الله بقاء النعمة عليك وعليّ فيك. أو: جعلت أنا وطارفي وتالدي فداك. أو:
ملّاني الله إخاءك، وأدام بقاءك. أو: أستودع الله عزّ وجلّ ما وهب لي من خلّتك، ومنحني من أخوّتك، وأعزّني به من مودّتك. أو: حاط الله حظّي منك، وأحسن المدافعة عنك. أو: ببقائك متّعت، وفقدك منعت. أو: نفسي تفديك، والله يبقيك، ويقيني الأسواء فيك. أو: ملّاني الله النعمة ببقائك، وهنأني ما منحني من إخائك. أو: أبقى الله النعمة لي ببقائها لك، وبلّغتها بك. أو: وفّر الله حظّي منك، كما وفّر من المكارم حظّك. أو: ملّاني الله ببقاك، كما منحني إخاك. أو:
دافع الله لي وللمكارم عن حوبائك «1» ، وأمتعني ببقائك، وجمع أملي فيك بجمعه المكارم لك. أو: زادك الله من النّعم حسب تزيّدك في البرّ لإخوانك، وبلّغ بك أملهم كما بلّغ بهم آمالهم فيك.(8/135)
الضرب السادس (المكاتبة إلى النساء)
قد ذكر النحاس أنهنّ يكاتبن على نظير ما تقدّم من مكاتبة الرئيس والمرؤوس والنظير، غير أنه قد وقع في الاصطلاح من بعضهم أنه لا يقال في مكاتبتهنّ: وكرامتك ولا وأتمّ نعمته عليك، ولكن وأتم نعمته لديك، ولا فضله عندك، ولا سعادتك، ولا فعلت ولا أن تفعلي، ولكن يقال: إن رأيت أن تمنّي بذلك مننت به، وما أشبه ذلك، وقد تقدّم في الكلام على مقدّمات المكاتبات بيان كراهتهنّ لذلك.
قلت: ثم راعى الكتّاب في تعظيم المكتوب إليه أن عدلوا عن خطابه بالكاف عن «1» نظير خطاب المواجهة إلى معنى الغيبة، فقالوا: له، وإليه، وعنده، ونحو ذلك وخصّوا الخطاب بالكاف بأدنى المراتب في حقّ المكتوب إليه. على أنه قد تقدّم من كلام النحاس إنكار ذلك على من اعتمده محتجّا عليه بأنه لا أعظم من الله تعالى مع أنه يقال في الدعاء يا الله ونحو ذلك.
وقد ذكر ابن حاجب «2» النّعمان في كتابه «ذخيرة الكتاب» أدعية مرتّبة على(8/136)
الغيبة، وقال: أعلاها «أطال الله بقاءه، وأدام تمكينه وارتقاءه، ورفعته وسناءه، وكبت عدوّه» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام تأييده، وعلاه وتمهيده، وكبت عداه» .
ودونه «أطال الله بقاءه، وأدام تأييده وحرس حوباءه» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام تأييده ونعماه» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام نعماه» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام عزّه» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام توفيقه وتسديده» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام سداده وإرشاده» . ودونه «أطال الله بقاه، وأدام حراسته» . ودونه «أدام الله تأييده» .
ودونه «أدام الله توفيقه» . ودونه «أدام الله عزّه وسناءه» . ودونه «أدام الله عزّه» . ودونه «أدام الله حراسته» . ودونه «أدام الله كرامته» . ودونه «أدام الله سلامته» . ودونه «أدام الله رعايته» . ودونه «أدام الله كفايته» . ودونه «أبقاه الله» . ودونه «حفظه الله» . ودونه «أعزّه الله» . ودونه «أيّده الله» . ودونه «حرسه الله» . ودونه «أكرمه الله» . ودونه «وفّقه الله» . ودونه «سلّمه الله» . ودونه «رعاه الله» . ودونه «عافاه الله» . وعلى معنى الغيبة يقال في الدّعاء: أطال الله بقاء الأمير، أو بقاء القاضي، أو بقاء سيّدي، أو بقاء مولاي، وما أشبه ذلك في كلّ رتبة بحسبها.
واعلم أن الذاهبين من الكتّاب إلى إجراء المخاطبة في المكاتبة على معنى الغيبة كما هو طريقة ابن حاجب النّعمان وغيره، يعبّرون عن المكتوب إليه بلقبه الخاص: كالوزير، والأمير، والحاجب، والقاضي، وما أشبه ذلك، وذكره بالسيادة وما في معناها، مفضّلين لفظ الجمع، كسيّدنا ومولانا على لفظ الإفراد كسيدي ومولاي، وينعتون المكتوب إليه بالجليل أو الحاجب «1» الجليل، ويجعلون الإفراد دون ذلك في الرتبة فيقولون: سيّدي، أو مولاي الأمير الجليل، أو الحاجب الجليل، ونحو ذلك. ثم توسّعوا في ذلك فجعلوا الدّعاء متوسّطا كلام الصدر على القرب من الابتداء، مقدّمين بعض كلام الصدر عليه، ومؤخّرين بعضه عنه، مثل أن يقال في المكاتبة بشكر: إذا كان الشّكر- أطال الله بقاء سيدنا(8/137)
الأمير فلان- ترجمان النّيّة، ولسان الطويّة، وشاهد الإخلاص، وعنوان الاختصاص، وسببا إلى الزّيادة، وطريقا إلى السّعادة، وكانت معارفه قد أحاطت بمعادنه واستولت على محاسنه، فألسن آثارها مع الصّمت أفصح من لسانه، وبيانها مع الجحود أبلغ من بيانه، ونحو ذلك. ثم أحدثوا اصطلاحا آخر أضافوه إلى الاصطلاح الأوّل، فقدّموا على الدعاء لفظ «كتابنا» أو لفظ «كتابي» رتبة دون رتبة، مثل أن كتبوا: كتابنا- أطال الله بقاء الأمير! ونحن على أفضل ما عوّدنا الله من انتظام الأمور وسدادها، واستقامتها بحضرتنا واطّرادها، أو كتابي- أطال الله بقاء مولاي الحاجب- عن سلامة ينغّصها فقدك، وينتقصها فراقك، وما يجري مجرى ذلك. وربما أبدلوا لفظ كتابنا أو كتابي بلفظ كتبت بصيغة الفعل، وربما ابتدأوا بلفظ أنا ونحوه. ثم خرج بهم الاختيار إلى مصطلحات اصطلحوا عليها مع بقاء بعض المصطلح القديم، فخاطبوا بالحضرة تارة، وبالخدمة تارة، وبالمجلس أخرى، فكتبوا: كتابي، أطال الله بقاء حضرة سيّدنا الوزير، أو سيّدنا الأمير، ونحو ذلك، أو أسعد الله الحضرة، أو أسعد الله الخدمة، أو ضاعف الله جلال الخدمة، أو أعزّ الله أنصار الخدمة. وربما كتبوا: صدرت هذه الخدمة إلى فلان. وقد يكتبون: صدرت هذه الجملة، إلى غير ذلك من تفنّناتهم التي لا يسع استيعابها، ولا يمكن اجتماع متفرّقها.
قلت: وبالجملة فضبط صدور الإخوانيّات وابتداءاتها على هذا المصطلح غير ممكن لاختلاف مذاهبهم في ذلك، والذي تحصّل لي من كلام النحاس وابن حاجب النعمان، وترسّل أبي إسحاق «1» الصابي، والعلاء بن «2» موصلايا، وأبي(8/138)
الفرج الببّغاء «1» وغيرهم من الكتّاب المجيدين أنّ الغالب في المكاتبات الدائرة بين أعيان الدول على سبعة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء)
كما كتب أبو إسحاق الصابي إلى الصاحب إسماعيل «2» بن عبّاد بالشكر والتشوّق: أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، في سلامة دنيا ودين، ونفاذ أمر وتمكين، وتمام عزّ وتأييد، وثبات وطأة وتمهيد، وعلوّ قدر وسلطان، وتعاظم خطر وشان، وتولّاه في نفسه وأوليائه بأحسن ما عرف وألف، من نعم دارّة الحلب متفرّعة الشّعب، محميّة الجهات والجوانب، محجوبة عن النوائب والشّوائب، وأراه في حسّاد فضائله، وكفّار فواضله، ما عوّده فيهم من شقاء جدودهم، وفلول حدودهم، وحلول النّكال بهم، وإثبات العصمة منهم، وجعل حكمه قطبا لمدار الأفلاك، ونهجا لمجاري الأقدار، فلا ينزل منها محبوب مطلوب إلّا توجّه إليه ونحاه، ولا محذور إلّا أعرض عنه وتحاماه، ثم كان برؤوس معانديه حلوله،(8/139)
وبرقابهم إحاطته، وفوق ظهورهم محمله، وعلى صدورهم مجثمه، أمرا جزما قضاه الله له وخصّه به، وأعطته الأيام عليه عهد أمانها، وأمرّت له به عقد ضمانها، عاطفة عليه بطاعتها ومواتاتها، مغضية له عن نوائبها ونبواتها، وحقيق عليه جلّ اسمه أن يفعل ذلك به، ويسمع هذا الدعاء فيه، إذ كان مرفوعا إليه في أوفر عباده فضلا، وأغمرهم نيلا، وأجزلهم أدبا، وأكثرهم حسبا، وأعملهم بطاعته، وأولاهم بإحسانه ومعونته.
كتبت هذا الكتاب أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، ثم انخرط في سلك مقصده إلى آخره.
الأسلوب الثاني (أن يتوسّط الدعاء صدر الكتاب بعد الابتداء بكلام مناسب للحال)
كما كتب أبو إسحاق الصابي أيضا عن بعض الأمراء إلى أمير آخر، مبشّرا بفتح:
ومن أعظم النّعم- أطال الله بقاء مولانا الأمير الجليل- خطرا وأحسنها أثرا، نعمة سكّنت ثورة، وأطفأت فورة، وعادت على الناس بجميل الصّنع، وجليل النّفع، ونظام الأمور، وصلاح الجمهور، فتلك التي يجب أن يكون الشكر عليها مترادفا، والاعتداد بها متضاعفا، بحسب ما أزالت من المضرّة، وجدّدت من المسرّة، وأماطت من المحذور، ونشرت من المأمول. وحقيق على الناس أن يعرفوا حقّها ويوفوها من حمد الله قسطها، ويتنجّزوه وعده الحقّ في أدائها، وإطالة الإمتاع بها، والحمد لله على أن جعلنا ممن يعرف ذلك ويهتدي إليه، ويعتقده وينطوي عليه، ويؤدّي فرض الاجتهاد في الاستدامة والاستزادة منه، وأن خصّنا من هذه النّعم بذوات الفضل السابغ، والظّلّ الماتع، الجامعة لكبت العدوّ ومساءته، وابتهاج الوليّ ومسرّته، وهو المسؤول جلّ اسمه وعزّ ذكره، أن لا يسلبنا ما ألبسناه من سرابيلها، وأجرّناه من فضل ذيولها، وعوّدناه من جلالة أقدارها، وتعاظم أخطارها، ولا يعدمنا معونة منه على بلوغ أقصى الوسع(8/140)
في الاعتداد بها، ومنتهى الطّوق في البشر لها، بمنّه وطوله، وقوّته وحوله.
وقد عرف مولانا الأمير فلان ما كان من كذا وكذا، ثم أتى على ذكر الفتح إلى آخره.
الأسلوب الثالث
أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتابي» كما كتب الصابي عن الوزير أبي عبد الله الحسن بن سعدان، إلى فخر «1» الدولة بن بويه في بشارة فتح:
كتابي- أطال الله بقاء مولانا الأمير الجليل فخر الدولة- ومولانا الملك السيّد صمصام الدولة وشمس الملّة، جار على أفضل حال، جمع الله بينهما في تمام عزّ ونصر، ونفاذ أمر ونهي، وعلوّ كلمة ورأي، وسبوغ موهبة ونعمة، وشكر الله يستزيد من فضله، ويستدرّ المادّة من طوله، وأنا جار فيما أحمّله من أعباء خدمتهما، وأتولّاه من تعاظم شؤونهما، على أجمل ما عوّد الله وزراء هذه المملكة المناصحين لها، وأوليائها المحامين عنها، من هداية إلى مراشد الأمور، وتوفيق لصواب التدبير، والحمد لله ربّ العالمين، وقد كان كذا وكذا.
الأسلوب الرابع
أن يفتتح الكتاب بلفظ «كتبت» كما كتب الصابي إلى صاحب الجيش في تعزية:
كتبت- أطال الله بقاء سيدنا صاحب الجيش- والعين عبرى، والكبد حرّى، والصبر مسلوب، والعزاء مغلوب، بالفجيعة في سيّدي فلان نضّر الله(8/141)
وجهه، وكرّم منقلبه، التي هدّت الجلد، وفتّت في العضد، وبسطت عذر الجزوع، وهجّنت حلم الحليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى أمره صائرون، وعند الله نحتسبه غصنا ذوى، وشهابا خبا، وعلق مضنّة علقت به أيدي النّوائب، وتخيّرته سهام المصائب، وقارنت بين قلوب الأباعد والأقارب، والخواصّ والعوامّ في التألم لفقده والاستيحاش لمصرعه، والكآبة لوقوع المحذور به، وعزّ عليّ أن يجري لساني بهذا القول، ويدي بهذا الخطّ، إلى آخر المكاتبة.
الأسلوب الخامس
أن يفتتح الكتاب بالخطاب، كما كتب صاحب ديوان الإنشاء في زمن المسترشد «1» عن نفسه، إلى شجاع الدولة وزير دمشق، بعد هلاك زنكي «2» بن اقسنقر:
أيها السيد الرئيس المحامي عن سربه، والذي قصّر إلّا في المعالي، ربّ ناء بجسمه وهو دان بقلبه، وغريب إذا نسبت وأمير على دمشق مطاع في صحبه، وله بالعراق إخوان من حزبه، إلى آخر المكاتبة.
الأسلوب السادس
أن تفتتح المكاتبة بلفظ: «أنا» كما كتب الصابي عن نفسه إلى الأثير أبي الحسن يهنّئه بعيد:(8/142)
أنا- أطال الله بقاء سيّدنا الأستاذ الأثير- أحاول الخدمة له والقربة منه منذ وصلت إلى العسكر المنصور، فيعترض دون ذلك عوارض يجري بها المقدور، إلى الحين الموقّت المسطور، وقد علم منّي وشهر عني كذا وكذا، إلى آخر الكتاب.
الأسلوب السابع
أن تفتتح المكاتبة بلفظ «صدرت» أو «أصدرت» كما كتب صاحب ديوان الإنشاء في زمن المسترشد عن نفسه إلى أبي الفرج سعد بن محمد تشوّقا:
صدرت هذه الجملة إلى فلان، ولواعج الأشواق إليه متضاعفة مترادفة، واستمرار الصّبر على البعد عنه قد رثّ قواه، ووهن عراه، وأعوزنا وجدانه إذ عنّت ذكراه، وإن كان ذكره سمير الخاطر، وتجاه الناظر، والغريم الملازم، الذي يستحق غالبه اللبيب الحازم، إلى آخر الكتاب.
المهيع الثاني (في الأجوبة على هذا المصطلح، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل أن يفتتح الجواب بما يفتتح به الابتداء
ثم يقع التعرّض بعد ذلك لوصول الكتاب والجواب عنه، إما ملاصقا لأوّل الابتداء، وإما بعد كلام طويل.
فأما ما هو متصل بأوّل الابتداء، فكما كتب الصابي:
كتابي- ووصل كتاب مولاي وفهمته، وجلّ عندي قدره وموقعه، وسكنت إلى ما دلّ عليه من سلامته، وسألت الله أن يسبغ عليه ظلّها، ويملّيه نعمه كلّها، فأما ما ذكره من كذا وكذا، إلى آخر الكتاب.
وأمّا ما هو بعد كلام طويل، فكما كتب الصابي أيضا عن نفسه إلى الصاحب(8/143)
ابن عبّاد»
:
كتابي- أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل كافي الكفاة- وليس من جارحة إلّا ناطقة بشكره وحمده، ولا في الدّهر جراحة إلّا عافية بفضله ورفده، وأنا مستمرّ له على دعاء، إن خلوت من أن يكون عائدا لصلاحي، ورائشا لجناحي، لألتزمنّه عن الأحرار العائشين في نداه، المستظلّين بذراه «2» ، فكيف وأنا أوّل ساهر في مرابعه، ووارد لشرائعه، وأحوالي جارية على استقامة أقوى أسبابها تصرّف الأيام على آرائه، واتباعها إيثاره في أوليائه وأعدائه. والحمد لله رب العالمين، قضاء لحقّه واقتضاء لمزيده، واستدامة للنّعمة عنده، التي استحصفت في أيدينا سعتها، وسالت علينا شعابها، وغمرتنا سجالها، وتفيّأت لنا ظلالها، وما يزال بين رغبة مولانا الصاحب الجليل كافي الكفاة- أدام الله علوّه، وكبت عدوّه، في عبده ورغبة عبده إليه سرّ مكنون في الصّدور، ومستور تحت الضّلوع، فهما يتناجيان به على بعد الدار، ويلتقيان عليه بالأفكار، فإن تطلّع من حجاب القلوب، وشذّ من ظهور الغيوب، فإنّ ظهوره يكون من جهته في نفحات الإنعام، ومن جهتي في ثمرات الكلام. وقد وصل كتابه المخطوط بكرمه لا بقلمه، إلى صنيعته الماثل بين يديه بهممه لا بقدمه، فلم يستطع أن ينهض من الفكر، إلّا بقدر ما يبرّيء ساحته من الكفر، ويبلّغه إلى آخر الاجتهاد والعذر، وأسأل الله أن يطيل بقاءه للإفضال المأخوذ منه، والفضل المأخوذ عنه، والعلم الذي يزخر به بحره، والفخر الذي يسحب له ذيله، والعزّ الذي ضرب عليه رواقه، والسلطان الذي ألقي إليه استحقاقه، والأمر والنهي اللذين يحويهما تراثا واكتسابا، إذا حواهما غيره غلولا واغتصابا، بمنّه وطوله، وقد كان كذا وكذا.(8/144)
الضرب الثاني (أن يفتتح الجواب بلفظ «ورد أو وصل» ونحوهما)
كما كتب الصابي عن الوزير أبي عبد الله بن سعدان في جواب كتاب ورد عليه: وصل كتابك- أطال الله بقاءك- وفهمته، وأدّى فلان ما تحمّله عنك ووعيته، وازددت به بصيرة في سدادك ومعرفتك، وفضلك وحصافتك، واجتماع الأدوات الجميلة فيك، الداعية إلى إعلاء محلّك، وحميد حالك، والثّقة بك، والاستنامة إليك، وأنهيت ذلك إلى الملك فلان، فأصغى إليه مستمعا، وأوجب لك به حقّا متضاعفا، وأمرني بكذا وكذا إلى آخر مراده.
وكما كتب أبو الفرج «1» الببّغاء في جواب كتاب:
ورد كتابك مشافها من البرّ، ومؤدّيا من الفضل، ومتحمّلا من المنن، ما تجاوز الإنصاف إلى الإسراف، وقرن الإكرام بالإنعام، ولم أدر أيّ المنح به أشكر، ولا بأيّ العوارف له أعترف؛ أبما تحمّله من جميل نيّته، أم ما أدّى من جليل مخاطبته، أم ما ناجتني به فوائد ملاطفته، أم ما اعتمدني من حلاوة مفاوضته، إلى غير ذلك من الوصول إلى النعمة التي لا أطاولها بشكر، ولا أقاومها بمنّة اعتداد، وهو ابتداؤه إيّاي من المكاتبة بما أحرز به على عادته قصب السّبق، وزاد على الرّغبة مبرهنا وبصادق الودّ مخبرا، وإلى البسط دليلا، وعلى مستأنف الخدمة بالمواصلة باعثا، ووجدته أيده الله قد فعل كذا وكذا.
المهيع الثالث (في خواتم الإخوانيّات على هذا المصطلح)
واعلم أنه لم يكن لهم ضابط للاختتامات، ولا ما يقتضي ملازمة اختتام معين لصدر معيّن، بل ذلك موكول إلى رأي الكاتب لا يراعي فيه غير علوّ الرتبة(8/145)
وهبوطها، حيث تفاوتت رتب الاختتامات عندهم.
ثم الاختتامات لديهم على أنواع شتّى:
منها- الاختتام باستماحة الرّأي، وهو على مراتب: أعلاها «ولمولانا علوّ الرأي في ذلك» كما كتب الصابي في خاتمة كتاب: ولمولانا علوّ الرأي في تشريف خادمه بالقبول، والتقدّم بإعلامه بالوصول، واستخدامه بما يتعلق بآرابه «1» وأطاره- ومن نظائر ذلك وأشكاله- إن شاء الله تعالى.
ودون ذلك- الاختتام بلفظ «فإن رأى كذا وكذا فعل» كما كتب الصابي في خاتمة كتاب بشارة بفتح: فإن رأى سيّدي أن يعرّفني موقع هذه البشرى منه، ومقابلتها بالشكر الواجب عليها، ويتقدّم بإشاعتها في نواحيه وأعماله، ليكبت الله به عدوّه وعدوّنا، ويكاتبني بما أتطلّعه من أحواله وأخباره، وأتعمّد إسعافه به من مآربه وأوطاره، فإنّي أعتدّه شريكا لنا مساهما، وخليطا مفاوضا، فعل إن شاء الله تعالى.
ودونه «فرأيك في كذا وكذا» كما كتب أبو الفرج الببّغاء في خاتمة كتاب في الحثّ على مواصلة الكتب، فرأيك في إيناسنا بكتبك متضمنة ما نؤثره من انبساطك، ونعلمه من أخبارك، موفّقا إن شاء الله تعالى.
وقد تقدّم في الكلام على أصول المكاتبات لأيّ معنى كان فرأيك دون فإن رأيت.
وذكر ابن حاجب «2» النّعمان أنّ أعلى المراتب «وللآراء العالية فضل السموّ ومزيد القدرة. ودونه «ولرأي المجلس الفلانيّ فضله وسموّه» . ودونه «ولرأي الحضرة الفلانية فضله» . ودونه «ورأي حضرة مولانا أسمى» . ودونه «ورأي حضرة مولاي العالي» . ودونه «ورأيه موفّقا» . ودونه «ورأيه السديد» . ودونه «ورأيه الأرشد» .(8/146)
ودونه «والمؤثر كذا» . ودونه «فأحبّ أن يفعل كذا» . ودونه «ويجب أن يفعل كذا» .
ودونه «فافعل كذا من غير مخالفة» . ودونه «واحذر المخالفة» .
ومنها- الاختتام بالدعاء، كما كتب الصابي خاتمة كتاب «وأسأل الله أن يطيل بقاءه، ويصل إخاءه، ويحفظه بعيدا وقريبا، ويرعاه غائبا وحاضرا.
ومنها- الاختتام بطلب مواصلة الكتب، كما كتب الصابي في خاتمة كتاب:
وأنا أسأله أن يواصلني بكتبه، مضمّنة أخباره الطيّبة، وأمره الممتثل، وأوطاره ومهمّاته، معتمدا بذلك، إن شاء الله تعالى.
ومنها- الاختتام بترك التكليف بالمكاتبة في غير الضروري، كما كتب الصابي في آخر مكاتبة: وما أطالب سيدي بالمكاتبة إلّا عند الحاجة العارضة، فإنه يفيدني بها جميلا أشكره، ويستفيد مني سعيا يحمده، فأمّا ما عدا ذلك مما يشغل أوقات راحته، ويسدّ فرج خلوته، فإنني أستعفي منها استعفاء المتقرّب إليه، المؤثر لما خفّ عليه، وله فيما سألت فضل النظر فيه، والإسعاف به، إن شاء الله تعالى.
ومنها- الاختتام بالتحذير من المخالفة، كما كتب الصابي في خاتمة الكتاب إلى جماعة بتحصيل قوم: وليكتب كلّ واحد منهم بخبر من عسى أن يظفر به من هؤلاء، أو يقف على موضعه، أو ينتهي إليه شيء من خبره، وليحذر من التقصير في ذلك. إلى غير ذلك من الاختتامات التي لا تحصى كثرة.
وقد ذهب كثير من الكتّاب [إلى عدم تفضيل بعض الاختتامات على بعض] «1» على أنّ ابن حاجب النّعمان قد قال في «ذخيرة الكتاب» : إنّ أعلى ذلك بالنسبة إلى المكتوب إليه، وللآراء الفلانيّة فضل السّموّ ومزيد القدرة. ودونه «ولرأي المجلس الفلاني فضله وسموّه» . ودونه «ولرأي الحضرة الفلانيّة فضله» .(8/147)
ودونه «ورأي حضرة سيدنا أسمى» . ودونه «ورأي حضرة مولاي العالي» . ودونه «ورأيه موفّقا» . ودونه «ورأيه السّديد» . ودونه «ورأيه الأرشد» . ودونه «والمؤثر كذا» . ودونه «فأحبّ كذا» . ودونه «ويجب أن يفعل كذا» . ودونه «وسبيله أن يعتمد كذا» . ودونه «فافعل كذا» . ودونه «فافعل كذا من غير مخالفة» . ودونه «واحذر المخالفة» .
المهيع الرابع (في عنوانات الكتب على هذا المصطلح، وفيها أربعة أحوال)
الحالة الأولى- أن يكون العنوان من الرئيس إلى المرؤوس
. قد ذكر في «صناعة «1» الكتّاب» أنّ العنوانات من الوزير والقاضي وغيرهما من الرؤساء على تسع مراتب:
(الأولى) أن يكتب في الجانب الأيمن «لأبي فلان أطال الله بقاءه وأعزه» ، وفي الجانب الأيسر «من فلان بن فلان» باسم الوزير واسم أبيه إن لم يكنّه الإمام، فإن كنّاه، كتب «من أبي فلان» ، والقاضي في معنى ذلك.
(الثانية) أن يكتب في الجانب الأيمن «لأبي فلان أطال الله بقاءه» فقط، ويكتب الاسم «2» ولا يكتب: وأعزّه.
(الثالثة) أن يكتب في الدعاء للمكتوب إليه: أدام الله عزّه.
(الرابعة) أن يكتب: أعزّه الله.
(الخامسة) أن يكتب: أكرمه الله وأدام كرامته.
(السادسة) أن يكتب: أكرمه الله، وفي ذلك يكتب اسم الوزير في الجانب الأيسر.(8/148)
(السابعة) أن يكتب: أبقاه الله، ولا يذكر اسم الوزير في هذه المرتبة وما بعدها.
(الثامنة) أن يكتب: حفظه الله، ولا يكتب اسم الوزير.
(التاسعة) أن يكتب: عافاه الله.
وعلى نحو ذلك جرى ابن حاجب النّعمان في «ذخيرة الكتاب» فقال: إنه يبدأ في الجانب الأيمن بذكر المكتوب إليه ونعوته وكنيته واسمه واسم أبيه ونسبه المشهور من ناحيته أو قبيلته أو بلده، ثم يذكر المكتوب عنه في الجانب الأيسر باسمه واسم أبيه، فإن كان الكتاب عن الوزير، ذكر كنيته في الجانب الأيسر، إن كان الإمام أمره أن يكاتب متكنّيا أو متلقّبا.
وقد سبق في الكلام على أصول المكاتبات في أوّل الباب الثاني من هذه المقالة أنّ من السّلف من كره لأبي فلان وقال: الصواب أن يكتب إلى أبي فلان.
قال في «صناعة الكتاب» ويكتب: لأبي الحسن، فإن أعدت الكنية في الناحية الأخرى رفعت فقلت: أبو الحسن عليّ بن فلان على المبتدإ والخبر أو على إضمار مبتدإ، وإن شئت خفضت على البدل، فإن لم تعد الكنية كان الخفض أحسن فقلت لأبي الحسن. ثم قال: وإن كتبت إلى رجلين كنية كلّ منهما أبو الحسن، كتبت لأبوي الحسن، إذا لم يكن لهما ولد يقال له الحسن، فإن كان لكل منهما ولد يقال له الحسن، جاز أن يكتب لأبوي الحسنين. قال: والاختيار أن يكتب لأبوي الحسن أيضا؛ لأنّ المعنى للّذين يقال لكلّ واحد منهما أبو الحسن.
ويجوز أن يكتب إلى الرجلين اللّذين يكنّيان بأبي الحسن: لأبي الحسن بفتح الباء وكسر الياء على لغة من قال جاءني أبك، والأصل فيه لأبين الحسن سقطت النون للإضافة، ويكتب في الجميع لأبي الحسن بكسر الباء، الأصل لأبين بكسرها أيضا، سقطت النون للإضافة على لغة من قال: جاءني أبوك يعني بضم «1» الواو،(8/149)
ويجوز أن يكتب لرجل كنيته أبو الحسن لأبا الحسن على لغة القصر، كما يقال لفتى الحسن.
قال في «ذخيرة الكتاب» وإن كان الكتاب إلى اثنين «1» وكنايتهما مختلفة، كأبي جعفر، وأبي منصور، وأبي بكر، كتبت آباء جعفر ومنصور وبكر. وإن كانت كنايتهم متفقة مثل أن تكون كنية كلّ منهم أبو جعفر كتبت آباء جعفر.
الحالة الثانية- أن يكون العنوان من المرؤوس إلى الرئيس
. قد ذكر «النحاس» عن الفضل بن سهل أنه إذا خوطب الكفء «بجعلني الله فداءك» بالصدر الكامل، فأحسن دعائه للعنوان، «أعزّه الله وأطال بقاءه» ، وذكر أنه إذا كوتب بأعزّه الله فأجمل العنوان مدّ الله في عمره. قال في «صناعة الكتّاب» ولا يتكنّى الرجل في كتبه، إلّا أن تكون كنيته أشهر من اسمه فيتكنّى على نظيره، ويتسمّى لمن فوقه، ثم يلحق المعروف أبا فلان، أو المعروف بأبي فلان. قال:
ويكتب: من أخيه، إن كانت الحال بينهما توجب ذلك.
الحالة الثالثة- أن يكون العنوان من الرجل إلى ابنه ومن في معناه
، قد ذكر النحاس أنه يعنون إليه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، ثم قال: وكذا كبير الإخوة والرجل إلى أهل بيته.
الحالة الرابعة- أن يكون المكتوب إليه امرأة
. قال في «صناعة الكتّاب» :
إن كان المكتوب إليه أمّ الخليفة، كتب: للسيدة أمّ فلان أمير المؤمنين، وإن كانت امرأة الخليفة وكان ابنها معهودا إليه بالخلافة، كتب للسيدة أمّ فلان وليّ عهد المسلمين، وإن كانت امرأة رجل جليل، كتب للحرّة أمّ فلان، ولا يكتب اسمها، ويدعو لها بالدعاء الذي يكون خطابها به.(8/150)
هذا ما كان الحال عليه في زمن النحاس في خلافة الراضي وما حولها.
وقد ذكر ابن حاجب النعمان في «ذخيرة الكتّاب» أنّ الحال تغيّر عن ذلك عند تغيّر المكاتبات إلى المجلس العالي، والحضرة السامية، وما يجري مجرى ذلك، ثم قال: فعلى هذا إذا كتب إلى المكتوب إليه بالمجلس العالي أو السامي ونعوته، فيجب أن يكنّي عن نفسه بالمملوك أو مملوكه أو العبد أو الخادم. وإذا كتب: الحضرة السامية أو العالية ونعوتها، فيجب أن يكنّي عن نفسه الخادم أو خادمها أو عبدها أو إذا كتب: حضرة سيدنا ونعوتها، فيجب أن يكنّي عن نفسه خادمها أو خادمه وعبدها أو عبده. وإذا كتب: حضرة مولانا ونعوته، فيجوز أن يكنّي عن نفسه ما شاء من ذلك. قال: وفي الكتابة إلى النظير لا ضابط لعنوانه كما لا ضابط لمكاتبته، بل له أن يكنّي عن نفسه بما شاء مما تقدّم ذكره.
ثم قال: وإن كانت المكاتبة من الرئيس إلى المرؤوس، فيجب أن يكنّي:
حضرة الفلاني بغير مولاي- ودونه: الفلاني بغير حضرة، وكنيته ونعوته واسمه واسم أبيه، ويكنّي عن نفسه ما يختار أن يكتبه الرئيس إلى المرؤوس مما هو معروف مشهور، ويزيد في اسمه واسم أبيه ألفا ولا ما، إن كانا مما يجوز أن يزاد [فيهما] ، وإذا كتب المرؤوس إلى الرئيس وكنّى عن نفسه بما كنّى، فيجب أن يحذف من اسمه واسم أبيه الألف واللام. قال: وللرئيس أن يكتب عن نفسه بما شاء من الكنايات التي تليق بمنصبه واسمه واسم أبيه ونعته المقترن بأمير المؤمنين، مثل ناصر أمير المؤمنين، وحسام أمير المؤمنين، وما أشبه ذلك.
المقصد الثاني (في [رسوم] إخوانيّات أهل المغرب)
وعادتهم فيها أن يكون الخطاب فيها خطاب المواجهة. مثل: أنت، وأنا، ولك، وعندي، وعندك. وربّما خاطبوا الواحد بميم الجمع تعظيما للمكتوب إليه، كما يعبّر عن المتكلّم الواحد بنون الجمع تعظيما له. قال ابن شيث في(8/151)
«معالم الكتابة» : ولا يعرف ذلك لغيرهم، وربّما وقع الخطاب عندهم على الغيبة أيضا، وفيه جملتان:
[الجملة الأولى (في مفتتحات المكاتبات على اصطلاحهم، وفيها مهيعان)
المهيع الأوّل (في ابتداء المكاتبات، وهي على طرق) ]
«1» منها- أن تفتتح المكاتبة بالدعاء؛ إمّا بطول البقاء كما كتب عبد الله بن طاهر «2» : أطال الله بقاء سيدي الأعلى، ومفزعي في الجلّى، متمّمة عليه النّعم، ميسّرة لديه الهمم، أقول بدءا أيّدك الله: لقد أعشى الناظرين سناك، كما أعيا الطالبين مسعاك، ولئن فتّ الجميع، لقد أبدعت الصّنيع، فلا غاية لمجد إلّا وأنت آتيها، لا ذروة لعزّ إلّا ومن ظباك بانيها، لك الهدى والناس ضلّال، وفي يديك الضوء والكلّ أغفال، وإن الأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو المطرّف بن عميرة «3» : أطال الله بقاء الأخ السّريّ الكريم، الحريّ بالتّقديم والتعظيم، أوحد فرسان الإحسان، وواحد عقبان البيان، ولا زال قلمه جالي بدائع السّحر، جالب بضائع الشّحر «4» مغبوط السّبق، عند كلال جياد(8/152)
الكلام، مبسوط الرّزق، في حال إملاق الأقلام، إن ذكرت- أبقاك الله- البلاغة فمن على موردها يساجلك، أو قيل في شريعتها بنيت على خمس فإنما هي أناملك، صفوها متفجّر من معينك، وشاؤها لا مطمع فيه لغير يمينك، وشأوها تستوفيه في هيئة متمهّل، وجناها ترعاه بعزّة أخي مهلهل، فقد صرت أمام أمّتها، لا بل إمام أئمتها، والراضع لرسلها، بل الواضع لأصلها. فهنيئا لها أن كنت سابق غايتها، وسائق رايتها، وبشرى لمهرق وشّته يراعتك، ومشّته براعتك، لقد أوتي من الحسن ما تشتريه القلوب بحبّاتها وتشتهيه النفوس أكثر من حياتها، وإن الأمر كذا وكذا.
وإما بالبقاء المجرّد.
كما كتب أبو محمد بن عبد «1» البرّ، إلى بعض أرباب الأقلام:
أبقى الله الشيخ في عزّة تالدة طارفة، وسعادة لا تزال طارقة بكلّ عارفة، ولا زال قاصده مخيّما من رفده بروض ناضر، ومحوّما من مجده على مسرّة سمع وقرّة ناظر، والأمر كذا وكذا.
وإما بالدعاء للحضرة.
كما كتب أبو زيد «2» الفازازي:
أبقى الله حضرة السيد ناضرة أدواح السّعد، عاطرة أفواح المجد، ساكبة أنواع الجدّ، صائبة سهام الجدّ، ولا زالت مغشيّة الجناب، بوفد الحمد، موشيّة(8/153)
الإهاب، بسودد الحفد. الظّلّ إذا رحب، ازدحم عليه الضّاحون، والورد إذا عذب، ازدلف إليه الممتاحون، وظلّ الحضرة المكرّمة كثيف الأفياء، ووردها مغن عن وسائط الأرشية والدّلاء، فلا غرو أن تضرب إليها أكباد الإبل، وتغصّ بالوفود عليها أفواه السّبل، والله تعالى يعين الحضرة المكرّمة على الأيادي تسوّغها، والآمال تبلّغها، بمنّه. وإن الأمر كذا وكذا.
وإما بالدّعاء للمحلّ.
كما كتب أبو المطرّف بن عميرة في صدر شفاعة:
أبقى الله المحلّ الأعلى حرما يتحاماه الأنام، وعلما تتضاءل له الأعلام، ولا زالت آراؤه الناجحة، تستمدّها العقول والأفهام، ومساعيه الصالحة، يشكرها الله والإسلام، إنّ مجدا سامى الكواكب بمثواه، وسارى الغرّ السواكب في جدواه، لداع إلى استلام كفّه العلية، والاستهام على وصفه الذي له حقيقة الأوليّة، وكيف لا وقد أجار من الدهر المخيف، وصار قبلة كلّ داخل تحت التكليف، يعيد متى أخطأها صلاة الأمل، ويرى الاجتهاد في طلبها من راحة العمل، وإنّ الأمر كذا وكذا- إلى غير ذلك من أنواع الدعاء.
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بلفظ «كتابي» كما كتب أبو المطرّف بن عميرة إلى بعض العلماء:
كتابي إلى سيدي- حفظه الله مقيما وسائرا، وأبقاه لغرر البيان ساحرا، وعن وجه الإحسان سافرا، ولا زالت آدابه تشرق وتروق ساهرا، ومحاسنه كالشمس إذا لم يلق نورها ساترا، من فلانة- والودّ روضة مطلولة، ورحم موصولة، خلص من القلب إلى حبّته، واختصّ منه بما ليس لأحد من أحبّته، وأثار شوقا على قدره، وهوى ثوى في صدره، وأسفا على عهد أصبو إلى ذكره، فات، وردّ الفائت يعسر، وقصر، وأيام السّرور تقصر، كأنما كان قراءة سطر، أو إغفاءة فجر، أو زيارة مجتاز، أو عبارة ذي إيجاز. فمن لنا بذلك الأرج الذكي، والأريحيّ يرتاح لما يخترع أو يحكي، ومتى نفوز بمن ينحت من صخر، ويزري بأبي صخر، ويغرف(8/154)
من بحر، ويجري مع أبي بحر، ويجمع إسناده بين الجامع والمسند، وينشد من بدائع حفظه ما يؤثر يد المسند، شجرة علم تؤتى كلّ حين أكلها، ومزنة فضل تجود ما نخشى بخلها، وضالّة أدب يقلّ لها أن يجعل القارت «1» جعلها، فات عنّا، فأتعب وعنّى، فهل معين على دواء إن نحن لسعنا، أو سبيل إلى ما يفيدنا من الكلام فنحن في حروف تجيء بغير معنى، وإن الأمر كذا وكذا.
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتبت.
كما كتب أبو زيد الفازازي:
كتبت- كتب الله للأخ الأبرّ الأوفى، والفاضل الذي آثار مآثره لا تخفى، مجدا هامي الرّبابة، سامي الرابة، وذاكرا منتحلا بالإطالة والإطابة، وقرن أعماله بالقبول ودعواته بالاستجابة- من مكان كذا، ولا جديد بيمن الله تعالى إلّا صنعه الجميل، ولطفه العريض الطويل، والحمد لله ربّ العالمين، حمدا يؤمّن آلاءه من التغيير والتبديل، والأمر على كذا وكذا.
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بكناية عن المكتوب إليه من لقب ونحوه، كما كتب أبو المطرّف بن عميرة لبعض الرؤساء:
الجناب الرّياسيّ أدام الله اعتلاءه وحرس مجده وسناءه.
صدرت هذه الخدمة إليه من فلانة، ولا مزيد على ما يجب لجلاله من التعظيم، ولفضله من التقديم، ولآلائه من الشّكر العميم، وإنّ الأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو بكر «2» بن عيسى شافعا في أنصاريّ:(8/155)
السيد العماد، والماجد الجواد، والملجأ المنيع المريع لمن يرتاع أو يرتاد، أدام الله علاءه، وضاعف عنده آلاءه، بدر الجملة الشريفة، وفرع الدّوحة المنيفة، من آل قيس الجود، وقيل بني قيلة الباذلين الموجود، أولئك الذين عزّ المهاجرون بإخائهم وسخائهم، فلا غرو أن تكلف الألسنة بمدحه، وتمدّ الأيدي إلى منحه، ويصدّر باسمه تاريخ الأجداد فهو أحقّ مفتتحه، والأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو المطرّف بن عميرة، عن الأمير أبي جميل «1» زيّان، إلى الأمير أبي زكريّا «2» بن إسحاق:
الأمير الأجلّ الهمام الأعلى حرس الله مقامه، وأسعد أيّامه، وظاهر بالنّصرة مضاءه واعتزامه، راسخ شرف النّجار، ثابت أصل الفخار، مستهلّ آلاء السّحب الغزار، والعيون إليه سامية، والهمم إلى ما لديه مترامية، والصدور بالأمل فيه تشرح، والنفوس الحرّة إلى استرقاقه تطمح، ولا غرو- والكرم من بعض شيمه، والغنى من فضل ديمه- أن يسير إليه في البر والبحر كلّ ذي رغبة، وتترامى نحوه ركائب الرّجاء من كل تربة، ومخاطبتنا هذه إلى مجلسه أيده الله عمّا نعلمه من كبير قدره، ونوجبه لعالي أمره، ونبيح به من طيّب خبره، وجميل ذكره، والأمر كذا وكذا.(8/156)
وكما كتب أبو الحسن بن شلبون «1» :
العماد المذخر، والملاذ الذي بولائه أفخر، جعل الله قدره عاليا، ودهره بمحاسنه حاليا، ولا زال للنّعم قابلا وللأ [سواء] قاليا، كتبت من مكان كذا، والودّ حلية يتألّق رونقها، وشجرة لا يسقط ورقها، وإنها مغروسة، لا تقبل بذر العوادي، ومحروسة، لا يقع عليها من يقع في شجر الوادي، والأمر كذا وكذا.
وكما كتب أبو المطرّف بن عميرة إلى بعض الفقهاء شافعا موصيا:
المحلّ الأعلى- ضاعف الله أنوار هدايته، وأبقى على الجميع آثار عنايته- مستودع الكمال، ومشرع الآمال، ومقعد أرباب السّؤال، ومصعد الصالح من الأعمال، وإن فلانا من أمره كذا وكذا.
وكما كتب ابن أبي «2» الخصال:
الشيخ الأجلّ أدام الله عزّه ونعماه، ووصل رفعته وعلاه بتقواه، مجلّ قدركم، وملتزم برّكم وشكركم، العارف بحقّكم، فلان، فكتب يعظّمكم كتب الله لكم خيرا مستمرّا، ورضا على ما ترضونه ثابتا مستقرّا، من مكان كذا، على الرسم الملتزم من توفير علائك، والشّكر لآلائك، والربّ تعالى ينهض بحقكم اللازم الألزم، ويصل حراسة مجدكم الأتلد الأقدم، بمنّه وفضله، وإنّ الأمر كذا وكذا.
واعلم أنه ربّما أتي بعد ذكر النّعوت بالسلام، ثم بحمد الله تعالى والصلاة(8/157)
على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، ثم الرّضا عن الخلفاء الماضين والخليفة القائم. وعلى ذلك كانت طريقة كتّاب دولة الموحّدين أتباع «المهديّ «1» بن تومرت» كما كتب أبو محمد بن عبد البرّ:
الشيخ الأجلّ، أدام الله عزّته، ووصل كرامته ورفعته، مجلّ قدره، وملتزم برّه وشكره، المسرور بما يجريه إحسانه من طيّب ذكره.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد حمد الله العظيم، والصلاة على سيدنا محمد رسوله الكريم، وعلى آله- والرّضا عن الإمام المعصوم مهديّه، وعن خلفائه الأئمة الراشدين- والدعاء لسيدنا الخليفة الإمام أمير المؤمنين، ابن الأئمة الخلفاء أمراء المؤمنين، بالنّصر الأعزّ، والفتح الأتمّ الأوفى، فكتب كتب الله لكم مجدا لا يهي شرفه، وسعدا لا يني طرفه، من فلانة- حرسها الله- ولا ناشيء عن الله تعالى وعميم لطفه إلّا الخير الأكمل، والصّنع الأجمل، والحمد لله رب العالمين كثيرا، وإنّ الأمر كذا وكذا.
قلت: وعلى هذه الطريقة كانت كتابة أبي عبد الله بن الخطيب «2» ، كاتب ابن الأحمر بالأندلس على القرب من زماننا.
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بالخطاب، إما مع حذف ياء النّسب أو مع إثباتها، أما مع حذفها، فكما كتب أبو المطرّف بن المثنى «3» :(8/158)
سيّدي ومفخري، وعصمتي ووزري، وركني وعمادي، وذخيرتي وعتادي، أبقاك الله ناهجا سبل المكارم والمعالي، موقّى حوادث الأيّام واللّيالي. كتبي أعزّك الله عن عهد حسن لك قد أحكمت معاقده، وودّ محض فيك قد صفت موارده، ونفس ترتاح لذكراك، ولسان لاه بين محاسنك وعلاك، قد انفسح في نشر فضائلك ميدانها، وفاق في وصف فواضلك بيانها، فهي تنظم عقود مجدك، على أجياد شكرك، وتحوك من برود تقريظك وثنائك، خلعا لمجدك وسنائك، وشيها الذّكر الخطير، وطرازها الترفيع والتّوقير، تكسر عصب عدن، وتعفّي على وشي اليمن، وتطلع من رياض أخلاقك، في منابت أعراقك، ما يزري بنسيم المسك تضوّع عرفه وانتشاره، ويربي على حسن النجوم الزاهرة طوالع أزهاره وأنواره، وأخلق بمن جمع الله العالم فيه، وحرس معاهد البرّ بكريم مساعيه، أن لا تعزى خلّة نبيلة إلّا إليه، ولا تقصر منقبة جليلة إلّا عليه، ولا تؤثر مأثرة نفيسة إلّا عنه، ولا تقتبس سيرة جميلة إلّا منه، والله تقدّس اسمه يحمي هذه الأوصاف البديعة، والخلال الرفيعة، من طوارق الدّهر ونوازل الغير، ويجعل عليها يدّه، ويصرف عنها معرّة كل خطب وشدّة، بحوله وطوله، ويكون الأمر كذا وكذا.
وأمّا مع إثبات ياء النّسب «1» ، فكما كتب أبو المطرّف بن الدّبّاغ «2» إلى بعض الأدباء عند وروده إلى بلاده:
يا مولاي وسيّدي، العظيم شأنه وأمره، العالي صيته وذكره، ومن أبقاه الله في عزّ لا تنفصم عراه، وحرز لا يستباح حماه، لم أزل- أبقى الله سيّدي ومولاي- تسمو بي إلى الكتابة همّة، وتترامى بي إلى البلاغة عزمة، حتّى تذلّلت لي صعابها فامتطيت، وتسهّلت لي حزونها فارتقيت، ولمّا رفعت لي عن غرائبها(8/159)
الأستار، وعلمت من غوامضها الأسرار، وفزت بالمعلّى من سهامها، والموفور من أقسامها، جعلت بأيّ أئمتها أأتمّ وأهتدي، وإلى أي رؤسائها أنتسب وأعتزي، ناظرا في ذلك إلى شائع الأخبار، ومتداول الآثار، فوجدت الألسنة إذا تناولت صفة سواه، تحلّت بعض حلاه، أو أرقته إلى رتبة من العلياء، تمثّلت به في الرّفعة والسّناء، ثم تفرده أعزّه الله دونها بالفهم المتين، والعلم المشهور، والحلم المتعارف، والفضل المتواصف، والرّتبة السامية، والجلالة المتناهية، فكلّما رأيت محاسن مجده تجلى، وسور فضله تتلى، هممت أن أطير إلى حضرته بجناح الارتياح، وأركب إلى أفقه نوّره الله أعناق الرّياح، والأيّام تقطعني بمصائبها، وتقيّدني بأحداثها وبحوائبها، حتّى قضى الله أن يرد هذا الأفق فأخرخ الأمل بغير نصب، وأنال البغية بغير طلب (طويل) .
وليس الّذي يتّبّع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بالتحيّة والسّلام.
كما كتب أبو المطرّف «1» بن عميرة:
تخصّ الابن محبّة ومقة، والعباد اعتدادا بجانبه وثقة، حفظ الله نجابته، وجعل لداعي السّيادة تلبيته وإجابته، تحيّة الإجلال والتّكرمة، والمودّة الخالصة المتحكّمة، ورحمة الله تعالى وبركاته، من مكان «2» كذا، والودّ كلف، والعهد بالصّون من جميع جوانبه مكتنف، وتكلم الذات السنيّة ذخيرة جليلة، وأمل لا تخطيء منه مخيلة «3» ، وهبة يكذب معها أن يقال الأيّام «4» بخيلة. وكنّا نظنّ أنّ(8/160)
بناء «1» الكرم صمّ صداه، ومربع الفضل عاصب «2» برداه، وغائب عن الرّشد أداه «3» ونقول: ما كلّ من أقعدته العيلة «4» عميلة، ومتى يفطن «5» عمير عمر وبحيله، فكفا بكفاتها، وهل «6» سوى قيس لرحى العجوز عدمت جداتها، حتّى «7» تمثّل هذا المجاهد من طرفيه، المستقبل آثار سلفيه، حفظ الله الألفاظ والألسنة، وحملة الأقلام والأسنّة.
وكما كتب أبو زيد الفازازي:
السّلام الكريم العميم، على الشيخ الذي أثبت على ودّه فلا أتحوّل، وأطنب في حمده فلا أستعير ولا أتأوّل، وأتعلّل بذكره عند عدم مرآته ولأمر ما أتعلّل، فلان- أدام الله رفعته، وحرس من الأسواء مهجته. كتب أخوكم، البرّ بكم، الشّيّق إليكم الشاكر لمحاسنكم، المسرور بما سمعه من صلاح أحوالكم، فلان، ولا جديد بمنّ الله تعالى إلّا الخير والحمد لله كثيرا، والأمر كذا وكذا.(8/161)
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بالكناية عن المكتوب عنه، كما كتب ابن أبي الخصال إلى بعض الكتّاب يسأله حاجة:
معظّم الشيخ الأجلّ أبي فلان، ومجلّه المكبّر له فلان، أعلى الله قدركم، وأوزع أولياءكم شكركم، أياديكم أدام الله كرامتكم أوكف من الغمام، ونعمكم ألزم للأعناق من أطواق الحمام، وإنّ وليّكم ومعظّمكم يحتاج إلى كذا وكذا.
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلان.
كما كتب [بعضهم] من فلان، إلى الشيخ الحافظ الأكرم أبي فلان، أدام الله كرامته بتقواه، فالكتاب إليكم كتب الله لكم أحوالا صالحة، وخيرات عليكم غادية رائحة، من موضع كذا، والبركات متوافرة، والخيرات متظاهرة، والحمد لله تعالى، وإنّ الأمر كذا وكذا.
ومنها- أن تفتتح المكاتبة بلفظ إلى فلان.
كما كتب بعضهم إلى والده:
إلى مولاي المعظّم وأبي، المتكفّل بتعليمي وحسن أدبي، أبقاه الله ناظرا إليّ بعين رضاه، وأعانني على الجري في برّه على حكم الشّرع القويم ومقتضاه، من ابنك المعظّم لك، بل عبدك المتطلّع إلى ما يصل من الأنباء الكريمة من عندك، المواصل المسعى في شكرك وحمدك، فلان؛ بأبي كتبته كتب الله لكم ليانا من العيش وخفضا، وجمع بعد الافتراق بعضا منّا وبعضا، ويسّر لي بطوله ومنّته أن يصفح عنّي وأن يرضى، من موضع كذا، ولا جديد إلّا نعم من الله عزّ وجلّ تراوح وتغادي، وتجري الخواتم منها على حكم المبادي، وشوق إليكم يعمر أحناء ضلوعي وفؤادي، ويحسم عنّي قطيعي دمعي الهتون وسهادي، والله جلّ وعزّ ييسّر انقضاب غربة النّوى، ويريح النفوس من محرق اللّوعة ولا عج الجوى؛ والأمر كذا وكذا.(8/162)
المهيع الثاني (في الأجوبة) (وهي على ما تقدّم في أجوبة المشارقة من أنها على ضربين)
الضرب الأوّل (أن يفتتح الجواب بما يفتتح به الابتداء، ثم يقع التعرّض إلى وصول الكتاب، وذكر الجواب عنه)
كما كتب أبو عمرو «1» الباجي:
وعدك الكريم- أدام الله عزّك- دين، وقضاؤه شرف وزين، ومثلك من تحلّى بمحاسن الشّيم، وزاحم في السّيادة بالمنكب العمم، وحفظ العهد لما أضيع، واشترى المجد بما بيع، والتزم للوفاء شرطا لا يفسخ، ورآه شرعا لا ينسخ، ووصل كتابك العزيز في معنى كذا وكذا.
الضرب الثاني (أن يفتتح الجواب بورود الكتاب ووصوله ابتداء)
كما كتب ابن أبي الخصال:
ورد كتابك في أمر فلان يفرض الحمل عليه في النّفوذ لوجهته، والتقدّم إلى رتبته، وليس عندي إلّا عون وإنجاد، وطاعة وانقياد، غير أنّ في الأمر كذا وكذا.
الجملة الثانية (في خواتم المكاتبات على اصطلاحهم، وهي على أساليب)
مها- أن يختم الكتاب بالسلام المجرّد عن الدعاء.(8/163)
كما كتب أبو عمرو الباجي في خاتمة كتاب:
وأقرأ عليك سيّدي، وأسنى عددي، أجزل السّلام وأحفله، وأتمّه وأكمله.
ومنها- أن يختم بالدعاء.
كما كتب أبو المطرّف بن الدبّاغ في خاتمة كتاب:
والله لا يخلي مولاي من عبد يسترقّه، ومنعم ينعم عليه [بما] يستحقّه، وجميل يوليه، وصنع يسديه، بمنّه وجميل صنعه.
ومنها- أن يختم بذكر التودّد والمحبّة.
كما كتب أبو جعفر «1» الكاتب في آخر كتاب:
وإن لم يكن لي من الحقّ ما لا أتبسّط به عليه، فلي من الودّ ما أمتّ به إليه، فحسبي به سلّما إلى فضلك، وذريعة إلى مجدك، إن شاء الله تعالى والسّلام.
ومنها- أن يختم باستماحة النظر في أمر المكتوب عنه.
كما كتب أبو المطرّف بن المثنّى في خاتمة كتاب:
ولك الطّول العامّ، والفضل الزاهر، في اعتبار أمري، وتحقيق خبري، والسّلام.
إلى غير ذلك من الخواتم التي تستدعيها المكاتبة وتستوجبها المقاصد، وفيما ذكر من الصّدور والخواتم ابتداء وجوابا مقنع لمن تأمّل والله المستعان في الأمر كلّه.(8/164)
المقصد الثالث (في الإخوانيّات المستعملة بالديار المصرية، وفيه ثلاثة مصطلحات)
المصطلح الأوّل (ما كان الأمر عليه في الدولة الطّولونيّة وما قاربها مما جرى عليه ابن عبد كان «1» وغيره، وفيه ثلاثة مهايع)
المهيع الأوّل (في الصّدور وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (الابتداءات، ولهم فيه أساليب)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء، وعليه غالب كتابتهم، وهي على أنماط)
منها- الدعاء بطول البقاء وما في معناه.
كما كتب ابن عبد كان في صدر مكاتبة: أطال الله بقاءك، ففي إطالته حياة الأنام وأنس الأيام والليالي، وأدام عزّك ففي إدامته دوام الشّرف ونموّ المعالي، وأتم نعمته عليك فإنها نعمة حلّت محلّ الاستحقاق، ونزلت منزلة الاستيجاب ووقفت على من لا تكره الآلاء مكانه، ولا تنكر الفواضل محلّه.
وكما كتب: عمر الله بك الأزمنة والدّهور، وآنس ببقائك الأيّام والشّهور، وأمتع بدوام عزّك السّعداء بحظّهم منك.(8/165)
ومنها- الدعاء بدوام النّعمة.
كما كتب: أسبغ الله عليك نعمه الراهنة بنعمة المستظفر، وصانها لديك بإيزاع الشّكر عليها، فلم أر ولله الحمد نعمة قصدت مستقرّها، وتوخّت وليّها، وتمنّت كفؤها، إلّا نعمتك أكسبت أولياءها عزّا ونضرة، وملأت أعداءها ذلّة وغضاضة، وتمكّنت بمحلّ الصّيانة والرّعاية، وخيّمت بمستقرّ الشّكر والحمد.
ومنها- اطّراح الدعاء بدوام النعمة لتقييدها بموجباتها منها.
كما كتب: قد كفى الله عزّ وجلّ مؤونة الدعاء لنعمتك بالنّماء؛ لأنها توخّت لديك محلّها، فحلّت بفنائك سارّة، مطمئنّة قارّة، تستوثر مهادها قبلك، وتستهنيء مواردها عندك، ولم تزل تائقة إليك، متطلّعة نحوك بما استجمع لها فيك، من لطيف السّياسة وحسن الاحتمال لأعباء المغارم، فهنأكها الله متصلة البقاء بطول مدّة بقائك، ومتحلّية بحسن فنائك، فلا زلت لعوارف النعم مستدعيا، وللشكر بالزيادة فيها ممتريا، وبدوام الحمد لردفها مستمريا.
ومنها- الدعاء بجعلت فداك.
كما كتب: جعلني الله فداك، فإنّ في ذلك شرفا في العاجل، وذخر العقبى في الآجل، وخير تراث لمخلّفي من بعدي، دعاء أخلصته النّيّة، وصدّقته الطويّة.
ومنها- استكراه الدعاء بالتفدية.
كما كتب: إن قلت في كتبي إليك: جعلني الله فداك، فأكون قد بخستك حظّ إحسانك إليّ، وحقّ مفترضك عليّ؛ لأنها نفس لا توازن ساعة من يومك، ولا توازي طرفة من دهرك، وإنما يفدّى مثلك بالأنفس التي هي أنفس من الدنيا وأعرض من أقطار الأرض.
ومنها- تفدية النّعمة إعظاما لها.
كما كتب: جعلني الله فداء نعمتك التي علت ذروة سنامها، وفاضت درّة سمائها، فعمّرت أقطار الآملين، ونضّرت جناب ناحية المعتمدين.
ومنها- الدعاء بصلاح الدنيا وغبطة الآخرة.(8/166)
كما كتب: أسعدك الله بعواقب قضائه وقدره، ووهب لك الصّلاح في دينك والسلامة في دنياك.
ومنها- الدعاء بكبت العدوّ.
كما كتب: مكّن الله يدك من ناصية عدوّك بالصّولة عليه، ومن زمام وليّك بالإحسان إليه، وبلّغك من كلتا الحالتين ما ينمي على تأميلك، ويوفي على تمنّيك.
ومنها- الدعاء المشترك بين المكتوب عنه والمكتوب إليه.
كما كتب: أدام الله أنسي بحياتك، وحرسني من الغير في نعمتك، وأكرمني بصيانة أيّامك ولياليك، وأعزّني بذلّ عدوّك وقمح حاسديك.
ومنها- الدعاء بطيب الحياة.
كما كتب: عش أطيب الأعمار، موقّى من سوء الأقدار، مبلّغا نهاية الآمال، مغبوطا في كلّ الأحوال، لا ينقضي عنك حقّ عارفة حتّى تجدّد لك أخرى أجلّ منها، ولا يمرّ بك يوم من الأيّام إلّا كان مؤمّنا «1» على أمسه مقصّرا عن فضلة غده.
ومنها: الدعاء باقتضاء العدل والإنصاف.
كما كتب: جعلك الله ممّن ينظر بعين العدل، وينطق بلسان القسط، ويزن بقسطاس الحقّ، ويكيل بمعيار الإنصاف.
ومنها: الدعاء بإيزاع الشّكر.
كما كتب: وصل الله لك كلّ نعمة ينعمها عليك من الشّكر بما يكون لحقّها قاضيا، وللمزيد إليها داعيا، ومن الغير مؤمّنا، وللسّلامة موجبا.
ومنها: الدعاء للحاجّ بالبلاغ.(8/167)
كما كتب: أوطأك الله في مسيرك أوثر المطايا، وخوّلك فيما نويته أسبغ العطايا، وأوردك الهداية إلى كريم المشاهدة وزكيّ المواقف وأولاها بالزّلفة المقبولة، والقربة المأمولة.
ومنها: الدعاء للمسافر.
كما كتب: جعلك الله في حفظه وكنفه، وأحاطك بحيطته، وجعل سفرك أيمن سفر عليك، ورجع لك بدرك الحاجة، وبلوغ الأمل، ونجح الطّلبة، ونيل السّؤل.
ومنها: الدعاء بالعافية من المرض.
كما كتب: مسح الله ما بك، وعاد بالبرّ عليك، وعجّل الشّفاء لك، ومحّص بلواك.
ومنها: الدعاء للولاة.
كما كتب: أجرى الله بالخير يدك، وصما (؟) بالعزّ طرفك، وأوطأ كلّ مكرمة قدمك، وأطال إلى كلّ غاية هممك، وبلّغك أقصى محبّتك.
ومنها: الدعاء في الأضحية بقبول النّسك.
كما كتب: جعلك الله بقبول النّسيكة والقربان، فائزا بالأجر والرّضوان، مخلصا لله بالإيمان، في السّرّ والإعلان، مؤدّيا لما افترض عليك، شاكرا لإحسانه إليك.
ومنها: الدعاء بالهناء في الأعياد.
كما كتب: عرّفك الله في هذا العيد المبارك من السّلامة وعمومها، والعافية وشمولها، والعارفة وسبوغها، والحياطة وكمالها، والحماية وجمالها، أفضل ما عرّفك في ماضي أعيادك، وسالف أعوامك.
ومنها: الدعاء بدفع النوائب.
كما كتب: كان الله جارك من فجائع الدّهر ونوبه، ووليّ إنعام النّعمة فيما آتاك من فضله، وتطوّل عليك من حسن الحياطة لما تولّاك والذّبّ عمّا أفادك.(8/168)
الأسلوب الثاني (أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابي أو كتبت)
فأمّا كتابي، فكما كتب ابن عبد كان: كتابي إليك، وأنا أستعتب الأيّام فيك، وأصانع الزّمان في تقريبك، وربع الجوار الذي كنا نسكن تحت ظلاله، ونتفيّأ برونق جماله، بأجلّ تحفة، وأيسر ألفة، وأعذب مشاهدة، وأصدق مشافهة، ولعل أن يرتاح فيشعب صدعا، ويؤلّف جمعا.
وأما كتبت، فكما كتب ابن عبد كان أيضا: كتبت وأنا من حنين الصّبابة إليك، وإرزام الشّوق نحوك، وأليم التشوق إليك، ولا عج اللّوعة بك، على ما أسأل الله أن يرحم ضعفي ويتصدّق عليّ برؤيتك، ويهب لي النظر إلى وجهك وجمال غرّتك، التي هي حليف الجذل، ونزهة الأمل.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بالخطاب بأنا)
كما كتب: أنا من جملة صنائعك، وحفظة ودائعك، وشكرة إحسانك، متى تصرّفت في البلاد، فأنا المعروف بمعروفك، والعائش بجدواك، وأنت منزع همّتي وقرّة عيني، ومدار أملي، ومحلّ رجائي.
الضرب الثاني (الأجوبة)
وابتداؤها إما كما في الصّدور الابتداآت كما تقدّم ثم يقع التعرّض لوصول الكتاب، وإما بأن تصدّر بوصوله وهو الأكثر.
كما كتب ابن عبد كان: وصل كتابك فدفع تباريح الشّوق، وقمع كآبة البين، وأطفأ لهيب الحرقة، وبرّد حرّ الصّبابة.
وكما كتب: وصل كتابك مشتملا من أنواع البرّ، على ما يقصر في جنب أيسره أعظم الشّكر.(8/169)
وكما كتب: وصل كتابك المصدّر بجواهر لفظك، وبدائع معانيك، ومحاسن نظمك، مستودعا ما لا يقدر على حمده وشكره إلّا بالاعتراف بالعجز عنه، وما أشبه ذلك.
المهيع الثاني (في خواتم الكتب)
وكان اختتام المكاتبات عند أهل هذا المصطلح على ما تقدّم في مكاتبات أهل المشرق من استماحة الرأي، إما بلفظ فإن رأيت:
كما كتب ابن عبد كان: فإن رأيت أن تأتي فيه مؤتنفا، ما لم تزل تأتيه سلفا، فعلت.
وإما بلفظ فرأيك:
كما كتب: فرأيك فيه بما أنت أهله، فإن الرأي [الذي] أنت أهله، فوق ما يلتمسه المسرف في همّته، والمتبسّط في أمنيّته.
وكما كتب: فرأيك في ذلك بما تقضي به الحقّ وتصل به الذّمام، وتحفظ به الحرمة وتصدّق به الأمل، وتقتعد به الصّنيعة، وتستوجب به الشّكر.
المهيع الثالث (في عنوانات الكتب)
ومصطلحهم فيه على نحو ما تقدّم في مكاتبات أهل المشرق، من كتابة إلى فلان من فلان، أو من فلان إلى فلان.
فأمّا ما يكتب إلى فلان من فلان، فكما كتب ابن عبد كان: للسيّد الذي استعبد الأحرار بفضله.
وكما كتب: لمن قربه يمن وسعادة، ونأيه نكد ومحنة.
وأما ما يكتب من فلان، فكما كتب: من صريع الشّوق إليه، وأسير الرّقبة عليه.(8/170)
وكما كتب: ممّن لا يتمنّى الخير إلّا له، إذ كان لا يناله إلّا به.
المصطلح الثاني (من مصطلحات الديار المصرية ما كان عليه الحال في الدولة الأيّوبيّة مما جرى عليه القاضي «1» الفاضل ومن بعده، وهو على قسمين)
القسم الأوّل- الابتداء: وليس لمصطلحهم ضابط في الابتداء ولا في الترتيب في الرّفعة والضّعة، بل افتتاحاتهم في ذلك متباينة.
فمن ذلك الافتتاح بالدعاء، وهو أكثر ما يقع في مكاتباتهم، والغالب في ذلك الدعاء للمجلس، كما كتب القاضي الفاضل إلى العماد الأصفهانيّ: أدام الله أيام المجلس التي لحسنات المدلّ مديلة، ولعثرات المقلّ مقيلة، ولمعاطف العزّ مميلة، ولمقاطف الفوز منيلة، ولقداح الجدوى مجيلة، ولا زالت الآراب بمكارمه باجخة، والآراء بمراسمه ناجحة، ومتاجر المفاخر بموالاته رابحة، وأيدي الآمال لأياديه بمصافاته مصافحة، وأرواح أوليائه بروح آلائه في مواطاة أعطياته عابقة فائحة، وأدعية الداعين لأيامن أيّامه، المذعنين لعهود إنعامه، طيّبة صالحة.
ومن ذلك افتتاح العماد «2» الأصفهانيّ في اعتذار تأخّر المكاتبات: إن تأخّرت مكاتباتي، فإنّ العذر معلوم، والأجر محتوم، والقلم مصدود، واللّقم مسدود، والبلد محصور.(8/171)
إلى غير ذلك من أساليبهم المشهورة التي لا يسع استيعابها، ولا حاجة إلى الإمعان في ذكرها «1»
المصطلح الثالث (من مصطلحات الديار المصريّة في الإخوانيّات
، ما جرى عليه الاصطلاح في الدولة التّركيّة، مما رتّبه القاضي محيي الدّين «2» بن عبد الظاهر، والشيخ شهاب الدين محمود «3» الحلبيّ، والمقرّ الشّهابيّ بن «4» فضل الله، ومن جرى مجراهم، من فضلاء الكتّاب إلى زماننا، مما هو دائر بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة، من نوّاب السّلطنة وسائر الأمراء والوزراء، ومن في معناهم، من أعيان الكتّاب ومن نهج نهجهم من أرباب الوظائف) وفيه مهيعان:(8/172)
المهيع الأوّل (في رتب المكاتبات المصطلح عليها)
وقد اختلفت مقاصدهم في ترتيبها اختلافا متقاربا في الزيادة والنقص والتقديم والتأخير، مع مراعاة أصول المراتب. وها أنا أذكر ما استقرّ عليه الحال من ذلك، وأنبّه على ما خالفه من ترتيبهم المتقدّم الذّكر، لتحصل الإحاطة به، ويعلم ما جرى عليه أهل كلّ عصر منهم مما لعلّ مختارا يختاره، أو ينسج على منواله، منبّها على وهم من وهم في شيء من ذلك.
واعلم أنهم قد بنوا هذا النوع من الإخوانيّات على قاعدتين، تتعيّن معرفتهما قبل الخوض في رتب المكاتبات:
القاعدة الأولى- فيما يتعلّق بورق هذه المكاتبات.
قد جرت العادة أن تكون جميع هذه المكاتبات من الأعلى إلى الأدنى، ومن الأدنى إلى الأعلى، ومن النظير إلى النّظير، في ورق قطع العادة دون ما فوقه من مقادير قطع الورق المتقدّمة الذكر، غير أنّ أعيان أهل الديار المصرية يكاتبون في الورق المصريّ، وأعيان أهل الشأم يكاتبون في الورق الشاميّ؛ لكثرة وجوده عندهم، والمعنى في ذلك أنّ كتب السلطان الصادرة عنه إلى جميع أهل المملكة من النّوّاب وغيرهم في هذا القطع، فلا جائز أن تعلو مكاتبة أحد منهم على مكاتبة السلطان في ذلك.
ثم قد اصطلحوا على أن يكون في أعلى المكاتبة عن كلّ أحد من أعيان الدولة قبل البسملة وصل واحد بياضا، إذ كان أقلّ ما يجعل بياضا في كتب السلطان وصلين فاقتصروا على وصل واحد، كي لا يساويه غيره في ذلك، واصطلحوا أيضا على أن لا تنقص المكاتبات المذكورة عن ثلاثة أوصال: الوصل الأبيض في أعلى المكاتبة على ما تقدّم، ووصلان مكتوبان، إذ لو نقص عن ذلك، لخرج الكتاب في القصر عن الحدّ فيزدرى، أما لو دعت الضرورة إلى الزيادة على الثلاثة لزيادة الكلام فلا مانع منه. واصطلحوا على أن يترك للكتاب حاشية بيضاء تكون بقدر ربع الدّرح على ما تقدّم ذكره في غير هذا الموضع.(8/173)
القاعدة الثانية- فيما يتعلّق بخطّ هذه المكاتبات، وكيفيّة أوضاعها.
قد اصطلحوا على أنّ جميع هذه المكاتبات تكتب بقلم الرّقاع على ما تقدّم ذكره في الكلام على قطع الورق [من] أنّ لقطع العادة قلم الرّقاع.
واصطلحوا أيضا على أن تكون كتابة البسملة في أوّل الوصل الثاني من المكاتبة، وأن يكون تحت الجلالة من البسملة لقب المكتوب عنه المضاف إلى ملكه أو أميره، فإن كان المكتوب عنه من أتباع السلطان كنوّاب السلطنة وغيرهم من الأمراء والوزراء ومن في معناهم من رؤساء الكتّاب السلطانية، كتب الملكيّ الفلانيّ- بلقب ملكه السلطان، مثل الملكيّ الظاهريّ ونحو ذلك كما في هذه الصورة:
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) الملكيّ الظاهريّ وإن كان المكتوب عنه من أتباع الأمراء كإستدّار «1» أمير ونحوه، انتسب في كتابته إلى لقب أميره الخاصّ مما يضاف في التلقيب إلى الدّين، فإن كان أميره لقبه سيف الدين مثلا، كتب بدل الملكي الفلانيّ: السيفيّ، وإن كان لقب أميره ناصر الدّين كتب الناصريّ، وإن كان لقبه علاء الدين كتب العلائيّ، ونحو ذلك. وإذا كتب تحت الجلالة من البسملة الملكي الفلانيّ ونحو ذلك، جعل ما قبله في السطر بياضا وما بعده بياضا، ويكون ذلك قطعة من سطر مفردة بذاتها.
واصطلحوا على أنه كلّما دقّ القلم وتقاربت الأسطر، كان أعلى في رتبة المكتوب إليه، وكلما غلظ القلم وتباعدت الأسطر كان أنزل في رتبة المكتوب إليه.
واصطلحوا على أن في الرتبة العليّة من المكاتبات يكون السطر الأوّل من المكاتبة تلو الملكيّ الفلانيّ وما في معناه ملاصقا له، وفيما دون ذلك من المكاتبات يترك بياض يسير، ولا يكتب فيه شيء، وكأن المكتوب عنه يقول للمكتوب إليه: هذا محلّ العلامة، ولكنّي قد تركت الكتابة فيه وكتبت بحاشية الكتاب تأدّبا معك ورفعة(8/174)
لقدرك، وفيما دون ذلك يترك بياض أوسع من ذلك ويكتب فيه المكتوب عنه علامته على ما سيأتي بيانه في مواضعه إن شاء الله تعالى. واصطلحوا على أنه بعد انتهاء الكلام في المكاتبة يكتب «إن شاء الله تعالى» في خطّه. ثم يكتب التاريخ في سطرين: اليوم والشهر في سطر، والسنة في سطر. ثم تكتب الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سطر، ثم الحسبلة في سطر على ما تقدّم بيانه في الكلام على الفواتح والخواتم في المقالة الثالثة.
وليعلم أنّ هذه المكاتبات على قسمين:
القسم الأوّل- الابتداءات
، وهو على أربع درجات سبق توجيه ترتيبها في الكلام على أصول المكاتبات، في أوّل هذه المقالة.
الدرجة الأولى-[المكاتبة] بتقبيل الأرض
، وهي أعلاها رتبة بالنسبة إلى المكتوب إليه.
واعلم أنّ كثيرا من كتّاب الزمان يظنّون أن المكاتبة «بيقبّل الأرض» من مخترعات كتّاب الدولة التركية، بل بعضهم يظنّ أنها من مخترعات المقرّ الشهابيّ بن فضل الله وليس كذلك، بل المكاتبة بذلك كانت موجودة في أواخر الدولة العباسيّة ببغداد، ثم سرت إلى الديار المصرية في أوائل الدولة الأيّوبيّة، فاستعملت بعض الاستعمال، والمكاتبة بذلك موجودة في كلام القاضي الفاضل في بعض المكاتبات الملوكية، ومن ذلك ما كتب به عن نفسه إلى السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» في صدر كتاب تهنئة بمولود:
المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالي الناصريّ، نضّر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحقّ بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمديّة عقد التزامه، بكفالتها ومضاء اعتزامه. ثم توسّع فيه الكتّاب بعد ذلك حتّى كاتب به الآحاد بعضهم بعضا.
وقد رتّبوا المكاتبة بتقبيل الأرض في المصطلح المستقرّ عليه الحال على خمس مراتب:(8/175)
المرتبة الأولى- الإتيان بالإنهاء
بعد «يقبّل الأرض» من غير تعرّض لذكر دعاء ولا ثناء، مع مراعاة الاختصار وعدم السّجع وتقارب السّطور، مثل أن يكتب بعد البسملة ولقب المكتوب عنه الذي تحت البسملة:
يقبل الأرض وينهي كيت وكيت، وسؤال المملوك من الصّدقات العميمة بروز الأوامر العالية بكيت وكيت، أو: والمملوك يعرض على الآراء العالية كيت وكيت، ونحو ذلك. ويختم الكتاب بقوله: أنهى ذلك، أو طالع بذلك، وللآراء العالية مزيد العلوّ، ويعبّر عن المكتوب عنه في خلال المكاتبة بالمملوك.
ويختلف الحال في خطاب المكتوب إليه، فإن كان من أرباب السّيوف وهو نائب سلطنة خوطب بمولانا ملك الأمراء عزّ نصره أو أعزّ الله أنصاره، وإن كان أميرا غير نائب سلطنة، خوطب بمولانا المخدوم ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، وإن كان وزيرا ربّ سيف خوطب بمولانا الوزير، وإن كان قاضيا خوطب بمولانا قاضي القضاة، وإن كان عالما كبيرا، خوطب بمولانا شيخ الإسلام، وإن كان من مشايخ الصّوفية خوطب بمولانا شيخ الشّيوخ، وعلى ذلك بحسب المراتب والوظائف على ما يقتضيه رأي الكاتب بما يناسب الحال.
والعنوان في هذه المكاتبة: الفلانيّ مطالعة المملوك فلان، ويعبّر عن ذلك:
بالفلانيّ بمطالعة. وقد يعبّر عن «1» ذلك عن نفس المكاتبة. وصورته: أن يكتب في رأس ظاهر المكاتبة من الجانب الأيمن «الفلانيّ» باللّقب الخاص بالمكتوب إليه، كالسّيفيّ، والناصريّ، والشّمسيّ، وما أشبه ذلك. ويكون ذلك ممتدّا إلى نحو ربع عرض الدّرج، وتحته فلان بما يقتضي تعريفه من وظيفة أو شهرة. فإن كان نائب سلطنة كتب تحت الفلانيّ: مولانا ملك الأمراء بالمكان الفلانيّ، وإن كان وزيرا كتب: مولانا الوزير بالمكان الفلانيّ، وإن كان قاضي قضاة، كتب:
مولانا قاضي القضاة بالمكان الفلاني، ونحو ذلك، ويعبّر عن ذلك بالتعريف،(8/176)
ويكتب في الجانب الأيسر من رأس ظاهر المكاتبة مقابل ما كتبه في الأولى ما صورته «مطالعة المملوك فلان» باسم المكتوب عنه ويكون لفظ المملوك تحت ذلك، وفلان تحته عن بعد ثلاثة أسطر، وتكون لطيفة القدّ غير ممشوقة على الضدّ من المكتوب إليه. وهذا مثال عنوان إلى نائب سلطنة بالشام لقبه سيف الدين، عمّن اسمه يلبغا.
السيفيّ مطالعة مولانا ملك الأمراء بالشام المحروس عزّ نصره المملوك يلبغا وعلى ذلك يقاس سائر العنوانات من هذه المرتبة، والأصل في ذلك أنّ الحجّاج بن يوسف كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان، فكتب في عنوانه بقلم جليل: لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، وفي الجانب الأيسر بقلم ضئيل: من الحجّاج بن يوسف كما حكاه أبو جعفر النحّاس في «صناعة الكتاب» فتبعه الناس على ذلك في تعظيم اسم المكتوب إليه، وتلطيف اسم المكتوب عنه، والعلامة في هذه المكاتبة «المملوك فلان» باسم المكتوب عنه بقلم ضئيل بحاشية الكتاب سطرين: المملوك [سطر] والاسم سطر تحته على هذه الصورة:
المملوك فلان ويكون ذلك مقابل «يقبّل» ملاصقا له بحيث تكون جرّة الكاف من المملوك تحت الياء من يفبّل، فكأنّهم راعوا في ذلك صورة ما يكتب في القصص التي ترفع إلى الأكابر لاستماحة الحوائج ونحوها من حيث إنها يكتب فيها «المملوك فلان يقبّل الأرض وينهي كيت وكيت» لما في ذلك من إظهار الخضوع والتواضع.
المرتبة الثانية- أن يأتي بعد «يقبّل الأرض» بذكر الدعاء دون الثناء
مع تقارب الأسطر أيضا واجتناب السّجع. وقد اصطلحوا في هذه المكاتبة على أن يكتبوا تحت البسملة مع لقب المكتوب عنه الذي هو الملكيّ الفلانيّ ونحوه لقب(8/177)
المكتوب إليه، كالسيفيّ ونحوه، على سمعت الملكيّ الفلاني من الجهة اليمنى مع بياض بينهما، بحيث يقع بعض اللقب في حاشية الكتاب، وبعضه تحت أوّل البسملة على هذه الصّورة:
بسم الله الرّحمن الرّحيم السيفي الملكيّ الظاهريّ ثم يأتي بصورة المكاتبة بعد ذلك. ويختلف الحال في هذه المكاتبة باختلاف حال المكتوب إليه، فإن كان نائب سلطنة كتب «يقبّل الأرض» وينهي بعد رفع الأدعية الصالحة، أو بعد ابتهاله إلى الله تعالى بالأدعية الصالحة، تقبّلها الله تعالى من المملوك ومن كلّ داع مخلص، ببقاء مولانا ملك الأمراء، أو بدوام أيام مولانا ملك الأمراء، وخلود سعادته، ومزيد تأييده، وعلوّ درجاته في الدنيا والآخرة، بمحمّد وآله: أنّ الأمر كيت وكيت، والمملوك يسأل الصّدقات العميمة، أو الصدقات الكريمة، أعزّ الله تعالى أنصارها بروز الأوامر المطاعة بكيت وكيت. ثم يقول: والمملوك مملوك مولانا ملك الأمراء وعبد بابه ونشء إحسانه، ويسأل تشريفه بمراسيمه وخدمه، أو والمملوك يستعرض المراسيم الكريمة، والخدم العالية، ليبادر إلى امتثالها، والفوز بقضائها، أو والمملوك مملوك الأبواب العالية ونشؤها وغلامها، ويسأل دوام النظر الكريم عليه في أحواله كلّها، ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، وقد جهّز المملوك بهذه المكاتبة فلانا أو مملوكه فلانا. فإن كان قد حمّله كلام مشافهة، قال: وحمّله من المشافهة ما يسأل الصدقة عليه بسماعه والإصغاء إليه ونحو ذلك. ثم يقول: طالع بذلك والرأي العالي أعلاه الله تعالى أعلى. وإن كان المكتوب إليه أميرا غير نائب سلطنة، كتب «بدوام أيام مولانا المخدوم» بدل مولانا ملك الأمراء. وإن كان قاضيا، كتب «ببقاء مولانا قاضي القضاة، أو بدوام أيّام مولانا قاضي القضاة» . وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب «ببقاء مولانا شيخ الشيوخ» ونحو ذلك، وباقي المكاتبة على ما(8/178)
تقدّم بحسب ما يقتضيه الحال. والعنوان في هذه المكاتبة «الأبواب الفلانيّة، مطالعة المملوك فلان» ويعبر عن ذلك بالأبواب بمطالعة، ويختلف الحال في ذلك باختلاف حال المكتوب إليه، فإن كان المكتوب إليه نائب سلطنة، كتب:
الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميرية، الكبيرية، المالكيّة، المخدوميّة، الكافلية، بلقبه الخاص كالسيفية ونحوها، أعلاها الله تعالى فلان الفلاني، باسمه وشهرته. وإن كان المكتوب إليه أميرا غير نائب سلطنة أسقط منه الكافلية. وإن كان وزيرا ربّ سيف، كتب بعد الأميرية: الوزيريّة. وإن كان وزيرا ربّ قلم، أسقط الأميرية، وكتب قبل الفلانية الصاحبيّة. وإن كان من رؤساء الكتّاب ممن في معنى الوزراء، ككاتب السرّ، وناظر الخاصّ، وناظر الجيش، ونحوهم، أبدل لفظ الأميرية والوزيرية بالقاضويّة. وإن كان قاضي حكم، أتى مع القاضويّة قبل الفلانية بالحاكميّة. وإن كان من مشايخ الصّوفيّة أبدل القاضويّة بالشّيخيّة ونحو ذلك.
وصورته أن يكتب الألقاب من أوّل عرض الدّرج سطرا إلى آخر المالكيّة، ويخلّي بياضا في آخر السطر بقدر ربع الدّرج، ثم يكتب المخدوميّة الفلانية في أوّل السطر الثاني ملاصقا للأوّل، ثم يخلّي بياضا يسيرا، ثم يكتب: أعلاها الله تعالى، ثم يخلّي بياضا يسيرا، ثم يكتب «فلان الفلاني» تحت آخر السطر الأوّل، ثم يكتب في آخر الدّرج من الجهة اليسرى بعد خلوّ بياض «مطالعة المملوك فلان» ثلاثة أسطر على ما تقدّم في العنونة بالفلاني بمطالعة كما في هذه الصورة:
الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيرية، المالكية، مطالعة المخدومية، السيفيّة أعلاها الله تعالى أمر دوادار الظاهريّ المملوك فلان والعلامة «المملوك فلان» بقلم ضئيل مسامت يقبّل كما في المكاتبة قبلها.(8/179)
قال في «التثقيف» «1» : وبهذه المكاتبة يكتب عن أكابر أمراء الديار المصريّة إلى نائب الشام وحلب فيما أظنّ.
قال: وكذلك كان يكتب المقرّ العلائيّ بن فضل الله كاتب السرّ الشريف إلى المشار إليه، يعني نائب حلب، إلّا أنه كان يكتب له العلامة أسفل الكتاب دون أعلاه.
قلت: وعلى هذا يكون للعلامة في هذه المكاتبة رتبتان، إن عظّمه كتب له العلامة على سمت يقبّل، وإلّا ففي أسفل الكتاب، ومن ثم ذكرت قول صاحب «التثقيف» هنا وإن كان محلّه رتب المتكاتبين على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة- أن لا يكتب في أوّل المكاتبة عن يمين أسفل البسملة الفلانيّ
ويأتي بذكر الدّعاء والثناء مسجوعا، مثل أن يكتب بعد البسملة ولقب المكتوب عنه الذي هو الملكيّ الفلاني «يقبّل الأرض» وينهي بعد رفع دعائه، وإخلاصه في محبّته وولائه، واعترافه بإحسان مولانا وجزيل آلائه، أنّ الأمر كيت وكيت، والمملوك يسأل إحسان مولانا، أو صدقات مولانا، أو إحسان المخدوم، أو صدقاته في كيت وكيت، ثم يقول: والمملوك فهو مملوك مولانا ومحبّه، والداعي لإحسانه، ويسأل تشريفه بمراسيمه وخدمه، وقد جهّز المملوك بهذه العبوديّة فلانا، أو مملوكه فلانا، وحمّله من الدّعاء والولاء ما ينهيه من لسانه، ويعرب عنه ببيانه، أو وقد حمّله المملوك ما يقوم عنه به في إنهائه، من رصف الأدعية، ووصف الأثنية، والمملوك يسأل الإصغاء إليه، والتشريف بالمراسيم العالية والخدم الكريمة، ليفوز بإقبالها، ويبادر إلى امتثالها، طالع بذلك، أو أنهى ذلك، أو والمملوك يستعرض المراسيم العالية، والخدم الكريمة المتوالية، ليتشرّف بقضائها، ويتشوّف إلى إمضائها.(8/180)
صدر آخر: وينهي بعد رفع الأدعية، وبثّ المحامد والأثنية، والموالاة التي يحمل منها عالي الألوية، أنّ الأمر كيت.
آخر: وينهي بعد رفع دعائه الذي لا يفتر لسانه عن رفعه، ولا يخفى إن شاء الله إبّان نفعه، وابتهاله الذي يرفع السّحب، وشوقه الذي يهدي النّجب، أنّ الأمر كيت وكيت.
آخر: وينهي بعد دعائه المقبول، وشوقه الذي لا يحول عنه ولا يزول، وسلامه الذي يعجز عن شرحه القلم ويضعف عن حمله الرّسول.
آخر: وينهي بعد دعاء يرفعه بالغدوّ والآصال، وولاء لا يتغيّر ما دامت الأيّام واللّيال، وثناء أطيب من عرف الرّوض إذا مرّ عليه نسيم الشّمال، أنّ الأمر كيت وكيت.
آخر: وينهي بعد رفع الدعاء، ونصب لواء الولاء، وجرّ ذيول الفخر بالانتساب إلى عبودية مولانا والاعتزاء، أنّ الأمر كيت وكيت.
آخر: وينهي بعد دعائه المرفوع، وثنائه الذي هو كالمسك يضوع، وشكره الذي يسمع منه ويسمع أطيب مسموع، أنّ الأمر كيت وكيت.
والعنوان لهذه المكاتبة «الأبواب الفلانية» بغير مطالعة، ويختلف الحال فيه، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف وهو نائب سلطنة، كتب «الأبواب الكريمة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، السيّديّة، المالكيّة، المخدوميّة، الكافلية، الفلانية، أعلاها الله تعالى» ثم يقال: نائب السلطنة الشريفة المحروسة، أو كافل المملكة الفلانية المحروسة، وباقي عنوانات أرباب الوظائف، من أرباب السيوف والأقلام على ما تقدّم في العنونة بالأبواب بمطالعة.
وصورة وضعه أن يكتب «الأبواب الكريمة إلى آخر الكافلية» مثلا سطرا واحدا من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، ثم يكتب «الفلانيّة أعلاها الله تعالى» في أوّل السطر الثاني ملاصقا له، ثم يترك بياضا قدر رأس إبهام، ثم يكتب في آخر(8/181)
السطر الثاني «كافل الممالك الشريفة الفلانية المحروسة» كما في هذه الصورة:
الأبواب الكريمة، العالية، المولوية، الأميرية، الكبيرية، السيدية، المالكية، المخدومية، الكافلية، السيفية، أعلاها الله تعالى كافل الممالك الشريفة بالشام المحروس والعلامة في ذيل الكتاب مقابل تحت البسملة بقلم الرقاع «المملوك فلان» وكأنهم لما انحطّت رتبة المكتوب إليه عن أن تكتب العلامة إليه على سمت «يقبّل» ليكون في معنى القصّة كما تقدّم، أخذ المكتوب عنه في التنازل إلى آخر المكاتبة تواضعا للمكتوب إليه وتأدّبا معه.
قال في «التثقيف» : وبذلك كان يكتب عن الأمير يلبغا العمريّ، يعني الخاصكيّ وهو أتابك العساكر المنصورة بالديار المصرية إلى نائبي الشام وحلب.
قال: وكذلك كتب بعده إلى المذكورين: الأمير منكلي بغا، والأمير الجاي، ونوّاب السلطنة بالديار المصرية.
المرتبة الرابعة- أن يأتي بصدر المكاتبة على ما تقدّم في المكاتبة قبلها
من الابتداء «بيقبّل الأرض» وينهي بعد رفع دعائه وما في معناه على ما تقدّم من غير فرق ولا يختلف الحال في الصدر ولا في متن الكتاب، والعنوان «الباب الكريم» ولا يكون إلّا بغير مطالعة. فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب «الباب الكريم، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، الفلانيّ، أعلاه الله تعالى، فلان الفلاني- باسم المكتوب إليه. وإن كان من أرباب الأقلام أو غيرهم فعلى ما تقدّم في «الأبواب بمطالعة» من إبدال الأميريّ بالقضائيّ، أو الشّيخيّ، وزيادة قاضي الحكم الحاكميّ قبل الفلاني.
وصورة وضعه: الباب الكريم- بالألقاب المتقدّمة إلى آخر المالكيّ سطرا واحدا من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، ثم يكتب المخدوميّ الفلانيّ أعلاه الله تعالى في أوّل السطر الثاني، ويترك بياضا، ثم يكتب فلان الفلانيّ باسم المكتوب إليه أو شهرته كما في هذه الصورة:(8/182)
الباب الكريم العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّدي، المالكيّ، المخدوميّ، السّيفيّ، أعلاه الله تعالى بهادر أمير أخور الأشرفيّ.
تنبيه- كلّ ما كان العنوان فيه الباب الكريم، كان العنوان فيه للمسافر «المخيّم» بدل الباب، وباقي الألقاب على حالها كما نبّه عليه في «التثقيف» وغيره، والعلامة في آخر المكاتبة مقابل حسبي الله، إذ لمّا كانت العلامة في أسفل الكتاب مقابل تحت الحسبلة كانت العلامة فيما فوق ذلك أنزل في رتبة المكتوب إليه وأعلى في رتبة المكتوب عنه.
المرتبة الخامسة- يقبّل الأرض بالمقر الشريف
. والرسم فيه أن يترك بعد البسملة وما تحتها من الملكي الفلاني قدر سطر أو سطرين بياضا، ثم يكتب يقبّل الأرض بالمقر الشريف، ويختلف الحال فيه؛ فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب «يقبّل الأرض بالمقر الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الظّهيريّ، المسنديّ، الزّعيميّ، المالكيّ، المخدوميّ، الفلاني، أعزّ الله تعالى أنصاره، وأعلى مناره، وضاعف مباره، وينهي بعد وصف محبّته، وبثّ أثنيته، كيت وكيت، والمسؤول من إحسانه كيت وكيت» وربما كتب: «والمملوك يسأل كيت وكيت» كما في المكاتبات السابقة، أو «والمملوك يسأل تشريفه بمراسمه وخدمه، والله تعالى يديم عليه سوابغ نعمه» .
دعاء آخر لهذه المكاتبة: أعزّ الله تعالى أنصاره، وأدام انتصاره، وجعل على غايات النّجوم اقتصاره، وينهي.
آخر: لا زالت الرّقاب لمهابته خاضعة، والرّكاب به فوق النّجوم واضعة، وأجنّة السيوف بمضار به من ماء الأعداء راضعة، وينهي.
آخر: لا زالت أعلامه مشرّفة، وأقلامه مصرّفة، وأيامه بطيب ثنائه بين الخافقين معرّفة.(8/183)
آخر: لا زالت الدنيا ببقائه مجمّلة، والعلياء لا رتقائه مؤمّلة، والنّعم على اختلافها جواهر مكمّلة، وينهي.
قلت وربما أتي بصورة الإنهاء مسجوعة أيضا، مثل أن يكتب: وينهي بعد تعبّده بولائه، وقيامه بحقوق آلائه. أو وينهي بعد دعاء يقوم بوظائفه، وولاء يتردّى بمطارفه. أو ينهي بعد رفع أدعيته، وقطع العمر في موالاته وعبوديّته، ونحو ذلك. وعلى ذلك جرى في «عرف التعريف» إلّا أنّ الغالب في كتابة أهل الزمان إهماله. والعنوان إن قصد تعظيمه: الباب العالي، بألقاب الباب الكريم في المكاتبة قبلها، إلّا أنه يحذف منها الكريم، وإن لم يقصد تعظيمه فالمقرّ الشريف بالألقاب التي في صدر الكتاب. وصورة وضعه في الباب العالي على ما تقدّم في الباب الكريم: أن يأتي به في سطرين كاملين من أوّل عرض الدّرج إلى آخره، كما في هذه الصورة:
المقرّ الشريف، العاليّ، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، الذخريّ، الظّهيريّ، المسنديّ، الزّعيميّ، المالكيّ، المخدوميّ، السيفيّ، أعزّ الله تعالى أنصاره أمير حاجب بالشام المحروس.
والعلامة في هذه المكاتبة «المملوك فلان» بقلم الرقاع، بأسافل الكتاب، مقابل إن شاء الله تعالى.
واعلم أنّ هذه المراتب الخمس هي الدائرة في المكاتبات بين كتّاب زماننا بمملكة الديار المصريّة وما جرى على نهجها، والمعنى في ترتيبها على هذا الترتيب أنه في المرتبة الأولى منها حذف الدعاء والثناء المقتضيان للدّالّة من المكتوب عنه على المكتوب إليه، واقتصر على اليسير من الكلام دون الكثير الذي فيه سآمة المكتوب إليه واضجاره، عند قراءة الكتاب، وعنونت بالفلاني كالسّيفيّ ونحوه، من حيث إنه لقبّ مؤدّ إلى رفعة، وأتي فيه بمطالعة المملوك فلان، إشارة إلى التصريح بالرقّ والعبوديّة من المكتوب عنه للمكتوب إليه مع إقامته في مقام الرّفعة بذكر لقبه المؤدّي إلى رفعة قدره- وفي المرتبة الثانية أتي فيها بالفلانيّ داخل المكاتبة دون العنوان فكانت أنزل مما قبلها، من حيث إنّ العنوان ظاهر وباطن(8/184)
المكاتبة خفيّ والظاهر المؤدّي إلى الرفعة أعلى من الخفيّ من ذلك، وأتي بالدعاء فكانت أنزل رتبة من التي قبلها لما تقدّم من أنّ الدعاء فيه معنى الدالّة، واجتنب فيه السجع من حيث إنّ في الإتيان به تفاصحا على المكتوب إليه، وعنون بالأبواب إشارة إلى شرف محلّ المكتوب إليه من حيث الإشعار بأن له أبوابا يوقف عليها، وجعلت دون المرتبة الثانية «1» من حيث إنّ العنونة في المرتبة الأولى باللّقب المؤدّي إلى الرّفعة مع دلالته على الذات. وفي الثانية عنون بالأبواب الموصّلة إلى محلّ الشخص، ولا يخفى أنّ ما دلّ على نفس الشّخص أعلى مما هو موصّل إلى محلّه، وأتي فيها بمطالعة المملوك فلان إشارة إلى التصريح للمكتوب إليه بالرّقّ والعبوديّة كما تقدّم في المرتبة الأولى. وفي المرتبة الثالثة حذف منها الفلاني المؤدّي إلى الرّفعة من داخل المكاتبة فكانت أنزل من التي قبلها فأتي فيها بذلك، وأتي بالدعاء مسجوعا فكان أنزل مما قبله لما في السجع من التفاصح على المكتوب إليه، وأسقط من عنوانه مطالعة المملوك فلان فكان أنزل من حيث إنّه لم يقع فيه تصريح برقّ وعبوديّة كما في المرتبة الأولى والثانية. وفي المرتبة الرابعة بقي الصّدر على حاله وعنون فيها بالباب بلفظ الإفراد، فكانت أنزل مما قبلها، من حيث إنّ الإفراد دون الجمع بدليل أنه بعض من أبعاضه. وفي المرتبة الخامسة قيل: يقبّل الأرض بالمقرّ، يعني مقرّ المكتوب إليه، فكانت أنزل مما قبلها من حيث إشعار ذلك بالقرب من محلّه بخلاف «يقبّل مطلق «2» الأرض» فإنه لا ينحصر في ذلك، ثم إن عنونت بالباب العالي مجرّدا عن الكريم، كانت أنزل مما عنون فيه بالكريم لما جرى عليه الاصطلاح من رفعة رتبة الكريم العالي على العالي المجرّد عن الكريم، على ما تقدّم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة، وإن عنونت بالمقرّ الشريف فهي على انحطاط الرتبة عمّا قبلها من حيث(8/185)
إشعاره بقرب المحلّ من المكتوب إليه. على أنّ في عنونة هذه المكاتبة بالمقرّ الشريف نظرا، فإنّ أعلى مراتب الابتداء في المكاتبة بالدعاء هي الدعاء للمقرّ الشريف، وهو بعد تقبيل الباسط والباسطة واليد على ما سيأتي ذكره في الدّرجة الثالثة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فربّما التبس عنوان هذه بعنوان تلك قبل فضّها، والوقوف على صدرها هل هو مفتتح «بيقبّل الأرض بالمقرّ» أو بالدعاء للمقرّ، إلّا أنّ كتّاب الزمان قد رفضوا المكاتبة بالدعاء للمقرّ الشريف واقتصروا على الدعاء للمقرّ الكريم، إذ كان هو أعلى ما يكتب به عن السلطان لأكابر أمراء المملكة على ما تقدّم ذكره في الكلام على مكاتبات السلطان إلى أهل المملكة في المقالة الرابعة.
قلت: وفي الدساتير المؤلّفة في الإخوانيّات في الدولة التّركية في الزمن السابق ما يخالف بعض هذا الترتيب، فجعل في «عرف «1» التعريف» أعلى المراتب يقبّل الأرض وينهي كيت وكيت، والعنوان «الفلاني بمطالعة» على ما تقدّم ذكره في الترتيب السابق. ودونه: الصدر بعينه، والعنوان «الأبواب بمطالعة» . ودونه: كذلك والعنوان «الأبواب» بغير مطالعة. ودونه: «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف، والعنوان إما الباب العالي أو المقرّ الشريف» .
وفي دستور يعزى لبعض بني الأثير أنّ أعلى المراتب «يقبّل الأرض وينهي كيت وكيت» على ما تقدّم. ودونه. «يقبّل الأرض ويدعو مثل يقبّل الأرض وينهي بعد رفع دعائه الذي لا يفتر لسانه عن رفعه، ولا يخفى إن شاء الله إبّان نفعه» .
ودونه: «يقبّل الأرض ويدعو لها، مثل: يقبّل الأرض حماها الله تعالى من غير الزّمان، واكتنفها بالأمان، من صروف الحدثان، ولا زالت محطّ وفود الجدا، وكعبة قصّاد النّدا، وينهي كيت وكيت» . ودونه «يقبّل الأرض ويصفها، مثل أن(8/186)
يكتب: يقبّل الأرض التي هي ملجأ العفاه، وملثم الشّفاه، ومحلّ الكرم الذي لا يخيب من اقتفاه، ومقصد الراجي الذي إذا عوّل عليه كفاه، وينهي كيت وكيت» . ودونه «يقبّل الأرض ويدعو لها «1» ، مثل أن يكتب: يقبّل الأرض لا زالت محروسة الرّحاب، هامية السّحاب، فسيحة الجناب، لمن أناب؛ وينهي كيت وكيت» .
وجرى في «التثقيف» «2» على الترتيب المتقدّم في المرتبة الأولى والثانية والثالثة والرابعة على ما تقدّم في المراتب الخمس السابقة، وجعل المرتبة الخامسة «يقبّل الأرض» مع وصفها على ما تقدّم في الدّستور المنسوب لبعض بني الأثير مع العنونة بالباب العالي، وجعل «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف» مرتبة سادسة مع العنونة بالباب العالي أو المقرّ الشريف.
وفي غير هذه الدّساتير ما يخالف بعض ذلك في الترتيب والتقديم والتأخير، وفي بعض الدّساتير بعد تقبيل الأرض تقبيل العتبات، مثل أن يكتب: يقبّل العتبات الكريمة، لا برحت مطلع السّعود، ومنبع الجود، ومهيعا للمقام المحمود. أو: يقبّل العتبات الكريمة، لا زالت الأفلاك تتمنّى أنها بها تحفّ، وأنها لنجومها إليها بحوض الوالدين (؟) تزف. أو: يقبّل العتبات الكريمة، لا زالت الآمال بها مطيفة، والسّعود لها حليفة، وسعادتها لاستخدام كلّ ذي إلمام مضيفة.
ولا يخفى أنّ بعض هذه الاختيارات غير محكم الأساس، ولا موضوع على أصل يقتضي صحة الترتيب فيه، بل الكثير من ذلك راجع إلى التشهّي، كلّما تقدّم متقدّم في دولة من الدّول أحبّ أن يؤثر مخالفة غيره، ويجعل له شيئا يحدثه لينسب إليه ولا يبالي وافق في ذلك غرضا صحيحا أم لا، وقلّ من يصيب الغرض في ذلك.(8/187)
على أنّ تقديم بعض هذه المراتب على بعض في العلوّ والهبوط إنما هو من جهة استحسانه، لو تكلّف المتكلّف تأخير ما تقدّم فيها أو تقديم ما أخّر، لأمكنه ذلك.
الدرجة الثانية (المكاتبة بتقبيل اليد، وقد رتّبوا ذلك على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى- يقبّل الباسط الشريف
، وهي الأعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه. والرسم فيها أن يترك الكاتب تحت الملكيّ الفلانيّ بعد البسملة قدر سطرين بياضا كما في المسألة «1» قبلها، ويختلف الحال في ذلك، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيديّ، السيديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلاني، لا زالت ساحته مقبّلة، وسماحته مؤمّلة، وينهي بعد وصف خدمه، وثبوت قيامه فيها على قدمه، أنّ الأمر كيت وكيت، والمسؤول من إحسانه كيت وكيت، والله تعالى يحرسه بمنّه وكرمه.
دعاء آخر: يليق بهذه المكاتبة، يقال بعد تكملة الألقاب: لا زالت نعمه باسطة، وأيّامه لعقود الأيام واسطة، وينهي كيت وكيت.
آخر: لا زال جناح كرمه مبسوطا، وجناب حرمه من المخاوف محوطا، وينهي كيت وكيت.
آخر: لا زال يصرّف الأعنّة والأسنّة، ويقلّد أعناق أعدائه كلّ أجل وأعناق أودّائه كلّ منّة، وينهي.
آخر: لا زالت حمائل السّيوف تتسابق إلى بنانه، وأعقاب الرّماح تأوي إلى أنامله، ليمكّنها من قلوب أعداء الله يوم طعانه، ومتون الخيل متحصّنة بعزائمه فيقوى جنانها بجنانه.(8/188)
آخر: لا زالت رحى حروبه على أعدائه تدار، وأسنّة رماحه تنادي الأعداء البدار البدار، وجنوده تقاتل سفرة الوجوه إذا قاتل الأعداء في قرى محصّنة أو من وراء جدار.
آخر: لا زالت أعلام النصر معقودة بأعلامه، وجواري اليمّ السعيد معدودة من خدّامه، وسطور البأس والكرم مثبتة إما بأقلام الخطّ من رماحه وإمّا برماح الخط من أقلامه.
آخر: لا زالت الأعنّة والأسنّة طوع يمينه وشماله، والآمال والأحوال تحت ظلال كرمه وكرم ظلاله، والسيوف والأقلام، هذه جارية بعوائد بأسه، وهذه جارية بعوائد نواله.
آخر: ولا زالت وجوه النضر تتراءى في مرآة صفاحه، وثمار النّصر تجتنى من أغصان رماحه، ولا برح السيف والقلم يتباريان في ضرّ الأعداء ببأسه ونفع الأولياء بسماحه- وإن كان المكتوب إليه وزيرا ربّ سيف، كتب بعد الأميريّ «الوزيري» . وإن كان وزيرا ربّ قلم، كتب قبل الفلاني أيضا «الصاحبيّ» . وإن كان من أعيان الكتّاب: ككاتب السّرّ وناظر الخاصّ وناظر الجيش وناظر الدّولة وكتّاب الدّست ونحوهم، كتب بدل الأميري «القضائيّ» ثم يكتب للجميع بعد الوزيري أو القضائي، العالميّ، العادليّ، الممهّديّ، المشيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلاني، أسبغ الله تعالى ظلاله ومدّها، وشيّد به مباني الملك وشدّها، ووهب الأيام منه هبة لا تستطيع الليالي ردّها، وينهي كيت وكيت.
دعاء آخر: يليق بهذه المكاتبة، يقال بعد تكملة الألقاب، ولا زالت أقلامه تروّع الأسد في آجامها، وتزيد على الغيوث في انسجامها، وتعلّم الرّماح الإقدام إذا نكصت لإحجامها، وينهي.
آخر: ولا زالت الدّول مشيّدة بتصريفه، مجدّدة لتشريفه، مؤيّدة بين صرير القلم وصريفه.(8/189)
آخر: ولا زالت أقلامه تهزأ بالغيوث الهامية، وأنعامه تفوق على البحار الطامية، وموارد إحسانه تأوي إليها الوفود الظامية.
آخر: وأدام القصد لبابه، ونزول الآمال برحابه، وصعودها إلى سحابه.
آخر: لا زال فسيحا للمقاصد جنابه، مجرّبا للمناجح بابه، صريحا في ابتغاء خير الدنيا والآخرة طلابه- وإن كان من القضاة الحكّام، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، القضائيّ، العالميّ، الإماميّ، العلّامي، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى أحكامه، وجمّل به الدهر وحكّامه، وثبّت به الأمر وزاد إحكامه، وينهي كيت وكيت.
دعاء آخر يناسبه: يقال بعد تكملة الألقاب: أعزّ الله تعالى أحكامه وأنفذها، وتدارك به الأمّة وأنقذها، وأسعف به الملّة الإسلاميّة وأسعدها، وينهي.
آخر: نضرّ الله الدّين بنوره، وسقى الغمام باقي سوره، وحمى حمى الشرع الشريف بما ضرب عليه من سوره.
آخر: وجمّل الدهر بمناقبه، وزيّن سماء العلم بكواكبه، ولا زال الزمان يقول لمنصب الشرع الشريف بشخصه ورأيه:
عزّ يدوم وإقبال لصاحبه.
آخر: وأمضى بيده سيوف الشّرع التي هي أقلامه، وأعلى طروس العدل والحقّ فإنها أعلامه، ولا زالت يد القصد مشيرة إليه، ولا ينعقد إلّا على ثنائه خنصر ولا ينجلي إلّا بهداه إبهام.
آخر: وسدّد سهام الحقّ بأقضيته، وشيّد أركان الشّرع بأبنيته، وأيّد الإسلام بأقلام سجلّاته القائمة للنّصر مقام ألويته- وإن كان المكتوب إليه من مشايخ الصّوفيّة، كتب: يقبّل الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الشيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، لا زال يقاتل بسلاحه، ويقابل فساد الدّهر بصلاحه، ويجلو دجى الظّلماء بصباحه، وينهي.(8/190)
آخر: ونفع ببركاته في الرّوحات والغدوات، وجمّل ببقائه المحافل والملوات، وبسط في صالح الدّول [يده] ، إمّا في مباشرته بصالح التدبير وإمّا في انقطاعه بصالح الدّعوات.
والعنوان في هذه المكاتبة «الباسط الشريف» بالألقاب التي في صدر المكاتبة على السّواء، والدعاء له بأوّل سجعة من دعاء الصّدر أو نحوها، بحسب حال المكتوب إليه، مثل أن يكتب لمن هو من أرباب السيوف، أعزّ الله تعالى نصره، أو عزّ نصره. ولمن هو من رؤساء الكتّاب: أسبغ الله ظلاله. ولمن هو قاضي حكم: أعزّ الله أحكامه. ولمن هو من مشايخ الصوفية: أعاد الله من بركاته.
وصورة وضعه في الورق أن تكتب الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كاملين من أوّل عرض الورق إلى آخره، إلّا أنه يفصل بين الألقاب والدعاء ببياض لطيف، وبين الدعاء والتعريف ببياض لطيف كما في هذه الصورة:
الباسط الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، السيّديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ أعزّ الله أنصاره أمير حاجب بحلب المحروسة وقد ذكر في «عرف التعريف» : أنه إن قصد تعظيمه، عنونه بالمقرّ الشريف بالألقاب المتقدّمة على السّواء، ولا تخفى صورة وضعه بعد ما تقدّم، والعلامة «المملوك فلان» بقلم الرّقاع مقابل إن شاء الله كالمكاتبة بالمقرّ الشريف المتقدّمة.
المرتبة الثانية-[يقبّل الباسطة الشريفة] «1» والرسم فيها أن يترك تحت الملكيّ الفلاني قدر سطرين بياضا
كما في المكاتبة قبلها، ثم يكتب «يقبّل الباسطة الشريفة» بالتأنيث، ويجري الحال في ذلك كما في الباسط، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السيوف، كتب: يقبّل الباسطة الشريفة، العالية،(8/191)
المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، العالميّة، العادليّة، المؤيّدية، الذّخريّة، المالكية، المحسنيّة، الفلانية، لا زالت سحائبها مستهلّة، ومواهبها للبحار مستقلّة، وينهي كيت وكيت، والمستمدّ من محبّته كيت وكيت. وربما قيل والمسؤول، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
دعاء آخر يليق بذلك: لا زالت سيولها تملأ الرّحاب وسيوفها تسرع السّلّ إلى الرّقاب.
آخر: لا زالت خناصر الحمد على فضل بنانها معقودة، ومآثر البأس والكرم لها ومنها شاهدة ومشهودة، وبواتر السّيوف مسيّرة القصد إلى مناصرة أقلامها المنضودة.
آخر: ضاعف الله تعالى موادّ نعمها، وجوادّ كرمها، واتّصال الآمال بمساقط ديمها.
آخر: لا زالت الآمال لائذة بكرمها، عائذة بحرمها، مستنجدة على جدب الأيّام بسقي ديمها.
آخر: لا زالت لرسوم الكرم مقيمة، ولصنائع المعروف مديمة، ولأيادي الإحسان متابعة إذا قصّرت عن البروق ديمة- وإن كان المكتوب إليه من رؤوس الكتّاب كتب بدل الأميريّ القضائيّ، والباقي على ما تقدّم، ثم يدعى له بما يناسبه.
دعاء يناسب ذلك: لا زالت السيوف خاضعة لأقلامها، والنجوم خاشعة لكلامها، والجبال متواضعة لإعلاء أعلامها.
آخر: لا زالت موالاتها فريضة، وأجنحة أعدائها مهيضة، ومقل الأسنّة إذا خاصمتها ألسنة أقلامها غضيضة.
آخر: أسبغ الله ظلّها، وهنّأ بها أمّة قرب مبعث زمانها وأظلّها، وهدى الآمال وقد حيّرها الحرمان وأضلّها.(8/192)
آخر: لا زال قلمها مفتاح الرّزق لطالبه، والجاه لكاسبه، والنصر لمستنيب كتبها عن كتائبه.
آخر: لا زال رفدها المطلوب، وسعدها المكتوب، وقلمها المخاطب في مصالح الدول والمخطوب.
آخر: بسط الله ظلّها ولا قلّصها، وزادها من فضله ولا نقصها، ولا جرّع كبد حاسدها الظالمية إلّا غصصها.
آخر: ولا زال عميما إنعامها، قديما وحديثا ديمها وإكرامها، قاضية بسعدها النجوم التي هي خدّامها.
آخر: لا زالت بسيطا ظلّها، مديدا فضلها، سريعا إلى داعي النّدى والرّدى قلمها في المهمّات ونصلها- وإن كان من قضاة الحكم زاد مع القاضويّ قبل الفلاني الحاكميّ ودعا بما يناسب.
دعاء: أعزّ الله شانها «1» ، وأذلّ من شانها «2» ، وأغصّ بأدمع أعدائها الضّريحة شانها «3» دعاء آخر يليق بذلك: ولا زالت الآمال إليها وافدة، والصّلات عائدة، ومعاني الفضل عن أخبار معنها زائدة.
آخر: لا زالت خناصر الحمد معقودة على فضل بنانها، وفصل بيانها، وعوائد الفضل والكرم شاهدة بالحسنين من فضلها وامتنانها. وإن كان من مشايخ الصّوفيّة أبدل القضائيّة بالشيخيّة وأسقط العادليّة والحاكميّة ودعا له نحو قوله: ومتّع الإسلام ببقيّته الصالحة، وبيّض صحائف أعماله التي لأيدي الملائكة الكرام مصافحة.(8/193)
آخر: لا أخلى الله من بركاته خلواته، وأعاد من نوامي دعواته، وسوامي درجاته وتوجّهاته، ونحو ذلك.
والعنوان الألقاب التي في صدر المكاتبة، والدعاء بالسّجعة الأولى من الدّعاء باطنه أو نحوها.
وصورة وضعه أن تكتب الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كما تقدّم في الباسط كما في هذه الصورة:
الباسطة، الشريفة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، العالميّة، العادليّة، الذّخرية، السنديّة، الكامليّة، المحسنيّة، أعزّ الله تعالى أنصارها أمير حاجب بحماة المحروسة والعلامة «المملوك فلان» بقلم الرّقاع في أوّل الوصل الثالث على القرب من اللّصاق.
المرتبة الثالثة- يقبّل اليد الشريفة بألقاب الباسطة المتقدّمة
، ثم اليد الكريمة، ثم اليد العالية مع حذف الكريمة رتبة بعد رتبة، والألقاب بحالها ويدعى له، ثم يقال والمستمدّ من محبّته كيت وكيت، والله تعالى يؤيّده. والحال في اختلاف بعض ألقابها بالنّسبة إلى أرباب السيوف وغيرهم على ما تقدّم في الباسطة.
(وهذه أدعية لأرباب السّيوف في هذه المكاتبة) دعاء من ذلك: يقال بعد استكمال الألقاب: لا زالت مقبّلة البنان، مؤمّلة الإحسان، مفضّلة على أنواء السّحب بكل لسان، وينهي.
آخر: لا زالت تردّ بالسيف صدور الكتائب، وترد الظّماة منها موارد السحائب، وتحدّث عن البحر وكم في البحر من العجائب.
آخر: لا زالت بربّها مأمونة، وبذبّها ممنونة، وأيامها تصبّح الأعداء بأسنّتها الزّرق المسنونة.(8/194)
آخر: لا أخلى الله من ودّها، ولا قطع وظائف حمدها، ولا قضى مغيبها إلّا جعل لها ذكرى بعدها.
آخر: لا زالت مصالحها تظفر بالمنى، وتحصل على الغنى، وتطلق لسانه بعاطر الثّنا.
آخر: لا زالت لتقليد المنن سابقة في الجود العذل، مقسّمة في مكارم التكريم، باطنها للنّدى وظاهرها للقبل.
(وهذه أدعية تناسب أرباب الأقلام) يقال بعد استيفاء الألقاب: لا زالت مستهلّة بالنّدا، مستقلّة بكبت العدا، مطلّة على النجوم على بعد ما بينهما من المدى.
آخر: لا برحت مفاخرها مفصّلة، ومحبّتها في الخواطر ممثّلة، والكواكب تودّ لو فارقت فلكها وأصبحت لديها مسبلة.
آخر: لا زالت لصحائف الإحسان مسطّرة، ولقلوب الأعداء مفطّرة، ولصنائع المعروف إذا أمسكت الأنواء ممطرة.
آخر: أعلى الله تعالى شانها، وضاعف إحسانها.
والعنوان: اليد الشريفة، أو اليد الكريمة، أو اليد العالية، بالألقاب التي في صدر الكتاب من غير زيادة ولا نقص، والدعاء بأوّل سجعة من المدعوّ به في صدر الكتاب أو نحوها، والتعريف بعد ذلك.
وصورة وضعه في الكتابة أن يكتب سطران على ما تقدّم في الباسط والباسطة كما في هذه الصورة:
اليد الشريفة، العالية، المولويّة، الأميريّة، الكبيريّة، العالمية، العادليّة، الذّخرية، المالكيّة، المحسنيّة، الفلانية. أعلى الله تعالى شأنها نائب ملطية «1» المحروسة(8/195)
والعلامة «المملوك فلان» بقلم التوقيعات، في آخر الوصل الثاني من الكتاب، على القرب من موضع لصاقه «1» واعلم أنه ربما وصف التقبيل في هذه المراتب بعد الدّعاء بالأوصاف الدالّة على زيادة التأدّب ورفعة قدر المكتوب إليه، وعلى ذلك جرى في «عرف التعريف» . وقد يستعمله بعض كتّاب الزمان، وذلك مثل أن يقول في تقبيل الباسط بعد استعمال الدعاء: تقبيلا يحوم على مناهله، ويحلّق نسر السماء على منازله، أو يقول: تقبيل محبّ أخلص ولاءه، ومحّص الصّدق وفاءه، أو تقبيلا يواليه، وينظّم لآليه، أو تقبيلا يواصل به الخدم، ويودّ لو سعى لأدائه على الرأس إن لم تسعف القدم، أو تقبيلا لا يروى الكرم إلّا عنه، ولا تستفاد المكارم إلّا منه، أو تقبيل وارد على ذلك الزّلال، رائد في ذلك الروض الممتدّ الظّلال، أو تقبيل مسارع إليها، مزاحم عليها.
وربما أتى في الإنهاء بما يلائم المقام، مثل أن يقول: وينهي بعد وصف خدمه، وتمنّيه لو وقف في صفّ خدمه، وما أشبه ذلك.
قلت: وفي بعض الدّساتير بعد تقبيل اليد العالية، يقبّل يد الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المؤيّديّ، النصيريّ، الزّعيميّ، الفلانيّ، وبعد ذلك: يخدم الجناب الكريم بنحو هذه الألقاب. وفي «التثقيف» : يقبّل يد الجناب العالي، ويخدم الجناب العالي، بدون الكريم، ثم يقال بعد ذلك ويبدي لعلمه كيت وكيت، والقصد من محبّته كيت وكيت، فيحيط علما بذلك. وبعض الكتّاب يستعمل ذلك إلى الآن، وهو ذهول، إذ سيأتي في(8/196)
أوّل الدرجة الثالثة أنّ أعلى المراتب المفتتحة بالدعاء الدعاء للمقرّ الشريف على المصطلح الأوّل، وللمقرّ الكريم على ما استقرّ عليه الحال الآن، وإذا كان كذلك فكيف يتأتّى أن تكون مرتبة من مراتب الجناب الكريم أو الجناب العالي قبل المقرّ الشريف أو المقرّ الكريم.
الدرجة الثالثة (المكاتبة بالدعاء)
وقد رتّبوا المكاتبة بالدعاء على [ثلاث] «1» مراتب:
المرتبة الأولى- الدعاء للمقرّ
، والرسم فيه أن يترك بعد «الملكي الفلاني» قدر عرض ثلاث أصابع بياضا؛ ثم يؤتى بصدر المكاتبة على سمت البسملة.
ويختلف الحال في ذلك، فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، النّصيريّ، الفلانيّ. ثم يدعى له بما يناسب نحو: ولا زالت جيوشه جائلة، وجنوده بين الأعداء وبين مطالبها حائلة، وأولياؤه على صهوات خيلها لديه قائلة، أصدرناها إلى المقرّ الكريم، تهدي إليه من السّلام أطيبه، ومن الثّناء أطنبه، وتبدي لعلمه الكريم أنّ الأمر كيت وكيت، والقصد من اهتمامه كيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
(وهذه أدعية تناسب ذلك) :
دعاء يليق بذلك: يقال بعد تكملة الألقاب: وأيّد عزائمه ونصرها، وأعلى أعلامه ونشرها، ودقّق في مقاتل الأعداء حيث تزور الأسنّة نظرها، وينهي.(8/197)
آخر: ولا برحت الآمال بكرمه تعترف، وبوارق صوارمه لأبصار الأعداء تختطف.
آخر: وأعلى قدره، وأنفذ أمره، أصدرناها.
وإن كان من رؤساء الكتّاب، كتب: بسط الله ظلّ المقرّ، أو أسبغ الله ظلال المقرّ الكريم، العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، السيّديّ، السّنديّ، المالكيّ، المخدوميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، وباقي المكاتبة كما في أرباب السيوف.
وهذه أدعية تناسب ذلك:
دعاء يليق به: ولا زالت الأمور إليه مفوّضة، ومضارب العزّ إلّا عنه مقوّضة، وصحائف الحسنات بتسويده على أثناء الدّهر مبيّضة، أصدرناها.
آخر: وصرّف لسان قلمه، وشرّف مكان قدمه، وعرّف من كان يناويه أنّه أصبح لا يعدّ من خدمه.
قلت: وقد ذكر في «عرف التعريف» «1» أن القضاة والحكّام لا مدخل لهم في المكاتبة بالمقرّ، وعلى ذلك جرى في مشايخ الصوفيّة، على أنه قد كوتب بذلك. وقد رأيت المكاتبة بذلك في بعض الدساتير، وحينئذ فيكتب: أعزّ الله تعالى أحكام المقرّ، العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العلّاميّ، الإماميّ، المالكيّ، المحسنيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، ويدعى له بما يناسب، مثل: وجدّد له إقبالا، وبلّغه من الدّارين آمالا، وأحسن إليه مبدأ ومآلا، ونحو ذلك. والباقي على نحو ما تقدّم.
(وهذه أدعية تناسب ذلك:) لا برحت الشريعة محوطة بأقلامه، مضبوطة بأحكامه، منوطة بما يشيّد(8/198)
مبانيها ومثانيها من أحكامه، مؤرّخة أيام سعودها بأيامه.
آخر: حرس الله بأحكامه سرح المدى، ولا برحت فتاويه بها يقتدى، ويظهر على المناوين والمبتدعين من تجريدها مهنّدا مهنّدا.
آخر: لا برحت أنوار فتاويه لامعة، وسيوف أقلامها بها قاطعة، وحدودها إلى [موارد] أحكام الشريعة المحمّدية شارعة.
والعنوان لهذه المكاتبة: «المقر الكريم» بنظير ما في الصّدر، والدعاء بأوّل سجعة في الصدر من الدعاء.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين الألقاب والدعاء والتعريف كما في هذه الصورة:
المقرّ الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، النّصيريّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى أنصاره فلان الفلانيّ والعلامة «المملوك فلان» بقلم الثلث مقابل السطر الثاني من المكاتبة.
المرتبة الثانية: الدعاء للجناب، وهو على ثلاث طبقات
: الطبقة الأولى- أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم
. والرسم فيه أن يترك تحت «الملكيّ الناصريّ» عرض ثلاثة أصابع بياضا كما في المسألة قبلها.
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الذّخريّ، العضديّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: وأعلى قدره، وأنفذ أمره، صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم، تهدي إليه سلاما رائقا، وثناء عابقا، وتوضّح لعلمه الكريم كيت وكيت، والقصد من اهتمامه كيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يحرسه بمنّه وكرمه.(8/199)
وهذه أدعية تناسب ذلك.
دعاء منه: ولا زالت عزائمه تعير السّيوف المضاء، وتعلّم السّهام النّفوذ في القضاء.
آخر: ولا زال جنابه مرتعا، وسحابه مربعا، ورعبه لا يدع من قلوب الأعداء موضعا.
آخر: ولا زالت عزائمه تباري السّيوف، وتشقّ الصّفوف، وتجاري إلى مقاتل الأعداء الحتوف، صدرت.
وإن كان من الكتّاب، كتب: أدام الله تعالى جلال الجناب الكريم، العالي، القضائيّ، الكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، العونيّ، الغياثيّ، الملاذيّ، الفلانيّ، ويدعى له بما يناسبه، والباقي من نسبة أرباب السّيوف.
دعاء يناسبه: وحرس سماءه التي تغنى عن المصابيح، ونعماءه التي هي للنّعم مفاتيح.
آخر: وبلّغه أشرف الرّتب، وملأ به قلوب الأعداء غاية الرّهب، وشكر ندى قلمه الذي لم يدع للغمام إلّا فضل ما وهب، صدرت.
وإن كان قاضيا، كتب: أعزّ الله تعالى أحكام الجناب الكريم العالي، القضائيّ، الإماميّ، العالميّ، العلّاميّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعو له؛ نحو:
ونوّر بعلمه البصائر، وسرّ بحكمه السّرائر، وجعل فيض يمّه مما لا تودع درره إلا في الضمائر. والباقي من نسبة ما تقدم.
وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب: أعاد الله تعالى من بركات الجناب الكريم، العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الورعيّ، الزاهديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: ولا زال يقاتل بسلاحه، ويقابل فساد الدّهر بصلاحه، وتجلى دجى الظّلماء بصباحه. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاما يزدان بعرض بخدمته، ويزداد نضرة بنظرته.(8/200)
والعنوان لكلّ منهم بألقاب الصدر، والدعاء بأوّل سجعة من دعائه أو نحو ذلك.
وصورة وضعه أن يكتب في سطرين ألقابه ودعاءه وتعريفه كما في هذه الصّورة:
الجناب الكريم، العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، النّصيريّ، الفلانيّ، أعزّ الله تعالى نصرته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» بقلم الثلث مقابل السطر الثاني كما في المكاتبة التي قبلها.
الطبقة الثانية- من المرتبة الثانية
: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
والرسم فيه أن يترك تحت الملكيّ الفلانيّ قدر أربعة أصابع بياضا، ثم يختلف الحال في ذلك؛ فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ. ثم يدعى له، نحو: ونصره في جلاده، وأيّده في مواقف جهاده. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما يشوق، وثناء يروق، وتوضّح لعلمه كيت وكيت، فالجناب العالي، يتقدّم بكيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
دعاء آخر يناسب هذه المكاتبة: يقال بعد استيفاء الألقاب: ولا زال عزمه مؤيّدا، وعزّه مؤبّدا، واجتهاده وجهاده، هذا يسرّ الأولياء وهذا يسوء العدا.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تخصّه بالسّلام، والثناء الوافر الأقسام، وتوضّح لعلمه كيت وكيت.
آخر: ولا زالت آراؤه كواكب يهتدى بلوامعها، وتقرأ سورة النصر في جوامعها، وتسير كالسّحب فترمي الأعداء بصواعقها وتأتي الأولياء بهوامعها.
وإن كان من الكتّاب، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي،(8/201)
القضائيّ، الكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، القواميّ، النّظاميّ، الفلانيّ. ثم يدعى له نحو: ولا زال يرجى لكلّ جليل، ويؤمّل لكلّ جميل، ويؤهّل لكلّ منتهى تقصر دونه أصابع النّيل. صدرت هذه المكاتبة، والباقي على ما تقدّم في أرباب السيوف.
وإن كان من القضاة، كتب: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، القضائيّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الصّدريّ، الرئيسيّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: ودفع عنه الأباطيل، وأرشد بهداه من الأضاليل.
وإن كان من مشايخ الصّوفيّة، كتب: أعاد الله تعالى من بركة الجناب العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، الكامليّ، الورعيّ، الزاهديّ. ويدعى له، نحو: ولا زال تكشف به اللّأواء «1» ، وتطبّ به الأدواء. صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما، وتفضّ عن مثل المسك ختاما، وتوضّح لعلمه.
دعاء آخر: نفع الله بدعواته التي لا حاجب لها عن الإجابة، ولا عارض يمنعها عن الإصابة، وأمتع ببركاته التي هي أمن للناس ومثابة. صدرت.
والعنوان: الألقاب التي في صدر المكاتبة. والدعاء: ضاعف الله تعالى نعمته، ثم التعريف.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين ألقابه ودعاؤه وتعريفه كما في هذه الصورة:
الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ. ضاعف الله تعالى نعمته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» بقلم الثلث الثقيل مقابل السطر الأوّل من المكاتبة.(8/202)
الطبقة الثالثة- أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي وما في معنى ذلك
. والرسم فيه أن يترك تحت الملكي الفلاني بحيث يبقى من الوصل الذي فيه البسملة ما يسع سطرين فقط ثم يختلف الحال فيه؛ فإن كان المكتوب إليه من أرباب السيوف، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: وأيّد عزمه وأظهره، وكبت عدوّه وقهره، صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه سلاما طيّبا، وثناء مطنبا، وتوضّح لعلمه كيت وكيت، فالجناب العالي يتقدّم بكيت وكيت، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
دعاء آخر يناسبه: وموّه بجهاده كلّ سنان، ونبّه بجلاده جفن كلّ سيف وسنان. صدرت هذه المكاتبة تحيّيه بسلام يطيب، وثناء يهتزّ غصنه الرّطيب، وتوضّح لعلمه.
وإن كان من الكتّاب، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، القضائي. والألقاب من نسبة ما تقدّم في: ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
والدعاء، نحو: ولا زال قلمه لأبواب الأرزاق فاتحا، ونجم رفده [لأنواء الفضل مانحا «1» ] صدرت.
وإن كان من القضاة، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، والألقاب من نسبة ما تقدّم في ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي. والدعاء، نحو: ولا أخلى الله أفق الفضل من كوكبه، ولا مجال الجدال من مركبه. صدرت.
وإن كان من مشايخ الصوفية، كتب: أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي الشيخيّ. وبقيّة الألقاب من نسبة ما تقدّم مع ضاعف الله تعالى نعمة الجناب.(8/203)
والدعاء، نحو: نفع الله ببركات خلواته التي كم انجلت عن الرّشاد، وبان في مرآتها نور الهدى للعباد، وأنارت إنارة الشمس لا إنارة الزّناد.
والعنوان بنظير الألقاب التي في صدر المكاتبة، والدعاء: أدام الله تعالى نعمته.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين الألقاب والدعاء والتعريف كما في هذه الصورة:
الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العونيّ، النّصيريّ، الذّخريّ، الفلانيّ، أدام الله نعمته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» تحت البسملة بقلم مختصر الطّومار «1» .
المرتبة الثالثة- الدعاء للمجلس
، ويختصّ بالمجلس العالي، والبياض فيه تحت الملكي الفلاني بحيث يبقى من الوصل قدر سطرين كما تقدّم في الجناب العالي. ويختلف الحال فيه؛ فإن كان من أرباب السّيوف، كتب: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، العونيّ، الفلاني. ويدعى له، نحو: وأيّد عزمه، ووفّر من الخيرات قسمه. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وتوفّر له من الخير أقساما، وتوضح لعلمه المبارك كيت وكيت، فالمجلس يتقدّم بكيت وكيت، فيحيط بذلك علما. والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
وهذه أدعية تليق بهذه المكاتبة.
دعاء من ذلك: ولا زال مشكور الاهتمام، موصوف المحاسن وصف البدر التّمام، معروفا بجميل الأثر مثل ما تعرف مواقع الغمام. صدرت هذه المكاتبة إلى(8/204)
المجلس العالي تهدي إليه سلاما، وتسدّد لرأيه الصائب سهاما، وتوضّح لعلمه الكريم.
آخر: ولا زال سيفا يدفع بحدّه، ويجري ماء النصر من فرنده «1» ، ويتنوّع به الظّفر فيقتل بتجريده ويخاف وهو في غمده.
وإن كان من الكتّاب، كتب: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، الرئيسيّ، الماجديّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: وسدّد رأيه ووفّقه، وصدّق فيه الظّنّ وحقّقه، وجمع له شمل السعادة ثم لا فرّقه. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تشكر مساعيه، واهتمامه الذي بان طرف النّجم وهو يراعيه، وتوضّح لعلمه الكريم.
آخر: ولا نزع عنه ثوب سعادة، ولا غيّر منه جميل عادة، ولا عرف سوى بابه الذي لو كان له الحقّ في جبهة الأسد لاستعاده. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تهدي إليه السّلام، والثّناء الذي تنطق به ألسنة الأقلام، وتوضح لعلمه.
وإن كان من القضاة، كتب: أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: ولا برحت طلبته «2» مفيدة المطالب، مورية الهدى في الغياهب، قائمة أقلام هدايتها في ليالي الحيرة مقام الكواكب.
آخر: ولا برحت الدنيا ممطورة بغمامه، محبورة بدخولها تحت ذمامه.
وإن كان من مشايخ الصوفية، كتب: أدام الله تعالى بركة المجلس العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، العابديّ، الورعيّ، الزاهديّ،(8/205)
الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: ولا زال نوره يسعى بين يديه، ويدعى باسمه إليه.
آخر: أعاد الله من بركاته على الراعي والرّعيّة، وجعل خلواته خلوات كلّ نفس راضية مرضيّة، والباقي على ما تقدّم.
والعنوان الألقاب التي في الصّدر، والدعاء: أدام الله تعالى نعمته. ثم التعريف.
وصورة وضعه في الورق أن تكتب ألقابه والدعاء والتعريف كما في هذه الصورة:
المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، العونيّ، الفلانيّ، أدام الله تعالى نعمته فلان الفلانيّ.
والعلامة «المملوك فلان» بقلم مختصر الطّومار تحت الملكي الفلاني، على ما تقدّم في المكاتبة قبلها.
واعلم أنّ ترتيب هذه الدرجة على هذه المراتب: من الدّعاء بأعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، ثم أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم، ثم ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي؛ ثم أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي، ثم أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، هو المستقرّ عليه الحال بين كتّاب الزمان بالديار المصرية. وجعل في «عرف التعريف» أعلى المراتب في الدعاء: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، ثم أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم، ثم أعزّ الله تعالى نصر المقرّ الكريم، ثم أدام الله تعالى نصرة الجناب الشريف، ثم أدام الله تعالى نصرة الجناب الكريم، ثم ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي، وحرس الله تعالى نعمة الجناب العالي، مع اختصار الألقاب وحذف بعضها، ثم أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي. وعلى كثير من ذلك كان الحال جاريا إلى آخر الدولة الأشرفيّة «شعبان «1» بن حسين» ثم أخذ(8/206)
الناس في التغيير إلى أن صار الأمر على ما هو عليه الآن.
قلت: وكانوا في الزّمن السالف في الدولة الناصرية «محمد «1» بن قلاوون» وما والاها لا يأتون مع المقرّ الشريف، والمقرّ الكريم، والمقرّ العالي، والجناب الشريف، بأصدرناها ولا بصدرت هذه المكاتبة كما هو الآن؛ بل بعد الدعاء يقولون مع «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف» : المملوك يقبّل الباسطة. ثم يأتي بالإنهاء بعد ذلك مثل أن يقول: المملوك يقبّل الباسطة الكريمة التي هي معدن السّماح، وموطن ما يوهن العدا من صدور الصّفاح، وينهي. أو يقول: يقبّل الباسطة الكريمة، ويرتع منها في كلّ ديمة، وينهي. أو والمملوك يقبّل اليد الشريفة، ويلجأ إلى ظلالها الوريفة، وينهي. ومع «الجناب الشريف» لفظ «المملوك يخدم» . ثم يقول: ويبدي مثل أن يكتب: المملوك يخدم بأثنيته ويفضّ عقود الشّكر على أنديته، ويبدي لعلمه الكريم. أو المملوك يخدم بأثنيته التي تزيد الطّيب طيبا، وتسري سرى السّحب فلا تدع في الأرض جريبا «2» ، ويبدي لعلمه الكريم. وربما أعاض ذلك بقوله: صدرت هذه الخدمة، مثل أن يقول: صدرت هذه الخدمة وسلامها يتضوّع، وثناؤها السافر لا يتبرقع.
الدرجة الرابعة (الابتداء بصيغ مخترعة من صدور مكاتبات الأدعية)
اعلم أن صدور المكاتبات المفتتحة بالأدعية يقال فيها بعد الدّعاء المعطوف: أصدرناها أو صدرت هذه المكاتبة، ثم يقال: وتبدي لعلمه أو وتوضّح لعلمه. ومن أجل ذلك جعلت هذه الدرجة دون درجة الافتتاح بالدعاء؛ لأنّ هذه فرع من فروع تلك، وحينئذ فيكون الصدر مشتملا بعد الدعاء على ثلاثة أشياء:
أحدها-[افتتاح] صدور المكاتبة بقوله: أصدرناها أو صدرت.(8/207)
والثاني- الإشارة إلى المكاتبة بقوله: هذه المكاتبة.
والثالث- الإعلام بما صدرت بسببه المكاتبة، فانتظم من ذلك ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى- الافتتاح بصدور المكاتبة
، وفيها طبقتان:
الطبقة الأولى- صدرت والعالي
، وهي أن تفتتح المكاتبة بأن يقال: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي. ويختلف الحال فيها.
فإن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: أدام الله تعالى نعمته، ووفّر من الخير قسمته، تتضمّن إعلامه كيت وكيت. فالمجلس العالي يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده والله الموفّق.
وإن كان من الكتّاب، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، القضائيّ، الكبيريّ، الرئيسيّ، الكامليّ، الماجديّ، الأثيريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له، نحو: حرس الله مجده، وأنجح قصده، والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، القضائيّ، الأجلّيّ، الإماميّ، الصّدريّ، الفقيهيّ، الكامليّ، الفاضليّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: أيّد الله أحكامه، ووفّر من الخير أقسامه، والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصوفيّة، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، الشّيخيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، الزاهديّ، العابديّ، الورعيّ، الأوحديّ. ويدعى له نحو: أعاد الله من بركته، ونفع المسلمين بصالح أدعيته، والباقي على ما تقدّم.
والعنوان بالألقاب التي في الصّدر وأوّل سجعة من الدعاء فيه. وتكون الألقاب والدعاء والتعريف في سطرين كما في هذه الصورة:(8/208)
المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ أدام الله رفعته فلان الفلانيّ والعلامة «المملوك فلان» تحت «الملكيّ الفلاني» بقلم مختصر الطّومار الثقيل، وربما جعل بعضهم العلامة «أخوه» .
الطبقة الثانية- صدرت والسامي
، وهي أن تفتتح المكاتبة بأن يقال:
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس الساميّ، والبياض فيها تحت الملكيّ الفلانيّ كما في المكاتبة التي قبلها، بحيث لا يبقى من الوصل إلّا ما يسع سطرين فقط على ما تقدّم.
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، العضديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. ويدعى له نحو: أدام الله سعده، وأنجح قصده. ثم يقال:
تتضمّن إعلامه كيت وكيت. فالمجلس السامي يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده ويبادر إليه، والله الموفّق.
وإن كان من الكتّاب، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، الزّينيّ، الماجديّ، الأثيريّ، الأوحديّ، الفلانيّ.
ويدعى له، نحو: ضاعف الله تعالى إقباله، أو أدام الله سعادته، وبلّغه إرادته، والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، القضائيّ، الصّدريّ، الفقيهيّ، الإماميّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، فلان الدين. والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصوفية، كتب: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الشّيخيّ، العالميّ، العامليّ، الورعيّ، الزاهديّ، الأوحديّ، الفلانيّ، ويدعى له، نحو: لا أخلاه الله من أنسه، ولا أبعده من حضرة قدسه. والباقي على نحو ما تقدّم.
والعنوان الألقاب التي في صدر المكاتبة بالسّجعة الأولى مما فيه من الدعاء والتعريف.(8/209)
وصورة وضعه في الورق أن يكتب في سطرين كما في هذه الصورة:
المجلس السامي، الأميريّ، الكبيريّ، المجاهديّ، العضديّ، الذّخريّ، الأوحديّ، الفلانيّ. أدام الله سعده فلان الفلاني.
والعلامة «أخوه فلان» تحت الملكيّ الفلانيّ، بقلم مختصر الطّومار الثقيل.
المرتبة الثانية- الافتتاح بالإشارة إلى المكاتبة
، وهي أن يكتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي بغير ياء في ألقابه، ويعبّر عنه بالسامي بغير ياء، والبياض فيها تحت الملكيّ الفلانيّ متّسع أيضا، بحيث لا يبقى من الوصل إلّا ما يسع سطرين فقط.
ثم إن كان المكتوب إليه من أرباب السّيوف، كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الذّخر، فلان الدين. ويدعى له نحو: أدام الله إقباله، وبلّغه آماله، أو أنجح الله قصده، وأعذب ورده، تعلمه كيت وكيت، فالمجلس يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده ويبادر إليه، والله الموفّق.
وإن كان من الكتّاب كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الصّدر، الرئيس، الأوحد. ويدعى له، نحو: أدام الله سعادته، وبلغه من الخير إرادته، تعلمه كيت وكيت. والباقي على ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الكامل، الأوحد، فلان الدين. والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصّوفية، كتب: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي الشيخ، الصالح، الورع، الزاهد، فلان الدين، نفع الله تعالى ببركته، ولا أخلى مجالس الذّكر من محاسن سمته وسمته. والباقي من نسبة ما تقدّم.
والعنوان: الألقاب التي في صدر الكتاب، وأوّل سجعة من الدعاء الذي فيه وتعريفه، ويكون في سطرين كما في هذه الصورة:(8/210)
المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المؤيّد، الأوحد، الذّخر، فلان الدين. أدام الله إقباله فلان الفلانيّ.
المرتبة الثالثة- الافتتاح بالإعلام بالقصد
، وهو أن يكتب: يعلم فلان، وقد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات من هذه المقالة أنّ الصواب فيها ليعلم بإثبات لام الأمر في أوّله، فحذف كتّاب الزمان منها اللام اللازم إثباتها وأجروها مجرى الخبر. والرسم فيه أن يترك تحت الملكيّ الفلانيّ بياض، بحيث لا يبقى من الوصل إلّا ما يسع سطرين كما في المكاتبة قبلها وما قبل ذلك.
ثم إن كان المكتوب له من أرباب السّيوف، كتب: يعلم الأمير، الأجلّ، الكبير، المؤيّد، الذّخر، المرتضى، المختار، فلان الدين. ويدعى له، نحو:
أدام الله عزّه، ووفّر من الخير كنزه، كيت وكيت، فمجلس الأمير يتقدّم بكيت وكيت، فيعلم ذلك ويعتمده ويبادر إليه، والله الموفّق بمنّه وكرمه.
وإن كان من الكتّاب، كتب: يعلم مجلس القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الكامل، الأوحد، فلان الدين، كيت وكيت، والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من القضاة، كتب: يعلم مجلس القاضي، الأجلّ، الكبير، العالم، الفاضل، الكامل، الأوحد، فلان الدين، كيت وكيت، والباقي من نسبة ما تقدّم.
وإن كان من مشايخ الصّوفية، كتب: يعلم مجلس الشيخ، الصالح الورع، الزاهد، الأوحد، الكامل، فلان الدين، كيت وكيت، والباقي من نسبة ما تقدّم.
والعنوان لهذه المكاتبة الألقاب التي في الصّدر والدعاء بأوّل سجعة مما فيه من الدعاء والتعريف.
وصورة وضعه في الورق أن يكتب ذلك في سطرين كما في هذه الصورة:(8/211)
المجلس الأمير، الأجلّ، الكبير، المؤيّد، الذخر، المرتضى، المختار فلان الدين. أدام الله عزّه فلان الفلانيّ.
والعلامة تحت البسملة الاسم بقلم مختصر الطّومار الثقيل.
قلت: ومما يجب التنبيه عليه أنّ الألقاب المذكورة في صدور المكاتبات وعنواناتها ليست موقوفا عندها، بل لكلّ واحد فيها اختيار من تقديم وتأخير وتبديل لقب بلقب، وزيادة ونقص، إلّا أن الزيادة والنقص يكونان على المقاربة، مثل زيادة لقب ولقبين وثلاثة، ونقصها. على أنهم في الزمن السابق كانوا يتعاطون في الإخوانيّات الألقاب المركّبة في الصّدور والعنوانات فيما يبدأ فيه بالدعاء وما بعد ذلك إلى آخر المراتب كما هو في السّلطانيّات.
فإن كان من أرباب السيوف قيل مع الدعاء للمقرّ الشريف لأرباب السّيوف بعد استيفاء الألقاب المفردة: عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، زعيم الجيوش، مقدّم العساكر، عون الأمة، غياث الملة، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، ظهير الملوك والسلاطين، عضد أمير المؤمنين. ومع الدعاء للمقرّ الكريم: عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، عماد الدولة، عون الأمة، ذخر الملة، ظهير الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين، وعلى ذلك إلى آخر كل مرتبة بحسبها.
وإن كان من رؤساء الكتّاب، قيل: جلال الإسلام والمسلمين، سيّد الكبراء في العالمين، رئيس الأصحاب، قوام الأمة، نظام الملّة، مدبّر الدولة، ذخر الممالك، ظهير الملوك والسلاطين، وكذلك إلى آخر المراتب كلّ مرتبة بحسبها، وكذلك القول في القضاة ومشايخ الصّوفية كلّ أحد منهم بما يناسبه من الألقاب لوظيفته ورتبته. ثم اقتصروا بعد ذلك على استعمال اللّقب المضاف إلى الملوك والسلاطين، مثل ظهير الملوك والسلاطين ونحو ذلك، فحذف كتّاب الزمان هذه الألقاب المركّبة جملة اختصارا، وهو مستحسن؛ لما في ذلك من ميل النّفوس إلى(8/212)
الاختصار، ولتخالف المكاتبات الصادرة عن السلطان، فتكون مختصّة بالألقاب المركّبة دون غيرها.
القسم الثاني (من المكاتبات الإخوانيّات الدائرة بين أعيان المملكة وأكابر أهل الدولة، الأجوبة، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يفتتح من ذلك بما تفتتح به الابتداءات المتقدّمة الذّكر)
والرسم فيها أن يكتب صدر الكتاب كما يكتب أن لو كان ابتداء، ثم يذكر ورود الكتاب المجاوب عنه، ويؤتى بالجواب عما تضمّنه، وهو على أربع مراتب:
المرتبة الأولى- وهي أعلاها في تعظيم الكتاب الوارد
، أن يعبّر عنه بالمثال، وذلك مع الابتداء بلفظ «يقبّل الأرض» وينهي كيت وكيت. وصورته أن يقول بعد كمال الصّدر: ورود «1» المثال الكريم العالي أعلاه الله تعالى على المملوك على يد فلان، ويذكر ما يليق به من المجلس العالي أو المجلس السامي أو غيرهما، ثم يقول: فقبّل المملوك لوروده الأرض، وأدّى من واجبه الفرض، وتضاعف دعاء المملوك لتأهيله لغلمانية الأبواب الكريمة، وابتهج بوروده، وحمد الله وشكره على ما دلّ عليه، من عافية مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره- إن كان المثال قد ورد من نائب سلطنة- أو من عافية مولانا قاضي القضاة- إن كان قاضيا- أو من عافية المخدوم وصحة مزاجه المحروس. وقابل المملوك المراسيم الكريمة بالامتثال، ففهم ما رسم له به من كيت وكيت، والمملوك لم يكن عنده غفلة ولا إهمال فيما رسم له به. وإن كان ثمّ فصول كثيرة، قال: فأما ما رسم له به من كيت وكيت فقد امتثله المملوك، ويجاوب عنه. ثم يقول: وأما ما رسم له به من كيت وكيت، فالأمر فيه كيت وكيت، حتى يأتي على آخر الفصول، فإذا انتهى إلى(8/213)
آخرها، قال: وسؤاله من الصّدقات العميمة، إمداده بمراسيمه الكريمة وخدمه، ليفوز بقضائها، ويبادر إلى امتثالها، والمملوك مملوكه وعبد بابه الشريف.
المرتبة الثانية- أن يعبّر عن الكتاب الوارد بالمثال العالي بدون الكريم
، وذلك مع الابتداء بلفظ «يقبّل الأرض» وينهي بعد ابتهاله إلى الله تعالى، والابتداء بيقبّل الأرض بعد رفع دعائه، ويقبّل الأرض، بالمقرّ الشريف، ويقبّل الباسط الشريف. فأما مع يقبّل الأرض بعد ابتهاله، فالأمر على ما تقدّم في جواب المكاتبة قبلها، إلّا أنه يقتصر على المثال العالي دون الكريم كما تقدّمت الإشارة إليه. وأما مع يقبّل الأرض بعد رفع دعائه، فإنه يقول بعد تكملة الصّدر: ورود المثال العالي أعلاه الله تعالى على يد فلان، فقبّله حين قابله، ووقف على ما تضمّنه من كيت وكيت، وفرح بما دلّ عليه من عافية المخدوم، وحمد الله تعالى وشكره على ذلك، وفهم ما أشار إليه من كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول:
والمملوك يسأل إحسان المخدوم بتشريف المملوك بمهمّاته ومراسيمه ليفوز بقضائها، فإنّ المملوك وقف المالك، طالع بذلك، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه، أو نحو ذلك. وأما مع يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف، ويقبّل الباسط الشريف، فإنه يقال ورود المثال العالي أيضا، وربما قيل ورود مثاله العالي. وقد يقال المشرّف الكريم العالي على ما تقتضيه رتبة المكتوب إليه، ويرتضيه المكتوب عنه، والباقي على نحو ما تقدّم.
المرتبة الثالثة- أن يعبّر عن الكتاب الوارد بالمشرّفة
، على التأنيث، وذلك مع يقبّل الباسطة ويقبّل اليد. ويختلف الحال في ذلك بحسب المراتب، فيقال:
يقبّل الباسطة وينهي ورود المشرّفة الكريمة، ومع اليد الشريفة والكريمة، والعالية، وفي معنى ذلك يخدم إذا كتب بها، وكذلك أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، وإن كان المكتوب عنه يكنّي عن نفسه بنون الجمع المقتضية للتعظيم.
ثم يقول في كلّ منها: فقبّلها المملوك حين قابلها، ووقف على ما تضمّنته من محبّته ومودّته، وفهم ما شرحه من أمر كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول: والمستمدّ من محبّته تشريف المملوك بمراسيمه ومشرّفاته وخدمه، ليفوز بقضائها، ويبادر(8/214)
إلى امتثالها، فإن المملوك ما عنده غفلة فيما يقتضيه رأيه العالي، والله تعالى يؤيّده بمنّه وكرمه.
المرتبة الرابعة- أن يعبّر عن الكتاب الوارد بالمكاتبة
، وذلك مع الابتداء بالدعاء بلفظ: ضاعف الله نعمة الجناب العالي، وأدام الله تعالى نعمة المجلس العالي، وصدرت هذه المكاتبة إلى المجلس العالي، أو المجلس السامي، أو هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، أو يعلم مجلس، فيقال: وتوضّح لعلمه، أو موضّحة لعلمه أو تتضمّن إعلامه، أو تعلمه، أو يعلم على حسب المراتب المتقدّمة، ورود مكاتبته، فوقفنا عليها، وأحطنا علما بما تضمّنته من كيت وكيت، ويجاوب عنه، ثم يقول: فيتقدّم الجناب أو المجلس أو مجلس الأمير ونحو ذلك مما يقتضيه الحال، بإعلامنا بأخباره وضروراته وحوائجه.
واعلم أنّ لكاتب السرّ أجوبة لنوّاب السّلطنة وغيرهم ممن ترد عليه مكاتباتهم بطلب الملاحظة عند عرض مكاتباتهم على الحضرة السّلطانية، وتحسين السّفارة في ذلك، ويقع الخطاب في جواب كلّ منهم على حسب رتبته.
ففي جواب نائب السلطان بالشام المحروس يكتب ما صورته: وينهي بعد رفع أدعيته الصالحة تقبّلها الله تعالى من المملوك ومن كلّ داع مخلص، بدوام أيام مولانا ملك الأمراء، أعزّ الله تعالى أنصاره، وخلود سعادته عليه، أنّ المثال الكريم ورد على المملوك على يد فلان، فنهض له المملوك، وأجمل في تلقّيه السّلوك، وفضّه عن صدقات عميمة، وتفضّلات جسيمة، وفرح بما دلّ عليه من سلامة مولانا ملك الأمراء- أعزّ الله أنصاره- وعافيته، وصحّة مزاجه المحروس، وتضاعف سرور المملوك بذلك، وتزايد ابتهاجه به، وسأل الله تعالى أن يديم حياة مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره، ويبقيه، وانتهى إلى ما تضمنته الإشارة في معنى تجهيز المشار إليه إلى خدمة الأبواب الشريفة بما على يده من المكاتبة الكريمة، وما رسم به من القيام في خدمتها وعرضها بين يدي المواقف الشريفة شرّفها الله تعالى وعظّمها، وقابل المملوك الإشارة الكريمة بالامتثال بالسّمع والطاعة، وبادر إلى ما رسم به؛ وقد عرض المملوك المكاتبة الكريمة على المسامع(8/215)
الشريفة، وكتب الجواب الشريف عن ذلك بما ستحيط به العلوم الكريمة، وعاد بذلك إلى خدمة مولانا ملك الأمراء أعزّ الله أنصاره. والمملوك مملوك مولانا ملك الأمراء عزّ نصره، ومحبّه القديم، والمعترف بإحسانه وصدقاته، ويسأل تشريفه بالمهمّات والخدم، أنهى ذلك، إن شاء الله تعالى.
وفي جواب بقيّة النّوّاب بالممالك الشامية، كنوّاب السلطنة بحماة وطرابلس وصفد والكرك، ومقدّم العسكر بغزّة، يكتب: وينهي بعد رفع دعائه، وإخلاصه في محبّته وولائه، واعترافه بإحسان مولانا وآلائه، أنّ المثال العالي- أعلاه الله تعالى- ورد على المملوك على يد فلان، فقبّله المملوك، وأحسن في تلقّيه السّلوك وفرح بما دلّ عليه من عافية مولانا وسلامته، وصحّة مزاجه المحروس، وحمد الله تعالى على ذلك، وانتهى إلى ما أشار إليه، من تجهيز المطالعة الكريمة إلى الأبواب الشريفة، شرّفها الله تعالى وعظّمها، وفهم المملوك ذلك، وامتثل ما أشار إليه بالسّمع والطاعة، ووقف في خدمتها عند العرض على المسامع الشريفة، وأحاطت العلوم الشريفة بمضمونها، وكتب الجواب الشريف عن ذلك بما سيحيط به علم مولانا، وقد عاد فلان بالجواب الشريف وبهذه الخدمة، وحمّله المملوك من السّلام والشوق والدعاء والولاء وتقبيل الأرض ما يبديه لمسامع مولانا.
والمملوك يسأل إحسانه الإصغاء إلى ذلك، والتشريف بمراسيمه وخدمه، ليبادر إلى قبولها. والله تعالى يؤيّده ويحرسه بمنّه وكرمه.
وعلى قياس ذلك في غير هذه من المكاتبات بحسب ما تقتضيه رتبة كلّ واحد من أصحابها.
الضرب الثاني (من الأجوبة ما يفتتح بورود المكاتبة مصدّرا بلفظ: وردت أو وصلت أو وقفت على المكاتبة، وما أشبه ذلك)
مثل أن يكتب: ورد المثال الكريم الفلانيّ، وذكر سلامته أحلى من ذكر الأوائل، وقد تطرّز منه طرازا أشرف من طراز الغلائل، وما سكن القلب إلى شيء(8/216)
كسكونه إليه، ولا رأى واردا أكرم منه عليه، فقابل نعمة قدومه بدوام شكرها، وطوى صحائف الآمال إلّا من نشرها. وإذا كان وجه الأيّام مقطّبا استغنى ببشر وجهه الميمون عن بشرها، فإن حسن في رأيه الإجراء على عوائد إحسانه [من التشريف بمراسيمه وخدمه] «1» والمواصلة بها، [نالت] «2» النفس من ورودها نهاية أربها.
قلت: أما الأجوبة المطلقة، وهي الدائرة بين الأصدقاء والأصحاب من أفاضل الكتّاب، وعيون أهل الأدب، ممن له ملكة في الإنشاء، وقوّة في النظم والنثر، فإنها لا تتوقّف على ابتداء مخصوص، ابتداء ولا جوابا، بل قد تكون مبتدأة بما تقدّم من الابتداءات، وقد تكون بغير ذلك من الافتتاحات التي يختارها صاحب الرسالة، بل أكثرها مفتتح بالشعر المناسب للحال المكتوب فيها، بل ربّما اقتصر فيها على الشعر خاصّة دون النثر.
المهيع الثاني (في بيان رتب المكتوب عنهم والمكتوب إليهم، من أعيان الدّولة بمملكة الديار المصرية، وما يستحقّه كلّ منهم من رتب المكاتبات السابقة على ما الحال مستقرّ عليه في زماننا)
اعلم أنّ المكتوب عنهم من أعيان الدولة على طبقات، لكلّ منهم مكاتبات بصدر يختصّ به، إلى من فوق رتبته أو مساو له في الرتبة أو دونه فيها، مرتّبة على ترتيب المكاتبات الصادرة عن الأبواب السلطانية إلى أهل الدولة:
الطبقة الأولى- من المكتوب عنهم من يكتب إليه عن السلطان
«أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» ككافل السلطنة، وهو نائب السّلطان بالحضرة، وأتابك العساكر، ونائب السلطنة بالشام. والمكتوب إليهم عن هذه الطبقة على مراتب:(8/217)
المرتبة الأولى- من يكتب له عن هذه الطبقة
«الفلانيّ بمطالعة» ، وممن يكتب إليه بذلك عن نائب الشام فيما رأيته- أتابك العساكر بالأبواب الشريفة، وكان ما كتب له «المخدوميّ الأتابكيّ فلان الفلانيّ» باللّقب المضاف إلى لقب السلطان، «أتابك العساكر المنصورة» .
المرتبة الثانية- من يكتب إليه «الأبواب بمطالعة»
وممن يكتب إليه بذلك عن النائب «1» الكافل بالحضرة، والأتابك- نائب السلطنة بالشام، فقد قال في «التثقيف» «2» : إنّ بهذه المكاتبة يكتب عن أكابر أمراء الديار المصرية إلى نائب الشام وحلب فيما أظنّ، وممن يكتب إليه بذلك عن نائب الشام- الدّوادار «3» وأميراخور «4» ومقدّمو الألوف بالديار المصرية، وأكابر الأمراء مقدّمي الألوف بالشام، وكافل المملكة الشريفة الحلبية.
المرتبة الثالثة- من يكتب له عن هذه الطبقة «الأبواب بغير مطالعة»
وبذلك يكتب عن كافل السلطنة بالحضرة إلى نائب السلطنة بحلب. وقد ذكر في «التثقيف» أنه كان يكتب بذلك عن الأمير يلبغا العمري (يعني الخاصكيّ) وهو أتابك الديار المصرية، إلى نائب الشام أيضا. ثم قال: وكذلك كتب بعده إلى نائبي الشام(8/218)
وحلب، الأمير منكلي بغا، والأمير الجاي، ونوّاب السلطنة بالديار المصريّة، وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى كلّ من قضاة القضاة الأربعة بالديار المصرية، وكذلك الوزير وكاتب السّر بها.
المرتبة الرابعة- من يكتب له عن هذه الطبقة «الباب الكريم والباب العالي»
أما الباب الكريم، فإنه يكتب بذلك عن النائب الكافل والأتابك «1» وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى الأمراء «2» الطبلخاناه بالديار المصرية، وإستادار «3» الأملاك الشريفة، وناظر «4» الجيوش المنصورة بالأبواب السلطانية، وناظر الخواصّ، وناظر الدّولة، وحاجب الحجّاب بالشام، وقاضي القضاة الشافعيّ بالشام، وكاتب السّرّ به، ونائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السلطنة بصفد، ونائب السلطنة بالكرك.
أمّا من يكتب له عن نائب الشام الباب العالي بدون الكريم، فمقدّم العسكر المنصور بغزّة، والقضاة الثلاثة بالشام، ما خلا الشافعيّ المقدّم ذكره، والوزير بالشام.
المرتبة الخامسة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف»
وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى نائب طرابلس، ونائب(8/219)
حماة، ونائب صفد، ونائب الإسكندريّة، وأمراء الألوف بالديار المصريّة، وبه يكتب عن نائب الشام.
المرتبة السادسة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة «الباسط الشريف»
وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى مقدّم العسكر بغزّة، ومقدّم العسكر بسيس «1» ، ونائب السلطنة بالكرك، وحاجب الحجّاب بالشام، وحاجب الحجّاب بحلب.
المرتبة السابعة- من يكتب له عن هذه الطبقة «الباسطة الشّريفة»
وممن يكتب له بذلك عن نائب الشام قاضي القضاة الشافعيّ بحلب.
المرتبة الثامنة- من يكتب له عن هذه الطبقة «اليد الشريفة»
أو «اليد الكريمة» أو «اليد العالية» . وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى نائبي الوجه القبليّ والوجه البحريّ بالديار المصرية، ونائب القدس، ونائب حمص، ونائب الرّحبة، ونائب البيرة «2» ، ونائب قلعة المسلمين، ونائب ملطية «3» ونائب دبركي، ونائب الأبلستين «4» ، ونائب طرسوس، ونائب أذنة، ونائب بهسنا «5» وأمراء الألوف بالشام وحلب.
وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى أمراء العشرات بالديار المصريّة،(8/220)
وقضاة العسكر بها، وحاجب الحجّاب بحلب، والقضاة الثلاثة: الحنفيّ، والمالكيّ، والحنبليّ، بها.
المرتبة التاسعة- من يكتب له عن هذه الطبقة «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى كاشف الصّفقة القبليّة، وإلى الأمراء مقدّمي الألوف بالشام، وناظر الجيش به، وأمير آل فضل، ونائب حمص، وكاتب السرّ بحلب، ونائب المملكة بها، ونائب دوركي، ونائب درندة.
المرتبة العاشرة- من يكتب له عن هذه الطبقة «أعزّ الله تعالى نصرة المقرّ الكريم»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى نائب قلعة دمشق، والحاجب الثاني بها، ووكيل بيت المال بها، ومقدّمي الألوف بحلب، ونائب الجيش بها، ونائب الرّحبة، ونائب الأبلستين، ونائب ملطية، ونائب قلعة المسلمين، ونائب بهسنا، ونائب البيرة، ونائب جعبر «1» ، ونائب الرّها «2» ، ونائب حسبان.
المرتبة الحادية عشرة- من يكتب له عن هذه الطبقة «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى أمراء الطّبلخاناه بالشام، ونائب القدس، ونائب بعلبكّ، ومتولّي صيدا، وأمراء الطّبلخاناه بحلب، ووكيل بيت المال بها، والمحتسب بها، وناظر خاصّ البريد بها، وأمير حاجب بصفد.
المرتبة الثانية عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام، إلى والي قطيا «3» ، وربّما زيد فيه الكريم.(8/221)
المرتبة الثالثة عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى أمراء العشرات بمصر، وأمراء العشرينات بالشام، والمحتسب بها، والحاجب الكبير بغزّة، ومقدّم عرب بني عقبة، وأكابر عرب آل فضل، وأمير عرب آل عليّ، وأمير آل موسى، ونائب مصياف «1» ، ومتولّي بيروت.
المرتبة الرابعة عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «المجلس العالي مع الدّعاء»
. وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى العشرات بدمشق، ووالي المدينة، ووالي البرّ بها، والحاجب الثاني بغزّة، وأمير آل مرا، ومقدّم عرب جرم، ومقدّم بني مهديّ، وأمراء العشرينات بحلب.
المرتبة الخامسة عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «صدرت والعالي»
. وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى كاشف الوجه البحريّ من الديار المصريّة، وكاشف الفيّوم والبهنساويّة «2» ، ووالي أسوان، وكشّاف الجسور من أمراء الطّبلخاناه بالوجهين، القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، ونائب قلعة حلب، ونائب آياس «3» ، ونائب جعبر، ونائب درندة، وحاجب الحجّاب بطرابلس، وحاجب الحجّاب بحماة، وحاجب الحجّاب بصفد. وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى أجناد الحلقة بمصر، والحاجب(8/222)
الكبير بحمص، وأمراء العشرات بحلب.
المرتبة السادسة عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «صدرت والسامي»
. وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى والي قوص «1» ، ووالي منفلوط، ووالي الأشمونين «2» ، ووالي البهنسا، ووالي منوف «3» ، ووالي الغربيّة، ووالي الشرقيّة، ووالي قطيا، ونائب مصياف، ونائب بعلبك، ونائب قلعة صفد، ونائب عينتاب، والحاجب الكبير بغزّة. وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى مقدّم الحلقة بالشام، وأعيان الجند بها، ومقدّم بني مهديّ، ومتولّي الصّلت وعجلون، ومتولي صرخد «4» ، والحاجب الصغير بحمص، ووالي تدمر، ومقدّم إقليم الخرّوب بصيدا، ومقدّم إقليم النّعاج، ووالي البقاعين، ووالي بلنياس «5»
المرتبة السابعة عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «هذه المكاتبة» ،
وبذلك يكتب عن النائب الكافل والأتابك، إلى والي الجيزيّة، ووالي إطفيح، ووالي قليوب، ووالي أشموم الرّمّان بالديار المصرية. وبذلك يكتب أيضا إلى نائب الكختا، ونائب كركر، ونائب حجر شغلان، ونائب سرفندكار، ونائب القصير، ونائب بغراس، ونائب الرّاوندان، ونائب الشّغر وبكاس، ونائب الرّها، ونائب الدّربساك، ونائب شيزر بالمملكة الحلبية. وإلى نائب اللّاذقيّة، ونائب صهيون ونائب حصن الأكراد، ونائب حمص، ونائب المرقب، ونائب بلاطنس، ونائب الكهف، ونائب القدموس، ونائب الخوابي، ونائب العلّيقة، ونائب(8/223)
المينقة من أعمال طرابلس. ونائب شقيف تيرون من معاملة صفد. وبذلك يكتب [أيضا] عن نائب الشام إلى صغار الأجناد بمصر، وإلى كاشف الرّملة، ومتولّي حسبان، وحامي الخربة.
المرتبة الثامنة عشرة- من يكتب إليه عن هذه الطبقة: «يعلم»
وبذلك يكتب عن نائب الشام إلى صغار الأجناد بالشّام.
واعلم أنّ وراء ما تقدّم من المكاتبات عن نائب الشام مكاتبات أخرى إلى من هو خارج عن المملكة، وهم على مراتب:
المرتبة الأولى- من يكتب له عنه: «يقبّل الأرض» : صاحب بغداد، كما كان يكتب للقان أحمد «1» بن أويس، كان يكتب إليه في ورق قطع نصف الحمويّ بقلم الثلث الصغير: يقبّل الأرض لدى الحضرة الشريفة، العالية، المولويّة، السلطانيّة، العالميّة، العادليّة، المؤيّدية، المالكيّة، القانيّة، ولا زالت عزماتها مؤيّدة، وآراؤها مسدّدة، وينهى إلى العلم الكريم. صاحب السّراي: ودشت القبجاق مثله بأبسط ألقاب.
المرتبة الثانية- من يكتب إليه: «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف» ابن السلطان أحمد بن أويس المذكور. وورقه نظير ورق والده، وقلمه نظير قلمه.
صاحب هراة: مثله.
المرتبة الثالثة- من يكتب إليه: «أعزّ الله أنصار المقرّ الكريم» ، صاحب ماردين «2» : أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم العالي، المولويّ، الكبيريّ،(8/224)
العادليّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، ورفع مقداره، وأجزل مبارّه. المملوك يجدّد الخدمة العالية، ويصف أشواقه المتوالية، وينهي لعلمه الكريم. صاحب برصا: من بلاد الروم، وهو ابن عثمان. والرسم فيه على ما كان يكتب لأبي يزيد بن مراد بك بن عثمان: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم، العالي، المولويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الغياثيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، الزّعيميّ، الغازي، المجاهديّ، المثاغريّ، المرابطيّ، العابديّ، الناسكيّ، الزاهديّ، المقدميّ، الأتابكيّ، المحسنيّ، الظهيريّ، الملكيّ، الفلانيّ، معزّ الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، مبيد المشركين، قامع أعداء الدين، مقتلع الحصون من الكافرين، عون الأمّة، عماد الملّة، ذخر الدولة، ظهير الملوك والسلاطين، حاكم البلاد الرّوميّة، صاحب برصا وقيسرية «1» ، سيف أمير المؤمنين، قهر [الله] أعداء الدين الحنيفيّ بعزائمه وسطواته، وجعله مؤيّدا في حركاته وسكناته، وأيّده في جهاده واجتهاده بالنصر الذي لا يفارق ألوية أعلامه وراياته، ولا زالت رعاياه محبورة، وعساكره منصورة، هؤلاء بجوده [وهباته] ، وهؤلاء بوجوده وحياته. المملوك يقبّل اليد التي لا زال القصد بها يزيد، وبحر البرّ من أناملها مديد، ونوالها يناله الوافدون حيث أمّوه من قريب وبعيد، ويصف صفاء محبّة يتضاعف نماؤها كلّ يوم جديد، وتترادف تحيّات أشواقها بالموالاة والتحميد، ويتؤامر بهادي رسائلها بصدق المودّة الدائمة على التأبيد، ويبدي إلى العلم الكريم.
قلت: كذا رأيته في دستور بخطّ القاضي ناصر الدين بن أبي الطيّب، كاتب سرّ الشأم كان. وفيه اضطراب وتخليط من نعته في ألقابه [بقوله] الملكيّ الفلانيّ، وقوله سيد الأمراء في العالمين، حيث وصفه أوّلا بأوصاف الملوك، ثم وصفه(8/225)
بأوصاف الأمراء، إلى غير ذلك من الخبط الذي لا يخفى على متأمل.
المرتبة الرابعة- «أعز الله أنصار المقرّ العالي» ، وزير صاحب بغداد، وورقه في قطع الحمويّ بقلم الثلث الخفيف. قاضي بغداد: مثله سواء. صاحب لارندا، من بلاد الروم بمملكة بني قرمان. ويقال في ألقابه: الأصيليّ نوين التّوامين، مجهز المقانب، ذخر القانات. صاحب سيواس، من البلاد الرومية أيضا. صاحب آياس لوق، من البلاد الرّومية. صاحب جولمرك، من بلاد الأكراد.
المرتبة الخامسة- «الجناب الكريم» - صاحب حصن كيفا، من بلاد الجزيرة، ويقال فيه: الملكيّ الفلانيّ- مقدّم التّركمان البياضية.
المرتبة السادسة- «الجناب العالي» - صاحب أرزنجان «1» . صاحب جزيرة «2» ابن عمر من بلاد الجزيرة. صاحب أنطاليا «3» من بلاد الروم. ابن الشيخ عبد القادر الكيلاني شيخ الجبال.
المرتبة السابعة- «المجلس العالي» ، صاحب ميّافارقين «4» من بلاد الجزيرة صاحب أكلّ «5» ، من الجزيرة أيضا صاحب أرقنين «6» صاحب قلعة الجوز صاحب(8/226)
جرموك صاحب أماسيا، من بلاد الروم نائب ماردين «1» خادم صاحب ماردين صاحب بطنان «2» صاحب سنجار، من بلاد الجزيرة صاحب حاسك (؟) صاحب أزبك صاحب الموصل صاحب سنوب صاحب بوشاظ صاحب الدّربند «3» صاحب عين دارا صاحب الحمّة صاحب خلاط «4» صاحب طلان صاحب تاخ صاحب جمشكزاك نائب كربزاك صاحب القنطرة نائب خرت برت «5» صاحب البارعيّة صاحب حرّان صاحب العمادية صاحب حاني «6» نائب مازكرد نائب صالحية ماردين أمير التركمان الشهرية صاحب أشنه «7»
الطبقة الثانية- ممن يكتب عنهم من أعيان الدولة بالديار المصرية
، من يكتب إليه عن السلطان: «أعزّ الله تعالى نصرة الجناب الكريم» وهو نائب السلطنة بحلب.
والكتابة عنه على مراتب:(8/227)
المرتبة الأولى- «الفلانيّ بمطالعة»
وهو النّائب الكافل «1» بالحضرة السلطانية، وأتابك العساكر المنصورة.
المرتبة الثانية- «الأبواب بمطالعة» وهو نائب السّلطنة بالشام
، والأمير الدّوادار «2» بالأبواب السلطانية، وأستاد «3» الدّار بها، وأكابر الأمراء المقدّمين الخاصكيّة «4»
المرتبة الثالثة- «الأبواب بغير مطالعة»
. وبذلك يكتب إلى نائب الشام.
المرتبة الرابعة- «الباب الكريم»
. وبذلك يكتب إلى نائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السّلطنة بصفد، وكذلك يكتب به إلى الطبقة الثانية من الأمراء المقدّمين بالحضرة ممن دون الخاصكية، وفي معنى ذلك الوزير، وكاتب السّرّ، وناظر الخاصّ «5» ، وناظر الجيش «6» ، ومن في معناهم.
المرتبة الخامسة- «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف»
. وبذلك يكتب إلى حاجب الحجّاب بالشأم.
المرتبة السادسة- «يقبّل الباسطة»
وبذلك يكتب إلى الحاجب الثاني بالشأم، وحاجب الحجّاب بحلب، وحاجب الحجّاب بحماة، وحاجب الحجّاب بطرابلس، وقاضي القضاة الشافعيّ بحلب، وكاتب السّرّ بها.
المرتبة السابعة- «يقبل اليد الشريفة»
. وبذلك يكتب إلى نائب البيرة،(8/228)
ونائب ملطية «1» ، ونائب قلعة المسلمين، ونائب جعبر «2» ، ونائب الرّها «3» ، ونائب الأبلستين «4» ونائب حمص، وأمراء الطّبلخاناه «5» بدمشق.
المرتبة الثامنة- «أعز الله تعالى أنصار المقرّ الكريم»
. وبذلك يكتب إلى نائب طرسوس، ونائب الرّحبة، والحاجب الثاني بطرابلس، ومقدّمي الألوف بها، والقضاة الثلاثة: المالكيّ، والحنفيّ، والحنبليّ بحلب. إلّا أنه يقال: «أعز الله تعالى أحكام المقرّ» .
المرتبة التاسعة- «أعز الله تعالى أنصار المقر الكريم العالي»
وبذلك يكتب إلى نائب بهسنى، ونائب الرّحبة، وأكابر الطبلخاناه بالشام، ومن تولّى الإمرة من عرب آل فضل ثم عزل، وقضاة العساكر المنصورة بحلب، وناظر المملكة بها، وأمير آل عليّ.
المرتبة العاشرة- «أعز الله تعالى نصرة الجناب الكريم»
. وبذلك يكتب إلى أعيان أمراء الطبلخاناه بحلب، والحاجب الثالث والرابع بها، وأكابر أولاد أمراء عرب آل فضل.
المرتبة الحادية عشرة- «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي»
وما في معناه مما يكتب به إلى أرباب الأقلام وغيرهم. وبذلك يكتب إلى نائب «6» شيزر،(8/229)
وأمراء الطبلخاناه بحلب، غير الأعيان، وناظر الأملاك الشريفة بحلب، وناظر خاصّ البريد وموقّعي الدّست «1» بها.
المرتبة الثانية عشرة- «صدرت والعالي»
. وبذلك يكتب إلى نائب عينتاب «2» ونائب الرّاوندان «3» ، ونائب الكختا، ونائب كركر، ونائب بغراس «4» ، ونائب الدربساك «5» ، ونائب الشّغر «6» وبكاس، ونائب القصير «7» ، وأمراء العشرينات بحلب، وأعيان العشرات بها.
المرتبة الثالثة عشرة- «صدرت والسامي»
. وبذلك يكتب إلى مقدّمي الحلقة بحلب، ومقدّمي البريديّة بها، وأعيانهم.
المرتبة الرابعة عشرة- «السامي» بغير ياء
. وبذلك يكتب إلى والي سرمين «8» ، ووالي الباب، ووالي غزاز، ووالي أنطاكية، ووالي حارم، ووالي كفر(8/230)
طاب، ووالي الجبّول، ووالي منبج، ووالي تلّ باشر، وأجناد الحلقة بحلب، وصغار البريدية بها، وعداد التركمان وعداد الأكراد.
واعلم أن وراء ما تقدّم من المكاتبات الصادرة عن نائب حلب [مكاتبات أخرى] إلى من هو خارج عن المملكة، كما تقدم في المكاتبات الصادرة عن نائب الشام، وهي على مراتب:
المرتبة الأولى- المكاتبة ب «يقبّل الأرض» - القان صاحب بغداد كما كان يكتب إلى القان أويس «1» وابنه أحمد «2» : يقبّل الأرض بالمقام الشريف العالي، المولويّ، السّلطانيّ، الأعظميّ، الأوحديّ، الملاذيّ، العطوفيّ، المحسنيّ، القانيّ، الملكيّ الفلانيّ، الجلاليّ، أعلى الله تعالى شانه، وأعز سلطانه، وأمكن من رقاب الأعداء مكانه، ولا زال لواؤه يتأزّر بالنصر ويرتدي، وفناؤه يروح إليه العزّ ويغتدي، وعزمه يثقّف صرف الزّمان فلا يعتاد أن يعتدي، ولا برح محمودا في موقف النصر موقفه، ماضيا في هامات أعدائه مرهفه. وينهي بعد أدعية رفعها إلى مواطن الإجابة فتقبلها ربها بقبول حسن
«3» وموالاة شفعها بالإخلاص، فعجز عن وصفها ذوو البلاغة واللّسن، وأثنية جمعها فلذّت بها الأسماع لذاذة الأعين الساهرة بالوسن، أن الأمر كيت وكيت.
المرتبة الثانية- من يكتب له «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف» - صاحب ماردين. والرسم أن يكتب إليه: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الشريف، العالي، المولويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ.
ويدعى له، نحو: لا زالت أيامه مسعودة، وأبوابه مقصودة، وألوية النّصر بنواصي خيله معقودة، المملوك يقبل اليد الشريفة، ويقوم من الخدمة بأكمل وظيفة،(8/231)
وينهي لعلمه الكريم بعد السّلام الزكيّ، والثناء المسكيّ، كيت وكيت، فيحيط بذلك علمه الكريم، ويتحف بالمشرّفات على عادة فضله العميم.
المرتبة الثالثة- «أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ الكريم» . وبذلك يكتب إلى ابن قرمان نائب السلطنة بالبلاد القرمانيّة، حاكم جولمرك، صاحب برصا وهو ابن عثمان، صاحب آياس لوق.
المرتبة الرابعة- «المقرّ العالي» وبذلك يكتب إلى صاحب حصن «1» كيفا، والوزير بالممالك القانية وقاضيها.
المرتبة الخامسة- «أعز الله تعالى نصرة الجناب الكريم» . وبذلك يكتب إلى صاحب أنطاليا من بلاد الروم.
المرتبة السادسة- «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» . وبذلك يكتب إلى نائب كربزاك، وحاكم جمشكزاك، وحاكم سيواس، وحاكم أماسيا، وحاكم سنوب، والحاكم بخرت برت «2» المرتبة السابعة- «أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي» . وبذلك يكتب إلى نائب صاحب ماردين، ونائب الصّالحيّة، وبعض خدّام صاحب ماردين.
المرتبة الثامنة- «صدرت والعالي» . وبذلك يكتب إلى حاكم حرّان، ونائب مازكرد، وحاكم قلعة الجوز.
الطبقة الثالثة- ممن يكتب عنه من أعيان الدولة بمملكة الديار المصرية.
من يكتب إليه عن السلطان: «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي» . كوزير(8/232)
المملكة بالديار المصرية، وناظر الخاصّ، على ما استقرّ عليه الحال آخرا، وأرباب الوظائف من الأمراء المقدّمين بها، كأمير سلاح، وأمير مجلس، وأميراخور، والدّوادار، وإستادار، وحاجب الحجّاب، ونائب الإسكندرية، وكذلك نوّاب السلطنة بطرابلس، وحماة، وصفد، من الممالك الشامية.
والمكتوب إليهم عن هذه الطبقة على [تسع] مراتب:
المرتبة الأولى- «الفلانيّ بمطالعة»
وهم: النّائب الكافل، وأتابك العساكر، ونائب الشأم.
المرتبة الثانية- «الأبواب بمطالعة»
. وبذلك يكتب إلى نائب حلب.
المرتبة الثالثة- «الأبواب بغير مطالعة»
وبذلك يكتب إلى نائب طرابلس، ونائب حماة، ونائب صفد، ونائب الكرك، وأمير سلاح وغيره من سائر من في هذه الطبقة.
المرتبة الرابعة- «الباب الكريم»
. وبذلك يكتب إلى نائبي الوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، ومقدّمي العسكر بغزّة وسيس، والأمراء المقدّمين المتوجهين من الأبواب السلطانية لكشف الجسور والمساحة وقبض الغلال.
المرتبة الخامسة- «يقبّل الأرض بالمقرّ الشريف» إن قصد تعظيمه
، أو الباسط الشريف إن لم يقصد، وبذلك يكتب إلى «1»
المرتبة السادسة- «يقبّل اليد العالية»
. وبذلك يكتب إلى أمراء الطبلخاناه «2» المتوجّهين من الأبواب السلطانية لكشف الجسور والمساحة والقبض. وربما انحطّت رتبة أحد هؤلاء فكتب إليه: أعزّ الله تعالى أنصار المقرّ(8/233)
الكريم، أو نصرة الجناب الكريم، أو ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي.
المرتبة السابعة- «ضاعف الله تعالى نعمة الجناب العالي»
. وبذلك يكتب إلى كاشف الوجه البحري وكاشف الفيّوم والبهنساويّة.
المرتبة الثامنة- «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي»
. وبذلك يكتب إلى الولاة الطبلخاناه بالوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، كقوص والمحلّة، وغيرهما. وربما كتب «صدرت والعالي» لأحدهم.
المرتبة التاسعة- «صدرت والسامي»
. وبذلك يكتب إلى ولاة العشرات بالوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية.
الطبقة الرابعة- ممن يكتب عنه من أعيان الدّولة بمملكة الديار المصرية،
من يكتب إليه عن السلطان «أدام الله تعالى نعمة المجلس العالي» ، ككاتب السرّ وناظر الجيش «1» ، وكذلك الحجّاب الطبلخاناه بالديار المصرية. وعلى ذلك كان ناظر الخاصّ «2» في الزمن المتقدّم، فلما جمع للصاحب شمس الدّين المقسي بين الوزارة ونظر الخاصّ، كان يكتب عنه بما يكتب به عن الوزراء كما تقدّم. فلما انفصل الخاصّ عن الوزارة روعي في الخاصّ ذلك القدر، فكتب عن ناظر الخاص كما كتب عن الوزير، والأمر على ذلك إلى الآن.
والمكاتبات الصادرة عن هذه الطبقة على مراتب:
المرتبة الأولى- «الفلانيّ بمطالعة»
. وبذلك يكتب إلى النّائب الكافل، والأتابك، ونائب الشّام، وألحقوا بهذه الرتبة نائب حلب، فكتبوا إليه الفلانيّ.
المرتبة الثانية- «الأبواب بمطالعة»
. وبذلك يكتب عن هذه الطبقة إلى نوّاب السلطنة بطرابلس، وحماة، وصفد، وثغر الإسكندريّة.(8/234)
المرتبة الثالثة- «الأبواب بغير مطالعة»
وبذلك يكتب إلى نائبي الوجهين القبليّ والبحريّ بالديار المصرية، ومقدّمي العسكر بغزّة وسيس، وربما كتب إلى أحدهم «الباب الكريم» .
المرتبة الرابعة- «الباسط الشريف»
. وبذلك يكتب إلى نائب الكرك.
المرتبة الخامسة- «يقبّل الباسطة»
. وبذلك يكتب إلى نائب القدس الشريف، ونائب الرّحبة، وكاشف الوجه البحري، وكاشف الفيّوم بالديار المصرية.
المرتبة السادسة- «يقبل اليد العالية»
. وبذلك يكتب إلى الولاة الطبلخاناه، بالوجهين القبليّ والبحريّ، بالديار المصرية.
المرتبة السابعة- «يخدم الجناب العالي»
. وبذلك يكتب إلى الولاة العشرات بالوجهين القبليّ والبحريّ أيضا.
قلت: وعلى هذه الطبقات الأربع يقاس من دونهم ممن يكتب إليه عن السلطان، صدرت والعالي، كنائبي القدس والرّحبة، ومن يكتب له: صدرت والسامي، كالكاشف بالوجه البحريّ، وكاشف الفيّوم، ومن يكتب له: هذه المكاتبة، كالولاة الطبلخاناه بالوجهين القبليّ والبحريّ، ومن يكتب له: «يعلم» كالولاة العشرات بالوجهين أيضا. على أن الغالب في مثل هؤلاء أن تكون الكتابة عنهم لأعيان الدولة «الفلانيّ بمطالعة» وفيمن هو مثلهم أو دونهم يقاس على ما تقدّم.
واعلم أن هذه المراتب المضمّنة للطبقات ليست على سبيل اللّزوم في الوقوف عند حدّها، بحيث لا يجوز تجاوزها بزيادة ولا التأخّر عنها بنقص، بل هي على سبيل التقريب، والأمر في زيادة رتبة المكتوب إليه زيادة لا تخرجه عن حدّه في المقدار موكول إلى اختيار الكاتب، يزيد في ذلك وينقص، بحسب ما يقتضيه الحال من رفعة قدر المكتوب إليه، لمزيد رفعته عن نوعه، أو محاباته لا ستمالته إلى القصد المطلوب منه، أو الغضّ منه بحطيطة رتبته أو نحو ذلك.(8/235)
الفصل السابع من الباب الثاني من المقالة الرابعة (في مقاصد المكاتبات، وهي الأمور التي تكتب المكاتبات بسببها)
وهي الجزء الأعظم من صناعة التّرسّل، وعليها مدار صنعة الكتابة، إذ الولايات من مقاصد المكاتبات، وهي أهمّ ما تضلّع به الكاتب، وألزم ما مهر فيه، وهي قسمان:
القسم الأوّل (مقاصد المكاتبات السلطانيات، وهي على نوعين)
النوع الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء والملوك، وهو على ثلاثة أضرب)
الضرب الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء والملوك ومن ضاهاهم)
ممّا هو مستعمل الآن ممّا كان عليه الحال في الزمن القديم مما يقلّ ويكثر، ويتكرّر تداوله في الكتابة وسائر المكاتبات في الحوادث المألوفة التي يكثر تداولها، وتتكرر الكتابة فيها بتكرر وقائعها، وما رسم الكتابة به باق إلى زماننا، وإن تغير مصطلح الابتداء والخطاب وغيرهما من رسوم المكاتبات. وهو على أصناف:(8/236)
الصنف الأوّل (الكتب بانتقال الخلافة إلى الخليفة)
قال في «موادّ «1» البيان» : جرت العادة أن تنفّذ الكتب إلى ولاة الأعمال في مثل هذه الحالة، متضمّنة ما جرى عليه الأمر بالحضرة، من انقياد الأولياء والرعايا إلى الطاعة، ودخولهم في البيعة بصدور منشرحة، وحضّ من بالأعمال من رجال السلطان ورعيته على الدخول فيما دخل فيه أمثالهم، وإعطاء الرّعايا على ذلك صفقة أيمانهم.
وقد كان الرسم فيها أن تصدّر بحمد الله تعالى على عوارفه التي لم تزل تكشف الخطب، وترأب الشّعب، وتدفع المهمّ، وترفع الملمّ، وتجبر الوهن، وتسبغ الأمن، والصلاة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذكر خصائصه ومناقبه، وتشريف الله تعالى له بإقرار الإمامة في أقاربه، وتخصيصها ببني عمّه الذين هم أحقّ الناس به، وما أمر به الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم من طلب مودّتهم من الأمة بقوله جلّ من قائل:
قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى
«2» وما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم من بقاء الخلافة فيهم بقوله لعمّه العباس: «ألا أبشّرك يا عمّ، بي ختمت النّبوّة وبولدك تختم الخلافة» وما يجري مجرى ذلك. ثم يتلو ذلك بالإفصاح عن شرف الخلافة وفضلها، والإبانة عن رفيع مكانها ومحلّها، وأنها ظلّ الله الممدود، وحبله المشدود، ومساك الدّين ونظامه، وملاك الحق وقوامه، وامتنان الله تعالى على العباد بأن جعل فيهم أئمة يقسطون «3» العدل عليهم، ويقيمون الحدود فيهم، ويقوّمون أديانهم، ويهذّبون إيمانهم، ويرهفون بصائرهم، ويهدون حائرهم، ويكفّون ظلومهم، وينصفون مظلومهم، ويجمعون كلمتهم، ويحمون(8/237)
ذمارهم «1» ، ويحوطون ديارهم، وما يجري مجرى ذلك. ثم يذكر ما أوجبه الله تعالى على أهل الإسلام للإمام من الطاعة وحسن التّباعة أيام حياته، والانقياد لأمره في طاعة من ينصّ عليه في القيام مقامه بعد وفاته، ليتّصل حبل الإمامة بينهم، ويمتدّ ظلّ الخلافة عليهم، فإن كان قد تلقّى الخلافة بعهد عن خليفة قد مات، من أب أو غيره، أتى بمقدّمة في ذكر الموت، وأن الله تعالى سوّى فيه بين بريّته وجعل في تطرّقه إلى رسوله أسوة لخليقته، وتفرّد بالبقاء، وامتنع عن الفناء، ثم يقال: وإن الله تعالى لما اختار لعبده ووليه فلان النّقلة إلى دار كرامته، والحلول بفناء طاعته، وأعانه على سياسة بريته، وأنهضه بما حمّله، وأيده فيما كفّله، من الذبّ عن المسلمين، والمراماة عن الدّين، والعمل بكتابه وسنّته في القول والفعل، واستشعار خيفته ومراقبته في السرّ والجهر، وما يليق بهذا- استخلص عبده ووليّه فلانا الإمام الفلانيّ لخلافته، وأهمى سماء الرحمة بإمامته، وأحلّ عزيز النصر بولايته، وألقى في نفيس رأيه النصّ عليه، والتفويض إليه، لما علم سبحانه في ذلك من شمول المصلحة للعباد، وعموم الأمنة للبلاد، فأمضى- قدس الله روحه- ما ألهمه، وكمّله قبل خروجه من دار الدنيا وتممه، عالما بفضل اختياره، وأنه لم يمل به الهوى في إيثاره، فقام أمير المؤمنين الإمام الفلانيّ مقامه، وحفظ نظامه، وسدّ ثلمته، وعفّى رزيّته، وأقر الله تعالى الإمامة به في نصابها ومقرّها، وزاد باستخلافه في صيت الخلافة وقدرها.
وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يخص وليّه السعيد بقربه بأفضل صلواته، وأشرف تحياته، ويحسن جزاءه في سعيه في صلاح العباد، وسداد البلاد، وأن يلهم أمير المؤمنين الصبر على تجرّع الرّزيّة فيه [ويجزيه] أفضل ما جزى به صابرا محتسبا، وأن يجبر كسره في فقده، ويوفّقه لجميل العزاء من بعده، ويسدّده في مصادره وموارده، ويهديه لما يرضيه في جميع مقاصده، ويعينه على تأليف الأهواء، وجمع الآراء، ونظم الشّمل، وكفّ القتل، وإرخاء الظل.(8/238)
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك وقد اجتمع من بحضرته، من ذوي جهته وأمراء دولته، وكافّة جنده وجماعة حوزته على بيعته، وإعطائه صفقة أيمانهم على طاعته ومشايعته، عن صدور مخلصة نقيّة، وسرائر صافية سليمة، وعقائد مشتملة على الوفاء بما عقدوا عليه، وانقادوا مختارين إليه، وشملتهم بذلك الرحمة، وضفت عليهم النعمة، فما برحوا الرّزيّة، حتّى فرحوا بالعطية، ولا وجموا للمصيبة، حتّى بسموا للرغيبة، ولا أظلموا لفقد الماضي، حتّى أضاء الوجود بالآتي.
فلله الحمد على هذه النعمة التي جبرت الوهن، وحققت في فضله المنّ، حمدا يستدرّ أخلاف فضله، ويستدعي سابغ طوله، وصلّى الله على محمد وآله، وأمير المؤمنين يراك من أهل مخالصته، والمتحققين بطاعته، وهو يأمرك أن تأخذ البيعة له على نفسك، وعلى جميع أوليائه المقيمين قبلك، وكافّة رعاياه الذين هم في عملك، وتشعرهم بما عنده للمسارعين لطاعته، المبادرين إلى اتّباعه، من تيسير الإنصاف والعدل، وإفاضة الإحسان والفضل، وما لمن نكب عن الطريقة المثلى، وحاد عن الأولى، من الكفّ الرّادع، والأدب الوازع، ويتوسّع في هذا المعنى توسّعا يشرح صدور أهل السلامة، المستمرّين على نهج الاستقامة، ويردع أهل الفساد، ويغضّ من نواظر ذوي العناد. ويحلّي الكتاب بآيات من القرآن الكريم تحسن استعارتها في باب العزاء، ويليق ذكرها في باب الإشادة بالخلافة والخلفاء. فإن كان الكتاب مما يقرأ بالحضرة، قال في موضع «وكتاب أمير المؤمنين إليك» : وأنتم معاشر أقارب أمير المؤمنين، من إخوته وبني عمه وخواصّ الدولة وأمرائها وأجنادها وكتّابها وقضاتها وكافّة رعيتها، ومن اشتمل عليه ظل مملكتها، أحقّ من حافظ على عوارف أمير المؤمنين واعتدّ بلطائفه، وقام بشكر نعمته، وسارع إلى اتباعه واعتصم بحبل دعوته، فأجمعوا على متابعته، وإعطائه صفقة أيمانكم على مبايعته، ليجمع الله على التأليف كلمتكم، ويحمي بالتّازر بيضتكم. ويتبع ذلك من وعد أهل الطاعة بما يضاعف جدودهم، ومن وعيد أهل المعصية بما يصفّر خدودهم، على نسق ما سبق في الترتيب.(8/239)
وهذه نسخة كتاب في المعنى، كتب به عن الآمر «1» بأحكام الله تعالى عند استقراره في الخلافة بعد أبيه المستعلي «2» بالله، والدّولة مشتملة على وزير، من إنشاء ابن «3» الصّيرفيّ، وهي:
الحمد لله المتوحّد بالبقاء، القاضي على عباده بالفناء، الذي تمجّد بالأزليّة والقدم، وتفرّد بالوجود وتنزّه عن العدم، وجعل الموت حتما مقضيّا على جميع الأمم.
يحمده أمير المؤمنين على ما خصّه به من الإمامة التي قمّصه سربالها، وورّثه فخرها وجمالها، حمد شاكر على جزيل العطيّة، صابر على جليل الرّزيّة، مسلّم إليه في الحكم والقضية، ويسأله أن يصلي على جده محمد الذي ثبتت حجته، ووضحت محجّته، وعلت كلمته، وأنافت على درج الأنبياء درجته، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي جعل(8/240)
[الله] الإمامة كلمة في عقبه باقية، وحبّه جنّة «1» يوم الفزع الأكبر واقية، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الطاهرين، صلاة دائمة إلى يوم الدّين.
وإن الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين قدّس الله روحه وصلّى عليه، كان من أوليائه الذين اصطفاهم لخلافته في الأرض، وجعل إليهم أزمّة البسط والقبض، وقام بما حمّله من أوق «2» الإمامة، ولم يزل عاملا بمرضاة الله إلى أن نقله إلى دار المقامة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضا بقضائه، وصبرا على بلائه، وإلى الله يرغب أمير المؤمنين في إلهامه حسن الصبر على هذا المصاب، وإجزال حظّه عليه من الأجر والثواب، وإمداده في خلافته بموادّ الإرشاد والصواب، بكرمه.
وكتاب أمير المؤمنين يوم كذا من الشهر الفلانيّ من سنة كذا، بعد أن جلس للحاضرين بحضرته من الأمراء؛ عمومته، وأوليائه وخدم دولته، وسائر أجناده وعبيد مملكته، وعامة شيعته، وأصناف رعيّته، وأنوار الخلافة عليه مشرقة، وأغصان الإمامة مثمرة مورقة، والسيد الأجلّ الأفضل الذي أمدّه الله في نصرة الدولة العلوية بالتأييد والإظهار، وأبان به برهان الإمامة الآمرية فوضحت أنوارها للبصائر والأبصار، وشهر له من المناقب ما سار مسير الشمس في جميع الأقطار، يتولّى الأمر بحضرته تولّي الكافل الزّعيم، ويباشر النظر في بيعته مباشرة القسيم الحميم، والناس داخلون في البيعة بانشراح صدور، وإظهار ابتهاج وسرور، يعطون صفقة أيمانهم، ويعلمون ما لهم من الحظّ في طاعة إمام زمانهم، قد تحققوا شمول السّعد وعموم الرشاد، وتيقنوا الخيرة لهم في العاجلة والمعاد، وأمير المؤمنين يعزّيك ومن قبلك من أولياء دولته، وسائر رعيته، عن المصيبة في الإمام(8/241)
المستعلي بالله- صلّى الله عليه- التي قطعت من النفوس أملها، وأسكنت الألباب جزعا وولها، ويهنّيك وإياهم بمتجدّد دولته التي تهلّل لها وجه الزمان، واستهلت بها سحائب الفضل والإحسان. وأمير المؤمنين يحمد الله الذي أقرّ الحقّ في منصبه، وأفرده بما كان والده الإمام المستعلي بالله أفرد به.
فاعلم ما أعلمك أمير المؤمنين من هذا الخطب الجسيم، والنّبأ العظيم، واشكر الله على ما جدّده لك ولكافّة المسلمين، من النعمة بإمامة أمير المؤمنين، التي أوفت بإساءة الزمان وجنايته وشفت من داء كلمه ونكايته، وتقدّم إلى الدعاء قبلك بأخذ البيعة على نفسك وعلى كافّة من في ولايتك، واستحمد إلى أمير المؤمنين أنت وهم بالإخلاص في طاعته، والاجتهاد في مناصحته، والتّمسّك بعصم مشايعته، لتنالوا في العاجلة حظّا جسيما، وتحرزوا في الآجلة أجرا كريما:
ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما
«1» وطالع بالكائن منك بعد قراءة كتاب أمير المؤمنين على الحاضرين قبلك، وإذاعته في الواردين عليك والمستوطنين عملك، ليحمدوا الله على ما أنالهم بخلافة أمير المؤمنين من جميل الصّنع العائد على العباد، وصلاح البلاد- وكتب في اليوم المذكور.
وهذه نسخة كتاب عن الآمر بأحكام الله المقدّم ذكره، كتب به إلى ولاة الأطراف بعد قراءة عهده، مهنئا بخلافته، وتجديد ولايته، من إنشاء ابن الصّيرفيّ، أيضا، وهي:
أما بعد، فالحمد لله مولي المنائح من نعمه، ومجزل العطايا من مواهبه وقسمه، ومعوّد الصنع الجميل من لطفه وكرمه، الذي له الحكم الظاهر عدله، ولديه الطّول الفائض فضله، وعنده مفاتح الغيب وإليه يرجع الأمر كلّه.(8/242)
يحمده أمير المؤمنين على ما أفرده به من سنيّ المواهب، ونظمه له من عقود المناقب، ونقله إليه من تراث آبائه الكرام الذين جلا ضياؤهم ظلام الغياهب، وتزينت بهم الأرض تزيّن السماء الدنيا بزينة الكواكب، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي نشر الله به الرحمة، وكشف الغمّة، وأنقذ الأمّة، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، والمذكور في زبر الأوّلين، وعلى الصّفوة من ذرّيتهما الهداة الراشدين، صلاة باقية إلى يوم الدين.
وإنّ النّعم تتفاضل أقدارها بحسب مواقعها، وتتفاوت أخطارها بقدر مواضعها، ومن ألطفها مكانا، وأشرفها محلّا وشأنا، وأولاها بأن تستنطق به الأقلام، وأحقّها بأن يتناقل ذكرها الخاصّ والعام، ما خصّ الله به أمير المؤمنين من المنن الظاهرة، وتولّاه من المنح المتظاهرة، وأصاره إليه من الخلافة في أرضه، واستخلفه عليه من القيام بسنن دينه وفرضه، واسترعاه إيّاه من حياطة بلاده، وأوجبه من طاعته على كافّة خلقه وعباده، وذخره لدولته من كفيله وخليله، ومقيم أدلّة حقه وموضّح سبيله، السيد الأجلّ الأفضل الذي ارتضاه الله للذّبّ عن الإسلام، وانتضاه لنصرة إمام بعد إمام، وشهر مناقبه في كلّ موقف ومقام، وخصّه بفضائل لم تر مجتمعة لملك من ملوك الإسلام، لا جرم «1» أنّ أمير المؤمنين قد أحلّه منه محلّ الرّوح من الجسد، والوالد من الولد، وفوّض الأمور إليه تفويض معوّل على يمن نقيبته معتمد، مبالغ في حسن الاختيار للأمة مجتهد، والله تعالى يمتّع أمير المؤمنين ببقائه الكافل ببلوغ الأمل، ويجازيه عن تشييد مملكته أحسن ما جزى به مخلصا جمع في الإيمان بين القول والعمل، بكرمه.
ولما وقف أمير المؤمنين بما طالعه به السيد الأجلّ الأفضل عند مثوله بحضرته، وإنهائه أمور دولته وأحوال مملكته، على أمرك الذي استحمده في الخدمة، واستحققت به إفاضة الإحسان وإسباغ النعمة، وأن لك في الدولتين(8/243)
المستنصريّة والمستعليّة من الخدم المشكورة، والمساعي المبرورة، ما يدلّ على مناصحتك وإخلاصك، ويبعث على اصطناعك واستخلاصك، أمر بكتب هذا السّجلّ لك مؤكّدا لأواخيك «1» ، ومعربا عن رأيه الجميل فيك، ومجدّدا من ولايتك، ومجريا لك فيها على مستمرّ رسمك ومستقرّ عادتك. فقابل نعمة أمير المؤمنين من الإخلاص في طاعته بما يرتبطها، ووفّها من حقّ الاجتهاد ما يقرّها عندك ويثبّطها، واجعل تقوى الله تعالى عمادك، واطو عليها طويّتك واعتقادك، ومكّن في نفوس الأولياء جميل رأي أمير المؤمنين فيهم، وإحماده لمواقفهم في الخدمة ومساعيهم، وحقّق عند كافّة المستقرّين لديك، والواردين عليك، ما يكنفون به من الأمر الشامل، ويغمرون به من حسن النظر المتواصل، واجر على العادة المألوفة في إفاضة العدل والإنصاف، وتنكّب سبيل الجور والإجحاف، ومهّد السّبل قبلك، واحم من أسباب الفساد ولايتك وعملك، واخصص متولّي الحكم والدعوة الهادية- ثبتها الله تعالى- بالإعزاز والرعاية، ووفّر حظّهم من الملاحظة والعناية، وخذ المستخدم في الخطبة العلويّة بإقامتها في أوقاتها، على أفضل قوانينها وواجباتها، معلنا فيها بذكر أمير المؤمنين الذي يتوّج فروق المنابر، ويشنّف أسماع البوادي والحواضر، وتوفّر على ما ثمّر الأموال وأنماها، وغزّرها ورخّاها، وقضى بوفورها وحصولها، ودعا إلى درورها ومواصلة حمولها، وانظر في أمر الرجال المستخدمين معك نظرا يؤدّي إلى مصلحتهم، فاعلم هذا من أمير المؤمنين، واغتبط بما أصاره الله إليه اغتباط أمثالك من المخلصين، واعتقد طاعته اعتقاد من يجاريك من أهل اليقين، واعمل بوصاياه ومراشده تحظ في الدنيا والدين، وطالع بالكائن منك بعد قراءة هذا السّجلّ على كافة الناس أجمعين، وكتب في كذا وكذا.(8/244)
واعلم أن العادة جارية بينهم أنه إذا كتب كتاب عن الخليفة بانتقال الخلافة إليه، يكتب ملطف عن الوزير، يلفّ كتاب الخليفة ضمنه، ويوجّه به إلى حيث المقصد.
وهذه نسخة ملطّف في هذا المعنى، كتب به عن وزير في الدولة الفاطمية، ليلفّ كتاب الخليفة طيّه، وهو:
ينطوي هذا الأمر الوارد على الأمير على كتاب مولانا وسيدنا الإمام الفلانيّ لدين الله، أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، أو: أبنائه المنتظرين، إن كان لا ولد له، بما أصاره إليه من شرف الإمامة، وبوّأه إيّاه من مقام العظمة والكرامة، إثر انتقال الإمام فلان أمير المؤمنين- قدّس الله روحه- إلى جوار ربّه. فاعتمد العمل بمضمونه في أخذ البيعة على نفسك ومن يليك وتلاوته على رؤوس الأشهاد، وإذاعة مكنونه في الحاضر والباد، على الرسم المعتاد، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذا المعنى في الكتابة بانتقال الخلافة إلى الخليفة جار في زماننا بانتقال السّلطنة إلى السلطان، ويعبّر عن ذلك بجلوسه على تخت الملك، والأمر على ما تقدّم في الخلافة من التعزية بالماضي، والتهنئة بالمستقرّ، ونحو ذلك مما يجري مجراه.
وهذه نسخة مكاتبة بالبشارة بجلوس الملك الصالح صالح «1» ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على التخت، في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين(8/245)
وسبعمائة، بعد خلع أخيه الملك الناصر [حسن] . وصورتها بعد الصّدر والألقاب:
وأورد عليه من البشائر أسنى البشر، وأسمعه من التّهاني ما انتشى حديثه بين البرايا وانتشر، وحفظ عليه وعلى الأمة ما أراد لهم من الخير وولّى عليهم خيارهم وجعل مليكهم صالح البشر.
صدرت هذه المكاتبة إلى فلان وبصربها «1» مقدما بالظّفر، وذكرها قد ملأ الأقطار فجمع عليه كلّ قلب كان قد نفر، تهدي إليه سلاما عن وجه الشّكر سفر، وثناء يحصل منه على النّصيب الأوفر، وتوضّح لعلمه أن الجنابات العالية الأمراء الأكابر، أمراء الدولة الشريفة، ضاعف الله نعمتهم، كانوا قد عظّموا أخانا الناصر، وحكّموه، ومشوا إلى خدمته على أحسن سنن، وما أبقوا في خدمته ممكنا من التعظيم، والإجلال والتحكيم، وامتثال الأمر في كل جليل وحقير، فلم يرع لهم ذلك، ولا التفت إلى ما لهم عليه من حقوق الخدمة، واتفق مع الصبيان، وأراد القبض على الأمراء، وإمساك الجنابات العالية الأمراء الأكابر والإيقاع بهم. فلما تحققوا منه ذلك اجتمعت الأمراء، واتفقت الكلمة على خلعه من الملك الشريف وإقامتنا، فخلع المشار إليه، وكان جلوسنا على تخت الملك الشريف وكرسيّ السّلطنة المعظمة في يوم الاثنين المبارك، بحضور الإمام المعتضد بالله أمير المؤمنين أبي الفتح أبي بكر، ابن الإمام المرحوم أمير المؤمنين أبي الرّبيع سليمان المستكفي بالله، ومبايعته لنا، وحضور المجالس العالية قضاة القضاة بالأبواب(8/246)
الشريفة، أعز الله تعالى أحكامهم، وحلف لنا أمراء الدولة الشريفة على جاري العادة في ذلك، وضربت عند ذلك البشائر، وشهد هذا الهناء كلّ باد وحاضر، وتشنّفت الأسماع وقرّت العيون واستقرّت الخواطر، وابتهجت بذلك الأمم، وتباشرت بهذا السّعد الذي كتب لنا من القدم، وأصبح كلّ من أنصار دولتنا الشريفة مبتهلا بالدعاء مبتهجا.
فليأخذ المقرّ حظّه من هذه التهنية، وليذع خبرها لتكون المسارّ معيدة ومبدية، ويتحقق ماله عندنا من المكانة، والمحلّ الذي زان بالإقبال الشريف زمانه ويتقدّم أمره الكريم بتهنئة المجالس العالية والسامية ومجالس الأمراء بالمملكة الفلانية، ويتقدّم أيضا بضرب البشائر وبالزينة على العادة.
وقد تجهّز إلى الجناب العالي نسخة يمين شريفة يحلف عليها، ويكتب خطّه، ويجهزها إلينا صحبة المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، العضد، الذّخريّ، النّصيريّ، الأوحديّ، عضد الملوك والسلاطين، يلبغا الحمويّ الصالحيّ، أدام الله علوّه، المتوجّه بهذا المثال الشريف، وقد جهزنا نسخة يمين شريفة ليحلف عليها لنا الأمراء بطرابلس ويكتبوا خطوطهم ويجهزها إلينا على العادة صحبة المشار إليه.
وقد جهزنا للجناب العالي صحبة المشار إليه تشريفا شريفا كاملا، فيتقدّم الجناب العالي بتسلمه منه ولبسه، ويتحقق ماله عندنا من المكانة والمنزلة، ويعيد الأمير سيف الدّين يلبغا المشار إليه إلى الباب الشريف، فيحيط علمه بذلك.
الصنف الثاني (من الكتب السلطانية الكتب في الدعاء إلى الدّين، وهو من أهمّ المهمّات)
قال في «موادّ «1» البيان» : أشرف ما ينشئه الكاتب الدعاء إلى دين الإسلام(8/247)
الذي أظهره الله تعالى على كلّ دين، وأعزّه على كره المشركين، واستجرار مخالفيه إليه، واجتذاب الخارجين عن دائرته إلى الدخول فيه، عملا بما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده؛ لأنه قوام الملك ونظام السلطان اللّذان لا يصحّان إلّا به.
قال: والكاتب يحتاج في إنشاء هذه الكتب إلى علم التوحيد وبراهينه، وشرع الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصّه وعامّه، ومعجزاته، وآيات نبوّته، ليتوسّع في الإبانة من ظهور حجته، ووضوح محجّته.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله الذي اختار دين الإسلام فأعلاه وأظهره، وقدّسه وطهّره، وجعله سبيلا إلى رضاه وكرامته، وطريقا إلى الزّلفى في جنّته، وشفيعا لا يقبل عمل عامل إلّا به، وبابا لا يصل واصل إلّا منه، فلا تغفر السيئات إلّا لمن اعتصم بحبله، ولا تتقبّل الحسنات إلّا من أهله، وشكره تعالى على الهداية إليه، والتوفيق عليه، وذيادته عن مجاهل الضلالة بما أوضحه من برهانه، ونوّره من تبيانه، وتمجيده من تعظيم آياته، وباهر معجزاته، وحكيم صنعته وبديع فطرته، وتنزيهه عما لا يليق بسلطانه، ولا تجوز إضافته إلى عظيم شانه، وتسبيحه عما يصفه به الملحدون، ويختلقه الجاحدون، والصّلاة على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم والإفصاح عن دلائل نبوّته، وبراهين رسالته، وما خصّه الله تعالى به من إعلاء ذكره وإمداده بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة.
ثم يتبع ذلك بالدعاء إلى الدّين والحضّ عليه، وإيضاح ما في التّمسّك به من الرّشاد في داري المبدإ والمعاد، والتّبشير بما وعد الله به المستجيبين له، والداخلين فيه، من تمحيص السّيّئات، ومضاعفة الحسنات، وعزّ الدنيا وفوز الآخرة، والإنذار بما أوعد الله به النّاكبين عن سبيله، العادلين عن دليله، من الإذلال في هذه الدار، والتّخليد بعد العرض عليه في النار، وتصريف المخالفين بين الرّغبة والرّهبة، في العاجل والمغبّة.
قال: وينبغي أن يتأنّى الكاتب فيما يورده من هذه الأغراض، ليقع في(8/248)
المواقع اللائقة به، ويجلو الحجج في أحسن المعاريض، ويفصح عنها بأقرب الألفاظ من النفوس؛ فإنه إذا وفّق لذلك، ناب كتابه مناب الجيوش والأجناد، وأقرّ السيوف في الأغماد، ثم قال: ومن صدقت في هذا الفنّ رغبته، أيد الله تعالى غريزته، وعضّد بديهته ورويّته.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية قد بطل في زماننا، فلم يعهد أنّ ملكا من الملوك كتب إلى بلاد الكفر بالدّعاية إلى الدين، إذ مثل ذلك إنما يصدر مع الغلبة والقوّة والقهر. كما كان الخلفاء في الزمن المتقدّم والكفر مقهور معهم، مذلول لديهم. أما الآن فلولا ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ونصرت بالرّعب مسيرة شهر» وفي رواية «ونصرت أمّتي» لاجتاح أهل الكفر الإسلام، ولكن الله وعد دينه أن لا يخذل.
الصنف الثالث (من الكتب السلطانية الكتب بالحثّ على الجهاد)
قال في «موادّ البيان» : كما أن الدّين ينتظم بالدعاء إليه والترغيب فيه، كذلك ينتظم بصيانة حوزته، وما دخل في مملكته، وكفّ أعدائه عن تنقّص أطرافه، والتّغلّب على بلاده. ولهذا فرض الله تعالى الجهاد وأوجبه، وأكّد الأمر فيه وشدّده، والسلطان يحتاج عند الحوادث التي تحدث من تطرّق المخالفين إلى بعض الثّغور، أو شنّ الغارة على أهل الإسلام، أن يدعو إلى الجهاد ومقارعة الأعداء، وصون حريم الملة، وحفظ نظام الدولة.
ثم ذكر أن الرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على جميل صنعه، على إعزاز الكلمة، وإسباغ النّعمة باظهار هذه الملة، وما وعد الله به من نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وإدالة الموحدين، وإذالة الملحدين، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وذكر طرف من مواقفه في الجهاد، ومقارعته لشيع الإلحاد، وتأييد الله تعالى أنصاره على أهل العناد، ثم يذكر الحادثة بنصّها، ويشرح القصة على فصّها، ويندب من جاوره وداناه من أهل الملّة أجمعين،(8/249)
ويخاطبهم بما يرهف عزائمهم في نصرة الدين وكافّة المسلمين، واتّباع سبيل السّلف الصالحين، الذين خصّهم الله تعالى بصدق الضّمائر، ونفاذ البصائر، وصحّة الدين، ووثاقة اليقين، فلم يكونوا ليروموا مراما إلّا سهّل لهم ما توعّر، ويسّر عليهم ما تعسّر، وسما بهم إلى ما هو أقصى منه مرمى وأبعد مدى، رغبة فيما رغّبهم فيه من نصرته، وتعرّضا لما عرّضهم له من جزيل مثوبته، وأن يحضّهم على التمسك بعزائم الدين، والعمل على بصائر المخلصين، وافتراض ما فرض الله عليهم من جهاد أعدائه، وتنجيز ما وعدهم به من الإظفار بهم والإظهار عليهم، وأن يجاهدوا مستنصرين، ويؤدّوا الحقّ محتسبين، ويقدموا رسلا لا ناكصين ولا شاكّين ولا مرتابين، متّبعين الحقّ حيث يمم وقصد، ومضاربين دونه من صدّ عنه وعند، ويبالغ في تنخية أهل البسالة والنّجدة، والبأس والشّدّة، ويبعثهم على نصر حقّهم وطاعة خالقهم، والفوز بدرك الثواب والرّضوان، وتنوّر البصائر في الإيمان، وفضيله الأنف من الضّيم، والبعد من الذّيم «1» ، إلى غير هذا مما يعدل الأرواح والمهج، والإقدام على مصارع التّلف. فإن الملوك الماضين- لعلمهم بأن الناس إنما يجودون بذلك للفوائد التي توجبه- كانوا يبذلون لمن يدعونه إلى المكافحة، ويعرّضونه للمذابحة، الرغائب التي تهوّن عليهم إلقاء نفوسهم في المهالك تارة، ويذكّرونهم الأحقاد والضغائن ويخوّفونهم من الوقوع في المذلّة أخرى.
ثم قال: وينبغي للكاتب أن يقدّم في هذه الكتب مقدّمات، يرتبها على ترتيب يهزّ الأريحيّات، ويشحذ العزائم، ليجمع بين خدمة سلطانه والفوز بنصيب من الأجر.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانيات مستمرّ الحكم إلى زماننا.
فما زالت الملوك يكتبون إلى ما يليهم بالحثّ على الجهاد، والقيام بأوامره، والحضّ على ملاقاة العدوّ، والأخذ بنصرة الدين. وقد تقدّم في الكلام على(8/250)
مقدّمات المكاتبات في أوّل هذه المقالة، أن الشّيخ شهاب الدين محمودا الحلبي ذكر في «حسن التوسل» أنه إذا كتب عن الملك في أوقات حركات العدوّ إلى أهل الثغور، يعلمهم بالحركة للقاء عدوّهم، أنّه يبسط القول في وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدّين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطيّ المراحل، ومعاجلة العدوّ، وتخيّل أسباب النّصر، والوثوق بعوائد الله في الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التّيقّظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم من ذلك وما أشبهه. وأنه يبرز ذلك في أبين كلام وأجلّه، وأمكنه وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرّقّة، ويبالغ في وصف الإنابة إلى الله تعالى واستنزال نصره وتأييده والرجوع إليه في تثبيت الأقدام، والاعتصام به في الصّبر، والاستعانة به على العدوّ، والرّغبة إليه في خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخيرهم، وانتظار العرضيّات في تخلّفهم، لما في ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم، واستشعار الوهن والخوف منهم، وأن زيادة البسط ونقصها في ذلك بحسب المكتوب إليه.
وهذه نسخة مكاتبة من ذلك عن السلطان إلى بعض نوّاب الثّغور، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود «1» الحلبيّ، أوردها في «حسن التوسل» وهي:
أصدرناها ومنادي النّصر «2» قد أعلن بياخيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظّفر والتأييد اقربي، والعزائم قد ركضت على سوابق الرّكض إلى العدا، والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لا ستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسّيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنّة قد ظمئت إلى موارد القلوب فتشوّفت إلى الارتواء من قلبها، والكماة قد زأرت كاللّيوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عوّدتها من(8/251)
الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسار بها للهجوم على أعداء الله من الملائكة الكرام أمدادها، والنفوس قد أضرمت الحميّة للدّين نار غضبها، وعداها حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنّصر قد أشرقت في الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله في إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلّا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّه بل عن مكانه، والنّيّات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها و «من كان مع الله كان الله معه» ، وما بقي إلّا طيّ المراحل، والنزول على أطراف الثّغور نزول الغيث على البلد الماحل، والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على [حكم] «1» الأمرين [الآخرين] «2» ، من عذاب واصب وهمّ ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السّيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على ما بأيدي العصابة المؤيّدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها، فليكن مترقّبا طلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذي إن فرّ أدركته من ورائه وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوائم الرعايا من الأماكن المخوفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنّه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه، وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرأ منه الشيطان الذي دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزّعا بين ذئاب الفلا وضباعها، وبين عقبان الجوّ ونسوره، ثقة من وعد الله وتمسّكا منه باليقين، وتحققا أن الله ينصر من ينصره والعاقبة للمتقين.(8/252)
وهذه نسخة مرسوم كريم في المعنى، بل هو أصرح في ذلك ممّا قبله، كتب به عند ظهور الفرنج اللوساريّة والشوال بالبحر، من إنشاء الشيخ بدر الدين بن حبيب «1» الحلبيّ «2» ، وهو وإن لم يكن عن السلطان فإنه في معناه؛ لقيام النائب بالمملكة قيام السلطان الذي استنابه، وهو:
المرسوم بالأمر العالي أعلاه الله تعالى، لا زالت مراسمه النافذة تبلّغ أهل العصابة المحمّدية غاية الآمال، وأوامره المطاعة تقضي بكسر اللّوساريّة وشين الشوال، أن تتقدّم العساكر المنصورة بالمملكة الطّرابلسيّة أيد الله تعالى عزائمهم القاهرة، وأذلّ بسيوفهم الطائفة الكافرة، بارتداء ملابس الجهاد، والتّحلّي بمرارة الصّبر على اجتلاء الجلاد، وأن يجيبوا داعي الدّين، ويكفّوا أيدي المعتدين، ويفوّقوا سهامهم، ويجعلوا التّقوى أمامهم، ويشرعوا رماحهم، ويحملوا سلاحهم، ويومضوا بروق السيوف، ويرسلوا نبال الحتوف، ويهدموا بنيان الكفّار، ويطلعوا أهلّة القسيّ بمدّ الأوتار، ويهضموا جانب أهل العناد، ويقابلوا البحر بملء بحر من الجياد، ويناظروا أمواجه بأمواج النّصال، ويقاتلوا الفرقة الفرنجيّة أشدّ القتال، ولا يهملوهم بالنهار ولا بالليل، ويعدّوا لهم ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل، وينوّروا بمصابيح الرّباط في سبيل الله ظلام الدّجنّة، وأن يصابروا ويصبروا، فإذا استنفروا فلينفروا، ويبالغوا في الغدوّ والرّواح ليبلّغوا الرّعيّة من الأمن أمانيها. فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» . ويعتمدوا على القريب المجيب، ويجتهدوا في كسر أصلاب أهل الصّليب، وينافسوا في أمر الآخرة ويدعوا الدنيا، ويقاتلوا لتكون كلمة الله هي(8/253)
العليا، ويشهدوا المواقف، ويبذلوا التّالد والطّارف، وليبرز الفارس والراجل، ويظهر الرّامح والنّابل، فإن الجهاد، سطوة الله تعالى على ذوي الفساد، ونقمته القائمة على أهل الشّرك والعناد، وهو من الفروض الواجبة، التي لم تزل سهام أصحابه صائبة، فواظبوا على فعله، ولا تذهبوا عن مذاهبه وسبله، واطلبوا أعداء الله برّا وبحرا، وقسّموا بينهم الفتكات قتلا وأسرا، وفاجئوهم بمكروه الحرب، وناجوهم برسائل الطّعن والضّرب، وخذوا من الكفّار باليمين، وجدّوا في تحصيل الرّبح الثّمين، ولازموا النزول بساحل البحر لمنازلة الطّغاة والمشركين يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين
«1» وسابقوا الأعنّة، وهزّوا أعطاف الأسنّة، وشمّروا عن ساق العزائم، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، واتّخذوا الخيام مساكن، واجعلوا ظهور الخيل لكم مواطن، وانصبوا الألوية والأعلام، وأطفئوا جمرة الشّرذمة الغائظة للإسلام، ولا تخشوا من جمعهم الآئل إلى التّفريق، وحشدهم الذي هو عمّا قليل إن شاء الله تعالى غريق، ولا تعبأوا بسفنهم البحرية فإن سفنكم الخيل المخلوقة من الرّياح، ولا تنظروا إلى مجاديفهم الخشبيّة، فإن مجاديفكم السيوف والرماح، فاقلعوا قلوعهم، وشتّتوا جموعهم، وأذهبوا الجنف «2» والحيف، وخاطبوهم بألسنة السّيف، وأوقدوا في قلوبهم بالتّحصين والاحتراز نارا، وادعوا الله أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّارا، ونكّسوا صليبهم المنصوب، وبادروا إلى حرب حزبهم المغلوب، وارفعوا باليقين شكّ هذه المحنة، وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة، واهجروا في ذات الله طيب المنام، وانقلوا الأقدام إلى الأقدام، واكشفوا عنكم أستار الملال والملام، واهتموا بما يعلي كلمة الإسلام والسّلام، فليرفعنّكم الله إلى منازل العزّ والتمييز ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز
«3» .(8/254)
الصّنف الرابع (من الكتب السلطانية الكتب في الحثّ على لزوم الطاعة وذمّ الخلاف)
قال في «موادّ البيان» : طاعة السلطان والانقياد إليه، والرجوع إلى رأيه والاعتماد عليه، أبدى الأسباب، في استمرار الاتّساق والاستتباب، وهي فرض أوجبه الله تعالى. فقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
«1» ولا تصح مملكة ولا تدوم دولة إلّا بأمرين؛ أحدهما عدل السلطان، والآخر طاعة الرّعيّة له، فمتى ارتفع أحدهما، فسد السّائس والمسوس، ولم تزل ملوك الأزمنة يقدّمون إلى الرعايا لزوم الطاعة، والاعتصام بحبل الشريعة والنّهي عن مفارقة الجماعة.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالحمد لله على النّعم، في تأليف قلوب أهل الدّين، وجمع كلمة الموحّدين، ورعاية أهوائهم إلى الاتّفاق، وصيانة عصاهم عن الانشقاق، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والتنبيه على فضائل الطاعة، فإنها العروة الوثقى، والمعقل الذي لا يرقى، والحصن الحصين، والكنف الأمين، والحمى الأمنع، والمرقب الأرفع، وأنّ من حافظ عليها فاز وسلّم، وربح وغنم، ومن فارقها خسر وخاب، ونكب عن سبيل الصّواب، وإيضاح ما في سبيل الطاعة من اتّفاق الكلمة، وانتظام شمل الأمة، وشمول الخيرات، وعموم البركات، وعمارة البلاد، وصلاح العباد، وما في المشاققة من الفساد العام، العائد بانتثار النّظام، وانبتات الحبل، وتفرّق الشّمل، واجتثاث الأصل، وطموس الديار، وصيال الأشرار، وانقماع الأخيار، وتوالي الفتن التي لا تصيب الظالم خاصّة دون العادل، ولا المشاقق دون الموافق، وحلول النّوائب المزيلة للنعم، وإتباع ذلك بما يجب من إعذار وإنذار، وترهيب وترغيب، وتذكير وتبصير، ووعظ وتخويف، وبعث العلماء الحصفاء، على ردع الجهلاء السّخفاء، وتنبيه أهل(8/255)
السلامة والصلاح، على كفّ ذوي العيث والطّلاح، إلى نحو هذا مما يجاريه. وأن يبالغ فيما يورده من هذه المعاني، فإن هذه الكتب إذا كانت بليغة مستوفاة جيّدة العبارة، أخذت بمجامع القلوب، وأغنت عن الكتائب في إدراك المطلوب.
وهذه [مكاتبات] في معنى ذلك أوردها أبو الحسين بن «1» سعد في ترسّله، وهي:
أما بعد، فإن الله افترض الطاعة وأوجبها، وأمر بها ورغّب فيها، وجعلها عصمة من كل فتنة، وضياء من كل شبهة، وسلامة من كل هلكة، وسببا للظّفر بخير الدنيا والآخرة، من أراد الله به خيرا وفّقه لها، وألزمه المحافظة عليها والاعتصام بحبلها، فتعجّل عزّها وشرفها، وسعتها وأمنها، واستحق السعادة في الدار الآخرة بها، والمثوبة عليها.
آخر: وقد علمتم ما جعل الله في الطاعة ولزومها، والمحافظة عليها، من العز والمنعة والأيد والقوّة والفوز بخير الدنيا والآخرة [وما] في خلافها من صنوف المخاوف، وأنواع المتالف.
آخر: وقد كانت الطاعة أنافت بك على كلّ ظليل، وأفضت بك إلى لين مهاد عند إقضاض المضاجع، وصفاء المشارب عند تكدّر المناهل، واتصال أمنة عند حدوث المخاوف، حتّى فعلت كذا وكذا.
آخر: فلم يمرق من طاعته مارق، ولا فارقها مفارق، إلّا صرع الله خدّه، وأتعس جدّه، وخضد «2» شوكته، وأكذب ظنّه وأمنيّته، وجعله لسيوف الله غرضا، ولأوليائه غنيمة.(8/256)
آخر: والطاعة هي العروة الوثقى، والطريقة المثلى، والغنيمة لأهلها في الأخرى والأولى.
«عبد الحميد» «1» : فإن الفتنة تتشوّف لأهلها بآنق منظر، وأزين ملبس، تجرّ لهم أذيالها، وتعدهم تتابع لذّاتها، حتّى ترمي بهم في حومات أمواجها، مسلّمة لهم، تعدهم الكذب وتمنّيهم الخدع، فإذا لزمهم عضاضها «2» ، ونفر بهم شماسها، وتخلّت عنهم خاذلة لهم، وتبرأت منهم معرضة، قد سلبوا أجمل لباس دينهم، واستنزلوا عن أحصن معاقل دنياهم، من الغناء البهيّ منظره، الجميل أثره، حتّى تطرحهم في فضائح أعمالهم، والإيجاف في التّعب، وسوء المنقلب، فمن آثر دينه على دنياه تمسك بطاعة ولاته، وتحرّز بالدخول في الجماعة، تاركا لأثقل الأمرين، وأوبل الحالين.
«ابن عبد كان» «3» في ذمّ الخلاف: وإن فلانا كان عبدا من عبيدنا، اعتوره إنعامنا، ونوّه به إكرامنا، وشرّفه ولاؤنا، وحسن عنده بلاؤنا، وابتنينا له الأموال، وأسنينا له الأعمال، وأوطأنا عقبه الرجال، فلم تقع النّعم منه عند شاكر، ولا الصنيعة عند محتمل؛ فلما رفع الله بمكاننا خسيسته، وبلّغه من شرف الذّكر ونباهة القدر وانبساط يده ما كانت همّته تعجز عنه، وآماله تقصر دونه، أضراه ذلك وأبطره، وأطغاه وأكفره، فاختال زاهيا، واستكبر عاليا، وغدر باغيا، وشاقّ عاصيا، وأوضع في الفتنة لنا حربا، ولأعدائنا حزبا، ولمن انحرف عنا يدّا، ولمن مال إلينا ضدّا، من غير سبب أوجبه، ولا أمر دعاه إليه، فكان كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
«4» وكقوله: ولو بسط الله(8/257)
الرزق لعباده لبغوا في الأرض
«1» فلما ورده الخبر بما هيّأ الله لنا من الرجوع إلى الفسطاط على الحال السارّة لأوليائنا، الغائظة لأعدائنا، سقط في يده، وفكّر في غليظ جرمه وخيانته، فأدّاه الخوف الذي استشعره، والإشفاق الذي خامره، إلى أن ركب عظيما من الأمور، وكاشف بالعصبيّة والغرور، مكاتفا أعداء «2» ، ومواليا ذوي العداوة والشّنارة «3» ، ونرجو بحول الله وقوّته، وإرادته ومشيئته، وما لم يزل الله- تقدّس اسمه- يجريه عندنا من جميل عاداته فيمن سفه الحق، وزاغ عن القصد، أن يبسل هذا الخائن بخبائث أعماله، ويسلمه لقبائح أفعاله، وأن يصرعه بأسو إ مصارع أمثاله، فإنّ أحدا لم يحمد النعمة، إلّا استدعى النّقمة، ولم يذع الشكر، ويستعمل الكفر، إلّا كانت العثرة منه قريبة، والبلايا محيطة، قولا لا يبدّل رسمه ولا يحوّل.
من كتاب موسى «4» بن عيسى:
أما بعد، فإن امرأ لو خلص من فلتات الخطإ وخطوات الملإ «5» ، بفضيلة رأي ولطافة بصر بالأمور، كنت أحجى بذلك دون أهل زمانك، للذي جرت لك عليه تصاريف التبع وتعرّضت لك به وجوه العبر، ولما استقبلت من موارد أمور نفسك، وتعقّبت من مصادر أمور غيرك، ولكنّ الله إذا أراد أمرا جعل له من قضائه سببا، ومن مقاديره عللا، فمن مقادير علل البلاء تضييع المعرفة، وإلغاء ما تفيده(8/258)
التّجربة، ومن أسباب السّلامة الانتباه بالعبر، والاستدلال بما كان على ما يكون.
وأنت امرؤ جرت لك وعليك أنحاء من النعم، وأنحاء من الحجج، عرفت بها ما لك وعليك، فإن تأخذ بها، عرفت كيف تسلك مسالكه، وإن تدع الأخذ بذلك، تدعه على علم. وقد رأيت الذي انقادت لك به النّعمة، ووهبت لك به العافية، فيما ألهمك الله من طاعة ولاة أمورك، والصبر لها على مواطن الحقّ التي رفع الله بها ذكرك، وأحسن عليها عقباك وذخرك، فلم تمض بك في طاعتهم رتبة، إلا قرّبك الله بها في الخير عقبة، ولا تبذل من نفسك نصحا، إلّا أوجب لك به نححا؛ ولم تفتأ تواتر ذلك، من مناصحتك وحسن طاعتك، حتّى طلت بها على من طاولك، وفضلت بها من فاضلك، وجريت ممدودا عنانك إلى قصوى غايات أملك، فأصبحت قريع المسلمين، بعد خليفة الله أمير المؤمنين، وخيرته من خلقه، بعد ذوي الفضل من أهل بيته، حتّى مالك من رجالات العرب نظير في منزلة، ولا نديد في حال ولا رتبة، بل هم فيك رجلان: إما راهب منك، وإما راغب فيك.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستمرّ الكتابة إلى زماننا. فما زالت الملوك يكتبون إلى من يتخيّلون منه خلع الطاعة من النوّاب ومن في معناهم، ويحثّونهم على لزوم الطاعة، ويحذّرونهم المخالفة والخروج عن الجماعة.
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي إلى متملك سيس «1» عند كسرة التتار، بعد قيامه معهم في المصافّ، ومساعدته إياهم، وهو:
بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه في الإصرار على مخالفته ونقض عهده، وأسلاه بسلامة نفسه عمن روّعته السيوف الإسلامية بفقده.
صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذي دلّاه بغروره، وحمله(8/259)
التمسك بخداعه على مجانبة الصواب في أموره، وأنهم استنجدوا بكل طائفة، وأقدموا على البلاد الإسلامية بنفوس طامعة وقلوب خائفة، وذلك بعد أن أقاموا مدّة يشترون المخادعة بالموادعة، ويسرّون المصارمة في المسالمة، ويظهرون في الظاهر أمورا، [ويدبّرون في الباطن أمورا] «1» ويعدون كلّ طائفة من أعداء الدين ويمنّونهم وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا، وكنّا بمكرهم عالمين، وعلى معاجلتهم عاملين، وحين تبيّن مرادهم، وتكمّل احتشادهم، استدرجناهم إلى مصارعهم، واستجررناهم ليقربوا في القتل من مضاجعهم، ويبعدوا في الهرب عن مواضعهم، وصدمناهم بقوّة الله صدمة لم يكن لهم بها قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها إلى ذلك الجبل، وهل يعصم من أمر الله جبل؟ فحصرناهم في ذلك الفضاء المتّسع، وضايقناهم كما قد رؤي ومزّقناهم كما قد سمع، وأنزلناهم على حكم السّيف الذي نهل من دمائهم حتّى روي وأكل من لحومهم حتّى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها، ويبدّدهم في الفلوات رعبها، ويفرّقهم في القفار طعنها المتدارك وضربها، ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيّل للحيّ منهم أنّ موضعه كالدنيا التي ليس للميّت إليها رجوع، ولعله قد رأى من ذلك فوق ما وصف عيانا، وتحقّق من كلّ ما جرى ما لا يحتاج أن نزيده به علما ولا نقيم عليه برهانا.
وقد علم أن أمر هذا العدوّ المخذول ما زال معنا على هذه الوتيرة، وأنهم ما أقدموا إلّا ونصرنا الله عليهم في مواطن كثيرة، وما ساقتهم الأطماع في وقت ما إلا إلى حتوفهم، ولا عاد منهم قطّ في وقعة آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم، ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعمة الله عليه [بطاعتنا] «2» التي كان في مهاد أمنها، ووهاد يمنها، وحماية عفوها، وبرد رأفتها التي كدّرها بالمخالفة بعد صفوها، يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمي أهل ملّته [بالحذر عن(8/260)
الحركات] «1» التي ما نهضوا إليها إلّا وجرّوا ذيول الخسار، ولقد عرّض نفسه وأصحابه لسيوفنا التي كان من سطواتها في أمان، ووثق بما ضمن له التّتار من نصره وقد رأى ما آل إليه [أمر] ذلك الضمان، وجرّ لنفسه بموالاة التّتار عناء كان عنه في غنى، وأوقع روحه بمظافرة المغل في حومة السيوف التي تخطّفت أولياءه من هنا ومن هنا، واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه، واغترّ هو وقومه بما زيّن لهم الشيطان من غروره فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه
«2» وما هو والوقوف في هذه المواطن التي تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسرة؟ وأنّى لضعاف النّقّاد قدرة على الثبات لوثبات الأسود الضّارية واللّيوث الكاسرة؟ لقد اعترض بين السّهم والهدف بنحره، وتعرّض للوقوف بين ناب الأسد وظفره، وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق طاعة أسلافه التي ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التي بذلوا نفوسهم ونفائسهم في التّوصّل إليها، ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا ما استقاموا، ونسلك فيهم حكم من في أطراف البلاد من رعايانا الذين هم في قبضتنا، نزحوا أو أقاموا، ونحن نتحقق أنه ما بقي ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع يورد نفسه في موارد الهلاك وهل يرجع إلى الموت من ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قبل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبتذل السيوف الإسلامية مصونه، ويبادر إلى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسّك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل، ويعجّل بحمل أموال القطيعة وإلّا كان أهله وأولاده في جملة ما يحمل منها إلينا، ويسلّم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا وإلّا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخّر من بلاده بين يدينا، ويكون هو السبب في تمزّق شمله، وتفرّق أهله، وقلع بيته من أصله، وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه، واسترقاق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه، واستقلاع قلاعه، وإحراق ربوعه ورباعه، وتعجيل رؤية ما وعد به قبل(8/261)
سماعه. ومن لغازان أن يجاب إلى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما في يده من الممالك، لينتفع بما أبقت جيوشنا المؤيّدة في يده من الخيل والخول، ويعيش في الأمن ببعض ما نسمح له به ومن للعور بالحول، والسيوف الآن مصغية إلى جوابه لتكفّ إن أبصر سبيل الرشاد، أو تتعوّض برؤوس حماته وكماته عن الإغماد إن أصرّ على العناد، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس (من الكتب السلطانية الكتب إلى من نكث العهد من المخالفين)
قال في «موادّ البيان» : إذا نقض معاهد عهده، أو نفض من شروط الهدنة يده، فالرسم أن يصدّر ما يكاتب به بالحمد لله تعالى على موهبته في إظهار الدين، وإعزار المسلمين، وما تكفّله من النصر على الباغين، ووعد به أهل العدل من الإدالة والتّمكين، والصلاة على سيدنا محمد النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين، وإيراد طرف من معجزاته وفضائله، وآياته ومناقبه التي تنخرط في هذا النظام، وتليق بهذا النّمط من الكلام، ثم يتبع ذلك بمقدّمة تدلّ على متانة البصائر في الدين، ووثاقة العقائد في إذالة المحادّين، ومضاء العزائم في مجاهدة المعتدين، والاستطالة على المعاندين، مع ما تضمّنه الله تعالى من نصره وإظفاره، ووعد به من تأييده وإقراره، وسهّله من إهواء الأهوية إليه، وجمع الكلمة عليه، بما خوّله من بأس وشدّة، وعديد وعدّة، وما يليق بذلك مما يعرب به عن علوّ السلطان، ووفور الإخوان، واتّساع القوّة والأيد، وصدق العزم والجدّ. ثم يذكر الحال التي انعقدت الهدنة عليها، وأن الإجابة إليها لم تقع قصورا عن غزوهم في عقر دارهم، وتشريدهم بالغارات المبثوثة برّا وبحرا عن قرارهم، وإنما قبولا لمساءلتهم، وامتثالا لأمر الله تعالى في مسالمتهم. ويأخذ في تعديد الوقائع التي أوقعها أهل الإسلام بهم، والمشاهد التي نصرالله تعالى فيها عليهم، والمعاقل المنتزعة من أيديهم، وأن تلك العزائم مضطرمة متوقدة، وتلك السيوف مشحذة مهنّدة، وأن الله تعالى قد أباح حرم من نقض عهده، ونفض من الذّمام يده، وأن كتائب الله موجفة وراء هذا الكتاب، في جيش يلحق الخبت بالهضاب،(8/262)
ما لم يكن منهم مبادرة إلى الإقلاع والإنابة، ومكاتبة في الصّفح والاستتابة، وأنه قد قدّم الأعذار، وبدأ قبل الإقدام بالإنذار، وما يقتضيه الحال من هذا ومثله.
قال: فإن كان الكتاب جوابا عن كتاب ورد، أجيب بما ينقضه، وبني الأمر فيه على ما يبسط الهيبة، ويدعو إلى النزول على أحكام الطاعة. ويختلف الحال في ذلك باختلاف الأمور الحادثة، والأسباب العارضة، فينبغي للكاتب أن يحتاط فيما يطلق به قلمه من هذه المعاني الخطيرة؛ لأنها مزاحمة بالدّول والملك، وحجج تحصل من كل دولة عند الآخرين، ودرك ما يقع فيها عائد عليه، ومنسوب إليه.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن الحافظ لدين «1» الله الخليفة الفاطميّ بالديار المصرية، إلى بهرام»
النّصرانيّ الأرمنيّ الذي كان استوزره، ثم خرج عليه رضوان «3» بن ولخشي، ارتغاما للدين، لتحكّم نصرانيّ في أهل الملة، وولي(8/263)
الوزارة مكانه، ففرّ هاربا إلى الشام ناقضا للعهد، وكتب إلى الحافظ يطلب أهله وجماعته من الأرمن الذين كانوا معه في جملة جند الديار المصرية، مظهرا للطاعة والرغبة إلى التّخلّي عن الدنيا، والانقطاع في بعض الدّيرة للتّعبّد مكرا وخديعة، فكتب له بذلك جوابا عن كتابه الوارد منه. ونصّ ما كتب إليه:
عرض بحضرة أمير المؤمنين الكتاب الوارد منك أيها الأمير، المقدّم، المؤيد، المنصور، عزّ الخلافة وشمسها، تاج المملكة ونظامها، فخر الأمراء، شيخ الدّولة وعمادها، ذو المجدين، مصطفى أمير المؤمنين. ووقف على جميعه، واستولى بحكمه على مضمونه.
فأما ما وسّعت القول فيه وبسطته، وتفسّحت فيما أوردته منه وذكرته، ممّا فحواه ومحصوله ما أنت عليه من الطاعة، والولاء والمشايعة، والاعتراف بنعم الدولة عليك، والإقرار بإحسانها إليك، فلعمر أمير المؤمنين إن هذا الذي يليق بك ويحسن منك، ويحسن أن يرد عنك، ويجب أن يعرف لك، وقد كانت الدولة أسلفتك من حسن الظّنّ قديما، ونقلتك في درجة التّنويه حديثا، حتّى رفعتك إلى أعلى المراتب، وبلّغتك ما لم تسم إليه همّة طالب، وأوطأت الرّجال عقبك، وجعلت جميع أهل الدولة تبعك؛ ممّا أغنى اعترافك به عن الإطالة بشرحه، والإطناب في ذكره.
وأما ما ذكرته مما كان أمير المؤمنين أعطاك التّوثقة عليه، فأجابك منه إلى ما رغبت فيه، فاستقرّ بينه وبينك في معناه ما اطمأننت إليه، فلم يزل أمير المؤمنين على الوفاء باطنا وظاهرا، ونية وعلانية، واعتقاده أن لا يرجع عنه، ولا يغيّر ما أحكمه منه، وإنما حال بينه وبين هذا المراد أن كافّة المسلمين في البعد والقرب(8/264)
غضبوا لملّتهم، وامتعضوا مما لم تجربه عادة في شريعتهم، ونفرت نفوسهم مما يعتقدون أن الصّبر عليه قادح في دينهم، ومضاعف لآلامهم، وأنه ذنب لا يغفر، ووزر لا يتجاوز ولا يصفح [عنه] حتّى إن أهل المشرق أخذوا في ذلك وأعطوا، وعزموا على ما اتفقوا عليه ممّا صرفه الله وكفى مؤونته والاشتغال به.
وأما ما التمسته من تسيير من بالباب من طائفتك إليك، فهذا أمر لا يسوغ ولا يمكن فعله، ولو جاز أن يؤمر به لمنع المسلمون منه فلم يفسحوا فيه. والآن فلن يخلو حالك من أحد قسمين، إما أن تكون متعلّقا بأمور الدنيا وغير منفصل عنها، فأمير المؤمنين يخيّرك في ولاية أحد ثلاثة مواضع، إما قوص، أو إخميم، أو أسيوط، فأيّها اخترت ولّاك إيّاه، وردّ أمره والنظر فيه إليك، على أن تقتصر من الذين معك على خمسين أو ستين فارسا، وتسيّر الباقين إلى الباب ليجروا على عاداتهم، ورسومهم في واجباتهم وإقطاعاتهم، إذ كانوا عبيد الدولة ومتقلبين في فضلها، وأكثرهم متولّدون في ظلّها. وإما أن تكون على القضية التي ما زلت تذكر رغبتك فيها وإيثارك لها، من التّخلّي عن الدنيا ولزوم أحد الدّيرة، والانقطاع إلى العبادة، فإن كنت مقيما على ذلك فتخيّر ضيعة من أي الضّياع شئت يكون فيها دير تقيم فيه وتنقطع إليه، فتعيّن الضيعة ليجعلها أمير المؤمنين تسويغا لك مؤبّدا، وإقطاعا دائما مخلّدا، وتجري مجرى الملك، ويكتب لك بذلك ما جرت العادة بمثله، مما تطمئن إليه وتستحكم ثقتك به. وإن أبيت القسمين المذكورين ولم يرضك الأوّل منهما، ولا رغبت في الثاني، فتحقّق أن المسلمين بأجمعهم، وكافّتهم وأسرهم، وكلّ من يقول بالشهادتين، من قاص ودان، وقريب وبعيد، وكبير وصغير، ينفرون إليك، ويتّفقون على القصد لك، ولا يختلفون في التوجّه نحوك، وهو عمل دينيّ، لا يريّثه أمر دنيويّ، فتأمّل ما تضمنته هذه الإجابة من الأقسام، وطالع بما عندك في ذلك.
قلت: وهذا الصّنف من المكاتبات السلطانية لا وجود له في زماننا لعدم وقوع الهدن المترتب عليها هذا الصّنف من المكاتبات، فإن احتيج إلى ذلك مشّاه الكاتب على القاعدة القديمة المتقدّمة.(8/265)
الصنف السادس (من الكتب السلطانية، الكتب إلى من خلع الطاعة)
قال في «موادّ البيان» : وهذه الكتب تختلف رسومها بحسب اختلاف أقدار المكاتبين وأحوالهم في الخروج عن الطاعة. قال: وجمع أوضاعها كلّها في قانون كلّيّ عسير المرام، إلّا أننا نرسم فيها رسوما يمكن الزيادة فيها والنقص منها.
ثم قال: والعادة أن تنفذ هذه الكتب إلى من ترجى إنابته، وتؤمل مراجعته. فأما من وقع الإياس من استصلاحه، ودعت الضرورة إلى كفاحه، فلا حاجة إلى معاتبته، ولا وجه لمكاتبته.
قال: والرسم فيها أن تفتتح بالتحميد المناسب لمعنى الكتاب، والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بما يدعو إلى إيناسه، ويزيل أسباب استيحاشه، ويعود بثبات جاشه، ويبعثه على مراجعة فكره، ومعاودة النّظر في أمره، ويذكّره ما أسدي من العوارف إليه، وأفيض من النّعم عليه، وأنه لا ينفّر سربها بجحدها وكفرها، ويوحش ربعها بإهمال حمدها وشكرها، ويربطها بحسن الطاعة ويسترهنها بالتأدّب في التّباعة، ولا يجرّ الوبال إلى نفسه بالخروج عن العصمة، في عاجل ذميم الوصمة وفي آجل أليم النّقمة، ويبصّره بعاقبته ومن يليه من ذوي الجند بما يقتضي ربّ الإنعام لديهم، وإقرار الفضل عليهم، وأن يسلبهم ملبس الظّل الظليل، وأن يعطّلهم من حلي الرّأي الجميل، ويتدرّع في أثناء ذلك بشعار النّفاق، ويتّسم بميسم الشّقاق، ويتعجّل إزعاجه من داره، وبعده من قراره، وهدم ما شيّده الإخلاص من ذكره، وتقويض ما رفعته الطاعة من قدره، ويعود بعد أن كان مجاهدا عن الحوزة مجاهدا بمحتدّها، وبعد أن كان مراميا عن السّدّة مرميّا بيدّها، ويضيع ما أسدي إليه، وأفيض من الإحسان عليه، وما ذهب من اليقين في تدريجه إلى مراقي السيادة، ومن الرغائب في إلحاقه بأهل السعادة، ولا يغترّ بمن يزيّن له عاجل الآجل، ويتقرّب إليه بخدع الباطل، ويجعل أقوالهم دبر سمعه، ويبعد أشخاصهم عن نظره، ناظرا في عاقبته، وحارسا مهجته، وراغبا في حقن دمه، وصيانة حرمه، وليرجع إلى الفناء الذي لم يزل يحرزه، والكنف الذي لم يزل(8/266)
يعزّه، ولا يجعل مسالمه بالعنود منازعا، ومواصله بالجحود مقاطعا، وواهبه بالكفر سالبا، ومطلع النعمة بضياعه حقّها مغربا، وقد بقي في الحبل ممسك، وفي الأمر مستدرك، لأن يهبّ من رقدته، ويستبدل من لقاء أمير المؤمنين بلقاء حضرته. ثم يقول: فإن كان ما جناه قد هدّ سربه، وكدّر شربه، وأحسّ في نفسه سوء الظن، وأخافه بعد الأمن، فليبعث رسوله يستوثق ويعاقد، ويتوكّد ويعاهد، فإذا عاد إليه بما يملأ فؤاده أمنا، ويكون عليه حصنا، سارع إلى امتثال المراسم، وجرى في الطاعة على سننه المتقادم، ولا يستمرّ على المدافعة والمطاولة، ويقتصر على المغايظة والمماطلة.
ثم يقال بعد هذا: وقد قدّم أمير المؤمنين كتابه هذا إليك نائبا عنه في استصلاحك، وقائدا يقودك إلى طريق نجاحك، قبل تجريد مواضيه، وإلحاق مستأنفه في الحرب بماضيه، وخيوله تجاذب الأعنّة، وذوابله مشرعة الأسنّة، ولم يبق إلّا قصدك في عقر دارك التي بوّأكها، وانتزاع نعمته التي أعطاكها، لتذوق مرارة المخالفة، وتزنها بحلاوة الموافقة، فكن على نفسك لنفسك حاكما، ولا تكن لها ظالما، ونحو ذلك مما يليق به.
وإن كانت المكاتبة إلى رجل قد سبقت له سابقة بخلع الطاعة، ثم سأل الإقالة فأقيل بعد مشارفة الإحاطة به والنّكاية فيه، ثم راجع العصيان، فالرسم أن تفتتح بحمد الله جاعل العاقبة للمتقين، والعدوان على الظالمين، والعزّة لحزبه، والذّلّة لحربه، والإظهار لأهل طاعته، والخسار لأهل معصيته، ودائرة السّوء على الخالعين طاعة خلفائه، القائمين بحجّته. ثم يقال: أمير المؤمنين على ما يراك تتخوّله به من تصديق آماله، وتوفيق أفعاله، وتسديد مراميه، وهداية مساعيه، وإجابة دعوته، وتحقيق رغبته، بإدالة مواليه، وإذالة معاديه، ومعونته على ما ولّاه، وتمكينه ممن ناواه، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد نبيه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ثم يؤتى بمقدّمة تدل على جميل عاقبة الطاعة، وذميم مغبّة المعصية، يبسط(8/267)
القول عليها، ويتوسع فيها، لتكون فراشا لما يتلوها. ثم يقال بعدها: وإنما يحمل ذلك أهل الغرارة الذين لم يلوكوا شكائم التّجارب، ولم يمارسوا ضرائم النوائب، وأنت فقد تذوّقت من كراهة المعصية ومرارتها، وعذوبة الطاعة وحلاوتها، ما يرجو أمير المؤمنين أن يكون قد وعظك وأدّبك، وقوّمك وهذّبك، وكشف لك عن عاقبتهما، وعرّفك بغايتهما، فدعتك الطاعة إليها بما أسبغته عليك من لباس شرفها ومجدها، واستخدمته لك من أنصار إقبالها وسعدها، ونهتك المعصية عنها بما بلوته من نوائبها وصنائعها، وجرّبته من مرمض مراميها ومواقعها، لأنها أقلّت عددك، ومزّقت مطرفك ومتلدك، حتّى تداركك من عطف أمير المؤمنين ما أنبتك بعد الحصد، وراشك بعد الحصّ، وانتهى إلى أمير المؤمنين أنك حنيت إلى أتباع الضلالة الذين غرّوك، وملت إلى أشياع الفتنة الذين استهووك، فأصغيت إلى أقوالهم التي ظاهرها نصح وباطنها غشّ، وآرائهم التي مواردها صلاح ومصادرها فساد، وملت إلى معاودة الشّقاق والارتكاس في العصيان، ومقابلة النّعمى بالكفران، فقدّم كتابه إليك مذكّرا، ومنحك خطابه معذرا منذرا، ليعرّفك حظّك، ويهديك رشدك، [ويدلّك] على الأحسن لك في مبدئك وعاقبتك، ويحذّرك من مراجعة ما قارفته، وأن تنزل عن المنزلة التي رقّاك إليها، وتجدب رباعك من النعمة التي أرتعك فيها، وتتخلّى عن مرابع الدّعة التي أوردك عليها، فانظر لنفسك حسنا، وكن إليها محسنا، وانتفع بمراشد أمير المؤمنين، ولا تفسدنّ بخلافك عن أمره نصيبك من الدّنيا والدين، فارجع إليه مسترغما فإنه يقتدي بالله في الرحمة للمحسنين، ما دام مؤثرا لربّ النعمة لديك، وإقرارها عليك. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
قال: وإن كانت المكاتبة إلى رعيّة قد خرجت عن الطاعة كتب إليها بما مثاله:
أما بعد، وفّقكم الله لطاعته، وعصمكم من معصيته، فإنّ الشيطان يدلي الإنسان بغروره، ويقيم له الضلال في صورة الهدى ببهتانه وزوره، مستخفّا لطائشي الألباب، ومستزلّا للأقدام عن موقف الصواب، محسّنا بكيده(8/268)
لاعتقاد الأباطيل، مزيّنا بغيّه اتّباع الأضاليل، صارفا بمكره عن سواء السبيل، مصوّرا للحق في صورة المين «1» ، مغطّيا على القلوب بشغاف الرّين «2» ، والحازم اليقظ من تحرّز من أشراكه وحبائله، وتحفّظ من مخايله وغوائله، واتّهم هواجس فكره، واستراب بوساوس صدره، وعرض ما يعرض له على عقله، وكرّر فيه النظر متحرّزا من مكر الشيطان وختله، فإن ألفاه عادلا عن الهوى، مائلا إلى التقوى، بريئا من خدع الشيطان، آمنا من عوادي الافتتان، أمضاه واثقا بسلامة مغبّته وعاقبته، وشمول الأمن في أولاه وأخراه.
وانتهى إلى أمير المؤمنين أن الشيطان المريد استخفّ أحلام جماعة من جهّالكم، واستولى على أفهام عدّة من أراذلكم، وحسّن لهم شقّ عصا الإسلام، ومعصية الإمام، ومفارقة الجماعة، والانسلاخ من الطاعة التي فرضها الله تعالى على الجمهور، وجعلها نظام الأمور، فقال جلّ قائلا: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
«3»
واختيار الفرقة التي نهى الله عنها.
فقال: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات «4»
ومجانبة الألفة التي عدّها في جلائل نعمه، فقال ممتنّا بها على عباده: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا «5»
وسوّل لهم التّعرّي من آداب الدين، والمجاهرة بالخلاف على أمير المؤمنين، فنبذوا ما بأيديهم من بيعته، وسلبوا من ظلّ دعوته، وركبوا من ذلك أوعر المراكب، وسلكوا أخشن المسارب، وسعوا في البلاد بالفساد، وقاموا في وجه الحقّ بالعناد، واستخفّوا بحمل الآثام، وبسطوا أيديهم إلى الدّماء الحرام، وشنّوا(8/269)
الغارات على أهل الإسلام.
وقد علمتم أن من أقدم على تأثير مثل هذه الآثار، فقد استنزل في هذه الدار سخط الجبّار، وتبوّأ في الآخرة مقعده من النار، وجرى على غير الواجب في إقامة الفروض والصّلوات، وتأدية العبادات والزّكوات، وعقد العقود والمناكحات؛ لأن هذه الأحوال إنّما ترضى وترفع، وتجاب وتسمع، إذا تولّاها أمير المؤمنين، أو من يستخلفه من صلحاء المسلمين، فأما إذا استبددتم فيها بأنفسكم، واقتديتم في تأديتها بناكب عن سبيله، مجانب لدليله، فقد تسكّعتم في الضلالة، وتطابقتم على الجهالة، وكلّ راض منكم بذلك، عاص لله ورسوله وللإمام.
ولما اطّلع أمير المؤمنين على ما ذهبتم إليه بسوء الاختيار، وركبتموه من مراكب الاغترار، لم ير أن يلغيكم ويهجركم، ويغفلكم ولا يبصّركم، فقدّم مكاتبتكم معذرا منذرا، ومخوّفا محذّرا، وبدأكم بوعظه مشفقا عليكم من زلّة القدم، وموقف النّدم، وجاذبا لكم عن مضالّ الغواية، إلى مراشد الهداية، وافتتحكم باللّفظ الأحسن، والقول الألين، وهداكم إلى السبيل الأوضح، والمتجر الأربح، واختار أن يهديكم الله تعالى إلى طريق الرشاد، ويدلّكم على مقاصد السّداد، ويعيدكم إلى الأولى، ويبعثكم على الطريقة المثلى، وأن تعرفوا الحقّ فتعتصموا في أيديكم من بيعته، وتقوموا بما فرض عليكم من طاعته، وترجعوا إلى إجماع المسلمين، وما اتفقت عليه كلمة إخوانكم في الدّين، وتتّبعوا مذاهب أهل السلامة، وأولي الاستقامة، فإن وقع ما ألقاه إليكم الموقع الذي قدّره فيكم، وسألتم الإقالة، فالتّوبة تنفعكم، والعفو يسعكم، وإن تماديتم في غيّكم وباطلكم، وغروركم وجهلكم، تقدّمت إليكم جيوش أمير المؤمنين مقوّمة، ومن عصاتكم منتقمة، وذلك مقام لا يتميز فيه البريء من السقيم، ولا الجاهل من العليم، ألا تسمعون الله تعالى يقول: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة «1»
؟ وأيّ فتنة أشدّ من طاعة الشيطان، ومعصية السلطان، وشقّ العصا،(8/270)
وإراقة الدّما، وإثارة الدهما؟ فاتّقوا الله وارجعوا، وتأملوا وراجعوا، وتبصّروا واستبصروا، وقد أوضح لكم أمير المؤمنين المحجّة، وبدأكم بالحجّة، فأوجدوه السبيل إلى ما ينويه لكم ولكافة أهل الإسلام، من حقن الدماء، وصيانة الحريم، وتحصين الأموال، وشمول الأمن والأمان، وأجيبوا عن كتابه هذا بما يوفّقكم الله تعالى [إليه] ، من إجابة دعائه والعمل برأيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة ما كتب به عبد الحميد إلى بعض من خرج عن الطاعة، وهو:
أما بعد: بلغني كتابك تذكر أنك تحمل المرد على الجرد، فسترد عليك جنود الله المقرّبون، وأولياؤه الغالبون، ويرد عليك مع ذلك حزبه المنصور من الكهول، على الفحول، كأنّها الوعول، تخوض الوحول، طوال السّبال، تختضب بالجربال، رجال هم الرجال، بين رامح وناشب، ليس معهم إلّا كلب محارب، ولا ينكلون عن الأصحاب، قد ضروا بضرب الهام، واعتادوا الكرّ والإقدام، ليسوا بذوي هينة ولا إحجام، يقضون بالسيوف، ويخالطون الزّحوف، في أعنّتهم الحتوف، يزأرون زئير الأسود، ويثبون وثوب الفهود، ليس فيهم إلا شاك محتبك، في الحرب مجرّب، قد شرب على ناجذ الحرب وأكل، ذو شقشقة «1» وكلكل «2» ، كأنّما أشرب وجهه نقيع الحنّاء، قد رئم الحرب ورضعها، وغذّته وألفها، فهي أمّه وهو ابنها، يسكن إليها ويأنس بقربها، فهو بطلبها أرب، وعلى أهلها حرب، لا يروعه ما يروع، ولا يزيغه ما يزيغ الغمر الجبان، حين(8/271)
يشتدّ الوغى، وتخطر القنا، وتقلّص الشّفاه، وتسفر الكماه، فعند ذلك تسلمك المرد، وتكشف عن الجرد. فتأهب لذلك اّهبتك، واخطب له خطبتك، من المساكين والحوكة «1» ، ثم كيدوني جميعا فلا تنظرون؛ فما أسرنا إكثارك الجموع، وحشدك الخيول، فإنك لا تكثّف جمعا، ولا تسرّب خيلا، إلّا وثقنا بأن سيمدّنا الله من ملائكته، ويزيدنا من نصره، بما قد جرت به سنّته، وسلفت به عادته، ونحن نجري من ذلك على نقمات من الله ونكال وسطوات مهلكة، فرأيتم ذلك في المنازل، وعرفتموه في المواطن التي يجمعها الحقّ والباطل، فأبشر منا بما ساءك ضجرا، ومشّاك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش.
ومن أحسن الكتب المكتتبة في هذا الباب ما كتب به قوام الدّين (يحيى بن زيادة) وزير أمير المؤمنين الناصر لدين «2» الله الخليفة ببغداد إلى (طغرل) مقطع البصرة بأمر الخليفة له في ذلك، وقد بلغه أنه نزح عنها، قاصدا بعض الأطراف، مفارقا لطاعة الخليفة، عندما طلب من ديوانه شيء من المال، فأوجب ذلك انثناءه عن عزمه وتوجّهه إلى بغداد داخلا تحت الطاعة، ومقابلته بالصّفح وتلقّيه بالقبول.
وهذه نسخته:
أصدرت هذه الخدمة إلى الجناب الكريم، الأميريّ، الاسفهسلاريّ،(8/272)
الأجليّ، الكبيريّ، السّيّديّ، العماديّ، الرّكنيّ، الظّهيريّ، المحترميّ، العزّيّ، الجماليّ، أمير الجيوش، أطال الله بقاءه، وأدام علوّه ونعمته، وأنا أوقع الأقوال المتواترة، والأموال المتناصرة، مستغربا لها، متعجّبا منها، كأني أسمعها في المنام، وتخاطبني بها أضغاث أحلام، فلولا أن الأيام صحائف العجائب، ولا يأنس بمتجدّداتها إلّا من حنّكته التّجارب، لم أصدّق هذه الحركة المباركة التي وقعت منه بسعادته، فإنّي ما أراها إلّا عثرة من جواد، وعورة على كماله، وإلّا فمن أين يدخل الزّلل على ذلك الرّأي السديد، والعقل الراجح، والفكر الصائب؟ الذي يعلّم الآراء كيف تنير، ويعرّف النجوم كيف تسير، ويهدي غيره في المشكلات إلى صواب التدبير. والفائت لا كلام فيه، غير أن العقل يقضي باستدراك الممكن وتلافيه، بالانحراف عن الهوى إلى الرّأي الصادق، والرّجوع عن تأويل النفس إلى مراجعة الفكر الناضج، فالعود إلى الحق أولى من التّمادي على الباطل، وأحبّ أن تسمع ما أقول بأذن واعية وقلب حاضر، وحوشي أن تستدفعه الكواذب عن تدبّر الحقائق، وعرفان النصائح، فإنّ من القول ما هانه لا يحتاج إلى شاهد من غيره.
قبل كلّ شيء، ما الّذي أحوج إلى هذه الحال القبيحة السّمعة، وركوب الخطر في هذه الحركة، واحتمال هذه المشاقّ، والانزعاج من غير أن تدعو إليه حاجة؟ هل هو إلّا شيء جرت العادة بمثله، وبمطالبة ديوانه بما كان يندفع الأمر ببعضه كما جرت عادة الدواوين، وخدم السلاطين؟ ثم إنّه عمد- أدام الله نعمته- بأوّل خاطره، وباديء رأيه في هذه العجلة، من غير تثبت ولا رويّة. لم لا راجع فكره الكريم، ويقول لنفسه: إلى أين أمضي؟ ولمن أخدم؟ وعلى أيّ باب أقف؟
وتحت أيّ لواء أسير؟ وبأيّ غبار أكتحل؟ وفضل من أطلب؟ وعلى حكم من أنزل؟
بعد أن ربّيت في عرصة الخلافة، ودار النبوّة، وحضن المملكة، أنشأني نعيمها صغيرا، وقدّمني كبيرا، وكنت مأمورا فجعلني أميرا، وطار صيتي في الدنيا ولم أكن شيئا مذكورا، فأنا خير من ملك أقصده، وأمثل من كلّ من أرجوه وأستنجده، أفأنزل من السّماء إلى الحضيض، وأهدم ما بنى الإنعام عندي في الزمن الطويل العريض؟! هذا هو المكروه الأعظم، الذي تعوّذ منه رسول الله صلّى الله عليه(8/273)
وسلّم، حين قال: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الحور بعد الكور» ومن يكون حضين خلافة كيف يرضى أن يكون تابع إمارة؟ ولو لم يكن ما هجم عليه إلّا هذا لكفى.
ثم لم لا يلتفت في هذه الحال التي هو عليها، التي صحبته بوفائها، ويسمع خطابها بلسان حالها ثمّ؟ تقول له: يا عماد الدين، أما هذه خيام الإنعام عليك؟ أما هذه الخيل المسوّمة تحتك؟ أما هذه ملابسه الفاخرة مفاضة عليك؟ أما هذه مماليكه حافّة بك؟ أليس الاصطناع رفع قدرك إلى المنزلة التي ثقل عليك بعض الانحطاط عنها، ووهب لك الهمة التي أبيت الضّيم بها؟ فحوشيت أن تكون ممّن تواترت عليه النعم فملّها، وتكاثرت عليه فضعف عن حملها، فياليت شعري! ماذا يكون جوابها؟ والله إنني أقول له بسعادته ولا أعقّب، ولو أنه قد تحقّق- والعياذ بالله- وقوع كلّ محذور، وحلول كلّ مكروه، لم يكن في هذه الحركة معذورا، فكيف بظنّ مرجّم، وقول مسوّف متوهّم، ورأي فطير غير مختمر. ولقد كان استسلامه لمالك الرّقّ- صلوات الله عليه وسلامه- أحسن في الدنيا وأحمد في العقبى، واقعا ذلك من أحواله حيث وقع. والآن فالوقت ضاق في إصدار هذه المكاتبة، عن استقصاء العتاب والمحاققة، وإيراد كلّ ما تلزم به الحجّة، لكنّي أقول على سبيل الجملة:
إنني أخاف على سديد ذلك الرّأي إجابة داعي الهوى، فإنّ اللّجاج من أوسع مداخل الشّيطان على الإنسان، وحوشي كماله من هذا القسم.
والثاني استشعاره بسعادته من بادرته، واستيحاشه من عجلته، وهذا أيضا من أدقّ مكايد النّفس الأمّارة بالسّوء، فإنها تؤمّن من المخوف، وتخوّف من المأمون، وتسحر العقل بالتحيّر والشّك، فلا تصحّ له عزيمة، ولا تصفو له فكرة، وهذا النّوع إذا عرض في الصّدر يجب دفعه بالنّظر إلى الحقّ وشجاعة القلب، والإخلاد إلى مناظرة النّفس، فإنّ الإنسان ليس بمعصوم، والزّلل في الرّأي ليس من أوصاف الجماد، بل من الأوصاف اللازمة للبشريّة، وليس الكمال لأحد إلا للواحد الصّمد. فإذا عرض له بسعادته هذا الاستشعار، فيدفعه عن نفسه، فليس سلطان الوسواس الخنّاس، إلّا في صدور النّاس، فلهذا لا ينبغي لمذنب أن(8/274)
يقنط، ولا لمسيء أن يستوحش، لا سيّما إذا أتبع الذّنب بالاستقالة والاستغفار، والاعتذار والإقلاع، وعلى الخصوص إذا كانت الخيانة عند من لا يتعاظمه عفوها، ولا يضيق حلمه عنها، فإن كلّ كبيرة توجب المخافة، تغرق في بحر عفو الخلافة، فيجب أن يقرّر بسعادته ذلك في نفسه، ويخرج سوء الظّنّ والاستشعار من خياله، فإن مثله من خلصان المماليك لا يسمح به، ولا يشغب عليه عند هفوة بادرة.
والثالث الانقباض والحياء. فإنه ربّما يقول في نفسه: بأيّ وجه ألقى مولاي؟ وبأيّ عين أبصر مواطن الدّار العزيزة؟ ربّاني وأنشاني!. وهذا أيضا لا يصلح خطوره بباله في هذا المقام، فإنّه من ضعف النّحيزة، والميل مع خوادع الطّبع، عن نصائح العقل والشّرع، فإن الحياء إتباع زلّة القدم بالنّدم والاعتذار، لا «1» التّهوّك في اللّجاج والإصرار. فقد قال بعض الملوك لخصيص من خواصّه، عصاه في شيء من أمره: «بأيّ عين تلقاني وقد عصيت أمري؟» فقال:
«بالعين التي ألقى بها ربّي في الصّلوات الخمس، وهو سبحانه يراني على فواضح المعاصي» . وقد أثنى الله سبحانه على من أذنب ثم تاب، وشرد عن طاعته ثم أناب. وبحمد الله تعالى ما جرى ما يقتضي فرط الاستشعار. هل هو إلا عبد خاف بادرة مولاه، فتنحّى من مكانه إلى أن يعطف عليه برحمته؟ وليس هذا ببديع، ولا من الصّفح ببعيد. على أنه بسعادته لو أنصف من نفسه لما استشعر.
فكم أخرجت الخزائن الشريفة عليه من الأموال حتّى نبت عرقه، وأورق غصنه، وكبر شأنه، وجميع ضمان البصرة عشر معشار ذلك.
والرابع إصغاؤه- والعياذ بالله- إلى قول من لا ينصحه، ويغويه ولا يرشده، ويتقرّب إليه بمتابعة هواه. وهذا ما لا يخفى عن لمحة النّاقث، ولا يحتاج الإعراض عنه إلى باعث، فقديما قيل: «صديقك من نهاك، وعدوّك من أغراك»(8/275)
والله تعالى يوفّقه لتحقيقه النّظر في هذه الأقسام الأربعة، التي أحذرها عليه، وأحذّره منها، وييسّره لليسرى.
وبعد ذلك فأنا أنصفه من نفسي، وأقول الحقّ: إن نفسا ربّاها خليفة الله في أرضه- صلوات الله عليه وسلامه- بإنعامه، وأعلى همّتها باختصاصه، وشرّفها بنسب عبوديّته، لا تحتمل الهوان، ولا تقرّ على الابتذال، فغالب ظنّي أنّ نفوره بسعادته إنما هو من ديوان الزّمام المعمور. والآن فأنا وهو بسعادته عبدان، ولكنّي أنفرد عنه بالسّنّ والتّجريب، وطريقتي هو بسعادته يعرفها، وإنّني لا أدّخر عن أحد نصحا. فالصواب أن يقبل قولي، ويتحقق صحّة مقصدي في نصيحته ومقصده، فإني أوجب ذلك له على نفسي، وأراه من واجبات خدم مالك الرّق- صلوات الله عليه وسلامه- أيضا.
وقد علم الله تعالى أني قد أوضحت من عذره، وأحسنت المناب عنه بسعادته، ما لو حضره وتولّاه بنفسه لما زاد عليه، ورأيت الإنعام يستغني عن كلّ شرط ولا يحتاج إليه، وتقرّرت قاعدته بسعادته أن لا يكون له مع ديوان الزّمام المعمور حديث، ولا مع غيره ممّن لا يعرف حقّه، ولا من الاحترام واجبه، فإن أمر أن أتولّى وساطته فأنا أعتمد ذلك في مراضيه، وتمشية أمره أكثر ممّا في نفسه. وإن اختار بسعادته أن يكون غيري وسيطه وسفيره، فيعين من يختاره، ليكون حديثه معه. وقد أسلفت من وظائف إحسان المناب أنني تنجّزت له بسعادته أمانا متوّجا بالقلم الأشرف المقدّس، على نفسه الكريمة وماله وأولاده- والأمان المذكور طيّ كتابي هذا- مقرونا بخاتم أمان ثان، فيجب أن يكون هو بسعادته جواب ذلك. إذ لا يجوز أن يكون الجواب إلّا هو بنفسه الكريمة، فلا يشعر به أحد إلّا وهو مقابل التّاج الشريف، ملقيا نفسه بين يدي مالكها الذي هو أرحم لها، وألطف بها، وأشفق عليها منها، تاليا ما حكاه القرآن المجيد عن يونس عليه السّلام، إذ نادى وهو مكظوم: سبحانك إني كنت من الظالمين
«1» فإنّه يرى-(8/276)
بمشيئة الله تعالى وتوفيقه- كلّ ما يحبّ، ويأمن كلّ ما يحذر. وأنا أستسرع وصوله عن استعراض مهمّاته، ولرأيه كرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: فإن اتفقت المكاتبة في معنى ذلك في زماننا، راعى الكاتب فيه صورة الحال، وجرى في ذلك على ما يلائم حاله، ويناسب ما هو فيه، مع النظر في كلام من سبقه إلى شيء من ذلك، والنّسج على منوال المجيد، والاقتداء بالمحسن في إيراده وإصداره.
الصّنف السابع (الكتب في الفتوحات والظّفر بأعداء الدّولة وأعداء الملة، واسترجاع المعاقل والحصون، والاستيلاء على المدن)
وأصلها من فتح الأقفال ودخول الأبواب، كأنّ المدينة أو الحصن كان مقفلا ممتنعا بالأغلاق على قاصده حتّى يفتح له فيدخل.
قال في «موادّ البيان» : وهو من أعظم المكاتبات خطرا، وأجلّها قدرا، لاشتمال أغراضها على إنجاز وعد الله تعالى الذي وعد به أهل الطاعة في إظهار دينهم على كل دين، وتوفير حظّهم من التأييد والتّمكين، وما يمرّ فيها من الأساليب المختلفة التي يشتمل هذا القانون عليها.
قال: والكاتب يحتاج إلى تصريف فكره فيها، وتهذيب معانيها؛ لأنها تتلى من فوق المنابر على أسماع السامعين، وتجعل نصب عيون المتصفّحين.
ثم قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله العفوّ الحليم الغفور الرحيم، العليم الحكيم، ذي البرهان المبين والفضل الجسيم، والقوّة المتين والعقاب الأليم، مبيد الظالمين، ومبير القاسطين، ومؤيّد العادلين، وجاعل العاقبة للمتّقين، المملي إمهالا وإنذارا، والمعاقب تنبيها وإذكارا، الذي لا ينجي منه مهرب، ولا يبعد عليه مطلب، وكيف يعتصم منه وهو أقرب من حبل الوريد، وله على كلّ لافظ رقيب وعتيد؟. والصلاة على رسوله الأمين، الذي ختم به النّبيّين،(8/277)
وفضّله على المرسلين، وأيده بأوليائه التّائبين، الذين قاموا في نصرته، وإعزاز رايته، المقام الذي فازوا فيه بالخصل، فاستولوا به على قصبات الفضل، فشركهم معه في الوصف والثناء، فقال جلّ قائلا: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
«1» ثم يؤتى بمقدّمة تشتمل على التّحدّث بنعمة الله في شحذ العزائم لنصرته، وتثبيت الأقدام في لقاء عدوّه ومجاهدته، وإنجازه وعده في الإعزاز والإظهار، والظّفر والإظفار، والاستبشار بموقع النّعمة في الفتح الجليل، والإشادة بإبقاء هذا الأثر الجميل. ثم يفيض بما جرت العادة به في مقاربة العدوّ ومداناته، وبثّ الطّلائع لتنفيذ السّرايا في مبادي ملاقاته، وما أفضى إليه الأمر في التّقابل والمواثبة، والتّواشج في المطاعنة والمضاربة، وذكر مواقف الشّجعان في الكفاح والمجاهدة، والذّبّ والمجالدة، وثبوت الأقدام، والجود بالنّفوس، واشتداد الأيدي، وقوّة الشّكائم، واستصحاب العزائم، وتفخيم أمر العدوّ، بوصفه بكثرة الرّجال والأجناد، والقوّة والاستعداد؛ لأنّ توقّع الظّفر بمن هذه صفته أعظم خطرا، وأوقع في النفوس أثرا.
ثم يذكر ما جال بين الفريقين من قراع ومصاع، ومضاربة ودفاع، ومصاولة ومناضلة، ومناهدة ومكافحة، وحماية ومنافحة، وثبات ومصاففة، ومقاومة ومواقفة، ومخادعة ومطامعة، وينعت المواكب والكتائب، والخيول والأسلحة، والجرحى والمجدّلين، والأسرى والمقتّلين. واستعمال التشبيهات الفائقة، والاستعارات الرّائقة، وإرداف المعاني في الإبانة عن لمعان أسنّة الذّوابل، وبريق صفحات المناصل، وإعمال المقاصل في القمم، وظهور نجوم السّيوف من ليل الحرب في دياجي الظّلم، وينعت الدماء المنبعثة من الجراح، على متون الرّماح والصّفاح.(8/278)
ويذكر ما أظهره الله تعالى من تكامل النّصر ودلائل الظّفر، وما انجلت عنه الحرب من قتل من قتل وأسر من أسر، وهزيمة من هزم، وما فاز به الرجال من الأسلاب والأموال، والدّوابّ والرّجال، وما جرت عليه الحال من انفلال العدوّ عند المقاتلة، أو أسر العدوّ إن أسر، أو اعتصامه بمعقل لا يحصّنه، أو امتناعه بحيث يحتاج إلى منازلته باستنزاله قسرا، أو حيازة المعقل الذي كان بيده، وما اعتمد فيه من حسن السّيرة، وتخفيف الوطأة عن الرّعيّة وحسم أسباب الفتنة، أو رغبته في المسالمة، وسؤاله في المهادنة؛ لخوف أظلّه، وهلع احتلّه، وما تردّد من رسائل، وتقرّر من شروط وعقود، وإنفاذ الأمر في ذلك كما أوجبه الحزم، واقتضاه صواب الرأي.
وإن كان السّلم قد وقع، والتّنازع قد ارتفع، ذكر اتّفاق الحزبين «1» ، واتّحاد الكلمة، وشمول النعمة.
وإن كان لم يجبه إلى المهادنة، حذرا من المكر والمخادعة، ذكر ما مرّ في ذلك من رأي وتدبير، وتسديد وتقرير.
وإن كان طلب المهادنة ليجد فسحة المهل فيكثّر عدده، ويجم عدده، وتتمّ حيلته، فاطّلع منه على ذلك، فبادره مفلّلا لكيده ومكره، مذيقا له وبال أمره، شرح الحال على نصّها وما انتهى إليه آخرها.
قال: وقد يقع من هذه الأمور ما لا يحتسب، وسبيل جميعه هذا السبيل.
ثم قال: ويختم الكتاب بحمد الله القاضي لأوليائه بالإدالة، ولأعدائه بالإذالة، الذي يستدرج بحلمه إمهالا، ولا يلقى العادل عن حكمه إهمالا، والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله.
وقد تقدّم في الكلام على مقدّمة المكاتبات في أوائل المقالة الرابعة من الكتاب، أن هذه الكتب مما يجب بسطها والإطناب فيها، وأن ما وقع في كتاب(8/279)
المهلّب «1» بن أبي صفرة، من كتابه إلى الحجّاج في فتح الأزارقة من الخوارج، على عظم الفتح وبعد صيته، على سبيل الإيجاز والاختصار، حيث قال فيه:
أما بعد، فالحمد لله الذي لا تنقطع موادّ نعمه عن خلقه حتّى تنقطع منهم موادّ الشّكر. وإنا وعدوّنا كنّا على حال يسرّنا منهم أكثر ممّا يسوءنا، ويسوءهم منّا أكثر مما يسرّهم، ولم يزل الله جل ثناؤه يزيدنا وينقصهم، ويعزّنا ويذلّهم، ويؤيّدنا ويخذلهم، ويمحّصنا ويمحقهم، حتّى بلغ الكتاب أجله. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين
«2» فإنّما سلك فيه سبيل الإيجاز، لكونه من التابع إلى المتبوع، إذ الحجّاج كان هو القائم بأمر العراق وما والاه لعبد الملك بن مروان، على شدّة سطوته، وما كان عليه من قوّة الشّكيمة وشدّة البأس، مع كون الأدب في مكاتبة المرؤوس الرئيس الإتيان بقليل اللفظ الدال على المقصد، حتّى لا يكون فيه شغل للرئيس بطول الكلام وبسط القول، على ما تقدّم بيانه في موضعه.
واعلم أن الكتابة في فتوحات بلاد الكفر ومعاقلهم والاستيلاء على بلاد البغاة تكاد أن تكون في الكتابة «3» على نسق واحد، إلّا أنّ مجال الكاتب في فتوحات بلاد الكفر أوسع، من حيث عزّة الإسلام على الكفر، وظهور دينه على سائر الأديان.(8/280)
وهذه نسخة «1» كتاب بفتح فتحه الخليفة وعاد منه، وهي:
الحمد لله مديل الحقّ ومنيره، ومذلّ الباطل ومبيره، مؤيّد الإسلام بباهر الإعجاز، ومتمّم «2» وعده في الإظهار بوشيك الإنجاز، وأخمد «3» كلّ دين وأعلاه، ورفض كلّ شرع واجتباه، وجعله نوره اللامع، وظلّه الماتع، وابتعث به السراج المنير، والبشير النّذير، فأوضح مناهجه، وبيّن مدارجه، وأنار أعلامه، وفصّل أحكامه، وسنّ حلاله وحرامه، وبيّن خاصّه وعامّه، ودعا إلى الله بإذنه، وحضّ على التّمسّك بعصم دينه، وشمّر في نصره مجاهدا من ندّ عن سبيله، وعند عن دليله، حتّى قصّد الأنصاب «4» والأصنام، وأبطل الميسر والأزلام «5» ، وكشف غيابات الإظلام، وانتعلت خيل الله بقبائل «6» الهام.
يحمده أمير المؤمنين أن [جعله من ولاة أمره، ووفّقه لاتّباع سنّة رسوله واقتفاء أثره، وأعانه على تمكين الدين، وتوهين المشركين، وشفاء صدور المؤمنين و] «7» أنهضه بالمراماة عن الملّة، والمحاماة عن الحوزة، وإعزاز أهل الإيمان، وإذلال حزب الكفران. ويسأله الصلاة على خيرته المجتبى، وصفوته المنتصى، محمد أفضل من ذبّ وكافح، وجاهد ونافح، وحمى الذّمار «8» وغزا الكفّار، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير «9» المؤمنين عليّ بن أبي طالب(8/281)
سيفه القاطع، ومجنّه المدافع «1» ، وسهمه الصّارد، وناصره المعاضد «2» ، فارس الوقائع، ومفرّق «3» الجمائع، مبيد الأقران، ومبدّد الشّجعان، وعلى الطّهرة من عترته أئمة الأزمان، وخالصة الله من الإنس والجان.
وإنّ أولى النّعم بأن يرفل في لباسها، ويتوصّل بالشّكر إلى إيناسها «4» ، ويتهادى طيب خبرها، ويتفاوض بحسن أثرها، نعمة الله تعالى في التوفيق لمجاهدة أهل الإلحاد والشّرك، وغزو أولي الباطل والإفك، والهجوم عليهم في عقر دارهم، واجتثات أصلهم والجدّ «5» في دمارهم، واستنزالهم من معاقلهم، وتشريدهم عن منازلهم، وتغميض نواظرهم الشّوس «6» [وإلباسهم لباس البوس] «7» لما في ذلك من ظهور التوحيد وعزّه، وخمود الإلحاد وعرّه، وعلوّ ملة المسلمين، وانخفاض دولة المشركين، ووضوح [محجّة] «8» الحقّ وحجّته، وصدوع «9» برهانه وآيته.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وقد انكفأ عن ديار الفلانيّين المشركين «10» إلى دست خلافته، ومقرّ إمامته، بعد أن غزاهم برّا وبحرا، وشرّدهم سهلا ووعرا، وجرّعهم من عواقب كفرهم مرّا، وفرّق جمائعهم التي تطبّق سهوب الفضاء [خيلا ورجلا، وتضيق بها المهامه حزنا وسهلا، ومزّق كتائبهم التي تلحق الوهاد(8/282)
بالنّجاد، وتختطف الأبصار ببوارق الأغماد] «1» وتجعل رعود سنابكها في السماء «2» ، وسبى الذّراريّ والأطفال، وأسر البطاريق والأقيال، وافتتح المعاقل والأعمال، وحاز الأسلاب والأموال، واستولى من الحصون على حصن كذا وحصن كذا، ومحا منها رسوم الشّرك وعفّاها، وأثبت سنن التوحيد بها وأمضاها، وغنم أولياء أمير المؤمنين ومتطوّعة المسلمين [من الغنائم] «3» ما أقرّ العيون، وحقّق الظّنون، وانفصلوا وقد زادت بصائرهم نفاذا في الدّين، وسرائرهم إخلاصا في طاعة أمير المؤمنين، بما أولاهم الله من النّصر والإظفار، والإعزاز والإظهار، ووضح للمشركين بما أنزل «4» الله عليهم من الخذلان، وأنالهم إيّاه من الهوان، أنهم على مضلّة من الغيّ والعمى، ومنحاة «5» من الرّشد والهدى، فضرعوا إلى أمير المؤمنين في السّلم والموادعة، وتحمّلوا بذلا بذلوه [تفاديا] «6» من الكفاح والمقارعة، فأجابهم إلى ذلك متوكّلا على الله تعالى، وامتثالا «7» لقوله إذ يقول:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم
«8» وعاقد طاغيتهم على كتاب هدنة كتبه له، وأقره في يده، حجّة بمضمونه.
أشعرك أمير المؤمنين ذلك لتأخذ من هذه النّعمة بنصيب مثلك من المخلصين، وتعرف موقع ما تفضّل الله تعالى به على الإسلام والمسلمين، فيحسن «9» ظنّك، وتقرّ عينك، وتشكر الله تعالى شكر المستمدّ من فضله، المعتدّ بطوله، وتتلو كتاب أمير المؤمنين، على كافّة من قبلك من المسلمين؛ ليعلموا ما تولّاهم الله به من نصره وتمكينه، وإذلال عدوّهم وتوهينه، فاعلم ذلك واعمل به، إن شاء الله تعالى.(8/283)
ثم الفتوح إما فتح لبعض بلاد الكفر، وإما فتح لما استولى عليه البغاة من المسلمين.
فأما فتح بلاد الكفّار فكان سبيلهم فيه أن يصدّر الكتاب بحمد الله تعالى على علوّ دين الإسلام ورفعته، وإظهاره على كل دين، ثم على بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالهداية إلى الدّين القويم، والصّراط المستقيم، ويذكر ما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم من جهاد الكفّار. ثم على إقامة الخلفاء في الأرض حفظا للرّعيّة، وحياطة للبريّة، وصونا للبيضة، ويخصّ خليفة زمانه من ذلك بما فيه تفضيله ورفعة شأنه، ثم يؤخذ في تعظيم شأن العدوّ وتهويل أمره، وكثرة عدده، ووفور مدده، ثم في وصف جيوش المسلمين بالقوّة والاستعداد، والاشتداد في الله تعالى، والقيام في نصرة دينه، ثم تذكر الملحمة وما كان من الوقيعة والتحام القتال، وما انجلت عنه الملحمة من النّصرة على عدوّ الدين وخذلانه، والإمكان منه، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وتفريق شملهم، وانتظام كلمة الإسلام، وطماعيتهم بهلاك عدوّهم، وما في معنى ذلك.
وهذه نسخة «1» كتاب كتب به إلى الدّيوان العزيز، أيام الناصر لدين الله، عن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، بفتح القدس الشريف، وإنقاذه من يد الكفر، في آخر شعبان سنة ثلاث وثمانين وخمسائة، من إنشاء القاضي «2» الفاضل، وهو:
أدام «3» الله أيام الدّيوان العزيز النّبويّ الناصريّ «4» ، ولا زال مظفّر الجدّ بكلّ(8/284)
جاحد، غنيّ التّوفيق «1» عن رأي كلّ رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النّصر والسيف «2» في جفنه راقد، وارد الجود والسّحاب على الأرض غير وارد، متعدّد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلّا بشكر واحد، ماضي [حكم العدل] «3» بعزم لا يمضي إلّا بنبل غويّ وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله [إلى الأولياء] «4» أنواء إلى المرابع «5» وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة تلو ما صدر عنه ممّا كان يجري مجرى التباشير لصبح هذه الخدمة «6» ، والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف تحمّل الشكر «7» فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله «8» في إعادة شكره رضا، وللنعمة الرّاهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبّت «9» عقائد أهله على أبين «10» بصائرها، وتقلّص ظلّ رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلمّا وقع الشرط حصل «11» المشروط، وكان الدّين غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحقّ وكان مستضعفا، وأهل ربعه وكان قد عيف حين(8/285)
عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشّرك راغمة، فأدلجت «1» السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كلّ دين، واستطارت له أنوار أبانت أنّ الصّباح عندها حيان الحين «2» ، واستردّ المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدّقوا أنهم يظفرون به طيفا على النّأي طارقا، واستقرّت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصّخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدّين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنّأ كفؤها الحجر الأسود ببتّ «3» عصمتها من الكافر بحربه. وكان الخادم لا يسعى سعيه إلّا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلّا رجاء هذه النّعمى، ولا يناجز من يستمطله «4» في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من يتمادى «5» في عتبه، إلّا لتكون الكلمة مجموعة، والدّعوة «6» إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدّنيا، وكانت الألسنة «7» ربّما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربّما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر ومن رام صفقة رابحة تجاسر «8» ومن سما لأن يجلّي غمرة غامر، وإلّا فإنّ القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضّها «9» ، ويضعف بأيديها مهز القوائم فتقضّها «10» ، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله(8/286)
في الجهاد، ولا يرعى به حقّ «1» الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوّقه «2» الخادم من أئمّة قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله «3» كانوا في مثل هذا اليوم لله «4» يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرّهم «5» وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيّتهم الشريفة، وطلعتهم «6» المنيفة، وعنوان «7» صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غابوا لمّا حضر، ولا غضّوا لمّا نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولا ومنه مقبولا، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنّت به جنوبها، وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكر لا يزال اللّيل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشّرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نورا من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنّه نور لا تكنّه أغساق «8» السّدف، وذكر لا تواريه أوراق الصّحف.
وكتاب «9» الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدوّ الذي تشظّت قناته شفقا «10» ، وطارت فرقه فرقا، وفلّ سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا وحصا، وكلّت حملاته وكانت «11» قدرة الله تصرّف فيه العيان بالعنان، عقوبة من الله ليس لصاحب يد «12» بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضّت(8/287)
عينه وكانت [عيون] «1» السيوف دونها كسيفة «2» ، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت «3» الأرض المقدّسة الطاهرة وكانت الطّامث، والرّبّ المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشّرك مهدومة [ونيوب الكفر «4» مهتومة] «5» وطوائفه المحامية، مجتمعة «6» على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة لبذل «7» المطامع «8» الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء «9» الأفنية لهم نصرة، وقد «10» ضربت عليهم الذّلّة والمسكنة، وبدّل الله مكان السّيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللّقاة الأولى فأمدّه الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا ينتعش «11» بعدها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت «12» به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسّلاح [والكفّار، وعن أصناف يخيّل بأنّه قتلهم بالسّيوف الأفلاق والرّماح الأكسار، فنيلوا بثار من السّلاح ونالوه أيضا بثار «13» ] ،(8/288)
فكم أهلّة سيوف تقارض «1» الضّراب بها حتّى صارت كالعراجين «2» ، وكم أنجم أسنّة «3» تبادلت الطّعان حتّى صارت كالمطاعين، وكم فارسيّة ركض عليها فارسها الشّهم «4» إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه «5» ، وكان اليوم مشهودا، وكانت الملائكة شهودا، وكان الكفر «6» مفقودا والإسلام مولودا، وجعل الله ضلوع الكفّار لنار جهنّم وقودا. وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدّين وعلائقه، وهو صليب الصّلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما «7» دهموا قطّ بأمر إلّا وقام بين دهمائهم يبسط لهم باعه، ويحرّضهم «8» وكان مدّ اليدين في هذه الدّفعة وداعة، لا جرم أنّهم يتهافت «9» على ناره فراشهم، ويجتمع «10» في ظلّ ظلامه «11» خشاشهم، ويقاتلون «12» تحت ذلك الصّليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد «13» وأوثقه، ويعدّونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه.(8/289)
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت «1» دهاتهم [ولم يفلت منهم معروف إلّا القومص، وكان لعنه الله مليّا يوم الظّفر بالقتال، ومليّا يوم الخذلان] «2» بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرّمح أو «3» جناح السّيف، ثم أخذه الله تعالى بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدّتهم فذلك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مرّ الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الرّاية العبّاسية السّوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي [وعزائم أوليائها] «4» المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر «5» ، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النّصر، فافتتح بلد «6» كذا وكذا وهذه [كلّها] «7» أمصار ومدن، وقد تسمّى البلاد بلادا وهي مزارع وفدن «8» ، وكل «9» هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا، ويحطّ من منائر جوامعها صلبانا ويرفع أذانا، ويبدّل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبوّيء «10» بعد أهل الصّلبان أهل القرآن للذّبّ عن دين الله مقاعد، ويقرّ عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلّق «11» النّصر منه ومن عسكره بجارّ ومجرور، وأن ظفر «12»(8/290)
بكلّ سور ما كان يخاف زلزاله وزياله «1» إلى يوم النّفخ في الصّور.
ولمّا لم يبق إلّا القدس وقد اجتمع «2» إليها كلّ شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كلّ قريب منهم وبعيد، وظنّوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلمّا «3» نازلها «4» الخادم رأى بلدا كبلاد، وجمعا كيوم التّناد، وعزائم قد تألّبت «5» وتألّفت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السّيف وأن تموت بغصّته، فزاول البلد من «6» جانب فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة «7» غريقة، وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد «8» الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع «9» عليها معرّج، وللخيل فيها متولّج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضرب «10» خيمته بحيث يناله السّلاح بأطرافه، ويزاحمه السّور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمّها «11» ضمّة ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها «12» فإذا هم لا يصبرون على عبوديّة الخدّ «13» عن عتق الصّفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدّة وانتظارا(8/291)
لنجدة، فعرفهم الخادم «1» في لحن القول، وأجابهم بلسان الطّول، وقدّم المنجنيقات «2» التي تتولّى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب «3» فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السّور بأكنافه «4» فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النّصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السّماك؛ فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها [صمّ أعلاجها] «5» ورفع مثار عجاجها «6» فأخلى السّور من السّيّارة، والحرب من النّظّارة، فأمكن «7» النّقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته [الأولى] «8» من التّراب، فتقدّم إلى الصّخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحلّ عقده بضربه الأخرق الدّالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصّخرة الشريفة حنينه «9» واستغاثته إلى أن كادت ترقّ لمقبّله «10» وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في «11» السّور بابا سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ ينقب «12» في حجره فقال «13» عنده الكافر:
ليتني كنت ترابا
«14» فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدّور، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور «15»(8/292)
وفي الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم ابن بارزان «1» سائلا أن يؤخذ البلد بالسّلام «2» لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسّطوة، وألقى بيده إلى التّهلكة، وعلاه ذلّ الملكة «3» بعد عزّ المملكة، وطرح «4» جبينه في التراب وكان جبينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح «5» إليه طرق آمل طامح، وقال: هاهنا أسارى مؤمنون «6» يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجّلوا، وثنّي بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك فلم يقتل «7» خصم إلّا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ «8» سيف من يد إلّا بعد أن تنقطع «9» أو ينقصف، وأشار «10» الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنّه «11» إن أخذ حربا فلا بدّ أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد نيل من أوّله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدّم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق «12» الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطّة كان عهده بها دمنة سكّان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أنّ الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحقّ(8/293)
وأسخطهم؛ فإنّهم خذلهم الله حموها بالأسل والصّفاح [وبنوها بالعمد والصّفّاح] «1» وأودعوا الكنائس بها وبيوت الدّيوية والاستبارية «2» منها كلّ غريبة من الرّخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد «3» لألاؤه، وقد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنّن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذّهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلّا مقاعد كالرّياض «4» لها من بياض الترخيم رقراق، [وعمدا كالأشجار لها من التّنبيت أوراق] «5» وأوعز «6» الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمّة من يوفّيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع «7» شهر شعبان فكادت السموات يتفطّرن للسّجوم «8» لا للسجوم، والكواكب [منها] «9» ينتثرن للطّرب لا للرّجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها «10» مسدودة، وظهرت «11» قبور الأنبياء وكانت «12» بالنّجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها [وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها] «13» وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه «14» الأشرف من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ، وخفق علماه في(8/294)
حفافيه، فلو طار به سرورا لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجدّ في استفتاح بقيّة الثّغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصّدور، فإنّ قوى العساكر قد استنفدت مواردها [وأيام الشّقاء قد مردت مواردها] «1» والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها، فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجمّ ولا تستنفد، وينفق «2» عليها، ولا ينفق منها، وتجهّز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرّها «3» ، ويدأب في عمارة أسوارها، ومرمّات معاقلها، وكلّ مشقّة فهي بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة، وأطماع «4» الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنّها لا تسمع، ولن «5» تزول أيديهم من أطواق البلاد حتّى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخّص، ولا بما سوى المشافهة تتلخّص. فلذلك نفّذنا «6» لسانا شارحا، ومبشّرا صادحا، ينشر «7» الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرّة من طليعته إلى ساقته «8»(8/295)
قلت: وقد وقفت على نسخة كتاب كتب به عن المكتفي «1» بالله، عند ما بعث محمد «2» بن سليمان الكاتب إلى الديار المصرية، فانتزعها من يد بني «3» طولون واستولى عليها للخليفة، في نحو كرّاسة، تاريخها سنة اثنتين وتسعين «4» ومائتين، أوّلها: أما بعد فالحمد لله العليّ الكبير، العزيز القدير؛ أضربت عن ذكرها لطولها.
الصنف الثامن (المكاتبة بالاعتذار عن السلطان في الهزيمة)
قال في «موادّ البيان» : من أخلاق العامّة تقبيح سيرة السلطان إذا زلّ في بعض آرائه، والإزراء على تدبيره في جيش يجهّزه فيكسر، ونحو ذلك، مما لا يسلم من مثله، والإفاضة فيه والتشنيع به، فيحتاج إلى مكاتبتهم بما يتلافى الوهن(8/296)
ويقيم العذر، كما يكاتبهم بتفخيم المنح، وتعظيم الفتوحات، والتّحدّث بمواقع المواهب، وشكر الله تعالى على إسباغ النّعم، والإظفار بأعداء الدين والدّولة ليقوّي بذلك منّتهم، ويرهف بصائرهم ويستخلص طاعتهم، ويملأ صدورهم رهبة. قال: وليست لهذه الكتب رسوم ينتظم كلّ ما وقع فيها؛ لاختلاف ما يلام فيه ويعتذر.
ثم قال: ونحن نرسم في أصوله قولا وجيزا، وهو أن يقتضب الكاتب له المعاذير التي تحسّن أحدوثته، وتستر زلّته، والحجج التي تعيد اللائم عاذرا، والذّامّ شاكرا، وتوجب التقريظ من حيث يجب التأنيب، والإحماد من حيث يستحقّ التّذنيب. مثل أن يعتذر عن هزيمة جيش، فيقول: وقد علمتم أن الحرب سجال، والدنيا دول تدال، وقد تهبّ ريح النّصر للقاسطين على المقسطين امتحانا من الله وبلوى، ليجزي الّذين أساءوا بما عملوا ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى، من غير أن يصرّح بباطل، ولا يطلق كذبا محضا، ولا يختلق زورا يعلم الناس خلافه، فتتضاعف الهجنة، وتتكاثف المحنة، فإنه لا شيء أقبح على السلطان، وأقدح في جلالة الشان، من أن يعثر في كتبه على إفك قد يعلمه بعض من يقف عليه، بل ينبغي أن يعتمد في ذلك حسن التّخلّص والتّورية عن الغرض، واستعمال الألفاظ التي تدلّ على أطراف الحال ولا تفصح بحقائقها.
وهذه نسخة كتاب من ذلك:
الحمد لله الذي ساس الأمور بحكمته، وأبان فيها مواقع قدرته، وسلك فيها طريق مشيئته، وصرّفها على ما رآه عدلا بين العباد في أقسام نعمته ومحنته، وأحوال بلواه وعافيته، وجعل الأيام فيهم نوبا، والأحوال بينهم عقبا، فخصّ أولياءه وأهل طاعته بالنّصر في المحاكمة، والصّلح عند المخاصمة، والظّهور على من شاقّهم وعاداهم، والقهر لمن ضادّهم وناواهم، إنجازا لما وعد به الصابرين المحتسبين، وإعزازا للدّين وأنصاره من المؤمنين، ولم يخل أعداءه من دولة أدالها لهم، وجولة على الحق زادها في طغيانهم، ووصل الإملاء لهم فيها بخذلانهم، ليجب الثواب للمحسنين، ويحقّ العذاب على الكافرين. فقال(8/297)
في محكم كتابه- وقد ظهر المشركون على المسلمين- إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس
«1» وقال: ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
«2» وناوب بين الفريقين في المصائب، والمواهب، والمسارّ، والمضارّ، ليشفي الله صدور المؤمنين، وليمحّص ما في قلوبهم، ويوجب لهم إخلاص السرائر في طاعته، والجهاد في سبيله، والنّصرة لرسوله، والمراماة عن دينه، والمدافعة عن حريمه، ضعف الثّواب وحسن المآب، ويحلّ بالمشركين ما أعدّ لهم في دار الجزاء من أليم العذاب.
وإذا كان الحال بين الفريقين المتلاقيين، والفئتين المتجاورتين، والحزبين المتحاكمين، في تعاور الغلبة، وتعاقب الدّولة، جاريا على تقدير الله ومتصرفا على حكمه، ومستوسقا على ما سبق في علمه، فليس يغني في ذلك زيادة عدد، ولا اتصال مدد، ولا قوّةّ أيد، ولا لطف كيد، ولا اختيار وقت محمود للقتال، ولا الانتخاب لأهل البسالة والنّجدة من الرجال، ولا يجب أن يستريث النّصر من أبطأ عنه، ويستشعر الجزع من نال خصمه منه، بعد تحصيله السلامة في نفسه، وقيام العذر له بعنايته وجدّه، وقد جمع الله للأمير من المناقب، التي ورثها عن آبائه، وحازها في صدره، والحيازة فيما بان من فضل بأسه، وثبات جأشه، وأصالة رأيه، وصحّة تدبيره، وإيفائه الحرب شروطها، والهيجاء حقوقها، من الحزم والتّؤدة، والإقدام عند الفرصة، والإصابة في التّقدير والتّعبير، والاحتياط في سدّ مواقع الخلل والعورة، وإعمال النّظر والرّويّة، لولا اعتراض القضاء الذي هو مالك نواصي العباد، وغير مدفوع بمحال ولا جلاد، ولا قوّة ولا عدّة ولا عتاد- ما أوفى حسنه على مزيّة الظّفر، وزاد عظمه في السّناء والخطر، إلى ما شمل عسكره في منقلبه بمراعاته لهم، ومدافعته من ورائهم، حتّى توافى الجمع موفورين، وآبوا سالمين غانمين، وبالله الحول والقوّة وعليه ضمان الإدالة على ما جرى به وعده(8/298)
الصادق، وأخبر عنه كتابه الناطق، وهو حسب أمير المؤمنين وكافيه، وناصره وواليه، ونعم الوكيل والظّهير، والمولى والنّصير، وصلّى الله على سيدنا محمد سيّد المرسلين، وإمام المتّقين، وآله الطيبين أجمعين، وسلّم تسليما.
وفي مثله من إنشاء أحمد بن «1» سعيد:
أحكام الله جلّ جلاله جارية على سبل جامعة لوجوه الحكمة، منتظمة لأسباب الصلاح والمعدلة. فمنها ما عرّف الله أولياءه والمندوبين بطاعته، والمجموعين بهدايته، طريق المراد منه، وسبب الدّاعي إليه، والعلّة فيما قضي من ذلك لحينه، والصّورة المقتضية له. ومنها ما استأثر بعلمه، وطوى عن الخلق معرفة حاله، فهو- وإن أشكل عليهم موضع الحاجة إليه، وموقع العائدة به، ورؤي بهم اضطرابا في ظاهره عند تأمّلهم إياه بمقادير عقولهم، ومبالغ أفهامهم- مبنيّ على أوثق آساس الحكمة، وأثبت أركان الصّواب على الجملة، وكيف لا يكون كذلك؟ والله خالق الأشياء كلّها، وعالم بها قبل كونها، في أحوال تكوينه إياها وبعده في منزع غاياتها ومقتضيّ عواقبها، فليس تخفى عليه خافية، ولا تعزب عنه دانية ولا قاصية، ولا يسقط عن معرفته فصل ما بين الخاطرين والوهمين في الخير والشّر، وما بين الجبلين والدّر بين في الوفور والغمور، فكيف بما يبرزه الظهور، ويخبر فيه عن موضع التدبير، المحتاج فيه إلى إحكام الصّنعة وإتقان التقدير؟ ومن ظنّ أنّ شيئا من ذلك يخرج عن نهج الصواب، ويخالف طريق الصّلاح، فقد ضلّ من حيث ضلّل، وغلط من حيث غلّط، واتّصل سوء ظنّه، وفساد فكره، بالزّراية على فعل ربّه، تعالى عن قول المبطلين، ورجم الشّياطين.
ثم إن لله جلّ جلاله عادة في الجيشين المتحاربين، والحزبين(8/299)
المتحاكمين، من عباده المؤمنين، وأضدادهم المفسدين الملحدين، في المداولة بينهما، والمعاقبة بين الفئتين منهما، في العجز والظّهور، والوفاء والقصور، والمعافاة والامتحان، والنّصر والخذلان، والإعلاء لراية الحقّ في حال، والإملاء للباطل في أخرى، بتضمين الخيرة لأوليائه، والدائرة على أعدائه، عاجلا بالتّمحيص لهؤلاء، وبالمحق لأولئك، بما يصل إليهم من مصيبته، وينوبهم في حاضر الدنيا من رغبته، ويحلّ العادين من المشركين دار الفاسقين، ويجعل العاقبة للمتّقين، ومن سعد بقسم من التوفيق، وحظّ من فائدة الإرشاد، فليس «1» في هذه الحالة بزيادة أنصار وعدّة، وفضل عتاد وعدّة، وبسالة ونجدة، وأيد وقوّة، وسعة وبسطة، ولا يعدو أن يسلّم لله تعالى قاضيا له وعليه، ويوفّى بإحدى الحسنيين من علوّه، أو غلبة عدوّه؛ أو يتوكل عليه، وهو حسبه منعما، وممتحنا ومعافيا ومسلّما، ونعم الوكيل.
قلت: وهذا الصنف من المكاتبات السلطانية مستعمل بين الكتّاب، دائر في مصطلحاتهم إلى الآن. وللشّيخ شهاب الدين محمود «2» الحلبيّ في ذلك تفنّنات كثيرة، أورد بعضها في كتابه «حسن التّوسّل» .
فمن ذلك. ما أنشأه فيمن هزم هو وجيشه، يتضمّن إقامة عذره، ووصف اجتهاده، ويحثّ على معاودة عدوّه، والطّلب بثاره، وهو:
هذه المكاتبة إلى فلان: لا زال مأمون الغرّة، مأمول الكرّة، مجتنيا حلو الظّفر من أكمام تلك المرّة المرّة، راجيا من عواقب الصّبر أن يسفر له مساء تلك المساءة عن صبح المسرّة، واثقا من عوائد نصر الله بإعادته ومن معه في [القوّة و] «3» الاستظهار كما بدأهم أوّل مرّة.
أصدرناها وقد اتّصل بنا نبأ ذلك المقام الذي أوضحت فيه السيوف عذرها،(8/300)