فهاجت به مرّة فوثب عليه قوم يعضّون إبهامه ويؤذّنون في أذنه، فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تكأكأتم عليّ كما تكأكؤون على ذي جنّة! افرنقعوا عنّي. فقال بعضهم: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهنديّة.
وقال أبو علقمة يوما لحاجمه: اشدد قصب اللهازم «1» ، وأرهف ظبات «2» المشارط، وأمرّ المسح «3» ، واستنجل «4» الرّشح، وخفّف الوطء، وعجل النّزع، ولا تكرهنّ أبيّا «5» ، ولا تردّن أتيّا «6» ؛ فقال له الحجّام: ليس لي علم بالحروف «7» .
ونظر إليه رجل وتحته بغل مصريّ حسن المنظر، فقال: إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل، فقال أبو علقمة: والله لقد خرجت عليه من مصر فتنكّبت الطريق مخافة السّرّاق وجور السلطان، فبينا أنا أسير في ليلة ظلماء قتماء، طحياء مدلهمّة، حندس «8» داجية، في صحصح «9» أملس، إذ أحسّ بنبأة «10» من صوت نغر «11» ، أو طيران ضوع «12» ، أو نغض سبد «13» فحاص عن الطريق متنكّبا لعزّة نفسه، وفضل قوّته، فبعثته باللجام فعسل «14» ، وحرّكته بالركاب فنسل «15» ؛ وانتعل(2/257)
الطريق يغتاله معتزما، والتحف الليل لا يهابه مظلما، فو الله ما شبّهته إلا بظبية نافرة تحفزها «1» فتخاء شاغية «2» ؛ فقال الرجل: فادع الله وسله أن يحشر معك هذا البغل يوم القيامة، قال: ولم؟ قال: ليجيزك الصّراط بطفرة «3» .
وكانت امرأة تأكل الطّين فحصل لها بسببه إسهال مرضت منه، وكان لها ولد يتكلم بالغريب، فكتب رقاعا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السّلام فيها:
صين امرؤ ورعي، دعا لامرأة إنقحلة مقسئنّة «4» قد منيت بأكل الطّرموق «5» فأصابها من أجله الاستمصال «6» أن يمنّ الله عليها بالاطرغشاش «7» . فكل من قرأ رقعته، دعا عليه ولعنه ولعن أمّه.
وحكى محمد بن أبي المغازي «8» الضبي عن أبيه قال: كان لنا جار بالكوفة لا يتكلم إلا بالغريب، فخرج إلى ضيعة له على حجر معها مهر فأفلتت، فذهبت ومعها مهرها فخرج يسأل عنها، فمرّ بخيّاط فقال: يا ذا النّصاح «9» وذات السّمّ «10» ، الطاعن بها في غير وغّى لغير عدى، هل رأيت الخيفانة القبّاء «11» يتبعها الحاسن المسرهف «12» ؟ كأنّ غرّته القمر الأزهر، ينير في حضره كالخلّب الأجرد؟ فقال(2/258)
الخيّاط: اطلبها في ترللج «1» ؛ فقال: ويحك ما تقول، قبّحك الله! فإني ما أعرف رطانتك؛ قال: لعن الله أبغضنا لفظا وأخطأنا منطقا.
وضرب عمر بن هبيرة «2» عيسى بن عمر النحويّ ضربا كثيرا من أجل وديعة فكان يقول وهو يضرب: ما هي إلا أثيّاب في أسيفاط أخذها عشّاروك «3» .
وسأله رجل عن مسألة. فقال: ليست مسألتك يتنا. أي ليست مستوية؛ وأصل اليتن: خروج رجل الولد قبل رأسه. وسأله آخر عن كتابته، فقال: كتبت حتّى انقطع سوائي أي ظهري، على أن أبا جعفر النحّاس قد عدّ عيسى بن عمر من المطبوعين في ذلك. قال الجاحظ: رأيتهم يديرون في كتبهم هذا الكلام، فإن كانوا إنما رووه ودوّنوه لأنه يدل على فصاحة وبلاغة، فقد باعده الله من صفة الفصاحة والبلاغة، وإن كانوا فعلوا ذلك لأنه غريب فأبيات من شعر العجّاج وشعر الطّرمّاح وأشعار هذيل «4» تأتي لهم مع الرصف الحسن على أكثر من ذلك. فلو خاطب أحد الأصمعيّ بمثل هذا الكلام، لظننت أنه يستجهل نفسه، وهذا خارج عن عادة البلغاء.
الصنف الرابع الغريب المتوحش عند قوم دون قوم
وذلك ككلام أهل البادية من العرب بالنسبة إلى أهل الحضر منهم، فإن أهل الحضر يألفون السّهل من الكلام، ويستعملون الألفاظ الرقيقة، ولا يستعملون(2/259)
الغريب إلا في النادر؛ وأهل البادية يألفون اللفظ الجزل ويميلون إلى استعمال الغريب؛ وإذا نظرت إلى أهل مكة وكلام قريش الذين نزل القرآن بلغتهم وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أرومتهم، وكلام أهل حضرموت وما جاورها من اليمن ومخاليف الحجاز، علمت فرق ما بين الكلامين، وتباين ما بين الطّرفين، حتّى كأنّ البادي يرطن بالنسبة إلى الحاضر، ويتكلم بلغة غير العربية؛ وكانت لغة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي يتكلم بها على الدوام، ويخاطب بها الخاص والعامّ، لغة قريش وحاضرة الحجاز، إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم أوتي جوامع الكلم وجمع إلى سهولة الحاضرة جزالة البادية، فكان يخاطب أهل نجد وتهامة وقبائل اليمن بلغتهم، ويخاطبهم في الكلام الجزل على قدر طبقتهم.
فمن ذلك كلامه صلّى الله عليه وسلّم لطهفة النّهديّ وكتابه إلى بني نهد، وذلك أنه لما قدم وفود العرب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدم عليه طهفة بن أبي زهير النّهديّ، فقال: أتيناك يا رسول الله من غور تهامة على أكوار الميس «1» ، ترتمي بنا العيس، نستحلب الصّبير «2» ، ونستجلب الخبير «3» ونستعضد البرير «4» ، ونستخيل الرّهام «5» ، ونستخيل الجهام «6» ؛ من أرض غائلة النّطاء «7» ، غليظة الوطاء؛ قد جفّ المدهن «8» ، ويبس الجعثن «9» ؛ وسقط الأملوج «10» ، ومات العسلوج «11» ؛ وهلك(2/260)
الهديّ «1» ، وفاد الوديّ «2» ؛ برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعثن «3» ، وما يحدث الزمن، لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام، ما طما البحر، وقام تعار «4» ، ولنا نعم همل أغفال «5» ، ما تبضّ ببلال «6» ، ووقير كثير الرّسل «7» ، قليل الرّسل «8» ، أصابتها سنيّة حمراء مؤزلة «9» ، ليس لها «10» علل ولا نهل؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها «11» وفرقها، وابعث راعيها في الدّثر «12» بيانع الثّمر، وافجر لهم الثمد «13» ، وبارك لهم في المال والولد؛ من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا.
لكم يا بني نهد ودائع «14» الشّرك، ووضائع الملك «15» ؛ لا تلطط «16» في الزكاة، ولا تلحد في الحياة، ولا تتثاقل عن الصلاة» .
وكتب معه كتابا إلى بني نهد فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم! السلام على(2/261)
من آمن بالله ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة «1» ، ولكم العارض والفريش وذو العنان الرّكوب، والفلوّ الضّبيس «2» ، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يمنع درّكم، ما لم تضمروا الإمآق، وتأكلوا الرّباق «3» ؛ من أقرّ فله الوفاء بالعهد والذّمّة، ومن أبى فعليه الرّبوة «4» » .
ومن ذلك كتابه صلّى الله عليه وسلّم إلى قبيلة همدان، وذلك أنه لما قدم عليه صلّى الله عليه وسلّم وفود العرب قدم وفد همدان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم مالك بن نمط أبو ثور، وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السلماني، وعميرة بن مالك الخارقيّ، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرجعهم من تبوك، وعليهم مقطّعات الحبرات «5» والعمائم العدنيّة، برحال الميس «6» على المهريّة والأرحبيّة «7» ، ومالك بن نمط ورجل آخر يرتجزان بالقوم، يقول أحدهما:
همدان خير سوقة وأقيال ... ليس لها في العالمين أمثال
محلّها الهضب ومنها الأبطال ... لها إطابات «8» بها وآكال
ويقول الآخر:(2/262)
إليك جاوزن سواد الرّيف ... في هبوات الصّيف والخريف
مخطّمات «1» بحبال اللّيف
فقام مالك بن نمط بين يديه، ثم قال: يا رسول الله، نصيّة «2» من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج «3» متّصلة بحبال الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف، ويام، وشاكر «4» ؛ أهل السّواد والقرى، أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا آلهة الأنصاب «5» ، عهدهم لا ينقض ما أقام لعلع «6» ، وما جرى اليعفور بصلّع «7» .
فكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم! هذا كتاب من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف الرّمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط، ولمن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها «8» ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها ويرعون عافيها «9» ؛ لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدهم المهاجرون والأنصار» .
فقال في ذلك مالك بن نمط:
ذكرت رسول الله في فحمة الدّجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد «10»(2/263)
وهنّ بنا خوص طلائح «1» تعتلي ... بركبانها في لاحب «2» متمدّد
على كلّ فتلاء الذّراعين جسرة ... تمرّ بنا مرّ الهجفّ الخفيدد «3»
حلفت بربّ الرّاقصات «4» إلى منى ... صوادر بالرّكبان من هضب قردد «5»
بأن رسول الله فينا مصدّق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمّة من محمّد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحدّ المشرفيّ المهنّد
وفي رواية أن في كتابه إليهم: «إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها «6» ، تأكلون علافها وترعون عفاءها «7» ؛ لنا من دفئهم وصرامهم «8» ما سلّموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصّدقة الثّلب والنّاب، والفصيل والفارض، والدّاجن «9» والكبش الحوريّ «10» ، وعليهم فيها الصّالغ والقارح «11» » .(2/264)
ومن ذلك كتابه صلّى الله عليه وسلّم لأكيدر دومة «1» . قال أبو عبيدة: أنا قرأته فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم! من محمد رسول الله، لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد «2» والأصنام، مع خالد بن الوليد، سيف الله في دومة الجندل وأكنافها، إن لنا الضّاحية من الضّحل والبور والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة والسّلاح والحافر والحصن، ولكم الضّامنة من النخل، والمعين من المعمور «3» ، لا تعدل سارحتكم «4» ، ولا تعدّ فاردتكم «5» ، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقّها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين» .
ومن ذلك كتابه صلّى الله عليه وسلّم إلى وائل بن حجر وأهل حضر موت، وهو «بسم الله الرحمن الرحيم! من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة «6» من أهل حضر موت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، على التّيعة «7» الشّاة، والتّيمة «8» لصاحبها وفي(2/265)
السّيوب «1» الخمس، لا خلاط ولا وراط «2» ، ولا شناق ولا شغار «3» ؛ ومن أجبى فقد أربى «4» ، وكل مسكر حرام.
وفي رواية أنه كتب إليهم «إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب «5» ، وفي التّيعة شاة لا مقورّة الألياط ولا ضناك «6» ، وأنطوا الثّبجة «7» وفي السّيوب الخمس؛ ومن زنى من امبكر «8» فاصقعوه مائة، واستوفضوه «9» عاما؛ ومن زنى من امثيّب(2/266)
فضرّجوه بالأضاميم «1» ، ولا توصيم «2» في الدين، ولا غمّة «3» في فرائض الله تعالى؛ وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفّل «4» على الأقيال» .
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله «في المثل السائر» : وفصاحة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تقتضي استعمال هذه الألفاظ، ولا تكاد توجد في كلامه إلا جوابا لمن يخاطبه بمثلها كحديث طهفة وما جرى مجراه؛ على أنه قد كان في زمنه أوّلا متداولا بين العرب ولكنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستعمله إلا يسيرا لأنه أعلم بالفصيح والأفصح.
الصفة الثانية اللفظ الفصيح ألّا يكون مبتذلا عامّيّا، ولا ساقطا سوقيّا واللفظ المبتذل على قسمين
القسم الأوّل ما لم تغيره العامّة عن موضعه اللغويّ إلا أنها اختصت باستعماله دون الخاصة فابتذل لأجل ذلك وسخف لفظه
، وانحطّت رتبته لاختصاص العامّة بتداوله، وصار من استعمله من الخاصة ملوما على الإتيان به لمشاركة العامة فيه؛ وقد وقع ذلك لجماعة من فحول الشعراء فعيب عليهم.(2/267)
فمن ذلك قول الفرزدق من قصيدة:
وأصبح مبيضّ الضّريب كأنه ... على سروات النّبت قطن مندّف
فقوله مندّف من الألفاظ العامية المبتذلة، وإن كان له أصل في اللغة، يقال ندف القطن إذا ضربه بالمندف، ولذلك قيل للقطن المندوف: نديف.
ومن ذلك قول أبي نواس:
وملحّة بالعذل تحسب أنني ... بالجهل أترك صحبة الشّطّار
فالشطار جمع شاطر، وهو في أصل اللغة اسم لمن أعيا أهله خبثا؛ يقال منه: شطر وشطر بالفتح والضم شطارة بالفتح فيهما، ثم استعمل في الشجاع الذي أعيا الناس شجاعة، وغلب دورانه على لسان العامة فامتهن وابتذل؛ فاستعمال أبي نواس له غير لائق، وكذلك قوله أيضا:
يا من جفاني وملّا ... نسيت أهلا وسهلا
وما تمرحبت لما ... رأيت ما لي قلّا
إني أظنّك فيما ... فعلت تحكي القرلّى
فلفظ القرلّى من أشدّ ألفاظ العامة ابتذالا، وهو اسم لطائر صغير من طيور الماء يخطف صغار السمك من الماء برجليه ومنقاره، فإذا سقط على الماء ولم يحصل على صيد ارتفع بسرعة، فتضرب به العامة المثل تقول: فلان كأنه قرلّى، إن وجد خيرا تدلّى، وإن وجد شرّا تعلّى.
وقوله أيضا:
وأنمر الجلدة صيّرته ... في الناس زاغا وشقرّاقا
ما زلت أجري كلكلي فوقه ... حتّى دعا من تحته قاقا
فقوله: قاقا حكاية لصوت يضرب به المثل لصياح المغلوب، يقال: فعلت بفلان كذا وكذا حتّى قال: قاق؛ وأقبح من ذلك كله في الابتذال بين العامة والسّخافة قول المتنبي:(2/268)
ومن الناس من يجوز عليهم ... شعراء كأنها الخاز باز
قال في «المثل السائر» : وهذا البيت من مضحكات الأشعار وهو من جملة البرسام الذي ذكره في قوله:
إن بعضا من القريض هذاء ... ليس شيئا وبعضه أحكام
فيه ما يجلب البراعة والفهم وفيه ما يجلب البرسام وعدّ منه في «المثل السائر» قول البحتريّ:
وجوه حسّادك مسودّة ... أم صبغت بعدي بالزّاج؟
قال: فلفظة الزاج من أشدّ ألفاظ العامة ابتذالا، وكذلك عدّ منه قول النابغة الذّبيانيّ:
أو دمية في مرمر مرفوعة ... بنيت بآجرّ يشاد بقرمد
قال فلفظة آجرّ مبتذلة جدّا. وإذا شئت أن تعلم شيئا من سرّ الفصاحة التي تضمنها القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الموضع فإنه لما جيء فيه بذكر الآجرّ لم يذكر بلفظه، ولا بلفظ القرمد أيضا، ولا بلفظ الطّوب الذي هو لغة أهل مصر، فإن هذه الأسماء مبتذلة، لكن ذكر في القرآن على وجه آخر، وهو قوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً
«1» فعبر عن الآجرّ بالوقود على الطين؛ نعم من الألفاظ المبتذلة السخيفة لفظة الكنس، وما اشتق منه، ولذلك عابها القاضي الفاضل رحمه الله تعالى على ابن سناء الملك «2» في بعض أشعاره حيث قال من أبيات:
يزخرف منها وجهها فهو جنّة ... ويخضرّ منها نضرة فهو سندس(2/269)
صليني وهذا الحسن باق فربّما ... يعزّل بيت الحسن منه ويكنس
فلما وقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذا القصيدة كتب إلى ابن سناء الملك من جملة فصل: وما قلت هذه الغاية، إلا وتعلمني أنها البداية، ولا قلت هذا البيت آية القصيدة إلا تلا ما بعده: وما نريهم من آية. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. ولا عيب في هذه المحاسن إلا قصور الأفهام، وتقصير الأنام، وإلا فقد لهج الناس بما تحتها، ودوّنوا ما دونها، وشغلوا التصانيف والخواطر والأقلام بما لا يقاربها، وسارت الأشعار وطالت بما لا يبلغ مدّها ولا نصيفه؛ والقصيدة فائقة في حسنها، بديعة في فنّها؛ وقد ذلّت السين فيها وانقادت، فلو أنها الراء لما رادت؛ وبيت يعزّل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة، فإن لفظة الكنس غير لائقة في مكانها.
فأجابه ابن سناء الملك قائلا: وعلم المملوك ما نبه عليه مولانا من البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة، وقد كان المملوك مشغوفا بهذا البيت، مستحليا له متعجبا منه، معتقدا أنه قد ملّح فيه، وأنّ قافية بيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه، وما أوقعه في الكنس إلا ابن المعتز في قوله:
وقوامي مثل القناة من الخط ... وخدّي من لحيتي مكنوس
والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجل ويتعثّر، ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر؛ ولا آنس ناره إلا لمّا وجد عليها هدى، ولا مال المملوك إلا إلى طريق من ميّله إليه طبعه؛ ولا سار قلبه إلا إلى من دلّه عليه سمعه؛ ورأى المملوك أبا عبادة «1» قد قال:
ويا عاذلي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى قبلها للتجنّب
تحاول منّي شيمة غير شيمتي ... وتطلب منّي مذهبا غير مذهبي(2/270)
وقال:
وما زارني إلّا ولهت صبابة ... إليه وإلّا قلت أهلا ومرحبا
فعلم المملوك أنّ هذه طريقة لا تسلك، وعقيلة لا تملك، وغاية لا تدرك؛ ووجد أبا تمّام قد قال:
سلّم على الرّبع من سلمى بذي سلم
وقال:
خشنت عليه أخت بني خشين
فاشمأزّ من هذا النّمط طبعه، واقشعرّ منه فهمه، ونبا عنه ذوقه، وكاد سمعه يتجرّعه ولا يكاد يسيغه؛ ووجد هذا السيد عبد الله بن المعتز قد قال:
وقفت في الرّوض أبكي فقد مشبهه ... حتّى بكت بدموعي أعين الزّهر
لو لم أعرها دموع العين تسفحها ... لرحمتي لاستعارتها من المطر
وقال:
قدّك غصن لا شكّ فيه كما ... وجهك شمس نهاره جسدك
فوجد المملوك طبعه إلى هذا النّمط مائلا، وخاطره في بعض الأحيان عليه سائلا؛ فنسج على هذا الأسلوب، وغلب عليه خاطره مع علمه أنه المغلوب؛ «وحبّك الشيء يعمي ويصمّ» فقد أعماه حبّه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليدا لابن المعتز حيث قالها، وحمل أثقالها؛ وهي تغفر لذاك في جنب إحسانه، فأما المملوك فهي عورة ظهرت من لسانه.
فأجابه القاضي الفاضل رحمه الله بقوله: ولا حجة فيما احتج به عن الكنس في بيت ابن المعتز، فإنه غير معصوم من الغلط، ولا يقلّد إلا في الصواب فقط، وقد علم ما ذكره ابن رشيق في عمدته من تهافت طبعه، وتباين وضعه، فذكر من محاسنه ما لا يعلّق معه كتاب، ومن بارده وغثّه ما لا تلبس عليه الثياب.
وقد تعصّب القاضي السعيد على أبي تمّام فنقصه من حظه، وللبحتريّ(2/271)
فأعطاه أكثر من حقه، وما أنصفهما:
ولو كان هذا موضع العتب لا شتفى ... فؤادي ولكن للعتاب مواضع
قال المولى صلاح الدين الصّفدي رحمه الله تعالى في شرح لامية العجم:
وقد استعمل ابن سناء الملك رحمه الله تعالى هذه اللفظة في غير هذا الموضع ولم يتّعظ بنهي الفاضل ولا ارعوى ولا ازدجر عما قبحه لأنه غلب عليه الهوى، فقال:
توسوس شعري به مدّة ... وما برح الحلي والوسوسه
وخلّصني من يدي عشقه ... ظلام على خدّه حندسه «1»
كنست فؤادي من عشقه ... ولحيته كانت المكنسه
قال: وأما القاضي الفاضل، فما أظنه خلا في هذا الإيراد، من ضعف انتقاد؛ وأحاشي ذاك الذهن الوقّاد، من هذا الاعتقاد في ورطة هذا الاعتقاد؛ وما أراه إلا أنه تعمّد أن يعكس مراده، ويوهي ما شدّه ويوهن ما شاده؛ ويرميه ببلاء البلادة؛ إما على سبيل النّكال أو النّكادة، لأن الفاضل رحمه الله ممن يتوخّى هذه الألفاظ ويقصدها، وينشيها وينشدها، ويوري زنادها ويوردها.
فمن كلام القاضي الفاضل في بعض رسائله: وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، ولا سيوفهم أن تكنس قميمه «2» .
قال في «المثل السائر» : ومثل هذه الألفاظ إذا وردت في الكلام، وضعت من قدره ولو كان معناه شريفا. قال: وهذا القسم من الألفاظ المبتذلة لا يكاد يخلو منه شعر شاعر، لكن منهم المقلّ ومنهم المكثر.(2/272)
القسم الثاني ما كان من الألفاظ دالّا على معنى وضع له في أصل اللغة فغيرته العامة وجعلته دالّا على معنى آخر. وهو على ضربين
الضرب الأوّل- ما ليس بمستقبح في الذكر ولا مستكره في السمع
. وذلك كتسميتهم الإنسان إذا كان دمث الأخلاق، حسن الصورة أو اللباس أو ما هذا سبيله ظريفا، والظّرف في أصل اللغة: مختص بنطق اللسان فقط، كما أن الصّباحة مختصة بالوجه، والوضاءة مختصة بالبشرة، والجمال مختص بالأنف، والحلاوة مختصة بالعينين، والملاحة: مختصة بالفم، والرّشاقة: مختصة بالقدّ، واللّباقة:
مختصة بالشمائل؛ فالظّرف إنما يتعلق بالنطق فغيرته العامة عن بابه ونقلته إلى أعمّ من موضوعه كما تقدّم؛ وممن وقع له الذّهول عن ذلك فغلط فيه أبو نواس في قوله:
اختصم الجود والجمال ... فيك فصارا إلى جدال
فقال هذا يمينه لي ... للعرف والبذل والنوال
وقال هذاك وجهه لي ... للظّرف والحسن والكمال
فافترقا فيك عن تراض ... كلاهما صادق المقال
فوصف الوجه بالظّرف، وهو من صفات النطق كما تقدّم؛ وكذلك أبو تمّام في قوله:
لك هضبة الحلم التي لو وازنت ... أجأ «1» إذا ثقلت وكان خفيفا
وحلاوة الشّيم التي لو مازجت ... خلق الزمان الفدم «2» عاد ظريفا
فوصف الشّيم بالحلاوة وهي مختصة بالعينين، ووصف الخلق بالظّرف وهو(2/273)
مختص بالنطق كما تقدّم بيانه.
الضرب الثاني- ما يستقبح ذكره
كما في لفظ الصّرم بالصاد المضمومة والسّرم بالسين؛ فإن الصّرم بالصاد في أصل اللغة عبارة عن القطع، يقال: صرمه يصرمه صرما وصرما بالفتح والضم إذا قطعه، وبالسين عبارة عن المحل المخصوص، وقد كانت العرب تستعمله بالصاد المضمومة في أشعارها بهذا المعنى فلا يعاب عليها؛ قال أبو صخر الهذليّ «1» :
قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصّرم
فاستعمله بمعنى القطع ولم يعب عليه لأن الألفاظ في زمن العرب لم تتغير بل كانت باقية على أوضاعها الأصلية، فقلبت العامة السين من المحل المخصوص صادا واستعملت لفظ الصّرم الذي هو القطع في المحل المخصوص، فصار لفظه مستقبحا وسماعه مستكرها، وعيب على أبي الطّيّب استعماله في قوله:
أذاق الغواني حسنه ما أذقنني ... وعفّ فجازاهنّ عنّي بالصّرم
على أنه إنما يكره استعماله بصيغة الاسم لما تقدّم، أما إذا استعمل بصيغة الفعل مثل صرم ويصرم وما شاكل ذلك، فإنه لا حجر في استعماله، وقد استعمله ابن الروميّ بالسين على بابه فجاء أقبح وأشنع، فقال يهجو الورد:
كأنه سرم بغل حين يخرجه ... عند البراز وباقي الرّوث في وسطه
قال الصلاح الصّفديّ: وأين هذا التشبيه القبيح من قول الآخر في الورد أيضا:
كأنه وجنة الحبيب وقد ... نقّطها عاشق بدينار(2/274)
قال: فانظر إلى هذا: وجنة، وحبيب، ودينار، وإلى ذلك: سرم، وبغل، وروث. وشتّان ما بينهما.
الصفة الثالثة من صفات اللفظ المفرد الفصيح ألّا يكون متنافر الحروف
، فإن كانت حروفه متنافرة بحيث يثقل على اللسان ويعسر النطق به فليس بفصيح وذلك نحو لفظ الهعخع في قول بعض العرب عن ناقة: تركتها ترعى الهعخع بالخاء المعجمة والعين المهملة، وهو نبت أسود، وكذلك لفظ مستشزرات من قول امريء القس في قصيدته اللامية التي من جملة القصائد السبع الطّوال:
غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضلّ المداري في مثنّى ومرسل
فلفظ مستشزرات من المتنافر الذي يثقل على اللسان، ويعسر النطق به.
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في «المثل السائر» : ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امريء القيس هذا اللفظ فأكبر ذلك لوقوفه مع شبهة التقليد في أن امرأ القيس أشعر الشعراء، فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة، وقلت له: لا يمنع إحسان امريء القيس من استقباح ماله من القبيح، بل مثال ذلك كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر، ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره، ولا تكون لذاذة ذلك الطّيب حامية للخبيث من الاستكراه، فأسكت الرجل عند ذلك.
إذا علمت ذلك، فإن معظم اللغة العربية دائرة على ذلك، لأن الواضع قسّمها في وضعه إلى ثلاثة أقسام: ثلاثيّا، ورباعيّا، وخماسيّا، فالثلاثيّ من الألفاظ هو الأكثر، ولا يوجد فيه ما يكره استعماله إلا النادر؛ والخماسيّ هو الأقلّ، ولا يوجد فيه ما يستعمل إلا الشاذ النادر، والرباعيّ وسط بين الثّلاثيّ والخماسيّ في الكثرة عددا واستعمالا، فيكون أكثر اللغة مستعملا غير مكروه. قال: ولا تقتضي حكمة هذه اللغة التي هي سيّدة اللغات إلا ذلك؛ ولذلك أسقط الواضع منها(2/275)
حروفا كثيرة في تأليف بعضها مع بعض استثقالا واستكراها، فلم يؤلّف بين حروف الحلق كالحاء والعين، وكذلك لم يؤلف بين الجيم والقاف، ولا بين اللام والراء، ولا بين الزاي والسين، وذلك دليل على عنايته بتأليف المتباعد المخارج دون المتقارب؛ وكيف كان الواضع يخلّ بمثل هذا الأصل الكلّي في تحسين اللغة وقد اعتنى بأمور جزئية دون ذلك! كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود وبين حركات المصدر في النطق كالغليان، والضّربان، والنّقزان، والنّزوان، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، فإن جميع حروفه متحركات ليس فيها حرف ساكن، وهي مماثلة لحركات الفعل في والوجود.
ومن نظر في حكمة وضع هذه اللغة إلى هذه الدقائق التي هي كالأطراف والحواشي فكيف كان يخلّ بالأصل المعوّل عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض!. على أنه لو أراد الناظم أو الناثر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ، أهي متباعدة أو متقاربة، لطال الخطب في ذلك وعسر، ولما كان الشاعر ينظم قصيدا، ولا الكاتب ينشيء كتابا إلا في مدّة طويلة، والأمر بخلاف ذلك، فإن حاسّة السمع هي الحاكمة في هذا المقام في تحسين لفظ وتقبيح آخر؛ على أنه قد يجيء من المتقارب المخارج ما هو حسن رائق، ألا ترى أن الحروف الشّجريّة، وهي الجيم والشين والياء، متقاربة المخارج لأنها تخرج من وسط اللسان بينه وبين الحنك، وإذا ترتب منها لفظ جاء حسنا رائقا، فإن لفظة جيش قد اجتمع فيها الحروف الشّجريّة الثلاثة، وهي مع تقارب مخارجها حسنة رائقة؛ وكذلك الحروف الشّفهية وهي الباء والميم والفاء متقاربة المخارج، فإن مخرج جميعها من الشّفة؛ وإذا ترتب منها لفظ جاء سلسا غير متنافر، كقولك أكلت بفمي، وهو في غاية الحسن، والحروف الثلاثة الشفهية مع تقارب مخارجها مجتمعة فيها؛ وقد يجيء من المتباعد المخارج ما هو قبيح متنافر، كقولك: ملع بمعنى عدا، فإن الميم من الشفة، والعين من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان؛ فهذه الحروف كلها متباعدة من بعضها ومع ذلك فإنها كريهة الاستعمال، ينبو عنها الذوق السليم، ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح؛ على أنه لو عكست(2/276)
حروف هذه اللفظة صارت علم وعاد القبح منها حسنا؛ مع أنه لم يتغير شيء من مخارجها، على أن اللام لم تزل فيها وسطا والميم والعين يكتنفانها من جانبيها؛ ولو كانت مخارج الحروف معتبرة في الحسن والقبح لما تغيرت هذه اللفظة بتقديم بعض الحروف وتأخير بعض، وليس ذلك لأن إدخال الحروف من الشّفة إلى الحلق في ملع أعسر من إخراجها من الحلق إلى الشّفة في علم، فإنّ لفظة بلع فيها الباء وهي من حروف الشفة، واللام وهي من وسط اللسان، والعين وهي من حروف الحلق وهي غير مكروهة.
قال في «المثل السائر» : ولربما اعترض بعض الجهال بأن الاستثقال في لفظ مستشزرات إنما هو لطولها وليس كذلك، فإنا لو حذفنا منها الألف والتاء وقلنا مستشزر لكان ثقيلا أيضا، لأن الشين قبلها تاء وبعدها زاي؛ فثقل النطق بها؛ نعم لو أبدلنا من الزاي راء ومن الراء فاء فقلنا مستشرف لزال ذلك؛ ومن ثمّ ظهر لك أن اعتبار ابن سنان «1» تركيب الكلمة من أقل «2» الأوزان تركيبا غير معتبر، وقد ورد في القرآن العظيم ألفاظ طوال لا شكّ في حسنها وفصاحتها كقوله تعالى:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
«3» وقوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
«4» فإن لفظ فسيكفيكهم مركب من تسعة أحرف، ولفظ ليستخلفنهم مركب من عشرة أحرف، ولفظ مستشزرات مركب من ثمانية أحرف. قال: والأصل في هذا الباب أن الأصول لا تحسن إلا من الثلاثيّ وفي بعض الرّباعيّ، كقولك عذب وعسجد، فالأولى ثلاثيّة، والثانية رباعيّة؛ أما الخماسيّ من الأصول فإنه(2/277)
قبيح، كقولك: صهصلق «1» وجحمرش «2» ، وما جرى مجراهما؛ ولهذا لا يوجد في القرآن الكريم من الخماسيّ الأصول شيء إلا ما كان من اسم نبيّ عرّب اسمه، ولم يكن في الأصل عربيا كإبراهيم وإسماعيل ونحوهما.
الصفة الرابعة من صفات اللفظ المفرد الفصيح ألّا يكون على خلاف القانون المستنبط من تتبع مفردات ألفاظ اللغة العربية وما هو في حكمها
كوجوب الإعلال في نحو قام والإدغام في نحو مدّ، وغير ذلك مما يشتمل عليه علم التصريف، فإنه لو فكّ الإدغام في مدّ فقال مدد لم يكن فصيحا، وعلى حدّ ذلك جاء قول بعض العرب:
الحمد لله العليّ الأجلل
فإنّ قياس بابه الإدغام فيقال الأجلّ.
قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح التلخيص: وأما نحو أبى يأبى وعور واستحوذ وقطط شعره وما أشبه ذلك من الشواذ الثابتة فليست من المخالفة في شيء لأنها كذلك ثبتت عن الواضع، فهي في حكم المستثناة.
فهذه الصفات الأربع هي عمود الفصاحة في اللفظ المفرد، وقطب دائرة حسنه، فمتى اتصف بها وسلم من أضدادها كان بالفصاحة متّسما، وبالحسن والرونق مشتملا، وللطبع ملائما، وللسمع موافقا؛ ومتى عري عن ذلك خرج عن طرائق الفصاحة، وحاد عن سبيل الحسن، ومال إلى الهجنة، فمجّه السمع، وقلاه الطبع، ورفضته النفوس، ونفرت منه القلوب، فلزم العيب قائله، وتوجه العتب على مستعمله.(2/278)
قال ابن الأثير رحمه الله: وقد رأيت جماعة من الجهّال إذا قيل لأحدهم:
إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال: بل كل الألفاظ حسن، والواضع لم يضع إلا حسنا. قال: ومن يبلغ جهله إلى غاية لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج «1» ، وبين لفظ المدامة ولفظ الإسفنط «2» ، وبين لفظ السّيف ولفظة الخنشليل «3» ، وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس «4» ؛ فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب، ولا يجاب بجواب، بل يترك وشأنه كما قيل: «أتركوا الجاهل بجهله، ولو ألقى الجعر «5» في رحله «6» » .
وما مثاله في ذلك إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد، شوهاء الخلق، ذات عين محمرّة، وشفة غليظة، وشعر قطط «7» ، وبين صورة روميّة بيضاء، مشربة بحمرة، ذات خدّ أسيل، وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرّة كأنها ليل على صباح. فإذا كان بإنسان من سقم النظر أن يسوّي بين هذه الصورة وهذه، فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوّي بين هذه الألفاظ وهذه، ولا فرق بين السمع والنظر في ذلك؛ فإن هذه حاسّة وهذه حاسّة، وقياس حاسة على حاسة غير ممتنع؛ ولا عبرة بمن يستحسن الألفاظ القبيحة، ويميل إلى الصورة الشنيعة؛ فإن الحكم على الكثير الغالب، دون الشاذ النادر الخارج عن الاعتدال؛ فإنا لو رأينا من يحبّ أكل الفحم والجصّ والتراب، ويختار ذلك على ملاذّ الأطعمة فإنا لا نستجيد هذه الشهوة بل نحكم عليه بالمرض وفساد المعدة، وأنه يحتاج إلى العلاج والمداواة؛ ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن(2/279)
نغمة لذيذة كنغمة الأوتار، وصوتا منكرا كصوت الحمار، وأن لها في الفم حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل. ولا حجة لاستعمال العرب لهذه الألفاظ، فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب، لأنه ليس للتقليد فيه مجال؛ وإنما له خصائص وهيئات وعلامات إذا وجدت علم حسنه من قبحه والله أعلم.
الأصل الثالث من صناعة إنشاء الكلام، تركيب الكلام، وترتيب الألفاظ والنظر فيه من وجوه
الوجه الأوّل في بيان فضل المعرفة بذلك، ومسيس حاجة الكاتب إلى معرفته، والإشارة إلى خفي سره وتوعّر مسلكه
قال أبو هلال العسكريّ: وأجناس الكلام المنظوم ثلاثة: الرسائل، والخطب، والشعر؛ جميعها يحتاج إلى حسن التأليف، وجودة التركيب؛ وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا، ومع سوء التأليف ورداءة الرّصف والتركيب شعبة من التعمية؛ فإذا كان المعنى سيّئا، ورصف الكلام رديئا «1» ، لم يوجد له قبول، ولم تظهر عليه طلاوة. فإذا كان المعنى وسطا ورصف الكلام جيدا، كان أحسن موقعا وأطيب مستمعا، فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائقا في المرأى، وإن لم يكن مرتفعا نبيلا «2» ؛ وإن اختلّ نظمه فضمّت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وإن كان فائقا ثمينا؛ وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن من أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمّي المعنى، وتضم كل لفظة(2/280)
منها إلى شكلها وتضاف إلى وفقها «1» ؛ وسوء الرّصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها.
وقد قال العتابيّ «2» : الألفاظ أجساد والمعاني أرواح، وإنما تراها بعيون القلوب، فإذا قدّمت منها مؤخرا وأخرت منها مقدّما أفسدت الصورة وغيرت المعنى، كما أنه لو حوّل رأس إلى موضع يد أو يد إلى موضع رأس أو رجل لتحوّلت الخلقة، وتغيّرت الحلية.
قال في «الصناعتين» : وقد أحسن في هذا التمثيل.
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في «المثل السائر» : وهذا الموضع يضلّ في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم منه رائحة! ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار «3» ، حتّى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في مواضعها؟ وذلك أن تفاوت التفاضل لم يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها، إذ التركيب أعسر وأشقّ، ألا ترى أن ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملتها العرب ومن بعدهم، وهي مع ذلك تفوق جميع كلامهم وتعلو عليه، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب. وانظر إلى قوله تعالى:
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
«4» وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية الّتي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولا يستطيع أفصح الناس وأبلغ العالم مضاهاتها؛ على أن ألفاظها المفردة كثيرة(2/281)
الاستعمال دائرة على الألسنة، فقوّة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز وأفحمت فيه البلاغة من حيث لاقت اللفظة الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وكذلك سائر الألفاظ إلى آخر الآية. ويشهد لذلك أنك لو أخذت لفظة منها من مكانها وأفردتها عن أخواتها لم تكن لابسة من الحسن والرونق ما لبسته في موضعها من الآية، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام.
قال ابن الأثير: ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلّان على معنى واحد، كلتاهما في الاستعمال على وزن واحد وعدّة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السّبك؛ وهذا مما لا يدركه إلا من دقّ فهمه، وجلّ نظره. وإذا نظرت إلى قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
«1» وقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
«2» رأيت ذلك عيانا، فإن الجوف والبطن بمعنى واحد، وقد استعمل الجوف في الآية الأولى والبطن في الآية الثانية ولم يستعمل أحدهما مكان الآخر؛ وكذلك قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى
«3» وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
«4» فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة وإن كانا مختلفين في الوزن، ولم يستعمل أحدهما موضع الآخر.
ومما يجري هذا المجرى قول الأعرج «5» من أبيات الحماسة:
نحن بنو الموت إذا الموت نزل ... لا عار بالموت إذا حمّ الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل(2/282)
وقول أبي الطيب المتنبّي:
إذا شئت حفّت بي على كل سابح ... رجال كأنّ الموت في فمها شهد
فلفظة الشهد ولفظة العسل كلاهما حسن مستعمل، وقد جاءت لفظة الشهد في بيت أبي الطّيّب أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج، على أن لفظة العسل قد وردت «1» في القرآن دون لفظة الشهد فجاءت أحلى من الشهد في موضعها؛ وكثيرا ما تجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وبلغاء الكتّاب ومصاقع الخطباء، وتحتها دقائق ورموز، إذا علمت وقيس عليها كان صاحب الكلام قد انتهى في النظم والنثر إلى الغاية القصوى في وضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها.
قال: وأعجب من ذلك أنك ترى اللفظة الواحدة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها؛ وقد جاءت لفظة في آي القرآن الكريم بهجة رائقة، ثم جاءت تلك اللفظة بعينها في كلام آخر فجاءت ركيكة نابية عن الذوق، بعيدة من الاستحسان؛ فمن ذلك لفظة يؤذي فإنها وردت في قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ
«2» فجاءت في غاية الحسن ونهاية الطلاوة، ووردت في قول أبي الطيب:
تلذّ له المروءة وهي تؤذى ... ومن يعشق يلذّ له الغرام
فجاءن رثّة مستهجنة، وإن كان البيت من أبيات المعاني الشريفة، وذلك لقوّة تركيبها في الآية وضعف تركيبها في بيت الشعر؛ والسبب في ذلك أن لفظة تؤذي إنما تحسن في الكلام إذا كانت مندرجة مع ما يأتي بعدها، متعلقة به كما في الآية الكريمة حيث قال: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ
«3» وفي بيت المتنبي جاءت منقطعة ليس بعدها شيء تتعلق به حيث قال:(2/283)
تلذّ له المروءة وهي تؤذى
ثم استأنف كلاما آخر فقال:
ومن يعشق يلذّ له الغرام
وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبويّ مضافة إلى كاف خطاب، فأخذت من المحاسن بزمامها، وأحاطت من الطّلاوة بأطرافها؛ وذلك أنه لما اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه جبريل فرقاه فقال: «بسم الله أرقيك من كلّ داء يؤذيك» فصارت إلى الحسن بزيادة حرف واحد، وهذا من السّرّ الخفي الذي يدقّ فهمه.
وعلى نهج لفظة يؤذي يرد لفظة لي، فإنها لا تحسن إلا أن تكون متعلقة بما بعدها، ولذلك لحقها هاء السّكت في قوله تعالى: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ
«1» لما لم يكن بعدها ما تتعلق به، بخلاف قوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ
«2» فإنه لم تلحقها هاء السكت اكتفاء بما هي متعلقة به.
ومما يجري مثل هذا المجرى لفظة القمّل، فإنها قد وردت في قوله تعالى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ
«3» فجاءت في غاية الحسن، ووردت في قول الفرزدق:
من عزّه اجتحرت كليب عنده ... زربا كأنّهم لديه القمّل «4»
فجاءت منحطة نازلة، وذلك لأنها قد جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام لم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في البيت قافية انقطع الكلام عندها.
هذا ملخص ما ذكره ابن الأثير، وقال: إنه لم يسبق إليه، وجعل الحاكم(2/284)
فيه الذوق السليم دون غيره. وعلى الجملة فلا نزاع في أن تركيب الألفاظ يعطي الكلام من القوّة والضّعف ما تزيد به قيمة الألفاظ الفصيحة، ويرتفع به قدرها، أو يحطّ مقدارها عن درجة الفصاحة والحسن إلى رتبة القبح والاستهجان.
الوجه الثاني في بيان ما يبنى عليه «تركيب الكلام» وترتيبه
. وله ركنان الركن الأول- أن يسلك في تركيبه سبيل الفصاحة والخروج عن الّلكنة والهجنة.
والفصاحة في المركب بأن يتصف بعد فصاحة مفرداته بصفات:
الصفة الأولى أن يكون سليما من ضعف التأليف
بأن يكون تأليف أجزاء الكلام على القانون النحويّ المشتهر فيما بين معظم أصحابه حتّى لا يمتنع عند الجمهور، وذلك كالإضمار قبل الذكر لفظا أو معنى، نحو ضرب غلامه زيدا، فإنه غير فصيح وإن كان ما اتصل بالفاعل فيه ضمير المفعول به مما أجازه الأخفش «1» ، وتبعه ابن جني «2» لشدّة اقتضاء الفعل المفعول به كالفاعل، واستشهد بقوله:
لما عصى أصحابه مصعبا ... أدّى إليه الكيل صاعا بصاع
وقوله:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمّار «3»(2/285)
وقوله:
ألا ليت شعري، هل يلومنّ قومه ... زهيرا على ما جرّ من كلّ جانب
الصفة الثانية أن يكون سليما من التعقيد
وهو ألّا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى الذي يراد منه، وهو على ضربين:
الضرب الأوّل
- وهو الذي يسميه ابن الأثير: المعاظلة «1» المعنوية- ألّا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم أو تأخير، أو حذف، أو إضمار، أو غير ذلك مما يوجب صعوبة فهم المراد، وإن كان ثابتا في الكلام، جاريا على القوانين، كقول الفرزدق في مدح إبراهيم «2» بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس إلا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
أي وما مثل هذا الممدوح في الناس حيّ يقاربه ويشبهه في الفضائل إلا مملّكا، أبو أمّ ذلك المملّك أبو الممدوح، فيكون الممدوح خال المملّك، والمعنى أنه لا يماثل أحد هذا الممدوح الذي هو إبراهيم بن هشام إلا ابن أخته هشام، أفسده وعقّد معناه، وأخرجه عن حدّ الفصاحة إلى حدّ اللّكنة؛ وكذلك قوله في الوليد بن عبد الملك:
إلى ملك، ما أمّه من محارب ... أبوه، ولا كانت كليب تصاهره(2/286)
يريد إلى ملك ما أمّ أبيه من محارب، وقوله:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من ياذئب يصطحبان
يريد نكن يا ذئب مثل من يصطحبان، وقوله:
وليست خراسان التي كان خالد ... بها أسد، إذ كان سيفا أميرها
يريد أن خالد بن عبد الله كان قد ولي خراسان ووليها أسد «1» بعده، فمدح خالدا بأنه كان سيفا، بعد أن كان أسد أميرها، فكأنه يقول وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها «2» .
قال ابن الأثير: وعلى هذا التقدير ففي كان الثانية ضمير الشأن والحديث، والجملة بعدها خبر عنها، وقد قدّم بعض ما إذ مضافة إليه وهو أسد عليها، وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح ما لا خفاء به. قال: وأيضا فإن أسدا أحد جزأي الجملة المفسّرة للضمير، والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده، ولو تقدّم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير، ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول؛ وعلى نحو ذلك ورد قول الآخر:
فأصبحت بعد خطّ بهجتها ... كأنّ قفرا رسومها قلما
يريد فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأنّ قلما خط رسومها، فقدّم خبر كأنّ وهو خطّ عليها فجاء مختلّا مضطربا.
قال في «المثل السائر» : وهذا البيت من أقبح هذا النوع لأن معانيه قد تداخلت، وركب بعضها بعضا؛ على أن ذلك قد وقع لجمع من فحول شعراء العرب؛ كقول امرىء القيس:(2/287)
هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة فدعاهما
يريد أخوا من لا أخوي «1» له في الحرب؛ وقول النابغة:
يثرن الثّرى حتّى يباشرن برده ... إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل «2»
قال أبو هلال العسكريّ: وهذا البيت مستهجن جدّا لأن المعنى تعمّى فيه، يريد يثرن الثرى حتى يباشرن برده بالكلاكل إذا الشمس مجّت ريقها، وقول أبي حيّة النّميريّ «3» :
كما خطّ الكتاب بكّفّ، يوما، ... يهوديّ يقارب أو يزيل
يريد كما خط الكتاب بكف يهوديّ يوما يقارب أو يزيل؛ وقول ذي الرمة:
نضا البرد عنه وهو من، ذو، جنونه ... أجاريّ، صهّال وصوت مبرسم «4»
يريد وهو من جنونه ذو أجاريّ؛ قال في «الصناعتين» : كأنه تخليط كلام مجنون أو هجر مبرسم؛ وقول الشماخ «5» :
تخامص عن برد الوشاح إذا مشت ... تخامص حافي الخيل «6» في الأمعز الوجي «7»
يريد تخامص حافي الخيل في الوجي، الأمعز «8» .(2/288)
قال أبو هلال العسكري: وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجة ويبنى عليها فإنه لا يعذر في شيء منها، لإجماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها واستجادة ما يضح من الكلام ويستبين، واسترذال ما يشكل منه ويستبهم؛ وقد كان عمر رضي الله عنه يمدح زهيرا بأنه لم يكن يعاظل بين الكلام.
قال في «المثل السائر» : والفرزدق أكبر الشعراء تعاظلا وتعقيدا في شعره، كأنه كان يقصد ذلك ويتعمّده، لأن مثله لا يجيء إلا متكلّفا مقصودا، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيّتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد، بدليل أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به، ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما.
الضرب الثاني من التعقيد
- ألّا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد بخلل في انتقال الذهن من المعنى الأوّل المفهوم بحسب اللغة إلى الثاني المقصود، لإيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة، مع خفاء القرائن الدالة على المقصود، كقول العبّاس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا
يريد إني أطلب بعد الدار عنكم لتقربوا مني، وتسكب عيناي الدّموع لتجمد وتكفّ الدمع بحصول التلاقي؛ والمعنى أنّي طبت نفسا بالبعد والفراق، ووطّنت نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق، وأتجرّع الغصص، وأحتمل لأجلها حزنا يفيض الدّموع من عينيّ، لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرّة لا تزول، فتجمد عيني ويرقأ دمعي، فإن الصبر مفتاح الفرج؛ فكنّى بسكب الدموع عن الكآبة والحزن، وهو ظاهر المعنى لأنه كثيرا ما يجعل دليلا عليه، يقال: أبكاني الدهر وأضحكني يمعنى ساءني وسرّني، وكنّى بجمود العين عما يوجبه دوام التلاقي من الفرح والسرور؛ فإن المتبادر إلى الذهن من جمود العين بخلها بالدمع عند إرادة(2/289)
البكاء حال الحزن، بخلاف ما قصده الشاعر من التعبير به عن الفرح والسرور، وإن كانت حالة جمود الدمع مشتركة بين بخل العين بالدمع عند إرادة البكاء، وبين زمن السرور الذي لم يطلب فيه بكاء، وكذلك يجري القول في كل لفظ مشترك ينتقل الذهن فيه من أحد المعنيين إلى الآخر إذا لم يكن هناك قرينة تصرفه إلى أحدهما، كما صرح به الرمانيّ «1» وغيره، خصوصا إذا كان أحد المعنيين الذي يدلّ عليه اللفظ المشترك مستقبحا كما نبه عليه ابن الأثير في الكلام على فصاحة اللفظ المفرد؛ ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة بين التعظيم والإكرام، وبين الإهانة بسبب الخيانة التي لا توجب الحدّ من الضرب وغيره، والمعنيان ضدّان، فحيث وردت معها قرينة صرفتها إلى معنى التعظيم جاءت حسنة رائقة، وكانت في أعلى درجات الفصاحة؛ وعلى نحو ذلك ورد قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
«2» وقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
«3» الآية، فإنه لما ورد معها قرينة التوقير في الآية الأولى وقرينة الإيمان والنصر في الآية الثانية زال اللبس وحسن الموقع؛ ولو وردت مهملة بغير قرينة بإرادة المعنى الحسن لسبق الفهم إلى المعنى القبيح، كما لو قلت عزّر القاضي فلانا وأنت تريد أنه عظمه، فإنه لا يتبادر من ذلك إلى الفهم إلا أنه أهانه، وعلى هذا النّهج يجري الحكم في الحسن والقبح مع القرينة وعدمها.
قال ابن الأثير رحمه الله: فما ورد مع القرينة فجاء حسنا قول تأبط شرّا:
أقول للحيان، وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيّق الجحر معور
فإنه أضاف الجحر إلى اليوم فأزال عنه هجنة الاشتباه لأن الجحر يطلق على(2/290)
كل ثقب كجحر الحيّة واليربوع ونحوهما، وعلى المحل المخصوص «1» من الحيوان، فإذا ورد مهملا بغير قرينة تخصّصه سبق إلى الفهم المعنى القبيح لاشتهاره دون غيره. ومما ورد مهملا بغير قرينة فجاء قبيحا قول أبي تمّام:
أعطيتني دية القتيل وليس لي ... عقل ولا حقّ عليك قديم
فإن المتبادر إلى الأفهام من قوله وليس لي عقل أنه من العقل الذي هو ضد الجنون، ولو قال وليس لي عليك عقل لزال اللبس. قال: فيجب إذا على صاحب هذه الصناعة أن يراعي في كلامه مثل هذا الموضع.
الصفة الثالثة أن يكون الكلام سلما من تنافر الكلمات وإن كانت مفرداته فصيحة
وقد اختلف في معنى هذا التنافر على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأوّل- أن المراد بتنافر الكلمات أن يكون في الكلام ثقل على اللسان ويعسر النطق به على المتكلم
، وإليه ذهب السّكّاكيّ «2» وغيره من علماء البيان.
وهو على ضربين:
الضرب الأوّل- أن يكون فيه بعض ثقل
، كقول أبي تمام:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي، وإذا مالمته، لمته وحدي
فقوله أمدحه أمدحه فيه بعض الثّقل على اللسان في النطق، وذلك أن الحاء والهاء متقاربان في المخرج، وقد اجتمعا في قوله أمدحه، ثم تكررت الكلمة في البيت مع تقارب مخرج الحرفين فثقلت بعض الثقل.(2/291)
وأوّل من نبه على ذلك الأستاذ ابن العميد «1» رحمه الله.
ومما يحكى في ذلك: أن الصاحب بن عبّاد أنشد هذا البيت بحضرة ابن العميد، فقال له ابن العميد: هل تعرف في هذا البيت شيئا من الهجنة؟ فقال:
نعم، مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل المدح بالذم والهجاء، فقال له ابن العميد:
غير هذا أريد، قال: لا أرى غير ذلك. فقال ابن العميد: هذا التكرير في أمدحه، أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج عن حدّ الاعتدال، نافر كلّ التنافر، فاستحسن الصاحب بن عبّاد ذلك.
قال الشيخ سعد الدين التفتازانيّ في شرح تلخيص المفتاح: ولا يجوز أن يراد أن الثقل في لفظة أمدحه دون تكرار، فإنّ مثل ذلك واقع في التنزيل نحو قوله تعالى: فَسَبِّحْهُ*
والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح مما لا يجتريء عليه المؤمن.
الضرب الثاني- ما كان شديد الثقل بحيث يضطرب لسان المتكلم عند إرادة النطق به
، كقوله:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
قال في عجائب المخلوقات: إن من الجن نوعا يقال له الهاتف، فصاح واحد منهم على حرب بن أميّة «2» فمات، فقال ذلك الجنّي هذا البيت. قال المسعوديّ في «مروج الذهب» : والدليل على أنه من شعر الجن أمران: أحدهما الرواية، والثاني أنه لا يقوله أحد ثلاث مرات متواليات إلا تعتع فيه.
قال ضياء الدين بن الأثير: والسبب في ثقل البيت تكرير حرفي الباء والراء(2/292)
فيه، فهذه الباءات والراءات فيه كأنها سلسلة، ولا خفاء بما في ذلك من الثقل.
قال: وكذلك يجري الحكم في كل ما تكرر فيه حرف أو حرفان؛ إلا أنه لم يطلق على ذلك اسم التنافر، وجعل التنافر قسما مستقلا برأسه كما سيأتي، وعدّ هذا من أنواع المعاظلة اللفظية؛ ثم ذكر من أمثلته قول الحريري «1» في مقاماته:
وازورّ من كان له زائرا ... وعاف عافي العرف عرفانه
وقول كشاجم:
والزّهر والقطر في رباها ... ما بين نظم وبين نثر
حدائق، كفّ كلّ ريح ... حلّ بها خيط كلّ قطر
وقول الآخر:
مللت مطال مولود مفدّى ... مليح مانع منّي مرادي
وقول المتنبي:
كيف ترثي التي ترى كلّ جفن ... زاءها غير جفنها غير راقي
وعاب بيت الحريريّ لتكرر العين فيه في قوله:
وعاف عافي العرف عرفانه
وعاب البيت الثاني من بيت كشاجم لتكرر الكاف فيه في كفّ «وكلّ» الأولى و «كلّ» الثانية، وقال: هذا البيت يحتاج الناطق به إلى بركار يضعه في شدقه حتّى يديره له؛ وعاب البيت الذي يليه لتكرر الميم فيه في أوائل الكلمات، وقال: هذه الميمات كأنها عقد، متصلة بعضها ببعض، وعاب بيت المتنبي لتكرر الجيم والراء في أكثر كلماته، وقال: هذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصّرع التي تنوبه في بعض الأيام. قال: وكان بعض أهل الأدب من أهل عصرنا يستعمل هذا(2/293)
القسم من المعاظلة كثيرا في كلامه نثرا ونظما، وذلك لعدم معرفته لسلوك الطريق، كقوله في وصف رجل سخيّ: أنت المريح كبد الريح، والمليح إن تجهّم المليح بالتكليح، عند سائل يلوح، بل تفوق إذ تروق مرأى يوح «1» ، يا مغبوق «2» كأس الحمد، يا مصبوح ضاق عن نداك اللّوح «3» ، وببابك المفتوح يستريح ويريح ذو التّبريح، ويرفّه الطليح «4» . فأنظر إلى حرفي الراء والحاء كيف لزمهما في كل لفظة من هذه الألفاظ فجاء على ما تراه من الثقل والغثاثة.
ثم قال: واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم، وذاك أنه إذا تكرر الحرف عندهم أدغموه استحسانا، فقالوا في جعل لك: جعلّك، وفي تضربونني تضربونّي، وكذلك قالوا: استعدّ فلان للأمر إذا تأهب له، والأصل فيه استعدد، واستتبّ الأمر إذا تهيأ والأصل فيه استتبب، وأشباه هذا كثير في كلامهم حتّى إنهم لشدّة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا الحرفين «5» المكررين حرفا آخر غيره، فقالوا: أمليت الكتاب، والأصل فيه أمللت، فأبدلوا اللام ياء طلبا للخفة وفرارا من الثقل، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضا.
قلت: ليس تكرار الحروف مما يوجب التنافر مطلقا كما يقتضيه كلامه بل بحسب التركيب، فقد تتكرر الحروف وتترادف في الكلمات المتتابعة مع القطع بفصاحتها وخفّتها على اللسان وسهولة النطق بها، ألا ترى إلى قوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ
«6» كيف اجتمع فيه ستّ عشرة ميما في آية واحدة، قد(2/294)
تلاصق منها أربع ميمات في موضع وميمان في موضع، مع ما اشتملت عليه من الطّلاوة والرّونق الذي ليس في قدرة البشر الإتيان بمثله، والله أعلم.
المذهب الثاني- أن المراد بتنافر الكلمات أن تكون أجزاء الكلام غير متلائمة، ومعانيه غير متوافقة
، بأن يكون عجز البيت أو القرينة غير ملائم لصدره، أو البيت الثاني غير مشاكل للبيت الأوّل، وعليه جرى العسكريّ في «الصناعتين» ؛ فمما اختلفت فيه أجزاء البيت الواحد قول السموأل:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل
فليس بين قوله ما في نصابنا كهام وقوله فنحن كماء المزن مناسبة لأن المراد بالكهام الذي لا غناء به ولا فائدة فيه، يقال قوم كهام أي لا غناء عندهم، ورجل كهام أي مسنّ، كذلك سيف كهام أي كليل، ولسان كهام أي عييّ، وفرس كهام أي بطيء، فهو يصف قومه بالنّجدة والبأس، وأنه ليس فيهم من لا يغني، وماء المزن إنما يحسن في وصف الجود والكرم. قال في «الصناعتين» : ولو قال: ونحن ليوث الحرب وأولو الصّرامة والنجدة، ما في نصابنا كهام، لكان الكلام مستويا، أو فنحن كماء المزن صفاء أخلاق وبذل أكفّ، لكان جيدا.
ومن ذلك قول طرفة:
ولست بحلّال التّلاع «1» مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فالمصراع الثاني من البيت غير مشاكل لصورة المصراع الأوّل وإن كان المعنى صحيحا لأنه أراد: ولست بحلّال التّلاع مخافة السؤال ولكنني أنزل الأمكنة المرتفعة لينتابوني وأرفدهم، وهذا وجه الكلام، فلم يعبر عنه تعبيرا صحيحا، ولكنه خلطه وحذف منه حذفا كثيرا فصار كالمتنافر؛ وأدواء الكلام كثيرة.(2/295)
ومنه قول الأعشى:
وإنّ امرأ أسرى إليك ودونه ... سهوب وموماة وبيداء سملق «1»
لمحقوقة أن تسجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفّق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله؛ وعلى نحو ذلك ورد قول عنترة:
حرق الجناح كأنّ لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع «2»
إنّ الذين نعبت لي بفراقهم ... هم أسلموا ليل التّمام وأوجعوا
فليس قوله: «بالأخبار هشّ مولع» من صفة جناحيه ولحييه؛ وقريب منه قول أبي تمّام:
محمّد إنّ الحاسدين شهود «3» ... وإنّ مصاب المزن حيث تريد
فليس النصف الثاني من النصف الأوّل في شيء؛ وكذلك قول الطالبيّ «4» :
قوم هدى الله العباد بجدّهم ... والمؤثرون الضيف بالأزواد
فلا مناسبة بين صدر البيت وعجزه بوجه.
وعدّ بعض الأدباء من هذا النوع قول أمرىء القيس:
كأنّي لم أركب جوادا للذّة، ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال(2/296)
وقال: لو وضع مصراع كل بيت من هذين البيتين في موضع الآخر لكان أحسن وأدخل في استواء النسج، فكان يقال:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كرّي كرة بعد إجفال
ولم أسبإ الزق الرويّ للذة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
لأن ركوب الجواد مع ذكر كرور الخيل أجود، وذكر الخمر مع ذكر الكواعب أحسن.
قال في «الصناعتين» : قال أبو أحمد: «1» والذي جاء به امرؤ القيس هو الصحيح لأن العرب تضع الشيء مع خلافه، فيقولون: الشدّة والرخاء، والبؤس والنعيم، ونحو ذلك. وكذلك كل ما يجري هذا المجرى.
قال أبو هلال العسكري: أخبرني أبو أحمد قال: كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر، فقال لنا يوما: إذا وضعتم الكلمة مع لفقها كنتم شعراء، ثم قال: أجيزوا هذا البيت:
ألا إنّما الدّنيا متاع غرور
فأجازه كل واحد منا بشيء فلم يرضه فقلت أنا:
وإن عظمت في أنفس وصدور
فقال: هذا هو الجيّد المختار.
قال «2» : وأخبرني أبو أحمد الشطنيّ قال: حدثنا أبو العباس بن عربيّ، قال:
حدثنا حماد بن «3» يزيد بن جبلة، قال: دفن مسلمة رجلا من أهله ثم قال:
نروح ونغدو كلّ يوم وليلة(2/297)
ثم قال لبعضهم: أجز فقال:
فحتّى متى هذا الرّواح مع الغدوّ
فقال مسلمة: لم تصنع شيئا، ثم قال لآخر: أجز فقال:
فيالك مغدى مرّة ومراحا «1»
فقال: لم تصنع شيئا، ثم قال لآخر: أجز فقال:
وعمّا قليل لا نروح ولا نغدو
فقال: الآن تم البيت؛ وأشباه ذلك ونظائره كثيرة.
ومما اختلف فيه البيت الأوّل والثاني قول ابن هرمة «2» :
وإنّي «3» وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّيّ زندا شحاحا «4»
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقول الفرزدق:
فإنّك «5» إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سجوف «6» العمائم
كمهريق ماء بالفلاة، وغرّه ... سراب أذاعته رياح السّمائم «7»
كان ينبغي أن يكون بيت ابن هرمة الأوّل مع بيت الفرزدق الثاني، وبيت الفرزدق الأوّل مع بيت ابن هرمة الثاني، فيقال في الأوّل:(2/298)
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّيّ زندا شحاحا «1»
كمهريق ماء بالفلاة وغرّه ... سراب أذاعته رياح السمائم
مع تغيير إحدى القافيتين، ويقال في الثاني:
وإنك إذ تهجوا تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سجوف «2» العمائم
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
مع تغيير إحدى القافيتين حتّى يصح التشبيه للشاعرين جميعا.
المذهب الثالث- أن المراد بتنافر الكلمات أن تذكر لفظة
أو ألفاظا يكون غيرها مما في معناها أولى بالذكر، فتجيء الكلمة غير لائقة بمكانها، وهو ما أصطلح عليه ابن الأثير في «المثل السائر» . وهو على ضربين:
الضرب الأوّل: ما يوجد منه في اللفظة الواحدة فيمكن تبديله بغيره مما هو في معناه سواء كان ذلك الكلام نظما أو نثرا؛ وهو على أنواع شتّى:
منها فك الإدغام في غير موضع فكّه، كقول ابن أمّ صاحب «3» :
مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
ففك الإدغام في ضننوا، وكان الأحسن أن يقال: وإن ضنوا أي بخلوا.
وعلى حدّ ذلك ورد قول المتنبي:
فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
فلو أدغم لجاءت اللفظة في مكانها غير قلقة ولا نافرة، وكذلك كل ما جاء على هذا النهج فلا يحسن أن يقال: بلّ الثوب فهو بالل، ولا سلّ السيف فهو سالل، ولا همّ بالأمر فهو هامم، ولا خط الكتاب فهو خاطط، ولا حنّ إلى كذا فهو حانن، وهذا لو عرض على من لا ذوق له أدركه، فكيف من له ذوق صحيح كأبي(2/299)
الطيب؟ لكن لا بدّ لكل جواد من كبوة.
ومنها زيادة حرف في غير موضعه كقول دعبل «1» :
شفيعك فاشكر في الحوائج إنّه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق
فالفاء في قوله فاشكر زائدة في غير محلها، نافرة عن مكانها.
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير: أنشدني بعض الأدباء هذا البيت فقلت له:
عجز هذا البيت حسن، وأما صدره فقبيح لأن سبكه قلق نافر، والفاء في قوله فاشكر كأنها ركبة البعير، وهي في زيادتها كزيادة الكرش، فقال: لهذه الفاء في كتاب الله تعالى أشباه كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
«2» فقلت له: بين هذه الفاء وتلك فرق ظاهر يدرك بالعلم أوّلا وبالذوق ثانيا، أما العلم فإن الفاء في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
فهي الفاء العاطفة إذ وردت بعد قوله: قُمْ فَأَنْذِرْ
وهي مثل قولك: امش فأسرع، وقل فأبلغ، وليست الفاء التي في قول دعبل: شفيعك فاشكر من هذا القبيل، بل هي زائدة ولا موضع لها، وإنما نسبتها أن يقال: ربك أو ثيابك فطهر من غير تقدّم معطوف عليه «3» ، وحاشا فصاحة القرآن من ذلك. فأذعن بالتسليم ورجع إلى الحق.
قال: ومثل هذه الدقائق التي ترد في الكلام نظما كان أو نثرا لا يتفطّن لها إلا الراسخ في علم الفصاحة.
ومنها وصل همزة القطع في الشعر وإن كان ذلك جائزا فيه بخلاف النثر كقول أبي تمّام:
قراني اللها «4» والودّ حتّى كأنّما ... أفاد الغني من نائلي وفوائدي
فأصبح يلقاني الزّمان من اجله ... بإعظام مولود ورأفة والد(2/300)
فقوله من اجله بوصل همزة القطع من الكلام النافر؛ وعلى حدّه ورد قول أبي الطّيّب:
يوسّطه المفاوز كلّ يوم ... طلاب الطّالبين لا الانتظار
فقوله لا الانتظار بوصل همزة الانتظار كلام نافر.
ومنها قطع همزة الوصل في الشعر أيضا وإن كان جائزا فيه كقول جميل:
ألا لا أرى إثنين أجمل «1» شيمة ... على حدثان الدّهر منّي ومن جمل
وقوله أيضا:
إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنشر «2» وتكثير الوشاة قمين
فقطع ألف الوصل في لفظ الاثنين في البيت الأوّل والثاني.
ومنها أن يفرق بين الموصوف والصفة بضمير من تقدّم ذكره كقول البحتريّ:
حلفت لها بالله يوم التّفرّق ... وبالوجد من قلبي بها المتعلّق
تقديره من قلبي المتعلق بها، فلما فصل بين الموصوف الذي هو قلبي والصفة التي هي المتعلق بالضمير الذي هو بها قبح ذلك، ولو قال: من قلب بها متعلق لزال ذلك القبح وذهبت تلك الهجنة. ونحو ذلك.
الأصل الرابع المعرفة بالسجع الذي هو قوام الكلام المنثور وعلوّ رتبته ويتعلق به ستة أغراض
الغرض الأوّل- في معرفة معناه في اللغة والاصطلاح، وبيان حكمه في حالتي الدرج والوقف.(2/301)
أما في اللغة فقال في «موادّ البيان» : إنه مشتق من الساجع: وهو المستقيم لاستقامته في الكلام، واستواء أوزانه، وقيل من سجع الحمامة وهو ترجيعها الصوت على حدّ واحد، يقال منه سجعت الحمامة تسجع سجعا فهي ساجعة، سمّي السجع في الكلام بذلك لأن مقاطع الفصول تأتي على ألفاظ متوازنة متعادلة، وكلمات متوازية متماثلة، فأشبه ذلك الترجيع.
وأما في الاصطلاح، فقال في «موادّ البيان» : هو تقفية مقاطع الكلام من غير وزن «1» ، وذكر نحوه في «المثل السائر» فقال: هو تواطؤ الفواصل من الكلام المنثور على حرف واحد، ويقال للجزء الواحد منه سجعة، وتجمع على سجعات، وفقرة بكسر الفاء أخذا من فقرة الظهر وهي إحدى عظام الصّلب، وتجمع على فقر وفقرات بكسر الفاء وسكون القاف وفتحها، وربما فتحت الفاء والقاف جميعا، ويقال لها أيضا: قرينة لمقارنة أختها وتجمع على قرائن، ويقال للحرف الأخير منها: حرف الرّويّ والفاصلة.
وأما بيان حكمه في الوقف والدّرج فاعلم أن موضوع حكم السجع أن تكون كلمات الأسجاع ساكنة الأعجاز، موقوفا عليها بالسكون في حالتي الوقف والدّرج؛ لأن الغرض منها المناسبة بين القرائن، أو المزاوجة بين الفقر، وذلك لا يتم إلا بالوقف، ألا ترى أن قولهم: ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت، لو ذهبت تصل فيه لم يكن بدّ من إعطاء أواخر القرائن ما يعطيه حكم الإعراب فتختلف أواخر القرائن ويفوت الساجع غرضه.
الغرض الثاني في بيان حسن موقعه من الكلام
قال في «الصناعتين» : لا يحسن منثور الكلام، ولا يحلو حتّى يكون(2/302)
مزدوجا، ولا «1» تجد لبليغ كلاما محلولا من الازدواج، وناهيك أن القرآن الكريم الذي هو عنصر البلاغة ومناط الإعجاز مشحون به، لا تخلو منه سورة من سوره وإن قصرت، بل ربما وقع السجع في فواصل جميع السورة، كما في سورة النجم، واقتربت، والرحمن وغيرها من السّور. بل ربما وقع في أوساط الآيات، كقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ
«2» وقوله:
لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ
«3» وقوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ
«4» وما أشبه ذلك. وكذلك وقع في الكثير من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كقوله عليه السلام عند قدومه المدينة الشريفة: «أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلو الأرحام، وصلّوا باللّيل والنّاس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام» . بل ربما صرف صلّى الله عليه وسلّم الكلمة عن موضعها في تصريف اللغة طلبا للمزاوجة كقوله في تعويذه لابن ابنته: «أعيذه من الهامّة والسامّة، والعين اللّامّة» وأصلها في اللغة الملمّة لأنها من ألمّ، فعبر عنها باللامّة لموافقة الهامّة والسامّة، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم للنساء: «انصرفن مأزورات غير مأجورات» والأصل في اللغة أن يقال موزورات أخذا من الوزر، فعبر بمأزورات لموافقة مأجورات؛ وعلى ذلك كان يجري كلام العرب في مهمّ كلامهم من الدعاء وغيره كقول بعض الأعراب وقد ذهب السيل بابنه: اللهم إن كنت قد أبليت، فطالما عافيت. وقول الآخر: اللهم هب لنا حبك، وأرض عنا خلقك، ونحو ذلك. وأما ما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم حين قضى على رجل في الجنين بغرة عبد أو أمة، فقال الرجل: أأدى من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يطل «5» ؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أسجعا كسجع الكهّان» فليس فيه دلالة على كراهة(2/303)
السجع في الكلام وإن تمسك به بعض من نبا عن السجع طبعه، ونفرت منه قريحته، إذ يحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما كره السجع من ذلك الرجل لمشابهة سجعه حينئذ سجع الكهّان، لما في سجعهم من التكلّف والتعسّف كما وجهه أبو هلال العسكريّ، وإما لجريانه على عادتهم في الجواب في الأحكام وغيرها بالكلام المسجوع كما وجهه غيره، أو أنه إنما كره حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع بإنكار إيجاب الدية، لانفس السجع المأتي به كما اختاره صاحب «المثل السائر» ؛ ولو كره صلّى الله عليه وسلّم السجع نفسه، لا قتصر على قوله: أسجعا، ولم يقيده بسجع الكهّان.
الغرض الثالث في بيان أقسام السجع، وهي راجعة إلى صنفين
الصنف الأوّل أن تكون القرينتان متفقتين في حرف الرّويّ، ويسميه الرّمّانيّ السجع الحاني
وعليه عمل أكثر الكتّاب من زمن القاضي الفاضل، وهلمّ جرّا إلى زماننا؛ وفيه ثلاث مراتب
المرتبة الأوّلى- أن تكون ألفاظ القرينتين مستوية الأوزان متعادلة الأجزاء ويسمّى التصريع
«1» ، وهو أحسن أنواع السجع وأعلاها. ومنه في النثر قوله تعالى:
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ
«2» وقوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
«3» . وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: «اللهمّ اقبل توبتي، واغسل حوبتي» . وقوله للأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطّمع» وقول بعض الأعراب في وصف سنة جدبة: سنة جردت، وحال جهدت، وأيد جمدت، ونحو ذلك. ومثاله في النظم قول الخنساء «4» :(2/304)
حامي الحقيقة محمود الخليقة، ... مهديّ الطريقة نفّاع وضرّار
جوّاب قاصية جزّاز ناصية ... عدّاد «1» ألوية للخيل جرّار
المرتبة الثانية- أن يختص التوازن بالكلمتين الأخيرتين من الفقرتين فقط دون ما عداهما من سائر الألفاظ
«2» ، كقوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ
«3» ثم قال: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
«4» . وكقول الحريريّ في مقاماته: ألجأني حكم دهر قاسط، إلى أن أنتجع أرض واسط. وقوله: وأودى الناطق والصّامت، ورثى لنا الحاسد والشّامت، وما أشبه ذلك.
المرتبة الثالثة- أن يقع الاتفاق في حرف الرّويّ مع قطع النظر عن التّوازن في شيء من أجزاء الفقرة في آخر ولا غيره، ويسمّى المطرّف
، كقوله تعالى:
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً
«5» وقولهم: جنابه محطّ الرّحال، ومخيّم الآمال. وما يجري هذا المجرى.
الصنف الثاني أن يختلف حرف الرّويّ في آخر الفقرتين، وهو الذي يعبرون عنه بالازدواج
. والرّمانيّ يسميه السّجع العاطل، وعليه كان عمل السلف من الصحابة ومن قارب زمانهم، وهو على ضربين
الضرب الأوّل أن يقع ذلك في النثر، وفيه مرتبتان
المرتبة الأولى- أن يراعي الوزن في جميع كلمات القرينتين
أو في أكثرها(2/305)
مع مقابلة الكلمة بما يعادلها وزنا، ويسمّى التوازن وهو أحسنها وأعلاها، كقوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
«1» وكقول الحريريّ: اسودّ يومي الأبيض، وابيضّ فودي الأسود.
المرتبة الثانية- ألّا يراعى التوازن إلا في الكلمتين الأخيرتين من القرينتين فقط
، ويسمّى التوازن أيضا، ومنه قوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
«2» وقولهم: اصبر على حرّ القتال، ومضض النّزال، وشدّة النّصاع، ومداومة البراز «3» ، وما أشبه ذلك.
الضرب الثاني السّجع الواقع في الشّعر
ويسمّى التصريع في البيت الأوّل، ومحل الكلام عليه علم البديع، وقد ذكره في «المثل السائر» في أعقاب الكلام على السجع في الكلام المنثور، وجعله على سبع مراتب:
المرتبة الأولى- وهي أعلاها درجة- أن يكون كل مصراع من البيت مستقلّا بنفسه
، غير محتاج إلى ما يليه؛ ويسمّى التصريع الكامل، كقول امريء القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل ... وإن كنت قد أزمعت هجري «4» فأجملي
فإن كل مصراع من البيت مفهوم المعنى بنفسه، غير محتاج إلى ما يليه في الفهم، وليس له به ارتباط يتوقف عليه.(2/306)
المرتبة الثانية- أن يكون المصراع الأوّل مستقلّا بنفسه، غير محتاج إلى الذي يليه إلا أنه مرتبط به
، كقول امريء القيس أيضا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
فإن المصراع الأوّل منه غير محتاج إلى الثاني في فهم معناه، ولكنه لما جاء الثاني صار مرتبطا به.
المرتبة الثالثة- أن يكون الشاعر مخيّرا في وضع كل مصراع موضع الآخر، ويسمى التصريع الموجّه
، كقول ابن حجّاج «1» :
من شروط الصّبوح في المهرجان ... خفّة الشّرب مع خلوّ المكان
فإنه لو جعل المصراع الثاني أوّلا والآخر ثانيا، لساغ له ذلك.
المرتبة الرابعة- أن يكون المصراع الأوّل غير مستقلّ بنفسه، ولا يفهم معناه إلا بالثاني؛ ويسمّى التصريع الناقص
، وليس بمستحسن، كقول المتنبي:
مغاني الشّعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزّمان
فإنّ المصراع الأوّل لا يستقلّ بنفسه في فهم معناه دون المصراع الثاني.
المرتبة الخامسة- أن يكون التصريع في البيت بلفظة واحدة في الوسط والقافية، ويسمّى التصريع المكرر
؛ ثم اللفظة التي يقع بها التصريع قد تكون حقيقة لا مجاز فيها كقول عبيد بن الأبرص «2» :
وكلّ ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وقد تكون اللفظة التي يقع بها التصريع مجازيّة كقول أبي تمّام الطائيّ:(2/307)
فتى كان
شربا للعفاة ومرتعا ... فأصبح للهنديّة البيض مرتعا
المرتبة السادسة- أن يكون المصراع الأوّل معلّقا على صفة يأتي ذكرها في أوّل المصراع الثاني؛ ويسمّى التصريع المعلّق
. كقول امريء القيس:
ألا أيّها الليل الطّويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فإن المصراع الأوّل معلق على قوله بصبح، وهو مستقبح في الصنعة.
المرتبة السابعة- أن يكون التصريع في البيت مخالفا لقافيته؛ ويسمّى التصريع المشطور
، وهو أنزل درجات التصريع وأقبحها. كقول أبي نواس:
أقلني قد ندمت على الذّنوب ... وبالإقرار عذت من الجحود
فإنه قد صرّع في وسط البيت بالباء ثم في آخره بالدال.
قلت: وإنما أوردت هذا الصنف مع السجع وإن كان من خصوصيات الشعر لأنه قد يقع مثله في النثر، إذ الفقرة من النثر كالبيت من الشعر، فالفقرتان كالبيتين، وأيضا فإن الشعر من وظيفة الكاتب.
الغرض الرابع في معرفة مقادير السّجعات في الطّول والقصر، وهي على ضربين
الضرب الأوّل السّجعات القصار
وهي ما صيغ من عشرة ألفاظ فما دونها، قال في «حسن التوسل» «1» : وهي تدل على قوّة التمكن وإحكام الصنعة، لا سيما القصير منها للغاية، وأقل ما يكون من لفظتين كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
«2» .(2/308)
وقوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً
«1» وما أشبه ذلك، وأمثاله في القرآن الكريم كثير إلا أن الزائد على ذلك أكثر. كقوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى
«2» . وقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ
«3» . وقوله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
«4» ونحو ذلك.
الضرب الثاني السجعات الطوال
قال في «حسن التوسل» : وهي ألذّ في السمع، يتشوّق السامع إلى ما يرد متزايدا على سمعه، وأقلّ ما تتركب من إحدى عشرة كلمة فما فوقها، وغالب ما تكون من خمس عشرة لفظة فما حولها، كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
«5» فالأولى من إحدى عشرة لفظة، والثانية من ثلاث عشرة لفظة، قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
«6» فالأولى من أربع عشرة لفظة، والثانية من خمس عشرة، وقوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ(2/309)
الْأُمُورُ
«1» فالأولى عشرون لفظة، والثانية تسع عشرة، وهذا غاية ما انتهى إليه الطّول في القرآن الكريم. وينبغي أن يكون ذلك نهاية الطول في السجع وقوفا مع ما ورد به القرآن الكريم الذي هو أفصح كلام، وأقوم نظام، وإن كان الوزير ضياء الدين بن الأثير، والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي وغيرهما، قد صرحوا بأنه لا ضابط لأكثره.
واعلم أنه قد جرت عادة كتّاب الزمان ومصطلحهم أن تكون السجعة الأولى من افتتاح الولاية من تقليد أو توقيع أو غير ذلك قصيرة بحيث لا يتعدّى آخرها السطر الثاني في الكتابة ليقع العلم بها بمجرّد وقوع النظر على أوّل المكتوب.
وعلى هذا فيختلف القصر فيها باختلاف ضيق الورق وسعته في العرض.
الغرض الخامس في ترتيب السجعات بعضها على بعض في التقديم والتأخير باعتبار الطول والقصر وله حالتان
الحالة الأولى ألا يزيد السجع على سجعتين؛ وله ثلاث مراتب
المرتبة الأولى- أن تكون القرينتان متساويتين لا تزيد إحداهما على الأخرى
كقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ
«2» ، وقوله:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
«3» وأمثال ذلك.
المرتبة الثانية- أن تكون القرينة الثانية أطول من الأولى بقدر يسير
كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ(2/310)
بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
«1» فالأولى ثمان كلمات، والثانية تسع، ونحو ذلك؛ أما إذا طالت الثانية عن الأولى طولا يخرج عن الاعتدال، فإنه يستقبح حينئذ، ووجّهه في «حسن التوسل» بأنه يبعد دخول القافية على السامع فيقلّ الالتذاذ بسماعها. والمرجع في قدر الزيادة والقصر إلى الذوق.
المرتبة الثالثة- أن تكون القرينة الثانية أقصر من الأولى
. قال في «المثل السائر» : وهو عندي عيب فاحش، لأن السمع يكون قد استوفى أمده من الفصل الأوّل بحكم طوله، ثم يجيء الفصل الثاني قصيرا فيكون كالشيء المبتور، فيبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها؛ وفيما قاله نظر، فقد تقدّم في قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا
«2» الآيتين، أن الأولى عشرون كلمة والثانية تسع عشرة، بل قد اختار تحسين ذلك أبو هلال العسكريّ في «الصناعتين» محتجّا له بكثرة وروده في كلام النبوّة كقوله صلّى الله عليه وسلّم للأنصار:
«إنّكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطّمع» وقوله: «المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، وهم يد على من سواهم» وقوله: «رحم الله من قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» .
الحالة الثانية أن يزيد السجع على سجعتين، ولها أربع مراتب
المرتبة الأولى- أن يقع على حدّ واحد في التّساوي
وهو مستحسن، وقد ورد في القرآن الكريم بعض ذلك كقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
«3» فهذه السجعات الثلاث مركبة من لفظتين لفظتين.(2/311)
المرتبة الثانية- أن تكون الأولى أقصر والثانية والثالثة متساويتين
كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً
«1» فالأولى من ثمان كلمات، والثانية والثالثة من تسع تسع.
المرتبة الثالثة- أن تكون الأولى والثانية متساويتين، والثالثة زائدة عليهما
؛ وقد أشار إلى هذه المرتبة في «حسن التوسل» حيث قال: فإن زادت القرائن على اثنتين فلا يضر تساوي القرينتين الأوليين وزيادة الثالثة، ولم يمثل لها.
المرتبة الرابعة- أن تكون الثانية زائدة على الأولى، والثالثة زائدة على الثانية
؛ قال في «المثل السائر» : وينبغي أن تكون في هذا الحالة زيادة الثالثة متميزة في الطول على الأولى والثانية أكثر من تميز الثانية على الأولى. ثم قال: فإذا كانت الأولى والثانية أربع لفظات أربع لفظات تكون الثالثة عشر لفظات أو إحدى عشرة لفظة، ومثّل له في «حسن التوسل» بقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً
«2» فالأولى من ثمان كلمات، والثانية من تسع، والثالثة من عشر، ومثل له في «المثل السائر» بقوله في وصف صديق: فقلت: الصديق من لم يعتض عنك بخالف، ولم يعاملك معاملة الحالف، وإذا بلّغته أذنه وشاية أقام عليها حدّ السارق أو القاذف؛ فالأولى:
وهي لم يعتض عنك بخالف والثانية بعدها أربع كلمات، والثالثة عشر كلمات. ثم قال: وينبغي أن يكون ما يستعمل من هذا القبيل، فإن زادت الأولى والثانية على هذه العدّة زادت الثالثة بالحساب، وإن نقصت الأولى والثانية، فكذلك. لكن قد ضبط في «حسن التوسل» الزيادة في الثالثة بألّا تجاوز المثل، والأمر فيما بين(2/312)
الضابطين قريب؛ ولا يخفى حكم الرابعة في الزيادة مع الثالثة. قال في «حسن التوسل» : ولا بدّ من الزيادة في آخر القرائن.
الغرض السادس فيما يكون فيه حسن السجع وقبحه
أما حسنه، فيعتبر فيه بعد ما يقع فيكون به تحسين الكلام من أصناف البديع ونحوها بأمور أخرى:
منها أن يكون السجع بريئا من التكلف، خاليا من التعسف، محمولا على ما يأتي به الطبع وتبديه الغريزة، ويكون اللفظ فيه تابعا للمعنى، بأن يقتصر من اللفظ على ما يحتاج إليه في المعنى دون الإتيان بزيادة أو نقص تدعو إليه ضرورة السجع، حتّى لو حصلت زيادة أو نقص بسبب السجع دون المعنى، خرج السجع عن حيّز المدح إلى حيز الذم.
ومنها أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادّة، لا غثّة ولا باردة، مونقة المعنى حسنة التركيب، غير قاصرة على صورة السجع الذي هو تواطؤ الفقر، فيكون كمن نقش أثوابا من الكرسف «1» ، أو نظم عقدا من الخرز الملوّن. قال في «المثل السائر» : وهذا مقام تزلّ عنه الأقدام، ولا يستطيعه إلا الواحد من أرباب هذا الفن بعد الواحد. قال: ومن أجل ذلك كان أربابه قليلا، ولولا ذلك كان كل أديب سجّاعا، إذ ما منهم من أحد إلا وقد يتيسر عليه تأليف ألفاظ مسجوعة في الجملة.
ومنها أن تكون كلّ واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالّة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها، لأنّ اشتمال السجعتين على معنى واحد يمكن أن يكون في إحداهما بمفردها هو عين التطويل المذموم في الكلام، وهو الدلالة على(2/313)
المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها على ما هو مقرّر في علم البيان. قال في «المثل السائر» : فلا يكون مثل قول الصابي «1» في وصف مدبّر: «يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح» ولو قال: يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويثخن الجراح في عدوّه وسيفه في الغمد لم يجرح، لسلم من هجنة التكرار، فإنه تصير كل سجعة محتوية على معنى بحياله.
ومنها أن يقع التحسين في نفس الفواصل، كقولهم: إذا قلّت الأنصار، كلّت الأبصار؛ وقولهم: ما وراء الخلق الدّميم، إلّا الخلق الذميم، ونحو ذلك.
ومنها أن يقع في خلال السجعة الطويلة قرائن قصار فتكون سجعا في سجع، كقوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
«2» . وقوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
«3» فإن قوله: عَلى أَمْوالِهِمْ
. وقوله: عَلى قُلُوبِهِمْ
سجعتان داخلتان في السجعة التي آخرها حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
. وقوله: بِآخِذِيهِ
وقوله: تُغْمِضُوا فِيهِ
سجعتان داخلتان في السجعة التي آخرها غَنِيٌّ حَمِيدٌ
وعدّ العسكريّ منه قولهم «4» : عاد تعريضك تصريحا، وتمريضك تصحيحا.
وأما قبحه فيعتبر بأمور:
منها التجميع، وهو أن تكون فاصلة الجزء الأوّل بعيدة المشاكلة لفاصلة الجزء الثاني كما حكى قدامة «5» أن كاتبا كتب في جواب كتاب: وصل كتابك(2/314)
فوصل به ما يستعبد الحرّ، وإن كان قديم العبودية، ويستغرق الشكر، وإن كان سالف فضلك «1» لم يبق شيئا منه؛ فإن العبودية بعيدة عن مشاكلة منه.
ومنها التطويل، فيما ذكر قدامة وغيره: وهو أن يجيء الجزء الأوّل طويلا فيحتاج إلى إطالة الثاني بالضرورة، كما حكى قدامة أن كاتبا كتب في تعزية: إذا كان للمحزون في لقاء مثله كبير الراحة في العاجل، وكان طويل «2» الحزن راتبا إذا رجع إلى الحقائق وغير زائل. قال في «الصناعتين» : وذلك أنه لما أطال الجزء الأوّل، وعلم أن الجزء الثاني ينبغي أن يكون مثله أو أطول، احتاج إلى تطويل الثاني فأتي باستكراه وتكلف. قال في «موادّ البيان» : والإطالة بقوله «وغير زائل» .
الأصل الخامس حسن الاتباع، والقدرة على الاختراع
واعلم أن لكاتب الإنشاء مسلكين:
المسلك الأوّل طريقة الاتباع
وهي نظر الكاتب في كلام من تقدّمه من الكتّاب، وسلوك منهجهم، واقتفاء سبيلهم، وسماها ابن الأثير التقليد، وهي على صنفين:
الصنف الأوّل الاتباع في الألفاظ
وهو اعتماد الكاتب على ما رتبه غيره من الكتّاب، وأنشأه سواه من أهل صناعة النثر، بأن يعمد إلى ما أنشأه أفاضل الكتّاب ورتبه علماء الصناعة: من نثر أو نظم، فيأخذه برمّته، ويأتي عليه بصيغته؛ وغايته أن يكون ناسخا ناقلا لكلام غيره،(2/315)
حاكيا له. ولمثل ذلك توضع الدساتر، وتدوّن الدواوين؛ على أنه ربما غيّر وبدّل، وحرّف وصحّف، وأزال اللفظ عن وضعه؛ وأحال المعنى عن حكمه؛ وبعضهم ربما حملته الأنفة والخوف من أن يقال أخذ كلام فلان برمته، فعدل إلى كلام غيره، فالتقط من كل مكان سجعتين أو سجعات، ورتب بعضها على بعض حتّى تقوم بمقصوده، وينتهي إلى مراده.
فإن كان لطيف الذوق، حسن الاختيار، رائق الترتيب، فاختار من خلال السجع لطيفه، وأحسن رصفه وتأليفه، جاء بهجا رائقا، لأنه أتى من كل كلام بأحسنه، إلا أن فيه إخراج الكلام عن وضعه الذي قصده الناثر، وتفريق ما دوّن من كلام الأفاضل وتبديد شمله، وخروج الكلام عن أن يعرف قائله، ويعلم منشئه، فيقع من القلوب بمكان صاحبه ويهتدي بهديه، وينسج على منواله.
وإن لم يكن لطيف الذوق، ولا حسن الاختيار، جاء مالفقّه من كلام غيره رثّا ركيكا، نابيا عن الذوق، بعيدا عن الصنعة، يعاد من النسخ إلى المسخ، وأخرج الكلام عن موضوعه، وأفسده في وضعه وتركيبه، فإن صحبه التصحيف والتحريف فتلك الطامّة الكبرى، والمصيبة العظمى؛ ثم لا يكتفي بذلك حتى يتبجح به ويعتقد أن ذلك عين الإنشاء وحقيقته، محتجّا في ذلك بقول الحريري:
«إن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق، وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق» ظانّا أن التفليق هو ضم سجعات منتظمة، وفقرات مؤلّفة بعضها إلى بعض، ولم يعلم أن المراد بالتلفيق ضم لفظة إلى أختها، وإضافة كلمة إلى مشاكلتها وشتّان ما بين التلفيقين، وبعدا لما بين الطريقين:
وللزّنبور والبازي جميعا ... لدى الطّيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزّنبور فرق
وقد عابوا أخذ المعنى إذا كان ظاهرا مكشوفا، فما ظنّك بمن يأخذ الكلام برمته، واللفظ بصورته، فيصير ناسخا لكلام غيره، وناقلا له! فأيّ فضيلة في ذلك؟(2/316)
وقد قيل: من أخذ معنى بلفظه كان سارقا «1» ، ومن أخذ بعض لفظه كان سالخا، ومن أخذه فكساه لفظا من عنده كان أولى به ممن تقدّمه، وأين من هو أولى بالشيء ممن سبقه إليه ممن يعدّ سارقا وسالخا؟ ويقال إن أبا عذرة «2» الكلام من سبك لفظه على معناه، ومن أخذ معنى بلفظه فليس له فيه نصيب. هذا فيمن أخذ سجعة أو سجعتين في خطبة أو رسالة، أو بيتا أو بيتين في قصيدة وما قارب ذلك؛ أما من أخذ القصيدة بكمالها، أو الخطبة أو الرسالة برمّتها، أو لفّقها من خطب أو رسائل فذاك إنما يعدّ ناسخا إن أحسن النقل، أو ماسخا إن أفسده.
واعلم أن الناثر الماهر، والشاعر المفلق قد يأتي بكلام سبقه إليه غيره، فيأتي بالبيت من الشعر، أو القرينة من النثر، أو أكثر من ذلك بلفظ الأوّل من غير زيادة ولا نقصان، أو بتغيير لفظ يسير، وهذا هو الذي يسميه أهل هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر. وقد سئل أبو عمرو بن العلاء «3» عن الشاعرين يتفقان على لفظ واحد ومعنى فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها.
والواقع من ذلك في كلامهم على قسمين:
القسم الأوّل ما وقع الاتفاق فيه في المعنى واللفظ جميعا.
كقول الفرزدق:
وغرّ قد وسقت مشمّرات ... طوالع لا تطيق لها جوابا(2/317)
بكلّ ثنيّة وبكلّ ثغر ... غرائبهنّ تنتسب انتسابا
بلغن الشمس حين تكون شرقا ... ومسقط رأسها من حيث غابا
ووافقه جرير فقال مثل ذلك من غير زيادة ولا نقص.
ويروى أنّ عمر بن أبي ربيعة أنشد ابن عباس رضي الله عنه:
تشطّ غدا دار جيراننا
فقال ابن عباس رضي الله عنه:
وللدّار بعد غد أبعد
فقال عمر: والله ما قلت إلا كذلك.
قال أبو هلال العسكريّ في كتابه «الصناعتين» :
وأنشدت الصاحب إسماعيل بن عبّاد رحمه الله:
كانت سراة الناس تحت أظلّه «1»
فسبقني وقال:
فغدت سراة الناس فوق سراته
وكذلك كنت قلت: قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في كتابه «المثل السائر» : ويحكى أن امرأة من عقيل يقال لها ليلى كان يتحدّث إليها الشّباب، فدخل الفرزدق إليها وجعل يحادثها، وأقبل فتى من قومها كانت تألفه فدخل إليها فأقبلت عليه وتركت الفرزدق، فغاظه ذلك فقال للفتى: أتصارعني؟
فقال: ذاك إليك، فقام إليه فلم يلبث أن أخذ الفرزدق فصرعه وجلس على صدره فضرط، فوثب الفتى عنه وقال: يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك، والله ما أردت ما جرى، قال: وحيك! والله ما بي أنك صرعتني ولكن كأنّي بابن الأتان، (يعني جريرا) وقد بلغه خبري فقال يهجوني:
جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ... فخانك دبر لا يزال يخون(2/318)
فلو كنت ذا حزم شددت وكاءه ... كما شدّ جربان الدّلاص قيون «1»
فما مضى إلا أيام حتّى بلغ جريرا الخبر، فقال فيه هذين البيتين. قال: وهذا من أغرب ما يكون في هذا الموضع وأعجبه؛ قال في «الصناعتين» : وإذا كان القوم في قبيلة واحدة، في أرض واحدة، فإن خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم وشمائلهم تكون متضارعة. قال في «المثل السائر» : ويقال إن الفرزدق وجريرا كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد. قال: وهذا عندي مستبعد، فإن ظاهر الأمر يدل على خلافه، والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وإلا فإذا رأينا شاعرا متقدّم الزمان قد قال قولا ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده، علمنا بشهادة الحال أنه أخذه منه؛ وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة المتداولة، فكيف تتفق الألسنة أيضا في صوغ الألفاظ؟ وكلام العسكريّ في «الصناعتين» يوافقه بالعتب على المتأخر، وإن ادّعى أنه لم يسمع كلام الأوّل في مثل ذلك.
القسم الثاني ما وقع الاتفاق فيه في المعنى وبعض اللفظ، وهو على ضربين
الضرب الأوّل ما اتفق فيه المعنى وأكثر اللفظ
كقول امرىء القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
وقول طرفة:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد(2/319)
فالتخالف بينهما في كلمة القافية فقط.
وقول البعيث «1» :
أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير وقد أعيا كليبا قديمها؟
وقول الفرزدق:
أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير وقد أعيا ربيعا كبارها؟
فالتخالف بينهما في موضعين من البيت، كلمة القافية واسم القبيلة.
وقول بعض المتقدّمين يمدح معبدا صاحب الغناء:
أجاد طويس والسّريجيّ بعده ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد «2»
وقول «3» الفرزدق بعده:
محاسن أصناف المغنّين جملة ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد «4»
فاتفقا في النصف الثاني واختلفا في النصف الأوّل، إلى غير ذلك من الأشعار التي وقعت خواطر الشعراء عليها، وتوافقت عقولهم عندها.(2/320)
الضرب الثاني ما اتفق فيه المعنى مع يسير اللفظ «1»
فمن ذلك قول البحتريّ في وصف غلام:
فوق ضعف الصغير «2» إن وكل الأمر ... إليه، ودون كيد الكبار «3»
أخذه من قول أبي نواس:
لم يجف من كبر عما يراد به ... من الأمور ولا أزرى به الصّغر
وقول أبي تمّام:
لم أمدحك تفخيما بشعري ... ولكنّي مدحت بك المديحا
أخذه من قول حسان بن ثابت يمدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ما إن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمّد «4»
وقول أبي الطّيّب:
أين أزمعت أيّها ذا الهمام ... نحن نبت الرّبا وأنت الغمام
أخذه من قول بشّار:
كأنّ الناس حين تغيب عنهم ... نبات الأرض أخطأه القطار
الصنف الثاني التقليد في المعاني
وهذا مما لا يستغني عنه ناظم ولا ناثر. قال أبو هلال العسكريّ رحمه الله في(2/321)
كتابه «الصناعتين» : ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصّبّ على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير حليتها الأولى، ويزيدوا عليها في حسن تأليفها وجودة تركيبها، وكمال حليتها ومعرضها، فإذا فعلوا ذلك فهم أولى بها ممن سبق إليها. قال: ولولا أن القائل يؤدّي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين؛ وقد قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: لولا أن الكلام يعاد لنفد. ومن كلام بعضهم:
كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام، فإنك إذا ثنيته طال، والمعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيّد للسّوقيّ والنّبطيّ والزّنجيّ. وإنما يتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها، وتأليفها ونظمها، وقد أطبق المتقدّمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، فليس على أحد فيه عيب إلا إذا أخذه بكل لفظه، أو أفسده في الأخذ وقصّر فيه عمن تقدّمه. قال في «الصناعتين» : وما يعرف للمتقدّم معنى شريف إلا نازعه فيه المتأخر وطلب الشركة فيه معه، إلا بيت عنترة:
وخلا الذّباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشارب المترنّم «1»
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح المكبّ على الزّناد الأجذم «2»
فإنه ما نوزع فيه على جودته. قال: وقد رامه بعض المحدثين «3» فاتضح مع العلم بأن ابتكار المعنى والسبق إليه ليس فيه فضيلة ترجع إلى المعنى، وإنما ترجع الفضيلة فيه إلى الذي ابتكره وسبق إليه؛ فالمعنى الجيّد جيّد وإن كان مسبوقا إليه،(2/322)
والوسط وسط والرديء رديء وإن لم يكن مسبوقا إليهما. على أن بعض علماء الأدب قد ذهب إلى أنه ليس لأحد من المتأخرين معنى مبتدع، محتجّا لذلك بأن قول الشعر قديم مذ نطق باللغة العربية، وأنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا. قال في «المثل السائر» : والصحيح أن باب الابتداع مفتوح إلى يوم القيامة، ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له؟ إلا أنّ من المعاني ما يتساوى فيه الشعراء ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأوّل قبل آخر لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر الأوّل، كقولهم في الغزل:
عفت الديار وما عفت ... آثارهنّ من القلوب
وقولهم في المديح: إن عطاءه كالبحر أو كالسّحاب، وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد، وإنه يجود بماله من غير مسألة؛ وأشباه ذلك.
وقولهم في المراثي: إن هذا الرزء أوّل حادث، وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب، وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة، وإنّ بعد هذا الذاهب لا يعدّ للمنيّة ذنب، وما أشبه ذلك. وكذلك سائر المعاني الظاهرة التي تتوارد عليها الخواطر من غير كلفة، ويستوي في إيرادها كلّ بارع. قال: ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأوّل، وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص كقول أبي تمّام:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في النّدى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس
فإن هذا معنى ابتداعه مخصوص بأبي تمّام، وذلك أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السنيية التي مطلعها:
ما في وقوفك ساعة من باس
انتهى إلى قوله منها:(2/323)
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس «1»
فقال الحكيم الكنديّ: وأيّ فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمّام ثم أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إيّاه بعمرو وحاتم وإياس. فالحال يشهد بابتداعه هذا المعنى، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو بجزء منه كان سارقا له، وكذلك كلّ ما جرى هذا المجرى. ولم يزل الشعراء والخطباء يقتبسون من معاني من قبلهم، ويبنون على بناء من تقدّمهم.
فمما وقع للشعراء من ذلك قول أبي تمّام:
خلقنا رجالا للتّجلّد «2» والأسى ... وتلك الغواني للبكا والمآتم
أخذه من قول عبد الله بن الزّبير لما قتل مصعب بن الزبير: وإنما التسليم والسّلو لحزماء الرجال، وإن الجزع والهلع لربّات الحجال؛ وقوله أيضا:
تعجّب «3» أن رأت جسمي نحيفا «4» ... كأنّ المجد يدرك بالصّراع
أخذه من قول زياد ابن أبيه لأبي الأسود الدؤلي: لولا أنك ضعيف لاستعملتك، وقول أبي الأسود له في جواب ذلك: إن كنت تريدني للصّراع فإني لا أصلح له، وإلا فغير شديد أن آمر وأنهى، وقوله من قصيدة البيت المتقدّم:
أطال يدي على الأيّام حتّى ... جزيت صروفها «5» صاعا بصاع
أخذه من قول أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه:(2/324)
فإن تقتلا أو يمكن الله منكما «1» ... نكل لكما «2» صاعا بصاع المكايل
وقول أبي الطّيّب المتنبي:
وإذا كانت النّفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
أخذه من قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.
وقول الخاسر «3» :
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللّذّة الجسور
أخذه من قول بشّار:
من راقب النّاس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
فلما سمع بشّار بيت الخاسر قال: ذهب ابن الفاعلة ببيتي. ومثل هذا وأشباهه مما لا ينحصر كثرة، ولا يكاد أن يخلو عنه بيت إلا نادرا.
ومما وقع للكتّاب من ذلك ما كتب به إبراهيم بن العبّاس من قوله في فصل من كتاب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه، وللمسيء من العقاب ما يقمعه، ازداد المحسن في الإحسان رغبة، وانقاد المسيء للحقّ رهبة. أخذه من قول عليّ كرم الله وجهه: يجب على الوالي أن يتعهّد أموره، ويتفقّد أعوانه، حتّى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء، ثم لا يترك واحدا منهما بغير جزاء؛ فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
وما كتب به بعض الكتّاب في فصل وهو: لو سكت لساني عن شكرك، لنطق(2/325)
أثرك عليّ. وفي فصل آخر: ولو جحدتك إحسانك، لأكذبتني آثارك، ونمّت عليّ شواهدها؛ أخذه من قول نصيب:
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «1»
وما كتب به أحمد بن يوسف «2» من فصل وهو: أحقّ من أثبت لك العذر في حال شغلك، من لم يخل ساعة من برّك في وقت فراغك. أخذه من قول عليّ رضي الله عنه: لا تكونن كمن يعجز عن شكر ما أولي، ويلتمس الزيادة فيما بقي.
والاقتباس من الأحاديث والآثار كثير، وقد تقدّم الكلام عليه قبل ذلك. قال في «الصناعتين» : ومن أخفى أسباب السرقة أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر، أو من نثر فيورده في نظم، أو ينقل المعنى المستعمل في صفة خمر فيجعله في مديح، أو في مديح فينقله إلى وصف؛ إلا أنه لا يصل لهذا إلا المبرّز الكامل المقدّم.
وقال في «المثل السائر» : أشكل سرقات المعاني، وأدقّها وأغربها، وأبعدها مذهبا، أن يؤخذ المعنى مجرّدا من اللفظ. قال: وذلك مما يصعب جدّا ولا يكاد يأتي إلا قليلا، ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض.
فمن ذلك قول أبي تمّام في المدح:
فتى مات بين الضّرب والطّعن ميتة ... تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر
أخذه من قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كلّ مطرح(2/326)
ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
فعروة جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح، وأبو تمّام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدوّ قائما مقام الانتصار؛ قال في «المثل السائر» : وكلا المعنيين واحد، غير أن اللفظ مختلف.
وأظهر من ذلك أخذا قول القائل:
وقد عزّى ربيعة أن يوما ... عليها مثل يومك لا يعود
أخذه من قول ابن المقفّع في باب المراثي من الحماسة:
وقد جرّ نفعا فقدنا لك أننا ... أمنّا على كلّ الرّزايا من الجزع
على أنه ربما وقع للمتأخر معنى سبقه إليه من تقدّمه من غير أن يلمّ به المتأخر ولم يسمعه؛ ولا استبعاد في ذلك كما يستبعد اتفاق اللفظ والمعنى جميعا.
قال أبو هلال العسكريّ: وهذا أمر قد عرفته من نفسي فلا أمتري فيه، وذلك أني كنت عملت شيئا في صفة النساء فقلت:
سفرن بدورا وانتقبن أهلّة
وظننت أني لم أسبق إلى جمع هذين التشبيهين حتّى وجدت ذلك بعينه لبعض البغداديين فكثر تعجبي، وعزمت على ألّا أحكم على المتأخر بالسرقة من المتقدّم حكما حتما.
إذا تقرر ذلك فسرقة المعنى المجرّد عن اللفظ لا تخرج عن اثني عشر «1» ضربا.
الضرب الأوّل أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا يكون هو إيّاه
. قال في «المثل(2/327)
السائر» : وهذا من أدق السرقات مذهبا وأحسنها صورة، ولا يأتي إلا قليلا. فمن ذلك قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشّهادة لي بأنّي كامل «1»
وهذا المعنى استخرجه المتنبي من قول بعض «2» شعراء الحماسة، وإن لم يكن صريحا فيه حيث يقول:
لقد زادني حبّا لنفسي أنّني ... بغيض إلى كلّ امريء غير طائل «3»
قال في «المثل السائر» : والمعرفة بأنّ هذا المعنى من ذلك المعنى عسر غامض غير متبيّن إلا لمن أعرق في ممارسة الشعر، وغاص على استخراج المعاني. قال: وبيان ذلك أن الأوّل يقول: إن بغض الذي هو غير طائل إيّاي قد زاد نفسي حبّا إليّ، أي قد جمّلها في عيني وحسّنها عندي كون الذي هو غير طائل منقصي؛ والمتنبي يقول: إن ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك عنده.
وأظهر من ذلك أخذا من هذا الضرب قول البحتريّ في قصيدة «4» يفخر فيها بقومه:
شيخان قد ثقل السّلاح عليهما ... وعداهما رأي السميع المبصر(2/328)
ركبا القنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر
أخذه من قول أبي تمّام في وصف جمل:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماء الرّوض ينهلّ ساكبه
فأبو تمّام ذكر أن الجمل رعى الأرض، ثم سار فيها فرعته أي أهزلته، فكأنها فعلت به مثل ما فعل بها؛ والبحتريّ نقله إلى وصف الرجل بعلوّ السنّ والهرم، فقال: إنه كان يحمل الرمح في القتال، ثم صار يركب الرّمح أي يتوكأ منه على عصا كما يفعل الشيخ الكبير.
وأوضح من ذلك وأكثر بيانا في الأخذ قول البحتريّ أيضا:
أعاتك ما كان الشّباب مقرّبي ... إليك فألحى الشّيب إذ هو مبعدي «1»
أخذه من قول أبي تمّام:
لا أظلم النّأي قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النّوى عندي نوى قذفا «2»
الضرب الثاني أن يؤخذ المعنى فيعكس
«3» ؛ قال في «المثل السائر» : وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حدّ السرقة.(2/329)
فمن ذلك قول أبي نواس:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب
كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبّة لؤلؤ لم تثقب؟
وقول ابن الوليد في عكسه:
إن المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتى تذلّل بالزّمام وتركبا
والدّرّ ليس بنافع أربابه ... حتّى يزيّن بالنّظام ويثقبا
ومنه قول ابن جعفر:
ولمّا بدا لي أنها لا تريدني ... وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلي؟
تمنّيت أن تهوى سواي لعلّها ... تذوق صبابات الهوى فترقّ لي
وقول غيره في عكسه:
ولقد سرّني صدودك عنّي ... في طلابيك، وامتناعك مني
حذرا أن أكون مفتاح غيري ... وإذا ما خلوت، كنت التّمنّي
أما ابن جعفر فإنه ألقى عن منكبيه رداء الغيرة؛ وأما الآخر فإنه جاء بالضدّ من ذلك وبالغ غاية المبالغة.
ومنه قول أبي الشّيص «1» :
أجد الملامة في هواك لذيذة «2» ... شغفا بذكرك، فليلمني اللّوّم
وقول أبي الطيب في عكسه:
أأحبّه وأحبّ فيه ملامة ... إنّ الملامة فيه من أعدائه(2/330)
ومنه قول أبي تمّام:
ولولا خلال سنّها الشّعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
وقول الوزير ضياء الدين بن الأثير في عكسه:
لولا الكرام وما سنّوه من كرم ... لم يدر قائل شعر كيف يمتدح
الضرب الثالث أن يؤخذ بعض المعنى دون بعض «1»
فمن ذلك قول أميّة بن أبي الصّلت يمدح عبد الله بن جدعان «2» :
عطاؤك زين لامريء إن حبوته ... ببذل، وما كلّ العطاء يزين «3»
وقول أبي تمّام بعده:
تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا
ما زلت منتظرا أعجوبة زمنا ... حتّى رأيت سؤالا يجتنى شرفا
فأمية بن أبي الصّلت أتى بمعنيين أحدهما أن عطاءك زين، والآخر أن عطاء غيرك ليس بزين، وأبو تمّام أتى بالمعنى الأوّل فقط.
ومنه قول عليّ بن جبلة «4» :(2/331)
وأثّل ما لم يحوه متقدّم ... وإن نال منه آخر فهو تابع
وقول أبي الطّيّب بعده:
ترفّع عن عون المكارم قدره ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا «1»
فابن جبلة أتى بمعنيين، أحدهما أنه فعل ما لم يفعله أحد ممن تقدّمه، وإن نال الآخر شيئا فهو مقتد به وتابع له؛ وأبو الطّيّب أتى بالمعنى الأوّل فقط، وهو أنه فعل ما لم يفعله غيره مشيرا إلى ذلك بقوله:
فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
أي يستبكرها ويزيل عذرتها.
ومنه قول الآخر:
أنتج الفضل أو تخلّ عن الدنيا ... فهاتان غاية الهمم
وقول البحتريّ بعده:
ادفع بأمثال أبي غالب ... عادية العدم أو استعفف
فالبحتريّ اقتصر على بعض المعنى ولم يستوفه.
الضرب الرابع أن يؤخذ المعنى فيزداد عليه معنى آخر
«2» . قال في «المثل السائر» : وهذا النوع من السّرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره.
فمن ذلك قول الأخنس بن شهاب:(2/332)
إذا
قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وقول مسلم بن الوليد بعده:
إن قصر الرّمح لم نمش الخطا عددا ... أو عرّد السيف لم نهمم بتعريد
أخذ مسلم المعنى الذي أورده الأخنس «1» وهو وصل السلاح إذا قصر بالخطا إلى العدوّ وزاد عليه عدم تعريدهم أي فرارهم إذا عرّد السيف. ومنه قول جرير في وصف أبيات من شعره:
غرائب «2» آلاف إذا حان وردها ... أخذن طريقا للقصائد معلما
وقول أبي تمام بعده:
غرائب «3» لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب
فزاد أبو تمام على جرير قران ذلك بالممدوح ومدحه مع الأبيات. ومنه قول المعذّل بن غيلان «4» :
ولست «5» بنظّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر
وقول أبي تمام بعده:
يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سودد ... ولو برزت في زيّ عذراء ناهد(2/333)
فزاد عليه قوله:
ولو برزت في زيّ عذراء ناهد
ومما اتفق لي نظمه في هذا الباب أنه لما عمّرت مدرسة «1» الظاهر برقوق بين القصرين بالقاهرة المحروسة، وكان القائم بعمارتها الأمير جركس الخليليّ أميراخور «2» الظاهريّ، وكان قد اعتمد بناءها بالصّخور العظيمة التي لا تقلّها الجمال حملا، ولا تحمل إلا على العجل الخشب، فأولع الشعراء بالنظم في هذا المعنى؛ فنظم بعض الشعراء أبياتا عرّض فيها بذكر الخليليّ وقيامه في عمارتها، ثم قال في آخرها:
وبعض خدّامه طوعا لخدمته ... يدعو الصّخور فتأتيه على عجل
وألزمني بعض الإخوان بنظم شيء في المعنى، فوقع لي أبيات من جملتها:
وبالخليليّ قد راجت عمارتها ... في سرعة بنيت من غير ما مهل
كم أظهرت عجبا أسواط حكمته ... وقد غدت مثلا ناهيك من مثل
وكم صخور تخال الجنّ تنقلها ... فإنّها بالوحا تأتي وبالعجل
فزدت عليه ذكر الوحا الذي معناه السرعة أيضا وصار مطابقا لما يأتي به المعزّمون في عزائمهم من قولهم: الوحا الوحا العجل العجل مع ما تقدّم له من التوطئة بقولي: تخال الجنّ تنقلها. على أني لست من فرسان هذا الميدان، ولا من رجال هذا الوغى.
الضرب الخامس أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى
؛ قال في «المثل(2/334)
السائر» : وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة؛ فمن ذلك قول أبي تمام:
إنّ الكرام كثير في البلاد وإن ... قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا
أخذه البحتريّ فقال:
قلّ الكرام فصار يكثر فذّهم ... ولقد يقلّ الشيء حتّى يكثرا
ومنه قول أبي نواس:
يدلّ على ما في الضّمير من الفتى ... تقلّب عينيه إلى شخص من يهوى «1»
وقول أبي الطيب بعده:
وإذا خامر الهوى قلب صبّ ... فعليه لكلّ عين دليل
ومنه قول أبي العلاء بن سليمان «2» في مرثيّة:
وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنّها في وجهه أثر اللّطم
وقول القيسرانيّ «3» بعده:
وأهوى الّذي يهوي له البدر ساجدا ... ألست ترى في وجهه أثر التّرب
ومنه قول ابن الروميّ:
إذا شنأت عين امريء شيب نفسه ... فعين سواه بالشّناءة أجدر
وقول من بعده:(2/335)
إذا كان شيبي بغيضا إليّ ... فكيف يكون إليها حبيبا
الضرب السادس أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا
، قال في «المثل السائر» : وهو من أحسن السرقات: لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول وسعة باعه في البلاغة، فمن ذلك قول أبي تمام:
برّزت في طلب المعالي واحدا ... فيها تسير مغوّرا أو منجدا
عجبا بأنّك سالم من وحشة ... في غاية ما زلت فيها مفردا
وقول ابن الرومي بعده:
غرّبته الخلائق الزّهر في النّا ... س وما أوحشته بالتّعريب
فأخذ معنى البيتين في بيت واحد، ومنه قول أبي العتاهية:
وإنّي لمعذور على فرط حبّها ... لأنّ لها وجها يدلّ على عذري
أخذه أبو تمام فقال:
له وجه إذا أبصرته ... ناجاك عن عذري
فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز؛ ومنه قول أبي تمام يمدح أحمد بن سعيد:
كانت مساءلة الرّكبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر
حتّى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
أخذه أبو الطيب فأوجز في أخذه فقال:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر «1»(2/336)
ومن قول بعض الشعراء:
أمن خوف فقر تعجّلته ... وأخّرت إنفاق ما تجمع؟
فصرت الفقير وأنت الغنيّ ... وما كنت تعدو الذي تصنع
أخذه أبو الطيب فقال:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر «1»
الضرب السابع زيادة البيان مع المساواة في المعنى
، بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه، فمن ذلك قول أبي تمام:
هو الصّنع إن يعجل فنفع وإن يرث ... فللرّيث في بعض المواطن أنفع
أخذه أبو الطيب فقال:
ومن الخير بطء سيبك عنّي ... أسرع السّحب في المسير الجهام
فزاده وضوحا بضرب المثال له بالجهام وهو السحاب الذي لا مطر فيه.
ومنه قول أبي تمام أيضا:
قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدّة التّعبيس مبتسما
أخذه أبو الطيب فقال:
وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتّى أتته يد فرّاسة وفم(2/337)
إذا رأيت نيوب اللّيث بارزة ... فلا تظنّنّ أنّ اللّيث مبتسم «1»
فضرب له مثالا بظهور أنياب الليث فزاده وضوحا.
ومنه قول أبي تمام أيضا:
وكذاك لم تفرط كآبة عاطل ... حتّى يجاورها الزّمان بحال
أخذه البحتريّ فقال:
وقد زادها إفراط حسن جوارها ... لأخلاق أصفار من المجد خيّب
وحسن دراريّ الكواكب أن ترى ... طوالع في داج من اللّيل غيهب
فضرب له مثالا بالكواكب في ظلام الليل فأوضحه وزاده حسنا.
الضرب الثامن اتحاد الطريق واختلاف المقصود
، مثل أن يسلك الشاعران طريقا واحدة فتخرج بهما إلى موردين، وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر.
فمن ذلك قول النابغة:
إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير يهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب
وهذا المعنى قد توارده الشعراء قديما وحديثا وأوردوه بضروب من العبارات، فقال أبو نواس:
يتوخّى الطّير غزوته ... ثقة باللّحم من جزره
وقال مسلم بن الوليد:
قد عوّد الطّير عادات وثقن بها ... فهنّ يتبعنه في كلّ مرتحل(2/338)
وقال أبو تمام:
وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدّماء نواهل «1»
أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها ... من الجيش إلا أنها لا تقاتل «2»
وكل هؤلاء قد أتوا بمعنى واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السبك أو من جهة الإيجاز. قال: ولم أر أحدا أغرب في هذا المعنى فسلك هذا الطريق مع اختلاف مقصده إلا مسلم بن الوليد فقال:
أشربت أرواح العدا وقلوبها ... خوفا فأنفسها إليك تطير
لو حاكمتك فطالبتك بذحلها «3» ... شهدت عليك ثعالب ونسور
فهذا قد فضل به مسلم غيره في هذا المعنى، ولما انتهى الأمر إلى أبي الطيب سلك هذه الطريق التي سلكها من تقدّمه، إلا أنه خرج فيها إلى غير المقصد الذي قصدوه فأغرب وأبدع، وحاز الإحسان بجملته، وصار كأنه مبتدع لهذا المعنى دون غيره فقال:
سحاب من العقبان يزحف تحتها ... سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه «4»
فحوى طرفي الإغراب والإعجاب.
الضرب التاسع
بياض بالأصل «5» .(2/339)
الضرب العاشر أن يكون المعنى عامّا فيجعل خاصّا أو خاصّا فيجعل عامّا
، وهو من السرقات التي يسامح صاحبها؛ فأما جعل العامّ خاصّا فمن ذلك قول الأخطل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «1»
أخذه أبو تمام فقال:
أألوم من بخلت يداه وأغتدي ... للبخل تربا ساء ذاك صنيعا
فالأخطل نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقا فجاء بالخلق منكّرا فجعله شائعا في بابه، وأبو تمام خصّص ذلك بالبخل وهو خلق واحد من جملة الأخلاق.
وأما جعل الخاص عامّا، فمن ذلك قول أبي تمام:
ولو حاردت شول عذرت لقاحها ... ولكن منعن الدّرّ والضّرع حافل «2»
أخذه أبو الطيب فجعله عامّا فقال:
وما يؤلم الحرمان من كفّ حارم ... كما يؤلم الحرمان من كفّ رازق
الضرب الحادي عشر قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة
. قال في «المثل السائر» : وهذا لا(2/340)
يسمى سرقة بل يسمّى إصلاحا وتهذيبا، فمن ذلك قول أبي نواس في أرجوزة يصف فيها اللّعب بالكرة والصّولجان فقال من جملتها:
جنّ على جنّ وإن كانوا بشر ... كأنّما خيطوا عليها بالإبر
أخذه المتنبي فقال:
فكأنّها نتجت قياما تحتهم ... وكأنّهم خلقوا على صهواتها «1»
فهذا في غاية العلوّ والارتقاء بالنسبة إلى قول أبي نواس، ومنه قول أبي الطّيب:
لو كان ما تعطيهمو من قبل أن ... تعطيهمو لم يعرفوا التّأميلا
وقول ابن نباتة السعديّ:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمّله ... تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل
فكلام ابن نباتة أحسن في الصورة من كلام المتنبي هنا وإن كان مأخوذا منه «2» .
الضرب الثاني عشر قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة
، وهو الذي يعبّر عنه أهل هذه الصناعة بالمسخ، وهو من أرذل السرقات وأقبحها، فمن ذلك قول أبي تمام:(2/341)
فتى لا يرى أنّ الفريصة مقتل ... ولكن يرى أنّ العيوب مقاتل
أخذه أبو الطيب فمسخه فقال:
يرى أنّ ما بان منك لضارب ... بأقتل ممّا بان منك لعائب
ومنه قول عبد السلام بن رغبان «1» :
نحن نعزّيك ومنك الهدى ... مستخرج والصّبر مستقبل
أخذه أبو الطيب فمسخه فقال من أبيات:
وبألفاظك أهتدي فإذا عزّا ... ك قال الّذي له قلت قبلا «2»
المسلك الثاني طريقة الاختراع
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» : فهي ألّا يتصفح كتابة المتقدّمين ولا يطّلع على شيء منها، بل يصرف همّته إلى حفظ القرآن الكريم وكثير من الأخبار النبوية وعدّة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ، ثم يأخذ في الاقتباس من القرآن والأخبار النبوية والأشعار فيقوم ويقع، ويخطىء ويصيب، ويضلّ ويهتدي، حتّى يستقيم إلى طريق يفتتحها لنفسه؛ وأخلق بتلك الطريق أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدّمين فيها! قال: وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد وصاحبها يعدّ إماما في الكتابة كما يعدّ الشافعيّ وأبو حنيفة ومالك وغيرهم من المجتهدين في علم الفقه، إلا أنها مستوعرة جدا، لا يستطيعها إلا من رزقه الله تعالى لسانا هجّاما، وخاطرا(2/342)
رقّاما «1» . قال: ولا أريد بهذا الطريق أن يكون الكاتب مرتبطا في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والأخبار النبوية والأشعار، بحيث أنه لا ينشيء كتابا إلا في ذلك، بل أريد أنه إذا حفظ القرآن الكريم، وأكثر من حفظ الأخبار النبوية والأشعار، ثم نقّب عن ذلك تنقيب مطّلع على معانيه، مفتش على دفائنه، وقلبه ظهرا لبطن، عرف حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه، واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية. على أنه لا بدّ للكاتب المرتقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة مع حفظ القرآن الكريم، والاستكثار من حفظ الأخبار النبوية، والأشعار المختارة، من العلم بأدوات الكتابة وآلات البيان: من علم اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، ليتمكن من التصرف في اقتباس المعاني واستخراجها فيرقى إلى درجة الاجتهاد في الكتابة؛ كما أن المجتهد من الفقهاء إذا عرف أدوات الاجتهاد: من آيات الأحكام، وأحاديثها، ونعتها، وعرف النحو والناسخ والمنسوخ من الكتاب والسّنّة، والحساب والفرائض وإجماع الصحابة، وغير ذلك من آلات الاجتهاد وأدواته، استخرج بفكره حينئذ ما يؤديه إليه اجتهاده؛ فالمجتهد في الكتابة يستخرج المعاني من مظانّها من القرآن الكريم، والأخبار النبوية، والأشعار، والأمثال، وغير ذلك بواسطة آلة الاجتهاد، كما أن المجتهد في الفقهيات يستخرج الأحكام من نصوص الكتاب والسنة بواسطة آلة الاجتهاد. فإذا أراد الكاتب المتصف بصفة الاجتهاد في الكتابة إنشاء خطبة أو رسالة أو غيرهما مما يتعلق بفنّ الانشاء بياض بالأصل.
الأصل السادس وجود الطبع السليم، وخلو الفكر عن المشوش
أما وجود الطبع فقال في «موادّ البيان» : أوّل معاون هذه الصناعة الجليلة(2/343)
القريحة الفاضلة، والغريزة الكاملة، التي هي مبدأ الكمال، ومنشأ التمام، والأساس الذي يبنى عليه، والركن الذي يستند إليه، فإن المرء قد يجتهد في تحصيل الآداب، ويتوفّر على اقتناء العلوم واكتسابها، وهو مع ذلك غير مطبوع على تأليف الكلام فلا يفيده ما اكتسبه، بخلاف المطبوع على ذلك، فإنه وإن قصّر في اقتباس العلوم واكتساب الموادّ فقد يلحق بأوساط أهل الصناعة؛ وذلك أن الطبع يخص الله تعالى به المطبوع دون المتطبّع، والمناسب بغزيرته للصناعة دون المتصنّع، ولا سبيل إلى اكتساب سهولة الطبع ولا كزازته «1» ، بل هو موهبة تخصّ ولا تعمّ، وتوجد في الواحد وتفقد في الآخر.
قال ابن أبي الأصبع في «تحرير التحبير» «2» : ومن الناس من يكون في البديهة أبدع منه في الرّوية، ومن هو مجيد في الرّوية وليست له بديهة، وقلّما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصّر، ومن هو بضدّ ذلك، ومن قوي نثره ضعف نظمه، ومن قوي نظمه ضعف نثره، وقلما يتساويان. وقد يبرّز الشاعر في معنى من مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد، ولهذا قيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وعنترة إذا كلب «3» ، والأعشى إذا طرب. قال في «المثل السائر» : بل ربما نفذ في بعض أنواع الشعر دون بعض، فيرى مجيدا في المدح دون الهجو أو بالعكس، أو ماهرا في المقامات ونحوها دون الرسائل، أو في بعض الرسائل دون بعض. قال ابن أبي الأصبع: ولربما واتاه العمل في وقت دون وقت؛ ولذلك قال الفرزدق: إني ليمرّ عليّ الوقت ولقلع ضرس من أضراسي أيسر عليّ من قول الشعر، ولذلك عزّ تأليف الكلام ونظمه على كثير من العلماء باللغة، والمهرة في معرفة حقائق الألفاظ، من حيث نبوّ طباعهم عن تركيب بسائط الكلام الذي قامت صور معانيه في نفوسهم،(2/344)
وصعب الأمر عليهم في تأليفه ونظمه، فقد حكي أن الخليل بن أحمد مع تقدّمه في اللغة، ومهارته في العربية، واختراعه علم العروض، الذي هو ميزان شعر العرب، لم يكن يتهيأ له تأليف الألفاظ السهلة لديه الحاصلة المعاني في نفسه على صورة النظم إلا بصعوبة ومشقّة، وكان إذا سئل عن سبب إعراضه عن نظم الشعر يقول يأباني جيّده وآبى رديئه، مشيرا بذلك إلى أن طبعه غير مساعد له على التأليف المرضيّ الذي تحسن نسبته إلى مثله. وقيل للمفضّل الضّبيّ «1» : ألا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ فقال: علمي به يمنعني من قوله، وأنشد:
أبى الشّعر إلا أن يفيء رديئه ... عليّ ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إن لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما
وأنشد أبو عبيدة خلفا الأحمر «2» شعرا له فقال اخبأ هذا كما تخبأ السّنّورة حاجتها، مع ما كان عليه أبو عبيدة من العلم باللغة وشعر العرب وأمثالها وأيام حروبها، وما يجري مجرى ذلك من موادّ تأليف الكلام ونظمه. ويحكى عن أبي العباس المبرّد «3» أنه قال: لا أحتاج إلى وصف نفسي: لأن الناس يعلمون أنه ليس أحد بين الخافقين تختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها وأعدّني لها، فأنا عالم ومعلّم، وحافظ ودارس، ولا يخفى عليّ مشتبه من الشعر، والنحو، والكلام المنثور، والخطب، والرسائل، ولربما احتجت الى اعتذار من فلتة، أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصد نصب عيني ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد(2/345)
ولا لسان، ولقد بلغني أن عبيد الله بن سليمان «1» ذكرني بجميل فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها وأعرّض ببعض أموري، فأتعبت نفسي يوما في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينحرف لساني إلى غيره، ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خدعة، وزيادة الأدب على المنطق هجنة.
فقد تبين لك أن العبرة وبالطبع وأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك؛ على أن الطبع بمفرده لا ينهض بالمقصود من ذلك نهوضه مع اشتماله على الموادّ المساعدة له على ذلك من الأنواع السابقة فيما تقدّم في أوّل هذه المقالة، من العلم باللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع، وحفظ كتاب الله تعالى، والإكثار من حفظ الأحاديث النبوية، والأمثال والشعر والخطب، ورسائل المتقدّمين وأيام العرب وما يجري مجرى ذلك مما يكون مساعدا للطبع، ومسهّلا طريق التأليف والنظم، بل يتفاوت في العلوّ والهبوط بحسب التفاوت في ضعف المساعد من ذلك وقوّته؛ إذ معرفته هذه الأمور قائمة من الإنشاء مقام المادة، والطبع قائم منه مقام الآلة، فلا يتم الفعل وإن قامت الصورة في نفس الصانع ما لم توحد المادّة والآلة جميعا، ولو كان حصول المادّة كافيا في التوصل إلى حسن التأليف الذي هو نظم الألفاظ المتناسبة وتطبيقها على المعاني المساوية لكانت صناعة الكلام المؤلّف من الرسائل والخطب والأشعار سهلة، والمشاهد بخلاف ذلك، لقصور الأفاضل عن بلوغ هذه الدرجة.
وأما خلوّ الفكر عن المشوّش فإنه يرجع إلى أمرين:
الأمر الأوّل صفاء الزمان
فقد قال أبو تمام الطائيّ في وصيته لأبي عبادة البحتريّ مرشدا له للوقت(2/346)
المناسب لذلك: تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السّحر، فإن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم، وخفّ عنها ثقل الغذاء، وصفا الدّماغ من أكثر الأبخرة والأدخنة، وسكنت الغماغم «1» ، ورقّت النسائم، وتغنّت الحمائم.
وخالف ابن أبي الأصبع في اختيار وقت السحر، وجنح إلى اختيار وسط الليل أخذا من قول أبي تمّام في قصيدته البائية:
خذها ابنة الفكر المهذّب في الدّجى ... واللّيل أسود رقعة الجلباب
مفسرا للدّجى بوسط الليل، محتجّا لذلك بأنه حينئذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة، ونالت قسطها من النوم، وخفّ عنها ثقل الغذاء، فيكون الذّهن حينئذ صحيحا، والصدر منشرحا، والبدن نشيطا، والقلب ساكنا، بخلاف وقت السحر فإنه وإن كان فيه يرقّ النسيم وينهضم الغذاء، إلا أنه يكون قد انتبه فيه أكثر الحيوانات، الناطق وغيره، ويرتفع معظم الأصوات، ويجري الكثير من الحركات، وينقشع بعض الظّلماء بطلائع أوائل الضوء، وربنا انهضم عن بعض الناس الغذاء فتحرّكت الشهوة لإخلاف ما انهضم منه وخرج من فضلاته، فكان ذلك داعيا الى شغل الخاطر، وباعثا على انصراف الهمّ إلى تدبير الحدث الحاضر، فيتقسم الفكر، ويتذبذب القلب، ويتفرّق جميع الهمّ، بخلاف وسط الليل فإنه خال من جميع ذلك.
الأمر الثاني صفاء المكان
وذلك بأن يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات، عاريا عن(2/347)
المخوفات والمهولات والطوارق، وأن يكون مع ذلك مكانا رائقا معجبا، رقيق الحواشي، فسيح الأرجاء، بسيط الرّحاب، غير غمّ ولا كدر، فإن انضمّ إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر: من ماء وخضرة وأشجار وأزهار وطيب رائحة، كان أبسط للفكر وأنجح للخاطر.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينبغي خلوّ المكان من النقوش الغريبة، والمرائي المعجبة، فإنها وإن كانت مما ينشّط الخاطر فإن فيها شغلا فيتبعه القلب فيتشتّت.
المقصد الثاني من الطرف الثالث في بيان طرق البلاغة ووجوه تحسين الكلام،
وكيفية إنشائه وتأليفه، وتهذيبه، وتأديته، وبيان ما يستحسن من الكلام المصنوع، وما يعاب به أما إنشاؤه وتأليفه فقد قال ابن أبي الأصبع في «تحرير التحبير» : يجب على كل من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يتعهد أوّلا نفسه ويمتحنها بالنظر في المعاني، وتدقيق الفكر في استنباط المخترعات؛ فإذا وجد لها فطرة سليمة، وجبلّة موزونة، وذكاء وقّادا، وخاطرا سمحا، وفكرا ثاقبا، وفهما سريعا، وبصيرة مبصرة، وألمعيّة مهذّبة، وقوة حافظة، وقدرة حاكية، وهمة عالية، ولهجة فصيحة، وفطنة صحيحة، أخذ حينئذ في العمل، وإن كان بعض ذلك غير لازم لرب الإنشاء، ولا يضطرّ إليه أكثر الشعراء، ولكن إذا كملت هذه الصفات في الكاتب والشاعر، كان موصوفا في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفيسة.
قال أبو هلال العسكري في «الصناعتين» : إذا أردت أن تصنع كلاما فأخطر معانيه ببالك، ونقّ له كرائم اللفظ فاجعلها على ذكر منك ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك تطلّبها، واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخوّنك الملال، فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضّجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من(2/348)
الرّيّ، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، فقلّ عنك غناؤها. وينبغي أن تخرج مع الكلام معارضه، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلقت بذيله. وتحرّز أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت في تطلّبه، ولعلك لا تلحقه على طول الطلب، ومواصلة الدّأب، وهذا الشاعر يقول:
إذا ضيّعت أوّل كلّ شيء «1» ... أبت أعجازه إلّا التواء
وقد قالوا: ينبغي لصانع الكلام ألا يتقدّم الكلام تقدّما، ولا يتتبع ذناباه تتبّعا، ولا يحمله على لسانه حملا، فإنه إن تقدّم الكلام لم يتبعه خفيفه وهزيله وأعجفه والشارد منه، وإن تتبعه فاتته سوابقه ولواحقه، وتباعدت عنه جياده وغرره، وإن حمله على لسانه ثقلت عليه أوساقه وأعباؤه، ودخلت مساويه في محاسنه، ولكنه يجري معه فلا تندّ عنه نادّة تعجبه سمنا إلا كبحها، ولا تتخلف عنه مثقلة هزيلة إلا أرهقها، وطورا يفرّقه ليختار أحسنه، وطورا يجمعه ليقرب عليه خطوة الفكر، ويتناوله من تحت لسانه، ولا يسلّط الملل على قلبه، ولا الإكثار على فكره، فيأخذ عفوه، ويستغزر درّه، ولا يكره آبيا، ولا يدفع آتيا. وإيّاك والتعقيد والتوعّر، فإنّ التوعّر هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراغ «2» معنى كريما، فليلتمس له لفظا كريما، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يدنّسهما، ويفسدهما ويهجّنهما، فتصير بهما إلى حدّ تكون فيه أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس البلاغة، وترتهن نفسك في ملابستها؛ وليكن لفظك شريفا عذبا، فخما سهلا، ومعناه ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا؛ فإن وجدت اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى مركزها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في موضعها، نافرة عن مكانها، فلا تكرهها على اغتصاب أماكنها، والنزول في غير أوطانها؛ وإن بليت بتكلف القول، وتعاطي الصناعة، ولم تسمح(2/349)
لك الطبيعة في أول وهلة، وعصت عليك بعد إجالة الفكر، فلا تعجل ودعه سحابة يومك، ولا تضجر، وأمهله سواد ليلتك، وعاوده عند نشاطك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرف؛ وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين وأقدار الحالات، فتجعل لكل طبقة كلاما، ولكل حال مقاما، حتّى تقسم أقدار المستعمين على أقدار الحالات، فإن المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال «1» .
قال في «موادّ البيان» «2» : ويكون استعمال كلّ من جزل الألفاظ وسهلها، وفصيحها وسلسلها وبهجها في موضعه، وأن يسلك في تأليف الكلام الطريق الذي يخرجه عن حكم الكلام المنثور العاطل الذي تستعمله العامّة في المخاطبات والمكاتبات إلى حكم المؤلّف الحالي بحلي البلاغة والبديع، كالاستعارات، والتشبيهات، والأسجاع، والمقابلات، وغيرها من أنواع البديع.
قال في «الصناعتين» : وإن عملت رسالة أو خطبة فتخطّ ألفاظ المتكلّمين كالجسم، والجوهر، والعرض، واللون «3» ، والتأليف، واللاهوت، والناسوت، فإن ذلك هجنة.
قال في «موادّ البيان» : وذلك بأن يقصد الكاتب إلى ألفاظ الصّناعة فيخرج منها إلى ألفاظ غريبة عن الصناعة غير مجانسة لها. قال: وإنما يؤتي الكاتب في هذا الباب من جهة أن يكون له شركة في صناعة غير الكتابة، كصناعة الفقه والكلام وغيرهما، مثل صناعة أصحاب الإعراب ونحوها؛ فلكل طبقة من هذه الطبقات ألفاظ خاصة بها، يستعملونها فيما بينهم عند المحاورة والخوض في الصناعة؛(2/350)
ومن عادة الإنسان إذا تعاطى بابا من هذه الأبواب أن يسبق خاطره إلى الألفاظ المتعلّقة به، فيوقعها في الكتب التي ينشئها لغلبة عادة استعماله إياها، فيهجّنها بإدخاله فيها ما ليس من أنواعها.
قال في «الصناعتين» : وتخيّر الألفاظ وإبدال بعضها من بعض يوجب التئام الكلام، وهو من أحسن نعوته وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك انتظامه من حروف سهلة المخارج كان أحسن له، وأدعى للقلوب إليه، وإن اتفق له أن يكون موقعه في الإطناب أو الإيجاز أليق بموقعه، وأحق بالمقام والحال، كان جامعا للحسن، بارعا في الفضل؛ فإن بلغ مع ذلك أن تكون موارده تنبيك عن مصادره، وأوّله يكشف قناع آخره، كان قد جمع نهاية الحسن، وبلغ أعلى مراتب التمام.
قال في «موادّ البيان» : وإذا سلكت طريقا فمرّ فيها، ولا تتنازل عنها إن كانت رفيعة، ولا ترتفع عنها إن كانت وضيعة. وخالف ابن أبي الأصبع، فقال:
ولا تجعل كل الكلام شريفا عاليا، ولا وضيعا نازلا، بل فصّله تفصيل العقود، فإن العقد إذا كان كله نفيسا لا يظهر حسن فرائده، ولا يبين جمال واسطته، فإن الكلام إذا كان متنوّعا في البلاغة، أفتنت الأسماع فيه، ولا يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه، ولا يخرج عن عرض إلى غيره حتّى يكمل كل ما ينتظم فيه، كما إذا كان ينشيء كتابا في العذل والتوبيخ، فيشوب ألفاظه بألفاظ أخرى تخرج عن الخشونة إلى اللّين، فإن اختلاف رقعة الكلام من أشدّ عيوبه.
قال في «الصناعتين» : ولا تجعل لفظك حوشيّا بدويّا، ولا مبتذلا سوقيّا، ورتّب الألفاظ ترتيبا صحيحا، فتقدّم منها ما يحسن تقديمه، وتؤخر منها ما يحسن تأخيره؛ ولا تقدّم منها ما يكون التأخير به أحسن، ولا تؤخر ما كان التقديم به أليق، ولا تكرر الكلمة الواحدة في كلام قصير، كما كتب سعيد بن حميد: «ومثّل خادمك بين يديه ما يملك فلم يجد شيئا يفي بحقّك، ورأى أن تقريظك بما يبلغه اللسان وإن كان مقصرا عن حقك أبلغ في أداء ما يجب لك» . فكرر ذكر الحق مرتين في مقدار يسير. على أن أبا جعفر النحاس قد ذكر في «صناعة الكتاب» أنّ(2/351)
ذلك ليس بعيب عند كثير من أهل العربية، وهو الحق، فقد وقع مثل ذلك من التكرير في القرآن الذي هو أفصح كلام، وآنق نظام، في قوله تعالى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ
«1» فكرر ذكر الميزان ثلاث مرات في مقدار يسير من الكلام، وأمثاله في القرآن الكريم كثير.
قال في «الصناعتين» : فإن احتاج إلى إعادة المعاني أعادها بغير اللفظ الذي ابتدأ به كما قال معاوية: «من لم يكن من بني عبد المطلب جواد فهو دخيل، ومن لم يكن من بني الزّبير شجاعا فهو لزيق، ومن لم يكن من بني المغيرة تيّاها فهو سنيد» . فقال: دخيل، ثم قال: لزيق، ثم قال: سنيد، والمعنى واحد، والكلام على ما ترى حسن؛ ولو قال لزيق ثم أعاد لسمج. على أن الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» قد ذكر ما ينافي ذلك، وتعقّب أبا إسحاق الصابي في قوله في تحميدة كتاب: الحمد لله الذي لا تدركه الأعين بألحاظها، ولا تحدّه الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدّهور بكرورها؛ وقوله بعد ذلك في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم: لم ير للكفر أثرا إلّا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفّاه؛ فقال لا فرق بين مرور العصور، وكرور الدهور؛ وكذلك لا فرق بين محو الأثر وإعفاء الرسم؛ ويحتمل أن يقال إنما كره صاحب «المثل السائر» ذلك لتوافق القرينتين في جميع المعنى بخلاف كلام معاوية فإنه متوافق في اللفظة الأخيرة فقط.
قال في «الصناعتين» : وتجنّب كلّ ما يكسب الكلام تعمية كما كتب سعيد ابن حميد يذكر مظلمة إنسان في كتابه: لفلان- وله بي حرمة- مظلمة، يريد لفلان مظلمة وله بي حرمة، بمعنى أنه راعى حرمته. قال: واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط ولا يلزمك فيها(2/352)
السجع، فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد؛ وكثيرا ما يقع ذلك في السجع، وقلّما يسلم إذا طال من استكراه وتنافر.
قال ابن أبي الأصبع: ولا تجعل كلامك كلّه مبنيّا على السجع فتظهر عليه الكلفة، ويتبيّن فيه أثر المشقّة، وتتكلّف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط، واللفظ النازل؛ وربما استدعيت كلمة للقطع رغبة في السجع فجاءت نافرة من أخواتها، قلقة في مكانها. بل اصرف كلّ النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني، واجهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعا عفوا من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عزّ ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه، وتباينت في التقفية مقاطعه، فقد كان المتقدّمون لا يحتفلون بالسّجع جملة، ولا يقصدونه إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتّفق من غير قصد ولا اكتساب؛ وإنما كانت كلماتهم متوازية، وألفاظهم متساوية، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائعة، وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة؛ وتلك طريقة الإمام علي رضي الله عنه ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام، كابن المقفّع، ويزيد بن هارون «1» ، وإبراهيم بن العباس «2» ، والحسن بن سهل «3» ، وعمرو بن مسعدة «4» ، وأبي عثمان الجاحظ، وغيرهم من الفصحاء البلغاء.
قال في «موادّ البيان» : وأقلّ ما يكون من الازدواج قرينتان.
قال في «الصناعتين» : وينبغي أن يجتنب إعادة حروف الصّلات والرباطات في موضع واحد إذا كتب، في مثل قول القائل له منه عليه، أو عليه منه،(2/353)
أو به له منه، وحقه له عليه. قال: وسبيله أن يداويه حتّى يزيله، بأن يفصل ما بين الحرفين مثل أن يقول: أقمت به شهداء عليه، كقول المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد «1»
قال ابن أبي الأصبع: وليراع الإيجاز في موضعه، والإطناب في موضعه، بحسب ما يقتضيه المقام، ويتجنّب الإسهاب والتطويل غير المفيد.
قال العسكري: وينبغي أن يأتي في تأليفه الكلام بآيات من الكتاب العزيز في الأمور الجليلة للترصيع والتحلية، والاستشهاد للمعاني على ما يقع في موقعه، ويليق بالمكان الذي يوقع فيه، ولكنه لا يستكثر منه حتّى يكون هو الغالب على كلامه، تنزيها لكلام الله تعالى عن الابتذال، فإنه إنما يستعمله على جهة التبرّك والزينة، لا ليجعل حشوا في الكلام؛ وإذا استعير منه شيء أتي به على صورته؛ ولا ينقله عن صيغته، ليسلم من تحريفه، ومخالفة اختيار الله تعالى فيه. قال:
وكما لا يجوز الإكثار منه لا يجوز أن يخلّي كلامه من شيء منه تحلية له، فإن خلوّ الكلام من القرآن يطمس محاسنه، وينقص بهجته؛ ولذلك كانوا يسمّون الخطبة الخالية من القرآن بتراء.
وينبغي ألّا يستعمل في كتابته ما جاء به القرآن العظيم من الحذف ومخاطبة الخاص بالعامّ، والعامّ بالخاص، والجماعة بلفظ الواحد، والواحد بلفظ الجماعة، وما يجري هذا المجرى، لأن القرآن قد نزل بلغة العرب، وخوطب به فصحاؤهم بخلاف الرسائل.
قال في «الصناعتين» : لا يجوز أن يستعمل فيها ما يختص بالشّعر من صرف ما لا ينصرف، وحذف ما لا يحذف، وقصر الممدود، ومدّ المقصور، والإخفاء في موضع الإظهار، وتصغير الاسم في موضع تكبيره، إلا أن يريد تصغير(2/354)
التعظيم كقول القائل: «أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب» «1» . ومما يستحسن من وصية أبي تمام لأبي عبادة البحتريّ في الشعر مما لا يستغني الناثر عن المعرفة به، والنّسج على منواله: لأنه يجب أن يناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، ويكون كخيّاط يقدّر الثياب على قدر الأجسام، وأن يجعل شهوته لتأليف الكلام هي الذّريعة إلى حسن نظمه، فإنّ الشهوة نعم المعين، ويعتبر كلامه بما سلف من كلام الماضين، فما استحسنه العلماء فليقصده، وما استقبحوه فليجتنبه، وينبغي أن يعمل السجعات مفرّقة بحسب ما يجود به الخاطر، ثم يرتبها في الآخر ويحترز عند جمعها من سوء الترتيب، ويتوخّى حسن النسق عنه التهذيب، ليكون كلامه بعضه آخذا بأعناق بعض، فإنه أكمل لحسنه، وأمثل لرصفه؛ وأن يجيد المبدأ والمخلص والمقطع، ويميز في فكره محط الرسالة قبل العمل، فإنه أسهل للقصد؛ ويجتهد في تجويد هذه المواضع وتحسينها؛ ويوضّح معانيه ما استطاع.
قلت: وقد سبق في أوّل هذه المقالة في بيان ما يحتاج إليه الكاتب من الأدوات وذكر أنواعها بيان كيفية الاقتباس من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والاستشهاد بها، وكيفيّة حل الشعر إلى النثر، وتضمينه في خلال الكلام المنثور وما يجري هذا المجرى، فأغنى عن إعادته هنا.
وأما بيان ما يستحسن من الكلام المصنوع فقد قال في «الصناعتين» : إن الكلام يحسن بسلاسته وسهولته ونصاعته، وتخيّر لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين معاطفه، واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه وتشبّه أعجازه بهواديه،(2/355)
وموافقة أواخره لمباديه، مع قلّة ضروراته بل عدمها أصلا، حتّى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه؛ فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة والجزالة والسّهولة والرّصانة مع السّلاسة والنّصاعة، واشتمل على الرّونق والطّلاوة، وسلم من ضعف التأليف، وبعد من سماجة التركيب، صار بالقبول حقيقا، وبالتحفّظ خليقا؛ فإذا ورد على السمع المصيب استوعبه ولم يمجّه، والنفس تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق عن الجاسي «1» البشع؛ وجميع جوارح البدن وحواسّه تسكن إلى ما يوافقه وتنفر عما يضادّه ويخالفه؛ والعين تألف الحسن، وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطّيب ويعاف المنتن؛ والفم يلتذّ بالحلو، ويمجّ المرّ؛ والسمع يتشوّق للصوت الرائع، وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم بالليّن، وتتأذّى بالخشن؛ والفهم يأنس من الكلام بالمعروف، ويسكن إلى المألوف، ويصغى إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم «2» ، ويتأخّر عن الجافي الغليظ، ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب والرويّة الفاسدة.
قال: وليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربيّ والأعجميّ، والقرويّ والبدويّ، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، وصحة السبك والتركيب، والخلوّ من أود «3» النظم والتأليف؛ وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتّى يكون على ما وصف من نعوته التي تقدّمت. ألا ترى أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، لم تعمل لإفهام المعاني فقط، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام؛ وإنما يدلّ حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه، على فضل قائله ومنشيه. وأيضا فإن(2/356)
الكلام إذا كان لفظا حلوا عذبا وسطا دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائع النادر. وأحسن الكلام ما تلاءم نسجه ولم يسخف، وحسن نظمه ولم يهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام فيكون خلقا بغيضا، ولا السّوقيّ من الألفاظ فيكون مهلهلا دونا، ولا خير في المعاني إذا استكرهت قهرا، والألفاظ إذا أجبرت قسرا؛ ولا خير فيما أجيد لفظه إلا مع وضوح المغزى وظهور المقصد. قال: وقد غلب على قوم الجهل فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكدّ، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزّة غليظة، وجاسية غريبة، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلسا عذبا، وسهلا حلوا؛ ولم يعلموا أن السهل أمنع جانبا، وأعزّ مطلبا، وهو أحسن موقعا، وأعذب مستمعا؛ ولهذا قيل أجود الكلام السهل الممتنع. وقد وصف الفضل بن سهل عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أنّ كلّ أحد يظنّ أنه يكتب مثل كتبه، فإذا رامها تعذّرت عليه؛ وأنشد إبراهيم بن العبّاس لخاله العبّاس بن الأحنف:
إن قال لم يفعل وإن سيل لم ... يبذل وإن عوتب لم يعتب «1»
صبّ بعصياني ولو قال لي ... لا تشرب البارد لم أشرب
ثم قال «2» : هذا والله الشعر الحسن المعنى، السهل اللفظ، العذب المستمع، القليل النظير، العزيز الشبيه، المطمع الممتنع، البعيد مع قربه، الصّعب مع سهولته، قال فجعلنا نقول: هذا الكلام والله أحسن من شعره. وقيل لبعضهم «3» : ألا تستعمل الغريب في شعرك؟ فقال: ذلك عيّ في زماني، وتكلّف منّي لو قلته، وقد رزقت طبعا واتساعا في الكلام، فأنا أقول ما يعرفه الصغير والكبير، ولا يحتاج إلى تفسير.(2/357)
وقال أبو داود: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر الألفاظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه، وما كان من الكلام لفظه سهلا ومعناه مكشوفا بيّنا فهو من جملة الرديء المردود، لا سيما إذا ارتكبت فيه الضرورات؛ فأما الجزل المختار من الكلام، فهو الذي تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها؛ وأجود الكلام ما كان سهلا جزلا، لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدودا مستكرها، ومتوعّرا متقعّرا؛ ويكون بريئا من الغثاثة، عاريا من الرّثاثة. فمن الجزل الجيّد من النثر قول سعيد بن حميد: وأنا من لا يحاجّك عن نفسه، ولا يغالطك عن جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهته، ولا يستدعي برّك إلا من طريقته، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالجرم؛ نبت بي عنك غرّة «1» الحداثة وردّتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيّام، وقادتني إليك الضرورة، فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر، وتجدّد النعمة باطّراح الحقد، فإنّ قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة؛ وإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة، فعلت إن شاء الله تعالى.
وأجزل منه قول الشعبيّ للحجاج وقد أراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث: أجدب بنا الجناب «2» ، وأحزن بنا المنزل فاستحلسنا «3» الحذر، واكتحلنا السّهر، وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. فعفا عنه.
ومن النظم قول المرّار:
لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... قد يقتر المرء يوما وهو محمود(2/358)
أمضي على سنّة من والدي سلفت ... وفي أرومته «1» ما ينبت العود
فهذا وإن لم يكن من كلام العامة فإنهم يعرفون الغرض منه ويقفون على أكثر معانيه لحسن ترتيبه وجودة نسجه.
قال في «الصناعتين» : أما إذا كان لفظ الكلام غثّا، ومعرضه رثّا، فإنه يكون مردودا، ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله، وأرفعه وأفضله، كقول القائل:
أرى رجالا بأدنى الدّين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدّون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين
قال: فهو لا يدخل في جملة المختار، ومعناه كما ترى جميل، فاضل جليل، وأما الجزل الرديء الفجّ الذي ينبغي ترك استعماله فقد مر في الكلام على الغريب الحوشيّ.
المقصد الثالث في بيان مقادير الكلام ومقتضيات إطالته وقصره
اعلم أن الكلام المصنوع من الخطب والمكاتبات، والولايات وغيرها على ثلاثة ضروب:
الضرب الأوّل الإيجاز
وهو جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، وعليه ورد أكثر آي القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى في مفتتح سورة الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
. انتظم فيه خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات لم يشذّ عنه شيء، في أوجز لفظ وأقربه وأسهله؛ ومنه قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ(2/359)
استوعب جميع الأشياء على الاستقصاء في كلمتين لم يخرج عنهما شيء؛ وقوله أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
«1» فدخل تحت الأمن جميع المحبوبات لأنه نفى به أن يخافوا شيئا من الفقر والموت وزوال النّعمة والجور وغير ذلك؛ وقوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ
«2» جمع منافع الدنيا والآخرة؛ وقوله في صفة خمر أهل الجنة: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ
«3» انتظم بقوله: وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ
عدم ذهاب العقل وذهاب المال ونفاد الشراب، فلم يكن فيها شيء من ذلك؛ وقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«4» فجمع فيها مكارم الأخلاق بأسرها، لأنّ في العفو صلة القاطعين، وإعطاء المانعين؛ وفي الأمر بالمعروف تقوى الله تعالى، وصلة الرحم، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطّرف عن المحرّمات، والتبرّي من كل قبيح، إذ لا يأمر بالمعروف من هو ملابس شيئا من المنكر؛ إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.
ومن كلام النبوة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «نيّة المرء خير من عمله» وقوله عليه السلام:
«حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» إلى غير ذلك من جوامع الكلم.
الضرب الثاني الإطناب
وهو الإشباع في القول، وترديد الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد. وقد وقع منه الكثير في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ
«5» وقوله جلّ وعزّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
«6»(2/360)
كرر اللفظ في الموضعين تأكيدا للأمر وإعلاما أنه كذلك لا محالة. وقوله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
«1» فكرر إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
من حيث إن الكفر وإن تعدّدت أقسامه لا يخرج عن تعطيل أو شرك، ففي قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ
نفي التّعطيل بإثبات الإله، وفي قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ*
حيث عدّد فيها نعمه، وأذكر عباده آلاءه، ونبّههم على قدرها، وقدرته عليها، ولطفه فيها، وجعلها فاصلة بين كلّ نعمة ونعمة، تنبيها على موضع ما أسداه إليهم فيها، وكذلك كرّر في سورة المرسلات: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ*
تأكيدا لأمر القيامة المذكورة فيها. وقد وقع التكرار للتأكيد في كلام العرب كثيرا كما في قول الشاعر:
أتاك أتاك اللّاحقون أتاكا «2»
وقول الآخر:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
إلى غير ذلك مما وقع في كلامهم مما لا تأخذه الإحاطة.
الضرب الثالث المساواة
بأن تكون الألفاظ بإزاء المعاني في القلة والكثرة لا يزيد بعضها على بعض.
وقد مثل له العسكريّ في «الصناعتين» بقوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ
«3» وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
«4» وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال أمّتي بخير ما لم تر الأمانة مغنما، والزّكاة مغرما» وقوله: «إيّاك والمشارّة، فإنها تميت(2/361)
الغرّة وتحيي العرّة» «1» وقول بعض الكتّاب: سألت عن خبري وأنا في عافية لا عيب فيها إلا فقدك، ونعمة لا مزيد فيها إلا بك. وقول آخر: وقد علّمتني نبوتك سلوتك، وأسلمني يأسي منك إلى الصّبر عنك. وقول آخر: فتولّى الله النعمة عليك وفيك، وتولّى إصلاحك والإصلاح بك، وأجزل من الخير حظّك والحظّ منك، ومنّ عليك وعلينا بك. وقول الشاعر:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النّفس أنّك عندها ... قليل ولا أن «2» قلّ منك نصيبها
إذا علمت ذلك فقد اختلف البلغاء في أيّ الثلاثة أبلغ وأولى بالكلام، فذهب قوم إلى ترجيح الإيجاز، محتجّين له بأنّه صورة البلاغة وأن ما تجاوز مقدار الحاجة من الكلام فضلة داخلة في حيّز اللّغو والهذر، وهما من أعظم أدواء الكلام، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصّناعة وغباوته، وقد قال الأمين محمد بن الرشيد: عليكم بالإيجاز فإن له إفهاما، وللإطالة استبهاما. وقال جعفر ابن يحيى لكتابه: إن قدرتم على أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا. وقال بعضهم:
البلاغة بالإيجاز أنجع من البيان بالإطناب، وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال:
الإيجاز. وقيل لابن حازم لم لا تطيل القصائد؟ فأنشد:
أبى لي أن أطيل الشّعر قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصّواب
وإيجازي بمختصر قريب ... حذفت به الفضول من الجواب
وذهبت طائفة إلى أن الإطناب أرجح، واحتجّوا لذلك بأن المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يحصل إلا بإيضاح العبارة، وإيضاح العبارة لا يتهيأ إلا بمرادفة الألفاظ على المعنى حتّى تحيط به إحاطة يؤمن معها من اللبس والإبهام، وإنّ(2/362)
الكلام الوجيز لا يؤمن وقوع الإشكال فيه، ومن ثم لم يحصل على معانيه إلا خواصّ أهل اللّغة العارفين بدلالات الألفاظ، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاصّ والعامّ في جهته، ويؤيد ذلك ما حكي أنه قيل لقيس بن خارجة: ما عندك في جمالات ذات حسن «1» ؟ قال: عندي قرى كل نازل، ورضا كلّ ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى عن التقاطع؛ فقيل لأبي يعقوب الجرميّ «2» هلّا اكتفى بقوله آمر فيها بالتواصل عن قوله: «وأنهى عن التقاطع» ؟ فقال: أو ما علمت أن الكتابة والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشّف؟ ألا ترى أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأحزاب «3» أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا؟ وقلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطوّلة مشروحة، ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم، وتأخّر معرفتهم، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاصّ والعامّ في فهمه.
وذهبت فرقة إلى ترجيح مساواة اللفظ المعنى، واحتجوا لذلك بأن منزع الفضيلة من الوسط دون الأطراف، وأن الحسن إنما يوجد في الشيء المعتدل.
قال في «موادّ البيان» : والذي يوجبه النظر الصحيح أن الإيجاز والإطناب والمساواة صفات موجودة في الكلام ولكل منها موضع لا يخله فيه رديفه، إذا وضع فيه انتظم في سلك البلاغة ودلّ على فضل الواضع، وإذا وضع غيره دلّ على نقص الواضع وجهله برسوم الصّناعة.
فأما الكلام الموجز فأنه يصلح لمخاطبة الملوك، وذوي الأخطار العالية،(2/363)
والهمم المستقيمة، والشؤون السنيّة، ومن لا يجوز أن يشغل زمانه بما همّته مصروفة إلى مطالعة غيره.
وأما الإطناب فإنه يصلح للمكاتبات الصادرة في الفتوحات ونحوها مما يقرأ في المحافل، والعهود السلطانية، ومخاطبة من لا يصل المعنى إلى فهمه بأدنى إشارة. وعلى ذلك يحمل ما كتبه المهلّب بن أبي صفرة إلى الحجّاج في فتح الأزارقة من الخوارج والظهور عليهم على ارتفاع خطر هذا الفتح وطول زمانه وبعد صيته، فإنه كتب فيه: «الحمد لله الذي كفى بالإسلام قصد ما سواه، وجعل الحمد متصلا بنعماه، وقضى ألّا ينقطع المزيد وحيله، حتّى ينقطع الشكر من خلفه؛ ثم إنا كنا وعدوّنا على حالتين مختلفتين نرى منهم ما يسرّنا أكثر مما يسرّهم، ويرون منا ما يسوءهم أكثر مما يسرّهم، فلم يزل ذلك دأبنا ودأبهم، ينصرنا الله ويخذلهم، ويمحّصنا ويمحقهم، حتّى بلغ الكتاب بناديهم أجله فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«1» .
فإن الذي حمله على الاختصار في هذا الكتاب إنما هو كونه إلى السلطان الذي من شأنه اختصار المكاتبات التي تكتب إليه، بخلاف ما لو كتب به عن السلطان إلى غيره، فإنه يتعين فيه بسط القول وإطالته على ما سيأتي ذكره في أوّل المكاتبات في المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
وأما مساواة اللفظ للمعنى فإنه يصلح لمخاطبة الأكفاء والنّظراء والطّبقة الوسطى من الرؤساء. فكما أن هذه المرتبة متوسّطة بين طرفي الإيجاز والإطناب، كذلك يجب أن تخصّ بها الطبقة الوسطى من الناس. قال: أما لو استعمل كاتب ترديد الألفاظ ومرادفتها على المعنى في المكاتبة إلى ملك مصروف الهمة إلى أمور كثيرة متى انصرف منها إلى غيرها دخلها الخلل، لرتّب كلامه في غير رتبه، ودلّ على جهله بالصناعة. وكذا لو بنى على الإيجاز كتابا يكتبه في فتح جليل الخطر، حسن الأثر، يقرأ في المحافل والمساجد الجامعة على رؤوس الأشهاد من العامّة(2/364)
ومن يراد منه تفخيم شأن السلطان في نفسه، لأوقع كلامه في غير موقعه، ونزّله في غير منزلته، لأنه لا أقبح ولا أسمج من أن يستنفر الناس لسماع كتاب قد ورد من السلطان في بعض عظائم أمور المملكة أو الدّين، فإذا حضر الناس كان الذي يمرّ على أسماعهم من الألفاظ واردا مورد الإيجاز والاختصار لم يحسن موقعه وخرج من وضع البلاغة لوضعه في غير موضعه.
قلت: وما ذكرته من الأصول والقواعد التي تبنى عليها صنعة الكلام هو القدر اللازم الذي لا يسع الكاتب الجهل بشيء منه، ولا يسمح بإخلاء كتاب مصنّف في هذا الفنّ منه.
أما المتمّمات التي يكمل بها الكاتب، من المعرفة بعلوم البلاغة ووجوه تحسين الكلام من المعاني والبيان والبديع، فإن فيها كتبا مفردة تكاد تخرج عن الحصر والإحصاء، فاقتضى الحال من المتقدّمين للتصنيف في هذا الفنّ أن قد قصروا تصانيفهم على علوم البلاغة وتوابعها كالوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» وأبي هلال العسكريّ في «الصناعتين» والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في «حسن التوسل» «1» كما تقدّمت الإشارة إليه في مقدّمة الكتاب، فليطلب ذلك من مظانّه من هذه الكتب وغيرها، إذ هذا الكتاب إنما يذكر فيه ما يشق طلبه من كتب متفرّقة، وتصانيف متعدّدة، أو يكون في المصنّف الواحد منه النّبذة غير الكافية، ولا يجتمع منه المطلوب إلا من كشف الكثير من المصنّفات المتفرّقة في الفنون المختلفة.(2/365)
الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة الأولى في معرفة الأزمنة والأوقات من الأيام والشهور والسنين على اختلاف الأمم فيها
، وتفاصيل أجزائها، والطرق الموصلة إليها، ومعرفة أعياد الأمم، وفيه أربعة أطراف
الطرف الأوّل في الأيام وفيه ست جمل
الجملة الأولى في مدلول اليوم ومعناه، وبيان ابتداء الليل والنهار
وقد اختلف الناس في مدلول اليوم على مذهبين:
المذهب الأوّل (وهو مذهب أهل الهيئة)
- أنّ اليوم عبارة عن زمان جامع لليل والنهار، مدّته ما بين مفارقة الشمس نصف دائرة عظيمة ثابتة الموضع بالحركة الأولى إلى عودها إلى ذلك النصف بعينه، وأظهر هذه الدوائر الأفق وفلك نصف النهار. والحذّاق من المنجّمين يؤثرون فلك نصف النهار على الأفق بسولة تحصل بذلك في بعض أعمالهم؛ لأن اختلاف دوائره في سائر الأوقات اختلاف واحد؛ وبعضهم يؤثر استعمال الأفق لأن الطلوع منه والغروب فيه أظهر للعيان، وهو الموافق لما نحن فيه.
ثم منهم من يقدّم الليل فيفتتح اليوم بغروب الشمس ويختم بغروبها من اليوم القابل، وعلى ذلك عمل المسلمين وأهل الكتاب، وهو مذهب العرب، لأن شهورهم مبنية على مسير القمر، وأوائلها مقدّرة برؤية الهلال.
ومنهم من يقدّم النهار على الليل فيفتتح اليوم بطلوع الشمس ويختم بطلوعها من اليوم القابل، وهو مذهب الروم والفرس.
ويحكى أن الاسكندر سأل بعض الحكماء عن الليل والنهار أيّهما قبل(2/366)
صاحبه فقال: هما في دائرة واحدة، والدائرة لا يعلم لها أوّل ولا آخر، ولا أعلى ولا أسفل.
المذهب الثاني (وهو مذهب الفقهاء)
- أن اليوم عبارة عن النهار دون الليل، حتّى لو قال لزوجته: أنت طالق يوم يقدم فلان فقدم ليلا لم يقع الطلاق على الصحيح. ثم القائلون بذلك نظروا إلى الليل والنهار باعتبارين: طبيعيّ، وشرعيّ.
أما الطبيعيّ فالليل من لدن غروب الشمس واستتارها بحدبة الأرض إلى طلوعها وظهورها من الأفق، والنهار من طلوع نصف قرص الشمس من المشرق إلى غيبوبة نصفها في الأفق في المغرب، وسائر الأمم يستعملونه كذلك.
وأما الشرعيّ- فالليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وهو المراد بالخيط الأبيض من قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
«1» والنهار من الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وبذلك تتعلق الأحكام الشرعية من الصوم والصلاة وغيرهما.
واعلم أن الشمس في الليل تكون غائبة تحت الأرض، فإذا قربت منا في حال غيبتها أحسسنا بضيائها المحيط «2» بظل الأرض الذي هو الليل، وهذا الضياء طليعة أمامها يطلع في السّحر بياض مستطيل مستدقّ الأعلى، وهو الفجر الكاذب إذ لا حكم له في الشريعة، ويشبّه بذنب السّرحان لانتصابه واستطالته ودقّته، ويبقى مدة ثم يزداد هذا الضوء إلى أن يأخذ طولا وعرضا وينبسط في عرض الأفق، وهو الفجر الثاني ويسمّى الصادق، وعليه تترتب جميع الأحكام الشرعية المتعلقة بالفجر، وبعده يحمرّ الأفق لاقتراب الشمس وسطوع ضيائها على المدوّرات الغربية من الأرض، ويتبعه الطلوع، وعند غروبها ينعكس الحكم في(2/367)
الترتيب المتقدّم فيبقى الأفق محمرّا من جهة المغرب بعد الغروب، ثم تزول الحمرة ويبقى البياض الذي هو نظير الفجر الصادق، وبالحمرة حكم صلاة العشاء عند الشافعية وبالبياض حكمها عند الحنفية، ثم يزداد البياض ضعفا شيئا فشيئا إلى أن يغيب، ثم يتبعه البياض المستطيل المنتصب نظير الفجر الكاذب مدّة من الليل ثم يذهب، وهذا لا حكم له في الشرعيات. والهند لا يعدّون الفجر ولا الشّفق من الليل ولا من النهار، ويجعلونهما قسما مستقلّا، وهذا في غاية البعد لأن الله تعالى قسم الزمان إلى ليل ونهار ولم يذكر معهما سواهما.
الجملة الثانية في اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان والاستواء باختلاف الأمكنة واعلم أن البلاد والنواحي على قسمين:
القسم الأوّل ما يستوي فيه الليل والنهار أبدا، لا يختلفان بزيادة ولا نقصان
وذلك في البلاد التي لا عرض لها وهي ما مرّ عليه خط الاستواء؛ والعلة في التّساوي هي أن أصحاب الهيئة لما توهموا أن بين قطبي فلك البروج دائرة عظمى تقسم سطح السماء نصفين على السّواء وسمّوها دائرة معدّل النهار، وتوهموا أيضا في موازاتها دائرة أخرى تقسم سطح الأرض نصفين وسمّوها دائرة الاستواء وخط الاستواء؛ وكل بلد يمرّ عليه هذا الخط لا عرض له، وذلك لانقسام الكرة فيه وطلوع الشمس أبدا على رؤوس ساكنيه، وميلها في ناحيتي الشمال والجنوب بقدر واحد، ودوائر الأوقات تقطع جميع الدوائر الموازية لدائرة معدّل النهار بنصفين نصفين، فيكون قوس النهار وهو الزمان الذي من طلوع الشمس إلى غروبها مساويا لقوس الليل وهو الزمان الذي من غروب الشمس إلى طلوعها، فيكون الليل والنهار متساويين أبدا في هذه المواضع في جميع السنة.(2/368)
القسم الثاني ما يختلف فيه الليل والنهار في السنة بالاستواء والزيادة والنّقصان، وهي البلاد ذوات العروض
والعلّة في الزيادة والنّقصان أن المواضع التي تميل عن خطّ الاستواء إلى الشمال، تميل في كل موضع منها دائرة معدّل النهار إلى الجنوب وتنحطّ الشمس ويرتفع القطب الشماليّ من الأفق ويصير للبلد عرض بحسب ذلك الارتفاع، وبقدر بعده عن الخطّ. وإذا مالت الدائرة قطعت الآفاق كلّ دائرة من الدوائر الموازية لها بقطعتين مختلفتين، فيكون ما فوق الأرض من قسميها أعظم من الذي تحتها، لأن القطب لما ارتفع ارتفعت الدوائر الشمالية فظهر من كل واحدة أكثر من نصفها، وانحط مدار الشمس عن سمت الرأس إلى جهة الجنوب فبعد مشرق الصيف عن مشرق الشتاء فطال النهار وقصر الليل، وكلما زاد ارتفاع القطب في الأقاليم زاد الاختلاف الذي هو بين هذه القطع إلى أن تكون نهاية الأطوال حيث يكون ارتفاع القطب اثنتي عشرة درجة ونصفا وربعا وهو أوّل المعمور، اثنتي عشرة ساعة ونصفا وربعا؛ وحيث يكون ارتفاعه تسعا وعشرين درجة وهو آخر الاقليم الثاني، ثلاث عشرة ساعة ونصفا وربعا، وحيث يكون ارتفاعه ثلاثا وثلاثين درجة ونصفا وهو آخر الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة وربعا، وحيث يكون ارتفاعه تسعا وثلاثين درجة وهو آخر الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصفا وربعا؛ وحيث يكون ارتفاعه ثلاثا وأربعين درجة ونصفا وهو آخر الإقليم الخامس خمس عشرة ساعة وربعا، وحيث يكون ارتفاعه سبعا وأربعين درجة وهو آخر الإقليم السادس خمس عشرة ساعة ونصفا وربعا، وحيث يكون ارتفاعه خمسين درجة وهو آخر الإقليم السابع ست عشرة ساعة وربعا.
ولا يزال اختلاف مطالع البروج يزداد بالامعان في الشمال ويتسع شرقا المنقلبين ويتقاربان مع مغربيهما إلى أن يلتقيا في العرض المساوي لتمام الميل الأعظم، وهو حيث يكون ارتفاع القطب ستّا وستين درجة؛ وفي هذا الموضع(2/369)
يكون قطب فلك البروج في دوره يمرّ على سمت الرؤوس، ويكون أوّل السّرطان فقط ظاهرا فوق الأرض أبدا، ومدار أوّل الجدي فقط غائبا أبدا، فيكون مقدار النهار الأطول أربعا وعشرين ساعة لا ليل فيه. ويعرض في هذه المواضع عند موازاة قطب فلك البروج سمت الرؤوس أن دائرة فلك البروج تنطبق حينئذ على دائرة الأفق، فيكون أوّل الحمل في المشرق، وأوّل الميزان في المغرب، وأول السّرطان في الأفق الشماليّ، وأوّل الجدي في الأفق الجنوبيّ. فاذا صار قطب فلك البروج والأفق نصفين وارتفع النصف الشرقيّ من فلك البروج وانخفض النصف الغربيّ فيطلع حينئذ ستة بروج دفعة واحدة، وهي من أول الجدي إلى آخر الجوزاء، وكذلك تغرب الستة الباقية دفعة واحدة. وحيث يكون ارتفاع القطب سبعا وستين درجة وربعا فهناك يكون مدار ما بين النصف من الجوزاء إلى النصف من السّرطان ظاهرا فوق الأرض أبدا، وما بين النصف من القوس إلى النصف من الجدي غائبا أبدا، فيكون مقدار شهر من شهور الصيف نهارا كله لاليل فيه، وشهر من الشتاء ليلا كله لا نهار فيه، والعشرة الأشهر الباقية من السنة كلّ يوم وليلة أربعا وعشرين ساعة. وحيث يكون ارتفاع القطب تسعا وستين درجة ونصفا وربعا فهناك يكون مدار برجي الجوزاء والسّرطان ظاهرا فوق الأرض، ومدار برجي القوس والجدي غائبا تحت الأرض أبدا، ولذلك يكون مقدار شهرين من الصيف نهارا كله، وشهرين من الشتاء ليلا كلّه. وحيث يكون ارتفاع القطب ثلاثا وسبعين درجة يكون ما بين النصف من الثور إلى النصف من الأسد ظاهرا أبدا والأجزاء «1» النظيرة لها غائبة أبدا، فيكون مقدار ثلاثة أشهر من الصيف نهارا كلّه، وثلاثة أشهر من الشتاء ليلا كلّه. وحيث يكون ارتفاع القطب ثماني وسبعين درجة ونصفا فهناك يكون مدار الثور والجوزاء والسّرطان ظاهرا أبدا والبروج النظيرة لها غائبة أبدا، فيكون أربعة أشهر من الصيف نهارا كلّه وأربعة أشهر من الشتاء ليلا كلّه. وحيث(2/370)
يكون ارتفاع القطب أربعا وثمانين درجة فهناك يكون مدار ما بين النصف من الحمل إلى النصف من السّنبلة ظاهرا أبدا والبروج النظيرة لها غائبة أبدا فيكون خمسة أشهر من الصيف نهارا كلّه وخمسة أشهر من الشتاء ليلا كلّه.
ومما يعرض في هذه المواضع التي تقدّم ذكرها أنه إذا كان قطب فلك البروج في دائرة نصف النهار مما يلي الجنوب كان أوّل الحمل في المشرق وأوّل الميزان في المغرب، وتكون البروج الشمالية ظاهرة أبدا فوق الأرض والجنوبيّة غائبة تحتها، وهناك يطلع ما له طلوع من آخر الفلك فيما بين الجدي والسّرطان منكوسا، فيطلع الثور قبل الحمل، والحمل قبل الحوت، والحوت قبل الدلو، وكذلك تغرب نظائرها منكوسة. وحيث يكون ارتفاع القطب تسعين درجة فيصير على سمت الرأس فهناك تكون دائرة معدّل النهار منطبقة على الأفق أبدا، ويكون دور الفلك رحويّا «1» موازيا للأفق، ويكون نصف السماء الشمالي عن معدّل النهار ظاهرا أبدا فوق الأرض والنصف الجنوبيّ غائبا تحتها، فلذلك اذا كانت الشمس في البروج الشمالية، كانت طالعة تدور حول الأفق ويكون أكثر ارتفاعها عنه بمقدار ميلها عن معدّل النهار، وإذا كانت في البروج الجنوبية، كانت غائبة أبدا فتكون السنة هناك يوما واحدا ستة أشهر ليلا وستة أشهر نهارا، ولا يكون لها طلوع ولا غروب. فظهر من هذا أن حركة الفلك بالنسبة للآفاق إمّا دولابيّة، وهي في خط الاستواء، وإما حمائلية، وهي في الآفاق المائلة عنه، وإما رحويّة، وهي في المواضع التي ينطبق فيها قطب العالم على سمت الرأس؛ فسبحان من أتقن ما صنع!
الجملة الثالثة في معرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما بتنقّل الشمس في البروج
اعلم أن للشمس حركتين: سريعة وبطيئة.(2/371)
أما السريعة فحركة فلك الكلّ بها في اليوم والليلة من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، وتسمّى الحركة اليوميّة.
وأما الحركة البطيئة فقطعها فلك البروج في سنة شمسيّة من الجنوب إلى الشمال ومن الشّمال إلى الجنوب، ولتعلم أن جهة المشرق وجهة المغرب لا تتغيّر ان في أنفسهما بل جهة المشرق واحدة وكذلك جهة المغرب، وإن اختلفت مطالعهما. قال تعالى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ*
«1» أي جهة الشّروق وجهة الغروب في الجملة، إلا أن الشمس لها غاية ترتفع إليها في الشّمال، ولتلك الغاية مشرق ومغرب وهو مشرق الصيف ومغربه، ومطلعها حينئذ بالقرب من مطلع السّماك الرامح «2» ، ولها غاية تنحطّ إليها في الجنوب، ولتلك الغاية أيضا مشرق ومغرب: وهو مشرق الشتاء ومغربه، ومطلعها حينئذ القرب من مطلع بطن العقرب، وهذان المشرقان والمغربان هما المراد بقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ
«3» وبين هاتين الغايتين مائة وثمانون مشرقا، ويقابلها مائة وثمانون مغربا، ففي كل يوم تطلع من المشرق غير الذي تطلع فيه بالأمس، وتغرب في مغرب غير الذي تغرب فيه بالامس. وذلك قوله تعالى: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ
«4» ونقطة الوسط بين هاتين الغايتين وهي التي يعتدل فيها الليل والنهار، يسمّى مطلع الشمس فيها مشرق الاستواء، ومغرب الاستواء، ومطلعها حينئذ بالقرب من مطلع السماك الأعزل «5» .
وقد قسّم علماء الهيئة ما بين غاية الارتفاع وغاية الهبوط اثني عشر قسما،(2/372)
قالوا: والمعنى في ذلك أن الشمس في المبدإ الأوّل لما سارت مسيرها الذي جعله الله خاصّا بها قطعت دور الفلك التاسع في ثلاثمائة وستين يوما، وسميت جملة هذه الأيام سنة شمسية ورسمت بحركتها هذه في هذا الفلك دائرة عظمى على ما توهّمه أصحاب الهيئة، وقسمت هذه الدائرة إلى ثلاثمائة وستين جزءا وسمّوا كلّ جزء درجة، ثم قسمت هذه الدّرج إلى اثني عشر قسما على عدد شهور السنة، وسمّوا كل قسم منها برجا، وجعلوا ابتداء الاقسام من نقطة الاعتدال الربيعيّ: لاعتدال الليل والنهار عند مرور الشمس بهذه النقطة، ووجدوا في كل من قسم هذه الأقسام نجوما تتشكّل منها صورة من الصّور فسمّوا كلّ قسم باسم الصورة التي وجدوها عليه، وكان القسم الأول الذي ابتدأوا به نجوما إذا جمع متفرّقها تشكلت صورة حمل، فسمّوها بالحمل، وكذلك البواقي.
قال صاحب «مناهج الفكر» «1» : وذلك في أوّل ما رصدوا، وقد انتقلت الصّور عن أمكنتها على ما زعموا فصار مكان الحمل الثور، وهي تنتقل على رأي بطليموس في ثلاثة آلاف سنة، وعلى رأي المتأخرين في ألفي سنة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن الدّورة الفلكية في العروض الشّمالية تنقسم إلى ثلاثمائة وستين درجة، كما تقدمت الإشارة إليه؛ والسنة ثلاثمائة وستون يوما منقسمة على الاثني عشر برجا المتقدم ذكرها، لكل برج منها ثلاثون يوما، وتوزّع عليها الخمسة أيام والربع يوم، والليل والنهار يتعاقبان بالزيادة والنّقصان بحسب سير الشمس في تلك البروج، فما نقص من أحدهما زيد في الآخر، وذلك أنها إذا حلّت في رأس الحمل وهي آخذة في الارتفاع إلى جهة الشّمال، وذلك في السابع عشر من برمهات من شهور القبط، ويوافقه الحادي والعشرون من آذار من شهور السّريان، وهو مارس من شهور الروم، والرابع والعشرون من حرداد ماه من شهور الفرس، اعتدل الليل والنهار، فكان كل واحد منهما مائة وثمانين درجة، وهو أحد الاعتدالين في السنة، ويسمى الاعتدال الربيعيّ لوقوعه أوّل زمن الربيع، فيزيد(2/373)
النهار فيه في كل يوم نصف درجة، وينقص الليل كذلك، فتكون زيادة النهار فيه لمدّة ثلاثين يوما خمس عشرة درجة، ونقص الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمس وتسعين درجة، والليل على مائة وخمس وستين درجة.
ثم تنقل إلى الثور فيزيد النهار فيه كلّ يوم ثلث درجة، وينقص الليل كذلك، فتكون زيادة النهار فيه لمدة ثلاثين يوما عشر درجات ونقص الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائتين وخمس درجات، والليل على مائة وخمس وخمسين درجة.
ثم تنقل إلى الجوزاء فيزيد النهار فيها كلّ يوم سدس درجة وينقص الليل كذلك، فتكون زيادة النهار فيها لمدة ثلاثين يوما خمس درجات، ونقص الليل كذلك، ويصير النهار آخرها على مائتين وعشر درجات والليل على مائة وخمسين درجة وذلك غاية ارتفاعها في جهة الشمال. وهذا أطول يوم في السنة وأقصر ليلة في السنة.
ويسمّى سير الشمس في هذه البروج الثلاثة شماليّا صاعدا لصعودها في جهة الشمال.
ثم تنقل الشمس إلى السّرطان وتكرّ راجعة إلى جهة الجنوب، ويسمّى ذلك المنقلب الصيفيّ، وذلك في العشرين من بؤنة من شهور القبط، ويبقى من حزيران من شهور السّريان ويونيه من شهور الروم خمسة أيام، وحينئذ يأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان، فينقص النهار فيه في كل يوم سدس درجة، ويزيد الليل كذلك، فيكون نقص النهار فيه لمدة ثلاثين يوما خمس درجات، وزيادة الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائتين وخمس درجات، والليل على مائة وخمس وخمسين درجة.
ثم تنقل إلى الأسد فينقص النهار فيه كل يوم ثلث درجة، فيكون نقص النهار فيه لمدة ثلاثين يوما عشر درجات، وزيادة الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمس وتسعين درجة، والليل على مائة وخمس وستين درجة.(2/374)
ثم تنقل 7 لى السّنبلة فينقص النهار فيها كلّ يوم نصف درجة، ويزيد الليل كذلك، فيكون نقص النهار فيها لمدة ثلاثين يوما خمس عشرة درجة، وزيادة الليل كذلك، ويصير النهار بآخرها على مائة وثمانين درجة والليل كذلك، فيستوي الليل والنهار، ويسمّى الاعتدال الخريفيّ: لوقوعه في أوّل الخريف، ويسمّى سير الشمس في هذه البروج الثلاثة شماليّا هابطا لهبوطها في الجهة الشمالية.
ثم تنقل إلى الميزان في الثامن عشر من توت من شهور القبط، وهي آخذة في الهبوط، والنهار في النقص والليل في الزيادة، فينقص النهار فيه كلّ يوم نصف درجة، ويزيد الليل كذلك، فيكون نقص النهار فيه لمدّة ثلاثين يوما خمس عشرة درجة، وزيادة الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمس وستين درجة والليل على مائة وخمس وتسعين درجة.
ثم تنقل إلى العقرب، فينقص النهار في كل يوم ثلث درجة، ويزيد الليل كذلك، فيكون نقص النهار فيه لمدة ثلاثين يوما عشر درجات، وزيادة الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمس وخمسين درجة، والليل على مائتين وخمس درجات.
ثم تنقل إلى القوس، فينقص النهار فيه كلّ يوم سدس درجة، ويزيد الليل كذلك، فيكون نقص النهار فيه لمدة ثلاثين يوما خمس درجات، وزيادة الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمسين درجة، والليل على مائتين وعشر درجات، وهو أقصر يوم في السنة وأطول ليلة في السنة، وذلك غاية هبوطها في الجهة الجنوبية. ويسمّى سير الشمس في هذه البروج جنوبيّا هابطا، لهبوطها في الجهة الجنوبية.
ثم تنقل إلى الجدي في السابع عشر من كيهك وتكرّ راجعة، فتأخذ في الارتفاع ويأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان، فيزيد النهار فيه كلّ يوم سدس درجة، وينقص الليل كذلك، فتكون زيادة النهار فيه لمدة ثلاثين يوما خمس درجات ونقص الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمس(2/375)
وخمسين درجة، والليل على مائتين وخمس درجات.
ثم تنقل إلى الدلو، فيزيد النهار فيه كلّ يوم ثلث درجة، وينقص الليل كذلك، فتكون زيادة النهار فيه لمدة ثلاثين يوما عشر درجات ونقص الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وخمس وستين درجة والليل على مائة وخمس وتسعين درجة.
ثم تنقل إلى الحوت، فيزيد النهار فيه كلّ يوم نصف درجة وينقص الليل كذلك، فتكون زيادة النهار فيه لمدة ثلاثين يوما خمس عشرة درجة ونقص الليل كذلك، ويصير النهار بآخره على مائة وثمانين درجة والليل كذلك، فيستوي الليل والنهار وهو رأس الحمل وقد تقدّم. ويسمّى سير الشمس في هذه البروج الثلاثة جنوبيّا صاعدا لصعودها في الجهة الجنوبيّة، وهذا شأنها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وهذا العمل إنما هو في مصر وأعمالها؛ فإذا اختلفت العروض كان الأمر في الزيادة والنّقصان بخلاف ذلك والله أعلم.
تنبيه- إذا أردت أن تعرف الشمس في أي برج من البروج وكم قطعت منه في أيّ وقت شئت، فأقرب الطرق في ذلك أن تعرف الشهر الذي أنت فيه من شهور القبط «1»
وتعرف أمسه «2» .
الجملة الرابعة في بيان ما يعرف به ابتداء الليل والنهار
وقد تقدّم أن النهار الطبيعيّ أوّله طلوع الشمس وآخره غروبها، والنهار الشرعيّ أوله طلوع الفجر الثاني وآخره غروب الشمس؛ فيخالفه في الابتداء(2/376)
ويوافقه في الانتهاء، وطلوع الشمس وغروبها ظاهر يعرفه الخاصّ والعامّ، أما الفجر فإن أمره خفيّ لا يعرفه كلّ أحد، وقد تقدّم انقسامه إلى كاذب: وهو الأول، وصادق: وهو الثاني، وعليه التعويل في الشرعيات، فيحتاج إلى موضّح يوضّحه ويظهره للعيان، وقد جعل المنجّمون وعلماء الميقات له نجوما تدّل عليه بالطّلوع والغروب والتوسط، وهي منازل القمر، وعدّتها ثمان وعشرون منزلة وهي الشّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع، والنّثرة، والطّرف، والجبهة، والخرتان، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك، والغفر، والزّبانان، والإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم، والفرغ المؤخّر، وبطن الحوت «1» .
والمعنى في ذلك أن الشمس إذا قربت من كوكب من الكواكب الثابتة أو المتحركة سترته وأخفته عن العيون، فصار يظهر «2» نهارا ويختفي ليلا ويكون خفاؤه غيبة له، ولا يزال كذلك خافيا إلى أن تبعد عنه الشمس بعدا يمكن أن يظهر معه للأبصار وهو عند أوّل طلوع الفجر، فإن ضوء الشمس يكون ضعيفا حينئذ فلا يغلب نور الكوكب فيرى الكوكب في الأفق الشرقيّ ظاهرا، وحصة كل منزلة من هذه المنازل من السنة ثلاثة عشر يوما وربع سبع يوم ونصف ثمن سبع يوم على التقريب كما سيأتي «3» على المنازل الثمانية والعشرين، خص كل منزلة ما ذكر من العدد والكسور، ولما كان الأمر كذلك جعل لكل منزلة ثلاثة عشر يوما، وهي ثلاث عشرة درجة من درج الفلك، وجمع ما فضل من الكسور على كل ثلاثة عشر يوما بعد انقضاء أيام المنازل الثمانية والعشرين، فكان يوما وربعا، فجعل يوما في المنزلة التي توافق آخر السنة وهي الجبهة فكان حصتها أربعة عشر يوما، وبقي ربع(2/377)
يوم ونسيء أربع سنين حتّى صار يوما فزيد على الجبهة أيضا، فكانت كواكب المنازل المذكورة تطلع مع الفجر، منها أربعة عشر يوما ثلاث سنين، وفي السنة الرابعة تطلع بالفجر خمسة عشر يوما.
فأما الشّرطان وهما المنزلة الأولى، فأوّل طلوعهما بالفجر في الثالث والعشرين من برمودة من شهور القبط، وهو الثامن عشر من نيسان من شهور السّريان «1» .
وأما البطين وهو المنزلة الثانية، فأوّل طلوعه بالفجر في السادس من بشنس من شهور القبط، وهو أوّل يوم من أيّار من شهور السّريان.
وأما الثّريّا وهي المنزلة الثالثة، فأوّل طلوعها بالفجر في التاسع عشر من بشنس من شهور القبط، وهو الرابع عشر من أيار من شهور السّريان.
وأما الدّبران وهو المنزلة الرابعة، فطلوعها بالفجر في الثاني من بؤنة من شهور القبط، وهو السادس والعشرون من أيار من شهور السريان.
وأما الهقعة وهي المنزلة الخامسة، فأوّل طلوعها بالفجر في الخامس عشر من بؤنة من شهور القبط، وهو التاسع من حزيران من شهور السريان.
وأما الهنعة وهي المنزلة السادسة، فأوّل طلوعها بالفجر في الثامن والعشرين من بؤنة من شهور القبط، وهو الثاني والعشرون من حزيران من شهور السريان.
وأما الذّراع وهو المنزلة السابعة، فأوّل طلوعه بالفجر في الحادي عشر من أبيب من شهور القبط؛ وهو الثامن عشر من تموز من شهور السّريان.
وأما النّثرة وهي المنزلة الثامنة، فأوّل طلوعها بالفجر في الرابع والعشرين من أبيب من شهور القبط، وهو الثامن عشر من تموز من شهور السريان.
وأما الطّرف وهو المنزلة التاسعة، فأوّل طلوعه بالفجر في السابع من مسرى من شهور القبط، وهو اليوم الآخر من تموز من شهور السّريان.(2/378)
وأما الجبهة وهي المنزلة العاشرة، فأوّل طلوعها بالفجر في العشرين من مسرى من شهور القبط، وهو الثالث عشر من آب من شهور السريان.
وأما الخرتان وهو المنزلة الحادية عشرة، فأول طلوعه بالفجر في الرابع من أيام النسيء القبطيّ، وفي السنة الكبيسة في الخامس منه، وهو السابع والعشرون من آب من شهور السريان.
وأما الصّرفة وهي المنزلة الثانية عشرة، فأوّل طلوعها بالفجر في الثاني عشر من توت من شهور القبط، وهو التاسع من أيلول من شهور السّريان.
وأما العوّاء وهي المنزلة الثالثة عشرة، فأوّل طلوعها بالفجر في الخامس والعشرين من توت من شهور القبط، وفي الثاني والعشرين من أيلول من شهور السّريان.
وأما السّماك وهي المنزلة الرابعة عشرة فأوّل طلوعها بالفجر في الثامن من بابه من شهور القبط، وهو الخامس من تشرين الأوّل من شهور السريان.
وأما الغفر وهي المنزلة الخامسة عشرة فأوّل طلوعها بالفجر في الحادي والعشرين من بابه من شهور القبط، وهو الثامن عشر من تشرين الأوّل من شهور السّريان.
وأما الزّبانان وهما المنزلة السادسة عشرة فأوّل طلوعهما بالفجر في الرابع من هاتور من شهور القبط، وهو آخر يوم من تشرين الأوّل من شهور السّريان.
وأما الإكليل وهو المنزلة السابعة عشرة، فأوّل طلوعه بالفجر في السابع عشر من هاتور من شهور القبط، وهو الثالث عشر من تشرين الثاني من شهور السريان.
وأما القلب وهو المنزلة الثامنة عشرة فأوّل طلوعه بالفجر في آخر يوم من هاتور من شهور القبط وهو السادس والعشرون من تشرين الثاني من شهور السّريان.(2/379)
وأما الشّولة وهي المنزلة التاسعة عشرة، فأوّل طلوعها بالفجر في الثالث عشر من كيهك من شهور القبط، وهو التاسع من كانون الأوّل من شهور السريان.
وأما النّعائم وهي المنزلة العشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في السادس والعشرين من كيهك من شهور القبط، وهو الثاني والعشرون من كانون الأوّل من شهور السريان.
وأما البلدة وهي المنزلة الحادية والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في التاسع من طوبه من شهور القبط، وهو الرابع من كانون الثاني من شهور السريان.
وأما سعد الذابح وهو المنزلة الثانية والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في الثاني والعشرين من طوبه من شهور القبط، وهو السابع عشر من كانون الثاني من شهور السريان.
وأما سعد بلع وهو المنزلة الثالثة والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في الخامس من أمشير من شهور القبط، وهو الثلاثون من كانون الآخر من شهور السّريان.
وأما سعد السّعود وهو المنزلة الرابعة والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في الثامن عشر من أمشير من شهور القبط، وهو الثاني عشر من شباط من شهور السّريان.
وأما سعد الأخبية وهو المنزلة الخامسة والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر أوّل يوم من برمهات من شهور القبط، وهو الخامس والعشرون من شباط من شهور السريان.
وأما الفرغ المقدّم وهو المنزلة السادسة والعشرون فأوّل طلوعها بالفجر في الرابع عشر من برمهات من شهور القبط، وهو السابع من آذار من شهور السريان.
وأما الفرغ المؤخّر وهو المنزلة السابعة والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في السابع والعشرين من برمهات من شهور القبط، وهو الثاني والعشرون من آذار(2/380)
من شهور السريان.
وأما بطن الحوت وهو المنزلة الثامنة والعشرون، فأوّل طلوعها بالفجر في العاشر من برموده من شهور القبط، وهو الخامس من نيسان من شهور السريان.
وقد نظم الشيخ كمال الدين حفيد الشيخ أبي عبد الله محمد القرطبي «1» أبياتا، يعلم منها مطالع هذه المنازل بالفجر بحروف رمزها للشهور والأعداد والكواكب، وربما غلط بعض الناس فنسبها إلى الشيخ عبد العزيز الديريني «2» رحمه الله، وهي هذه:
تبيص تهكع بحس بكأغ هدز ... هيزاء هلق كيجش ككون برز
ططب طكبذ أهب أيحس بأخ ... بيدم بكزم بيت بكجش رمز «3»
وليس فيها من الحشوات قط سوى ... أواخر النظم فافهم شرحها لتعز
وبيان كلّ ذلك أنّ الحرف الأوّل من كلّ كلمة اسم للشهر الذي تطلع فيه تلك المنزلة والحرف الآخر منها اسم المنزلة، وما بين الآخر والأوّل عدد ما مضى من الشهر بحساب الجمّل، مثال ذلك التاء من تبيص كناية عن توت، والصاد منها كناية عن الصّرفة، والياء والباء اللذان بينهما عددهما بالجمّل اثنا عشر، إذ الياء بعشرة والباء باثنتين فكأنه قال في الثاني عشر من توت تطلع منزلة الصّرفة بالفجر، وكذلك البواقي، إلا أنه لا عبرة بأواخر البيتين وهي برز في البيت الأوّل ورمز في البيت الثاني.
ونظم الإمام محب الدين جار الله الطبريّ أبياتا كذلك على شهور السريان وهي هذه:(2/381)
تهس تحيع تلز تجيء ... توكق كطش كبكن نزول
كدب كويذ كلب شبيس ... شهكح أزيم أبكم ألول
نهب نحيش أآب ... أوكد حطت حبكه صجول
والحال في هذه الكلمات من أوائل الأبيات وأواخرها وأوساطها كالحال في الأبيات المتقدّمة، فالتاء من تهس إشارة لتشرين الأوّل، والسين إشارة للسماك، والهاء بينهما بخمسة ففي الخامس من تشرين الأوّل يطلع السماك، وعلى هذا الترتيب في البواقي.
واعلم أن هذه المنازل لا تزال أربع عشرة منزلة منها ظاهرة فوق الأرض في نصف الفلك، وأربع عشر منزلة منها خافية تحت الأرض في نصف الفلك، وهي مراقبة بعضها لبعض لاستواء مقادير أبعادها، فإذا طلعت واحدة في الأفق الشرقي غربت واحدة في الأفق الغربيّ، وكانت أخرى متوسطة في وسط الفلك فهي كذلك أبدا.
والقاعدة في معرفة ذلك أنك تبتديء بأية منزلة شئت، وتعد منها ثمانية من الطالع فالثامنة هي المتوسطة والخامسة عشرة هي الغاربة؛ فإذا كان الطالع الشّرطين فالمتوسط النّثرة والغارب الغفر؛ وكذلك في جميع المنازل؛ وفي مراقبة الطالع منها للغارب يقول بعض الشعراء مقيّدا لها على الترتيب بادئا بطلوع النّطح وهو الشّرطان وغروب الغفر حينئذ:
كم أمالوا من ناطح باغتفار ... وأحالوا على البطين الزّبانى
والثّريّا تكلّلت فرأينا ال ... قلب منها يشعّر الدّبرانا
هقعوا شولة وهنعوا نعاما ... بعد ما ذرّعوا البلاد زمانا
نثروا ذبحهم بطرف بليع ... جبهة السّعد في خرات خبانا
فانصرفنا وفي المقدّم عوّا ... آخرا والسّماك مدّ رشانا
وقال آخر:
النّطح يغفر والبطين مزابن ... ثم الثّريّا تبتغي إكليلا(2/382)
والقلب للدّبران خلّ عاذر ... من أجل هقعة شولة ما قيلا
تهوى الهنيعة للنّعائم مثل ما ... ينوي الذّراع لبلدة ترجيلا
والنّثر يذبح عند طرف بلوعه ... ولجبهة سعد غدا منقولا
ولزبرة وسط الخباء إقامة ... فاصرف مقدّم ذكرها تعجيلا
يهوي المؤخّران إن سماك مرّة ... مدّ الرّشاء لجيده تنكيلا
وقد نظم صاحبنا الشيخ إبراهيم الدهشوريّ الشهير بالسهرورديّ أرجوزة، ذكر فيها الطالع، ثم الغارب في بيت وبعده المتوسط، ثم الوتد وهو الذي يقابله تحت الأرض في بيت ثان- قال:
إن طلع الشرطان «1»
بطينها نور الزّبانين خلع ... فناعس الطّرف رمى سعد بلع
ثريا مع الإكليل بالوقود ... تنوّر الجبهة في السّعود
والدّبران القلب منه يخفق ... فالخرتان للخباء يطرق
وهقعة شولتها منهزمه ... وصرفة بفرغها مقدمه
وهنعة منها النّعائم نفرت ... بعوّة بالفرغ قد تأخّرت
رمى الذراع بلدة أصابها ... سماك بطن الحوت ما أصابها
فهذه جملتها مكمّله ... للشمس في ثلاث عشر منزله
الجملة الخامسة في ساعات الليل والنهار
قال أصحاب الهيئة: لما كان الفلك متحرّكا حركات متعدّدة يتلو بعضها بعضا جعل مقدار كل حركة منها يوما، ولما كانت الشمس في حركة من هذه الحركات تارة تكون ظاهرة لأهل الرّبع المعمور، وتارة مستترة عنهم بحدبة(2/383)
الأرض، انقسم لذلك مقدار تلك الحركة إلى الليل والنهار، فالنهار عبارة عن الوقت الذي تظهر فيه الشمس على ساكن ذلك الموضع من المعمور، والليل عبارة عن الوقت الذي تخفى عنهم فيه، فإنه يوجد وقت الصبح في موضع وقت طلوع الشمس في موضع آخر، وفي موضع آخر وقت الظهر، وفي موضع آخر وقت المغرب، وفي موضع آخر وقت نصف الليل.
ولما كانت منطقة البروج مقسومة إلى اثني عشر برجا، وكل برج إلى ثلاثين درجة، وكانت الشمس تقطع هذه المنطقة بحركة فلك الكل لها في زمان اليوم الجامع لليل والنهار، قسّم كل واحد منهما إلى اثني عشر جزءا، وجعل قسط كل جزء منها خمس عشرة درجة وسمّي ساعة. ثم لما كان الليل والنهار يزيد أحدهما على الآخر ويتساويان في الاعتدالين على ما مرّ، اضطرّ إلى أن تكون الساعات نوعين: مستوية وتسمّى المعتدلة، وزمانيّة وتسمّى المعوجّة. فالمستوية تختلف أعدادها في الليل والنهار، وتتفق مقاديرها بحسب طول النهار وقصره، فإنه إن طال كانت ساعاته أكثر، وإن قصر كانت ساعاته أقلّ، مقدار كل ساعة منه خمس عشرة درجة لا تزيد ولا تنقص، والمعوجة تتفق أعدادها وتختلف مقاديرها، فإن زمان النهار طال أو قصر ينقسم أبدا إلى اثنتي عشرة ساعة مقدار كل واحدة منها نصف سدس الليل والنهار، وهي في النهار الطويل أطول منها في القصير. والذي كانت العرب تعرفه من ذلك الزمانيّة دون المستوية، فكانوا يقسمون كلّا من الليل والنهار إلى اثنتي عشرة ساعة، ووضعوا لكل ساعة من ساعات الليل والنهار أسماء تخصّها.
فأما ساعات الليل فسمّوا الّاولى منها الشاهد، والثانية الغسق، والثالثة العتمة، والرابعة الفحمة، والخامسة الموهن، والسادسة القطع، والسابعة الجوشن، والثامنة الهتكة، والتاسعة التّباشير «1» ، والحادية عشرة الفجر الأوّل،(2/384)
والثانية عشرة الفجر المعترض.
فأما النهار فسّموا الساعة الأولى منه الذّرور، والثانية البزوغ، والثالثة الضّحى، والرابعة الغزالة، والخامسة الهاجرة، والسادسة الزّوال، والسابعة الدّلوك، والثامنة العصر، والتاسعة الأصيل، والعاشرة الصّبوب، والحادية عشرة الحدود «1» ، والثانية عشرة الغروب.
وتروى عنهم على وجه آخر، فيقال فيها: البكور، ثم الشّروق، ثم الإشراق، ثم الرّاد، ثم الضّحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطّفل (بتحرك الفاء) ، ثم العشيّ، ثم الغروب، ذكرهما ابن النحاس في «صناعة الكتاب» .
قال في «مناهج الفكر» : ويقال إن أوّل من قسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة آدم عليه السلام، وضمّن ذلك وصيّة لابنه شيث عليه السلام، وعرّفه ما وظّف عليه كلّ ساعة من عمل وعبادة؛ والله أعلم.
الجملة السادسة في أيام الأسبوع، وفيها أربعة مدارك
المدرك الأوّل في ابتداء خلقها وأصل وجودها
وقد نطق القرآن الكريم بذكر ستة أيام منها على الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
«2» .
وأما التفصيل فقوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ(2/385)
فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ
«1» والمراد بالأربعة الأولى بما فيها من اليومين المتقدّمين، ومثله في كلام العرب كثير، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «إذا نام أحدكم جاء الشيطان فعقد تحت رأسه ثلاث عقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلّت عقدة، فإذا توضّأ انحلّت عقدتان، فإذا صلّى انحلّت الثالثة» فالمراد بقوله عقدتان عقدة والعقدة الأولى، وقد ظهر بذلك أن المراد من الآية ستة أيام فقط، وهو ما ورد به صريح الآيات في غير هذه الآية أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وقد ورد ذلك مبينا فيما رواه ابن جرير «2» من رواية ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ اليهود أتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تسأله عن خلق السموات والأرض، فقال: «خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، وخلق الجبال يوم الثّلاثاء وما فيهنّ من منافع، وخلق يوم الأربعاء المدائن والشّجر والعمران والخراب، فهذه أربعة أيّام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنّة وأمر إبليس بالسّجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة» قالت اليهود:
ثم ماذا؟ قال: «ثم استوى على العرش» قالوا: أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا فنزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ
«3» قال الشيخ عماد الدين بن كثير «4» في تفسيره: وفيه غرابة، ولا ذكر في هذا الحديث ليوم السبت في أوّل الخلق ولا في آخره، نعم ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بيدي فقال: «خلق الله التّربة يوم السّبت،(2/386)
وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشّجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثّلاثاء، وخلق النّور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدّوابّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى اللّيل» قال ابن كثير: وهو من غرائب الصحيح، وعلله البخاريّ في تاريخه فقال: رواه بعضهم عن أبي هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح، فقد ورد التصريح في هذا الحديث بذكر الأيّام السبعة ووقوع الخلق فيها. قال أبو جعفر النحاس: زعم محمد بن إسحاق «1» أن هذا الحديث أولى من الحديث الذي قبله، واستدلّ بأن الفراغ كان يوم الجمعة، وخالفه غيره من العلماء الحذّاق النّظّار.
وقالوا: دليله دليل على خطئه، لأن الخلق في ستّة أيام يوم الجمعة منها كما صح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم برواية الجماعة، فلو لم يدخل في الأيام لكان الخلق في سبعة وهو خلاف ما جاء به التنزيل؛ على أن أكثر أهل العلم على حديث ابن عباس، فتبين أن الابتداء يوم الأحد إذ كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام كما في التنزيل.
قال أبو جعفر: على أن الحديثين ليسا بمتناقضين، لأنا إن عملنا على الابتداء بالأحد فالخلق في ستة أيام وليس في التنزيل أنه لا يخلق بعدها شيئا، وإن عملنا على الابتداء بالسبت فليس في التنزيل أنه لم يخلق قبلها شيئا.
إذا علمت ذلك فقد حكى أبو جعفر النحاس أن مقدار كل يوم من أيام خلق السموات والأرض ألف سنة من أيام الدّنيا، وأنه كان بين ابتدائه عز وجل في خلق ذلك وخلق القلم الذي أمره بكتابة كلّ ما هو كائن إلى قيام الساعة يوم وهو ألف عام، فصار من ابتداء الخلق إلى انتهائه سبعة آلاف عام، وعليه يدل قول ابن عباس: إن مدّة إقامة الخلق إلى قيام الساعة سبعة أيّام كما كان الخلق في سبعة أيام.(2/387)
قال أبو جعفر: وهذا باب مداره على النقل دون الآراء.
المدرك الثاني في أسمائها، وقد اختلف في ذلك على ثلاث روايات
الرواية الأولى- ما نطقت به العرب المستعربة من ولد إسماعيل عليه السلام
وجرى عليه الاستعمال إلى الآن: وهو الأحد والاثنان والثّلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسّبت.
والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن الله عز وجلّ خلق يوما واحدا فسمّاه الأحد، ثم خلق ثانيا فسمّان الاثنين، ثم خلق ثالثا فسمّاه الثّلاثاء، ثم خلق رابعا فسمّاه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسمّاه الخميس» ولا ذكر في هذه الرواية للجمعة والسبت. وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
«1» وقال جل وعز إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً
«2» . وسيأتيان في غير هذه الرواية عند ذكر الاختلاف فيما ابتديء فيه الخلق منها.
فالأحد بمعنى واحد ويقال بمعنى أوّل ورجحه النحاس، وهو المطابق لتسمية الثاني بالاثنين، والثالث بالثّلاثاء، وقيل أصله وحد بفتح الواو والحاء كما أن أناة أصلها وناة، ويجمع في القلّة على آحاد وأحدات، وفي الكثرة على أحود وأوحاد «3» ويحكى في جمعه أحد أيضا قال النحاس: كأنه جمع الجمع.
والاثنان بمعنى الثاني. قال النحاس: وسبيله ألّا يثنّى، وأن يقال فيه: مضت أيام الاثنين إلا أن تقول ذوات، قال: وقد حكى البصريّون الأثن والجميع الثّنيّ.
وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب: إن شئت أن تجمعه فكأنه مبني للواحد قلت(2/388)
أثانين. وحكى النحاس مثله عن كتاب الفرّاء في الأيام وقال: إنما يجوز على حيلة بعيدة، وهي أن يقال: اليوم الاثنان فتضمّ النون فتصير ماثل عمران فتثنيه وتجمعه على هذا. وحكي عن الفراء أيضا في جمع الكثرة أثان فتقول مضت أثان مثل أسماء وأسام، قال: وقرأت على أبي إسحاق في كتاب سيبويه «1» فيما حكاه اليوم الثّني فتقول على هذا في الجمع الأثناء.
والثّلاثاء بمعنى الثالث، ويجمع على ثلاثاوات، وحكى الفراء أثالث، قال النحاس: ويجوز أثاليث، وكذا ثلاثث مثل جمع ثلاثة لأن ألفي التأنيث كالهاء، وتقول فيه: مضت الثّلاثاء على تأنيث اللفظ ومضى على تذكير اليوم، وكذا في الجمع تقول مضت ثلاث ثلاثاوات، وثلاثة ثلاثاوات.
والأربعاء بمعنى الرابع، ويجمع على أربعاوات وكذا أرابيع والياء فيه عوض ما حذف، فإن لم تعوّض قلت أرابع؛ وأجاز الفراء أربعاءات مثل ثلاثاءات ومنعه البصريون للفرق بين ألف التأنيث وغيرها.
والخميس بمعنى الخامس، ويجمع في القلّة على أخمسة، وفي الكثرة على خمس وخمسان كرغف ورغفان، ويقال أخمساء كأنصباء، وحكي عن الفراء في الكثرة أخامس.
والجمعة (بضم الميم وإسكانها) ومعناها الجمع؛ واختلف في سبب تسميته بذلك فقال النحاس: لاجتماع الخلق فيه، وهذا ظاهر في أن الاسم كان بها قديما؛ وقيل لاجتماع الناس للصلاة فيه؛ ثم اختلف فقيل سميت بذلك في الجاهلية واحتجّ له بما حكاه أبو هلال العسكريّ في كتابه الأوائل: أن أوّل من سمّى الجمعة جمعة كعب بن لؤيّ جدّ النبي صلى الله عليه وسلّم، وذلك أنّه جمع قريشا وخطبهم فسميت جمعة وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلا العروبة. وقيل إنما سميت بذلك في(2/389)
الإسلام وذلك أن الأنصار قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه بعد كلّ ستة أيام، وللنصارى كذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلّي، فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوا يوم العروبة لنا، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة الأنصاري فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله تعالى سورة الجمعة. على أن السّهيليّ قد قال في الروض الأنف «1» : إن يوم الجمعة كان يسمّى بهذا الأسم قبل أن يصلّي الأنصار الجمعة.
أما أوّل جمعة جمّعها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما حكاه صاحب الأوائل فإنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل على بني عمرو بن عوف وأقام عندهم أيّاما ثم خرج يوم الجمعة عائدا إلى المدينة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى بهم الجمعة. وتجمع على جمع وجمعات بالفتح والتسكين «2» .
والسبت ومعناه القطع، بمعنى قطع فيه الخلق على رأي من يرى أن السبت آخر أيام الجمعة، وأنه لا خلق فيه على ما سيأتي ذكره. وقول النحاس إنه مشتقّ من الراحة أيضا لا عبرة به لمضاهاة قول اليهود فيه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويجمع في القلّة على أسبت وسبتات بالتحريك، وفي الكثرة على سبوت بضم السين مثل قرح وقروح.
الرواية الثانية- ما يروى عن العرب العاربة من بني قحطان وجرهم الأولى
: وهو أنهم كانوا يسمّون الأحد الأوّل لأنه أوّل أعداد الأيام ويسمّون الاثنين أهون أخذا من الهون والهوينى، وأوهد أيضا أخذا من الوهدة وهي المكان المنخفض من الأرض لانخفاضه عن اليوم الأوّل في العدد. ويسمّون الثّلاثاء جبارا (بضم الجيم) لأنه جبر به العدد. ويسمّون الأربعاء دبارا (بضم الدال المهملة) لأنه دبر(2/390)
ما جبر به العدد بمعنى أنه جاء دبره، ويسمون الخميس مؤنسا لأنه يؤنس به لبركته- قال النحاس: ولم يزل ذلك أيضا في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتبرّك به ولا يسافر إلا فيه وقال: «اللهمّ بارك لأمّتي في بكورها يوم خميسها» - ويسمّون الجمعة العروبة (بفتح العين مع الألف واللام) وفي لغة شاذّة عروبة بغير ألف ولام مع عدم الصرف، ومعناه اليوم البيّن أخذا من قولهم: أعرب إذا أبان، والمراد أنه بيّن العظمة والشّرف، إذ لم يزل معظّما عند أهل كل ملة وجاء الإسلام فزاده تعظيما؛ وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنّة، وفيه أخرج منها» . ويسمّونه أيضا حربة بمعنى أنه مرتفع عال كالحربة التي هي كالرّمح، كما يقال محراب لارتفاعه وعلوّ مكانته، ويسمّون السبت شيارا (بفتح الشين المعجمة وكسرها مع الياء المثناة تحت) أخذا من شرت الشيء إذا استخرجته وأظهرته من مكانه، إمّا بمعنى أنه استخرج من الأيام التي وقع فيها الخلق على مذهب من يرى أنه آخر أيام الأسبوع وأن ابتداء الخلق الأحد وانتهاءه الجمعة، وإما بمعنى أنه ظهر أوّل أيام الجمعة على مذهب من يرى أنه أوّل الجمعة وكان ابتداء الخلق فيه، وإلى هذه الأسماء يشير النابغة بقوله:
أؤمّل أن أعيش وأنّ يومي ... لأوّل أو لأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار
الرواية الثالثة- ما حكاه النحاس عن الضّحّاك
: أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستّة أيام، ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد هوّز حطّي كلمن سعفص قرشت. وقد حكى السهيلي رحمه الله أن الأسماء المتداولة بين الناس الآن مرويّة عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن الناس قبل ذلك لم يكونوا يعرفون إلا الأسماء التي وضعتها العرب العاربة وهي أبجد هوّز حطّي كلمن سعفص قرشت التي خلق الله تعالى فيها سائر المخلوقات:
علويّها وسفليّها. وهذا يخالف ما تقدّم في الرواية الثانية عن العرب العاربة؛ وعلى أنها أسماء للأيام التي وقع فيها الخلق يحتمل أن يكون أبجد اسما للأحد(2/391)
على مذهب من يرى أن ابتداء الخلق يوم الأحد ويكون السبت لا ذكر له في هذه الرواية «1» .
المدرك الثالث في بيان أوّل أيام الأسبوع، وما كان فيه ابتداء الخلق منها.
وقد اختلف الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب
المذهب الأوّل- أن أوّل أيام الأسبوع وابتداء الخلق الأحد
. واحتج لذلك بما تقدّم من حديث ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلّم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: «خلق الله عز وجلّ الأرض يوم الأحد» الحديث وبحديثه الآخر:
«خلق الله يوما واحدا فسمّاه الأحد» وإذا كان ابتداء الخلق الأحد لزم أن يكون أوّل الأسبوع الأحد.
المذهب الثاني- أن أوّل أيام الأسبوع وابتداء الخلق السبت
. واحتج له بحديث أبي هريرة المتقدم «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيدي فقال: خلق الله التّربة يوم السبت» الحديث، وإذا كان ابتداء الخلق السبت لزم أن يكون أوّل الأسبوع السبت.
المذهب الثالث- أن أوّل أيام الأسبوع الأحد
، لحديث «خلق الله يوما واحدا فسمّاه الأحد ثم خلق ثانيا فسمّاه الاثنين» الحديث. وابتداء الخلق يوم السبت لحديث أبي هريرة المتقدّم. قال النحاس: وهذا أحسنها.
المدرك الرابع في التفاؤل بأيام الأسبوع والتطيّر بها وما يعزى لكلّ منها من خير أو شرّ، على ما هو متداول بين الناس
واعلم أنه لا أصل لذلك من الشريعة، ولم يرد فيه نصّ من كتاب ولا سنة.(2/392)
وقد وردت القرعة عن جعفر الصادق رضي الله عنه في توزيع الأعمال على الأيام أنه قال: السبت يوم مكر وخديعة؛ ويوم الأحد يوم غرس وعمارة؛ ويوم الاثنين يوم سفر وتجارة؛ ويوم الثلاثاء يوم إراقة دم وحرب ومكافحة؛ ويوم الأربعاء يوم أخذ وعطاء؛ ويقال: يوم نحس مستمر؛ ويوم الخميس يوم دخول على الأمراء وطلب الحاجات؛ ويوم الجمعة يوم خلوة ونكاح. ووجهوا هذه الدعوى بأن قريشا مكرت في دار الندوة «1» يوم السبت، وأن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، وأن شعيبا سافر للتجارة يوم الأثنين، وأن حوّاء حاضت يوم الثلاثاء، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه، وأن فرعون غرق هو وقومه يوم الأربعاء، وفيه أهلك الله عادا وثمودا «2» ، وأن إبراهيم دخل على النّمرود يوم الخميس، وأن الأنبياء عليهم السلام كانت تنكح وتخطب يوم الجمعة. وقد نظم بعض الشعراء هذه الاختيارات في أبيات وإن كان قد خالف الواضع في مواضع فقال:
لنعم اليوم يوم السّبت حقّا ... لصيد إن أردت بلا امتراء
وفي الأحد البناء فإنّ فيه ... تبدّى الله في خلق السماء
وفي الإثنين إن سافرت فيه ... سترجع بالنجاح وبالغناء
وإن ترد الحجامة في الثّلاثا ... ففي ساعاته هرق الدّماء
وإن شرب امرؤ منكم دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج ... فإنّ الله يأذن بالقضاء
ويوم الجمعة التّزويج حقّا ... ولذّات الرّجال مع النّساء
وسيأتي الكلام على ما يتعلق من ذلك بأيام الشهر في الكلام على الشّهور في الفصل السابع من الكتاب إن شاء الله تعالى.(2/393)
الطرف الثاني في الشّهور، وهي على قسمين: طبيعيّ واصطلاحيّ «1»
القسم الأوّل الطبيعيّ والمراد به القمريّ
وهو مدّة مسير القمر من حين يفارق الشمس إلى حين يفارقها مرة أخرى، وهي على ضربين:
الضرب الأوّل شهور العرب
والشهر العربيّ عبارة عمّا بين رؤية الهلال إلى رؤيته ثانيا، وعدد أيامه تسعة وعشرون يوما ونصف يوم على التقريب، ولما كان هذا الكسر في العدد عسرا عدّوا جملة الشهرين تسعة وخمسين يوما، أحدهما ثلاثون وهو التام، والآخر تسعة وعشرون وهو الناقص. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم حلف لا يدخل على بعض نسائه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون غدا عليهم أو راح فقيل: يا رسول الله، حلفت لا تدخل عليهنّ شهرا فقال: الشهر يكون تسعة وعشرين» ، وذلك بحسب مسير النّيّرين: الشمس والقمر بالمسير الأوسط، أما بالمسير المقوّم فإنه يتفق إذا استكمل الشهر برؤية الهلال عيانا أن يتوالى شهران وثلاثة تامّة، وتتوالى كذلك ناقصة، وعلى ذلك عمل العرب واليهود. ولهم في استعماله طريقتان:
الطّريقة الأولى طريقة العرب
ومدّة الشهر عندهم من رؤية الهلال إلى رؤية الهلال، وهي أسهل الطّرق(2/394)
وأقربها، وعليها جاء الشرع، وبها نطق التنزيل قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ
«1» وفيها جملتان:
الجملة الأولى في أحوال الأهلّة التي عليها مدار الشهور في ابتدائها وانتهائها
واعلم أن مسير القمر مقدّر بمعرفة الشهور والسنين قال تعالى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ
«2» والشمس تعطيه في كل ليلة ما يستضيء به نصف سبع قرصه حتّى يكمل ثم تسلبه من الليلة الخامسة عشرة كلّ ليلة نصف سبع قرصه حتى لا يبقى فيه نور فيستتر. ويروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن القمر فقال:
يمحق كل ليلة ويولد جديدا؛ ويبعد مثل هذا عن جعفر الصادق.
إذا علمت ذلك فللقمر حركتان: سريعة وبطيئة كما تقدّم في الشمس.
أما الحركة السريعة فحركة فلك الكلّ به من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق في اليوم والليلة.
واعلم أن الهلال إذا طلع مع غروب الشمس كان مغيبه على مضيّ ستة أسباع ساعة من الليل، ولا يزال مغيبه يتأخر عن مغيبه في كل ليلة ماضية هذا المقدار حتّى يكون مغيبه في الليلة السابعة نصف الليل، وفي الليلة الرابعة عشرة طلوع الشمس، ثم يكون طلوعه في الليلة الخامسة عشرة على مضيّ ستة أسباع ساعة منها، ولا يزال طلوعه يتأخر عن طلوعه في كل ليلة ماضية بعد الإبدار هذا المقدار حتّى يكون طلوعه ليلة إحدى وعشرين نصف الليل، وطلوعه ليلة ثمان وعشرين مع الغداة.
وإذا أردت أن تعلم على مضيّ كم من الساعات يغيب أو يطلع من الليل،(2/395)
فإن أردت المغيب وكان قد مضى من الشهر خمس ليال تقديرا فاضربها في ستة تكون ثلاثين فأسقطها سبعة سبعة يبقى اثنان فيكون مغيبه على مضيّ أربع ساعات وثلاثة «1» أسباع ساعة، وكذلك العمل في أيّ ليلة شئت، وإن أردت الطلوع وكان قد مضى من الإبدار ستّ ليال مثلا فاضرب ستة في ستة يكون ستة وثلاثين فأسقطها سبعة سبعة يبقى واحد، فيكون طلوعه على خمس ساعات وسبع، وكذلك العمل في أيّ ليلة شئت.
وقد قسمت العرب ليالي الشهر بعد استهلاله كلّ ثلاثة أيام قسما وسمتها باسم، فالثلاث الأول منها هلال، والثلاث الثانية قمر، والثلاث الثالثة بهر، والثلاث الرابعة زهر (والزّهر البياض) ، والثلاث الخامسة بيض، لأن الليالي تبيضّ بطلوع القمر فيها من أوّلها إلى آخرها والثلاث السادسة درع، لأن أوائلها تكون سودا وسائرها بيض، والثلاث السابعة ظلم، والثلاث الثامنة حنادس، والثلاث التاسعة دآدىء (الواحدة منها دأدأة على وزن فعللة) ، والثلاث العاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار لإمحاق الشمس القمر فيها.
ومنهم من يقول: ثلاث غرر (وغرّة كلّ شيء أوّله) ، وثلاث شهب، وثلاث زهر، وثلاث تسع «2» ، لأن آخر يوم منها اليوم التاسع، وثلاث بهر، بهر فيها ظلام الليل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث دهم وفحم وحنادس، وثلاث دآدىء «3» .
ويروى عنهم أنهم يسمّون ليلة ثمان وعشرين الدّعجاء، وليلة تسع وعشرين الدّهماء، وليلة ثلاثين اللّيلاء، وهم يقولون في أسجاعهم: القمر ابن(2/396)
ليلة، رضاع سخيلة «1» ، حلّ أهلها برميلة؛ وابن ليلتين حديث أمتين، كذب ومين «2» ؛ وابن ثلاث، قليل اللّباث «3» ، وابن أربع، عتمة أمّ ربع «4» ، لا جائع ولا مرضع؛ وابن خمس، حديث وأنس، وعشاء خلفات قعس «5» ، وابن ستّ، سروبتّ «6» ؛ وابن سبع، دلجة ضبع، وحديث وجمع؛ وابن ثمان، قمر إضحيان؛ وابن تسع، محذوّ النّسع «7» ، ويقال الشّسع «8» وابن عشر، مخنق الفجر، وثلث الشّهر.
هذا هو المحفوظ عن العرب في كثير من الكتب.
قال صاحب مناهج الفكر: وعثرت في بعض المجاميع على زيادة إلى آخر الشهر، وكأنها والله أعلم مصنوعة، وهي على ألسنة العرب موضوعة، وهي: وابن إحدى عشرة، يرى عشاء ويرى بكرة، وابن اثنتي عشرة، مرهق البشر «9» ، بالبدو والحضر، وابن ثلاث عشرة، قمر باهر، يعشي الناظر، وابن أربع عشرة مقبل الشباب، مضيء دجنّات السّحاب، وابن خمس عشرة تمّ التمام، ونفدت الأيّام،(2/397)
وابن ستّ عشرة نقص الخلق، في الغرب والشّرق، وابن سبع عشرة، أمكنت المقتفر القفرة «1» ، وابن ثمان عشرة قليل البقاء، سريع الفناء؛ وابن تسع عشرة بطيء الطّلوع، سريع الخشوع؛ وابن عشرين يطلع سحرة، ويغيب بكرة؛ وابن إحدى وعشرين كالقبس، يطلع في الغلس، وابن اثنتين وعشرين يطيل السّرى، ريثما يرى؛ وابن ثلاث وعشرين يرى في ظلمة الليال، لا قمر ولا هلال؛ وابن خمس وعشرين دنا الأجل، وانقطع الأمل؛ وابن ست وعشرين دنا ما دنا، فما يرى إلّا سنا، وابن سبع وعشرين يشقّ الشمس، ولا يرى له حسّ، وابن ثمان وعشرين ضئيل صغير لا يراه إلا البصير.
وأما حركته البطيئة، فحركته من جهة الشّمال إلى جهة الجنوب، ومن جهة الجنوب إلى جهة الشمال، وتنقله في المنازل الثمانية وعشرين في ثمانية وعشرين يوما بلياليها كالشمس في البروج قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
«2» فما تقطعه الشمس من الشمال إلى الجنوب وبالعكس في جميع السنة يقطعه القمر في ثمانية وعشرين يوما. والمنازل للقمر كالبروج للشّمس، وذلك أنه لما اتصل إلى العرب ما حققه القدماء برصدهم من الكواكب الثابتة، وكان لا غنى لهم عن معرفة كواكب ترشدهم إلى العلم بفصول السنة وأزمنتها، رصدوا كواكب وامتحنوها، ولم يستعملوا صور البروج على حقيقتها، لأنهم قسّموا فلك الكواكب على مقدار الأيام التي يقطعه القمر فيها، وهي ثمانية وعشرون يوما، وطلبوا في كل قسم منها علامة تكون أبعاد ما بينها وبين العلامة الأخرى مقدار مسير القمر في يوم وليلة، وسمّوها منزلة إلى أن تحقق لهم ثمانية وعشرون على ما تقدّم ذكره في الكلام على طلوعها بالفجر، لأن القمر إذا سار سيره الوسط انتهى في اليوم التاسع والعشرين إلى المحاق الذي بدأ منه، فحذفت(2/398)
المتكرّر فبقي ثمانية وعشرون ويزاد بالشّرطين، لأن كواكبه من جملة كواكب الحمل الذي هو أوّل البروج.
ثم هذه المنازل على قسمين: شماليّ وجنوبيّ كما في البروج، وكل قسم منها أربع عشرة منزلة. فالشماليّ منها ما كان طلوعه من ناحية الشام، وتسمّى الشاميّة وهو ما كان منها من نقطة الاعتدال، التي هي رأس الحمل والميزان صاعدا إلى جهة الشمال؛ وهي الشّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع، والنّثرة، والطّرف، والجبهة، والخرتان، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك، وبطلوعها يطول الليل ويقصر النهار. والجنوبيّ منها ما كان طلوعه من ناحية اليمن وتسمى اليمانية وهو ما كان منها من نقطة الاعتدال المذكور هابطا إلى جهة الجنوب؛ وهي الغفر، والزّبانان، والإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم، والفرغ المؤخّر، وبطن الحوت؛ وبطلوعها يقصر الليل ويطول النهار.
ثم المنزلة عند المحققين قطعة من الفلك مقدارها ربع سبع الدور، وهو جزء من ثمانية وعشرين جزءا من الفلك عبارة عن............ «1» لا عن الكواكب وإنما الكواكب حدود تفرق بين كل منزلة وأخرى فعدل بالتسمية إليها وغلبت عليها.
ونزول القمر في هذه المنازل على ثلاثة أحوال: إما في المنزلة نفسها وإما فيما بينها وبين التي تليها، وإما محاذيا لها خارجا عن السمت شمالا أو جنوبا. وقد تقدّم الكلام على عدول القمر عن بعض المنازل ونزوله في غيرها.
ولتعلم أن المنازل مقسومة على البروج الأثني عشر موزّعة عليها، فالشّرطان والبطين وثلث الثريا للحمل، وثلثا الثّريّا والدّبران وثلثا الهقعة للثّور،(2/399)
وثلث الهقعة والهنعة والذّراع للجوزاء، والنّثرة والطّرف وثلث الجبهة للشّرطان، وثلثا الجبهة والخرتان وثلثا الصّرفة للأسد، وثلث الصّرفة والعوّاء والسّماك للسّنبلة؛ والغفر والزّبانان وثلث الإكليل للميزان، وثلثا الإكليل والقلب وثلثا الشولة للعقرب؛ وثلث الشولة والنعائم والبلدة للقوس، وسعد الذابح وسعد بلع وثلث سعد السعود للجدي «1» ، وثلث الفرغ المقدّم والفرغ المؤخر وبطن الحوت للحوت.
إذا علمت ذلك فإذا أردت أن تعرف القمر في أيّ منزلة هو أو كم مضى له فيها من الأيام، فخذ ما مضى من سنة القبط شهورا كانت أو أياما أو شهورا وأياما وابسطها أياما، وأضف إلى ما حصل من ذلك يومين، ثم اطرح المجموع ثلاثة عشر ثلاثة عشر، وهو عدد لبث القمر في كل منزلة من الأيام، واجعل أوّل كل منزلة من العدد الخرتان، فما بقي من الأيام دون الثلاثة عشر فهو عدد ما مضى من المنزلة التي انتهى العدد إليها.
مثال ذلك أن يمضي من سنة القبط شهر توت وأربعة أيام من بابه فتبسطها أياما تكون أربعة وثلاثين يوما فتضيف إليها يومين تصير ستة وثلاثين يوما فاطرح منها ثلاثة عشر مرتين بستة وعشرين للخرتان منها ثلاثة عشر وللصّرفة ثلاثة عشر تبقى عشرة، وهي ما مضى من المنزلة الثالثة وهي العوّاء.
وإن أردت أن تعرف في أيّ برج هو فاحسب كم مضى من الشهر العربي يوما وزد عليه مثله ثم زد على الجملة خمسة وأعط لكل برج خمسة وابدأ من البرج الذي فيه الشمس فأعط لكل برج خمسة فأينما نفد حسابك فالقمر في ذلك البرج والاعتماد في ذلك على كم مضى من الشهر العربيّ بالحساب دون الرؤية، والله أعلم.(2/400)
الجملة الثانية في أسمائها، وفيها روايتان
الرواية الأولى- ما نطقت به العرب المستعربة
وجرى عليه الاستعمال إلى الآن وقد نطق القرآن الكريم بصدقها قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
«1» والمراد شهور العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، ومدارها الأهلّة سواء جاء الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين. الشهر الأوّل منها المحرم؛ سمّي بذلك لأنهم كانوا يحرّمون فيه القتال، ويجمع على محرّمات ومحارم ومحاريم. الشهر الثاني صفر، سمي «2» بذلك لأنهم كانوا يغيرون فيه على بلاد يقال لها الصّفريّة، ويجمع على صفرات وأصفار وصفور وصفار. الشهر الثالث ربيع الأوّل سمي بذلك لأنهم كانوا يحصّلون فيه ما أصابوه في صفر، والرّبيع في اللغة الخصب، وقيل لارتباعهم فيه؛ قال النحاس:
والأوّل أولى بالصواب، ويقال في التثنية ربيعان الأوّلان وفي الجمع ربيعات الأوّلات، ومن شرط فيه إضافة شهر قال في التثنية شهرا ربيع الأوّلان وفي الجمع شهرات ربيع الأوّلات والأوائل، وان شئت قلت في القليل أشهر وفي الكثير شهور، وحكي عن قطرب «3» الأربعة الأوائل، وعن غيره ربع الأوائل. الشهر الرابع ربيع الآخر، والكلام في تسميته وتثنيته وجمعه كالكلام في ربيع الأوّل.
الشهر الخامس جمادى الأولى، سمي بذلك لجمود الماء فيه، لأن الوقت الذي سمّي فيه بذلك كان الماء فيه جامدا لشدّة البرد، ويقال في التثنية جماديان الأوليان وفي الجمع جماديات الأوليات. الشهر السادس جمادى الآخرة، والكلام فيه(2/401)
تسمية وتثنية وجمعا كالكلام في جمادى الأولى. الشهر السابع رجب، سمي بذلك لتعظيمهم له أخذا من الترجيب وهو التعظيم «1» ، ويجمع على رجبات وأرجاب، وفي الكثرة على رجاب ورجوب. الشهر الثامن شعبان، سمي بذلك لتشعّبهم فيه لكثرة الغارات عقب رجب؛ وقيل لتشعب العود في الوقت الذي سمّي فيه. وقيل لأنه شعب بين شهري رجب ورمضان ويجمع على شعبانات وشعابة «2» على حذف الزوائد، وحكى الكوفيون شعابين، قال النحاس: وذلك خطأ على قول سيبويه كما لا يجوز عنده في جمع عثمان عثامين. الشهر التاسع رمضان، سمي بذلك أخذا من الرمضاء لأنه وافق وقت تسميته زمن الحرّ، ويجمع على رمضانات، وحكى الكوفيون رماضين، والقول فيه كالقول في شعابين، ومن شرط فيه لفظ شهر قال في التثنية: شهرا رمضان وفي الجمع شهرات رمضان وأشهر رمضان وشهور رمضان. الشهر العاشر شوّال، سمي بذلك أخذا من شالت الإبل بأذنابها إذا حملت لكونه أوّل شهور الحج، وقيل من شال يشول إذا ارتفع، ولذلك كانت الجاهلية تكره التزويج فيه لما فيه من معنى الإشالة والرفع إلى أن جاء الإسلام بهدم ذلك؛ قالت عائشة رضي الله عنها فيما ثبت في صحيح مسلم:
«تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلّم في شوّال وبنى بي في شوّال فأيّ نسائه كان أحظى عنده منّي» ويجمع على شوّالات وشواويل وشواول. الشهر الحادي عشر ذو القعدة، ويقال بالفتح والكسر، سمّي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال لكونه من الأشهر الحرم، ويجمع على ذوات القعدة، وحكى الكوفيون أولات القعدة، وربما قالوا في الجمع: ذات القعدة أيضا. الشهر الثاني عشر ذو الحجة، سمي بذلك لأن الحجّ فيه، والكلام في جمعه كالكلام في ذي القعدة. ثم من الأشهر(2/402)
المذكورة أربعة أشهر حرم كما قال تعالى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
«1» وقد أجمعت العلماء على أن الأربعة المذكورة هي رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم. وقد اختلف في الابتداء بعددها فذهب أهل المدينة إلى أنه يبتدأ بذي القعدة فيقال: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب؛ ويحتجّون على ذلك بأنّ النبي صلى الله عليه وسلّم عدّها في خطبة حجّة الوداع كذلك فقال: «السّنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب» واختاره أبو جعفر النحاس. وذهب أهل الكوفة إلى أنه يبتدأ بالمحرّم فيقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجّة ليأتوا بها من سنة واحدة وإليه ميل الكتّاب. قال النحاس:
ولا حجّة لهم فيه لأنه إذا علم أن المقصود ذكرها في كل سنة فكيف يتوهم أنها من سنتين. وكانت العرب في الجاهلية مع ما هم عليه من الضّلال والكفر يعظّمون هذه الأشهر ويحرّمون القتال فيها حتّى لو لقي الرجل فيها قاتل أبيه لم يهجه، إلى أن حدث فيهم النسيء فكانوا ينسئون المحرّم فيؤخرونه إلى صفر فيحرّمونه مكانه وينسئون رجبا فيؤخّرونه إلى شعبان فيحرّمونه مكانه ليستبيحوا القتال في الأشهر الحرم.
واعلم أنه يجوز أن يضاف لفظ شهر إلى جميع الأشهر فيقال: شهر المحرّم، وشهر صفر، وشهر ربيع الأوّل وكذا في البواقي، على أنّ منها ثلاثة «2» أشهر لم تكد العرب تنطق بها إلا مضافة إليها، وهي شهرا ربيع وشهر رمضان؛ ويؤيد ذلك في رمضان ما ورد به القرآن من إضافته، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
«3» وقد روى عثمان بن الأسود «4» عن مجاهد «5» أنه قال: «لا تقل رمضان(2/403)
ولكن قل كما قال الله عز وجل: شهر رمضان، فإنك لا تدري ما رمضان» وعن عطاء نحوه وأنه قال: لعلّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى؛ لكن قد ثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا جاء رمضان أغلقت النّيران وصفّدت الشّياطين» الحديث وهذا صريح في جواز تعريته عن الإضافة.
وقد اختلف الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب أصحّها أنه يجوز تعريته عن لفظ شهر مطلقا، سواء قامت قرينة أم لا، فيقال جاء رمضان وصمت رمضان، وما اشبه ذلك وهو ما رجّحه النوويّ في شرح مسلم، والثاني المنع مطلقا، والثالث إن حفّت قرينة تدلّ على الشهر كما في قوله: صمت رمضان فقد جازت التعرية، وإن لم تحفّ قرينة لم تجز؛ وزاد بعضهم فيما يضاف إليه لفظ شهر رجب أيضا، وقال كل شهر في أوّله حرف راء فلا يقال إلا بالإضافة. ويقال في المحرّم أيضا شهر الله المحرّم ويقال في الربيعين: ربيع الأوّل وربيع الآخر، وفي الجماديين: جمادى الأولى وجمادى الآخرة، قال ابن مكيّ «1» : ولا يقال جمادى الأوّل بالتذكير وجوّزه في كلامه على «تثقيف اللسان» «2» .
قال النحاس: وإنما قالوا ربيع الآخر وجمادى الآخرة ولم يقولوا ربيع الثاني وجمادى الثانية كما قالوا: السنة الاولى والسنة والثانية لأنه إنما يقال الثاني والثانية لما له ثالث وثالثة، ولمّا لم يكن لهذين ثالث ولا ثالثة قيل فيهما الآخر والآخرة كما قيل: الدنيا والآخرة؛ على أن أكثر استعمال أهل الغرب على ربيع الثاني وجمادى الثانية. ويقال في رجب الفرد: لانفراده عن بقية الأشهر الحرم، ويقال(2/404)
فيه أيضا: رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، ويقال في شعبان المكرّم لتكرمته وعلوّ قدره، وفي رمضان: المعظّم والمعظّم قدره لعظمته وشرفه، وفي شوّال المبارك للفرق بينه وبين شعبان خشية الالتباس في الكتابة، ويقال في كلّ من ذي القعدة وذي الحجّة الحرام. قال النحاس: وقد جاء في ذي الحجة أيضا الأصمّ، وروى فيه حديثا بسنده من رواية مرّة الهمداني «1» عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيبا على ناقة حمراء مخضرمة «2» ، فقال:
أتدرون أيّ يوم يومكم هذا؟ قلنا: يوم النحر قال: صدقتم يوم الحجّ الأكبر، اتدرون أيّ شهر شهركم هذا؟ قلنا: ذو الحجّة قال: صدقتم شهر الله الأصمّ.
الرواية الثانية- ما روي عن العرب العاربة
، وهو أنهم كانوا يقولون في المحرّم: المؤتمر أخذا من أمر القوم إذا كثروا بمعنى أنهم يحرّمون فيه القتال فيكثرون. وقيل أخذا من الائتمار بمعنى «3» أنه يؤتمر فيه بترك الحرب، ويجمع على مؤتمرات ومآمر ومآمير. ويقولون في صفر: ناجر إما من النّجر والنّجار (بفتح النون وكسرها) الأصل، بمعنى أنه أصل للحرب لأنه يبتدأ فيه بعد المحرم؛ وإما من النّجر وهو السّوق الشديد. لشدة سوقهم الخيل إلى الحرب فيه، وإما من النجر، وهو شدّة الحرّ لشدة حرارة الحرب فيه، ويجمع على نواجر. ويقولون في شهر ربيع الأوّل: خوّان (بالخاء المعجمة) لأن الحرب تشتدّ فيه فتخونهم فتنقصهم، ويجمع على خوّانات وخواوين وخواون. ويقولون في ربيع الآخر:
وبصان، أخذا من الوبيص وهو البريق: لبريق الحديد فيه، ويجمع على وبصانات، وحكى قطرب فيه بصان فيجمع على أبصنة وفي الكثرة بصنان.
ويقولون لجمادى الأولى: حنين لأنهم يحنّون فيه إلى أوطانهم لكونه كان يقع في(2/405)
زمن الربيع، ويجمع على أحنّة وحنن كرغيف ورغف. ويقولون لجمادى الآخرة:
ربّى وربّة لأنه يجتمع به لجماعة من الشهور التي ليست بحرم وهي ما بعد صفر.
قال أبو عبيد: ربّان كل شيء جماعته، ويجمع على ربّيات وربايا مثل حبالى.
ومن قال ربّة جمعه على مآريب «1» . ويقولون في رجب: الأصم لما تقدّم من أنه لا يسمع صوت السلاح ولا الاستغاثات فيه، ويجمع على أصامّ. قال النحاس: ولا تقل صمّ لأنه ليس بنعت كما أنك لو سمّيت رجلا أحمر جمعته على أحامر ولم تجمعه على حمر. ويقولون في شعبان: عادل «2» ، بمعنى أنهم يعدلون فيه عن الإقامة لتشعبهم في القبائل ويجمع على عوادل. ويقولون في رمضان: ناتق لكثرة المال عندهم فيه لإغارتهم على الأموال في الذي قبله، ويجمع على نواتق.
ويقولون في شوّال: وعل أخذا من قولهم: وعل إلى كذا إذا لجأ إليه لأنهم يهربون فيه من الغارات لأن بعده الأشهر الحرم فيلجأون فيه إلى أمكنة يتحصّنون فيها، ويجمع على أوعال ككتف وأكتاف، وفي الكثرة وعول. ويقولون في ذي القعدة:
ورنة والواو فيه منقلبة عن همزة أخذا من أرن إذا تحرّك لأنه الوقت الذي يتحرّكون فيه إلى الحج، أو من الأرون وهو الدنوّ لقربه من الحج ويجمع على ورنات ووران كجفان. ويقولون في ذي الحجة: برك، غير مصروف لأنه معدول عن بارك، أو على التكثير كما يقال: رجل حكم وهو مأخوذ من البركة لأن الحج فيه، أو من برك الجمل لأنه الوقت الذي تبرك فيه الإبل للموسم، ويجمع على بركان مثل نغر ونغران.
وفي هذه الأسماء خلاف عند أهل اللغة والمشهور ما تقدّم ذكره «3» .
وقد نظم بعضهم ذلك في أبيات على الترتيب فقال:
بمؤتمر وناجر ابتدأنا ... وبالخوّان يتبعه البصان(2/406)
وربّى ثم أيّدة تليه ... تعود أصمّ صمّ به السّنان
[وعادلة وناطلة جميعا ... وواغلة فهم غرر حسان] «1»
وورنة بعدها برك فتمّت ... شهور الحول يعربها البيان
ثم للناس في إخراج أوّل الشهر العربي طرق، أسهلها أن تعرف أوّل يوم من المحرّم، ثم تعدّكم مضى من السنة من الشهور بالشهر الذي تريد أن تعرف أوّله وتقسمها نصفين، فإن كان النصف صحيحا أضفت على الجملة مثل نصفه، وإن كان مكسورا كملته وأضفته على الجملة، ثم تبتدىء من أوّل يوم من السنة وتعدّ منه أياما على توالي أسماء الأيام بعدد ما حصل معك من الأصل والمضاف، فحيث انتهى عددك فذلك اليوم هو أوّل الشهر.
مثال ذلك في الصحيح النصف: إن أردت أن تعرف أوّل يوم من شعبان وكان أوّل المحرّم يوم الأحد مثلا فتعدّ من أوّل المحرم إلى شعبان وتدخل شعبان في العدد فيكون ثمانية أشهر فتقسمها نصفين يكون نصفها أربعة فتضيف الأربعة إلى الثمانية تكون اثني عشر، ثم تبتديء من يوم الأحد الذي هو أوّل المحرّم فتعدّ الأحد والاثنين والثّلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، ثم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس فيكون انتهاء الاثني عشر في يوم الخميس فيكون أوّل شعبان يوم الخميس.
ومثاله في المكسور النصف: إذا أردت أن تعرف أوّل رمضان أيضا وكان أوّل المحرم الأحد كما تقدّم فتعدّ ما مضى من شهور السنة وتعدّ منها رمضان يكون تسعة أشهر فتقسمها نصفين يكون نصفها أربعة ونصفا فتكملها بنصف تصير خمسة فتضيفها إلى الأصل المحفوظ وهو تسعة يكون المجموع أربعة عشر، ثم تبتديء عدد الأيام من أوّل المحرم، وهو الأحد كما تقدّم فيكون انتهاء الرابع عشر(2/407)
في يوم السبت فيكون أوّل رمضان يوم السبت.
ومن الطّرق المعتبرة في ذلك أن تنظر في الثالث من أيام النسيء من شهور القبط كم يوما مضى من الشهر العربيّ فما كان جعلته أصلا لتلك السنة، فإذا أردت أن تعرف أوّل شهر من الشهور العربية أو كم مضى من الشهر الذي أنت فيه فخذ الأصل المحفوظ معك لتلك السنة، وانظر كم مضى من السنة القبطية شهرا فخذ لكل شهرين يوما، فإن انكسرت الأشهر وجاءت فردا فاجبرها بيوم زيادة حتّى تصير زوجا، وزد على ذلك يومين أصلا أبدا؛ ثم انظركم يوما مضى من الشهر القبطي الذي أنت فيه فأضفه على ما اجتمع معك، وأسقط ذلك ثلاثين ثلاثين فما بقي فهو عدد ما مضى من الشهر العربيّ، ومنه يعرف أوّله.
ومثال ذلك: نظرت في الثالث من أيام النسيء فوجدت الماضي من الشهر العربيّ ثلاثة أيام فكانت أصلا لتلك السنة، ثم نظرت في الشهور القبطية فوجدت الشهر الذي أنت فيه أمشير مثلا فتعدّ من أوّل شهور السنة القبطية (وهو توت) إلى أمشير يكون ستة أشهر فتأخذ لكل شهرين يوما تكون ثلاثة أيام فتضيفها على الأصل الذي معك من أيام النسيء وهو ثلاثة تصير ستة فزد عليها اثنين يصير المجموع ثمانية، ثم تنظر في الشهر القبطي الذي أنت فيه (وهو أمشير) تجده قد مضى منه يومان فتضيفهما على المجموع يكون عشرة، وهو الماضي من الشهر العربي الذي أنت فيه ومنه يعرف أوّله.
الضرب الثاني شهور اليهود
والشهر عندهم من الاجتماع إلى الاجتماع، وهو اقتران الشمس والقمر في آخر الشهر ولذلك توافق شهورهم في التقدير شهور العرب، ولا تخالف أوائلها إلا بيوم واحد في بعض الأحيان لأسباب في ملّتهم ولكنها لا تطابق شهرا لشهر، فإنّ شهور العرب غير مكبوسة، وشهور اليهود مكبوسة، وهذه الطريقة لا تعرف إلا بتقويم الكواكب ومعرفة سير الشمس والقمر؛ ولذلك لا يعرف شهور اليهود منهم(2/408)
إلا الآحاد، وشهورهم وهي اثنا عشر شهرا بعضها ثلاثون، وبعضها تسعة وعشرون على ما يقتضيه مسير الشمس والقمر، وفي السنة الكبيسة تكون شهورهم ثلاثة عشر شهرا كما سيأتي، وشهورهم توافق شهور السّريان في بعض أسمائها دون بعض، الأوّل تشرى، الشهر الثاني مرحشوان، الشهر الثالث كسلا «1» ، الشهر الرابع طابات «2» ، الشهر الخامس شباط «3» ، الشهر السادس آذار «4» ، الشهر السابع نيسان «5» ، الشهر الثامن أيار، الشهر التاسع سيوان، الشهر العاشر تموز، الشهر الحادي عشر آب، الشهر الثاني عشر أيلول، وفي السنة التي يكبسون فيها بعد كل سنة أو بعد كل سنتين على ما سيأتي بيانه يكبسون شهرا كاملا بعد آذار وهو الشهر السادس من شهورهم ويسمونه آذار الثاني، وسيأتي ذلك مفصلا في الكلام على السنين إن شاء الله تعالى. وقد تقدّم أنها توافق شهور العرب إلا في القليل إلا أنها يدخلها الكبس لأمور في ملّتهم، وسيأتي الكلام على كبسهم عند ذكر السنين إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني من الشهور الاصطلاحيّ والمراد به الشمسيّ
وهي مدّة قطع الشمس مدار برج من بروج الفلك الاثني عشر، وذلك ثلاثون يوما وثلاثة عشر «6» يوما تقريبا، وعليه عمل القبط، والفرس، والسريان، والروم. وهي على صنفين:(2/409)
الصنف الأول ما يكون كلّ شهر من شهور السنة ثلاثين يوما وما فضل عن ذلك جعل نسيئا بين الشهور وهو الشهور القبط، والفرس
فأما شهور القبط (وتنسب لدقلطيانوس الملك) فكلّ شهر منها ثلاثون يوما وأيام النسيء في آخر الثاني عشر منها وهي خمسة أيام.
الشهر الأوّل منها توت، ودخوله في العشرين من آب من شهور السّريان، وآخره السادس والعشرون من أيلول منها، فيه يدرك الرّطب، ويكثر السّفرجل والعنب الشّتويّ، وتبتديء المحمضات. وأوّل يوم منه يوم النّيروز وهو رأس سنة القبط، وفي سابعه يبتديء لقط الزيتون؛ وفي سابع عشره عيد الصليب، فيه تفتح أكثر الترع بمصر، وفي ثامن عشره أوّل فصل الخريف، وفي تاسع عشره يبتديء هيجان السوداء في البدن، وفي العشرين منه يفصد البلسان وفي الحادي والعشرين منه يبتدىء بيض النّعام، وفي الرابع والعشرين منه أول دي ماه من شهور الفرس؛ وفي الثامن والعشرين منه يذهب الحر، وفي التاسع والعشرين منه أوّل رعي الكراكيّ، وفي الثلاثين منه وهو آخره يزرع الهليون.
الشهر الثاني بابه، ودخوله في السابع والعشرين من أيلول من شهور السّريان، وآخره السادس والعشرون من تشرين الأوّل منها، فيه يبذر كلّ ما لا تشقّ له الأرض كالبرسيم وغيره؛ وفي آخره تشقّ الأرض بالصعيد؛ وفيه يحصد الأرز، ويطيب الرّمّان، وتضع الضأن والمعز والبقر الخيسيّة «1» ، ويستخرج دهن الآس واللينوفر، ويدرك الثمر والزبيب وبعض المحمضات، وفي ثالثه رأس سنة السريان؛ وفي رابعه أوّل تشرين الأوّل من شهورهم، وفي خامسه عرس النيل؛ وفي سادسه يطيب شرب الدواء؛ وفي سابعه «2» نهاية زيادة النيل؛ وفي ثامنه يكره(2/410)
خروج الدم؛ وفي حادي «1» عشره يبتديء النيل في النقص، وفي ثالث عشره بداية الوخم؛ وفي رابع عشره يكثر الناموس؛ وفي خامس عشره يبتديء زرع القرط؛ وفي سادس عشره تبتديء كثرة السّعال، وفي تاسع عشره يبتديء زرع السّلجم «2» ، وفي الثاني والعشرين منه يبتديء صلاح المواشي، وفي الثالث والعشرين منه تبتديء كثرة الغيوم، وفي الرابع والعشرين منه تبتديء أهل مصر الزرع، وفي السابع والعشرين منه يبتديء سمن الحيتان، وفي الثامن والعشرين منه أوّل المدّ، وفي التاسع والعشرين منه أوّل الليالي البلق.
الشهر الثالث هتور «3» ؛ ودخوله في السابع والعشرين من تشرين الأول؛ وآخره الخامس والعشرون من تشرين الثاني. فيه يزرع القمح ويطلع البنفسج والمنثور، وأكثر البقول، ويجمع ما بقي من الباذنجان وما يجري مجراه، ويحمل العنب من قوص، وفي ثانيه يبتديء حصاد الأرز، وفي خامسه أوّل تشرين الثاني من شهور السريان، وفيه يبتديء برد المياه، وفي سادسه أوّل المطر الوسميّ، وفي سابعه يبتديء أهل الشام الزّرع «4» ، وفي ثامنه يبتديء هبوب الرياح الجنوبيّة وفي تاسعه «5» يبتديء زرع الخشخاش وفي حادي عشره يبتدىء اختفاء الهوامّ، وفي ثالث عشره يبتديء غليان البحر، وفي رابع عشره تعمى الحيّات، وفي سادس عشره يجمع الزعفران، وفي ثامن عشره تكثر الوحوش، وفي الثامن والعشرين منه يغلق البحر الملح وتمتنع السّفن من السفر فيه لشدّة الرياح، وفي الثالث والعشرين منه تبتديء سخونة بطن الأرض، وفي الرابع والعشرين منه أوّل اسفيدار ماه من شهور الفرس.
الشهر الرابع كيهك؛ ودخوله في السادس والعشرين من تشرين الثاني من شهور السّريان، وآخره الخامس والعشرون من كانون الأوّل منها، فيه تدرك(2/411)
الباقلاء وتزرع الحلبة وأكثر الحبوب، ويدرك النّرجس والبنفسج، وتتلاحق المحمضات، وفي أوّله ابتداء أربعينيّات مصر، وفي ثالثه يبتديء موت الذّباب، وفي خامسه «1» أوّل كانون الأوّل من شهور السّريان، وفي سابعه «2» آخر الليالي البلق وأوّل الليالي السّود «3» ، وفي حادي عشره «4» يبتديء الشجر في رمي أوراقه، وفي ثاني عشره تظهر البراغيث، وفي سابع عشره أوّل فصل الشتاء وهو أوّل أربعينيّات الشام، وفي ثامن عشره يتنفّس النهار، وفي الحادي والعشرين منه يكثر الطير الغريب بمصر، وفي الثالث والعشرين منه أوّل مردوماه «5» من شهور الفرس، وهو نوروزهم وأوّل سنتهم، وفي الخامس والعشرين منه يهيج البلغم، وفي السادس والعشرين منه تلقح الإبل، وفيا السابع والعشرين منه يكثر شرب الماء في الليل، وفي الثلاثين منه يبتديء تقليم الكروم «6» .
الشهر الخامس طوبه، ودخوله في السادس والعشرين من كانون الأوّل من شهور السريان، وآخره الرابع والعشرون من كانون الثاني منها، في زرع القمح فيه تغرير، وفيه تشقّ الأرض للقصب والقلقاس، ويتكامل النّرجس، وفي أوّله تبيت الرياح الشديدة، وفي ثانيه يدرك القرط، وفي سادسه أوّل كانون الثاني من شهور السّريان، وفي عاشره آخر «7» أربعينيّات مصر، وفي حادي عشره أوّل نصب الكروم، وفي ثاني عشره يشتدّ البرد، وفي ثالث عشره يبتديء زرع المقات، وفي(2/412)
سابع عشره يبتديء غرس الأشجار، وفي ثامن عشره تبتديء كثرة النّدى، وهو آخر «1» الليالي السود، وفي تاسع عشره يبتديء وقوع الثلج بالشام وغيره، وفي الرابع والعشرين منه يبتديء صفو ماء النيل، وفي التاسع والعشرين منه يبتديء اختلاف الرياح.
الشهر السادس أمشير؛ ودخوله في الخامس والعشرين من كانون الثاني من شهور السريان وآخره الثالث والعشرون من شباط منها. فيه تغرس الأشجار، وتقلّم الكروم، ويدرك النبق واللوز الأخضر، ويكثر البنفسج والمنثور، وفي رابعه «2» يبتديء إفراخ النخل، وفي سادسه أوّل شباط من شهور السّريان، وفي حادي عشره يبتديء إنتاج الطيور وزرع بقول الصّيف، وفي ثاني عشره يبتديء تحرّك دوابّ البحر، وفي الثاني «3» والعشرين منه ثاني جمرة فاترة، ويبتديء مرض الأطفال، ويبتديء خروج ورق الشجر، وفي الثالث والعشرين منه يبتديء خروج الدوابّ للمرعى وفي الرابع والعشرين منه أوّل حردادماه من شهور الفرس، وفي الخامس والعشرين منه يبتديء هيجان الرّياح، وفي السابع والعشرين منه تبتديء ثالث جمرة حامية، وفي الثامن والعشرين منه أوّل المفرطات، وفي التاسع والعشرين منه آخر نهي أبقراط.
الشهر السابع برمهات، ودخوله في الرابع والعشرين من شباط من شهور السّريان، وآخره الخامس والعشرون من آذار. فيه تزهر الأشجار، ويعقد أكثر الثمار، ويزرع أوائل السّمسم ويقلع الكتّان، ويدرك الفول والعدس، وفي ثانيه يحمد خروج الدم، وهو أوّل «4» الأعجاز، وفي ثالث عشره «5» تفتّح الحيات أعينها،(2/413)
وفي خامس عشره تطيب الألبان، وفي سادس عشره يبتديء خروج دود القزّ، وفي ثامن عشره يهيج الدم، وفي تاسع عشره «1» ظهور الهوام، وفي العشرين منه يزرع السّمسم، وفي الرابع والعشرين منه أوّل تير ماه من شهور الفرس، وفي السادس والعشرين منه يبتديء شرب المسهل، وفي السابع والعشرين «2» منه خروج الذّباب الأزرق.
الشهر الثامن برموده؛ ودخوله في السادس والعشرين من آذار من شهور السريان، وآخره الرابع والعشرون من نيسان منها، فيه تقطف أوائل عسل النحل، وفيه تكثر الباقلاء، وينفض جوز الكتّان، ويكثر الورد الأحمر، والبطن الأوّل من الجمّيز ويقلع بعض الشعير، ويدرك الخيار شنبر «3» . وفي أوّله يؤكل الفريك، وفي رابعه يعصر دهن البلسان، وفي خامسه تبتديء كثرة الزهر، وفي سادسه أوّل نيسان من شهور السّريان، وفي ثاني عشره يخاف على بعض الزرع، وفي ثامن عشره آخر قلع الكتّان، وفي العشرين منه ينهى عن أكل البقول، وفي الثاني والعشرين منه ظهور الكمأة، وفي الثالث والعشرين منه الختام الكبير للزرع، وفي الرابع والعشرين منه أوّل ترد ماه من شهور الفرس، وفي الخامس والعشرين منه نهاية مدّ الفرات، وفي الثامن والعشرين منه يبيض النّعام.
الشهر التاسع بشنس، ودخوله في الخامس والعشرين من نيسان من شهور السريان، وآخره التاسع والعشرون من أيّار منها. فيه يكثر التّفّاح القاسمي، ويبتديء التّفّاح المسكيّ، والبطّيخ العبدليّ «4» والحوفي، والمشمش، والخوخ الزّهري، والورد الأبيض. وفي نصفه يبذر الأرز، ويحصد القمح، وفي سادسه(2/414)
أوّل أيّار من شهور السّريان، وفي رابع عشره يجمع الخشخاش، وفي ثامن عشره يجمع العصفر، وفي الحادي والعشرين منه تبتديء برودة الأرض، وفي الرابع والعشرين منه أوّل شهر برماه من شهور الفرس.
الشهر العاشر بؤنه «1» ؛ ودخوله في الخامس والعشرين من أيّار من شهور السّريان؛ وآخره الثالث والعشرون من حزيران منها، فيه يكثر الحصرم ويطيب بعض العنب والتين البونيّ وهو الديفور، والخوخ الزّهري والمشعر، والكمّثري البوهيّ، والقراصيا، والتّوت، ويطلع البلح، ويقطف جمهور العسل، وفي ثالثه يبتديء توحّم النيل، وفي سادسه يكمل الدّرياق «2» ؛ وفي سابعه أوّل حزيران من شهور السّريان، وفي تاسعه يبتديء مهبّ الريح الشمالية، وفي عاشره «3» يبتديء تنفّس النيل، وفي خامس عشره تتحرك شهوة الجماع، وفي ثاني عشره عيد ميكائيل في ليلته يوزن من الطين زنة ستة عشر درهما عند غروب الشمس ويرفع في مكان ويوزن عند طلوع الشمس فما زاد كان بكل خروبة زادت على السّتة عشر ذراع، وفي ثالث عشره يبتديء نقص الفرات، وفي رابع عشره تهبّ الرياح السّمائم، وفي تاسع عشره تذهب البراغيث، وفي العشرين منه تهيج الصفراء، وفي الثاني والعشرين منه يعقد الجوز، ويقوى اندفاع النيل، وفي الرابع والعشرين منه يثور وجع العين وهو أوّل مهر ماه من شهور الفرس، وفي السابع والعشرين «4» منه يؤخذ قاع النيل، وفي الثامن والعشرين «5» منه ينادى عليه، وفي التاسع والعشرين منه يدرك البّطيخ.
الشهر الحادي عشر أبيب، ودخوله في الرابع والعشرين من حزيران من(2/415)
شهور السريان، وآخره الثالث والعشرون من تمّوز منها، فيه يكثر العنب والتين ويقلّ البطّيخ العبدليّ ويطيب البلح وتقطف بقايا العسل وتقوى زيادة النيل، وفي رابعه أوّل نهي أبقراط، وفيه يموت الجراد، وفي سابعه أوّل تمّوز من شهور السريان، وفي عاشره يبتديء وقع الطاعون، وفي ثاني عشره تبتديء قوة السمائم، وفي ثالث عشره تدرك الفاكهة، وفي سابع عشره «1» تغور العيون، وفي ثامن عشره يجمع السّمّاق، وفي الثاني والعشرين منه يدرك الفستق، وفي الرابع والعشرين منه أوّل أبان ماه من شهور الفرس، وفي السادس والعشرين منه طلوع الشّعرى اليمانية، وفي التاسع والعشرين منه يدرك نخل الحجاز.
الشهر الثاني عشر مسرى، ودخوله في الرابع والعشرين من تموز من شهور السريان، وآخره السابع والعشرون من آب منها، فيه يعمل الخلّ، ويدرك البسر والموز، وتتغيّر طعوم الفاكهة لغلبة الماء على الأرض، ويدرك اللّيمون التّفّاحيّ «2» ، ويبتديء إدراك الرّمّان، وفي رابعه نقصان الدّجلة، وفي خامسه أوّل العصير، وفي ثامنه أوّل آب من شهور السّريان، وفي ثاني عشره فصال المواشي، وفي رابع عشره تقلّ الألبان، وفي خامس عشره تسخن المياه، وفي سابع عشره تختلف الرياح، وفي ثامن عشره يحذر لسع الهوامّ، وفي الثاني والعشرين منه آخر العصير، وفي الرابع والعشرين منه يهيج النّعام، وفي الخامس والعشرين منه تكثر الغيوم، وفي الثامن والعشرين «3» منه آخر السّمائم، وفي التاسع والعشرين منه أوّل آذرماه من شهور الفرس.
أيام النسيء «4» - ودخولها في الثامن والعشرين من آب من شهور السريان ويختلف آخرها باختلاف السنة الكبيسة وغيرها.
وقد وضع الناس طرقا لإخراج أوّل الشهر القبطيّ بالحساب، أقربها أن تعرف(2/416)
يوم النّيروز ثم تعدّ ما مضى من الشهور القبطية بالشهر الذي تريد أن تعرف أوّله فما كان فأضعفه فما تحصّل فأسقط منه واحدا أبدا، ثم أسقط الباقي سبعة سبعة فما فضل فعدّ من يوم النّيروز إلى آخر الباقي بعد الإسقاط على توالي الأيام فأينما انتهى العدد فذلك اليوم هو أوّل الشهر المطلوب.
مثال ذلك، كان يوم النيروز الأحد، وأردنا أن نعرف أوّل أمشير، عددناكم مضى من أوّل الشهور القبطية وعددنا منها أمشير، وجدنا ذلك ستة، أضعفناها صارت اثني عشر، أسقطنا منها واحدا بقي أحد عشر، أسقطنا منها سبعة بقي أربعة، عددنا من يوم النيروز وهو الأحد أربعة فكان آخرها يوم الأربعاء فعلمنا أن أوّل أمشير الأربعاء.
وأما شهور الفرس، فهي اثنا عشر شهرا كلّ شهر منها ثلاثون يوما، وأيام النّسيء خمسة أيام في آخر الشهر الثامن منها وهو أبان ماه. الشهر الأوّل منها افرودين ماه، ودخوله في الرابع والعشرين من كيهك من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من طوبه منها، وأوّل يوم منه نيروز الفرس ورأس سنتهم. الشهر الثاني ارديهشتماه ودخوله في الرابع والعشرين من طوبه من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من أمشير منها. الشهر الثالث حرداد ماه، ودخوله في الرابع والعشرين من أمشير من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من برمهات منها.
الشهر الرابع تيرماه، ودخوله في الرابع والعشرين من برمهات من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من برموده منها. الشهر الخامس تردماه، ودخوله في الرابع والعشرين من برموده من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من بشنس منها. الشهر السادس شهر برماه، ودخوله في الرابع والعشرين من بشنس من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من بؤنه منها. الشهر السابع مهرماه، ودخوله في الرابع والعشرين من بؤنه من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من أبيب منها. الثامن أبان ماه، ودخوله في الرابع والعشرين من أبيب من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من مسرى، منها أيام النسيء، وتسمّى بالفارسية الاندركاه، ودخولها في الرابع والعشرين من مسرى وآخرها الثامن والعشرون(2/417)
منها. الشهر التاسع ادرماه، ودخوله في التاسع والعشرين من مسرى من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من توت. الشهر العاشر دي ماه، ودخوله في الرابع والعشرين من توت من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من بابه منها.
الشهر الحادي عشر بهمن ماه، ودخوله في الرابع والعشرين من بابه من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من هاتور منها. الشهر «1» الثاني عشر [اسفندارماه، ودخوله في الرابع والعشرين من هاتور من شهور القبط، وآخره الثالث والعشرون من كيهك منها] .
ولكل يوم من أيام الشهر عندهم اسم خاص يزعمون أنه اسم ملك من الملائكة موكل به.
وقد علم مما تقدّم من شهور القبط ما يقع في هذه الشهور من ... «2»
والفواكه وغيرها.
الصنف الثاني من الشهور الاصطلاحية ما يختلف عدده بالزيادة والنقصان، فيكون بعض الشهور فيه ثلاثين، وبعضها أقلّ، وبعضها أكثر، وهو شهور السريان والروم
فأما شهور السريان وتنسب للإسكندر «3» فاثنا عشر شهرا، منها أربعة كل(2/418)
شهر منها ثلاثون يوما، وشهر واحد ناقص عن الثلاثين، وسبعة زائدة عليها. الشهر الأوّل منها تشرين الأوّل، وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في الرابع من بابه من شهور القبط، وآخره الرابع من هاتور منها، ويوافقه أكتوبر من شهور الروم، وهو الشهر العاشر منها. الشهر الثاني تشرين الثاني، وهو ثلاثون يوما، ودخوله في الخامس من هاتور من شهور القبط، وآخره الرابع من كيهك منها، ويوافقه نوفمبر من شهور الروم، وهو الشهر الحادي عشر منها. الشهر الثالث كانون الأوّل وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في الخامس من كيهك من شهور القبط، وآخره الخامس من طوبه منها، ويوافقه دجنبر من شهور الروم، وهو الشهر الثاني عشر منها. الشهر الرابع كانون الثاني، وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في السادس من طوبه من شهور القبط، وآخره السادس من أمشير منها، ويوافقه ينير من شهور الروم، وهو الشهر الأوّل منها. الشهر الخامس أشباط، ويقال شباط، وهو ثمانية وعشرون يوما «1» ، ودخوله في السابع من أمشير، وآخره الرابع من برمهات، ويوافقه فبراير من شهور الروم، وهو الثاني من شهورهم. الشهر السادس آذار، وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في الخامس من برمهات من شهور القبط، وآخره الخامس من برموده منها، ويوافقه مارس من شهور الروم، وهو الثالث من شهورهم. الشهر السابع نيسان، وهو ثلاثون يوما، ودخوله في السادس من برموده من شهور القبط، وآخره الخامس من بشنس منها، ويوافقه ابريل من شهور الروم، وهو الرابع من شهورهم. الشهر الثامن أيّار، وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في السادس من بشنس من شهور القبط، وآخره السادس من بؤنه منها، ويوافقه مايه من شهور الروم، وهو الخامس من شهورهم. الشهر التاسع حزيران،(2/419)
وهو ثلاثون يوما، ودخوله في السابع من بؤنه من شهور القبط، وآخره السادس من أبيب منها، ويوافقه يونيه من شهور الروم، وهو السادس من شهورهم. الشهر العاشر تمّوز، وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في السابع من أبيب من شهور القبط، وآخره السابع من مسرى منها، ويوافقه يوليه من شهور الروم، وهو السابع من شهورهم. الشهر الحادي عشر آب، وهو أحد وثلاثون يوما، ودخوله في الثامن من مسرى من شهور القبط، وآخره الثالث من توت منها، ويوافقه اغشت من شهور الروم، وهو الثامن من شهورهم. الشهر الثاني عشر أيلول وهو ثلاثون يوما، ودخوله في الرابع من توت من شهور القبط، وآخره الثالث من بابه منها، ويوافقه ستنبر من شهور الروم، وهو التاسع من شهورهم، وبذهابه يذهب الحر جملة، وفي ذلك يقول أبو نواس:
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشّعرى العبور
وقد نظمها صاحبنا الشيخ إبراهيم الدهشوري في أبيات ابتدأ فيها بأيلول فقال:
وابدأ بأيلول من السّرياني ... تشرين الأوّل يتبعنه الثاني
كانون كانون شباط يطلع ... آذار نيسان أيار يتبع
ثمّ حزيران وتمّوز وأب ... تبارك الرحمن يهدي من أحب
وقد نظم الشيخ أبو عبد الله الكيزاني «1» رحمه الله أبياتا ذكر فيها الأشهر التي منها ثلاثون يوما والناقصة عن الثلاثين ولم يتعرّض للزائدة على الثلاثين وليست بالطائل، وهي هذه:
شهور الرّوم ألوان زيادات ونقصان ... فتشرينهم الثاني وأيلول ونيسان(2/420)
ثلاثون ثلاثون سواء وحزيران ... شباط خصّ بالنقص وقدر النّقص يومان
ونظم صاحب «مناهج الفكر» «1» تداخلها مع شهور القبط في أرجوزة فجاءت في غاية الحسن والوضوح إلا أن فيها طولا، وهي هذه:
متى تشأ معرفة التّداخل ... من أوّل الشّهور في المنازل
فعدّ من توت بلا تطويل ... أربعة فهي ابتدا أيلول
وبابة كذاك مع تشرين ... الأوّل السابق في السنين
والخامس المعدود من هتور ... أوّل تشرينهم الأخير
أوّل كانون بغير دلسه ... إذا نقصت من كيهك خمسه
وطوبة إن مرّ منه ستّة ... أتاك كانون الأخير بغته
ومن شباط أوّل يوافق ... سابع أمشير حساب صادق
أول آذار إذا جعلته ... لبرمهات خامسا وجدته
أوّل نيسان لدى التّجريد ... السادس المعدود من برمود
ومثله أيار مع بشنس ... واحدة مقرونة بخمس
أمّا حزيران فيحسبونه ... أوّله السابع من بؤنه
كذلك السابع من أبيب ... أوّل تمّوز بلا تكذيب
أوّل آب عند من يحصّل ... ثامن مسرى ذاك ما لا يجهل
وبالغ بعض المتأخرين فنظم معنى هذه الأرجوزة في بيت واحد، الحرف الأوّل من الكلمة منه للشهر السريانيّ والحرف الأخير للشهر القبطيّ وما بينهما لعدد الأيام التي إذا مضت من ذلك الشهر القبطيّ دخل ذلك الشهر السرياني وهو:
أدّت تدب تهه كهك كوط أزا ... أهب نوب أوب حزب تزا أحم
فالألف من أدّت إشارة لأيلول من شهور السّريان، وهو آخر شهورهم،(2/421)
والتاء إشارة لتوت من شهور القبط، وهو أوّل شهورهم، والدال من أدت بأربعة، ففي الرابع من توت يدخل أيلول، والتاء من تدب إشارة لتشرين الأوّل، والباء إشارة لبابه، والدال بينهما بأربعة، ففي الرابع من بابه يدخل تشرين الأوّل، والتاء من تهه إشارة لتشرين الثاني، والهاء الأخيرة إشارة لهتور، والهاء المتوسطة بينهما بخمسة ففي الخامس من هاتور يدخل تشرين الثاني، والكاف الأولى من كهك إشارة لكانون الأوّل والكاف الأخيرة إشارة لكيهك والهاء بينهما بخمسة، ففي الخامس من كيهك يدخل كانون الأوّل، والكاف من كوط إشارة لكانون الثاني، والطاء إشارة لطوبه، والواو بينهما بستة، ففي السادس من طوبه يدخل كانون الثاني؛ والألف الأولى من أزا إشارة لأشباط، والألف الأخيرة إشارة لأمشير، والزاي بينهما بسبعة، ففي السابع من أمشير يدخل أشباط؛ والألف من أهب إشارة لآذار، والباء إشارة لبرمهات، والهاء بينهما بخمسة، ففي الخامس من برمهات يدخل آذار، والنون من نوب إشارة لنيسان، والباء إشارة لبرموده، والواو بينهما بستة، ففي السادس من برموده يدخل نيسان؛ والألف من أوب إشارة لأيّار، والباء إشارة لبشنس، والواو بينهما بستة، ففي السادس من بشنس يدخل أيّار؛ والحاء من حزب إشارة لحزيران، والباء إشارة لبؤنه، والزاي بينهما بسبعة، ففي السابع من بؤنه يدخل حزيران، والتاء من تزأ إشارة لتموز، والألف إشارة لأبيب، والزاي بينهما بسبعة، ففي السابع من أبيب يدخل تمّوز، والألف من أحم إشارة لآب، والميم إشارة لمسرى، والحاء بينهما بثمانية، ففي الثامن من مسرى يدخل آب.
وأما شهور الروم: (وتنسب لأغشطش «1» ملك الروم) وهو قيصر الأوّل، فاثنا عشر شهرا؛ بعضها ثلاثون يوما، وبعضها زائد على الثلاثين، وبعضها ناقص عنها كما في شهور السريان؛ وهي مطابقة لشهور السريان في العدد، مخالفة لها في الأسماء والترتيب. الشهر الأوّل ينير، ويوافقه كانون الثاني من شهور السريان، وهو الرابع من شهورهم، وفي أوّل يوم منه يكون القلداس، ويوقد أهل الشام في(2/422)
ليلته نيرانا عظيمة، لا سيما مدينة أنطاكية، وكذلك سائر بلاد الشام وأرض الروم، وسائر بلاد النصارى. الشهر الثاني فبرير، ويوافقه شباط من شهور السريان؛ وهو الخامس من شهورهم. الشهر الثالث مارس، ويوافقه آذار من شهور السريان؛ وهو السادس من شهورهم. الشهر الرابع ابريل؛ ويوافقه نيسان من شهور السريان، وهو السابع من شهورهم. الشهر الخامس مايه، ويوافقه أيّار من شهور السريان، وهو الثامن من شهورهم. الشهر السادس يونيه؛ ويوافقه حزيران من شهور السريان، وهو التاسع من شهورهم. الشهر السابع يوليه، ويوافقه تمّوز من شهور السريان، وهو العاشر من شهورهم. الشهر الثامن أغشت، ويوافقه آب من شهور السريان، وهو الحادي عشر من شهورهم. الشهر التاسع شتنبر، ويوافقه أيلول من شهور السريان، وهو الثاني عشر من شهورهم. الشهر العاشر أكتوبر، ويوافقه تشرين الأوّل من شهور السريان، وهو الأوّل من شهورهم. الشهر الحادي عشر نونمبر، ويوافقه تشرين الثاني من شهور السريان، وهو الثاني من شهورهم.
الشهر الثاني عشر دجنبر، ويوافقه كانون الأوّل من شهور السريان، وهو الثالث من شهورهم، وقد نظمها الشيخ إبراهيم الدهشوري فقال:
ينير فبرير مارس للروم ... أبريل مايه خامس المعلوم
ينيه ويليه ثمّ اغشت شتنبر ... أكتوبر نونمبر دجنبر
الطرف الثالث في السنين، وفيه ثلاث جمل
الجملة الأولى في مدلول السنة والعام
يقال: السنة، والعام، والحول؛ وقد نطق القرآن بالأسماء الثلاثة قال تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
«1» فأتى بذكر السنة والعام في(2/423)
آية واحدة، وقال جل وعز: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ
«1» وقد تختص السنة بالجدب والعام بالخصب، وبذلك ورد القرآن الكريم في بعض الآيات قال تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
«2» فعبر بالعام عن الخصب وقال جل ذكره: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ
«3» فعبر بالسنين عن الجدب. على أنه قد وقع التعبير بالسّنين عن الخصب أيضا في قوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ
«4» . أما الحول فإنه يقع على الخصب والجدب جميعا.
الجملة الثانية في حقيقة السنة، وهي على قسمين: طبيعيّة واصطلاحية كما تقدّم في الشهور
القسم الأوّل السنة الطبيعية وهي القمريّة
وأوّلها استهلال القمر في غرّة المحرّم، وآخرها سلخ ذي الحجّة من تلك السنة، وهي اثنا عشر شهرا هلاليّا قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
«5» . وعدد أيّامها ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوم تقريبا؛ ويجتمع من هذا الخمس والسدس يوم في كل ثلاث سنين فتصير السنة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما، ويبقى من ذلك بعد اليوم الذي اجتمع شيء، فيجتمع منه ومن خمس اليوم وسدسه في السنة السادسة يوم واحد، وكذلك إلى أن يبقى الكسر أصلا بأحد عشر يوما عند(2/424)
تمام ثلاثين سنة، وتسمّى تلك السنين كبائس العرب.
قال السهيلي «1» : كانوا يؤخّرون في كل عام أحد عشر يوما حتّى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته، فلما كانت سنة حجّة الوداع وهي سنة تسع من الهجرة عاد الحجّ إلى وقته اتفاقا في ذي الحجّة كما وضع أوّلا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه الحجّ، ثم قال في خطبته التي خطبها يومئذ: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض» بمعنى أن الحج قد عاد في ذي الحجّة.
وفي بعض التعاليق أن سني العرب كانت موافقة لسني الفرس في الدخول والانسلاخ فحدث في أحوالهم انتقالات فسد عليهم بها الكبس في أوّل السنة السادسة من ملك أغبطش، وذلك بعد ملك ذي القرنين بمائتين وثمانين سنة وأربعين يوما فسنّوا كبس الربع من ذلك اليوم في كل سنة فصارت سنينهم بعد ذلك الوقت محفوظة المواقيت. وقيل لم تزل العرب في جاهليتها على رسم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لا تنسأ سنيها إلى أن جاورتهم اليهود في يثرب، فأرادت العرب أن يكون حجّهم في أخصب وقت من السنة، وأسهل زمان للتردّد بالتجارة فعلموا الكبس من اليهود والله أعلم أيّ ذلك كان.
القسم الثاني الاصطلاحية وهي الشمسيّة
وشهورها اثنا عشر شهرا كما في السنة الطبيعية إلا أن كل طائفة راعت عدم دوران سنيها جعلت في أشهرها زيادة في الأيام إما جملة واحدة وإما متفرّقة وسمّتها نسيئا بحسب ما اصطلحوا عليه كما ستقف عليه في مصطلح كل قوم إن شاء الله تعالى. وعدد أيّامها عند جميع الطوائف من القبط، والفرس، والسريان، والروم،(2/425)
وغيرهم ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وربع يوم، فتكون زيادتها على العربية عشرة أيام وثمانية أعشار يوم وخمسة أسداس يوم. وقد قال بعض حذّاق المفسرين في قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً
«1» إنه إن حمل على السنين القمرية فهو على ظاهره من العدد، وإن حمل على السنين الشمسية فالتسع الزائدة هي تفاوت زيادة الشمسية على القمرية، لأنّ في كل ثلاثمائة سنة تسع سنين لا تخلّ بالحساب أصلا.
قال صاحب «مناهج الفكر» : ولذلك كانوا في صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل ثلاث وثلاثين سنة عربيّة سنة ويسمّونها سنة الازدلاف، لأن كل ثلاث وثلاثين سنة عربية اثنتان وثلاثون سنة شمسية تقريبا. قال: وإنما حملهم على ذلك الفرار من اسم النسيء الذي أخبر الله تعالى أنه زيادة في الكفر.
ثم المعتبرون السنة الشمسية اختلفت مصطلحاتهم فيها بحسب اختلاف مقاصدهم.
المصطلح الأوّل- مصطلح القبط
، وقد اصطلحوا على أن جعلوا شهرهم ثلاثين يوما كما تقدّم، فإذا انقضت الاثنا عشر شهرا أضافوا إليها خمسة أيام يسمّونها أيام النسيء «2» ، يفعلون ذلك ثلاث سنين متوالية، فإذا كانت السنة الرابعة أضافوا إلى خمسة النسيء المذكورة ما اجتمع من الربع يوم الزائد على الخمسة أيام في السنة الشمسية فتصير ستة أيام، ويجعلونها كبيسة في تلك السنة، وبعض ظرفائهم يسمّي الخمسة المزيدة السنة الصغيرة.
قال أصحاب الزيجات: وأوّل ابتدائهم ذلك في زمن أغشطش. وكانوا من قبل يتركون الربع إلى أن تجتمع أيام سنة كاملة وذلك في ألف سنة وأربعمائة وإحدى وستين سنة يسقطونها من سنيهم؛ وعلى هذا المصطلح استقرّ عملهم(2/426)
بالديار المصرية في الإقطاعات، والزرع، والخراج، وما شاكل ذلك.
المصطلح الثاني- مصطلح الفرس
؛ وشهورهم كشهور القبط في عدد الأيام على ما تقدّم، فإذا كان آخر شهر أبان ماه، وهو الشهر السابع «1» من شهورهم أضافوا إليه الخمسة الأيام الباقية وجعلوه خمسة وثلاثين يوما، وتسمّي الفرس هذه الأيام الخمسة: الأندركاه؛ ولكل يوم منها عندهم اسم خاص كما في أيّام الشهر؛ ولما لم يجز في معتقدهم كبس السنة بيوم واحد بعد ثلاث سنين كما فعل القبط كانوا يؤخّرونه إلى أن يتم منه في مائة وعشرين سنة شهر كامل فيلقونه، وتسمّى السنة التي يلقى فيها بهبرك «2» ، قال المسعوديّ في «مروج الذهب» : وإنما أخّروا ذلك إلى مائة وعشرين سنة لأن أيّامهم كانت سعودا ونحوسا فكرهوا أن يكبسوا في كل أربع سنين يوما فتنتقل بذلك أيام السّعود إلى أيام النّحوس، ولا يكون النّيروز أوّل يوم من الشهر وعلى هذا المصطلح كان يجبى الخراج للخلفاء، وتتمشى الأحوال الديوانية في بداية الأمر، وعليه العمل في العراق وبلاد فارس إلى الآن.
المصطلح الثالث- مصطلح السريان
، وشهورهم على ما تقدّم من كونها تارة ثلاثين يوما وتارة زائدة عليها، وتارة ناقصة عنها، وإنما فعلوا ذلك حتّى لا يلحقهم النسيء في شهورهم إذ الأيام الخمسة المذكورة الزائدة على شهور القبط والفرس موزّعة على رؤوس الزوائد من شهورهم، وذلك أن من شهورهم سبعة أشهر يزيد كل شهر منها يوما على الثلاثين وهي تشرين الأوّل، وكانون الأوّل، وكانون الثاني، وآذار، وأيّار، وتموز، وآب، فتكون الزيادة سبعة أيام يكمل منها شباط وهو ثمانية وعشرون يوما بيومين يبقى خمسة أيام؛ وهي نظير النسيء في سنة القبط والفرس، ويبقى بعد ذلك الربع يوم الزائد على الخمسة أيام في السنة(2/427)
الشمسية، فإذا انقضت ثلاث سنين متواليات جمعوا الأرباع الثلاثة الملغاة إلى الربع الرابع فيجتمع منها يوم فيجعلونه نظير اليوم الذي كبسه القبط ويضيفونه إلى شباط، فيصير تسعة وعشرين يوما.
المصطلح الرابع- مصطلح اليهود
، وشهورهم وإن كانت قمريّة كالعربية كما تقدّم فقد اضطرّوا إلى أن تكون سنتهم شمسيّة لأنهم أمروا في التوراة أن يكون عيد الفطر في زمان الفريك فلم يتأتّ لهم ذلك حتّى جعلوا سنيهم قسمين: الأوّل بشيطا ومعناه بسيطة وهي القمرية، والثاني معبارت، ومعناه كبيسة وهم يكبسون شهرا كاملا، ومعبارت اسم موضوع عندهم على الكامل؛ فإنه لما كان في بطنها زيادة عليها كانت هذه السنة مثلها بإضافة الشهر المكبوس إليها، وكل واحدة من السنين ثلاثة أنواع أحدها حسارين ومعناه ناقصة، وهي التي يكون الشهر الثاني والثالث منها (وهما مرحشوان وكسلا) ناقصين، وكل واحد منهما تسعة وعشرون يوما؛ والنوع الثاني شلاميم ومعناه تامّة، وهي التي يكون فيها كل شهر من الشهرين المذكورين تامّا، والنوع الثالث كسدران معناه معتدلة، وهي التي تكون أشهرها ناقص يتلوه تام؛ وهذا يلزم من جهة أنهم لا يجيزون أن يكون رأس سنتهم يوم أحد ولا يوم أربعاء ولا يوم خميس.
وأما معبارت فإنها تكون في كل تسع عشرة سنة سبع مرات، ويسمون الجملة مخزورا ومعناه الدور؛ وهذه السبعة لا تكون على التوالي، وإنمّا تكون تارة سنتان بشيطان يتلوهما معبارت، وتارة سنة بشيطا يتلوها معبارت، كل ذلك حتّى لا تخرم عليهم قاعدة الثلاثة أيام التي لا يختارونها أن تكون أوّل سنتهم، فإذا انقضى آذار من هذه السنة كبسوا شهرا وسموه آذار الثاني، فإذا انقضت التسع عشرة سنة أعادوا دورا ثانيا وعملوا فيه كذلك وعلى هذا أبدا.
أما مصطلح المنجّمين فالسنة عندهم من حلول الشمس في أوّل نقطة من رأس الحمل إلى حلولها في آخر نقطة من الحوت، ومنهم من يجعلها من حلول الشمس في أوّل نقطة من رأس الميزان إلى حلولها في آخر نقطة من السّنبلة،(2/428)
والأوّل هو المعروف. وتساهل بعضهم فقال: هي من كون الشمس في نقطة ما من فلك البروج إلى عودها إلى تلك النقطة، ويقال إن سنة الجند والمرتزقة بالديار المصرية كانت أوّلا على هذا المصطلح، وبه يعملون في الإقطاعات ونحوها.
الجملة الثالثة في فصول السنة الأربعة وفيه ثلاثة مهايع
المهيع الأوّل في الحكمة في تغيير الفصول الأربعة في السنة
واعلم أن الفصول تختلف بحسب اختلاف طبائع السنة لتباين مصالح أوقاتها حكمة من الله تعالى. قال بطليموس: تحتاج الأبدان إلى تغيير الفصول فالشتاء للتجميد، والصيف للتّحليل، والخريف للتّدريج، والربيع للتّعديل وعلى ذلك يقال: إن أصل وضع الحمّام أربعة بيوت بعضها دون بعض على التدريج ترتيبها على الفصول الأربعة.
المهيع الثاني في كيفيّة انقسام السنة الشمسية إلى الفصول
واعلم أن دائرة منطقة البروج لما قاطعت دائرة معدّل النهار على نقطتين متقابلتين مال «1» عنهما في جهتي الشمال والجنوب بقدر واحد، فالنقطة التي تجري عليها الشمس من ناحية الجنوب إلى الشمال عن معدّل النهار تسمّى نقطة الاعتدال الربيعيّ، وهي أوّل الحمل، والنقطة التي تجوز عليها من الشمال إلى الجنوب تسمى نقطة الاعتدال الخريفيّ وهي أوّل الميزان. ويتوهم في الفلك دائرة ث؟؟؟
معترضة من الشمال إلى الجنوب تمرّ على أقطاب تقابل الدائرة المخطوطة على الفلكين تقطع كلّ واحد من فلك معدّل النهار وفلك البروج بنصفين، فوجب أن(2/429)
يكون قطعها لفلك البروج على النقطتين اللتين هما في غاية الميل والبعد عن معدّل النهار في جهتي الشمال والجنوب فتسمّى النقطة الشمالية نقطة المنقلب الصيفيّ وهي أوّل السّرطان، وتسمّى النقطة الجنوبية نقطة المنقلب الشّتويّ، وهي أوّل الجدي. واختلاف طبائع الفصول عن حركة الشمس وتنقّلها في هذه النّقط، فإنها إذا تحرّكت من الحمل، وهو أوّل البروج الشمالية أخذ الهواء في السّخونة لقربها من سمت الرؤوس وتواتر الإسخان إلى أن تصل إلى أوّل السرطان، وحينئذ يشتدّ الحرّ في السّرطان والأسد إلى أن تصل إلى الميزان، فحينئذ يطيب الهواء ويعتدل؛ ثم يأخذ الهواء في البرودة ويتواتر إلى أوّل الجدي، وحينئذ يشتدّ البرد في الجدي والدّلو لبعد الشمس من سمت الرؤوس إلى أن تصل إلى الحمل فتعود الشمس إلى أوّل حركتها.
المهيع الثالث في ذكر الفصول، وأزمنتها، وطبائعها، وما حصة كلّ فصل منها من البروج والمنازل؛ وهي أربعة فصول
الأول- فصل الربيع
- وابتداؤه عند حلول الشمس برأس الحمل، وقد تقدم ومدّته أحد وتسعون يوما وربع يوم ونصف ثمن يوم. وأوّله حلول الشمس رأس الحمل، وآخره عند قطعها برج الجوزاء؛ وله من الكواكب القمر، والزّهرة، ومن المنازل الشّرطان، والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع بما في ذلك من التداخل كما مر؛ ومن الساعات الأولى والثانية والثالثة؛ ومن الرّياح الجنوب؛ وطبعه حارّ رطب؛ وله من السّن الطّفولية والحداثة؛ ومن الاخلاط الدم، ومن القوى الهاضمة. وفيه تتحرّك الطبائع، وتظهر المواد المتولدة في الشّتاء، فيطلع النبات، وتزهر الأشجار وتورق، ويهيج الحيوان للسّفاد، وتذوب الثّلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية، وأخذت الأرض زخرفها وازّينت فتصير كأنها عروس تبدّت لخطّابها، في مصبّغات ثيابها؛ ويقال: إذا نزلت الشمس رأس الحمل تصرّم الشتاء، وتنفّس الربيع، واختالت الأرض في وشيها(2/430)
البديع، وتبرّجت للنظّارة في معرض الحسن والنّضارة.
ومن كلام الوزير المغربيّ «1» : لو كان زمن الربيع شخصا لكان مقبّلا، ولو أن الأيام حيوان لكان لها حليا ومجلّلا، لأن الشمس تخلص فيه من ظلمات حوت السماء، خلاص يونس من ظلمات حوت الماء؛ فإذا وردت الحمل وافت أحبّ الأوطان اليها وأعزّ أماكنها عليها.
وكان عبدوس الخزاعيّ يقول: من لم يبتهج بالربيع، ولم يستمتع بأنواره ولا استروح بنسيم أزهاره، فهو فاسد المزاج، محتاج إلى العلاج.
ويروى عن بقراط الحكيم مثله، وفيه بدل قوله: «فهو فاسد المزاج» فهو عديم حسّ، أو سقيم نفس. ولجلالة محلّ هذا الفصل في القلوب، ولنزوله من النفوس منزلة الكاعب الخلوب، كانت الملوك إذا عدمته استعملت ما يضاهي زهره من البسط المصوّرة المنقّشة، والنّمارق المفوّفة «2» المرقّشة. وقد كان لأنوشروان بساط يسميه بساط الشّتاء، مرصّع بأزرق الياقوت والجواهر، وأصفره وأبيضه وأحمره، وقد جعل أخضره مكان أغصان الأشجار، وألوانه بموضع الزّهر والنوار. ولما أخذ هذا البساط في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في واقعة القادسيّة، حمل إليه فيما أفاء الله على المسلمين؛ فلما رآه قال: «إن أمّة أدّت هذا إلى أميرها لأمينة» ثم مزّقه فوقع منه لعليّ عليه السلام قطعة في قسمه مقدارها شبر في شبر فباعها بخمسة عشر ألف دينار.
وقد أطنب الناس في وصف هذا الفصل ومدحه، وأتوا بما يقصر عن شرحه، وتغالى الشعراء فيه غاية التّغالي، وفضّلوا أيامه ولياليه على الأيّام والليالي، وما أحلى قول البحتريّ:(2/431)
أتاك الربيع الطّلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتّى كاد أن يتكلّما
وقد نبّه النّوروز في غسق الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما
يفتّحها برد النّدى فكأنّما ... يبثّ حديثا بينهنّ مكتّما
ومن شجر ردّ الربيع رداءه ... كما نشرت ثوبا عليه منمنما
أحلّ فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورقّ نسيم الجوّ حتّى كأنّما ... يجيء بأنفاس الأحبّة نعّما
وأحلى منه قول أحمد بن محمد العلويّ:
أو ما ترى الأيّام كيف تبرّجت ... وربيعها وال عليها قيّم؟
لبست به الأرض الجمال فحسنها ... متأزّر ببروده متعمّم
انظر إلى وشي الرّياض كأنّه ... وشي تنشّره الأكفّ ينمنم
والنّور يهوى كالعقود تبدّدت ... والورد يخجل والأقاحي تبسم
والطّلّ ينظم فوقهنّ لآلئا ... قد زان منهنّ الفرادى التّوأم
ويكاد يذري الدّمع نرجسها اذا ... أضحى ويقطر من شقائقها الدّم
ومنها:
أرض تباهيها السماء اذا دجا ... ليل ولاحت في دجاها الأنجم
فلخضرة الجوّ اخضرار رياضها ... ولزهره زهر ونور ينجم
وكما يشقّ سنا المجرّة جرّه ... واد يشقّ الأرض طام مفعم
لم يبق إلا الدّهر إذ باهت به ... وحيا يجود به ملثّ مرهم «1»
وقول الآخر:
طرق الحياء ببّره المشكور ... أهلا به من زائر ومزور(2/432)
وحبا الرّياض غلالة من وشيه ... بغرائب التّفويف والتّحبير
وأعارها حليا تأنّى الغيث في ... ترصيعه بجواهر المنثور
بمورّد كمورّد الياقوت قا ... رن أبيضا كمصاعد الكافور
ومعصفر شرق وأصفر فاقع ... في أخضر كالسّندس المنشور
فكأنّ أزرقه بقايا إثمد «1» ... في أعين مكحولة بفتور
كملت صفات الزّهر فيه فناب عمّ ... اغاب من أنواعه بحضور
وقول الآخر:
إشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطّر متهلّل نشوان
فالأرض وشي والنّسيم معنبر ... والماء راح والطّيور قيان
الثاني- فصل الصيف
: وهو أحد وتسعون يوما وربع ونصف ثمن يوم وابتداؤه إذا حلّت الشمس رأس السّرطان، وانتهاؤه إذا أتت على آخر درجة من السّنبلة؛ فيكون له من البروج السرطان، والأسد، والسنبلة. وهذه البروج تدلّ على السّكون، وله من الكواكب المرّيخ والشمس؛ ومن المنازل النّثرة، والطّرف، والجبهة، والزّبرة، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك يتداخل فيه؛ وله من الساعات الرابعة والخامسة والسادسة، ومن الرياح الصّبا، وطبعه حارّ يابس؛ وله من السنّ الشّباب؛ ومن الأخلاط المرّة الصفراء؛ ومن القوى القوّة النفسية والحيوانية. وللعرب في هذا الفصل وغرات «2» : وهي الحرور؛ منها وغرة الشّعرى، ووغرة الجوزاء، ووغرة سهيل، أوّلها أقواها حرّا؛ يقال إن الرجل في هذه الوغرة يعطش بين الحوض والبئر، وإذا طلع سهيل ذهبت الوغرات؛ وتسمّى الرياح التي في هذه الوغرات البوارح؛ سميت بذلك لأنها تأتي من يسار الكعبة كما برح الظّبي إذا أتاك من يسارك؛ وقد أولع الناس بين لفحات الحرّ وسمومه، وأتوا(2/433)
فيه ببدائع تقلع من قلب الصّبّ غمام غمومه. وفي ذلك قول بعضهم: أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها، فأذابت دماغ الضّبّ، وألهبت قلب الصّبّ؛ هاجرة كأنها من قلوب العشّاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق، حرّ تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمتراكم الرّمس؛ لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه ثلج ولا خيش؛ فهو كالقلب المهجور، أو كالتّنّور المسجور. ووصف بعضهم، وهو ذو الرمّة، حرّ هاجرة فقال:
وهاجرة حرّها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبي
تلوذ من الشّمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطّالب
وتسجد للشمس حرباؤها ... كما يسجد القسّ للرّاهب
وقال سوّار بن المضرّس:
وهاجرة تشتوى بالسّموم ... جنادبها «1» في رؤوس الأكم
إذا الموت أخطأ حرباءها ... رمى نفسه بالعمى والصّمم
وقال أبو العلاء المعريّ:
وهجيرة كالهجر موج سرابها ... كالبحر ليس لمائها من طحلب
واخى به الحرباء عودي منبر ... للظّهر إلا أنه لم يخطب
وقال آخر:
وربّ يوم حرّه منضج ... كأنّه أحشاء ظمآن
كأنّما الأرض على رضفة «2» ... والجوّ محشوّ بنيران
وبالغ الأمير ناصر الدين بن الفقيسي «3» فقال من أبيات:(2/434)
في زمان يشوي الوجوه بحرّ ... ويذيب الجسوم لو كنّ صخرا
لا تطير النّسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا
يشتكي الضّبّ ما اشتكى الصّبّ فيه ... ولحربائه إلى الظلّ حرّا
ويودّ الغصن الرّطيب به لو ... أنّه من لحائه يتعرّى
وقال أيضا يصف ليلة شديدة الحر:
يا ليلة بتّ بها ساهرا ... من شدّة الحرّ وفرط الأوار
كأنّني في جنحها محرم ... لو أنّ للعورة منّي استتار
وكيف لا أحرم في ليلة ... سماؤها بالشّهب ترمي الجمار
على أن أبا عليّ بن رشيق قد فضّله على فصل الشتاء فقال:
فصل الشّتاء مبين لا خفاء به ... والصّيف أفضل منه حين يغشاكا
فيه الذي وعد الله العباد به ... في جنّة الخلد إن جاؤوه نسّاكا
أنهار خمر وأطيار وفاكهة ... ما شئت من ذا ومن هذا ومن ذاكا
فقل لمن قال لولا ذاك لم يك ذا ... إذا تفضّل على أخراك دنياكا
سمّ الشّتاء بعبّاس تصب غرضا ... من الصّواب وسمّ الصّيف ضحّاكا
الثالث- فصل الخريف
، وهو أحد وتسعون يوما وربع يوم ونصف ثمن يوم، وأوّله عند حلول الشمس رأس الميزان؛ وذلك في الثامن عشر من توت وإذا بقي من أيلول ثمانية أيام؛ وآخره إذا أتت الشمس على آخر درجة من القوس؛ فيكون له من البروج الميزان والعقرب والقوس؛ وهذه البروج تدلّ على الحركة، وله من الكواكب زحل، ومن الساعات السابعة والثامنة. والطالع فيه مع الفجر من المنازل الغفر والزّبانان والإكليل والقلب والشّولة والنّعائم والبلدة يتداخل فيه.
وهو بارد يابس، له من السّن الكهولة؛ تهيج فيه المرّة السّوداء، وتقوى فيه القوّة الماسكة، وتهبّ فيه الرياح الشّمالية، وفيه يبرد الهواء، ويتغيّر الزمان، وتنصرم الثّمار، ويتغير وجه الأرض، وتهزل البهائم، وتموت الهوامّ، وتجحر الحشرات، ويطلب الطير المواضع الدّفئة، وتصير الأرض كأنها كهلة مدبرة. ويقال: فصل(2/435)
الخريف ربيع النفس كما أن الربيع ربيع العين، فإنه ميقات الأقوات، وموسم الثّمار، وأوان شباب الأشجار؛ وللنّفوس في آثاره مربع، وللجسوم بمواقع خيراته مستمتع. وقد وصفه الصابي فقال: الخريف أصحّ فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا؛ وهو أحد الاعتدالين المتوسّطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرّحت عن زبدتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وآذنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد، كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهذّبا من عكرها؛ واطّرادا مع نفحات الهواء، وحركات الرّياح الشّجواء؛ واكتست الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب.
ومن كلام ابن شبل «1» : كلّ ما يظهر في الربيع نوّاره ففي الخريف تجتنى ثماره.
وقال أبو بكر الصنوبري «2» :
ما قضى في الربيع حقّ المسرّات ... مضيع لحقّها في الخريف
نحن منه على تلقّي شتاء ... يوجب القصف أو وداع مصيف
في قميص من الزّمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف
يرعد الماء فيه خوفا اذا ما ... لمسته يد النّسيم الضّعيف
وقال ابن الرومي يصفه:
لولا فواكه أيلول إذا اجتمعت ... من كلّ فنّ ورقّ الجوّ والماء
إذا لما حفلت نفسي إذا اشتملت ... عليّ هائلة الحالين غبراء
يا حبّذا ليل أيلول إذا بردت ... فيه مضاجعنا والرّيح شجواء(2/436)
وخمّش القرّ فيه الجلد والتأمت ... من الضّجيعين أجسام وأحشاء
وأسفر القمر الساري بصفحته ... يرى لها في صفاء الماء لألاء
بل حبّذا نفحة من ريحه سحرا ... يأتيك فيها من الرّيحان أنباء
قل فيه ما شئت من فضل تعهّده ... في كلّ يوم يد لله بيضاء
وقال عبد الله بن المعتز يصفه ويفضله على الصيف من أبيات:
طاب شرب الصّبوح في أيلول ... برد الظلّ في الضّحى والأصيل
وخبت لفحة الهواجر عنّا ... واسترحنا من النّهار الطّويل
وخرجنا من السّموم إلى برد ... نسيم وطيب ظلّ ظليل
فكأنّا نزداد قربا من الجنّة ... في كلّ شارق وأصيل
ووجوه البقاع تنتظر الغيث ... انتظار المحبّ ردّ الرّسول
وقريب منه قول الآخر:
اشرب على طيب الزّمان فقد حدا ... بالصّيف للنّدمان أطيب حاد
وأشمّنا بالليل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح في الأجساد
وافاك بالأنداء قدّام الحيا ... فالأرض للأمطار في استعداد
كم في ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد
تبدو إذا جاء السّحاب بقطره ... فكأنّما كنّا على ميعاد
ومما يقرب منه قول جحظة البرمكيّ «1» :
لا تصغ للّوم إن اللّوم تضليل ... واشرب ففي الشّرب للأحزان تحليل
فقد مضى القيظ واجتثّت رواحله ... وطابت الرّيح لمّا آل أيلول
وليس في الأرض بيت يشتكي مرها ... إلا وناظره بالطّلّ مكحول(2/437)
وبالغ بعضهم فسوّى بينه وبين فصل الربيع فقال في ضمن تهنئة لبعض إخوانه:
هنيّت إقبال الخريف ... وفزت بالوجه الوضيّ
تمّ اعتدالا في الكمال ... فجاء في خلق سويّ
فحكى الرّبيع بحسنه ... ونسيم ريّاه الذّكيّ
وينوب ورد الزّعفران ... له عن الورد الجنيّ
وأبلغ منه قول الآخر يفضله على فصل الربيع الذي هو سيد الفصول ورئيسها:
محاسن للخريف لهنّ فخر ... على زمن الرّبيع وأيّ فخر
به صار الزّمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حرّ
ومع ذلك فالأطباء تذمّه لاستيلاء المرّة السّوداء فيه، ويقولون: أنّ هواءه رديء متى تشبّث بالجسم لا يمكن تلافيه؛ وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
خذ في التّدثّر في الخريف فإنّه ... مستوبل ونسيمه خطّاف
يجري مع الأيّام جري نفاقها ... لصديقها ومن الصّديق يخاف
الرابع- فصل الشتاء
وهو أحد وتسعون يوما وربع يوم ونصف ثمن يوم، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدي؛ وذلك في الثامن عشر من كيهك وإذا بقي من كانون الأول ثمانية أيام؛ وآخره إذا أتت الشمس على آخر درجة من الحوت فيكون له من البروج الجدي والدّلو والحوت؛ وهذه البروج تدلّ على السكون؛ والطالع فيه مع الفجر سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم والفرغ المؤخّر، والرّشاء. فيه تهبّ رياح الدّبور؛ وهو بارد رطب.
فيه يهيج البلغم، وتضعف قوى الأبدان. له من السنّ الشّيخوخة، ومن القوى البدنيّة القوة الدافعة، وفيه يشتدّ البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشّجر، وتنجحر «1» الحيّات، وتكثر الأنواء، ويظلم الجوّ، وتصير الأرض كأنها عجوز هرمة(2/438)
قد دنا منها الموت. وله من الكواكب المشتري وعطارد، ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة. ويقال: إذا حلّت الشمس الجدي، مدّ الشّتاء رواقه، وحلّ نطاقه، ودبّت عقارب البرد لاسبة «1» ، ونفع مدّخر الكسب كاسبه. وللبلغاء في وصف حال من أظله ملح تدفع عن المقرور متى استعدّ بها طلّه ووبله.
فمن ذلك قول بعضهم يصف شدّة البرد: برد يغيّر الألوان، وينشّف الأبدان، ويجمّد الريق في الأشداق، والدّمع في الآماق «2» ؛ برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره.
ومن كلام الفاضل «3» : في ليلة جمد خمرها، وخمد جمرها، إلى يوم تودّ البصلة لو ازدادت قمصا «4» إلى قمصها، والشمس لو جرّت النار إلى قرصها؛ أخذه بعضهم فقال:
ويومنا أرياحه قرّة ... تخمش الأبدان من قرصها
يوم تودّ الشمس من برده ... لو جرّت النار إلى قرصها
ولابن حكينا البغداديّ:
البس إذا قدم الشّتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا
الرّيق في اللهوات أصبح جامدا ... والدّمع في الآماق صار برودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت إليك من العقيق عقودا
وترى على برد المياه طيورها ... تختار حرّ النار والسّفّودا(2/439)
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا
ولبعضهم:
شتاء تقلص الأشداق منه ... وبرد يجعل الشّبّان شيبا
وأرض تزلق الأقدام فيها ... فما تمشي بها إلا دبيبا
ومن كلام الزمخشري:
أقبلت يا برد ببرد أجود ... تفعل بالأوجه فعل المبرد
أظل في البيت كمثل المقعد ... منقبضا تحت الكساء الأسود
لو قيل لي أنت أمير البلد ... فهات للبيعة كفّا يعقد
ومن كلام أبي عبد الله بن أبي الخصال «1» يصف ليلة باردة من رسالة:
والكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه «2» ، والتوى التواء الجباب «3» ، واستدار استدارة الحباب «4» ، وجلّده الجليد، وضربه الضّريب، وصعّد أنفاسه الصّعيد، فحماه مباح، ولا هرير ولا نباح.
ومن شعر الحماسة في وصف ليلة شديدة البرد:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من أندائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا
ولأبي القاسم التنوخيّ «5» :(2/440)
وليلة ترك البرد البلاد بها ... كالقلب أسعر نارا فهو مثلوج
فإن بسطت يدا لم تنبسط خصرا ... وإن تقل فبقول فيه تثبيج «1»
فنحن منه ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن فيه ولم نفلج مفاليج
وقال بعضهم يصف يوما باردا كثير الضّباب:
يوم من الزّمهرير مقرور ... عليه جيب السّحاب مزرور
وشمسه حرّة مخدّرة ... ليس لها من ضبابه نور
كأنّما الجوّ حشوه إبر ... والأرض من تحته قوارير
وحكي أنّ أعرابيّا اشتدّ به البرد فأضاءت نار فدنا منها ليصطلي، وهو يقول:
اللهم لا تحرمنيها في الدّنيا ولا في الآخرة؛ أخذه بعضهم فقال وهو في غاية المبالغة:
أيا ربّ إن البرد أصبح كالحا ... وأنت بحالي عالم لا تعلّم
فإن كنت يوما مدخلي في جهنّم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
وقد اعتنى الناس بمدحه فقال بعضهم: لو لم يكن من فضله إلا أنه تغيب فيه الهوامّ وتنجحر الحشرات، ويموت الذّباب، ويهلك البعوض، ويبرد الماء، ويسخن الجوف، ويطيب العناق، ويظهر الفرش، ويكثر الدخن، وتلذّ جمرة البيت لكفى.
وتابعه بعض الشعراء فقال:
تركت مقدّمة الخريف حميده ... وبدا الشّتاء جديده لا ينكر
مطر يروق الصّحو منه وبعده ... صحو يكاد من الغضارة يمطر
غيثان والانواء غيث ظاهر ... لك وجهه والصّحو غيث مضمر
وقال أبو الفتح كشاجم:(2/441)
أذن الشّتاء بلهوه المستقبل ... فدنت أوائله بغيث مسبل
متكاثف الأنواء منغدق الحيا ... هطل النّدى هزج الرّعود بجلجل
جاءت بعزل الجدب فيه فبشّرت ... بالخصب أنواء السّماك الأعزل
وقد ولع الناس بذكر الاعتداد لها قديما وحديثا.
قيل لأعرابيّ: ما أعددت للبرد؟ فقال: طول الرّعدة، وتقرفص القعدة، وذوب «1» المعدة، أخذه ابن سكّرة «2» ، فقال:
قيل ما أعددت للبر ... د وقد جاء بشدّه
قلت درّاعة عري ... تحتها جبّة رعده
واعلم أن ما تقدّم من أزمان الفصول الأربعة هو المصطلح المعروف، والطريق المشهور. وقد ذكر الآبيّ في كتاب الدرّ «3» : أن العرب قسّمت السنة أربعة أجزاء فجعلوا الجزء الأوّل الصّفريّة وسمّوا مطره الوسمي، وأوّله عندهم سقوط عرقوة الدّلو السّفلى، وآخره سقوط الهقعة، وجعلوا الجزء الثاني الشتاء، وأوّله سقوط الهنعة، وآخره سقوط الصّرفة. وجعلوا الجزء الثالث الصيف، وأوّله سقوط العوّاء، وآخره سقوط الشّولة، وجعلوا الجزء الرابع القيظ. وسمّوا مطره الخريف، وأوّله سقوط النّعائم، وآخره سقوط عرقوة الدلو العليا.
وذكر ابن قتيبة في «أدب الكاتب» طريقا آخر فقال:
الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه الورد والكمأة، والنّور، ولا يعرفون الربيع غيره. والعرب تختلف في ذلك فمنهم من(2/442)
يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف، وبعده فصل الشتاء، ثم فصل الصيف وهو الوقت الذي تسمّيه العامّة الربيع، ثم فصل القيظ وهو الذي تسميه العامة الصّيف، ومنهم من يسمّي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأوّل، ويسمّي الفصل الذي يلي الشتاء وتأتي فيه الكمأة والنّور الربيع الثاني، وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع.
وفي بعض التعاليق أن من العرب من جعل السنة ستة أزمنة: الأوّل الوسمي وحصّته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي العوّاء، والسّماك والغفر، والزّبانان، وثلثا الإكليل. الثاني الشتاء، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي ثلث الإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وثلث الذّابح، الثالث الربيع، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة، وهي ثلثا الذابح وبلع، والسّعود، والأخبية، والفرغ المقدم، الرابع الصيف، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة، وهي الفرغ المؤخّر، وبطن الحوت، والشّرطان، والبطين، وثلثا الثريّا، الخامس الحميم، وحصته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي ثلث الثريا، والدّبران والهقعة، والهنعة، والذّراع وثلث النثرة. السادس الخريف، وحصّته من السنة شهران، ومن المنازل أربع منازل وثلثا منزلة وهي ثلثا النّثرة، والطّرف، والجبهة، والخرتان، والصّرفة.
والأوائل من علماء الطّب يقسمون السنة إلى الفصول الأربعة، إلا أنهم يجعلون الشتاء والصيف أطول زمانا وأزيد مدّة من الربيع والخريف، فيجعلون الشّتاء أربعة أشهر، والصيف أربعة أشهر، والربيع شهرين، والخريف شهرين، إذ كانا متوسطين بين الحرّ والبرد وليس في مدّتهما طول ولا في زمانهما اتّساع.
واعلم أن ما تقدّم من تفضيل بعض الفصول على بعض إنما هو أقاويل الشّعراء وأفانين الأدباء، تفنّنا في البلاغة؛ وإلا فالواضع حكيم جعل هذه الفصول مشتملة على الحرّ تارة وعلى البرد أخرى لمصالح العباد، ورتّبها ترتيبا خاصّا على(2/443)
التدريج، يفهم ذلك أهل العقول وأرباب الحكمة، جلّت صنعته أن تكون عريّة عن الحكمة، أو موضوعة في غير موضعها ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
«1» .
الطرف الرابع في أعياد الأمم ومواسمها، وفيه خمس جمل
الجملة الأولى في أعياد المسلمين
واعلم أن الذي وردت به الشريعة وجاءت به السنّة عيدان: عيد الفطر، وعيد الأضحى. والسبب في اتخاذهما ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة ولأهلها يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ قد بدّلكم خيرا منهما «2» يوم الأضحى، ويوم الفطر» فأوّل ما بديء به من العيدين عيد الفطر، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة. وروى ابن باطيش «3» في كتاب الأوائل أن أوّل عيد ضحّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم سنة اثنتين من الهجرة وخرج إلى المصلّى للصلاة، وحينئذ فيكون العيدان قد شرعا في سنة واحدة، نعم قد ابتدعت الشيعة عيدا ثالثا وسمّوه عيد الغدير. وسبب اتخاذهم له(2/444)
مؤاخاة النبيّ صلى الله عليه وسلّم لعليّ كرم الله وجهه يوم غدير خمّ وهو غدير على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة الطريق تصبّ فيه عين وحوله شجر كثير، وهي الغيضة التي تسمّى خمّا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من حجّة الوداع نزل بالغدير وآخى بين الصحابة ولم يؤاخ بين عليّ وبين أحد منهم فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلّم منه انكسارا فضمّه إليه وقال «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي والتفت إلى أصحابه وقال من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة.
والشيعة يحيون ليلة هذا العيد بالصلاة ويصلّون في صبيحتها ركعتين قبل الزوال وشعارهم فيه لبس الجديد، وعتق العبيد، وذبح الأغنام، وإلحاق الأجانب بالأهل في الإكرام. والشعراء والمترسلون يهنّئون الكبراء منهم بهذا العيد.
الجملة الثانية في أعياد الفرس
وكان دينهم المجوسية، وأعيادهم كثيرة جدّا حتّى إن عليّ بن حمزة الأصبهانيّ»
عمل فيها كتابا ذكر فيه أسباب اتخاذهم لها، وسبب سلوكهم فيها؛ وقد اقتصرنا منها على المشهور الذي ولع الشعراء بذكره، واعتنى الأمراء بأمره؛ وهي سبعة أعياد:
العيد الأوّل النّيروز
- وهو تعريب نوروز، ويقال إن أوّل من اتخذه جم شاد أحد ملوك الطبقة الثانية «2» من الفرس، ومعنى شاد الشّعاع والضياء «3» وإن سبب «4» اتخاذهم لهذا اليوم عيدا أن الدّين كان قد فسد قبله، فلما ملك جدّده(2/445)
وأظهره فسمّي اليوم الذي ملك فيه نوروز أي اليوم الجديد. وفي بعض التعاليق أن جم شاد ملك الأقاليم السبعة والجنّ والإنس، فاتخذ له عجلة ركبها، وكان أوّل يوم ركبها فيه أوّل يوم من شهر افرودين ماه «1» ، وكان مدّة ملكه لا يريهم وجهه، فلما ركبها أبرز لهم وجهه، وكان له حظ من الجمال وافر، فجعلوا يوم رؤيتهم له عيدا، وسمّوه نوروزا. ومن الفرس من يزعم أنه اليوم الذي خلق الله فيه النّور، وأنه كان معظّما قبل جم شاد. وبعضهم يزعم أنه أوّل الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدّوران. ومدّته عندهم ستة أيام أوّلها اليوم الأوّل من شهر افرودين ماه «2» الذي هو أوّل شهور سنتهم. ويسمّون اليوم السادس النّوروز الكبير، لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس على طبقاتهم، ثم ينتقلون إلى مجالس أنسهم مع ظرفاء خواصّهم.
وحكى ابن المقفّع أنه كان من عادتهم فيه أن يأتي الملك رجل من الليل قد أرصد لما يفعله، مليح الوجه، فيقف على الباب حتّى يصبح، فإذا أصبح دخل على الملك من غير استئذان، ويقف حيث يراه، فيقول له: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأين تريد؟ وما اسمك؟ ولأيّ شيء وردت؟ وما معك؟ فيقول: أنا المنصور، واسمي المبارك، ومن قبل الله أقبلت، والملك السعيد أردت، وبالهناء والسلامة وردت ومعي السّنة الجديدة، ثم يجلس، ويدخل بعده رجل معه طبق من فضّة وعليه حنطة، وشعير، وجلبان وحمّص وسمسم، وأرزّ من كل واحد سبع سنبلات، وسبع حبّات وقطعة سكّر، ودينار ودرهم جديدان؛ فيضع الطبق بين يدي الملك، ثم تدخل عليه الهدايا، ويكون أوّل من يدخل عليه بها وزيره، ثم صاحب الخراج، ثم صاحب المعونة «3» ، ثم الناس على طبقاتهم، ثم يقدّم للملك رغيف كبير من تلك الحبوب مصنوع موضوع في سلّة، فيأكل منه ويطعم من حضر، ثم يقول: هذا يوم جديد، من شهر جديد، من عام جديد، يحتاج أن(2/446)
يجدّد فيه ما أخلق من الزّمان، وأحق الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء؛ ثم يخلع على وجوه دولته، ويصلهم، ويفرّق عليهم ما وصل إليه من الهدايا.
وأما عوامّ الفرس فكانت عادتهم فيه رفع النار في ليلته، ورشّ الماء في صبيحته؛ ويزعمون أن إيقاد النّيران فيه لتحليل العفونات التي أبقاها الشّتاء في الهواء. ويقال إنما فعلوا ذلك تنويها بذكره، وإشهارا لأمره. وقالوا في رشّ الماء:
إنما هو بمنزلة الشّهرة «1» لتطهير الأبدان مما انضاف إليها من دخان النار الموقدة في ليلته.
وقال آخرون: إن سبب رش الماء فيه أن فيروز بن يزدجرد لما استتم سورجيّ، وهي أصبهان القديمة، لم تمطر سبع سنين في ملكه، ثم مطرت في هذا اليوم ففرح الناس بالمطر وصبّوا من مائه على أبدانهم من شدّة فرحهم به، فصار ذلك سنّة عندهم في ذلك اليوم من كل عام، وما أحلى قول بعضهم يخاطب من يهواه، ويذكر ما يعتمد في النيروز من شب النّيران وصبّ الأمواه:
كيف ابتهاجك بالنّيروز يا سكني ... وكلّ ما فيه يحكيني وأحكيه
فتارة كلهيب النّار في كبدي ... وتارة كتوالي عبرتي فيه
أسلمتني فيه يا سؤلي إلى وصب ... فكيف تهدي الى من أنت تهديه
وأوّل من رسم هدايا النّيروز والمهرجان في الإسلام الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ، ثم رفع ذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، واستمرّ المنع فيه إلى أن فتح باب الهديّة فيه أحمد بن يوسف الكاتب فإنه أهدى فيه للمأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هنديّ في طوله وعرضه، وكتب معه: هذا يوم جرت فيه العادة، بإتحاف العبيد السادة، وقد قلت:(2/447)
على العبد حقّ وهو لا شكّ فاعله ... وإن عظم المولى وجلّت فواضله
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
فلو كان يهدي للجليل بقدره ... لقصّر عنه البحر يوما وساحله
ولكنّنا نهدي إلى من نجلّه ... وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله
وكتب سعيد بن حميد إلى صديق له يوم نيروز: هذا يوم سهّلت فيه السنّة للعبيد الإهداء للملوك، فتعلّقت كلّ طائفة من البر بحسب القدرة والهمّة، ولم أجد فيما أملك ما يفي بحقّك، ووجدت تقريظك أبلغ في أداء ما يجب لك، ومن لم يؤت في هديّته إلا من جهة قدرته فلا طعن عليه.
هذا ما يتعلق بنيروز الفرس «1» من ذكر الهدايا فيه، وإيقاد النار، ورشّ الماء، وأوّل من سنّه. وأما تعلّقه بالخراج فسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على جباية الخراج في فنّ الدّيونة.
العيد الثاني من أعياد الفرس المهرجان
- وهو في السادس والعشرين من تشرين الأوّل من شهور السّريان، وفي السادس عشر من مهرماه من شهور الفرس، وفي التاسع من أبيب من شهور القبط؛ وبينه وبين النيروز مائة وسبعة وستون يوما، وهذا الأوان في وسط زمان الخريف، وفي ذلك يقول الشاعر:
أحبّ المهرجان لأنّ فيه ... سرورا للملوك ذوي السّناء
وبابا للمصير إلى أوان ... تفتّح فيه أبواب السّماء
ومدّته ستة أيام، ويسمّى اليوم السادس منه المهرجان الأكبر، كما يسمّى اليوم السادس من أيام النّيروز عندهم النّيروز الأكبر.
قال المسعودي: وسبب تسميتهم لهذا اليوم بهذا الاسم أنهم كانوا يسمّون شهورهم بأسماء ملوكهم، وكان لهم ملك يسمّى مهرا يسير فيهم بالعنف والعسف(2/448)
فمات في النصف من هذا الشهر، وهو مهرماه، فسمّي ذلك اليوم مهرجان، وتفسيره نفس مهر ذهبت، والفرس تقدّم في لغتها ما تؤخّره العرب في كلامها وهذه اللغة الفهلوية وهي الفارسية الأولى وزعم آخرون أن مهر بالفارسية حفاظ وجان الروح، وفي ذلك يقول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر «1» :
إذا ما تحقّق بالمهرجان ... من ليس يعرف معناه غاظا
ومعناه أن غلب الفرس فيه ... فسمّوه للرّوح فيه حفاظا
ويقال: إنما ظهر في عهد افريدون الملك، ومعنى هذا الاسم إدراك الثأر؛ وذلك أن افريدون أخذ بثأر جدّه جم شاد من الضّحّاك، فإنه كان أفسد دين المجوسيّة وخرج على جم شاد فأخذ منه الملك وقتله؛ فلمّا غلبه افريدون قتله بجبل دنباوند «2» وأعاد المجوسية إلى ما كانت، فاتّخذ الفرس يوم قتله عيدا، وسمّوه مهرجان، والمهر الوفاء، وجان سلطان، وكان معناه سلطان الوفاء.
وزعم بعض الفرس أن الضحّاك «3» هو النّمرود وافريدون «4» هو إبراهيم عليه السلام، بلغتهم.
ويقال إن المهرجان هو اليوم الذي عقد فيه التاج على رأس اردشير بن بابك «5» ، أوّل ملوك الفرس الساسانيّة، وكان مذهب الفرس في المهرجان أن يدّهن(2/449)
ملكهم بدهن البان تبرّكا، وكذلك العوام، وأن يلبس القصب والوشي، ويتوّج بتاج عليه صورة الشمس وحجلتها الدائرة عليها، ويكون أوّل من يدخل إليه الموبذان بطبق فيه أترجّة، وقطعة سكّر، ونبق، وسفرجل وعنّاب، وتفّاح، وعنقود عنب أبيض، وسبع طاقات آس، قد زمزم «1» عليها؛ ثم تدخل الناس على طبقاتهم بمثل ذلك، وربما كانوا يذهبون الى تفضيله على النّيروز؛ وفيه يقول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أخا الفرس إن الفرس تعلم إنّه ... لأطيب من نيروزها مهرجانها
لإدبار أيّام يغمّ هواؤها ... وإقبال أيّام يسرّ زمانها
قال المسعودي: وأهل المروءات بالعراق وغيرها من مدن العجم يجعلون هذا اليوم أوّل يوم من الشتاء فيغيّرون فيه الفرش والآلات، وكثيرا من الملابس.
العيد الثالث السّدق
- ويسمّى أبان روز «2» ، ويعمل في ليلة الحادي عشر من شهر بهمن ماه «3» من شهور الفرس، وسنّتهم فيه إيقاد النّيران بسائر الأدهان والولوع بها حتى إنهم يلقون فيها سائر الحبوب «4» ؛ ويقال إن سبب اتخاذهم لهذا العيد أن الأب الأوّل، وهو عندهم كيومرت لما كمل له من ولده مائة ولد زوّج الذكور بالإناث، وصنع لهم عرسا أكثر فيه وقود النيران، ووافق ذلك الليلة المذكورة فاستسنّت «5» ذلك الفرس بعده. وقد ولعت الشعراء بوصف هذه الليلة(2/450)
فقال ابو القاسم المطرّز «1» يصف سدقا عمله السلطان ملكشاه بدجلة، أشعل فيه النّيران والشموع في السّماريّات «2» من أبيات:
وكلّ نار على العشّاق مضرمة ... من نار قلبي أو من ليلة السّدق
نار تجلّت بها الظّلماء واشتبهت ... بسدفة الليل فيها غرّة الفلق
وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق
مدّت على الأرض بسطا من جواهرها ... ما بين مجتمع وار ومفترق
مثل المصابيح إلّا أنّها نزلت ... من السّماء بلا رجم ولا حرق
أعجب بنار ورضوان يسعّرها ... ومالك قائم منها على فرق
في مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلا ثغره عن واضح يقق
وقال ابن حجاج من أبيات، يمدح بها عضد الدولة:
ليلتنا حسنها عجيب ... بالقصف والتّيه قد تحقّق
لنارها في السّما لسان ... عن نور ضوء الصّباح ينطق
والجوّ منها قد صار جمرا ... والنجم منها قد كاد يحرق
ودجلة أضرمت حريقا ... بألف نار وألف زورق
فماؤها كلّه حميم ... قد فار مما غلى وبقبق
وقال عبد العزيز بن نباتة من أبيات يمدح بها عضد الدولة أيضا:
لعمري لقد أذكى الهمام بأرضه ... مشهّرة ينتابها الفخر صاليا
تغيب النّجوم الزّهر عند طلوعها ... وتحسد أيّام الشّهور اللّياليا
قلادة مجد أغفل الدّهر نظمها ... عليه «3» وقد السّنين الخواليا(2/451)
هي اللّيلة الغرّاء في كلّ شتوة ... تغادر جيد الدّهر أبلج حاليا
العيد الرابع الشركان
«1» - وهو في الثالث عشر من تيرماه من شهور الفرس، زعموا أن أرس «2» رمى سهمه لما وقعت المصالحة بين منوجهر وقراسياب التركي من المملكة على رمية سهم، فامتدّ السهم من جبال طبرستان إلى أعالي طخارستان.
العيد الخامس أيام الفرودجان
«3» - وهي خمسة أيام؛ أوّلها السادس والعشرون من أبان ماه من شهور الفرس، ومعناه تربية الرّوح، لأنهم كانوا يعملون فيها أطعمة وأشربة لأرواح موتاهم، ويزعمون أنها تغتذي بها.
العيد السادس ركوب الكوسج
- ويعمل في أوّل يوم من أدرماه من شهور الفرس، وسنّتهم فيه أن يركب في كل بلد من بلادهم رجل كوسج «4» قد أعدّ لما يصنع به بأكل الأطعمة الحارّة كالجوز، والثّوم، واللّحم السمين ونحوها، وبشرب الشراب الصرّف أيّاما قبل حلول الشهر، فإذا حلّ الشهر لبس غلالة سابويّة «5» ، وركب بقرة وأخذ على يده غرابا، ويتبعه الناس يصبّون عليه الماء، ويضربونه بالثّلج، ويروّحون عليه بالمراوح، وهو يصيح بالفارسية: كرم كرم أي الحرّ الحرّ، يفعل ذلك سبعة أيام، ومعه أوباش الناس ينهبون ما يجدون من الأمتعة في الحوانيت، وللسلطان عليهم مال، فإذا وجدوا بعد عصر اليوم السابع ضربوا وحبسوا.
قال المسعودي: ولا يعرف ذلك إلا بالعراق، وأرض العجم؛ وأهل الشام(2/452)
والجزيرة ومصر واليمن لا يعرفون ذلك. ويقال إن هذا الفعل كان يتداوله أهل كل بيت منهم كوسج، وحكى الزمخشري في كتابه «ربيع الأبرار» أن سبب ذلك أن كوسجا كان يشرب في هذه الأيام الدّواء ويطلي بدنه فيها فغلب عليها، وفي ذلك يقول الشاعر:
قد ركب الكوسج ياصاح ... فانزل على الزّهرة والرّاح «1»
وانعم بآدرماه عيشا وخذ ... من لذّة العيش بأفياح «2»
والسّنة عندهم منقسمة على أقسام، في أوّل كل قسم منها خمسة أيام تسمّى الكنبهارات، زعم زرادشت أن في كل يوم خلق الله تعالى نوعا من الخليقة فهم يتخذونها أعيادا لذلك.
العيد السابع عيد بهمنجة
- ويتخذونه في يوم بهمن من شهر بهمن ماه، وسنّتهم فيه أنهم يأكلون فيه البهمن الأبيض باللّبن الحامض على أنه ينفع الحفظ، ورؤساء خراسان يعملون فيه الدّعوات على طعام يطبخون فيه كلّ حبّ مأكول ولحم حيوان يؤكل، ويحضر ما يوجد في ذلك الوقت من بقل أو نبات.
فهذه أعياد الفرس المشهورة الدائرة بين عامّتهم وخاصّتهم.
الجملة الثالثة في أعياد القبط
واعلم أن أعياد القبط كثيرة، وقد أتينا على ذكر تفصيلها سردا في خلال شهور القبط مع ذكر غيرها، وأوردنا كلّ عيد منها في يومه من شهور القبط، وربما ذكرنا بعضها أيضا في شهور السّريان والروم، على أن منها ما لا يتعلق بوقت مقيّد كالفصح الأكبر عندهم، فإنه متعلق بفطرهم من صومهم الأكبر، وهو غير مؤقت(2/453)
بوقت معين، بل يتغير بالتقديم والتأخير قليلا على ما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، ونحن نقتصر في هذا الفصل على المشهور من أعيادهم دون غيره، ونبين أوقاتها، ونشرح أسبابها. وهي أربعة عشر عيدا. وهي على ضربين: كبار وصغار.
الضرب الأوّل الكبار، وهي سبعة
العيد الأوّل البشارة
، ويعنون به بشارة غبريال، (وهو جبريل على زعمهم) لمريم عليها السلام بميلاد عيسى صلوات الله عليه، يعملونه في التاسع والعشرين من برمهات من شهور القبط.
الثاني الزّيتونة
، وهو عيد الشّعانين، وتفسيره بالعربيّة التّسبيح، يعملونه في سابع أحد من صومهم؛ وسنّتهم فيه أن يخرجوا بسعف النخل من الكنيسة، وهو يوم ركوب المسيح لليعفور «1» ، (وهو الحمار) في القدس ودخوله صهيون وهو راكب والناس يسبّحون بين يديه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر «2» .
الثالث الفصح
، وهو العيد الكبير عندهم، يعملونه يوم الفطر من صومهم الأكبر، يزعمون أن المسيح قام فيه بعد الصّلبوت بثلاثة أيام، وخلّص آدم من الجحيم، وأقام في الأرض أربعين يوما آخرها يوم الخميس، ثم صعد إلى السماء. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ*
«3» .
الرابع خميس الأربعين
، ويسميه الشاميّون السّلّاق «4» ، وهو الثاني(2/454)
والأربعون من الفطر، ويقولون إنّ المسيح عليه السلام تسلّق فيه من تلاميذه إلى السماء بعد القيام، ووعدهم بإرسال الفارقليط، وهو روح القدس عندهم.
الخامس عيد الخميس
، وهو عيد العنصرة يعملونه بعد خمسين يوما من القيام؛ وهو في السادس والعشرين من بشنس، ويقولون إن روح القدس حلّت في التلاميذ وتفرّقت عليهن ألسنة الناس فتكلموا بجميع الألسنة، وذهب كلّ واحد منهم إلى بلاد لسانه الذي تكلمّ به يدعوهم إلى دين المسيح.
السادس الميلاد
، وهو اليوم الذي يقولون إن المسيح ولد فيه ببيت لحم (قرية من أعمال فلسطين) ويعملونه في التاسع والعشرين من كيهك من شهور القبط، وهم يقولون إنه ولد يوم الأثنين، فيجعلون عشيّة الأحد ليلة الميلاد، فيوقدون فيها المصابيح بالكنائس ويزيّنونها «1» .
السابع الغطاس
، يعملونه في الحادي عشر من طوبه، من شهور القبط.
يقولون إن يحيى بن زكريّا عليه السلام وينعتونه بالمعمدان غسل عيسى عليه السلام ببحيرة الأردنّ، وأن عيسى لما خرج من الماء اتصل به روح القدس على هيئة حمامة، والنصارى يغمسون أولادهم فيه في الماء على أنه يقع في شدّة البرد، إلا أنّ عقبه يحمى الوقت، يقول المصريون: غطّستم صيّفتم، ونورزتم شتّيتم.
الضرب الثاني من أعياد القبط الأعياد الصّغار، وهي سبعة أيام
الأوّل الختان
، ويعملونه في سادس بؤنة من شهور القبط، ويقولون: إن المسيح ختن في هذا اليوم وهو الثامن من الميلاد.
الثاني الأربعون
، يعملونه في الثامن من شهر أمشير من شهور القبط، ويقولون: إن سمعان الكاهن دخل بعيسى عليه السلام مع أمه بعد أربعين يوما من(2/455)
ميلاده الهيكل وبارك عليه؛ تلك عقول أضلّها باريها، وإلا فأين مقام الكاهن من مقام عيسى عليه السلام، وهو روح الله وكلمته.
الثالث خميس العهد
، يعملونه قبل الفصح بثلاثة أيام، وشأنهم أن يأخذوا إناء ويملأوه ماء ويزمزموا عليه، ثم يغسل البطريرك به أرجل جميع النصارى الحاضرين، ويزعمون أنّ المسيح عليه السلام فعل هذا بتلاميذه في هذا اليوم يعلّمهم التواضع، وأخذ عليهم العهد ألّا يتفرقوا وأن يتواضع بعضهم لبعض، والعامّة من النصارى يسمّون هذا الخميس خميس العدس «1» ؛ وهم يطبخون فيه العدس على ألوان.
الرابع سبت النّور
، وهو قبل الفصح بيوم. يقولون: إن النور يظهر على مقبرة المسيح في هذا اليوم فتشتعل منه مصابيح كنيسة القمامة بالقدس. قال صاحب «مناهج الفكر» وغيره: وما ذاك إلا من تخييلاتهم النيرنجية التي يفعلها القسّيسون منهم ليستميلوا بها عقول عوامّهم الضعيفة، وذلك أنهم يعلّقون القناديل في بيت المذبح ويتحيّلون في إيصال النار اليها بأن يمدّوا على جميعها شريطا من حديد في غاية الدقة مدهونا بدهن البلسان ودهن الزنبق، فإذا صلّوا وجاء وقت الزوال فتحوا المذبح فتدخل الناس إليه، وقد اشتعلت فيه الشموع ويتوصّل بعض القوم إلى أن يعلق النار بطرف الشريط الحديد فتسري عليه فتتقد القناديل واحدا بعد واحد، إذ من طبيعة دهن البلسان علوق النار فيه بسرعة مع أدنى ملامسة، فيظنّ من حضر من ذوي العقول الناقصة أن النار نزلت من السماء فأوقدت القناديل، فالحمد لله على الإسلام.
الخامس حدّ الحدود
، وهو بعد الفصح بثمانية أيام؛ يعملونه أوّل أحد بعد الفطر، لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم؛ وفيه يجدّدون الآلات وأثاث البيوت، ومنه(2/456)
يأخذون في الاستعداد للمعاملات والأمور الدّنيويّة.
السادس التجلّي
، ويعملونه في الثالث عشر من مسرى من شهور القبط، وآخره السابع والعشرون منها. يقولون: إن المسيح عليه السلام تجلّى لتلاميذه بعد أن رفع في هذا اليوم، وتمنّوا عليه أن يحضر لهم إيليا وموسى عليهما السلام، فأحضرهما لهم بمصلّى بيت المقدس ثم صعد وصعدا.
السابع عيد الصّليب
، وهو في السابع عشر من توت من شهور القبط، والنصارى يقولون إن قسطنطين بن هيلاني انتقل عن اعتقاد اليونان إلى اعتقاد النصرانية، وبنى كنيسة قسطنطينية العظمى وسائر كنائس الشام، ويزعمون أن سبب ذلك أنه كان مجاورا للبرجان «1» فضاق بهم ذرعا من كثرة غاراتهم على بلاده فهمّ أن يصانعهم ويفرض لهم عليه إتاوة في كل عام ليكفّوا عنه، فرأى ليلة في المنام أن ملائكة نزلت من السماء، ومعها أعلام عليها صلبان فحاربت البرجان فانهزموا؛ فلما أصبح عمل أعلاما وصوّر فيها صلبانا ثم قاتل بها البرجان فهزمهم، فسأل من كان في بلده من التّجّار هل يعرفون فيما طافوه من البلاد دينا هذا زيّه؟
فقالوا له: دين النصرانيّة، وإنه في بلد القدس والخليل من أرض الشام. فأمر أهل مملكته بالرّجوع عن دينهم إليه، وأن يقصّوا شعورهم ويحلقوا لحاهم. وإنما فعل ذلك لأنهم يزعمون أنّ رسل عيسى عليه السلام كانوا قد وردوا على اليونان قبل يأمرونهم بالتعبّد بدين النصرانية فأعرضوا عنهم ومثّلوا بهم هذه المثلة نكالا لهم ففعلوا ذلك تأسّيا بهم. ولما تنصّر قسطنطين خرجت أمّه هيلاني إلى الشام فبنت به الكنائس، وسارت إلى بيت المقدس وطلبت الخشبة التي زعمت النصارى أن المسيح صلب عليها فحملت إليها فغشّتها بالذهب، واتخذت ذلك اليوم عيدا.
وسيأتي الكلام على ذلك مفصّلا في ترجمة قسطنطين في خاتمة الكتاب عند(2/457)
ذكر الملوك الذين استولوا على الديار المصرية، وفيما ذكرنا هنا مقنع والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد صار من أعيادهم المشهورة بالديار المصرية النّيروز؛ وهو أوّل يوم من سنتهم؛ وإن لفظة النيروز فارسية معرّبة، وكأن القبط والله أعلم اتخذوا ذلك على طريقة الفرس واستعاروا اسمه منهم فسمّوا اليوم الأول من سنتهم أيضا نيروزا وجعلوه عيدا.
قال في «مناهج الفكر» : وهم يظهرون فيه من الفرح والسرور، وإيقاد النيران، وصبّ الأمواه أضعاف ما يفعله الفرس؛ ويشاركهم فيه العوامّ من المسلمين.
قال المسعوديّ: وأهل الشام يعملون مثل ذلك في أوّل سنتهم أيضا، وهو أوّل يوم من ينير من شهور الروم، ويوافقه كانون الثاني، وهو الشهر الرابع من شهور السّريان؛ وذلك في السادس من طوبة من شهور القبط، ويسمّونه القلنداس، إلا أن أهل مصر يزيدون فيه التّصافع بالأنطاع، وربما حملهم ترك الاحتشام على أن يتجرّأوا على الرجل المطاع؛ ولولا أنّ ولاة الأمر يردعونهم ويمنعونهم من ذلك، لمنعوا الطريق من السالك؛ وهم مع ذلك من ظفروا به لا يتركونه إلا بما يرضيهم. والذي استقرّ عليه الحال بالديار المصرية إلى آخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة أنهم يقتصرون على رشّ الأمواه والتّصافع، وترك الاحتشام دون إيقاد النيران، إلا من يفعل ذلك من النصارى في بيته أو خاصّته.
ولهم أعياد ومواسم سوى ما تقدّم ذكرها صاحب التذكرة ونحن نذكرها على ترتيب شهور القبط، وهي:
عيد سيغورس، وعيد متّى الإنجيلي، وهما في الثاني من توت. عيد سمعان الحبيس، وهو في الرابع من توت. عيد ماما؛ وهو في الخامس من توت. عيد شعيا؛ وهو في السادس من توت. عيد ساويرس؛ وهو في السابع من توت. عيد موسى النبيّ عليه السلام؛ وهو في الثامن من توت. عيد توما التلميذ؛ وهو في(2/458)
التاسع من توت. وخروج نوح عليه السلام من السفينة، ومولد مريم عليها السلام، وهما في العاشر من توت. عيد باسيليوس، وهو في الحادي عشر من توت. عيد ميخائيل، وصوم جدليا، وهما في الثالث عشر من توت. عيد سمعان الحبيس، وعيد تادرس الشهيد؛ وهما في الرابع عشر من توت. عيد اسفانوس؛ وهو في السادس عشر من توت، وصوم كبور؛ وهو في العشرين من توت. ونياحة أبي جرج؛ وهي في الثاني والعشرين من توت. عيد أولاد الفرس؛ وهو في الثالث والعشرين من توت. عيد أليصابات، وهو في السادس والعشرين من توت. عيد اسطاتوا، وانتقال يوحنا؛ وهما في السابع والعشرين من توت. عيد اجرويفون؛ وهو في أول بابه. عيد سوسنان، وهو في الثاني من بابه. عيد يعقوب بن حلفا؛ وهو في الخامس من بابه. عيد أبو بولا؛ وهو في السابع من بابه. عيد توما؛ وهو في الثامن من بابه. عيد أبي مسرجة؛ وهو في العاشر من بابه. عيد يعقوب؛ وهو في الحادي عشر من بابه. وشهادة متّى؛ وهي في الثاني عشر من بابه. عيد الفرات، وهو في الثالث عشر من بابه. وشهادة يوحنّا؛ وهي في العشرين من بابه. وتذكار السيدة؛ وهو في الحادي والعشرين من بابه. عيد لوقا؛ وهو في الثاني والعشرين من بابه. عيد أبي جرج؛ وهو في الثالث والعشرين من بابه. ودخول السيدة الهيكل، وهو في الحادي والعشرين من بابه. عيد يعقوب ويوسف؛ وهو في السادس والعشرين من بابه. عيد أبي مقار، وهو في السابع والعشرين من بابه.
عيد مرقص؛ وهو في آخر يوم من بابه. عيد بطرس البطرك؛ وهو في أوّل يوم من هاتور. عيد زكريّا؛ وهو في الرابع من هاتور. واجتماع التلاميذ؛ وهو في السادس من هاتور. وتكريز أبي جرج؛ وهو في السابع من هاتور. وعيد الأربع حيوانات، وهو في الثامن من هاتور. وتذكار الثلاثمائة وثمانية عشر، وهو في التاسع من هاتور. ونياحة إسحاق؛ وهو في العاشر من هاتور. عيد ميكائيل؛ وهو في الثاني عشر من هاتور. وشهادة أبي مينا؛ وهو في الخامس عشر من هاتور. عيد فيلبس الرسول؛ وهو في التاسع عشر من هاتور. عيد أساسياس؛ وهو في العشرين من هاتور. عيد شمعون؛ وهو في الحادي والعشرين من هاتور. تذكار الشهداء، وهو(2/459)
في الثاني والعشرين من هاتور. عيد مركوريوس؛ وهو في الرابع والعشرين من هاتور. عيد أبي مقورة؛ وهو في الخامس والعشرين من هاتور. عيد ادفيانيوس، وهو في السادس والعشرين من هاتور. عيد يعقوب المقطّع؛ وهو في السابع والعشرين من هاتور. عيد ياهور؛ وهو في الثاني من كيهك. عيد اندراس؛ وهو في الرابع من كيهك. عيد سيورس؛ وهو في الخامس من كيهك. عيد بزبارة، وهو في السابع من كيهك. عيد أيامين؛ وهو في الثامن من كيهك. عيد ماري نقولا؛ وهو في العاشر من كيهك. عيد سمعان؛ وهو في الرابع عشر من كيهك. ونياحة يوحنا، وهي في السادس عشر من كيهك؛ وصوم الميلاد؛ وهو في الثالث والعشرين من كيهك. وقتل الأطفال؛ وهو في الثالث من طوبه. عيد يوحنّا الإنجيلي، وهو في الرابع من طوبه. وعيد توما؛ وهو في السابع من طوبه. عيد الختان؛ وهو في الثامن من طوبه. وعيد إبراهيم، وهو في التاسع من طوبه. وصوم الغطاس؛ وأوّله العاشر من طوبه. وصوم العذارى؛ وهو في الثالث عشر من طوبه. عيد ملسوس؛ وهو في الرابع عشر من طوبه. عيد غاريوس، وهو في الخامس عشر من طوبه. عيد قيلانوس؛ وهو في السادس عشر من طوبه. عيد يوحنس؛ وهو في التاسع عشر من طوبه. ونزول الإنجيل، وتذكار السيدة؛ وهما في العشرين من طوبه. وصوم نينوى، وهو في الحادي والعشرين من طوبه.
ومقتل يحيى؛ وهو في الرابع والعشرين من طوبه. عيد أبي بشارة؛ وهو في الخامس والعشرين من طوبه. عيد الشهداء؛ وهو في السادس والعشرين من طوبه. عيد طيمارس الرسول؛ وهو في السابع والعشرين من طوبه؛ وآخر نياحة نقولا؛ وهو في اليوم الآخر من طوبه. عيد العذارى، وعيد يهوذا؛ وهما في الأوّل من أمشير. عيد مقار، وهو في الثاني من أمشير. ونياحة تيادرس؛ وهو في السادس من أمشير. ونياحة برصوما، وهو في التاسع من أمشير. عيد بيطن، وشهادة يعقوب، وهما في العاشر من أمشير. عيد أبي مسرجة؛ وهو في الرابع عشر من أمشير. عيد قلانوس؛ وهو في السادس عشر من أمشير. عيد يعقوب الرسول؛ وهو في السابع عشر من أمشير. عيد بطرس الشهيد؛ وهو في التاسع عشر من أمشير.(2/460)
ونزول السيدة من الجبل؛ وهو في الحادي والعشرين من أمشير. وشهادة سدرس؛ وهو في السادس والعشرين من أمشير. ووجود رأس يوحنا؛ وهو في اليوم الآخر من أمشير. عيد الجلبانة؛ وهو في الثالث من شهر برمهات. عيد أرمانوس، وهو في السابع من برمهات. عيد المعمودة، وهو في التاسع من برمهات. وظهور الصليب؛ وهو في العاشر من برمهات. عيد أبي مينا؛ وهو في الحادي عشر من برمهات. عيد ميلاخي، وهو في الثاني عشر من برمهات. عيد إلياس الشهيد؛ وهو في السابع عشر من برمهات. ونياحة بولص؛ وهي في الثاني والعشرين من برمهات. عيد العازر؛ وهو في الثالث والعشرين من برمهات. عيد الشعانين؛ وهو في الرابع والعشرين من برمهات. عيد المرسونة، وهو في الخامس والعشرين من برمهات. وغسل الأرجل؛ وهو في الثامن والعشرين من برمهات. وجمعة الصلبوت؛ وهو في التاسع والعشرين من برمهات. عيد مرقص الإنجيلي؛ وهو في اليوم الآخر من برمهات. عيد توما البطرك؛ وهو في الثاني من برموده. عيد حزقيال النجيب؛ وهو في الخامس من برموده. عيد مرقص؛ وهو في السابع من برموده.
والأخذ بالجديد؛ وهو في الثامن من برموده. عيد يوحنا الأسقفّ؛ وهو في الحادي عشر من برموده. عيد جرجس؛ وهو في الثالث عشر من برموده. عيد أبي متّى؛ وهو في السادس عشر من برموده. عيد يعقوب، عيد سنوطه، وهما في التاسع عشر من برموده. وذكران الشهداء؛ وهو في الحادي والعشرين من برموده. عيد ساويرس؛ وهو في السادس والعشرين من برموده. عيد أبي نيطس؛ وهو في السابع والعشرين من برموده. عيد أصحاب الكهف، وهو في التاسع والعشرين من برموده. عيد مرقص الإنجيلي، وهو في اليوم الآخر من برموده. عيد تيادرس؛ وهو في الثاني من بشنس. عيد شمعون؛ وهو في الثالث من بشنس. عيد الحندس؛ وهو في الرابع من بشنس. ونياحة يعقوب، وهو في السابع من بشنس. عيد دفرى سوه؛ وهو في السادس من بشنس. عيد أساسياس؛ وهو في السابع من بشنس.
وصعود المسيح عندهم في الثامن من بشنس. عيد دير القصير؛ وهو في الحادي والعشرين من بشنس. ونزول السيد إلى مصر؛ وهو في الرابع والعشرين من(2/461)
بشنس. عيد سوس، وهو في الخامس والعشرين من بشنس. عيد توما التلميذ؛ وهو في السادس والعشرين من بشنس. عيد سمعون العجاس؛ وهو في السابع والعشرين من بشنس. عيد طيمارس؛ وهو في التاسع والعشرين من بشنس. عيد الورد بالشا؛ وهو في اليوم الآخر من بشنس. عيد أبي مقار؛ وهو في الثاني من بؤنه. ووجود عظام لوقا؛ وهو في الثالث من بؤنه. وعيد توما، وعيد مامور؛ وهما في الرابع من بؤنه. عيد يوحنا، ونزول صحف إبراهيم (عليه السلام) ؛ وهما في التاسع من بؤنه. عيد أبي مينا؛ وهو في الخامس عشر من بؤنه. عيد أبي مقار، وهو في السادس عشر من بؤنه. عيد السيدة؛ وهو في الحادي والعشرين من بؤنه.
عيد اتريب وهو في الثالث والعشرين من بؤنه. عيد أبي مينا، وهو في..... «1»
والعشرين من بؤنه. وتذكار تيادرس؛ وهو في أوّل أبيب. ونياحة بولص، وهو في الثاني من أبيب والثالث منه أيضا. وعيد المعينة، وعيد القيصرية؛ وهما في الخامس من أبيب. وعيد أبي سنوبة، وهو في السابع من أبيب. وعيد اسنباط؛ وهو في الثامن من أبيب. وشهادة هارون، وعيد سمعان، وهما في التاسع من أبيب.
وعيد تادرس نطيره؛ وهو في العاشر من أبيب. وعيد أبي هور؛ وهو في الثاني عشر من أبيب. وعيد أبي مقار؛ وهو في الرابع عشر من أبيب. وعيد اقدام السرياني، وهو في الخامس عشر من أبيب. عيد يوحنا وذكريا، وهو في السادس عشر من أبيب. وعيد يعقوب التلميذ، وهو في السابع عشر من أبيب. وعيد بولاق، وهو في التاسع من أبيب. وعيد تادرس الشهيد، وهو في العشرين من أبيب. وعيد السيدة، وعيد ميخائيل؛ وهما في الحادي والعشرين من أبيب. وعيد سمعان البطرك، وعيد شنوده؛ وهما في الثالث والعشرين من أبيب. وعيد سمنود؛ وهو في الرابع والعشرين من أبيب. وعيد مرقور يوص، وهو في الخامس والعشرين من أبيب. وعيد حزقيل النبيّ عليه السلام؛ وهو في السابع والعشرين من أبيب. ورفعة إدريس عليه السلام، وعيد مريم؛ وهما في الثامن والعشرين من أبيب. وحرم(2/462)
السيد، وهو في اليوم الآخر من أبيب. وعيد الخندق، وهو في اليوم الأوّل من مسرى. وعيد أبي مينا، وهو في اليوم الثاني من مسرى. وعيد سمعان المعموديّ؛ وهو في الثالث من مسرى. ودخول نوح السفينة؛ وهو في الثامن من مسرى.
وعيد طور سينا، وعيد السيدة، وهما في التاسع من مسرى. وعيد اللباس؛ وهو في العاشر من مسرى. وشهادة أنطونيوس، وعيد العدوية، وهو في الخامس عشر من مسرى. وعيد يعقوب الشهيد، وهو في السابع عشر من مسرى. وعيد أبي مقار؛ وهو في الثامن عشر من مسرى. وعيد اليسع؛ وهو في التاسع عشر من مسرى.
وعيد أصحاب الكهف، وهو في العشرين من مسرى. وصوم الأربعين؛ وهو في الحادي والعشرين من مسرى. وعيد الحوزة بدمشق؛ وهو في الثالث والعشرين من مسرى. وعيد صوفيل؛ وهو في السادس والعشرين من مسرى. وعيد إبراهيم وإسحاق، وهو في الثامن والعشرين من مسرى. وعيد موسى الشهيد، وشهادة يوحنا، وهو في اليوم الآخر من مسرى.
الجملة الرابعة في أعياد اليهود، وهي على ضربين
الضرب الأوّل ما نطقت به التوراة بزعمهم، وهي خمسة أعياد
العيد الأوّل- رأس السنة
، يعملونه عيد رأس سنتهم ويسمّونه عيد رأس هيشا أي عيد رأس الشهر، وهو أوّل يوم من تشرى يتنزل عندهم منزلة عيد الأضحى عندنا، ويقولون: إن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل «1» ابنه فيه وفداه بذبح عظيم.
العيد الثاني- عيد صوماريا ويسمونه الكبور
، وهو عندهم الصوم العظيم الذي يقولون إن الله تعالى فرض عليهم صومه، ومن لم يصمه قتل عندهم. ومدّة(2/463)
هذا الصوم خمس وعشرون ساعة يبدأ فيها قبل غروب الشمس في اليوم التاسع «1» من شهر تشرى، وتختم بمضيّ ساعة بعد غروبها في اليوم العاشر «2» ، وربما سمّوه العاشور. ويشترط فيه لجواز الإفطار عندهم رؤية ثلاثة كواكب عند الإفطار وهي عندهم تمام الأربعين الثلاثة التي صامها موسى عليه السلام. ولا يجوز أن يقع هذا الصوم عندهم في يوم الأحد، ولا في يوم الثلاثاء، ولا في يوم الجمعة، ويزعمون أن الله يغفر لهم فيه جميع ذنوبهم ما خلا الزنا بالمحصنة، وظلم الرجل أخاه، وجحده ربوبية الله تعالى.
العيد الثالث- عيد المظلّة
، وهو سبعة «3» أيام أوّلها الخامس عشر من تشرى وكلها أعياد عندهم، واليوم الآخر منها يسمّى عرايا أي شجر الخلاف، وهو أيضا حج لهم. يجلسون في هذه الأيام تحت ظلال من جريد النخل وأغصان الزّيتون والخلاف، وسائر الشجر الذي لا ينتشر ورقه على الأرض؛ ويزعمون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله إياهم في التيه بالغمام.
العيد الرابع- عيد الفطير ويسمّونه الفصح
«4» ، ويكون في الخامس عشر من نيسان؛ وهو سبعة أيام أيضا، يأكلون فيها الفطير، وينظّفون بيوتهم فيها من خبز الخير «5» لأن هذه الأيام عندهم هي الأيام التي خلّص الله فيها بني إسرائيل من يد فرعون وأغرقه، فخرجوا إلى التيه، فجعلوا يأكلون اللحم والخبز الفطير وهم بذلك فرحون، وفي أحد «6» هذه الأيام غرق فرعون.
العيد الخامس- عيد الأسابيع، ويسمّى عيد العنصرة وعيد الخطاب،(2/464)
ويكون بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع، واتخاذهم لهذا العيد في السادس من سيوان «1» من شهور اليهود، وهو الثالث والعشرون من بشنس من شهور القبط.
يقولون: إنه اليوم الذي خاطب الله فيه بني إسرائيل من طور سينا، وفي جملة هذا الخطاب العشر كلمات، وهي وصايا تضمنت أمرا ونهيا، وضمنت التوفيق لمن حصّلها حفظا ورعيا، وهو حج من حجوجهم؛ وحجوجهم ثلاثة: الأسابيع، والفطير، والمظلّة؛ وهم يعظمونه، ويأكلون فيه القطائف، ويتفننون في عملها، ويجعلونها بدلا عن المنّ الذي أنزل الله عليهم في هذا اليوم، ويسمّى هذا العيد أيضا عشرتا، ومعناه الاجتماع.
الضرب الثاني ما أحدثه اليهود زيادة على ما زعموا أن التوراة نطقت به، وهو عيدان
العيد الأوّل- الفوز
«2» ، وهو عندهم عيد سرور ولهو وخلاعة يهدي فيه بعضهم إلى بعض؛ وهم يقولون: إن سبب اتخاذهم له أن بختنصر لما أجلى من كان ببيت المقدس من اليهود إلى عراق العجم أسكنهم بحيّ «3» ، وهي إحدى مدينتي أصفهان ثم ذهبت أيام الكلدانيين وملكت الفرس الأولى والأخيرة، فلما ملك أردشير بن بابك وتسميه اليهود بالعبرانية أجشادوس «4» ، وكان له وزير يسمونه بلغتهم هيمون «5» ، ولليهود يومئذ حبر يسمّى بلغتهم مردوخاي، فبلغ أردشير أن له ابنة عمّ من أحسن أهل زمانها وأكملهم عقلا، فطلب تزويجها منه فأجابه لذلك، فحظيت عنده حظوة صار بها مردوخاي قريبا منه، فأراد هيمون إصغاره واحتقاره(2/465)
حسدا له، وعزم على إهلاك طائفة اليهود التي في جميع مملكة أردشير، فرتب مع نوّاب الملك في جميع الأعمال أن يقتل كلّ أحد منهم من يعلمه من اليهود، وعين له يوما وهو النصف «1» من آذار؛ وإنما خصّ هذا اليوم دون سائر الأيام لأن اليهود يزعمون أنّ موسى ولد فيه وتوفّي فيه، وأراد بذلك المبالغة في نكايتهم ليتضاعف الحزن عليهم بهلاكهم وبموت موسى، فاتضح لمردوخاي ذلك من بعض بطانة هيمون، فأرسل إلى ابنة عمه يعلمها بما عزم عليه هيمون في أمر اليهود، وسألها إعلام الملك بذلك، وحضّها على إعمال الحيلة في خلاص نفسها وخلاص قومها، فأعلمت الملك بالحال وذكرت له: إنما حمله على ذلك الحسد على قربنا منك ونصيحتنا لك، فأمر بقتل هيمون وقتل أهله، وأن يكتب لليهود بالأمان والبرّ والإحسان في ذلك اليوم، فاتخذوه عيدا؛ واليهود يصومون قبله ثلاثة أيام، وفي هذا العيد يصوّرون من الورق صورة هيمون ويملأون بطنها نخالة وملحا ويلقونها في النار حتّى تحترق، يخدعون بذلك صبيانهم.
العيد الثاني- عيد الحنكة
، وهو ثمانية أيام، يوقدون في الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا، وفي الليلة الثانية سراجين، وهكذا إلى أن يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج. وهم يذكرون أن سبب اتخاذهم لهذا العيد أن بعض الجبابرة تغلّب على بيت المقدس وفتك باليهود وافتضّ أبكارهم، فوثب عليه أوّلا كهّانهم وكانوا ثمانية فقتله أصغرهم، وطلب اليهود زيتا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلا يسيرا وزّعوه على عدد ما يوقدونه من السّرج على أبوابهم في كل ليلة إلى تمام ثمان ليال فاتخذوا هذه الأيام عيدا وسمّوه الحنكة، ومعناه التنظيف لأنهم نظّفوا فيه الهيكل من أقذار شيعة الجبار، وبعضهم يسميه الربّاني «2» .(2/466)
الجملة الخامسة في أعياد الصابئين
ومدار أعيادهم على الكواكب؛ وأعيادهم عند نزول الكواكب الخمسة المتحيّرة وهي زحل والمشتري، والمرّيخ، والزّهرة، وعطارد في بيوت شرفها، وذلك أن من البروج ما يقوم لهذه الكواكب مقام قصر العز للملك، يشتهر فيه ويعلو ويشرف؛ وفيها درجات معلومة ينسب الشرف إليها؛ ومنها ما يخمل فيه ويفسد حاله، ويكون ذلك أيضا في درجات معلومة، تقابل درجات الشرف به من البرج المقابل، ويسمّى ذلك هبوطا؛ فزحل شرفه في إحدى وعشرين درجة من الميزان، ويهبط في مثلها من الحمل، والمشتري يشرف في خمس عشرة درجة من السّرطان، ويهبط في مثلها من الجدي، والمرّيخ يشرف في ثمان عشرة درجة من الجدي، ويهبط في مثلها من السّرطان؛ والزّهرة تشرف في تسع وعشرين درجة من الحوت، وتهبط في مثلها من السّنبلة؛ وعطارد شرفه في خمس عشرة درجة من السنبلة، ويهبط في مثلها من الحوت، وكذلك الشمس تشرف في تسع عشرة درجة من الحمل، وتهبط في مثلها من الميزان؛ والقمر يشرف في ثلاث درجات من السنبلة، ويهبط في مثلها من الحوت. وهم يعظمون اليوم الذي تنزل الشمس فيه الحمل، ويلبسون فيه أفخر ثيابهم. وهو عندهم من أعظم الأعياد. وكانت ملوكهم تبني الهياكل وتجعل لها أعيادا بحسب الكواكب التي بنيت على اسمها فيه.(2/467)
الباب الثاني من المقالة الأولى فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العملية وهو الخط وتوابعه ولواحقه؛ وفيه فصلان.
الفصل الأوّل في ذكر آلات الخط، ومباديه وصوره، وأشكاله، وما ينخرط في سلك ذلك؛ وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأوّل في الدّواة وآلاتها؛ وفيه مقصدان
المقصد الأوّل في نفس الدّواة، وفيه أربع جمل
الجملة الأولى في فضلها
قد أخرج ابن أبي حاتم «1» من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله النّون وهي الدّواة» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله(2/469)
عنهما، قال: «لمّا خلق الله النّون وهي الدّواة وخلق القلم فقال اكتب فقال وما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» . وهذا الخبر والأثر دالّان على أن المراد بالنون في الآية هو الدّواة، وإن فسره بعضهم بغير ذلك، إذ الدواة هي المناسبة في الذّكر لذكر القلم وتسطير الكتابة في قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
«1» . وبالجملة فإن الدواة هي أمّ آلات الكتابة، وسمطها الجامع لها، ولا يخفى ما يجب من الاهتمام بأمرها والاحتفال بشأنها؛ فقد قال عبد الله بن المبارك «2» : من خرج من بيته بغير محبرة وأداة فقد عزم على الصّدقة» قال المدائني: يعني بالأداة مثل السّكّين والمقلمة، وأشباههما. قال محمد بن شعيب ابن سابور: مثل الكاتب بغير دواة كمثل من يسير إلى الهيجاء بغير سلاح.
الجملة الثانية في أصلها في اللغة
قال أبو القاسم بن عبد العزيز: تقول العرب: دواة ودويات في أدنى العدد، وفي الكثير دويّ ودويّ (بضم الدال وكسرها) ويقال أيضا دواء، ودواء (بضم الدال وكسرها) ودوايا مثل حوايا؛ وأدويت دواة أي اتخذت دواة؛ ورجل دوّاء (بفتح الدال وتشديد الواو) إذا كان يبيعها، كقولك عطّار وبزّاز.
الجملة الثالثة فيما ينبغي أن تتخذ منه، وما تحلّى به
أمّا ما تتخذ منه فينبغي أن تتّخذ من أجود العيدان وأرفعها ثمنا كالآبنوس، والسّاسم «3» ، والصّندل، وهذا اعتماد منه على ما كان يعتاده أهل زمانه، ويتعاناه أهل عصره.(2/470)
قلت: وقد غلب على الكتّاب في زماننا من أهل الإنشاء وكتّاب الأموال اتخاذ الدّويّ من النّحاس الأصفر، والفولاذ، وتغالوا في أثمانها وبالغوا في تحسينها. والنّحاس أكثر استعمالا، والفولاذ أقلّ لعزّته ونفاسته، واختصاصه بأعلى درجات الرياسة كالوزارة وما ضاهاها.
وأمّا دويّ الخشب فقد رفضت وتركت إلا الآبنوس والصّندل الأحمر، فإنه يتعاناه في زماننا قضاة الحكم وموقّعوهم وبعض شهود الدواوين.
وأمّا التحلية، فقال الحسن بن وهب «1» : سبيل الدّواة أن يكون عليها من الحلية أخفّ ما يكون ويمكن أن تحلّى به الدّويّ، وفي وثاقة ولطف، ليأمن من أن تنكسر أو تنقصم في مجلسه، قال: وحق الحلية أن تكون ساذجة بغير حفر ولا ثنيات فيها ليأمن من مسارعة القذى والدّنس إليها. ولا يكون عليها نقش ولا صورة. وحقّ هذه الحلية مع ما ذكره ابن وهب أن تكون من النحاس ونحوه دون الفضّة والذهب. على أن بعض الكتّاب في زماننا قد اعتاد التحلية بالفضة، ولا يخفى أنّ حكم ذلك حكم الضبة في الإناء فتحرم مع الكبر والزينة، وتكره مع الصغر والزينة والكبر والحاجة، وتباح مع الصغر والحاجة من كسر ونحوه، كما قرّره أصحابنا الشافعية رحمهم الله، نعم يحرم التكفيت بالذهب والفضة، وكذلك التمويه إذا كان يحصل منه بالعرض على النار شيء، والله أعلم.
الجملة الرابعة في قدرها وصفتها
قال الحسن بن وهب: سبيل الدواة أن تكون متوسطة في قدرها، لا بالقصيرة فتقصر أقلامها وتقبح، ولا بالكثيفة فيثقل محملها وتعجف. فلا بدّ لصاحبها أن يحملها ويضعها بين يدي ملكه أو أميره في أوقات مخصوصة، ولا يحسن أن يتولّى ذلك غيره. قال الفضل: ويكون طولها بمقدار عظم الذراع أو(2/471)
فويق ذلك قليلا لتكون مناسبة لمقدار القلم. قلت: وقد اختلفت مقاصد أهل الزمان في هيئة الدواة: من التدوير والتربيع. فأما كتّاب الإنشاء فإنهم يتخذونها مستطيلة مدوّرة الرأسين، لطيفة القدّ، طلبا للخفّة، ولأنهم إنما يتعانون في كتابتهم الدّرج، وهو غير لائق بالدواة في الجملة. على أن الصغير من الدّرج لا يأبى جعله في الدواة المدوّرة. وأما كتّاب الأموال، فانهم يتخذونها مستطيلة مربعة الزوايا، ليجعلوا في باطن غطائها ما استخفوه مما يحتاجون إليه من ورق الحساب الديوانيّ المناسب لهذه الدواة في القطع. وعلى هذا الأنموذج يتخذ قضاة الحكم وموقّعوهم دويّهم؛ إلا أنها في الغالب تكون من الخشب كما تقدّم.
واعلم أنه ينبغي للكاتب أن يجتهد في تحسين الدواة وتجويدها وصونها.
ولله المدائني حيث يقول:
جوّد دواتك واجتهد في صونها ... إن الدّويّ خزائن الآداب
وأهدى أبو الطّيّب عبد الرحمن بن أحمد بن زيد بن الفرج الكاتب إلى صديق له دواة آبنوس محلّاة وكتب معها:
لم أر سوداء قبلها ملكت ... نواظر الخلق والقلوب معا
لا الطّول أزرى بها ولا قصر ... لكن أتت للوصول مجتمعا
فوقك جنح من الظّلام بها ... وبارق بائتلاقها لمعا
خذها لدرّ بها تنظّمه ... يروق في الحسن كلّ من سمعا
أما المحبرة المفردة عن الدواة فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من رجّحها ومالوا إلى اتخاذها لخفّة حملها، وقالوا: بها يكتب القرآن والحديث والعلم.
وكرهها بعضهم واستقبحها من حيث إنها آلة النسخ الذي هو من أشد الحرف وأتعبها، وأقلها مكسبا.
ويروى أن شعبة «1» رأى في يد رجل محبرة فقال: ارم بها فإنها مشؤومة لا(2/472)
يبقى معها أهل ولا ولد، ولا أمّ ولا أب.
الطرف الثاني في الآلات التي تشتمل عليها الدواة، وهي سبع عشرة آلة، أوّل كل آلة منها ميم
الآلة الأولى- المزبر
(بكسر الميم) ، وهو القلم أخذا له من قولهم زبرت الكتاب إذا اتقنت كتابته، ومنه سميت الكتب زبرا كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
«1» وفي حديث أبي بكر أنه دعا في مرضه بدواة ومزبر أي قلم. وفيه جملتان:
الجملة الأولى في فضله
عن الوليد بن عبادة بن الصامت «2» رضي الله عنه قال: دعاني أبي حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «أوّل ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: يا ربّ وما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي «3» ، وقال: حسن غريب، وابن أبي حاتم واللفظ له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه «إن أوّل ما خلق الله القلم والحوت، فقال له اكتب، فقال: يا ربّ وما أكتب؟ قال: اكتب كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ
رواه الطبراني ووقفه ابن جرير على ابن عبّاس. وفي رواية قال ابن عباس: «أوّل ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال:
اكتب القدر، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة، ثم خلق النون(2/473)
ورفع بخار الماء، فتفتّقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النّون، فاضطرب النّون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض لأنها أثبتت عليها» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وروى محمد بن عمر المدائني بسنده إلى مجاهد «إن أوّل ما خلق الله اليراع، ثم خلق من اليراع القلم، فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن، قال: فزبر القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وأخرج بسنده إلى ابن عباس، قال: «أوّل ما خلق الله اليراع: وهو القصب المثقّب، فقال: اكتب قضائي في خلقي إلى يوم القيامة» . ويروى أنه لما خلقه الله تعالى نظر إليه فانشقّ بنصفين، ثم قال: اجر! قال: يا رب بما أجري؟ قال: بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك، وكان منه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
«1» . ويروى أنّ خلقه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
واعلم أن القلم أشرف آلات الكتابة وأعلاها رتبة، إذ هو المباشر للكتابة دون غيره، وغيره من آلات الكتابة كالأعوان، وقد قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
«2» فأقسم به، وذلك في غاية الشرف. ولله أبو الفتح البستيّ «3» حيث يقول:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتّاب عزّا ورفعة ... مدى الدّهر أن الله أقسم بالقلم
وقال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
«4» فأضاف التعليم(2/474)
بالقلم إلى نفسه. قال ابن الهيثم «1» : من جلالة القلم أن الله عز وجل لم يكتب كتابا إلا به، لذلك أقسم به. قال المدائني: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال «من قلم قلما يكتب به علما أعطاه الله شجرة في الجنة خير من الدّنيا وما فيها» . وقد قيل الأقلام مطايا الفطن، ورسل الكرم. وقال عبد الحميد: القلم شجرة ثمرها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة، وفيه ريّ العقول الكامنة. وقال جبل بن زيد: القلم لسان البصر يناجيه بما ستر عن الأسماع. وقال ابن المقفّع: القلم بريد العلم يحث على البحر «2» ، ويبحث عن خفيّ النظر. وقال أحمد بن يوسف: ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام. وقيل: القلم الطلسم الأكبر. وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بنان؛ ومن فضل بيان البنان أن ما تثبته الأقلام باق على الأبد، وما ينبسه اللسان تدرسه الأيام. ويقال: عقول الرجال تحت أسنّة أقلامها، بنوء الأقلام يصوب غيث الحكمة. وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسّما من القلم.
قال ابن المعتز: القلم مجهّز لجيوش الكلام، تخدمه الإرادة، ولا يملّ من الاستزادة، كأنه يقبّل بساط سلطان، أو يفتّح نور بستان.
ومن إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير الجزريّ، من جواب كتبه للعماد الأصفهاني: وكيف لا يكون ذلك، وقلمها هو اليراع الذي نفثت الفصاحة في روعه، وكمنت الشجاعة بين ضلوعه، فإذا قال أراك كيف تنسّق الفرائد في الأجياد.
ومن كلام أبي حفص بن برد الأندلسيّ «3» : ما أعجب شأن القلم! يشرب(2/475)
ظلمة، ويلفظ نورا؛ قد يكون قلم الكاتب، أمضى من شباة المحارب؛ القلم سهم ينفذ المقاتل، وشفرة تطيح بها المفاصل. ومن كلام العميد عمر بن عثمان الكاتب: قلم يطلق الآجال والأرزاق، وينفث السّم والدّرياق؛ قلم تدق عن الإدراك حركاته، وتحلّى بالنفائس فتكاته؛ يسرع ولا انحدار السيل إلى قراره، وانقداح الضوء من شراره، معطوفة الغايات على المبادي، مصروفة الأعجاز إلى الهوادي؛ وإذا صال أراك كيف اختلاف الرماح بين الآساد. وله خصائص أخرى يبدعها إبداعا، فإذا لم يأت بها غيره تطبّعا أتى بها هو طبعا، فطورا يرى إماما يلقي درسا، وطورا يرى ماشطة تجلو عرسا، وطورا يرى ورقاء تصدح في الأوراق، وطورا يرى جوادا مخلّقا بخلوق السّباق، وطورا أفعوانا مطرقا، والعجب أنه لا يزهو إلا عند الإطراق! ولطالما نفث سحرا، وجلب عطرا، وأدار في القرطاس خمرا؛ وتصرّف في صنوف الغناء فكان في الفتح عمر «1» ، وفي الهدي عمّارا «2» ، وفي الكيد عمرا «3» فلا تحظى به دولة إلّا فخرت على الدول، واستغنت عن الخيل والخول.
وقال الإسكندر: لولا القلم ما قامت الدنيا، ولا استقامت المملكة. وكلّ شيء تحت العقل واللسان لأنهما الحاكمان على كل شيء، والقلم يريكهما صورتين، ويوجدكهما شكلين.
وقال بعض حكماء اليونان: أمور الدنيا تحت شيئين: السيف والقلم، والسيف تحت القلم. وقال آخر: فاقت صنعة القلم عند سائر الأمم جمع الحكم في صحون الكتب. وقال العتابي: ببكاء القلم تبسم الكتب. وقال البحتري:
الأقلام مطايا الفطن. وقال أبو دلف العجليّ «4» : القلم صائغ الكلام، يفرغ ما(2/476)
يجمعه الفكر، ويصوغ ما يسبكه اللب. وقال سهل بن هارون «1» : القلم أنف الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره. وقال ثمامة «2» : ما أثّرته الأقلام لم تطمع في درسه الأيام. وقال هشام بن الحكم: أحسن الصنيع صنيع القلم والخطّ الذي هو جنى العقول. وقال علي بن منصور: بنور القلم تضيء الحكمة. وقال الجاحظ: من عرف النعمة في بيان اللسان كان بفضل النعمة في بيان القلم أعرف.
وقال غيره: بالقلم تزفّ بنات العقول إلى خدور الكتب. وقال المأمون: لله درّ القلم كيف يحوك وشي المملكة. وقال بعض الأعراب: القلم ينهض بما يظلع «3» بحمله اللّسان، ويبلغ ما لا يبلغه البيان. وقال بعضهم: القلم يجعل للكتب ألسنا ناطقة، وأعينا ملاحظة؛ وربما ضمنها من ودائع القلوب ما لا تبوح به الإخوان عند المشاهدة. وقال أوميرس الحكيم: الخط شيء أظهره العقل بواسطة سن القلم، فلما قابل النفس عشقته بالعنصر. وقال مرطس الحكيم: الخط بالقلم ينمّي الحكمة. وقال جالينوس: القلم الطلسم الأكبر. وقال بقراط: القلم على «4» إيقاع الوتر، والمهنة المنطقية مقدّمة على المهنة الطبيعية. وقال بليناس: القلم طبيب المنطق. قال أرسطاطاليس: القلم العلّة الفاعلة، والمداد العلة الهيولانيّة، والخط العلة الصّورية، والبلاغة العلّة التمامية. وقد أكثر الشعراء القول في شرف القلم وفضله.
فمن ذلك قول أبي تمّام الطائيّ:
إن يخدم القلم السّيف الذي خضعت ... له الرّقاب وذلّت خوفه الأمم(2/477)
فالموت والموت لا شيء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقوله:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلي والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة ظلّ ولكنّ وقعها ... بآثاره في الشّرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الحمس اللّطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوّضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذهن الجليّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رفدته الخنصران وسدّدت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنا وسمينا خطبه وهو ناحل
وقول أبي هلال العسكريّ:
انظر إلى قلم ينكّس رأسه ... ليضمّ بين موصّل ومفصّل
تنظر إلى مخلاب ليث ضيغم ... وغرار مسنون المضارب مفصل
يبدو لناظره بلون أصفر ... ومدامع سود وجسم منحل
فالدّرج أبيض مثل خدّ واضح ... يثنيه أسود مثل طرف أكحل
قسم العطايا والمنايا في الورى ... فإذا نظرت إليه فاحذر وأمل
طعمان شوب حلاوة بمرارة ... كالدّهر يخلط شهده بالحنظل
فإذا تصرّف في يديك عنانه ... ألحقت فيه مؤمّلا بمؤمّل
ومذلّلا بمعزّز ولربّما ... ألحقت فيه معزّزا بمذلّل
وقوله:
لك القلم الجاري ببؤس وأنعم ... فمنها بواد ترتجى وعوائد(2/478)
إذا ملأ القرطاس سود سطوره ... فتلك أسود تتّقى وأساود «1»
وتلك جنان تجتنى ثمراتها ... ويلقاك من أنفاسهنّ بوارد
وهنّ برود ما لهنّ مناسج ... وهنّ عقود ما لهن معاقد
وهنّ حياة للوليّ رضيّة ... وهنّ حتوف للعدوّ رواصد
الجملة الثانية في اشتقاقه
وقد اختلف في ذلك؛ فقيل: سمّي قلما لاستقامته كما سميت القداح أقلاما في قوله تعالى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
«2» قال بعض المفسرين تشاحّوا في كفالتها فضربوا عليها بالقداح، والقداح مما يضرب بها المثل في الاستقامة؛ وقيل: هو مأخوذ من القلّام وهو شجر رخو فلما ضارعه القلم في الضعف سمي قلما؛ وقيل: سمي قلما لقلم رأسه، فقد قيل إنه لا يسمّى قلما حتّى يبرى، أما قبل ذلك فهو قصبة. كما لا يسمّى الرمح رمحا إلا إذا كان عليه سنان وإلا فهو قناة، ومنه قلامة الظفر؛ وإلى ذلك يشير أبو الطّيّب الأزديّ بقوله:
قلم قلّم أظفار العدا ... وهو كالإصبع مقصوص الظّفر
أشبه الحيّة حتّى إنه ... كلّما عمّر في الأيدي قصر
وقيل لأعرابيّ: ما القلم؟ ففكّر ساعة وقلب يده، ثم قال: لا أدري، فقيل له: توهمه، قال: هو عود قلّم من جوانبه كتقليم الظّفر، فسمي قلما.
الجملة الثالثة في صفته
قال إبراهيم بن العباس لغلام بين يديه يعلمه الخطّ: ليكن قلمك صلبا بين(2/479)
الدّقة والغلظ، ولا تبره عند عقدة فإن فيه تعقيد الأمور، ولا تكتب بقلم ملتوي، ولا ذي شقّ غير مستوي؛ وإن أعوزك البحريّ والفارسيّ، واضطررت إلى الأقلام النبطية فاختر منها ما يميل إلى السّمرة.
وقال إبراهيم بن محمد الشيباني «1» : ينبغي للكاتب أن يتخيّر من أنابيب القصب أقلّه عقدا، وأكثفه لحما، وأصلبه قشرا، وأعدله استواء. وقال العتابي:
سألني الأصمعيّ يوما بدار الرشيد: أيّ الأنانبيب للكتابة أصلح وعليها أصبر؟
فقلت: ما نشف بالهجير ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه؛ من التّبريّة القشور، الدّرّيّة الظهور، الفضية الكسور.
وكتب عليّ بن الأزهر إلى صديق له يستدعي منه أقلاما:
أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم؛ فحلّت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصخريّة أجرى في الكواغد «2» ، وأمرّ في الجلود؛ كما أن البحريّة منها أسلس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشدّ لتصرّف الخط فيها؛ ونحن في بلد قليل القصب رديئه، وقد أحببت أن تتقدّم في اختيار أقلام صخرية، وتتنوّق «3» في اقتنائها قبلك، وتطلبها من مظانّها ومنابتها، من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم؛ وأن تتيمن «4» باختيارك منها الشديدة الصّلبة، النقيّة الجلود، القليلة الشحوم، الكثيرة اللحوم، الضيّقة الأجواف، الرزينة المحمل، فإنها أبقى على(2/480)
الكتابة، وأبعد من الخفاء، وأن تقصد بانتقائك الرقاق القضبان، المقوّمات المتون، الملس المعاقد، الصافية القشور، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، المستحكمة يبسا، وهي قائمة على أصولها لم تعجل عن إبّان ينعها، ولم تؤخّر إلى الأوقات المخوفة عليها من خصر «1» الشتاء، وعفن الأنداء «2» ، فإذا استجمعت عندك، أمرت بقطعها ذراعا [ذراعا] «3» قطعا رفيقا، ثم عبّأت منها حزما فيما يصونها من الأوعية «4» ، وتكتب معه بعدّتها وأصنافها من غير تأخير ولا توان.
وأهدى ابن الحرون إلى رجل من إخوانه الكتّاب أقلاما، وكتب إليه:
إنه لما كانت الكتابة (أبقاك الله) أعظم الأمور، وقوام الخلافة، وعمود المملكة، أتحفتك من آلتها بما يخف محمله، وتثقل قيمته، ويعظم نفعه، ويجلّ خطره؛ وهي أقلام من القصب النابت في الصخر، الذي نشف بحرّ الهجير في قشره ماؤه، وستره من تلويحه غشاؤه، وهي كاللآليء المكنونة في الصّدف، والأنوار المحجوبة في السّدف «5» ؛ تبريّة القشور، درّيّة الظهور، فضّيّة الكسور؛ قد كستها الطبيعة جوهرا كالوشي المحبّر، ورونقا كالديباج المنيّر.
ومن كتاب لأبي الخطاب الصابيء يصف فيه أقلاما أهداها في جملة أصناف:
وأضفت إليها أقلاما سليمة من المعايب، مبرّأة من المثالب؛ جمّة المحاسن؛ بعيدة عن المطاعن؛ لم يربها طول ولا قصر، ولا ينقصها ضعف خور؛ ولا يشينها لين ولا رخاوة، ولم يعبها كزازة «6» ولا قساوة؛ وهي آخذة بالفضائل من جميع(2/481)
جهاتها، مستوفية للممادح بسائر صفاتها؛ صلبة المعاجم، لدنة المقاطع؛ موفية «1» القدود والألوان، محمودة المخبر والعيان؛ وقد استوى في الملاسة خارجها وداخلها، وتناسب في السّلاسة عاليها وسافلها؛ نبتت بين الشمس والظل، واختلف عليها الحرّ والقرّ؛ فلفحها وقدان الهواجر، ولفعها سمائم شهر ناجر «2» ؛ ووقذها الشّفّان بصرده «3» ، وقذفها الغمام ببرده، وصابتها الأنواء بصيّبها، واستهلّت عليها السحائب بشآبيبها؛ فاستمرّت مرائرها على إحكام، واستحصد سجلها «4» بالإبرام؛ جاءت شتّى الشّيات، متغايرة الهيئات، متباينة المحالّ والبلدان؛ تختلف بتباعد ديارها، وتأتلف بكرم نجارها.
فمن أنانيب قنا ناسبت رماح الخط في أجناسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها؛ مضابطة الحفاء، نمرة القوى؛ لا يسيطها القطّ، ولا يشعّب بها الخط.
ومن مصريّة بيض كأنها قباطيّ «5» مصر نقاء، وغرقيء «6» البيض صفاء؛ غذاها الصعيد من ثراه بلبّه، وسقاها النيل من نميره وعذبه؛ فجاءت ملتئمة الأجزاء، سليمة من الالتواء؛ تستقيم شقوقها في أطوالها، ولا تنكّب عن يمينها ولا شمالها، مقترن بها صفراء كأنها معها عقيان قرن بلجين «7» ، أو ورق خطّ بعين؛(2/482)
تختال في صفر ملاحفها، وتميس في مذهب مطارفها، بلون غياب الشمس، وصبغ ثياب الورس «1» .
ومن منقوشة تروق العين، وتونق النفس؛ ويهدي حسنها الأريحيّة إلى القلوب، ويحلّ الطّرف لها حبوة الحليم اللبيب؛ كأنها اختلاف الزّهر اللامع، وأصناف الثمر اليانع.
ومن بحريّة موشيّة اللّيط «2» ، رائقة التخطيط؛ كأنّ داخلها قطرة دم، أو حاشية رداء معلم؛ وكأنّ خارجها أرقم، أو متن واد مفعم؛ نشرت ألوانا تزري بورد الخدود، وأبدت قامات تفضح تأوّد القدود.
ومن كلام ابن الزيات «3» : خير الأقلام ما استحكم نضجه، وخف بزره؛ قد تساعدت عليه السعود في فلك البروج حولا كاملا، تؤلفه بمختلف أركانها وطباعها، ومتباين أنوائها وأنحائها؛ حتّى إذا بلغ أشدّه واستوى، وشقّت بوازله «4» ، ورقّت شمائله، وابتسم من غشائه، وتأدّى من لحائه، وتعرّى عنه ثوب المصيف، بانقضاء الخريف، وكشف عن لون البيض المكنون، والصّدف المخزون؛ قطع ولم يعجّل عن تمام مصلحته، ولم يؤخّر إلى الأوقات المخوفة عاهاتها عليه من خصر الشتاء، وعفن الأنداء؛ فجاء مستوي الأنابيب معتدلها، مثقّف الكعوب مقوّمها.
وقد حرر الوزير أبو عليّ بن مقلة «5» رحمه الله مناط الحاجة من هذه(2/483)
الأوصاف، واقتصر على الضروريّ منها في ألفاظ قلائل فقال:
خير الأقلام ما استحكم نضجه في جرمه، ونشف ماؤه في قشره، وقطع بعد إلقاء بزره، وبعد أن اصفرّ لحاؤه ورقّ شجره، وصلب شحمه، وثقل حجمه.
الجملة الرابعة في مساحة الأقلام في طولها وغلظها
قال ابن مقلة: خير الأقلام ما كان طوله من ستة عشر إصبعا إلى اثني عشر، وامتلاؤه ما بين غلظ السّبّابة إلى الخنصر. وهذا وصف جامع لسائر أنواع الأقلام على اختلافها.
وقال في موضع آخر: أحسن قدود القلم ألّا يتجاوز به الشّبر بأكثر من جلفته؛ ويشهد له قول الشاعر:
فتى لو حوى الدنيا لأصبح عاريا ... من المال معتاضا ثيابا من الشكر
له ترجمان أخرس اللفظ صامت ... على قاب شبر بل يزيد على الشّبر
وقال الشيخ عماد الدين الشيرازي: أحمد الأقلام ما توسطت حالته في الطول والقصر، والغلظ والدقة، فإن الدقيق الضئيل تجتمع عليه الأنامل فيبقى مائلا إلى ما بين الثلث، والغليظ المفرط لا تحمله الأنامل.
وقال في الحلية: إذا كانت الصحيفة لينة ينبغي أن يكون القلم ليّن الأنبوب، وفي لحمه فضل، وفي قشره صلابة؛ وإن كانت صلبة، كان يابس الأنبوب صلبه، ناقص الشحم، لأن حاجته إلى كثرة المداد في الصحيفة الرّخوة أكثر من حاجته إليه في الصحيفة الصّلبة؛ فرطوبته ولحمه يحفظان عليه غزارة الاستمداد؛ ويكفي(2/484)
في الصحيفة الصّلبة ما وصل إليها في القلم الصّلب الخالي من المداد، والله جل ذكره أعلم.
الجملة الخامسة في بري القلم؛ وفيه خمسة أنظار
النظر الأول في اشتقاقه وأصل معناه
يقال بريت القلم أبريه بريا وبراية غير مهموز، وهو قلم مبريّ، وأنا بار للقلم بغير همز أيضا. قال الشاعر:
يا باري القوس بريا ليس يحكمه ... لا تفسد القوس أعط القوس باريها
ويقال أيضا: بروت القلم والعود بروا بالواو، والياء أفصح. ويقال لما سقط منه حالة البري براية (بضم الموحدة في أوله) على وزن نزالة وحثالة، والفعالة اسم لكل فضلة تفضل من الشيء، وتقول في الأمر: ابر قلمك.
النظر الثاني في الحث على معرفة البراية
قال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خلال، منها: جودة بري القلم، وإطالة جلفته، وتحريف قطّته «1» ، وحسن التأتي لامتطاء الأنامل، وإرسال المدة بعد إشباع الحروف، والتحرّز عند فراغها من الكشوف، وترك الشكل على الخطإ والإعجام على التصحيف.
ومن كلام المقرّ العلائي ابن فضل الله «2» ، طيب الله مهجعه: من لم يحسن(2/485)
الاستمداد، وبري القلم، والقطّ وإمساك الطّومار، وقسمة حركة اليد حال الكتابة، فليس هو من الكتابة في شيء.
ويحكى أن الضّحاك «1» كان إذا أراد أن يبري قلما توارى بحيث لا يراه أحد، ويقول: الخط كلّه القلم. وكان الأنصاريّ إذا أراد أن يبري فعل ذلك، فإذا أراد أن يقوم من الديوان قطع رؤوس الأقلام حتّى لا يراها أحد.
وقال إسحاق بن حمّاد «2» : لا حذق لغير مميز لصنوف البراية. ورأى ابراهيم بن المحبس «3» رجلا يأخذ على جارية قلم الثلث، فقال: أعلّمتها البراية؟ قال:
لا، قال: كيف تحسن أن تكتب بما لا تحسن برايته؟ تعليم البراية أكبر من تعليم الخط.
قال المقرّ العلائي ابن فضل الله: ورأيت بخط أبي عليّ بن مقلة رحمه الله:
نعم نعم ملاك الخطّ حسن البراية، ومن أحسنها سهل عليه الخط، ولا يقتصر على علم فنّ منها دون فنّ، فانه يتعين على من تعاطى هذه الصناعة أن يحفظ كل فنّ منها على مذهبه من زيادة في التحريف، ومن النقصان منه، ومن اختلاف طبقاته، ومن وعى قلبه كثرة أجناس قطّ الأقلام كان مقتدرا على الخط، ولا يتعلم ذلك إلا عاقل، والقلم للكاتب كالسيف للشّجاع.
وقال الضحّاك بن عجلان: القلم من أجناس الأقلام كاللحن من أجناس الألحان في الصناعة، والبراية الواحدة من أجناس البراية كذلك.
ومن كلام المقرّ العلائي ابن فضل الله: جودة البراية نصف الخط.(2/486)
ومنهم من ذهب إلى أن العبرة بحسن الصنعة دون بري القلم، حتى حكى الغزالي رحمه الله في نصيحة الملوك أن الصاحب بن عبّاد كان وزيرا لبعض الملوك، وكان معه ستة وزراء غيره فكانوا يحسدونه، ولم يزالوا حتّى ذكروا للملك أنه لا يحسن براية القلم، وعمدوا إلى أقلامه فكسروا رؤوسها، ثم إن الملك أمره بكتب كتاب في المجلس، فوجد أقلامه كلّها مكسرة الرؤوس فأخذ قلما منها، وكتب به إلى أن انتهى إلى آخر الكتاب بخط فائق رائق، فقال له الملك: إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن بري القلم، فقال: إن أبي علمني كاتبا ولم يعلمني نجّارا.
النظر الثالث في معرفة محلّ البراية من القلم
قال إبراهيم بن محمد الشّيبانيّ: يجب أن يكون البري من جهة نبات القصبة يعني من أعلاها إذا كانت قائمة على أصلها، فإن محل القلم من الكاتب محل الرمح من الفارس؛ وإلى هذا المعنى أشار أبو تمّام الطائيّ بقوله في أبياته المتقدمة «1» :
إذا استغزر الذهن القويّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقال أبو القاسم: إذا أخذ القلم ليبريه فلا يخلو من استقامة في البنية أو اعوجاج في الخلقة، فإن كان مستويا فالبرية من رأسه، وهو حيث استدق، وإن كان معوجّا ودعت الضرورة إليه، فالبرية من أسفله لأن أسفله أقل التواء من أعلاه.
النظر الرابع في كيفية إمساك السّكين حال البري
قال ابن البربريّ «2» : إذا بدأت بالبراية فأمسك السكين باليد اليمنى،(2/487)
والأنبوبة باليسرى، وضع إبهامك اليمنى على قفا السكين، ثم اعتمد على الأنبوبة اعتمادا رفيقا.
النظر الخامس في صنعة البراية
قال العتابيّ: سألني الأصمعيّ يوما بدار الرشيد: أيّ نوع من البري أصوب وأكتب؟ فقلت: البرية المستوية القطّة التي عن يمين سنها برية تأمن معها المجة عند المدّة والمطة، والهواء في شقها فتيق، والريح في جوفها خريق، والمداد في خرطومها رفيق.
واعلم أنه ربما حسن الخط باعتبار براية القلم، وإن لم يكن على قواعد الخط وهندسته، فقد قيل: إن الأحوال المحرّر «1» كان عجيب البراية للقلم، فكان خطه رائقا بهجا من غير إحكام ولا إتقان. قال الأنصاري المحرّر: كنت أكتب في ديوان الأحول، فقربت منه وأخذت من خطه، وسرقت من دواته قلما من أقلامه، فجاد خطّي به، فلاحت منه نظرة إلى دواتي، فرأى القلم فعرفه، فأخذه وأبعدني.
وكان إذا أراد أن يقوم من مجلسه أو ينصرف قطع رؤوس أقلامه كلّها.
واعلم أن البري يشتمل على معان:
المعنى الأول- في صفته، ومقداره في الطول، والتقعير
. قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: ويجب أن يكون في القلم الصّلب أكثر تقعيرا، وفي الرخو أقل، وفي المعتدل بينهما. وصفته أن تبتديء بنزولك بالسكين على الاستواء، ثم تميل القطع إلى ما يلي رأس القلم، ويكون طول(2/488)
الفتحة مقدار عقدة الإبهام، أو كمناقير الحمام، وإلى ذلك أشار الشيخ علاء الدين السّرّمرّيّ رحمه الله في أرجوزته بقوله:
وطولها كعقدة الإبهام لا ... أعلى ولا أدنى يكون أرذلا
قال الاستاذ أبو الحسن بن البوّاب «1» رحمه الله: كل قلم تقصر جلفته، فإن الخط يجيء به أوقص، والوقص قصر العنق، ولذلك سمي متفاعلن في عروض الكامل إذا حذفت منه التاء أوقص، وكأنه يريد بالقصر ما دون عقدة الإبهام.
وقد قال إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب: أطل خرطوم قلمك. فقيل له:
أله خرطوم؟ قال: نعم، وأنشد:
كأن أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخطّ وتعجم
وقال عبد الحميد بن يحيى «2» كاتب مروان «3» لرغبان، وكان يكتب بقلم قصير البرية: أتريد أن يجود خطّك؟ قال: نعم، قال: فأطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرّف القطة وأيمنها؛ قال رغبان: ففعلت ذلك فجاد خطّي.
وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف «4» رحمه الله: إذا طالت البرية، فإنه يجيء الخط بها أخف وأضعف وأجلى؛ وإذا قصرت جاء الخط بها أصفى وأثقل وأقوى.
المعنى الثاني- النحت.
قال الوزير أبو عليّ بن مقلة: وهو نوعان، نحت حواشيه، ونحت بطنه؛ أما نحت حواشيه، فيجب أن يكون متساويا من جهتي السن معا، ولا يحمل على(2/489)
إحدى الجهتين فيضعف سنه، بل يجب أن يكون الشق متوسطا لجلفة القلم دقّ أو غلظ. قال: ويجب أن يكون جانباه مسيّفين، والتسييف أن يكون أعلاه ذاهبا نحو رأس القلم أكثر من أسفله، فيحسن جري المداد من القلم، قال: وأما نحت بطنه فيختلف بحسب اختلاف الأقلام في صلابة الشحم ورخاوته. فأما الصّلب الشحمة فينبغي أن ينحت وجهه فقط، ثم يجعل مسطحا وعرضه كقدر عرض الخط الذي يؤثر الكاتب أن يكتبه؛ وأما الرخو الشحمة فيجب أن تستأصل شحمته حتّى تنتهي إلى الموضع الصّلب من جرم القلم، لأنك إن كتبت بشحمته، تشظّى القلم ولم يصف جريانه.
ومن كلام ابن البربري: لا تقصع البراية، ولا تخالف بين حدّي القلم، فإن ذلك حياكة، وإذا كان كذلك يكون القلم أحول.
ثم الجلفة على أنحاء، منها: أن يرهف جانبي البرية، ويسمن وسطها شيئا يسيرا، وهذا يصلح للمبسوط والمعلّق والمحقّق.
ومنها ما تستأصل شحمته كلها، وهذا يصلح للمرسل والممزوج والمفتح.
ومنها ما يرهف من جانبه الأيسر ويبقى فيه بقية في الأيمن؛ وهذا يصلح للطوامير وما شابهها.
ومنها ما يرهف من جانبي وسطه، ويكون مكان القطة منه أعرض مما تحتها، وهذا يصلح في جميع قلم الثلث وفروعه.
المعنى الثالث- الشق. وفيه مهيعان:
المهيع الأول في فائدته
قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: لو كان القلم غير مشقوق ما استمرت به الأنامل، ولا اتصل الخط للكاتب، ولكثر الاستمداد، وعدم المشق، ولمال المداد إلى أحد جنبي القلم على قدر فتل الكاتب له.(2/490)
المهيع الثاني في صفة الشق؛ وفيه مدركان
المدرك الأول في قدره في الطول
قال ابن مقلة: ويختلف ذلك بحسب اختلاف القلم في صلابته ورخاوته.
فأما المعتدل فيجب أن يكون شقّه إلى مقدار نصف الفتحة أو ثلثيها. والمعنى فيه أنه إذا زاد على ذلك انفتحت سنا القلم حال الكتابة وفسد الخط حينئذ. وإذا كان كذلك أمن من ذلك.
وأما الصّلب، فينبغي أن يكون شقه إلى آخر الفتحة؛ وربما زاد على ذلك بمقدار إفراطه في الصلابة. وقد نظم ذلك الشيخ علاء الدين السّرّمرّي رحمه الله في أرجوزته فقال:
واعلم بأن الشّقّ أيضا يختلف ... بحسب الأقلام فافهم ما أصف
فإن يكن معتدلا شقّ إلى ... مقدار ثلث الجلفة انقل واقبلا
والرّخو للنصف أو الثلثين زد ... والصّلب بالفتحة ألحق تستفد
وربما زادوا على ذاك إذا ... أفرط في الصلابة اعرف ذا وذا
المدرك الثاني في محله من الجلفة في العرض
وقد تقدّم من كلام ابن مقلة رحمه الله في المعنى الثالث أنه يجب أن يكون الشق متوسطا لجلفة القلم، وعليه جرى الاستاذ أبو الحسن بن البوّاب رحمه الله فقال: وليكن غلظ السنّين جميعا سواء. قال: ويجوز أن يكون الأيمن أغلظ من الأيسر دون العكس على كل حال؛ وهذا إنما يأتي إذا كانت الكتابة آخذة من جهة اليمين إلى جهة اليسار، أما إذا كانت آخذة من جهة اليسار إلى جهة اليمين كالقبطية فإنه يكون بالعكس من ذلك لأنه يقوي الاعتماد على اليسار دون اليمين.(2/491)
المعنى الرابع- القطّ؛ وفيه مهيعان:
المهيع الأوّل اشتقاقه ومعناه
يقال قططت القلم أقطّه قطّا فأنا قاطّ وهو مقطوط وقطيط: إذا قطعت سنّه، وأصل القطّ: القطع؛ والقطّ والقدّ متقاربان، إلا أن القط أكثر ما يستعمل فيما يقع السيف في عرضه، والقدّ ما يقع في طوله. وكان يقال: إذا علا الرجل الشيء بسيفه قدّه، وإذا عرضه قطّه، وذلك أن مخرج الطاء والدال متقاربان، فأبدل أحدهما من الآخر كما يقال مطّ حاجبيه، ومدّ حاجبيه.
المهيع الثاني في صفته
واعلم أن أجناس القطّ تختلف بحسب مقاصد الكتّاب، وهو المقصود الأعظم من البراية، وعليه مدار الكتابة. قال الضّحّاك بن عجلان: من وعى قلبه كثرة أجناس قطّ الأقلام كان مقتدرا على الخط. وقال المقرّ العلائي ابن فضل الله تغمده الله برحمته: كان بعض الكتّاب إذا أخذ الأنبوية ليبريها تفرّس فيها قبل ذلك، فإذا أراد أن يقطّ توقف ثم تحرّى فتوقف ثم يقطّ على تثبّت.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: والقط على نوعين:
النوع الأول- المحرّف
، وطريق بريه أن يحرف السكين في حال القط، وهو ضربان: قائم ومصوّب؛ أما القائم فهو ما جعل فيه ارتفاع الشحمة كارتفاع القشرة؛ وأما المصوّب، فهو ما كان القشر فيه أعلى من الشحم.
النوع الثاني- المستوي
؛ وهو ما تساوى سنّاه؛ وأجودهما المحرّف، وقد صرح بذلك الوزير أبو علي بن مقلة، فقال: وأحمدها ما كان ذا سنّ مرتفع من الجهة اليمنى ارتفاعا قليلا إذا كان القلم مصوّبا، وهذا معنى التحريف؛ وذلك إذا كانت الكتابة آخذة من جهة اليمين إلى جهة اليسار كما تقدم عند ذكر سنّي القلم،(2/492)
بخلاف ما إذا كان آخذا من جهة اليسار إلى جهة اليمين. قال الشيخ عماد الدين ابن العفيف رحمه الله: وأجودها المحرّفة المعتدلة التحريف، وأفسدها المستوية، لأن المستوي أقلّ تصرفا من المحرّف. قال: وقد كان بعض من لا يعتدّ به يقط القلم على ضدّ ما يعتمده الأستاذون، فيصير الشحم من القلم هو المشرف على ظاهره، فكان خطه لا يجيء إلا رديئا، وإذا كانت القطّة على الضدّ من ذلك كان الكاتب متصرّفا في الخط، متمكنا من القرطاس. قال الوزير ابن مقلة: وأضجع السكين قليلا إذا عزمت على القطّ ولا تنصبها نصبا، يريد بذلك أن تكون القطة أقرب إلى التحريف، وأن تكون مصوّبة.
قال الشيخ شمس الدين بن أبي رقيبة: سألت الشيخ عماد الدين بن العفيف رحمه الله عن الكتابة بالأقلام، والتحريف والتدوير، فقال: الرقاع والتوقيع أميل إلى التدوير بين بين، قطّة مربّعة، والنسخ والمحقّق والمشعر أميل إلى التحريف، والمحقق أكثر تحريفا منهما. وقد فسر ابن الوحيد «1» قول ابن البوّاب: لكن جملة ما أقول بأنه ما بين تحريف إلى تدوير، أن المعنى أن لكل قلم قطّ صفة، فقطّة الريحاني أشدّها تحريفا، ثم يقلّ التحريف في كل نوع من أنواع قط الأقلام حتى تكون الرقاع أقلها تحريفا.
النظر السادس في معرفة صفات القلم فيما يتعلق بالبراية، وما لكل من سنّي القلم من الحروف
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: من لم يدر وجه القلم، وصدره، وعرضه، فليس من الكتابة في شيء. وقد فسر ذلك الوزير أبو علي بن مقلة فقال:
اعلم أن للقلم وجها وصدرا وعرضا؛ فأما وجهه فحيث تضع السكين وأنت تريد قطّه، وهو ما يلي لحمة القلم؛ وأما صدره فهو ما يلي قشرته؛ وأما عرضه فهو نزولك فيه على تحريفه. قال: وحرف القلم هو السن العليا وهي اليمنى.(2/493)
الجملة السادسة في مساحة رأس القلم ومقدارها من حيث موضع القطة وتفرّعها عن قلم الطومار
، ونسبتها من مساحته على اختلاف مقاديرها في الدقة والغلظ والتوسّط، وما ينبغي أن يكون في دواة الكاتب من الأقلام:
أما مساحة رأس القلم، فاعلم أن رؤوس الأقلام تختلف باختلاف الأقلام التي جرى الاصطلاح عليها بين الكتّاب، وأعظمها وأجلّها وأكثرها مساحة في العرض هو قلم الطّومار، وهو قلم كانت الخلفاء تعلّم به في المكاتبات وغيرها.
وصفته أن يؤخذ من لب الجريد الأخضر، ويؤخذ منه من أعلى الفتحة ما يسع رؤوس الأنامل ليتمكن الكاتب من إمساكه، فإنه إذا كان على غير هذه الصورة، ثقل على الأنامل ولا تحتمله؛ ويتخذ أيضا من القصب الفارسيّ؛ ولا بدّ من ثلاثة شقوق لتسهل الكتابة به ويجري المداد فيه. ولهم قلم دونه ويسمى مختصر الطومار، وبه يكتب النواب والوزراء ومن ضاهاهم الاعتماد على المراسيم ونحوها، وقدّروا مساحة عرضه من حيث البراية بأربع وعشرين شعرة من شعر البرذون معترضات، وهو أصل لما دونه من الأقلام، فقلم الثلثين من هذه النسبة مقدّر بست عشرة شعرة، وقلم النصف مقدّر باثنتي عشرة شعرة، وقلم الثلث مقدّر بثمان شعرات، ومختصر الطومار ما بين الكامل منه والثلثين. وكل من هذه الأقلام فيه ثقيل وهو ما كان إلى الشّبع أميل، وخفيف، وهو ما كان إلى الدقة أقرب. إذا تقرّر ذلك فطول الألف في كل قلم معتبر بأن تضرب نسبة عرضه في مثله ويجعل طولها نظير ذلك، ففي قلم الطومار يضرب مقدار عرضه وهو أربع وعشرون شعرة في مثلها خمسمائة وستّا وسبعين شعرة وهو طولها؛ وفي قلم الثلث تضرب نسبة عرضه من الطّومار وهو ثمان شعرات في مثلها بأربع وستين، فيكون طولها أربعا وستين شعرة وكذلك الجميع فاعلمه.
وأما عدد أقلام الدواة فقد قال الوزير أبو عليّ بن مقلة: ينبغي أن تكون(2/494)
أقلامه على عدد ما يؤثره من الخطوط، وكأنه يريد أن يكون في دواته قلم مبريّ للقلم الذي هو بصدد أن يحتاج إلى كتابته ليجده مهيّأ، فلا يتأخر لأجل برايته.
الآلة الثانية- المقلمة
: وهي المكان الذي يوضع فيه الأقلام، سواء كان من نفس الدواة أو أجنبيّا عنها، وقد لا تعدّ من الآلات لكونها من جملة أجزاء الدواة غالبا.
الآلة الثالثة- المدية، والنظر فيها من وجهين:
الوجه الأول في معناها واشتقاقها
قال الجاحظ: تقال بضم الميم وفتحها وكسرها وتجمع على مدى: وهي السكين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسّكّين أشقّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى» قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية.
ثم الأصل في السكين التذكير، قال أبو ذؤيب «1» :
يرى ناصحا «2» لي ما بدا فإذا خلا ... فذلك سكّين على الحلق حاذق
قال الكسائي: ومن أنّث أراد المدية وأنشد:(2/495)
فعيّث «1» في السّنام غداة قرّ ... بسكّين موثّقة النّصاب
ويقال سكّينة بالهاء، وهو قليل. وفي حديث المبعث «أنه لما شقّ الملك بطنه صلى الله عليه وسلّم قال: ائتني بالسّكّينة» وتجمع على سكاكين، سميت مدية أخذا من مدى الأجل وهو آخره، لأنها تأتي بالأجل في القتل على آخره، وسميت سكّينا لأنها تسكّن حركة الحيوان بالموت. ونصاب السكين أصلها، ونصاب كل شيء أصله قال الشاعر:
وإنّ نصابي إن سألت وأسرتي ... من الناس حيّ يقتنون المزنّما «2»
أي وإن أصلي. ويقال أنصبت السكين إذا جعلت لها نصابا، كما يقال أقبضتها إذا جعلت لها مقبضا، وأقربتها إذا جعلت لها قرابا، وأغلفتها إذا جعلت لها غلافا، والحديدة الذاهبة في النصاب سيلان. ويقال أحددت «3» السكين فأنا أحدّه إحدادا، وحدّ السكين نفسه صار حادّا، وأحدّ فهو محدّ، وسكين حادّ، فإذا أمرت من أحدّه قلت: أحدده، ومن حدّه قلت: حدّه.
الوجه الثاني في صفتها
قال بعض الكتّاب: هي مسنّ الأقلام، تستحدّ بها إذا كلّت وتطلق بها إذا وقفت وتلمّها إذا تشعّثت، فتجب المبالغة في سقيها وإحدادها ليتمكن من البري، فيصفو جوهر القلم، ولا تتشظّى قطّته، وينبغي ألّا يستعملها في غير البراية لئلا تكلّ وتفسد. قال الصّولي: وأحدد سكينك ولا تستعملها لغير ذلك. قال الوزير أبو(2/496)
علي بن مقلة رحمه الله: واستحدّ السكين حدّا، ولتكن ماضية جدّا، فإنها إذا كانت كالّة جاء الخط رديئا مضطربا. وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف: فساد البراية من بلادة السكين. قال محمد بن عمر المدائني: ينبغي أن تكون لطيفة القدّ، معتدلة الحدّ؛ فقد كره المبالغة في سقيها، لتمكن الباري من بريها. ولا عيب في حملها في ألكمّ والخفّ، فقد روى المدائني عن الأعمش عن إبراهيم أنه قال:
اتخاذ الرجل السكين في خفّه من المروءة. قالوا: وأحسنها ما عرض صدره، وأرهف حدّه، ولم يفضل عن القبضة نصابه، واستوى من غير اعوجاج. قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: ورأيت والدي وجماعة من الكتّاب يستحسنون العقابيّة وهي التي صدرها أعرض من أسفلها. ووصف بعضهم سكّينا؛ فقال:
وسكّين عتيقة الحديد، وثيقة الشّعيرة محكمة النّصاب، جامعة الأسباب، أحدّ من البين، وأحسن من اجتماع محبّين وأمضى من الحسام، في بري الأقلام. ولله القائل في وصفها:
أنا إن شئت عدّة لعدوّ ... حين يخشى على النّفوس الحمام
أنا في السّلم خادم لدواة ... وبحدّي تقوّم الأقلام
الآلة الرابعة- المقطّ
(بكسر الميم) كما ضبطه الجوهريّ في الصّحاح إلا أنه قال فيه: مقطّة بالتأنيث.
قال الصّولي: ينبغي أن يكون المقطّ صلبا فتمضي القطّة مستوية لا مشظيّة.
قال الوزير أبو علي بن مقلة رحمه الله: إذا قطعت فلا تقطّ إلا على مقطّ أملس صلب غير مثلّم ولا خشن لئلا يتشظّى القلم؛ وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف: ويتعيّن أن يكون من عود صلب كالآبنوس والعاج، ويكون مسطّح الوجه الذي يقطّ عليه، ولا يكون مستديرا لأنه إذا كان مستديرا تشظّى القلم، وربما تهللت القطّة فتأتي الإدارات والتشعيرات غير جيّدة. قلت: وينبغي ألّا يكون مع ذلك مانعا كالحديد والنّحاس ونحوه فإن ذلك يفسد السكين، ولا تجيء القطّة صالحة.(2/497)
الآلة الخامسة- المحبرة
، وهي المقصود من الدواة، وتشتمل على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل- الجونة
، وهي الظّرف الذي فيه اللّيقة والحبر.
قال بعض فضلاء الكتّاب: وينبغي أن تكون شكلا مدوّر الرأس يجتمع على زاويتين قائمتين، يوقذهما خط، ولا يكون مربعا على حال لأنه إذا كان مربعا يتكاثف المداد في زواياه فيفسد المداد، فإذا كان مستديرا كان أبقى للمداد، وأسعد في الاستمداد.
الصنف الثاني- الليقة
، وتسميها العرب الكرسف تسمية لها باسم القطن الذي تتخذ منه في بعض الأحوال كما سيأتي والنظر فيها من وجهين:
الوجه الأوّل في اشتقاقها
يقال ألقت الدواة ولقتها، أخذا من قولهم: فلان لا تليق كفّه درهما أي لا تحبسه ولا تمسكه وأنشد الكسائيّ:
كفّاك كفّ ما تليق درهما ... جودا وكفّ تعط بالسيف الدّما
يصفه بالجود، أي كفّاك ما تمسك درهما، ويقال: ما لاقت المرأة عند زوجها أي ما علقت. قال المبرد: دخل الأصمعيّ على الرشيد بعد غيبة غابها، فقال له: كيف حالك يا أصمعيّ؟ فقال: ما ألاقتني نحوك أرض يا أمير المؤمنين، فأمسك الرشيد عنه، فلما تفرّق أهل المجلس قال له: ما معنى ألاقتني؟ قال: ما حبستني، فقال: لا تكلّمني في مجلس العامّة بما لا أعلم. قال الجاحظ: ولا تستحق اسم اللّيقة حتّى تلاق في الدواة بالنّقس وهو المداد.
الوجه الثاني فيما تتّخذ منه وتتعاهد به
قال بعض الكتّاب: تكون من الحرير والصّوف والقطن، ويقال فيه(2/498)
الكرسف، والبرس، والطّوط، والعطب، والأولى أن تكون من الحرير الخشن: لأن انتفاشها في المحبرة وعدم تلبّدها أعون على الكتابة. قال بعض الكتّاب: ويتعين على الكاتب أن يتفقد اللّيقة ويطيّبها بأجود ما يكون، فإنها تروح على طول الزّمن، ولله القائل:
متظرّف شهدت عليه دواته ... أن الفتى لا كان غير ظريف
إن التفقّد للدّواة فضيلة ... موصوفة للكاتب الموصوف
وكان بعض الكتّاب يطيّب دواته بأطيب ما عنده من طيب نفسه، فسئل عن ذلك فقال: لأني أكتب به اسم الله تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلّم واسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وربما سبق القلم بغير إرادتنا فنلحسه بألسنتنا ونمحوه بأكمامنا.
قال الشيخ علاء الدين السّرّمرّيّ: ويتعين على الكاتب تجديد اللّيقة في كل شهر، وأنه حين فراغه من الكتابة يطبّق المحبرة لأجل ما يقع فيها من التراب ونحوه، فيفسد الخط. ونظم ذلك في أرجوزته فقال:
وجدّد اللّيقة كلّ شهر ... فشيخنا كان بهذا يغري
لأجل ما يقع فيها من قذى ... فينتشي من ذاك في الخطّ أذى
وينبغي له مع ذلك أن يصونها عن الأشياء القذرة كالبصاق ونحوه، فقد حكى محمد بن عمر المدائني أن بعض العلماء رأى صبيّا يبصق في دواته فزجره وقال لمعلّمه: امنع الصّبيان عن مثل هذا، فإنما يكتبون به كلام الله. قال محمد بن عمر المدائني: كأنه تحرّج أن يكتب القرآن بمداد غير نظيف. قال المدائني: وكان بلغني عن ابن عباس أنه أجاز أن يبصق الرجل في دواته، فسألت احمد بن عمرو البزاز «1» عن ذلك فأنكره، وقال: هذا حديث كذب، وضعه عاصم بن سليمان الكوذن، وكان كذّابا ذكرته لأبي داود الطيالسي «2» فقال: هو كذّاب يجب أن تعرفوا(2/499)
كذبه، صفوا له مسألة حتّى يحدّثكم بحديث، فقال: فجئت أنا وعمر بن موسى الحارثيّ في جماعة، فقال له عمر: ما تقول في الرجل يبزق في الدواة ويستمدّ منها؟
وكان قد ذهب بصره، فقال: حدّثنا عبد الله بن نافع عن ابن عمر أنه كان يبزق في الدواة ويستمدّ منها، ثم قال: وحدّثنا هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس مثل ذلك، قال: فهمز بعض أصحابنا وقال: كان ابن عباس لا يبصر، قال:
ففهم، فقال: نعم، كان ابن عباس لا يرى بذلك بأسا.
الصنف الثالث- المداد والحبر وما ضاها هما والنظر فيه من أربعة أوجه
: الوجه الأوّل في تسميتهما واشتقاقهما
أما المداد فسمّي بذلك لأنه يمدّ القلم أي يعينه وكل شيء مددت به شيئا فهو مداد، قال الأخطل:
رأت «1» بارقات بالأكفّ كأنّها ... مصابيح سرج أوقدت بمداد
سمى الزيت مدادا لأن السّراج يمدّ به، فكل شيء أمددت به الليقة مما يكتب به فهو مداد، وقال ابن قتيبة في قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي
«2» : هو من المداد لا من الإمداد. ويقال: أمدّ القلم في الخير مثل وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ
«3» ومدّه في الشر، مثل وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا
«4» . ويقال فيه أيضا نقس ونقس، بكسر النون وفتحها مع إسكان القاف ومع السين المهملة فيهما، والكسر أفصح، ويجمع على أنقاس.
وأما الحبر، فأصله اللون، يقال فلان ناصع الحبر يراد به اللون الخالص(2/500)
الصافي من كل شيء، قال ابن أحمر «1» يذكر امرأة:
تتيه بفاحم جعد ... وأبيض ناصع الحبر
يريد سواد شعرها، وبياض لونها؛ وفي الخبر «يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره» بكسر الحاء المهملة والسين فيهما. قال ابن الأعرابي: حبره:
حسنه، وسبره هيئته، وقال المبرد: قال التوزيّ: سألت الفرّاء عن المداد لم سمّي حبرا، فقال: يقال للمعلّم حبر وحبر يعني بفتح الحاء وكسرها، فأرادوا مداد حبر أي مداد عالم، فحذفوا مداد وجعلوا مكانه حبرا. قال: فذكرت ذلك للأصمعيّ فقال: ليس هذا بشيء إنما هو لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر إذا كثرت صفرتها حتّى صارت تضرب إلى السواد، والحبر: الأثر يبقى في الجلد، وأنشد:
لقد أشمتت بي آل فيد وغادرت ... بجلدي حبرا بنت مصّان باديا
أراد بالحبر الأثر، يعني أثر الكتابة في القرطاس، قال المبرد: وأنا أحسب أنه سمّي بذلك لأن الكتاب يحبّر به أي يحسّن، أخذا من قولهم: حبّرت الشيء تحبيرا إذا حسّنته.
الوجه الثاني في شرف المداد والحبر، واختيار السواد لذلك
في الخبر «يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة فيوضع أحدهما في كفّة الميزان والآخر في الكفّة الأخرى فلا يرجح أحدهما على الآخر» قال بعض الحكماء: صورة المداد في الأبصار سوداء، وفي البصائر بيضاء. وقد قيل:
كواكب الحكم في ظلم المداد. ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثر المداد، وهو يستره منه، فقال له: يا هذا، إن المداد من المروءة. وأنشد أبو زيد:(2/501)
إذا ما المسك طيّب ريح قوم ... كفتني ذاك رائحة المداد
وما شيء بأحسن من ثياب ... على حافاتها حمم السّواد
وقال بعض الأدباء: عطّروا دفاتر الآداب بسواد الحبر. وكان في حجر إبراهيم بن العباس قرطاس يمشق فيه كلاما فأسقط فمسحه بكمه، فقيل له: لو مسحته بغيره؟ فقال: المال فرع والقلم أصل، والأصل أحق بالصون من الفرع.
وأنشد في ذلك:
إنّما الزّعفران عطر العذارى ... ومداد الدّويّ عطر الرّجال
وأنشد غيره:
من كان يعجبه أن مسّ عارضه ... مسك يطيّب منه الريح والنّسما
فإن مسكي مداد فوق أنملتي ... إذا الأصابع يوما مسّت القلما
على أن بعضهم قد أنكر ذلك، وقال: المداد في ثوب الكاتب سخافة، ودناءة منه وقلة نظافة، قال أبو العالية: تعلمت القرآن والكتابة، وما شعر بي أهلي، وما رؤي في ثوبي مداد قط. وأنشدوا:
دخيل في الكتابة يدّعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
يشبّه ثوبه للمحو فيه ... إذا أبصرته ثوب الحداد
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو لطّخت وجهك بالمداد
وقال فارس بن حاتم: ببريق الحبر تهتدي العقول لخبايا الحكم، لأنه أبقى على الدهر، وأنمى للذّكر وأزيد للأجر.
واعلم أن المداد ركن من أركان الكتابة، وعليه مدار الربع منها وأنشدوا في ذلك:
ربع الكتابة في سواد مدادها ... والرّبع حسن صناعة الكتّاب
والرّبع من قلم تسوّي بريه ... وعلى الكواغد رابع الأسباب
قال بعض العلماء رحمهم الله: وإنما اختير فيه السواد دون غيره لمضادّته(2/502)
لون الصحيفة. قال: وليس شيء من الألوان يضادّ صاحبه كمضادة السواد للبياض قال الشاعر:
فالوجه مثل الصبح مبيضّ ... والفرع مثل الليل مسودّ
ضدّان لما استجمعا حسنا ... والضّدّ يظهر حسنه الضّدّ
ويقال في المداد: أسود قاتم، وهو أوّل درجة السواد، وحالك وحانك، وحلكوك، وحلبوب، وداج، ودجوجيّ، وديجور، وأدهم، ومدهامّ.
قال المدائني: حدّثني بذلك محمد بن نصر عن أحمد بن الضحاك عن أبي عبيدة.
كتب جعفر بن حدار بن محمد إلى دعلج بن محمد يستهديه مدادا:
يا أخي للوداد لا للمداد ... وصديقي من بين هذا العباد
والذي فيه ألف مجد طريف ... قد أمدّت بألف مجد تلاد
أنا أشكو إليك حال دواتي ... أصبحت تقتضي قميص حداد
ولله منصور بن إسماعيل حيث يقول:
وسوداء مقلتها مثلها ... وأجفانها من لجين صقيل
إذا أذرفت عبرة خلتها ... كغالية فوق خدّ أسيل
الوجه الثالث في صنعتهما، وفيه نظران:
النظر الأوّل- في مادّتهما.
واعلم أن الموادّ لذلك منها ما يستعمل بأصله ولا يحتاج فيه إلى كبير علاج وتدبير كالعفص، والزاج، والصمغ، وما أشبهها، ومنها ما يحتاج إلى علاج وتدبير، وهو الدّخان. قال أبو القاسم خلوف بن شعبة الكاتب: ويتوخّى في الدخان أن يكون من شيء له دهنية، ولا يكون من دخن شيء يابس في الأصل لأن دخان كل شيء مثله وراجع إليه.(2/503)
قال أحمد بن يوسف الكاتب: كان يأتينا رجل في أيام خمارويه «1» بمداد لم أر أنعم منه، ولا أشدّ سوادا منه، فسألته من أي شيء استخرجته؟ فكتم ذلك عني، ثم تلطفت به بعد ذلك، فقال لي: من دهن بزر الفجل والكتّان، أضع دهن ذلك في مسارج وأوقدها ثم أجعل عليها طاسا حتّى إذا نفد الدهن، رفعت الطاس، وجمعت ما فيها بماء الآس والصمغ العربيّ. وإنما جمعه بماء الآس ليكون سواده مائلا إلى الخضرة والصمغ يجمعه ويمنعه من التطاير.
قال صاحب الحلية: وإن شئت أخذت من دخان مقالي الحمّص وشبهه، وتلقي عليه ماء، وتأخذ ما يعلو فوقه وتجمعه بماء الآس والعسل والكافور والصمغ العربي والملح، وتمدّه وتقطعه شوابير، والدخان الأوّل أجود والله أعلم.
النظر الثاني- في صنعتهما؛ وفيه مسلكان:
المسلك الأوّل في صنعة المداد، وبه كانت كتابة الأوّلين من أهل الصنعة وغيرهم
قال الوزير أبو عليّ بن مقلة رحمه الله: وأجود المداد ما اتّخذ من سخام النّفط، وذلك أن يؤخذ منه ثلاثة أرطال، فيجاد نخله وتصفيته، ثم يلقى في طنجير «2» ، ويصبّ عليه من الماء ثلاثة أمثاله، ومن العسل رطل واحد، ومن الملح خمسة عشر درهما، ومن الصّمغ المسحوق خمسة عشر درهما، ومن العفص عشرة دراهم، ولا يزال يساط على نار لينة حتّى يثخن جرمه ويصير في هيئة الطين، ثم يترك في إناء ويرفع إلى وقت الحاجة. وما ذكره فيه إشارة إلى أنه لا ينحصر في(2/504)
سخام النّفط، بل يكون من دخان غيره أيضا كما تقدّم. نعم ذكر صاحب الحلية أنه يحتاج مع ذلك الى الكافور لتطيب رائحته، والصّبر «1» ليمنع من وقوع الذباب عليه، وقيل: إن الكافور يقوم مقام الملح في غير الطيب.
المسلك الثاني في صنعة الحبر، وهو صنفان
الصنف الأوّل- ما يناسب الكاغد
أي الورق: وهو حبر الدّخان، ونحن نذكر منه صفات ان شاء الله تعالى.
«صفة» يؤخذ من العفص «2» الشامي قدر رطل يدقّ جريشا وينقع في ستة أرطال ماء مع قليل من الآس (وهو المرسين) أسبوعا، ثم يغلى على النار حتّى يصبر على النصف أو الثلثين، ثم يصفّى من مئزر ويترك ثلاثة أيام، ثم يصفّى ثانيا، ثم يضاف لكل رطل من هذا الماء أوقية من الصّمغ العربيّ، ومن الزاج القبرسيّ كذلك، ثم يضاف إليه من الدخان المتقدّم ذكره ما يكفيه من الحلاكة، ولا بدله مع ذلك من الصّبر والعسل ليمتنع بالصّبر وقوع الذباب فيه، ويحفظ بالعسل على طول الزمن، ويجعل من الدخان لكل رطل من الحبر......... «3» بعد أن تسحق الدخان بكلوة كفك بالسكر النبات والزعفران الشعر والزّنجار الى أن تجيد سحقه، ولا تصحنه في صلاية «4» ولا هاون يفسد عليك.
الصنف الثاني- ما يناسب الرّقّ
، ويسمّى الحبر الرأس، ولا دخان فيه، ولذلك يجيء بصّاصا «5» برّاقا وبه إضرار للبصر في النظر إليه من جهة بريقه،(2/505)
ويفسد الكاغد على طول؛ ونحن نذكر منه:
«صفة حبر» وهي: يؤخذ من العفص الشامي رطل واحد فيجرش ويلقى عليه من الماء العذب ثلاثة أرطال، ويجعل في طنجير، ويوضع على النار ويوقد تحته بنار ليّنة حتى ينضج وعلامة نضجه أن تكتب به فتكون الكتابة حمراء بصّاصة، ثم يلقى عليه من الصّمغ العربيّ ثلاث أواق ومن الزاج أوقيّة ثم يصفّى ويودع في إناء جديد، ويستعمل عند الحاجة.
«صفة حبر سفريّ» يعمل على البارد من غير نار، ويؤخذ العفص فيجرش جرشا جيدا ويسحق لكل أوقيّة عفص درهم واحد من الزاج، ودرهم من الصمغ العربيّ، ويلقى عليه ويرفع إلى وقت الحاجة، فإذا احتاج إليه صبّ عليه من الماء قدر الكفاية واستعمله.
الوجه الرابع في ليق الافتتاحات
وهي ما يكتب به فواتح الكلام: من الأبواب، والفصول والابتداءات ونحوها، ولا مدخل لشيء من ذلك في فنّي الإنشاء والدّيونة، إلا الذهب فإنه يكتب به في الطّغراوات «1» في كتب القانات «2» ، وفي الأسماء الجليلة منها، كما سيأتي في موضعه من المكاتبات من فنّ الإنشاء إن شاء الله تعالى، وباقي ذلك إنما يحتاج إليه كتّاب النّسخ، إلا أنّه لا بأس بالعلم به فإنه كمال الكاتب.
ونحن نذكر منه ما الغالب استعماله وهو أصناف:(2/506)
الصنف الأوّل- الذهب
، وطريق الكتابة به أن يحلّ ورق الذهب؛ وصفة حله أن يؤخذ ورق الذهب الذي يستعمل في الطّلاء ونحوه، فيجعل مع شراب الليمون الصافي النّقيّ، ويقتل «1» فيه في إناء صينيّ أو نحوه حتّى يضمحلّ جرمه فيه، ثم يصب عليه الماء الصافي النقيّ ويغسل من جوانب الإناء حتّى يمتزج الماء والشراب، ويترك ساعة حتى يرسب الذهب، ثم يصفى الماء عنه ويؤخذ ما رسب في الإناء، فيجعل في مفتلة زجاج ضيقة الأسفل، ويجعل معه قليل من اللّيقة، والنزر اليسير من الزعفران بحيث لا يخرجه عن لون الذهب، وقليل من ماء الصمغ المحلول، ويكتب به. فإذا جفّ صقل بمصقلة من جزع حتّى يأخذ حدّه، ثم يزمّك «2» بالحبر من جوانب الحرف.
الصنف الثاني- اللّازورد
، وأنواعه كثيرة، وأجودها المعدنيّ، وباقي ذلك مصنوع لا يناسب الكتابة، وإنما يستعمل في الدّهانات ونحوها، وطريق الكتابة به أن يذاب بالماء، ويلقى عليه قليل من ماء الصمغ العربيّ، ويجعل في دواة كدواة الذهب المتقدّم ذكرها، وكلما رسب حرّك بالقلم، ولا يكثر به الصمغ كي لا يسودّ ويفسد.
الصنف الثالث- الزّنجفر
«3» ، وأجوده المغربيّ، وطريق الكتابة به أن يسحق بالماء حتّى ينعم؛ وإن سحق بماء الرّمان الحامض فهو أحسن، ثم يضاف عليه ماء الصمغ، ثم يلاق بليقة كما يلاق الحبر، ويجعل في دواة ويكتب به.
الصنف الرابع- المغرة
«4» العراقية، وهي مما يكتب به نفائس الكتب، وربما كتب بها عن الملوك في بعض الأحيان. وطريقه في الكتابة كما في(2/507)
الزّنجفر، والله أعلم.
الآلة السادسة- الملواق
(بكسر الميم) وهو ما تلاق به الدواة أي تحرّك به الليقة. قال بعض الكتّاب: وأحسن ما يكون من الآبنوس لئلا يغيره لون المداد.
قال: ويكون مستديرا مخروطا، عريض الرأس ثخينه.
الآلة السابعة- المرملة
، واسمها القديم المتربة، جعلا لها آلة للتراب، إذ كان هو الذي يترب به الكتب.
وتشتمل على شيئين:
الأوّل- الظرف الذي يجعل فيه الرمل
، وهو المسمّى بذلك. ويكون من جنس الدّواة إن كانت الدواة نحاسا، أو من النحاس ونحوه إن كانت خشبا على حسب ما يختاره ربّ الدواة. ومحلّها من الدواة ما يلي الكاتب مما بين المحبرة وباطن الدواة مما يقابل المنشاة الآتي ذكرها، ويكون في فمها شبّاك يمنع من وصول الرمل الخشن إلى باطنها. وربما اتّخذت مرملة أخرى أكبر من ذلك تكون في باطن الدواة لاحتمال أن تضيق تلك عن الكفاية لصغرها. وأرباب الرياسة من الوزراء والأمراء ونحوهم يتخذون مرملة كبيرة تقارب حبة الرّانج «1» ، لها عنق في أعلاها، وتكون في الغالب من جنس الدواة من نحاس ونحوه؛ وربما اتّخذت من خشب لقضاة الحكم ونحوهم.
ومما ألغز فيها القاضي شهاب الدين ابن بنت الأعز:
ظريفة الشّكل والتّمثال قد صنعت ... تحكي العروس ولكن ليس تغتلم
كأنّها من ذوي الألباب خاشعة ... تبكي الدّماء على ما سطّر القلم
وتسمّى المتربة أيضا، وفي ذلك يقول الوجيه المناوي «2» :(2/508)
يا مادحا أمرا ولم يأته ... ولم ينل منه ولا جرّبه
لا تغبط الكاتب في حاله ... فإنه المسكين ذو المتربه
الثاني- الرمل
، وقد اختار الكتّاب لذلك الرمل الأحمر دون غيره، لأنه يكسو الخط الأسود من البهجة ما لا يكسوه غيره من أصناف الرمل؛ وخيره ما كان دقيقا.
وهو على أنواع:
النوع الأوّل- ما يؤتى به من الجبل الأحمر
الملاصق للجبل المقطّم من الجهة الشرقية، وهو أكثر الأنواع وأعمّها وجودا بالديار المصرية.
النوع الثاني- يؤتى به من الواحات
، وهو رمل متحجر شديد الحمرة، يتّخذ منه الكتّاب حجارة لطافا تحتّ بالسكين ونحوها على الكتابة، وأكثر ما يستعملها كتّاب الصعيد والفيّوم وما والاهما.
النوع الثالث- يؤتى به من جزيرة ببحر القلزم من نواحي الطّور
، وهو رمل دقيق أصفر اللون، قريب من الزعفران، وله بهجة على الخط إلا أنه عزيز الوجود.
النوع الرابع- رمل بين الحمرة والصّفرة
، به شذور بصّاصة يخالها الناظر شذور الذهب، وهو عزيز الوجود جدّا، وبه يرمّل الملوك ومن شابههم.
الآلة الثامنة- المنشاة
، وتشتمل على شيئين أيضا:
الأوّل- الظرف
، وحاله كحال المرملة في الهيئة والمحلّ من الدواة من جهة الغطاء إلا أنه لا شبّاك في فمه ليتوصّل إلى اللصاق، وربما اتخذ بعض ظرفاء الكتّاب منشاة أخرى غير التي في صدر الدواة من رصاص على هيئة حقّ لطيف، ويجعلها في باطن الدواة كالمرملة المتوسطة، فإن اللصاق قد يتغيّر بمكثه في النّحاس، بخلاف الرّصاص.
الثاني- اللّصاق
، وهو على نوعين: أحدهما النّشا المتخذ من البرّ، وطريقه أن يطبخ على النار كما يطبخ للقماش، إلا أنه يكون أشدّ منه، ثم يجعل في(2/509)
المنشاة، وهو الذي يستعمله كتّاب الإنشاء ولا يعوّلون على غيره لسرعة اللصاق به، وموافقة لونه للورق في نصاعة البياض، والثاني المتخذ من الكثيراء «1» ، وهو أن تبّلّ الكثيراء بالماء حتّى تصير في قوام اللّصاق، ثم تجعل في المنشاة، وكثيرا ما يستعمله كتّاب الدّيونة، وهو سريع التغير إلى الخضرة ولا يسرع اللصاق به.
وينبغي أن يستعمل في اللّصاق في الجملة الماورد والكافور لتطيب رائحته.
الآلة التاسعة- المنفذ
، وهي آلة تشبه المخرز، تتخذ لخرم الورق، وينبغي أن يكون محل الحاجة منها متساويا في الدّقّة والغلظ، أعلاه وأسفله سواء، لئلا تختلف أثقاب الورق في الضيق والسّعة، خلا أن يكون ذبابه دقيقا ليكون أسرع وأبلغ في المقصود، وحكمه في النّصاب في الطول والغلظ حكم المدية، وقد سبق. وأكثر من يحتاج إلى هذه الآلة من الكتّاب كتّاب الدواوين، وربما احتاج إليها كاتب الإنشاء في بعض أحواله.
الآلة العاشرة- الملزمة
، قال الجوهريّ: الملزم بالكسر خشبتان تشدّ أوساطهما بحديدة تكون مع الصّياقلة والأبّارين، ولم يزد على ذلك. وهي آلة تتخذ من النّحاس ونحوه، ذات دفّتين يلتقيان على رأس الدّرج حال الكتابة ليمنع الدرج من الرجوع على الكاتب، ويحبس بمحبس على الدّفّتين.
الآلة الحادية عشرة- المفرشة
، وهي آلة تتخذ من خرق كتّان: بطانة وظهارة أو من صوف ونحوه، تفرش تحت الأقلام وما في معناها مما يكون في بطن الدواة.
الآلة الثانية عشرة- الممسحة
، وتسمّى الدفتر أيضا، وهي آلة تتّخذ من خرق متراكبة ذات وجهين ملوّنين من صوف أو حرير أو غير ذلك من نفيس القماش، يمسح القلم بباطنها عند الفراغ من الكتابة لئلا يجف عليه الحبر فيفسد؛ والغالب في هذه الآلة أن تكون مدوّرة مخرومة من وسطها، وربما كانت(2/510)
مستطيلة، ويكون مقدراها على قدر سعة الدواة. وفيها يقول القاضي «1» رحمه الله:
ممسحة نهارها ... يجنّ ليل الظّلم
كأنها مذ خلقت ... منديل كمّ القلم
وقال نور الدين الدين عليّ بن سعيد المغربيّ فيها:
وممسحة لاحت كأفق تبدّدت ... به قطع الظّلماء والصّبح طالع
ولمّا أطال الليل فيها وروده ... حكته ومدّت للصّباح المطالع
وقال المولى ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر:
وممسحة تناهى الحسن فيها ... فأضحت في الملاحة لا تبارى
ولا نكر على القلم الموافي ... إذا في وصلها خلع العذارا
الآلة الثالثة عشرة- المسقاة
، وهي آلة لطيفة تتخذ لصب الماء في المحبرة وتسمّى الماورديّة أيضا: لأن الغالب أن يجعل في المحبرة عوض الماء ماورد لتطيب رائحتها، وأيضا فإن المياه المستخرجة كماء الورد والخلاف والرّيحان ونحو ذلك لا تحلّ الحبر ولا تفسده بخلاف الماء. وتكون هذه الآلة في الغالب من الحلزون الذي يخرج من البحر الملح، وربما كانت من نحاس ونحوه، والمعنى فيها ألّا تخرج المحبرة من مكانها، ولا يصب من إناء واسع الفم كالكوز ونحوه، فربما زاد الصب على قدر الحاجة.
الآلة الرابعة عشرة- المسطرة
، وهي آلة من خشب مستقيمة الجنبين يسطر عليها ما يحتاج إلى تسطيره من الكتابة ومتعلّقاتها؛ وأكثر من يحتاج إليها المذهّب.
الآلة الخامسة عشرة- المصقلة
، وهي التي يصقل بها الذهب بعد(2/511)
الكتابة، وهي من آلات الدواة لا محالة.
الآلة السادسة عشرة- المهرق
(بضم الميم وفتح الراء) وهو القرطاس الذي يكتب فيه، ويجمع على مهارق. قلت: وعدّ صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاريّ «1» منها المداد، وهو ظاهر، والمخيط، وفي عدّه بعد.
الالة السابعة عشرة- المسنّ
، هو آلة تتخذ لإحداد السكين؛ وهو نوعان:
أكهب «2» اللون، ويسمّى الروميّ، وأخضر؛ وهو على نوعين: حجازيّ وقوصيّ؛ والروميّ أجودها، والحجازيّ أجوده الأخضر.
الطرف الثالث- فيما يكتب فيه
، وهو أحد أركان الكتابة الأربعة كما سبقت الإشارة إليه في بعض الأبيات المتقدمة؛ وفيه ثلاث جمل:
الجملة الأولى فيما نطق به القرآن الكريم من ذلك
وقد نطق القرآن بثلاثة أجناس من ذلك:
الأوّل- اللوح
. قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ
«3» قرأ العامّة بفتح اللام على أن المراد اللوح واحد الألواح؛ سمي بذلك لأن المعاني تلوح بالكتابة فيه؛ ثم اختلفوا، فقرأ نافع برفع محفوظ على أنه نعت للقرآن بتقدير بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح، وصفه بالحفظ لحفظه عن التغيير والتبديل والتحريف. قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
«4» ، وقرأ الباقون بالجرّ على نعت اللوح. قال أبو عبيد: وهو الوجه، لأن الآثار الواردة في(2/512)
اللوح المحفوظ تصدق ذلك، وهو أمّ القرآن، منه نسخ القرآن الكريم والكتب المنزّلة، ومنه تنسخ الملائكة أعمال الخلق. قال ابن عباس: وهو لوح من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدّرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وأصله في حجر ملك. وقال أنس: اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل عليه السلام، وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.
قال ابن عباس: وفي صدر اللوح مكتوب: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله وصدّق بوعده واتّبع رسله أدخله الجنة» . وسمي محفوظا لأن الله تعالى حفظه عن الشياطين، وقيل: حفظه بما ضمنه.
وقيل: اللوح صدر المؤمن.
وقرأ يحيى بن يعمر في لوح بضم اللام، وهو الهواء، يقال لما بين السماء والأرض اللّوح، والمعنى أنه شيء يلوح للملائكة فيقرأونه، وهو ذو نور وعلوّ وشرف، وقد ورد في القرآن بلفظ الجمع، قال تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ
«1» يريد ألواح التوراة. قال الكلبيّ: كانت من زبرجدة خضراء. وقال سعيد بن جبير: من ياقوتة. وقال مجاهد: من زمرّد أخضر. وقال أبو العالية والربيع بن أنس: من برد. وقال الحسن: خشب، وقد روى أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الألواح الّتي أنزلت على موسى من سدر الجنّة، وكان طول كلّ لوح منها اثني عشر ذراعا» . وقال وهب بن منبه: من صخرة صمّاء ألانها الله له فقطعها بيده، ثم قطعها بأصابعه.
واختلف في عددها، فقيل: سبعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وقيل: لوحان، رواه أبو صالح عن ابن عباس أيضا، وجمعت على عادة العرب في(2/513)
إيقاع الجمع على التثنية كما في قوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ
«1» يريد داود وسليمان عليهما السلام واختاره الفراء. وقيل: عشرة، قاله ابن منبه. وقيل:
تسعة، قاله مقاتل. وقال أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير.
الثاني- الرق
(بفتح الراء) قال تعالى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
«2» قال المبرد: هو ما يرقّق من الجلود ليكتب فيه. قال المعافي بن أبي السيار: ومن ثمّ استبعد حمله على اللوح المحفوظ، والمنشور المبسوط؛ واختلف في الكتاب المسطور فيه، فقيل «3» : اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن، وقيل: ما كتبه الله تعالى لموسى وهو يسمع صرير الأقلام.
الثالث- القرطاس
والصحيفة، وهما بمعنى واحد وهو الكاغد.
أما القرطاس، فقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
«4» قال ابن أبي السيار:
القرطاس كاغد يتّخذ من برديّ مصر، وكلّ كاغد قرطاس، قال: والجمهور على كسرها، وضمها أبو زيد وعكرمة وطلحة ويحيى بن يعمر، والذي حكاه الجوهريّ عن أبي زيد يخالف ذلك، فإنه قال فيه: قرطس (بفتح القاف من غير ألف بعد الراء) والمراد بالكتاب في الآية الكريمة المكتوب لا نفس الصحيفة؛ قاله المعافي.
وأما الصحيفة، فإنها لم ترد إلا بلفظ الجمع. قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى
«5» وقال جل وعز: إِنَّ هذا لَفِي(2/514)
الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى
«1» وتجمع أيضا على صحائف، وسمي المصحف مصحفا لجمعه الصحف. قال الجوهري: وسمي التصحيف تصحيفا للخطإ في الصحيفة.
الجملة الثانية فيما كانت الأمم السالفة تكتب فيه في الزمن القديم
وقد كانت الأمم في ذلك متفاوتة، فكان أهل الصّين يكتبون في ورق يصنعونه من الحشيش والكلإ، وعنهم أخذ الناس صنعة الورق؛ وأهل الهند يكتبون في خرق الحرير الأبيض، والفرس يكتبون في الجلود المدبوغة من جلود الجواميس والبقر والغنم والوحوش؛ وكذلك كانوا يكتبون في اللّخاف (بالخاء المعجمة) : وهي حجارة بيض رقاق، وفي النّحاس والحديد ونحوهما، وفي عسب النخل (بالسين المهملة) وهي الجريد الذي لا خوص عليه، واحدها عسيب، وفي عظم أكتاف الإبل والغنم. وعلى هذا الأسلوب كانت العرب لقربهم منهم.
واستمرّ ذلك إلى أن بعث النبيّ صلى الله عليه وسلّم ونزل القرآن والعرب على ذلك، فكانوا يكتبون القرآن حين ينزل ويقرأه عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم في اللّخاف والعسب؛ فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال عند جمعه القرآن: «فجعلت أتتبّع القرآن من العسب واللّخاف» . وفي حديث الزهريّ: «قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم والقرآن في العسب» وربما كتب النبي صلى الله عليه وسلّم بعض مكاتباته في الأدم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأجمع رأي الصحابة رضي الله عنهم على كتابة القرآن في الرّق لطول بقائه، أو لأنه الموجود عندهم حينئذ. وبقي الناس على ذلك إلى أن ولي الرشيد الخلافة وقد كثر الورق وفشا عمله بين الناس أمر ألّا يكتب الناس إلا في الكاغد، لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة فتقبل التزوير، بخلاف الورق فإنه متى(2/515)
محي منه فسد، وإن كشط ظهر كشطه. وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار، وتعاطاها من قرب وبعد، واستمرّ الناس على ذلك إلى الآن.
الجملة الثالثة في بيان أسماء الورق الواردة في اللغة، ومعرفة أجناسه
الورق (بفتح الراء) اسم جنس يقع على القليل والكثير، واحده ورقة، وجمعه أوراق، وجمع الورقة ورقات، وبه سمي الرجل الذي يكتب ورّاقا. وقد نطق القرآن الكريم بتسميته قرطاسا وصحيفة كما مر بيانه. ويسمى أيضا الكاغد (بغين ودال مهملة) ويقال للصحيفة أيضا طرس، ويجمع على طروس، ومهرق (بضم الميم وإسكان الهاء وفتح الراء المهملة بعدها قاف) ، ويجمع على مهارق، وهو فارسي معرّب، قاله الجوهريّ. وأحسن الورق ما كان ناصع البياض غرفا صقيلا، متناسب الأطراف، صبورا على مرور الزمان. وأعلى أجناس الورق فيما رأيناه البغداديّ وهو ورق ثخين مع ليونة ورقّة حاشية وتناسب أجزاء، وقطعه وافر جدّا، ولا يكتب فيه في الغالب إلا المصاحف الشريفة، وربما استعمله كتّاب الإنشاء في مكاتبات القانات ونحوها كما سيأتي بيانه في المكاتبات السلطانية. ودونه في الرتبة الشاميّ؛ وهو على نوعين: نوع يعرف بالحمويّ، وهو دون القطع البغداديّ، ودونه «1» في القدر وهو المعروف بالشاميّ، وقطعه دون القطع الحمويّ، ودونهما في الرتبة الورق المصريّ؛ وهو أيضا على قطعين:
القطع المنصوريّ، وقطع العادة، والمنصوريّ أكبر قطعا، وقلّما يصقل وجهاه جميعا. أما العادة فإن فيه ما يصقل وجهاه ويسمّى في عرف الورّاقين: المصلوح.
وغيره عندهم على رتبتين: عال ووسط. وفيه صنف يعرف بالفوّيّ صغير القطع، خشن غليظ خفيف الغرف، لا ينتفع به في الكتابة، يتّخذ للحلوى والعطر ونحو ذلك. وإنما نبهت على ذلك وإن كان واضحا لأمرين: أحدهما، ألّا نخلي كتابنا(2/516)
من بيان الورق الذي هو أحد أركان الكتابة، الثاني، أنه قد ينتقل الكتاب إلى إقليم لا يعرف فيه تفاصيل أمر الورق المصري كما لا يعرف المصريّون ورق غير مصر معرفتهم بورق مصر، فيقع الاطلاع على ذلك لمن أراده. ودون ذلك ورق أهل الغرب والفرنجة فهو رديء جدّا، سريع البلى، قليل المكث؛ ولذلك يكتبون المصاحف غالبا في الرّقّ على العادة الأولى طلبا لطول البقاء.
وسيأتي الكلام على مقادير قطع الورق عند أهل التوقيع وأهل الدّيونة عند ذكر ورق كل فنّ، وما يناسبه من القطع إن شاء الله تعالى.
تمّ الجزء الثاني، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث؛ وأوّله (الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الأولى، في الكلام على نفس الخط)(2/517)
مراجع حواشي الجزء الثاني من صبح الأعشى
1- الإبانة عن سرقات المتنبي تأليف محمد بن أحمد العميدي تحقيق إبراهيم الدسوقي البساطي- دار المعارف، مصر 1961 2- الأعلام (قاموس تراجم) تأليف خير الدين الزركلي دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الخامسة 1980 3- الإيضاح في علوم البلاغة تأليف الخطيب القزويني- دار الكتب العملية- بيروت- 1985 4- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب تأليف محمود شكري الآلوسي تحقيق محمد بهجت الأثري- دار الكتب العملية- بيروت- الطبعة الثانية 5- تاريخ الأدب العربي تأليف كارل بروكلمان تعريب عبد الحليم النجار- دار المعارف- مصر- الطبعة الرابعة.
6- تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل تأليف أحمد السعيد السليمان- دار المعارف- مصر.
7- التعريفات تأليف علي بن محمد الجرجاني- دار الكتب العلمية- بيروت- 1983 8- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى تأليف محمد قنديل البقلي- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1983 9- تهذيب الأسماء واللغات تأليف محيي الدين النووي- إدارة الطباعة المنيرية ودار الكتب العلمية.
10- جمهرة الأمثال تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش- المؤسسة العربية الحديثة- الطبعة الأولى 1964 11- جمهرة خطب العرب تأليف أحمد زكي صفوت- المكتبة العلمية- بيروت 12- جمهرة رسائل العرب تأليف أحمد زكي صفوت- المكتبة العلمية- بيروت 13- حياة الحيوان الكبرى تأليف كمال الدين الدميري- المكتبة الإسلامية.(2/519)
14- الخطط التوفيقية لمصر القاهرة تأليف علي باشا مبارك- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1980 15- الخطط المقريزية تأليف أحمد بن علي المقريزي- دار صادر- بيروت 16- دائرة المعارف الإسلامية تأليف مجموعة من المستشرقين- منشورات دار الشعب- مصر 17- ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم تأليف أبي الحسن الدارقطني تحقيق بوران الضناوي وكمال الحوت- مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت 1985 18- الروض المعطار في خبر الأقطار تأليف محمد بن عبد المنعم الحميري تحقيق إحسان عباس- مكتبة لبنان- الطبعة الثانية 1984 19- سر الفصاحة تأليف ابن سنان الخفاجي الحلبي- دار الكتب العلمية- بيروت 1982 20- الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء تأليف ابن قتيبة الدينوري تحقيق مفيد قميحة- دار الكتب العلمية- بيروت 1981 21- صبح الأعشى في صناعة الإنشا تأليف القلقشندي- الطبعة الأميرية- مصر.
22- الصبح المنبي عن حيثية المتنبي تأليف يوسف البديعي تحقيق مصطفى السقا- محمد شتا- عبدو زيادة عبدو- دار المعارف- مصر. 1963
23- كتاب الصناعتين تأليف أبي هلال العسكري تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم- مطبعة عيسى بابي الحلبي 24- طبقات الشافعية تأليف أبي بكر هداية الله الحسيني تحقيق عادل نويهض- دار الآفاق الجديدة- بيروت 25- الفهرست تأليف ابن النديم دار المعرفة- بيروت 26- فوات الوفيات تأليف محمد شاكر الكتبي تحقيق إحسان عباس دار صادر- بيروت 27- القاموس المحيط تأليف الفيروزابادي- المؤسسة العربية للطباعة والنشر- بيروت 28- القلقشندي وكتابه صبح الأعشى تأليف مجموعة من البحاثين- الهيئة المصرية العامة للكتاب 1973 29- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تأليف حاجي خليفة- دار الفكر- 1982- ذيل كشف الظنون تأليف إسماعيل باشا البغدادي- دار الفكر- 1982- هدية العارفين تأليف إسماعيل باشا البغدادي- دار الفكر- 1982(2/520)
30- الكليات تأليف أبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني- إعداد عدنان درويش ومحمد المصري- وزارة الثقافة- دمشق 1982 31- لسان العرب تأليف ابن منظور- دار صادر- بيروت 32- المستقصى في أمثال العرب تأليف الزمخشري- دار الكتب العلمية- الطبعة الثانية 1977 33- معجم الألفاظ والأعلام القرآنية تأليف محمد إسماعيل إبراهيم- دار الفكر العربي 34- معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي- دار الكتاب العربي- بيروت 35- معجم الشعراء تأليف محمد بن عمران المرزباني.
تصحيح وتعليق. د. ف. كرنكو- دار الكتب العلمية- بيروت 1982 36- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة تأليف عمر رضا كحالة- مؤسسة الرسالة 1985 37- معجم مقاييس اللغة تأليف أحمد بن فارس تحقيق عبد السلام هارون- دار الفكر للطباعة والنشر 38- المعجم الوسيط تأليف لجنة المعجم الوسيط- مجمع اللغة العربية- مصر- الطبعة الثانية 39- مقدمة ابن خلدون تأليف عبد الرحمن بن خلدون- دار الكتاب اللبناني 1979 40- الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد شفيق غربال- دار الشعب ومؤسسة فرنكلين 1965 41- النظم الإسلامية تأليف صبحي الصالح- دار العلم للملايين- بيروت 1968 42- الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي تأليف محمد حمدي المناوي- دار المعارف- مصر.
43- ولاة مصر تأليف محمد بن يوسف الكندي.
تحقيق حسين نصار- دار صادر- بيروت(2/521)
فهرس موضوعات الجزء الثاني من صبح الأعشى
الموضوع الصفحة النوع الثامن عشر- المعرفة بالأحكام السلطانية 3 الطرف الثاني- في معرفة ما يحتاج الكاتب إلى وصفه، ويشتمل على أنواع 6 النوع الأول- مما يحتاج إلى وصفه النوع الإنساني، وهو على ضربين 6 الضرب الأول- أوصافه الجسمية، وهي على ثلاثة أقسام 6 القسم الأول- ما يشترك فيه الرجال والنساء، وهي عدة أمور 6 القسم الثاني- ما يختص به الرجال 11 القسم الثالث- ما يختص به النساء 11 الضرب الثاني- الصفات الخارجية عن الجسد، وهي على ثلاثة أقسام 13 القسم الأول- ما يشترك فيه الرجال والنساء 13 القسم الثاني- ما يختص به الرجال دون النساء 13 القسم الثالث- ما يختص به النساء 14 النوع الثاني- مما يحتاج إلى وصفه من دواب الركوب، وهي أربعة أصناف 16 الصنف الأول- الخيل 16 الصنف الثاني- البغال 34 الصنف الثالث- الإبل 35 الصنف الرابع- الحمير 38 النوع الثالث- مما يحتاج إلى وصفه من جليل الوحش، وهو أصناف 38 الصنف الأول- جليل الوحش 38(2/523)
الموضوع الصفحة الصنف الثاني- معلّمات الصيد 42 الصنف الثالث- ما يعتنى بصيده من الوحش، والمشهور منه عشرون ضربا 47 النوع الرابع- فيما يحتاج إلى وصفه من الطيور 57 الصنف الأول- الجوارح وهي على ثلاثة أقسام 57 القسم الأول- العقاب 58 القسم الثاني- البزاة 61 القسم الثالث- الصقور 64 الصنف الثاني- الطير الجليل، وهو على ضربين 69 الضرب الأول- طيور الشتاء 69 الضرب الثاني- طيور الصيف 74 الصنف الثالث- ما عدا الطير الجليل مما يصاد بالجوارح وغيرها، وهو على ضربين 76 الضرب الأول- ما يحلّ أكله 76 الضرب الثاني- ما يحرم أكله 86 الصنف الرابع- الحمام 96 الأمر الأول- ذكر ألوانها 98 الأمر الثاني- في عدد ريش الجناحين والذنب المعتدّ به وأسمائها 99 الأمر الثالث- الفرق بين الذكر والأنثى 101 الأمر الرابع- في بيان صفة الطائر الفاره 101 الأمر الخامس- الفراسة في الطائر من حال صغره قبل الطيران 102 الأمر السادس- بيان الزمان والمكان اللائقين بالإفراخ 103 الأمر السابع- في مسافة الطيران 104 النوع الخامس- ما يحتاج إلى وصفه من نفائس الأحجار، وهي اثنا عشر صنفا 105 الصنف الأول- اللؤلؤ 106(2/524)
الموضوع الصفحة الصنف الثاني- الياقوت 108 الصنف الثالث- البلخش 111 الصنف الرابع- عين الهر 112 الصنف الخامس- الماس 113 الصنف السادس- الزمرّد 114 الصنف السابع- الزبرجد 117 الصنف الثامن- الفيروذج 117 الصنف التاسع- الدهنج 118 الصنف العاشر- البلور 120 الصنف الحادي عشر- المرجان 121 الصنف الثاني عشر- البادزهر الحيواني 124 النوع السادس- نفيس الطيب، والمعتبر منه أربعة أصناف 126 الصنف الأول- المسك 126 الصنف الثاني- العنبر 130 الصنف الثالث- العود 133 الصنف الرابع- الصندل 137 النوع السابع- ما يحتاج إلى وصفه من الآلات، وهي أصناف 139 الصنف الأول- الآلات الملوكية 139 الصنف الثاني- آلات الركوب 143 الصنف الثالث- آلات السفر 145 الصنف الرابع- آلات السلاح 148 الصنف الخامس- آلات الحصار 152 الصنف السادس- آلات الصيد 154 الصنف السابع- آلات المعاملة 154(2/525)
الموضوع الصفحة الصنف الثامن- آلات اللعب 157 الصنف التاسع- آلات الطرب 160 الصنف العاشر- المسكرات وآلاتها 161 النوع الثامن- مما يحتاج إلى وصفه الأفلاك والكواكب، وفيه مقصدان 163 المقصد الأول- في بيان ما يقع عليه اسم الفلك وعدد أكره 163 المقصد الثاني- في ذكر الكواكب ومحلها من الأفلاك، وهي على ضربين 165 الضرب الأول- الكواكب السبعة السيّارة 165 الضرب الثاني- الكواكب الثابتة، وهي ثلاثة أصناف 168 الصنف الأول- نجوم البروج التي تنتقل فيها الشمس في فصول السنة 168 الصنف الثاني- نجوم منازل القمر التي يتنقل فيها القمر من أول الشهر إلى الثامن والعشرين منه 173 الصنف الثالث- من النجوم الثوابت ما ليس داخلا في شيء من البروج ومنازل القمر مما هو مشهور 181 النوع التاسع- مما يحتاج الكاتب إلى وصفه العلويّات، وهي على أصناف 184 الصنف الأول- الريح 184 الصنف الثاني- السحاب 186 الصنف الثالث- الرعد 187 الصنف الرابع- البرق 188 الصنف الخامس- المطر 188 الصنف السادس- الثلج 192 الصنف السابع- البرد 192 الصنف الثامن- قوس قزح 193 الصنف التاسع- الهالة 193 الصنف العاشر- الحرّ 194 الصنف الحادي عشر- البرد 194(2/526)
الموضوع الصفحة الصنف الثاني عشر- الهباء 194 النوع العاشر- مما يحتاج الكاتب إلى وصفه الأجسام الأرضية، وهي على أصناف 195 الصنف الأول- الجبال والأودية والقفار 195 الصنف الثاني- المياه الأرضية، وهي على ضربين 196 الضرب الأول- الماء الملح 196 الضرب الثاني- الماء العذب 196 الصنف الثالث- النبات وفيه ثلاثة مقاصد 198 المقصد الأول- في أصل النبات 198 المقصد الثاني- فيما تختص به أرض دون أرض من أنواع النبات 198 المقصد الثالث- في ذكر أصناف النبات التي أولع الكاتب والشعراء بوصفها، وهي على أضرب 199 الضرب الأول- ما له ساق 199 الضرب الثاني- ما ليس له ساق 200 الضرب الثالث- الفواكه المشمومة 200 الضرب الرابع- الأزهار 201 الضرب الخامس- الرياض 201 الطرف الثالث من الباب الأول من المقالة الأولى- في صفة الكلام، ومعرفة كيفية إنشائه ونظمه وتأليفه، وفيه مقصدان 202 المقصد الأول- في الأصول التي يبنى الكلام عليها، وهي سبعة أصول 202 الأصل الأول- المعرفة بالمعاني، والنظر فيه من وجهين 202 الوجه الأول- في شرف المعاني وفضلها 202 الوجه الثاني- في تحقيق المعاني ومعرفة صوابها من خطئها، والمعاني على خمسة أصناف 205 الصنف الأول- ما كان من المعاني مستقيما حسنا 205(2/527)
الموضوع الصفحة الصنف الثاني- ما كان مستقيما قبيحا 209 الصنف الثالث- ما كان مستقيما ولكنه كذب 210 الصنف الرابع- ما كان محالا 216 الصنف الخامس- ما كان غلطا 218 الأصل الثاني- من صناعة إنشاء الكلام النظر في الألفاظ، والنظر فيها من وجهين 222 الوجه الأول- في فضل الألفاظ وشرفها 222 الوجه الثاني- الألفاظ المفردة وبيان ما ينبغي استعماله منها وما يجب تركه، واللفظ المفرد الحسن يتصف بأربع صفات 224 الصفة الأولى- ألا يكون غريبا، وهو أربعة أصناف 225 الصنف الأول- المألوف المتداول الاستعمال عند كل قوم في كل زمن 227 الصنف الثاني- الغريب المتوحش عند كل قوم في كل زمن، وهو ثلاثة أضرب 236 الضرب الأول- ما يعاب استعماله في النظم والنثر جميعا 236 الضرب الثاني- ما يعاب استعماله في النثر دون النظم 238 الضرب الثالث- ما يعاب استعماله بصيغة دون صيغة 241 الصنف الثالث- المتوحش في زمن دون زمن 250 الصنف الرابع- الغريب المتوحش عند قوم دون قوم 259 الصفة الثانية- اللفظ الفصيح ألا يكون مبتذلا عاميّا، واللفظ المبتذل على قسمين 267 القسم الأول- ما لم تغيّره العامة عن موضعه اللغوي 267 القسم الثاني- ما كان من الألفاظ دالّا على معنى وضع له في أصل اللغة فغيرته العامة وجعلته دالّا على معنى آخر، وهو على ضربين 273 الضرب الأول- ما ليس بمستقبح في الذكر ولا مستكره في السمع 273 الضرب الثاني- ما يستقبح ذكره 274 الصفة الثالثة- من صفات اللفظ المفرد الفصيح ألا يكون متنافر الحروف 275(2/528)
الموضوع الصفحة الصفة الرابعة- من صفات اللفظ المفرد ألا يكون على خلاف القانون المستنبط من تتبع ألفاظ اللغة العربية وما هو في حكمها 278 الأصل الثالث- من صناعة إنشاء الكلام، تركيب الكلام، والنظر فيه من وجوه 280 الوجه الأول- في بيان فضل المعرفة بذلك 280 الوجه الثاني- في بيان ما يبنى عليه تركيب الكلام وترتيبه، وله ركنان 285 الركن الأول- أن يسلك في تركيبه سبيل الفصاحة والخروج عن اللكنة والهجنة والفصاحة في المركب بأن يتصف بعد فصاحة مفرداته بصفات 285 الصفة الأولى- أن يكون سليما من ضعف التأليف 285 الصفة الثانية- أن يكون سليما من التعقيد 286 الصفة الثالثة- أن يكون سليما من تنافر الكلمات 291 الأصل الرابع- المعرفة بالسجع الذي هو قوام الكلام المنثور، ويتعلق به ستة أغراض 301 الغرض الأول- في معرفة معناه في اللغة والاصطلاح 301 الغرض الثاني- في بيان حسن موقعه من الكلام 302 الغرض الثالث- في بيان أقسام السجع، وهي راجعة إلى صنفين 304 الصنف الأول- أن تكون القرينتان متفقتين في حرف الرويّ 304 الصنف الثاني- أن يختلف حرف الرويّ في آخر الفقرتين، وهو على ضربين 305 الضرب الأول- أن يقع ذلك في النثر 305 الضرب الثاني- السجع الواقع في الشعر 306 الغرض الرابع- في معرفة مقادير السجعات، وهي على ضربين 308 الضرب الأول- السجعات القصار 308 الضرب الثاني- السجعات الطوال 309 الغرض الخامس- في ترتيب السجعات، وله حالتان 310 الحالة الأولى- ألا يزيد السجع على سجعتين 310(2/529)
الموضوع الصفحة الحالة الثانية- أن يزيد السجع على سجعتين 311 الغرض السادس- فيما يكون فيه حسن السجع وقبحه 313 الأصل الخامس- حسن الاتباع والقدرة على الاختراع، ولكاتب الإنشاء مسلكان 315 المسلك الأول- طريقة الاتباع، وهي على صنفين 315 الصنف الأول- الاتباع في الألفاظ، والواقع من ذلك في كلامهم على قسمين 315 القسم الأول- ما وقع الاتفاق فيه في المعنى واللفظ جميعا 317 القسم الثاني- ما وقع الاتفاق فيه في المعنى وبعض اللفظ، وهو على ضربين 319 الضرب الأول- ما اتفق فيه المعنى وأكثر اللفظ 319 الضرب الثاني- ما اتفق فيه المعنى مع يسير اللفظ 321 الصنف الثاني- التقليد في المعاني، وضروبه اثنا عشر 321 الضرب الأول- أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا يكون هو إيّاه 327 الضرب الثاني- أن يؤخذ المعنى فيعكس 329 الضرب الثالث- أن يؤخذ بعض المعنى دون بعض 331 الضرب الرابع- أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر 332 الضرب الخامس- أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى 334 الضرب السادس- أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا 336 الضرب السابع- زيادة البيان مع المساواة في المعنى 337 الضرب الثامن- اتحاد الطريق واختلاف المقصود 338 الضرب التاسع- بياض بالأصل 339 الضرب العاشر- أن يكون المعنى عامّا فيجعل خاصّا أو خاصّا فيجعل عامّا 340 الضرب الحادي عشر- قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة 340 الضرب الثاني عشر- قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة 341(2/530)
الموضوع الصفحة المسلك الثاني- طريقة الاختراع 342 الأصل السادس- وجود الطبع السليم، وخلو الفكر عن المشوش 343 المقصد الثاني- من الطرف الثالث، في بيان طرق البلاغة ووجوه تحسين الكلام 348 المقصد الثالث- في بيان مقادير الكلام ومقتضيات إطالته وقصره، وهو على ثلاثة ضروب 359 الضرب الأول- الإيجاز 359 الضرب الثاني- الإطناب 360 الضرب الثالث- المساواة 361 الفصل الثالث من الباب الأول من المقالة الأولى- في معرفة الأزمنة والأوقات وفيه أربعة أطراف 366 الطرف الأول- في الأيام، وفيه ست جمل 366 الجملة الأولى- في مدلول اليوم ومعناه وبيان ابتداء الليل والنهار 366 الجملة الثانية- في اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان؛ والبلاد والنواحي على قسمين 368 القسم الأول- ما يستوي فيه الليل والنهار أبدا 368 القسم الثاني- ما يختلف فيه الليل والنهار في السنة 369 الجملة الثالثة- في معرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما بتنقل الشمس في البروج 371 الجملة الرابعة- في بيان ما يعرف به ابتداء الليل والنهار 376 الجملة الخامسة- في ساعات الليل والنهار 383 الجملة السادسة- في أيام الأسبوع، وفيه أربعة مدارك 385 المدرك الأول- في ابتداء خلقها وأصل وجودها 385 المدرك الثاني- في أسمائها 388(2/531)
الموضوع الصفحة المدرك الثالث- في بيان أول أيام الأسبوع 392 المدرك الرابع- في التفاؤل بأيام الأسبوع والتطيرّ بها 392 الطرف الثاني- في الشهور، وهي على قسمين 394 القسم الأول- الطبيعي والمراد به القمري، وهو على ضربين 394 الضرب الأول- شهور العرب، ولهم في استعمالها طريقتان 394 الطريقة الأولى- طريقة العرب، وفيها جملتان 394 الجملة الأولى- في أحوال الأهلّة التي عليها مدار الشهور في ابتدائها وانتهائها 395 الجملة الثانية- في أسمائها 401 الضرب الثاني- شهور اليهود 408 القسم الثاني- من الشهور الاصطلاحي والمراد به الشمسي، وهي على صنفين 409 الصنف الأول- شهور القبط والفرس 410 الصنف الثاني- شهور السريان والروم 418 الطرف الثالث- في السنين، وفيه ثلاث جمل 423 الجملة الأولى- في مدلول السنة والعام 423 الجملة الثانية- في حقيقة السنة، وهي على قسمين 424 القسم الأول- السنة الطبيعية وهي القمرية 424 القسم الثاني- الاصطلاحية وهي الشمسية 425 الجملة الثالثة- في فصول السنة الأربعة، وفيه ثلاثة مهايع 429 المهيع الأول- في الحكمة في تغيير الفصول الأربعة في السنة 429 المهيع الثاني- في كيفية انقسام السنة الشمسية إلى الفصول 429 المهيع الثالث- في ذكر الفصول وأزمنتها وطبائعها 430 الطرف الرابع- في أعياد الأمم ومواسمها، وفيه خمس جمل 444 الجملة الأولى- في أعياد المسلمين 444(2/532)
الموضوع الصفحة الجملة الثانية- في أعياد الفرس 445 الجملة الثالثة- في أعياد القبط، وهي على ضربين 453 الضرب الأول- الأعياد الكبار 454 الضرب الثاني- الأعياد الصغار 455 الجملة الرابعة- في أعياد اليهود، وهي على ضربين 463 الضرب الأول- ما نطقت به التوراة بزعمهم 463 الضرب الثاني- ما أحدثه اليهود 465 الجملة الخامسة- في أعياد الصابئين 467 الباب الثاني من المقالة الأولى- فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العملية، وفيه فصلان 469 الفصل الأول- في ذكر آلات الخط، وفيه ثلاثة أطراف 469 الطرف الأول- في الدواة وآلاتها، وفيه مقصدان 469 المقصد الأول- في نفس الدواة، وفيه أربع جمل 469 الجملة الأولى- في فضلها 469 الجملة الثانية- في أصلها في اللغة 470 الجملة الثالثة- فيما ينبغي أن تتخذ منه، وما تحلّى به 470 الجملة الرابعة- في قدرها وصفتها 471 الطرف الثاني- في الآلات التي تشتمل عليها الدواة، وفيه جملتان 473 الجملة الأولى- في فضله 473 الجملة الثانية- في اشتقاقه 479 الجملة الثالثة- في صفته 479 الجملة الرابعة- في مساحة الأقلام في طولها وغلظها 484 الجملة الخامسة- في بري الأقلام، وفيه خمسة أنظار 485 النظر الأول- في اشتقاقه وأصل معناه 485 النظر الثاني- في الحث على معرفة البراية 485(2/533)
الموضوع الصفحة النظر الثالث- في معرفة محل البراية من القلم 487 النظر الرابع- في كيفية إمساك السكين حال البري 487 النظر الخامس- في صنعة البراية، والبري يشتمل على معان 488 المعنى الأول- في صفته، ومقداره في الطول والتقعير 488 المعنى الثاني- النحت 489 المعنى الثالث- الشق، وفيه مهيعان 490 المهيع الأول- في فائدته 490 المهيع الثاني- في صفة الشق، وفيه مدركان 491 المدرك الأول- في قدره في الطول 491 المدرك الثاني- في محله من الجلفة في العرض 491 المعنى الرابع- القطّ، وفيه مهيعان 492 المهيع الأول- اشتقاقه ومعناه 492 المهيع الثاني- في صفته 492 النظر السادس- في معرفة صفات القلم فيما يتعلق بالبراية 493 الجملة السادسة- في مساحة رأس القلم ومقدارها من حيث موضع القطّة 494 الآلة الثانية- المقلمة 495 الآلة الثالثة- المدية، والنظر فيها من وجهين 495 الوجه الأول- في معناها واشتقاقها 495 الوجه الثاني- في صفتها 496 الآلة الرابعة- المقطّ 497 الآلة الخامسة- المحبرة، وتشتمل على ثلاثة أصناف 498 الصنف الأول- الجونة 498 الصنف الثاني- الليقة، والنظر فيها من وجهين 498 الوجه الأول- في اشتقاقها 498 الوجه الثاني- فيما تتخذ منه وتتعاهد به 498(2/534)
الموضوع الصفحة الصنف الثالث- المداد والحبر، والنظر فيه من أربعة أوجه 500 الوجه الأول- في تسميتهما واشتقاقهما 500 الوجه الثاني- في شرف المداد والحبر، واختيار السواد لذلك 501 الوجه الثالث- في صنعتهما، وفيه نظران 503 النظر الأول- في مادتهما 503 النظر الثاني- في صنعتهما، وفيه مسلكان 504 المسلك الأول- في صنعة المداد 504 المسلك الثاني- في صنعة الحبر 505 الوجه الرابع- في ليق الافتتاحات 506 الآلة السادسة- الملواق 508 الآلة السابعة- المرملة 508 الآلة التاسعة- المنفذ 510 الآلة العاشرة- الملزمة 510 الآلة الحادية عشرة- المفرشة 510 الآلة الثانية عشرة- الممسحة 510 الآلة الثالثة عشرة- المسقاة 511 الآلة الرابعة عشرة- المسطرة 511 الآلة الخامسة عشرة- المصقلة 511 الآلة السادسة عشرة- المهراق 512 الآلة السابعة عشرة- المسنّ 512 الطرف الثالث- فيما يكتب فيه، وفيه ثلاث جمل 512 الجملة الأولى- فما نطق به القرآن الكريم من ذلك 512 الجملة الثانية- فيما كانت الأمم السالفة تكتب فيه في الزمان القديم 515 الجملة الثالثة- في بيان أسماء الورق الواردة في اللغة ومعرفة أجناسه 516 تم فهرس الجزء الثاني من صبح الأعشى(2/535)
[الجزء الثالث]
[تتمة المقالة الأولى]
[تتمة الباب الثاني]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
صلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الأولى في الكلام على نفس الخطّ؛ وفيه ثمانية أطراف
الطّرف الأوّل في فضيلة الخطّ
قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ
«1» فأضاف تعليم الخط إلى نفسه، وامتنّ به على عباده؛ وناهيك بذلك شرفا! وقال جل وعز: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
«2» فأقسم بما يسطرونه وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ
«3» أنه الخط كما تقدّم الكلام عليه.
ويروى أنّ سليمان عليه السّلام سأل عفريتا عن الكلام فقال: ريح لا يبقي! قال: فما قيده؟ قال: الكتابة.(3/3)
وقال عبيد الله بن العباس «1» : الخط لسان اليد.
وقال جعفر بن يحيى «2» : الخط سمط «3» الحكمة، وبه تفصّل شذورها «4» ، وينتظم منثورها.
وقال النّظّام «5» : الخط أصل الروح له جسدانية في سائر الأعمال. إلى ما يجري هذا المجرى.
وقال إبراهيم بن محمد الشيباني «6» : الخط لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووصيّ الفكر، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثتهم على بعد المسافة ومستودع السّر، وديوان الأمور.
وقال مسلم بن الوليد «7» : من عجائب الله تعالى في خلقه، وإنعامه عليهم من فضله، تعليمه إيّاهم الكتاب المفيد للباقين، حكم الماضين، والمخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات متفرّقة، في معان معقولة، بحروف مؤلّفة(3/4)
من ألف، وباء، وجيم، ودال، متباينات الصّور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكير، ونتاجها التأليف؛ تخرس منفردة، وتنطق مزدوجة، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن مزوّرة، ولا حركات ظاهرة؛ ما خلا قلما جوّف باريه بطنه ليعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر منه إليه، وشقّ رأسه ليحتبس الاستمداد عليه؛ وأربع «1» من شفتيه، ليجمعا حواشي تصويره إليه، فهناك اشتدّ القلم برشفه، وقذف المادّة إلى صدره، ثم مجّها من شقّه بمقدار ما احتملت شفتاه بتخطيط أجزاء النقط التي أراد بها الخطوط، فالأبصار لها سامية، فإذا حكتها الألسن فالآذان لها واعية، وأولى أسمائها بها حينئذ الكلام الذي سدّاه «2» العقل، وألحمه «3» اللسان، وقطعته الأسنان، ولفظته الشّفتان، وصدّاه الجوّ وجرّعته الأسماع على أنحاء شتّى، وسمّيت بها الأشياء لتعريف متناكرها، وتمييز متشابهها، وتبيين معلومها من مجهولها. فمن ذلك فضل الكتاب الصّناعات.
وبالجملة فليس يذكر ذاكر شيئا يجري به الخاطر، أو يميل إليه العقل، أو يلقيه الفهم، أو يقع عليه الوهم، أو تدركه الحواسّ، إلا والكتاب والكلام موكّلان به، مدبّران له، معبّران عنه.
فلما أن تضمّنت الحروف الدلالة، وقامت الألفاظ بالعبارة، نطقت الأفواه بكل لغة، وتصرّف المنطق بكل جهة، فلم تكتف منه أمّة بأمة، ولم تستغن عنه ملّة دون ملّة، فعرّب ذلك بلغة العرب التي هي القاهرة لجميع اللّغات، المنظّمة لجميع المعاني في وجيز الصّفات.
ولو لم يكن من شرف الخط إلا أن الله تعالى أنزله على آدم أو هود عليهما السلام كما تقدّم ذكره، وأنزل الصّحف على الأنبياء مسطورة، وأنزل الألواح على موسى عليه السلام مكتوبة، لكان فيه كفاية.(3/5)
وأيضا فإنّ فيه من حفظ الحقوق، ومنع تمرّد ذوي العقوق، بما يسطّر عليهم من الشهادات، التي تقع في السجلات، والمكاتبات بين الناس لحوائجهم من المسافات البعيدة التي لا ينضبط مثل ذلك لحامل رسالة، ولا يناله الحاضر بمشافهة وإن كثر حفظه وزادت بلاغته، ولذلك قيل: الخطّ أفضل من اللفظ، لأن اللفظ يفهّم الحاضر فقط، والخط يفهّم الحاضر والغائب. ولله القائل في ذلك يصف القلم:
وأخرس ينطق بالمحكمات ... وجثمانه صامت أجوف
بمكّة ينطق في خفية ... وبالشام منطقه يعرف
الطرف الثاني في بيان حقيقة الخط
قال الشيخ شمس الدين بن الأكفاني «1» في كتابه «إرشاد القاصد» في حصر العلوم: «وهو علم تتعرّف منه صور الحروف المفردة، وأوضاعها، وكيفية تركيبها خطّا أو ما يكتب منها في السّطور، وكيف سبيله أن يكتب، وما لا يكتب، وإبدال ما يبدل منها في الهجاء وبماذا يبدل» .
قال: «وبه ظهرت «2» خاصّة النوع الإنسانيّ من القوّة إلى الفعل، وامتاز عن سائر أنواع الحيوان، وضبطت الأموال، وترتّبت الأحوال وحفظت العلوم في الأدوار، واستمرّت على الأطوار، وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان، وحملت سرّا من مكان إلى مكان.(3/6)
وبهذه الفضائل حافظت الغريزة الإنسانية على قبوله بطلب تعلّمه محافظة لم يحتج بها إلى تذكار بعد الغيبة. ولهذه العلّة استغنى عن كتاب يصنّف فيه» .
ثم قال: «وجميع العلوم إنما تعرف بالدلالة عليها: بالإشارة، أو اللفظ، أو الخط، فالإشارة تتوقّف على المشاهدة، واللفظ يتوقّف على حضور المخاطب وسماعه؛ أما الخط فإنه لا يتوقّف على شيء فهو أعمّها نفعا وأشرفها» .
واعلم أنه قد تقدّم في الكلام على اللغة في «النوع الأول مما يحتاج إليه الكاتب» أنه ينبغي للكاتب أن يتعلّم لغة من يحتاج إلى مخاطبته، أو مكاتبته من اللغات غير العربية؛ فكذلك ينبغي أن يتعلم من الخطوط غير العربية ما يحتاج إليه من ذلك، فقد قال محمد بن عمر المدائني «1» في كتاب «القلم والدواة» إنه يجب عليه أن يتعلم الهندية وغيرها من الخطوط العجمية. ويؤيد ذلك ما تقدّم في الكلام على اللغة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم كتاب يهود من السّريانية أو العبرانية فتعلّمها» وكان يقرأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم كتبهم ويجيبهم عنه.
الطرف الثالث في وضع الخط؛ وفيه جملتان
الجملة الأولى في بيان المقصود من وضعه، والموازنة بينه وبين اللفظ
أما بيان المقصود من وضعه، فاعلم أنّ وضع اللفظ لأداء المعنى، الحاصل في الذهن المشعور به للمسمع؛ إذ لا وقوف على ما في الذهن؛ ووضع الخط لأداء اللفظ المقصود فهمه للناظر فيه. فإذا أردت إيقافك أحدا على ما في ذهنك من المعاني تكلمت بألفاظ وضعت لها، وإذا أردت تأدية ألفاظ لذلك الإيقاف إلى أحد(3/7)
بغير شفاه، نقشت النّقوش الموضوعة لتلك الألفاظ، فيطالع تلك النّقوش، ويفهم منها تلك الألفاظ، ومن الألفاظ تلك المعاني؛ ولا علاقة معقولة بين المعاني والألفاظ على الأمر العام، ولا بين الألفاظ والنقوش الموضوعة؛ ومن ثمّ جاء اختلاف اللّغات والخطوط كالعربيّة والرّومية وغيرهما.
وأما الموازنة بينه وبين اللفظ، فالأصل في ذلك أن الخطّ واللّفظ يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها: من حيث إن الخطّ دالّ على الألفاظ والألفاظ دالّة على الأوهام؛ ولاشتراك الخط واللفظ في هذه الفضيلة وقع التناسب بينهما في كثير من أحوالهما؛ وذلك أنهما يعبران عن المعاني، إلا أن اللفظ معنى متحرّك والخطّ معنى ساكن، وهو وإن كان ساكنا فإنه يفعل فعل المتحرّك بإيصاله كلّ ما تضمنه إلا الأفهام وهو مستقرّ في حيّزه، قائم «1» في مكانه؛ كما أن اللفظ فيه العذب الرشيق السائغ في الأسماع كذلك الخط فيه الرائق المستحسن الأشكال والصّور، وكما أن اللفظ فيه الجزل الفصيح الذي يستعمله مصاقع الخطباء، ومفالق الشّعراء، والمبتذل السخيف الذي يستعمله العوامّ في المكاتبة والمخاطبة، كذلك الخطّ فيه المحرّر المحقّق الذي تكتب به الكتب السلطانية والأمور المهمة، وفيه المطلق المرسل الذي يتكاتب به الناس ويستعملونه فيما بينهم. وكما أن اللفظ يقع فيه لحن الإعراب الذي يهجّنه، كذلك الخط يقع فيه لحن الهجاء. وكما أن اللفظ إذا كان مقبولا حلوا رفع المعنى الخسيس وقرّبه من النّفوس، وإن كان غثّا مستكرها وضع المعنى الرفيع وبعّده من القلوب، وكذلك الخط إذا كان جيّدا حسنا بعث الإنسان على قراءة ما أودع فيه وإن كان قليل الفائدة، وإن كان ركيكا قبيحا صرفه عن تأمّل ما تضمّنه وإن كان جليل الفائدة.
ولما اشترك اللفظ والخط في الفوائد العامّة التي جعلت فيهما وقع الاشتراك أيضا بين آلتيهما، إذ آلة اللفظ اللسان، وآلة الخط القلم؛ وكل منهما يفعل فعل(3/8)
الآخر في الإبانة عن المعاني، إلا أن اللفظ لما كان دليلا طبيعيا جعلت آلته آلة طبيعية، والخط لما كان دليلا صناعيّا جعلت آلته آلة صناعيّة؛ ولما تقاسمت الآلتان الدلالة نابت إحداهما مناب الأخرى فأوقعوا اسم اللسان على القلم فقالوا:
الأقلام ألسنة الأفهام، وشرّكوا بينهما في الاسم فقالوا: القلم أحد اللّسانين.
الجملة الثانية في أصل وضعه؛ وفيه مسلكان
المسلك الأوّل في وضع مطلق الحروف
قيل: إن أوّل من وضع الخطوط والكتب كلّها آدم عليه السلام: كتبها في طين وطبخه؛ وذلك قبل موته بثلاثمائة سنة، فلما أظلّ الأرض الغرق أصاب كلّ قوم كتابهم. وقيل أخنوخ (وهو إدريس عليه السلام) . وقيل إنها أنزلت على آدم عليه السلام في إحدى وعشرين صحيفة. وقضية هذه المقالة أنها توقيفية علمها الله تعالى بالوحي؛ والمقالتان الأوليان محتملتان لأن تكون توقيفية وأن تكون اصطلاحية وضعها آدم وإدريس عليهما السلام. على أنه يحتمل أن يكون بعض ذلك توقيفيا علمه الله تعالى بالوحي، وبعضه اصطلاحيا وضعه البشر: واحد أو جماعة، فيصير الخلاف فيه كالخلاف في اللغة هل هي توقيفية أو اصطلاحية على ما هو مقرّر في علم الأصول، والله سبحانه وتعالى أعلم «1» .(3/9)
المسلك الثاني في وضع حروف العربية
قال الشيخ أبو العباس البونيّ «1» رحمه الله في كتابه «لطائف الإشارات في أسرار الحروف المعلومات» :
يروى عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه أنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، كلّ نبيّ مرسل بم يرسل؟. قال: بكتاب منزّل. قلت: يا رسول الله، أيّ كتاب أنزل على آدم؟. قال: أب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف؟. قال: تسع وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى احمرّت عيناه، ثم قال: يا أبا ذرّ، والّذى بعثني بالحقّ نبيّا! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفا.
قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك؛ من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل على آدم، ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء منّي وأنا بريء منه، ومن لا يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرون حرفا لا يخرج من النار أبدا» .
وهذا الخبر ظاهر في أن المراد منه حروف العربية فقط، إذ قد أجاب صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ رضي الله عنه بحروف: أب ت ث وأثبت منها لام ألف، وليس ذلك في غير(3/10)
حروف العربية؛ وقضية ذلك أن حروف العربية أنزلت على آدم عليه السلام وهو الموافق لما في أوّل الفصل قبله، لكن في كتاب «التنبيه على نقط المصاحف وشكلها» للشيخ أبي عمرو الدانيّ «1» رحمه الله أنها أنزلت على هود عليه السلام؛ ولا تباين بينهما، لجواز أن تنزل على آدم مرّة وعلى هود أخرى، فربما نزلت الآية على نبيّ ثم نزلت على نبيّ آخر كما قيل في قوله تعالى: حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
«2» إنه ما بعث الله تعالى نبيّا إلّا وأنزل عليه حم عسق
. وقد أنزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
على سليمان عليه السلام ثم أنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وربما أنزلت الآية الواحدة على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين كما في الفاتحة فإنها نزلت مرة بمكة ومرة بالمدينة على أحد الأقوال.
وعلى الجملة فقضيته أنها توقيفيّة وهو الموافق لأحد الأقوال في مطلق الحروف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أوّل من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان «3» (وبولان قبيلة من طيء) نزلوا مدينة الأنبار «4» ، وهم مرامر ابن مرّة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة «5» ، اجتمعوا فوضعوا حروفا مقطّعة وموصولة، ثم قاسوها على هجاء السّريانية؛ فأما مرامر فوضع الصّور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام؛ ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلّمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه.(3/11)
ونقل الجوهريّ «1» عن شرقيّ بن القطاميّ «2» : أن أوّل من وضعه رجال من طيىء منهم مرامر بن مرّة «3» وأنشد عليه:
تعلّمت باجاد «4» وآل مرامر ... وسوّدت أثوابي ولست بكاتب
قال الجوهري: وإنما قال آل مرامر لأنه كان قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبي جاد «5» وهم ثمانية. وذكر غيره نحوه فقال: أوّل من اخترعه وألّف حروفه ستة أشخاص من طسم كانوا نزولا عند عدنان بن أدد، وكانت أسماؤهم:
أبجد، وهوّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، فوضعوا الكتابة والخطّ على أسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفا ليست في أسمائهم ألحقوها بها، وسمّوها الرّوداف، وهي الثاء المثلثة، والخاء، والذال، والظاء، والغين، والضاد المعجمات على حسب ما يلحق من حروف الجمّل، ثم انتقل عنهم إلى الأنبار، واتصل بأهل الحيرة «6» ، وفشا في العرب ولم ينتشر كلّ الانتشار إلى أن كان المبعث.
وقيل: إن نفيسا ونصرا وتيما ودومة بني إسرائيل وضعوا كتابا واحدا وجعلوه سطرا واحدا موصول الحروف كلّها غير متفرق، ثم فرقه نبت وهميسع وقيذار، وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر. وعن هشام بن محمد «7» عن أبيه قال:(3/12)
أخبرني قوم من علماء مصر أن أوّل من كتب الكتاب العربيّ رجل من بني النّضر بن كنانة، فكتبته العرب حينئذ.
وقضية هذه المقالات أنها اصطلاحية.
وفي السيرة لابن هشام: أن أوّل من كتب الخط العربيّ حمير بن سبإ «1» علّمه في المنام؛ قال: وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند سمّي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى هود عليه السلام. وهو مخالف لما تقدّم من كلام أبي عمرو الدانيّ: أن العربي أنزل على هود عليه السلام.
قال السهيلي «2» رحمه الله في «التعريف والإعلام» : والأصح ما رويناه من طريق أبي عمر بن عبد البر «3» رحمه الله يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوّل من كتب بالعربيّة إسماعيل عليه السلام» قال ابن عبد البر: وهذا أصح من رواية «أوّل من تكلّم بالعربيّة إسماعيل» وهذا محتمل للتوقيف أيضا بأن يكون إسماعيل علّمها بالوحي، وللاصطلاح بأن يكون وضعه من نفسه.
ثم أوّل ما ظهرت الكتابة العربيّة بمكة من قبل حرب بن أمية. قال المدائني: حدثني حسان بن عبد الملك الأنصاريّ قال: حدثني سليمان بن سعيد المرّيّ قال: سمعت الفرّاء «4» يقول: حدّثني العمريّ «5» أنه قيل لابن عباس: من.(3/13)
أين تعلّمتم الهجاء والكتابة والشّكل؟ قال علّمناه من حرب بن أميّة، قيل: ومن أين علّمه حرب بن اميّة؟ قال: من طاريء طرأ علينا من اليمن؛ قيل: ومن اين علّمه ذلك الطاريء؟ قال: من كاتب الوحي لهود عليه السلام.
وذكر أبو عمر والدانيّ في كتاب «التنبيه على النقط والشكل» نحوه. وقيل:
أوّل ما ظهرت باليمن من قبل أبي سفيان بن أمية، عمّ أبي سفيان بن حرب، وأتته من قبل رجل من أهل الحيرة؛ قال أهل الحيرة: أخذناها من أهل الأنبار.
وقال أبو بكر بن أبي داود «1» عن عليّ بن حرب «2» عن هشام بن محمد بن السائب «3» قال: تعلم بشر بن عبد الملك «4» الكتابة من أهل الأنبار، وخرج إلى مكة، وتزوّج الصّهباء بنت حرب «5» . وقيل: إنه لما تعلم أبو سفيان بن حرب الخطّ من أبيه تعلمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من قريش، وتعلمه معاوية ابن أبي سفيان من عمه سفيان.
أما الأوس والخزرج فقد روى الواقديّ «6» بسنده إلى سعد بن سعيد «7» قال:
كانت الكتابة العربية قليلا في الأوس والخزرج، وكان يهوديّ من يهود ماسكة «8»(3/14)
قد علّمها فكان يعلّمها الصّبيان فجاء الإسلام وفيهم بضعة عشر يكتبون، منهم سعيد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، يكتب الكتابين جميعا العربية والعبرانية، ورافع بن مالك، وأسيد بن حضير، ومعن بن عديّ، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خوليّ، وبشير بن سعد.
قال صاحب «الأبحاث الجميلة في شرح العقيلة» «1» : والخط العربيّ هو المعروف الآن بالكوفيّ، ومنه استنبطت الأقلام التي هي الآن، وقد ذكر ابن الحسين «2» في كتابه في قلم الثّلث «3» : أن الخطّ الكوفيّ فيه عدّة أقلام مرجعها إلى أصلين: وهما التقوير والبسط.
فالمقوّر- هو المعبّر عنه الآن باللّيّن، وهو الذي تكون عرقاته وما في معناها منخسفة منحطة إلى أسفل كالثلث والرقاع ونحوهما.
والمبسوط- هو المعبّر عنه الآن باليابس، وهو ما لا انخساف وانحطاط فيه كالمحقّق، وعلى ترتيب هذين الأصلين الأقلام الموجودة الآن. ثم قد ذكر صاحب «إعانة المنشيء» أن أوّل ما نقل الخط العربيّ من الكوفيّ إلى ابتداء هذه الأقلام المستعملة الآن في أواخر خلافة بني أميّة وأوائل خلافة بني العباس.(3/15)
قلت: على أن الكثير من كتّاب زماننا يزعمون أن الوزير أبا عليّ بن مقلة «1» (رحمه الله تعالى) هو أوّل من ابتدع ذلك، وهو غلط فإنا نجد من الكتب بخط الأوّلين فيما قبل المائتين ما ليس على صورة الكوفيّ بل يتغير عنه إلى نحو هذه الأوضاع المستقرّة وإن كان هو إلى الكوفيّ أميل لقربه من نقله عنه.
قال أبو جعفر النحاس «2» في «صناعة الكتّاب» : ويقال إن جودة الخط انتهت إلى رجلين من أهل الشأم يقال لهما: الضحّاك، وإسحاق بن حمّاد «3» ، وكانا يخطان الجليل «4» ؛ وكأنه يريد الطّومار «5» أو قريبا منه.
قال صاحب «إعانة المنشيء» : وكان الضحاك في خلافة السّفّاح، أوّل خلفاء بني العباس، وإسحاق بن حمّاد في خلافة المنصور والمهديّ.
قال النحاس: ثم أخذ إبراهيم (يعني السّجزيّ) «6» عن إسحاق بن حماد(3/16)
الجليل واخترع منه قلما أخفّ منه سماه قلم الثلثين «1» ، وكان أخطّ أهل دهره به، ثم اخترع من قلم الثلثين قلما سماه قلم الثلث.
قال صاحب «الأبحاث الجميلة» : وأخذ يوسف أخو إبراهيم السّجزيّ القلم الجليل عن إسحاق أيضا، واخترع منه قلما أدق منه وكتبه كتابة حسنة فأعجب به ذو الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون، وأمر أن تحرّر الكتب السلطانية به، ولا تكتب بغيره، وسماه القلم الرّياسيّ «2» . قال بعض المتأخرين:
وأظنه قلم التوقيعات.
قال النحاس: ثم أخذ عن إبراهيم السّجزيّ الأحول «3» الثلثين والثلث، واخترع منهما قلما سماه قلم النصف، وقلما أخفّ من الثلث سماه خفيف الثلث، وقلما متصل الحروف ليس في حروفه شيء ينفصل عن غيره سماه المسلسل، وقلما سماه غبار الحلية «4» ، وقلما سماه خط المؤامرات «5» ، وقلما سماه خطّ القصص «6» ، وقلما مقصوعا سماه الحوائجيّ. قال: وكان خطه يوصف بالبهجة والحسن من غير إحكام ولا إتقان، وكان عجيب البري للقلم. وكان وجه(3/17)
النعجة «1» مقدّما في الجليل. قال: وكان محمد بن معدان يعني المعروف بأبي درجان «2» مقدّما في خط النّصف، وكان قلمه مستوي السّنّين، وكان يشقّ الطاء والظاء والصاد والضاد بعرض النصف؛ ويعطف مثل يا، ويصل كلّ ياء من يساره إلى يمينه بعرض النصف لا يرى فيه اضطراب. وكان أحمد «3» بن محمد بن حفص المعروف بزاقف أجلّ الكتّاب خطّا في الثلث. وكان ابن الزّيّات- في أيام ابن طولون- وزير المعتصم يعجبه خطّه ولا يكتب بين يديه غيره. وانتهت رياسة الخط بمصر إلى طبطب المحرّر جودة وإحكاما.
قال النحاس: وكان أهل مدينة السلام «4» يحسدون أهل مصر على طبطب وابن عبد كان «5» ، يعني كاتب الإنشاء لابن طولون، ويقولون: بمصر كاتب ومحرّر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما.
قلت: ثم انتهت جودة الخط وتحريره على رأس الثلاثمائة إلى الوزير أبي عليّ محمد بن مقلة وأخيه أبي عبد الله «6» .
قال صاحب «إعانة المنشيء» : وولّدا طريقة اخترعاها، وكتب في زمانهما جماعة فلم يقاربوهما. وتفرّد أبو عبد الله بالنّسخ «7» ، والوزير أبو عليّ(3/18)
بالدّرج؛ وكان الكمال في ذلك للوزير؛ وهو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها، وعنه انتشر الخطّ في مشارق الأرض ومغاربها. ولله قول القائل:
سبق الدّمع في المسير المطايا ... إذ روى من أحب عنه بقلّه
وأجاد السّطور في صفحة الخدّ ... ولم لا يجيد وهو ابن مقله
وقول الآخر:
تسلسل دمعي فوق خدّي أسطرا ... ولا عجب من ذاك وهو ابن مقلة
ثم أخذ عن ابن مقلة محمد بن السمسماني «1» ومحمد بن أسد «2» ؛ وعنهما أخذ الأستاذ أبو الحسن عليّ بن هلال المعروف بابن البوّاب «3» ، وهو الذي أكمل قواعد الخط وتممها واخترع غالب الأقلام التي أسسها ابن مقلة؛ ولما مات رثاه بعضهم بقوله:
واستشعر الكتّاب فقدك سالفا ... فجرت بصحّة ذلك الأيّام
فلذاك سوّدت الدّويّ وجوهها ... أسفا عليك وشقّت الأقلام
وممن أخذ عنه محمد بن عبد الملك، وعن محمد بن عبد الملك أخذت الشيخة المحدّثة الكاتبة زينب الملقّبة بشهدة ابنة الإبريّ «4» ؛ وعنها أخذ أمين الدين ياقوت «5» ؛ وعنه أخذ الوليّ العجميّ «6» ؛ وعليه كتب العفيف «7» ؛ وعن(3/19)
العفيف أخذ ولده الشيخ عماد الدين، ويقال: إنه كان كابن البوّاب في زمانه؛ وعن الشيخ عماد الدين بن العفيف أخذ الشيخ شمس الدين بن أبي رقيبة محتسب الفسطاط، وهو ممن عاصرناه؛ وأخذ عنه شيخنا الشيخ شمس الدين محمد بن عليّ الزّفتاويّ المكتّب بالفسطاط، وصنف مختصرا في قلم الثلث مع قواعد ضمّها إليه في صنعة الكتابة، أحسن فيه الصنيع؛ وبه تخرّج صاحبنا الشيخ زين الدّين شعبان بن محمد بن داود الآثاريّ «1» محتسب مصر، ونظم في صنعة الخط ألفية وسمها ب «- العناية الرّبانية في الطريقة الشّعبانية» لم يسبق إلى مثلها؛ ثم توجه بعد ذلك إلى مكة، ثم إلى اليمن والهند؛ ثم عاد إلى مكة فأقام بها ونبغ.
قلت: وقد علم مما تقدّم ذكره أن ألقاب الأقلام: من الثلثين والنصف والثّلث وخفيف الثلث والمسلسل والغبار قديمة، وإن وقع في أذهان كثير من الناس أنها من مخترعات ابن مقلة وابن البوّاب فمن بعد هما.
الطرف الرابع في عدد الحروف، وجهة ابتدائها، وكيفية ترتيبها؛ وفيه خمس «2» جمل
الجملة الأولى في مطلق الحروف في جميع اللغات
واعلم أن الحروف تختلف باختلاف اللّغات بحسب تعدّد مخارجها، فحروف السّريانيين، والرّوم، والفرس، والصّقلب، والتّرك، من أربعة وعشرين حرفا إلى ستة وعشرين حرفا؛ وحروف العبرانيين، واليونانيين، والقبط الأول، والهنود وغيرهم من اثنين وثلاثين إلى ستة وثلاثين؛ فيوجد في غير العربية من الحروف ما لا يوجد في العربية، كما يوجد في العربية ما لا يوجد في غيرها من(3/20)
اللّغات، ويكثر في الاستعمال فيها ما لا يكثر في غيرها، فالحاء المهملة، والظاء المعجمة مما أفردت بها العرب في لغاتها، واختصت بها دون غيرها من أرباب اللّغات؛ والعين المهملة قليلة في كلام بعض الأمم ومفقودة في كلام كثير منهم؛ وكذلك الصاد والضاد والذال المعجمة ليست في الفارسية، والثاء المثلثة ليست في الروميّة ولا في الفارسية، والفاء ليست في التركية.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان «1» رحمه الله: ولذلك يقولون في فقيه: يقيه بالباء الموحدة المشربة الفيويّة «2» .
الجملة الثانية في حروف العربية
واعلم أنا لما كنا بحمد الله أمّة وسطا خير أمّة أخرجت للناس، وكان خير الأمور أوساطها، وكانت حروف اللّغات ما بين أربعة وعشرين حرفا إلى ستة وثلاثين كما تقدّم، كانت حروف الكلام العربيّ التي بها رقم القرآن الكريم ثمانية وعشرين حرفا في اللفظ، متوسطة بين حروف اللّغات، وهي اب ت ث إلى آخره؛ وتسمى حروف الهجاء وحروف التّهجّي؛ ويسميها سيبويه والخليل حروف العربية أي حروف اللغة العربية، وهي التي يتركّب منها الكلام العربيّ؛ وتسمى أيضا حروف المعجم، إما لأنها مقطّعة لا تفهم إلا بإضافة بعضها إلى بعض، وإما لأن منها ما ينقط النقط المعروف، أو تنقط كلّها أي تشكل، إذ النقط قد يكون بمعنى الشّكل. وقال بعض أهل اللغة: [العجم] «3» النّقط بالسواد كمثل التاء عليها نقطتان، يقال منه أعجمت الحروف، ومعناه حروف الخط المعجم. وبعضهم «4»(3/21)
يجعل المعجم مصدرا بمعنى الإعجام من أعجمت الشيء إذا بيّنته فكأنها مبيّنة للكلام؛ وتكون الهمزة في أعجمت للإزالة، أي أزلت عجمته إما بنقطه أو شكله.
قال الشيخ عبد الخالق بن أبي القاسم المصريّ «1» : وإذا اعتبرت سائر اللغات بالتحقيق فلن يزيد ذلك على ثمانية وعشرين حرفا (يريد غير اللام ألف) في الحروف العربية، والقائل بذلك يجعل اللام ألف مركبا من حرفين فلا يعدّه حرفا مستقلّا.
قال علماء الحرف: وجعلت ثمانية وعشرين حرفا على عدد منازل القمر الثمانية والعشرين.
قالوا: ولما كانت المنازل القمرية يظهر منها فوق الأرض أربع عشرة منزلة ويغيب تحت الأرض أربع عشرة كانت هذه الحروف ما يظهر منها مع لام التعريف أربعة عشر بعدد المنازل الظاهرة، وهي الألف، والباء، والحاء المهملة، والخاء المعجمة، والعين المهملة، والغين المعجمة، والفاء، والقاف، والكاف، واللام، والميم، والهاء، والواو، والياء المثناة تحت. تقول الألف والباء والحاء فتظهر اللام في لفظك وكذلك في البواقي. وما يندغم منها أربعة عشر حرفا أيضا بعدد المنازل الغائبة، وهي التاء المثناة من فوق، والثاء المثلثة، والدال المهملة، والذال المعجمة، والراء والزاي، والسين المهملة، والشين المعجمة، والصاد المهملة، والضاد المعجمة، والطاء المهملة، والظاء المعجمة، والنون. تقول التاء، والثاء، والدال فتخفى في لفظك، وكذلك في البواقي.
وقد تقدّم في خبر أبي ذرّ رضي الله عنه أنها نزلت على آدم عليه السلام تسعة وعشرين حرفا عدّ منها اللام ألف وهو الموجود في التصوير فلا يعوّل إلا عليه إن صح الحديث.(3/22)
ثم للحروف العربية فروع توجد في اللفظ دون الكتابة مستحسنة ومستقبحة، تبلغ بها الحروف العربية سبعة وأربعين حرفا، ولا يوجد ذلك في لغة أمة من الأمم، أضربنا عن ذكرها لعدم تعلّقها بالخط الذي نحن بصدده؛ وبالله المستعان.
الجملة الثالثة في بيان جهة ابتداءات الحروف
واعلم أن أصحاب الأقلام اختلفوا باعتبار مقاصدهم في البداءة بالحروف.
فمنهم من يبدأ من اليمين إلى اليسار كالعرب والعبرانيين والهنود وأهل الطبيعة والسّريانيين، آخذا فيه على سير الفلك من المشرق إلى المغرب، والمشرق عندهم يمين الفلك ويقال له: مأخذ «1» كوريّ، وقيل: لأن فيه الاستمداد من الكبد إلى القلب.
ومنهم من يبدأ من اليسار إلى اليمين كالرومية واليونانيّة والقبطية، وفنّ من الفارسية، آخذا فيه على سير الكواكب السبعة السيارة من المغرب إلى المشرق.
ويقال له: مأخذ دوريّ؛ وقيل: لأنه ناشيء عن حركة القلب إلى الكبد.
الجملة الرابعة في كيفية ترتيب الحروف
واعلم أن ترتيب الحروف على ضربين: مفرد ومزدوج؛ وبين أهل الشرق وأهل الغرب في كل من النوعين خلاف في الترتيب.
أما المفرد فأهل الشرق يرتبونه على هذا الترتيب:
أب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ ولا ي وأما أهل الغرب فإنهم يرتبونه على هذا الترتيب:(3/23)
أب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ ولا ي وأما المزدوج فأهل الشرق يرتبونه على هذا الترتيب:
أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ:
وأهل الغرب يرتبونه على هذا الترتيب:
أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ظغش «1» .
على أنه قد اختلف في كلمات أبجد هل لها معنى أم لا، وهل يكره تعلّمها أم لا، وأكثر الناس في الشرق والغرب على تعلّمها.
وقد جاء أنها كانت تعلّم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ويشهد لذلك قول الأعرابيّ في أبياته:
أتيت مهاجرين فعلّموني ... ثلاثة أسطر متتابعات
وخطّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلّم سعفصا وقريّشات
وقيل: إن أبجد، وهوّز، وحطي، وكلمن، كانت أسماء ملوك مدين، وإن كلمن كان في زمن شعيب عليه السلام. وقد تقدّم أن الأربعة المذكورة كانت أسماء واضعي الخط العربيّ على قول؛ والله أعلم.
الجملة الخامسة في كيفية صور الحروف العربية وتداخل أشكالها
قد تقدّم أن الحروف العربية على تسع عشرة صورة، وهي صورة الألف، وصورة الباء والتاء والثاء، وصورة الجيم والحاء والخاء، وصورة الدال والذال، وصورة الراء والزاي، وصورة السين والشين، وصورة الصاد والضاد، وصورة الطاء والظاء، وصورة العين والغين، وصورة الفاء والقاف «2» ، وصورة الكاف،(3/24)
وصورة اللام، وصورة الميم، وصورة النون، وصورة الهاء، وصورة الواو، وصورة اللام ألف، وصورة الياء، وفرّقوا بينها بالنقط كما سيأتي، وقصدوا بذلك تقليل الصّور للاختصار لأن ذلك أخفّ من أن يجعل لكل حرف صورة فتكثر الصّور. ثم ترجع الصور التسع عشرة بعد ذلك إلى خمس صور: وهي الألف والجيم والراء والنون والميم؛ ففي صورة الألف إحدى عشرة صورة، ألف قائمة، وهي أ، وسبع «1» ألفات مسطوحة، وهي ب ت ث، ك ل ي، فكل هذه على صورة الألف غير أن فيها ما تكرّر فيه صورة الألف، وهي الكاف واللام، وألفان مبطوحتان، وهما ط ظ، وألف معطوفة، وهي لا؛ وفي الجيم سبع صور جيم مرفّلة، وهي ج ح خ، وجيمان محذوفتان، وهما د ذ، وجيمان شاخصتان، وهما ع غ؛ وفي الراء ثلاث صور، وهي ر ز و، وفي النون ست صور، وهي ن س ش ص ض ق؛ وفي الميم صورتان، وهما م هـ.
الطرف الخامس في تحسين الخطّ، وفيه جملتان
الجملة الأولى في الحث على تحسين الخط
لا خفاء أن حسن الخط من أحسن الأوصاف التي يتصف بها الكاتب، وأنه يرفع قدره عند الناس، ويكون وسيلة إلى نجح مقاصده، وبلوغ مآربه؛ مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد التي لا تكاد تحصى كثرة.
وقد قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحا» .
وقال بعض العلماء: الخط كالروح في الجسد، فإذا كان الإنسان جسيما(3/25)
وسيما حسن الهيئة، كان في العيون أعظم، وفي النفوس أفخم، وإذا كان على ضدّ ذلك سئمته النفوس، ومجّته القلوب؛ فكذلك الخط إذا كان حسن الوصف، مليح الرّصف مفتّح العيون، أملس المتون، كثير الائتلاف، قليل الاختلاف، هشّت إليه النفوس، واشتهته الأرواح؛ حتّى إن الإنسان ليقرؤه وإن كان فيه كلام دنيء، ومعنى رديء، مستزيدا منه ولو كثر، من غير سآمة تلحقه؛ وإذا كان الخط قبيحا مجّته الأفهام، ولفظته العيون والافكار، وسئم قارئه، وإن كان فيه من الحكمة عجائبها، ومن الألفاظ غرائبها.
ويقال: إن الخط مواز للقراءة، فأجود الخط أبينه، كما أن أجود القراءة أبينها؛ ولا يخفى أن الخط الحسن هو البيّن الرائق البهج. ثم قد تقدّم في الكلام على أصل الخط أن الخطّ واللفظ يتقاسمان فضيلة البيان، ويشتركان فيها.
قال في «مواد البيان» «1» : ولما كان الخط قسما للّفظ في البيان الذي امتنّ الله تعالى بتعليمه على الإنسان، وجب على الكاتب أن يعنى بأمر الخط، ويراعي من تجويده وتصحيحه، ما يراعيه من تهذيب اللفظ وتنقيحه، ليدلّ على سرعة وسهولة كما يدلّ اللفظ البليغ البيّن، لأن الخط وإن كان على الإطلاق في المنزلة التي لا تساوى من الشرف فإنما تحصل فضائله للجيّد منه، كما أن المنطق وإن كان من الشرف في هذا الحدّ فإنما تحصل فضائله التامّة لمنطق البليغ اللّسن، دون منطق العييّ الألكن، وكذلك سائر الصنائع الفاضلة على الإطلاق إنما يحصل فضلها للماهر فيها دون المبتديء.
قال: فينبغي للكاتب ألّا يقدّم على تهذيب خطه وتحريره شيئا من آدابه فإن جودة الخط أوّل الأدوات التي ينتظم بحصولها له اسم الكتابة، ويحكم عليه إذا(3/26)
حازها بأنه من أهلها. وقد دخل بحسن الخط في الصناعة من إذا فحص عن مقدار معرفته وجب أن تنزّه الكتابة عن نسبته إليها.
ويجب مع ذلك أن يراعي تأسيس الخط على الوضع الذي اصطلح عليه المجيدون من الكتّاب، فقد قسم أهل الصناعة الخطّ إلى قسمين: محقّق ومطلق.
فأما المحقّق فما صحّت أشكاله وحروفه على اعتبارها مفردة.
قال في «موادّ البيان» : وهذا القسم هو الذي يستعمل في الأمور الجسمية: ككتب العهود، والإسجالات، والتمليكات التي تبقى على الأعقاب، والمكاتبات الصادرة عن الملوك إلى الملوك، الدالة على قدر المكتوب عنه والمكتوب إليه.
وأما المطلق فهو الذي تداخلت حروفه واتصل بعضها ببعض.
قال في «مواد البيان» : وهو خط مولّد من المحقّق، يستعمل في تنفيذ ما لا يمكن تأخيره من المكاتبات المهمّة والأمور العامة. قال: ويجب أن يلزم الطريقة في كل واحد من الخطين، ولا يخلط حروف أحدهما بحروف الآخر.
الجملة الثانية في الطريق إلى تحسين الخط؛ ويتوصّل إلى ذلك بأمور
الأوّل «1» - معرفة تشكيل الحروف
قال في «مواد البيان» : وهو الأصل في أدب الخط، لأن الخط إنما يسمّى جيّدا إذا حسنت أشكال حروفه، وإنما يسمّى رديئا إذا قبحت أشكال حروفه.
وحسن صور حروف الخط في العين شبيه بحسن مخارج اللفظ العذب في السّمع.
قال: والوجه في تصحيح الحروف أن يبدأ أوّلا بتقويمها مفردة مبسوطة(3/27)
لتصح صورة كل حرف منها على حالها، ثم يؤخذ في نقويمها مجموعة مركبة، وأن يبدأ من المركّب بالثنائى والثلاثيّ، ثم بالرباعيّ، ثم بالخماسيّ؛ فإن هذه هي أمثلة الأسماء والحروف الأصلية، وأن يعتمد في التمثيل على توقيف المهرة في الخطوط، العارفين بأوضاعها ورسومها واستعمال آلاتها، فإن لكل خط من الخطوط قلما من الأقلام يصلح لذلك الخط، وهذه الأقلام المختلفة نظير آلات الصنائع المختلفة التي يصنع الصانع بكل آلة منها جزاءا من صناعته لا يصنع به غيره؛ ولا يعوّل على كتابة خط من الخطوط بنقل مثاله بنفسه فإن ذلك لا يكفيه، إذ لو كان ذلك كافيا لاستغني في جميع الصنائع عمن يوقّف عليها. على أن كثيرا من أصحاب الخطوط قد كتبوا طبعا دون التوقيف من أحد على طريقة من طرق المحرّرين، إلا أن الأفضل أن يبنى الخطّ على أصل يكون له أساسا، فإذا فصّلت أحواله انكشف فساد كثير من حروفه.
الطرف السادس في قواعد تتعلق بالكتابة لا يستغني الكاتب المجيد عن معرفتها؛ وفيه جملتان
الجملة الأولى في هندسة الحروف، ومعرفة اعتبار صحتها ونحن نذكرها على ترتيب الحروف
الألف
قال الوزير أبو عليّ بن مقلة: وهي شكل مركب من خط منتصب، يجب أن يكون مستقيما غير مائل إلى استلقاء ولا انكباب. قال: وليست مناسبة لحرف في طول ولا قصر.
قال الشيخ شرف الدين محمد ابن الشيخ عز الدين بن عبد السلام «1» : وهي(3/28)
قاعدة الحروف المفردة، وباقي الحروف متفرعة عنها ومنسوبة إليها.
ثم الذي ذكره صاحب «رسائل إخوان الصفا» «1» في رسالة الموسيقى، عند ذكر حروف المعجم استطرادا أن مساحتها في الطول تكون ثمان نقط القلم الذي تكتب به ليكون العرض ثمن الطّول.
والذي ذكره الشيخ شرف الدين محمد ابن الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
أنها مقدّرة بست نقط.
والذي ذكره الشيخ زين الدين شعبان الآثاريّ في ألفيته أنها مقدّرة بسبع نقط، فما زاد على ذلك كان زائدا عن مقدارها وما نقص كان ناقصا عنه.
قال ابن عبد السلام: وتكون النقطة مربعة. قال: ويكون ابتداؤها بنقطة وآخرها بشظيّة.
قال ابن مقلة: واعتبارها أن تخط إلى جانبها ثلاث ألفات أو أربع ألفات فتجد فضاء ما بينها متساويا.
قال ابن عبد السلام «2» : وتكون ذلك الألفات المخطوطة إلى جانبها مناسبات لها في الطول متساويات الرؤوس والأذناب.(3/29)
الباء
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من خطين: منتصب ومنسطح. قال:
ونسبته إلى الألف بالمساواة.
قال ابن عبد عبد السلام: ويكون المنتصب طوله بمقدار ثلث ألف خطّه.
قال: ويبدأ أوّله بنقطة، وكذلك آخره إن كان مرسلا، فإن كان معطوفا فليكن بسنّ القلم اليسرى، والمستدير فيه مثل المنتصب، ولكن يكون المنتصب أرجح من المستدير بنزر يسير؛ وتكون السّنّة المبتدأ بها مترجّحة في الطّول على آخرها المعطوف.
قال ابن مقلة: واعتبار صحّتها أن تزيد في أحد سنّيها ألفا فتصير لاما، وزاد ابن عبد السلام في إيضاحه فقال: أن تزيد المنتصب تكملة ألف بحيث يكون طول جملته كطول المنسطح لا أطول ولا أقصر. ثم قال: وهذا الحرف وما يجرى مجراه من يمنة إلى يسرة، وكلّ ما كان كذلك فينبغي أن يمال القلم فيه نحو اليسرة قليلا. ولا يخفى أن التاء والثاء في معنى الباء في ذلك جميعه.
الجيم
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من خطّين: منكبّ ونصف دائرة؛ وقطرها مساو للألف. وأبدل ابن عبد السلام المنكبّ بالمنسطح، ثم قال: والمنسطح كثلثي ألف من خطه، وربما يكون أنقص بنقطة. قال: ومساحة نصف الدائرة كألف ونصف ألف من قلم الكتابة، ورأسها يكون من يسرة إلى يمنة على استقامة تقريبا؛ وكلّ ما كان كذلك ينبغي أن يمال برأس القلم فيه إلى اليمنة قليلا، يبدأ أوّله بشظيّة بالسّنّ اليمنى من القلم، وآخر تعريجها بالسّنّ اليسرى منه.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تخطّ عن يمينها وشمالها خطّين فلا تنقص عنهما شيئا يسيرا ولا تخرج.
وقال ابن عبد السلام: واعتبار صحة رأسها أن تكتبه من يسرة إلى يمنة على(3/30)
استقامة تقريبا. قال: وحسنها أن تخفضها من الجهة اليمنى قليلا، وميزانها أن تسطر سطرا وتأخذ عليه من يسرة إلى يمنة مقدار ثلثي ألف من قلم الكتابة، بحيث لا يرتفع أولها عن آخرها إلا يسيرا، ولا آخرها عن أولها بل تكون منسبكة فيه، واعتبار نصف الدائرة أن تقابله بنصف آخر فيصير دائرة. ثم قال: وليقصد أن يجعل رأس الجيم سواء آخذا ابتداء الدائرة في جسد ثلث الرأس منسبكا فيه، بحيث يكون الثلث ضلعا واحدا.
ولا يخفى أن الحاء والخاء في معنى الجيم في جميع ما تقدّم.
الدال
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من خطين: منكبّ ومنسطح، مجموعهما مساو للألف. وجعل ابن عبد السلام منها شكلا آخر مركّبا من ثلاثة خطوط:
منكبّ، ومنسطح، ومستدير. وكأنه يريد الدال المجموعة. ثم قال: فالمنكب طوله بمقدار نصف ألف خطّه لا غير، وكذلك المنسطح. وابتداء أوّلها بنقطة، وآخرها إن كان مرسلا بقطّة، وإن كان معطوفا بسنّ القلم اليسرى.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تصل طرفيها بخطّ فتجده مثلّثا متساوي الأضلاع. ولا يخفى أن الذال في معنى ما تقدّم.
الراء
قال ابن مقلة: وهي شكل مركّب من خطّ مقوّس هو ربع الدائرة التي قطرها الألف وفي رأسه سنّة مقدّرة في الفكر.
قال ابن عبد السلام: وتبدأ أولها بنقطة، وآخرها إن كان مرسلا فبسنّ القلم اليمنى، وإن كان معطوفا فبسنّه اليسرى.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تصلها بمثلها فتصير نصف دائرة. ولا يخفى أن الزاي في معناها.(3/31)
السين
قال ابن مقلة: وهو شكل مركّب من خمسة خطوط: منتصب، ومقوّس.
ومنتصب، ومقوّس، ومنتصب «1» .
قال ابن عبد السلام: ومساحة رأس السين من أوّل سنّ منها إلى ثالث سنّ كثلثي ألف خطّه. قال: ومساحة قوسها إن كان معطوفا مساحة ألف من خطه، وإن كان مرسلا مساحة ألفين من خطه. وطول كل سنّة مثل سدس ألف خطه، يبدأ أوّلها بنقطة، أما آخرها فإن كان مرسلا فبسنّ القلم اليمنى، وإن كان معطوفا فبسنّه اليسرى. قال: وإذا ابتدأت بالسّنّة وطلعت إلى الثانية فخذ إلى الثالثة من أعلاها ليصير بياض من أسفلها، فإنك متى أخذت رأس سنّة من أسفلها صار أسفلها مصطحبا، ويكون البياض الذي بين السنّات على السوية في البياض.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها يعني صحة رأسها أن تمرّ بأعلاها وأسفلها خطين فلا تخرج عنهما شيئا ولا تنقص.
ولا يخفى أن حكم الشين أيضا كذلك.
الصاد
قال ابن مقلة: هي شكل مركب من ثلاثة «2» خطوط: مقوّس، ومنسطح، ومقوس.
قال ابن عبد السلام: وابتداؤه بشظيّة، أما انتهاؤه فإن كان مرسلا فبسنّ القلم اليمنى، وإن كان معطوفا فبسنه اليسرى. قال: ومساحة رأس الصاد في(3/32)
الطول كثلثي ألف خطه، ومساحة قوسها إن كان معطوفا مساحة ألف الكتابة، وإن كان مرسلا فمساحة ألفين من قلم خطه.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تجعلها مربّعة فتصير متساوية الزّوايا في المقدار.
وقال ابن عبد السلام: اعتبار صحتها أن يكون أعلاها كراء معلّقة، والمنسطح كباء، والمقوّس كنون؛ ويكون رأس النون مشرفا على آخرها.
ولا يخفى أن الضاد كذلك.
الطاء
قال ابن عبد السلام: هو شكل مركّب من ثلاثة خطوط: منتصب، ومقوّس، ومنسطح، يبدأ أوله بنقطة وآخره بنقطة. قال: ومساحة ضوء الطاء في الطول كثلثي ألف خطه.
قال ابن مقلة: واعتبارها كاعتبار [الصاد «1» ] .
وقال ابن عبد السلام: اعتبار صحتها أن يكون المنتصب كألف من خطه في الانتصاب والطول، والمقوّس كراء معلقة، والمنسطح كباء مرسلة.
ولا يخفى أن حكم الظاء في ذلك كالطاء.
العين
قال ابن مقلة: وهي شكل مركّب من خطين: مقوّس ومنسطح، أحدهما نصف الدائر.
وقال ابن عبد السلام: هي شكل مركب من ثلاثة خطوط: مقوّس، ومنكبّ،(3/33)
[ومنسطح «1» ] يبدأ أولها بشظيّة، وآخر تعريجها بسنّ القلم اليسرى، والتعريجة نصف دائرة؛ ومساحة القوس كألف وثلث من قلم الكتابة، ومساحة الرأس في الطول كثلثي ألف خطه، ويصوّر من رأسها رأس صاد.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها كاعتبار الجيم.
وقال ابن عبد السلام: اعتبارها أن تخط عن يمينها خطّا من أعلاها إلى منتهى تعريجها فلا يقصر ظهر القوس عن يسارها يسيرا بنقطة تكون سدس ألف خطها لا غير.
ولا يخفى أن الغين في الحكم كذلك.
الفاء
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من أربعة خطوط: منكبّ، ومستلق ومنتصب، ومنسطح.
قال ابن عبد السلام: تبدأ أوله بنقطة وتأخذه على سطر إلى جهة اليسار، ثم تأخذ المستلقي إلى أن تنتهي إلى قبالة المنسطح بحيث يصير كالدال المقلوبة. ثم تأخذ من حيث انتهت إلى أن تلصق بالمنسطح فيبقى مثلّثا متساوي الأضلاع، مساحة ضوئه نقطة بمقدار سدس ألف خطّه؛ ثم إن كان معطوفا ختمته بسنّ القلم، وإن كان مرسلا فبقطته.
قال ابن مقلة: واعتبار صحته أن تصل بالخط الثاني منها خطّا فيصير مثلّثا قائم الزاوية.(3/34)
القاف
قال ابن مقلة: هو شكل مركّب من ثلاثة خطوط: منكبّ، ومستلق، ومقوّس.
قال ابن عبد السلام: هو مركب من أربعة خطوط، رأسها كرأس الفاء سواء بجميع ما تقدّم، وإرسالها كالنون على ما سيأتي ذكره؛ فإن كان آخرها معطوفا فبسنّ القلم اليسرى، وإن كان مرسلا فبسنّه اليمنى. قال: ومساحة ضوء القوس من أوّله إلى آخره إن كان معطوفا كألف قلم الكتابة، وإن كان مرسلا فكألفين.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها كاعتبار النون، وسيأتي ذكره.
الكاف
قال ابن مقلة: شكل مركّب من أربعة خطوط: منكبّ، ومنسطح، ومنتصب، ومنسطح.
وقال ابن عبد السلام: وهو مركّب من أربعة خطوط: مستلق، ومنسطح طوله مقدار ألف وثلث ألف من قلم الكتابة، ومنكبّ طوله مقدار ثلث ألف من خطه، ومنسطح طوله مقدار ألفين من خطه، يفصل منتهى المنسطح ما بين المنسطحين.
قال: ولك أن تزيد الأسفل عن رأس الكاف بمقدار ثلث ألف الكتابة بسبب ما يتصل به، فيصير فضاء ما بين ما اتصل بآخرها إلى رأس الكاف مثل الفضاء الذي بين المنسطحين.
قال: ولا يجوز أن تكتب مختلسة إذا لم يتصل آخرها بحرف، بل إذا كانت آخر كلمة تكتب منتصبة قائمة لا غير؛ وتكتب إذا كانت منتصبة كاللام على ما سيأتي بيانه.
قال: وتبدأ أولها بشظيّة فإذا انتهيت إلى اتصال رأسها بالمنسطح تشير بتدويرها دون تحديدها.(3/35)
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن ينفصل منها باءان. قال ابن عبد السلام:
يعني مستقيمة ومقلوبة.
اللام
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من خطين: منتصب، ومنسطح.
قال ابن عبد السلام: فالمنسطح ألف والمنتصب ياء؛ فإن كان معطوفا فبسنّ القلم اليسرى، وإن كان مرسلا فبقطّه.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تخرج من أولها إلى آخرها خطّا يماسّ الطرفين فيصير مثلّثا قائم الزاوية.
قال: وتكتب على الأنواع الثلاثة التي تكتب عليها الباء.
الميم
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من أربعة خطوط: منكبّ، ومستلق، ومنسطح، ومقوّس.
وقال ابن عبد السلام: مركّب من أربعة خطوط: منكبّ، ومقوّس، ومستلق بتقويس، ومقوّس كالراء يكون ربع دائرة؛ فإن كان آخرها منتصبا فهو في الوضع والطّول مثل ألف من خطه غير مائل إلى استلقاء ولا انكباب، تبدأ أول الميم بشظيّة وآخرها بشظيّة.
قال: ومساحة ضوئها مثل سدس ألف خطّها؛ وهو مستطيل مستدير كالبيضة منتصب إلى جهة اليمين.
قال ابن مقلة: واعتبارها كاعتبار الهاء، وسيأتي.
النون
قال ابن مقلة: هو شكل مركّب من خطّ مقوّس، هو نصف الدائرة؛ وفيه سنّة مقدّرة في الفكر.(3/36)
قال ابن عبد السلام: يبدأ أوّله بنقطة، وآخره إن كان معطوفا فبسنّ القلم اليسرى، ومساحة ضوئه ألف من قلم خطه؛ وإن كان مرسلا فبسنّ القلم اليمنى، ومساحة ضوئه ألفان من قلم خطّه.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن يوصل بها مثلها فتكون دائرة.
الهاء
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من ثلاثة خطوط: منكبّ، ومنتصب، ومقوّس.
وقال ابن عبد السلام: من ثلاثة خطوط: منكبّ، ومنسطح بترطيب، ومستلق؛ تبدأ أولها بنقطة وآخرها إرسالة بسن القلم اليمنى؛ طول المنكبّ كطول نصف ألف من خطه، وطول المنسطح كثلث ألف من خطه، وطول المستلقي كنصف ألف قلم خطه.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تجعلها مربّعة فتتساوى الزاويتان العليا وان كتساوي الزاويتين السّفلاوين.
وقال ابن عبد السلام: اعتبار صحتها أن تجعل ردّتها في ثلثيها، فإذا كمل وضعها فاجعلها مربعة فتتساوى الزاويتان العاليتان والزاويتان السافلتان.
الواو
قال ابن مقلة: هي شكل مركّب من ثلاثة خطوط: مستلق، ومنكبّ، ومقوّس.
وقال ابن عبد السلام: هي مركّبة من أربعة خطوط، رأسها كرأس الفاء؛ وتقويسها كالراء؛ وهو ربع دائرة، تبدأ أولها بنقطة، وآخرها إن كان معطوفا فبسنّ القلم اليسرى، وإن كان مرسلا فبسنّه اليمنى.
اللام ألف
قال ابن عبد السلام: هي شكل مركّب من ثلاثة خطوط: منكبّ، ومنسطح(3/37)
مستقيم، ومستلق؛ طول المنكبّ كطول ألف من قلم الكتابة وطول المنسطح كثلثي ألف الكتابة، وطول المستلقي كطول ألف الكتابة؛ تبدأ أوّل المنكبّ بنقطة، وكذلك المستلقي.
قال: واعتبار صحتها أن يكون ثلثها من أسفلها والثلثان من أعلاها، وأن تخط من رأس اللام الى رأس الألف خطّا مستقيما، وأن تخط من أعلاها الى أسفلها خطّا فلا يقصر عنها ولا يخرج.
قال: ومنها نوع آخر مركب من ثلاثة خطوط: منكبّ، ومستدير يقارب ألفا، ومستلق يقابل طرفه طرف المنكبّ.
الياء
قال ابن مقلة: شكل مركّب من ثلاثة «1» خطوط: مستلق، ومنكبّ، ومقوّس.
قال ابن عبد السلام: وهي كالنون؛ وتبدأ أولها بشظيّة رأسها كدال مقلوبة، طول المستلقي منها كنصف ألف من خطه، وكذلك المنكبّ على ما تقدّم في الدال.
قال: والمقوّس إن كان معطوفا فمساحته كألف من خطّه وآخره بسنّ القلم اليسرى، وإن كان مرسلا فمساحته كألفين من خطه وآخره بسنّ القلم اليمنى.
قال: ومنها نوع كرأس الكاف المستلقي والمنسطح سواء.
قال ابن مقلة: واعتبارها كاعتبار الواو.(3/38)
الجملة الثانية في معرفة ما يقع به ابتداء الحروف وانتهاؤها
: من نقطة أو شظيّة أو غير ذلك.
أمّا الابتداء فعلى ثلاثة أضرب:
الضرب الأول ما يبتدأ بنقطة، وهو تسع «1» صور
صورة الباء وأختيها، وصورة الدال وأختها، وصورة السين وأختها، وصورة اللام، وصورة النون، وصورة العين وأختها. وقد جمعها السّرّمرّيّ «2» في أرجوزته في أوائل كلمات بيت واحد؛ وهو قوله:
إذا بدت دعد رقا سناها ... لعاشق ناح على هواها
على أن الشيخ شرف الدين بن عبد السلام قد وهم فعدّ منها الفاء، وليس كذلك بل هي مما يبتدأ بجلفة «3» على ما سيأتي ذكره.
الضرب الثاني ما يبتدأ بشظيّة، وهو صور خمسة أحرف الحاء والطاء والياء والصاد والكاف
وقد جمعها السّرّمرّيّ في قوله: «خطي يصك» .(3/39)
وجعل ابن عبد السلام الخمسة:
الغين، والطاء، والحاء، والكاف، والصاد.
وجمعها في قوله: «غطّ حصّك» وألحق بها أشباهها.
الضرب الثالث ما يبتدأ بجلفة. وهو صور أربعة أحرف:
القاف، والميم، والواو، والفاء وقد جمعها السّرّمرّيّ في قوله: «قم وفّ» .
وأمّا الاختتام فعلى ثلاثة أضرب أيضا:
الضرب الأول ما يختتم بقطّة القلم. وهو صور ستة أحرف:
الطاء، والفاء، والباء، واللام، والدال، والكاف وجمعها ابن عبد السلام في قوله: «دبّ طفلك» ولا يخفى أن أخواتها في معناها.
الضرب الثاني ما يختتم بشظيّة
؛ وهو صورة واحدة وهي الألف
الضرب الثالث ما يرسل في ختمه إرسالا
، وهو صورة أحد عشر حرفا، وهي:
السين، والراء، والحاء، والميم، والنون، والياء والعين، والقاف، والصاد، والواو، والهاء يجمعها قولك: «سرح منيع وقصه» .(3/40)
الطرف السابع في مقدّمات تتعلق بأوضاع الخط وقوانين الكتابة، وفيه ثلاث جمل
الجملة الأولى في كيفية إمساك القلم عند الكتابة، ووضعه على الورق
قال الوزير أبو عليّ بن مقلة رحمه الله: يجب أن تكون أطراف الأصابع الثلاث: الوسطى والسّبابة والإبهام على القلم؛ وإلى ذلك يشير أبو تمّام الطائيّ بقوله:
............ وسدّت ... ثلاث نواحيه الثّلاث الأنامل
أما قول القائل في وصف القلم أيضا:
وذي عفاف راكع ساجد ... أخو صلاح دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهدا في طاعة الباري
يريد بالخمس الأصابع الخمس؛ فإنه على سبيل المجاز، من باب مجاز المجاورة.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف «1» : وتكون الأصابع مبسوطة غير مقبوضة، لأن بسط الأصابع يتمكن الكاتب معه من إدارة القلم؛ ولا يتكيء على القلم الاتكاء الشديد المضعف له، ولا يمسكه الإمساك الضعيف فيضعف اقتداره في الخط، لكن يجعل اعتماده في ذلك معتدلا.
وقال حنون: إذا أراد الكاتب أن يكتب فإنه يأخذ القلم فيتكيء على الخنصر، ويعتمد بسائر أصابعه على القلم، ويعتمد بالوسطى على البنصر، ويرفع السبّابة على القلم، ويعمل الإبهام في دورانه وتحريكه.(3/41)
قال ابن مقلة: ويكون إمساك القلم فويق الفتحة بمقدار عرض شعيرتين أو ثلاث، وتكون أطراف الأصابع متساوية حول القلم لا تفضل إحداهنّ على الأخرى.
قال صاحب «الحلية» «1» : وتكون الأصابع على القلم منبسطة غير منقبضة ليتمكّن من إدارة القلم، ولا يدار حالة الاستمداد.
قال ابن العفيف: وعلى حسب تمكّن الكاتب من إدارة قلمه وسرعة يده في الدّوران يكون صفاء جوهر حروفه.
الجملة الثانية في كيفية الاستمداد، ووضع القلم على الدّرج
أما الاستمداد «2» فهو أصل عظيم من أصول الكتابة؛ وقد قال المقرّ العلائيّ ابن فضل الله «3» : من لم يحسن الاستمداد وبري القلم فليس من الكتابة في شيء.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: وإذا مدّ الكاتب فليكن القلم بين اصابعه على صورة إمساكه له حين الكتابة، ولا يديره للاستمداد، لأن أحسن المذاهب فيه أن يكون من يد الكاتب على صورة وضعه في الكتاب، ويحرّك رأس القلم من باطن يده إلى خارجها فإنه يمكن معه مقام القلم على نصبته من الأصابع، ومتى عدل عن هذا لحقته المشقّة في نقل نصبة الأصابع في كل مدّة «4» .(3/42)
قال: وهذا من أكبر ما يحتاج إليه الكاتب، لأن هذا هو الذي عليه مدار جودة الخط.
ثم قال: وقلّما يدرك علم هذا الفصل إلا العالم الحاذق بهندسة الخط، مع ما يكون معه من الأناة وحسن التأدية.
ومن كلام المقرّ العلائيّ ابن فضل الله: ينبغي للكاتب ألّا يكثر الاستمداد بل يمدّ مدّا معتدلا، ولا يحرّك اللّيقة «1» من مكانها، ولا يعثر بالقلم فإن ذلك عيب عند الكتّاب، ولا يردّ القلم إلى اللّيقة حتّى يستوعب ما فيه من المداد، ولا يدخل منه الدواة كثيرا، بل إلى حدّ شقّه، ولا يجاوز ذلك إلى آخر الفتحة، ليأمن تسويد أنامله، وليس ذلك من خصال الكتّاب.
وأما وضع القلم على الدّرج «2» فقال أبو عليّ بن مقلة: ويجب أن يكون أوّل ما يوضع على الدّرج موضع القطة منكبّا.
الجملة الثالثة في وضع القلم على الأذن حال الكتابة عند التفكر
قال محمد بن عمر المدائني: يستحبّ للكاتب في كتابته إذا فكّر في حاجة أن يضع القلم على أذنه؛ وساق بسنده إلى أنس بن مالك «3» رضي الله عنه: أن معاوية بن أبي سفيان كان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان إذا رأى من النبيّ صلى الله عليه وسلم إعراضا وضع القلم في فيه، فنظر إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «يا معاوية إذا كنت كاتبا فضع القلم على أذنك فإنّه أذكر لك وللمملي» .
وساق بسنده أيضا إلى زيد بن ثابت «4» رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر(3/43)
إليه وهو يكتب في حوائجه فقال له: «ضع القلم على أذنك فإنّه أذكر لك» .
وأخرج أيضا من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكاتبه: «ضع القلم على أذنك يكن أذكر لك» .
وفي رواية عن أنس: «كان معاوية كاتبا للنبيّ فرآه يوما قد وضع القلم على الأرض فقال: يا معاوية إذا كتبت كتابا فضع القلم على أذنك» .
وأخرج أيضا «أن كعبا كان يتحدث عند عائشة، فذكر إسرافيل فقال: له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وجناح مسربل به والقلم على أذنه فإذا نزل الوحي جرى القلم ودرست «1» الملائكة. فقالت عائشة: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
الطرف الثامن في ذكر قوانين يعتمدها الكاتب في الخط؛ وفيه ستّ جمل
الجملة الأولى في كيفية حركة اليد بالقلم في الكتابة، وما يجب أن يراعى في كلّ حرف
قال السّرّمرّيّ وابن عبد السلام وغير هما: كلّ خط منتصب ينبغي أن يكون الاعتماد فيه من القلم على سنّيه معا، وكل خط من يمنة إلى يسرة ينبغي أن يمال القلم فيه نحو اليسرة قليلا، وكل خط من يسرة إلى يمنة ينبغي أن يمال رأس القلم فيه إلى اليمنة قليلا، وكل شظيّة ينبغي أن تكون بالسّنّ اليمنى من القلم، وكل نقطة ينبغي أن تكون بسنّي القلم، وكل تقعير كما في النون وتعريقة الصاد يجب أن تكون بالسنّ الأيمن وكل إرسالة يجب أن تكون بسنّ القلم اليمنى، وكل تعريج كما في عراقة الجيم والعين يجب أن يكون بسنّ القلم اليسرى، وكل ما أخذ فيه من يمنة إلى يسرة كاللام ونحوها ينبغي أن يمال فيه رأس القلم إلى اليسرة قليلا،(3/44)
وكل ما أخذ فيه من يسرة إلى يمنة كرأس الجيم ينبغي أن يمال رأس القلم فيه إلى اليمنة قليلا، وكلّ خط منتصب فيجب أن يكون انتهاؤه إرسالة، وطول كل سنة من السين ونحوها مثل سدس ألف خطها، وقيل مثل سبعه، وكلّ شظية في أوّل أو آخر مثل سبع ألف خطّها.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: وللسّنّ الأيمن من القلم الألف واللام ورفعة الطاء والنون والباء والكاف إذا كانت قائمة مبتدأة، وأواخر التعريقات والمدّات وطبقة الصاد والضاد، ومدّة السين والشين؛ وللأيسر الجيم وأختاها والردّات وتدوير رؤوس الفاءات والقافات والهاءات والواوات والكافات المشقوقة.
قال: وكل ردّة من اليسار إلى اليمين تكون بصدر القلم.
قال: ويجب أن تكون المطّات الطويلة بسنّ القلم اليمنى مشظّاة ممالة، فتكون المطّة من رأس شظيّتها، وأن تكتب المدّات القصيرة بحرف القلم؛ وإذا ابتدأ بالمدّة وجب أن يدار القلم على سنّه مثل مطّة الطاء؛ وإذا وصلت المطّة بحرف مثلها كتبت بوجه القلم مثل مطّة الفاء المفردة. ثم قال: وهذا من أعظم أسرار الكتابة.
الجملة الثانية في تناسب الحروف ومقاديرها في كل قلم
قال صاحب «رسائل إخوان الصفا» في رسالة الموسيقى منه:
ينبغي لمن يرغب أن يكون خطّه جيّدا وما يكتبه صحيح التناسب، أن يجعل لذلك أصلا يبني عليه حروفه، ليكون ذلك قانونا له يرجع إليه في حروفه، لا يتجاوزه ولا يقصّر دونه.
قال: ومثال ذلك في الخطّ العربيّ أن تخط ألفا بأيّ قلم شئت، وتجعل غلظه الذي هو عرضه مناسبا لطوله، وهو الثمن ليكون الطّول مثل العرض ثمان مرّات، ثم تجعل البركار «1» على وسط الألف وتدير دائرة تحيط بالألف لا يخرج دورها عن(3/45)
طرفيه، فإنّ هذا الطريق والمسلك يوصّلان إلى معرفة مقادير الحروف على النسبة، ولا تحتاج في مقاييسك ما تقصده إلى شيء يخرج عن الألف وعن الدائرة التي تحيط به.
فالباء وأخواتها- كل واحدة منها يجب أن يكون تسطيحها إذا أضيفت إليه سنّها مساويا لطول الألف، فإن زاد سمج وإن قصر قبح، ومقدار ارتفاع سنّها وجميع السنن التي في السين والشين ونحوها لا يتجاوز مقدار ثمن الألف.
والجيم وأخواتها- مقدار مدّتها في الابتداء لا يقصر عن نصف طول الألف.
وكذلك يجري الأمر في العين، والغين، والسين، والشين، والصاد، والضاد، والراء والزاي، كل واحدة منها مثل ربع محيط الدائرة.
والدال، والذال- كل واحدة منهما يجب أن يكون مقدارها إذا أزيل الانثناء الذي فيها وأعيدت إلى التسطيح لا يتجاوز طول الألف ولا يقصر دونه.
والسين، والشين- كلّ واحدة منهما يجب أن تكون سننها إلى فوق مثل مقدار ثمن الألف، وفي العرض بمقدار نصفها، وفي التعريق مثل نصف الدائرة المحيطة بالألف.
والصاد، والضاد- مقدار عرض كلّ منهما في مداها مثل مقدار نصف الألف وفتحة البياض فيها مقدار ثمن الألف أو سدسها، وتعريقها إلى أسفل مثل نصف الدائرة المحيطة بالألف.
والطاء، والظاء- كلّ واحدة منهما في ناحية يجب أن يكون مقداره مثل مقدار جميع طول الألف وعرضه مثل نصف الألف.
والعين، والغين- كلّ واحد منهما مقدار تقويسه في العرض مثل نصف الألف أو مثل الألف إذا أعيدت إلى التسطيح وأزيل تثنّيه وتقويسه من أسفل مثل نصف محيط الدائرة.(3/46)
والفاء- يجب أن يكون تسطيحه إلى قدّام بعد الطالع منه من فوق مثل طول الألف. وحلقته وحلقة الواو والميم كلّها إلى فوق مثل سدس الألف، وإلى أسفل في الميم والواو مثل الراء.
والقاف- تقويسها من فوق ينبغي أن يكون مثل سدس طول الألف، وتعريقها مثل مقدار نصف الدائرة.
والكاف- ينبغي أن يكون الأعلى منها طول الألف، وفتحة البياض التي داخله مثل سدس طول الألف، وتسطيحه من أسفل مثل أعلاه وكسرته إلى فوق مثل نصف طول الألف.
واللام- يجب أن يكون مقدار طول قائمتها مثل الألف، ومدّتها إلى قدّام مثل مقدار نصف الألف.
والنون- يجب أن يكون مقداره مثل نصف محيط الدائرة.
والياء- ينبغي أن يكون مبدؤه دالا مقلوبة لا تتجاوز مقدار طول الألف، وتعريقها إلى أسفل مثل نصف محيط الدائرة.
ثم قال: وهذه المقادير وكمية نسبة بعضها إلى بعض هو ما توجبه قوانين الهندسة والنسبة الفاضلة، إلا أن ما يتعارفه الناس ويستعمله الكتّاب على غير ذلك.
وقد أشار الشيخ عماد الدين بن العفيف إلى ضوابط في ذلك على ما تقتضيه أوضاع الكتّاب يجب الوقوف عندها فقال:
واعلم أن مقادير الحروف متناسبة في كل خط من الخطوط.
واعلم أن صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاريّ في ألفيته قد جعل طول الألف سبع نقط من كل قلم، ومقتضاه أن يكون العرض سبع الطول.
ثم قال: إن ما زاد عن ذلك فهو زائد في الطول، وما كان ناقصا عن ذلك فهو(3/47)
ناقص، وعلى ذلك تختلف المقادير المقدّرة بالألف من الحروف بنقص قدر الثمن من الطول.
فالألف واللام قدر سواء في كل خط، وكذلك الباء وأختاها، والجيم وأختاها، والعين والغين قدر سواء، والنون، والصاد، والضاد، والسين، والشين، والقاف، والياء المعرّقة قدر سواء، والراء، والزاى، والميم، والواو قدر سواء.
قال: وكل عراقة بدأت بها في كل خط مّا فعلى مثلها يكون انتهاؤها.
ثم قال: فتفهّم هذا القدر فإنه كثيرا ما يختلط على الكتّاب الحذّاق.
وقد ذكر الشيخ شرف الدين بن عبد السلام من ذلك أضربا:
أحدها- ما هو متناسب الطّول، وهو خمس صور: صورة الألف، وصورة اللام، وصورة القاف، وصورة التاء، وصورة الكاف ويجمعها قولك: «القتك» وفرّع عليها أربع صور يجمعها قولك: «بث مي» .
الثاني- ما يجوز مدّه من أوّل السطر إلى آخره وقصره ما شاء، ما لم يقصر عن طول الألف، وهي الباء، والكاف، واللام، ويجمعها قولك: «بكل» ويتفرّع عليها أخواتها.
الثالث- ما هو متناسب في المقدار، وهو ثلاث صور، يجمعها قولك:
«ديل» .
والمنكبّ من الدال والمستلقي منها والمنسطح والمستلقي منها والمنكبّ من الياء بمقدار نصف ألف خطّه.
الرابع- ما هو متناسب المساحة في حال العطف والإرسال: وهي القاف، والسين، والباء، والياء، والضاد، ويجمعها قولك: «قبس يض» وكل أخت تلحق بأختها.
الخامس- ما هو متناسب في الإرسال وهو الميم، والواو، والزاي، ويجمعها قولك: «موز» .(3/48)
السادس- ما هو متناسب في الضّوء والإرسال، وهو ستّ صور، هي الفاء، والقاف، والهاء، والميم، والواو، واللام ألف، ويجمعها قولك: «فقه مولا» .
السابع- ما هو متناسب ضوء الباطن، وهو ثلاث صور: الصاد، والطاء، والعين وأخواتها.
الثامن- ما هو متناسب الرؤوس، وهو ثلاث: الصاد، والعين، والطاء؛ ويجمعها قولك: «صعط» ويلحق بها أخواتها.
التاسع- ما هو متناسب في التعريج، وهو العين، والجيم؛ ويجمعهما قولك: «عج» .
الجملة الثالثة فيما يجب اعتماده لكل ناحية من نواحي القلم
قد تقدّم في الكلام على براية القلم أن للقلم سنّا أيمن وسنّا أيسر، وعرضا، ووجها، وصدرا؛ وأنه يتعيّن على الكاتب معرفة كلّ واحد منها، ليعطي كل واحد منها حقّه في الموضع الذي يقتضيه الحال. وقد ذكر السّرّمرّيّ في أرجوزته جملا كلية إذا عرفها الكاتب سهل عليه ما يرومه من ذلك فقال:
«إن كلّ خط منتصب الشّكل كالألف ونحوه يجب في كتابته الاعتماد على سنّي القلم جميعا، وكلّ خطّ آخذ من اليمين إلى اليسار يجب إمالة القلم فيه إلى اليسار شيئا يسيرا، وكلّ خطّ آخذ من اليسار إلى اليمين يجب إمالة القلم فيه إلى اليمين شيئا يسيرا، وكل نقطة يعتمد فيها بسنيه جميعا، وكل شظيّة فإنها تختلس بسنه اليمنى اختلاسا، وكل إرسالة تعقيب كما في الجيم والعين يعتمد فيها على السن الأيسر، وكلّ تقعير كما في النون يكتب بالسنّ اليمنى» .
وأفصح عن ذلك الشيخ عماد الدين بن العفيف فقال:
إن للسّن الأيمن الألف واللام، ورفعة الطاء، والنون، والباء، والكاف إذا كانت قائمة مبتدأة، وأواخر التعريقات والمدّات، وطبقة خطة الصاد والضاد(3/49)
المستقلّة، وبدء السين والشين، وللسن الأيسر الجيم وأختيها والردّات، وتدوير رؤوس الفاءات والهاءات والواوات والكافات المشكولة «1» . ثم قال: وكل ردّة من اليسار إلى اليمين تكون بصدر القلم.
الجملة الرابعة في الترويس
والذي يدخله الترويس في الجملة الألف، والباء، والجيم، والدال، والراء، والطاء، والكاف، واللام المجموعة، ويختلف الحال في ترويسها وعدمه باختلاف الأقلام.
فمنها ما يروس حتما، ومنها ما يمتنع فيه الترويس، ومنها ما الكاتب فيه بالخيار بين الترويس وعدمه، وربما روّس بعض الحروف في بعض الأقلام ولم يروّس في بعضها. ثم قد ذكر أهل الصناعة أن ترويس الألف كسبعه، وذهب ياقوت إلى الزيادة على ذلك؛ وترويس الباء وأختيها بقدر نقطتين وترويس الجيم بقدر نصف نصبها، وترويس الصاد والطاء كالسين، وترويس الفاء والقاف كالباء.
وسيأتي الكلام على ترويس كل حرف منها في قلمه إن شاء الله تعالى.
الجملة الخامسة فيما يطمس من الحرف ويفتح
وهي المعبر عنها بالعقد، وهي صورة الصاد، والطاء، والعين، والفاء، والقاف، والميم، والهاء، والواو، واللام ألف المخففة، ويختلف الحال فيها:
فمنها ما لا يطمس بحال، وهي: الصاد وأختها، والطاء وأختها، والعين المفردة، والمبتدأة وأختها.(3/50)
ومنها ما يطمس في بعض الأقلام دون بعض وهي: العين المتوسطة، والعين الأخيرة؛ وكذلك الغين، والفاء، والقاف، والميم، والهاء، والواو، واللام ألف وسيأتي الكلام على ما يطمس ويفتح من ذلك في كل قلم عند ذكره.
ثم الطّمس فيما يطمس منها على سبيل الجواز لا على سبيل اللزوم.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: والرجوع في ذلك إلى قانون مضبوط، وهو أنه كلّما غلظت الأقلام كان الطمس فيها على خلاف الأصل، وكلّما رقّت كان الفتح فيها على خلاف الأصل، وذلك أنّنا عدلنا عن الفتح إلى الطّمس لأجل التلطيف.
الجملة السادسة في ذكر الأقلام المستعملة في ديوان الإنشاء في زماننا
وسيأتي في المقالة الثالثة في الكلام على ما يناسب كل مقدار من مقادير قطع الورق من الأقلام، أن المقرّ الشهابيّ بن فضل الله «1» ذكر في ذلك خمسة أقلام، وهي: مختصر الطّومار، والثّلث، وخفيف الثّلث، والتوقيع، والرّقاع «2» .
فمختصر الطّومار لقطع البغدادي الكامل، والثّلث لقطع الثلثين، وخفيف الثلث لقطع النصف، والتوقيع لقطع الثلث، والرقاع لقطع العادة.
ويلتحق بالخمسة التي ذكرها ثلاثة أقلام أخر، وهي: الطّومار الكامل، والمحقّق؛ والغبار «3» .(3/51)
فالطّومار- يكتب به السلطان علاماته على المكاتبات والولايات ومناشير الإقطاع.
والمحقّق- استحدثت كتابته في طغراوات «1» كتب القانات «2» على ما سيأتي بيانه في موضعه.
والغبار- يكتب به بطائق الحمام «3» والملطّفات «4» وما في معناها.
وحينئذ فيكون المستعمل بديوان الإنشاء في الجملة ثمانية أقلام: الطّومار،(3/52)
ومختصر الطّومار، والثّلث، وخفيف الثلث، والتّوقيع، والرّقاع، والمحقّق، والغبار.
وقد اختلف الكتّاب في تسمية قلم الثّلث وما في معناه من الأقلام المنسوبة إلى الكسور كالثلثين والنصف على مذهبين:
المذهب الأوّل- ما نقله صاحب «منهاج الإصابة» «1» عن الوزير أبي علي بن مقلة: أن الأصل في ذلك أن للخط الكوفيّ أصلين من أربع عشرة طريقة، هما لها كالحاشيتين، وهما: قلم الطومار، وهو قلم مبسوط كله ليس فيه شيء مستدير.
قال: وكثيرا ما كتب به مصاحف المدينة القديمة؛ وقلم غبار الحلية، وهو قلم مستدير كلّه ليس فيه شيء مستقيم؛ فالأقلام كلّها تأخذ من المستقيمة والمستديرة نسبا مختلفة، فإن كان فيه من الخطوط المستقيمة الثلث سمّي قلم الثلث، وإن كان فيه من الخطوط المستقيمة الثلثان سمّي قلم الثلثين، وعلى ذلك اقتصر صاحب» «منهاج الإصابة» .
المذهب الثاني- ما ذهب إليه بعض الكتّاب أن هذه الأقلام منسوبة من نسبة قلم الطّومار في المساحة؛ وذلك أن قلم الطّومار الذي هو أجلّ الأقلام مساحة عرضه أربع وعشرون شعرة من شعر البرذون «2» كما سيأتي؛ وقلم الثلث منه بمقدار ثلثه، وهو ثمان شعرات، وقلم النصف بمقدار نصفه، وهو اثنتا عشرة شعرة؛ وقلم الثلثين بمقدار ثلثيه، وهو ثمان عشرة شعرة. وإلى ذلك كان يذهب بعض مشايخ الكتّاب الذين أدركناهم، وعليه اقتصر المولى زين الدين شعبان الآثاريّ في ألفيته.
وهذه صور حروف الأقلام السبعة التي تستعمل في ديوان الإنشاء ولوازمه(3/53)
وهي: الطّومار، ومختصره، والثلث، وخفيف الثلث، والرّقاع، والمحقّق «1» ، والغبار في حالتى الإفراد والتركيب.
القلم الأوّل قلم الطّومار
بإضافة قلم إلى الطّومار؛ والمراد بالطّومار الكامل من مقادير قطع الورق أصل عمله، وهو المعبّر عنه في زماننا بالفرخة؛ فأضيف هذه القلم إليه لمناسبة الكتابة به فيه. وقد تقدّم أنه قلم جليل قدّر الكتّاب مساحة عرضه بأربع وعشرين شعرة من شعر البرذون؛ وبه كانت الخلفاء تكتب علاماتهم في الزمن المتقدّم في أيام بني أميّة فمن بعدهم.
فقد حكى أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ «2» في مناقب عمر بن عبد العزيز أن عمر بن عبد العزيز أتي بطومار ليكتب فيه فامتنع وقال: فيه ضياع الورق وهو من بيت مال المسلمين؛ وبالضرورة فلا يكتب في الطّومار إلا بقلم الطّومار؛ وهذا دليل على أنه كان موجودا فيما قبله، وأظنّه من الأمور التي رتّبها معاوية بن أبي سفيان، إذ هو أوّل من قرّر أمور الخلافة، ورتّب أحوال الملك، وبه استقرّت كتابة ملوك الديار المصرية من لدن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» «3» وهلمّ جرّا إلى زماننا.(3/54)
قال صاحب «منهاج الإصابة» : ويكون من لبّ الجريد «1» الأخضر، ويؤخذ منه من أعلى الفتحة ما يسع رؤوس الأنامل. قال: ويمكن أن يكون من القصب الفارسيّ.
قلت: والذي استقرّ عليه الحال في كتابة العهود بالديار المصريّة بقصب البوص «2» الأبيض الغليظ الأنابيب؛ ينتقى قصبه من جزائر الصعيد بالوجه القبليّ؛ وفي كل سنة يجهّز «3» بريديّ بطلب هذه الأقلام من ولاة الوجه القبليّ، ويؤتى بها فتحفظ عند كاتب السرّ ويبرى منها ما يحتاج إليه في كتابة السلطان ويوضع في دواته بقدر الحاجة.
قال في «منهاج الإصابة» : ولا بدّ فيه من ثلاثة شقوق أو أكثر بقدر ما يحتاج إليه في مجّ القلم الحبر في القرطاس. واعلم أن للكتّاب فيه طريقتين:
إحداهما- طريقة الثلث، فتجري الحال فيه على الميل إلى التقوير.
والثانية- طريقة المحقّق، فتجري الحال فيه على الميل إلى البسط دون التقوير؛ وسيأتي إيضاح الطريقتين وكيفية تشكيل حروفهما فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر السّرّمرّي في أرجوزته اختصاص قلم الطومار بأمور:
أحدها: أن مستداراته كلها تكون بوجه القلم، والمدّات بسنه، والتعاريق بوجهه منفتلا فيها على اليمين.(3/55)
الثاني: أن الميم منه تكون مفتوحة مدوّرة. والفاء والقاف فيه أوساطها محدّدة وجنباتها مدوّرة.
الثالث: أن يكون البياض بين الأحرف كمثله بين السطور.
الرابع: أن يكون الفضل من جانبي القرطاس متساويا في المقدار.
الخامس: ألا يكون فيه صاد مدوّرة ولا كاف مشكولة.
وذكر المولى زين الدين شعبان الآثاري في ألفيته: أنه يدخل فيه الترويس في الألف، والباء، والجيم، والدال، والراء، والطاء، والكاف المجموعة، واللام، والنون في الإفراد والتركيب عند الابتداء وأنه لا يجوز فيه الطمس في شيء من عقده كالصاد، والطاء والفاء، والقاف، والميم، والهاء، والواو، واللام ألف المحققة بحال، والمعنى فيه أن الطمس لا يليق بالخط الجليل.
وهذه صورة كتابة اسم السلطان في المكاتبات والولايات وغيرها منسوبا للسلطان الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون «1»(3/56)
صورة ما يكتب في جليل المكاتبات؟؟؟(3/57)
صورة ما يكتب في متوسطات المكاتبات؟؟؟(3/58)
صورة ما يكتب في صغار المكاتبات؟؟؟(3/59)
وهذه صورة كتابة العلامة على المناشير للإقطاع لمن علامته «الله أملي» بياء راجعة؟؟؟(3/60)
القلم الثاني قلم مختصر الطومار
بإضافة قلم إلى مختصر، وربما قيل فيه مختصر الطّومار المضاف؛ وهو الذي يكتب به في قطع البغداديّ الكامل.
وقد ذكر المولى زين الدّين شعبان الآثاري في ألفيّته: أن مقدار مساحته ما بين كامل الطّومار وبين قلم الثلثين، وحينئذ فيكون مقداره ما بين عرض ست عشرة شعرة من شعر البرذون وبين أربع وعشرين شعرة؛ والحامل له على ذلك أن أعلى ما وضعوه من الأقلام المنسوبة لكسر من الكسور قلم الثلثين، وهو عرض ستّ عشرة شعرة؛ فلو كان مرادهم بمختصر الطومار هذا المقدار، لعبّروا عنه بقلم الثلثين دون مختصر الطومار، فتعين أن يكون فوق ذلك ودون الطومار الكامل، فيكون ما بين عرض ثمان عشرة شعرة وعرض أربع وعشرين شعرة.
ثم هذا القلم يجوز أن يكتب به على طريقة الثلث في الميل في حروفه إلى التقوير وعلى ذلك يكتب كتّاب ديوان الإنشاء في عهود الملوك عن الخلفاء، والمكاتبة إلى القانات العظام من ملوك بلاد الشرق. ويجوز أن يكتب به على طريقة المحقّق في الميل في حروفه إلى البسط كما في الطريقة الثانية من قلم الطّومار، وسيأتي ذكر تشكيل الثلث فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولا يخفى أن هذا القلم بالنسبة إلى الترويس وعدم الطمس على ما تقدّم في الطومار للحوقه به في الجلالة وسعة مساحة العرض.(3/61)
وهذه صورة كتابته(3/62)
القلم الثالث قلم الثلث
بإضافة قلم إلى الثلث، ويقال فيه الثلث بحذف المضاف وهو الذي يكتب به في قطع الثلثين.
وقد تقدّم اختلاف الكتّاب في نسبته هل هو باعتبار التقوير والبسط، أو باعتبار أنه ثلث مساحة الطومار، من حيث إن عرض الطومار أربع وعشرون شعرة من شعر البرذون، وعرض الثلث ثمان شعرات وهي الثلث من ذلك؛ وقطّة هذا القلم محرّفة؛ لأنه يحتاج فيه إلى تشعيرات لا تتأتى إلا بحرف القلم، وهو إلى التقوير أميل منه إلى البسط، بخلاف المحقّق على ما سيأتي ذكره، والترويس فيه لازم.
وقد ذكر المولى زين الدين شعبان الآثاري في ألفيّته: أنه يروّس فيه من الحروف الألف المفردة، والجيم وأختاها، والطاء، والكاف المجموعة، واللام المفردة، والسّنّة المبتدأة؛ وعقده من الصاد وأختها، والطاء وأختها، والعين وأختها، والفاء، والقاف، والميم، والهاء، والواو، واللام ألف المحققة، كلّها مفتحة لا يجوز فيها الطمس بحال. وهو على نوعين:
النوع الأوّل الثلث الثقيل
وربما قيل فيه ثقيل الثلث، وهو المقدّرة مساحته بثمان شعرات على ما تقدّم ذكره، وهذه صوره مفردة ومركبة:
[الصورة الأولى صورة الالف]
الألف على ضربين: مفردة ومركّبة،
[الضرب الأول المفردة]
فالمفردة على ثلاثة أنواع:
الأوّل- الألف المطلق
؟؟؟(3/64)
وطريقه: أن تبتديء فيه بصدر القلم من قفا الألف، ثم تصعد إلى هامتها فإذا بلغتها نزلت بعرض القلم إلى وجهه، ثم تنزل بوجه القلم معتمدا في نزولك على السنّ اليمنى حتّى إذا بلغت شاكلة الألف أدرت القلم برفق حتّى تختمه بحرفه.
الثاني- المشعر
؟؟؟ وطريقه: كالذي قبله إلا أنه إذا جئت آخر الألف عطفت ذنبها ويكون موصولا بغيره، فإن لم يوصل بغيره فالغالب أن يكون مطلقا.
الثالث- المحرّف
؟؟؟ وطريقه: أن يبدأ فيه من هامة الألف بوجه القلم فتضعه على تحريفه وتنزل به مستويا، حتى إذا بلغت شاكلته أدرت حرف القلم على ما مضى من الشرط في المطلق والمشعّر.
الضرب الثاني المركّب مع غيره من الحروف
ولا يكون إلا طرفا أخيرا، إذ لا يوصل بما بعده، لأن الألف مطيّة يركب عليها ولا تركب؛ وطريقه: أنك تصعد به بعد تمام الحرف الذي قبله بصدر القلم عكسا لنزولك بالألف المحرّف، فإذا بلغت هامة الألف وقفت بالقلم حتّى يكون بمنزلة رأس الألف المحرّف.
وكذلك يفعل في اللام الطالع؛ وهذه صورته:(3/65)
الطالع؟؟؟
الصورة الثانية صورة الباء وهي على ضربين
الضرب الأوّل المفردة
وهي ثلاثة أنواع: مجموعة، وموقوفة، ومبسوطة. ولك في ابتدائها في الثلاث الصور وجهان: إن شئت بدأت من قفاها بتشعيرة على ما مضى من صفة الألف المطلق، وهو مذهب الأستاذ أبي الحسن «1» ، وإن شئت بصدر القلم. ثم لكل صورة منها طريقة تخصها:
فأما المجموعة
: فطريقها أن تبدأ من رأسها بوجه القلم حتّى إذا بلغت فتلة الباء وهي الإدارة الخفية التي تجمع بين الخط القائم والمبسوط، فتلت القلم ومططت الباء بصدره، حتّى إذا صرت إلى آخرها ختمت بحرف القلم الأيمن، ونثرت يدك برفق حتّى ترفع ذنب الباء، حتّى يجيء رأسها في نهاية الدقة.
المجموعة؟؟؟
وأما الموقوفة
: فطريقها كطريق المجموعة في جميع ما تقدّم، إلا أنك إذا بلغت المكان الذي ترفع فيه من ذنب المجموعة، وقفت فيه بعرض القلم فتأتي مطة محرّفة كتحريف القلم.(3/66)
الموقوفة؟؟؟
وأما المبسوطة:
«1» المبسوطة؟؟؟
[المركبة] «2»
وأما المركبة: فعلى نوعين: متوسطة، ومتطرّفة.
فأما المتوسطة: فلها حالان:
أحدهما- أن يكون قبلها وبعدها مثلها
، فتكون الوسطى مرتفعة على أخواتها. وإذا رفعتها أكثر من أخواتها، رجعت في خط يلاصقها. وهذا في كل حرف صغير كالنون، والباء، والتاء.
والثاني- ألا يكون قبلها وبعدها مثلها
، فهي كإحدى السنّات.
وأما المتطرّفة، فلها حالان أيضا:
أحدهما- أن تكون مبتدأة
، وهي التي تكون في أوّل الكلمة، فطريقها أن تبدأ فيها بعرض القلم تحدّرا من يمينك إلى يسارك، وهي تصحب الجيم وأختيها.
الثاني- أن تكون في آخر الكلمة
، وتكون محذوفة الرأس للتركيب كرأس السين المبسوطة، وتكون صورة مدّتها كصورة المفردة سواء في جميع أحوالها:
في الجمع والبسط والوقف؛ وهذه صورها.(3/67)
مركبة مجموعة مركبة موقوفة مركبة مبسوطة؟؟؟
الصورة الثالثة صورة الجيم وما شاكلها
وهي على أربعة أضرب: مرسلة، ومسبلة، ومجموعة، وملوّزة؛ وابتداء جميع الصور على وجهين، من رأسها ومن جبهتها.
فأما المبتدأة من رأسها فيخيّر الكاتب فيها بين أمرين: إن شاء جعلها جرّا، وإن شاء جعلها مشعّرة، فإنها يبدأ فيها بصدر القلم، وهو مذهب الأستاذ أبي الحسن، والمشعّرة يخطفها بحرف القلم أو بصدره على ما مضى؛ فإذا بلغت جبهتها أدرت فجررت بوجه القلم، وأنت في الجرّة بالخيار، إن شئت جئت بها على خط مستقيم، وإن شئت رطّبتها شيئا يسيرا؛ فإذا بلغت قفاها، كنت أيضا مخيرا، إن شئت رجعت في الخط الذي جئت فيه، وإن شئت رجعت في خط تحته يلاصقه بصدر القلم؛ فإذا وصلت تحت هامة الجيم أدرت القلم على تحريفه فنزلت بعرضه حتّى إذا بلغت آخر عجز الجيم ختمتها بحرف القلم، ولا يخرج صدر الجيم عن الخط الموازي لجبهتها، كما لا يجوز أن يخرج طرف ذنبها عن الخط الموازي لقفاها، حتى لو نصب عليها خطوطا لناسبت أعاليها أسافلها؛ وهذه صورتها:
مفردة مرسلة؟؟؟(3/68)
وأما المسبلة: فإنها كالمرسلة في الصورة والصفة، والفرق بينهما أنك في المرسلة إذا بلغت الصدر ونزلت فيه، أسبلت ذنبها؛ وهذه صورتها:
مفردة مسبلة؟؟؟
وأما المجموعة: فإنها كالمرسلة أيضا في جميع أوصافها ويزيد عليها أنك إذا وفيت بها على ما مضى من صفة المرسلة رددت ذنبها على عجزها فصارت هنا لك دائرة؛ وهذه صورتها:
مفردة مجموعة؟؟؟
وأما الملوّزة: فإنها لا تكون إلا قبل الألف. وطريقها أن تبدأ بعرض القلم من تحت الألف فيما تقدّر، فإذا بلغت جبهة الجيم، جررت بوجه القلم جرّة مبطنة حتّى يصير البياض الأوسط لوزة محققة فترفع الألف مع جبهة الجيم وتبقي تحت ذنب الألف بقية رأس الجيم؛ وهذه صورتها:
مبتدأة مركبة ملوّزة؟؟؟(3/69)
وزاد المتأخرون صورة أخرى تسمى الرتقاء، وصورتها أنك تبتديء برأس واو من واوات الثلث مفردة، وتكون مرتفعة الرأس بقدر نقطة من نقط الخط، ثم تكمل عليها ببقية العمل المتقدّم ذكره على الثلاث الحالات المتقدّمة في الباب، وهي: المرسلة والمسبلة، والمجموعة؛ وهذه صورها:
رتقاء مرسلة رتقاء مسبلة رتقاء مجموعة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وزاد المتأخرون صورا أخرى في التركيب، وهي ثلاث: أولى، ووسطى، وأخيرة.
أما الأولى: فابتداء العمل فيها كابتداء العمل في الثلاث الحالات الأول، ثم تكمل بالحرف الذي تريد؛ وهذه صورتها:
مركبة مبتدأة محققة؟؟؟
وتارة تكون ملوّزة وهي التي تصحب الألف وما شابهها كالدال، واللام، واللام ألف، وقد صوّروها مع الألف فتقاس على ما عداها.(3/70)
وهذه صورتها مع اللام: وهذه صورتها مع اللام ألف: وهذه صورتها مع الدال:
مركبة مبتدأة ملوّزة مركبة مبتدأة ملوّزة مركبة مبتدأة ملوّزة مع شبه الألف مع شبه الألف مع شبه الألف؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وأما المتوسطة: فالعمل فيها كالعمل في المبتدأة المحقّقة المركبة كما تقدّم ولكن بغير ترويس؛ وهذه صورتها:
مركبة متوسطة محققة؟؟؟
وأما الأخيرة: فالعمل فيها كالعمل في الثلاث الحالات الأول: المرسلة، والمسبلة والمجموعة، ولكن بغير ترويس؛ وهذه صورها.
مركبة مختتمة مرسلة مركبة مختتمة مسبلة مركبة مختتمة مجموعة؟؟؟؟؟؟؟؟؟(3/71)
الصورة الرابعة صورة الدّال وأختها وهي على ضربين: مفردة ومركّبة
الضرب الأوّل المفردة
ولها صورة واحدة، وهي شكل مثلّث على زاوية واحدة، ويجمع طرفها جمعا يسيرا؛ وهذه صورتها:
مفردة د
الضرب الثاني المركبة
ولها أربعة أشكال: مجموعة، ومبسوطة، ومخطوفة، ومقطوفة.
أما المجموعة: فإنك ترفعها بعد فراغك من الحرف الذي قبلها، ولك في ذلك مذهبان:
أحدهما- مذهب الوزير أبي عليّ بن مقلة «1» .
والثاني- مذهب الأستاذ أبي الحسن بن البّواب، وطريقه أن ترفعها مائلا إلى اليسار ميلا خفيفا.
ثم على كلا المذهبين ترجع بخط يلاصق الخط الذي صعدت به وبظهر القطة في الانتهاء، وتأتي بالعراقة على شكل عراقة الدال المفردة في الجمع، وهذه صورتها:(3/72)
مجموعة مركبة؟؟؟
وأما المبسوطة: فحكمها في جميع صفاتها حكم المجموعة، إلا أنك إذا نزلت في المبسوطة إلى العراقة وفتلتها، أرسلت العراقة بعرض القلم، وهذه صورتها:
مركبة مبسوطة؟؟؟
وأما المخطوفة: فهي كالمجموعة أيضا، إلا أنك تخطفها بحرف القلم وتختمها بأدقّ ما تقدر عليه من النحافة؛ وهذه صورتها:
مركبة مخطوفة؟؟؟
وأما المقطوفة: فهي كالمخطوفة، إلا أنك بعد الفتلة تبقي لها ذنبا صغيرا بحرف القلم؛ وهذه صورتها:
مركبة مقطوفة؟؟؟(3/73)
الصورة الخامسة صورة الراء وأختها وهي على ضربين: مفردة، ومركبة
الضرب الأوّل المفردة
ولها ثلاثة أشكال: مجموعة، ومبسوطة، ومقوّرة؛ وابتداؤها في جميع الصور على وجهين:
أحدهما- أن تبدأ من قفاها صاعدا إلى هامتها ثم تنزل إلى وجهها.
والثاني- أن تبدأ بها حدّا من رأسها، وهو مذهب الأستاذ أبي الحسن بن البوّاب.
ثم لكل واحدة منها بعد ذلك عمل يخصها، فأما المجموعة فطريقها أن تبدأ فيها بوجه القلم وتنزل على خط الاستواء بقدر ربعها، ثم تدير القلم وتبدأ في العراقة بصدر القلم، ويكون تنزيلك إيّاها أكثر صبّا من الباء المفردة قليلا، فإذا عرفت مثلي ما نزلت به أوّلا على خط الاستواء نثرت يدك بالقلم إلى فوق وأنت تريد ذات اليمين بإشارة لطيفة، ويكون ختمها بسنّ القلم اليمنى؛ وهذه صورتها.
مفردة مجموعة؟؟؟
وأما المبسوطة: فطريقها أن تنزل بها على ما ذكرناه، وترسل ما عرفت منها على ما تقدّم في الدّال المجموعة وتنقص منها النثرة الأخيرة، وتحدّد طرفها؛ وهذه صورتها:
مفردة مبسوطة؟؟؟(3/74)
وأما المقوّرة: فطريقها أن تنزل بأقلّ مما ذكرناه شيئا يسيرا؛ وهذه صورتها:
مفردة مقوّرة؟؟؟
الضرب الثاني المركبة
ولها أربعة أشكال: مخطوفة، ومقطوفة، وبتراء ومدغمة.
فأما المخطوفة: فهي كالمقوّرة في الصورة، غير أن عراقتها بحرف القلم؛ وهذه صورتها:
مركبة مخطوفة؟؟؟
وأما المقطوفة: فإنك تبقي لها ذنبا صغيرا؛ وهذه صورتها:
مركبة مقطوفة؟؟؟
وأما البتراء: فإنك تقطفها من الثلثين فتحذف ثلثها وتأتي بها مستدقة الطرف؛ وهذه صورتها:
مركبة بتراء؟؟؟(3/75)
وأما المدغمة: فإنها تصلح بعد كل حرف وتقبح بعد المدّ، وسميت مدغمة مجازا وإلا بالحرف الذي قبلها هو الذي يدغم فيها، لكنهم لما حذفوا منها شيئا لقبوها بذلك، ولا بدّ أن تحذف من الحرف الذي قبلها شيئا من آخره وتحذف منها شيئا من أوّلها، وتبقي من كل واحد منهما ما يدل عليه، وهذه صورتها:
مركبة مدغمة؟؟؟
الصورة السادسة صورة السين
وحكمها في حالتي الإفراد والتركيب سواء، غير أنها في حالة الإفراد تزيد العراقة، وعراقتها كعراقة النون في الجمع والبسط والتقوير؛ وسيأتي الكلام على ذلك في حرف النون إن شاء الله تعالى.
ثم هي على نوعين: محقّقة، ومعلقة.
فأما المحققة، فلها شكلان: مظهرة، ومدغمة.
فطريق المظهرة أن تبدأ بوجه القلم ثم تدير القلم منها إلى أختها إدارة لطيفة في نهاية الاعتدال، وتحدّد رأس الثانية بسن القلم اليمنى، ويكون الذي بين الأولى والثانية أقلّ مما بين الثانية والثالثة، وهو مذهب الأستاذ أبي الحسن بن البّواب. وإذا كان قبلها شيء يكون سواء، ويجوز أن تكون مصدّرة مقلوبة؛ وهذه صفتها:
محققة مظهرة؟؟؟(3/76)
وأما المعلقة: فصفتها أنك تحذف السين حذفا وتقيم جرّة مقامها، وتبدؤها بوجه القلم عاملا إلى آخرها.
هذا إذا كانت مبتدأة، فإن كانت متوسطة فالأولى أن تكون محققة، ولا بدّ من جرّ فوق المعلقة نقطت أو لم تنقط؛ وهذه صورتها:
مبتدأة معلقة؟؟؟
وتحسن قبل الكاف المشكولة وقبل الألف، ولا تكون قبل الصاد والعين والكاف المعرّاة، وقيل إنها لم تر في خط ابن البّواب إلا مفردة.
الصورة السابعة صورة الصاد
والكلام في عراقتها كالكلام في عراقة السين: من الجمع، والبسط، والتقوير؛ وسيأتي الكلام على ذلك في حرف النون.
نعم لا تكون عراقتها إلا حديدة الطرف في جميع صورها، ولا يجوز فيها الوقف بحال. أما نفس الصاد فلها شكل واحد، وهي تقارب التلويزة، وللناس فيها مذهبان: الأوّل إظهار مبدإ الصاد تحت رأس العراقة، والآخر إخفاؤه؛ وفي كلا المذهبين لا بدّ من ظهور رأسها شيئا يسيرا، فإن كانت متوسطة، فيكون رأسها بحرف القلم محدّد الطّرف. وإن كانت مفردة أو متطرّفة فإنها تكون عريضة الرأس بوجه القلم. وإذا ركبت على خط قبلها، لا يكون خطّا على خط ولا يظهر أكثر من خط واحد؛ وهذه صورتها:(3/77)
مجموعة؟؟؟
الصورة الثامنة صورة الطاء وأختها وهي ثلاثة أنواع: موقوفة، ومرسلة ومحققة
فأما الموقوفة
: فطريقها أن تبدأ بها على صورة الألف المطلق، فإذا وفيت به، رجعت طالعا من تلقاء ذنب الألف حتّى تقارب شاكلته، فترجع إلى يمينك، فتركب عليه شكلا على صورة اللوزة، وتخرج ذنب اللوزة من تحت الألف وتقف عليه بعرض القلم فتظهر القطة؛ وهذه صفتها:
مفردة موقوفة ط
وأما المرسلة
: فهي على نحو ما تقدّم في الموقوفة غير أن الجرّة السفلى ها هنا مبطنة، وفي الموقوفة على خط مستقيم؛ وهذه صفتها:
مفردة مبسوطة ط وقد اختلف الكتّاب في رأس الطاء، فكان بعضهم يذهب أن يكون على طرف اللّوزة من غير ركوب عليها، وهو أحد المذاهب فيها.(3/78)
قال الشيخ أبو القاسم «1» : سألت بعض مشايخي عن «طيّ» كيف يكون وضع الياء فيها، بحضرة جماعة من الكتّاب، فقال: تكتب طاء جيدة بعدها ياء حسنة، فقلت: الحمد لله الذي أبقى على جديد «2» الأرض من يحسن صفة الخط بمثل هذا الضبط. فلما أردت الانصراف أشار إليّ أن اجلس فجلست حتّى انصرف القوم، فقال: قد كنت سألت عنها شيخنا أبا الحسن بن هلال «3» فقال لي:
إذا فرغت من الطاء فاحذف رأس الياء وألصق قفا الياء بذنب الطاء، ثم تممها على مذهبك في الياء أنّى شئت، ولا تخرج صدر الياء من تحت رأس الطاء. وعلامة صحتها أنك إذا حذفت لوزة الطاء بقيت في نهاية الصحة إن كان بعدها ياء، وإن كان بعدها واو بقيت أيضا في نهاية الكمال.
قال الشيخ أبو القاسم: فينبغي أن يكون رأسها في آخر اللوزة، ولا يكون مركبا على ظهرها، لأنه إذا تركب بطل هذا القياس.
وأما المحققة
: فإنك تبدأ فيها على صورة اللام المبتدأة المعلقة، ويأتي الكلام على ذلك في حرف اللام إن شاء الله تعالى.
وأكثر ما تستعمل هذه الطاء إذا كانت مشعّرة بألف قبلها وألف بعدها فتستحسن؛ وهذه صفتها:
متوسطة بين قائمين لطا(3/79)
واعلم أنه لا بدّ للطاء من مدّة قبلها تركب عليها، ويكون طرفها ينتهي إلى تحت رأس الطاء من غير زيادة ولا نقصان، ويجوز في طرف هذه المدّة الجمع وعدمه، وكلا المذهبين حسن.
الصورة التاسعة صورة العين وأختها، ولها حالان
الحال الأوّل: ألا تكون متصلة بما قبلها، وهي على نوعين: ملوّزة، ومركّبة.
فأما الملوّزة
: فإنك تبدأ فيها من رأس العين بحرف القلم في غاية الدّقة، حتّى إذا وصلت إلى هامتها، مكّنت إدارة قلمك فصرت عاملا بوجهه إلى قمحدوة «1» العين فتصير على صورة اللوزة؛ وتكون هذه العين قبل الهاء المدغمة؛ وهذه صفتها:
ملوزة؟؟؟
وتكون أيضا قبل هاء الردف؛ وهذه صورتها:
ملوزة مع هاء الردف؟؟؟
وأما المركبة
: فهي مركبة من راءين محققة ومعلقة، وابتداؤها على ما تقدّم(3/80)
في الملوّزة؛ غير أنك إذا صرت إلى هامتها وأردت القمحدوة، نزلت على خطّ مستقيم أو قريب من الاستقامة. والذي وجد بخط الأستاذ أبي الحسن بن البوّاب على الاستقامة؛ وهذه العين لا يكون بعدها إلا حرف طالع كالألف واللام وما جرى مجراهما، وهذه صفتها:
مركبة وثعلبة عا وكثير من الكتّاب يخلطونها مع ما قبلها كالجماعة والبضاعة، فإنهم يردّون من الألف إلى العين جرّة مبطنة يجعلونها عالية العين، وهي مستحسنة، ولا بدّ لها من ألف قبلها وحرف طالع بعدها؛ وهذه صفتها:
مردوفة ومشكولة؟؟؟
الحال الثاني: أن يكون قبلها شىء متصل بها، وتسمى المربعة، وهي على نوعين: منوّرة، ومطموسة.
فأما المنوّرة
: وتسمّى المحققة، فإنك إذا خرجت من الحرف الذي قبلها أتبعت خطّا محدودبا مبطنا إلى يسارك بصدر القلم، ثم حررت عالية العين بوجه القلم ثم على الجرّة الأولى جرة تناقضها مثلها في القدر والمساحة بقطع الخط الأوّل، ثم إن كانت معرقة عرقت، وإن كانت غير ذلك أتبعتها ما بعدها.(3/81)
وعلامة صحتها أن تلتمس البياض الذي في وسطها فإن تناسبت زواياه فهو في غاية الصحة وقد تم تركيبها، وإلا فتحرّر حتّى يصح ما رسم؛ وهذه صفتها:
مربعة مفتوحة؟؟؟
وأما المطموسة
، وتسمّى المعلقة ولا تكون إلا في قلم التوقيعات والرقاع، فصفتها أن تكون وقصاء «1» غير مفتوحة، ولا يجوز فيها من العراقات غير المجموعة؛ وهذه صورتها:
معلقة مطموسة؟؟؟
ثم إن كانت معرّقة مفردة أو مركبة، فالعراقة على ثلاثة أنواع: مسبلة، ومرسلة، ومجموعة، كعراقات الجيم.
فأما المسبلة: فإنك إذا نزلت من ظهرها أسبلت العراقة فتكون أكثر من نصف الدائرة، ولا يخرج الصدر عن الرأس ولا الظهر عن القمحدوة، بل يكون كل واحد منهما مساويا لما فوقه، غير زائد عليه ولا ناقص عنه. وكان الوزير أبو عليّ بن مقلة رحمه الله يقول: «المرء على ترك شيء مما يعمله أقدر منه على تكلف شيء لم يعتده» ويأمر الطلبة بإخراج ذنب العين من تحت صدرها؛ وهذه صورتها:(3/82)
مفردة مسبلة ع وأما المرسلة: فإنك تأتي بالعراقة نصف دائرة محققة، وتتأمل فيها من المسامتة ما وصف في المسبلة والمسبلة تكون حديدة «1» الطرف، والمرسلة يجوز فيها التحديد والوقف، والتحديد مذهب الأستاذ أبي الحسن بن البوّاب؛ وهذه صورة التحديد «2» ، وهذه صورة الوقف.
مفردة مرسلة ع وأما المجموعة: فإنها كالمرسلة أيضا في جميع أوصافها، وتزيد عليها أنك إذا وفّيت بها على ما مضى من صفة المرسلة، رددت ذنبها على عجزها فصارت هنا لك دائرة، وهذه صفتها:(3/83)
مفردة مجموعة؟؟؟
الصورة العاشرة صورة الفاء وهي على ضربين: مفردة، ومركبة
فأما المفردة
، فعلى ثلاثة أقسام: مجموعة، ومبسوطة، وموقوفة، وقد تقدّم الكلام على هذه العراقات في حرف الباء، فأغنى عن إعادته هنا؛ وهذه صفة العراقات الثلاث:
مجموعة موقوفة مبسوطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وأما المركبة
: فإنها تكون مقلوبة، وذلك أن بياضها يكون الحادّ منه في ملتقى الخطين اللذين يتقاطعان في ذهابها ومجيئها، ويكون عرضه عند هامتها؛ وهذه صفة المتوسطة:
متوسطة؟؟؟(3/84)
الصورة الحادية عشرة صورة القاف وهي على ضربين أيضا: مفردة، ومركبة
فأما المفردة
: فحكم رأسها حكم الفاء، وحكم عراقتها حكم النون، وستأتي، غير أنها تكون مفردة مبسوطة وهي مستحسنة بخلاف النون؛ وهذه صفتها:
مفردة مبسوطة؟؟؟
وأما المركبة
: فإنها كالفاء في جميع ما تقدّم، فلا حاجة إلى تمثيلها.
الصورة الثانية عشرة صورة الكاف وهي على ثلاثة أنواع: مبسوطة، ومشكولة، ومعرّاة؛
ولكل واحدة منها موضع يخصها
فأما المبسوطة
: فتكون مفردة ومركبة، وإفرادها قليل؛ والمركبة منها موضعها الابتداءات والوسط، ولا تكون طرفا أخيرا بحال؛ وطريقها أن تبدأ فيها بصدر القلم من رأسها حتّى ترد جبهتها فتخط عاليتها بوجه القلم وتفتل على هذا المنهاج إلى المطّة السّفلى، وتمطها بصدر القلم وتقط ذنبها؛ وتتوخّى في عاليتها أن يكون على خط مستقيم لتجعلها قالبا للمطة السفلى؛ واعتبار صحتها باعتبار البياض الذي في وسطها إذا استقام استقامت؛ وهذه صورتها في الإفراد والتركيب والابتداء:
؟؟؟(3/85)
مفردة مبسوطة مبتدأة مبسوطة متوسطة مبسوطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وأما المشكولة
: فلا تكون إلا مركبة؛ وموضعها الابتداءات والوسط، ولا تنفرد البتة؛ وتكون على هيئة شق لوزة فإن وصلت بألف أو لام تبينت ولا يخرج الحرف الذي يكون بعدها من تحت رأسها أصلا، لأن الكاف المبسوطة والمشكولة لا يجوز أن يأتي بعدهما مدّة، وإنما سميت مشكولة للجرّة التي عليها؛ وهذه صورتها في الابتداء وفي الوسط:
مبتدأة مشكولة متوسطة مشكولة؟؟؟؟؟؟
وأما المعرّاة
: فلا تكون إلا طرفا أخيرا وهي في الصورة والشبه كاللام المطلقة، والفرق بين اللام والكاف المعرّاة أن القائم من الكاف ثلثا المبسوط، والمبسوط من اللام كالقائم فيها؛ وهذه الكاف لا تجمع أبدا، فإن مواضعها أواخر السطور، وهذه صفتها:
مفردة معراة؟؟؟(3/86)
الصورة الثالثة عشرة صورة اللام وهي على ضربين: مفردة، ومركبة
الضرب الأوّل المفردة
وهي على نوعين: مجموعة، ومطلقة فأما المجموعة: فطريقها أن تبدأ من قفاها على نحو ما وصف في الألف المطلق، لأن الألف واللام يجريان على نظام واحد في كل خط لأنهما صاحبان، كالباء والتاء؛ وكالحاء والخاء؛ وكالعين والغين. فإذا وصلت إلى شاكلته عرقت اللام عراقة أكثر حدورا من الباء، وجمعت ذنبها كما تقدّم في حرف الراء؛ وهذه صفتها:
مجموعة مطلقة؟؟؟؟؟؟
الضرب الثاني المركبة
وهي على قسمين: محققة، ومبتدأة معلقة.
فأما المبتدأة المحقّقة: فهي كالمرسلة غير أنها محذوفة المطّة لأجل التركيب؛ وهذه صفتها:
مبتدأة محققة؟؟؟(3/87)
وأما المبتدأة المعلقة: فتنزل فيها بعرض القلم مائلا من يمينك إلى يسارك، وهي تختص بثلاثة أحرف من سائر الحروف، وهي الجيم، والحاء، والخاء، ويكون مبتدؤها يوازي قفا الجيم، من غير زيادة ولا إشارة إلى العراقة؛ وهذه صفتها:
مبتدأة معلقة؟؟؟
الصورة الرابعة عشرة صورة الميم
وهي على خمسة أضرب: محققة، ومعلقة، ومسبلة، ومبسوطة، ومفتولة.
الضرب الأوّل المحققة
وهي على نوعين: مبتدأة، وغير مبتدأة فأما المحققة المبتدأة: فإنها كثيرا ما تصحب اللام، وصفتها إذا أردت وضعها أنك إذا صرت إلى آخر الحرف الذي تريد منه الميم المحققة، تميل فيه يسيرا ثم ترجع بخط آخر بجواره طالعا فيه، ثم تعرّق كتعريق الميم المعلقة؛ وهذه صفتها:
مبتدأة محققة؟؟؟(3/88)
وكان الشيخ عماد الدين بن العفيف إذا انتهى من الحرف الذي قبل هذه الميم يقف فيه ثم يبدأ من يمينه براء مدغمة؛ وهذه صفتها:
محققة مختتمة؟؟؟
وأما المحققة غير المبتدأة «1» .........
الضرب الثاني المعلّقة
وهي على نوعين: مبتدأة، وغير مبتدأة فأما المعلقة المبتدأة: فإنها لا تحسن إلا مشعرة مع ما قبلها، ولا تكون إلا قبل الألف؛ وهذه صفتها:
معلقة مبتدأة؟؟؟
وأما المعلّقة غير المبتدأة: فإنها تختص بالبسملة على مذهب الحذّاق.
وطريقها: أنك إذا مططت إلى آخر المطة، رجعت بالميم في الخط الذي جئت فيه، حتى إذا بلغت هامتها، فارقت ذلك الخط لئلا تجيء منافرة؛ فإذا(3/89)
وصلت إلى جبهة الميم، عرقتها على ما رسم في الراء المجموعة والمقوّرة والمبسوطة والمخطوفة.
وكان الأستاذ أبو الحسن بن البوّاب لا يفردها؛ وهذه صفتها:
معلقة مختتمة؟؟؟
وأما المعلّقة المبتدأة: فإنك تبدأ فيها كابتداء المحققة، فإذا بلغت فتلتها ألصقت مدّتها بقفاها، والأولى أن تكون مطموسة، فإذا بلغت جبهتها عرّقت كتعريق الراء المدغمة لا يستعمل فيها غير ذلك؛ وهذه صفتها:
معلقة مبتدأة؟؟؟
الضرب الثالث المسبلة
ولا بأس بتركيبها وانفرادها، غير أنك إذا وصلت إلى جبهتها أسبلت عراقة كهيئة الألف ملأى من فوق، وتكون حديدة الطرف؛ وهذه صفتها:
مفردة مسبلة مركبة؟؟؟؟؟؟(3/90)
الضرب الرابع المبسوطة
وهي كالمحققة، وهي مفردة؛ وهذه صفتها:
مبسوطة؟؟؟
الضرب الخامس المفتولة
وأكثر مواضعها بعد الهاء المدغمة على مذهب الحذّاق. وبعض الكتّاب يجيزها مع غير الهاء، والأوّل أجود.
وطريقها أنك إذا جئت بها بعد الهاء المدغمة تقوّس بصدر القلم ثم تنزل بقدر ما قوّست، ثم تدير الميم عن يمينك وتردّ إلى يسارك شكلا مدّورا، وتعرّقها على ما تقدّم في المعلقة والمحققة؛ وهذه صفتها:
مفتولة؟؟؟
الصورة الخامسة عشرة صورة النون وهي على ضربين: مفردة، ومركبة
الضرب الأوّل المفردة
وهي على أربعة أنواع: مجموعة، ومقوّرة، ومبسوطة، ومدغمة.(3/91)
فأما المجموعة: فطريقها أن تبدأ بوجه القلم على خطّ مستقيم، فإذا نزلت منها بمقدار ما ينزل من الباء وبلغت الفتلة، أدرت القلم برفق من الفتلة بصدر القلم، ثم تصير العراقة جمعا بصدر القلم، حتّى إذا بلغت ذنبها ختمت بحرف القلم؛ وهذه صفتها:
مفردة مجموعة؟؟؟
وأما المقوّرة: فإنها تكون كنصف دائرة، ويكون ذنبها موازيا لرأسها من غير زيادة عليه، ويجوز أن يكون ناقصا عنه شيئا يسيرا، وذلك قليل؛ وهذه صفتها:
مفردة مقوّرة؟؟؟
وأما المبسوطة: فأكثر ما تكون متطرّفة ولا تكون مفردة بحال. وطريقها أنك إذا نزلت على ما وصف في المجموعة وبلغت بها الفتلة وأدرت صدر القلم إلى العراقة، جعلتها قطعة قوس من دائرة عظمى، حتّى يكون فيها تبطين يسير، وتختمها بحرف القلم، ولا يجوز في شيء من مبسوطات العراقة أن يكون مرفوعا؛ ولا يجوز أن يكون إلا حديد الطّرف؛ وهذه صفتها:
مفردة مبسوطة؟؟؟
وأما المدغمة: فإنها لا تنفرد البتّة ولا تحسن إلا مع ثلاثة أحرف: مع الميم وهي كثيرة المؤاخاة لها، ومع الكاف، ومع العين.(3/92)
وكان بعض الكتّاب يأبى إدغام النون ويكرهه، إلا الأستاذ أبا الحسن بن البوّاب.
ولا يتقدّم هذه النون من سائر الحروف إلا ثلاثة أحرف: الميم المعلقة من سائر الميمات، والعين الملوّزة، وهي الصاديّة من أشكال العين خاصّة، والكاف المشكولة من أشكال الكاف خاصّة.
وطريقها أنك إذا بلغت قفا الميم أو صدر العين أو قاعدة الكاف، صببت النون صبّا في عرض اللام المبتدأة المعلقة، فإذا صببت ثلثيها، ختمت العراقة على ما رسم فى الراء المدغمة وعراقة الميم المدغمة؛ وهذه صورها:
مدغمة مع الميم مدغمة مع الكاف مدغمة مع العين؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الصورة السادسة عشرة صورة الهاء وهي على ضربين: مفردة، ومركبة
الضرب الأوّل المفردة وهي على نوعين: معرّاة، ومركبة
فأما المعرّاة
: فطريقها أن تبدأ من رأسها بوجه القلم ثم تنزل إلى عجزها مميلا إلى ذات اليمين شيئا يسيرا، ثم تفتل إلى قاعدتها بصدر القلم إلى صدرها، ثم تصعد بمثل ما كنت انحدرت به من وجهها إلى قفاها؛ وهذه صفتها:(3/93)
معرّاة؟؟؟
وأما المركبة
: فهي في الصورة قريبة من المعرّاة إلى صدرها، فإذا بلغت صدرها وأنت طالع إلى وجهها، رفعته بعرض القلم وأخرجت وجه الهاء إلى قفاها؛ والكاتب مخير بين التقليل والتكثير في ذلك. ويكون الطرف الخارج إلى قفاها محدّدا، وهذه صفتها:
مركبة؟؟؟
وإنما سميت مركّبة وإن كانت مفردة مجازا لتركيب طرفها، وإلا فالمراد بالمركّب كيفما وقع في المصطلح المختلط بغيره.
الضرب الثاني المركبة وهي على قسمين
القسم الأول المشقوقة وهي على ستة أنواع: ملوّزة، ووجه الهرّ، ومشقوقة طولا، ومشقوقة عرضا، ومختلسة، ومدغمة
فأما الملوّزة
: فتكون مبتدأة، ومتوسطة، ولا تتأخر بحال، فإن كانت مبتدأة فطريقها أن تبدأ بصدر القلم مقدار نصف الهاء المفردة، ثم تدير القلم من يسارك(3/94)
إلى يمينك حتى إذا وصلت إلى المكان الذي ابتدأت منه أدرت إلى يمينك أيضا حتى يصير مركز نصف دائرة محققة لطيفة بصدر القلم، وتقف عليها وقفة خفيفة، ثم تنزل بوجه القلم من غير إدارة حتى تصير الى المكان الذي ابتدأت منه أوّلا، فيصير رأس الهاء حادّا في الغاية.
ومذهب الاستاذ أبي الحسن أن يكون النصف الأعلى أصغر من النصف الأسفل بجزء يسير، وهذه صفتها:
مقوّرة؟؟؟
وإن كانت متوسطة، فهي غير مستحسنة إلا قبل الألف، وطريقها على ما تقدّم ولها حكم، وهو أنك تجيء بالخط الذي قبلها حتى يشقها متصلا بالألف، حتى لو طرحت الهاء لا تصل الألف بما قبله مستغنيا عن الهاء كأنما ركبت من فوقه تركيبا، ويكون هذا العمل في كل حرف يقع معها؛ وهذه صفتها:
مقوّرة مستديرة ها
وأما وجه الهرّ
: فتكون أيضا مبتدأة، ومتوسطة؛ ولا يجوز تأخيرها. وطريقها في الابتداء والتوسط انك تبدأ من رأسها بوجه القلم معتدل النزول شيئا قليلا، ثم تردّها عن يمينك إلى يسارك صاعدة معتدلة، ثم يصير جميعها دائرة على مركزين، فإذا بلغت المكان الذي ابتدأت منه تكففتها طولا حذارا من أن يقع فيها حول، وهو أن يكون أحد شقيها أوسع من الآخر. وكثيرا ما يكون شقها بحرف القلم إذا كانت متوسطة.(3/95)
فإن كانت مبتدأة فشقها بوجه القلم.
وهذه صورتها في الابتداء وهذه صورتها في التوسط وجه الهرّ وجه الهرّ متوسطة؟؟؟؟؟؟
وأما المشقوقة طولا
: فإنها لا تكون إلا متوسطة؛ ولا يجوز تقديمها ولا تأخيرها؛ ولا تصحب من حروف المعجم غير اللام وحدها؛ وطريقها كطريق وجه الهرّ، ويفترقان في القاعدة فتكون قاعدتها مستديرة، وتكون اللام نازلة عليها من فوقها؛ وعلامة صحتها أنك إذا حذفت الهاء صارت اللام متصلة بما بعدها كأنما زيدت الهاء عليها؛ وهذه صفتها:
مشقوقة طولا؟؟؟
وأما المشقوقة عرضا
: فلا تكون إلا صحبة اللام أيضا؛ وطريقها أنك إذا نزلت باللام معتدلة، أدرت الهاء فلصقتها بوجه اللام وشققت الهاء عرضا، ولا بدّ من مدّة لطيفة تكون بعدها، وهذه صفتها:
مشقوقة عرضا؟؟؟(3/96)
وأما المختلسة
: فإنها لا تكون إلا مبتدأة، ويكون بعدها من الحروف حروف المدّ واللين، وهي الألف، والواو، والياء؛ وهي مطموسة؛ وهذه صفتها:
مختلسة؟؟؟
وأما المدغمة
: فلا تكون إلا متوسطة؛ وطريقها أنك إذا فرغت من الحرف الذي قبلها أدرت منه إدارة لطيفة، ونزلت بها نزلة إلى ذات اليمين، ثم صعدت في خط يلاصق الخط الذي هبطت فيه من غير وخز يكون بينهما، وتكون مطموسة أيضا ولا يكون أسفلها أوسع من أعلاها بل يكون أعلاها أوسع شيئا يسيرا؛ ويتوخّى فيها الترطيب، وهو شدّة الاستدارات، فمتى كان العمل فيها يابسا كان رديئا؛ وهذه صورتها:
مدغمة؟؟؟
القسم الثاني ما يقع في آخر الكلمة، وهي على نوعين هاء الرّدف، والمخفاة
فأما هاء الردف
: فطريقها أنك إذا فرغت من الحرف الذي قبلها طلعت فيه بصدر القلم، ثم نزلت في الخط الذي صعدت فيه.
هذا مذهب الأستاذ أبي الحسن بن البوّاب.(3/97)
ومذهب الوزير أبي عليّ بن مقلة أن تنزل في خط يلاصق الخط الذي صعدت فيه، وكلاهما مستحسن؛ فإذا بلغت ثلثي ما صعدت به جئت بصدر القلم إلى وجه الهاء ولا تخرج رأسها إلى قفاها البتة؛ وهذه صفتها:
مردوفة؟؟؟؟؟؟
وأما المخفاة
: فأكثر ما تصحب الحروف القصار، وهي يمين أليق؛ وطريقها أنك إذا فرغت من الحرف الذي قبلها أدرت منه إلى الهاء إدارة لطيفة مهلّلة، ثم تأتي بنصف راء مدغمة حديدة الطّرف مخطوفة؛ وهذه صفتها:
مخطوفة؟؟؟
الصورة السابعة عشرة صورة الواو
ونظيرها في التركيب الفاء، وفي الإفراد القاف، ولكن القاف أكبر مساحة من الواو وتكون على خمسة أنواع: مجموعة، ومبسوطة، ومقوّرة، وبتراء، ومخطوفة؛ ويكون ذلك في الإفراد والتركيب.
وكان بعض الكتّاب يجعلها معلقة كالراء المدغمة لأنها قدرها. وقد تقدّم أن الراء والزاي، والميم، والواو قدر سواء في كل خط.
مجموعة مبسوطة مقوّرة؟؟؟؟؟؟؟؟؟(3/98)
بتراء مخطوفة معلقة «1» ؟؟؟؟؟؟
الصورة الثامنة عشرة صورة اللام ألف ولها ثلاث صور: محققة، ومخففة، ووراقية
فأما المحققة
: فلا تكون إلا مفردة ولا يجوز تركيبها بحال؛ وطريقها أن تبدأ بوجه القلم ثم تنزل به على تلك الصورة، ثم تفتل إلى قاعدتها بوجه القلم، ثم ترفع القلم وقد بطّنت قلمك فصيرت بطنه مما يلي يمينك وظهره عن يسارك؛ ويكون قدر الألف واللام قدرا سواء في الطول والالتواء والغلظ والنّحافة؛ ويكون ما بينهما كواحد منهما؛ وتكون القاعدة على هيئة رأس الفاء المبسوطة لكنها مقلوبة؛ وهذه صورتها:
محققة مفردة «2» ؟؟؟
وأما المخففة
: فيجوز فيها التركيب والإفراد وكلاهما مستحسن جيد.
وصورتها في التركيب كصورتها في الإفراد؛ وطريقها أن تأتي بلام معلّقة على ما(3/99)
تقدّم في اللام المعلقة في حرف اللام، ثم ترمي عليها ألفا معوجّة إلى ذات اليمين ويكون ذنب الألف موزونا على الخط الذي لامست به الحرف الذي قبل اللام إن كانت مركبة، وهذه صفتها:
مخففة مركبة؟؟؟
وإن لم تكن مركبة فتشعرهما معا؛ وهذه صورتها في الإفراد:
؟؟؟ وأما الوراقية
: فإنها كالمحققة، فإذا كتبت اللام ركبت عليها الألف وأخرجتها عنها، ثم صيرت لها منها قاعدة مثلثة حادّة الزوايا، والأولى أن تكون مفردة.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف رحمه الله: ولا يكون هذا الشكل إلا في قلم النسخ وما شاكله، وفي قلم المحقق وما شابهه؛ وهذه صفتها:
وراقية؟؟؟(3/100)
الصورة التاسعة عشرة صورة الياء وهي على ضربين: مفردة، ومركبة
الضرب الأول المفردة وهي على ثلاثة أنواع: مجموعة، ومقورة، ومبسوطة
فأما المجموعة
: فطريقها أن تبدأ بصدر القلم فتعمل رأسها دالا مقلوبة وصدرها أيضا دالا مستوية، فإذا تركبت الدالان جررت العراقة؛ وعلامة صحتها أن تكون الدالان صحيحتين كما تقدّم. وإذا ركبت خطّا من ذنبها إلى صدرها، صار صادا جيدة؛ وهذه صفتها:
مفردة مجموعة؟؟؟
وأما المقوّرة
: فبدؤها كبدء المجموعة، غير أنك إذا وصلت إلى صدرها عرقت نصف دائرة؛ ويكون ذنبها يحاذي صدرها؛ وتكون حديدة الطرف؛ ولا يجوز فيها الوقف ولا الجمع، ويكون رأسها موزونا على صدرها، لا يجاوزها، سواء انفردت أو تركبت؛ وهذه صورتها:
مقوّرة؟؟؟
وأما المبسوطة
: فعلى ما تقدّم في المقوّرة؛ وتفارقها في الصدر فتكون(3/101)
العراقة قطعة قوس مهلّلة، وتكون حديدة الطرف ولا يجوز فيها الوقف؛ وهذه صورتها:
مبسوطة؟؟؟
الضرب الثاني المركبة وهي على ثلاثة أنواع: مبتدأة، ومتوسطة، ومتأخرة
فأما المبتدأة والمتوسطة
«1» : فحكمهما حكم الباء والتاء والنون وما شابهها.
وأما المتأخرة
: فعلى ثلاث صور: محققة، وراجعة، ومعلقة.
فأما المحققة: فعلى ما تقدّم أوّلا، غير أنك تحذف رأسها للتركيب؛ وهذه صورتها:
محققة؟؟؟
وأما الراجعة: فتختصّ ببعض الكلم دون بعض كالفاء واللام وهي مع الفاء أكثر استعمالا.(3/102)
وطريقها أنك إذا فرغت من الحرف الذي قبلها بطنته شيئا يسيرا وجئت برأس كرأس الياء، ويكون فيها شيء من تبطين، ثم تجرّ القلم إلى ذات اليمين جرّة معتدلة في التكييف، فإذا بلغت ثلاثة أرباعها أدرت القلم برفق، ولا تظهر الإدارة، ثم تمرّ وأنت مدير لقلمك حتى تختمها بحرف القلم في نهاية الدقة والتحديد؛ وهذه صورتها:
راجعة؟؟؟
وأما المعلقة: فتكون على صورة اللام المجموعة واللام المرسلة؛ وهذه صفتها:
معلقة؟؟؟
النوع الثاني قلم الثلث الخفيف
ويقال فيه خفيف الثلث، وهو الذي يكتب به في قطع النصف، وصوره كصور الثلث الثقيل المتقدمة الذكر لا تختلف، إلا أنه أدقّ منه قليلا وألطف مقادير منه بنزر يسير.
قال الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الصائغ: والفرق بينه وبين الثلث(3/103)
الثقيل أن الثقيل تكون منتصباته ومبسوطاته قدر سبع نقط على ما في قلمه، على ما تقدّم، والثلث الخفيف يكون مقدار ذلك منه خمس نقط، فإن نقص عن ذلك قليلا، سمي القلم اللؤلؤيّ.
القلم الرابع قلم التوقيع
بإضافة قلم إلى التوقيع، سمي بذلك لأن الخلفاء والوزراء كانت توقع به على ظهور القصص، ويقال فيه قلم التوقيعات على الجمع أيضا، وقد يقال فيه التوقيع والتوقيعات بحذف المضاف اليه. ثم هو على نوعين:
النوع الأول قلم التوقيع المطلق
وهو الذي يكتب به في قطع الثلث؛ وقد تقدّم أن أول من اخترعه يوسف أخو إبراهيم السّجزيّ، وأن ذا الرياستين الفضل بن هارون «1» أعجب به، وأمر أن تحرّر الكتابة السلطانية به دون غيره وسماه القلم الرياسيّ، ولعله إنما سميّ الرياسيّ لما تقدّم من اختصاص الكتب السلطانية به أخذا من الرياسة؛ وقواعد حروفه وأوضاعه في الأصل قواعد قلم الثلث إلا أنه يخالفه في أمور:
أحدها- أن قطّته إلى التدوير أميل، بخلاف الثلث فإن قطّته إلى التحريف أميل وذلك أن التوقيع امتلاء حروفه على السواء بخلاف الثلث، فإن فيه تشعيرات تحتاج إلى التحريف.
الثاني- أن حروفه إلى التقوير أميل من الثلث، وإن كان في الثلث ميل إلى التقوير فإنه لا يبلغ في ذلك مبلغ التوقيع.(3/104)
قال لي الشيخ عبد الرحمن المكتّب «1» الشهير بابن الصائغ: ويكون في سطره تقوير ما على نسبة تقوير حروفه.
قال الشيخ زين الدين شعبان في ألفيته: وتكون منتصباته مروّسة كما في الثلث.
قال لي الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الصائغ المكتّب: ويجوز ترك الترويس في بعض حروفه.
قال الشيخ زين الدين شعبان الآثاري: ويخيّر فيه بين الطمس والفتح في العين المتوسطة والفاء والقاف والميم والواو وعقدة اللام ألف المحققة. وخص الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الصائغ طمس العين بالآخرة.
قال الشيخ زين الدين شعبان الآثاري: ويختص من الحروف الزائدة على الثلث بالراء المقورة والراء البتراء والراء المخطوفة والواو المقوّرة والواو البتراء والواو المخطوفة، والعين البتراء؛ وسيأتي ذكرها عند تشكيل الحروف فيما بعد إن شاء الله تعالى.
حرف الألف
مطلق مشعر محرّف مركب؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الباء
مجموعة موقوفة مبسوطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟(3/105)
مدغمة مجموعة مدغمة مبسوطة مركبة مبتدأة. مركبة متوسطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مركّبة موقوفة مركبة مبسوطة؟؟؟؟؟؟
الجيم
مرسلة مسبلة مجموعة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
رتقاء مفردة مرسلة رتقاء مقوّرة مسبلة رتقاء مفردة مجموعة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مركبة مبتدأة ملوّزة رتقاء مبتدأة مركبة متوسطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟(3/106)
مركبة مختتمة مرسلة مركبة مسبلة مجموعة؟؟؟
الدال
مفردة مجموعة مختلسة مركبة مجموعة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مركبة مختلسة مركبة مخطوفة مركبة مشعرة؟؟؟
الراء
مقوّرة مخطوفة مفردة مبسوطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مفردة مدغمة مركبة مبسوطة مركبة مدغمة؟؟؟؟؟؟؟؟؟(3/107)
مفردة مجموعة مركبة مجموعة؟؟؟؟؟؟
السين
مخسوفة مجموعة مبسوطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مبتدأة مركبة متوسطة مخسوفة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مطرفة مبسوطة مطرفة مجموعة مفردة معلقة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مركبة مطرفة مركبة متوسطة معلقة؟؟؟؟؟؟(3/108)
الصاد
مخسوفة مجموعة مبسوطة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مبتدأة متوسطة مطرفة مخسوفة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مطرفة مجموعة مطرفة مبسوطة؟؟؟؟؟؟
الطاء
مفردة مرسلة مفردة موقوفة مركبة ملفوفة؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مبتدأة مبسوطة متوسطة لقائمين متوسطة لمبسوطين؟؟؟؟؟؟؟؟؟(3/109)
مطرفة موقوفةمطرفة مرسلة؟؟؟؟؟؟
العين
مرسلة مسبلة مجموعة نعلية بينها منتصب؟؟؟؟
نعلية بينها ما هو في حكم المنتصب صادية بينها مبسوط صادية بينها ما هو في حكم المبسوط؟؟؟
مولفة مع الإفراد مولفة مع التركيب؟؟؟(3/110)
الفاء
مجموعة موقوفة مبسوطة؟؟؟
مبتدأة متوسطة مطرفة مجموعة؟؟؟
مطرفة موقوفة مطرفة مبسوطة؟؟؟
القاف
مفردة مجموعة مخسوفة مبسوطة؟؟؟
مطرفة مجموعة مطرفة مخسوفة مطرفة مبسوطة؟؟؟(3/111)
الكاف
مجموعة مفردة موقوفة مبسوطة؟؟؟
مشكولة مبتدأة متوسطة مبسوطة مبتدأة؟؟؟
متوسطة مشكولة مبتدأة وسطى؟؟؟
مشكولة مركبة مطرفة مجموعة بزورقها منزول عليها مبسوطة؟؟؟(3/112)
اللام
مفردة يخرج منها نون على رأي ابن البوّاب يخرج منها قاف على طريقة ياقوت «1» ؟؟؟
أو ياء على طريقة ابن العفيف مركبة مبتدأة وسطى مطرفة؟؟؟
الميم
مفردة مخطوفة مسبلة مبتدأة مشعرة؟؟؟؟(3/113)
وسطى مقلوبة وسطى محققة مسبلة ملفوفة مسبلة ملوّزة؟؟؟؟
النون
مفردة مجموعة مدغمة مختلسة وسطى؟؟؟
مركبة مطرفة مجموعة مدغمة مختلسة؟؟؟
الهاء
مفردة مربعة مفردة مثلثة مركبة مبتدأة ملوّزة؟؟؟
وجه الهرّ مدغمة طالعة؟؟؟(3/114)
مخطوفة محدودبة محققة مردوفة؟؟؟
الواو
مجموعة مشدودة مبسوطة مشدودة مجموعة مفتوحة مبسوطة مفتوحة؟؟؟؟
مقوّرة مخلوفة منوّرة بتراء؟؟؟
اللام ألف
محققة مفردة مرشوقة مفردة مركبة محققة «1» ؟؟؟؟(3/115)
الياء
مفردة مجموعة مركبة راجعة؟؟؟
مبتدأة ثم وسطى مركبة مجموعة مركبة مبسوطة؟؟؟
مركبة راجعة مركبة مخسوفة مركبة مبسوطة؟؟؟
القلم الخامس من الأقلام المستعملة بديوان الإنشاء قلم الرّقاع
بإضافة قلم إلى الرقاع، والمعنى أنه يكتب به في الرقاع جمع رقعة، والمراد الورقة الصغيرة التي يكتب فيها المكاتبات اللطيفة والقصص وما في معناها، وهو الذي يكتب به في قطع العادة من المنصوري والقطع الصغير، وصوره في الأصل كصور حروف الثلث والتوقيع «1» في الإفراد والتركيب إلا أنه يخالفه في أمور:(3/116)
أحدها- أن قلمه أميل إلى التدوير من قلم التوقيع الذي هو أميل إلى التدوير من قلم الثلث.
قال لي الشيخ عبد الرحمن بن الصائغ المكتّب: وتكون جلفة قلمه في البراية أقصر من الثلث والتوقيع.
الثاني- أن حروفه تكون أدقّ وألطف من حروف التوقيع.
الثالث- أن الترويس لا يقع في منتصباته من الألف المفردة وأخواتها إلا في القليل، بخلاف الثلث والتوقيع فإن الترويس فيهما لازم.
الرابع- أنه يغلب فيه الطمس في العين المتوسطة والأخيرة، وكذلك الفاء، والقاف، والميم، والواو، وعقدة اللام ألف المحققة. أما الصاد والطاء والعين المفردة والمبتدأة فإنها لا تكون إلا مفتوحة.
الخامس- أنه يوجد فيه من الحروف ما لا يوجد في غيره كالألف الممالة إلى جهة اليمين على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وهذه صورة حروفه إفرادا وتركيبا
الألف
مطلق مشعر محرّف طالع؟؟؟
الباء
مجموعة مدغمة مفردة مدغمة مبسوطة مفردة موقوفة؟؟؟(3/117)
مبتدأة. وسطى. مطرفة مطرفة موقوفة مطرفة مبسوطة؟؟؟
الجيم
مفردة مرسلة مفردة مسبلة مفردة مجموعة؟؟؟
رتقاء مرسلة رتقاء مجموعة رتقاء مسبلة؟؟؟
مبتدأة وسطى وسطى مفتوحة؟؟؟
مطرفة مرسلة مطرفة مسبلة مطرفة مجموعة؟؟؟
الدال
مفردة مجموعة مختلسة مخطوفة مشعرة؟؟؟(3/118)
مركبة مجموعة مختلسة مخطوفة؟؟؟
الراء
مجموعة مقوّرة مخطوفة بتراء؟؟؟
محققة مدغمة مقطوفة؟؟؟
السين
مجموعة معلقة مخسوفة؟؟؟
مبسوطة مبتدأة متوسطة؟؟؟
مطرفة مجموعة مبسوطة مخسوفة معلقة؟؟؟؟(3/119)
الصاد
مجموعة مبسوطة مخسوفة؟؟؟
أولى مركبة وسطى مركبة مطرفة مجموعة؟؟؟
مطرفة مبسوطة مطرفة مخسوفة؟؟
الطاء
مرسلة موقوفة مبتدأة؟؟؟
متوسطة مطرفة مرسلة مطرفة موقوفة؟؟؟
العين
مرسلة مسبلة مجموعة؟؟؟(3/120)
مبتدأة نعلية مبتدأة صادية متوسطة؟؟؟
مطرفة مرسلة مطرفة مسبلة مطرفة مجموعة؟؟؟
الفاء
مجموعة موقوفة مبسوطة؟؟؟
أولى مركبة وسطى مطرفة مجموعة؟؟؟
مطرفة موقوفة مطرفة مبسوطة؟؟
القاف
مفردة مجموعة مخسوفة مبسوطة مبتدأة؟؟؟؟(3/121)
متوسطة مطرفة مجموعة مطرفة مخسوفة مبسوطة؟؟؟؟
الكاف
مجموعة موقوفة مبسوطة أولى مشكولة؟؟؟؟
«1» وسطى مشكولة مركبة مجموعة؟؟؟
مركبة موقوفة مركبة مقوّرة أولى مبسوطة؟؟؟
وسطى مبسوطة مشكولة موصولة مشكولة مفصولة؟؟؟(3/122)
اللام
مفردة مجموعة موقوفة مبسوطة مبتدأة؟؟؟؟
متوسطة مجموعة مركبة مبسوطة موقوفة؟؟؟
الميم
مفردة معلقة مخطوفة مسبلة مبتدأة مركبة؟؟؟؟
وسطى مركبة مطرفة معلقة مركبة مسبلة مختتمة محققة؟؟؟؟
النون
مجموعة مدغمة مجموعة مدغمة مبسوطة؟؟؟(3/123)
مبسوطة مخسوفة أولى. وسطى؟؟؟
مجموعة مركبة مبسوطة مركبة مخسوفة مركبة؟؟؟
الهاء
مربعة مدوّرة وجه الهرّ مدغمة؟؟؟؟
مشقوقة عرضا ملوّزة مشقوقة طولا محدودبة؟؟؟؟
محققة مختطفة مختلسة؟؟؟
الواو
مجموعة مفردة مبسوطة مفردة مجموعة مركبة مبسوطة مركبة؟؟؟؟(3/124)
اللام ألف
محققة مفردة مفردة محققة مركبة مرفلة؟؟؟؟
الياء
مجموعة مفردة مخسوفة راجعة مبتدأة. وسطى؟؟؟؟
مجموعة مركبة مخسوفة مركبة راجعة مركبة مختتمة؟؟؟
القلم السادس «1» قلم الغبار
سمّي بذلك لدقته، كأن النظر يضعف عن رؤيته لدقته كما يضعف عن رؤية الشيء عند ثوران الغبار وتغطيته له، وهو الذي يكتب به في القطع الصغير من ورق الطير «2» وغيره.(3/125)
وبه تكتب بطائق الحمام التي تحمل على أجنحتها في ورق الطير.
وبعضهم يسميه قلم الجناح لذلك، وهو قلم ضئيل مولّد من الرقاع والنسخ، مفتّح العقد من غير ترويس فيه، وينبغي أن تكون قطّته مائلة إلى التدوير لتفرعه عن الرقاع والنسخ.
وهذه صورة حروفه إفرادا وتركيبا؟؟؟؟؟؟؟؟
؟؟؟؟؟؟ بسم الله الرحمن الرحيم كتب لامام على رضى الله عنه الى بعض عماله لا تؤخر عمل اليوم لغد فتدال عليك الأعمال وان للناس سوه عن سلطانهم أو نفرة اعوذ بالله ان تدركنى واما كم ضغاين محمولة في حديث طويل وهذه الصورة المصطلح عليها الآن:
(وقد أجازوا فيها الفتح والطمس جميعا) بسم الله الرحمن الرحيم؟؟؟ وبه ثقتى قال الامام امير المومنين علي كرم الله وجهه المعروف وقروض والايام دول ومن توانى عن نفسه صالح ومن قاهر الحق والسّلام(3/126)
الجملة السابعة في كتابة البسملة وبيان صورتها في كل قلم من الأقلام المستعملة في ديوان الإنشاء؛ وفيها مهيعان
المهيع الأوّل في ذكر قواعد جامعة للبسملة في جميع الأقلام؛ وتشتمل على ثمان قواعد:
الأولى
- قد اتفق الكتّاب على تطويل باء البسملة أكثر مما يطوّل به غيرها من الباءات التي في أوّل الكلمة. وسيأتي في الكلام على البسملة في المقالة الثالثة أنها طوّلت بدلا من الألف المحذوفة بينها وبين السين لكثرة تكرارها. وقد ذكر بعض المصنّفين في الخط أنها تكون بمقدار ثلثي ألف ذلك الخطّ.
وقد سبق القول على مقدار ألف كلّ قلم فيما تقدّم؛ وهذا أصل يترتب عليه غيره.
الثاني
- في البسملة خمس أخوات متساويات في الطول والانتصاب، وهي: ألف الجلالة، والألف واللام من الرحمن، والألف واللام من الرحيم؛ فكلّها على مقدار واحد، وقد سبق.
الثالثة
- فيها أربع أخوات متساويات في الإرسال: وهي إرسالة الميم من بسم، وإرسالة الراء من الرحمن، وإرسالة الراء من الرحيم، وإرسالة الميم من الرحيم.
الرابعة
- فيها أربع أخوات متساويات في الضّوء: وهي الميم من بسم، والهاء من الجلالة، والميم من الرحمن، والميم من الرحيم.
الخامسة
- فيها أختان متناسبتان في المقدار: وهما الحاء من الرحمن والحاء من الرحيم.
السادسة
- أنّ لامات الجلالة تكون موازية من أعلاها للباء في أوّل البسملة(3/127)
إلا أن اللام الثانية من لامات الجلالة تكون أخفض من اللام الأولى بيسير.
قال ابن عبد السلام في الميزان: بحيث لا يدرك ذلك إلا بتأمل. والذي ذكره الشيخ زين الدين الآثاريّ أنها تكون ناقصة عنها بقدر نقطة (يعني من نقط قلم كتابتها) وتكون الهاء أخفض من اللام الثانية مثل ذلك.
السابعة
- أن يكون بين الباء والسين قدر ربع ألف من ألفات ذلك الخط، وتكون أسنان السين منها محدّدة الأطراف، ويكون الأخذ من كل سنّ من أسنان السين من أعلاها آخذا فيها إلى أسفل مع التساوي من الأعلى وكذا من الأسفل، بحيث إنه إذا خطّ خطّ من أسفل الباء إلى آخر السين لاصق بهما وقع على الاستقامة، ثم يأخذ في مدّ السين من أعلى السّنّة الأخيرة منها، وتكون أصابعه مقدّمة وكلوة يده مؤخّرة.
الثامنة
- أن يكون البسط بين الأولى والثانية منخسفا لا مستويا، وكذلك ما بين اللام الثانية والهاء.
المهيع الثاني في بيان صورة البسملة في كل قلم من الأقلام التي تستعمل في ديوان الإنشاء
قد تقدّم أن الأقلام التي تستعمل في ديوان الإنشاء مما يكتب به كتّابه «1» ستة أقلام وهي: مختصر الطّومار، وقلم الثلث الثقيل والخفيف، وقلم التوقيعات، وقلم الرّقاع، وقلم الغبار، إلا أن المحقّق لا بسملة له في ديوان الإنشاء، لأنه إنما يستعمل في كتابة طغراة كتاب على ما تقدّم ذكره، ولا بسملة للطغراة، اللهم إلا أن يكتب مختصر الطّومار على طريقة المحقّق فتكتب البسملة فيه على طريقة(3/128)
المحقق؛ بخلاف قلم الغبار فإنه يكتب به في الملطّفات فيحتاج إلى البسملة وإن لم يحتج إليها في البطائق.
ولتعلم أن صورة البسملة في هذه الأقلام تختلف ما بين صورة واحدة لكلّ قلم فأكثر. وقد ذكر صاحب العناية الربانية «1» صورا من ذلك، وأنا أوردها على الترتيب إن شاء الله تعالى.
فأما بسملة قلم مختصر الطومار، فقد تقدّم أن طريقته طريقة الطّومار، وأن الطومار تارة يكتب على طريقة المحقّق وهو الأكثر، وتارة يكتب على طريقة الثلث، وعليه عمل كتّاب الإنشاء، وربما عملوا على طريقة المحقّق؛ وحينئذ فإن كان المكتوب على طريقة المحقّق فبسملته على طريقة المحقّق مع امتلاء قلمه على حدّ مختصر الطومار على ما تقدّم بيانه.(3/129)
وهذه صورة بسملة؟؟؟(3/130)
على طريقة الثلث؟؟؟(3/131)
وأما قلم الثلث الثقيل وقلم الثلث الخفيف فطريقهما واحدة لا خلف بينهما إلا في رقّة القلم وغلظه على ما تقدّم بيانه في الكلام على أصل الأقلام. وللبسملة فيهما ثلاث صور:
الصورة الأولى- أن تكون الراء في الرحمن وفي الرحيم مخسوفة؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم(3/132)
الصورة الثانية- أن تكون الراء فيهما مجموعة والنون في الرحمن مجموعة؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم(3/133)
الصورة الثالثة- أن تكون الراء فيهما مدغمة والنون في الرحمن مدغمة؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم وأما بسملة قلم التوقيع فلها ثلاث صور:
الصورة الأولى- مختصرة من قلم الثّلث فتكون كهي، إلا أنها أدقّ قلما منها، وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم(3/134)
الصورة الثانية- أن تكون الحاء فيها في الرحمن مقلوبة وفي الرحيم ملوّزة؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم الصورة الثالثة- أن تكون الحاء فيها في الرحمن والرحيم مقلوبة؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم(3/135)
وأما بسملة قلم الرقاع، فإن السين تكون فيها بالتدريج، كل سنّ دون التي قبلها بيسير؛ والكاتب فيها مخيّر بين وصل أسنانها وفصلها فصلا يسيرا. وقد اصطلحوا على أن تكتب الألف التي قبل الجلالة فيها متصلة بميم بسم، وتكون مثل الألف والصاعد في قلم الرّقاع، ثم يجعل لها ذيل وتوصل بالجلالة؛ ولها ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تكون الراء فيها مدغمة، والحاء في الرحمن والرحيم مقلوبة؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم الصورة الثانية- أن تكون الراء فيها مدغمة والحاء رتقاء؛ وهذه صورتها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم الصورة الثالثة- أن توصل الألف بالجلالة من أعلاها؛ وهذه صورتها:
؟؟؟ وأما بسملة الغبار [فلها صورة واحدة وهي هذه] «1» ؟؟؟(3/136)
الجملة الثامنة في وجوه تجويد الكتابة وتحسينها؛ وهو على ضربين
الضرب الأوّل حسن التشكيل
قال الوزير أبو عليّ بن مقلة: وتحتاج الحروف في تصحيح أشكالها إلى خمسة أشياء:
الأوّل- التوفية
؛ وهي أن يوفّى كلّ حرف من الحروف حظّه من الخطوط التي يركب منها: من مقوّس ومنحن ومنسطح.
الثاني- الإتمام
؛ وهو أن يعطى كلّ حرف قسمته من الأقدار التي يجب أن يكون عليها: من طول أو قصر أو دقّة أو غلظ.
الثالث- الإكمال
؛ وهو أن يؤتى كلّ خط حظّه من الهيئات التي ينبغي أن يكون عليها: من انتصاب، وتسطيح، وانكباب، واستلقاء، وتقويس.
الرابع- الإشباع
؛ وهو أن يؤتى كلّ خط حظه من صدر القلم حتّى يتساوى به فلا يكون بعض أجزائه أدقّ من بعض ولا أغلظ إلا فيما يجب أن يكون كذلك من أجزاء بعض الحروف من الدقة عن باقيه مثل الألف والراء ونحوهما.
الخامس- الإرسال
؛ وهو أن يرسل يده بالقلم في كل شكل يجري بسرعة من غير احتباس يضرّسه ولا توقّف يرعشه.
الضرب الثاني حسن الوضع
قال الوزير «1» : ويحتاج إلى تصحيح أربعة أشياء:(3/137)
الأوّل- الترصيف
؛ وهو وصل كلّ حرف متصل إلى حرف.
الثاني- التأليف
؛ وهو جمع كل حرف غير متصل إلى غيره على أفضل ما ينبغي ويحسن.
الثالث- التسطير
؛ وهو إضافة الكلمة إلى الكلمة حتّى تصير سطرا منتظم الوضع كالمسطرة.
الرابع- التنصيل
؛ وهو مواقع المدّات المستحسنة من الحروف المتصلة.
واعلم أن المدّ في الخط قديم، فقد حكى أبو جعفر النحاس في «صناعة الكتاب» : أن أهل الأنبار كانوا يكتبون المشق «1» . وكأنه يريد أنهم كانوا على ذلك في القديم، فقد تقدم أن أوّل ما تعلّم أهل الحجاز الخطّ من أهل الأنبار. على أن صاحب «موادّ البيان» قد حكى أن جماعة من المحرّرين كانوا يكرهون المشق لإفساده خطّ المبتديء ودلالته على تهاون المنتهى.
قال: ولذلك كرهوا كتابة البسملة بغير سين مبيّنة ثم صارت كراهة ذلك سنّة وعرفا. والذي عليه حذّاق المحرّرين استعمال المدّ.
قال في «موادّ البيان» : وهذه المدّات تستعمل لأمرين: أحدهما أنها تحسّن الخط وتفخّمه في مكان كما يحسّن مدّ الصوت اللفظ ويفخّمه في مكان. الثاني أنها ربما أوقعت ليتم السّطر إذا فضل منه ما لا يتّسع لحرف آخر، لأن السطر ربما ضاق عن كلمتين وفضل عن كلمة فتمدّ التي وقعت في آخر السطر لتقع الأخرى في أوّل السطر الذي يليه.
وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف: مواضع المدّ أواخر السطور، وتكره إذا كانت سينا مدغمة.
قال في «موادّ البيان» : فيجب على الكاتب أن يعرف أحكامها لئلا يوقعها في(3/138)
غير المواضع اللائقة بها فيشتبه الحرف بغيره ويفسد المعنى، مثل أن يوقع المدّ في متعلم بين الميم والتاء فتشتبه بمستعلم، أو يوقع المدّ في متسلم بين الميم والتاء فتشتبه بمستسلم. ثم قال: وبالجملة فالكلمة الأصلية اسما كانت أو حرفا أو فعلا لا تخرج عن أربعة أصناف:
الصنف الأوّل الثنائية
وهي إما أسماء مضاعفة أو أفعال أو حروف.
فالأسماء: نحوندّ، وضر، وسرّ، وشرّ، وظلّ، وطلّ، وما أشبه ذلك.
والأفعال: نحو قل، وكل، وقم، وعد، ونم، وسر، ونحو ذلك.
والحروف: نحو هل، وبل، وقط، وقد، ومذ، وعن، ولو، ولم، ومن، وما، وما يجري مجرى ذلك.
فأما الأسماء والأفعال الثنائية فقد ذكر في «موادّ البيان» : أنه لا يحسن المدّ في شيء منها إلا في سرّ، وشرّ، من الأسماء وسر من الأفعال لأن السين أو الشين وإن كان كل منهما حرفا على حياله في صورة ثلاثة أحرف.
قال: وقد يحسن في نحو ظل، وطلّ، في بعض المواضع.
وأما الحروف الثنائية فقد ذكر في «موادّ البيان» : أنه لا يحسن المدّ فيها.
وحكى صاحب «منهاج الإصابة» : أن بعض الكتاب كان يمدّ في أواخر السطور مثل ما، وهل، وعن، ثم حكى عن أبي القاسم بن خلوف: أن ذلك لا يجوز في عن في أوّل السطر ولا في آخره.
الصنف الثاني الثلاثية
قال في «موادّ البيان» : والمدّ فيها على الأكثر قبيح لأنها لا تنقسم بقسمين متساويين.(3/139)
قال: ومنها ما يسمح في مدّه للضرورة كما إذا وقع في آخر سطر يحتاج إلى التتميم فيمدّ كبيع وقطع ونحوهما. وعلى نحو من ذلك جرى صاحب «منهاج الإصابة» ثم قال: ويجوز أن تمدّ إذا كان ثالثها ألفا أو لاما.
وقال الشيخ عماد الدين بن العفيف: كان والدي يمدّ في الكلمة الثلاثيّة إذا كان أوّلها الجيم وأختاها، والطاء، والسين، والعين.
قال في «موادّ البيان» : وينبغي إذا مدّ أن يقدّم الحرفان الأوّلان وتوضع المدة بينهما وبين الثالث. أما عسى، ومتى، وفتى، ونحوها فإنها لا تحتمل المدّ بحال.
الصنف الثالث الرباعية نحو محمد وجعفر
قال أبو القاسم بن خلوف: والمدّ فيه جائز بل المدّ فيه أحسن من القصر.
قال في «موادّ البيان» : ولا يجوز أن يقدّم منها ثلاثة أحرف ويوقع المدّة بينها وبين الحرف الرابع ولا بالعكس بل وقع المدّ بين الحرفين الأوّلين والحرفين الآخرين فقط. قال: على أن منها ما لا يحسن المدّ فيه نحو: تغلب، وخبير، ونمير.
الصنف الرابع الخماسية
نحو: مشتمل، ومستقلّ، ومسيطر، ومهيمن.
وقد اختلف علماء الخط فيه على مذهبين: فذهب صاحب «موادّ البيان» إلى أن المدّ فيها لا يحسن، فإنها لا تنقسم بقسمين متساويين كما في الثّلاثيّة؛ وذهب أبو القاسم بن خلوف إلى أن المدّ فيها لازم، لا يجوز تركه. ثم إذا مدّ فالذي ذكره في «موادّ البيان» أن الأحسن أن يقدّم حرفين ويوقع المدّ بينهما وبين الثلاثة الأحرف الأخر.(3/140)
أما ما كان زائدا على خمسة فقد ذكر صاحب «العناية الربّانية» «1» أنه يرجع فيه إلى الأصول، ويعتبر من السّداسي «2» فإنه مدّ فيما بعد السين من مسلمون وبعد التاء من معتبر.
قال في «مواد البيان» : ويصح المدّ فيما جاء من الأسماء والأفعال والحروف موصولا بضمير كناية مثل: كتبته، وعلمته، وفيه، ومنه، وعليه، وإليه، إذا وقعت المدّة بين تمام الكلمة والضمير.
قال: ومشق السين يحسّن الخطّ في بعض المواضع، ويقبح إذا وقعت طرفا نحو مشق السين من العباس والجوّاس؛ وأقبح من ذلك مشقها إذا كانت موصولة بحرف واحد يتقدّمها نحو يأنس، وعانس، وجالس، وناعس، وإذا توالت سينان أو سين وشين، فالأحسن أن يفصل بينهما في الخط المحرّر بمدّة لطيفة نحو مسست وغششت ورششت.
قال أبو القاسم بن خلوف: ومن الحروف ما لا يحسن المدّ بعده إذا كان مبتدأ، وهو الباء وأختاها، والياء، والفاء والقاف، واللام؛ وأما الكاف المشكولة فإنه لا يجوز مدّ ما بعدها في ابتداء ولا توسّط.
وقد ذكر الشيخ زين الدين شعبان الآثاري في ألفيّته حروفا يجوز مدّها في مواضع:
أحدها- الباء وأختاها، فتمدّ إذا كان بعدها دال مثل: بدر، أو راء مثل: برّ، أو ميم مثل: تم، أو هاء مثل: بهز، وأنه ربما مدّت إذا كان بعدها لام مثل: بل، أو لام ألف مثل: بلا.(3/141)
الثاني- الجيم وأختاها، فتمدّ إذا كان بعدها دال مثل: حداد، أو راء مثل:
حرير، أو ميم مثل: حم، أو هاء مثل: جهر.
الثالث- السين وأختها، وتمدّ إذا كان بعدها راء مثل: سرّ، أو ميم مثل:
سم، أو هاء مثل: سهم.
الرابع، والخامس- الصاد وأختها، والطاء وأختها، فلا يجوز «1» مدّ واحد منها بحال.
السادس- العين وأختها، فتمدّ إذا كان بعدها دال مثل: عد، أو راء مثل:
عر، أو ميم مثل: عم، أو هاء مثل: عهن.
السابع، والثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر- الفاء، والقاف، واللام، والميم، والهاء؛ فحكمها حكم العين وأختها في جواز المدّ فيما تقدّم.
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف: ولا يجوز الجمع بين مدّتين في كلمة واحدة، و «على» تمدّ إذا كانت الياء معرّقة؛ فإن كانت راجعة لم يجز المدّ أصلا، لأنه يجتمع في كلمة ثلاثيّة مدّتان.
قال في «موادّ البيان» : ويقبح أن تمدّ حرفين توالي بينهما في سطر واحد، وأن توقع حرفين ممدودين في سطرين: أعلى وأسفل على تقابل وتحاذ.
قال السّرّمرّي: وإن كان في آخر الكلمة ياء لم يجز المدّ قبل الياء. قال:
ولذلك لا يجوز المدّ بعد السين في اسم موسى: ولا قبل «2» السين في اسم عيسى.
قال الآثاريّ: وأجاز بعضهم مدّ العين منه بخلاف السين.
قال ابن العفيف: ولا تدغم الواو والنون بعد مدّ أصلا في خفيف ولا ثقيل.(3/142)
قال: ولا يحسن إدغام السين بعد الكاف المشكولة، ويجوز بعد اللام والميم.
قال في «مواد البيان» : ويقبح أن تكتب ياءان معطوفتان متقاربتان في سطر واحد.
قال الشيخ عماد الدين بن الشيرازي: وإذا توالت العراقات وكان فيها الياء وجب أن تكون راجعة إلى ذات اليمين.
قال ابن أبي رقيبة: سألت الشيخ عماد الدين بن العفيف: هل يكون ذلك في كل قلم؟ قال نعم! إذا تمكّن الكاتب من وضعها، إلا في المحقّق فإنه غير جائز.
قال السّرّمريّ: وإن أتت ياءان متقاربتان مثل قول القائل «لي صلي» ردّ ياء الأخرى من الكلمتين دون الأولى، وإن شئت عرّقتهما جميعا، وهو اختيار الوزير ابن مقلة. قال: وتردّ الياء بعد الألف واللام مثل: «إلى» في خفيف الأقلام دون ثقيلها على الأحسن.
قال الآثاري: وإذا توالت حروف متشابهة كتبت القصير منه مقدّما على الطويل.
الصنف الخامس مراعاة فواصل الكلام
قال في «مواد البيان» : وذلك بأن تميز الفصول المشتمل كلّ فصل منها على نوع من الكلام عمّا تقدّمه: لتعرف مباديء الكلام ومقاطعه؛ فإن الكلام ينقسم فصولا طوالا وقصارا، فالطّوال كتقسيم منثور المترسل إلى رسائله، ومنظوم الشاعر إلى قصائده، ومثل هذا لا يحتاج إلى تفصيل، لأنه لا يشكل الحال فيه في الرسالة أو القصيدة بغيرها اتصالا وانفصالا.
والفصول القصار كانقسام الرسالة إلى الفصول، والقصيدة إلى الأبيات، ومثل هذا قد يشكل، فينبغي أن تميز تمييزا يؤمن معه من الاختلاط، فإن ترتيب(3/143)
الخط يفيد ما يفيده ترتيب اللفظ. وذلك أن اللفظ إذا كان مرتّبا تخلّص بعض المعاني من بعض، وإذا كان مخلّطا أشكلت معانيه، وتعذر على سامعه إدراك محصوله.
وكذلك الخط إذا كان متميز الفصول، وصل معنى كلّ فصل منه إلى النفس على صورته، وإذا كان متصلا دعا إلى إعمال الفكر في تخليص أغراضه.
وقد اختلفت طرق الكتّاب في فصول الكلام الذي لم يميّز بذكر باب أو فصل ونحوه. فالنّسّاخ يجعلون لذلك دائرة تفصل بين الكلامين، وكتّاب الرسائل يجعلون للفواصل بياضا يكون بين الكلامين من سجع أو فصل كلام، إلا أن بياض فصل الكلامين يكون في قدر رأس إبهام، وفصل السجعتين يكون في قدر رأس خنصر.
قال في «موادّ البيان» : وينبغي ألّا تكون الجملة في آخر السطر والفاصلة في أوّل السطر الذي يليه؛ فإنه ملبس لاتصال الكلام؛ بل لا يجعل في أوّل السطر بياضا أصلا لأنه يقبح بذلك لخروجه عن نسبة السطور؛ ولا أن يفسح بين السطر والذي يليه إفساحا زائدا عما بين كل سطرين، ولكن يراعي ذلك من أوّل شروعه في كتابة السطر فيقدّر الخط بالجمع والمشق حتّى يخلص من هذا العيب.
الصنف السادس حسن التدبير في قطع الكلام ووصله في أواخر السطور وأوائلها
لأن السطور في المنظر كالفصول، فإذا قطع السطر على شيء يتعلّق بما بعده كان قبيحا، كما إذا كتب بعض حروف الكلمة في آخر السطر وبعضها في أوّل السطر الذي يليه.
ثم للفصل المستقبح في آخر السطر وأوّل الذي يليه صنفان:(3/144)
الصنف الأوّل فصل بعض حروف الكلمة الواحدة عن بعض، وتفريقها في السطر والذي يليه
مثل أن تقع معه لفظة «كتاب» في آخر السطر، فيكتب الكاف والتاء والألف في آخر السطر، والباء في أوّل السطر الذي يليه؛ أو يقع في آخر السطر لفظ «مسرور» فيكتب الميم والسين والراء فيه، والواو والراء الثانية في أوّل السطر الذي يليه ونحو ذلك.
قال في «موادّ البيان» : وهو قبيح جدّا لأنه لا يجوز فصل الاسم عن بعضه. قال: وأكثر ما يوجد ذلك في مصاحف العامّة وخطوط الورّاقين «1» ؛ والحامل لهم على ذلك في الغالب هو ضيق آخر السطر عن الكلمة بكمالها، ومن هنا احتاج الكاتب الى النظر في ذلك بالجمع والمشق من حين شروعه في كتابة أوّل السطر على ما تقدّم.
قال صاحب «منهاج الإصابة» : وإنما وقع مثل ذلك في المصاحف التي كتبت في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنها كتبت بقلم جليل مبسوط، فربما وقع في بعض الأماكن اللفظة فيقطعها في آخر السطر ويجعل باقيها في السطر الثاني.
وعلى ذلك حمل ما روي أن عثمان رضي الله عنه قال: «إنّ في(3/145)
المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها» إذ لا جائز أن يكون ذلك لحنا في اللفظ فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن ما بين دفّتي المصحف قرآن، ومحال أن يجتمعوا على لحن. على أن هذه الرواية غير مشهورة عن عثمان رضي الله عنه كما أشار إلى ذلك الشاطبي «1» بقوله في الرائية:
ومن روى ستقيم العرب ألسنها ... لحنا به قول عثمان فما شهرا
الصنف الثاني فصل الكلمة التامة وصلتها
مثل أن يكتب «وصل كتابك وأيّدك الله» مفصّلات، فيكتب «وصل» في آخر السطر و «كتابك» في أوّل الذي يليه، أو يكتب «أيّدك» في آخر سطر واسم «الله» تعالى في أوّل الذي يليه، وما جرى مجرى ذلك.
قال في «موادّ البيان» : والأحسن تجنّبه إذا أمكن، فإن لم يمكن فيتجنّب القبيح منه، وهو الفصل بين المضاف والمضاف إليه، كعبد الله وغلام زيد وما أشبه ذلك، لأنّ المضاف والمضاف إليه بمنزلة الاسم الواحد؛ والفصل بين الاسم وما يتلوه في النسب، كقولك زيد بن محمد، فلا يجوز أن يفصل بين الاسم والمنسوب إليه كما لا يجوز أن يفصل بين المضاف والمضاف إليه. قال: فإن كان المراد بلفظة ابن تثبيت البنوّة كقولك لزيد ابن جاز قطع الابن عما تقدّمه. وكأنه إنما امتنع ذلك لأن «لزيد» لا يستقل بنفسه فلا يدخله لبس بخلاف غلام زيد ونحوه. ثم قال: ومما يقبح فصله الفصل بين كل اسمين جعلا اسما واحدا نحو:
حضر موت، وتأبط شرّا، وذي يزن، وأحد عشر.
قلت: وباب الخط وأقلامه وحسن تدبيره متسع لا يسع استيفاؤه.(3/146)
الفصل الثالث من الباب الثاني من المقالة الأولى في لواحق الخط، وفيه مقصدان
المقصد الأول في النقط؛ وفيه أربع جمل
الجملة الأولى في مسيس الحاجة إليه
قال محمد بن عمر المدائنيّ: ينبغي للكاتب أن يعجم «1» كتابه، ويبيّن إعرابه، فإنه متى أعراه عن الضبط، وأخلاه عن الشكل والنقط كثر فيه التصحيف، وغلب عليه التحريف. وأخرج بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «لكلّ شيء نور، ونور الكتاب العجم «2» » . وعن الأوزاعيّ «3» نحوه.
قال أبو مالك الحضرميّ: أيّ قلم لم تعجم فصوله، استعجم «4» محصوله.
ومن كلام بعضهم: «الخطوط المعجمة، كالبرود المعلمة» .
ثم قد تقدم في الكلام على عدد الحروف أن حروف المعجم تسعة(3/147)
وعشرون حرفا، وقد وضعت أشكالها على تسعة عشر شكلا. فمنها ما يشترك في الصّورة الواحدة منه الحرفان: كالدال والذال والراء والزاي، والسين والشين.
ومنها ما يشترك في الصورة الواحدة منه الثلاثة: كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء. ومنها ما ينفرد بصورة واحدة كالألف. ومنها ما لا يلتبس حالة الإفراد، فإذا ركّب ووصل بغيره التبس، كالنون والقاف، فإن النون في حالة الإفراد منفردة بصورة، فإذا ركّبت مع غيرها في أوّل كلمة أو وسطها، اشتبهت بالباء وما في معناها؛ والقاف إذا كانت منفردة لا تلتبس، فإذا وصلت بغيرها أوّلا أو وسطا التبست بالفاء، فاحتيج إلى مميز يميّز بعض الحروف من بعض: من نقط أو إهمال ليزول اللّبس، ويذهب الاشتراك.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: ولذلك ينبغي أن القاف والنون إذا كتبا في حالة الإفراد على صورتهما الخاصّة بهما لا ينقطان، لأنه لا شبه بينهما ولا يشبهان غير هما، فيكونان إذ ذاك كالكاف واللام. قال: ومنع بعض مشايخنا الاشتراك في صورة الحروف، وقال: الصورة والنقط مجموعهما دالّ على كل الحرف.
إذا تقرّر ذلك فالنقط مطلوب عند خوف اللّبس، لأنه إنما وضع لذلك؛ أما مع أمن اللّبس فالأولى تركه لئلا يظلم الخطّ من غير فائدة.
فقد حكي أنه عرض على عبد الله بن طاهر «1» خطّ بعض الكتّاب فقال: ما أحسنه! لولا أنه أكثر شونيزه «2» .
وقد حكى محمد بن عمر المدائني أن جعفرا المتوكل «3» كتب إلى بعض(3/148)
عمّاله أن أحص من قبلك من المدنيّين وعرّفنا بمبلغ عددهم، فوقع على الحاء نقطة فجمع العامل من كان في عمله منهم وخصاهم فماتوا غير رجلين أو واحد.
وقد حكى المدائني عن بعض الأدباء أنه قال: كثرة النّقط في الكتاب سوء ظنّ بالمكتوب إليه.
أما كتّاب الأموال فإنهم لا يرون النقط بحال؛ بل تعاطيه عندهم عيب في الكتابة.
الجملة الثانية في ذكر أوّل من وضع النقط
قد تقدّم في الكلام على وضع الحروف العربية أن أوّل من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من قبيلة بولان على أحد الأقوال، وهم: مرار «1» بن مرّة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة وأن مرارا «2» وضع الصّور، وأسلم فصل ووصل، وعامرا وضع الإعجام. وقضية هذا أن الإعجام موضوع مع وضع الحروف.
وقد روي أن أوّل من نقط المصاحف ووضع العربية أبو الأسود الدّؤليّ «3» من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه. فإن أريد بالنقط في ذلك الإعجام، فيحتمل أن يكون ذلك ابتداء لوضع الإعجام، والظاهر ما تقدّم، إذ يبعد أن الحروف قبل ذلك مع تشابه صورها كانت عريّة عن النقط إلى حين نقط المصحف.
وقد روي أن الصحابة رضوان الله عليهم جرّدوا المصحف من كل شيء(3/149)
حتى من النقط والشكل. على أنه يحتمل أن يكون المراد بالنقط الذي وضعه أبو الأسود الشكل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الجملة الثالثة في بيان صورة النقط، وكيفية وضعه
قال الوزير أبو عليّ بن مقلة رحمه الله: وللنّقط صورتان: إحداهما شكل مربع والأخرى شكل مستدير.
قال: وإذا كانت نقطتان على حرف، فإن شئت جعلت واحدة فوق أخرى، وإن شئت جعلتهما في سطر معا، وإذا كان بجوار ذلك الحرف حرف ينقط لم يجز أن يكون النّقط إذا اتسعت إلا واحدة فوق أخرى والعلة في ذلك أن النّقط إذا كنّ في سطر خرجن عن حروفهن فوقع اللّبس في الأشكال، فإذا جعل بعضها على بعض كان على كل حرف قسطه من النّقط فزال الإشكال.
قلت: وإذا كان على الحرف ثلاث نقط، فإن كانت ثاء جعلت واحدة فوق اثنتين، وإن كانت شينا فبعض الكتّاب ينقطه كذلك، وبعضهم ينقطه ثلاث نقط سطرا، وذلك لسعة حرف الشين بخلاف الثاء المثلثة.
أما السين إذا نقطت من أسفلها، فإنهم ينقطونها ثلاثة سطرا واحدا.
الجملة الرابعة فيما يختصّ بكل حرف من النقط وما لا نقط له
قد تقدم أنّ حروف المعجم ثمانية وعشرون حرفا سوى اللام ألف، وأن ذلك على عدد منازل القمر الثمانية والعشرين «1» ؛ وأن المنازل أبدا منها أربعة عشر(3/150)
فوق الأرض، وأربعة عشر تحت الأرض؛ ثم إنه لا بدّ أن يبقى مما فوق الأرض منزلة مختفية تحت الشّفق، فكانت الحروف المنقوطة خمسة عشر حرفا بعدد المنازل المختفية: وهي الأربعة عشر التي تحت الأرض، والواحدة التي تحت الشّعاع، إشارة إلى أنها تحتاج إلى الإظهار لاختفائها: وهي الباء، والتاء، والثاء، والجيم، والخاء، والذال، والزاي، والشين، والضاد، والظاء، والغين، والفاء، والقاف، والنون، والياء، آخر الحروف.
وكانت الحروف العاطلة ثلاثة عشر بعدد المنازل الظاهرة: وهي الألف، والحاء، والدال، والراء، والسين، والصاد، والطاء، والعين، والكاف، واللام، والميم، والهاء، والواو.
فأمّا الألف فإنها لا تنقط لانفرادها بصورة واحدة، إذ ليس في الحروف ما يشبهها في حالتي الإفراد والتركيب.
وأما الباء فإنها تنقط من أسفل لتخالف التاء المثناة من فوق، والثاء المثلثة في حالتي الإفراد والتركيب، والياء المثناة من تحت، والنون في حالة التركيب ابتداء أو وسطا؛ ونقطت من أسفل لئلّا تلتبس بالنون حالة التركيب.
وأما التاء فإنها تنقط باثنتين من فوق لتخالف ما قبلها وما بعدها من الصورتين في حالة الإفراد، وتخالفهما مع الياء والنون حالة التركيب ابتداء أو وسطا.
وأما الثاء فإنها تنقط بثلاث من فوق لتخالف ما قبلها من الصورتين في الإفراد وتخالفهما مع النون والياء أيضا في التركيب ابتداء أو وسطا.(3/151)
وأما الجيم فإنها تنقط بواحدة من تحت لتخالف الصورتين بعدها.
وأما الحاء فإنها لا تنقط، ويكون الإهمال لها علامة، وحذّاق الكتّاب يجعلون لها علامة غير النقط، وهي حاء صغيرة مكان النّقطة من الجيم.
وأما الخاء فإنها تنقط بواحدة من أعلاها لتخالف ما قبلها من الجيم والحاء.
وأما الدال فإنها لا تنقط ولا تعلّم، ويكون ترك العلامة لها علامة.
وأما الذال فتنقط بواحدة من فوق فرقا بينها وبين أختها.
وأما الراء فإنها لا تنقط ولا تعلّم ويكون الإهمال لها علامة.
وأما الزاي فإنها تنقط بواحدة من فوق فرقا بينها وبين الراء.
وأما السين فإنها لا تنقط وتكون علامتها الإهمال كغيرها؛ وبعض الكتّاب ينقطها بثلاث نقط من أسفلها.
وأما الشين فإنها تنقط بثلاث من فوق فرقا بينها وبين أختها، فإن كانت مدغمة فلا بدّ من جرّة فوقها، ثم إن كانت محقّقة فاللائق التأسيس بنقطتين وجعل نقط ثالث من أعلاهما؛ وإن كانت مدغمة فالأولى جعل الثلاث نقط سطرا واحدا.
وأما الصاد فإنها لا تنقط؛ نعم حذّاق الكتّاب يجعلون لها علامة كالحاء، وهي صاد صغيرة تحتها.
وأما الضاد فإنها تنقط بواحدة من أعلاها فرقا بينها وبين أختها.
وأما الطاء فإنها لا تنقط لكن لها علامة كالصاد والحاء، وهي طاء صغيرة تحتها.
وأما الظاء فإنها تنقط بواحدة من فوقها فرقا بينها وبين أختها.
وأما العين فإنها لا تنقط، ولها علامة كالحاء، والصاد، والطاء، وهي عين صغيرة في بطنها.
وأما الغين فإنها تنقط بواحدة فرقا بينها وبين أختها.
وأما الفاء فمذهب أهل الشرق أنها تنقط بواحدة من أعلاها، ومذهب أهل(3/152)
الغرب أنها تنقط بواحدة من أسفلها.
وأما القاف فلا خلاف بين أهل الخط أنها تنقط من أعلاها إلا أنّ من نقط الفاء بواحدة من أعلاها نقط القاف باثنتين من أعلاها ليحصل الفرق بينهما، ومن نقط الفاء من أسفلها نقط القاف بواحدة من أعلاها.
وقد تقدّم من كلام الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله عن بعض مشايخه:
أنّ القاف إذا كتبت على صورتها الخاصة بها ينبغي ألّا تنقط إذ لا شبه بينهما «1» وذلك في حالتي الإفراد والتطرّف أخيرا.
وأما الكاف فإنها لا تنقط، إلا أنها إذا كانت مشكولة علّمت بشكلة، وإن كانت معرّاة رسم عليها كاف صغيرة مبسوطة لأنها ربما التبست باللام.
وأما اللام فإنها لا تنقط ولا تعلّم، وترك العلامة لها علامة.
وأما الميم فإنها لا تنقط ولا تعلّم أيضا لانفرادها بصورة.
وأما النون فإنها تنقط بواحدة من أعلاها، وكان ينبغي اختصاص النقط بحالة التركيب ابتداء أو وسطا لالتباسها حينئذ بالباء، والتاء والثاء أوائل الحروف، والياء آخر الحروف؛ بخلاف حالة الإفراد والتطرّف في التركيب أخيرا فإنها تختص بصورة فلا تلتبس كما أشار إليه الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله، إلا أنها غلبت فيها حالة التركيب فروعيت.
وأما الهاء فإنها لا تنقط بجميع أشكالها، وإن كثرت، لأنه ليس في أشكالها ما يلتبس بغيره من الحروف.
وأما الواو فإنها لا تنقط وإن كانت في حالة التركيب تقارب الفاء، وفي حالة الإفراد تقارب القاف، لأن الفاء لا تشابهها كلّ المشابهة، ولأن القاف أكبر مساحة منها.(3/153)
وأما اللام ألف فإنها لا تنقط لانفرادها بصورة لا يشابهها غيرها.
وأما الياء فإنها تنقط بنقطتين من أسفلها، وإن كانت في حالة الإفراد والتطرّف في التركيب لها صورة تخصّها، لأنها في حالة التركيب في الابتداء والتوسط تشابه الباء، والتاء، والثاء، والنون، فيحتاج إلى بيانها بالنقط لتغليب حالة التركيب على حالة الإفراد كما في النون، وربما نقطها بعض الكتّاب في حالة الإفراد بنقطتين في بطنها؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
المقصد الثاني في الشكل «1» ؛ وفيه خمس جمل
الجملة الأولى في اشتقاقه ومعناه
قال بعض أهل اللغة: هو مأخوذ من شكل الدابة، لأن الحروف تضبط بقيد فلا يلتبس إعرابها كما تضبط الدابّة بالشّكال «2» فيمنعها من الهروب. قال أبو تمام:
ترى الأمر معجوما إذا كان معجما ... لديه ومشكولا إذا كان مشكولا
الجملة الثانية في أول من وضع الشّكل
وقد اختلفت الرواية في ذلك على ثلاث مقالات، فذهب بعضهم إلى أن المبتديء بذلك أبو الأسود الدؤليّ، وذلك أنه أراد أن يعمل كتابا في العربيّة يقوّم الناس به ما فسد من كلامهم، إذ كان ذلك قد فشا في الناس.(3/154)
فقال: أرى أن أبتديء بإعراب القرآن أوّلا، فأحضر من يمسك المصحف، وأحضر صبغا يخالف لون المداد. وقال للذي يمسك المصحف عليه: إذا فتحت فاي فاجعل نقطة فوق الحرف، وإذا كسرت فاي فاجعل نقطة تحت الحرف، وإذا ضممت فاي فاجعل نقطة أمام الحرف، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنّة (يعني تنوينا) فاجعل نقطتين. ففعل ذلك حتّى أتى على آخر المصحف.
وذهب آخرون إلى أن المبتديء بذلك نصر بن عاصم الليثيّ «1» ، وأنه الذي خمّسها وعشّرها.
وذهب آخرون إلى أن المبتديء بذلك يحيى بن يعمر «2» .
قال الشيخ أبو عمرو الدانيّ رحمه الله: وهؤلاء الثلاثة من جلّة تابعي البصريين.
وأكثر العلماء على أن أبا الأسود جعل الحركات والتنوين لا غير، وأن الخليل بن أحمد «3» هو الذي جعل الهمز «4» والتشديد «5» والرّوم «6» والإشمام «7» .(3/155)
الجملة الثالثة في الترغيب في الشكل والترهيب عنه
وقد اختلفت مقاصد الكتّاب في ذلك، فذهب بعضهم إلى الرغبة فيه، والحث عليه، لما فيه من البيان والضّبط والتقييد.
قال هشام بن عبد الملك «1» : اشكلوا قرائن الآداب، لئلا تندّ عن الصواب.
وقال عليّ بن منصور «2» : حلّوا غرائب الكلم بالتقييد، وحصّنوها عن شبه التصحيف والتحريف.
ويقال: إعجام الكتب يمنع من استعجامها، وشكلها يصونها عن إشكالها، ولله القائل:
وكأنّ أحرف خطّه شجر ... والشّكل في أغصانه ثمر
وذهب بعضهم إلى كراهته، والرغبة عنه.
قال سعيد بن حميد الكاتب «3» : لأن يشكل الحرف على القاريء أحبّ إليّ من أن يعاب الكاتب بالشكل. ونظر محمد بن عبّاد «4» إلى أبي عبيد «5» وهو يقيّد(3/156)
البسملة فقال: لو عرفته ما شكلته. وقد جرّد الصحابة رضوان الله عليهم المصحف حين جمعوا القرآن من النقط والشكل وهو أجدر بهما، فلو كان مطلوبا لما جرّدوه منه.
قال الشيخ أبو عمرو الدانيّ: وقد وردت الكراهة بنقط المصاحف عن عبد الله بن عمر «1» ، وقال بذلك جماعة من التابعين.
واعلم أن كتّاب الدّيونة «2» لا يعرّجون على النقط والشكل بحال، وكتّاب الإنشاء منهم من منع ذلك محاشاة للمكتوب إليه عن نسبته للجهل بأنه لا يقرأ إلا ما نقط أو شكل، ومنهم من ندب إليه، للضبط والتقييد كما تقدّم.
والحق التفريق في ذلك بين ما يقع فيه اللّبس ويتطرّق إليه التحريف لعلاقته أو غرابته، وبين ما تسهل قراءته لوضوحه وسهولته.
وقد رخّص في نقط المصاحف بالإعراب جماعة: منهم ربيعة بن عبد الرحمن «3» ، وابن وهب «4» . وصرح أصحابنا الشافعية رضي الله عنهم بأنه يندب نقط المصحف وشكله؛ أما تجريد الصحابة رضوان الله عليهم له من ذلك فذلك حين ابتداء جمعه حتّى لا يدخلوا بين دفتي المصحف شيئا سوى القرآن، ولذلك كرهه من كرهه.
وأما أهل التوقيع في زماننا فإنهم يرغبون عنه خشية الإظلام بالنّقط والشّكل(3/157)
إلا ما فيه إلباس على ما مرّ؛ وأهل الدّيونة لا يرون بشيء من ذلك أصلا ويعدّون ذلك من عيوب الكتابة وإن دعت الحاجة إليه؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجملة الرابعة فيما ينشأ عنه الشكل ويترتّب عليه
واعلم أن الشكل جار مع الإعراب كيفما جرى، فينقسم إلى السّكون (وهو الجزم) ، وإلى الفتح (وهو النصب) ، وإلى الضم (وهو الرفع) ، وإلى الجرّ (وهو الخفض) .
أما السكون فلأنه الأصل. وأما الحركات الثلاث فقد قيل إنها مشاكلة للحركات الطبيعية: فالرفع مشاكل لحركة الفلك لارتفاعها، والجرّ مشاكل لحركة الأرض والماء لانخفاضها، والنصب مشاكل لحركة النار والهواء لتوسطها؛ ومن ثمّ لم يكن في اللغة العربية أكثر من ثلاثة أحرف بعدها ساكن إلا ما كان معدولا.
فسبحان من أتقن ما صنع!.
ثم الذي عليه أكثر النّحاة أن الحركات الثلاث مأخوذة من حروف المدّ واللين وهي الألف، والواو، والياء، اعتمادا على أن الحروف قبل الحركات، والثاني مأخوذ من الأوّل، فالفتحة مأخوذة من الألف إذ الفتحة علامة النصب في قولك: رأيت زيدا، ولقيت عمرا، وضربت بكرا؛ والألف علامة النصب في الأسماء المعتلة «1» المضافة كقولك: رأيت أباك، وأكرمت أخاك؛ ويكون إطلاقا للرّويّ المنصوب كقولك: المذهبا، وأنت تريد المذهب، فلما أشبعت الفتحة نشأت عنها الألف؛ والكسرة مأخوذة من الياء لأنها أختها ومن مخرجها، والكسرة علامة الخفض في قولك: مررت بزيد، وأخذت عن زيد حديثا؛ والياء علامة الخفض أيضا في الأسماء المعتلة «2» المضافة كقولك: مررت بأبيك وأخيك وذي مال؛ والضمة من الواو لأنها من مخرجها: من الشّفتين، وهي علامة الرفع في(3/158)
قولك: جاءني زيد، وقام عمرو، وخرج بكر، والواو علامة الرفع في الأسماء المعتلة المضافة كقولك: جاءني أخوك وأبوك وذو مال.
وذهب بعض النّحاة إلى أن هذه الحروف مأخوذة من الحركات الثلاث، الألف من الفتحة، والواو من الضمة، والياء من الكسرة اعتمادا على أن الحركات قبل الحروف، بدليل أن هذه الحروف تحدث عند هذه الحركات إذا أشبعت، وأن العرب قد استغنت في بعض كلامها بهذه الحركات عن هذه الحروف اكتفاء بالأصل عن الفرع: لدلالة الأصل على فرعه.
وذهب آخرون إلى أن الحروف ليست مأخوذة من الحركات، ولا الحركات مأخوذة من الحروف، اعتمادا على أن أحدهما لم يسبق الآخر، وصححه بعض النّحاة.
الجملة الخامسة في صور الشكل ومحالّ وضعه على طريقة المتقدّمين والمتأخرين
واعلم أن المتقدّمين [يميلون] «1» في [شكل] «2» غالب الصور إلى النقط بلون يخالف لون الكتابة.
وقال الشيخ أبو عمرو الدانيّ رحمه الله: وأرى أن يستعمل «3» للنقط لونان:
الحمرة والصّفرة، فتكون الحمرة للحركات، والتنوين، والتشديد، والتخفيف، والسكون، والوصل، والمدّ؛ وتكون الصفرة للهمزة خاصة.
قال: وعلى ذلك مصاحف أهل المدينة. ثم قال: وإن استعملت الخضرة للابتداء بألفات الوصل على ما أحدثه أهل بلدنا، فلا أرى بذلك بأسا. قال: ولا(3/159)
أستجيز النّقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم. وقد وردت الكراهة لذلك عن عبد الله بن مسعود «1» وعن غيره من علماء الأمة.
وأما المتأخرون فقد أحدثوا لذلك صورا مختلفة الأشكال لمناسبة تخص كل شكل منها، ومن أجل اختلاف صورها وتباين أشكالها رخّصوا في رسمها بالسواد. ويتعلق بالمقصود من ذلك سبع صور:
الأولى علامة السكون
والمتقدّمون يجعلون علامة ذلك جرّة بالحمرة فوق الحرف، سواء كان الحرف المسكّن همزة كما في قولك: لم يشأ، أو غيرها من الحروف كالذال من قولك: اذهب.
أما المتأخرون: فإنهم رسموا لها دائرة تشبه الميم إشارة إلى الجزم إذ الميم آخر حرف من الجزم، وحذفوا عراقة الميم استخفافا، وسمّوا تلك الدائرة جزمة، أخذا من الجزم الذي هو لقب السكون، ويحتمل أن يكونوا أتوا بتلك الدائرة على صورة الصّفر في حساب الهنود ونحوهم إشارة إلى خلوّ تلك المرتبة من الأعداد لأن الصفر هو الخالي، ومنه قولهم: «صفر اليدين» بمعنى أنه فقير ليس في يديه شيء من المال. وحذّاق الكتّاب يجعلونها جيما لطيفة بغير عراقة إشارة إلى الجزم.(3/160)
الثانية علامة الفتح
أما المتقدّمون فإنهم يجعلون علامة الفتح نقطة بالحمرة فوق الحرف، فإن أتبعت حركة الفتح تنوينا، جعلت نقطتين، إحداهما للحركة، والأخرى للتنوين.
والمتأخرون يجعلون علامتها ألفا مضطجعة، لما تقدّم من أن الألف علامة الفتح في الأسماء المعتلة ورسموها بأعلى الحرف موافقة للمتقدّمين في ذلك، وسمّوا تلك الألف المضطجعة نصبة أخذا من النصب، ويجعلون حالة التنوين خطتين مضطجعتين من فوقه كما جعل المتقدّمون لذلك نقطتين، وعبّروا عن الخطتين بنصبتين.
قال الشيخ عماد الدّين بن العفيف رحمه الله: ويكون بينهما بقدر واحدة منهما.
الثالثة علامة الضم
أما المتقدّمون فإنهم يجعلون علامة الضمة نقطة بالحمرة وسط الحرف أو أمامه، فإن لحق حركة الضم تنوين، رسموا لذلك نقطتين: إحداهما للحركة، والأخرى للتنوين على ما تقدّم في الفتح.
وأما المتأخرون فإنهم يجعلون علامة الضمة واوا صغيرة، لما تقدّم أن الواو من علامة الرفع في الأسماء المعتلة، وسمّوها رفعة لذلك، ورسموها بأعلى الحرف ولم يجعلوها في وسطه كيلا تشين الحرف، بخلاف المتقدّمين لمخالفة اللون ولطافة النقطة. فإن لحق حركة الضم تنوين رسموا لذلك واوا صغيرة بخطّة بعدها: الواو إشارة للضم، والخطّة إشارة للتنوين، وعبروا عنهما برفعتين.
وبعضهم يجعل عوض الخطة واوا أخرى مردودة الآخر على رأس الأولى.(3/161)
الرابعة علامة الكسر
والمتقدّمون يجعلون علامة الجرّة نقطة بالحمرة تحت الحرف. فإن لحق حركة الكسر تنوين رسموا لذلك نقطتين.
والمتأخرون جعلوا علامة الكسر شظيّة من أسفل الحرف إشارة إلى الياء التي هي علامة الجر في الأسماء المعتلة على ما مرّ، وسمّوا تلك الشّظيّة خفضة، أخذا من الخفض الذي هو لقب الكسر، ولم يخالفوا بينها وبين علامة النصب لاختلاف محلهما. فإن لحق حركة الكسر تنوين رسموا له خطتين من أسفله:
إحداهما للحركة، والأخرى للتنوين.
الخامسة علامة التشديد
والمتقدّمون اختلفوا: فمذهب أهل المدينة أنهم يرسمون علامة التشديد على هذه الصورة [8/7 7] «1» ولا يجعلون معها علامات الإعراب بل يجعلون علامة الشدّ مع الفتح فوق الحرف، ومع الكسر تحت الحرف، ومع الضم أمام الحرف.
قال الشيخ أبو عمرو الدانيّ رحمه الله: وعليه عامّة أهل بلدنا. قال: ومنهم من يجعل مع ذلك نقطة علامة للإعراب، وهو عندي حسن.
وعامّة أهل الشرق على أنهم يرسمون علامة التشديد صورة شين من غير عراقة على هذه الصورة () كأنهم يريدون أوّل شديد، ويجعلون تلك العلامة فوق الحرف أبدا ويعربونه بالحركات، فإن كان مفتوحا جعلوا مع الشدّة نقطة فوق الحرف علامة الفتح، وإن كان مضموما جعلوا مع الشدّة نقطة أمام الحرف علامة(3/162)
الضم، وإن كان مكسورا جعلوا مع الشدّة نقطة تحت الحرف علامة الكسر. وعلى هذا المذهب استقرّ رأي المتأخرين أيضا؛ غير أنهم يجعلون بدل النقط الدالة على الإعراب علامات الإعراب التي اصطلحوا عليها من النصبة، والرفعة، والخفضة، فيجعلون النصبة والرفعة بأعلى الشدّة، ويجعلون الخفضة بأسفل الحرف الذي عليه الشدّة، وبعضهم يجعلها أسفل الشدّة من فوق الحرف. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشدّد من كلمة واحدة أو من كلمتين كالإدغام من كلمتين.
السادسة علامة الهمزة
والمتقدّمون يجعلونها نقطة صفراء ليخالفوا بها نقط الإعراب كما تقدّم في كلام الشيخ أبي عمرو الدانيّ رحمه الله، ويرسمونها فوق الحرف أبدا، إلا أنهم يأتون معها بنقط الإعراب الدالة على السكون والحركات الثلاث بالحمرة على ما تقدّم، وسواء في ذلك كانت صورة الهمزة واوا أو ياء أو ألفا؛ إذ حق الهمزة أن تلزم مكانا واحدا من السطر، لأنها حرف من حروف المعجم. والمتأخرون يجعلونها عينا بلا عراقة، وذلك لقرب مخرج الهمزة من العين، ولأنها تمتحن بها كما سيأتي.
ثم إن كانت الهمزة مصوّرة بصورة حرف من الحروف، فإن كانت الهمزة ساكنة، جعلت الهمزة من أعلى الحرف مع جزمة بأعلاها. وإن كانت مفتوحة، جعلت بأعلى الحرف أيضا مع نصبة بأعلاها. وإن كانت مضمومة، جعلت بأعلى الحرف مع رفعة بأعلاها. وإن كانت مكسورة، جعلت بأسفل الحرف مع خفضة بأسفلها، وربما جعلت بأعلى الحرف والخفضة بأسفله.
وقد اختلف القدماء من النحويين في أيّ الطّرفين من اللام ألف هي الهمزة، فحكي عن الخليل بن أحمد رحمه الله أنه قال: الطّرف الأوّل هو الهمزة، والطّرف الثاني هو اللام.(3/163)
قال الشيخ أبو عمرو الدانيّ رحمه الله: وإلى هذا ذهب عامّة أهل النقط؛ واستدلوا على صحة ذلك بأن رسم هذه الكلمة كانت أوّلا لاما مبسوطة في طرفها ألف على هذه الصورة «لا» كنحو رسم ما أشبه ذلك مما هو على حرفين من سائر حروف المعجم مثل «يا، وها» وما أشبههما إلا أنه استثقل رسم ذلك كذلك في اللام ألف خاصة لاعتدال طرفيه لمشابهة كتابة الأعاجم فحسن رسمه بالتضفير فضم أحد الطرفين إلى الآخر فأيهما ضم إلى صاحبه كانت الهمزة أولى ضرورة.
وتعتبر حقيقة ذلك بأن يؤخذ شيء من خيط ونحوه فيضفّر ويخرج كل واحد من الطرفين إلى جهة، ثم يقام الطرفان فيتبين من الوجهين أن الأوّل هو الثاني في الأصل، وأن الثاني هو الأوّل لا محالة في التضفير.
وأيضا فقد اتفق أهل صناعة الخط من الكتّاب القدماء وغيرهم على أنه يرسم الطّرف الأيسر قبل الطّرف الأيمن، ولا يخالف ذلك إلا من جهل صناعة الرسم إذ هو بمنزلة من ابتدأ برسم الألف قبل الميم في «ما» وشبهه مما هو على حرفين، فثبت بذلك أن الطرف الأوّل هو الهمزة، وأن الطرف الثاني هو اللام، إذ الأوّل في أصل القاعدة هو الثاني، والثاني هو الأوّل على ما مرّ؛ وإنما اختلف طرفاها من أجل التضفير.
وخالف الأخفش «1» ، فزعم أن الطرف الأوّل هو اللام، والطرف الثاني هو(3/164)
الهمزة، واستشهد لذلك بأن ما تلفظ به أوّلا هو المرسوم أوّلا وما تلفّظ به آخرا هو المرسوم آخرا، ونحن إذا قرأنا «لأنت ولأنه» ونحوهما لفظنا باللام أوّلا ثم بالهمزة بعدها. ونازعه في ذلك الشيخ أبو عمر الدانيّ. والحق أن ذلك يختلف باختلاف اللام ألف على ما رتّبه متأخّر والكتّاب الآن، ففي المضفورة على ما تقدّم، وفي المصوّرة بهذه الصورة «لا» بالعكس.
وإن كانت الهمزة غير مصوّرة بحرف من الحروف كالهمزة في جزء وخبء، جعلت العلامة في محل الهمزة من الكلمة مع علامة الإعراب: من سكون، وفتح، وضم، وكسر. فإن عرض للهمزة مع حركة من الحركات الثلاث تنوين، جعل مع الهمزة علامة التنوين: من نصبتين أو رفعتين أو خفضتين على ما مرّ في غير الهمزة.
قال الشيخ أبو عمرو الدانيّ رحمه الله: وتمتحن الهمزة في موضعها من الكلام بالعين، فحيث وقعت العين وقعت الهمزة مكانها، وسواء كانت متحركة أو ساكنة لحقها التنوين أو لم يلحقها، فتقول في آمنوا عامنوا، وفي وآتى المال وعاتى المال، وفي مستهزئين مستهزعين، وفي خاسئين خاسعين، وفي مبرّئون مبرعون، وفي متكئون متكعون، وفي ماء ماع، وفي سوء سوع، وفي أولياء أولياع، وفي تنوء تنوع، وفي لتنوء لتنوع، وفي أن تبوّأ أن تبوّعا، وفي تبوء تبوع، وفي من شاطيء من شاطع، وكذلك ما أشبهه حيث وقع فالقياس فيه مطّرد.
السابعة علامة الصلة في ألفات الوصل
أما المتقدّمون فإنهم رسموا لها جرّة بالحمرة في سائر أحوالها، وجعلوا محلها تابعا للحركة التي قبل ألف الوصل. فإن وليها فتحة كما في قوله تعالى: تَتَّقُونَ الَّذِي
جعلت الصلة جرّة حمراء على رأس الألف على هذه الصورة (آ) وإن وليها كسرة كما في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ*
جعلت الصلة جرّة تحت الألف على هذه الصورة (ا) وإن وليها ضمة كما في قوله تعالى: نَسْتَعِينُ اهْدِنَا
جعلت(3/165)
الصلة جرّة حمراء في وسطها على هذه الصورة (+) ، فإن لحق شيئا من الحركات التنوين جعلت الصلة أبدا تحت الألف، لأن التنوين مكسور للساكنين ما لم يأت بعد الساكن الواقع بعد ألف الوصل ضمة لازمة نحو قوله تعالى: فَتِيلًا انْظُرْ
وعُيُونٍ ادْخُلُوها
. قال بعضهم: يضم التنوين فتجعل الجرّة على ذلك في وسط الألف.
وأما المتأخرون [فإنهم رسموا لذلك صادا لطيفة إشارة إلى الوصل] «1» وجعلوها بأعلى الحرف دائما ولم يراعوا في ذلك الحركات، اكتفاء باللفظ.
تنبيه
قد تقدّم في ... «2» ... الأوّل من الهجاء أن اللفظ قد يتعين في الهجاء إلى الزيادة والنقصان، ولا شكّ أن الشكل يتعير بتغير ذلك، ونحن نذكر من ذلك ما يختص بالهجاء العرفيّ دون الرسميّ باعتبار الزيادة والنقص.
أما الزيادة، فمثل أولئك، وأولو، وأولات ونحوها.
قال الشيخ أبو عمرو الدانيّ: وسبيلك أن تجعل علامة الهمزة نقطة بالصّفرة في وسط ألف أولئك وأولو وأولات، وتجعل نقطة بالحمرة أمامها في السطر لتدل على الضمة. قال: وإن شئت جعلتها في الواو الزائدة لأنها صورتها، وهو قول عامّة أهل النقط. هذه طريقة المتقدّمين.
أما المتأخرون، فإنهم يجعلون علامة الهمزة على الواو وهو مخالف لما تقدّم من اعتبار الهمزة بالعين فإنها لو امتحنت بالعين، لكان لفظها عولئك وكذلك البواقي.
وأما النقص فمثل النبئين إذا كتبت بياء واحدة، وهؤلاء، ويا آدم إذا كتبتا.
.(3/166)
بحذف الألف بعد الهاء في هؤلاء والألف الثانية في يا آدم فترسم علامة الهمزة من النقطة الصفراء وحركتها على رأي المتقدّمين، وصورة العين على رأي المتأخرين قبل الياء الثانية في النبيين، وتجعل ذلك على الألف الثانية في يا آدم لأنها صورتها وعلى الواو في هؤلاء لأنها صورتها.
ووراء ما تقدّم من الشكل أمور تتعلق بالإدغام، والإظهار، والإخفاء، والإقلاب، والمدّ، وغيرها من متعلقات القراءة ليس هذا موضع ذكرها؛ والله أعلم.
فائدة
قال الشيخ عماد الدين بن العفيف رحمه الله: ولا بدّ من تناسب الشكل والنقط وتناسب البياضات في ذلك للحروف.(3/167)
الفصل الرابع من الباب الثاني من المقالة الأولى في الهجاء؛ وفيه مقصدان
المقصد الأول في مصطلحه الخاص؛ وهو على ضربين
الضرب الأوّل المصطلح الرسميّ
وهو ما اصطلح عليه الصحابة رضوان الله عليهم في كتابة المصحف عند جمع القرآن الكريم، على ما كتبه زيد بن ثابت رضي الله عنه، ويسمّى الاصطلاح السّلفي أيضا، ونحن نورد منه ما جرّ إليه الكلام، أو وافق المصطلح العرفيّ.
الضرب الثاني المصطلح العروضيّ
وهو ما اصطلح عليه أهل العروض في تقطيع الشعر؛ واعتمادهم في ذلك على ما يقع في السمع دون المعنى، إذ المعتدّ به في صنعة العروض إنما هو اللفظ، لأنهم يريدون به عدد الحروف التي يقوم بها الوزن متحرّكا وساكنا فيكتبون التنوين نونا، ولا يراعون حذفها في الوقف، ويكتبون الحرف المدغم بحرفين، ويحذفون اللام وغيره مما يدغم في الحرف الذي بعده: كالرحمن والذاهب والضارب، ويعتمدون في الحروف على أجزاء التفعيل، فقد تتقطع الكلمة بحسب ما يقع من تبيين الأجزاء كما في قول الشاعر:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد(3/168)
فيكتبونه على هذه الصورة:
ستبدي، لكالأييا، مماكن تجاهلن ... ويأتي، كبالأخبار، ملّم، تزوّدي
المقصد الثاني في المصطلح العام
وهو ما اصطلح عليه الكتّاب في غير هذين الاصطلاحين.
وهو المقصود من الباب؛ وفيه جملتان.
الجملة الأولى في الإفراد، والحذف، والإثبات، والإبدال، وفيه مدركان
المدرك الأوّل في بيان الأصل المعتمد في ذلك، وما يكتب على الأصل
واعلم أن الأصل في الكتابة مطابقة المنطوق المفهوم، وقد يزيدون في وزن الكلمة [ما ليس في وزنها ليفصلوا بالزيادة بينه وبين المشبه له، وينقصون من الكلمة] «1» عمّا هو في وزنها استخفافا واستغناء بما أبقي عما انتقص إذا كان فيه دليل على ما يحذفون، كما أن العرب تتصرف في الكلمة بالزيادة والنقصان، ويحذفون ما لا يتم الكلام في الحقيقة إلا به استخفافا وإيجازا إذا عرف المخاطب ما يقصدون.
قال ابن قتيبة «2» : وربّما تركوا الاشتباه على حاله، ولم يفصلوا بين المتشابهين واكتفوا بما يدل عليه من متقدّم أو متأخر: كقولك للرجل الواحد:
..(3/169)
يغزوا، وللاثنين لن يغزوا، وللجميع لن يغزوا بالواو والألف في الجميع من غير تفريق بين الواحد والاثنين والجمع، وبقّوه على أصله.
إذا علمت ذلك، فالمكتوب على المصطلح المعروف هو على قسمين:
القسم الأوّل ما له صورة تخصّه من الحروف؛ وهو على ضربين
الضرب الأوّل ما هو على أصله المعتبر فيه ذوات الحروف وعددها بتقدير الابتداء بها والوقوف عليها، سواء بقى لفظه على حاله أم انقلب النطق به إلى حرف آخر
فيكتب لفظ «امّحى» بغير نون بعد الألف، وإن كان أصله انمحى على وزن انفعل من المحو، لأن الإدغام من كلمة واحدة؛ بخلاف ما إذا كان الإدغام من كلمتين، فيكتب لفظ «من مال» بنون في «من» منفصلة من ميم مال وإن كانت النون الساكنة تدغم في الميم.
ويكتب لفظ خنق مصدر خنق ولفظ أنت وما أشبهها بنون، وإن كانت النون مخفاة في القاف من خنق وفي التاء من أنت. وكذلك حالة التركيب نحو من كافر.
ويكتب عنبر وما أشبهها بنون أيضا وإن كانت النون الساكنة تنقلب عند الباء ميما، وكذلك في حالة التركيب نحو من بعد. ويكتب مثل اضربوا القوم ويغزو الرجل بواو، وكذلك كلّ ما فيه حرف مدّ حذف لساكن يليه لأنه لولا التقاء الساكنين لثبتت هذه الواو لفظا. ويكتب أنا بألف بعد النون وإن كانت في وصل الكلام لا إشباع في الفتحة لأن الوقف عليه بألف، ومن أجل ذلك كتبت لكِنَّا هُوَ اللَّهُ
بألف بعد النون في لكنا إذ أصله لكن أنا. ويكتب المنوّن المنصوب مثل زيدا وعمرا من قولك: «رأيت زيدا وضربت عمرا» بالألف، لأنه يوقف عليه بالألف بخلاف المنوّن المرفوع والمجرور نحو جاء زيد ومررت بزيد، إذ الوقف عليه بحذف نون(3/170)
التنوين وإسكان الآخر على الصحيح. وتكتب إذا المنوّنة بالألف على رأي المازني «1» رحمه الله ومن تابعه، لأن الوقف عليها بالألف لضعفها، والمبرّد «2» والأكثرون على أنها تكتب بالنون. قال الأستاذ ابن عصفور: «3» وهو الصحيح، لأن كل نون يوقف عليها بالألف كتبت بالألف وما يوقف عليها نفسها كما توصل كتبت بالنون وهذه يوقف عليها عنده بالنون؛ وأيضا فإنها إذا كتبت بالنون كانت فرقا بينها وبين إذا الطرفية لئلا يقع الإلباس. وفصّل الفرّاء فقال: إن ألغيت كتبت بالألف، وإن أعملت كتبت بالنون لقوّتها. ويحكى عن أبي العبّاس محمد بن يزيد «4» أنه كان يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذن بالألف لأنها مثل أن ولن، ولا يدخل التنوين في الحروف.
ويكتب نحو لنسفعا بالألف لأن الوقف عليها بالألف، وكذلك يكتب اضربا زيدا ولا تضربا عمرا بالألف على رأي من ادّعى أنه الأكثر، ووجّهه بأن النون الخفيفة تنقلب ألفا إذا كان ما قبلها مفتوحا في الوقف.
وذهب بعضهم إلى أنها تكتب بالنون تشبيها لنونه «5» بنون الجمع نحو اضربن للجمع المذكّر، وبه جزم الشيخ أثير الدين أبو حيّان، ووجّهه بأنه لو كتب بالألف لالتبس بأمر الاثنين ونهيهما في الخط، وإن كنت إذا وقفت عليه وقفت بالألف، فلم تراع حالة الوقف في ذلك، لأن الوقف منع من اعتباره ما عرض فيه(3/171)
من كثرة الإلباس، لأنهم لو أرادوا (على الوقف بالألف) كتابته بالألف، كثر اللبس بالوقف والخط، فتجنبوا ما كثر به الإلباس. ويكتب كل اسم في آخره ياء نحو قاضي وغازي وداعي وحادي وساري ومشتري ومهتدي ومستدعي ومفتري في حالتي الرفع والجرّ بغير ياء، كما في قولك: جاء قاض ومررت بقاض، وكذا في الباقيات؛ وفي حالة النصب بالياء مع زيادة ألف بعدها كما في قولك: رأيت قاضيا وغازيا وداعيا وما أشبهه. وإن كان جمعا، فإن كان غير منصرف كتب في حالتي الرفع والخفض بغير ياء على ما تقدّم، فيكتب في الرفع: هؤلاء جوار وغواش وسوار ودواع، وفي الخفض: مررت بجوار وسوار وغواش ودواع بغير ياء في الحالتين.
ويكتب في النصب بالياء إلا أنه لا تزاد الألف بعدها، فتكتب رأيت جواري وسواري ودواعي.
فإذا دخلت الألف واللام في جميع هذه الأسماء، أثبتت فيها الياء سواء المنصرف وغير المنصرف؛ فيكتب هذا الداعي والغازي والقاضي والمستدعي وهؤلاء الجواري والسواري والدواعي بالياء في الجميع.
قال ابن قتيبة: وقد يجوز حذفها، وليس بمستعمل إلا في كتابة المصحف.
ويكتب نحو: ره أمرا بالرؤية، ولم يره نفيا للرؤية، وقه أمرا بالوقاية، ولم يقه نفيا لذلك وما أشبهه بالهاء وإن كانت الهاء تسقط منه حالة الدّرج، لأن الوقف عليها بالهاء؛ وكذلك قولهم: ممّه أتيت، ومجيء مه جئت، لأن الوقف على «ما» الاستفهامية بعد حذف ألفه بالهاء فيكتب بالهاء، بخلاف ما إذا وقعت «ما» المحذوف ألفها بعد الجار نحو: حتّام وإلام وعلام، فإنه لا تلحقها الهاء لشدّة الاتصال فلا تكتب بالهاء. وتكتب تاء التأنيث في نحو: رحمة ونعمة ونقمة وقسمة وخدمة وطلحة وقمحة بالهاء، لأن الوقف عليها بالهاء على الصحيح؛ وبعضهم(3/172)
يقف عليها بالتاء، وهي لغة قليلة فتكتب بالتاء، موافقة للوقف. وقد وقع في رسم المصحف الكريم مواضع من ذلك نحو قوله تعالى: أفبنعمت الله يكفرون «1» كتبوا أفبنعمت بالتاء، والأكثر ما تقدّم.
قال ابن قتيبة: وأجمع الكتّاب على كتابة «السّلام عليك ورحمت الله وبركاته» في أوّل الكتاب وآخره بالتاء. قال: فإن أضفت تاء التأنيث إلى مضمر، صارت تاء فتكتب: شجرتك وناقتك ورحمتك وما أشبهه بالتاء.
أما أخت وبنت، وجمع المؤنث السالم مثل: قائمات وصائمات وتائبات، وتاء التأنيث الساكنة في آخر الفعل نحو: قامت وقعدت، وما أشبه ذلك، فإنه يكتب جميع ذلك بالتاء لأن الوقف عليها بالتاء.
قال ابن قتيبة: وهيهات يوقف عليها بالهاء والتاء، والإجماع على كتابتها بالتاء ثم اللفظ الذي يكتب على نوعين:
النوع الأوّل أن يكون اسما لحرف من حروف الهجاء؛ وهو على وجهين
: الوجه الأوّل أن يكون اسما قاصرا على الحرف لم يسمّ به غيره، وله حالان
أحدهما- أن يقصد اسم ذلك الحرف لا مسمّاه فيكتب الملفوظ به
نحو:
جيم إذا سئل كتابته فيكتب بجيم وياء وميم.
والثاني- أن يقصد مسماه لا اسمه فيجب الاقتصار في الكتابة على أوّل حرف في الكلمة
، ويكتب بصورة ذلك الحرف مثل: ق ن ص، ولذلك كتبت الحروف المفتتح بها السور على نحو ما كتبوا حروف المعجم، وذلك لأنهم أرادوا أن يضعوا أشكالا لهذه الحروف تتميز بها، فهي أسماء مدلولاتها اشكال خطّية،.(3/173)
ولو لم يضعوا لها هذه الأشكال الخطية، لم يكن للخط دلالة على المنطوق، ولو اقتصروا على كتبها على حسب النطق ولم يضعوا لها أشكالا مفردة تتميز بها لم يمكن ذلك، لأن الكتابة بحسب النطق متوقفة على معرفة كل حرف حرف وشكل كل حرف حرف غير موضوع، فاستحال كتبها على حسب النطق. ألا ترى أنك إذا قيل لك: اكتب جيم، عين، فاء، راء! فإنما تكتب هذه الصورة «جعفر» والملفوظ بلسان الآمر بالكتابة جيم والمكتوب ج، ولو كان تصوير اللفظ بصور هجائه، لكان المكتوب «جيم» كالملفوظ على قياس غيره من الألفاظ.
ويشهد لذلك ما حكي أن الخليل رحمه الله قال يوما لطلبته: كيف تنطقون بالجيم من جعفر؟ فقالوا جيم فقال: إنما نطقتم بالاسم ولم تلفظوا بالمسؤول عنه، ثم قال: الجواب جه لأنه المسمّى من الكتاب (يريد جيما مفتوحة، وإنما أتى فيها بالهاء ليمكن الوقف عليها) .
الوجه الثاني ألّا يكون الاسم قاصرا على الحرف بأن يسمّى به غيره أيضا
كما إذا سمّي رجل بقاف أو بياسين، فللكتّاب فيه مذهبان:
أحدهما
- أن تكتب صورة الحرف هكذا ق ويس.
والثاني
- أن يكتب الملفوظ به هكذا «قاف» و «ياسين» وهو اختيار أبي عمرو ابن الحاجب «1» رحمه الله.
النوع الثاني ألا يكون اسما لحرف من حروف المعجم
، وهو على وجهين أيضا(3/174)
الوجه الأول أن يكون له معنى واحد فقط
فيكتب هكذا (زيد) إذا طلب كتابة زاي، ياء، دال.
الوجه الثاني أن يكون له أكثر من معنى واحد
فيكتب بحسب القرينة كما إذا قيل لك: اكتب شعرا! فإن دلت القرينة على أن المراد هذا اللفظ كتب هكذا (شعرا) وإلا فيكتب ما ينطبق عليه الشعر إذ هو معنى الشعر.
الضرب الثاني ما تغير عن أصله، وهو على ثلاثة أنواع
النوع الأول ما تغير بالزيادة. والزيادة تقع في الكتابة بثلاثة أحرف
الحرف الأول الألف، وتزاد في مواضع
(منها) تزاد بعد الميم في مائة فتكتب على هذه الصورة (مائة) فرقا بينها وبين «منه» وإنما كانت الزيادة من حروف العلة دون غيرها لأنها تكثر زيادتها، وكان حرف العلة ألفا لأنها تشبه الهمزة، ولأن الفتحة من جنس الألف؛ ولم تكن الزيادة ياء، لأنه يستثقل في الخط أن يجمع بين حرفين مثلين في موضع مأمون فيه اللبس، ألا ترى إلى كتابتهم خطيئة على وزن فعلية بياء واحدة ولو كتبت على صيغة لفظها، لوجب أن تكتب بياءين ياء لبناء فعلية، وياء هي صورة الهمزة؛ ولم تكن الزيادة واوا لاستثقال الجمع بين الياء والواو؛ وجعل الفرق في «مائة» ولم يجعل في «منه» لأن مائة اسم ومنه حرف والاسم أحمل للزيادة من الحرف، ولأن المائة محذوفة اللام بدليل قولهم: أمأيت الدراهم، فجعل الفرق في مائة بدلا من المحذوف مع كثرة(3/175)
الاستعمال؛ ثم اختلف في المثنّى منه فقيل لا يزاد في مائتين لأن موجب الزيادة اللبس ولا لبس في التثنية، والراجح الزيادة كما في الإفراد، لأن التثنية لا تغير الواحد عما كان عليه.
أما في حالة الجمع، فقد اتفقوا على منع الزيادة فكتبوا «مئين ومئات» بغير ألف بعد الميم، لأن جمع التكسير يتغير فيه الواحد، وجمع السلامة ربما تغير فيه أيضا فغلبت.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: وقد رأيت بخط بعض النحاة «مأة» على هذه الصورة بألف عليها نبرة الهمزة دون ياء. قال: وكثيرا ما أكتب أنا «مئة» بغير ألف كما تكتب «فئة» لأن كتب مائة بالألف خارج عن القياس، فالذي أختاره أن تكتب بالألف دون الياء على وجه تحقيق الهمزة، أو بالياء دون الألف على وجه تسهيلها.
(ومنها) تزاد بعد واو الجمع المتطرفة في آخر الكلمة إذا اتصلت بفعل ماض أو فعل أمر مثل ضربوا واضربوا وما أشبههما، فتكتب بألف بعد الواو.
وسمّى ابن قتيبة هذه الألف ألف الفصل لأنها تفصل بين الفعل «1» كي لا تلتبس الواو في آخر الفعل بواو العطف، فإنك لو كتبت أوردوا وصدروا مثلا بغير ألف ثم اتصلت بكلام بعدها، ظن القاريء أنها واو العطف. ولمّا فعلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها عن الحرف كالفعلين المتقدّمين، فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحرف قبلها نحو كانوا وبانوا ليكون حكم هذه الواو في جميع المواضع واحدا. أما إذا لم تقع طرفا في آخر الكلام نحو: ضربوهم وكالوهم ووزنوهم، لم تلحق به الألف. فلو اتصلت واو الجمع المذكورة بفعل مضارع نحو: لن يضربوا ولن يذهبوا. فمذهب بعض البصريّين أنه لا تلحقها الألف، ومذهب الأخفش لحوقها كالماضي والأمر.(3/176)
ولو اتصلت باسم نحو: ضاربوهم وضاربو زيد. فمذهب البصريين أنها لا تلحق بل يجعل الاسم تلو الواو. ومذهب الكوفيين أنها تلحق فيكتبون ضاربوا زيد وقاتلوا عمرو وهموا بألف بعد الواو في الجميع، والراجح الأول.
(ومنها) زادها الفرّاء في يدعو ويغزو في المفرد حالة الرفع خاصّة تشبيها بواو الجمع وأطلق ابن قتيبة النقل عن بعض كتّاب زمانه بأنها لا تلحق في مثل ذلك، لأن العلة التي أدخلت هذه الألف لأجلها في الجمع لا تلزم هنا، لأنك إذا كتبت الفعل الذي تتصل واوه به من هذا الباب مثل: أنا أرجو وأنا أدعو، لم تشبه واوه واو العطف أيضا إلا بأن تزيل الكلمة عن معناها، لأن الواو من نفس الفعل لا تفارقه إلا في حال جزمه، والواو في صدروا، ووردوا واو جمع مكتف بنفسه يمكن أن يجعل للواحد وتتوهم الواو عاطفة لشيء عليه. قال: وقد ذهبوا مذهبا. غير أن متقدّمي الكتّاب لم يزالوا على إلحاق ألف الفصل بهذه الواوات كلها ليكون الحكم في كل موضع واحدا.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: وفصّل الكسائي «1» في حالة النصب فقال:
إن لم يتصل به ضمير نحو [لن يدعو كتب بألف، وإن اتصل به ضمير نحو] «2» لن يدعوك، كتب بغير ألف فرقا بين الحالين.
(ومنها) تزاد شذوذا بعد الواو المبدلة من الألف في الربو فتكتب بألف بعد الواو على هذه الصورة (الربوا) تنبيها على أن الأصل يكتب بالألف. ووجه الشذوذ أنه من ذوات الواو فكان قياسه أن يكتب بالألف.
وقد زيدت في مواضع من المصحف، كما في قوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
«3» تنبيها على أنه كان ينبغي أن تكون صورة الهمزة ألفا على كل حال ولا.(3/177)
يعتدّ بالضم والكسرة إذ اللغة الأصلية فيها إنما هي فتح الراء دائما، والقياس كتابته بصورة الحركة التي قبل الهمزة، وكذلك كتبوا «لا أوضعوا» بزيادة ألف بعد اللام ألف، وذلك مختص برسم المصحف الكريم دون غيره فلا يقاس عليه، والله أعلم.
الحرف الثاني الواو، وتزاد في مواضع أيضا
(منها) تزاد في عمرو بعد الراء إذا كان علما في حالتي الرفع والجرّ فرقا بينه وبين عمر. وكانت الزيادة واوا ولم تكن ياء لئلا يلتبس بالمضاف إلى ياء المتكلم، ولا ألفا لئلا يلتبس المرفوع بالمنصوب. وجعلت الزيادة في عمرو دون عمر، لأن عمرا أخفّ من عمر من حيث بناؤه على فعل ومن حيث انصرافه. أما في حالة النصب فلا تزاد فيه الواو ويكتب عمرو بألف وعمر لا يكتب بألف لأنه لا ينصرف، وكذلك المحلّى باللام كالعمر والمضاف كعمره والواقع قافية شعر كقول الشاعر:
إنّما أنت في سليم كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمر
وكذلك عمر واحد عمور الأسنان: وهو اللحم الذي بينها، وما هو بمعنى المصدر مثل قولهم: لعمر الله لا تزاد فيه الواو إذ لا لبس. ولم يفرقوا في الكتابة بين عمر العلم وعمر جمع عمرة لأنهما ليسا من جنس واحد فلا يلتبسان.
(ومنها) تزاد في أولئك بين الألف واللام فرقا بينها وبين إليك إذ حذفوا ألف أولئك الذي بعد اللام لكثرة الاستعمال فالتبست بإليك، وكانت الواو أولى بالزيادة من الياء، لمناسبة ضمّة الهمزة؛ ومن الألف، لاجتماع صورتي الألف، وهم يحذفون الواحدة إذا اجتمعت صورتاها، وجعلت الزيادة في أولئك دون إليك، لأن الاسم أحمل للزيادة من الحرف ولأن أولئك قد حذف منه الألف فكان أولى بالزيادة لتكون كالعوض من المحذوف.(3/178)
قال ابن الحاجب: وحملوا أولى عليه مع عدم اللبس كما حملوا مائتين على مائة.
(ومنها) تزاد في أولي وفي أولو بين الألف واللام، أما في أولي فللفرق بينها وبين إلى، وأما في أولو فبالحمل على أولي بالياء، صرح به الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب، وقاله الشيخ أثير الدين أبو حيان بحثا وادّعى أنه لم يظفر في تعليله بنصّ. قال: وحمل التأنيث في أولات على التذكير في أولي.
(ومنها) تزاد في أوخيّ تصغير بين الألف والخاء، والتغيير يأنس بالتغيير، وجعلت الزيادة واوا لمناسبة ضمة الهمزة كما في أولئك ونحوه. وأكثر أهل الخط لا يزيدونها لأن التصغير فرع عن التكبير وليس ببناء أصليّ.
الحرف الثالث الياء المثناة تحت
وتزاد في مواضع من رسم المصحف الكريم فيكتبون قوله تعالى: بَنَيْناها بِأَيْدٍ
«1» بياءين بين الألف والدال من قوله: «بأييد» . وقوله تعالى: مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ
بياء بعد الألف من نبإ، وقوله تعالى: من مَلَائِهِ*
ومن مَلَائِهِمْ
بياء قبل الهاء فيهما. وهذا مما يجب الانقياد اليه في المصحف اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم. أما في غير المصحف فيكتب بأيد بياء واحدة لأن الهمزة فيه أول كلمة فتصوّر ألفا كغيرها من الهمزات الواقعة أوّلا على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ويكتب من نبإ ومن ملئه ومن ملئهم بغير ياء لأن الهمزة في نبإ وملإ أخيرة بعد فتحة فتصوّر ألفا كما في نحو: كلا وخطإ، وكذلك إذا أضيف إليه الضمير.
وذهب بعضهم إلى أنها تكتب في هذا ياء على ما يناسب حركتها سواء أضيفت نحو: من كلئه أو لم تضف نحو من الكلىء.(3/179)
قال بعضهم: والأقيس أن يكتب ياء مع الضمير المتصل نحو: من خطئه لأنها صارت معه كالمتوسطة ويكتب ألفا إذا تطرّفت نحو: من خطإ اعتبارا بما يؤول إليه في التخفيف، والله أعلم.
النوع الثاني ما يغيّر بالنقص والنقص يقع في الكتابة على وجهين:
الوجه الأول ما لا يختص بحرف من الحروف، وهو المدغم
فيكتب كلّ مشدّد من كلمة واحدة حرفا واحدا نحو: شدّ ومدّ وادّكر ومقرّ واقشعرّ فيكتب بدال واحدة في شدّ ومدّ وادّكر، وراء واحدة في مقرّ واقشعرّ وإن كان في اللفظ حرفان، فإن الحرف المدغم فيما بعده هو ملتفظ به ساكنا مدغما، فكان قياسه أن يكتب له صورة بحسب النطق، لكنه لما أدغم ضعف بالإدغام، إذ صار النطق به وبالمدغم فيه نطقا واحدا فاقتصر في الكتابة على حرف ولم يجعل للأوّل صورة اختصارا. وسواء كان المدغم إدغام مثل نحو: ردّ أو مقارب نحو: اطجع أصله اضطجع، وأجروا نحو: قنتّ مجرى ما هو من كلمة واحدة وإن كان من كلمتين لشدة اتصال الفعل بالفاعل مع كون الحرفين مثلين.
قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله: وكذلك نحو: ممّ وعمّ «1» .
الوجه الثاني ما يختص بحرف من الحروف
وينحصر ذلك في خمسة أحرف:(3/180)
الحرف الأول الألف، وتحذف في مواضع
(منها) تحذف مع لام التعريف إذا دخلت عليها لام الجرّ، فيكتب للقوم وللغلام وللناس بلامين متواليتين من غير ألف، بخلاف ما إذا دخلت عليها باء الجرّ فإنها لا تحذف، فيكتب بالقوم وبالغلام وبالناس بألف بين الباء واللام. وإن كان في أول الكلمة ألف ولام من نفس الكلمة ليستا اللتين للتعريف نحو الألف واللام في التقاء والتفات والتباس. ثم دخلت لام الجرّ أو باؤه ثبتت الألف، فيكتب بالتقائنا ولالتفاتنا ولالتباس الأمر عليّ وبالتباسه، فإن أدخلت ألف التعريف ولامه على الألف واللام اللتين من نفس الكلمة للتعريف ولم تصل الكلمة بلام الجرّ وبائه لم تحذف شيئا، فيكتب الالتقاء والالتفات والالتباس بألفين «1» ولامين، وكذلك إذا وصلتهما بلام الجرّ أو بائه، فيكتب بالالتقاء وبالالتفات وبالالتباس وللالتقاء وللالتفات وللالتباس.
(ومنها) تحذف بعد اللام الثانية من لفظ الله تعالى، وبعد الميم من الرحمن إذا دخلت عليها الألف واللام، فيكتب الله بلامين بعدهما هاء على هذه الصورة «الله» وإن كانت المدّة بعد اللام الثانية توجب ألفا بعدها، ويكتب الرحمن بنون بعد الميم على هذه الصورة «الرحمن» وإن كانت المدّة على الميم توجب ألفا بعدها، لأنه لا التباس في هذين الاسمين، ولكثرة الاستعمال. فلو تجرّدا عن الألف واللام كتبا بالألف كما قالوا: لاه أبوك، يريدون لله أبوك، فحذفوا حرف الجرّ والألف واللام وكتبوه بالألف. وكقولك: رحمان الدنيا والآخرة فيكتبونه بالألف.
(ومنها) تحذف بعد اللام من السلام في عبد السلام وفي السلام عليكم، فيكتبان على هذه الصورة: «عبد السّلم» «والسّلم عليكم» .(3/181)
(ومنها) تحذف بعد اللام من ملائكة فتكتب على هذه الصورة:
«ملئكة» .
قال أحمد بن يحيى»
: لأنه لا يشبه لفظ مثله، ولكثرة الاستعمال.
(ومنها) تحذف بعد الميم من سموات، فتكتب على هذه الصورة:
«سموات» .
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: وعلة الحذف فيه علة الحذف في الملائكة من كثرة الاستعمال وعدم الشبه. وأما الألف الثانية منه وهي بعد الواو، فإنها لا تحذف، لأنها دليل الجمع، ولأنها لو حذفت لاجتمع في الكلمة حذفان، وقد كتبت في المصحف بحذف الألفين جميعا فيجب الانقياد إليه في المصحف خاصّة.
(ومنها) تحذف بعد اللام في أولئك، وبعد الذال من ذلك فيكتبان على هذه الصورة: «أولئك» و «ذلك» . فلو تجرّد أولاء وذا عن حرف الخطاب وهو الكاف، كتبا بالألف فيكتبان على هذه الصورة: «أولاء» و «ذا» .
(ومنها) تحذف بعدها التنبيه إذا اتصلت بذا «2» التي للإشارة وكانت خالية من كاف الخطاب في آخر الكلمة؛ فتحذف من هذا وهذه وهؤلاء، فيكتب الجميع بغير ألف، فإن اتصلت باسم الإشارة الكاف نحو ذاك امتنع الحذف، فيكتب بألف بعد الهاء على هذه الصورة «ها ذاك» ولا يضر اختلاف حرف الخطاب بالنسبة للإفراد والجمع والتذكير والتأنيث. وأما تا وتي في الإشارة بتا «3» للمذكر وبتي(3/182)
للمؤنث، فإن الألف لا تحذف معهما إذا اتصلت بهما ها التنبيه، فيكتب هاتا وهاتي وهاتان.
وذكر أحمد بن يحيى: أنها حذفت من هأنتم وهأنا وهأنت أيضا، فتكتب بألف واحدة بعد الهاء في جميع ذلك. قال: وهو القياس؛ وكان الأصل أن تكتب بألفين على هذه الصورة: ها أنتم وها أنا وها أنت؛ ثم تلي الهمزة. ودليل أن ألف ها قد حذفت من ها التنبيه في غير اتصالها بذا وما والاها من رسم المصحف في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: في النور أيّه المؤمنون وفي الزخرف يا ايّه السّاحر وفي الرحمن أَيُّهَ الثَّقَلانِ.
قال ابن قتيبة: ويكتب أيها الرجل وأيها الأمير بالألف وإن كان قد كتب في القرآن الكريم بالألف وغير الألف لاختلافهم في الوقف عليها.
(ومنها) تحذف من ثمانية عشر وثماني نساء، بخلاف ما إذا حذفت الياء منها نحو ثمان عشرة وعندي من النساء ثمان فإنه لا تحذف الألف، بل تكتب على هذه الصورة: «ثمان عشرة وعندي من النساء ثمان» لأنه قد حذف منه الياء فلو حذف الألف، لتوالى الحذف فيكثر؛ فمثل قول الشاعر «1» :
ولقد شربت ثمنيا وثمنيا ... وثمان عشرة واثنتين وأربعا
يكتب الأوّلان بغير ألف والثالثة بالألف. وفي ثمانين وجهان: أحدهما إثبات الألف بعد الميم فيها، لأنه قد حذف منه الياء إذ الياء في ثمانين ليست ياء ثمانية، لأنها حرف الإعراب المنقلب عن الواو في حالة الرفع، فلو حذفت الألف أيضا لتوالى فيه الحذف. والوجه الثاني الحذف، لأن الياء منه كأنها لم تحذف بدليل أنه قد عاقبتها ياء أخرى فهما لا يجتمعان، فكأن الياء موجودة إجراء للمعاقب مجرى المعاقب. وإذا قلت ثمانون بالواو، فحكمه حكم ثمانين بالياء في جواز الوجهين.(3/183)
(ومنها) تحذف بعد اللام من ثلاث فيكتب على هذه الصورة: «ثلث» سواء كانت مفردة، نحو عندي ثلث من البطّ، أو مضافة نحو ثلث نساء، أو مركبة نحو ثلث عشرة امرأة، أو معطوفة نحو ثلث وثلاثون جارية، وحكم ثلثة بالتاء كذلك في جميع الصور.
وكذلك تحذف أيضا من ثلاثين وثلاثون بالياء والواو، فيكتبان على هذه الصورة: «ثلثين» و «ثلثون» .
فأما ثلاث المعدول كما في قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ*
«1» ، فقال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: لم أقف فيه على نقل. قال: والذي أختاره أن يكتب بالألف لوجهين: أحدهما أنه لم يكثر كثرة ثلث، وثلثة، وثلثين، وثلثون، والثاني أنها لو حذفت لالتبست بثلث الذي ليس بمعدول.
قال ابن قاسم «2» رحمه الله: وقد ذكر في «المقنع» «3» أنه محذوف في الرسم.
(ومنها) تحذف من- يا- التي للنداء إذا اتصلت بهمزة نحو يا أحمد، يا إبراهيم يا أبا بكر، يا أبانا، فتكتب على هذه الصورة: يأحمد، يإبراهيم، يأبا بكر، يأبانا. ثم الأظهر أن المحذوف هو ألف يا لا صورة الهمزة.
وقال أحمد بن يحيى: المحذوف صورة الهمزة لا الألف من يا نعم إذا كانت الهمزة المتصلة بيا كهمزة آدم امتنع الحذف، وكتبت بألفين على هذه الصورة: يا آدم، لأنهم قد حذفوا ألفا من آدم لتوالي ألفين، وحرف النداء مع المنادى كالكلمة(3/184)
الواحدة بدليل أنه لا يجوز الفصل بينهما فلو حذفت الألف من يا لاجتمع فيما هو كالكلمة الواحدة حذف ألفين.
أما إذا لم يل يا همزة البتة نحو: يا زيد، ويا جعفر، فالذي يستعمله الكتّاب فيه إثبات الألف في يا. وفي كلام أحمد بن يحيى تجويز كتابته بغير ألف أيضا، توجيها بأنهم جعلوا يا مع ما بعدها شيئا واحدا، إذ أقاموا يا مقام الألف واللام بدليل أنهم لا ينادون ما فيه ألف ولام، فلا يقولون يا الرجل.
(ومنها) تحذف من الحارث إذا كان علما ودخلت عليه الألف واللام، فيكتب على هذه الصورة: الحرث. أما إذا عري عن الألف واللام، فإنه يثبت فيه الألف لئلا يلتبس بحرب بالباء الموحّدة إذ قد سمي به، وإنما امتنع اللبس مع الألف واللام لأنهما إنما يدخلان من الأعلام على ما كان صفة إذا أريد به معنى التفاؤل وحرب ليس بصفة فلم يدخلا عليه وإن كانا قد دخلا على بعض المصادر كالعلاء، وكذلك إذا كان حارث اسم فاعل من الحرث فإنه يكتب بالألف أيضا كما إذا عري عن الألف واللام.
(ومنها) تحذف مما كثر استعماله من الأعلام الزائدة على ثلاثة أحرف إذا لم يحذف منها شيء، سواء كان ذلك العلم من اللغة العربية نحو: مالك، وصالح، وخالد، أو من اللغة العجمية نحو: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وهارون، وسليمان، فتكتب على هذه الصورة: ملك، وصلح، وخلد، وإبرهيم، وإسمعيل، وهرون، وسليمن، بخلاف ما إذا لم يكثر استعماله كحاتم، وجابر، وحامد، وسالم، وطالوت، وجالوت، وهاروت وماروت، وهامان وقارون، فإنها لا تحذف ألفها.
وقد حذفت في بعض المصاحف من هاروت، وماروت، وهامان، وقارون، فكتبت على هذه الصورة: هروت، ومروت، وهمن، وقرون.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: وذكر بعض شيوخنا أن إثباتها في نحو: صالح، وخالد، ومالك جيد.(3/185)
وقال أحمد بن يحيى: يجوز فيه الوجهان، وهو قضية كلام ابن قتيبة.
أما إذا كان العلم الذي كثر استعماله على ثلاثة أحرف فما دونها نحو:
هالة «1» ولام، فإنه لا تحذف ألفه، وكذلك إذا حذف منه شيء غير الألف نحو:
إسراءيل وداود، لأنهم قد حذفوا من إسراءيل صورة الهمزة ومن داود الواو فامتنع حذف الألف لئلا يتوالى الحذف.
ويلتحق بذلك في الإثبات ما لو خيف بالحذف التباسه: كعامر، وعبّاس، فلا تحذف منه الألف أيضا، لأنه لو كتب بغير ألف، لا لتبس عامر بعمر، وعباس بعبس.
(ومنها) تحذف استحسانا مما كثر استعماله، مما في آخره الألف والنون نحو شعبان، وعثمان وما أشبههما، فيكتبان على هذه الصورة «شعبن» و «عثمن» .
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: إلا أنهم لم يحذفوا ألف عمران والإثبات في نحو: شعبان حسن أيضا.
قال ابن قتيبة: فأما شيطان، ودهقان، فإثبات الألف فيهما حسن. وكان القياس إذا دخلت عليهما الألف واللام أن يكتبا بغير ألف، إلا أن الكتّاب مجمعون على ترك القياس في ذلك.
(ومنها) تحذف من كل جمع على وزن مفاعل أو وزن مفاعيل، إذا لم يحصل بالحذف التباس الجمع فيه بالواحد لموافقته له في الصورة، فحيث لا يقع اللّبس مثل خواتم ودوانق في وزن مفاعل، ومحاريب وتماثيل وشياطين في وزن مفاعيل تحذف الألف فيكتب على هذه الصورة: خوتم، ودونق، ومحريب،(3/186)
وتمثيل، وشيطين، ودهقين، إذ المفرد منها خاتم ودانق، ومحراب، وتمثال، وشيطان، ودهقان، وهي لا تشابه صور الجمع فيها، بخلاف ما إذا كان يلتبس فيه الجمع بالواحد، مثل: مساكين في وزن مفاعيل جمع مسكين فإنه يكتب بالألف لئلا يلتبس بالواحد، فلو كان الحذف يؤدّي إلى موافقته للواحد في الصورة لكنه في غير موضع المفرد نحو: ثلاثة دراهم، ودراهم جياد، ودراهم معدودة، حذفت منه الألف وكتب على هذه الصورة: ثلاثة درهم، ودرهم جياد، ودرهم معدودة لأنه لا يلتبس حينئذ، بخلاف عندي دراهم ونحوه فإنه لو حذفت الألف منه لا لتبس بدرهم المفرد.
ثم الحذف في مفاعل ومفاعيل على ما تقدّم إنما هو على سبيل الجواز، وإلا فالإثبات أجود.
وشرط بعض المغاربة في جواز الحذف شرطا، وهو ألّا تكون الألف فاصلا بين حرفين متماثلين، فلا تحذف الألف من نحو: سكاكين، ودكاكين، ودنانير، لئلا يجتمع مثلان في الخط وهو مكروه في الخط ككراهته في اللفظ.
وقد كتب في المصحف مساكين، ومساكنهم بغير ألف على هذه الصورة:
مسكين ومسكنهم، وإن كان اللبس موجودا.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: وإنما كتبنا كذلك لأنهما قد قرئا بالإفراد فكتبنا على ما يصلح فيهما من القراءة. كما كتبوا وما يخادعون «1» بغير ألف على هذه الصورة وَما يَخْدَعُونَ
لأنه يصلح لقراءة يخدعون من الثلاثيّ.
(ومنها) تحذف الألف الأولى مما كان فيه ألفان، مما جمع بالألف والتاء المزيدتين نحو: صالحات، وعابدات، وقانتات، وذاكرات، فتكتب على هذه الصورة: «صلحات، وعبدات، وقنتات، وذكرات» .(3/187)
وكذلك تحذف من صفات جمع المذكر السالم نحو: الصالحين، والقانتين، فيكتب على هذه الصورة: «الصّلحين» و «القنتين» وإن لم يكن فيه ألف أخرى حملا على المؤنث.
وقال بعض المغاربة: إن كان مع ألف الجمع ألف أخرى كالسماوات، والصالحات، فيختار حذف ألف الجمع وإبقاء الأخرى. وثبت في المصحف بحذف الألفين جميعا على هذه الصورة: «سموت، وصلحت» وكذلك سياحات، وغيابات، وإن كان ليس فيه ألف أخرى فالمختار إثبات الألف كالمسلمات، وثبت أيضا في المصحف محذوف الألف على هذه الصورة:
مسلمت.
قال: وتحذف أيضا في جمع المذكر السالم من الصفات المستعملة كثيرا:
كالشاكرين، والصادقين، والخاسرين، والكافرين، والظالمين، وما أشبهها في كثرة الاستعمال فتكتب على هذه الصورة: «الشكرين، والصدقين، والخسرين، والكفرين، والظلمين» .
نعم إن خيف اللبس فيما جمع بالألف والتاء مثل طالحات، امتنع الحذف لأنه لو حذفت الألف منه، لالتبس بطلحات جمع طلحة، وكذلك لو خيف اللبس فيما جمع بالواو والنون، نحو حاذرين، وفارهين، وفارحين، فلو حذفت الألف منه، لا لتبس بحذرين، وفرهين، وفرحين، وهما مختلفان في الدلالة، لأن فاعلا من هذا النوع مذهوب به مذهب الزمان، وفعل يدل على المبالغة لا على الزمان.
وكذلك لو كان مضعفا مثل شابّات، والعادّين، فلا يجوز فيه حذف الألف لأنه بالإدغام نقص في الخط إذ جعلوا الصورة للمدغم والمدغم فيه شكلا واحدا، ولذلك كتبوا في المصحف: الضّالين والعادّين بالألف. وقد أجري مجرى المضعّف في الإثبات ما بعد ألفه همزة نحو: الخائنين، وقد حذفت ألفه في بعض المصاحف فكتب على هذه الصورة: «الخئنين» ويتعين الإثبات أيضا فيما هو معتلّ اللام مثل: دانيات حملا على دانين، كما حذف من الصالحين حملا على(3/188)
الصالحات، ومثل: الرامين لأنه قد حذف منه لام الفعل، وحمل ما جمع بالألف والتاء عليه كما حمل الصالحين على الصالحات في حذف الألف، وإن كانت العلة فيهما مفقودة.
قال ابن قتيبة: وكذلك ما كان من ذوات الياء والواو لا يجوز فيه حذف الألف نحو: هم القاضون، والرامون، والساعون، لأنهم حذفوا الياء لالتقاء الساكنين لما استثقلوا ضمة في الياء بعد كسرة فسكنوا ثم حذفوا الياء، فكرهوا أن يحذفوا الألف أيضا لئلا يخلّوا بالكلمة.
(ومنها) تحذف إحدى الألفين ممّا اجتمع فيه ألفان مثل: أادم، وأازر، وأامن، وأامين، وأاتين، وأانفا، ووراأك، وقراأة، وبراأة، وشنأان، وشبهه، فتكتب على هذه الصورة: «آدم، وآزر، وآمن، وآمين، وآتين، وآنفا، ووراءك، وقراءة، وبراءة وشنآن» فلو انفتح الأوّل منهما كما في قرأا لفعل الاثنين من القراءة كتب بألفين على هذه الصورة: (قرأا) لئلا يلتبس بفعل الواحد، إذ المفرد تقول فيه قرأ فتكتبه بألف واحدة؛ وذهب قوم إلى أنه في التثنية يكتب أيضا بألف واحدة مسندا إلى ألف الاثنين، وبه قال أحمد بن يحيى. والذي عليه المتأخرون وهو الأجود عند ابن قتيبة ما تقدّم.
(ومنها) تحذف إحدى الألفات مما اجتمع فيه ثلاث ألفات، مثل براأات جمع براءة، ومساأات جمع مساءة، فتكتب بألفين فقط على هذه الصورة:
«براآت» و «مساآت» لأنها في الجمع ثلاث ألفات. فلو حذفوا اثنتين، أخلّوا بالكلمة.
(ومنها) تحذف من أول الكلمة في الاستفهام في اسم، أو فعل، نحو:
أالله أذن لكم؟ أالسّحر إنّ الله سيبطله؟ أالذّكرين حرّم أم الأنثيين؟ أاصطفى البنات على البنين؟ أالرجل في الدار؟ أاسمك زيد أم عمرو؟ فتكتب بألف واحدة على هذه الصورة: آلله؟ آلسّحر؟ آلذّكرين؟ آلرجل؟ آسمك؟ آلآن؟(3/189)
ثم مذهب أحمد بن يحيى، وعليه جرى ابن مالك «1» رحمه الله: أنه لا فرق بين المكسورة، والمضمومة. والذي ذهب إليه المغاربة أنها تكتب بألفين، إحداهما ألف الوصل، والأخرى همزة الاستفهام.
قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله: وجاز في نحو: ألرجل، ألأمران، ورسمت في المصحف بألف واحدة نحو: آلذكرين، آلآن.
(ومنها) تحذف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف من حروف الجرّ نحو: عمّ تسأل؟ وفيم تفكّر، وممّ فرقت؟ ولم تكلّمت؟ وبم علمت؟ وحتّام تغضب؟ وعلام تدأب؟ فتكتب كلها بغير ألف في آخرها فرقا بينها وبين ما الموصولة، ويصير حرف الجرّ كأنه عوض من الألف المحذوفة. وكان الحذف من الاستفهامية دون الموصولة لأن آخرها منتهى الاسم، والأطراف محلّ التغيير، بخلاف الموصولة، لأنها متوسطة من حيث إنها تحتاج إلى صلة.
وحكى الكوفيون ثبوتها في الاستفهامية أيضا؛ والله أعلم.
تذنيب تحذف الهمزة المصوّرة بصورة الألف في أربعة مواضع
: الأول- تحذف بعد الباء من بسم الله الرّحمن الرحيم
، فتكتب بغير ألف على هذه الصورة «بسم» ، والقياس إثباتها كما تكتب يأيها بالألف لكنها حذفت لكثرة الاستعمال، أما في غير بسم الله الرحمن الرحيم، فظاهر كلام ابن مالك «2» أنها لا تحذف، فتثبت في باسم ربك، وفي باسم الله، مفردا.
وقال بعضهم: إن كان مضافا إلى لفظ الله تعالى وليس متعلّق الباء ملفوظا(3/190)
به، حذفت وإلا فلا، فتثبت في باسم ربك لأنه غير مضاف إلى لفظ الله تعالى، وفي نحو قولك: تبركت باسم الله، لأن متعلقه ملفوظ به.
وقال الفرّاء في قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
«1» إن شئت أثبتّ وإن شئت حذفت، فمن أثبت قال: ليست مبتدأ بها، وليس معها الرحمن الرحيم؛ ومن حذف، قال: كان معها الرحمن الرحيم في الأصل، فحذفت في الاستعمال؛ فإن أضفت الاسم إلى الرحمن أو القاهر ونحوه، فقال الكسائيّ: تحذف، وقال الفرّاء: لا يجوز أن تحذف إلا مع الله لأنها كررت معه، فإذا عدوت ذلك أثبتّ الألف.
الثاني- تحذف بين الفاء والواو
، وبين همزة هي فاء الفعل من وزن الكلمة، مثل قولك: فأت وأت، لأنهم لو أثبتوا لها صورة الألف، لكان ذلك جمعا بين ألفين: إحداهما صورة همزة الوصل، والأخرى صورة الهمزة التي هي فاء الفعل، مع أن الواو والفاء شديدتا الاتصال بما بعدهما لا يوقف عليهما دونه، وهم لم يجمعوا بين ألفين في سائر هجائهم إلا على خلاف في المتطرّفة كما مرّ، لأن الأطراف محلّ التغييرات والزيادة، فلذلك حذفوها في نحو: فأذن، وأتمن فلان، وعليه كتبوا وَأْمُرْ أَهْلَكَ
«2» فلو كانت الهمزة بين غير الفاء والواو وبين الهمزة التي هي فاء الفعل ثبتت، نحو ائتو، والَّذِي اؤْتُمِنَ
، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
«3» وكذلك لو كانت ابتداء والهمزة فاء الفعل، نحو ائذن لي، اؤتمن فلان، ثبتت أيضا؛ أو ليست فاء، نحو: ثم اضرب، واضرب، فاضرب. وكذلك في وَأْتُوا الْبُيُوتَ
«4» .
الثالث- تحذف في ابن وابنة
مما وقع فيه ابن مفردا صفة بين علمين، غير(3/191)
مفصول، فيكتب نحو جاء فلان بن فلان، أو فلانة بنة فلان بغير ألف في ابن وابنة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون العلمان اسمين، نحو هذا أحمد بن عمر أو كنيتين، نحو: هذا أبو بكر بن أبى عبد الله، أو لقبين، نحو: هذا نبت بن بطة، أو اسما وكنية، نحو: هذا زيد بن أبي قحافة، أو لقبا واسما، نحو: هذا أنف الناقة بن زيد، أو كنية ولقبا، نحو: هذا أبو الحارث بن نبت، أو لقبا وكنية، نحو:
هذا بدر الدين بن أبي بكر.
فهذه سبع صور تسقط فيها الألف من ابن ولا تسقط فيما عداها، فلو قلت هذا زيد ابنك، وابن أخيك، وابن عمك، ونحو ذلك، مما ليس صفة «1» بين علمين، أثبتّ فيه الألف، وكذلك إذا كان خبرا كقولك: أظنّ زيدا ابن عمرو، وكأنّ بكرا ابن خالد، وإن زيدا ابن عمرو، فتثبت الألف في الجميع. ومنه في القرآن الكريم: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
«2» كتبتا في المصحف بالألف، فلو ثنيت الابن، ألحقت فيه الألف صفة كان أو خبرا، فتكتب: قال عبد الله، وزيد ابنا محمد كذا وكذا؛ وأظنّ عبد الله وزيدا ابني محمد فعلا كذا بالألف. وكذلك إذا ذكرت ابنا بغير اسم، فتكتب: جاء ابن عبد الله بالألف أيضا- وحكم ابنة مؤنثا في جميع ما ذكر حكم الابن، تقول: جاءت هند بنة قيس، فتحذف الألف، وشرط الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أن يكون مذكّرا فلا تسقط من ابنة.
ونقل احمد بن يحيى عن أصحاب الكسائيّ: أنه متى كان منسوبا إلى اسم أبيه أو أمّه أو كنية أبيه وأمّه وكان نعتا، حذفوا الألف فلم يجزه في غير الاسم والكنية في الأب والأم. قال: وأما الكسائيّ فقال: إذا أضفت إلى اسم أبيه أو كنية أبيه، وكانت الكنية معروفا بها كما يعرف باسمه، جاز الحذف، لأن القياس عنده الإثبات(3/192)
والحذف استعمالا، فإذا عدى الاستعمال، يرجع إلى الأصل.
وحكى ابن جنّي «1» عن متأخري الكتّاب، أنهم لا يحذفون الألف مع الكنية، تقدّمت أو تأخرت قال: وهو مردود عند العلماء على قياس مذاهبهم.
والألف تحذف من الخط في كل موضع يحذف منه التنوين وهو حذف مع الكنى.
الرابع- تحذف من كل معرّف بالألف واللام إذا دخلت عليه لام الابتداء،
نحو: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
«2» أو لام الجرّ، نحو للدّار ألف ساكن غيرك، وقياسها الإثبات كما أثبتوها في لابنك قائم، ولأبيك مال؛ وسبب حذفها التباسها بلا النافية.
وذهب بعضهم: إلى أنها لا تحذف مع لام الابتداء فرقا بينها وبين الجارّة ولم يحذفوها من نحو: مررت بالرجل؛ والله أعلم.
الحرف الثاني اللام، وتحذف في مواضع
(منها) تحذف من الذي للزومها، فكأنها ليست منفصلة، وكذلك تحذف من جمعه وهو الذين لأنه يشبه مفرده في لزوم البناء، ولفظ الواحد كأنه باق فيه، ولم يحذفوه من المثنّى كما في قوله تعالى: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا
«3» فكتبوه بلامين فرقا بينه وبين الجمع. وإنما اختصت التثنية بالإثبات، لأنها أسبق من الجمع، واللبس إنما حصل بالجمع.
(ومنها) تحذف من الّتي للزومها كما تقدّم، ومن تثنيتها وهي الّتان(3/193)
وجمعها: وهي ألّاتي لأنهما لا يلتبسان بخلاف تثنية الذي وحروفه.
وقال أحمد بن يحيى: كتبوا اللاتي (الّتي) واللائي (الّئي) وأسقطوا لاما من أوّلها وألفا من آخرها. قال: وهذا للاستعمال لأنه يقل في الكلام مثله، ويدل عليه ما قبله وما بعده، ولو كتب على لفظه كان أولى.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيّان رحمه الله: والذي عهدناه من الكتّاب أنه لا تحذف الألف لئلا يلتبس بالمفرد.
(ومنها) تحذف من الليل والليلة على أجود الوجهين، فيكتبان بلام واحدة على هذه الصورة: «الّيل والّيلة» : لأنّ فيه اتباع المصحف، وأجاز بعضهم كتابته بلامين. قال أبو حيّان: وهو القياس.
(ومنها) تحذف من [اللّعب] «1» ونحوه، مما دخل عليه لام الجرّ فيكتب بلامين وإن كان في اللفظ ثلاث لامات.
(ومنها) قال أحمد بن يحيى: يكتب الّطيف بلام واحدة، لانه قد عرف فحذف، وهذا بخلاف اللهو واللّعب، واللّعبة، واللاعبين، واللّغو واللّؤلؤ، واللّات، واللهم، واللهب، واللّوامة، فإنها لا تحذف منها اللام.
قال ابن قتيبة: وكل اسم كان أوّله لاما ثم أدخلت عليه لام التعريف، كتبته بلامين، نحو: اللهم، واللبن، واللحم، واللجام، وما أشبه ذلك، وإن كانوا قد اختلفوا في الليل والليلة لموافقة المصحف كما تقدم.
الحرف الثالث النون، وتحذف في مواضع
(منها) تحذف من عن إذا وصلت بمن أو بما، فتكتب عمّن وعمّا وعمّ.
(ومنها) تحذف من من الجارّة إذا وصلت بمن أو ما، فتكتب ممّن وممّا.(3/194)
(ومنها) تحذف من إن إذا وصلت بلم، فتكتب إلّم.
(ومنها) تحذف من أن المفتوحة إذا وصلت بلا، فتكتب ألّا.
الحرف الرابع الواو، وتحذف في مواضع
(منها) تحذف لأمن اللبس، مثل ما كتبوا من قوله تعالى: يَدْعُ الدَّاعِ
«1» . وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ
«2» بغير واو في يدعو ويمحو، لأن ذكر الداع في الأوّل، وذكر الله تعالى في الثاني يمنع أن يكون الفاعل جماعة فلا يحصل اللبس، بخلاف قولك لا تضربوا الرجل، فإنه لو حذف لالتبس الجمع فيه بالواحد.
(ومنها) تحذف مما توالى فيه واوان في كلمة واحدة، مثل: داوود، وطاووس، ورؤوس، ويستوون، ويلوون، وأووا إلى الكهف، ويسوّوا، وتبوّووا، وجاؤوا، وباؤوا، وأساؤوا، ويؤوده، ويؤوس، وفادرؤوا، ومبرّؤون، فيكتب بواو واحدة.
وكتب بعضهم طاووس ونحوه بواوين على الأصل، والقياس الاقتصار على واو واحدة كراهة اجتماع المثلين.
واستثنى ابن عصفور من ذلك موضعا، وهو ألا يؤدّي إلى اللبس، نحو:
قؤول وصؤول على وزن فعول فإنه يلتبس بقول وصول، واختاره أحمد بن يحيى.
(ومنها) تحذف مما توالى فيه ثلاث واوات في كلمتين ككلمة، مثل:
ليسوؤوا، وينوؤون، فتكتب ليسوءوا، وينوءون، بواوين فقط، ويكتب لوّوا،(3/195)
واجتووا، والتووا، بواوين، لأنه لو حذفت إحدى الواوين لالتبس الجمع بالمفرد.
ووقع في المصحف كتابة يستوون، ويلوون، بواو واحدة، وذلك لأن في يستوون ونحوه اجتمع واوان وضمة، فناسب الحذف، وفي لوّوا رؤوسهم ونحوه انفتح ما قبل الواو فناسب الإثبات.
(ومنها) تحذف للجزم كما في قولك: لم يغد، فتحذف الواو علامة للجزم؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحرف الخامس الياء، وتحذف في مواضع
(منها) للجزم كما في قولك: لم يقض، فتحذف الياء من آخره علامة للجزم.
(ومنها) تحذف لمراعاة الفواصل، نحو قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ
«1» بغير ياء في آخرها لمراعاة ما قبله من قوله: وَالْفَجْرِ
«2» .
(ومنها) تحذف فيما توالى فيه ياءان أو ثلاثة، فتكتب النّبييّن، وخاسئين، وخاطئين، وإسرائيل، وما أشبه ذلك بياءين فقط، وإن كان في اللفظ ثلاث ياءات.
(ومنها) تحذف لأمن اللبس، فتكتب قارءين جمع قاريء بياء واحدة، فرقا بينها وبين قارئين تثنية قاريء فإنها تكتب بياءين.
(ومنها) تحذف مدّة ضمير «3» الغائب مثل قولك: ضربه، فتكتبه بغير واو، وإن كنت تلفظ به لأنك إذا وقفت حذفتها ووقفت على الهاء ساكنة، وكذلك مدّة(3/196)
ضمير الغائبين، مثل قولك: ضربهم في لغة من وصل الميم، وكذلك حذفوها إذا وليت الكاف، نحو: ضربكم زيد ولكم في لغة من وصل الميم بواو وبياء، لأنه إذا وقف حذف الصلة؛ والله أعلم.
النوع الثالث ما يغيّر بالبدل
والحروف التي يدخلها البدل ثلاثة أحرف: الألف، والواو، والياء؛ والألف والياء أكثرهما تعاقبا.
فتنوب الياء عن الألف في ثلاثة محالّ:
المحل الأوّل الاسم، وهو ثلاثة أحوال
الحال الأوّل- أن تكون الألف فيه رابعة فصاعدا
، نحو: المعزى، والمستدعى، والحبلى، والمرضى، والملهى، والمدعى، والمشترى، ومقلى، ومثنى، وكذلك أعمى، وأعشى، وأظمى، وأقنى، وأدنى، وأعلى، ومعافى، ومنادى، وما أشبه ذلك، فتكتب الألف في جميع ذلك ياء سواء كان منقلبا عن واو أو منقلبا عن ياء، لأنك إذا ثنيته ثنيته بالياء؛ ومن ثم كتبت يا ويلتى، ويا حسرتى، ويا أسفى، بالياء إشعارا بأنها مما تمال أو تقلبها عند التثنية ياء، إلا فيما قبلها ياء نحو:
الدّنيا، والعليا، والقصيا، وهديا، ومعيا، ومحيا، وعام حيا ورؤيا، وسقيا، فإنك لا تكتب الألف فيها ياء كراهة أن تجتمع ياءان في الخط. نعم يغتفر ذلك في نحو:
يحيى وريّى علمين، للفرق بين يحيى علما وبينه فعلا وبين ريّى علما وبينه وصفا وكان البدل في العلم دون الوصف والفعل لأن الفعل والصفة أثقل.
قال ابن قتيبة: وأحسبهم اتبعوا في يحيى رسم المصحف.
فلو كان مهموزا «1» ، نحو: مستقرأ ومستنبئا، أو قبل آخره ياء نحو: خطايا،(3/197)
وزوايا، وركايا، والحوايا، والحيا، وما أشبهه كتب بالألف.
الحال الثاني- أن تكون الألف فيه ثالثة
، فإن كانت مبدلة عن ياء، نحو:
فتى، ورحى، وسوى، والهدى، والمدى للغاية، والهوى لهوى النفس، وندى الأرض، وندى الجود، وحفى الدابة، والكرى: النوم، والقذى، والأذى، والخنى: فحش القول، والضّنى: المرض، والرّدى: الهلاك، والطّوى: الجوع، والأسى: الحزن، والعمى: في القلب والعين، والجنى: جنى الثمرة، والصّدى:
العطش والشّرى: في الجسد، والضّوى: الهزال، والثرى: التراب النّديّ، والجوى: داء في الجوف، والسّرى: [سير] «1» الليل، والسّلى: سلى الناقة، ومنى: المكان المعروف، والمدى «2» الغاية، والصّدى: اسم طائر يقال إنه ذكر البوم، والنّسى: عرق في الفخذ، وطوى: واد، والوغى: الحرب، والوحى:
العجل، والورى: الخلق، والذّرى: الناحية وأنا في ذرى فلان، والمعى واحد الأمعاه، والحجى والنّهى: العقل، والحشى واحد الأحشاء، وما أشبه ذلك كتب بالياء.
وإن كانت منقلبة عن واو، نحو عصا، ومنا للقدر، ورجا لجانب البئر، والقنا في الأنف، والرّما والقرا للظهر، والعشا في العين، والقفا: قفا الإنسان، والصّغا: ميلك للرجل، ووطا جمع وطاة، و [لها جمع] «3» لهاة، والفلا جمع فلاة، كتب بالألف.
وتفترق الواو من الياء فيه بطرق أقربها التثنية تقول في الأوّل: فتيان، ورحيان، وسويان.
قال ابن قييبة: فلو ورد عليك اسم قد ثنّي بالواو والياء عملت على الأكثر(3/198)
الأعمّ. وذلك نحو رحى، فإن من العرب من يقول: رحوت الرّحاء، ومنهم من يقول: رحيت، قال: وكتبها بالياء أحبّ إليّ لأنها اللغة العالية.
وكذلك الرّضا، من العرب من يقول في تثنيته: رضيان، ومنهم من يقول رضوان، قال: وكتابته بالألف أحبّ إليّ، لأن الواو فيه أكثر، وهو من الرضوان.
وكذلك الحكم في متى، لأنها لو سمّي بها وثنّي، لقلت متيان، فيعلم أنه من ذوات الياء. وتقول في الثاني: عصوان ومنوان ورجوان، فيعلم أنه من ذوات الواو. فإذا أشكل عليك شيء فلم تعلم أهو من ذوات الواو [أو من ذوات الياء] «1» ؟ نحو خسا بالخاء المعجمة والسين المهملة، كتبته بالألف لأنه هو الأصل.
ومنهم من يكتب الباب كلّه بالألف على الأصل وهو أسهل للكتّاب، وعلى تقدير كتبها بالياء، فلو كان منوّنا فالمختار عندهم أنها تكتب بالياء أيضا، وهو قياس المبرّد، وقياس المازني أن يكتب بألف إذ هي ألف التنوين عنده في جميع الأحوال.
وقاس سيبويه»
المنصوب «3» بالألف لأنه للتنوين فقط.
قال ابن قتيبة: وتعتبر المصادر بأن يرجع فيها إلى المؤنث، فما كان في المؤنث بالياء كتبته بالياء، نحو: العمى، والظّمى، لأنك تقول: عمياء وظمياء، وما كان المؤنث فيه بالواو كتبته بالألف، نحو العشا في العين، والعثا وهو كثرة شعر الوجه، والقنا في الأنف، لأنك تقول: عشواء، وقنواء، وعثواء.
قال: وكل جمع ليس بين جمعه وبين واحده في الهجاء إلا الهاء من المقصور، نحو الحصى، والقطا، والنّوى، فما كان جمعه بالواو كتبته بالألف، وما كان جمعه بالياء كتبته بالياء.(3/199)
وكتبت لدى بالياء لانقلابها ياء في لديك.
وأما كلا، فالصحيح من مذهب البصريين أنها تكتب بالألف، لأن ألفه عن واو، ومن زعم أنها عن ياء كالمعى، كتبها بالياء. وأجاز الكوفيون كتبها بالياء وهو خطأ على مذهبهم، لأن الألف عندهم للتثنية، وألف التثنية لا يجوز أن تكتب ياء لئلا يلتبس المرفوع بغيره. وقياس كلتا عند البصريين أن تكتب ياء، وشذ كتابتها بالألف.
قال ابن قتيبة: والذي أستحبّه أن تكتب كلا وكلتا في حال الرفع بالألف، وفي حالتي الجرّ والنصب بالياء، فإذا قلت: أتاني كلا الرجلين أو كلتا المرأتين، كتبته بالألف، وإذا قلت: رأيت كلي الرجلين أو كلتي المرأتين كتبته بالياء، لأن العرب قد فرقت بينهما في اللفظ «1» فقالوا: رأيت الرجلين كليهما، ومررت بالرجلين كليهما، ومررت بالمرأتين كلتيهما، وقالوا: جاءني الرجلان كلاهما، والمرأتان كلتاهما.
وتترى إن لم تنوّن فألفها للتأنيث، وإن نوّنت فهي للإلحاق؛ وقياسها أن تكتب بالياء. ومن زعم أنه فعل، فألفه بدل التنوين كألف صبرا، فهو قياسه.
ووقع في كلام ابن البادس أن تترى في الخط بياء، وهو خلاف المعروف.
تنبيه
لو اتصل الاسم الذي يكتب بالياء بضمير متصل، نحو: رحاك، وقفاك، وملهاك، ومرعاك، فقيل يكتب بالياء كحال عدم اتصالها، فيكتب على هذه الصورة: رحيك، وقفيك، وملهيك، ومرعيك.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيّان رحمه الله: واختيار أصحابنا فيه بالألف إذا.(3/200)
اتصل به ضمير خفض أو ضمير نصب، سواء كان ثلاثيّا أم أزيد، إلا إحدى خاصة فإنها تكتب بالياء حال اتصالها بضمير الخفض، نحو من إحديهما كحالها دون الاتصال.
واختلفوا إذا اتصلت بتاء تأنيث تنقلب هاء في الوقف، فذهب البصريون إلى كتابتها ألفا، نحو الحصاة، واختار الكوفيون كتابتها بالياء نحو الحصية.
الحال الثالث- أن تكون الألف فيه ثانية
، نحو ما وذا إذا كانا اسمين، فيكتب بالألف على صورة النطق به.
المحل الثاني الفعل، وله حالان
الحال الأوّل- أن تكون الألف فيه رابعة فصاعدا
، نحو: أعطى، واستعلى، وتداعى، وتعادى، واستدنى، وما أشبهه، فتكتبه كلّه بالياء إلا أن يكون مهموزا، نحو: أخطأ، وأنبأ، وتخاطأ، واستنبأ، فإنه يكتب بالألف، وكذلك إذا كان قبل آخره ياء، نحو: استحيا، وتحايا، وأعيا، وتعايا، واستعيا، وما أشبهه، فإنك تكتبه بالألف.
ووقع في بعض المصاحف: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ
«1» بالألف في آخر نخشى، وفي بعض المصاحف بالياء.
الحال الثاني- أن تكون الألف ثالثة
، فتردّه إلى نفسك، فإن ظهرت فيه الواو فاكتبه بالألف، نحو قولك: عدا، ودعا، ومحا، وغزا، وسلا، وعلا من العلوّ، لأنك تقول: عدوت، ودعوت، ومحوت، وغزوت، وسلوت، وعلوت. وشذّ زكى، فكتب بالياء وإن كان من ذوات الواو، لأنه من زكى يزكو، إلا أن العرب يميلون الأفعال ذوات الواو، وإن ظهرت فيه الياء فاكتبه بالياء، نحو قولك: قضى،(3/201)
ومشى، وسعى، وعسى، لأنك تقول: قضيت، ومشيت، وسعيت، وعسيت، ويجوز كتابته بالألف أيضا.
تنبيه
لو اتصل بالفعل ضمير متصل، نحو: رماه، وجزاه، ورعاه، فقيل يكتب على حاله بالياء، فيكتب على هذه الصورة: رمية، وجزية، ورعية، والصحيح كتابته بالألف.
قال ابن قتيبة: وكل ما لحقته الزيادة من الفعل لم تنظر إلى أصله، وكتبته كله بالياء، فتكتب أعزى فلان فلانا، وأدنى فلان فلانا، وألهى فلان فلانا، بالياء، وهو من غزوت، ودنوت، ولهوت، لأنك تقول فيه: أغزيت، وأدنيت، وألهيت.
وكذلك تكتب يغزى، ويدنى، ويلهى، على البناء لما لم يسمّ فاعله بالياء، لأنك تقول في تثنيته: يغزيان، ويدنيان، ويدعيان.
المحل الثالث بعض الحروف
واعلم أن الحرف الذي في آخره ألف في اللفظ إنما يكتب ألفا على صورة لفظه، نحو: ما، ولا، وألا، وما أشبهها، واستثنوا من ذلك أربع صور فكتبوها بالياء:
إحداها- بلى، قال بعض النحاة: لإمالتها، وقال سيبويه: لأنه إذا سمي بها وثنيت قيل بليان كما يقال في متى متيان.
الثانية- إلى، وكتبت بالياء، لأنها تردّ إلى الياء في قولهم: إليك.
الثالثة- على، وكتبت بالياء لأنها تردّ إلى الياء أيضا في قولهم: عليك.(3/202)
قال ابن قتيبة: وكان القياس فيها وفي إلى أن تكتبا بالألف لعدم جواز الإمالة فيهما.
الرابعة- حتّى، وكتبت بالياء حملا على إلى، لكونهما بمعنى الانتهاء والغاية، ولأنه قد روي فيها الإمالة عن بعض العرب فروعي حكمها.
تنبيه
لو وليت ما الاستفهامية حتّى، أو إلى، أو على، كتبن بالألف على هذه الصورة: حتّام، وإلام، وعلام، لأنها شديدة الاتصال بما الاستفهامية بدليل أن ما بعدها لا يوقف عليه إلا بذكرها معه، فكأنّ الألف وقعت وسطا فصارت كحال ما كتب بالياء إذا اتصل بضمير خفض أو ضمير نصب، فإنه يكتب بالألف.
قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله: فإن وصل في حتّام وإلى الهاء الحائرة، فلك أن تجريها على الاتصال ولا تعتدّ بها، ولك أن تعتدّ بها وترجع الألف في حتّى، وإلى، وعلى، إلى أصلها، فتكتب بالياء يعنى على هذه الصورة حتى مه، وإلى مه، وعلى مه.
فائدة
قد يكتب بالياء ما هو من ذوات الألف للمجاورة كما في قوله تعالى:
وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
«1» فإن الضّحى ونحوه قياسه عند البصريين أن يكتب بالألف لأنه من ذوات الواو، ولكنه كتب بالياء لمجاورة سجى، وسجى وإن كان من ذوات الواو أيضا، كتب بالياء لمجاورة قلى الذي هو من ذوات الياء، فسجى مجاور، والضحى مجاور المجاور.
وأما الواو فقد نابت عن الألف في مواضع من رسم المصحف الكريم، وهي: الصلاة، والزكاة، والحياة، والنجاة، ومشكاة، ومناة، فتكتب على هذه(3/203)
الصورة: الصلوة، والزكوة، والحيوة، والنجوة، ومنوة، ومشكوة. فمنهم من كتبها كذلك في غير المصحف أيضا اتباعا للسّلف في ذلك؛ ومنهم من كتبها بالألف وهو القياس، ووجه بأن رسم المصحف متبع في القرآن خاصة، ولا يكتب شيء من نظائر ذلك إلا بالألف: كالقناة، والقطاة، اقتصارا على ما ورد به الرسم السلفيّ.
قال ابن قتيبة: وقال بعض أهل الإعراب: إنهم كتبوا هذه الكلمات بالواو على لغات الأعراب، وكانوا يميلون في اللفظ بها إلى الواو شيئا. وقيل: بل كتبت على الأصل، إذ الأصل فيها واو، لأنك إذا جمعت قلت: صلوات، وزكوات، وحيوات، وإنما قلبت ألفا، لما انفتحت وانفتح ما قبلها.
قال: ولولا اعتياد الناس لذلك في هذه الأحرف الثلاثة، أي الصلاة والزكاة، والحياة، لكان من أحب الأشياء إليّ أن تكتب كلها بالألف. وجمعوا في الربابين العوض والعوض منه، فكتبوه بواو وألف بعدها على هذه الصورة:
الربوا. وفي بعض المصاحف: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً
«1» بألف بغير واو، وما سواه فلا خلاف فيه.
تنبيه
لو اتصل بشيء مما أبدلت ألفه واوا ضمير، نحو صلاتهم، وزكاتهم، وحياتك، ونجاته، ومشكاته، ورباه، كتبت بالألف دون الواو؛ والله أعلم.
القسم الثاني ما ليس له صورة تخصه
وهو الهمزة، إذ تقع على الألف والواو والياء، وعلى غير صورة؛ ولها ثلاثة أحوال:(3/204)
الحال الأوّل أن تكون في أوّل الكلمة
فتكتب ألفا بأيّ حركة تحركت، من فتحة مثل: أحمد، وأيوب، وأحد؛ أو ضمة نحو: أخذ، وأكرم، وأوحي، وأولئك؛ أو كسرة نحو: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحق، وإثمد، وإبل، وإذ، وإلى، وإلّا، وإمّا، سواء في ذلك همزة القطع مثل: أكرم، وهمزة الوصل مثل: اتخذ، والهمزة الأصلية مثل: امريء، والهمزة الزائدة مثل: إشاح، وذلك لأن الهمزة المبتدأة لا تخفف أصلا من حيث إن التخفيف يقرّبها من الساكن، والساكن لا يقع أوّلا، فجعلت لذلك على صورة واحدة، واختصت الألف بذلك دون الياء والواو حيث شاركت الهمزة في المخرج، وفارقت أختيها في الخفّة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الهمزة مبتدأة كما في الصور المذكورة، أو تقدّمها لفظ آخر، نحو: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ
«1» وفبأيّ، وأفأنت، وبأنه، وكأنه وكأين، وبإيمان، ولإيلاف، ولبإمام، وسأترك، ولأقطّعن، ومررت بأحمد، وجئت لأكرمك، واكتحلت بالإثمد، إلا فيما شذّ من ذلك، نحو هؤلاء، وابنؤمّ ولئن، ولئلّا، ويومئذ، وحينئذ، وما أشبهها، فإنه كان القياس أن تكتب الهمزة فيها ألفا لأنها وقعت أوّلا، لكنهم خالفوا فكتبوا همزة هؤلاء، وابنؤمّ بالواو، وإن كانت في الحقيقة مبتدأة بدليل أن ها حرف تنبيه وهو منفصل عن اسم الإشارة. وكذلك ابن اسم أضيف إلى الأم، لكنهم شبهوها بهمزة لؤم، فكتبوها بالواو، وراعوا في ذلك كثرة لزوم هاء الإشارة، وعدم انفكاك ابنؤم الواقع في القرآن، فكأنها صارت همزة متوسطة. وكتبوا همزة لئن، ولئلا، وحينئذ، ويومئذ، وما أشبهها ياء وإن كانت أوّل كلمة، وكان القياس أن تكتب بالألف، أما لئن، فلأن أصلها لأن بلام ألف ونون، وأما لئلّا، فلأن أصلها لأن، بلام ألف ونون منفصلة من لا، بدليل أنهم إذا لم يجيئوا بعدها بلا، كتبوها لأن، نحو جئت لأن تقرأ، لكنهم جعلوا اللام مع أن كالشيء الواحد. وكذلك حينئذ، ويومئذ، فإن الأصل أن يفصل الظرف المضاف للجملة التي بقي منها إذ المنوّنة(3/205)
تنوين العوض وأن يكتب بالألف، لكن جعل الظرف مع إذ كالشيء الواحد، فوصل بإذ، وجعلت صورة الألف ياء كما جعلوها في يئس. وكذلك الحكم في كل ظرف أضيف إلى ما ذكر، سواء المفرد، كالأمثلة المذكورة، والجمع نحو أزمانئذ. وسيأتي الكلام على ما يتعلق من ذلك في الفصل والوصل إن شاء الله تعالى.
الحال الثاني أن تكون متوسطة؛ ولها حالتان
الأولى- أن تكون ساكنة
، فلا يكون ما قبلها إلا متحرّكا وتكتب بحركة ما قبلها. فإن كان ما قبلها مفتوحا، كتبت ألفا نحو: رأس، وكأس، وبأس، ويأس، وضأن، وشأن، ودأب، وتأمر، وتأكل. وإن كان ما قبلها مضموما، كتبت واوا، نحو: مؤمن، ونؤمن، وتؤوي، وتؤتي، ومؤتي، ويؤفك، وما أشبهها. وإن كان ما قبلها مكسورا، كتبت ياء، نحو: بئر، وذئب، وبئس، وأنبئهم، ونبئنا، وجئت، وجئنا، وشئت، وشئنا، ولملئت، وما أشبهها.
الثانية- أن تكون الهمزة متحركة؛ والنظر فيها باعتبارين:
الاعتبار الأوّل- أن يكون ما قبلها ساكنا
، وحينئذ فلا يخلو، إما أن يكون حرفا من حروف العلة (وهي الألف والواو والياء) أو حرفا صحيحا. فإن كان الساكن الذي قبلها حرف علة نظر إن كان حرف العلة ألفا، فإن كانت حركة الهمزة فتحة، فلا تثبت للهمزة صورة نحو: ساءل، وأبناءنا، وأبناءكم، ونساءنا، ونساءكم، وجاءنا، وجاءكم، (وساءل، فاعل من السؤال) وما أشبهه. وإن كانت ضمة تثبت لها صورة الواو نحو: التّساؤل، وآباؤكم، وأبناؤكم، وأولياؤكم، وبآبائنا «1» ، وشبه ذلك؛ وإن كان حرف العلة واوا أو ياء، فإما أن تكونا زائدتين للمدّ، أو تكون الياء للتصغير أو أصليتين أو ملحقتين بالأصل. فإن كانتا زائدتين للمدّ نحو: خطيئة، ومقروءة، وهنيئا، مريئا، أو ياه تصغير نحو: أفيئس تصغير(3/206)
أفؤس جمع فاس، فلا صورة للهمزة. وإن كانتا أصليتين نحو: سوءة، وهيئة، أو ملحقتين بالأصل نحو: جيل (وهو الضّبع) ، وحوءبة (وهو الدلو العظيم) ، والحوءب (اسم موضع) ، والسّموءل (اسم رجل) ، فإنك تحذفها وتنقل حركتها إلى الساكن قبلها فتقول: سوّة، وهية، وجيل، وحوبة، وحوب وسمول.
ولا صورة للهمزة حينئذ في تحقيقها ولا في حذفها. وإن كان الساكن الذي قبلها حرفا صحيحا نحو: المرأة، والكمأة، ويسأم، ويسئم، ويلؤم ونحو ذلك، فتنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وتحذف الهمزة. والأحسن الأقيس ألا تثبت لها صورة في الخط لا في التحقيق ولا في الحذف والنقل.
ومنهم من يجعل صورتها الألف على كل حال، فيكتبها على هذه الصورة:
المرأة والكمأة، ويسأم، ويسإم، ويلأم، وهو أقل استعمالا. وقد كتب منه حرف في القرآن بالألف، وهو قوله تعالى: يسألون عن أنبائكم «1» .
ومنهم من يجعل صورتها على حسب حركتها، فيكتب المرأة، والكمأة، ويسأم، بالألف، ويكتب يسئم بالياء، ويكتب يلؤم بالواو. واستثنى بعضهم من ذلك ما إذا كان بعدها حرف علة نحو: سئول، ومشئوم فلم يجعل لها صورة أصلا، وإذا كان مثل: رءوس يكتب بواو واحدة فلا صورة لها. وكذلك الموءودة في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ
«2» على ما كتبت في المصحف بواو واحدة لا يجعل لها صورة.
الاعتبار الثاني- أن يكون ما قبلها متحرّكا
فينظر إن كانت مفتوحة مفتوحا ما قبلها، كتبت ألفا نحو: سأل، ورأيت، ورأوك، وبدأكم، وأنشأكم، وقرأه، وليقرأه، وشبه ذلك، إلا إن كان بعدها ألف فلا صورة لها نحو: مئال ومئاب.
وذهب بعضهم إلى أنها تصوّر ألفا فتكتب بألفين. وإن كانت مفتوحة مكسورا ما قبلها نحو: خاطئة، وناشئة: وليبطئنّ، وموطئا، وخاسئا، وينشئكم، وشانئك،(3/207)
صوّرت بمجانس ما قبلها (وهو الكسرة) فتصوّر ياء. وإن كانت مفتوحة، مضموما ما قبلها نحو: الفؤاد، والسؤال، ويؤدّه إليك، ويؤلف، ومؤجّلا، ومؤذّن، وهزؤا، وشبهه، صوّرتها بمجانس ما قبلها. وإن كانت مضمومة، مضموما ما قبلها، نحو: نؤم، كصبر جمع صبور، أو مضمومة، مفتوحا ما قبلها نحو: لؤم، كتبت بالواو في الحالتين، إلا إن كان بعدها في الصورتين «1» واو نحو: رءوس، ونئوم؛ وإن كانت مضمومة، مكسورا ما قبلها نحو: يستهزءون، وأنبئكم، ولا ينبّئك، وسنقرئك، كتبت بواو على مذهب سيبويه، وياء وواو بعدها على مذهب الأخفش «2» .
الحال الثالث أن تكون الهمزة آخرا، ولها حالتان أيضا
[الحالة] الأولى أن يكون ما قبلها ساكنا، والنظر فيها باعتبارين
الاعتبار الأوّل- أن يكون ما قبلها صحيحا
، فتحذف الهمزة وتلقى حركتها على ما قبلها ولا صورة لها في الخط نحو: جزء، وخبء، ودفء، والمرء، وملء.
سواء في ذلك حالة الرفع والنصب والجرّ. وقيل: إن كان ما قبل الساكن مفتوحا، فلا صورة لها، وإن كان مضموما، فصورتها الواو، وإن كان مكسورا، فصورتها الياء مطلقا. وقيل: إن كان مضموما أو مكسورا فعلى حسب حركة الهمزة، فيكتب الجزء والدفء، بالواو في الرفع وبالألف في النصب وبالياء في الجرّ. وإن كان شيء من ذلك منصوبا منوّنا فيكتب بألف واحدة، وهي البدل من التنوين. وقيل:
يكتب بألفين، إحداهما صورة الهمزة، والأخرى صورة البدل من التنوين.
الاعتبار الثاني- أن يكون ما قبلها معتلّا
، فينظر إن كان حرف العلة زائدا(3/208)
للمدّ، فلا صورة لها نحو نبيء، ووضوء وسماء، والسّوء، والمسيء، وقرّاء، وشاء «1» ، ويشاء، والماء، وجاء، إلا إن كان منوّنا منصوبا، فيكتبه البصريون بألفين، والكوفيون وبعض البصريين بواحدة، وهذا إذا كان حرف العلة ألفا نحو: سماء، الألف الواحدة حرف العلة، والأخرى البدل من التنوين. فإن اتصل ما قبله ألف بضمير مخاطب أو غائب، فتصوّر الهمزة واوا رفعا نحو: هذا سماؤك، وياء جرّا نحو: نظرت إلى سمائك، وألفا واحدة هي ألف المدّ نصبا نحو: رأيت سماءك. أما إذا كان حرف العلة ياء أو واوا نحو: رأيت وضوءا، فيكتب بألف واحدة. وإن كان حرف العلة غير زائد للمدّ، فلا صورة للهمزة في الخط.
الحالة الثانية أن يكون ما قبل الهمزة متحرّكا
فتكتب صورة الهمزة على حسب الحركة قبلها. فإن كانت الحركة فتحة، رسمت ألفا نحو: بدأ، وأنشأ «ومن سبإ بنبإ» «2» والملأ، ويستهزأ، على البناء للمفعول، وينشأ كذلك، ورأيت امرأ وما أشبهه. وإن كانت كسرة رسمت ياء نحو: قريء، واستهزيء، ولكل امريء، ومن شاطيء، ويستهزيء، على البناء للفاعل، وبريء ومررت بامريء. وإن كانت ضمة، رسمت واوا نحو: امرؤ، واللؤلؤ، وما أشبه ذلك، إلا في مثل النبأ إذا كان منصوبا منوّنا فقيل: يكتب بألفين نحو: سمعت نبأا، وقيل: بواحدة وهو الأولى. وإن اتصل بها ضمير، فعلى حسب الحركة قبلها كحالها إذا لم يتصل بها ضمير. وقيل: إن كان ما قبلها مفتوحا فبألف، نحو: لن يقرأ، إلا أن تكون هي مضمومة فبواو، إن قلنا بالتسهيل بين الهمزة والواو، وبالياء إن قلنا بإبدالها ياء، وقيل: إن انضم ما قبلها أو انكسر،(3/209)
فكما قبل الاتصال بالضمير، فتجعل صورتها على حسب الحركة قبلها. وإن انفتح ما قبلها وانفتحت فبالألف، نحو: لن يقرأ، وكذلك إذا انفتح ما قبلها وسكنت نحو: لم يقرأ، ولم ينبّأ، واقرأ، وإن نشأ وما أشبهه. وإن انفتح ما قبلها وانضمت فبالواو، نحو: يقرؤ، وقيل: بالواو والألف كما كتبوا في المصحف:
قُلْ ما يَعْبَؤُا
«1» ونَبَأُ الْخَصْمِ
«2» ويَبْدَؤُا الْخَلْقَ*
«3» أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
«4» بواو وألف في الجميع. أو انكسرت فبالياء، نحو: من المقريء، وقيل بها وبألف كما كتبوا في المصحف: مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ
بألف وياء.
تنبيه
قد تقدّم في الحذف أن همزة الوصل تحذف في بعض مواضع وتثبت فيما عداها. فحيث ثبتت، كتبت بحسب حالها إذا ابتدىء بها. فإن كانت يبتدأ بها مضمومة، كتب ما يليها واوا إن كانت همزة أو واوا مبدلة منها، نحو: اؤتمن فلان، وقلت لك أؤمر فلانا بكذا؛ وإن كانت يبتدأ بها مكسورة، كتب ما يليها ياء إن كانت همزة أو ياء مبدلة منها، نحو: ائذن لي يا زيد، ائت القوم، ائت عليهم كذلك وإن كان النطق بها واوا بضم ما قبلها، نحو: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
«5» تكتبه ياء على الهمزة في الابتداء بها؛ ويستنثى فاء افعل من نحو يوجل مثل يوسن فإنها تكتب واوا بعد الواو والفاء كما في قولك فاوجل، واوجل، يكتبان بإثبات ألف الوصل والواو بعدها، ولم يكتبوها على ابتداء الهمزة. أما بعد غير الواو والفاء، فإنها تكتب بحسب الابتداء بها، نحو: قلت لها ايجلي، أو ثم ايجلي، وقلت لكم ايجلوا، فإنك تلفظ به واوا وتكتبه ياء للانفصال؛ وإن كانت(3/210)
قبلها كسرة كانت ياء لفظا وخطّا، نحو: قلت لك ايجلي، وكذلك إذا ابتديء بهمزة الوصل، نحو: ايجلي يا هند.
واعلم أنه إذا وقعت همزة استفهام وبعدها همزة قطع صوّرت همزة القطع بعدها بمجانس حركتها. فإن كانت الحركة فتحة كتبت ألفا، نحو: أأسجد، وإن كانت الحركة ضمة كتبت واوا، نحو: أؤنزل، وإن كانت الحركة كسرة كتبت ياء، نحو: أئنّك لأنها إذا خفّفت بالبدل كان إبدال المفتوحة ألفا، وإبدال المضمومة واوا، وإبدال المكسورة ياء. وقد تحذف المفتوحة خطّا فتكتب بألف واحدة، نحو: أسجد كما في رسم المصحف.
واختلف في الساقطة من الهمزتين والحالة هذه، فقيل الثانية، وهو قول أحمد بن يحيى، وقيل الأولى وهو قول الكسائي.
فلو كانت ثلاث ألفات في اللفظ، نحو قوله تعالى: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ
«1» فقال أحمد بن يحيى: تكتب بواحدة.
واختلف في الثابتة، فذهب الفراء وثعلب وابن كيسان «2» إلى أنها الاستفهامية لأنها حرف معنى. وحكى الفراء عن الكسائى: أنها الأصلية، وحكاه ابن السيد «3»
عن غير الكسائي وحكي عنه أنها ألف الجمع.
وقد تكتب غير المفتوحة ألفا، نحو قوله: أإنّك، لأن الألف هي الأصل، والهمزة حرف زائد لمعنى كالواو والفاء فلا يعتدّ به، لكنه قليل؛ والله أعلم.(3/211)
الجملة الثانية في حالة التركيب والفصل والوصل
واعلم أن الأصل فصل الكلمة من الكلمة، لأن كل كلمة تدل على معنى غير معنى الكلمة الأخرى، فكما أن المعنيين متميزان فكذلك اللفظ المعبّر عنهما يكون متميزا. وكذلك الخط النائب عن اللفظ يكون متميزا بفصله عن غيره.
ويستثنى من ذلك مواضع كتبت على خلاف الأصل:
(منها) أن تكون الكلمتان كشيء واحد؛ وذلك في أربعة مواضع:
الموضع الأوّل- أن تكون الكلمتان قد ركّبتا تركيب مزج
، مثل: بعلبك، ليدل على أن التركيب الذي يعتبر «1»
فيه وصل الكلمة بالأخرى هو تركيب المزج، وهو أن يتحد مدلول اللفظين، بخلاف ما إذا ركبتا تركيب إسناد، نحو: زيد قائم، أو تركيب إضافة، نحو: غلام زيد، أو تركيب بناء لم يتحد فيه مدلول اللفظين، نحو: خمسة عشر، وصباح مساء، وبين بين، وحيص بيص، فإن هذا كله يكتب مفصولا لا تخلط فيه كلمة بأخرى.
الموضع الثاني- أن تكون إحدى الكلمتين لا يبتدأ بها في اللفظ
، نحو الضمائر البارزة المتصلة، ونون التوكيد، وعلامة التأنيث والتثنية والجمع في لغة أكلوني البراغيث، وغير ذلك مما لا يمكن أن يبتدأ به، فكل هذا يكتب متصلا وإن كان من كلمتين.
الموضع الثالث- أن تكون إحدى الكلمتين لا يوقف عليها
، وذلك ما كان نحو باء الجرّ، وفاء العطف، ولام التأكيد، وفاء الجزاء، فإن هذه الحروف لا يوقف عليها، فلما امتزجت في اللفظ امتزجت في الخط فتكتب متصلة، وإن كانت في الحقيقة كلمتين.
الموضع الرابع- أن تكون الكلمة مع الأخرى كشيء واحد
في حال ما(3/212)
فاستصحب لها الاتصال غالبا، مثل: بعلبك، إذا أعرب إعراب المضاف والمضاف إليه، فإن هذا الإعراب يقتضي أن تفصل إحدى الكلمتين من الأخرى، لأن الإعراب قد فصلهما. أما إذا أعرب إعراب ما لا ينصرف فلا يصح فيه الفصل أصلا، لأنّ اللفظ الثاني منتهى الاسم، فهو مفرد في المعنى وفي اللفظ.
وكتبوا لئلّا مهموزة وغير مهموزة بالياء (وكان القياس أن تكتب بالألف) كما تكتب لأن إذا كانت اللام مكسورة بالألف فكذلك إذا زيدت عليها لا، إلا أن الناس اتبعوا رسم المصحف، وكذلك لئن فعلت كذا تكتبه بالياء اتباعا للمصحف، وإن كان القياس أن يكتب بالألف. وسيأتي الكلام على وصل لا بإن فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(ومنها) توصل من الجارّة وهي المكسورة الميم بما بعدها بعد حذف النون منها على ما تقدّم في موضعين:
الموضع الأوّل- توصل بمن المفتوحة الميم مطلقا، سواء كانت موصولة، نحو: أخذت الدرهم ممّن أخذته منه، أو موصوفة كما في المثال المذكور فإنها فيه تحتمل المعنيين جميعا، أو استفهامية، نحو: ممّن أنت؟ أو شرطية، نحو: ممّن تأخذ درهما آخذ منه، وإنما وصلت بها لأجل اشتباههما خطاّ إذ لو كتبتا من من لكانتا مشتبهتين في الصورة، فأدغمت نون من في ميم من ونزّلت منزلة المدغم في الكلمة الواحدة، فلم يجعل له صورة بل حذف مع كتبه متصلا، وقد تقدّم الكلام على ذلك في الحذف. هذا هو المشهور الراجح.
وقال الأستاذ ابن عصفور: إن كانت من استفهامية، كتبت مفصولة على قياس ما هو من المدغمات على حرفين.
الموضع الثاني- توصل بعد حذف النون أيضا بما، إذا كانت موصولة، نحو: عجبت مما عجبت منه، أو استفهامية، نحو: ممّ هذا الثوب؟ أو زائدة كما(3/213)
في قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا
«1»
. أما إذا كانت شرطية، نحو: من ما تأخذ آخذ، أو موصوفة، نحو: أكلت من ما أكلت منه، فإن القياس يقتضي أن تكون مفصولة.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: إذا كانت ما غير استفهامية، كتبت من معها، وقضيته أنها لا تكتب متصلة إلا في حالة الاستفهام فقط، وتكتب منفصلة فيما عداها.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيّان رحمه الله: والأوّل أصح لأنّ علة الوصل في ممن مفقودة في مما، وهي التباس اللفظين خطّا.
(ومنها) توصل عن بما بعدها بعد حذف النون منها على ما تقدّم، في موضعين:
الموضع الأوّل- توصل بمن الموصولة غالبا، نحو: رويت عمّن رويت عنه، ويجوز فصلها، فتفصل عن من من وتثبت النون في عن، وأما من غير الموصولة، فالقياس فصلها، فتكتب في الاستفهام عن من تسأل؟ وفي الشرط، عن من ترض أرض عنه، فتفصل عن من من على ما مرّ.
وزعم ابن قتيبة أن عن من تكتب موصولة بكل حال، سواء الموصولة وغيرها كما تكتب عمّ وعما موصولة من أجل الإدغام. وزعم غيره أنه لا يؤثر الإدغام في ذلك لأنهما كلمتان إلا في نحو: عما قليل، لزيادتها.
الموضع الثاني- توصل بما الاستفهامية، كما في قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ
«2»
وتحذف الألف من ما على ما تقدّم في الحذف.(3/214)
(ومنها) توصل مع بما إذا كانت زائدة، وتقطع إذا كانت موصولة، قاله ابن قتيبة.
(ومنها) توصل في بمن في موضعين:
الموضع الأوّل- توصل بمن الاستفهامية دائما، نحو قولك: فيمن تفكر؟
ولكن لا تحذف الياء منها كما حذفت النون من عن ومن، إذ لا إدغام هنا.
الموضع الثاني- توصل بما إذا كانت موصولة في الغالب، نحو: فكّرت فيما فكّرت فيه، ولا تسقط الياء على ما مرّ. ويجوز في هذه الحالة فصلها، فتفصل «في» عن «ما» . وتكتب على هذه الصورة «في ما» . وكذلك توصل بما إذا كانت استفهامية، نحو قوله تعالى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها
«1»
ولا تحذف ياؤها كما تقدّم.
أما مع إذا اتصلت بما أو بمن، فإنها تكتب منفصلة. قاله ابن قتيبة.
قال بعض النحاة: أظنّ سبب ذلك قلة الاستعمال، وإلا فما الفرق بين مع وبين في. قال: وقد يمكن أن يفرق بينهما في الاسمية، فإن في لا تكون إلا حرفا، ومع إن تحرّكت كانت اسما، وإن سكنت، فخلاف والأصح الاسمية، وأيضا فإنها تنفصل مما بعدها.
(ومنها) توصل الحروف النواصب للاسم، الروافع للخبر، إذا دخلت على ما الزائدة نحو: إنما وكأنما وليتما، فتكتب إنّ وكأنّ وليت متصلات بما، نحو: إنما فعلت كذا، وإنما كلّمت أخاك، وإنما أنا أخوك، وكأنما وجهه قمر، وليتما هذا الشيء لي، ونحو ذلك. فإن كانت ما موصولة، كتبت مفصولة، نحو:
إنّ ما قلت لحقّ، وكأنّ ما حدّثت صحيح، وليت ما لك لي. على أنه قد جاء في القرآن كثير من ذلك متصلا. وزعم بعضهم أنه لم يأت في القرآن مفصولا إلا قوله تعالى في الأنعام: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ
«2»
. وقد كتبوا في المصحف:(3/215)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ
«1»
في الطور وغيره متصلا، وكذلك: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ
«2»
. مع رفع كيد ونصبه، وإن كانت ما موصولة في الموضعين.
(ومنها) توصل قلّ بما إذا دخلت عليها، نحو: قلّما أتيتك مائة مرة.
(ومنها) توصل إن الشرطية بلا إذا دخلت عليها بعد حذف النون، نحو:
إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
«3» .
(ومنها) توصل إن الشرطية بما إذا جاءت بعدها بعد حذف النون، نحو:
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً
«4»
. وإنما حذفت النون في هذه وما قبلها لإدغامها كما في مما وعّما ونحوه.
(ومنها) توصل أين بما، نحو: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ
. لأن ما إذا دخلت على أين صارت جازمة إذ تقول: أين تكون أكون، فترفع النون، فإذا دخلت عليها ما، قلت: أينما تكن أكن فجزمت، فصارت أين وما كأنها كلمة واحدة. فإن كانت ما موصولة، فصلت نحو: أين ما اشتريت، تريد أين الذي اشتريت.
ولم يصلوا متى بما بل كتبوها منفصلة عنها، إذ لو وصلت للزم قلب الياء ألفا كما في ختام، فتكتب متام فيتعذّر إدراكها.
(ومنها) توصل حيث أيضا بما، نحو: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ*
«5»
. كما تقدّم في أين.
(ومنها) توصل كل بما المصدرية، إذا دخلت عليها، نحو: كلّما جئتني(3/216)
أحسنت إليك. فإن كانت نكرة منعوتة كتبت مفصولة، نحو: كلّ ما تفعل حسن، وكلّ ما كان منك حسن.
قال ابن قتيبة: وكلّ من مقطوعة على كل حال ومكان.
(ومنها) توصل هل بلا، وتحذف إحدى اللامين على هذه الصورة (هلّا فعلت) وتقطعها من بل، فتكتب (بل لا تفعل) .
قال ابن قتيبة: والفرق بينهما أنّ لا إذا دخلت على هل تغير معناها، فكأنها معها كلمة واحدة؛ وإذا دخلت على بل لم تغير المعنى تقول: بل تفعل، وبل لا تفعل، كما تقول: كي تفعل، وكي لا تفعل.
(ومنها) توصل بين بما الزائدة، نحو: بينما أنا جالس، وبينما أنا أمشي.
(ومنها) توصل أيّ بما إذا كانت ما زائدة كما في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ
»
وكما تقول: أيّما الرجلين لقيت فأكرم. فإن كانت ما موصولة قطعت فتكتب أيّ ما تراه أوفق، أيّ ما عندك أفضل، مقطوعة.
(ومنها) يوصل يوم وحين بإذ من قولك يومئذ وحينئذ، وكان القياس الفصل، على ما تقدّم في الهمزة.
(ومنها) توصل لئن ولئلّا وإن كان كل منهما كلمتين، إذ الأصل لإن ولأنّ لا وقد تقدّم بيان كتابتها بالياء دون الألف، لكونهم جعلوه مع ما بعده كالشيء الواحد.
(ومنها) توصل أن المفتوحة بلا إذا دخلت عليها بعد حذف النون على أحد الأقوال فتكتب على هذه الصورة (ألّا) (والثاني) : تفصل منها وتثبت النون، فتكتب على هذه الصورة: (أن لا يقوم) . و (الثالث) : يفصّل بين أن تكون مخفّفة عن الثقيلة، فتكتب مفصولة نحو: علمت أن لا يقوم زيد، وعلمت أن لا ضرر(3/217)
عندك، التقدير أنه لا يقوم وأنه لا ضرر عندك ولذلك ثبتت في قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ
«1»
أو ناصبة للفعل «2»
فتقدّر كتبها متصلة على اللفظ وتحذفها في الخط، نحو: يعجبني ألّا تقوم، وهو قول الأخفش وابن قتيبة واختيار ابن السيّد. (والرابع) : التفصيل بين أن تدغم بغنّة، فتكتب منفصلة، أو بغير غنّة فينوى الاتصال وتحذف خطّا، ويروى عن الخليل، واستحسنه بعض الشيوخ:
وقد وقع في القرآن مواضع متصلة ومواضع منفصلة فيجب اتباعها اقتداء بالسلف. وقد وقع في المصحف وصل مواضع القياس فصلها، فجب وصلها في المصحف اتباعا لرسمه، وتوصل في غيره في الغالب أو في بعض الأحوال.
(ومنها) وصلت بئس بما في موضعين:
أحدهما- بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
«3»
في البقرة.
والثاني- بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي
«4»
في الأعراف.
(ومنها) وصلت نعم بما للإدغام. وحكى ابن قتيبة فيه الفصل والوصل.
(ومنها) وصلت إن بلم مع حذف النون للإدغام في قوله تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
«5»
في هود، بخلاف التي في القصص «6»
فإنها كتبت مفصولة بإثبات النون.
(ومنها) وصلت أن بلن مع حذف النون للإدغام في سورة الكهف في قوله:
َّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
«7» .(3/218)
(ومنها) وصلت أم بمن في نحو قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
«1» .
قال محمد بن عيسى: «2»
كل ما في القرآن من ذكر أم فهو موصول إلا أربعة مواضع:
في النساء: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
«3»
. وفي التوبة: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ
«4»
وفي الصّافّات: أَمْ مَنْ خَلَقْنا
«5»
وفي فصّلت: أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً
«6» .
(ومنها) وصلت كي بلا في نحو: كيلا ولكيلا في أربعة مواضع في المصحف: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ
«7»
في آل عمران. ولِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً
«8»
في الحج. ولِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ
«9»
في الأحزاب. ولِكَيْلا تَأْسَوْا
«10»
في الحديد وما عداها فهو مقطوع كما في أوّل الأحزاب.
ووجه ابن قتيبة في المقطوع بأنك تقول: أتيتك كي تفعل وكي لا تفعل، كما تقول: حتّى تفعل وحتّى لا تفعل فيختلف المعنى بالنفى والإثبات فيه.(3/219)
الفصل الخامس من الباب الثاني من المقالة الأولى فيما يكتب بالظاء، مع بيان ما يقع الاشتباه فيه مما يكتب بالضاد «1»
وإنما خصت الظاء بالذكر دون الضاد لقلّة وقوع الظاء وكثرة وقوع الضاد «2»
؛ وخصّ ما يكتب بالظاء بالذكر دون ما يكتب بالذال المعجمة، لأن الدال والذال في صورة الكتابة واحد، فلا يظهر خطأ الكاتب فيه، بخلاف الظاء والضاد، فإن شكلهما مختلف فيظهر خطأ الكاتب وعواره فيه؛ فلذلك وقعت العناية بالتنبيه على ما يكتب بالظاء دون ما يكتب بالذال المعجمة.
وقد أوردته على حروف المعجم ليقرب تناوله.
حرف الألف
فيه- أظلّه الشيء: إذا غشيه؛ أما أضلّه من الضّلال إذا ضلّ دابته إذا ندّت «3» ، فبالضاد.(3/220)
حرف الباء
فيه- بهظه الأمر: إذا أتبعه. وفيه، البظر، وهو اللّحمة المتدلّية من فرج المرأة، التي تقطع بالختان «1» .
حرف التاء المثناة فوق
فيه- التّقريظ، وهو المدح؛ والتّلمّظ، وهو تحريك الشفتين بعد الأكل لابتلاع ما حصل بين الأسنان.
حرف الجيم
فيه- الجوّاظ، وهو الجافي المتكبّر، أو الأكول، والجحوظ، وهو نتوّ العين وندورها؛ ومنه أبو عثمان الجاحظ «2» ، وجحظة البرمكيّ «3» .
حرف الحاء المهملة
فيه- الحفظ، وهو ضدّ النّسيان، والحفيظة، وهي الموجدة والحظّ، وهو الغنى والنصيب، ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
«4» . وقوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ*
«5» . وأما الحضّ بمعنى الحث فإنه بالضاد «6» . ومنه قوله تعالى:(3/221)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ*
«1» . والحظوة، وهي الرفعة؛ والحظر، وهو المنع، ومنه قوله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
«2» . وقوله: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ
«3» . وفي معناه الحظير، وهو المحوّط من قصب ونحوه. امّا الحضور خلاف الغيبة فإنه بالضاد؛ والحنظل، وهو النّبات المرّ المعروف.
حرف الشين المعجمة
فيه- الشّظيّة، وهي القطعة من الشيء؛ والشّظاظ، وهي عيدان لطاف يجمع بها العدلان؛ والشّظف، وهو خشونة العيش؛ والشّواظ، وهو لهب النار، ومنه قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ
«4» . والشّيظم، وهو الفرس الطويل الظهر؛ والشّناظي، وهي أطراف الجبال.
حرف الظاء المعجمة
فيه- الظّنّ، بمعنى التخمين والشّكّ؛ والظّنّة، وهي التّهمة؛ أما الضّنّ بمعنى البخل فإنه بالضاد، وعلى المعنيين قريء قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
«5» بالضاد والظاء، لاتّجاه المعنيين في النبيّ صلّى الله عليه وسلم إذ ليس ببخيل ولا متّهم، وفيه ظلّ يفعل كذا: إذا فعله نهارا، ومنه قوله تعالى: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ
«6» . وقوله: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
«7» ، وقوله: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي(3/222)
ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً
«1» .
أما ضلّ من الضلال، خلاف الهدى، وضلّ الشيء: إذا ضاع، فبالضاد وفيه الظّلّ، خلاف الحرّ حيثما وقع وما يشتقّ منه؛ والظّلم وما يتشّعب منه، والظّلام وما يتفرّع منه، والظّلم (بفتح الظاء) وهو ماء الأسنان؛ والظّليم، وهو ذكر النّعام؛ والظّبي: واحد الظّباء؛ والظّبية الأنثى منه، والظّبية: حياء الناقة؛ والظّبة، وهو حدّ السيف؛ والظّرف، وهو الوعاء الحسن، والظّعن، وهو السّفر «2» . ومنه قوله تعالى:
يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ
«3» . والظّراب، وهي الهضاب «4» . أما الضّراب مصدر ضاربته فإنه بالضاد، والظّعينة، وهي المرأة؛ والظّلف، وهو للبقر والغنم كالحافر للخيل، والظّلف «5» ، وهو نزاهة النفس، والظّفر، واحد الأظفار، والظّفر، وهو النصر. أما ضفر الشعّر ونحوه فبالضاد، والظّئر، وهي المرضعة؛ والظّهر، وهو العضو المعروف. أما الضّهر، وهو صخرة في الجبل يخالف لونها لونه فإنه بالضاد؛ والظّهير، وهو المعين؛ والظّهيرة، وهي وسط النهار؛ والظّمأ، وهو العطش؛ والظّرار جمع ظرّ، وهو الغليظ من الأرض. أما الضّرير بمعنى الأعمى(3/223)
فبالضاد، والظّربان، وهي دويبّة منتنة الريح، والظّلع «1» ، وهو الغمز يقال: ناقة ظالع إذا غمزت في المشي. أما الضّلع «2» واحد الأضلاع فإنه يكتب بالضاد، ومنه قولهم: فرس ضليع «3» .
حرف العين المهملة
فيه- العظم، وهو معروف؛ والعظمة، وهي الكبرياء، وما تصرّف منها، وعظّه الدهر وعظّته الحرب «4» . أما العضّ بالأسنان فبالضاد، والعظل «5» ، وهو الشدّة، ومنه تعاظل الجراد والكلاب في السّفاد «6» . وأما العضل بمعنى المنع فإنه(3/224)
بالضاد، ومنه قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ
«1» ، وكذلك قولهم: أعضل الأمر إذا صعب، ومنه الداء العضال؛ وسوق عكاظ، وهو سوق كان يقام للعرب في الجاهلية، وأصل العكظ الحبس «2» .
حرف الغين المعجمة
فيه- الغيظ بمعنى الحنق وما تفرّع عنه، أما غاض الماء بمعنى غار، والغيضة، وهي منبت الشجر في الماء فبالضاد، والغلظ وما تصرف منه.
حرف الفاء
فيه- الفظاظة، وهي القسوة ومنه قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
«3» أما انفضاض الجمع فبالضاد، ومنه قوله تعالى: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
«4» . وكذلك افتضاض البكر والكتاب؛ والفظيع، وهو الشنيع؛ وفاظ الرجل إذا مات. أما فيض الإناء والدمع بمعنى السّيلان فبالضاد، ومن ثمّ جاز أن يكتب فاظت نفسه بالظاء على معنى ماتت نفسه، ويجوز أن يكتب بالضاد على معنى سالت نفسه.(3/225)
حرف القاف
فيه- القيظ، وهو صميم الحرّ وما تصرّف منه. أما القيض الذي هو القشر الأعلى من البيض فبالضاد، وكذلك قيّض الله له كذا، أي أتاحه له، والقرظ، وهو ثمرة شجرة السّنط التي يدبغ بها الجلد «1» . أما القرض بمعنى القطع فبالضاد، ومنه قرض المال.
حرف الكاف
فيه- الكظم «2» ، وهو كتم الحزن، والكظّ، وهو شدّة الحرب، وكاظمة، وهو اسم مكان بالبحرين.
حرف اللام
فيه- لظى: اسم جهنّم، واللّظّ «3» ، وهو اللزوم، ومنه «ألظّوا بياذا الجلال والإكرام» «4» أي الزموا هذا الاسم في الدعاء والمناجاة به، واللّحظ، وهو النظر بمؤخر العين؛ واللّمظ، وهو بياض الجحفلة السّفلى من الفرس، ومنه قيل: فرس ألمظ؛ واللّفظ، وهو معروف وما تصرف من جميع ذلك.(3/226)
حرف النون
فيه- النّظم وما تصرف منه، والنّظر بالعين وما تصرف منه، والنّظير وهو المثل. أما النّضارة بمعنى البهجة فبالضاد، ومنه قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ
«1» . ومنه اشتقاق بني النّضير، وفي معناه النّضار اسم الذهب؛ والنّظافة، وهي خلاف القذارة.
حرف الواو
فيه- الوظيف: ما فوق الرّسغ من ذوات الحافر؛ والوظيفة، وأصلها الطعام الراتب ثم استعملت فيما هو أعمّ من ذلك.
حرف الياء
اليقظة، وهي خلاف النوم.(3/227)
المقالة الثانية في المسالك والممالك وفيها أربعة أبواب
الباب الأوّل في ذكر الأرض على سبيل الإجمال وفيه ثلاثة فصول
[الفصل الأول] (في معرفة شكل الأرض، وإحاطة البحر بها، وبيان جهاتها الأربع، وما اشتملت عليه من الأقاليم الطبيعية
، وبيان موقع الأقاليم العرفية من الأقاليم الطبيعية، وذكر حدودها الجامعة لها، ومعرفة طريق استخراج جهة كل بلد، وفيه طرفان) .
الطّرف الأوّل في شكل الأرض، وإحاطة البحر بها
أما شكل الأرض فقد تقرّر في علم الهيئة أن الأرض كريّة الشّكل والماء محيط بها من جميع جهاتها إلا ما اقتضته العناية الإلهيّة من كشف أعلاها لوقوع العمارة فيه؛ وقيل هي مسطّحة الشّكل؛ وقيل كالتّرس؛ وقيل كالطّبل، والتحقيق الأوّل وبكل حال فالماء محيط بها من جميع جهاتها كما تقدّم.
قال في «تقويم البلدان» «1» : وأحواله معلومة في بعض المواضع دون بعض؛ فمن المعلوم الحال الجانب الغربيّ ويسمّى بحر أوقيانوس «2» (بهمزة(3/228)
مضمومة بعدها واو ساكنة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة تحت مفتوحة ثم ألف بعدها نون ثم واو ثم سين مهملة) . ثم للأرض أربع جهات:
الأولى- المشرق
؛ سميت بذلك لشروق الشمس منها؛ ويقال لها الشّرق أيضا.
الثانية- المغرب
؛ سميت بذلك لغروب الشمس فيها؛ ويقال لها الغرب أيضا.
الثالثة- الشّمال
(بفتح الشين) وهي التي إذا استقبلت المشرق كانت على شمالك ويقال لها الشام أيضا، لأن الشام كانت في جهة الشّمال عن بلاد العرب فسميت الجهة به؛ وأهل مصر يسمون هذه الجهة: البحريّة، لكونها جهة البحر الروميّ «1» ، أو تسمية لها باسم الريح التي تهبّ منها، فقد سبق أنهم يسمّون الرّيح التي تهبّ من الشمال البحرية، لأنها يسار بها في البحر كيف كان.
الرابعة- الجنوب
(بفتح الجيم) وهي التي إذا استقبلت المشرق كانت على جانبك الأيمن ولم يسمّ بالأيمن كما سمّي مقابله بالشّمال، لأنه لما ذكر الشّمال لم(3/229)
يبق إلا الجانب الأيمن فاستغني عن ذكره؛ وأهل مصر يسمون هذه الجهة:
القبلية «1» ، لوقوعها في جهة قبلتهم ولذلك يبدأون بها في التحديد، وإن كان الأصل الابتداء بالمشرق؛ لأن منه مبدأ حركة الفلك» .
ثم كرة الأرض يقسمها خطّ في وسطها بنصفين: نصف جنوبيّ، ونصف شماليّ؛ ويسمّى هذا الخط الاستواء، لاستواء الليل والنهار عنده في جميع فصول السنة، ويقاطعه خطّ آخر يقسمها بنصفين: نصف شرقيّ ونصف غربيّ؛ وتصير الأرض به أربعة أرباع، ويسمى هذا الخط خطّ نصف النهار لمسامتة الشمس له في نصف النهار، وكلّ من هذين الخطين مقسوم بمائة وثمانين درجة، كل درجة ستون دقيقة، وسيأتي تقدير ذلك بالأميال والفراسخ والمراحل والبرد في الكلام على بعد ما بين البلدان فيما بعد إن شاء الله تعالى.
واعلم أن كلّ ما بعد عن أقصى العمارة في المغرب إلى جهة المشرق يعبّر عنه عند علماء الهيئة والميقات بالطّول «3» ؛ وقد اختلف في ابتداء ذلك: فالقدماء ابتدأوه من جزائر بالبحر المحيط تعرف بالخالدات «4» ، يأتي الكلام عليها في جملة جزائر البحر المحيط، والمحقّقون على ابتداء ذلك من ساحل البحر المحيط(3/230)
الغربيّ الذي هو أقصى العمارة الآن، وبينهما عشر درج «1» ، ونهاية العمارة في المشرق موضع يقال له كندر «2» ؛ ومنتصف ما بين الابتداء والنهاية الشرقية يسمّى قبّة أرين، ويعبّر عنه بقبة الأرض؛ وهي على بعد ربع الدّور من المبدإ الغربيّ، ويختلف الحال فيه باختلاف الابتداء من الجزائر الخالدات أو من الساحل. وما بعد عن خط الاستواء المقدّم ذكره يعبّر عنه بالعرض؛ فإن كان في جهة الجنوب فالعرض جنوبيّ، وإن كان «3» في جهة الشمال فالعرض شماليّ. ويعتبر الطّول والعرض في الأمكنة من البلدان وغيرها بالدّرج والدقائق على ما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثم النّصف الجنوبيّ من الأرض لا عمارة فيه إلا فيما قارب خطّ الاستواء في بعض بلاد الزّنج والحبشة، وما والى ذلك مما لا يزيد عرضه على ثلاث درج فيما أورده السلطان عماد الدين «4» صاحب حماه في «تقويم البلدان» أو ستّ عشرة(3/231)
درجة وخمس وعشرين دقيقة فيما ذكره إسحاق الحارثيّ وغيره. وأكثر المعمور إنما هو في النصف الشّماليّ؛ والعمارة فيه فيما بين خطّ الاستواء إلى نهاية ستّ وستين درجة ونصف درجة في العرض؛ وما وراء ذلك إلى نهاية الشّمال خراب لا عمارة فيه، وغالب العمارة واقع بينما يجاوز عرضه عشر درج إلى حدود الخمسين درجة، وما وراء ذلك في جهة الجنوب إلى خط الاستواء، وفي جهة الشّمال إلى حدّ العمارة غالبه جبال وقفار؛ وغالب العمارة في الطّول من ساحل البحر المحيط الغربيّ إلى تسعين درجة فما دونها.
الطّرف الثاني فيما اشتملت عليه الأرض من الأقاليم الطبيعية
قد قسّم الحكماء المعمور إلى سبعة أقاليم ممتدّة من المغرب إلى المشرق في عروض قليلة تتشابه أحوال البقاع في كل إقليم منها، ثم اختلفوا في ترتيبها بحسب العرض، فقوم جعلوا ابتداء الأول منها خطّ الاستواء، وآخر السابع منتهى العمارة في الشمال وهو ستّ وستون درجة على ما تقدّم «1» .
قال في «تقويم البلدان» : والذي عليه المحقّقون أن ابتداء الإقليم الأول حيث العرض اثنتا عشرة درجة وثلثا درجة، وما وراء ذلك إلى خط الاستواء خارج(3/232)
عن الإقليم الأول في جهة الجنوب، وآخر الإقليم السابع حيث العرض خمسون درجة وثلث درجة، وما وراء ذلك إلى نهاية العمران في الشّمال خارج عن الإقليم السابع إلى الشمال فيكون من العمران ما لم يدخل في الأقاليم السبعة، وعليه وقع الترتيب في هذا الكتاب «1» .
الإقليم الأول- مبدؤه حيث العرض اثنتا عشرة درجة وثلثا درجة
كما هو مذهب المحققين على ما تقدم، ووسطه حيث العرض ستّ عشرة درجة ونصف وثمن درجة، وآخره حيث العرض عشرون درجة وربع وثمن درجة، فتكون سعته سبع درجات وثلثي درجة وثمن درجة «2» .
الإقليم الثاني- مبدؤه حيث العرض عشرون درجة وربع وثمن درجة،
ووسطه حيث العرض أربع وعشرون درجة وثلثا درجة، وآخره حيث العرض سبع وعشرون درجة ونصف درجة، فتكون سعته بالتقريب سبع درج وثلاث دقائق «3» .(3/233)
الإقليم الثالث- مبدؤه حيث العرض سبع وعشرون درجة ونصف درجة،
ووسطه حيث العرض ثلاثون درجة وثلثا درجة، وآخره حيث العرض ثلاث وثلاثون درجة ونصف وثمن درجة بالتقريب؛ [فتكون سعته ست درجات وثمن درجة بالتقريب «1» ] «2» .
الإقليم الرابع- مبدؤه حيث العرض ثلاث وثلاثون درجة ونصف وثمن درجة
؛ ووسطه حيث العرض ست وثلاثون درجة وخمس وسدس درجة؛ وآخره حيث العرض تسع وثلاثون درجة إلا عشرا، فتكون سعته خمس درجات وسبع عشرة دقيقة بالتقريب «3» .
الإقليم الخامس- مبدؤه حيث العرض تسع وثلاثون درجة
؛ ووسطه حيث العرض إحدى وأربعون درجة؛ وآخره حيث العرض ثلاث وأربعون درجة وربع وثمن درجة؛ فتكون سعته أربع درجات وربع وثمن وعشر درجة بالتقريب «4» .
الإقليم السادس- مبدؤه حيث العرض ثلاث وأربعون درجة وربع وثمن درجة
؛ ووسطه حيث العرض خمس وأربعون درجة وعشر درجة؛ وآخره حيث(3/234)
العرض سبع وأربعون درجة وخمس درجة؛ فتكون سعته ثلاث درجات ونصف وثمن وخمس درجة «1» .
الإقليم السابع- مبدؤه حيث العرض سبع وأربعون درجة وخمس درجة؛
ووسطه حيث العرض ثمان وأربعون درجة ونصف وربع وثمن درجة؛ وآخره حيث العرض خمسون درجة وثلث درجة؛ فتكون سعته ثلاث درجات وثمان دقائق «2» .
وأما أطوال هذه الأقاليم فإنها تختلف في الطّول والقصر باعتبار القرب من خط الاستواء والبعد عنه؛ فكلّما قرب الإقليم من خط الاستواء كان أكثر طولا من الذي يليه: ضرورة أن أوسع الكرة وسطها وما بعده من الجانبين يقصر شيئا فشيئا.
فطول الإقليم الأول- من ابتدائه من ساحل البحر المحيط الغربيّ إلى ساحل البحر المحيط الشرقيّ فيما ذكره في «تقويم البلدان» مائة واثنتان وسبعون درجة وسبع وعشرون دقيقة «3» .
وطول الإقليم الثاني- مائة وأربع وستون درجة وعشرون دقيقة.
وطول الإقليم الثالث- مائة وأربع وخمسون درجة وخمسون دقيقة.(3/235)
وطول الإقليم الرابع- مائة وأربع وأربعون درجة وسبع عشرة دقيقة.
وطول الإقليم الخامس- مائة وخمس وثلاثون درجة واثنتان وعشرون دقيقة.
وطول الإقليم السادس- مائة وست وعشرون درجة وسبع وعشرون دقيقة.
وطول الإقليم السابع- مائة وتسع عشرة درجة وثلاث وعشرون دقيقة.(3/236)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الثانية
في البحار التي بتكرر ذكرها بذكر البلدان في التعريف بها والسّفر إليها؛ وفيه طرفان:
الطرف الأول في البحر المحيط «1»
وهو المستدير بالقدر المكشوف من الأرض. وأحواله معلومة في بعض المواضع دون بعض.
فمن المعلوم الحال منه الجانب الغربيّ، ويسمّى بحر أوقيانوس، وفيه الجزائر الخالدات المتقدّم ذكرها في الكلام على الأطوال.
ويأخذ في الامتداد من سواحل بلاد المغرب الأقصى من زقاق سبتة الذي بين الأندلس وبرّ العدوة إلى جهة الجنوب حتى يتجاوز صحراء لمتونة، وهي بادية البربر بين طرف بلاد المغرب من الجنوب وبين طرف بلاد السودان من الشّمال، ثم يمتدّ جنوبا على أرض خراب غير مسكونة ولا مسلوكة حتّى يتجاوز خط الاستواء المتقدّم ذكره إلى الجنوب.(3/237)
قال الشريف الإدريسي «1» : وماؤه هناك ثخين غليظ شديد الملوحة، لا يعيش فيه حيوان، ولا يسلك فيه مركب.
ثم يعطف إلى جهة الشرق وراء جبال القمر التي منها منابع نيل مصر الآتي ذكرها، فيصير البحر المذكور جنوبيّا عن الأرض، ويمتدّ شرقا على أراض خراب وراء بلاد الزنج، ثم يمتدّ شرقا وشمالا حتى يتصل ببحر الصين والهند، ثم يأخذ مشرّقا حتى يسامت نهاية الأرض الشرقية المكشوفة، وهناك بلاد الصين، ثم ينعطف في شرق الصين إلى جهة الشّمال ويصير في جهة الشرق عن الأرض، ويمتدّ شمالا على شرقي بلاد الصين حتّى يتجاوز حدّ الصين، ويسامت سدّ يأجوج ومأجوج «2» ، ثم ينعطف ويستدير على أرض غير معلومة الأحوال، ويمتد مغرّبا ويصير في جهة الشمال عن الأرض، ويسامت بلاد الروس ويتجاوزها؛ ثم ينعطف غربا وجنوبا ويستدير على الأرض ويصير في جهة الغرب منها، ويمتدّ على سواحل أمم مختلفة من الكفّار حتّى يسامت بلاد رومية من غربها، ثم يمتدّ جنوبا ويتجاوز بلاد رومية ويسامت البلاد التي بينها وبين الأندلس، ويتجاوزها إلى سواحل الأندلس؛ ويمتدّ على غربي الأندلس جنوبا حتى يجاوزه وينتهي إلى زقاق سبتة الذي وقعت البداءة منه.(3/238)
الطّرف الثاني في البحار المنبثة في أقطار الأرض، ونواحي الممالك، وما بها من الجزائر المشهورة، وهي على ضربين
الضرب الأول الخارج من البحر المحيط وما يتصل به والمشهور منه ثلاثة أبحر
البحر الأول الخارج من البحر المحيط الغربي إلى جهة الشرق
وهو (بحر الروم) «1» وأضيف إلى الروم لسكنى أممهم عليه من شماليّه، ويعبّر عنه بالبحر الروميّ أيضا، وقد يعبّر عنه بالبحر الشاميّ، لوقوع سواحل الشام عليه من شرقيه ومخرجه من المحيط من بحر أقيانوس المتقدم ذكره بين الأندلس وبرّ العدوة من بلاد المغرب، ويسمّى هناك بحر الزّقاق، وربما قيل زقاق سبتة، لمجاورته لها على ما سيأتي؛ وهو هناك في غاية الضيق.
قال الشريف الإدريسيّ: والثابت في الكتب القديمة أن سعته عشرة أميال ولكنه اتسع بعد ذلك.
قال ابن سعيد «2» : وهو في زماننا ثمانية عشر ميلا.
قال في «الروض المعطار» «3» : ويذكر أنه كان عليه قنطرة عظيمة بين(3/239)
الأندلس وساحل طنجة من بر العدوة، مبنيّة بالحجارة، لا يعلم لها نظير في معمور الأرض، يمرّ عليها الناس والدوابّ من جانب إلى جانب، وأن البحر قبل الفتح الإسلاميّ بمائة سنة طمى «1» فأغرق القنطرة؛ وربما ظهرت لأهل المراكب تحت الماء. قال: والناس يقولون إنه لا بدّ من ظهورها قبل فناء الدنيا.
ويبتديء هذا البحر من أول بحر الزّقاق المقدّم ذكره، ويمتدّ على (سواحل الغرب) إلى حدود الديار المصريّة فيمرّ على مدينة (طنجة) «2» حيث الطول ثمان درج، والعرض خمس وثلاثون درجة ونصف؛ ثم يعطف جنوبا وشرقا إلى مدينة (سلا) «3» .
ثم يمتدّ شرقا وشمالا إلى مدينة (سبتة) «4» ويمتد كذلك حتّى يسامت مدينة (فاس) »
قاعدة الغرب الأقصى على بعد منه؛ ثم يمتد إلى حدود مدينة (تلمسان) «6» قاعدة الغرب الأوسط؛ ثم يأخذ شرقا بميلة إلى الشمال حتّى يصير عند (الجزائر) فرضة بجاية، ويمرّ حتّى يسامت (بجاية) «7» .(3/240)
ثم يمتدّ حتى يجاوز مدينة (موسى الخرز) «1» الذي به مغاص المرجان شرقيّ قسنطينة «2» : آخر مملكة بجاية من الشرق، ثم يتجاوز مملكة بجاية إلى أول حدود إفريقية، ويمرّ في سمت وسط المشرق حتّى يقابل مدينة (تونس) قاعدة إفريقية من شماليها، ويدخل منه خور «3» إلى تونس المذكورة.
ثم يمتدّ بعد أن يتجاوز تونس نحو تسعين ميلا شرقا نصّا، ثم يعطف جنوبا حتّى يصير له دخلة كبيرة في الجنوب، وفي فم هذه الدخلة حيث يعطف البحر عن الشرق إلى الجنوب جزيرة (قوصرة) «4» مقابلة لجزيرة صقلية.
ثم يمتدّ في الجنوب إلى قريب من مدينة (سوسة) «5» ؛ ثم يشرق إلى سوسة المذكورة ثم يأخذ شرقا وجنوبا إلى مدينة (المهديّة) «6» ؛ ثم يمر شرقا وجنوبا حتى يتجاوز مدينة (صفاقس) «7» ، ويمتدّ حتى يجاوز جزيرة (جربة) «8» ؛ ثم يعطف شمالا ويصير للبر الجنوبي دخلة في البحر، ويمتدّ شرقا وشمالا حتى يبلغ مدينة (طرابلس) وهي آخر مدن إفريقية؛ ثم يمتدّ شرقا حتّى يجاوز حدود إفريقية عند طول إحدى وأربعين درجة، ثم يمتدّ شمالا على سواحل(3/241)
(برقة) «1» الآتي ذكرها في جملة نواحي الديار المصرية إلى (طلميثا) «2» ثم ينعطف إلى جهة الشمال، ويكون للبّر في البحر دخلة إلى (رأس أوثان) وهو جبل داخل في البحر، ثم يشرق من رأس أوثان (إلى رأس تنبي) وهو جبل في البحر قبالة رأس أوثان من جهة الشرق؛ ثم يعطف إلى الجنوب ويمتدّ جنوبا حتّى يسامت (عقبة برقة) وهي أول حدود الديار المصرية، على ما يأتي ذكره في تحديدها.
ثم يمتدّ على سواحل مصر، ويمرّ شرقا وجنوبا إلى مدينة (الإسكندرية) من قواعد الديار المصرية.
ثم يأخذ شرقا إلى عند مصبّ فرقة النيل الشرقية، ويأخذ مشرّقا إلى (رشيد) [عند مصب فرقة النيل الغربية، ويمتدّ كذلك إلى مدينة (دمياط) عند مصب فرقة النيل الشرقية، ويأخذ شرقا إلى الطينة «3» ] ثم إلى (الفرما) «4» ثم إلى (العريش) ثم إلى (رفح) وهي منزلة في طرف رمل الديار المصرية من جهة الشام على مرحلة من غزّة، حيث الطّول نحوستّ وخمسين درجة ونصف والعرض اثنتان وثلاثون درجة؛ ومن هنا ينقطع تشريقه.(3/242)
ثم ينعطف ويأخذ شمالا على (سواحل الشام) الآتي ذكرها في الكلام على المملكة الشامية فيمتدّ إلى مدينة (غزّة) ، ثم إلى (عسقلان) ، ثم إلى (يافا) ميناء الرملة من أعمال الصّفقة «1» الساحلية من دمشق؛ ثم إلى (قيساريّة) (بفتح القاف) وهي مدينة خراب تعدّ من جند فلسطين، كانت من أمّهات المدن، ثم إلى (عثليث) «2» من أعمال صفد، ثم إلى (عكّا) من أعمالها، ثم إلى (صور) من أعمالها، ثم إلى (بيروت) من أعمال الصفقة الشمالية من دمشق، ثم إلى (جبيل) وهي مدينة قديمة خراب، ثم إلى (أنفة) من أعمال طرابلس، ثم إلى مدينة (طرابلس) «3» ، ثم إلى (أنطرطوس) «4» من أعمالها، ثم إلى (بلنياس) «5» من أعمالها، ثم إلى (جبلة) من أعمالها، ثم إلى (اللّاذقيّة) من أعمالها، ثم إلى (السّويدية) ميناء أنطاكية من أعمال حلب، ثم يأخذ البحر غربا بشمال (إياس) ، مدينة الفتوحات الجاهانية «6» ، ثم إلى (المصّيصة) ثم إلى (أذنة) ثم إلى (طرسوس) ثم يتمد شمالا بغرب حتى يجاوز حدود بلاد الأرمن، ويمتدّ على سواحل بلاد الروم التي هي الآن بيد التركمان الآتي ذكرها في مكاتبات ملوكهم إلى (الكرك) (بضم الكاف وسكون الراء المهملة) وهي بلدة بساحل بلاد المسلمين هي الآن بيد صاحب قبرس، ثم يمرّ شمالا إلى (العلايا) ، ويقابلها من البرّ الآخر (دمياط) من(3/243)
سواحل الديار المصرية تقريبا، ثم يمرّ إلى (أنطالية) «1» ثم إلى (بلاط) «2» ، ثم إلى (طنفزلو) «3» ، ثم إلى (إياس لوق) «4» ، ثم إلى (مغنيسيا) «5» ، ثم إلى مدينة (ابزو) وهي بلدة على فم الخليج القسطنطيني من الشرق، وبها يعرف الخليج فيقال فم ابزو، ويقابلها من البر الآخر غربيّ مدينة الإسكندرية، فيما بينها وبين برقة، ثم يجاوز الخليج المذكور، ويمتدّ مغرّبا بميلة إلى الجنوب على سواحل الروم والفرنجة، فيمرّ على بلاد المرا، وهي مملكة أولها فم الخليج القسطنطيني المتقدّم ذكره من جانبه الغربيّ. كانت في الأيام الناصرية (ابن قلاوون) مشتركة بين صاحب القسطنطينية وبين طائفة الكيتلان «6» من الفرنج، وقد فتحها الآن ابن عثمان «7» واستملكها من الروم.(3/244)
ثم يأخذ بين الغرب والجنوب حتى يجاوز بلاد (الملفجوط) «1» وهم جنس من الروم لهم لسان ينفردون به. ويقابلها من البر الآخر شرقيّ برقة، ثم يمتدّ في الغرب إلى بلاد إقليرنس، ثم إلى بلاد الباسليسة، وهي امرأة ملكت هذه البلاد بعد السبعمائة فعرفت بها.
ويقابلها من البر الآخر أوساط برقة. وبآخر هذه المملكة من جهة الغرب (جون البنادقة) «2» وهو خليج يخرج من بحر الروم هذا؛ ويمتدّ غربا بشمال حتّى يصير طرفه غربيّ رومية، وعلى طرفه مدينة (البندقية) ومن فمه إلى منتهاه نحو سبعمائة ميل، ثم يجاوز فم الخور المذكور إلى مملكة بولية «3» ، وأولها فم خور البنادقة من الجانب الغربيّ. ويقابلها من البحر الآخر (طلميثا) فرضة برقة المتقدّمة الذكر، ثم يمتد في الغرب إلى بلاد (قلفرية) من جملة مملكة بولية المتقدّمة الذكر.
ويقابلها من البر الآخر بلاد أطرابلس «4» من بلاد إفريقية، ثم يمتد إلى ساحل (رومية) ، المدينة المعظمة المشهورة.
ويقابلها من البر الآخر شرقيّ تونس من إفريقية. ثم ينقطع تغريبه ويأخذ جنوبا حتّى يجاوز سواحل بلاد رومية المذكورة إلى بلاد التّسقان «5» ، وهم جنس من الفرنج وبلادهم معروفة بنبات الزّعفران.
ويقابلها من البر الآخر مدينة تونس: قاعدة إفريقية المتقدّمة الذكر، ويمتدّ في الجنوب إلى بلاد (بيزة) وهي بلدة على الركن الشماليّ من جزيرة الأندلس إليها ينسب الفرنج البيازنة والحديد البيزانيّ.(3/245)
ويقابلها من البرّ الآخر (مرسى الخرز) آخر مملكة بجاية من الشرق على ما تقدّم ذكره. ثم يمتدّ إلى بلاد (جنوة) الآتي ذكرها في الكلام على البلاد الشمالية، ثم يأخذ غربا إلى جبل البرت، وهو الجبل الفاصل بين جزيرة الأندلس وبين الأرض الكبيرة ذات الأمم المختلفة، ثم ينقطع تغريبه ويعطف مشرّقا ويدخل الركن الشرقيّ من الأندلس فيه؛ ويمتدّ في الشرق، ويستدير على الركن المذكور، ثم يعطف غربا ويمتد على (سواحل الأندلس) إلى مدينة (برشلونة) إلى مدينة (طرطوشة) «1» .
قال في «الروض المعطار» : ويقابلها من البر الآخر مدينة بجاية.
قال في (تقويم البلدان) : وعرض البحر بينهما ثلاثة مجار، ثم يمتدّ كذلك بين الغرب والجنوب إلى مدينة بلنسية «2» ، ثم يعطف غربا إلى دانية «3» ؛ ثم يمتدّ غربا بجنوب إلى مدينة مالقة «4» ثم يمرّ إلى الجزيرة، وهي مقابلة لساحل سبتة وطنجة حيث وقع الابتداء.
وسيأتي الكلام على ضبط ما لم يضبط من البلاد على ساحل هذا البحر بالحروف مع ذكر صفاتها عند التعرّض لذكرها في الكتاب في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وطول هذا البحر من البحر المحيط إلى ساحل الشام فيما يذكر ألف فرسخ ومائة وسبعون فرسخا، وغاية عرضه في بعض الأماكن ستمائة ميل.(3/246)
وأما ما يتصل بالبحر الروميّ المتقدّم الذكر فبحر نيطش «1» (بنون مكسورة وياء مثناة تحت ساكنة وطاء مهملة مكسورة وشين معجمة في الآخر) وهو المعروف في زماننا ببحر القرم، لتركّب بلاد القرم على ساحله، ويعرف أيضا بالبحر الأرمنيّ، لتركّب بعض بلاد أرمينية على بعض سواحله، وربما قيل فيه البحر الأسود، وهو متصل ببحر الروم المذكور من شماليه ويتركب عليه من آخره (بحر ما نيطش) «2» بزيادة لفظ «ما» في أوّله وباقي الضبط على ما تقدّم وهو المعروف في زماننا ببحر الأزق، لتركّب بلاد الأزق «3» على ساحله الشرقيّ وليس وراءه بحر متصل به، ولذلك يعبر عنه بعضهم ببحيرة ما نيطش، وهو يصبّ في بحر نيطش، وبحر نيطش يصب في بحر الروم؛ ولذلك تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم، وتبطىء في سيرها من بحر الروم إلى القرم لاستقبالها جريان الماء.
وأوّل بحر نيطش المذكور مما يلي بحر الروم. (الخليج القسطنطيني) المتقدّم ذكره في تحديد بحر الروم، وهو خليج ضيق للغاية بحيث يرى الإنسان صاحبه من البر الآخر.
قال ابن سعيد: وطول هذا الخليج نحو خمسين ميلا.
وذكر في «تقويم البلدان» عن بعض المسافرين أن طوله سبعون ميلا واتصاله بالبحر الروميّ من جانبه الشمالي، ويمتدّ شمالا (على سواحل بلاد الروم) من البر الشرقيّ منه إلى (قلعة الجرون) ، وهي قلعة خراب على ساحل هذا الخليج مقابل القسطنطينية، ويمتدّ من الجرون شمالا بميلة يسيرة إلى الشرق إلى مدينة كربى على خليج القسطنطينية على القرب من الجرون المذكورة، ثم(3/247)
يمتدّ شرقا بشمال إلى مدينة (كترو) وهي آخر مدن القسطنطينية التي على هذا الساحل، ثم يمتدّ إلى مدينة (كينولي) وهي بلدة على الخليج القسطنطيني، ثم يأخذ بين الشّمال والغرب، ويكون للبرّ دخلة في البحر إلى جهة الغرب، وعلى طرف هذه الدّخلة فرضة (سنوب) من سواحل الروم الآتي ذكرها في مكاتبات ملوك الكفر؛ ثم يأخذ في الاتساع الى مدينة (سامسون) وهي بلدة من سواحل بلاد الروم، ثم يأخذ مشرّقا إلى مدينة (طرابزون) وهي فرضة للروم بهذا الساحل، ثم يمتدّ شمالا بميلة إلى مدينة (سخوم) وهي مدينة على ثلاثة أيام عن طرابزون شرقا بشمال وبينها وبين بلاد الكرج «1» يوم واحد، ويقال إنها من بلاد الكرج، ثم يمتدّ شرقا بشمال إلى مدينة (أبخاس) وهي مدينة في جبل على ساحل البحر على القرب من سخوم، ثم يتضايق البحر مغرّبا ويضيق من البر الآخر حتى يتقارب البرّان ويصير الماء بينهما مثل الخليج، وهو مصب بحر مانيطش في بحر نيطش وعلى جانب هذا الخليج مدينة (الطامان) من سواحل الروم، وهي حدّ بلاد الروم، من مملكة بركة المشتملة على القرم، ودشت «2» القبجاق، والسراي، وخوارزم على ما سيأتي بيانه في مكاتبات القانات، ثم يأخذ في الاتساع شرقا وشمالا وغربا ويصير كالبركة، ويمتدّ على سواحل الأزق الآتي ذكرها في مكاتبات حاكمها إلى مدينة (الشقراق) وهي أوّل بلاد الأزق، ومنها ينتهي تشريقه؛ ثم يعطف إلى الشّمال ويأخذ إلى مدينة (الأزق) ثم يستدير من الأزق حتّى يصير إلى الغرب، وينتهي إلى الخليج الذي بين بحر نيطش وبحر ما نيطش المتقدّم ذكره.
وهناك مدينة الكرش من بلاد الأزق، مقابل مدينة الطّامان المتقدّمة الذكر(3/248)
من البر الآخر، ثم يمرّ جنوبا ويمتدّ على سواحل القرم الآتية الذكر في مكاتبة حاكمها، فيمرّ إلى مدينة (الكفا) فرضة القرم.
ويقابلها من البر الآخر مدينة (طرابزون) «1» المتقدّمة الذكر؛ ثم يمتدّ كذلك إلى مدينة صوداق، وهي فرضة ببلاد القرم أيضا.
ويقابلها من البرّ الآخر مدينة (سامسون) المتقدّمة الذكر، ثم يأخذ في الانضمام جنوبا ويعطف مشرّقا بحيث يكون للبر دخلة في البحر، ويمتدّ على سواحل بلاد البلغار إلى مدينة (صاري كرمان) من بلاد البلغار، وبينها وبين صلغات مدينة (القرم) خمسة أيام.
ويقابلها من البر الآخر مدينة (سنوب) المتقدّمة الذكر، ثم يأخذ في الاتساع غربا بميلة إلى الجنوب ويمتدّ كذلك إلى مدينة (أقجا كرمان) من بلاد البلغار، ثم يأخذ جنوبا ويمتدّ على (سواحل بلاد القسطنطينيّة) إلى بلدة صقجى، وعندها يصب نهر طنا (بطاء مهملة مضمومة بعدها نون وألف) وهو نهر عظيم بقدر مجموع دجلة والفرات، ثم يتضايق ويأخذ شرقا حتّى ينتهي إلى أوّل الخليج القسطنطينيّ المتقدّم ذكره؛ ثم يأخذ جنوبا ويتقارب البرّان ويمتدّ كذلك إلى مقابل مدينة كربى المتقدّمة الذكر، ثم يمتدّ كذلك إلى مدينة (القسطنطينيّة) قاعدة ملك الروم الآتي ذكرها في مكاتبة ملكها.
ويقابلها من البر الآخر قلعة الجرون المتقدّمة الذكر، ثم يمتدّ حتّى يصبّ في بحر الروم حيث وقع الابتداء. وسيأتي الكلام على ضبط ما لم يضبط من البلاد التي على ساحل هذا البحر المتقدّمة الذكر مع ذكر صفاتها عند الكلام على مكاتبات ملوكها وحكّامها إن شاء الله تعالى.(3/249)
وببحر نيطش المتقدّم ذكره على القرب من الخليج القسطنطينيّ جزيرة (مرمرا) الآتي ذكرها عند الكلام على مكاتبة ملكها في جملة ملوك الكفر إن شاء الله.
البحر الثاني الخارج من المحيط الشرقيّ إلى جهة الغرب
وهو بحر يخرج عند أقصى بلاد الصّين الشرقية الجنوبية مما يلي خط الاستواء حيث لا عرض، وقيل: على عرض ثلاث عشرة درجة في الجنوب، ويمتدّ غربا بشمال على (سواحل بلاد الصّين) الجنوبية، ثم على المفاوز التي بين الصّين والهند حتّى ينتهي إلى (جبال قامرون) الفاصلة بين الصّين والهند «1» .
قال ابن سعيد: ومدينة الملك بها في شرقيها، ثم يجاوز (جبال قامرون) المذكورة ويمتدّ على سواحل بلاد (الهند) من الجنوب، ويمرّ على (سفالة الهند) وهي سوفارة، ويمتدّ حتّى ينتهي إلى آخر الهند، ثم يمتدّ على مفازة السّند الفاصلة بينه وبين البحر، ويمرّ حتّى ينتهي إلى فم بحر فارس الخارج من هذا البحر إلى جهة الشّمال «2» على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ويجاوزه إلى بلاد اليمن فيمرّ على (ساحل مهرة) : أوّل بلاد اليمن؛ ويمتدّ من شماليها على سواحل اليمن من جنوبيه حتّى ينتهي إلى مدينة (عدن) فرضة اليمن، ثم يمرّ من عدن إلى الشّمال بميلة إلى الغرب نحو مجرا حتّى ينتهي إلى (باب المندب) وهو فرضة بين جبلين، ويخرج منه ويمدّ غربا «3» بميلة إلى(3/250)
الشّمال اثنى عشر ميلا، ثم يعطف شمالا ويمتدّ على سواحل اليمن الغربية إلى (علافقة) فرضة مدينة (زبيد) ؛ ثم يمتدّ شمالا أيضا إلى مدينة (حلي) من أطراف اليمن من جهة الحجاز، وهي المعروفة بحلي ابن يعقوب، ثم يمتد شمالا على (ساحل الحجاز) إلى (جدّة) فرضة على بحر القلزم، ثم يمتد شمالا إلى (الجحفة) ميقات الإحرام لأهل مصر «1» ؛ ثم يمتدّ شمالا بميلة إلى الغرب حتّى يتصل بساحل (ينبع) ثم يأخذ بين الغرب والشّمال حتّى يجاوز (مدين) الآتي ذكرها في كور مصر القديمة؛ ويمتد شمالا بجنوب حتّى يقارب (أيلة) «2» الآتي ذكرها في كور مصر القديمة أيضا؛ ثم يعطف إلى الجنوب حتّى يجاوز أيلة المذكورة الى مكان يعرف (برأس أبي محمد) ويكون للبرّ دخلة في البحر في جهة الجنوب، ثم يعطف شمالا حتّى ينتهي إلى فرضة (الطّور) وهي مكان حطّ وإقلاع لمراكب الديار المصرية، وما يصل إليها من اليمن وغيرها؛ ويمرّ في الشّمال حتى يصل الى فرضة (السّويس) وهي مكان حطّ وإقلاع للديار المصرية أيضا، وعنده ينتهي بر العرب ببحر القلزم ويبتديء بر العجم.
وهناك يقرب هذا البحر من بحر الروم على ما تقدّم ذكره في الكلام على أصل هذا البحر.
ثم من السّويس يعطف إلى الجنوب على ساحل مصر، ويمتدّ موازيا لبلاد الصعيد حتّى ينتهي إلى مدينة (القلزم) التي ينسب إليها هذا البحر الآتي ذكرها في الكلام على كور مصر القديمة، ويقابلها من بر الحجاز أيلة ثم يأخذ عن القلزم جنوبا بميلة إلى الشرق حتّى يسامت فرضة الطّور المتقدّم ذكرها، وتصير فرضة(3/251)
الطّور بين أيلة والقلزم غربيّ الدخلة المتقدّم ذكرها؛ ثم يمتدّ كذلك حتّى ينتهي إلى (القصير) ، فرضة قوص؛ ثم يتسع في جهتي الجنوب والشرق حتّى يكون اتساعه تسعين ميلا، وتسمّى تلك القطعة المتسعة بركة الغرندل، وهي التي أغرق الله تعالى فيها فرعون؛ ثم يأخذ جنوبا بميلة يسيرة إلى الغرب إلى (عيذاب) فرضة قوص أيضا. ويقابلها من برّ الحجاز جدّة، فرضة مكة المشرّفة، ثم يمتدّ في سمت الجنوب على (سواحل بلاد السودان) حتّى يصير عند (سواكن) من بلاد البجاة «1» ؛ ثم يمتدّ كذلك حتّى يحيط (بجزيرة دهلك) وهي جزيرة قريبة من ساحل هذا البحر الغربيّ، وأهلها من الحبشة المسلمين. ويقابلها من البرّ الآخر جنوبيّ حلي ابن يعقوب من بلاد اليمن، ويمتدّ حتى يصل إلى رأس (جبل المندب) المتقدّم ذكره.
وهناك يضيق البحر حتّى يرى الرجل صاحبه من البرّ الآخر. ويقال: إنه بقدر رميتي سهم، وترى جبال عدن من جبال المندب في وقت الصحو، ثم يتجاوز باب المندب ويأخذ شرقا وجنوبا، ويتسع قليلا قليلا ويمرّ على بقية سواحل الحبشة حتّى يمرّ بمدينة (زيلع) من بلاد الحبشة المسلمين.
ويقابلها عدن من برّ اليمن، وهي عن عدن في الغرب بميلة إلى الجنوب ثم يمرّ إلى مدينة مقدشو «2» ؛ ثم يمتدّ كذلك حتّى ينتهي إلى (خليج بربرا) الخارج من بحر الهند في جانبه الجنوبيّ على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ويتجاوز فم هذا الخليج ويمتدّ على (سواحل بلاد الزّنج) حتّى ينتهي إلى آخرها، ثم يمتدّ على (سواحل بلاد الواق واق) «3» على أماكن مجهولة حتّى ينتهي(3/252)
إلى مبدئه من البحر المحيط الشرقيّ. على أنه في تقويم البلدان لم يتعرّض لساحل هذا البحر الجنوبيّ فيما هو شرقيّ باب المندب لعدم تحققه.
واعلم أن هذا البحر يسمّى في كل مكان باسم ما يسامته من البلدان، أو باسم بعض البلدان التي عليه، فيسمّى فيما يقابل بلاد الصّين: بحر الصّين، وفيما يقابل بلاد الهند إلى ما جاورها إلى بلاد اليمن شرقيّ باب المندب: بحر الهند، وفيما دون باب المندب إلى غايته في الشمال والغرب: بحر القلزم نسبة إلى مدينة القلزم المتقدّمة الذكر في ساحل الديار المصرية.
قال في «تقويم البلدان» : وطول هذا البحر من طرف بلاد الصّين الشرقيّ إلى القلزم ألفان وسبعمائة وثمانية وأربعون فرسخا بالتقريب، ومقتضى كلام ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» أن طوله أربعة آلاف وتسعمائة وستة وستون فرسخا وثلثان، فإنه قد ذكر أن طول بحر الصين والهند إلى باب المندب أربعة آلاف وخمسمائة فرسخ، ثم ذكر أن طول بحر القلزم ألف وأربع مائة ميل، وهي أربعمائة وستة وستون فرسخا وثلثان وبين الكلامين بون.
وكلام صاحب تقويم البلدان أقرب إلى الصواب، فإنه استخرجه من تضريب الدّرج واستخراج أميالها وفراسخها. وبآخر بحر القلزم من الذراع الآخذ إلى جهة السّويس على ميل من مدينة القلزم موضع يعرف (بذنب التّمساح) يتقارب بحر القلزم وبحر الروم فيما بينه وبين الفرما حتى يكون بينهما نحو سبعين ميلا فيما ذكره ابن سعيد.
قال في «الروض المعطار» : وكان بعض الملوك قد حفره «1» ليوصل ما بين(3/253)
القلزم وبحر الروم فلم يتأت له ذلك لارتفاع القلزم وانخفاض بحر الروم، والله تعالى قد جعل بينهما حاجزا كما ذكر تعالى في كتابه. قال: ولما لم يتأت له ذلك احتفر خليجا آخر مما يلي بلاد تنّيس ودمياط وجرى الماء فيه من بحر الروم إلى موضع يعرف بقيعان (؟) .
فكانت المراكب تدخل من بحر الروم إلى هذه القرية وتدخل من بحر القلزم إلى ذنب التمساح فيقرب ما في كل بحر إلى الآخر، ثم ارتدم ذلك على طول الدهر.
وقد ذكر ابن سعيد أن عمرو بن العاص كان قد أراد أن يخرق بينهما من عند ذنب التمساح المتقدّم ذكره فنهاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: إذن يتخطّف الروم الحجّاج.
وذكر صاحب «الروض المعطار» أن الرشيد همّ أن يوصل ما بين هذين البحرين من أصل مصبّ النيل من بحر بلاد الحبشة وأقاصي صعيد مصر فلم يتأت له قسمة ماء النيل، فرام ذلك مما يلي بلاد الفرما فقال له يحيى بن خالد: إن تمّ هذا تتخطّف الناس من المسجد الحرام ومكة، واحتجّ عليه بمنع عمر بن الخطاب عمرو بن العاص من ذلك، فأمسك عنه.
ويتفرّع من البحر الهنديّ بحران عظيمان مشهوران، وهما (بحر فارس «1» ، والخليج البربريّ «2» ) .
فأما بحر فارس، فهو بحر ينبعث من بحر الهند المتقدّم ذكره من شماليّه، ويمتدّ شمالا بميلة إلى الغرب غربيّ (مفازة السّند) الفاصلة بينه وبين بحر الهند،(3/254)
ثم على غربيّ بلاد السند، ثم على أرض (مكران) من نواحي الهند، ويخرج منه من آخر مكران خور «1» يمتدّ شرقا وجنوبا على ساحل مكران والسّند حتّى يصير السند غربيّه، ثم ينعطف آخره على (ساحل بلاد كرمان) من شماليها حتّى يعود إلى أصل بحر فارس، فيمتدّ شمالا حتّى ينتهي إلى مدينة (هرموز) وينتهي إلى آخر كرمان فيخرج منه خور يمتدّ على ساحل كرمان من شماليها، ثم يرجع من آخره على ساحل بلاد فارس من جنوبيها حتى يتصل بأصل بحر فارس، ويمتدّ شمالا ثم يعطف ويمتدّ مغرّبا الى (حصن ابن عمارة) من بلاد فارس وقيل من بلاد كرمان، وهو اليوم خراب؛ ثم يمتدّ مغرّبا في جبال منقطعة ومفاوز إلى مدينة (سيراف) ثم يمتدّ كذلك إلى (سيف البحر) بكسر السين، وهو ساحل من سواحل فارس، فيه مزارع وقرى مجتمعة، ثم يمتدّ إلى (جنّابة) من بلاد فارس، ثم يمتدّ إلى (سينيز) من بلاد فارس، وقيل من الأهواز، ثم يمتدّ إلى مدينة (مهروبان) من سواحل خوزستان، وقيل من سواحل فارس، وهي فرضة (أرّجان) وما والاها، ثم يمتدّ مغرّبا بميلة يسيرة نحو الشّمال إلى مدينة (عبّادان) من أواخر بلاد العراق من الشرق على القرب من البصرة عند مصبّ دجلة في هذا البحر ثم ينعطف ويمتدّ جنوبا إلى (كاظمة) وهي جون على ساحل البحرين مما يلي البصرة على مسيرة يومين منها؛ ثم يمتد إلى (القطيف) من بلاد البحرين ثم يمتدّ كذلك إلى مدينة (عمان) فرضة بلاد البحرين، وإليها تنتهي مراكب السند والهند والزّنج ويخرج على القرب منها عن يمين المقلع من ساحلها في جهة الغرب بحر ببلاد (الشّحر) من اليمن أيضا، وإليها ينسب العنبر الشّحريّ الطّيّب كما تقدّم ذكره في النوع الخامس فيما يحتاج إليه من نفيس الطيب؛ ثم يمرّ على سواحل (مهرة) من شرقيّ بلاد اليمن حتّى ينتهي إلى مبدئه من بحر الهند.(3/255)
قال في «تقويم البلدان» : وبفم هذا البحر ثلاثة أجبل يخشاها المسافرون يقال لأحدها كسير، والثاني عوير، والثالث ليس فيه خير «1» .
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : وطول هذا البحر أربعمائة فرسخ وأربعون فرسخا، وعمقه ثمانون باعا.
وأما الخليج البربري، فهو ينبعث من بحر الهند المتقدّم ذكره في جنوبي جبل المندب المتقدّم الذكر، ويمتد في جنوبي بلاد الحبشة، ويأخذ غربا حتّى ينتهي إلى مدينة بربرا (بباءين موحدتين مفتوحتين وراءين مهملتين الأولى منهما ساكنة) وهي قاعدة الزّغاوة من السّودان، حيث الطول ثمان وستون درجة، والعرض ست درج ونصف.
قال في «تقويم البلدان» : وطوله من المشرق الى المغرب نحو خمسمائة ميل.
قال الشريف الإدريسيّ: وموجه كالجبال الشواهق ولكنه لا ينكسر، قال:
يركب فيه الى جزيرة قنبلو، ويقال قنبلة، وهي جزيرة للزّنج في هذا البحر.
قال في «القانون» «2» : وطولها اثنتان وخمسون درجة، وعرضها في الجنوب ثلاث درج.
قال الإدريسيّ: وأهلها مسلمون.
البحر الثالث الخارج من المحيط الشمالي، المعروف ببحر برديل
(بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون(3/256)
الياء المثناة تحت ولام في الآخر) .
قال ابن سعيد: ويقال له بحر برطانية «1» أيضا، وهو بحر يخرج من شماليّ الأندلس ويأخذ شرقا إلى خلف جبل الأبواب الفاصل بين الأندلس والأرض الكبيرة «2» ، ويقرب طرفه الشرقي «3» حتّى يبقي بينه وبين بحر الروم المتقدّم ذكره أربعون ميلا، وهناك مدينة (برديل) «4» التي يضاف البحر إليها.
الضرب الثاني من البحار المنبثّة في أقطار الأرض ما ليس له اتصال بالبحر المحيط
وهو بحر الخزر «5» (بفتح الخاء والزاي المعجمتين، وراء مهملة في الآخر) .
ويسمّى بحر جرجان لوقوع مدينة جرجان على ساحله، وبحر طبرستان لوقوع ناحية طبرستان على ساحله أيضا، وهذا البحر بحر ملح منفرد عن البحار لا اتصال له بغيره البتة.
قال ابن حوقل: وهو مظلم القعر، ويقال: إنه متصل ببحر نيطش من تحت الأرض.(3/257)
قال المسعوديّ: وهو غلط لا أصل له، ولم أدر من أين أخذه قائله، أمن طريق الحسّ، أم من طريق الاستدلال والقياس.
قال الشريف الإدريسيّ: وهو مدوّر الشكل إلى الطّول، وقيل مثلث الشكل كالقلع، وعلى ساحله الجنوبيّ بلاد الجيل والدّيلم، وعلى جانبه الشرقيّ بلاد جرجان والمفازة التي بين جرجان وخوارزم، وعلى جانبه الشّمالي بلاد التّرك والخزر وجبال سياه كوه، وعلى جانبه الغربيّ بلاد إيلاق «1» وجبال الفتيق، وابتداؤه من جهة الغرب عند مدينة (باب الحديد) المعروف بباب الأبواب من بلاد أرّان «2» ، حيث الطول ست وستون درجة والعرض نحو إحدى وأربعين درجة على القرب من دربند شروان «3» ، ثم يمتدّ جنوبا من باب الحديد أحدا وخمسين فرسخا، وهناك مصب نهر الكرّفيه، ثم يمتدّ مشرقا بانحراف إلى الجنوب ستة عشر فرسخا، فيمرّ على أراضي موقان من عمل أردبيل من أذربيجان، ثم يمتدّ جنوبا وشرقا حتّى تبلغ غايته في الجنوب حيث العرض سبع وثلاثون درجة قبالة مدينة (آمل) قصبة طبرستان؛ ثم ينعطف ويمتدّ شرقا حتّى يجاوز بلاد الجيل إلى مدينة آبسكون، وهي فرضة جرجان، ثم يمتدّ إلى نهايته في الشرق حيث الطول ثمانون درجة والعرض نحو أربعين عند مدينة جرجان؛ وهي في الشرق منه قريبة من ساحله؛ ثم ينعطف ويمتدّ شمالا وغربا حتّى يبلغ نهايته في الشمال حيث العرض نحو خمسين درجة، والطول تسع وسبعون درجة؛ وفي شماليّه وغربيّه يصبّ نهر إتل «4» الذي عليه مدينة السراي قاعدة مملكة أزبك الآتي ذكرها في مكاتبة قانهم إن شاء الله تعالى.
قال في «تقويم البلدان» : وليس في هذا البحر جزيرة مسكونة.(3/258)
الفصل الثالث من الباب الأول من المقالة الثانية في كيفية استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها، وفيه طرفان
الطرف الأوّل في كيفية استخراج جهات البلدان
إذا كنت في بلد وأردت أن تعرف جهة بلد آخر عن البلد الذي أنت فيه، فالذي أطلقه كثير من المصنّفين أنك تعرف طول «1» البلد الذي أنت فيه وعرضه «2» ، وطول البلد الآخر وعرضه، وتقابل بين الطولين وبين العرضين، فإن كان ذلك البلد أعرض من بلدك مع مساواته له في الطول، فهو عنك في جهة الجنوب، وإن كان أطول من بلدك مع مساواته له في العرض، فهو عنك في جهة الشرق. وإن كان أقلّ طولا مع مساواته في العرض، فهو عنك في جهة الغرب. وإن كان أطول وأعرض من بلدك، فهو عنك بين الشرق والشّمال. وإن كان أقلّ طولا وعرضا، فهو عنك بين المغرب والجنوب. وإن كان أقلّ طولا وأكثر عرضا، فهو عنك بين الجنوب والشّمال. وإن كان أكثر طولا وأقل عرضا، فهو عنك بين الشرق والجنوب.
والذي ذكره المحققون من علماء الهيئة أن البلد إذا كان أطول من بلدك مع مساواته له في العرض، يكون عنك في جهة الشرق بميلة إلى الشّمال. وإذا كان(3/259)
أقلّ طولا مع مساواته له في العرض، يكون في جهة الغرب بميلة إلى الشّمال أيضا. وإذا كان أقلّ طولا وعرضا، يكون بين المغرب والجنوب على ما تقدّم، إلا أن يقلّ الفصل بينهما بأن يكون أقل من درجة، فإنه يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون على وسط المغرب، وإذا كان أقلّ طولا وأكثر عرضا، فإنه يكون بين المشرق والمغرب على ما تقدّم، إلا أن يقلّ الفصل بينهما فيحتمل أن يكون كذلك وأن يكون على وسط المشرق.
الطرف الثاني في معرفة الأبعاد الواقعة بين البلدان
قد تقدّم أن الأطوال والعروض في الأمكنة والبلدان تعتبر بالدّرج والدقائق وأن الدّرجة مقسومة بستين دقيقة، ثم الذي حققه القدماء كبطليموس «1» صاحب المجسطي وغيره تقدير الدرجة بستة وستين ميلا وثلثي ميل، وبه أخذ أكثر المتأخرين وعليه العمل. وما وقع لأصحاب الرّصد المأمونيّ مما يخالف ذلك بنقص عشر درج مما لا تعويل عليه.
وقد نقل علاء الدين بن الشاطر من المتأخرين في «زيجه» «2» عن القدماء أنهم قدروا الدرجة بالتقريب بعشرين فرسخا، وبستين ميلا «3» ، وبمائتي ألف وأربعين ألف ذراع، وبخمسة برد، وبمسير يومين.
وقدّر الشافعيّ رضي الله عنه ذلك بسير يومين بالأيام المعتدلة دون لياليهما، وقدّر السير بالسير المعتدل؛ وتقدير الدرجة كما بين الفسطاط ودمياط، فإنّ عرض(3/260)
دمياط يزيد على عرض الفسطاط بدرجة وكسر يسير على ما سيأتي ذكره.
فإذا أردت أن تعرف كم بين البلد الذي أنت فيه وبين بلد آخر الخط المستقيم، فلك حالتان:
الحالة الأولى- أن يكون ذلك البلد على سمت بلدك الذي أنت فيه في الطول أو العرض
، فانظر كم درجة بينهما بالزيادة والنقص فاضربه في ست وستين، وهو ما لكل درجة من الأميال، فما خرج من الضرب فهو بعد ما بينهما من الأميال على الخط المستقيم، فاعتبره بما شئت من المراحل والفراسخ والبرد على ما تقدّم بيانه.
الحالة الثانية- ألّا يكون ذلك البلد على سمت بلدك الذي أنت فيه،
فطريقك أن تقابل بين عرض بلدك وطوله، وبين عرض البلد الآخر وطوله، وتنظر كم فضل ما بين الطولين وبين العرضين، وهو ما يزيده أحد الطولين أو أحد العرضين على الآخر فتضرب كلّا من فضل الطولين وفضل العرضين في مثله، وتجمع الحاصل من الضربين فما كان خذ جذره، وهو القدر الذي إذا ضربته في مثله حصل عنه ذلك العدد، فما بلغ مقدار ما بين بلدك والبلد الآخر من الدرج، فاضربه في ست وستين وثلثين على ما تقدّم، فما بلغ فهو أميال، فاعتبره بما شئت من المراحل والفراسخ والبرد على ما تقدّم.
مثال ذلك- أن الفسطاط طوله خمس وخمسون درجة، وعرضه ثلاثون درجة ودمشق طولها ستون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة ونصف درجة، ففضل ما بين طوليهما خمس درج، وفضل ما بين عرضيهما ثلاث درج ونصف درجة، فتضرب فضل ما بين الطولين، وهو خمس درج في مثله يبلغ خمسا وعشرين، وتضرب فضل ما بين العرضين، وهو ثلاث ونصف فى مثله يبلغ اثني عشر وربعا، فتجمع ما حصل من الضّربين، وهو خمس وعشرون واثنا عشر وربع ويكون سبعا وثلاثين وربعا فخذ جذرها يكن ستاّ ونصف سدس تقريبا، وهو ما بين الفسطاط ودمشق من الدّرج، فاضربه في ست وستين وثلثين، وهي ما(3/261)
للدرجة الواحدة من الأميال يكن أربعمائة وخمسة أميال وثلث سدس ميل، فإذا اعتبرت كل أربعة وعشرين ميلا بمرحلة على ما تقدّم، كانت سبع عشرة مرحلة تقريبا، وهو القدر الذي بين الفسطاط ودمشق على الخط المستقيم.
أما الطرق المسلوكة إلى البلدان على التعاريج بسبب البحار والجبال والأودية وغيرها، فإنها تقتضي الزيادة على ذلك.
وقد ذكر أبو الرّيحان البيرونيّ في كتابه «القانون» : أن زيادة التعاريج على الاستواء يكون بقدر الخمس تقريبا. فإذا كان بين البلدين أربعون ميلا على الخط المستقيم، كانت بحسب سير السائر خمسين ميلا.
قلت: وفيه نظر لطول بعض التعاريج على بعض في الزيادة بالبحار والجبال عن الخط المستقيم على ما هو مشاهد في الأسفار، اللهم إلا أن يريد الغالب كما تقدّم بين الفسطاط ودمشق، فقد مرّ أن بينهما على الخط المستقيم سبع عشرة مرحلة بالتقريب، فإذا أضيف إليها مثل خمسها، وهو ثلاثة وخمسان، كانت عشرين مرحلة، وهو القدر المعتاد في سيرها بالسير المعتدل.
واعلم أن طول البلدان وعروضها قد وقع في الكتب المصنفة فيها ككتاب «الأطوال» المنسوب للفرس، و «رسم المعمور» «1» ، المترجم للمأمون من اللغة اليونانية، «والزيجات» وغير ذلك اختلاف كثير وتباين فاحش. وممن صرح بذكر ذلك أبو الريحان البيروني في كتابه «القانون» فقال عند ذكرها: ولم يتهيأ لي تصحيح جميعها، وقد صححت ما أمكن منها.
قال في «تقويم البلدان» : إلا أن معرفة ذلك بالتقريب خير من الجهل بالكلية.(3/262)
الباب الثاني من المقالة الثانية في ذكر الخلافة «1» ومن وليها من الخلفاء، ومقرّاتهم في القديم والحديث،
وما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم، وما كانت عليه من الترتيب، وما هي عليه الآن، وفيه فصلان
الفصل الأوّل في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء
: من خلفاء بني أميّة بالشام، وخلفاء بنى العبّاس بالعراق، وخلفاء الفاطميّين بمصر، وخلفاء بني أميّة بالأندلس أما الخلافة، فسيأتي في المقالة الخامسة في الكلام على الولايات أن المراد بها خلافة النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعده في أمته، ولذلك كان يقال لأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه: خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن الراجح أنه لا يجوز أن يقال في الخليفة خليفة الله إلى تمام القول فيما سيأتي ذكره هناك، إن شاء الله تعالى.
وأما من وليها من الخلفاء، فعلى أربع طبقات:(3/263)
الطبقة الأولى الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم
وأوّلهم: «أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه» بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه النبي صلّى الله عليه وسلم، على ما سيأتي ذكره في الكلام على البيعات من المقالة الخامسة إن شاء الله تعالى.
وبقي حتّى توفّي لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ودفن مع النبي صلّى الله عليه وسلم، في حجرة عائشة رضي الله عنها.
وبويع بعده «عمر بن الخطاب رضي الله عنه» في اليوم الذي مات فيه أبو بكر رضي الله عنه بعد أن عهد له بالخلافة، وتوفّي يوم السبت سلخ «1» ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وعشرين بطعنة أبي لؤلؤة: غلام المغيرة بن شعبة «2» ، ودفن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه.
وفي أيامه فتحت الأمصار: ففتحت دمشق على يد خالد بن الوليد وأبي عبيدة ابن الجرّاح، وتبعها في الفتح سائر بلاد الشام ففتحت بيسان وطبريّة، وقيساريّة، وفلسطين، وعسقلان، وبعلبكّ، وحمص، وحلب، وقنّسرين، وانطاكيّة؛ وسار إلى بيت المقدس في خلال ذلك، ففتحه صلحا «3» .(3/264)
وفتح من بلاد الجزيرة الفراتية: الرّقّة، وحرّان، والموصل، ونصيبين، وآمد، والرّها.
وفتح من العراق: القادسيّة، والمدائن، على يد سعد بن أبي وقّاص، وزال ملك الفرس، وانهزم ملكهم يزدجرد إلى فرغانة من بلاد التّرك «1» .
وفتحت أيضا كور دجلة، والأبلّة «2» ، على يد عتبة بن غزوان «3» .
وفتحت كور الأهواز على يد أبي موسى الأشعري «4» .
وفتحت نهاوند، وإصطخر، وأصبهان، وتستر، والسّوس، وأذربيجان، وبعض أعمال خراسان.
وفتحت مصر، والإسكندريّة، وأنطابلس «5» ، وهي برقة، وطرابلس الغرب، على يد عمرو بن العاص.
وبويع بالخلافة بعده «عثمان بن عفّان رضي الله عنه» لثلاث بقين من المحرّم سنة أربع وعشرين؛ وقتل بالمدينة لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة(3/265)
سنة خمس وثلاثين، وقيل يوم الأضحى، وقيل غير ذلك.
وبويع بالخلافة بعده «عليّ كرّم الله وجهه» يوم قتل عثمان، وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين من الهجرة بالعراق، ودفن بالنّجف على الصحيح المشهور.
وبويع بالخلافة لابنه «الحسن» بالكوفة من العراق يوم قتل أبيه، وسلم الأمر لمعاوية لخمس بقين من ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين، وقيل في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، ولحق بالمدينة فأقام بها إلى توفي بها في ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين، وقيل ست وخمسين.
الطبقة الثانية خلفاء بني أمية
أوّلهم: «معاوية بن أبي سفيان» كان أميرا على الشام في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، واستمر بها إلى أن سلّم الحسن إليه الأمر، فاستقلّ بالخلافة وبقي حتّى توفّي بدمشق مستهلّ رجب الفرد سنة ستين من الهجرة، وقيل في النصف من رجب، وهو أوّل من رتب أمور الملك في الإسلام «1» .
وقام بالأمر بعده ابنه «يزيد» بالعهد من أبيه، وبويع له بعد وفاته في رجب سنة ستين، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين.
وقام بالأمر بعده ابنه «معاوية» وبويع له بالخلافة في النصف من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، فأقام بالخلافة أربعين يوما، وقيل ثلاثة أشهر، وقيل عشرين يوما «2» .(3/266)
وقام بالأمر بعده «مروان بن الحكم» وبويع له بالخلافة بالجابية «1» في رجب سنة أربع وستين، ثم جدّدت له البيعة في ذي القعدة من السنة المذكورة وتوفّي بالطاعون بدمشق في شهر رمضان سنة خمس وستين.
وقام بالأمر بعده ابنه «عبد الملك» بالعهد من أبيه، وبويع له بالخلافة في الثالث من شهر رمضان المذكور، وتوفي بدمشق منتصف شوّال سنة ست وثمانين.
وقام بالأمر بعده ابنه «الوليد» بالعهد من أبيه، وبويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وتوفي بدمشق في منتصف جمادى الآخرة سنة ست وتسعين.
وقام بالأمر بعده أخوه «سليمان بن عبد الملك» وبويع له يوم موت أخيه الوليد، وكان أبوه قد عهد أن يكون هو الخليفة بعد أخيه الوليد، وتوفي بدابق «2» لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين.
وقام بالأمر بعده ابن عمه «عمر بن عبد العزيز» بعهده له؛ وبويع له بالخلافة يوم موته؛ وتوفيّ بخناصرة «3» لخمس وقيل لستّ بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
وقام بالأمر بعده «يزيد بن عبد الملك بن مروان» بعهد من أخيه سليمان أن يكون له الأمر من بعد عمر بن عبد العزيز، وقيل: بعهد من أبيه أن يكون له الأمر بعد أخيه سليمان، ولكنه سلم لابن عمه عمر؛ وبويع له يوم موت عمر، وتوفي بجولان «4» لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة.(3/267)
وقام بالأمر بعده أخوه «هشام بن عبد الملك» بعهد من أخيه يزيد، بويع له بالخلافة في يوم موته، وتوفي بالرّصافة «1» لستّ خلون من ربيع الأوّل سنة خمس وعشرين ومائة.
وقام بالأمر بعده «الوليد بن يزيد بن عبد الملك» بويع له بالخلافة لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين «2» .
وقام بالأمر بعده ابنه «يزيد» المعروف بالناقص؛ سمي بذلك لنقصه الجند ما كان زادهم يزيد؛ بويع له بالخلافة يوم قتل الوليد، وتوفي بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة.
وقام بالأمر بعده أخوه «إبراهيم بن الوليد» بويع له بالخلافة بعد وفاة أخيه في ذي الحجة المذكور، فمكث أربعة أشهر، وقيل أربعين يوما ثم خلع نفسه.
وقام بالأمر بعده «مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الجعدي» «3» بتسليم إبراهيم بن الوليد الأمر إليه؛ وفي أيامه ظهرت دعوة بني العبّاس، وقصدته جيوشهم فهرب إلى مصر، فأدرك وقتل بقرية يقال لها بوصير من الفيّوم، وبزواله زالت دولة بني أمية.
الطبقة الثالثة خلفاء بني العبّاس بالعراق
وأوّل من قام بالأمر منهم بعد خلفاء بني أميّة «السّفّاح» وهو أبو العبّاس عبد(3/268)
الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس، عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ بويع له بالخلافة بالكوفة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وتوفي بالأنبار «1» لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة.
وقام بالأمر بعده أخوه «المنصور» أبو جعفر عبد الله؛ بويع له بالخلافة يوم موت أخيه السّفّاح، وتوفي بطريق مكة وهو محرم بالحج سنة ثمان وخمسين ومائة، ودفن بالحجون «2» .
وقام بالأمر بعده ابنه «المهديّ» أبو عبد الله محمد؛ بويع له بالخلافة يوم مات أبوه بطريق مكة وهو يومئذ ببغداد، وتوفي «3» بماسبذان في المحرّم سنة تسع وستين ومائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «الهادي» «4» أبو محمد موسى؛ بويع له بعد أبيه يوم موته وهو غائب، فسار إلى بغداد ودخلها بعد عشرين يوما، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة.
وقام بالأمر بعده «الرشيد» أبو محمد هرون بن المهديّ؛ بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه الهادي، وتوفي «5» ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «الأمين» أبو عبد الله محمد، ويقال أبو موسى،(3/269)
ويقال أبو العبّاس، بالعهد من أبيه هرون الرشيد؛ وبويع له صبيحة الليلة التي توفي فيها أبوه الرشيد، وقتل لخمس بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة «1» .
ثم قام بالأمر بعده أخوه «المأمون» أبو العباس، ويقال أبو جعفر عبد الله، بالعهد له من أبيه الرشيد أن يكون له الأمر بعد أخيه الأمين، وبويع له بالخلافة يوم قتل أخيه الأمين ببغداد وهو غائب؛ وبويع له البيعة العامة لخمس بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة، وتوفي بأرض الروم «2» لليلة بقيت من رجب، وقيل لثمان خلون منه سنة ثماني عشرة ومائتين، ودفن بطرسوس.
وقام بالأمر بعده أخوه «المعتصم بالله» أبو إسحاق محمد بن هرون الرشيد؛ بويع له بالخلافة يوم موت أخيه المأمون وهو يومئذ بطرسوس، فسار إلى بغداد، فدخلها مستهل رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، وتوفي بسامرّا «3» لثماني عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين.
وقام بالأمر بعده ابنه «الواثق بالله» أبو جعفر هرون؛ بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وتوفّي بسرّ من رأى لستّ بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.(3/270)
وقام بالأمر بعده أخوه «المتوكل على الله» أبو الفضل جعفر، بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الواثق، وقتل «1» لثلاث خلون من شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين.
وقام بالأمر بعده ابنه «المستنصر بالله» «2» أبو جعفر محمد؛ بويع له بالخلافة صبيحة قتل أبيه المتوكل، وتوفي بسامرّا لثلاث خلون من ربيع الآخر، وقيل لخمس خلون من ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وقام بالأمر بعده «المستعين بالله» أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله المتقدّم ذكره؛ بويع له بالخلافة في اليوم الثاني من موت المستنصر، وخلع نفسه لأربع خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وجهّز إلى واسط، فقتل بها «3» في آخر رمضان من السنة المذكورة.
وقام بالأمر بعده «المعتزّ بالله» أبو عبد الله محمد، وقيل أبو الزبير بن المتوكل على الله المتقدّم ذكره؛ بويع له ببغداد حين خلع المستعين نفسه، وبايعه المستعين فيمن بايع، وخلع لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ثم قتل «4» بعد ذلك.(3/271)
وقام بالأمر بعده «المهتدي بالله» أبو عبد الله، ويقال أبو جعفر محمد بن الواثق بالله المتقدّم ذكره؛ بويع له بالخلافة بعد ليلتين من خلع المعتز بالله، وقتل «1» لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وكان يقال هو في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أميّة «2» .
وقام بالأمر بعده «المعتمد على الله» أبو العباس، ويقال أبو جعفر أحمد ابن جعفر المتوكل المتقدّم ذكره؛ بويع له بالخلافة يوم قتل المهتدي بالله، وتوفي «3» لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.
وقام بالأمر بعده «المعتضد بالله» «4» أبو العباس أحمد بن الموفق، طلحة ابن جعفر المتوكل؛ بويع له بالخلافة يوم قتل المعتمد على الله، وتوفي ببغداد لسبع وقيل لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين.
وقام بالأمر بعده ابنه «المكتفي بالله» أبو محمد علي؛ بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المعتضد وهو غائب بالرّقّة، وكتب إليه بذلك فأخذ البيعة على من عنده وسار إلى بغداد، فدخلها لثمان خلون من جمادى الأولى من سنته، وتوفي ببغداد(3/272)
لثلاث عشرة ليلة، وقيل لثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين.
وقام بالأمر بعده أخوه «المقتدر بالله» أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله المتقدم ذكره، وخلع «1» لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين.
وبويع «المرتضى بالله» أبو محمد عبد الله بن المعتز، فأقام يوما وليلة ثم اضطرب عليه الأمر فاختفى، وعاد الأمر إلى المقتدر «2» فظفر بابن المعتز فصادره، ثم أخرج من دار السلطان ميّتا لليلتين خلتا من ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم خلع المقتدر بالله نفسه «3» ؛ وبويع بالخلافة أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد فأقام يومين، ثم عاد الأمر «4» إلى المقتدر بالله وبقي حتّى قتل لثلاث خلون من شوال سنة عشرين وثلاثمائة.
وقام بالأمر بعده أخوه «القاهر بالله» المتقدّم ذكره، لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، ثم خلع وسملت عيناه لستّ خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة «5» .(3/273)
وقام بالأمر بعده ابن أخيه «الراضي بالله» أبو العباس أحمد بن المقتدر بالله المتقدّم ذكره، وتوفي لست عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
وقام بالأمر بعده أخوه «المتقي بالله» أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله المتقدّم ذكره؛ بويع له بالخلافة لعشر بقين من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وخلع وسملت عيناه «1» لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
وقام بالأمر بعده ابن عمه «المستكفي بالله» أبو القاسم «2» عبد الله بن المكتفي بالله المتقدّم ذكره؛ بويع له بالخلافة يوم خلع المتقي بالله بمشاركته له، ثم خلع «3» وسملت عيناه في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
وقام بالأمر بعده ابن عمه «المطيع لله» أبو القاسم، ويقال أبو العباس الفضل بن المقتدر بالله المتقدّم ذكره، بويع له بالخلافة يوم خلع المستكفي، وخلع نفسه منها للعجز بالمرض في الثالث عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة «4» .
وولي الخلافة بعده ابنه «الطائع لله» أبو بكر عبد الكريم؛ بويع له بالخلافة يوم خلع أبيه المطيع لله، وقبض عليه لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فخلع نفسه «5» .(3/274)
وقام بالأمر بعده «القادر بالله» أبو العباس أحمد بن إسحاق؛ بويع له بالخلافة يوم خلع الطائع، وكان غائبا بالبطائح فأحضر، وجددت له البيعة ببغداد في شهر رمضان من السنة المذكورة، وتوفي حادي عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «القائم بأمر الله» أبو جعفر عبد الله بالعهد من أبيه، وجدّدت له البيعة بعد موت أبيه، توفي ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة.
وقام بالأمر بعده ابن ابنه «المقتدي بأمر الله» عبد الله [بن] «1» ذخيرة الدّين محمد بن القائم بأمر الله المتقدّم ذكره، وتوفي فجأة في الخامس والعشرين من المحرّم سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «المستظهر بالله» أبو العباس أحمد؛ بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه، وتوفي سادس عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «المسترشد بالله» أبو منصور الفضل؛ بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه المستظهر، وقتل في قتال الباطنية «2» سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «الراشد بالله» أبو جعفر المنصور، بالعهد من أبيه،(3/275)
وجدّدت له البيعة يوم قتله، وخلع «1» في منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة.
وقام بالأمر بعده «المقتفي لأمر الله» أبو عبد الله محمد بن المستظهر المتقدّم ذكره؛ بويع بالخلافة يوم خلع الراشد بالله، وتوفي ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «المستنجد بالله» أبو المظفّر يوسف؛ بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المقتفي، وتوفي تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة.
وقام بالأمر بعد ابنه «المستضيء بالله» أبو محمد الحسن؛ بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المستنجد من أقاربه بيعة خاصة، وفي عشره «2» بيعة عامة، وتوفي ثاني ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «الناصر لدين الله» أبو العباس أحمد؛ بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المستضيء، وتوفي أول شوّال سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «الظاهر بأمر الله» أبو نصر محمد؛ بويع له بالخلافة يوم موت أبيه الناصر، وتوفي رابع عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
وقام بالأمر بعد ابنه «المستنصر بالله» أبو جعفر المنصور؛ بويع له بالخلافة يوم موت أبيه الظاهر، وتوفي لعشر خلون من جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «المستعصم بالله» أبو أحمد عبد الله؛ بويع له(3/276)
بالخلافة يوم موت أبيه المستنصر بالله، وقتله هولاكو «1» ملك التّتار في العشرين من المحرّم سنة ست وخمسين وستمائة. وبقتله انقرضت الخلافة العباسية من بغداد «2» ؛ وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس ببغداد إذا عدّت خلافة ابن المعتز، وحسبت خلافة القاهر أولا وثانيا خلافة واحدة.
الطبقة الرابعة خلفاء بني العبّاس بالديار المصرية من بقايا بني العبّاس
وأول من قام بأمر الخلافة بها «المستنصر بالله» أبو القاسم أحمد بن الظاهر بالله «3» أبي نصر محمد المتقدّم ذكره، وذلك أنه لما قتل التتر المستعصم المتقدّم ذكره، وبقيت الخلافة شاغرة نحوا من ثلاث سنين ونصف ثم قدم جماعة من عرب الحجاز إلى مصر في رجب سنة تسع وخمسين وستمائة أيام الظاهر بيبرس «4» ، ومعهم المستنصر المذكور، وذكروا أنه خرج من دار الخلافة ببغداد لمّا ملكها التّتر، فعقد الملك الظاهر له مجلسا حضره جماعة من العلماء، منهم الشيخ عز الدّين بن عبد السلام «5» شيخ الشافعية، وقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز(3/277)
الشافعي «1» وهو يومئذ قاضي الديار المصرية بمفرده، وشهد أولئك العرب بنسبه، ثم شهد جماعة من الشهود على شهادتهم بحكم الاستفاضة، وأثبت ابن بنت الأعز نسبه، ثم بايعه الملك الظاهر بالخلافة وأهل الحلّ والعقد، واهتم الملك الظاهر بأمره، واستخدم له عسكرا عظيما، وتوجه الملك الظاهر إلى الشام وهو صحبته فجهّزه من هناك بعسكره إلى بغداد طمعا أن يستولي عليها وينتزعها من التتار، فخرج إليه التتار قبل أن يصل بغداد فقتلوه، وقتلوا غالب عسكره في العشر الأول من المحرم سنة ستين وستمائة، فكانت خلافته دون السنة؛ وهو أوّل خليفة لقب بلقب خليفة قبله، وكانوا قبل ذلك يلقبون بألقاب مرتجلة.
وقام بالأمر بعده «الحاكم بأمر الله» أبو العباس أحمد بن حسين بن أبي بكر ابن الامير أبي علي القبّي ابن الأمير حسن بن الراشد بالله أبي جعفر المنصور المتقدّم ذكره في الخلفاء ببغداد. قدم مصر سنة تسع وخمسين وستمائة، وهو ابن خمس عشرة سنة في سلطنة الظاهر بيبرس، وقيل إن الظاهر بعث من أحضره إليه من بغداد، وجلس له مجلسا عامّا أثبت فيه نسبه، وبايعه بالخلافة في سنة ست وستين وستمائة، وأشركه معه في الدعاء في الخطبة على المنابر، إلا أنه منعه التصرف والدخول والخروج. ولم يزل كذلك إلى أن ولي السلطنة الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، فأسكنه بالكبش بخط الجامع الطولوني «2» ، فكان يخطب أيام الجمعة في جامع القلعة ويصلي، ولم يطلق تصرفه إلى أن تسلطن المنصور لاجين «3» ، فأباح له التصرف حيث شاء وأركبه معه في الميادين؛ وتوفي(3/278)
في شهور سنة إحدى وسبعمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه «المستكفي بالله» أبو الربيع سليمان بالعهد من أبيه الحاكم، وبويع له بالخلافة يوم موت أبيه، واستقرّ على ما كان عليه أبوه من الركوب والنزول وركوب الميادين مع السلطان إلى أن أعيد السلطان الملك الناصر محمد ابن قلاوون «1» إلى السلطنة المرّة الثانية بعد خلع الملك المظفر بيبرس الجاشنكير «2» في شهور سنة تسع وسبعمائة، فحصل عند السلطان منه وحشة، فجهزه إلى قوص «3» ليقيم بها، وبقي بقوص حتّى توفي في سنة أربعين وسبعمائة.
وولي الخلافة بعده ابنه «المستعصم بالله» أبو العباس أحمد بعهد من أبيه المستكفي بأربعين شاهدا بمدينة قوص، ودعي له على المنابر في العشر الأخير من شوال سنة أربعين وسبعمائة.
ثم خلعه الناصر محمد بن قلاوون، وبايع بالخلافة «الواثق بالله» أبا إسحاق إبراهيم بن الحاكم بأمر الله المتقدّم ذكره، وأمر بأن يدعي له على المنابر، وتحمل له راية الخلافة، فجرى الأمر على ذلك. وكان قد هم بمبايعته بعد موت المستكفي فلم يتم له. فلما توفي الملك الناصر في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، أعيد المستعصم بالله أحمد المتقدّم ذكره إلى الخلافة(3/279)
بعد خلع الواثق إبراهيم، وبقي حتّى توفي رابع شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
ثم ولي الخلافة بعده أخوه «المعتضد بالله» أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان سابع عشر شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة؛ وتوفي عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة.
وولي الخلافة بعده ابنه «المتوكل على الله» أبو عبد الله محمد بن المعتضد بالله المتقدّم ذكره بالعهد من أبيه المعتضد، واستقرّ له الأمر بعد وفاة أبيه يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وبقي حتّى خلعه الأمير أيبك «1» أتابك «2» العساكر في سلطنة الملك المنصور «3» عليّ بن الأشرف شعبان بن حسين.
وولي الخلافة مكانه «المستعصم بالله» أبو يحيى زكريا بن الواثق إبراهيم المتقدّم ذكره، فأقام في الخلافة دون ثلاثة أشهر. ثم أعيد المتوكل على الله محمد ابن أبي بكر إلى الخلافة ثانيا في أواخر المحرّم أو أوائل صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، واستمر حتّى قبض عليه الظاهر برقوق «4» واعتقله بقلعة الجبل «5» في(3/280)
مستهلّ شهر رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة.
وولّى الخلافة مكانه «الواثق بالله» «1» أبو حفص عمر بن الواثق بالله إبراهيم المتقدم ذكره، فبقي حتّى توفي في العشر الأول من شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فأعاد الظاهر برقوق المستعصم بالله زكريا المتقدم ذكره ثانيا إلى الخلافة، والمتوكل على الله في الاعتقال والناس لا يرون في كل ذلك الخليفة غيره.
ثم عنّ للملك الظاهر برقوق بعد ذلك فأطلق المتوكّل على الله من الاعتقال، وأكرمه وأحسن إليه في ثاني جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وبقي في الخلافة حتى توفي سابع عشري شهر رجب الفرد سنة ثمان وثمانمائة.
وولي الخلافة بعده ابنه «أبو الفضل العباس ولقّب المستعين بالله» وبقي في الخلافة على سنن من تقدّمه من الخلفاء العبّاسيين بالديار المصرية من قصور أمره على العهد إلى السلطان والدعاء له على المنابر قبل السلطان إلى أن قبض على الناصر فرج بن برقوق «2» بالشام في الثاني عشر من ربيع الأوّل من سنة خمس عشرة(3/281)
وثمانمائة، فاستقلّ بالأمر واستبدّبه، وأجمع له أمر الخلافة: من ضرب اسمه على السّكّة «1» في الدّنانير والدراهم والدعاء له على المنابر بمفرده، والعلامة «2» على التقاليد والتواقيع والمكاتبات وغيرها، وفوّض أمر تدبير دولته للأمير «شيخ» «3» وكتب له تفويض في ورق، عرضه ذراع ونصف بذراع البز، يزيد عما كان يكتب فيه للسلاطين نصف ذراع بقلم مختصر الطومار.
وكان المتولي لأمر كتابته المقرّ الشمسيّ محمد العمري عين أعيان كتّاب الدّست «4» الشريف بالأبواب الشريفة «5» السلطانية، ونائب كاتب السر «6» . وسيأتي(3/282)
ذلك في الكلام على التواقيع في المقالة الخامسة إن شاء الله تعالى.
وأما مقرّات الخلفاء، فهي أربع مقرّات:
المقرّة الأولى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام
كانت مقرّة الخلفاء الراشدين إلى حين انقراضهم؛ وذلك أن مبدأ النبوة كان بمكة ثم هاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام بها حتّى توفّي في الثالث «1» عشر من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.
ثم كان بعده في الخلافة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، ثم الحسن إلى حين سلّم الأمر لمعاوية، وإنما كان مقام عليّ والحسن بالعراق زمن القتال بينهما وبين معاوية.
المقرّة الثانية الشأم وهي دار خلفاء بني أميّة إلى حين انقراضهم
قد تقدّم أن معاوية كان أميرا على الشأم قبل الخلافة، ثم استقل بالأمر حين سلّم إليه الحسن، وبقي في الشام هو ومن بعده إلى حين انقراض خلافتهم، فقتل مروان بن محمد على ما تقدّم ذكره. وكانت دار إقامتهم دمشق، وإن نزلوا غيرها فليس لإقامة.(3/283)
المقرّة الثالثة العراق وهي دار خلفاء بني العباس
وكان أوّل مبايعة السّفّاح به بالكوفة على ما تقدّم، ثم بنى بعد ذلك بالأنبار مدينة وسماها الهاشمية «1» ونزلها. فلما ولي أخوه أبو جعفر المنصور الخلافة بعده بنى بغداد وسكنها وصارت منزلا لخلفاء بني العباس بعده إلى حين انقراض الخلافة منها بقتل التتر المستعصم آخر خلفائهم بها.
المقرّة الرابعة الديار المصرية وهي دار الخلافة الآن
وقد تقدّم سبب انتقال الخلافة إليها بعد انقراضها من بغداد في الكلام على من ولي الخلافة من الخلفاء، فأغنى عن إعادته هنا.
وقد تقدّم أن الحاكم بأمر الله ثاني خلفائهم بمصر أسكنه الأشرف خليل بن قلاوون بالكبش بخط الجامع الطّولونيّ «2» . أما الآن فاستقرّت دار الخلافة بخطّ المشهد النفيسيّ «3» بين مصر والقاهرة، ولا أخلى الله هذه المملكة من آثار النبوّة.(3/284)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثانية فيما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم، وما كانت عليه من الترتيب، وما هي عليه الآن
أما ما انطوت عليه من الممالك، فاعلم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد فتح مكة وما حول المدينة من القرى كخيبر ونحوها.
وفتح خالد بصرى من الشام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهي أوّل فتح فتح بالشام، ثم كانت الفتوح الكثيرة في خلافة عمر رضي الله عنه، ففتح بلاد الشام، وكور دجلة والأبلّة، وكور الأهواز، وإصطخر، وأصبهان، والسّوس، وأذربيجان، والرّي، وجرجان، وقزوين، وزنجان، وبعض أعمال خراسان، وكذلك فتحت مصر، وبرقة، وطرابلس الغرب.
ثم فتح في خلافة عثمان رضي الله عنه: كرمان، وسجستان، ونيسابور، وفارس، وطبرستان، وهراة، وبقية أعمال خراسان. وفتحت أرمينية، وحرّان، وكذلك فتحت إفريقية، والأندلس، وسد الإسلام ما بين المشرق والمغرب، وكانت الأموال تجبى من هذه الأقطار النائية والأمصار الشاسعة، فتحمل إلى الخليفة، وتوضع في بيت المال بعد تكفية الجيوش وما يجب صرفه من بيت المال. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أثناء خلافة بني العباس، ما عدا الأندلس فإن بقايا خلفاء بني أمية استولوا عليه حتّى يقال: إن الرشيد كان يستلقى على ظهره وينظر إلى السحابة مارّة يقول: «اذهبي إلى حيث شئت يأتني خراجك» ثم اضطرب أمر الخلافة بعد ذلك وتقاصر شأنها واستبدّ أكثر أهل الأعمال بعمله من خلافة الراضي على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب الخلافة فيما بعد إن شاء الله تعالى.(3/285)
وأما ترتيب الخلافة، فله حالتان:
الحالة الأولى ما كان عليه الحال في الزمن القديم
اعلم أن الخلافة لابتداء الأمر كانت جارية على ما ألف من سيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلم:
من خشونة العيش، والقرب من الناس، واطّراح الخيلاء، وأحوال الملوك، مع ما فتح الله تعالى على خلفاء السلف من الأقاليم، وجبى إليهم من الأموال التي لم يفز عظماء الملوك بجزء من أجزائها. وناهيك أنهم فتحوا عدّة من الممالك العظيمة التي كانت يضرب بها المثل في عظم قدرها، وارتفاع شأن ملوكها، من ممالك المشرق والمغرب، حتّى ذكر عظماء الملوك عند بعض السلف فقال: «إنما الملك الذي يأكل الشعير ويعسّ «1» على رجليه بالليل ماشيا وقد فتحت له مشارق الأرض ومغاربها» يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن سلّم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية؛ وإلى ذلك الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم:
«الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك» فكان آخر الثلاثين خلافة الحسن.
فلما سلّم الحسن رضي الله عنه لمعاوية بعد وقوع الاختلاف وتباين الآراء، اقتضى الحال في زمانه إقامة شعار الملك، وإظهار أبهة الخلافة، فأخذ في ترتيب أمور الخلافة على نظام الملك لما في ذلك من إرهاب العدو وإخافته.
بل كان ذلك شأنه وهو أمير بالشأم قبل أن يلي الخلافة، حتّى حكى صاحب «العقد» وغيره أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم الشأم في خلافته، وهو راكب على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية أمير على(3/286)
الشام، فخرج معاوية لملاقاته في موكب عظيم، فلقيه في طريقه في خفّ «1» من القوم فلم يشعر به وتعدّاه طالبا له؛ ثم عرّف ذلك فيما بعد، فرجع وسلّم على أمير المؤمنين عمر، ومشى إلى جانبه، فلم يلتفت إليه وطال به ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فالتفت إليه حينئذ، وقال: أنت صاحب الموكب الآن مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ - فقال: يا أمير المؤمنين، إنا بأرض يكثر فيها جواسيس العدوّ فأحتاج أن أظهر لهم من أبّهة الملك والسلطان ما يزعهم «2» ، فإن أمرتني به، ائتمرت، وإن نهيتني عنه، انتهيت- فقال: إن كان ما قلت حقّا، فإنّه لرأي أديب، وإن كان غير حق، فإنه لخدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك- فقال عبد الرحمن: لحسن يا أمير المؤمنين، ما صدر به هذا الفتى عما أوردته فيه- فقال: لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشمناه.
فلما صارت الخلافة إليه، زاد في حسن الترتيب وإظهار الأبّهة، وأخذ الخلفاء بعده في مضاعفة ذلك والاحتفال به حتّى أمست الخلافة في أغي «3» ما يكون من ترتيب الملك، وفاقت في ذلك الأكاسرة والقياصرة، بل اضمحلّ في جانب الخلافة سائر الممالك العظام، وانطوى في ضمنها ممالك المشارق والمغارب، خصوصا في أوائل الدولة العباسية في زمن الرشيد ومن والاه.
حتّى يحكى أن صاحب عمّوريّة من ملوك الروم كانت عنده شريفة مأسورة في خلافة المعتصم فعذّبها، فصاحت وامعتصماه! فقال لها: لا يأتي المعتصم لخلاصك إلا على أبلق «4» . فبلغ ذلك المعتصم، فنادى في عسكره بركوب الخيل البلق، وخرج وفي مقدّمة عسكره أربعة آلاف أبلق، وأتى عمّوريّة فحاصرها(3/287)
وخلص الشريفة، وقال: اشهدي لي عند جدّك المصطفي صلّى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك، وفي مقدّمة عسكري أربعة آلاف أبلق.
وقد حكى ابن الأثير في تاريخه: أنه لما وصلت رسل ملك الروم إلى بغداد في سنة خمس وثلاثمائة في خلافة المقتدر، رتّب من العسكر في دار الخلافة مائة وستون ألفا ما بين راكب وراجل، ووقف بين يدي الخليفة سبعمائة حاجب، وسبعة آلاف خادم خصيّ: أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، ووقف الغلمان المجريّة الذين هم بمثابة مماليك الطباق «1» الآن بالباب، بتمام الزينة والمناطق «2» المحلّاة، وزينت دار الخلافة بأنواع الأسلحة، وغرائب الزينة، وغشّيت جدرانها بالستور، وفرشت أرضها بالبسط، وكان عدّة البسط اثنين وعشرين ألف بساط، وعدّة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألف ستر من الديباج المذهب «3» ؛ وكان من جملة الزينة شجرة من الذهب والفضة بأغصانها وأوراقها، وطيور الذهب والفضة على أغصانها، وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفّر بحركات مرتبة، وألقيت المراكب والدبادب «4» في دجلة(3/288)
بأحسن زينة. وكان هناك مائة سبع مع مائة سبّاع، إلى غير ذلك من الأحوال الملوكية التي يطول شرحها.
هذا مع تقهقر الخلافة وانحطاط رتبتها يومئذ. ولم تزل الخلافة قائمة على ترتيب واحد في النفقة والجرايات والمطابخ وإقامة العساكر إلى آخر أيام الراضي بالله.
فلما ولي المتّقي لله، تقاصر أمر الخلافة وتناقص، وقنع الخلفاء من الخلافة بالدعاء على المنابر وضرب اسمهم على الدنانير والدراهم، وربما خطب الواحد منهم بنفسه، ومع ذلك فكان الخليفة هو الذي يولّي أرباب الوظائف من القضاة وغيرهم، وتكتب عنه العهود والتقاليد وغيرها لا يشاركه في ذلك سلطان.
وأما شعار الخلافة:
فمنها «الخاتم» : والأصل فيه ما ثبت في الصحيح «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له: إن الملوك لا يقرأون كتابا غير مختوم فاتّخذ خاتما من ورق، وجعل نقشه محمد رسول الله» فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبسه أبو بكر بعده ثم لبسه عمر بعد أبي بكر، ثم لبسه عثمان بعد عمر، فوقع منه في بئر فلم يقدر عليه.
واتخذ الخلفاء بعد ذلك خواتيم، لكل خاتم نقش يخصه، وبقي الأمر على ذلك إلى انقراض الخلافة من بغداد.
ومنها «البردة» «1» وهي بردة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان الخليفة يلبسها في المواكب.(3/289)
قال ابن الأثير: «1» وهي شملة مخطّطة، وقيل كساء أسود مربّع فيه صغر؛ وقد اختلف في وصولها إلى الخلفاء.
فحكى الماورديّ «2» في الأحكام السلطانية عن أبان بن تغلب «3» أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان وهبها لكعب بن زهير حين امتدحه بقصيدته التي أوّلها: «بانت سعاد» «4» فاشتراها منه معاوية. والذي ذكره غيره أن كعبا لم يسمح ببيعها لمعاوية، وقال: لم أكن لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا. فلما مات كعب اشتراها معاوية من ورثته بعشرة آلاف درهم.
وحكى الماوردي أيضا عن حمزة بن ربيعة أن هذه البردة كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاها لأهل أيلة «5» أمانا لهم، فأخذها منهم عبد الله بن خالد بن أبي أوفى وهو عامل من قبل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة وبعث بها إليه، وكانت في(3/290)
خزانته حتّى أخذت بعد قتله. وقيل اشتراها أبو العبّاس السفّاح، أوّل خلفاء بني العبّاس بثلاثمائة دينار.
ومنها «القضيب» : وهو عود كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأخذه بيده.
قال الماورديّ: وهو من تركة النبيّ صلى الله عليه وسلم التي هي صدقة.
قلت: وكان القضيب والبردة المتقدّما الذكر عند خلفاء بني العبّاس ببغداد إلى أن انتزعهما السلطان سنجر السّلجوقيّ «1» من المسترشد بالله، ثم أعادهما إلى المقتفي عند ولايته في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. والذي يظهر أنها بقيت عندهم إلى انقضاء الخلافة من بغداد سنة ست وخمسين وستمائة فإن مقدار ما بينهما مائة وإحدى وعشرون سنة، وهي مدة قريبة بالنسبة إلى ما تقدم من مدتهما.
ومنها «ثياب الخلافة» : وقد ذكر السلطان عماد الدين صاحب حماة «2» في تاريخه في الكلام على ترجمة الملك السعيد إسماعيل أحد ملوك بني أيوب باليمن أنه كان به هوج فادّعى أنه من بني أمية ولبس ثياب الخلافة، ثم قال: وكان طول الكم يومئذ عشرين شبرا، فيحتمل أنه أراد زمن بني أمية، وأنه أراد زمن بني أيوب.
ومنها «اللون» في الأعلام والخلع ونحوها.
وكان شعار بني أمية من الألوان الخضرة، فقد حكى صاحب حماة عن الملك السعيد إسماعيل المتقدم ذكره: أنه حين ادّعى الخلافة وأنه من بني أميّة لبس الخضرة؛ وهذا صريح في أنه شعارهم.(3/291)
أما بنو العباس فشعارهم السّواد؛ وقد اختلف في سبب اختيارهم السّواد فذكر القاضي الماورديّ في كتابه «الحاوي الكبير» في الفقه: أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين ويوم الفتح عقد لعمه العبّاس رضي الله عنه راية سوداء.
وحكى أبو هلال العسكريّ «1» في كتابه «الأوائل» : أن سبب ذلك أن مروان ابن محمد آخر خلفاء بني أميّة حين أراد قتل إبراهيم بن محمد العبّاسيّ أوّل القائمين من بني العبّاس بطلب الخلافة قال لشيعته: لا يهولنكم قتلي، فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم أبا العبّاس يعني السّفّاح؛ فلما قتله مروان، لبس شيعته عليه السّواد، فلزمهم ذلك وصار شعارا لهم.
ومن غريب ما وقع مما يتعلق بذلك ما حكاه ابن سعيد في «المغرب» «2» أن الظافر الفاطميّ «3» أحد خلفاء مصر لما قتله وزيره عباس، بعث نساء الخليفة شعورهن طيّ الكتب إلى الصالح طلائع بن رزيك «4» ، وهو يومئذ وال بمنية بني خصيب «5» ، فحضر إليهم وقد رفع تلك الشعور على الرماح، وأقام الرايات السود(3/292)
إظهارا للحرب على الظافر، ودخل القاهرة على ذلك، فكان ذلك من الفأل العجيب، وهو أن مصر انتقلت إلى بني العباس بعد خمسة عشرة سنة، ورفعت راياتهم السّود بها.
وأما تولية الملوك عن الخلفاء، فكان الحال فيه مختلفا باعتبار السلطان بحضرة الخلافة وغيره، فإن كان الذي يوليه الخليفة هو السلطان الذي بحضرة الخلافة، كبني بويه وبني سلجوق وغيرهم، فقد حكى ابن الأثير وغيره أن السلطان طغرلبك بن ميكائيل السّلجوقيّ لما تقلد السلطنة عن «القائم بأمر الله» «1» في سنة تسع وأربعين وأربعمائة، جلس له الخليفة على كرسيّ ارتفاعه عن الأرض نحو سبعة أذرع، وعليه البردة، ودخل عليه طغرلبك في جماعة، وأعيان بغداد حاضرون، فقبّل طغرلبك الأرض ويد الخليفة، ثم جلس على كرسيّ نصب له، ثم قال رئيس الرؤساء وزير الخليفة عن لسان الخليفة: «إن أمير المؤمنين قد ولّاك جميع ما ولّاه الله تعالى من بلاده، وردّ إليك أمر عباده، فاتق الله فيما ولّاك، واعرف نعمته عليك» ثم خلع على طغرلبك سبع جبّات سود بزيق واحد «2» ، وعمامة سوداء، وطوّق بطوق من ذهب، وسوّر بسوارين من ذهب وأعطى سيفا بغلاف من ذهب، ولقبه الخليفة، وقريء عهده عليه فقبل الأرض ويد الخليفة ثانيا وانصرف، وقد جهّز له فرس من إصطبلات الخليفة بمركب من ذهب مقندس فركب وانصرف إلى داره، وبعث إلى الخليفة خمسين ألف دينار، وخمسين مملوكا من(3/293)
الترك بخيولهم وسلاحهم مع ثياب وغيرها. ولعل هذا كان ترتيبهم في لبس جميع ملوك الحضرة «1» .
وإن كان الذي يوليه الخليفة من ملوك النواحي البعيدة عن حضرة الخليفة كملوك مصر إذ ذاك ونحوهم، جهز له التشريف من بغداد صحبة رسول من جهة الخليفة، وهو جبّة أطلس أسود بطراز مذهب وطوق من ذهب يجعل في عنقه، وسواران من ذهب يجعلان في يده، وسيف قرابه ملبّس بالذهب، وفرس بمركب من ذهب، وعلم أسود مكتوب عليه بالبياض اسم الخليفة ينشر على رأسه، كما كان يبعث إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم أخيه العادل. فإذا وصل ذلك إلى سلطان تلك الناحية، لبس الخلعة والعمامة، وتقلد السيف وركب الفرس وسار في موكبه حتى يصل إلى محل ملكه. وربما جهز مع خلعة السلطان خلع أخرى لولده أو وزيره أو أحد من أقاربه بحسب ما يقتضيه الحال حينئذ.
وآخر من وصلت إليه الخلعة والطوق والتقليد من ملوك بني أيوب من بغداد الناصر يوسف بن العزيز بن السلطان صلاح الدين عن المستعصم في سنة خمس وخمسين وستمائة.
وأما الوظائف المعتبرة عندهم، فعلى ضربين:(3/294)
الضرب الأوّل وظائف أرباب السيوف؛ وهي عدّة وظائف
منها «الوزارة» «1» في بعض الأوقات دون بعض.
وقد ذكر القضاعيّ «2» وغيره أن أوّل من لقّب بالوزارة في الإسلام، أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال «3» وزير أبي العبّاس السّفّاح أوّل خلفاء بني العبّاس، ولم يكن ذلك قبله، ثم جرى الأمر على ذلك في اتخاذ الخلفاء الوزراء إلى(3/295)
انقراض الخلافة ببغداد بقتل التتار المستعصم في سنة ست وخمسين وستمائة، ووزيره يومئذ مؤيد الدين بن العلقميّ، وقتله «1» هولاكو ملك التتار بعد قتل المستعصم لممالأته على المستعصم مع التتار، وهو آخر وزراء الخلافة ببغداد.
ومنها «الحجابة»
«2» : وكان موضوعها عندهم حفظ باب الخليفة والاستئذان للداخلين عليه، لا التّصدي للحكم في المظالم كما هو الآن.
وقد ذكر القضاعيّ في «تاريخ الخلائف» «3» ما يقتضي أن الخلفاء لم تزل تتخذ الحجّاب من لدن الصّدّيق رضي الله عنه فمن بعده، خلا الحسن بن عليّ فإنه لم يكن له حاجب.(3/296)
ومنها «ولاية المظالم»
«1» : وموضوعها قود المتظالمين إلى التناصف بالرّهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، كما قاله الماورديّ في «الأحكام السلطانية» وهي شبيهة بالحجوبية «2» الآن في هذا المعنى؛ وكانت عندهم من أعلى الوظائف وأرفعها رتبة لا يتولّاها إلا ذوو الأقدار الجليلة، والأخطار الحفيلة.
ومنها «النّقابة على ذوي الأنساب»
«3» : كالطالبيين والعباسيين ومن في معناهم، كما في نقابة الأشراف الآن بالديار المصرية وأعمالها؛ وكانت لديهم من وظائف أرباب السيوف، ولذلك استصحب هذا المعنى في نقيب الأشراف الآن، فيكتب في ألقابه الأميريّ، وإن كان من أرباب الأقلام على ما سيأتي ذلك في كتابة(3/297)
توقيعه إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني وظائف أرباب الأقلام، وهي نوعان: دينية وديوانية
فأما الديوانية
- فأجلّها
«الوزارة»
إذا كان الوزير صاحب قلم. وقد مرّ القول في ابتداء وزارة الخلفاء وانتهائها في الكلام على وزارة أرباب السيوف في الضرب الأوّل.
وأما الدينية
-
فمنها «القضاء»
«1» وكانت ولاية القضاء عن الخليفة تارة تكون عامّة لبغداد وأعمالها، وتارة قاصرة على بغداد أو أحد جانبيها.
ومنها «الحسبة»
«2» وأمرها معروف.
ومنها «ولاية «3» الأوقاف»
والنظر عليها.
ومنها «الولاية على المساجد»
والنظر في أمر الصلاة.(3/298)
ومن الوظائف الخارجة عن حضرة الخلافة لأرباب السيوف الإمارة على الجهاد، والإمارة على الحج وغيرها.
ومن الوظائف الخارجة عن الحضرة لأرباب الأقلام ولاية قضاء النواحي، والحسبة بها إلى غير ذلك من ولايات زعماء الذمة وغيرهم.
الحالة الثانية
ما صار إليه الأمر بعد انتقال الخلافة إلى الديار المصرية عند استيلاء التتار على بغداد لما بايع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ في سنة تسع وخمسين وستمائة «المستنصر بن الظاهر» أوّل الخلفاء بمصر على ما تقدم ذكره وكتب له عهد عنه بالسلطنة من إنشاء القاضي محي الدين بن عبد الظاهر، «1» وعمل له السلطان الدّهاليز «2» وآلات الخلافة ورتب له الجمدارية «3» ، واستخدم له عسكرا عظيما وجهزه إلى بغداد للاستيلاء عليها فقتله التتار على ما تقدّم.(3/299)
ثم لما بايع الظاهر «1» أيضا الإمام «الحاكم بأمر الله» ثاني خلفائهم أيضا في سنة تسع وخمسين وستمائة على ما تقدّم ذكره، بقي مدّة، ثم أشركه معه في الدّعاء في الخطبة على المنابر في سنة ست وستين وستمائة، إلا أنه منعه من التصرف والدخول والخروج. ولم يزل كذلك إلى أن ولي السلطنة الملك الأشرف «خليل ابن المنصور قلاوون» فأطلق سبيله، وأسكنه في الكبش على القرب من الجامع الطّولونيّ؛ وكان يخطب أيام الجمع بجامع القلعة إلى أن ولي السلطنة الملك المنصور حسام الدّين لاجين، فأباح له التصرف والركوب إلى حيث شاء؛ وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الخلافة «المستعصم بالله» أبو العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان المرّة الثانية بعد موت الملك الناصر محمد بن قلاوون، ففوّض إليه السلطان نظر المشهد النفيسيّ «2» واستقرّ بأيدي الخلفاء إلى الآن.
والذي استقرّ عليه حال الخلفاء بالديار المصرية أن الخليفة يفوّض الأمور العامة إلى السلطان، ويكتب له عنه عهد بالسلطنة ويدعى له قبل السلطان على المنابر إلا في مصلّى السلطان خاصة في جامع مصلاه بقلعة الجبل المحروسة، ويستبد السلطان بما عدا ذلك: من الولاية والعزل وإقطاع الإقطاعات حتى للخليفة نفسه، ويستأثر بالكتابة في جميع ذلك.
قلت: ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن قبض على السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالشام في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة على ما تقدّم ذكره، فاستقل الإمام «المستعين بالله» خليفة العصر بأمر الخلافة: من الكتابة على العهود ومناشير الإقطاعات، والتقاليد، والتواقيع، والمكاتبات وغيرها، وأفرد(3/300)
بالدعاء على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم والطرز «1» على ما تقدّم ذكره في الكلام على ترتيب الخلفاء، وهيئته في لبسه عند ركوبه المدينة في المواكب أو غيرها.
فعمامته مدوّرة لطيفة عليها رفرف من خلفه تقدير نصف ذراع في ثلث ذراع مرسل من أعلى عمامته إلى أسفلها، وفوق ثيابه كاملية «2» ضيقة الكمّ مفرّجة الذيل من خلف وتحتها قباء ضيق الكمّ.
أما تقليده السلطان السلطنة، فالذي رأيته في بعض التواريخ في عهد الإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد بن أبي الربيع سليمان، إلى السلطان الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد مبايعة الحاكم المذكور عند موت أبيه في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة: أنه طلع القضاة والأمراء إلى القلعة واجتمعوا بدار العدل، وجلس الخليفة على الدرجة الثالثة من التخت، وعليه خلعة خضراء، وعلى رأسه طرحة سوداء مرقومة بالبياض، وخرج السلطان من القصر إلى الإيوان من باب السرّ على العادة، فقام له الخليفة والقضاة والأمراء، وجاء السلطان فجلس على الدرجة الأولى من التخت دون الخليفة، ثم قام الخليفة فقرأ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
«3» إلى آخر الآية، وأوصى السلطان بالرفق بالرعية، وإقامة الحق، وإظهار شعائر الإسلام ونصرة الدّين؛ ثم قال: «فوّضت إليك جميع أمر المسلمين، وقلّدتك ما تقلدته من أمور الدين» . ثم قرأ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ
«4» إلى آخر الآية، ثم أتي الخليفة بخلعة سوداء وعمامة(3/301)
سوداء مرقومة الطرف بالبياض، فألبسها السلطان وقلّده سيفه، ثم أتي بالعهد المكتوب عن الخليفة للسلطان فقرأه القاضي علاء الدين بن فضل الله «1» كاتب السر إلى آخره، فلما فرغ من قراءته، تناوله الخليفة فكتب عليه ما صورته- فوّضت إليه ذلك- وكتب- أحمد بن عم محمد صلى الله عليه وسلم- وكتب القضاة الأربعة شهادتهم بالتولية، ثم أتي بالسماط على العادة.
وأخبرني من حضر تقليد السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق عن الإمام المتوكل على الله أبي الفتح محمد المشار إليه فيما تقدّم: أنه حضر الخليفة وشيخ الإسلام سراج الدين البلقينيّ «2» ، والقضاة «3» الأربعة وأهل العلم، وأمراء الدولة إلى مقعد بالإصطبلات السلطانية يعرف بالحرّاقة، وجلس الخليفة في صدر المكان على مقعد مفروش له، ثم أتى السلطان وهو يومئذ حدث، فجلس بين يديه، وسأله شيخ الإسلام عن بلوغه الحلم فأجاب بالبلوغ، فخطب الخليفة خطبة، ثم خاطب السلطان بتفويض الأمر إليه على نحو ما تقدّم ذكره، ثم أتي الخليفة بخلعة سوداء وعمامة سوداء مرقومة فوقها طرحة سوداء مرقومة، ثم جلس الخليفة في مكانه الذي كان جالسا فيه، ونصب للسلطان كرسيّ إلى جانب مقعد الخليفة فجلس عليه، وجلس الأمراء والقضاة حوله على قدر منازلهم، وقد استقرت جائزة تقليد السلطنة للخليفة ألف دينار مع قماش سكندري.(3/302)
أما حضوره بمجلس السلطان في عامة الأيّام، عند حضوره إلى السلطان لسلام أو مهمّ أو غير ذلك، فقد أخبرني بعض جماعة الخليفة أن الإمام المتوكل المتقدّم ذكره كان إذا حضر إلى مجلس السلطان الظاهر، قام له، وربما مشى إليه خطوات وجلس على طرف المقعد وأجلس الخليفة إلى جانبه.(3/303)
الباب الثالث من المقالة الثانية في ذكر مملكة الدّيار المصرية ومضافاتها، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل في مملكة الدّيار المصرية ومضافاتها، وفيه طرفان
الطرف الأوّل في الدّيار المصرية، وفيه اثنا عشر مقصدا
المقصد الأوّل في فضلها ومحاسنها
أما فضلها فقد ورد في الكتاب والسنة ما يشهد لها بالفضيلة، ويقضي لها بالفخر، قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
«1» يريد بالقوم بني إسرائيل، وبالأرض أرض مصر؛ ووصفها بالبركة إما بمعنى الفضل كما في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ
«2» . وإما من الخصب وسعة الرزق بدليل قوله تعالى مخبرا عن قوم فرعون: فأخرجناهم مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ
«3» . وقال جل(3/304)
وعز: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
«1» فأمر بالعبادة في بيوتها إشارة إلى شرف أرضها ورفعة قدرها.
وقد ذكر الله تعالى اسمها في غير موضع من كتابه العزيز في ضمن قصص الأنبياء عليهم السلام، فقال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ
«2» وفي موضع آخر: وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
«3» وقال حكاية عن فرعون لعنه الله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
«4» وفي معناه قوله تعالى خطابا لبني إسرائيل: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
«5» على قراءة الحسن «6» والأعمش «7» مصر غير مصروف.
قال القضاعيّ: وكذلك قراءة من قرأ اهْبِطُوا مِصْراً
مصروفا بناء على أن مصر مذكر سمي به مذكرا فلم يمنع الصرف فيه، والتصريح بذكرها دون غيرها من الأقاليم دليل الشرف والفضل.
وقد ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «8» : «إنّكم ستفتحون بلادا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لأهلها نسبا وصهرا» أراد بالنسب هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وكان بعض ملوك مصر قد وهبها لزوجته سارة وأراد بالصّهر مارية أمّ إبراهيم، ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان المقوقس قد أهداها للنبيّ صلى الله عليه وسلم في جملة هديته.(3/305)
ويروى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتّخذوا بها جندا كثيفا، فذاك خير جند الأرض، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنهم في رباط إلى يوم القيامة» .
وعن أبي هريرة»
رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مصر أطيب الأرضين ترابا وعجمها أكرم العجم نصابا» «2» .
ويقال في التوراة: «مصر خزائن الله، فمن أرادها بسوء قصمه الله» .
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه «ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة» .
ومن كلام كعب الأحبار «3» : «مصر بلد معافى من الفتن، فمن أرادها بسوء كبّه الله على وجهه» .
ووصفها الكنديّ «4» فقال: «جبلها مقدس، ونيلها مبارك، وبها الطّور الذي كلّم الله تعالى عليه موسى عليه السلام» .
قال كعب الأحبار: «كلم الله تعالى موسى من الطور إلى طوى» وفي التوراة «واد مقدّس أفيح» «5» يريد وادي موسى عليه السلام.
ودخلها جماعة من الأنبياء عليهم السلام، منهم إبراهيم ويعقوب، ويوسف، وإخوته عليهم السلام.(3/306)
ونقل في «الروض المعطار» عن الجاحظ أن عيسى بن مريم عليه السلام ولد بها بكورة «1» أهناس الآتي ذكرها في كور مصر المقدّسة، وأن نخلة مريم كانت بأهناس قائمة إلى زمانه. وذكر أيضا أن موسى عليه السلام ولد بها بمدينة أسكر شرقيّ النيل، وهي الآن قرية من الأعمال الإطفيحية الآتي ذكرها في أعمال الدّيار المصرية.
وبها سجن يوسف عليه السلام بمدينة بوصير الخراب «2» من الأعمال الجيزية على القرب من البدرشين «3» .
قال القضاعيّ: أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان، وأن الوحي كان ينزل عليه به، وسطحه معروف بإجابة الدّعاء.
سأل كافور الإخشيديّ «4» الإمام أبا بكر بن الحدّاد «5» الفقيه الشافعي عن موضع يستجاب فيه الدّعاء فأشار عليه بالدّعاء على سطح هذا السجن.(3/307)
قال القضاعيّ: وعلى القرب منه مسجد موسى عليه السلام، وهو مسجد مبارك.
وبسفح المقطّم بالقرافة الصغرى «1» قبر (يهوذا وروبيل) من إخوة يوسف عليه السلام.
وقد روي أنه دخلها من الصحابة رضوان الله عليهم ما يزيد على مائة رجل، ودفن بقرافتها جماعة «2» منهم فيما ذكره ابن عبد الحكم «3» عن ابن لهيعة «4» خمسة نفر، وهم: عمرو بن العاص، وعبد الله بن حذافة، وأبو بصرة الغفاريّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وعبد الله بن الحارث الزبيديّ وهو آخرهم موتا «5» .
قال القضاعي: وذكر غير ابن لهيعة أن مسلمة بن مخلّد الأنصاري «6» أيضا مات بها، وهو أميرها.
أما محاسنها، فلا شك أن مصر مع ما اشتملت عليه من الفضائل، وحفّت به(3/308)
من المآثر أعظم الأقاليم خطرا، وأجلّها قدرا، وأفخمها مملكة، وأطيبها تربة، وأخفّها ماء وأخصبها زرعا، وأحسنها ثمارا، وأعدلها هواءا، وألطفها ساكنا.
ولذلك ترى الناس يرحلون إليها وفودا، ويفدون عليها من كل ناحية، وقلّ أن يخرج منها من دخلها، أو يرحل عنها من ولجها مع ما اشتملت عليه من حسن المنظر، وبهجة الرّونق لا سيما في زمن الربيع، وما يبدو بها من الزروع التي تملأ العين وسامة وحسنا، وتروق صورة ومعنى.
قال المسعوديّ «1» : وصف الحكماء مصر فقالوا: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمرّدة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة حمراء.
فاللؤلؤة البيضاء، زمان النيل، والمسكة السوداء، زمان نضوب الماء عن أرضها والزّمرّدة الخضراء، زمان طلوع زروعها، والسّبيكة الحمراء، زمان هيج الزرع واكتهاله.
وقد قيل: لو ضرب بينها وبين غيرها من البلاد سور، لغني أهلها بها عما سواها ولما احتاجوا إلى غيرها من البلاد، وناهيك ما أخبر الله تعالى به عن فرعون مع عتوّه وتجبّره وادعائه الربوبية بافتخاره بملكها بقوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
«2» .
قال ابن الأثير «3» في «عجائب المخلوقات» «4» : وهي إقليم العجائب،(3/309)
ومعدن الغرائب؛ كان أهلها أهل ملك عظيم، وعز قديم؛ وإقليمها أحسن الأقاليم منظرا، وأوسعها خيرا؛ وفيها من الكنوز العظيمة، ما لا يدخله الإحصاء، حتّى يقال إنه ما فيها موضع إلا وفيه كنز.
قلت: أما ما ذكره أحمد بن يعقوب الكاتب «1» في كتابه في «المسالك والممالك» «2» من ذمّه مصر بقوله: هي بين بحر رطب عفن كثير البخارات الرديئة، يولد الأدواء ويفسد الغذاء، وبين جبل وبرّ يابس صلد، لشدّة يبسه لا تنبت فيه خضراء، ولا تتفجر فيه عين ماء؛ فكلام متعصّب خرق الإجماع، وأتى من سخيف القول بما تنفر عنه القلوب وتمجّه الأسماع؛ وكفى به نقيصة أن ذمّ النيل الذي شهد العقل والنقل بتفضيله، وغضّ من المقطّم الذي وردت الآثار بتشريفه.
المقصد الثاني في ذكر خواصها وعجائبها، وما بها من الآثار القديمة
أما خواصّها، فمن أعظمها خطرا معدن الزّمرّد «3» الذي لا نظير له في سائر أقطار الأرض، وهو في مغارة في جبل على ثمانية أيام من مدينة قوص، يوجد عروقا خضرا في تطابيق حجر أبيض، وأفضله الذّبابيّ وهو أقل من القليل، بل لا يكاد يوجد.
ولم يزل هذا المعدن يستخرج منه الزّمرّد إلى أثناء الدولة الناصرية(3/310)
«محمد بن قلاوون» فأهمل أمره وترك.
قال في «مسالك الأبصار» «1» : وجميع ملوك الأرض وأهل الآفاق تستمدّ منه. وقد مرّ القول عليه في جملة الأحجار الملوكية في أواخر المقالة الأولى.
وأعظم خطرا منه وأرفع شأنا البلسان الذي تسميه العامّة البلسم «2» ، وهو نبات يزرع ببقعة مخصوصة بأرض المطريّة من ضواحي القاهرة على القرب من عين شمس، ويسقى من بئر مخصوصة هناك، يقال إن المسيح عليه السلام اغتسل بها حين قدمت به أمّه إلى مصر، والنصارى تزعم أنه حفرها بعقبه وهو طفل حين وضعته أمّه هناك.
ومن خاصتها أن البلسان لا يعيش إلا بمائها ولا يوجد في بقعة من بقاع الأرض غير هذه البقعة.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : وطول هذه الأرض ميل في ميل، وشأنه أنه يفصد «3» في شهر كيهك «4» من شهور القبط، ويجمع ما يسيل من دهنه ويصفى ويطبخ ويحمل إلى خزانة السلطان، ثم ينقل منه قدر معلوم إلى قلاع(3/311)
الشام والبيمارستان «1» ليستعمل في بعض الأدوية؛ وملوك النصارى من الحبشة والروم والفرنج يستهدونه من صاحب مصر ويهادونه بسببه، لما يعتقدونه فيه من أثر المسيح عليه السلام في البئر، وله عليهم بذلك اليد الطّولى والمنّة العظمى، لا يساويه عندهم ذهب ولا جوهر.
قال في «مسالك الأبصار» : والنصارى كافّة تعتقد فيه ما تعتقد، وترى أنه لا يتم تنصّر نصرانيّ حتّى يوضع شيء من هذا الدهن في ماء المعمودية عند تغطيسه فيها.
وبها معدن النّطرون «2» ، وهو منها في مكانين:
أحدهما- بركة النّطرون «3» التي بالجبل الغربي غربيّ عمل البحيرة «4» الآتي ذكره في جملة أعمالها المستقرّة، وهي من أعظم المعادن وأكثرها متحصّلا على حقارة النطرون وقلة ثمنه.
قال في «التعريف» «5» : لا يعرف في الدنيا بركة صغيرة يستغلّ منها نظيرها، فإنها نحو مائة فدّان تغل نحو مائة ألف دينار.(3/312)
والثاني- مكان بالخطّارة من الشرقية، ولا يبلغ في الجودة مبلغ البركة الأولى، ولا يبلغ في المتحصّل قريبا من ذلك.
وبها أيضا معدن الشّبّ «1» على القرب من أسوان، وهو من المعادن الكثيرة المتحصّل أيضا إلى غير ذلك من الخواصّ.
وبها معدن النّفط على ساحل بحر القلزم، يسيل دهنه من أعلى جبل قليلا قليلا وينزل إلى أسفله فيتحصل في دبار قد وضعها له الأوّلون، وتأتي العرب فتحمله إلى خزائن السلاح السلطانية.
وأما عجائبها فكثيرة:
(منها) جبل الطير «2» شرقيّ النيل، مقابل منية أبي خصيب، فيه صدع يأتي إليه جنس البواقير من الطير، وهو المعروف بالبحّ في يوم من السنة فيضعون مناقيرهم في ذلك الصدع واحدا بعد واحد حتى يتعلق منها واحد في ذلك الصدع فيتركونه ويذهبون «3» .
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : قال أبو بكر الموصلي: سمعت من أعيان تلك البلاد أنه إذا كان العام مخصبا، يقبض على طائرين، وإن كان متوسطا، يقبض على طائر واحد، وإن كان جدبا، لم يقبض على شيء.(3/313)
(ومنها) مكان بالجبل الشرقيّ عن النيل، على القرب من أنصنا «1» به تلال رمل إذا صعد إلى أعلاها وكسح الرمل إلى أسافلها سمعت له أصوات كالرعد، يسمع من البر الغربيّ من النيل.
وقد أخبرني بعض أهل تلك البلاد أنه إذا كان الذي صعد على ذلك المكان جنبا أو كانوا جماعة فيهم جنب، لم يسمع شيء من تلك الأصوات لو كسح الرمل.
(ومنها) مكان بالجبل المذكور على القرب من إخميم به تلال رمل إذا كسحها الإنسان من أعلى إلى أسفل، عادت إلى ما كانت عليه وارتفع الرمل من أسفلها إلى أعلاها.
قال في «الروض المعطار» : وعلى النيل جبل يراه أهل تلك الناحية من انتضى سيفه وأولجه فيه وقبض على مقبضه بيديه جميعا، اضطرب السيف في يديه وارتعد فلا يقدر على إمساكه ولو كان أشدّ الناس؛ وإذا حدّ بحجارة هذا الجبل سكّين أو سيف لا يؤثر فيه حديد أبدا، وجذب الإبر والمسالّ أشدّ جذبا من المغناطيس، ولا يبطل فعلها بالثوم كما يبطل المغناطيس، أما الحجر نفسه فإنه لا يجذب.
قال القضاعيّ: وبجبل زماخير الساحرة «2» يقال إن فيه خلقة من الجبل ظاهرة مشرفة على النيل لا يصل إليها أحد يلوح فيها خط مخلوق «باسمك اللهم» . وعلى القرب من الطّور عين ماء في أجمة رمل ينبع الماء من وسطها فوّارات لطيفة وينبسط ماؤها حولها نحو الذراع، ثم يغوص في الرمل فلا يظهر له(3/314)
أثر، ولا يعرف أحد إلى أين يذهب، وهي على ذلك مدى الدهور والأيام لا ينقطع نبعها، ولا يجتمع ماؤها في مكان يدركه البصر؛ وعجائبها أكثر من أن تذكر.
المقصد الثالث في ذكر نيلها ومبدئه وانتهائه، وزيادته ونقصه وما تنتهي إليه زيادته، وما تصل إليه في النقص، وقاعدته
أمّا ابتداؤه وانتهاؤه، فاعلم أن ابتداءه من أوّل الخراب الذي هو جنوبي خط الاستواء المقدّم ذكره، ولذلك عسر «1» الوقوف على حقيقة خبره.
وقد ذكر الحكماء أنه ينحدر من جبل القمر، إما (بفتح القاف والميم كما هو المشهور، وإما بضم وسكون الميم) كما نقله في «تقويم البلدان» «2» عن ضبط ياقوت «3» في «المشترك» وابن سعيد في «معجمه» .
قال في «رسم المعمور» «4» : وطرفه الغربي عند طول [ست وأربعين] ونصف وعرض إحدى عشرة ونصف في الجنوب، وطرفه الشرقي حيث الطول إحدى وستون درجة ونصف والعرض بحاله. قال في الرسم: ولونه أحمر. وذكر الطوسيّ «5» أنهم شاهدوه على بعد، ولونه أبيض لما غلب عليه من الثلج. واعترضه(3/315)
في «تقويم البلدان» بأن عرض إحدى عشرة في غاية الحرارة لا سيّما في الجنوب لحضيض الشمس.
قال بطليموس «1» : والنيل ينحدر من الجبل المذكور من عشرة مسيلات، بين كل مسيلين منها درجة في الطول المقدّم بيانه، والغربيّ منها وهو الأوّل، عند طلوع ثمان وأربعين درجة، والثاني عند طلوع تسع وأربعين، وعلى ذلك حتّى يكون العاشر منها عند طلوع سبع وخمسين، كل مسيل منها نهر، ثم تجتمع العشرة وتصب في بطيحتين «2» كلّ خمسة منها تصب في بطيحة، ثم يخرج من كل واحدة من البطيحتين أربعة أنهار، ثم تتفرّع إلى ستة أنهار، وتسير الستة في جهة الشمال حتّى تصب في بحيرة مدوّرة عند خط الاستواء تعرف ببحيرة كوري، فيفترق النيل منها ثلاث فرق، ففرقة تأخذ شرقا وتذهب إلى مقدشو «3» من بلاد الحبشة المسلمين على ساحل البحر الهنديّ مقابل بلاد اليمن. وفرقة تأخذ غربا وتذهب إلى التّكرور «4» وغانة من مملكة مالي من بلاد السّودان، وتمرّ حتى تصب في البحر المحيط الغربيّ عند جزيرة أوليل «5» وتسمّى نيل السودان وفرقة تأخذ شمالا- وهي نيل مصر- فيمر في الشّمال على بلاد زغاوة «6» ، وهي أوّل ما يلقى من(3/316)
بلاد السودان.
ثم يمرّ على بلاد النّوبة حتّى ينتهي إلى مدينتها دنقلة «1» الآتي ذكرها في الكلام على ممالك السّودان.
ثم يمرّ شمالا بميلة إلى الغرب إلى طول إحدى وخمسين، وعرض سبع عشرة على حاله.
ثم يمرّ مغرّبا بميلة قليلة إلى الشّمال إلى طول اثنتين وثلاثين، وعرض تسع عشرة.
ثم يرجع مشرّقا إلى طول إحدى وخمسين.
ثم يمرّ في الشمال إلى الجنادل، وهو الجبل الذي ينحدر عليه النيل بين منتهى مراكب النّوبة في انحدارها ومراكب مصر في صعودها، حيث الطول ست وخمسون درجة، والعرض اثنتان وعشرون درجة.
ثم يمرّ شمالا إلى مدينة أسوان الآتي ذكرها في أعمال الدّيار المصرية على القرب من الجنادل المقدّمة الذكر.
ويمرّ شمالا بميلة إلى الغرب إلى طول ثلاث وخمسين، وعرض أربع وعشرين ثم يشرق الى طول خمس وخمسين.
ثم يأخذ في الشمال حتى ينتهي إلى مدينة الفسطاط الآتي ذكرها في قواعد مصر المستقرّة.
ويمتدّ في جهة الشّمال أيضا حتّى يصير بالقرب من قرية تسمّى شطّنوف «2» من قرى مصر، من عمل منوف فيفترق بفرقتين: فرقة شرقية وفرقة غربية. فأما(3/317)
الفرقة الشرقية، فتمرّ في الشّمال حتّى تأتي على قرية تسمّى المنصورة من عمل المرتاحية «1» ، فتتشعب شعبتين، وتمرّ الغربية منهما وهي العظمى إلى دمياط من شرقيها، وتصب في بحر الروم حيث الطول ثلاث وخمسون درجة وخمسون دقيقة، والعرض إحدى وثلاثون وخمس وعشرون دقيقة؛ وتمر الشرقية منهما على أشموم طناح «2» ، من غربيها حتّى تجاوز بلاد المنزلة «3» ، وتصب في بحيرة شرقيّ دمياط حتّى بحيرة تنّيس حيث الطول أربع وخمسون درجة وثلاثون دقيقة.
وأما الفرقة الغربية، فتمر من شطّنوف المقدّم ذكرها حتّى تأتي بالقرب من قرية تسمى بأبي نشّابة «4» من عمل البحيرة فتتشعب شعبتين، الغربية منهما وهي العظمى تأخذ شمالا بين عمل البحيرة من شرقيها وبين جزيرة بني نصر «5» من غربيها، والشرقية تأخذ شمالا أيضا بين جزيرة بني نصر من شرقيها، وبين عمل الغربية من غربيها. ويسمّى هذا البحر بحر أبيار «6» ، ويمر حتّى يلتقي مع الفرقة الغربية عند قرية تسمّى الفرستق من الغربية بالقرب من مدينة أبيار المنسوب إليها البحر المقدّم ذكره، ويصير شعبة واحدة ويمرّ حتّى يصب في البحر الروميّ غربي قرية تسمّى رشيد «7» حيث الطول ثلاث وخمسون، والعرض إحدى وثلاثون.(3/318)
ومن هذه الفرقة يتفرّع خليج صغير يدخل إلى بحيرة نستروه «1» الآتي ذكرها في جملة البحيرات، ويتفرع من كل فرقة من هذه الفرق وما يليها من أعلى النيل خلجان يأتي ذكر المشهور منها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما زيادته ونقصه، فقد اختلف في مدد زيادته، فنقل المسعوديّ عن العرب أنه يستمد من الأنهار والعيون. ولذلك تغيض الأنهار والعيون عند زيادته. وإذا غاض زادت؛ ويؤيده ما روى القضاعيّ بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «إنّ نيل مصر سيّد الأنهار، سخر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب أن يمدّه فأمدّته الأنهار بمائها، وفجّر الله له الأرض عيونا فانتهى جريه إلى ما أراد الله فأوحى الله إلى كل منها أن يرجع إلى عنصره» .
ويقال عن أهل الهند: زيادته ونقصه بالسيول، ويعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار، وركود السحاب.
وقالت القبط: زيادته من عيون في شاطئه رآها من سافر ولحق بأعاليه؛ ويؤيده ما رواه القضاعي بسنده إلى يزيد بن أبي حبيب «2» «أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لكعب الأحبار أسألك بالله! هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز وجل خبرا؟ قال: إي والله! إن الله عز وجل يوحي إليه في كل عام مرتين، يوحي إليه عند خروجه فيقول إن الله يأمرك أن تجري، فيجري ما كتب الله له، ثم يوحي إليه بعد ذلك فيقول: يا نيل إن الله يأمرك أن تنزل، فينزل» . ولا شك أن جميع الأقوال المتقدّمة فرع لهذا القول، وهو أصل لجميعها.
وبكل حال فإنه يبدأ بالزيادة في الخامس من بؤنه «3» من شهور القبط. وفي(3/319)
ليلة الثاني عشر منه يوزن الطّين، ويعتبر به زيادة النيل بما أجرى الله تعالى العادة به، بأن يوزن من الطين الجافّ الذي يعلوه ماء النيل زنة ستة عشر درهما «1» على التحرير، ويرفع في ورقة أو نحوها ويوضع في صندوق أو غير ذلك، ثم يوزن عند طلوع الشمس فمهما زاد اعتبرت زيادته كل حبة خروب بزيادة ذراع»
على الستة عشر درهما.
وفي السادس والعشرين منه يؤخذ قاع البحر وتقاس عليه قاعدة المقياس التي تبنى عليها الزيادة.
وفي السابع والعشرين ينادى عليه بالزيادة، ويحسب كل ذراع ثمانية وعشرين أصبعا إلى أن يكمل اثني عشر ذراعا، فيحسب كل ذراع أربعا وعشرين أصبعا، فإذا وفّى ستة عشر ذراعا، وهو المعبر عنه بماء السلطان، كسر خليج القاهرة، وهو يوم مشهود، وموسم معدود، ليس له نظير في الدنيا؛ وفيه تكتب البشارات بوفاء النيل إلى سائر أقطار المملكة، وتسير بها البرد «3» ، ويكون وفاؤه في الغالب في مسرى «4» من شهور القبط، وفيها جلّ زيادته.(3/320)
وفي النيروز «1» ، وهو أول يوم من توت «2» يكثر قطع الخلجان والتّرع عليه، وربما اضطرب لذلك ثم عاد.
وفي عيد الصليب، وهو السابع عشر من توت المذكور يقطع عليه غالب بقية التّرع.
وقد حكى القضاعيّ عن ابن عفير «3» وغيره عن القبط المتقدّمين أنه إذا كان الماء في اثني عشر يوما من مسرى اثني عشر ذراعا، فهي سنة ماء، وإلا فالماء ناقص، وإذا تمّ الماء ستة عشر ذراعا قبل النيروز فالماء يتم، ثم غالب وفائه يكون في النصف الأول من مسرى، وربما وفى في النصف الثاني منها، وقد يتأخر عن ذلك.
وفي الثامن من بابه «4» يكون نهاية زيادته.
ورأيت في «تاريخ النيل» «5» أنه تأخر وفاؤه في سنة ثمان وسبعمائة إلى تاسع عشر بابه فوفى ستة عشر ذراعا، وزاد أصبعين بعد ذلك في يومين: كل يوم أصبع بعد أن استسقى الناس أربع مرات، وهذا مما لم نسمع بمثله في دهر من الدهور.
وقد جرت عادته أنه من حين ابتداء النداء بزيادته في السابع والعشرين من بؤنه إلى آخر أبيب «6» تكون زيادته خفيفة ما بين أصبعين فما حولهما إلى نحو(3/321)
العشرة، وربما زاد على ذلك. فإذا دخلت مسرى، اشتدّت زيادته وقويت، فيزيد العشرة فما فوقها، وربما زاد دون ذلك. وأعظم ما تكون زيادته على القرب من الوفاء حتّى ربما بلغ سبعين أصبعا.
ومن العجيب أنه يزيد في يوم الوفاء سبعين أصبعا مثلا، ثم يزيد في صبيحة يوم الوفاء أصبعين فما حولهما، ويتم على ذلك. وله في آخر بابه زيادة قليلة يعبر عنها بصبّة بابه لما ينصبّ إلى النيل من ماء الأملاق «1» .
وقد ذكر عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم «2» وغيره: أنه لما فتح المسلمون مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل شهر بؤنة، فقالوا: أيّها الأمير إن لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلا بها، وهو أنه إذا كان اثنا عشر من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضيناهما فيها، وزيناها بأفضل الزينة، وألقيناها فيه. فقال: هذا مما لا يكون في الإسلام، فأقاموا أبيب ومسرى وهو لا يزيد قليلا ولا كثيرا، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرّفه ذلك، فكتب إليه أن أصبت، وكتب رقعة إلى النيل فيها:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر.
أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهّار الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك.
وبعث بها إليه، فألقاها في النيل، وقد تهيأ أهل مصر للخروج منها، فأصبحوا يوم الصليب، وقد بلغ في ذلك اليوم ستة عشر ذراعا.(3/322)
ويروى أنه وقع مثل ذلك في زمن موسى عليه السلام، وهو أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتّى أرادوا الجلاء، فرغبوا إلى موسى فدعا لهم بإجراء النيل رجاء أن يؤمنوا، فأصبحوا وقد أجراه الله في تلك الليلة ستة عشر ذراعا.
ورأيت في «تاريخ النيل» المتقدّم ذكره: أنه في زمن المستنصر «1» أحد خلفاء الفاطميين بمصر مكث النيل سنتين لم يطلع، وطلع في السنة الثالثة وأقام إلى الخامسة لم ينزل، ثم نزل في وقته ونضب الماء عن الأرض، فلم يوجد من يزرعها لقلة الناس؛ ثم طلع في السنة السادسة وأقام حتّى فرغت السابعة، ولم يبق إلا صبابة «2» من الناس، ولم يبق في الأقاليم ما يمشي على أربع غير حمار يركبه الخليفة المستنصر، وأنه وفّى ست عشرة ذراعا «3» في ليلة واحدة بعد أن كان يخاض من برّ إلى برّ؛ وأقل ما انتهى إليه قاع النيل في النقص ذراع واحد وعشرة أصابع، ووقع ذلك من سنة الهجرة وإلى آخر الثمانمائة مرتين فقط: المرّة الأولى- في سنة خمس وستين ومائة من الهجرة. وبلغ النيل فيها أربع عشرة ذراعا وأربعة عشر أصبعا. والمرة الثانية- في سنة خمس وثمانين وأربعمائة. وبلغ فيها سبع عشرة ذراعا وخمسة أصابع.
وقد وقع مثل ذلك في زماننا، في سنة ست وثمانمائة. وأغي ما انتهى إليه القاع في الزيادة مما رأيته مسطورا إلى آخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة تسعة أذرع. وسمعت بعض الناس يقول إنه في سنة خمس وستين وسبعمائة كان القاع اثنتي عشرة ذراعا.(3/323)
وأقل ما بلغ النقص في نهاية الزيادة اثنا عشر ذراعا وأصبعان، وذلك في سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وأغي ما كان ينتهي إليه في الزمن المتقدّم ثمانية عشر ذراعا حتّى تعجب الناس من نيل بلغ تسع عشرة ذراعا في زمن عمر بن عبد العزيز، ثم انتهى في المائة السابعة إلى أن صار يجاوز العشرين في بعض الأحيان.
ومن العجيب أنه في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة كان القاع على تسع أذرع، ولم يوف بل بلغ خمس عشرة ذراعا وخمس أصابع؛ وفي سنين كثيرة كان القاع فيها دون الذراعين، وجاوز الوفاء إلى ثماني عشرة ذراعا فما دونها. ولا عبرة بقول المسعوديّ في «مروج الذهب» إن أقل ما يكون القاع ثلاثة أذرع، وإنه في مثل تلك السنة يكون متقاصرا، فقد تقدّم ما يخالف ذلك وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
«1» .
قلت: وقد جرت عادة صاحب المقياس، أنه يعتبر قياسه زمن الزيادة في كل يوم وقت العصر، ثم ينادي عليه من الغد بتلك الزيادة أصابع من غير تصريح بذرع إلا أنه يكتب في كل يوم رقاعا لأعيان الدولة من أرباب السيوف والأقلام، كأرباب الوظائف من الأمراء، وقضاة القضاة «2» من المذاهب الأربعة، وكاتب السرّ وناظر(3/324)
الخاص «1» ؛ وناظر الجيش «2» ، والمحتسب «3» ، ومن في معناهم؛ فيذكر زيادته في ذلك اليوم من الشهر العربيّ وموافقه من القبطيّ من الأصابع وما صار إليه من الأذرع ويذكر بعد ذلك ما كانت زيادته في العام الماضي في ذلك اليوم من الأصابع وما صار إليه من الأذرع والبعادة بينهما بزيادة أو نقص، ولا يطلع على ذلك عوامّ الناس ورعاعهم؛ فإذا وفّى ستة عشر ذراعا صرح في المناداة في كل يوم بما زاد من الأصابع، وما صار إليه من الأذرع، ويصير ذلك مشاعا عند كل أحد.
وأما مقاييسه، فقد ذكر إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب «4» «العجائب» أن أول من وضع مقياسا للنيل (خصليم) السابع من ملوك مصر بعد الطوفان: صنع بركة لطيفة وركب عليها صورتي عقاب من نحاس: ذكر وأنثى، يجتمع عندها(3/325)
كهنتهم وعلماؤهم في يوم مخصوص من السنة، ويتكلمون بكلام فيصفّر أحد العقابين. فإن صفّر الذكر استبشروا بزيادة النيل، وإن صفّرت الأنثى استشعروا عدم زيادته فهيّأوا ما يحتاجون إليه من الطعام لتلك السنة.
قال المسعودي: وقد سمعت جماعة من أهل الخبرة يقولون: إن يوسف عليه السلام حين بنى الأهرام اتخذ مقياسا لمعرفة زيادة النيل ونقصانه.
قال القضاعيّ: وذلك بمدينة منف «1» وقيل: إن النيل كان يقاس بأرض يقال لها علوة «2» إلى أن بني مقياس منف، وأن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل.
قلت: وموضع المقياس بمنف إلى الآن معروف على القرب من الأهراء اليوسفية من جهة البلدة المعروفة بالبدرشين، وقيل كانوا يقيسونه بالرّصاصة «3» .
قال المسعوديّ: ووضعت دلوكة العجوز ملكة مصر بعد فرعون مقياسا بأنصنا صغير الأذرع، ووضعت مقياسا آخر بإخميم، ووضعت الرّوم مقياسا بقصر الشّمع «4» .
قال القضاعيّ: وكان المقياس قبل الفتح بقيساريّة الأكسية بالفسطاط إلى أن ابتنى المسلمون أبنيتهم بين الحصن والبحر؛ ثم جاء الإسلام وفتحت مصر والمقياس بمنف.(3/326)
كان النيل يقاس بمنف ويدخل القيّاس إلى الفسطاط فينادي به، ثم بنى عمرو بن العاص مقياسا بأسوان، ثم بنى مقياسا بدندرة «1» ، ثم بنى في أيام معاوية مقياسا بأنصنا.
فلما ولي عبد العزيز بن مروان «2» مصر، بنى مقياسا صغير الأذرع بحلوان من ضواحي الفسطاط؛ ثم لما ولي أسامة بن زيد التّنوخي بنى مقياسا في جزيرة الصّناعة المعروفة الآن بالروضة بأمر سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أميّة سنة سبع وتسعين من الهجرة، وهو أكبرها ذرعا؛ ثم بنى المتوكّل «3» مقياسا أسفل الأرض بالجزيرة المذكورة في سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله «4» على مصر، وهو المعمول عليه إلى زماننا هذا.
وكانت النصارى تتولّى قياسه فعزلهم المتوكل عنه ورتّب فيه أبا الردّاد عبد الله بن عبد السلام بن أبي الردّاد المؤدّب «5» ، وكان رجلا صالحا، فاستقرّ قياسه في بنيه إلى الآن؛ ثم أصلحه أحمد بن طولون في سنة تسع وخمسين ومائتين.
ثم كل ذراع يعتبر بثمانية وعشرين أصبعا إلى تمام اثنتي عشرة ذراعا، ثم(3/327)
يكون كل ذراع أربعة وعشرين أصبعا، فلما أرادوا وضعه على ستة عشر ذراعا، وزعوا الذراعين الزائدين، وهما ثمانية وأربعون أصبعا على اثني عشر ذراعا لكل ذراع منها أربعة أصابع، فصار كل ذراع ثمانية وعشرين أصبعا، وبقي الزائد على ذلك كل ذراع أربعة وعشرون أصبعا.
قال القضاعي: وكان سبب ذلك فيما ذكره الحسن «1» بن محمد بن عبد المنعم في رسالة له أن المسلمين لما فتحوا مصر عرض على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يلقاه أهلها من الغلاء عند وقوف النيل في حدّ المقياس لهم فضلا عن تقاصره، ويدعوهم ذلك إلى الاحتكار، والاحتكار يدعوهم إلى زيادة الأسعار، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يسأله عن حقيقة ذلك، فأجابه: إني وجدت ما تروى به مصر حتّى لا يقحط أهلها أربع عشرة ذراعا، والحد الذي يروى منه سائرها حتّى يفضل عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ست عشرة ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان، في الظمأ والاستبحار «2» ، اثنتا عشرة ذراعا في النقصان وثماني عشرة ذراعا في الزيادة. فاستشار عمر رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه في ذلك، فأشار بأن يكتب إليه أن يبني مقياسا، وأن يفضّ ذراعين على اثنتي عشرة ذراعا، ويبقي ما بعدهما على الأصل.
قال القضاعيّ: وفي هذا نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار، وانتقاض الأحوال، وشاهد ذلك أن المقاييس القديمة الصعيدية من أولها إلى آخرها أربعة وعشرون أصبعا كل ذراع بغير زيادة على ذلك.
قال المسعوديّ: فإذا تم النيل خمس عشرة ذراعا، ودخل في ست عشرة، كان فيه صلاح لبعض الناس ولا يستسقى فيه، وكان فيه نقص من خراج السلطان.
وإذا انتهت الزيادة إلى ستة عشر ذراعا، ففيه تمام خراج السلطان وأخصب الناس،(3/328)
وفيه ظمأ ربع البلد، وهو ضارّ للبهائم لعدم المرعى.
قال: وأتم الزيادات العامة النافعة للبلد كله سبع عشرة ذراعا، وذلك كفافها وريّ جميع أرضها. وإذا زاد على السبع عشرة ذراعا وبلغ ثماني عشرة، استبحر من مصر الربع، وفي ذلك ضرر لبعض الضيّاع. قال: وذلك أكثر الزيادات.
قلت: هذا ما كان عليه الحال في زمانه وما قبله وكان الحال جاريا على ما ذكره في غالب السنين إلى ما بعد السبعمائة.
أما في زماننا، فقد علت الأرض مما يرسب عليها من الطين المحمول مع الماء في كل سنة وضعفت الجسور، وصار النيل بحكمة الله تعالى إلى ثلاثة أقسام: متقاصرة وهي ست عشرة ذراعا فما حولها؛ ومتوسطة وهي سبع عشرة ذراعا إلى ثمان عشرة ذراعا فما حولها؛ وعالية وهي ما فوق ثمان عشرة، وربما زادت على العشرين.
المقصد الرابع في ذكر خلجانها «1» وخلجانها القديمة ستة خلج:
الخليج الأول المنهى
وهو الخليج الذي حفره «يوسف الصدّيق عليه السلام» ومخرجه بالقرب من دروة سربام «2» ، من عمل الأشمونين الآتي ذكرها، وهي المعروفة بدروة(3/329)
الشّريف، ويأخذ شمالا إلى مدينة البهنسى، ثم إلى قرية اللاهون «1» من عمل البهنسى، ويمرّ في الجبل حتّى يجاوزه إلى إقليم الفيّوم، ويمرّ بمدينته وينبثّ في نواحيه.
وهذا النهر من غرائب أنهار الدنيا تجفّ فوّهته في أيام نقص النيل، وباقيه يجري في موضع ويجف في آخر إلى إقليم الفيّوم، فيجري شتاء وصيفا من أعين تتفجر منه ولا يحتاج إلى حفر قطّ.
ويقال: إن «يوسف عليه السلام» حفره بالوحي ومياهه منقسمة على استحقاق مقدّر، كما في دمشق من البلاد الشامية.
وقال في «الروض المعطار» : وكانت مقاسمه بحجر اللّاهون على القرب من القرية المنسوبة إليه المتقدّمة الذكر. قال: وهو من عجائب الدنيا، وهو شاذروان بين قبتين من أحكم صنعة، مدرّج على ستين درجة، فيها فوّارات في أعلاها وفي وسطها وفي أسفلها، يسقي الأعلى الأرض العليا، والأوسط الأرض الوسطى، والاسفل الأرض السّفلى بوزن وقدر معلوم.
قال: ويقال إن يوسف عليه السلام عمله بالوحي، وإنّ ملك مصر يومئذ لما عاينه قال هذا من ملكوت السماء.
ويقال إنه عمل من الفضّة والنّحاس والرخام.
قلت: قد ذهبت معالم هذا اللاهون وبقي بعض بنائه ونقلت المقاسم الى مكان آخر بالفيوم تسقى الآن الأراضي على حكمها.(3/330)
ومن غرائب أمره أن به التماسيح التي لا تحصى كثرة، ولم يشتهر في زمن من الأزمان أنها آذت أحدا قطّ.
الخليج الثاني خليج القاهرة الذي يكسر سدّه يوم وفاء النيل
حفره عمرو بن العاص وهو أمير مصر، في خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قال القضاعيّ: أمر بحفره عام الرّمادة «1» في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وساقه إلى بحر القلزم، فلم يتم عليه الحول حتّى جرت فيه السفن وحمل فيها الزاد والأطعمة إلى مكّة والمدينة، ونفع الله بذلك أهل الحجاز.
وذكر الكنديّ في كتاب «الجند العربي» أن حفره كان سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وفرغ منه في ستة أشهر، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع.
قال الكنديّ: ولم يزل يحمل فيه الطعام حتّى حمل فيه عمر بن العزيز، ثم أضاعته الولاة فترك وغلب عليه الرمل، وصار منتهاه إلى ذنب التّمساح من ناحية الطّور والقلزم «2» .(3/331)
وذكر ابن قديد: أن أبا جعفر المنصور أمر بسده حين خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ليقطع عنه الطعام.
ولم يكن عليه قنطرة إلى أن بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة في سنة تسع [وستين] «1» .
وقد ذكر «2» المسعودي في «مروج الذهب» أنه انقطع جريان هذا الخليج عن الإسكندرية إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة لردم جميعها وصار شرب أهلها من الآبار.
قال ابن عبد الظاهر: وليس لها أثر في هذا الزمان. قال: وإنما بنى السلطان الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب هاتين القنطرتين الموجودتين الآن على بستان الخشاب وباب الخرق «3» ، يعني قنطرة السدّ وقنطرة باب الخرق في سنة نيف وأربعين وستمائة.
وذكر في موضع آخر من خططه أن القنطرة التي عليه خارج باب القنطرة بناها القائد جوهر «4» سنة ستين وثلاثمائة؛ وقنطرة اللؤلؤة- وهي التي كانت بالقرب من ميدان القمح، وبعضها باق إلى الآن- من بناء الفاطميين أيضا؛ واللؤلؤة التي تنسب هذه القنطرة إليها منظرة «5» على برّ الخليج القبليّ، بناها الظاهر لإعزاز دين(3/332)
الله الفاطميّ «1» ، كانت مستنزها لخلفاء الفاطميين ينزلون فيها في أيام النيل ويقيمون بها إلى آخر النيل.
قلت: أما باقي القناطر التي على هذا الخليج: كقنطرة عمر شاه، وقنطرة سنقر، وقنطرة أمير حسين، فكلها مستحدثة في الدولة التركية، وغالبها في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون.
قال ابن أبي المنصور في «تاريخه» : وأوّل من رتب حفره على الناس المأمون بن البطائحي «2» ، وكذلك البساتين في دولة الأفضل «3» ، وجعل عليه واليا بمفرده.
الخليج الثالث خليج السّردوس
ويقال السّردوسي بزيادة ياء في آخره، وهو الذي حفره هامان لفرعون.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : ويقال: إنه لما حفره سأله أهل البلاد أن يجريه إليهم على أن يجعلوا له على ذلك مالا، فتحصّل له من ذلك مائة ألف دينار فحملها إلى فرعون، فقال: ويحك! إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده ولا ينظر إلى ما في أيديهم، وأمر بردّ المال إلى أربابه.(3/333)
قال «1» : وكان هذا الخليج أحد نزهات الدنيا يسار فيه يوما بين بساتين مشتبكة وأشجار ملتفّة وفواكه دانية.
قلت: أما الآن فقد ذهب ذلك، وبطل الخليج وعوّض عنه ببحر أبي المنجا «2» الآتي ذكره.
الخليج الرابع خليج الإسكندرية
وهو خليج مخرجه من الفرقة الغربية من النيل عند قرية تسمّى العطف «3» تقابل فوّة «4» ، مدينة المزاحمتين، ويميل غربا حتّى يتصل بجدران الإسكندرية، وتدخل منه قناة تحت الأرض إلى داخلها، ويتشعب منها شعب كثيرة تدخل دورها، وتخرج من دار إلى أخرى، ويخالط آبارها فيحلو ماؤها وتملأ منها صهار يجها حينئذ فتمكث من السنة إلى السنة.
وكانت فوّهة هذا الخليج فيما تقدم جنوبي فوّهته الآن عند قرية تسمّى الظاهرية «5» من عمل البحيرة، وكان يمرّ على دمنهور مدينة البحيرة، ثم نقل إلى مكانه الآن ويقال إن أرضه في القديم كانت مفروشة بالبلاط.(3/334)
قال في «تقويم البلدان» : وهو من أحسن المنتزهات لأنه مخضرّ الجانبين بالبساتين؛ وفيه يقول ظافر الحدّاد «1» الشاعر السكندريّ:
صو عشيّة أهدت لعينك منظرا ... جاء السّرور به لقلبك وافدا
روض كمخضرّ العذار وجدول ... نقشت عليه يد الشّمال مباردا
والنّخل كالغيد الحسان تزيّنت ... ولبسن من أثمارهنّ قلائدا
وقد ذكر المسعوديّ في «مروج الذهب» : أنه انقطع جريان هذا الخليج عن الإسكندرية إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة لردم جميعها، وصار شرب أهلها من الآبار.
الخليج الخامس خليج سخا «2»
ويقال إن الذي حفره برصا: أحد ملوك مصر بعد الطوفان.
الخليج السادس خليج دمياط
ولم أقف على تفاصيل أحواله «3» .(3/335)
[بحر أبي المنجا] أما بحر أبي المنجا، فإنه وإن عظم شأنه مستحدث، حفره الأفضل «1» بن أمير الجيوش وزير المستعلي بالله الفاطميّ.
قال ابن أبي المنصور في «تاريخه» : وكان سبب حفره أن البلاد الشرقية كانت جارية في ديوان الخلافة، وكان معظمها لا يروى في أكثر السنين ولا يصل الماء إليها إلا من خليج السّردوس المتقدّم ذكره، أو من غيره من الأماكن البعيدة.
وكان يشارف العمل يهوديّ اسمه أبو المنجا، فرغب أهل البلاد إليه في فتح ترعة يصل الماء منها إليهم في ابتدائه فرفع الأمر إلى الأفضل، فركب في النيل في ابتدائه في مركب ورمى بحزم من البوص «2» في النيل وجعل يتبعها بمركبه إلى أن رماها النيل إلى فم ذلك البحر فحفر من هناك، وابتدأ حفره يوم الثلاثاء السادس من شعبان سنة ست وخمسمائة، وأقام الحفر فيه سنتين وغرم فيه مال كثير. وكان في كل سنة تظهر فائدته، ويتضاعف ارتفاع البلاد التي تحته، وغلب عليه إضافته إلى أبي المنجا لتكلمه فيه. فلما عرض على الأفضل ما صرف عليه استعظمه وقال:
غرمنا عليه هذا المال العظيم والاسم لأبي المنجا، فسماه البحر الأفضليّ فلم يتم له ذلك ولم يعرف إلا بأبي المنجا، ثم سطى «3» بأبي المنجا المذكور بعد ذلك ونفي إلى الإسكندرية. ولما ولي المأمون بن البطائحي الوزارة تحدّث معه الأمراء في أن يتخذ لفتحه يوما كفتح خليج القاهرة، فابتنى عند سدّه منظرة متسعة ينزل فيها عند فتحه «4» .(3/336)
قلت: وكانت فيه معدّية «1» يعدّى فيها بين قليوب وبيسوس، وكان يحصل للناس بها مشقة عظيمة لكثرة المارّين، فعمر عليها الظاهر بيبرس رحمه الله قنطرة عظيمة بحجر صلد، من غرائب البناء، تمرّ عليها الناس والدواب، فحصل للناس بها الارتفاق العظيم، وهي باقية على جدّتها إلى زماننا.
وكان سدّه يقطع في عيد الصليب في سابع عشر توت، ثم استقر الحال على أن يقطع يوم النّوروز، في أوّل يوم من توت حرصا على ريّ البلاد.
وأما بقية خلج الديار المصرية المستحدثة وترعها بالوجهين: القبليّ والبحري، فأكثر من أن تحصر، ولكل منها زمن معروف يقطع فيه.
المقصد الخامس في ذكر بحيرات الديار المصرية، وهي أربع بحيرات
الأولى منها- «بحيرة الفيّوم»
«2» ويعبّر عنها بالبركة، وهي بحيرة حلوة «3» بالقرب من الفيوم بين الشمال والغرب عنه، على نحو نصف يوم، يصب فيها فضلات مائه المنصب إليه من خليجه المنهى المتقدّم ذكره، وليس لها مصرف تنصرف إليه لإحاطة الجبل بها، ولذلك غلبت على كثير من قرى الفيّوم وعلا ماؤها على أرضها.
قال في «تقويم البلدان» : وطولها شرقا بغرب نحو يوم، وبها أسماك كثيرة تتحصل من صيدها جملة كثيرة من المال؛ وبها من آجام القصب والطّرفاء «4» والبرديّ «5» ما يتحصل منه المال الكثير.(3/337)
الثانية- «بحيرة بوقير»
(بضم الباء الموحّدة وسكون الواو وكسر القاف وسكون الياء المثناة تحت وراء مهملة في الآخر) وهي بحيرة ماء ملح يخرج من البحر الرومي بين الإسكندرية ورشيد، ولها خليج صغير مشتق من خليج الإسكندرية المتقدّم ذكره، يأتيها ماء النيل منه عند زيادته؛ وبها من صيد السمك ما يتحصل منه المال الكثير، وفيها من أنواع الطير كلّ غريب، وبجوانبها الملّاحات الكثيرة التي يحمل منها الملح إلى بلاد الفرنج وغيرها.
قلت: وقد وقع للسلطان عماد الدين صاحب حماة، رحمه الله، وهم فجعل هذه البحيرة هي بحيرة نستروه الآتي ذكرها؛ على أن هذه البحيرة قد انقطع مددها من البحر الملح في زماننا بواسطة غلبة الرمل على أشتونها «1» الموصل إليها الماء من بحر الروم فجفّت وصارت سبخة «2» طويلة عريضة؛ ومات ما كان يصاد منها من السمك البوريّ، وما يتحصل منها من الملح المنعقد بسواحلها، وعاد على الإسكندرية بواسطة ذلك ضرر كبير لأنه كان الغالب على أهلها أكل السمك ويحصل لهم بالملح رفق «3» كبير.
الثالثة- «بحيرة نستروه»
(بفتح النون وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة فوق وضم الراء المهملة وسكون الواو وهاء في الآخر) وهي بحيرة ماء ملح أيضا بالقرب من البرلّس في آخر بلاد الأعمال الغربية الآتي ذكرها، متسعة الأرجاء إذا توسطها المركب لا ترى جوانبها لعظمها، لبعد مركزها عن البر، وبالقرب منها قرية تسمّى نستروه، وهي التي تضاف إليها، وداخلها قرية أخرى تسمّى سنجار لا(3/338)
زرع فيهما ولا نفع، وليس بهما غير صيد السمك، وهي الغاية القصوى فيما يتحصل من المال.
قال صاحب حماة: يبلغ متحصل صيد سمكها في كل سنة فوق عشرين ألف دينار مصرية، وليس يساويها بحيرة من البحيرات في ذلك.
قلت: وأخبرني بعض مباشريها أنها في زماننا قد تميز متحصلها عن ذلك نحو مثله للاجتهاد في الصيد، وكثرة الضبط وارتفاع السعر.
الرابعة- «بحيرة تنّيس»
قال السمعانيّ (بكسر التاء المثناة فوق والنون المشدّدة المكسورة ثم ياء مثناة تحت وسين مهملة في الآخر) وهي بحيرة متصلة بالبحر الروميّ أيضا بآخر عمل الدقهلية والمرتاحية الآتي ذكره، وفيها مصبّ بحر أشموم المنفرق من الفرقة الشرقية من النيل، ولذلك يعذب ماؤها في أيام زيادة النيل، وبوسطها تنّيس الآتي ذكرها في الكلام على الكور القديمة.
قال صاحب «الروض المعطار» : طمى عليها البحر قبل الفتح الإسلامي بمائة سنة فغرّقها وصارت بحيرة، ويتصل بهذه البحيرة من جهة الغرب «بحيرة دمياط» وهما في الحقيقة كالبحيرة الواحدة «1» .
المقصد السادس في ذكر جبالها
اعلم أن وادي مصر يكتنفه جبلان شرقا وغربا، يبتدئان من الجنادل المتقدمة الذكر فوق أسوان آخذين من جهة الشّمال على تقارب بينهما بحيث يرى كل منهما من الآخر والنيل مارّ بين جنبتيهما.(3/339)
فأما الشرقيّ منهما فيمرّ بين النيل وبحر القلزم المتقدّم الذكر حتّى يجاوز الفسطاط فينعطف ويأخذ شرقا حتّى يأتي على آخر بحر القلزم من الشّمال، يرتفع في موضع وينخفض في آخر؛ وفي أوائل هذا الجبل من جهة الجنوب على القرب من مدينة قوص (معدن الزّمرّد) المتقدّم ذكره في خواص الدّيار المصرية، في مغارة طويلة في قطعة جبل عالية، تسمّى قرشنده ليس هناك أعلى منها، وعلى القرب من ذلك (مقطع الرّخام) الملوّن من الأبيض والسّمّاقي وسائر الألوان المستحسنة التي لا تساوى حسنا.
ويسمّى الجبل المطلّ منه على النيل مقابل المراغات من عمل إخميم «جبل الساحرة» وأظنه جبل زماخير الساحرة المتقدّمة الذكر في عجائب الدّيار المصرية.
ويسمّى الجبل المطل منه على النيل مقابل مدينة منفلوط «جبل أبي فيدة» بفاء وياء مثناة تحت.
ويسمّى الجبل المطل منه على النيل مقابل منية بني خصيب من الأشمونين.
«جبل الطيلمون» ويعرف الآن بجبل الطّير؛ وقد تقدّم ذكره في جملة عجائب الديار المصرية.
ويسمّى ما سامت الفسطاط والقرافة منه «المقطّم» «1» وربما أطلق المقطّم على جميع المقطّم «2» ؛ وقد اختلف «3» في سبب تسميته بذلك، فقيل سمي باسم مقطّم الكاهن كان مقيما فيه لعمل الكيميا.
وقال أبو عبد الله اليمني «4» : سمي بالمقطّم بن مصر بن بيصر، وكان عبدا(3/340)
صالحا انفرد فيه لعبادة الله تعالى.
وذكر الكندي في كتاب «فضائل مصر» ما يوافق ذلك: وهو أن عمرو بن العاص رضي الله عنه سار في سفح المقطّم ومعه المقوقس، فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام؟ فلو شققنا في أسفله نهرا من النيل وغرسناه نخلا؛ فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر البلاد أشجارا ونبتا وفاكهة، وكان ينزله المقطّم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، فلما كانت الليلة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام، أوحى الله تعالى إلى الجبال: إني مكلّم نبيّا من أنبيائي على جبل منك، فسمت الجبال كلّها وتشامخت إلا جبل بيت المقدس فإنه هبط وتصاغر، فأوحى الله تعالى إليه: لم فعلت ذلك؟
وهو به أخبر، فقال: إعظاما وإجلالا لك يا رب! فأمر الله تعالى الجبال أن يحيّوه كل جبل مما عليه من النبت، فجاد له المقطّم بكل ما عليه من النبت حتّى بقي كما ترى، فأوحى الله تعالى إليه إني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غرس الجنة «1» .
وأنكر القضاعي وغيره أن يكون لمصر ولد اسمه المقطم، وجعلوه مأخوذا من القطم وهو القطع، لكونه منقطع «2» الشجر والنبات.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : وفيه كنوز عظيمة، وهياكل كثيرة، وعجائب غريبة. ولملوك مصر فيه من الجواهر والذهب والفضة والأواني، والآلات النفيسة، والتماثيل العجيبة، وتراب الصنعة ما يخرج عن حدّ الإحصاء.
قال في «الروض المعطار» : وإذا دبّرت تربته حصل منها ذهب صالح.
ويلي المقطّم من جهة الشّمال «اليحاميم» «3» وهي الجبال المتفرقة المطلة(3/341)
على القاهرة من جانبها الشرقي وجبّانتها.
قال القضاعي: وقيل لها اليحاميم لاختلاف ألوانها، واليحموم في كلام العرب: الأسود المظلم، ولعله يريد الجبل الأحمر وما والاه.
وفي شرقيّ المقطّم على بحر القلزم «طور سينا» «1» الذي كلّم الله تعالى موسى عليه السلام عليه، وهو جبل مرتفع للغاية، داخل في البحر.
قال الأزهري «2» : وسمي الطّور بطور بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : ومن خاصّته أنه كيفما كسر، ظهر فيه صورة شجر العليق، وقد بني هناك دير بأعلى الجبل، وغرس بواديه بساتين وأشجار.
وأما الغربيّ منهما، فإنه يبتديء من الجنادل أيضا ويمرّ في الشّمال فيما بين(3/342)
بلاد الصعيد والصحراء، ثم فيما بين بلاد الصعيد والواحات، ثم فيما بين بلاد الصعيد والفيّوم حتّى ينتهي إلى مقابل الفسطاط. وهناك موقع الهرمين العظيمين المقدّم ذكرهما على القرب من بوصير؛ ثم ينعطف ويأخذ غربا بشمال فيما بين بلاد ريف الوجه البحري والبرّيّة حتى يجاوز بركة النّطرون، ويمضي إلى قريب من الإسكندرية.
ويسمّى فيما سامت الواحات «جبل جالوت» نسبة إلى جالوت البربري «1» .
ويتصل به من جنوبي الواحات «جبل الازورد» قيل إن به معدن لازورد، وإنه امتنع استخراجه لانقطاع العمارة هناك.
المقصد السابع في ذكر زروعها، ورياحينها، وفواكهها، وأصناف المطعوم بها
أما زروعها
- فيزرع فيها من أنواع الحبوب المقتاتة وغيرها كالبرّ، والشعير، والذّرة، والأرز، والباقلّى، والحمّص، والعدس، والبسلّا «2» ، والجلبان «3» ، واللّوبيا، والسمسم، والقرطم «4» ، والخشخاش «5» ، والخروع،(3/343)
والسّلجم «1» ، وبزر الكتّان، والبرسيم «2» ، وغير ذلك.
وبها قصب السّكّر في غاية الكثرة، والبطّيخ، والقثّاء على اختلاف أنواعها، والملوخيّا، والقلقاس، واللّفت، والباذنجان، والدّبّاء «3» ، والهليون، والقنّبيط، وأنواع البقول المختلفة، كالثّوم، والبصل، والكرّاث، والفجل وغيرها؛ وعامة زرع حبوبها على النيل عند نزوله عن أرضها من أثناء بابه من شهور القبط إلى أثناء طوبه منها بحسب ما يقتضيه حال الزرع. وربما زرع فيها على السواقي والدواليب «4» ؛ وأكثر ما يكون ذلك في بلاد الصّعيد خصوصا في سني الجدب؛ ويزرع في الفيوم في غير زمن النيل على نهره المنهى المتقدّم ذكره في جملة الأنهار. ولا زرع فيها على المطر إلا القليل النادر بأطراف البحيرة مما لا عبرة به على قلة المطر بها بل فقده بصعيدها.
وأما رياحينها
- ففيها الآس، والورد، والبنفسج، والنّرجس، والياسمين، والنّسرين، والبان، واللّينوفر، وأزهار المحمضات، والرّيحان الفارسيّ على اختلاف أنواعه، والمنثور فيها بقلة، وإنما كثر بالإسكندرية، إلى غير ذلك من بقايا الأنواع التي يشق استيعابها.
وأما فواكهها
- ففيها الرّطب، والعنب، والتّين، والرّمّان، والخوخ، والمشمش، والقراصيا، والبرقوق، والتّفّاح، والكمّثرى، والسّفرجل بقلّة، واللّوز(3/344)
الأخضر، والنّبق «1» ، والتّوت، والفرصاد «2» ، والموز، ولا يوجد فيها الجوز، والفستق، والبندق، والإجّاص إلّا مجلوبا بعد جفافه، وإن زرع بأرضها شيء من ذلك، لم يفلح؛ والزيتون فيها بقلّة، ولا يستخرج منه زيت البتة وإنما يؤكل ملحا «3» .
وفيها من المحمضات: الأترجّ «4» ، والحمّاض، والكباد «5» ، والنّارنج «6» ، واللّيمون، على اختلاف أنواعها.
وأما أصناف المطعوم
- ففيها ما يستطاب من الألبان، والأجبان، والعسل، الذي لا يساوى حسنا، ولا يشبهه غيره من سائر الأعسال، والسّكّر الكثير: من المكرّر، والتبع، والوسط، والنبات. ومنها يجلب إلى أكثر البلاد. قال في «مسالك الأبصار» : وقد نسي به ما كان يذكر من سكّر الأهواز.
وبها من أنواع الحلوى والأشربة المتخذ ذلك من السّكّر، والأشربة الفائقة ما لا يوجد في غيرها من الأقاليم.
وبها من لحم الضأن، والبقر، والمعز، ما لا يعادله غيره في قطر من الأقطار لطافة ولذّة.
قلت: ومن محاسنها أن فاكهتها لا يدوم نوع منها في جميع السنة فيملّ، بل يأتي كل نوع منها في وقت دون وقت، فتتشوّف النفوس إلى طلبه، ويكون لقدومه بهجة. ولا يعترض ذلك بدوام أكل الجنة، فإن الجنة أكلها لا يملّ بخلاف(3/345)
مآكل الدنيا. ولأهل الرفاهيّة بذلك فرحة، وتتغالى فيه في ابتدائه مع أنه يجتمع في الحين الواحد من الفواكه والرياحين ما لا يحتاج معه في زمنه إلى غيره.
قال المهذّب بن ممّاتي «1» في «قوانين الدواوين» : بعثت غلاما لي ليحضر من فكّاهى القاهرة ما وجد بها من أنواع الفاكهة والرياحين فأحضر لي منها الورد، والنّرجس، والبنفسج، والياسمين، والمنثور، والمرسين، والرّيحان، والطّلح، والبلح والجمّار «2» والخيار، والبطّيخ الأخضر، والباقلّى، والتّفّاح، والفقّوس، والأترجّ، والنّارنج، والأشباه «3» ، واللّيمون، والتّمر هندي الأخضر، والعنب، والحصرم.
وقال بعض الجوّالين في الآفاق: طفت أكثر المعمور من الأرض فلم أر مثل ما بمصر من ماء طوبه «4» ، ولبن أمشير، وخرّوب برمهات، وورد برموده، ونبق بشنس، وتين بؤنة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمّان بابه، وموز هتور، وسمك كيهك.
المقصد الثامن في ذكر مواشيها، ووحوشها، وطيورها
أما مواشيها
- فمنها الإبل المستجادة، والبقر العظيمات القدود، والأغنام المستطابة اللحوم، والخيول المسوّمة، والبغال النفيسة، والحمر الفارهة مما ليس له نظير في إقليم من الأقاليم، ولا مصر من الأمصار.
وأما وحوشها
- ففي براريّها: الغزلان، والنّعام، والأرانب، والثّعالب،(3/346)
والضّباع، والذّئاب، وغير ذلك. ويجلب إلى سلطانها الفيلة، والزّرافات، وغيرها من الوحوش من البلاد القاصية، والسّباع من بلاد الشام من مملكته لتكون في إصطبلاته زينة لمملكته.
وأما طيورها
- ففيها من الطيور الدّواجن في البيوت: الدّجاج، والإوزّ، والحمام؛ ومن الطيور البرّيّة: الصّقر، والعقاب، والنّسر، والكرّكيّ «1» ، واللّغلغ «2» ، والإوزّ التّركي، والمرزم «3» ، والبجع، والبلشون «4» ، والحبرج «5» ، والحجل، والكروان، والسّماني، والبلبل، وسائر أنواع العصافير، والأنواع المختلفة من طيور الماء. ويجلب إلى سلطانها سائر أنواع الجوارح الصائدة على اختلاف أجناسها من أقاصي البلدان، ويقع التغالي في أثمانها للغاية القصوى على ما يأتي ذكره في الكلام على أوصافها إن شاء الله تعالى.
المقصد التاسع في ذكر حدودها
قد اضطربت عبارات المصنّفين في المسالك والممالك في تحديدها،
[حدّها الشّماليّ]
والذي عليه الجمهور أن حدّها الشّماليّ، وهو المعبّر عنه عند المصريين بالبحري، يبتديء مما بين الزعقة ورفح عند حدّها من الشام والبحر شماله، ويمتدّ غربا على ساحل البحر المذكور حيث الشجرتان عند الشجرة التي يعلق فيها(3/347)
العوامّ الخرق وتقول هذه مفاتيح الرمل، عند الكثب المجنبة عن البحر الروميّ، إلى رفح ثم إلى العريش آخذا على الجفار «1» ، إلى الفرما، إلى الطينة، إلى دمياط، إلى ساحل رشيد، إلى الإسكندرية، وهي آخر العمارة بهذا الحدّ. ثم يأخذ على اللينونة، على العميدين، إلى برقة، إلى العقبة الفاصلة بين الديار المصرية وإفريقيّة على ما تقدّم ذكره في الكلام على سواحل البحر الروميّ.
وحدّها الغربي
- يبتديء من ساحل البحر الروميّ حيث العقبة، ويمتدّ جنوبا، وأرض إفريقيّة غربيه، على ظاهر الفيّوم والواحات حتّى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان.
وحدّها الجنوبيّ
- وهو المعبر عنه عند المصريين بالقبليّ، يبتديء من آخر هذا الحدّ بصحراء الحبشة ويمتدّ شرقا، وبلاد الروم من بلاد البرّيّة جنوبيّه حتّى يأتي إلى أسوان، ثم يمتدّ من أسوان شرقا حتّى ينتهي إلى بحر القلزم مقابل أسوان على خمس عشرة مرحلة منها.
وحدّها الشرقي
- يبتديء من آخر هذا الحدّ ويمتدّ شمالا وبحر القلزم شرقيّه، إلى عيذاب، إلى القصير «2» ، إلى القلزم، إلى السّويس، ثم يأخذ شرقا عن بركة الغرندل التي أغرق الله تعالى فيها فرعون من بحر القلزم إلى تيه بني إسرائيل؛ ثم يعطف شمالا ويمرّ على أطراف الشام حتّى ينحطّ على ما بين الزعقة ورفح ساحل البحر الروميّ حيث وقعت البداءة.
وعلى هذا التحديد جرى السلطان عماد الدين صاحب حماة في «تقويم البلدان» والمقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» إلا أنه في «تقويم البلدان»(3/348)
جعل ابتداء الحدّ الشماليّ نفس رفح، ونهاية الحدّ الغربيّ حدود بلاد النّوبة؛ وفي «التعريف» جعل ابتداء الحدّ الشمالي ما بين الزعقة ورفح، ونهاية الحدّ الغربي صحراء بلاد الحبشة على ما تقدم في التحديد، والأمر في ذلك قريب.
وخالف في ذلك القضاعيّ فجعل ابتداء الحدّ الشّماليّ من العريش، وليس فيه بعد عن رفح بل في الآثار ما يدل عليه، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وجعل الحدّ الجنوبيّ يقطع بحر القلزم وينتهي إلى ساحل الحجاز بالحوراء «1» : أحد منازل طريق الحجاز من مصر؛ والحدّ الشرقيّ يمتدّ على ساحل البحر الشرقيّ إلى مدين، إلى أيلة، إلى تيه بني إسرائيل «2» ، إلى العريش. فأدخل بحر القلزم من حدّ الحوراء إلى نهايته في الشّمال، وما على ساحله من برّ الحجاز مما يسامت العريش كأيلة ومدين ونحوها في أرض مصر.
قلت: وفيه نظر، والظاهر ما تقدّم لأن البر الشرقيّ من القلزم معدود من ساحل الحجاز من جملة جزيرة العرب، وهي ناحية على انفرادها؛ وكأن الذي حمل القضاعيّ على ذلك مسامتة هذا الساحل لحدّها بساحل البحر الروميّ على ما تقدّم.
واعلم أن جميع المحدّدين لها وإن اختلفت عباراتهم في ابتداء الحدّ الشّمالي الفاصل بينها وبين الشام، هل هو من العريش أو من رفح، أو بين الزعقة ورفح، متفقون على أن ابتداء الحدّ حيث الشجرتان «3» ، وكأنهما شجرتان قديمتان حدّد في الأصل بهما.(3/349)
قال في «التعريف» : وما إخال الآن بقاء الشجرتين، وإنما هو موضع الشجرة التي تعلّق فيها العوامّ الخرق، ويقولون هذه مفاتيح الرمل عند الكثب المجنبة عن البحر الروميّ قريبا من الزّعقة.
قال: فأما الأشجار التي بالمكان المعروف الآن بالخرّوبة «1» ، ويعرف قديما بالعشّ، فهي وإن عظمت محدثة من زمن من حدّد الأقاليم، وليست في موضع ما ذكروه.
ثم لها طول وعرض، فطولها ما بين جهتي الشّمال والجنوب، وعرضها ما بين جهتي المشرق والمغرب. وقد قيل: إن طولها مسيرة شهر وعرضها مسيرة شهر.
وذكر القضاعي أن ما بين العريش إلى برقة أربعون ليلة.
المقصد العاشر في ابتداء عمارتها، وتسميتها مصر، وتفرّع الأقاليم التي حولها عنها:
أما ابتداء عمارتها
- فقد ذكر المؤرّخون أنها عمرت مرتين:
المرّة الأولى- قبل الطّوفان
؛ وأوّل من عمرها قبل الطوفان نقراووس بن مصريم بن براجيل «2» بن رزائيل بن غرباب بن آدم عليه السلام، نزلها في سبعين رجلا من بني غرباب جبابرة، فعمرها. وهو الذي هندس نيلها وحفره حتّى أجراه ووجه إلى البرية جماعة هندسوه وأصلحوه، وبنى المدن وأثار المعادن، وعمل الطلسمات «3» .(3/350)
المرّة الثانية- بعد الطّوفان
، وأوّل من عمرها بعد الطوفان مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، قدم إليها هو وأبوه بيصر في ثلاثين رجلا من قومه حين قسم نوح الأرض بين بنيه، فنزلوا بسفح المقطّم، ونقروا فيه منازل كبيرة نزلوا بها ثم ابتنوا مدينة منف وسكنوها على ما يأتي ذكره في الكلام على قواعد مصر القديمة إن شاء الله تعالى.
قال ابن لهيعة: وكان نوح عليه السلام قد دعا لمصر أن يسكنه الله تعالى الأرض الطيّبة المباركة التي هي أمن البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل له فيها أفضل البركات، ويسخّر له الأرض ولولده ويذلّلها لهم، ويقوّيهم عليها. فسأله عنها فوصفها له، وأخبره بها.
وأما تسميتها مصر
- فقيل: إن نقراووس بن مصريم أوّل ملوكها قبل الطوفان حين عمرها سماها باسم أبيه مصريم تبركا، وإن مصر بن بيصر إنما سمّي باسمه. وأكثر المؤرّخين على أنها سميت بمصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وعلى الوجهين تكون علما منقولا عن اسم رجل.
وقال الجاحظ في رسالة له في مدح مصر: إنما سميت مصر [بمصر] «1» لمصير الناس إليها.
قلت: ويجوز أن تكون سميت مصر لكونها حدّا فاصلا بين بلاد المشرق والمغرب، إذ المصر «2» في أصل لغة العرب اسم للحدّ بين الأرضين كما قاله القضاعي، ومنه قول أهل هجر «3» : اشتريت الدار بمصورها، أي بحدودها.(3/351)
قال القضاعيّ: وكيف ما ... «1» أما إن أريد بالمصر البلد العظيم فإنه ينصرف ويجمع على أمصار.
وأما تفرّع الأقاليم التي حولها عنها
- فعن ابن لهيعه أنه لما استقرّ مصر بن بيصر بهذه البلاد هو وأبوه بيصر وإخوته: فارق، وماح، وياح وكثر أولادهم، قال له إخوته: قد علمت أنك أكبرنا وأفضلنا، وأن هذه الأرض أسكنك إياها جدّك نوح، ونحن نضيّق عليك أرضك، ونحن نطلب إليك بالبركة التي جعلك فيها جدّك نوح أن تبارك لنا في أرض نلحق بها ونسكنها، وتكون لنا ولأولادنا، فقال:
نعم عليكم بأقرب البلاد إليّ، لا تباعدوا منيّ، فإن لي في بلادي هذه مسيرة شهر من أربعة وجوه أحوزها لنفسي، وتكون لي ولولدي وأولادهم. فحاز مصر لنفسه ما بين الشجرتين اللتين بالعريش إلى أسوان طولا، ومن برقة إلى أيلة عرضا. وحاز فارق لنفسه ما بين برقة إلى إفريقيّة، فكان ولده الأفارقة، وبذلك سميت «2» إفريقيّة، وذلك مسيرة شهر. وحاز ماح ما بين الشجرتين من منتهى حدّ مصر إلى الجزيرة، مسيرة شهر، وهو أبو نبط الشام. وحاز ياح ما وراء الجزيرة كلها من البحر إلى الشرق مسيرة شهر، فهو أبو نبط العراق.
وقد قال القضاعي بعد ذكر حدود مصر الأربعة: وما كان بعد هذا من(3/352)
الجانب الغربي فهو من فتوح أهل مصر وثغورهم من برقة إلى الأندلس.
قلت: وذلك أن المسلمين بعد فتح مصر توجهت طائفة «1» منهم إلى إفريقيّة ففتحتها، ثم توجهت طائفة من إفريقيّة إلى الأندلس ففتحته «2» على ما سيأتي ذكره في الكلام على مكاتبات ملوك الغرب إن شاء الله تعالى.
المقصد الحادي عشر في ذكر قواعدها القديمة، والمباني العظيمة الباقية على ممرّ الأزمان، والقواعد المستقرّة، وما فيها من الأبنية الحسنة
وقواعدها القديمة على ضربين:
الضرب الأوّل ما قبل الطوفان
والمعروف لها إذ ذاك قاعدتان:
القاعدة الأولى- مدينة «أمسوس»
وهي أوّل مدينة بنيت بالديار المصرية قبل الطوفان، بناها نقراووس بن مصريم بن براجيل بن رزائيل بن غرباب بن آدم عليه(3/353)
السلام، أوّل ملوك مصر قبل الطوفان، وموضعها خارج الإسكندرية تحت البحر الرومي كما ذكره بعض المؤرّخين، وشقّ لها نهرا يتّصل بها من النيل.
القاعدة الثانية- مدينة «برسان»
وهي مدينة بناها نقراووس المتقدّم ذكره لابنه مصرايم وأسكنه فيها، ولم أقف على مكانها.
الضرب الثاني قواعدها فيما بعد الطوفان
والمشهور منها ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى- مدينة «منف»
قال في «تقويم البلدان» : (بكسر الميم وسكون النون وفاء في الآخر) والجاري على الألسنة منف (بفتح الميم) وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة.
قال في «الأطوال» «1» : طولها ثلاث وخمسون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها ثلاثون درجة وعشرون دقيقة، وهي أوّل مدينة بنيت بمصر بعد الطوفان، بناها مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام حين نزل مصر.
قال في «الروض المعطار» : وأصلها بالسريانية مافه، ومعناها بالعربية ثلاثون؛ وذلك أن مصر حين نزلها كان في ثلاثين رجلا من أهل بيته، فسماها بعددهم.
قال ابن الأنباري في كتابه «الزاهر» «2» : وهي على اثني عشر ميلا من الفسطاط.
قلت: ومنف هذه في جنوبي الفسطاط على القرب من البلدة المعروفة(3/354)
بالبدرشين من عمل الجيزة، وهي المعروفة بمصر القديمة، وقد خربت وصارت كيمانا «1» ، وبها آثار بنيان من الحجر الكذّان «2» يوجد تحت الردم، على القرب من أحجار الأهرام في العظمة والمقدار، وبوسطها آثار برباة «3» بها صنمان عظيمان من حجر صوّان أبيض، طول كل صنم منهما نحو عشرين ذراعا، وهما مطروحان على الأرض، وقد غطّى الطين أسفلهما.
وكان على القرب منهما بيت عظيم من حجر أخضر، قطعة واحدة: جوانبه الأربعة وأرضه وسقفه، ولم يزل على ذلك إلى الدولة الناصرية حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، وأراد الأمير شيخو أتابك العساكر نقله إلى القاهرة صحيحا فعولج فانكسر فأمر بأن تنحت منه أعتاب فنحتت وجعل منها أعتاب خانقاه «4» وجامعه بصليبة الجامع الطولوني؛ وشرقي هذه المدينة معالم سور مبني بالحجر الكذّان النحيت فصوصا صغارا بالطين والجير الذي قد علمت، لونه لون الحجر.
ويقال: إنه سور الأهراء التي بناها يوسف عليه السلام لادخار الحنطة في سنبلها.
ويذكر بعض أهل البلاد أنه يوجد بعض السّنبل الذي أخبر به يوسف عليه السلام تحت تلك الأرض إلى الآن. وأنه في المقدار فوق مقدار الحنطة المتعارفة بقليل.(3/355)
وفي شماليّ هذه المدينة بلدة صغيرة تعرف بالعزيزية، يقال إنها كانت منزلة العزيز وزير الملك، وهناك مكان على القرب منها يعرف بزليخا، وفي غربيّها إلى الشّمال في سفح جبل مصر الغربيّ سجن يوسف عليه السلام، وإلى جانبه مسجد موسى عليه السلام، وعلى القرب من السّور المقدّم ذكره مسجد يعقوب عليه السلام.
ويقال: إن النيل كان تحت هذا السّور، وهناك مكان يعرف بالمقياس إلى الآن.
القاعدة الثانية- مدينة «الإسكندرية»
نسبة إلى الإسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان المقدّم ذكره.
وقد ذكر القضاعي: أنه كان بها عدة عجائب، من أعجبها المنارة «1» ، وهي منارة مبنية بالحجر والرصاص ارتفاعها في الهواء ثلاثمائة ذراع كل ذراع ثلاثة أشبار، وقيل أربعمائة ذراع، وقيل مائة وثمانون ذراعا، وقيل بالحجر «2» لغلبة الجير فيه، وعلى رأسها مرآة من أخلاط يرى فيها من حضر إليها على بعد؛ وتهتدي بها المراكب السائرة إلى الإسكندرية إذ برها منخفض لا جبال فيها، تحرق بشعاعها ما أرادوا إحراقه من المراكب الواصلة، احتال عليها النصارى في أوائل الإسلام في خلافة الوليد بن عبد الملك الأمويّ فكسروها «3» ، وتداعى هدم المنارة شيئا فشيئا إلى أوساط المائة الثامنة فاستؤصلت وبقي أثرها.(3/356)
(ومنها) الملعب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة ثم يرمون بكرة فلا تقع في حجر أحد إلا ملك مصر؛ وإن حضر فيه ألف ألف من الناس كان كل منهم ناظرا في وجه صاحبه، وإن قريء كتاب، سمعوه جميعا، أو أتي بنوع من اللعب رأوه عن آخرهم لا يتظالمون فيه بأكثر من مراتب العلية والسّفلة.
وكان من غريب هذا الملعب أن عمرو بن العاص رضي الله عنه حضر فيه في الجاهلية في يوم لعب الكرة فوقعت الكرة في حجره، وهم لا يعرفونه، فتعجب القوم منه وقالوا: ما رأينا هذه الكرة كذبت قطّ إلا هذه المرة، فاتفق أن ملكها في الإسلام. و (عمود السّواري) «1» الذي بظاهر الإسكندرية الآن أحد عمد هذا الملعب، وهو عمود عظيم يرمي الرجل القويّ السهم عن قوس قويّ فلا يبلغ رأسه.
(ومنها) عمودا الإعياء، وهما عمودان ملقيان وراء كل منهما جبل حصباؤه كصبر «2» الجمار يقبل العييّ بسبع حصيات حتّى يستلقي على أحدهما، ثم يرمي وراءه بالسبع ويقوم ولا يلتفت، ويمضي لطلبته فلا يحسّ بشيء من تعبه.
(ومنها) القبة الخضراء «3» ، وهي قبة ملبسة نحاسا كأنه ذهب إبريز لا يبليه القدم ولا تخلقه الدهور.
(ومنها) المسلّتان «4» ، وهما جبلان «5» قائمان على سرطانات نحاس في(3/357)
أركانهما كل ركن على سرطان، فلو أراد مريد أن يدخل تحتها شيئا إلى الجانب الآخر لفعل.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : وهاتان المسلّتان إحداهما في الركن الشرقي من البلد، والثانية ببعض البلد، وهما عمودان مربّعان من حجر أحمر، وعرض قواعدهما من الجهات الأربع أربعون شبرا، طول كل واحدة منهما خمس قامات، وأعلاها مستدقّ، وعرض «1» قاعدتهما من الجهات الأربع أربعون شبرا. ويقال: إن عليهما مكتوب بالسريانية: «أنا يعمر بن شدّاد، بنيت هذه المدينة وأردت أن أجعل فيها من الآثار المعجزة، والعجائب الباهرة، فأرسلت البتون بن مرة العاديّ ومقدام بن يعمر بن أبي رغال الثمودي إلى جبل بريم الأحمر، فاقتطعوا منه حجرين وحملاهما على أعناقهما، فانكسرت ضلع البتون، فوددت أن أهل مملكتي كانوا فداء له، فأقامهما القطن بن حازم «2» المؤتفكي في يوم السعادة» .
وقد قيل فيها: إنها إرم ذات العماد، ولم تزل عامرة إلى الفتح الإسلامي، فلما فتحها «3» عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«أما بعد. فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، وأربعة آلاف حمّام، وأربعون ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك» «4» . ويقال: إنه وجد فيها أربعة آلاف بقّال يبيعون البقل،(3/358)
وكان فيها من الروم يومئذ مائة ألف من أهل القوّة لحقوا بأرض الروم في المراكب وكان من بقي ستمائة ألف سوى النساء والصبيان.
قلت: وقد ذهب جلّ ذلك وزال أكثره، ولم يبق من عجائبها ظاهرا إلا عمود السّواري، وهو عمود عظيم من حجر صوّان خارج المدينة لا يكاد يكون له نظير في الدنيا، ويقال: إنه كان قبلها مدينة في مكانها تسمّى رقودة «1» بناها مصر بن بيصر بن حام بن نوح المتقدّم ذكره حين بنى مدينة منف، وعلى منوالها نسج الإسكندر مدينته.
القاعدة الثالثة- «قصر الشّمع»
الذي هو داخل مدينة الفسطاط الآن، وهو المعبر عنه في كتب الفتوح بالحصن، بناه كسرجوس الفارسي أحد نواب ملك الفرس عند استيلائهم على مصر بعد غلبة بخت نصّر الآتي ذكره في الكلام على ملوكها.
قال القضاعيّ: ولم يكمله وإنما كمله الروم، بعد ذلك «2» ... التي فتحت مصر وهي مقرّة الملوك بها. وقد قيل: إن المقوقس كان يقيم بالإسكندرية أربعة أشهر من السنة، وبمدينة منف أربعة أشهر، وبقصر الشمع أربعة أشهر.
واعلم أنه قد كان بالديار المصرية مستقرّات أخرى عظام كانت قواعد(3/359)
لبعض ملوكها في بعض الأزمان، ومدن دون ذلك يأتي الكلام على جميعها بعد ذكر الكور القديمة والأعمال المستقرّة إن شاء الله تعالى.
وأما المباني العظيمة الباقية على ممرّ الأزمان
- فاعلم أن ملوك مصر الأقدمين كان لهم من العناية بالبناء ما ليس لغيرهم، وكانوا يتفاخرون بذلك لإخباره على طول الزمن بعظمة ملكهم واقتدارهم على ما لم يبلغه غيرهم. ومن أعظم أبنيتهم (الأهرام) «1» وهي قبور اتخذوها في غاية الوثاقة حفظا لأجسامهم، وكان لهم بها العناية التامة، وابتنوا منها عدة بالجبل الغربي من النيل، بعضها مقابل الفسطاط، وبعضها ببوصير السّدر وسقّارة ودهشور من الأعمال الجيزية، وبعضها بميدوم من البهنساوية؛ وأعظمها خطرا وأجلّها قدرا الهرمان المقابلان للفسطاط «2» ، يقال إن طول عمود كل هرم منهما ثلاثمائة وسبعة عشر ذراعا «3» ، تحيط بها أربعة سطوح متساوية الأضلاع، طول كل ضلع منها أربعمائة وستون ذراعا.
قال أبو الصلت: ليس على وجه الأرض بناء باليد حجر على حجر بهذا المقدار.
ويقال: إن لها أبوابا في أزج «4» في الأرض طول كل درج مائة وخمسون ذراعا. وباب الهرم الشرقي من الجهة البحرية، وباب الهرم الغربي من الناحية الغربية. والصابئة «5» تحجّ هذين الهرمين ويقولون: إن أحدهما قبر إدريس عليه السلام، والآخر قبر ابنه صابىء الذي إليه ينتسبون.(3/360)
وقد اختلف في بانيها فأكثر المؤرخين على أن بانيها سوريد «1» بن سهلوق أحد ملوك مصر قبل الطوفان، الآتي ذكره في الكلام على ملوكها فيما بعد إن شاء الله تعالى، جعلها قبورا لأجسادهم، وكنوزا لأموالهم، حين أخبره منجّموه وكهنته بما دلهم عليه الرّصد النجوميّ من حدوث حادثة تعمّ الأرض؛ ورجحه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وقال: لو بنيت الأهرام بعد الطوفان، لكان علمها عند الناس.
وذكر ابن عفير عن أشياخه أن بانيها جيّاد بن مياد بن شمر بن شدّاد بن عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال: ولم تزل مشايخ مصر يقولون: إن الذي بناها شدّاد بن عاد، وذهب المسعودي وغيره إلى أنه بناها يوسف عليه السلام.
وقال ابن شبرمة: بنتها العمالقة حين ملكوا مصر. وبالجملة فهما من أعظم الآثار وأقدمها وأجلّ المباني وأدومها؛ ولله القائل:
انظر إلى الهرمين واسمع منهما ... ما يرويان عن الزّمان الغابر
لو ينطقان لخبّرانا بالّذي ... صنع الزمان بأوّل وبآخر(3/361)
وكيفما كان فمآلهما إلى الخراب، شأن الدنيا ومبانيها.
وقد كان المأمون، أحد خلفاء بني العباس، حين دخل إلى مصر في سنة ست عشرة ومائتين قصد هدمهما فلم يقدر، فأعمل الحيلة في فتح طاقة في أحدهما يتوصل منها إلى مزلقان «1» ، يصعد في أعلاه إلى قاعة بأعلى الهرم، بها ناووس «2» من حجر، وينزل في أسفله إلى بئر تحت الأرض لم يعلم ما فيها.
ويقال: إنه وجد في أعلاه مالا فاعتبره فإذا هو قدر المال الذي صرفه من غير زيادة ولا نقص «3» ؛ وقد أخذ الآن في قطع حجارتهما الظاهرة لاتخاذ البلاط منها، فإن طال الزمان يوشك أن يخربا كغيرهما من المباني.
ولله المتنبي حيث يقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... دهرا، ويدركها الفناء فتتبع
قال إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب «العجائب» : وقد قيل إن هوجيب أحد ملوك مصر قبل الطوفان أيضا بنى الهرم الكبير الذي بدهشور «4» ؛ والثاني بناه قفطريم، بن قفط، بن قبطيم، بن مصر، بن بيصر، بن حام، بن نوح عليه السلام بعد الطّوفان.
قال القضاعيّ: أما الهرم الذي بدير أبي هرميس «5» ، وهو الهرم المدرّج، يعني الذي شماليّ أهرام دهشور؛ فإنه قبر قرياس، وهو فارس أهل مصر، كان يعدّ(3/362)
فيهم بألف فارس، فلما مات جزع عليه ملكه وبنى له هذا الهرم فدفنه فيه.
قال: وقبر الملك نفسه الهرم الكبير من الأهرام التي غربيّ دير أبي هرميس، وعلى بابه لوح من الحجر الكذّان طوله ذراع في ذراع مكتوب بالخط البرباويّ «1» .
ومن عظيم بنيانهم أيضا ولطيف حكمهم (البرابي) «2» وهي بيوت عبادة كانت لهم، زبروا «3» فيها حكمهم، ورقموا تواريخ ملوكهم، وصوّروا فيها صور الأمم التي حولهم. فمتى قصدتهم أمة من الأمم، أوقعوا بصورهم المصوّرة من النّكال ما أرادوا، فيصيب تلك الأمة على البعد ما أوقعوه بتلك الصور، إلى غير ذلك من الحكم التي أودعوها والطّلّسمات التي وضعوها بجدرانها.
ويقال: إن أوّل من بنى البرابي بمصر دلوكة العجوز، التي ملكت مصر بعد فرعون لعنه الله!.
قال في «مسالك الأبصار» : وقد أخبرني الحكيم شمس الدين محمد بن سعد الدمشقيّ «4» أنه رآها وتأملها، فوجدها مشتملة على جميع أشكال الفلك، وأن الذي ظهر له أنه لم يعملها حكيم واحد بل تولّى عليها قوم بعد قوم حتّى تكاملت في دور، وهو ثلاثون ألف سنة، لأن مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد ولا يكمل رصد المجموع في أقل من هذه المدّة.
قلت: ويجوز أن يكون الرّصد حصل على الوجه المذكور، وزبر ورقم في الكتب، فلما بنى الثاني هذه البرابي، نقل منها ما زبر فى الكتب من ذلك الزمن المتقدّم.(3/363)
واعلم أن أكثر البرابي بالوجه القبليّ من الديار المصرية، وبالوجه البحري القليل منها، وقد استولى الخراب على جميعها، وذهبت معالمها ولم يبق إلا آثارها، والذي وقفت عليه في التواريخ، ووقفت على آثار غالبه ورسومه سبع براب:
(منها) بربا سمنّود «1» ؛ كانت بظاهر سمنّود من الأعمال الغربية بالوجه البحريّ. قال الكنديّ: رأيتها وقد خزّن فيها بعض عمّالها قرضا «2» فرأيت الجمل إذا دنا من بابها بحمله وأراد أن يدخلها، سقط كل دبيب «3» في القرظ «4» فلا يدخل منها شيء إلى البربا.
قال القضاعي: ثم خربت عند الخمسين وثلاثمائة.
(ومنها) بربا تميّ «5» بالمرتاحية من الوجه البحري على القرب من مدينة تميّ الخراب، وعامة أهل تلك الناحية يقولون بربا عاد، وهي باقية بجدرانها، وسقوفها من أعظم الحجارة العظيمة، إلى الآن باقية، وبأعلى بابها قطعة مبنية بالطوب الآجرّ والجصّ، وداخلها أحواض عظيمة من الصوّان غريبة الشأن.
(ومنها) بربا إخميم «6» ، وهي بربا بظاهر مدينة إخميم من الوجه القبليّ؛ كانت من أعظم البرابي وأحسنها صنعة وأكبرها حكمة، ولم تزل عامرة إلى أوساط(3/364)
المائة الثامنة، فأخذ في هدمها والعمارة بأحجارها خطيب إخميم، ولم يبق إلا آثارها، وبعض جدرانها قائمة إلى الآن.
(ومنها) بربا دندرة «1» من الأعمال القوصية.
قال القضاعي: وهي بربا عجيبة فيها مائة وثمانون كوّة تدخل الشمس في كل يوم في كوّة منها، ثم تكرّ راجعة إلى الموضع الذي بدأت منه، وهي الآن خراب لم يبق إلا آثارها.
(ومنها) بربا الأقصر «2» : وكانت بربا عظيمة فهدمت أيضا، ولم يبق منها إلا آثارها.
ومن بقايا الآثار بها صنم عظيم من حجر صوّان أملس، قائم على باب ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصريّ «3» على حاله إلى الآن، ومر عليه زمن الشيخ وهو على ذلك، ولعله إنما أراد ببقائه التنبيه على ضعف عقول عبدة الأصنام لكونهم يعبدون حجرا مثل هذا.
(ومنها) بربا أرمنت «4» ، وهي بربا صغيرة قد ذهبت معالمها، ولم يبق بها إلا عمد صوّان قائمة من غير شيء محمول عليها.
(ومنها) بربا إسنا «5» ، وهي متوسطة القدر بين الكبر والصغر، وقد بقي منها(3/365)
قطعة جيدة جعلت شونة «1» للغلال، وأهل إسنا يذكرون أن الفأر لا يدخلها، وإن دخلها مات.
ومن الآثار العجيبة بمصر أيضا مسلّتان بعين شمس على القرب من المطريّة من ضواحي القاهرة من حجر صوّان أحمر محدّدتا الرأسين. ذكر القضاعي: أن الشمس تطلع على الجنوبية منهما في أقصر يوم في السنة، وعلى الشّمالية في أطول يوم في السنة، وتتردّد فيما بينهما في بقية السنة. وذكر أنه كان عليهما صومعتان «2» من نحاس، إذا كان زمن زيادة النيل تقاطر الماء من أعلاهما إلى أسفلهما، فينبت حولهما العوسج، وما في معناه من الحشيش.
ومن العجائب حائط العجوز، وهو حائط من لبن، بنتها دلوكة ملكة مصر بعد فرعون، من العريش إلى أسوان، دائرة على أراضي مصر من شرقيّها وغربيّها في لحف جبليها؛ وجعلت بين كل ثلاثة أميال محرسا، وشقّت خليجا من النيل إلى جانبها، وآثارها باقية إلى الآن بالجانب الشرقي والجانب الغربي.
المقصد الثاني عشر في ذكر قواعدها المستقرّة وهي ثلاث قواعد، قد تقاربت واختلطت حتّى صارت كالقاعدة الواحدة.
القاعدة الأولى مدينة الفسطاط
(بفاء مضمومة وسين مهملة ساكنة وطاء مهملة مفتوحة بعدها ألف ثم طاء ثانية في الآخر) . ويقال فيه فسطاط بإبدال الطاء الأولى تاء وفسّاط. قال الجوهري:(3/366)
وكسر الفاء لغة فيهن؛ وهي المدينة المعروفة بين العامة بمصر واسمها القديم باب أليون «1» .
قال أبو السعادات بن الأثير «2» في نهايته: (بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الياء المثناة تحت وسكون الواو ونون في الآخر) .
قال القضاعي: وهو اسمها بلغة الرّوم والسّودان ولذلك يعرف القصر الذي بالشرق بباب أليون، وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة.
قال في «كتاب الأطوال» : وطولها ثلاث وخمسون درجة، وعرضها ثلاثون درجة وعشر دقائق.
وقال في «القانون» «3» : طولها أربع وخمسون درجة وأربعون دقيقة، وعرضها تسع وعشرون درجة وخمس وخمسون دقيقة.
وقال ابن سعيد: طولها ثلاث وخمسون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها تسع وعشرون درجة وخمس وخمسون دقيقة.
وقال في «رسم المعمور» : طولها أربع وخمسون درجة وأربعون دقيقة والذي عليه عمل أهل زماننا في وضع الآلات وغيرها طول خمس وخمسين درجة، وعرض ثلاثين.(3/367)
واختلف في سبب «1» تسميتها بالفسطاط، فقال ابن قتيبة: إن كل مدينة تسمّى فسطاطا ولذلك سميت مصر الفسطاط.
وقال الزّمخشريّ: الفسطاط اسم لضرب من الأبنية، في القدر دون السّرادق «2» والذي عليه الجمهور أنه يسمّى بذلك لمكان فسطاط عمرو بن العاص رضي الله عنه يعني خيمته، وذلك أن عمر لما فتح الحصن المعروف بقصر الشمع في سنة إحدى وعشرين من الهجرة واستولى عليه ضرب فسطاطه على القرب منه، فلما قصد التوجه إلى الإسكندرية لفتحها، أمر بنزع فسطاطه للرحيل، فإذا بحمام قد أفرخ فيه فقال: لقد تحرّم منا بحرم، وأمر بإقرار الفسطاط مكانه، وأوصى على الحمام، وسار إلى الإسكندرية ففتحها، ثم عاد إلى فسطاطه ونزل به ونزل الناس حوله، وابتنى داره الصغرى التي هي على القرب من الجامع العتيق مكان فسطاطه وأخذ الناس في الاختطاط حوله فتنافست القبائل في المواضع والاختطاط، فولّى عمرو على الخطط معاوية بن حديج التّجيبيّ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، وحيويل بن ناشرة المعافري، ففصلوا بين القبائل وأنزلوا الناس منازلهم «3» ، فاختطّوا «4» الخطط «5» وبنوا الدور والمساجد، وعرفت كل خطة بالقبيلة أو الجماعة التي اختطتها أو بصاحبها الذي اختطها.
فأما الخطط والآدر التي عرفت بالقبائل والجماعات:
(فمنها) خطّة أهل الراية، وهم جماعة من قريش، والأنصار، وخزاعة، وأسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وثقيف، ودوس، وعبس بن(3/368)
بغيض، وجرش من بني كنانة، وليث بن بكر «1» ؛ لم يكن لكل منهم من العدد ما ينفرد به بدعوة من الديوان فجعل لهم عمرو بن العاص راية لم ينسبها إلى أحد، وقال: يكون وقوفكم تحتها، فكانت لهم كالنسب الجامع، وكان ديوانهم عليها فعرفوا بأهل الراية، وانفردوا بخطّة وحدهم، وخطّتهم من أعظم الخطط وأوسعها.
(ومنها) خطّة مهرة، وهم بنو مهرة بن حيدان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة ابن مالك بن حمير، من قبائل اليمن.
(ومنها) خطّة تجيب، وهم بنو عديّ وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السّكن بن الأشرس بن كندة؛ وتجيب اسم أمهما عرفت القبيلة بها.
(ومنها) خطط لخم، وهي ثلاث: الأولى، بنو لخم «2» بن عديّ «3» بن مرّة بن أدد، ومن خالطهم من جذام «4» . والثانية، بنو عبد ربه بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة بن لخم. والثالثة، بنو راشدة بن أذبّ بن «5» جزيلة بن لخم.
(ومنها) خطط اللّفيف، وهم جماعة من القبائل تسارعوا إلى مراكب الرّوم حين بلغ عمرا قدومهم الإسكندرية عند فتحها، فقال لهم عمرو «6» ، وقد استكثرهم: إنكم لكما قال الله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً
«7» فسمّوا اللّفيف من يومئذ.(3/369)
(ومنها) خطط أهل الظاهر، وهم جماعة من القبائل قفلوا من الإسكندرية بعد قفول عمرو بن العاص، فوجدوا الناس قد أخذوا منازلهم، فتحاكموا إلى معاوية بن حديج الذي جعله عمرو على الخطط، فقال لهم: إني أرى لكم أن تظهروا على هذه القبائل فتتخذوا لكم منازل، فسميت منازلهم الظاهر «1» .
(ومنها) خطط غافق «2» ، وهم بنو غافق بن الحارث «3» بن عكّ بن عدثان بن عبد الله بن الأزد.
(ومنها) خطط الصّدف (بفتح الصاد وكسر الدال المهملتين) . وهم بنو مالك ابن سهل بن عمرو بن حمير من قبائل اليمن، وقيل بنو مالك بن مرقّع بن كندة، سمّي الصّدف لأنه صدف بوجهه عن قومه حين أتاهم سيل العرم.
(ومنها) خطط خولان، وهم بنو خولان بن عمرو بن «4» مالك بن زيد بن عريب.
(ومنها) خطط الفارسيين «5» ، وهم بقايا جند باذان، عامل كسرى ملك الفرس على اليمن.
(ومنها) خطط مذحج، وهم بنو مالك «6» بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان بن عبد الله.(3/370)
(ومنها) خطّة يحصب، وهم بنو يحصب بن «1» مالك بن أسلم بن زيد بن غوث بن حمير.
(ومنها) خطّة رعين، وهم بنو رعين بن زيد بن سهل بن يعفر بن مرّة بن أدد.
(ومنها) خطّة بني الكلاع، وهو الكلاع بن شرحبيل بن سعد بن حمير.
(ومنها) خطّة المعافر، وهم بنو المعافر بن يعفر «2» بن مرّة بن أدد.
(ومنها) خطط سبإ؛ وهم بنو مالك بن زيد بن «3» وليعة بن معبد بن سبإ.
(ومنها) خطّة بني وائل، وهو وائل بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام ابن جذام بن عديّ.
(ومنها) خطّة القبض، وهم بنو القبض بن مرثد.
(ومنها) خطط الحمراوات، وهي ثلاث «4» ، سميت بذلك لنزول الروم «5» بها، وهم حمر الألوان:
الأولى- الحمراء الدّنيا، وبها خطة بليّ، وهم بنو بليّ بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة إلا من كان منهم في أهل الراية، وخطّة ثراد من الأزد، وخطة فهم، وهم بنو فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، وخطة بني بحر بن سوادة من الأزد «6» .
الثانية- الحمراء الوسطى، وبها خطة بني نبه، وهم قوم من الروم حضروا(3/371)
الفتح؛ وخطّة هذيل، وهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وخطّة بني سلامان «1» من الأزد.
الثالثة- الحمراء القصوى، وهي خطة بني الأزرق من الرّوم وحضر الفتح منهم أربعمائة رجل، وخطّة بني يشكر بن جزيلة «2» من لخم، وإليهم ينسب جبل يشكر الذي بني عليه جامع أحمد بن طولون الآتي ذكره مع جوامع الفسطاط إن شاء الله تعالى.
(ومنها) خطط حضر موت، وهم بنو حضر موت بن عمرو بن قيس بن معاوية بن حمير إلى غير ذلك من الخطط «3» التي درست قبل الاهتمام بالتأليف في الخطط.
واعلم أنه كان في خلال هذه الخطط دور جماعة كثيرة من الصحابة رضوان الله عليهم ممن حضر الفتح.
(منها) دار عمرو بن العاص «4» ، ودار الزّبير بن العوام «5» ، ودار قيس بن سعد بن عباد الأنصاري «6» ، ودار مسلمة بن مخلّد الأنصاري «7» ، ودار عبد(3/372)
الرحمن بن عديس البلويّ «1» ، ودار وهب بن عمير بن وهب بن خلف الجمحي، ودار نافع بن عبد القيس بن لقيط الفهري، ودار سعد بن أبي وقّاص «2» ، ودار عقبة بن عامر الجهنيّ «3» ، ودار القاسم وعمرو ابني قيس بن عمرو، ودار عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ، ودار مسعود بن الأسود بن عبد شمس بن حرام البلويّ، ودار المستورد بن شداد الفهريّ، ودار حييّ بن حرام اللّيثيّ، (وفي صحبته خلاف) ، ودار الحارث بن مالك اللّيثي المعروف بابن البرصاء، ودار بشر بن أرطاة العامريّ، ودار أبي ثعلبة الخشني، ودار إياس بن البكير الليثيّ، ودار معمر بن عبد الله بن نضلة القرشيّ العدويّ، ودار أبي الدّرداء الأنصاريّ، ودار يعقوب القبطيّ «4» رسول المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية: أم ولده إبراهيم وأختها شيرين، ودار مهاجر مولى أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودار علبة بن زيد الأنصاريّ، ودار محمد بن مسلمة الأنصاريّ، ودار أبي الأسود مسروح بن سندر الخصيّ «5» ، ودار عبد الله بن عمر «6» بن الخطّاب، ودار خارجة بن حذافة بن غانم العدويّ «7» ، ودار عقبة بن الحارث «8» ، ودار عبد الله بن حذافة السهميّ «9» ، ودار محمية بن جزء الزّبيديّ، ودار المطّلب بن أبي(3/373)
وداعة السّهميّ، ودار هبيب بن معقل الغفاريّ، وبه يعرف وادي هبيب بالقرب من الإسكندرية، ودار عبد الله بن السائب المخزوميّ، ودار جبر القبطيّ رسول المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودار يزيد بن زياد الأسلميّ، ودار عبد الله بن ريّان الأسلميّ «1» ، (وفي صحبته خلاف) ، ودار أبي عميرة رشيد بن مالك المزنيّ، ودار سباع بن عرفطة الغفاريّ «2» ، ودار نضلة بن الحارث الغفاريّ، ودار الحارث بن أسد الخزاعيّ (وفي صحبته خلاف) ، ودار عبد الله بن هشام بن زهرة «3» من ولد تميم بن مرّة، ودار خارجة «4» بن حذافة بن غانم العدويّ، وهو أوّل من ابتنى غرفة بالفسطاط، فكوتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمرها فكتب إلى عمرو بن العاص: أن ادخل غرفة خارجة وانصب فيها سريرا، وأقم عليه رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير، فإن اطّلع من كواها فاهدمها، ففعل عمرو فلم يبلغ الكوى فأقرّها، ودار محمد بن حاطب الجمحي «5» ، ودار رفاعة الدّوسيّ، ودار فضالة بن عبيد الأنصاريّ، ودار المطلب «6» بن أبي وداعة السهميّ. إلى غير ذلك من الدور التي أغفلت ذكرها أصحاب الخطط «7» .
قلت: وكان أمراء مصر القائمون مقام ملوكها الآن ينزلون بالفسطاط، ولم يكن لهم في ابتداء الأمر مقرّة معيّنة، ولا دار للإمارة مخصوصة. فنزل عمرو بن(3/374)
العاص أوّل أمرائها بداره على القرب من الجامع، ولم يزل كلّ أمير بعده ينزل بالدار التي يكون بها سكنه إلى آخر الدولة الأمويّة، وكان عبد العزيز بن مروان، وهو أمير مصر في خلافة أخيه عبد الملك بن مروان قد بنى دارا عظيمة بالفسطاط سنة سبع وستين من الهجرة وسماها دار الذهب، وجعل لها قبّة مذهبة إذا طلعت عليها الشمس لا يستطيع الناظر التأمل فيها خوفا على بصره، وكانت تعرف بالمدينة لسعتها وعظمها وكان عبد العزيز ينزلها، ثم نزلها بنوه بعده، فلما هرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة إلى مصر، نزل هذه الدار فلما رهقه القوم، أمر بإحراقها، فلامه في ذلك بعض بني عبد العزيز بن مروان فقال: إن أبق، أبنها لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وإلا فما تصاب به في نفسك أعظم، ولا يتمتع بها عدوّك من بعدك.
فلما غلب بنو العبّاس على بني أميّة وهرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة إلى الديار المصرية، وتبعه عليّ بن صالح بن عليّ الهاشميّ إلى أن أدركه بمصر وقتله «1» واستقر أميرا على مصر في خلافة السّفّاح أوّل خلفاء بني العباس، ابتنى دارا للإمارة ونزلها، وصارت منزلة للأمراء بعده إلى أن ولي «2» أحمد بن طولون الديار المصرية فنزل بها في أوّل أمره، ثم اختطّ بعد ذلك قصره المعروف بالميدان فيما بين قلعة الجبل الآن والمشهد النّفيسي وما يلي ذلك في سنة ست وخمسين ومائتين، وكان له عدّة أبواب: بعضها عند المشهد النفيسيّ، وبعضها «3» عند جامعه الآتي ذكره، واختطّ الناس حوله واقتطع كل أحد قطيعة ابتنى بها، فكان يقال: قطيعة هارون بن خمارويه، وقطيعة السّودان، وقطيعة الفرّاشين، فعرف ذلك المكان بالقطائع، وتزايدت العمارة حتّى اتّصلت بالفسطاط، وصار الكلّ بلدا واحدا، ونزل أحمد بن طولون بقصره المذكور، وكذلك بنوه بعده، وأهملت(3/375)
دار الإمارة التي ابتناها عليّ بن صالح بالفسطاط، واستقرّ الأمر على ذلك بعده أيام ابنه خمارويه «1» وولديه جيش وهارون، وزادت العمارة بالقطائع في أيامهما، وكثرت الناس فيها حتّى قتل هارون بن خمارويه بعد قتل أبيه وأخيه، وسار محمد بن سليمان «2» الكاتب بالعساكر من العراق من قبل المستكفي بالله، ووصل إلى مصر في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقد ولّى الطّولونيّة عليهم ربيعة بن أحمد بن طولون، فتسلم البلد منه وخرّب القطائع وهدم القصر وقلع أساسه، وخرب موضعه حتّى لم يبق له أثر.
وكان بدر الخفيفي غلام أحمد بن طولون قد بنى دارا عظيمة بالفسطاط عند المصلّى القديمة، وقيل اشتراها له أحمد بن طولون، ثم سخط عليه أحمد فنكبه، وسكنها بعده طاهر بن خمارويه ثم سكنها بعده الحمامي غلام أحمد بن طولون.
فلما هدم محمد بن سليمان الكاتب قصر بني طولون بالقطائع، سكن هذه الدار، ثم سكنها عيسى النّوشريّ «3» أمير مصر بعده، واستقرّت منزلة للأمراء إلى أن ولي الإخشيد «4» مصر فزاد فيها وعظّمها، وعمل لها ميدانا وجعل له بابا من حديد، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ولم تزل منزلة للأمراء إلى أن غلبت الخلفاء الفاطميون الإخشيديّة على مصر وبنى القائد جوهر القاهرة والقصر فنقل باب هذه الدار إلى القاهرة، وصار القصر منزلة لهم على ما سيأتي ذكره في الكلام على خطط القاهرة إن شاء الله تعالى.(3/376)
وصار الفسطاط في كل وقت تتزايد عمارته حتّى صار في غاية العمارة ونهاية الحسن، به الآدر الأنيقة، والمساجد القائمة، والحمامات الباهية، والقياسر الزاهية، والمستنزهات الرائقة، ورحل الناس إليه من سائر الأقطار، وقصدوه من جميع الجهات، وغصّ بسكّانه، وضاق فضاؤه الرحيب عن قطّانه، حتّى حكى صاحب «إيقاظ المتغفّل» «1» عن بعض سكّان الفسطاط أنه دخل حمّاما من بناء الروم في أيام خمارويه بن طولون في سنة سبع وثلاثمائة فلم يجد فيها صانعا يخدمه، وكان فيها سبعون صانعا قلّ منهم من معه ثلاثة نفر يغسلهم، وأنه دخل بعدها حمّاما ثم حمّاما فلم يجد من يخدمه إلا في الحمّام الرابعة «2» ، وكان الذي خدمه معه ثان «3» .
وحكى في موضع آخر عمن يثق به عن أبيه أنه شاهد من مسجد الوكرة «4» بالفسطاط إلى جامع ابن طولون قصبة سوق متصلة، فعدّ ما بها من مقاعد الحمّص المصلوق «5» فكانت ثلاثمائة وتسعين مقعدا غير الحوانيت وما بها.
وحكى أيضا عمن أخبره أنه عدّ الأسطال النّحاس المؤبدة في البكر لاستقاء الماء في الطاقات المطلّة على النيل، فكانت ستة عشر ألف سطل. قال: وبلغ أجرة مقعد يكرى عند البيمارستان الطولونيّ «6» بالفسطاط في كل يوم اثني عشر درهما.(3/377)
وذكر ابن حوقل «1» أنه كان بالفسطاط في زمانه دار تعرف بدار ابن عبد العزيز بالموقف «2» يصبّ لمن فيها من السكان في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وفيها خمسة مساجد وحمّامان وفرنان.
قلت: ولم يزل الفسطاط زاهي البنيان، باهي السّكّان إلى أن كانت دولة الفاطميين بالديار المصرية، وعمرت القاهرة على ما سيأتي ذكره فتقهقر حاله وتناقص، وأخذ الناس في الانتقال عنه إلى القاهرة وما حولها، فخلا من أكثر سكّانه، وتتابع الخراب في بنيانه، إلى أن غلب «3» الفرنج على أطراف الديار المصرية في أيام العاضد، آخر خلفاء الفاطميين، ووزيره يومئذ شاور السعديّ «4» ، فخاف على الفسطاط أن يملكه الفرنج ويتحصنوا به، فأضرم في مساكنه النار فأحرقها فتزايد الخراب فيه وكثر الخلق.
ولم يزل الأمر على ذلك في تقهقر أمره إلى أن كانت دولة الظاهر بيبرس أحد ملوك التّرك بالديار المصرية، فصرف الناس همتهم إلى هدم ما خلا من أخطاطه(3/378)
والبناء بنقضه بساحل النيل بالفسطاط والقاهرة، وتزايد الهدم فيه واستمرّ إلى الآن، حتّى لم يبق من عمارته إلا ما بساحل النيل، وما جاوره إلى ما يلي الجامع العتيق وما دانى ذلك، ودثرت أكثر الخطط القديمة وعفا رسمها، واضمحلّ ما بقي منها وتغيرت معالمه.
وإذا نظرت إلى خطط الكنديّ والقضاعي والشريف النّسّابة، عرفت ما كان الفسطاط عليه من العمارة وما صار إليه الآن؛ وإنما أجرينا ذكر بعض الخطط المتقدّمة، حفظا لأسمائها وتنبيها على ما كانت عليه، إلا أن في ساحله المطلّ على النيل الآن وما جاور ذلك المباني الحسنة، والدور العظيمة، والقصور العالية، التي تبهج الناظر، وتسرّ الخاطر.
وكان أكثر بنيانه بالآجرّ المحكوك والجبس والجير من أوثق بناء وأمكنه، وآثاره الباقية تشهد له بذلك، وقد صار ما خرب منه ودثر كيمانا كالجبال العظيمة، وهجر غالبها وترك، وسكن في بعضها رعاع الناس ممن لا يعبأ به في جوانب منها لا تعدّ في العامر.
ومن كيمانه المشهورة التي ذكرها القضاعيّ: كوم الجارح، وكوم دينار «1» ، وكوم السمكة «2» ، وكوم الزينة «3» ، وكوم الترمس؛ وزاد صاحب «إيقاظ المتغفل» كوم بني وائل، وكوم ابن غراب، وكوم الشقاق، وكوم المشانيق «4» .
ويقابل الفسطاط من الجهة البحرية جزيرة الصّناعة المعروفة الآن بالرّوضة «5» ، كانت صناعة العمائر «6» أوّلا بها فنسبت إليها.(3/379)
قال الكندي: وكان بناؤها في سنة أربع وخمسين ثم غلب عليها اسم الروضة لحسنها ونضارتها وإطافة الماء بها، وما بها من البساتين والقصور، وهي جزيرة قديمة كانت موجودة في زمن الروم. وكان بها حصن عليه سور وأبراج، وبين الفسطاط وبينها جسر ممتدّ من المراكب على وجه النيل كما في جسر بغداد على الدجلة ولم يزل قائما إلى أن قدم المأمون مصر فأحدث عليه جسرا من خشب تمر عليه المارة وترجع، وبعد خروج المأمون من مصر هبّت ريح عاصفة في الليل فقطعت الجسر القديم، وصدمت بسفنه الجسر المحدث فذهبا جميعا، ثم أعيد الجسر المحدث وبطل القديم.
وقد ذكر القضاعيّ: أنه كان موجودا إلى زمنه، وكان في الدولة الفاطمية، ثم جدّد الحصن المذكور أحمد بن طولون أمير مصر في خلافة المعتمد في سنة ثلاث ومائتين، ثم استهدم بعد ذلك بتأثير النيل في أبراجه ومرور الزمان عليه، ثم بنى الصالح نجم الدين أيوب قلعة مكانه في سنة ثمان وثلاثين وستمائة «1» ، وبقيت حتّى هدمها المعز أيبك التركماني أوّل ملوك الترك. وعمر من نقضها مدرسته المعزّية برحبة الخروب، واتخذ الناس مكانها أملاكا، وهي على ذلك إلى زماننا، ولم يبق بها إلا بعض أبراج اتخذها الناس أملاكا وعمروا عليها بيوتا. فلما ملك الظاهر بيبرس، همّ بإعادتها فلم يتفق له ذلك وبقيت على حالها.
قلت: وكانت أرفة «2» النيل التي بين جزيرة الصناعة وبين الفسطاط هي أقوى الفرقتين والتي بين الجزيرة والجيزة هي الضعيفة، ثم انعكس الأمر إلى أن صار ما بين الجزيرة والفسطاط يجف ولا يعلوه الماء إلا في زيادة النيل، ويبدو بين آخر الفسطاط وهذه الجزيرة على فوّهة خليج القاهرة. [ويوجد في أوّل(3/380)
الخليج] «1» حيث السدّ الذي يفتح عند وفاء النيل مكان كالجزيرة، يعرف بمنشأة المهراني كان كوما يحرق فيه الآجرّ يعرف بالكوم الأحمر، عدّه القضاعي في جملة كيمان الفسطاط.
قال صاحب «إيقاظ المتغفل» : وأوّل من ابتدأ فيه العمارة بلبان المهراني «2» في الدولة الظاهرية بيبرس فنسبت المنشأة إليه.
ويلي الفسطاط من غربيّه بركة تعرف ببركة الحبش «3» ، وهي أرض مزدرعة، قال القضاعيّ: كانت تعرف ببركة المعافر وحمير، وكان في شرقيها جنّات تعرف بالحبش فنسبت إليها. وذكر ابن يونس «4» في تاريخه: أن تلك الجنات تعرف بقتادة بن قيس بن حبشي الصدفي، وهو ممن شهد فتح مصر.
قلت: وهي الآن موقوفة على الأشراف من ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقفها عليهم الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز والعاضد من الخلفاء الفاطميين.
ويليه من قبليّه حيث القرافة المكان المعروف بالخندق، كان قد احتفره عبد الرحمن بن عيينة خندقا في سنة خمس وستين من الهجرة عند مسير مروان بن الحكم إلى مصر، فعرف بذلك.(3/381)
وأما جوامعه فستة:
الأول الجامع العتيق المعروف بجامع عمرو «1»
وذلك أن عمرا لما بني داره الصغرى مكان فسطاطه على ما تقدّم ذكره، اختط الجامع المذكور في خطّة أهل الراية المتقدّمة الذكر.
قال القضاعيّ: وكان جنانا فيما ذكر الليث بن سعد «2» . قال: وكان الذي حاز موضعه قيسبة بن كلثوم التّجيبيّ أحد بني سوم، فنزله في حصار الحصن المعروف بقصر الشّمع، فلما رجع عمرو من الإسكندرية، سأل قيسبة فيه ليجعله مسجدا فسلمه إليه، وقال: تصدّقت به على المسلمين، واختط له خطّة مع قومه في بني سوم في تجيب «3» ؛ فبني في سنة إحدى وعشرين، وكان طوله خمسين ذراعا في عرض ثلاثين ذراعا، ويقال: إنه وقف على قبلته ثمانون رجلا من الصحابة رضوان الله عليهم: منهم الزّبير بن العوّام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصّامت، وأبو الدّرداء، وأبو ذرّ الغفاريّ، وأبو بصرة الغفاريّ وغيرهم؛ ولم يكن له يومئذ محراب مجوّف بل عمد قائمة بصدر الجدار، وكان له بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحريّه، وبابان في غربيّه، وطوله من قبليّه إلى بحريّه «4» مثل(3/382)
طول دار عمرو، وبينه وبين دار عمرو سبعة أذرع. ولما فرغ من بنائه، اتخذ عمرو بن العاص له منبرا يخطب عليه، فكتب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزم عليه في كسره، ويقول: أما يكفيك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس تحت عقبيك؟ فكسره. ويقال: إنه أعاده إليه بعد وفاة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
وقيل إن زكريا بن مرقيا «1» ملك النّوبة أهدى لعبد الله بن أبي سرح العامريّ في إمارته على مصر منبرا «2» فجعله في الجامع؛ ثم زاد فيه مسلمة بن مخلّد الأنصاري «3» في سنة ثلاث وخمسين من الهجرة، وهو يومئذ أمير مصر من قبل معاوية بن أبي سفيان زيادة من بحريّه، وزخرفه؛ وهو أول من صلّى على الموتى داخل الجامع «4» ، وتوالت فيه الزيادات والتجديدات إلى زماننا. وأول من رتب فيه قراءة المصحف عبد العزيز بن مروان «5» في إمارته في سنة ست وسبعين، ورفع عبد الله بن عبد الملك سقفه في سنة تسع وثمانين بعد أن كان مطأطأ، ثم جعل فيه المحراب المجوّف قرّة بن شريك العبسيّ اتّباعا لعمر بن عبد العزيز في(3/383)
محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأحدث فيه المقصورة تبعا لمعاوية حيث فعل ذلك بالشأم.
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمر موسى بن نصير اللخميّ وهو أمير «1» مصر باتخاذ المنابر في جميع جوامع قرى مصر. وأول من نصب اللوح الأخضر فيه عبد الله بن طاهر «2» ، وهو أمير مصر في سنة اثنتي عشرة ومائتين؛ ثم احترق الرّواق الذي فيه اللوح الأخضر في ولاية خمارويه بن أحمد بن طولون، فعمره «3» خمارويه في سنة خمس وسبعين ومائتين. ثم جدّد اللوح «الظاهر بيبرس» في سنة ست وستين وستمائة. ثم جدّد اللوح الأخضر برهان الدين المحلّي التاجر في سلطنة «الظاهر برقوق» في أواخرها «4» .
وقد وصف صاحب «إيقاظ المتغفل» الجامع على ما كان في زمانه في حدود ثلاث عشرة وسبعمائة فقال: إن ذرعه ثمانية وعشرون ألفا بذراع العمل «5» ، مقدّمه ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة ذراع وخمسون ذراعا، ومؤخّره ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة وخمسون ذراعا، وصحنه خمسة آلاف ذراع، جانبه الشرقيّ ألفا ذراع وخمسمائة ذراع وخمسون ذراعا، وجانبه الغربيّ كذلك؛ وأبوابه ثلاثة عشر بابا لكل باب منها اسم يخصّه في جانبه القبلي باب واحد «6» ، وبه أربعة وعشرون(3/384)
رواقا، سبعة في مقدمه، وسبعة في مؤخّره، وخمسة في شرقيه، وخمسة في غربيّه؛ وفيه ثلاثمائة عمود وثمانية وستون «1» عمودا، بعضها منفرد وبعضها مضاف مع غيره؛ وبصدره ثلاثة محاريب: المحراب الكبير المجاور للمنبر، والمحراب الأوسط، ومحراب الخمس؛ وفيه خمس صوامع «2» : إحداها في ركنه القبليّ مما يلي الغربي، وهي الغرفة، والثانية في ركنه القبلي مما يلي الشرقيّ، وهي المنارة الكبرى، والثالثة في ركنه البحريّ مما يلي الشرقيّ، وتعرف بالجديدة؛ والرابعة فيما بين هذه المنارة والمنارة الآتي ذكرها، وتعرف بالسعيدة؛ والخامسة في الركن البحريّ مما يلي الغربي «3» مقابل باب السطح، وتعرف بالمستجدّة.
وهو على هذه الصفة إلى الآن لكنه قد استهدم رواق اللوح الأخضر والرواقات التي داخله، فأمر السلطان الملك الظاهر ببنيانها، فعلقت جدره على الخشب، فاخترمته «4» المنية قبل الشروع في البناء، وأخذ القاضي برهان الدين المحلّي تاجر الخاص في عمارة ذلك، فهدم رواق اللوح الأخضر وما داخله، وجدّد اللوح الذي كان قد نصبه الظاهر بيبرس، وعمر الرواقات المستهدمة أنفس عمارة وأحسنها.
قلت: ومما يجب التنبيه عليه أنه قد تقدّم أنه وقف على إقامة محراب هذا الجامع ثمانون رجلا من الصحابة، وحينئذ فيلحق بمحاريب البصرة والكوفة على الوجه الصائر إليه بعض أصحابنا الشافعية في أنه لا يجتهد في التيامن والتياسر «5» في محاريبهما كما نبه عليه الشيخ تقيّ الدين السبكي «6» في شرح منهاج النوويّ في(3/385)
الفقه، لكن قد ذكر القضاعي في خططه عن الليث بن سعد وابن لهيعة أنهما كانا يتيامنان في صلاتهما فيه، وأن محرابه كان مشرقا جدّا، وأن قرّة بن شريك حين هدمه وبناه، تيامن به قليلا.
وقد حكى الشيخ تقيّ الدين السبكي في شرح المنهاج أيضا عن بعض علماء الميقات: أنه أخبره أن فيه الآن انحرافا قليلا. قال: ولعله من تغيير البناء، وقد سألت بعض علماء هذا الشأن عن ذلك، فأخبرني عن الشيخ تقيّ الدين أبي الطاهر رأس علماء الميقات في زماننا أنه كان يقول: من الدلالة على صحة عملنا في استخراج القبلة موافقته لمحراب الجامع العتيق.
الثاني الجامع الطّولوني «1»
بناه أحمد بن طولون في سنة «2» تسع وخمسين ومائتين على الجبل المعروف بجبل يشكر.
قال القضاعيّ: وينسب إلى يشكر بن جزيلة «3» من لخم، كان خطّة لهم.
قال ابن عبد الظاهر: وهو جبل مبارك معروف بإجابة الدعاء فيه.(3/386)
قال: ويقال: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام عليه. ويقال: إن ابن طولون أنفق على هذا الجامع مائة ألف دينار وعشرين ألفا من كنز وجده. ويقال:
إنه لما فرغ من بنائه أمر بتسمع ما يقوله الناس فيه من العيوب، فسمع رجل يقول:
محرابه صغير، وآخر يقول: ليس فيه عمود، وآخر يقول: ليس فيه ميضأة، فقال:
أما المحراب، فإني رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد خطه لي، فأصبحت فرأيت النّمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي. وأما العمد، فإني بنيته من مال حلال، وهو الكنز الذي وجدته فما كنت لأشوبه بغيره، والعمد لا تكون إلا من مسجد أو كنيسة فنزهته عن ذلك. وأما الميضأة، فأردت تطهيره من النجاسات، وها أنا أبنيها خلفه، ثم أمر ببنائها على القرب.
ويحكى أنه كان لا يبعث بشيء قط، وأنه أخذ يوما درج ورق أبيض وأخرجه ومده كالحلزون، ثم استيقظ لنفسه وظن أنه فطن له، فأمر بعمارة المنارة على تلك الهيئة، وعلى نظير العشاري الذي على رأسها عمل العشاري على رأس قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه. ولما فرغ من بناء الجامع رأى في منامه كأن نارا نزلت من السماء فأحرقت الجامع دون ما حوله فقصّ «1» رؤياه على عابر فقال له: بشراك قبوله، فإن الأمم الخالية كانوا إذا قرّبوا قربانا فتقبّل، نزلت نار من السماء فأكلته، كما في قصة هابيل وقابيل؛ ورأى مرة أخرى كأن الحق سبحانه وتعالى تجلّى على ما حول الجامع فعبره له عابر بأنه يخرب ما حول الجامع ويبقي هو، بدليل قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
«2» وكان الأمر كذلك، فهدمت «3» منازل بني طولون في نكبتهم ولم يبق منها إلا الجامع.(3/387)
الثالث جامع راشدة «1»
بناه الحاكم بأمر الله الفاطميّ جنوبيّ الفسطاط، على القرب من الرصد «2» ، وأدخله في وقفه مع الجامع الأزهر وجامع المقس «3» .
قال في «إيقاظ المتغفل» : ليس هو بجامع راشدة حقيقة، وإنما جامع راشدة كان بالقرب منه، وهو جامع قديم بنته قبيلة يقال لها راشدة «4» عند الفتح الإسلامي، فلما بنى الحاكم هذا سمي باسمه. قال: وقد أدركت بعضه ومحرابه، وكان فيه شجر كثير من شجر المقل «5» .
الرابع جامع الرصد
بناه الأمير عز الدين أيبك الأفرم «6» أمير جاندار «7» الصالحيّ النجميّ في(3/388)
شهور سنة ثلاث وستين وستمائة، عمر منظرته المعروفة به هناك، وعمر رباطا «1» بجانبه قرّر فيه عددا تنعقد به الجمعة مقيمين فيه ليلا ونهارا.
الخامس جامع الشعيبية «2» بظاهر مصر أيضا
بناه الأمير عز الدين الأفرم المذكور في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وسكنه الشيخ شمس الدين بن اللبان الفقيه الشافعيّ الصوفيّ فعرف به الآن.
السادس الجامع الجديد «3»
بناه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقرب من موردة الحلفاء «4» ، وبدأ بعمارته في التاسع من المحرّم في سنة إحدى عشر «5» وسبعمائة، وانتهت عمارته في ثامن صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وخطب به قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي «6» ، وصلّى فيه الجمعة في التاسع «7» من الشهر المذكور، ورتب فيه صوفية يحضرونه بعد العصر كما في الخوانق «8» ، وهو من(3/389)
أحسن الجوامع وأنزهها بقعة خصوصا في أيام زيادة النيل.
وأما مساجد الخمس
- فكانت على العدد «1» الذي لا يحصى لكثرتها، وخطط القضاعي شاهدة بذلك.
وقد رأيت في بعض التواريخ أن الفناء وقع في أيام كافور الإخشيدي حتى لم يجدوا من يقبل الزكاة، فأتوا بها إلى كافور فلم يقبلها، وقال: ابنوا بها المساجد واتخذوا لها الأوقاف، فكان ذلك سبب زيادة الكثرة فيها، ولكنها الآن قد خربت بخراب الفسطاط ودثرت ولم يبق إلا آثار القليل منها.
وأما المدارس
«2» - فكان المتقدّمون يجلسون للعلم بالجامع العتيق؛ وأول من أحدث المدارس بالفسطاط بنو أيوب، فعمر السلطان صلاح الدين رحمه الله مدرستين:
إحداهما- مدرسة المالكية
«3» ، المعروفة بالقمحية في المحرم سنة ست وستين وخمسمائة، وسميت بالقمحية لأن معلومها يصرف للمدرسين والطلبة قحما.(3/390)
قال العماد الكاتب «1» : وكانت قبل ذلك سوقا يباع فيه الغزل «2» .
والثانية- المدرسة المعروفة «3» بابن زين التجار
، وكانت سجنا يسجن فيه فبناها السلطان صلاح الدين مدرسة ووقفها «4» على الشافعية، ووقف عليها الصاغة المجاورة لها ثم عمر الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بالمكان المعروف بمنازل العز بالقرب من باب القنطرة قبلي الفسطاط مدرسة «5» ووقف عليها أوقافا من جملتها جزيرة الصّناعة المعروفة بالرّوضة.
ثم بنى السلطان الملك المعزّ أيبك التركماني أول ملوك الترك مدرسته المعزية برحبة الخرّوب في شهور سنة أربع وخمسين وستمائة.
وعمر الصاحب شرف الدين بن الفائزي مدرسته الفائزية قبل وزارته في شهور سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وعمر الصاحب بهاء الدين بن حنّا المدرسة الصاحبية بزقاق القناديل بعد «6» ذلك.
وأما الخوانق والرّبط
- فلم «7» تعهد بالفسطاط، غير أن الصاحب بهاء الدين(3/391)
ابن حنّا عمر رباط الآثار الشريفة النبوية بظاهر قبليّ الفسطاط واشترى الآثار الشريفة وهي ميل «1» من نحاس، وملقط من حديد، وقطعة من العنزة «2» ، وقطعة من القصعة بجملة مال وأثبتها بالاستفاضة وجعلها بهذا الرباط للزيارة.
وأما البيمارستان
«3» - فأول من أنشأه بالفسطاط أحمد بن طولون في سنة تسع وخمسين ومائتين «4» وأنفق عليه ستين ألف دينار.
قال القضاعيّ: ولم يكن قبله بيمارستان بمصر، وشرط ألا يعالج فيه جنديّ ولا مملوك.
القاعدة الثانية القاهرة
(بألف ولام لازمين في أولها وقاف مفتوحة بعدها ألف ثم هاء مكسورة وراء مهملة مفتوحة ثم هاء في الآخر) ويقال فيها القاهرة المعزّيّة نسبة إلى المعزّ الفاطميّ الذي بنيت له، وربما قيل المعزية القاهرة، سميت بذلك تفاؤلا، وهي المدينة العظمى التي ليس لها نظير في الآفاق، ولا يسمع بمثلها في مصر من الأمصار.
بناها القائد جوهر المعزيّ لمولاه المعزّ لدين الله أبي تميم معدّ بن المنصور أبي الطاهر إسماعيل بن القائم أبي القاسم محمد بن المهديّ بالله أبي محمد عبيد الله الفاطميّ في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، عند وصوله إلى الديار المصرية(3/392)
من المغرب، واستيلائه عليها، وموقعها شمالي الفسطاط المتقدّم ذكره على القرب منه.
قال في «الروض المعطار» : وبينهما ثلاثة أميال. وكأنه يريد ما كان عليه الحال في ابتداء عمارة القاهرة وهو ما بين سور الفسطاط وسور القاهرة.
أما الآن فقد انتشرت الأبنية واتصلت العمارة حتى كادت المدينتان تتصلان أو اتصلتا.
قال القاضي محي الدين بن عبد الله الظاهر في خطط القاهرة: والذي استقرّ عليه الحال أن حدّ القاهرة من السبع سقايات إلى مشهد السيدة رقيّة عرضا، وكان قبل ذلك من المجنونة.
قال ابن سعيد: وكان مكانها قبل العمارة بستانا لبني «1» طولون على القرب من منازلهم المعروفة بالقطائع. وكيفما كان، فطولها وعرضها في معنى طول الفسطاط وعرضه أو أكثر عرضا بقليل، وكان ابتداء عمارتها أنّ أمر إفريقيّة وغيرها من بلاد المغرب كان قد أفضى إلى المعزّ المذكور، وقوي طمعه في مصر بعد موت كافور الإخشيدي وهي يومئذ والشأم والحجاز بيد أحمد بن علي بن الإخشيد أستاذ كافور وهو صبيّ لم يبلغ الحلم، والمتكلم في المملكة أهل دولته، والحسين بن عبد الله في الشأم كالنائب أو الشريك له، يدعى له بعده على المنابر.
وكانت مصر قد ضعف عسكرها لما دهمها من الغلاء والوباء، فجهز المعزّ قائده جوهر. المتقدّم ذكره، فبرز جوهر إلى مدينة رقّادة «2» من بلاد إفريقيّة في أكثر من مائة ألف وما يزيد على ألف صندوق من المال، وخرج المعزّ لتشييعه، فقال للمشايخ الذين معه: «والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، وليدخلنها(3/393)
بالأردية من غير حرب، ولينزلن في خرابات ابن طولون، ويبني مدينة تسمّى القاهرة تقهر الدنيا» وكان للمعز غلام ببرقة اسمه أفلح، فكتب إليه المعزّ أن يترجّل لجوهر إذا عبر عليه ويقبل يديه، فبذل مائة ألف دينار على أن يعفى من ذلك، فأبى المعزّ إلا ذلك، فترجّل من مكانه وقبّل يديه، وسار جوهر حتّى دخل مصر وتسلمها لسبع عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ونزل في مناخه من سفره موضع القاهرة الآن ليلا، واختط القصر في بنائه وعمارة القاهرة، واختط الناس حوله.
فأما القصر [وكان له تسعة أبواب]
- فإنه اختطه في الليلة التي أناخ فيها قبل أن يصبح، فلما أصبح رأى فيه ازورارات غير معتدلة فلم يعجبه، ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة وساعة سعيدة، فتركه على حاله وتمادي في بنيانه حتّى أكمله.
ومكانه الآن المدرسة الصالحية بين القصرين إلى رحبة الأيدمريّ طولا، ومن السبع خوخ إلى رحبة باب العيد عرضا، والحدّ الجامع لذلك أن تجعل باب المدرسة الصالحية على يسارك وتمضي إلى السبع خوخ، ثم إلى مشهد الحسين، ثم إلى رحبة الأيدمري، ثم إلى الركن المخلّق، ثم إلى بين القصرين حتّى تأتي إلى باب المدرسة الصالحية من حيث ابتدأت؛ فما كان على يسارك في جميع دورتك فهو موضع القصر.
وكان له تسعة أبواب بعضها أصلي وبعضها مستحدث:
أحدها- باب الذهب
«1» ، ويقال إنه كان مكان المدرسة الظاهرية الآن.
الثاني- باب البحر
، ويقال إن مكانه باب قصر بشتاك «2» . قال ابن عبد الظاهر(3/394)
وهو من بناء الحاكم.
الثالث- باب الزّهومة
، ومكانه قاعة شيخ الحنابلة بالمدرسة الصالحية، وكانت الصاغة مطبخا للقصر، وكانوا يدخلون بالطعام إلى القصر من ذلك الباب فسمي باب الزهومة لذلك، والزّهومة: الذّفر.
الرابع- باب التربة
؛ ويقال إن مكانه بين باب الزّهومة المتقدّم الذكر ومشهد الحسين.
الخامس- باب الدّيلم
، وهو باب مشهد الحسين.
السادس- باب قصر الشوك
، ومكانه بالموضع المعروف بقصر الشوك على القرب من رحبة الأيدمريّ.
السابع- باب العيد
، وهو باب البيمارستان العتيق، سمي بذلك لأن الخليفة كان يخرج منه لصلاة العيد، وإليه تنسب رحبة باب العيد.
الثامن- باب الزّمرّد
، وهو إلى جانب باب العيد المتقدّم ذكره.
التاسع- باب الريح
، وقد ذكر ابن الطّويّر أنه كان في ركن القصر الذي يقابل سور دار سعيد السعداء التي هي الخانقاه الآن.
ثم استجد المأمون بن البطائحي وزير الآمر تحت القوس الذي بين باب الذهب وباب البحر ثلاث مناظر، وسمى إحداها الزاهرة، والثانية الفاخرة، والثالثة الناضرة. وكان «الآمر» يجلس فيها لعرض العساكر في عيد الغدير، والوزير واقف في قوس باب الذهب، وكان مكان السيوفيين الآن سلسلة ممتدّة إلى ما يقابلها تعلق في كل يوم من وقت الظهر حتى لا يجوز تحت القصر راكب، ولذلك يعرف هذا المكان بدرب السلسلة.
ومما هو داخل في حدود القصر «مشهد الحسين» .
وسبب بنائه أن رأس الإمام الحسين عليه السلام كانت بعسقلان، فخشي الصالح طلائع بن رزّيك عليها من الفرنج فبني جامعه خارج باب زويلة، وقصد(3/395)
نقل الرأس إليه فغلبه الفائز على ذلك، وأمر بابتناء هذا المشهد، ونقل الرأس إليه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
ومن غريب ما اتفق من بركة هذه «1» الرأس الشريفة ما حكاه القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حتى استولى على هذا القصر بعد موت العاضد، آخر خلفاء الفاطميين بمصر، قبض على خادم من خدّام القصر وحلق رأسه وشدّ عليها طاسا داخله خنافس فلم يتأثر بها، فسأله السلطان صلاح الدين عن ذلك وما السر فيه، فأخبر أنه حين أحضرت الرأس الشريفة إلى المشهد حملها على رأسه، فخلّى عنه السلطان وأحسن إليه.
وكان بجوار القصر قصر صغير يعرف بالقصر النافعيّ من جهة السبع خوخ فيه عجائز الفاطميين.
قلت: ولم يزل هذا القصر منزلة الخلفاء الفاطميين من لدن المعزّ أوّل خلفائهم بمصر وإلى آخر أيام العاضد آخر خلفائهم، وكان الوزراء ينزلون بدار الوزارة التي ابتناها أمير الجيوش بدر الجمالي داخل باب النصر مكان الخانقاه الركنية بيبرس الآن. فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة عن العاضد بعد عمه أسد الدين شير كوه، نزل بدار الوزارة المذكورة، وبقي بها حتّى مات العاضد فتحوّل إلى القصر وسكنه؛ ثم سكنه بعده أخوه العادل أبو بكر. فلما ملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر انتقل منه إلى قلعة الجبل على ما سيأتي ذكره في الكلام على القلعة إن شاء الله تعالى. وصارت دار الوزارة المتقدّمة الذكر منزلا للرسل الواردين من الممالك إلى أن عمر مكانها السلطان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير الخانقاه المعروفة به، وخلا القصر من حينئذ من ساكنيه، وأهمل أمره فخرب.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي بوّاب لباب الزّهومة اسمه(3/396)
مرهف في سنة ثلاثين وستمائة: كان لي على هذا الباب المدّة الطويلة ما رأيته دخل فيه حطب ولا رمي منه تراب. قال: وهذا أحد أسباب خرابه لوقود أخشابه وتكويم ترابه؛ ثم أخذ الناس بعد ذلك في تملكه واستحكاره، وعمرت فيه المدارس والآدر، فبنى السلطان الملك الصالح «نجم الدين أيوب» فيه مدرسته الصالحية، ثم بنى «الظاهر بيبرس» فيه مدرسته الظاهرية، وبنى فيه بشتاك أحد أمراء الدولة الناصرية محمد بن قلاوون فيه قصره المعروف به، وجعلت دار الضرب في وسطه، ولم يبق من آثاره إلا البيمارستان العتيق، فإنه كان قاعة بناها العزيز بالله بن المعزّ الفاطمي على ما سيأتي ذكره.
وكذلك القبة التي على رأس السالك من هذا البيمارستان إلى رحبة باب العيد، وبعض جدر لا يعتدّ بها قد دخلت في جملة الأملاك.
وأما (أبواب القاهرة وأسوارها) فإن القائد جوهرا حين اختطّها جعل لها أربعة أبواب: بابين متقاربين، وبابين متباعدين. فالمتقاربان (باب زويلة) نسبة إلى زويلة: قبيلة من قبائل البربر الواصلين مع جوهر من المغرب، ولذلك يقع في عبارة الموثّقين وغيرهم بابا زويلة؛ وأحد هذين البابين القوس الموجود الآن المجاور للمسجد المعروف بسام بن نوح عليه السلام. والثاني كان موضع الحوانيت التي يباع فيها الجبن على يسرة القوس المتقدّم ذكره يدخل منه إلى المحمودية. وكان سبب إبطاله وسدّه أن المعزّ الذي بنيت له القاهرة لما دخلها عند وصوله من المغرب، دخل من القوس الموجود الآن هناك فازدحم الناس فيه وتجنبوا الدخول من الباب الآخر، واشتهر بين الناس أن من دخل منه لم تقض له حاجة، فرفض وسدّ وجعل زقاق جنوبيّه يتوصل منه إلى المحمودية، وزقاق شماليّه يتوصل منه إلى الأنماطيين وما يليها.
والبابان المتباعدان هما القوس الذي داخل باب الفتوح خارج حارة بهاء الدين وقوس آخر كان على حياله داخل باب النصر بالقرب من وكالة قيسون الآن،(3/397)
فهدم ثم ابتنى أمير الجيوش بدر الجمالي المتقدّم ذكره في سنة ثمانين وأربعمائة سورا من لبن دائرا على القاهرة، وبعضه باق إلى زماننا بخط سوق الغنم داخل الباب المحروق؛ ثم ابتنى «1» الأفضل بن أمير الجيوش باب زويلة، وباب النصر، وباب الفتوح الموجودين الآن فيما ذكره القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في خططه، إلا أنه ذكر في مواضع أخر منها أن باب زويلة بناه «2» العزيز بالله وأكمله بدر الجمالي، وهو من أعظم الأبواب وأشمخها، وليس له باشورة «3» على الأبواب، وفيه يقول علي بن محمد النيلي:
يا صاح لو أبصرت باب زويلة ... لعلمت قدر محلّه بنيانا
باب تأزّر بالمجرّة وارتدى الشّعرى ... «4» ولاث برأسه كيوانا
لو أنّ فرعونا رآه لم يرد ... صرحا ولا أوصى به هامانا
قال ابن عبد الظاهر: (وباب سعادة) ربما ينسب إلى سعادة بن حيان غلام المعزّ، وكان قد ورد من عنده في جيش إلى جوهر وولي الرملة بعد ذلك.
قال: (وباب القنطرة) منسوب إلى القنطرة التي أمامه، وهي من بناء القائد جوهر بناها عند خوفه من القرامطة ليجوز عليها إلى المقس. والقوس الذي بالشارع الأعظم خارج باب زويلة على رأس المنجبية عند الطيوريين الآن كان بابا بناه الحاكم بأمر الله خارج القاهرة، وكان يعرف بالباب الجديد.(3/398)
(وباب الخوخة) الذي على القرب من قنطرة الموسكي أظنه من بناء الفاطميين أيضا. ولما ملك السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» الديار المصرية انتدب لعمارة أسوار القاهرة ومصر في سنة تسع وستين وخمسمائة الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي الرومي على كثرة من أسرى الفرنج عندهم يومئذ، بنى سورا دائرا عليها وعلى قلعة الجبل والفسطاط، ولم يزل البناء به حتّى توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله وهو الموجود الآن؛ وجعل فيها عدّة أبواب:
منها: باب البحر، وباب الشعرية، وباب البرقية، والباب المحروق؛ وابتنى برجين عظيمين أحدهما بالمقس على القرب من جامع باب البحر، وهو الذي هدمه الصاحب شمس الدين المقسيّ وزير الأشرف شعبان بن حسين على رأس السبعين والسبعمائة، وأدخله في حقوق الجامع المذكور حين جدّد بناءه؛ والثاني بباب القنطرة جنوبي الفسطاط.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: وقياس هذا السور من أوّله إلى آخره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وذراعان بالهاشميّ، من ذلك من باب البحر إلى البرج بالكوم الأحمر «1» ، يعني رأس منشأة المهراني المتقدّم ذكرها في الكلام على خطط الفسطاط عند فوّهة خليج القاهرة عشرة آلاف ذراع؛ ومن الكوم الأحمر المذكور إلى قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع؛ ومن مسجد سعد الدولة المذكور إلى باب البحر ثمانية آلاف ذراع وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ودائرة القلعة ثلاثة آلاف ذراع ومائة وعشرة أذرع.(3/399)
واقتصر السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه على ذرع السّور من غير تفصيل ولم يتعرّض للذراعين الزائدين.
قلت: وهذا السور قد دثر أكثره، وتغيرت معالم غالبه، للصوق عمائر الأملاك به حتّى إنه لا يتميز في غالب الأماكن من الأملاك، وسقط ما بين باب البحر إلى الكوم الأحمر حتّى لم يبق له أثر. على أن ما هو داخل سور القاهرة الأوّل من الأماكن أرضه سبخة وماؤه زعاق «1» .
قال ابن عبد الظاهر: ولذلك عتب المعزّ عند وصوله إلى الديار المصرية ودخوله القاهرة على جوهر لكونه لم يعمرها مكان المقس على القرب من باب البحر أو جنوبي الفسطاط على القرب من الرصد لتكون قريبة من النيل، عذبة مياه الآبار.
واعلم أن خطط القاهرة قد اتسعت وزادت العمارة حولها، وصار ما هو خارج سورها أضعاف ما هو داخله. ثم منها ما هو منسوب إلى دولة الفاطميين ومنها ما هو منسوب إلى من تقدّمهم من الملوك، إما لدروس اسمه الأوّل وغلبة اسمه الثاني عليه، وإما لاستحداثه بعد أن لم يكن؛ ومنها ما هو مجهول لانقطاع شهرته بطول الأيام ومرور الليالي. وإنما يقع التعرّض هنا للأماكن الظاهرة الشّهرة، الدائرة على الألسنة دون غيرها؛ وأنا أذكرها على ترتيب الأماكن لا على ترتيب القدم والحدوث.
أما خططها المشهورة داخل السور
: (فمنها) «حارة بهاء الدين»
داخل باب الفتوح، وتعرف بالطواشي بهاء الدين قراقوش باني سور القاهرة المتقدّم ذكره، وكانت في دولة الفاطميين تعرف(3/400)
ببين الحارتين؛ ثم اختطها قوم في الدولة الفاطمية يعرفون بالرّيحانية والعزيزية فعرفت بهم. فلما سكنها بهاء الدين قراقوش المذكور، اشتهرت به ونسي ما قبل ذلك.
(ومنها) «حارة برجوان»
وتعرف ببرجوان الخادم، كان خادم القصور في أيام العزيز بالله من المعزّ ثاني خلفاء الفاطميين بمصر، ووصّاه على ابنه الحاكم فعظم شأنه، ثم قتله الحاكم بعد ذلك. ويقال إنه خلف في تركته ألف سراويل بألف تكة حرير.
وبهذه الحارة كانت دار المظفر ابن أمير الجيوش بدر الجمالي.
(ومنها) «خط الكافوريّ»
كان بستانا لكافور الإخشيديّ، وبنيت القاهرة وهو بستان، وبقي إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة، فاختطته طائفة البحرية والعزيزية إصطبلات، وأزيلت أشجاره وبقيت نسبته إلى كافور على ما كانت عليه.
(ومنها) «خط الخرنشف»
«1» كان ميدانا للخلفاء الفاطميين، وكان لهم سرداب تحت الأرض إليه من باب القصر يمرون فيه إلى الميدان المذكور راكبين، ثم جعل مصرفا للماء لما بنيت المدرسة الصالحية، ثم بنى به الغزّ بعد الستمائة إصطبلات بالخرنشف وسكنوها فسمي بذلك.
(ومنها) «درب شمس الدولة»
على القرب من باب الزّهومة، وكان في الدولة الفاطمية يعرف بحارة الأمراء، وبها كانت دار الوزير عباس وزير الظافر، وبها المدرسة المسرورية بناها مسرور الخادم، وكان أحد خدّام القصر في الدولة الفاطمية وبقي إلى الدولة الأيوبية، واختص بالسلطان صلاح الدين وتقدّم عنده،(3/401)
ثم سكنها شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف، وعمر بها دربا فعرف به ونسب إليه.
(ومنها) «حارة زويلة»
وتنسب إلى زويلة: قبيلة من البربر الواصلين صحبة «1» القائد جوهر على ما تقدّم ذكره في الكلام على باب زويلة، وهي حارة عظيمة متشعبة.
(ومنها) «الجودرية»
وتعرف بطائفة يقال لهم الجودريّة من الدولة الفاطمية نسبة إلى جودر خادم عبيد الله المهدي أبي الخلفاء الفاطميين، اختطوها وسكنوها حين بنى جوهر القاهرة، ثم سكنها اليهود بعد ذلك إلى أن بلغ الحاكم الفاطميّ أنهم يهزأون بالمسلمين ويقعون في حق الإسلام، فسدّ عليهم أبوابهم وأحرقهم ليلا، وسكنوا بعد ذلك حارة زويلة المتقدّمة الذكر.
(ومنها) «الوزيرية»
وتعرف بالوزير أبي الفرج يعقوب بن كلّس وزير المعز بالله الفاطمي، وكان يهوديّ الأصل يخدم في الدولة الإخشيدية، ثم هرب إلى المعزّ الفاطميّ بالمغرب لمال لزمه، فلقي عسكر المعز مع جوهر فرجع معه، وعظمت مكانته عند المعزّ حتّى استوزره، وكانت داره مكان مدرسة الصاحب صفيّ الدين بن شكر، وزير العادل أبي بكر بن أيوب، المعروفة بالصاحبية بسويقة الصاحب، وكانت قبل ذلك تعرف بدار الديباج.
(ومنها) «المحموديّة»
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: ولعلها منسوبة إلى الطائفة المعروفة بالمحمودية القادمة في أيام العزيز بالله الفاطميّ إلى مصر.
(ومنها) «حارة الروم»
داخل بابي زويلة، اختطها الرّوم الواصلون صحبة جوهر القائد حين بنائه القاهرة فعرفت بهم ونسبت إليهم إلى الآن.
(ومنها) «الباطلية»
قال ابن عبد الظاهر: تعرف بقوم أتوا المعزّ باني(3/402)
القاهرة وقد قسم العطاء في الناس فلم يعطهم شيئا، فقالوا: نحن على باطل؟
فسميت الباطلية.
(ومنها) «حارة الدّيلم»
وتعرف بالديلم الواصلين صحبة أفتكين المعزّي غلام المعز بن بويه الديلميّ، وكان قد تغلب على الشام أيام المعزّ الفاطميّ وقاتل القائد جوهرا واستنصر بالقرامطة، وخرج إليهم العزيز بالله فأسره في الرملة وقدم به إلى القاهرة فأجزل له العطاء، وأنزله هو وأصحابه بهذه الخطّة.
وبها كانت دار الصالح طلائع بن رزّيك باني الجامع الصالحيّ خارج باب زويلة، وكان يسكنها قبل الوزارة؛ وخوخته بها معروفة إلى الآن بخوخة الصالح.
(ومنها) «حارة كتامة»
على القرب من الجامع الأزهر بجوار الباطلية، وتعرف بقبيلة كتامة من البربر الواصلين صحبة جوهر من الغرب.
(ومنها) «إصطبل الطارمة»
بظاهر مشهد الحسين، كان إصطبلا للقصر، وبهذا الخط كانت دار الفطرة «1» التي يعمل فيها فطرة العيد، بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر، وكانت الفطرة قبل ذلك تعمل أبواب القصر، وسيأتي الكلام على الفطرة مستوفى في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(ومنها) «حارة الصالحية»
قبليّ مشهد الحسين، كانت طائفة من غلمان الصالح طلائع بن رزّيك قد سكنوها فعرفت بهم ونسبت إليهم.
(ومنها) «البرقية»
قال ابن عبد الظاهر: اختطها قوم من أهل برقة قدموا صحبة جوهر فعرفت بهم. ورأيت بخطّ بعض الفضلاء بحاشية خطط ابن عبد الظاهر أن الصالح طلائع بن رزّيك لما قتل عباسا وزير الظافر وتقلد الوزارة عن(3/403)
الآمر، أقام جماعة من الأمراء يقال لهم البرقية عونا له وأسكنهم هذه الخطّة فنسبت إليهم.
(ومنها) «قصر الشوك»
على القرب من رحبة الأيدمري، قال ابن عبد الظاهر: كان قبل عمارة القاهرة منزلة لبني عذرة تعرف بقصر الشوك.
(ومنها) [ «خزانة البنود»
«1» ] وكانت خزانة السلاح في الدولة الفاطمية، ثم جعلت سجنا في الأيام المستنصرية، ثم احتكرت بعد ذلك وجعلت آدرا.
(ومنها) «رحبة باب العيد»
تنسب إلى باب العيد: أحد أبواب القصر المسمى بباب العيد المقدّم ذكره.
(ومنها) «درب ملوخيّة»
ينسب لملوخيّة صاحب ركاب الحاكم، وبه مدرسة القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وبه كانت داره.
(ومنها) «العطوف»
وأصل اسمها العطوفية: نسبة إلى عطوف خادم الحاكم.
(ومنها) «الجوّانية»
قال ابن عبد الظاهر: وهي صفة لمحذوف، وأصلها حارة الرّوم الجوّانية، وذلك أن الرّوم الواصلين صحبة جوهر اختطوا حارة الروم المتقدّمة الذكر وهذه الحارة، وكان الناس يقولون: حارة الروم الجوّانية فثقل ذلك عليهم، فأطلقوا على هذه الجوّانية وقصروا اسم حارة الروم على تلك.(3/404)
قال: والورّاقون إلى هذا الوقت يقولون حارة الروم السفلى، وحارة الروم العليا المعروفة بالجوّانية، ثم قال: ويقال إنها منسوبة إلى الأشراف الجوّانيين الذين منهم الشريف الجوّاني النّسّابة.
وأما خططها المشهورة خارج السور:
(فمنها) «الحسينيّة»
كانت في الأيام الفاطمية ثماني حارات خارج باب الفتوح أوّلها: الحارة المعروفة بحارة بهاء الدين المتقدّم ذكرها، وهي حارة حامد، والمنشأة الكبرى، والحارة الكبيرة، والمنشأة الصغيرة، وحارة عبيد الشراء، والحارة الوسطى، وسوق الكبير بمصر، والوزيرية، وكان يسكنها الطائفة المعروفة بالوزيرية والريحانية من الأرمن والعجمان وعبيد الشراء.
قال ابن عبد الظاهر: وكان بها من الأرمن قريب من سبعة آلاف نفس، ثم سكنها جماعة من الأشراف الحسينيين قدموا في أيام الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من الحجاز إلى مصر، فنزلوا بهذه الأمكنة واستوطنوها فسميت «1» بهم، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وبنوا بها الأبنية العظيمة والآدر الضخمة.
قال ابن عبد الظاهر: هي أعظم حارات الأجناد.
قلت: وذلك بحسب ما كان الحال عليه في زمانه، ولكنها قد خربت في زماننا هذا، وانتقل الأجناد إلى الأماكن القريبة من القلعة بصليبة الجامع الطولوني ونحوها.
وبنى بهاء الدين قراقوش خانا للسبيل تنزله المارّة وأبناء السبيل فعرف خطه به.(3/405)
(ومنها) «الخندق»
خارج الحسينية بالخندق؛ كان عنده خندق احتفره العزيز بالله الفاطمي، وكان المعزّ قد أسكن المغاربة هناك في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة حين تبسطوا في القرافة والقاهرة وأخرجوا الناس من منازلهم، وأمر مناديا ينادي لهم كل ليلة: من بات منهم في المدينة استحقّ العقوبة.
(ومنها) «أرض الطّبّالة»
«1» منسوبة لامرأة مغنية اسمها نشب «2» ، وقيل طرب، كانت مغنية للمستنصر الفاطميّ واسمه معدّ.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: ولما ورد الخبر عليه بأنه خطب له ببغداد في نوبة «3» البساسيري قريب السنة غنته نشب هذه:
يا بني العبّاس صدّوا ... قد ولي الأمر معدّ
ملككم كان معارا ... والعواري تستردّ
فوهبها هذه الأرض في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فحكرت وبنيت آدرا فعرفت بها. قال: وكانت من ملح القاهرة وبهجتها؛ وفيها يقول ابن سعيد المغربي مجانسا بين القرط الذي ترعاه الدوابّ والقرط الذي يكون في الأذن:(3/406)
سقى الله أرضا كلّما زرت روضها ... كساها وحلّاها بزينته القرط
تجلّت عروسا والمياه عقودها ... وفي كلّ قطر من جوانبها قرط
(ومنها) «خط باب القنطرة»
قال ابن عبد الظاهر: ذكر لي علم الدين بن ممّاتي أنه في كتب الأملاك القديمة يسمّى بالمرتاحية.
(ومنها) «المقس»
«1» قال القضاعي في «خططه» : كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين وكان العاشر الذي يأخذ المكس يقعد بها لاستخراج المال، فقيل المكس بالكاف ثم أبدلت الكاف في الألسنة قافا.
قال ابن عبد الظاهر: ومن الناس من يقول فيه المقسم لأن قسمة الغنائم في الفتوح كانت فيه. قال: ولم أر ذلك مسطورا، وكانت الدكة من نواحيه بستانا إذا ركب الخليفة من الخليج يوم الكسر أتى إليه في البر الغربي من الخليج في مركبة ويدخله بمفرده فيسقي منه فرسه، ثم يخرج إلى قصره على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية، إن شاء الله تعالى.
قال ابن عبد الظاهر: والدكة الآن آدر وحارات شهرتها تغني عن وصفها فسبحان من لا يتغير.
قلت: وقد خرب أكثر تلك الآدر والحارات حتّى لم يبق منها إلا الرسوم، وبعضها باق يسكنه آحاد الناس.
(ومنها) «ميدان القمح»
كان قديما بستانا سلطانيّا يسمّى بالمقسيّ يدخل الماء إليه من الخليج المعروف بالخليج الذكر الذي بناه كافور الإخشيدي، ثم أمر الظاهر الفاطميّ بنقل أنشابه «2» وحفره وجعله بركة قدّام اللؤلؤة، وأبقى الخليج(3/407)
المذكور مسلطا على البركة ليستنقع الماء فيها. فلما ضعف أمر الخلافة الفاطمية، وهجرت رسومها القديمة في التفرج في اللؤلؤة وغيرها، بنت السّودان المعروفون بالطائفة الفرحية الساكنون بالمقس عند ضيقه عليهم قبالة اللؤلؤة حارة سميت حارة اللّصوص بسبب تعدّيهم فيها مع غيرهم، ثم تنقلت بها الحال حتّى صار على ما هو عليه الآن.
(ومنها) «بر ابن التبان»
غربيّ خليج القاهرة، وينسب إلى ابن التبان رئيس حرّاقة «1» الخلافة الفاطمية، وكان الآمر الفاطميّ قد أمر بالعمارة قبالة الخرق غربيّ الخليج، فأوّل من عمر به ابن التّبّان المذكور، أنشأ به مسجدا وبستانا ودارا فعرفت الخطّة به إلى الآن.
(ومنها) «خط اللوق»
وهو خط قديم متسع ينتهي إلى الميدان المعدّ لركوب السلطان عند وفاء النيل، قد عمر بالأبنية وسكنه رعاع الناس وأوباشهم والمكان المعروف الآن بباب اللّوق جزء منه.
(ومنها) «بركة الفيل»
«2» وهي بركة عظيمة متّسعة جنوبيّ سور القاهرة عليها الأبنية العظيمة المستديرة بها.
قال ابن عبد الظاهر: وتنسب إلى رجل من أصحاب ابن طولون يعرف بالفيل؛ وما أحسن قول ابن سعيد المغربيّ:
أنظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر(3/408)
كأنّما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر
(ومنها) «خط الجامع الطولوني»
من الصليبة وما والاها، وقد تقدّم في الكلام على خطط الفسطاط أن هذه الأرض كانت منازل لأحمد بن طولون وعسكره، والجبل الذي في جانبها البحريّ يعرف بجبل يشكر، وعليه بناء الجامع الطولوني المذكور، واستحدث الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله عليه قصورا جاءت في نهاية الحسن والإتقان، وهي المعروفة بالكبش، ولم يزل يسكنها أكابر الأمراء إلى أن خرّبها العوامّ في وقعة الجلبان قبل السبعين والسبعمائة، وهي على ذلك إلى الآن، وقد شرع الناس الآن في استحكار أماكنها للعمارة فيها في حدود سنة ثمانمائة.
(ومنها) «خط حارة المصامدة»
وتنسب لطائفة المصامدة من البربر الذين قدموا مع المعزّ من المغرب، وكان المقدّم عليهم عبد الله المصموديّ، وكان المأمون بن البطائحيّ وزير الآمر قد قدّمه ونوّه بذكره، وسلم إليه أبوابه للمبيت عليها، وأضاف إليه جماعة من أصحابه.
(ومنها) «الهلالية»
قال ابن عبد الظاهر: أظنها الحارة التي بناها المأمون بن البطائحيّ خارج الباب الجديد الذي بناه الحاكم بالشارع على يسرة الخارج منه للمصامدة لما قدّمهم ونوّه بذكرهم، وحذر أن يبني بينها وبين بركة الفيل حتّى صارت هذه الحارة مشرفة على شاطيء بركة الفيل إلى بعض أيام الحافظ.
(ومنها) «المنتجبية»
قال ابن عبد الظاهر: بلغني أنها منسوبة لشخص في الدولة الفاطمية يعرف بمنتجب الدولة.
(ومنها) «اليانسيّة»
قال ابن عبد الظاهر: أظنها منسوبة ليانس وزير الحافظ، وكان يلقب بأمير الجيوش سيف الإسلام، ويعرف بيانس الفاصد لأنه فصد حسن ابن الحافظ، وتركه محلول الفصادة حتّى مات.(3/409)
قال: وكان في الدولة من اسمه يانس العزيزي، واليانسيّة: جماعة كانوا في زمن العزيز بالله، ومنهم يانس الصقلّي، ونسبة هذه الحارة محتملة لأن تكون لكل منهم، وقد ذكر ابن عبد الظاهر عدة حارات كانت للجند خارج باب زويلة غير ما لعله ذكره سردا، منها ما هو مشهور معروف، وهو حارة حلب، والحبانية، ومنها ما ليس كذلك وهو الشوبك، والمأمونية، والحارة الكبيرة، والمنصورة الصغيرة، وحارة أبي بكر.
وأما جوامعها
- فأقدمها
[الجامع الأول] «الجامع الأزهر»
«1» بناه القائد جوهر بعد دخول مولاه المعزّ إلى القاهرة وإقامته بها، وفرغ من بنائه وجمّعت فيه الجمعة في شهر رمضان لسبع خلون من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ثم جدّد العزيز بن المعزّ فيه أشياء وعمر به أماكن وهو أوّل جامع عمر بالقاهرة.
قال صاحب «نهاية الأرب» : وجدّده العزيز بن المعزّ، ولما عمر الحاكم جامعه نقل الخطبة إليه وبقي الجامع الأزهر شاغرا، ثم أعيدت إليه الخطبة وصلي فيه الجمعة في ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة في سلطنة الظاهر بيبرس، وتزايد أمره حتّى صار أرفع الجوامع بالقاهرة قدرا.(3/410)
قال ابن عبد الظاهر: وسمعت جماعة يقولون إن به طلسما لا يسكنه عصفور «1» .
الجامع الثاني الجامع الحاكمي
بناه الحاكم الفاطميّ على القرب من باب الفتوح وباب النصر، وفرغ من بنائه في سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وكان حين بنائه خارج القاهرة إذ كان بناؤه قبل بناء باب الفتوح وباب النصر الموجودين الآن، وكان هو خارج القوسين اللذين هما باب الفتوح وباب النصر الأوّلان.
ثم قال: وفي سيرة العزيز أنه اختط أساسه في العاشر من رمضان سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وفي سيرة الحاكم أنه ابتدأه بعض الوزراء وأتمه الحاكم؛ وعلى البدنة «2» المجاورة لباب الفتوح أنها بنيت في زمن المستنصر في أيام أمير الجيوش سنة ثمانين وأربعمائة، ثم استولى عليها من ملكها والزيادة التي إلى جانبه بناها الظاهر بن الحاكم ولم يكملها، ثم ثبت في الدولة الصالحية نجم الدين أيوب أنها من الجامع وأن بها محرابا، فانتزعت ممن هي معه وأضيفت للجامع، وبني بها ما هو موجود الآن في الأيام المعزية أيبك التّركمانيّ ولم تسقف.
الجامع الثالث الجامع الأقمر «3»
بناه الآمر الفاطميّ بوساطة وزيره المأمون بن البطائحي؛ وكمل بناؤه في(3/411)
سنة تسع عشرة وخمسمائة؛ ويذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه.
قلت: ولم يكن به خطبة إلى أن جدّد الأمير يلبغا السالمي، أحد أمراء الظاهر برقوق عمارته في سنة إحدى وثمانمائة ورتّب فيه خطبة.
الجامع الرابع الجامع بالمقس بباب البحر
، وهو المعروف بالجامع الأنور بناه الحاكم الفاطميّ أيضا في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.
الجامع الخامس الجامع الظافريّ، وهو المعروف الآن بجامع الفكّاهين «1»
بناه الظفر الفاطميّ داخل بابي زويلة في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان زريبة للكباش، وسبب بنائه جامعا أن خادما كان في مشترف «2» على الزريبة فرأي ذبّاحا وقد أخذ رأسين من الغنم فذبح أحدهما ورمى سكّينه وذهب لقضاء حاجة له، فأتى رأس الغنم الآخر فأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة، وجاء الذّبّاح فلم يجد السكّين، فاستصرخ الخادم وخلصه منه، فرفعت القصة إلى أهل القصر فأمروا بعمارته.
الجامع السادس الجامع الصالحي
بناه الصالح طلائع بن رزّيك وزير الفائز والعاضد من الفاطميين خارج باب زويلة، بقصد نقل رأس الحسين عليه السلام من عسقلان إليه، عند خوف هجوم الفرنج عليها، فلما فرغ منه لم يمكّنه الفائز من ذلك، وابتنى له المشهد المعروف بمشهد الحسين بجوار القصر، ونقله إليه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة؛ وبنى(3/412)
به صهريجا وجعل له ساقية تنقل الماء إليه من الخليج أيام النيل على القرب من باب الخرق. ولم يكن به خطبة، وأوّل ما أقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزّيّة أيبك التّركمانيّ في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وخطب به أصيل الدين أبو بكر الإسعرديّ؛ ثم كثرت عمارة الجوامع بالقاهرة في الدولة التركية خصوصا في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون وما بعدها، فعمر بها من الجوامع ما لا يكاد يحصى كثرة: كجامع المارديني، وجامع قوصون خارج باب زويلة وغيرهما من الجوامع، وأقميت الجمعة في كثير من المدارس والمساجد الصّغار المتفرّقة في الأخطاط لكثرة الناس وضيق الجوامع عنهم.
وأما مدارسها
- فكانت في الدولة الفاطمية وما قبلها قليلة الوجود بل تكاد أن تكون معدومة، غير أنه كان بجوار القصر دار تعرف «بدار العلم» «1» خلف خان مسرور، كان داعي الشيعة «2» يجلس فيها، ويجتمع إليه من التلامذة من يتكلم في العلوم المتعلقة بمذهبهم، وجعل الحاكم لها جزءا من أوقافه التي وقفها على الجامع الأزهر وجامع المقس وجامع راشدة؛ ثم أبطل الأفضل بن أمير الجيوش هذه الدار لاجتماع الناس فيها والخوض في المذاهب خوفا من الاجتماع على(3/413)
المذهب النّزاريّ؛ ثم أعادها لآمر بواسطة خدام القصر بشرط أن يكون متولّيها رجلا ديّنا والداعي هو الناظر فيها، ويقام فيها متصدّرون برسم قراءة القرآن.
وقد ذكر المسبحيّ «1» في تاريخه: أن الوزير أبا الفرج يعقوب بن كلّس «2» سأل العزيز بالله في حمله رزق جماعة من العلماء، وأطلق لكل منهم كفايته من الرزق، وبنى لهم دارا بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حلقوا بالجامع بعد الصلاة وتكلموا في الفقه، وأبو يعقوب قاضي الخندق رئيس الحلقة والملقي عليهم إلى وقت العصر، وكانوا سبعة وثلاثين نفرا.
ثم جاءت الدولة الأيوبية فكانت الفاتحة لباب الخير، والغارسة لشجرة الفضل، فابتنى الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر «3» (دار الحديث الكاملية) «4» بين القصرين في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقرّر بها مذاهب الأئمة الأربعة وخطبة، وبقي إلى جانبها خراب حتّى بني آدرا في الأيام المعزّيّة(3/414)
أيبك التّركمانيّ في سني خمسين وستمائة، ووقف على المدرسة المذكورة، وبنى من بنى من أكابر دولتهم مدارس لم تبلغ شأو هذه، وشتّان بين الملوك وغيرهم.
ثم جاءت الدولة التركية فأربت على ذلك وزادت عليه، فابتنى الظاهر بيبرس (المدرسة الظاهرية) «1» بين القصرين بجوار المدرسة الصالحية، ثم ابتنى المنصور قلاوون (المدرسة المنصورية) «2» من داخل بيمارستانه الآتي ذكره وجعل قبالتها تربة سنية.
ثم ابتنى الناصر محمد بن قلاوون (المدرسة الناصرية) بجوار البيمارستان المذكور.
ثم ابتنى الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون (مدرسته العظمى) «3» تحت القلعة، وهي التي لم يسبق إلى مثلها، ولا سمع في مصر من الأمصار بنظيرها، ويقال إن إيوانها يزيد في القدر على إيوان كسرى بأذرع.(3/415)
ثم ابتنى ابن أخيه الأشرف شعبان بن حسين (المدرسة الأشرفية) «1» بالصّوّة تحت القلعة ومات ولم يكملها، ثم هدمها الناصر فرج بن الظاهر برقوق لتسلطها على القلعة في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ونقل أحجارها إلى عمارة القاعات التي أنشأها بالحوش بقلعة الجبل؛ ولم تعهد مدرسة قصدت بالهدم قبلها.
ثم ابتنى الظاهر برقوق (مدرسته الظاهرية) بين القصرين بجوار المدرسة الكاملية فجاءت في نهاية الحسن والعظمة، وجعل فيها خطبة، وقرر فيها صوفية على عادة الخوانق ودروسا للأئمة، وتغالى «2» في ضخامة البناء؛ ونظم الشعراء فيها، فكان مما أتى به بعضهم من أبيات:
وبعض خدّامه طوعا لخدمته ... يدعو الصّخور فتأتيه على عجل
وتواردوا كلهم على هذا المعنى، فاقترح عليّ بعض الأكابر نظم شيء من هذا المعنى فنظمت أبياتا جاء منها:
وبالخليليّ قد راجت عماراتها ... في سرعة بنيت من غير ما مهل
كم أظهرت عجبا أسواط حكمته ... وكم غدت مثلا ناهيك من مثل
وكم صخور تخال الجنّ تنقلها ... فإنّها بالوحا «3» تأتي وبالعجل
وفي خلال ذلك ابتنى أكابر الأمراء وغيرهم من المدارس ما ملأ الأخطاط وشحنها.(3/416)
وأما الخوانق والرّبط
- فمما لم يعهد بالديار المصرية قبل الدولة الأيوبية، وكان المبتكر لها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فابتنى (الخانقاه الصلاحية) المعروفة بسعيد السعداء، وسعيد السعداء لقب لخادم للمستنصر الفاطميّ اسمه قنبر كانت الدار له، ثم صارت آخر الأيام سكن الصالح طلائع بن رزّيك، ولما ولي الوزارة فتح من دار الوزارة إليها سردابا تحت الأرض، وسكنها شاور السعدي وزير العاضد ثم ولده الكامل. فلما ملك السلطان صلاح الدين جعلها خانقاه، ووقف عليها قيساريّة الشّرب داخل القاهرة، وبستان الحبّانية بزقاق البركة.
وأما مساجد الصلوات الخمس
- فأكثر من أن تحصى وأعزّ من أن تستقصى، بكل خط منها مسجد أو مساجد لكل منها إمام راتب ومصلّون.
وأما البيمارستان
- فقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: بلغني أن البيمارستان كان أوّلا بالقشّاشين، يعني المكان المعروف الآن بالخرّاطين على القرب من الجامع الأزهر، وهناك كانت دار الضرب بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر قبالة البيمارستان المذكور، وقرر دور الضرب بالإسكندرية وقوص وصور وعسقلان؛ ثم لما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الديار المصرية واستولى على القصر، كان في القصر قاعة بناها العزيز بن المعزّ في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، فجعلها السلطان صلاح الدين بيمارستانا، وهو البيمارستان العتيق الذي داخل القصر، وهو باق على هيئته إلى الآن، ويقال إن فيها طلسما لا يدخلها نمل، وإن ذلك هو السبب الموجب لجعلها بيمارستانا.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: ولقد سألت المباشرين(3/417)
بالبيمارستان المذكور عن ذلك في سنة سبع وخمسين و [ستما] «1» ئة فقالوا صحيح.
ثم ابتنى السلطان الملك «المنصور قلاوون» رحمه الله دار ستّ الملك أخت الحاكم، المعروفة «بالدار القطبية» بيمارستانا في سنة ثلاث وثمانين وستمائة بمباشرة الأمير علم الدين الشجاعيّ، وجعل من داخله المدرسة المنصورية والتربة المتقدّم ذكرهما، فبقّى معالم بعض الدار على ما هو عليه، وغيّر بعضها. وهو من المعروف العظيم الذي ليس له نظير في الدنيا، ونظره رتبة سنية يتولاه الوزراء ومن في معناهم.
قال في «مسالك الأبصار» : وهو الجليل المقدار، الجليل الآثار، الجميل الإيثار، العظيم بنائه، وكثرة أوقافه، وسعة إنفاقه، وتنوع الأطباء والكحّالين والجرائحية فيه «2» .
قلت: ولم تزل القاهرة في كل وقت تتزايد عمارتها، وتتجدّد معالمها، خصوصا بعد خراب الفسطاط، وانتقال أهله إليها على ما تقدّم ذكره حتّى صارت على ما هي عليه في زماننا: من القصور العليّة، والدور الضخمة، والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدّة، والمناظر النزهة، والجوامع البهجة، والمدارس(3/418)
الرائقة، والخوانق الفاخرة، مما لم يسمع بمثله في قطر من الأقطار، ولا عهد نظيره في مصر من الأمصار. وغالب مبانيها بالآجرّ؛ وجوامعها ومدارسها وبيوت رؤسائها مبنية بالحجر المنحوت، مفروشة الأرض بالرخام، مؤزّرة الحيطان به، وغالب أعاليها من أخشاب النخل والقصب المحكم الصنعة؛ وكلها أو أكثرها مبيّضة الجدر بالكلس الناصع البياض، ولأهلها القوّة العظيمة في تعلية بعض المساكن على بعض حتّى إن الدار تكون من طبقتين إلى أربع طبقات «1» بعضها على بعض، في كل طبقة مساكن كاملة بمنافعها ومرافقها، وأسطحة مقطعة بأعلاها بهندسة محكمة، وصناعة عجيبة.
قال في «مسالك الأبصار» : لا يرى مثل صنّاع مصر في هذا الباب، وبظاهرها البساتين الحسان، والمناظر النّزهة، والآدر المطلّة على النيل، والخلجان الممتدّة منه ومن مدّه؛ وبها المستنزهات المستطابة، خصوصا زمن الربيع لغدرانها الممتدّة من مقطعات النيل وما حولها من الزروع المختلفة وأزهارها المائسة التي تسرّ الناظر وتبهج الخاطر.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : وأجمع المسافرون برّا وبحرا أنه لم يكن أحسن منها منظرا، ولا أكثر ناسا، وإليها يجلب ما في سائر أقاليم الأرض من كل شيء غريب وزيّ عجيب؛ وملكها ملك عظيم، كثير الجيوش،(3/419)
حسن الزّيّ لا يماثله في زيّه ملك من ملوك الأرض؛ وأهلها في رفاهية عيش وطيب مأكل ومشرب؛ ونساؤه في غاية الجمال والظّرف.
قال في «مسالك الأبصار» : أخبرني غير واحد ممن رأى المدن الكبار أنه لم ير مدينة اجتمع فيها من الخلق ما اجتمع في القاهرة.
قال: وسألت الصدر مجد الدين إسماعيل عن بغداد وتوريز «1» هل يجمعان خلقا مثل مصر؟ فقال: في مصر خلق قدر من في جميع البلاد.
قال في «التعريف» : (والقاهرة اليوم أمّ الممالك، وحاضرة البلاد، وهي في وقتنا دار الخلافة، وكرسيّ الملك، ومنبع الحكماء، ومحطّ الرحال، ويتبعها كل شرق وغرب خلا الهند فإنه نائي المكان، بعيد المدى، يقع لنا من أخباره ما نكبره، ونسمع من حديثه ما لا نألفه.
قال: وكان يخلق لنا أن نجعل كل النطق بالقاهرة دائرة، وإنما نفردها بما اشتملت عليه حدود الديار المصرية، ثم ندير بأمّ كل مملكة نطاقها، ثم إليها مرجع الكل وإلى بحرها مصب تلك الخلج) .
قال في «مسالك الأبصار» : إلا أن أرضها سبخة، ولذلك يعجل الفساد إلى مبانيها.
وذكر القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر نحو ذلك وأن المعزّ لام القائد جوهرا على بنائها في هذا الموضع، وترك جانب النيل عند المقس أو جنوبيّ الفسطاط حيث الرصد الآن.(3/420)
القاعدة الثالثة القلعة
(بفتح القاف) ويعبر عنها بقلعة الجبل، وهي مقرّة السلطان الآن ودار مملكته.
بناها الطواشي بهاء الدين قراقوش المتقدّم ذكره للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، وموقعها بين ظاهر القاهرة والجبل المقطّم والفسطاط، وما يليه من القرافة المتصلة بعمارة القاهرة والقرافة «1» وطولها وعرضها على ما تقدم في الفسطاط أيضا، وهي على نشز «2» مرتفع من تقاطيع الجبل المقطّم، ترتفع في موضع وتنخفض في آخر.
وكان موضعها قبل أن تبنى، مساجد من بناء الفاطميين «3» : منها مسجد رديني الذي هو بين آدر الحريم السلطانية.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: عرض عليّ الملك الكامل إمامته، فامتنعت لكونه بين آدر الحريم. ولم يسكنها «4» السلطان صلاح الدين رحمه الله، ويقال: إن ابنه الملك العزيز سكنها مدّة في حياة أبيه، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة.(3/421)
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: كنا نطلع إليها قبل أن تسكن في ليالي الجمع نبيت متفرّجين كما نبيت في جواسق «1» الجبل والقرافة.
وأول من سكنها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب انتقل إليها من قصر الفاطميين سنة أربع وستمائة، واستقرّت بعده سكنا للسلاطين إلى الآن.
ومن غريب ما يحكى أن السلطان صلاح الدين رحمه الله طلع إليها ومعه أخوه العادل أبو بكر، فقال السلطان لأخيه العادل: هذه القلعة بنيت لأولادك، فثقل ذلك على العادل وعرف السلطان صلاح الدين ذلك منه، فقال: لم تفهم عني إنما أردت أني أنا نجيب فلا يكون لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فتكون أولادك نجباء فسرّي عنه، وكان الأمر كما قال السلطان صلاح الدين، وبقيت خالية حتّى ملك العادل مصر والشام، فاستناب ولده الملك الكامل محمدا في الديار المصرية فسكنها.
وذكر في «مسالك الأبصار» أن أول من سكنها العادل أبو بكر، ولما سكنها الكامل المذكور، احتفل بأمرها واهتم بعمارتها وعمر بها أبراجا، منها البرج الأحمر وغيره.
وفي أواخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة عمر بها السلطان الملك المنصور قلاوون برجا عظيما على جانب باب السر الكبير، وبنى عليه مشترفات حسنة البنيان، بهجة الرخام، رائقة الزّخرفة. وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
ثم عمر بها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاثة أماكن، كملت بها معانيها، واستحق بها القلعة على بانيها:(3/422)
أحدها- القصر الأبلق «1» الذي يجلس به السلطان في عامة أيامه، ويدخل عليه فيه أمراؤه وخواصّه، وقد استجدّ به السلطان الملك الأشرف «شعبان بن حسين» رحمه الله في جانبه مقعدا بإزاء الإسطبلات السلطانية جاء في نهاية من الحسن والبهجة.
والثاني- الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان في أيام المواكب للخدمة العامة وإقامة العدل في الرعية.
والثالث- جامع الخطبة الذي يصلي فيه السلطان الجمعة، وستأتي صفة هذه الأماكن كلها.
وهذه القلعة ذات سور وأبراج، فسيحة الأفنية، كثيرة العمائرة، ولها ثلاثة أبواب يدخل منها إليها:
أحدها- من جهة القرافة والجبل المقطّم، وهو أقل أبوابها سالكا وأعزّها استطراقا.
والثاني- باب السر. ويختص الدخول والخروج منه بأكابر الأمراء وخواصّ الدولة: كالوزير وكاتب السر ونحوهما، يتوصل إليه من الصوّة «2» ، وهي بقية النّشر الذي بنيت عليه القلعة من جهة القاهرة، بتعريج يمشي فيه مع جانب جدارها البحري حتّى ينتهي إليه بحيث يكون مدخله منه مقابل الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان أيام المواكب، وهذا الباب لا يزال مغلقا حتى ينتهي إليه من يستحق الدخول أو الخروج منه فيفتح له ثم يغلق.
والثالث- وهو بابها الأعظم الذي يدخل منه باقي الأمراء وسائر الناس، يتوصل إليه من أعلى الصوّة المتقدّم ذكرها، يرقى إليه في درج متناسبة حتّى يكون(3/423)
مدخله في أول الجانب الشرقيّ من القلعة؛ ويتوصل منه إلى ساحة مستطيلة ينتهي منها إلى دركاه «1» جليلة يجلس بها الأمراء حتّى يؤذن لهم بالدخول؛ وفي قبليّ هذه الدركاه (دار النيابة) «2» وهي التي يجلس بها النائب الكافل «3» للحكم إذا كان ثمّ نائب، و (قاعة الصاحب) «4» وهي التي يجلس بها الوزير وكتّاب الدولة، و (ديوان الإنشاء) وهو الذي يجلس فيه كاتب السر وكتّاب ديوانه، وكذلك (ديوان الجيش) وسائر الدواوين السلطانية.
وبصدر هذه الدّركاه باب يقال له «باب القلّة» يدخل منه إلى دهاليز فسيحة، على يسرة الداخل منها باب يتوصل منه إلى جامع الخطبة المتقدّم «5» ذكره؛ وهو من أعظم الجوامع، وأحسنها وأبهجها نظرا، وأكثرها زخرفة، متسع الأرجاء، مرتفع البناء، مفروش الأرض بالرخام الفائق، مبطّن السّقوف بالذهب؛ في وسطه قبة يليها مقصورة يصلّي فيها السلطان الجمعة، مستورة هي والرواقات المشتملة عليها بشبابيك من حديد محكمة الصنعة، يحفّ بصحنه رواقات من جميع جهاته ويتوصل من ظاهر هذا الجامع إلى باب الستارة، ودور الحريم السلطانية.(3/424)
وبصدر الدهاليز المتقدّمة الذكر مصطبة يجلس عليها مقدّم المماليك «1» ، وعندها مدخل باب السر المتقدّم ذكره، وفي مجنبة ذلك ممرّ يدخل منه إلى ساحة يواجه الداخل إليها باب الإيوان الكبير المتقدّم ذكره، وهو إيوان عظيم عديم النظير، مرتفع الابنية، واسع الأفنية، عظيم العمد، عليه شبابيك من حديد عظيمة الشأن محكمة الصنعة؛ وبصدره سرير الملك، وهو منبر من رخام مرتفع، يجلس عليه السلطان في أيام المواكب العظام لقدوم رسل الملوك ونحو ذلك.
ويتامن عن هذا الإيوان إلى ساحة لطيفة بها باب القصر الأبلق المتقدّم ذكره، وبنواحيها مصاطب يجلس عليها خواصّ الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة؛ ويدخل من باب القصر إلى دهاليز عظيمة الشأن، نبيهة القدر، يتوصّل منها إلى القصر المذكور، وهو قصر عظيم البناء، شاهق في الهواء، به إيوانان في جهتي الشّمال والجنوب، أعظمهما الشّماليّ، يطلّ منهما على الإصطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر منهما إلى سوق الخيل والقاهرة والفسطاط وحواضرها، إلى مجرى النيل، وما يلي ذلك من بلاد الجيزة والجبل وما والى ذلك؛ وبصدره منبر من رخام كالذي في الإيوان الكبير يجلس عليه السلطان أحيانا في وقت الخدمة على ما يأتي ذكره.
والإيوان الثاني وهو القبليّ خاص بخروج السلطان وخواصّه منه، من باب السر إلى الإيوان الكبير خارج القصر للجلوس فيه أيام المواكب العامّة، ويدخل من القصر المتقدّم ذكره إلى ثلاثة قصور جوّانية: واحد منها مسامت لأرض القصر الكبير، واثنان مرفوعان، يصعد إليهما بدرج؛ في جميعها شبابيك من حديد تشرف على ما يشرف عليه القصر، ويدخل من القصور الجوّانية إلى دور الحريم وأبواب الستور السلطانية؛ وهذه القصور جميعها ظاهرها بالحجر الأسود(3/425)
والأصفر، وداخلها مؤزّر بالرخام والفصّ المذهب المشجر بالصّدف وأنواع الملونات، والسقوف المبطّنة بالذهب واللّازورد تخرق لضوء «1» في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع أرضها مفروشة بالرخام المنقول من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله.
قال في «مسالك الأبصار» : فأما الآدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبره أنها ذوات بساتين وأشجار ومناخات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور الدّواجن.
وخارج هذه القصور طباق واسعة للماليك السلطانية، ودور عظام لخواص الأمراء من مقدّمي الألوف، ومن عظم قدره من امراء الطّبلخاناه والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاصكية إلى حكم البرانيين.
وبها بيوت ومساكن لكثير من الناس، وسوق للمآكل؛ ويباع بها النّفيس من السلاح والقماش مع الدّلالين يطوفون به.
وبهذه القلعة مع ارتفاع أرضها وكونها مبنية على جبل بئر ماء «2» معين منقوبة في الحجر، احتفرها بهاء الدين قراقوش المتقدّم ذكره حين بناء القلعة، وهي من أعجب الآبار، بأسفلها سواق تدور فيها الأبقار، وتنقل الماء في وسطها، وبوسطها سواق تدور فيها الأبقار أيضا وتنقل الماء إلى أعلاها؛ ولها طريق إلى(3/426)
الماء ينزل البقر فيه إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك نحت في الحجر ليس فيه بناء.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: وسمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت، جاء ماؤها عذبا فأراد قراقوش أو نوّابه الزيادة في مائها فوسع نقرا في الجبل، فخرجت منه عين مالحة غيرت عذوبتها. ويقال: إن أرضها تسامت أرض بركة الفيل؛ وهذه البئر ينتفع بها أهل القلعة فيما عدا الشرب من سائر أنواع الاستعمالات. أما شربهم فمن الماء العذب المنقول إليها من النيل بالرّوايا «1» على ظهور الجمال والبغال مع ما ينساق إلى السلطان ودور أكابر الأمراء المجاورين للسلطان من ماء النيل في المجاري، بالسواقي النّقّالات والدواليب التي تديرها الأبقار وتنقل الماء من مقرّ إلى آخر حتّى ينتهي إلى القلعة، ويدخل إلى القصور والآدر في ارتفاع نحو خمسمائة ذراع.
وقد استجدّ السلطان الملك الظاهر برقوق بهذه القلعة صهريجا عظيما يملأ في كل سنة زمن النيل من الماء المنقول إلى القلعة من السواقي النّقّالات، ورتب عليه سبيلا بالدّركاه التي بها دار النيابة يسقى فيه الماء وحصل به للناس رفق عظيم.
وتحت مشترف هذه القلعة مما يلي القصور السلطانية ميدان عظيم يحول بين الإصطبلات السلطانية وسوق الخيل، ممرّج بالنجيل الأخضر، فسيح المدى، يسافر النظر في أرجائه، به أنواع من الوحوش المستحسنة المنظر، وتربط به الخواصّ من الخيول السلطانية للتفسح؛ وفيه يصلي السلطان العيدين على ما سيأتي ذكره؛ وفيه تعرض الخيول السلطانية في أوقات الإطلاقات ووصول التقادم والمشترى، وربما أطعم فيه الجوارح السلطانية؛ وإذا أراد السلطان النزول إليه خرج من باب إيوان القصر وركب من درج تليه إلى إصطبل الخيول الخاص، ثم(3/427)
نزل إليه راكبا وخواصّ الأمراء في خدمته مشاة، ثم يعود إلى القصر كذلك.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في «خططه» : وكان هذا الميدان وما حوله يعرف قديما بالميدان، وبه قصر أحمد بن طولون وداره التي يسكنها، والأماكن المعروفة بالقطائع حوله على ما تقدّم ذكره في خطط الفسطاط، ولم يزل كذلك حتّى بنى الملك الكامل بن العادل بن أيوب هذا الميدان تحت القلعة حين سكنها، وأجرى السواقي النّقالات من النيل إليه، وعمر إلى جانبه ثلاث برك تملأ لسقيه؛ ثم تعطل في أيامه مدّة، ثم اهتم به الملك العادل ولده، ثم اهتم به الصالح نجم الدين أيوب اهتماما عظيما، وجدّد له ساقية أخرى، وغرس في جوانبه أشجارا فصار في نهاية الحسن. فلما توفّي الصالح تلاشى حاله إلى أن هدم في سنة خمسين وستمائة، أو سنة إحدى وخمسين في الأيام المعزّيّة أيبك التركماني، وهدمت السواقي والقناطر وعفت آثارها، وبقي كذلك حتّى عمره «1» السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله، فأحسن عمارته ورصّفه أبدع ترصيف، وهو على ذلك إلى الآن.
أما الميدان السلطانيّ الذي بخطّ اللوق، وهو الذي يركب إليه السلطان عند وفاء النيل للعب الكرة، فبناه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل به المناظر الحسنة ونصب الطّوارق على بابه كما تنصب على باب القلاع وغيرها، ولم تزل الطوارق منصوبة عليه إلى ما بعد السبعمائة؛ وسيأتي الكلام على كيفية الركوب إليه في المواكب في الكلام على ترتيب المملكة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والقلعة التي بالرّوضة تقدم الكلام عليها [في الكلام] «2» على خطط الفسطاط.(3/428)
ومما يتصل بهذه القواعد الثلاث ويلتحق بها «القرافة» التي هي مدفن أمواتها، وهي تربة عظيمة ممتدّة في سفح المقطّم، موقعها بين المقطم والفسطاط وبعض القاهرة، تمتدّ من قلعة الجبل المتقدّم ذكرها آخذة في جهة الجنوب إلى بركة الحبش وما حولها. وكان سبب جعلها مقبرة ما رواه ابن الحكم عن الليث بن سعد: أن المقوقس سأل عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فتعجب عمرو من ذلك، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: أن سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: «إنّي لا أرى غرس الجنة إلا للمؤمنين فاقبر بها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعها بشيء» فقال المقوقس لعمر: ما على ذا عاهدتنا، فقطع لهم قطعة تدفن فيها النصارى، وهي التي على القرب من بركة الحبش، وكان أول من قبر بسفح المقطم من المسلمين رجلا من المعافر اسمه عامر، فقيل عمرت.
ويروى أن عيسى عليه السلام مرّ على سفح المقطم في سياحة ومعه أمّه، فقال: «يا أمّاه! هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم» . وفيها ضرائح الأنبياء عليهم السلام كإخوة يوسف وغيرهم. وبها قبر آسية امرأة فرعون، ومشاهد جماعة من أهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزّهّاد والأولياء.
وقد بنى الناس بها الأبنية الرائقة، والمناظر البهجة، والقصور البديعة، يسرح الناظر في أرجائها، ويبتهج الخاطر برؤيتها؛ وبها الجوامع والمساجد والزوايا والرّبط والخوانق، وهي في الحقيقة مدينة عظيمة إلا أنها قليلة الساكن «1» .(3/429)
الفصل الثاني من المقالة الثانية في ذكر كور الديار المصرية؛ وهي على ضربين
الضرب الأول في ذكر كورها القديمة
وقد جعلها القضاعيّ في «خططه» ثلاثة أحياز، وتشتمل على خمس وخمسين كورة، إلا أنه ذكرها سردا غير مبنيّة ولا مرتّبة، وقد أوردتها هنا مبيّنة مرتبة، ونبهت على ما هو مستمرّ منها على حكمه، وما تغيّر حكمه بإضافته إلى غيره من الأعمال المستمرة مع بقاء أسمائه، وما درس اسمه ونسي، أو تغير ولم تعلم له حقيقة.
الحيّز الأول أعلى الأرض، وهو الصعيد
والمراد ما هو من كورها جنوبيّ الفسطاط إلى نهايته في الجنوب، وسمي صعيدا لأن أرضه كلّما ولجت في الجنوب، أخذت في الصّعود والارتفاع.
وقد ذكر القضاعيّ فيه عشرين كورة:
الأولى- (كورة الفيوم)
وهي كورة باقية مستمرة الحكم إلى الآن، وسيأتي ذكرها في الكلام على الأعمال المستقرة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الثانية- (كورة منف)
«1» ومنف هي مدينة مصر القديمة المتقدّمة الذكر،(3/430)
التي بناها مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وقد تقدّم أنها على اثني عشر ميلا من الفسطاط في جنوبيّه على القرب من البلدة المعروفة الآن بالبدرشين.
الثالثة- (كورة وسيم)
ووسيم بفتح الواو وكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة تحت وميم في الآخر، بلدة من عمل الجيزة معروفة؛ والثابت في الدواوين أو سيم بزيادة ألف في أولها وسكون الواو «1» .
الرابعة- (كورة الشرقية)
وكأن المراد بها عمل إطفيح الآن إذ هو شرقيّ النيل وليس بالوجه القبليّ عمل مستقلّ شرقيّ النيل سواه.
الخامسة- (كورة دلاص وبوصير)
أما دلاص فبدال مهملة مفتوحة ولام ألف ثم صاد مهملة؛ قال في «الروض المعطار» : كانت مدينة عظيمة بها عجائب الأبنية وبها كان مجتمع سحرة مصر. وأما بوصير فالمراد هنا بوصير قوريدس التي قتل بها مروان الحمار، آخر خلفاء بني أميّة، ودلاص وبوصير هذه كلاهما الآن من عمل البهنسى، وسيأتي ذكره في الأعمال المستقرّة.
قال في «الروض المعطار» : قال الجاحظ: بها ولد عيسى بن مريم عليه السلام. وذكر أن نخلة مريم كانت قائمة بها إلى زمانه.
قلت: والمعروف أن مولد عيسى عليه السلام كان بالقدس من أرض الشام على ما سيأتي ذكره في الكلام على الإيمان في أواخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
السادسة- (كورة أهناس)
وأهناس بفتح الهمزة، وسكون الهاء وفتح النون وألف وسين مهملة في الآخر، وتعرف بأهناس المدينة، كانت مدينة في القديم، وهي الآن من جملة عمل البهنسى الآتي ذكره في الأعمال المستقرّة.(3/431)
السابعة- (كورة القيس)
والقيس بفتح القاف وسكون الياء المثناة تحت وسين مهملة في الآخر، كانت مدينة في القديم، وهي الآن قرية معدودة من عمل البهنسى أيضا.
الثامنة- (كورة البهنسى)
وهي ذات عمل مستقرّ، وسيأتي ذكرها في الكلام على الأعمال المستقرّة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
التاسعة- (كورة طحا وجير «1» شنودة)
. أما طحا فبفتح الطاء والحاء المهملتين وألف في الآخر، كانت في القديم مدينة ذات عمل، ولذلك تعرف بطحا المدينة، وهي الآن من عمل الأشمونين الآتي ذكرها في الكلام على الأعمال المستقرّة، وإليها ينسب أبو جعفر الطّحاويّ إمام الحنيفة ومحدّثهم.
وأما جير «2» شنودة، فمن الأسماء التي درست ولم تعلم حقيقتها.
العاشرة- (كورة بويط)
قال ابن خلكان: بويط بضم الباء الموحدة وفتح الواو وسكون الياء المثناة تحت وطاء مهملة في الآخر. وقال في «تقويم البلدان» بهمزة مفتوحة في أوّله وباء ساكنة، وهو اسم واقع على بلدتين بالديار المصرية:
إحداهما بعمل البهنسى في لحف الجبل على طريق المارّة، وإليها ينسب أبو يعقوب البويطي: أحد رواة الجديد عن الإمام الشافعيّ رضي الله عنه. والثانية من عمل سيوط وتعرف ببويط البتينة، وإليها ينسب شرق بويط والظاهر أنها المرادة هنا.
الحادية عشرة- (كورة الأشمونين وأنصنا وشطب)
. أما مدينة الأشمونين، فذات عمل مستقرّ، وسيأتي ذكرها في الكلام على الأعمال المستقرّة فيما بعد أن شاء الله تعالى.(3/432)
وأما (أنصنا) فقال في «تقويم البلدان» : هي بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الصاد المهملة وفتح النون وألف في الآخر، وهي مدينة قديمة خراب في البر الشرقي من النيل قبالة الأشمونين.
وقد ذكر ابن هشام في السيرة: أن ماريّة القبطية التي أهداها المقوقس النبيّ صلى الله عليه وسلم من كورتها من قرية يقال لها حفن، وأنصنا الآن من جملة عمل الأشمونين.
وأما (شطب) فبضم الشين المعجمة وسكون الطاء المهملة، وباء موحدة في الآخر، وهي مدينة قديمة بنيت في زمن شدّاد بن عديم أحد ملوك مصر بعد الطوفان قد خربت وعمر عليها قرية صغيرة سميت باسمها، وهي الآن من جملة عمل سيوط الآتي ذكره في الأعمال المستقرّة.
الثانية عشرة- (كورة سيوط)
وهي مستقرّ الحكم وسيأتي ذكرها في الأعمال المستقرّة.
الرابعة عشرة- (كورة قهقوه)
وهي من الأسماء التي درست ونسيت ولم أعلم بالصعيد بلدة تسمى الآن بهذا الاسم «1» .
الخامسة عشرة- (كورة إخميم والدّير وأبشاية)
أما كورة إخميم، فمن الكور المستمرّة الحكم، وسيأتي الكلام عليها في الكور المستقرّة.
وأما (الدير) فيجوز أن يكون المراد به الدّير والبلّاص «2» ، وهي بلدة في شرقيّ النيل شماليّ قنا، هي الآن من عمل قوص الآتية الذكر.(3/433)
وأما (أبشاية) فمن الأسماء التي جهلت.
السادسة عشرة- (كورة هو ودندرة وقنا)
أما هو، فبضم الهاء وسكون الواو، وهي مدينة صغيرة على ساحل البر الغربيّ الجنوبيّ من النيل، ويضاف إليها في الدواوين الكوم الأحمر، فيقال هو والكوم الأحمر.
وأما (دندرة) فبفتح الدال المهملة وسكون النون وفتح الدال الثانية والراء المهملة وهاء في الآخر، وهي مدينة قديمة خراب على الساحل الغربيّ الجنوبي من النيل في شرقيّ هو، وبها كانت «1» البرباة العظيمة المتقدّم ذكرها في عجائب الديار المصرية.
وأما (قنا) فبكسر القاف وفتح النون وألف في الآخر، وهي مدينة شرقيّ النيل، وبها ضريح السيد الجليل عبد الرحيم القنائي «2» ، المعروف بالبركة وإجابة الدعاء عنده وهذه البلاد الثلاث الآن من جملة عمل قوص الآتي ذكره في الكلام على الأعمال المستقرّة.
السابعة عشرة- (كورة قفط والأقصر)
. أما قفط، فبكسر القاف وسكون الفاء وطاء مهملة في الآخر، كانت مدينة قديمة بالبر الشرقي من النيل جنوبي قنا المتقدّمة الذكر، بناها قفط بن قبطيم بن «3» مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام أحد ملوك مصر بعد الطوفان، فخربت وبقيت آثارها وعمرت على القرب منها مدينة صغيرة سميت باسمها.(3/434)
وأما (الأقصر) فبضم الهمزة وسكون القاف وضم الصاد المهملة وراء مهملة في الآخر، وتسمّى الأقصرين أيضا على التثنية، وهي مدينة خراب بالبر الشرقي من النيل، قد عمر على القرب منها قرية سميت باسمها، وبها ضريح السيد الجليل أبو الحجّاج الأقصري «1» ، وكانت بها بربارة عظيمة فخربت «2» ، واعلم أن بين قفط والأقصر مدينة قوص، وقد ذكر القضاعيّ كورتها في جملة الكور، فكيف يستقيم أن تذكر قفط والأقصر كورة واحدة!
الثامنة عشرة- (كورة قوص)
وهي مستمرّة الحكم، وسيأتي الكلام عليها في جملة الأعمال المستقرّة إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة- (كورة أسنا وأرمنت)
أما أسنا، فبفتح «3» الهمزة وسكون السين المهملة وفتح النون وألف في الآخر، وهي مدينة حسنة بالبر الغربيّ من النّيل، ويقال: إنه لم يسلم من تخريب بخت نصّر من مد «4» الديار المصرية سواها، وذلك أن أهلها هربوا منه إلى الجبل بالقرب منها فتبعهم وقتلهم هناك وترك البلد على حالها.
وأما (أرمنت) فبفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وفتح الميم وسكون النون وتاء مثناة فوق في الآخر، وهي مدينة صغيرة بالبرّ الغربيّ الشّماليّ من النيل بينها وبين أسنا مرحلة، وكلاهما الآن من عمل قوص، وقد جرى على الألسنة(3/435)
الجمع بينهما في اللفظ فيقال: أسنا وأرمنت، وكان ذلك لكثرة اجتماعهما في إقطاع واحد.
العشرون- (كورة أسوان)
وسيأتي ذكرها في الكلام على الأعمال المستقرّة مع الأعمال القوصية إن شاء الله تعالى.
الحيّز الثاني أسفل الأرض
وقد ذكر القضاعيّ: أنها ثلاث وثلاثون كورة في أربع نواح:
الناحية الأولى كور الحوف الشرقيّ، وبها ثمان كور
الأولى- (كورة عين شمس)
وعين شمس مدينة قديمة خراب على القرب من المطريّة من ضواحي القاهرة الآتي ذكرها في الأعمال المستقرّة.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: رأيت على حاشية بعض كتب التواريخ أن ملكها كان عظيم الشأن، وعاش إلى زمن يوسف عليه السلام وتزوّج ابنته.
الثانية- (كورة أتريب)
وأتريب مدينة خراب على القرب من بنها العسل من أعمال الشرقية الآتي ذكرها في الأعمال المستقرّة، بناها أتريب بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
الثالثة- (كورة نتا «1» وتميّ)
أمانتا، فلا يعرف بالحوف الآن بلدة اسمها نتا، وإنما نتا بعمل الغربية، وسيأتي ذكرها مع بوصير هناك.
وأمّا (تميّ) فبضم التاء المثناة فوق وفتح الميم وياء مثناة تحت في آخرها،(3/436)
وهي مدينة خراب بعمل المرتاحيّة، بها آثار عظام رأيت فيها أبوابا من حجر صوّان قطعة واحدة، ارتفاعها نحو عشرة أذرع قائمة على قاعدة من صوّان أيضا.
الرابعة- (كورة بسطة)
وبسطة بفتح الباء الموحدة وسكون السين وفتح الطاء المهملتين وهاء في الآخر، وهي مدينة خراب تعرف الآن بتلّ بسطة من عمل الشرقية.
الخامسة- (كورة طرابية)
«1» وهي من الأسماء التي درست ولم تعرف.
السادسة- (كورة فربيط)
«2» وهي من المجهول أيضا.
السابعة- (كورة صان وإبليل)
«3» وهي من المجهول.
الثامنة- (كورة الفرما والعريش)
. أما الفرما، فقال في «تقويم البلدان» : هي بفاء وراء مهملة وميم مفتوحات ثم ألف، وهي بلدة خراب على شاطيء بحر الروم، على بعد يوم من قطية. قال ابن حوقل: وبها قبر جالينوس الحكيم.
وأما (العريش) فبفتح العين المهملة وكسر الراء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وشين معجمة في الآخر قال في «الروض المعطار» : كانت مدينة ذات جامعين مفترقي البناء، وثمار وفواكه.
قال في «تقويم البلدان» : وهي الآن منزلة على شطّ بحر الرّوم، وبها آثار قديمة من الرّخام وغيره.(3/437)
قال في «الروض المعطار» : وكان بينها وبين قبرس «1» طريق مسلوكة في البر.
الناحية الثانية بطن الريف
وأصل الرّيف في لغة العرب موضع الزّرع والشجر، إلا أنه غلب بالديار المصرية على أسفل الأرض منها؛ وفيها سبع كور:
الأولى- (كورة بنا وبوصير)
أمّا بنا، فبفتح الباء الموحدة والنون وألف في الآخر. وبوصير تقدّم ضبطها في الكلام على بوصير المعروفة بمصر يوسف بالجيزيّة عند ذكر قواعد مصر القديمة، وبنا وبوصير هذه كلاهما من عمل الغربية الاتي ذكره في الأعمال المستقرّة.
الثانية- (كورة سمنّود)
وسمنود بفتح السين المهملة وضم النون المشدّدة والواو ودال مهملة في الآخر وهي مدينة صغيرة من الأعمال الغربية، كان لها عمل مستقرّ في أوّل الأمر ثم أضيفت إلى عمل الغربية.
الثالثة- (كورة نوسا)
ونوسا بفتح النون والواو والسين المهملة «2» في الآخر، وهي الآن قرية من قرى المرتاحية.
الرابعة- (كورة الأوسيّة)
وهي من الأسماء التي درست وجهلت.
الخامسة- (كورة البجوم)
بالباء الموحدة والجيم، وهي من الأسماء المندرسة أيضا، ولا يعرف مكان بالديار المصرية اسمه البجوم إلا أرض بأسفل(3/438)
عمل البحيرة على القرب من الإسكندرية صارت مستنقعا للمياه المنصرفة عن البحيرة.
السادسة- (كورة دقهلة)
ودقهلة بفتح الدال المهملة والقاف وسكون الهاء وفتح اللام وهاء في الآخر، وهي مدينة قديمة بالجزيرة بين فرقة النيل المارّة إلى دمياط والفرقة التي تصب ببحيرة تنّيس، وإليها ينسب عمل الدقهلية، وهي الآن قرية من عمل أشموم الآتي ذكرها في الأعمال المستقرّة، وإن كان العمل في الأصل منسوبا إليها.
السابعة- (كورة تنّيس ودمياط)
أمّا تنيس، فقال في اللّباب: هي بكسر المثناة فوق والنون المشدّدة وسكون الياء المثناة تحت وسين مهملة في الآخر، والجاري على الألسنة فتح التاء؛ كانت مدينة عظيمة فطمى عليها الماء قبل الفتح الإسلامي بمائة سنة، فأغرق ما حولها وصارت بحيرة وسيأتي الكلام عليها في الكلام على بحيرتها، وهي الآن قرية صغيرة بوسط البحيرة والماء محيط بها.
قال في «الروض المعطار» : وكانت تربتها من أطيب التّرب، وبها تحاك الثياب النفيسة التي ليس لها نظير في الدنيا، وقد قيل: إن الجنتين اللتين أخبر الله تعالى عنهما في سورة الكهف بقوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ
«1» الآية، كانتا بتنيس.
وأمّا دمياط، فسيأتي ذكرها في الكلام على الأعمال المستقرّة ان شاء الله تعالى.
الناحية الثالثة الجزيرة بين فرقتي النيل الشرقية والغربية، وفيها خمس كور:
الأولى- (كورة دمسيس «2» ومنوف)
أمّا دمسيس، فبفتح الدال المهملة(3/439)
وسكون الميم وكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة تحت وسين مهملة في الآخر، وهي الآن بلدة من عمل الغربية.
وأمّا منوف «1» فمن الأسماء التي نسيت وجهلت.
الثانية- (كورة طوّة منوف)
وهي من الأسماء التي جهلت ولا يعلم بالديار المصرية الآن بلدة اسمها طوّة غير بلدين بالوجه القبليّ إحداهما بالأشمونين، والثانية بالبهنساوية.
الثالثة- (كورة سخا وتيدة والفرّاجون)
. أما سخا، فبفتح السين المهملة والخاء المعجمة وألف في آخرها، وهي بلد حسنة كانت ذات عمل، ثم استقرت من عمل الغربية الآن.
وأما تيدة، فبفتح التاء المثناة فوق وسكون الياء المثناة تحت وفتح الدال المهملة وهاء في آخرها، وهي الآن قرية من قرى الغربية.
وأما الفرّاجون، فبالألف واللام في أوّلها، ثم فاء مفتوحة وراء مهملة مشدّدة بعدها ألف وجيم مضمومة وواو ساكنة ونون في الآخر؛ وهي بلدة مضافة إلى تيدة، فيقال: تيدة والفرّاجون.
الرابعة- (كورة نقيزة «2» وديصا)
وهما من الأسماء التي نسيت وجهلت.
الخامسة- (كورة البشرود)
وهي من الأسماء التي جهلت «3» .(3/440)
الناحية الرابعة الحوف الغربيّ وفيها إحدى عشرة كورة:
الأولى- (كورة صا)
وصا بصاد مهملة مفتوحة وألف في الآخر، وهي مدينة خراب شرقيّ الفرقة الغربية من النيل، بناها صا بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، أحد ملوك مصر بعد الطوفان، وبها الآن آثار عظيمة، وقد عمرت بالقرب منها قرية سميت باسمها، وكأن عملها كان من البرّ الغربيّ.
الثانية- (كورة شباس)
وشباس بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة وألف ثم سين مهملة اسم لثلاث بلاد من عمل الغربية الآن، وهي شباس الملح وشباس أنبارة، وشباس سنقر، وتعرف بشباس الشهداء، وكأنّ المراد الثالثة فإنها أعظمها.
الثالثة- (كورة البذقون)
وهي من الأسماء التي درست وجهلت.
الرابعة- (كورة الخيس والشّراك)
أما الخيس فلا تعرف بالبحيرة الآن بلدة تسمّى الخيس، وإنما الخيس بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء وسين مهملة في الآخر، بلدة من عمل الشرقية.
وأما الشّراك فبكسر الشين المعجمة المشدّدة وفتح الراء المهملة وألف ثم كاف، وهي بلدة من عمل البحيرة.
الخامسة- (كورة خربتا)
بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة وكسر الباء الموحدة وفتح التاء المثناة فوق وهي قرية معروفة من عمل البحيرة، ومنها سار من سار من المصريين لقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
السادسة- (كورة قرطسا ومصيل)
. أما قرطسا فبفتح القاف وسكون الراء المهملة وفتح الطاء والسين المهملتين وألف في الآخر، وهي قرية من عمل البحيرة الآن، وأما مصيل، فمن الأسماء التي جهلت.(3/441)
السابعة- (كورة المليدس) وهي من الأسماء التي جهلت.
الثامنة- (كورة إجنا «1» ورشيد والبحيرة)
أما إجنا، فمن الأسماء التي جهلت ولا يعرف بالبحيرة بلد اسمها إجنا، وإنما أخنويه من عمل الغربية، والعامّة تقول إخنا «2» .
وأما رشيد، بفتح الراء المهملة وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة تحت ودال مهملة في الآخر، فبلدة عند مصبّ الفرقة الغربية التي يقع الاعتناء بحفظها.
وفي ذلك نظر لاعتباره الغربية ورشيد من سواحل البحيرة، وبينهما بعد يبعد معه أن يجتمعا في كورة واحدة.
وأما البحيرة، فالظاهر أنه يريد بحيرة بوقير المتقدّم ذكرها في الكلام على القواعد القديمة، ويأتي بقية الكلام عليها في الأعمال المستقرّة إن شاء الله تعالى.
العاشرة «3» - (كورة مريوط)
ومريوط بفتح الميم وسكون الراء المهملة وضم الياء المثناة تحت وسكون الواو وطاء مهملة في الآخر، وهي ناحية غربيّ الاسكندرية داخلة الآن في عملها بها الأشجار والبساتين، وفواكهها تحمل للإسكندرية.
الحادية عشرة- (كورة لوبية ومراقية) أما لوبية فبلام وواو وباء موحدة ثم(3/442)
ياء مثناة تحت وهاء في الآخر قال في «الروض المعطار» : وهي كورة من كور مصر الغربية، متصلة بالإسكندرية. قال: وقد قيل: إن الاسكندر كان منها.
وأما مراقية، فبميم وراء مهملة وألف وقاف وياء مثناة تحت وهاء في الآخر.
وقد ذكر القضاعي في تحديد الديار المصرية ما يقتضي أنهما بجوار برقة، فقال إن الذي يقع عليه اسم مصر من العريش إلى لوبية ومراقية، ثم قال: وفي آخر أرض مراقية تلقى أرض انطابلس، وهي برقة، والظاهر أن لوبية غربيّ مريوط، ومراقية غربي لوبية، وهي آخر أرض الديار المصرية من جهة الغرب.
الحيّز الثالث كور القبلة، وفيها خمس كور:
الأولى- (كورة الطّور وفاران)
. أما الطّور فضبطه معروف. قال في المشترك: والطور في اللغة العبرانية اسم لكل جبل، ثم صار علما لجبال بعينها، منها: جبل طور زيتا بلفظ الزيت، وهو اسم لجبل برأس عين من بلاد الجزيرة «1» ، وجبل بالقدس، وجبل مطلّ على طبريّة، وطور هارون بالقدس، وطور سينا، وهو المراد هنا، وهو جبل داخل في بحر القلزم على رأسه دير عظيم، وفي واديه بساتين وأشجار، وهو على مرحلة من فرضة الطور المتقدّمة الذكر في تحديد بحر القلزم، وكأنها سميت باسمه لقربها منه. قال ابن الأنباريّ في «كتابه الزاهر» : وسمى الطّور بطور بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وأما فاران، فبفاء مفتوحة بعدها ألف ثم راء مهملة بعدها ألف ثانية ثم نون، قال في «الروض المعطار» : وهي مدينة صغيرة من بر الحجاز على جون على(3/443)
البحر. قال: ولجبال فاران ذكر في التوراة «1» .
الثانية- (كورة راية والقلزم)
. أما راية فمن الأسماء التي جهلت، وقد ذكرها ابن سعيد مقرونة بالقلزم فقال: وراية والقلزم من كور مصر.
وأما القلزم، فقال في المشترك: هو بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي المعجمة ثم ميم في الآخر، وهي مدينة قديمة على ساحل بحر القلزم وإليها ينسب البحر المذكور.
قال في «القانون» : وطولها ست وخمسون درجة وثلاثون دقيقة وعرضها ثمان وعشرون درجة وعشرون دقيقة، وعلى القرب منها غرق فرعون.
الثالثة- (كورة أيلة وحيّزها، ومدين وحيّزها، والعونيد وحيّزها، والحوراء وحيّزها) .
أما أيلة، فقال في «تقويم البلدان» : وهي بفتح الهمزة وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام وهاء في الآخر، قال: وهي كانت مدينة صغيرة خرابا على ساحل بحر القلزم.
قال في «القانون» : طولها ست وخمسون درجة وأربعون دقيقة.
قال في «تقويم البلدان» : وبها زرع يسير، وهي مدينة اليهود الذين جعل منهم القردة والخنازير، وعليها طريق حجّاج مصر. قال: وهي في زماننا برج وبه وال من مصر وليس بها مزدرع، وكان بها قلعة البحر فبطلت ونقل الوالي إلى البرج.
وأما مدين، فضبطها معروف؛ وهي في الأصل اسم لقبيلة شعيب عليه السلام وكانوا مقيمين بها فسميت البلد بهم، وهي مدينة خراب على بحر القلزم(3/444)
محاذية لتبوك من بلاد الشام على نحّوست مراحل منها، وعدّها في «الروض المعطار» من بلاد الشام، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لبنات شعيب وسقى غنمهنّ.
قال ابن سعيد: وسعة البحر عندها نحو مجرى.
وأما العونيد، فبعين مهملة وواو وياء مثناة تحت ونون ودال. قال في «الروض المعطار» : وهي مدينة قريبة من نصف الطريق بين جدّة والقلزم. قال:
وعلى القرب منها مرسى صنا، ينحدر الماء بها عن أثر قدم من أوسط الأقدام بينة الكعب والأخمص والأصابع لم يعفها الزمان، ولا تنمحي بمرور الماء عليها.
وأما الحوراء، فبحاء مهملة مفتوحة بعدها واو ساكنة وراء مهملة مفتوحة ثم ألف في الآخر. قال في «الروض المعطار» «1» : وهي مدينة على ساحل وادي القرى بها مسجد جامع، وبها ثمانية آبار عذبة، وبها ثمار ونخل وأهلها عرب من جهينة وبليّ.
قلت: والمعروف في زماننا أن الحوراء منزلة بطريق حجّاج مصر، ولعلها على القرب منها.
الرابعة- كورة بدا
«2» يعقوب وشعيب، ولم أعلم حقيقة مكانهما.
قلت: ذكر القضاعي أيلة ومدين وما والاهما مما على ساحل بحر القلزم من بر الحجاز في أعمال مصر جريا على ما قدّمه من إدخال ذلك في تحديد الديار المصرية، على أنه قد أهمل من جملة الديار المصرية حيّزين آخرين:(3/445)
[الحيّز الرابع] الحيّز الأوّل بلاد ألواح
إذ هي داخلة في حدود الديار المصرية على ما حدّده هو وغيره.
قال في «اللّباب» : «1» وهي بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الواو وفي آخره حاء مهملة، وقال في «المشترك» »
: واح بغير ألف ولام ويجمع على واحات، وهي ناحية غربيّ بلاد الصعيد منقطعة عنه خلف الجبل الغربيّ من جبلي مصر المتقدّم ذكرهما.
قال في «مسالك الأبصار» : وهي بين مصر والإسكندرية والصعيد والنّوبة والحبشة. قال في «تقويم البلدان» «3» : والبراري محيطة بها من جميع جهاتها، وهي بينها كالجزيرة، بين رمال ومفاوز.
قال البكريّ: وهو إقليم مستقلّ غير مفتقر إلى سواه قال في «الروض المعطار» : وهي آخر بلاد الإسلام، وبينها وبين بلاد النّوبة ستّ مراحل. قال:
وفي هذه الأرض «4» شبّية وزاجيّة وعيون حامضة الطعوم، ولكل نوع منها منفعة وخاصة، وبها العيون الجارية، والبساتين، والثمار، والتمر الكثير؛ وبها مدن كثيرة مسوّرة وغير مسوّرة.
قال في «المشترك» : وهي ثلاث كور: واح الأولى، وواح الوسطى، وواح القصوى.(3/446)
قلت:
والأولى منها- مقابل الأعمال البهنساوية
، وهي أعمرها وأكثرها ثمرة، ومنها يجلب التمر والزبيب الكثير، وتعرف بواح البهنسى وبألواح الخاصّ.
والثانية- مقابل شماليّ الأعمال الأسيوطية
، وتعرف بألواح الداخلة، وهي تلو ألواح الأولى في العمارة؛ بها مدن مشهورة، منها السلمون والهنداو والقلمون والقصير وغيرها.
والثالثة- مقابل جنوبيّ ألواح الثانية
، وتعرف بألواح الخارجة؛ وبين ريف الصعيد وبين جميعها عرض جبل مصر الغربي، ومسيرته ثلاث مراحل فما دونها بحسب اختلاف الأماكن والطرق.
قال في «التعريف» : وهي جارية في إقطاع أمراء مصر، وهم يولّون عليها من قبلهم. قال: ومغلّها كأنه مصالحة لعدم التمكن من استغلاله أسوة بقية ديار مصر، لوقوعه منقطعا في البلاد النائية والقفار النازحة.
قال في «مسالك الأبصار» : ولا تعدّ في الولايات ولا الأعمال، ولا يحكم عليها من قبل السلطان «1» .
[الحيز الخامس] الحيّز الثاني برقة
بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وفتح القاف وهاء في الآخر. قال في «تقويم البلدان» : وهي من الإقليم الثالث. قال في «كتاب الأطوال» : وطولها اثنتان وأربعون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة.(3/447)
وهي أرض متّسعة الأرجاء، مديدة الفضاء، وهي من أزكى الأراضي دوابّ، وأمراها مرعى.
قال في «مسالك الأبصار» : أخبرني بعض من رآها أنها شبيهة بأطراف الشام وجبال نابلس في منابت أشجارها وكيفية أرضها وما هي عليه، وأنها لو عمرت بالسكان وتأهلت بالزّرّاع، كانت إقليما كبيرا يقارب نصف الشأم، قال: وبها الماشية والسائمة الكثيرة: من الإبل والغنم والخيل، وخيلها من أقوى الخيل وأصلبها حوافر، وصورها بين العراب «1» والبراذين، وقد جمعت بين حسن العراب وكمال تخاطيطها، وصلابة البراذين وثباتها على الوعور، وهي إلى محاسن العراب أقرب، ولكنها لا تبلغ شأو خيل البحرين والحجاز؛ وفحولها أنجب من إناثها. قال: وكذلك بها المدن المبنية، والقصور العلية، والآثار الدالة على ما كانت عليه من الجلالة.
قال ابن سعيد: وهي سلطنة طويلة، وإن لم يكن لها استقلال لاستيلاء العرب عليها، وهي إلى إفريقيّة أقرب منها إلى مصر. قال: وكان سريرها في القديم بمدينة (طبرقة) «2» . وذكر صاحب «الروض المعطار» : أن قاعدتها كانت مدينة (أنطابلس) ، وقد تقدّم من كلام القضاعيّ في تحديد الديار المصرية في آخر الحدّ الشمالي ما يوافقه.
قال في «مسالك الأبصار» : ومن مدنها طلميثا. قلت: والتحقيق أن برقة قسمان: قسم محسوب من الديار المصرية، وهو ما دون العقبة الكبرى إلى الشرق، وقسم محسوب من إفريقيّة، وهو ما فوق العقبة المذكورة إلى الغرب، وهذه المدن الثلاث مما يلي جهة المغرب، والقسمان كلاهما اليوم بيد العرب(3/448)
أصحاب الماشية. قال في «مسالك الأبصار» : وربما زرع بعضهم في بعض أرضها فأنجب، ولكنهم أهل بادية لا عناية لهم بعمارة ولا زرع. قال: وأمرها إلى صاحب مصر يقطعها بالمناشير تارة لبعض الأمراء وتارة للعرب يأخذون عدادها، وكأنه يريد القسم الذي هو من مصر «1» .
الضرب الثاني من كور الديار المصرية نواحيها وأعمالها المستقرّة، ولها وجهان:
الوجه الأوّل القبليّ
وهو المعبر عنه بالصعيد؛ وقد تقدّم بيانه في الكلام على الكور القديمة، وبه تسعة أعمال:
العمل الأوّل- الجيزيّة
. وهو أقربها إلى الفسطاط والقاهرة، ومقرّ ولايته مدينة الجيزة (بكسر الجيم وإسكان الياء المثناة تحت وفتح الزاى المعجمة وبعدها هاء) وموقعها في الإقليم موقع الفسطاط، وطولهما وعرضهما واحد؛ وإليها ينسب الربيع الجيزيّ «2» راوي الأمّ عن الشافعيّ رضي الله عنه.
قال في «الروض المعطار» : ويقال إن بها قبر كعب الأحبار، وهي مدينة لطيفة على ضفّة النيل الغربية مقابل جزيرة المقياس المتقدّمة الذكر والنيل بينهما، وبعض هذا العمل يأخذ في جهة الشّمال إلى الوجه البحريّ الآتي ذكره.(3/449)
قال في «الروض المعطار» : والجيزة اختطها عمرو بن العاص رضي الله عنه «1» .
العمل الثاني- الإطفيحيّة
. وهو شرقيّ النيل في جنوب الفسطاط، مصاقب بركة الحبش وبساتين الوزير. ومقرّ ولايته مدينة «إطفيح» (بكسر الهمزة وإسكان الطاء المهملة والفاء والياء والحاء المهملة) وربما قلبت الطاء تاء مثناة فوق، وهي مدينة لطيفة في البر الشرقيّ، وموقعها في الإقليم الثالث، ولم يتحرّر لي «2» طولها وعرضها، وعملها ما بين المقطم والنيل آخذا عنها جنوبا وشمالا، وليس لعملها كبير ذكر.
العمل الثالث- البهنساويّة
. وهو مما يلي عمل الجيزة من الجهة الجنوبية، ومقرّ ولايته مدينة البهنسى. قال في «المشترك» : (بفتح الباء وسكون الهاء وفتح النون وسين مهملة مفتوحة وألف مقصورة) وهي مدينة لطيفة قديمة بالصعيد الأدنى بالبر الغربيّ من النيل تحت الجبل بطوق المزدرع مركبة على ضفّة بحر الفيوم.
وموقعها في الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة.
قال في «الأطوال» : طولها إحدى وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها ثمان وعشرون درجة.
العمل الرابع- الفيّوميّة
. وهو مصاقب لعمل البهنسى من غربيه، وبينهما منقطع رمل. وهو من أعظم الأعمال وأحسنها عمارة، كثير البساتين، غزير الفواكه، دارّ الأرزاق. ويقال إنه كان مصل «3» مياه الديار المصرية فاستخرجه(3/450)
يوسف عليه السلام وجعله ثلاثمائة وستين قرية لتمير «1» كلّ قرية منها بلد مصر يوما من أيام السنة.
قلت: وأما الآن فقد نقصت عدّة قراه بسبب ما عراها من ركوب ماء البركة التي هي مصل «2» مياهه، المتقدّم ذكرها في جملة بحيرات الديار المصرية، وركوب مائها على أكثر القرى المجاورة لها، ولولا ما هو شامل له من بركة الصدّيق عليه السلام، لكانت قد غطّت جميع بلاده، إذ المياه تنصبّ إليها شتاء وصيفا على ممرّ الدهور وتعاقب الأيام، وليس لها مصرف تتصرف منه ضرورة إحاطة الجبال بها من الجهات التي هي بصدد أن تصرف منها، ولقد اجتهد بعض حكّام الزمان على أن يتحيل في عمل مصرف يقطع في الجبل لتتصرف منه مياهها فلم يجد إلى ذلك سبيلا. ولو كان ذلك في حيّز الإمكان، لفعله يوسف عليه السلام.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : ويقال إنه على جميع الفيّوم سور دائر، ومقرّ ولايته (مدينة الفيّوم) وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة.
قال في «القانون» : وطولها أربع وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها ثمان وعشرون درجة وعشرون دقيقة.
وقال في «تقويم البلدان» : القياس أن طولها ثلاث وخمسون درجة، وعرضها تسع وعشرون درجة، وهي مدينة حسنة على ضفّة البحر المنهى «3» حسنة الأبنية، زاهية المعالم. وبها الجوامع والرّبط والمدارس، وهي راكبة على الخليج المنهى من جانبيه، وهو مخترق وسطها. قال في «العزيزي» «4» : وبين الفيّوم(3/451)
والفسطاط ثمانية وأربعون ميلا.
العمل الخامس- عمل الأشمونين والطحاوية
. وهو مضاقب لعمل البهنسي من جنوبيه، وهو عمل واسع كثير الزرع، واسع الفضاء، متقارب القرى. ومقرّ الولاية به (مدينة الأشمونين) «1» بضم الألف وسكون الشين المعجمة وضم الميم وسكون الواو في الآخر نون. وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة على ما ذكره في «تقويم البلدان» والإقليم الثاني على ما يقتضيه كلام المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «مسالك الأبصار» حيث جعل آخر الإقليم الثاني دهروط من البهنساوية.
قال في «القانون» : طولها ست وخمسون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها ست وعشرون درجة؛ وهي مدينة لطيفة بالبر الغربيّ من النيل، كانت في الأصل مدينة قديمة بناها أشمون «2» بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، ثم خربت ودثرت؛ وبنيت هذه المدينة على القرب منها. وكان هذا العمل فيما تقدّم عملين: أحدهما عمل الأشمونين هذا، والثاني عمل طحا المدينة (بفتح الطاء والحاء المهملتين وألف في الآخر) وقد تقدّم ذكرها في الأعمال القديمة، ثم أضيفا وجعلا عملا واحدا.
العمل السادس- المنفلوطيّة
«3» . وهو مصاقب لعمل الأشمونين من جنوبيه، وهو من أخصّ خاصّ السلطان الجاري في ديوان وزارته، ومنه يحمل(3/452)
أكثر الغلال إلى الأهراء السلطانية «1» بالفسطاط. ومقرّ ولايته (مدينة منفلوط) . قال في «تقويم البلدان» : (بفتح الميم وسكون النون وفتح الفاء وضم اللام ثم واو وطاء مهملة في الآخر) . وموقعها الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة فيما ذكره في «تقويم البلدان» ومن أواخر الإقليم الثاني على ما يقتضيه كلام «مسالك الأبصار» .
قال في «كتاب الأطوال» : وطولها اثنتان وخمسون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها سبع وعشرون درجة وأربعون دقيقة. وهي مدينة لطيفة بالبرّ الغربيّ من النيل بالقرب من شطّه.
العمل السابع- الأسيوطيّة
«2» وهو عمل جليل، ومقرّ الولاية به (مدينة أسيوط) «3» بضم «4» الألف وسكون السين وضم المثناة تحت وفي آخرها طاء مهملة. هكذا ضبطه السمعاني «5» في «كتاب الأنساب» : وذكرها «في الروض المعطار» في حرف الهمزة، ووقعت في شعر ابن الساعاتي «6» بغير ألف في قوله:
لله يوم في سيوط وليلة ... عمر الزّمان بمثلها لا يغلط(3/453)
بتنا بها، والبدر في غلوائه ... وله بجنح الليل فرع أشمط «1»
والطّير تقرأ، والغدير صحيفة؛ ... والرّيح تكتب «2» ، والغمام ينقّط
وإثبات الألف فيها هو الجاري على ألسنة العامة بالديار المصرية، والثابت في الدواوين حذفها. موقعها في الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة.
قال في «الأطوال» : وطولها إحدى وخمسون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها أثنتان وعشرون درجة وعشر دقائق. وهي مدينة حسنة في البر الغربي من النيل على مرحلة من منفلوط، وبها مساجد ومدارس وأسواق وقياسر وحمّامات «3» .
العمل الثامن- (الإخميميّة)
. وهو مصاقب لعمل أسيوط من جنوبيّه، وهو عمل ليس بالكبير، وبلاده أكثرها بالبر الغربي عن النيل، وحاضرته (مدينة إخميم) . قال في «تقويم البلدان» : (بكسر «4» الألف وسكون الخاء المعجمة والمثناة تحت بين الميمين، والأولى منهما مكسورة) وموقعها في أواخر الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة.
قال في «الأطوال» : وطولها إحدى «5» وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها ست «6» وعشرون درجة. وهي مدينة لطيفة بالبر الشرقي عن النيل على مرحلتين من أسيوط، وبها كانت البرابي العظام المتقدّمة الذكر، ويقال إن ذا(3/454)
النّون»
المصريّ العابد الزاهد منها، وولايتها مضافة إلى قوص «2» .
العمل التاسع- القوصيّة
«3» . وهو مصاقب لعمل أسيوط من جنوبه، وهو عمل متسع الفضاء بعيد ما بين القرى، ينتهي آخره إلى أسوان، آخر الديار المصرية في البرّ الشرقيّ والغربيّ، وهي بلاد الثّمر، ومنها يجلب إلى سائر البلاد المصرية، ومقرّ ولايته (مدينة قوص) . قال في «المشترك» : (بضم القاف وسكون الواو، وفي الآخر صاد مهملة) وموقعها في الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة.
قال ابن سعيد: طولها سبع وخمسون درجة، وعرضها ست وعشرون درجة «4» وهي مدينة جليلة في البر الشرقيّ عن النيل، ذات ديار فائقة، ورباع أنيقة، ومدارس وربط وحمّامات، يسكنها العلماء والتّجار وذوو الأموال، وبها البساتين والحدائق المستحسنة إلا أنها شديدة الحرّ، كثيرة العقارب، حتّى إنه يقيّض لها من يدور في الليل في شوارعها بالمسارج لقتلها، ويقاربها في الكثرة أيضا سامّ أبرص «5» .
قال المقر الشهابيّ بن فضل الله في «مسالك الأبصار» : أخبرني عز الدين حسن بن أبي المجد الصّفديّ أنه عدّ في يوم صائف على حائط الجامع بها سبعين سامّ أبرص على صفّ واحد. ومما يدخل في عملها مما له ولاية مستقلة مدينة أسوان قال السمعاني: (بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الواو وبعدها ألف(3/455)
ونون) وخالف ابن خلّكان «1» في «تاريخه» فضبطه بضم «2» الهمزة، وغلّط السمعانيّ في فتحها. وهي مدينة في أوائل الحدّ الجنوبيّ من الديار المصرية؛ وموقعها في الإقليم الثاني من الأقاليم السبعة.
قال في «الأطوال» : طولها اثنتان وخمسون درجة، وعرضها اثنتان وعشرون درجة وثلاثون دقيقة.
قال في «القانون» : طولها سبع وخمسون درجة، وعرضها اثنتان وعشرون درجة وثلاثون دقيقة «3» . وهي في البر الشرقيّ من النيل، ذات نخيل وحدائق، وهي من قوص على نحو خمس مراحل.
قال في «التعريف» : وواليها وإن كان من قبل السلطان فإنه نائب لوالي قوص.
قلت: أما الآن، فقد صار لها وال مستقلّ بنفسه لا حكم لوالي قوص عليه، وسيأتي الكلام عليها في مراكز البريد؛ ويأتي الكلام على ولايتها في جملة الولايات بالديار المصرية إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني البحريّ
وهو كل ما سفل عن القاهرة إلى البحر الرومي حيث مصبّ النيل. وإنما سمى بحريّا لأن منتهاه البحر الروميّ، ولا يلزم من ذلك تسمية الجانب الشرقي من الديار المصرية بحريّا لأن نهايته إلى بحر القلزم، لأن انتهاءه إليه ليس حقيقيّا لانقطاع بحر القلزم عن بلاد الديار المصرية بالجبال والبراري المقفرة، بخلاف(3/456)
بحر الروم فإنه متصل بالبلاد مجاور لها فناسب النسبة إليه.
قلت: وقد وقع للمقرّ الشهابي بن فضل الله في «التعريف» في بلاده وأعماله من الوهم ما لا يليق بمصريّ على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وهذا الوجه هو أرطب الوجهين وأقلّهما حرّا، وأكثرهما فاكهة وأحسنهما مدنا ويشتمل على ثلاث شعب تحوي سبعة أعمال «1» .
الشعبة الأولى شرقيّ الفرقة الشرقية من النيل وفيها أربعة أعمال:
العمل الأوّل- الضواحي
: جمع ضاحية، وهي في أصل اللغة البارزة للشمس «2» ، وكأنها سميت بذلك لبروز قراها للشمس، بخلاف المدينة لغلبة الكنّ بها، وهو ما يجاور القاهرة من جهة الشّمال من القرى «3» ، وولايتها مضافة إلى ولاية القاهرة وداخلة في حكمها، وليست منفردة بمقرّ ولاية غيرها.
العمل الثاني- القليوبيّة
«4» . وهو مصاقب للضواحي من شماليها مما يلي جهة النيل، وهو عمل جليل، حسن القرى، كثير البساتين، غزير الفواكه. ومقرّ الولاية «5» به (مدينة قليوب) بفتح القاف وإسكان اللام وضم المثناة تحت وسكون الواو وباء موحدة في آخرها- وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة، ولم يتحرّر لي طولها وعرضها، غير أنها من القاهرة في جهة الشّمال على نحو فرسخ ونصف من القاهرة.(3/457)
قلت: ومن بلادها بلدتنا (قلقشنده) وهي بلدة حسنة المنظر، غزيرة الفواكه، وإليها ينسب الليث بن سعد «1» الإمام الكبير، وقد ذكر ابن يونس في «تاريخه» : أنه ولد بها. قال: وأهل بيته يذكرون أن أصله من فارس، وليس لما يقولونه ثبات عندنا.
قال ابن خلّكان: (بفتح القاف وسكون اللام وفتح القاف الثانية والشين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة) وهكذا هي مكتوبة في دواوين الديار المصرية، وأبدل ياقوت في «معجم البلدان» «2» اللام راء، وهو الجاري على ألسنة العامّة، وعليه جرى القضاعيّ فيما رأيته مكتوبا في «خططه» : قال ابن خلكان: وهي على ثلاثة فراسخ من القاهرة [وهي بلدة حسنة المنظر، كثيرة البساتين، غزيرة الفواكه وإليها ينسب الليث بن سعد الإمام الكبير.
قال ابن يونس في «تاريخه» : ولد بها، ثم قال: وأهل بيته يذكرون أن أصله من فارس وليس لما يقولونه ثبات عندنا. وذكر] «3» .
وقال القضاعي في «خططه» في الكلام على دار الليث بالفسطاط: وكان له دار بقرقشندة بالرّيف، بناها فهدمها ابن رفاعة «4» أمير مصر عنادا له، وكان ابن عمه، فبناها الليث ثانيا فهدمها، فلما كانت الثالثة، أتاه آت في منامه فقال له يا ليث: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ
«5» فأصبح وقد أفلج ابن رفاعة فأوصى إليه ومات بعد ثلاث.
وبقي اللّيث حتّى توفي في منتصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وصلّى عليه موسى بن عيسى الهاشمي أمير مصر للرشيد.(3/458)
وترجم له ابن خلكان بالأصبهانيّ، ثم قال في آخر ترجمته: ويقال إنه من قلقشندة.
قلت: وما قاله ابن يونس أثبت، ويجب الرجوع إليه لأمرين: أحدهما أنه مصريّ وأهل البلد أخبر بحال أهل بلدهم من غيرهم. والثاني أنه قريب من زمن الليث فهو به أدرى، إذ يجوز أن يكون أصله من أصبهان، ثم نزل آباؤه قلقشندة المذكورة وولد بها وسكنها، فنسب إليها كما وقع في كثير من النّسب؛ وإعادة داره بها بعد هدمها ثلاث مرات على ما تقدّم ذكره في كلام القضاعي دليل اعتنائه بشأنها وميله إليها، وحينئذ فلا منافاة بين النسبتين.
وذكر في «الروض المعطار» «1» أنه كان له ضيعة على القرب من رشيد من بلاد الديار المصرية، يدخل عليه منها في كل سنة خمسون ألف دينار لم تجب عليه فيها زكاة.
العمل الثالث- الشرقية
«2» . وهو مصاقب للضواحي من شماليها مما يلي جهة المقطّم، والقليوبية من جهة الشمال أيضا، وهو من أعظم الأعمال وأوسعها.
إلا أن البساتين فيه قليلة بل تكاد أن تكون معدومة، لاتصاله بالسّباخ وبداوة غالب أهله، وآخر العمران فيها من جهة الشّمال الصّالحيّة، وما وراء ذلك منقطع رمال على ما تقدّم ذكره في المنقطع عنها من جهة الشرق، ومقرّ ولايته مدينة بلبيس.
قال في «تقويم البلدان» : (بكسر الباء الموحدّة وسكون اللام وفتح الباء «3» الموحدّة وسكون المثناة تحت ثم سين مهملة) . كذا ذكره، والجاري على الألسنة ضم الباء(3/459)
في أوّلها، وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة «1» .
قال في «تقويم البلدان» : والقياس أن يكون طولها أربعا وخمسين درجة وثلاثين دقيقة، وعرضها ثلاثين درجة وعشر دقائق. وهي مدينة متوسطة بها المساجد والمدارس والأسواق «2» ، وهي محطّ رحال الدرب الشامي. وفي الركن الشمالي الجنوبيّ من هذا العمل (بنها) «3» . قال النوويّ في شرح مسلم: بكسر الباء والمعروف فتحها، وهي البلدة التي أهدى المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عسلها «4» ؛ وفي آخره من جهة الشرق (قطيا) بفتح القاف وسكون الطاء المهملة وفتح الياء المثناة تحت وألف في الآخر. كذا وقع في «التعريف» و «مسالك الأبصار» . وفي «تقويم البلدان» : إبدال الألف في آخره بهاء، وهي قرية بالرمل المعروف بالجفار على طريق الشأم على القرب من ساحل البحر الروميّ.
قال في «التعريف» : وقد جعلت لأخذ الموجبات، وحفظ الطّرقات، وأمرها مهمّ، ومنها يطالع بكل صادر ووارد.
العمل الرابع- (الدّقهليّة والمرتاحية)
«5» . وهو مصاقب لعمل الشرقية من جهة الشّمال، وأواخره تنتهي إلى السّباخ وإلى بحيرة تنّيس المتصلة بالطينة من طريق الشام، ومقرّ الولاية به (مدينة أشموم) بضم الهمزة وإسكان الشين المعجمة(3/460)
وبعدها ميم ثم واو وميم ثانية، كما ضبطه في «تقويم البلدان» ونقله عن خط ياقوت في «المشترك» والذي في «اللّباب» إبدال الميم في آخرها بنون، وعزاه في «تقويم البلدان» للعامة «1» .
قال في «تقويم البلدان» : والقياس أن طولها أربع وخمسون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وأربع وخمسون دقيقة. وهي مدينة صغيرة على ضفّة الفرقة التي تذهب إلى بحيرة تنّيس من فرقة النيل الشرقية من الجهة «2» ؛ وبآخر هذا العمل (مدينة دمياط) «3» بكسر الدال المهملة وسكون الميم وياء مثناة من تحت وألف وطاء، قال في «الأطوال» : طولها ثلاث وخمسون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وخمس وعشرون دقيقة.
وقال ابن سعيد: طولها أربع وخمسون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وعشرون دقيقة، وهي واقعة في الإقليم الثالث؛ وهي مدينة حسنة عند مصبّ الفرقة الشرقية من النيل في بحر الروم، ذات أسواق وحمّامات، وكان عليها أسوار من عمارة المتوكل: أحد خلفاء بني العبّاس، فلما تسلطت عليها الفرنج وملكتها مرّة بعد مرّة «4» خرّبت المسلمون أسوارها في سنة ثمان وأربعين وستمائة خوفا من استيلائهم عليها، وهي على ذلك إلى الآن، ولها ولاية خاصّة بها.(3/461)
الشّعبة الثانية غربيّ فرقة النيل الغربية؛ وفيها عملان:
العمل الأوّل- عمل البحيرة
. وهو مما يلي عمل الجيزة المقدّم ذكره من الجهة البحرية، وهو عمل واسع، كثير «1» القرى، فسيح الأرضين. ومقرّ ولايته (مدينة دمنهور) «2» - بفتح الدال المهملة والميم وسكون النون وضم الهاء وسكون الواو وفي آخرها راء مهملة- وتعرف بدمنهور الوحش. وهي مدينة متوسطة ذات مساجد ومدارس وأسواق وحمامات. وموقعها في الإقليم الثالث، ولم يتحرّر لي طولها وعرضها، غير أنها على نحو مرحلة من الإسكندرية بين الشرق والجنوب فليعتبر طولها وعرضها منها بالتقريب.
قلت: ويدخل في هذا العمل حوف رمسيس والكفور الشاسعة.
العمل الثاني- عمل المزاحمتين
. وهو ما جاور خليج الإسكندريّة من جهة الشمال إلى البحر الروميّ وبعضه بالبر الشرقيّ من النيل، وحاضرته (مدينة فوّة) «3» . قال في «تقويم البلدان» : بضم الفاء وتشديد الواو، وهي مدينة متوسطة بالبر الشرقيّ من فرقة النيل الغربية يقابلها جزيرة لها تعرف بجزيرة الذهب ذات بساتين وأشجار ومنظر رائق، وليس بها ولاية، وإنما يكون بها شاد «4» للخاص، يتحدّث في كثير من أمور الولاية، وهي في الحقيقة كإخميم مع قوص.
ويلي هذين العملين غربا بشمال (مدينة الإسكندريّة) بكسر الهمزة(3/462)
وسكون السين المهملة وفتح الكاف وسكون النون وفتح الدال وكسر الراء المهملتين وتشديد الياء المثناة تحت المفتوحة وهاء في الآخر- وموقعها في الإقليم الثالث.
قال في كتاب «الأطوال» : طولها إحدى وخمسون درجة وأربع وخمسون دقيقة، وعرضها ثلاثون درجة وثمان وخمسون دقيقة، وقد تقدّم القول على أصل عمارتها في الكلام على قواعد الديار المصرية قبل الإسلام.
وهي الآن بالنسبة إلى ما تشهد به التواريخ من بنائها «1» القديم جزء من كلّ، وهي مع ذلك مدينة رائقة المنظر، حسنة الترصيف، مبنية بالحجر والكلس، مبيّضة البيوت ظاهرا وباطنا كأنها حمامة بيضاء، ذات شوارع مشرعة، كلّ خط قائم بذاته كأنها رقعة الشّطرنج، يستدير بها سوران منيعان، يدور عليهما من خارجهما خندق في جوانب البلد المتصلة بالبر، ويتصل البحر بظاهرها من الجانب الغربيّ مما يلي الشّمال إلى المشرق حيث دار النيابة؛ وبهما أبراج حصينة عليها الستائر المسترة والمجانيق المنصوبة.
قال ابن الأثير في «عجائب المخلوقات» : ويقال إن منارها كان في وسط البلد وإن المدينة كانت سبع محجّات، وإنما أكلها البحر، ولم يبق إلا محجّة واحدة، وهي المدينة الباقية الآن وصار مكان المنار منها على مسيرة ميل. قال:
ويقال إن مساجدها أحصيت في وقت من الأوقات فكانت عشرين ألف مسجد؛ وبها الجوامع والمساجد، والمدارس، والخوانق، والرّبط، والزوايا، والحمّامات والدّيار الجليلة، والأسواق الممتدّة. وفيها ينسج القماش الفائق الذي ليس له نظير في الدنيا، وإليها تهوي ركائب التجار في البر والبحر، وتمير من قماشها(3/463)
جميع أقطار الأرض، وهي فرضة بلاد المغرب، والأندلس، وجزائر الفرنج، وبلاد الروم، والشام وشرب أهلها من ماء النيل، من صهاريج تملأ من الخليج الواصل إلى داخل دورها، واستعمال الماء لعامة الأمر من آبارها، وبجنبات تلك الآبار والصهاريج بالوعات تصرف منها مياه الأمطار ونحوها؛ وبها البساتين الأنيقة، والمستنزهات الفائقة، ولهم بها القصور والجواسق «1» الدقيقة البناء، المحكمة الجدر والأبواب، وبها من الفواكه والثمار ما يفوق فواكه غيرها من الديار المصرية حسنا مع رخص الثمن؛ وليس بها مزارع ولا لها عمل واسع، وإن كان متحصّلها يعدل أعمالا: من واصل البحر وغيره؛ وهي أجلّ ثغور الديار المصرية، لا يزال أهلها على يقظة من أمور البحر والاحتراز من العدوّ الطارق؛ وبها عسكر مستخدم لحفظها.
قال في «مسالك الأبصار» : وليس بالديار المصرية مدينة حاكمها موسوم بنيابة السلطنة «2» سواها.
قلت: وهذا فيما تقدّم حين كانت النيابة بها صغيرة في معنى ولاية. أما من حين طرقها العدوّ المخذول من الفرنج في سنة سبع وستين وسبعمائة واجناح أهلها وقتل وسبى، فإنها استقرت من حينئذ نيابة كبرى تضاهي نيابة طرابلس وحماة وما في معناهما، وهي على ذلك إلى الآن؛ وسيأتي الكلام على نيابتها في الكلام على ترتيب المملكة فيما بعد إن شاء الله تعالى.(3/464)
الشّعبة الثالثة ما بين فرقتي النيل الشرقية والغربية، وهو جزيرتان:
الجزيرة الاولى
- جانبها الشرقي يمتدّ في طول فرقة النيل الشرقية إلى مصبه في البحر الملح حيث دمياط بالقرب منها، وجانبها الغربي يمتدّ في طول فرقة النيل الغربية إلى تجاه أبي نشّابة من عمل الجيزة فينشأ بحر أبيار المتقدّم ذكره، ويمتدّ في طولها إلى قرية الفرستق خارج الجزيرة من الغرب فيتصل بفرقة النيل التي تفرّع منها على ما تقدّم، ويمتدّ في طولها إلى مصبه في البحر الملح حيث رشيد.
وتشتمل هذه الجزيرة على عملين:
العمل الأول- المنوفية
«1» . وأوّله من الجنوب من القرية المعروفة بشطّنوف على أوّل الفرقة الغربية من النيل؛ ومقرّ ولايته (مدينة منوف) بضم الميم «2» والنون وسكون الواو وفاء في الآخر- وهي مدينة إسلامية بنيت بدلا من مدينة قديمة كانت هناك قد خربت الآن وبقيت آثارها كيمانا، وولايتها من أنفس الولايات، وقد أضيف إليها عمل أبيار، وهو جزيرة بني نصر الآتي ذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وهي مدينة حسنة ذات أسواق ومساجد، ومسجد جليل للخطبة، وحمّام، وخانات.
قلت: وربما غلط فيها بعض الناس فظن أنها منف المتقدّمة الذكر في الكلام على قواعد مصر القديمة، وبينهما بعد كثير، إذ منف المتقدّمة الذكر جنوبي الفسطاط على اثني عشر ميلا منه كما تقدّم ذكره، وهذه شماليّ الفسطاط والقاهرة في أسفل الأرض.
العمل الثاني- الغربيّة
. وهو مصاقب للمنوفية من جهة الشمال، ويمتدّ إلى(3/465)
البحر الملح بين مصبي النيل إلا ما هو من عمل المزاحمتين على فرقة النيل الغربية من الشرق وهو عمل جليل القدر، عظيم الخطر، به البلاد الحسنة، والقرى الزاهية، والبساتين المتراكبة وغير ذلك؛ وفي آخره مما يلي بحر الروم موقع ثغر البرلّس «1» .
ويندرج فيه ثلاث أعمال أخر كانت قديمة، وهي القويسنيّة، والسّمنّودية، والدّنجاوية «2» ، ومقرّ ولايته (مدينة المحلّة) «3» . قال في «المشترك» :- بفتح الميم والحاء المهملة وتشديد اللام ثم هاء في الآخر- وتعرف بالمحلّة الكبرى، وقد غلب عليها اسم المحلة حتّى صار لا يفهم عند الإطلاق إلا هي.
قلت: ووقع في «التعريف» التعبير عنها بمحلّة المرحوم وهو وهم، وإنما هي قرية من قراها.
قال في «المشترك» : ويقال لها محلة الدّقلا (بفتح الدّال المهملة والقاف) وهي مدينة عظيمة الشأن، جليلة المقدار، رائقة المنظر، حسنة البناء، كثيرة المساكن، ذات جوامع، ومدارس، وأسواق، وحمّامات؛ وهي تعادل قوص من الوجه القبليّ في جلالة قدرها، ورياسة أهلها، ويفرق بينهما بما يفرق به بين الوجه القبلي والوجه البحري من الرطوبة واليبوسة.(3/466)
الجزيرة الثانية
- ما بين بحر أبيار المتقدّم ذكره وبين الفرقة الغربية من النيل، وتعرف بجزيرة بني نصر؛ وهي عمل واحد «1» ، وحاضرته (مدينة أبيار) بفتح الهمزة كما قاله في «الروض المعطار» «2» وإسكان الباء الموحدة وفتح المثناة تحت وبعدها ألف ثم راء مهملة- وهي مدينة لطيفة حسنة المنظر يعمل فيها القماش الفائق من المحررات وغيرها، وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة؛ ولم يتحرّر لي طولها ولا عرضها، وهي مضافة إلى ولاية منوف، وليس بها الآن ولاية مستقلة.(3/467)
الفصل الثالث فيمن ملك الديار المصرية، جاهلية وإسلاما
قال السلطان عماد الدين صاحب حماة في «تاريخه» : وكانت أهل مصر أهل ملك عظيم في الدهور الخالية والأزمان السالفة، ما بين قبطيّ ويونانيّ وعمليقيّ «1» ، وأكثرهم القبط. قال: وأكثر من تملّك مصر الغرباء.
وهم على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى من ملكها قبل الطّوفان، وقلّ من تعرّض له من المؤرّخين
قد تقدّم في الكلام على ابتداء عمارة مصر أن أوّل من عمرها قبل الطوفان نقراووس بن «2» مصريم بن براجيل بن رزائيل بن غرباب بن آدم عليه السلام، ومعنى نقراووس بالسريانية ملك قومه، وهو الذي عمر مدينة أمسوس أوّل قواعد مصر المتقدّم ذكرها؛ ثم ملكها بعده ابنه نقراووس الثاني مائة وسبع سنين؛ ثم ملكها بعده أخوه مصرام بن نقراووس الأوّل؛ ثم ملكها بعده عنقام الكاهن ولم تطل مدّة ملكه؛ ويقال إنّ إدريس عليه السلام رفع في زمانه؛ ثم ملكها بعده ابنه غرناق؛ ثم ملك بعده رجل من بني نقراووس اسمه لو جيم؛ ثم ملك بعده رجل اسمه خصليم، وهو أوّل من عمل المقياس للنيل على ما تقدّم ذكره؛ ثم ملك بعده ابنه هرصال، ومعناه بالسريانية خادم الزّهرة، وهي مدينة شرق النيل، وعمل(3/468)
سربا «1» تحت النيل إليها، وهو أوّل من عمل ذلك وأقام في الملك مائة وأربعا وثلاثين سنة، ويقال إن نوحا عليه السلام ولد في زمانه؛ ثم ملك بعده ابنه بدرسان؛ ثم ملك بعده أخوه شمرود، وكان طوله فيما يقال عشرين ذراعا؛ ثم ملك بعده فرسيدون بن بدرسان المتقدّم ذكره مائة وستين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه شرناق مائة وثلاث سنين ثم ملك بعده ابنه سهلوق مائة وتسع سنين؛ ثم ملك بعده ابنه سوريدين، وهو الذي بنى الأهرام العظام بمصر على ما تقدّم ذكره في الكلام على عجائب مصر وخواصّها؛ ثم ملك بعده ابنه هرجيب نيّفا وسبعين سنة، وهو الذي بنى الهرم الأوّل من أهرام دهشور؛ ثم ملك بعده ابنه مناوش ثلاثا وسبعين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه أقروس أربعا وستين سنة؛ وفي أيامه حصل القحط العظيم، وسلطت الوحوش والتماسيح على الناس، وأعقمت الأرحام حتّى يقال إن الملك تزوّج ثلاثمائة امرأة يبغي الولد فلم يولد له، وذلك مقدّمة الطوفان؛ ثم ملك بعده رجل من أهل بيت الملك اسمه أرمالينوس؛ ثم ملك بعده ابن عمه فرعان، وهو أوّل من لقب بلقب الفراعنة «2» ، وكان قد كتب إلى ملك بابل يشير عليه بقتل نوح عليه السلام، وفي زمنه كان الطوفان وهلك فيمن هلك.
المرتبة الثانية من ملكها بعد الطوفان إلى حين الفتح الإسلاميّ
وللمؤرّخين في ذلك خلف كثير، وقد جمعت بين كلام التواريخ التي وقفت عليها في ذلك، وهم على طبقات:(3/469)
الطبقة الأوّلى ملوكها من القبط «1»
قد تقدّم في الكلام على ابتداء عمارتها أن أوّل من عمرها بعد الطوفان بيصر ابن حام بن نوح عليه السلام، وكان بيصر قد كبر سنه وضعف، فأقام يسيرا ثم مات، فدفن في موضع دير أبي هرميس غربيّ الأهرام. قال القضاعي: ويقال إنها أوّل مقبرة دفن فيها بأرض مصر؛ وملك بعده ابنه مصر فعمر وطالت مدّة ملكه، وعمرت البلاد في أيامه وكثر خيرها، ثم مات؛ وملك بعده ابنه (قبطيم) ، وإليه ينسب القبط، ويقال إنه أدرك بلبلة الألسن التي كانت بعد نوح عليه السلام، وهي ريح خرجت عليهم ففرّقت بينهم وصار كل منهم يتكلم بلغة غير لغة الآخر، وخرج منها باللغة القبطيّة «2» ؛ ثم ملك بعده ابنه (قفط) ، وهو الذي بنى مدينة قفط «3» بالصعيد الأعلى وسماها باسمه، وآثارها باقية «4» إلى الآن؛ ثم ملك بعده أخوه (أشمن) ، وهو الذي بنى مدينة الأشمونين المتقدّم ذكرها بالوجه القبليّ، وطالت مدّته حتّى نقل أنه بقي ثمانمائة سنة، وقيل ثمانمائة وثلاثين؛ ثم ملك بعده أخوه (أتريب) ، وهو الذي بنى مدينة أتريب المتقدّمة الذكر بالوجه البحريّ من الديار المصرية؛ ثم ملك بعده أخوه (صا) ، وهو الذي بنى مدينة صا «5» المتقدّم ذكرها بالوجه البحريّ أيضا؛ ثم ملك بعده (قفطريم) بن قفط، ويقال: إنه الذي وضع أساس الأهرام الدهشورية غير الهرم الأوّل الذي بناه هرجيب المتقدّم ذكره قبل(3/470)
الطّوفان، وهو الذي بني مدينة دندرى «1» بالصعيد الأعلى، وآثارها باقية إلى الآن؛ ثم ملك بعده ابنه (بودشير) ، وهو الذي أصلح جنبتي النيل بهندسته؛ ثم ملك بعده ابنه (عديم) ثم ملك بعده ابنه (شدات) ، وهو الذي تمم الأهرام الدهشورية التي وضع أساسها قفطريم المتقدّم ذكره. ويقال: إن مدينة شطب «2» التي بالقرب من مدينة أسيوط بنيت في أيامه، وآثارها باقية إلى الآن، وهو أوّل من ولع بالصيد واتخذ الجوارح والكلاب السّلوقية «3» ، وعمل البيطرة من ملوك مصر، ومات عن أربعمائة وأربعين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (منقاوش) ، ويقال: إنه أوّل من عمل له الحمّام بمصر؛ ثم ملك بعده ابنه (مناوش) وطالت مدّته في الملك حتّى بقي فيما يقال ثمانمائة سنة، وقيل ثمانمائة وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده (منقاوش) بن أشمن نيفا وأربعين سنة، وقيل ستين سنة، وهو أوّل من عمل له الميدان بمصر، وأوّل «4» من بنى البيمارستان لعلاج المرضى، وفي أيامه بنيت مدينة سنتريه بالواحات؛ ثم ملك بعده ابنه (مرقوره) نيفا وثلاثين سنة، وفي كتب القبط أنه أوّل من ذلل السباع وركبها؛ ثم ملك بعده (بلاطس) خمسا وعشرين سنة؛ ثم ملكت بعده بنت من بنات أتريب خمسا وثلاثين سنة، وهي أوّل من ملك مصر من النساء؛ ثم ملك بعدها أخوها (قليمون) تسعين سنة، وفي أيامه بنيت مدينة دمياط على اسم غلام له كانت أمه ساحرة له، وفي أيامه بنيت أيضا مدينة(3/471)
تنّيس؛ ثم ملك بعده ابنه (فرسون) مائتين وستين سنة؛ ثم ملك بعده ثلاثة ملوك أو أربعة لم يعين اسمهم؛ ثم ملك بعدهم (مرقونس) الكاهن ثلاثا وسبعين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (أيساد) خمسا وسبعين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (صا) وأكثر القبط تزعم أنه أخوه، نيفا وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (تدارس) ، وهو الذي حفر خليج سخا المتقدّم ذكره في خلجان مصر القديمة؛ ثم ملك بعده ابنه (ماليق) ، ويقال: إنه خالف دين آبائه في عبادة الأصنام، ودان بدين التوحيد «1» .
ولما أحس بالموت، صنع له ناووسا وكنز معه كنوزا عظيمة، وكتب عليها أنه لا يستخرجها إلا أمة النبيّ الذي يبعث في آخر الزمان؛ ثم ملك بعده ابنه (حريا) ، وفي بعض التواريخ حرايا خمسا وسبعين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (كلكن) ، وفي بعض التواريخ كلكي نحوا من مائة سنة، وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر، وكان قبل ذلك مكتوما، وفي زمنه كان النّمروذ «2» بأرض بابل من العراق؛ ثم ملك بعده أخوه (ماليا) ؛ ثم ملك بعده (حربيا) بن ماليق؛ ثم ملك بعده (طوطيس) بن ماليا، وفي بعض التواريخ طوليس سبعين سنة، وفي بعض التواريخ أنه ملك بعد أبيه ماليا؛ والقبط تزعم أن الفراعنة سبعة هو أوّلهم، وهو الذي أهدى هاجر لإبراهيم عليه السلام، ثم ملكت بعده أخته (حوريا) ، وهي التي بنى لها جيرون المؤتفكيّ صاحب الشام مدينة الإسكندريّة حين خطبها على أحد الأقوال في عمارتها ليجعلها مهرا لها، ثم احتالت عليه فسمّته هو وجميع عسكره في خلع فماتوا؛ ثم ملكت بعدها بنت عمها (زلفى) ويقال دلفة بنت مأموم؛ ثم ملك بعدها (أيمين) الأتريبيّ، وهو آخر ملوك القبط من هذه الطبقة.
والذي ذكره القضاعيّ وغيره أنه ملكها بعد وفاة بيصر ابنه مصر، ثم قفط بن مصر،(3/472)
ثم أخوه أشمن، ثم أخوه أتريب، ثم أخوه صا، ثم ابنه تدراس، ثم ابنه ماليق، ثم ابنه حريا، ثم ابنه كلكن، ثم أخوه ماليا، ثم حربيا، ثم طوطيس بن ماليا، ثم ابنته حوريا، وهي أوّل من ملكها من النساء، ثم ابنة عمها زلفى، ومنها انتزعتها العمالقة الآتي ذكرهم.
الطبقة الثانية ملوكها من العماليق «1» ملوك الشام
أوّل من ملكها منهم (الوليد) بن دومع العمليقي، وقال السهيليّ «2» : الوليد ابن عمرو بن أراشة، اقتلعها من أيمين: آخر ملوك القبط المتقدّم ذكره، وهو الفرعون الثاني عند القبط، وقيل هو أوّل من سمي بفرعون، وقام في الملك مائة وعشرين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (الرّيّان) مائة وعشرين سنة، والقبط تسميه نهراوس، وهو الفرعون الثالث عند القبط، ونزل مدينة عين شمس، وكانت الملوك قبله تنزل مدينة منف، وفي أيامه وصل يوسف عليه السلام إلى مصر، وكان من أمره ما قصه الله تعالى في كتابه. ويقال إنه آمن بيوسف عليه السلام؛ ثم ملك بعده ابنه (دارم) ويقال دريوس، وهو الفرعون الرابع عند القبط، وفي أيامه توفّي «3» يوسف عليه السلام، وفي أيامه ظهر بمصر معدن فضة على ثلاثة أيام في النيل؛ ثم ملك بعده ابنه (معدان) ويقال معاديوس، وهو الفرعون الخامس عند القبط، إحدى وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (أقسامس) وهو الفرعون السادس عند القبط، وبعضهم يزعم أن منارة الإسكندريّة بنيت في زمنه،(3/473)
وأهل الأثر يسمونه كاسم، وربما قالوا كامس، ثم ملك بعده ابنس (لاطس) ؛ ثم ملك بعده رجل اسمه (ظلما) كان من عمّاله فخرج عليه فقتله وملك مكانه، وهو الفرعون السابع عند القبط، وهو فرعون موسى.
قال المسعوديّ: وهو الوليد بن مصعب الموجود في كتب الأثر، والوليد بن مصعب هو فرعون موسى، وهو الوليد بن مصعب بن عمرو بن معاوية بن أراشة، يجتمع مع الوليد بن دومع في أراشة، وهو آخر من ملك مصر من العمالقة، وبعضهم يقول ظلما بن قومس من ولد أشمون أحد ملوك القبط المتقدّم ذكرهم؛ وعلى هذا فيكون فرعون موسى من القبط، وهو أحد الأقوال فيه، وهو الذي يعوّل عليه القبط، ويوردونه في كتبهم، وآخرون يجعلونه من لخم من الشأم، والظاهر الأوّل، وهو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وفي زمنه حفر خليج سردوس المتقدّم ذكره في خلجان النيل، ويقال: إنه عاش دهرا طويلا لم يمرض ولم يشك وجعا إلى أن أهلكه الله تعالى بالغرق «1» .
الطبقة الثالثة ملوكها من القبط بعد العمالقة
أوّل من ملكها منهم بعد فرعون (دلوكة) وطالت مدّتها في الملك حتّى عرفت بالعجوز، وإليها ينسب حائط العجوز المبنيّ بالطوب اللّبن المستدير على بلاد مصر في لحف الجبلين: الشرقيّ والغربيّ، وأثره باق بالوجه القبليّ إلى الآن، ويقال إنها التي بنت البرابي بمصر، ثم ملك بعدها رجل من أبناء أكابر القبط اسمه (دركون) بن بطلوس، ويقال دركوس بن ملوطس؛ ثم ملك بعده رجل اسمه (تودس) ثم ملك بعده ابنه (لقاش) نحوا من خمسين سنة؛ ثم ملك بعده (مرينا) بن لقاش نحوا من عشرين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (بلطوس) ويقال(3/474)
بلوطس بن مياكيل أربعين سنة؛ ثم ملك بعده (مالوس) ويقال فالوس بن توطيس عشر سنين؛ ثم ملك بعده مياكيل. قال المسعوديّ: وهو فرعون الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وخرّب بيت المقدس؛ ثم ملك بعده (نوله) وهو الذي غزا رحبعم ابن سليمان عليه السلام بالشام، وقيل إن الذي غزا رحبعم كان اسمه شيشاق. قال السلطان عماد الدين صاحب حماة: وهو الأصح. قال: ثم لم يشتهر بعد شيشاق المذكور غير فرعون الأعرج، وهو الذي غزاه بختنصّر وصلبه، والذي ذكره المسعوديّ أنه ملك بعد مياكيل المتقدّم ذكره (مرنيوس) ؛ ثم ملك بعده ابنه (بغاش) ثمانين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه (قومس) عشرين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه كاييل.
قال المسعوديّ: وهو الذي غزاه بختنصر وصلبه وخرب مصر، وبقيت مصر أربعين سنة خرابا.
الطبقة الرابعة ملوكها من الفرس
أوّل من ملكها في جملة مملكة الفرس (بهراسف) بواسطة أن بختنصّر كان نائبا له ومن حين استولى عليها بختنصّر، توالت عليها الولاة من جهته، وهو ببابل سبعا وخمسين سنة وشهرا كما ذكر صاحب حماة إلى أن مات، فولي بعده ابنه (أولات) سنة واحدة؛ ثم أوليها بعده أخوه (بلطشاش) بن بختنصّر، ثم استقرّت مصر والشام بأيدي نوّاب الفرس عن ملوكهم.
فلما مات بهراسف، ملك بعده (كيبستاسف) ؛ ثم ملك بعده ابنه (أردشير) «1» بهمن بن اسفيديار بن كيبستاسف، وأنبسطت يده حتّى ملك الأقاليم السبعة؛ ثم ملك بعده ابنه (دارا) «2» ، وفي زمنه ملك الإسكندر بن(3/475)
فيلبس على اليونان فقصده، فلما قرب منه قتله جماعة من قومه، ولحقوا بالإسكندر، وهو آخر من ملك مصر من الفرس، ولم أقف على تفصيل نوّاب الفرس بمصر إلا أنه كان منهم (كسرجوس) الفارسيّ، وهو الذي بنى قصر الشّمع بالفسطاط على ما تقدّم ذكره، وبعده (طحارست) الطويل، وفي أيامه كان بقراط الحكيم.
الطبقة الخامسة ملوكها من اليونان
أوّل من ملكها منهم (الإسكندر بن فيلبس) حين غلب «1» دارا ملك الفرس على ملكه واستولى على ما كان بيده، وكان مقرّ ملكه مقدونية من بلاد الروم القديمة، وانحاز له ملك العراق، والشام، ومصر، وبلاد العرب. فلما مات تفرّقت ممالكه بين الملوك، فملك مصر ونواحي الغرب البطالسة «2» من ملوك اليونان، كان كلّ منهم يلقب بطليموس.
فأوّل من ملكها منهم (بطليموس المنطيقي) «3» عشرين سنة، ويقال:
إنه أوّل من لعب بالبزاة وضرّاها «4» ؛ ثم ملك بعده (بطليموس محبّ أخيه) «5» أربعين سنة، وقيل ثمانا وثلاثين سنة، وهو الذي نقل التّوراة من العبرانيّة إلى اليونانية؛ وفي أيامه ظهرت عبادة التماثيل والأصنام. ثم ملك بعده (بطليموس الصّائغ) «6» خمسا، وقيل ستا وعشرين سنة؛ ثم ملك بعده(3/476)
(بطليموس محبّ أبيه) «1» سبع عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (بطليموس صاحب علم الفلك) «2» أربعا وعشرين سنة، وهو الذي ألف كتاب المجسطي؛ ثم ملك بعده (بطليموس محبّ أمه) «3» سبعا وعشرين سنة؛ ثم ملك بعده (بطليموس الصائغ الثاني) «4» ثم ملك بعده «5» (بطليموس المخلص) ست عشرة سنة، وقيل سبع عشرة؛ ثم ملك بعده (بطليموس الإسكندراني) تسع سنين، وقيل اثنتي عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (بطليموس اسكندروس) ثلاث سنين؛ ثم ملك بعده (بطليموس محبّ أخيه) الثاني ثمان سنين؛ ثم ملك بعده (بطليموس دوتيسوس) ؛ ثم ملكت بعده ابنته (قلوبطرا) «6» اثنتين وعشرين سنة، وبزوالها انقرض ملك اليونان عن مصر وزال.(3/477)
الطبقة السادسة ملوكها من الروم
أوّل من ملكها منهم (أغشطش) . يقال بشينين معجمتين ومهملتين، ولقبه قيصر، وهو أوّل من تلقب به، ثم صار علما على ملوك الروم.
قصد قلوبطرا المتقدم ذكرها، فلما أحسّت بقربه منها، عمدت إلى مجلسها فجعلت فيه الرياحين والمشموم، وأعملت الفكر في تحصيل حية إذا نهشت الإنسان مات لحينه ولم يتغير حاله، فقربت يدها منها حتّى ألقت سمّها في يدها، وانسابت الحية في الرياحين، وجاء أغشطش فوضع يده في الرياحين فنهشته الحية، فبقي يوما ومات بعد أن ملك الروم ثلاثا وأربعين سنة، وفي أيامه ولد المسيح عليه السلام؛ ثم ملك بعده الروم ومصر (طيباريوس) «1» ويقال طبريوس، ويقال طبريس اثنتين وعشرين سنة. قال المسعودي: وفي زمنه رفع المسيح عليه السلام قال: ولما مات أغشطش، اختلف الروم وتحزبوا وتنازعوا في الملك مائتين وثمانيا وتسعين سنة، لا نظام لهم، ولا ملك يجمعهم؛ ثم ملكهم (عانيوس) . قال صاحب حماة: وكان رفع المسيح في زمنه، وهو مخالف لما تقدّم من كلام المسعودي؛ ثم ملك بعده (قلديوس) أربع عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (نارون) «2» ثلاث عشرة سنة، وهو الذي قتل بطرس وبولص الحواريّين برومية وصلبهما؛ ثم ملك بعده (ساسانوس) عشر سنين؛ ثم ملك بعده (طيطوس) سبع عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (دومطيتوش) ويقال أديطانش خمس عشرة سنة، وكان على عبادة الأصنام فتتبع اليهود والنصارى وقتلهم؛ ثم(3/478)
ملك بعده (أدريانوس) ستا وثلاثين سنة فأصابته علة الجذام «1» فسار إلى مصر يطلب طبّا لذلك فلم يظفر به ومات بعلّته؛ ثم ملك بعده (ايطيثيوس) ويقال أبطاوليس ثلاثا وعشرين سنة، وهو الذي بنى بيت المقدس بعد تخريبه الثانية وسماه إيليا «2» ، ومعناه بيت الرب، وهو أوّل من سماه بذلك؛ ثم ملك بعده (مرقوس) ويقال قومودوس سبع عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (قومودوس) ثلاث عشرة سنة، وكان دين النصارى قد ظهر في أيامه؛ وفي زمنه كان جالينوس الحكيم، ثم ملك بعده (قوطنجوس) ستة أشهر؛ ثم ملك بعده (سيوارس) ثماني عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (ايطيثيوس الثاني) أربع سنين، ثم ملك بعده (اسكندروس) ثلاث عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (بكسمينوس) ثلاث سنين؛ ثم ملك بعده (خورديانوس) ست سنين؛ ثم ملك بعده (دقيانوس) وقيل دقيوس سنة واحدة، فقتل النصارى وأعاد عبادة الأصنام، ومنه هرب الفتية أصحاب الكهف، وكان من أمرهم ما قص الله تعالى في كتابه العزيز؛ ثم ملك بعده (غاليوس) ثلاث سنين؛ ثم ملك بعده (علينوس) و (ولديانوس) اشتركا في الملك، وقيل إن ولديانوس انفرد بالملك بعد ذلك؛ وأقام فيه خمس عشرة سنة؛ ثم ملك بعده (قلوديوس) سنة واحدة؛ ثم ملك بعده (اردياس) ويقال أردليانوس ست سنين؛ ثم ملك بعده (قروقوس) سبع سنين؛ ثم ملك بعده (ياروس) وشركته سنتين؛ ثم ملك بعده (دقلطيانوس) إحدى وعشرين سنة، وهو آخر عبدة الأصنام من ملوك الروم، وبمهلكه تؤرخ النصارى إلى اليوم، وعصي عليه أهل مصر، فسار إليهم من رومية، وقتل منهم خلقا عظيما، وهم الذين يعبر عنهم النصارى الآن بالشهداء.(3/479)
ثم ملك بعده قسطنطين «1» المظفر إحدى وثلاثين سنة فسار من رومية إلى قسطنطينيّة وبنى سورها واستقرت دار ملكهم، وأظهر دين النصرانية وحمل الناس عليه؛ ثم ملك بعده ابنه قسطنطين فشيّد دين النصرانية وبنى الكنائس الكثيرة؛ ثم ملك بعده إليانوس، ويقال إليانس سنة واحدة، وهو ابن أخي قسطنطين المتقدّم ذكره، فرفض دين النصرانية ورجع إلى عبادة الأصنام، وبموته خرج الملك عن بني قسطنطين؛ ثم ملك بعده بطريق من بطارقة الروم اسمه بوثيانوس، ويقال سيوتيانوس سنة واحدة فأعاد دين النصرانية، ومنع عبادة الأصنام؛ ثم ملك بعده قالنطيانوس أربع عشرة سنة؛ ثم ملك بعده خرطيانوس ثلاث سنين؛ ثم ملك بعده باردوسيوس الكبير تسعا وأربعين سنة؛ ثم ملك بعده ادقاديوس بقسطنطينيّة وشريكه أويوريوس برومية ثلاث عشرة سنة؛ ثم ملك بعدهما مرقيانوس سبع سنين، وهو الذي بنى دير مارون «2» بحمص؛ ثم ملك بعده واليطيس سنة واحدة؛ ثم ملك بعده لاون الكبير سبع عشرة سنة؛ ثم ملك بعده زيتون ثمان عشرة سنة؛ ثم ملك بعده اسطيسوس سبعا وعشرين سنة، وهو الذي عمر أسوار مدينة حماة؛ ثم ملك بعده بوسيطيتنوس تسع سنين؛ ثم ملك بعده بوسيطيتنوس الثاني ثمانيا وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده طبريوس ثلاث سنين؛ ثم ملك بعده طبريوس الثاني أربع سنين؛ ثم ملك بعده ماريقوس ثمان سنين؛ ثم ملك بعده ماريقوس الثاني، ويقال مرقوس اثنتي عشرة سنة؛ ثم ملك بعده قوقاس ثمان سنين؛ ثم ملك بعده هرقل واسمه بالرومية أوقليس، وهو الذي كتب «3» إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى الإسلام، وكانت الهجرة النبوية في السنة الثانية عشرة من ملكه.(3/480)
قال المسعوديّ: وفي تواريخ أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر وملك الروم قيصر بن قوق «1» ؛ (ثم ملك الروم بعده) قيصر بن قيصر، وذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهو الذي حاربه أمراء الإسلام بالشام واقتلعوا الشام منه.
والذي ذكره في «التعريف» في مكاتبة الأذفونش «2» صاحب طليطلة من ملوك الفرنج بالأندلس أن هرقل الذي هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم في زمنه وكتب إليه لم يكن الملك نفسه، وإنما كان متسلم الشام لقيصر، وقيصر بالقسطنطينيّة لم يرم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما كتب لهرقل لأنه كان مجاورا لجزيرة العرب من الشام، وعظيم بصرى كان عاملا له، ويظهر أن قيصر الأخير الذي ذكره هو الذي كان المقوقس عاملا له على مصر. ويقال: إن المقوقس تقبّل مصر من هرقل بتسعة عشر ألف ألف دينار.
واعلم أنه كان الحال يقتضي أن نذكر نوّاب من تقدّم من ملوك الروم واليونان والفرس على مصر، ولكن أصحاب التواريخ لم تعتن بأمر ذلك، فتعذر العلم به. وإذا ذكر الأصل، استغني به عن الفرع.
وذكر القضاعيّ: أنه بعد عمارة مصر من خراب بختنصّر «3» ظهرت الروم(3/481)
وفارس على سائر الملوك التي وسط الأرض فقاتلت الروم أهل مصر ثلاث سنين إلى أن صالحوهم على شيء في كل عام، على أن يكونوا في ذمتهم ويمنعوهم من ملوك فارس، ثم ظهرت فارس على الروم وغلبوهم على الشأم وألحّوا على مصر بالقتال، ثم استقرّ الحال على خراج مصر أن يكون بين فارس والروم في كل عام، وأقاموا على ذلك تسع سنين؛ ثم غلبت الروم فارس وأخرجوهم من الشأم وصار ما صولحت عليه أهل مصر كله خالصا للروم، وجاء الإسلام والأمر على ذلك.
المرتبة الثالثة من وليها في الإسلام: من بداية الأمر إلى زماننا، وهم على ضربين:
الضرب الأول فيمن وليها نيابة، وهو الصدر الأول، وهم على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى عمّال الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم
قد تقدّم أنها لم تزل بيد الروم والمقوقس عامل عليها إلى خلافة عمر رضي الله عنه، ولم تزل كذلك إلى أن فتحها عمرو بن العاص والزّبير بن العوّام «1» في سنة عشرين من الهجرة، وقيل سنة تسع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ووليها (عمرو بن العاص) من قبل عمر، وهو أول من وليها في الإسلام، وبقي عليها إلى سنة خمس وعشرين؛ وبنى الجامع العتيق بالفسطاط؛ ثم وليها عن عثمان بن عفان رضي الله عنه (أبو يحيى العامري «2» ) فمكث فيها(3/482)
إحدى عشرة سنة، وتوفي سنة ست «1» وثلاثين؛ ثم «2» وليها عن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه (قيس بن سعد) الخزرجيّ في أول سنة سبع وثلاثين؛ ثم وليها عنه (مالك بن الحارث النخعيّ) المعروف بالأشتر في وسط سنة سبع وثلاثين، وكتب له عنه عهدا يأتي ذكره في الكلام على العهود إن شاء الله تعالى، فسمّ ومات قبل «3» دخوله إلى مصر؛ ثم وليها عنه (محمد بن أبي بكر الصدّيق) رضي الله عنه في آخر سنة سبع وثلاثين فمكث دون السنة؛ ثم وليها عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (عمرو بن العاص ثانيا) سنة ثمان وثلاثين خمس سنين، وتوفي بها سنة ثلاث وأربعين؛ ثم «4» وليها عنه (عقبة بن عامر الجهنيّ) في سنة أربع وأربعين فمكث فيها ثلاث سنين وكسرا؛ ثم وليها عنه (مسلمة بن مخلّد الخزرجيّ) سنة سبع وأربعين فمكث فيها خمس عشرة سنة.
الطبقة الثانية عمّال خلفاء بني أميّة بالشام
لما أفضت الخلافة بعد معاوية إلى ابنه يزيد، وليها عنه (سعيد بن يزيد بن علقمة الأزديّ) في سنة اثنتين وستين، فمكث فيها سنتين وكسرا؛ ثم(3/483)
وليها عنه «1» (عبد الرحمن الفهريّ) في سنة أربع وستين، وأقرّه على الولاية بعد يزيد ابنه معاوية ثم مروان بن الحكم «2» ، فمكث فيها اثنتين وعشرين «3» سنة؛ ثم وليها عن عبد الملك بن مروان (عبد الله بن عبد الملك بن مروان) في أول سنة ست وثمانين، فمكث فيها خمس سنين؛ ثم وليها عنه (قرّة بن شريك) «4» في سنة تسعين، وأقره عليها الوليد بن عبد الملك بعده، فمكث فيها سبع سنين، ثم وليها عن «5» سليمان بن عبد الملك (عبد الملك بن رفاعة) في سنة سبع وتسعين، فمكث فيها ثلاث سنين وكسرا؛ ثم وليها عن عمر بن عبد العزيز (أيوب بن شرحبيل الأصبحي) آخر سنة «6» تسع وتسعين، فمكث فيها سنتين وستة أشهر؛ ثم كانت خلافة يزيد بن عبد الملك؛ فوليها عنه ( [بشر «7» بن] صفوان الكلبيّ) سنة إحدى ومائة، فمكث فيها سنتين وستة أشهر أيضا؛ ثم «8» وليها عن هشام بن عبد الملك (محمد بن عبد الملك) أخو هشام في سنة خمس(3/484)
ومائة، فمكث فيها أشهرا؛ ثم وليها عنه (عبد الله بن يوسف الثقفيّ) في ذي الحجة سنة خمس ومائة، فمكث فيها أربع سنين وستة أشهر؛ ثم «1» وليها عنه (عبد الملك [بن رفاعة ثانيا] ) «2» في سنة تسع ومائة وعزل فيها؛ ثم وليها عنه (الوليد) أخو عبد الملك [بن رفاعة] «3» في سنة تسع المذكورة، فمكث فيها عشر سنين وكسرا، وتوفّي سنة تسع عشرة ومائة؛ ثم وليها عنه (عبد الرحمن الفهري «4» ) ثانيا «5» في آخر سنة تسع عشرة ومائة، فأقام بها سبعة أشهر، ثم وليها عنه (حنظلة) بن صفوان ثانيا «6» في سنة عشرين ومائة، فمكث فيها سنين وكسرا وعزل؛ ثم «7» وليها عن مروان بن محمد الجعديّ؛ فوليها عنه ( [حسان بن] «8» عتابة «9» التّجيبي) سنة سبع وعشرين ومائة، فمكث فيها خمس «10» سنين أو دونها؛ ثم وليها عنه (حفص بن الوليد) «11» سنة ثمان وعشرين ومائة، فمكث فيها ثلاث «12» سنين وستة أشهر؛ ثم وليها عنه (الفزاريّ) «13» سنة أحدى وثلاثين ومائة،(3/485)
فمكث فيها سنة واحدة؛ ثم وليها عنه (عبد الملك بن مروان) مولى لخم سنة إحدى «1» وثلاثين ومائة، وهو آخر من وليها عن بني أمية.
الطبقة الثالثة عمّال خلفاء بني العبّاس بالعراق
أول من وليها في الدولة العباسية عن أبي العبّاس السفّاح: أوّل خلفائهم، (صالح بن عليّ) بن عبد الله بن عباس سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فمكث فيها أشهرا قلائل؛ ثم وليها عنه (عبد الملك) «2» مولى بني أسد آخر سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فمكث فيها ثلاث سنين؛ ثم وليها عنه (صالح بن عليّ) ثانيا في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. ثم وليها عن أبي جعفر المنصور (عبد الملك) سنة تسع وثلاثين ومائة، فمكث فيها ثلاث سنين؛ ثم وليها عنه (النّقيب التميميّ) «3» سنة إحدى وأربعين ومائة، فمكث فيها سنتين «4» ؛ ثم وليها عنه (حميد الطائيّ: «5» سنة ثلاث وأربعين ومائة، فمكث فيها سنة واحدة؛ ثم وليها عنه (يزيد المهلّبيّ) «6» سنة أربع وأربعين ومائة، فمكث فيها تسع سنين؛ ثم وليها عنه (عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية) سنة اثنتين وخمسين ومائة، فمكث فيها سنتين وستة أشهر؛ ثم وليها عنه (محمد بن عبد الرحمن بن معاوية) سنة أربع وخمسين ومائة، فمكث فيها سنة واحدة؛ ثم وليها عنه (موسى بن علي اللخميّ)(3/486)
في سنة خمس وخمسين ومائة، فمكث فيها سنتين وستة أشهر.
ثو وليها عن المهدي (عيسى الجمحيّ) «1» سنة إحدى وستين ومائة، فمكث فيها سنة واحدة؛ ثم وليها عنه (واضح) «2» مولى المنصور في سنة اثنتين وستين ومائة؛ ثم وليها عنه (زيد بن منصور) «3» الحميري في وسط سنة اثنتين وستين ومائة؛ ثم وليها عنه (يحيى أبو صالح) «4» في ذي الحجة من السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (سالم بن سوادة التميميّ) سنة أربع وستين ومائة؛ ثم وليها عنه (إبراهيم العباسيّ) «5» في سنة خمس وستين ومائة؛ ثم وليها عنه (معين الدين ختهم) «6» في سنة ست «7» وستين ومائة.
ثم وليها عن الهادي (أسامة بن عمرو العامري) «8» في سنة ثمان وستين ومائة، ثم وليها عنه (الفضل بن صالح العباسيّ) في سنة تسع وستين ومائة؛ ثم وليها عنه (على بن سليمان العباسيّ) آخر السنة المذكورة.
ثم وليها عن الرشيد (موسى العباسي) «9» في سنة اثنتين وسبعين ومائة؛ ثم «10» وليها عنه (محمد بن زهير) الأزدي سنة ثلاث وسبعين ومائة؛ ثم وليها عنه(3/487)
داود بن يزيد المهلبي سنة أربع وسبعين ومائة؛ ثم وليها عنه (موسى بن عيسى العباسي) «1» سنة خمس وسبعين ومائة ومات بها؛ ثم وليها عنه (عبد الله بن المسيب الضبيّ) «2» في أول سنة سبع وسبعين ومائة؛ ثم «3» وليها عنه (هرثمة بن أعين) سنة ثمان وسبعين ومائة؛ ثم وليها عنه (عبد الملك العباسيّ) في سلخ ذي الحجة من السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (عبيد الله بن المهديّ العباسيّ) في سنة تسع وسبعين ومائة؛ ثم وليها عنه (موسى بن عيسى) «4» التّنوخيّ في آخر سنة ثمانين ومائة، ثم وليها عنه (عبيد الله بن المهديّ) ثانيا سنة إحدى وثمانين ومائة؛ ثم وليها عنه (إسماعيل بن صالح) في آخر السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (إسماعيل بن عيسى بن موسى) «5» سنة اثنتين وثمانين ومائة؛ ثم وليها عنه (الليث البيورديّ) في آخر السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (أحمد بن إسماعيل) في آخر سنة تسع «6» وثمانين ومائة؛ ثم وليها عنه (عبد الله بن محمد العباسيّ) المعروف بابن زينب في سنة تسعين «7» ومائة؛ ثم وليها «8» عنه (مالك بن دلهم الكلبيّ) سنة اثنتين وتسعين ومائة؛ ثم وليها عنه أو عن الأمين (الحسين بن(3/488)
الحجاج) «1» سنة ثلاث وتسعين ومائة.
ثم وليها عن الأمين (حاتم بن هرثمة بن أعين) سنة خمس وتسعين ومائة؛ ثم وليها عنه (عباد أبو نصر) «2» مولى كندة سنة ست وتسعين ومائة، ثم وليها عنه أو عن المأمون (المطّلب بن عبد الله الخزاعي) سنة ثمان وتسعين ومائة.
ثم وليها عن المأمون (العباس بن موسى) سنة ثمان وتسعين ومائة؛ ثم وليها عنه (المطلب بن عبد الله) ثانيا في سنة تسع وتسعين ومائة؛ ثم وليها عنه (السريّ بن الحكم) في سنة مائتين؛ ثم وليها عنه (سليمان بن غالب) في سنة إحدى ومائتين؛ ثم وليها «3» عنه (أبو نصر محمد بن السريّ) في سنة خمس ومائتين؛ ثم وليها عنه (عبيد الله) «4» في سنة ست ومائتين؛ ثم وليها عنه (عبد الله بن طاهر) مولى خزاعة في سنة عشر ومائتين؛ وهو أول من جلب البطّيخ الخراسانيّ المعروف بالعبدليّ من خراسان إلى مصر فنسب إليه؛ ثم وليها عنه (عيسى الجلّوديّ) في سنة ثلاث عشرة ومائتين؛ ثم وليها عنه (عمرو «5» بن الوليد التميميّ) في سنة أربع عشرة ومائتين؛ ثم وليها عنه (عيسى الجلّوديّ) ثانيا في آخر السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (عبدويه بن جبلة) في سنة خمس عشرة ومائتين؛ ثم وليها عنه (عيسى بن منصور) مولى بني نصر في سنة ستّ عشرة ومائتين.(3/489)
وفي هذه السنة دخل المأمون مصر وفتح الهرم.
ثم وليها عن المعتصم بالله «1» المسعوديّ في أول سنة تسع عشرة ومائتين؛ ثم وليها عنه (المظفّر بن كيدر) في وسط السنة المذكورة أشهرا قلائل؛ ثم وليها عنه (موسى بن أبي العباس) «2» في آخر السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (مالك «3» بن كيدر) في سنة أربع وعشرين ومائتين؛ ثم وليها عنه (عليّ بن يحيى) في سنة ست وعشرين ومائتين.
ثم وليها عن الواثق بالله (عيسى بن منصور الجلّودي) ثانيا «4» في سنة تسع وعشرين ومائتين؛ ثم «5» وليها عن المتوكل «6» (عليّ بن يحيى) ثانيا في سنة أربع وثلاثين ومائتين؛ ثم وليها عنه (إسحاق الختليّ) في سنة خمس وثلاثين ومائتين؛ ثم وليها عنه «7» (خزاعة) «8» في سنة ست وثلاثين ومائتين، ثم وليها عنه «9» (عنبسة «10» الضّبيّ) في سنة ثمان وثلاثين ومائتين؛ ثم وليها عنه (يزيد بن عبد الله) في سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وأقرّه عليها بعده المنتصر بالله، ثم المستعين بالله.
ثم وليها عن المستعين «11» بالله (مزاحم بن خاقان) في سنة ثلاث وخمسين(3/490)
ومائتين؛ ثم وليها عنه (أحمد بن مزاحم) في سنة أربع وخمسين ومائتين وأقرّه عليها المهتدي بالله «1» .
الضرب الثاني من وليها ملكا، وهم على أربع طبقات:
الطبقة الأولى من وليها عن بني العبّاس قبل دولة الفاطميين
وأوّلهم: (أحمد بن طولون) وليها عن «2» عن المعتمد في سنة ست وستين «3» ومائتين، وعمر بها جامعه المتقدّم ذكره في خطط الفسطاط؛ وفي أيامه عظمت نيابة مصر وشمخت إلى الملك؛ وهو أول من جلب المماليك الترك إلى الديار المصرية واستخدمهم في عسكرها.
وأقرّه المعتضد «4» بالله بعد المعتمد، وبقي بها حتى مات «5» ، فوليها عن المعتضد «6» (خمارويه بن أحمد بن طولون) في أول سنة اثنتين وثمانين «7»(3/491)
ومائتين، وقتله جنده في السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (جيش بن خمارويه) في سنة ثلاث «1» وثمانين ومائتين وقتله «2» جنده في السنة المذكورة؛ ثم وليها عنه (هارون بن خمارويه) في آخر سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقتل في سنة اثنتين وتسعين.
ثم وليها عن المكتفي بالله (شيبان بن أحمد بن طولون) في سنة اثنتين وتسعين ومائتين فبقي اثني عشر يوما وعزل «3» ؛ ثم وليها عنه (محمد بن سليمان الواثقي) في آخر سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ثم وليها عنه أو عن المقتدر بالله (عيسى النّوشريّ) في سنة خمس «4» وتسعين ومائتين.
ثم وليها عن المقتدر بالله (أبو منصور تكين) في سنة سبع وتسعين ومائتين وعزل؛ ثم وليها عنه (أبو الحسن «5» ) في سنة ثلاث وثلاثمائة وعزل، ثم وليها عنه (أبو منصور تكين) ثانيا سنة سبع وثلاثمائة وعزل؛ ثم وليها عنه (هلال) «6» سنة تسع وثلاثمائة؛ ثم وليها عنه (أحمد بن كيغلغ) في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة؛ ثم(3/492)
وليها عنه (أبو منصور تكين) ثالث مرة في السنة المذكورة.
ثم وليها عن القاهر بالله (محمد بن طغج) في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. ثم وليها عنه (أحمد بن كيغلغ) ثانيا في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
وأقره عليها المكتفي ثم المستكفي بالله بعده.
ثم وليها عن المطيع لله (أبو القاسم الإخشيد) «1» في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ثم وليها عنه (علي بن الإخشيد) سنة تسع وثلاثين «2» وثلاثمائة؛ ثم وليها عنه (كافور الإخشيدي) الخادم في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وكان يحب العلماء والفقهاء، ويكرمهم، ويتعاهدهم بالنّفقات، ويكثر الصدقات حتّى استغنى الناس في أيامه، ولم يجد أرباب الأموال من يقبل منهم الزكاة فرفعوا أمر ذلك إليه فأمرهم أن يبتنوا بها المساجد ويتخذوا لها الأوقاف ففعلوا؛ ثم وليها عنه (أحمد بن علي الإخشيد) في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وهو آخر من وليها من العمّال عن خلفاء بني العباس بالعراق.
الطبقة الثانية من وليها من الخلفاء الفاطميين المعروفين بالعبيدييّن
أول من وليها منهم (المعزّ لدين الله أبو تميم معدّ بن تميم بن إسماعيل بن محمد بن عبيد الله المهديّ) وإليه ينسبون، جهز إليها قائده جوهرا، من بلاد المغرب إلى الديار المصرية ففتحها في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة على ما تقدّم في الكلام على قواعد الديار المصرية وانقطعت الخطبة العباسية منها؛ ورحل المعزّ من المغرب إلى مصر فوصل إليها ودخل قصره بالقاهرة في سابع رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وصارت مصر والمغرب مملكة واحدة، وبلاد المغرب نيابة من مصر. وتوفّي ثالث ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة.(3/493)
ثم ولي بعده ابنه (العزيز بالله أبو المنصور) يوم وفاة أبيه، وإليه ينسب الجامع العزيزيّ بمدينة بلبيس، وتوفّي بالحمّام في بلبيس ثامن رمضان المعظّم قدره سنة ست وثمانين وثلاثمائة.
ثم ولي بعده ابنه (الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور) ليلة وفاة أبيه، وبنى الجامع الحاكميّ في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وهو يومئذ خارج سور القاهرة، وفارق مصر وخرج إلى الجبل المقطم فوجدت ثيابه مزرّرة الأطواق وفيها آثار السكاكين ولا جثّة فيها، وذلك في سلخ شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة ولم يشكّ في قتله. والدّرزيّة من المبتدعة يعتقدون أنه حيّ وأنه سيرجع ويعود على ما سيأتي في الكلام على أيمانهم وتحليفهم إن شاء الله تعالى.
ثم ولي بعده ابنه (الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن عليّ) وبقي حتّى توفي في شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
ثم ولي بعده ابنه (المستنصر بالله أبو تميم معدّ) بعد وفاة أبيه. وفي أيامه جدّد سور القاهرة الكبير في سنة ثمانين وأربعمائة. وتوفي في ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وفي أيامه كان الغلاء الذي لم يعهد مثله، مكث سبع سنين حتّى خربت مصر، ولم يبق بها إلا صبابة من الناس على ما تقدّم في سياقة الكلام على زيادة النيل.
ثم ولي بعده ابنه (المستعلي بالله) أبو القاسم أحمد يوم وفاة أبيه. وتوفّي لسبع عشرة ليلة خلت من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
ثم ولي بعده (الآمر بأحكام الله أبو عليّ المنصور) في يوم وفاة المستعلي، وقتل بجزيرة مصر في الثالث من ذي القعدة سنة خمس «1» وعشرين وخمسمائة.
ثم ولي بعده ابن عمه (الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد الحميد بن الآمر(3/494)
أبي القاسم محمد) يوم وفاة الآمر. وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
ثم ولي بعده (الظافر بأمر الله إسماعيل) رابع جمادى الآخرة سنة أربعين «1» وخمسمائة.
ثم ولي بعده ابنه (الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى) صبيحة وفاة أبيه.
وتوفي في سابع عشر شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ثم ولي بعده (ابنه العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف) يوم وفاة الفائز. وتوفّي يوم عاشوراء سنة أربع «2» وستين وخمسمائة بعد أن قطع السلطان صلاح الدين خطبته بالديار المصرية وخطب للخلفاء العبّاسيين ببغداد قبل موته، وهو آخر من ولي منهم.
الطبقة الثالثة ملوك بني أيّوب
وهم وإن كانوا يدينون بطاعة خلفاء بني العبّاس فهم ملوك مستقلّون وفي دولتهم زاد ارتفاع قدر مصر وملكها.
أوّل من ملك مصر منهم الملك الناصر (صلاح الدين يوسف بن أيّوب) كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام رحمه الله قد جهّزه صحبة عمه أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية حين استغاث به أهل مصر في زمن العاضد الفاطميّ المتقدّم ذكره لغلبة الفرنج عليهم ثلاث مرّات انتهى الحال في آخرها إلى أنّ السلطان صلاح الدين وثب على شاور وزير العاضد المذكور فقتله وتقلد عمّه أسد الدين شيركوه الوزارة مكانه عن العاضد، وكتب له بذلك عهد من إنشاء القاضي الفاضل، فأقام فيها مدّة قريبة ومات، ففوّض العاضد الوزارة مكانه للسلطان صلاح الدين وكتب له عهد من إنشاء القاضي الفاضل أيضا، وبقي في الوزارة حتّى ضعف العاضد وطال ضعفه فقطع السلطان صلاح(3/495)
الدين الخطبة للعاضد، وخطب للخليفة العباسيّ ببغداد بأمر الملك العادل صاحب الشام، ثم مات العاضد عن قريب فاستقلّ السلطان صلاح الدين بالسلطنة بمصر وقوي جأشه، وثبتت في الدولة قدمه. وتوفي بدمشق في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وكانت مدّة ملكه بالديار المصرية أربعا وعشرين سنة وملكه الشام تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده مصر ابنه (الملك العزيز) وملك معها دمشق وسلّمها إلى عمه العادل أبي بكر في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وتفرّقت بقية الممالك الشامية بيد بني عمه من بني أيوب «1» ملك مصر والشام جميعا في ربيع الأول سنة ست وتسعين وخمسمائة وتوفي بدمشق سنة خمس عشرة وستمائة.
ثم ملك بعده ابنه (الملك الكامل) عقيب وفاة أبيه المذكور، وهو أوّل من سكن قلعة الجبل بعد قصر الفاطميين بالقاهرة على ما تقدّم ذكره في الكلام على القلعة، واستمرّ في ذلك عشرين سنة، وفتح حرّان وديار بكر، وكان الفرنج قد استعادوا بعض ما فتحه السلطان صلاح الدين من ساحل الشام وكتب الهدنة بينه وبين الفرنج في سنة ست وعشرين وستمائة على أن يكون بأيدي الفرنج القلاع والنواحي التي ملكوها بعد فتح السلطان صلاح الدين، وهي جبلة «2» ، وبيروت وصيدا، وقلعة الشقيف «3» ، وقلعة تبنين «4» ، وقلعة هواين «5» ، وإسكندرية وقلعة صفد، وقلعة الطور «6» واللجون «7» ، وقلعة كوكب «8» ومجدل «9» يافا، ولدّ،(3/496)
والرملة، وعسقلان، وبيت جبريل، والقدس وأعمال ذلك ومضافاته. وبنى مدرسته الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث، وتوفي بدمشق سنة خمس وثلاثين وستمائة.
ثم ملك بعده ابنه (الملك العادل أبو بكر) وقبض عليه في العشر الأوسط من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ثم ملك بعده أخوه الملك الصالح (نجم الدين أيوب) بن الكامل في أوائل سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
ثم ملك بعده ابنه الملك المعظم (توران شاه) وهو الذي كسر الفرنج على المنصورة في المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة، وقتل في الثامن والعشرين من المحرّم المذكور.
ثم ملكت بعده أمّ خليل (شجرة الدّرّ) «1» في صفر سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأقامت ثمانية أشهر، ولم يملك مصر في الإسلام امرأة غيرها.
ثم ملك بعدها الأشرف (موسى بن الناصر يوسف بن المسعود بن الكامل بن العادل أبي بكر بن أيوب) في شوال سنة ثمان وأربعين وستمائة وخلع نفسه وهو آخر الملوك الأيوبية بالديار المصرية.
الطبقة الرابعة ملوك التّرك خلّد الله تعالى دولتهم
أوّل من ملكها منهم (الملك المعزّ أيبك التركماني) بعد خلع الأشرف(3/497)
موسى، آخر ملوك الأيوبية في شوّال سنة ثمان وأربعين وستمائة؛ وجمع له بين مصر والشام، واستمرّ الجمع بينهما إلى الآن «1» ، وبنى المدرسة المعزّية برحبة الخروب بالفسطاط، وتزوّج بأمّ خليل المقدّم ذكرها، وقتل بحمّام القلعة في سنة أربع وخمسين وستمائة.
ثم ملك بعده ابنه (الملك المنصور عليّ) عقيب وفاة والده المذكور.
وقتلت أمّ خليل المذكورة، ورميت من سور القلعة، وقبض «2» على المظفّر سنة سبع وخمسين وستمائة. ثم ملك بعده الملك (المظفر قطز) وكان المصافّ بينه وبين التتار على عين جالوت بعد ان استولوا على جميع الشام في رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكسرهم أشدّ كسرة واستقلع الشام منهم، وبقي حتّى قتل «3» في منصرفه بطريق الشام وهو عائد منه بالقرب من قصير الصالحية على أثر ذلك في السنة المذكورة.
ثم ملك بعده الملك (الظاهر بيبرس) البندقداريّ في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، وأخذ في جهاد الفرنج واستعادة ما ارتجعوه من فتوح السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وغير ذلك ففتح البيرة في سنة تسع وخمسين وستمائة والكرك في سنة إحدى وستين، وحمص في آخر سنة اثنتين وستين وستمائة، وقيساريّة وأرسوف في سنة ثلاث وستين، وصفد في سنة أربع وستين، ويافا والشّقيف، وأنطاكية في سنة ست وستين، وحصن الأكراد وعكّا وصافيتا في سنة تسع وستين، وكسر التّتار على البيرة بعد أن عدى الفرات خوضا بعساكره في(3/498)
سنة إحدى وسبعين؛ وفتح قلاعا من بلاد سيس «1» في سنة ثلاث وسبعين ودخل بلاد الروم، وجلس على كرسي بني سلجوق بقيساريّة الروم، ورجع إلى دمشق في آخر سنة خمس وسبعين، وتوفّي بدمشق في المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، وبنى مدرسته الظاهرية بين القصرين.
وملك بعده ابنه (الملك السعيد بركة) في صفر سنة ست وسبعين وستمائة، وخلع وسيّر إلى الكرك.
وملك بعده أخوه (الملك العادل سلامش) في ربيع الأوّل سنة ثمان وسبعين وستمائة، وبقي أربعة أشهر ثم خلع.
وملك بعده (الملك المنصور قلاوون الصالحيّ) الشهير بالألفيّ في رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، وسمّي الألفيّ لأن آقسنقر الكامليّ كان قد اشتراه بألف دينار؛ وفتح حصن المرقب بالشأم في تاسع عشر ربيع الأوّل سنة أربع وثمانين وستمائة؛ وفتح طرابلس في ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وستمائة؛ وهو الذي بنى البيمارستان المنصوريّ والمدرسة المنصورية والقبّة اللتين داخل البيمارستان بين القصرين. وتوفّي بظاهر القاهرة المحروسة، وهو قاصد الغزو في ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة ودفن بتربته بالقبة المنصورية داخل البيمارستان المتقدّم ذكره.
وملك بعده ابنه (الملك الأشرف خليل) صبيحة وفاة أبيه وأخذ في الغزو ففتح عكّا وصور، وصيدا، وبيروت، وعثليث، والساحل جميعه؛ واقتلعه من الفرنج في رجب سنة تسعين وستمائة. وقتل في متصيّده بالبحيرة في العشر الأوسط من المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وهو الذي عمر المدرسة الأشرفية بالقرب من المشهد النفيسيّ.
ثم ملك بعده (الملك المعظم بيدرا «2» وخلع من يومه.
وملك بعده (الملك الناصر محمد بن قلاوون) في صفر سنة ثلاث(3/499)
وتسعين وستمائة، وهي سلطنته الأولى. وخلع «1» بعد ذلك وبعث به إلى الكرك فحبس بها.
وملك بعده (الملك العادل كتبغا) عقب خلعه، ووقع في أيامه غلاء شديد وفناء عظيم «2» ؛ ثم خلع في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، وتولّى بعد ذلك نيابة صرخد ثم حماة، وبقي حتّى توفي بعد ذلك؛ وهو الذي ابتدأ عمارة المدرسة المعروفة بالناصرية بين القصرين وأكمل بناءها الناصر محمد بن قلاوون فنسبت إليه.
وملك بعده (الملك المنصور حسام الدين لاچين) في الخامس والعشرين من صفر المذكور، فجدّد الجامع الطّولونيّ وعمل الروك «3» الحساميّ في رجب الفرد سنة سبع وتسعين وستمائة، وقتل في الحادي عشر من شوال من السنة المذكورة «4» ، وبقي الأمر شورى مدّة يسيرة، ثم حضر الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك وأعيد إلى السلطنة في حادي عشر شوال من السنة المذكورة «5» .
وملك بعده (الملك المظفر بيبرس الجاشنكير) في الثالث والعشرين من شوّال المذكور وخلع «6» في التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة،(3/500)
وهو الذي عمر الخانقاه الرّكنيّة بيبرس داخل باب النصر مكان دار الوزارة بالدولة الفاطمية، وجدّد الجامع الحاكمي.
وملك بعده (الملك الناصر محمد بن قلاوون) في مستهل شوّال من السنة المذكورة، وهي سلطنته الثالثة. وفيها طالت مدّته وقوي ملكه، وعمل الروك الناصريّ في سنة ست عشرة وسبعمائة، وبنى مدرسته الناصرية بين القصرين، وبقي حتّى توفي في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ودفن بتربة والده.
ثم ملك بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر عقب وفاة والده، وخلع تاسع عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
ثم ملك بعده أخوه (الملك الأشرف كجك) بن الناصر محمد بن قلاوون يوم خلع أخيه المنصور المذكور وخلع في التاسع والعشرين من شهر رجب من السنة المذكورة.
ثم ملك بعده أخوه (الملك الناصر أحمد) بن الناصر محمد بن قلاوون بعد أن أحضر من الكرك، واستمرّ في السلطنة حتّى خلع نفسه في أوائل المحرّم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
ثم ملك بعده أخوه (الملك الصالح إسماعيل) بن الناصر محمد بن قلاوون في العشرين من المحرّم المذكور، وبقي حتّى توفي في رابع ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة.
وملك بعده «1» أخوه (الملك المظفّر حاجّي) «2» بن الناصر محمد بن(3/501)
قلاوون يوم خلع أخيه الكامل شعبان، وبقي حتّى خلع في ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وقتل من يومه.
ثم ملك بعده أخوه (الملك الناصر حسن) بن الناصر محمد بن قلاوون في رابع عشر شهر رمضان المذكور، وخلع في التاسع والعشرين من جمادى الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة.
ثم ملك بعده أخوه (الملك الصالح صالح) بن الناصر محمد بن قلاوون يوم خلع أخيه الناصر حسن، وبقي حتّى خلع في ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة.
ثم ملك بعده أخوه (الملك الناصر حسن) المتقدّم ذكره مرة ثانية يوم خلع أخيه الصالح صالح، وبقي حتّى خلع وقتل «1» في عاشر جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة؛ وبنى مدرسته المعظمة تحت القلعة التي ليس لها نظير في الدنيا، وفي أيامه ضربت الفلوس الجدد على ما سيأتي ذكره، وهو آخر من ملك من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون لصلبه.
وملك بعده ابن أخيه (الملك المنصور محمد) بن المظفر حاجّي بن الناصر محمد بن قلاوون يوم خلع عمه الناصر حسن، وبقي حتّى خلع «2» في خامس عشر شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة.
وملك بعده ابن عمه (الملك الأشرف شعبان) بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون يوم خلع المنصور المتقدّم ذكره وهو طفل، وبقي حتّى كمل سلطانه وبنى مدرسته «3» بأعلى الصوّة تحت القلعة ولم يتمها، وحج فخرج عليه(3/502)
مماليكه في عقبة أيلة ففرّ منهم وعاد إلى القاهرة فقبض عليه وقتل في ثالث ذي القعدة الحرام سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وفي أيامه فتحت مدينة سيس واقتلعت من الأرمن على ما سيأتي ذكره في الكلام على أعمال حلب.
وملك بعده ابنه (الملك المنصور عليّ) يوم خلع أبيه وهو طفل، فبقي حتّى توفي في الثالث والعشرين من صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة.
وملك بعده أخوه (الملك الصالح حاجّي) بن شعبان بن حسين يوم وفاة أخيه، وبقي حتّى خلع في العشر الأوسط من رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة «1» .
وملك بعده (الملك الظاهر برقوق) «2» فعظم أمره، وارتفع صيته وشاع ذكره في الممالك وهابته الملوك وهادته، وساس الملك أحسن سياسة، وبقي حتّى خلع وبعث به إلى السجن «3» بالكرك في شهر رجب أو جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
وملك بعده (الملك المنصور حاجّي) بن شعبان، وهو الملقب أوّلا(3/503)
بالصالح حاجّي وهي سلطنته الثانية، وبقي «1» حتّى عاد الملك الظاهر برقوق المتقدّم ذكره في سنة [اثنتين] «2» وتسعين وسبعمائة فزاد في التيه وضخامة الملك، وبلغ شأوا لم يبلغه غيره من غالب متقدّمي الملوك، وبقي حتّى توفي في منتصف شوّال المبارك سنة إحدى وثمانمائة.
وملك بعده ابنه (الناصر فرج) وسنّه إحدى عشرة سنة بعهد من أبيه، وقام بتدبير أمره أمراء دولته، فبقي حتّى تغير عليه بعض مماليكه وبعض أمرائه، وحضر المماليك بالقلعة، فنزل منها مختفيا على حين غفلة في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة، ولم يعلم لابتداء أمره أين توجه.
ثم ملك بعده أخوه (الملك المنصور عبد العزيز) في التاريخ المذكور.
ثم ظهر أن السلطان الملك الناصر فرجا كان مختفيا «3» في بعض أماكن القاهرة، فركب في ليلة السادس من شهر جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانمائة، ومعه جماعة من الأمراء ومماليكه، وخرج الأمراء للقيام بنصرة أخيه عبد العزيز فطلع عليهم السلطان فرج ومن معه، فولّوا هاربين، وطلع السلطان الملك الناصر القلعة في صبيحة النهار المذكور واستقرّ على عادته، وبقي في السلطنة حتّى توجه إلى الشأم لقتال الأمير شيخ والأمير نوروز نائبي دمشق وحلب، ومعه «4» الإمام (المستعين «5» بالله أبو الفضل العباس) بن المتوكل محمد خليفة العصر، ودخل(3/504)
دمشق وحصر بقلعتها حتّى قبض عليه في ثاني عشر «1» ربيع الأوّل سنة خمس «2» عشرة وثمانمائة، واستبدّ الإمام المستعين بالله بالأمر من غير سلطان، ورجع إليه ما كان يتعاطاه السلطان من العلامة على المكاتبات والتقاليد والتواقيع والمناشير وغيرها، وأفرد اسمه في السكة على الدنانير والدراهم، وأفرد بالدعاء في الخطبة على المنابر؛ ثم عاد إلى الديار المصرية في أوائل ربيع الآخر من السنة المذكورة، وسكن الآدر السلطانية بالقلعة، وقام بتدبير دولته الأمير شيخ المقدّم ذكره وسكن الإصطبلات السلطانية بالقلعة وفوّض إليه الإمام المستعين بالله ما وراء سرير الخلافة، وكتب له تفويض بذلك في قطع كبير، عرضه ذراع ونصف بزيادة نصف ذراع عما يكتب به للسلاطين إلا أنه لم يصرح له فيه بسلطنة ولا إمارة، بل كتب له بدل الأميري الآمري بإسقاط الياء على ما سيأتي ذكره في الكلام على عهود الملوك إن شاء الله تعالى «3» .(3/505)
الفصل الرابع من الباب الثالث من المقالة الثانية في ذكر ترتيب أحوال الديار المصرية، وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأول في ذكر معاملاتها، وفيه ثلاثة أركان
الركن الأوّل الأثمان، وهي على ثلاثة أنواع
النوع الأوّل الدنانير المسكوكة مما يضرب بالديار المصرية، أو يأتي إليها من المسكوك في غيرها من الممالك، وهي ضربان
الضرب الأوّل ما يتعامل به وزنا كالذهب المصريّ وما في معناه
والعبرة في وزنها بالمثاقيل، وضابطها أن كلّ سبعة مثاقيل زنتها عشرة دراهم من الدراهم الآتي ذكرها، والمثقال معتبر بأربعة «1» وعشرين قيراطا «2» ، وقدر بثنتين وسبعين حبّة شعير «3» من الشعير الوسط باتفاق العلماء، خلافا لابن حزم فإنه قدّره بأربع وثمانين حبة، على أن المثقال لم يتغير وزنه في جاهلية ولا إسلام.(3/506)
قلت: وقد كان الأمير صلاح الدين بن عرام في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين بعد السبعين والسبعمائة ضرب بالإسكندريّة وهو نائب السلطنة بها يومئذ، دنانير زنة كل دينار منها مثقال على أحد الوجهين منه «محمد رسول الله» وعلى الوجه الآخر «ضرب بالإسكندريّة في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عز نصره» ثم أمسك عن ذلك فلم تكثر هذه الدنانير ولم تشتهر؛ ثم ضرب الأمير يلبغا السالميّ أستادار «1» العالية في الدولة الناصرية فرج بن برقوق دنانير زنة كل واحد منها مثقال، في وسط سكته دائرة فيها مكتوب «فرج» وربما كان منها ما زنته مثقال ونصف أو مثقالان، وربما كان نصف مثقال أو ربع مثقال. إلا أن الغالب فيها نقص أوزانها، وكأنهم جعلوا نقصها في نظير كلفة ضربها.
الضرب الثاني ما يتعامل به معادّة
وهي دنانير يؤتى بها من البلاد الإفرنجة «2» والروم، معلومة الأوزان، كلّ دينار منها معتبر بتسعة عشر قيراطا ونصف قيراط من المصريّ، واعتباره بصنج(3/507)
الفضّة المصرية كل دينار زنة درهم وحبتي خرّوب يرجح قليلا، وهذه الدنانير مشخّصة على أحد وجهيها صورة الملك الذي تضرب في زمنه، وعلى الوجه الآخر صورتا بطرس وبوليس الحواريين اللذين بعث بهما المسيح عليه السلام إلى رومية، ويعبر عنها بالإفرنتيّة جمع إفرنتيّ، وأصله إفرنسيّ بسين مهملة بدل التاء المثناة فوق نسبة إلى إفرنسة: مدينة من مدنهم، وربما قيل فيها إفرنجة، وإليها تنسب طائفة الفرنج، وهي مقرّة الفرنسيس ملكهم، ويعبر عنه «1» أيضا بالدوكات. وهذا الاسم في الحقيقة لا يطلق عليه إلا إذا كان ضرب البندقيّة من الفرنجة، وذلك أن الملك اسمه عندهم دوك «2» ، وكأن الألف والتاء في الآخر قائمان مقام ياء النسب.
قلت: ثم ضرب الناصر فرج بن برقوق دنانير على زنة الدنانير الإفرنتية المتقدّمة الذكر؛ في أحد الوجهين «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وفي الآخر اسم السلطان، وفي وسطه سفط مستطيل بين خطين، وعرفت بالناصرية وكثر وجدانها، وصار بها أكثر المعاملات. إلا أنهم ينقصونها في الأثمان عن الدنانير الإفرنتية عشرة دراهم.
ثم ضرب على نظيرها «الإمام المستعين بالله أبو الفضل «3» العباس» حين استبدّ بالأمر بعد الناصر فرج، ولم يتغير فيها غير السّكة، باعتبار انتقالها من(3/508)
اسم السلطان إلى اسم أمير المؤمنين.
ثم صرف الذهب بالديار المصرية لا يثبت على حالة بل يعلو تارة ويهبط أخرى بحسب ما تقتضيه الحال، وغالب ما كان عليه صرف الدينار المصريّ فيما أدركناه في التسعين والسبعمائة وما حولها عشرون درهما، والإفرنتيّ سبعة عشر درهما وما قارب ذلك. أما الآن فقد زاد وخرج عن الحدّ خصوصا في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وإن كان في الدولة الظاهرية بيبرس قد بلغ المصريّ ثمانية وعشرين درهما ونصفا فيما رأيته في بعض التواريخ.
أما الدينار الجيشيّ، فمسمّى لا حقيقة، وإنما يستعمله أهل ديوان الجيش في عبرة الإقطاعات بأن يجعلوا لكل إقطاع عبرة دنانير معينة من قليل أو كثير، وربما أخليت بعض الإقطاعات من العبرة. على أنه لا طائل تحتها ولا فائدة في تعيينها، فربما كان متحصّل مائة دينار في إقطاع أكثر من متحصّل مائتي دينار فأكثر في إقطاع آخر. على أن صاحب «قوانين الدواوين» قد ذكر الدينار الجيشي في إقطاعات على طبقات مختلفة في عبرة الإقطاعات، فالأجناد من التّرك والأكراد والتركمان دينارهم دينار كامل، والكتانية والعساقلة ومن يجري مجراهم دينارهم نصف دينار، والعربان في الغالب دينارهم ثمن دينار، وفي عرف الناس ثلاثة عشر درهما وثلث، وكأنه على ما كان عليه الحال من قيمة الذهب عند ترتيب الجيش في الزمن القديم، فإن صرف الذهب في الزمن الأول كان قريبا من هذا المعنى، ولذلك جعلت الدية عند من قدّرها بالنّقد من الفقهاء ألف دينار واثني عشر ألف درهم، فيكون عن كل دينار اثنا عشر درهما، وهو صرفه يومئذ.
النوع الثاني الدراهم النّقرة
وأصل موضوعها أن يكون ثلثاها من فضة وثلثها من نحاس، وتطبع بدور الضرب بالسّكة السلطانية على نحو ما تقدّم في الدنانير، ويكون منها دراهم(3/509)
صحاح وقراضات مكسرة على ما سيأتي ذكره في الكلام على دار الضرب فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والعبرة في وزنها بالدرهم؛ وهو معتبر بأربعة وعشرين قيراطا؛ وقدّر بستّ عشرة حبة من حب الخروب، فتكون كل خرّوبتين ثمن درهم، وهي أربع حبات من حب البرّ المعتدل؛ والدرهم من الدينار نصفه وخمسه، وإن شئت قلت سبعة أعشاره فيكون كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم.
أما الدراهم السّوداء، فأسماء على غير مسمّيات كالدنانير الجيشية، وكل درهم منها معتبر في العرف بثلث درهم نقرة، وبالإسكندرية دراهم سوداء يأتي الكلام عليها في معاملة الإسكندريّة إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث الفلوس «1» ، وهي صنفان: مطبوع بالسكة، وغير مطبوع
فأما المطبوع فكان في الزمن الأول إلى أواخر الدولة الناصرية حسن بن محمد بن قلاوون فلوس لطاف، يعتبر كل ثمانية وأربعين فلسا منها بدرهم من النّقرة على اختلاف السكة فيها، ثم أحدث في سنة تسع وخمسين وسبعمائة في سلطنة حسن أيضا فلوس شهرت بالجدد جمع جديد، زنة كل فلس منها مثقال، وكل فلس منها قيراط من الدرهم، مطبوعة بالسكة السلطانية على ما سيأتي ذكره في الكلام على دار الضرب إن شاء الله تعالى، فجاءت في نهاية الحسن، وبطل ما عداه من الفلوس، وهي أكثر ما يتعامل به أهل زماننا. إلا أنها فسد قانونها في تنقيصها في الوزن عن المثقال حتّى صار فيها ما هو دون الدرهم، وصار تكوينها غير مستدير، وكانت توزن بالقبّان كلّ مائة وثمانية عشر رطلا بالمصريّ بمبلغ(3/510)
خمسمائة درهم، ثم أخذت في التناقص لصغر الفلوس ونقص أوزانها حتّى صار كل مائة وأحد عشر رطلا بمبلغ خمسمائة.
قلت: ثم استقرّ الحال فيها [على ذلك] «1» على أنه لو جعل كل أوقية فما دونها بدرهم، لكان حسنا باعتبار غلوّ النّحاس وقلة الواصل منه إلى الديار المصرية، وحمل التجار الفلوس المضروبة من الديار المصرية إلى الحجاز واليمن وغيرهما من الأقاليم متجرا، ويوشك إن دام هذا تنفد الفلوس من الديار المصرية، ولا يوجد ما يتعامل به الناس.
وأما غير المطبوعة فنحاس مكسر من الأحمر والأصفر، ويعبر عنها بالعتق؛ وكانت في الزمن الأول كل زنة رطل منها بالمصريّ بدرهمين من النّقرة، فلما عملت الفلوس الجدد المتقدمة الذكر، استقرّ كل رطل منها بدرهم ونصف، وهي على ذلك إلى الآن.
قلت: ثم نفدت هذه الفلوس من الديار المصرية لغلوّ النحاس، وصار مهما وجد من النحاس المكسور خلط بالفلوس الجدد وراج معها على مثل وزنها.
الركن الثاني في المثمنات، وهي على ثلاثة أنواع
النوع الأول الموزونات
ورطلها «2» الذي يعتبر بوزنه في حاضرتها من القاهرة والفسطاط وما قاربهما الرطل المصريّ، وهو مائة وأربعة وأربعون درهما، وأوقيته اثنا عشر درهما، وعنه(3/511)
يتفرّع القنطار المصريّ، وهو مائة رطل؛ وتعتبر أوزان الطيب بها بالمنّ «1» ، وهو مائتان وستون درهما، وأواقيّة ست وعشرون أوقيّة، فتكون أوقيته عشرة دراهم.
النوع الثاني المكيلات من الحبوب ونحوها
واعلم أن بمصر أقداحا مختلفة المقادير أيضا كالأرطال بحسبه «2» ، ولكل ناحية منها قدح مخصوص بحسب إردبّها، والمستعمل منها بالحاضرة القدح المصريّ، وهو قدح صغير تقديره بالوزن من الحبّ المعتدل مائتان واثنان وثلاثون درهما، وقدّره الشيخ تقيّ الدين بن رزين في الكلام على صاع «3» الفطرة باثنين وثلاثين ألف حبة وسبعمائة واثنتين وستين حبة، وكل ستة عشر قدحا تسمّى ويبة، وكل ستة وتسعين قدحا تسمّى إردبّا «4» ؛ وبنواحيها بالوجهين القبليّ والبحريّ أرادبّ متفاوتة يبلغ مقدار الإردبّ في بعضها إحدى عشرة ويبة «5» بالمصريّ فأكثر.
النوع الثالث المقيسات، وهي الأراضي والأقمشة فأما الأراضي فصنفان
الصنف الأول أرض الزراعة
وقد اصطلح أهلها على قياسها بقصبة «6» تعرف بالحاكمية، كأنها حرّرت في زمن الحاكم بأمر الله الفاطميّ فنسبت إليه، وطولها ستة أذرع بالهاشميّ «7» كما ذكره(3/512)
أبو القاسم الزجاجيّ «1» في «شرح مقدّمة أدب الكاتب» وخمسة أذرع بالنجاريّ كما ذكره ابن ممّاتي في «قوانين الدواوين» وثمانية أذرع بذراع اليد كما ذكره غيرهما.
وذراع اليد ست قبضات بقبضة إنسان معتدل؛ كلّ قبضة أربعة أصابع بالخنصر والبنصر والوسطى والسّبّابة، كل إصبع ست شعيرات معترضات ظهرا لبطن على ما تقدّم في الكلام على الأميال. وقد تقدّر القصبة بباعين «2» من رجل معتدل؛ وربما وقع القياس في بعض بلاد الوجه البحريّ منها بقصبة تعرف بالسّند فاويّة أطول من الحاكمية بقليل، نسبة إلى بلد تسمّى سندفا بالقرب من مدينة المحلّة، ثم كل أربعمائة قصبة في التكسير يعبر عنها بفدّان، وهو أربعة وعشرون قيراطا، كل قيراط ستّ عشرة قصبة في التكسير.
الصنف الثاني أرض البنيان من الدّور وغيرها
وقد اصطلحوا على قياسها بذراع يعرف بذراع العمل طوله ثلاثة أشبار بشبر رجل معتدل، ولعله الذراع الذي كان يقاس به أرض السّواد بالعراق «3» ، فقد ذكر الزجاجيّ أنه ذراع وثلث بذراع اليد، وكان ابتداء وضع الذراع لقياس الأرضين أن زياد ابن أبيه حين ولّاه معاوية العراق وأراد قياس السّواد، جمع ثلاثة رجال: رجلا من طوال القوم ورجلا من قصارهم ورجلا متوسطا بين ذلك؛ وأخذ طول ذراع كل منهم، فجمع ذلك وأخذ ثلثه، فجعله ذراعا لقياس الأرضين، وهو المعروف بالذراع الزّياديّ لوقوع تقديره بأمر زياد، ولم يزل ذلك حتّى صارت الخلافة لبني العباس فاتخذوا ذراعا مخالفا لذلك كأنه أطول منه، فسمّي بالهاشمي لوقوعه في خلافة بني العباس، ضرورة كونهم من بني هاشم.(3/513)
وأما الأقمشة- فإنها تقاس بالقاهرة بذراع طوله ذراع بذراع اليد وأربع أصابع مطبوقة، ويزيد عليه ذراع القماش بالفسطاط بعض الشيء، وربما زاد في بعض نواحي الديار المصرية أيضا نحو ذلك. ولغير القماش من الأصناف أيضا كالحصر وغيرها ذراع يخصه «1» .
الركن الثالث في الأسعار
وقد ذكر المقرّ الشهابي بن فضل الله في «مسالك الأبصار» جملة من الأسعار في زمانه فقال: وأوسط أسعارها في غالب الأوقات أن يكون الإردبّ القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج؛ والأرز يبلغ فوق ذلك؛ واللحم أقل سعره الرّطل بنصف درهم، وفي الغالب أكثر من ذلك؛ والدّجاج يختلف سعره بحسب حاله، فجيّده الطائر منه بدرهمين إلى ثلاثة، والدّون منه بدرهم واحد؛ والسّكّر الرطل بدرهم ونصف، وربما زاد، والمكرّر منه بدرهمين ونصف.
قلت: وهذه الأسعار التي ذكرها قد أدركنا غالبها وبقيت إلى ما بعد الثمانين والسبعمائة فغلت الأسعار وتزايدت في كل صنف من ذلك وغيره، وصار المثل إلى ثلاثة أمثاله وأربعة أمثاله، فلا حول ولا قوّة إلا بالله ذي المنن الجسيمة القادر على إعادة ذلك على ما كان عليه أو دونه وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا
«2» .(3/514)
الطرف الثاني في ذكر جسورها الحابسة لمياه النيل على أرض بلادها إلى حين استحقاق الزّراعة؛ وأصناف أرضها
؛ وما يختص بكل صنف من أرضها من الأسماء الدائرة بين كتّابها؛ ومزارعها؛ وبيان أصناف مزدرعاتها وأحوال زرعها
فأمّا جسورها فعلى صنفين:
الصّنف الأوّل الجسور «1» السلطانية
وهي الجسور العامّة الجامعة للبلاد الكثيرة التي تعمر في كل سنة في الديوان السلطاني بالوجهين: القبليّ والبحريّ، ولها جراريف ومحاريث وأبقار مرتّبة على غالب البلدان بكل عمل من أعمالها. وقد جرت العادة أن يجهز لكل عمل في كل سنة أمير بسبب عمارة جسوره، ويعبر عنه بكاشف الجسور بالعمل الفلالي، ويعرّف بذلك في تعريف مكاتبته عن الأبواب الشريفة، وربما أضيف كشف جسور عمل من الأعمال إلى متولّي جريه، ويقال في تعريفه: والي فلانة وكاشف الجسور بها، إذا كانت المكاتبة بسبب شيء يتعلق بالجسور؛ ولهذه الجسور كاتب منفرد بها مقرّر في ديوانه ما على كل بلد من الجراريف والأبقار، وتكتب التذاكير السلطانية لكاشف كل عمل في الورق الشامي المربّع، ويشملها العلامة الشريفة السلطانية بالاسم الشريف، وللجسور خولة «2» ومهندسون لكل عمل يقومون في خدمة الكاشف في عمارة الجسور إلى أن تنتهي عمارتها.(3/515)
الصنف الثاني الجسور البلدية
وهي الخاصة ببلد دون بلد، ويتولّى عمارتها المقطعون بالبلاد: من الأمراء والأجناد وغيرهم، من أموال البلاد الجارية في إقطاعهم؛ ولها ضرائب مقرّرة في كل سنة.
قال ابن ممّاتي في «قوانين الدواوين» : والفرق بين السلطانية والبلدية أن السلطانية جارية مجرى سور المدينة الذي يجب على السلطان الاهتمام بعمارته والنظر في مصلحته وكفاية العامة أمر الفكرة فيه، والبلدية جارية مجرى الآدر والمساكن التي داخل السور، كلّ صاحب دار منها ينظر في مصلحتها ويلتزم تدبير أمره فيها. قال: وقد جرت عادة الديوان أن المقطع المنفصل إذا أنفق شيئا من إقطاعه في إقامة جسر لعمارة السنة التي انتقل الخير عنه لها، استعيد له نظير منفقه من المقطع الثاني؛ وكذلك كل ما أنفقه من مال سنته في عمارة سنة غيره كان له استعادة نظيره.
قلت: وقد أهمل الاهتمام بأمر الجسور في زماننا، وترك عمارة أكثر الجسور البلدية، واقتصر في عمارة الجسور السلطانية على الشيء اليسير الذي لا يحصل به كبير نفع، ولولا ما منّ الله تعالى به على العباد من كثير الزيادة في النيل من حيث إنه صار يجاوز تسعة عشر ذراعا فما فوقها إلى ما جاوز العشرين، لفات ريّ أكثر البلاد وتعطلت زراعتها فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً
«1» وإلا فقد كان النيل في الغالب يقف على سبع عشرة ذراعا فما حولها، بل قد تقدّم من كلام المسعودي أنه إذا جاء النيل ثماني عشرة ذراعا، استبحر من أراضيها الثلث.
وأما أنواع أرضها
- وما يختص بكل نوع من الأسماء، فإنها تختلف(3/516)
باختلاف الزراعة وعدمها، وبسبب ذلك تتفاوت الرّغبة فيها وتختلف قيمتها باختلاف قيمة ما يزرع فيها، وقد عدّ منها ابن ممّاتي ثلاثة عشر نوعا:
النوع الأوّل- الباق
، قال ابن ممّاتي: وهو أثر القرط والقطاني والمقاثيء «1» . قال: وهو خير الأرضين وأغلاها قيمة وأوفاها سعرا وقطيعة، لأنها تصلح لزراعة القمح والكتّان.
قلت: والمعروف في زماننا أن الباق أثر القرط والفول خاصة. أما المقاثيء فإن أثرها يسمّى البرش، وسيأتي ذكره فيما بعد.
النوع الثاني- ريّ الشّراقي
، قال ابن ممّاتي: وهو يتبع الباق في الجودة، ويلحق به في القطيعة، لأن الأرض قد ظمئت في السنة الماضية واشتدّت حاجتها إلى الماء، فلما رويت حصل لها من الريّ بمقدار ما حصل لها من الظمإ، وكانت أيضا مستريحة فزرعها ينجب.
النوع الثالث- البروبية
، وأهل زماننا يقولون البرايب، قال ابن ممّاتي: وهو أثر القمح والشعير، قال: وهو دون الباق لأن الأرض تضعف بزراعة هذين الصّنفين. فمتى زرع أحدهما على الآخر لم تنجب كنجابة الباق وسعرها دون سعره، ويجب أن تزرع قرطا وقطاني ومقاثيء لتستريح الأرض وتصير باقا في السنة الآتية «2» .
النوع الرابع- البقماهة
، بضم الباء الموحدة وسكون القاف- وهو أثر الكتّان. قال ابن مماتي: ومتى زرع فيه القمح لم ينجب، وجاء رقيق الحب أسود اللون.(3/517)
النوع الخامس- الشتونية
، وأهل زماننا يقولون الشتاني، وهو أثر ما روي وبار في السنة الماضية؛ قال ابن مماتي: وقطيعته دون قطيعة الشراقيّ.
النوع السادس- شوشمس
«1» السلايح؛ قال ابن مماتي: وهو عبارة عما روي وبار فحرث وعطّل، وهو يجري مجرى الباق وريّ الشراقي، ويجيء ناجب الزرع.
النوع السابع- البرش
«2» النقاء؛ قال: وهو عبارة عن كل أرض خلت من أثر ما زرع فيها للسنة الماضية، لا شاغل لها عن قبول ما تودعه «3» من أصناف المزروعات «4» .
النوع الثامن- الوسّخ المزروع
؛ قال: وهو عبارة عن كل أرض لم يستحكم وسخها، ولم يقدر المزارعون على استكمال إزالته منها فحرثوها وزرعوها وطلع زرعها مختلطا بوسخها.
النوع التاسع- الوسّخ الغالب
، وهو عبارة عن كل أرض حصل فيها من النبات الذي شغلها عن قبول الزراعة ما غلب المزارعين عليها، ومنعهم بكثرته عن الزراعة فيها، وهي تباع مراعي للبهائم.
النوع العاشر- الخرس
«5» ، وهو عبارة عن فساد الأرض بما استحكم فيها(3/518)
من موانع قبول الزرع، وهو أشدّ من الوسخ الغالب في التنقية والإصلاح، وهي مرعى الدوابّ.
النوع الحادي عشر- الشراقي
، وهو عبارة عما لم يصل إليه الماء لقصور النيل وعلوّ الأرض، أو سدّ طريق الماء عنه.
النوع الثاني عشر- المستبحر
، وهو عبارة عن أرض واطئة إذا حصل الماء فيها لا يجد مصرفا له عنها فيمضي زمن المزارعة قبل زواله بالنّضوب. قال ابن ممّاتي: وربما انتفع به من ازدرع الأرض بالاستقاء منه بالسواقي لما زرعه في العلوّ.
النوع الثالث عشر- السباخ
، وهو أرض غلب عليها الملح فملحت حتّى لم ينتفع «1» بها في زراعة الحبوب، وهي أردى الأرضيين. قال ابن مماتي: وربما زرع فيما لم يستحكم منها الهليون والباذنجان، وربما قطع منها ما بسبح به الكتّان، ويزرع فيها القصب الفارسيّ فينجب «2» .
الطرف الثالث في وجوه أموالها الدّيوانية، وهي على ضربين: شرعيّ وغير شرعيّ
الضرب الأوّل الشرعيّ وهو على سبعة أنواع
النوع الأوّل المال الخراجيّ، وهو ما يؤخذ عن أجرة الأرضين؛ وله حالان
الحال الأول- ما كان عليه الأمر في الزمن المتقدّم
، وقد أورد ابن ممّاتي في «قوانين الدواوين» ما يقتضي أنه كان على كلّ صنف من أصناف المزروعات(3/519)
قطيعة مقرّرة في الديوان السلطانيّ لا يختلف أمرها، فذكر أن قطيعة القمح كانت إلى آخر سنة سبع وستين وخمسمائة عن كل فدّان ثلاثة أرادبّ ثم انه تقرّر عند المساحة في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة إردبان ونصف إردب. ثم قال: ومن ذلك ما يباع بعين، ومنه يزرع مشاطرة قال: وقطيعة «1» الشّعير كذلك؛ وقطيعة الفول عن كل فدّان من ثلاثة أرادبّ إلى أردبين ونصف؛ وقطيعة الجلبان والحمّص والعدس عن كل فدّان إردبان ونصف؛ وقطيعة الكتّان تختلف باختلاف البلاد. ثم قال: وهي على آخر ما تقرّر في الديوان عن كل فدّان ثلاثة دنانير إلى ما دونها؛ وقطيعة القرط بالديوان عن كل فدّان دينار واحد، وفيما بين الناس مختلف؛ وقطيعة الثّوم والبصل عن كل فدّان ديناران، وقطيعة التّرمس عن كل فدّان دينار واحد وربع، وقطيعة الكمّون والكراويا والسّلجم الصيفي عن كل فدّان دينار واحد. قال: وكان قبل ذلك دينارين، وقطيعة البطّيخ الأخضر والأصفر واللّوبياء عن كل فدّان ثلاثة دنانير، وقطيعة السّمسم عن كل فدان دينار واحد، وقطيعة القطن كذلك، وقطيعة قصب السّكّر عن كل فدّان ان كان رأسا «2» خمسة دنانير، وان كان خلفة»
ديناران وخمسة قراريط، وقطيعة القلقاس عن كل فدّان ثلاثة دنانير، وقطيعة النّيلة عن كل فدّان ثلاثة دنانير؛ وقطيعة الفجل عن كل فدّان دينار واحد، وقطيعة اللّفت كذلك؛ وقطيعة الخسّ عن كل فدّان ديناران، وقطيعة الكرنب كذلك. قال:
والقطيعة المستقرّة عن خراج الشّجر والكرم تختلف باختلاف سنينه. ثم قال: وهو يدرك في السنة الرابعة ويترتب على كل فدّان ثلاثة دنانير، وقطيعة القصب الفارسيّ عن كل فدّان ثلاثة دنانير.
الحال الثاني- ما الأمر عليه في زماننا
، والحال فيه مختلف باختلاف البلاد.
فالوجه القبليّ الذي هو الصعيد أكثر خراجه غلال من قمح وشعير وحمّص وفول وعدس وبسلة وجلبان ويعبّر في عرف الدواوين، عما عدا القمح والشعير(3/520)
والحمّص بالحبوب، ثم الغالب أن يؤخذ عن خراج كل فدّان من الأصناف المذكورة ما بين إردبين إلى ثلاثة بكيل تلك الناحية، وربما زاد أو نقص عن ذلك، وفي الغالب يؤخذ مع كل إردب درهم أو درهمان أو ثلاثة، ونحو ذلك بحسب قطائع البلاد وضرائبها في الزيادة والنقص في الأرادب والدراهم؛ وربما كان الخراج في بعض هذه البلاد دراهم، وما بار من أرض كل بلد يباع ما ثبت فيه من المرعى مناجزة «1» ، وربما أخذ فيه العداد «2» على حسب عرف البلاد.
والوجه البحري غالب خراج بلاده دراهم وليس فيه ما خراج بلاده غلة إلا القليل على العكس من الوجه القبلي.
ثم الذي كان عليه الحال إلى نحو التسعين والسبعمائة في غالب البلاد أن يؤجر أثر الباق كلّ فدّان بأربعين درهما فما حولها والبرايب كلّ فدّان بثلاثين درهما فما حولها، ثم غلا السعر بعد ذلك حتّى جاوز الباق المائة والبرايب الثمانين، وبلغ البرش نحو المائتين وذلك عند غلوّ الغلال وارتفاع سعرها.
قلت: ثم تزايد الحال في ذلك بعد الثمانمائة إلى ما بعد العشر والثمانمائة حتّى صار يؤخذ في الباق عن كل فدّان نحو الأربعمائة درهم، وربما زادت الأرض الطيبة حتّى بلغت ستمائة درهم، وفي البرايب ونحوه دون ذلك بالنسبة ثم إنه إذا كان المقرّر في خراج بلد من بلاد الديار المصرية غلالا وأعوز صنف من الأصناف أن يؤخذ البدل عنها من صنف آخر من الغلّة.
وقد ذكر في «قوانين الدواوين» أن قاعدة البدل أن يؤخذ عن القمح بدل كل إردب من الشعير إردبان، ومن الفول إردب واحد ونصف، ومن الحمّص إردب، ومن الجلبان إردبّ ونصف، والشعير يؤخذ عن كل إردب منه نصف إردب(3/521)
من القمح أو ثلثا إردب من الفول أو نصف إردب من الحمّص أو ثلثا إردب من الجلبان، وفي الفول يؤخذ عن كل إردب منه ثلث إردب من القمح أو [إردب و] «1» نصف إردب من الشعير أو ثلثي «2» إردب من الحمّص أو إردب من الجلبان، وفي الحمّص يؤخذ عن كل إردب منه إردب من القمح أو إردبان من الشعير أو إردب ونصف من الفول أو إردب ونصف من الجلبان، وفي الجلبان يؤخذ عن كل إردب منه ثلثي «3» إردب من القمح أو إردب ونصف من الشعير أو إردب من الفول أو ثلثي «4» إردب من الحمّص؛ ثم قال: والسّمسم والسّلجم والكتّان ما رأيت لها بدلا، والاحتياط في جميع ذلك الرجوع إلى سعره الحاضر، فإنه أسلم طريقة وأحسن عاقبة.
واعلم أن بلاد الديار المصرية بالوجهين: القبلي والبحري بجملتها جارية في الدواوين السلطانية وإقطاعات الأمراء وغيرهم من سائر الجند إلا النزر اليسير مما يجري في وقف من سلف من ملوك الديار المصرية ونحوهم على الجوامع والمدارس والخوانق ونحوها مما لا يعتدّ به لقلته.
والجاري في الدواوين على ضربين:
الضرب الأوّل ما هو داخل في الدواوين السلطانية، وهو الآن على أربعة أصناف:
الصنف الأوّل ما هو جار في ديوان الوزارة «5» ؛ وأعظمه خطرا وأرفعه قدرا جهتان:
إحداهما- عمل الجيزية
المتقدّم ذكره في أعمال الديار المصرية ولها(3/522)
مباشرون بمفردها من ديوان الوزارة ما بين ناظر «1» ومستوف «2» وشهود «3» وصيرفيّ «4» وغيرهم، وغالب خراجه مبلغ دراهم تحمل إلى بيت المال فتثبت فيه وتصرف منه في جملة مصارف بيت المال، وربما حمل من بعضها الغلّة اليسيرة من القمح وغيره للأهراء السلطانية بالفسطاط ومن أرضها تفرد الإطلاقات، ويبذر فيها البرسيم لربيع الخيول بالإصطبلات السلطانية والأمراء والمماليك السلطانية.
الثانية- عمل منفلوط
، وله مباشرون كما تقدّم في الجيزيّة بل هي أرفع قدرا وأكثر متحصّلا، وغالب خراجه غلال: من قمح وفول وشعير، وغلالها تحمل إلى الأهراء السلطانية بالفسطاط ويصرف منها في جملة مصارف الأهراء على الطواحين السلطانية والمناخات وغير ذلك، وربما حمل منها المبلغ اليسير إلى بيت المال فيثبت فيه ويصرف منه على ما تقدّم في الأعمال الجيزية، وما عدا هاتين الجهتين من البلاد الجارية في ديوان الوزارة مفرّقة في الأعمال بالوجهين: القبلي والبحري، وهي في الوجه القبلي أكثر، ولكنها قد تناقصت في هذا الزمن حتّى لم يبق فيها إلا بعض بلاد بالوجه القبلي.
الصنف الثاني ما هو جار في ديوان الخاص
وهو الديوان الذي أحدثه السلطان «الملك الناصر محمد بن قلاوون» حين أبطل الوزارة على ما سيأتي ذكره، وأعظم بلاده وأرفعها قدرا مدينة الإسكندريّة فإنها في الغالب مضافة إليه وبها مباشرون من ناظر ومستوف(3/523)
وشادّين «1» وغيرهم، وربما أخّرت عنه في جهات أخرى جارية فيه، ويليها تروجة وفوّة ونستروه، ومال جميعها يحمل إلى خزانة الخاص الآتي ذكرها تحت نظر ناظر الخاصّ الآتي ذكره.
الصنف الثالث ما هو جار في الديوان المفرد «2»
وهو ديوان أحدثه «الظاهر برقوق» في سلطنته، وأفرد له بلادا، وأقام له مباشرين وجعل الحديث فيه لأستاذ داره «3» الكبير، ورتّب عليه نفقة مماليكه من جامكيات «4» وعليف «5» وكسوة وغير ذلك.
قلت: وليس هو المخترع لهذا الاسم بل رأيت في ولايات الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما يدل على أنه كان للخليفة ديوان يسمى: «الديوان المفرد» .
الصنف الرابع ما هو جار في ديوان الأملاك
وهو ديوان أحدثه «الظاهر برقوق» المتقدّم ذكره، وأفرد له بلادا سماها أملاكا، وأقام لها أستاذ دار ومباشرين بمفردها، وهذا الديوان خاص بالسلطان ليس عليه مرتب نفقة ولا كلفة.(3/524)
الضرب الثاني ما هو جار في الإقطاعات
وهو جلّ البلاد بالوجهين القبليّ والبحريّ، والبلاد النفيسة الكثيرة المتحصّل في الغالب تقطع للأمراء على قدر درجاتهم، فمنهم من يجتمع له نحو العشر بلاد إلى البلد الواحدة، وما دون ذلك من البلدان يقطع للمماليك السلطانية يشترك الاثنان فما فوقهما في البلدة الواحدة في الغالب، وربما انفرد الواحد منهم بالبلد الواحد. وما دون ذلك يكون لأجناد الحلقة «1» تجتمع الجماعة منهم في البلد الواحد بحسب مقداره وحال مقطعيه، وفي معنى أجناد الحلقة المقطعون من العربان بالبحيرة والشرقية من أرباب الأدراك «2» وملتزمي خيل البريد وغيرهم.
ثم اعلم أن لبلاد الديار المصرية حالين:
الحال الأوّل
- أن تنجّز إجارة طين البلد بقدر معين لا يزيد ولا ينقص وطلب الخراج على حكمها.
الحال الثاني
- أن تكون البلاد مما جرت العادة بمساحة أرضها لسعة طينها واختلاف الريّ فيه بالكثرة والقلة في السنين؛ وقد جرت العادة في ذلك أنّ كاتب خراج الناحية يطلب خولة القانون بذلك البلد وتوريخ الأحواض على المزارعين بفدن مقدّرة، وتكتب بها أوراق تسمّى أوراق المسجل، وتحمل نسختها إلى ديوان صاحب الإقطاع فتخلد فيه، فإذا طلع الزرع خرج من باب صاحب الإقطاع مباشرون، فيمسحون أرض تلك البلد في كل قبالة بأسماء المزارعين، ويكتب(3/525)
أصل ذلك في أوراق تسمّى الفنداق «1» ، ثم تجمع القبائل «2» بأوراق تسمّى تأريج «3» القبائل، ثم تجمع أسماء المزارعين بأوراق تسمّى تأريج «4» الأسماء، ويقابل بين ما اشتملت عليه أوراق المسجل وما اشتملت عليه مساحته، وفي الغالب يزيد عن أوراق المسجل، ويجمع ذلك وتنظم به أوراق تسمّى المكلّفة «5» ، ويكتب عليها الشهود وحاكم العمل، وتحمل لديوان المقطع نسخا.
النوع الثاني ما يتحصّل مما يستخرج من المعادن
وقد تقدّم في الكلام على خواصّ الديار المصرية أن الموجود الآن بها ثلاثة معادن:
الأول- «معدن الزّمرّد»
على القرب من مدينة قوص، ولم يزل مستمرّ الاستخراج إلى أواخر الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» ، ثم أهمل لقلّة ما يتحصّل منه مع كثرة الكلف وبقي مهملا إلى الآن. وقد ذكر في «مسالك الأبصار» : أنه كان له مباشرون وأمناء من جهة السلطان يتولّون استخراجه وتحصيله، ولهم جوامك «6» على ذلك. ومهما تحصل منه حمل إلى الخزائن السلطانية فيباع ما يباع، ويبقّى ما يصلح للخزائن الملوكية.(3/526)
الثاني- «معدن الشّبّ»
(بالباء الموحدة في آخره) قال في «قوانين الدواوين» : ويحتاج إليه في أشياء كثيرة، أهمّها صبغ الأحمر، وللرّوم فيه من الرغبة بمقدار ما يجدون من الفائدة، وهو عندهم مما لا بدّ منه ولا مندوحة عنه؛ ومعادنه بأماكن من بلاد الصعيد والواحات على ما تقدّم في الكلام على خواصّ الديار المصرية.
قال: وعاد الديوان أن ينفق في تحصيل كل قنطار «1» منه باللّيثي ثلاثين درهما، وربما كان دون ذلك، وتهبط به العرب [من معدنه] «2» إلى ساحل قوص، وساحل إخميم، وساحل أسيوط، وإلى البهنسى إن كان الإتيان به من الواحات، ثم يحمل من هذه السواحل إلى الإسكندريّة ولا يعتدّ للمباشرين فيه إلا بما يصح فيها عند الاعتبار. قال ابن مماتي: وأكثر ما يباع منه في المتجر بالإسكندرية خمسة آلاف قنطار بالجروي، وبيع منه في بعض السنين ثلاثة عشر ألف قنطار. وسعره من خمسة دنانير إلى خمسة دنانير وربع وسدس كلّ قنطار.
قال: أما القاهرة، فأكثر ما يباع فيها في كل سنة ثمانون قنطارا كل قنطار بسبعة دنانير ونصف؛ ثم قال: وليس لأحد أن يبيعه، ولا يشتريه سوى الديوان السلطاني، ومتى وجد مع أحد شيء من صنفه استهلك. قلت: وقد تغير غالب حكم ذلك.
الثالث- «معدن النّطرون»
«3» وقد تقدّم في الكلام على خواص الديار المصرية أن النّطرون يوجد في معدنين: أحدهما بعمل البحيرة مقابل بلدة تسمّى(3/527)
الطرّانة على مسيرة يوم منها، وتقدّم في كلام صاحب «التعريف» أنه لا يعلم في الدنيا بقعة صغيرة يستغلّ منها أكثر مما يستغلّ منها، فإنها نحو مائة فدّان تغل نحو مائة ألف دينار كل سنة. والمعدن الثاني بالفاقوسية على القرب من الخطارة، ويعرف بالخطاريّ، وهو غير لاحق في الجودة بالأوّل.
قال في «نهاية الأرب» : وأوّل من احتجر النّطرون أحمد بن محمد بن مدبّر «1» نائب مصر قبل أحمد بن طولون، وكان قبل ذلك مباحا. قال في «قوانين الدواوين» : وهو في طور محدود لا يتصرف فيه غير المستخدمين من جهة الديوان، والنفقة على كل قنطار منه درهمان، وثمن كل قنطار منه بمصر والإسكندرية لضيق الحاجة إليه سبعون درهما، قال: والعادة المستقرّة أنه متى أنفق من الديوان في العربان عن أجرة حمولة عشرة آلاف قنطار، ألزموا بحمل خمسة عشر ألف قنطار، حسابا عن كل قنطار قنطار ونصف. ثم قال: وأكثره مصروف في نفقة الغزاة.
قلت: أما في زماننا فقد تضاعفت قيمة النّطرون وغلا سعره لاحتجار السلطان له، وأفرط حتّى خرج عن الحدّ، حتّى إنه ربما بلغ القنطار منه مبلغ ثلاثمائة درهم أو نحوها. وقد كان على النّطرون مرتّبون من كتّاب دست وكتّاب درج وأطباء وكحالين «2» وغيرهم وجماعة من أرباب الصدقات يستأدون ذلك، وينفقون على حمولته إلى ساحل النيل بالبلدة المعروفة بالطّرّانة المتقدّمة الذكر، ويبيعونه على من يرغب فيه ليتوجه به في المراكب إلى الوجه القبليّ، ولم يكن لأحد أن يبيع شيئا بالوجه البحريّ جملة، ثم بطل ذلك في أواخر الدولة الظاهرية برقوق، وصار النطرون بجملته خالصا للسلطان جاريا في الديوان المفرد تحت نظر أستاذ دار، يحمل إلى الإسكندرية والقاهرة فيخزن في شون ثم يباع منها،(3/528)
وعليه مباشرون يحضرون الواصل والمبيع، ويعملون الحسبانات بذلك، وتميّز بذلك متحصّله للغاية القصوى.
النوع الثالث الزكاة «1»
قد تقرّر في كتب الفقه أن من وجبت عليه زكاة كان مخيرا بين أن يدفعها إلى الإمام أو نائبه، وبين أن يفرّقها بنفسه. والذي عليه العمل في زماننا بالديار المصرية أن أرباب الزكوات المؤدّين لها يفرّقونها بأنفسهم، ولم يبق منها ما يؤخذ على صورة الزكاة إلا شيئين:
أحدهما- ما يؤخذ من التجار وغيرهم
على ما يدخلون به إلى البلد من ذهب أو فضة، فإنهم يأخذون على كل مائتي درهم خمسة دراهم، ثم إذا اشترى بها شيئا وخرج به وعاد بنظير المبلغ الأوّل لا يؤخذ منه شيء عليه حتّى يجاوز سنة. إلا أنهم انتقصوا سنة ذلك فجعلوها عشرة أشهر، وخصّوه بما إذا لم يزد في المدّة المذكورة على أربع مرار، فإن زاد عليها استأنفوا له المدّة، ثم إنه إذا كان بالبلد متجر لأحد من تجار الكارم «2» من بهار ونحوه وحال عليه الحول بالبلد، أخذوا عليه الزكاة أيضا. ومجرى ذلك جميعه مجرى سائر متحصّل الإسكندرية في المباشرة وغيرها.
الثاني- ما يؤخذ من العداد من مواشي أهل برقة من الغنم والإبل
عند وصولهم إلى عمل البحيرة بسبب المرعى، وفي الغالب يقطع لبعض الأمراء، ويخرج قصّادهم لأخذه.(3/529)
النوع الرابع الجوالي «1»
وهي ما يؤخذ من أهل الذّمّة عن الجزية المقرّرة على رقابهم في كل سنة، وهي على قسمين: ما في حاضرة الديار المصرية من الفسطاط والقاهرة، وما هو خارج عن ذلك. فأما ما بحاضرة الديار المصرية، فإن لهذه الجهة بها ناظرا يولّى من جهة السلطان بتوقيع شريف، ويتبعه مباشرون من شادّ وعامل وشهود، وتحت يده حاشر لليهود وحاشر «2» للنصارى يعرف أرباب الأسماء الواردة في الديوان ومن ينضم إليهم ممن يبلغ في كل عام من الصّبيان، ويعبّر عنهم بالنّشو ومن يقدم إلى الحاضرة من البلاد الخارجة عنها، ويعبّر عنهم بالطارىء، ومن يهتدي أو يموت ممن اسمه وارد الديوان. ويملي على كتّاب الديوان ما يتجدّد من ذلك.
قال في «قوانين الدواوين» : إن الجزية كانت في زمانه على ثلاث طبقات: عليا، وهي أربعة دنانير وسدس عن كل رأس في كل سنة، ووسطى وهي ديناران وقيراطان، وسفلى وهي دينار واحد وثلث وربع دينار وحبتان من دينار، وإنه أضيف إلى جزية كل شخص درهمان وربع عن رسم الشادّ والمباشرين. ثم قال: وقد كانت العادة جارية باستخراجها في أوّل المحرّم من كل سنة، ثم صارت تستخرج في أيام من ذي الحجة. قلت: أما الآن فقد نقصت حتّى صار أعلاها خمسة وعشرين درهما، وأدناها عشرة دراهم، ولكنها صارت تستأدى معجّلة في شهر رمضان، ثم ما يتحصّل منها يحمل منه قدر معين في كل سنة لبيت المال،(3/530)
وباقي ذلك عليه مرتبون من القضاة وأهل العلم والديانة يوزّع عليهم على قدر المتحصّل.
وأما ما هو خارج عن حاضرة الديار المصرية من سائر بلدانها فإن جزية أهل الذمة في كل بلد تكون لمقطع تلك البلد من أمير أو غيره تجري مجرى مال ذلك الإقطاع، وإن كانت تلك البلد جارية في بعض الدواوين السلطانية، كان ما يتحصّل من الجزية من جهل الذمة بها جاريا في ذلك الديوان.
النوع الخامس ما يؤخذ من تجّار الكفّار الواصلين في البحر إلى الديار المصرية
واعلم أن المقرّر في الشرع أخذ العشر من بضائعهم التي يقدمون بها من دار الحرب إلى بلاد الإسلام إذا شرط ذلك عليهم. والمفتى به في مذهب الشافعيّ رضي الله عنه أن للإمام أن يزيد في المأخوذ عن العشر وأن ينقص عنه إلى نصف العشر للحاجة إلى الازدياد من جلب البضاعة إلى بلاد المسلمين، وأن يرفع ذلك عنهم رأسا إذا رأى فيه المصلحة. وكيفما كان الأخذ فلا يزيد فيه على مرّة من كل قادم بالتجارة في كل سنة، حتّى لو رجع إلى بلاد الكفر ثم عاد بالتجارة في سنته لا يؤخذ منه شيء إلا أن يقع التراضي على ذلك؛ ثم الذي ترد إليه تجّار الكفار من بلاد الديار المصرية ثغر الإسكندرية. وثغر دمياط المحروستين، تأتي إليهما مراكب الفرنج والرّوم بالبضائع فتبيع فيهما أو تمتار منهما ما تحتاج إليه من البضائع، وقد تقرّر الحال على أن يؤخذ منهم الخمس وهو ضعف العشر عن كل ما يصل بهم في كل مرة، وربما زاد ما يؤخذ منهم على الخمس أيضا» «1» .
قال ابن مماتي في «قوانين الدواوين» : وربما بلغ قيمة ما يستخرج عما قيمته مائة دينار ما يناهز خمسة وثلاثين دينارا، وربما انحط عن العشرين دينارا.
قال: ويطلق على كليهما خمس، قال: ومن الروم من يستأدى منه العشر، إلا أنه(3/531)
لما كان الخمس أكثر، كانت النسبة إليه أشهر. ولذلك ضرائب مستقرّة في الدواوين وأوضاع معروفة.
النوع السادس المواريث الحشرية «1»
وهي مال من يموت وليس له وارث خاص: بقرابة أو نكاح أو ولاء، أو الباقي بعد الفرض من مال من يموت وله وارث ذو فرض لا يستغرق جميع المال ولا عاصب له «2» .
وهذه الجهة أيضا على قسمين: ما في حاضرة الديار المصرية، وما هو خارج عنها.
فأمّا ما بحاضرة الديار المصرية فإن لهذه الجهة ناظرا يولّى من قبل السلطان بتوقيع شريف ومعه مباشرون من شادّ وكاتب ومشارف وشهود، وهي مضافة إلى ما تحت نظر الوزارة من سائر المباشرات، ومتحصّلها يحمل إلى بيت المال، وربما كان عليها مرتّبون من أرباب جوامك وغيرهم، وقد جرت عادة هذا الديوان أنّ كاتبه في كل يوم يكتب تعريفا بمن يموت بمصر والقاهرة من حشريّ أو أهلي وتفصيله من رجال ونساء وصغار ويهود ونصارى، وتكتب منه نسخ لديوان الوزارة،(3/532)
ولنظر الدواوين ومستوفي الدولة، ويسدّ من وقت العصر، فمن أطلق بعد العصر، أضيف إلى النهار القابل.
وأما ما هو خارج عن حاضرة الديار المصرية، فلها مباشرون يحصّلونها ويحملون ما يتحصّل منها إلى الديوان السلطانيّ.
النوع السابع ما يتحصّل من باب الضرب بالقاهرة
والذي يضرب فيها ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل الذهب
وأصله مما يجلب إلى الديار المصرية من التّبر من بلاد التّكرور وغيرها مع ما يجتمع إليه من الذهب. قال في «قوانين الدواوين» : وطريق العمل فيها أن يسبك ما يجتمع من أصناف الذهب المختلفة حتّى يصير ماء واحدا، ثم يقلب قضبانا ويقطع من أطرافها قطع بمباشرة النائب في الحكم، ويحرّر بالوزن ويسبك سبيكة واحدة، ثم يؤخذ من بعضها أربعة مثاقيل ويضاف إليها من الذهب الحائف المسبوك بدار الضرب أربعة مثاقيل، ويعمل كل منها أربع ورقات وتجمع الثمان ورقات في قدح فخار بعد تحرير وزنها. ويوقد عليها في الأتّون ليلة، ثم تخرج الورقات وتمسح ويعبّر الفرع «1» على الأصل، فإن تساوى الوزن وأجازه النائب في الحكم، ضرب دنانير، وإن نقص أعيد إلى أن يتساوى ويصح التعليق فيضرب حينئذ دنانير.
قال ابن الطّويّر في الكلام على ترتيب الدولة الفاطمية بالديار المصرية في سياقه الكلام على وظيفة قضاء القضاة: وسبب خلوص الذهب بالديار المصرية ما(3/533)
حكى أن أحمد بن طولون صاحب مصر كان له إلمام بمدينة عين شمس الخراب على القرب من المطريّة من ضواحي القاهرة، حيث ينبت البلسان، وأن يد فرسه ساخت بها يوما في أرض صلدة، فأمر بحفر ذلك المكان فوجد فيه خمسة نواويس فكشفها فوجد في الأوسط منها ميتا مصبّرا في عسل، وعلى صدره لوح لطيف من ذهب فيه كتابة لا تعرف، والنواويس الأربعة مملوءة بسبائك الذهب، فنقل ذلك الذهب ولم يجد من يقرأ ما في اللوح، فدلّ على راهب شيخ بدير العربة بالصعيد له معرفة بخط الأوّلين، فأمر بإحضاره فأخبره بضعفه عن الحركة، فوجّه باللوح إليه، فلما وقف عليه قال: إن هذا يقول: أنا أكبر الملوك؛ وذهبي أخلص الذهب. فلما بلغ ذلك أحمد بن طولون، قال: قبح الله من يكون هذا الكافر أكبر منه أو ذهبه أخلص من ذهبه، فشدّد في العيار في دور الضرب، وكان يحضر ما يعلّق من الذهب ويختم بنفسه فبقي الأمر على ما قرّره في ذلك من التشديد في العيار. وكانت دار الضرب في الدولة الفاطمية لا يتولاها إلا قاضي القضاة تعظيما لشأنها، وتكتب في عهده في جملة ما يضاف إلى وظيفة القضاء، ويقيم لمباشرة ذلك من يختاره من نوّاب الحكم، وبقي الأمر على ذلك زمنا بعد الدولة الفاطمية أيضا. أما في زماننا، فنظرها موكول لناظر الخاصّ الذي استحدثه «الملك الناصر محمد بن قلاوون» عند تعطيله الوزارة على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
والسّكّة السلطانية «1» بالديار المصرية فيما هو مشاهد من الدنانير أن يكتب على أحد الوجهين: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره الكافرون) «2» وعلى الوجه الآخر اسم السلطان الذي ضرب في زمنه وتاريخ سنة ضربه.(3/534)
الصنف الثاني الفضّة النّقرة
وقد ذكر ابن ممّاتي في «قوانين الدواوين» في عيارها أنه يؤخذ ثلاثمائة درهم فضة فتضاف إلى سبعمائة درهم من النحاس الأحمر، ويسبك ذلك حتّى يصير ماء واحدا فيقلب قضبانا ويقطع من أطرافها خمسة عشر درهما، ثم تسبك، فإن خلص منها أربعة دراهم فضة ونصف حسابا عن كل عشرة دراهم ثلاثة دراهم، وإلا أعيدت إلى أن تصح. وكأن هذا ما كان الأمر عليه في زمانه، والذي ذكره المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «مسالك الأبصار» : أن عيارها الثلثان من فضّة والثلث من نحاس، وهذا هو الذي عليه قاعدة العيار الصحيح كما كان في أيام الظاهر بيبرس وما والاها، وربما زاد عيار النحاس في زماننا على الثلث شيئا يسيرا بحيث يظهره النّقد، ولكنه يروج في جملة الفضة، وربما حصل التوقف فيه إذا كان بمفرده.
قلت: أما بعد الثمانمائة فقد قلّت الفضة، وبطل ضرب الدراهم بالديار المصرية إلا في القليل النادر لاستهلاكها في السروج والآنية ونحوها، وانقطاع واصلها إلى الديار المصرية من بلاد الفرنج وغيرها، ومن ثمّ عزّ وجود الدراهم في المعاملة بل لم تكد توجد. ثم حدث بالشأم ضرب دراهم رديئة فيها الثلث فما دونه فضة والباقي نحاس أحمر، وطريقة ضربها أن تقطع القضبان قطعا صغارا كما تقدم في الدنانير، ثم ترصع إلا أن الدنانير لا تكون إلا صحاحا مستديرة والفضة ربما كان فيها القراضات الصغار المتفاوتة المقادير فيما دون الدرهم إلى ربع درهم وما حوله؛ وصورة السكة على الفضة كما في الذهب من غير فرق.
الصنف الثالث الفلوس المتخذة من النحاس الأحمر
وقد تقدّم أنه كان في الزمن الأوّل فلوس صغار كل ثمانية وأربعين فلسا منها معتبرة بدرهم من النّقرة إلى سنة تسع وخمسين وسبعمائة في سلطنة الناصر حسن(3/535)
ابن محمد بن قلاوون الثانية، فأحدثت فلوس عبّر عنها بالجدد زنة كل فلس منها مثقال، وهو قيراط من أربعة وعشرين قيراطا من الدرهم، ثم تناقص مقدارها حتّى كادت تفسد وهي على ذلك. وطريق عملها: أن يسبك النّحاس الأحمر حتّى يصير كالماء، ثم يخرج فيضرب قضبانا، ثم يقطّع قطعا صغارا، ثم ترصع وتسك بالسكة السلطانية وسكتها أن يكتب على أحد الوجهين اسم السلطان ولقبه ونسبه، وعلى الآخر اسم بلد ضربه وتاريخ السنة التي ضرب فيها.
الضرب الثاني من الأموال الديوانية بالديار المصرية غير الشرعي، وهو المكوس، وهي على نوعين
النوع الأوّل ما يختص بالديوان السلطاني وهو صنفان
الصنف الأوّل ما يؤخذ على الواصل المجلوب، وأكثره متحصّلا جهتان
الجهة الأولى ما يؤخذ على واصل التجار الكارمية من البضائع في بحر القلزم من جهة الحجاز واليمن وما والاهما، وذلك بأربعة سواحل بالبحر المذكور
الساحل الأوّل- «عيذاب»
وقد كان أكثر السواحد واصلا لرغبة رؤساء المراكب في التعدية من جدّة إليه، وإن كانت باحته متسعة لغزارة الماء وأمن اللّحاق بالشعب الذي ينبت في قعر هذا البحر، ومن هذا الساحل يتوصل إلى قوص بالبضائع ومن قوص إلى فندق الكارم بالفسطاط في بحر النيل.
الساحل الثاني- «القصير»
وهو في جهة الشمال عن عيذاب، وكان يصل إليه بعض المراكب لقربه من قوص وبعد عيذاب منها؛ وتحمل البضائع منه إلى(3/536)
قوص؛ ثم من قوص إلى فندق الكارم بالفسطاط على ما تقدّم، وإن لم يبلغ في كثرة الواصل حدّ عيذاب.
الساحل الثالث- «الطّور»
وهو ساحل في جانب الرأس الداخل في بحر القلزم بين عقبة أيلة وبين بر الديار المصرية، وقد كان هذا الساحل كثير الواصل في الزمن المتقدّم، لرغبة بعض رؤساء المراكب في السير إليه، لقرب المراكب فيه من برّ الحجاز حتّى لا يغيب البر عن المسافر فيه وكثرة المراسي في بره، متى تغير البحر على صاحب المركب وجد مرساة يدخل إليها، ثم ترك قصد هذا الساحل والسفر منه بعد انقراض بني بدير العباسية التجار، ورغب المسافرون عن السفر فيه لما فيه من الشعب الذي يخشى على المراكب بسببه، ولذلك لا يسافر فيه إلا نهارا، وبقي على ذلك إلى حدود سنة ثمانين وسبعمائة، فعمر فيه الأمير صلاح الدين «1» بن عرّام رحمه الله، وهو يومئذ حاجب الحجّاب «2» بالديار المصرية مركبا وسفّرها، ثم أتبعها بمركب آخر فجسر الناس على السفر فيه وعمروا المراكب فيه، ووصلت إليه مراكب اليمن بالبضائع، ورفضت عيذاب والقصير، وحصل بواسطة ذلك حمل الغلال إلى الحجاز، وغزرت فوائد التجار في حمل الحنطة إليه.
الساحل الرابع- «السّويس»
على القرب من مدينة القلزم الخراب بساحل الديار المصرية. وهو أقرب السواحل إلى القاهرة والفسطاط إلا أن الدخول إليه نادر، والعمدة على ساحل الطّور كما تقدّم.(3/537)
قلت: وهذه السواحل على حدّ واحد في أخذ المرتّب السلطاني، وقد ذكر في «قوانين الدواوين» : أن واصل عيذاب كان استقرّ فيه الزكاة. أما الذي عليه الحال في زماننا، فإنه يؤخذ من بضائع التجار العشر مع لواحق أخرى تكاد أن تكون نحو المرتب السلطاني أيضا.
واعلم أنه قد تصل البضائع للتجار المسلمين إلى ساحل الإسكندرية ودمياط المتقدّم ذكرهما، فيؤخذ منها المرتّب السلطاني على ما توجبه الضرائب.
الجهة الثانية ما يؤخذ على واصل التجار بقطيا «1» في طريق الشام إلى الديار المصرية
وعليها يرد سائر التجار الواصلين في البر من الشام والعراق وما والاهما، وهي أكثر الجهات متحصّلا وأشدّها على التجار تضييقا وعندهم ضرائب مقرّرة لكل نوع يؤخذ عن نظيرها.
الصنف الثاني ما يؤخذ بحاضرة الديار المصرية: بالفسطاط والقاهرة
وهو جهات كثيرة، يقال إنها تبلغ اثنتين وسبعين جهة «2» ؛ منها ما يكثر متحصّله ومنها ما يقلّ، ثم بعضها ما يتحصّل من قليل وكثير، وبعضها له ضمان «3» بمقدار معين لكل جهة، يطلب بذلك المقدار إن زادت الجهة فله وإن نقصت فعليه.
قلت: وقد عمت البلوى بهذه المكوس، وخرجت في التزيّد عن الحدّ، ودخلت الشبهة في أموال الكثير من الناس بسببها. وقد كان السلطان صلاح الدين(3/538)
يوسف بن أيوب رحمه الله في سلطنته قد رفع «1» هذه المكوس ومحا آثارها، وعوّضه الله عنها بما حازه من الغنائم وفتحه من البلاد والأقاليم، وربما وقع الإلهام من الله تعالى لبعض ملوك المملكة برفع المظلمة الحاصلة منها. ومن أعظم ذلك خطرا وأرفعه أجرا ما فعله السلطان الملك الأشرف «شعبان بن حسين» ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون تغمده الله تعالى برحمته من بطلان مكوس الملاهي «2» والقراريط على الأملاك المبيعة.
النوع الثاني ما لا اختصاص له بالديوان السلطانيّ
وهي المكوس المتفرقة ببلاد الديار المصرية فتكون تابعة للإقطاع إن كانت تلك البلد جارية في ديوان من الدواوين السلطانية فمتحصّلها لذلك الديوان، أو جارية في إقطاع بعض الأمراء ونحوهم فمتحصّلها لصاحب الإقطاع، ويعبّر عنها في الدواوين بالهلالي «3» كما يعبّر عما يؤخذ من أجرة الأرضين بالخراجيّ.
المقصد الثالث «4»
في ترتيب المملكة، ولها ثلاث حالات:
الحالة الأولى
- ما كانت عليه في زمن عمّال الخلفاء من حين الفتح(3/539)
إلى آخر الدولة الإخشيدية «1» ؛ ولم يتحرر لي ترتيبها، والظاهر أنه لم يزل نوّابها وأمراؤها حينئذ على هيئة العرب إلى أن وليها أحمد بن طولون وبنوه وأحدثوا فيها ترتيب الملك. على أنه كان أكثر عسكره من السودان، حتّى يقال إنه كان في عسكره اثنا عشر ألف أسود، وتبعتهم الدولة الإخشيدية على ذلك إلى آخر دولتهم.
الحالة الثانية
- من أحوال الديار المصرية ما كانت عليه في زمن الخلفاء الفاطميين؛ وينحصر المقصود من ترتيب مملكتهم في سبع «2» جمل.
الجملة الأولى في الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العظام
وهي على أصناف متعدّدة:
منها «التاج» «3» . وكان ينعت عندهم بالتاج الشريف، ويعرف بشدّة الوقار.
وهو تاج يركب به الخليفة في المواكب العظام، وفيه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة زنتها سبعة دراهم ولا يقوّم عليها لنفاستها؛ وحولها جواهر أخرى دونها؛ يلبس الخليفة هذا التاج في المواكب العظام مكان العمامة.
ومنها «قضيب الملك» . وهو عود طول شبر ونصف، ملبّس بالذهب المرصّع بالدرّ والجوهر، يكون بيد الخليفة في المواكب العظام.
ومنها «السيف الخاص» . الذي يحمل مع الخليفة في المواكب. يقال إنه كان من صاعقة وقعت وحصل الظّفر بها فعمل منها هذا السيف، وحليته من ذهب(3/540)
مرصعة بالجواهر، وهو في خريطة مرقومة بالذهب لا يظهر إلا رأسه، وله أمير من أعظم الأمراء يحمله عند ركوب الخليفة في الموكب.
ومنها «الدواة» . وهي دواة متخذة من الذهب وحليتها مصنوعة من المرجان على صلابته ومناعته، تلف في منديل شرب «1» أبيض [مذهب] «2» ، ويحملها شخص من الأستاذين «3» في الموكب أمام الخليفة تكون بينه وبين السرج، ثم جعل حملها لعدل من العدول المعتبرين.
ومنها «الرمح» . وهو رمح لطيف في غلاف منظوم باللؤلؤ؛ وله سنان مختصر بحلية الذهب؛ وله شخص مختص بحمله.
ومنها «الدّرقة» «4» . وهي درقة كبيرة بكوابج «5» من ذهب؛ يقولون إنها درقة حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليها غشاء من حرير؛ ويحملها في الموكب أمير من أكابر الأمراء، له عندهم جلالة.
ومنها «الحافر» . وهي قطعة ياقوت أحمر في شكل الهلال، زنتها أحد عشر مثقالا، ليس لها نظير في الدنيا، تخاط خياطة حسنة على خرقة من حرير، وبدائرها قضب زمرد ذبابيّ «6» عظيم الشأن، تجعل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب.(3/541)
ومنها «المظلّة» التي تحمل على رأس الخليفة عند ركوبه. وهي قبّة على هيئة خيمة على رأس عمود كالمظلّة التي يركب بها السلطان الآن. وكانت اثني عشر شوزكا عرض سفل كل شوزك شبر، وطوله ثلاثة أذرع وثلث، وآخره من أعلاه دقيق للغاية بحيث يجتمع الاثنا عشر شوزكا في رأس عمود بدائرة، وعمودها قنطارية «1» من الزّان ملبّسة بأنابيب الذهب، وفي آخر أنبوبة ثلثي رأس العمود فلكة «2» بارزة مقدار عرض إبهام تشدّ آخر الشوازك «3» في حلقة من ذهب، وتنزل في رأس الرمح. ولها عندهم مكانة جليلة لعلوّها رأس الخليفة، وحاملها من أكبر الأمراء.
قال ابن الطوير: وكان من شرطها عندهم أن تكون على لون الثياب التي يلبسها الخليفة في ذلك الموكب، لا تخالف ذلك.
ومنها «الأعلام» . وأعلاها اللواءان المعروفان بلواءي الحمد، وهما رمحان طويلان ملبّسان بأنابيب من ذهب إلى حدّ أسنّتهما، وبأعلاهما رايتان من الحرير الأبيض المرقوم بالذهب، ملفوفتان على الرمحين غير منشورتين، يخرجان لخروج المظلة إلى أميرين معدّين لحملها، ودونهما رمحان برؤوسهما أهلّة من ذهب صامت، في كل واحد منهما سبع من ديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة مستديرة يدخل فيها الرمح فيفتحان فيظهر شكلهما، يحملهما فارسان من صبيان الخاصّ، ووراءهما رايات لطاف ملوّنة من الحرير المرقوم ومكتوب عليها: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
«4» طول كلّ راية منها ذراعان في عرض ذراع ونصف، في كل(3/542)
واحدة ثلاث طرازات على رماح من القنا، عدّتها أبدا إحدى وعشرون راية؛ يحملها أحد وعشرون فارسا من صبيان الخليفة؛ وحاملها أبدا راكب بغلة.
ومنها «المذبّتان» وهما مذبّتان عظيمتان كالنخلتين ملويتان محمولتان عند رأس فرس الخليفة في الركوب.
ومنها «السلاح» الذي يحمله الركابية «1» حول الخليفة. وهو صماصم «2» مصقولة، ودبابيس ملبّسة بالكيمخت «3» الأحمر والأسود، ورؤوسها مدوّرة، ولتوت «4» حديد كذلك ورؤوسها [مستطيلة وآلات يقال لها المستوفيات] «5» وهي عمد حديد طول ذراعين مربعات الأشكال بمقابض مدوّرة بعدّة معلومة من كل صنف، وستّمائة حربة بأسنة مصقولة، تحتها جلب «6» الفضة؛ وثلاثمائة درقة بكوابج فضة؛ يحمل ذلك في الموكب ثلاثمائة عبد أسود كل عبد حربتان ودرقة واحدة؛ وستون رمحا طول كل واحد منها سبع أذرع، برأسها طلعة وعقبها من حديد؛ يحملها قوم يقال لهم «السريرية» يفتلونها بأيديهم اليمنى فتلا متدارك الدوران؛ ومائة درقة لطيفة؛ ومائة سيف بيد مائة رجل، كل رجل درقة وسيف يسيرون رجّالة في الموكب؛ وعشرة سيوف في خرائط ديباج أحمر وأصفر بشراريب يقال لها سيوف الدم، تكون في أعقاب الموكب برسم ضرب الأعناق إذا أراد الخليفة قتل أحد. وذلك كله خارج عما يخرج من خزانة التجمل برسم الوزير وأكابر الأمراء وأرباب الرتب وأزمّة «7» العساكر لتجملهم في الموكب، وهي نحو أربعمائة راية(3/543)
مرقومة الأطراف، وبأعلاها رمامين الفضة المذهبة، وعدة من العمّاريّات «1» ، وهي شبه الكنجاوات ملبسة بالحرير الأحمر والأصفر والقرمزيّ وغير ذلك، وعليها كوابج «2» الفضة المذهبة، لكل أمير من أصحاب القضب منها عمّاريّة، ويختص لواءان على رمحين منقوشين بالذهب غير منشورين يكونان أمامه في الموكب الى غير ذلك من الآلات التي يطول ذكرها، ويعسر استيعابها.
ومنها «النّقّارات» «3» . وكانت على عشرين بغلا، على كل بغل ثلاث مثل نقارات الكوسات «4» بغير كوسات، تسير في الموكب اثنتين اثنتين ولها حسّ حسن.
ومنها «الخيام والفساطيط» وكان من أعظم خيمهم خيمة تعرف بالقاتول، طول عمودها سبعون ذراعا، بأعلاه سفرة «5» فضة تسع راوية «6» ماء، وسعتها ما يزيد على فدانين في التدوير، وسميت بالقاتول لأن فرّاشا «7» سقط من أعلاها فمات.
قلت: ولعمري إن هذه لأثرة عظيمة تدل على عظيم مملكة وقوّة قدرة، وأنّى(3/544)
يتأتي مثل هذه الخيمة لملك من الملوك وإن جلّ قدره وعظم شأنه.
الجملة الثانية في حواصل الخليفة، وهي على خمسة أنواع
النوع الأوّل الخزائن، وهي ثمان «1» خزائن:
الأولى- «خزانة الكتب»
. وكانت من أجل الخزائن وأعظمها شأنا عندهم، وكان فيها من المصاحف الشريفة المكتوبة بالخطوط المنسوبة الفائقة عدّة كثيرة، ومن الكتب ما يزيد على مائة ألف مجلد، مشتملة على أنواع العلوم مما يدهش الناظر ويحيره، وربما اجتمع من المصنّف الواحد فيها عشر نسخ فما دونها «2» ، وكان فيها من الدّروج المكتتبة بالخطوط المنسوبة كخط ابن مقلة وابن البوّاب، ومن جرى مجراهما.
الثانية- «خزانة الكسوة»
وهي في الحقيقة خزانتان،
إحداهما- الخزانة الظاهرة
، وهي المعبر عنها في زماننا بالخزانة الكبرى على ما كانت عليه أوّلا، والمعبر عنها بخزانة الخاصّ على ما استقرّ عليه الحال آخرا، وكان فيها من الحواصل من الديباج الملوّن على اختلاف ضروبها، والشرب الخاص الدّبيقيّ «3»(3/545)
والسّقلاطون «1» ، وغير ذلك من أنواع القماش الفاخرة ما يدل على عظم المملكة، وإليها يحمل ما يعمل بدار الطّراز «2» بتنّيس ودمياط والإسكندريّة من مستعملات الخاص، وفيها يفصّل ما يؤمر به من لباس الخليفة، وما يحتاج إليه من الخلع والتشاريف وغير ذلك.
الثانية- معدّة للباس الخليفة خاصة
، وهي المعبر عنها في زماننا بالطشت خاناه، وإليها ينقل القماش المفصّل بالخزانة الأولى من قماش الخليفة وغيره.
الثالثة- «خزانة الشراب»
. وهي المعبر عنها في زماننا بالشراب خاناه، وكان فيها من أنواع الأشربة والمعاجين النفيسة والمربيات الفاخرة وأصناف الأدوية والعطريّات الفائقة التي لا توجد إلا فيها؛ وفيها من الآلات النفيسة والآنية الصّينيّ من الزبادي «3» والصّحون والبرانيّ «4» والأزيار «5» ما لا يقدر عليه غير الملوك.
الرابعة- «خزانة الطّعم»
. وهي المعبّر عنها في زماننا بالحوائج خاناه، وكانت تحتوي على عدّة أصناف من جميع أصناف القلويّات من الفستق وغيره والسّكّر والقند «6» والأعسال على أصنافها والزيت والشّمع وغير ذلك، ومنها يخرج راتب المطابخ خاصّا وعامّا، وينفق لأرباب الخدم وأصحاب التوقيعات في(3/546)
كل شهر، ولا يحتاج إلى غيرها إلا في اللحم والخضر.
الخامسة- «خزانة السّروج»
. وهي المعبّر عنها في زماننا بالرّكاب خاناه، وكانت قاعة كبيرة بالقصر، بها السروج واللّجم من الذهب والفضّة، وسائر آلات الخيل مما يختص بالخليفة؛ ثم منها ما هو قريب من الخاص، ومنها ما هو وسط برسم من هو من أرباب الرّتب العالية، ومنها ما هو دون برسم من هو برسم العواري أيام المواكب لأرباب الخدم.
السادسة- «خزانة الفرش»
. وهي المعبّر عنها في زماننا بالفراش خاناه؛ وكان موضعها بالقصر بالقرب من دار الملك؛ وكان الخليفة يحضر إليها من غير جلوس ويطوف فيها، ويسأل عن أحوالها، ويأمر بإدامة عمل الاحتياجات وحملها إليها «1» .
السابعة- «خزانة السلاح»
. وهي المعبّر عنها في زماننا بالسلاح خاناه، فيها من أنواع السلاح المختلفة ما لا نظير له: من الزّرديّات المغشّاة بالديباج المحكمة الصّنعة المحلّاة بالفضة، والجواشن «2» المذهبة، والخوذ المحلّاة بالذهب والفضة، والسيوف العربيات والقلجوريّة، والرّماح القنا والقنطاريات المدهونة والمذهبة، والأسنّة العظيمة والقسيّ المخبورة المنسوبة إلى أفاضل الصّنّاع، وقسيّ الرجل والركاب، وقسيّ اللولب التي تبلغ زنة نصله خمسة أرطال بالمصري، والنّبل الذي يرمى به عن القسيّ العربية في المجاري المصنوعة لذلك.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: كان يصرف فيها في كل سنة سبعون ألف دينار إلى ثمانين ألف دينار.(3/547)
الثامنة- «خزانة التجمّل»
«1» . وهي خزانة فيها أنواع من السلاح يخرج منها للوزير والأمراء في المواكب الألوية والقضب الفضة والعمّاريّات وغيرها. قال ابن الطوير: هي من حقوق خزائن السلاح.
وأما «خزائن المال» فكان فيها من الأموال والجواهر النفيسة، والذخائر العظيمة، والأقمشة الفاخرة ما لا تحصره الأقلام.
وناهيك أن المستنصر لما وقع الغلاء العظيم بمصر، أخرج من خزانته في سنة اثنتين وستين وأربعمائة ذخائر تسعها للإعانة على قيام أمر المملكة والجند، فكان مما أخرجه ثمانون ألف قطعة بلّور كبار، وسبعون ألف قطعة من الدّيباج، وعشرون ألف سيف محلّى. ولما استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على القصر بعد وفاة العاضد، آخر خلفائهم، وجد فيه من الأعلاق الثمينة والتّحف ما يخرج عن حدّ الإحصاء، من جملته الحافر الياقوت المقدّم ذكره. ويقال إنه وجد فيه قضيب زمرّد يزيد على قامة الرجل على ما تقدّم ذكره في الكلام على الأحجار الملوكية في أثناء المقالة الأولى، ووجد فيه أيضا الهرم العنبر الذي عمله الأمين زنته ألف رطل بالمصريّ.
النوع الثاني حواصل المواشي المعبر عنها عند كتّاب زماننا بالكراع «2» ؛ وهي حاصلان:
الأوّل- «الإصطبلات»
. وهي حواصل الخيول والبغال وما في معناها، قال ابن الطوير: وكان لهم إصطبلان «3» . قال: وكان للخليفة برسم الخاصّ في كل(3/548)
إصطبل ما يقرب من الألف رأس، النصف من ذلك برسم الخاصّ، والنصف برسم العواري في المواكب لأرباب الرّتب والمستخدمين، وكان لكل ثلاثة أرؤس منها سائس واحد، لكل واحد منها شدّاد برسم تسييرها، وبكل من الإصطبلين رائض كأمير آخور «1» . ومن غريب ما يحكى أن أحدا من خلفاء الفاطميين لم يركب حصانا أدهم قطّ، ولا يرون إضافته إلى دوابّهم بالإصطبلات.
الثاني- «المناخات»
«2» . وهي حواصل «3» الجمال، وكان لهم من الجمال الكثيرة بالمناخات وعددها الفائقة ما يقصر عند الحدّ.
النوع الثالث حواصل الغلال وشون الأتبان
أما الغلال
- فكانت لهم الأهراء في عدّة أماكن: بالقاهرة، وبالفسطاط، والمقسم؛ ومنها تصرف الإطلاقات لأرباب الرواتب والخدم والصدقات وأرباب الجوامع والمساجد والجرايات والطواحين السلطانية، وجرايات رجال الأسطول وغير ذلك، وربما طال زمن الغلال فيها حتّى تقطع بالمساحي «4» .
وأما شون الأتبان
- فكان بطريق الفسطاط شونتان عظيمتان مملوءتان بالتبن معبأتان تعبئة المراكب كالجبلين الشاهقين، وينفق منها للإصطبلات والمواشي(3/549)
الديوانية وعوامل بساتين الملك، وكانت ضريبة كل شليف «1» عندهم ثلاثمائة وستين رطلا.
النوع الرابع حواصل البضاعة
قال ابن الطوير: وكان فيها ما لا يحصره إلا القلم من الأخشاب والحديد والطواحين النجدية والغشيمة، وآلات الأساطيل من القنّب والكتّان، والمنجنيقات والصّنّاع الكثيرة من الفرنج وغيرهم من أهل كل صنعة، وكانت الصناعة أوّلا بالجزيرة المعروفة الآن بالرّوضة، ولذلك كانت تعرف بينهم بجزيرة الصّناعة قاله القضاعيّ.
النوع الخامس ما في معنى الحواصل، لوقوع الصرف والتفرقة منه، وهو الطواحين، والمطبخ «2» ، ودار الفطرة «3»
فأما الطواحين
- فإنها كانت معلقة، مداراتها أسفل وطواحينها فوق كما في السواقي حتّى لا يقارب الدقيق زبل الدوابّ الدائرة لاختصاصه بالخليفة.
وأما المطبخ
- فقد تقدّم في الكلام على خطط القاهرة، وكان يدخل بالطعام(3/550)
منه إلى القصر من باب الزّهومة مكان قاعة الحنابلة من المدرسة الصالحية الآن على ما تقدّم في خطط القاهرة. قال ابن الطوير: ولم يكن لهم أسمطة عامّة في سوى العيدين وشهر رمضان.
الجملة الثالثة في ذكر جيوش الدولة الفاطمية، وبيان مراتب أرباب السيوف وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل الأمراء وهم على ثلاث مراتب
المرتبة الأولى- مرتبة الأمراء المطوّقين
. وهم الذين يخلع عليهم بأطواق الذهب في أعناقهم، وكأنهم بمثابة الأمراء مقدّمي الألوف في زماننا.
المرتبة الثانية- مرتبة أرباب القضب
، وهم الذين يركبون في المواكب بالقضب الفضّة التي يخرجها لهم الخليفة من خزانة التجمل تكون بأيديهم، وهم بمثابة الطبلخاناه في زماننا.
المرتبة الثالثة- أدوان الأمراء ممن لم يؤهّل لحمل القضب
. وهم بمثابة أمراء العشرات والخمسات في زماننا.
الصنف الثاني خواص الخليفة، وهم على ثلاثة أنواع:
النوع الأوّل الأستاذون
وهم المعروفون الآن بالخدّام وبالطواشيّة، وكان لهم في دولتهم المكانة الجليلة، ومنهم كان أرباب الوظائف الخاصة بالخليفة، وأجلهم المحنّكون، وهم الذين يدوّرون عمائمهم على أحناكهم كما تفعل العرب والمغاربة الآن،(3/551)
وهم أقربهم إليه وأخصهم به، وكانت عدّتهم تزيد على ألف. قال ابن الطوير:
وكان من طريقتهم أنه متى ترشح أستاذ منهم للحنك وحنك «1» ، حمل إليه كل أستاذ من المحنّكين بدلة كاملة من ثيابه وسيفا وفرسا فيصبح لاحقا بهم، وفي يده مثل ما في أيديهم.
النوع الثاني صبيان الخاص
وهم جماعة من أخصاء الخليفة نحو خمسمائة نفر منهم أمراء وغيرهم، ومقامهم مقام المعروفين بالخاصكية «2» في زماننا.
النوع الثالث صبيان الحجر
وهم جماعة من الشّباب يناهزون خمسة آلاف نفر مقيمون في حجر منفردة لكل حجرة منها اسم يخصها، يضاهون مماليك الطباق السلطانية الآن المعبر عنهم بالكتانية إلا أن عدّتهم كاملة وعللهم مزاحة، ومتى طلبوا لمهمّ لم يجدوا عائقا، وللصّبيان منهم حجرة منفردة يتسلمها بعض الأستاذين؛ وكانت حجرتهم بمعزل عن القصر داخل باب النصر مكان الخانقاه الركنية بيبرس الآن.
الصنف الثالث طوائف الأجناد
وكانوا عدّة كثيرة، تنسب كلّ طائفة منهم إلى من بقي من بقايا خليفة من(3/552)
الخلفاء الماضين منهم، كالحافظية والآمرية من بقايا الحافظ والآمر، أو إلى من بقي من بقايا وزير من الوزراء الماضين كالجيوشية والأفضلية من بقايا أمير الجيوش بدر الجماليّ وولده الأفضل، أو إلى من هي منتسبة إليه في الوقت الحاضر كالوزيرية أو غير ذلك من القبائل والأجناس كالأتراك والأكراد والغز والدّيلم والمصامدة، أو من المستصنعين كالروم والفرنج والصّقالبة، أو من السّودان من عبيد الشراء، أو العتقاء وغيرهم من الطوائف، ولكل طائفة منهم قوّاد ومقدّمون يحكمون عليهم.
الجملة الرابعة في ذكر أرباب الوظائف بالدولة الفاطمية، وهم على قسمين:
القسم الأوّل ما بحضرة الخليفة، وهم أربعة أصناف
الصنف الأوّل أرباب الوظائف من أرباب السيوف، وهم نوعان:
النوع الأوّل وظائف عامّة الجند، وهي تسع وظائف:
الوظيفة الأولى- «الوزارة»
وهي أرفع وظائفهم وأعلاها رتبة. واعلم أن الوزارة في الدولة الفاطمية كانت تارة تكون في أرباب السّيوف، وتارة في أرباب الأقلام، وفي كلا الجانبين تارة تعلو فتكون وزارة تفويض تضاهي السلطنة الآن أو قريبا منها، ويعبر عنها حينئذ بالوزارة؛ وتارة تنحطّ فتكون دون ذلك، ويعبر عنها حينئذ بالوساطة.
قال في «نهاية الأرب» «1» : وأوّل من خوطب منهم بالوزارة يعقوب بن كلّس(3/553)
وزير العزيز، وأوّل وزارتهم من عظماء أرباب السيوف بدر الجماليّ وزير المستنصر، وآخرهم صلاح الدين يوسف بن أيوب، ومنها استقل بالسلطنة على ما تقدّم.
الوظيفة الثانية- وظيفة «صاحب الباب»
وهي ثاني رتبة الوزارة. قال ابن الطوير: وكان يقال لها الوزارة الصغرى، وصاحبها في المعنى يقرب من النائب الكافل في زماننا، وهو الذي ينظر في المظالم إذا لم يكن وزير صاحب سيف، فإن كان ثمّ وزير صاحب سيف، كان هو الذي يجلس للمظالم بنفسه، وصاحب الباب من جملة من يقف في خدمته.
الوظيفة الثالثة- «الاسفهلارية»
«1» . قال ابن الطوير: وصاحبها زمام كلّ زمام، وإليه أمر الأجناد والتحدّث فيهم، وفي خدمته وخدمة صاحب الباب تقف الحجّاب على اختلاف طبقاتهم.
الوظيفة الرابعة- «حمل المظلّة»
في المواسم العظام: كركوب رأس العام ونحوه. وهي من الوظائف العظام، وصاحبها يسمّى حامل المظلة، وهو أمير جليل، وله عندهم التقدّم والرفعة، لحمل ما يعلو رأس الخليفة.
الوظيفة الخامسة- «حمل سيف الخليفة»
في المواكب التي تحمل فيها المظلة، ويعبر عن صاحبها بحامل السيف.
الوظيفة السادسة- «حمل رمح الخليفة»
في المواكب التي تحمل فيها المظلة. وهو رمح صغير يحمل مع الخليفة في المواكب، وصاحبها يعبر عنه بحامل الرمح.
الوظيفة السابعة- «حمل السّلاح»
حول الخليفة في المواكب. وأصحاب هذه الوظيفة يعبر عنهم لزيهم بالركابية وبصبيان الركاب الخاص أيضا، وهم الذين(3/554)
يعبر عنهم في زماننا بالسّلاح دارية والطّبردارية «1» ، وكانت عدّتهم تزيد على ألفي رجل، ولهم اثنا عشر مقدّما، وهم أصحاب ركاب الخليفة، ولهم نقباء موكّلون بمعرفتهم، والأكابر من هؤلاء الرّكابيّة تندب في الأشغال السلطانية، وإذا دخلوا عملا كان لهم فيه الصّيت المرتفع.
الوظيفة الثامنة- «ولاية «2» القاهرة»
. وكان لصاحبها عندهم الرتبة الجليلة والحرمة الوافرة، وله مكان في الموكب يسير فيه.
الوظيفة التاسعة- «ولاية مصر»
. وهي دون ولاية القاهرة في الرتبة كما هي الآن، إلا أن مصر كانت إذ ذاك عامرة آهلة، فكان مقدارها أرفع مما هي عليه في زماننا.
النوع الثاني وظائف خواصّ الخليفة من الأستادين؛ وهي عدة وظائف؛ وهي على ضربين:
الضرب الأوّل ما يختص بالأستاذين المحنّكين، وهي تسع وظائف:
الأولى- «شدّ التاج»
. وموضوعها أن صاحبها يتولّى شدّ تاج الخليفة الذي يلبسه في المواكب العظيمة بمثابة اللّفّاف في زماننا، وله ميزة على غيره بلمسه التاج الذي يعلو رأس الخليفة، وكان لشدّه عندهم ترتيب خاص لا يعرفه كل أحد، يأتي به في هيئة مستطيلة، ويكون شده بمنديل من لون لبس الخليفة، ويعبّر عن هذه الشدّة بشدّة الوقار كما تقدّم.(3/555)
الثانية- وظيفة «صاحب المجلس»
. وهو الذي يتولّى أمر المجلس الذي يجلس فيه الخليفة الجلوس العامّ في الموكب، ويخرج إلى الوزير والأمراء بعد جلوس الخليفة على سرير الملك يعلمهم بذلك، وينعت (بأمين الملك) ، وهو بمثابة أمير خازندار في زماننا.
الثالثة- وظيفة «صاحب الرسالة»
. وهو الذي يخرج برسالة الخليفة إلى الوزير وغيره.
الرابعة- وظيفة «زمام القصور»
«1» . وهو بمثابة زمام الدّور في زماننا.
الخامسة- وظيفة «صاحب بيت المال»
«2» . وهو بمثابة الخازندار في زماننا.
السادسة- وظيفة «صاحب الدفتر»
«3» المعروف بدفتر المجلس. وهو المتحدّث على الدواوين الجامعة لأمور الخلافة.
السابعة- وظيفة «حامل الدواة»
. وهي دواة الخليفة المتقدّم ذكرها، وصاحب هذه الوظيفة يحمل الدواة المذكورة قدّامه على السّرج ويسير بها في المواكب.
الثامنة- وظيفة «زمّ الأقارب»
. وصاحبها يحكم على طائفة الأشراف الذين هم أقارب الخليفة وكلمته نافذة فيهم.(3/556)
التاسعة- «زمّ الرجال»
. وهو الذي يتولى أمر طعام الخليفة كأستادار الصحبة.
الضرب الثاني ما يكون من غير المحنّكين، ومن مشهوره وظيفتان:
[الوظيفة] الأولى- «نقابة الطالبيّين»
. وهي بمثابة نقابة الأشراف الآن، ولا يكون إلا من شيوخ هذه الطائفة وأجلّهم قدرا؛ وله النظر في أمورهم، ومنع من يدخل فيهم من الأدعياء؛ وإذا ارتاب بأحد أخذه بإثبات نسبه. وعليه أن يعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويسعى في حوائجهم، ويأخذ على يد المتعدّي منهم، ويمنعه من الاعتداء، ولا يقطع أمرا من الأمور المتعلقة بهم إلا بموافقة مشايخهم ونحو ذلك.
الوظيفة الثانية- «زم الرجال»
. وصاحبها يتحدّث على طوائف الرجال والأجناد كزمّ صبيان الحجر، وزمّ الطائفة الآمرية والطائفة الحافظية، وزمّ السودان وغير ذلك؛ وهو بمثابة مقدّم المماليك في زماننا.
الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحضرة الخليفة أرباب الأقلام، وهم على ثلاثة أنواع:
النوع الأول أرباب الوظائف الدينية، والمشهور منهم ستة:
الأول- «قاضي القضاة»
. وهو عندهم من أجلّ أرباب الوظائف وأعلاهم شأنا وأرفعهم قدرا. قال ابن الطوير: ولا يتقدّم عليه أحد أو يحتمي عليه، وله النظر في الأحكام الشرعية ودور الضّرب وضبط عيارها، وربما جمع قضاء الديار المصرية وأجناد الشأم وبلاد المغرب لقاض واحد وكتب له به عهد واحد كما سيأتي في الكلام على الولايات إن شاء الله تعالى.
ثم إن كان الوزير صاحب سيف، كان تقليده من قبله نيابة عنه، وإن لم(3/557)
يكن، كان تقليده من الخليفة.
ويقدّم له من إصطبلات الخليفة بغلة شهباء يركبها دائما، وهو مختص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة، ويخرج له من خزانة السروج مركب ثقيل وسرج برادفتين من الفضة، وفي المواسم الأطواق، وتخلع عليه الخلع المذهبة؛ وكان من مصطلحهم أنه لا يعدّل شاهدا إلا بأمر الخليفة، ولا يحضر إملاكا ولا جنازة إلا بإذن، وإذا كان ثمّ وزير لا يخاطب بقاضي القضاة لأن ذلك من نعوت الوزير، ويجلس يوم الاثنين والخميس بالقصر أول النهار للسلام على الخليفة، ويوم السبت والثلاثاء يجلس بزيادة الجامع العتيق بمصر، وله طرحة ومسند للجلوس وكرسيّ توضع عليه دواته. وإذا جلس بالمجلس، جلس الشهود حواليه يمنة ويسرة على مراتبهم في تقدّم تعديلهم. قال ابن الطوير: حتى يجلس الشابّ المتقدّم التعديل أعلى من الشيخ المتأخر التعديل، وبين يديه أربعة موقعون اثنان مقابل اثنين، وببابه خمسة حجّاب: اثنان بين يديه واثنان على باب المقصورة وواحد ينفذ الخصوم. ولا يقوم لأحد وهو في مجلس الحكم البتّة.
الثاني- «داعي الدّعاة»
«1» . وكان عندهم يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيّا بزيه في اللباس وغيره. وموضوعه عندهم أنه يقرأ عليه مذاهب أهل البيت بدار تعرف بدار العلم، ويأخذ العهد على من ينتقل إلى مذهبهم.
الثالث- «المحتسب»
. وكان عندهم من وجوه العدول وأعيانهم، وكان من شأنه أنه إذا خلع عليه قريء سجلّه بمصر والقاهرة على المنبر؛ ويده مطلقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قاعدة الحسبة؛ ولا يحال بينه وبين مصلحة أرادها؛ ويتقدّم إلى الولاة بالشدّ منه، ويقيم النوّاب عنه بالقاهرة ومصر(3/558)
وجميع الأعمال كنوّاب الحكم؛ ويجلس بجامعي القاهرة ومصر يوما بيوم، وباقي أمره على ما الحال عليه الآن.
قلت: ورأيت في بعض سجلاتهم إضافة الحسبة بمصر والقاهرة إلى صاحبي الشّرطة بهما أحيانا.
الرابع- «وكالة بيت المال»
. وكانت هذه الوكالة لا تسند إلا لذوي الهيبة من شيوخ العدول، ويفوّض إليه عن الخليفة بيع ما يرى بيعه من كل صنف يملك ويجوز التصرف فيه شرعا، وعتق المماليك، وتزويج الإماء، وتضمين ما يقتضي الضمان، وابتياع ما يرى ابتياعه، وإنشاء ما يرى إنشاءه من البناء والمراكب وغير ذلك مما يحتاج إليه في التصرف عن الخليفة.
الخامس- «النائب»
. والمراد نائب صاحب الباب المتقدّم ذكره المعبّر عنه في زماننا بالمهمندار «1» . قال ابن الطوير: ويعبّر عن هذه النيابة بالنيابة الشريفة. قال وهي رتبة جليلة، يتولاها أعيان العدول وأرباب الأقلام؛ وصاحبها ينوب عن صاحب الباب في تلقّي الرّسل الواردين على الخليفة على مسافة وقفة نوّاب الباب في خدمته، وينزل كلّا منهم في المكان اللائق به، ويرتّب لهم ما يحتاجون إليه، ولا يمكّن أحدا من الاجتماع بهم، ويتولّى افتقادهم، ويذكّر صاحب الباب بهم، ويسعى في نجاز أمرهم، وهو الذي يسلّم بهم على الخليفة أو الوزير ويتقدّمهم ويستأذن عليهم، ويدخل الرسول وصاحب الباب قابض على يده اليمنى، والنائب قابض على يده اليسرى فيحفظ ما يقولون وما يقال لهم، ويجتهد في انفصالهم على أحسن الوجوه، وإذا غاب أقام عنه نائبا إلى أن يعود.
ومن شريطته أنه لا يتناول من أحد من الرسل تقدمة ولا طرفة إلا بإذن.(3/559)
قال ابن الطوير: وهو المسمّى الآن بالمهمندار، وسيأتي في الكلام على ترتيب المملكة المستقّر أن المهمندار الآن من أصحاب السيوف، وكأنّ ذلك لموافقة الدولة في اللسان والهيئة.
السادس- «القرّاء»
. وكان لهم قرّاء يقرأون بحضرة الخليفة في مجالسه وركوبه في المواكب وغير ذلك، وكان يقال لهم «قرّاء الحضرة» يزيدون في العدّة على عشرة نفر، وكانوا يأتون في قراءتهم في المجالس ومواكب الركوب بآيات مناسبة للحال بأدنى ملابسة، قد ألفوا ذلك وصار سهل الاستحضار عليهم، وكان ذلك يقع منهم موقع الاستحسان عند الخليفة والحاضرين، حتّى إنه يحكى أن بعض الخلفاء غضب على أمير فأمر باعتقاله، فقرأ قاريء الحضرة: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«1» فاستحسن ذلك وأطلقه إلا أنهم كانوا ربما آتوا بآيات إذا روعي قصدهم فيها، أخرجت القرآن عن معناه: كما يحكى أنه لما استوزر المستنصر بدر الجماليّ قرأ قارئهم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
«2» ولما استوزر الحافظ رضوان قرأ قارئهم: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ
«3» إلى غير ذلك من الوقائع.
النوع الثاني من أرباب الأقلام أصحاب الوظائف الديوانية، وهي على أربعة «4» أضرب:
الضرب الأول الوزارة إذا كان الوزير صاحب قلم
اعلم أن أكثر وزرائهم في ابتداء دولتهم إلى أثناء خلافة المستنصر كانوا من(3/560)
أرباب الأقلام: تارة وزارة تامة وتارة وساطة «1» ، وهي رتبة دون الوزارة؛ وممن اشتهر من وزرائهم أرباب الأقلام فيما ذكره ابن الطوير: يعقوب بن كلّس «2» وزير العزيز، والحسن بن عبد الله اليازوريّ «3» وزير المستنصر، وأبو سعيد التّستري «4» ، والجرجراني «5» ، وابن أبي كدينة «6» ، وأبو الطاهر أحمد بن بابشاذ «7» صاحب المقدّمة في النحو، ووزير الوزراء علي بن فلاح «8» ، والمغربيّ وزير(3/561)
المستنصر «1» ، وهو آخر من وزّر لهم من أصحاب الأقلام، وعليه قدّم أمير الجيوش بدر الجماليّ «2» فوزّر للمستنصر على ما تقدّم ذكره؛ وربما تخلل تلك المدّة الأولى في الوساطة أرباب السيوف، كبرجوان «3» الخادم، وقائد القوّاد الحسين بن جوهر «4» ، وثقة ثقات السيف والقلم عليّ بن صالح «5» كلهم في أيام الحاكم. وربما ولي الوساطة بعض النصارى، كعيسى بن نسطورس «6» في أيام العزيز، ومنصور بن عبدون «7» الملقب بالكافي، وزرعة بن نسطورس «8» الملقب بالشافي كلاهما في أيام الحاكم. وربما كان الأمر شورى في أهل المروادني «9» ؛ وكان من زيّ وزرائهم أصحاب الأقلام أنهم يلبسون المناديل الطبقيات بالأحناك تحت حلوقهم كالعدول، وينفردون بلبس الدراريع مشقوقة من النحر إلى أسفل الصدر بأزرار وعرى؛ وهذه علامة الوزارة؛ ومنهم من تكون أزراره من ذهب مشبك، ومنهم من تكون أزراره من لؤلؤ، وعادته أن تحمل له الدواة المحلاة بالذهب من خزانة الخليفة ويقف بين يديه الحجّاب، وأمره نافذ في أرباب السيوف من الأجناد وفي أرباب الأقلام.(3/562)
الضرب الثاني ديوان الإنشاء، وكان يتعلق به عندهم ثلاث وظائف:
الأولى- «صحابة ديوان الإنشاء والمكاتبات»
وكان لا يتولّاه إلا أجل كتاب البلاغة، ويخاطب بالأجلّ؛ وكان يقال له عندهم كاتب الدّست الشريف، وإليه تسلّم المكاتبات الواردة مختومة فيعرضها على الخليفة من يده، وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها؛ ويستشيره الخليفة في أكثر أموره؛ ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وربما بات عنده الليالي، ولا سبيل إلى أن يدخل إلى ديوانه ولا يجتمع بكتّابه أحد إلا خواصّ الخليفة. وله حاجب من أمراء الشّيوخ، وله مرتبة عظيمة للجلوس عليها بالمخادّ والمسند، ودواته من أخصّ الدّويّ وأحسنها إلا أنه ليس لها كرسيّ توضع عليه كدواة قاضي القضاة، ويحملها له أستاذ من الأستاذين المختصين بالخليفة إذا أتى إلى حضرته «1» .
الثانية- «التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم»
وهي رتبة جليلة تلي رتبة صاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات، يكون صاحبها جليسا للخليفة في أكثر أيام الاسبوع في خلوته، يذاكره ما يحتاج إليه من كتاب الله تعالى أو أخبار الأنبياء والخلفاء الماضين، ويقرأ عليه ملح السّير، ويكرر عليه ذكر مكارم الأخلاق، ويقوّي يده في تجويد الخط وغير ذلك. وصحبته للجلوس دواة محلّاة، فإذا فرغ من المجالسة ألقى في الدواة كاغدة فيها عشرة دنانير، وقرطاس فيه ثلاثة مثاقيل ندّ مثلّث خاصّ ليتبخر به عند دخوله على الخليفة ثاني دفعة. وإذا جلس الوزير صاحب السيف للمظالم، كان إلى جانبه يوقّع بما يأمر به في المظالم. وله موضع من حقوق ديوان المكاتبات لا يدخل إليه أحد إلا بإذن، وفرّاش لتقديم القصص؛ ويرفع إليه هناك قصص المظالم ليوقّع عليها بما يقتضيه الحال كما يفعل كاتب السر الآن.(3/563)
الثالثة- «التوقيع بالقلم الجليل»
وكان يسمّى عندهم الخدمة الصغيرة لجلالتها، ولصاحبها الطّرّاحة والمسند في مجلسه بغير حاجب. وموضوعها الكتابة بتنفيذ ما يوقّع به صاحب القلم الدقيق، وبسطه. وصاحب القلم الدقيق في المعنى ككاتب السر أو كاتب الدّست في زماننا، وصاحب القلم الجليل ككاتب الدّرج.
فإذا رفعت قصص المظالم، حملت إلى صاحب القلم الدقيق فيوقّع عليها بما يقتضيه الحال بأمر الخليفة أو أمر الوزير أو من نفسه، ثم تحمل إلى الموقّع بالقلم الجليل لبسط ما أشار إليه صاحب القلم الدقيق، ثم تحمل في خريطة إلى الخليفة فيوقّع عليها، ثم تخرج في خريطتها إلى الحاجب فيقف على باب القصر، ويسلّم كلّ توقيع لصاحبه. أمّا توقيع الخليفة بيده على القصص، فإنه إن كان ثمّ وزير صاحب سيف وقّع الخليفة على القصة بخطه: «وزيرنا السيد الأجل (ونعته بالمعروف به) أمتعنا الله تعالى ببقائه يتقدّم بكذا وكذا إن شاء الله تعالى» ويحمل إلى الوزير فإن كان يحسن الكتابة، كتب تحت خط الخليفة: «أمتثل أمر مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه» وإن كان لا يحسن الكتابة، كتب أمتثل فقط؛ وإن لم يكن وزير صاحب سيف: فإن أراد الخليفة نجاز الأمر لوقته، وقّع في الجانب الأيمن من القصة «يوقّع بذلك» فتخرج إلى صاحب ديوان المجلس فيوقّع عليها بالقلم الجليل ويخلى موضع العلامة «1» ، ثم تعاد إلى الخليفة فيكتب في موضع العلامة (يعتمد) وتثبت في الدواوين بعد ذلك. وإن كان يوقع في مساحة أو تسويغ أو تحبيس، كتبت لرافعها بذلك «وقد أمضينا ذلك» وإن أراد علم حقيقة القصة، وقّع على جانب القصة «ليخرج الحال في ذلك» وتحمل إلى الكاتب فيكتب الحال وتعاد إلى الخليفة فيفعل فيها ما أراد من توقيع ومنع، والله أعلم.(3/564)
الضرب الثالث ديوان الجيش والرواتب، وهو على ثلاثة أقسام:
الأول- «ديوان الجيش»
. ولا يكون صاحبه إلا مسلما، وله الرتبة الجليلة والمكانة الرفيعة؛ وبين يديه حاجب، وإليه عرض الأجناد وخيولهم، وذكر حلاهم وشيات خيولهم. وكان من شرط هذا الديوان عندهم ألا يثبت لأحد من الأجناد إلا الفرس الجيد من ذكور الخيل وإناثها دون البغال والبراذين، وليس له تغيير أحد من الأجناد ولا شيء من إقطاعهم إلا بمرسوم. وبين يدي صاحب هذا الديوان نقباء الأمراء، يعرّفونه أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور وغير ذلك، على ما الحال عليه الآن. وكان قد فسح للأجناد في المقايضة بالإقطاعات لما لهم في ذلك من المصالح كما هو اليوم، بتوقيعات من صاحب ديوان المجلس من غير علامة؛ ولم يكن لأمير من أمرائهم بلد كاملة، وإن علا قدره إلا في النادر. ومن هذا الديوان كان يعمل أوراق أرباب الجرايات، وله خازنان برسم رفع الشواهد.
الثاني- «ديوان الرواتب»
. وكان يشتمل على اسم كل مرتزق في الدولة وجار وجراية «1» ؛ وفيه كاتب أصيل بطرّاحة ونحو عشرة معينين «2» ، والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمرّ ومباشرة من استجدّ وموت من مات، وفيه عدّة عروض يأتي ذكرها في الكلام على إجراء الأرزاق والعطاء.
الثالث- «ديوان الإقطاع»
. وكان مختصّا عندهم بما هو مقطع للأجناد، وليس للمباشرين فيه تنزيل حلية جنديّ ولا شية دابته، وكان يقال لإقطاعات العربان في أطراف البلاد وغيرها الاعتداد، وهي دون عبرة الأجناد.(3/565)
الضرب الرابع نظر الدواوين
وصاحب هذه الوظيفة هو رأس الكل، وله الولاية والعزل، وإليه عرض الأرزاق في أوقات معروفة على الخليفة والوزير، وله الجلوس بالمرتبة والمسند، وبين يديه حاجب من أمراء الدولة؛ وتخرج له الدواة من خزانة الخليفة بغير كرسيّ، وإليه طلب الأموال واستخراجها والمحاسبة عليها، ولا يعترض فيما يقصده من أحد من الدولة. قال ابن الطوير: ولم ير في هذا الوظيفة نصرانيّ إلا الأحرم «1» .
الثانية «2» - «ديوان التحقيق»
. وموضوعه المقابلة على الدواوين، وكان لا يتولاه إلا كاتب خبير، وله الخلع ومرتبة يجلس عليها وحاجب بين يديه، ويفتقر إليه في كثير من الأوقات، ويلحق برأس الدواوين المتقدّم ذكره.
الثالثة- «ديوان المجلس»
. قال ابن الطوير: وهو أصل الدواوين قديما، وفيه معالم «3» الدولة بأجمعها، وفيه عدّة كتّاب، وعنده «4» معين أو معينان، وصاحب هذا الديوان هو المتحدّث في الإقطاعات، ويخلع عليه وينشأ له سجلّ بذلك لا حق بديوان النظر، وله دواة تخرج له من خزانة الخليفة وحاجب يقف بين يديه، وكان يتولاه عندهم أحد كتّاب الدولة ممن يكون مترشحا لأن يكون رأس الدواوين، ويسمى استيماره «5» دفتر المجلس، وهو متضمن للعطاء والظاهر من الرسوم التي تقرّر في غرّة السنة والضحايا، وما ينفق في دار الفطرة في عيد الفطر،(3/566)
وفي فتح الخليج والأسمطة المستعملة في رمضان وغيره، وسائر المآكل والمشارب والتشريفات، وما يطلق من الأهراء من الغلّات، وما لأولاد الخليفة وأقاربه وأرباب الرواتب على اختلاف الطبقات من المرتّب، وما يرد من الملوك من الهدايا والتحف، وما يبعث به إليه من الملاطفات، ومقادير صلات الرسل الواردين بالمكاتبات، وما يخرج من الاكفان لمن يموت من الحريم، وضبط ما ينفق في الدولة من المهمّات ليعلم ما بين السنة والأخرى من التفاوت وغير ذلك من الأمور المهمة. وهذا الديوان في زماننا قد تفرق إلى عدّة دواوين كالوزارة ونظر الخاص والجيش وغيرها.
الرابعة- «ديوان خزائن الكسوة»
. وكان لها عندهم رتبة عظيمة في المباشرات. وقد تقدّم ذكر حواصلها في جملة الخزائن فيما سبق.
الخامسة- «الطّراز»
. وكان يتولاه الأعيان من المستخدمين، من أرباب الأقلام، وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين، ومقامه بدمياط وتنّيس وغيرهما من مواضع الاستعمالات، ومن عنده تحمل المستعملات إلى خزانة الكسوة المقدّمة الذكر.
السادسة- «الخدمة في ديوان الأحباس»
قال ابن الطوير: وهي أوكد الدواوين مباشرة ولا يخدم فيها إلا أعيان كتّاب المسلمين من الشهود المعدّلين، وفيها عدّة مدراء بسبب أرباب الرواتب، وكان فيه كاتبان ومعينان لنظم الاستيمارات، ويورد في استيماره كل ما في الرقاع والرواتب، وما يجبى له من جهات كلّ من الوجهين القبليّ والبحريّ.
السابعة- «الخدمة بديوان الرواتب»
. وفيه مرتّبات الوزير فمن دونه إلى الضوّي «1» قال ابن الطوير: بلغ في بعض السنين ما يزيد على مائة ألف دينار ونحوا من مائتي ألف، ومن القمح والشعير عشرة آلاف إردب، وكان استيمار الرواتب يعرض في كل سنة على الخليفة فيزيد من يزيد، وينقص من ينقص، وإنه عرض(3/567)
سنة على المستنصر بالله فلم يعترض أحدا من المرتّبين بنقص، ووقّع على ظاهر الاستيمار بخطه «الفقر مرّ المذاق، والحاجة تذلّ الأعناق، وحراسة النّعم بإدرار الأرزاق، فليجروا على رسومهم في الإطلاق، ما عندكم ينفد، وما عند الله باق» وأمر وليّ الدولة ابن خيران «1» كاتب الإنشاء بإمضاء ذلك.
الثامنة- «الخدمة في ديوان الصعيد»
من الصعيد الأعلى والصعيد الأدنى.
وكان فيه عدة كتّاب فروع، والاستيفاء مقسوم بينهم، وعليهم عمل التذاكر بطلب ما تأخر من الحساب. وصاحب هذا الديوان يترجمها بخطه، ويحملها إلى صاحب الديوان الكبير فيوقّع عليها بالاسترفاع، ويندب لها من الحجّاب أو غيرهم من يراه، وله مياومة يأخذها من المستخدمين مدّة بقائه عندهم ويحضرها نسخا للدّواوين الأصول.
التاسعة- «الخدمة في ديوان أسفل الأرض»
. وهو الوجه البحريّ خلا الثّغور، وحكمه فيما تقدّم من الكتّاب وما يلزم كلّا منهم حكم ديوان الصعيد المتقدّم الذكر من غير فرق.
العاشرة- «الخدمة في ديوان الثّغور»
. وهي الإسكندرية ودمياط ونستروه والبرلّس والفرما، وحكمه حكم ما تقدّم من ديوان الصعيد وأسفل الأرض.
الحادية عشرة- «الخدمة في الجوالي والمواريث الحشرية»
. قال ابن الطوير: كان لا يتولاه إلا عدل، وفيه جماعة من الكتّاب على ما تقدّم في غيره من الدواوين أيضا.
الثانية عشرة- «الخدمة في ديواني الخراجيّ والهلاليّ»
وتجري فيه الرباع والمكوس وعليه حوالات أكثر المرتزقين.
الثالثة عشرة- «الخدمة في ديوان الكراع»
. وفيه معاملة الإصطبلات،(3/568)
وما فيها من الدوابّ الخاص وغيرها والبغال والجمال ودوابّ المرمّة «1» المرصدة للعمائر ورباع الديوان، وعدد ذلك وآلاته، وعلوفات ذلك مع ما ينضم إليه من علوفة الفيلة والزّراريف «2» والوحوش وراتب من يخدمها. وكان في هذا الديوان كاتبا أصل ومستوفي ومعينان.
الرابعة عشرة- «الخدمة في ديوان الجهاد»
. ويقال له ديوان العمائر، وكان محله بالصّناعة «3» بمصر، وفيه إنشاء المراكب للأسطول وحمل الغلال السلطانية والأحطاب وغيرها، ومنه ينفق على رؤساء المراكب ورجالها، وإذا لم يف ارتفاقه بما يحتاج إليه استدعي له من بيت المال بما يكفيه.
الصنف الثالث من أرباب الوظائف أصحاب الوظائف الصناعية
وأعظمها وظائف الأطباء، وكان للخليفة طبيب يعرف بطبيب الخاصّ يجلس على باب دار الخليفة كلّ يوم، ويجلس على الدكك التي بالقاعة المعروفة بقاعة الذهب بالقصر دونه أربعة أطباء أو ثلاثة فيخرج الأستاذون فيستدعون منهم من يجدونه للدخول على المرضى بالقصر لجهات الأقارب والخواص فيكتب لهم رقاعا على خزانة الشراب فيأخذون ما فيها، وتبقى الرقاع عند مباشريها شاهدا لهم. ولكل منهم الجاري والراتب على قدره.
الصنف الرابع الشعراء
وكانوا جماعة كثيرة من أهل ديوان الإنشاء وغيره، وكان منهم أهل سنّة لا(3/569)
يغلون في المديح؛ وشيعة يغلون فيه. فمن أحسن مدح فيهم لسنّيّ قول عمارة «1» اليمنى رحمه الله:
أفاعليهم في الجود أفعال سنّة ... وإن خالفوني في اعتقاد التّشيّع
ومن الذي وقعت فيه المغالاة قول بعضهم «2» :
هذا أمير المؤمنين بمجلس ... أبصرت فيه الوحي والتّنزيلا
وإذا تمثّل راكبا في موكب ... عانيت تحت ركابه جبريلا
قلت: وهذه المغالاة من المغالاة الفاحشة التي لا يجوز الإقدام عليها لسنيّ ولا متشيّع، وإنما هي من اقتحام الشعراء البوائق «3» .
القسم الثاني من أرباب الوظائف بالدولة الفاطمية ما هو خارج عن حضرة الخلافة، وهو صنفان:
الصنف الأوّل النّوّاب والولاة
واعلم أن مملكتهم كانت قد [انحصرت] في ثلاث ممالك فيها نوّابهم وولاتهم: المملكة الأولى «الديار المصرية» وهي التي كانت قد استقرّت قاعدة ملكهم، ومحطّ رحالهم، وكان بها أربع ولايات:
الأولى- «ولاية قوص»
وكانت هي أعظم ولايات الديار المصرية، وواليها يحكم على جميع بلاد الصعيد، وربما ولّي بالأشمونين ونحوها من يكون دونه.(3/570)
الثانية- «ولاية الشّرقية»
وكانت دون ولاية قوص في الرتبة، وكان متوليها يحكم على عمل بلبيس وعمل قليوب وعمل أشموم.
الثالثة- «ولاية الغربية»
وكانت دون ولاية الشرقية في المرتبة، وكان متوليها يحكم على عمل المحلّة، وعمل منوف، وعمل أبيار.
الرابعة- «ولاية الإسكندريّة»
وهي دون الغربية في الرتبة، وكان متوليها يحكم على أعمال البحيرة بأجمعها.
قال ابن الطوير: وهؤلاء الأربعة كان يخلع عليهم من خزانة الكسوة بالبدنة، وهو النوع الذي يلبسه الخليفة في يوم فتح الخليج «1» .
قلت: لعل هذه الولايات الأربع ولايات الولاة التي تدخل تحت حكمها الولايات الصّغار، أو تكون هي التي استقرّ عليه الحال في آخر دولتهم، وإلا فقد رأيت في تذكرة أبي الفضل الصوريّ، أحد كتّاب الإنشاء في أيام القاضي الفاضل سجلات كثيرة لولاة الوجهين القبليّ والبحريّ «2» .
الجملة الخامسة من ترتيب مملكتهم، في هيئة الخليفة في مواكبه وقصوره؛ وهي على ثلاثة أضرب
الضرب الأوّل جلوسه في المواكب، وله ثلاثة جلوسات:
الجلوس الأوّل جلوسه في المجلس العامّ أيام المواكب
واعلم أن جلوس الخليفة أوّلا كان بالإيوان الكبير الذي كان بالقصر على(3/571)
سرير الملك الذي كان بصدره إلى آخر أيام المستعلي «1» . فلما ولي ابنه الآمر الخلافة بعده، نقل الجلوس من الإيوان الكبير إلى القاعة المعروفة بقاعة الذهب بالقصر أيضا، وصار يجلس من مجالسها على سرير الملك به، وجعل الإيوان الكبير خزانة للسلاح، ولم يتعرّض لإزالة سرير الملك منه حتّى جاءت الدولة الأيوبية، وهو باق، وكان جلوس الخليفة في هذه الحالة لا يتعدّى يومي الاثنين والخميس، وليس ذلك على الدوام بل على التقرير بحسب ما يقتضيه الحال. فإذا أراد الجلوس فإن كان في الشتاء علّق المجلس الذي يجلس فيه بستور الديباج، وفرش بالبسط الحرير؛ وإن كان في الصيف، علق بالستور الدّبيقية وفرش بطبريّ طبرستان المذهب الفائق، وهيئت المرتبة المعدّة لجلوسه على سرير الملك بصدر المجلس، وغشّي السرير بالقرقوبيّ «2» ، ثم يستدعى الوزير من داره بصاحب الرسالة على حصان رهوان «3» في أسرع حركة على خلاف الحركة المعتادة، فيركب الوزير في هيئته وجماعته وبين يديه الأمراء، فإذا وصل إلى باب القصر ترجّل الأمراء، وهو راكب إلى أوّل باب باب من الدّهاليز الطّوال عند دهليز يعرف بدهليز العمود، ويمشي وبين يديه أكابر الأمراء إلى مقطع الوزارة بقاعة الذهب، فإذا تهيأ جلوس الخليفة، استدعى الوزير من مقطع الوزارة إلى باب المجلس الذي فيه الخليفة وهو مغلق، وعلى بابه ستر معلّق، فيقف زمام القصر عن يمين باب المجلس وزمام بيت المال عن يساره، والوزير واقف أمام باب المجلس وحواليه الأمراء المطوّقون «4» وأرباب الخدم الجليلة، وفي خلال القوم قرّاء الحضرة؛ ويضع صاحب المجلس الدواة مكانها من المرتبة أمام الخليفة، ثم(3/572)
يخرج كم من أكمامه يعرف بفرد الكم ويشير إلى زمام القصر وزمام بيت المال الواقفين بباب المجلس، فيرفع كل منهما جانب الستر فيظهر الخليفة جالسا على سرير الملك مستقبل القول بوجهه، ويستفتح القرّاء بالقرآن، ويدخل الوزير المجلس ويسلم بعد دخوله، ثم يقبّل يدي الخليفة ورجليه، ويتأخر مقدار ثلاثة أذرع ويقف ساعة زمانية، ثم تخرج له مخدّة عن الجانب الأيمن من الخليفة ويؤمر بالجلوس إليها، ويقف الأمراء في أماكنهم المقرّرة لهم، فصاحب الباب واسفهسلار من جانبي الباب يمينا ويسارا، ويليهم من خارجه ملاصقا للعتبة زمام الآمرية والحافظية وباقي الأمراء على مراتبهم إلى آخر الرواق، وهو إفريز عال عن أرض القاعة، ثم أرباب القضب «1» والعماريّات يمنة ويسرة كذلك، ثم الأماثل والأعيان من الأجناد المترشحين للتقدمة، ويقف مستندا بالقدر الذي يقابل باب المجلس نوّاب الباب والحجاب، فإذا انتظم الأمر على ذلك، فأوّل ماثل للخدمة بالسلام قاضي القضاة والشهود المعروفون بالاستخدام فيجيز صاحب الباب القاضي دون من معه فيسلم على الخليفة بأدب الخلافة، بأن يرفع يده اليمنى ويشير بالمسبحة، ويقول بصوت مسموع: «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته» يتخصص بهذا الكلام دون غيره من أهل السلام، ثم يسلم بالأشراف الأقارب زمامهم، وبالأشراف الطالبيين نقيبهم، فتمضي عليهم كذلك ساعتان زمانيتان أو ثلاث، ثم يسلم عليه من خلع عليه بقوص أو الشرقية أو الغربية أو الإسكندرية، ويشرّفون بتقبيل العتبة، وإذا دعت حاجة الوزير إلى مخاطبة الخليفة في أمر، قام من مكانه وقرّب منه منحنيا على سيفه، ويخاطبه مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم يأمر الحاضرون بالانصراف فينصرفون، ويكون آخرهم خروجا الوزير بعد تقبيل يد الخليفة ورجله. فإذا خرج إلى الدهليز الذي ترجل فيه، ركب(3/573)
منه إلى داره، وفي خدمته من حضر في خدمته إلى القصر، ويدخل الخليفة إلى سكنه مع خواصّ الأستاذين، ثم يغلق باب المجلس ويرخى الستر إلى أن يحتاج إلى حضور موكب آخر فيكون الأمر كذلك.
الجلوس الثاني جلوسه للقاضي والشهود في ليالي الوقود «1» الأربع من كل سنة
وهي: ليلة أوّل رجب، وليلة نصفه، وليلة أوّل شعبان، وليلة نصفه.
إذا مضى النصف من جمادى الآخرة حمل إلى القاضي من حواصل الخليفة ستون شمعة، زنة كل شمعة منها سدس قنطار بالمصري ليركب بها في أوّل ليلة من شهر رجب؛ فإذا كان أوّل ليلة منه جلس الخليفة في منظرة عالية كانت عند باب الزّمرّد من أبواب القصر المتقدّم ذكره، وبين يديه شمع يوقد في العلوّ يتبيّن شخصه على إرتفاعه. ويركب القاضي من داره بعد صلاة المغرب وبين يديه الشمع المحمول إليه من خزانة الخليفة موقودا، من كل جانب ثلاثون شمعة، وبين الصّفّين مؤذنو الجوامع، يعلنون بذكر الله تعالى، ويدعون للخليفة والوزير بترتيب مقرّر محفوظ ويحجبه ثلاثة من نوّاب الباب، وعشرة من حجّاب الخليفة، خارجا عن حجّاب الحكم المستقرّين وهم خمسة في زيّ الأمراء؛ وفي ركابه القرّاء يقرأون القرآن، والشهود وراءه على ترتيب جلوسهم بمجلس الحكم الأقدم فالأقدم؛ وحول كل منهم ثلاث شمعات أو شمعتان أو شمعة واحدة إلى بين القصرين في جمع عظيم حتى يأتي باب الزّمرّد من أبواب القصر، فيجلسون في رحبة تحت المنظرة التي فيها الخليفة، ويحضر بين يديه بسمت ووقار وتشوّف لانتظار ظهور الخليفة، فيفتح الخليفة إحدى طاقات المنظرة فيظهر منها رأسه(3/574)
ووجهه وعلى رأسه عدة من خواص الأستاذين من المحنّكين وغيرهم، فيفتح بعض الأستاذين طاقة أخرى فيخرج منها رأسه ويده اليمنى، ويشير بكمه قائلا: «أمير المؤمنين يردّ عليكم السلام» فيسلم بقاضي القضاة أوّلا بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة من غير تعيين أحد؛ ويستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة وهم قيام في الصّدر، ظهورهم إلى حائط المنظرة ووجوههم للحاضرين.
ثم يتقدّم خطيب الجامع الأنور (وهو الذي بباب البحر) فيخطب كما يخطب فوق المنبر، وينبه على فضيلة ذلك الشهر، وأن ذلك الركوب علامته ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة؛ ثم يتقدّم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك؛ ثم يتقدّم خطيب جامع الحاكم فيخطب كذلك، والقرّاء في خلال تلك الخطب يقرأون، فإذا انتهت خطابة الخطباء، أخرج الأستاذ الأوّل يده من تلك الطاقة فيرد على الجماعة السلام؛ ثم تغلق الطاقاتان وينفضّ الناس، ثم يركب القاضي والشهود إلى دار الوزير فيجلس لهم ليسلموا عليه، ويخطب الخطباء الثلاثة عنده بأخّف من مقام الخليفة ويدعون له، ثم ينصرفون ويذهب القاضي والشهود صحبته إلى مصر، ووالي القاهرة في خدمته، ويمرّ بجامع ابن طولون فيصلّي فيه ويخرج منه فيجد والي مصر في تلقّيه فيمضي في خدمته، ويمرّ على المشاهد فيتبرك بها، ويمضي إلى الجامع العتيق ويدخل من باب الزيادة التي يحكم فيها فيصلى في الجامع ركعتين، ويوقد له التنّور «1» الفضة الذي بالجامع، وهو تنّور عظيم حسن التكوين، فيه نحو ألف وخمسمائة براقة، وبسفله نحو مائة قنديل؛ ثم يخرج من الجامع فإن كان ساكنا بمصر استقرّ بها، وإن كان ساكنا بالقاهرة انتظره والي القاهرة في مكانه حتّى يعود من مصر فيذهب في خدمته إلى داره.
وكذلك يركب في ليلة الخامس عشر من رجب إلا أنه بعد صلاته في جامع(3/575)
مصر يتوجه إلى القرافة فيصلّي في جامعها؛ ثم يركب في أوّل شعبان كذلك، ثم في نصفه كذلك.
الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل
وكان عادتهم فيه أن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطارا من السّكّر الفائق حلوى من طرائف الأصناف، وتعبّى في ثلاثمائة صينية نحاس. فإذا كان ليلة ذلك المولد، تفرّق في أرباب الرسوم: كقاضي القضاة، وداعي الدعاة، وقرّاء الحضرة، والخطباء، والمتصدّرين بالجوامع القاهرة ومصر، وقومة المشاهد وغيرهم ممن له اسم ثابت بالديوان، ويجلس الخليفة في منظرة قريبة من الأرض مقابل الدار القطبيّة المتقدّمة الذكر (وهي البيمارستان المنصوريّ الآن) ثم يركب القاضي بعد العصر ومعه الشهود إلى الجامع الأزهر ومعهم أرباب تفرقة الصواني المتقدّمة الذكر، فيجلسون في الجامع مقدار قراءة الختمة الكريمة، وتسدّ الطريق تحت القصر من جهة السّيوفيين وسويقة أمير الجيوش، ويكنس ما بين ذلك ويرشّ بالماء رشّا، ويرشّ تحت المنظرة بالرمل الأصفر. ويقف صاحب الباب ووالي القاهرة على رأس الطّرق لمنع المارّة، ثم يستدعي القاضي ومن معه فيحضرون ويترجّلون على القرب من المنظرة ويجتمعون تحتها وهم متشوّفون لانتظار ظهور الخليفة، فيفتح إحدى طاقات المنظرة فيظهر منها وجهه، ثم يخرج أحد الاستاذين المحنّكين يده ويشير بكمه بأن الخليفة يردّ عليكم السلام، ويقرأ القرّاء ويخطب الخطباء كما تقدّم في ليالي الوقود فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ يده مشيرا بردّ. السلام كما تقدّم، ثم تغلق الطاقتان وينصرف الناس إلى بيوتهم، وكذلك شأنهم في مولد عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه الخاص في أوقات معلومة عندهم من السنة.(3/576)
الضرب الثاني ركوبه في المواكب، وهو على نوعين
النوع الأوّل ركوبه في المواكب العظام، وهي ستة مواكب
الموكب الأوّل ركوب أوّل العام
وكان من شأنهم فيه أنه إذا كان العشر الآخر من ذي الحجة من السنة، وقع الاهتمام بإخراج ما يحتاج إليه في المواكب من حواصل الخليفة، فيخرج من خزائن السلاح ما يحمله الرّكابية وغيرهم حول الخليفة كالصّماصم، والدّبابيس، واللّتوت، وعمد الحديد، والسيوف، والدّرق، والرماح، والألوية، والأعلام.
ومن خزانة التجمل برسم الوزير والأمراء وأرباب الخدم الألوية والقضب، والعماريات، وغير ذلك مما تقدّم ذكره. ومن الإصطبلات مائة فرس مسوّمة برسم ركوب الخليفة وما بجنبه. ويخرج من خزانة السروج مائة سرج بالذهب والفضة مرصّع بعضها بالجواهر بمراكب من ذهب، وفي أعناق الخيل أطواق الذهب وقلائد العنبر، وفي أرجل أكثرها خلاخل الذهب والفضة مسطحة، قيمة كل فرس وما عليها من العدّة ألف دينار، يدفع للوزير منها عشرة بعدّتها برسم ركوبه وركوب أخصّائه، وتسلّم إلى المناخات أغشية العماريات لتحمل على الجمال، إلى غير ذلك من الآلات المستعملة في المواكب مما تقدّم ذكره في الكلام على الخزائن، ويبعث إلى أرباب الخدم من الإصطبلات بخيول عادية ليركبوها في الموكب. فإذا كان يوم التاسع والعشرين من ذي الحجة، استدعى الخليفة الوزير من داره على الرسم المعتاد في الإسراع، فإذا عاد صاحب الرسالة من استدعاء الوزير، خرج الخليفة من مكانه راكبا في القصر، فينزل في السدلّى «1» ، بدهليز باب الملك(3/577)
الذي فيه الشباك، وعليه ستر من ظاهره، فيقف من جانبه الأيمن زمام القصر، ومن جانبه الأيسر صاحب بيت المال؛ ويركب الوزير من داره وبين يديه الأمراء، فإذا وصل إلى باب القصر ترجّل الأمراء وهو راكب، ويدخل من باب العيد، ولا يزال راكبا إلى أوّل باب من الدهاليز الطّوال، فينزل ويمشي فيها وحواليه حاشية ومن يرابّه «1» من أولاده وأقاربه. فإذا وصل إلى الشّبّاك، وجد تحته كرسيّا كبيرا من حديد فيجلس عليه ورجلاه تطأ الأرض، فإذا جلس، رفع كلّ من زمام القصر وصاحب بيت المال الستر من جانبه فيرى الخليفة جالسا على مرتبة عظيمة، فيقف ويسلم ويخدم بيده في الأرض ثلاث مرّات، ثم يؤمر بالجلوس على كرسيه فيجلس.
ويستفتح القرّاء بقراءة آيات لائقة بذلك المكان مقدار نصف ساعة؛ ثم يسلم الأمراء، ويشرع في عرض خيول الخاص المقدّم ذكرها واحدة واحدة إلى آخرها.
فإذا تكمل عرضها، قرأ القرّاء ما يناسب ختم ذلك المجلس. فإذا فرغوا أرخى الستر وقام الوزير فدخل عليه فقبل يديه ورجليه، ثم ينصرف عنه فيركب من مكان نزوله ويخرج الأمراء معه إلى خارج فيمضون معه إلى داره ركبانا ومشاة على حسب مراتبهم. فإذا صلّى الخليفة الظهر، جلس لعرض خزانة الكسوة الخاص وتعيين ما يلبس في ذلك الموكب ولباسه فيه، فيعين منديلا لشدّ التاج وبدلة من هذا النوع، والجوهرة الثمينة وما معها من الجواهر المتقدّمة الذكر لشدّ التاج وتشدّ مظلّة تشبه تلك البذلة، وتلف في منديل دبيقيّ فلا يكشفها إلا حاملها عند ركوب الخليفة، ثم يشدّ لواءي الحمد المتقدّمي الذكر. فإذا كان أوّل يوم من العام، بكّر أرباب الرّتب من ذوي السيوف والأقلام فلا يصبح الصبح إلا وهم بين القصرين منتظرين ركوب الخليفة (وهو يومئذ فضاء واسع خال من البناء) ويبكر الأمراء إلى دار الوزير ليركبوا معه، فيخرج من داره ويركب إلى القصر من غير استدعاء وأمامه ما شرّفه به الخليفة من الألوية والأعلام، والأمراء بين يديه ركبانا ومشاة، وأولاده وإخوته قدّامه، وكل منهم مرخى الذؤابة بلا حنك، وهو في هيئة عظيمة(3/578)
من الثياب الفاخرة والمنديل والحنك متقلدا بالسيف الذهب. فإذا وصل إلى باب القصر، ترجّل الأمراء ودخل هو راكبا إلى محل نزوله بدهليز القصر المعروف بدهليز العمود فيترجّل هناك ويمشي في بقية الدهاليز حتّى يصل إلى مقطع الوزارة بقاعة الذهب هو وأولاده وإخوته وخواصّ حاشيته، ويجلس الأمراء بالقاعة على دكك معدّة لهم، ويدخل فرس الخليفة إلى باب المجلس الذي هو فيه، وعلى باب المجلس كرسيّ يركب من عليه. فإذا استوت الدابة إلى ذلك الكرسيّ، أخرجت المظلة إلى حاملها فيكشفها مما هي ملفوفة فيه ويتسلمها بإعانة أربعة معدّين لخدمتها فيركزها في آلة من حديد تشبه القرن المصطحب مشدودة في ركاب حاملها الأيمن بقوّة، ويمسك العمود بحاجز فوق يده؛ ثم يخرج السيف فيتسلمه حامله، فإذا تسلمه أرخى ذؤابته فلا تزال مرخاة ما دام حاملا له، ثم تخرج الدواة فيتسلمها حاملها ويجعلها قدّامه بينه وبين السرج، ثم يخرج الوزير عن المقطع وينضم إليه الأمراء ويقفون إلى جانب فرس الخليفة، ويرفع صاحب المجلس الستر فيخرج من كان عند الخليفة للخدمة من الأستاذين، ويخرج الخليفة في أثرهم في ثيابه المختصة بذلك اليوم وعلى رأسه التاج الشريف والدرّة اليتيمة على جبهته، وهو محنّك مرخيّ الذؤابة مما يلي جانبه الأيسر متقلد بالسيف العربيّ وقضيب الملك بيده، ويسلم على الوزير قوم مرتّبون لذلك، ثم على القاضي وعلى الأمراء بعدهما، ثم يخرج الأمراء وبعدهم الوزير فيركب ويقف قبالة باب القصر، ويخرج الخليفة راكبا وفرسه ماشية على بسط خشية أن تزلق على الرخام والأستاذون حوله. فإذا قارب الباب وظهر وجهه، ضرب رجل ببوق لطيف معوجّ الرأس متّخذ من الذهب يقال له الغريبة مخالف لصوت الأبواق، فتضرب البوقات في المواكب، وتنشر المظلة، ويخرج الخليفة من باب القصر فيقف وقفة يسيرة بمقدار ركوب الأستاذين المحنكين وغيرهم من أرباب الرتب الذين كانوا في الخدمة بالقاعة، ثم يسير الخليفة في الموكب وصاحب المظلة على يساره، وهو يحرص ألّا يزول ظلها عن الخليفة، ثم يكتنف الخليفة مقدّمو صبيان الركاب،(3/579)
اثنان منهم في شكيمتي لجام «1» فرسه، واثنان في عنق الفرس من الجانبين، واثنان في ركابه من الجانبين أيضا، والأيمن منهما هو صاحب المقرعة «2» الذي يناولها للخليفة ويتناولها منه، وهو الذي يؤدي عن الخليفة مدّة ركوبه الأوامر والنواهي، واللواءان المعروفان بلواءي الحمد «3» عن جانبيه، والمذبّتان عند رأس فرس الخليفة، والركابية «4» يمينه وشماله نحو ألف رجل مقلد والسيوف مشدود والأوساط بالمناديل والسلاح، وهم من جانبي الخليفة كالجناحين المادّين، بينهما فرجة لوجه الفرس ليس فيها أحد، وبالقرب من رأسها الصقلبيان الحاملان للمذبتين، وهما مرفوعتان كالنخلتين «5» . (ويترتب الموكب) : أجناد الأمراء وأولادهم وأخلاط العسكر أمام الموكب وأدوان الأمراء يلونهم، وبعدهم أرباب القضب الفضة من الأمراء، ثم أرباب الأطواق منهم، ثم الأستاذون المحنكون، ثم أهل الوزير المتقدّم ذكرهم، ثم الحاملان للواءي الحمد من الجانبين، ثم حامل الدواة وحامل السيف بعده، وهما من الجانب الأيسر، وكل واحد ممن تقدّم ذكره بين عشرة إلى عشرين من أصحابه، ثم الخليفة بين الركابية، وهو سائر على تؤدة ورفق، وفي أوائل العسكر ومتقدّميه والي القاهرة ذاهبا وعائدا لفسح الطرقات وتسيير من يقف، وفي وسط العسكر اسفهسلار يحث الأجناد على الحركة ويزجر المتازحمين والمعترضين في العسكر ذاهبا وعائدا، وفي زمرة الخليفة صاحب الباب لترتيب العسكر وحراسة طرقات الخليفة ذاهبا وعائدا، يلقى صاحب الباب اسفهسلار، واسفهسلار يلقى والي القاهرة، وفي يد كل منهم دبّوس، وخلف الخليفة جماعة من الركابية لحفظ أعقابه، ثم عشرة يحملون عشرة سيوف في(3/580)
خرائط ديباج أحمر وأصفر يقال لها سيوف الدم برسم ضرب الأعناق، وبعدهم الحاملون للسلاح الصغير المتقدّم الذكر؛ ووراءه الوزير في هيئة عظيمة، وفي ركابه نحو خمسمائة رجل ممن يختاره لنفسه من أصحابه «1» ، وقوم يقال لهم صبيان الزّرد من أقوياء الأجناد من جانبيه بفرجة لطيفة أمامه دون فرجة الخليفة مجتهدا ألّا يغيب الخليفة عن نظره، وخلفه الطّبول والصّنوج والصفافير في عدّة كثيرة تدوي من أصواتها الدنيا، ووراء ذلك حامل الرمح المقدّم ذكره والدرقة المنسوبة إلى حمزة «2» ، ثم رجال الأساطيل مشاة ومعهم القسيّ العربية، وتسمّى قسيّ الرّجل والركاب، ما يزيد على خمسمائة رجل؛ ثم طوائف الرجال من المصامدة، ثم الريحانية والجيوشية، ثم الفرنجية، ثم الوزيرية «3» : زمرة بعد زمرة في عدة وافرة تزيد على أربعة آلاف؛ ثم أصحاب الرايات والسبعين، ثم طوائف العساكر: من الآمرية والحافظية والحجرية الكبار والحجريّة الصّغار والأفضلية والجيوشية، ثم الأتراك المصطنعون، ثم الديلم، ثم الأكراد، ثم الغزّ المصطنعة وغيرهم ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس.
قال ابن الطوير: وهذا كله بعض من كلّ. وإذا ترتب الموكب على ذلك، سار من باب القصر الذي خرج منه بين القصرين، يسير بموكبة حتّى يخرج من باب النصر ويصل إلى حوض كان هناك يعرف بعزّ الملك على القرب من باب(3/581)
النصر، ثم ينعطف على يساره طالبا باب الفتوح، وربما عطف عند خروجه من باب النصر على يساره، وسار بجانب السّور حتّى يأتي باب الفتوح فيدخل منه.
وكيفما كان فإنه يدخل منه، ويسير الموكب حتّى ينتهي بين القصرين فيقف العسكر هناك على ما كان عليه عند الركاب ويترجّل الأمراء. فإذا انتهى الخليفة إلى الجامع الأقمر وقف هناك في جماعته وينفرج الموكب للوزير فيتحرّك مسرعا ليصير أمام الخليفة. فإذا مرّ بالخليفة، سكع «1» له سكعة ظاهرة، فيشير الخليفة بالسلام عليه إشارة خفيفة، وهذه أعظم كرامة تصدر من الخليفة، ولا تكون إلا للوزير صاحب السيف. فإذا جاوز الوزير الخليفة، سبقه إلى باب القصر ودخل راكبا على عادته والأمراء أمامه مشاة إلى الموضع الذي ركب منه بدهليز العمود المقدّم ذكره، فيترجل هناك ويقف هو والأمراء لانتظار الخليفة. فإذا انتهى الخليفة إلى باب القصر، ترجل الأستاذون المحنّكون ودخل الخليفة القصر وهو راكب والأستاذون محدقون به. فإذا انتهى إلى الوزير، مشى الوزير أمام وجه فرسه إلى الكرسيّ الذي ركب من عليه فيخدمه الوزير والأمراء، وينصرفون ويدخل الخليفة إلى دوره.
فإذا خرج الوزير إلى مكان ترجّله ركب، والأمراء بين يديه، وأقاربه حواليه إلى خارج باب القصر، فيركب منهم من يستحق الركوب، ويمشي من يستحق المشي، ويسيرون في خدمته إلى داره، فيدخل راكبا وينزل على كرسيّ فيخدمه الجماعة وينصرفون، وقد رأى الناس من حسن الموكب ما أبهجهم وراق خواطرهم، ويتفرّق الناس إلى أماكنهم فيجدون الخليفة قد أرسل إليهم الغرّة:
وهي دنانير رباعية ودراهم خفاف مدوّرة، ويكون الخليفة قد أمر بضربها في العشر الأخير من ذي الحجة برسم التفرقة في هذا اليوم، لكل واحد من الوزير والأمراء وأرباب المراتب من حملة السيوف والأقلام قدر مخصوص من ذلك، فيقبلونها على سبيل التبرك من الخليفة، ويكتب إلى البلاد والأعمال مخلّقات بالبشائر بركوب أوّل العام كما يكتب بوفاء النيل وركوب الميدان الآن.(3/582)
الموكب الثاني ركوب أول شهر مضان
وهو قائم عند الشيعة مقام رؤية الهلال، والأمر في العرض واللباس والآلات والركوب والموكب وترتيبه والطرق المسلوكة على ما تقدّم في أوّل العام من غير فرق، ويكتب فيه المخلّقات بالبشائر كما يكتب في أوّل العام.
الموكب الثالث ركوبه في أيام الجمع الثلاث من شهر رمضان
وهي الجمعة الثانية [والثالثة] «1» والرابعة، وذلك أنه إذا ركب إلى الجامع الأنور بباب البحر، بكّر صاحب بيت المال إلى الجامع بالفرش المختص بالخليفة محمولا على أيدي أكابر الفرّاشين ملفوفا في العراضي الدبيقية «2» ، فيفرش في المحراب ثلاث طرّاحات إمّا شاميات، وإمّا دبيقي أبيض، منقوشة بالحمرة، وتفرش واحدة فوق واحدة، ويعلّق ستران يمنة ويسرة، في الستر الأيمن مكتوب برقم حرير أحمر سورة الفاتحة وسورة الجمعة، وفي الستر الأيسر سورة الفاتحة وسورة المنافقين كتابة واضحة مضبوطة، ويصعد قاضي القضاة المنبر، وفي يده مدخنة لطيفة خيزران يحضرها إليه صاحب بيت المال وفيها ندّ «3» مثلّث لا يشم مثله إلا هناك، فيبخر ذروة المنبر التي عليها القنا كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة ثلاث دفعات، ويركب الخليفة في هيئة ما تقدّم في أوّل العام وأوّل رمضان: من المظلّة والآلات، ولباسه فيه الثياب البياض غير المذهبة توقيرا للصلاة، والمنديل والطيلسان المقوّرة. وحول ركابه خارج الركابية قرّاء الحضرة من الجانبين يرفعون أصواتهم بالقراءة نوبة بعد نوبة من حين ركوبه من القصر إلى حين دخوله قاعة الخطابة، فيدخل من باب الخطابة فيجلس فيها، وإن احتاج إلى تجديد وضوء(3/583)
فعل، وتحفظ المقصورة من خارجها بترتيب أصحاب الباب واسفهسلار وصبيان الخاصّ، وغيرهم ممن يجري مجراهم من أوّلها إلى آخرها، وكذلك من داخلها من باب خروجه إلى المنبر. فإذا أذّن للجمعة دخل إليه قاضي القضاة، فقال:
«السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي الخطيب ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله» فيخرج ماشيا وحواليه الأستاذون المحنّكون والوزير وراءه، ومن يليهم من الأمراء من صبيان الخاص، وبأيديهم الأسلحة حتّى ينتهي إلى المنبر فيصعد حتّى يصل إلى الذّروة تحت القبة المبخّرة، والوزير على باب المنبر ووجهه إليه. فإذا استوى جالسا أشار إلى الوزير بالصعود فيصعد إلى أن يصل إليه، فيقبّل يديه ورجليه بحيث يراه الناس، ثم يزرّ عليه تلك القبة وتصير كالهودج، ثم ينزل مستقبلا للخليفة ويقف ضابطا للمنبر فإن لم يكن وزير صاحب سيف، كان الذي يزرّ عليه قاضي القضاة، ويقف صاحب الباب ضابطا للمنبر، فيخطب خطبة قصيرة من سفط يأتي إليه من ديوان الإنشاء، ويقرأ فيها آية من القرآن الكريم، ثم يصلي فيها على أبيه وجده يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويعظ الناس وعظا بليغا قليل اللفظ، ويذكر من سلف من آبائه حتّى يصل إلى نفسه فيقول: «اللهم وأنا عبدك وابن عبديك لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا» ويتوسل بدعوات فخمة تليق به، ويدعو للوزير إن كان ثمّ وزير وللجيوش بالنصر والتآلف، وللعساكر بالظّفر، وعلى الكافرين والمخالفين بالهلاك والقهر، ثم يختم بقوله اذكروا الله يذكركم «1» فيطلع إليه من زرّ عليه فيفكّ ذلك التزرير عنه، وينزل القهقرى، فيدخل المحراب ويقف على تلك الطراحات إماما والوزير وقاضي القضاة صفّا، ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون وأرباب الرّتب من أصحاب السيوف والأقلام والمؤذّنون وقوف وظهورهم لحائط المقصورة، والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه فيقرأ في الركعة الأولى ما هو مكتوب في الستر الأيمن، وفي الثانية ما في الستر الأيسر. فإذا(3/584)
سمّع الخليفة، سمّع القاضي المؤذنين، فيسمّع المؤذّنون الناس. فإذا فرغ خرج «1» الناس وركبوا أوّلا فأوّلا وعاد إلى القصر والوزير وراءه حتّى يأتي إلى القصر، والطبول والبوقات تضرب ذهابا وإيابا.
فإذا كانت الجمعة الثالثة من الشهر، ركب إلى الجامع الأزهر كذلك وفعل كما فعل في الجمعة الأولى، لا يختلف في ذلك غير الجامع.
فإذا كانت الجمعة الرابعة منه، ركب إلى الجامع العتيق بمصر ويزيّن له أهل القاهرة من باب القصر إلى الجامع الطّولوني، ويزين له أهل مصر من الجامع الطولوني إلى الجامع العتيق، وقد ندب الواليان بالبلدين من يحفظ الناس والزينة ويركب من باب القصر ويسير في الشارع الأعظم بمصر، يمشي في شارع واحد بين العمارة إلى الجامع العتيق بمصر فيفعل كما فعل في الجامعين الأوّلين من غير مخالفة. فإذا قضى الصلاة، عاد إلى القاهرة من طريقه تلك إلى أن يصل إلى قصره، وفي خلال ذلك كلّه لا يمرّ بمسجد إلا أعطى أهله دينارا على كثرة المساجد في طريقه.
الموكب الرابع ركوبه لصلاة عيدي الفطر والأضحى
أما عيد الفطر
- فيقع الاهتمام بركوبه في العشر الأخير من رمضان، وتعبّى أهبة المواكب على ما تقدّم في أوّل العام وغيره، وكان خارج باب النصر مصلّى على ربوة وجميعها مبنيّ بالحجر، ولها سور دائر عليها وقلعة على بابها، وفي صدرها قبّة كبيرة في صدرها محراب، والمنبر إلى جانب القبة وسط المصلّى مكشوفا تحت السماء، ارتفاعه ثلاثون درجة وعرضه ثلاثة أذرع، وفي أعلاه مصطبة. فإذا كمل رمضان، وهو عندهم ثلاثون يوما من غير نقص، فإذا كان اليوم الأوّل من شوّال، سار صاحب بيت المال إلى المصلّى خارج باب النصر، وفرش(3/585)
الطراحات بمحراب المصلّى، كما تقدّم في الجوامع في أيام الجمع، ويعلق سترين يمنة ويسرة، في الأيمن الفاتحة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي الأيسر الفاتحة، وهل أتاك حديث الغاشية، ويركز في جانبي المصلّى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة، وهما منشوران مرخيان، ويوضع على ذروة المنبر طرّاحة من شاميات أو دبيقي، ويفرش باقيه بستر من بياض، على مقداره في تقاطيع درجه مضبوطة لا تتغيّر بالمشي وغيره، ويجعل في أعلاه لواءان مرقومان بالذهب يمنة ويسرة، ثم سار الوزير من داره إلى قصر الخليفة على عادته المتقدّمة الذكر، ويركب الخليفة بهيئة المواكب العظيمة على ما تقدّم في أوّل العام: من المظلّة والتاج وغير ذلك من الآلات، ويكون لباسه في هذا اليوم الثياب البيض الموشّحة المجومة «1» ، وهي أجلّ لباسه ومظلته كذلك، ويخرج من باب العيد على عادته في ركوب المواكب إلا أن العساكر في هذا اليوم من الأمراء والأجناد والركبان والمشاة تكون أكثر من غيره، وينتظم القوم له صفّين من باب القصر إلى المصلّى، ويركب الخليفة إلى المصلّى فيدخل من شرقيّها إلى مكان يستريح فيه دقيقة، ثم يخرج محفوظا بحاشيته كما في صلاة الجمع المتقدّمة الذكر فيصير إلى المحراب، والوزير والقاضي وراءه كما تقدّم، فيصلي صلاة العيد بالتكبيرات المسنونة، ويقرأ في الركعة الأولى ما في الستر الذي على يمينه، وفي الثانية ما في الستر الذي على يساره. فإذا فرغ وسلم، صعد المنبر لخطابة العيد، فإذا انتهى إلى ذروة المنبر، جلس على تلك الطرّاحة بحيث يراه الناس، ويقف أسفل المنبر الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب الباب واسفهسلار، وصاحب السيف، وصاحب الرسالة «2» ، وزمام القصر، وصاحب دفتر المجلس، وصاحب المظلّة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب بيت المال، وحامل الرمح، ونقيب الأشراف(3/586)
الطالبيين. ووجه الوزير إليه [فيشير إليه فيصعد ويقرب وقوفه منه ويكون وجهه موازيا رجليه] «1» فيقبلهما بحيث يراه الناس، ثم يقوم فيقف على يمنة الخليفة.
فإذا وقف أشار إلى قاضي القضاة بالصعود فيصعد إلى سابع درجة، ثم يتطلع إليه منتظرا ما يقول، فيشير إليه فيخرج من كمّه درجا قد أحضر إليه في أمسه من ديوان الإنشاء بعد عرضه على الخليفة والوزير، فيعلن بقراءة مضمونة [ويقول] «2» بعد البسملة: [ثبت بمن] «3» شرّف بصعود [5] «4» المنبر الشريف في يوم كذا، وهو عيد الفطر من سنة كذا من عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين بعد صعود السيد الأجل ... » (يذكر نعوت الوزير المقررة والدعاء له) ثم ذكر من يشرّفه الخليفة بصعود المنبر من أولاد الوزير «5» ، ثم ذكر القاضي ولكنه يكون هو القاريء للثّبت فلا يسعه ذكر نعوته فيقول: المملوك فلان بن فلان ونحو ذلك، ثم الواقفين على باب المنبر ممن تقدّم ذكره بنعوتهم واحدا واحدا، وكلما ذكر واحدا استدعاه وطلع المنبر، كل منهم يعرف مقامه في المنبر يمنة ويسرة. فإذا لم يبق أحد ممن أطلع إلى المنبر، أشار الوزير إليهم فأخذ كل من هو في جانب بيده نصيبا من اللواء الذي بجانبه فيستتر الخليفة ويستترون، وينادي في الناس بالإنصات، فيخطب الخليفة خطبة بليغة مناسبة لذلك المقام، يقرؤها من السّفط «6» الذي يحضر إليه مسطّرا من ديوان الإنشاء كما جمع رمضان المتقدّمة الذكر. فإذا فرغ من الخطبة، ألقى كلّ من في يده شيء من اللواء خارج المنبر، فينكشفون وينزلون القهقرى أوّلا بأوّل الأقرب فالأقرب. فإذا خلا المنبر للخليفة، هبط ودخل المكان الذي خرج منه، فيلبث قليلا ثم يركب في هيئته التي أتى فيها إلى المصلّى، ويعود في طريقه التي أتى(3/587)
منها. فإذا قرب من القصر، تقدّمه الوزير على العادة، ثم يدخل من باب العيد الذي خرج منه، فيجلس في الشّبّاك الذي في الإيوان الكبير، وقد مدّ منه إلى فسقية «1» في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماط فيه من الخشكنان «2» والبستندود «3» ، وغير ذلك مما يعمل في العيد مثل الجبل الشاهق، كل قطعة ما بين ربع قنطار إلى رطل واحد، فيأكل من يأكل وينقل من ينقل لا حجر عليه ولا مانع دونه، ثم يقوم من الإيوان فيركب إلى قاعة الذهب فيجد سرير الملك قد نصب، ووضع له مائدة من فضة، ومدّ السماط تحت السرير فيترجل عن السرير، ويجلس على المائدة، ويستدعي الوزير فيجلس معه، ويجلس الأمراء على السّماط ولا يزال كذلك حتّى يستهدم «4» السّماط قريب صلاة الظهر؛ ثم يقوم وينصرف الوزير إلى داره والأمراء في خدمته فيمدّ لهم سماطا يأكلون منه وينصرفون.
وأما عيد الأضحى
- فإنه إذا دخل ذو الحجة وقع الاهتمام بركوبه. فإذا كان يوم العيد، ركب الخليفة على ما تقدم في عيد الفطر من الزّيّ والترتيب والركوب إلى المصلّى، ويكون لباس الخليفة فيه الاحمر الموشح، ومظلّته كذلك، ويخرج إلى المصلّى خارج باب النصر ويخطب، ثم يعود إلى القصر كما في عيد الفطر من غير زيادة ولا نقص؛ ثم بعد دخوله إلى القصر يخرج من باب الفرج، وهو باب القصر الذي كان مسامتا لدار سعيد السّعداء «5» التي هي الخانقاة الآن، فيجد(3/588)
الوزير راكبا على الباب المذكور، فيترجّل الوزير، ويمشي في خدمته إلى المنحر «1» ، وهو خارج الباب المذكور. وكان إذ ذاك الفضاء واسعا لابناء فيه، وهناك مصطبة مفروشة فيطلع عليها الخليفة والوزير وقاضي القضاة والأستاذون المحنّكون وأكابر الدولة، ويكون قد سبق إلى المنحر أحد وثلاثون فصيلا وناقة للأضحية، وبيده حربة، وقاضي القضاة ممسك بأصل سنانها، وتقدم إليه الأضحية رأسا رأسا فيجعل القاضي السنان في نحر النحيرة ويطعن به الخليفة في لبّتها «2» ، فتخرّ بين يديه حتّى يأتي على الجميع، ثم يسيّر رسوم الأضحية إلى أرباب الرسوم المقررة، وفي اليوم الثاني يساق إلى المنحر سبعة وعشرون رأسا، ويركب الخليفة فيفعل بها كذلك، وفي اليوم الثالث يساق إليه ثلاث وعشرون رأسا فيفعل بها كذلك. فإذا انقضى ذلك في اليوم الثالث وعاد الخليفة إلى القصر خلع على الوزير ثيابه الحمر التي كانت عليه يوم العيد، ومنديلا بغير اليتيمة والعقد المنظوم بالجوهر، ويركب الوزير بالخلعة من القصر، ويشق القاهرة بالشارع سالكا إلى الخليج فيسير عليه حتّى يدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك انفصال العيد. ثم أول نحيرة تنحر تقدّد وتسيّر إلى داعي اليمن فيفرّقها على المعتقدين من وزن نصف درهم إلى وزن ربع درهم، وباقي ذلك يفرّق على أرباب الرسوم في أطباق للبركة، وأكثره يفرّقه قاضي القضاة وداعي الدّعاة على الطلبة بدار العدل والمتصدّرين بجوامع القاهرة، وفي اليوم الأول يمدّ السماط بقاعة الذهب على ما تقدّم في عيد الفطر من غير فرق.(3/589)
الموكب الخامس ركوبه لتخليق المقياس عند وفاء النيل
قد تقدّم عند ذكر النيل في الكلام على الديار المصرية ابتداء زيادة النيل ووفاؤه وانتهاؤه، وذكر المناداة عليه على ما الأمر مستقرّ عليه. إلا أنه في زمن هؤلاء الخلفاء لم يكن ينادى عليه قبل الوفاء، وإنما يؤخذ قاعه وتكتب به رقعة للخليفة والوزير، ثم ينزل بديوان الرسائل في مسير معدّ له في الديوان، ويستمر الحال على ذلك في كل يوم ترفع رقعة إلى ديوان الإنشاء بالزيادة لا يطّلع عليها غير الخليفة والوزير، وأمره مكتوم إلى أن يبقى من ذراع الوفاء (وهو السادس عشر) أصبع أو أصبعان، فيؤمر بأن يبيت في جامع المقياس تلك الليلة قرّاء الحضرة والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة ومصر ومن يجري مجراهم لختم القرآن الكريم في تلك الليلة هناك، ويمدّ لهم السماط بالأطعمة الفاخرة، وتوقد عليهم الشموع إلى الصبح. فإذا أصبح الصبح وأذن الله تعالى بوفاء النيل في تلك الليلة، طلعت رقعة ابن أبي الردّاد إلى الخليفة، فتحضر إليه بالقصر، فيركب الخليفة في هيئة عظيمة من الثياب الفاخرة والموكب العظيم، إلا أنه لا يلبس التاج الذي فيه اليتيمة، ولا يخلّي المظلة على رأسه في ذلك اليوم؛ ويركب الوزير وراءه في الجمع العظيم على ترتيب الموكب؛ ويخرج من القصر شاقّا القاهرة إلى باب زويلة فيخرج منه، ويسلك الشارع إلى أن يجاوز البستان المعروف بعباس عند رأس الصّليبة بالقرب من الخانقاه الشيخونية الآن، فيعطف سالكا على الجامع الطولونيّ والجسر الأعظم حتّى يأتي مصر، ويدخل من الصناعة، وهي يومئذ في غاية العمارة، وبها دهليز ممتد بمصاطب مفروشة بالحصر العبداني مؤزّر بها، ويخرج من بابها شاقّا مصر حتّى يأتي المنظرة المعروفة برواق الملك على القرب من باب القنطرة، فيدخلها من الباب المواجه له والوزير معه ماشيا إلى المكان المعدّ له، ويكون العشاريّ «1» الخاصّ المعبر عنه الآن بالحرّاقة واقفا هناك(3/590)
بشاطيء النيل، وقد حمل إليه من القصر بيت مثمن من العاج والآبنوس كل جانب منه ثلاثة أذرع، وطوله قامة رجل تام، فيركب في العشاريّ المذكور وعليه قبة من خشب محكم الصنعة، وهو وقبّته ملبّس صفائح الفضة المذهبة، ثم يخرج الخليفة من دار الملك المذكور ومعه من الاستاذين المحنّكين من يختاره من ثلاثة إلى أربعة، ثم يطلع خواصّ الخليفة إلى العشاريّ والوزير ومعه من خواصّه اثنان أو ثلاثة لا غير، فيجلس الوزير في رواق بظاهر البيت المذكور، بفوانيس من خشب مخروط مدهونة مذهبة، بستور مسدلة عليه، ويسير العشاريّ من باب المنظرة إلى باب المقياس العالي على الدّرج، فيطلع من العشاريّ، ويدخل إلى الفسقية التي فيها المقياس، والوزير والأستاذون المحنكون بين يديه، فيصلّي هو والوزير كلّ منهما ركعتين بمفرده، ثم يؤتى بالزّعفران والمسك فيديفه في إناء بيده بآلة معه، ويتناوله صاحب بيت المال فيناوله لابن أبي الرّداد، فيلقي نفسه في الفسقية بثيابه فيتعلق في العمود برجليه ويده اليسرى ويخلّقه بيده اليمنى، وقرّاء الحضرة من الجانب الآخر يقرأون القرآن؛ ثم يخرج على فوره راكبا في العشاري المذكور، ثم يعود إلى دار الملك، ويركب منها عائدا إلى القاهرة؛ وتارة ينحدر في العشاريّ إلى المقس، ويتبعه الموكب فيسير من هناك إلى القاهرة. ويكون في البحر ذلك اليوم نحو ألف مركب مشحونة بالناس للتفرّج وإظهار الفرح. فإذا كان اليوم الثاني من التخليق أتى ابن أبي الردّاد إلى الإيوان الكبير الذي فيه الشّبّاك بالقصر فيجد خلعة مذهبة بطيلسان مقوّر، ويدفع إليه خمسة أكياس في كل كيس خمسمائة درهم مهيأة له، فيلبس الخلعة، ويخرج من باب العيد المتقدّم ذكره في أبواب القصر، وقد هييء له خمسة بغال على ظهورها الأحمال المزيّنة بالحليّ، على ظهر كل منها راكب وبيده أحد الأكياس الخمسة المتقدّمة الذكر ظاهر في يده، وأقاربه وبنو عمه يحجبونه وأصدقاؤه حوله، وأمامه حملان من النّقّارات(3/591)
السلطانية، والأبواق تضرب أمامه، والطبل وراءه مثل الأمراء؛ فيشق بين القصرين، وكلما مر على باب من أبواب القصر يدخل منه الخليفة أو يخرج، نزل فقبّله، ويخرج من باب زويلة في الشارع الأعظم حتّى يأتي مصر فيشقّ وسطها ويمرّ بالجامع العتيق، ويجاوزه إلى شاطىء النيل فيعدّي إلى المقياس بخلعته وما معه من الأكياس، فيأخذ من الأكياس قدرا مقرّرا له، ويفرّق باقي ذلك على أرباب الرسوم الجارية من قديم الزمان من بني عمه وغيرهم.
الموكب السادس ركوبه لفتح الخليج
وهو في اليوم الثالث أو الرابع من يوم التخليق المتقدّم ذكره، وليس كما في زماننا من فتحه في يوم التخليق؛ وكان يقع الاهتمام عندهم بركوب هذا اليوم من حين يأخذ النيل في الزيادة، وتعمل في بيت المال موائد من التماثيل المختلفة:
من الغزلان، والسباع، والفيلة، والزّراريف عدّة وافرة، منها ما هو ملبّس بالعنبر، وما هو ملبّس بالصندل «1» ، مفسرة الأعين والأعضاء بالذهب، وكذلك يعمل أشكال التّفّاح والأترجّ وغير ذلك، وتخرج الخيمة العظيمة المعروفة بالقاتول المتقدّمة الذكر فتنصب للخليفة في برّ الخليج الغربيّ على حافته عند منظرة يقال لها السكّرة على القرب من فم الخليج، ويلفّ عمود الخيمة بديباج أحمر أو أبيض أو أصفر من أعلاه إلى أسفله، وينصب فيها سرير الملك مستندا إليه ويغشّى بقرقوبي، وعرانيسه «2» ذهب ظاهرة، ويوضع عليه مرتبة عظيمة من الفرش للخليفة؛ ويضرب لأرباب الرّتب من الأمراء بحريّ هذه الخيمة خيم كثيرة على قدر مراتبهم في المقدار والقرب من خيمة الخليفة؛ ثم يركب الخليفة على عادته في المواكب العظيمة بالمظلّة وتوابعها من السيف والرمح والألوية والدواة وسائر الآلات، ويزاد(3/592)
فيه أربعون بوقا: عشرة من الذهب وثلاثون من الفضة، يكون المنفّرون بها ركبانا، والمنفّرون بالأبواق النّحاس مشاة، ومن الطبول العظام عشرة طبول. فإذا كان يوم الركوب، حضر الوزير من دار الوزارة راكبا في هيئة عظيمة، ويركب حينئذ إلى باب القصر الذي يخرج منه الخليفة، ويخرج الخليفة من باب القصر راكبا والأستاذون المحنّكون مشاة حوله، وعليه ثوب يسمّى البدنة حرير مرقوم بذهب، لا يلبسه غير ذلك اليوم، والمظلة بنسبته؛ فيركب الأستاذون المحنّكون ويسير الموكب على الترتيب المتقدّم في ركوب أول العام سائرا في الطريق التي ذهب فيها للتخليق حتى يأتي الجامع الطولوني؛ ويكون قاضي القضاة وأعيان الشهود جلوسا ببابه من هذه الجهة، فيقف لهم الخليفة وقفة لطيفة، ويسلم على القاضي، فيتقدّم القاضي ويقبّل رجله التي من جانبه، ويأتي الشهود أمام وجه فرس الخليفة، ويقفون بمقدار أربعة أذرع عن الخليفة فيسلم عليهم، ثم يركبون ويسير الموكب حتّى يأتي ساحل الخليج، فيسير حتّى يقارب الخليفة الخيمة، فيتقدّمه الوزير على العادة، فيترجل على باب الخيمة، ويجلس على المرتبة الموضوعة له فوقه «1» ويحيط به الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون بعدهم؛ ويوضع للوزير كرسيّه الجاري به العادة على ما تقدّم في جلوسه في القصر، فيجلس ورجلاه يحكّان الأرض، ويقف أرباب الرّتب صفّين من سرير الملك إلى باب الخيمة، وقرّاء الحضرة يقرأون القرآن ساعة زمانية. فإذا فرغوا من القراءة، استأذن صاحب الباب على حضور الشعراء للخدمة، فيؤذن لهم فيتقدّمون واحدا بعد واحد على مقدار منازلهم المقرّرة لهم، وينشد كلّ منهم ما وقع له نظمه مما يناسب الحال. فإذا فرغ أتى غيره وأنشد ما نظمه إلى أن يفرغ إنشادهم، والحاضرون ينتقدون على كل شاعر ما يقوله، ويحسّنون منه ما حسن ويوهّون منه وما هى. فإذا انقضى هذا المجلس، قام الخليفة عن السرير فركب إلى المنظرة المعروفة بالسكّرة بقرب الخيمة والوزير بين يديه، وقد فرشت بالفرش المعدّة لها، فيجلس الخليفة بمكان(3/593)
معدّ له منها، ويجلس الوزير بمكان منها بمفرده، ويجلس القاضي والشهود في الخيمة البيضاء الدبيقية، فيطلّ منها أستاذ من الأستاذين المحنكين فيشير بفتح السدّ فيفتح بالمعاول، وتضرب الطبول والأبواق من البّرين، وفي أثناء ذلك يصل السّماط من القصر صحبة صاحب المائدة القائم مقام أستاذ دار الصحبة الآن، وعدّتها مائة شدّة في الطيافير الواسعة في القواوير «1» الحرير، وفوقها الطرّاحات النفيسة، وريح المسك والأفاويه تفوح منها، فتوضع في خيمة وسيعة معدّة لذلك؛ ويحمل منها للوزير وأولاده ما جرت به عادتهم، ثم لقاضي القضاة والشهود، ثم إلى الأمراء على قدر مراتبهم: على أنواع الموائد من التماثيل المقدّمة الذكر خلا القاضي والشهود، فإنه لا يكون في موائدهم تماثيل. فإذا اعتدل الماء في الخليج دخلت فيه العشاريات اللطاف ووراءها العشاريات الكبار، وهي سبعة: الذهبيّ المختص بالخليفة، وهو الذي يركب فيه يوم التخليق، والفضّيّ، والأحمر، والأصفر، والأخضر، واللّازورديّ، والصّقلّي، وهو عشاريّ أنشأه نجّار من صقلّية على الإنشاء المعتاد فنسب إليه، وعليها الستور الدبيقي الملونة، وفي أعناقها الأهلة وقلائد العنبر والخرز الأزرق، وتسير حتّى ترسو على بر المنظرة التي فيها الخليفة. فإذا صلّى الخليفة العصر، ركب لابسا غير الثياب التي كانت عليه في أول النهار، ومظلّته مناسبة لثيابه التي لبسها، وباقي الموكب على حاله، ويسير في البر الغربيّ من الخليج شاقّا للبساتين حتّى يصل إلى باب القنطرة فيعطف على يمينه ويسير إلى القصر، والوزير تابعه على الرسم المعتاد، فيدخل الخليفة قصره، ويمرّ الوزير إلى داره على عادته في مثل ذلك اليوم.
وذكر القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: أنه إذا ركب من المنظرة المعروفة بالسكرة، سار في بر الخليج الغربيّ على ما تقدم ذكره حتّى يأتي بستان(3/594)
الدكة «1» ، وقد علّقت دهاليزه بالزينة فيدخله وحده ويسقي منه فرسه، ثم يخرج حتّى يقف على الرعنة «2» المعروفة بخليج الدار، ويدخل من باب القنطرة ويسير إلى قصره.
النوع الثاني من مواكبهم المواكب المختصرة في أثناء السنة
وهي أربعة أيام أو خمسة فيما بين أول العام ورمضان ولا يتعدّى ذلك يومي السبت والثلاثاء. فإذا عزم على الركوب في يوم من هذه الأيام، قدّم تفرقة السلاح على الركابية على ما تقدم ذكره في أول العام، وأكثر ما يكون ركوبه إلى مصر، فيركب والوزير وراءه على أخصر من النظام المتقدّم له في المواكب العظام وأقلّ جمعا، ولبسه في هذه الأيام الثياب المذهبة من البياض والملون ومنديل من نسبة ذلك مشدودة بشدّة غير شدّات غيره، وذوائبه مرخاة تقرب من جانبه الأيسر، وهو مقلد بالسيف العربي المجوهر بغير حنك ولا مظلة، ويخرج شاقّا القاهرة في الشارع الأعظم حتّى يجاوز الجامع الطولوني على المشاهد «3» إلى الجامع العتيق.
فإذا وصل إلى بابه، وجد الخطيب قد وقف على مصطبة بجانبه فيها محراب، مفروشة بحصير وعليها سجادة معلقة، وفي يده المصحف الكريم المنسوب خطه إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فيناوله المصحف من يده فيقبله ويتبرك به ويأمر له بعطاء يفرّق على أهل الجامع.
الضرب الثالث من هيئة الخليفة هيئته في قصوره
قال ابن الطوير: كان له ثياب يلبسها في الدور أكمامها على النصف من(3/595)
أكمام ثيابه التي يلبسها في المواكب، وكان من شأنه أنه لا ينصرف من مكان إلى مكان في القصر في ليل أو نهار إلا وهو راكب، ولا يقتصر في القصر على ركوب الخيل بل يركب البغال والحمير الإناث لما تدعوه الضرورة إليه من الجواز في السراديب القصيرة والطلوع على الزلاقات إلى أعلى المناظر والمساكن، وله في الليل نسوة برسم شدّ ما يحتاج إلى ركوبه من البغال والحمير، وفي كل محلة من محلات القصر فسقيّة مملوءة بالماء خيفة من حدوث حريق في الليل، ويبيت خارج القصر في كل ليلة خمسون فارسا للحراسة. فإذا أذّن بالعشاء الآخرة داخل قاعة الذهب وصلّى الإمام الراتب فيها بالمقيمين من الأستاذين وغيرهم، ووقف على باب القصر أمير يقال له سنان الدولة- مقام أمير جاندار الآن- فإذا علم بفراغ الصلاة تضرب البوقية من الطبول والبوقات وتوابعها على طريق مستحسنة ساعة زمانية، ثم يخرج أستاذ برسم هذه الخدمة فيقول: «أمير المؤمنين يرد على سنان الدولة السلام» فيغرز سنان الدولة حربة على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب، ودار حول حول القصر سبع دورات. فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البوّابين والفرّاشين وأوى المؤذّنون إلى خزائن لهم هناك وترمى السلسلة عند المضيق، آخر بين القصرين عند السيوفيين فينقطع المارّ من ذلك المكان إلى أن تضرب البوقية سحرا قرب الفجر فترفع السلسلة ويجوز الناس من هناك.
الجملة السادسة في اهتمامهم بالأساطيل وحفظ الثغور واعتنائهم بأمر الجهاد، وسيرهم في رعاياهم، واستمالة قلوب مخالفيهم
أما اهتمامهم بالأساطيل وحفظ الثغور
- واعتناؤهم بأمر الجهاد، فكان ذلك من أهم أمورهم، وأجلّ ما وقع الاعتناء به عندهم. وكانت اساطيلهم «1» مرتبة بجميع بلادهم الساحلية كالإسكندرية ودمياط من الديار المصرية، وعسقلان وعكّا(3/596)
وصور وغيرها من سواحل الشام، حين كانت بأيديهم، قبل أن يغلبهم عليها الفرنج؛ وكانت جريدة قوّادهم تزيد على خمسة آلاف مقاتل مدونة، وجوامكهم في كل شهر من عشرين دينارا إلى خمسة عشر دينارا إلى عشرة إلى ثمانية إلى دينارين، وعلى الأسطول أمير كبير من أعيان الأمراء وأقواهم جأشا، وكان أسطولهم يومئذ يزيد على خمسة وسبعين شينيّا وعشر مسطحات وعشر حمالات «1» ، وعمارة المراكب متواصلة بالصناعة لا تنقطع. فإذا أراد الخليفة تجهيزها للغزو، جلس للنفقة بنفسه حتى يكملها، ثم يخرج مع الوزير إلى ساحل النيل بالمقسم، فيجلس في منظرة كانت بجامع باب البحر والوزير معه للموادعة «2» ، ويأتي القوّاد بالمراكب إلى تحت المنظرة، وهي مزينة بالأسلحة والمنجنيقات واللعب منصوبة في بعضها، فتسيّر بالمجاديف ذهابا وعودا كما يفعل حالة القتال، ثم يحضر إلى بين يدي الخليفة المقدّم والريّس فيوصيهما ويدعو لهما بالسلامة، وتنحدر المراكب إلى دمياط وتخرج إلى البحر الملح فيكون لها في بلاد العدوّ الصّيت والسّمعة. فإذا غنموا مركبا اصطفى الخليفة لنفسه السبي الذي فيه من رجال أو نساء أو أطفال، وكذلك السلاح، وما عدا ذلك يكون للغانمين لا يساهمون فيه.
وكان لهم أيضا أسطول بعيذاب يتلقّى به الكارم «3» فيما بين عيذاب وسواكن، وما حولها خوفا على مراكب الكارم من قوم كانوا بجزائر بحر القلزم هناك يعترضون المراكب، فيحميهم الأسطول منهم، وكان عدّة هذا الأسطول خمسة مراكب، ثم صارت إلى ثلاث، وكان والي قوص هو المتولّي لأمر هذا الأسطول، وربما تولاه أمير من الباب، ويحمل إليه من خزائن السلاح ما يكفيه.
وأما سيرهم في رعيتهم
- واستمالة قلوب مخالفيهم، فكان لهم الإقبال على من يفد عليهم من أهل الأقاليم جلّ أو دقّ، ويقابلون كل أحد بما يليق به من(3/597)
الإكرام، ويعوّضون أرباب الهدايا بأضعافها. وكانوا يتألّفون أهل السّنّة والجماعة ويمكنونهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم، ولا يمنعون من إقامة صلاة التراويح في الجوامع والمساجد على مخالفة معتقدهم في ذلك «1» بذكر الصحابة رضوان الله عليهم، ومذاهب مالك والشافعي وأحمد ظاهرة الشّعار في مملكتهم، بخلاف مذهب أبي حنيفة، ويراعون مذهب مالك، ومن سألهم الحكم به أجابوه، وكان من شأن الخليفة أنه لا يكتب في علامته إلا «الحمد لله رب العالمين» ولا يخاطب أحدا في مكاتبته إلا بالكاف حتّى الوزير صاحب السيف، وإنما المكاتبات عن الوزير هي التي تتفاوت مراتبها، ولا يخاطب عنهم أحد إلا بنعت مقرّر له ودعاء معروف به، ويراعون من يموت في خدمتهم في عقبه، وإن كان له مرتب نقلوه إلى ذرّيته من رجال أو نساء.
الجملة السابعة في إجراء الأرزاق والعطاء لأرباب الخدم بدولتهم وما يتصل بذلك من الطعمة
أمّا إجراء الأرزاق والعطاء
- فقد تقدّم أن ديوان الجيوش كان عندهم على ثلاثة أقسام: قسم يختص بالعرض وتحلية الأجناد وشيات دوابّهم، وقسم يختص بضبط إقطاعات الأجناد، وقسم يختص بمعرفة ما لكل مرتزق في الدولة من راتب وجار وجراية، ولكل من الثلاثة كتّاب يختصون بخدمته. والقسم الثالث هو المقصود هنا؛ وكان راتبهم فيه بالدنانير الجيشية وكان يشتمل على ثمانية أقسام:
الأوّل- فيه راتب الوزير وأولاده وحاشيته.
فراتب الوزير في كل شهر خمسة آلاف دينار، ومن يليه من ولد أو أخ من ثلاثمائة دينار إلى مائتي دينار، ولم يقرّر لولد وزير خمسمائة دينار سوى(3/598)
الكامل «1» بن شاور، ثم حواشيه «2» من خمسمائة دينار، إلى أربعمائة دينار، إلى ثلاثمائة دينار خارجا عن الإقطاعات «3» .
الثاني- فيه حواشي الخليفة.
فأوّلهم الأستاذون المحنكون على رتبهم. فزمام القصر، وصاحب بيت المال، وحامل الرسالة، وصاحب الدفتر، وشادّ التاج، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب المجلس، لكل واحد منهم في الشهر مائة دينار، ثمّ من دونهم من تسعين دينارا إلى عشرة دنانير على تفاوت الرّتب. وفي هذا طبيبا الخاص، ولكل واحد منهما في الشهر خمسون دينارا، ولمن دونهما من الأطباء المقيمين بالقصر لكل واحد عشرة دنانير.
الثالث- فيه أرباب الرّتب بحضرة الخليفة.
فأوّل مسطور فيه كاتب الدّست- وهو المعبّر عنه الآن بكاتب السرّ؛ وله في الشهر مائة وخمسون دينارا، ولكل واحد من كتّابه ثلاثون دينارا؛ ثم الموقّع بالقلم الدقيق، وله مائة دينار، ثم صاحب الباب، وله مائة وعشرون دينارا؛ ثم حامل السيف وحامل الرمح، ولكل منهما سبعون دينارا، وبقيّة الأزمّة على العساكر والسودان من خمسين دينارا، إلى أربعين دينارا، إلى ثلاثين.
الرابع- فيه قاضي القضاة
، وله في الشهر مائة دينار، وداعي الدّعاة وله مثله؛ وقرّاء الحضرة، ولكل منهم عشرون دينارا، إلى خمسة عشر دينارا، إلى عشرة.(3/599)
الخامس- فيه أرباب الدواوين ومن يجري مجراهم.
فأوّلهم متولّي ديوان النظر، وله في الشهر سبعون دينارا، ثم متولي ديوان التحقيق، وله خمسون دينارا، ثم متولي ديوان المجلس، وله أربعون دينارا، ثم متولي ديوان الجيوش، وله أربعون دينارا، ثم صاحب دفتر المجلس، وله خمسة وثلاثون دينارا، ثم الموقّع بالقلم الجليل القائم مقام كاتب الدّرج الآن، وله ثلاثون دينارا. ولكل معين عشرة دنانير، إلى سبعة، إلى خمسة.
السادس- فيه المستخدمون بالقاهرة ومصر في خدمة واليهما
، ولكل واحد منهما خمسون دينارا، وللحماة بالأهراء والمناخات والجوالي والبساتين والأملاك وغيرها لكل منهم ما يقوم به من عشرين دينارا، إلى خمسة عشر، إلى عشرة، إلى خمسة.
السابع- فيه عدّة الفرّاشين برسم خدمة الخليفة
والقصور وتنظيفها خارجا وداخلا ونصب الستائر المحتاج إليها والمناظر الخارجة عن القصر، ولكل منهم في الشهر ثلاثون دينارا فما حولها؛ ثم من يليهم من الرشّاشين داخل القصر وخارجه وهم نحو ثلاثمائة رجل، ولكل منهم من عشر دنانير إلى خمسة.
الثامن- فيه الركابية «1» ومقدّموهم
، ولكل من مقدّميهم في الشهر خمسون دينارا؛ وللركابية من خمسة عشر دينارا إلى عشرة إلى خمسة.
وأما الطّعمة- فعلى ضربين:
الضرب الأوّل الأسمطة التي تمدّ في شهر رمضان والعيدين
أما شهر رمضان
- فإن الخليفة كان يرتّب بقاعة الذهب بالقصر «2» سماطا في(3/600)
كل ليلة من استقبال الرابع منه، وإلى آخر السادس والعشرين منه، ويستدعي الأمراء لحضوره في كل ليلة بالنّوبة، يحضر منهم في كل ليلة قوم كي لا يحرمهم الإفطار في بيوتهم طول الشهر، ولا يكلّف قاضي القضاة الحضور سوى ليالي الجمع توقيرا له، ولا يحضر الخليفة هذا السّماط، ويحضر الوزير فيجلس على رأس السماط، فإن غاب قام ولده أو أخوه مقامه، فإن لم يحضر أحد منهم، كان صاحب الباب عوضه. وكان هذا السّماط من أعظم الأسمطة وأحسنها، ويمدّ من صدر القاعة إلى مقدار ثلثيها بأصناف المأكولات والأطعمة الفاخرة، ويخرجون من هنا لك بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين، ويفرّق فضل السماط كلّ ليلة، ويتهاداه أرباب الرسوم حتّى يصل إلى أكثر الناس، وإذا حضر الوزير بعث الخليفة إليه من طعامه الذي يأكل منه تشريفا له، وربما خصه بشيء من سحوره.
وأما سماط العيدين
- فإنه يمدّ في عيد الفطر وعيد الأضحى تحت سرير الملك بقاعة الذهب المذكورة أمام المجلس الذي يجلس فيه الخليفة الجلوس العامّ أيام المواكب، وتنصب على الكرسيّ مائدة من فضة تعرف بالمدوّرة، وعليها من الأواني الذهبيات والصينيّ الحاوية للأطعمة الفاخرة ما لا يليق إلا بالملوك، وينصب السّماط العامّ تحت السرير من خشب مدهون في طول القاعة في عرض عشرة أذرع، وتفرش فوقه الأزهار المشمومة، ويرصّ الخبز على جوانبه كل شابورة «1» ثلاثة أرطال من نقيّ الدقيق؛ ويعمر داخل السماط على طوله بأحد وعشرين طبقا عظاما، في كل طبق أحد وعشرون خروفا من الشّويّ، وفي كل واحد منها ثلاثمائة وخمسون طيرا من الدّجاج والفراريج وأفراخ الحمام، ويعبّى مستطيلا في العلوّ حتّى يكون كقامة الرجل الطويل، ويسوّر بتشاريح الحلواء اليابسة على اختلاف ألوانها، ويسدّ خلل تلك الأطباق على السماط نحو من(3/601)
خمسمائة صحن من الصحون «1» الخزفية المترعة بالألوان الفائقة، وفي كل منها سبع دجاجات من الحلواء المائعة والأطعمة الفاخرة؛ ويعمل بدار الفطرة الآتي ذكرها قصران من حلوى زنة كل منها سبعة عشر قنطارا في أحسن شكل، عليها صور الحيوان المختلفة، ويحملان إلى القاعة فيوضعان في طرفي السماط. ويأتي الخليفة راكبا فيترجّل على السرير الذي قد نصبت عليه المائدة الفضة، ويجلس على المائدة وعلى رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين، ثم يستدعي الوزير وحده فيطلع ويجلس على يمينه بالقرب من باب السرير، ويشير إلى الأمراء المطوّقين فمن دونهم من الأمراء، فيجلسون على السّماط على قدر مراتبهم فيأكلون وقرّاء الحضرة في خلال ذلك يقرأون القرآن، ويبقى السماط ممدودا إلى قريب من صلاة الظهر حتّى يستهلك جميع ما عليه أكلا وحملا، وتفرقة على أرباب الرسوم.
الضرب لثاني فيما كان يعمل بدار الفطرة «2» في عيد الفطر
وكان لهم بها الاهتمام العظيم. وقد ذكر ابن عبد الظاهر أصنافها فقال:
كانت ألف حملة دقيق، وأربعمائة «3» قنطار سكّر، وستة قناطير فستق، وأربعمائة وثلاثين إردب زبيب، وخمسة عشر قنطارا عسل نحل، وثلاثة قناطير خل وإردبين سمسم وإردبين أنيسون «4» وخمسين رطلا ماء ورد، وخمس نوافج «5» مسك، وكافور قديم عشرة مثاقيل، وزعفران مطحون مائة وخمسون درهما، وزيت برسم الوقود ثلاثون قنطارا. في أصناف أخرى يطول ذكرها. قال ابن الطوير:(3/602)
ويندب لها مائة صانع من الحلاويين، ومائة فرّاش برسم تفرقة الطوافير على أصحاب الرسوم خارجا عمن هو مرتّب فيها، ويحضرها الخليفة والوزير معه فيجلس الخليفة على سريره فيها، ويجلس الوزير على كرسي له، في النصف الأخير من رمضان، وقد صار ما لها من المستعملات كالجبال الرواسي، فتفرّق الحلوى من ربع قنطار إلى عشرة أرطال إلى رطل واحد، والخشكنان من مائة حبة إلى خمس وسبعين حبة، إلى ثلاث وثلاثين، إلى خمس وعشرين، إلى عشرين، ويفرّق على السودان على يد مقدّمهم بالأفراد من تسعة أفراد إلى سبعة إلى خمسة، إلى ثلاثة، كل طائفة على مقدارها «1» بسماط يوم الفطر ما يمدّ في الإيوان الكبير قبل مدّ سماط الطعام بقاعة الذهب. وقد وقع في كلام ابن الطوير خلف في وقته، فذكر في موضع من كتابه أن ذلك يكون قبل ركوب الخليفة لصلاة العيد، وذكر في موضع آخر أن ذلك يكون بعد حضوره من الصلاة.
[الجملة الثامن في جلوس الوزير للمظالم إذا كان صاحب سيف، وترتيب جلوسه]
(الطرف الثامن) «2» في جلوس الوزير للمظالم إذا كان صاحب سيف، وترتيب جلوسه يجلس الوزير في صدر المكان، وقاضي القضاة مقابله، وعن جانبيه شاهدان من المعتبرين، وكاتب الوزير بالقلم الدقيق، ويليه صاحب ديوان المال، وبين يديه صاحب الباب واسفهسلار، وبين أيديهما النوّاب والحجّاب على طبقاتهم. وذلك يومان في الاسبوع.
وقد رثاهم عمارة اليمنيّ بعد انقراضهم واستيلاء السلطان صلاح الدين بن أيوب على المملكة بقصيدة وصف فيها مملكتهم، وعدّ مواكبهم، وحكى مكارمهم، وجلّى محاسنهم، وهي:
رميت يا دهر كفّ المجد بالشّلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل(3/603)
سعيت في منهج الرّأي العثور فإن ... قدرت من عثرات الدّهر فاستقل
جدعت مارنك «1» الأقنى فأنفك لا ... ينفكّ ما بين أمر الشين «2» والخجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... شقيت، مهلا أما تمشي على مهل
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتها في أكرم الدّول
قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربى على أملي «3»
قوم عرفت لهم «4» كسب الألوف ومن ... كمالها أنها جاءت ولم أسل
وكنت من وزراء الدّست حيث «5» سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش تكرمة «6» ... وخلّة حرست من عارض الخلل
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت في عذلي
بالله! زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفّين والجمل!
وقل لأهليهما: والله ما التحمت ... فيكم جروحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى «7» كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
[هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما ... ملكتمو بين حكم السّبي والنّفل] «8»
وقد حصلتم عليها واسم جدّكم ... محمد وأبوكم خير منتعل «9»
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود، وكانت قبلة القبل(3/604)
فملت عنها بوجه خوف منتقد ... من الأعادي، ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسفي دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السّبل
أبكي على مأثرات «1» من مكارمكم ... حال الزّمان عليها وهي لم تحل
(دار الضّيافة) كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل
و (فطرة الصّوم) إذ أضحت مكارمكم ... تشكو من الدّهر حيفا غير محتمل
و (كسوة الناس) في الفصلين قد درست ... ورثّ منها جديد عندهم وبلي
وموسم كان في (يوم الخليج) لكم ... يأتي تجمّلكم فيه على الجمل
و (أوّل العام) و (العيدين) كم لكم ... فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل «2»
والأرض تهتزّ في (يوم الغدير) كما ... يهتز ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشي وفي شية ... مثل العرائس في حلي وفي حلل
وما حملتم قرى الأضياف من سعة الأطباق ... إلا على الأكتاف والعجل
وما خصصتم ببرّ أهل مملكة «3» ... حتّى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للوافدين وللضيف ... المقيم والطّارى «4» من الرّسل
ثم (الطّراز) بتنّيس الذي عظمت ... منه الصّلات لأهل الأرض والدّول
وللجوامع من أخماسكم «5» نعم ... ممن تصدّر في علم وفي عمل
وربّما عادت الدّنيا فمعقلها ... منكم وأضحت بكم محلولة العقل
والله! لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب النّار «6» غير ولي
ولا سقي الماء من حرّ ومن ظمأ ... من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل
[ولا رأى جنة الله التي خلقت ... من خان عهد الإمام العاضد بن علي «7» ](3/605)
أئمّتي وهداتي والذخيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عمل
والله «1» لم نوفهم في المدح حقّهم ... لأنّ فضلهم كالوابل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واستبقت «2» ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النّجاة هم دنيا وآخرة ... وحبّهم فهو أصل الدّين والعمل
نور الدّجى ومصابيح الهدى وهم ... من نور خالص نور الله لم يغل «3»
والله لا «4» زلت عن حبّي لهم أبدا ... ما أخّر الله لي في مدّة الأجل
قلت: وعمارة هذا لم يكن على معتقد الشّيعة بل فقيها شافعيا، قدم مصر برسالة عن القاسم بن هاشم بن أبي فليتة أمير مكة إلى الفائز أحد خلفائهم في سنة خمسين وخمسمائة في وزارة الصالح طلائع بن رزّيك، فأحسنوا له وبالغوا في بره، فأقام عندهم وتألف بهم، وأتى فيهم من المدح بما بهر العقول، ولم يزل مواليا هم حتّى زالت دولتهم واستولى «5» السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فرثاهم بهذه القصيدة، فكانت آخر أسباب حتفه، فصلب فيمن صلب بين القصرين من أتباع الدولة الفاطمية.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع؛ وأوّله «الحالة الثالثة من أحوال المملكة، ما عليه ترتيب المملكة من ابتداء الدولة الأيوبية وإلى زماننا»(3/606)
مصادر تحقيق وحواشي الجزء الثالث من صبح الأعشى
1- «ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم» تأليف أبي الحسن الدارقطني مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت تحقيق بوران الضناوي وكمال يوسف الحوت 2- «أطلس العالم» 3- «الأعلام» قاموس تراجم تأليف خير الدين الزركلي- دار العلم للملايين- الطبعة الخامسة 1980 4- «الانتصار لواسطة عقد الأمصار» تأليف ابن دقماق تحقيق لجنة إحياء التراث العربي منشورات دار الآفاق الجديدة- بيروت 5- «بدائع الزهور في وقائع الدهور» تأليف ابن أياس الحنفي دار الكتب العلمية- بيروت الطبعة الأولى 1982 6- «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» تأليف محمود شكري الآلوسي البغدادي شرح وتصحيح وضبط محمد بهجه الأثري دار الكتب العلمية- بيروت 7- «تاريخ الإسلام» تأليف حسن إبراهيم حسن دار إحياء التراث العربي- الطبعة السابعة 1964 8- «تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل» تأليف أحمد السعيد سليمان دار المعارف مصر 9- «التعريف بمصطلحات صبح الأعشى» تأليف محمد قنديل البقلي الهيئة المصرية للكتاب- 1984 10- «تهذيب الأسماء واللغات» تأليف محي الدين بن شرف النووي دار الكتب العلمية- بيروت 11- «الجغرافيا في الصفوف الثانوية» 12- «جمهرة الأمثال» تأليف أبي هلال العسكري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش المؤسسة العربية الحديثة- الطبعة الأولى 1964 13- «جمهرة رسائل العرب» في عصور(3/607)
1 العربية الزاهرة تأليف أحمد زكي صفوت المكتبة العلمية- بيوت.
14- «الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام» تأليف أحمد أحمد بدوي دار نهضة مصر للطبع والنشر 15- «الحياة الفكرية والأدبية بمصر من الفتح العربي حتى آخر الدولة الفاطمية» تأليف محمد كامل حسين مكتبة النهضة المصرية.
16- «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة» تأليف علي باشا مبارك الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980 17- «الخطط المقريزية» منشورات دار صادر- بيروت 18- «الخط العربي وتطوره في العصور العباسية في العراق» تأليف سهيلة ياسين الجبّوري المكتبة الأهلية بغداد 1962 19- «الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جنّي» تأليف حسام سعيد النعيمي منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية 20- «دائرة المعارف الإسلامية» تأليف مجموعة من المستشرقين أعداد وتحرير: إبراهيم زكي خورشيد- أحمد الشنتناوي- عبد الحميد يونس- منشورات كتاب الشعب- القاهرة 21- «الروض المعطار في خبر الأقطار» تأليف محمد بن عبد المنعم الحميري تحقيق إحسان عباس مكتبة لبنان- الطبعة الثانية 1984 22- «شرح قصيدة كعب بن زهير» تأليف محمد بن هشام الأنصاري تحقيق محمد حسن أبو ناجي منشورات مؤسسة علوم القرآن- الطبعة الثانية 1982 23- «صبح الأعشى في صناعته الإنشا» للقلقشندي- الطبعة الأميرية 24- «صفة جزيرة الأندلس» منتخبة من كتاب الروض المعطار عني بتصحيحها وتعليق حواشيها: ليفي بروفنسال- مطبعة لجنة التأليف والنشر والترجمة بمصر 25- «الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء» تأليف ابن قتيبة الدينوري تحقيق مفيد قميحة دار الكتب العلمية- بيروت 26- «طبقات الشافعية» تأليف أبي بكر الحسيني تحقيق عادل نويهض دار الآفاق الجديدة بيروت- الطبعة الثالثة 1982 27- «فتوح البلدان» للبلاذري تحقيق عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع دار النشر للجامعيين 1957 28- «الفرق بين الضاد والظاء» تأليف الصاحب بن عباد تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين منشورات مكتبة النهضة والمكتبة العلمية- بغداد الطبعة الأولى- 1958 28- «فهرسة المخطوط العربي»(3/608)
تأليف ميري عبودي فتوحي منشورات وزارة الإعلام والثقافة العراقية- 1980 30- «الفهرست» لابن النديم دار المعرفة بيروت 31- «فوات الوفيات» تأليف محمد بن شاكر الكتبي تحقيق إحسان عباس دار صادر- بيروت 32- «في التراث العربي» صدر منه الجزء الأول فقط تأليف مصطفى جواد تحقيق محمد جليل شلش وعبد الحميد العلوجي منشورات وزارة الإعلام العراقية 1975 33- «القاموس المحيط» للفيروز آبادي المؤسسة العربية للطبعة والنشر 34- «قضايا لغوية في ضوء القراءات القرآنية» تأليف صبحي الصالح منشورات كلية الآداب في الجامعة اللبنانية 35- «القلقشندي وكتابه صبح الأعشى» تأليف نخبة من الأساتذة منشورات وزارة الثقافة المصرية 36- «كتاب التعريفات» للجرجاني دار الكتب العلمية- بيروت- 1983 37- «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لحاجي خليفة مع الذيول لإسماعيل باشا البغدادي منشورات دار الفكر 38- «الكلّيات» لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي- دمشق- الطبعة الثانية 1982 39- «لسان العرب» لابن منظور منشورات دار صادر 40- «معجم الألفاظ والأعلام القرآنية» تأليف محمد إسماعيل إبراهيم دار الفكر العربي- الطبعة الثانية 41- «معجم البلدان» لياقوت الحموي دار إحياء التراث العربي- بيروت 42- «المعجم الجغرافي» تأليف محمد محمود الصياد منشورات مجمع اللغة العربية بمصر 43- «معجم الشعراء للمرزباني ومعه «المؤتلف والمختلف» للآمدي.
تصحيح وتعليق: د. ف. كرنسكو- دار الكتب العلمية- بيروت.
44- «معجم عبد النور المفصل» تأليف جبور عبد النور دار العلم للملايين- الطبعة الأولى 1983 45- «معجم قبائل العرب» تأليف عمر رضا كحالة مؤسسة الرسالة- بيروت 46- «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع» للبكري تحقيق مصطفى السقّا منشورات عالم الكتب بيروت- الطبعة الثالثة 1983 47- «معجم مقاييس اللغة» لأحمد بن فارس تحقيق عبد السلام محمد هارون منشورات دار الفكر 1979 48- «معجم المؤلفين»(3/609)
تأليف عمر رضا كحالة مكتبة المثنّى- بيروت ودار إحياء التراث العربي 49- «المعجم الوسيط» إخراج: إبراهيم أنيس- عبد الحليم منتصر- عطية الصوالحي- محمد خلف الله أحمد صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة- الطبعة الثانية.
50- «مقدمة ابن خلدون» منشورات مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني- الطبعة الثانية 1979 51- «المنهل» قاموس فرنسي عربى تأليف جبور عبد النور وسهيل إدريس دار العلم للملايين ودار الآداب 1983 52- «المؤرخ ابن تغري بردي» تأليف مجموعة من الأساتذة منشورات وزارة الثقافة المصرية 53- «الموسوعة العربية الميسرة» بإشراف محمد شفيق غربال دار الشعب، ومؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر 1965 54- «نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان» للخطيب الصيرفي تحقيق حسين حبشي منشورات وزارة الثقافة العراقية 1971 55- «نشأة الخط العربي وتطوره» تأليف محمود شكر الجبّوري مكتبة الشرق الجديد- بغداد 1974 56- «نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي» تأليف ظافر القاسمي دار الثقافة- الطبعة الثالثة 1980 58- «النظم الإسلامية» تأليف صبحي الصالح دار العلم للملايين- بيروت الطبعة الثانية 1968 58- «نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب» للقلقشندي دار الكتب العلمية- بيروت 59- «الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة» جمعها محمد حميد الله- دار النفائس- الطبعة الخامسة 1985 60- «الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي» تأليف محمد حمدي المناوي دار المعارف بمصر 61- «ولاة مصر» لمحمد بن يوسف الكندي تحقيق حسين نصار دار صادر- بيروت 62- «ياقوت المستعصمي» تأليف صلاح الدين المنجد دار الكتاب الجديد- بيروت0891.essuoraI L -63
L I» :UIago Agnago LL L «Les Arabes m jamais envahi LL-64 «Petit Iarousse illustre» Librairie LL(3/610)
فهرس الجزء الثالث من كتاب صبح الأعشى
الفصل الثاني- من الباب الثاني من المقالة الأولى في الكلام على نفس الخط؛ وفيه ثمانية أطراف 3 الطرف الأوّل- في فضيلة الخط 3 الطرف الثاني- في بيان حقيقة الخط 6 الطرف الثالث- في وضع الخط؛ وفيه جملتان 7 الجملة الأولى- في بيان المقصود من وضعه، والموازنة بينه وبين اللفظ 7 الجملة الثانية- في أصل وضعه؛ وفيه مسلكان 9 المسلك الأوّل- في وضع مطلق الحروف 9 المسلك الثاني- في وضع حروف العربية 10 الطرف الرابع- في عدد الحروف وجهة ابتدائها وكيفية ترتيبها؛ وفيه خمس جمل 20 الجملة الأولى- في مطلق الحروف في جميع اللغات 20 الجملة الثالثة- في حروف العربية 21 الجملة الثالثة- في بيان جهة ابتداءات الحروف 23 الجملة الرابعة- في كيفية ترتيب الحروف 23 الجملة الخامسة- في كيفية صور الحروف العربية؛ وتداخل أشكالها 24 الطرف الخامس- في تحسين الخط؛ وفيه جملتان 25 الجملة الأولى- في الحث على تحسين الخط 25 الجملة الثانية- في الطريق إلى تحسين الخط 27(3/611)
الطرف السادس- في قواعد تتعلق بالكتابة لا يستغني الكاتب المجيد عن معرفتها، وفيه جملتان 28 الجملة الأولى- في هندسة الحروف، ومعرفة اعتبار صحتها 28 الجملة الثانية- في معرفة ما يقع به ابتداء الحروف وانتهاؤها من نقطة أو شظية أو غير ذلك. أما الابتداء فعلى ثلاثة أضرب 39 الضرب الأوّل- ما يبتدأ بنقطة 39 الضرب الثاني- ما يبتدأ بشظية 39 الضرب الثالث- ما يبتدأ بجلفة 40 الضرب الأوّل-[من ضروب الاختتام] ما يختم بقطة القلم 40 الضرب الثاني- ما يختم بشظية 40 الضرب الثالث- ما يرسل في ختمه إرسالا 40 الطرف السابع- في مقدّمات تتعلق بأوضاع الخط وقوانين الكتابة؛ وفيه ثلاث جمل 41 الجملة الأولى- في كيفية إمساك القلم عند الكتابة، ووضعه على الورق 41 الجملة الثانية- في كيفية الاستمداد ووضع القلم على الدرج 42 الجملة الثالثة- في وضع القلم على الأذن حال الكتابة عند التفكر 43 الطرف الثامن- في ذكر قوانين يعتمدها الكاتب في الخط؛ وفيه ست جمل 44 الجملة الأولى- في كيفية حركة اليد بالقلم في الكتابة 44 الجملة الثانية- في تناسب الحروف ومقاديرها في كل قلم 45 الجملة الثالثة- فيما يجب اعتماده لكل ناحية من نواحي القلم 49 الجملة الرابعة- في الترويس 50 الجملة الخامسة- فيما يطمس من الحروف ويفتح 50 الجملة السادسة- في ذكر الأقلام المستعملة في ديوان الإنشاء في زمان المؤلف 51 القلم الأوّل- قلم الطومار 54(3/612)
القلم الثاني- قلم مختصر الطومار 61 القلم الثالث- قلم الثلث؛ وهو على نوعين 64 النوع الأوّل- الثلث الثقيل، وصوره مفرده ومركبة 64 الألف على ضربين: مفردة ومركبة الضرب الأوّل- المفردة 64 الضرب الثاني- المركب مع غيره من الحروف 65 الصورة الثانية- صورة الباء، وهي على ضربين 66 الضرب الأوّل- المفردة 66 وأما المركبة فعلى نوعين: متوسطة ومتطرفة 67 الصورة الثالثة- صورة الجيم وما شاكلها 68 الصورة الرابعة- صورة الدال وأختها؛ وهي على ضربين 72 الضرب الأوّل- المفردة 72 الضرب الثاني- المركبة 72 الصورة الخامسة- صورة الراء وأختها، وهي على ضربين 74 الضرب الأوّل- المفردة 74 الضرب الثاني- المركبة 75 الصورة السادسة- صورة السين 76 الصورة السابعة- صورة الصاد 77 الصورة الثامنة- صورة الطاء وأختها 78 الصورة التاسعة- صورة العين وأختها 80 الصورة العاشرة- صورة الفاء 84 الصورة الحادية عشرة- صورة القاف 85 الصورة الثانية عشرة- صورة الكاف 85 الصورة الثالثة عشرة- صورة اللام؛ وهي على ضربين 87 الضرب الأول- المفردة 87(3/613)
الضرب الثاني- المركبة 87 الصورة الرابعة عشرة- صورة الميم، وهي على خمسة أضرب 88 الضرب الأوّل- المحققة 88 الضرب الثاني- المعلقة 89 الضرب الثالث- المسبلة 90 الضرب الرابع- المبسوطة 91 الضرب الخامس- المفتولة 91 الصورة الخامسة عشرة- صورة النون 91 الصورة السادسة عشرة- صورة الهاء؛ وهي على ضربين 93 الضرب الأول- المفردة 93 الضرب الثاني- المركبة 94 الصورة السابعة عشرة- صورة الواو 98 الصورة الثامنة عشرة- صورة اللام ألف 99 الصورة التاسعة عشرة- صورة الياء؛ وهي على ضربين 101 الضرب الأول- المفردة 101 الضرب الثاني- المركبة 102 النوع الثاني- قلم الثلث الخفيف 103 القلم الرابع- قلم التوقيع 104 القلم الخامس- قلم الرقاع 116 القلم السادس- قلم الغبار 125 الجملة السابعة- في كتابة البسملة؛ وفيها مهيعان 127 المهيع الأوّل- في ذكر قواعد جامعة للبسملة في جميع الأقلام 127 المعيع الثاني- في بيان صورة البسملة في كل قلم من الأقلام التي تستعمل في ديوان الإنشاء 128 الجملة الثامنة- في وجوه تجويد الكتابة وتحسينها؛ وهي على ضربين 137(3/614)
الضرب الأول- حسن التشكيل 137 الضرب الثاني- حسن الوضع 137 الكلمة الأصلية- اسما كانت أو حرفا أو فعلا، لا تخرج عن أربعة أصناف 139 الصنف الأوّل- الثنائية 139 الصنف الثاني- الثلاثية 139 الصنف الثالث- الرباعية 140 الصنف الرابع- الخماسية 140 مراعاة فواصل الكلام 143 حسن التدبير- في قطع الكلام ووصله في أواخر السطور وأوائلها 144 الفصل المستقبح- في آخر السطر وأوّل الذي يليه صنفان 144 الصنف الأوّل- فصل بعض حروف الكلمة الواحدة عن بعض وتفريقها في السطر والذي يليه 145 الصنف الثاني- فصل الكلمة التامة وصلتها 146 الفصل الثالث- من الباب الثاني من المقالة الأولى في لواحق الخط وفيه مقصدان 147 المقصد الأوّل- في النقط؛ وفيه أربع جمل 147 الجملة الأولى- في مسيس الحاجة إليه 147 الجملة الثانية- في ذكر أوّل من وضع النقط 149 الجملة الثالثة- في بيان صورة النقط وكيفية وضعه 150 الجملة الرابعة- فيما يختص بكل حرف من النقط وما لا نقط له 150 المقصد الثاني- في الشكل؛ وفيه خمس جمل 154 الجملة الأولى- في اشتقاقه ومعناه 154 الجملة الثانية- في أوّل من وضع الشكل 154 الجملة الثالثة- في الترغيب في الشكل والترهيب عنه 156 الجملة الخامسة- فيما ينشأ عنه الشكل ويترتب عليه 158 الجملة الخامسة- في صور الشكل ومحال وضعه على طريقة المتقدّمين(3/615)
والمتأخرين 159 الأولى- علامة السكون 160 الثانية- علامة الفتح 161 الثالثة- علامة الضم 161 الرابعة- علامة الكسر 162 الخامسة- علامة التشديد 162 السادسة- علامة الهمزة 163 السابعة- علامة الصلة في ألفات الوصل 165 الفصل الرابع- من الباب الثاني من المقالة الأولى في الهجاء؛ وفيه مقصدان 168 المقصد الأوّل- في مصطلحه الخاص؛ وهو على ضربين 168 الضرب الأوّل- المصطلح الرسميّ 168 الضرب الثاني- المصطلح العروضيّ 168 المقصد الثاني- في المصطلح العام؛ وفيه جملتان 169 الجملة الأولى- في الإفراد والحذف والإثبات والإبدال 169- المكتوب على المصطلح المعروف على قسمين 170 القسم الأول- ما له صورة تخصه من الحروف؛ وهو على ضربين 170 الضرب الأوّل- ما هو على أصله المعتبر فيه في ذوات الحروف وعددها الخ 170- اللفظ الذي يكتب على نوعين 173 النوع الأوّل- أن يكون أسما لحرف من حروف الهجاء 173 النوع الثاني- ألا يكون اسما لحرف من حروف المعجم 174 الضرب الثاني- ما تغير عن أصله؛ وهو على ثلاثة أنواع 175 النوع الأوّل- ما تغير بالزيادة 175 النوع الثاني- ما يغير بالنقص 180(3/616)
النوع الثالث- ما يغير بالبدل 197 القسم الثاني- ما ليس له صورة تخصه، وهو الهمزة؛ ولها ثلاثة أحوال 204 الحال الأوّل- أن تكون في أوّل الكلمة 205 الحال الثاني- أن تكون متوسطة؛ ولها حالتان 206 الحال الثالث- أن تكون الهمزة آخرا؛ ولها حالتان 208 الجملة الثانية- في حالة التركيب والفصل والوصل 212 الفصل الخامس- من الباب الثاني من المقالة الأولى فيما يكتب بالظاء مع بيان ما يقع الاشتباه فيه مما يكتب بالضاد 220 المقالة الثانية في المسالك والممالك؛ وفيها أربعة أبواب 228 الباب الأوّل- في ذكر الأرض على سبيل الإجمال؛ وفيه ثلاثة فصول 228 الفصل الأوّل- في معرفة شكل الأرض وإحاطة البحر بها الخ؛ وفيه طرفان 228 الطرف الأوّل- في شكل الأرض وإحاطة البحر بها 228 الطرف الثاني- فيما اشتملت عليه الأرض من الأقاليم الطبيعية 232 الفصل الثاني- في البحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان؛ وفيه طرفان 237 الطرف الأوّل- في البحر المحيط 237 الطرف الثاني- في البحار المنبثّة في أقطار الأرض؛ وهي على ضربين 239 الضرب الأوّل- الخارج من البحر المحيط وما يتصل به 239 الضرب الثاني- من البحار المنبثة في أقطار الأرض، ما ليس له اتصال بالبحر المحيط 257 الفصل الثالث- في كيفية استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها، وفيه طرفان 259 الطرف الأوّل- في كيفية استخراج جهات البلدان 259(3/617)
الطرف الثاني- في معرفة الأبعاد الواقعة بين البلدان 260 الباب الثاني- في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء، ومقرّاتهم في القديم والحديث الخ؛ وفيه فصلان 263 الفصل الأوّل- في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء؛ وهم على أربع طبقات 263 الطبقة الأولى- الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم 264 الطبقة الثانية- خلفاء بني أمية 266 الطبقة الثالثة- خلفاء بني العباس بالعراق 268 الطبقة الرابعة- خلفاء بني العباس بالديار المصرية 277 وأما مقرّات الخلفاء، فهي أربع مقرّات:
المقرّة الأولى- المدينة النبوية 283 المقرّة الثانية- الشام 283 المقرّة الثالثة- العراق 284 المقرّة الرابعة- الديار المصرية 284 الفصل الثاني- فيما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم، وما كانت عليه من الترتيب، وما هي عليه الآن؛ ولها حالتان 285 الحالة الأولى- ما كان عليه الحال في الزمن القديم 286 شعار الخلافة 289 الوظائف المعتبرة عندهم على ضربين 294 الضرب الأوّل- وظائف أرباب السيوف 295 الضرب الثاني- وظائف أرباب الأقلام 298 الحالة الثانية- ما صار إليه الأمر بعد انتقال الخلافة إلى الديار المصرية 299 الباب الثالث- في ذكر مملكة الديار الصمرية، وفيه ثلاثة فصول 304 الفصل الأوّل- في مملكة الديار المصرية ومضافاتها، وفيه طرفان 304 الطرف الأوّل- في الديار المصرية؛ وفيه اثنا عشر مقصدا 304(3/618)
المقصد الأوّل- في فضلها ومحاسنها 304 المقصد الثاني- في ذكر خواصها وعجائبها، وما بها من الآثار القديمة 310 المقصد الثالث- في ذكر نيلها ومبدئه وانتهائه وزيادته ونقصه الخ 315 المقصد الرابع- في ذكر خلجانها؛ وهي ستة 329 الخليج الأوّل- المنهى 329 الخليج الثاني- خليج القاهرة 331 الخليج الثالث- خليج السردوس 333 الخليج الرابع- الإسكندرية 334 الخليج الخامس- خليج سخا 335 الخليج السادس خليج دمياط 335 المقصد الخامس- في ذكر بحيرات الديار المصرية وهي أربع بحيرات 337 المقصد السادس- في ذكر جبالها 339 المقصد السابع- في ذكر زروعها ورياحينها وفواكهها وأصناف المطعوم بها 343 المقصد الثامن- في ذكر مواشيها ووحوشها وطيورها 346 المقصد التاسع- في ذكر حدودها 347 المقصد العاشر- في ابتداء عمارتها، وتسميتها مصر وتفرّع الأقاليم التي حولها عنها 350 المقصد الحادي عشر- في ذكر قواعدها القديمة والمباني العظيمة الباقية الخ وقواعدها القديمة على ضربين 353 الضرب الأوّل- ما قبل الطوفان 353 الضرب الثاني- قواعدها فيما بعد الطوفان 353 الضرب الثاني عشر- في ذكر قواعدها المستقرّة؛ وهي ثلاث 366 القاعدة الأولى- مدينة الفسطاط 366 (جوامعها) 382 القاعدة الثانية- القاهرة 392(3/619)
(جوامعها) 410 القاعدة الثالثة- القلعة 421 الفصل الثاني- في ذكر كور الديار المصرية؛ وهي على ضربين 430 الضرب الأوّل- في ذكر كورها القديمة؛ وهي ثلاثة أحياز 430 الحيز الأوّل- أعلى الأرض؛ وهو الصعيد 430 الحيز الثاني- أسفل الأرض؛ وهو أربع نواح 436 الناحية الأولى- كور الحوف الشرقي؛ وبها ثمان كور 436 الناحية الثانية- بطن الريف، وفيها سبع كور 438 الناحية الثالثة- الجزيرة بين فرقتي النيل الشرقية والغربية؛ وفيها خمس كور 439 الناحية الرابعة- الحوف الغربي؛ وفيها إحدى عشرة كورة 441 الحيز الثالث- كور القبلة؛ وفيها خمس كور 443 الحيز الأوّل-[مما لم يذكره القضاعي] بلاد الواح 446 الحيز الثاني- برقة 447 الضرب الثاني- من كور الديار المصرية نواحيها وأعمالها المستقرّة ولها وجهان 449 الوجه الأوّل- القبلي 449 الوجه الثاني- البحري؛ ويشتمل على ثلاث شعب 456 الشعبة الأولى- شرقي الفرقة الشرقية من النيل؛ وفيها أربعة أعمال 457 الشعبة الثانية- غربي فرقة النيل الغربية؛ وفيها عملان 462 الشعبة الثالثة- ما بين فرقتي النيل الشرقية والغربية؛ وهو جزيرتان 465 الفصل الثالث- فيمن ملك الديار المصرية جاهلية وإسلاما، وهم على ثلاث مراتب 468 المرتبة الأولى- من ملكها قبل الطوفان 468 المرتبة الثانية- من ملكها بعد الطوفان إلى حين الفتح الاسلامي؛(3/620)