الجزء الاول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الراغب الأصفهاني وكتابه «محاضرات الأدباء»
بقلم: الدكتور عمّر الطبّاع تعدّدت ينابيع عرفانه، وتنوّعت مناهل علومه وموارد آدابه، وتشعّبت مذاقاته الفكريّة، حتّى شملت جملة ثقافات عصره الأصيلة والدخيلة، فكان طويل الباع في آداب العربية- لغة وبيانا ورواية وقصصا وشعرا ومثلا- كما كان عميق الاطلاع في المعارف الدينيّة الإسلامية- حديثا وفقها وعقيدة وتفسيرا-.
ولئن توزّعت ملكاته بين هذين الاتجاهين الرئيسين من اتجاهات التراث فقد كان مشدودا إلى جداول شتّى من ثقافات اليونان والهند وفارس، والتي كانت قد تآلفت بأسباب التمازج الحضاري والتفاعل البيئي، وبفضل النّقلة وحركة النقل الواسعة، لتناسب بقوّة وزخم في خضم نهر المعارف العربية الدافق والذي كان يتّسع ويمتد ويعمق غوره، وتصطخب أثباجه ولججه، منذ مشارف دولة العبّاسيين على اختلاف أعصرها، وتعدّد أصقاعها، حتّى زمن السلاجقة وحملة الصليبيين، بين بدايات القرن الخامس ونهايات القرن السابع الهجريين.
ذاك هو العلّامة الفذّ الباحث والمؤلف والمصنّف المعروف ب «الراغب الأصفهانيّ» .
هو الحسين بن محمّد بن المفضّل، باتفاق جلّ المؤرخين، أو الفضل في بعض النّصوص والروايات.
وذهب السيوطي إلى أن اسمه هو الفضل بن محمّد. وقد اشتهر بلقبه الراغب الأصفهانيّ في المصادر والمراجع القليلة التي عنيت بأخباره وآثاره، كما كنّي بأبي القاسم.
ولعلّ السيوطي في «بغية الوعاة» ، والذهبي في «طبقات المفسّرين» ، في القديم، وبروكلمن في «دائرة المعارف الإسلامية» وجرجي زيدان في «تاريخ آداب اللغة العربية» حديثا، هم الذين ألقوا الضوء على شخصية الراغب ونتاجه مما دفعنا إلى التساؤل عن أسباب إغفال سيرته ودرسه من قبل مؤرخين مرموقين كبار، من أمثال ياقوت وابن العماد(1/5)
الحنبلي وغيرهما، في الوقت الذي رحبت فيه موساعاتهم أو معاجمهم بأعلام أقلّ منه نباهة وأقصر، في حقل التأليف، باعا.
بسبب هذا الصدوف عن احتضان الراغب الأصفهاني الرجل والعالم، وجدنا أنفسنا نفتقر إلى كثير من الأرقام والأخبار التي من شأنها تحديد المحطّات الهامة في تاريخ حياته، والخطوط الرئيسة من سيرته، بين الولادة وعهد الطلب وعهد الأستاذية، لمعرفة كبار شيوخه وبالتالي تلامذته، وغير ذلك من وقائع تلك الحياة وروابطها الاجتماعية والسياسيّة.
وأيّا كانت طبيعة المعطيات الكامنة وراء افتقادنا آثار أقدام الراغب الأصبهانيّ فوق رمال عصره، فنحن نستطيع أن نرسم صورة لكثير من معالم تلك الأقدام الضائعة في ضوء أحداث القرن الخامس الهجري والإحاطة بظروفه وأحواله على كافة الصعد سياسيا واجتماعيا وفكريا:
لقد شهد عصر الراغب الأصفهانيّ، من الناحية السياسية حدثين كبيرين في فترتين متباعدتين: أما الأول فهو ظهور مملكة السلاجقة في أواسط تركستان والغرب لتشتمل منذ نهاية العقد الثالث من القرن الخامس أي حوالي سنة 430 هـ (1038 م) على رقعة واسعة من البلدان، من أرض الصين وأفغانستان في شرقي آسيا إلى كردستان والعراق والشام لجهة الغرب.
أما الحدث الثاني الذي أشرنا إليه فهو حملة الصليبيين التي انطلقت من أوروبا غربا إلى بيت المقدس في فلسطين مكتسحة الشام من أعاليها وصولا إلى مصر.
ويتضح للمتأمل في حياة الراغب أنها ظلّلت جميعا بحكم السلاجقة ولكنّها لم تعاصر حرب الصليبيين إلا في السنوات الاثنتي عشرة التي سبقت وفاته، ومعلوم أن الراغب مات سنة 502 هـ (1108 م) ، وأن دولة الصليبيين أرسيت مدامكها الأولى سنة 492 هـ (1098 م) .
ولئن كان التمهيد لكتاب من آثار الراغب لا يسمح لنا بأن نتبسط في درس ظروف بيئته العامّة والخاصّة إبّان القرن الخامس الهجري، إلا أننا نقف عند بعض الوقائع الكبرى في سياق العصر انطلاقا من بدايات العقد الخامس أي في حدود السنة 444 هـ، ولا ندري هل كان الراغب آنذاك قد أبصر نور الحياة أم أن ولادته كانت بعد هذا التاريخ؟
ففي السنة المذكورة كما يذكر الذهبي في تاريخه «1» ذرّت الفتن المذهبية قرنها في بغداد، ولا سيّما في الكرخ، وجرت تصادمات بين فئات متناوئة فكان قتال وحملات ومناوشات وشبّت نيران ووقعت الضحايا من كل فريق.
وفي هذا العام بالذات لم تقتصر الفتن على داخل البلاد بل بدأت الغارات على جهات(1/6)
شتّى من العراق بين السلاجقة الغزّ وأنصار الغزنويّ. وكان من نتائج هذه الحروب تقدّم الطلائع السلجوقية نحو الحواضر العراقية.
وفي العام 440 رافق وفاة أبي العلاء في المعرّة دخول المصريين إلى حلب بعد أن عجز صالح بن مرداس عن الثبات، والبلاد تعاني قحطا وأزمات اجتماعية، كما حصدت الأوبئة في بلاد ما وراء النهر نحو مليون ونصف من أهاليها.
وفي حدود السنة 456 بسط السلطان طغرلبك السلجوقي ملكه على العراق بعد بلاد الريّ ونيسابور، وانتصر للشافعيّة، كما حلّ ألب أرسلان من سلاطين سلجوق على هراة وتقدّمت جيوشه إلى أذربيجان كما غزا العديد من حصون الروم قبل عودته إلى أصبهان.
ومن أبرز مظاهر الفكر في سياق حياة الراغب الأصفهاني قيام المدرسة النظامية ببغداد وانتداب مشاهير العلماء للتدريس فيها. ونظامية بغداد، هي التي احتضنت الغزالي يافعا في عهد الطلب وعالما قطبا في عهد الأستاذية.
وفي السياق عينه امتدت الحركة الإسماعيلية إلى الشام واشتد الصراع بينهم وبين السلاجقة بين كرّ وفرّ في العديد من النواحي والمدن، بينما كانت جيوش الفرنج تستولي على مدن الساحل بين طرابلس وبيروت.
وفي السنة التي مات فيها الراغب كان الملك بغدوين يحاصر مدينة صور. وصادف موته موت الإمام أبي حامد الغزالي.
ولئن كان عصر الراغب قاتما في العديد من النواحي العامّة السياسية والإدارية والاجتماعية ولا سيما من حيث اتساع رقعة الفتن الدينية، فهو في جانب آخر كان عصر ازدهار علمي وأدبي، من أبرز معالمهما قيام المدارس النظاميّة ونبوغ عدد كبير من العلماء والباحثين واهتمام الأدباء بالتأليف في شتّى حقول الأدب، وظهور المعاجم التاريخية والجغرافية والأدبيّة.
عاصر الراغب الأصبهاني من الشعراء أبا العلاء المعري (449 هـ 1057 م) وابن سنان الخفاجي (466 هـ 1073 م) ، وابن حيوس (473 هـ 1080 م) من شعراء الشام؛ والطغرائي (514 هـ 1120 م) من شعراء العراق وأعالي الجزيرة، وابن الهبارية (509 هـ 115 م) وأبو إسحاق الغزاليّ (524 هـ 1129 م) وابن عبدون (520 هـ 1126 م) ، وابن خفاجة من شعراء الأندلس.
ومن معاصريه الذين كانوا أقطاب العلوم اللغوية والأدبية: التبريزي (502 هـ 1108 م) ، والحريري صاحب المقامات (516 هـ 122 م) ، وابن الشجري الشريف أبو السعادات (542 هـ 1147 م) ، وعبد القاهر الجرجاني (471 هـ 1078 م) ، والزوزني شارح المعلّقات (486 هـ 1093 م) ، والميداني صاحب مجمع الأمثال (518 هـ(1/7)
1124 م) ، وأبو القاسم الزمخشري الموسوعي (538 هـ 1141 م) صاحب التصانيف البارعة في اللغة والبيان والتفسير والحديث، وغير هؤلاء العشرات من المؤرخين وأرباب اللغة وكبار النحاة في أقطار العالمين العربي والإسلامي، وهو ما لا يتسع هذا المجال لتعدادهم والتنويه بآثارهم ومآثرهم.
كان من الطبيعي أن يتحفنا الراغب الأصفهاني بعدد لا يستهان به من المؤلّفات والتصانيف في العديد من حقول الفكر والأدب، بمؤثّرات شتّى تمخضّت عن التفاعل العميق، بين الأقاليم الإسلامية آنذاك، وهو الامتزاج الذي كان يتجاوز نطاق الإدارة والسياسة إلى ضرب من التلاقي الثقافي النشيط والتكامل الحضاري الدائب، اللذين تمخّض عنهما العدد الهائل من الدراسات والأبحاث والمختصرات، فضلا عن المعاجم، وبالتالي دوائر المعارف والموسوعات.
ليس بعيدا أن يكون الزمن قد أضاع في ثناياه عددا من تآليف الراغب، لأنه إذا فات أقطاب التاريخ الأدبي الالتفات إلى شخصيّته أو حملهم على إهماله باعث من عصبيّة أو ذريعة من حميّة مذهبية أو دينيّة، فليس ببعيد أن تطمس أعماله بجريرة الرغبة في تقليص أثره وحجمه. ولم يكن التأريخ في أي حقبة من الزمن في منأى عن مثل تلك الأهواء والميول والأغراض، المخالفة للتاريخ كعلم، والتي هي من أغلاط المؤرخين التي نبّه إليها العلماء وعلى رأسهم ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة.
وفي اعتقادي أن الراغب الذي نسب عند فريق إلى مذهب المعتزلة، قد أجحف حقّه من قبل الدارسين الذين كانوا يرفعون راية السلفيّة ويحاربون ما اعتبروه بدعة في الاجتهاد وحكموا عليه بالبطلان، ولا ينفي ما ذهبنا إليه كون بعض العلماء أمثال الرازي في كتابه «أساس التقديس» قد قال بأن الراغب من المحافظين وأنه كان من أهل السنة.
وبعد جلاء هذه الظاهرة والتنبّه إلى احتمال وقوع الراغب ضحية مغالطات المؤرخين وخروجهم عن أسس الموضوعية والصدق، نشير إلى أنّ ما ذكر من آثار أبي القاسم موضوع هذه التوطئة يمكن إدراجه في جدولين من جداول مفردات التراث الأدبي والديني، عنيت ما هو ملحوظ في باب المخطوطات، وما هو موصوف في باب المطبوعات.
فمن كتبه التي لا تزال مخطوطة:
أ- حلّ متشابهات القرآن.
ب- تحقيق البيان وهو كتاب في اللغة والحكمة «1» .(1/8)
د- كتاب في الاعتقاد هـ- كتاب في أدب الشطرنج، محفوظ في قاشان، تحت عنوان: [170/94 L Menzel isl LL] .
أما كتب الراغب المطبوعة، كما وردت في قاموس تراجم «الأعلام» للزركلي، فهي:
أ- الذريعة إلى مكارم الشريعة.
ب- جامع التفاسير.
ج- المفردات في غريب القرآن.
د- تفصيل النشأتين.
هـ- كتاب «محاضرات الأدباء» الذي تجدّد دار الأرقم اليوم طبعته، بعد مرور نحو قرن على نشر مختصره بالقاهرة عام 1902، ولنا عودة ثانية إلى هذه المطبوعة.
وبالرجوع إلى ترجمة الراغب في دائرة المعارف الإسلاميّة، يطلعنا بروكلمن على تفاصيل أشمل وأكثر دقّة تتصل بمجموعة هذه المؤلفات، حرصنا على إثبات ما رأيناه ضروريا منها، لمزيد من الإحاطة بعلم الراغب وأدبه. ولهذا نحن نضع بين يدي الباحث الإلماعات التالية:
أ- يعتبر بروكلمن أن طليعة الدراسات التي قام بها الراغب كانت تدور حول تفسير القرآن الكريم وتعاليمه في التهذيب وهي «رسالة منبهة على فوائد القرآن» قيل إن البيضاوي نقل عنها في التفسير المعروف باسمه.
ويرجّح بروكلمن أن الرسالة المذكورة هي عينها التي طبعت بالقاهرة سنة 1329 هـ (1911 م) ذيلا لكتاب «تنزيه القرآن عن المطاعن» لعبد الجبّار، وهي كذلك الرسالة التي تعرف باسم «مقدّمة التفسير» .
ب- أما كتاب «مفردات ألفاظ القرآن» فهو من المعاجم التي ترتّب القرآن على حروف الهجاء، ولهذا الكتاب مخطوطات شتّى في استانبول [ (L Le Monde Oriental LL (7/106- 127) ] ، وفي بنكيبور برمز L Cat LL (18/1484) . وهذا الكتاب مطبوع في القاهرة سنة 1322 هـ (1907 م) بعنوان «مفردات في غريب القرآن» ، على هامش كتاب ابن الأثير المعروف باسم «النهاية» .
ويشير إلى بروكلمن إلى أن الراغب أشار في مقدمة كتابه هذا إلى كتاب آخر كان يخطط له بعنوان: «في مترادفات القرآن» .
ج- ويفهم من سياق ترجمة الراغب في دائرة المعارف الإسلامية أن كتاب «الذريعة إلى مكارم الشريعة هو المعنيّ بكتاب الراغب الكبير في الأخلاق وأنه لنفاسته وأهمية مضامينه، كان الإمام أبو حامد الغزالي «يحمل دائما نسخة» منه. ولهذا الكتاب مخطوطات(1/9)
محفوظة في المتحف البريطاني وفي مكتبة استانبول «1» ، فضلا عن طبعته الصادرة في القاهرة 1299 هـ (1882 م) .
د- ويعتقد بروكلمن أن كتاب «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين» - الذي طبعه طاهر الجزائري في القاهرة، نقلا عن مخطوظ بيت المقدس الموجود في المكتبة الخالدية (تحت رقم 72) ، مماثل في موضوعه، وبالتالي غير بعيد في مضمونه عن الكتاب أعلاه، وهو الذريعة إلى مكارم الشريعة.
وتبقى لنا إلمامة وافية بكتاب الراغب الذي نقدّم له وهو «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» .
كان الراغب الأصفهاني، مثقفا متوازن الأبعاد الثقافية والفكريّة، وكانت شخصيته كمؤلف ذات مرتكزات ثلاثة فهو في الآن نفسه الفقيه والمتكلّم والأديب. ولهذا خاض في مسائل الشريعة والعقيدة والأخلاق، ومزج الأدلة الدينيّة بالأدلة العقلية وكتابه «تحقيق البيان» المنوّه به في مقدّمة «كتاب الشريعة» كما يقول بروكلمن يعتبر كتابا في اللغة والكتابة والأخلاق والعقائد والفلسفة وعلوم الأوائل.
إلا أن أهم أثر للراغب الذي من شأنه الكشف عن شخصية الأديب الناقد فهو كتابه «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» وهو أشبه بالكتاب الموسوعي الغنيّ بالشفافيّة الأدبيّة والذوق الشعري، وروح الكاتب الذي يجيد أساليب التصنيف وطرق العرض والتبويب، والذي لا تحوجه المنهجيّة العلميّة ولا أداة التقسيم المنطقي؛ يستمدها- ولا ريب- من زاد معرفي واسع، وإلمام بمصادر شتّى أدبيّة وفلسفيّة.
وخير دليل على هذه المقولة ما أورده الراغب نفسه في مقدّمة كتابه ذاكرا أنه استجاب في وضعه لرغبة من ينعته بقوله: «سيّدنا» ، دونما تحديد أو تركيز أو وصف. ولا نستيطع نحن التكهن بصاحب السيادة الذي أحبّ أن يختار له الراغب هذه الفصول «في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» من «نكت الأخبار وعيون الأشعار» ، ليغدو الكتاب «صيقل الفهم ومادة العلم» .
والدّارس للمقدمة التي صدّر بها الراغب كتابه، والمتأمل في أبواب الكتاب وفصوله والتي استعاض فيها عن التقسيم المألوف بمصطلح «الحدّ» ، فجعل كتابه «خمسا وعشرين حدا» جامعة لمسائل العقل والعلم والجهل والسيادة والعدل والأخلاق والقرابة وأنواع المروءات والعرفان والعقوق، انطلاقا إلى الصناعات ومسائل الإيمان ومرابع العطاء والجود،(1/10)
وما يدور في فلكها من الكلام على الأطعمة والمشارب، تخلصا إلى الندماء ومجالس اللهو والغناء، انعطافا إلى مراتع الوجدان في دائرة الغزل والهوى والعشق، دون أن يسقط من ثنايا كتابه فضيلة الشجاعة وما كان يدور في فلكها من مواقف الحرب والصلح والثأر ودفع الديات عند العرب، معرّجا إلى موضوع الزواج وحيثيّاته وسياسة الرجل المرأة ومسائل الغيرة والطلاق.
ويستكمل الراغب فيما تبقى من هاتيك الحدود كلّ ما يمسّ واقع الإنسان في بيته وديانته فيتحدث عن الرياش والملابس والعبادات ويخوض في مسائل العقيدة فيشتمل عرضه على قضايا الإيمان والزهد والتصوف والنبوّة مرورا بالإسلام والقرآن وأسباب التنزيل.
ويتبع شؤون الحياة بالكلام على الموت، ويجول عبر الزمان والمكان فيلوّن كتابه بزخارف شيّقة تنساب عبر فصول الطبيعة ونباتها وأزاهرها وحيوانها من وحش وطير وهوام، ثم تراه يذهب بعيدا فيحدث عن الأفلاك والنجوم والسحب انتهاء إلى جملة من النوادر والحكم.
فكتاب «المحاضرات» وجه يكاد يكون فريدا في بابه بين كتب الطرائف والحكايات، لأنه يمتاز بالشمولية والعمق وتلفّه روح العلم وتهيمن عليه هواطل من معطيات الوجدان والعقل. إنّه بحقّ سفر جامع بين الجدّ واللهو والأخبار والملح الأدبية وكأن الراغب يحدّد به صفات النديم وثقافته إذ يقول:
«ومن لا يتحلّى في مجلس اللهو إلا بمعرفة اللغة والنحو كان من الحصر صورة ممثلة أو بهيمة مهملة. ومن لا يتتبع طرفا من الفضائل المخلدة على ألسنة الأوائل كان ناقص العقل. فالعقل نوعان: مطبوع ومسموع، ولا يصح أحدهما إلا بالآخر» .
وكأني بكتاب المحاضرات كما أراده الراغب، قمة أدب المؤانسة والمجالسة حتى عصره وفي ضوئه وضع شهاب الدين الأبشيهي كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» وفي بابه نجد «طرف الألباب وتحف الأحباب» لليافعي و «طرف المجالسة وملح المؤانسة» لابن المرابط وعشرات التصانيف المماثلة.
والكتاب فضلا عمّا تقدّم معرض فكري شيّق لم يدع مفردة من مفردات الواقع الإنساني، إلا تتبعه في دواوين الشعراء وكتب الأمثال وخواطر الحكماء والأدباء، وهو يتميّز بالطلاوة والإيجاز والبعد عن الهذر، مع أمانة في العرض، وروح واقعية، تجعله في منأى عن أي إسفاف أو تبذل، وبعيدا أيضا عن التلفيق أو التصنع فهو لا يتستر على عيب، ولا يتردد في سوق الشواهد على ما فيها أحيانا من الركة أو السخرية أو الابتذال والبذاءة، ما دامت ترمي إلى الإمتاع والمصارحة والمكاشفة.(1/11)
إن كل إسهاب في وصف مضامين كل حدّ من ماهيات تلك الفصول يصبح ضربا من اللغو والإطالة الباعثة على الإملال، ما دام الكتاب بين أيدينا وهو خير مترجم عن أدب صاحبه وأسلوبه وذائقته الفنيّة وعلو كعبه في العلوم والآداب والخبرة في طبائع الإنسان وملكاته وما فيه من الكياسة والظرف والملاحظة النفسيّة.
إن النسخة التي انطلقنا منها في تحقيق جزئي هذا الكتاب ترتقي إلى العام 1326 هـ (1908 م) ، وقد تكبّدنا في قراءتها وتصويبها والتغلّب على عثرات الطبع فيها- وهنات الطباعة القديمة وإهمال الضوابط على اختلافها- الكثير من العناء، وإلى درجة الإعياء، وبالرغم من المثابرة والمصابرة والرجوع إلى عشرات المصادر الخاصّة بالشعر لتذليل مواطن الإبهام والغموض المتفشيّة في نسخة الكتاب، لا يسعنا مع ذلك، إلا الاعتذار عمّا يكون قد فاتنا من تقصير أو ضبط أو تحديد لبعض العبارات والشواهد. وفيما خلا ما تقدّم يبقى كتاب المحاضرات في حلّته الجديدة- وإخراجه وطريقة عرضه وتقسيم كل حدّ من حدوده وإبراز مقاطع كل منها وعناوينها. تجعل منه- ملاذ كلّ قارىء محبّ للأدب ومتذوّق لفنون القول وضروب الكلم وأغراضه.
إنّ هذا الكتاب الموسوعة، هو بحق نزهة للعقل والقلب على السواء وزاد لا ينضب من علم الأوّلين وأشعارهم وحكمهم وأمثالهم ومعارفهم.
ولئن كانت ألف ليلة وليلة إحدى قمم السرد الشيّق والحكايات الطريفة الجامعة بين الواقع والخيال فكتاب الراغب- «المحاضرات» - رحلة مماثلة ولكنها في عالم الوعي والحقائق والأمثولات والعبر، فهو يضع بين يدينا الأشياء وأضدادها والفكر ونقائضها، ويترك لنا البحث عمّا هو أكثر صدقا وواقعية.
لعلّ أمثل ما نقوله في ختام هذا التصدير لتبرير عدم ترددنا عن إحياء قديم التراث الذي يظلّ قادرا على مواكبة الحداثة بما فيه من الإبداع والأصالة على ما في هذه الرسالة من صعاب كلمة العماد الأصفهاني إذ يقول: رأيت إنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
إن الكمال لله وحده، وحسب المرء أن يكون صادقا فيما يعمل وفي هذا كلّ الرضى والعزاء، لأن العطاء مشفوعا بالطموح إلى الأفضل، أجدى من النكوص مع التزمّت، وهذا هو معيار الارتقاء الحقيقيّ، ولله الحمد وعليه التّكلان.
بيروت في: 18/2/1999 م 2/10/1419 هـ(1/12)
بسم الله الرّحمن الرحيم
فاتحة الكتاب
بقلم: الراغب الأصفهاني قال الشيخ أبو القاسم الحسين بن محمّد المفضّل الراغب، رحمه الله تعالى:
الحمد لله الذي تقصر «1» الأقطار أن تحويه، وتعجز الأستار أن تخفيه، حمدا يقتضي تضاعف نعمائه «2» ويمتري ترادف آلائه «3» .
وصلّى الله على من أوضح به الإعلام، وشرع بلسانه الإسلام، منار الهدى وخيار الورى «4» .
وبعد: فإن سيّدنا- عمّر الله بمكانه مرابع الكرم، ومجامع النّعم-، أحبّ أن أختار له ممّا صنّفت من نكت «5» الأخبار، ومن عيون الأشعار، ومن غيرهما من الكتب، فصولا في محاضرات الأدباء، ومحاورات الشّعراء والبلغاء، يجعله صيقل الفهم «6» ومادة العلم.
ففعلت ذلك إيجابا له إذ قد جعل مراعاة الأدب شعاره ودثاره «7» ، ومحاماة الفضل إيثاره «8» واختياره، وجعل زمام حسبه بكفّ أدبه، وسلك في زماننا طريقا قلّ سالكوه- طرق العلاء قليلة الإيناس «9» .
.(1/13)
وقد ضمّنت ذلك طرفا من الأبيات الرائقة، والأخبار الشائقة، وأوردت فيه، ما إذا قيس بمعناه:
يكون منه مكان الروح من جسد ... والبدر من فلك والنجم من قطب
فإنه ظرف «1» ملىء طرفا «2» ، ووعاء حشي «3» جدا وسخفا، من شاء وجد منه ناسكا «4» يعظه ويبيكه، ومن شاء صادف منه فاتكا «5» يضحكه ويلهيه:
فالجدّ والهزل في توشيح لحمتها ... والنبل والسّخف والأشجان والطرب
وأعوذ بالله أن أكون ممّن مدح نفسه وزكّاها «6» ، فعابها بذلك وهجاها، وممّن أزرى «7» بعقله، لإعجابه بفعله، فقد قيل لا يزال المرء في فسحة من عقله، ما لم يقل شعرا أو يصنف كتابا.
وأولى من يصرف همّته إلى مراعاة مثل هذا الكتاب، من تحلّى بطرف من الآداب، فيصير به طليق اللسان، ذليق البيان «8» ، فكم من أديب تتقاعد بداهة المقال «9» ، في كثير من الأحوال، فلا يجد من فهمه مساعفة «10» ، ولا من علمه مكاتفة «11» ، فيرى في العيّ مثل باقل «12» ، وإن كان في الغزارة سحبان وائل «13» .
وقد قيل: خير الفقه ما حاضرت به، ومن لا يتحلّى في مجلس اللهو، إلا بمعرفة(1/14)
اللغة والنّحو، كان من الحصر «1» صورة مثيلة، أو بهيمة مهملة. ومن لا يتتبع طرفا من الفضائل، المخلّدة عن ألسنة الأوائل، كان ناقص العقل.
فالعقل نوعان: مطبوع ومسموع، ولا يصلح أحدهما إلا بالآخر. وقد تحرّيت فيما أخرجته من كلّ باب غاية الاختصار والاقتصار، وأعفيته من الإكثار والإهذار «2» ، لئلا تعاف ممارسته ومدارسته، لكن عظم هذا الكتاب بعض العظم، لكثرة فصوله وتحقيق تفاصيله.
وقد جعلت ذلك حدودا وفصولا وأبوابا. وذكرت جملة الحدود والفصول في أوّل الكتاب، ليسهل طلب كل معنى في مكانه. ووضعت كلّ نكتة في الباب الذي هو أليق بها، وإن كان كثير من ذلك يصلح استعماله في أمكنة سهّل الله علينا ما يحمد عقباه «3» ، ووفّقنا في جميع أمورنا لما يرضاه، وجعل خير أعمالنا ما قرب من آجالنا، إنه عليم قدير. نعم المولى ونعم المصير.
الحدّ الأول: في العقل والعلم والجهل، وما يتعلّق بها.
الأول: العقل والحمق وذمّ اتباع الهوى «4» .
الثاني: الحزم والعزم وما يضادّهما، والظنّ والشكّ والتثبّت «5» ، والعجلة.
الثالث: المشاورة والاستبداد بالرأي.
الرابع: العلم والعلماء مدحا وذما، والحفظ والنسيان.
الخامس: التعليم والتعلّم، وما يتعلق بهما.
السادس: البلاغة «6» وما يضادّها.
السابع: النطق والسماع والمقال والسكوت.
الثامن: المذاكرة والمجادلة «7» .
التاسع: الشّعر والشّعراء.(1/15)
العاشر: الكتابة والكتّاب.
الحادي عشر: التصحيفات «1» .
الثاني عشر: آلات الكتابة.
الثالث عشر: الصّدق والكذب.
الرابع عشر: السرّ.
الخامس عشر: النّصح.
السادس عشر: المواعظة والمتّعظون، والآمرون بالمعروف، والقصّاص والمفتون.
السابع عشر: الخطباء وقرّاء القرآن.
الثامن عشر: الفراسة «2» والقيافة «3» .
التاسع عشر: تأويل الرؤيا «4» .
العشرون: جمل علوم الأمم ورموز العرب.
الحدّ الثاني: في السّيادة وذويها وأتباعها:
الأول: السيادة والولاية.
الثاني: أحوال أتباع السلاطين.
الثالث: القضاء «5» والشهادة.
الرابع: الحجاب والحجّاب والغلمان.
الحدّ الثالث: في الإنصاف والظّلم، والحلم، والعفو، والعقاب، والعداوة، والحسد، والتّواضع والتكبّر:
الأول: الإنصاف والظّلم.
الثاني: مدح الحلم وكظم «6» الغيظ، والرحمة والعفو، والاستغفار والاعتذار.(1/16)
الثالث: ذمّ الحلم ومدح العقاب.
الرابع: العداوات.
الخامس: الحسد.
السادس: التّواضع والتكبّر.
الحدّ الرابع: في النّصرة والأخلاق، والمزح والحياء، والأمانة والخيانة، والرفعة والنذالة الأول: الجوار والنّصرة.
الثاني: الأخلاق الحسنة والقبيحة.
الثالث: المزح والضّحك حمدا وذمّا.
الرابع: الحياء «1» والوقاحة.
الخامس: الأمانة والخيانة السادس: المسابقة إلى المعالي، والرفعة والمجد.
السابع: النّذالة والتأخّر عن المكارم والمثالب «2» ، وصيانة النّفس والفتوّة والمروءة.
الحدّ الخامس: في ذكر الأبوّة والبنوّة ومدحهما وذمّهما والأقارب الأول: البنون والبنات.
الثاني: ممادح «3» الأبوة ومذامها ووصف القبائل.
الثالث: الدعوة.
الرابع: الأقارب.
الحدّ السادس: في الشكر والمدح والذم والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية الأول: في الشّكر.
الثاني: المدح ومستحقّوه، والهجو وذووه.(1/17)
الثالث: الغيبة «1» والنميمة «2» .
الرابع: التحيّة والأدعية والتّهنئة.
الخامس: الدّعاء على الإنسان.
السادس: الهدايا.
السابع: الطبّ والمرض والعيادة «3» .
الحدّ السابع: في الهمم والجدّ والآمال الأول: الهمم «4» الرفيعة والوضيعة.
الثاني: الجدّ.
الثالث: الأماني والآمال.
الحدّ الثامن: في الصّناعات والمكاسب، والتقلّب والغنى والفقر.
الأول: الحرفة «5» .
الثاني: المبايعة.
الثالث: الدّين ومتعلّقاته.
الرابع: الإيمان.
الخامس: الاكتساب والإنفاق.
السادس: مدح الغنى وذمّ الفقر.
السابع: الزهد ومدح الفقر وذمّ الغنى.
الحدّ التاسع: في العطاء والاستعطاء «6» الأول: قصد أولي الأفضال.
الثاني: السّؤال.
الثالث: الوعد والإنجاز والمطل «7» .(1/18)
الرابع: الشّفاعات.
الخامس: البخل بالأموال.
الحدّ العاشر: في الأطعمة والأكلة «1» ، والقرى «2» وأوصاف الأطعمة الأول: ما جاء في أوصاف الأطعمة.
الثاني: أحوال الأكل والأكلة والتطفّل «3» .
الثالث: الدّعاء إلى الدعوات.
الرابع: الأجواد بالقرى.
الخامس: في الجود والأجواد.
السادس: البخلاء بالقرى.
الحدّ الحادي عشر: في الشرب والشّراب وأحوالهما وآلاتهما الأول: الشّرب والشّراب.
الثاني: الندام والنّدماء «4» والسقاة..
الثالث: وصف المجالس وأمكنة الشّرب.
الرابع: آلات الشرب والمجالس.
الخامس: الغناء والمغنّون والملاهي.
السادس: آلات الملاهي.
السابع: آلات القمر.
الحدّ الثاني عشر: في الإخوانيات الأول: الإخوان وأحوالهم.
الثاني: محبّة المعاشرين.
الثالث: الزيارة والمزور.
الحدّ الثالث عشر: الغزل ومتعلقاته الأول: أوصاف الهوى وأحوال العشّاق.(1/19)
الثاني: التذكّر.
الثالث: التّوديع والفراق.
الرابع: الهجران.
الخامس: البكا ووصف الدّموع.
السادس: الشّوق والحنين «1» .
السابع: السهر وطول الأزمنة.
الثامن: الوشاية «2» والعذل «3» .
التاسع: ستر الهوى وكشفه.
العاشر: معاشرة الحبيب ومكاتبته.
الحادي عشر: مزاورة المحبوب وملاقاته، والنّظر إليه والأمنية فيه.
الثاني عشر: الطّيف «4» .
الثالث عشر: السلوّ «5» .
الرابع عشر: فنون مختلفة من الغزل.
الحدّ الرابع عشر: الشجاعة وما يتعلق بها الأول: الشجعان وأحوالهم.
الثاني: التهدّد «6» .
الثالث: الأسلحة والمتسلحة.
الرابع: طلب الثأر والدّية «7» .
الخامس: التحذير من الحرب وطلب الصلح.
السادس: الهزيمة.
السابع: التلصص «8» .
الثامن: الحبس والقيد والضّرب ونحوها.(1/20)
الحدّ الخامس عشر: في التزوج والأزواج، والطّلاق والعفّة والتديّث «1» الأول: النكاح والطّلاق، وأحوال الأزواج وسياستهنّ.
الثاني: العفّة.
الثالث: الغيرة والتّديّث.
الحدّ السادس عشر: في المجونات «2» والسخف «3» الأول: الإجازة واللواطة «4» .
الثاني: الأبنة «5» والتخنّث «6» والدبيب «7» والقيادة «8» .
الثالث: ذكر السوءتين «9» والجماع «10» .
الرابع: السحق «11» والدّلك «12» .
الخامس: الضراط والفسو.(1/21)
الحدّ السابع عشر: خلق الناس وأسماؤهم الأول: خلقة «1» الإنسان مستحسنها ومستقبحها.
الثاني: محاسن المحبوب.
الثالث: مقابح خلق النّسوة.
الرابع: الشّيب والشباب وذكر المعمّرين «2» .
الخامس: الأسامي والكنى والألقاب «3» .
الحدّ الثامن عشر: في الملابس والفرش الأول: الملابس وذووها.
الثاني: البسط والفرش وآلات المنزل.
الحدّ التاسع عشر: في ذمّ الدنيا، وانكشاف النّوب الأول: ذمّ الدنيا ونوبها «4» .
الثاني: انكشاف «5» الشدائد.
الحدّ العشرون: في الدّيانات والعبادات الأول: الوحدانية والتّقوى، والإيمان والتوبة، والورع «6» والتصوّف «7» ومتعلّقاتها.
الثاني: المذاهب «8» المختلفة.(1/22)
الثالث: الأنبياء والمتنبئون «1» .
الرابع: أحوال القرآن ونزوله وفضيلته.
الخامس: العبادات من الطهارة والصّلاة والزّكاة والصوم والحجّ.
السادس: الأدعية.
الحدّ الحادي والعشرون: في الموت وأحواله الأول: الموت وأحواله.
الثاني: الغموم والصبر والتّعازي والمراثي.
الحدّ الثاني والعشرون: الأسماء والأزمنة والأمكنة والمياه والأشجار والنيران الأول: الملوان والسماء والنجوم.
الثاني: الأزمنة والسّحاب والأمطار والمياه، وما يتعلّق بذلك.
الثالث: الربيع والخريف والأزهار والأشجار والنّبات.
الرابع: الأمكنة والأبنية.
الخامس: المفاوز «2» .
السادس: السّفر.
السابع: الحنين إلى الأوطان.
الثامن: النّيران.
الحدّ الثالث والعشرون: الملائكة والجنّ الأول: الملك «3» .
الثاني: إبليس والجن والشياطين.
الحدّ الرابع والعشرون: في الحيوانات الأول: الخيل والبغال والحمير.(1/23)
الثاني: النّعم «1» .
الثالث: الوحشيات «2» .
الرابع: الطّيور.
الخامس: الهوام «3» .
الحدّ الخامس والعشرون: في فنون مختلفة وهو آخر الحدود وإذ قد أتينا على ذكر الحدود والأنواع فلنبدأ، مستعينين بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.(1/24)
الحدّ الأوّل في العقل والعلم والجهل وما يتعلّق بها
(1) فيما جاء في العقل والحمق «1» وذمّ اتباع الهوى
ما يحدّ به العقل وبنوه والحمق وذووه
قيل: العقل الوقوف عند مقادير الأشياء قولا وفعلا وقيل النظر في العواقب وقال المتكلّمون اسم لعلوم إذا حصلت للإنسان صحّ تكليفه.
وقيل: العاقل من له رقيب على جميع شهواته. وقيل: من عقل نفسه عن المحارم، ولذلك لم يصح وصف الله تعالى به.
والحمق قلّة الإصابة ووضع الكلام في غير موضعه، وقيل: فقدان ما يحمد من العاقل.
مدح العقل وذمّ الحمق
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اكتسب ابن آدم أفضل من عقل يهديه إلى هدى، أو يرده عن ردى.
وقيل: الحمق يسلب السلامة ويورث الندامة والعقل وزير رشيد وظهير سعيد، من أطاعه أنجاه، ومن عصاه أرداه.
وقيل: لو صوّر العقل لأضاء معه الليل ولو صوّر لأظلم معه النهار.
وقال المتنبّي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
حاجة الفضائل إلى العقل
قيل: العقل بلا أدب فقر، والأدب بغير عقل حتف. وقيل: بلوغ شرف المنزلة بغير عقل أشفاء على الهلكة. وقيل: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه.(1/25)
ذمّ من له أدب بلا عقل
وصف أعرابيّ رجلا، فقال: هو ذو أدب وافر وعقل نافر:
فهبك أخا الآداب أيّ فضيلة ... تكون لذي علم وليس له عقل
وقيل: ازدياد الأدب عند الأحمق، كازدياد الماء العذب في أصول الحنظل، كلّما ازداد ريا ازداد مرارة.
حاجة العقل إلى الأدب
عاقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح. العقل والأدب كالروح، والجسد بغير روح صورة، والروح بغير جسد ريح.
وقيل: العقل بغير أدب كأرض طيّبة خربة، وأن العقل يحتاج إلى مادة الحكمة، كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الطعام.
ضياع العقل بفقد التقوى
قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن إنسان عبادة، قال: كيف عقله؟ فإن قالوا عاقل، قال: ما أخلقه أن يبلغ؛ وإن قالوا ليس بعاقل، قال: ما أخلقه أن لا يبلغ.
وقال الحسين: ثلاثة تذهب ضياعا: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصال. وقيل: لا تعتدّوا بعبادة من ليس له عقدة من عقل.
فضل اجتماعهما
قال معاوية، لرجل حكيم مسنّ: أيّ شيء أحسن؟ فقال: عقل طلب به مروءة، مع تقوى الله وطلب الآخرة.
عزّة العقل
كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه كلما كثر كان أغلى. ولو بيع لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله. أوّل شرف العقل أنه لا يشترى بالمال.
قلّة العقل وذويه
قيل لبهلول: عدّ لنا المجانين، فقال: هذا يطول، ولكنّي أعد العقلاء. ومثله وإن لم يكن من بابه- أن رجلا كتب كتابا وعرضه على آخر، فقال: فيه خطأ كثير، فقال الكاتب: علّم على الخطأ لأصلحه، فقال: بل أعلّم على الصواب فهو أسهل.
وقيل لرجل: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه وما لا يوجد كاملا لا يحدّ.(1/26)
فضل مصاحبة العقلاء
قال الزهري: إذا أنكرت عقلك، فاقدحه بعاقل.
وقال: عدوك ذو العقل أبقى عليك، وأرعى من الوامق «1» الأحمق.
تبرّم العقلاء بصحبة الجهّال
قيل: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء أسرّ منه بلين العيش مع السّفهاء وقيل: قطيعة الجاهل تعدل صحبة العاقل:
لم يبل ذو الجهل الذي ... دارت عليه صروف دهره
ببليّة أشجى له ... من جاهل يزري بقدره «2»
يمضي حكومته عليه ... بجهله وجواز أمره
النّهي عن مصاحبة الجاهل
قال لقمان: لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال؛ وانظر إلى السيف ما أحسن منظره.
وقال الجاحظ: لا تجالس الحمقى، فإنه يعلق بك من مجالستهم من الفساد، ما لا يعلق بك من مجالسة العقلاء دهرا، من الصّلاح. فإنّ الفساد أشد التحاما بالطّباع.
وقيل: العاقل يضلّ عقله بمصاحبة الجاهل.
استعمال العقل والجهل مع ذويهما
قيل: العاقل يعامل الإنسان على خليقته، ويجاري الزمان على طريقته:
فكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن مثل أحمق «3»
وقال آخر:
أحامقه حتّى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله «4»
ذمّ عاقل متجاهل
قيل: عظمت المؤنة «5» في عاقل متجاهل، وجاهل متعاقل. وددت أني مثلك في ظنّك، وأن أعدائي مثلك في الحقيقة.
قال المتنبيّ:
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل ... يرى النّاس ضلالا وليس بمهتد(1/27)
صعوبة مداواة الأحمق
لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها «1»
وقال المتنبيّ:
ومن البليّة عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم «2»
روي أن عيسى عليه الصلاة والسلام، أتى بأحمق ليداويه، فقال: أعياني مداواة الأحمق ولم يعيني مداواة الأكمه «3» والأبرص «4» .
وقال الحجّاج: أنا للعاقل المدبّر أرجى منّي للجاهل المقبل.
وقيل: أنك تحفظ الأحمق من كل شيء إلا من نفسه، وتداويه إلا من حمقه.
تعب العاقل واستراحة الجاهل
قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشا؟ فقال: من كفى أمر دينه، ولم يهتم لأمر آخرته.
قال أبو علي كاتب بكر:
من رزق الحمق فذو نعمة ... آثارها واضحة ظاهره
يحطّ ثقل المرء عن نفسه ... والفكر في الدنيا وفي الآخره
وقال آخر (المتنبّي) :
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم
موصوف بالعقل
كان ابن المقفع والخليل «5» يحبّان أن يجتمعا. فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران. فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلا عقله زائد على علمه.
وسئل الخليل عنه، فقال: وجدت رجلا علمه فوق عقله.
قال بعض العلماء: صدقا فإن الخليل مات حتف أنفه في خص «6» وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنيا عنه حتى قتل أسوأ قتلة.
قال الصنوبري:
فإن يلتمس يوما حجاكم فإنّكم ... جبال الحجا لكنّكم أبحر الجدوى «7»(1/28)
وقال آخر:
فإن يك حائلا لوني فإنّي ... لعقل غير ذي سقط وعاء «1»
موصوف بالحماقة والجهل
سئل أعرابي عن رجل، فقال: لو كان في بني إسرائيل ووقعت قصة البقرة ما ذبحوا غيره.
وقيل: فلان ليس له من عقله فاه ولا من نفسه واعظ. وقيل: أحمق من دغة ومن رخمة «2» وفي الرخمة: إنك من طير الله فانطقي، يقال ذلك كناية عن الحمق خامري أم عامر.
وقيل: ليس مع فلان من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه إذا أمر به إلى النار.
وقيل: فلان مخدوع من عقله فلا تستعن به:
ليس يدري من الجهالة ماذا ... دور البعر في بطون الجمال
وقال آخر:
ربّ ما أبين التباين فيه ... منزل عامر وعقل خراب
وإذا قيل: فلان سليم الصدر، أو جامح في المسجد أو هو من أهل الجنة، فهو كناية عن الحمق.
تفضيل الجدّ «3» على العقل
قيل: استأذن العقل على الجدّ، فلم يأذن له، وقال: أنك تحتاج إليّ وأنا لا أحتاج إليك. وافتخر العقل، فقال له الجدّ: أمسك فما لك نفاذ «4» ما لم أصحبك. وقيل لأعرابي: فلان أحمق مرزوق، فقال هذا هو الرجل الكامل. قال:
وهيهات الحظوظ من العقول
قال آخر:
وما لبّ اللبيب بغير حظّ ... بأغنى في المعيشة من فتيل «5»(1/29)
صعوبة اجتماع العقل والجدّ
قيل: من زيد في عقله نقص من حظّه. وما جعل الله لأحد عقلا وافرا إلا احتسب عليه من رزقه. وقال شاعر في المعنى:
وخصلة ليس فيها من يخالفني ... الرزق والجهل مقرونان في قرن «1»
كون الجدّ من جملة العقل
روى في الخبر، أن الله تعالى إذا أراد أن يزيل نعمة عبد، فأوّل ما يسلب منه عقله.
وفي كتاب كليلة السبب المانع. حظّ العاقل، هو السبب لحظّ الجاهل.
وسئل بعضهم العقل أفضل أم الجدّ؟ فقال: العقل من جملة الجدّ.
موصوف بالجنون
وكأنّه من دير هرقل مفلت ... جرد يجرّ سلاسل الأقياد «2»
قال آخر:
به ما شئت من حمق ... ومن جهل ومن هوج «3»
قال آخر:
به طائف من جنّة غير معقب
قال آخر:
كأنّه من شهود الجنّ محتضر ... وقد رأى عقله منه على سفر
ويقال: فلان سمين الجهل مهزول العقل.
كون الهوى غالبا للهدى
قال عامر بن الظرب: الرأي نائم والهوى يقظان فإذا هوي العبد شيئا نسي الله، ثم تلا قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
«4» .
- العقل صديق مقطوع والهوى عدوّ متبوع.
- كم من عقل أسير في يدي هوى أمير.(1/30)
وقيل: الهوى شريك العمى واتباع الهوى أوكد أسباب الردى. قال منصور الفقيه:
إنّ المرآة لا تريك ... خدوش وجهك في صداها
وكذاك نفسك لا تريك ... عيوب نفسك في هواها
النهي عن اتّباع الهوى
قال الله تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
«1» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعص هواك والنساء، وأطع من شئت.
وقيل للناس: في قصة يوسف عليه الصّلاة والسّلام آيات أعظمها قوله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
«2» وقال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران فانظر أيهما أقرب من هواك مخالفة فالصواب في مخالفة الهوى.
قال:
من أجاب الهوى إلى كلّ ما يد ... عو إليه داعيه ضلّ وتاها
النهي عن اتّباع هوى غيرك
قال الله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ
«3» .
وقال: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
«4» . وقال: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ
«5» . وقال بعضهم لرجل: أني أهوى أن تقتل فلانا، فقال له: إني لا أدخل النار في هوى غيري وإن كنت أدخلها في هواي.
ذمّ من اتبع هواه
قال الله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ
«6» .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.
وقيل: اتباع الهوى أوكد أسباب الردى.
ووقّع «7» عبد الله بن طاهر إلى عامل له:
نفسك قد أعطيتها مناها ... فاغرة نحو مناها فاها «8»(1/31)
وقيل: إن قدمت هواك على عقلك لم تصب رشدا في حياتك، ولا أمنا بعد وفاتك. وأنشد:
إنّ الهوان هو الهوى جزم اسمه ... فإذا ألقيت هوى لقيت هوانا «1»
حمد مخالفته
قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى
«2» .
وبعث ملك إلى عابد مالك لا تخدمني وأنت عبدي. فقال: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد عبدي. قال: كيف؟ قال: لأنك تتبع الهوى فأنت عبده وأنا أملكه فهو عبدي. فقال: صدقت.
وقيل: سلطان من ملك الهوى فوق سلطان من ملك الدنيا.
ذمّ من يجهل نفسه
قال أبو علي الورّاق: آفة الناس قلّة معرفتهم بقدر أنفسهم.
قيل لبزرجمهر: أيّ العيوب أعظم؟
قال: قلّة معرفة المرء بنفسه.
وقال المتنبّي:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
وقال سقراط: لا شيء أضرّ بالإنسان من رضاه عن نفسه، فإنه إذا رضي عنها اكتفى باليسير فعابه كل خطير.
مدح من يعرفها
قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: لن يهلك امرؤ عرف قدره. وقيل: أجمع كلمة قول الحكيم: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد الله به خيرا فقّهه في الدين وعرّفه عيوب نفسه.
وقيل في قوله تعالى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا
«3» : معناه عرّفناهم عيوب أنفسهم.
وقوف المرء على عيب نفسه
قيل: لحكيم ما أصعب الأشياء؟ قال: معرفة الإنسان عيب نفسه، والإمساك عن الكلام في ما لا يعنيه.
وقيل: قد يعرف نقص غيره من لا يعرف نقص نفسه، ولا يعرف نقص نفسه من لا(1/32)
يعرف نقص غيره. فآكل الثوم لا يجد نتن نفسه.
الحثّ على تدبّر معايبك
قال لقمان عليه السلام: لا تدع النظر في مساويك كلّ وقت، لأنّ ترك ذلك نقص من محاسنك. وقيل: كن في الحرص على تفقّد عيوبك كعدوّك.
الحثّ على قذع «1» النفس
قال الحسن رضي الله عنه: أقذعوا هذه النفوس فإنها طلعة.
وقال حكيم: لا ينبغي لحكيم أن يطلب طاعة غيره وطاعة نفسه عليه ممتنعة.
وقال أبو ذؤيب:
والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع «2»
وقيل: العاجز من يعجز عن قذع نفسه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأشدّكم من ملك نفسه عند الغضب.
النهي عن الركون إلى النفس
قال الجنيد رحمه الله: لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها فإنّ لها خدائع؛ وإن سكنت إليها كنت مخدوعا.
وقيل: من رضي عن نفسه سخط الناس عليه.
المسرور بأن عرف عيوبه
قال عمر رضي الله عنه: رحم الله امرا أهدى إلينا عيوبنا.
وقالت الحكماء أنت لا ترى عيب نفسك، فسل من ترضى عقله ونصحه يعرّفك.
وقال رجل لمسعر: أتحبّ أن تهدى إليك عيوبك؟ فقال أمّا من ناصح فنعم، وأمّا من شامت فلا. وقيل: ينبغي للرجل أن يكون مرآة أخيه تريه خيره وشرّه.
قال الشاعر:
أصبحت في هيئة المرآة تخبرنا ... عيوبنا كلّ ما فينا من الكدر «3»(1/33)
(2) ما جاء في الحزم والعزم وما يضادّهما، والظنّ والشكّ والتثبت والعجلة
ماهية الحزم والعزم
قال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: ما العزيمة في الأمر؟ قال: إصداره إذا ورد بالحزم. فقال: وهل بينهما فرق؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الرأي المشيد رافع «1»
فقال: لله درّك عشت دهرا وما أرى بينهما فرقا.
وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ قال: التفكر في العواقب.
النهي عن الدخول فيما يصعب الخروج منه
قال: معاوية لعمرو بن العاص (رضي الله عنهما) : ما بلغ من دهائك؟ قال: ما دخلت في أمر إلا عرفت كيف الخروج منه. فقال: لكنّي ما دخلت في أمر قطّ وأردت الخروج منه.
وقيل في الحكمة: إن اتسع لك المنهج، فاحذر أن يضيق بك الخروج.
قال الشاعر:
وإذا هممت بورد أمر فالتمس ... من قبل مورده طريق المصدر «2»
حمد تلقّي الأمر بالجزم
قيل: من لم يقدّمه حزمه أخّره عجزه. من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
خذ الأمر بقوابله، إن رمت المحاجزة فقبل المناجزة. قبل الرمي تملأ الكنائن «3» . قبل(1/34)
الإقدام «1» تراش السهام. دمث لنفسك قبل اليوم مضطجعا. اتّق العثار «2» بحسن الاعتبار.
قال البحتري:
فتّى لم يضيّع وقت حزم ولم يبت ... يلاحظ أعجاز الأمور تعقبا
قال آخر:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
مدح التفكّر في العواقب
قال أزدشير: ليس للأيام بصاحب، من لم يتفكر في العواقب. يا عاقد اذكر حلا، من لم ينظر في العواقب تعرض لحادثات النوائب.
قال الشاعر:
ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدا تبار «3»
وقيل: الفكرة مرآة تريك الحسنات والسيئات.
إقامة العذر باستعمال الحزم
قيل: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار به، وأجهد رأيه، فقد قضى ما عليه، وأمن رجوع الملامة إليه. وقيل: من أعجب الأشياء جاهل يسلم بالتهوّر، وعاقل يهلك بالتوقّي.
قال كشاجم «4» :
وعليّ أن أسعى ولي ... س عليّ إدراك النّجاح
تفضيل الحزم على الجهل
الحيلة أنفع من الغيلة. قال حكيم لابنه: كن بحيلتك أوثق منك بشدّتك فالحرب حرب للمتهوّر، وغنيمة للمتحذّر.
وقيل: الاهتداء لوجه الحيلة غنيمة جليلة.
قال الموسوي:
ولست مقارعا جيشا ولكن ... برأيي يستضيء ذوو القراع «5»(1/35)
فضل التدبير وذويه
نظام الأمر التدبير، ورأس الأمر التقدير. وقيل: من فعل بغير تدبير، وقال بغير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا ولا حيا.
وقيل: فلان يعرف من أين تؤكل الكتف «1» ويعرف منابت القصيص، وهما مثلان يقالان في من يعرف وجه الأمر.
الحثّ على الاشتغال بما يعنيك عمّا لا يعنيك
قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: حفظ ما كلفت وترك ما كفيت. وقيل للأحنف: بم سدت قومك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وقال رجل لأفلاطون «2» لم تختمت في يمينك؟ فقال لأعرف المتكلفين، ومن يسأل عمّا لا يعنيه.
قال الشاعر:
ولا تعترض في الأمر تكفي شؤونه
ذمّ تارك ما يعنيه لما لا يعنيه
قال ابن هرمة «3» :
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقال آخر:
هراق «4» الماء واتّبع السّرابا
عتب من نصر نفسه لنفع غيره
قال الشاعر:
يكسي الأنام ويعري إسته ... وينسل من خلفه الأسفل(1/36)
وقال العبّاس بن الأحتف «1» :
صرت كأنّي ذبالة نصبت ... تضيء النّاس وهي تحترق «2»
ذمّ الاقتصار على مجرّد التوكّل
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرسل ناقتي وأتوكل. فقال: بل اعقلها «3» وتوكّل.
مرّ الشعبيّ بإبل قد فشا فيها الجرب، فقال لصاحبها أما تداوي إبلك؟ فقال: إن لنا عجوز نتكل على دعائها. فقال: اجعل مع دعائها شيئا من القطران.
وفي كتاب كليلة لا يمنع العاقل يقينه بالقدر من توقّي «4» المخوف، بل ليجمع تصديقا بالقدر وأخذا بالحزم.
قال الشاعر:
والمرء تلقاه مضياعا لفرصته ... حتّى إذا فات أمر عاتب القدرا
قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه، حين كره طواعين الشأم ورجع إلى المدينة، أتفرّ من قدر الله؟ قال: نعم إلى قدر الله. فقال له: أينفع الحذر من القدر؟ فقال: لسنا ممّا هناك في شيء، إن الله لا يأمر بما لا ينفع، ولا ينهى عما لا يضر، وقد قال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
«5» وقال تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ
«6» .
ذمّ طلب الأمر بعد فوته
قيل: لبعض الحكماء هل شيء أضرّ من التواني؟ فقال: الاجتهاد في غير موضعه.
وقيل: العجز عجزان عجز التقصير وقد أمكن؟ والجدّ في طلبه وقد فات. أخذه الشاعر فقال:
تتبّع الأمر بعد الفوت تغرير ... وتركه مقبلا عجز وتقصير «7»
وقيل: شرّ الرأي الدبري «8» .(1/37)
قال الشاعر:
أصبحت تنفخ في رمادك بعدما ... ضيّعت حظّك من وقود النّار
الأمر بترك التلهف على ما فات
قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ.
قيل: أكبر الأدواء للبدن التلهف على ما لا يدرك. إن ليتاوان لو إعناء.
إظهار النّدامة والتأسّف
قال الشاعر:
عضضت أناملي وقرعت سنّي «1» وقال الكسعي وخبره مشهور:
ندمت ندامة لو أنّ نفسي ... تطاوعني إذا لقطعت خمسي
تبيّن لي سفاه الرأي منّي ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وهذا هو المضروب به المثل في الندامة وإياه عنى الفرزدق بقوله:
ندمت ندامة الكسعيّ لما ... غدت منّي مطلّقة نوار
وقال صخر بن عمرو:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان «2»
قال آخر:
وكنت كناشب في الوحل ينوي ... نهوضا وهو يزداد ارتطاما «3»
مدح من لا يندم فيما يباشره
قال أبو الأصمع: لا ينهض العجز في أعقاب نهزته «4» ، ولا يصاحب عزما حين يخترم «5» المتنبي:
فما تكشّفك الأعداء عن ملل ... من الحروب ولا الآراء عن زلل
وقال الموسوي في مدح بعضهم:
في قرعه سنّه لا يطمع النّدم(1/38)
النّهي عن الاعتذار
وقيل في المثل: عش ولا تغتر.
وقيل: الفرار بقراب أكيس. وقيل: لا تكن كمن أراق الماء واتبع السّراب.
الأمر بالإقدام بعد الاتضاح والمدح بذلك
قيل: روّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم. وقيل: أحزم النّاس من إذا وضح له الأمر صدع فيه. وقيل: أعظم الخطأ العجلة قبل الإمكان، والتأنّي بعد الفرصة.
قال الشاعر:
وواقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضي إذا ما همّ من كان ماضيا
مدح التجارب
التجارب ليس لها نهاية والمرء منها أبدا في زيادة. وقيل: العقل كالسيف والتجربة أشطر. وقيل: التجارب مرائي الغيوب ونواظر العيوب.
مدح مجرّب
قيل: فلان حلب الدهر بأنقع وهو مؤدم مبشر «1» .
قال الشاعر:
حلبت الدهر من عسل وصاب ... وذرّيت الزّمان بكل ريح «2»
ومدح أعرابي قوما فقال: أدّبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة.
ذمّ غير مجرّب
قيل: فلان غفل لم تسمه «3» التجارب، ولم تفترعه النوائب، وغفل لم تسمه النوب، ولم يعضّ غاربه القتب «4» .
وصف إعرابي واليا مغتررا فقال: ما أطول سكر كأس شربها فلان، ولم يخف من عاقبتها الخمّار.
المصيب بظنّه
قيل: من لم ينتفع بظنّه، لم ينتفع بيقينه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ لله عبادا يعرفون النّاس(1/39)
بالتوسّم. وقال عليه الصلاة والسلام: اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله.
وكان عمر (رضي الله) عنه يقال له المحدّث لصحة ظنّه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكن في هذه الأمة محدّث فهو عمر. ويقال: فلان ألمعيّ، وقيل: ما تزاحمت الظنون على أمر مستور إلا كشفته.
قال الشاعر:
إذا ما ظنّ أعرض أو أصابا
وقال:
نجيح مليح أخو مارق ... يكاد يخبر بالغائب
وقال البحتري:
وإذا صحّت الرويّة يوما ... فسواء ظنّ امرىء وعيانه «1»
وقال الموسوي:
ولا علم لي بالغيب إلا طليعة ... من الحزم لا يخفى عليها المغيب
مدح الشكّ وسوء الظنّ
قيل: بوحشة الشكّ ينال أنس اليقين. وقيل: عليك بسوء الظنّ، فإن أصاب فالحزم، وإن أخطأ فالسلامة.
قال الشاعر:
وحسن الظنّ عجز في أمور ... وسوء الظنّ يأخذ باليقين
وقيل:
من أطال الركون قلّ ركونه «2»
وقول الله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
«3» دلالة على أن جلّه صواب. وقال عبد الملك: فرق ما بين عمر وعثمان إنّ عمر أساء ظنّه فاحكم أمره وعثمان أحسن ظنّه فأهمل أمره.
وقيل لبعضهم: أسأت الظنّ، فقال: أن الدنيا لما امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذرا، وقال أبو محمد الخازن:
وما شكّي وإن أكثرت إلا ... محاماة على الشيء اليقين «4»(1/40)
ذمّهما
قال الله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ
، وقال شيخ لرجل: أظنّك كاذبا فقال: أحمق ما يكون الشيخ إذا استعمل ظنّه، وقال:
وأضعف عصمة عصم الظّنون
وقال المتنبّي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم «1»
مدح التغافل
سئل حكيم: ما اللبيب؟ فقال: الفطن المتغافل. ولما أمضى معاوية بيعة يزيد قال:
يزيد: يا أبت ما أدري أنخدع النّاس أم يخدعوننا بما يأخذون منّا؟ فقال: يا بنيّ من خدعك فانخدعت له فقد خدعته. وقيل: إذا أردت لباس المحبّة فكن عالما كجاهل.
وقيل: من تغافل فعقلوه، ومن تكايس فطبطبوه أي العبوا به على الطبطابة.
قال الشاعر:
ليس الغنيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي «2»
ولأبي فراس وقد أجاد:
تغابيت عن قومي فظنّوا غباوتي ... بمفرق أغبانا حصى وتراب «3»
من لا يخدع لعقله
قال عمرو بن العاص: ما رأيت أحدا كلّم عمر رضي الله عنه إلا رحمته لأنه كان لا يخدع أحدا لفضله، ولا يخدعه أحد لفطنته. وقال أياس بن معاوية:
لست بخبّ ولا الخبّ يخدعني «4»
وقيل لرجل:- فيك فطنة، فقال: ما ذنبي إذ خلقني الله عاقلا.
مدح التثبّت
قال الشعبيّ: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد. وقال عمرو بن العاص:
لا يزال المرء يجني من ثمرة العجلة الندامة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما دخل الرفق في شيء إلا زانة «5» ولا الخرف إلا شأنه «6» .(1/41)
قال الشاعر:
لا تعجلنّ فربّما ... عجل الفتى في ما يضرّه
وقال الموسوي:
وشوكة ضغن ما انتقشت شباتها ... ذهابا بنفسي أن يقال عجول «1»
مدح العجلة
لأبي العيناء وقد قيل له لا تعجل فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال نبيّ الله موسى عليه السلام وعجلت إليك ربّ لترضى.
وقيل: المتأنّي في علاج الداء بعد أن عرف الدواء كالمتأنّي في اطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه وسأل أبو عليّ البصير ابن منارة حاجة فقال: رح إلى وقت العصر فجاء عند الظهر فقال: ألم أعدك وقت العصر؟ فقال: نعم ولكن رأيت الإفراط في الاستظهار أحمد.
ما تحمد فيه العجلة
قال معاوية: ما من شيء يعدل التثبت، فقال الأحنف: إلا أن تبادر بالعمل الصالح أجلك تعجل إخراج ميتك وتنكح الكفء ابنتك.
مدح انتهاز الفرصة
قيل: الهيبة خيبة والفرصة تمرّ مرّ السحاب. وقيل: انتهز الفرصة قبل أن تعود غصة الإفتراض اقتناص «2» . وقيل: الفرصة ما إذا أخطأك نفعه لم يصبك ضرّه.
التفكّر في العواقب
قيل: إحمد تغنم، ولا تفكّر في العواقب فتهزم.
قال الشاعر:
إذا حدّثته النفس أمضى حديثها ... وهان عليه ما يرى في العواقب
وقيل: من تفكّر في العواقب لم يشجع في النوائب.
طلب الأمر بالمداراة
قال الأحنف: عجبت لمن طلب أمرا بالمغالبة «3» ، وهو يقدر عليه بالملاينة «4» ولمن طلب أمرا بخرق «5» ، وهو يقدر عليه برفق.(1/42)
وقيل لبعضهم: ما الدهاء؟ فقال: قتل العدوّ في لطف.
مدافعة العدوّ بالمداراة
في كتاب كليلة: «1» لا تسلم من العدو القويّ بمثل التذلّل والخضوع، كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصف بانثنائه معها، أينما مالت به الريح ساعدته.
أخذه ابن الرومي فقال:
كالريح والزرع استكان لمرّها ... وعتت فلم تقدر على تقصيفه «2»
كم قد نجا منه الضعيف وما نجا ... منه العنيف بلفّه ولفيفه
وتهاتن الجذع الأبي مهزّه ... فأتت عليه ولم ترع لخفيفه «3»
ولهذا الباب نظائر في العداوات.
الجهل بمستقبل الزّمان
قال الله تعالى مخبرا عن النبي عليه السلام: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسّني السوء.
قال القطامي:
وما يعلم الخير امرؤ قبل أن يرى ... ولا الشرّ حتّى تستبين دوائره
وقال آخر:
تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها «4»
(3) ومما جاء في المشاورة والاستبداد بالرأي
الحثّ على مراجعة الأودّاء «5» ومدح المشاورة
قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
«6» وقيل من شاور أهل النصيحة سلم من الفضيحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المشاورة حصن من النّدامة وأمن من الملامة.(1/43)
وقيل: ما هلك امرؤ عن مشورة. وقيل: الرأي الواحد كالسجيل والرأيان كالحيطتين والثلاثة أمداد لا ينقض.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الموازرة «1» المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد. الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة والاستبداد عن الاستخارة. من شاور الأودّاء أمن من الأعداء.
نصف رأيك مع أخيك فاستشره.
الحثّ على مشاورة الحازم اللبيب
قال الجاحظ: أحسن ما قيل في المشورة قول بشّار:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم «2»
ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة ... فإنّ الخوافي قوّة للقوادم «3»
وقوله:
ولا كلّ ذي رأي بمؤتيك نصحه ... ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحقّ له من طاعة بنصيب «4»
وقال عبد الله بن معاوية:
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور نبيها ولا تعصه «5»
وقال عمر رضي الله عنه: الرجال ثلاثة رجل ذو عقل ورأي فهو يعمل عليه، ورجل إذا أحزنه أمر أتى ذا رأي فاستشاره، ورجل جائر بائر «6» لا يأتي رشدا ولا يطيع مرشدا.
الحثّ على استشارة الكبار
قال زياد لأبي الأسود «7» : لولا أنّك كبرت لاستعملتك واستشرتك، فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس في، وإن كنت تريد الرأي فهو وافي. وقيل: زاحم بعود أو دع.
وقيل: عليك برأي الشيوخ، فقد مرّت على وجوههم عيون العبر وتصدّعت لاسماعهم آثار الغير.(1/44)
الحثّ على استشارة الصّغار
قال هرم: عليكم في المشاورة بالحديث السنّ الحديد الذهن. وقيل: رأي الشيخ كالزند قد انثلم «1» ، ورأي الشاب كالزند الصحيح الذي يوري «2» بأيسر اقتداح.
الحثّ على مشاورة العدوّ
في كتاب كليلة: لا ينبغي للعاقل أن يترك استشارة عدوّه ذي الرأي فيما يشركه ذلك العدو في نفعه وضرّه. وقيل: استشر عدوّك تعرف مقدار عداوته.
من يجب أن تجتنب مشاورته
قال قيس لابنه: لا تشاورنّ مشغولا، وإن كان حازما، ولا جائعا، وإن كان فهيما، ولا مذعورا، وإن كان ناصحا، ولا مهموما وإن كان فطنا. فالهمّ يعقل العقل ولا يتولّد منه رأي ولا تصدق منه رويّة.
وقيل: لا تدخل في مشورتك بخيلا فيقصّر بفعلك، ولا جبانا فيخوفك، ولا حريصا فيعدك ما لا يرتجي، فالجبن والبخل والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظن.
وقيل: لا تشاور من ليس في بيته دقيق. وكان كسرى إذا أراد أن يستشير إنسانا بعث إليه بنفقة سنة ثم يستشيره.
وقيل لا تشيرنّ على معجب ولا متلوّن «3» ، وخف الله من موافقة هوى المستشير.
وقيل: إياك ومشاورة النساء فرأيهنّ إلى أفن «4» وعزمهن إلى وهن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاوروهنّ وخالفوهنّ، وقال: لا تستضيئوا بنار المشرك أي لا تستشيروهم.
المستدعي المشورة
قال عمر رضي الله عنه: صاحب الحاجة أبله لا يرشد إلى الصواب فلقّنوا أخاكم وسدّدوا صاحبكم.
وقال إعرابي:
دلّا على حيلة فيها لنا فرج ... إذ الدليل على خير كمن فعلا
وقال آخر:
خليليّ ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا عليّ اليوم ما تريان(1/45)
الحثّ على نصيحة مستشيرك
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الرجل لا يزال يزاد في صحة رأيه ما نصح مستشيره، فإذا غشّ مستشيره سلبه الله صحّة رأيه.
ولمّا أصاب زيادا الطاعون في يده أحضر له الأطباء فدعا شريحا فقال له: لا صبر لي على شدّته وقد رأيت أن أقطعها فقال شريح: أتستشيرني في ذلك؟ قال: نعم، فقال: لا تقطعها فالرزق مقسوم والأجل معلوم وأنا أكره أن تقدم على ربّك مقطوع اليد، فإذا قال لك: لم قطعتها؟ قلت: بغضا للقائك وفرارا من قضائك. فمات زياد من يومه. فقال:
الناس لشريح: لم نهيته عن قطعها؟ فقال: استشارني والمستشار مؤتمن ولولا الأمانة لوددت أن أقطع يده يوما ورجله يوما.
وقال يحيى: لا تشيرنّ على عدوّك وصديقك إلا بالنصيحة، فالصديق يقضي بذلك حقّه، والعدوّ يهابك إذا رأى صواب رأيك.
من يجب أن يشار عليه إذا استشار
قيل: لا تشر على مستبدّ ولا على وغد «1» ، ولا على لحوح «2» ، ولا معجب، ولا على متلّون، وخف الله في موافقة المستشير، فالتماس موافقته لؤم وسوء الاستماع منه خيانة.
وقيل: من طلب الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبه، فقد خدع نفسه.
من ضرب لمستشيره مثلا صمم في مشورته
شاور المنصور سلم بن قتيبة في قتل أبي مسلم صاحب الدولة فقال: لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا فقال عيشك، واستشار فيه آخر فقال: ولن يجمع السيفان ويحك في غمد.
واستشار معاوية الأحنف في بيعة يزيد فقال الأحنف: أنت أعلم بليله ونهاره وسرّه وإجهاره، فإن كنت تعلمه لله رضا وللأمة صلاحا، فلا تشاور فيه أحدا. وإن كنت تعلم غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا.
الممدوح بأنّه مستشار
وقالت امرأة من أياد:
المستشار لأمر القوم يجزئهم ... إذ الهنات أهمّ القوم ما فيها
وقال أبو تمّام:
يطول استشارات التجارب رأيه ... إذا ما ذوو الرأي استشاروا التجاربا(1/46)
الرغبة في الاستبداد بالرأي
قال بعض الحكماء: ما استشرت أحدا قط إلا تكبّر عليّ وتصاغرت «1» له ودخلته العزّة وأدركتني الذلّة. وإيّاك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب.
وكانت الفرس والروم مختلفين في الإستشارة.
فقالت الروم: نحن لا نملك من يحتاج أن يستشير، وقالت الفرس نحن لا نملك من يستغني عن المشاورة وفضل الفرس لقوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
«2» وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتى مدحه ابن هرمة بقوله:
يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره ... ولا ينتحي الأدنين فيما يحاول
فاستوى جالسا وقال: أصبت والله. فما استشار بعد ذلك.
وقال بعض جلساء هارون «3» : أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أني رأيت الرشيد يوما وقد تنفس تنفسا، مفكرا فانشدت في أثره:
واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ «4»
فاصغى إليه واستعاده «5» ، فقتل جعفرا بعد عن لبث.
وقال المهلّب: لو لم يكن في الاستبداد بالرأي إلا صون السر، وتوفير العقل لوجب التمسك بفضله.
المتفادي من أن يستشار
استشار عبد الله بن عليّ عبد الله بن المقفّع، فيما كان بينه وبين المنصور، فقال:
لست أقود جيشا ولا أتقلّد حربا ولا أشير بسفك دم وعثرة الحرب لا تستقال، وغيري أولى بالمشورة في هذا المكان.
واستشار زياد رجلا فقال: حق المستشار أن يكون ذا عقل وافر واختبار متظاهر ولا أراني هناك.
واجتمع رؤساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي «6» يستشيرونه فيما دهمهم من يوم(1/47)
الكلاب «1» ، فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني وليس معي من حدة الذهن ما ابتدىء به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا فإني إذا مرّ بي الصواب عرفته.
(4) وممّا جاء في وصف العلم والعلماء مدحا وذما ووصف الحفظ والنسيان
عزّ العلم
قال الله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
«2» ، وقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
«3» وقال الإمام أبو حنيفة: إن لم يكن العلماء أولياء الله في الأرض فليس لله فيها ولي.
قال الأحنف «4» : كلّ عز لم يؤيد بعلم فإلى ذلّ يصير. وقيل: العلم يوطىء الفقراء بسط الملوك.
الأدب كالحسب
قيل: من نهض به أدبه، لم يقعد به حسبه «5» ، وقيل: شرف الحسب يحتاج إلى شرف الأدب، وشرف الأدب مستغن عن شرف الحسب.
وقال الأحنف: من لم يكن له علم ولا أدب لم يكن له حسب ولا نسب.
وقال الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النسب
وقال آخر:
ما ضرّ من حاز التأدّب والنّهى ... أن لا يكون من آل عبد مناف «6»
البالغ بعلمه مبلغ الملوك
قيل: لما وقعت الفتنة بالبصرة ورضوا بالحسن اجتمعوا عليه، وبعثوا إليه. فلما أقبل قاموا، فقال يزيد بن المهلّب: كاد العلماء يكونون أربابا، أما ترون هذا المولى كيف قام له سادات العرب.(1/48)
وقيل: تعلموا العلم فإنه يوطىء المساكين بسط الملوك. ونظر عمر رضي الله عنه إلى رجل في هيئة نفيسة فقال: ألست ابن قيس بالبصرة؟ قال: نعم. ولكني كاتب فقال لله درّ العلم ما زال يرفع أهله.
قال الشاعر:
العلم يرفع بالخسيس إلى العلا ... والجهل يقعد بالفتى المنسوب «1»
قيمة المرء علمه
قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: قيمة كلّ امرىء ما يحسنه. وأخذ ابن طباطبا «2» هذا المعنى فقال:
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم دائبا ... أجمع من عند الرواة فنونه
فيا عاذلي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل النّاس ما يحسنونه «3»
فضل العلم على المال
قال عبد الملك: اطلبوا معيشة لا يقدر سلطان جائر على غصبها، قيل ما هي؟ قال:
الأدب ولصالح بن عبد القدوس:
قد يجمع المرء مالا ثم يسلبه ... عمّا قليل فيلقى الذلّ والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا ... فلا يحاذر منه الفوت والطلبا «4»
وقيل: العلم ميراث غير مسلوب، وقريب غير مغلوب. وقيل: الفضيلة بكثرة الآداب، لا بفراهة «5» الدواب.
وقال الجنيد «6» : من فضيلة العلم على المال أن الله فهم سليمان مسئلة فمّن عليه(1/49)
وقال ففهمناها سليمان. وأعطاه الملك ولم يمنّ عليه، بل قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.
من ذمّه وفضل المال عليه
قال الشاعر:
ما المرء إلا بما يحوي من النّشب «1»
وقال آخر:
لا تغبطن أديبا ماله نشب ... لا خير في أدب إلا مع النّشب
وقال جحظة «2» :
إن الزّمان لمن تقدّم في النباهة منقلب
وقال البديهي:
أكثر المقتفين للعلم والآ ... داب في ذلّة وفي أملاق «3»
وصف العلم بأنه يورث الغنى
قيل: الأدب يجلب الجمال ويفيد المال. وقيل: من لم يفد بالأدب ما لا استفاد به جمالا. وفي كتاب كليلة: العالم إذا افتقر فعلمه الذي معه يقوّيه كالأسد معه قوّته التي يعيش بها حيث توجه.
قال الأصمعي «4» لرجل: ألا أدلك على خليل إن صحبته زانك وإن احتجت إليه مانك، وإن استعنت به أعانك قال: نعم، فقال عليك بالأدب.
وصفه بأنه يورث الزهد
العلم يزهد في الدنيا الضارّة، ويرغّب في الآخرة السارّة. وقال عمر بن عبد العزيز «5» رضي الله عنه: تعلّموا العلم فإنه عون للفقير أما أني لا أقول يطلب به الدنيا ولكن يدعوه إلى القنوع.(1/50)
قلة الاعتداد بالخلوّ من العلم
كان الوليد يلاعب عبد الله بن معاوية بالشطرنج «1» ، فاستأذن عليه ثقفي موصوف بالثروة فستر الشطرنج بمنديل. فلمّا دخل وجلس استنطقه فقال: أحفظت القرآن وشيئا من الفقه، قال: لا، قال: أفرويت شيئا من الآثار والأشعار وأيام العرب قال: لا. فكشف الشطرنج، وقال: شاهك فنحن في خلوة.
ودخل حكيم دار رجل خلو من العلم فرأى أثاثا وهيئة فاخرة، وأراد الرجل الداخل أن يبزق بزقة فبزق في وجه الرجل، فقيل له: ما تفعل؟ قال: نظرت فلم أجد في هذه الدار أخسّ منه لخلوّه من المعاني الفاضلة وإنما يرمي بالبزاق إلى أخس المواضع، فلذلك رميت به في وجهه.
تلذّذ العلماء بعلمهم
كان أبو حنيفة رحمه الله إذا أخذته هزّة المسائل يقول: أين الملوك من لذة ما نحن فيه لو فطنوا لقاتلونا عليه. وقيل: من خلا بالعلم لم توحشه الخلوة، ومن تسلّى بالكتب لم تفته السلوة.
وقيل لابن المبارك: من تجالس؟ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. إني أنظر في كتب آثارهم وأخبارهم.
التناسب في العلم
قيل لعالم: أي المناسبة أخلد؟، فقال: مناسبة العلم التي غذتها عواطف الشيم.
وقيل للنوفلي: ما بلغ من شهوتك للعلم؟، قال: إذا نشطت فلذّتي وإذا اغتممت فسلوتي. قال أبو تمّام:
وقرابة الآداب تقصر دونها ... عند الأديب قرابة الأرحام «2»
قال الصّولي:
إنّ الكتابة والآداب قد جمعت ... بيني وبينك يا زين الورى نسبا «3»
وقيل: لا ينبغي للأديب أن يخالط من لا أدب له، كما لا ينبغي للصّاحي أن يناظر السكران.(1/51)
مدح صيانة العلم
وجّه الرشيد إلى مالك بن أنس «1» رحمه الله ليأتيه فيحدثه، فقال مالك إنّ العلم يؤتى فصار الرشيد إلى منزله فاستند معه إلى الجدار، فقال: يا أمير المؤمنين من إجلال الله تعالى إجلال العلم. فقام وجلس بين يديه وبعث إلى سفيان بن عيينة فأتاه وقعد بين يديه وحدّثه. فقال الرشيد بعد ذلك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به.
وفي أمثال العرب أن الثعلب والغراب تحاكما إلى الضب «2» ، فقالا: أخرج وأحكم بيننا. فقال: في بيته يؤتى الحكم.
وقال لقمان لابنه: صن علمك فوق صيانة نفسك. وقيل: لم ير أفضل من الخليل «3» في التلطّف عن الكسب بالعلم. كان الناس يأكلون بعلمه وهو في خصّ له. وخرج إلى مكّة، والناس يقولون في الحرمين: قال الخليل، وذكر الخليل، ورجع إلى البصرة ولم يعلم بمكانه. قال الشيخ رحمه الله: ومن ملك نفسه هكذا، فحقيق أن يقال رجل فضل وصدق. وللقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لعظّما
ولكن أهانوه فهانوا ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتّى تجهّما «4»
نهي العلماء عن التّهافت على باب السّلطان
قال بعض العلماء: شرار الأمراء أبعدهم عن العلماء، وشرار العلماء أقربهم إلى الأمراء. ودنا سقاء من فقيه على باب السلطان فسأله عن مسألة فقال: أهذا موضع المسألة؟
فقال السقاء: أو هذا موضع الفقيه؟
وكتب عبد الله بن المبارك رحمه الله إلى ابن علية حين ولي صدقات البصرة «5» :
يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين «6»(1/52)
احتلت للدنيا ولذّاتها ... بحيلة تذهب بالدّين
فأين ما كنت به واعظا ... من ترك أبواب السّلاطين
إن قلت أكرهت فما هكذا ... زلّ حمار العلم في الطين
من زان علمه بعمله
قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: اعقلوا الخير إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فرواية العلم كثيرة ورعايته قليلة. كثرة العلم في غير طاعة الله مادة الذنوب. وقيل:
العلم يهتف «1» بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
ذمّ من شان علمه بتقصير
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه، وقال عليه السلام:
أشدّ الناس ندامة عند الموت العلماء المفرطون «2» .
وقال صلى الله عليه وسلم: اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وأعوذ بك من شرّ هؤلاء الأربع.
كتب الشافعي «3» رضي الله عنه إلى عالم: قد أوتيت علما فلا تطفىء نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنورهم.
تفضيل العلم على العمل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد.
وقال صلى الله عليه وسلم: عمل قليل في علم خير من كثير منه في جهل.
وقال الحسن رضي الله عنه: أدركت قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من عمل بغير علم كان ما أفسد أكثر مما أصلح.
ذمّ شره العالم وطلب الدنيا بالعلم
قال صلى الله عليه وسلم: من إزداد في العلم رشدا ولم يزدد في الدنيا زهدا، لم يزدد من الله إلا بعدا.
وروى في الخبر من آتاه الله علما فلم يتنزّه به عن الدنيا كتب بين عينيه الفقير إلى يوم القيامة.
قال مالك: قلت للحسن: ما عقوبة العالم؟ قال: موت قلبه. قلت: وما هو؟ قال:(1/53)
طلب الدنيا بعمل الآخرة. قال بعض الأدباء؟ لأن تطلب الدنيا بأقبح ما تطلب به أحسن من أن تطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة.
قلّة العلم وكثرة الجهل
قال الطائي «1» :
أبا جعفر إنّ الجهالة أمّها ... ولو دوام العلم جدّاء حائل
وقال علقمة «2» :
الجهل ذو عرض لا يستزاد له ... والحكم آونة في النّاس معدوم
مدح الحديث
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حفظ حديثا واحدا من أمر دينه أعطاه الله أجر سبعين صديقا.
وقال صلى الله عليه وسلم: من حفظ على أمتى أربعين حديثا، بعث يوم القيامة فقيها.
وقال ابن عبّاس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارحم خلفائي فقلت: ومن خلفاؤك؟
قال: الذين يروون الأحاديث بعدي.
ذمّه وذمّ أصحابه؟
قال شعبة: إن هذا الحديث يصدّكم عن ذكر الله، وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟
وقال محمد بن مطيع: رأيت الحسن بن زياد أسوأ الناس صلاة فعاتبته، فقال: ما طلب الحديث أحد إلا ساءت صلاته.
وقال عمرو بن الحارث: ما رأيت علما أشرف ولا أوضع أهلا من الحديث وهم شرّ خلف من خير سلف.
مدح الإسناد
قيل: الإسناد قيد الحديث. وقيل: الحديث من غير إسناد كالجمل بلا زمام وخطام.
وصف إعرابي رجلا فقال: ما أحسن حديثه لو أنّ له سلاسل يقاد بها يعني الأسانيد، قال:
ونصّ الحديث إلى أهله ... وإن الأمانة في نصّه(1/54)
وقيل: في قوله تعالى: أو أثارة من علم، أنه الأسانيد.
ذمّه
طلب رجل من الحسن إسناد حديث فقال: وما تصنع به؟ وقد نالتك عظته وقامت عليك حجته. وقيل لرجل: كتبت حديثا بغير إسناده، قال: إني أريده للعمل لا للتسوّق والتجمّل.
وسأل رجل آخر عن إسناد شعر فقال: والله ما تركت الحديث إلا بغضا للإسناد وأنت تسألنيه في الأشعار.
مدح النحو
النحو نصاب العلم ونظامه وعموده «1» وقوامه ووشي «2» الكلام وحلّته وجماله وزينته.
وقيل: النحو يرفع الوضيع ويخفض الرفيع. وكان معلم الرشيد يضرب على الخطأ واحدا وعلى اللحن سبعا.
ذمّه
نظر بعض الرؤساء إلى ابنه، وهو ينظر في كتاب سيبويه «3» فقال: أفّ «4» لك علم المؤدّبين وهمّة المحتاجين. وقيل: من كثرت عليه العربية أظلمت عليه الرويّة.
وقيل: إذا كتبت كتابا فالحن فيه فإنّ العربية مجدودة. وممّا يتّصل بهذا الباب أنّ بعض الفصحاء كان يدخل على بعض عمال البصرة، وهو يعرب «5» في كلامه، فقال له يوما: إن لم تترك الإعراب ضربتك، فقال: إني إذا أشقى الناس، به ضربت صغيرا لأتعلّم وضربت كبيرا لأترك.
ذمّ الكثير منه
ذكر النحو عند المأمون «6» فقال: علم يغنيك أدناه عن أقصاه. وقال أبو حنيفة:
المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر لا يثمر. وقيل: النحو ملح العلم ومتى استكثر من الملح في الطعام فسد.
وذكر أهل النحو عند بعض البلغاء فقال: أغزرهم علما أنزرهم فهما.(1/55)
مدح العروض وذمّه
قيل: معرفة العروض «1» تسهّل عليك ما تعوّج من الشعر، فإنّه نصابه «2» ونظامه وعموده وقوامه.
وعاب النظّام «3» الخليل فقال: تعاطى ما لا يحسنه، ورام ما لا يناله وفتنته دوائره «4» التي لا يحتاج إليها غيره.
ودخل أعرابي مسجد البصرة فانتهى إلى حلقة علم، يتذاكرون الأشعار والأخبار، وهو يستطيب كلامهم ثم أخذوا في العروض فلما سمع المفاعيل والفعول ورد عليه ما لم يعرفه فظنّ أنهم يأتمرون به فقام مسرعا وخرج وقال:
قد كان أخذهم في الشعر يعجبني ... حتّى تعاطوا كلام الزنج والروم
لما سمعت كلاما لست أعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم
ولّيت منفلتا والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم
وقال ابن طباطبا:
كلّ العلوم يزين المرء بهجتها ... إلا العروض فقد شانت ذوي الأدب «5»
بي الدوائر دارت من دوارها ... ما لامرىء أرب في ذاك من أرب «6»
فاستعمل الذوق في شعر تؤلّفه ... وزن به ما بنوا في سالف الحقب
مدح الملح
قال الأصمعيّ: نلت بالعلم وصلت بالملح «7» . وقيل: النوادر تفتح الآذان وتفتّق الأذهان.
قال أبو عبيدة: الملح مروءة تنفق عند الإشراف، فارتادوا لها وانظروا عند من تضعونها.(1/56)
مدح الكلام
قيل: المتكلمون «1» دعائم الدين ولولا هم لأضلّت الملحدة «2» كثيرا من الناس.
وروي أن ملك الصفد كتب إلى الرشيد يسأله أن يبعث إليه من يعلّمه الدين، فدعا يحيى بن خالد فعرض عليه الكتاب، فقال يحيى: لا يقوم لذاك إلا رجلان ببابك هشام بن الحكم وضرار فقال: كلا إنهما مبتدعان «3» فيلقنان القوم ما يفسدهم ويغويهم بالمسلمين، ليس لذلك إلا أصحاب الحديث، فقال يحيى: أصحاب الحديث لا يحسنون وأهل الصفد قد غلب عليهم الثنوية «4» فأتى أبو يوسف ووجه بعض أصحاب الحديث فلما ورد أكله أهل الصفد بالحجج. فقال ملك الصفد: ما أضعف دينكم وحججكم، فضحك صاحب الحديث. فقال الملك: وما هذا الضحك؟ فقال إنا لسنا أصحاب الحجج فإننا مقلّدة وعندنا من له الجدل وعنده الحجج ولا يقوى لهم أحد، وقد أشار بعض المحصلين على صاحبنا أن لا يبعثنا فوقع الغلط عليه.
ذمّه
قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق «5» . وقيل ما تعلم أحد الكلام إلا ساء ظنه بالنّاس.
وقيل: من جعل غرضا للجدال أكثر التنقل من رأى إلى رأي.
وحكى بعض الصوفية قال: استشرت أبا عبد الله بن حنيف في تعلم الكلام فقال: لا تفعل، فأقلّ ما فيه أنك تسىء عشرة الربّ. فقلت كيف ذلك؟ فقال: لأنك أبدا تقول لو فعل الله كذا لكان جاهلا ولو كان كذا لكان عاجزا، ونحو ذلك مما يجري في كلامهم.
مدح الفقه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بعبد خيرا فقّهه في الدّين، وعرّفه عيوب نفسه.
وقال صلى الله عليه وسلم: لكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه. وقال صلى الله عليه وسلم الأنبياء سادة والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة. وقال صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد.(1/57)
مدح الحساب
قال الله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
«1» ، وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ
«2» وقيل الحساب ديباج «3» العلم، وقال علي بن زين: لو رفع الحساب لبطلت العلوم ولو رفعت العلوم لم يبطل الحساب.
مدح إستخراج المعمّى» وذمّه والحاذق فيه
قيل: إستخراج المعمّى يدقق النظر ويصقل الذهن ويفطن القلب. وقيل: إن بعض اليونانيين كتب بلغتهم كتابا إلى الخليل فخلا به شهرا حتى فهمه فقيل له في ذلك، فقال:
علمت أنه لا بدّ من أن يفتتح الكتاب باسم الله فبنيت على ذلك فقست عليه وجعلت ذلك أصلا ففتحت ثم وضع كتاب المعمى على ذلك.
وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن المعمّى فقال هو عمى القلب. وقال الجاحظ: ليس المعمّى بشيء قد كان كيسان مستملي أبي عبيدة يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع، ويقرأ خلاف ما يكتب، يتعسر «5» عليه إستخراج أخف نكتة «6» من المعمّى.
معرفة النسب
سئل بعضهم عن علم النسب، فقال: هو علم لا تنفع معرفته ولا يضرّ جهله.
وقال رجل لأبي عبيدة: علّمني شيئا من النسب، فقال: ما تستفيد بذلك إلا معرفة المعايب. وقيل: فلان أنسب من دغفل «7» ومن ابن لسان الحمرة. وقال المتنبّي في نبطي «8» عارف بالنسب:
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنّه ضحك كالبكا
بها نبطيّ من أهل السّواد ... يدرس أنساب أهل العلا(1/58)
وصف فنون من العلم
قيل: علم الملوك النسب والخبر والشعر، وعلم السلطان المغازي «1» والسير وعلم التجار الحساب، وعلم الكتاب معرفة الخط وتصريف اللغات.
وقيل العلوم ثلاثة: علم الدين لمعادكم «2» وعلم الطب لأبدانكم، وعلم الهندسة لمعاشكم.
وقيل تعلّموا الفقه لأديانكم والطب لأبدانكم والنّحو لبيانكم.
متبجّح باستيعاب العلم
قال ابن المنجّم: أحبّ أن ألقى عديّ بن الرقاع «3» فأقول له: ألست القائل:
وعلمت حتى ما أسائل واحدا ... عن علم واحدة لكي أزدادها
ثم أريه أنه قد جهل كل علم إلا قوله الشعر الذي يتقدمه عليه غيره ثم أحسن أدبه وأعرك أذنه.
ولكشاجم «4» في معناه:
وما زلت أبغى الشعر من حيث يبتغى ... وأفتنّ في أفنائه أتعرّفه
فقد صرت لا ألقى الذي أستزيده ... ولا يذكر الشّيء الذي لست أعرّفه
وهذا من الإعجاب المفرط والجهل بفنون العلم، وكفى دلالة بقلة معلوم الورى قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
«5» .
جودة الحفظ وذكر الحفّاظ
قيل: فلان أحفظ بما يسمعه من الرمل للماء. وهذا أثبت من صدره من الحمد لله.
ولمّا نزل قوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
«6» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلّي سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ فلم يسمع بعد ذلك شيئا إلا حفظه.
وقيل: كان عمرو بن هبيرة «7» يضبط حساب العراق وهو أميّ.(1/59)
وقال الشعبي «1» : ما كتبت سوداء في بيضاء إلا حفظتها. وقال: أحفظ كل حديث سمعت والموضع الذي سمعت فيه.
وقال الأصمعي «2» : أحفظ اثني عشر ألف أرجوزة. فقال رجل منها البيت والبيتان، فقال: ومنها المائة والمائتان.
وورد أبو مسعود الرازي أصبهان «3» ، ويقال أنه أملى عن ظهر قلبه مائة ألف حديث، فلما وصلت كتبه قوبلت بها فلم يعثر منها على سقطة إلا في متن حديثين.
وادّعى الخوارزمي «4» أنه حفظ كتاب الأمثال لأبي عبيدة في ليلة، وقيل جرى حديث الحفظ لما كان بأصبهان فقرىء عليه أوراق من حساب البقّالين فأعادها على الترتيب.
النسيان وذكر بنيه
قيل: فلان لو غابت عنه العافية لنسيها وحكى جراب الدولة أن رجلا كان على عاتقه صبي عليه قميص أحمر، وهو ينادي من وجد صبيا عليه قميص أحمر؟ فقيل: أليس هو على عاتقك؟ فلمسه فقال: أحسنت كنت نسيته.
وقال قتادة يوما: ما نسيت شيئا قط، ثم قال في أثره: يا غلام ائتني بنعلي، فقال له الغلام: أليس نعلك في رجلك، وكان قد نسيه.
عذر من نسي أجرا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
وقال تعالى في آدم: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
«5» ، وقال تعالى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
«6» .
وسمّي الناسي ابن سهوان ومنه قيل أن الموصين بنو سهوان. قال البحتري:
إن كنت أنسيتها فلا عجب ... قد عاهد الله آدما فنسي(1/60)
وقال آخر:
وسميت إنسانا لأنّك ناسي
تذكّر الشيء
قيل: في المثل ذكرتني الطعن وكنت ناسيا. وقال ابن الرومي في تذكر المتلو بالعود إلى ما قبله وهو بديع في بابه:
وتال تلا يوما فأنسي آية ... فأعيت عليه حين رام انتهازها
فكرّ على ما قبلها متدبّرا ... فثاب له فكر فأفضى حجازها
فشبّهته بابن السبيل تعرضت ... له وهدة فاستصعبت حين رازها
فقهقر عنها قيس عشرين خطوة ... فجاش إليها جيشة فأجازها
ما يورث النسيان
قال أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه: مما يورث النسيان الحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل التفاح الحامض، وأكل الكزبرة، وأكل سؤر الفأر، وقراءة ألواح المقابر والنظر إلى المصلوب، والمشي بين الجملين المقطرين، وإلقاء القملة إلى الأرض.
وقيل: إن الباقلاء تفسد من الحفظ في يوم ما لا يصلحه البلاذر «1» في سنة.
تصنيف الكتب
قال الجاحظ: لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعرا أو يصنّف كتابا.
وقيل من ألّف فقد استهدف فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف.
وقيل: عرض بنات الصلب على الخطاب أسهل من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب.
جاهل يصنّف كتابا أو يقول شعرا
قال الفضل بن سلمة:
عجبا منك أبا الهيثم إذ كنت تصنّف
وقال أحمد بن أبي طاهر:
أظنّ دعوته في الشعر جائزة ... له عليّ كما جازت على النسب
وقال آخر:
ويوهمنا أنّه شاعر ... كأنّا قدمنا من الباديه(1/61)
وقال ابن الرومي:
كيف لا يشتدّ وسواسي ... حيث أشعارك تدراسي
ما اقتنى مثلك دهر ... السوء إلا حين إفلاس
التعريض بجاهل
قال حجازيّ لابن شبرمة: منّا خرج العلم. فقال: نعم ولكن لم يعد إليكم.
وأورد رجل على آخر علما فقال: أتحمل التمر إلى هجر «1» ؟ فقال: إذا قلّ حملها ونزر نخلها.
قال الشاعر:
يتعاطى كلّ شيء ... وهو لا يحسن شيئا
وقال آخر:
موّه في ما ادّعاه من حكم ... لكنّ تمويهه على بقر «2»
وقال آخر:
وقال الطانزون فتى أديب ... فصعّد مقلتيه له وتاها «3»
وأطرق للمسائل أي بايه ... ولا يدري وحقّك ما طحاها «4»
جاهل غير عارف بجهله
قيل: من لا يدري، وهو لا يعلم أنه لا يدري فذاك جاهل فعلّموه. ومن لا يدري وهو يقدر أنه يدري فذاك أحمق فاجتنبوه.
قال الشاعر:
جهلت ولم تعلم بأنّك جاهل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
وقال آخر:
أخالد لم تعلم ولست بعالم ... بأنّك لا تدري وذا غاية الجهل
وبضد ذلك تمدح من قال: ما فيّ من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم.(1/62)
العتب على من يذمّ علما
تحدّث يوما شريك بحديث فقال عافية القاضي: لا أعلم هذا. فقال: وهل يضرّ عالما جهل جاهل.
وقال المتنبي:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السّقيم «1»
وقال ابن الرومي:
عابوا قريضي وما عابوا بمعرفة ... ولن ترى الشمس أبصار الخفافيش «2»
ذمّ مستكثر لعلمه معجب بنفسه
ذكر النظّام الخليل فقال: توحد به العجب فأهلكه وصوّب له الاستبداد صواب رأيه فتعاطى ما لا يحسنه. وقال إبليس: ثلاث من كنّ فيه أدركت حاجتي منه: من استكثر علمه، ونسي ذنبه، وأعجب برأيه.
ويدخل في هذا الباب ما ذكر في قول عديّ بن الرقاع وقد تقدم.
ذمّ مدّع للعلم
قال كشاجم:
تشبّه في النحو بالأخفشين ... فجاء بأعجوبة مطرفه «3»
ولم يسمع النّحو لكنّه ... قرا منه شيئا وقد صحّفه
فإن لم يكن أخفش الناظرين ... فإنّ الفتى أخفش المعرفه
وقال آخر:
فما لك بالغريب يد ولكنّ ... تعاطيك الغريب من الغريب «4»
وقال أبو العتاهية «5» :
أشدّ النّاس للعلم ادعاء ... أقلّهم بما هو فيه علما(1/63)
وقال الصّولي «1» في نفطويه «2» :
يشرع في أكثر العلوم ولا ... يعرف منها أقلّها خطرا
من ادّعى ففضحه الامتحان
ويدّعي الحفظ للقران ولا ... يقوم بالحمد وحدها نظرا
وقيل: لسان الدعوى إذا نطق فضحه الامتحان.
وقال الشاعر:
كلّ من يدّعي بما ليس فيه ... كذّبته شواهد الامتحان
ذمّ من يصيب من غير قصد
ذمّ أعرابي رجلا فقال خطؤه بعد اجتهاد وصوابه من غير اعتماد.
قال الشاعر:
يصيب وما يدري ويخطي وما درى ... وكيف يكون النّوك إلا كذلك «3»
الموصوف بالإصابة مرّة والخطأ أخرى
قيل في المثل: يشجّ مرة ويأسو أخرى. وقيل: شخب في الإناء وشخب في الأرض، يشوب «4» ويروب»
فؤاد خطاء وواد مطر.
من سئل فتبلّه
قال الشاعر:
سألته عن علمه فكأنّما ... سألت عن سكّانه ربعا خلا
وقال آخر:
كأنّهم عند السؤال جلامد «6»
من يروي علما ولا يفهم
قال الله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
«7» .(1/64)
قال ابن الرومي:
فإن تقل إنّني رويت فكالد ... فتر جهلا بكلّ ما أعتقده
محنة العلماء في أيدي الجهّال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغنيا افتقر، وعالما بين جهال. وقيل: إن أردت أن تعذّب عالما فاقرن به جاهلا.
وقيل: إن ثمامة بن أشرس لما غضب عليه الرشيد سلّمه إلى خادم يقال له ياسر، وكان الخادم يتفقّده ويحسن إليه حتى سمعه ثمامة يوما يقرأ: ويل يومئذ للمكذبين «1» (بفتح الذال) فقال ثمامة: ويحك المكذّبين هم الأنبياء، اقرأ المكذّبين (بكسر الذال) . قد قيل لي إنك زنديق ولم أصدق. أتشتم الأنبياء؟ ثم هجره وتركه فلم يتفقّده فلما رضي عنه الرشيد وردّه إلى مجلسه، سأله يوما ما أشدّ الأشياء؟ فقال: عالم يجري عليه حكم جاهل.
فظنّ الرشيد أنه تعريض به حتى عرّفه خبر الخادم.
معاداة الجاهل العالم
قال رجل لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر الناس أعداء ما جهلوا، فقال: هذا في كتاب الله، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله.
معاداة العلماء بعضهم بعضا
قيل: هلاك العلماء بحسدهم. وقيل: الحسد والملق «2» مذمومان في كل شيء إلا في العلم.
قال ابن عباس: لا تقبلوا قول العلماء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيس في الزريبة.
وقال الأشجّ: أني لأغار على الحديث كما يغار على الجارية الحسناء.
قال أبو تمّام:
وما أنا بالغيران من دون جارتي ... إذا أنا لم أصبح غيورا على العلم
(5) وممّا جاء في التعلّم والتعليم وما يتعلّق بهما
وجوب التعلّم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم.(1/65)
وقال سقراط «1» : من لم يصبر على تعلّم العلم وتعبه صبر على شقاء الجهل.
وقال بعضهم: تعلّموا الأدب وإن لم ينلكم حظّ من الدنيا، فلأن يذم فيكم الزمان أحسن من أن يذم بكم.
تفضيل بثّ العلم ووجوبه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من علم علما فكتمه ألجمه الله تعالى بلجام من نار يوم القيامة.
وقال الحسن (رحمه الله) : زكاة العلم تعلّمه.
أتى رجل الزهريّ ليحدثه فأبى، فقال: إن الله تعالى لم يأخذ الميثاق على الجهال أن يتعلموا حتى أخذه على العلماء أن يعلموا.
قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ
«2» .
وقيل: ما يتصدق رجل بصدقة أفضل من علم ينشره. وأتى طالب علم باب عالم فقال: أعطني مما أعطاك الله، فأمر له بدراهم، فقال: أنا طالب هدى لا طالب ندى، فعلم أوضح لبسا خير من مال أغنى نفسا.
فضل المعلّم والمتعلّم معا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا خير في من كان من أمّتي ليس بعالم ولا متعلّم. وقيل: الناس عالم ومتعلّم وما سواهما همج.
وجوب تعظيم المعلّم
قيل: للإسكندر أنك تعظم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك فقال لأن أبي سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب الحياة الباقية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقام لأحد إلا لذي علم أو لذي سن أو لذي سلطان. وقيل: لا يستخف أحد بمن تعلم منه علما إلا وضيع خامل أو رفيع جاهل.
وعن بعض العلماء لا يتحركن ثلاثة لأحد القاضي في يوم مجلسه والكاتب في وقت أمره ونهيه والمؤدب في مكتبة.
وجوب تعظيم المتعلّم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقّروا «3» من تتعلمون منه، ووقّروا من تعلّمونه.
قال أبو العالية: ولا تصعّر خدّك للناس: أي ليكن الفقير والغنيّ عندك سواء في تعلّم العلم.(1/66)
اختيار التلامذة وحثّ كلّ إلى تعلّم ما يليق به
سأل أفلاطون بعض تلامذته عن مسألة لم تكن تليق بحاله، فقال: لست من أهلها فلكل تربة غرس ولكل بناء أس.
وقيل: تصفح طلاب علمك كما تتصفح خطاب حرمك.
وكان يونس يختلف إلى الخليل يتعلم منه العروض فصعب عليه تعلّمه، فقال له الخليل يوما: من أي بحر قول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ففطن يونس لما عناه الخليل فترك العروض.
وقيل اختر كل إنسان للفنّ الذي يستطيبه، فبقدر شهوته يكون نفاذه فيه.
منع العلم عن غير أهله
قال المسيح عليه السلام: لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. وكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه ينتفع به.
وفي بعض الكتب يا بني إسرائيل لا تطرحوا الدرّ بين أيدي الخنازير فتطؤه وهي لا تعرفه.
وقال الإمام الشافعي (رضي الله عنه) :
ومن منح الجهّال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وقيل: ما كلّ تريبة تحتمل القلائد، ولا كلّ ضريبة تستحقّ الفوائد.
النّهي عن تعليم الأوغاد، وذمّهم إذا تعلّموا
قالت الحكماء: لا تعلمنّ الدنيء علما فيستفيده منك، ويصير به عدوا لك. فلأن يتضع ألف من عليّين أولى من أن يرتفع دنيء واحد.
وقيل لبعضهم: أي علم أضر؟ فقال: ما يفاد الأوغاد. وقيل لأبي سنان: تموت وتدخل علمك معك القبر، فقال: ذاك أحبّ إليّ من أن اجعله في إناء سوء.
ورأى حكيم رجلا يعلم دنيئا علما فقال له: أتسقي سهما ترمى به يوما.
وقال دعبل في أبي تمّام:
إن عابني لم يعب إلا مؤدّبه ... فنفسه عاب لمّا عاب آدابه
وكان كالكلب أضراه مكلبه ... كيما يصيد له فاصطاد كلابه «1»
وقال آخر:
أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلمّا اشتدّ ساعده رماني(1/67)
وكم علّمته نظم القوافي ... فلمّا قال قافية هجاني
دنيء استفاد علما فازداد به شرا
قال البديهي، وقد أجاد:
إذا ما اقتنى العلم ذو شرة ... تضاعف ما ذمّ من مخبره «1»
وصادف من علمه قوّة ... يصول بها الشرّ في جوهره
وصار عدوّا لإخوانه ... وسيفا حساما على معشره «2»
فضل تعليم الأولاد
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما منح والد والدا أفضل من أدب حسن. وكانت اليونانية تورث الأبناء الأدب والبنات النسب. وقيل من أدب ولده صغيرا قرّت به عينه كبيرا.
وقيل: من أدب ولده أرغم حاسده. حكى أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشدّ ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا ما فقدنا من تأديب أولادنا.
وقيل: لا يحبّ الأب ابنه حتى ينغضه على ترك الأدب.
فضل التعلّم في الصّغر
قيل: بادروا بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال. وسمع الحسن رجلا يقول: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر فقال الكبير أوفر عقلا منه لكنه أشغل قلبا.
وقيل: من لم يتعلّم في الصّغر هان في حال الكبر.
وقال الشاعر:
هل الحفظ إلا للصبيّ فذو النّهى ... يمارس أشغالا تشرد بالذّكر
فضل التعلّم في الكبر
قيل لأنوشروان: أيحسن بالشيخ أن يتعلّم؟ قال: إن كانت الجهالة تقبح منه فالتعلم يحسن به، فقيل: وإلى متى يحسن منه؟ فقال: ما حسنت به الحياة.
وقيل: لحكيم ما حدّ التعلم فقال حدّ الحياة، أي يجب له أن يتعلم ما دام حيا.
وقال شيخ للمأمون: أقبيح بي أن أستفهم؟ فقال: بل قبيح بك أن تستبهم.
الأحوال التي تحصل بها العلوم
قيل: لا يصير الإنسان عالما إلا بخمس غريزة محتملة للعلم، وعناية تامّة وكفاية قائمة، واستنباط «3» لطيف، ومعلم فصيح.(1/68)
وقيل: لا تستطيع أن تعي العلوم السنيّة، حتى تمحو من ذهنك الأمور الدنيّة.
الأوقات المرتضاة للدّرس
قيل: انظروا في العلم بالليل، فالقلب بالنهار طائر وبالليل ساكر، أي ساكن.
وقيل لبعضهم: لم اخترت الغدوة للدرس؟ فقال: لأن العقل أجمّ «1» لقرب عهده بالصمت، وبعد جوارحه من المعاصي.
من سهل عليه التعلّم
قيل: إذا كانت الطبيعة نقيّة، اكتفت بالأذكار، وغنيت عن التكرار.
وقيل: فلان يكتفي باللحظ ويستغني عن اللفظ.
من عسر عليه التعلّم
قال الله تعالى: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
«2» .
وقال بعض الحكماء: صقلك سيفا ليس له جوهر من سنخه خطأ، وحملك الصعب المسنّ على الرياضة عناء، وبثّك الحبّ في أرض سبخة ترجو نباتها جهل.
وقال أبو تمام:
السيف ما لم يلف منه صيقل ... من سنخه لم ينتفع بصقال «3»
وقال الخليل (رحمه الله) لبليد: ما أجد لقفل بلادتك مفتاحا.
تعسّر تعلّم الكبار
نظر رجل إلى فيلسوف يؤدب شيخا فقال: ما تصنع؟ قال: اغسل مسبحا لعله يبيض.
قال:
ومن العناء رياضة الهرم «4»
وقال آخر:
أدب الكبير من التعب ... كبر الكبير عن الأدب
وقال آخر:
إن الرياضة لا تجدي لدى الشّيب
وأسلم بعض الولاة هرما إلى كتاب ليتعلم شيئا من القرآن، وكان إذا تعلّم شيئا نسي ما قبله، فوجه إليه أن ابعث إليّ من يتسلم منّي ما أحفظه، أوّلا فأوّلا.(1/69)
من يعلّم من هو أعلم منه
قيل: كمستبضع التمر إلى هجر، وكمعلمة أمها البضاع «1» .
وقيل: تعلّمني بضبّ أنا حرّشته، وقيل: فلان يقرأ سورة يوسف على يعقوب عليهما السلام.
وقال المتنبي:
فآجرك الإله على عليل ... بعثت إلى المسيح به طبيبا
ويقال: أنا منه كحاقن «2» الإهالة إذا كنت عارفا به.
الحثّ على الحفظ دون الاعتماد على الكتب
قيل: إذا فقد العالم الذهن قلّ على الأضداد احتجاجه وكثر إلى الكتب احتياجه.
وقيل: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النّادي.
وقال محمد بن بشير:
ليس بعلم ما يعي القمطر ... ما العلم إلا ما وعاه الصّدر «3»
وله أيضا:
إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لا ينفع
وقال آخر:
غدوت بتشمير وجدّ عليهم ... فمحبرتي سمعي ودفترها قلبي
ضبط العلم بالكتابة
قيل: قيّدوا العلم بالكتابة، وقال سقراط: ما بنته الأقلام لم تطمع في دروسه الأيام.
وقيل: العلم يندّ فاجعلوا الكتب له حماة والأقلام عليها رعاة. العلم عقود فاجعلوا الكتب لها نظاما.
وقيل: اكتبوا ما تسمعونه من الحكم ولو في بياض النواظر بأطراف الخناجر.
وصف المثبت لكلّ ما يسمع
قال أعرابي في رجل يكتب كل ما يسمع: أنت حتف الكلمة الشّرود «4» .(1/70)
وقال آخر:
ما أنت إلا الحفظة ... تكتب لفظ اللفظة
قال الأصمعي: قال لي أعرابي رآني أكتب ما أسمع وأستحسن لا تدع شيئا إلا نمصته أي نتفته.
السؤال عمّا يجهل
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العلم خزانة مفتاحها السؤال.
وقال أنس: السؤال يعمر العلم.
وقيل: لا تسل رياء ولا تتركه حياء.
وقيل: سل سؤال الحمقى واحفظ حفظ الأكياس «1» .
وقيل لدغفل: بم أدركت هذا العلم؟ فقال بلسان سؤول وقلب عقول.
وقال الشاعر:
شفاء العمى طول السؤال وإنّما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل
الحثّ على الأخذ من الصّغير والكبير
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها قيّدها.
وقيل: خذ الحكمة ممّن تسمعها منه، فرب رمية من غير رام وحكمة من غير حكم.
وقيل: لا يمنعنّك ضعة القائل «2» عن الاستماع إليه، فربّ فم كريه مجّ «3» علما ذكيا وتبر صاف في صخر جاس «4» .
وسمع الكنديّ كلمة من مخنّث فكتبها، فلاموه على ذلك فقال: ربّ لسان خنث نتج لفظا فحلا، والجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ولا دناءة بائعها.
وقال بزرجمهر: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه حتّى من الكلب ذبّه «5» عن حريمه ومن الخنزير بكوره «6» في مقاصده. وقال ابن السكيت لرجل: أتراك أحطت بما لم أحط به، فقال وما أنكرت. وقد قال الهدهد- وهو أخس الطيور- لسليمان: أحطت بما لم تحط به.
مدح من يقول لا أدري
سئل الشعبيّ عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل: ألا تستحي من قولك هذا وأنت فقيه العراقيين؟ فقال: إن الملائكة لم تستحي إذ قالت سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا.(1/71)
وقيل لأبي عمرو: ومثله، فقال: أقبح من هذا أن أقول فأخطىء وأروي فلا أروي.
وقال شاعر:
إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أم تناهى فقصّرا
وقال الحسين (رضي الله عنه) : لو أن العالم كلّ ما قال أحسن وأصاب، لأوشك أن يجنّ من العجب، وإنما العالم من يكثر صوابه.
وقال بعض الفقهاء: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري فيقتضي اجتهادا.
ذمّ من يقول ذلك
سئل رجل عن شيء، فقال: لا أدري، ولا أدري نصف العلم فقيل له: لكنه النصف الأخس.
وقال آخر: مثل ذلك فقيل له: فقله مرتين تحز العلم كله. وقال آخر ذلك فقيل له:
لكن أبوك بالنصف الآخر تقدم.
صعوبة جانب العلم
قال الخليل (رحمة الله عليه) : العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك، ثم أنت في إعطائه إياك بعضه مع إعطائك إياه كلّك على خطر.
وقيل: لا يتأدّب الرجل حتّى يتجنب الفراش الوطيء «1» والدثار الدفيء. وقيل: لا يدرك العلم من لا يطيل درسه، ولا يكدّ نفسه. وقيل لبعض العلماء: ذللت طالبا فعززت مطلوبا، فقال: من ذلّ طلبه عزّ أدبه.
وقال أرسطاطاليس: طالب العلم كالغائص في البحر، لا يصل إلى الجواهر الكريمة إلا بالمخاطرة العظيمة.
ترفيه النّفس في طلبه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وقيل: دار القلب فإذا نشط فأودعه، وإذا فتر فتودعه.
وقيل: روّحوا الأذهان كما تروّحون الأبدان، فإنّ العقل المكدود «2» ليس لرؤيته لقاح ولا لرأيه نجاح.
وقيل: نفسك مطيتك إن رفهتها اضطلعت، وإن تحاملت عليها انقطعت.(1/72)
الحرص على الاستكثار منه وعزّه إذا كثر
قال صلى الله عليه وسلم: منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم، ومنهوم في المال. وقيل: الشره في المال دناءة وفي العلم نباهة.
وقيل: كل شيء يعزّ حين ينزر والعلم يعزّ حيث يغزر.
اتساع القلب بازدياد العلم
قال أبو نواس: ما رأيت شيئا إلا قليله أخف من كثيره، إلا العلم فإنه كلما كان أكثر كان أخف محملا.
وقيل: كلّ إناء يفرغ فيه شيء يضيق، إلا القلب فإنه كلما أفرغ فيه علم اتسع.
وقال أنوشروان: قلب العالم كبيت فيه مصباح لا يضيق عن تظاهر النور فيه، بل يتسع للنظر ويزيد في الضياء.
الترغيب في اختيار النّكت
قيل: العلم أكثر من أن يحوى، فخذوا من كل شيء أحسنه، وقيل: حلّ طبعك بالعيون والفقر، فالشجرة لا يشينها قلّة الحمل إذا كانت ثمرتها نافعة.
وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : العلم كثير فارعوا أحسنه. أما سمعتم قول الله تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؟
قال الشاعر:
قالوا خذ العين من كلّ فقلت لهم ... في العين فضل ولكن ناظر العين
تناول طرف من كلّ نوع
قال يحيى بن خالد: انتق من كلّ علم طرفا، فمن جهل شيئا عاداه، واكره أن تكون عدوّا لشيء من الآداب.
وقيل: إذا أردت أن تكون عالما فاقصد فنا واحدا، وإذا أردت أن تكون أديبا فخذ طرفا من كل فن.
وقيل: من لا يعلم إلا فنا واحدا من العلم سمّي الخصيّ من العلماء.
تقديم تعلم ما لا يستغنى عنه
قال المأمون: العلم لا يدرك غوره «1» ولا يسبر قعره، فابدؤا بالأهم فالأهم بالفرض قبل النفل «2» ، إن الأهم المقدّم.(1/73)
وقيل: ضيّع الناس الأصول بتركهم الأصول.
النهي عن الخوض في فنون من العلم
قيل: ازدحام العلم في السمع مضلّة للفهم. وقيل: إذا رأيتم رجلا يريد تعلم أنواع العلوم فداووه. وقيل: من رام أن ينتحل فنون العلم استخفّ بنحيزته «1» ، ووقف الناس على غميزته «2» .
قال الشاعر:
تعلّمت حتّى من كلاب عواءها ... لعمري لقد أسرفت في طلب العلم
كثرة العلم
قال الحسن (رضي الله عنه) : ما ترك قول الله تعالى:- وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
- عالما يظن أنّ علمه كثير.
وقيل لفيلسوف: إلى أين بلغت في العلوم؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها.
زهد من يقرب من العلماء في العلم
قيل: أزهد الناس في العالم جاره. وقيل: العالم كالجمة من البئر، يأتيها البعداء، ويزهد فيها القرباء.
وقيل لرجل: كيف غلبت البرامكة؟، فقال: بتطراف الغرباء والملالة من القرباء.
وقال أنوشروان: رأيت في منامي رجلا يعدو والماء خلفه يناديه، فعبّر بأنه رجل يفرّ من العلم وعالم يناديه ليفيده وهو يمنع منه.
حمد التأديب
قال أمير المؤمنين علي رضي عنه: النّاس عالم ومتعلم، وما سواهما همج. فدلّ ذلك على تفضيل التأديب، وجميع ما تقدم من عموم فضل التعليم فدلالة على فضل المؤدبة.
وقال ابن ثابت: إن المؤدبة ولدوا بنجم الملوك حاسبون حسابهم. وسأل الرشيد يوما: من أكرم الناس خدما؟ قيل: أمير المؤمنين فقال: لا، بل أكرمهم خدما الكسائيّ فقد رأيته يخدمه الأمين والمأمون وليّا عهد المسلمين وليس لي من الخدم مثلهما.
وقال خالد بن صفوان لمؤدب: أنت أنظفنا وصيفا وأحضرنا رغيفا.
ذمّ التأديب وكونه نقصا لذوي الفضل
كلّف إسماعيل بن علي عبد الله بن المقفع أن يجلس مع ابنه في كل أسبوع يوما،(1/74)
فقال: أتريد أن أثبت في ديوان النوكي؟ وقال سعيد بن سلم: قصدت الكوفة فرأيت ابن المقفع فرحّب بي، وقال: ما تصنع ههنا؟ فقلت: ركبني دين فأحوجت إلى الإزعاج.
فقال: هل رأيت أحدا؟ فقلت: ابن شبرمة وعرّفته حالي، فقال: أنا أكلّم الأمين ليضمّك إلى أولاده فيكون لك نفع. فقال: أف لذلك أيجعلك مؤدبا في آخر عمرك، أين منزلك؟
فعرّفته فأتاني في اليوم الثاني وأنا مشغول بقوم يقرؤون عليّ ومعه منديل فوضعه بين يدي، فإذا فيه أسورة مكسورة ودراهم متفرّقة مقدار أربعة آلاف درهم، وحينئذ»
زمان المنصور وفي الدراهم ضيق. فأخذت ذلك ورجعت به إلى البصرة واستعنت به.
قال الشاعر:
كفى المرء نقصا أن يقال بأنّه ... معلّم صبيان وإن كان فاضلا
وقال آخر:
إنّ المعلّم حيث كان معلّم ... ولو ابتنى فوق السّماء سماء
وصايا المؤدّبين في الأولاد
أوصى هشام بن عبد الملك سليمان الكلبيّ، لما اتخذه مؤدّبا أنّ ابني هذا هو جلدة «2» ما بين عينيّ، وقد ولّيتك تأديبه فعليك بتقوى الله، وأداء الأمانة فيه، بخلال أوّلها أنك مؤتمن عليه، والثانية أنا إمام ترجوني وتخافني، والثالثة كلّما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه. وفي هذه الخلال ما يرغبك في ما أوصيك به. إنّ أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتقرئه في كل يوم عشرا يحفظه حفظ رجل يريد التكسب به ثم روّه من الشعر أحسنه. ثم تخلّل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم هجاء ومديحا، وبصّره طرفا من الحلال والحرام والخطب والمغازي، ثم أجلسه كل يوم للنّاس ليتذكر.
وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاح نفسك فإنّ عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنته والقبيح ما استقبحته. علّمهم كتاب الله وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه ولا تكرههم على علم فيملّوه ولا تدعهم فيهجروه، ولا تخرجهم من علم إلى علم. حتى يحكموه، فازدحام العلم في السّمع مضلّة للفهم. وعلّمهم سير الحكماء وهدّدهم وأدّبهم دوني، ولا تتكل على كفاية منك، واستزدني بتأثيرك أزدك إن شاء الله تعالى.
وضرب أبو مريم مؤدّب الأمين والمأمون الأمين بعود فخدش ذراعه فدعاه الرشيد إلى الطعام فتعمّد أن حسر عن ذراعه فرآه الرشيد. فسأله، فقال: ضربني أبو مريم فبعث إليه ودعاه قال فخفت فلما حضرت، قال: يا غلام وضّئه فسكنت وجلست آكل، فقال: ما بال محمد(1/75)
يشكوك فقلت قد غلبني خبثا وعرامة «1» قال: اقتله فلأن يموت خير من أن يموق «2» .
الحثّ على تفقّد المؤدب
قيل: أولى من تبذل له ثراك من أفادك علاك وصقل حجاك «3» .
قال الشاعر:
إن المعلّم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه ... واصبر لجهلك أن جفوت معلّما
ووقّع الصاحب لبعض المؤدّبة إلى من تقاعد بمشاهرته:
الكلب يرفع نفسه ويجلّها مع خسّته من أن يفيت مؤدّبا مستوجبا من أجرته وسمع مؤدّب يلقّن صبيّا: وإذ قال لقمان «4» لابنه: وهو يعظه يا بنيّ لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا. فقيل له:
ما هذا؟ فقال: إن أباه يدخل مشاهرة شهر في شهر، وأنا أدخله من سورة إلى سورة، لئلا يحصل على شيء كما لا أحصل أنا على شىء.
نوادر المعلمين فيما يقرأ عليهم الصبيان
قرأ صبيّ على معلم: وإنّ عليك اللعنة يا شيخ، وأخذ يكرر ويقف. فقال: عليك وعلى والديك. فقال الصبيّ: ليس فيه وعلى والديك، لكنه عليك هل ألحقه به؟
وقرأ آخر على معلّم: اخرج منها فإنّك رجيم. فقال: ذلك أبوك الكشحان.
وقرأ آخر على معلّم: ما لنا في بناتك من حقّ وأخذ يكررها كالمستفهم، فقال: لا ولا كرامة لك.
نوادرهم فيما يقرأ عليهم من التصحيفات
«5» قرأ صبي على معلم إنّي أريد أن أنكحك، فقال: هذا إذا قرأت على أمّك القحبة.
وقرأ آخر: عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون.
فقال: هؤلاء أكراد لا ملائكة.
وكان معلّم يلقّن صبيا «عبس وتولّى» ، فكان يقول: أبس وتولّى. فضربه المعلم فقال: عاه فقال: حوّل العين من ههنا إلى ثمّ وخلّصني.(1/76)
وقرأ آخر: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصل، فقال يا ابن الفاعلة لعلك تشتهي البصيلة.
ما وصف من لواط المعلمين
وفد سعيد بن عبد الرحمن على هشام «1» ، وهو صبي وضيء الوجه فبعث به هشام إلى عبد الصمد مؤدب ولده الوليد ليؤدّبه. فراوده عن نفسه فخرج من عند المؤدب مغضبا ودخل على هشام وهو يقول:
إنّه والله لولا أنت لم ... ينج منّي سالما عبد الصّمد
فقال وما ذاك؟ قال:
أنّه قد رام منّي خطّة ... لم يرمها قبله منّي أحد
قال وما ذاك؟ فقال:
رام جهلا بي وجهلا بأبي ... يولج العصفور في خيس الأسد «2»
فطرد عبد الصمد عن داره.
وحدّث الأحيمر النحوي وكان مؤدّب الأمين اتخذ عليه بعد حمّاد عجرد «3» ، وكان حماد اتخذ عليه بعد نفي قطرب «4» قال: كان سبب نفيه أن حمادا كان يتعشّق الأمين ويطمع أن يتخذ عليه مؤدبا فلم يتأتّ له ذلك حتى استوى الأمر على قطرب، فاحتال حمّاد وكتب هذين البيتين وناولهما بعض الخدم على يد مجهول:
قل للأمير جزاك الله صالحة ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب «5»
السخل غرّ وهمّ الذيب غفلته ... والذيب يعلم ما في السخل من طيب
فلما قرأهما الرشيد نفى قطربا واتخذ حمّاد عجرد، وجعل عليه ثمانين من الرقباء فخاف قطرب لما وسم بهذه السمة فهرب إلى الكرج، والتجأ إلى أبي دلف فحسن حاله.
ودخل المأمون ديوان أحمد بن يوسف فصادف حوله مردا حسانا فقال:
أسد رابض حواليه أسد ... ليس ينجو من الأسود الظباء
وقال خلف الأحمر لمعلمه وهو في الكتاب وقد راوده عن نفسه:
أتترك في الحلال مشق صاد ... وتأتي في الحرام مدار ميم «6»(1/77)
حماقة المعلّمين
قال يعقوب الدورقي: إن الله أعان على عرامة الصبيان، بحماقة المعلمين. وقال سهل بن هارون «1» لم أر قاضيا ولا عدلا معلم كتاب، لا في تافه حقير ولا في ثمين خطير.
وقال الشاعر:
وكيف يرجّى العقل والرأي عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل
وقال آخر:
أنت ألحى معلّم وطويل ... حسبنا ربّنا ونعم الوكيل
وقال الجاحظ:
المعلمون على ضربين: منهم من ارتفعوا عن أولاد العامّة إلى تعليم أولاد الملوك والمرشّحين للخلافة كالكسائي وقطرب وحماد وعبد الصمد، فهؤلاء لا تجوز عليهم الحماقة، وإن لكلّ قوم حاشية وجهالا وسفهاء.
ما وصف من ذكاء الصبيان وكيسهم في الكتاب
قال مؤدب يزيد بن عبد الملك: لم لحنت؟ فقال: الجواد يعثر. فقال المؤدب: أي والله ويضرب حتى يستقيم. فقال يزيد: وربما يرمح «2» سائسه فيكسر أنفه.
ويروى عن ابن السكيت قال: أحضرت لاتخذ على المعتز بالله، فقلت له: بأي شيء نبدأ اليوم. فقال: بالخروج. فقلت: نعم. فعدا من بين يدي وعثر على المرمر، فقال:
يموت الفتى من عثرة بلسانه، وليس يموت المرء من عثرة الرجل. فقلت للمتوكل: جئتم بي لتأديبه وهو آدب منّي. فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
قال أبو محمد يحيى- وكان مؤدب المأمون في صغره- صلّيت يوما قاعدا فأخطأ المأمون فقمت لأضربه، فقال: أيها الشيخ أتطيع الله قاعدا وتعصيه قائما فكتب بهذا إلى الرشيد فأمر لي بخمسة آلاف درهم.
وحكي أنه بدر من أبي عمر الصباغ إلى الصاحب جفاء وكان مؤدبه، فقام من عنده وكتب إليه:
أودعتني العلم فلا تجهل ... كم مقول يجني على مقتل
وأنت إن علمتني سوقة ... والسيف لا يبقي على الصّيقل
فاتصل ذلك بأبي الحسين بن سعد فتعجب منه وكتبه وقال: ابن ثمانين يكتب شعر ابن عشر ثم تلا: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا
«3» .(1/78)
أمارة نجابة «1» الصبيان
قيل لأعرابي: ما أمارة النجابة في صبيانكم؟ قال: إذا كان أعنق «2» أشدق أحمق.
فأقرب به من السودد «3» .
وقال الزبرقان: أكيس صبياننا العريض الورك السبط «4» الغرّة، الطويل الغرلة «5» ، الأبله العقول.
وقال بزرجمهر لكسرى، وعنده أولاده: أي أولادك أحب إليك؟ قال أرغبهم في الأدب، وأجزعهم من العار وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقه.
وروى ابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرامة الصبيّ في صغره زيادة في عقله إذا كبر.
وقال معاوية: طيّروا الدم في وجوه الصبيان، فإن بدا في وجوههم الحياء وإلا فلا تطمعوا فيهم.
صبيّ استدلّ بعقله على كبر همّته
قيل: أول ما عرف من سودد خالد القسري أنّه مرّ في بعض طرق دمشق راكبا، وله عشر سنين فوطىء فرسه صبيا فوقف عليه فرآه لا يتحرك فانتهى إلى أول مجلس مرّ به، فقال: إن حدث بهذا الغلام حدث فأنا صاحب الجناية ولم أعلم.
ومرّ عمر رضي الله عنه بصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فعدا الصبيان ووقف عبد الله فقال له عمر: ما لك لا تذهب مع الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أجن إليك فأخافك، ولم يكن في الطريق ضيق فأوسعه لك. فقال عمر: أي شيطان يكون هذا؟
وكان عبد الملك صغيرا فأربى عليه صبيّ فضربه، فقيل له: لو شكوته إلى عمّك لانتقم منه. فقال: أنا لا أعدّ انتقام غيري انتقاما. وقال السري الرفاء يصف غلاما بعلو الهمة:
لا تعجبنّ من علوّ همّته ... وسنّه في أوان منشاها
إنّ النّجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها
من تكلّم عند الخلفاء وهو صغير فارتفع بذلك شأنه
أوفد أبو موسى الأشعري زيادا على عمر رضي الله عنه، وكان يكتب له، وهو حين(1/79)
بلغ. فلمّا جاء وجده من الكيس بمحل. فقال له عمر: اعتزل عملك. فقال زياد: أعن خيانة؟ قال: لا، ولكني أكره أن أحمّل الناس فضل عقلك ومنطقك. قال: إذا لا أبالي.
دخل محمد بن عبد الملك ابن صالح على المأمون حين قبض على ضياعهم وهو صبي أمرد «1» ، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. قال: من أنت؟ قال: سليل نعمتك وابن دولتك وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي بالكلام؟ قال: نعم. فتكلم بكلام حسن فقضى حاجته.
نظر المأمون إلى الحسن بن رجاء وهو صبي في ديوانه، فقال: من أنت؟ قال:
الناشىء في دولتك المتقلّب في نعمتك وتخريج أدبك الحسن بن رجاء. فقال المأمون:
بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول وأمر برفعه عن محلّه.
وفي بعض كتب الفرس أن كسرى أراد كاتبا لأمر أعجله فلم يوجد غير غلام صغير يصحب الكتاب فدعاه، فقال: ما اسمك؟ قال: مهر ماه. قال: اكتب ما أملى عليك فكتب قائما أحسن من غيره قاعدا. ثم قال له: اكتب في هذا الكتاب من تلقاء نفسك ففعل وضمّ إلى الكتاب رقعة فيها: إن الحرمة التي أوصلتني إلى سيدنا لو وكلت فيها إلى نفسي لقصرت أن أبلغ إليها فإن رأى أن لا يحطّني إلى ما هو دونها فعل. فقال كسرى: أحب مهر ماه أن لا يدع في نفسه لهفة يتلهف عليها بعد إمكان الفرصة. وقد أمرنا له بما سأل.
وذكر أن عمرو بن عتبة أعتق غلاما له فقام إليه وصيف له فقال: اذكرني ذكرك الله فاستصغره فقال ويلك أنك لم تخرف بعد. فقال: إن النخلة قد تجتنى زهوا قبل أن تصيرمعوا. قال: قاتلك الله قد استعتقت قد وهبتك لواهبك لي.
وصف بلادة الصبيان في التعلّم
كان معلّم يضرب صبيّا، فقيل له: لم تضربه؟ فقال أنه يترك الصواب الهيّن ويأتي الخطأ الصعب، فإذا هو يقرأ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ
«2» ويقرأ: فيؤخذ بالنواهض «3» والأقدام.
وحكي أن مؤدبا ادّعى أنه علّم صبيا النحو والفرائض، فامتحنه أبوه فقال له: كيف تقول ضرب زيد عمرا؟ قال: كما تقول فقال له: فما إعرابهما؟ قال زيد رفع بفعله وما بقي فللعصبة.
وأمر آخر معلما أن يعلمه الفرائض فامتحنه يوما، فقال له: ما تقول في رجل مات وخلف ابنتين وابنا، فقال: أما الابن فيسقط، فقال: نعم إذا كان مثلك.(1/80)
وسلّم أشعب في البزازين فقيل له بعد سنة إلى أين بلغت في معرفة البز، قال:
أحسنت النشر وأرجو أن أتعلم الطي.
(6) ومما جاء في البلاغة وما يضادها
ما حدّ به البلاغة
قيل: البلاغة ما اجتيازه فساده. وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطل. وسئل آخر فقال: أن لا تخطىء ولا تطىء.
وسأل المأمون الحسن بن سهل عن ذلك، فقال: ما فهمته العامة ورضيته الخاصّة.
وسئل عنه بعض اليونانيين، فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام. وسئل حكيم عن البليغ، فقال: ما إذا أخذ شبرا كفاه، وإن أخذ طومارا «1» ملاه.
ما حدّ به الإيجاز ووصفه
سئل بعضهم فقال: اللمحة «2» الدالة قال جعفر بن يحيى البرمكي: إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات، فافعلوا.
ووقّع محمد بن طاهر أيام الفتنة إلى الكتاب: لتدقق الأقلام ويختصر الكلام.
فالقراطيس «3» لا ترام.
وقيل: من أطال الحديث فقد عرض أصحابه للسآمة «4» وسوء الاستماع. وقيل:- الكلام إذا طال اختلّ وإذا اختلّ اعتلّ، وقال منصور الفقيه:
ولا تكثرن فخير الكلام القليل الحروف الكثير المعاني وقيل: خير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يطل فيملّ.
كلمات موجزة
ذكر ذلك يطول، ولكن لا بدّ من ذكر أحرف تكون أمثلة.
سئل جعفر بن يحيى عن أوجز كلام فقال: قول سليمان عليه السلام إلى ملكة سبا أنه من سليمان، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، أن لا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين، فجمع في ثلاثة أحرف العنوان والكتاب والحاجة وإظهار الدين وعرض الرشاد إلى المكتوب إليهم.(1/81)
وكتب المعتصم إلى ملك الروم جوابا عن كتاب تهدّده فيه: الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، والسلام.
وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاب عناية موجزة فكتب: كتابي كتاب واثق بمن كتب إليه، معتنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله.
الإيجاز والإطناب «1» في محلّيهما
قيل لأبي عمرو بن العلاء: لم كانت العرب تطيل؟ قال: ليسمع منها. قيل: فلم توجز؟ قال: ليحفظ عنها. وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
يرومون بالخطب الطّوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء
وقال ابن قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة، وهي مطابقة اللفظ والمعنى لا زائدا ولا ناقصا. والإشارة وهي أن يكون اللفظ كاللمحة الدالّة والتذييل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه. وقال شاعر:
يكفي قليل كلامه وكثيره ... ثبت إذا طال النّضال مصيب
وأمر يحيى بن خالد كاتبين أن يكتبا في معنى، فأوجز أحدهما وأطال الآخر، فقال للموجز، لمّا نظر في كتابه: لم أجد موضع مزيد. وقال للمطيل: لم أجد موضع نقصان.
وقال جعفر بن يحيى: إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار هذرا «2» ، وإذا كان التطويل واجبا كان التقصير عجزا «3» .
استقباح إعادة الحديث
قيل: الحديث الرجيع «4» كالحدث والرجيع. وقيل: إذا أعيد الحديث ذهب ضوؤه ورونقه. قال ابن السماك لجارية له تصغي إلى كلامه: كيف تجدين كلامي؟ قالت: ما أحسنه إلا أنك تكثر ترداده قال إنما أردده ليفهمه من لم يفهمه قالت إلى أن يفهمه من لم يفهمه ملّه من قد فهمه. وقيل لرجل يعيد كلاما لغبي: قد ثقل كلامك على الذكيّ قبل حصوله في قلب الغبي.
ذمّ إطالة الحديث:
قيل: من أطال حديثه فقد عرض أصحابه للسآمة»
وطول الاستماع.(1/82)
وقال سقراط لرجل: أنساني أول كلامك بعد العهد بآخره، وفارق آخره فهمي لتفاوته. وخطب رجل خطبة نكاح «1» فأخذ يطيل فقام بعض الحاضرين فقال: إذا فرغ الخطيب فبارك الله لكم، فإني على شغل.
الموصوف بالفصاحة
سمع إعرابي الحسن يتكلم، فقال: هو فصيح إذا لفظ، نصيح إذا وعظ. وقال:
ملقّن ملهم فيما يحاوله ... جمّ خواطره جوّاب آفاق
وقيل: انتهت الفصاحة إلى أربع: عليّ وابن عباس وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم.
قال الشعبي: ما رأيت أحدا يتكلم فيحسن إلا أحببت أن يسكت إلا زيادا فإنّه لم يخرج قط من حسن إلا إلى ما هو أحسن منه.
وقال يحيى بن زياد: فلان أخذ بزمام الكلام فقاده أحسن مقاد «2» وساقه أحسن مساق فاسترجع به القلوب النافرة واستصرف له الأبصار الطامحة. وقيل: كلام كنظم الجمان «3» وروض الجنان فكأنه من كل قلب ينظم.
وقال أبو تمام:
من السحر الحلال لمجتنيه ... ولم أر قبله سحرا حلالا
وقالت الخنساء «4» :
كأن كلام النّاس جمّع حوله ... فأطلق في إحسانه يتخيّر
فضيلة اللسان
قال العباس رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ قال: في اللسان، وقيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة.
وذكره بعضهم فقال: لله درّه من عضو ما أصغره وأكثر ضرّه ونفعه.
وقيل: مروءتان ظاهرتان الفصاحة والرياش «5» .
موصوف لسانه بالصرامة
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه ما بقي من لسانك فضرب به أرنبته وقال(1/83)
والله لو وضعته على شعر لحلقه أو على صخر لفلقه قال الله تعالى: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ
«1» ، ووصف أعرابي رجلا فقال: أدقّ من ورقة وألين من سرقة.
قال الغساني:
له بين فكّيه لسان كأنّه ... حسام دقيق الشفرتين عتيق
وقال آخر:
وللسّيف أشوى وقعة من لسانيا «2»
وقال آخر:
وحسبت أنّ لسانه من عضبه
وصف كلام بالسلاسة
«3» قيل: لو كان الكلام طعاما لكان هذا إداما كلام يقطر عسله هذا. والله نثر نغم أحسن من نثر نغم، كلام كالوبل في المحل.
وتكلّم المأمون بكلام حسن في مسألة ثم قال لبعض ندمائه: كيف كان الكلام في هذه المسألة؟ قال: كان والله كغيث وقع على أرض عطشة. فقال: جوابك هذا أحلى لدي من الأمن بعد الخوف.
وقال المتنبّي:
إذا ما صافح الأسماع يوما ... تبسّمت الضمائر والقلوب
قال ابن المقفع: ما زالت ينابيع حكمه تترقرق في معابر الآذان حتّى ملأت القلوب عقولا. اللفظ الحسن إحدى النفاثات في العقد.
وقيل في وصف كلام: إنه يحطّ الجندل «4» ويثقب الخردل «5» ، وأنه لدون السحر وفوق الشعر.
لفظ ساعد المعنى في الجودة
مدح أعرابي رجلا فقال: كان ألفاظه قوالب لمعانيه.
قال الشاعر:
تزين معانيه ألفاظه ... وألفاظه زائنات المعاني
وقيل: خير الكلام ما كان لفظه بكرا ومعناه فحلا.
وقال شاعر:
نرى حلل البيان منشرات ... تخير وسطها صور المعاني(1/84)
مدح كلام وسط
خير الكلام ما لا يكون عاميا سوقيا ولا عربيا وحشيّا. وقيل: الإيغال «1» في البلاغة معجزة، والخروج عن كلام أهل الزمان هجنة.
قال أبو الأسود الدؤلي لابنه: يا بنيّ إذا كنت في قوم فلا تتكلّم بكلام من لم يبلغه سنّك فيستثقلوك، ولا بكلام من هو دونك فيستحقروك.
مفاضلة الرواية والبديهة
قال معاوية لعمرو بن العاص: أنا آدب منك، فقال: أنت للرويّة وأنا للبديهة وبينهما بون «2» .
وقال ابن الرومي:
نار الرويّة نار غير منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضّلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الرّيح
فضل البديهة وما يحاضر به
قيل: خير الفقه ما حضرت به، ولا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي. وقال الحطيئة:
فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول دوره شهرا
وقال المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمّق الزلل
النهي عن التشادق والتقعّر وذمّهما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون «3» المتشدّقون «4» . وقال: صلى الله عليه وسلم إياك والتشادق.
وقال بشر بن المعتمر «5» إيّاك والتقعر «6» فإنّه يسلمك إلى التعقيد، فيستهلك معانيك، ويمنعك من مراميك.
وقال تشقيق البيان من شقاشق الشيطان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم شعبتان من النفاق البذاء «7» والبيان، وشعبتان من الإيمان: الحياء والعيّ «8» ،(1/85)
وهذا إنما هو لمن جاوز المقدار أو قصّر عنه وكفاك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يبغض البليغ يتخلّل بلسانه تخلل البقرة بلسانها.
وأنشد العجّاج:
أمسى الغواني معرضات صددا
وأعرابي حاضر فقال: تنحّ عن سننه، وإلا تسقط منه كلمة فتشدخك «1» ، وما أجود ما قال ابن أبي طاهر:
إن خير الكلام ما ليس فيه ... عند من يفهم الكلام كلام
ذمّ عييّ متقعّر
قيل: أعيا العيّ بلاغة بعي. وقال محمد بن وهيب:
تشبهت بالأعراب أهل التعجرف ... فدلّ على مثواك قبح التكلّف
لسان عرابيّ إذا ما صرفته ... إلى لغة الإعراب لم يتصرّف
وقال أبو الأسود لابن صديق له: ما فعلت امرأة فلان التي كانت تساره وتضاره وتماره «2» فقال: طلقها فتزوج بها فلان فخطيت وبظيت فقال أبو الأسود: ما معنى بظيت فقال: كلام لم تدر من أي بيض خرج وفي أي عش درج فقال: إن ما لا أعرفه فاخبأه كما تخبأ الهرة خرءها.
من ارتكب أمرا طلبا للسجع
خرج عبادة إلى عبادان فقيل: ما الذي جاء بك؟ فقال: لا جمع بين عبادة وعبادان.
وكان علي بن رستم خرج إلى بغداد وأسلم فكتب إلى أهله: كتابي إليكم من مدينة السلام عن سلامة وإسلام فقال: أخوه ما خرج أخي وأسلم إلا طلب أن يكتب هذه المسجعة «3» .
ما حدّ به العيّ وذمّه
قال أكثم العي أن تتكلم بفوقما تقتضيه حاجتك، وقيل: العي معنى قليل يحويه لفظ كثير، وقيل: العي داء دواؤه الخرس، وقيل: لاعي «4» ولا شلل، وتكلم رجل عند معاوية وكان ذا عيّ فقال عمر: وسكوت الألكن «5» نعمة فقال معاوية: وكلام الأحمق نقمة، وقال النمر بن تولب «6» :
أعذني ربّ من حصر وعيّ ... ومن نفس أعالجها علاجا(1/86)
الآفات المعترضة للسان من العيّ
اللثغة تغيير في القاف والسين واللام والراء، والتمتمة التتعتع «1» في التاء، والفأفاة في الفاء، واللفف إدخال حرف في حرف وإياه عني الشاعر بقوله:
كأن فيه لففا إذا نطق
والتلجلج «2» يقارب ذلك والحبسة ثقل في الكلام والعقلة اعتقال اللسان والحكلة نقصان آلة النطق حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال وأصله في الفحل إذا عجز عن الضراب «3» ، وقيل: لا يصفو كلام من يكون منزوع الثنيتين.
ما يعرض في بعض اللغات من العيّ
كشكشكة تميم وهو قلب كاف المؤنث شيئا نحو، فعيناش عيناها وجيدش جيدها، وكسكسة بكر وهي قلبها، سينا وعنعنة تميم كقوله: ظننت عنك ذاهب والعجرفة جفاء في الكلام، واللخلخانية تعرض في أعراب الشجر وعمان والطمطمانية لغة في حمير كقولهم طاب امهواء، أي طاب الهواء.
استعمال كلّ كلام مع الجنس المخصوص به
قيل: الكلام بذلة ومدخر فمن تكلم وقت البذلة بالمدخر أتعب نفسه، ومن تكلم وقت المدخر بالبذل هجن نفسه.
من خاطب عاميّا بتفاصح وتذلق
اشترى رجل من أصحاب يعقوب الكندي جارية فاغتاظت عليه، فشكاها إلى يعقوب، فقال: جئني بها لأعظها. فجاء بها إليه فقال: يا لعوبة ما هذه الاختيارات الدالات على الجهالات؟ أما علمت أن فرط الاعتياصات «4» من الموبقات «5» على طالبي المودّات، الباذلين الكرائم المصونات موذنات بعدم المعقولات؟ فقالت الجارية: أما علمت أن هذه العثنونات «6» المنشرات على صدور أهل الركاكات، محتاجات إلى المواسي الحالقات؟ فقال يعقوب: لله درّها فلقد قسّمت الكلام تقسيما فلسفيا، فاشدد يديك بها. فلم يستوحش من سفاهتها لما أوردت الكلام مسجّعا موزونا. وقال نحوي لصاحب بطيخ: بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفر جلتان، ودونهما الرمانتان، فقال: بضربتان وصفعتان ولكمتان، فبأيّ آلاء ربّكما تكذبان.(1/87)
وصار أبو علقمة إلى كواز فقال: أعندك جرّة لا فقداء ولا دناء ولا مغربلة الجوانب، خضرة نضرة قد مسّها النار، إن نقرت عليها طنّت، وإن أصابتها ريح غنّت، ولكن بدرهم.
فقال الكواز: دعني من شتمك يا ماصّ بظر أمّه.
الأحوال الدّالة على العيّ
من العي البهرة، وفتل الأصابع، ومسّ اللحية، ولذلك قال:
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وقال ابن المقفع: من علامة العيّ النكث في الأرض، والإطراق من غير فكرة.
المحتبس في كلامه
قال الشاعر:
كأنّ في فيه لقمة عقلت ... لسانه فالتوى على حنق
محرّك رأسه توهّمه ... قد قام من عطسة على شرق
وقال آخر:
كأنّ فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
وقال آخر:
ديافيه قلف كأنّ خطيبهم ... سراة الضّحى في سلحه يتمطّق
ويقال: هو عياياء طباقاء.
اعتذار محتبس في كلامه
قال بعضهم: نحن حيّ فعال ولسنا بحيّ مقال. ونحن بأدنى مقالنا عند أحسن فعالهم.
وقال بعض وفد خراسان: إنا ببلاد نأت عن العرب، شغلتنا الحرب عن الخطب.
واعتذر رجل لحبسة فقال: يعزب البيان ويعتقم الصواب وإنما اللسان مضغة من الإنسان يفتر بفتوره إذا نكل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل.
وقيل لأعرابي: أين فصاحتك؟ فقال: لحقت بمواطنها بنجد.
وقال شاعر:
ارفق بعبدك إنّ فيه بلادة ... جبلية ولك العراق وماؤه
المقام الذي لا يستنكف فيه من العيّ والحصر
سئل ابن داود: متى يكون البليغ عييا؟ فقال: إذا سأل عما يتمنّاه وشكا حبّه إلى من يهواه، ثم أنشد:
بليغ إذا يشكو إلى غيره الهوى ... وإن هو لاقاه فغير بليغ(1/88)
وقال بعضهم: موطنان لا آنف من الحصر فيهما، إذا شكوت إلى محبوبي عشقي، وإذا سألت حاجة لنفسي.
المحسن في كلامه ابتداء والمسيء انتهاء
تكلّم ابن ثوابة ثم غلط في آخره فقال أبو العيناء: ترفعت حتى خفتك ثم تخفّضت حتى عفتك.
وتكلم رجل فأحسن ثم أعاد فأساء، فقال له أعرابي أنك تسترجع محاسنك.
وصف كلام غير مفهوم
قال الله تعالى:- حكاية عن فرعون- أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ
«1» .
قال الشاعر:
قلت لمّا بدا يجمجم في القو ... ل ويهذي كأنّه مجنون»
أنت حقا شبيه ما ذكر الله ... مهين ولا يكاد يبين
وقال محمد بن صالح:
يهوي إليّ بأقوال يلفّقها ... فلا أعي منه شيئا وهو يسمعني «3»
يلقى صداي صفير الطير من فمه ... مخاطبا وهو إنسان يكلّمني
المستقبح إنشاده
قال عبد الله بن معاوية:
يزين الشعر أفواه إذا نطقت ... بالشعر يوما وقد يزرى بأفواه «4»
وقال أبو خليفة:
كأنّ الشعر من فيه إذا تمّت ... قوافيه كنيف قد خرى فيه
ذمّ من يطول سكوته عيّا
قال الشاعر:
يا صنما في الصّمت لا في الحسن
ووصف رجل آخر فقال: يصلح لصدور المجالس، ونظم المحافل ما لم يكن كلام.
كلمات لأهل العيّ
قال الحجّاج لأبي الجهمة النخّاس: أتعيب الدواب المعيية من جند السلطان؟ فقال:(1/89)
شركتنا في هوازها وشركتنا في مدانيها وكما يجىء يكون.
قال الجاحظ: طلبت بعض أصدقائي في داره فلم أجده فقلت لجاريته: إذا حضر صاحبك فقولي له: إن الجاحظ كان بالباب. قالت: نعم الجاحد «1» بالباب، قلت: قولي الحدقيّ «2» قالت: نعم الحلقيّ، فقلت: عليك بالأول.
المتكلّم بكلام غير متّسق
دق رجلان على باب نحوي فقيل: من؟ فقال أحدهما: أنا الذي اشترى عبد الله كلم الآجر. وقال الآخر: أنا الذي أبو يعقوب الجصاص عقد طاق باب هذه الدار. فقال صاحب الدار: انصرفا فما أرى لكلاميكما صلة.
وقال رقبة بن مصقلة: ما أعجزني شيء كما أعجزني رجل قام إليّ يوما وقد دخلت المسجد، فقال: إني رأيتك فشبهتك بي فأعجبني ذلك لك وأنا فيه متفكر بعد ولا أدري ما معنى كلامه.
من جارى غيره فلحن فأجابه بمقتضى كلامه
قال رجل لأعرابي: كيف أهلك؟ قال صلبا، أراد كيف أهلك؟
وقال الوليد لرجل: من ختنك؟ قال: الحجّام. فضحك القوم وخجل الوليد، وإنما أراد أن يقول من ختنك؟
ومرّ رجل بدار ميت فقال من المتوفّي؟ فقال له رجل: الله فقال له: يا كافر الله يموت؟ فقال: لعلك تريد المتوفّى.
من سئل عن نحو فأجاب بمقتضى اللغة
قيل لرجل: هل ينصرف إسماعيل؟ قال: نعم إذا صلى العشاء فما قعوده؟ وتعرّض بعضهم للطائي حين أنشد:
وهنّ عوادي يوسف وصواحبه
فقال: إن يوسف لا ينصرف فقال: اصفعه حتى ينصرف. وقال نحوي لأعرابي قال أعجبني القصر، بم يرفع القصر؟ فقال: بالآجر والجصّ، وقيل لأعرابي أتجرّ فلسطين فقال إني إذا لقوي فقيل أتهمز إسرائيل؟ فقال إني إذا رجل سوء. وقيل: أتهمز الفأرة؟
فقال الهرة تهمزها.
وحكي أن جماعة عند محمد بن بحر اختلفوا في بناء سراويل، فدخل البرقي فقال فيم كنتم؟ فقالوا: في بناء سراويل فما عندك فيه؟ قال مثل ذراع البكر أو أشدّ.
وحكي أن أبا سعيد السيرافي سأل أبا الحسن الموسوي وهو صغير: إذا قلت رأيت عمرا فما علامة النصب فيه؟ فقال بغضه لأمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه.(1/90)
من أنكر لحنا بنادرة
مرّ رجل بأديب فقال: كيف طريق البغداد؟ قال بالحذاء. ثم مرّ به آخر، فقال له:
كيف طريق كوفة، فقال: من ههنا وبادر فمع ذلك المار ألف ولام تحتاج إليهما وهو مستغن عنهما فخذهما منه. وقال رجل لأبي العيناء أتامر بشيأ فقال نعم بتقوى الله وحذف الألف من شيأ. وكان رجل يسقي صديقا له صرفا «1» ويغني له:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة ما بين الأنف والعين سالم
فقال: أحب أن تجعل ماك من البيت في القدح.
من اعتذر عن لحنه «2» بعذر مستملح «3»
قصد رجل الحجّاج فأنشده:
أبا هشام ببابك ... قد شمّ ريح كبابك
فقال: ويحك لم نصبت أبا هشام فقال الكنية كنيتي إن شئت رفعتها وإن شئت نصبتها. وكتب محمد الأمين، فيما أظن على ظهر كتاب:
عشقت ظبيا رقيقا ... في دار يحيى بن خاقا
وكتب تحته: اردت خاقان وخاقان مولى لي، إن شئت أثبت نونه وإن شئت أسقطته. وقال رجل لآخر ما اشتريت؟ قال: عسل. فقال: هل لا زدت في عسلك ألف، فقال: وأنت هلا زدت في ألفك ألفا «4» .
من أنكر لحنا بطبعه
سمع أعرابي مؤذنا يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله بالنصب، فقال: الأعرابي فعل ماذا؟ فهذا علم بطبعه أنه لم يأت بخبر أنّ.
وسمع رجل آخر يقرأ وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر بفتح الكاف والفاء فقال: لا يكون هذا فقالوا: كفر، فقال: أما هذا فنعم.
المتأذّى بلحنه
قدم رجل على زياد فقال: إن أبونا مات، وأخينا وثب على مال أبانا فضيّعه. فقال زياد: الذي ضيّعته من لسانك أضر عليك مما ضيعه أخوك من مالك.(1/91)
ومرّ عثمان (رضي الله عنه) برماة يسيؤن الرمي، فقال: ما أسوأ رميكم فقال بعضهم: نحن متعلمين. فقال كلامكم أسوأ من رميكم.
ودخل الخليل على مريض نحوي وعنده أخ له فقال للمريض: افتح عيناك وحرّك شفتاك إن أبو محمد جالسا. فقال الخليل: أرى أن أكثر علة أخيك من كلامك. وسمع الأعمش إنسانا يلحن فقال: من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم.
المتفادي في كلام الكبار عن كلام فيه إيهام
دخل سعيد بن مرة على معاوية فقال له: من أنت؟ فقال: أنت سعيد، وأنا ابن مرة.
وقال السفاح للسيد الحميري: أنت السيّد؟ قال أنا ابن أبي وأمير المؤمنين هو السيّد.
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد: أنت أكبر أم أنا؟ فقال: رسول الله أعزّ وأكبر وأنا أقدم منه في المولد. وقال عمرو بن عثمان لطويس: أيّنا أسنّ؟ قال: لقد شهدت زفاف أمّك المباركة على أبيك الطيّب، فلم يجعل الطّيب صفة للام تفاديا من سوء ظنّ فيه.
وفي ضدّ ذلك
ما روي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: أتبيع هذا الثوب؟ فقال: لا عافاك الله. فقال: لقد علمتم لو تعلمون قل: لا، وعافاك الله.
وتكلّم بعض أهل زماننا عند الصاحب فسأله عن شيء فقال: لا أطال الله بقاءك فقال: قل لا، وأطال الله بقاءك فقال: بعضهم ما رأينا واوا أحسن موقعا من واوك.
(7) ومما جاء في مفاضلة النطق والسكوت والمقال والسماع
تفضيل النطق على السكوت
قيل لزيد بن عليّ: الصمت خير من الكلام، فقال: لعن الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للحصر، والله المماراة «1» أسرع في هدم العيّ من النار إلى يبيس العرفج «2» .
واختصم رجلان إلى سعيد بن المسيب في النطق والصمت فقال: بماذا أبين لكما ذلك؟ فقالا بالبيان فقال: إذا الفضل له. وقيل لبعضهم: الصمت مفتاح السلامة، فقال ولكنّه قفل الفهم.
قال الشاعر:
خلق اللسان لنطقه وبيانه ... لا للسكوت وذاك حظّ الأخرس(1/92)
فإذا جلست فكن مجيبا سائلا ... إنّ الكلام يزين ربّ المجلس
الحثّ على الإكثار من الكلام
قال حكيم: لولا سوء العادة لأمرت فتياني أن يماري بعضهم بعضا. وقال العتابي:
أقدر الناس على الكلام من عوّد لسانه الركض في ميادين الألفاظ. طول الصمت حبسة «1» وترك الحركة عقلة.
وقال أبو عطاء:
أقلّبه كيلا يكلّ بحبسة ... وأبعثه في كلّ حقّ وباطل
تفضيل الصمت
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله عبدا صمت فسلم، أو قال خيرا فغنم، فجعل الصمت أفضل لأن السلامة أصل والغنيمة فرع.
قال الشاعر:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه ... إنّ البلاء ببعضه مقرون «2»
وقال آخر:
مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام
تفضيل كل واحد منهما في أوانهما والتمدّح بهما
قيل لبعضهم: السكوت أفضل أم النطق؟ فقال: السكوت حتّى يحتاج إلى النطق، فإذا احتيج إلى النطق فالسكوت حرام.
وقيل ليونس بن حبيب «3» : السكوت أفضل أم الكلام؟ فقال: السكوت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ، وقيل: الضراط في أوانه خير من الكلام في غير زمانه.
قال الشاعر:
والصمت أزين بالفتى ... من منطق في غير حينه «4»
وقيل: ربما كان الصمت أبلغ من الإبلاغ في النطق مع عدم إصابة الفرصة.
قال ابن الرومي:
ناهيك من صمت بلا عيّ به ... وكذاك من لسن بغير سفاه «5»(1/93)
ملكت سكينته عليه أمره ... فكأنه ساه وليس بساه
وقال ابن علقمة:
صموت في المجالس غير عيّ ... جدير حين ينطق بالصّواب
ذمّ الإكثار من الكلام
قيل: من أكثر أهجر. المكثار كحاطب الليل، من أطلق لسانه بكل ما يحبّ كان أكثر مقامه حيث لا يحبّ.
وقال الجريمي:
وخير حال الفتى في القول أقصدها ... بين السبيلين لا عيّ ولا هذر
وقال أياس لخالد بن صفوان: لا ينبغي أن نجتمع في منزلك لأنّك تحبّ أن لا تسكت، وأنا أحبّ أن لا أسمع.
الحثّ على ترك فضول الكلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله من أمسك الفضل من قوله.
قال عبد الله بن الحسين لابنه: استعن على الكلام بطول الفكر، في المواطن «1» التي تدعو نفسك إلى الكلام، فإن للقول ساعات يضرّ خطؤها، ولا ينفع صوابها، وقيل: من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه.
وقال عبد الله بن طاهر لبعض منادميه: يا هذا أما أقللت فضولك أو أقللت دخولك؟
وقيل: فضل النظر يدعو إلى فضل القول.
الحثّ على السكوت مطلقا
قيل: إن كانت العافية من مالك فسلّط السكوت على لسانك. الصمت داعية المحبّة، الصمت زين العاقل وستر الجاهل.
قال الشاعر:
لو كان من فضّة تكلّم ذي ... النطق لكان السكوت من ذهب
الحثّ على تدبّر الكلام قبل إيراده «2»
قال الحسن: لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إليه فإن كان له تكلم به وإلا تركه، ولسان الجاهل قدام قلبه يتكلّم بما عرض له. وقيل: من لم يخف الكلام تكلّم ومن خافه تبكم.
قال الشاعر:
تأمّل فلا تستطيع ردّ مقالة ... إذا القول في زلّاته فارق الفما «3»(1/94)
وقال بعضهم: ذر الرأي الفطير، والكلام القضيب، فلا يطيب الخبز إلا بائتا.
التّحذير من جناية اللسان
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النّار، فقال: الأجوفان البطن والفم. وقيل فيما روي عنه: وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وكان لقمان عبدا أسود لبعض أهل الأيلة فقال له مولاه: اذبح لنا شاة وائتنا بأطيب مضغة فأتاه باللسان. فقال له: اذبح لي أخرى وائتني بأخبث مضغة فأتاه باللسان، فقال له في ذلك، فقال: ما شيء أطيب منه إذا طاب، ولا أخبث منه إذا خبث.
وقيل: لم يستر من الجوارح «1» شيء كما ستر اللسان، فإنّ عليه طبقتين وسترين.
وقيل لحذيفة: لم أطلت سجن لسانك؟ فقال: لأنه غير مأمون الضرر إذا أطلق.
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.
قال الشاعر:
كم في المقابر من قتيل، لسانه ... كانت تهاب لقاءه الأقران
متكلّم بكلام أذى إلى هلاكه
بينما المنذر «2» في بعض متصيّداته إذ وقف على رابية فقال بعض أصحابه: أبيت للعن لو أن رجلا ذبح على هذه الرابية إلى أيّ موضع عسى أن يسيل دمه؟ فقال: أنت والله المذبوح لننظر ذلك، وأمر به فذبح.
ومر ببهرام طائر بالليل فصاح فرماه بسهم فأصابه فقال: لو سكت الطائر لكان خيرا له.
التثبّت في الجواب والتسرّع فيه
سأل يهودي النبي صلى الله عليه وسلم مسألة، فمكث عليه السلام ساعة ثم أجابه عنها، فقال اليهودي: ولم توقفت فيما علمت؟ قال: توقيرا للحكمة.
وقيل: من إمارة الحكيم التروّي في الجواب بعد استيعاب الفهم.
وقيل: من علامة الحمق سرعة الجواب وطول التمنّي والاستغراب في الضحك.
وقال رجل لإياس ليس فيك عيب غير أنّك تعجل بالجواب، فقال: كم أصبع في يدك؟ فقال: الرجل خمس، فقال: لقد عجلت أيضا، فقال: هذا علم قد قبلته فقال إياس وأنا أعجل أيضا في ما قد قبلته علما.
الحثّ على حسن الاستماع، والممدوح به
قيل: تعلّم حسن الإستماع، كما تتعلم حسن المقال، ولا تقطع على أحد حديثا.(1/95)
وقيل: استمع، فسوء الإستماع نفاق. وقيل للسائل: على السامع ثلاث أمور: جمع البال، وحسن الإستماع، والكتمان لما يقتضي الكتمان.
وقيل: أساء سمعا فأساء إجابة.
وقال فيلسوف لتلميذ له: أفهمت؟ قال: نعم. قال: كذبت لأن دليل الفهم السرور ولم أرك سررت.
وقيل: نشاط القائل على قدر فهم السامع.
وقيل: من سعادة القائل أن يكون المستمع إليه فهيما.
وقيل فلان في الاستماع ذو أذنين «1» وفي الجواب ذو لسانين «2» .
قال الشاعر:
إذا حدّثوا لم يخش سوء استماعهم ... وإن حدّثوا قالوا بحسن بيان
وقال رجل: أذني قمع لمن يحدّثني.
النّهي عن محادثة من ساء استماعه
قيل: من لم ينشط لاستماع حديثك ما رفع عنه مؤنة الإستماع. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم إعراضا فأمسك.
وقيل: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه. وقيل حدث حديثين امرأة فإن لم تسمع فأربع، أي كفّ.
الحثّ على إزدياد السّماع على المقال
سمع بقراط «3» رجلا يكثر من الكلام، فقال له: إن الله تعالى جعل للإنسان لسانا واحدا وأذنين، ليسمع ضعف ما يقول.
تفضيل السماع على المقال
كان أعرابي يجالس الشعبي «4» فأطال الصمت، فسأله عن ذلك، فقال: أسمع فأعلم، واسكت فأسلم.
وقيل لأعرابي: لم لا تتكلم؟ فقال: حظّ لسان الرجل لغيره وحظّ سمعه له. وقال محمد بن المنكدر: لأن أسمع أحبّ إليّ من أن أنطق، لأن المستمع يتّقي ويتوقّى.(1/96)
الحثّ على التصامم عن الخنا والتمدّح به.
قال محمود الورّاق:
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النّطق به
وقال أبو تمّام:
أذن صفوح ليس يفتح سمّها ... لدنيئة وأنامل لم تقفل «1»
وقال آخر:
فتى عزلت عنه الفواحش كلّها
وقال آخر:
عيّ عن الفحشاء أما لسانه ... فعفّ وأما طرفه فكليل «2»
وقال الموسوي:
إذا العدوّ عصاني خاف حديدي ... وعرضه آمن من هاجرات فمي «3»
وله أيضا:
ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ... ولا أنطق العوراء والقلب يعرب
(8) ومما جاء في المذاكرة والمجادلة
فضل المذاكرة في العلوم
قال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
«4» وقال النبيّ: لقّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة.
وقال ابن المقفع: لا تخل قلبك من المذاكرة فيعود عقيما ولا تعف طبعك من المناظرة فيعود سقيما.
وقال الحسن رضي الله عنه: حادثوا هذه القلوب فإنّها سريعة الدّثور «5» ، وقال المأمون: لا تتقد مصابيح الأذهان، إلا بصفو مواردها. وقيل: من أكثر مذاكرة العلماء، لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم.(1/97)
المستكثر بمناظرته الفائدة
قال رجل لآخر: مناظرة مثلك في الدّين فرض، والاستماع منك أدب، ومذاكرتك تلقيح للعقل.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما كلّمني أسديّ إلا تمنيت أن يمدّ في حجته لتكثر منه فائدتي.
الممدوح بإجادة المناظرة
مدح أعرابي رجلا فقال: يفتح ببيانه منغلق الحجّة، ويسدّ على خصمه واضح المحجّة. وقيل: أورد فلان ما لا ينكره الخصم، ولا يدفعه الوهم، وما رأيت أسكن نورا وأبعد غورا وآخذ بأذن حجة منه.
قال الشاعر:
إذا قال بذّ القائلين مقاله ... ويأخذ من أكفائه بالمخنق «1»
قال العجير:
من النّفر المدلين في كلّ حجّة ... بمستحصد من حوله الرأي محكم «2»
وقال آخر:
يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرا يزلّ مواقع الأقدام
كان ذلك من قول الله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ
» .
وقال البحتري:
أحضرته حججا لو اجتلبت بها ... عصم الجبال لأقبلت تتنزّل
وقال أبو مسلم:
يجوب ضباب معاني الكلام ... بحذف الصّواب لدى المجمع
وقال بشر بن المعتمر «4» لأبي الهذيل عند المأمون بعد مناظرة كانت بينهما: كيف رأيت وقع سهمي؟ فقال: حلوة كالشهد ولينة كالزبد فكيف ترى سهامنا؟ فقال: ما أحسنت بها قال: لأنها لاقت جمادا.
صعوبة الجدال
قال ابن الراوندي: ما التّصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من(1/98)
التصدّي للجواب لمن أمّك بالسؤال، وقال: تحت كلّ «لم» «1» أسد ملم.
نظر يزل مواقع الأقدام
وسئل الشعبي عن مسألة فقال: زيادات وبر لا تنساب، ولا تنقاد لو نزلت بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأعضلت.
الدافع باطل خصمه بحقّه
قيل: لا تدفع الباطل بالغلبة إذا أمكنك أن تدفعه بالحجّة.
وقال ابن عباس عجبا لمن يطلب أمرا بالغلبة، وهو يقدر عليه بالحجّة، فالحجّة دين يعقد به الطاعة، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة.
وقال ثعلبة:
ولربّ خصم جاحدين ذوي شذا ... تقذى صدورهم بهتر هاتر «2»
لقد ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحقّ ظاهر «3»
وقال آخر:
ألا ربّ خصم ذي فنون علوته ... وإن كان ألوى يشبه الحقّ باطله
وهذا معنى قول العتابي «4» : البلاغة تصوير الباطل في صورة الحقّ.
المشاغب من يشاغبه
قال أبو الأسود:
فشاغبته حتّى ارعوى وهو كاره ... وقد يرعوي ذو الشغب بعد التّحامل «5»
فإنّك لم تعطف إلى الحقّ جائرا ... بمثل خصيم عاقل متجاهل
وقال آخر:
وما خصم الأقوام من ذي خصومة ... كمثل بصير عالم متجاهل
القائم في المناظرة مقام الغيب
وقال شاعر:
ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمع من نواصي النّاس مشهود «6»(1/99)
فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مردود
وقال حسّان «1» :
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي حاجة في القول جدّا ولا هزلا
الموصوف بإنصاف النظّار لديه والسكون في مجلسه
قال أبو تمّام:
ثبت الخطاب إذا اصطكّت بمظلمة ... في رحله ألسن الأقوام والركب
لا المنطق اللخي يزكو في محافله ... يوما ولا حجّة الملهوف تستلب «2»
وقال المتنبّي:
الفاصل الحكم عيّ الأوّلون به ... والمظهر الحقّ للساهي على الذهن «3»
وكان أبو الشمر إذا ناظر لم يحرّك يديه ولا رأسه، ولا منكبيه حتّى كان كلامه يخرج من صدع صخرة.
وقال الأنصاري:
مجالسهم خفض الحديث وقولهم ... إذا ما قضوا في الأمر وحي المحاجر
وقال المتنبّي:
وإذا هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل
وهذا منقول من قول الآخر:
واستبّ بعدك يا كليب المجلس
المدفوع عن حجّة قويّة لا تعرف لغموضها
قال ابن الرومي:
غموض الحق حين تذبّ عنه ... يقلّل ناصر الحقّ المحقّ
يضلّ عن الدقيق عقول قوم ... فتحكم للمجلّ على المدقّ
وقيل ما دقّ من الكلام يعجز عنه كثير من الأنام، فينسب إلى الإحالة وإن كان في غاية الجلالة، ولذلك قال أبو تمّام:
فصرت أذلّ من معنى دقيق ... به فقر إلى فهم جليل «4»(1/100)
مدح الراجع إلى الحقّ في المناظرة
قال عمر رضي الله عنه: الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي «1» في الباطل. وقيل:
المبطل مخصوم، وإن خصم والمحق فالج، وإن خصم.
وقال عمر رضي الله عنه يوما: أيّها الناس ما هذه الصدقات التي أحدثتم لا يبلغني أن أحدا أتجاوز صداق النبي صلى الله عليه وسلم إلا استرجعته منه فقامت إليه امرأة فقالت: ما جعل الله ذلك إليك يا ابن الخطاب، إن الله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
، فقال عمر: أما تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت. ناضلت أميركم فنضلته.
وقال الشعبيّ: إنّي لأستحي أن أعرف الحق فلا أرجع إليه.
وقيل لم ير أذعن للحجة إذا لزمته من عمرو بن عبيد.
المستمرّ على خطأه وقد بان له الصواب
قال عمارة: أني لأمضي على الخطأ إذا أخطأت أهون عليّ من نقض وإبرام في مجلس واحد.
وقال بعضهم: نعم المركب اللجاج بعد الحجاج.
ذمّ من تشكّك في الضروريّات
قيل: من شكّ في المشاهدات فليس بتامّ العقل.
قال المتنبي:
وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل «2»
حكى المتكلّمون أنّ جماعة يلقّبون السوفسطائية، يقولون: لا نعرف لشيء حقيقة، ويقولون لمّا كان أحدنا يرى الشيء في رقدته فيتصور له بصورة ما يشاهده في يقظته، ونرى الصورة في الماء ثم لا حقيقة لها، لم يمتنع أن لا يكون لما نعاينه «3» ونشاهده حقيقة. وذكر بعض العلماء أنه لم يكن قطّ على هذه الصفة أحد وأن السوفسطائية أنما هو شيء من توليدات المتكلمين ومنحولاتهم.
ذمّ القاصر عن المناظرة
قال الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ
«4» ، وقيل(1/101)
لبعضهم: كيف رأيت فلانا في المناظرة؟ فقال: عييا غبيا، وقال ابن أبي الطاهر في المبرّد:
يفرّ من المناظر إن أتاه ... ويرمي من رماه من بعيد «1»
ونحوه، ما قيل: فلان إذا تباعد ضبح ضبوح الثعلب، وإذا حضر قبع قبوع القنفذ.
ذمّ المراء «2» في المناظرة
روي في الحديث من تعلّم العلم لأربعة دخل النار ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، أو يأخذ به من الأمراء، أو يستميل به وجوه الناس إليه.
قال ابن عباس لمعاوية (رضي الله عنهما) : هل لك في مناظرتي في ما زعمت؟ قال:
وما تصنع بذلك؟ فأشغب بك وتشغب بي فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ويبقى في قلبي ما يضرّك.
وقيل: الناس رجلان: عالم فلا تماره، وجاهل فلا تجاره.
وقال زيد بن جندب:
ما كان أغنى رجالا ضلّ سعيهم ... عن الجدال وأعناهم عن الشّغب
وقيل: إذا تشاجرت الخصوم طاشت الحلوم «3» ونسيت العلوم.
وقيل: من ترك المراء فهم وعلم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما ضلّ قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل، وقال سفيان: ما ابتدع قوم إلا أعطوا الجدل.
الحثّ على السؤال على غير التعنت
قيل: إذا جالست عالما فسل تفقّها لا تعنّتا.
وقال مسهر: سألت مالكا عن شيء، فقال: لا تسألني عمّا لا تريد فتنسى ما تريد.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل وقد أكثر من سؤاله تعنتا: اتركوني ما تركتكم. وقال عليه الصلاة والسلام: إن بني إسرائيل هلكوا بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.
النّهي عن المناظرة ما أمكن
قال ابن المقفع: لا تعرضنّ عقلك على النّاس، فإذا اضطرك أمر فكن كصاحب الشطرنج، بيني أمره على القائمة فإن وجد ضربة غريبة انتهزها، وإيّاك أن تبتدىء في مجلس لم تسبر عقول أصحابه، فبين العقول بون بعيد.(1/102)
ذمّ الجلبة وخوض الكلّ في الكلام
قيل: لا يميل إلى الجلبة واللّجاج إلا من عجز عن الغلبة بالحجاج. وقال المأمون لهاشمي حضر مجلسه فناظره وشغب:
لا ترفعنّ صوتك يا عبد الصمت ... إنّ الصواب في الأسدّ لا الأشدّ «1»
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل كان يكثر الصياح والجلبة: اخفض الصوت فلو نيل خير برفع الصوت لأدركه الحمير والكلاب.
وكان أحمد بن الخصيب إذا ناظر شغب وجلب، وربّما رفس من يناظره، فقال فيه بعض المحدثين، يخاطب الخليفة المنتصر:
قل للخليفة يا ابن عمّ محمّد ... أشكل وزيرك إنّه ركّال «2»
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصّدور مجال
وهذا يقارب ما روي أنّه شكا إلى المأمون من بعض قضاته، أنه يعضّ الخصوم، فوقّع ليشنق.
وأنشد الأصمعيّ:
حديث بني قرط إذا ما لقيتهم ... كنز والدّبا في العرفج المتقارب
وقال مسلم بن عبّاس:
كأنّ بني رالان إذ جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهنّ سويق
الحثّ على المخالفة ودفع الصواب بالخطأ
قالت إعرابية لابنها: إذا جلست مع القوم، فإن أحسنت أن تقول كما يقولون، وإلا فخالف تذكر ولو كان بتعليق أير حمار في عنقك. وقال أعرابي: إذا لم يكن لك في الخير اسم فارفع لك في الشر علما، وقال بعضهم: خالف تذكر، فقالوا: إنما هو تنكر، فقال:
هذا أول الخلاف.
ذمّ مخالف ألدّ في كلّ صواب
قال الله تعالى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا
«3» وقال تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
«4» وقال تعالى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ
«5» .
وقال الشاعر:
رقيع خصيم في الصّواب كأنّه ... برد على أهل الصّواب موكل(1/103)
وقال ديمقراطس: عالم معاند خير من جاهل منصف، فقال تلميذه: الجاهل لا يكون منصفا، والعالم لا يكون معاندا.
وقيل: كثرة الخلاف حرب وكثرة الموافقة غشّ.
المستأذن في سؤال مسألة
قال ابن شبرمة لأياس بن معاوية: أتأذن لي في مسألة ألقيها إليك؟ فقال إياس:
استربت بك حين استأذنت، فإن كنت لا تسوء جليسا، ولا تشين «1» مسؤولا فهاتها.
وقال أبو العيناء: لعبيد الله: أسأل أم أسكت؟ فقال: إن سألت أفدت وإن سكت كفيت.
شروط المناظرة
اجتمع متكلّمان، فقال أحد هما: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلا، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت إلى تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف وعلى أنّ كلامنا يبني مناظرته على أن الحقّ ضالته والرشد غايته.
وقال أبو يعقوب الخطابي لجلسائه: إنّما اجتمعتم للأدب لا بجوار ولا نسب، فوفوه حقّه ولا تثلبوا أحدا. فمن ثلب ثلب وإيّاكم والمراء في الأديان فإنها مفسدة بين الإخوان، ونقص عند أهل الزمان. وعليكم بالأصول، ولا تكثروا فتملوا واستريحوا إلى ما يوافق من الأدب، فإنه غض أبدا غير مملول، ولا تتجاوزوا في النّحو قدر الحاجة، فغاية الحاذق فيه معروفة.
وقيل: كان يعقوب الخطابي إذا جلس إليه أصحابه يقول: اعفونا من ثلاث وخوضوا بعد فيما شئتم: من ذكر السلف، وأن تقولوا فلان خير من فلان، ومن ذكر القدر.
مدح الجواب الحاضر «2»
قال مسلمة بن عبد الملك: ما أوتي العبد بعد الإيمان بالله شيئا أحبّ إليّ من جواب حاضر، لأن الجواب إذا كان بعد نظر وتفكّر، لم يكن بشيء. ألم تسمع قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ
«3» إلى قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
«4» ، وقال عمرو ابن العاص: ما اتقيت جواب أحد من الناس غير جواب ابن عبّاس (رضي الله عنه) ،(1/104)
لبداهته. وقال الحجّاج: من لم يخف الجواب تكلّم، ومن خافه تبكّم.
قال الشاعر:
ما أحرّ الكلام يرحمك الله ... ولكنّ أحرّ منه الجواب
إضجاع القسيّ، والاعتماد عليها في الخطاب
وما جاء من الأجوبة الجيّدة فهي مذكورة في أمكنتها المختصّة بها. كانت العرب إذا اجتمعت للمناظرة والمفاخرة يضجعون قسيّهم ويعتمدون عليها.
وقال الحطيئة في مرثية:
أم من لخصم مضجعين قسيّهم ... ميل خدودهم عظام المفخر
وقال:
إذا اقتسم النّاس فضل الفخار ... أطلّنا على الأرض ميل العصا
(9) ومما جاء في وصف الشعر والشعراء
الرخصة في نسج الشعر وإنشاده
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: أهجهم وروح القدس معك. وقد مدحه غيره شاعر فحباه وأجازه «1» . وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما شاعرين وعليّ رضي الله عنه أشعر منهما، ولما قال الجعديّ فيه صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السما عن جدّنا وجدودنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فقال: إلى الجنّة يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: لافضّ فوك.
وروى أبو الغطريف الأسدي عن جدّه قال: عدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، فسمعته يقول: لا بأس بالشعر لمن أراد انتصافا من ظلم واستغناء من فقر، وشكرا على إحسان.
وعاب بعض النّاس الشعر عند ابن عبّاس، وكان قد قام إلى الصلاة فقال:
إن يصدق الطّير ننك لميسا
ثم قال عقيبه: الله أكبر ودخل في الصلاة. وقال أبو بكر رضي الله عنه كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وشاعر عنده ينشده، فقلت له: أشعر وقرآن؟ فقال هذا مرّة وهذا مرّة.(1/105)
جواز إجازة الشّعراء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إعطاء الشعراء من برّ الوالدين. وقال صلى الله عليه وسلم في شاعر مدحه وعاتبه في بعض ما فعله: اقطعوا لسانه يعني بالعطية.
وأعطى الزهري شاعرا، فقيل له في ذلك، فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وحرم الشعراء الحجّاج في أوّل مقدمه العراق، فكتب إليه عبد الملك: أجز الشعراء فإنهم يجتبون «1» مكارم الأخلاق ويحرضون «2» على البرّ والسخاء.
قال الشاعر:
صونوا القريض فإنّه ... مثل المياسم في المواسم «3»
الشعر جامعة المفا ... خر والمحاسن والمكارم
منفعة الشّعر
قال الحجّاج للمساور بن هند لم تقول الشعر، فقال: اسقي به الماء وارعى به الكلأ، وتقضى لي به الحاجة. وإن كفيتني تركته.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة، ويتبلغ القوم ويعطى به السائل.
وقال: نعم الهدية للرجل الشريف الأبيات يقدّمها بين يدي الحاجة يستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم.
وقال عبد الملك تعلّموا الشعر ففيه محاسن تبتغى ومساوىء تتقى.
وقال ابن الروميّ:
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما النّاس إلا أعظم نخرات
وقال أبو تمّام الطائيّ:
ولولا خلال سنّها الشعر ما درت ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم»
ذمّ نسجه والتكسّب به
قال الله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ
«5» ، وقال صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا، خير له من أن يمتلىء شعرا. وقال صلى الله عليه وسلم: شرّ الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه.
وقيل: لا تؤاخي شاعرا فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجانا. وسئل بعضهم عن حوك الشعر فقال: هو أسرى «6» مروءة الدني وأدنى مروءة السري.(1/106)
وسئل عوف بن أمية السكوتي عن نسج الشعر فقال: إن جددت كذبت، وإن هزلت أضحكت، فأنت بين كذب وإضحاك.
وقيل للبيد: لم لا تقول الشعر؟ فقال: في سورة البقرة وآل عمران شغل عن الشعر:
الكلب والشاعر في منزل ... فليت أنّي لم أكن شاعرا
هل هو إلا باسط كفّه ... يستطعم الوارد والصادرا
وقال: ما أجد آكلا للسحت «1» ، ولا أوضع ولا أطمع وأطبع، وأقلّ نفسا من شاعر متكسب بشعره.
وقال الحسن رضي الله عنه في الفرزدق «2» حين أوعده بالهجاء: هذا الذي جعل إحدى يديه سطحا والأخرى سلحا، فقال: إن أصلحتم سطحي وإلا رميتكم بسلحي. ولما حبس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة بسبب الزبرقان ثم عفا عنه، قال: إياك والشعر فأخرج لسانه وقال: ما لأولادي كاسب غيره «3» . قال عمر: فلا تهجهم. فقال: إن لم أهجهم لم يفرقوني «4» فلا يعطوني. قال: فاذهب فبئس الكسب كسبك.
تعظيم الشعر
مرّ الفرزدق بمؤدّب، وكان ينشد عليه صبيّ، قول الشاعر:
وجلا السيول عن الطلول كأنّها ... زبر تجدّ متونها أقلامها «5»
فنزل وسجد فقال المعلم: ما هذا؟ فقال هذه سجدة الأشعار نعرفها كما تعرفون سجدة القرآن.
ولما قدم أبو تمّام على الحسن بن رجاء، فأنشده قصيدته فيه حتى انتهى إلى قوله:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي «6»
قام قائما، وقال: والله ما سمعتها إلا وأنا قائم، لما تداخله من الأريحية فلما فرغ قال: ما أحسن ما جلوت هذه العروس. فقال أبو تمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أوفى مهر لها.(1/107)
ما استحبّه الأكابر من فرص الشّعر
قال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر فإيّاك والتشبيب «1» بالنساء فتعرّ شريفة؛ والهجاء فتهجّن كريما أو تثير لئيما؛ وإيّاك والمدح فهو كسب الأنذال. ولكن افخر بمآثر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بدّا فكن كمالك المرادي حين مدح فجمع في المدح بين نفسه وبين الممدوح، فقال: أحللت رحلي في بني ثعل، إنّ الكريم للكريم محلّ.
قال الشاعر:
أشغل قريضك بالنس ... يب وبالفكاهة والمزاح «2»
يا مادح القوم اللئا ... م وطالبا نيل السّماح «3»
مدح جماعة من الشّعراء وتفضيل بعضهم على بعض
ذكر امرؤ القيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك رجل مذكور في الدنيا منسيّ في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار.
قال الأصمعي: ما رأيت خمسة من العلماء قط إلا وأربعة منهم يقدّمون امرأ القيس ولا أربعة إلا وثلاثة منهم يقدّمونه.
وسئل بعضهم من أشعر العرب: فقال: امرؤ القيس إذا ركب «4» ، والأعشى إذا طرب «5» وزهير إذا رغب «6» ، والنابغة إذا رهب «7» .
وكان أبو عمرو يكثر وصف النابغة الذبياني وطبعه وحسن ديباجته، ويقدّمه بعد امرىء القيس.
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: قال: لي عمر رضي الله عنه، وأنا أسايره: أنشدني(1/108)
لأشعر شعرائكم، فقلت: من هو؟ فقال: هو زهير. إنه لا يعاظل «1» بين الكلام ولا يتّبغ حوشيّه «2» ، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال، قال ابن سلام: لم يبق في وصف الشعر شيئا، إلا أتى به في هذا الكلام.
وكان معاوية يسمّي الأعشى «صناجة العرب» «3» يعني أنه يطرب إطرابها.
وقال محمد بن سلام: سألت عمر بن معاذ التيمي عن أشعر الناس، فقال: أوس بن حجر «4» وأبو ذؤيب «5» فقلت: أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول يجىء امرؤ القيس يوم القيامة وبيده لواء الشعراء؟ فقال: اللواء إنما يكون مع دون الأمير.
وذكر قوم جريرا والفرزدق، فقال بعضهم: جرير كان أنسبهما وأسهبهما.
وسئل آخر عنهما فقال: جرير يغرف من بحر «6» ، والفرزدق ينحت من صخر «7» .
فقال الذي يغرف من بحر أشعر، وقال مروان بن أبي حفصة:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنّما ... حلو الكلام ومرّه لجرير
ولقد هجا فامضّ أخطل تغلب ... وحوى اللهى بمديحه المشهور
كلّ الثلاثة قد أبرّ بمدحه ... وهجاؤه قد سار كلّ مسير
الممدوح بإجادة نسجه والتمدّح بذلك، والحثّ عليه
ذكر عند أبي بكر رضي الله عنه الشعراء، فقال: أشعر الناس النابغة أحسنهم شعرا، وأعذبهم بحرا وأبعدهم غورا.
وقول عمر رضي الله عنه في زهير من هذا الباب وقد تقدم آنفا. وقيل: فلان إذا قال أسرع، وإذا مدح رفع وإذا هجا وضع. وسئل البحتري عن أبي تمام، فقال مدّاحة نواحة «8» ، عديّ بن الرقاع:
وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها(1/109)
نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتّى يقيم ثقافه منآدها «1»
وقال يزيد بن الحكم، متهكما بحمزة بن بيض: إنك لأستاذ الشعر. فقال: إني لأدق الغزل وأصفق النسج وأرق الحاشية.
ويقال: شعر مخشوب إذا كان جديدا لم يثقف. وقال ابن مقبل: إني لأرسل القوافي عوجا، فتأتيني وقد ثقفتها. وقيل: استجيدوا القوافي فإنها جراز «2» الأشعار.
الموصوف بالسّلامة من الشّعر
قال أبو تمّام:
يودّ ودادا أنّ أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقا إليها مسامع
وقال إبراهيم بن رجاء: يطيب بأفواه الرماة سماعها. وقال الناشي:
إنما الشعر من تحصل من قب ... ل ظهور الأقوال في الأذكار
فأتى لفظه يطابق معنا ... هـ بحسن الإيراد والإصدار
مطمع مؤيس قريب إلى الفه ... م بعيد الأغوار ضاحي القرار
وقيل لمعتوه: ما أجود الشعر؟ فقال: ما دلّ صدره على عجزه. ولم يحجبه شيء دون بلوغه.
شاعر رديء النّسج
أنشد رجل شعرا فقال لصاحبه: كيف تراه؟ فقال: سكر لا حلاوة له.
وأنشد عمارة شعر أبي العتاهية فمجه «3» سمعه وقال: هو أملس المتون قليل العيون.
وما كان مثله من الشعر يسمى مغسولا.
وأنشد رجل أعرابيا شعرا وقال: هل تراني مطبوعا؟ فقال: نعم على قلبك.
وأنشد رجل الفرزدق شعرا وقال: كيف تراه؟ فقال لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك.
وقال شاعر:
وأبو الدفاتر لا يزال يجيئنا ... بقصيدة قد قالها من دفتر
وقال آخر:
وبات يدرس علما لا قران له ... قد كان ثقّفه حولا فما زادا «4»(1/110)
وقال ابن أبي عيينة:
أقمت حولا على بيت تقوّمه ... فلم تصب وسطا منه ولا طرفا
شعر رديء النّسج
أنشد ابن الأعرابي:
وشعر كبعر الكبش فرّق بينه ... لسان دعيّ في القريض دخيل «1»
وقال العجاج «2» في ابنه: إنه يقول الشعر وابن عمه، وفي مثل هذا الشعر.
قال بعضهم:
وبعض قريض الشعر أولاد علّة ... يكدّ لسان النّاطق المتحفّظ
وقال ابن الحجّاج «3» :
فمن كان يحوي العطر دكان شعره ... فشعري بيتا مستراح ومخرج
وقال الجماز:
كأنّ أشعاره إذا انتقدت ... أنصاف كتب ليست بمؤتلفه
نهي المسيء عن نسجه
قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ قال: لأن الذي أرتضيه لا يجيبني، والذي يجيبني لا أرتضيه. وعرض رجل على أديب شعرا فقال: أخبأه كما تخبأ الهرة خرءها.
وقال شاعر:
لا تعرضنّ الشعر ما لم يكن ... علمك في أبحره بحرا
فلا يزال المرء في فسحة ... من عقله ما لم يقل شعرا
وقال الوائلي:
وحاطب ليل في القريض زجرته ... وقلت له قول الفصيح المجامل
إذا أنت لم تقدر على درّ لجّه ... فدعه ولا تعرض لحصباء ساحل «4»(1/111)
مفاضلة البديهة والرويّة ومدح الطّبع
قال ابن الرومي في الحكم بينهما:
نار الرويّة نار غير منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الريح
وقال معاوية لابن العاص «1» : أنا آدب منك، فقال: أنا للبهدية وأنت للرويّة «2» ، وبينهما بون «3» .
وممّا يؤكد تفضيل البديهة قول العبديّ في وصف البلاغة: أن تصيب فلا تخطىء وتعجل فلا تبطىء. وقيل: خير الفقه ما حاضرت به.
وقال الحطيئة:
فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوّره شهرا
واجتمع ابن مناذر وأبو العتاهية، فقال أبو العتاهية: كم بيتا تقول في اليوم؟ قال:
مقدار عشرة أبيات. فقال أبو العتاهية: فأنا أقول مائتين. فقال: فإنك تقبل من شيطانك نحو: ألا يا عتبة الساعة، أموت الساعة الساعة، ولو أني أقول مثل ذلك لقلت ألوفا.
قال المتنبّي:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمّق الزلل
المعتذر لرفض طريقة من النسج
قيل لنصيّب «4» : إنك لا تحسن الهجاء، فقال: من ذا الذي لا يحسن مكان عافاه الله أخزاه الله، ولكنّي رأيت الناس ثلاثة رجال: رجلا لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه، ورجلا سألته فمنحني وهو الممدوح، ورجلا سألته فلم يعط. فنفسي أحق بالهجاء إذ سوّلت لي أن أسأله.
وقال عبد الملك للعجّاج: بلغني أنك لا تحسن أن تهجو، فقال: من يقدر على تشييد أمكنة يمكنه إخرابها، فقال: ما يمنعك من ذلك؟ قال: أن لنا عزّا يمنع من أن نظلم، وحلما يمنع من أن نظلم، فعلام الهجاء؟ فقال: كلامك أشعر من شعرك.(1/112)
قال جرير: ما عشقت قط ولو عشقت لشببت، فإذا سمعت العجوز بكت على ما فات من شبابها، وإني لأرى الرجز مثل آثار الخيل في الثرى، ولولا أن سبق إليه غيري لأكثرت منه.
وقيل لأبي يعقوب: شعرك في مراثي الحسن ليس كشعرك في مدحه، فقال: أين شعر الوفاء من شعر الرجاء.
المهجوّ بأنه ينتحل الأشعار
قال أبو هفان: إذا أنشدكم شعرا، فقولوا أحسن الناس. ونظر أبو تمّام إلى سليمان بن وهب، وقد كتب كتابا، فقال: كلامك ذوب شعري.
وعرض رجل على ابن الجلاب قصيدة للمتنبي وادعى أنه قالها، فقال ابن الجلاب:
هذه للمتنبي. فقال الرجل: هي قصيدتي ومسودّتها عندي. فقال ابن الجلاب: فمبيضتها للمتنبي عندي.
وقال الصاحب لرجل عرض عليه شعرا: لو حللت عقاله لحق بأربابه.
وقال أبو محمد بن المنجم: أنشدت أبا القاسم الزعفراني قول الصاحب. رقّ الزجاج وراقت الخمر، (البيتين) فقال: لعن الله قائلهما فقد سرقهما من أبي نواس، فقلت: هما للصاحب. فقال: لعن الله أبا نواس فقد سرقهما من مولانا الصاحب. فقلت كيف سرق أبو نواس من مولانا الصاحب فقال: دعنا من هذا ما سرق إلا منه.
السالب غيره شعرا قهرا
وقف الفرزدق على الشمردل فاستنشده شعرا فأنشده:
وما بين من لم يعط سمعا وطاعة ... وبين تميم غير جزّ الغلاصم «1»
فقال: والله لتتركنّ لي هذا البيت، أو لتتركن عرضك، فقال: خذه لا بارك الله لك فيه.
وقال رؤبة: خرجت مع أبي فقال في الطريق أبوك راجز وجدّك وأنت مفحم فأنشدته:
كم قد حسرنا من عذرة عنس
حتى أتيت على آخرها، فقال: اسكت فضّ الله فاك. فلما انتهينا إلى سليمان أنشده إيّاها فأمر له بعشرة آلاف درهم. فقلت له في ذلك، فقال: سر فأنت أرجز الناس. فسألته أن يجعل لي نصيبا مما أعطى فأبى. ودخل ابن زهير على معاوية فأنشده:
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أوّل
(الأبيات) وهي في الحماسة فقال له معاوية: عهدي بك لا تشعر. فما لبث أن دخل(1/113)
معن، فأنشده هذه الأبيات. فالتفت معاوية إلى ابن زهير فقال: كيف انتحلتها فقال: إن معنا أخي من الرضاع وأنا أحقّ بهذا الشعر منه.
التوارد في الشّعر وادعاء ذلك
التوارد أن يتفق الشاعران في معنى، من غير أن يسمع أحدهما بمقالة الآخر. وسئل أبو عمرو بن العلاء «1» رحمه الله تعالى: كيف يتفق الشاعران؟ فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها.
ولأحمد بن أبي طاهر يعتذر لشعر ادّعى البحتري أنه سرقه منه:
الشعر ظهر طريق أنت راكبه ... فمنه منشعب أو غير منشعب
وربّما ضمّ بين الركب منهجه ... وألصق الطنب العالي إلى الطنب
وقال آخر وقد أتى سلطانا يمدحه فحرمه وزعم أنه مسروق:
وهبني سرقت الشعر ثمّ مدحته ... أما كان يؤتيني عليه جزائيا
وقال أبو المضاء:
لو أنّ جريرا جاءه في زمانه ... وأنشده شعرا لقال تنحّلا
وقال أبو تمام في مدح شعر غير مسروق:
منزّهة عن السّرق المورى ... مكرمة عن المعنى المعار
شعر أعاده قائله في غير الممدوح
أنشد أبو القاسم بن أبي العلاء يوما شعرا كاتب به رئيسا وكنّا سمعناه منه قبل.
فعوتب في ذلك فقال: أنا نظمته أقلّد به من أشاء.
وكان قد وقع إلى أبي الفضل بن العميد قصيدة المتنبي التي أولها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب «2»
فلما ورد عليه مدحه بها وبدل قوله:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغنّي منذ حين وتشرب «3»
فجعله أبا الفضل. فلما أنشدها استطال وتكبر وأظهر إعجابا بها فقال أبو(1/114)
الفضل لبعض ندمائه أخرج هذه القصيدة لينخفض فلما رآها تبسّم وخجل.
شعر يدلّ على همّة قائله وحاله
قال المأمون يوما لمن حضره: أنشدوني بيتا لملك يدل عليه بيته وإن لم يعرف، فأنشد:
أمن أجل أعرابية حلّ أهلها ... جيوب الفلا عيناك تبتدران
فقال: ما يدل هذا على أنه لملك، بل يجوز أن يكون هذا لسوقة من أهل الحضر.
ثم قال: الدالّ على ذلك قول يزيد بن عبد الملك:
اسقني من سلاف ريق سليمى ... واسق هذا النديم كاسا عقارا «1»
فإشارته إلى النديم تؤذن بأنه ملك.
وقوله: لي المحض من ودّهم، ويغمرهم نائلي.
وقال صالح بن حسان، للهيثم بن عدي: أعلمت أن النابغة الذبياني كان مخنّثا؟
فقال: ما علمت ولا سمعت. قال: فكيف قلت؟ قال لقوله: سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه، (البيتين) والله ما يحسن هذه الإشارة إلا مخنّث. فسمع ذلك رجل من قيس فقال:
بل صاحبك الأعشى «2» هو المخنّث حيث يقول:
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
النابغ في الشّعر بعد أن كان مكديا
قال السيّد الحميري «3» : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، كأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال، وبجنبها أرض كأنها كافورة، ليس فيها أشجار، فقال لي: أتدري لمن هذه النخيل؟ فقلت: لا. فقال: لامرىء القيس، فاقلعها واغرسها في هذه ففعلت.
فلما أصبحت أتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه، فقال: أتقول الشعر؟ قلت: لا.
فقال: أما أنك ستقول مثل شعر امرىء القيس، إلا أنك تقوله في قوم طهرة فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر والنابغتان سمّيا بذلك لأنهما عاشا دهرا لا يقولان شعرا ثمّ نبغا فيه.(1/115)
تسهيل قول الشّعر على ذي آلته
عمل سقراط بيتين، فقيل له: ما أحسن ما قلت. فقال: إن حفر بئر بقرب قناة يجري منها الماء، سهل. قال البديهي:
وأرى القوافي لا تصير مطيعة ... إلا إلى المثرين من أدواتها
والطبع ليس بمقنع إلا إذا ... حصلت إضافته إلى آلاتها
وقال آخر:
وما الطبع مغن وحده في نظامه ... ولا العلم من حدّ الطّباع بنائب
إذا لم تكن مجموعة أدواته ... فأيسر مبناه كنسج العناكب
وقيل: أصح الشعر وأسهله ما يقوله من بعثه أنف «1» أو دخله كلف «2» .
من تداخله لسماعه الأنفة والحميّة
كان بالمدينة فتى يتعشق امرأة، فوعدته يوما، فلمّا اجتمعا غنّت مغنية بهذا الصوت:
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا «3»
فأبت إلا الخروج فرجعت إلى منزلها، وبعثت إلى الرجل ألف دينار، وقالت: إن رغبت في فاجعل هذا مهري واخطبني من أبي.
ودخل رجل على أبي دلف فاستماحه فقال له: أتسأل وجدّك يقول:
ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر النّاس يسأل
فقال: نعم، وتضجّر. فلقي وكيلا لأبي دلف يأتي بمال فسلبه. واتصل الخبر بأبي دلف «4» فقال: أنا الذي علمته هذا فدعوه. وهذا الباب من جنس منفعة الشعر.
شعر سائر
قال أبو العتاهية:
في كلّ أرض قرى من منطقي مثلا ... بين المشاهد أو يبكي به وتر
وقال الطرمي:
لقد سار لي شرقا وغربا قصائد ... تغبّر حسنا في وجوه القصائد(1/116)
وقال المتنبّي:
أبقى على كنف الأيام من كنفي ... رضوى وأسير في الآفاق من مثل
وقال الكندي:
يقصر عن مداها الريح جريا ... وتعجز عن مواقعها السّهام
تناهب حسنها حاد وشاد ... فحثّ بها المطايا والمدام «1»
وقال المسيّب «2» :
ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثّل وسماع
وقال النّابغة:
أوابد كالسّلام إذا استمرّت ... فليس يردّ فدفدها التمنّي «3»
شعر أثّر في المقول فيه فرفعه أو وضعه
كان بنو قريع متى قيل لهم أنف الناقة استحيوا، حتى قال فيهم الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف النّاقة الذنبا
فصاروا بعد ذلك يتبجّحون «4» به ويقولون نحن من أنف الناقة.
ونمير «5» كانوا يتبجّحون باسمهم حتى قال فيهم الشاعر:
فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فكانوا بعد إذا سئلوا قالوا: من بني عامر.
وقال جرير:
والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا
فقالوا لو طعنوا بعد هذا في أستاههم ما حكّوها.
مفاضلة قصار الشعر وطواله
قيل لعقيل: لم لا تطيل الشعر؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لآخر ذلك، فقال: يكون أحوك، وعلى أفواه الرواة أعلق.(1/117)
وقالت مليكة بنت الحطيئة: يا أبت كنت ترغب عن القصار فصرت ترغب فيها، فقال: لأنها في الآذان أولج «1» وعلى الفكر أروج والنّاس إليها أحوج.
وقيل لآخر مثل ذلك فقال: حسبك غرة لائحة وسمة واضحة. وقال آخر: إذا مدحتم فأقصروا وإذا هجوتم فأطيلوا فالشرّ لا يملّ. وقال الصاحب: إن عبّاد إذا أطال قصّر وإذا قصر لم يقصّر.
اعتذار من أكدى «2» في شعره أو نادرته
قال عبد الملك لعديّ بن أرطاة: لم لا تقول الشعر؟ فقال: كيف أقوله وأنا لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب.
وقال الفرزدق: ربّما أتت عليّ ساعة وقلع ضرس أهون عليّ من قول بيت.
وقال عبيد: حال الجريض «3» دون القريض «4» ، واستأذن الغالبي على عبّاد فأذن له، فأنشده:
لما أنخنا بالوزير ركابنا ... مستعصمين بجوده أعطانا
من لم يزل للنّاس غيثا ممرعا ... متخرّقا في جوده «5» ...
وأنسي القافية. فجعل يردّد، فقال عبّاد: قل: كشجانا أو قرنانا وخلصّني فتذكّر وقال: في جوده معوانا.
وتبع رجل جماعة من الشعراء دخلوا على سلطان فلما أنشدوه قال للرجل: ما عندك؟
قال: أنا من الغاوين. فقال: ما معنى ذلك؟ قال: قال الله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ
«6» فأنا غاو تبعتهم، فضحك منه وأعطاه.
اشتمال الشعر على نقاية ونفاية
قال أبو عمرو بن العلاء: شعر بشّار سباطة الملوك فيها قطعة ذهب، وما شئت من رماد، والسباطة الكساحة، وأنشد بعضهم:
يا عائب الشعر مهلا ... فعيبك الشعر عيب
الشعر كالشّعر فيه ... مع الشّيبة شيب
وقال بعضهم في وصف شاعر: ثوب بواف ومطرف بآلاف.
وقال شدّاد الأعرابي: مثل الشعر مثل الإبل، فيها الكرام والخساس يسدّ بعضها خصاص بعض.(1/118)
وقيل لجرير: ما تقول في الجعديّ «1» ، فقال: سوق خلقان «2» ترى ثوبا يروعك وثوبا تستهجنه عينك. وقيل: إذا كان الكلام كلّه منقّى لم تبن فيه اللمعة والنكتة، ولذلك لم يستعذب الناس شعر صالح بن عبد القدوس «3» ، لما كان كلّه حكما.
وقال المتنبّي:
وفي الشعر ما تهوى النفوس إستماعه ... وفي الشعر ما قد ضمّه حبل حاطب
ضنّ الشاعر برديء شعره
قال عبد الله بن طاهر: آفة الشاعر البخل، لأنه يقول خمسين بيتا وفيها بيت رديء فلا يحتمل قلبه أن يسقطه.
وقيل: الشاعر كالصيرفيّ يجتهد في أن يروّج ما في كيسه من الزيوف.
اعتذار من قصّر عن مساجلة
. قال العتّابي:
ولا عار إن قصّرت دون مبرّز ... شأى الناس قبلي سعيه وشآني «4»
وإنّي كمن جارى جوادا بمقرف ... قوائمه مشكولة بحران «5»
وممّا يحسن أن يتمثّل به هنا قول الدارمي «6» :
كلانا شاعر من قول صدق ... ولكنّ الرّحى فوق التفال
قائل شعر ذكر أنه استعاره من المقول فيه
قال أحمد بن أبي الخصيب:
وإنّي وإن أحسنت في القول مرّة ... فمنك ومن إحسانك امتار هاجسي(1/119)
تعلمت ممّا قلته وفعلته ... فأهديت حلوا من جناي لغارس
وقال ابن طباطبا:
لا تنكرنّ إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
وحكي أن الصّاحب «1» دخل على عضد الدولة بهمدان، وعضد الدولة مكب على دفتر يقرأه فقال: يا أبا القاسم هذه رسالة لك في بعض فتوحنا نحن نأخذها بأسيافنا وأنت تجمّلها بأقلامك، فقال: المعنى مستفاد من مولانا وإن كانت الألفاظ لخادمه.
ثم أنشده:
وأنت أكتب منّي في الفتوح وما ... تجري مجيبا إلى شأوي ولا أمدي «2»
فقال: لمن البيت؟ فقال: لعبدك أبي إسحاق الصابىء. وكان الصابىء محبوسا ببغداد فأمر بالإفراج عنه والخلعة عليه فكان ذلك سبب خلاصه وتقدّمه.
كلام نثر صار شعرا من غير قصد
كتب عقال بن شبة:
للأمير المسيّب بن زهير ... من عقال بن شبّة بن عقال
فاتفق منه شعر.
وحضر الصاحب الحسن بن سعد، فرأى على عنوان كتاب: أبو الحسين أحمد بن سعد. فقال هذا شعر ثم قال: قل:
إلى الهمام الأريحيّ الفرد ... أبي الحسين أحمد بن سعد «3»
فقال أبو الحسين: علمت بعد ثمانين سنة أن كنيتي واسمي واسم أبي شعر، وعلى ذلك كتب عبد الله الخازن على عنوان كتابه:
حضرة الصاحب الجليل أبي القا ... سم كافي الكفاة إسماعيلا
وقال رجل لمناد:
يا صاحب المسح تبيع المسحا «4»
فقال صاحبه:
تعال إن كنت تريد الربحا(1/120)
فسمع أبو العتاهية ذلك فقال: قد قالا شعرا وهما لا يدريان.
ما جاء من لفظ القرآن والخبر موزونا
من ذلك قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ
«1» ، وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ
«2» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرّض أصحابه على حفر الخندق ويقول: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا. وكان أصحابه يجيبونه: أنك لولا أنت ما اهتدينا.
متناد في مدح أو هجو أول على ضدّه
مدح أعرابي نبطيا فقال:
إن أبا الهيجاء أريحيّ ... للريح في أثوابه دويّ
فقال النبطيّ: عنى أني أفسو. فقال الأصمعي: انظروا كيف ضاع هذا البيت. وسمع بعضهم قول الحطيئة «3» :
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل «4»
فقال هذا بيت قواد.
وأنشد قول الأخطل «5» :
وإني لقوّام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
فقال جرير: صدق ما قمنا بين يدي قيس لأخذ قربان ولا لأداء جزية بين يدي سلطان.
شعر لا يدرى أمدح هو أم هجاء
دفع أعرابي ثوبا إلى خيّاط، فقال الخياط: لأخيطنه خياطة لا تدري أقباء هو أم دواج، فقال: لأقولن فيك شعرا لا تدري أمدح هو أم هجاء. وكان الخياط أعور. ثم أنشد:
خاط لي زيد قبا ... ليت عينيه سوا(1/121)
فلم يدر أدعا له أم دعا عليه. ولما أنشد النابغة النعمان قوله:
تخفّ الأرض ما غبت عنها ... ويبقى ما بقيت به ثقيلا
غضب، وقال: لا أدري أمدحني أم هجاني؟ فأتى زهير فأخبره فقال حق له أن يغضب ولكن قل بعده هذا البيت:
أظنّك مستقرّ العزّ منها ... فتمنع جانبيها أن تزول «1»
فأتاه فأنشده ذلك فرضي، وقال: أما الآن فنعم.
من قصّد مديحا، فاتّفق منه هجو
جاء شعرور إلى زبيدة «2» فمدحها فقال:
أزبيدة بنت جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكفّ من الرغاب
فوثب إليه الخدم ليضربوه فمنعتهم، وقالت: إنه قصد مدحا وأراد ما يقول الناس شمالك أجود من يمينه، فظنّ أنه إذا ذكر الرّجل كان أبلغ وقد حمدنا ما نواه وإن أساء فيما أتاه.
ومدح شاعر أميرا فقال:
أنت الهمام ابن الهما ... م الواسع ابن الواسعه
فقال: من أين عرفتها قال قد جرّبتها، فقال: أسوأ من شعرك ما أتيت به من عذرك.
شاعر مغلوب بشعر ركيك
أتى أبو الشمقمق بشّارا «3» فقال: يا أبا معاذ أعطنا شيئا وصل إليك من السلطان، فقال: أتسألني وأنا شاعر؟ فقال: نعم إني مررت بالصبيان وهم يقولون:
إنّما بشّار فينا ... مثل تيس في سفينه
فرفع مصلاه عن ثمانمائة درهم وأعطاها له، وقال له: لا تكن راوية للصبيان بعد هذا.(1/122)
وقال دعبل «1» : وردت قمّ وكان لي على أهلها رسم، فاتفق أن جاءني شعرور فأخذ يناكدني ويؤذيني، فازدريت به وزجرته فذهب وهجاني فقال:
في إست دعبل بلابل ... ليس يشفى لقابل
ليس يشفيه منه غير ... أير بغل بكابل
فلهج الصبيان بذلك وصاروا يصيحون خلفي إذا رأوني ففررت من قمّ استحياء وما عاودتها بعد.
معرفة نقد الشّعر
«2» قال أبو عمرو: انتقاد الشعر أشدّ من نظمه، واختيار الرجل الشعر قطعة من عقله.
وقيل: إنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه.
وقيل: كن على معرفة الشعر أحرص منك على عقله. وقيل: كن على معرفة الشعر أحرص منك على حوكه.
وقال الفرزدق: لا يكون الشاعر متقدّما حتى يكون باختيار الشعر أحذق منه بعمله.
وقال أبو أحمد بن المنجم:
ربّ شعر نقدته مثل ما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
وقال الأهوازي:
ويزعم أنه نقّاد شعر ... هو الحادي وليس له بعير
وقال آخر:
قد عرفناك باختيارك إذا كا ... ن دليلا على اللبيب اختياره
عذر من يعرف الشعر ولا يصوغه
قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ فقال: أنا المسنّ أسنّ الحديد ولا أقطع.
وقيل لأديب: أشاعر أنت؟ فقال: لا، ولكني بهم خابر. وقال الشاعر:
وقد يقرض الشعر البكيّ «3» لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو خطيب
وقيل لأبي عبيدة: لم لا تقول الشعر مع غزارة علمك وجودة فهمك؟ فقال: لأن(1/123)
الذي يجيبني لا أرتضيه، وما أرتضيه لا يجيبني. ولبعضهم في المعنى:
أبى الشعر إلا أن يفيء رديئه ... عليّ ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما
مذاهب النّاس في نقده
مذاهب الناس في ذلك مختلفة. فمنهم من يميل إلى ما سهل، فيقول: خير الشعر ما لا يحجبه شيء عن الفهم. وقال آخر: خير الشعر ما معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك. ومنهم من يقول: ما كان مطابقا للصدق وموافقا للوصف كما قيل:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وسئل ذو الرّمة عن أشعر الناس فقال: من خبث جيّده وطاب رديئه. ومنهم من يميل إلى ما انغلق «1» معناه وصعب استخراجه، كشعر ابن مقبل والفرزدق. وكثير من النحويين لا يميلون من الشعر إلى ما فيه إعراب مستغرب ومعنى مستصعب.
وقال يزدان المتطبب أن أبا العتاهيّة أشعر الناس لقوله:
فتنفست ثم قلت نعم حبا ... جرى في العروق عرقا فعرقا
فقال له بعض الأدباء: إنما صار أشعر الناس عندك من طريق المجسة «2» والعروق.
مراتب الشّعراء والشعر
قال الجاحظ: يقال للمجيد فحل، ولمن دونه مفلق، ثم شاعر ثم شويعر ثم شعرور.
وقيل: أقسام الشعر أربعة: ضرب حسن لفظه ومعناه، وإذا نثر لم يفقد حسنه وذلك نحو:
في كفّه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروح في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وضرب حسن لفظه وحلا معناه نحو:
ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
وضرب جاد معناه وقصّر لفظه نحو:
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع(1/124)
وضرب قصر معناه ولفظه نحو:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن للسفر ما مضى مهلا
وقيل: الأشياء كلها ثلاث طبقات جيد ووسط ورديء. فالوسط من كل شيء أجود من الرديء عند الناس إلا الشعر، فإن رديئه خير من وسطه. ومتى قيل شعر وسط فهو عبارة عن الرديء. وقيل: الشعر ثلاثة أصناف: شعر يكتب ويروى، وشعر يسمع ويكتب، وشعر لا يكتب ولا يوعى «1» .
كثرة الشعر في الناس
قال إبراهيم الموصليّ: لولا أني أعلم أنّ الشعر من شرّ الكلام لقلت الشعر أكثر من النثر.
وقال أبو تمّام:
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنّه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
وقيل: الشعر أكثر من الكلام البليغ. فقد تجد عشرة آلاف شاعر ولا تجد خطيبا.
المستحسن الإنشاد
دخل أبو تمّام على إسحاق المصعبيّ فقال له: رأيت المخزوميّ آنفا وهو ينشد شعرا، فقال: أيها الأمير نشيد المخزومي يطرق بين يدي شعره، وشعري يطرق بين يدي نشيدي.
ومدح رجل آخر بحسن الإنشاد فقال: هو صنّاجة الشعر.
وقال الفرزدق لعبّاد العنبري: حسن إنشادك يزين الشعر في فهمي.
وقيل: إذا أنشدت المديح ففخّم، أو المراثي فحزّن أو من النسيب فأخضع، أو من الهجاء فسدّد وبالغ.
المستقبح الإنشاد
قال عبد الله بن معاوية:
يزين الشعر أفواه إذا نطقت ... بالشّعر يوما، وقد يزري بأفواه
وقال أبو خليفة:
كان الشعر من فيه ... إذا تمّت قوافيه
كنيف قد خرى فيه(1/125)
(10) ومما جاء في الكتابة والكتّاب
واضعو اللغات والخطّ
قيل: اللغات توقيفية «1» لقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
«2» .
وقيل: أوّل ذلك اصطلاح «3» ثم يجوز أن يكون الباقي توقيفا.
وقال الكلبيّ: وضع الخطّ ثلاثة نفر: مرامر بن مرة بن ذروة، وأسلم بن شدوة، وعامر ابن حدرة. فمرامر وضع الصورة، وأسلم فصّل ووصل، وعامر أعجم وأشكل.
وقيل: وضعه قوم من طسم «4» وهم أبجد وهوّز وحطّي وكلمن وسعفص وقرشت على أسمائهم. ثم وجدوا حروفا أخر وسمّوها الروادف وهي: ثخذ ضظغ. ولهم أربعة حروف لا يعدونها في أبي جاد، وتلك حروف المدّ واللين، ونون الغنّة في نحو منذر وجندل.
وأول من خاطب ب: أطال الله بقاءك، عمر بن الخطاب، قاله لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وأول من قال: جعلني الله فداءك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وأول من قال: جعلت فداءك عليّ عليه السلام.
وأول من كتب في صدر الكتاب مراسله أن يصلّي على محمد، يحيى بن خالد البرمكيّ «5» .
اتفاق الحروف مع النّجوم
عدد الحروف العربية عدد منازل القمر، ثمانية وعشرون. وغاية مبلغ الكلمة مع الزيادة سبعة على عدد النجوم السبعة. وصورة الزوائد اثنا عشر على عدد البروج. وأربعة عشر تندرج مع لام التعريف، مثل منازل القمر التي تستتر تحت الأرض وأربعة عشر فوقها وهذا اتفاق صحيح.
أسامي المترجمين
نقل ديوان الفارسيّة إلى العربية صالح بن عبد الرحمن، فقال له رجل من الفرس: كيف(1/126)
تكتب دهيوده وبنجيوده؟ فقال: عشير ونصف عشير. فقال: وكيف تكتب أندى؟ قال أيضا.
فقال: قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت أصل الفارسية، وقال لقومه اطلبوا مكسبا غيره.
وممّن نقل العلوم الكبار
ابن بطريق وابن ناعمة وأبو فروة وابن المقفع وأرسطو طاليس وأفلاطون من متقدّمي الحكماء ومستخرجي العلوم.
أجناس الكتابة
قال الكلبيّ «1» كتابة الأمم نوعان: أحدهما يبتدأ باليمين، وهي العربية والعبرانية.
والثاني من اليسار، وهو اليونانية والرومية. وكل كتابة من اليسار فهي مفصولة وكتابة الصين نقوش تصوّر.
وحكي أن ملك الروم قال ما حسدت العرب على شيء كحسدي على أشكال خطوطهم.
مرافق الخطّ
قيل: الخطّ لسان اليد وهو الطلسم الأكبر، وقيل: الخط هندسة روحانيّة ظهرت بآلة جسمانية.
وقيل: العلم شجر، والخطّ ثمر. وفضّل بعضهم الخطّ على اللفظ، فقال: الخطّ للقريب والبعيد، واللفظ للقريب فقط. وفضّل جالينوس اللفظ فقال: الخطّ كلام ميت واللفظ كلام حيّ.
اختلاف الخطوط وتشابهها
قيل: من أعجوبة الخطوط كثرة اختلافها مع اتفاق أصولها، كاختلاف الأشخاص مع اتفاقها في الصنعة.
وعجب بعض الكتاب من إلحاق القافية «2» بالولد بالشبه، فقال له قائف. أعجب من هذا ما يبلغنا من تمييزكم الخطوط وإلحاق كل بصاحبه.
وحكي أن رجلا ادّعى على آخر بخطّ له معه فجحد المدعى عليه خطّه فتحاكما إلى سليمان بن وهب. فأحضر الخطّ وأملى على الرجل كتابا طويلا ردّد فيه الحروف، فتصنّع الرجل في كتابته فأبت سجيته في أحرف إلا أن تأتي كما جرت به عادته، فتبيّن لسليمان كذبه. فاستقصى عليه حتى اعترف بخطّه.(1/127)
مدح الكتابة
جعل الله تعالى كتبة الملائكة كراما كاتبين. حيث يقول: كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون.
وقال تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ
«1» قيل: بلغت الكتابة بقوم مبلغ الملوك وأعطتهم أزمة الخلافة. ونال الخلافة أربعة من الكتاب: عثمان وعليّ ومعاوية وعبد الملك.
وسأل أعرابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له حتى انتهوا إلى ذكر معاوية، فقالوا:
كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فلج «2» وربّ الكعبة فإن الأمور بيد الكتاب.
قال الشاعر:
ما النّاس إلا الكتبه ... هم فضّة في ذهبه
قد أحرزوا دنياهم ... بشعبة من قصبه
وقال ابن الحجّاج:
وشمول كأنّما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتّاب
وقيل: كل صناعة تحتاج إلى ذكاء، إلا الكتابة فإنها تحتاج إلى ذكاءين: جمع المعاني بالقلب، والحروف بالقلم. ولذلك قيل بالفارسية: ديبر، أي له ذكاآن.
وقال الجاحظ: لم أر مثل طريقة الكتاب، فإنهم اختاروا من الألفاظ ما لم يكن وحشيا ولا ساقطا سوقيا، وقال: إنما عذب شعر النابغة لأنه كان كاتبا وكذلك زهير.
ذمّ الكتّاب
قال الجاحظ في ذمّهم: ما قولك في قوم أوّل من كتب منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالفه في كتابه، فأنزل الله فيه آيات، فهرب إلى جزيرة العرب فمات كافرا. ثم استكتب معاوية فكان أوّل من غدر وحاول نقض عرى الإسلام في أيامه، ثم كتب عثمان لأبي بكر مع طهارة أخلاقه فلم يمت حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذم من ذمه من أوليائه. ثم كتب لعمر رضي الله عنه، زياد بن أمية فانعكس شرّ مولود، وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخانه في خاتمه وأشعل حربا في مملكته.
وقال بعضهم، وقد جلس في ديوان: أخلاق حلوة وشمائل معشوقة ووقار أهل العلم وظرف أهل الفهم، وإذا سبكتهم وجدتهم كالزبد يذهب جفاء لا يستندون إلى وثيقة ولا يدينون بحقيقة. فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
قال كشاجم:
بأبي وأمّي أنت من مستجمع ... تيه القيان ورقّة الكتاب «3»(1/128)
وقال ابن المعتزّ:
وما كاتب بالكفّ إلا كشارط «1»
ذمّ عجزة الكتّاب
قال الحجام الأهوازي يهجو الكتّاب:
تعيس الزّمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب
وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتّاب
وقال آخر:
دعيّ في الكتابة يدّعيها ... كدعوة آل حرب في زياد «2»
ولما ولي الفضل بن مروان ديوان الخراج وموسى بن عبد الملك ديوان الضياع، قال محمد بن يزيد المراعي:
أرى التدبير ليس له نظام ... وأمر النّاس ليس بمستقيم
فديوان الضّياع بفتح ضاد ... وديوان الخراج بغير جيم
وذمّ رجل آخر فقال فيه: من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم عدم الكتابة والعجز عن تقويم الشعر.
من يسدّ كتابه مسدّ السّلاح والعساكر
قال ابن الرومي:
في كفّه قلم ناهيك من قلم ... نيلا وناهيك من كفّ به اتّشحا
يمحو ويكتب أرزاق العباد به ... فما المقادير إلا محا ووحى
وقال المتنبيّ:
يا من إذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيّرا
ورسائل قطع العداة سخاءها ... فرأوا قنا وأسنّة وسنوّرا «3»
وفي وصف القلم باب يجري هذا المجرى.
وممّا هو كالمضادّ لهذا الباب
ما روي أن عكلا «4» أغارت على إبل لبني حنظلة «5» فاستغاثوا بإسحاق بن إبراهيم، فكتب إلى عامل كتابا، فخرج صاحب الكتاب وخرق الكتاب وقال:
جعلتم قراطيس العراق سيوفكم ... ولن يقطع القرطاس رأس المكابر(1/129)
وقلتم خذوا البرّ التقيّ فإنّه ... أقلّ امتناعا واتركوا كلّ فاجر
فرحنا بقرطاس طويل وطينة ... وراحت بنو أعمامنا بالأباعر «1»
وقال البحتري:
فلا غرّني من بعده عزّ كاتب ... إذا هو لم يأخذ بحجزة رامح
ذمّ الكتابة إذا تولّاها النساء
قال عمر رضي الله عنه جنّبوهنّ الكتابة. وقال دقنس الفيلسوف وقد رأى جارية تتعلّم الكتابة: تسقي سهمها سما لترميك به يوما. وقال السامي:
ما للنساء وللكتا ... بة والعمالة والخطابه
هذا لنا ولهنّ منّا ... أن يبتن على جنابه «2»
سمع جرير شعرا فسأل عن قائله. فقيل: امرأة فلان. فقال: إذا زقت الدجاجة زقاء الديك فاذبحوها.
شكوى التأخّر في الكتابة
حتّام لا أنفكّ حارس سلّة ... ادعى فاسمع مذعنا وأطيع
وأكلف العبء الثقيل وإنّما ... يبلى به الأتباع لا المتبوع
فعليهم ثقل الأمور وحملها ... وعلى الرئيس الختم والتوقيع
نقص الأميّ وفضله
قال أميّ: كان النبي صلى الله عليه وسلم أميّا، فقيل له: أما علمت أنه كان لي منقبة «3» ولك مثلبة «4» ؟
وقال المأمون: لأحمد بن يوسف: وددت أن يكون لي خطّ كخطك، فقال: يا أمير المؤمنين لو كان في الخطّ حظّ ما أحرمه الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم.
وكانت أم سلمة تقرأ ولا تكتب ومحمّد بن الوليد المازني يكتب ولا يقرأ، وكان يتنافس فيما يكتب بيده. وولي عمر بن هبيرة العراق فكان يحفظ جمل حسابها ولا يكتب.
كتاب الرجل منبىء عن عقله
قال زياد: ما قرأت كتابا قطّ لرجل إلا عرفت مقدار عقله فيه.
وقال طريح بن إسماعيل: عقول الرجال في أطراف أقلامها.(1/130)
وقال يزيد بن المهلّب لابنه، حين استخلفه على خراسان «1» : إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه، فإنما هو عقلك تضع عليه طابعك، وإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع رأيه.
بقاء الخطّ
قال بعض الشّعراء
وما من كاتب إلا استبقى ... كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بخطّك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه
وقال الخليل:
كتبت بخطّي ما ترى في دفاتري ... عن النّاس في عصري وعن كلّ غابر
ولولا عزائي أنّه غير خالد ... على الأرض لاستودعته في المقابر
فضل الخطّ المستحسن
قيل في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
«2» إنّه الخطّ الحسن. قال الشاعر:
أضحكت قرطاسك عن جنّة ... أشجارها من حكم مثمره
مسودّة سطحا ومبيضّة ... أرضا كمثل الليلة المقمره
ونظر الحسن بن رجاء إلى خطّ حسن فقال: خطّك منتزه الألحاظ ومجتنى الألفاظ فلان فصيح القلم.
ونظر أعرابي إلى إسماعيل وهو يكتب بين يدي المأمون، فقال: ما رأيت أطيش من قلمه وأثبت من حكمه.
وقال ابن المعتزّ:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظم جوهرا
وقيل لبعضهم: كيف ترى إبراهيم الصولي؟ فقال:
يولّد اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدرّ بالأقلام في الكتب
وتحاكم إلى الحسن بن سهل صبيّان في خطّيهما، فقال لأحدهما: خطّك تبر مسبوك «3» ، وقال للآخر: خطّك وشي محوك «4» ، وقد تسابقتما إلى غاية فوافيتما في نهاية.(1/131)
من حسن خطّه وخدّه
وصف أحمد بن أبي خالد جارية كاتبة فقال: كان خطّها أشكال صورتها ومدادها سواد شعرها، وقرطاسها أديم وجهها، وقلمها بعض أناملها، وبيانها سحر مقلتها.
وقال:
بخطّ كأن الله قال لحسنه ... تشبّه بمن قد خطّك اليوم فائتمر
وقال الصاحب:
غزال يفتن النّاس ... مليح الخدّ والخطّ
فهذا النمل في العاج ... وهذا الدرّ في السّمط
ذمّ الخطّ القبيح
قيل: رداءة الخطّ إحدى الزمانتين «1» . قال الحسن المغربي:
جزعت من قبح خطّي ... وفيه وضعي وحطي «2»
رجعت من بعد حذقي ... إلى كتابة حطي
وقال علي بن محمد العلويّ:
أشكو إلى الله خطّا لا يبلّغني ... خط البليغ ولا حظّ المرجينا
وقال يحيى بن علي:
مع خط كأنّه أرجل البطّ ... أو الشرط في طلى الفتيان
وقال ابن المستنير وقد سئل عن خطّ وزير ليس بالجيد، رأيت حظّه أحسن من خطّه.
الخطّ الدقيق والجليل
كتب رجل لصاحبه كتابا دقيقا، فقال: ما خاطبتني ولكن عوذتني.
وقال الناشىء:
كتبت إليكم أشتكي حرقة الهوى ... بخطّ ضعيف والخطوط فنون
فقلت حكاني في نحول ودقّة ... كذاك خطوط العاشقين تكون
ورأى محمد بن سعيد كتابا بخطّ دقيق، فقال: هذا كتاب من يئس من طول حياته.
التثبّت في الكتابة والإسراع فيها
قيل التثبّت في الابتداء بلاغة وبعده عيّ «3» وبلادة. وكان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيّره.(1/132)
وقيل سرعة اليد محمودة ما أمنت نقصا أو سقطا «1» .
حمد الشكل وذمّه
قيل: حلّوا عواطل الكتب بالتقييد، وحصّنوها من شبه التصحيف والتحريف.
وقيل: إعجام الكتاب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله.
قال الشاعر:
وكأنّ أحرف خطّه شجر ... والشكل في أضعافه ثمر
قال أبو تمّام، وقد ضرب بعضهم المثل في هذا الباب، بقوله:
إذا ما قيّدت رتكت وليست ... إذا ما أطلقت ذات انطلاق «2»
وعرض خطّ على عبد الله بن طاهر، فقال: ما أحسنه لولا أنّه أكثر شونيزه.
ونظر محمد بن عباد إلى أبي عبيد وهو يقيّد بسم الله فقال: لو عرفته ما شكلته.
الوصيّة بتقويم حروف في الكتابة
قال الحسن: من كتب اسم الله فحسّنه، أحسن الله إليه. وكان يزيد بن ثابت يكره أن يكتب بسم الله من غير السين فإذا رآه كذلك محاه.
ورأى محمّد بن عيسى كاتبا كتب عيسى وردّ الياء إلى خلف، فقال: لا تكتب كذا فأيسر ما فيه أن الياء إذا كان إلى قدّام كان إقبالا، وإذا كان إلى خلف كان إدبارا.
وقيل أرّخوا ذوائب «3» الخطوط يعني ما كان من نحو الياء والنّون.
وقيل: المدّ في حرفين سوء التقدير. وقيل إذا اجتمع واوان وجب الفصل، والفصول حلى «4» الكتاب وجودة القراطيس شفاء القلم.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألق دواتك وأطل سنّ قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط «5» بين الحروف.
معرفة كتابة بإشارة
روي أنّ هشام بن عبد الملك كان يسايره أعرابيّ فقال له: انظر ما على ذلك الميل، فجاء الأعرابي وتأمله وقال: رأيت شيئا كرأس المحجن «6» متّصلا بحلقة يتبعها ثلاث كأطباء الكلبة كأنها رأس قطاة بلا منقار. فعرف هشام أنه يصفه.(1/133)
وأضلّ رجل بعيرا فقال لأعرابي: هل رأيت بعيرا سمته جعفر؟ فقال: ما أعرف جعفرا، ولكن رأيت بعيرا سمته محجن وسابورة وحلقة وهلال متصل بعضه ببعض، فقال: هاهوذا.
وقال مشمشة المخنّث للصولي: اكتب مشمشة يقرأ عليك السلام، فقال: قد كتبت.
فقال أرنيه فإن في اسمي دخالة «1» الأذن فقال: فعجبت من جودة تشبيهه.
تشبيهات بعض حروف المعجم
دعا أبا النجم بعض أصدقائه فعاد عنه سكران فقال:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخطّ رجلاي بخطّ مختلف
كأنّما يكتتبان لام الألف
وقال عبد السلام الحمصيّ:
كأنّ قافا أديرت فوق وجنته ... واختطّ كاتبها من فوقها ألفا
وقال أبو نواس في حباب الكأس:
خلته في حببات ال ... كاس واوات صغارا
وقال بعضهم في وصف بخيل: كأنّه جلمان من حيث جئته، وجدت لا، وفي تشبيه الشارب قال: فجاء كنصف الصاد من خطّ كاتب.
تتريب الكتب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتربوا الكتب فإنّه أنجح للحوائج.
وكان الفرزدق كتب وصيّة وأعتق عبدا عن دبر فترب الكتاب «2» العبد، فقال:
استنجحت الحاجة واستعجلت المنيّة لي يا ابن الفاعلة، احذفوا اسمه من الوصيّة.
رفع رجل قصة إلى عبد الله بن طاهر وقد أكثر عليها من التراب، فوقّع فيها إن ضمن لنا من الصابون ما ينقّي ثيابنا من تراب كتابه ضمنا له قضاء حاجته.
الكتابة في الأنصاف والظهر
قال الشاعر:
أنت لما ابتدأت تكتب في الأن ... صاف خفنا من قلّة الإنصاف «3»(1/134)
وكتب أحمد بن يوسف إلى صديق له: كتبت إليك في الظهر تفاؤلا بأن يظهرك الله على من ناواك «1» . ويجعلك ظهرا لمن والاك.
قال الشاعر:
العذر في الظهر عند الحرّ منبسط ... إذا رأى سطوات الدّهر بالنعم
لو كان يصلح خدّي ما جرى قلمي ... إلا عليه على أن المداد دمي
وقال آخر:
كتب القراطيس لذي حشمة ... وكتب ما بالظهر للنّاس
المكتوب على الحواشي
قال بعضهم: اطلبوا النكت في الفواشي والحواشي «2» . وقيل: التعليق في الحواشي كالشنوف «3» في آذان الأبكار.
الحكّ
قيل: من كثر شكّه جاد حكّه.
وقال علي بن عيسى لجماعة من الكتّاب، رأى في كتابتهم حكّا كثيرا: ما زلتم تغلطون وتحكّون حتى حذقتم بالحك.
ورأى الصاحب حكّا كثيرا في حساب دفع إليه، فقال: أرى فيه تأثير السكين أكثر من تأثير القلم.
قال الشاعر:
حذقك بالحكّ دليل على ... أنّك في الكتب كثير الخطأ
النّظر في كتاب الغير
قال الفضل بن الربيع: كنت أقرأ في كتاب، وإلى جانبي رجل من أهل المدينة، فجعل ينظر فيه: فلمحته وقلت: ما تصنع ويحك؟ قال: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما يتطلع في النار، ولنا أشياخ قد تقدّموا فقلت لعليّ أرى أعظمهم.
وكتب بعض الكتّاب كتابا وإلى جنبه رجل يتطلع، فكتب فيه: ولولا أنّ ابن الزانية فلانا يتطلّع عليّ فيما أكتبه، لشرحت كثيرا مما في قلبي، فقال الرجل: يا سيدي ما كنت أتطلع عليك، فقال: يا بغيض فإذا من أين علمت ما كتبت فيه.(1/135)
ترشّش المداد على الثوب
قال محمد بن مهران:
لا تجزعنّ من المداد ولطخه ... إنّ المداد خلوق ثوب الكاتب «1»
وقال الحسن بن وهب:
وما شيء بأحسن من ثياب ... على حافاتها سمة المداد «2»
وقال آخر في نقيض هذا:
يدلّ على أنّه كاتب ... سواد بأظفاره راسب «3»
فإن كان هذا دليلا لنا ... فإسكافنا كاتب حاسب «4»
التاريخ
كان الرسم أن يؤرخ بكل وقت تحدث فيه حادثة ظاهرة مشهورة. فالروم كانت تؤرخ بملك ذي القرنين وهو الإسكندر. والفرس كانت تؤرخ بأعدل ملك كان يتفق له، إلى أن باد ملكهم يزدجرد فهم يؤرخون منه. والعرب بمشاهير الحوادث كنزول إسماعيل مكّة، وعام الفيل، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وعليها استقر الحكم إلى الآن. وأول من أرّخ بذلك في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
العنوان
الرسم أن يكتب اسم الكاتب ضئيلا والمكتوب إليه فحلا جسيما. ورأى طاهر بن الحسين رقعة لابنه، إلى المأمون وعليه عبده عبد الله، فقال: يا بنيّ ابدل هذه اللفظة شيئا آخر فإني سميتك عبد الله فلا تشرك معه في ملكه غيره.
ووقّع المهدي في كتاب رجل كتب عليه عبده لا أعلمنّ أحدا ينسب نفسه إلى مخلوق مثله على عنوان، فإنه ملق كاذب لا يقبله إلا مفتون أو مأفون.
الختم
قيل في قوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ
«5» ، أي مختوم. وفي قوله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ
«6» ، أي مختوم.
وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : الكتاب بلا ختم يسمى أقلف وهو استهانة بالمكتوب إليه.(1/136)
وقال عمر (رضي الله عنه) : طينة خير من ظنّة.
وقيل: الختم ختم، وقيل: التصفّح قبل الختم والختم بعد العنوان.
وسأل بعض الأدباء رئيسا أن يختم كتابه فقال:
يا أيّها الملك المنفّذ ... أمره شرقا وغربا
امنن بختم صحيفتي ... ما دام هذا الطين رطبا
واعلم بأنّ جفافه ... مما يعيد السهل صعبا
وكتب بعضهم إلى رئيس: تختم كتبك لأنها مطايا البرّ «1» ، وأنا لا أختمها لأنها حوامل شكر.
القصّة والتّوقيع
قال الصاحب لرجل رفع إليه قصّة وهو يكثر الكلام: هذا رفع القصص لا رفع القصص «2» .
وجاء رجل يطلب منه توقيعا بالجواز، فقال: يكتب جواز لحيته على طريق فقحته.
وقيل التوقيع إلى ذوي الأقدار موق «3» .
مدح الورّاقين وذمّهم
قيل لا تقعدنّ في السوق إلا إلى ورّاق أو زرّاد، فهما مباينان للأوغاد.
وقال عبدوس الحكيم: لا تكوننّ وراقا لآلئيا فإن الدفاتر للعلماء والجواهر للملوك وهذان الصنفان في الناس قليل.
وقال الجاحظ في ذمّهم: لم أر شرا من الورّاقين مع أن صناعتهم نسخ الأخبار لذوي الآداب والألباب «4» ، وورّاق المصاحف شر.
وقال: نبئت أن شيخا منهم خثر عليه الحبر، فبال في المحبرة وكتب به المصحف والماء منه غير بعيد.
وقال ورّاق: عرضي أرقّ من الزجاج ومجالي في طلب الرزق أضيق من المحبرة ووجهي في الناس أشدّ سوادا من الحبر.
وقيل لورّاق: ما تشتهي؟ فقال قلما مشاقا وحبرا برّاقا وجلودا رقاقا والله سبحانه أعلم.(1/137)
(11) ومما جاء في التصحيفات
النّهي عن أخذ العلم من الصحفي
قيل لا تأخذوا العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي، وهجا بعضهم أبا حاتم فقال:
إذا أسند القوم أخبارهم ... فإسناده الصحف والهاجس
وقال أبو نواس في مرثية خلف «1» :
أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... فليذم من العياليم الخسف
رواية لا يجتنى من الصحف
المهجّو بكثرة التصحيف
قيل: كيسان يمسخ على لسانه العلم ثلاث مرات، فإنه يكتب في ألواحه خلاف ما يسمع، وينقل من ألواحه إلى الدفتر، خلاف ما يكتب، ثم يقرأ من الدفتر خلاف ما يكتب. وقال شاعر:
ولم يسمع النحو لكنّه ... قرا منه شيئا وقد صحّفه «2»
تصحيفات متوالية إلى ما لا معنى له
وجد معلم يلقن صبيا:
عفت الديار محلّها قمقامها ... بمنى بأبد غولها فرجامها «3»
وإنما هو:
عفت الديار محلّها فمقامها ... بمنى تأبّد غولها فرجامها
قال الجاحظ: ومررت بمعلّم وهو يلقن صبيا:
يا أبا الفياش جثى ... اخرج الفتيان غثا
لبش في الأرض أباس ... شزنوا أيلج مثا
فقلت: بالعبرانية هذا؟ قال: لا، هو بالعربية. فلما تأمّلته إذا هو مكتوب:
يا أبا العباس حبى ... أخرج الفتيان عنّا(1/138)
ليس في الأرض أناس ... شربوا أملح منّا
فقلت: أيها المعلم أنّك ضائع بهذا البلد. قال: نعم قدور ومزاريق «1» . ورئي صبيّ يقرأ على معلم:
والشيخ لا يبرك أجلافه ... حتى يوارى في ثرى دمسه
فإذا هو:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه «2»
تصحيفات في القرآن مستهجنة
«3» سمع رجل يقرأ: ربّنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته بالراء. فقال بعضهم أخراه:
ولكن بلفظ أحسن من هذا.
وقال رجل في مجلس الشافعي رضي الله عنه: كيف يقرأ بشوال يعجنك أو بشوال يعجبك؟ فقيل: ليس في القرآن شيء من ذلك. فقال الشافعي: دعوه لي إنما هو بسؤال نعجتك.
وقال الجاحظ: سمعت من يقرأ ض والقرآن «4» وقرأ آخر وفرش مرقوعة «5» . وقرأ آخر إن السموات والأرض كانتا ريقا «6» . وقرأ آخر: نبية «7» من ربكم وقرأ آخر ومريم بنت عمران التي أخصيت «8» فرجها.
تصحيفات في الحديث مستقبحة
قرأ بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بلع قديدا، وإنما هو بلغ قديدا. وقرأ آخر كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم إلا في القدر وإنما هو الثوم. وقرأ آخر على القباب المحدث لا يدخل الجنة قباب. فقال أعيذني بالله إنما هو قتات. فقدم القارىء إليه وعرك أذنه وقال ما صنع المسكين حتى لا يدخل الجنة؟
وقرأ آخر كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب العسل يوم الجمعة وإنما هو الغسل.
وقرأ آخر: غمّ الرجل ضيق أبيه وإنما هو عمّ الرجل صنو أبيه.
وقرأ آخر: لا يرث جميل إلا بثينة وإنما هو لا يرث حمل إلا ببيّنة.
وقرأ آخر: إن أردت أن تنعظ فادخل المقابر وإنّما هو تتعظ.(1/139)
وقال أبو بكر أحمد بن كامل: حضرت شيخا، فقال عن رسول الله عن جبريل عن الله عن رجل، فقلت: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله يروي عنه؟ فإذا هو عزّ وجلّ.
وقرأ محدّث كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل خصى الحمار. فقيل له: وما أراد بذلك؟ فقال التواضع. وإنما هو حصى الجمار.
من صحّف وتأوّل برقاعته
قرأ بعضهم: فأوجس في نفسه جيفة، فقيل: هو خيفة. فقال: لا، بل لأنه توضأ ولم يغسل استه.
وقرأ آخر في روضة يخبزون. فقال: اخشكا رام جواري فقال: ما أرادوا ففيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين.
وقرأ آخر ما سأل به جبيرا «1» . فقال: من جبير؟ فقال: والد سعيد. وقرأ رجل على محمد بن حبيب من شعر الراعي، تعود ثعالب السرقين منه، فقال: إنما هو ثعالب الشرفين منه فقال: إن الثعالب أولع شيء بالسرقين فقال: أتصحيف وتفسير!
تصحيف فيه نادرة
قرأ رجل على ابن مجاهد بل عجنت ويسجرون. قال: أحسنت فمع العجن سجر التنور.
وقرأ صبيّ على معلم أني أريد أن أنكحك، فقال هذا إذا قرأت على أمك.
وقرأ آخر وأما الآخر فتصلب، فقال: هذا إذا قرأت على أبيك الكشحان، وغنّى رجل.
خليلي هبا نصطبح بسماد
فقال اصطبح به وحدك، إنما هو بسواد.
تصحيف أفضى إلى مضرّة
كتب الوليد بن عبد الملك إلى والي المدينة: أحص من قبلك من المخنثين فونم الذباب على الحاء فقرأ الكتاب أخص. فقال العامل: لعلّه أحص فقال الكاتب: على الحاء نقطة كسهيل، فخصى جماعة منهم ولكل واحد نادرة.
وكتب صاحب الخبر بأصبهان إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فلانا يعني قائدا كبيرا له خزلجية، ويجلس مع النساء فكتب إلى العامل ابعث إلي فلانا وخزلجيته. فقرأ الكاتب:
وجزّ لحيته، فأخذه وحلق لحيته وأشخصه «2» فلمّا أبصره رأى آية فضحك وخلاه.
وكان حيّان بن بشير يملي أن عرفجة أصيب يوم الكلاب وكان مستمليه يعرف ملحه، فقال: إنما هو الكلاب بالضم، وحبست أنا من أجله.(1/140)
تصحيف أفضى إلى فائدة
كان نعيم بن زيد واليا على الهند، وفي حبسه رجل، يقال له حبيش فجاءت أمه إلى الفرزدق، وسألته أن يتشفّع فيه. فكتب إليه كتابا فلم يدر أخنيش أو حبيش، فأمر أن يطلق كل محبوس اسمه شيء من ذلك. فأطلق بذلك عدة.
وأنشد رجل الأصمعي، «كليني لهم يا أميمة باضت» «1» ، فقال له الأصمعي: أما علمت أن كل ناجمة الأذنين تحيض وكل سكاء الأذنين تبيض؟ فقال أبو الحسين الكوفي:
لم أر تصحيفا أجلب للفائدة منه.
وغنت جارية للرشيد:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحيّة ظلم
فقال الكسائي: إنما هو مصابكم رجل. فقالت الجارية: إني أخذت هذا الشعر عن أنحى الناس وآدبهم أبي عثمان المازني بالبصرة (هكذا) فقال الرشيد:
ليكتب إلى العامل بالبصرة بإطلاق نفقة المازني وإشخاصه فلما أشخص ودخل إلى الرشيد، سأله عن حاله: ألك ولد؟ قال: نعم بنيّة فقال: وما قالت لك قال أنشدتني:
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فأنا بخير إذا لم ترم
قال وبماذا أجبتها، قال قلت:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فسأله عن البيت المغنّى به فقال إنما هو رجلا وخبران إنما هو ظلم. فقال أجدت وأصبت فأعطاه مالا وأكرمه وردّه إلى البصرة مكرّما.
إدعاء تصحيف أدّى إلى خلاص
أتى عبد الملك بخارجيّ فأمر بقتله، وقال ألست القائل:
ومنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال إنما قلت: أمير المؤمنين، أي يا أمير المؤمنين فأطلقه.
وأحضر جعفر بن سليمان الهاشمي خطابي المقدم الهذيلي وفيه:
يا ابن الزواني من بني معاوية ... أنت لعمري منهم ابن الزانية
فقال: إنما قلت: يا ابن الرواثي وأنت ابن الراثية أي اللواتي ينحن على موتاهم.(1/141)
وحكي أن علوية الشاعر اجتمع عليه الصوفية، وقالوا له أنت أنشدت:
طاب لنا الرفض بغير حشمه
فقال: إنما قلت: طاب لنا الرقص فرضوا عنه وانصرفوا.
تغيير كتابة قليلة يغير بها المعنى
خرج توقيع عن الرشيد إلى بعض أوليائه، باقطاع مائة ألف وألف دينار إلى الريّ فدفع إلى معين لنسخه وطلب رسما من صاحبه، فامتنع. فزاد المعين ألفا وجعله أو ألف دينار. فلما أخرج وأوصله إلى العامل، قال: لك ما فيه توفير السلطان من أحد هذين.
فقال: إنما أمر لي بهما. فاسترجع التوقيع وعاد به إلى الحضرة، فلما رآه الرشيد، ضحك وقال: لعلّك لم ترض الكاتب فأصلحه. وعلّق ستر على باب أم جعفر وكان قد أمر أن يكتب عليه السيدة الميمونة المباركة، فأغفل المطرّز الراء فدخل الرشيد فرآه وقرأ مناكة، فضحك وأمر أن يمزّق.
وقال الصاحب: لا ينبغي أن يخاطب النساء بحراستها ونظرها ولا عقلها لأنه لا يؤمن أن يصحف بحراستها وبظرها وعفلها. ودفع المعروف بصخرة دبير قصة إلى الصاحب يستوهب منه شيئا. وفي آخر القصة فعل إن شاء الله فزاد الصاحب فيه ألفا وجعله أفعل إن شاء الله. وقال: خذها فقد وقعت لك. فأخذ صخرة دبير القصة فتأمّلها فلم ير توقيعا، فراجعه مرتين كل ذلك يقول: قد وقعت فيه حتى أراه الصاحب ما أثبته من الألف.
من صحّف عند رئيس بما أضحك
قرأ بعضهم عند رئيس: جاضرطي، إنما هو حاضرطي. وحضر أحمد بن أبي خالد وزير المأمون يتتبع القصر، فأخذ قصة فقرأ أحمد الثريدي وإنما هو البريدي.
فقال المأمون: يا غلام احضر لأبي العباس طعاما فإنه جائع وعزم عليه ليأكل فأكل، ثم عاد فمرّ بقصة فيها فلان الحمصي فقرأ الخبيصي فقال المأمون: يا غلام أظن أن طعامه كان مبتورا عن الحلواء، أحضره خبيصا فأتي بجام فامتنع. فقال: عزمت عليك لتأكلن فأكل ثم لم يعثر بعد.
والذي قرأوانا فداؤك من الشّوكله إنما هو من السوء كلّه.
والذي قرأ على أمير المؤمنين الخليفة انعظ على أمير المؤمنين إنما هو ابعط أي أبعد.
وقال بعضهم: حضرت مجلس قاضي القضاة عبد الجبار فقال له بعض العلوية الكبار: ما هذا الذي يقوله النحار في كتبه الكس بالكسب، أراد الكسب فضحك كل من عنده فأنشد فيه:
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده النّاس في الحطب(1/142)
تصحيفات مستحسنة
قرأ الأصمعي على أبي عمرو هذا البيت:
وعزرتني وزعمت أنك لاتني بالضيف تأمر ... وإنما هو لابن بالصيف تامر
فقال أبو عمرو: إنك في التصحيف أشعر من الحطيئة.
وكان حمّاد الراوية، لا يحسن القرآن فقيل له: لو قرأت القرآن، فأخذ المصحف، وقرأ فلم يزلّ إلا في أربعة مواضع. قال: عذابي أصيب به من أساء، وقوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه، ومن الشجر ومّما يغرسون بل الذين كفروا في غرّة وشقاق.
من عجم «1» حزفا عمد إلى تصحيفه
دفع رجل إلى محمد بن عبد الله قصّة عليها حريت بن الغراس فعجمه، وقال:
خريت في الفراش، ووقع تحته بئسما فعلت.
ووجّه إلى المأمون رجل، وقيل سابق الحاج فتباطأ الرجل فنقط تحته، وجعله سايق الحاج. وكتب أبو تمام رقعة إلى عبد الملك بن صالح وعليها حببت فنقطه وجعله جنيت.
من هجا أو مدح بادّعاء تصحيف
هجا أبو نواس أبان اللاحقي فقال:
صحفت أمّك إذ سمّتك في المهد أبانا ... قد علمنا ما أرادت
لم ترد إلا أتانا.
وقال آخر يهجو:
رأى الصيف مكتوبا فظنّ بأنّه ... لتصحيفه ضيفا فقام يواثبه
وقال المتنبّي:
جرى الخلف إلا فيك إنك واحد ... وإنك ليث والملوك ذئاب
وإنّك لو قويست صحّف قارىء ... ذئابا ولم يخطىء فقال ذباب
كلمات تعسر قراءتها ويعسر تصحيفها
استؤمر عبد الله بن طاهر في ابتناء موضع، يقال له لبنا فوقّع له، لبنا لبنا لبنا لبنا لبنا ووقع في رقعة بسبب عزير بن نوح عزير غرير عزير علينا ومن عزير، ووقع أيضا معاوية ابن معاوية ليحيى ليحيا خراج جراح فقد فقد، ووقّع علي بن رستم لرجل: غرك عزك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلك نهدا بهذا والسلام.(1/143)
(12) وممّا جاء في آلات الكتابة
فضل القلم ووصفه
بأنّه مثبت الحكم قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
«1» وقال تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
«2» .
وقيل: كم من مآثر بنتها الأقلام فلم تطمع في دروسها الأيام، وقيل: القلم قيم الحكم.
ونظر المأمون إلى مؤامرة بخطّ حسن فقال: لله درّ القلم كيف يزين وشي المملكة.
وقيل: القلم في حساب الجمل نفاع وذلك أن حروف مائتان وواحد، وعدد نفاع مثله في الحساب، وهذا اتفاق ظريف.
وصف قلم ممدوح بأنّه يجدي «3» ويزدي «4»
وقال شاعر:
قلم يمجّ على العداة سمامه ... لكنّه للمرتجين سماء «5»
كم قد أسلت به لعبدك ريقة ... سوداء فيها نعمة بيضاء «6»
وقال ابن طباطبا:
وإذا انتضى قلما ليخطب ... خلت في يمناه نصلا «7»
كم ردّ عادية الخطو ... ب وكم أعزّ، وكم أذّلا «8»
يجري فيؤمن خائفا ... ويصبّ في الأعداء نبلا «9»
وفي وصفه شجاع يمجّ السم والعسل.
ولابن ثوابة في وصفه:
كالنّار يعطيك من نور ومن حرق ... والدهر يعطيك من همّ ومن جزل(1/144)
وقال أبو الفيّاض الصابىء في الصاحب بن عبّاد:
أقال الله للأقدار سيري ... وفي أقلام إسماعيل صيري
تفضيل القلم على السّيف
قال محمّد بن علي يمدح:
في كفّه صارم لانت مضاربه ... يسوسنا رغبا إن شاء أو رهبا «1»
السيف والرمح خدّام له أبدا ... لا يبلغان به جدّا ولا لعبا «2»
فما رأينا مدادا قبل ذاك دما ... ولا رأينا حساما قبل ذا قصبا «3»
وقال ابن الرومي:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم
تفضيله على القلم
فاخر السيف القلم فقال القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال السيف: القلم خادم السيف إن نيل مراده، وإلا فإلى السيف معاده.
وقال البحتري:
وعادة السيف أن يستخدم القلما
وقال المتنبّي:
حتّى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسّيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم
وصفه بأنه يكشف عن الضمائر
قال بعضهم: القلم يزفّ بنات القلوب إلى خدور الكتب، وقال ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة ولا يملّ الإستزاده، يسكت واقفا وينطق سائرا، وقال شاعر:
ومكشف السرّ الضمير بلا معاناة «4» السّؤال
وقال آخر:
نواطق إلا أنّهن سواكت ... يترجمن عمّا في الضمير مكتما
وفي وصفه:
عجبت لذي سنين والماء نبته ... له أثر في كلّ مصر ومعمر(1/145)
وقال ابن المقفع: القلم بريد القلب، يخبّ «1» بالخبر وينظر بلا بصر، وقال ابن أبي داود: القلم سفير العقل، ورسول الفكر، وترجمان الذّهن.
وصفه بأنه أخرس ناطق
قال الشاعر:
وأخرس ناطق أعمى بصير ... بليغ عند منطقه عييّ
متى ترعف مناخره سوادا ... يخبّر عنك بالمعنى المضيّ «2»
وقال محمد العلويّ:
أخرس ينبيك بأطرافه ... عن كلّ ما شئت من الأمر «3»
يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السرّ وما يدري «4»
كعاشق يخفي هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجري «5»
لغز في وصف القلم
قال الشاعر
وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... باسمي مشقوق الخياشيم يرعف
وقال آخر:
وأجوف يمشي على رأسه ... يطير حثيثا على أملس
فهمت بآثاره ما مضى ... وما هو آت ولم يلبس
وصف دواة وقلم
قال الشاعر:
وزنجيّة لم تلدها الإناث ... وفي جوفها من سواها ولد
وكتب ابن طباطبا إلى ابن أبي البغل، وبعث إليه قلما أسود وآخر أبيض وسبعة سمرا:
هذا ابن سام وبنت حام ... شعبهما اليوم ذو التئام
قد أظهرا في الورى ازدواجا ... فامتزج النّور بالظّلام
وأنسلا صبية صغارا ... سبعا يوافين في نظام
هنّ مدى الدهر مرضعات ... يشتقن ريا إلى الفطام(1/146)
اختيار قلّة الأقلام
قال الصوليّ لغلام: ليكن قلمك صلبا بين الرقّة والغلظ، ولا تبره عند عقدة فإنّ فيه تعقد الأمور، ولا تجعلنّ في أنبوبه أنبوبة، ولا تكتبنّ بقلم ملتو ولا بذي شقّ غير مستو.
أدب بري القلم والاستنكاف منه
قيل: ليكن مقطك إذا قططت صلبا، لئلا يتشظّى «1» القلم. وقال عبد الحميد الكاتب: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها.
وقيل: تبطين القلم شؤم وحرفه حرف. وقيل: القلم المحرف للرجل المحارف.
وأوصى بعضهم كاتبا فقال: أجد قلمك فالقلم الرديء كالولد العاق «2» .
وقيل: إذا لم تسمع لقطك صوتا كصوت القسيّ ووقعا كوقع المشرفيّ فأعد القطّ.
وقال الصاحب لكاتب في مجلسه: ليس لك في مجلسي إلا القطّ فقط.
التمدّح ببري القلم والاستنكاف منه
قال الشاعر:
دخيل في الكتابة ليس منها ... فما يدري دبيرا من قبيل
إذا ما رام للأنبوب بريا ... تنكّب عاجزا قصد السّبيل
قال كشاجم:
لم ترني قطّ باريا قلما ... في بريه كل مهنة وضعه
ما كلّ من يحمل الحسام لكي ... يردي به سنّه ولا طبعه
وقال أبو الحسن بن سعد: كنت عند عليّ بن سعد فرأيت له أقلاما رديئة البري، فأخذتها وأحسنت بريها فقال: يا أبا الحسن عليك بالكتابة فإن هذه تجارة.
السكّين
قيل: السكّين مسنّ الأقلام تشحذها «3» إذا كلّت «4» ، وتلمّها إذا تشعّثت «5» ، وأحسن السكاكين ما عرض صدره وأرهف حدّه ولم يفضل عن القبضة نصابه.
وقيل لكاتب: سكّينك ليس بقاطع فقال: هو أقطع من البين «6» .(1/147)
ولأبي حفص الورّاق كتبه على سكّين:
سكيننا من يره سيعجبه ... وقاه ربّي شرّ من يستوهبه
وكيد من يسرقه ويغصبه ... ما أظلم اللّيل ولاح كوكبه
وقال ابن نباتة:
مرهفة تعجز وصف البيان ... للسيف معنى ولها معنيان
تخلفه في حدّه تارة ... وتارة تخلف حدّ السّنان
ما أبصر النّاظر من قبلها ... ماء ونارا جمعا في مكان
مقطّ ومحراك
وقال الشاعر:
معه مقطّ قد تحلّى سنّها ... شبه الصدود بدا بخلف غرام
يحكي سويداء القلوب إذا رمت ... فيها لواحظ شادن بسهام
وانضاف محراك إليه كأنّما ... أخذوه قدّ الصارم الصمصام
وقال أبو الحسن المشطّب الهمداني:
إنّني منفذ إليك مقطّا ... سهرديزا كأير عير مريّ
سابغا طوله شديدا قواه ... فاتخذه كنانة لقسيّ
استهداء المداد وإهداؤه
كتب بعضهم إلى صديق يستمدّ منه مدادا:
أنا أشكو إليك من دواتي ... هي عوني وعدّتي وعتادي
عطلت من مدادها فاستعاضت ... يقق اللون من حلوك السّواد «1»
لم تزل من بنات حام فجاءت ... من بني يافث بغير ولاد
أنت للحادثات عدّة صدق «2» ... فترى أن تمدّها بمداد
وقال عبدان:
هل لك في أن تحوز محمدة ... أنفس من فضّة ومن ذهب
زوّد فتاة أتتك رائقة ... بدرّة الفحم لابنة القصب
الحبر
قال بعض الأدباء: بالحبر تنصاغ حكم الأخبار، وبسواده تتضح شبه الآثار.(1/148)
وقيل لورّاق: أخف رداءة خطّك بجودة حبرك، وقيل: عطّروا كتب علومكم بالحبر، فالحبر غالية والكتاب غانية.
وقال الشاعر:
وأكرم بحبر بها لجّة ... جواهرها حكم تنثر
وقال كشاجم في من أعطاه محبرة:
محبرة جاد لي بها قمر ... مستحسن الخلق مرتضى الخلق
كأنّما حبرها إذا نثرت ... أقلامنا طلّه على الورق
كحل مرته الجفون من مقل ... نجل فأوفت به على يقق
خرساء لكنّها تكون لنا ... عونا على علم أفصح النطق
لوح الحساب
قال كشاجم:
نعم المعين على الآداب والحكم ... صحائف حلك الألوان كالظّلم
جفّت وخفّت فلم يدنّس لحاملها ... ثوب ولم يخش فيها نبوة القلم
لو كنّ ألواح موسى «1» يوم أغضبه ... هارون لم يلقها خوفا من النّدم
لوح الهندسة
وقال كشاجم:
وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب
يكثر فيه المحو والإضراب ... من غير أن يسوّد الكتاب
حتى يبين الحقّ والصّواب ... وليس إعجام ولا إعراب
فيه ولا شكّ ولا ارتياب «2»
مرفع الدواة
قال الشاعر:
قرّب البعد مرفع لدواة ... ملجم من حليه بلجام «3»
كخوان الطّعام سهّل للآ ... كل منه ما كان صعب المرام(1/149)
الاصطرلاب «1»
وقال الببغاء «2» :
ومستدير معجم التقسيم ... منتسب الأشكال والرّسوم
دبّره فكر امرىء حكيم ... فصاغه في صغر التجسيم
مساويا للفلك العظيم ... مقتطعا لسائر النّجوم
وكتب الصابىء «3» إلى بعض أصدقائه وقد أهدي له اصطرلاب:
لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد ... أهدى لك الفلك الأعلى وما فيه
نفع الكتب وكونها ذات أنس
ذكر الجاحظ الكتب فقال: نعم الذخر «4» والعقدة، والجليس والعدّة «5» والمشتغل والحرفة «6» ، ونعم القرين والدخيل والوزير والنزيل، والكتاب هو الأنيس الذي لا يطريك «7» والصّديق الذي لا يغريك، يطيل امتاعك ويشحذ «8» طباعك.
وقال ابن المقفع: كلّ مصحوب ذو هفوات والكتاب مأمون العثرات «9» .
وقال الرفّاء «10» :
اجعل جليسك دفترا في نشره ... للميت من حكم العلوم نشور
ومفيد آداب ومؤنس وحشة ... وإذا انفردت فصاحب وسمير
وأنشد أبو محمد الخازن لنفسه:
فدفتري روضتي ومحبرتي ... غدير علمي وصارمي قلمي
وراحتي في قرار صومعتي ... تعلّمني كيف موقع القسم
التمدّح بالإنفاق على الكتب والحثّ عليه
قيل لابن درّاج، وقد أخرج شعر أبي الشمقمق، في جلود كوفيّة ودفّتين طائفيتين:(1/150)
لقد ضيّع دراهمه من يجود لشعر أبي الشمقمق. فقال: لا جرم أنّ العلم يعطيكم على قدر ما تعطونه، ولو استطعت أن أكتبه في سواد عيني أو سويداء قلبي لفعلت.
وقيل: إذا حويت الكتب فقد أحرزت الأدب والنّشب «1» ، وقال شاعر:
تحرّض على تجويد كتبك أنّها ... مناهل ورّاد الحجى والفوائد «2»
وقيل: إنفاق المال على كتب الأدب يخلفك عليه لباب الألباب.
ذمّ من يجمع الكتب ولم يحفظها
قال محمّد بن بشر:
أما لو أعي كلّ ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المصقع
ولكنّ نفسي إلى كلّ شيء ... من العلم تسمعه تنزع «3»
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في دهره هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
مدح ملازمة الكتب
قال أبو عمرو: وما رأيت أحدا في يده دفتر، وصاحبه فارغ اليد، إلا اعتقدت أنه أعقل وأفضل من صاحبه.
وكان عبد الله بن عبد العزيز يلزم أبدا المقابر ومعه شيء من الدفاتر، فقيل له في ذلك، فقال: لم أر أوعظ من كتاب وأسلم من الإنفراد.
ونظر المأمون إلى بعض أولاده وفي يده كتاب فقال: ما هذا؟ قال بعض ما يشحذ الفطنة ويؤنس الوحشة، فقال: الحمد لله الذي جعل في أولادي من ينظر إليه بأدبه أكثر مما ينظر إليه بحسبه «4» .
أحوال إعارة الكتب واستعارتها
قال بعض الشعراء:
إنّي حلفت بربّ البيت والحرم ... هل فوقها حلفة ترجى لذي قسم
أن لا أعير كتابا فيه لي أرب ... إلا أخا ثقة عندي وذا كرم «5»(1/151)
وقال بعضهم معتذرا عن امتناع إعارته:
لصيق فؤادي منذ عشرين حجّة ... وصقيل ذهني والمفرّج من همّي «1»
يعزّ على مثلي إعارة مثله ... وآليت لا يفارقه كمّي
وقال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: كتبت إلى أبي القاسم بن أبي العلاء أبياتا استعير منه شعر عمران بن حطان وضمّنتها أبياتا لبعض من امتنع من إعارة الكتب إلا بالرهن، وأبياتا عارضها بها أبو علي بن أبي العلاء في مناقضة فقلت:
يا ذا الذي بفضله ... أضحى الورى مفتخره «2»
أصبحت يدعوني إلى ... شعر ابن حطّان شره
فليعطنيه منعما ... عارية لأشكره
مقتفيا والده ... ألبس ثوب المغفره «3»
عارض من أنشده إذ ... رام منه دفتره
هذا كتاب حسن ... قدمت فيه المعذره
حلفت بالله الذي ... أطلب منه المغفره
أن لا أعير أحدا ... إلا بأخذ التّذكره
بنكتة لطيفة ... أبلغ منها لم أره
فقال والقول الذي ... قد قاله وحبّره «4»
من لم يعر دفتره ... ضاقت عليه المعذره
يقبّح في الذّكر وفي ... السّماع أخذ التذكره
ما قال ذاك الشعر ... إلا ماضغ للعذره
فامنن به مصطفيا ... سلوك طرق البرره
فأجابني بأبيات منها:
حبر شعرا خلّتي ... أنشر منه حبره
يريدني فيه على ... خليقة مستنكره
مستنزل عن عادة ... عوّدتها مشتهره
أن لا أعير أحدا ... لا رجلا ولا مره
لا أقبل الرهن ولا ... تذكر عندي تذكره(1/152)
ولو حوت كفّى بها ... فضل الرّضا والمغفرة
كان لشيخي مذهب ... من مذهبي أن أهجره
خالفت فيه رسمه ... معفيا ما أثره
ولو أتاني والدي ... من بيته في المقبره
يروم سطرا لم يجد ... ما رامه وسطّره
والغرض في ذلك ما قاله أبو القاسم لا ما خاطبته به أعوذ بالله أن أكون ممّن يزري «1» بعقله، بتضمين مصنّفاته شعر نفسه.
معاتبة حابس دفتر «2»
كتب كشاجم إلى صديق له:
عذرت بحبس دفترنا ... وعهدي بالأديب ثقه
ولست أحبّ للأدبا ... ءأن يتأدبوا سرقه
وكتب بعض الأدباء إلى صديق له يطالبه بردّ دفتره:
ما بال كتبي في يديك رهينة ... حبست على مرّ الزمان الأطول
ائذن لها في الإنصراف فإنّها ... كنز عليه إذا افتقرت معوّلي
ولقد تغنّت حين طال ثواؤها ... طال الوقوف على رسوم المنزل
وقال أبو العبر في سخفيات له: حدّثني لحيان عن موسى الفهاد، عن رجل من أهل جرجرايا، عن شيخ من بادرويا، أن السّفلة من إذا استعار كتابا لم يردّه.
قال الشريف ابن طباطبا:
إذا فجع الدهر امرأ بخليله ... تسلّى ولا يسلى لفجع الدّفاتر
وقال بعضهم في وصف كتاب كليلة ودمنة:
إذا افتخر الرّجال بفضل علم ... ومدّت فيه ألسنة طويله
ففاخر ما استطعت بما حوته ... بطون كتاب دمنة مع كليلة «3»
كتاب يغرق البلغاء فيه ... وألباب الورى منه كليله
وكم فيه عجائب كامنات ... على دنيا وآخرة دليله
وكم حكم على أفواه طير ... وآداب وأمثال مقوله(1/153)
يراها الجاهل المأفون هزلا ... وحسبكها لعالمها فضيله «1»
(13) ومما جاء في الصدق والكذب
الممدوح بالصّدق
فلان أصدق من أبي ذرّ «2» وأصدق من قطاة «3» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذرّ.
وقال الجاحظ: أخبرني فلان وهو والكذب لا يجتمعان في طريق، ولا يقشعرّ من الكذب.
قال التنوخي:
وألسنهم وقف على الصّدق والرفا ... وأيمانهم وقف على القصد والنعمى «4»
وقال جحظة البرمكيّ:
وكان صديق الورى ... بالحقّ ينطق عن لسانه
وفي المثل: لا يكذب الرائد أهله، لأن كذبه يجتثّ أصله.
معيب بالكذب
قال رجل لكذّاب: مرحبا بأبي المنذر، فقال: ليس هذا كنيتي. فقال: قد علمت إنما هو كنية مسيلمة «5» ، ولكنّها صفتك: يعرّض بأنه كذّاب.
وقيل لرجل: ما تقول في فلان؟ فقال: أنا لا أذمّ مسيلمة. وذم رجل آخر فقال:
الكذب أحسن ما فيه، وهذا غاية الذم. وقال رجل لأبي حنيفة «6» (رضي الله عنه) : ما كذبت قطّ؟ فقال: أما أنا فقد شهدت عليك بهذه.(1/154)
وقال رجل: أنا لا أكذب كذبة بألف، فقال صاحبه: أما هذه فواحدة بلا درهم.
وقيل: أكذب من يلمع أي السراب. قال الشاعر:
أكثر ما يجري على فيه الكذب
وقال بعضهم: أسأت نظرا فأطرفت خبرا وقال: جاء فلان نزهات البسابس «1» ، وجاء بالحطب الرطب، أي بمحض الكذب.
وقال الرشيد للفضل بن الربيع «2» : كذبت، فقال: يا أمير المؤمنين وجه الكذّاب لا يقابلك، ولسانه لا يخاطبك، يعرّض به، لأن الإنسان لا يقابل نفسه ولا يخاطبها فاستحسن تعريضه فأولاه وما جفاه.
وقيل: فلان فيه روغان «3» الثعلب وطبيعة العقعق ولمعان البرق، أي الحيلة والسرقة والكذب.
قال الشاعر:
كلام أبي مالك كلّه ... صياح الفواخت جاء الرّطب
النهي عن الكذب وذمّه
قال الله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ
«4» ، وقال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ
«5» ، وقال: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ
«6» .
وقيل: الكذب جمّاع النّفاق. وقيل: الكذب عار لازم وذلّ دائم. وقيل: الكذب والحسد والنفاق أثافي.
قال الشاعر:
لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلّة الورع «7»
وقيل: ما عزّ ذو كذب، ولو أخذ القمر بيديه، ولا ذلّ ذو صدق، ولو اتّفق العالم عليه.
وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : حقيق «8» على الله أن لا يرفع الكاذب درجة، ولا يثبت له حجّة. وقال سليمان بن سعد: لو صحبني رجل وقال لا تشترط عليّ إلا شرطا واحدا، لقلت: لا تكذبني.(1/155)
النّهي عن رواية الكذب
قيل: من حدّث بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين، وقيل أحد الشاتمين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال عليّ ما لم أقله أو ردّ شيئا ممّا قلته فليتبوّأ مقعده «1» من النار.
وقيل: إيّاك أن تكون للكذب راويا، أو واعيا.
النهي عن رواية ما هو بعرض التكذيب
قيل: من صفات العاقل أن يحدّث بما لا يستطاع تكذيبه.
وقيل: إياك وحكاية ما يستبعد فيجد عدوّك سبيلا إلى تكذيبك.
ترك الكذب صعب
قيل من استحلى الكذب عسر عليه «2» فطام نفسه عنه.
وقيل لرجل: أترك الكذب، فقال: والله لو تغرغرت «3» به وتطعمت حلاوته لما صبرت عنه.
وقال يحيى بن خالد: قد رأينا شارب خمر أقلع «4» ، ولصّا نزع «5» ، ولم نر كذّابا رجع. وقيل: كل ذنب يرجى تركه إما بتوبة أو إنابة «6» ما، خلا الكذب، فإنّ صاحبه يزداد به ولوعا على الكبر.
مضرّة الكذب
قيل: دع الكذب فإنّه يضرّك حيث ترى أنه ينفعك، وعليك بالصّدق فإنه ينفعك حيث ترى أنه يضرّك.
وقيل: الحق أبلج والباطل لجلج، إذا كذب السفير بطل التدبير، إذا كذب الرائد هلك الوارد. الصدّق عزّ والباطل ذلّ.
من آثر الصدق في مواضع طلبا لجواز كذبه
قال خالد بن صفوان: أصدق في صغار ما يضرّك ليجوز لك الكذب في كبار ما ينفعك. وقيل: من عرف بالصّدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
حثّ الكاذب على التحفّظ
قيل: إذا كنت كذوبا، فكن ذكورا. وذكر عثمان البستي عكرمة، فقيل له: ما كان(1/156)
يكذب، فقال: كان أحمق، من الحسن الكذب. إن الكذوب من يكون متحفّظا.
النهي عن سماع الكذب
قيل: أجعل قول الكذّاب ريحا لتستريح، وقال أبو تمّام:
ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد «1»
وقالوا: نزّه سمعك عن سماع الكذب، كما تنزّه لسانك عن التفوّه به.
ما أجيز فيه الكذب
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلّ كذب مكتوب، إلا كذب الرجل في الحرب، فإنها خدعة، أو كذب المرء بين الرجلين ليصلح بينهما، أو كذبه لامرأته ليرضيها.
وقيل لفيلسوف: متى يحمد الكذب؟
قال: إذا قرّب بين المتقاطعين. قيل: فمتى يذمّ الصدق؟ قال: إذا كان غيبة.
أتى معاوية رضي الله عنه بلصّ، فقال زياد: أصدق. فقال الأحنف: الصدق أحيانا معجزة.
قال الشاعر:
الصدق أفضل ما نطقت به ... ولربّما نفع الفتى كذبه
وقال آخر:
طلبنا النفع بالباطل ... إذا لم ينفع الصدق
جواز التعريض
أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفا «2» أبا بكر عام الهجرة، فقيل لأبي بكر: من هذا قدّامك؟
قال: رجل يهديني السبيل، تعريضا بأنه يهديني سبيل الحق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي سأله ممّن أنت؟ فقال: من ماء، وما حكى الله من قول إبراهيم عليه السلام أني سقيم، وقوله: فعله كبيرهم هذا فاسألوهم وما روي عنه أنه قال عن امرأته هذه أختي كل ذلك تعريض. وقيل في قوله تعالى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ
من معاريض الكلام ولم يكن قد نسي ما عهد عليه «3» .
وقال عمر: في المعاريض مندوحة عن الكذب.(1/157)
المعترف بالتزيّد والتكذيب
قال خالد بن صفوان: أني لا أسمع الحديث فلا أحدّث به، حتى أتوبله وأفلفله وأسعتره، وقال: أني لأسمع الحديث مجردا فأكسوه، وممرطا فأريشه. وقيل لحيّان: إنك لتكذب في الحديث. فقال: ما يضرّك كذبه ولا ينفعك صدقه، وما يدور إلا على لفظ جيّد ومعنى حسن. ولو أردته لتلجلج «1» لسانك وذهب بيانك.
المعتذر منه
قال بعضهم: ونصرة الحق أفضت بي إلى الكذب.
قال الشاعر:
وزعمت أني قد كذبتك مرّة ... بعض الحديث وما صدقتك أكثر
وفي المثل: عند النوى يكذبك الصادق.
المتأهب في الكذب
تشاجر رجلان في سواد، تراءى من سطح، فقال أحدهما: غراب. وقال الآخر:
خفّ. وحلف كل منهما على صدق ما قاله. فدنوا منه فطار، فقال صاحب الغراب: كيف ترى؟ فقال الآخر: امرأته طالق ثلاثا، إن كان إلا خفا ولو بلغ مكة طيرانا.
وقال بعضهم لابنه: إكذب على الأموات وباهت مع الأحياء. وقيل لإعرابي: بم غلبت؟ فقال: أبهت بالكذب وأستشهد الموتى.
صعوبة سماع الكذب
قيل لبعض ندماء السلطان: ما حالكم معه؟ قال: نحن كما قال الله تعالى:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
«2» . وكان رجل يكثر الكذب وله غلام يخالفه ويكذّبه، فقال له يوما: كنت في ضيعة لي في حصاد زرع، فرميت طيرا فوجدت في حوصلته رطبة، لم ينضج نصفها. فقال الغلام: استدع السوط ولا تهذ «3» متى يجتمع الحصاد والرطب يا أحمق.
ما يجوز أن يكذب المرء فيه
في كتاب جاويزان فروخ: محرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث: صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه، وحماة أحبّت كنّة.(1/158)
وقيل: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل فحدّثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكره فهو عاقل، وإن صدّقه فهو أحمق.
وقيل: كذّب بالمحالات «1» ، وأقر بالواجبات، وتوقّف عن الممكنات.
ذكر أكاذيب متناهية
تكاذب أعرابيان، فقال أحدهما: خرجت مرّة على فرس، فإذا أنا بظلمة فيمّمتها، حتى وصلت إليها. فإذا قطعة من الليل فأنبهتها فما زلت أحمل عليها حتى اصطدتها. وقال الآخر: رميت مرّة ظبيا بسهم فعدل الظبي فعدل السهم خلفه فعلا الظبي ثم انحدر، فانحدر السهم حتى أصابه.
وقال رجل لرؤبة: إن حدثتني بحديث لم أصدقك عليه، فلك عندي جارية. فقال:
ابق لي غلام يوما فاشتريت يوما بطيخة فلما قطعتها وجدته فيها، فقال: قد علمت. فقال:
دبّر لي فرس فعالجته بقشور الرمان فنبت على ظهره شجرة رمان تثمر كلّ سنة. فقال: قد علمت. فقال: لما مات أبوك كان لي عليه ألف دينار، فقال: كذبت يا ابن الفاعلة. فأخذ الجارية.
وقال بعضهم: كان لأبي منقاش «2» اشتراه بعشرين ألف درهم، فقيل له: إذا كان من جواهر أو مكللا فقال: ولكن كان إذا نتف به شعرة بيضاء عادت سوداء. وقال رجل: كان أبي زرع سنة السلجم «3» ، وكان يبلغ مساحة كل شجرة جريب «4» أرض. فقال الآخر: كان أبي اتخذ مرجلا «5» في بعض السنين، وكان يعمل فيه خمسون أستاذا، لا يسمع كل واحد منهم صوت مطرقة الآخر، فقال صاحبه: ما أكذبك أي شيء كان يطبخ في ذلك المرجل؟
فقال: السلجم الذي زرعه أبوك.
وقالت ليلى لأبيها أرأيت قول أبيك:
بجيش تضلّ البلق في حجراته ... بيثرب أخراه بالشأم قادمه
كم كنتم يومئذ؟ فقال: حضرتها وكنت أنا وابني ومعنا اثنان.(1/159)
(14) وممّا جاء في السر
المنع من إظهار السرّ قبل تمامه
قيل: استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كلّ ذي نعمة محسود.
وقيل: من وهي «1» الأمر إعلامه قبل إحكامه. وقيل: من حصّن سرّه أمن ضرّه.
الحثّ على حفظ السرّ
قيل: من لم يكتم السرّ فقد استكمل الجهل.
وسمع ابن المقفع قول الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه ... يبثّ وتكثير الحديث قمين «2»
فقال: أراد بالاثنين الشفتين، ويدلّ على ذلك قول الآخر:
فلا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا
وفي المثل: اجعل هذا في وعاء غير ذي سرب. سرّك من دمك، فانظر أين تريقه.
وقيل: من أفشى سرّه كثر المتأمرون عليه. قال الصلتان:
سرّ الثلاثة غير الخفي
المستوخم عاقبة إفشاء السرّ
لما ولّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قدامة بن مظعون بدل المغيرة أمره أن لا يخبر أحدا. فلم يكن له زاد فتوجّهت امرأته إلى دار المغيرة، فقالت: أقرضونا زاد الراكب، فإنّ أمير المؤمنين ولّى زوجي الكوفة، فأخبرت امرأة المغيرة زوجها، فجاء إلى عمر رضي الله عنه واستأذن عليه، وقال: يا أمير المؤمنين ولّيت قدامة الكوفة وهو رجل قويّ أمين. فقال: ومن أخبرك؟ قال نساء المدينة يتحدّثن به، فقال: اذهب وخذ منه العهد.
من يكره اطلاعه على السرّ
قيل: لا تطلعوا النساء على سرّكم تصلح أموركم. وقيل: ما كتمته عدوّك فلا تطلع عليه صديقك.(1/160)
المتبجّج بحفظ السرّ
قيل لرجل: كيف كتمانك السر؟ قال: قلبي قبره وصدري حبسه. وقال الأحوص «1» :
ومستخبر عن سرّ ريّا رددته ... بعمياء من ريّا بغير يقين
وقال أبو تمّام:
منيع نواحي السرّ منه حصينها
وقال المتنبّي:
وللسرّ منّي موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب
وقال ابن نباته «2» :
أكاتم قلبي رأي عيني وإنّه ... ليكتم منّي سرّ كلّ خليل
الممدوح بحفظه
قال الأحوص:
كريم يميت السرّ حتّى كأنّه ... عم بنواحي أمره وهو خابر
وقال قيس بن الحطيم:
كتوم لأسرار الخليل أمينها ... يرى أن بثّ السرّ قاصمة الظّهر
وقال كشاجم:
ويكاتم الأسرار حتّى أنّه ... ليصونها عن أن تمرّ بخاطره
مدح كتمان السر
قال قتادة (رضي الله تعالى عنه) : إذا تكلمت بالنهار فانظر من عندك، وبالليل، فاخفض صوتك. وقد نظمه الشاعر بقوله:
اخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنّهار قبل الكلام
ودنا رجل من آخر فكلّمه، فقال: ليس ها هنا أحد، فقال: من حق السرّ التداني «3» .(1/161)
صعوبة حفظ السرّ
قيل: أصبر النّاس من صبر على كتمان سرّه فلم يبده لصديقه. الصّبر على التهاب النار أهون من الصّبر على كتمان السرّ.
عيب من لا يحفظ سرّه ويستحفظه غيره
وقال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
وقال بشّار:
تبوح بسرّك ضيقا به ... وتبغي لسرّك من يكتم
وقال دعامة بن يزيد الطائي:
إذا ما جعلت السرّ عند مضيع ... فإنّك ممّن ضيّع السرّ أذنب
ذمّ مفش سرّه
قيل: فلان أنمّ «1» من النسيم على الرياض، ومن العين منها الصفو والكدر، وقيل:
وهو أضيع للأسرار من الغربال للماء.
قال الشاعر «2» :
أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتكلّمينا
وقال آخر:
أمنت على السرّ أمرأ غير حازم ... ولكنّه في النّصح غير مريب
أذاع به في النّاس حتّى كأنّه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
وقال ابن الرومي:
كان سرّي في أحشائه لهب ... فما تطيق له طيا حواشيها
الأحوال التي يفشو فيها السرّ
قال يحيى بن خالد: الرجل ينبىء عن نفسه في ثلاثة مواضع: إذا اضطجع على فراشه، وإذا خلا بعرسه «3» ، وإذا استوى على سرجه.
وقيل: إذا أردت أن تنزل الرجل عن سرّه، فتوصّل إليه من حال سكره:(1/162)
فالسكر يظهر سرّه المكتوما
كتم ما لا ينكتم
قال الشاعر:
وليس الذي فيه خفاء لأمره ... كمن دبّ يستخفي وفي العنق جلجل
وقال زهير:
مخاز لا يدبّ لها الخفاء
وفي المثل:
وهل يخفى على النّاس النّهار
وقال أبو نواس يصف الخمر:
نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريح وفيوح
المساررة في المحافل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث.
وكان مالك بن مسمع إذا سارّه إنسان يقول: أظهره فلو كان خيرا لم يكن مكتوما.
وهذا من قول زهير:
والستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر
وقال الخبزارزي:
إذا أنت ساررت في مجلس ... فإنّك في أهله متّهم
فهذا يقول قد اغتابني ... وذا يستريب وذايتّهم
الرخصة في إفشاء السرّ إلى الصّديق
ليم بعضهم في إفشاء السر، فقال: المصدور «1» إذا لم ينفث جوي «2» والمهجور إذا لم يشك وري «3» . قال الشاعر:
ولا بدّ للشكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع
وقال محمود الورّاق:
إذا كتم الصّديق أخاه سرّا ... فما فضل الصّديق على العدوّ؟
وقيل: لا يزال المرء في كربة ووحشة، ما لم يجد من يشكو إليه.(1/163)
وقال الشاعر:
لا تكتمنّ داءك الطبيبا ... ولا الصّديق سرّك الهجوبا «1»
وسارر المهدي وكيلا له، والعبّاس بن محمد حاضر، فقال: اسردوني ولو هجم بي نصحك على تلفى لما تركته، وأنشد:
بمثلى فاشهد النجوى وعالن ... بي الأعداء والقوم الغضابا
وكتب أبو الفضل بن العميد: من كتم عن طبيبه داءه، وستر عنه ظمأه بعيد عليه أن يبلّ عن علله ويعلّ من غلله.
المتبجّح بإظهار أسرار أصدقائه
قال الشاعر:
ولا أكتم الأسرار لكن أنمّها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي
وإنّ قليل العقل من بات ليلة ... تقلّبه الأسرار جنبا إلى جنب
وقال رجل لصديق له: اكتم سرّي الذي أفشيته، فقال: كلا لست أشغل قلبي بنجواك ولا أجعل صدري خزانة شكواك فيقلقني ما أقلقك، ويؤرّقني ما أرّقك، فتبيت بأفشائه مستريحا، ويبيت بحرّه قلبي جريحا، وقال الشاعر:
ولا تودع الأسرار قلبي فإنّما ... تصبنّ ماء في إناء مثلم «2»
(15) وممّا جاء في النّصح
فضل النّصح والحثّ عليه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدّين النصيحة، وقال صلى الله عليه وسلم: من غشّنا فليس منّا، وقال صلى الله عليه وسلم: دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصحك أخوك فانصحه، وقال أوس «3» :
وإن قال لي ماذا ترى يستشيرني ... فلم يك عندي غير نصح وإرشاد
الحثّ على قبول النّصح وإن كان مرّا
قيل: من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك.(1/164)
وقال بعض الحكماء: من أوجرك «1» المرّ لتبرأ، أشفق عليك ممّن أوجرك الحلو لتسقم، وقيل: النصيحة أمن الفضيحة.
معاتبة من لم يقبله
من لم يقبل رأي أصحابه، وإن حزنوه عاد ضرره عليه، كالمريض الذي يترك ما يصف له الطبيب، ويعمد لما يشتهيه فيهلك.
قال الله تعالى حكاية عن صالح: لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم، ولكن لا تحبّون الناصحين.
وقال أبو ساسان:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب العبارة نادما
وقال آخر:
لو كنت تقبل نصحي غير متّهم ... ملأت سمعك من وعظ وإنذار
وقال العرجي:
عرضت نصيحة منّي ليحيى ... فقال غششتني والنّصح مرّ
ضياع النّصح لمن لا يقبله
قال الشاعر:
وما خير نصح قيل لا يتقبّل
وقال الخبزارزي:
إن كان حمدي ضاع في نصحكم ... فإنّ أجري ليس بالضائع
وقيل: أخذ رجل ذئبا فجعل يعظه، ويقول: إياك وأخذ أغنام الناس فيعاقبك الله، والذئب يقول خفّف، واختصر فقدامي قطيع من الغنم لئلا يفوتني. وقال الشاعر:
لددتهم النصيحة أي لدّ ... فمجّوا النصح ثمّ ثنوا وفاؤا «2»
معاتبة من يستنصح النّاس ويستغشّ الناصح
وقال عبد الله بن همام:
ألا ربّ من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين
وله:
وقد يستغشّ المرء من لا يغشّه ... ويأمن بالغيب امرأ غير ناصح(1/165)
وقال يزيد بن الحكم:
تصافح من لاقيته ذا عداوة ... صفاحا وحقد بين عينيك منزور
وقال آخر:
والعجز أن تجعل الموتور منتصحا «1»
وقال آخر:
ألا ربّ نصح يغلق الباب دونه ... وغشّ إلى جنب السرير مقرّب
وقال آخر:
نصحت فلم أفلح وخانوا فافلحوا ... فأنزلني نصحي بشرّ مكان
الحثّ على الغش لمن لا يقبل النّصح
قال عثمان البستي: إذا نصحت الرجل فلم يقبل منك، فتقرّب إلى الله بغشّه. وقال الشاعر:
أغشّ إذا النّصح لا يتقبّل
وأنشد الثوريّ:
تنحلت آرائي فسقت نصيحتي ... إلى غير طلق للنّصيح ولا هشّ «2»
فلمّا أبى نصحي سلكت طريقه ... وأوسعته من قول زور ومن غشّ «3»
كون النّاصح متّهما
قيل في المثل: المبالغة في النصيحة تهجم بك على عظيم الظنّة. وقال:
وقد يستفيد الظنّة المنتصح
وشاور المأمون يحيى بن أكثم فكان الرأي مخالفا لهوى المأمون، فقال يحيى: ما أحد بالغ في نصيحة الملوك إلا استغشّوه. قال: ولم يا يحيى؟ قال: لصرفه لهم عمّا يحبّون، إلى ما لعلّهم يكرهون في الوقت، والهوى إله معبود.
وصف غاشّ في نصيحة
قيل: فلان شولة الناصح، وشولة أمة كانت ترى أن تنصح مواليها وهي تسعى في إهلاكهم.
وقال معاوية يوما لعمرو بن العاص: هل غششتني منذ استنصحتك؟ قال: لا، فقال:(1/166)
ولا يوم أشرت عليّ بمبارزة عليّ وأنت تعلم من هو؟ فقال: كيف؟ وقد دعاك رجل عظيم الخطر كنت من مبارزته إلى أحدى الحسنيين إن قتلته فزت بالملك وازددت شرفا إلى شرف، وإن قتلك تعجّلت من الله تعالى ملاقاة ألشهداء والصديقين، فقال: وهذا أشد من الأول فقال: أو كنت من جهادك في شكّ. فقال: دعني من هذا.
قال النابغة:
يخبّركم أنّه ناصح ... وفي نصحه ذنب العقرب
وقال الموسوي:
يروم نصحي أقوام رأوا كيدي ... والعجز أن تجعل الموتور منتصحا
هذا من قول حارثة بن بدر:
أهان وأقصى ثمّ تستنصحونني ... وأيّ امرىء يعطي نصيحته قسرا «1»
وقال لمن يردّ نصيحته:
أعاذل إن نصحك لي عناء ... فحسبك قد سمعت وقد عصيت
(16) وممّا جاء في الوعظ والمتعظين والآمرين بالمعروف والقصاص والمفتين
نهي من لا يتّعظ عن الوعظ
قال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: عظني وأوجز، فقال: توقّ ما تعيب. وقال أيضا: لا تأت ما تعيب ولا تعب ما تأتي.
وجاء رجل إلى ابن عبّاس رضي الله عنه، فقال: إنّي أريد أن أعظ، فقال: أو بلغت ذلك إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى فافعل. قال: ما هي؟ قال:
قول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
«2» وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
«3» وقول العبد الصالح شعيب وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ
«4» . أحكمت هذه الآيات. قال:
لا، قال: فابدأ إذا بنفسك.(1/167)
وقال ابن كناسة:
يا واعظ النّاس قد أصبحت متّهما ... إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
كمن كسا النّاس من عري وعورته ... للنّاس بادية ما إن يواريها «1»
الحثّ على الوعظ بالفعال دون المقال
قال بقراط: لا تحثّ غيرك على فعل الفضائل ما لم تستكمل فيك فأفعالك تحت على المحاسن أكثر من مقالك.
وقال أبو جعفر النيسابوريّ: ليس الحكيم الذي يلقّنك الحكمة تلقينا، إنّما الحكيم الذي يعمل العمل فتقتدى به.
وقال أبو هاشم: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله. ومن هذا قول محمود الورّاق:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد
وقال عديّ:
ونفسك فاحفظها من الغيّ والرّدى ... متى تغوها تغو الذي بك يقتدي «2»
التلطّف والملاينة في الوعظ
قيل: تصدّى رجل للرشيد، فقال: إني أريد أن أغلظ عليك لي في المقال، فهل أنت محتمل؟ قال: لا، لأن الله تعالى أرسل من هو خير منك إلى من كان شرا منّي، فقال: فقولا له قولا لينا لعلّه يتذكر أو يخشى.
وقيل: الواجب لمن يعظ أن لا يعنّف ولمن يوعظ أن لا يأنف.
الحثّ على الاتعاظ
قيل: من قلّ اعتباره قلّ استظهار من لم يتعظ بغيره وعظ الله به غيره. وقال حكيم:
السعيد من وعظ بغيره والشقيّ من وعظ به غيره. وقيل: يا لها من موعظة لو وافقت في القلوب حياة.
النّهي عن وعظ من لا يتّعظ
وقيل: وعظ من لا يعيرك سمعه، ولا يشحذ وعظك طبعه كمن وضع مائدة لأهل القبور، ورام بخرقة تليين الصخور.
وقيل: فلان في وعظه كنافخ في قفص وقاصّ في مقبرة.(1/168)
وقيل: لا ينجع الوعظ في القلوب القاسية، كما لا يزكو البذر في الأرض الجاسية «1» .
وقيل: صقلك سيفا ليس له سنخ تعب، وبذرك أرضا سبخة «2» نصب.
وقيل: من استثقل سماع الحقّ فهو للعمل به أكثر استثقالا.
الحثّ على قبول وعظ من ليس بمتعظ
قال بعضهم: لا يمنعنّكم سوء ما تعلمون منّا، أن تعملوا بأحسن ما تسمعون منّا.
ووقف رجل على ابن عيينة وهو يعظ النّاس فأنشده:
وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض
فأنشده ابن عيينة:
إعمل بعلمي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مروا بالمعروف، وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه.
وما أحسن ما قال يوسف بن الحسين الرازي في دعائه: اللهمّ أنك تعلم أنّي نصحت للناس قولا، وخنت نفسي، فهب خيانتي لنفسي لنصيحتي للناس.
النّهي عن الاقتداء بذوي الزّلات
قال المعتمر بن سليمان: إيّاك والاقتداء بزلّات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: فلان شرب النبيذ، وفلان سمع الغناء، وفلان لعب بالشطرنج، فيخرج منك فاسق تام.
وقيل: من أخذ برخصة كلّ فقيه خرج منه فاسق.
كراهية تولّي الفتيا «3» والجلوس للنّاس
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض. وقيل لحاتم الأصم: ألا تجلس لنا في الجامع؟ فقال: لا يجلس في الجامع إلا جامع، أو جاهل، ولست بجامع ولا أحب أن أكون جاهلا. وفي أخرى لا يتصدّى إلا فائق أو مائق ولست بالفائق.
وقال الحسن رضي الله عنه: إنّ خفق النعال خلف الرجال لا يثبت قلوب الحمقى.
ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبيّ بن كعب، وقد تبعه قوم فعلاه بالدرّة «4» ، وقال:
إنها فتنة للمتبوع ومذلّة للتابع.(1/169)
قال ابن المبارك: قلت لسفيان: من الناس؟ قال: العلماء. قلت: فمن الملوك؟ قال الزهّاد. قلت: فمن الغوغاء؟ قال: القصّاص.
الحثّ على الأمر بالمعروف
قال الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«1» .
وقال أبو بكر (رضي الله عنه) : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده عمهّم الله بعقابه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكرا فاستطاع أن يغيّره بيده، فليفعل. فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. وقال خالد بن عبد الله في كلام له: حق على المسلمين التواضع والتناهي عن المعاصي.
الموضع الذي يجوز فيه ترك الأمر بالمعروف
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
«2» .
وقال أبو أمية الشعباني: سألت أبا ثعلبة الخشني عنها، قال: سألت عنها جبيرا. قال سألت: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وإذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كلّ امرىء برأيه فعليك بنفسك ودع أمر العوام.
وقال أكثر المتكلمين: لا يجوز ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في كلّ موضع، لكن من علم أو ظنّ أنه ينفذ قوله ولا يناله مكروه إذا قاله، أو فعله، فعليه أن يفعل ذلك، ومتى خاف على نفسه، فعليه أن ينكر المنكر بقلبه دون لسانه.
من هزأ بالناس من القصاص
كان عيّار يقصّ فأقبل جماعة من المرد، فقال: ها هو قد جاء العدوّ أمنوا، اللهم امنحنا أكتافهم وكبّهم على وجوههم وولّنا أدبارهم وأرنا عورتهم، وسلّط رماحنا عليهم.
والناس يؤمنون ولا يدرون. وكان قاص بالغداة يسخر بالناس ويشرب بالعشيّ فقيل له في ذلك، فقال: أنا بالغداة قاص وبالعشي ماصّ.
وكان قاصّ يقال له أبو شعيب يقول: ها أنا أبو شعيب قليل العيب، هاتوا ما في الجيب أخبركم بما في الغيب. وجاءه رجل فقال: ما المحبة؟ فقال: هاك سؤالك جاءني في جبّه بلحية كالمذبة ورأس مثل الدبة وعقل لا يساوي حبة يسألني عن المحبّة.(1/170)
الهاذون «1» من القصّاص
ألقي إلى أبي مسلم القاصّ خاتم بلا فصّ، فقال: صاحب هذا الخاتم يعطى في الجنة غرفة بلا سقف. وقال قاص: ما من قطرة تسقط من السماء إلا ومعها ملك يضعها في موضعها. ثم يصعد، فقيل: فالقطرة التي تقع في الكنيف يدخل معها الملك؟ فقال:
إن في الملائكة كناسين كما في الناس ذوي دناءة وخسة.
وقال أبو عقيل: الرعد ملك أصغر من نحلة وأعظم من زنبور، فقيل: لعلّك تريد أصغر من زنبور وأعظم من نحلة، فقال: لو كان كذا لم يكن بعجب.
وقرأ رجل في مجلس سيفويه قوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ
«2» فقال: دعنا من قرآن الحماشين، وهات قرآن طرسوس يعني الجهاد.
وقال قاص: يا قوم اشكروا إذا لم يكن للملائكة نجاسة فكانوا يحزنون علينا، يلطخون ثيابنا.
وقال يوما: احذروا الله فإنه ماء تحت التبن، فقيل له: كيف؟ فقال: أهلك عالما في سبب ناقة قيمتها مائتا درهم، وقتل ابن النبي فلم ينتطح فيه عنزان. ربما يأخذ بالقليل ويعفو عن الكثير.
وقال آخر: من صلّى ركعتين، فله بيت في الجنّة، فقال نبطي، إن صلّيت خمسين ركعة هل يجعل لي بيت؟ فقال: لا يا عاص إن ذلك لبني هاشم، فأما أنت فيبنى لك جدح بعكر.
وقال بعضهم: كان موسى عليه السلام فضوليا. قيل: وكيف قال؟ قيل له: وما تلك بيمينك يا موسى؟ فكان الجواب أن يقول عصا. فقال: هي عصاي (الآية) . فأخذ فيما لا يعنيه.
أدعيتهم
دعا بعض القصّاص فقال اللهمّ جازفنا ولا تفتش عن ذنوبنا فتفضحنا. وكان بعضهم يقول: اللهم اغفر لنا كلّ نعمة وحسنة، واحشرنا في جملة سيدي أبو عبد الله بن حنبل ولا تغفر للرافضة.
من أفتى في مسألة برقاعة
ترك طبيب طبّه وقعد فقيها فقيل له: ما تقول في من زعف في صلاته؟ فقال: يحتجم، قيل: فمن قلس في صلاته، فقال: يتناول حبّ أيارج، قيل: ذا طبّ وليس بفقه.(1/171)
وقيل لآخر: ما تقول في من خصى نفسه؟ قال: إن قصد الإضرار بامرأته حدّ.
وقيل لبعضهم: إن نصرانيا قال: لا إله إلا الله، فقال: يؤخذ بنصف الإسلام، وإن مات دفن بين مقابر المسلمين ومقابر النصارى.
وقيل لسيفويه ما تقول في الأضحية؟ فقال: علي لخبير سقطت، سألت عنها شيخا بنصيبين فلم يكن عنده فيها شيء. وقيل له: أتروي عن شريك شيئا؟ فقال نعم. حديثا واحدا قيل ما هو؟ قال: حدثنا شريك عن مغيرة عن إبراهيم مثله قيل مثل أي شيء قال ما أدري هكذا سمعته.
من استفتى فيما لا يعرفه فانفصل عنه بحيلة
قالت امرأة لرجل: إذا كان مكوك دقيق بدرهم ودانق «1» ، كم يكون بأربعة دراهم؟
فلم يعرف جوابها. فقال: ممّن اشتريت؟ قالت: من فلان قال اقنعي بما يعطيك فإنه ثقة.
وسأل رجل في الجامع أبا عقيل مسألة في الحيض فلم يعرفها. فقال يا أحمق أخرج هذه القاذورات والنجاسات من الجامع حتى تخرج منه.
وكان بعض القصاص في حديث قتلى بدر، فسئل عن النملة إذا ماتت في الماء، هل يجوز شربه؟ فقال: ما لنا وهذا؟ نحن في النوق لسنا العنوق أي نتكلم في الكبار فلا نخوض في الصغار.
من استفتاه أحمق فأجابه بنادرة
قال شاميّ لحمزة بن بيض: لم يرفع الكلب رجله إذا بال؟ قال: مخافة أن ينجس سراويله.
وسأل رجل الشعبي: كم أمهر إبليس امرأته؟ قال: ذاك أملاك لم أشهده. وقال له إنسان: هل آكل الذباب؟ قال إن اشتهيت فكل.
وقيل لآخر: إذا دخلت النهر لاغتسل، ففي أي جانب أفضل أن أقف، فقال في الجانب الذي فيه ثيابك لئلا تسرق.
وقيل لآخر: ما تقول في من نام وأيره قائم فجاءت امرأة فقعدت عليه؟ فقال: لا أدري ما أقول، ولكن كان أيرا مرزوقا.
وقال أبو حازم: جاء رجل إلى أبي فقال بأي رجل يجب أن يبدأ من يدخل المسجد؟
فقال ما هذا مما يسئل عنه؟ ولكن قد قيل للعروس: ضعي رجلك اليمنى على المال والبنين.(1/172)
وقال رجل لمفت بالبصرة: أسلمت ثوبا إلى الحائك فالدقيق على من يجب؟ فقال:
الدقيق ولعنة الله على الحائك.
من استفتى في سخف فأجاب بمقتضاه
قيل لعالم: ما بال عانة المرأة تنبت اكثف، فقال لقربها من السما وتسقى من عسل.
وقيل: ما بال أستاههن لا شعر عليها وعلى أستاء الرجال الشعر؟ فقال: لأن أستاه الرجال حمى وأستاه النساء مرعى.
وقال عبادة عند المأمون ليحيى بن أكثم: علّمني فرائض الصلب فإني أشتهيها فقال المأمون وتبسم ما تقول في مسألته، فقال: قد أخطأ ما كان يجب أن يسأل عن هذا في الصبا. أما سمع قول الشاعر:
فإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه
إنما يعلم الحديث بشرط أن يكون وضيئا زكيا سهل الأخلاق فإن كان له ابن بهذا الشرط علمناه، فقال عبادة: لو دخلت في صناعتنا لم يقربك أحد. فقال يحيى: وأنا خارج منها وما بأحد على قوّة.
واستفتى ابن فريعة في رجل دخل الحمام وقعد على الحوض ضرط فيه فتحول الماء زيتا فكتب أخلق بذلك أن يكون عبثا باطلا وكذبا وعليهما أن يعلما المبتاع بنجاسة منشئه وقذر مبدئه، ليستعمله في أسرجته «1» دون أطعمته والسلام.
(17) وممّا جاء في الخطبة وقراءة القرآن
ما يحتاج إليه في الخطبة
قيل: يجب أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ متخيّر اللفظ جهير الصوت، وأن يضع في صدر كل خطبة من النكاح والعيد والصلح ما يدل على عجزها، وأن يكون فيها آيات وإلا كانت شوهاء، ولذلك قال عمران بن حطان: أول خطبة خطبتها عند زياد، فقال: هذا الفتى أخطب الناس. لو كان في خطبته شيء من القرآن وليس من السنّة التمثل فيها بالشعر.
وقال الجاحظ: يجب أن يفرق بين صدر خطبة النكاح، وخطبة العيد وخطبة الصلح، وكانوا يحمدون الجهير الصوت ويذمّون ضئيله.(1/173)
صعوبة تولّيها
قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: كيف لا؟ وأنا أعرض عقلي في كل جمعة على النّاس.
وقيل: نعم الشيء الأمارة، لولا قعقعة البريد وصعوبة المنبر.
وقيل: إياك والخطبة فإنها مشوار كثير العثار «1» . وقيل: لا يقدم على الخطبة إلا فائق أو مائق «2» .
وقال عبد الله القسري: هو مقام لا يقومه إلا أهوج أو قليل الحياء.
وقال عمر رضي الله عنه: لا يتصعّدني شيء كما تتصعدني خطبة النكاح. وقيل: إنما صعب عليه لقرب الوجوه من الوجوه ومن صعد المنبر رأى نفسه أرفع فيكون أجسر.
وقيل أنه لا يجد من تزكية الخاطب بدا فلذلك كرهه.
من ارتج عليه فيها فاعتذر بعذر حسن
ارتج على عثمان رضي الله عنه، فقال: إنكم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال.
وارتج على يزيد بن المهلب فلما نزل قال:
فإن لا أكن فيكم خطيبا فإنّني ... لسيفي إذا جدّ الوغا لخطيب
فقيل: لو قلت هذا على المنبر، لكنت أخطب العرب. وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه فقال: إن هذا الكلام يجيء أحيانا، ويعسر أحيانا وربما طلب فأبى وكوبر فعتا. التأنّي لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيّه. وقد يختلط من الجريء جنانه وينقطع من الذرب لسانه، وسأعود فأقول.
وارتج على أبي العباس السفّاح لما صعد المنبر فنزل ثم صعد، وقال: أيّها النّاس إن اللسان بضعة من الإنسان، يكل بكلاله إذا كلّ ويرتجل لارتجاله إذا ارتجل. ونحن أمراء الكلام بنا تفرّعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنا لا نتكلم هذرا بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين.
من اعتذر بخرافة أو نادرة
حضر عبد الله بن عامر على منبر البصرة فاشتد جزعه فقيل: إن هذا مقام صعب فامتحن فيه غيرك. فأمر وازع بن مسعود أن يصعد ويخطب فلما ابتدأ الكلام حصر، فقال:
لا أدري ما أقول لكم، ولكنني أشهدكم أن امرأتي طالق فهي التي أكرهتني على حضور الصلاة. ثم أمر آخر فصعد المنبر فارتج ونظر إلى الصلع فقال: اللهمّ العن هذه الصلعة.(1/174)
وصعد عتاب بن ورقاء منبر أصبهان يوم النحر، فحضر فقال: لا أجمع عليكم عيّا وبخلا، ادخلوا سوق الغنم، فمن أخذ منكم شاة فهي له وعليّ ثمنها.
الأمر بالإغضاء عنه لئلا يدهش
صعد أعرابي المنبر فلما رأى الناس يرمقونه صعب عليه الكلام، فقال: رحم الله عبدا قصر من لفظه ورشق الأرض بلحظه ووعى القول بحفظه. وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رفع الناس أبصارهم قال لهم: نكّسوا رؤوسكم وغضّوا أبصاركم، فإن أول مركب صعب.
وصف خطيب مصقع طلحة:
ركوب المنابر وثّابها ... معنّ بخطبته مصقع «1»
وقال قيس بن عاصم:
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن «2»
وقال آخر:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
جماعة من مشاهير الخطباء
منهم قيّس بن ساعدة، ولقيط بن معبد، وزيد بن جندب، وصعصعة بن صوحان، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان.
وتكلّمت الخطباء يوما عند معاوية رضي الله عنه فقال: والله لأرمينّهم بالخطيب الأشدق. قم يا زيد فتكلم.
ومن الخطباء القدماء: كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب كافّة. فلّما مات أكبروا موته، وأرّخوا بموته إلى عام الفيل.
ومن خطباء اليمن حمير بن الصباح وكان المفضل بن عيسى الرقاشيّ من أخطب الناس، وكان متكلما قاصّا يقعد إليه عمرو بن عبيد.
المعتذر بعجزه عن الخطبة
قال كعب الأسدي:
فإن لا أكن في الأرض أخطب قائما ... فإنّي على ظهر الكميت خطيب
وقال لبيد:
إذا اقتسم النّاس فضل الفخار ... أطلنا على الأرض ميل العصا(1/175)
وله:
ما إن أهاب إذا السرادق غمّه ... قرع القسيّ وأرعش الرعديد «1»
ومن السنة أن يتناول الخطيب سيفا أو قوسا يمسك به نفسه، وقد تقدّم شيء من هذا الباب.
ذمّ خطيب
قال وائلة الدوسيّ:
لقد صبرت للذلّ أعواد منبر ... يقوم عليها في يديك خطيب
بكى المنبر الشرقيّ لما علوته ... وكادت مسامير الحديد تذوب
وقال منصور بن ماذان:
أقول غداة العيد والقوم شهد ... ومنبرنا عالي البناء رفيع
لعمري لأن أضحى رفيعا فإنّه ... لمن يرتقي أعواده لوضيع
وقال آخر:
سلي ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع «2»
وقال المصيصي في خطيب:
ينشي لنا كلّ جمعة عظة ... يشلي علينا بها الشياطينا «3»
فضل قراءة القرآن
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في السر والإجهار.
وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه. ولبعضهم أن الله تعالى جعل القرآن سراجا لا تطفأ مصابيحه، وشهابا لا يخبو زنده، ونورا لا يتغير ذكاؤه، ومن قرأه وتبعه دلّه على المكارم وصدّه عن المحارم، وشفع له يوم القيامة.
قال الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
«4» وقال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
«5» وقال صلى الله عليه وسلم: من بلغه القرآن فكأنما شافهته، لقوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
«6» وقد ذكرنا أحوال القرآن في باب الديانة مستقصاة.(1/176)
نوادر العرب فيما سمعوه من القرآن
قيل لأعرابي اقرأ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
«1» ، فقال: أدخلت يدك في الجراب فأخرجت شيئا فيه صعود وهبوط هات غيرها. وقيل لآخر: ما تقرأ في صلاتك؟ قال أمّ القرآن ونسبة الربّ وهجاء أبي لهب.
وقيل لآخر: ما قرأ إمامكم البارحة في صلاته؟ فقال: أوقع بين موسى وهارون شراشر «2» .
وسمع آخر رجلا يقرأ: الأعراب أشد كفرا ونفاقا فقال: لقد هجانا. ثم سمعه يقرأ بعده ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال: لا بأس هجاء ومدح هذا كما قال الشاعر:
هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
وسمع آخر قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ
«3» فقال: وأين السلم إليه؟
وسرق أعرابي غاشية سرج، فدخل مسجدا فقرأ الإمام: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ
«4» ، فقال: أسكت قد أخذت في الفضول، فقرأ الإمام: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ
«5» فقال ها هي غاشيتكم، فلا تخشعوا وجهي.
من غيّر حرفا من القرآن فأتى بنادرة لمّا روجع
قال الحجّاج لامرأة من الخوارج اقرئي شيئا من القرآن فقرأت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً
«6» فقال: ويحك يدخلون، قالت: قد دخلوا وأنت تخرجهم.
وقرأ أعرابي: إنا بعثنا نوحا إلى قومه. فقيل: إنما هو أرسلنا، فقال ما بينهما إلا لجاجك. وقرأ آخر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
«7» فقالوا له: قد غيرت فقال:
خذوا أنف هرشى أو قفاها فإنّه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق
بعض ما جعلته العرب قرآنا
قرأ أعرابي في صلاته: الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب طويل ومشفروئيل «8» وإنه من خلق ربنا لقليل، الله أكبر.(1/177)
وقرأ آخر:
ويوسف إذ دلّاه أولاد علّة ... فاصبح في قعر الركيّة ثاويا «1»
وصلّى آخر بقوم فقرأ:
أفلح من هينم في صلاته ... وأخرج الواجب من زكاته «2»
وأطعم المسكين من مخلاته
فضحك القوم فالتفت إليهم وقال: أشهد أني أخذته من في «3» مسيلمة.
وشهد أعرابي عند أمير فقال المشهود عليه كيف تقبل شهادته وهو لا يحسن شيئا من القرآن فالتفت إليه، وقال اقرأ، فقال:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الاباعد
فقال الأمير أنها آية محكمة، فقال المشهود عليه: ما أراه تعلّم هذه الآية إلا الساعة.
من ذكر مثلا فاعتقد أنّه من القرآن
خطب أبو الفرزدق فقال: قال الله تعالى: لن يعجز القوم إذا تعاونوا. وخطب عتاب بن ورقاء فقال: إن الله تعالى يقول: إنما يتفاضل الناس بأعمالهم. فقيل: ليس هذا قرآنا فقال: ما أظنها إلا آية.
وقال بعض الناس: ما أحسن ما قال الله تعالى: اقتلوا السفلة حيث وجدتموهم.
فقيل: ليس هذا بقرآن، فقال: ألحقوها به فإنها آية حسنة.
وغضب أبو عبّاد الكاتب على بعض كتّابه فرماه بدواة فبلغ المأمون، فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: أنا ممّن قال الله تعالى فيه: وإذا ما غضبوا هم يستغفرون فقال: ويلك لا تحسن آية فقال: نعم إني أقرأ من سورة ألف آية.
ذمّ من قبح قراءته
قرأ رجل بحضرة الصاحب رحمه الله: و «العاديات» «4» بأقبح قراءة فتناوم الصاحب تبرما به، فضرط القارىء ضرطة، ففتح الصاحب عينيه وقال: نوّمتني بالعاديات ونبّهتني ب «المرسلات» .
وقال المصيصي:
نحن في أنكر عيش ... من قراءة ابن حبيش(1/178)
يقرأ الحمد فتى في ... خلقه كنة خيش
وقال آخر:
وكأنما في الحلق منه مجسّة ... أو دبة في سلم تتدحرج
وصلّى رجل يقال له يحيى، بأربعة نفر فأكثر اللحن في قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
فلما فرغ قال أحدهم:
أكثر يحيى غلطا ... في: «قل هو الله أحد»
فقال الثاني:
قام يصلي قاعدا ... حتّى إذا أعيا قعد
فقال الثالث:
كأنّما لسانه ... شدّ بحبل من مسد «1»
فقال الرابع:
يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد «2»
ذمّ من أرتج عليه في القراءة ونوادره
قام رجل يصلّي خلف إمام، فلما افتتح الصلاة أرتج عليه في الاستعاذة من الشيطان، فأخذ يكرّر الاستعاذة فقال له رجل: إنك لا تحسن القرآن فما ذنب الشيطان يا بارد.
وقرأ إمام سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
«3» فلما بلغ قوله:
فأين تذهبون؟ أرتج عليه فأخذ يكرر، وخلفه أعرابي، فأخذ حمشه «4» وصفعه، فقال: أما أنا فأريد كلواذاء هؤلاء الكشاخنة لا أعرف مقصدهم.
وصلّى رجل بقوم فأخذ يردد: قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي فقال أعرابي:
أهلكك الله وحدك.
وقرأ الرشيد ليلة: مالي لا أعبد الذي فطرني، فارتج عليه، وأخذ يردده وابن أبي مريم بقربه في الفراش، فقال: لا أدري والله لم لا تعبده؟ فضحك الرشيد وقطع صلاته.(1/179)
(18) ومما جاء في الفراسة والتّراطن والطّيرة والفأل
صحّة الفراسة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتّقوا فراسة المؤمن، وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن ينظر بنور الله. قال ابن الرومي:
وحبّي الفؤاد يعلمه، العا ... قل قبل السماع بالإيماء
وظنون الذكيّ أنفذ في الحق ... ق سهاما من رؤية الأغبياء
وقال آخر:
لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر
وقال آخر: وفي بعض القلوب ترى عيون، وقال البحتري:
وإذا صحّت الرويّة يوما ... فسواء ظنّ امرىء وعيانه «1»
الممدوح بصحّة الفراسة
قيل فلان ألمعيّ «2» ، وقال أوس «3» :
نجيح مليح أخو مأقط ... نقاب يخبر بالغائب «4»
وقال أبو تمّام:
يرى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه ومشكولا إذا كان مشكلا «5»
وقال آخر:
يخبر ظهر الغيب ما أنت فاعل
وقال آخر:
يخاطبه من كلّ أمر عواقبه
من تفرّس في صبيّ أمرا وكان كما ظنّ
رأى بكير بن الأخنس المهلّب وهو غلام، فقال: خذوني به إن لم يفق سراتهم ويبرع حتّى لا يكون له مثل، وكان كما قال.(1/180)
ونظر رجل إلى معاوية وكان صغيرا فقال: إنّي أظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند: ثكلته أمّه إن كان لا يسود إلا قومه. ورأى رجل ابن السكّيت وهو صغير يسأل فيجيب، فقال: إن هذا الغلام ينال خيرا وقد تقدم في الحزم والتعلم مثل هذا.
كلمات من الرّطانة «1»
بعث امرؤ القيس إلى امرأة تزوج بها بثلاثين شاة وزقّ خمر، فذبح الغلام في الطريق شاة وأكلها وشرب بعض الزقّ فلما أوصلها، قالت له: قل لزوجي إذا أتيته سحيما كان قدر، ثم وإن رسولك جاءنا في المحاق. فلما أتاه الرسول وأخبره، قال: يا عدوّ الله أكلت شاة وشربت من رأس الزقّ فاعترف بذلك.
وأسر بنو ساسان رجلا من بني العنبر، فقال: دعوني أرسل إلى قومي ليفدوني.
فقالوا: على أن لا تكلم الرسول إلا بحضرتنا. فقال: نعم. وقال للرسول: قل لهم إنّ الشجر قد أورق وإن النّساء قد اشتكت. ثم قال له: أتعقل؟ قال: نعم. فقال: ما هذا الوقت؟ قال: الليل. قال: قل لهم عروا جملي الأصهب واركبوا ناقتي الحمراء، واسألوا حارثا عن أمري. وكان الحارث صديقا له.
فذهب الرسول إليهم فدعوا حارثا فسألوه. فقال: قوله الشجر قد أورق، أي تسلّح القوم، واشتكت النساء: أي اتخذت القرب للماء. وقوله: ما هذا الوقت؟ فقال الليل فإنه يقول أتاكم جيش كالليل وقوله عروا جملي الأصهب، أي ارتحلوا عن الصماء واركبوا ناقتي الحمراء أي انزلوا الدهناء. فرحلوا من ساعتهم فصبّحهم القوم فلم يجدوا أحدا وكان العطاردي، لما رجع إلى قومه رمى إليهم بصرّتين في إحداهما شوك وفي الأخرى تراب، فقال قيس بن زهير هذا رجل مأخوذ عليه بالحلف وهو ينذركم عدوا وشوكا. قال الله تعالى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ
«2» .
وأسرت طيء غلاما من العرب فقدم أبوه ليفديه فاشتطوا عليه. فقال أبوه عنده: لا والذي جعل الفرقدين يصبحان ويمسيان على جبلي طيىء، ما عندي غير ما عرفتكم، ثم انصرف. وقال: لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه، كأنه قال الزم الفرقدين على جبلي طيىء ففهم الابن كلامه. فطرد إبلا من إبلهم ليلته، ونجا بها.
وكان داريوس ملك فارس، لما سمع بخروج ذي القرنين «3» بعث إليه بدرّة وكرة ياقوتة وجراب سمسم وتابوت مملوء من الذهب. وكتب إليه: إنما بعثت بهذا لا جرب عقلك، فقال له الإسكندر: قد عرفت لماذا بعثت. أما الدرّة فتزعم أنك سوط تشير علي.
وقلت يجتمع لي ملكك اجتماع هذه الكرة في يدي. وذكرت أن لك في أمري ضياء كضياء(1/181)
الياقوتة وبعثت بالتابوت من الذهب تقول: تكون لي خزائنك والسمسم تعلّمني أن عدة جنودك كثيرة ككثرته.
ثم إن ذا القرنين أخذ كفا من السمسم بحضرة الرسول فاستفه ومضغه، وقال: قل له جنودك كثيرة، ولكنّي أطحنهم طحنا كهذا السمسم، وبعث معه إليه بجراب من خردل فأخبر الرسول داريوس بما عاين من ذي القرنين، فأعجبه كيده وغضب فأخذ كفّا من الخردل فطرحه في فمه كفعله بالسمسم فلما وجد مرارته وحرافته «1» لفظه، وقال: أشهد أن جنوده في حرافة الخردل، ثم كانت الغلبة لذي القرنين.
ولما صالح ملك الهند اشترط عليهم أن يدفعوا إليه حكيما كان فيهم ففعلوا.
فاستصحبه ولم يفاتحه.
ثم بعث إليه يوما بستوقة «2» مملوءة سمنا، فأخذها الحكيم وغرز فيها إبرا وردها إليه.
فبعث إليه يوما آخر مرآة صديئة، فأخذها الحكيم فجلاها وردّها إليه. فقيل لذي القرنين تعجبا من فعلهما: ماذا عنيتما بذلك؟ فقال: إني لما بعثت إليه البستوقة قلت: إني ممتلىء من العلم امتلاء هذه البستوقة من السمن فأراني بغرز الإبر أن الأمر بخلاف ذلك، وأن في زيادات كثيرة، وذكرت له بالمرآة الصديئة، أن نفسي قد صدئت. فأجابني: بأن قال: ذاكر العلماء فالمذاكرة جلاء القلوب.
الإشارة بقول يسير إلى معنى كثير
كان المأمون رحمه الله غضب على طاهر «3» بعد ما وجّهه إلى خراسان، فكتب إليه بالرجوع. فكتب إليه صديق له كتاب سلام ووقع على حاشيته: يا موسى. فجعل طاهر يتأمل ذلك ولا يدري معناه، حتى ناوله امرأة صحبته جزلة الرأي، فقالت: إنما عنى يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك. فأمسك طاهر عن الإقدام وجعل يتقيه حتى طيّب قلبه.
النهي عن التكهّن والطيرة
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطيرة شرك وما منّا من يجده في نفسه، ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل.
وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظنّ والطيرة والحسد فإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض ولا تثن.(1/182)
وقال: من تكهن أو استقسم أو تطيّر طيرة ترد عن سفر، لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة. وروي اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا رب غيرك، وقال صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا هامة ولا صفر.
الرخصة في الطّيرة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة في المنزل والمرأة والفرس.
وقيل: أخبرت عائشة رضي الله عنها بذلك فغضبت وأنكرت ذلك وطارت شقة في السماء وشقة في الأرض، وقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال إن يكن شؤم ففي هذه الثلاثة.
جواز الفأل
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل «1» ويعجبه الفأل الحسن ولا يتطيّر. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقاربها، سمع مناديا ينادي: يا سالم. فقال لأصحابه: سلمنا فلما دخلها سمع آخر ينادي: يا غانم. فقال: غنمنا. فلما نزل أتى برطب فقال صلى الله عليه وسلم حلالنا البلد، وسمع رجلا يقول: يا حسن. فقال: أخذنا فألك من فيك.
ولما خرج من مكّة مرّ بكلبة في ظل شجرة ساقطة أطباؤها «2» نائمة عليها أجراؤها «3» فقال لاصحابه أعطيتم درّها، ووقيتم كلبها. وبعث المشركون إليه سهيلا فقال: أتاكم سهيل وسيسهل أمركم.
ووجه سعد بن أبي وقاص إلى عمر رضي الله عنهما رسولا فلما جاءه قال: ما اسمك؟ قال: ظفر. قال: ابن من؟ قال: ابن قريب. فقال: ظفر قريب إن شاء الله تعالى.
ولما طلب المغيرة بن شعبة رسول سعد بن أبي وقاص من ملك الفرس يزدجر الجزية، قال: نعطيكم التراب. فقال سعد: نعم الفأل مكنّنا من أرضه.
النهي عن التنجيم واختيار الأيام
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل في أي يوم أحتجم.
فقال: لا تطيروا، فإن الأيام كلّها لله إذا تبيغ «4» بأحدكم الدم فليحتجم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمّ لا طير إلا طيرك. ولما عزم عليّ كرم الله وجهه، على المسير إلى النهر وإذ أتاه بسام المنجم فقال: لا تسر في هذه الساعة وسر في وقت كذا. قال:
ولم؟ قال: لأنك إن سرت فيها أصابك ضرر شديد، وإن سرت في وقت كذا ظفرت.
فقال: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم ما ادعيت. وقال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك.(1/183)
وما كان لعمر رضي الله عنه منجّم، ولقد فتح بلاد كسرى وقيصر.
وقال عليّ كرم الله وجهه: من تعلم بابا من النجوم فقد تعلم بابا من السحر فإن زاد ازداد.
وقال الخليل:
أبلغا عنّي المنجّم أنّي ... كافر بالذي قضته الكواكب «1»
عالم أنّ ما يكون وما كا ... ن، فحتم من المهيمن واجب «2»
وقال الصاحب:
خوّفني منجّم أبو خبل ... تراجع المريخ في برج الحمل
فقلت: دعني من أباطيل الحيل ... فالمشتري عندي سواء وزحل «3»
أدفع عنّي كلّ آفات الدّول ... بخالقي ورازقي عزّ وجلّ
أسامي ما تتطيّر به العرب
السانح ما ولّاك ميامنه، والبارح ما ولّاك مياسره. قال أبو عبيدة: البارح يتشاءم به أهل نجد، والسانح يتشاءم به أهل عالية، ولذلك قيل: من لي بالسانح بعد البارح. والناطح ما يلقاك بجهته وهو يكره، والكادس ما يجىء من خلفك يقفوك «4» ، وكل ما يتطير به يسمى طير العراقيب.
ويتطيرون بالعطاس، ولذلك قال:
أو حلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
المصيب في عيافته
خرج لهبي في حاجته ومعه سقاء لبن. فسار صدر نهاره ثم عطش، فأناخ راحلته ليشرب، فإذا بغراب ينعب فأثار راحلته ومضى. فلما أجهده العطش أناخ راحتله ليشرب فنعب الغراب، وتمرّغ في التراب فضرب الرجل سقاءه بسيفه فإذا فيه أسود سالخ وبنو أسد موصوفون بالعيافة «5» .
وقال الأصمعي: قيل إن نفرا من الجنّ تذاكروا العيافة من بني أسد فأتوهم، فقالوا:
ضلّت لنا ناقة فأرسلوا معنا من يعيف. فقالوا: لغليم منهم انطلق معهم فاستردفه أحدهم فساروا، فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جنحيها، فاقشعر الغلام وبكى. فقالوا مالك؟ قال:(1/184)
كسرت جناحا ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا ما أنت بانسي ولا تبغي لقاحا.
وبعث ازدشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم زاجرا «1» ومصوّرا فقال للزاجر: ازجره وللمصور صوّر صورته، فلم يجد الزاجر شيئا يزجر به، وصوّر المصور صورته وورد بها. فنظر ازدشير إليها ووضعها على الوسادة وقال للزاجر: ما رأيت؟ قال: لم أر شيئا أزجر به عنده. ولكنّي رأيت ها هنا أن الأمر له، لأنك وضعته على وسادتك ومكنته من رياستك.
وسمع لهبيّ يعيف رجلا يقول لعمر رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله فقال: سمّاه باسم ميت. فلما بلغ مرمى الجمار صكت حصاة صلعة عمر رضي الله عنه، فقال اللهبي:
اشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف بعدها فقتل عمر رضي الله عنه تلك السنة.
وبينا مروان بن محمد «2» ينظر في إيوان له فانصدعت زجاجة من الإيوان، ووقعت منها شمس على منكب مروان، وكان بحضرته عيّاف يستمع إليه مروان، فقال: صدع الزجاج منكر فخرج وتبعه ثوبان مولى مروان فسأله، فقال: صدع الزجاج صدع السلطان ستذهب الشمس عن مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندي واضح البرهان. فورد عن قريب خبر أبي مسلم «3» صاحب الدعوة.
من حكم بتنجيم وافق قوله القضاء
كان الفضل بن سهل حكم على نفسه أنه يعيش أربعين سنة، ثم يقتل بين ماء ونار.
فعاش هذه المدة ثم قتل في حمام سرخس.
ولما مرض الحجّاج دعا منجمه فقال: ويلك انظر ماذا ترى؟ فقال: أرى ملكا يموت ولست هو. قال: وما اسمه؟ قال: كليب. فقال: أنا والله ذلك فقد كانت أمي سمّتني كليبا.
وكان نيبخت المنجم لا يحبس «4» عن المنصور «5» فجاءه يوما فقيل له: إنه من المستراح، فقال أخرج عاجلا فخرج، فانخسف المخرج عقب خروجه.
من تطيّر من الكرام بكلام سوء سمعه فأصابه من ذلك
قال هبة الله بن إبراهيم: دعاني الأمين في الليل التي نزل فيها طاهر بن الحسين(1/185)
النهروان، فلما دخلت عليه رأيته مغتمّا فقال: يا عمّ أما ترى هذا الباغي عليّ فقلت: دعه وبغيه، فالبغي يردى صاحبه. فقال: فيم أداوي ما خامرني؟ فقلت: تأمر باحضار أبي نواس فإنه فتّاح لهذه الأبواب، فاستحضره وسأله فقال:
إذا ما ضاقك الغمّ ... فضع في الرأس أقداحا «1»
فإنّ الهمّ إن طاحت ... به مشمولة طاحا «2»
فدعا برطل وجارية تغني، فسألها: ما اسمك؟ قالت: شرّ، وغنّت بقول الشاعر:
كليب لعمري كان أكبر ناصرا ... وأكبر حزما منك ضرّج بالدم
فرمى بالرطل وأمر بالجارية فالقيت في دجلة، ودعا أخرى فغنّت:
هموا غدروه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه «3»
فرمى بها أيضا، ودعا بأخرى فغنّت بقول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «4»
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر «5»
فاغتمّ اغتماما عظيما فتطلع على دجلة فإذا برجل يقرأ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. فاستحكم تطيره. فقلت: يا أمير المؤمنين قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التطير فقال:
هبني لا أتطير بالشعر أما أتفاءل بالقرآن فما انقضى الأسبوع إلا وقد نزلت به النازلة.
من رأى فأل سوء فصرفه إلى حسن بتأويله
خرج جعفر بن سليمان إلى المدينة واليا بها فتعلّقت شجرة بلوائه فتطيّر بذلك. فقال من كان معه: هذا عملك تشبّث بك فسرّي عنه.
وسار خالد بن يزيد إلى ولاية الموصل فانكسر اللواء فحزن لذلك، فقال أبو الشّمقمق:
ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبدلا
لكنّ هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا(1/186)
فبلغ ذلك المأمون فزاد في ولايته قنسرين «1» .
ولما صعد قتيبة بن مسلم «2» منبر الريّ «3» سقط القضيب من يده فتطيّر بذلك الناس، فأنشد:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وصف الفأل السوء بأنه يصيب من تفاءل به
قيل إياك والفأل السوء، فقد قالت الفلاسفة: ما للنوائب رسول أبلغ في قبض الأرواح من الطيرة والفأل السوء. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمير المؤمنين عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحبّ الفأل فلما خرج أنشد:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلّما ... يقال لشيء كان إلا تكوّنا
وقال علقمة:
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامتها لا بدّ مشؤم
من تشوئم به فدفع ذلك عن نفسه
خرج هشام بن عبد الملك يوما فلقي أعور، فأمر بأن يضرب ويحبس، وقال:
تشاءمت بك. فقال الأعور: إن الأعور يكون شؤمه على نفسه وشؤم الأحول على غيره.
ألا ترى أني استقبلتك فلم يصبك شيء، وأنت استقبلتني فنالني منك سوء. وكان هشام أحول فخجل من ذلك وخلّاه.
وخرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد فاستقبله أعور فأمر بحبسه وضربه، ثم مضى فتصيّد صيدا كثيرا، فلما عاد استدعى بالأعور وأمر له بصلة، فقال الأعور: لا حاجة لي في الصلة، ولكن ائذن لي في الكلام، فأذن له فقال: تلقيتني فضربتني وحبستني وتلقيتك فصدت وسلمت، فأينا أشأم؟ فضحك وأعطاه.
الخطّ
كان زاجر العرب يخطّ خطّين فيقول ابنى عيان أسرعا البيان. وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ
«4» أنها الخط.(1/187)
الطرق
هو نثر الحصى والاستدلال باجتماعه وتفرّقه، كما يعمل صاحب الشعير. وأصل الطرق الضرب، قال الشاعر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع «1»
وقال حمّاد عجرد: الطرق من الجبت.
القيافة
قالت عائشة رضي الله عنها: دخل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه من الفرح، فسألته عنه فقال: ألا إن محرز المدلجي رأى زيد بن حارثة وأسامة نائمين في قطيفة «2» ، قد غطيا رؤسهما وبدت أقدامهما، فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض.
واختصم رجلان في غلام يدّعيه كل واحد منهما، فسأل عمر رضي الله عنه أمه، فقالت: غشيني أحدهما، ثم هررت دما، ثم غشيني الآخر، فدعا عمر رضي الله عنه قائفين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أو أسر قد اشتركا فيه، فضربه عمر رضي الله عنه حتّى اضطجع، ثم سأل الآخر فقال مثل قوله، فقال: ما كنت أرى أن مثل هذا يكون.
قال عوسجة ابن مغيث القائف: كنّا سرق خيلنا فعرفنا آثارهم بتميّز أيديهم في العذوق فركبنا في آثارهم حتى ظفرنا بهم.
وقيل: فلان في قيافته يعرف أثر الذرّ على الصخر فيعرف أثر الأنثى منها من الذكر.
وكانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له منزل للضيافة يغشاه الناس من غير إذن. فخلا البيت يوما وقال الفاكه ساعة وهند عنده، ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته، وأقبل رجل فدخل البيت فلما رآها انصرف فاستقبله فرآهما فارتاب بها فخاصمها، وقال: إلحقي بأهلك. فتكلّم الناس بها. فقال أبوها: أي بنية إن الناس قد خاضوا في أمرك فأصدقيني، فإن كان ما يقولونه حقّا بعثت من يقتل الفاكه سرا فتخلصين. وإن كان باطلا حاكمته إلى بعض كهان اليمن ليبين براءة ساحتك. فحلفت أنها بريئة. فأرسل إليه وقال: حاكمها إلى الكاهن فقد رميتها بداهية.
فخرج الفاكه في جماعة من بني عبد المدان وخرجت في نسوة فلما شارفوا البلد، رآها أبوها شاحبة متغيّرة، فقال: مالي أراك شاحبة متنكرة الحال قالت: والله ما ذلك لمكروه عندي، ولكنّي آتي بشرا يخطىء ويصيب، فلا آمنه أن يرميني بداهية من غير أصل،(1/188)
فيصير ذلك سبّة علينا. فقال أبوها إنا نخبىء له خبيئة، فإن أخبرنا بها استدللنا على علمه واستفتيناه، وإلا تركناه. فأخذوا حبة حنطة وجعلوها في إجليل «1» فرس، فلما انتهوا إليه أنزلهم وأكرمهم، فقالوا: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئة نختبرك فانظر ما هو؟
فقال: تمرة في كمرة. فقالوا: نريد أبين من هذا. فقال: حبّة في إجليل مهر. فقالوا:
صدقت أنظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهنّ، ويقول: ليست هذه حتى دنا من هند فضربها على كتفها وقال: والله ما أنت بزانية وستلدين ملكا اسمه معاوية. فقام إليها الفاكه وقبّل رأسها فقالت: أبعد عنّي فو الله لأجتهدنّ أن يكون من غيرك هذا الملك، فأبت حتى طلّقها وتزوج بها أبو سفيان.
(19) وممّا جاء في تأويل الرؤيا
ما يدلّ على صحّة الرؤيا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوّة.
وروي ذهبت النبوّة فلا نبوّة، وبقيت المبشرات، وقيل: في قول الله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
«2» إنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له.
وقيل: إذا أراد الله بعبد خيرا عاتبه في النوم. ويدلّ على صحة ذلك ما حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله تعالى: رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ
«3» ، وما حكى عن رؤيا الرجلين ورؤيا الملك.
وقال صلى الله عليه وسلم إن في الهواء ملكا موكلا بالرؤيا، فلا يمرّ بأحد خير ولا شرّ إلا أريه في المنام حفظ من حفظ ونسي من نسي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثّل بي، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاثة: رؤيا هي بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا يحدّث الإنسان بها نفسه فيراها في المنام.
العارف بتأويل الرؤيا
كان ذلك من علم يوسف صلى الله عليه وسلم وقد وصفه الله تعالى في قوله تعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ
«4» .(1/189)
وكان أبو بكر رضي الله عنه موصوفا بذلك. وقال الحسن لابن سيرين «1» : تعبّر الرؤيا كأنك من ولد يعقوب، فقال: وأنت تفسّر القرآن كأنّك ممّن شهد التنزيل.
وقال ابن شبرمة: ما رأيت أحدا أجرأ على النوم ولا أجبن على اليقظة، من ابن سيرين أي يعبر الرؤيا ولا يجيب عن الفتوى.
رؤيا مستغربة
قال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أخذت حمامة جاري فكسرت جناحها، ورأيت غرابا أسود وقع على سطح بيتي، فقال: أنت تخلف على امرأة جارك وأسود يخلفك في دارك ففتّش عن ذلك فوجده حقا.
وقال له رجل: كأني آكل خبيصا في الصلاة. فقال: الخبيص حلال ولا يجوز أكله في الصلاة، أنت تقبّل امرأتك صائما. وقال له آخر: رأيتني أطأ مصحفا. فقال له: في خفّك درهم تطؤه. فتأمّل ذلك فوجده كما قال.
وقال له آخر: رأيت كأني أصبّ زيتا في أصل زيتون. فقال له: إنك تنكح أمك فبحث عن ذلك فإذا تحته جارية كان يطؤها أبوه.
وقال له آخر رأيتني: كأني أسبح في غير ماء فقال له: إنك تكثر الأماني. وقال له آخر: رأيتني كأني أصيد ثعلبا، فقال: أنت تطلب حيلة.
ورأى عبد الله بن جعفر غرابا على منارة النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعيد بن المسيّب سيتزوج الحجّاج بابنتك، فتزوج بها الحجّاج بعد، فقيل له: كيف علمت ذلك؟ فقال: المنارة أشرف ما في المدينة والغراب فاسق.
وقالت امرأة: رأيت سنبلة تنبت على إصبعي، فقال: سعيد ستأكلين من غزلها. وقال رجل لابن سيرين: رأيتني كأن عيني اليمنى دارت على قفاي فقبلت عيني اليسرى، فقال له: لك ولدان أحدهما يفجر بالآخر. فاستكشف عن ذلك فوجده كما قال.
ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فشكا إليه علة كانت به، فقال له: عليك بلا ولا، فاستيقظ الرجل وتحيّر فسأل ابن سيرين، فقال: كل الزيتون فإن الله تعالى يقول: زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ
«2» .
وقال رجل لسعيد: رأيت في المنام كأني أسلك طريقا، ومتى قعدت كنت أقطع الطريق، وإذا مشيت لم أقطعه. فقال: أنت رجل نسّاج إذا قعدت كسبت، وإذا قمت تبطلت، فكان كما قال.(1/190)
رؤيا ظاهرها حسن وباطنها مستقبح
قالت عائشة لأبي بكر رضي الله عنهما: رأيت كأنّما وقع في حجرتي ثلاثة أقمار.
فقال: سيدفن في بيتك ثلاثة من الأخيار.
قال أبو عبد الله البريدي الفقيه: جاءني رجل من الشهود، فقال: رأيت في المنام كأن الله تعالى، قد ابتدأ خلق السموات والأرض. فقلت: لعلّ غيرك رآها وسألك أن تفسّرها؟
قال: بل أنا رأيتها. فقال له: تغدو إلى دار القاضي، وتسألني عنها حتى أفسّرها لك بحضرته. فحضر وسأله عنها. فقال: أيها القاضي إن فلانا يسألني عن رؤيا فسله لعلّ غيره رآها. فسأله، فقال: لا بل أنا رأيتها. فقال: إنك رجل تشهد بالزور، لأن الله تعالى يقول:
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
«1» فبحث عنه فوجد قد شهد شهادات زور.
وحكى عن الصاحب قال: رأيت قابوس في المنام قبيل ما انهزم بجرجان «2» ، كأنه يسألني ويقول: رأيت في المنام كأنما على رأسي قلنسوة، وكأني قلت له: إن القلنسوة رياسة. فقال: إني لأراه هلاكا، لأن القلنسوة بالفارسية كلاه، فإذا قلب فهو هلاك. فانهزم في اليوم الثاني أو الثالث من ذلك المنام.
رؤيا ظاهرها قبيح وباطنها حسن
قال رجل لابن سيرين: رأيت رجلا مجرّدا في المسجد، فهالني ذلك. فقال: لعلّك رأيت الحسن تجرّد من دنياه فاشبه سره علانيته. ورأى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه غرز في يدي عبد الملك ورجليه أربعة أوتاد، فأرسل إلى ابن المنذر فقال: إن صدقت رؤياه غلبه عبد الملك وخرج من صلبه أربعة كلهم خلفاء ورأى عبد الملك أنه بال في محراب النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فأوّل على أنه يخرج من صلبه أربعة يتولّون الخلافة. ورأى في منامه كأنه صارع ابن الزبير فصرعه ابن الزبير، فهاله ذلك فبعث سرا إلى ابن المنذر، فقال: هذه رؤيا ملك نازعه ملك وقد خلّى صارعه بينه وبين الأرض.
وقال رجل لأبي عمرو الفراء «3» : رأيت كأني قطعت رأسي فوضعته بين رجلي، فقال: أكان لك عمامة فقطّعتها سراويل؟ قال: نعم هو كما قلت.
خرافات في الرؤيا
قال رجل لسيفويه: رأيت كأن عليّ قميصا رقيقا وجبّة وشي متخرقة، وفي كمّي فلوس، وفي عنقي هاون وإلى جانبي دبّة، إذا نزعت حركتها، فقال: أنامت عيناك؟ ما(1/191)
أحسن ما رأيت: القميص الرقيق دينك، والجبّة الوشي ضراطك في الصلاة، والفلوس سوف تفلس، والهاون أن تهان، والدبّة أن يدب إليك فتاك.
وقال بعضهم: ليست الرؤيا كلّها صحيحة إنما يصحّ بعض دون بعض. فقال بعض السامعين: كذا هو، فإني رأيت في المنام كأني وجدت بدرة عظيمة أحملها فأحدثت من ثقلها. فانتبهت فوجدت الفراش مملوأ من الخرء ولم أجد للبدرة أثرا.
وقال صبي لمعلّمه: إني رأيت في المنام كأنّي مطليّ بعذرة، وأنت مطلى بعسل، فقال المعلم: هذا عملك السوء وعملي الصالح ألبسنا الله تعالى فقال الصبي: إسمع تمام الرؤيا فكنت تلحسني وأنا ألحسك. فقال: أعزب قبّحك الله.
وقال رجل للصاحب: رأيت في المنام عمر وفي يده سيف، وهو يريد قتلي فقال له:
إذا رأيته فقل له العب يمسك.
وقال رجل: رأيت في منامي كأني متزر بهاون فقال له معبّر أنك مأبون فلما كشف عن حاله وجد كما قال.
(20) ومما جاء في علوم الأمم ورموز العرب
فنون العلوم
قيل: علوم الأدب عشرة، ثلاثة شهر جانية «1» : الطبّ والهندسة والفروسية، وثلاثة أنوشروانية «2» : ضرب العود ولعب الشطرنج وضرب الصوالجة، وثلاثة عربيّة: الشعر والنسب وأيام الناس. وواحد أبر على كل ذلك مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالسات.
وقال بعضهم: رأيت العلوم والامور تدور على أربعة أشياء: نحو يقيم به الرجل لسانه، وطبّ يقيم به بدنه، وحكايات يقيم بها أدبه، وحسن تدبير يتوصل به إلى معاشه.
وكان الإسكندر «3» وأرسطوطاليس «4» إذا تسايرا تناظرا في العلم وإذا خليا تشاورا في الملك، وإذا قعدا للشرب تحدّثا في الشجاعة وإذا أرادا الإنصراف إلى مضجعهما تذاكرا الفقه والعفة.(1/192)
علوم العرب
علم بديع الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللفظ، وتعريب الكلام، وقيافة البشر، وقيافة الأثر، وصدق الحسّ وصواب الحدس، وحفظ النسب، ومراعاة الحسب، وحفظ المناقب والمثالب، وتعرّف الأنواء، والاهتداء بالنجوم، والتبصّر بالخيل والسلاح واستعمالهما، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، ويبلغون بالزجر ما يقصر عنه غيرهم.
علوم الرّوم
لهم الطب والنجوم والألحان وجودة التصوير، حتّى إن أحدهم يصور الإنسان شابا وكهلا، فيجعله بحيث إذا رأى صورته ثم رآه عرفه.
ولهم البناء العجيب ولهم من الرأي والنجدة والمكيدة ما لا ينكره من يعرفه.
علوم الفرس
لهم العقول والأحلام، والسياسة العجيبة، وترتيب العلوم والأمور، والمعرفة بعواقب الأمور. ولهم من اللغات ما لا يحصى كثرة، كالزمزمة والفهلوية «1» والخراسانية والجبلية.
علوم اليونانيّة
اليونانيون كانوا ذوي أذهان بارعة، ولا يشتغلون بمكاسب الآلات والأدوات والخلال، التي تكون جماما للنفوس. ولهم القبّانات «2» والاصطرلابات «3» ، وآلات الرصد والبركار «4» ، وأصناف المزامير والمعازف، والطب والحساب والهندسة، وآلات الحرب كالمجانيق «5» والغرادات. وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا عملة.
كانوا يصورون الآلة ولا يخرطون الأداة، يشيرون إليها ولا يمسّونها، يرغبون في التعلم ويرغبون عن العمل.
علوم الصّين
أهل الصين أصحاب الأعمال، كالسبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، والخرط والنحت والتصاوير، والخطّ والنسج ورفق الكف في كل ما تناولوه.(1/193)
وكانوا يباشرون العمل ولا يعرفونا الملل لأنهم فعلة، واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل لأنهم حكماء.
علوم الهند
لهم معرفة الحساب والنجوم، والخط الهندي وأسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء «1» ، والرقى وعلم الأوهام، وخرط التماثيل ونحت الصور، وطبع السيوف والشطرنج والحنكلة. وهي وتر واحد يجعل على قرعة فيقوم مقام العود ولهم ضروب الرقص والثقافة والسحر والتدخين.
التّرك
هم كالعرب، في أنهم أصحاب قيافة ومعرفة بالحروب وآلاتها، وهم أعراب العجم، كما أن العرب أكراد النبط. فصاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، والصين في الصناعة، وهم في البيطرة «2» والرياضة فوق كل أمة. وأحدهم يركب ظهر فرس فوق ركوبه الأرض يغزو أحدهم بأرماكه «3» ومهورة، فمتى أتعب واحدة ركب أخرى فلا يستريح ولا ينزل إلى الأرض.
رموز العرب
كانوا إذا استمطروا عمدوا إلى سلع وعشر، فعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار وصعدوا بها جبلا يستسقون الله بذلك ولذلك قال أبو الطائي:
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وإذا امتنع البقر عن شرب الماء، ضربوا الثور. يزعمون أن الجنّ تركبه فتمتنع البقر عن الماء، قال الشاعر:
لكالثّور والجنيّ يركب ظهره ... فما ذنبه إن عافت الماء مشربا
وإذا سافر أحدهم عمد إلى غصن شجرة، فعقد عليه عقدا تسمى رتما. فيقول: إن انحلّ إلى أن أرجع، خانتني امرأتي، وإن لم ينحلّ فدلالة على أنها لم تخن.
قال الشاعر:
هل ينفعنّك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي، وتعقاد الرتم
وزعموا أن المرأة المقلاة، إذا وطئت قتيلا شريفا بقي أولادها. ولذلك قال الشاعر:
تظل مقاليت «4» النساء يطأنه.(1/194)
وزعموا أن من علّق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جنّ ولا عين، لأن الأرنب ليس من مطايا الجن لأنها تحيض، فيهرب منه الجن.
قال ابن الأعرابي: قلت لأعرابي: من علّق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جنان الحي ولا عمار الديار. فقال: أي والله ولا شيطان الحماطة «1» وغول القفر، وتطفأ عنه نيران السعالي «2» .
وكانوا إذا خافوا على إنسان الجنون علّقوا عليه خرق الحائض وعظام الموتى.
وقالوا: إذا خيف على الصبيّ النظرة يعلّق عليه سنّ ثعلب أو سن هرة يسلم.
وقيل: أرادت جنيّة صبيا فلم تقدر عليه، فلما رجعت، قيل لها في ذلك، فقالت:
كانت عليه نفرة، ثعالب وهررة، والحيض حيض السمرة. وحيض السمرة شيء يسيل من السمرة، وهي شجرة يزعمون أن الجن يرهبون منه.
وقالوا: إذا دخل الرجل قرية فخاف وباءها نهق نهيق الحمار لم يصبه الوباء.
وقال عروة بن الورد:
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهيق الحمير إنني لجزوع
وقالوا: السليم «3» إذا علق عليه حلي النساء، أفاق ولذلك قال النابغة:
يسهّد من ليل التّمام سليمها ... لحلي النّساء في يديه قعاقع
وقالوا: من خرج به بثر فأخذ إنسان منخلا، أاخذ من كل دار من دور الجيران كسرة وتميرة، فنثرها لكلب، ذهب البثر عنه إلى كلب.
وقالوا: إذا طرف أحدهم عين صاحبه أخذ الطارف عين المطروف، فيقول: بإحدى جاءت من المدينة، باثنتين جاءتا من المدينة، بثلاث جئن من المدينة إلى سبع، فتسكن عينه.
وقالوا للغلام إذا سقط سنّه فحذفها نحو عين الشمس، وقال أبدليني خيرا منها عادت.
ولذلك قال طرفة:
بدلته الشمس من منبتها ... بردا أبيض مصقول الأثر
قالوا: من ركب فرسا مهقوعا «4» وهو ما به دائرة يقال لها الهقعة فعرق تحته اغتلمت(1/195)
امرأته، وقال الشاعر:
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرا عجانها
وقالوا: إذا خرج المسافر فالتفت لم يتم سفره، وقال الشاعر:
تلفّت نحو الحي حتّى وجدتني ... وجعت من الإصغاء، ليتا وأخدعا
وإنما التفت لأنه كان عاشقا، فأحب أن لا يتم سفره ليرجع إلى محبوبه.
وكانوا يوقدون خلف المسافر إذا أرادوا أن لا يرجع، ويرمون خلفه بحصاة وروثة، ويقولون: راث خبره وحصن أثره، فإذا أرادوا سرعة رجوعه تناولوا من تحت قدميه، وقال شاعر في امرأة، قالت له واقتصت من أثره:
يا ربّ أنت جاره في أثره ... وجار خصييه وجار ذكره
وكان إذا أصاب إبلهم العرّ «1» ، كووا الصحيح منها. يزعمون أن الجربي بذلك تبرأ، قال النابغة:
كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
ومذهبهم في الحامي والبحيرة والسائبة والوصيلة معروف. وإذا بلغت ابلهم الفا فقؤا إحدى عيني الفحل. وإذا زادت عن الألف فقؤا عينه الأخرى. ويسمّون ذلك المفقأ والمعمى. ويزعمون أن ذلك يطرد عنه العين.
وقالوا: أيّما امرأة أحبها زوجها أو خدنها، فلم يشق أحدهما ثوب الآخر لم يبق بينهما الحب، ولذلك قال الشاعر:
إذا شقّ برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتّى ليس للثوب لابس «2»
وقالوا: الضالّ في المفازة متى لبس ثوبه مقلوبا اهتدى. قالوا: والجمل متى ندّ فذكر بعض آبائه، والناقة إذا ندّت فذكر بعض أمهاتها سكنا، ولذلك قال الشاعر:
أبول والوجناء بي تقحم ... قل لي ما اسم أمّها يا علكم «3»
وقالوا: من عشق فكوي بين أليتيه سلا. وكان يفعل ذلك بنو عذرة «4» خاصّة.
وكان لهم خرزة يقال لها السلوان، إذا شرب حكاكتها العاشق سلا في ما زعموا، قال(1/196)
الشاعر:
لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنى عنك وما غنيت
وكانوا إذا عضّ أحدا كلب كلب، يسقونه دم كريم، ويقولون إن ذلك يبرئه.
ويزعمون أن من لا يطلب بثاره «1» ، يخرج من قبره هامة، فتقول: اسقوني إلى أن يدرك ثاره.
وقالوا: إن من مات فحفر له قومه حفيرة فأقاموا فيها بعيرا لا يعلفونه ولا يسقونه، حتّى يموت، يكون ذلك مركبا له إلى عرصات «2» القيامة، ولا احتاج أن يحضر راجلا حافيا. وكان ذلك البعير يسمى بليّة، قال الشاعر:
احمل أباك على بعير صالح ... يوم القيامة إنّ ذلك أصوب
لا تتركنّ أباك يسعى خلفهم ... تعبا يخرّ على يديه وينكب
ومن علوم العامة
تزعم العامّة أن الفأرة كانت يهودية طحانة، تسرق الدقيق، فمسخها الله تعالى فأرة.
وسهيل كان عشارا فمسخه الله كوكبا. والوزغة «3» كانت تنفخ نار إبراهيم عليه السلام فلعنها الله. والخنزير تولّد من عطسة الفيل. والهرّ تولّد من عطسة الأسد.
وإذا كسفت الشمس يقولون يا ربّ خلّصها وإذا أراد أحدهم أن يبوّل بالليل بصق أولا وإذا طنّت ذبابة كبيرة، قالوا: بشّرك الله بخير. وإذا أصلح بزره عضّ خرقة أو خشبة يقول حتى لا يكذب عليّ وإذا دخل الذباب ثياب أحدهم يزعمون أنه يمرض، وإذا احتكّ طرف أنفه يقولون يأكل اللحم وإذا احتكّ وسطه يقولون يأكل السمك.
ويقولون اختلاج العين يدل على رؤية من لم يره منذ حين، وأسفله يدل على البكاء وهذا باب كبير وكثير منه يجىء مفصلا في أبواب مختلفة.(1/197)
الحدّ الثاني في السيّادة والولاية
(1) السيادة والولاية
ما ذكر في حدّ «1» السيادة والسيّد
قيل: لحكيم: ما السودد؟، قال: اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة «2» ، وقال غيره:
حمل المكاره وابتناء المكارم، وقيل: بذل الندى وكفّ الأذى ونصرة المولى وتعجيل القرى «3» .
وقيل للاحنف: ما السيّد؟ قال: من حمق في ماله وذلّ في نفسه وعني بأمر عشيرته.
وقيل: من إذا حضر هابوه، وإذا غاب ما اغتابوه. وقيل: من أورى ناره وحمى ذماره «4» ، ومنع جاره، وأدرك ثاره.
الأحوال الشاقّة التي تبلغ بها الرئاسة
قال بعضهم، لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص، فقال: أما نحن فلا نسود إلا من أوطأنا «5» رحله وأفرشنا عرضه، وأخد منّا نفسه وبذل لنا ماله. فقال:
وأبيك إذا فهو فيكم غال.
وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: إنما يستحق السيادة من لا يصانع ولا يخادع ولا تغرّه المطامع.
وقيل للأحنف: بم سدت؟ قال: بالخلق السجيح «6» والكفّ عن القبيح، وتجنّب الدنيّ وترك اللسان البذيّ.
وقال معاوية لعرابة الأوسي: بم سدت قومك؟ فقال: لست بسيّدهم ولكني رجل(1/198)
أعطيت في نائبتهم، وحملت عن سفيههم، وشددت على يد حليمهم، وعطفت على ذي الخلّة منهم. فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن قصّر عنّي فأنا أفضل منه. ومن تجاوزني فهو أفضل منّي.
وقال الأحنف: من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافع، من كان له دين يحجزه «1» ، وحسب يصونه وعقل يرشده، وحياء يمنعه. وقيل: من أحب الرئاسة صبر على مضض السياسة.
قال الشاعر:
أترجو أن تسود ولا تعنّي ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل
وقال الخبزارزي «2» :
فقل لمرجي معالي الأمور ... بغير اجتهاد طلبت المحالا «3»
جماع أحوال يجب للرؤساء تجنّبها وأحوال يلزمهم فعلها
قال معاوية رضي الله عنه: لا ينبغي للملك أن يكون كذابا، لأنّه إن وعد خيرا لم يرج، وإن أوعد شرّا لم يخف ولا غاشّا لأنه لم ينصح، ولا تصح الولاية إلا بالمناصحة.
ولا حديدا لأنه إذا احتدّ هلكت رعيته، ولا حسودا لأنه لا يشرف أحد فيه حسد، ولا يصلح الناس إلا بأشرافهم. ولا جبانا لأنه يجترىء عليه عدوّه وتضيع ثغوره.
وقال بعضهم: أكره المكاره في السيّد، وأحبّ أن يكون عاقلا متغافلا. كما قال أبو تمام الطائي:
ليس الغبيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي
وقال ذو القرنين لأرسطوطاليس، لما أراد الخروج: عظني بما أستعين به في سفري. فقال: اجعل تأنيك أمام عجلتك، وحيلتك رسول شدّتك، وعفوك ملك قدرتك.
وأنا ضامن لك قلوب الرعية. إن لم تخرجهم بالشدّة عليهم، ولم تبطرهم بفضل الإحسان إليهم.
الحثّ على تسويد الكبار «4»
قال قيس بن عاصم لبنيه: إذا متّ فسوّدوا كباركم ولا تسوّدوا صغاركم، فيحقر(1/199)
الناس كباركم فتهونوا. وردّ على النبي صلى الله عليه وسلم إخوة فتكلّم أصغرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبّروا كبروا. وفي ضده قيل السودد مع السواد، وقيل من لم يسد قبل الأربعين لم يسد بعدها.
وصف صغار سادوا باستحقاق
لما ولّى المأمون يحيى بن أكثم «1» قضاء البصرة، وكان من أبناء نيف وعشرين سنة، أراد بعض أهل البصرة أن يعيّره بذلك ويضع منه، فقال: كم سنّ القاضي؟ فقال: سنّ عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة فجعل جوابه احتجاجا.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص «2» وسنّه دون العشرين، وولّى الحجّاج محمد بن أبي القاسم، قتل الأكراد بفارس، فأبادهم ثم ولاه السند والهند فأحمد أثره، وسنه سبعة عشر سنة، فقال فيه الشاعر:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سوددا من مولد
وقال السري الرفّاء «3» :
لا تعجبوا من علوّ همّته ... وسنّه في أوان منشاها
إنّ النجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها
من طاعته واجبة ورئاسته مستحقّة
قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«4» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إسمعوا وأطيعوا، ولو ولي عليكم عبد حبشي مجدع.
وقال عليّ بن الجهم:
أغير كتاب الله تبغون شاهدا ... لكم يا بني العبّاس بالمجد والفخر
كفاكم بأن الله فوّض أمره ... إليكم وأوصى أن أطيعوا أولي الأمر
وقال البحتري:
مفروضة في رقاب النّاس طاعته ... عاصيه من ربقة الإسلام منخلع «5»
وقال أبو العتاهية:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها(1/200)
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
كون الإنسان رئيسا حيثما كان
قال المتنبّي:
إن حلّ في فرس ففيها ربّها ... كسرى تذلّ له الرقاب وتخضع
أو حلّ في روم ففيها قيصر ... أو حلّ في عرب ففيها تبّع
أسامي ملوك كلّ صقع
خزحير صاحب أفريقية، كسرى صاحب فارس، قيصر صاحب الروم، يغفور صاحب الصين، البهراج صاحب الزنج، خاقان صاحب الترك، زنبيل صاحب الخرز، أصفر صاحب علوا، كابيل صاحب النوبة، أصبهيد صاحب الجبل، أمير المؤمنين والخليفة والإمام صاحب المسلمين، تبّع صاحب حمير، ويقال لهم الأقيال والعباهلة، حكى ذلك الجاحظ.
المجمع على سيادته
قال أبو تمّام:
لو أن إجماعنا في فضل سودده ... في الدين لم يختلف في الأمّة اثنان
وقال نهار بن قوسعة:
قلّدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تملك السراة العجوز
المزري رئاسته بغيره
قال عبد الملك، وقد ذكر عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قلّلوا من ذكره فهو طعن على الأئمة وحسرة على الأمة.
وقال رجل لمالك بن طوق: أصبحت والله ناصحا متبعا فاضحا لكل وال قبلك، بحسن سيرتك متبعا لكل وال بعدك لقصوره عنك.
رئيس يتلوه رؤساء
قال عليّ بن الجهم «1» :
كأنه وولاة العهد تتبعه ... بدر السماء تلته الأنجم الزهر(1/201)
وقال أحمد بن أبي طاهر:
كأنّ عليّا وأبناءه ... هلال تحفّ به الأنجم
أخذ ذلك من جرير حيث يقول:
كالبدر حفّ بواضحات الأنجم
أمير الأمراء
قال المتنبيّ:
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتّى رأيت مولاها
وقال آخر:
ولو جمع الأئمة في مقام ... تكون به لكنت لهم إماما
وقال ابن الرومي:
سادة الناس كالجبال وأنتم ... كالنجوم التي تفوق الجبالا
وقال الخوارزمي:
إلا حركا لي أبرويز بن هرمز ... وقولا له قم تلق أعجوبة قم «1»
تطلع إلى الدنيا لتعلم إنّما ... ملكت من الدينار مقدار درهم
من هو رأس القوم وروحهم
قيل: الملك كالرأس وأعوانه كالجوارح «2» صلاحها بصلاحه.
قال منصور النمريّ:
الناس جسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الرأس
وقال الماني:
لو يكتب الناس أسماء الملوك إذا ... أعطوك موضع بسم الله في الحسب
وقال إبراهيم بن هرمة:
وجدتك من قيس إذا القوم حصلوا ... مكان نياط القلب بين الأضالع «3»
وقال الفرزدق:
منّا الكواهل والأعناق تقدمها ... والرأس منّا وفيه السمع والبصر
وسئل بعضهم عن رئيسهم كيف هو؟ فقال: هو فينا مكان الروح في الجسد. وقيل:
هو الذروة وهم الزمع «4» ، هو الرأس والناس الذنابى.(1/202)
وصف قوم كلّهم رؤساء
قال أحمد بن طاهر:
كلّهم سيد فمن تلق منهم ... قلت هذا أولى بحلّ وعقد
وقال العرندس:
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري «1»
من المرؤوس فيهم رئيس غيرهم
قال ابن أذينة:
سمين قريش بائع منك لحمة ... وغثّ قريش حيث كان سمين
وقال حجر بن خالد:
يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معدّا كلّها ما تدافعه «2»
قوم توورثت فيهم السّيادة
قال طريح:
مثل نجوم السّماء أن أفلت ... منها نجوم بدت نظائرها «3»
وقال آخر:
إذا مقرم منا ذر حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقرم «4»
وقال أبو تمّام:
رأيتهم ريش الجناح إذا مضت ... قوادم منها بشّرت بقوادم «5»
مصدر متابع
وقال وهب الهمداني:
صدر المجالس حيث كا ... ن لأنّه صدر المجالس
وقال آخر:
إذا ابتدر الباب المهيب رأيته ... يدفّ جناحيه الكهول الجحاجح»(1/203)
وقال المسيّب:
تبيت الملوك على رغمها ... وشيبان إن غضبت تعتب
وقال عمرو بن هداب: كنا نعرف سودد سلم بن قتيبة، بأنه كان يركب وحده ويرجع في عدة. وكان ملك بن مسمع صاح يوما فوافى بابه عشرون ألف مدجّج، وسأل عبد الملك عنه، فقيل: لو غضب لغضب لغضبه مائة ألف، يبذلون له أنفسهم وأموالهم، ولا يسألونه: فيم غضب؟
فقال: هذا وأبيك السودد.
ولم يكن في الإسلام أكثر عقد لواء من أبي موسى «1» رضي الله عنه، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ ومن روح ابن حاتم ولاه السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد «2» .
الموصوف بأنّه ناصر الدولة
قال رؤبة «3» في أبي مسلم «4» :
ما زال يأتي الأمر من أقطاره ... على اليمين وعلى يساره
مشمّر ما يصطلى بناره ... حتى استقرّ الملك في قراره
وقال كثير «5» :
أبوك حمى أميّة حين مالت ... دعائمها وأصحر للضّراب
وكان الملك قد نصلت يداه ... فردّ الملك منه في نصاب
قال المنصور يوما للمهدي: ما أيدت بما أيد به من كان قبلي. أيّد معاوية بزياد وأيّد عبد الملك بالحجّاج. قال: فقلت قد أيّدت بمن فوقهما، فقال تعني أبا مسلم؟ قلت:
نعم. قال: قد كان كذلك لكن خيّرنا بين أن يقتلنا أو نقتله فاخترنا قتله.
من انقادت الأيّام لطاعته
قال عصابة:
ما زال تجري على الدنيا حكومته ... حتّى لقد ظنّ كلّ أنّه الفلك(1/204)
وقال أبو الشيص «1» :
ملك كان الموت يتبع قوله ... حتّى يقال تطيعه الأقدار
من كان القضاء يجري بأمره
قال شاعر:
كان القضاء بما هويت كفيلا
قال التنوخيّ:
يكون كما شاء والقضاء كأنّه ... بأمرهم في الخلق سار وواقع
وقال المثقّب «2» :
ولو علم الله الجبال عصينه ... لجاء بأمراس الجبال يقودها
فقير متولّ للريّاسة
قال حسّان بن ثابت:
ويسود مقترنا على الإقلال
وقال لآخر:
يسوّد ذا المال القليل نواله ... مروءته فينا وإن كان مصرما «3»
من نال السيادة بنفسه
قال المأمون: خمسة ملكوا الأقاليم برأيهم وشجاعتهم: الإسكندر نهض من الروم فملك الأقاليم السبعة، وأزدشير ردّ ما انتشر من ملك أقليم بابل على حداثة سنة، وبهرام جور نهض في ثلاثمائة فارس، فقتل خاقان، وأنوشروان أتى دار مملكة أبيه فملكها، وأبو مسلم نهض لدعوتنا وهو ابن ثمانية عشر سنة، وقيل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ملك الدنيا أربعة مؤمنان وكافران. فالمؤمنان سليمان وذو القرنين، والكافران نمرود «4» وشدّاد بن عاد «5» .
عقد البيعة
أول من عقد البيعة «6» لغيره أبو بكر رضي الله عنه، لعمر بن الخطّاب رضي الله(1/205)
عنه. وعقد معاوية البيعة ليزيد ابنه، وهو معروف، ولما قعد للبيعة دخل رجل فقال: اعلم أنك لو لم تولّ هذا أمر المسلمين لأضعتهم. فقال للأحنف: لم لا تقول؟ فقال: أخاف الله أن كذبت وأخافك إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا.
ولما شاور السفّاح سعد بن عمر والمخزومي في عقد البيعة لعمّه دون أخيه، قال له: أحدثك بحديث، كنت مع مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية فبلغه وفاة سليمان وولاية عمر بن عبد العزيز الخلافة فجزع جزعا شديدا. فقلت: لا تجزع لموت سليمان ولكن اجزع لخروج الأمر من ولد أبيك إلى ولد جدّك فأمسك السفّاح وعقد البيعة للمنصور.
وال مراع لرعيّته
وصف أعرابي واليا فقال: كان إذا ولى طابق بين جفونه، وأرسل العيون «1» على عيونه. فهو شاهد معهم غائب عنهم. فالمحسن آمن والمسيء خائف.
وقيل من دبّر حاشيته ضبط قاصيته «2» .
وقال إبراهيم الموصلي:
أصبحت راعينا وحارس أمرنا ... والله من عرض الردى لك حارس
صلاح الرعيّة لصلاح الرّعاة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تهلك الرعية، وإن كانت ظالمة مسيئة، إذا كانت الولاة هادية مهدية. وقيل: زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم.
وقيل: صنفان لو صلحا صلح الناس الفقهاء والأمراء.
وقال بزرجمهر إذا همّ الإمام بظلم ارتفعت البركة. وروي في الخبر إذا جار السلطان في ناحية ضرى «3» سباعها.
وقيل إذا رضي الراعي بفعل الذئب لم تنبح الكلاب على الغريب. وقيل: أتى عمر رضي الله عنه بتاج كسرى، فقال: إن الذي ردّ هذا لأمين.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله فإن أديت أدّوا، وإن ربعت «4» ربعوا. قال صدقت.
قال الشاعر:
ونفسك فاحفظها من الغيّ والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي(1/206)
صلاح الولاة بصلاح الرعيّة
قال عبد الملك: إنكم لتسومون منّا فعل أبي بكر وعمر، ولستم تعملون بعمل رعيتهما، فأعان الله كلا على كل. وكتب المهدي في جواب كتاب جاءه بشكوى عامل أن الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيّروا ما بأنفسهم. وقيل: شيئان صلاح أحدهما بصلاح الآخر:
الرعية والسلطان.
خصب الزمان وطيبه بعدل الولاة وجدبه بجورهم
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الأرض لتزين في عين الخليفة إذا كان عليها إمام عادل. وتقبح في أعينها إذا كان عليها إمام جائر.
وروي أن أبرويز «1» نزل بامرأة متنكرا فحلبت بقرة لها، فرآى لبنا كثيرا، فقال للمرأة:
كم يلزمك في السنة لهذه البقرة للسلطان؟ قالت: درهم واحد. قال: وأين ترتع وبكم منها ينتفع؟ قالت: ترتع في أرض السلطان، ولي منها قوتى وقوت عيالي. فتفكّر في نفسه، وقال: إن الواجب أن تجعل إتاوة على الأبقار فلأصحابها نفع عظيم. فما لبث أن قالت المرأة أوّه إن سلطاننا همّ بجور. فقال لها أبرويز: ولم؟ قالت إن درّ البقرة انقطع، وإنّ جور السلطان مقتضى لجدب الزمان، كما أن عدله مقتضى لخصب الزمان.
فأقلع أبرويز عمّا همّ به وتاب مما خطر بقلبه، وكان بعد ذلك يقول إذا همّ الإمام بجور ارتفعت البركة.
وقال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر.
وقال الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في الإمام، لأنه إذا صلح أخصبت البلاد وأمن العباد. فقبّل ابن المبارك رأسه وقال: من يحسن هذا غيرك؟
وكان رجل يساير عاملا فمرّ بقصر خرب عليه زوجا بوم، والذكر يصرصر «2» للأنثى، فقال العامل للرجل: ما يقول هذا البوم؟ فقال: إن أمنّتني أخبرتك بما يقولان؟ فقال: أنت آمن. قال: إن الذكر خطب الأنثى، فقالت: لا أجيبك حتى تجعل مهري عشرين قرية خربة. فقال الذكر: إن بقي لنا هذا العامل سنة أمهرتك خمسين قرية. فغضب العامل وقال:
لولا أني أمنّتك لعاقبتك.
وقيل: عدل السلطان خير من خصب الزمان، وسلطان عادل خير من مطر وابل.
تفويض كلّ أمر إلى المستصلح له
قال الإسكندر لأرسطوطاليس: أوصني في عمّالي، قال: انظر إلى من كان له عبيد(1/207)
فأحسن سياستهم فولّه الجند، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج.
قدم جماعة من فارس إلى المهديّ يشكون عاملهم، فقالوا للوزير: وليت علينا رجلا إن كنت قد عرفته ووليته علينا فما خلق الله رعية أهون عليك منا، وإن كنت لم تعرفه فما هذا جزاء الملك وقد سلّطك الله على سلطانه. فدخل الوزير على المهديّ فأخبره وخرج فقال: إن هذا رجل كان له علينا حق فكافأناه، فقالوا: كان مكتوبا على باب كسرى العمل للكفاءة من العمّال، وقضاء الحقوق على بيت المال، فأمر بعزل ذلك العامل عنهم.
تفضيل الفاجر الكافي على الضّعيف التقيّ
قال عمر رضي الله عنه: أعضل «1» بي أهل الكوفة، إذا ولّيت عليهم الفاجر القوي فجّروه، وإذا وليت المؤمن الضعيف هجّنوه. فقال المغيرة المؤمن الضعيف له إيمانه وعليك ضعفه، والفاجر القويّ لك قوّته وعليه فجوره. قال: صدقت وولاه الكوفة.
وكان يقول: أبدا أشكو إلى الله بلادة الأمين ويقظة الخائن.
وقدم أهل السوس «2» على المنصور يشكون عاملا، فاستحضره واستخفّ به، فقال:
القوم وأشدّ من الخيانة يا أمير المؤمنين. فاستوى جالسا، وقال: ما هو؟ قالوا: لم يسجد لله سجدة قط ظاهرة منذ ولي السوس. فقال: ما أبالي أن لا يصلّي داخلا وخارجا، إذا هو أدّى الأمانة.
تفويض الأمر إلى أهل الذمّة
ورد على عمر رضي الله عنه كتاب، فقال لأبي موسى الأشعري: ادع كاتبك يقرأه على الناس، فقال إنه نصراني لا يدخل المسجد. فقال استعملت على أمانة المسلمين نصرانيا، فقال: يا أمير المؤمنين لنا أمانته وله ديانته. فقال: لا تقرّبوهم وقد أبعدهم الله ولا تؤمنوهم وقد خوّنهم الله.
وشكا رجل عاملا فقال: وضع والله الموحد، ورفع الملحد أوحش المسجد وآنس البيعة.
تفويض الأمر إلى الكافي «3» وإن كان خائنا
قيل: فوّض الأمر إلى الكافي، وإن كان خائنا، فالمضيع شر من الخائن. لأن التضييع من طبع الجهل، ولا حيلة في الجهل. والخيانة معصية وذنب، ويمكن التوبة منه.
وقيل لا حاجة في الأحمق وإن كان أمينا.(1/208)
الاستعانة بالموثوق به وإن لم يكن كافيا
قيل: لا تستنصحن غاشّا وإن كان كافيا، فمن استعان بأمين ربح عدم التهمة. وأراد المأمون أن يشخص عبد الله بن طاهر إلى ناحية، وقال له: استخلف. فاطرق فقال له المأمون: مالك تتفكر؟ فقال: إن استخلفت من يستقل بخدمتك خفته، وإن استخلفت من اثق به لم آمن تقصيره. فقال: استعمل من تثق به وأنا أقوّمه.
الصّبر على خيانة الولاة
قيل: لا مال لمن لم يصبر على خيانة الوكلاء وتضييع الولاة. وكان مروان بن الحكم «1» له غلام وكلّه بأمواله، فقال: له يوما: أظنّك تخونني؟ فقال: قد يخطىء الظنّ اتخذتني في مدرعة «2» صوف ولم أملك قيراطا، وأنا اليوم أتصرف في ألوف، وأتبختر في خزوز إني أخونك وأنت تخون معاوية، ومعاوية يخون الله ورسوله.
المنع من تفويض الأمر إلى القرّاء
قال عدي بن أرطاة لعالم: دلّني على قوم من القراء أولّهم، فقال: إنهم ضربان ضرب طلبوا الأمر لله، وأولئك لا حاجة لهم في لقائك وضرب طلبوا بذلك الدنيا فما ظنك بهم إذا وليتهم. فعليك بأهل البيوتات المستحيين لا حسابهم.
ولما ولى مروان بن محمد أرسل إلى رجل ليوليه فرأى له سجادة مثل ركبة البعير، فقال: يا هذا إن كان ما بك من عبادة الله فما يحلّ لنا أن نشغلك، وإن كان من رياء فما يجوز لنا أن نستعملك.
تفويض الأمر إلى من يتفرّس فيه الخير
قال أبو بكر في عمر رضي الله عنهما لما عهد له: إني استعملت عليكم عمر فإن بر وعدل فذاك علمي به، ورأيي فيه. وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
واستشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في قوم يولّيهم، فقيل: عليك بأهل القدر الذين أن عدلوا فذلك ما رجوت فيهم، وإن قصّروا قال الناس قد اجتهد عمر.
نهي الوالي عن تفويض الأمر إلى ذريّته، وعذر من فعل ذلك
قال بعضهم: إياك والاستعانة بالأقارب، فتبلى كما بلي عثمان رضي الله عنه. واقض حقوقهم بالمال لا بالولاية.(1/209)
قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه لبعض ولاته، لم وليت أقاربك؟، قال: لأني أعلم أخبارهم ولانهم يبقون علي، وعلى حالهم لدي.
حثّ السّلطان على كفاية من يولّيه
قال بعض الأكاسرة: إذا استكفيت رجلا فأسن «1» رزقه وقوي عضده «2» وأطلق بالتدبير يده. ففي إسنان رزقه حسم طمعه، وفي تقوية يده ثقل وطأته على أهل العدوان، وفي إطلاق التدبير له أخافته عواقب أموره.
وقال المنصور يوما لجنده: صدق القائل أجع كلبك يتبعك. فقال بعضهم: كلا فربما يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك، فقد قيل منع خيرك يدعو إلى صحبة غيرك. فقال:
صدقت.
وقال أبرويز لا توسعنّ على جندك فيستغنوا عنك ولا تضيقنّ عليهم فيضجوا منك، أعطهم عطاء قصد وأمنعهم منعا جميلا، ووسّع على قومك في الرجاء ولا توسّع عليهم في العطاء.
السياسة بالخشونة والعسف
قال الحجّاج دلّوني على رجل أستعمله على الشرطة، وأريده رجلا دائم العبوس طويل الجلوس، سمين الأمانة أعجف الخيانة، يهون عليه سبال في الشفاعة. فقيل له: عليك بعبد الرحمن التميمي. فاستحضره وولاه. فقال: لا أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وحاشيتك. فدعاهم وقال: من طلب إليه منكم حاجة برئت الذمة منه. فتولّى، فكان لا يحبس إلا في دين، وإذا أتى بشاهر سلاح قطع يده، وإذا أتى بنقّاب «3» نقب بطنه، وإذا أتى بنبّاش دفنه حيا، وإذا أتى بمتهم ضربه ثلاثمائة سوط، فربما أقام أربعين يوما لا يؤتى بمتهم.
وصعد الحجّاج المنبر يوما فقال: إنّي أريد الحجّ وقد استخلفت عليكم ابني وأوصيته بخلاف ما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار، حيث أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ألا وإني أوصيته أن لا يتجاوز عن مسيئكم، ولا يقبل من محسنكم ألا وإنكم لتقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحبة. وإني معجل لكم الإجابة لا أحسن الله عليكم الخلافة.
وقيل: خير الملوك من أشبه النسور ومعناه سلطان يأكل الرعية خير من سلطان تأكله الرعية.
وسأل عبد الرحمن بن عوف عمر رضي الله عنهما أن يلين للناس، فقال: الناس لا(1/210)
يصلح لهم إلا هذا. ولو علموا ما لهم عندي، لأخذوا ثوبي من عاتقي.
السياسة بالرّغبة والهيبة
كان أنوشروان يوقّع في عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرهبة بالرغبة. وسس «1» السفلة بمجرد الهيبة.
ولما وفد سعد العشيرة في مائة من أولاده على ملك حمير، سأله عن صلاح الملك، فقال: معدلة شائعة وهيبة وازعة «2» ، ورعية طائعة ففي المعدلة حياة الأنام، وفي الهيبة نفي الظلام، وفي طاعة الرعية حسن الإسلام.
وقال زياد: ما غلبني معاوية في شيء من السياسات، إلا في واحدة. استعملت رجلا على قرية فكسر خراجها ولحق بمعاوية. فكتبت إليه أن ابعثه إليّ، فكتب ليس ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة. إذا وليت القطاة فحق أن لي الليانة، لكن إذا هرب هارب من باب وجد بابا يدخله والسلام.
وقال أنوشروان إن هذا الأمر لا يصح له إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف «3» .
ودخل أبو معاذ على المتوكل حين استخلف فأنشده:
إذا كنتم للنّاس أهل سياسة ... فسوسوا كرام النّاس بالرفق والبذل
وسوسوا لئام النّاس بالذلّ يصلحوا ... على الذلّ، إن الذل يصلح للنّذل
السياسة بالملاينة
أوصى عمر بن عبد العزيز واليا، فقال: عليك بتقوى الله فانها جماع الدنيا والآخرة.
واجعل رعيتك الكبير منهم كالوالد، والوسط كالاخ، والصغير كالولد. فبّر والدك وصل أخاك وتلطّف بولدك.
وقال بعضهم: الحبس يحبس المال والقيد يقيّده، والتسهيل يسهّله. فاستعمل الرفق يرج «4» مالك.
ولّى أمير المؤمنين رجلا فقال: لا تضربنّ أحدا سوطا ولا تتبعنّ له رزقا ولا كسوة لشتاء أو صيف، ولا دابة يعملون عليها. فقال: يا أمير المؤمنين إذا أرجع إليك كما ذهبت.
فقال: وإن رجعت كما ذهبت. إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو.(1/211)
وروي أن عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير فقال لعماله: إني أظنّكم قد أهلكتم الناس، فقالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا بلا وسط. وقال معاوية لمروان: من ترى للعراق؟ فقال من لا يمسح الحلوب «1» ، حتى يجمع الدرّة، ولا يدنى بالعلبة حتى يمسح الصرّة.
الحثّ على ترك التتبّع والرسوم الجائرة
كتب بعض الوزراء إلى عامل: سوق السعادة عندنا كأسدة وألسنتهم لدينا معقولة ولم نرد هذه الناحية لاحياء العظام الناخرة، ولا لتتبع الرسوم العافية. عامل الناس بما في ديواننا فإنّها أيام قلائل فإما ذكر الأبد أو خزي الأبد. وتجنّب أن تكون، كما قال جرير:
وكنت متى حللت بدار قوم ... حللت بخزية وتركت عارا
وقيل: لا ينبغي للوالي أن ينقض سنّة «2» ... اجتمعت عليها الألفة وصلحت عليها
العامة.
وأخرج أبو علي بن رستم عاملا إلى بعض النواحي، وكان في القرية حمام كثير فعدّه وأخذ واحدة منها وشقّ حوصلتها وعدّ الحبوب الموجودة فيها واحتسب بذلك. فقال: إن كل حمامة تأكل في السنة من الحنطة كذا. وألزمهم ذلك فكتب أبو علي إليه كتابا وفي آخره هذا الشعر:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... والموت في عنقي وفي أعناقها
والأبيات لرؤبة قالها وقد تولى طراد الطير عن زرع له.
وكتب إلى أنوشروان عامل له بناحية يعلمه جودة الريع «3» بها، ويستأذنه في الزيادة على الرسم. فأمسك عن إجابته. فعاوده العامل في ذلك، فكتب إليه: قد كان في تركي إجابتك عن كلامك ما حسبتك تنزجر به عن تكلّف ما لم تؤمر به. فإذ قد أبيت إلا تماديا في سوء الأدب فاقطع إحدى أذنيك. واكفف عمّا ليس من شأنك. فقطع العامل إحدى أذنيه ائتمارا له.
حثّ الولاة على مراعاة الديانة
قال أزدشير «4» : الدين والملك أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر. فالدين أس والملك حارس، والبناء ما لم يكن له أس مهدوم، والملك ما لم يكن له حارس فضائع.
حثّ السلطان على اعتبار ظاهر الرعيّة دون بواطنهم
قال بعض الملوك: أنا أملك الأجساد، لا النيّات. وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.(1/212)
وقال معاوية الناس أعطونا سلطانا وأعطيناهم أمانا، وأظهروا لنا طاعة تحت حقد، وأظهرنا لهم حلما تحت غضب.
قال الشاعر:
لقد أحلك من يعصيك ظاهره ... وقد أطاعك من يعصيك مستترا
حثّ الوالي على اكتساب مودّة الرعيّة
كتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: أملك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها.
فإنّ طلبك ذلك باحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك «1» ، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطّها إلى القلوب بالإحسان، واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول، قدرت أن تفعل.
فأحسن قولها تأمن فعلها. وقال علي بن عبد الله بن عباس: تطلب محبة الرعية فطاعة المحبة أفضل من طاعة الهيبة.
السّياسة بالعمارة
كان يقال أسوس من «2» زياد. قيل إنه ركب يوما بالسوس فرأى عمارة حسنة فخاف أهلها أن يزيد في خراجها، فالتفت إليهم وقال بارك الله عليكم فقد وضعت عنكم مائة ألف لما رأيت من عمارة بلدكم.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لله درّ زياد، سعى أهل العراق سعي الأم البرّة، وجمع منهم المال جمع الذرة فاغناهم وحباهم بحسن التدبير.
وقيل: من طمع في وفور الارتفاع بغير العدل فهو يهزأ بنفسه.
ذمّ جامع للمال تارك للعمارة
حول عامل لأنوشروان من الأهواز «3» فضل ثمانين درهم على الغبرة القائمة، فسأله أنوشروان عن ذلك فقال: وجدت في أيدي قوم فضولا فاخذتها منهم. فقال: ردّ هذا المال لمن أخذته منهم، فإن مثلنا في ذلك إن أخذناه كمثل من طيّن سطحه بتراب أساس بيته، فيوشك أن يكون ضعف الأساس وثقل السطح مسرعين في خراب بيته.
ولما عزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص عن مصر، وولّى عبد الله بن أبي سرح، دخل عليه عمرو، فقال له عثمان: أشعرت أن اللقاح بعدك درّت ألبانها؟ فقال: نعم ولكنّكم أعجفتم «4» أولادها.(1/213)
وقال الحجّاج لبعض الدهاقين «1» من الريّ ما بال بلدكم قد خرب؟ فقال: لأن عمالكم استعملوا فيها قول شاعركم:
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنّك لا تدري من الناتج «2»
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإنّ شر اللبن الوالج
النّهي عن المقاطعة
قبل المأمون السواد من إسحاق بن إبراهيم سنين، فانقضت قبالته «3» فسأله أن يجددها. فجلس المأمون فقال أيها الناس أني قبلت السواد من إسحاق ثلاث سنين وانقضت، وسأل أن أقبله ثلاثا مستأنفة فهل له من شاك أو متظلم؟ فقام شيخ فقال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى جعلنا في يدك أمانة ولم يجعلنا قبالة فإن رأيت أن تقبلنا من أحد فافعل. فقال: لا قبلت بعد هذا. وقيل المقاطعة تقطع.
الحثّ على مراعاة أهل الخراج
قال زياد: أحسنوا إلى أهل الخراج فانكم سمان ما سمنوا. قال جعفر بن يحيى:
الخراج عمود السلطان، وما استفزر بمثل العدل ولا استنزر بمثل الجور.
نفع الأنصاف وكونه سبب العمارة
. قيل: لا يكون العمران حيث يجور السلطان. وقال عمرو بن العاص: سلطان عادل خير من مطر وابل، وعدل قائم أجدى من عطاء دائم، وسبع حطوم خير من وال غشوم.
عدل السلطان خير من خصب الزمان.
وكتب عامل إلى عمر بن عبد العزيز: إن مدينتنا قد خربت. فقال: اعمرها بالعدل ونظّف طرقها من الظلم والسلام.
وقال أنوشروان: حصّن المملكة بالعدل، فهو سور لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق. ورفع إلى كسرى أن مع فلان مالا عظيما يرجح على ما في بيت المال، فوقّع: ماله مالنا وخصب الزمان خصبنا.
محافظة الطرق
كان المنصور يقول: لا أبيت على تضييع الطريق فهو قوام الملك، ولا على إذلال حاكم فهو عزّ الملك. وقال بزرجمهر «4» : عزّ الملك بأربعة أشياء: حراسة منازل الرعية في الأمصار،(1/214)
وحفظ طرقها في الأسفار، ومنع عدوها عن حريمها، وإعزاز قضاتها، وقال المتنبّي:
إذا طلبت ودائعهم ثقات ... دفعن إلى المحاني والرّعان «1»
فماتت فوقهن بلا صحاب ... تصيح بمن يمر: ألا تراني
وصيّة الكبار بتحرّي الإنصاف
كان كسرى يقيم رجلين عن يمينه وشماله إذا قعد للنظر في أمور الناس. فكان إذا زاغ «2» ، حرّكاه بقضيب كان معهما، وقالا له، والرعية يسمعون: أيها الملك انتبه أنت مخلوق لا خالق، وعبد لا مولى. ليس بينك وبين الله قرابة. أنصف الناس وانظر لنفسك.
ودخل أسقف نجران على مصعب، فكلّمه بشيء أغضبه فرماه بمحجن. فقال الأسقف: إن لم يغضب الأمير، حدّثته بحديث، فقال: حدّث. فقال: في الإنجيل ليس للإمام أن يظلم وبه يلتمس العدل، ولا أن يسفّه ومنه يطلب الحلم فاعتذر منه وندم.
مدح العفّة والأمانة والحثّ عليهما
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
«3» . إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقال تعالى: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ
«4» وقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
«5» .
وقال عليه الصلاة والسلام: لا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال أعرابي اللهم إني أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة. وقال بعضهم: إذا لم تكن خائنا فبت آمنا. وقال الجاحظ: سقى الله قبر الأحنف، حيث يقول الزم الصحة يلزمك العمل.
وقيل: من أحرز العفاف لم يعدم الكفاف «6» . وقال معاوية رضي الله عنه: من ولّيناه أمرا فليلزم الرفيعين: الأمانة والعدل.
منع الوالي عن قبول الهديّة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الهدية تذهب السمع والبصر، وقال: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الكوّة.
وبلغ أنوشروان أن بعض عماله قبل هدية، فأحضره فلمّا دخل عليه، قال: هل قبلت الهدية؟ فقال: نعم، فقال: إن قبلتها لتستكفيه شيئا لم تكن تستكفيه لو لاها، إنك لخائن.
وإن قبلتها ولم تكافئه إنك للئيم. ولئن كافأته بسطت لسان رعيتك عليك ذمّا. فمن أتى صنيعا لا يخلو من هذه الثلاثة رغبنا عنه، وعزله. وقال الحجاج لوال: لا تقبل الهدية(1/215)
فصاحب الهدية لا يرضى بعشر أمثالها مع الشنعة، ثم اسلخ ما بين أقفائهم إلى عجب ذنبهم فانهم يرضون عنك.
مدح من لا يتكسّب في ولايته ولا ينفق
اجتمع عند المنصور يزيد بن أسيد ومعن بن زائدة وعدة من الأماثل، فقال معن:
ولاني أمير المؤمنين موضع كذا، فحملت إليه كذا وكذا، وأنت ولاك أرمينية «1» فبعثت إليه بمشربة طبخ. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك الضنين بأمانته «2» أو الجواد بخيانته؟ فقال المنصور: بل الضنين بأمانته. وولّى مصعب جد الأصمعي الأهواز فعاد ولم يكن له إلا درهمان. فقيل له ذلك، فقال: ما وجدت إلا مسلما له ما لي، وعليه ما عليّ أو ذميا له ذمة واجبة عليّ فلم أدر أين أضع يدي.
ودخل عمير بن سعد على عمر لما رجع إليه من ولاية حمص، وليس معه إلا جراب وإداوة، وقصعة وعصا، فقال عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال؟ فقال:
أو لست تراني صحيح البدن معي الدنيا بحذافيرها. فقال: وما معك؟ قال: جرابي أحمل فيه زادي وقصعتي أغسل فيها ثوبي ورأسي، وإداوتي فيها ماء سقيتي ووضوئي، ومعي عصاى إن لقيت عدوّا دافعته بها وما بقي فتبع لما معي. قال:
صدقت.
قال بعض الخراسانية:
فعاش خمسين عاما في ولايته ... وجاع يوم ثوى في لحده خدمه
وهذا البيت يمكن أن يكون مدحا وأن يكون ذما.
تحريض الوالي على الاكتساب
كتب أبو العيناء «3» إلى صديق له تولّى عملا: أما بعد فإني لا أعظك بموعظة الله تعالى، لأنك غنيّ عنها ولا أخوفك إياه لأنك لا تخافه، ولكنّي أقول ما قاله الشاعر:
أحار بن عمر وقد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
وباه تميما بالغنى إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «4»
واعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة خرفة، والجمع كيس، والمنع صرامة. فاذكر أيام(1/216)
العطلة في حال الولاية، ولا تحقرنّ شيئا صغيرا، فالذود «1» إلى الذود إبل، والولاية رقدة فتنبّه قبل أن تنبه. وأخو السلطان أعمى عن قليل سوف يبصر، وما هده الوصية كما أوصى به الحكماء، ولكنّي رأيت الحزم في أخذ العاجل وترك الآجل.
من أريد عزله فاحتال أن يقرّ على ولايته
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص وإلى المغيرة «2» ، أن يقدما عليه. فقدم عمرو من مصر والمغيرة من الكوفة. فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا معاوية إلا ليعزلنا. فإذا دخلت فاشك إليه الضعف، واستأذنه أن تأتي الطائف. وأنا أسأله مثل ذلك فسيظنّ أنا نريد به شرا، فسيردنا إلى العمل.
فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه وأن يأذن له في الذهاب إلى الطائف، ثم دخل عمرو فسأله مثل ذلك فقال معاوية لقد تواطأتما على أمر وهممتما بشر ارجعا إلى عملكما.
ولما استخلف سليمان بن عبد الملك تهدّد الحجّاج بالعزل فكتب إليه الحجاج: يا سليمان إنما أنت نقطة من مداد، فإن رأيت في ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما، وإلا فأنا الحجّاج. وأنت نقطة إن شئت أثبتك وإلا محوتك فأقرّه على عمله.
وكان معاوية عزل عمرا عن مصر بأبي الأعور السلمي، وكتب إليه على يده، وقال:
ائته وادفع إليه الكتاب وأخرجه. فلما انتهى إلى مصر علم عمرو سبب مورده، فقال لوردان غلامه: احتل عليه. فقال: نعم. فلما دخل، وأراد أن يناوله الكتاب حلف أن لا يأخذ الكتاب أو يأكل فقعد للأكل مع عمرو. فاحتال وردان وسرق كتبه. فلما فرغ وطلب الكتاب لم يجده. فقال: إن أمير المؤمنين عزلك بي. فقال: هات الكتب فلم يجدها، فاضطرب. فكتب عمرو في الوقت إلى معاوية وأرضاه، فلما سمع بخبره ضحك وأمر برد أبي الأعور إليه.
وقدم عمر رضي الله عنه الشام فتلقاه معاوية في موكب عظيم، وكان عمر على حمار هزيل، فلم يعرفه معاوية، وجازه حتى نبّه. فنزل له فاعرض عنه عمر، وقال: قد صرت صاحب الموكب وذوو الحاجات تقف على بابك. قال: نعم، فقال: ونعم أيضا؟ فقال:
إنني ببلد يكثر فيه جواسيس العدوّ ولا بد مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر رضي الله عنه: لا آمرك ولا أنهاك، والله لئن صدقت لقد فعلت فعل أريب، ولئن كذبت فقد اعتذرت عذر أديب. فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما صدر عما أوردته فقال عمر رضي الله عنه لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشّمناه.(1/217)
اعتذار طالب رئاسة تعذّرت عليه
قال رجل عند معاوية: عجبا لعليّ كيف طلب الخلافة؟ فقال معاوية: اسكت فما كان في خطبتها، إلا كما قال الشاعر:
لئن كان أدلى دلوه فتعذّرت ... عليه وفاتت رائدا فتخطّت
فما رغبة عنه تخطّت حباله ... ولكنّها كانت لآخر حطّت
وقيل لرجل خطب ولاية من أمير: ما ولّاك الأمير؟ فقال ولّاني ظهره وأعطاني منعه وحماني نفعه. وربّ ساع لم يدرك المنى، وحال بينه وبين مطلوبه القضاء.
مدح الإمارة والرخصة في الولاية
روي أن رجلا ذمّ الإمارة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم الشيء الإمارة، لمن أخذها بحقها.
وقال بعضهم: لولا الحظ في الولاية لما قال نبيّ الله يوسف عليه السلام لكافر:
إجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم. وقال بزرجمهر: أغبط الناس الملك الحازم المظفر. وقيل: حبّذا الإمارة ولو على الحجارة. وقيل لبعضهم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء وحطّ الأعداء، وطول البقاء مع القدرة والنماء.
وقيل لآخر: فقال اللواء المنشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
مدح الاشتغال وذمّ الفراغ
قيل: العطلة موت الحال، وطالت عطلة دينار ثم عرض عليه شغل، فشاور الموبذ في ذلك، فقال: اعلم أن العطلة سكون، والحياة حركة، فإن استطعت أن تخرج من حيز الأموات إلى حيز الأحياء فافعل.
وقيل: إذا كان الشغل مجهدة فالفراغ مفسدة. وقال أكثم: ما يسرني أني مكفي كل أودي. فقيل له: ولم؟ قال: أكره طاعة العجز وذلك أن مع الكفاية العجز والبلادة، ومع الحاجة الفطنة والشهامة.
ذمّ الولاية والتزهيد فيها
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّه العباس رضي الله عنه: يا عمّ نفس تحييها خير من إمارة تحصيها.
وقال صلى الله عليه وسلم: ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة. فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة.
ولما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطب الناس فقال: أن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسهم، فقال: ما لكم إن الرجل إذا صار ملكا زهّده الله(1/218)
فيما في يده ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق. فهو يحسد على القليل ويتسخّط الكثير. فهو كالدرهم والسراب الخادع، جذل الظاهر حزين الباطن. فإذا وجبت نفسه ونضب عمره حاسبه الله فاشد حسابه وأقل عفوه.
وقال مطرف: لا تنظروا إلى خفض عيش السلطان ولين لباسه ولكن انظروا إلى سرعة ظعنه «1» وسوء منقلبه «2» .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ملك أحد قطّ إلا شوطر عقله وضوعف بلاؤه وحزنه. ولمّا ولى محارب القضاء قيل للحكم بن عتيبة: ألا تأتيه؟ قال: ما أصابته عند نفسه مصيبة فأعزيه ولا نالته نعمة فأهنئه وما كنت زوّارا له من قبل فآتيه.
وقال بعض الولاة لبهلول: كيف تجدك؟ قال: بخير ما لم أتولّ شيئا من أمور المسلمين. قال: أتحب أن تكون صحيحا؟ قال: لو كنت صحيحا لنزعت نفسي إلى طلب الدنيا، فهذا أصلح لي. أرجو أن أكسب الأجر وأن يحط الله عنّي الوزر «3» .
وقيل لأعرابي أيسرك أن تكون خليفة وتموت أمتك؟ قال: لا، لأنها تذهب الأمة وتضيع الأمّة.
النهي عن طلب الرئاسة
قال رجل لبشر الحافي: أوصني. قال: الزم بيتك، فترك طلب الرئاسة رئاسة. وقال ابن مسهر: ما بينك وبين أن تكون من الهالكين إلا أن تكون من المعروفين. وكان سفيان يتمثّل بقول الشاعر:
حبّ الرئاسة داء لا دواء له ... وقلّ ما تجد الراضين بالقسم
وقال آخر:
وأكثر هالك في النّاس تلقى ... فرأس هلاكه طلب الرئاسة
وقال آخر:
بلاء النّاس مذكانوا ... إلى أن تنهض السّاعه «4»
طلاب الأمر والنهي ... وحبّ السمع والطّاعه
قساوة قلب من تولّى رئاسة
كان عبد الملك بن مروان يسمّى حمامة المسجد، للزومه المسجد الحرام. فلما أتاه الخبر بخلافته، كان المصحف في حجره «5» ، فوضعه وقال: هذا فرق بيني وبينك. وقال:(1/219)
إنّي كنت أتحرّج أن أطأ نملة وأن الحجّاج يكتب إلي في قتل فئام «1» من الناس فما أحفل «2» بذلك.
وقال له الزهري يوما: بلغني أنك شربت الطلاء فقال: أي والله والدماء. وقال: عجبا للسلطان كيف يحسن، وإذا أساء وجد من يزكيه ويمدحه؟ وفي كتاب الهند: السلطان ذو غدوات وبدوات ونزوات، أي أنه سريع الإنصراف كثير البذاء «3» هجوم على الأمور.
تكدّر عيشه
قيل: لا أحد أمرّ عيشا وأكدّ تعبا وأطول فكرة، من الملك العارف بالمعاد المتيقن بالثواب والعقاب، قال الشاعر:
يا ربّ أفئدة بنار همومها ... تكوى فتشقى في جسوم ناعمه
وقيل: لا تنظروا إلى خفض عيش السلطان ولين لباسه، وانظروا إلى سرعة ظعنه ومكنون حزنه وسوء منقلبه.
من أظهر الندامة عند الموت من الكبار لما ثقل
رأى عبد الملك غسالا فقال: وددت أني كنت غسالا لا أعيش إلا بما كسبت يوما فيوما. فذكر لأبي حازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه.
ولا نتمنى عنده ما هم فيه. وكان يقول: بعنا الدنيا والآخرة بغفوة.
ممتنع من الولاية
في الخبر، نودي لقمان أني أجعلك خليفة في الأرض. فقال: إن أجبرني ربّي فسمعا وطاعة، وإن خيّرني اخترت العافية. فولّاه الحكمة، وصرفت الخلافة إلى داود عليه السلام. فكان إذا رآه داود، قال: وقيت الفتنة يا لقمان.
وقيل لبعضهم: ما يمنعك من الإمارة؟ قال حلاوة رضاعها ومرارة فطامها. وبعث هشام إلى إبراهيم بن جبلة فقال: أنا قد عرفناك صغيرا، وخبرناك كبيرا، ورضينا سيرتك.
وقد رأيت أني أشركك في عملي وقد ولّيتك خراج مصر. فقال: أما الذي عليه رأيك، فالله يجزيك، وأما أنا فما لي بالخراج بصر، فضحك وقال: لتلينّ طائعا أو كارها فتركه حتى سكنت سورة غضبه، ثم قال: إن الله تعالى يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها
«4» فما غضب حيث أبين ولا أكرههن إذ كرهن فأنت حقيق «5» أن لا تغضب ولا تكره فغضب وتركه.(1/220)
ولما أراد عمرو بن هبيرة تولية أياس القضاء قال له: أني لا أصلح لأني عيي دميم حديد، فقال أما الحدة فالسوط يقوّمك، وأما الدمامة فإني لا أحاسن بك، وأما العيّ فإنك تعبر عما تريده فولاه.
حثّ الوالي على ادّخار الإحسان
قال جعفر بن محمد: كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان. وقال بعضهم لوال:
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان
وقيل: أحسن والدولة تحسن إليك، وأنشد:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإنّ لكل خافقة سكون «1»
ولا تزهد عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون
وقيل: اجعل زمان رخائك «2» عدة لزمان بلائك «3» . وقيل: تودّد الرجل في علو مرتبته ذب «4» للشماتة أيام سقطته. واستعمل عمر رضي الله عنه رجلا، فقال: إن العمل كبير فانظر كيف تخرج منه.
ذمّ مغترّ بولايته
وصف أعرابي واليا فقال: ما أطول سكر كأس شربها فلان. ولما يخاف من عاقبتها أشد سكرا. ولئن كانت الدنيا مشغولة به ليوشك أن تكون فارغة منه، حيث لا يرجى له أو به ولا تقبل له توبة.
وذكر الأصمعي أن قول الشاعر:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف غبّ ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
كأنما أخذ من قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً
«5» .
ودخل الأنباري الشاعر على الصاحب بالأهواز، وكان نازلا في دار ابن بقية، فلم يعرفه الصاحب ولم يلتفت إليه، فانشأ يقول:
اسمع مقالي ولا تغضب عليّ فما ... أبغي بذلك لا بذلا ولا عوضا
في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأيت الملك فانقرضا(1/221)
فقال له: من أنت؟ فانتسب له، فاقبل عليه وأكرمه وخوّله.
وقال البسامي:
فلا يغرركم نعم توالت ... فإنّ الدهر حال بعد حال
تهديد وال بعزله:
قال إبراهيم بن العباس الصوليّ:
أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وعرّج قليلا عن مدى غلوائكا «1»
فإن يك هذا اليوم يوما حويته ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا
وقال جحظة:
قد نلتم منحة ما نالها بشر ... وحزتم نعمة ما حازها ملك
فليت شعري أمقدار تعمدكم ... بما أتاكم به، أم خولط الفلك
ونظر الفضل بن مروان في رقاع «2» الناس فإذا رقعة فيها:
تعززت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم الأقياد والحبس والقتل
وإنّك قد أصبحت في النّاس ظالما ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
يعني الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل.
وقال رجل لبعض الولاة: ما أنت إلا أن يزيلك القدر عن القدرة فتحمل على المذلّة والحسرة.
تمنّى العزل له تبرّما به
لما ولي أبان بن عثمان المدينة «3» ، كان يطوف ليلة فسمع قائلا يقول: اللهمّ اعزل عنّا أبانا، فقال له أبان وهو لا يعرفه: ما فعل لك أبان؟ فقال: استطالت ولايته فمللتها، فقال: ويحك إنما له ستة أشهر، فقال: بدون هذا نفع الملك.
وسمع المهدي إنسانا يدعو عليه فقال: يا هذا هل أسأت إليك قط؟ قال: لا ولكني مللتك. فقال: أو لم أتول منذ شهرين فقال: أو لم يكن في ذلك ما يمل، إني لأمل كنيتي فأغيرّها في الشهر مرتين.
من رغب في العزل عن ولايته
كتب بعض العمال إلى واليه وقد ولاه موضعا يقال له شير:
ولاية الشير عزل ... والعزل عنه ولاية(1/222)
فولّني العزل عنه ... إن كنت بي ذا عنايه
أصير بالعزل عنه ... إلى غنى وكفايه
واستعفى رجل من ولاة عبيد الله بن طاهر فوقّع في قصته: يعفى ولا يستكفى وينفى إلى يافا «1» .
من هدّده واليه بالعزل
وقّع يحيى بن خالد إلى عامل: كثر شاكوك وقلّ شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت. ووقّع إلى آخر: أنصف من وليت أمره وإلا أنصفه منك من ولي أمرك.
ووقّع المأمون لآخر: لو استقامت لك الطريقة، لرضيت الخليقة، فإن لم تدع فيهم القذل «2» راعينا فيك العزل. ووقّع إلى أحمد بن هشام في رقعة متظلم: اكفني أمر هذا وإلا كفيته أمرك والسلام.
تمنّي زوال مملكة خسيس
قال البسّامي:
ألا يا دولة السفل ... أطلت المكث فانتقلي
ويا ريب الزّمان أفق ... نقضت الشرط في الدّول
وقال أبو تمّام الطائي:
كانت شماتة شامت عارا فقد ... أضحت به تنضو ثياب العار «3»
وقال جحظة:
سألت الله تعميرا طويلا ... ليبهجني بخطب يعتريكم «4»
أخاف بأن أموت وما أرتني ... صروف الدهر ما أهواه فيكم «5»
وقال أبو عطاء:
يا ليت جور بني مروان عاد لنا ... وأن عدل بني العبّاس في النّار
من شمت النّاس بعزله
قال أبو العيناء في ابن حمدان: لئن فضحته القدرة، لقد جمّلته النكبة «6» . وقال لموسى ابن فرخشاه. الحمد لله الذي أذلّ عزّتك وأذهب سطوتك، وأزال مقدرتك، فلئن أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة.(1/223)
وقال البحتري:
ففرحة النّاس بإدباره ... كغيظهم كان بإقباله
وقال القاسم بن طوق:
رزقت سلامة فبطرت فيها ... وكنت تخالها أبدا تدوم
وقد ولّت بدولتك الليالي ... وأنت ملعن فيها ذميم
فبعدا لا إنقضاء له وسحقا ... فغير مصابك الخطب الجسيم
ولما قبض المعتصم على الفضل بن مروان قعد للعامة فوجد قصة فيها:
يا فضل لا تجزعنّ ممّا بليت به ... من خاصم الدهر جاثاه على الرّكب
خنت الإمام وهذا الخلق قاطبة ... وجرت حتّى أتى المقدار في الكتب
جمعت شتّى وقد أديتها جملا ... لانت أخسر من حمّالة الحطب «1»
ودخل أبو العيناء على أحمد بن أبي دؤاد، فقال: ما جئتك مسليا ولا معزيا. ولكن أحمد الله فيك إذ حبسك في جلدك، وأبقى لك عينا تنظر بها إلى زوال النعمة عنك.
وقال محمود الوراق:
خنازير ناموا عن المكرمات ... فانبههم قدر لم ينم
فيا قبحهم عند ما خوّلوا ... ويا حسنهم في زوال النّعم
من تحامل الناس عليه لنكبته وعزله
لما عزل المنصور بن عمران عن القضاء، جعل الناس يسبّونه. وكان فيهم رجل يلجّ في أذاه فقال له: يا هذا أسأت إليك قطّ؟ قال: لا. قال: فما حملك على هذا الذي تأتيه؟
قال: سمعت الناس يشتمونك فساعدتهم، فأنشد المنصور:
غير ما طالبين وترا ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا «2»
ولما نكب على بن عيسى، جفي جفاء عظيما وهجره الناس قاطبة، ثم لما رشّح للولاية تزاحم الناس عليه، فأنشأ يقول:
ما النّاس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوما به انقلبوا
صعوبة العزل
قيل: العزل طلاق الرجال. وسئل بعض الحكماء: ما أشد ما يمرّ على الإنسان؟
.(1/224)
فقال بعضهم: فقر في سفر، وقال بعضهم: مرض في غربة. فقال: أشدّ من ذلك عزل مع نكبة.
وكان ليوسف ابن عمر جارية حظيّة، وكانت على رأسه، فأتاه كتاب فلمّا قرأه تغيّر لونه، فقالت: أيها الأمير هذا كتاب عزل. قال كيف دريت؟ قالت: لتغيّر في وجهك قلما عهدته. وقد كان يعزل عنها خوف الحبل، فقالت: كيف أجزت العزل لي وهذا طعمه؟ فقال: إذا لا أعاود ذلك.
من لم يبال بالعزل
قال زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف ما لا تنفع معه الولاية ولا يضرّه العزل، وقال أحمد بن طاهر:
ما وضع العزل منك قدرا ... ولا تعالى عليك وفرا
وقال ابن طباطبا:
لقد سرّني أن الصيانة وفّرت ... عليك بعزل كان فيه رضاكا
تسلية معزول
أراد الرشيد أن يعزل الفضل بن يحيى عن خاتمه ويصيّره إلى أخيه جعفر، فكتب إليه: قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتمه من يمينك إلى شمالك، فأجابه الفضل: ما انتقلت عنّي نعمة صارت إليك، ولا خصصت بهادوني.
قال ابن المفجع:
لم يعزلوا الأعمال عنه وإنّما ... عزلوا العفاف به عن الأعمال
وقال أبو تمام:
وما كنت إلا السيف جرّد للوغا ... فأحمد فيه ثم صار إلى الغمد «1»
ونحوه، ما كتب به بعضهم: ما عزلت عن الديوان ولكن عزل عنك. فأنت المهنأ وهو المعزّى. وقد كنت محتاجا إلى العزل ليعرف الجور من العدل. قال: وإن العزل غاية كل وال. قال أبو هفان:
لأنت في العزل على غضّه ... أنبل من غيرك في الأمر
وقال آخر:
وكلّ نار لها اتّقاد ... لا بدّ يوما لها خمود «2»(1/225)
رفيع معزول بدنيء
قال ابن بزدويه الأصبهاني- لمّا عزل أبو علي بن رستم، وقلّد أبو الحسن، وأبو مسلم- يخاطب عليّ بن عيسى:
أيا ابن عيسى سمتنا ... مقابح الحوادث
بعاملين أخرقين عابس وعابث ... طيرين أرسلتهما
عززهما بثالث
ولمّا عزل وكيع عن رئاسة بني تميم قال بعضهم: عزلت السباع وولّيت الضباع فصار الأمر إلى الضياع. ولبعضهم في مثله: أي حق رفع، وأي باطل وضع.
بدّل لعمرك من يزيد أعور
وقال ابن أبي الرعد:
فإن تك قد عزلت فلا عجيب ... ضياء الشمس يعزله الظّلام
وقال كناس لما عزل علي بن عيسى وولّي مكانه ابن الفرات: أخذوا المصحف «1» ووضعوا مكانه طنبورا «2» .
من يقرب عزله من ولايته
قال الشاعر:
فإنك في زمن دهره ... كيوم ودولته ساعتان
وقال ابن حجّاج:
يوم الخميس بعثت بي ... وصرفتني يوم الأحد
فالنّاس قد غنوا علي ... كما خرجت من البلد
ما قام عمرو في الولا ... ية ساعة حتّى قعد
وقال آخر:
رأينا لأبواب ابن بلبل ساعة ... من الدّهر إقبالا تطلع فارتحل
أشبهه نقش العروس تخضّبت ... فلما مضى الأسبوع من عرسها نصل «3»
تذمّم من ولى أمرا صغيرا بعد أن تولّى كبيرا
قيل: عنوق «4» بعد نوق، وحور بعد كور. وقال المتنبّي:(1/226)
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب «1»
وكان أبو عماد النميري تولّى أمورا كبارا، فأتى سلطانا يسأله أن يولّيه أمرا، فولاه أمانة قرية، فسرق ما في البيدر. فقال:
أنا باز أضرب الكر ... كي والطير العظاما
وإذا ما أرسل البا ... زي على الصّقر تعامى
أخذ ذلك من قول الآخر:
والصقر يحقر عن طراد الدّخل «2»
وقيل لبعض من كان في خطبة أمر كبير فامتنع عليه فرضى بصغير: طلبت زلالا ثم شربت رنقا «3» ، فأنشد:
ومن يبتغ العذب الزلال ويمتنع ... من الشرب من سؤر الكلاب تعطّبا
إذا المرء لم يقدر له ما يريده ... رضي بالذي يقضى له شاء أم أبى
ذمّ متول بغير استحقاق
قال موبذ: بلوغ شرف المنزلة بغير استحقاق، إشفاء على الهلكة. وأتى عبادة دينار بن عبد الله وقد وليّ مصر، فقال: يا فرعون أرفع رأسك وانظر إلى من ندب لولاية مصر. قال ابن بسّام:
كيف تستوثق الأمور وتصفو ... ومدار الدنيا على ابن الفرات «4»
وصف عاجز في ولايته
في الحديث أن الله يبغض السلطان الركيك «5» . وورد كتاب صاحب أرمينية على السفّاح بأن الجند قد شغبوا ونهبوا. فكتب إليه: اعتزل أمرنا فلو عدلت لم يشغبوا ولو قريت لم ينهبوا.
واستعمل المنصور رجلا على خراسان «6» فاتته امرأة في حاجة، فلم تر عنده غنى.
فقالت: أتدري لم ولّاك أمير المؤمنين؟ قال: لا. قالت: لينظر هل يتم أمر خراسان بلا وال.
ووقّع جعفر إلى عامل له: إنك كثير الشكاية قليل النكاية، جرىء في ميدان العلل بطىء في ميدان العمل.(1/227)
وقال الشاعر:
وأحمد يا قوم لو أمره ... إليّ لألزمته راوية
وولّى ابن هبيرة رجلا ماسبذان «1» فقال: اكتم أمرك حتى ترد إلى عملك. فخرج إلى همدان. فلما بلغ قيل لم يرد علينا ما دلّ على ولايتك. فأخرج عهده فإذا هو إلى صاحب ماسبذان، فكتب إلى ابن هبيرة إني عطلت ما بين سب وبين هم لما رأيت في آخره ذان.
فضحك لما قرأ الكتاب وقال: أنا أولى الناس بأن أؤدب إذ ولّيت مثله واعتمدت جهله.
ذمّ وال خسيس
وقال ابن لنكك «2»
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين ولّيت إلا خسّة ... فالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
وقال المتنبّي:
كرم الأعمال لا يغنيك والنفس قليله ... ليس في النذل ولو خوّل ملك الأرض حيله
وقال الطرمّاح «3» :
إذا ما ابن جدّ كان ناهز طيىء ... فإنّ الذرا قد صرن تحت المناسم
من لا يستضرّ بعزله ولا ينتفع بولايته
قال أبو العيناء لصاعد: نحن في دولتك محرومون وفي عطلتك محرومون. وقيل له: ما حالك مع فلان مذ تولّى فقال: أنا معه غير جندب، يعني قول الشاعر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب «4»
وأنشد لأبي الفتح بن أبي جعفر بيتين قالهما في الأستاذ الرئيس لما قبض على بن أحمد بن العباس، فأغير على داره:
أيوجب عدل أهل العدل أني ... أعدّ مع الجناة بلا جناية
أشارك معشرا في صرف دهر ... هم ما شاركوني في الولاية(1/228)
وقد أحسن المسهل بن كميت حيث يقول:
إذا نحن خفنا في زمان عدوّكم ... وخفناكم إن البلأ لراكد
ذاهب عنه أمره
قيل لرجل زال ملكه: ما كان سبب زوال ملكك؟ فقال: تدبير الأمر بالهوى «1» وتأخير عمل اليوم إلى غد، وقيل ذلك لآخر، فقال: قلّة التيقّظ واشتغالنا باللذّات عن التفرّغ وثقتنا بعمّالنا حتى ظلموا رعيّتنا، فقلّ دخلنا وبطل عطاء جندنا. فقلّت طاعتهم لنا فقصدنا الأعداء فعجزنا عن مدافعتهم.
متولّي رئاسة بغير إستحقاق
قال رجل لسعدان: سوّدك القوم لجهلهم بك، فسيّد الجاهلين غير شريف وإن سوّدوك للفقر إليك فأنت كما قال:
خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفرّدي بالسودد «2»
وقال محمّد بن يزيد:
ومن انتكاس الأمر أن ... صارت ولاة الأمر ضبّه «3»
وشتم مجنون رجلا فقال له: أتشتمني وأنا سيّد قومي؟ فقال المجنون:
وإن بقوم سوّدوك لفاقة ... إلى سيّد لو يظفرون بسيّد «4»
وقال آخر:
وكلام مثلك في الخطو ... ب من العجائب والكبائر «5»
وصف عسوف في ولايته
حكى رجل ولاية عامل فقال: كان يجبي خراج «6» الوحش، ويأخذ جزية السمك ويطلب زكاة الملائكة، ويلتمس جمع الريح ويروم القبض على الماء وحصر الحصى وتحصيل الهباء. ولئن كانت النعمة عظمت على قوم خرج عنهم لقد عظمت المصيبة على(1/229)
قوم نزل فيهم، وسئل رجل عن وال فقال: هو. كما قال الشاعر:
وكان إذا أناخ بدار قوم ... أبو حسان أورثهم خبالا «1»
وقال عمر رضي الله عنه: لا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه.
وتظلّم أهل الكوفة إلى المأمون في وال كان عليهم فقال المأمون: لا أعلم في عمّالي أعدل وأقوم منه. فقام رجل فقال: إن كان عاملنا بهذا الوصف فحق أن تعدل بولايته فتجعل لكلّ بلد منه نصيبا لتسوّي بالعدل بينهم. فإذا فعل أمير المؤمنين ذلك لا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك وعزله.
وقال المنصور يوما: من بركتنا على المسلمين أن الطاعون رفع عنهم في أيامّنا، فقال بعض الحاضرين: ما كان الله ليجمع علينا ولا يتكم والطاعون. وبلغ من تمرّد يوسف بن عمر أنّه نادى أن لا يضرب «2» أحد في دار الضرب درهما ينقص عن العيار حبّة، فما فوقها، إلا ضربته ألف سوط فضرب مائة رجل فقالوا: ضرب مائة ألف سوط في حبّة.
وعدّ في سيئات الحجاج أنّه قتل صبرا مائة ألف وعشرة آلاف رجل سوى من قتل في عساكره. ومات في الحبس ثمانون ألفا منها ثلاثون ألف امرأة.
وقال عمر بن عبد العزيز «3» رضي الله عنه: لو جاءت يوم القيامة الفرس بأكاسرتها والروم بقياصرتها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم به.
ذمّ إمارة الصّبيان والنّساء
لما مات كسرى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، به، قال: من استخلفوا؟ فقالوا: بنيّته بوران.
قال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.
وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: سيأتي على النّاس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل «4» ، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنما، والصدقة مغرما «5» ، فحينئذ يكون سلطان النساء ومشاورة الإماء وإمارة الصبيان.
وقيل: إنّ البوم أراد التزوج، وكان الهدهد دلالا فأتاه وقال: إنهم ضمنوا لك خمس قرى عامرة وخمس قرى غامرة «6» . فقال: لا حاجة لي في العمران. فقال: خذها فولايتها(1/230)
إلى امرأة وما تولت امرأة أرضا إلا خربت، فقبلها، وقال: صدقت. وقيل: إذا أراد الله بقوم سوءا جعل أمرهم إلى صبي أو امرأة.
قال الشاعر:
إن ملكا تسوسه ... أمّ موسى وفاطمه
لجدير بأن ترى ... ربة البيت لاطمه «1»
وقال ابن بادان:
ما للنسا وللعما ... لة والخطابة والكتابة
هذا لنا ولهنّ م ... نّا أن يبتن على جنابة
ولابن بسّام في متقدم بامرأة:
نلت ما نلت يا دنيء بأمّ ... هي أعطتك رؤية الأمراء
فإذا عدّت الصنائع يوما ... كنت فيها صنيعة البظراء «2»
وكان بالريّ «3» مجنون فقال يوما لفولاذ بن مناذر لما هرب من شيراز «4» : يا متخلّف كان يجب أن تداوي كسّ الدولة وبظر الملّة، وتدخل إليها فتشيل رجليها حتى كان يستوى أمرك. قال شاعر:
إن الأمور إذا أضحت يدبّرها ... أمّ وطفل وسكران ومجنون
كمنذرات الورى أن لا فلاح لمن ... يرجو النجاح وإن الملك مغبون «5»
مدح الوزارة وذمّها
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من أحد أعظم أجرا من وزير صالح يكون مع إمام فيأمره بذات الله. وقال صلى الله عليه وسلم ما من أحد من المسلمين ولي أمرا فأراد الله به خيرا إلّا جعل معه وزيرا صالحا إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه.
وقيل: ثبات المملكة بقدر هيبة وزرائها، وقيل: لا يطمع الملك الضعيف الوزير، في ثبات ملكه. وقال بعض الملوك لحكيم: أيّ الأعوان أحق بقرب الوسيلة؟
فقال: الوزير الصالح الناصح اللبيب الذي ارتفاعه بارتفاع ملكه وهلاكه بهلاكه.(1/231)
وقيل: لا تغتر بمناصحة الأمير إذا غشّك الوزير وإذا صادقك الوزير فلا يهولنّك الأمير.
انقياد الأمير للوزير وذمّه بذلك
قيل: الاستسلام للوزير هو العزل الخفي، وقال نصر بن سيار: إذا لم يشرف الأمير على أموره فليعلم إن أغش الناس له وزيره، وقال أبو الشيص:
في الملك لا يصرف الأمر دونه الوزراء
مدح وزير صالح.
قال بشّار «1» :
وقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير في المتّهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم
وقال أبو نواس:
قولا لهارون إمام الورى ... عند احتفال المجلس الحاشد
أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواجد
وقال ابن الرومي:
ظفرت يداك من الوزير بقيّم ... يؤتى نصيحته بلا استكراه
أما ظهارته فسلطانية ... وله بطانة مخبت أواه «2»
ذمّ اجتماع وزيرين
وقال البسّامي
فقدتكم يا بني الجاحده ... أفي كل يوم لكم آبده
متى سمع الناس فيما مضى ... وزيرين في دولة واحده «3»
وقال الظاهري:
وزيران أمّا بالمقدم منهما ... فخبل وبالثاني يقال جنون
متى تلق ذا أو تلق ذاك لحادث ... تلاق مهينا لا يكاد يبين «4»(1/232)
وقال عبد الملك لما أراد الخروج إلى مصعب وقد نهاه بعض نسائه: كفى فلا يجتمع فحلان في شول «1» ولا قمران في سماء، ولا سيفان في غمد. ويروى للمهلب «2» في معناه:
ولو صلح التشارك لم تضايق ... ولكن لم يسع أسدين غيل «3»
تولّي دنيء الوزارة
كان ابن بلبل خاملا وكان يؤاجر في أيام صغره حتى يحكى أنه حمل ليلة إلى موضع فاجتمع عليه عدة، فلم يزالوا يقلبونه إلى الصباح حتى قال: أما فيكم رحيم يتركني انعس نعسة.
قال البسّامي:
كيف ترجو رحمة الله ولا تخشى الحجاره ... والذي كنّا عرفناه قديما بالإجاره
حائز الأمر علينا بتوليّه الإماره وقال آخر:
وزير ما يفيق من الرقاعة ... يولّى ثم يعزل بعد ساعة «4»
وقال المصيصي:
أنا مذ صرت وزيرا ... طاب شتمي للوزاره
وقال آخر في مثله:
أعيذك بالرحمن من شرّ خائن ... له قلم زان وآخر سارق «5»
وقال وزير أميّ تولّى شجاع بن القاسم وزارة المستعين وحرص كلّ الحرص على أن يتعلّم الكتابة فما تهيأ له وكان يحضر معه كاتبا يلقنه فيفهم عنه جلّ ما في الكتب، فيعرضه على المستعين.
(2) ومما جاء في أحوال أتباع السلاطين
وجوب اتباع السلاطين
قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«6» فقرن طاعتهم بطاعته(1/233)
وقيل: لا تتقرّب الرعية إلى الأئمّة بمثل الطاعة، ولا العبد إلى المولى بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع. وقال الحجاج: والله إن طاعتي أوجب من طاعة الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
«1» وجعل فيه مثوبة «2» وطاعتي لا مثوبة فيها، وقيل: سعادة الرعية في طاعتهم لملكهم:
ورفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدرة على سعيد بن عامر فقال: لا يسبق سيلك مطرك، لو أمرت قبلنا، وإن عاتبت أعتبنا، وإن عاقبت «3» صبرنا، وإن غفرت شكرنا. فقال: ما على المسلمين أكثر من هذا وأمسك عنه.
وجوب ملاينة السلطان ومداراته
قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
«4» وقال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«5» وتعلّق رجل بالرشيد وهو يطوف بالبيت فقال: أني أريد أن أكلّمك بكلام فيه بعض الغلظة «6» فقال: لا ولا نعمي إن الله بعث من هو خير منك إلى من كان شرا مني. فقال: فقولا له قولا ليّنا، وقال الأحنف «7» : السلطان من تأبى عليه إذ رآه ومن لان له تخطّاه، وقيل: لتكن مداراتك للسلطان مداراة المرأة القبيحة للزوج المبغض لها فإنها لا تدع التصنّع له في كلّ حال، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا بليت بالسلطان فخرّق دينك بالملقى والروغان «8» ورقّعه بالكفارات والاستغفار.
الحثّ على مصابرة السلطان عادلا كان أو جائرا
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وإذا كان جائرا فله الوزر «9» ، وعليك الصبر.
وجوب تعظيمه ومدح فاعل ذلك
قال ابن عباس «10» رضي الله عنه: السلطان عزّ الله في الأرض فمن استخفّ به نابته نائبة فلا يلومنّ إلا نفسه. وقيل: إذا جعلك السلطان أبا فاجعله ربا. وقيل: إياك ورفع الصوت على السلطان، فمن رفع الصوت عليه فقد خلعه. قال الله تعالى: لا تَرْفَعُوا(1/234)
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
«1» ، وقال حكيم لابنه: أياك أن تصحب السلطان بالجراءة عليه، والتصغير لقدره، والتهاون بأمره، ولتكن صحبتك له كصحبتك للأسد الضاري، والفيل المغتلم «2» ، والأفاعي القاتلة، وقالت الحكماء: من حقّ من هازله السلطان وضاحكه ثم دخل عليه أن يدخل عليه دخول من لم يجر بينهما أنس قطّ وأن لا يترك الأحلال له، فإنّ أخلاق الملوك ليست على نظام.
استعمال الوقار في مجلس السلطان
كان أبو القاسم الكعبي المتكلّم في مجلس أمير خراسان، فسقط من السطح طست فتزلزلت منه عرصة «3» الدار فلم يلتفت أبو القاسم إلى الأمير، فقال الأمير: لا يصلح لوزارتي إلا هو، وأراد عبد الملك أن يجرب الحجّاج فأمر بأن يدخل في سراويله عقارب، فكانت تلدغه ولم يشتغل بها عن محادثة عبد الملك.
ترك عظيم غير السلطان في مجلسه
دخل أبو مسلم على السفاح «4» وسلم عليه فطرح له متكأ وأبو جعفر «5» قريب منه فقال السفاح: يا أبا مسلم هذا المنصور. فقال: يا أمير المؤمنين هذا موضع لا يقضى فيه غير حقّك.
وجوب الأعضاء في مجلس السلطان
قيل: أهدي إلى ملك الهند ثياب وحلى، فدعا بامرأتين وخيّر أحظاهما عنده بين اللباس والحلي. وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشيرة فأشار بعينه إلى اللباس، ولحظه السلطان فاختارت الحلى لئلا يفطن الملك للإشارة ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه ليظنّ الملك أن ذلك عادته، وقيل: من داخل السلطان فيحتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس.
المتجنب الكلام الموهم في مخاطبة السلطان
قال الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
«6» (الآية) ، وقال الله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ
«7» ، وذمّ قوما من سفهاء بني تميم أتوا(1/235)
النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخرج إلينا فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
«1» ، ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى
«2» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: للعباس أنا أكبر أم أنت؟ فقال:
أنت أكبر وأنا أسنّ. ودخل السيد الحميري على المأمون فقال له المأمون: أنت السيد فقال: بل أنا العبد وأنت السيد. وقال سعيد بن عثمان للطوسي: أيّنا أسن؟ فقال: لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب لئلا يوهم أمرا.
المنكر عليه لفظه مع سلطان
قال بعض أصحاب المأمون لرجل نزل له: يقول لك أمير المؤمنين: اركب. فقال: لا يقال لمثله اركب بل يقال له: انصرف. دخل أبو الحسن المدائني على المأمون فلمّا خرج قال له: رجل عرفني ما جرى بينك وبين أمير المؤمنين فقال: لست بموضع ذلك لأنّك لم تميز بين أن تقدّم ذكر أمير المؤمنين وبين أن تقدّم ذكري. وكان الحسن اللؤلؤي يحضر مجلس المأمون ويجاريه الفقه «3» فنعس المأمون، فقال اللؤلؤي أنعست يا أمير المؤمنين؟ فقال المأمون: سوقي والله يا غلام خذ بيده فجاء الغلام فاقامه، فبلغ ذلك الرشيد فقال متمثلا:
وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه «4»
وقال الأصمعي للرشيد في شيء سأله عن الخبير سقطت فقال: أسقطك الله على رأسك.
النهي عن التفوّه بما يظنّ فيه تعريض
دعا المنصور جماعة من القراء فقال لأحدهم: اقرأ، فقرأ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ
«5» فغضب وقال لآخر: اقرأ فقرأ:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
«6» فغضب وأخرجه ثم قال لآخر: اقرأ فقرأ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
«7» فأمر له بصلة، وقال المأمون لقارىء عنده: اقرأ فقرأ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ
«8» فأمر أن يجرّ برجله.
دخل أبو النجم على هشام فأنشده:
الحمد لله الوهوب المجزل «9»(1/236)
فلما انتهى إلى قوله:
وصارت الشمس كعين الأحول
قال هشام: أبي تعرّض يا ابن اللخناء «1» ، اخرجوه بعينيك وطرده. وأنشد البحتري محمد بن يوسف: لك الويل من ليل تطاول آخره، فقال: بل الويل والحرب لك.
واستنشد أبو دلف راشدا الكاتب بعض ما يرثي به أيره فأنشده:
ألا ذهب الأير الذي كنت تعرفه
فقال: بل أمك التي كانت تعرفه.
النهي عن الوقيعة في السلطان
سمع أعرابي إنسانا يقع في السلطان فقال: يا فلان إنك غفل وكأني بالضاحك لك باك عليك. ودخل خالد بن صفوان على بلال بن أبي بردة حين ولي البصرة فلمّا ولي قال: سحابة صيف عن قليل تقشع «2» ، فقال بلال: أما أنها لا تنقشع حتى يصيبك منها شؤبوب «3» بر، ولما عزل أحمد بن عثمان عن أصفهان قال له رجل في وقت خروجه: الحمد لله الذي اراحنا من بغضك، فأمر بحبسه وقال لشهود كانوا معه: اشهدوا أن هذا في حبسي بحقّ، فكان كلما ورد قاض وفتش عن أمر المحبسين لم يعرف ذلك الحقّ الذي حبس به فبقي على ذلك زمانا حتى توصل إلى تنجيز «4» كتاب كتب منه بعد حين فأطلق، وقيل: ثلاثة ليس من حقها أن يحتملها السلطان: الطعن في الملك وإفشاء السر والخيانة في الحرم.
الإرجاف «5» بالسلطان
كان بعض الناس أرجف بعزل سلطان فأخذه وضربه فلما خلّى عنه عاد إلى أصحابه وقال: أما عرفتم تحقيق قولي لولا ذلك لما نكاه الخبر به فخلّاه، وقال: لو ترك الأرجاف في موضع لتركه هنا، وخرج جماعة إلى السلطان يطلبون شغلا فلم يجدوا فقال: بعضهم تقوتوا الأرجاف وانتظروا الدول وقيل: الأراجيف تلقيح الفتن. قال شاعر:
أراجيف الأنام مخبرات ... بأمر كائن لا شك فيه «6»
التحذير من مقاربة السلطان
قيل للعتابي «7» : لم لا تقصد السلطان فتخدمه؟ فقال: لأنى أراه يعطي واحدا لغير(1/237)
حسنة ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب. ولست أدري أيّ الرجلين أنا ولست أرجو منه مقدار ما أخاطر به وهو الذي قال لامرأته:
أسرّك أنّي نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد
قالت: بلى. فقال:
وإن أمير المؤمنين أغصّني ... مغصّهما بالمرهفات البوارد «1»
قالت: لا. فقال:
ذريني تجئني منيتي مطمئنة ... ولم أتجشّم حول تلك الموارد
فإن جسيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
قال أبو القاسم الدمشقي:
إن الملوك بلاء حيثما حلّوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظلّ «2»
إن جئت تنصحهم ظنّوك تخدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكلّ
فاستغن بالله عن أبوابهم أبدا ... إن الوقوف على أبوابهم ذلّ
وقيل: احذر السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد، وقيل: إياكم والسلطان فإنه فم الأسد وحمة «3» الأسود. واتصل رجل بالمنذر بن ماء السماء «4» ونادمه فنهاه صديق له عن ذلك وخوّفه منه فلم يلتفت إلى قوله ولم يسمع قوله فغضب المنذر عليه يوما فقلته. فقال فيه ذلك الصديق:
إنّي نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشّعر
إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بثوبك نيران من الشّرر
التحذير من الدخول في أمر السلطان
قيل: العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان فإنه أن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة العامة. إن قال محمد بن السماك لصديق استشاره وقد دعي إلى الدخول في عمل السلطان: يا أخي إن استطعت أن لا تكون لغير الله عبدا ما وجدت من العبودية بدا فافعل. وقال عيسى بن موسى لعبد الرحمن بن زياد: ما يمنعك من زيارتي؟ قال: إن أتيتك فأكرمتني فتنتني وإن جفوتني حزنتني، وليس عندك ما أرجوه ولا عندي ما أخافك عليه. وقيل: إذا لم تكن من قربى الأمير فكن من أعدائه.(1/238)
حمد الانقباض «1» عن السلطان
قال الأحنف: لا تنقبضوا عن السلطان ولا تتهالكوا عليه فإن من أشرف له أذراه ومن تضرع له تخطاه. وقيل: انقبض عن السلطان ما أمكنك فالسلطان ذو عذاب وبدوات، وهو في قلة وفائه لاصحابه وسخاء نفسه عمن فقد منهم مثل البغي والمكتب، كلما ذهب واحد جاء آخر. كان النعمان دعا بحلّة «2» وعنده وفود العرب وقال: احضر وفي غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم فحضر القوم إلا أوسا فقيل له: لم تأخرت؟ فقال: إن كنت المراد فإني أدعي وإن كان المراد غيري فأجمل الأشياء أن لا أكون أنا حاضرا فلما جلس النعمان ولم ير أوسا بعث إليه فقال: احضر وأنت آمن فأحضره وألبسه الحل.
النهي عن الإدلال «3» على السلطان
قيل: الدالة تفسد الحرمة وتهدم المنزلة، وقال هشام: إنّ فلانا أدل فأمل وأوجف «4» فأعجف «5» ولم يدع ليرجع إليه مرجعا وقد مضى في الأخوانيات مثل ذلك.
مخالطة السلطان
قيل: جاور ملكا أو بحرا. وقيل: لم يعر من النوك من لم يخدم الملوك، وقيل: من كان وضيع الهمة لم يصبر لدى الملوك على الخدمة. وقال عبد الله: من نزع عنا «6» لم ينتفع بنا، وقيل لبعضهم: لا تصحب السلطان، فمثل السلطان مثل القدر من مسه سوّده. فقال:
لئن كان خارج القدر أسود فداخلها لحم كثير وطعام لذيذ.
المتبجّح بمعاضدة «7» السّلطان
قال الرشيد ليزيد بن مزيد: في لعب الصوالج: كن مع عيسى بن جعفر، فأبى، فغضب الرشيد وقال: أتأنف أن تكون معه؟ فقال: حلفت على أن لا أكون على أمير المؤمنين في جد ولا هزل، فسكن.
قال بعض الخلفاء لجرير: أني أعددتك لأمر، فقال: إن الله تعالى قد أعدّ لك مني قلبا معقودا بنصيحتك، ويدا مبسوطة بطاعتك، وسيفا مشحوذا على عدوّك.(1/239)
وقال بعضهم: أنا أطوع لك من الردي وأذلّ لك من الحداء.
خطب عبد الملك يوما وحث الناس على قتال ابن الزبير، فقام عدي بن أرطاة فقال: إنّا لا نقول ما قال قوم موسى لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون.
التمدّح بمتابعة السلطان
أنشد سلم بن قتيبة قول حطابط:
أسود فأكفى أو أطيع المسوّدا
فقال: ما أدري أي هذين أشرف؟ فقال بعض أهل المجلس: هذا فإنه إذا مات السيد يكون مكانه ولو هارّه «1» وشارّه «2» ما كان ليجعل مكانه. فقال: صدقت. قال حاتم:
أسود ذا الفعال ولا أبالي ... على أن لا أسود إذا كفيت
وقال آخر:
لعمرك ما إن أبو مالك ... بواه ولا بضعيف قواه
إذا سسته سست مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه
الانخراط في سلك السلطان في جدّه وهزله
دخل الشعبي «3» على بشر بن مروان «4» وفي حجره عود فقال الشعبي: أصلح المثنى قال بشر: أتعرف؟ قال: نعم ولك عندي ثلاث الستر لما أرى والشكر لما يكون منك والدخول في ما لم يجمع على تحريمه. ودخل شاب من بني هاشم على المنصور فأجلسه ودعا بغدائه وقال للفتى: ادن، فقال: تغدّيت فلما قام دفع الربيع في قفاه وأخرجه، فجاء عمومته يشكون من الربيع إلى المنصور، فقال: إنّ الربيع لا يقدم على مثل ذلك إلا وفي يده حجة فليدع وليسأل فسئل، فقال دعاه أمير المؤمنين إلى طعامه، فقال: قد تغديت فإذا ليس عنده أن التغدي مع أمير المؤمنين أيسر ما فيه سد الجوعة، ومثله لا يقومه المقال دون الفعال. وقيل: السلطان سوق والناس يجلبون إليها ما ينفق فيها.
الممتنع من أداء المال إلى السلطان
ولي بعض العمال كورة «5» فاحضر رجلا كان معروفا بكسر الخراج فقدم إلى عونين «6»(1/240)
ينتفان سباله إلى أن يؤدي الخراج فقال الرجل: أؤديه اليوم، قال: وخراج أهل بيتك قال: افعل قال: وخراج شركائك، فنظر إلى العونين وقال: انتفا على بركة الله فإنّ الرجل أحمق، ولما طلب يوسف بن عمر خالدا القسري قال قد علمت أن الذي تطلبه ليس بحاضر وإنه لمتبدد عند الناس، فاجمع الناس لي وائذن لي في الخروج إليهم لا كلّمهم واسأل من عنده شيء ليرده.
فأمر بأن يخرج إلى الناس فخطب خطبة وقال: أيها الناس قد علمتم ولايتي وسيرتي وإنما كنت عاملا لهشام وماله عندي تبعة وها هو قد سلط على يوسف بن عمر وطالبني بمال فليبلغ الشاهد منكم الغائب أن من عنده وديعة فهو منها في حل، وكل مملوك لي فهو حر ومن أسديت إليه صنيعا فأنا نادم على تقصيري حيث لم أضعه له وقال شاعر:
وقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا ... هلمّ فإن المشرفيّ لقاضب «1»
المتغيّر على السّلطان لفظا
بعث يزيد عبد الله الأشعري إلى ابن الزبير «2» فقال له: إن أول أمرك كان حسنا فلا تفسده بآخره. فقال عبد الله رضي الله عنه ليس ليزيد في عنقي بيعة فقال: ولو كان له في عنقك بيعة كنت تفي بها. قال: أي والله فالتفت إلى الناس فقال: معشر الناس قد بايعتم ليزيد وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته، وهو لا يرتضي الرجوع عنها. فقالوا لابن الزبير:
كيف رأيت هذا الخلع الخفي. وقال معاوية لامرأة من الخوارج: أخرجي المال من تحت استك «3» فقالت لمن حضر: أسألكم بالله أهذا من كلام الخلفاء.
المتهّدد بالخروج عن الطاعة والمتبجّح بذلك
قال عبد الملك: عجبا لخالد بن عبد الله وليته البصرة وأمرته أن يجرد السيف ويمنع المال فبذل المال وأغمد السيف. فقال عبد الرحمن بن حسان: لو جرّد السيف لوجد سيوفا مجردة ولو منع المال لوجد أيديا منازعة. قال الفرزدق:
ولا نلين لسلطان يكايدنا ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر «4»
قال الأوسي:
وما زلنا حجا حجة ملوكا ... تدين لنا الملوك ولا ندين
قال المتنبي:
تعزّز لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلا إلا لخالقه حكما(1/241)
الحثّ «1» على مصابرة السلطان
قيل: من لزم باب السلطان بصبر جميل، وكظم «2» الغيظ، واطرح الأنفة وصل إلى حاجته، حكي أنه وجد مكتوب على باب هراة بدر پادشاه كاربرآيد آخر الأمر دادن نك زدايد أي إنما يرتفع الأمر على باب الملوك بالبذل والعقل والتثبت. فكتب بعضهم تحته من كان معه هذه الثلاثة فهو مستغن عن السلطان ونحو ذلك ما روي أن أبا العيناء عتب على بغا فتقضاه فقال بغا: أما علمت أنّ من طالب السلطان احتاج إلى عقل وصبر ومال، فقال: لو كان لي عقل عقلت عن الله أمره ونهيه، أو صبر صبرت عن السلطان حتى يأتيني رزقي، أو مال لاستغنيت به عن بابك والوقوف بجنابك. وقيل: من صحب السلطان احتاج إلى الصبر على قسوته صبر الغواص على ملوحة ماء بحره.
أمارات السلاطين لندمائهم إذا أرادوا نهوضهم
كان لكلّ ملك أمارة يستدلّ بها أصحابه إذا أراد أن يقوموا عنه فكان أردشير إذا تمطى قام سمارة وكان كيشاسف يدلك عينيه ويزدجرد يقول شب بشدو بهرام يقول خرج خسفاذ وسابور يقول حسبك يا إنسان وابرويز يمد رجليه وقباذ يرفع رأسه إلى السماء وأنوشروان «3» يقول قرّت أعينكم. وكان عمر يقول: قامت الصلاة وعثمان يقول العزة لله، ومعاوية يقول: ذهب الليل، وعبد الملك. يقول: إذا شئتم والوليد يقلي المخصرة «4» والرشيد يقول سبحان الله والواثق يمسّ عارضيه، وحكي عن بعض البخلاء أنه سئل ما أمارتك لقيامنا قال: قولي يا غلام هات الطعام.
شب بشد معناه الليل حرّم وزان سكر معناه المسرور وطيب الوقت ومستريح الحال وخسفاد معرب خوش باد سابور معرب شاهبور وكيشاسف معرب كشتاسب بضم الكاف الفارسية وهو من الكيانية كما في ص 34 من أول تتمة المختصر ابرويز معرب برريز يزدجر معرب يزدكر دكان ظالما فلذا تقول له الفرس بزه كار والعرب تقول له يزدجرد الأثيم قباذ معرب قباد قاله محمد عارف وكيل جميعة المعارف.
(3) ومما جاء في القضاء والشهادة
مدح القضاء وذمّه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة فاللذان في النار أحدهما من(1/242)
يقضي ولم يعلم والآخر من يعلم فيقضي بغير الحق وأما الذي في الجنة فهو الذي يعلم ويقضي بالحق، وقال صلى الله عليه وسلم: إن مع القاضي ملكين يسددانه ويوفقانه فإن عدل أرشداه وأعاناه وإن جار قذفاه في النار. وقيل: المذموم من القضاة من سعى في طلبه، وقال صلى الله عليه وسلم: لعبد الرحمن ابن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فانك إن سألتها وكلت إليها وإن سئلتها أعنت عليها، وقال صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: شكت بقعة من الأرض إلى ربها أنها جعلت حشا فأوحى الله إليها أما ترضين أني لم أجعلك بقعة قاض. وكان ابن شبرمة يقول: يا جارية هاتي غذائي لأخرج إلى بلائي.
الممتنع من تولّي القضاء
أمر المنصور أبا حنيفة «1» رحمه الله أن يتولى القضاء فقال: لا أصلح لذلك فقال:
إنك تصلح، فقال: إن كنت صادقا فلا يجوز لك أن توليني وإن كنت كاذبا فقد فسقت فقال: والله لتلين. فقال: والله لا وليت فقال حاجبه: أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف فقال: أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني. قيل لما مات عبد الرحمن بن أذينة ذكر أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى الشأم فوافق ذلك عزل قاضيها فهرب حتى أتى اليمامة فقيل له في ذلك فقال: ما وجدت مثلا للقاضي العالم إلا مثل رجل سابح وقع في بحر، فكم عسى يسبح حتى يغرق.
الممدوح بترك الميل والعفّة والحلم
اختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: إن هذا يدل بحرمة له عندك، فقال: صدق وسأجزيه بما ينفعه من ذلك، إن كان الحقّ له عليك آخذك به وإن كان الحقّ لك عليه أقضى عليه، ثم أقضى عنه من مالي، وولّى إسماعيل بن أحمد قاضيا عفيفا فكلفه يوما أن يقبل رجلا لم يكن عنده عدلا فامتنع عليه فقال له: ما أثقلك من بين القضاة! فقال: اعزلني إن كنت ثقيلا، فقال: قد عزلتك، فتناول القاضي قلنسوته من على رأسه فجعلها في كمّه وخرج، فندم إسماعيل على ذلك فرده وسأله أن يتولى فأبى عليه ولما استعفى شريح الحجاج من قضاء العراق قال: والله لا أعفيتك أو تدلّني على من إذا غضب على الخصوم رجح به حلمه عن الهجوم، ومن إذا دعاه كثرة المال لم ينهضه إليه سوء الحال فقال: أدلّك على شريف عفيف يمنعه شرفه من التسلّط عليه وتحجبه عفته عن التملّق «2» قال: من هو؟ قال:
ابن أبي موسى الأشعري فاحضره وولاه، قال الزهري: ثلاث إذا كن في القاضي فليس(1/243)
بقاض: إذا كره اللوائم وأحب المحامد وخاف العزل، وبه ألمّ الشاعر في قوله:
سيان في الحكم شاكيه وشاكره ... من الأنام وهاجيه ومطريه
كون الحاكم مرضيا ومسخوطا
قيل لشريح رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف النّاس عليّ غضبان، وقال رجل لشريح: قضيت عليّ بالجور «1» وليد خلنّك الله النار قال: إذا يدخلها سبعة قبلي من ولّاني ومن علّمني هذا الحكم ومن جاء بك مدعيا والشاهدان والمزكيان.
حثّ الحاكم على التسوية بين الناس
قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«2» وقال أيضا:
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«3» وقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ
«4» وقال أبو وائل:
سمعت عمارا يقول في بعض القضاة: كان كافرا، فقلت: ما تقول؟ فقال: إن الله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
«5» وقال بعضهم: رضى الناس غاية لا تدرك فتحرّ الخير بحمدك، ولا تكره سخط من يرضيه الباطل. وكان زيد بن ثابت يقضي لعمر رضي الله عنه بالمدينة فتقدم إليه عمر مع أبي في حدّ تنازعاه فخرج إليهما، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ههنا ههنا ثم توجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي، أعف أمير المؤمنين من اليمين، فقال له عمر ما زلت جائرا منذ اليوم السلام عليك يا أمير المؤمنين وههنا ههنا واعف أمير المؤمنين. وكتب عمر رضي الله عنه إلى قاض: احكم بين أهل الحق بالحق ينفعك يوم الحق. وقيل: لا ينبغي للحاكم أن يسمع شكية أحد الخصمين دون الآخر وفي المثل: من يأت الحكم وحده يفلح. وقال سلمة بن حوشب:
نبّئت أن حكّموك بينهم ... فلا يقولنّ بئسما حكما
إن كنت ذا عرفة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما «6»
ولا تبال من المحقّ من المبطل ... لا إلة ولا ذمما «7»
فاحكم فأنت الحكيم بينهم ... إن يعدّدوا الحقّ يابسا صنما «8»
واصدع أديم السواد بينهم ... على رضا من رضي ومن رغما
حثّ الحاكم على تقليل الكلام
عزل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاضيا وقال: بلغني أن كلامك أكثر من كلام(1/244)
الخصمين وكان أبان يقلّل من الكلام فقيل له في ذلك: فقال: إنّ من كان كلامه حكما فحق عليه أن يتبلم «1» ولا يتكلّم إلا فيما يعنيه.
من استعمل دهاء في أمر
أودع رجل آخر مالا وحج، فلما رجع طلبه منه فجحده، فأتى إياسا «2» فأخبره فقال له إياس: هل علم أنك أتيتني؟ قال: لا قال: فانصرف واكتم أمرك وعد إليّ بعد يومين. فدعا أياس المودع وقال له: قد حضر مال وأريد أن أدفعه إليك فحصّن منزلك وأحضر قوما ثقات يحملونه. ودعا أياس صاحب المال فقال له: امض إلى صاحبك واطلب منه المال وقل له: إن لم تردّه شكوتك إلى القاضي. فذهب الرجل وطلب ماله فرده عليه فأخبر إياسا بذلك فضحك، واختصم رجلان إلى القاضي شريح في ولد هرة فقال أحدهما: هي ابنة هرتي، وقال الآخر:
كذلك، فقال شريح: ضعوها قدامها فأيهما هرت وأزبأرّت «3» وفرّت فليست لها وأيهما قرّت واسبطرّت «4» فهي لها فقرت إحداهما فدفعها إليه.
من لا يغضي «5» في الحكم على حقّ
أتى المأمون برجل وجب عليه حدّ، فأمر بضربه فقال: قتلت. قال: الحق قتلك.
قال: ارحمني، قال: لست بأرحم ممّن أوجب الحدّ عليك.
وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: جزاك الله خيرا فقد سوّيت بين الناس حتى كأنّك من كل أحد وكأنك لست من أحد. وقال بعضهم: غصبني بعض قواد الأتراك ضيعة أيام المعتز «6» فتظلمّت فلم ينصفني فلمّا ولي المهتدي جلس يوما للمظالم فتظلمت إليه فأحضر خصمي فقضى لي عليه، فقلت: جزاك الله خيرا فأنت كما قال الأعشى:
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر «7»
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال: أمّا شعر الأعشى فلا أدري ولكني قرأت قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ
«8» فبكى أهل المجلس كلّهم.(1/245)
حثّ الحاكم على الاجتهاد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال:
فإن لم تجد فيه، قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد فيها. قال: أجتهد برأيي. وأراد معاوية رضي الله عنه أن يستعمل عبد الرحمن بن خالد فقال: كيف تعمل؟ قال: اعمل برأيك ما لم يجاوز الحزم فإن جاوزه عملت برأيي، فولّاه.
حثّ الحاكم على الصّلح فيما يشتبه
كتب عمر رضي الله عنه، إلى معاوية: عليك بالصلح ما لم يبن فيه فصل القضاء، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: الصلحجائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. وصالح ابن الزيات عاملا على مال فطالبه به فقال: أظلم وتعجيل؟ فقال ابن الزيات: أصلح وتأجيل؟
من قطع الحكومة بالتهوّر
ولي أعرابيّ ناحية فخطب: ألا أني لا أوتي بظالم ولا مظلوم إلا أوجعتهما عقوبة، فتعاطى رعيته بينهم الأنصاف ولم يترافعوا إليه في حق ولا باطل حذرا من عقوبته، وكان بعض الولاة إذا اشتبه عليه حكم، حبس الخصمين حتى يصطلحا. ويقول: دواء اللبس «1» الحبس.
من عارض الحاكم في حقّ إدعاه عليه حتى أدركه منه
قال ابن الزيات «2» لرجل ادعى عليه في مجلس الحكم وقال: غصبني وكيلك ضيعة لي وحازها إلى أرضك. فقال ابن الزيات: تحتاج فيما تقوله إلى شهود وبينة وأشياء كثيرة.
فقال الرجل: الشهود هي البينة وأشياء كثيرة هي منك فأمر برد ضيعته، وناظره رجل في شيء فقال له: أخرج من داري. فقال: ما هي بدارك إنما هي دار أمير المؤمنين وأنت عبده فقال: نعم هي لأمير المؤمنين فأخرج منها صاغرا «3» ، فقال الرجل: قد بذلها أمير المؤمنين للعامة وجعلها مجمع الخصوم ومنصف المظلوم فلا أبرح إلا بنصفة، فقال:
صدقت وأنصفه.
وتظلّم رجل من وكيل كسرى بأنه أخذ ضيعة له فقال له كسرى: قد أكلت ارتفاعها أربعين سنة فدعه يأكله سنتين، فقال الرجل: فسلم ملكك إلى بهرام «4» جور يأكله سنة فقد أكلته سنين كثيرة، فأمر بضرب رقبته فقال: أيها الملك دخلت بمظلمة وأخرج بمظلمتين فأمر برد ضيعته وأرضاه، وادعى رجل على آخر بحضرة قاض فطالبه بالشاهدين وقال:(1/246)
مالك سبيل إلى ما تدعيه إلا بشاهدين، فقال الرجل: متمثلا بهذا البيت:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهودي على ليلى عدول مقانع
فتلطف القاضي في أخذ إقرار المدعي عليه وألزمه الحقّ.
من انقاد للحكم من السّلاطين
قد تقدم خبر عمر مع أبيّ ابن كعب رضي الله عنهما وكان عليّ رضي الله عنه تحاكم مع رجل، فشهد له قنبر، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خادمك وفي عداد عيالك لا شهادة له، فقال علي وما أنت وهذا، اعتزل عملنا، فعزله، ثم رأى أنه أصاب، فردّه من الغد.
وجلس المأمون يوما للمظالم فدفع إليه رقعة فيها مظلمة من أمير المؤمنين فقال لصاحبها: ما ظلامتك؟ قال: ثلاثون ألف دينار. إشترى سعيد وكيلك مني جواهر بها ولم يوف ثمنها لي. فقال: كلامك هذا محتمل يجوز أن يكون وفره ويجوز أن يكون اشتراه لنفسه ويجوز أن يكون أخذ مني الثمن ولم يدفعه إليك، فقال الرجل: أنت أولى «1» الناس بالإنصاف، إحملني على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وقد عدمت البيّنة «2» ، فقال: نعم، ودعا بيحيى قاضيه فلما دخل قال له: اقض بيننا فقال: لا أفعل. إنك لم تجعل دارك مجلس قضائي فقال: قد جعلت، فأذن للعامة فخرج المأمون ومعه غلام يحمل مصلّى فطرحه له فقال يحيى: لا تأخذ على خصمك شرف المجلس فدعا له بمثله فادعى الخصم، فقال يحيى: ألك بيّنة؟ قال: لا فابعد البيّنة. قال يمينه فقال للمأمون: أتحلف؟ قال: نعم فاستحلفه فحلف ثم قال المأمون: أدفع إليه ما ادعاه والله ما حلفت فجرة ولكن خوفا من الرعية لئلا يقدروا أني منعته بالاستطالة.
نهي الحاكم عن قبول الهدية
قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ
«3» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله الراشي والمرتشي. وتخاصمت امرأة من قريش ورجل إلى عمر وكانت المرأة اهدت إلى عمر فخذ جزور «4» وقالت أفصل القضاء بيننا كما يفصل الجزور، فقضى عمر عليها وقال: إياكم والهدية.
وقال بعضهم كنت في طريق مكة فإذا أعرابي يختصم إليه الناس فيقضي بينهم بالحق فلما تفرقوا قلت: هل أخذت العلم عن أحد؟ قال: لا. قلت: فما هذا الفهم؟ قال بوفق الله. قلت: أرأيت لو تحاكم إليك اثنان فأهدى إليك أحدهما أكنت تقضي له فقال: إذا لا ينزل التوفيق وقد تقدم من ذلك أخبار في باب الولايات.(1/247)
من مال إلى أحد الخصمين لأجل هدية
اختصم رجلان إلى حاكم فدنا منه أحدهما وقال: قد وجهت إلى دار القاضي فراريج كسكرية وحنطة بلدية وشهدة رومية فقال القاضي بصوت رفيع: قم يا بارد إذا كانت لك بينة غائبة فانتظرها ليس هذا مما يسار فيه، وقيل: الحاكم شيطان ونعم الرقى الرشا.
وتحاكم رجلان إلى المغيرة الثقفي قاضي الحجاج فاهدى أحدهما منارة والآخر بغلة فرأى صاحب المنارة ظلع «1» القاضي مع صاحبه فأراد أن يذكر القاضي فقال: أمري أضوأ عند القاضي من سراج على منارة عظيمة ففطن القاضي لقوله فقال: اسكت فإن البغلة رمحت المنارة فأطفأت نورها. وقال قاض:
إذا ما صبّ في القنديل زيت ... تحوّلت القضية للمقندل
حثّ متحكّم على اعطاء الرشوة
قال ابن طباطبا:
يا خليلي يا أبا الغيث درّك ... نصب القاضي لك اليوم شرك
طلب البرطيل فابذله له ... يسكت القاضي وإلّا ذكرك
لا يهولنّك دنيّته ... أعطه من رشوة ما حضرك «2»
المهجوّ بأخذ الرشوة
ذكر أعرابيّ حاكما فقال: يقضي بالعشوة «3» ويطيل النشوة ويقبل الرشوة. قال ابن طباطبا في أحمد بن عثمان البري:
وفينا عاملا عدل وجور ... هما حلفا انبساط وانقباض
فوالى حربنا في وصف قاض ... وقاضينا عقاب ذو انقضاض
واتفق أن وافى أصبهان عليلا، فاحتجب أياما وحضر فيل فكثرت النظارة عليه فمنع عنه الناس إلا ببذل. فقال ابن طباطبا:
شيئان قد حار الورى فيهما ... بأصبهان الفيل والقاضي «4»
ليس يرى هذا ولا ذا فكم ... من ساخط منّا ومن راض
الفيل يرشى عند سنديه ... فأين سنديك يا قاضي(1/248)
قال البسامي:
إذا أهل الرشا صاروا إليه ... فأحظى القوم أوفرهم بضاعه «1»
فلا رحم يقرّبهم إليه ... سوى الورق الصحبح ولا شفاعه
وليس بمنكر هذا لديه ... لأنّ الشيخ أفلت من مجاعه
قاض مستول على المواريث
جاءت امرأة إلى قاض فقالت: مات زوجي وترك أبويه وولدا وامرأة وأهلا وله مال فقال: لأبويه الثكل، ولولديه اليتم، ولامرأته الخلف، ولأهله القلة، والذلة والمال يحمل إلينا حتى لا تقع بينكم الخصومة.
المهجوّ من القضاة باللواطة «2»
قال المأمون ليحيى بن أكثم يعرّض «3» به: من الذي يقول؟
قاض يرى الحدّ في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس «4»
فقال: يا أمير المؤمنين هو الماجن أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شرّ ما راس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمة وال من آل عبّاس
فقال: هذا ينبغي أن ينفى إلى السند، وقال آخر:
ألا لله درّك أيّ قاض ... سبته المرد بالحدق المراض
وقال عبدان:
لنا قاض له وجه ... على أخذ الرشا عابس
ولكن أيره أير ... يدقّ الرطب واليابس
المهجوّ متهم بالابنة «5» أو الكشح «6»
لما استولى الناصر على طبرستان، فوض إلى عبد الله بن المبارك القضاء وكان يرمى بالابنة فقال: يا أمير المؤمنين أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني. فقال: قد بلغني ذلك وقال بعضهم:
أنا أعرف للقاضي ... الذي يقضي بسامرّا
غلاما أشقر اللون ... يجرر رمحه جرّا(1/249)
يشدّ البغل في الخان ... ويلقى خرجه برّا
وقالت امرأة لزوجها: لأشكّونك إلى القاضي. فقال الرجل: الحل على حرام ثلاثا إن لم أكن نكت القاضي. فولولت المرأة وذهبت إلى القاضي وقصّت عليه القصة. فقال:
ارجعي إلى داره فقد كان عارما «1» في صغره فقالت: ناكك وربّ الكعبة. قال ابن عروس:
وخبرت أنّك قاضي البلاد ... فسبحان من حكمه يعدل
وكيف يدير أمر البلاد ... فتى أمر منزله مهمل
كفى من تواضعه أنّه ... لسائسه أبدا أسفل
المهجوّ متّهم بالجهل
قال الصاحب في قاض: يخبط العشواء ويحكم حكم الورهاء «2» ويناسب أخلاق النساء. ورفع إلى المأمون في قاض أنّ فلانا يعضّ الخصوم، فوقّع ليشنق، ونحوه كان أحمد بن الخصيب إذا ضجر ممن يناظره رفسه فقال فيه شاعر يخاطب المتنصر:
قل للخليفة يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك أنّه ركّال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصدور مجال
قال المصيصي:
أفّ لقاض لنا وقاح ... أضحى بريئا من الصّلاح
وليس في الرأس منه شيء ... يدور إلا أبو رياح
من يحكم وهو الظالم
قال شاعر:
والخصم لا يرتجى النجاح له ... يوما إذا كان خصمه القاضي «3»
وقال آخر:
ومن المظالم أن ولّي ... ت على المظالم يا فزاره «4»
وحكي أن ملكا خرج له خرّاج عجز الأطباء عن معالجته، فقال يوما: إنكم تغشونني، فإن داويتموني وإلا قتلتكم، فأجمعوا على أن يقولوا: إنّ دواءك أن تأخذ صبيا(1/250)
من أبناء العشر، فيأخذ أحد أبويه رأسه والآخر رجليه وتذبحه على جرحك فتشرب دمه بطيب نفس منهما.
وقالوا: قد تحققنا أنه لا يوجد.
فقال: اطلبوا من يأتيني بابن هكذا فأمر فنادوا في البلدان.
فاتفق أنّ رجلا كان إذا ولد له ولد وبلغ عشر سنين يموت لا محالة وكان فقيرا وكان له ابن شارف العشر. فقال لامرأته: تعالي نحمل هذا الابن إلى الملك ونأخذ المال، فإنّ هذا يموت لا محالة. فرضيا بذلك وحملاه إليه وأخذ أحدهما برأسه والآخر برجليه وأخذ الملك السكين فلما همّ بذبحه ضحك الصبي، فقال الملك: ممّ تضحك وأنت مقتول فقال: رأيت الصبي أجنى الخلق عليه، أمه ترضعه وتقيه بنفسها ثم أبوه يحميه وإذا كبر فالملك يتولى أمره وقد رأيتكم ثلاثتكم اجتمعتم على قتلي، فإلى من المشتكى؟ فتوجع الملك لقوله ورمى بالسكين فانفجر جرحه لما دهمه وبرأ، فخلى سبيل الصبي وتبّناه، وقال رجل لقاض لئن هملجت «1» إلى الباطل إنك عن الحق لقطوف.
النّهي عن التعرّض للقضاة
قيل: لا تعادوا القضاة فيختاروا عليكم الأقاويل ولا العلماء فتضع عليكم المثال.
المفتتن منهم بامرأة تحاكمت إليه
خاصمت امرأة صبيحة زوجها إلى الشعبيّ «2» ، فمرت بالمتوكل الليثيّ في منصرفها وقد قضى لها على زوجها، فقال:
فتن الشعبيّ لمّا ... رفع الطرف إليها
فتنته ببنان ... وبخطّي حاجبيها
فقضى جورا على الخصم ... ولم يقض عليها
كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها «3»
لصبا حتى تراه ... ساجدا بين يديها «4»
فولع الناس بهذه الأبيات وتناشدوها، حتى اضطر الشعبيّ إلى الاستعفاء من القضاء.
وقدّم رجل امرأة حسنة النقيبة «5» إلى القاضي فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة(1/251)
فيتزوجها ثم يسيء إليها. ففطن الرجل بحال القاضي فعمد إلى نقابها فاسفره فرأى القاضي وجها وخشا «1» فحكم عليها. وقال: قومي لعنك الله كلام مظلوم ووجه ظالم، فقال زوجها:
قومي إلى رحلك أم حاتم ... قد كدت تسبين فؤاد الحاكم
بنطق مظلوم ووجه ظالم
طرف من سخافة القضاة
اختصم رجلان إلى قاض، كلّ واحد منهما يقول: امرأتي أحسن فتقامرا وأحضرهما لديه. فقال القاضي لاحدهما: لأن أنيك امرأتك في استها أحبّ إليّ من أن أنيك امرأته في فرجها.
وتقدّم رجل مع خصمه إلى قاض، وقال: هذا جاء عام الأول فخرق ثيابي وضربني، وجاء العام وفعل ذلك أيضا. فقال القاضي: هذه سنّة قد جرت له كل سنة. وجاءت امرأة مع زوجها إلى قاض وقالت: أنه لا يضاجعني، فقال الرجل: أنا عنين، فقالت المرأة: إنّه يكذب، فقال القاضي أخرج أيرك لأمرسه فتناول القاضي غرموله وأخذ يمرسه ولا يتحرك وكان القاضي أعور دميما فقالت المرأة: أيها القاضي لو رأى ملك الموت وجهك لمات من قبحه، إدفعه إلى غلامك ليمرسه وكان غلامه صبيحا فقال القاضي: يا غلام تعال واغمز أيره، فجاء الغلام وأخذه فما طفق أن امتدّ واشتدّ، فقالت: أعط القوس باريها «2» ، فقال القاضي: يا كشحان دونك وامرأتك ولا تطمع في نيك غلمان القضاة.
وجاءت امرأة إلى قاض وقالت: إن زوجي إذا قدمت إليه المائدة قلب الخوان وأكل على ظهرها. فقال القاضي: دعيه يأكل كيفما أراد. فقالت: إنما عنيت أنه لا يأخذ في الطريق المستوي. فقال: دعيه يمشي كيف شاء، فالأرض كلها لله. فقالت: إنما عنيت أنه ينيكني في استي يا أحمق، فقال: طيب والله فقالت: قطع الله ظهرك من بين القضاة.
وكان بحمص قاض يحكم اليوم في شيء بحكم، وفي غد يحكم في مثله بخلافه، فقيل له في ذلك فقال: القضاء بخوت «3» وأرزاق، من رزق شيئا أخذه.
وأراد أعمى أن يتزوج بامرأة، فأحضرها مجلس القاضي فقال: كم مهرها؟ قال:
أربعمائة، فقال للمرأة: كشفي عن وجهك، فكشفت فقال إنها تساوي أكثر من ذلك، فإنها صبيحة، فقال الأعمى: إن كان للقاضي زيادة فبارك الله له فيها فإنه أولى بها، وجاءت امرأة القاضي مع زوجها تطلب نفقتها منه، فقال الزوج: أيها القاضي هذه مغنية ومتى كانت نيّاحة(1/252)
فنوّاحة، وليس لي كسب. فقال للمرأة: التزمي نفقته يا فاعلة. فقالت: وهل في الحكم هذا؟ قال: نعم لو كنت مكانه لنكتك وأخذت جذرك، فقال الرجل فديتك يا جوهر القضاة فافعل الساعة.
وكان بلال بن أبي بردة أول من جار في الحكم وكان يتقاضى إليه الرجلان فيقضي لأحدهما بلا بينة ويقول: وجدته أخفّ على قلبي من صاحبه.
من ردّ القاضي شهادته فعارضه بما عدل به
شهد معلم عند سوّار «1» فقال: لا أجيز شهادتك. قال: ولم؟ قال: لأنك تأخذ على كتاب الله تعالى الأجرة، فقال: وأنت تأخذها على القضاء، فقال: أنا أكرهت، فقال: هب أنك مكره على القضاء هل أكرهت على أخذ الأجرة، فأجاز شهادته. وشهد آخر عند سوار بسبة. فقال: من أين علمت؟ قال من حيث علمت أنك سوار بن عبد الله. وشهد قوم عند شبرمة بقراح فيه نخل فسألهم كم فيه من جذع؟ قالوا: لا ندري، فأراد أن يرد شهادتهم فقال أحدهم: أيها القاضي كم من أسطوانة في هذا المسجد؟ فقال: لا أدري. فقال: كيف وأنت تحكم فيه منذ كذا سنة، فاجاز شهادتهم.
من ردّ القاضي شهادته بلطف
قال المهدي لشريك وعنده عيسى بن موسى: إن شهد عندك هذا هل تقبل شهادته؟
وأراد أن يوقع بينهما. فقال شريك من شهد عندي سألت عنه فإن زكّي أجزت شهادته وعيسى لا أسأل عنه غير أمير المؤمنين فإن زكاه قبلته وهذا عكس على السائل.
كما حكى عن أبي حنيفة رحمه الله قال: كنا نأتي حمادا فلا ننصرف عنه إلا بفائدة.
فقال يوما: إذا وردت على أحدكم مسألة معضلة «2» فليجعل جوابها منها فما رأيت قوله شيئا. حتى دخلت يوما دار المنصور، فخرج الربيع وسألني ممتحنا أفتني في رجل أمرني أمير المؤمنين بقتله، أعليّ في طاعته حرج، فذكرت قول حماد فقلت: أليس يأمرك أمير المؤمنين بحق رآه قال: نعم. فقلت: افعل فكل حق يأمرك به لا حرج عليك فيه.
وشهد الفرزدق عند قاض فقال: قد أجزنا شهادة أبي فراس فزد في شهودك فلما انصرف الفرزدق قيل له: قد رد شهادتك فقال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصّنة «3» . وأتى وكيع أياس بن معاوية ليشهد عنده فقام إليه وقال: ما جاء بك يا أبا المطرف؟ قال: أقيم شهادة لجار لي فقال: حاشاك أن تشهد كما يشهد الموالي والتجار والسقاط. قال صدقت فانصرف عنه.(1/253)
من ردّت شهادته لبلهه «1»
قال سوار: لا أعلم أحدا أفضل من عطاء السلميّ ولو شهد عندي بفلس ما أجزت شهادته لأنه ليس بحازم. وقال كثير من الفقهاء: لا نقبل شهادة الوهم والأبله لا شهادة له.
من عارض من الخصوم الحاكم في الشاهد عليه فردّ شهادته
شهد رجل عن شريح فقال المشهود عليه: أتقبل شهادته وإن أحبّ الأشياء إليه الخبز واللحم، فتوقف في إمضاء شهادته. فقيل له: لم توقفت؟ فقال: أنه يعني أنه يشهد بأكلة. وشهد رجل عند سوّار بمال على آخر فقال: سوّار تارس أم رامح؟ فقال تارس، فقال ذاك شرّ له سأعيد المسألة عنه.
وإنما أراد أنه مأبون فتعجّب الحاضرون من حيلة الرجل وفطانة سوّار لمراده.
الممتنع من إقامة شهادة زور
استشهد محمد بن الفرات أيام وزارته علي ابن عيسى بغير حق، فلم يشهد له. فلما عاد إلى بيته كتب إليه: لا تلمني على نكوصي عن نصرتك بشهادة زور فإنه لا اتفاق على نفاق ولا وفاء لذي مين «2» واختلاف، وأحرى بمن تعدّى الحق في مسرتك إذا رضي أن يتعدى الباطل في مساءتك.
وكان المتنبّي أشار إلى هذا المعنى بقوله:
لقد أباحك غشا في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع
شهود زور
قال سهل بن دارم: كان بالبصرة شيوخ يشهدون بالزور وشرط بعضهم درهم وآخرون يشهدون وشرطهم أربعة. وآخرون شرطهم عشرون درهما. فسألت عن ذلك، فقال:
أصحاب الدرهم يشهدون ولا يحلفون، وأصحاب الأربعة يشهدون ويحلفون، وأما أصحاب العشرين فيشهدون ويحلفون ويبهتون.
وكان شيخ في المعدلين يشهد بطفيف «3» يهدى إليه فجاءه رجل بدرهمين وسأله شهادة فقال: ما ضربت المشط بأقل من خمسة ولكني أسامحك. قال الشاعر:
ما للعدول أراني الله جمعهم ... في مرجل مطبق في جوف تنّور
قوم إذا غضبوا كانت سيوفهم ... قطع الشهادة بين القوم بالزّور
قال عبد الصمد المعدل «4» :
وكيف تخشى شهادات يقوم بها ... ثلاثة شاهدا زور ومجنون «5»(1/254)
وقال بعضهم: الناس كلّهم عدول إلا العدول.
وصف قلانسهم
قال المصيصي:
كأنّ دنية عليها ... غراب نوح بلا جناح
وقال آخر:
ترى قلانسهم كالرمح طعنتها ... تخفى جراحتها في جنب مغرور
الشهادة على الزنا
حقّ الشهود على الزنا أن يكونوا أربعة ذكورا يصرّحون ولا يكنون لقوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً
«1» (الآية) ، وحضر أبو بكرة وزياد مع غيرهما فشهد ثلاثة على المغيرة بن شعبة «2» بالزنا عند عمر رضي الله عنه. فلمّا أقبل زياد قال عمر: إني أرى لك وجها وضيئا وأرجو أن لا يفضح الله بك رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت أفخاذا مجتمعة ونخيرا يعلو ويسطع ولا أعلم ما وراء ذلك فضرب عمر أبا بكرة وصاحبيه الحدّ.
التعريض بالشهادة بذلك
استشهدوا أعرابيا على رجل وامرأة فقال: رأيته قد تقممها «3» يحفزها بمؤخرها ويجذبها بمقدمها ويخفى على المسلك. وقال آخر: رأيته قد تبطنها ورأيت خلخالها سافلا وسمعت نفسا عاليا ولا علم لي بشيء بعد ذلك. وشهد رجل على آخر فقال الحاكم: إنّك قد رأيته وهو يدخل ويخرج فقال: لو كنت جلدة استها ما أمكنني أن أشهد به كذلك.
تثبّت الحاكم في الإقرار بما فيه حدّ
أتى ما عز بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني زنيت، فقال: لعلك مسست أو لمست أو غمزت، فقال: لا بل زنيت. فأعادها عليه ثلاث مرات فلما كان في الرابعة رجمه.
وأتى أبو الدرداء «4» رضي الله عنه بامرأة قد سرقت، فقال: أسرقت قولي: لا. وأتى زياد بلصّ وعنده الأحنف فانتهره فقالوا: صدق الأمير. فقال الأحنف: الصدق أحيانا معجزة. فقال زياد: جزاك الله خيرا.(1/255)
المقرّ عند الحاكم بجهله
قال محمد بن رباح القاضي: تقدم إليّ قثم مع ابن أخيه، فادعى عليه خمسة آلاف دينار. فقال قثم: نعم له علي ذلك لكن من أي طريق؟ فقلت: قد أقررت له بالمال فإن شاء فسّر الوجه، وإن شاء لم يفسر. فقال ابن أخيه: أشهد أنه بريء منها إن لم أثبتها فقلت: وأما أنت فقد أبرأته إن لم يثبت ذلك فما رأيت أضعف منهما في الحكم.
وجرى في كلام رجل عند حاكم ما فيه إقرار، فقضى عليه، فقال أتقضي عليّ بغير شاهد؟ فقال: قد شهد عليك من تقبل شهادته عليك، من أبوه أخو عمك.
وقدم رجل غريما له إلى قاض فقال: لي على هذا ألف درهم، فقال المدعي عليه:
صدق ولكن سله أن ينظرني أياما فلي عقار ومال غائب إلى أن أبيع العقار وأسترد المال الغائب فادفعه إليه، فقال المدّعي: كذب ماله قليل ولا كثير وإنما يريد أن ينفلت منّي. فقال الخصم: اشهد أيها القاضي قد أقرّ بعسرتي «1» فقال القاضي: صدقت وخلّى سبيله «2» .
ذمّ موالاة باب القضاة
قيل: إذا رأيت الرجل على باب القاضي من غير حاجة فاتهمه، وكتب بعضهم إلى عامل له: ابعث إليّ بمائة رجل كلهم يستحقون القتل لأجرب عليهم سيوفا ابتعتها فإن لم تجدهم في حبسك فتمّم من أصحاب القاضي فإنهم يستحقون القتل.
واستعان رجل بالمأمون أيام الرشيد في أن يقبل شهادته فوقّع في قصته من رام الشهادة بمعونة السلاطين فليقمها على قضاة الشياطين. وقال يحيى بن أكثم «3» للمأمون: يا أمير المؤمنين إن فلانا يلتمس أن أقبل شهادته، فقال: يا يحيى قد أسقط على لسانه عدالته.
(4) ومما جاء في الحجاب والحجّاب والغلمان
الحثّ على تسهيل الإذن
قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز فقال لآذنه: من بالباب؟ قال:
رجل أناخ الآن. زعم أنه ابن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، فلما دخل قال: حدّثني فقال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين ثم(1/256)
حجب عليه، حجب الله عنه يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه لحاجبه: الزم بيتك فما رئي بعدها على بابه حاجب.
وقال: لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدّة الحجّاب للوالي، ولا أهيب للرعية والعمال من سهولة الحجاب. لأن الرعية إذا وثقوا بسهولة الحجاب أحجموا عن الظلم، وإذا وثقوا بصعوبته هجموا على الظلم.
وقيل: يحجب الوالي لسوء فيه أو لبخل منه ثم أنشد:
والسّتر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر
وصايا الحجّاب
قال زياد لحاجبه: أني ولّيتك هذا الباب وعزلتك عن أربع، هذا المنادي إذا دعاني إلى الصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق ليل فسر ما جاء به ولو جاء بخير ما كنت من حاجته في ذلك الوقت، وعن هذا الطبّاخ إذا فرغ من طعامه فإن الطعام إذا أعيد عليه الطعام فسد، وعن رسول صاحب الثغر «1» فإنه إن أبطأ ساعة ربّما يفسد أمر سنة.
ولما استخلف المنصور ولي الخصيب على حجابته فقال له: إنك بولايتي عظيم القدر وبحجابتي عريض الجاه. فبقها على نفسك ابسط وجهك للمستأذنين وصن عرضك عن تناول المحجوبين فما شيء أوقع في قلوبهم من سهولة الحجاب والأذن وطلاقة الوجه.
وقال الرشيد لحاجبه: احجب عنّي من إذا قعد أطال وإذا سأل أحال ولا تستخفنّ بذي الحرمة وقدّم أبناء الدعوة.
الحثّ على تشديد الأذن
قال أزدشير لابنه: لا تمكن الناس من نفسك، فاجرأ الناس على السباع أكثرهم معاينة لها. وقيل: لا بد للسلطان من وزعة «2» ، وقيل لبعض السلاطين: لم لا تغلق الباب وتقعد عليه الحجاب فقال: إنما ينبغي أن أحفظ أنا رعيتي لا أن يحفظوني.
الحثّ على إصلاح الحاجب والبوّاب ووصف ما يجب أن يكونوا عليه من الأحوال
قال يزيد بن المهلب لابنه: استظرف الكاتب واستعقل الحاجب. وقال عبد الملك لأخيه: تفقد كاتبك وحاجبك وجليسك فالغائب يخبره عنك كاتبك والوافد عليك يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك.(1/257)
وقال يحيى بن المعلى:
كن على منهاج معرفة ... إن وجه المرء حاجبه «1»
فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه
وقال آخر:
ولبّ المرء يعرف بالغلام «2»
الممدوح بسهولة الحجاب
سهل الحجاب مؤدّب الخدّام، وقال آخر:
يلوذ به راج «3» وخاش «4» وكلّهم ... له مدخل سهل عليه ومخرج
وقال آخر:
فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره
وكلبك آنس للمعتفين ... من الأم بابنتها الزاهره «5»
من طلب تسهيل الأذن من الزوّار وعاتب
قدم أديب على أمير فكتب رقعة ودفعها إلى حاجبه ليوصلها، وفيها:
إذا شئت سلّمنا فكنّا كريشة ... متى تلقها الأرياح في الجوّ تذهب
فقال للحاجب: قل له قد خففت جدا فكتب أخرى وفيها:
وإن شئت سلّمنا وكنّا كصخرة ... متى تلقها في حومة الماء ترسب
فقال للحاجب: قل له قد ثقّلت جدا فكتب أخرى وفيها:
وإن شئت سلّمنا فكنّا كراكب ... متى يقض حقا من لقائك يذهب
قال: أما هذا فنعم وأذن له، قال أبو تمّام:
مالي أرى القبة الفيحاء مقفلة ... عنّي وقد طالما استفتحت مقفلها
كأنها جنّة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
قال جعفر المصري:
فتفضّل علي بالإذن إن جئت فإني ... مخفّف في اللقاء(1/258)
ليس لي حاجة سوى الحمد والشكر ... فدعني أقرئك حسن الثناء
من ترك الزيارة لصعوبة الحجاب
أتى أبو الدرداء «1» رضي الله عنه باب معاوية فاستأذن عليه فلم يؤذن له فقال: من يغش «2» سدة السلطان يقم ويقعد ومن وجد بابا غلقا وجد إلى أخيه بابا فتحا. فعاد عنه ولم يدخل بعد ذلك إلى سلطان. قال محمد بن عمران:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخفّ قليلا
إذا لم نجد يوما إلى الإذن سلّما ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
قال أبو سليمان الضرير: من أراد السلام ليس سواه فلماذا يذلّ عند الحجاب؟
سأقعد في بيتي فإني أميره ... وآخذ أمري مكرها باشدّه
فأبوابك اسددها عليّ بأسرها ... فمثلي لا يرضى بهذا لعبده «3»
وحجب بعض الهاشميين فرجع مغضبا فردّ فلم يرجع، وقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب، لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ
«4» .
هجاء من حجب تعريضا:
ولم جئت مشتاقا على بعد شقّة ... إلى غير مشتاق ولم ردّني بشر
وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابه ويدي صفر «5»
قال الخوارزمي «6» :
أيا عمرو رويدك من حجاب ... فلست بذلك الرجل الجليل
ولا تبخل بهذا الوجه عنّا ... فليس بذلك الوجه الجميل(1/259)
من حجب فشتم وهجا بالبخل
قال مالك بن طوق «1» : دخل عليّ يوما مجنون ونحن نأكل، فأكل معنا ثم جاء يوما آخر فحجب فرآني يوما مع أماثل البصرة فقال:
عليك إذنا فإنا قد تغدّينا ... لسنا نعود وإن عدنا تعدّينا
يا أكلة سلفت أبقت حرارتها ... داء بقلبك ما صمنا وصلّينا «2»
فما أتى عليّ يوم أشد منه حزنا. وقال آخر:
كلما جئناك قالوا ... نائم غير مفيق
لا أنام الله عينيك وإن كنت صديقي
وقال بعض البغداديين:
حجابك الصعب سهل ... إذا دهتك مصيبه
فلا عدمت رزايا ... مطيعة مستجيبه
من يتّخذ حاجبا مع سوء حاله
قال بعض الشعراء:
يا أميرا على جريب من الأر ... ض له تسعة من الحجّاب «3»
قاعد في الخراب يحجب عنه ... ما رأينا بحاجب في خراب
تخويف من يشدّد الحجاب
مرّ زاهد ببعض القصور، ورأى حجّابا على بابه فسأل عنه، فقيل هو لسالم بن فلان، رجل كثير المال عريض الجاه وقد مرض فاحتجب عن الناس، فقال:
وما سالم من وافد الموت سالما ... وإن كثرت حجّابه وكتائبه
ومن كان ذا باب منيع وحاجب ... فعمّا قليل يهجر الباب حاجبه «4»
هجاء بوّاب:
سأهجر بابا أنت تملك أمره ... ولو كنت أعمى عن جميع المسالك
فلو كنت بوّاب الجنان تركتها ... ويمّمت عنها مسرعا نحو مالك(1/260)
قال ابن الحجّاج «1» :
ففي است من تحجبه والذي ... توصله أيضا وتعنى به
المظهر رضاه بصعوبة الأذن
استأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنهما فحجبه فقيل له: يحجبك أمير المؤمنين فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني. وقال أبو العيناء للقاسم بن عبيد الله: لا أعدمني الله من حجابك والوقوف ببابك. قال أبو تمّام:
ليس الحجاب بمقص منك لي أملا ... إن السماء ترجّى حين تحتجب
وقال آخر:
إنيّ لأغتفر الحجاب لماجد ... أمست له منن عليّ رغاب
فالحرّ مبتذل النوال وإن بدا ... من دونه ستر واغلق باب
ذكر من لا يحجب
قال شاعر:
من النّفر البيض الذين إذا انتموا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا
وقال آخر في ضده:
قوم إذا حضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب
من اعتذر من السّلاطين عن الحجاب
أتى رجل مسترفد باب معن فحجبه فكتب إليه:
إذا كان الجواد له حجاب ... فما فضل الجواد على البخيل
فوقّع تحته:
إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تستّر بالحجاب
كتب إلى مطيع «2» بن أياس حمّاد الراوية «3» :
هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا يطيل الجلوس في من يطيل(1/261)
فلما قرأ البيت كتب إليه:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وكثير من الثقيل القليل
وقيل: الركوب إلى باب السلطان بعد الظهر ثقل وسوء أدب، وكتب بعض السلاطين إلى صاحب له يزوره بالعشيّات:
أعيذك من زورة بالعشيّ ... تحطّ وتذهب قدر النّبيل «1»
فإمّا رجعت بذلّ الحجاب ... وأما حللت محلّ الثقيل
النهي عن دخول الدور بغير إذن
قال الله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها
«2» وقال الله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
«3» وقال صلى الله عليه وسلم: من أطلع في بيت بغير أذن ففقئت عينه فهو هدر.
وروي أن من اطلع في بيت فقد دمر، أي حكمه حكم الداخل وقال صلى الله عليه وسلم: إنما جعل الاستئذان لأجل النظر وقال عمر رضي الله عنه: من ملأ عينيه من قائمة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق.
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم فلم يؤذن له فلينصرف.
الحثّ على تأديب الغلمان
قيل: لا يتأدب العبد بالكلام إذا وثق بأنه لا يضرب. وأمر محمد بن الجهم أن يضرب غلامه ضربة وجيعة فقيل له في ذلك فقال: الواحدة الوجعية تملأ صدره من التضاعيف وإذا كان خفيفا أحسن ظنه بالكثير قال المتنبي:
اجعل عبيدك أوتادا تشجّجها ... لا يثبت البيت حتى يقرع الوتد
قال الحكم بن عبد الله:
العبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئا إلّا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا
الحثّ على الإحسان إلى الخدم
روي في الحديث: اتقوا الله في خولكم «4» فإنهم اشقاؤكم لم ينحتوا من جبل ولم(1/262)
ينشروا من خشب، أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، واستعينوا بهم في أعمالكم فإن عجزوا فأعينوهم فإن كرهتموهم فبيعوهم، ولا تعذبوا خلق الله، وآخر وصية أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم. وقال أبو بكر رضي الله عنه. لا يدخل الجنّة سيّء الخلق.
الحثّ على مداراتهم والتغافل عنهم
سمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الغلمان، فقال: أما تهاب هؤلاء الخدم؟
فقال أنوشروان: إنما يهابنا أعداؤنا، وقال بزرجمهر: إنما نداري خدمنا ونحن ملوك على رعيتنا وخدمنا ملوك على أرواحنا، ولا حيلة لنا في التحرّز عنهم. وقيل: مما يدل على كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وقيل: من حسن خلقه سوء أدب غلمانه.
ذمّ مؤتمر لغلامه
قال البحتري «1» :
إن الشريف إذا أمور عبيده ... جازت عليه فأمره مرتاب «2»
قال آخر:
ولست أحبّ الأديب الظريف ... يكون غلاما لغلمانه
من يحمد استخدامه
قيل: أجود المماليك الصغار لأنهم أحسن طاعة وأقلّ خبثا منهم وأسرع قبولا.
وقيل: استخدم الصغير حتى يكبر والعجمي حتّى يفصح وقال قتيبة: لا تشتر غلاما مولدا هو حرّ حتى تقوم بيّنة أنّه حرّ.
ذكر الصّلحاء والأكياس من الخدم
قال كسرى: العبد الصالح خير من الولد لأن العبد لا يرى استقامة أمره إلا بحياة سيّده، والابن لا يرى ذلك إلا بموت أبيه، وقال رجل لمملوك: اشتريك فأعتقك. قال: لا. قال:
فلم؟ قال: كيف تتخذني عبدا بعد أن اتخذتني مشيرا. ومن خيار العبيد لقمان وبلال الحبشي.
ووصف البوشنجي غلاما فقال: يعرف المراد باللحظ ويفهمه باللفظ، ويعاين في الناظر ما يجري في الخاطر، يرى النصح فرضا يجب أداؤه، والإحسان حتما يلزم قضاؤه،(1/263)
إن استفرغ في الخدمة جهده خيّل إليه أنه بذل عفوه. أثبت من الجدار إذا استمهل وأسرع من البرق إذا استعجل.
قال الرشيد لإسحاق الهاشمي: أخبرت أن لك غلاما فصيحا، فقال: ها هو بالباب. ثمّ دعاه فقال: إن مولاك قد وهبك لنا. قال: فما زلت وما تحولت. فقلنا: ما معنى قولك فقال: ما زلت لك منذ كنت غلامه وما تحولت عنه إذ صرت لك، فأمر له بصلة وأحسن إليه.
من أعتق من صلحاء العبيد
حكي أنّ ابن عمر رضي الله عنه مرّ براعي غنم مملوك فقال: أتبيعني شاة من غنمك؟
قال: ليست هي لي، فقال: أين العلل وأراد أن يمتحنه فقال: فأين الله؟ فاشتراه وأعتقه.
فقال الغلام: اللهم إنك رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر، وأعتق عمرو بن عقبة غلاما له كبيرا فقام إليه عبد صغير فقال: اذكرني يا مولاي ذكرك الله بخير فقال إنك لم تخرف، فقال: إن النخلة قد تجني زهوا قبل أن تصير معوا «1» قال: قاتلك الله لقد استعتقت وحسنت وقد وهبتك لواهبك، كنت أمس لي واليوم مني، سبي فيلسوف وأراد رجل شراءه فقال له لماذا يصلح؟ قال: للحرية.
ذمّ العبيد
قيل: ليس عبد بأخ لك. قال ابن سعد:
العبد لو كانت ذؤابة رأسه ... ذهبا لكان رصاصة رجلاه
قال المتنبي «2» :
أنوك من عبد ومن عرسه ... من حكّم العبد على نفسه «3»
فلا ترج الخير عند امرىء ... مرّت يد النخّاس في رأسه «4»
أراذل الخدم
كان لبعضهم مملوك يتشطر وكان إذا قال له صاحبه: هات الدواة، قال: مرحبا بجعفر البرمكي. وإذا قال: ناولني ثوبي. قال: قيصر يلبس وإذا قال: اغسل ثيابي. قال:
يونس النبي كان خيرا منك. لبس القرع، وآدم عليه السلام لبس ورق التين، وأنت لا تلبس ثوبا وسخا. وإذا قال: اذهب إلى السوق. قال: خذلني «5» الله إن ذهبت حتى آكل كبابا(1/264)
وأتناول شرابا، فجاء صاحبه يوما وهو بين شطار، فقال: من هؤلاء؟ قال: فتيان الخلد يحبونني قبل رؤوسهم. فقال: أنت حر لوجه الله إن شئت. فقال: يا أحمق لو شئت لهربت منذ زمان. فحمله إلى النخاس فقال له النخاس: ما اسمك؟ قال: كنيتي أبو علي. قال: ما تحسن؟ قال: أعلم الجراحات السقيمات والسليمات وأعلّم البنين الإجارة والبنات التقحب «1» . أنا أخبث من قرد وأنوم من فهد وأروع من ثعلب وأنقب من جرذ وأسرق من سنّور وألصّ من عقعق «2» . فقال النخّاس: بكم أبو علي الكثير المحاسن؟ فقال: بما شئت.
فقال النخاس: بعشرين درهما، فقال صاحبه: إنه يقع عليّ بجملة، فقال العبد: انظر إلى أخي القحبة كانني خير من يوسف بن يعقوب وقد باعه إخوته بثمانية عشر درهما ومع أخي القحبة فضل درهمين، فباعه منه. فالتفت أبو علي إلى النخّاس وقال: أم من لا يندمك ألف قحبة.
وقال الجاحظ: اشتريت عبدا بمائة درهم فاسترخصته فتعشيت سمكا ونمت فاستدعيت منه ماء، فقال: أسكت، تأكل السمك وتشرب عليه الماء ليتولّد منه كذا وكذا، وامتنع فلما اشتد عطشي قمت وشربت فقال: يا مولاي احمل معك حتى أشرب أنا أيضا.
وقال رجل لعبد: أشتريك، فقال لا. لأني آكل فارها وأمشي كارها. وقيل لآخر: فقال:
أنا إذا جعت أبغضت قوما وإذا شبعت أحببت نوما، وقال: رجل لغلامه: إذهب إلى المنزل واحمل الشمع لأعود به إلى البيت، فقال: أنا لا أجسر تعال معي حتى أحمله فانصرف معك.
وذكر دغفل النسابة المماليك، فقال: هم عز مستفاد وغيظ في الأكباد، قال اليعقوبي:
لي حمار وغلام ... وهما يغتلمان
فحماري يعشق الأتن ... وذا رخو العجان
لو بهذا عفّ هذا ... لاستراح الثّقلان
الغلام المتعاطى معه
قال رجل لغلام صديق له وقد شاخ ما حالك؟ قال: مولاي ينيكني منذ كذا وكذا سنة بالحجة، وذلك أنه يفعل في كل يوم، فإذا قلت يا مولاي قد شخت يقول يا بغيض من أمس إلى اليوم.
وقال رجل لغلام له قد التحى: أخرج من داري، فقال: رد إلي ما أخذت منّي خدّا أملس وفقحة «3» ضيقة.
وحلف رجل على غلام لأضربّنك، فاستعفاه الغلام، فقال: أتراني أعصي الله فيك، فقال: طالما عصيت الله في تعاطيك معي فخجل الرجل من أصحابه.(1/265)
المسيء إلى خدمه
قال رجل لأعرابي: ما تصنعون في عبيدكم حتى يقال في الدعاء عليهم باعك الله في الأعراب؟ قال: نجيع كبده ونعري جسده ونطيل كدّه ونكثر جلده. اشترى أعرابي عبدا فقيل: أنه يبول في الفراش فقال: إن وجد في دارنا فراشا فليبل فيه.
وكان لرجل عبد يأكل الحوّاري «1» ويطعمه الخشكار، فباعه فاشتراه آخر يأكل الخشكار ويطعمه الشعير، فباعه فاشتراه آخر يأكل الشعير ويطعمه النخالة فاستباعه «2» ، فاشتراه آخر كان يجيعه وإذا قعد بالليل وضع السراج على رأسه فلم يستبعه، فقيل له في ذلك فقال: أخشى إن باعني أن يضع المشتري الفتيلة في حدقتي «3» .
من ذكر أنّ لا غلام له
قال ابن الحجّاج:
إذا قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جملة الناس غلمانهم ... وليس سواي في جملتي
ولا لي غلام فادعو به ... سوى من أبوه أخو عمّتي
والعرب تقول العبد من لا عبد له.
ذمّ الخصيان
قالت أعرابية لخصيّ: اسكت فمالك حزم الرجال ولا رقّة النساء. قال المتنبّي:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... بأن الرؤوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النّهى كلّها في الخصى
قال أبو نعامة:
لا تطلبنّ إلى خصيّ حاجة ... يوما فمالك عنده من خير «4»
واكشف له عن رأس أيرك إنه ... لا شيء آثر عنده من أير «5»
قال الجاحظ: كلّ حيوان ذي ريح منتنة فإنه متى خصي زال نتنه وصنانه «6» كالتيس والهر، غير الإنسان فإنه يزداد نتنا وصنانا. وكل شيء إذا خصي دقّ عظمه واسترخى لحمه إلا الإنسان فإنه تطول عظامه وتلتوي.(1/266)
النّهي عن إظهار العورة «1» لهم
أجمع الفقهاء أنّ حكم الخصيان حكم الفحول فلا يجوز أن تكشف لهم النساء.
ودخل معاوية رضي الله عنه على امرأته بنت بجدل ومعه خصيّ، فاستترت منه، فقال معاوية: إنه خصيّ فقالت: إن مثّلتك به لا تحلّ مني ما حرمه الله.
وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عند المنصور فمرّ به خادم وضىء الوجه فقال: أي ابنيك هذا؟ قال: هذا خادم في دار النساء. قال: أتشك أنّ شمّ هذا وضمّه أحب إلى المرأة من شمّك وضمّك فأتاه من ذلك أمر عظيم ومنعه بعدها من دخول الحرم.
حمد اتخاذ الخصيان
قيل لأبي العيناء: لم اتخذت خصيا أسود؟ فقال أمّا الأسود فلئلا أتّهم به، وأما الخصيّ فلئلا يتهم بي. قال أحمد بن يوسف في وصفهم:
مبرؤن من الشعر اللبيد ومن ... حمل الأيور وإخراج المناتين «2»
وكالنّساء إذا ما رمت خلوتهم ... وكالليوث لدى الهيجاء تحميني(1/267)
الحدّ الثالث في الإنصاف والظلم والحلم والعفو والعقاب والعداوة والحسد والتواضع والكبر وما يتعلق بذلك
(1) فمما جاء في الإنصاف والظلم
عزّ الحق وذلّ الباطل
قال الله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ
وقال تعالى:
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ
قال ابن المعتز إن للحق أن يتضح وللباطل أن يفتضح.
وقيل: الحق حقيق أن ينهج سبيله ويتضح دليله. وقال المنتصر يوما: والله ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من بين عينيه ولا ذل ذو حق ولو اتفق العالم عليه، وقيل: للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل وقيل: الحق أبلج والباطل لجلج.
وقيل: الحق من تعداه ظلم ومن قصر عنه ندم.
مدح العدل
قال أنوشروان: العدل سور لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق «1» .
وقيل: عدل قائم خير من عطاء دائم. وقيل: لا يكون العمران حيث لا يعدل السلطان.
وقيل لحكيم: ما قيمة العدل؟ قال: ملك الأبد. وقيل: قيمة الجو رذل الحياة. وقيل:
العدل يسع الخلق والجور يقصر عن واحد.
ذمّ الظّلم والنهي عنه
قال الله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
«2» وقال: وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
«3» وقال الله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ
«4» وقال الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ
«5» وقال: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
«6» وفي الخبر(1/268)
بئس الزاد إلى المعاد ظلم العباد. وقيل: الظلم مرتعه «1» وخيم وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة. ويقال: ليس شيء أقرب من تعيير نعمة وتعجيل نقمة من الإقامة على الظلم، وقيل: في قول الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
«2» وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
وقيل: على الظالم أن يكون وجلا «3» وعلى المظلوم أن يكون جذلا «4» . كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامل له: إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فقال: اذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان. فقال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله تعالى فيه: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
«5» فبكى سليمان وأزال ظلامته. وكان حفص بن عتاب «6» لقيه الرشيد فأقبل عليه يسائله فقال في أثناء ذلك:
نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم «7»
وقال عبد الله بن أبي لبابة: من طلب عزا بباطل أورثه الله ذلا بإنصاف وحقّ.
التحذير من دعوة المظلوم
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة المظلوم فإنها مجابة. وقال بعضهم: دعوتان أرجو إحداهما وأخاف الآخرى دعوة مظلوم أعنته وضعيف ظلمته. وقيل: احذروا دعوة المظلوم فإنها لينة الحجاب. وقال صلّى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من أن أظلم أو أظلم.
سرعة معاقبة الظّالم
قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
«8» وروي عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد قط ولا أسأت إليه. فرفع الناس رؤسهم تعجبا فقرأ:
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها
«9» .
سمع ابن عباس رضي الله عنهما كعب الأحبار يقول: من ظلم خرب بيته. فقال تصديقه في القرآن فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، وقيل: الظلم أدعى شيء إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة وقال صالح المريّ: دخلت إلى دار المادراي فاستفتحت ثلاث آيات من كتاب الله تعالى إستخرجتها حين تذكرت الحال فيها قوله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
«10» وقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
«11» وقوله تعالى:(1/269)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا
«1» فخرج إليّ أسود من ناحية الدار. فقال: هذه سخطة؟ المخلوقين فكيف سخطة وروى جعفر بن محمد عن أبيه قال: إذا أراد الله أن ينتقم لوليه انتقم من عدوه بعدوه وإذا أراد الله أن ينتقم لنفسه انتقم بوليّه من عدوه.
المتفادي من ظلم الضّعاف
قال معاوية «2» : إني لاستحي أن أظلم من لا أجد له ناصرا عليّ إلا الله. وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إنّ أبغض الناس إليّ أن أظلم من لم يستعن عليّ إلا بالله.
أفحش الظلم ظلم الضعيف
قال شاعر:
وإني لأعطي النّصف من لو ظلمته ... أقرّ وطابت نفسه لي بالظّلم
قيل: من عمل بالعدل في من دونه رزق العدل ممن فوقه.
نهي الوالي والقادر عن الظلم
قيل: لا ينبغي للإمام أن يكون جائرا ومن عنده يلتمس العدل، ولا للعالم أن يكون سفيها ومن عنده يلتمس العلم والحلم. وقيل: إذا ظلمت من دونك عاقبك من فوقك، قال ابن الرومي «3» :
وإن الظلم من كلّ قبيح ... وأقبح ما يكون من النبيه «4»
وله:
ارهب من الأقران قرنا ما له ... إلا العواقب والعقوبة ناصر
والظلم من ذي قدرة مذموم
التسكين من المظلوم بما له من العقبى «5»
قيل: في قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
«6» أعظم تعزية(1/270)
للمظلوم وابلغ تحذير للظالم على مدارجة العقوبة وإن تنفست مدته. وقيل لعمر رضي الله عنه: كان الرجل في الجاهلية يظلم فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلا ولا نرى ذلك في الإسلام، فقال: كان هذا جزاء بينهم وبين الظلم وإنّ موعدكم الآن الساعة والساعة أدهى وأمرّ. وقيل: إنما تندمل من المظلوم جراحه إذا انكسر من الظالم جناحه.
الظلم في أخذ الأرض
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من ظلم قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة. قال أحمد بن واضح:
يا قابض الضّيعة من نسوة ... ضعفا وإيتام لسلطانه
يجأرن بالليل إلى خالق ... إغاثة الملهوف من شأنه
لا يأخذ الضيعة ذو قدرة ... يريد أن تبقى لصبيانه
ومما يقرب من السخف في هذا أن رجلا كان له قطعة من أرض بجنب أرض لرجل، فكان يضم كل سنة قطعة منها إلى أرضه. فقال له يوما: ما هذا النقصان في أرضنا؟ فقال: أما سمعت قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها
«1» قال: فما هذه الزيادة في أرضك؟ قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال: فمن أين أوتيت الفضل وأوتيت النقص في ذلك؟ فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.
التحذير من معاونة الظالم
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أعان ظالما سلطه الله عليه. وقال المأمون لبعض ولاته:
لا تظلم لي فيسلطني الله عليك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس للظالم عهد فإن عاهدته فانقضه فإن الله تعالى يقول: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
«2» .
وسمعت بعض العلماء يقول: ما ظلمت أحدا قطّ لغيري فإنى إذا ظلمت ظلمت نفسي. ويشبه ذلك ما يحكى أن عاملا عزل عن عمله بغيره، فقال المولى لمن ولى مكانه:
أعرني دواتك لأكتب منها حرفا فقال: لا فإني لا أستحل معاونة الظلمة، ولا أحب أن يكتب من دواتي ظالم. فقال: ألم تك تكتب منها آنفا؟ فقال: إني أحرق بالنار نفسي لنفسي ولا أحرقها لغيري.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدولة: قد قمت مقاما لا يقصر بك عن الجنة في إزالة دولة بني أمية وإقامة شعار بني العباس. فقال: لخوفي من النار أولى من طمعي في الجنة فإني أطفأت من بني أميّة جمرة ألهبت بها نيرانا لبني العباس وسأحرق بها.(1/271)
المتفادي من أن يظلم أو يظلم
كان من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته: بسم الله وبالله أنّي أعوذ بك من أن أزل أو أضلّ أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ، وقال بعضهم: لنا عز يمنع من أن نظلم وحلم يمنع من أن نظلم.
الموصوف بالظّلم
قيل: فلان أظلم من حية لأنها لا تحفر الجحر بل تسلب غيرها جحره فتدخله.
ويقال أظلم من ذئب، قال:
وأنت كذئب السوء إذ قال مرّة ... لعمروسه والذئب غرثان خاتل «1»
أأنت الذي من غير شيء سببتني ... فقال متى ذا؟ قال ذا عام أوّل
فقال ولدت العام بل رمت غدرة ... فدونك كلني ما هنا لك مأكل
وقيل: أعدى من الدهر ومن التمساح ومن الجلندي وهو فيما قيل اسم الملك الذي قال الله تعالى فيه: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
«2» .
وقال: أعرابي لئن هملجت إلى الباطل أنك عن الحق لقطوف. وقيل: الفتنة عرس الظالم.
المتبجّح بالظّلم
قيل لأعرابي: أيما أحب إليك أن تلقى الله ظالما أو مظلوما؟ فقال: ظالما قيل:
ويحك ولمه؟ قال: ما عذري إذا قال لي: خلقتك قويا ثم جئت تستعدى، وقيل لأعرابي:
ولد له ابن جعله الله برا تقيا فقال بل جعله جبارا عصيا يخافه أعداؤه ويؤمله أولياؤه.
الممدوح بكونه مظلوما لمن هو دونه
وقع الرشيد في قصة رجل: الشريف من يظلم من فوقه ويظلمه من دونه فانظر أي الرجلين أنت. قال محمود الورّاق:
ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم «3»
وقال ابن الزهير: تحمّل بعض الظلم أبقى للأهل والمال. قال الشاعر:(1/272)
ولا تحم من بعض الأمور تعزّزا ... فقد يورث الذّل الطويل تعزّز
وقال الأحنف: كم جرعة من الظلم تجرعتها مخافة ما هو أعظم منها.
الرخصة في المجازاة بالظلم
قال الله تعالى في مدح ذلك: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا
«1» وقال تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ
«2» وقال بعضهم لسلطان: إني وإن خشنت في المال فقد عذر الله المظلوم إذا جهر بالسوء طلبا للنصفة من ظالمه حيث قال: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. وقال جرير: إنّي لا أبتدي، لكن أعتدي.
من لا يبالي بأن يظلم
قيل: أهون مظلوم سقّاء مروّب. وقيل: أهون مظلوم عجوز معقومة قال شاعر:
وظلم النهشلي من السواء «3»
من لا يبالي بأن يظلم
قال أبو فراس «4» :
وبعض الظالمين وإن تعدّى ... شهيّ الظلم مغفور الذنوب
ولبعض الصوفية «5» :
دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فكلّ الأذى ممّن يحبّ سرور
تراب قطيع الشّاء في عين ذئبها ... إذا سار في آثارهنّ ذرور «6»
وقال آخر:
وقد يؤذى من المقة الحبيب
تحسّر من ظلمه دنيء أو لئيم وتعزّيه
في المثل لو ذات سوار لطمتني. قال الفرزدق:
فوا عجبا حتّى كليب تسبّني ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع «7»(1/273)
قال أبو فراس:
ما للرجال من الذي ... يقضى به الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع «1»
قال أبو سعيد بن نوقة وقد أجاد ما شاء:
ولا غرو إن يبلى شريف بخامل ... فمن ذنب التنّين ينكسف البدر
اختيار ركوب القتل على التزام الظّلم
قال محمد بن وهب:
فتى يتّقي أن يخدش الذمّ عرضه ... ولا يتّقي حدّ السيوف البواتر «2»
قال المتلمس:
فلا تقلن ضيما مخافة ميتة ... وموتنّ بها حرّا وجلدك أملس
قال أبو فراس:
أرى ملء عيني الردّى وأخوضه ... إذا الموت قدّامي وخلفي المعايب «3»
وله:
والموت عند طروق الضّيم مورود
قال ابن نباتة:
لأصحبت الحياة إن صحبتني ... في الملمّات مهجة تستضام
الممتنع من احتمال الظّلم
قال الزبرقان:
قد رامني الأقوام قبلك ... فامتنعت من المظالم
قال خالد بن زهير:
فإن كنت تبغي للظلامة مركبا ... ذلولا فإنّي ليس عندي بعيرها
قال آخر:
فلان لا يسأم خطّة الخسف ... ولا يحمل على مركب العنف
قال:
لا يعلف الضيم ذو مجد وذو شرف ... ولا يبيت بوادي الخسف مذموما «4»(1/274)
وقال:
كأنّه من حذار الظلم مجنون
قال آخر:
ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وقد أحسن الذي قال: من ظلمني مرة فالله ينتقم لي منه ومن ظلمني مرتين فالله ينتقم له منّي.
عادة النّاس ظلم من استضعفوه
قال ابن عائشة «1» :
تراهم يغمزون من استركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا
قال المتنبّي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلّة لا يظلم «2»
قال رجل عبسيّ:
إن المحكّم ما لم يرتقب حسبا ... أو يرهب السيف أو حد القنا حنفا
ظالم متظلّم
في المثل يلدغ العقرب وتصيء «3» قال الخبزارزي:
ظلمت سرا وتستعدي علانية ... ألهبت نارا وتستعفي من اللهب
قال الشعبي: حضرت مجلس شريح فجاءته امرأة تخاصم زوجها باكية، فقلت: ما أظنها إلا مظلومة. فقال: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظالمون.
ذمّ ممتنع من قبول الإنصاف
قيل: ما أعطي أحد قط النصف فأبى إلا أخذ شرا منه. وقال الأحنف: ما عرضت النصفة على أحد فقبلها إلّا تداخلني منه هيبة ولا ردّها أحد إلا طمعت فيه.(1/275)
(2) مدح الحلم وكظم الغيظ وفضل الرحمة والعفو والاستعفاء والاعتذار
حدّ الحلم
قيل: الحلم تجرع الغيظ. وقيل: الحلم دعامة العقل وقال الأفوه الأودي: الحلم محجزة عن الغيظ. وقيل: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتصر ولكن الحليم من ظلم فحلم فإذا قدر غفر.
وقالت الفلاسفة: الحلم فضيلة النفس يكسبها الطمأنينة لا يحرّكها الغضب بسهولة وسرعة. سأل عليّ رضي الله عنه فقال: الحلم والأناة. توأمان ينتجهما علو الهمة.
وقيل لعمر بن الاهتم: من أشجع الناس؟ قال: من رد جهله حلمه. وقال سفيان:
ما تقلد امرؤ قلادة أحسن من حلم فهو محمود عاجله وآجله ورأى حكيم من ملك ترفأ، فقال: ليس التاج الذي يفتخر به علماء الملوك فضة ولا ذهبا لكنه الوقار المكلّل بجواهر الحلم. وأحمق الملوك بالبسطة عند ظهور السقطة من اتسّعت قدرته.
قال شاعر:
لن يدرك المجد أقوام ذوو كرم ... حتّى يذلّوا وإن عزوّا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا خوف ذلّ ولكن فضل أحلام «1»
الآخذ نفسه بالحلم من الملوك
دفع أزدشير بن بابك ثلاثة كتب إلى رجل يقوم على رأسه وقال له: إذا رأيتني قد غضبت فادفع إليّ الأول، فإن لم أندم فالثاني ثم الثالث وكان في الأول أمسك فلست بإله، وإنما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضا. وفي الثاني إرحم عباد الله يرحمك الله. وفي الثالث احمل عباد الله على حقه.
الحثّ على تكلّف الحلم واستعماله
قيل: إذا لم تحلم فتحالم فقلّ من تشبّه بقوم إلّا كان منهم. قال:
تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم ... فلن تستطيع الحلم حتى تحلما(1/276)
الممدوح بالحلم
قال حسان «1» :
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتزيد جاهلنا على الجهّال «2»
قال ابن هرمة:
ولو وزنت رضوى ببعض حلومهم ... لشالت ولو زيدت عليه تضارع «3»
قال أبو فراس:
يجني الخليل وأستحلي جنايته ... كيما يدلّ على حلمي وإحساني «4»
قال المتنبي:
وأحلم عن خلّي وأعلم أنّني ... متى أجزه حلما عن الجهل يندم «5»
من اجتهد في إغضابه فحلم
بايع رجل آخر على أن يغضب الأحنف فجاءه فخطب إليه أمه. فقال: لسنا نردك انتقاصا بحسبك ولا قلة رغبة في مصاهرتك، ولكنها امرأة قد علا سنها وأنت تحتاج إلى امرأة ودود ولود، تأخذ من خلقك وتستمد من أدبك، ارجع إلى قومك وأخبرهم أنك لم تغضبني.
خطب آخر إلى معاوية أمه. فقال: ما الذي رغبّك فيها وهي عجوز؟ فقال: بلغني أنها عجوز عظيمة العجز، فقال: لعلك خاطرت أن تغضب سيد بني تميم قال: نعم.
قال: ارجع فلست به.
فضل كظم الغيظ
قال الله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
«6» ومر النبي صلّى الله عليه وسلم بقوم يربعون حجرا فقال: ألا أخبركم بأشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وقال صلّى الله عليه وسلم: من كظم الغيظ وهو يقدر على أن ينفذه خيّره الله في أي حور شاء، وقيل: الكظم يدفع محذور الندم كالماء يطفىء حر الضرم. كظم يتردد في حلقي أحب إلى من نقص أجده في خلقي. قال: وأفضل حلم حسبة حلم مغضب.(1/277)
ما يسكّن به الغضب
قيل: من غضب قائما فقعد سكن غضبه وإن كان قاعدا فاضطجع سكن والعجم تقول: من غضب فليستلق.
قال أبو بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم، وقيل: أذكر قدرة الله إذا غضبت. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ
«1» فقيل: الطيف من الشيطان حرّ الغضب.
من أغضب من الكبار فصبر
قام رجل إلى عمر بن عبد العزيز فكلّمه بكلام أغضبه، فقال: أردت أن يستفّزني الشيطان، فإياك ومعاودة مثله، عافاك الله.
أمر محمد بن سليمان برجل أن يطرح من القصر كان قد غضب عليه، فقال الرجل:
اتّق الله. فقال: خلوا سبيله فإني كرهت أن أكون من الذين قال الله تعالى فيهم: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
«2» .
ذمّ الغضب
قيل لحكيم: أيّ الأحمال اثقل؟ فقال: الغضب. وروى أن إبليس لعنه الله. قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه ويعمل ما أريده وأرتضيه.
وقيل لأبي عباد: أيما أبعد من الرشاد السكران أم الغضبان؟ فقال: الغضبان: لا يعذر أحد في طلاق ولا ماثم يجترمه وما أكثر ما يعذر السكران. وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن الغضب والحزن أيّهما أشدّ؟ فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غضبا ومن نازع من لا يقوى عليه كتمه حزنا، ومن هنا أخذ المتنبي قوله:
وحزن كلّ أخي حزن أخو الغضب
من غضب في غير مغضب
قال بعض الحكماء: إذا كانت الموجدة «3» من علّة كان الرضا مفقودا. وقيل: من غضب من غير ذنب رضي من غير عذر. وقيل: من فاته الدين والمروءة فرأس ماله الغضب.
عذر من كان منه غضب
قال الشافعي «4» رضي الله عنه: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ومن استرضي(1/278)
ولم يرض فهو جبار، وقيل: من لم يغضب من الجفوة لم يشكر أخا النعمة. وقيل: فلان يملك حالتيه أي غضبه ورضاه.
الحثّ على ترك الغضب المؤدّي إلى الاعتذار
قال حكيم: إياك وعزة الغضب فإنها تصير «1» بك إلى ذلّ الاعتذار.
قال الشاعر:
ولا تحكم من بعض الأمور تعزّزا ... فقد يورث الذلّ الطويل تعزّز
وقال آخر:
ولرّب ممتعض هو المتذّلل «2»
وقال آخر:
متى ترد الشفاء لكل غيظ ... تكن مما يغيظك في إزدياد
سرعة الغضب وبطؤه
قيل: أسرع الناس رضا أسرعهم غضبا، كالحطب أسرعه خمودا أسرعه وقودا.
وكان بعض الناس يقول: أعوذ بك من غضب من لا يكاد يغضب، وأعوذ بك من غضب امرأة قادرة وذي قوة قاهرة.
الحثّ على ملأمة النّاس
قال أبو العتاهية «3» :
ساهل النّاس إذا ما غضبوا ... وإذا عزّ أخوك فهن
قال محمود الورّاق:
دار الصديق إذا استشاط تغضّبا ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد «4»
ولربّما كان التغضّب باحثا ... لمثالب الآباء والآجداد
النّهي عن مراجعة السفيه ومدح فاعل ذلك
قال الله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً
«5» قال الشاعر:
لا ترجعنّ إلى السّفيه خطابه ... إلا جوّاب تحيّة حيّاكها
فمتى تحرّكه تحرّك جيفة ... تزداد نتنا ما أردت حراكها(1/279)
وقال رجل للأحنف: إن قلت واحدة لستمعن عشرا. فقال: أنت إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. وألحّ رجل على الأحنف بالشتم فلما فرغ قال: هل لك في الغذاء فإنك مذ اليوم تحدو بأحمال ثقال، وشتم سفيه حكيما وهو ساكت فقال: إياك أعني. فقال: وعنك أغضي. قال:
وبعض انتقام المرء يردي بعقله ... وإن لم يقع إلا بأهل الجرائم
وقيل لبعضهم وقد كان من صاحب له ذنب إليه: هلّا جازيت فقال:
الصقر يحقر عن طراد الدّخّل «1»
قال شاعر:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النّفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا
ولهذا باب في موضع آخر.
الحثّ على التصامم عن القبيح والتمدّح بذلك
قال المهلب «2» : إذا سمع أحدكم العوراء فليطأطىء لها تتخطّاه، وأسمع رجل آخر وهو ساكت فقال: إني وإياك كما قال زهير:
وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمّم به فهو قائله
وقال حاتم:
وكلمة حاسد من غير جرم ... سمعت فقلت مرّي فانفذيني
عنيت بها كأن قيلت لغيري ... ولم يعرق لها يوما جبيني «3»
قال السموأل اليهودي «4» :
ربّ شتم سمعت فتصاممت ... وعيّ تركته فكفيت
قال البحتري:
وأحبس عن تعريض عرضي لجاهل ... وإن كنت في الإقدام أطعن في الصّف «5»(1/280)
الحثّ على الرحمة ومدح ذويها
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إرحم من في الأرض يرحمك من في السماء وقال صلّى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وقال عليه الصلاة والسلام: لا تنزع الرحمة إلّا من قلب شقيّ.
وقال: من كرم أصله لان قلبه وقيل: من أمارات الكرم الرحمة ومن أمارات اللؤم القسوة.
الحثّ على العفو مطلقا
قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
«1» وقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
»
وقال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
«3» وأدب نبيه صلّى الله عليه وسلم فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
«4» . فلّما علم أن قد قبل أدبه.
قال: وإنك لعلى خلق عظيم. وقال الأحنف: إياكم وحمية الأوغاد. قيل وما حميتهم؟
قال: يرون العفو مغرما والبخل مغنما، وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف أو ما هو خير من الإنصاف؟ قال: وأيّ شيء خير من الإنصاف؟ قال: العفو فالانصاف ثقيل، وسئل الجنيد رحمه الله عن الفتوة فقال: العفو بدلالة قوله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
«5» ، وقيل: العفو عن المذنب زكاة النفس. قيل: من كرم الأخلاق أن تغفر الذنب من شكر الموهوب العفو عن الذنوب الاحتمال قبر العيوب. قال البحتري:
إذا أنت لم تضرب عن الحقد لم تفز ... بشكر ولم تسعد بتقريظ مادح «6»
استطابة العفو ولذّته
قيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفيّ «7» لأن لذّة العفو يتبعها حمد العاقبة، ولذة التشفي يتبعها غمّ الندامة، وقيل للإسكندر: أيّ شيء أنت به أسر مما ملكت؟ قال: مكافأة من أحسن إليّ بأكثر من إحسانه وعفوي عمّن أساء بعد قدرتي عليه.
ما يستحسن في الكبار من الحلم وما يستقبح
قال معاوية رضي الله عنه وقد أغلظ له رجل: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان، وقال المأمون الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة: قادح في ملك ومتعرّض لحرمة ومذيع لسر. وقال السفّاح: الحلم يحسن إلا ما أوضع الدين وأوهن السلطان.
الحثّ على درء الحدّ
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ادرؤا الحدود بالشبهات، وقال عمر رضي الله عنه: لأن يخطىء الإمام(1/281)
في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة. قال إبراهيم النخعي: لئن أعطّل مائة حد قد ثبتت أحبّ إليّ من أن أقيم حدا قد ثبت.
حثّ القادر على العفو
قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: إذا قدرت على العدوّ فاجعل العفو شكر قدرتك.
ظفر الإسكندر ببعض الملوك فقال له: ما أصنع بك؟ قال: ما يجمل بالكرام أن يصنعوه إذا ظفروا، فخلّى سبيله ورده إلى مملكته. ولما ظفر أنوشروان ببزرجمهر «1» قال:
الحمد لله الذي أظفرني بك فقال: كافىء من أعطاك ما تحب بما يحب.
قالت عائشة رضي الله عنها: إذا ملكت فاسجح «2» . وقيل: المقدرة تذهب الحفيظة، وقيل ليوسف «3» عليه السلام: بعفوك عن إخوتك عند قدرتك رفع قدرك.
ذمّ المتشفيّ من الغيظ
قال معاوية رضي الله عنه: العقوبة الأم حالات ذي القدرة. وقال حكيم: من شفى غيظه لم يجب شكره. وقال: التشفيّ طرف من الجزع فمن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم إلّا ستر رقيق وحجاب ضعيف فلينتصف، وقال شاعر:
متى ترد الشفاء لكلّ غيظ ... تكن ممّا يغيظك في ازدياد
متى لم تتّسع أخلاق قوم ... يضيق بها الفسيح من البلاد
مدح من صفح عن قدرة
قال شاعر
وأعظم النّاس أحلاما إذا قدروا
وقيل: عفو العزيز أعزّ له وعفو الذليل أذلّ له وقال آخر:
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما عن غير ذي ناصر
قال أشجع:
يعفو عن الذنب العظي ... م وليس يعجزه انتصاره
صفحا عن الباغي علي ... هـ وقد أحاط به اقتداره «4»(1/282)
قال المتنبي:
فتى لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا «1»
الممدوح بأنه إن شاء صفح وإن شاء انتقم
قال الأعشى:
يقوم على الرغم في قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم
وقال كثير:
حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ العقاب أو عفا لم يثرّب «2»
قال علي بن الجهم «3» :
يعاقب تأديبا ويعفو تطوّلا ... ويجزي على الحسنى ويعطي فيجزل
وقال آخر:
تسطو بعدل وتعفو إن عفوت به ... فلا عدمناك من عاف ومنتقم
الحثّ على إقالة من سلم ظاهره
قيل: لا تعتد بما لم تسمعه أذناك فإن السيد إذا حضر هيب وإذا غاب اغتيب. وقال بعض الملوك: إنما نملك الأجساد دون النيات ونحكم بالعدل لا بالهوى ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر «4» . قال البحتري:
إذا عدوّك لم يظهر عداوته ... فما يضرّك إن عاداك إسرارا «5»
وقال آخر:
إذا دحسوا بالكره فاعف تكرّما ... وإن حبسوا عنك الحديث فلا تسل «6»
فإنّ الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
العفو عمّن سلم باطنه
قد يهفو «7» المرء ونيته سليمة ويزلّ «8» وطريقته مستقيمه، قال إبراهيم بن المهدي:(1/283)
ما إن عصيتك والغواة تمدّني ... أسبابها إلا بنيّة طائع
قال ابن طباطبا:
أرى زلّتي كفرا فهل لي توبة ... وكم كافر بالله راج لغفرانه
فإن كنت في الكفر الذي جئت مكرها ... فما زال قلبي مطمئنا بإيمانه «1»
قال الفرزدق:
فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم
ذمّ من لا يقيل العثرة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشراركم من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده. ألا أخبركم بشر من ذلكم من لا يقبل معذرة ولا يقيل عثرة. قال شاعر:
موقّح الوجه قليل الصّفح ... كلامه مثل عصى الطّلح «2»
أي معوج.
عتب من يحفظ الذنب بعد تقادمه
قال البحتري:
تناس ذنوب قومك إنّ حفظ الذ ... ذنوب إذا قد من الذّنوب
وقيل: الآثام تدرسها الأيام.
وجوب العفو عن المعترف
الاعتراف يزول به الاقتراف «3» . لا عتب مع إقرار ولا ذنب مع استغفار. المعترف بالجريرة مستحق للغفيرة، قال محمد بن جابر:
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فله الذّنب
وقيل: التوبة تغسل الحوبة.
الحثّ على العفو بعد الإقرار
قال عمرو بن كلثوم لصديق له أنكر ذنبا: إمّا أن تقرّ بذنبك فيكون إقرارك حجّة لنا في العفو وإلّا فطب نفسا بالانتصار منك. فإن الشاعر يقول:(1/284)
أقرّ بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه فإنّ جحود الذنب ذنبان «1»
قيل: يجب للحازم أن لا يتقدّم غفرانه تعريف الجاني ما جنى لئلا ينسب عفوه إلى الغفلة وكلال حدّ الفطنة.
سوء الاعتذار دليل على الإصرار
قال:
لا ترجع رجعة مذنب ... خلط احتجاجا باعتذار
وقال آخر:
فلا أنت أعتبت في زلّة ... ولا أنت أغليت في المعذرة «2»
حسن العفو عن المصرّ
سمع حكيم رجلا يقول: ذنب الإسرار أولى بالاغتفار. فقال: صدق الله ليس فضل من عفا عن السهو القليل، كمن عفا عن العمد الجليل.
مستعف مقرّ بالذنب
قال ابن المعتز «3» في كلام له: تجاوز عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقا حتى اتخذ من رجائك رفيقا، وقال الفضل بن مروان لرجل عاتبه: بلغني أنك تبغضني فلم ينكر الرجل، وقال: أنت كما قال الشاعر:
فإنك كالدّنيا نذمّ صروفها ... ونوسعها ذمّا ونحن عبيدها «4»
قال أبو فراس:
إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيرة
لكن عادتك الجميلة أن تغض على الجريرة «5» . أتى المنصور برجل أذنب فقال: إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ فيّ بالإحسان، فعفا عنه. قال شاعر:
إنّ للاعتذار حظّا من العف ... ويراه المقرّ بالإنصاف(1/285)
ولعمري لقد أجلّك من جا ... ءمقّرا بذلّة الإعتراف
قال الرفّاء:
فإن تعف عنّي تعف عن غير جاحد ... لما كان والإقرار بالذنب أروح
وقال آخر:
صفحا فلو شقّ قلبي عن صفيحته ... لظلّ يقرأ منه الخوف والندم
وقال آخر:
فلست بأوّل عبد هفا ... ولست بأوّل مولى عفا «1»
استعفاء من خلط إقرارا بإنكار
ما أعرف تقصيرا فابلغ ولا ذنبا فاعتب ولكني أقول:
هبني أسأت كما زعم ... ت فأين عاقبة الأخوّه
وإذا أسأت كما أسأ ... ت فأين فضلك والمروّه «2»
قال ابن نوقة:
وهبني- وما أجرمت- أجرمت. كلّ ما ... أتاك به الواشي فجد باحتماله
وقال ابن باذان:
لئن أسأت فأين إحسانك ... وإن أفرطت فأين افضالك؟
وقال آخر:
أقررت بالجرم على أنّني ... لست بمخليك من العربده
وقال الشعبي لابن بسرة، وقد كلمه في قوم حبسهم: إن حبستهم بالباطل فالحقّ يخرجهم وإن حبستهم بحق، فالعفو يسعهم. فأمر بإطلاقهم.
معتذر مع إنكار
قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع فهل على من لم يذنب أكثر من الاعتذار.
قال ولما حبس الرشيد عبد الملك بن صالح قال: إنّ الملك شيء مانويته ولا تمنّيته ولو أردته لكان أسرع من السيل إلى الحدور والنار إلى يبس العرفج «3» ولكن لما رآني بالملك قمينا «4» وإن لم أترشح له في سرّ ولا جهر ورآه يحنّ إلى حنين الأم الوالهة(1/286)
إلى ولدها عاقبني عقاب من سهر في طلبه فإن حبستني على أني أصلح له ويصلح لي فليس ذلك ذنبا فأتوب منه، وقال الرشيد لرجل يرمى بالزندقة: لأضربنّك حتى تقرّ بالذنب، فقال هذا خلاف ما أمر الله تعالى به، لأنّه أمر أن يضرب الناس حتى يقرّوا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقرّ بالكفر فخجل وعفا عنه. قال التنوخي:
إن كان إقراري بما لم أجنه ... يرضيك عنّي قلت إنّي ظالم
معتذر بتكذيب نفسه
خرج النعمان «1» متنكرا فمرّ برجل فقال له: أتعرف النعمان؟ قال أليس ابن سلمى؟
قال: نعم. قال: طالما أمررت يدي على فرجها. فلحقته خيله فقال: كيف؟ قلت: قال أبيت اللعن والله ما رأيت شيخا أكذب ولا ألأم ولا أوضع ولا أعض لبظر أمه منّي.
فضحك وخلّاه فأنشد اليشكري:
تعفو الملوك عن العظيم من الذّنوب لفضلها ... ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
لكن ليعرف فضلها ... ويخاف شدّة نكلها
انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى إعرابي فقال: أتعرف عبد الملك؟ قال:
نعم جائر بائر «2» . قال: ويحك أنا عبد الملك قال: لا حيّاك الله ولا بيّاك ولا قربك.
أكلت مال الله وضيّعت حرمته. قال: ويحك أنا أضرّ وأنفع. قال: لا رزقني الله نفعك ولا دفع عنّي ضرك فلما وصلت خيله علم صدقه، فقال: يا أمير المؤمنين اكتم ما جرى فالمجالس بالأمانة.
مستعف سأل أن ينخدع له
قال ابن الرومي:
فسامح وليّك إنّ الكري ... م قد يتخادع للخادع
وقال:
وما بك من غفلة إنّما ... لفرّط الحياء وفرط الكرم
وكان جعفر بن سليمان عثر برجل سرق درة فباعها؟ فلما بصر بالرجل استحيا فقال له: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها؟ فقال الرجل: نعم فخلّى سبيله.
وبلغني أنّ ركن الدولة كان يوما في الدار بحيث لا يرى فدخل فراش فرأى طاسا من ذهب ولم يكن بقربه أحد، فتناوله وخرج، فرآه ركن الدولة ولم يعلم به فلما استقصى عليه الخدم قال: دعوه فإن من أخذه لم يأخذه على أن يرده ورائيه لا يريد(1/287)
أن يذكر. فبعد ذلك كان الفراش يصبّ ماء على يديه وعليه ثياب فاخرة فقال ركن الدولة: هذه الثياب من ذلك الطاس، وكان الفراش جلدا فقال نعم أيها الأمير: وغير ذلك من أثر النعم، فعفا عنه.
الحثّ على استبقاء نعمة بإقالة عثرة
قال ابن الرومي:
لا تطيّر وسنا عن مقلة ... أنت أهديت لها حلو الوسن»
قال ابن نوقة:
أترضى بإلزام الدنيئة خادما ... رجا في ذراكم أن ينال المعاليا «2»
وقال روح بن ذنباع «3» : لا تشمتنّ بي عدوا أنت رقمته ولا تسوءنّ بي صديقا أنت سررته ولا تهدمنّ ركنا أنت بنيته.
استعفاء من زعم أن ذنبه كان خطأ أو نسيانا
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. وقال غلام هاشميّ أراد عمّه أن يجازيه بسهو منه: يا عم إنّي قد أسأت وليس معي عقلي فلا تسىء ومعك عقلك. قال أبو تمّام:
فإن يك سخط عمّ أو تك هفوة ... على خطإ منّي فعذري على عمد «4»
قال عليّ بن الجهم:
ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا اهدى
ومفسد أمر تلافيته ... فعاد وأصلح ما أفسدا
قال المتنبّي:
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأوّل معشر خطئوا فتابوا
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربّما حفي الصّواب
المتمدّح بذلك
اعتذر رجل إلى المنتصر فقال: أتراني أتجاوز بك حكم الله حيث يقول: لَيْسَ(1/288)
عَلَيْكُمْ جُناحٌ «1» فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
«2» .
قال الحسن بن وهب:
وعندي إغضاء وعفو عن الذي ... يزلّ إذا ما لم يكن ذاك عن عمد
مستعف سأل أن يقوّم ويؤدّب
قال أحمد بن أبي فنن:
أحين كثّرت حسّادي وساءهم ... جميل فعلك بي أشمتّ حسّادي
فإن تكن هفوة أو زلة سلفت ... فأنت أولى بتقويمي وإرشادي «3»
مستعف سأل العفو لفرط خوفه
قال علي بن الجهم:
فعفوك عن مذنب خاضع ... قرنت المقيم به المقعدا
إذا ادرع الليل أفضى به ... إلى الصّبح من قبل أن يرقدا «4»
مستعف اتكل على سالف حرمته
قال هاشمي للمأمون: من حصل له مثل دالتي، ولبس ثوب حرمتي، ومت بمثل قرابتي، واسلف مثل مودّتي، أقيل له أعظم من عثرتي، وغفر له فوق زلّتي، فقال:
صدقت وعفا عنه. قال شاعر:
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيّامي وحسن بلائيا «5»
وكفى بالحثّ على ذلك قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
«6» .
الاستعفاء لمذنب من قوم محسنين
قال إبراهيم الصولي:
أساءوا وفيهم محسنون فإن تهب ... لمحسنهم أهل الإساءة يصلحوا(1/289)
متوصل إلى العفو بمراجعة أو حجة
غضب عبد الملك على رجل فلما أتى به. قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلم الله عليك. فقال: ما هكذا أمر الله تعالى إنما قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها
«1» وقال: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
«2» فعفا عنه. وكان عمر رضي الله عنه يعس ليلة فسمع غناء رجل من بيت فتسوّر عليه فرآه مع امرأة يشربان الخمر. فقال: يا عدوّ الله أرأيت أن يسترك الله وأنت على معصية، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت في ثلاث قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا
«3» وقد تجسست وقال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها
«4» وقد تسوّرت علي وقال: ولا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها
«5» وقد دخلت بغير سلام. فقال عمر رضي الله عنه: أسأت فهل تعفو؟
فقال: نعم وعليّ أن لا أعود.
من توصّل إلى العفو بذمّ نفسه
كان جعفر بن أمية خرج مع مصعب «6» بن الزبير وكان صديقا لعبد الملك، فلما أتى به بعد قتل مصعب قال عبد الملك: لا أنعم الله بك، خرجت مع مصعب؟ قال: نعم قال:
ونعم أيضا فلا أنعم الله بك. قال: إني أعرف نفسي بالشؤم فاردت أن أصيب مصعبا بشؤمي، فضحك وخلّاه.
وأتى الحجّاج برجل من أصحاب ابن الأشعث «7» فقال له: أفيك خير إن عفوت عنك؟ فقال: لا. قال: ولمه؟ قال: لأني كنت خاملا فرفعتني وألحقتني بالناس فخرجت مع ابن الأشعث لا لدين ولا لدنيا ومعي الحماقة التي لا تفارقني أبدا ولا أفلح معها سرمدا.
فضحك منه وخلّى سبيله.
من توصّل إلى العفو بحيلة
أتى معن بن زائدة «8» بأسرى فأمر بضرب أعناقهم، فقام غلام منهم فقال: أنشدك الله(1/290)
أيها الأمير أن لا تقتلنا ونحن عطاش. فقال: اسقوهم، فلما شربوا قال: ناشدتك الله إن قتلت ضيفانك، قال: أحسنت فخلّى سبيلهم.
همّ الأزارقة «1» بقتل رجل فقال: أمهلوني لأركع فنزع ثوبه واتزر ولبّى وأظهر الإحرام، فخلّوا سبيله لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ
«2» .
ولما غشى أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه عمرو بن العاص طرح نفسه على الدابة وتلقاه بعورته. فأعرض عنه وقال: قبحك الله، ولما أتى عمر رضي الله عنه بالهرمزان «3» أراد قتله فاستسقى ماء فأتى بقدح فامسكه بيده فاضطرب وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء، فقال: نعم، فألقى القدح من يده، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يقتل فقال: أو لم تؤمني وقلت لا أقتلك حتى تشرب هذا الماء؟ فقال عمر: قاتله الله أخذ أمانا ولم نشعر به.
مستعف ذكر فرط خوفه من الوعيد
قال مروان «4» بن أبي حفصة
أبيت وجنبي لا يلائم مضجعا ... إذا ما اطمأنّت بالجنوب المضاجع
قال سلم الخاسر:
لقد أتتني من المهديّ معتبة ... تظلّ من خوفها الأحشاء تضطرب
قال أبو تمّام:
أتاني عائر الأنباء تسري ... عقاربه بداهية نآد «5»
فيا خبرا كأنّ القلب أمسى ... يجرّ به على شوك القتاد «6»
قال البحتري:
عذيري من الأيام رقّقن مشربي ... ولقينني نحسا من الطير أشأما
وألبسنني سخط امرىء بتّ موهنا ... أرى سخطه ليلا مع الليل مظلما «7»
من هرب خشية العتاب فاعتذر لذلك
قال شاعر:
لئن أخفى حذاري عنك شخصي ... لما أرسلت من كفّي خيلك(1/291)
ولم أهرب على ثقة وعلم ... بأنّي إن رميت أفوت نبلك
ولكنّي هربت على يقين ... بأنك معمل في الحكم فضلك
المتوصّل إلى العفو بمغالظة القول
أتى مخرق بنساء، فطلبن أن يعفو عنهن فأبى، فقالت امرأة منهنّ: أطال الله سهادك وأخمد رمادك فما قتلت إلا نساء أعلاهن ندى وأسفلهن دما، ما أدركت من قتلنا ثارا ولا محوت عن نفسك به عارا. فأمر بتخلية سبيلهن غيرها، وقال: إنّي لأخشى أن تلد مثلها.
وأتى الحجاج بأسارى «1» فقال أحدهم: لا جزاك الله عن السنة خيرا، قال: كيف؟ قال: إنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ
«2» فإمّا منا بعد وإمّا فداء، فلا مننت ولا فاديت، فقال الحجاج: خلّوا سبيلهم. وقالت امرأة في جملة أسري: قبّحك الله فلئن أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو. فقال: أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يقول مثل هذا. وأمر بتخلية من بقي منهم.
المتوصّل إلى العفو بتذكّر الله ومناشدته
غضب رجل على مولاه فقال: أسألك بالله إن علمت أني لأطوع لك منك لله فاعف عنّي، عفا الله عنك، فعفا عنه.
وقال رجل لأمير غضب عليه: أسألك بالذي أنت أذلّ بين يديه غدا منّي بين يديك إلا ما عفوت عنّي، فعفا عنه. وقال آخر لأمير يضربه: اضرب بقدر ما تعلم أنك تجشّمه «3» عند القصاص يوم الجزاء «4» ، فعفا عنه.
من استعفى واستوهب جميعا
جنى غلام للحسن بن علي رضي الله عنهما فأمر بعقابه فقال: يا مولاي إن الله تعالى قد مدح قوما فكن منهم، فإنه يقول: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
«5» فقال: خلوا سبيله قال وقد قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«6» قال: أنت حر لوجه الله ولك من المال كذا.
واستعفى رجل من مصعب بن الزبير فعفا عنه فقال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض، فأعطاه مائة ألف، فقال الرجل: إنّي قد جعلت نصفها لابن قيس الرقيّات لقوله:
إنّما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظّلماء(1/292)
فقال له مصعب: هذا لك وعلينا أن نعطيه ذلك، قال المتنبّي:
فاغفر فديتك وأحبني من بعدها ... لتخصّني بهدّية منها أنا «1»
وقال:
رددت مالا ولم تمنن عليّ به ... وقبل مالي قدما قد حقنت دمي
المتوصّل إلى العفو بدفع الوقت
أتي عبيد الله بن زياد»
بخارجيّ فأمر بقتله، فقال: إن رأيت أن تؤخّرني إلى غد فأمر بتأخيره فقال:
عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
فعفا عنه. وغضب المأمون على علي بن الجهم «3» فقال: لآخذن مالك ولاقتلنك أقتلوه. فقال أحمد بن أبي «4» دؤاد: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال يا أمير المؤمنين؟ قال:
من ورثته، فقال: حينئذ تأخذ مال الورثة وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخّر حتى يستصفى ماله. وانقضى المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه.
قال شاعر:
وإذا ابن عمك لجّ بعض لجاجه ... فانظر به غده ولا تستعجل
المتوصّل إلى ذلك بالتثبّت إلى حين التبيّن
قال الله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
«5» ، وقيل: لوال: تأنّ فإن التأني من الوالي صدقة. وغضب الرشيد على رجل فقال له جعفر: غضبت لله فاطع الله في غضبك بالوقوف إلى حال التبين كما غضبت له.
وقال الشعبيّ لعبد الملك: إنّك على إيقاع ما لم توقع أقدر منك على ردّ ما أوقعت.
فأخذ هذا المعنى شاعر، فقال:
فداويته بالحلم والمرء قادر ... على سهمه ما دام في يده السّهم(1/293)
التثبّت في العقوبة نصف العفو
قال المتنبّي:
ترفّق أيّها المولى عليهم ... فإنّ الرفق بالجاني عتاب
نهي العافي عن التثريب
رضي بعض الملوك عن رجل ثم أخذ يوبّخه. فقال: إن رأيت أن لا تخدش وجه رضاك بالتثريب «1» فافعل. وقيل: ما عفا عن الذنب من قرّع به «2» . وقيل: العفو مع العذل «3» أشد من الضرب على ذي العقل. فرّب قول أنفذ من صول وعفو أشد من انتقام، قال ابن نوقة:
إن كنت تعفو فاعف عفو مهنىء ... إحسانه إنّ الكريم وهوب
قل قول يوسف حين قال لإخوة ... جاؤه معتذرين لا تثريب
أو لا فعاقبني فليس بمنكر ... من مثلك التقويم والتأديب
وفيمن يعاقب ثم يعاتب، قال شاعر:
إذا عوقب الجاني على قدر جرمه ... فتعنيفه بعد العقاب من الرّبا «4»
معاتبة من صفح ثم ندم
قال ابن طباطبا: كان جرى بيني وبين رجل كلام واحتملت عنه، ثم ندمت فرأيت في المنام كأنّ شيخا أتاني فأنشدني:
أندمت حين صفح ... ت عمّن قد أساء وقد ظلم
لا تندمن فشرّنا ... من أتبع الخير الندم
ذمّ من اعتذر فأساء
قيل في المثل: عذره أشد من جرمه، رب أضرار أحسن من اعتذار. وقال آخر:
أنسيتنا باعتذارك كلّ عثارك وقيل بث من عذرك ثم من ذنبك.
قال الخبزارزي:
وكم مذنب لمّا أتى باعتذاره ... جنى عذره ذنبا من الذّنب أعظما
قال ابن الحجّاج:
لي صديق جنى عليّ مرارا وكثّرا(1/294)
ثمّ لمّا عتبته ... غسل البول بالخرا
قال عليّ بن عبد العزيز الجرجاني:
ربّ ذنب ينمى على العذر حتّى ... يبصر الاحتجاج عنه يشينه
كمقال الجريء يزداد قبحا ... كلّما ازداد منهم تحسينه
النهي عن الذنب المفضي إلى الاعتذار
قيل: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فما كل من يحكي عنك وينكر تطيق أن توسعه عذرا وقيل من وثق بحسن العذر وقع في الذنب. قال قال الموسوي:
ومن قيّد الألفاظ عند نزاعها ... بقيد النّهى أغنته عن طلب العذر
النّهي عن العذر
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياكم والمعاذير فإنّها مفاجر. وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه:
امسك عن الاعتذار واستمسك بالاستغفار.
وكتب الحجاج إلى بعض من اعتذر إليه أن يعلم الله ذلك من نيتك تكف المقال.
صعوبة الاعتذار والحثّ على تركه
قال عليّ بن الجهم:
إنّ دون السّؤال والاعتذار ... خطّة صعبة على الأحرار
فارض للمذنب الخضوع وللقا ... رف ذنبا مضاضة الأعتذار «1»
قال الزبير وهو في نهاية الحسن:
تعالوا نصطلح وتكون منّا ... معاودة بلا عدّ الذّنوب
فإن أحببتم قلتم وقلنا ... فإن القلب أشفى للقلوب
نهي من لم يذنب عن العذر
إيّاك والعذر عما لم تجنه فالمعتذر من غير ذنب يوجب على نفسه الذنب. وقيل:
أحقّ منزلة بالاجتناب منزلة العذر لأنه يقف مواقف تهمة وقلّما سلم من ظنّة «2» . وقيل:
الإغراق في العذر يحقق التهمة كما أن الافراط في النصيحة يوجب الظنّة.
الاعتذار من ترك الاعتذار
قال بعضهم: سكوتي عن التفسير لاعترافي بالتقصير. وقال آخر: لست أعتذر إليك(1/295)
من الذنب إلا بإقلاع عنه. وكتب كاتب: إن تركت الأعتذار فلما قال الشاعر:
إذا لم يكن للعذر وجه مبين ... فإن اطراح العذر خير من العذر «1»
وقيل للمطيع «2» وقد بلغ المهتدي «3» عنه شيء أنكره: إن كان ما بلغك حقا فما تغني المعاذير وإن كان كذبا فما تضرّ الأباطيل.
الممتنع من العذر عن حقّ أورده
سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف: كيف تركته؟ فقال: تركته سمينا عظيما. قال: إنما سألت عن سيرته، قال: ظلوما غشوما. قال: أما علمت أنه أخي؟ قال:
نعم ما هو بك أعزّ منّي بالله فأمر بضربه، فقيل له: اعتذر إليه. فقال: معاذ الله أن أعتذر من حق أوردته.
وخطب الحجاج يوما فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة والوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون فإن رأى أن يخلي سبيله فقال: إن أقر بالجنون خلّيته. فقيل له ذلك فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني. فبلغ ذلك الحجّاج فعفا عنه لصدقه.
ودخل رجل على سلطان وكان قد أذنب فقال: بأي وجه تلقاني؟ فقال: بالوجه الذي ألقى به الله، فإن ذنوبي إليه أكثر وعقوبته أكبر. فعفا عنه ووصله.
تأسّف من يعاتب من غير ذنب
قال شاعر:
قد يلام البريء من غير ذنب ... وتغطّى من المسيء الذّنوب
وقال آخر:
إذا كنت ملحيا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس «4»
وقال البحتري:
إذا محاسني اللاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر!
وفي المثل: ربّ ملوم لا ذنب له. قال شاعر:
وكم من موقف حسن أحيلت ... محاسنه فعدّ من الذّنوب(1/296)
من اعتذر بتكذيب الواشي
قال زهير بن بلال:
وذي حنق أغراه بي غير ناصح ... فقلت له: وجه المحرّش أقبح «1»
قال أبو تمام:
ومن يأذن إلى الواشين يسلق ... مسامعه بألسنة حداد
قال ابن الحجاج:
قل للذي جهّز بالسّعي بي ... بضاعة عادت بخسرانه
يا ذا الذي لا بدّ من صفعه ... يوما ومن تعريك آذانه
لو حدّثت كسرى به نفسه ... صفعته في جوف إيوانه
قلّة الاعتذار بقول الواشي
قال شاعر:
دع الناس ما شاؤوا يقولون، إنني ... لأكثر ما قالوا عليّ حمول
وما كلّ من أسخطته أنا معتب ... ولا كلّ ما يروى عليّ أقول
من ذكر إرضاء صاحبه
قال العتابي «2» :
فهل أنا مغض في هواك وصابر ... على حدّ مصقول الغرار بن قاضب
ومنتزع عمّا كرهت وجاعل ... رضاك مثالا بين عيني وحاجبي
وقال آخر:
لو أسخطتك حياتي ... قتلت نفسي لترضى
(3) ومما جاء في ذمّ الحلم ومدح العقاب
النهي عن الملاينة حيث لا تنفع
قال شاعر:
بالرفق مارس ولاين من تخالطه ... وغالظنّ إذا لم ينفع اللين(1/297)
قال سعد بن ناشب:
وفي اللين ضعف والشراسة هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر «1»
وقيل: الكريم يلين عند استعطافه واللئيم يقسو عند استلطافه.
النهي عن الحلم إذا كان يلحق منه مذلّة
قال سالم بن وابصة:
إنّ من الحلم ذلا أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم
قال قيس بن زهير «2» :
وقد يستجهل الرجل الكريم
وقال آخر:
وفي الحلم ضعف والعقوبة هيبة ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح
إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم
قال المتنبي:
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وله:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم
دفع الجهل بالجهل
قال هدبة:
ما إن نفى عنك قوما أنت تكرههم ... كمثل وقمك جهّالا بجهّال
وقال آخر:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج «3»
وما كنت أرضى الجهل خدنا ولا أخا ... ولكنّني أرضى به حين أحوج «4»
وقيل: الشرّ لا يدفعه إلا الشر والحديد بالحديد يفلح.
من حلم وقتا ونهى عن الاغترار به
قال بعضهم:
فلا يغررك طول الحلم منّي ... فما أبدا تصادفني حليما(1/298)
قال المتنبّي:
وأطمع عامر البقيا عليها ... وترّفها احتمالك والوقار «1»
وصف الحلم بأنه مضرّ مذلّل
قيل: الشهرة بالملاينة والخير شرّ من الاشتهار بالغلظة والشر لأن من عرف بالخير اجترأ عليه الناس، ومن عرف بالشّر هابه الناس وتجنّبوه. وقيل: آفة الحلم الذلّ وقيل للأحنف: ما الحلم؟ فقال: الرضا بالذل.
كون الحلم مغريا
قال معاوية: ما ولدت قرشية خيرا منّي فقال ابن زرارة الكلابية: بل ما ولدت شرّا لهم منك فقال: كيف؟ قال: لأنك عودتهم عادة يطلبونها ممّن بعدك فلا يجيبونهم إليها فيحملون عليهم كحملهم عليك، وكأنّي بهم كالزقاق «2» المنفوخة على طرقات المدينة.
وقال الأحنف لرجل: ليت طول حلمنا عليك لا يدعو جهل غيرنا إليك.
النهي عن إكرام اللئام
قال يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان وليا إلا أعقبني ندما، ولا أقدمت على كريم وإن كان عدوا إلا أعقبني أسفا. قال شاعر:
متى تضع الكرامة في لئيم ... فإنّك قد أسأت إلى الكرامه
وقد ذهبت صنيعته ضياعا ... وكان جزاء فاعلها النّدامه «3»
وقيل: الكريم يستصلح بالكرامة واللئيم بالمهانة.
قال المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا «4»
فوضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرّ كوضع السيف في موضع النّدى
وقيل: استعمال الحلم مع اللئيم أضر من استعمال الجهل مع الكريم.
الاستخفاف بمن لا يصلحه الإكرام
إذا لم تنفع الكرامة فالإهانة أحزم. وقيل: من لا يصلحه الطالي أصلحه الكاوي من(1/299)
كان الإكرام مفسده لم تكن الزيادة فيما يفسده له مصلحة. جنّب كرامتك اللئام فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا وإن نزلت بهم شدة لم يصبروا.
قال شاعر:
سأحرمكم حتّى يذلّ صعابكم ... فانجع «1» شيء في صلاحكم الفقر
قال آخر:
إنّ اللئيم إذا رأى ... لينا تزايد في خسرانه
لا تكذبنّ فصلاح من ... جهل الكرامة في هوانه
الاستعانة بالجهل عند الحاجة إليه
أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار، وبينما ابن عمر رضي الله عنهما جالس إذ أقبل أعرابي فلطمه فقام إليه رجل فجلد به الأرض، فقال ابن عمر: ليس بعزيز من ليس في قومه سفيه. وقيل: اجعل لكلّ كلب كليبا يهرّ دونك، فالعرض يصان بمثل سفيه يصول «2» وحاد يقول:
لا بدّ للسؤدد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح
قال الأحنف:
ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاقي المعضلات من الرّجال
وقال آخر:
ولا يلبث الجهّال أن يتهضّموا ... أخا الحلم ما لم يستعن بجهول
الرخصة في عقاب المجرم والحثّ عليه
قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ
«3» وقال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ
«4» ، وجاء أعرابيّ إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال:
أتخاف عليّ جناحا إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال ابن عباس: وإن تعفوا أقرب للتقوى ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل.
وقال الشعبي: يعجبني الرجل يكافىء بالسيئة السيئة، فإذا سيم هوانا «5» أبت له الأنفة إلا المكافأة. فبلغ قوله الحجّاج فقال: لله درّه «6» . أيّ نفس بين جنبيه. وقال الجاحظ: من قابل الإساءة بالإحسان فقد خالف الربّ في تدبيره، وظنّ أن رحمته فوق رحمة الله تعالى والناس لا يصلحون إلا على الثواب والعقاب.(1/300)
وضرب الحجّاج رجلا فقال: اعتديت أيّها الأمير فقال: لا عدوان إلا على الظالمين. ووقّع «1» إبراهيم بن العباس: إذا كان للمحسن من الحق ما يقنعه وللمسيء من النكال ما يقمعه بذل المحسن الحق له رغبة، وانقاد المسيء له رهبة.
حثّ القادر على العقاب قبل فوته
قيل: صمّم إذا أيقنت أنك عاقره «2» ، وقال بعض الغسانيين يحرض الأسود بن المنذر على قتل أعدائه:
ما كلّ يوم ينال المرء فرصته ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا
فأحزم الناس من إن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذّنبا
دخل الأبرش على هشام لما غضب على خالد القسري فقال: يا أمير المؤمنين أقلّ خالدا عثرته»
وتدارك بحلمك هفوته فقال:
مضى السهم حتّى لا يريد سوى الحشا ... فصادف ظبيا في الحديق راتعا «4»
وكتب يحيى بن خالد إلى الرشيد من الحبس: إن كان الذنب خاصا فلا تعمم بالعقوبة في سلامة البري ومودة الولي. فكتب إليه: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ
«5» .
وقال عبد الصمد للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو. فقال: لأن بني مروان لم تبل رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين أقوام قد رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء فليس تتمهد الهيبة في صدورهم إلا باطراح العفو واستعمال العقوبة. وقال لما قتل أبا مسلم: لقد شاركت عبد الملك في قول كثير:
يصدّ ويغضي وهو ليث خفية ... إذا أمكنته فرصة لا يقيلها
التبجّح «6» بقسوة القلب وقلّة الرحمة
كان محمّد بن عبد الملك بن الزيات يقول: رقة القلب من خور «7» الطبيعة. ولما أمر(1/301)
الواثق بتعذيبه وبحبسه في تنور من الحديد وإطباقه عليه قال لمعذبه: ارحمني. فردّ الخبر إلى الواثق فقال: أين قول لا تكون الرحمة إلا من خور، ثمّ تمثل بقوله:
فلا تجز عن من حسنة سنة أنت سرّتها
ووقع في قصة رجل دعني من ذكر الرحمة والاشفاق فما هما إلا للنسوان والصبيان.
قال المتنبّي:
يدخل صبر المرء في مدحه ... ويدخل الإشفاق في قلبه
المتمدّح بأنه يقابل الإساءة بمثلها
قال شاعر:
اعلم بأنّك ما أسديت من حسن ... إليّ أو سيء أوفيتك الثّمنا
قال مسلم بن الوليد «1» :
فإن يك أقوام أساؤا فأحسنوا ... إليّ فإنّي بالجزاء لراصد
قال الحارثي إذا عفا لم يكن في عفوه من ولا يكدر نعماه، إن سطا عاتب ذا جرم بقدره لا يتعداه.
أخذ البريء بجرم السقيم
قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
«2» . قال الحارث بن حلزة «3» :
عننا باطلا وظلما كما يع ... ترّ عن حجرة الربيض الظّباء «4»
وقال آخر:
كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع «5»
وقال آخر:
كالثور يضرب لما عافت البقر
ووقف رجل على الحجّاج فقال: أصلح الله الأمير جنى جان في الحيّ فأخذت بجريرته وأسقط عطائي. فقال الحجّاج: أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... يعدي الصّحاح مبارك الجرب(1/302)
ولربّ مأخوذ بذنب صديقه ... ونجا المقارف صاحب الذّنب
فقال: أعز الله الأمير كتاب الله أولى ما اتبع. قال الله تعالى: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ
«1» فقال الحجاج: صدقت يا غلام رد اسمه وأثبت رسمه وسن عطاءه.
وقال الحسن رضي الله عنه: عقر الناقة رجل واحد ولكن عم القوم بالعذاب لما رضوا بفعله. وقيل لرجل ما فعلت حتى ضربك السلطان؟ فقال:
وإن امرأ يمسي ويصبح سالما ... من النّاس إلا ما جنى، لسعيد
عذر من بدر منه سخط
قال البحتري:
إذا أحرجت ذا كرم تخطّى ... إليك ببعض أخلاق اللئام
عذر من عاتب على صغير
قال رجل من بني يشكر:
تعفو الملوك عن العظيم من الذّنوب لفضلها ... ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
لكن ليعرف فضلها ... ويخاف شدّة نكلها «2»
فضل غلبة الخصم بالحجّة دون البطش
قال معاوية رضي الله عنه عجبت لمن يطلب أمرا بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجّة ولمن يطلبه بخرق وهو يقدر عليه برفق. ولمّا ظهر ماني الزنديق في أيام سابور بن أزدشير ودعا الناس إلى مذهبه، فأخذه سابور قال له نصحاؤه: اقتله، قال: إن قتلته من غير أن قطعته بالحجة قال عامة الناس بقوله، ويقولون ملك جبار قتل زاهد ولكني أحاجه فإذا غلبته بالحجة قتلته، ففعل ثم حشا جلده تبنا وصلبه.
(4) وممّا جاء في العداوات
الاحتراس من غرس العداوة
قيل: لا تشتر عداوة رجل واحد بمودة ألف رجل. وفي كتاب كليلة لا ينبغي للعاقل أن تحمله ثقته بقوته على أن يجتر العداوة كما لا يجب لصاحب الترياق أن يشرب السم اتكالا على أدويته. وقيل: توسّد النار وافتراش الأفاعي أقل غائلة ممن أوجس عداوتك فيروح بها.(1/303)
وقيل: احذر معاداة الرجال فالناس رجلان عاقل فأحذر ختله «1» وأحمق فاحذر حمقه.
وقال عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله عنهم لابنه: إتّق معاداة الرجال فانك لا تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم.
وقيل: الأحقاد مخوفة وأخوفها ما كان في أنفس الكبار فإنهم يرون الطلب الوتر «2» مكرمة.
وقال بعضهم في التحذير من العداوة:
سيعلم إسماعيل أنّ عداوتي ... له سمّ أفعى لا يصاب دواؤها
النهي عن الاعتذار بالعداوة إذا ظهر الودّ
قيل: العدوّ المبطن للعداوة كالنحل تمج الدواء وتجتنب الداء. قال سديف بن ميمون يحرض بني العباس على بني أمية:
لا يغرّنّك ما ترى من رجال ... إنّ تحت الضّلوع داء دويّا
فخذ السيف واطّرح السوط حتّى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
وله:
أنزلوها بحيث انزلها الل ... هـ بدار الهوان والأتعاس
ذلّها أظهر التودّد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي
قال المتنبي:
فلا يغررك ألسنة موال ... تقلّبهنّ أفئدة أعادي
وكن كالموت لا يرثي لباك ... بكى منه ويروى وهو صاد «3»
وقال آخر:
تعلم أنّ أكثر ما تنادي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي «4»
وفي كتاب كليلة: لا يغرّ العاقل سكون الحقد في القلب ما لم يجد محركا كالجمر المكنون، ما لم يجد حطبا. والعداوة إذا وجدت فرصة اشتعلت فلا يطفئها شيء دون النفس.
النهي عن السّكون إلى من يخافك
من خاف شرك أفسد أمرك ومن خاف صولتك ناصب دولتك، قال معاوية: من خاف اساءتك اعتقد مساءتك.(1/304)
النهي عن السّكون إلى من تقدّم منك له إساءة
قيل: إذا أوحشت الحرّ فلا ترتبطه فإذا ارتبطته فلا توحشه. لمّا قدم عبد الملك المدينة خطب فقال: والله ما تحبونا ولا نحبكم ونحن أصحاب يوم الحرة وإنما مثلنا، كما قال النابغة «1» :
أبى لك قبر لا يزال مواجها ... وضربة فأس فوق رأسي ناقره «2»
وحديث ذلك أن العرب زعمت أن حية كانت في بيت رجل فقتلته فترصدها أخوه ليقتلها طالبا بثأره فقالت له الحية: صالحني على أن اؤدى إليك كل يوم دينارا ففعل. فلما كثر ماله تذكر دخله فأعد فأسا وترصدها فرماها وأشواها، فقطع ذنبها فافلتت وندم الرجل لما لم ينل ثأره، وفاته ما كان يناله فدعاها يوما إلى المراجعة على أن يصالحها فقالت: لا يقع الصلح بيننا ما رأيت قبر أخيك وأرى أثر الفأس في ذنبي.
وحكي أن رجلا كان له عبد سندي فتعرض لامرأته فعلم الرجل بذلك فأخذه وجبهه «3» ثم تحوّب «4» لذلك فداواه. فلما برأ اتفق إن غاب الرجل يوما فعمد السندي المحبوب إلى ابنين كانا لسيده فأخذهما وصعد السور فلما بصر بالرجل قال: والله إن لم تجب نفسك كما جببتني لاقذفهما من السور ليموتا، وإن نفسي لأهون من شربة ماء. فلما رأى الرجل منه الجدّ جبّ نفسه فرمى العبد بالابنين من السور، وقال إن جبّك نفسك قصاص لما جببتني وقتل ابنيك زيادة أعطيتكها.
التحذير من عدوّ قاهر
قيل: أحذر الناس أن يحذر عدوّ قاهر وسلطان جائر. وقيل: إيّاك ومعاداة من أن أرادك بسوء أرداك «5» ، وإن أردته بسوء لم توجع إلّا حشاك، وقيل: لا تعاد من غيظك عليه غيظ الأسير على القد.
النهي عن الاستعانة بمن ظلمته
قيل: العدوّ عدوان عدوّ ظلمته وعدو ظلمك، فإن اضطرك الدهر إلى أن تستعين بأحدهما فاستعن بالذي ظلمك فإنه أحرى «6» أن يعينك وإن الذي ظلمته موتور «7» .(1/305)
النهي عن استصغار العدوّ
قيل: لا تستصغرّن أمر عدوك إذا جاريته لأنك إن ظفرت به لم تحمد وإن ظفر بك لم تعذر.
الضعيف المحترس من العدوّ القوي أقرب إلى السلامة من القوي المغتر بالعدوّ الضعيف.
وقيل: العدو المحتقر ربما اشتد كالغصن النضر بما صار شوكا، وقيل: لا تأمنن العدوّ الضعيف إن تورطك فالرمح قد يقتل به وإن عدم السنان والزجّ «1» ، قال شاعر:
لا تحقرّني فربّما نفذت ... في ردم يأجوج جيلة الجرذ «2»
قال الموسوي الفيل يضجر وهو أعظم ما رأيت من البعوض. وفي المثل إذا عز أخوك فهن وإذا لم تغلب فاخطب. لا يتقى العدو والقوي بمثل الخضوع واللين فمثل ذلك كمثل الريح العاصف، تقلع الأشجار العظام لتأبّيها عليها، ويسلم منها النبات اللين لتمايله معها، قال سليمان بن وهب:
غرّك الدهر بما تهوى فهن ... وإذا ما أخشن الدّهر فلن «3»
لا تعاسره وخذ ميسوره ... وتفنّن معه في كل فن «4»
قال المأمون لأبي دلف: شد ما استحذيت للحسن بن رجاء. فقال: يا أمير المؤمنين ذلك بما وهبت له من القدرة وصحبه من حداثة الغرارة. وكانت الطاعة تعارض الانتصار منه وخفت أن يكون من قدرته ما يعنيك بي فلا أجد لذلك عوضا فسلمت قال ابن نباتة «5» :
وإذا عجزت عن العدوّ فداره ... وامزج له إن المزاج رفاق «6»
فالنّار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق «7»
حمد المداجاة طلبا للفرصة
قيل لابن القرية: ما الدهاء؟ فقال: تجرع الغصه، وتوقع الفرصة، وقيل: من تمام(1/306)
الأدب أن تستر العداوة إلى وقت الفرصة لئلا يستسلح لذلك. قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: انكى الأشياء لعدوك أن لا تعلمه أنك اتخذته عدوا. وقيل: لا يكونّن سلاحك على عدوك أن تكثر ثلبه وقصبه فإنك تخبر عن حزمه وعجزك، ولكن دامجه حتى تبادره بالكظم وتساتره بالختل. قال التنوخي:
إلق العدّو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودّات
وقيل: إذا لم تجد لشفرتك محزا فلا تضعها في صلابة فتكلها.
المتبجّح باظهار الليان وإبطان العداوة
قال عبد الملك بن مروان لما قتل عمر والاشدق سكنته ليقلّ منه نفره، فاصول صولة حازم مستمكن. قال حميد الأكاف:
وإني ليلقاني العدوّ مواصلا ... فيحسبني منه أبرّ وأوصلا
أجرّ له ذيلي لأدرك فرصتي ... ويحسبني في جرّ ذيلي مغفّلا
قال المتنبي:
وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتّى أتته يد فرّاسة وفم
وقال آخر:
أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم باد على مراضها «1»
وصف عدوّ يكاشرك إذا حضرك
قال عمرو بن جابر الحنفي:
يكاشرني وأعلم أنّ كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص «2»
قال عمرو بن أم عاصم:
كلّ يداجي على البغضاء صاحبه ... ولن أعالنهم إلا كما علنوا»
قال المثقب:
إن شرّ الناس من يكشر لي ... حين ألقاه وإن غبت شتم «4»
قال ابن الرومي:
يبيح لي صفحة السلّامة والسّلم ويخفي في قلبه مرضا «5»(1/307)
وقال المتنبي:
أبدو فيسجد من بالسّوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا وإهوانا
وقيل لأعرابي: كيف فلان فيكم؟ فقال: إذا حضر هبناه وإن غاب اغتبناه «1» . قال:
ذاك هو السيد فيكم.
من نظره ينبىء عن عداوته
وقال زهير:
الودّ لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان «2»
وقال آخر:
ستور الضمائر مهتوكة ... إذا ما تلاحظت الأعين «3»
وذكر أعرابي قوما فقال: ما زالت عيون العداوة تتجهم فتمجها أفواههم وأسباب المودة تخلق من قلوبهم فتخرس عنها ألسنتهم حتى ما لعداوتهم مزيد.
العداوة المستورة والتحذير منها
قال الشاعر:
وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغن ... كماطر أوبار الجراب على النشر «4»
وقال آخر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
وقال أبو نواس:
كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النّار في حجره
وقال المتنبي:
وإنّ الجرح ينفر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد
وقيل هدنة على دخل وجماعة على أقذاء. قال شاعر:
ومستخبر عنّا يريد لنا الرّدى ... ومستخبرات والعيون سواجم «5»(1/308)
وفي كتاب كليلة: لا تأمنن عدّوك على مكنون سرّك فكمون عداوته ككمون الجمر في الرماد إذا وجد فرصة اشتعل.
ثبات العداوة الجوهريّة
في كتاب كليلة: ليس بين العداوة الجوهرية صلح وإن اجتهد فالماء وإن أطيل إسخانه فليس يمتنع من إطفاء النار إذا صبّ عليها. وحكي أنّ أعرابيا أخذ جر وذئب فربّاه بلبن شاة عنده، وقال: إذا ربيته مع الشاة يأنس بها فيذبّ عنها ويكون أشد من الكلب ولا يعرف طبع أجناسه، فلما قوي وثب على شاته فافترسها، فقال الأعرابي:
أكلت شويهتي ونشأت فينا ... فما أدراك أنّ أباك ذيب «1»
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الودّ والعداوة يتوارثان، وقيل: لكل حريق مطفىء فللّنار الماء وللئيم العداوة وللحزين الصبر وليس للحقد الغريزي دواء.
المسرّة بوقوع المعاداة بين أعدائك
في كتاب كليلة: من حق العاقل أن يرى معاداة بعض عدوه لبعض ظفرا حسنا. ففي اشتغال بعضهم ببعض خلاصه منهم وفي الأدعية المجمع عليها: اللهمّ أخذل الكافرين وأوقع بينهم العداوة والبغضاء.
دنىء يعاديك بلا سبب
قال عبد الصمد:
ربّ من يشجيه أمري ... وهو لم يخطر ببالي
قلبه ملآن من ذكري وقلبي منه خال
قال الموسوي:
واتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشا
تأسّف من يعاديه لئيم أو دنيء
قال علي بن الجهم:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
ولما حاصر المنصور ابن هبيرة بعث إليه ابن هيبرة أن يبارزني فقال: لا أفعل فقال ابن هبيرة «2» لأشهرنّ امتناعك ولأعيّرنك به فقال المنصور مثلنا ما قيل: إن خنزيرا بعث(1/309)
إلى الأسد وقال قاتلني فقال الأسد لست بكفؤى ومتى قتلتك لم يكن لي فخر وإن قتلتني لحقني وصم «1» عظيم. فقال لأخبرنّ السباع بنكولك «2» فقال الأسد: احتمال العارفي ذلك أيسر من التلطخ بدمك، وفي عذر من يخاصم دنيئا ويدافعه قول المتنبي:
إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم؟
الحثّ على العداوة بالفعل لا القول
قيل: غضب الجاهل في قوله وغضب العاقل في فعله. وولي أبو مسلم رجلا ناحية فقال له: إياك وغضبة السفلة فإنها في ألسنتها وعليك بغضبة الأشراف فإنها تظهر في أفعالها.
الحثّ على إماتة الحقد
أرسطوطاليس «3» استعدّ لإهماد «4» لهب العداوة بالاناة قبل تلّهب ناره فإن إطفاءه قبل انتشاره سهل يسير، وقيل: ما أحسن بالرجل أن يحسن مداراة عدوه حتى يطفىء سورة «5» ناره وقال بعض أصحاب المأمون يوما إن عجيف بن عنبسة خبيث النية رديء السريرة «6» ، وأراك قد قربت مجلسه. فقال: والله لأحسنن إليه ولا تفضلن عليه حتى أكون أحب الناس إليه. فلم يزل يختصه حتى صار يبذل دونه مهجته.
مدح الحقد وذويه
وصف أعرابي حقودا فقال: يحقد حقد من لا ينحلّ عقده ولا يلين كيده، وقال يحيى لعبد الملك ابن صالح: إنك حقود فقال: إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر إنهما عندي لثابتان، فلما قام قال يحيى ما رأيت من احتج للحقد حتى حسنه سواه وقيل لرجل: أنك لحقود، فقال:
وإن امرأ لم يحقد الوتر لم يكن ... لديه لذي النعماء جزاء ولا شكر
قال ابن الرومي:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض(1/310)
قال الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم «1»
ذمّ الحقد وذويه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ترفع أعمال العباد فترفع إلى الله في كل جمعة فيغفر للمستغفرين ويرحم المترحّمين ويترك أهل الحقد لنيتهم. وقيل للأحنف: من أسود الناس فقال:
الأخرق في ماله المطرّح لحقده.
أسباب العداوات
شكا رجل إلى سهل بن هارون عداوة رجل فقال: العداوة تكون من المشاكلة والمناسبة والمجاورة واتفاق الصنائع فمن أيّها معاداته لك وقال رجل لآخر إنّي أخلص لك المودة، فقال: قد علمت. قال كيف علمت وما معي من الشاهد إلا قولي. قال إنك لست بجار قريب ولا بابن عم نسيب ولا بمشاكل في صناعة، وقيل لمشيب بن شبة: ما بال فلان يعاديك فقال لأنّه شقيقي في النسب وجاري في البلد ورفيقي في الصناعة، وقيل: كل عداوة لعلة فإنها تزول بزوال العلة وكل عداوة لغير علّة فإنها لا تزول.
عداوة الأقارب
قيل: عداوة الأقارب كالنار في الغابة. ما النار في الفتيلة بأحرق من تعادى القبيلة.
وقيل: عداوة الأقارب كلسع العقارب. قال: إن الأقارب كالعقارب بل أضرّ من العقارب.
وسئل بعضهم عن بني العم فقال: هم أعداؤك وأعداء أعدائك، ولهذا باب في الأقارب.
من لا يبالى بعداوته
قال الأعشى «2» :
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الإبل «3»
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وقال كشاجم:
تبارزني ونفسك في رصاص ... وكم يبقى على النّار الرّصاص(1/311)
وقال الحجاج: أهل العراق أهل الشقاق والنفاق ومساوىء الأخلاق. ثلث من الدين مارق وثلث منافق وثلث سارق. والله لو عاديتموني لما ضررتموني وما مثلي ومثلكم إلا كما قيل:
فرأيك لو أبغضتني ما ضررتني ... ولو رمت نفعا ما وسعت لذلك
(5) ومما جاء في الحسد
حدّ الحسد
قيل: الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك والغبطة أن تتمنى مثل حال صاحبك وقال صلّى الله عليه وسلم المؤمن يغبط والمنافق يحسد. وقيل: الحسد خلق دنيء وقال ابن المعتز: الحسد من تعاطى الطبيعة واختلاف التركيب. وقيل: الحسد داعية النكد.
استعظام الحسد من بين الذّنوب
قال ابن السماك: إن الله تعالى أنزل سورة جعلها عوذة لخلقه من صنوف الشر فلما انتهى إلى الإعاذة من الحسد جعلها خاتما إذ لم يكن بعده في الشر نهاية الحسد أوّل ذنب عصى الله به في السماء والأرض.
قال ابن المقفع: الحسد والحرص دعامتا الذنوب فالحرص أخرج آدم عليه السلام من الجنة والحسد نقل إبليس من جوار الله تعالى. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: رفع البركة عن خمسة عن الناكث والباغي «1» والحسود والحقود والخائن. وقال صلّى الله عليه وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
النهي عن الحسد
روي أن سليمان عليه السلام: سأل الله تعالى أن يعلمه كلمات ينتفع بها، فأوحى إليه أني معلّمك ستّ كلمات لا تغتابن عبادي وإذا رأيت أثر نعمتي على عبد فلا تحسده.
فقال: يا رب حسبي أنا لا أقوم بهاتين من حسد من دونه قل عدوه ومن حسد من فوقه أتعب نفسه.
كون الحسد ضارّا لصاحبه
قال علي كرم الله وجهه: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وعقل(1/312)
هائم وحزن لازم وقال أيضا لله در الحسد ما أعدله يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود. وقيل: الحسود لا يسود. وقال الجاحظ: من العدل المحض والإنصاف الصريح أن تحط عن الحاسد نصف عقابه لأن ألم جسمه قد كفاك مؤنة شطر غيظك. وقيل: لا راحة لحسود ولا وفاء لملول الحسود غضبان على القدر والقدر لا يعتبه. ولمنصور الفقيه:
ألا قل لمن بات لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه ... إذا أنت لم ترض لي ما وهب
وجد على بساط لملك الروم البخيل مذموم، والحسود مغموم، والحريص محروم.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحسد والنكد «1» أيهما شر؟ فقال: الحسد داعية «2» النكد بدلالة أن إبليس حسد آدم عليه السلام فصار حسده سبب نكده فأصبح لعينا بعد أن كان مكينا «3» .
صعوبة إرضاء الحاسد
قال معاوية: كل الناس يمكنني أن أرضيه إلا الحاسد فإنه لا يرضيه إلا زوال نعمتي.
وقيل: لزاذان فروح: أيّ: عدو لا تحب أن يعود صديقا؟ قال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلّا زوال نعمتي. قال المتنبي:
سوى وجع الحسّاد داو فإنّه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول «4»
وقال الببغا:
ومن البليّة أن تداوي حقد من ... نعم الإله عليك من أحقاده
وصف الحسد بأنه أعظم عداوة
قال أبو العيناء: إذا أراد الله أن يسلّط على عبده عدوّا لا يرحمه، سلط عليه حاسدا.
وقال بعضهم: ما ظنك بعداوة الحاسد وهو يرى زوال نعمتك نعمة عليه.
صعوبة شماتة الحساد
سأل بعض الملوك جماعة من الحكماء عن أشد ما يمرّ على الإنسان، فقال بعضهم:
الفقر، وقال آخرون: الفقر في الغربة، وقال غيرهم الغربة مع المرض. ثم أجمعوا على أن أشد من ذلك كله شماتة العدو ثم أجمعوا على أن أشد من ذلك كله رحمة العدو للمرء من نكبة تناله. فقال:
وحسبك من حادث بامرىء ... ترى حاسديه له راحمينا(1/313)
قال ابن أبي عيينة:
كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى ... وتزول غير شماتة الحسّاد
قال الخبزارزي «1» :
شماتتكم لي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بل طنز مالك «2»
الحسد يظهر فضل المحسود
قال البحتري:
ولن يستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
وقال أبو تمّام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود «3»
وفي مثله:
يبين فضل الشيء من عاداه «4»
وقال:
فضل الفتى يغري الحسود بسبّه ... والعود لولا طيبه ما أحرقا «5»
الفضائل مقتضية «6» للحسد
قيل: لا يفقد الحسد إلا من فقد الخير أجمع، فمنبع الحسد مقرّ النعمة.
قال شاعر:
وحذاء كل مروءة حسّادها «7»
قال البحتري:
وليس يفترق النعماء والحسد
وقال آخر:
وترى الكريم محسّدا لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم(1/314)
ومرّ قيس بن زهير ببلاد بني غطفان فرأى ثروة فكره ذلك، فقال له الربيع ألا يسرّك ما يسرّ الناس؟ فقال: إن مع الثروة التحاسد والتخاذل ومع القلة التحاشد والتناصر، وقيل لبعض المهالبة: ما أكثر حسادكم؟ فقال:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام الناس حسّادا «1»
قال ابن المعتز:
المجد والحسّاد مقرو ... نان، إن ذهبوا فذاهب
وإذا ملكت المجد لم ... تملك مودّات الأقارب
قال الموسوي:
عادات هذا الدهر ذمّ مفضل ... وملام مقدام وعذل جواد
المحسود لفضله
قال شاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم «2»
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنّه لدميم «3»
قال ابن المعتزّ:
ومن عجب الأيام بغي معاشر ... غضاب على سبقي إذا أنا جاريت
يغيظهم فضلي عليهم ونقصهم ... كأنّي قسمت الحظوظ فحابيت
الدعاء للإنسان بأن يكون محسودا
قال شاعر:
لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا
وقال آخر:
لا زلت عرض قرير العين محسودا
وقال آخر:
لا زال مكتسيا سربال محسود
وقال آخر:
ولا برحت نعماك داء حسودها «4»(1/315)
وقيل في الدعاء: حسد حاسدك. وقال بعض أهل اللغة: ولا يقال حاسد حسدك لأنه يصير دعاء للحاسد.
ذمّ من لا يحسد
قال:
ولن ترى للئام النّاس حسّادا
الحارثي:
وأسوأ أيام الفتى يوم لا يرى ... ما أحدا يزري عليه وينكر «1»
دنيء يحسد سريّا
قال مروان بن أبي حفصة «2» :
ما ضرّني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذو والتّقصير
قال أبو تمّام:
لكلّ كريم من ألائم قومه ... على كلّ حال حاسدون وكشّح «3»
من يحسد الذين تصل إليهم نعمه
قيل: توصل رجل إلى إبليس فقال له: لي إليك حاجة إنّ لي ابن عم ذا ثروة وله إحسان كثير إلي وتوفر علي ولي بماله نفع بيّن، ولكنّي أريد أن تزيل نعمته، وأن افتقرت بفقره. فقال إبليس لاصحابه من أراد أن يرى من هو شر منّي فلينظر إليه. وقيل لرجل:
أتحسد فلانا وهو يواليك ويكرمك. فقال نعم حتى أصير مثله أو يصير مثلي قال المتنبي:
وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب
قال ابن الرومي:
يا من يعادي السماء إن رفعت ... كلّ خيرها تحتها ودع نكدك «4»
المكذب بأفعاله قول الحساد
يكذّب قول الحاسدين سماحتي ... وصبري إذا ما الأمر عضّ فأضجعا
قال لبيد:
بنو عامر من خير حي علمتم ... وإن نطق الأعداء زورا وباطلا(1/316)
تبكيت الحاسد وحثّه على أن يفعل فعل محسود لينال منزلته
قال البحتري:
لا تحسدوه فضل رتبته التي ... اعيت عليه وافعلوا كفعاله
قال السري الرفّاء:
نالت يداه أقاصي المجد الذي ... بسط الحسود إليه باعا ضيّقا
أعدوه هل للسّماك جريرة ... في أن دنوت من الحضيض وحلّقا
أم هل لمن ملأ اليدين من العلا ... ذنب إذا ما كنت منه مملقا «1»
استراحة من لا يحسد وطيب عيشه
الفضل لمن نبذ الحسد وأراح الجسد ولزم الجدد «2» قال البحتري:
مستريح الأحشاء من كلّ ضغن ... بارد الصدر من غليل الحسود «3»
قال الأصمعي: رأيت أعرابيا أتى عليه عمر كثير، فقلت: أراك حسن الحال في جسدك.
قال: نعم تركت الحسد فبقيت نفسي. وهذا من قول سقراط: الحسد يأكل الجسد. قال الفضيل: لا يستريح قلبك حتى يترك كلّ الدنيا. وقيل: من دعته نفسه إلى ترك الدنيا فلينظر هل يحسد أحدا فإن حسد كان تركه عجزا لأنه لو زهد فيها ما حسد عليها.
الممدوح بأنه لا يحسد
وقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية فقال: رحمك الله كنت لا تحقر ضعيفا ولا تحسد شريفا.
قال التنوخي:
فما نشرت أعراضهم عن معائب ... ولا طويت منهم قلوب على حقد
وأنّى يكون الحقد والنّاس دونهم ... ولا حقد إلا أن يكون على ندّ «4»
من جلّ عن أن يحسد أو يعادى
قال ابن الرومي:
ما أنت بالمحسود لكن فوقه ... أن المبين الفضل غير محسّد(1/317)
فتحاسد القوم الذين تقاربت ... طبقاتهم وتقاربوا في السؤدد
فإذا أبرّ أميرهم وبدا لهم ... تبريزه في فضله لم يحسد «1»
وقال أبو تمّام:
وسمحت في الدّنيا فما لك حاسد
الحثّ على التحرّز «2» من حسد السلطان
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنّ الرجل إذا ملك زهّده الله فيما في يده ورغّبه فيما لغيره وأشرب قلبه الإشفاق. فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير. لما فرغ جعفر ابن يحيى من بناء قصره صار إليه وجوه أصحابه وفيهم مؤنس بن عمران وكان رجلا كاملا فاستحسنوه، ومؤنس ساكت. فقال جعفر: لم لا تتكلم؟ فقال: فيما قالوه كفاية. فألحّ عليه أن يقول شيئا فقال مؤنس: أتصبر على الحق والصدق. قال نعم فقال: إن خرجت ومررت بدار لبعض أصحابك تشبهها أو تفوقها، ما أنت قائل؟ قال: قد فهمت فما الرأي؟
فقال له: تأتي أمير المؤمنين وتقول: إني قد بنيت هذا القصر للمأمون واتبعه من الكلام ما أنت أعلم به. فسأله الرشيد عن خبره فقال له ذلك، وقال له: إني استعملت لكل بيت من الفرش ما يليق به، فزال عن قلب الرشيد ما خامره.
وقال الشعبي: وجهني عبد الملك إلى ملك الروم فلما انصرفت دفع إلي كتابا مختوما فلما قرأه عبد الملك رأيته تغيّر وقال: يا شعبي أعلمت ما كتب هذا الكلب، قلت: لا.
قال: إنه كتب لم يكن للعرب أن تملك إلا من أرسلت به إلي. فقلت: يا أمير المؤمنين إنّه لم يرك ولو رآك لكان يعرف فضلك، وإنه حسدك على استخدامك مثلي. فسرّي عنه، وقيل: إذا أردت أن تسلم من حسد سلطانك فعم عليه مجامع شأنك.
ما لا يستقبح فيه الحسد
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله ما لا ثم أنفقه في حقّ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها. وقال أرسطوطاليس: الحسد حسدان محمود ومذموم فالمحمود أن ترى عالما فتشتهي أن تكون مثله أو زاهد فتشتهي مثل فعله والمذموم أن ترى عالما أو فاضلا فتشتهي أن يموت.
المتبجّح بكونه حسودا
اجتمع ثلاثة نفر فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ قال: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قط. فقال الثاني: إنك رجل صالح أنا ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قط. فقال(1/318)
الثالث: ما في الأرض أفضل منكما، أنا ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيرا قط. وقال عبد الملك للحجاج: صف نفسك فليس العاقل إلّا من عرف نفسه. فقال: أنا حديد حقود حسود.
حمد الغبطة وذمّها
روي في الخبر: المؤمن يغبط «1» والمنافق يحسد. وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: أيضرّ الغبط؟ قال: نعم كما يضرّ الورق الخبط «2» .
(6) ومما جاء في التواضع والكبر
ما حدّ به التواضع والكبر
قيل لبعضهم: ما التواضع؟ قال: أخلاق المجد واكتساب الود. فقيل ما الكبر؟ قال:
اكتساب البغض، وقيل لأزدشير: ما الكير؟ فقال: اجتماع الرذائل لم يدر صاحبها أين يضعها فيصرفها إلى الذم.
فضل التواضع والحثّ عليه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: طوبى لمن تواضع التواضع أحد مصائد الشرف، من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره وفي الثمل تواضع الرجل في مرتبته زبّ للشماتة عند سقطته، وقيل: من وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره ومن رفعها عن حده وضعه الناس دون قدره، وقيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها؟ قال: نعم التواضع فقيل:
هل تعرف بلاء لا يرحم صاحبه؟ قال: نعم الكبر.
فضل كبير متواضع
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك ويقول: لو دعيت إلى كراع «3» لأجبت. وكان يحيى بن سعيد خفيف الحال فاستقضاه أبو جعفر فلم يتغير فقيل له: في ذلك فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال. ولما ورد المرزبان على عمر رضي الله عنه فاورد باب داره وقرع بابه فقيل: أنه قد خرج آنفا فكانوا يسألون عنه فيقولون مر من ههنا آنفا،(1/319)
فاستحقر «1» المرزبان أمره، إلى أن انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد فلما رفع رأسه امتلأت نفس المرزبان منه رعبا فقال: هذا والله الملك الهنىء لا يحتاج إلى حراس ولا إلى عدد وقال عمر رضي الله عنه حين نظر إلى صفوان مبتذلا لأصحابه هذا رجل يفر من الشرف والشرف يتبعه، وقال معاوية لرجل: من سيّد قومك؟ فقال: الجاهم الدهر إليّ فقال بمثله من التواضع يحل الشرف، وقال عمر رضي الله عنه أريد رجلا إذا كان في القوم وهو أميرهم كان كبعضهم فإذا لم يكن أمير فكأنه أميرهم، قال أبو تمام:
متبذل في القوم وهو مبجّل ... متواضع في الحيّ وهو معظّم «2»
وقال آخر:
متواضع والنبل يحرس قدره ... وأخو التواضع بالنباهة ينبل
قال الخوارزمي:
عجبت له لم يلبس الكبر حلّة ... وفينا إذا جزنا على بابه كبر
ذمّ التكبر والنهي عنه
قال الله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ
«3» وقال تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
«4» ، وقال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ
«5» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
إن الله يقول الكبر إزاري «6» والعظمة ردائي، من نازعني واحدا منهما ألقيته في النار، وأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال:
حذّرتك التيه لا يعلقك ميسمه ... فإنّه ملبس نازعته الله
وقال بزرجمهر: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل، أحمد عند العقلاء من الكبر مع الأدب والسخاء. فانبل بحسنة غطّت سيئتين، وأقبح بسيئة غطت على حسنتين. كم من صلف أدى إلى تلف، العجب لابن آدم لم يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين. أخذ ابن الرومي ذلك فقال:
كيف يزهو من رجيعه ... أبا الدهر ضجيعه
قال: منصور الفقيه، يا قريب العهد بالمخرج لم لا تتواضع، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يبغى على الناس إلّا ولد بغى أو من فيه عرق سوء، وقيل: ما تاه إلّا وضيع ولا فاخر إلا سقيط ولا تعظم إلا لقيط «7» وقيل: دع الكبر فمتى كنت من أهل النبل لم يضرك التبذّل ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التبتل.(1/320)
ذكر السبب الداعي إلى التكبّر
قال المأمون «1» : ما تكبّر أحد إلّا لنقص وجده في نفسه ولا تطاول إلّا لوهن أحسنّ من نفسه قال أحمد بن أسماعيل:
رأيت الرياسة مقرونة ... بلبس التكبّر والنخوه
ذمّ متكبّر لولاية نالها
قيل: من نال منزلة فابطرته دل على رداءة أصله وعنصره. قال أحمد بن أبي طاهر:
وتاه سعيد أن أفيد ولاية ... وقلّد أمرا لم يكن من رجاله
وأدبر عنّي عند إقبال حظّه ... وغيّر حالي عنده حسن حاله
وضاق علي حقّي بعقب اتساعه ... فأوسعنه عذرا لضيق احتماله
وقال سفيان رحمه الله: السفل إذا تمولوا استطالوا وإذا افتقروا تواضعوا والكرام إذا تموّلوا تواضعوا وإذا افتقروا استطالوا. قال صالح بن عبد القدوس:
تاه على إخوانه كلّهم ... فصار لا يطرف من كبره «2»
أعاده الله إلى حاله ... فإنّه يحسن في فقره «3»
المبغيّ عليه منصور
قال الله تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ
«4» ، وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
«5» وقال صلّى الله عليه وسلم: ما رأيت أسرع هلاكا من البغي، وقال صلّى الله عليه وسلم: ذنبان عجل عقوبتهما:
البغي وقطيعة الرحم.
قال يزيد بن الحكم:
البغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم «6»
ذمّ متكبّر بخيل أو دنيء
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: البخل والكبر لا يجتمعان في مؤمن. وقيل: من استطال بغير تطوّل وامتنّ بغير منّة فقد استعجل المقت.
قال عليّ بن الجهم:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك(1/321)
قال أبو بكر بن الزبير:
يا قليل القدر موفور الصلف ... والذي في التيه قد حاز السرف «1»
كن لئيما وتواضع تحتمل ... أو سخيّا يحتمل منك الصلف
وقيل: أنف في السماء واست في الماء. ومن هذا النحو قول الجعدي:
بالأرض أستاههم عجزا وأنفهم ... عند الكواكب بغيا يا لذا عجبا
ذمّ فقير متكبر
قيل: أبغض الناس ذو عسر يخطر في رداء كبر، قال الشاعر في ذم آخر:
فخر بلا حسب عجب بلا أدب ... كبر بلا درهم هذا من العجب
ذمّ الفخر وذويه
قال الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً
«2» وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ
«3» ونظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى رجل بخرازاره فقال: أرفع إزارك فإنه أبقى وأنقى وأتقى فقال: يا رسول الله إنّه مروءة. فقال أليس: لك بي أسوة وكان إزاره صلّى الله عليه وسلم إلى انصاف ساقيه.
نظر مطرف إلى المهلب وعليه حلة يسحبها فقال: ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ فقال: أو ما تعرفني؟ قال: بلى أولك نطفة «4» مذرة وآخرك جيفة قذرة «5» وأنت بين ذلك حامل عذرة «6» فلم يعد إلى تلك المشية، ونظر الحسن رضي الله عنه إلى رجل يخطر في ناحية المسجد، فقال: انظروا إلى هذا ليس فيه عضوا إلّا ولله عليه نعمة وللشيطان فيه لعبة.
ذمّ من ضرع ذلّة بعد التكبّر
قال شاعر:
رفع الكلب فاتّضع ... ليس في الكلب مصطنع
بلغ الغاية التي ... دونها كلّ ما ارتفع
إنّما قصر كلّ شي ... ءإذا طار أن يقع
لعن الله نخوة ... صار من بعدها ضرع
مدح متواضع بسرعة المشي والتجوز في الأكل
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع المشي فقيل له في ذلك فقال: هو أنجح(1/322)
للحاجة وأبعد من الكبر أما سمعت قول الله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ
«1» ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض فقيل له في ذلك فقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد.
المتواضع بالقيام بحوائج النّاس وتحمّل أثقالهم
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يمشي مع الأرملة يقضي حاجتها ولا يستنكف «2» ، واشترى رجل شيئا فمر بسلمان وهو أمير المدائن فلم يعرفه فقال: احمل هذا معي يا علج «3» ، فحمله وكان من يتلقاه يقول ادفعه إليّ أيها الأمير فيقول: لا والله لا يحمله إلا العلج والرجل يعتذر إليه ويسأله أن يردّه عليه وهو يأبى حتى حمله إلى مقرّه.
المتواضع في قيامه بأمر عياله
اشترى أمير المؤمنين رضوان الله عليه تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقال له بعض أصحابه: دعني أحمله، فقال: أبو العيال أحق أن يحمله. ورؤي بعض الكبار وبيده بطن شاة فقال له رجل: ادفعه إليّ فإنه يزري «4» بك، فقال:
ما نقّص الكامل من كماله ... ما جرّ من نفع إلى عياله
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الحزمة من الحطب وهو خليفة مروان، وكان يقول: وسّعوا للأمير.
حمد تعظيم الكبار
قدم قيس بن عاصم على النبي صلّى الله عليه وسلم وكان سيد أهل الوبر فبسط له رداءه ثم قال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. وروي أن مجوسيا دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخرج صلّى الله عليه وسلم من تحته وسادة حشوها ليف وطرحها له وأقبل عليه يحدّثه، فلما نهض قال عمر رضي الله عنه: إنّه مجوسي، فقال عليه الصلاة والسلام: قد علمت ولكن جبريل عليه السلام يأمرني أن أكرم كلّ كريم قوم إذا أتى، وهذا سيد قومه.
وقال الشعبي: ركب زيد بن ثابت فدنا منه عبد الله بن العباس رضي الله عنهم ليأخذ بركابه فقال: ما تفعل يا ابن عم رسول الله؟ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأمرائنا فقال زيد ارني يدك فأخذها وقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا.
النهي عن التصدّر في المجالس
قال زياد لابنه: إياك وصدر المجالس فإنه مجلس قلعة. قال الأحنف: ما جلست مجلسا خفت أن أقام منه لغيري ولهذا باب في غير هذا الموضع.(1/323)
حمد تصديرك صاحبك
دخل سالم بن مخزوم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: فتنحى له عن الصدر فقيل له في ذلك فقال: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المنزلة.
مدح معرفة الرجل قدر نفسه
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لن يهلك امرؤ عرف قدره. وقال الشافعي رضي الله عنه: أنفع الأشياء أن يعرف الرجل قدر منزلته ومبلغ عقله ثم يعمل بحسبه. وقد تقدّم من ذلك صدر في باب العقل.
ذمّ اعجاب المرء بنفسه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع وهوى متبّع وإعجاب المرء بنفسه. وقيل:
عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله.
وقال الشاعر:
ما النّاس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما خلاك بهائم
وقال أعرابي لرجل معجب بنفسه يسرني أن أكون عند الناس مثلك في نفسك وعند نفسي مثلك عند الناس. وقال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها إذا أعجب بنفسه واستكثر عمله ونسي ذنبه.
ذكر من عظم إعجابه وصلفه
حكي عن ابن ثوابة أنه قال لغلامه: اسقني ماء، فقال: نعم فأمر بصفعه فقيل له: في ذلك فقال: إنما يقول نعم من يقدر أن يقول لا، وليس لهذا هذه المنزلة. ودعا يوما أكّارا يكلمه. فلما فرغ دعا بماء وتمضمض به استقذارا لمخاطبته وكان جذيمة «1» الأبرش لا ينادم أحدا استعظاما.
وقال: إنما ينادمني الفرقدان «2» . فكان يشرب كأسا ويصب لهما كأسين في الأرض واستأذن نافع بن جبير بن مطعم على معاوية فمنعه الحاجب فهشم أنفه، فقال له معاوية: أتفعل هذا بحاجبي؟ فقال له: وما يمنعني وأنا بالمكان الذي أنا به من أمير المؤمنين. فقال له أبوه: فض الله فاك إلا قلت وأنا بالمكان الذي أنا عليه من عبد مناف.
معتذر لعجبه وعزّته
قيل لأياس بن معاوية: ما فيك عيب غير أنك معجب، فقال: أيعجبكم ما(1/324)
أقول؟ قالوا نعم قال: فأنا أحق أن أعجب به محمد بن عمران، يقولون ذو كبر ولو خص بعضهم، ببعض خصالي ما استفاق من الكبر، قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: لم تطعم الأرض من فضل ثيابك؟ فقال: أكره أن أكون كما قال علي بن عبد العزيز:
قصير الثياب فاحش عند بيته ... وشرّ قريش في قريش مركبا
وقال يمنّي ليزيد بن مزيد وعليه برد «1» يمنى يسحبه لم يعرق جبينك في نسجه فلذلك تسرف في بذله، فقال: عليكم نسجه وعلينا سحبه.
وقال رجل للحسن: ما أعظمك في نفسك فقال: لست بعظيم ولكن عزيز من قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
«2» البديهي في معناه:
وما أنا مزهر ولكنّني فتى ... أبت لي نفس عزة أن أزيلها
الممتنع من التذلّل لكبير ومتكبّر عليه
قال عدي بن أرطاة وهو أمير لوكيع بن أبي الأسود: سوّ عليّ ثيابي فقال: ذكرتني الظعن «3» وكنت ناسيا، في خفي ضيق فليمده الأمير حتى أنزعه. فقال له عديّ إن الجليس ليلقى من جليسه أكثر من هذا. فقال: يا عدي إذا عزلت عنا فكلفنا أكثر من هذا أما وأنت ترى لك علينا بسطة فلا الموسوى يذكر والده وامتناعه من تقبيل يد بعض السلاطين:
فتى تاه عن بسط الملوك وقد عنت ... عليها جباه من رجال وآنف «4»
زمام علا لو غيره رام جرّه ... لساق به حاد من الذّل معنف «5»
متكبّر على ذي كبر
سئل الحسن عن التواضع فقال: هو التكبر على الأغنياء. وأتى سليمان بن عبد الملك طاووسا فلم يكلمه، فقيل له في ذلك فقال: أردت أن يعلم أن في عباد الله من يستصغر ما يستعظم ذلك من نفسه. أنشد المبّرد:
إذا تاه الصديق عليك كبرا ... فته كبرا على ذاك الصّديق
فإيجاب الحقوق لغير راع ... حقوقك رأس تضييع الحقوق «6»
وعلى هذا قال بعضهم: ما تكبر عليّ أحد قط إلا تحول داؤه في أن قابلته بفعله.
وقال بعضهم: ما تاه أحد عليّ أكثر من مرة واحدة لأني تركته بعد ذلك وأعرضت عنه.(1/325)
من ترك حقّه إشفاقا من وصمة «1» تلحقه
اختصم الأصبهيد صاحب طبرستان والمصمعان صاحب دباوند في شيء، فكتب إلى الحجّاج أن يوجه رجلا يحكم بينهما، فوجه أياسا إليهما، فلما صار بالمنصف بعث إليهما فحضر الأصبهيد على سريره وألقى للمصمعان وسادة فقال أياس للأصبهيد: أنت ظالم وقد عرفت ذلك منك. قال فيم؟ قال: العدل أن تساويه في الحكم فقال: إذا أدع حقى ولا أساويه في المجلس فترك حقه وعاد إلى مكانه. وقال الرشيد يوما لجلسائه: إن عمارة قد ذهب في التيه كلّ مذهب وأحب أن أضع منه، فقيل له لا شيء أوضع للرجال من منازعة الرجال والرأي أن يؤمر رجل ليدعي أفضل ضيعة له أنه غصبه إياها، ففعل ذلك، فلما دخل عمارة قام الرجل فتظلم منه وشنّع عليه، فقال الرشيد: أما تسمع ما يقول الرجل؟ فقال من يعني؟ فقال الرشيد: يعنيك أنك غصبته كذا فقم واجلس معه مجلس الحكم. فقال: إن كانت هذه الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فقد جعلتها له. فانقطع كلام الرجل فلما انصرف قال عمارة لرجل كان معه: من هذا المدّعي فإذا أنه لم يملأ عينه منه فأخبر الرشيد بذلك. فقال: سوّغنا «2» تيهه له بعد ذلك.
النهي عن الإفراط في التّواضع
قال ابن المقفع: الإفراط في التواضع يوجب المذلّة، والإفراط «3» في المؤانسة يوجب المهانة. وقيل: من التواضع ما يضع.
عذرخ من تواضع لدنىء مهابة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنّ من شرار الناس من أكرمه الناس اتقاء شرّه كان أبو العباس ضم المنصور إلى حميد بن قحطبة فقال له يزيد بن حاتم: أترضى بمتابعة حميد؟ فقال:
اسجد لقرد السّوء في زمانه ... وداره ما دام في سلطانه «4»
وفي المثل الحمى أضرعتني «5» لك.(1/326)
الحدّ الرابع في النصرة والأخلاق والمزاح والحياء والأمانة والخيانة والرفعة والنذالة
(1) الجوار والنّصرة
الحث على مراعاة الجار
قال الله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ
«1» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وقال صلّى الله عليه وسلم: من كان له جيرة ثلاثة كلهم راضون عنه غفر له. وقيل: عليكم بحسن الجوار فإن السباع وعتاق الطير في الهواء تحامى على من يجاورها.
وقيل: الكريم يرعى حق اللحظة ويتعهد حرمة اللفظة. وقال جعفر بن محمد:
حسن الجوار عمارة الديار.
وقال زهير:
وجار البيت والرّجل المنادي ... أمام البيت عقدهما سواء «2»
الأمر بكفّ الأذى عنه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذين جاره. وقيل: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن من حسن الجوار الصبر على الأذى. وفي الخبر من آذى جاره أورثه الله داره. وقيل: من آذى جاره خرّب الله داره.
الناصر من استجار به
كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال يا هذا إنك قد اخترتني جارا واخترت داري دارا فجناية يدك على دونك وإن جنت عليك يد فاحتكم علي حكم الصبيّ على أهله، وكان أبو حنبل يقال له مجير الجراد، وذلك أنه نزل عليه جراد بفنائه فعدا الحي إليه فقال لهم: إلى أين؟ فقالوا أردنا جيرانك جرادا نزل بفنائك. فقال أما إذا سميتموه جاري فلا تصلون إليه(1/327)
أبدا فأمر قومه أن يسلّوا سيوفهم ويمنعوه. وفيهم يقول الشاعر:
ومنّا ابن مرّ أبو حنبل ... أجار من النّاس رجل الجراد
وقال مروان:
هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل «1»
وقال نهشل:
وجار منعناه من الضّيم والعدا ... وجيران أقوام بمدرجة النمل
وقال ابن نباتة:
ولو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشّيب سلطان على القمم «2»
قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا «3»
المستنصر ذويه على أعاديه وتوائب لياليه
كتب عثمان رضي الله عنه إلى عليّ كرم الله وجهه حين حصر:
فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق «4»
قال أحمد بن أبي فنن:
هل أنت منقذ شلوي من يدي زمن ... أضحى يقّد أديمي قدّ منتهس «5»
دعوتك الدعوة الأولى وبي رمق ... وهذه دعوتي والدّهر مفترسي
قال ابن الحجّاج:
يا راعي السّرب يحميه ويحرسه ... إن الذئاب قد استولت على الغنم
فعافني بتلافي العين من سقم ... لم يبق منّي سوى لحم على وضم «6»
حتى أقول لريب الدهر كيف ترى ... تعصّب السادة الأحرار للخدم
نصرة قريب وإن كان عدوا
قيل: الحفائظ تحلل الأحقاد قال:
عند الشدائد تذهب الأحقاد
وهذا باب مستقصى في الأقارب.(1/328)
ناصر مستنصره وإن لم يكن بينهما معرفة
روي أن حاتما كان بأرض عنزة فناداه أسير يا أبا سفانة أكلني الأسار والقمل، فقال:
ويلك ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء، وقد أسأت إذ نوّهت باسمي. فاشتراه وقال:
خلوا سبيله واجعلوني في القيد مكانه حتى أؤدي فداءه فجعل مكانه وبعث إلى قومه فاتوه بالفداء. وفي المثل: ربّ أخ لك لم تلده أمك.
المبادرة إلى نصرة مستنصره
قيل: لا تسأل الصارخ واسأل ما له بعض بني العنبر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النّائبات على ما قال برهانا «1»
قال السري:
ملك إصاخته لأوّل صارخ ... وسجال أنعمه لأوّل طالب
قال عمرو بن مخادة:
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج «2»
قال المتنبّي:
سبقت إليهم مناياهم ... ومنفعة الغوث قبل العطب
قال الصنوبري «3» :
يا خير مستصرخ لنائبة ... يضيق بالعالمين قطراها
من تحمّل من جاره الضرّاء ووفّر له السرّاء
قال زهير:
وجار سار معتمدا علينا ... أجاءته المخافة والرجاء
ضمنّا ما له فغدا سليما ... علينا نقصه وله النّماء
قال شبيب بن البرصاء:
وجاراتنا ما دمن فينا عزيزة ... كأروى ثبير لا يحلّ اصطيادها «4»
يكون علينا نقصها وضمانها ... وللجار إن كانت تريد ازديادها(1/329)
مدح من كرم جاره ومستنصروه
قال شاعر:
وعزّت جوار عصبة أنت جارها
قال أبو تمّام:
وليس امرؤ في النّاس كنت سلاحه ... عشية يلقى الحادثات بأعزلا
ترى درعه حصداء والسيف قاضبا ... وزجّيه مسهومين والسوط معولا «1»
قال السري الرفاء:
ما عذر من بسطت يمينك كفّه ... أن لا ينال بها السها والمرزما «2»
قال المتنبي:
إذا شدّ زندي حسن ذاتك في يدي ... ضربت بنصل يقطع الهام مغمدا
وقال آخر:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع عنّي حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريّا قاعدا غير قائم
قال ابن الحجاج «3» :
وكيف يخشى صولة الذئب من ... قد جعل السبع له عدّة «4»
الحامي جاره الحابيه ماله
قال ابن الرومي:
هم أمّلونا في هضاب غيومهم ... ندى ورعونا بالقنا والقنابل
قال السري الرفاء:
أمّن في ظلّه رعيّته ... خوف أعاديه حين عاداها
أهّلها في نواله وغدا ... مشتملا بالحسام يرعاها
الحامي جاره والمبيح ماله
قال ابن الرومي:
هو المرء أما ماله فمحلّل ... لعاف وأمّا جاره فحرام «5»(1/330)
وقال آخر:
فنحن حلال في حريمك للغنى ... ونحن على الأيّام فيه حرام
الراعي مال جاره من النوب والسرّاق
كانوا يقولون جار كجار أبي دؤاد وذلك أنه إذا مات له بعير أو شاة أخلفه وإذا مات له قريب وداه، قال شاعر:
إذا نزل الشتاء بدار قوم ... تجنّب دار قومهم الشتاء
قال الفرزدق:
الضامنون على المنيّة جارهم ... والمطعمون غداة كلّ شمال «1»
قال المتنبّي:
يذمّ على اللصوص لكلّ تجر ... ويضمن للصّوارم كلّ جان «2»
المستجير بمن أمّنه من النّوب
قال أبو نواس:
أخذت بحبل من حبال محمّد ... أمنت به من طارق الحدثان «3»
تغطّيت من دهري بظلّ جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
قال ابن أبي فنن:
كبا الدهر بي فاستلّني من جيرانه ... وقد كنت لاقيت المنية أو كدت «4»
وحكّمني في ماله وجياده ... وخيّرني بين الحكومة فاخترت
مدح الناصر صاحبه وإن كان ذا عذر
في المثل، الفحل يحمي شوله معقولا، والخيل تجري على مساويها.
قال شاعر:
يفرّ جبان القوم عن أمّ نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
الحثّ على نصرة واقع في محنة
قال بعض البلغاء: لتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء أكثر من معاونتك إياه عند الرخاء. وقيل: أفضل المعروف نصرة الملهوف.(1/331)
حامي الحرم
قال عنترة:
أبينا أبينا أن تضبّ لثاتكم ... على مرشفات كالظّباء عواطيا «1»
وقال آخر:
فأيقن كلّنا أن سوف تحمي ... جرامتها بشوكتها النّخيل «2»
الحامي حرمه المبيح حرم غيره
قال الأخنس بن شهاب:
وحامي لواء قد قتلنا وحامل ... لواء منعنا والسيوف شوارع
قال طفيل «3» الغنوي:
أبحنا روضة ولنا رياض ... تقطع دون مطلعها النفوس
قال جرير «4» :
أبحت حمى جرير بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح
المؤثر نفع غيره على نفع نفسه
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر «5» :
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا من نجلّ ونكرم
فقلنا له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إنّ الأهم المقدم
قال عمارة «6» :
ينسى مضرّته لنفع صديقه ... لا خير في شرف إذا لم ينفع «7»
نصر كل امرىء لشكله
قال:
إن الكريم للكريم محلّ(1/332)
وفي كتاب كليلة إذا عثر الكريم لم يستقل إلا بكرام كالفيل إذا وحل لم يقلعه إلا الفيلة قال جرير:
إن الكريمة ينصر الكرام ابنها
الحثّ على التظاهر
لن يعجز القوم إذا تعاونوا فبالساعد يبطش الكف، قال شاعر:
إنّ السّهام إذا تبدّد جمعها ... فالوهن والتكسير للمتبّدد «1»
قال يامض الكلابي:
ألم تر أن جمع القوم يخشى ... وإن حريم واحدهم مباح
وأنّ القدح حين يكون فردا ... فيهصر لا يكون له اقتداح
تولى نزار بن محمد التجيبي البصرة فرفع إليه رجل يقول بخلق القرآن، فأمر بحبسه، فاستعان الرجل بإسماعيل الصفار، وكان أحد شيوخ المعتزلة بالبصرة فكلّم غير واحد من أجلاء البصرة فلم يجيبوه.
ثمّ أن إسماعيل طاف على المعتزلة وجمعهم وقال: قد جرأ عليكم إذ رآكم متفرقين فاتى بهم دار نزار بن محمد وقال: لم حبست فلانا قال: إنّه يقول: القرآن مخلوق. قال فكلّنا ممن يقول بقوله فأما تحبسنا معه أو تطلق صاحبنا فقوله في ذلك قولنا. فنظر نزار فإذا فتنة تثور فرأى إطلاقه، وترك التعرّض لهم في مذهبهم.
وصف متظاهرين
قال أبو فراس:
وإنّي وإيّاه كعين وأختها ... وإني وإيّاه ككفّ ومعصم
قال بعض القدماء من جهينة «2» :
فإنّا وكلبا كاليدين متى تقم ... شمالك في الهيجاء تعنها يمينها «3»
ذمّ جار السوء
في بعض الأدعية. أعوذ بالله من جار السوء عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة كتمها وإن رأى سيئة أذاعها.
وعرض على أبي مسلم فرس جواد فقال: لمن بحضرته: لم يصلح هذا الفرس؟
فقيل: للغزو، فقال: لا، إنما يصلح أن يركبه الرجل فيفرّ به من جار السوء.
وقيل له: ما الداء العياء؟ فقال: الجار السوء إن قاولته بهتك وإن غبت سبعك. وقيل لبعضهم: لم بعت دارك؟ فقال: لأبيع جاري. وقيل: الجار قبل الدار ثم الرفيق قبل الطريق.(1/333)
ذمّ من لا يصون جاره
قال الحطيئة «1» :
لمّا بدا لي منكم ذات أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آس «2»
أزمعت ياسا مبينا من جواركم ... ولن ترى طاردا للحرّ كالياس
قال المتنبّي:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللبن
جزاء كلّ قريب منكم ملل ... وحظّ كلّ محبّ منكم ضغن «3»
وقال رجل لابن الزيات: أمتّ إليكم بجواري، فقال نسب بين حيطان، نظم ذلك بعضهم فقال:
أرى الجوار نسبا بين الجدر ... والعطف والرقة حينا والخور «4»
طباع نسوان وصبيان غرر
ذمّ من لا نصرة لديه
قال إبراهيم بن العباس:
وإني إذا أدعوك عند ملمّة ... كداعية بين القبور نصيرها «5»
قال ريقان:
فما دار عمّي لي بدار خفارة ... ولا عهد عمّي لي بعهد جوار
قال عامر:
فجارك عند بيتك لحم ظبي ... وجاري عند بيتي لا يرام «6»
وقال آخر:
تركوا جارهم يأكله ... ضبع الوادي ويرميه الشّجر «7»
وسأل سليمان بن علي خالد بن صفوان عن ابنيه فقال كيف تحمد جوارهما فأنشد:
أبو مالك جار لها وابن برثن ... فيا لك جاري ذلّة وصغار «8»
وفي المثل: لا حرّ بوادي عوف.(1/334)
المستنصر بمن يضرّه
في المثل: كالمستغيث من الرمضاء «1» بالنار، قال شاعر:
ربّ من ترجو به دفع الأذى ... سوف يأتيك الأذى من قبله «2»
وقال ابن الرومي:
كمتّق لفح نار يستعدّ له ... بالجهل در عين من قار وكبريت
وله:
كان كمن خاف حريقا واقعا ... فزاد فيه حطبا على حطب
قال إبراهيم بن العباس:
اتخذتكم درعا وترسا لتدفعوا ... نبال العدا عنّي فكنتم نصالها
وله في أولاده:
خلتكم عدّة لصرف زماني ... فإذا أنتم صروف زماني «3»
المستنصر بمن لا نصرة لديه
في المثل: مقعد استعان بدف، ذليل عاذ بقرملة، عبد صريحه أمة.
قال شاعر:
بعثتك عاجلا فلبثت حولا ... متى يأتي غياثك من تغيث «4»
وقال آخر:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «5»
وقال آخر:
كنت من كربتي أفرّ إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار؟ «6»
تأسّف من خذله ناصره
قال اليزيدي:
إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي ... وموضع حاجاتي فما أنا صانع «7» ؟(1/335)
وقال آخر:
بأيّ نجاد تحمل السيف بعد ما ... قطعت القوى من محمل كان باليا «1»
ذلّة من لا ناصر له
قدمت امرأة مكة وكانت ذات جمال، فأعجبت ابن أبي ربيعة فآذاها، فلما أرادت الطواف قالت لأخيها: إصحبني فصحبها، فإذا ابن أبي ربيعة تعرض لها بمقال فرأى أخاها فانزجر، فأنشأت:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مريض المستنفر الحامي
قال عدي:
وفي كثرة الأيدي عن الظّلم زاجر ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد «2»
وقيل: اللؤم إحراز المرء نفسه وإسلامه عرسه.
المستعين بغيره في أمر
قال شاعر:
أعيين هلّا إذا أتى قدر ... كنت استغثت بفارغ العقل
أقبلت ترجو الغوث من قبلي ... والمستغاث إليه في شغل
معاتبة متباطىء عن النّصرة
قال أبو الشمردل:
ومن يفرد الإخوان في ما ينوبهم ... ثنته الليالي مرة وهو مفرد «3»
قال عديّ التميمي:
ألا هبلتك أمّك يا عديّ ... أتقعد لا أفكّ ولا أصول «4»
ولو كنت الأسير ولا تكنه ... إذا علمت معدّ ما أقول
عذر متباطىء عن ذلك
قال شاعر:
أيّ عذر يكون أوضح في إبطاء ... نصر من قلّة الإمكان «5»(1/336)
وقيل للجاحظ: لم خذلت ابن الزيات «1» وهربت منه لمّا أصابته المحنة؟ فقال:
خفت أن يقال ثاني اثنين إذا هما في النار وذلك أنّ ابن الزيات عوقب في تنور من حديد حتى مات. وفي الأخوانيات وذكر الأقارب أبواب تليق بهذا الفصل.
(2) ومما جاء في الأخلاق الحسنة والقبيحة
الحثّ على حسن الخلق ومدح ذلك
قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
«2» قيل ما عفا لك من محاسن أخلاق الناس وقال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
«3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ويقارب ذلك ما قيل لفيلسوف، هل من جود يتناول به الخلق فقال: نعم أن تحسن الخلق وتنوي لكل أحد الخير. وقال صلّى الله عليه وسلم: إنّ أحبّكم إليّ أحاسنكم أخلاقا الموطؤن أكنافا «4» الذين يألفون ويؤلفون وقال صلّى الله عليه وسلم: حرّم الله النار على كل هين، لين سهل قريب. وقال لأبي الدرداء: ألا أدلك على أيسر العبادة وأهونها على البدن.
قال: بلى يا رسول الله فقال: عليك بالصمت وحسن الخلق فإنك لن تعمل مثلهما. وقيل:
في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وقال مكحول: المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قدته إنقاد وإن أنخته «5» على صخرة استناخ، قال شاعر:
ما لم يضق خلق الفتى ... فالأرض واسعة عليه
وقال آخر:
لو أنني خيّرت كلّ فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
الممدوح بحسن الخلق
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: أو ما تقرؤن القرآن: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
«6» وقيل: فلان على خير ما تبنى عليه الضرائب.(1/337)
وقال البحتري:
سلام على تلك الخلائق إنّها ... مسلّمة من كلّ عار ومأثم «1»
قال أبو الفرج الأصبهاني «2» :
خلائق كالحدائق طاب منها ... النسيم وأينعت منها الثّمار
وقيل: صفاء الأخلاق من نقاء الأعراق.
النهي عن سوء الخلق
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من ساء خلقه عذب نفسه. وقال عليه السلام: خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق. وقيل: سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الصبر العسل.
وقال الأحنف: الداء الدوي الخلق الرديء «3» واللباس البذي، بئس الملبوس العبوس وقيل: ليس لسيء الخلق توبة لأنه كلما خرج من ذنب دخل في آخر لسوء خلقه.
المذموم بسوء الخلق
صحب رجل رجلا سيء الخلق فلما فارقه قال: قد فارقته وخلقه لم يفارقه وقال أعرابي لرجل: أنك شكس الخلق دائم القطوب. قال عمرو بن كلثوم:
وكنت امرأ لو شئت أن تبلغ المنى ... بلغت بأدنى غاية تستديمها
ولكنّ فطام النفس أثقل محملا ... من الصّخرة الصّماء حين ترومها «4»
وقيل: لا مداراة للخلق السيء القبيح كالشجرة المرة لو طليت بالعسل لم تثمر الأمر أو كذنب الكلب لو أدخلته القالب سنين لعاد إلى إعوجاجه.
المتمدح بمصابرة سيء الخلق
قال رجل لأحمد بن أبي خالد لقد أعطيت ما لم يعط رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: لئن لم تخرج من ذلك لا ضرّبنك. فقال الرجل: إن الله تعالى قال لنبيه ولو كنت فظّا غليظ القلب لا نفضّوا «5» من حولك وأنت فظّ ونحن لا ننفض من حولك.
وقال شعيب بن حرب خطبت امرأة فأجابتني فقلت: إني سيء الخلق. فقالت:
أسوأ خلقا منك من يلجئك إلى سوء الخلق. وقال حبيب لرجل سيء الخلق: إن استطعت أن تغير خلقك وإلا فليسعك من أخلاقنا ما ضاق به ذرعك.(1/338)
صعوبة ترك العادة والرجوع عنها
قيل: للعادة على كل إنسان سلطان، وكل امرىء جار على ما تعوّدا، وقيل: لكل كريم عادة يستعيدها، وقيل: اللسان متقاضيك ما عودته. قال المتنبي:
وتأبى الطّباع على الناقل.
وقالت الحكماء العادة طبيعة ثانية.
نفي العيب عن تعاطي ما كان خلقا
قال بعض القدماء:
ظلمت امرأ كلّفته غير خلقه ... وهل كانت الأخلاق إلا غرائزا «1»
قال الخبزارزي:
يعاب الفتى فيما أتى باختياره ... ولا عيب في ما كان خلقا مركّبا
المتخلّق يرجع إلى شيمته
قال عمر رضي الله تعالى عنه من تخلّق للناس بما ليس خلقا له شأنه الله وفي كتاب كليلة: الطبع المتكلّف كلما زدته تثقيفا زادك تعقيفا «2» . وقيل: كل إناء يرشح بما فيه. وقال إن التخلق يأبى دونه الخلق.
قال ذو الإصبع «3» :
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها «4»
قال زهير «5» :
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم «6»
وقال آخر:
وللنفس أخلاق تدلّ على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا(1/339)
الحثّ على ملازمة العادة الحسنة
قال أبو عبد الله بن حنيف: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام وعليه قميص محلول الأزار فسلم عليّ فقال: يا أبا عبد الله من عرف طريقا من الخير فسلكها ثم رجع عنها، عذّبه الله تعالى عذابا لم يعذّب به أحدا من العالمين، فانتبهت وأنا أقرأ، ومن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.
وقال جعفر بن محمد وقد ليم في جوده: إنّ الله عوّدني عادة وعوّدته عادة فأخاف أن يقطع عني عادته إن قطعت عادتي.
الحثّ على لين الكلام وطلاقة الوجه
قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
«1» وقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً
«2» وقال: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً
«3» وقال: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً
«4» وقيل: من لانت كلمته وجبت محبته.
قال سفيان بن عيينة:
بنيّ أن البرّ شيء هيّن ... وجه طليق وكلام ليّن
وقال طلاقة الوجه عنوان الضمير بها يستنزل الأمل البعيد: وقيل: حسن البشر اكتساب الذكر. البشاشة مصيدة المودة.
الحثّ على مداراة النّاس
عن النبي صلّى الله عليه وسلم: مداراة الناس صدقة وقيل: ثلثا التعايش مداراة الناس. وقال إبراهيم بن يسار: ما يسرني ترك المداراة ولي حمر النعم. قيل لم قال: لأن الأمر إذا غشيك فشخصت له أرداك وإذا تطأطأت له تخطاك. وقيل: داروا الناس تسلموا وقال معاوية: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت لأنهم إذا جذبوها أرسلتها وإذا أرسلوها جذبتها:
دار الصّديق إذا استشاط تغيّظا ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
حثّ من حسن خلقه أن يحسّن خلقه
نظر فيلسوف إلى غلام حسن الوجه يتعلم العلم فقال: أحسنت إذ قرنت بحسن خلقك حسن خلقك. وقال جالينوس «5» : ينبغي للرجل أن ينظر إلى وجهه في المرآة فإن كان حسن الوجه جعل عنايته أن يضمّ إلى جمال وجهه كمال خلقه وكمال نفسه وإن رأى صورة سمجة تحرّز من أن يكون ذميم الخلق والخلق.(1/340)
مدح من حسن خلقه وخلقه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أحسن الله خلق أحد وخلقه فاطعمه النار. ووصف خالد بن صفوان رجلا فقال: يقري العين جمالا والأذن بيانا.
قال ابن الرّومي:
كلّ الخلال التي فيكم محاسنكم ... تشابهت فيكم الأخلاق والخلق «1»
كأنّكم شجر الأترج طاب معا ... حملا ونورا وطاب العود والورق
محياه قد زرت عليه شمائله، وقال أحمد بن يوسف لرجل: ما أدري أي حسنيك أبلغ ما وليه الله تعالى من تسوية خلقك وكمال خلقك أو ما وليته لنفسك من تحسين أدبك وكمال مروءتك.
الاستدلال من حسن الوجه على حسن الخلق
قال قتادة: ما بعث الله تعالى نبيّا إلا بعثه حسن الخلق حسن الوجه. وقيل لابن دلير المنجم: ما الدليل على أن المشتري «2» سعد؟ فقال: حسنه.
وقالت الفلاسفة: قلّ صورة حسنة تتبعها نفس رديئة:
منظره ينبيك عن مخبره. نقش الطوالع مقروء من الطين كفاك منظره إيضاح مخبره.
في حمرة الخد ما يغني عن الخجل.
حثّ من قبح وجهه على تحسين خلقه
تقدم ما قال جالينوس في ذلك وقال الأوقص: قالت لي أمي: خلقت خلقة قبيحة لا تصلح معها لمجالسة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالأخلاق التي ترفع الخسيسة وتتم النقيصة فنفعني الله تعالى بكلامها فتعلّمت العلم فأدركت به. وقال الأحنف لابنه وكان دميما: إنّك جميل فكن فطنا.
ذمّ من حسن منظره وقبح مخبره
نظر فيلسوف إلى رجل حسن الوجه خبيث النفس، فقال: بيت حسن وفيه ساكن نذل ورأى آخر شابا جميلا، فقال: سلبت محاسن وجهك فضائل نفسك.
قال الشاعر:
خلق ممثّلة بغير خلائق ... ترجى وأجسام بلا أرواح(1/341)
وقال آخر:
فإنّكم ومدحكم بجيرا ... تراه العين أخضر ذا رواء «1»
لك النفس التي ترجو المعالي ... وتمنع بالمرارة والإباء
وقال آخر:
قلت وجوه المصر حتّى إذا ... كشفتهم كشّفت إستاها
وقال غيره:
ألم تر أنّ الماء يخلف طعمه ... وإن كان لون الماء في العين صافيا «2»
وقال غيره:
لا تجعلنّ دليل المرء صورته ... كم مخبر سمج من منظر حسن «3»
وقال غيره:
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني «4»
ذمّ من قبح خلقه وخلقه
استعرض المأمون الجند فمر به رجل دميم فاستنطقه فرآه ألكن «5» ، فأمر بإسقاطه وقال:
إن الروح إذا كانت ظاهرة كانت وسامة وإذا كانت باطنة كانت قصاحة وأراه لا ظاهر له ولا باطن. وفي المثل أحسن ما في خالد وجهه وفيه ستعلم الشاهد بالغائب. قال الشاعر:
مخبره أقبح من وجهه ... ووجهه بالقبح مشهور
وقال آخر:
قد رأيناك فما أعجبتنا ... وبلوناك فلم ترض الخبر
الاستدلال بقبح الوجه على قبح الصّنيع
قالت العرب: ليس على وجه الأرض قبيح إلا وجهه أحسن شيء منه.
قال شاعر:
يدلّ على قبيح الفعل منكم ... وأصلكم وجوهكم القباح
وقيل: أحسن ما في القبيح وجهه.(1/342)
من قبح منظره وحسن مخبره
لما عاد الحجاج من محاربة الخوارج قال: اطلبوا لي فاضلا أخرجه إلى عبد الملك، فأتوه برجل دميم المنظر حسن المخبر، فلما رآه عبد الملك استبشع منظره فاستنطقه فملا أذنه صوابا، فتعجب منه عبد الملك وأنشد متمثلا:
وإن عرارا أن يكن غير واضح ... فإني أحبّ الجون ذا المنكب العمّ «1»
فقال: يا أمير المؤمنين أتدري لمن هذا الشعر؟ قال: نعم هو لعمرو بن شاس في ابنه عرار فقال: أنا عرارابته فتعجب عبد الملك من مطابقة القول الحال فأمر له بمال وأوصى به إلى الحجاج وكلّم علي بن الهيثم عمر رضي الله عنه في حاجة وكان أعور دميما فلما تكلم فأحسن، صعّد عمر رضي الله عنه فيه النظر وصوّبه وقال: لكل أناس في جميلهم خبر:
ألم تسل الفوارس من سليم ... بنضلة وهو موتور يشيح «2»
رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرّجل القبيح
فلم يخشوا مصالته عليهم «3» ... وتحت الرغوة اللبن الصّريح
واستعان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه برجل كريه المنظر فوجده حسن المخبر، فقال: ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا. وقال بعضهم: فلان دميم الخلق كريم الخلق ولئن أمرّت «4» أوراقه لقد حلا مذاقه.
تفاوت أخلاق النّاس
الناس أشكال وشتّى في الشيم ... وكلّهم يجمعهم بيت الأدم «5»
الناس في اختلافهم في خلقهم كاختلافهم في خلقهم قال شاعر:
وتفاضل الأخلاق إن حصّلتها ... في النّاس حسب تفاضل الأجناس
قال غيره:
الناس أخلاقهم شتّى وإن جبلوا ... على تشابه أرواح وأجساد
قال خالد بن صفوان: الناس أخياف منهم من هو كالكلب لا تراه الدهر إلا هرارا «6» على الناس، ومنهم كالخنزير لا تراه الدهر إلا قذارا، ومنهم كالقرد يضحك من نفسه. وقال(1/343)
سلمان الفارسي «1» رضي الله عنه: الناس أصناف أربعة أسد وذئب وثعلب وضأن. فأما الأسد فالملوك يأكلون الناس أكلا، والذئب التجار يختلسون، والثعلب القراء المخادعون، وأما الضأن فالمؤمن ينتهشه كل من رآه. وقال بعضهم الناس أخياف «2» علق «3» مضنة «4» لا يباع وعلق مظنة لا يبتاع. وقال بعضهم الناس في أخلاقهم كما قال أبو العتاهية:
من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض
التمدّح بمخالفة النّاس والحثّ عليه
قال الشاعر:
أنا كالمرآة ألقى ... كلّ وجه بمثاله
وقال آخر:
متخلّق من حسن كلّ خليقة ... كعطارد في طبعه المتمازج
وقال آخر:
أحامقه حتّى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وقال آخر:
فكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن مثل أحمقا «5»
ذمّ متفاوت الخلق متلوّن
هو ذو لون مختلف الفعال وقال الأحنف لأن ابتلي بألف جموح لجوج أحّب إليّ من أن ابتلي بمتلون واحد:
فتى شان أخلاقه بلقة ... ففيهنّ بيض وفيهنّ سود «6»
أديب جواد جميل الرّجاء ... فصيح بليغ كريم مجيد
وقد شان تحسينه أنّه ... عجول حديد حقود حسود
وقال رجل: إنه ليبلغ من مللي أن أغيّر كلّ شهر كنيتي مرتين. وقال خالد بن صفوان إنّه ليبلغ من مللي أن أتبرم بنفسي فأتمنّى أن يؤخذ مني رأسي فلا يرد إليّ إلا في كل أسبوع. وقال الجاحظ: التلوّن أن يكون سرعة رجوع المرء عن الصواب كسرعة رجوعه عن الخطأ.(1/344)
الحثّ على تخلية المتلوّن
إذا كان ذو لون حؤول من الهوى ... موجّهة في كل صوب ركائبه
فخلّ له وجه الفراق ولا تكن ... مطيّة رحّال كثير مذاهبه
اللجوج
قيل: اللجاج «1» أن يكون ثبات العزم على إمضاء الخطأ كثبات العزم على إمضاء الصّواب.
قال النافع:
ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب «2»
(3) وممّا جاء في المزاح والضّحك مدحا وذّما
النهي عن المزاح والتخويف منه
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: إيّاك والمزاح فإنه يذهب ببهاء المؤمن ويسقط مروءته ويجرّ غضبه. وقيل: المزاح مجلبة للبغضاء مثلبة «3» للبهاء مقطعة للأخاء. وقيل: إذا كان المزاح أوّل الكلام كان آخره الشتم واللكام «4» .
سأل الحجّاج ابن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح وآخره ترح وهو نقائص السفهاء مثل نقائص الشعراء. المزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق «5»
المزاح أسباب النّوك. وقيل: لا تمازح صغيرا فيجترىء عليك ولا كبيرا فيحقد عليك، ونحوه قول الشاعر:
فإيّاك إيّاك المزاح فإنّه ... يجري عليك الطفل والدنس النّذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر(1/345)
وقيل: المزاح يبدي المهانة ويذهب المهابة والغالب فيه واتر. والمغلوب ثائر.
وقيل: لا تفاكه أمة ولا تبل على أكمة، وقيل: احذر فلتات المزاح فسقطة الاسترسال لا تقال.
النهي عن مزاح من لا تجوز مباسطته
قيل: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم:
لا تعرضنّ بمزح لامرىء طبن ... ما رامه قلبه أجراه في الشفة «1»
فربّ مخرمة بالمزح جارية ... مشبوبة لم يرد إنماؤها نمت «2»
حمد الاقتصاد في المزح
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم، كان يمزح ولا يقول إلا حقا، وقال تعالى في صفة المؤمنين:
وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً
«3» وقال سعيد «4» بن العاص لابنه اقتصد في مزاحك فالافراط به يذهب البهاء ويجرىء عليك السفهاء وتركه يقبض المؤانسين ويوحش المخالطين قال خالد بن صفوان: لا بأس بالمفاكهة تخرج الرجل من حال العبوس. وقال رجل لابن عيينة: المزاح سبة فقال بل سنة لمن يحسنه:
يا ساعتي في مجوني ... قد طبت فيك وطبت
إنّي إذا ضاق صدري ... قطعت بالسّخف وقتي
وقيل الناس في سجن ما لم يتمازحوا، وقد ينفس عن جدّ الفتى اللعب.
بعض ما روي عن الأماثل في المزاح
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان من أفكه الناس. قالت له عجوز من الأنصار: يا رسول الله أدع لي بالجنة فقال صلّى الله عليه وسلم إن الجنة لا يدخلها عجوز فبكت المرأة وضحك النبي صلّى الله عليه وسلم وقال:
أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً
«5» وقال لأخرى:
زوجك في عينه بياض فرجعت إلى زوجها فأخبرته، فقال أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها. وقال صلّى الله عليه وسلم لصبي: يا أبا عمير ما فعل النغير «6» ؟ وجاء رجل إلى أمير المؤمنين(1/346)
رضي الله عنه فقال: إني احتملت على أمي، فقال: لتقم في الشمس وليضرب ظلّك الحدّ.
وقال صلّى الله عليه وسلم لجاريته وقد وضأته فلما نهض اعتمد عليها، فقال: انظري لا تضرطي. وقال ابن عمر رضي الله عنهما لخادمه: خلقني خالق الكرام وخلقك خالق اللئام.
النهي عن الغضب من المزح
قال ابن سيرين رضي الله عنه ليس بحسن الخلق الغضب من المزح.
الممدوح بأن فيه الجد والهزل في موضعهما
إذا جدّ عند الجدّ أرضاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله
وقال آخر:
الجدّ شيمته وفيه فكاهة ... طورا ولا جدّا لمن لا يلعب «1»
قال آخر:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى ... وإنّي إذا جدّ الرجال لذو جدّ
وقال بعضهم: لأعدمتك مزينا بجدك مجلس الحفلة وبهزلك مجالس البذلة.
هو الظفر الميمون إن راح أو غدا ... به الركب والتلعابة المتحبّب «2»
عذر من كان منه ضحك وهو مهموم
وربّما ضحك المكروب من عجب ... السّن تضحك والأحشاء تضطرم «3»
وقال آخر:
وقد يضحك الموتور وهو حزين
النهي عن كثرة الضحك وذمّه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياك وكثرة الضحك فإنها تميت القلب وتورث النسيان، وقال عبد الله بن أبي دؤاد: فشا الضحك في أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
«4» عن الثوري عظموا العلم ولا تكثروا الضحك فتمجه القلوب وكثرة الضحك من الرعونة، وضحك إسحاق بين يدي المأمون حتى فتح فاه، فأمر بأن يؤخذ سيفه ومنطقته ويدفع إليه منديل الشراب، وقال: الشراب أليق بك فقال أقلني مرة يا أمير المؤمنين فأقاله، فما رؤي بعد ذلك ضاحكا. ومرت معاذة العدوية على شبان عليهم الصوف وهم يضحكون فقالت: سبحان الله لبس الناسكين وضحك الغافلين. قال كعب:
أن الله يبغض المضحاك من غير عجب.(1/347)
النّهي عن تعاطي ما يضحك
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له ويل له. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الرجل يتكلم بالكلمة يضحك بها الناس فيذل أبعد ما بين السماء والأرض، وقيل لأبي العيناء: فلان يضحك منك فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون.
إيراد جدّ في مسلك هزل
قيل: جديدة في لعيبة، وقال خالد بن صفوان رماني بأصلب من الجندل ونشقني بأحرّ من الخردل، ثم قال أني أمازحك.
لي صاحب ليس يخلو ... لسانه من جراحي
يجدّ تمزيق عرضي ... على طريق المزاح «1»
(4) ومما جاء في الحياء والوقاحة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحياء شعبة من الإيمان ومن لا حياء له فلا إيمان له وفسر قوله تعالى:
وَلِباسُ التَّقْوى
«2» بالحياء وقال: أبى عليك بالحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة «3» اجتنبت من الخساسة، وإن أنفت من الغلبة لم يتقدمك أحد في مرتبة. وقيل: أحي حياءك بمجالسة من يستحى منه، وقيل: من جمع بين الحياء والسخاء فقد أجاد الخلة إزارها ورداءها.
الممدوح بالحياء
في وصف النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه كان شديد الحياء، وكان أشدّ حياء من العذراء في خدرها «4» ، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. وسأل يحيى ابن خالد رجلا عن ابنه فقال تركته وماء الحياء يتحدر من أسارير وجهه، وسيول الجود سائلة من فروج أنامله ولآلىء العلم متناثرة من ميازيب «5» منطقه. قال شاعر:
ترك الحياء بها رداع سقيم «6»
قال المتنبّي:
وأوجه فتيان حياء تلتمّوا ... عليهنّ لا خوفا من الحرّ والبرد(1/348)
وليس حياء الوجه في الذئب شيمة ... ولكنّه من شيمة الأسد الورد «1»
وقال مروان بن أبي حفصة:
يكاد يخرج في ديباج أوجههم ... خوف المذلّة حتى ينفطرن دما
من مدح بالحياء في السّلم والوقاحة في الحرب
قال شاعر:
كريم يغضّ الطرف فرط حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان «2»
وقال آخر:
يتلقّى النّدى بوجه حييّ ... وسيوف العدا بوجه وقاح «3»
قال الموسوي:
يجري الحياء الغضّ من قسماتهم ... في حين يجري في أكفّهم الدّم «4»
من يستحي من النّاس دون نفسه وربّه
قال كعب: استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم. وقيل من يستحي من الناس ولا يستحي من نفسه فلا قدر لنفسه عنده.
قال رجل للنعمان: أوصني فقال إستح من الله كما تستحي من رجل من عشيرتك وفي ضد ذلك:
إذا كان ربّي عالما بسريرتي ... فما النّاس في عيني بأعظم من ربّي
ذمّ الوقاحة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوّة. إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
قال شاعر في معناه:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
وفي معناه أيضا:
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ... وتستح مخلوقا فما شئت فاصنع
وقيل إذا لم تستح فقل، وإذا لم تخش فقل: الفاقة خير من الصفاقة «5» .(1/349)
هجاء وقح
قيل: فلان يعد الحياء جنّة والوقاحة جنّة، هو أوقح من الدهر، وجه صلب ولسان خلب. قال شاعر:
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... أقدّ منها حافرا للأشهب
قال منصور بن ماذان: الصخر هش عند وجهك في الوقاحة ومن الأبيات الرائقة الرائعة التي لا أرتاب لها:
أن يعجزوا أو ينجلوا ... أو يغدروا لم يحفلوا «1»
وغدوا عليك مرجّلين ... كأنّهم لم يفعلوا
قال الناجم:
لك عرش مثلّم «2» من قوار ... ير ووجه ململم من حديد
مدح الوقاحة
قال علي رضي الله عنه: قرنت الخيبة بالهيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمرمر السحاب. قال شاعر:
إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلّب في الأمور كما يشاء
ولم يك للأمور ولا لشيء ... يعالجه له فيه عناء «3»
وقال معاوية لعبد الله بن جعفر «4» رضي الله عنهم: ما اللذة؟ فقال: ترك الحيا واتباع الهوى.
الشّاكي حياءه
قال العتابي: فيّ خصلتان اعتقلتاني عن كثير من المنافع حصر مقيد بالحياء وعزة نفس شبيهة بالجفاء.
قال أبو الأسود «5» :
وأعطيت حظّا من حياء وأشتكي ... من العجز ما لم يبد للنّاس عائبه(1/350)
وقال آخر:
لساني وقلبي شاعران كلاهما ... ولكنّ وجهي مفحم غير شاعر
قال العبّاس بن الأحنف:
من راقب النّاس مات غمّا ... وفاز باللذّة الجسور
(5) الأمانة والخيانة
الحثّ على الأمانة والنهي عن الخيانة
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«1» وقال: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
«2» وقال: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ
«3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا إيمان لمن لا أمانة له. ومن دعائه عليه السلام: أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة. وقال الجاحظ:
سقى الله قبر الأحنف حيث يقول: الزم الصيحة يلزمك العمل. وقال: إذا لم تكن خائنا فبت آمنا. وقيل: أفحش الزمانة عدم الأمانة إذا ذهب الوفاء نزل البلاء وإذا مات الاعتصام عاش الانتقام. خيانة الناس أقبح الإفلاس وقال معاوية: إلزم الرفيعين: الأمانة والعدل.
الحثّ على الوفاء ومدحه
قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
«4» وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
«5» وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها
«6» وقيل إذا ذهب الوفاء نزل البلاء وإذا ظهرت الخيانات استمحقت «7» البركات. وقيل: الوفاء من شيم الكرام والغدر من همم اللئام. وقيل في قوله تعالى:
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
«8» ، لا تلبس ثيابك على الغدر.
مدح ذوي الوفاء
قال الله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا
... وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ*
«9» ، قال شاعر:
ولم توقد لها بالغدر نار(1/351)
قال المسيّب بن عيسى:
أنت الوفيّ فما تذمّ وبعضهم ... يوفى بذمّته عقاب الملاع «1»
وقال أعرابي: فلان لا يشكره الخنى «2» ولا يشكوه الوفا. قال التنوخي:
عظائم لو أنّ السموءل خافها ... لخان امرأ القيس الوكيد من العهد «3»
من التزم مكروها في التزام الوفاء
قيل: أكرم الوفاء ما كان عند الشدّة وألأم الغدر ما كان عند الثقة، كان السموأل أودعه امرؤ القيس دروعا، فقصده الملك وأخذ ابنه وقال: إن دفعت الدروع إليّ وإلّا ذبحت ابنك، فقال: أجّلني يوما. فجمع عشيرته واستشارهم فكلّ أشار بأن يدفع إليه.
فلما أصبح قال: ليس إلى دفعها سبيل، فافعل ما بدا لك. فذبح الملك ابنه. فوافى السموأل بالدروع الموسم ودفعها إلى ورثة امرىء القيس، فقال «4» :
وفيت بأدرع الكندي إنّي ... إذا ما خان أقوام وفيت «5»
وفيه قال الأعشى وهي أبيات جيّدة رائقة «6» :
كن كالسّموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرّار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار «7»
قد سامه خطّتي خسف فقال له ... قل ما بدا لك إني سامع حار»
فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار
فشكّ غير طويل، ثمّ قال له ... أقتل أسيرك إنّي مانع جاري «9»
وعمير بن سليم الحنفي كان يقصده السواقط «10» فلا يتعرض لقصّاده، وكان مرداس في سجن عبيد الله بن زياد فقال له السجّان: أنا أحب أن أوليك حسني، فإن أذنت لك في(1/352)
الانصراف إلى دارك أتدلج «1» علي؟ فقال: نعم، فكان يفعل ذلك به. فلما كان ذات يوم قتل بعض الخوارج صاحب شرطة زياد، فأمر زياد أن يقتل من في الحبس من الخوارج وكان مرداس خارجا، فقال أهله: اتّق الله في نفسك فإنّك مقتول إن رجعت، فقال: ما كنت لألقى الله غادرا وهذا جبار ولا آمن أن يقتل السجان فرجع، وقال للسجّان:
تساقط «2» إليّ ما عزم صاحبك عليه من قتل أصحابنا فبادرت لئلا يلحقك مكروه، فقال السجّان: خذ أي طريق شئت فانج نجّاك الله.
الوفيّات من النساء
قال أبو عبيدة: لم تف امرأة لزوجها إلّا قضاعيتان نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان رضي الله عنه، وذلك أنه خطبها معاوية لما قتل عثمان فدعت بفهر «3» ، فقلعت ثنيتها «4» وقالت: أني رأيت الحزن يبلى فلم آمن أن يبلى حزنى فتدعوني نفسي إلى التزوّج وامرأة هدبة فإنها حين قتل زوجها قطعت أنفها وكانت حسنة الأنف لئلا يرغب فيها.
قلّة الوفاء في النّاس ووصف عامّتهم بالغدر
قال تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ
«5» وكان يحيى بن خالد إذا اجتهد في يمينه يقول: لا والذي جعل الوفاء أعز ما يرى. وكان يقول هو أعز من الوفاء، وقيل لحكيم أي أصناف الناس أقل وفاء فقال أهل الأمانة والوفاء.
قال موسى العلوي:
وخان الناس كلّهم ... فلا أدري بمن أثق
قال المتنبّي:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا
أهل الحفيظة إلا أن تجرّبهم ... وفي التجارب بعد الغيّ ما يزع «6»
قال أبو فراس:
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحرّ الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلّهم ... ذئابا على أجسادهنّ ثياب
وله:
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء له ... كأننّي جاهل بالدّهر والنّاس(1/353)
وله:
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة ... أجاب إليها عالم وجهول
وقال آخر:
والمنتمون إلى الوفاء جماعة ... إن حصّلوا أفناهم التحصيل
وقال الموسوي:
أبى النّاس إلّا ذميم الفعال ... إذا جرّبوا وقبيح الكذب
ذمّ الغدر وذويه
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
«1» وقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ
«2» ، وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه الغدر مكر والمكر كفر. وقيل: الخيانة خزي وهوان، وقيل: من عامل الناس بالمكر كافأوه بالغدر.
قال شاعر:
لقد غدرت وعيب الغدر مشتهر
وكانت العرب إذا غدر منهم غادر يوقدون له بالموسم نارا وينادون عليه، يقولون ألا أن فلانا غدر ولذلك قال الغادرة الغطفاني:
اسمى ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء بها لنا في المجمع
وقيل: حجّ وفاء زهير المازني في الجاهلية ورأى في منامه كأنه حاض، فقص رؤياه على قس بن ساعدة فقال: إنك غدرت أو غدر بعض عشيرتك. فلّما قدم على أهله وجد أخاه قد غدر بجار له فعقله، وقال علام سمّيت وفاء إذا رضيت الغدر.
رجوع الغدر إلى صاحبه وسرعة إدراك عقوبته
قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: ثلاث هنّ راجعات إلى أهلها: المكر «3» والنكث «4» والبغي «5» ، ثم تلا قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
«6» وقال: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
«7» وقال: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
«8» ، وقيل: ربّ حيلة كانت على صاحبها وبيلة. وقيل: رب حيلة أهلكت المحتال.(1/354)
قال امرؤ القيس:
ويغدو على المرء ما يأتمر
وقال آخر:
وكم من حافر لأخيه ليلا ... تردّى في حفيرته نهارا
وقيل: من حفر مغواة «1» وقع فيها، وقيل: من عاد إليه مكره عاد الرمي على النزعة، وقيل أربع من أسرع الأعمال عقوبة: من عاهدته ورأيك أن تفي له ورأيه الغدر، ومن سعى على من لم يسع عليه، ومن قطع رحم من يواصله، ومن كافأ الإحسان باساءة.
الموصوف بالغدر
قال أعرابي: إنّ الناس يأكلون أماناتهم لقما وفلان يحسوها حسوا ويقال فلان أغدر من الذئب. قال شاعر:
هو الذئب أو للذّئب أوفى أمانة
وقيل الذئب يأدو الغزال أي يختله. واستبطأ عبيد الله بن يحيى أبا العيناء فقال: أنا والله ببابك أكثر من الغدر في آل خاقان.
قال حسّان:
إن تغدروا فالغدر فيكم شيمة ... والغدر ينبت في أصول السّخبر «2»
وقال الخبزارزي:
ولم تتعاطى ما تعودت ضدّه ... إذا كنت خوّانا فلم تدّعي الوفا
وقال الباذاني في أبي دلف وكان نقش خاتمه الوفاء:
الغدر أكثر فعله ... وكتاب خاتمه الوفا
وقيل كان بنو سعد يسمون الغدر كيسان ويستعملونه وفيهم يقول اليمين:
إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد «3»
التعريض بمن كان منه غدر
قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي عند قتله ابن هبيرة: ما كان أعظم رأس صاحبك. فقال: نعم وأمانته كانت أعظم.(1/355)
وكان لعبد الملك صديق يختصه، فغاب عنه غيبة قتل عبد الملك فيها عمرو بن سعيد بعد أن أمنه. فلما قدم قال له يوما: ما تقول في قتل عمرو بن سعيد؟ فقال: اعفني.
فقال: أقسمت عليك لتقولنّ. فقال لو قتلته يا أمير المؤمنين وأنت كان حي جميلا. فقال أو ما تراني حيا قال ليس بحي من أقام نفسه مقاما لا يوثق به، والله لا يخرج عليك بعدها خارجى إلا وبلغ الغاية في معاداتك، وإن بذلت له كل أمانة. فقال عبد الملك: لو سبق إلى إذني لم أصنع ما صنعت، ولقد صدق من قال نصف عقلك مع صاحبك.
قال جحظة «1» :
وأمّنتني ثمّ عاقبتني ... فكان أمان أبي مسلم
مدح سوء الظنّ بالنّاس
قيل: ما الحزم؟ قال: سوء الظن بالناس.
وقال ببغاء «2» البغدادي:
وأكثر من تلقى يسرّك قوله ... ولكن قليل من يسّرك فعله
وقد كان حسن الظنّ بعض مذاهبي ... فأدبّني هذا الزمان وأهله «3»
وقد تقدم هذا الباب.
ذمّ من ساء ظنّه
قيل لبعضهم: ما ظنّك بالناس؟ قال: ظنّي بنفسي. قال المتنبّي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توّهم
وقيل: أخفض الناس «4» من لا يثق بأحد ولا يثق به أحد.
النهي عن الوقوف موضع التّهمة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقومّن مقام التهمة. وقيل: من وقف موقف التهمة لم يكن له أجر الغيبة. من جعل نفسه عرضا للتهم فلا يلومنّ من أساء به الظن.(1/356)
حقيقة النّفاق
قيل: حقيقة النفاق أخلاف السرّ والعلانية واختلاف القول والعمل، وقال صلّى الله عليه وسلم:
علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان.
ذمّ ذي الوجهين «1»
قال الأحنف: إنّ ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها. قال صالح بن عبد القدوس «2» :
قل للّذي لست أدري من تلوّنه ... أناصح أم على غشّ يداجيني
إنّي لأكثر ممّا سمتني عجبا ... يد تشجّ وأخرى منك تأسوني «3»
تذمّني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكلّ منك يأتيني
النهي عن الاستعانة بخائن
قيل: من استرعى الذئب ظلم. قال شاعر:
إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأثم «4»
قال آخر:
إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة ... فإنّك قد أسندتها شرّ مسند
وقال آخر:
إن العفيف إذا تكنّفه الظنين هو الظنين
وقال علي رضي الله عنه: من تتّهمه فلا تأتمنه ومن تأتمنه فلا تتّهمه.
عذر من استعان بخائن سهوا
قال أبو تمّام:
هذا النبّي وكان صفوة ربّه ... من بين باد في الأنام وقار «5»
قد خصّ من أهل النّفاق عصابة ... وهم أشدّ أذى من الكفّار «6»(1/357)
واختار من سعد لعين بني أبي ... سرح لوحي الله غير خيار «1»
الحثّ على نقض عهد الغادر
قال بعض العلماء: حقّ على من جعل لغادر عهدا أن ينقضه، لأن الله تعالى يقول:
لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
«2» وقال الأعمش: نقض العهد مع من لا عهد له وفاء بالعهد.
الحثّ على الغدر والتبجّح به
قال شاعر:
خرق على الناس وخرق لهم ... فإنّما الدّنيا مخاريق»
وقال مسعود الأسدي:
قالوا غدرت فقلت جير فربّما ... نال العلى وشفى الغليل الغادر «4»
وقال العباس بن الأحنف:
ملّني واثقا بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان
(6) وممّا جاء في المسابقة إلى المعالي والرفعة والمجد وصيانة النفس والمروءة والفتوة وتعظيم الأماثل
الممدوح بأن مجاريه إلى العلاء تأخّر عنه
مدح كاتب رجلا قال: فلان طالت إلى المساعي خطاه وبذّ «5» بشأوه «6» من ساعاه وجاراه.
وخطب عمر رضي الله عنه أبا بكر وفضّله، فقال: وإنه كان كما قال الشاعر:
من يسع كي يدرك مسعاته ... يجتهد الشّدّ بأرض فضاء
والله لا يدرك أيامه ... ذو مئزر ضاف ولا ذو رداء(1/358)
وفي المثل فلان لا يشقّ غباره «1» . وكتب كاتب: لسنا لاحقيك إذا ابتدأت ولا سابقيك إذا كافأت.
وسئل مجنون: كيف رأيت بني فلان مع من فاخر؟ فقال:
كانوا ومن عاداهم من البشر ... كأنما أجريت خيلا وبقر
وقال سلم الخاسر:
جاراك قوم فلم ينالوا ... مداك والجري لا يعار «2»
وقال المتنبّي:
من تعاطى تشبّها بك أعيا ... هـ ومن دلّ في طريقك ضلّا «3»
وقال البحتري:
في فتية طلبوا غبارك إنّه ... وهج ترفع من طريق السؤدد
قال ابن الرومي:
رجحتم على أكفائكم إذا وزنتم ... وهل يستوي الآلاف والعشرات
قال أبو تمّام:
محاسن أقوام متى تقرنوا بها ... محاسن أقوام تكن كالخبائث «4»
من يبكّت مساميه ومباريه
وقال بشّار:
أيها الجاهل المباهي بريدا ... ليس بدر السماء منك بدان «5»
وقال أبو تمّام:
ويا أيّها السّاعي ليدرك شأوه ... تزحزح قصيّا أسوأ الظّنّ كاذبه «6»
بحسبك من نيل المكارم أن ترى ... عليما بأن ليست تنال مناقبه «7»
وقال آخر:
نحيت بيربوع لتدرك دارما ... ضلالا لمن منّاك تلك إلا مانيا
سعيت شباب الدهر لم تستطعهم ... أفالان لمّا أصبح الدهر فانيا
قال الموسوي:
يريد المعالي عاطل من أداتها ... وهيهات من محصوصة طيرانها(1/359)
حثّ من يحسد فاضلا أن يفعل فعله
رأى الحسن قوما يتهافتون على جنازة بعض الصالحين، فقال: مالكم تتهافتون على ما لا يجدي عليكم؟ ها هي الاسطوانة التي كان يلزم إلزموها تكونوا مثله. قال أسجع:
يريد الملوك مدى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع
وقال ابن المعتز:
يا طالبا للملك كن مثله ... تستوجب الملك وإلّا فلا
وأنشد أبو العيناء:
إذا أعجبتك خلال امرىء ... فكنه يكن منك ما يعجبك «1»
الموصوف بأنه نال السّماء رفعة
قال تميم بن مقبل:
نالوا السماء فأمسكوا بعنانها ... حتى إذا كانوا هناك استمسكوا «2»
قال صاحب البصرة:
ملكنا السماء بأحسابنا ... ولولا السماء ملكنا السما
أخذه من قول النابغة الجعدي:
بلغنا السماء نجدة وتكرّما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وأنشد ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إلى أين؟ فقال: إلى الجنة فقال صلّى الله عليه وسلم: لافضّ فوك، وقال الفرزدق:
فلو أن السّماء دنت لمجد ... ومكرمة، دنت لهم السماء
النازل ذروة الشرف
قال شاعر:
سما فوق صعب لا تنال مراتبه
وقال حسّان:
سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا دنيئا ولا وغلا «3»
قال ابن الرومي:
تدلّوا على هام المعالي إذا ارتقى ... إليها أناس غيرهم بالسّلالم «4»(1/360)
وقال غيره:
على قمّة المجد المؤثّل جالس «1»
المبادر إلى تناول المكرمات
يستحسن في هذا المعنى قول الشمّاخ «2» :
إذا ما راية رفعت لمجد ... وقصّر مبتغوها عن مداها
وضاقت أذرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها
وقال ابن الرومي:
سجايا إذا همّت بخير تسرّعت ... إليه وإن همّت بشّر تناءت «3»
وصف أعرابي رجلا فقال: هو وسّاع إلى الخير قطوف عن الشر وعكس ذلك شاعر: فقال:
هو في الخير قطوف ... وهو في الشرّ وساع
المختصر طريق المكرمات
قال البحتري:
له طريق إلى العليا مختصر
قال ابن طباطبا:
كأنّه من سموّ همّته ... يأتي طريق العلا فيختصر
قال الرفّاء «4» :
قلت إذ برز سبقا في العلا ... إلى المجد طريق مختصر
المتدرع للعلا
قال شاعر:
ألبسه الله ثياب العلا ... فلم تطل عنه ولم تقصر
قال أشجع «5» :
مكارم ألبست أثوابها ... كلّ جديد عندها بال(1/361)
قال الأخطل «1» :
وأقسم المجد حقّا لا يحالفهم ... حتّى يحالف بطن الراحة الشعر
وقيل: المجدّد ثأره والكرم شعاره.
من انتهى إلى العلا ابتداء منه
قال أحمد بن أبي طاهر:
خلائقه للمكرمات مناسب ... تناهى إليه كلّ مجد مؤثّل «2»
قال أبو تمّام:
ما أنشئت للمكرمات سحابة ... إلا ومن أيديهم تتدّفق
الموصوف بأنه يحمي المكرمات
قال أعرابي لقوم: أنتم والله حضان الشرف وقال رجل لآخر لو وجد الكرم في يد غيرك لعلم أنه ضالة لك.
قال أبو شراعة:
مولى المكارم يرعاها ويعمرها ... إن المكارم قد قلّت مواليها «3»
قال أبو تمّام:
قوم تراهم غيارى دون مجدهم ... حتّى كأنّ المعالي عندهم حرم
قال أبو تمّام:
مضوا وكأنّ المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهنّ شرائع «4»
قال آخر:
يحمي شريعة مجد غير مورود
من ارتفع بيت شرفه
قال شاعر:
فأما بيتكم إن عدّ بيت ... فطال السمك وارتفع الفناء «5»(1/362)
وأما أسّه فعلى قديم ... من العاديّ إن ذكر البناء
قال أبو تمّام:
له نبعة فرعها في السماء ... وفي هامة الحوت أعراقها
قال أبو فراس:
لنا بيت على عنق الثريّا ... بعيد مذاهب الأطناب سام «1»
تظلّله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطّعام
وقال آخر:
له قبّة في المجد رأس عمادها
المتدرّع للمعالي
قال الراعي «2» :
فمن يفخر بمكرمة فإنّا ... سننّاها لأيدي الفاعلينا
قال ابن الرومي، وقد أحسن:
هم المبدعون بديع العلى ... إذا كان غيرهم المتّبع
وما الدين إلا مع التّابعين ... ولكنّما المجد للمبتدع
قال أبو تمام، وقد أحسن:
فمهما تكن من وقعة بعد لا تكن ... سوى حسن ممّا فعلت مردّد
محاسن أصناف المغنّين جمّة ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد «3»
قال المتنبّي:
يمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع «4»
وقال أرسطوطاليس للإسكندر: أمّا مناقبك فقد نسخها تواترها فصارت كالشيء القديم يتأسى به كالبديع بتعجب منه.(1/363)
المتثبّت بالمعالي والخادم لها
قال أبو الشيص «1» :
عشق المكارم فهو معتمد لها ... والمكرمات قليلة العشّاق
قال المتنبّي:
تلد له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام
ومن هنا أخذ الصاحب قوله:
اشبب لكن بالمعالي اشبب ... وانسب لكن بالمكارم أنسب
قال أبو تمّام:
خدم العلى فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدم
العديم النظير والشبيه
وصف أعرابي رجلا فقال ما نطف «2» فحل بمثله، قال:
ما ولدت مثلك أرحام النساء
وقال آخر:
إنّ الزمان بمثله لعقيم
قال المتنبّي:
ليس له عيب سوى أنه ... لا تقع العين على شبهه
وليس ذلك بعيب وإنما هو كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب «3»
قال علي بن عبد العزيز:
جملة القول أنّ مثلك لا يمكن في مثل دهرنا تكوينه قال أبو نواس:
خلقت بديعا لا يقال كأنّه ... تعالى ولم يسمع بمثلك سامع
قال آخر:
ولم تقع عين على مثله(1/364)
قال ابن سكّرة في الصّابي:
خرجت أطلب شيئا لا وجود له ... ومن غدا يطلب المفقود لم يجد
شبه الكريم أبي إسحاق في كرم ... ما ليس في الظنّ هل يسطاع في بلد
من اشتغاله كسب المعالي
قال البحتري:
إلى فارغ من كلّ شغل يشينه ... فإن يشتغل بالمجد طاب اشتغاله
قال المتنبّي:
ويشغلهم كسب الثّناء عن الشغل
من يتزايد في المجد على مرور الدهر
قال شاعر:
وجدتك أمس خير بني معّد ... وأنت اليوم خير منك أمس
قال أبو الهول:
ما كنت في غاية إلا سبقت ولا ... طال المدى بك إلّا زدت إحسانا
من لا يحصى مجده
وقال أبو شراعة:
وحزت بهم لا بل بنفس ابن حرّة ... مآثر يحصى دون إحصائها الرّمل
قال دعبل:
معاليه يحصى قبل إحصائها القطر
الموصوف بان تجمّع فيه عالم لفضله
عقيل يصول إذا استجير به نفير، قال أبو نواس:
متى تخطى إليه الرجل سالمة ... تستجمع الخلق في تمثال إنسان
وله:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
قال المتنبّي:
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا
من يستحقر في جنبه أجلّاء الناس
قال بكر بن النطاح:
ما النّاس إلا ملك واحد ... غير خشارات......... «1»(1/365)
قال رشتة بن الأبيض:
الناس عند علي حين تذكرهم ... كالشّوك يذكر بين الورد والآس
قال ابن العوّام:
فنحن السنام والمناسم غيرنا ... ومن ذا يسوّي بالسنام المناسما «1»
وذلك مأخوذ من قول الآخر:
ومن يسوّي بأنّف الناقة الذنبا
قال أبو السعداء:
النّاس أيام الشهو ... ر وأنت فيهم يوم عيد «2»
من تتزيّن به الدنيا
وصف أعرابي رجلا فقال لئن عابه كونه في الزمان لقد تزين الزمان بكونه فيه.
قال الجريمي:
تحلّت به الدنيا فغطّت عيوبها ... وأمست به الدنيا تجّل وتحمد
قال المتنبّي:
أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار «3»
وقال أبو الفضل بن العميد: أمدح بيت قول المتنبي:
الدهر لفظ وأنت معناه
قال الشيخ رحمه الله وأنا استحسن قول الشاعر:
فما أحسن الدنيا وفي الدار خالد ... وأقبحها لمّا تجهّز غازيا
قال ابن الرومي:
يا زينة الدين والدنيا إذا احتفلا ... وأظهرا ما أعداه من الزين
من تنافست فيه الأيّام
قال نصيب:
وقد تغايرت الأيام فيك فما ... تنفكّ تسني لها الحذيا وتحتشد «4»(1/366)
قال أبو تمّام:
يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس
قال ابن الرومي:
تنافس الناس في أيّام دولته ... فما يبيعون ساعات بأعوام
ومن الأقوال المشهورة:
فلان لا يحجب في العلم ... (أي لا يخفى مكانه)
وقال شاعر:
وهل يخفى على الناس النهار
قال ابن الرومي:
شمس الضحى أبرع من أن تطمسا «1»
وقال آخر:
إنّي إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان
قال ابن هرمة «2» :
إذا خفي القوم اللئام رأيتني ... مقارن شمس في المجرّة أو بدر «3»
وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يطوف بالبيت فرآه يزيد. فقال: من هذا؟
فقال له الحارث بن الليث:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم «4»
اعتذار من لم يعرف
قال رجل لسقراط ذكرتك عند فلان فلم يعرفك فقال: يضرّه أنه لا يعرفني، لأنه لا يجهل مكان ذي العلم إلّا خسيس. وقال محمد بن الزيات لبعض أولاد البرامكة: من أنت ومن أبوك؟ فقال: أما أنا فالذي تعرفني وأما أبي فالذي لم يعرفك ولا أباك. قال المتنبي:
وإذا خفيت على الغبيّ فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء(1/367)
وصف الإنسان بأنّه لا يخلو من العيب
قيل لبعض الفلاسفة: من الذي لا عيب فيه؟ فقال: الذي لا يموت. وقال الأحنف:
الشريف من عدّت سقطاته، أي الرجل المهذب. قال شاعر:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلا أن تعّد معايبه
ولهذا باب آخر في الإخوانيات.
الحثّ على إكرام النفس عند المذلّة
قال عمرو بن العاص: المرء حيث يجعل نفسه إن صانها «1» ارتفعت، وإن قصّر بها اتّضعت.
قال بعضهم:
وما المرء إلّا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
قال حاتم:
ونفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما «2»
قال صالح بن عبد القدوس:
إذا ما أهنت النفس لم تك مكرما ... لها بعد ما عرّضتها لهوان
أنشد غلام أبي عبيده:
ولا تهن للصّديق مكرمة ... نفسك حتّى تعدّ من خوله
يحمّل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله
وإنما يعني بذلك الهوان الذي هو العسف لا الهون الذي قالت العرب فيه إذا عز أخوك فهن. قال صلّى الله عليه وسلم: سيد القوم خادمهم.
الممدوح بصيانة النفس
قال بعضهم: جعلت الدنيا دون عرضى فآثرها لدى ما صانه وأهونها على ما شانه، ووصف آخر رجلا فقال: اشترى بالمعروف عرضه ومن الأذى فلو كانت الدينا له فأنفقها صيانه لنفسه لاستقلها.
قال ابن نباتة «3» :
لبست من الحوادث كلّ ثوب ... سوى ثوب المذلّة والهوان(1/368)
مدح إهانة النفس حيث تحمد
مدح أعرابي رجلا فقال: كان يهين نفسا كريمة لقومه ولا يبقي لغد ما وجد في يومه.
قالت الخنساء «1» :
نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوفى لها
ويروى عن الشافعي رضي الله عنه:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
ما جاء في الفتوّة
قيل: الفتوة طعام موضوع ونائل مبذول وبشر مقبول وعفاف معروف وأذى مكفوف، وجاء جماعة إلى حسان فقالوا من الفتى؟ فقال:
إن الفتى لفتى الهواجر والثرى ... وفتى الطّعان ومدره الحدثان «2»
ذاك الفتى إن كان كهلا أو فتى ... ليس الفتى بمنعم الشبان
المروءة
قال معاوية لقرشي: ما المروءة؟ قال إطعام الطعام وضرب الهام. وقال ذلك لثقفي فقال: هي تقوى الله وإصلاح المعيشة. فقال لعمرو اقض بينهما. فقال: أما ما قال القرشي فهو المروءة وقد أجاد الثقفي ولم يصب ولكن من بدأ بكلام حسن زيّن بذلك سائر كلامه.
وإن المروءة أن تعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وقال عبد الله بن عباس المروءة أن تحقق التوحيد وتركب المنهج السديد وتستدعى من الله المزيد، وقيل جماع المروءة في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«3» .
وقيل لعمرو بن العاص ما المروءة؟ فقال: العفة عما حرم. وقيل للأحنف ذلك فقال: أن لا تعمل في السرّ ما يستحيا منه في العلانية.
وقيل له مرة أخرى فقال: اجتناب الريب «4» فإنه لا ينبل مريب، وإصلاح المال فلا مروءة لمحتاج، والقيام بحوائج الأهل فلا مروءة لمن يحتاج قومه إلى غيره، وقيل: لآخر(1/369)
فقال مواطأة القلب اللسان، وقيل الحسب «1» إحصاء المكارم والنسب إحصاء الآباء.
جواز تقبيل اليد
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لا يحلّ لأحد أن يقبّل يد آخر إلا رجلا من أهل بيتي أو يد عالم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رجل معروفا فقبل يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمس مرات، ولما قدم عمر بن الخطاب الشأم، قبّل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يده ثم تناول رجله ليقبلها فقال: مه «2» أما هذا فلا. ودخل عطية بن عبد الرحمن الثقفي فمثل بين يدي مروان ابن محمد فاستأذنه أن يقبل يده، فقال: القبلة من المسلم ذلّة ومن الذميّ خدعة. لا حاجة لي في أن نذل أو تخدع. مد المأمون يده لأعرابي ليقبلها فتناولها بكمه فقال: أتقذر لها؟ فقال: لا بل أتعزز بها.
من منع من ذلك أو امتنع
قالت امرأة لأبي مسلم: ناولني يدك أقبلها فقد نذرت، فقال: عليك بالحجر الأسود تصيبين أجرا وتقضين نذرا.
ودخل عقال بن شبة على هشام وأراد أن يقبل يده فقال: لا يفعل هذا من العرب إلا هلوع «3» ولا من العجم إلا خضوع «4» .
وقيل لما أفضت الخلافة إلى أبي العباس السفاح وفدت عليه قريش فأمروا بتقبيل يده، حتى دخل إبراهيم بن محمد العدوي فقال: يا أمير المؤمنين لو كان تقبيل اليد يزيد في القربة منك لأخذت بخطّي منه. وانك لغني عمّا لا أجر فيه لك وفيه منقصة لنا فأقره ولم ينقصه من حظوظ أصحابه شيئا.
الممدوح بأنّه مقبّل اليد والرجل
قال إبراهيم الصولي:
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل «5»
فباطنها للنّدى ... وظاهرها للقبل «6»(1/370)
أخذه ابن الرومي فقال:
فامدد إليّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
قال الخوارزمي:
تعاورت الشفاه الكم عنها ... ونافست الشفاه بها الخدودا
وله:
يقبّل رجليه رجال أقلّهم ... تقبّل في الدست الرفيع أنامله
وفي ضده يقول الهنادي لبعض بني هاشم:
يا قبلة ذهبت ضياعا في يد ... ضرّ الإله بنانها بالنّقرس
ودخل أبو العميثل على طاهر بن الحسين متمدحا وقبل يده فقال: ما أخشن شاربك يا أبا العميثل. فقال: أيها الأمير إن شوك القنفذ لا يضر ببرثن الأسد. فضحك وقال إن هذه الكلمة أعجب إليّ من كل شعر. فأعطاه للشعر ألف درهم ولكلمته هذه ثلاثة آلاف درهم.
المقبّل أرضه
قال المتنبّي:
تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه «1»
قال أبو القاسم بن أبي العلاء:
يقبّل صيد النّاس سدّة بابه ... ويعظم عنه أخمص وركاب
لدى ملك قد خطّ في كلّ جبهة ... كتابة رقّ والمداد تراب «2»
قال أحمد بن إبراهيم:
سجدنا للقرود رجاء دنيا ... حوتها دوننا أيدي القرود
فما بلت أناملنا بشيء ... رجوناه سوى ذلّ الخدود
من يقام له وينزل إليه وجواز ذلك وكرامته
قال شاعر:
فلا تعجب لإسراعي إليه ... فإنّ لمثله شرّع القيام
قال إبراهيم الصولي:
إذا ما بدا والقوم فوق سروجهم ... تناثرت الأشراف منهم على الأرض(1/371)
وقال آخر:
وترى النّاس هيبة حين يبدو ... من قيام وركّع وسجود
وقال آخر:
يأتي الجوانب لا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان «1»
الممدوح بأنواع من المكارم
قال عمرو بن عتبة في أمر وقع بين بني أمية وبين غيرهم إنّ لقريش درجا يزلق عنه أقدام الرجال وأفعالا تخضع لها رقاب الأموال، وألسنا تكلّ عنها الشفار المحدّدة «2» وغايات تقصر عنها الجياد المسومة لو احتفلت الدنيا لم تتزيّن إلّا بهم.
وقال عمرو بن معدي كرب «3» في مدح قوم: نعم القوم عند السيف المسلول والخير المسؤول والطعام المأكول، وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال: بمثله يدرك الثأر وينفى العار ويؤكّد العهد ويبرم العقد ويسهل الوعر ويخاض الغمر ويفلّ الناب ويفتح الباب ومدح أعرابي رجلا فقال: كان للإخوان وصولا وللأموال بذولا وكان الوفاء به كفيلا.
ووقف أعرابي على قبر عامر ابن الطفيل فقال: لقد كنت سريعا إذا وعدت، بطيئا إذا أوعدت وكانت هدايتك هداية النجم وجراءتك جراءة السهم. وأخبر بعض الحكماء عن صاحب له فقال: عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه. كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد وخارجا من سلطان فرجه فلا يستخف له رأيا ولا بدنا.
قال امرؤ القيس:
أفاد وجاد وساد وقاد ... وذاد وعاد وزاد وأفضل
قال ديك الجن «4» :
أنّ العلى شيمي والبأس من نقمي ... والمجد خلط دمي والصّدق حشو فمي
قال مسلم بن عقيل «5» :
يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوّقع
وقال آخر:
يذكّرنيك الجود والبخل والنهى ... وقول الخنى والحلم والعلم والجهل(1/372)
فألقاك عن مذمومها متنزّها ... وألقاك في محمودها ولك الفضل
تشبيه الممدوح بجماعة مختلفة في معان مختلفة
قال رجل للمهدي: إنّك ليوسفيّ العفو إسماعيلي الصدق شعبيّ الرفق سليماني الملك داوودي الفضل «1» ، وحكى محمد الأنماطى الفقيه يوما قال: قد تغدينا يوما عند المأمون، فكان كلما وضع لون يقول: من به كذا فليأكل هذا ومن به كذا فليجتنبه. فقال يحيى بن أكثم: لله درك يا أمير المؤمنين فإنا إن خضنا في الطّب «2» فأنت جالينوس، وإن ذكرنا النجوم فأنت هرمس «3» أو العلم فأنت علي بن أبي طالب، أو السخاء فأنت حاتم «4» ، أو الصدق فأنت أبو ذر «5» ، أو الكرم فأنت كعب بن مامة أو الوفاء فأنت السموأل «6» . فقال المأمون: للإنسان: فضل على غيره بالنطق والفهم ولولا ذلك لم يكن لحمه أطيب.
قال أبو تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
قيل: فلان فيه ورع ابن سيرين وعقل مطرف ودهاء معاوية وحفظ قتادة، وقيل له بذل هاشم وعز كليب وضبط عائشة وبرّ عثمان وشجاعة عتيبة ومكر قيصر قال الطائي:
أصبحت حاتمها جودا واحنفها ... حلما وكيسانها علما ودغفلها
قال الرستمي:
سماحة كعب في رزانة أحنف ... ونجدة عمرو في وفاء ابن ظالم
قال السريّ الرفاء:
أوفى وكان محلّقا ومضى وكا ... ن مزلقا وسطا وكان محرقا «7»
تشبيه الممدوح بأشياء مختلفة في معان مختلفة.
قال أبو تمّام:
له كبرياء المشتري وسعوده ... وسورة بهرام وطرف عطارد(1/373)
قال مسلم:
كأنّه قمر أو ضيغم هصر ... أو حيّة ذكر أو عارض هطل «1»
قال وهب الهمداني تلقاه في الظلماء والهيجاء والمحل المجيع كالغيث والليث المحامي والعقيلة والصديع قال البحتري:
كالغيث في أخذامه والغيث في ... أرهامه والليث في إقدامه
إن كنت تنكر ما أقول فجاره ... أوباره أو حاكه أو سامه
قال ابن طباطبا:
كالبدر إذ يجري وكالليل إذ ... يسري وكالصّارم إذ يفري «2»
قال محمد بن وهيب:
تحكي أفاعيله في كلّ نائبة ... والغيث والليث والصمصامة الذّكرا
قال الخوارزمي:
ستلقى به بدرا وبحرا وضيغما ... وسيفا وإنسانا وطودا وفيلقا «3»
قال أبو طالب المأموني:
جبال الحجا أسد الوغا غصص العدا ... شموس العلا سحب النّدى أنجم الفضل
الممدوح بمعنى واحد في أحوال أو جوارح مختلفة
قال المتنبيّ:
طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل اللسان
حديد اللحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان
قال الخوارزمي:
سريع اللسان سريع السنان ... سريع البنان سريع القلم
الممدوح بأنّه لو كان كذا لكان خيره
قال أبو عمرو بن العلاء لو كانت ربيعة فرسا لكان شيبان غرّتها.
قال شاعر:
لو كنت ماء كنت من مزنة ... أو كنت نجما كنت سعد السعود «4»(1/374)
وقال آخر:
فلو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت نوما كنت تعريسة الفجر «1»
ولو كنت لهوا كنت تعليل ساعة ... ولو كنت ليلا كنت من ليلة القدر
قال الكندي:
ولو خلق الناس من دهرهم ... لكانوا الظلام وكنت النهارا «2»
ضرب من المدح يقال فيه يا كذا:
يا مشربا سائغا بلا كدر ... يا سمرا ممتعا بلا سهر
قال كشاجم:
يا عوضا من فائت ... لم يحتسب منه عوض
يا دعة وراحة ... من تعب ومن مضض
(7) ومما جاء في النذالة والتأخر عن المكارم
حدّ السفلة ووصفها
قال معاوية: السفلة من ليس له فعل موصوف ولا نسب معروف، وقيل هو الذي لا يعيبه ما صنع له وقيل هو الذي لا يبالي بما يقول وبما يقال له، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى هو الذي يعصى الله تعالى.
وقال أبو ناظرة:
أيا سفلة الناس والأصدقاء ... ويا سفلة الكسب في المأكل
ونحوه لابن الحجّاج:
وسخ الثوب والعمامة والبر ... ذون والوجه والقفا والغلام
وقيل: المروءة التامة مباينة العامة، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما لله عز وجل على العاقل بعد الإسلام نعمة أفضل من مباينة العامة بالفهم والعقل.
مضرّة اجتماع السفلة والغاغة
يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا غلبوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا، وقيل(1/375)
في قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ
«1» أي من السلطان أو من تحت أرجلكم أي من السفل، أتى أمير المؤمنين كرّم الله وجهه برجل ذي جناية فرأى ناسا يعدون خلفه، فقال: لا مرحبا بوجوه لا ترى إلا عند كل سوء. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس. فقال: خلق الناس أطوارا «2» طائفة للسيادة والولاية وطائفة للفقه والسنة وطائفة للبأس والنجدة ورجرجة «3» بين ذلك، يغلّون السعر ويكدّرون الماء، إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا لم يعرفوا.
من تصاحبه النّذالة
قال الشاعر:
أناخ اللؤم وسط بني رباح ... مطيّته فاقسم لا يريم «4»
كذلك كلّ ذي سفر إذا ما ... تناهى عند غايته مقيم
قال جحظة:
كم سألنا عن النذالة واللؤ ... م فكانا في داره راتبين
الموصوف بالذلّة
قيل: هو أذل من النقد ومن القردان تحت المناسم ومن الوتد:
وكنت أذلّ من فقع بقاع ... يشجج رأسه بالفهر واجي «5»
أي وأجىء فلين الهمزة ويقال هو أذل من الحذا.
المتبجّح بالإساءة والنّذالة
قيل: شر الناس الذي لا يتوقى أن يراه الناس مسيئا ومن هنا أخذ الشاعر:
أحقّ النّاس في الدنيا بعيب ... مسيء لا يبالي أن يعابا
وقال بعضهم: فلان لا يستحيى من الشر ولا يحب أن يكون من أهل الخير لا يقعد مقعدا إلا حرمت الصلاة فيه ولو أفلتت كلمة سوء لم تضم إلا إليه ولو نزلت لعنة لم تقع إلا عليه.
تشاجر رجلان فقال: كل واحد منهما أنا ألام فتحا كما إلى رجل فقال: قد حكمتماني فأخبراني بأخلاقكما فقال أحدهما: ما مربي أحد إلا اغتبته ولا أئتمنني أحد إلا خنته وقال آخر أنا أبطر الناس في الرخاء وأجبنهم عند اللقاء وأقلهم عند الحياء فقال الرجل: كلاكما لئيم،(1/376)
وألأم منكم الحطيئة فإنه هجا أباه وأمّه ونفسه ومن أحسن إليه هجا أباه. فقال:
لحاك الله ثم لحاك أبا ... وما ألحاك من عمّ وخال «1»
وقال يهجو نفسه:
أرى لي وجها شوّه الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
وقال فيمن أعطاه:
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيّان لا لوم عليك ولا حمد «2»
الموصوف بالشرية
ذم أعرابي قوما فقال: ما زال فيهم خميرة سوء يبقيها الماضي للباقي حتى أورثوها فلانا فعجنها بيده ثم أكلها بفمه. وقال الصاحب رحمه الله في بعض أهل الزمان فلان راية «3» الشر.
المقصّر في المكارم والمعالي
قال إبراهيم بن رجاء:
يمدّ بنو كليب للمعالي ... سواعد لم تزل عنها قصارا «4»
وقال آخر:
متى جرت الكودان في الرّهان
وقال آخر:
لن يلحق الفرس الحمار الموكف «5»
وقال آخر:
وابن اللئيم معقل باللؤم يغمر
وقال آخر:
جرى طلقا حتّى إذا قيل سابق ... تداركه عرق اللئيم فبلّدا
وقال آخر:
جرى المداكي حسرت عنه الحمر «6»(1/377)
وقال آخر:
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البذل القناعس «1»
وقال غيره:
إنّك كالجاري إلى غاية ... حتّى إذا قاربها قام
قال أبو الهداهد الأصفهاني:
لهم عن كلّ مكرمة حجاب ... فقد تركوا المكارم واستراحوا
السابق إلى الملاوم المتأخر عن المكارم
قال هشام بن قيس:
إذا ما سوءة دارت رحاها ... وجدتهم لا سواها ثقالا
قال الطرماح «2» :
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
قال البسامي:
هو في الخير قطوف ... وهو في الشرّ وساع
وقال آخر:
إذا نهض الناس للمكرمات ... وقاموا إليها جميعا قعد
قال الباذاني:
يداك يد تطول إلى المخازي ... وعن طلب العلا أخرى قصيره «3»
وقال آخر:
رأوا في اللؤم رخصا فاشتروه ... ويمنعهم عن الكرم الغلاء «4»
وقال آخر يهجو امرأة:
تكره ذكر الله في بيتها ... وهي إلى الحشّاء مشتاقه
إن ذكر الخير فما إن لها ... من جمل فيه ولا ناقه
مقدامة في الشرّ سبّاقة ... وفي تقى الله على السّاقه(1/378)
ذمّ من يتكلّف إدراك ما لا يدركه
ذكران قصارا كان يعمل على شاطىء نهر وكان يرى كركيا يجيء كلّ يوم فيلتقط من الحمأة دودا ويقتصر في القوت عليه. فرأى يوما بازيا قد ارتفع في الجو فاصطاد حماما فأكل منها بعضا وترك في موضعه البعض وطار فتفكر الكركي في نفسه. وقال:
مالي لا أصطاد الطيور كما يصطاد وأنا أكبر جسما منه. فارتفع في الجو وانقض على الحمام، فأخطأه فسقط في الحمأة فتلطخ ريشه ولم يمكنه أن يطير فأخذه القصار وحمله إلى منزله فاستقبله رجل فقال: ما هذا قال: كركي يتصقر. وكان المتنبي ألم بهذا المعنى في قوله:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
وفي المثل:
- أطرق كرى أن النعام في القرى ونحو ذلك قول يربوع:
- بخست بيربوع لتدرك دارما ... ضلالا لمن منّاك تلك الأمانيا
وقد تقدّم ذلك.
الحكم بين فاضل ونذل
سئل أبو العيناء عن رجلين فقال: وما يستوى البحران هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج. وسئل أبو ثور عن حماد بن زيد بن درهم وحماد بن سلمة بن دينار فقال: بينهما في القدر ما بين جديهما في الصرف، وقال أعرابي: فلان يدعي الفضل على فلان ولو وقع في ضحضاح معروفة لغرق شاعر. وهل يقاس ضياء الشمس بالقمر! قال محمد بن منادر:
ومن يجعل الوجه مثل القفا ... وعالية الرّمح كالسّافل
وفي المثل:
مذكية تقاس بالجذاع «1»
وفيه: ليس قطا مثل قطي وقال سبيع التميميّ:
أسوّيك بالمرء الذي لست مثله ... وكيف يسوّى صالح القوم بالرّذل(1/379)
تفضيل رجل على آخر في الفضل
في المثل: ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك. في كل شجرة نار واستمجد المرخ «1» والعفار «2» .
قال حسان بن ثابت للحارث بن أبي الشمر:
أبيت اللعن إنّ النعمان بن الحارث يساميك وو الله إن قفاك أحسن من وجهه، وشمالك خير من يمينه، وإن عدّتك أحضر من عدة وغدك أوسع من يومه، وكرسيك أرفع من سريره وأمّك أشرف من أبيه.
من يغبط أو يحسد فاضلا أن يفعل مثله
رأى الحسن رضي الله عنه قوما يتزاحمون على جنازة بعض الصالحين فقال:
مالكم تتهافتون عليه افعلوا فعله تكونوا مثله.
قال أبو العميثل:
يا من يؤمّل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واسمع
فلأنصحنّك في المروءة والذي ... حجّ الحجيج إليه فأقبل أودع
اصدق وعفّ وبرّ وانصر واحتمل ... واحلم وكفّ ودار واصبر واشجع
أخذ ذلك من قول عروة بن الزبير:
يا أيّها المتمنّي أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد خلّى لك السبلا
أعدد نظائر أخلاق عددن له ... هل سبّ من أحد أو سبّ أو بخلا «3»
وأنشد أبو العيناء في معناه:
إذا أعجبتك خلال امرىء ... فكنه يكن منك ما يعجبك «4»
فليس على الجود والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك
الحكم بين نذلين
سئل أبو العيناء عن رجلين فقال: هما الخمر والميسر ائمهما أكبر من نفعهما، وتفاخر رجلان في الكرم وتراضيا بأبي العيناء فحكماه فقال: أنتما كما قال الشاعر:
حمارا عبادي إذا قيل نبنا ... بشرّهما يوما يقول كلاهما
وفي المثل كثير ويرعو، وكل عير خير. وقيل زندان في وعاء وقيل زندان في رقعة.(1/380)
وقيل سواسية كأسنان الحمار. وعكس هذا المعنى الصنوبري «1» فأتى بأجود لفظ وأوضح معنى، فقال:
أناس هم المشط استواء لدى الوغا ... إذا اختلف الناس اختلاف المشاجب
عذر من ذكر فاضلا ونذلا معا
قال بعض الكبار لرجل: أتذكرني مع فلان وفلان فقال: قد ذكر الله النار والجنة وفرعون مع موسى وآدم مع إبليس فلم يهن بذلك أولياءه ولم يكرم به أعداءه.
اختيار أراذل
وصف أعرابي قوما فقال: هم كلاب وفلان من بينهم سلوقي وهم حنظل وهو هبيد «2» . وإن في الشر خيارا وليس العاقل من يعرف الخير من الشر وإنما العاقل من يفرّق بين الشرين. قال محمود:
ذممتك أولا حتّى إذا ما ... بلوت سواك عاد الذمّ حمدا
ولم أحمدك من خير ولكن ... رأيت سواك شرّا منك جدّا
فعدت إليك مختلا ذليلا ... لأني لم أجد من ذاك بدّا
كمجهود تعاظم أكل ميت ... فلمّا اضطرّ عاد إليه شدّا
من لا يفرح بموته ولا يسر بحياته
قال شاعر:
إذا كنت لا ترجى لدفع ملمّة ... ولم يك في المعروف عندك مطمع «3»
ولا أنت ممّن يستعان بجاهه ... ولا أنت يوم الحشر ممّن يشفع «4»
فعيشك في الدنيا وموتك واحد ... وعود خلال من وصالك أنفع
ذكر أحمد بن الخطيب عند أبي العيناء فقال: إن دنوت منه عرّك «5» وإن بعدت منه ضرك. فبلغ كلامه أحمد فقال: تفسيره أن حياته لا تنفع وموته لا يضرّ. وقيل لرجل:
مات فلان فقال: من لم تنفع حياته لم تجزع وفاته:
فبعدا لا انقضاء له وسحقا ... فغير مصابه الخطب العظيم(1/381)
من لا يستحضر في المحافل ولا يعرج عليه الأماثل
وقال الأخطل:
أما كليب بن يربوع فليس لهم ... عند التفاخر إيراد ولا صدر «1»
مخلفون ويقضي النّاس أمرهم ... وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
الآكلون خبيث الزاد وحدهم ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر؟
وقيل:
هادته وغيبته سواء «2»
وقال آخر:
كزائدة الابهام خلف الرواجب «3»
وقال آخر:
كزائدة النّعامة في الكراع
قال عبدان:
خرجنا غداة إلى نزهة ... وفينا زياد أبو صعصعه
فستة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه
قال سحيم بن موسى:
عن المكارم تنفى طيىء طردا ... نفي الزيوف أبتها كفّ منتقد «4»
المتعري من الإنسانية
وصف أعرابي رجلا فقال: ليس فيه من الآدمية ألا أنه يسمى آدميا. وقال فتى لأبيه:
مالي إذا أخذتم في الأشعار والأخبار تسلط على المنام. فقال: لأنك حمار في مسلاخ «5» إنسان. ويقال فلان حارض بن حارض لمن لا خير فيه.
ذم من لا يبالي بما ارتكب
وصف أعرابي رجلا فقال: يهون عليه عظام الذنوب ويحسن في عينه قباح العيوب ولو كان في بني آدم سباخ أنه لمن سباخهم.
قال المري:
قوم إذا خرجوا من سوءة ولجوا ... في سوءة لم يخبّوها بأستار
وقيل: من الأبيات الرائعة المعجبة التي لا أرباب لها قول الشاعر:(1/382)
أن يغدروا أو يجبنوا ... أو يبخلوا لا يحفلوا
وغدوا عليك مرجلين كأنّهم لم يفعلوا
الموصوف بكثرة المساوىء
قيل: مدفع المعائب ومجمع المثالب لو قذف على الليل لونه لانطمست نجومه.
الأخطل:
قوم تناهى إليهم كلّ فاحشة ... وكلّ مخزية سبّت بها مضر «1»
قال أبو تمّام:
مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطّلاق «2»
وقال زبينا النصراني:
لي صاحب لست أحصي من محاسنه ... شيئا صغيرا ولا أحصي مساويه
وليس فيه من الخيرات واحدة ... وأكثر السوء لإبل كلّه فيه
قال ابن الرومي:
معايب النّاس وسوآتهم ... قد جمعت لي منك في شخص
قال ابن أبي عيينة:
جمعت خصال الردي جملة ... وبعت خصال النّدى جملة
وقال آخر:
فما لك في الخير من خلّة ... وكم لك في الشرّ من خلّة «3»
قال ابن الحجّاج:
مقابح فيك شتّى ... أوصافها لا تحّد
ذمّ من لا يصلح لخير ولا شرّ
قال بعضهم: فلان أملس ليس فيه مستقر لخير ولا شر، فقيل ذلك ميت الأحياء وقال حاجب بن زرارة ما هو برطب فيعصر ولا بيابس فيكسر، قال شاعر:
مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مرّ «4»(1/383)
كأنّك ذاك الذي في الضّروع ... بقادم أضرتها المنتشر
وسمع رجل آخر يقول: أنت لم تأت قط بخير، فقال: إن لم آت بخير فقد أتيت بشر. وقد قيل إذا لم ترفع في الخير شعارا فارفع في الشر شنارا، ثم أنشد:
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجى الفتى كيما يضرّ وينفع
وهذا ضد قول القائل:
خمول الذكر أسنى ... من الذكر الذّميم
قال مروان بن أبي حفصة «1» :
وما فعلت بنو مروان خيرا ... ولا فعلت بنو مروان شرّا
قال أبو الفرج الأصبهاني:
كأنّه التيس قد أودى به هرم ... فلا لحم ولا عسب ولا ثمن «2»
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل فقال: هو فصل لا حر ولا برد وهو عوسجة لا ظل ولا ثمر، وقال أبو علي ابن عبدوس الشيرازي:
هم الكسوب فلا أصل ولا ثمر ... ولا نسيم ولا ظلّ ولا زهر
ذمّ من لا يضرّ ولا ينفع
قيل: فلان إن دنوت منه عرّك وإن تباعدت عنه ضرك، شرّه يفيض وخيره يغيض:
وشرّك في البلاد يسيل سيلا ... وخيرك رمية من غير رام «3»
هو كالسمرة التي قلّ ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها لا كالكرمة، التي حسن ورقها وطاب ثمرها وسهل مجتناها «4» . لا يؤمن خباله «5» ولا يرجى نواله «6» حديثه غثّ «7» وكلامه رثّ «8» عيال في الجدب عدو في الخصب قليل الخير جمّ الضير «9» .
قال ابن الحجّاج:
أعيذكم بالله من عصبة ... تباع مجّانا ولا تشترى
فإنّكم من حيث ما استنشقت ... روائح الآمال فيكم خرا(1/384)
وفي المثل يا عبرى مقبلة ويا سهري مدبرة وقيل أغيرة وجبنا:
يا ليت حظّي من نداك الصافي ... والخير أن تركتني كفافي
وقال آخر:
ليت حظّي من أبي كرب ... سدّ عنّي خيره خبله
وقال آخر:
فراشة الحلم فرعون العذاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
من يرضى منه أن يكفّ شرّه
قيل: أسوأ ما في الكريم أن يمنعك نداه وأحسن ما في اللئيم أن يكفّ عنك أذاه، قال المتنبي في معناه:
إنّا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر النّاس إحسان وإجمال
ذمّ من يعادي أولياءه دون أعدائه
قيل لمعاوية: ما النذالة؟ قال: الجراءة على الصديق والنكول «1» عن العدو. وذم أعرابي رجلا فقال: هو أقل الناس ذنوبا إلى أعدائه وأكثرهم تجرؤا على أصدقائه وأوليائه وكتب بعضهم عدوه بمعزل عنه وصديقه على وجل منه إن شهد عافه وإن غاب عنه خافه وفي الأقارب باب يقرب من هذا.
من أخلف فيه الظنّ لنذالته
قال أبو علي البصير
كان ظنّي بك الجميل فألفي ... تك من كلّ ما ظننت بعيدا
قيل لجعيفر: أن اقصد فلانا وسله. فقال: إنه قطوف عن الخيرات لا يثمر شجرة ولا يميه حجره. فقيل ليس كما تظنه فأتاه فلم ير منه طائلا فقال: له:
يا فتى أخلف فيه الظ ... نّ من كلّ فنون
لم يكن ظنّي بك ال ... خير ولكن خدعوني
الموفي على كلّ لئيم
قد كان لأم طفل لفّ في خرق، وقيل هو ألام من الذئب وفي ضده قيل هو أكرم من الليث ولؤم الذئب أنه يأخذه ما يعن له وإن كان شعبان والأسد يتلطف عن ذلك إذا شبع وقيل: لئيم راضع وذلك من باب البخل.(1/385)
من لا يبالي بغضبه
قيل لرجل: فلان غضب عليك. فأنشد:
إذا غضبت تلك الأنوف لم أرضها ... ولم أطلب العتبى ولكن أزيدها
قال ابن الرومي:
غضبت وطلت من سفه وطيش ... تهزهز لحية في قدّ رفش
فما افترقت لغضبتك الثريّا ... ولا اجتمعت لذاك بنات نعش
وفي المثل: غضب الخيل على اللجم، ومما يضرب به المثل في ذلك قول المتنبي:
وغيظ على الأيام كالنّار في الحشا ... ولكنّه غيظ الأسير على القدّ «1»
وقيل:
فلا سلّ من تلك الصدور قتادها
قال أبو علي البصير:
أبو جعفر كالناس يرضى ويغضب ... ويبعد في كلّ الأمور ويقرب
ولكن رضاه ليس يجدي قلامة ... فما فوقها إذ سخطه ليس يرهب «2»
ويقرب من ذلك قولهم ما أبالي ما نهي من ضبك وما نضج وعكس هذا الباب قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضابا «3»
وضيع ارتفع
قيل: إذا استنسر البغاث «4» حلت الأحداث، وقيل إذا ذهبت العتاق ارتفعت الدقاق «5» ، وجاء ما لا يطاق.
وقال أزدشير ما شيء أسرع في انتقال الدول من رفع وضيع إلى مرتبة شريف. قيل السفل إذا تعلموا تكبروا وإذا تمولوا استطالوا، والكرام إذا تعلموا تواضعوا وإذا افتقروا صالوا، وقيل لأن يسقط ألف من العلية خير من أن يرتفع واحد من السفلة.
الاغتياظ لوضيع تعرض لرفيع
لما ولي زياد البصرة خطب فقال: إني رأيت خلالا ثلاثا نبذت إليكم، منهن النصيحة لا(1/386)
يأتيني شريف بوضيع لم يعرف شرفه إلا عاقبته ولا هل بحدث لم يعرف فضل سنه إلا عاقبته ولا عالم بجاهل عنته إلا عاقبته، فإنّما الناس أشرافهم وذوو سنهم وعلماؤهم، ووجد في كتب العجم أنّ بازيار الأبرويز أطلق شاهينه «1» على طائر فاخطأه فانقض على عقاب تراءت له فضربها ضربة أبان رأسها من جسدها، فأخذ البازيار الشاهين والعقاب وأتى به الملك ليعلمه بفعل الشاهين رجاء أن يسرّه بذلك وينال به مالا، فلما أخبره أخذ الشاهين من البازيار فقطف رأسه ثم التفت إلى وزرائه وأوليائه وقال يتكايدني أن أرى يدا دنيئة تسلّطت على يد رفيقة.
وضيع يتعرض لرفيع لعجزه
قال الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
قال كشاجم:
تبارزني ونفسك من رصاص ... وهل يبقى على النّار الرصاص «2»
من افتخر بما ليس عنده
قيل لأبي عبيدة: أن الأصمعي قال: بينا أبي يساير سلم بن قتيبة على فرس قال أبو عبيدة: سبحان الله المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زورو والله ما ملك أبوه دابة إلا في ثوبه. وقيل فخر البغي يخدج زينتها فلان يفخر بغير نداه ويبجح «3» بما في بطن سواه، قال طاهر بن الحسين:
محارب يفرحون بعزّ قيس ... كما فرح الخصيّ بمن يقود
وقيل: تجشّى لقمان من غير شبع. وقيل: ليس هذا بعشك فادرجي. وقيل: من فاته الدين والمروءة فرأس ماله العصيبة والتبجح بمال غيره، ورؤي رجل من نظارة السباق وقد سبق فرس وهو يظهر النشاط وفرط السرور والابتهاج، فقيل له أهو لك فقال: لا ولكن لجامه لي. وللمتنبي في نفي المفاخرة بما لغيره عن نفسه:
وما أسرّ بما غيري الحميد به ... ولو حملت إليّ الدّهر ملآنا
وقال الأجدع الهمداني وهو مما يتمثل به فيمن يتبجح بفعل لم يفعله بعد:
وكيف افتخار القوم قبل لقائهم ... إلا أن ما بعد اللقاء هو الفخر
الموصوف بأنواع من المعائب
سئل بعضهم عن رجل فقال: هو غث في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته سمج(1/387)
في هيئته منقطع إلى نفسه راض عن عقله، بخيل بما وسع الله عليه من رزقه، كتوم لما آتاه الله من فضله حلاف لجوج لا ينصف إلا صاغرا ولا يعدل إلا راغما، لا يرفع عن منزلة إلا ذلّ بعد تعززه فيها. وقال بعضهم فلان قليل الخير جم الضير عسيف السير كذوب الوعد خؤوف العهد قليل الرفد، وقال آخر هو صغير القدر قصير الشبر ضيق الصدر كثير الفخر ولئن كان للإنسان سبخ أنه لمن سبخ بني آدم، وذكر أعرابي رجلا فقال: لو أفلتت مخزنية لم تصل إلا إليه ولو نزلت لعنة لم تكن إلا عليه وقال إبراهيم بن المدبر في رجل له كبد مخنث وجسد نائحة وشره قواد، وذلّ قابلة وملق داية وبخل كلب وحرص نباش «1» وقحة مصلحى ونتن جورب ووحشة قرد، قال ابن الحجاج:
نسيم حشّ وريح مقعدة ... ونفث أفعى ونتن مصلوب «2»
وقال ابن ثوابة لأبي العيناء أما تعرفني؟ فقال: أعرفك ضيق العطن «3» لئيم الوطن نؤوما على الذقن.
قال شاعر:
النّاس من كدّتيك في تعب ... فم بذيء وفقحة غلمه «4»
والأصل نذل والدّين ذو دخل ... والأب فدم والأم متّهمه «5»
قال بعض الأدباء:
أرى فيك أخرقا ولست بقائف ... ولكنّها لم تخف في متحدّث «6»
شمائل تيّاس وخفّة حائك ... وتقطيع طبّال وطيش مخنّث
المشهور بالشؤم
يضرب المثل في الشؤم بقدار وطويس ووافد عاد فأما قدار فعاقر ناقة صالح عليه السلام، وأما طويس فإنه كان يقول ولدت يوم توفي النبي صلّى الله عليه وسلم وفطمت يوم مات أبو بكر رضي الله عنه، وبلغت الحليم يوم قتل عمر رضي الله عنه، وتزوجت يوم قتل عثمان رضي الله عنه، وولد لي يوم توفي علي رضي الله عنه.
ووافد عاد هو الذي بعثوه إلى الحرم ليستسقى لهم، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يشرب الخمر وتغني له الجرادتان، ثم أتى جبال مهرة فقال: اللهم إني لم أجىء لفائت فأوديه، ولا لأسير فأفاد به ولا لمريض فأداويه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فعرضت لهم سحابة أهلكتهم.(1/388)
وقيل أشأم من قاشر لفحل أرسل في إبل فماتت عن آخرها. وقيل هو من قولهم أبعث إليهم سنة قاشورة، تحتلق المال احتلاق النورة، وأشأم من داحس والغبراء وخبرهما مشهور.
قال محمد بن حازم:
لقاؤك للمبكر فال سوء ... ووجهك أربعاء لا تدور «1»
وقال عمرو بن لحا:
جريت ليربوع بشؤم كما جرى ... إلى غاية قادت إلى الموت داحس
وقال إبراهيم بن سبأ:
شؤمه يفلق الصخور فلو زا ... ر أبانا لهدّ ركني أبان «2»
وقال مخنث لآخر:
يا وجه البوم وعين الزقوم «3» ومقراض الآمال وجلم الآجال وقال الشاعر:
يا سعد إنّك قد حجبت ثلاثة ... كلّ عليه منك وسم لائح
وأراك تخدم رائعا لتبيده ... فارفق به فالشّيخ شيخ صالح
وصف العائن بعينه
ذكر بعض العلماء إن العين حق وإن النبي صلّى الله عليه وسلم أثبته، والهند والفرس تتدين به وكذلك اليونانيون. ويذكرون أنه بخار ينفصل من العين والجوف فيدخل في المعيون ولهذا كرهوا الأكل بين يدي السباع والكلب والسنور ورأوا أن يشغلوا السباع عند أكلهم بشيء يرمى به لئلا ينفصل بخار رؤيته فيؤثر في المعيون.
قالوا ومثل تأثير العائن في المعيون نظر الرجل إلى العين المحمرة فتحمر عينه، والطامث تدنو من إناء اللبن لتسوطه «4» فتفسده.
وصعد سليمان بن عبد الملك المنبر يوم الجمعة وقد غلّف لحيته بالغالية. وقال أنا الملك الشاب فأصابته عين فما جمع بعدها.
وكان المعدل بن غيلان العبدي شديد العين، دخل يوما على جعفر بن سليمان فاستحسن أكله فعانه. فاقشعرّ جلده فقال: لدمني المعدل بعينه فخرج عبد الله ابن جعفر ليقتله فطار واستخفى، وكتب إلى جعفر لو كنت أخشى أن أعينك قلعتها أتعين عيني نورها وكان ابن الزبير ومعاوية يتسايران فأبصرا راكبا من بعيد، فقال ابن الزبير: هو فلان فلما قدم كان إياه، فقال معاوية: ما أحسن هذه الحدّة مع الكبر. فقال: برك يا أمير المؤمنين،(1/389)
فسكت فقال ابن الزبير: ما أحسن هذه الثنايا واطرأ هذه الوجه. فقال معاوية: برك فسكت فافترقا فشكا ابن الزبير عينه ثم شارفت الذهاب وسقطت ثنيتا معاوية فالتقيا بعد ذلك بسنة فقال معاوية: يا أبا بكر أينا أشوه فقال رجل: معين أصابته العين وشأنه ومشوه وشقذ شديد الإصابة بالعين.
المذموم بأنه لو كان كذا لكان شره
دخل أبو الأسود على ابن عباس رضي الله عنهما يجر رجله فقال: لو كنت بعيرا كنت ثقالا. فقال له أبو الأسود: ولو كنت راعي البعير لما بلغته الكلأ ولما حفظته من الضيعة وقيل لام بهلول كيف ترين ابنك؟ فقالت: قبحه الله لو كان داء ما برىء منه. قال:
لو كنت ريحا كانت الدّبورا ... أو كنت غيما لم تكن مطيرا «1»
أو كنت ماء لم تكن نميرا ... أو كنت بردا كنت زمهريرا
أو كنت مخا كان مخّا ريرا «2»
وقال آخر:
لو كنت ماء لم تكن بعذب ... أو كنت سيفا لم تكن بعضب «3»
أو كنت لحما كنت لحم كلب
ضرب من الذمّ يقال يا كذا
يا طيرة الشؤم ويا فأل التلف ... يا سوء كيل وغلاء وحشف «4»
قال أبو نواس:
يا غراب البين في الشؤ ... م وميزاب الجنابه «5»
يا كتابا بطلاق ... وعزاء بمصابه
يا مثالا من هموم ... وتباريح كآبه
قال الناجم:
يا قوة اليأس ويا ضعف الأمل ... يا كلّ مكروه وكرب وبخل
يا حيرة المملق أعيته الحيل ... يا زحل الدهر ومرّيخ الدول «6»(1/390)
الحدّ الخامس في الأبوّة والبنوّة ومدحهما وذمّهما
(1) فممّا جاء في البنين والبنات
نفع الولد وحمده
قال الله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً
«1» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
إذا مات الرجل انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له.
وقال حكيم في ميت: إن كان له ولد فهو حي وإن لم يكن له ولد فهو ميت؟
والعرب تسمّي من لا ولد له صنوبرا، ولهذا قالوا إن محمدا صنوبر، وقيل لحكيم: ما منفعة الولد؟ فقال: يستعذب به العيش ويهون به الموت. وقيل: خير ما أعطى الرجل بعد الصحة والامن والعقل ولد موافق من زوجة موافقة قال:
ومتعة العيش بين الأهل والولد
قال ابن أبي فنن في وصف شراب:
أطيب في الأنف إذا ... جاءتك من ريح الولد
وقيل لبعضهم: أيّ ريح أطيب؟ فقال: ريح ولد أربه وبدن أحبه.
وفي الحديث: ريح الولد من رائحة الجنّة. قيل لبزرجمهر: ما السعادة؟ قال: أن يكون للرجل ابن واحد فقال: الواحد يخشى عليه الموت. قال: لم تسألني عن الشقاوة.
مضرّة الولد وذمّه
قيل: لبعض الزهاد ألا تزوجت فريما يكون لك، خلف فقال: كفى بالتزهيد فيه قوله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«2» وقوله: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
«3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الولد مبخلة مجبنة مجهلة. وقيل: قلة العيال أحد اليسارين. وقيل: قلة العيال كنز لا ينفد. وسئل حكيم عن ولده فقال: إن عاش كدّني وإن مات هدّني. وبشّر حسن البصري بابن فقال: لا مرحبا بمن إن كنت غنيا أذهلني وإن كنت(1/391)
فقيرا أتعبني، ولا أرضى كدى له كدا ولا سعي له في الحياة سعيا، أهتم بفقره بعد وفاتي حين لا ينالني به سرور، ولا يهمه لي حزن، واصحر يوما فرآى صيادا فقال: ما أكثر ما يقع في شبكتك، قال كل طير زاق. فقال الحسن: هلك المعيلون. قال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل معه ولده: إن عاش فتنك وإن مات أحزنك وقد أحسن المتنبي في قوله:
وما الدهر أهل أن يؤمّل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
وقيل: النكد كل النكد من رماه الأبد كل عام بولد.
كون الولد مكسبا لأبويه بأفعاله
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك وقال صلّى الله عليه وسلم أولادكم كسبكم فكلوا من أموالهم.
وناول عمر رضي الله عنه رجلا شيئا فقال له: خدمك بنوك فقال: بل أغناني الله عنهم.
شفقة الأبوين على الولد
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب فطلع الحسن رضي الله عنه يتخطى الناس فسقط فنزل النبي صلّى الله عليه وسلم فتناوله ثم رجع فقال: والذي نفسي بيده ما علمت كيف نزلت صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. وضرب رجل وطولب بمال فلم يسمح به فأخذ ابنه وضرب فجزع فقيل له في ذلك فقال: ضرب جلدي فصبرت وضرب كبدي فلم أصبر. قال شاعر:
وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض «1»
من كره الموت شفقة على ولده
قال شاعر:
يقرّ بعيني وهو ينقص مدّتي ... مرور الليالي كي يشبّ حكيم
مخافة أن يغتالني الموت قبله ... فينشو مع الصّبيان وهو يتيم
وقال آخر:
لقد زاد الحياة إليّ حبا ... بناتي إنهنّ من الضعاف
مخافة أن يذقن اليتم بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صاف
متحمل تعبا لأولاده
قال شاعر:
والله لولا صبية صغار ... وجوههم كأنّها أقمار
لمّا رآني ملك جبار ... ببابه ما طلع النّهار
ونحو هذا قولهم:(1/392)
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أقاس الدجا في حندس الظّلم «1»
الأبيات وهي مذكورة في الحماسة.
قال حطان بن المعلي:
لولا بنيّات كزغب القطا ... رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض
وقال معاوية رضي الله عنه لولا يزيد لا بصرت رشدي.
محبّة الولد وملاعبته
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل الحسن فقال الأقرع بن حابس: إنّ لي عشرة من الأولاد فما قبلت واحدا منهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: فما أصنع إن كان الله نزع الرحمة من قلبك.
قال موسى عليه السلام: يا رب أي الأعمال أحب إليك؟ قال الطاف الصبيان فإنهم فطرتي وإذا ماتوا أدخلتهم جنتي.
وقال كسرى لغيلان «2» أي الأولاد أحب إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم والمريض حتى يبرأ. كان عبد الله بن عمير يدخل معه سبعون ذكرا المقصورة فقيل له كيف حبك لجماعتهم؟ فقال: تفرق حب الأول عليهم وهذا من غريب الحب.
محبّة الأب للابن وبغض الابن له
قال زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لابنه: إنّ الله رضيني لك فأوصاك بي وحذرنيّ منك. وأجمعوا أن الولد البار أبر من الوالد لأن برّ الوالدين طبيعة وهذا واجب والواجب أبدا ثقيل. كتب إبراهيم بن داحة إلى أحد أبويه: جعلني الله فداءك.
فكتب إليه لا تكتب بمثل هذا فأنت على يومي أصبر مني على يومك.
إعجاب المرء بابنه
قيل: زين «3» في عين والد ولده ونحوه، وإن لم يكن من بابه من يمدح العروس إلا أهلها. قال أبو تمّام الطائي:
ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
وقيل: شكت الخنفساء إلى أمها استقذار «4» الناس إياها وإن من دنا منها يبزق(1/393)
عليها، فقالت لها: إنهم لحسنك ونظافتك ينفثون عليك مخافة العين، أعيذك بالله.
وقال أعرابي:
يا ربّ مالي لا أحبّ حشوده ... وكلّ خنزير يحبّ ولده
اعجاب المرء بأبيه
في المثل: كلّ فتاة بأبيها معجبة. وقيل: من يطل أير أبيه ينتطق به. وحضر صالح العباسي مجلس المنصور وكان يحدثه ويكثر من قوله أبي رحمه الله، فقال له الربيع: لا تكثر الترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين، فقال له: ألومك فإنك لم تذق حلاوة الآباء. فتبسم المنصور وقال هذا جزاء من تعرض لبني هاشم.
وقال أبو العيناء: ما أخجلني أحد كما أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن رجاء قلت له يوما أيبيعك أبوك منّي فإني أريد ابنا مثلك، فقال: البيع لا يمكن إن شئت أحمل أبي على امرأتك لتأتيك بولد مثلي.
ومرّ الأخطل بالفرزدق وهو صبي فقال: أيسرّك أن أكون أباك فقال: ولكن يسرني أن تكون أمي ليأكل أبي من أطايبك.
تفضيل كبار الولد وصغاره
قيل: من سرّه بنوه ساءته نفسه وبذلك ألم الشاعرى فقال:
نشا بنيّ فكان مثلى ... يلبس ما قد نزعت عنّي «1»
فسرّني ما رأيت منه ... وساءني ما رأيت منّي
وقال:
إنّ بنيّ صبية صيفيّون ... أفلح من كان له ربعيّون
وقيل: كان بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله اثنا عشر سنة في السن ولا يعلم أحد كان بينه وبين أبيه هذا القدر. فأما من بينه وبين أبيه أربع عشرة سنة فعددهم كثير.
وقال حماد بن إسحاق بن إبراهيم كان أبي أكبر مني بأربع عشرة سنة وأنا أكبر من ابني بأربع عشرة سنة والموفق أكبر من المعتضد بأربع عشرة سنة. وقال أنوشروان لرجل هرم:
رآه يعمل هلا أدلجت؟ فقال: أدلجت ولكني أضللت والخبر مذكور في فصل النكاح وقيل ابنك ريحانك سبعا وخادمك سبعا ثم يصير عدوا ظاهرا أو شريكا مظاهرا وقيل لرجل أبطأ في التزوج فقال: أريد أن أسبق أولادي في اليتم قبل أن يسبقوني في العقوق.
فضل الابن(1/394)
قيل: ابنك ابن بوحك أي الذي ولدته نفسك لا من تبنيته، ونحوه ابنك من دمى عقبيك أي من نفست به.
وقال بعض العرب أن ابنك ابنك وابن أخيك ابنك وابن عمّك ابنك، وابنك ابن بوحك مصطبحا بصبوحك.
وفي ضدّه ربّ ابن لم تلده.
المادح ولده مدحا حسنا
كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين: صف لي ابنك، فقال: ابني: إن مدحته ذممته وإن ذممته ظلمته، إلا أنه نعم الخلف لسيّده من بعده إذا اخترمت عبده منيته. فكتب إليه المأمون يا ذا اليمينين لم ترض بمدحه حتّى أوصيت به.
وقال له يوما: أخبرني عن ابنك فقال: قدح في كفّ مثقف ليوم رهان أمير المؤمنين.
وقيل لرجل صف ابنك، فقال: ولد الناس ابناء وأولدته أبا يحسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن. مدح أعرابي ابنه فقال:
يا حبّذا روحه وملمسه ... أملح شيء ظلا وأكيسه
الله يرعاه لي ويحرسه
أولاد سخنت أعين آبائهم لتخلّفهم
مات لعبد الملك ابن فجاء له آخر فعزّى أباه به، فقال: يا بني مصيبتي فيك أقدح في بدني من مصيبتي في أخيك. فقال: أمي أمرتني بذلك. فقال: يا بني إذا كانت الأبناء قرة أعين الوالدين فأنت قرة عين الشامتين. وبعث رجل ابنه ليشتري حبلا فقال: اجعله عشرين ذراعا فقال: في عرض كم؟ قال في عرض مصيبتي فيك يا بني. وقال أبو حنيفة: لشيطان الطاق وكان له ابن معتوه: إنك في بستان من ابنك. فقال: ذاك لو كان ابنك. وقيل: لصبيّ لم لا تتعلم الأدب؟ فقال: أخاف أن أكذب والدي لأنه قال لي أنك لا تفلح أبدا. وكان للمبرّد «1» ابن متخلف فقيل له يوما غطّ سوءتك «2» فوضع يده على رأس ابنه.
من كثرت أولاده فأنجب
قيل: كان لعبد الله بن عمير سبعون ذكرا كلهم يطيقون حمل السلاح، وكانت فاطمة بنت الحوشب الإنمارية يقال لها أم الكملة وأم البنين بنت عامر ابن فارس ولدت عامر بن ملك وطفيل الخيل ومعاوية بن ملك معوذ الحكماء وسقط للمهلب لصلبه إلى الأرض(1/395)
ثلاثمائة ولد وكان الرجل في الجاهلية إذا ولد له سبعة ولد تقنع وتمّ شرفه.
وكان يقال فلان من المقنعين فمنهم حذيفة من بني بدر وعيينة وعلقمة بن الأحوص.
وقال عبد الملك للفرزدق أي الحي «1» أكثر؟ فقال تميم: فقال: وأين طيىء؟ فقال: يا أمير المؤمنين لو أن نساء تميم بلن على جبل طيىء لغرقوا، فقال: صبي من طيىء كان حاضرا:
يا أمير المؤمنين لو إنا سددنا مبال نساء تميم لكان يفضل كمر كثير.
المشبه أباه وغير المشبهه
قيل: من سعادة المرء أن يشبهه ابنه. وقيل: فلان ينظر عن عين أبيه ويبطش بيديه، وقال سعيد بن صمصمة يرقص ابنه:
أحبّ ميمون أشدّ حبّ ... أعرف منه شبهي ولبّي
ولبّه أعرف منه ربّي «2»
وقال قال بعض بني عبس:
وإنّا نرى أقدامنا في نعالهم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب
وقال آخر:
والله ما أشبهني عصام ... لا خلق منه ولا قوام
محبّة البنات وتفضيلهن
قال محمد بن جعفر بن محمد: البنات حسنات والبنون نعم والحسنات مثاب عليها والنعم مسؤول عنها وقال المدائني: قال وهب بن منبه من يمن المرأة أن تلد الأنثى قبل الذكر، إنّ الله بدأ بالإناث فقال: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده بنية له يلاعبها. فقال له: انبذها «3» عنك يا أمير المؤمنين، فو الله انهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويؤدين الضغائن «4» فقال معاوية: لا تقل فما ندب الموتى ولا تفقّد المرضى ولا أعان على الحزن مثلهنّ.
وولدت لأعرابية بنيّة، فقالت:
وما عليّ أن تكون الجاريه ... تكنس بيتي وتردّ العاريه
تمشّط رأسي وتكون الفالية ... وترفع الساقط من خماريه «5»
حتّى إذا ما بلغت ثمانية ... رديتها ببردة يمانيه «6»(1/396)
زوّجتها مروان أو معاوية ... أصهار صدق للمهور غاليه
وقال آخر:
بنيّتي ريحانة أشمّها ... فديت بنتي وفدتني أمّها
وكان لمعن بن أوس ثمان بنات ويقول ما أحب أن يكون لي بهن رجال وفيهن قال:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهنّ لا تكذب نساء صوالح
وفيهنّ والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح
كراهة البنات
قال الله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
«1» وبشّر الأحنف بابنة فبكى فقيل له في ذلك فقال: وكيف لا تأخذني العبرة وهي عورة هديتها سرقة وسلاحها البكاء ومهنؤها لغيري. وولدت لأعرابي جارية اسمها حمزة فهجر أمها وبنته فسمع أمها يوما ترقصها وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... غضبان أن لا نلد البنينا
وإنّما يكره ما أعطينا
فرجع إلى منزله وصالحها وطابت نفسه بها.
وقال الحسين رضي الله عنه والد بنت متعب ووالد بنتين مثقل ووالد ثلاث فعلى العباد أن يعينوه.
وقال الزهري كانوا لا يرون على صاحب ثلاث بنات صدقة ولا جهادا والعرب لم تكن تأكل طعام صاحب البنات وقال:
إذا ما المرء شبّ له بنات ... عصبن برأسه عنتا وعارا «2»
وسأل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه نصيبيا عن حاله فقال: كبر سنّي ورق عظمي وبليت ببنات نفضت عليهنّ من لوني فكسدن علي، فبكى عمر رضي الله عنه من قوله.
فائدة موتها وتمنّيه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم نعم الختن «3» القبر وقال دفن البنات من المكرمات ونظر أعرابي إلى بنت تدفن فقال: نعم الصهر صاهرتم. وكانوا إذا هنؤا بها قالوا أمنكم الله عارها وكفاكم مؤنتها وصاهرتم قبرها وقيل تقديم الحرم أفضل النعم وموت الحرة أمان من المعرّة، قال:
ولم أر نعمة شملت كريما ... كعورته إذا سترت بقبر «4»(1/397)
وقال إسحاق بن خلف:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم
قال: وما ختن فينا أعف من القبر.
تمنّي موت الأولاد
قال أعرابي كان له أولاد:
النّاس يعطون أموالا وميسرة ... وأنت أعطيتني يا ربّ صبيانا
خذهم إليك فكلّ صار في خلق ... وأنت أعطيته يا ربّ عريانا
قد كنت كلّفتهم في أمّهم ثمنا ... فخذهم عاجلا يا ربّ مجّانا
وأد البنات «1»
كانت العرب تئد البنات إلى أن جاء النبي صلّى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك وأنزل الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
«2» ، ودخل قيس بن عاصم على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت اثنتي عشرة بنتا فما أصنع؟ فقال: اعتق عن كل موؤدة نسمة. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فما الذي حملك على ذلك وأنت أكثر العرب مالا؟ قال مخافة أن ينكحهن مثلك.
فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال هذا سيد أهل الوبر.
وقال قيس ما ولدت لي ابنة إلا وأدتها سوى بنية ولدتها أمها وأنا في سفر فلما عدت ذكرت أنها ولدت ابنة ميتة، فأودعتها أخوالها حتى كبرت، فادخلتها منزلي متزينة فاستحسنتها فقلت من هذه؟ فقالت هذه ابنتك. وهي التي أخبرتك أنني ولدتها ميتة، فأخذتها ودفنتها حيّة وهي تصيح وتقول أتتركني هكذا؟ فلم أعرج عليها فقال: صلّى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم.
سياسة الولد وتأديبه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا بلغ أولادكم سبع سنين فمروهم بالطهارة والصلاة، وإذا بلغوا عشرا فأضربوهم عليها وإذا بلغوا ثلاثة عشر ففرقوا بينهم في المضاجع. وقيل لاعب ابنك سبعا وعلمه سبعا وجالس به إخوانك سبعا يتبين لك أخلف هو بعدك أم خلف.
حقّ الولد على الوالد
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن كنيته وأدبه وأن يعفه إذا بلغ وقال صلّى الله عليه وسلم: حق الولد على الوالد أن يعلمه كتاب الله والسباحة والرمي. وقال رجل لأبيه يا أبت إن أعظم حقك علي لا يذهب بصغير حقي عليك وأن الذي تمت به إليّ(1/398)
أمت بمثله إليك ولست أزعم أنهما سواء، ولكن لا يحل الاعتداء.
حقّ الوالدين على الولد والحثّ على مراعاته
قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً
«1» وقال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
«2» ولو علم الله أدنى من أف لنهى عنه.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم إنّ الوالد باب من أبواب الجنة فاحفظ ذلك الباب.
وقال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم إني أريد الغزو فقال عليه الصلاة والسلام: أحي أبواك قال نعم قال ففيهما فجاهد وقال عليه الصلاة والسلام: لآخر: هل لك من أم. قال نعم قال الزمها وإن مفتاح الجنة تحت رجليها. وقال الحسن حق الوالد أعظم وبرّ الوالدة ألزم.
حقيقة برّهما
سئل الحسن رضي الله عنه عن برّ الوالدين فقال: أن تبذل لهما ما ملكت وتطيعهما في ما أمراك ما لم يكن معصية، والدلالة على ذلك قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً
«3» .
وصف بررة
قيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: إنّك من أبر الناس بوالدتك ولسنا نراك تأكل معها قال إني أخاف أن أسبقها إلى شيء سبقت عينها إليه فأعقّها بذلك، وقيل لعمرو بن ذر لما مات ابنه: كيف برّه بك قال ما ماشيته قط بالنهار إلا مشى خلفي ولا بالليل إلا مشى أمامي ولا رقي سطحا أنا تحته. وقيل كان أعرابي يحمل أمه على ظهره ويطوف بها وينشد:
أحمل أمّي وهي الحمّاله ... ترضعني الدرة والعلاله
ولا يجازي أحد فعاله
وقيل: في المثل أبرّ من الهرة.
وصف عققة
قيل الولد: العاق إن مات نغصّك وإن عاش نقصّك. وقال بعضهم لابن له عاق أنت كالإصبع الزائدة إن تركت شانت وإن قطعت آذت، وقيل: أعظم الأسف سوء الخلف العقوق ثكل من لا يثكل.
قيل لأعرابي كيف ابنك؟ قال هو عذاب رعف به الدهر وبلاء لا يقاومه الصبر وفائدة لا يجب بها الشكر.(1/399)
وكان لمنازل بن فرعان ابن يقال له خلنج فعق والده فقدمه إلى والي اليمامة فقال:
تظلّمني حقّي خلنج وعقّني ... على حين كانت كالحني عظامي «1»
لعمري لقد ربيّته فرحا به ... فلا يفرحن بعدي امرؤ بغلام
قال فأراد الوالي ضربه فقال الابن للوالي: لا تعجل على هذا منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه:
جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنزل الدين طالبه
(الأبيات) :
وهي في الحماسة فقال الوالي: يا هذا عققت وعققت. قال:
إنّ بنيّ خيرهم كالكلب ... أبرّهم أولعهم بسبّي «2»
فليتني كنت عقيم الزب ... وليتني متّ بغير عقب «3»
وقيل: في المثل أعق من ضب.
احتجاج عاقّ لعقوقه
قيل لبعض الفلاسفة: لم تعق والديك؟ قال لأنهما أخرجاني إلى الكون والفساد، وقال العتبي لابن له صغير: يا بنّي أعرف وصية الله إياك بي. فقال: يا أبت وأنت أعرف وصيته إياك بي. واستجز الأولى بالأخرى وضرب رجل أباه فقيل له: أما عرفت حقه؟ قال لا لأنه لم يعرف حقي قيل فما حق الولد على الوالد قال أن يتخير أمه ويحسن اسمه ويختنه ويعلمه القرآن ثم كشف عن عورته فإذا هو أقلف «4» وقال اسمي برغوث ولا أعلم حرفا من القرآن وقد استولدني من زنجية فقيل للوالد احتمله فإنك تستاهل.
المعارض أبويه فيما ادعيا من حقوقهما عليه بسخف
جفا جحا أمه فقالت هذا جزائي وقد حملتك في بطني تسعة أشهر فقال: ادخلي في استي حتى أحملك سنين وخلصيني وقالت امرأة لابنها هذا جزائي وقد أرضعتك سنين فقال: ارتجعي عن دورقين لبنا دورقين مخيضا واعفيني.
المناقض أباه فيما ادّعى عليه من فساد أمه
غضب الرشيد يوما على المأمون فقال: يا ابن الزانية فقال المأمون: الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. وقال أبو العيناء مثل ذلك لابنه فقال: لقد كنت والله أحفظ لأهلك من(1/400)
أبيك لأهله. وعيّر رجل ابنه بأمه فقال: هي والله خير لي منك لأنها أحسنت لي الاختيار فولدتني من حر وأنت أسأت الاختيار فولدتني من أمه.
المعارض أباه في السبّ
كان لحنظلة النميري ابن عاق يقال له مرة، فقال: له يوما: يا مرة إنك لمر، فقال:
أعجبتني حلاوتك يا حنظلة، فقال: إنك خبيث كاسمك فقال: أخبث منّي من سماني به، فقال: كأنك لست من الناس فقال: من أشبه أباه فما ظلم. فقال: ما أحوجك إلى أدب.
فقال: الذي نشأت على يده أحوج إليه منّي، فقال: عقمت أم ولدتك. فقال: إذ ولدت من مثلك. فقال: لقد كنت مشؤوما على اخوتك دفنتهم وبقيت. فقال: أعجبني كثرة عمومتي. فقال: لا تزداد إلا خبثا. فقال: لا يجتني من الشوك العنب.
وقال عبد الله بن صفوان لابنه يا لكع. فقال: أما يشبه الرجل أباه فمهما كان من حسن وقبيح فمنك تولده وفعلك جالبه. وقال رجل لابنه ما أطيب الثكل يا بني فقال:
الابن اليتم أطيب منه يا أبت.
اختيار الأمّهات للأولاد
قال أبو الأسود لبنيه: أحسنت إليكم قبل أن ولدتم وبعده قالوا كيف أحسنت قبل الولادة؟ فقال: لأني اتخذت أمهاتكم من حيث لا تعابون به. قال شاعر:
حميت على الأولاد اطهار أمّهم ... وبعض الرجال المدّعين جفاء
وقال آخر:
تخيرتها للنسل وهي غريبة ... فجاءت به للنّسل خرقا سميدعا «1»
تأثير أجناس الأمهات في الأولاد
سئل بعضهم عن ولد الرومية فقال: صلف معجب بخيل. قيل: فولد الصقلبية.
قال: طفس «2» زنيم «3» ، قيل فولد السوداء قال: شجاع سخي، قيل فولد الصفراء قال: هم أنجب أولادا وألين أجسادا وأطيب أفواها، قيل فولد النوبية قال: فاسق زان، قيل فولد العربية قال: أنف حسود، قيل فولد اليهودية قال: دغل قذر، قيل فولد الفارسية قال: مكر وخديعة. وقيل لم نر أما حمقاء أنجبت إلّا أم النعمان بن المنذر وأم هشام ابن عبد الملك، قال:
فلو كنتم لمكيسة أكاست ... وكيس الأم يعرف في البنينا
وقال عبد الله بن زياد لم يكن جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج مائقا.(1/401)
ضواية الولد من بنات العمّ
روي في الخبر اغتربوا لا تضووا.
قال شاعر:
وقد يضوى وليد الأقارب «1»
ونظر عمر رضي الله عنه إلى قوم من قريش صغار الأجسام فقال: ما لكم صغرتم؟
قالوا قرب أمهاتنا من آبائنا قال صدقتم اغتربوا فتزوجوا في البعداء فانجبوا. قال شاعر:
ليس أبوه بابن عمّ أمه
وقال آخر:
أنذر من كان بعيدا لهم ... تزويج أولاد بنات العم
فليس ناج من ضوى وسقم
وقال العتبي: تزوج أهل بيت بعضهم في بعض فلما بلغ البطن الرابع بلغ بهم الضعف إلى أن كانوا يحبون حبوا لا يستطيعون القيام ضعفا. وفي ضده قال أزدشير:
تزوجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب وهذا مبنيّ على مذهب المجوس.
أولى الأبوين بتفقّد الولد
تنازع أبو الأسود الدؤلي وامرأته في ابن لهما وكل واحد منهما يقول أنا آخذه، فقال:
أبو الأسود حملته قبل أن حملته ووضعته قبل أن وضعته، فقالت امرأته حملته خفّا وحملته ثقلا ووضعته شهوة ووضعته كرها. وكان حجري فناءه وبطني وعاءه وثديي سقاءه. فدفع الولد إلى أمه.
الرضاعة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. قالت عائشة رضي الله عنها:
دخل علي ابن أبي القعيس «2» فاستترت منه فقال: تستترين مني وأنا عمك قالت من أين قال أرضعتك امرأة أخي قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحدثته فقال: إنه عمك فليلج عليك وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة «3» ولا الإملاجتان.
مدّة الرضاع سنتان وإذا فطم الصبيّ قبل ذلك يقال له مختل
قال الله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ
«4» لمن أراد أن يتم الرضاعة(1/402)
وقال الصاحب في سبطه عباد الحسنى وكان أبلغ أنه فطم قبل حين الفطم:
يا ربّ لا تخلني من صنعك الحسن ... يا ربّ حطّني في عبادك الحسن
إن كان قد فطموه قبل موعده ... لا بأس فهو رضيع المجد لا اللبن
وله:
لئن فطموه عن رضاع لبانه ... لما فطموه عن رضاع المكارم «1»
تأثير الرضاع في الأولاد والحثّ على اعتباره
نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن رضاع الحمقاء، وقال لا تسترضعوا الحمقاء فإن الولد ينزع إلى اللبن. وقال عبد الملك إياك وحضانة الرعناء ورضاعة الورهاء.
وقال رجل في وصف آخر نسبة إلى الرعونة كيف لا يكون أرعن وقد أرضعته فلانة وو الله أنها كانت تزق الفرخ فأرى الرعونة في طيرانه.
وقيل أن الحسن البصري رحمه الله عليه كانت أمه تغشى أم سلمة رضي الله عنها على ثديها فدرت عليه من لبنها فورث منه علمه وفصاحته وإنما قالت العرب لله دره إشارة إلى أنه أرضعته من أورثته الفضائل لا الرذائل.
اليتم
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يتم بعد حلم واليتيم من الناس من فقد أباه، ومن البهائم من فقد أمه، والعجمي من الناس من فقد أمه واللطيم من فقد أبويه، وقال صلّى الله عليه وسلم: ما بيت بر ولا مدر أكرم من بيت فيه يتيم، قتادة في قوله تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
«2» ، أي ينتهره.
بلوغ الصبيان
بلوغ الصبي بالاحتلام أو استتمام خمس عشرة سنة، وبلوغ الجارية الحيض أو استكمال خمس عشرة سنة، والإنبات بلوغ في الكفار دون المسلمين.
وقال أمير المؤمنين لا يلقح الغلام حتى يتفلك «3» ثدياه ويسطع ابطاه.
(2) وممّا جاء في ممادح الأبوة ومذامّها
اعتبار الأب
قيل:
نجل الجواد جريه يتقيّل «4»(1/403)
وقال آخر:
وابن السّرى إذا سرى أسراهما «1»
وقال آخر:
ألا إنّ غصن الدّوح للدّوح تابع
وقال عدي بن أرطاة لأياس: دلّني على قوم من القرّاء أوليهم، فقال: القراء ضربان ضرب يعملون للدنيا فما ظنك بهم وضرب يعملون للآخرة فلا يعملون لك ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لا حسابهم قولهم.
قال الحسن رحمه الله لعمر بن عبد العزيز عليك بذوي الأحساب فإنهم إن لم يتقوا استحيوا وإن لم يستحيوا تكرّموا.
الممدوح بأنه من أصل شريف
مدح أعرابيّ رجلا فقال: ذاك من شجر لا يخلف ثمره ومن ماء لا يخاف كدره.
قال مصعب:
كأنّك جئت محتكما عليه ... تخيّر في الأبوّة ما تشاء
وقال آخر:
هم حلّوا من الشّرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا «2»
قال أبو تمّام:
نسب كان عليه من شمس الضّحى ... نورا ومن فلق الصّباح عمودا
وقال آخر:
نمته بدور ليس فيهنّ كوكب
ودخل بعض أولاد ابن الزبير على سليمان بن محمد فجلس على نمرقة «3» فاغتاظ من ذلك، وقال من أجلسك ههنا قال صفية بنت عبد المطلب فسكن غضبه.
من تمنّى كلّ قوم كونه منهم لشرفه
قال الفرزدق:
أرى كلّ قوم ودّ أكرمهم أبا ... إذا ما انتمى لو كان منّا أوائله
قال مسلم:
وكم عائب لي ودّ أني ولدته ... وإن كرمت أعراقه وزكا الأصل
المسابق أباه في ابتناء علاه
قال الربيع جلس المنصور يوما فقال: من يصف صالحا ابني وقد رشحه لأن(1/404)
يوليه بعض أموره فكلهم هاب المهدي فقال: شبة بن عقال لله دره ما أفصح لسانه وأمضى جنانه وأبلّ ريقه وأسهل طريقه وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه المهدي أخوه ثم أنشد:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا
فقال المنصور «1» : ما رأيت مثل مخلصه مدحه وأرضاني وسلم من المهدي «2» .
قال زهير:
وما يك من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل
قال الأحنف: إنّ زهيرا ألقى على المادحين فضول الكلام بهذا البيت.
ذكر أشراف توالوا
في الخبر الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم ليس في الأرض خمسة أشراف متناسقة كتب عنهم الحديث إلا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الرضوان، ولا أربعة إلا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم وكان قيس بن عبادة بن دلهم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف سبعة أجواد يتلو بعضهم بعضا ليس بينهم فرق ولا فضل.
المشابه أباه في علاء ابتناه
شنشنة أعرفها من أخزم «3»
قال عمرو بن سراقة:
ومكرمة كانت سجيّة والدي ... فعلّمنيها والدي فعلمتها
وقال شاعر:
وإنّ امرأ في الفضل أشبه جدّه ... ووالده الأدنى لغير ظلوم
قال أبو الغمر:
تشابهوا في العلا حتّى كأنّهم ... لم يفتقد لهم ميت ولا افترقوا(1/405)
وقيل: أصل راسخ وفرع شامخ. محمد بن وهيب:
وليس بديعا بأن تحتذي ... مذاهب آسادها الأشبل
ونحوه لعماءة بن عقيل:
وهل يشبه الأشبال ألا أسودها
وقال بعض المحدثين:
أنت غصن من ذلك المنبت الزا ... كي ونصل من ذلك الفولاذ
من مكارمه تدلّ على كرم سلفه
قال أبو تمّام:
فروع لا ترّف عليك إلا ... شهدت بها على طيب الأروم
وفي الشّرف الحديث دليل صدق ... لمختبر على الشرف القديم
قال أبو هفان:
لا تنظرنّ إلى امرىء ما أصله ... وانظر إلى أفعاله ثمّ احكم «1»
المستغني بنفسه عن شرف آبائه
دخل البحتري على بعض العلوية فسأله حاجة بعد حاجة، فأجابه إلى كل ما التمس فأثنى عليه فقال: بعض من حضر كيف لا يعطى وهو من منصب الفضل، فقال:
لا توجبنّ لكريم أصلك منة ... لو كنت من عكل لكنت كريما «2»
قال دعبل:
لو لم تكن لك أجداد تنوبهم ... إلا بنفسك نلت النجم من كثب
قال عامر بن الطفيل:
وإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السرّ منها والصّميم المهذّب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
قال المتنبيّ:
ويغنيك عمّا ينسب النّاس أنه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
وله:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل «3»(1/406)
من تشرّف به آباؤه ولم يتشرّف بهم
قال الفرزدق:
وإن تميما كلّها غير سعدها ... زعانف لولا عزّ سعد لذلّت
فقيل لقد وضع من قومه أكثر مما رفع من نفسه.
قال علي بن جبلة:
فما سوّدت عجلا مآثر قومه ... ولكن به سادت على غيرها عجل
فغير عليه هذا المعنى وقيل غض عن حسبه ونقص من شأن نفسه واقتدى المتنبي به فقال:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي
أنشد الحسن يوما:
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله
فقال الحسن: أمدحه أم ذمه فقيل مدحه وذم قومه فقال: ما مدحة من ذم قومه وما فضل الولد على الوالد بأحسن من قول المتنبي حيث يقول:
فإن تكن تغلب العلياء عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب
وقوله أيضا:
فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
من ازداد شرف آبائه به
ولو علم الشيخان أدّ ويعرب ... لسرت إذا تلك العظام الرمائم
قال الخوارزمي:
هو ابن الرئيس والعميد كليهما ... وفوقهما قدرا وإن كان منهما
وقد يوقد الزندان نار المقابس ... فتضحي من الزّندين أعلى وأعظما «1»
قال ابن الرومي:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
يسمو الرجال بآباء وآونة ... يسمو الرجال بأبناء وتزدان
من زان شرف أبيه بفعله
قال شاعر:
زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه «2»(1/407)
قد زيّنوا أحسابهم بسماحهم ... لا خير في حسن بغير سماح «1»
المزيّن أباه والمتزيّن به
قال أبو تمّام:
وحسب امرىء أنت امرؤ آخر له ... وحسبك فخرا أنّه لك أوّل
وقال الخبزارزي:
فطوبى لقوم أنت فارع أصلهم ... وطوباك إذ من أصلهم أنت فارع «2»
المتزيّن بمكانه النّاس قاطبة
قال المتنبيّ:
تشرّف عدنان به لا ربيعة ... وتفتخر الدّنيا به لا العواصم
وقال آخر:
يا زينة الدّين والدّنيا إذا احتفلا ... وأظهرا ما أعداه من الزّين
لا اعتداد بمن شرف أصله ولم يشرّف بنفسه
قال الأحنف: من فاته حسب بدنه فلا حسب له. وقيل: الشرف بالهم العالية لا بالرمم «3» البالية.
وقال أبو وائل لرجل شريف الأصل دنيء النفس: ما أحوج عرضك إلى أن يكون لمن يصونه فيكون فوق من أنت اليوم دونه.
وقال أرسطوطاليس: إذا كان الإنسان خسيس «4» الأبوين شريف النفس كان خسة أبويه زائدا في شرفه وإذا كان شريف الأبوين خسيس النفس كان شرف أبويه زائدة في خسته.
وقال الصاحب: شرف نفسي خير من شرف رمسي وعصامي خير من عظامي يعني قول النابغة:
نفس عصام سوّدت عصاما
ويعني بعظامي قول الآخر:
إذا ما الحيّ عاش بعظم ميت ... فذاك العظم حيّ وهو ميت
وقال ابن الرومي:
وما الحسب الموروث لا درّ درّه ... لمحتسب إلا بآخر مكتسب(1/408)
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب «1»
وقال ببغاء:
إذا المرء لم يبن افتخارا لنفسه ... تضايق عنه ما ابتنته جدوده
ولا خير في من لا يكون طريفه ... دليلا على ما شاد قدما تليده «2»
وقال آخر:
وما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النّفس من باهله «3»
عذر من شرفت نفسه ولم يشرف أصله
وقال سقراط: لرجل عيره بحسبه حسبي مني ابتدأ وحسبك إليك انتهى. وقال آخر:
قومي عار عليّ وأنت عار على قومك، وطعن في حسب رجل آخر فقال: لئن يكون حسبي عيبا عليّ أصلح من أن أكون عيبا على حسبي، وقيل: لئن يكون الرجل شريف النفس دنيء الأصل أفضل من أن يكون دنيء النفس شريف الأصل، ألا ترى أن رأس الكلب خير من ذنب الأسد.
عذر دنيء قصّر عن أفعال آبائه الأشراف
قيل لرجل: من ولد بشر بن مروان وكان مأبونا إن أباك كان سهما من سهام المسلمين وسيفا لآل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: وأنا جعبة من جعابهم وغمد لسيوفهم.
قال الأصمعي رحمه الله: دخلت خضراء روح بن زنباع فإذا أنا برجل من ولده يفسق به في موضع كان أبوه يهب فيه المال ويضرب فيه أعناق الرجال، فقلت يا فضيحة. هذا موضع كان أبوك يهب فيه، فأنشد:
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصّنيعا
إذا الحسب الرفيع تعاورته ... ولاة السّوء أوشك أن يضيعا
وقيل لحكيم: كان أبوك أجمل منك وأعقل وأفضل فقال: لأني كنت به ولم يكن بي فهو أولى بالكمال مني.
وخطب أبو العذري إلى رجل من بني تميم ابنته، فقال: لو كنت مثل أبيك زوّجتك.
فقال: لو كنت مثل أبي لم أخطب إليك. قيل لرجل من الأعراب: ما أشبهت أباك، فقال:
لو أشبه كلّ رجل أباه كنا كآدم.(1/409)
من أخذ سوء خصال أبيه
قيل لرجل: كان أبوك أقبح الناس خلقا وأحسنهم خلقا، وكانت أمك أحسن الناس وجها وأقبحهم خلقا، فأخذت قبح أبيك وسوء خلق أمك، فيا جامعا مساوىء أبويه.
وقال آخر: إنما أنت كالبغل يأخذ أسوأ خصال الفرس والحمار.
وكان عمارة بن عقيل قال: والله لأتزوجن امرأة جميلة يخرج ولدها على جمالها وفطنتي، فتزوج برعناء «1» فجاءت بابن في رعونتها ودمامته.
ذمّ من قصّر عن آبائه
ذمّ رجل آخر فقال: هو مزبلة بين جبلين أي دنىء من رفيعين. وقال علي بن الجهم:
فإن تكن منهم بلا شكّ فللعود قتار «2»
وقال آخر:
فإن قلتم كعب أبونا وأمّنا ... فأيّ أديم ليس فيه أكارع «3»
وقال آخر:
لئن فخرت بآباء لهم شرف ... لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا
وقال آخر:
إذا انتسبوا ففرع من قريش ... ولكنّ الفعال فعال عكل «4»
وقال أبو خالد، يهجو خالد بن يزيد المهلبي ويمدح أباه، ولم يجتمع هذان المعنيان لأحد كما اجتمعا له:
أبوك لنا غيث نعيش بسيبه ... وأنت جواد لست تبقي ولا تذر «5»
وله فيه:
أيا عجبا نبعة أنبتت ... خلافا وريحانة بقلة «6»
وله:
خالد لولا أبوه ... كان والكلب سواء(1/410)
وقال الحارثيّ في معناه:
شريف بجدّيه وضيع بنفسه ... لئيم محيّاه كريم المركب «1»
وأخذه أبو تمّام فقال:
يا أكرم الناس آباء ومفتخرا ... وألأم النّاس مبلوّا ومختبرا
ونظر رجل إلى ابن دنىء عن أب شريف، فقال: سبحان الله من قائل: يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
«2» ، ونظر خالد بن صفوان إلى لئيم النفس كريم الأبوين، فقال:
فلا يعجبنّ الناس منك ومنهما ... فما خبث من فضّة بعجيب
ذمّ من شأن آباءه الكرام بلؤمه
قال إبراهيم بن العباس:
لئن لحقت بأبناء الكرام به ... لقد تقدّم أبناء اللئام بكا
وقال أبو حنش:
لئن كان معن زان شيبان كلّها ... لقد شان روح كلّ آل مهلّب «3»
من لم يعتدّ بشرف النفس ما لم يضامه أبوه
سمع عمر بن أبي ربيعة قول القائل:
كن ابن من شئت واتّخذ أدبا ... يغنيك موروثه عن النّسب
فقال اسكت فلا فخر، ثم أنشأ يقول:
لا فخر إلا فخار منتخب ... يسمو بأمّ كريمة وأب
من يخزى من ذكر آبائه
سئل رجل عن نسبه، فقال: أنا ابن أخت فلان، فقال أعرابي: الناس ينتسبون طولا وأنت تنتسب عرضا.
قال أبو محمد الترمذي:
قلت وأدغمت أبا خاملا ... أنا ابن أخت الحسن الحاجب
وقال دعبل:
سألته عن أبيه ... فقال دينار خالي
فقلت دينار من هو ... فقال والي الجبال(1/411)
ولعبد الله بن سليمان في فصل إلى إسماعيل بن بلبل وإن من كان بلبلا أبوه لجدير أن يفضّ فوه «1» ليخرس عن تشقيق الكلام وتزويق الكتب بالكذب والآثام.
من نسب أبوه إليه
قال عبدان:
أرى الآباء ينتسبون جهلا ... إلى الأبناء من فرط النّذاله
ونازع عبد الله بن مسعدة عمرو بن هبيرة، فقال: يا واحد ابن واحد عرفت بأبيك فنسبت إليه وعرف أبوك بك فنسب إليك.
من لا يعتدّ بأبيه
قال الأخطل:
فإذا وضعت أباك في ميزانهم ... قفزت حديدته إليك فشالا «2»
ولبعض شعراء أصبهان ويعرف بمحمد بن عبد الله بن كسبر:
تبجّح بالكتابة كلّ وغد ... فقبحا للكتابة والعماله
أرى الآباء نسبتهم جميعا ... إلى الأبناء من فرط النّذاله
كون الابن جاريا مجرى الأب
العصا من العصية هل تنتج الناقة إلا لمن لقحت له.
قال زهير:
وما يفعلوا من فعل صدق فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النّخل
وقال الربيع اليهودي:
وفي أرومته ما ينبت العودا
وقال الأعشى:
العود يعصر ماؤه ... ولكلّ عيدان عصاره
هل تلد الحيّة إلا حيّة
وقال الحميري:
كيف تأتيك بخير ... بيضة من بيض حيّة
أشبه الفرخ أباه ... والعصا من العصيّه «3»(1/412)
وقيل: فلان لا أصل له ولا فصل، فالأصل الوالد والفصل الولد.
وقال ظفر بن الحرث العبدلي:
وإنّ أحقّ الناس أن لا تلومه ... على الشرّ من لم يفعل الخير والده
إذا المرء ألفى والديه كليهما ... على اللؤم فاعذره إذا خاب رائده «1»
قوم تشابهوا في اللؤم
قال كثيّر عزة:
سواء كأسنان الحمار فما ترى ... لذي كثرة منهم على ناشىء فضلا
وقال آخر:
إذا ما قلت أيّهم لأيّ ... تشابهت المناكب والرؤوس
وقال آخر:
بلوناهم واحدا واحدا ... وجدناهم الكلّ كالواحد
فلا ذرأ الربّ ولدانهم ... ولا بارك الربّ في الوالد «2»
وقال آخر:
وان امرأ في اللؤم أشبه جدّه ... ووالده الأدنى لغير ظلوم
من لؤم نفسه وأصله
قيل في المثل: الكمأة لا أصل ثابت ولا فرع نابت.
وقال جرير:
فرع لئيم وأصله غير مغروس «3»
وقال معاوية رضي الله عنه: السفلة من ليس له نسب معروف ولا فعل موصوف.
من لؤم أبواه
إذا ذكر الإنسان بغاية اللؤم، قيل: هو عبد قن وهو المملوك الأبوين.
قال شاعر:
أب غير محمود السّجيّات سفلة ... ووالدة فيها الحديث يطول «4»
وقال آخر:
أب كثرت في العالمين فضائحه(1/413)
من ذكر أن الشرف بالتّقى
قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
«1» قال بعض العارفين ما أبقى الله بهذه الآية لاحد شرف أبوّة.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى رجلا يقول أنا ابن بطحاء مكة، فوقف عليه فقال: إن كان لك دين فلك شرف وإن كان لك عقل فلك مروءة وإن كان لك علم فلك شرف، وإلا فأنت والحمار سواء.
وقيل: كان الشرف في الجاهلية بالبيان والشجاعة والسماحة، وفي الإسلام بالدين والتقى. وأما الأبوة فلا أبوة. قال شاعر:
لعمرك ما الإنسان إلّا بدينه ... فلا تترك التّقوى اتّكالا على الحسب
فقد زيّن الإيمان سلمان فارس ... وقد وضع الشّرك الشريف أبا لهب «2»
كون الشريف من شرّفه السّلطان
اصطنع كسرى أنوشروان رجلا لم يكن له نسب فقيل له في ذلك، فقال: اصطناعنا إياه نسب له.
وفد حاجب بن زرارة على كسرى فاستأذن عليه، فقال: كسرى لحاجبه: سله من هو، فقام رجل منهم فلما مثل بين يديه، قال له: من أنت؟ قال: سيد العرب، قال: ألست زعمت أنك رجل منهم؟ قال: منذ أكرمتني وأجلستني صرت سيدهم فحشا فاه لآلىء.
ما اختصّ به كل قبيلة من فضيلة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش وقال: الناس تبع لقريش في الخير والشر، وقال: لا يقومنّ أحد لأحد إلا لهاشمي.
قال يونس: ما في أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو زاجر أو فارس، وقال:
ليس في هذيل إلّا شاعر أو رام أو شديد العدو.
وقال معاوية: من لم يكن من بني هاشم جوادا ومن بني العوام شجاعا ومن بني مخزوم ذا أباء وأبهة ومن بني أمية حليما لم يشبه أباه.
وقال محمد بن إسحاق: ما فتش أحد من بني المطلب إلا عن خصلتين بأس وكرم.
وقيل لرجل ممن أنت؟ فقال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، قيل: فأنت إذا من بني عذرة «3» .(1/414)
المعرّض بهجاء قبيلة
قصد شويعر أبا دلف يمدحه، فقال أبو دلف: ممن أنت؟ قال: من تميم قال: الذي يقول فيهم الشاعر:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
فقال: نعم بتلك الهداية جئتك، فخجل أبو دلف وخوله وشارطه أن يستر ذلك عليه.
ومازح معاوية الأحنف بن قيس، فقال: ما الشيء الملفّف في البجاد «1» ، فقال الأحنف: السخينة «2» يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرّك أن يعيش فجىء بزاد
بسمن أو بتمر أو بخبز ... أو الشيء الملفّف في البجاد
وأراد الأحنف ما يعير به قريش من أكل السخينة.
ولقي شريك النميري تميما فقال له التميمي: يعجبني البازي، فقال: خاصة إذا اصطاد القطا. أراد التميمي قول الشاعر:
أنا البازي المطلّ على نمير
وأراد شريك قوله:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
وكان سنان النميريّ يماشي عمرو بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة، فقال: غضّ من بغلتك فقال: إنها مكتوبة. أراد ابن هبيرة قول الشاعر:
فغضّ الطرف إنّك من نمير
وأراد سنان قول الأخطل:
لا تأمننّ فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «3»
ومرّت أعرابية بجماعة من بني نمير فرمقوها، فقالت: يا بني نمير ما أخذتم بقول الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
«4» ، ولا بقول جرير:
فغضّ الطرف إنّك من نمير
ودخل محاربي على هلالي وكان على حافة غدير فيه ضفادع، فقال: ما تركتنا البارحة شيوخ بني محارب أن ننام، فقال: إنها أضلت برقعا فكانت في بغائه، أراد الهلالي قول الشاعر:
تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري «5»(1/415)
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكلّ هلالي من اللؤم جبّة ... ولابن يزيد برقع وقميص
ورأى بعضهم على قيسيّ بردا، فقال: إنكم لتغالون بالبرود أراد قول الشاعر:
المشتري الفسو ببرد حبره «1»
وعرض ابن هبيرة على ضبيّ يلاعبه فصّ فيروزج فخجل منه، أراد به قول الشاعر:
ألا كلّ ضبيّ من اللؤم أزرق
هجو القبائل
روي أن رجلا عطش في مفازة فانتهى إلى خباء فعدت صبية فأقبلت عليه بماء ولبن، فسألها عن قبيلتها فقالت: من بني عامر. فقال: الذي يقول فيهم الشاعر:
لعمرك ما تبلى سرائر عامر ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها «2»
فتعثرت الصبية كمدا فكسرت الإنائين، وقالت: يا عماه ممن أنت؟ قال: من تميم.
قالت: الذي يقول فيهم الشاعر:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
فقال: بل أنا من بالهة. فقالت:
إذا ولدت حليلة باهليّ ... غلاما زاد في عدد اللئام
فقال: بل أنا من بني أسد، فقالت:
ما سرّني أنّ أمّي من بني أسد ... وأنّ لي كلّ يوم ألف دينار
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النّار
فقال: بل أنا من بني عبس، فقالت:
إذا عبسية ولدت غلاما ... فبشّرها بلؤم مستفاد
فقال: بل أنا من قيس، فقالت:
إذا قيسية عطست فنكها ... فإنّ عطاسها سبب الوداق «3»
فقال: بل أنا من كلب، فقالت:
إذا كلبيّة خضبت يداها ... فزوّجها ولا تأمن زناها(1/416)
فقال: أنا من ثقيف، فقالت:
أضلّ الناسبون أبا ثقيف ... فما لهم أب إلّا الضلال
فقال: بل أنا من خزاعة، فقالت:
باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ خمر وأثواب وأبراد
فقال بل أنا من جرم، فقالت:
إذا ما اتّقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس وإن كان من جرم «1»
فقال: بل أنا من حنيفة، فقالت:
أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحّم والمجاعه «2»
فقال: بل أنا من عبد القيس، فقالت:
علامة عبد القيس لا ينكرونها ... أعاصير من فسو عليهم تفتر «3»
فضجر الرجل، فقال: أنا من إبليس، فقالت:
عجبت من إبليس في تيهه ... وخبث ما أظهر من نيّته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوّادا لذريّته «4»
فقال: اعفيني، فقالت: إلى لعنة الله إذا نزلت بقوم فلا تجحد إحسانهم.
خرج قتيبة متنزّها فلقى أعرابيا فقال: له ممّن الرجل؟ فقال: من عبد قيس، فقال:
نسب مهزول. فقال الأعرابي: ممن أنت؟ فقال: من باهلة، فقال: وا ويلاه واهولاه أمثلك يقول نسبي مهزول وأنت بين الدعة والخمول. فقال له قتيبة: يا أعرابي أيسرك أنك أمير وأنك باهلي، فقال: لا ولا خليفة الله في أرضه. فقال: ولك حمر النعم، فقال: لا ولا ما طلعت عليه الشمس. فقال: وإنّك تدخل الجنة فاطرق ثم رفع رأسه فقال: إن كان ولا بد فعلى أن لا تعلم بذلك أهل الجنة فضحك قتيبة ووصله.
وسأله أعرابي عن نسبه، فقال: من باهلة فقال: أعيذك بالله. وقال آخر لأعرابي: أنا مولى باهلة، فأخذ الأعرابي يتمسح به ويقول: ما أبلاك الله بذلك إلا وجعلك من أهل الجنة. وتساب رجلان فقال أحدهما: يا ابن الزانية فقال الآخر: يا باهلي فقضى له، وقيل له ربأت عليه.
سأل أعرابي عبد الملك وقد رآه متنكرا ممن أنت؟ قال: من بني أمية، فقال: أنتم في الجاهلية مربون في التجارة وفي الإسلام تعادون أهل الطهارة، سيدكم حمار وأميركم حبار، إن نقصتم عن أربعين لم تدركوا بثار وإن بلغتموه كنتم بشهادة الرسول من أهل النار.(1/417)
وفخر على خالد بن صفوان ناس من بني الحارث بن كعب عند السفاح، فقال له السفاح: ألا تتكلم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وعصبته وما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد ودابغ جلد وسائس قرد وراكب عرد «1» ، دل عليهم هدهد وملكتهم امرأة وغرقتهم فأرة. فقال الجاحظ وقد بلغه مقاله: لئن تفكر في هذا الكلام وأعده إنه لرواية كبير، ولئن حضره حين حرك فما له في العالمين نظير. وقال عمر بن عبد العزيز لحميري قومك الذين قالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فقال: وقومك الذين قالوا فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فتبسم عمر رضي الله تعالى عنه.
من افتخر بنسبه فاعترض عليه بما أخجله
قال قرشي لشريك: ألا ترى إلى حسن ما قال الله تعالى فينا: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
«2» فقال شريك قد قال في موضع آخر: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ
«3» . وقال علويّ لرجل: إنك تحتاج أن تدعو لي كل يوم خمس مرات تقول اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، فقال: إني أقول معه الطيبين الطاهرين، فأخرجك منهم.
ودخل رجل من ولد قتيبة الحمام وبشّار في الحمام، فقال: يا أبا معاذ وددت أنك مفتوح البصر فترى استي فتعلم أنك كذبت في قولك:
إذا أعيتك نسبة باهليّ ... فرفّع عنه حاشية الإزار «4»
على أستاه سادتهم كتاب ... موالي عامر وسم بنار
فقال بشار: فأنت من سادتهم أو من سفلتهم، فقال: بل أنا من سادتهم فقال:
أخطأت، إنما قلت على أستاه سادتهم وأنت من سفلتهم لا من سادتهم.
من افتخر بأب مطعون فيه فعورض بتعريض أو تصريح
قال بلال بن أبي بردة لأبي الأسود: أنا ابن الحكمين. فقال: أما أحدهما ففاسق وأما الآخر فمخدوع مائق.
أنشد ذو الرمّة بلالا:
وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفّقه الذي نصب الجبالا
فقال ابن أبي علقمة: والله ما وفق الله أبا موسى نفسه فكيف يوفق ابنه.
تفضيل العلوية على سائر النّاس
قال منصور لجعفر بن محمد: نحن وأنتم في رسول الله سواء. فقال: لو خطب(1/418)
إليكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوج منكم لجاز له، ولا يجوز أن يتزوج منا فهذا دليل على أنا منه وهو منا.
وقال المأمون لعلوي: ما فضلكم علينا في العرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: إنه عليه الصلاة والسلام يدخل على حرمنا ولا يدخل على حرمكم.
وقال عمر بن عبد العزيز يوما وقد قام من عنده علي بن الحسين من أشرف الناس، فقيل: أنتم لكم الشرف في الجاهلية والخلافة في الإسلام، فقال: كلا أشرف الناس هذا القائم من عندي، فإن أشرف الناس من أحب كل إنسان أن يكون منه ولا يحب أن يكون من أحد وهذه صورته.
الممدوح بأنه من عترة الرسول
قال أبو الغمر:
تبوّأ من بيت النبوة مفخرا ... علا في السّماء فوق قطب الكواكب
يخاطب فيه الروح بالوحي جدّه ... وقدّك هما من مرسل ومخاطب «1»
وقال بشّار:
دم النبيّ مشوب في دمائهم ... كما يخالط ماء المزنة الضّرب «2»
وقال عبد الله بن موسى:
أنا ابن الفواطم من هاشم ... نماني عليّ وبنت النّبي
إليّ تناهى فخار الورى ... وكلّهم لي بحقّ ولي
الحجّة في أنهم أبناء الرسول صلّى الله عليه وسلم
قال الحجّاج ليحيى: أنت تزعم أن الحسن والحسين أبناء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: نعم.
قال: والله لأقتلنك إن لم تأت بآية تدل على ذلك، فقال: نعم، إن الله تعالى يقول: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ
«3» إلى قوله: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى
«4» وهو ابن مريم، وقد نسبه إليه. فقال الحجّاج: أولى لك قد نجوت، ولما أنزل الله تعالى آية المباهلة دعا النبي صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين فدعا بهما إلى المباهلة، ولما قدم على البصرة اتخذ الأحنف طعاما فحضره فقعد على سرير والحسن عن يمينه والحسين عن يساره، وجاء محمد بن الحنفية فلم يكن له على السرير موضع فقعد ناحية فتغيّر لذلك، فقال: أمير المؤمنين له:
إنهما ابنا رسول الله وأنت ابني.(1/419)
ذمّ علويّ
كتب أبو الحسين بن طباطبا إلى الكادوشي:
لن تحلب الشاة أفاويقها ... أو يخلع التيس عليها الرّسن «1»
فاحذر على ثغرك من منعظ ... يقطع عن ضرعك عرق اللبن «2»
فكتب إليه الكادوشي:
أبا حسن أيما حاجة ... دعتك إلى شين هذا النّسب
تصون بعرضك عرض اللئام ... كأنّك تحلّهم عن نشب «3»
وتعنق في سبل المنكرا ... ت ظلما لتنصر أهل الريب «4»
لذاك الخلافة لم ترضكم ... ولا نصرتكم عليها العرب
تحللت بالسبّ لما رأيت ... أديمك صحّ ومن سبّ سب «5»
فإن لم نجد فيك من مغمز ... سلكنا إليك طريق الكذب
ولولا النبيّ عليه السلام ... ولولا عليّ لقيت العجب
وقال المتنبيّ:
بها علويّ جدّه غير هاشم
وله:
إذا علويّ لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجّة للنواصب «6»
وقال الخوارزمي: كأن الله لم يخلقه إلا لتنعطف القلوب على يزيد، وقال ابن الحجّاج علوي من أجله رحم الله معاوية، وقال بعضهم في ذم جعفري وبكري:
إن كان جعفرهم طيار أجنحة ... فإن أولادهم فينا مقاصيص
وإن تقولوا إلى الطيّار نسبتنا ... فالتمر ينبت في أضعافه الشّيص «7»
قال أحمد بن يزيد: تعدّى بكري على أبي في مجلس، فاحتمله وقال: احتملته كرامة لأبي بكر، فقال ما أمكنك أن تقول فيّ فقل، فقال أبي:
لا بارك الله في البكري أن له ... أبا خيار أو سعيا غير مختار
ثان لراكبه رجليه معتمل ... أبوه ثاني رسول الله في الغار «8»(1/420)
أبوك يعلو إلى الفردوس سلّمة ... وأنت مقتحم تهوي إلى النّار
وكان ثوباه من فضل ومن كرم ... وأنت ثوباك من خزي ومن عار
استنكاف العرب من الهجنة
صار أعرابي إلى سوّار القاضي، فقال: إن أبي مات وتركني وأخي فخط خطين ناحية وترك هجينا فخط آخر ناحية بعيدا من الأولين فكيف يقسم المال، قال: المال بينكم أثلاثا.
فقال الأعرابي لا أحسبك فهمت فأعاد عليه الفتيا، فقال: المال بينكم سواء. فقال: أيأخذ الهجين كما نأخذ؟ قال سوار: نعم. فغضب الأعرابي وقال: أعلم أنك قليل الحالات بالدّهناء فقال: لا يضرّني.
وجاء أعرابي إلى المهدي في طريق مكة فقال يا أمير المؤمنين أنا عاشق بنت عمّ لي وقد أبى أن يزوجنيها، فقال: لعله أكثر منك ما لا قال: لا. قال: فما القصة؟ قال: ادن منّي يا أمير المؤمنين، فضحك المهدي وأصغى إليه برأسه، فقال سرا: أنا هجين. فدعا عمه وقال: لم لا تزوج ابن أخيك؟ فقال إنه هجين، فقال: إن ذلك لا يضره، أخوة أمير المؤمنين كلهم هجناء. زوجه فقد أصدقت عنه عشرة آلاف درهم.
قال الجاحظ: قلت لعبيد الكلابي وكان فصيحا فقيرا أيسرّك أن تكون هجينا ولك ألف جريب، قال: لا أحب اللؤم بشيء قلت فإن أمير المؤمنين ابن أمة قال أخزى الله من أطاعه، قلت: نبيا الله محمد وإسماعيل كانا ابني أمة، قال: لا يقول هذا إلا قدري. قلت:
فما القدري، قال: لا أدري.
قال شاعر:
لا أرضع الدهر إلا ثغر واضحة ... لواضح الجسم يحمي بجور الجار
ذلّة الموالي عندهم والاستخفاف بهم
كانت العرب إلى أن عادت الدولة العباسيّة إذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله معه فلا يمتنع ولا السلطان يغير عليه. وكان إذا لقيه راكبا وأراد أن ينزله فعل، وإذا رغب أحدهم في مناكحة مولاة خطب إلى مولاها دون أبيها وجدّها.
وكان نافع بن جبير إذا مرت به جنازة فيقال عربي يقول يا قوماه، وإن قيل مولى يقول مال الله يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء ولا يقولون للمولى كريم ولا حسيب وإنما يقولون فاره «1» .
مناقب أولاد السّراري «2»
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس قوم أكيس من أولاد السراري لأنهم(1/421)
يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم.
عاتب هشام زيد بن علي وقال: بلغني أنك تريد الخلافة، وكيف تصلح لها وأنت ابن أمه، فقال: كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرّة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم. فقال هشام: إذا لا تراني إلا حيث تكره.
كانت أم علي بن الحسين عليهما السلام جيهان شاه بنت يزدجرد أخذها الحسين من جملة الفيء، وقال له أمير المؤمنين: خذها فستلد لك سيدا في العرب سيدا في العجم سيدا في الدنيا والآخرة.
ولما فتح قتيبة بعض بلاد العجم أخذ إحدى بنات يزدجرد فقال يوما لبعض جلسائه:
أترى ابن هذه يكون هجينا؟ فقالت امرأة: نعم من قبل الأب.
عذر الهجناء
سابق عبد الملك بين بنيه فجاء الوليد سابقا وسليمان مصليا ومسلمة مكيثا «1» وكان ابن أمة، فقال عبد الملك: لله در الأعور الشني حيث يقول:
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدركوا «2»
وما يستوي المرآن هذا ابن حرّة ... وهذا هجين بضعه متشرّك «3»
قعدن به خالاته فخذلنه ... ألا إن عرق السوء لا بدّ يدرك
فقال مسلمة بيني وبينك الشني، أليس هو القائل:
وكائن ترى فينا من ابن سبية ... إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
فما زادها فينا السباء نقيصة ... ولا احتطبت يوما ولا طبخت قدرا «4»
وقال آخر:
لا تزرينّ فتى من أن يكون له ... أمّ من الروم أو سوداء عجماء
فإنّما أمهات النّاس أوعية ... مستودعات وللأحساب آباء «5»
أصناف الموالي
الناس ثلاثة أصناف عرب وعجم وموال. فالعرب قسمان: ولد إسماعيل بن إبراهيم وقحطان بن عابر وهم هجان وهو الخالص وهجين وهو الذي أمه أعجمية حرّة كانت أو(1/422)
أمة، فإذا تردد فيه أعراق العجم فهو المعلهج، وأما الفلنقس فهو الذي أمه أمة وخاله عبد، والمكركس الذي أمه أمة وكذلك جدته وجدة أمه. وإذا أحدقت به الإماء فحيوس من الحيس وهو الخلط، وإذا وصفوا الإنسان بغاية اللؤم قيل قن، وهو المملوك الأبوين وعبد العصا لكل ذليل وعبد مملكة وكعبيد ذي الكلاع باليمن، وعبيد ابن الأشعث بن قيس من أهل نجران الذين حكم عمر رضي الله عنه بأن يردوا أحرارا بلا عوض، وعبيد الأعتاق من سباهم النبي صلّى الله عليه وسلم من هوازن وفزارة وبني المصطلق وسمّاهم بذلك لأنه سار بهم كسيرته في سبايا غيرهم. ومن الموالي مولى السائبة وهذا كان في الجاهلية، وهو الذي سيب نذرا إلى الآلهة فلا يمنع من ماء ولا كلأ ولا يورث ولا يعقل عنه وصار خليعا.
كون الموالاة قرابة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم مولى القوم منهم. وقال صلّى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يورث. وقيل: الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وقيل: المعتق من فضل طينة المعتق.
وروي أن سلمان أخذ من بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها النبي صلّى الله عليه وسلم من فمه، فقال إنما يحلّ لك من هذا ما يحلّ لنا. وقال عمر رضي الله عنه: أبو بكر سيدنا أعتق بلالا سيدنا فأجراه مجراه في السودد.
وكان المهدي يمشي وبين يديه عمارة بن حمزة فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال هذا أخي وابن عمي عمارة، فلما ولى الرجل، قال عمارة: انتظرت أن تقول ومولاي، فانقض يدي من يدك فتبسم المهدي وقال: إنّا بنو هاشم موالينا أحب إلينا من أهالينا.
وكان لرجل عبد عامل فأراد أن يستخلفه، فقال: لست استأثر عليكم ولأن أكون عبد أحب إليّ من أن أكون عربيا لا حقا.
فضلاء الموالي
قال عمر رضي الله عنه لو كان سالم مولى حذيفة حيّا لاستلحقته. ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على المهاجرين والأنصار، وولّى عليهم أبو بكر رضي الله عنه سالما يوم اليمامة.
وقال أبو بكر حين أرادوه على البيعة: علام تبايعون ولست بأقواكم ولا أتقاكم أقواكم عمر وأتقاكم سالم. قال الله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ
«1» يعني بقوله أفمن يلقى في النار أبا جهل، وبقوله أم من يأتي آمنا عمار بن ياسر.
فضيلة العجم
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تسبّوا فارسا فما سبّه أحد إلا انتقم الله منه عاجلا وآجلا. وحضر(1/423)
عند النبي صلّى الله عليه وسلم مجوسي حسن الهيئة وضيء الوجه فجعل تحته وسادة حشوها قزو وأكرمه، فلما نهض قال عمر رضي الله عنه هذا مجوسي. فقال: قد علمت ولكن أمرني جبريل عليه السلام أن أكرم كريم كل قوم.
قال سليمان بن عبد الملك: العجب لهذه الأعاجم كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا، فلما ولينا لم نستغن عنهم. وقال أيضا: ألا تتعجبون من هذه الأعاجم، احتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغاتنا منهم. قال المأمون: الشرف نسب، فشريف العرب أولى بشريف العجم من وضيع العجم بشريفهم، وشريف العجم أولى بشريف العرب من وضيع العرب بشريفهم، وهذا كلام شريف.
ورأى النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام كأنه ردفه غنم سود فردفتها غنم بيض ما يرى السود فيها لكثرتها، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر رضي الله عنه، فقال: السود العرب ويسلمون والبيض العجم يسلمون بعدهم حتى ما يرى فيهم العرب لكثرتهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: بذلك أخبرني الملك سحرا.
الممدوح بكونه من العجم
قال بشّار:
نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
وأنشد الموبذ «1» :
أنا ابن المكارم من آل جم ... وطالب إرث ملوك العجم
لنا علم الكابيان الذي ... به نرتجي أن نسود الأمم «2»
فقل لبني هاشم أجمعين ... هلمّوا إلى الخلع قبل النّدم
وعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... وأكل الضّباب ورعي الغنم
فإنّي لأعلو سرير الملوك ... بحدّ الحسام ورأس القلم
وقال أبو سعيد الرستمي:
بهاليل عزّ من ذؤابة فارس ... إذا انتسبوا إلا من عرينة أو عكل «3»
هم راضة الدّنيا وسادة أهلها ... إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل «4»(1/424)
المستنكف والمزرى بهم
سمع أعرابي يقول لآخر أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة، فقال الآخر: نعم أرى ذلك بأعمالهم الصالحة، فقال: توطأ رقابنا والله قبل ذلك.
وكان ناسك يقول: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، وأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك.
وقال زياد «1» للأحنف: أرى هذه الحمراء قد كثرت وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب وعلى السلطان، وقد رأيت أن أقبل شطرا وأدع شطرا لإقامة الشرف وعمارة الطرق.
وقال ابن الحجّاج:
لا تغترر أنّك من فارس ... في معدن الملك وديوانه
لو حدّثت كسرى بذا نفسه ... صفّعته في جوف إيوانه «2»
ذمّ النبط وأهل الرساتيق
روي في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إذا تفيهقت الأنباط ونطقت بالعربية وتعلمت القرآن فالهرب الهرب منهم، فإنهم أكلة الربا ومعدن الشر وأهل غش وخديعة. قال ابن عباس رضي الله عنهما لو كان الشيطان أنسيا ما كان إلا نبطيا.
وقال شاعر:
نبط إذا عرك الهوان بهم ... ذلوا وإن أكرمتهم ضغنوا «3»
ورفع إلى المأمون أن رجلا شكا جارا له وقال: واسيرة عمراه ذهب العدل منذ مات عمر، فاستحضره وسأله فذكر ما يشكو منه فقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل ناتية وهم نبط، فقال المأمون: إن عمر كان يقول من كان جاره نبطيا فاحتاج إلى ثمنه فليبعه فإن كنت تطلب سيرة عمر فهذا حكمه ثم أمر له بألف درهم وأمر صاحبه أن ينصفه.
ولمّا نزل الحجاج واسطا نفى النبط عنه وكتب إلى عامله بالبصرة وهو الحكم بن أيوب، يقول: إذا أتاك كتابي فانف من قبلك من النبط فإنهم مفسدة للدين والدنيا، فكتب إليه قد نفيت النبط إلا من قرأ منهم القرآن وتفقه في الدين. فكتب إليه الحجاج: إذا قرأت كتابي فادع من قبلك من الأطباء ونم بين أيديهم ليقفوا «4» عروقك فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا فاقطعه والسلام.
وأمر بعض الملوك عاملا له أن يصيد شر طائر ويشويه بشر حطب ويبعثه على شر(1/425)
رجل، فصاد رخمة وشواها ببعر ودفعها إلى خوزي، فقال الخوزي: أخطأت في كل ما أمرك به الملك. صد بومة واشوها بدفلى وادفعها إلى نبطي ولد زنا. ففعل الرجل وكتب به إلى الملك، فقال الملك: أصبت ولكن كفى أن يكون الرجل نبطيا لا يحتاج إلى ولد زنا فليس يزداد النبطي بذلك شرا فقد بلغ بجنسه الغاية.
قيل إذا جاء الرستاقي «1» بسلة فارغة ومعدة جائعة فاضرب الباب في وجهه. وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن العباس لم يظلم أحد كما ظلم أهل الرستاق لأنهم غرسوا الخشب وليست تكسر إلا على ظهورهم. ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الأكراد جيل الجن كشف عنهم الغطاء، وإنما سموا الأكراد لأن سليمان عليه السلام لما غزا الهندسبى منهم ثمانين جارية وأسكنهن جزيرة فخرجت الجن من البحر فواقعوهن فحمل منهم أربعون جارية فأخبر سليمان بذلك فأمر بأن يخرجن من الجزيرة إلى أرض فارس فولدن أربعين غلاما فلما كثروا وأخذوا في الفساد وقطع الطرق فشكوا ذلك إلى سليمان فقال أكردوهم إلى الجبال فسموا بذلك أكرادا.
(3) ومما جاء في الدعوة
النهي عن ادّعاء غير الأب
قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
«2» . وقال صلّى الله عليه وسلم: ملعون ملعون من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه. وقال عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش وللعاهر الحجر ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قبول شهادة الزنيم «3» .
المعرّض بنسبه
لقي مزيد رجلا فقال له ممن أنت؟ قال قرشي والحمد لله. فقال: الحمد لله في هذا الموضع ريبة.
قال أبو نواس:
إذا ذكرت عديّا في بني ثعل ... فقدم الدال قبل العين في النّسب «4»
وقال أحمد بن أبي سلمة:
حنفي كما زعم ... وبريء من الكرم(1/426)
زد على الفاء نقطة ... وارفع النّون بالقلم «1»
وقال زياد لرجل: يا دعيّ، فقال: الدعوة قد تشرف بها المدعي علي فكيف غير بها.
التعريض بمن لا يشبه أباه أو ذويه خلقة
قال عبد الملك لعبيد الله بن زياد: بلغني أنك لا تشبه أباك قال إني والله أشبه به من الماء بالماء والتمرة، بالتمرة ولكن إن شئت أنبأتك بمن لا يشبه أباه. قال: من هو. قال:
من لم يولد لتمام ولم ينضج في الأرحام ولم يشبه الأعمام، يعرض بعبد الملك. فقال:
ومن هو، قال: سويد بن هجوف فقال لسويد: أكذا أنت قال نعم. قال دعبل:
إن بني عمرو لأعجوبة ... تعجز عن وصفهم الفكره
أبوهم أسمر في لونه ... وهؤلاء لونهم شقره
أظنّه حين أتى أمّهم ... صيّرفي نطفته مغره «2»
وقال آخر:
كأنّهم خبز كتّاب وبقّال
وقال وهيب الهمداني:
ألوانهم إليك عن ... أنسابهم معتذره
كان بأصبهان مجنون يعرف بابن المستهام، فقيل لأحمد بن عبد العزيز إنه مليح ذو نوادر، قال فاستحضره فلما تأمله قال:
في اختلاف الوجوه من آل عجل ... لدليل على فساد النساء
فأراد أن يبطش به ثم كف عنه مخافة أن يتحدث الناس بقوله فيكثر.
التعريض بمن لا يشبه أباه فعلا
دخل أبو الحسن بن طباطبا على أحمد بن عثمان البري، وكان هجاه أبو الحسن بأهاجي كثيرة، فقال له: بلغني أنك تشعر وتجيد فقال كذا يقول الناس. فقال له تعريضا:
أشعرت أن قريشا لم تكن تجيد الشعر. وقال مروان بن أبي الجيوب في عليّ بن الجهم، وقد أجاد تعريضا إلى الغاية:
لعمرك ما جهم بن بدر بشاعر ... وهذا على ابنه يدّعي الشعرا
ولكن أبي قد كان جارا لأمّه ... فلما ادّعى الأشعار أفهمني أمرا
التعريض بالرجل أن ابنه من زانية
اختصم إلى معاوية رضي الله عنه في غلام ادعى، فقال: ائتنوني غدا أقض بينكما(1/427)
فلما أتوه أخرج حجرا دفعه إلى المدعي، يعني بذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر، فقال له الرجل: أنشدك بالله هلّا قضيت بقضائك في زياد. فقال معاوية: قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولى بأن يتبع من قضائي.
دخل ابن مكرم على أبي العيناء مهنئا له بابن ولد له، فوضع عنده حجرا، فلما خرج قيل: لأبي العيناء: فقال: لعن الله هذا أما تعلمون ما عنى، إنما أراد قول النبي صلّى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر. ورأى عنده منجّما فقال ما يصنع هذا، قال إنه يعمل طالع مولد ابني، قال: فسله قبل هل هو ابنك حقيقة.
قال أبو علي البصير:
أتانا أبو العيناء بابن مزور ... سنحكم فيه عادلا غير جائر
نهنّئه في أسبوعه وملاكه ... فإن مات عزّينا سعيد بن ياسر
وله فيه:
لأبي العيناء أولاد ... دهم في النّاس آيه
فأبو القوم سعيد ... وأبو العيناء دايه
وقيل لرجل ولدت امرأة فلان بعد الزفاف بخمسة أشهر، فقال: كان إناؤها ضاربا.
وقيل لآخر مثله، فقال: إنه بنى جدارا على أس غيره. وقال رجل من أولاد زياد لآخر يا ابن الزانية، فقال: لا تسبني بشيء به شرفت «1» .
من راجع قاذفه بدعوة بأحسن تعريض
كان بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طلحة بن عبيد الله كلام بين يدي معاوية، فقال يزيد: يا إسحاق إن خيرا لك أن يدخل بنو حرب كلهم الجنة، فقال إسحاق: وأنت والله لخير لك أن يدخل بنو العباس كلهم الجنة، فأنكر يزيد ولم يدر ما عناه، فلما قام إسحاق قال معاوية: أتدري ما عناه إسحاق، قال يزيد: لا، قال: فكيف تشاتم رجلا قبل أن تعلم ما يقال لك وفيك أنه عنى ما زعم الناس أن أبا العباس أبي وكانت هند اتّهمت به وبغيره، ولذلك لما جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تبايعه فتلا عليها الآية، فلما بلغ قوله ولا يزنين، قالت: وهل تزني الحرة؟ فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى عمر وتبسم.
وخاصم غيلان رجلا من ولد زياد، فقال له الزيادي يا دعيّ، فأنشد يقول:
بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب
فبلغ قولهما ابن عائشة، فقال: والله إن غيلان في التمثل بهذا البيت أشعر من جميل. وشاتم أعرابي ابنه، فقال: لست بابني، فقال الابن: أنا والله أشبه بأبيك ولأنت كنت أغير على أمي من أبيك على أمك.(1/428)
من احتمل عيبا لتصحيح نسبه
نافر لهبي «1» رجلا من ولد عمرو بن العاص فعابه بسورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ
«2» ، وعاب اللهبي بسورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
«3» ، فقال اللهبي: إنك لو علمت ما لأولاد أبي لهب من الدرك في سورة تبت لم تفه بها، لأن الله تعالى صحح نسبهم بقوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
«4» وأنهم من نكاح لا من سفاح ونفى بني العاص بقوله عتل بعد ذلك زنيم، والزنيم المنتسب إلى غير أبيه. قال العودي مضيت يوما في حاجة مع يحيى بن أكثم فاختصر بين طريقا لم أعرفها، فقلت له: أنا ابن بجدة «5» هذه البلدة ومن لا يبرحها ولا أعرف هذا الطريق، قال لأن قول الشاعر لم يلحقك:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
فاحتمل هذا الهجاء تصحيحا لنسبه
المعروف بأنه عجمي أو نبطي متعرّب
قال بشّار:
أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته ... فإنّه عربيّ من قوارير
وقال آخر:
عربيّ في مجان ... نبطيّ في الحقيقه
وقال مخلد المولي:
أنت عندي عربيّ ... ليس في ذاك كلام
عربيّ عربيّ ... عربي والسّلام
شعر أجفانك قيصو ... م وشيح وثمام «6»
المدعي أكارم العجم
لبعضهم:
يصيح لكسرى حين يسمع ذكره ... بصمّاء عن ذكر النبيّ صدوف
ويعجبه أخبار كسرى وذكره ... وما هو في أعلاجهم بشريف
وقال جحظة:
وأهل القرى كلّهم ينتمون ... لكسرى ادعاء فأين النّبيط(1/429)
ذمّ مدّعي العلوية
قال محمد بن وهب:
فتى لما رأى الأنساب عزا ... تناول غير نسبة والديه
ويرضى أن يقال له شريف ... ومن يرضى إذا كذبوا عليه
ذمّ من يدّعي نسبا مرغوبا عنه
قال حمّاد عجرد في بشّار بن برد:
نسبت إلى برد وأنت لغيره ... فمنك لبرد نكت أمك من برد
وهذا البيت في الهجاء من الأبيات النادرة العجيبة، وقيل إن بشارا لما سمع ذلك قال: تهيأ لحمّاد في هذا البيت بهجائي خمسة معان أرادها جرير في الفرزدق فلم يستكملها، حيث يقول:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وضغا البغيث جدعت أنف الأخطل «1»
وقال أبو محمد البريدي في الأصمعي:
ابن لي دعيّ بني أصمع ... متى كنت في الأسرة الفاضله
ومن أنت؟ هل أنت إلا امرؤ ... إذا صحّ أصلك من باهله
المتقلّب في الدّعوة
قال دعبل:
كل يوم لأبي سعد على الأنساب غاره ... فهو يوما في تميم
وهو يوما في فزاره «2»
وقال أبو نواس:
لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب
من ادّعى نسبا لاستفادته جاها أو نشبا
وقال خالد التمار:
عصام بن فيض باللجين وبالذّهب ... ولبس الكسا والزعفران الذي يهب «3»
ودار بناها في ثقيف ومسجد ... يرجى عصام أن يعدّ من العرب
وقال دعبل:
ليهنك دولة حدثت ... فأحدث عزّها نسبا(1/430)
من نسبه مقصور عليه
قيل: فلان نفع بقاع، ليس له فعل موصوف ولا نسب معروف.
قال شاعر:
كالودّ بالقاع لا أصل ولا ورق «1»
وقال الجاحظ:
نسب الخمار مقصو ... ر إليها منتهاه
وقال آخر:
يقول سهل والدي صاعد ... فقل لسهل من أبو صاعد؟
للناس آباء وما ينتمي ... سهل إلى أكثر من واحد
وقال آخر:
ليس له ما خلا اسمه نسب ... كأنّه آدم أبو البشر
من صار مدّع بين جماعة
خبر زياد بن أبيه معروف جعيفران:
ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه
هذا يقول بنيّ ... وذا يخاصم فيه
والأمّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه
من نفى عنه الدعوة خسة
قال ابن الزيات لابن أبي دؤاد في مناظرته: ما أنا بدعي. فقال: صدقت ما دونك أحد فتستنزل إليه ولا فوقك من يقبلك فتنتمي إليه. وقال رجل بين يدي أبي عبيدة: إن الأصمعي دعيّ. فقال: كذبت لا يدّعي إلى أصمع أحد.
وقال شاعر:
فما أنفيك كي تزداد لؤما ... لا ألأم من أبيك ولا أذلّا
المتشكّك في أمه فضلا عن أبيه
قال عبدان، وهو من الأبيات الجيدة المشهورة:
صحح لنا والدة أولاد ... وأنت في حلّ من الوالد
وقال آخر:
إذا أقمت لنا أما فصح لها ... وأنت في حرج إن جئتنا بأب(1/431)
وقال آخر:
إذا الأدعياء ادعوا والدا ... وجدناك مدّعيا والده
وقال مساور الوراق:
ابن عبد العزيز أدغم فيه ... شبه من شرار كلّ قبيله
صدره من محارب ويداه ... من غني ورأسه من بجيله «1»
ذكاء ولد الزنا وفرعنته
قال قدامة: أولاد الزنا أنجب لأن الرجل يزني بشهوة ونشاط فيخرج الولد كاملا، وما يكون عن حلال فعن تصنع للرجل إلى المرأة.
قال ابن بوسة الأصبهاني:
إني إذا ما رأيت فرخ زنا ... فليس يخفى عليّ جوهره
لو في جدار يخطّ صورته ... لماج في كفّ من يصوّره
(4) وممّا جاء في الأقارب
فضل صلة الرحم وذم قطيعته
قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ
«2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم يقول الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته.
وقال عبد الله بن أبي أوفى: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم فقال لا يجالسنا قاطع رحم فقام شاب فأتى خالة له، وكان بينه وبينها شيء فأخبرها بقول النبي صلّى الله عليه وسلم فاستغفرت له واستغفر لها، ثم رجع والنبي صلّى الله عليه وسلم في مجلسه فأخبره فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الرحمة لا تنزل على قاطع رحم. وقال صلّى الله عليه وسلم: الرحم منماة للعود مثراة للمال منسأة «3» في الأجل. وقال جعفر بن محمد: صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ
«4» وتذاكر واصلة الرحم فقال أعرابي: منسأة في العمر مرضاة للرب محبة في الأهل. وقيل: الصلة بقاء والقطيعة فناء.(1/432)
حثّ الأقارب على التظاهر
دعا أكثم بن صيفي أولاده عند موته، فاستدعى بضمامة من السهام وتقدم إلى كل واحد أن يكسرها فلم يقدر أحد على كسرها، ثم بددها، وتقدم إليهم أن يكسروها فاستسهلوا كسرها، فقال: كونوا مجتمعين ليعجز من ناواكم عن كسركم كعجزكم.
وفي ذلك شعر:
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حرد وبطش أيّد «1»
عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
وقال عبد العنبري:
إذا ما أراد الله ذلّ قبيلة ... رماهم بتشتيت الهوى والتخاذل
المراعي رحمه والمحامى عليه
قال بعض بني أسد:
وأستنفذ المولى من الأمر بعد ما ... يزلّ كما زلّ البعير عن الدحض «2»
وأمنحه مالي وودّي ونضرتي ... وإن كان محنيّ الضلوع على بغضي
وقال بعضهم:
ومولى جفت عنه الموالي كأنّه ... من البؤس مطليّ به القار أجرب
رئمت إذا لم ترأم البازل ابنها ... ولم يك فيها للملبسين محلب «3»
تفضيل الأقارب على الأباعد وإن عادوا
لما استخلف يزيد بن المهلب ابنه بجرجان، قال له: انظر إلى هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال العباس:
فقومك إن المرء ما عاش قومه ... وإن لامهم ليسوا له بأباعد
ونحوه قول بعضهم:
أدناك أدناك وإن رفضك وقلاك «4»
وقال بعض بني قيس:
وآخ لحال السلم إن شئت واعلمن ... بأن سوى مولاك في الجور أجنب «5»(1/433)
ومولاك مولاك الذي إن دعوته ... أجابك طوعا والدماء تصبّب
وقال آخر:
لعمري لرهط المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كلّ مركب «1»
استبقاء الأقارب لدفع الأباعد
قال النعمان بن حنظلة:
وإني لأستبقي امرأ السوء عدّة ... لعدوة عريض من القوم جانب «2»
أخاف كلاب الأبعدين وهرشها ... إذا لم تهارشها كلاب الأقارب
وقال هبيرة المري:
ولا تهجر كلابك واصطنعها ... لتطعمها كلاب الأبعدينا
وله:
وذوي ضباب مظهرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الأفناد «3»
ناسيتهم نقصاهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصّديق أعادي
كيما أعدّهم لأبعد منهم ... عدّ السلاح إلى ذوي الأحقاد
تفضيل بعض الأقارب على بعض
قيل لامرأة أسر الحجاج زوجها وابنها وأخاها: اختاري واحدا منهم، فقالت: الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود، أختار الأخ. فقال الحجّاج عفوت عن جماعتهم لحسن كلامها.
ذمّ الأقارب
قال بعضهم: الأب رب والعم غم والأخ فخ والولد كمد والأقارب عقارب. قال شاعر:
إنّ الأقارب كالعقار ... ب أو أضرّ من العقارب
وقال آخر:
يقولون عزّ في الأقارب إن دنت ... وما العزّ إلا في فراق الأقارب
تراهم جميعا بين حاسد نعمة ... وبين أخي بغض وآخر عائب
وقال أبو نواس:
وما أنا مسرور بقرب الأقارب ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد(1/434)
تفضيل بعيد موال على قريب معاد
قال مقاتل: صديق موافق خير من ولد مخالف، ألم تسمع قول الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ
. وقيل: القرابة تحتاج إلى المودة والمودّة تستغني عن القرابة:
ربّ بعيد كأخ ناصح ... وابن أب منهم الغيب
وقال الزبيري:
لمغترب يسرّ بحسن حالي ... وإن لم تدنه منّي قرابه
أحبّ إليّ من ألفي قريب ... تبات صدورهم بي مسترابه «1»
وقال بشار:
ربّما سرّك البعيد وأصلا ... ك القريب النسيب نارا وعارا «2»
وقال يزيد بن الحكم:
ولقد يكون لك الغريب ... أخا ويقطعك القريب
التذمّم لترك الأقارب واتّباع الأباعد
قال الحارث بن ظلامة:
سفهنا باتّباع بني بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا
سفاهة قارص لما تروّى ... هراق الماء واتّبع السرابا
ذم من نفعه للأباعد دون الأقارب
قال ابن الأحوص:
من النّاس من يغشى الأباعد نفعه ... ويشقى به حتّى الممات أقاربه «3»
وقال آخر:
وما خير من لا ينفع الأهل عيشه ... وإن مات لم تجزع عليه أقاربه
وقال آخر:
فتى هو لابن العمّ كالذئب إن رأى ... لصاحبه يوما دما فهو آكله
ذمّ من يناوىء ذويه ويضرع لأعاديه
ذمّ أعرابي رجلا، فقال: هو أقل الناس ذنوبا إلى أعدائه وأكثرهم تجرؤا على أصدقائه(1/435)
وأقربائه. وقيل لمعاوية رضي الله عنه ما النذالة، فقال: الجراءة على الصديق والنكول عن العدو.
وقال الجعدي:
ألا إن قومي أصبحوا مثل خيبر ... بها الداء لكن لا يضرّ الأعاديا
وقال بيهس الضبيّ:
إذا ما ألقى العدوّ فثعلب ... وعلى الأقارب شبه ليث ضيغم
وقال الغطفاني:
جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلّتان النكل والجبن «1»
وقال زياد الأعجم:
تلين لأهل الغلّ والغمّ منهم ... وأنت على أهل الصفاء غليظ
وقال أيوب:
تصول على الأدنى وتجتنب العدا ... وما هكذا تبنى المكارم يا يحيى
وأنت كفحل السّوء يبدأ بأمّه ... ويترك باقي الخيل سائمة ترعى «2»
وقال كشاجم:
وتراه يكرم من نأى ... عنه ويؤذي من حضر
كالشّمس تنحس من دنا ... منها وتسعد من نظر
عذر من يكره بعيدا ويطرح قريبا
إن يعجب الأقوام أني عندهم ... من دون ذي رحم بها يتوصّل
فبنو أمية والفرزدق صنوهم ... نسبا وكان وصالهم لا يقبل
عداوة الأقارب وتعسّر إزالتها
أعداؤكم اكفاؤكم والأقارب عقارب وأمسهم بك رحما أشدهم لك لدغا. وقال جاويذان: فروخ ثلاث لا يستصلح فسادهم بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركالة في الملوك.
وكان ابن هبيرة يقول: اللهمّ احفظني من عداوة الأقارب.
وقال طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد(1/436)
ويروى عداوة ذي القربى.
قال الهيثم النخعي:
بني عمّنا إن العداوة شرّها ... ضغائن تبقى في نفوس الأقارب
وقال ببغاء:
للظّلم بين الأقربين مضاضة ... والدلّ ما بين الأباعد أروح «1»
فإذا أتتك من الرّجال قوارض ... فسهام ذي القربى القريبة أجرح
من يتحامل على ذويه إذا رآهم في محنة
قال عامر بن لقيط:
لعمرك إني لو أخاصم حيّة ... إلى قعفس ما أنصفتني قعفس
فما لهم طلسا إليّ كأنّهم ... ذئاب الفضا والذئب بالليل أطلس «2»
وقال عدي النبهاني:
أعان على الدّهر إذ حلّ بركه ... كفى الدهر لو وكّلته بي كافيا «3»
وقال آخر:
وكنت كذئب السوء لما رأى دما ... يصاحبه يوما أحال على الدم
الحميّة للأقارب وإن كانوا أعداء
في المثل: آكل لحمي ولا أدعه لآكل. وقيل: الحفائظ تذهب الأحقاد لا يعدم الجوار من أمه حية.
قال شاعر:
لكلّ امرىء حالان بؤس ونعمة ... وأعطفهم في النّائبات أقاربه
وقال حريث بن جابر:
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه ... فحرّك أحشائي وهرّت كلابيا «4»
وقيل لأعرابي: ما تقول في ابن العم، فقال: عدوّك وعدوّ عدوّك. ولما مات عبادة بن الصامت، رضي الله عنه بكى عليه أخوه أوس بن الصامت فقيل له: أتبكي عليه وقد كان يريد قتلك فقال حركني للبكاء عليه ارتكاضنا في بطن وارتضاعنا من ثدي.(1/437)
التجافي عن ذنوبهم ومداواة عداوتهم
قال الشعبي: لا يكون الرجل سيدا حتى يكون مستعملا قول الشاعر:
وإنّي للبّاس على المقت والقلى ... بني العمّ منهم كاشح وحسود «1»
أذبّ وأرمي بالعصا من ورائهم ... وابدأ بالحسنى لهم وأعود
وقال سالم بن وابصة:
ونيرب من موالي السّوء ذي حسب ... يقتات لحمي وما تشفيه من قرم «2»
داويت صدرا طويلا غمره حقدا ... منه وقلّمت أظفارا بلا جلم «3»
وقال محمد بن عبد الأزدي:
ولا أدع ابن العم يمشي على شفا ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع «4»
والأبيات كلها.
قال الموسوي:
لويت إلى ودّ العشيرة جانبي ... على عظم داء بيننا وتفاقم
وقلّمت أظفاري وكنت أعدّها ... لتمزيق قربى بيننا ومحارم
وأوطأت أقوال الوشاة أخامصي ... وقد كان سمعي مدرجا للنّمائم «5»
تأسّف من جنى عليه أقاربه فلم يكنه الانتصاف منهم
قال المتلمّس:
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وما كنت إلا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له أخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليه مقدما
فاطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لنابيه الشجاع ليمّما «6»
وقال ذو الأصبع:
لولا أواصر قربى لست تحفظها ... ورهبة الله في من لا يعاديني
إذا بريتك بريا لا انجياب له ... إنّي رأيتك لا تنفكّ تبريني(1/438)
من جازى أقاربه بذنوبهم فتأسّف لذلك
قال العديل العجلي:
ظللت أساقي الهمّ إخوتي الألى ... أبوهم أبي عند المزاح وفي الجدّ
كفى حزنا أن لا أزال أرى القنا ... يمجّ نجيعا من ذراعي ومن عضدي «1»
وإني وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم ممّا عضّ أكبادهم كبدي
وقال قيس بن زهير:
فإن أك قد برّدت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلّا بناني «2»
وقال آخر:
فإن تك حين تبلغهم بجرم ... وإن ظلموا لمحترق الضمير
الحثّ على معاقبة من يعادي من الأقارب
قال أوس بن حبنا التميمي:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره «3»
وقال غيره:
إذا مولاك كان عليك عونا ... أتاك القوم بالعجب العجيب
فلا تخنع إليه ولا تردّه ... ورام بنفسه عرض الجنوب
فما لك كالقلى في غير جدّ ... إذا ولّى صديقك من طبيب
من تبجّح بمعاداة ذويه
قال أرطاة بن سهية:
ونحن بنو عمّ على ذات بيننا ... ذراني فينا بغضة وتنافس
ونحن كصدع العسّ إن يعط شاعبا ... يدعه وفيه عيبه متشاخس «4»
وتمثل يزيد بن معاوية لما بلغه قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بقول الفضل بن العباس بن عتبة:
مهلا بني عمّنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
(الأبيات) وهي في الحماسة.(1/439)
ذمّ من يتطاول على ذويه في الرّخاء ويضرع لهم في اللأواء «1»
قال علمس بن عقيل:
فأما إذا عضّت بك الحرب عضّة ... فإنّك معطوف عليك رحيم
وأما إذا آنست أمنا ورخوة ... فإنّك للقربى ألدّ خصوم «2»
وقال شاعر:
إذا أخصبتم كنتم عدوّا ... وإن أجدبتم كنتم عيالا «3»
الشاكي ظلم مولاه وحده
قال شاعر:
إذا ما ابتنى المجد ابن عمّك لم تعن ... وقلت ألا يا ليت بنيانه هوى
تملّا من غيظ عليّ فلم يزل ... به الغيظ حتّى كاد في الغيظ ينشوى
وقال عبد الله بن طاهر:
أخي مالك لا تنفكّ عن ترتي ... كأن أعضاءنا لم تغذ من جسد
ذمّ عشيرة بدّد الجهل شملهم
وقال أبو يعقوب الجريمي:
كانوا بني أم ففرّق شملهم ... عدم العقول وخفّة الأحلام
وقال علاق بن مروان:
وكانت بنو ذبيان عزّا وإخوة ... فطرتم وطاروا يضربون الجماجما
وجوب تعظيم الأخ الأكبر
حضر عند النبي صلّى الله عليه وسلم أخوة، فتكلم أصغرهم فقال عليه السلام: كبروا كبروا. وقيل لحكيم معه أخ أكبر منه، أهذا أخوك، فقال: بل أنا أخوه.
وكان بين الحسن والحسين رضى الله عنهما كلام فقيل للحسين ادخل على أخيك فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي صلّى الله عليه وسلم يقول أيما اثنين جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضا الآخر كان سابقه إلى الجنة، وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر فبلغ قوله أخاه فأتاه عاجلا وأرضاه.
وصف أخوين مختلفين في الكيس والبلّة
من الأخوين اللذين كانا لأب وأم وتفاوتا في العقل جدا علي وعقيل ابنا أبي طالب، أمهما فاطمة الأسدية. ومعاوية وعتبة ابنا أبي سفيان، أمهما هند بنت عتبة.(1/440)
وصف أخوين وضيع ورفيع
قال الأصمعي: لم يقل أحد في تفضيل أخ على أخ وهما لأب وأم مثل قول ابن المعتز لأخيه صخر:
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تفاضلت المناكب والرؤوس «1»
وقال ابن أبي عيينة:
داود محمود وأنت مذمّم ... عجبا لذاك وأنتما من عود
فلربّ عود قد يشقّ لمسجد ... نصف وسائره لحشّ يهود «2»
وقال الموسوي:
تفرّد بالعلياء عن أهل بيته ... وكلّ يهدّيه إلى المجد والد
وتختلف الأثمار في شجراتها ... إذا شرقت بالماء والماء واحد
وقال السيد الحميري:
فإن قلتم أبونا عبد شمس ... فإن الزنج من أولاد نوح
هما عرقان من أصل جميعا ... ولكن ليس نبع مثل شيح «3»
وقال أبو العواذل:
عليّ وعبد الله ينميهما أب ... وشتّان ما بين الطبائع والفعل
ألم تر عبد الله يلحى على النّدى ... عليّا ويلحاه عليّ على البخل «4»
وقال رجل لأخيه لأهجونّك، فقال: كيف تهجوني وأنا أخوك لأبيك وأمك. فقال:
غلام أتاه اللؤم من شطر نفسه ... ولم يأته من شطر أم ولا أب
عذر من صارم أخاه وباعده وجفاه
كتب الفضل بن سهل إلى المأمون أما بعد فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة فقد فرق كتاب الله بينهما، فيما اقتص علينا من نبأ نوح، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح. فلا صلة لأحد في معصية الله ولا قطيعة ما كانت القطيعة في ذات الله والسلام وقيل لأعرابي لم تقطع أخاك شقيقك، فقال: أنا أقطع الفاسد من جسدي الذي هو أقرب إليّ منه فكيف لا أقطعه إذا فسد.(1/441)
وصف أخوة متفاوتة في الخلقة
قال مخنث لأبي عباد وكان قبيحا ومعه أخ صبيح: ما أمّك إلا شجرة البلوط تحمل سنة بلوطا وسنة عفصا، أخذه ابن طباطبا فقال:
أمّ أبي عيسى وإسحاق غدت مرتهنه ... بصورة قبيحه جدا وأخرى حسنه
متى تسل عن قصة إبنيها تقل يا ابن هنه ... أنا التي تشبهها البلوطة الممتحنه
تحمل بلّوطا سنة ... وتحمل العفص سنه
لقد أتت بحجّة ... لله درّ الفطنه
وقال آخر:
أما رأيت بني بدر وقد حفلوا ... كأنّهم خبز بقال وكتّاب
هذا طويل وهذا حنبل جحد ... يمشون خلف عمير صاحب الباب «1»
ما يجب أن يكون عليه فضلاء الأقارب
قال عبد الملك لغيلان: أخبرني عن أفضل البنين، فقال: السار البار المأمون منه العار. قال: فأفضل البنات، قال: المتعجلة إلى القبر المفيدة أباها سنا الأجر. قال:
فأفضل الإخوان، قال: الشديد العضد الكريم المشهد الذي إذا شهد سرّك وإذا غاب برّك.
قال: فأفضل الأخوات، قال: التي لا تفضح أخاها ولا تكسو عارا أباها. فقال عبد الملك: لله أم درّت عليك.
فضيلة الخؤولة وكونها كالأبوة
يروى أن الأسود ابن وهب خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم استأذن عليه فبسط له رداءه، فقال الأسود:
حسبي أن أجلس على ما أنت عليه، فقال صلّى الله عليه وسلم: اجلس فإن الخال والد، فأجلسه عليه.
وقال عمر رضي الله عنه: لئن بقيت لأسوّينّ بين طرفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى إذا قيل: بنو هاشم قيل: بنو زهرة، فإن الله اختارهم له من قبل أمه كما اختار بني هاشم من قبل أبيه.
وقال الحجّاج لابن معمر: إنك تزعم أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ابنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: والله لأقتلنك. فقال ابن معمر: أليس الله يقول ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله وزكريا ويحيى وعيسى وإنما عيسى ابن مريم ابن بنت، فقال: نجوت.
ذمّ الخؤولة وإنّها ليست بنسب
قال حسّان بن وعلة:
إذا كنت في سعد وأمّك منهم ... غريبا فلا يغزرك خالك من سعد(1/442)
فإنّ ابن أخت القوم مصغ إناءه ... إذا لم تزاحم خاله بأب جلد «1»
وتقدم شاب إلى عبد الله بن الحسين فقال: إن جدّي أوصى بثلث ماله لو لد ولده وأنا من ولد بنته والوصي ليس يعطيني منه، فقال: لا حق لك فيه، أما سمعت قول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد
المدّعي قرابة بعيدة
قال رجل لآخر: لست ترعى حقى وبيننا قرابة فقال من أين؟ قال: إن أباك كان قد خطب أمي فلو تم الأمر لكنت أنا أنت، فقال هذه والله رحم ماسة.
وتعرض رجل لهشام وادعى أنه أخوه، فسأله من أين ذلك؟ قال من الأم فأمر بأن يعطى درهما، فقال: لا يعطى مثلك درهما، فقال: لو قسمت ما في بيت المال على القرابة التي ادعيتها لم ينلك إلا دون ذلك.
وقال ابن مقرع في زياد:
وأشهد أن آلك في قريش ... كآل السقب من ولد الحمار
وفي شعر آخر:
كآل السقب من آل النّعام(1/443)
الحدّ السادس في الشكر والمدح والحمد والذم والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية والمرض
(1) فمما جاء في الشكر
حقيقة الشّكر
قيل: الشكر ثلاثة: شكر لمن فوقك بالطاعة قال الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً
«1» ، ولمن فوقك بالإفضال قال الله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
«2» ، ولنظيرك بالمكافأة «3» قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها
«4» .
وقيل: الشكر ثلاث منازل، ضمير القلب وثناء اللسان والمكافأة بالفعل. وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكر.
إيجاب الشكر
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان عليه يد فليكافأ عليها فإن لم يفعل فليثنين عليه فإن لم يفعل فقد كفر النعمة. وقيل: إذا قصرت يدك بالمكافأة فليطل لسانك بالشكر.
قال شاعر:
أعليّ لوم إن مدحت معاشرا ... خطبوا إلى المدح بالأموال «5»
يتزحزحون إذا رأوني مقبلا ... عن كلّ متكامن الإجلال
ذمّ الكفران
خطب نصر بن سيار فقال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم من أنعم على قوم فلم يشكروه فدعا الله(1/444)
عليهم استجيب له فيهم، اللهم إني قد أحسنت إلى آل سام فلم يشكروه اللهم فاذقهم حر الحديد فما دار عليهم الحول حتى قتلوا جميعا. وقال الله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
«1» إذا قلّ الشكر حسن المن. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله قاطعي سبل المعروف فقيل: من هم؟ قال: من أزهد في المعروف لكفران النعمة.
الحثّ على استزادة النّعمة وارتباطها بالشكر
قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
«2» وقال عمر رضي الله عنه: أهل الشكر في مزيد من الله تعالى لهذه الآية، قيل: لا زوال للنعمة إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت.
الشكر نسيم النعم، النعمة وحشية فاشكلوها بالشكر.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أوطد الناس نعمة أشدهم شكرا، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنه لا زوال للنعمة إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت وإذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة.
وقال ابن المقفع: استوثقوا عز النعم بالشكر. وقيل: النعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت. قال ابن سقلاب: رأيت البحتري فقلت ما خبرك فأنشد بديهة:
يزيد تفضّلا وأزيد شكرا ... وذلك دأبه أبدا ودأبي
الحثّ عن الإسداء إلى من لا يشكر
قال عمرو بن مسعدة قيل: لا تصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من امتاعه لك بشكر لسانه وفوائد عمله. وقيل: اصنع المعروف إلى من يشكره ويذكره واطلبه ممن ينساه.
من تكفّل لمسترفده بشكره
قال دعبل:
لأشكرنّ لنوح فضل نعمته ... شكرا تصادر عنه ألسن العرب
وقال البحتري:
فإن أنا لم أشكرك نعماك جاهدا ... فلا نلت نعمى بعدها توجب الشّكرا
وقال عمارة بن عقيل:
فلأشكرنّك بالذي أوليتني ... ما بلّ ريقي للكلام لساني
وقال أبو تمّام:
لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إنّي لفي اللؤم أحظى منك في الكرم(1/445)
ولبعض المتأخرين:
لأملأنّ لسان الشّكر فيك فقد ... أطلقته بفعال ملؤه كرم
من لم يردعه خوفه عن شكر المحسن إليه
بعث المنصور إلى شيخ من بطانة هشام فاستحضره وسأله عن تدبير هشام وأحواله، فأقبل الشيخ يقول: فعل رحمه الله، وقال: يوم كذا رحمه الله، فقال المنصور قبّحك الله أتطأ بساطى وتترحّم على عدوّي، فقال الشيخ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلّا غاسلي، فقال المنصور: ارجع إلى حديثك فإني أشهد أنك غرس شريف وابن حرة.
ولما قتل مسلمة بن عبد الملك يزيد بن المهلب أمر بأن يحضر الشعراء ليقولوا في ذلك، فلم يألوا أن ذكروه بأقبح ما قدروا عليه ما خلا رجلا من بني دامر فإنه قال: لا أذم رجلا لا أملك ربعا ولا مالا ولا أثاثا إلا منه ولو قطعت إربا إربا، ولقد رثيته بأحسن ما يرثى به رجل، فأنشد أبياتا رائعة فجزاه سليمان خيرا، وقال: إذا اصطنع فليصطنع مثل هذا.
المظهر عجزه عن شكر المنعم عليه
قال أبو الوفاء:
أيادي لا أستطيع كنه صفاتها ... ولو أن أعضائي جميعا تكلّم
وقال بعضهم:
شكري لا يقع من نعمه المتظاهره ... موقع النقطة من الدائره
وقال شاعر:
ولو أنّ لي في كلّ منبت شعرة ... لسانا يبثّ الشكر فيك لقصّرا
وقال آخر:
وأسكتتي نعمى كأنّي مفحم ... ولم أر مثلي مفحما وهو مقول «1»
وقال آخر:
أيادي منهم ليس يبلغها الشّكر
وقال الغسّاني:
أثقلت بالشّكر كلّ عاف ... فراقب الله في الرّقاب «2»
وقال آخر:
ما زلت تحسن ثمّ تحسن عائدا ... وأعود شاكر نعمة فتعود
فتزيدني نعما وأشكر جاهدا ... فكذاك نحن تزيدني وأزيد(1/446)
وقال آخر:
فإن يك أربى عفو شكرك عن يدي ... أناس فقد أربى نداه على شكري «1»
المستنكف آلاء معطيه عجزا عن شكره
وقال المتنبّي:
ولم نملل تفقدك الموالي ... ولم نذمم أياديك الجساما
ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره الغماما
وقال محمد بن أبي عمران:
رويدك لا تعنف عليّ واعفني ... على حسب أقضي ما أطيق من الشكر
وقد أجاد أبو نواس في هذا المعنى:
أنت امرؤ جلّلتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
لا تسدينّ إليّ عارفة ... حتّى أقوم بشكر ما سلفا «2»
وقد أبدع البحتري في هذا المعنى، حيث يقول:
أخجلتني بندى يدي وسوّدت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالجود حتّى إنّنّي ... متخوّف أن لا يكون لقاء
وله أيضا:
أيها أبا الفضل شكري منك في نصب ... أقصّر فمالي في جدواك من أرب «3»
لا أقبل الدّهر نيلا لا يقوم له ... شكري ولو كان مسديه إلى أبي
وقال العثماني في الصاحب:
وفدنا لنشكر كافي الكفاة ... ونسأله الكفّ عن برّنا «4»
فقال العلوي قد كفيت فإن الصاحب صار لا يعطي شيئا.
من لا يخفي أياديه
أياد تتضوع ونعم تسطع وآلاء تتطلع.
قال الشمردلي:
أياديك لا تخفى مواقع صوبها ... فتعفو إذا ما ضيّع الحمد والشكر
وهل تستطيع الأرض من بعد ما انطوت ... على ريّها إنكار ما فعل القطر(1/447)
وقال نصيب:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «1»
وقال آخر:
هب الروض لا يثني على الغيث نشره ... أمنظره تخفى مآثره الحسنا
وقال أبو الحسين الحسني:
وكيف بكفراني صنائعه التي ... إذا جحدت يوما أقرّ بها جلدي
ذكر الحال بأنّها منبئة عن المقال
في المثل: لسان الحال أفصح من لسان الشكر. وقال الجاحظ: نحن نزخرف باللسان والناس يقضون بالعيان وفي أمرنا أثر ينطق عنا ويتكلم إذا سكتنا.
وقال الموسوي:
وإذا سكتّ فإنّ أنطق من فمي ... عنّي يد المعروف والإحسان
المسلف شكره قبل النّعم
وقال محمد بن عمران:
شكرتك قبل الخير أن كنت واثقا ... بأني بعد الخير لا شكّ شاكر
عتبك من شكرته ولما يستوجب
وقال مسلم:
فما من يد قدمتها كنت مثنيا ... عليك ولكنّي هززتك للمجد
وإن شئت ألقيت التفاضل بيننا ... وقلنا جميلا واقتصرنا على الحمد
وقال آخر:
وشكر الفتى من غير عرف ولا يد ... ولا منّة توليه هزة عاتب «2»
وقال الصاحب:
وإذا الصديق أدام شكري للّتي ... لم آتها إلّا على التّقدير
أيقنت أن العتب باطن أمره ... فسكّت محتشما على التقصير
وقال آخر:
إذا ما المدح صار بلا ثواب ... من الممدوح كان هو الهجاء(1/448)
وقال دعبل:
لا يقبلون الشكر ما لم ينعموا ... نعما يكون لها الثناء تبيعا
وقيل: من رضي بالثناء قبل الاستحقاق تبين ضعف عقله.
الحثّ على الشكر بقدر الاستحقاق
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه الثناء من غير الاستحقاق ملق «1» والتقصير عن الاستحقاق عيّ وحسد. وقال رجل لابن الأعرابي: إن نصيبا يقول إنما تمدح الرجال على قد ثوابها، فقال: إن العرب تقول: على قدر ريحكم تمطرون.
شكر من همّ بإحسان وإن لم يفعله
من لم يشكر على حسن النية على إسداء العطية، وكتب الصاحب: إن شكرت فاشكر النية لا العطية، قال شاعر:
لأشكرنّك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا أذمّك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
ثقل الحمد وتفضيله على الرفد
قال محمود:
فما بلغت أيدي المنيلين بسطة ... من الطول إلا بسطة الشكر أطول
ولا رجحت في الوزن يوما صنيعة ... على المرء إلا منّة الشكر أثقل
وقال آخر:
تبهج لي بعرف تشتريه ... بشكرك أنه بالشكر غال
وقال أبو تمّام:
والحمد شهد لا ترى مشتاره ... يجنيه إلا من نقيع الحنظل «2»
غل لحامله ويحسبه الذي ... لم يوه عاتقه خفيف المحمل «3»
ومن باب ثقل الشكر ما روى عن بعض الصالحين، وقد قيل له: مالك لا تطلب الدنيا، فقال: من خاف السؤال عن الشكر طابت نفسه عن المال.
المستغني عن رفد من استغنى عن الشّكر
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
لئن طبت نفسا عن ثنائي إنني ... لأطيب نفسا عن نداك على عسري(1/449)
وقال أبو العتاهية:
ما فاتني خير امرىء وضعت ... عنّي يداه مؤونة الشّكر
ذمّ من كفر نعمة
قال الله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ
«1» وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
«2» وقيل:
من لم يشكر الناس لم يشكره الله، وأخذه البحتري فقال:
فمن لا يؤدي شكر نعمة خلّه ... فأنّى يؤدي شكر نعمة ربّه
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة قال لعبد هل شكرت فلانا فيقول:
يا رب علمت أنك المنعم فشكرتك، فيقول الله تعالى: لم تشكرني إذا لم تشكر من أجريت ذلك على يده. وقيل: إذا وقع الكفر وجب المن.
وقال الخبزارزي:
من لم يلاق كرامات الرجال له ... بالشكر أصبح في طرق الهوان لقى «3»
وقال أبو تمّام:
شر الأوائل والأواخر ذمّة ... لم تصطنع وصنيعة لم تشكر
وقيل: هو أكثر من ناشرة، وكان قد أخذه همام بن مرة من أمه وأرادت أن تئده فلما بلغ سعى في قتل همام، وقيل: من لم يحمد صاحبه على حسن العطية كيف يحمد على حسن النية.
(2) ومما جاء في المدح ومستحقيه والهجو وذويه
وصف الثناء بالبقاء والترغيب فيه
فسر قول الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
«4» بأنه الثناء الحسن، وقال تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ
«5» أي يقال له هذا أطول الناس عمرا أعمهم بالخير ذكرا، في الثناء الباقي على الدهر خلف من نفاد العمر. وقال الأسدي:
وإنّي أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أبيت ولم ألم(1/450)
وقال آخر:
وبقاء الذكر في الأحياء للأموات عمر وقال الروم: ما فني من بقي ذكره. وقيل لبزرجمهر حين كان يقتل: تكلم بكلام نذكره، فقال: الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن تكون حديثا حسنا فافعل.
قال شاعر في معناه:
وكن أحدوثة حسنت فإني ... رأيت الناس كلّهم حديثا
وقال آخر:
أرى النّاس أحدوثة ... فكوني حديثا حسن
ولما جعل ابن الزيات في التنور، قال له خادمه: يا سيدي قد صرت إلى ما صرت وليس لك حامد. قال: وما نفع البرامكة صنيعهم. قال: ذكرك لهم الساعة. فقال:
صدقت وقال:
حب الثناء طبيعة الإنسان
التحذير من ألسنة الشعراء وذمّهم
قيل: اتقوا ألسنة الشعراء فإنها سمة لائحة، وأنشد:
وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله
إذا وضعت مكاويهم عليها ... وإن كذبوا فليس لهن حيله
ومن عقل الفتى أن يتقيهم ... ويدفعهم مدافعة جميلة
فضل الشكر على الوفر والحمد على الرّفد
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة هرم: ما وهب أبوك لزهير فقالت أموالا فنيت وأثوابا بليت وأشياء انتسيت، فقال عمر رضي الله عنه: لكن ما أعطاكموه زهير لا يفنى ولا ينسى وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر أن كل عقيلة يأتي عليه الدهر فيخلق أثره ويميت ذكره إلا ما رسخ في القلوب من الذكر الحسن يتوارثه الأعقاب.
التخويف من فعل يورث قبح الذكر
قال بعضهم: فلان حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد.
قال عوف بن محلم:
فتى يتّقي أن يخدش الذمّ عرضه ... ولا يتّقي حد السيوف البواتر
وقال أبو لحاد:
حذار الأحاديث التي يوم غيّها ... عقدن بأعناق الرجال المخازيا «1»(1/451)
حثّ محبّ الحمد على أسداء النعم
قال حكيم: من أحب الثناء فليصبر على بذل العطاء وليوطن نفسه على الحقوق المرة على احتمال المؤونة.
وقال شاعر:
ما أعلم النّاس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتي على النّشب «1»
وقال:
أي أحدوثة تحب فكنها
فضل استقبال الإنسان بممادحه
خياركم من ملئت مسامعه من حسن الثناء وهو يسمع وشراركم من ملئت مسامعه من قبح الثناء وهو يحذر. وقال خالد بن سالم دخلت عليّ أسامة بن زيد فأثنى عليّ ثناء حسنا، ثم قال لي: إنما حملني على أن أمدحك وجهك لأني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: إذا مدح الإنسان في وجهه ربا الإيمان في قلبه، وقال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أحب أن أمدح، فقال: وما عليك أن تعيش حميدا وتموت فقيدا. وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ما أحد أحب إليه المدح من الله عزّ وجلّ فقد مدح نفسه وأمر العباد بمدحه.
كراهية ذلك
سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يثني على آخر فقال: قطعت مطاه «2» لو سمع ما أفلح. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المدح ذبح. وقيل إن الإطراء يدعو إلى الغفلة. ولما جرح عمر رضي الله تعالى عنه أثنى عليه الناس، فقال: المغرور من غررتموه لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع. وقيل: استحياء الكريم من المدح أكثر من استحياء اللئيم من الذم. وأثنى رجل على هشام بن عبد الملك فقال: إنا نكره المدح، فقال: لست أمدحك ولكني أحمد الله فيك.
استحسان المدح بين الإخوان واستقباحه
قيل: إذا قدم الإخاء سمج الثناء.
قال كشاجم:
ومستهجن مدحي له إن تأكدت ... لنا عقد الإخلاص والحقّ يمدح
وما بي الذي في القلب إلا تبيّنا ... وكلّ إناء بالذي فيه يرشح «3»(1/452)
التحذير ممّن يمدحك في وجهك تصنّعا
قيل: أعوذ بالله من صديق يطري وجليس يغري. وكان رجل يكثر الثناء على أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وعلم من قلبه خلاف قوله، فقال له: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك. قال الجاحظ: شر الشكر ثناء المواجه لك المسرف في مدحك وخيره ثناء الغائب عنك المقتصد في وصفك.
وصف العتابي رجلا بالمداهنة، فقال: ذلك إن وجد مادحا مدح وإن وجد قادحا قدح وإن استودع سرا افتضح.
قال أبو فراس:
ولا تقبلنّ القول من كل قائل ... سأرضيك مرأى لست أرضيك مسمعا
التحذير ممّن يتجاوز الحدّ في مدحك
قيل: كن ممن أفرط في تزكيتك أحذر ممن أفرط في الزراية بك. وقيل: من مدح الرجل بما ليس فيه فقد بالغ في ذمه. وفي المثل: من حفنا أو رفنا فليقتصد. وقيل: من أحب أن يمدح بما ليس فيه استهدف للسخرية.
من وضع نفسه وكره الثناء
لما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطب فقال: إني وليتكم ولست بخيركم فلما بلغ الحسن قوله قال: بلى ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقال الفضيل: لو شممتم رائحة الذنوب مني ما قربتموني، وأثنى على زاهد فقال: لو عرفت مني ما عرفت من نفسي لأبغضتني.
قال المتنبيّ:
يحدّث عن فضله مكرها ... كأنّ له منه قلبا حسودا «1»
ما يقول الفاضل عند مدح الناس له
كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول إذا مدح: اللهم أنت أعلم مني بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون. وقيل لأعرابي: ما أحسن الثناء عليك، فقال: بلاء الله عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا وذنوبي إلى الله أكثر من عيب الذامين وإن أكثروا.
النهي عن المدح قبل الاختبار
قيل: لا تهرف قبل أن تعرف. وقيل: لا تحمدنّ أمة عام شرائها ولا حرة قبل بنائها.
وقال رجل لعمر رضي الله عنه: إن فلانا رجل صدق فقال: هل سافرت معه أو ائتمنته، قال(1/453)
لا. فقال: إذا لا تمدحه فلا علم لك به لعلك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد «1» .
عتب من يمدح نفسه
قيل: خطب معاوية خطبة حسنة فقال: هل من خلل فقال رجل: من عرض الناس خلل كخلل المنخل فاستدعاه، وقال: ما ذاك الخلل فقال: إعجابك به ومدحك له. وقيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا قال مدح الرجل نفسه.
وقال معاوية لرجل: من سيد قومك فقال: أنا، فقال له: لو كنت كذلك لم تقله.
وسئل الشاعر الأهوازي كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت والله أظرف الناس وأشعر الناس وآدب الناس، فقال السائل: اسكت حتى يقول الناس ذلك، فقال: أنا منذ ثلاثين سنة انتظر الناس وليسوا يقولون ومدح أعرابي نفسه فعوتب في ذلك، فقال: أكله إليكم إذا لا تقولون أبدا.
الرخصة في ذلك
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أنا سيد العرب ولا فخر. وحكى الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام أنه قال: إني حفيظ عليم ولم يستقبح ذلك من الشعراء، إذ قالوه نظما.
عذر من يحوج إلى مدح نفسه ومن عرّض بذلك
قد أحسن ابن الرومي في ذلك حيث يقول:
وعزيز عليّ مدحي لنفسي ... غير أني جشّمته للدّلاله «2»
وهو عيب يكاد يسقط فيه ... كلّ حرّ يريد يظهر حاله
ووصف للمنصور مشير بن ذكوان فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل قال له: أعالم أنت؟ فقال: أكره أن أقول نعم وفيه ما فيه أو أقول لا فأكون جاهلا، فأعجب المنصور بجوابه وألزمه المهدي. وسأل المأمون عبد الله بن طاهر عن ابنه، فقال ابني: إن مدحته ذممته وإن ذممته ظلمته إلا أنه نعم الخلف لسيده من عبده إذا اخترمته منيته.
من عجز الشعراء عن استيعاب مدحه
قال المالكي:
جهدت ولم أبلغ مداك بمدحة ... وليس مع التقصير عندي سوى العذر
وفي شعر آخر:
وليس على من كان مجتهدا عتب(1/454)
وقال آخر:
يزيد على شأوي زياد وجرول ... وقد غودر ابن العبد في نظمه عبدي
وقال أشجع:
مدحناهمّ فلم ندرك بمدح ... مآثرهم ولم نترك مقالا
وقال المتنبيّ:
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل «1»
وقال ابن الحجّاج:
هو البحر إن حدثت عن معجزاته ... ضعفت عن استغراق تلك العجائب
وإن رام شعري بأن يحيط بوصفه ... أحاط بشعري العجز من كلّ جانب
من كثرت ممادحه سهل الشعر على مادحه
قيل للفرزدق: أحسن الكميت في الهاشميات، فقال: وجد آجرا وجصّا فبنى. كتب بعضهم: فتحت شيمه على المداح مستغلقات الكلام. وقال آخر: جود آل المهلب تراهم أهدافا للمديح.
قال أحمد بن أبي طاهر:
إذا نحن حكنا الشعر فيك تسهّلت ... علينا معانيه وذلّت صعابها
فما انتظمت إلا عليك عقودها ... وما انتشرت إلا عليك ثيابها
وقال ابن الرومي:
كرمتم فجاش المفحمون لمدحكم ... إذا رجزوا فيكم أبيتم فقصّدوا «2»
كما أزهرت جنّات عدن وأثمرت ... فأضحت وعجم الطير فيها تغرّد
وله:
عجبت لمن يهديه للشعر مدحكم ... وتنطقه أيامكم وهو مفحم
وقال نصيب الأصغر:
ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... ترك النّاس كلّهم شعراء
فأجمعوا على جودته، وأنه لا عيب فيه إلا أنه منفرد. ولعابدة المهلبيّة:
فيا يوما أديل الموت فيه ... وقال السّيف للشعراء قولوا(1/455)
من أحيا بأفضاله طريقة الشعر.
قال أبو تمّام:
ملك إذا ما الشعر حار ببلدة ... كان الطريق لطرفه المتحيّر «1»
وله:
وحياة القريض إحياؤك الجو ... د فان مات الجود مات القريض
وقال المتنبّي:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي
وقالت عابدة المهلبية:
إليّ إليّ أيتها القوافي ... سيغلي مهرك الملك الجليل
ويروى للخوارزمي:
خذي ثأر الكساد من اللّيالي ... لكل صناعة يوما مديل «2»
وقيل لذي الرمّة: لم خصصت بلالا بمدحك؟ قال: لأنه وطأ مضجعي وأكرم مجلسي فاستولى بذلك على شكري ومدحي.
المستفاد منه ما يمدح به
قال أحمد بن إسماعيل:
وإني وإن أحسنت في القول مرة ... فمنك ومن إحسانك امتارها جسمي «3»
وقال آخر:
تعلّمت ممّا قلته وفعلته ... فأهديت حلوا من جناي لغارس
وقال ابن طباطبا:
لا تنكرنّ إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه
والله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
وقال آخر:
إن جدّ معنى فمن جدواه معتصر ... أو جلّ لفظا فمن علياه مهتصر «4»
المعني بكلّ مدح حسن
متى ما أقل في آخر الدهر مدحة ... فما هي إلا في ليالي المكرم(1/456)
قال المتنبيّ:
فظنّوني مدحتهم كثيرا ... وأنت بما مدحتهم مرادي
من يليق به مدحه
قال المتنبّي:
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
وقال ابن الرومي:
خذها هديا ولم أنكحكها عزبا ... يا ابن الوزير وكم أنكحت من عزب
وقال عليّ بن عبد العزيز:
وأرى المديح إذا عداك نقيصة ... فأعافه ولو أنّه في حاتم «1»
فإذا امتدحت سواك قال الشعر لي ... لم ترع حقّي إذ أبحت محارمي
من يستطاب مدحه
قال أبو تمّام:
عذبت ممادحه بأفواه الورى ... فثناؤه ينتاب كلّ مكان «2»
وقال المتنبّي:
ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسر تلقاه معدم
المجمع على مدحه
ذكر أعرابي رجلا فقال: كأن الألسن والقلوب ريضت له فما تعقد إلا على ودّه ولا تنطق إلّا بحمده. وقيل: غاية المدح أن يمدحك من لا معرفة له بك ضرورة إلى مدحك، وأن يسلفك حسن الثناء من عسى أن لا يصل منك إلى نفع.
وقال البحتري:
وأرى الخلق مجمعين على فضلك ... من بين سيّد ومسود
عرف الجاهلون فضلك با ... لعلم وقال الجهال بالتقليد
وقال ابن أبي طاهر:
وما أنا في شكري عليّا بواحد ... ولكنّه في الفضل والجود واحد
من لا يجد أحد عن مدحه محيصا
قال أبو عمر: وغاية المدح أن يمدحك من لا يريد مدحك وغاية الذم أن يذمك من(1/457)
لا يريد ذمك، وكتب بعضهم: الجاحد فضلك كمن سمى النهار ليلا والشمس ظلا.
قال ابن الرومي:
يا من إذا قلت فيه صالحة ... عند عدو أقرّ واعترفا
وقال آخر:
ليس يستطيع أن يقول المعادي ... فيك إلا الذي يقول الموالي
وقال السلامي:
فما عثرت لكم تهم الأعادي ... على خلق ولا خلق قبيح
من مدحه صدق غير منحول
قال الأحوص:
وما أثني من خير عليك فإنّه ... هو الحق معروفا كما عرف الفجر
وقال ابن الرومي:
إذا امتدحوا لم ينحلوا مجد غيرهم ... وهل ينحل الأطواق ورق الحمائم «1»
وكتب بعضهم: مما يبسط لسان مادحك أمنه من تحمل الإثم فيه وتكذيب السامعين.
من يتزيّن بممادحه المدح والمدّاح
قال ابن الرومي:
أنت زنت القلائد الزّهر قدما ... ضعف ما زانت القلائد جيدك
وقال الرفاء:
إذا القوافي بذكره اشتملت ... عطّرها ذكره وحلّاها
وقال آخر:
وتزينت بصفاته المدح
وقال آخر:
على تطيب بريّاها مدائحنا ... كالمسك تأخذ منه الريح أعرافا «2»
المستغني عن المدح لكثرة فضله
كتب بعضهم: إذا أنا تعاطيت مدحك فكالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر وهل يخفى ذلك على الناظر.(1/458)
قال البحتري:
جلّ عن مذهب المديح فقد ... كاد يكون المديح فيه هجاء «1»
وقال المتنبّي:
تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه ... بأكثر ما يثنى عليه يعاب
من ذكر أن أحدا لا يستغني عن الشّكر
وقال شاعر:
فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزّة ملك وارتفاع مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروا لي أيّها الثقلان «2»
مدحك محسنا لم ينلك إحسانه
قال أبو تمّام:
وحسبي أن أطري الحسام إذا مضى ... وإن كان يوم الروع غيري حامله «3»
وقال عمارة بن عقيل:
أرى الناس طرّا حامدين لخالد ... وما كلّهم أفضت إليه صنائعه
ولن يترك الأقوام أن يحمدوا الفتى ... إذا كرمت أعراقه وطبائعه
المعتذر إلى رئيس لمدحه غيره
كان ابن الزيات عاتب أبا تمام في مدحه سواه فاعتذر إليه بقوله:
أما القوافي فقد عضلت عذرتها ... فما يصاب دم منها ولا سلب «4»
ولو منعت من الأكفاء أيّمها ... ولم يكن لك في إظهارها أرب «5»
كانت بنات نصيب حين ضنّ بها ... عن العوالي ولم تحفل بها العرب «6»
وقال بعض الأكابر لأبي هفان مالك لا تمدحني، فقال:
لسان الشكر تنطقه العطايا ... ويخرس عند منقطع النوال «7»
تبكيت من يذمّ من لا يستحق الذم
قام رجل في أيام صفّين إلى معاوية رضي الله عنه، فقال: اصطنعني فقد قصدتك من(1/459)
عند أجبن الناس وأبخلهم وألكنهم، فقال: من الذي تعنيه؟ قال: علي بن أبي طالب.
فقال: كذبت يا فاجر. أما الجبن فلم يك قط فيه وأما البخل فلو كان له بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه، وأما اللكن فما رأيت أحدا يخطب ليس محمدا صلّى الله عليه وسلم أحسن من عليّ إذا خطب. قم قبّحك الله ومحا اسمه من الديوان.
وقف رجل على شيرويه فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يديك وملّكك ما كنت أحقّ به منه وأراحنا من عتوّه ونكده، فقال للحاجب: احمله إليّ. فقال له: كم كان رزقك؟ قال: ألفان، قال: والآن، قال: ما زيد شيء. قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه وإنما ابتداء نعمتك منه ولم نزد لك. وأمر أن ينزع لسانه من قفاه.
بخيل راغب في مدح بلا صلة
قال الغفالي:
عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن ... لكنّه يبتغي حمدا بمجّان
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... حتّى يروا عنده آثار إحسان
وقال علي بن الجهم:
أردت شكرا بلا برّ ومرزية ... لقد سلكت طريقا غير مسلوك
وقال البحتري:
خطب المديح فقلت خلّ طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه
أخذه أبو تمّام حيث يقول:
تزحزحي عن طريق المجد يا مضر
عذر من يغتاب مسيئا
قال المتوكل لأبي العيناء: إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا، وذلك دأب الله عزّ وجلّ رضي عن عبد فمدحه. وقال: نعم العبد أنه أواب، وغضب على آخر فزناه فقال: ويلك وكيف زناه؟ قال: إنه قال في الوليد عتل بعد ذلك زنيم، والزنيم هو الداخل في القوم وليس منهم، ثم أنشد:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا ... ولم أذمم الحيس اللئيم المذمّما «1»
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما
وقال ابن أبي عيينة:
أنا ما عشت عليه ... أسوأ النّاس ثناء(1/460)
إنّ من كان مسيئا ... لحقيق أن يساء
تذمّم من مدح لئيما فحرمه
قال أعرابي وقد مدح رجلا فخيّبه: إن فلانا تعدّى بلؤمه من تسمى باسمه ولئن خيبني فلرب قافية قد ضاعت في طلب كرمي.
ومدح بشار المهدي بشعر فخيبه، فقيل له: لعلك لم تستجد المدح، فقال: لو مدحت بشعري ذلك الدهر لم أخش صرفه على حر ولكن أكذب في العمل وأخيب في الأمل، وأنشد:
إنّي مدحتك كاذبا فأثبتني ... لما مدحتك ما يثاب الكاذب
قال ابن الرومي وقد هجا كبيرا أمل منه كثيرا فأجازه حقيرا:
أتيتك مادحا فهجوت شعري ... وكانت هفوة منّي وغلطه
لذلك قيل في مثل سخيف ... جزاء مقبّل الوجعاء ضرطه
ولابن ربذة:
مدحت الغالبيّ بمدح صدق ... فقابل مدحتي بجريب حنطه
فإن لاقيته يا صاح يوما ... فحيّ سباله عنّي بضرطه «1»
قال أبو هشام الباهلي:
لكلّ أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهليّ ثواب
مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب
ومدح أعرابي رجلا فلم يعطه، فقال المادح: إنه أباحني عرضه فتنزهت له.
وقال أبو الهول:
هززتك للعلى فكبوت عنها ... كبوّ البغل طال به التعنّي «2»
وقال آخر:
ولم ألبسك ثوب الفخر إلا ... وجدتك قد خريت على الطّراز
وقال آخر:
ألا في سبيل الله سعي سعيته ... فمرّ ضياعا لا ثواب ولا يد
فخيبة آمالي وعصيان خالقي ... وكفّارة الزّور الذي كنت أنشد
متى يستحقّ الأجر من ظلّ عاكفا ... على صنم يعنو له ثمّ يسجد «3»(1/461)
ومدح مخنث رجلا فذمه الرجل، فالتفت إلى القوم وقال أكذب عليه ويكذب عليّ، ليعلم أينا أكذب.
من ردّ إليه مدحه
مدح ابن الرومي بعض الكتاب بشعر وتردد إليه طالبا جائزته، فدفع شعره إلى غلامه وقال: أمدح به غيري فلست أرغب فيه، فقال:
رددت عليّ شعري بعد مطل ... وقد دنّست ملبسه الجديدا «1»
وقلت امدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرّديدا
وما للحيّ في أكفان ميت ... لبوس بعد ما امتلأت صديدا «2»
من استردّه لمّا حرم الجدوى
قال ابن الرومي:
ردّوا عليّ صحائفا سوّدتها ... فيكم بلا حقّ ولا استحقاق
وله:
إن كنت من جهل حقّي غير معتذر ... وكنت من ردّ مدحي غير متّئب «3»
فأعطني ثمن الطرس الذي كتبت ... فيه القصيدة أو كفّارة الكذب «4»
من لا يليق به المدح
قال البحتري:
خطب المديح فقلت خلّ طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه
وقال منصور بن باذان:
نبت المدائح عن طبائعه ... ولقد يليق بوجهه القذف
وقال سلم الخاسر:
فإن تعطني جرم لأني أمتدحتها ... فما علمت جرم لها مادحا قبلي «5»
ومدح أبو خليفة رجلا فلم يكن منه ما يحب، فقال: لله در الكميت حيث يقول:
وقرّظتكم لو أن تقريظ مادح ... يواري عوارا من أديمكم النغل «6»(1/462)
وقال أبو نواس لما مات جعفر بن يحيى. لا يكون في الدنيا أكرم منه هجوته وقلت فيه:
فلست وإن أطنبت في مدح جعفر ... بأوّل إنسان خرى في ثيابه
فأمر لي بعشرة آلاف درهم وقال اغسل بهذا ثيابك التي خريت فيها.
قال الموسوي:
مدحتهم فاستقبح المدح فيهم ... ألا ربّ عنق لا يليق به العقد
من لا يستحقّ الهجو لخسّته ودناءته
قال أبو مسلم لأصحابه: أي الإعراض أدنأ، فقال بعضهم: عرض بخيل. فقال: رب بخيل لم يكلم عرضه أدنأ الأعراض عرض لم يرتع فيه حمد ولا ذم. وقيل للفرزدق:
وضعت كل قبيلة إلا تيما فقال: لم أجد حسبا فأضعه ولا بناء فأهدمه. وقال ابن مناذر لرجل: مالك أصل فأحقره ولا فرع فأهصره. وقال رجل للنمري: اهجني. قال: إنما يهجو مثلك مثلك، وقال:
إنّي لأكرم نفسي أن أكلّفها ... هجاء جرم وما يهجوهم أحد
ماذا يقول لهم من كان هاجيهم ... لا يبلغ النّاس ما فيهم وإن جهدوا
قال مسلم:
أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح فيك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق جدّك إنه ... جدّ عززت به وأنت ذليل «1»
وقال المتنبّي:
فلو كنت امرأ يهجي هجونا ... ولكن ضاق فتر عن مسير «2»
أخذه من قول الراعي:
لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرّقاع ولكن لست من أحد
من لا يهتزّ لمدح ولا يغتمّ لهجو
قال رجل لحكيم: لا أبالي مدحت أم هجيت، فقال: استرحت من حيث تعب الكرام. وقيل: من لا يبالي سخط الكرام وشكية الأحرار فطوقه سوءة الحمار. وقيل: ليعد ميتا من لم يهتز لمدح ولا يرتمض من ذم.
قال ابن الرومي:
فما يرتاح للمدح ... ولا يرتاح للذّم(1/463)
وله:
لا يبالي الشتم عرض ... كلّه شتم وذمّ
وقال إبراهيم بن المدبر:
أحقّ النّاس كلّهم بعيب ... مسيء لا يبالي أن يعابا
وقال أبو نواس، وقد تبجح بقلة مبالاته وبما يقال فيه، ويعني بذلك في باب تعاطيه الخسارة:
جريت مع الصّبا طلق الجموح ... وهان عليّ مأثور القبيح
من يشرّف بالهجو
قال أبو نواس:
أصبح فضل ظاهر التّيه ... وذاك مذ صرت أهاجيه
كم بين فضل منذ هاجيته ... وبينه قبل هجائيه
من يصدق هاجيه ويكذب مادحه
قال مثقال:
ما قلت فيك هجاء خلته كذبا ... إلا بدت لك سوآت تحقّقه
وقال ابن الرومي:
خير ما فيهم ولا خير فيهم ... أنهم غير آثمي المغتاب «1»
وقال منصور بن باذان:
أبا دلف يا أكذب النّاس كلّهم ... سواي فإنّي في مديحك أكذب
ونظر رجل إلى أبي هفان يحدث آخر فقال: فيم تكذبان؟ فقالا: في مدحك.
من لا يأثم هاجيه
ورد في الحديث: اذكروا الفاسق بما فيه. وقيل: لا غيبة للفاسق.
قال عبدان:
وقالوا في الهجاء عليك إثم ... وليس الإثم إلا في المديح
لأنّي إن مدحت مدحت زورا ... وأهجو حين أهجو بالصحيح
المهجوّ بكلّ لسان
ذكر أعرابي قوما، فقال: قد سلخت أقفاؤهم بالهجاء ودبغت جلودهم باللؤم.
لباسهم في الدنيا الملامة وزادهم في الأخرى الندامة.(1/464)
الداعي على هاجيه وعائبه
نظر الفرزدق إلى رجل ذي عمة، فقال:
قبحت العينان تحتّ العمّة
فقال:
بل قبّح الهاجي وناك أمّه
قال البسامي:
من هجاني من البريّة طرّا ... وسعى في مساءتي أو لحاني «1»
فاللواتي عليه حرمهنّ الله ... في سورة النساء زواني
وقال أخو دعبل:
بنيت قافية قيلت تناشدها ... قوم سأترك في أعراضهم ندبا «2»
ناك الذين رووها أمّ قائلها ... وناك قائلها أمّ الذي كتبا
ذمّ قبيح الكلام
قيل: قبيح الكلام سلاح اللئام. وسمع المهلب رجلا يسبّ آخر، فقال: اكفف فو الله لا ينقى فوك من سهكها «3» أبدا. وقال يزيد: إياك وشتم الأعراض فإن الحرّ لا يرضيه من نفسه شين.
النهي عن المشاتمة وذمّ الغالب منهما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: البذاء لؤم وصحبة الأحمق شؤم. وقال ابن عامر: دعوا قذف المحصّنات تسلم لكم الأمهات. وقيل: المبتدىء شاتم نفسه والبادىء أظلم. وشتم رجل حكيما فقال: اسكت فلست أدخل في حرب الغالب فيها شرّ من المغلوب.
وقال أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه: ما تسابّ اثنان إلّا غلب ألأمهما.
قال شاعر:
وإنك قد ساببتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالسّب أحذق «4»
وقيل: ما تسابّ اثنان إلا انحط الأعلى مرتبة الأسفل. وقال حذيفة بن بدر لرجل:
أيسرّك أن تغلب شر الناس، قال: نعم. قال: لن تغلبه حتّى تكون شرا منه.
نازع رجل المهلب فأربى عليه فقيل: لم أمسكت عنه، فقال: كنت إذا أردت إجابته رغبت في غلبة اللئام، وكان إذا سبني تهلل وجهه واستنار لونه وتبجّحت نفسه، فإن ظفر(1/465)
فبفضل القحّة ونبذ المروءة وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء.
الحثّ على قطع مادّة الذمّ بالسّكوت عنه
قيل: من سمع كلمة كرهها فسكت عنها انقطعت، وإلا سمع أكثر منها. وما أحسن ما قال الشاعر:
وتقلق نفس المرء من أجل شتمة ... فيشتم ألفا بعدها ثمّ يصبر
وقيل: إذا سمعت كلمة تؤذيك فتطأطأ لها تتخطاك.
قال شاعر:
كلّما خفت من لئيم جوابا ... فأطلت السّكوت عنه غممته
وشتم الحسن رجل وأكثر، فقال: أما أنت فما أبقيت شيئا وما يعلم الله أكثر.
ذمّ من ينزّه عن سبّه
قيل: ذمّ من كان خاملا إطراء، وشتم رجل آخر فلم يرد عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أرأيت لو نبحك كلب أتنبحه أو رمحك حمار أكنت ترمحه. وقال آخر:
قد ينبح الكلب النّجوما
وقال آخر:
وما كلّ كلب نابح يستفزّني ... ولا كلّما طنّ الذّباب أراع
وقال شاعر:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت منه النّفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا
وقال عليّ بن الجهم:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون «1»
ونحو ذلك ما قال جرير لذي الرمة: هل لك أن تهاجيني؟، فقال: لا، إن حرمك قد هتكتهن الأشعار فما فيهن مرتع.
قال شاعر:
أو كلّما طنّ الذّباب زجرته ... إنّ الذّباب إذا عليّ كريم(1/466)
وقيل لنصيب: ألا تهجو فلانا وقد حرمك، فقال: إنما كان ينبغي أن أهجو نفسي حيث سألته، فقيل: ويحك قد هجوته بأشد هجاء؟ قال أبو علي بن عروس الشيرازي:
ومتى هجيت فقد مدحت لقد غلا ... سوم البعوضة إن رماها الصائد
وقال عبد الله بن خلف:
دناءة عرضك حصن منيع ... يقيك إذا شاء منك الضّبيع «1»
فقل لعدوّك ما تشتهي ... وأنت الرفيع المنيع الوضيع
من لا يخاف لكونه ممتنعا بغيره
قيل: وقف جدي على سطح فمر به ذئب فأقبل الجدي يشتمه، فقال الذئب: لست تشتمني وإنما يشتمني المكان الذي تحصّنت به.
قال منصور بن باذان:
لو كنت أجسر أن أقولا ... لشفيت من نفسي الغليلا
لكن لساني صارم ... ملئت مضاربه فلولا «2»
وقال آخر:
وما جهلت مكان الآمريك بذا ... يا من هويت ولكن في فيّ ماء «3»
إجابة من عابك تعريضا بما عابك به
كتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: لست أعرف طريقا للمعروف أحزن ولا أوعر من طريقه إليك لأنه ينضاف إلى حسب دنيء ولسان بذيء وجهل قد ملك عنانك، فكتب إليه أبو العيناء في أسفل رقعته:
وأنت رعاك الله فينا فإنّما ... مدحت بفضل ضعفه فيك يوجد
فعدّوه أبلغ من الأول.
قال ابن مكرم لأبي العيناء: يا مخنّث، فقال: وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. وقال ابن ثوابة لرجل: يا مأبون، فأنشد:
كلانا يرى الجوزاء يا جمل إن بدت ... ونجم الثريّا والمزار بعيد
وقال رجل لآخر: يا دعيّ، فقال:
عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد(1/467)
وقال رجل لآخر: يا ابن الفاعلة، فقال له ذاك: يا ابن الصالحة، أكذب حتى أكذب، وعلى هذا المعنى قال:
ثالبني عمرو فثالبته ... فأثم المثلوب والثالب
قلت له خيرا وقال الخنى ... كلّ على صاحبه كاذب «1»
وقال رجل لشاعر: إنك تغتاب المحصنات، فقال: إذا لا بأس على عيالك منّي.
تعريضات عن الأجوبة في الذمّ بالنثر والنظم
لما قال كعب الأشتر لزياد الأعجم:
وأقلف صلى بعد ما كان أمة ... يرى ذاك في دين المجوس حلالا
فقال زياد:
لا جزيت أمه خيرا ... فقد أخبرته أني أقلف
ولما قال جرير لابن الرقاع:
يقصر باع العامليّ عن العلا ... ولكنّ أير العامليّ طويل
قال ابن الرقاع:
أأمك كانت أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول
فقال: لم أدر كيف أقول.
ولما قال أرطأة بن سهية للربيع بن قعنب:
لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا ... فما دريت أأنثى أنت أم ذكر
فقال الربيع:
لكن سهية أدرى يوم زرتكم
ومرّ الفرزدق بباب المكاري، فقال:
وكم من هن يا باب ضخم حملته ... على الرجل فوق الأخدريّ المراكب «2»
فقال باب:
قد حملت النوار فيمن حملت
فقال الفرزدق: غلبني والله.
ولما قال مسكين الدارمي:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي ينزل القدر
قالت امرأته: نعم، لأن القدر والنار للجار.(1/468)
ولما قال إبراهيم بن هرمة:
لأمنع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «1»
قال المزبد: صدق ابن الخبيثة فإنه يشتري شاة الأضحية فيذبحها من ساعته. وتبجّح رجل فقال: إن أبي ممّن قال فيهم شاعر:
يقوم القعود إذا أقبلوا
فقال له: صدقت، لأنه كان بين يديه حمل شوك.
من قصد مدحا فاتفق منه هجو
عيب على جرير قوله:
تعرضت تيم لي عمدا لأهجوها ... كما تعرّض لإست الخارىء المدر «2»
فقيل: جعل نفسه إست الخارىء ولو هجى بهذا لكان كثيرا. وقد تقدم في هذا المعنى باب في كتاب الشعر.
التهديد بالهجاء
لما هجا جرير حنيفة بقوله:
إن اليمامة أضحت لا أنيس بها ... إلا حنيفة تفسو في مناحيها
لقيه عطية بن دعبل الحنفي، فقال يا جرير: إنك قد عرفت نصرة الفخم وإن لي سيفا يختصم الجزور فو الله لئن عدت لهجاء قومي لأسيلنه منك بشرطين، فقال: لا أنطق بعد هذا فاعف هذه المرة.
وتهدد الفرزدق رجلا بالهجاء فقال له: قل واصدق فقال: إذا أقول خيرا.
قال أبو القاسم بن أبي العلاء:
دع الفضائح تخفى ... والليث في الغيل رابض
وله:
لا تخرجني من خيسي فتنكرني ... وتؤذي النّاس أحياء وأمواتا «3»
كأنني بك قد ضيّعت موعظتي ... وجئتني نادما والأمر قد فاتا(1/469)
(3) وممّا جاء في الغيبة والنّميمة
حقيقة الغيبة
قال محمد بن عبيدة: الغيبة أن تغتابه إذا أقلع لا أن تغتابه وهو مقيم على فسقه، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس للفاسق غيبة. وقال عليه الصلاة والسلام: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته. وقيل: ما قلته في وجه الرجل ثم تقوله من ورائه فليس بغيبة. وقال بعض الفقهاء: الغيبة أن تذكر الإنسان بما فيه من العيب من غير أن تحوج إليه، وفي ذلك احتراز مما يقول الشاهد عند الحاكم.
ذمّ الغيبة والنميمة وفضل تركهما
قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
«1» فما رضي بأن جعله آكلا لحم أخيه حتى جعله ميتا. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الغيبة أشدّ من الزنا لأن الله تعالى يتوب على الزاني ولا يغفر الغيبة إلا بتحليل صاحبها. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما إياك والغيبة فإنها أدم كلاب النار.
وقال قتيبة لرجل يغتاب آخر: لقد تلمظت بمضغة طالما لفظها الكرام، الغيبة مرعى اللئام وجهد العاجز. وقال المأمون: حسبك من السعاية أن ليس في الدنيا صدق مذموم غيرها.
وقال تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ
«2» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة قتات «3» ، وقال: النميمة تفطر الصائم وتنقض الوضوء، وقال: من قلّ ماله وكثر عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين كان معي يوم القيامة كهاتين. وقال: عذاب القبر من ثلاثة من الغيبة والنميمة والبول. وقيل: الساعي غاش وإن قال: قول المتنصح. وقال ابن أكثم: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على كل ذي نعمة. وقال المأمون لابنه العباس: قلّم أظفارك من جليسك فأخس الناس من دمّى جليسه بظفره، قال ولله در القائل:
لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى جليسي إذا انتشبت يدي «4»
من امتنع أن يجعل مغتابه في حلّ
قال رجل لابن سيرين: قد نلت منك فاجعلني في حلّ، فقال لا أحل ما حرم الله(1/470)
عليك. وقيل للحسن: إن الحجّاج كان يذكرك بسوء، قال: علم ما في نفسي له فنطق وعلمت ما في نفسي له فسكت، وكل امرىء بما كسب رهين.
من سمحت نفسه بأن يجعل في حلّ
كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا خرج يقول: اللهم إني قد تصدّقت بعرضي على عبادك، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك. وقال كثيّر:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت «1»
وقيل لرجل: فلان شتمك واغتابك، فقال: هو في حلّ. فقيل: اتحل من يغتابك وبه يقل ميزانك، فقال: لا أحب أن أثقل ميزاني بأوزار إخواني.
من قلّت مبالاته بمن اغتابه
قيل لفيلسوف: فلان يشتمك بالغيب، فقال: لو ضربني بالسياط في الغيب لم أبال به، قال:
وإنّ الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
قال المتوكل لأبي العيناء: ما بقي أحد إلا اغتابك، فقال:
إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا عليّ لئامها
وقيل للأحنف: فلان اغتابك، فقال:
ربّ من يعيبه امرؤ ... وهو لم يخطر ببالي
قلبه ملآن من غيظي ... وقلبي منه خال
وقيل لأعرابية: فلانة تقع فيك، فقالت: دعوها فشكاتها وسكاتها عندي سواء. وقيل لرجل: فلان يغتابك، فقال دعني يرفضي الله بذلك، فمن أكثرت فيه الوقيعة رفعه الله فإن بني أمية لعنوا عليا على المنابر فما زاده الله إلا رفعة.
وحكي عن ببغا الشاعر البغدادي أنه قيل له: إن فلانا يغتابك، فقال: لا ضير أنه أراد أن يمتحن ودّي. وقيل: لآخر ذلك، فقال:
ولم يمح من نور النبيّ أبو جهل
ذمّ ناقص يغتاب فاضلا
قيل: كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا، وهو يقع في الصحالين.
قال شاعر:
عثيثة تقرض جلدا أملسا(1/471)
وقال المتنبّي:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل
وقال الموسوي:
عادات هذا الدّهر ذمّ مفضل ... وملام مقدام ونقص جواد
وكأنه من قول الآخر:
وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
ونحوه قول الآخر:
إنما الغيبة تلقيح الشّرف
من رمى غيره بعيبه
رمتني بدائها وانسلت عير بجير بجره، نسي بجير خيره. وقيل: أتبصر القذاة في عين أخيك وتدع الجذع المعترض في حلقك.
اغتياب المرء غيره يدلّ على عيبه
قيل: من وجدتموه عيّابا وجدتموه معيبا، لأنه يعيب الناس بفضل عيبه، وفي ذلك قال:
ويأخذ عيب المرء من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب
قال أبو العيناء: ما قطعني أحد كما قطعني المهدي، فإنه قال: بلغني أنك تغتاب الناس، فقلت له: يبطل ما قيل في شغلي بعيبي، فقال: والله ذاك أشد لغيظك على أهل العافية، أعرف الناس بعوار الناس المعور.
تشهّي الغيبة واستطابتها
قال قتيبة لرجل يغتاب آخر: لقد تلمظت بما يعافه الكرام، فقال: لو تلمظت به ما صبرت عنه. وقال رجل لبنيه: إذا اجتمعتم فعليكم حديث أنفسكم ودعوا الاغتياب، فقال أحدهم: نحن نحتاج في هذه السنة إلى كذا وكذا ونفعل ونصنع كذا وكذا، فقد فرغنا من حديثنا فبماذا نشتغل؟ وقيل: الغيبة فاكهة النساك والقرّاء. وقصد رجل ابن عمه مسترفدا لحق له فأحسن إليه فلما عاد سئل فقال: منعني التلذذ بالغيبة والشكوى. ونحوه قول الآخر:
فقضت حاجتي معجلة ... فجعتّني بلذّة الشّكوى
من اغتاب فاغتيب
قيل: من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه، وقيل: بحثك عن عيوب الناس(1/472)
يدعو إلى بحثهم عن عيوبك، وقال آخر:
ومن دعا النّاس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
وقال الكلوشي:
تحللت بالسبّ لما رأيت ... أديمك صحّ ومن سبّ سبّ
فإن لم نجد فيك من مغمز ... سلكنا إليك طريق الكذب
وقال الشطني:
لا تكشفنّ مساوىء النّاس ما ستروا ... فيهتك الله سترا عن مساويكا
النهي عن استماع الغيبة
قال عمرو بن عبيد لرجل يستمع إلى آخر يغتاب: ويلك نزّه أذنك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن النطق به. قال شاعر:
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النّطق به
وقال آخر:
والسامع الذمّ شريك له ... والمطعم المأكول كالآكل
وقال: الفضيل الرجل يقول سبحان الله وأخشى عليه بذلك النار وهو الذي يستمد بذلك الغيبة إذا سمعها وقيل: إذا رأيت من يغتاب الناس فاجهد جهدك أن لا يعرفك، فاشقى الناس به معارفه.
قال إبراهيم بن المهدي:
من نمّ في النّاس لم تؤمن عقاربه ... على الصّديق ولم تؤمن أفاعيه «1»
الممدوح بصيانة مجلسه عن الغيبة
مدح بعضهم رجلا فقال: ينزه مجالسه عن الغيبة ومسامعه عن النميمة.
قال كعب الغنوي:
إذا ما تراآه الرجال تحفّظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب «2»
ومثله قول البهلول:
نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس «3»
الحثّ على التثبّت فيما يسمع من السعاية
وشي برجل إلى بلال فلما أتى به، قال: قد أتاك كتاب من الله في أمرنا فاعمل به،(1/473)
قال الله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
«1» ، فقال: صدقت. وأبلغ ملك عن رجل منكرا فأمر بقتله، فقال: إن قتلتني ومن سعى بي كاذب يعظم وزرك، وإن تركتني وهو صادق قلّ وزرك، وأنت من وراء ما تريد، والعجلة موكل بها الزلل فأمر بإبقائه والفحص عن أحواله.
قال كثيّر:
وإن جاءك الواشون عنّي بكذبة ... فروها ولم يأتوا لها بحويل «2»
فلا تعجلي يا عزّ أن تتبيّني ... بنصح أتى الواشون أم بحبول «3»
من سأل صاحبه أن لا يصغي إلى الساعي
لما أراد عند الملك بن صالح الهاشمي الخروج إلى الشأم استدعى حوائجه من جعفر بن يحيى، فقال: أسألك أن تكون لي كما قال ابن الدّمينة:
فكوني على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألدّ شغوب «4»
فقال له جعفر أكون كما قال الآخر:
وإذا الواشي أتى يسعى بها ... يقع الواشي بما جاء يضرّ
من بكّت الساعي به ودلّ على بطلان قوله
سعى رجل بالليث بن سعد إلى والي مصر فأحضره، فقال: إن رأيت أن تسأله أمرا ائتمنته عليه فخانه أم كذب بقوله فالخائن والكاذب لا يقبل قولهما. ووشى واش إلى زياد بن همام وقال: إنه هجاك فاحضره واعلمه، فقال: كلا. فقال: أخبرني بذلك الثقة، فقال: الثقة لا يكون نماما فأحضر الساعي وجبهه بذلك، فقال:
وأنت امرؤ ما ائتمنتك خاليا ... فخنت وإما قلت قولا بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم
وقال الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: فلان قال فيك كذا، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب فيّ ونزّهني عن الصدق فيه.
من ردّ السعاية على السّاعي وبكّته
كان الفضل بن سهل يبغض السعاة، فإذا أتاه ساع، يقول: إن صدقتنا أبغضناك وإن كذّبتنا عاقبناك وإن استقلتنا أقلناك. ودخل رجل على عبد الملك، فقال: هل من خلوة فأقبل عبد الملك على أصحابه، وقال: إذا شئتم، فقاموا. فقال له عبد الملك: اسمع لا(1/474)
تمدحني في وجهي فإني أعرف بنفسي منك ولا تكذبني فليس لكذوب رأي ولا تسعين بأحد إليّ، فقال الرجل: أأنصرف، قال إذا شئت، فقام وانصرف.
ووقع عبد الله بن طاهر في قصة ساع سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين؟ ورفع رجل قصة إلى أنوشروان أن رجلا من العامة دعاه إلى منزله فأطعمه طعام الخاصة فوقّع في قصته قد أحمدنا فعلك فيما تأتيه وذممنا صاحبك لسوء اختياره لمن يؤاخيه. ووقّع طاهر بن الحسين في رقعة متنصح: قد سمعنا ما كره الله فانصرف لا رحمك الله. ووقّع السفاح في قصة ساع: أنت ظاهر السعاية قليل النكاية. وسعى إلى عبد الملك بن مروان في عبد الحميد فوقّع:
أقلّوا عليه لا أبا لابيكم ... من اللوم أو شدّوا المكان الذي سدّا
وقال الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: ما زال القوم في ثلبك إلى الساعة، فقال: يا أمير المؤمنين لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم، والله وليّ جزائه وعقابك من ورائه فما الذي قلت لهم، قال قلت:
وسعى إليّ بعيب عزّة نسوة ... جعل الإله خدودهنّ نعالها
وقال الموسوي:
وأوطأت أقوال الوشاة أخامصي ... وقد كان سمعي مدرجا للنمائم «1»
قلّة التخلّص من اغتياب النّاس وذمّهم
سأل بعض الأنبياء ربه عزّ وجل أن يدفع عنه ألسنة الناس باغتيابه وذمه، فقال: هذه خصلة لم أجعلها لنفسي فكيف أجلعها لك. وقيل: ليس إلى السلامة من ألسنة الناس سبيل فانظر إلى ما فيه صلاحك فالزمه. قال شاعر:
إذا كنت مليحا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس «2»
ذمّ ناقل الغيبة
قيل: الرواية أحد الشاتمين، وقيل من بلّغك فقد سبك، قال:
مبلغك السوء كباغيه لكا
وقيل لحكيم: فلان عابك بكذا، فقال: لقد لقيتك نفحتني بما استحى الرجل من استقبالي به. وقيل: ما ضرّت كلمة ليس لها مخاطب. ويدخل في هذا الباب قول الشاعر:
وأنت امرؤ ما ائتمنتك خاليا
البيتين وقد تقدما.(1/475)
وكان أبو ضمضم إذا قعد للحكم يقوم بإزائه رجل يعلق نوادره فعلم بذلك أبو ضمضم فرماه يوما بلوح في يده فشجّه، فقال له بعضهم: ما أصاب فقال استرق السمع فاتبعه شهاب ثاقب.
الموصوف بالنّميمة
قال الله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ
. وقيل: فلان أثم من الزهر.
قال ابن الرومي:
أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشيء فيها ظاهرا وهو باطن
وقال آخر:
قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تحوي نواحيها «1»
فصار من بثّ ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشف العين ما فيها
وأنكر بعضهم لمحة جليس له فنسبه إلى النميمة، فقال: ما نطقت ولكن رمقت وربّ عين أنمّ من لسان وطرف، أشد من سيف وأوجع من حتف، وقال الرشيد لأبي عمرو الشفافي: فلان نم بك فقال: يا أمير المؤمنين إن فلانا لو كان بينك وبين الله واسطة لسعى بك إليه. وقال أعرابي: فلان بنميمة منمنمة وسخيمة مسخمة.
قال العباس بن الأحنف:
أناس أمناهم فنمّوا حديثنا ... فلمّا كتمنا السرّ عنهم تقوّلوا
من قول أبي ذهل:
أمنا أناسا كنت قد تأمنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا
وقالوا لنا ما لم نقل ثم أكثروا ... عليّ وراحوا بالذي كنت أكتم
من اغتاب غيره فرآه
اغتاب أعرابي رجلا فالتفت فرآه، فقال: لو كان خيرا ما حضرته. ويقال لمن حضر إذا ذكر غائبا نزه: اذكر الكريم وافرش له اذكر الكلب وهيىء له العصا.
الحثّ على التحرّز ممّا يقتضي الغيبة
قال الحسن رضي الله عنه: من دخل مداخل التهمة لم يكن له أجر الغيبة. وقيل: من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظن واغتابه.(1/476)
من لا يحرّم اغتيابه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: للفاسق غيبة، وقال: اذكروا الفاسق بما فيه. وقال: لا غيبة لثلاثة فاسق مجاهر وإمام جائر ومبتدع فاجر.
نوع من ذلك
روي فيما أظن عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سعى رجلان بمؤمن آل فرعون إليه وقالا إن فلانا لا يقول إنك ربه، فأحضره فرعون وقال للساعيين: من ربكما فقالا:
أنت، وقال للمؤمن: من ربّك فقال: ربّي ربهما، فقال: سعيتما برجل على ديني لأقتله، لأقتلنكما، وأمر بهما فقتلا، فذلك قول الله عز وجل: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ
. جرى بين عتبة بن رؤبة وبين بشار شيء، فقال عتبة:
أتقول لي كذا وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ فقال: أقول لك ذلك ولو كنت من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
(4) وممّا جاء في التحية والأدعية والتهنئة
الحثّ على التحيّة ووصف فضلها
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا التقيتم فابدؤا بالسلام قبل الكلام، ومن بدأ بالكلام فلا تجيبوه وقال صلّى الله عليه وسلم: بلوا أرحامكم ولو بالسلام. وقال بعضهم: بثوا السلام فهو رفع للضغينة بأيسر مؤنة واكتساب أخوة بأهون عطية.
قال شاعر:
كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا ... يزرع الودّ في قلوب الكرام
عنى تحية فقال هدية فلانا وقال رجل لآخر: أبلغ حسنة ومحمل خفيف.
الحثّ على الجواب
روي أن التحية نافلة والجواب فريضة ويدل على ذلك قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها
«1» . ومر رجل بقوم فسلم فلم يردّوا عليه، فقال: يا عجبا ممن خولتهم نافلة فمنعوا عني واجبا. وسلم نصراني على الشعبي فقال: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل: أتقول ذلك لنصراني؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وقال صلّى الله عليه وسلم: أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام.(1/477)
ذمّ من بخل بالتحيّة وعذره
أنشد ثعلب:
ومالك نعمة سلفت إلينا ... فكيف نراك تبخل بالسّلام
وقال كشاجم:
إذا كاتبوا صادقوا في الدعا ... كان دعاءهم مستجاب
وأنشد المبرّد:
إذا لم تجد بجميل الكلام ... فما الذي بعده تبذل؟
وقال آخر:
يا جوادا بالثّراء ... وبخيلا بالدّعاء
فتفضّل يا أخا ... الفضل بتفخيم الثّناء
وسلم آخر على رجل بسوطه فلم يجبه، فقيل له في ذلك، فقال: سلم عليّ بالإيماء فرددت عليه بالضمير:
لقد مرّ عمرو على مجلسي ... فسلّم تسليمة خافيه
لئن تاه عمرو بفضل الغنى ... لقد فضّل الله بالعافيه
وقيل: من بدأ بغيضا بالسلام فهو أبغض منه. وقال ابن المقفع: لا تكوننّ نزر الكلام والسلام ولا تتهافتن بالبشاشة والهشاشة، فإن أحدهما كبر والآخر سخف. وقال الشعبي: انتهت التحية إلى قولهم وبركاته. ولقي رجل أبا العيناء فقال أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك، فقال: هذا العنوان ما هو. وقال المتنبي في عذر تخفيف السلام:
أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... واسكت كيما لا يكون جواب
مواضع التسليم
جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فقال صلّى الله عليه وسلم: إذا أتيتني على هذه الحال فلا تسلم عليّ، فإنك إن فعلت لم أرد عليك وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم المجلس فليسلم، فإن قام والقوم جلوس فليسلم فإن الأولى ليست بأحق من الآخرى. أتى أبو معكم الأسدي النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
يقول أبو معكم صادقا ... عليك السلام أبا القاسم
فقال صلّى الله عليه وسلم: إن عليك السلام تحية الموتى وكذا يقال للميت نحو، عليك سلام الله قيس بن عاصم. ودخل الحسن بن الكناني على عبد الله بن جعفر فأنشد:
عليك السلام أبا جعفر ... ولست بهر لدى المحضر
فقال: أخطأت حييتني بتحية الموتى، وقد أمكنك أن تقول:
سلام عليك أبا جعفر(1/478)
قال:
ألا طرقتنا آخر الليل زينب ... عليك سلام هل لما فات مطلب
فقلت لها حيّيت زينب خدنكم ... تحيّة موتى وهو في الحيّ يشرب
ذمّ تحية من لا نفع لديه
قال شاعر:
وما مرحب إلا كريح تنسّمت ... إذا أنت لم تخلط نوالا بمرحب «1»
وقال آخر:
إذا كان ردّ المرء ليس بزائد ... على مرحبا أو كيف أنت وحالكا
فلم يك إلا كاشرا ومواريا ... فأفّ لودّ ليس إلا كذلكا «2»
التسليم
دخل رجل على أمير المؤمنين كرّم الله وجهه فقال: السلام عليك سلاما تتصل آماله بسمعك أبدا ما بقيت من وليك بطوع قلبه وصادق ودّه، ومن عدوك برغم أنفه وذل خدّه.
في التّلبية
لبيك إذ دعوتني لبّيكا ... أحمد ربّا ساقني إليكا
حمد المصافحة والحثّ عليها
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا لقي المؤمن المؤمن فصافح أحدهما الآخر تناثرت الخطايا بينهما كما يتناثر ورق الشجر. وكان صلّى الله عليه وسلم إذا صافحه إنسان لم ينزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده وقيل: المصافحة تزيد في المودّة.
قال شاعر:
تصافحت الأكفّ وكان أشهى ... إلينا أن تصافحت الخدود
نعيش إذا التقى كفّ وكفّ ... فكيف إذا التقى جيد وجيد
وقال آخر:
وصافحت من لاقيت في البيت غيرها ... وكلّ الهوى منّي لمن لا أصافح
وقال القصاني:
قد أحدث النّاس ظرفا ... أربى على كلّ ظرف
كانوا إذا ما تلاقوا ... تصافحوا بالأكفّ(1/479)
فأحدثوا اليوم لثم ال ... خدود واللثم يشفي
فصرت ألثم خدّي ... هـ من طريق التحفّي «1»
بقية باب حمد المصافحة والحثّ عليها
قيل لرجل من قريش: كيف حالك؟ فقال: حال من يهلك ببقائه ويسقم بصحته ويؤتى من مأمنه. قال الربيع الحاجب لأبي العتاهية: كيف أصبحت؟ فقال:
أصبحت والله في مضيق ... هل من دليل إلى طريق
ولها باب في غير هذا الموضع.
جواب من سئل من الصالحين عن حاله فشكا علّة أو حالة منكرة
قيل لأبي عمرو بن العلاء رضي الله عنه: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت، كما قال الربيع الفزاري:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمضرا «2»
وقيل للحسن بن وهب: قال: أصبحت على النشاط كالّ «3» القريحة صدىء الذهن ميت الخاطر من سوء اختيار الزمان وتغيّر الإخوان. وقيل لمحارب بن دثار، فقال: كما قال الأعشى:
ولكن أراني لا أزال بحادث ... أعادي التي لم تمس عندي وأطرق «4»
وقيل لأبي العالية السامي: كيف أنت؟ فقال: على غير ما يحب الله وغير ما أحب وغير ما يحب إبليس، لأن الله يحب أن أطيعه وأنا أعصيه، وإبليس يحب أن أتعاطى ضروب الخسارة ولست كذلك، وأنا أحب أن يكون لي ثروة وصحة وليس كذلك. وقال أبو حزابة ليزيد بن المهلب: كيف الأمير؟ فقال: كما تحب. فقال: لو كنت كذلك لكنت قائما مقامي وكنت قاعدا محلّك.
الدعاء بالرحب والسّعة
قال رجل للأصمعي: مرحبا وأهلا وسهلا، فقال: أرحب الله بلدك وأهلّ رحلك وسهل أمرك. وقال رجل لخالد بن صفوان: مرحبا بك، فقال: رحب واديك وعزّ ناديك.
الدعاء بإطالة البقاء
قيل: ليس في الدعاء مثل أطال الله لك البقاء وأدام لك العلاء، ومثل ذلك: عش ما شئت كما شئت.(1/480)
وقال المتنبّي:
بقيت بقاء ما تبني فإنّي ... أراه بقاء يذبل أو أبان
وقال آخر:
فلا زالت الشمس التي في سمائه ... مطالعة الشمس التي في لثامه «1»
ولا زال تجتاز البدور بوجهه ... فتعجب من نقصانها وتمامه «2»
وقال عمارة:
فذا العرش زد في عمره من صلاتنا ... وأعمارنا حتّى يطول له العمر
وقد نسب قوم: أطال الله بقاءك وجعلني فداءك إلى الإحالة. وقد روي أن أول من خاطب بذلك أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه.
التفدية
قال ابن بوقة:
أفديك بل أيّام عمري كلّها ... يفدين أيّاما عرفتك فيها
وله:
نفسي فداؤكما وقلت في الورى ... للسيّد المخدوم نفس الخادم «3»
وقال آخر:
بنفسي أنت لا بأبي فإنّي ... رأيت الجود بالآباء لؤما
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: جعلني الله فداء نعلك، فقال:
إذا يطيل الله هوانك
وقال يعقوب بن الربيع:
فلو أنني إذ كان وقت حمامها ... أحكّم في عمري لشاطرتها عمري «4»
فحلّ بنا المقدار في ساعة معا ... فماتت ولا أدري ومتّ ولا تدري
وقال الخوارزمي:
أطال الله أعمار المعالي ... وذاك بأن يطول لك البقاء(1/481)
ولا زالت تمدّ إليك كفّ ... بضاعتها ثناء أو دعاء
وإن رضي الزمان بمثل روحي ... فداء عنك فهي لك الفداء
وقال أبو سعيد الرستمي:
وقاك بنو الدنيا جميعا صروفها ... جميعا فإن الجفن من خدم النّصل
وقال آخر:
فداؤك مالي فهو منك ومهجتي ... فإنّك قد أقررتها في جوانحي «1»
قال إبراهيم الصولي: إن قولهم قدّمني الله قبلك مأخوذ من قول الأقرع بن حابس:
إذا ما أتى يوم يفرّق بيننا ... بموت فكن أنت الذي تتأخّر
وقال منكة الطبيب الهندي ليحيى بن خالد البرمكي: لو أمكنني تخليف الروح عندك لفعلت، وهذا يجوز على سبيل الدعاء له.
الدعاء بصبّحك الله بخير
كانت العرب تتحيا في الجاهلية بقولهم:
صبّحك الله بخير فاخر ... ولحم طير وشراب خازر «2»
قبل طلوع الشمس للمسافر
صبّحك الافلاح بكل خير ونجاح، صبحك الخير وجنّبك الضير وقوّى منك الأير.
وقال رجل لآخر: كيف أصبحت؟ فقال بخير، فقال: هلا قلت: أحمد الله وأستغفره فكان أوله شكرا وآخره عبادة، صبحتك الأنعمة بطيّبات الأطعمة.
الدعاء بكبت العدا والحسّاد والإعاذة من شماتتهما
قال أعرابي: أراك الله في عدّوك ما يعطفك عليه وقالت امرأة لرجل كبت الله كلّ عدو لك إلا نفسك، وإنما أرادت بذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، أعاذك الله تعالى مما يقلق قلب الصديق ويضحك سنّ العدو، أعاذك الله من خيبة الرجاء وشماتة الأعداء وزوال النعمة وفجاءة النقمة.
قال الصاحب لا زال أعداؤه في قل وذل وأمر منحل مضمحل وقال الخوارزمي:
ولا زالت عداك بكلّ أرض ... لهم من سوء ظنّهم نذير
قصير نهارهم خوف طويل ... بهم وطويل عمرهم قصير(1/482)
وقال المتنبّي:
وأراك دهرك ما تحاول في العدى ... حتّى كأنّ صروفها الأقدار «1»
الدعاء ببلوغ الأمل
قال شاعر:
أنالك ربّك ما تأمله ... وحقّ لك الله ما تسأله
قال الموسوي:
ظفرت بما اشتهيت من الليالي ... وأعطيت المراد من الأماني
الدعاء بأن جعل الله له النعم وأدامها عليه
زادك الله كما زاد نابك وأعطاك أكثر مما أعطانا منك، وقال ابن القرية: لا زلت في رحب من البال وثروة من المال في غبطة وسرور وبعد من المكروه والشرور. أعطاك تعالى حتى ترضى وزادك بعد الرضا وتوفر لك من سعته ما لا تهتدي لمسألته ولا يحيط قلبك بمعرفته، وجعل ذلك موصولا بالثواب المدّخر للمحسنين. أنعم الله عليك بما يعجز عنه شكرك ولا أبلاك بما يضيق عنه صدرك، منحكم الله منحة لا تغار ليست بجداء ولا نكراء ولا ذات داء جعل الله نعمك هبة مخلّدة لا عارية مستردة.
قال المتنبّي:
أتمّ سعدك من لقاك أوله ... ولا استردّ هبات منك معطيها
وقال عليّ بن الجهم:
أتم الله نعمته علينا ... فإنّ تمامه نعم علينا
الدعاء بزيادة النعماء والعلاء
قال المتنبّي:
إن كان فيما نراه من حسن ... فيك مزيد فزادك الله «2»
وقال أبو تمّام:
إسمع أقامت في ديارك نعمة ... خضراء ناعمة ترفّ رفيفا «3»
وقالت عنان جارية الناطفي:
نعم إذا النعم انتقلن تخيّمت ... وإذا نفرن عدت عليك ألوفا «4»(1/483)
وقال آخر:
أيا رب زده نعمة وكرامة ... على غيظ أعداء وإرغام حاسد
الدعاء بأن يقيه الله من الفقر ويجعل له سعة من اليسر
جعل الله لك في الخير جدا ولا جعل معيشتك كدّا، أعاذك الله من القنوع والخضوع والخنوع، أعاذك من بطر الغنى ومذلة الفقر، جعل الله لك رزقا واسعا وجعلك به قانعا، وهب الله من غناه ما لا يقدر عليه سواه. قال رجل لمسروق بن الأجدع: أعاذك الله من خشية الفقر وطول الأمل ولا جعلك ردية السفهاء وشينا على الفقهاء.
وقال أعرابي: رزقك الله من غير طلب شديد ولا سفر بعيد، جعلك الله في الرزق حولا لغيرك.
الدعاء بالتّوفيق والإعاذة من الشّرور
فرّغك الله لما له خلقك ولا شغلك بما تكفل به لك. وقال سعيد بن المسيب: مرّ بي صلة بن أشيم فقلت: ادع لي، فقال لي: رغبك الله في ما يبقى وزهدك في ما يفنى أعاذك من هيجان الحرص وسورة الغضب وغلبة الحسد ومخالفة الهدى وسنة الغفلة وإيثار الباطل على الحق، وأعاذك من سوء السيرة واحصاء الصغيرة ومن شماتة الأعداء والفقر إلى غير الاكفاء ومن عيشة في شدة وميتة من غير عدة ومن سوء المآب وحرمان الثواب وحلول العقاب.
وقال أعرابي: أعاذك الله من هول المطلع وضيق المضطجع وبعد المرتجع.
وقال آخر: أعانك الله على الدنيا بالسعة وعلى الآخرة بالمغفرة.
قال المتنبّي:
فلا تنلك الليالي إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النّبع بالغرب «1»
ولا تعزّ عدوا أنت قاهره ... فإنّهنّ يصدن الصّقر بالخرب «2»
وقال ابن الرومي:
فزادكم بالمدح كلّ قصيدة ... ولا قصدتكم بالمراثي القصائد
وقال أبو محمد الخازن:
لا زال ألسنة القريض نواطقا ... تخدمن مجدك بالثّناء الأفصح
تهنئة بولاية
أهنىء بك العمل الذي وليته ولا أهنئك به، لأن الله تعالى أصاره إلى من يورده موارد الصواب ويصدره مصادر الحجّة. لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه دخل عليه شاب من الأنصار، فقال: ما طيبتك الخلافة ولكن طيّبتها(1/484)
وما زينتك الولاية بل زينتها، فأنت كما قال:
وتزيدن أطيب الطيب طيبا
وقال إبراهيم بن العباس:
ما حددت لك من نعمى وإن عظمت ... إلا يصغرها القدر الذي فيكا
لا زلت مستحدثا نعمى تسرّ بها ... على الليالي ولا زلنا نهنّيكا «1»
وقال ابن الرومي:
قل لك الملك ولو أنه ... مجموعة فيه الأقاليم «2»
والله يبقيك لنا سالما ... يأتيك تبجيل وتعظيم
وقال أبو الغمر:
ليهنك الفتح مشفوعا حسا وزكا ... وصاحبتك الليالي غضّة ضحكا
تهنئة بنيروز
قال شاعر:
أنعم بنيروزك وابهج به ... متّعت ألفا مثله بعده «3»
أهدي بعض الأدباء يوم نيروز وردة وسهما ودينارا ودرهما فقال:
لا زلت كالورد لذيذ المنسم ... ونافذا مثل نفاذ الأسهم
في عزّ دينار ونجح درهم
تهنئة بمهرجان
قال المهلّب بن مالك:
جاءك المهرجان يختال طلقا ... في هواء صاف وفي زعفرانه
نلت فيه الذي به نال افريدون من رغم حاسد وهوانه
تهنئة بزفاف
نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقال بالرفاء والبنين، وكان يقول: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينما بخير. وهنأ ابن القرية الحجّاج، فقال: أقرّ الله عينك ورزقك ودها وولدها وجعلك الباقي بعدها.
قال ابن الرومي:
سيدة زفت إلى سيّد ... أبدلنا اليسر من العسره
ألّف بالتوفيق شملاهما ... في نعمة تمّت وفي خيره(1/485)
عمّره الله وأبقى له ... ركنيه من عزّ ومن قدره
تهنئة بولد
قال شبيب بن شبة للمهدي: أراك الله في بنيك ما رأيته في أبيك. وقال رجل عند الحسن: ليهنك الفارس، فقال: لعله يكون بغالا، قل شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ورزقت رشده وبلغ أشده. ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رجل معه صبي فقال: أهذا ابنك؟ قال: نعم. قال: أمتعك الله به. وقال إسحاق الموصلي للفضل بن الربيع:
مدّ لك الله الحياة مدّا ... حتّى يكون ابنك هذا جدّا
ثم يفدّى مثلما تفدى ... أشبه منك سنّة وقدّا
وقال الرفّاء:
تملّ فارسك المذكور في شيم ... بمثلها الذكر الصمصام مذكور «1»
وافى ومولده الوافي يخبرنا ... بأنه ناصر للمجد منصور
فعاش ما نشر الديجور حلّته ... وما انطوى بضياء الفجر ديجور «2»
حتّى تراه وقدح السيف في يده ... مثلم وسنان الرّمح مأطور «3»
تهنئة بابنة
كانوا يقولون: أمّنكم الله منها العار وكفاكم منها المؤونة.
قال الصاحب:
إيّاك أن تنكر الإناث فكم ... أنثى غدت في فخارها ذكرا
الدعاء للمسافر
قال النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل أراد سفرا: اللهم أطوله البعيد وهوّن عليه العسير. وكانوا يقولون: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل.
قال السري الرفاء:
الله جارك ظاعنا ومقيما ... وظهير نصرك حادثا وقديما «4»
إن تغن كان لك النجاح مصاحبا ... أو تثو كان لك السرور نديما «5»(1/486)
وقال المتنبّي:
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار «1»
وصدرت أغنم صادر عن مورد ... مرفوعة لقدومك الأبصار
وقال الخبزارزي:
رعاه الله حيث غدا وسار ... وأعقبه الغنيمة والإيابا
وقال أبو المعافاة:
ردّك الله إلينا سالما ... بعد غنم واغتباط وظفر
الدعاء للقادم من سفر قال أبو العتاهية
: لا زلت من غنم إلى راحة ... تقدّم يا خير فتى قادم
وقال ابن الرومي:
لا زلت من غنم إلى ... دعة وأمن قادما «2»
وله:
قدوم سعادة وقفول يمن ... هو البشر المخفّف كلّ حزن
وقيل لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة كان نساؤها يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
تهنئة بالصوم
قال الصنوبريّ:
نلت في ذا الصّيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيه
أنت في النّاس مثل ذا الشهر ... في الأشهر بل مثل ليلة القدر فيه «3»
تهنئة بالعيد
قيل: قبل الله منك الفرض والسنّة واستقبل بك الخير والنعمة.
وقال ابن خلاد:
بأسعد طالع عيّدت يا من ... بطلعته سعادة كلّ عيد(1/487)
وقال المتنبّي:
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمّى وضحّى وعيّدا «1»
ولا زالت الأعياد لبسك بعدها ... تسلّم مخروقا وتعطى مجدّدا
وقال آخر:
البس النعماء ما أو ... مض برق في غمام
واصلا عيدا بعيد ... ودواما بدوام
تهنئة بخلعة
قال أبو بكر الصولي:
خلع خلعت بها قلوب عداكا ... ملأت سرورا كلّ من يهواكا
لا زلت تلبس كلّ يوم مثلها ... أبدا على إرغام من عاداكا «2»
ووقاك ربّ النّاس ما تخشاه من ... عنت الزّمان وظلمه وكفاكا «3»
تهنئة بدار
قال ابن الرومي:
دار أمن وقرار ... واعتلاء واقتدار
أسست والطير باليمن وبالسّعد جوار ... خير دار حلّ فيها
خير أرباب الدّيار ... وقديما وفق الله خيار الخيار
وقال القاضي علي بن عبد العزيز:
ليهن ويسعد من به سعد الفضل ... بدار هي الدنيا وسائرها فضل
دعاء لتناول شيء من لحيته
نزع رجل من لحية الحسن قذاة، فقال: لا بك السوء، وقال آخر: لا عدمت ربك نافعا. وتناول بعضهم من لحية رجل شيئا فقال: صرف الله عنك السوء. فقال إليك لا عاد. ورأى الفتح شيئا في لحية المتوكل فلم يمد يده إليه ولا قال له شيئا، بل قال يا غلام هات مرآة أمير المؤمنين فجيء بها ونظر فيها فأخذه بيده.
وعلى العكس من هذا الباب
قال الأصمعي: نزع رجل من لحية آخر شيئا فقال: نزع الله ما بك من نعمة. وتناول(1/488)
بشّار من لحية رجل شيئا فقال: لا يمنعني أن أقول صرف الله عنك السوء إلا مخافتي أن يذهب الله بوجهك إنه سوء. ومن هذا الباب قال أبو الأسود: لا يفض الله فاك أي لا يجعله فضاء بذهاب الأسنان. وقال بعضهم: طاب طيبك وعاش حبيبك ولا زال خير ينوبك. وقال رجل لآخر: رحمك الله فقال له مجيبا له: يغفر الله لي ولكم، فقال ما أنصفتنا آثرناك على أنفسنا بالدعاء وجعلتنا علاوة على نفسك.
دعاء مكروه المبدأ
دعا رجل لسلطان فقال: لا صبّحك الله إلا بخير فأمر بأن يصفع، وقال: من آخذني باحتمال قبيح ابتداء سلامه والصبر على انتظار تمامه. ولما أنشد أبو مقاتل الضرير الراعي يهنئة بمهرجان:
لا تقل بشرى ولكن بشريان
أمر بطرده، وقال: أعمى ينشد يوم المهرجان لا تقل بشرى. وقال رجل لبعض الخلفاء في كلام نفاه: لا أطال الله بقاءك، فقال: قد علمتم لو تعلمتم ألا قلت: لا وأطال الله بقاءك، وعنى بذلك ما روي أن رجلا قال بلعضهم: لا وأطال الله بقاءك، فقال: ما رأيت واوا أحسن موقعا من هذا الواو. وقال رجل لآخر: كيف أنت؟ فقال: كبر ضعفي، فقال قوّى الله ضعفك، فقال: اسكت إذا يزيد في علتي، قل: قوّاك الله على ضعفك.
ويقرب من ذلك ما حكي أن رجلا تعرض للصاحب فقال: أنا قاضي شلنبة وأدعو أبدا على مولانا، فقال: ادع على نفسك. فقال: لا بل على مولانا، وقدر أن ذلك زيادة في الدعاء، فقال الصاحب: زادنا في البر.
(5) ومما جاء في الدعاء على الإنسان
حذق اللئيم بالسّباب وعجز الكريم عنه
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما تساب اثنان قط إلّا غلب ألأمهما. أخذه الشاعر، فقال:
وإنّك قد ساببتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالسبّ أحذق «1»
ونازع رجل المهلب فأربى عليه، فقيل له: لم سكتّ عنه؟، قال: استحييت من سخف المسابة ورغبت عن غلبة اللئام، وكان إذا سبني تهلل وجهه واستنار لونه وتبجحت(1/489)
نفسه فإن غلب فبفضل القحة ونبذ المروءة وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء.
ما جعلته العرب تعجّبا من الشّتّم
تقول العرب: قاتله الله. قال ابن الأعرابي: إذا قيل قتله الله لا يكون إلا شتما وإذا قيل قاتله الله يكون تعجبا. وماله، لا عد من نفره وتربت يداه وثكلته أمه وهوت أمه كل ذلك يستعمل على طريق التعجب واستعظام القول فيه، ولهذا قال بعض الشعراء:
أسب إذا أجدت القول ظلما ... كذاك يقال للرجل المجيد
الحثّ على التعريض بالشتم دون التصريح
قال أبو عمرو بن العلاء: أحسن الشتم ما يتذاكره ذوو المروآت في مجالسهم ولا يتحاشى من روايته أهل الأديان.
من شتم كثيرا معرّضا غير مصرّح
سأل رجل بعض الكبار شيئا فاعتذر إليه بفقر ناله، فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت محجوبا فجعلك الله معذورا. كتب هشام إلى ملك الروم: من هشام أمير المؤمنين إلى ملك الطاغية، فكتب إليه ما ظننت أن الملوك تسب وما الذي يؤمنك أن أكتب إليك من ملك الروم إلى الملك المذموم هشام الأحول المشؤوم.
كان محرز الكاتب إذا رأى ابن شاهين قال: حيّاك الله وجها ألقاك به وهو لا يفهم، فلما أكثر، قيل له: إنما عنى نفسه بما يقوله، فقال: دعوه لي فلما رآه وقال له ذلك، قال: لا حيا الله وجها أراك به، فضحك محرز وقال: آمين.
قال بعضهم:
سلام ساقط الميم ... على وجهك بالحاء
لنا في البيت خروف ... فكل منه بلا فاء
وقال ابن الحجّاج:
وزنته ألفين يا ليته ... أصبح في تصحيف ألفين
أي في القبر.
وسأل أمير المؤمنين بعض الناس فقال: هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: عليّ مني كهرون من موسى، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقال: كبرت سنّي ونسيته، فقال:
إن كنت كاذبا فضربك الله ببيضاء لا تواريها العمامة فصار ذا برص إلى أن مات.
من تملح في شتم كبير
خرج المهدي إلى الصيد فتفرد مع غلام فرأى أعرابيا، فقال: إني أريد أن أضحك من هذا الأعرابي فأتاه الغلام فقال: أجب أمير المؤمنين فقال مالي ولأمير المؤمنين؟ فزناه وشتمه. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين هذا شتمني. فقال المهدي: يا غلام اعطه دانقا،(1/490)
فقال الأعرابي أدية فريتكم دانق يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: فأنت زان وابن زانية وابن زان خذ درهما ومر في حفظ الله. وقال هشام: من يسبني ولا يفحش وهذا المطرف له، فقال له أعرابي: هاته يا أحول، فقال: خذه قاتلك الله. وقال البوشجان: حضرت مجلس المبرّد فسمعنا نفاشا يقول في حر أم أصفهان، فقال أبو العباس: هذا قد شتمكم على قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
«1» أي أهلها.
الدعاء على إنسان بالمرض
قال أعرابي لرجل: إن كنت كاذبا فبعث الله عليك داء ليس له دواء. وقال آخر: رماه الله من الداء بما يصير به رحمة للأطباء. وقيل: ماله خرب وحرب وذرب، معنى ذرب فسدت معدته. ماله وراه الله الورى سعال يقيء منه الدم، قال عبد بني الحسحاس:
وراهنّ ربّي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا
وقيل: بفيه الثرى وحمى خيبرا. فإنه خيسرى ابن خاسر أبرد الله مخّه، أي أهزله.
ماله ال «2» وغل وسل كساه الله عصابة رمد ورداء نكد وإزار جذام.
الدعاء عليه بفقدان الجوارح
جذعه الله جذعا مرعبا، ... أشل الله عشره
فلا استقلّت أبدا ... سوطا من الأرض يده
وقالت جارية الناطفي:
فليت من يضربها ظالما ... تيبّس يمناه على سوطه
الدّعاء عليه بذهاب المال
شرب باردا وجلب قاعدا. أي لا كان له لبن حتى يشرب الماء القراح، وعوّض من الإبل غنما يحلبها قاعدا ونحوه. أباد الله رواغيه وأبقى ثواغيه. رماه لله بقرع الفناء وصفر الإناء. قرع مراحه وساف ماله. لا طلبته الخيول ولا تكاءدته المحول، أي لا جعل الله له مالا تطلبه الخيول للغارة أو يتكاءه «3» جدب الزمان. فعلى هذا حمل قول الشاعر:
وجنّبت الجيوش أيا زينب ... وجاد على منازلك السّحاب
الدعاء عليه بالهلاك
رماه الله حيث لا يرى بفاقرة الثرى، أي الأفعى. كقولهم: رماه الله بأفعى عادية ورماه الله ببليّة لا أخت لها، وتقول: ثل عشره وجذ ثدي أمه وهوت أمه، وزال زواله ولا(1/491)
عد من نفره، رماه الله بثالثة الأثافي ورياح عاصفة وسيول جارفة. ويقال: مالكم تفاقدتم فجع الله به وادا ودودا واشمت به حاسدا حسودا، وسلّط عليه هما يضنيه وجارا يؤذيه وعدوا يرديه، أقام الله عليه ناعيه وأشمت به أعاديه.
قالت امرأة:
ارم بسهمين على فؤاده ... واجعل حمام نفسه في زاده «1»
وفي معنى أفقدنيه الله
فقدت خيالك لا من عمى ... وصوت كلامك لا من صمم
قال الحميري:
ربّ قد أعطيتناه ... وهو من شرّ عطاء
فارجعنه ربّ عنّا ... بإزار ورداء
الدعاء بإزالة الدولة
قال أبو هفّان:
أزال الله دولتهم سريعا ... فقد ثقلت على عنق الزّمان
وقال جحظة البرمكي:
سألت الله تعميرا طويلا ... ليبهجني بخطب يعتريكم «2»
أخاف بأن أموت ولن تريني ... صروف الدّهر ما أهواه فيكم
الدعاء على ظاعن
ودعت امرأة زوجها ورمته بروثة ونواة وحصاة، وقالت: راث خبرك وتناءت دارك وانحصى أثرك، ثم أنشدت:
اتبعته إذ رحل العيس ضحى ... بعد النواة روثة حيث انتوى «3»
للروثة الريث وللنأي النّوى
وقال علي بن عاصم:
أمّا وقد ضمّه الفرار ... فلا يضمنّه القرار
ولا اطمأنت به الفيافي ... ولا استقرّت به الدّيار
وقال ابن حازم:
وداع دون أوبته النّشور ... ونأي لا يقربه مسير «4»(1/492)
وقال غير ميمون ولكن ... بأنكد ما يدور وما يطير
وقال أبو هفّان:
في عذاب يطلب الطا ... لب من أدناه موته
ونحوس قاطعات ... لك عما قد نويته
الدعاء على متزوّج
قال بعضهم: المتزوج بالبيت المهدوم والطائر المشؤوم والرحم المعقوم.
قال أبو الفرج الكاتب:
بالرّزايا والطائر المنكوس ... كان يوم الزفاف والتعريس «1»
واصل الله باتصالك هذا ... نكبات مبيدة للنفوس «2»
دخلت رجلها دخول قدار ... وطويس ومنشم والبسوس «3»
وتبدلت بالجلاء جلاء ... وبرحب الديار ضيق الحبوس «4»
الدعاء على باني دار
قال البسّامي:
شدت دارا خلتها مكرمة ... سلط الله عليها الغرقا
وأرانيك فقيرا وسطها ... وأرانيها صعيدا زلقا «5»
أنواع مختلفة
قال أبو الوليد الكناني:
بلوناهم واحدا واحدا ... فكلّهم شأنهم واحده
فلا ذرأ الربّ أولادهم ... ولا بارك الربّ في الوالده «6»
وقال أعرابي:
وصاحب قلت ولم أسمه ... لما به من مقته وغمّه
لعن الإله ثعلة بن سافر ... لعنا عليه يشقّ من قدّامه(1/493)
وقال أبو الأشعث الهمداني وقد سرق له أضحية:
يا سارق الكبش رجلاه وجبهته ... في صدع أمّك بالقرنين والذنب «1»
هلا سرقت جزاك الله لعنته ... من الموالي ولم تسرق من العرب
سمع ذو الرمة رجلا يقول: على فلان لعنة الله، فقال: لم يرض بواحدة حتى شفعها بأخرى، ومعنى ذلك أنه اعتقد في قوله لما سمعه مفتوحا أنه مرفوع مثنى كقولك. هذان عبد الله.
قال شاعر:
وما دعوت عليه قطّ ألعنه ... إلا وآخر يتلوني بآمين «2»
سقط مخنث من جبل فغشي عليه، فلما أفاق قال: يا جبل ما أصنع بك أضربك لا يوجعك، أشتمك لا تبالي، ولكن بيني وبينك يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش.
ومن كلام أبي العبر: استودعك الله حائطا مائلا وكنيفا سائلا. وقع بين أنس بن مالك وامرأته شرّ فقال لامرأته: لأدعون الله عليك، فقالت: قد دعوته على الحجّاج فما زادت رقبته إلا غلظا.
حكى الصاحب أن أبا علي بن مثوبة كان إذا شتم إنسانا في غضب عظيم يقول: يا قواد يا قواد ترقال هذه الزيادة لم تسمع إلا منه.
قال لرابية الأسدية:
فمن لامني في حبّ نجد وأهله ... فليم على مثل وأوعب جادعه «3»
وقال معاذ الدهلي:
لحى الله أدنانا إلى اللؤم زلفة ... وألأمنا أمّا وأسقطنا جدا «4»
قال الأصمعي: كان النساء يقلن للشيخ إذا سعل وريا وقحابا، وللشاب عمرا وشبابا. القحب السعال. حكي عن يهودي بأصبهان أنه كان إذا أتاه جندي فيقول: يا أخا القحبة، يقول: لما سمعت صوتك علمت أنه هو، وقال له غلامه. إن هذا يقول يا ديوث، فقال: الديوث إيش يعمل ههنا يعرض به. وقال إنسان امرأته قحبة، فقال: أليست أختا لك أليست بنتا لك. قال له إنسان: امرأته قحبة، فقال: خلالت هوذا أي أنها امرأتك.(1/494)
(6) وممّا جاء في الهدايا
الحثّ على الإهداء وذكر فضيلته
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: تهادوا تحابّوا، وقال: الهدية تسلّ السخيمة. وقال عمر رضي الله عنه: نعم الشيء الهدية بين يدي الحاجة. وفي الخبر: إذا قدم أحدكم من سفر فليهد إلى أهله وليطرفهم، وإن حجارة. وقيل: أسكفة الباب تضحك من الهدية، وقيل: الهدية هداية. قال:
ما من صديق وإن تمّت صداقته ... يوما بأنجح في الحاجات من طبق
لا تكذبنّ فإنّ النّاس مذ خلقوا ... عن رغبة يعظمون النّاس أو فرق «1»
أما الفعال ففوق النجم مطلبه ... والقول بوجد مطروحا على الطّرق
وقال آخر:
إذا أتت الهديّة دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها «2»
وقيل: الهدية بضاعة تيسّر الحاجة، ومن صانع بالمال لم يحتشم. قال الغاضري لأصحابه: أي راكب أحسن؟ فقال بعضهم تمرة على زبدة، فقال: لا بل هدية على حمال. ومن أمثال الفرس: الهدية تغالط العقول.
الحثّ على قبول الهدية
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الهدية رزق الله فمن أهدى إليه شيء من غير سؤال ولا إسراف فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه، وقال: من سألكم بالله فاعطوه ومن استعاذكم فأعيذوه ومن أهدى إليه كراع فليقبله. وقال: لو أهدي إليّ كراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت.
الحثّ على المقابلة
قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها
«3» ، فسّره بعضهم بالهدية وجعل الثواب بها واجبا وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها ما هو خير منها.(1/495)
أنشدني بعضهم:
رأيت النّاس طرّا في الهدايا ... كبيع السوق خذ منّي وهات
طلب الهدية ومعاتبة من تركها
روي أن رجلا أهدى إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما ولم يهد إلى ابن الحنفية فأنشأ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول:
وما شرّ الثّلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذمي لا تصحبينا «1»
وكتب رئيس إلى بعضهم: لا تهدين ما يجحف بحالك فإنه لا يزيد في مالي ولا يمنعك من ملاطفتي بيسير، واللطف استعظامك لمكاني فالكثير منك يسير واليسير عندنا كثير والسلام.
قال المعيطي:
أتاني أخ من غيبة كان غابها ... وكنت إذا ما غاب أنشده الركبا «2»
فجاء بمعروف كثير فدسّه ... كما دسّ راعي السوء في حضنه رطبا
فقلت له: هل جئتني بهدية ... فقال: بنفسي قلت: أطعمتها الكلبا
هي النفس لا أرثي لها من ملمة ... ولا أتمنّى إن نأيت لها قربا
الهديّة مشتركة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم بهدية فجلساؤه شركاؤه فيها. وكان الهيثم بن عدي يحدث بهذا الحديث فما تمم حتى طلعت هدية فقال: ما خلا هذه.
نهي الولاة عن قبول الهديّة
صعد النبي صلّى الله عليه وسلم المنبر فقال: ما بال أقوام استعملتهم على الصدقات فيجيء أحدهم فيقول هذا ما لكم وهذا أهدي إليّ، هلّا جلس في حفش أمه فينظر أيهدى إليه، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقّه إلا لقي الله يحمله فليأتين أحدكم وعلى رقبته بعير له رغاء بقرة لها خوار وشاة لها ثغاء، ثم رفع يده وقال: اللهم قد بلغت.
وروي: إياكم والهدية فإنها ذريعة الرشوة. ولعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي.
قال الشيخ وقد ذكرت خبر أنوشروان مع غيره في مثل هذا الباب في الولايات.
الممتنع من أخذ الهديّة
سأل رجل الخيزران حاجة فاستبطأها فأهدى إليه هدية، فكتب إليه: إن كان ما وجهته ثمنا لرأيي فيك فقد بخستني في القيمة وإن كان استزادة بها استغششتني في النصيحة.(1/496)
وقال المدائني: أهدى رجل إلى مجوسي هدية فاغتم لذلك فقيل له، فقال: لئن ابتدأني بها فإنه يدعوني إلى أن أتقلد منه، ولئن كافأني على معروف عنده إنه ليروم أخذ ذلك، فمن أي هذين لا أجزع.
وطلب عبد الله بن جعفر لأزادمرد حاجة من أمير المؤمنين رضي الله عنه فأهدى إليه أزادمرد أربعين ألف درهم فامتنع عبد الله من أخذها، وقال: إنّا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمنا وأهدى عبد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولاه مصر مائة وصيفة مع كل واحدة بدرة وبعثها إليه ليلا، فردها وكتب إليه: لو قبلت هديتك ليلا قبلتها نهارا وما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون.
من لان بعد شدة لأخذ هديّة
مرّ زياد بأبي العريان بالبصرة، فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان، فقال ما أعرف في ولد أبي سفيان زيادا، فبلغه ذلك، فوجه إليه دنانير ثم مر به، فقال: من هذا فقالوا زياد بن أبي سفيان، فقال لقد ذكرني شمائل أبي سفيان، فبلغ ذلك معاوية رضي الله عنه، فكتب إليه:
ما لبثتك دنانير رشيت بها ... إن لونتك أبا العريان ألوانا
لله در زياد منذ قدمها ... كانت له دون ما يخشاه قربانا «1»
فكتب له:
ابعث لنا صلة تحيا النفوس بها ... قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا
من يسد خيرا يجده حيث يجعله ... أو يسد شرا يجدّه حيثما كانا
أما زيّاد فلا أنسيت نسبته ... ولم أرد بالذي حاولت بهتانا «2»
ولما ولي الحسن بن عمارة المظالم، قيل ذلك للأعمش فقال: ظالم ولي المظالم، فأهدى إلى الأعمش رزمة ثياب فجعل يقول من بعد: إن الحسن كريم وحر سخي. وكان رؤبة له حكومة فلم يكن يبلغ مراده فيها فأهدى إلى الحاكم شيئا فنال ما رام، فقال:
لما رأيت الشفعاء بلدوا ... أسوتهم برشوة فقردوا «3»
وسهل الله بها ما شدّدوا
وكان بعض الولاة يخاشن بعض عماله فأرضاه بما أهداه، فسألته كيف حالك مع فلان؟ فقال: قد سد ابن بيض الطريق وخبره معروف.(1/497)
استرداد ظروف الهدايا وتركها
قال الغنوي: استديموا الهدايا برد الظروف، وقال إسحاق بن إبراهيم: كنت مع الرشيد بالكوفة في شهر رمضان، فقال لموسى بن عيسى: يا أبا عيسى. حلواؤنا عليك، وكان يوجه إليه كل ليلة عشر صحاف. فلما كان بعد عشر ليال قطعها، فقال له الرشيد أصغوت فقطعت الحلواء، فقال: ما قطعها غيرك إن أنصفت. قال: كيف؟ قال: إن من يأخذها منا لا يريد صحفة ولا منديلا ولا طبقا، قال: بئس ما عمل إن الهدايا تستدام برد الظروف فإذا صرت المتقاضي وأنت القاضي فلا تحتشم أحدا في استرداد الظروف.
للصاحب وقد أهدى دنانير على طبق فضة فكتب بأبيات فيها:
والظرف يوجب أخذه مع ظرفه
الاعتذار من إهداء شيء طفيف
كتب بعضهم: سهل لي سبيل الملاطفة فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يستغنم. كتب أحمد بن يوسف: للهدية معنيان كلاهما يوجب القبول، وإن قل. وقيل: إن كان لك عند المهدي يد فلا تستقصر بمزيدك وإن كان مبتدئا، فالتفضل لا يستقل الهدية.
أظرفها أخفها وأقلها أنبلها. وكتب آخر قدمت المعذرة في إهداء ما اتسعت به المقدرة.
وروي أن سليمان عليه الصلاة والسلام مرّ بعش قنبرة فأمر الريح أن تتجنب عشها الذي فيه فراخها. فجاءت القنبرة لما نزل سليمان فرفرفت على رأسه وألقت جرادة هدية له لما فعل، فقال سليمان: هي مقبولة فكل يهدي على قدر وسعه. ومما يروى لأبي يوسف القاضي:
علينا بأن نهدي إلى من نحبّه ... وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله «1»
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
وقال دعبل:
هذي هدية عبد أنت ملبسه ... ثوب الغنى فاقبل الميسور من خدمك
وقال الخبزارزي:
تفضّل بالقبول على أنّي ... بعثت بما يقلّ لعبد عبدك
أهدى بعض الأدباء إلى المعتز شيئا، وكتب إليه: لا يعيب العبد أن يهدي إلى سيده القليل من نعمته عنده ولا السيد أن يقبل ذلك وإن كان الكل له والسلام.
المقتصر في الهديّة على الشّكر
قال المازني: أظرف من اعتذر للفقر واقتصر على الشكر في الإهداء أحمد بن إبراهيم(1/498)
كتب إليه ابن ثوابة:
إنّي جعلت هديّتي ... في المهرجان إليك شكري
لمّا تعذّر واجب ... فسح التعذر فيه عذري
فإذا مررت بذكر من ... جاءت هديّته ببرّ
فادر على اسمي دارة ... واكتب عليه أتى بعذر
وقال محمد بن أبي حكيم:
رأيت كثير ما يهدي قليلا ... لعبدك فاقتصرت على الدّعاء
وقال آخر:
وافق المهرجان والعيد منّي ... رقّة الحال وهي داء الكرام «1»
فاقتصرنا على الدعاء وفيه ... عون صدق على قضاء الذّمام «2»
المقتصر على إهداء النفس
اقتصد المتوكل فلم يبق أحد من جواريه وحشمه إلا أهدى إليه، فأخبرت قبيحة بذلك، وكانت معشوقته فتزينت ودخلت عليه فأنشدته:
طلبت هديّة لك باحتيال ... على ما كان من حسّي وبسّي «3»
فلمّا لم أجد شيئا نفيسا ... يكون هديّتي أهديت نفسي
فقال المتوكل: نفسك والله أحب إليّ.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
حبيبي فصدت العرق من أجل علّة ... فلم تهد لي فيه وصالا مجدّدا
فأهديت نفسي يوم فصدي بوصلها ... إليك فخذها كي تكون لك الفدا
استهداء النفس
كتب أبو العباس بن رشيد إلى صديق كان مشغوفا به:
النّاس يهدون إلى المفتصد ... أحسن ما يلقونه في البلد
فاهد لي وجهك يا سيّدي ... فإنّه أحسن شيء يرد
المهدي شيئا معينا
أهدى أبو عبادة الوزير إلى المأمون مصحفا في يوم مهرجان ووافق أول يوم من شهر(1/499)
رمضان فكتب إليه عدلت عن هدايا السلطان إلى التيمّن بالقرآن وما يرضى الرحمن فوقع في رقعته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
«1» . وأهدى أحمد بن يوسف إلى المأمون هدايا وكتب إليه رقعة، فلم يستظرف من هديته شيئا إلّا قوله في رقعته هذا يوم جرت فيه العادة بالطاف العبيد للسادة. وبعث إبراهيم بن المهدي بجراب ملح وجراب أشنان وكتب معهما: قصرت البضاعة عن بلوغ الهمة فكرهت أن تطوى صحف البر خالية من ذكرى، فبعثت بالمبدوء به لبركته والمختوم به لنظافته والسلام. وشرب الرشيد دواء فأهدت إليه الخيزران جارية بكرا معها جام، كتب عليه:
إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسّلامة والشّفاء
فليس له دواء غير شرب ... بهذا الجام ينزع بالطّلاء
وفضّ الخاتم المهدي إليه ... فهذا العيش من بعد الدواء
وأهدى رجل إلى آخر قلنسوة ونعلا وخاتما فقال لقد أشواني فلان بكسوته أي أصاب شواي.
ذكر الهديّة بأنها أمارة لفضل صاحبها أو نقصه
قيل: يعرف فضل المرء بفضل هديته وسخافته بسخافة بره. وقيل: ثلاثة تدل على عقول أربابها الهدية والرسول والكتاب. وقد حكى الله تعالى عن بلقيس أنها قالت وإني مرسلة إليه بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون، فجعلت جواب الهدية دلالة.
قال كشاجم:
إنّ هدايا الرجال مخبرة ... عن قدرهم قلّلوا أو احتفلوا «2»
المهدي هدية سخيفة
أهدى أبو رهم السدوسي إلى قينة كان يتعشقها زنبيل بصل، فقال فيه ابن المعدل:
قالت جبل ماذا العمل هذا الرجل حين احتفل أهدى بصل. أهدى رجل إلى إسماعيل الطالبي فالوذجة عتيقة قد زنخت، وكتب معها إني اخترت لعملها سكر السوس والعسل الماذي والزعفران الأصفهاني، فكتب إليه: برئت من الله إن كانت هذه الفالوذجة قد عملت إلا قبل أن يوحى ربك إلى النحل. وأهدى أبو علي البصير إلى أبي العيناء كرينجان قد كتب على كل واحدة منها ادخلوها بسلام آمنين، فردها أبو العيناء وقد كتب عليها فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن. وكان رجل قد شغف بصبي فأهدى إليه، كلبا فقال أبو شبل:
وما رأت عيني ولا قيل لي ... إن فتى مستهترا صبّا «3»(1/500)
لمّا دنا من وصل أحبابه ... أهدى إلى أحبابه كلبا «1»
قال الصولي:
أهدى إليّ هديّة مذمومة ... وأذمّ منها عندنا مهديها
وكأنّما هي في سماجة منظر ... تحكيه في قبح كما يحكيها «2»
الممتنّ بهديّة أهداها
أهدى رجل إلى الأعمش بطيخة، فلما أصبح قال: يا أبا محمد كيف كانت البطيخة، قال: طيبة. ثم أعاد عليه ثانيا وثالثا فقال: إن خففت من قولك وإلا قئتها.
وأهدى أبو الهذيل إلى أستاذ له ديكا فكان بعد ذلك إذا خاطبه أرّخ بديكه، فيقول إنه كان يوم أهديت إليك الديك وإنه كان قبل الديك بكذا وبعد الديك بكذا. وقدم زياد على معاوية وأهدى إليه هدايا كثيرة فأعجب بها معاوية، فلما رأى زياد سروره بذلك قال: يا أمير المؤمنين إني دوخت لك العراق وجبيت لك برها وبحرها وغثها وسمينها وحملت لك لبها وسروها، فقال له يزيد: أما إذا فعلت ذلك فقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى شرف قريش ومن عبيد إلى أبي سفيان، وما أمكنك تدويخ العراق إلا بنا. فقال معاوية: حسبك فداك أبوك ووريت زناده فيك.
الشاكر المهدي إليه
أتتنا هدايا منه أشبهن فضله ... ومنّ عليّ منعما متفضّلا
ولو أنه أهدى إليّ وصاله ... لكان إلى قلبي ألذّ وأوصلا
(7) وممّا جاء في الطبّ والمرض والعيادة
قيل: حد الطب دفع الضد بالضد، وقيل: هو معرفة الداء وتلقيه بالدواء. وأصل الطب العلم والطبيب صار اسما للعالم بمداواة أبدان الناس. وقيل: هو استدامة الصحة ومرمة السقم. وقال عبد الله بن المعتز: المرض حبس البدن والهم حبس الروح.
مدح طبيب حاذق
حكي أن سلمويه طبيب المأمون، وكان قد أسنّ وذهب بصره، كان دخل على(1/501)
المأمون يتكىء على صبية تقوده، فلما قام المأمون قام ثم رجع، فرجع سلمويه إلى حضرته واتكأ على تلك الصبية، فقال للمأمون: هذه الصبية كانت بكرا وخرجت من عندي الساعة وعادت ثيبا فاستخبرها «1» ، فقالت: إن العباس ابن أمير المؤمنين دعاني إلى نفسه لما خرجت فافتضني، فقال له المأمون: وكيف علمت ذلك؟ فقال: كنت أخذت مجستها فوجدتها قوية ثم جسستها فوجدت نقصانها فعلمت ذلك، فتعجب المأمون من حذقه ونحو ذلك في التنجيم.
حديث الفيلسوف
الذي كان ينام على سرير فنام عليه ذات يوم فأنكره وقال: إما أن تكون السماء قد انحدرت أو الأرض قد ارتفعت، فتأمّل فإذا قد جعل تحت قائمة السرير شيء ارتفع به عن الأرض.
ومن الحذق البيّن ما حكي أن عمرو بن الليث زلقت رجله فانخلعت إحدى فخذيه فنام على الفخذ الوجعة واستحضر المجبرين، وجعل يعرض على واحد واحد الفخذ الصحيحة ويئن إذا مست، وكان يقول: بهذا نختبرهم إلى أن حضر المعروف بابن المغازلي فلما جسها أنّ عمرو، فقال ابن المغازلي: ما هذه الجلبة ما بك من قلبة، وإن فخذك أصح من فخذ الظليم. فعرض عليه الفخذ الأخرى فقال أما هذه فنعم، فعلم عمرو أنه حاذق، فقال: إن مداواتها صعبة لأنها تحتاج إلى إشالة الرجل وأنا استسمج ذلك ولكنني أحتال له، فعمد إلى زق فوضعه بين رجلي عمرو وشد إبهامي رجليه بعضهما إلى بعض وجعل ينفخ في الزق وهو يربو وينتفخ ويرتفع الفخذ بانتفاخه إلى أن امتد الزق ورد العضو إلى موضعه، ثم حل الإبهامين وشده إلى أن برأ.
وقال رجل: توجّعت من رجلي مدة وتداويت بكل دواء فلم ينفع فرأيت طبيبا فوصفت ذلك له، قال: انظر فلعل إحدى ركابيك أطول من الآخر فتأملت فإذا هو كذلك، فأصلحته فزال الوجع السري.
قال الكندي:
أحيا لنا علم الفلاسفة الذي ... أودى فأوضح رسم طب عاف «2»
فكأنه عيسى بن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأوهن الأوصاف
يبدو له الداء الخفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي «3»
وله:
كأنّه من لطف تدبيره ... يجول بين الدم واللحم(1/502)
لو غضبت روح على جسمها ... ألّف بين الروح والجسم
ذمّ طبيب
رأى أفلاطون إنسانا مدعيا للصراع ضعيفا في دعواه ثم تحول طبيبا، فقال له: الآن أحكمت الصراع، تهيأ لصراع من شئت فإنك تصرعه. ترك لافس التصوير وتطبب فقيل له في ذلك فقال: الخطأ في التصوير تدركه العيون وتلحقه العيوب وخطأ الطبيب تواريه القبور. ورأى فيلسوف طبيبا جاهلا، فقال: هذا مستحث للموت.
قال الخبزارزي في طبيب اسمه نعمان:
أقول لنعمان وقد ساق طبّه ... نفوسا نفيسات على ساكني الأرض
أيا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
مدح الحمية
قيل: الحمية طابع الصحة. وقيل للحرث بن كلدة: ما الدواء الأكبر، فقال: الأزم وقيل حمية شهر أيسر من سهر ليلة، وأن تصبر على الحمية شبرا خير من أن تقاسى العلة فترا. وقيل لا تأكل ما تشتهي فيصيرك إلى ما لا تشتهي. وقيل للسري: قد تركت الشهوة، فقال: تركت ما أحب لأستغني عن العلاج بما لا أحب.
واحتمى أحمد بن المعدل لعلة به فبرأ، فقال: الحمية صالحة لأهل الدنيا تبرئهم من المرض ولأهل الآخرة صالحة تبرئهم من النار. وقال عمر رضي الله عنه: عزم الرجل بحميته وحزمه بمتاع بيته. وقال المأمون لطبيبه: ما الذي يذهب بأكل الطين، فقال: عزمة من عزمات الرجال، قال صدقت، فتركه بعد ذلك ولم يعاوده، قيل للصاحب يوما: تحتمي وتشرب الأدوية، فقال افعل ذلك بغضا في الحمية وشرب الأدوية.
ذمّ الأدوية أيام الصحة وتجاوز الحدّ فيها
قيل: ليس الحمية في الصحة بأوجب من التخليط في الصحة. واستوصف العباس أخو المنصور طبيبا فقال له: كلّ في الصحة على الطبيب وفي المرض على مقتضى قول الطبيب. ودخل بيادوق طبيب الحجاج على بشر بن مروان فقال: أما ترى هذه العلة قد طالت بي، فقال: إلى أن أختبرك ولا يكون ذلك إلا على الريق فبكر إليه وأضجعه على الحصير وجسه ما بين أخمص قدمه إلى هامته، ثم قال: أيما أحب إليك الصدق أم الكذب؟ فقال وما حاجتي في الكذب؟ فقال: إنك ميت، فقال أرني أمارة ذلك فدفع إليه قطعة لحم طري وشدها في أبريسم وقال ازدردها ففعل، وتركها ساعة ثم قلعها فإذا عليها دود كثير، فقال: كيف أصابني ذلك وقد قدمت بلدكم وكننت نفسي من الحر والبرد، فقال: منها أتيت فقد نغل جسمك، فالأبدان لا تقوم إلا بالحر والبرد وإن أذياها. فعاش بعد ذلك ثلاثة أيام. وقيل الجوع للحمية أضر على البدن من العلة.(1/503)
صعوبة الحمية ومدح تركها
قيل: الحمية إحدى العلتين، فمن احتمى فهو على يقين من المكروه وفي شك من المحبوب.
قال عبد الصمد بن المعدّل:
وقالوا شفاؤك في حمية ... تعود عليك بها النّضره
فأصبحت في بلد مخصب ... ببلقعة جدبة قفره «1»
وقال الرشيد للفضل: ما أطيب ما في هذه الدنيا؟ فقال: رفض الحشمة وترك علم الطب، فلا عيش لمحتشم ولا لذة لمحتم. وقيل: من عرف ما يضره مما ينفعه فهو مريض. وقال أفلاطون: الموت موتان طبيعي وإرادي، فالطبيعي مفارقة الروح البدن والإرادي منع الأبدان الشهوات. وقيل: الأبدان المعتادة للحمية آفتها التخليط والأبدان المعتادة للتخليط آفتها الحمية.
مدح القليل من الطّعام وذمّ الإكثار
اجتمع أربعة من الأطباء عند المأمون عراقي ورومي وهندي وسوادي، فقال: ليصف كل منكم الدواء الذي لا داء معه، فقال الرومي حب الرشاد، وقال الهندي الهليلج الأصفر، وقال العراقي الماء الحار، وقال السوادي وهو أبصرهم حب الرشاد يورث الرطوبة والماء الحار يرخي المعدة والهليلج يرقق البطن، ولكن الدواء الذي لا داء معه أن تجلس على الطعام وأنت تشتهيه. وتقوم عنه وأنت تشتهيه وقيل لطبيب كم آكل فقال خوف الجوع ودون الشبع.
مضرّة الشبع فوق مضرّة الجوع
قال أبقراط: الإكثار من المنافع شر من الإقلال من المضار. وقال أرسطوطاليس:
المطعم والمشرب إذا كثرا على المعدة أطفآ نارها، فجرت الأغذية في البدن غير نصيحة فصار ذلك نقصانا للبدن يورث الفترة كالشجرة إذا كثر ماؤها عفنت وإن قل جفت، وكالسراج إذا قل دهنه أو كثر انطفأ.
وقال محمد بن عبد الله بن جعفر: من تغدى وتعشى ولم يأكل فيما بينهما سلم من الأوجاع لقول الله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا
«2» . وقال بعض الأطباء: أحب الناس إلينا الرغيب البطن لكثرة حاجاتهم إلينا. وقد ذكر بعض هذا الباب في كتاب الأكلة.
ما تستدام به الصحة من الأكل والشّرب والصّوم والجماع
قال طبيب الحجاج: لا يحفظ الصحة كالأكل بالنهار وتقليل الشرب بالليل وأن لا(1/504)
يحبس البول والنجو والرياح التي تعرض في البطن من أراد حفظ الصحة فليقلّ الغذاء وغشيان النساء وشرب الماء. ولما احتضر الحارث بن كلدة اجتمع إليه شبان قريش فقالوا أوصنا، فقال: لا يتزوجن أحدكم إلّا شابة، ولا يأكل إلا لحم فتي، ولا يتناولن أحدكم الدواء ما احتملت نفسه الداء، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في إبان نضجها. وإذا تغدى أحدكم فلينم عليه نومة وإذا تعشى فليتخطّ على أثر عشائه أربعين خطوة، وعليكم بالنورة في كل شهر فإنها مذيبة للبلغم مهلكة للمرة.
وقال أبقراط لما حضرته الوفاة: خذوا جامع العلم مني من كثر نومه ولانت طبيعته ونديت جلدته طال عمره. وقال اسكندر اجمعوا لي الطب في كلمات أتصورها. فقالوا: لا تدخل الفضل على المعدة ولا تمنع نفسك شهوتها فإن النفس تقوى على هضم المشتهي، ولا تنكحن عجوزا ولا تخرج الدم وأنت مستغن عن إخراجه فإنك لا تعل إلا علة الموت.
وقيل: راع غذاءك فأنت تحكم به بناءك.
أخبر حاتم بن زيد بن المهلب بشيخ قد أتت له مائة وخمسون سنة في اعتدال جسم ونضارة لون استدعاه وسأله، فقال: إن كان لما أرى من هذه الموهبة الجميلة سبب بعد تقدير الله تعالى فما أصفه ما احتملت مهما تبعد على مدافعته، ولا رأيت من زوجة مكروها، ولا اجتمع في بطني طعامان، وإذا شربت شرابا تناولته رقيقا طيبا لا أثمل منه ولا استدعي الطبيعة من غير عارض، وما استدعيت للباه حركة ألا أن يهيج بالطبيعة على القلب وإذا فعلت ذلك أقللت الحركة بقية يومي. وكان جالينوس يقول: اجتنبوا ثلاثة وعليكم أربعة ولا حاجة لكم بالطبيب. اجتنبوا الغشيان والغبيراء والنتن وعليكم بالدسم والطيب والحلواء والحمام.
نفع النّوم ومضرّة السهر
قال المأمون: قد أصبت دواء يمرىء ولا يؤكل ولا يشرب فقيل ما هو؟ قال: النوم أثر الغداء. وقيل: إذا أكلت فاضطجع على جنبك الأيسر فإن الكبد يقع على المعدة فينضج الطعام فيهضمه.
ما تتولّد منه العلل
قيل: أضر الأشياء طعام بين شرابين وشراب بين طعامين. وقيل: أضر الأشياء للبدن الفكرة والسهر، وأنهك الأشياء للبدن الخوف. وقيل: ثلاثة تورث الهزال، شرب الماء على الريق والنوم على غير وطاء وكثرة الكلام برفع صوت، وقيل: أربع يهدمن الجسم وربما قتلنه، أكل القديد الجاف والجماع على الامتلاء ومجامعة العجوز وإدخال الطعام على الطعام. وشرب الماء في ثلاثة مواضع متلف: عقيب الخروج من الحمام وأثر الجماع وعلى الإعياء. وقيل: من أدوأ الداء الشرب على اللقمة في الفم وقال طبيب الهند: اجتنبوا ما أخرج الضرع والبحر والنخل تسلموا.(1/505)
وقال الحارث بن كلدة لأنوشروان: الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها وغشيان المرأة المولية يضعف القوة ويسقم البدن لأنها كالشن البالي ماؤها سم قاتل ونفسها موت عاجل تأخذ منك ولا تعطيك. واجمع علماء الطب على مضرة اللحم الجاف والسمك والبيض البارد، واجمعوا على منفعة النبيذ والسويق والسكنجبين. وقيل: من حم يوما فلا يأكل الكشك سنة، وقيل: كثير الرمان ضار كما أن قليله نافع.
من تناول طعاما وتحقّق تولّد علّة منه
اجتاز رجل بصديق له محموم فسأله عن سببب علته، فقال: أكلت في هذا الصيف فراخا وعسلا وشربت خمرا صلبا ونمت في الشمس، فقال له: عليّ كل يمين لو كانت الحمى من حملة الشمس ورأتك بهذه الحالة لتركت عملها ووافتك. وقال بعضهم: أكل رجل سمكا وخبزارز ولبنا وشرب عليه ماء كثيرا بجليد ودخل سردابا فجامع ونام هناك فأتى الموت حيه ودق عليهم الباب، وقال تعالوا وانظروا إلى هذا المتخلف وفعله، فإن هذا يموت فيقال اختطفته المنية ولا يعرفون سوء تدبيره وقبح صنيعه.
نظر طبيب إلى دهقان يغرس شجرة مشمش فقال له ما تصنع؟ قال: أعمل لي ولك يعني أن الطبيب ينتفع بالمشمش لسوء أثره على آكليه وحاجتهم إلى الطبيب لما يتولد عليهم من الأدواء لأكل الطري منه، وفي هذا المعنى يقول ابن الرومي:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... فأيقن يقينا أنه لطبيب
يغل له ما لا يغل لغيره ... يغل مريضا حمل كلّ قضيب
هيجان الدم ونقصانه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا تبيغ بأحدكم الدم فليحتجم لئلا يقتله. قال ابن ماسويه: في الفصد ثلاث منافع وثلاث مضار، أما منافعه فإنه يحد البصر ويصفر اللون ويزيد في اللحم، ومضاره أنه يضعف البدن ويجلب الضعف ويقطع الباه، قال جالينوس: الدم في الجسد كالزيت في السراج إذا نفد الدهن طفىء السراج، وقال بختيشوع للمأمون: البدن إلى الدم أحوج منه إلى إخراجه، ألا ترى إلى الطبّاخ الحاذق يجيىء إلى القدر وهي تفور فيأخذ رغوتها ويسكنها بشيء من الماء أو غيره وهي ممتلئة، فكذلك يفعل بالدم.
واقتصد المأمون يوما فأراد أن يشرّح وكان قد أتخم فشدوا الرباط عليه فلم يخرج الدم، فقال المأمون: قد عقرتموني فحلوا الرباط واعتزلوا وتشاوروا بظهر الغيب غني فالهيبة قد أدهشتكم، فاعتزلوا يتشاورون فدعا فراشا وأمره بمصه فمصه فخرج الدم. فقال: ادع هؤلاء الحاكة، فلما رأوه أخبرهم بذلك فقالوا لو فعل جالينوس هذا كان عجيبا.
تهنئة بالفصد
قال ابن رزين الواسطي:
أراق الفصد خير دم ... دم الأذهان والفهم(1/506)
لقد أخطأ الطبيب غدا ... ة فصدك طيّب النسم
وراح وفي حديدته ... دم المعروف والكرم
قال ابن الرومي:
يا فاصدا من يد جلّت أياديها ... وذاق طعم الردى والبؤس شانيها «1»
يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فإن أرزاق طلّاب الندى فيها
واقتصد جعفر بن يحيى فكتب إليه الفضل:
إذا أنت أسبلت للباسليق ... عيونا من أجفانه الواهيه «2»
رأيت اعتدالك يبكي دما ... وتضحك من جنبك العافيه
جملة التّداوي
قال أبقراط: جملة المعالجة خمسة أضرب، يعالج ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في أسفل المعدة بالإسهال، وما بين الجلد بالعرق، وما في داخل الجلد بإخراج الدم. وقال جالينوس: يعالج ما في قعر الكبد والطحال والكليتين بإخراج البول، وما في المعدة من ضعف أو تغير مزاج أو فضول زائدة يرقق بالأدوية، إن كانت حرارة بردت وإن كانت رطوبة جففت.
من امتنع في مرضه من التّداوي وذكر قلّة غنائه
قيل لأبي بكر رضي الله عنه ألا ندعو لك طبيبا، فقال: قد رآني الطبيب وقال أنا فعال لما أريد. ودخل عثمان على ابن مسعود رضي الله عنهما في مرضه. فقال: ما تشتكي؟ قال ذنوبي، قال ما تشتهي؟ قال رحمة ربي، قال ألا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني، قال ألا نأمر لك بشيء قال فما منعني قبل اليوم فلا حاجة لي فيه اليوم، قال تدعه لعيالك قال إني علمتهم شيئا إذا راعوه لم يفتقروا.
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من قرأ في كل يوم وليلة سورة الواقعة لم يفتقر أبدا.
وقيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذلك، فقال: لو علمت أن دوائي في مسح أذني ما مسحتها نعم المذهوب إليه ربي. وقيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا فقرأ: وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا قد كان فيهم مرضى وأطباء فلا المداوي بقي ولا المداوى، واستحسن قول الشاعر:
إن الطبيب بطبّه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مقدور أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى
هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى(1/507)
وقال المتنبّي:
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبّه «1»
وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب من أين الداء؟ قال من عندي، قال فالدواء قال من عندي، قال فالأطباء ما يصنعون، قال يطيّبون قلوب عبادي حتى تحل عافيتي أو بلائي، وقال ابن نباتة:
نعلل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء
ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدّمه القضاء
وما أنفاسنا إلا حساب ... ولا حركاتنا إلا فناء «2»
وقال مسلمة ما وعظني شيء بعد القرآن كما وعظني بيتان لعمران بن حطان:
لنا كل عام مرضة ثم نقهة ... ونبغي ولا نبغى متى وإلى متى
فيوشك يوم أن يوافق ليلة ... يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا
وصف الحمّى
دخل بختيشوع على يحيى بن خالد بعقب حمى، فقال له: توقّ فإن حمى ليلة يبقى في البدن تأثيره سنة، وعنده وكيع فقال صدق، فقال يحيى ما أقرب تصديقك إياه، قال لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: حمى ليلة كفارة سنة فعلمت أن هذا كما قال. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول الحمى ناري أسلطها على عبدي فإن لم يشكني إلى عوّاده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأخرجته من ذنوبه لهيئة يوم ولد. وقال صلّى الله عليه وسلم: الحمى من قبح جهنم فاطفؤوها بالماء، ويستجاد قول المتنبي:
وزائرتي كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلّا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام «3»
حمّ أعرابي في أيام القيظ بمكة فأتى الأبطح وقت الظهيرة، فتعرى وطلى بدنه بالزيت ونام في الشمس وجعل يتقلب فيها، ويقول مخاطبا للحمى: لتعلمن ما نزل بك يا حمى عدلت عن الأمراء وأهل الثراء وجئتني، فعرق وذهبت حمّاه. وقام فسمع قائلا يقول: حم الأمير، فقال: أنا والله بعتها فلعن الله من وشى به عليّ.(1/508)
وقيل: التقى حمتان فسألت إحداهما الأخرى فقالت آتي كل يوم رجلا خريما ناعما فيضجعني على فراش وطيء فأضاجعه في أرغد عيش فأنصرف عنه بأطيب حال، فقالت الأخرى: ويحك إني وقعت إلى كساح قذر متى قصدته يأت بي سبخة فيعركني في التراب فأرجع عنه متربة. فقالت: ويحك تعالي إلى صاحبي لأغاديه أنا وتراوحيه أنت.
الرّمد
كتب علي بن القاسم رحمه الله: بلغني عن حال رمد عرض له ما أرمد خاطري وأظلم ناظري وأذهلني عن كل مهم وخفف في عيني وقلبي كل ملم. ويستحسن في عين محبوب رمداء قول ابن المعتز:
قالوا شكت عينه فقلت لهم ... من شدة الفتك نالها الوصب «1»
حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب
وقال ابن الحجاج:
أنا الفداء لعين بعض أسهمها ... مسكونة بين أحشائي وفي كبدي
فيها فتور سقام لا خفاء به ... يجرد السقم في قلبي وفي جسدي
كانت تعلّ فؤادي وهي سالمة ... فكيف بي وهي تشكو علة الرمد
النقرس
كان أبو الفضل بن العميد يكثر برجله النقرس، فقيل له: لا تغتم فإن ذلك يؤذن بطول العمر، فقال: طول العمر هو أن من به النقرس يسهر فيصير ليله نهارا فكأنما يتضاعف عمره، قال شاعر:
ألا فاعجبوا من مفلس حلف نقرس ... أما نقرس في مفلس بعجيب «2»
وقال المبرد: ذكر أعرابي رجلا قد أثرى فقال تنقرس كأنه سمع أن النقرس يكون مع النعمة، ومنه قول أعرابي:
فصرت بعد الفقر والتفلس ... يخشى على الحيّ داء النّقرس
وقال ماسرجويه: لا ينقرس الناطفي في رجله والشطرنجي في يده.
الحبون
دخل شبيب بن شبة إلى ابن هبيرة، فقال: ما حبسك عنا؟ فقال: علة منعت الحركة ولم توجب العيادة حتى خرج علي، فقال ابن هبيرة: إن لحما شديدا أعاد قيحا وصديدا(1/509)
لأهل أن يعاد صاحبه. وقيل: حبنك يؤذن بمالك، وقال بعض الأدباء: إنما يؤذن بمالك بفتح اللام أي يقتضي أن يقال أي شيء لك.
قال شاعر:
وبي دمّل في كلّ يوم يزورني ... فيقلق أحشائي ويسهر مقلتي
يقول لي العوّاد مال وصحة ... فيا ليتهم آبوا بمالي وصحتي «1»
وقال أبو حكيمة:
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برأسي ورجلي دمّلا وزكاما
فليتهما كانا وأزيده ... زمانة أير لا يطيق قياما «2»
الجرب
في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا دعوى فقيل: إن البعير يجرب في القطيع فيجرب بجربه الإبل كلها، قال فمن أجرب الأول. ويسمى الجرب حبيبات الطرب. وقيل:
صاحب الجرب شاكر لأنه أبدا يقول قد ذهب، قال الصنوبري:
الشيب عندي والإفلاس والجرب ... هذا هلاك وذا شؤم وذا عطب
وقال عبدان:
ومستخبر حالتي إذ رأى ... أقض على جنبي المضجع
فقلت مجيبا له إنّني ... لضرّي كما قال لي أسجع «3»
إذا الليل ألبسني ثوبه ... يقلّب فيه فتى موجع
الزّكام
روي أنه قيل: ثلاثة لا يعدن المزكوم والرمد والجرب، وقالت عائشة رضي الله عنها: من لا يعودني في الزكام لا أبالي أن لا يعودني في مرض آخر. وقيل مؤنة أنف المزكوم أعظم من مؤنة استين. ودعا عيسى بن علي بن المقفع إلى الغداء، فقال:
لست اليوم بمؤاكل للكرام لأنني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. ويقال: إن الشيطان قال ما حسدت ابن آدم إلا على شيئين الطشاءة والحقوة، أي الزكام والهيضة.
قال الوزير الرئيس الكافي الأوحد:
ونزلة كنت أحمي وجه موردها ... ففاجأتني على ضرب من الحمر(1/510)
سدت عليّ طريق الروح منتشقا ... وأسلمتني لأيدي الروع والخدر «1»
وأنشأت مزنة في الرأس مضرمة ... ينعق بارقها في السمع والبصر «2»
حتّى إذا محضتها مدة قدرت ... مدت بصفو حميم غير ذي كدر
ففي شؤني حريق من تلهبه ... وفي الخياشيم ضيق محصد المرر
لا الفصد يغني ولا ماء الشعير ولا ... طول احتماء إذا ما هم بالدرر
فالحمد لله حمدا لا كفاء له ... على السلامة وقاها من الغير
شرب الأدوية المسهلة
سئل طبيب كسرى عن دواء المشي فقال: سهم ترمي به في جوفك أخطأ أم أصاب.
وقيل: الدواء مثل عدوّ إلى جانبه صديق ترمي العدو فلا تأمن من أن يصيب الصديق. وقيل: الدواء في البطن كالصابون في الثوب ينقيه لكن يخلقه.
وقيل لأبقراط: ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنا إذا شرب الدواء؟ فقال: مثل ذلك مثل البيت أكثر ما يكون غبارا إذا كنس. وقيل: لا تستعمل الأدوية في ما تنفع فيه الأغذية. وقيل: النفس إذا ألفت الدواء فسدت لأن الدواء يحب أن يطرأ عليها غريبا فتحتشم.
الكناية عن الأدوية المسهلة
كان ظرفاء البصرة يقولون لشارب الدواء: لم لبست النعل، ويقال: شربت فما أنجاني كناية عنه.
وكتب الصنوبري إلى صديق له شرب دواء:
نبّني كيف تخطّيك إلى دار الكرامة ... كم جدار هدّ من رعد وكم سحّت غمامه «3»
فلم يجبه فكتب إليه ثانيا:
ابن لي كيف أصبحت ... وما كان من الحال
وكم سارت بك النا ... قة نحو المنزل الخالي
فأجابه:
كتبت إليك والنعلان ما إن ... أغبهما من السير العنيف
فإن رمت الكتاب إليّ فاكتب ... على العنوان يوصل في الكنيف(1/511)
الحقنة
كان كرتكين أمير بغداد أمره الطبيب بالحقنة، قال: يوضع في إسته (كذا) فقال: في إست من؟ فخاف الطبيب، فقال: في إستي أيّد الله الأمير. وكان عين الدولة أصابه مغص فأشير عليه بالحقنة فأبى وتفادى منها فلما اشتد به الوجع، قال: يا قوم أدخلوا هذا الجذع في إستي وأريحوني فحقن وبرأ.
واعتلّ أعرابي فأشير عليه بالحقنة، فقال صديق له:
كفى سوءة أنا نراك محبسا ... على شكوة قبحا وفي إستك عودها «1»
الحثّ على التّداوي بالأدوية
روي في الخبر: تداووا فإن الله ما وضع داء إلا وضع له دواء، إلا الهرم، وقال طبيب لرجل: بم تداوى من حمّاك، قال: بالنشرة «2» ، فقال: إن رأيت أن تغسلها بماء الشعير وتشربه فافعل. وقال رجل لآخر، وكان معه إبل جرب: هلّا داايتها؟ فقال: إن لنا عجوزا صالحة نتكل على دعائها ونستغني به عن الدواء، فقال اجعل مع دعائها شيئا من القطران.
التداوي بالقرآن والأدعية
وجد ابن أسقع يشكو حلقه فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: عليك بقراءة القرآن. ووجد بعض الصحابة شكوى في بعض بدنه، فقال صلّى الله عليه وسلم: ضع يدك اليمنى عليه وقل بسم الله أعوذ بالله وبقدرته من شرّ ما أجده سبع مرات.
ذكر التأنّي في المداواة والمبادرة
قيل: حقّ الطبيب أن يتأنى في المداواة فعثرته لا تقال. وقيل: المتأنى في علاج الداء بعد معرفة الدواء كالمتأني في إطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه.
نوادر الأطباء
جاءت امرأة إلى طبيب بقارورة. فقال: ما يجد صاحبها؟ قالت به حرارة وضيق ويبوسة، فقال: ليت ذاك في حرّ امرأتي. وجاءت أخرى ببستوقة فيها ماء، فقال: لو جاز في البستوقة لجاز أن تحمليه في حرك.
وشكا رجل إلى طبيب سوء الهضم، فقال: كله مهضوما. وجاء آخر إلى طبيب، فقال أكلت الشعير والرطبة فأصابني مغص، فقال: هذا طعم الحمار فاذهب إلى يحيى البيطار يعالجك. واعتلّ رستاقي «3» فجاء إلى الطبيب فقال له: كل الرائب، فقال: والله إني(1/512)
لو عصرت ما انعصر مني إلا الرائب. وقال طبيب لمريض لا تأكل السمك واللحم، فقال له: لو كانا عندي ما اعتللت.
شكا عبد الله بن جعفر ضرسه، فقال له عبد الله بن صفوان: إن إبليس يقول دواء الضرس قلعه، فقال: إنما يطيع إبليس أولياؤه. شكا رجل إلى أبي السائب وجع رجله، فقال له: لا تأكل القديد، فقال أنا أحبه، قال: فالوجع أيضا يحب رجلك، وظن خادم أن بشرا المريسي طبيب فعرض عليه ماءه فقال أنا طبيب الأديان لا طبيب الأبدان.
سخفيات في الطبّ
نظر عبادة إلى رجل في عينه جرب، فقال: أعطني مائة درهم أصف لك دواء، قال:
افعل، فقال: خذ ورق المدر وعروق الحجر واسحقهما واكتحل بهما سبع سنين فإن لم تذهب عينك فخذني به، فرفع رجله وضرط عليه ضرطتين، فقال خذ هذين الدرهمين فإن نفع دواؤك زدناك.
وركب بختيشوع يوما مع المأمون فتعلق به مجنون، وقال: أيها الطبيب خذ نبضي فأخذه، وقال ما تشتكي؟ فقال المجنون: أشتكي الشبق «1» ، فقال بختيشوع: خذ مسواك أراك «2» وأدخله من وراك فإنه صالح لذاك، فضرط المجنون وقال: خذ هذا لذاك حتى تجرب دواك فإن كان صالحا زدناك ولا يكون لنا طبيب سواك، فضحك المأمون:
شهوة المريض للطّعام
قيل للخليل في علته أتشتهي شيئا، قال: لا، وبودي أن أشتهي. وقيل ذاك لآخر:
فقال: أشتهي ما لا أجد وأجد ما لا أشتهي. وقيل ذلك لآخر: فقال: أشتهي أن لا أموت. قال أبقراط: المريض الذي يشتهي أرجى عندي من الصحيح الذي لا يشتهي.
وقال المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرّ به الماء الزلالا
من شكا علته
قال أبو نواس، وقيل هو آخر شعر قاله:
دبّ فيّ السّقام سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا
ليس يمضي من ساعة بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا «3»
لهف نفسي على ليال وأيا ... م تمتّعتهنّ لعبا ولهوا
وقيل لعمرو بن العاص في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب(1/513)
وأجد نجوي «1» أكثر من رزي «2» ، فما بقاء للشيخ على ذلك.
وقيل:
ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
حمد شكوى العلّة
قال بعضهم: دخلت على سفيان وهو عليل فقال: أشتكي كذا وبت البارحة بكذا، فقلت أما تخشى أن تكون هذه شكاية من الله؟ فقال: أنا أذكر قدرته عليّ. ولما مرض أمير المؤمنين دخل إليه الناس فقالوا: كيف تجدك، قال: بشرّ، قالوا: أهذا كلام مثلك، قال أجل إن الله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
«3» فالخير الصحة والشر المرض.
وقيل: الشكوى تخفف الهم وتزيل الألم. وقيل لآخر: ما تشكو، فقال: تمام العدة وانقضاء المدة. ووجه المتوكل إلى الجاحظ يدعوه، فقال: ما يصنع أمير المؤمنين بشخص ليس بطائل ذي شق مائل ولعاب سائل وفرج مائل وعقل حائل.
شكوى العلّة
قال المأمون لابنه العباس وقد شكا إليه وجعا في بطنه: يا بني إنك لا تجد مواساة في عرض ما تجده في بدنك ولا يشركك فيه صديقك فلا تشمتن به عدوك. وقال بعضهم لمن يشكو: أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟. وقيل لسعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وهو مريض: إن المريض يتفرج إلى الأنين وإلى أن يصف ما به إلى الطبيب، فقال: أما الأنين فو الله إنه لجزع وعار ولا يسمع الله منّي أنيني فأكون عنده جزوعا، وأما الطبيب فو الله لا يحكم غير الله في نفسي فإن شاء قبضها إليه وإن شاء منّ بها عليّ.
فضل الصحّة والعافية
قيل: شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما الشباب والعافية. وقيل: لا يعرف طعم العافية إلا من نالته يد العلة ولا طعم الرخاء من مسته يد البلاء. وقيل: الدنيا بحذافيرها الأمن والعافية لا تزال غنيا ما دمت سويا.
نفع المرض
إعتلّ الفضل بن سهل بخراسان ثم برأ فجلس للناس، فهنأوه بالعافية وتصرّفوا في فنون الكلام، فلما فرغوا، أقبل على الناس، فقال: إنّ في العلل نعما ينبغي للعاقل أن يعرفها: تمحيص الذنب والتعرّض للثواب، والإيقاظ من الغفلة والإذكار بالنعمة في حال الصحة، والاستدعاء للتوبة والحضّ على الصدقة. وفي قضاء الله وقدره الخيار.(1/514)
ودخل الحسن بن علي رضي الله عنهما على عليل، فقال: إن الله قد أقالك فاشكره وذكرك فاذكره.
واعتلّ جعفر بن محمد عليهما الرضوان، فقال: اللهمّ اجعله أدبا لا غضبا، وقال عليه السلام: إن المريض تتحات «1» عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر.
وذكرت الأدواء عند أبي الدرداء، فقال رجل ما اشتكيت قط، فقال: لا جرم أن ذنوبك لم تحطّ عنك.
وجوب عيادة المريض
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حق المسلم على المسلم ثلاث: عيادة المريض وتشميت العاطس وتشييع الجنازة.
وقال صلّى الله عليه وسلم: من عاد مريضا خاض الرحمة فإذا قعد عنده استنقع فيها، وإذا خرج من عنده خاض الرحمة. وقيل: عيادة المريض يعد ثلاث. وفي الخبر: عودوا مرضاها وشيعوا هلكاها وعزوا ثكلاها.
أدب عيادة المريض
قيل: سوء العيادة تلقيح العلّة. وقال الفضل بن الربيع: لا تقولوا كيف أمير المؤمنين ولا تسألوه عن حاله فتكلّفوه الجواب، ولعله يثقل عليه الكلام، ولكن اجعلوا مسألتكم الدعاء له، وقولوا بدل كيف يجد أمير المؤمنين نفسه؟، أنزل الله عليه الشفاء والرحمة. قال شاعر:
حقّ العيادة يوم بعد يومين ... وجلسة لك مثل اللحظ بالعين «2»
لا تبرمنّ مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين «3»
ودخل قوم على السرى السقطي رحمه الله، وهو عليل، فأطالوا الجلوس وقالوا:
ادع لنا، فقال: ارفعوا أيديكم وقولوا اللهمّ اجعلنا ممّن علّمتهم عيادة المرضى.
ودخل قوم على مريض فأطالوا ثم قالوا أوصنا، فقال أوصيكم أن لا تطيلوا الجلوس عند المريض إذا عدتموه. ودخل ثقيل على مريض فأطال الجلوس، ثم قال: ما تشتكي؟
قال: قعودك عندي:
شكاية من لا يعوده إخوانه
قال جحظة البرمكيّ:
مرضت فلم يكن في الأرض حر ... يشرفني ببرّ أو سلام(1/515)
وضنّوا بالعيادة وهي أجر ... كأنّ عيادتي بذل الطعام «1»
الاعتذار من ترك العيادة
. قال شاعر:
إن كنت في ترك العيادة تاركا ... حظي فإني في الدعاء لجاهد
ولربما ترك العيادة مشفق ... وأتى على غلّ الضمير الحاسد
من عاده ممرّضه
قال عبد بني الحسحاس:
يعدن مريضا هنّ هيجنّ داءه ... إلا إنّما بعض العوائد دائيا
وقال آخر:
وخبرت ليلى بالعراق مريضة ... فأقبلت من أهلي بمصر أعودها
فو الله ما أدري إذا أنا عدتها ... أأبرئها من دائها أم أزيدها
مريض عاد صحيحا
قال شاعر:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
قال العبّاس بن الأحنف:
قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد
والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد
وصف العلّة بأنها تنال الأماثل
روي أن الله تعالى يجعل تمحيصا لذنوب أوليائه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: مثل المؤمن مثل الحزمة من الزرع تفيؤها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ومثل المنافق مثل الأرزة المجدبة على الأرض يكون انجعافها «2» مرة.
وقال أبو تمّام:
فإن يكن وصب قاسيت صورته ... قالوا رد حلف لليث الغابة الأضم «3»
إنّ الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعرضن للرتم «4»
وقال البحتري:
وما الكلب محموما وإن طال عمره ... إلا إنما الحمى على الأسد الورد(1/516)
ذكر تباطؤ زوال العلّة
دخل سفيان على جار له مخنث فقال له: كيف نجدك؟ قال: جاءتني العلّة باقات والعافية تأتيني طاقات. وقيل: العلّة تحمل على الجمال وتثقل على النمال.
حثّ العائد على تنشيط المريض
قال يوحنا: بشّروا المريض بالبرء ونشطوه لشرب الدواء ولا تصعبوا عليه العلة فتخاف نفسه ويموت حسه.
وقال أبقراط: حدثوا المريض حال من كان في أصعب من علّته فبرأ، ولا تحدثوه عمّن كان في مثل علّته فمات. وقيل: أدب العيادة تشجيع العليل بلطيف اللفظ وحسن الفأل.
الحثّ على تخويفه ليتجنّب المضارّ
قيل: خوّفوا المريض ليجتنب المضار، فمن خوّفك لتلقى الأمن خير لك ممن أمّنك لتلقى الخوف. وقيل: من أوجرك «1» المرّ لتبرأ خير ممّن أوجرك الحلو لتسقم. ودخل طبيب على مريض قد أصاب إصبعه ريح فشمّها، فقال: إن أكلت اليوم شيئا مت فلما كان من الغد برأ أقيل له في ذلك، فقال: لو لم أخوفه لتجاسر على الأكل فكان يطول عليه.
رقيع خوّف مريضا برقاعته
عاد رجل مريضا لم يكن به بأس فقال: لا ضير إذا رأيتم المريض هكذا فاغسلوا أيديكم منه، فقد كان أبي به هذا الداء فمات. وعاد آخر عليلا، فقال: ما علّتك؟ قال:
وجع الركبة، فقال: إن جريرا يقول بيتا ذهب عنّي صدره، وآخره: وليس لداء الركبتين دواء، فقال: ليتما ذهب عنك عجزه مع نفسك.
ودخل آخر على مريض، فقال: آجركم الله، فقيل إنه لم يمت، فقال: يموت إن شاء الله.
وقال رجل لمريض: كيف أنت جعلني الله فداءك؟ فقال: على الموت، فقال: إذا لا جعلني الله فداءك فإني قدرت أن في الأمر فسحة.
تهنئة من برأ من مرض والدعاء له.
قال أشجع:
لئن جرحت شكاتك كلّ قلب ... لقد قرت بصحتك العيون «2»
وله:(1/517)
لقد أمسى صلاح أبي عليّ ... لأهل الأرض كلّهم صلاحا «1»
قيل لأعرابي برأ من علته: الحمد لله الذي سلمك، فقال: أو يسلم من الموت في عقبه. كتب عبد الله بن المعتز: أذن الله بشفائك وتلقّى داءك بدوائك ومسحك بيد العافية ووجّه إليك وافد السلامة وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك.
وقال ابن المعتز:
يا رب أمسك رمق الدنيا به ... واغسله بالصحة من أوصابه «2»
وقال أبو تمّام:
سقم أتيح له برء فزعزعه ... والرمح ينآد طورا ثم يعتدل «3»
قد حال لون فردّ الله نضرته ... والنجم يخمد حينا ثم يشتعل
وقال المتنبّي:
صحت بصحتك الغارات وابتهجت ... بها المكارم وأنهلّت بها الديم «4»
وراجع الشمس نور كان فارقها ... كأنّما فقده في جسمها سقم «5»
تفدية المريض
قال شاعر:
فديناك لو نعطى المنى فيك والهوى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر
وقال البحتري:
بأنفسنا لا بالطوارف والتلد ... نقيك الذي تخفى من السقم أو تبدي «6»
بنا معشر العافين ما بك من أذى ... فإن أشفقوا ممّا أقول فبي وحدي «7»
وقال آخر:
يا ليت علّته بي غير أنّ له ... أجر العليل وإني غير مأجور
وقال ديك الجن:
يا ليت حمّاه بي كانت مضاعفة ... يوما بشهر وأن الله عافاه
فيصبح السقم منقولا إلى جسدي ... ويجعل الله منه البرء عقباه(1/518)
من ذكر شدّة ما قاساه بعدما صحّ.
وقال عبد الله بن المعتز:
أتاني برء لم أكن فيه طامعا ... كمثل أسير حلّ بعد وثاقه
فإن كنت لم أجزع من الموت جزعة ... فإني مججت الموت بعد مذاقه «1»
تغيّر اللون
قال الصولي: لم يسمع أحسن من قول البحتري في صفرة اللون:
بدت صفرة في لونه إن حمدهم ... من الدرّ ما اصفرّت حواشيه في العقد
وقال أبو تمّام:
لم يشن وجهه البهيج ولكن ... جعلت ورد وجنتيه بهارا «2»
أنواع مختلفة في الطبّ
اشتكى رجل بطنه فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذهب إلى امرأتك واستوهب منها درهمين واشتر بهما عسلا واقرأ عليه القرآن وتناوله، ففعل فبرأ، فقيل له في ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يقول: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً
«3» ، وقال في العسل فيه شفاء للناس، وقيل: في الطعام إذا خرج من الجوف قبل سبع ساعات فهو مذموم غير محمود، وإذا بقي بعد أربعة وعشرين ساعة يضرّ. وقيل: كل شيء ينام من الإنسان إلا أربعة الوريد والسحر والمثانة والمعدة.
وقال جعفر بن محمد قيل: الطبائع أربع، الدم وهو عبد وربما قتل صاحبه، والبلغم وهو خصم ألد جدل إن خصمته من جانب احتج عليك من جانب، والصفراء وهي مرة كالصبى ومرة كالملك تداوى في الحالين، والسوداء وهي كالأرض إذا رجفت رجف ما فوقها. وقيل: إذا كان الطبيب حاذقا والعليل عاقلا والقيم فهما فأجدر بالداء أن يزول.
لسعت عقرب صرم أعرابي، فقيل أين لسعتك؟ فقال: حيث لا يضع الراقي أنفه. ولسعت آخر فقال أعرابي: عندي دواؤه فقيل له: ما هو؟ قال: الصياح إلى الصباح. قيل: فرط الغم والسرور يقتلان، أما الغم فإنه يجمد الدم والسرور يلهبه حتى تعلو حرارته على الحرارة الغريزية.
ولما دخل الرشيد طوس اشتدت علته وطبيبه بختيشوع يغدو ويروح عليه ويعطيه الأباطيل ويمنيه الأماني، ويقول: إن علتك من حدّة السفر، فدعا الفضل يوما وقال: أبغني(1/519)
رجلا عاقلا من التجار أشاوره في أمري وأفضي إليه بسرّ، فجاءه برجل من أهل طوس «1» فاستنطقه فرآه عاقلا، فقال: أتحفظ السر؟ قال: نعم. فخلا به وقال: خذ هذه القارورة فأت بها جبريل بن بختيشوع فقل له:- هذه قارورة أبي فتأمله فإن كان له دواء فعرّفني وإن لم يكن له دواء فعرفني ليتجهز ويصلح أمره، فذهب إليه بالقارورة. فلما نظر إليها جبريل أقبل على أبيه، وقال: ما أشبه ماءه بماء ذلك الرجل. إن هذا ميت لا محالة، فرجع الرجل وأخبر الرشيد بما قاله، فقال: ويلي على ابن الزانية يا فضل إذهب فاضرب عنقه، يعني الطبيب فأخذه الفضل وحبسه، فقال: أتركني محبوسا عندك ثلاثة أيام فإن عاش فاقتلني، وإلّا فلا تتقلد دمي، ففعل، فمات الرشيد ليلة الثالث.
قال أنوشروان لوزيريه يوما أيّ الفراش ألذ؟ فقال أحدهما: ألذ الفراش الخز محشوا، وقال الآخر: ألذ الفراش الحرير محشوا، وكان بين يديه غلام في عدد الحجاب، فقال: أيها الملك أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. قال: ألذ الفراش الأمن، قال: صدقت.
قال: فما ألذ الطعام، قال: ما لا يهيج على طبيعة علة ولا يعقد في عنق آكله منّة، فقال: أحسنت. فما ألذ الشراب؟ فقال: ما لا يزيل عقلا عن محلّه ولا يهيج على طبيعة شيئا من علله، قال: أحسنت. فما ألذ الريحان، قال: الولد السار ريحان أبيه في حياته وخلف له بعد وفاته، فرفع محله وألحقه بأكابر حشمه.
وكان بعض الأصبهانيين أصابه صداع فضمد رأسه بدار صيني وفلفل، فقال له الطبيب: هذا يعمل لرأس يوضع في التنور.(1/520)
الحدّ السابع في الهمم والجدّ والآمال
(1) فما جاء في الهمم الرفيعة والوضيعة
مدح رفع الهمّة والحثّ عليه
قيل: الهمة تلقح الجد العقيم، وقيل: الهمّة جناح الحظ، وقيل: لا تدور رحى الجدّ إلا بقطب الهمّة وقيمة كل امرىء همّته. وقال عمرو بن العاص: عليك بكل أمر فيه مزلقة ومهلكة أي بجسام الأمور.
قال عمر رضي الله عنه: لا تصغرن همّتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همّته.
وقال: أحسن ما قال لبيد:
أكذّب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل «1»
وقيل: ثلاثة لا تدرك إلا برفع الهمة: عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدوّ.
قال ابن نباتة:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق «2»
وارغب بنفسك أن تكون مقصّرا ... عن غاية فيها الطّلاب سباق
المرء تابع لهمّته
المرء حيث يجعل نفسه: إن رفعها ارتفعت وإن قصر بها اتضعت. نظر رجل إلى برذون يستقى عليه، فقال: ما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو هملج «3» في سيره ما استقي عليه. قال شاعر:
وما المرء إلّا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل(1/521)
ولبعض بني عامر:
إذا لم يكن للفتى همة ... تبوّئه في العلا مصعدا
ونفس يعوّدها المكرما ... ت والمرء يلزم ما عوّدا
ولم تعد همّته نفسه ... فليس ينال بها السؤددا
من عظمت همّته وقصّرت موجدته
قيل: ذو الهمة وإن حطّ نفسه، تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا. وقيل: أسوأ الناس من اتسعت معرفته وضاقت مقدرته وبعدت همته، أخذ ذلك المتنبي فقال:
وأتعب خلق الله من زاد همّة ... ويقصر عمّا تشتهي النفس وجده «1»
وقال ابن نباتة:
أرى همم المرء اكتئابا وحسرة ... عليه إذا لم يسعد الله جنده
الحثّ على طلب الحسام والاعتزال عن الأنام
قال في كليلة: ينبغي لذي المروءة أن يكون إمّا مع الملوك مبجّلا أو مع النساك متبتلا كالفيل إما أن يكون مركبا نبيلا أو في البرية مهيبا جليلا. وقال حكيم: الناس رجلان دنياوي وآخري فالدنياوي صاحب سلطان وذو لسان أو سنان لا يفضي على هوان، والآخري المتباعد من الناس الجاعل بينه وبينهم سدّا ولا واسطة بينهما. وقال معاوية رضي الله عنه لابنه: كن مترفعا عن الناس ومستترا عنهم.
الممدوح بعظم الهمّة
قال أعرابي: فلان يرمى بهمّته حيث يشير إليه الكرم، يتحسى مرارة الإخوان ويسقيهم عذبه، له همة تناطح النجوم وكرم يشامخ الغيوم.
قال أبو الغمر:
وهمة نبلت عن أن يقال لها ... كأنّها وتعالت عن مدى الهمم
وقال آخر:
ولي همم بيني وبين بلوغها ... بحور من الآمال ليس لها جسر
وقال المتنبي:
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصغرى أجلّ من الدهر(1/522)
وله:
فتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمة في ابتداآت وتشتيت «1»
وقال آخر:
صدر رحيب لما يأتي الزمان به ... وهمة تسع الدنيا وما تسع
من ضاق به الزمان لعظم همّته
قال المتنبيّ:
فتى يشتهي طول البلاد ووقته ... تضيق به أوقاته والمقاصد
وله:
تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها «2»
وقال الموسوي:
ضاق الزمان فضاق فيه تقلّبي ... والماء يجعل نفسه في جدول «3»
تحمّل المكاره في نيل المكارم:
قيل: المكارم موصولة بالمكاره، وقيل: من سما لمكرمة فليتحمّل مكروهها.
وقال الخبزارزي:
فقل لمرجّي معالي الأمور ... بغير اجتهاد رجوت المحالا
وقال أبو تمّام:
ما ابيض وجه المرء في طلب العلا ... حتّى يسودّ وجهه في البيد «4»
وقيل: إذا لم تتعن لم تتودع وإذا لم تتفجع لم تتمتع. دون نيل المعالي هول العوالي. وقيل للربيع بن خيثم: أتعبت نفسك في العبادة وإصلاح أمر الناس، فقال:
راحتها أريد فإن أفره العبيد أكسبهم لمولاه. وقيل لروح ابن حاتم: طال وقوفك في الشمس، فقال: ليطول وقوفي في الظلّ. وقد أجمع حكماء العرب والعجم أنه لم يدرك نعيم بنعيم قط، وما أدرك نعيم إلا ببؤس قبله.
قال شاعر:
وتحمل المكروه ليس بضائر ... ما خلته سببا إلى محمود(1/523)
وقال امرؤ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
وقال المتنبّي:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر صغير ... كطعم الموت في أمر عظيم
وله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وقال الصاحب:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم «1»
فقلت دعيني على غصّتي ... بقدر الهموم تكون الهمم
وكتب بليغ: فلان تعب في طلب المكارم غير ضالّ في طرقها، ولا متشاغل عنها:
استطابة تحمّل الشدّة للوصول إلى الرفعة
قال المتنبيّ:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام
وقال أبو فراس:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
وقال أبو دلف:
وليس فراغ القلب مجدا ورفعة ... ولكنّ شغل القلب للهمّ رافع
وذو المجد محمول على كل آلة ... وكلّ قصير الهمّ في الحي وادع «2»
ذمّ من همته نفسه
لمّا قال الحطيئة في الزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
شكاه الزبرقان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: ما في ذلك هجاء.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه عرّاني عما ابتنيته من المعالي فدعا حسّانا وسأله، فقال: ما هجاه ولكنه سلح عليه.(1/524)
وقال حاتم:
لحى الله صعلوكا مناه وهمّه ... من العيش أن يلفي لبوسا ومطعما «1»
وقال آخر:
إنّي رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرّة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
وقال ابن سوادة:
همهم من هذه كلّه ... في الأكل والشرب وفي الباه
أخذ ذلك من قول الأعرابي الذي قال: فلان كالبهيمة تأكل ما جمعت وتنكح ما وجدت، وقال:
إذا الفتى لم يركب الأهوالا ... فاسع له وعدّه عيّالا «2»
ذمّ من قصّرت همّته عن طلب المعالي
ذم إعرابي رجلا، فقال: هو عبد البدن حر الثياب عظيم الرواق صغير الأخلاق الدهر يرفعه وهمته تضعه.
قال أبو تمّام:
بنو الهمم الهوامد والنفوس ... الخوامد والمروآت النيام
وكان لأعرابية ابن تحرضه على الإقامة والاقتصار على المطعم والمشرب، فأنشدها:
إذا ما الفتى لم يبغ إلا لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد
وقيل: فلان بطر الدعة بخيل السعة سيء الرعة. قال ابن الأعرابي: فلان يشبعه كراع الأرنب إذا كان دنيء الهمة. ويقرب من هذا الباب ما قاله المنصور للمهدي: أشبع العباس بن محمد فإنّك إن لم تشبعه يأكلك. وأما محمد بن إبراهيم فإنه إذا قدر على فرج امرأته لم يفارقه، وإياك أن تولّي محمد بن سليمان صعود منبر فإنه إن صعده همّ بالخلافة.
تذمّم من قصّر في طلب المعالي
قال المتنبّي:
إلى كم ذا التخلّف والتّواني ... وكم هذا التمادي في التمادي «3»(1/525)
وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد «1»
ذمّ إيثار الدّعة والنهي عنه
قال: ما لزم أحد الدعة إلا ذلّ، وحب الهوينا يكسب الذل، وحب الكفاية مفتاح العجز. وقال الصاحب: إن الراحة حيث تعب الكرام أودع لكنها أوضع، والقعود حيث قام الكرام أسهل لكنّه أسفل.
وقال آخر:
فتى بهمّته يلتذّ في دعة ... وراحة ويولي غيره التعبا
وقال أبو دلف:
ليس المروءة أن تبيت منعّما ... وتظلّ معتكفا على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنّما ... خلقوا ليوم كريهة وكفاح «2»
قال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز.
ذمّ الكسل وتدرع العجز
قال الأحنف إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤد حقا وإن ضجرت لم تصبر على حق.
قال شاعر
لا تضجرن ولا تدخلك معجزة ... فالنجح يهلك بين العجز والضجر
وقيل: زوّج العجز التواني فنتج بينهما الحرمان.
قال ابن المعافى:
كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا
فراشا وطيئا ثم قال له اتكىء ... فقصرا كما لا شكّ أن تلدا فقرا
وقال آخر:
خاطر بنفسك لا تنتفع بمعجزة ... فليس حر على عجز بمعذور
مدح إيثار الدّعة وقصر الهمّة
قيل لابن المقفع: لم لا تطلب الأمور العظام؟ فقال: رأيت المعالي مشوبة بالمكاره فاقتصرت على الحمول ضنّا بالعافية، ومنه أخذ العتابي قوله:
دعيني تجئني منيتي مطمئنة ... ولم أتجشم هول تلك الموارد(1/526)
فإن جسيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود «1»
مدح الخمول مع الغنى
قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشا؟، فقال: من اتسعت مقدرته وقصرت همته. وقال عبد الملك لأعرابي: تمنّ. فقال: العافية والخمول فإني رأيت الشر إلى ذي النباهة أسرع، فقال: ليتني كنت سمعت هذه الكلمة قبل الخلافة.
وقيل لسعد: أرضيت أن تكون مشغولا بأغنامك والناس يتنازعون الملك، فقال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحبّ الغني التقي الخفي، قال البريدي:
وما العيش إلا في الخمول مع الغنى ... وعافية تغدو بها وتروح «2»
قال بعضهم: جرّبنا العيش فوجدنا أهنأه أدناه. وقال محمد بن زبيدة: أتروني لا أعرف الإيراد والإصدار، ولكنّ شرب كأس، وشم آس، واستلقاء من غير نعاس أحب إليّ من مداراة الناس.
مدح التوسّط في الأمور
مدح الله تعالى التوسّط في كلّ الأمور، فقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ
«3» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: خير الأمور أوساطها. وقيل: الغلوّ في العلو مؤد إلى وضع الضعة. وقيل: أكثر الخير في الأوساط.
قال أبو العتاهية:
عليك بأوساط كل الأمور ... وعد عن الجانب المشتبه «4»
ذمّ التوسّط
قال كشاجم:
وقالوا عليك وسيط الأمور ... فقلت لهم أكره الأوسطا
إذا لم أكن في ذرا شاهق ... ولا في حضيض وطيء المطا «5»
وحاولت في مرتقى هائل ... توسطه خفت أن أسقطا
وقيل ممّا يستقبح: معنى وسط ومغن وسط ونادرة وسط وحقيقة الوسط ما لم يكن سنيا ولا دنيئا، كما قال أبو مهدية الأعرابي، وقد سئل عن طعام، فقال: ليس بخسيس ولا(1/527)
نفيس. وقيل لإسحاق الموصلي: قد خبرت فلانا فكيف هو، فقال: ليس في الكمال كما تهوى ولا في التخلف كما تخشى.
ذمّ بلوغ النهاية.
عند التمام يكون النقصان وبقدر السمو في الرفعة تكون وجبة الوقعة.
قال شاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ
وفي بعض الأدعية: صرف الله عنك التمام. وقال المأمون لأحمد بن أبي خالد وهو يخلف الحسن بن سهل: رأيت أن استوزرك، فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني ويجعل بيني وبين الغاية منزلة يرجوني إليها المولى ويخشاني لها العدو، فما بعد الغايات إلا الآفات. وما يضاد هذا الباب ما كتب القاسم بن عبد الله الكرخي: ولي فيما جدّد الله من هذه النعمة للوزير من بلوغ النهاية ما استديمها به، قال: انتزعته من كتاب الله تعالى في قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
«1» وقد علم أن دين الله بعد نزول هذه الآية لم يزل ناميا عاليا على كل دين، وأنه إنما ضرب بجراته وقهر الأمم شرقا وغربا بعد كماله.
(2) وممّا جاء في الجدّ «2»
تفضيل الجدّ على الجدّ
قيل: جدّك لا كدّك، عارك بجد أودع. وقيل: لا جد إلّا ما أقعص عنك. الجدّ أجدى والجد أكدى. وقيل: مدّ من حظ خير من صاع من عقل وجد.
قال البديهي:
ليس يجدي عليك سعيّ بجدّ ... لم تيسّر له ملاقاة جدّ «3»
وقيل:
الحظّ يأتي من لا يؤمه ... ليس بالكدّ بلوغ الراغب
وقال آخر:
الجدّ أنهض بالفتى من سعيه ... فانهض بجدّ في الحوادث أو دع(1/528)
وقال آخر:
هل نافعي جدّي وفرط تيقّظي ... إن كان جدّي يا أمامة جاهدا
وأنشد محمد بن عمر الورّاق البلخي:
إن السعادة أمر ليس يدركه ... أهل السعادة إلا بالمقادير
مخزونة عن أناس طالبين لها ... وقد تساق إلى قوم بتيسير
وقال عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم لما ذكر من أسعده الله من أهل الجنة وأشقاه من أهل النار:
ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب إعمل فكل ميسّر لما خلق له. أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فميسرون لعمل أهل الشقاوة.
تفضيل الجدّ على العقل
تقدّم إخوة إلى سوار في ميراث لهم، فقال سوار: خيّروا الأكبر منكم فإنه خلف أبيكم والمنظور إليه دونكم، قالوا: قد فعلنا فأبى الأكبر أن يقبل ذلك، فقال سوار: ما يمنعك، فقال: إني بحظي أوثق مني بعقلي، فأقرع بينهم فخرج سهمه خيرا من سهامهم، فقال: كيف رأيت فقال سوار: استأذن العقل على الحظ فحجبه. وقد تقدم في باب العقل أمثلة لذلك.
كون العاقل محدودا والجاهل مجدودا
من زيد في عقله نقص من حظه. وقيل: ما جعل الله لأحد عقلا وافرا إلا احتسب عليه من رزقه.
قال شاعر:
وخصلة قلّ فيها من يخالفني ... الرزق والحمق ملزومان في قرن «1»
وقال آخر:
خاب امرؤ ظلّ يرجو أن ينال غنى ... بالعقل ما عاش في دهر المجانين
وقال المتنبّي:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأبعد من أن أجمع الحظّ والفهما
معارضة دنيء ساعده القدر:
ألا ليت المقادر لم تقدر ... ولم تكن إلا حظّى والجدود
فننظر أينا يضحي ويمسي ... له هذي المراكب والعبيد(1/529)
وقيل لرجل: كيف فلان؟ فقال أحمق مرزوق. وقيل لآخر: فقال عيي غنيّ حظيّ.
الجد يحسن القبيح ويقرب البعيد
قيل: إذا أقبلت الدنيا على إنسان أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. وقال شاعر:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم «1»
وقيل: السبب الذي يتقدم به المجدود هو السبب الذي يتأخر به المحدود، قال أبو الشيص:
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
وقال الموسوي:
لا تحدثن طمعا وجدّك مدبر ... واطلب مدى الدنيا وجدّك مقبل «2»
تعسّر الأمر على من خذله جدّه
قيل: إذا لم يساعد الجدّ فالحركة خذلان. وقيل: إذا ولّت الدول صارت الحيل وبالا.
قال شاعر:
إذا كان جدّ المرء في الشيء مقبلا ... تأتّت له الأشياء من كل جانب
وإن أدبرت دنياه يوما توعّرت ... عليه فأعيته وجوه المطالب «3»
قال ثمامة: لما أخبر يحيى بن خالد بتغير الرشيد له، كان يحتال في تخليص روحه فأمرني يوما بالحضور معه فاجتمعنا على الرأي، فكلما أتى الرأي نقض عليه آخر حتى أعيانا الأمر، فقام وقال: أفّ لهذه الدنيا كان الرأي يجيئنا على البديهة والأمر مقبل، فصار لا يأتينا على الرويّة والأمر مدبر، ليصنع الدهر ما شاء. وقيل: إذا أراد الله تعالى أن يزيل عن عبده نعمة فأول ما يزيل عنه عقله.
قال البديهي:
إذا المقادير لم تقبل مساعدة ... على بلوغ المنى لم تنفع الهمم
وقال مخنّث: إذا جاء البخت توقف البيضة على أعلى الوتد، وإذا أدبر البخت أسق الهاون في الشمس.
تأسّف من جد جدّه ولم يساعده جدّه
قال أبو تمّام:
ماذا عليّ إذا ما لم يزل وتري ... إن نال في الرمي أغراضي فلم أصب(1/530)
وقال آخر:
لم أوت ويحك من سعي فلا تلم ... المنع من جانب الأقدار والقسم
وقال آخر:
تكامل فيّ آلة كل حر ... ولكن لا يساعدني الزمان
وقال الموسوي:
غرست غروسا وكنت أرجو لحاقها ... وآمل يوما أن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غيرها كنت آملا ... ولا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها «1»
المجدود
قال معاوية لما أتاه خبر موت أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: لا جدّ إلّا ما أقعص عنك. قال شاعر:
وكانت قريش يفلق الصخر جدّها ... إذا أقلق الناس الجدود العواثر «2»
وقال أبو تمّام:
ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا ... جمعوا جدودا في العلا وجدودا
وقيل إنه لما قال ذلك أجمع الأدباء أنه أشعر أهل زمانه.
وقالت عابدة المهلبيّة:
ولو أرسلت نبلك ناصلات ... لصارت في الطريق لها نصول
التوفيق
قال عمر رضي الله عنه: توفيق قليل خير من مال كثير. وقيل لبزرجمهر: أي الناس أفضل؟ فقال: مجتهد في الخير ساعده القدر، وقيل لحكيم: ما الشيء الذي لا يستغني عنه المرء في كل حال؟ فقال: التوفيق. من حرم التوفيق، فأقطع ما يكون إذا اجتهد. وقام إلى الشبلي رجل فقال: بم يبعد المرء من ربّه ويخذل عن أمر؟ فزعق زعقة ثم أنشد:
من لم يكن للوصال أهلا ... فكلّ إحسانه ذنوب
وقال بعض الصوفية: إن العنايات لا تضرّ معها الجنايات، وأنشد الشبلي:
ويقبح من سواك الشيء عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا
سنة التوفيق أجدى من يقظة الرؤية، وقليل النجح خير من كثير من الجهد.
بطلان الجدّ والتدبير مع القضاء والقدر
قيل: إذا جاء الحين حار العين وإذا جاء القدر عمي البصر. المرء طالب والقضاء(1/531)
غالب. إذا انقضت المدة لم تنفع العدّة. إذا نزل البلاء ذهبت الآراء. إذا حلت المقادير ضلّت التقادير. وقيل: إذا حل القدر بطل الحذر.
لما حجّ أبو مسلم قيل له إن بالحيرة نصرانيا أتت عليه مئتا سنة وعنده علم من علوم الأوائل فقصده، فلما نظر إلى أبي مسلم قال له: قمت بالكفاية ولم تأل في العناية. حتى بلغت النهاية، أحرقت نفسك لمن لا يرحم حسّك، وكأني بك وقد عاينت رمسك، فبكى أبو مسلم، فقال: لا تبك فإنك لم تؤت من حزم وثيق ولا من رأي دقيق ولا من تدبير بارع ولا من سبب قاطع، ولكن ما استجمع لأحد أمله إلا أسرع في تفريقه أجله. قال: فمتى يكون؟ قال: إذا تواطأ الخليفتان على أمر والتقدير في يدي من يبطل معه التدبير. وإذا صرت إلى خراسان فقد سلمت. وهيهات فلولا أن البصر يعمى إذ نزل القدر لكان في ذلك ما يبعث على الاحتيال.
انتهى أعرابي إلى أرض، فقيل له: إنها مفعاة «1» فبات على ظهر راحلته فتعلقت حية بنسعة كانت في يده فلسعته، فقال وهو يجود بنفسه:
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولأمير المؤمنين رضي الله عنه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده «2»
وقال آخر:
سبق القضاء بكل ما هو كائن ... فليجهد المتقلب المحتال
وقال ابن نباتة:
وإنّي إذا ما حاجة حال دونها ... نهار وليل ليس يعتوران «3»
حملت على سوء القضاء ملامها ... ولم ألزم الإخوان ذنب زماني
إذا الله لم يأذن بما أنت طالب ... أعانك في الحاجات غير معان
وقيل: القضاء يقرب البعيد ويبعد القريب. قال شاعر:
وقد يجلب الشيء البعيد الجوالب
وقيل: إذا كان المقدور كائنا فالهم فضل. وكان نقش خاتم أبي العتاهية:
سيكون الذي قضي سخط العبد أم رضي(1/532)
(3) ومما جاء في الأماني والآمال
ما يدلّ على جواز التمنيّ
قال الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام قالت: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا
«1» فدل أن تمني ما لا يكون محظورا مباح، وقال تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
«2» ، وسمع ذلك رجل من الصالحين، فقال: ليت ذلك تم.
طيب الأماني والآمال
قيل لبعض من كان يخطب عملا: ما تصنع؟ قال: أخدم الرجاء حتى ينزل القضاء.
قيل: ليس سرور النفس بالجدة والمقدرة إنما هو بالأماني والآمال. وقيل لحكيم: أي شيء أدوم إمتاعا؟ فقال: الأماني.
وقال رجل من بني الحارث:
منّى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
أماني من سعد حسانا كأنّما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
وقال آخر:
إذا ازدحمت همومي في فؤادي ... طلبت لها المخارج بالتمنّي
وقال آخر:
في المنى راحة وإن علّلتنا ... من هواها ببعض ما لا يكون
ذمّ الأماني وبطلانها
قيل: إيّاك والمنى فإنها بضاعة النوكى. الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين.
الخذلان مسامرة الأماني والتوفيق رفض التواني.
قال ابن المقفّع: كثرة المنى تخلق العقل وتطرد القناعة وتفسد الحس. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: تجنّبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خوّلتم وتصغر مواهب الله التي رزقتم.
قيل: ثلاث تخلق العقل وفيها دليل على الضعف: سرعة الجواب وطول التمنيّ والإستغراق في الضحك.(1/533)
قال رجل لابن سيرين: رأيتني كأني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح، فقال: أنت رجل تكثر الأماني. وقيل: المنى والحلم أخوان. إن المنى طرق الضلال. إن ليتا وإن ولو إعناء.
قال كثير: وددت وما تغني الودادة أنني ... (البيتين) .
وقال محمد بن أميّة:
أقطع الدهر بظنّ حسن ... وأجلي كربة لا تنجلي
كلّما أملت وجها صالحا ... عرض المكروه دون الأمل
وكذا الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي «1»
وقال البسّامي:
أعلّل نفسي بما لا يكون ... كما يفعل المائق الأحمق «2»
وقال المتنبّي
تمنّ يلذّ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي
وقال أبو تمّام:
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
وقال آخر:
إنّ المنى رأس أموال المفاليس
وقال أفنون التغلبي:
ولا خير في أن يكذب المرء نفسه ... وتقواله للشيء يا ليت ذا ليا
أماني من تمنّى أمرا فأدركه
اجتمع ابن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال مصعب: هلموا نتمن. فتمنى عروة الفقه وأن يحمل عنه الفقه، وتمنى عبد الملك الخلافة، وتمنى مصعب ولاية العراق وتزويجه سكينة بنت الحسين بن علي وعائشة بنت طلحة، وعبد الله بن عمر الجنة. فنال مصعب وعبد الملك وعروة ما تمنوه، وشهد ابن عمر رضي الله عنهما مدرك ما تمناه وطلبه.
وروي أن كعب بن ربيعة بن عامر أتاه آت في المنام فقال: إجمع بنيك ومرهم بالتمنيّ فإنهم يعطون، فجمعهم فقال لعقيل: تمنّ، فقال: العدد والرمي فليس في بني كعب أكثر عددا منهم ولا أرمى. وقال لجعدة: تمنّ، فقال: المال فهم أكثر بني كعب خيلا(1/534)
وإبلا. وهم أهل رضاخ وضرية والفلج، وقال لقشير: تمنّ، فقال: البقاء والجمال فهم أجمل بني كعب ويكثر فيهم ذو السن وذو الرقية منهم أدرك الإسلام وله مائة وعشرون سنة وله ألف من ولده، هذا يقول: يا أبتاه وذا يقول: يا جداه، وقال لحريش: تمنّ، فقال:
النعظ فهم أنكح بني كعب. وقال لخبيب: تمنّ، فقال: المودّة من إخوتي فيما بينهم وأن لا يؤثروا بهم. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: نسأل الله أن يعطينا منانا بعد أن يوفقنا التمنّي ما فيه مصالحنا.
من ذكر قلّة مبالاته بالمنيّة لإدراكه قاصية الأمنية
قال الله تعالى مخبرا عن يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
«1» .
وقال قيس بن الحطيم:
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
ونحوه:
أدركت في الدهر أياما بلغت بها ... رضا الشباب الذي قد كان عاصاني
وقال منصور بن طلحة بن عامر: رأيت عبد الله بن طاهر في المنام بعد موته فقلت له: ما خبرك أيها الأمير؟ فقال:
من كلّ شيء قضت نفسي لبانتها ... فإذ أتاني رآني قاضيا أجلي «2»
وقال زهير بن خباب الكلبي وكان من المعمرين:
من كلّ ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيّة
طيب إدراك المنى
في المثل: أطيب من نيل المنى وإدراك الأمل. وقيل: ليس بعد بلوغ المنى إلا نزول المنيّة. قال الله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً
«3» . وقال أبو الفتح بن العميد:
إذا المرء أدرك آماله ... فليس له بعد ذا مقترح
أماني قوم بحسب أحوالهم
قال قتيبة بن مسلم للحصين بن المنذر: ما تتمنى؟ فقال: لواء منشور وجلوس على السرير وسلام عليك أيها الأمير. وقيل لعبد الله بن الأهتم ذلك، فقال: رفع الأولياء وقمع(1/535)
الأعداء وطول البقاء مع القدرة والنماء. وقيل ذلك للفضل بن سهل، فقال: توقيع نافذ وأمر جائز. وقيل لحكيم: تمنّ، فقال: محادثة الأخوان وكفافا من عيش والانتقال من ظل إلى ظل. وقيل ذلك لمطرف فقال: مركب وطي ومطعم شهي وملبس دفي. وقيل لآخر، فقال: شواء مستنشل وغناء مسترسل ونكاح مستعجل.
وقال بعضهم: العيش كلّه في صحة البدن وكثرة المال وخمول الذكر. وقيل لحكيم، قال: هوى وافق حقا. وقيل لرجل، فقال: أن تعطي جوارحك لذاتها. وقيل لأعرابي، فقال: خباء في أرض خلاء وكلب إذا أصابه المطر زاحمني فيه. وقيل لابن سنان فقال: ليل طويل الطرفين أقرن بينهما بذكر الله تعالى. وقيل لمأبون: فقال: لذّة الأبنة وحكّ الجرب فمن حرمهما فقد حرم لذات الدنيا. نعوذ بالله من بعض الأماني.
أماني البله
قال شاعر:
إذا تمنّى مائق أمنية ... تحسبها كائنة مقضيّة
قال الأصمعي: قال شيخ من بني العجيف إني تمنيت أن أبني دارا فمكثت أربعة أشهر للدرجة أين أضعها. ومرّ الحجاج ليلة بدكان لبّان وعنده بستوقة فيها لبن. وهو يتمنى ويقول: أنا أبيع هذا اللبن بكذا درهما وأشتري به كذا، ثم أبيعه ثم يكثر مالي ويحسن حالي، وأخطب إلى الحجّاج ابنته فأتزوج بها فتلد لي إبنا فأدخل عليها يوما فتخاصمني، فأضربها برجلي هكذا، ومدّ رجله فكسر البستوقة، فقرع الحجاج بابه واستفتحه فضربه خمسين، وقال: أليس لو ضربت بنتي بوكزة هكذا لفجعتني بها.
نوع من الأماني
قال الوليد بن عبد الملك لبديح المغني: خذ بنا في الأماني فلأغلبنّك، فقال: والله لا تغلبني فيها أبدا إني أتمنى كفلين من العذاب وإن يلعنني الله لعنا يشن علي من خلفي ومن قدّامي أتتمنى مثله؟ فقال: غلبتني لعنك الله. وقيل لرجل: أيسرك أن يكون لك ألف درهم؟ فقال: نعم وأضرب مائة، فقال: وضرب المائة لمه، فقال: لأنه لا يكون شيء إلا بشيء.
وقيل: كان رجل يطلبه الحجّاج فمر بساباط فيه كلب، فقال: ليتني كنت هذا الكلب فأستريح من الغمّ والخوف، فما لبث أن جيء بذلك الكلب وفي عنقه حبل، وقيل: ورد كتاب الحجاج يأمر فيه بقتل الكلاب. وقعد ابن أبي عتيق فقال: ليت لنا لحما فنطبخ سكباجا «1» فما لبث أن جاء جار له بصحفة، فقال أعطونا قليل مرق، فقال إن جيراننا يشمّون رائحة الأماني.(1/536)
التحذير من طول الأمل
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أخوف ما أخوف على أمتي الهوى وبعد الأمل. أما الهوى فيعدل عن الحق وأما طول الأمل فينسى الآخرة. ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل، من جرى في عنان أمله فعاثر «1» لا شك بأجله. الآمال مصائد الرجال.
ووجد على حجر مكتوب: يا ابن آدم لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجوه من أملك.
تبكيت من أطال الأمل
أقام معروف الكرخيّ الصلاة فقال لمحمد بن ثوابة: تقدّم، فقال: إن صليت بكم الصلاة لم أتقدم بعده، فقال: وأنت تحدث نفسك بصلاة أخرى نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع من خير العمل، من عدّ غدا من أجله فقد أساء.
نفع طول الأمل في الورى
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أمّ ولدا ولا غرس غارس شجرا. ومن هذا أخذ الحسين رضي الله تعالى عنه: لو عقل الناس وتصوروا الموت بصورته لخربت الدنيا. وقال مطرف: هذه الغفلة رحمة فلو دخل الناس الخوف من الموت ما انتفعوا بدنياهم.
مضرّة انقطاع الأمل
قيل: أعظم المصائب انقطاع الرجاء. وقيل لبزرجمهر: ما الذي يشدد البلاء على الناس؟ فقال القنوط والاستبسال، قيل: فما الذي يهوّنه عليهم، قال الرجاء وحسن الظن.
قال النظّام: كنا نلهو بالأماني وتطيب أنفسنا بها، فذهبت من بعد وانقطع الأمل.
بقاء الأمل والمنى ببقاء الحياة
قيل: لا ينقطع رجاء المرء ما لم تنقطع حياته. وقيل: الأمل يساوق الأجل.
قال علقمة:
والعيش شحّ وإشفاق وتأميل
ومثله:
العيش إن تجل عنه كلّه تعب ... والمرء إن قرّ عينا كلّه أمل
قال بشار: الإنسان لا ينفك من أمل فإن فإنه عوّل على الأماني، فالأمل نفع نسيب، والهوى لا يكون نسيبا وبابه مفتوح لمن يكلّف الدخول فيه.(1/537)
تضمن الرجاء للخوف
قيل: خوف وقوع المكروه مقرون برجاء السلامة، كل رجاء متضمن للخوف ولذلك استعمل كل واحد منهما موضع الآخر، وقول الهذليّ:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
أي لم يخف. وقيل: لا ينبغي للعاقل أن يسرّ بالرجاء فإنه مشوب بالذعر والسرور به غرور، إن خاب أضعف الأكداء عليه الغم.(1/538)
الحد الثامن في الصناعات والمكاسب والتقلّب والغنى والفقر
(1) فممّا جاء في الحرفة
مدح الحرفة وفضلها
قال النبي صلّى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: ما المروءة فيكم؟ قالوا: العفة والحرفة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: خير الكسب كسب اليد لمن نصح. وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى رجل سأله أله حرفة فإذا قال: لا، سقط من عينه.
ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي رافع وهو يقرأ ويصوغ، فقال: يا أبا رافع أنت خير من تؤدي حقّ الله تعالى وحقّ مواليك. وقيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نسّاجا، قال: إنما أستحي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي، وحرفة يقال فيها خير من مسألة الناس.
وقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يحب التاجر الصدوق والصانع الناصح لأنه حكيم.
وقال أبو العتاهية:
ولا تدع مكسبا حلالا ... تكون منه على بيان
ذمّ السّرقة
قيل: لا ترج الخير ممن يكون رزقه من ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل يؤتى يوم القيامة بسوقي فيوزن عمله فتميل به الميزان، فيقول حوّلوا إلى الكفة الأخرى ففي الميزان عيب.
أصناف الصنّاع وتفضيل بعضها على بعض
قيل: الناس أربعة: ذو صناعة وزراعة وتجارة وإمارة، وما سوى ذلك فإنهم يغلون الأسعار ويكدرون المياه. وقال المأمون: السوقيون سفل والصناع أنذال والتجار بخلاء والكتاب ملوك على الناس.
كتب الوليد إلى صاحب الساحل: اجعل الحائك والإسكاف في مرتبة والحجام والبيطار في مرتبة، والبزّاز والصيرفي في مرتبة، والمعلّم والخصيّ في مرتبة والنخاس والشيطان في مرتبة.(1/539)
وقيل: ثلاثة أعمال لم تزل في سفلة الناس: الحياكة والحجامة والدباغة. وقال حبيب بن محمد لمالك بن دينار: لو خيرت في الصناعات ما كنت تختار؟ فقال: أكون حدادا فأرى لفح النار لعلّي أتقيها، فقال حبيب: كنت أختار أن أكون حفّارا للقبور.
المتولّي صناعة تنافيه
قال شريك بن عبد الله: خمسة من الكبائر: عمياء مكتحلة، وسوداء مختضبة وخصي له امرأة، ومخنث يؤم قوما، وإعرابي أشقر. ومن العجائب: منجّم أعمى وأطروش صاحب خبر، وعطار أخشم، ومناد أخرس ومؤاجر أصلع، وجندي محفوف الشارب، وكنّاس متعزز وفيج منقرس ولحياني ينتف لحية كوسج، وديدبان أعمش وحجام قليل الفضول، وإمام أمي وكحال أرمد.
وضرب عبد الله بن أبي بكر ملاحا لم يحسن السباحة، وقال: من العجائب ملاح غير سابح.
المتولّي صناعة تليق به
من تمام آلة القاضي أن يكون لحيانيا، والقاص أن يكون أعمى شيخا بعيد الصوت، والزامر أن يكون أسود، والمغني فاره الدابة برّاق الثوب عظيم الكبر سيء الخلق، والشاعر أن يكون أعرابيا، والداعي إلى الله أن يكون صوفيا. من عمل عمل أبيه كفي نصف المعاش.
أنذال من الصناع متبجّح بعضهم على بعض
دعا حجّام كناسين يكنسان له كنيفا، فقال أحدهما للآخر: أتدري عند من نعمل؟
قال: لا، قال: نعمل عند حجّام، فقال: الحمد لله الذي أعلمنا ذلك قبل أن نشرب من كوزهم أردت والله أن أرمي بكل ما في جوفي. أطلب لي شيئا أشرب به فضرب يده إلى كوز معه في جوف جرّة ينقلون فيها الخرء، فمسحه بيده وناوله فشرب منه.
اجتمع كناسان على كنيف، فقال أحدهما: فيه من الخرء قامة، وقال الآخر: قامة وبسطة، فنزع ثوبه وقفز فيه وغاص ثم أخرج رأسه، وقال: تظنني حائكا.
وقع شرّ بين حجّام وحذّاء، فقال: أنت تمشط وتسرج، وأنا أحذو وأنت تشق بمبضع، وأنا بمخصف فما فضلك عليّ؟
ذكر من تولّى صناعة دنيئة من الأكابر
قيل: كان طالوت دباغا فآتاه الله الملك على رغم من كره، وكان داود عليه السلام راعى غنم وآتاه الله الملك والحكمة، وموسى راعيا أجيرا لشعيب عليهما السلام، وعيسى عليه السلام صيّاد سمك وهذا باب يكثر أن يتبع.(1/540)
ذمّ الحاكة
قيل: الحمق عشرة أجزاء تسعة في الحاكة. مرّ على أمير المؤمنين كرم الله وجهه رجل فقال له: إلى أين؟ قال: إلى البصرة في طلب العلم، فقال: أتترك عليا وتطلب العلم بالبصرة؟ ثم قال له: ما صناعتك؟ فقال نسّاج فقال رضي الله عنه: من مشى مع حائك في طريق ارتفع رزقه، ومن كلّم حائكا لحقه شؤمه، ومن اطلع في دكانه اصفرّ لونه. فقال قائل: لم يا أمير المؤمنين وهم إخواننا؟ فقال: إنهم سرقوا نعل النبي صلّى الله عليه وسلم وبالوا في فناء الكعبة، وهم تبع الشيطان وشيعة الدجّال، وسراق عمامة يحيى بن زكريا وجراب الخضر وعصا موسى وغزل سارة وسمكة عائشة من التنور، واستدلتهم مريم عليها السلام فدلّوها على غير طريق، فدعت عليهم أن يجعلهم الله سخرية وأن لا يبارك في كسبهم.
وقال حائك لعالم: دلّني على عمل أتواضع به، فقال له: ما عمل أوضع من عملك فالزمه. وقال: شهادة الحائك تجوز مع عدلين.
وكان النظّام يسمّى العروضي أخضر البطن فكشف عن بطنه وقال: ما ههنا خضرة، فقال: إنه يريد أنه حائك. ويقال فلان أخضر النواجذ «1» ، والبراجم «2» للأكار بمعنى أنه يأكل الكراث ويتناول الخضراوات.
في مدحه:
لولا الحياكة والذين يلونها ... بدت الفروج ولاحت الأدبار
وفي ذم صناعة قليلة النفع يتمثل بقول الشاعر:
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
مدح الحجّام
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم العبد يقل الدم ويخف الصلب ويجلو البصر. ومن فضلاء الحجّامين أبو ظبية حجّام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حجم النبي صلّى الله عليه وسلم، وشرب دمه فاختلط دمه بدمه فخطب إلى الأشراف وزوج من الكرام ومنهم أبو هبة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: يا بني هند إنما أبو هبة رجل منكم فانكحوه وانكحوا إليه. ومنهم عبيد الحجّام بالبصرة وكان أديبا، قيل له: كم يعطيك فلان؟ قال سدوسي، عنى قول الشاعر:
فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإنّ الريح طيّبة قبول «3»(1/541)
وقال ابن طباطبا:
أبو سليمان داود بن بنكلة ... قد فات في الحجم حذقا كل حجّام
وزان ذاك بصوت لا يجاوزه ... إلى الفضول سوى نطق بإبهام
لطفا ورفقا وحذقا في صناعته ... وخفّة لم تشن منه بإبرام
لولا مواقع موساه ومشرطه ... لخلتني منه في أضغاث أحلام
وقال محمد بن مسافر:
مزيّن حذّفني حاذق ... ليس له في النّاس من شبه
ظننت إذ حذّفني أنّه ... أحدث لي وجها سوى وجهي «1»
وقال أبو ذرّ البلخي:
كأنّما المحجم في كفّه ... شمس نهار آذنت بالغروب
يأخذ من مجروحه أرشه ... فيا له من جارح مستثيب «2»
كثرة فضول الحجّامين
استحضر عبد الله بن سليمان حجاما شيخا يقال له أبو دلحمة، وقال: أنا متبرم بحجامي لكثرة فضوله. فأخذ آلة التحذيف وطفق يشحذ الموسى فنظر الوزير إلى بعض أصحابه، فقال اعط القوس باريها، فقال أبو دلحمة: ما أول هذا البيت أيها الوزير. فقال الوزير: الله أكبر هربت من فضول فوقعت فيما فوقه، وقال ما هو يا أبا دلحمة، فقال:
أنشدني الرياشي بمكة:
يا باري القوس بريا ليس يحسنه ... أفسدت قوسك أعط القوس باريها
وكان أبو دلحمة من الشعراء والفضلاء.
وقال الفضل بن الربيع: قال لي الرشيد أطلب لي حجّاما أصمت من الحجر، فقلت: نعم، لي غلام سكيت، فقال: إبعثه إليّ. فدعوت به وأخذت عليه الوصيّة أن لا ينبس ولا ينبض عرقه إذا خدم أمير المؤمنين وأوصيته بأن يتأهب ثم دخلت إلى الرشيد فرأيته يضحك، وقال لي: إن لذلك الحجام شأنا ولا نراه بعد، ثم سألت فراشا مختصا بالرشيد عن خبره، فقال: إنه لما بدأ بالمحجمة قال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء فقال له ما هو؟ قال: لم قدّمت الأمين على المأمون والمأمون أسن منه؟ قال:
أخبرك بالجواب إذا فرغت، فلم يلبث غير قليل حتّى قال: وأسألك عن شيء آخر، قال الرشيد: هات، قال: لم قبلت جعفر بن يحيى، قال: وهذا أيضا أخبرك به إذا فرغت،(1/542)
قال واسألك: لم اخترت الرقة على بغداد وبغداد أطيب منها، قال: نعم أخبرك إذا فرغت. فلما فرغ دعا مسرورا الخادم فقال له: لا تشرب عليه الماء البارد إنه سألني عن ثلاث لو سألني المنصور عنها ما أجبته.
ومر المأمون متنكرا بحجّام فسمعه يقول لآخر: سقط هذا المأمون من عيني منذ قتل أخاه، فبعث إليه ببدرة، وقال: إن رأيت أن ترضى عنّي فعلت. وكان كسرى يستصفي الحجّامين في كل سبع سنين، ويقول: إنهم يبطرون إذا أثروا.
ذم التكسب به
قيل: إنما يقال للحجّام قبيس لأن المسان تحمل إليهم من جبل أبي قبيس: ويقال:
إن الحجّامين بقم في بعض الأوقات غضبوا فاجتمعوا وخرجوا من البلد حتى طالت شعور أهلها واضطروا إلى أن خرجوا إليهم وقبلوا الأرض بين أيديهم وحلفوا لهم أن لا يؤذوهم ولا يلقبوهم فرجعوا.
وقيل: إن الفرزدق حضر مجلسا فيه بلال بن أبي بردة فجعل بلال يذكره مناقب جدّه، فقال الفرزدق: لو لم يكن له من المنقبة إلا أنه حجم النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إنه ما حجم قبله ولا بعده. فقال الفرزدق: جدّك والله كان أفضل من أن يجرب الحجم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قال شاعر:
أبوك أوهى النجاد عاتقه ... كم من كميّ أدمى ومن بطل «1»
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثاره على وجل «2»
وقال منصور بن باذان:
كم من رقاب جرحت طائعة ... من غير كفّيك لا ترام حمى «3»
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كسب الحجّام وقال هو خبيث، وهذا على التنزيه. وروي أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجّام أجره فلو كان حراما لم يعطه. وروي أنه حجمه عبد لبني بياضة فأعطاه أجره صاعا من تمر، وسأل مواليه أن يخفّفوا عنه من ضريبته.
ذمّ الإسكاف
قيل لمجنون: ما تقول في إسكاف مات وترك أختا وأما؟ فقال: ميراثه للكلاب ونفقته على الدباغين وليس لأمه ولا لأخته إلّا نثر التراب وتخريق الثياب. وقيل: وقع(1/543)
كليب في كنيف فدعا إسكافا فقال: إدفع يدك إلى أخيك واخرج، فقال: ذرني في الكنيف ولا تصحح علي بذلك أخوتك. وقال الشاعر يعرّض به:
أنفذ في الطّعن من كليب ومن ... عمر والزبيدي فارس اليمن
الخيّاط
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل.
وقال ابن عباس: كان إدريس عليه السلام خيّاطا وكذلك هود ولقمان عليهما السلام، وكان نوح نجارا. وأتى أعرابي إلى خياط بثوب ليخيطه قميصا فقطعه فعلاه الأعرابي بالهراوة، وقال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فيما مضى في سالف الأحقاب
من فعل علج جئته ليخيط لي ... ثوبا فخرقه كفعل مصاب
فعلوته بهراوة كانت معي ... ضربا فولّى هاربا للباب
أيشقّ ثوبي ثم يقعد آمنا ... كلا ومنزل سورة الأحزاب «1»
ذم الندّاف
قال رجل لندّاف: لو وضعت إحدى رجليك على حرّاء والأخرى على طور سيناء، ثم أخذت قوس قزح تندف به قطن الغمام في جياب الملائكة ما كنت إلا ندّافا، قال الصاحب:
قل لابن ماسويه الفقيه ... يا آنف النّاس من أبيه
جمعت ضدّين في مكان ... صنعة حلج وفرط تيه «2»
المخاطر بنفسه من الصنّاع
في كتاب كليلة: خمس نفر، المال أحب إليهم من أنفسهم: المقاتل بالأجرة وراكب البحر للتجارة وحافر البئر والاسراب، والمدل بالسباحة والمخاطر على السم. وقد تقدم مدح الطبيب وذمه.
القين
قال جرير:
هو القين يدني الكير من صدر إسته ... ويعرف مدّ الكلبتين أنامله «3»(1/544)
وقال آخر:
القين لا يصلح إلا ما جلس ... للكلبتين والعلاة والقبس «1»
الراعي
ذمّ قوم الرعاة فنسبوهم إلى الحمق وقالوا: أحمق من راعي ثمانين. وقالوا: لا تشاور راعي الضأن.
ومما يدلّ على فضيلتهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: ما من نبي إلا وقد رعى وقد رعيت. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبيّا إلا راعيا، بعث موسى وهارون راعيين، وبعثت وأنا أرعى لأهلي.
وشرط صاحب الإبل على الراعي، فقال: عليك أن تهنأ جرباها وتلوط حوضها وتنشد ضالتها وترد نادتها وتستقصي في الرسل ما لم تنهكما حلبا أو تضرّ بنسل، فقال الراعي: نعم، على أن يدي مع أيديكم في الحار والقار ولا تذكر أمي بشرّ ولي مقعد موسع من النار، فقال:
هذا لك، فإن خنت فما عليك. قال حذفة: بالعصا أخطأت أم أصبت.
وتفاخر راعيان، فقال أحدهما: والله ما اتخذت عصا فيها غير هذه منذ شبت وما انكسرت، فقال الآخر: تعست إن اتخذت فيها عصا غير يدي. ويوصف الراعي بأنه ضعيف العصا أي قليل الضرب بها. قال الشاعر:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
الكنّاس
قال رجل من الكناسين لآخر: ويحك ألا تعجب من فلان يزعم أنه كناس ابن كناس؟ فقال: قل له يا ابن الخبيثة مالك والكنس، قد والله بغضوا إلينا هذا العلم، أف وتف من النوكى رجاء أمس. ويقول أنا كناس، أما والله لو شهدنا ونحن نكنس المطابق والسجون فلا نخطىء ما قدرنا بزنبيل واحد ولا نتحاشى من الدخول في كنفها. علم من الكناس ابن الكناس، وكان أبو إبراهيم الكساح رئيس الكساحين، قال له أحمد بن سليمان: احمل مائة سفينة مع المائة التي كنت حملتها قبل، وخذ ثمنها. فقال: تلك المائة كنت قد جعلتها طعمة للأمير.
باب مختلف من الصّناعات
قيل: من حذق في صناعته احتسب حذقه في رزقه، ولذلك ترى أكثر الحاذقين محرومين. وسمعت بعض العلماء يقول: إنما نرى أكثر الحذاق في صناعتهم يضيق رزقهم لا تكالهم على حذقهم لا يبذلون جهدهم فيما يعملونه، وغير الحاذق يبذل جهده ويفرغ نصحه خشية أن تسترذل صنعته، فيبارك الله فيه بجدّه وجدّه واستفراغ نصحه.(1/545)
وقال الحسن بن سهل: لا يكسد رئيس صناعة إلا في شرّ زمان ومملكة أنذل سلطان. وقيل: من انتكاس الدهر أن يولى امتحان الصناع من ليس بحاذق في صناعتهم.
روي في الخبر: لا بد للناس من عريف والعرفاء في النار، كأنه أخبر عن علم الله تعالى في أكثرهم أنهم يعملون بالمعاصي. فأما العرافة والنقابة فقد كانتا في قوم صالحين يقال: عريف ونقيب ومنكب، والعريف فوق النقيب.
نظر حمال إلى راكب، فقال: سبحان من حملك وحملني. وعطس حمّال، فقال:
رجل راكب مخمور يرحمك من أخرج العطسة من المضيق، فقال يغفر لك من حملك وجعل على قفاي هذه الكارة الدقيق.
(2) وممّا جاء في المبايعات
مدح السوق
كان النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا دخل السوق يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهمّ إني أسألك من خير هذه السوق وأعوذ بك من الكفر والفسوق. وقيل: السوق موائد الله فمن أتاها أصاب منها. وقال صلّى الله عليه وسلم لرجل: الزم سوقك.
ذمّ السّوق
قيل للحسن رضي الله عنه: هلا تصلي فإن أهل السوق قد صلّوا، قال: من يأخذ دينه من أهل السوق، إن نفقت سوقهم أخّروا الصلاة وإن كسدت عجلوها. وقال: أهل السوق ذئاب تحت ثياب. وقال ابن السماك: يا أهل السوق سوقكم كاسد وبيعكم فاسد وجاركم حاسد ومأواكم النار.
ذكر أسواق العرب
كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تأثّموا أن يتجروا في الحج، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
«1» يعني في مواسم الحج.
مدح التجارة وذمّها
قال مجاهد في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ
«2» إنها التجارة، وأشراف قريش(1/546)
كانوا تجارا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا خير في التجارة إلا لستة، تاجر إن باع لم يمدح وإن اشترى لم يذم وإن كان عليه دين أيسر الاقتضاء وإن كان له أيسر الاقتضاء وتجنب الحلف والكذب وقال عليه الصلاة والسلام: بعثت مرحمة ومرغمة ولم أبعث تاجرا ولا زارعا، وإن شاور هذه الأمة التجار والزراعون إلا من شح على دينه. وقال صلّى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، وقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
«1» فقرن التجارة باللهو وهو مذموم.
الحثّ على التّجارة في جنس دون جنس
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من اتّجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب منه شيئا فليتحول إلى غيره. ودخل ناس على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فسألهم عن صناعتهم، فقالوا: بيع الرقيق، فقال بئست التجارة ضمان نفس ومؤنة ضرس. وقال ابن المبارك: إياك والتجارة في الإبل فإنها غنم وغرم، وأحب التجارة إلي ما كان بين غنمها وغرمها حجاز من السلامة.
وقال بطليموس: لا يكاد الإنسان ينحس في جميع الأشياء ولا يسعد في جميعها فينبغي أن يعرف وجوه منافعه في وجوه شتّى، فمتى دخلت المنحسة في شيء كانت السعادة في شيء. وقيل: شرّ الناس من باع الناس، يعني النخّاسين. وقيل: بيع الرجل صاحبه بالطفيف من الأمر، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: التجارة في الرقيق ممحقة.
وقال محمد بن واسع رحمه الله: أفضل التجارات لديّ بيع العطر والجوهر والحصر والساج وكل شيء لا يشتريه إلا من في أمواله فضل عن القوت لأن ظلم أصحاب الفضل أهون، وأبغض التجارة إليّ القطن وشراء الغزل فإن ظلم هؤلاء صعب إذا كان داخلا على أقواتهم.
فضل الصدق في البيع
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أفلس تاجر صدوق. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: التجار فجّار. قيل: يا رسول الله ولم وقد أحل الله البيع؟ فقال: إنهم يحلفون ويكذبون. وقال الجاحظ: رحم الله الأحنف حيث يقول: إلزم الصحة يلزمك العمل. وقال الأشج الصيدلاني: مرّ بي رجل فرأى قلّة الناس عندي وكثرتهم عند غيري، فقال: أتريد أن تكثر مبايعتك ويحسن حالك؟
قلت: نعم، فقال: أصدق واصبر سنة فإن الصدق يستحي لنفسه أن يبطىء عنك أكثر من سنة، ففعلت، فكثر زحام الناس عند حانوتي. ثم مرّ بي فرأى كثرة الناس عندي فقال:
إحذر ولا تتكل على ما وهمتهم من الصدق فتدعوك نفسك إلى ضعف ربحك اليوم، فإنك إن عدت إلى الكذب عاد عليك الكساد فلم أزل قابلا لوصيته، ثم مرّ بي بعد سنيات، فقال: قليل الربح مع كثرة الحرفاء أربح من كثره مع قلة الحرفاء. وق د قالوا: الزم الصحة(1/547)
يلزمك العمل، ولو حلفت أنها كلمة نبي، لرجوت أن لا أحنث، ثم لم أره بعد ذلك فرحمه الله حيا وميتا فقد نصح. وقيل: التاجر الصدوق، مع النبيين والصديقين.
ذمّ الحكرة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من احتكر على المسلمين طعامهم ضرب الله ماله بالإفلاس، وعنه صلّى الله عليه وسلم: من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برىء من الله ورسوله وقال صلّى الله عليه وسلم: الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون.
وفي عهد أزدشير: لا تحبوا الاحتكار فيعمّكم القحط. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: قلت يا رسول الله ما الحكرة، فقال: الذي إذا سمع بالغلاء فرح وإذا سمع بالرخص اغتم. وقال علي رضي الله عنه: لا أسمع بالكوفة برجل احتكر إلا أحرقت طعامه بالنار أو أنهبته. وكتب الوليد بن مصعب إلى صاحبه بالساحل: تفقد أمر الحناطين فإن زادوا في السعر من غير علة فأنهبهم عوامك فالغلاء من أسباب الفتن. مع الغلاء تكون الشكوى ثم الجلاء ثم الوباء.
تحليل البيع وذمّ الرّبا
قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا
«1» وقال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ
«2» وقال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
«3» ولعن النبي صلّى الله عليه وسلم: آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه. وقال صلّى الله عليه وسلم: الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ستة وثلاثين زنية زناها زان. وقال صلّى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره. وروي: كل قرض جر منفعة فهو الربا.
الحثّ على مراعاة العلم في المبايعة
قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: من أتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا. وقال الضحاك: ما من تاجر ليس بفقيه إلا أكل الربا شاء أم أبى.
المكروه من البيوع
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تناجشوا والنجش الزيادة في السلعة من غير حاجة، ونهى عن تلقي الركبان وبيع حاضر لباد. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن، وتلا قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
«4» . ونهى عن بيع فضل الماء، فقال: من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يحل(1/548)
منع الملح، وكل ذلك مكروه، وإذا فعله إنسان صح بيعه وشراؤه.
المحرّم بيعه
نهى النبي صلّى الله عليه وسلم: عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد، وفي خبر آخر: نهى عن ثمن الكلب والهر وعن مهر البغي. وقال جابر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقول: ألا إن الله حرم بيع الخمرة وبيع الخنازير وبيع الأصنام، فقيل له: أرأيت شحوم الميتة فإنه يدهن به السفن والجلود، فقال صلّى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فحملوها وباعوها.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
وقال صلّى الله عليه وسلم: الورق بالورق والذهب بالذهب والبر بالبر والشعير وبالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء مثل بمثل، ومن زاد أو ازداد فقد أربى. وأهل الظاهر قصروا الحكم على هذه المذكورات، وغيرهم تعداها، فجعل الشافعي رضي الله عنه العلة فيه الأكل فحرم بيع كل مأكول بجنسه إلّا مثلا بمثل. وأبو حنيفة رحمه الله جعل العلة الكيل فحرّم بيع كل مكيل بجنسه إلا مثلا بمثل. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وعن بيعين في بيعة وعن بيع وسلف وعن ربح ما لم يضمن وبيع ما لم يقبض. وعن المحاقلة والمزابنة فالمحاقلة بيع البر الموضوع بالأرض والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر يابسا، ورخص في العرايا والعرية بيع ثمر النخل بالتمر يابسا إذا كان دون خمسة أوسق، ونهى عن الثنيا وعن المنابذة وبيع الغنيمة قبل القسمة.
وعن بيع المجر وهو أن يباع الشيء بما في بطن الشاة، وعن حبل الحبلة وعن بيع الغرز وعن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. وفي الحديث: أن عليه السلام نهى عن الكالىء بالكالىء وهو بيع الدين بالدين، ونهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بها سيدها ما بدا له فإذا مات فهي حرّة.
السّلف
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين، فقال صلّى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. وكان صلّى الله عليه وسلم استسلف بكرا فجاءته إبل من إبل الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكره فلم أجد إلا رباعيا، فقال صلّى الله عليه وسلم: أعطه إياه فإنّ خير الناس أحسنهم قضاء.
السّهل البيع
مر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل يبيع شيئا، فقال: عليك بالسماح أول السوق فالرباح في المساح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أحب الله عبدا سهلا، إذا باع أو ابتاع سمحا إذا قضى أو اقتضى. وقال ابن عون: ما أرسلني الحسن رضي الله عنه في ابتياع شيء له إلا قال: لما عدت بارك الله فيك، ولم يسألني عن ثمنه وما أرسلني ابن سيرين إلا قال حين عدت:(1/549)
كيف اشتريت؟ وقيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: بم بلغ بسارك فقال لم أرد ربحا ولم أشتر عيبا ولم أبع بنسيئة.
جواز المماكسة
قيل: المماكسة في البيع مكايسة. وكان عبد الله بن جعفر يماكس في درهم ويجود بمال، فقيل له في ذلك، فقال: الغبن في البيع بله وفي الجود كرم. وقيل لآخر مثل ذلك، فقال: الغبن في البيع جود بالعقل وفي السخاء جود بالمال، ولا أسخى بالعقل وقيل: الحر يتغابن في ابتياع الحمد ولا يتغابن في الشراء والبيع. وقيل: من الغباوة السخاء في التجارة.
وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يرى بأسا بالمماكسة والمكايسة. والهند لا تستحل غرارة الجاهل وتستحل غبن البائع.
ذمّ المبالغة في المماكسة
قيل: كثرة المكاس من أفعال الخساس. ورأى رجل إبنه يماكس في ابتياع لحم فقال: يا بني تساهل، فمما تضيعه من عرضك أكثر مما تناله من عرضك. وكان الأصمعي مضيقا في معيشته مستقصيا في مبايعته، فقال العتبي: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهم لما رضي واستنقص شيئا. وقال رجل لخياط: خط لي هذا الثواب وسامحني في الأجرة، فقال: أخيطه لك مجانا، فقال زدني. قال: إذا تخرق رقعته لك. ونحو ذلك أن رجلا كان يستأجر غلاما فقال كم تطلب، فقال: أخدمك بملء بطني، فقال: سامحني، فقال: لا أعرف مسامحة في ذلك إلا أن أصوم لك الإثنين والخميس في الأسابيع لتربح غداءهما.
وكان ابن بالة ببغداد قد اكترى غلاما كوفيا فاستحضره المزين فحلق رأسه فلما فرغ وتنحى، جاء الغلام الكوفي إلى المزين فقعد بين يديه ليحلقه، فخرج ابن باله وقد حلق المزين بعض رأسه فناداه وقال له: هذا من حسابي أو من حسابك يحلق فقام الغلام على حالته محلوق بعض الرأس، وأخذ المنديل وعدا من بين يدي المزيّن، وحلف بالطلاق أنه لا يحلق رأسه حتى يعود إلى الكوفة.
عذر مبتاع مرغوب فيه بفضل ثمن
اشترت سكينة شيئا بفضل ثمن، فقيل: غبنت فقالت: ما غبن من بلغ شهوته، وقيل:
استكرمت فاربط واشدد يديك بغرزة ولا تنظر إلى كثرة ثمنه. قال شاعر:
أشدد يديك به وحز ... هـ فإنه علق مضنّه «1»
الحثّ على استجادة ما تشتريه
قال عمر رضي الله عنه: إذا اشتريت بعيرا فاشتره سمينا فإن أخطأك الخبر لم يخطئك(1/550)
النظر، وقيل: الغبن غبنان غبن الغلاء وغبن الرداءة، فإذا اشتريت فاستجد تربح أحد الغبنين. وقيل لبعضهم: بم كثر مالك؟ فقال: لم أشتر قط غبنا ولا شينا.
مدح متظلف «1» عن المبايعة
وعن التفكر في الطفيف. قال شاعر
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالسّيوف هم تجار
وقال العباس بن المأمون لغلامه: إن رأيت نقلا حسنا فاشتر بنصف درهم، فقال المأمون: لا تفلح إذا عرفت للدرهم نصفا. وطلب الحسن رضي الله عنه ثوبا، فقيل:
بثلاثة عشر ونصف، فقال: خذ أربعة عشر فالمسلم لا يشاطر أخاه الدرهم.
المتغالي ببيع شيء
ساوم مديني نعلا، فقال صاحبها: بعشرة، فقال المديني: لو كانت من جلد بقرة بني إسرائيل ما أخذتها بأكثر من درهم، فقال الحذاء: لو كانت دراهمك من دراهم أصحاب الكهف ما أعطيتكها. باع رجل شيئا مماكسة، فقال البائع لما باعه: لو صبرت لبعت منك بدرهم، فقال المشتري: لو صبرت لاشتريت منك بأضعاف ما اشتريت دنانير. ساوم أشعب رجلا بقوس، فقال: بدينارين، فقال: لو أنها إذا رمى بها الطير في الهواء يسقط مشويا بين رغيفين ما اشتريتها بدينارين. كان رجل ضلّ له بعير فحلف إن وجده ليبيعنه بدرهم فوجده فلم تسمح نفسه أن يبيعه بدرهم، فعمد إلى سنور فعلقه في عنقه وجعل ينادي عليه: الجمل بدرهم والسنور بخمسمائة ولا أبيعهما إلا معا، فقال رجل: ما أرخص الجمل لولا قلادته.
ترك مبيع لغلائه
كان الفضيل رضي الله عنه إذا أرسل غلامه ليشتري له شيئا فرجع إليه، فقال وجدته غاليا، قال: الحمد لله إذا غلا علينا شيء تركناه. وقال بعضهم: إذا غلا عليّ شيء تركته فيكون حينئذ أرخص ما يكون، قال شاعر:
وإذا غلا شيء عليّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
وأنشد جحظة هذا البيت مجيزا له:
إلا الدقيق فإنّه قوت لنا ... فإذا غلا يوما فقد نزل البلا «2»
واشتهت امرأة مزبد يوما عليه جراد فقالت: اشتر لي فإن مدا منه بدرهم. فقال لو جاء الدجال بزلزلة المدينة وأنت ما خض بالمسيح تنتظرين أن تأكلي الجراد وتضعي الحمل ما اشتريته بهذا السعر.(1/551)
من باع نفيسا واشترى خسيسا
قال الله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
«1» . باع رجل دابة واشترى بها بازيا فقال له أبوه: يا أحمق بعت ما تركبه واشتريت ما يركبك. وباع رجل بستانا واشترى به دابة، فقال له رجل: بعت ما كنت تعلفه السرجين «2» فيعوضك الشعير بما يأكل ويعوضك السرجين.
وفي المثل: كالمشتري النافقاء باليربوع وما كل مبتاع من رابح، قال ابن معروف القاضي:
يا خاسر الصفقة في سعيه ... وبائعا بالخزف الدرّه «3»
كان يباع زرياب بدينار فقال أعرابي: لماذا يصلح هذا؟ فقيل إنه يضغب «4» ضغيب السنور، فقال: اشتر سنورا بنصف درهم يضغب لك أجود من هذا ويصطاد الفأر زيادة.
بيع نفيس للحاجة إليه
دخل أعرابي بفرس يبيعه، فقيل له: صف فرسك، فقال: ما طلبت عليه قط إلا لحقت ولا طلبت عليه إلا سبقت، فقيل له: فلم تبيعه؟ فقال:
وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين «5»
ذمّ البيع والابتياع نسيئة
قيل: إياك أن تتكلم على وجهك في سوقك دون رأس مالك، أو تشتري شيئا بجميع مالك وخير التجارة ما لا يعرف أهلها النسيئة. باع رجل دارا من تركي نسيئة فجاءه يوما متقاضيا فأخذه وصفعه صفعات، فلما انصرف، قيل له: ما استوفيت من ثمن الدار، فقال:
صفعات في قفاي. عرضت جارية على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأحب شراءها ولم يكن عنده ثمنها، فقال البائع: أنا أوخرك، إلى العطاء، فقال: لا أريد لذة عاجلة بذلة آجلة. وعرض على رجل شيء ليشتريه، فقال: ما عندي ثمنه، فقال البائع: أنا أؤخرك، فقال: أنا أؤخر نفسي.
بيع مرغوب عنه
قال أبو حكيمة في عبد باعه:
بعنا تعيسا ولم يحزن له أحد ... قد غاب عنّا فغاب الهمّ والنكد
أحسن به خارجا من بين أظهرنا ... لم نفتقده وكلب الدار يفتقد
وباع عبيد الله ضيعة له، فقال:
قيل لي كيف أنتم قلت بعنا ... ضيعة عدة بشيء قليل(1/552)
فيه أدنى صون وأدنى نوال ... واسترحنا من طول غمّ الوكيل
وله:
ومبتاع بعض الملك منّي يقول لي ... وما باعه إلّا نوائب تعتري
متى صرت مضطرا لبيع ذخائر ... فقلت له مذ صار مثلك يشتري
المغالاة بما لا يقلّ وجوده
عاتب محمد بن عبد الملك الزيات أبا تمام في أنه يمدح غيره من السوقة، فقال:
رأيتك سمح البيع سهلا وإنّما ... يغالي إذا ما ضنّ بالشيء بائعه
فأما إذا هانت بضائع ماله ... فيوشك أن تبقى عليه بضائعه
هو الماء إن أجممته طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح شرائعه «1»
وقال ربيب النصراني:
وكلّ شيء غلا أو عزّ مطلبه ... مسترخص ومهان القدر إن رخصا «2»
أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
قيل: كل مبذول مملول، وكل ممنوع متبوع.
الوزن والكيل
قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
«3» (الآية) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين لا ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذهم الله بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم. قال عكرمة:
أشهد لكل كيال ووزان بالنار إلا القليل منهم، فقيل له: سبحان الله وكيف؟ قال: لأنه لا يزن كما يتزن ولا يكيل كما يكتال. وقال صلّى الله عليه وسلم لقوم شكوا إليه سرعة فناء طعامهم: كيلوا ولا تهيلوا، وقال صلّى الله عليه وسلم لرجل ابتاع منه شيئا: زن وأرجح.
مدح الإقالة في البيع والحثّ عليها
قال صلّى الله عليه وسلم: من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة.
الشريك في البيع
قال السائب: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شريكي، وكان خير شريك لا يشاري ولا يماري.
وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تزال يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه رفع البركة عنهما.(1/553)
الشّفعة في البيع
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الجار أحق بصفقته. وقال صلّى الله عليه وسلم: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا، وقال صلّى الله عليه وسلم: من كان له شريك في زرع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يأذن شريكه، فإن رضي أخذ وإن كره ترك وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا أرفت الحدود فلا شفعة، يعني ميزت وبيتت، وقال: الشفعة فيما لم يقسم.
الخيار في البيع
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار. وشكا رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه يغبن في البيع، فقال صلّى الله عليه وسلم: إذا ما بعت فقل لا خلابة ثم أنت بالخيار إلى ثلاثة أيام.
وقال صلّى الله عليه وسلم: من اشترى شاة مصرّاة فهو بالخيار إن شاء أمسك وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر.
ما هو في حكم المستثنى من البيع
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. ومن باع نخلا مؤبرا فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
مدح الدلالين وذمّهم
قال بعضهم: نعم المعين على البيع والإبتياع وعلى الألفة والاجتماع الدلالون، ولو أمكن الاستعانة بهم في الفراش لا نتفع بمكانهم. وقيل: آذى بعض الدلالين الأصمعي في شيء، فقال: شر الناس الدلالون لأن أول من دل إبليس حيث قال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.
نوادر لأنذال الباعة
جاءت عجوز إلى لحام بالمدينة ومعها درهمان، فقالت: أعطني بهما أطيب لحم وأخبرني باسمك أدعو لك، فأعطاها أخبث لحم، وقال اسمي من يمد، فجعلت العجوز عند الأكل تمد اللحم فلا تقدر على أكله، فجعلت تقول: لعن الله من يمد، فتلعن نفسها وهي لا تعلم. وقال جحظة: رأيت سوقيا ينادي على جدي علقه، يقول: هذا مانع نفسه، فقلت له: ما معنى مانع نفسه؟ فقال: يا سيدي لا يقدر أحد أن يأكل منه لقمتين لسمنه.
قال، ورأيت آخر وهو يقول: زبد في أديم. وقال جراب الدولة: رأيت ثلاثة من الهراسين على بقعة وهم يتكايدون في مدح هرائسهم، فواحد أخرج قطعة هريسة علقها بالمغرفة وهو يقول: إنزل ولك الأمان، وآخر يقول: يا قوم إلحقوني أدركوني أجذبها وتجذبني والغلبة لها، والثالث يقول: أنا لا أدري ممن أكل من هريستي لقمتين أسرج ببوله شهرين.
وقال رجل للحام: ليس لحمك بسمين، فقال: إن فلانا جالسني ووضع راحته على هذا اللحم وانصرف إلى منزله فجعل ما علق بها في قدر واتخذ منها دعوة، وكان بائع رمان(1/554)
قشّر رمانا وهو يقول: نزع الأمير قميصه وخرج في غلالة.
الكفالة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الزعيم غارم. وكلم رجل آخر في أن يؤخر شيئا على غيره، فقال:
إضمن أنت عنه، فقال: أردنا منك سعة المهلة فكفتنا ضيق الضمان. قال الخليل: في الكفالة ست خصال، الندامة والملامة والكفران والخسران والغرامة والقطيعة. وقيل: إن الفرس صورت كل شيء حتى الكفيل ينتف لحيته من الندامة.
الحوالة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا اتبع أحدكم على ملأ فليتبع، ومن غير هذا الباب احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب ليشهد فيه العدول، فكتب في صحة من عقله وجواز أمر له وعليه، فقال جعفر بن محمد بن ثوابة: لا يجب أن يكتب هذا للخليفة، فضرب عليه وكتب: في سلامة من جسمه وأصالة من رأيه.
الإجارة
روي عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليّ يوما وأخذ بيد الحسن والحسين فأخرجهما فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أين إبناي، فقلت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء نذوقه فدخل عليّ فأخرجهما حتى لا يبكيا، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم في أثرهما فوجدهم في حائط يهودي وعليّ ينزع كل دلو بتمرة والحسن والحسين يلعبان في سربة لليهودي وبين أيديهم أفضل من تمر، فقال: يا علي، ألا تنقلب يا بني قبل أن يشتد عليهما الحر، فقال: إجلس فإني قد أشبعتهما، فجلس حتى اجتمع له شيء من تمر فجعله في حجره، ثم حمل النبي صلّى الله عليه وسلم أحدهما وعليّ الآخر.
وروي: ما أكل أحد طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده. وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من كسب يده. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يستعمل الرجل أجيرا حتى يعلمه أجرته، وقال: من استأجر أجيرا فليعلمه أجرته. وروي في الخبر: بينما نفر يتماشون فأخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت صخرة على فم الغارة فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة، فادعوا الله بها لعلّه يفرجها عنا. فقال أحدهم:
اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيرا بقفيز أرز فلما قضى عمله سخطه فتركه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاء، ثم جاء فقال: اتق الله ولا تظلمني حقّي، فقلت له: انطلق إلى هذه البقر ورعائها فخذها، فقال: أتهزأ بي؟ فقلت: أنا لا أهزأ خذها فأخذها، فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنّا ففرج لهم.
إعطاء أجرة الأجير
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ث لاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى ثم غدر،(1/555)
ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى عمله ولم يوفه أجره. وكان أبو بكر رضي الله عنه لما استخلف، قال للناس: إنكم شغلتموني عن تجارتي، فافرضوا لي ففرضوا له كل يوم درهمين. استأجر رجل حمالا ليحمل قفصا فيه قوارير على أن يعلمه ثلاث خصال ينتفع بها، فحمل الحمال القفص فلما بلغ ثلث الطرق، قال: هات الخصلة الأولى فقال: من قال لك أن الجوع خير من الشبع فلا تصدقه، فقال: نعم. فلما بلغ ثلثي الطريق، قال: هات الثانية، فقال له: من قال لك أن المشي خير من الركوب فلا تصدقه.
فقال: نعم، فلما انتهى إلى باب الدار قال هات الثالثة، فقال: من قال لك أنه وجد حمالا أرخص منك فلا تصدقه، فرمى الحمال القفص على الأرض، وقال: من قال لك في هذا القفص قارورة صحيحة فلا تصدقه.
(3) ومما جاء في الدّين ومتعلّقاته
ذم الدّين والنهي عنه
قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث إلى رجل من اليهود يستسلفه إلى الميسرة، فقال: ليس لمحمد زرع ولا ضرع فأي ميسرة له، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: كذب عدو الله لو أعطانا لأدينا إليه، ولأن يلبس أحدكم ألوانا شتّى خير له من أن يستدين ما ليس عنده قضاؤه.
وقال معاذ بن جبل: الدّين شين. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من الكفر والدّين. وقال بعض الحكماء: الدّين رقّك فلا تبذل رقك لمن لا يعرف حقك. وقيل: الدين هدم الدين، وقيل: ما استرق الكريم مالك أفظّ عليه من الدين، وقيل: الدّين غلّ الله في أرضه فإذا أراد أن يذلّ عبدا جعله في عنقه. وسأل فيلسوف رجلا أن يقرضه مالا فرده وذمه.
وقال بعض الناس إلى الفيلسوف إنه جبهك بالرد، فقال: ما زاد على أن حمّر وجهي بالخجل مرة واحدة ولو أقرضنيه لصفّر وجهي مرات كثيرة.
من مات وعليه دين
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من داين الناس بدين في نفسه وفاؤه ثم مات وليس عنده وفاؤه، تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء. ومن داين الناس بدين ليس في نفسه وفاؤه ثم مات وليس عنده وفاؤه اقتص الله لغريمه منه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جيء بجنازة يوما فوضعت بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم، فقام ليصلّي عليه، فقيل: إن عليه دينا، فقال صلّوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه، على دينه يا رسول الله، ثم خطب فقال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من مات وعليه دين أو ضياع فعليّ ومن ترك مالا فلورثته.(1/556)
مدح الدّين والرخصة فيه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من أعياه الرزق فليستدن على الله ورسوله. دخل عتبة بن هشام على خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد معرّضا به: إن رجالا يدانون في أموالهم فإذا أفنيت أموالهم أدانوا في أعراضهم، فقال عتبة: أصلح الله الأمير إن رجالا تكون أموالهم أكثر من مروآتهم فلا يدانون، ورجالا مروآتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفدت أموالهم أدانوا على سعة ما عند الله، فخجل خالد وقال: إنك منهم فيما علمت. وقيل: تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه. وقيل: الدين من مواسم الأشراف.
قال المقنع الكندي:
يعاتبني في الدّين قومي وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
وقال أبو شراعة:
والدّين طوق مكارم لا تلتقي ... طرفاه في عنق البخيل الحازم «1»
وذلك من قول عمر لزنباع، حين قال له: ما أقدمك المدينة؟ قال: دين عليّ.
فقال: الدّين ميسم الكرام. وسأل عمرو بن عبيد عن رجل، فقالوا: إنه استتر لدين حصل عليه. فقال: طالما وفد به الكرام.
مدح من أدنت عليه.
وقال سعدان:
ولو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... على الإنسان من الناس درهما
ولكنّني مولى قضاعة كلّها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما «2»
وهذا أجمع شعر جمع فيه بين مديح وهجاء. وقال ابن الرومي:
عليّ دين نبيل أنت قاضيه ... يا من يحملني دينا رجائيه
من قضى دينا بدين
قال شاعر:
إذا ما قضيت الدّين بالدّين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرما على غرم
وقال آخر:
أخذت الدين أدفع عن تلادي ... وكان الدين أدفع للتلاد «3»
وقيل لمحمد بن واسع: فلان قد قضى دينه مما كسبه، فقال: ما كان أكثر دينا قط منه الساعة.(1/557)
من أعطى دينا على أن يسترجع
قال أبو الأصبع:
أيها المسترفدون ... القرض في برد الشتاء «1»
ليس قرضي لكم الدهر ... بقرض ذي اقتضاء
أنت عندي منه في ... حلّ إلى جن الظّباء «2»
فاستعن بالواحد الفر ... د وأخلص في الدّعاء
فلعلّ الدهر يأتي ... عن قريب بامتلاء
من تقاضى دينا قديما.
للبحتري:
من أمارات مفلس أن تراه ... موجفا في اقتضاء دين قديم «3»
وطلب رجل دينا عتيقا، فقال: دعني من هذا، فهذا دين عتيق. فقال: لعن الله من أعتقه.
من أحسن التقاضي
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاء. وقال صلّى الله عليه وسلم: خيركم الذي إذا كان عليه دين أحسن القضاء وإذا كان له أحسن الاقتضاء. وقال صلّى الله عليه وسلم: من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه إلى صاحبه فهو سارق.
قال ابن الرومي:
هو دين وأحسن الأمر فيه ... أن يكون القضاء قبل التّقاضي
الحثّ عليه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ سهل البيع سهل الشراء سهل التقاضي. وقال صلّى الله عليه وسلم: من طلب أخاه فليطلبه في عفاف وافيا أو غير واف. وقال صلّى الله عليه وسلم: كفى بالمرء من الشحّ أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئا، قال:
إنّي وجدتك من قوم إذا طلبوا ... بعد النسيئة دينا أحسنوا الطّلبا «4»
وقال آخر:
وحسبك من تقاض المرء يوما ... لحاجته الزيارة والحديث
الرخصة في التقاضي
استسلف النبي صلّى الله عليه وسلم من رجل تمرا فلما جاء يتقاضاه قيل له في ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:(1/558)
دعه فإن لصاحب الحق مقالا، انطلق إلى خولة بنت حكيم فالتمسوا عندها تمرا، فقالت: والله ما عندي إلا تمر ذخيرة. فقال: خذوه فاقضوه، فلما استوف ى قال له: استوفيت، قال: نعم قد أوفيت وأطيبت. فقال صلّى الله عليه وسلم: إن خيار هذه الأمة الموفون المطيبون.
ذمّ ماطل دينا
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: مطل الغني ظلم، وقال صلّى الله عليه وسلم: الواجد يحل عرضه وعقوبته، فقيل:
عقوبته حبسه وعرضه شكواه. قال:
فما بال ديني إذا يحلّ عليكم ... أرى النّاس يقضون الديون ولا أقضي
يقال: حل الدين يحل وجب محله وحل يحل حصل. وكتب رجل إلى غريم له:
أماطلك العصرين حتّى تملّني ... وترضى بنصف الدّين والأنف راغم «1»
فأجابه:
ستعطي برغم منك في السجن نادما ... وتشقى بطول الحبس والحقّ لازم
وقيل: الأكل سلجان «2» والقضاء ليان. وقيل: الأكل سر يطي والقضاء ضريطي.
مرّ بائع زيتون بامرأة فطلبت منه نسيئة، فقال: ذوقي لتعرفي جودته. فقالت: أنا صائمة قضاء عن رمضان العام الماضي، فقال: يا فاعلة أنت تمطلين ربّك هذا المطل وتطلبين منّي الزيتون بنسيئة متى تقضي؟
قال: ومما يتمثّل به في هذا الموضع، قول كثيّر.
قضى كلّ ذي دين فوفى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها «3»
وقال آخر:
من النّاس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو شاء القضا قضياني «4»
خليلي أما أمّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
إلى الله أشكو ما ألاقي وأشتكي ... غريما لو أن الدين منذ زمان
الحثّ على إنظار المعسر
قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ
«5» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم:
أن رجلا فيما مضى لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر ودع(1/559)
ما تعسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك، قال الله تعالى له. هل عملت خيرا قط قال: لا، إلا أنه كان لي غلام أقول له خذ ما تيسر ودع ما تعسر لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله تعالى لقد تجاوزت عنك. وقال صلّى الله عليه وسلم: من أنظر معسرا ووضع عنه أظلّه الله عزّ وجلّ في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه. وقال صلّى الله عليه وسلم: من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة.
لزم رجل غريما له وهو يقرأ عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«1» ، والغريم يقرأ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ
«2» . وسئل ابن الزيات في رجل له عليه دين أن يصالحه على بعض وينظره به، فقال: إما توفير وتأجيل وإما صلح وتعجيل.
المتبجّح بمطل الدين والنّاوي الذهاب به
قال بعضهم:
أماطله العصّرين حتّى يملّني ... ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم
وقال عبّاس السليطي:
إني وجدّك ما أقضي الغريم وإن ... حان القضاء ولا رقّت له كبدي
إلّا عصا رزنت طالّت برايتها ... تنوء ضربتها بالكفّ والعضد «3»
وقال، وقد نظر إلى غريم له يحسب ربحه:
يلوي بنان الكفّ يحسب ربحه ... ولا يحسب المطل الذي أنا ماطله
ومن دون ما يرجو عناء مبرح ... أواخره ما تنقضي وأوائله «4»
وذهب رجل إلى صديق له، فقال: أقرضني مائة درهم لأشتري بها شيئا عسى أربح فيه عشرين درهما، فقال: إني أعطيك عشرين درهما وأتخلص. فقال: لا أريد إلا المائة، فقال: حديث من لا يريد أن يرد الدين.
العارية
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: العارية مؤداة. قال بشر: أحق الخيل بالركض المعار. وجلس بعض أصحاب الحديث فقال واحد لآخر: تفضل وأعرني قلما فأعطاه، فقال: وأولني ورقا فدفعه إليه، فقال: ومحبرة فأعطاه، وقال: يا فتى أتنشط للتزوج فإن أمي فارغة. وفي ذم من لا يعير، قال الله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ.
الإفلاس
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيما رجل أفلس وعنده مال امرىء بعينه لم يقبض منه شيئا فهو(1/560)
أحق بعين ماله، فإن قبض منه شيئا فهو أسوة الغرماء. وقال الحجّاج: لا تجعلوا مالي عند من لا يمكنني استرجاعه منه، فقيل: ومن الذي لا يمكنك استرجاعه منه، قال: المفلس.
وقيل لمفلس: يا مرابي، فقال: فأل حسن. وفي المثل: أفلس من طنبور بلا وتر.
وقيل لمفلس: هل في كفّك مال، فقال: هو أفرغ من فؤاد أم موسى. وفلس القاضي رجلا فأركبه حمارا وطوّف به ونودي عليه أن لا يبايع فإنه مفلس، فلما أنزل، قال له صاحب الحمار: هات الكراء، فقال له: فيم كنا من أول النهار يا أبله.
الحثّ على أخذ الرّهن
قال الله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ
«1» . وقيل: إن الله تعالى لا يسمع دعاء من له على غيره حق، ولا رهن لديه ولا قبالة له عليه، فيقول: قد أمرتك بالاستيثاق فخالفت. ورهن صلّى الله عليه وسلم درعه بثلاثين صاعا من شعير كان أخذها رزقا لأهله.
حكم غلق الرهن وتلفه
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن الرهن، من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه. وروي: الرهن بما فيه وروي عنه صلّى الله عليه وسلم: الرهن مركوب ومحلوب. وقال بعض الشعراء في السخف:
أمسى غلامك رهنا لا انفكاك له ... والرهن في الحكم مركوب ومحلوب
فالدرّ منه حرام ما نطيف به ... والظهر منه على الأحوال مركوب «2»
الراهن آلات داره لفقره
قال زياد الأعجم يشكو فقرا:
لقد لجّ هذا الدهر في نكباته ... عليّ إلى أن ليس في الكيس درهم
وأمست جواليقي برغم طبيعتي ... رهانا عليّ ما في الجواليق يعلم «3»
وأخذ ذلك أبو زرعة الكناني، فقال:
وسفرتي في السّوق مرهونة ... على الذي يؤكل في السّفرة «4»
الرهون الظريفة من السخفاء
قيل: تقدم رجل إلى بقال يسأله فامتنع فدنا منه فسارّه فدفع إليه، فقيل له: ما قال لك؟
قال: رهنني طلاق امرأته وذلك أنه حلف بالطلاق أنه يرده غدا. فقال: ما رأيت رهينا مثله قط.(1/561)
وتقدم فتيان إلى فقاعي «1» فشربوا فقاعا، وقالوا: ما معنا شيء فخذ من كل واحد منا صفعة رهنا، فصفع كل واحد صفعة، فجاؤوه في اليوم الثاني فقالوا خذ حقك ورد الرهن، فقال:
حلال لكم، فأبوا إلّا رد الرهن وأخذ الحق فأعطوه حقه وصفعه كل واحد صفعة.
(4) ومما جاء في الأيمان
النهي عن الأيمان وذمّ من يكثرها
قال الله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا
«2» وقال الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ
«3» قال سعيد بن جبير: هو أن يقول الرجل فيما شكّ على يمين وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: اليمين الغموس تدع الديار بلاقع. وقال: اليمين حنث أو مندمة، وأخذه بعض الشعراء فقال:
يا أيّها المولي على جهد القسم ... بعض التأنّي لا تسفّه أو تلم «4»
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: الأيمان الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: الحلف ينفق السلعة ويمحق البركة، والتاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطاه. قيل: العاقل إذا تكلم بكلمة أتبعها مثلا، والفاجر إذا تكلم أتبع كلامه حلفا.
قيل: فلان لو سكن الفالج في لسانه لما نقص حرفا من أيمانه.
النهي عن الحلف بغير الله
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله. وكانت قريش تحلف بآبائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا تحلفوا بآبائكم.
الرخصة في لغو اليمين
قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ
«5» وقيل: لغو اليمين أن يقول كان كذا والله ولا والله ونحو ذلك، وروي أن رجلا قال للحسن، وعنده الفرزدق، ما تقول فيمن يقول بلى والله ونعم والله، فقال الفرزدق: أما سمعت قولي في ذلك. فقال الحسن ما قلت، فقال:
فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم «6»(1/562)
فقال الحسن: أصبت. ثم قيل له: ما تقول في امرأة لها حليل؟ فقال الفرزدق: ألم تسمع قولي:
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم تطلّق «1»
فقال الحسن: أصبت. فقال الفرزدق: كنت أراني أشعر منك، فإذا أنا أفقه منك أيضا.
وصف الكاذب بكثرة الحلف
قيل: علامة الكاذب جوده بيمينه لغير مستحلف، ومنه أخذ المتنبّي:
وفي اليمين على ما أنت واعذه ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم «2»
وقال المنصور لعمر بن عبيد: بلغني أن كتاب محمد بن عبد الله الدارمي ورد عليك، فقال: قد ورد له كتاب وما قرأته وأنت تعلم رأيي في الخوارج، فقال له: طيّب نفسي بخلعة، فقال: لا تسمني فإني إن كذبتك تقية لأحلفن تقية.
القليل المبالاة بالحلف
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ومن لم يحلف على ماله فلا مال له وادّعى رجل على المأمون مالا فاستحضر قاضيه يحيى بن أكثم فاستحلفه فحلف، ثم أمر للمدعي بما ادعى عليه، فقيل له في ذلك، فقال: حلفت له لئلا يجعل إتقاي ذريعة إلى أن يدعو عليّ، وبذلت المال لئلا يظن أحد أني حلفت لمبالاتي بهذا المال.
وادّعى رجل على عمر ما لم يلزمه فحلف له واستحلف أبيّ بن كعب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحلف كراهة أن يجعل الناس ترك الإيمان مع معرفتهم بالبراءة سنة، فدخل ذلك في شدة الورع.
واستحلف عمرو ابن عبيد على درهم ادعاه عليه بعض من أراد عنته، فقال حفص بن سالم: نعطيه نحن ونعفيك منه ونرفع قدرك عن مطالبة مثله، فقال: ما أكره أن أحلف على حق وما كنت لأعينه على معصية. وادعى رجل على عثمان رضي الله عنه مالا واستحلفه فأبى واتقاه بدعواه، فقيل له: هلّا حلفت إذ كان مبطلا، فقال: خشيت أن يوافق حلفي قضاء، فيقال إن ذلك أصابه لجراءته على الحلف.
قال المتنبّي:
وفاعل ما أشتهي يغنيه عن حلف ... على الفعال حضور الفعل والكرم «3»(1/563)
من لم يتحاش من اليمين ولم يبال له
حلف مديني على حقّ كان قبله، فقيل له في ذلك، فقال: بالله أدفع ما لا أطيق، وأخذ ذلك ابن الرومي فقال:
وإنّي لذو حلف كاذب ... إذا ما اضطررت وفي المال ضيق
وهل من جناح على معسر ... يدافع بالله ما لا يطيق
ويقال في المثل: جذها جذ العير الصليانة إذا أسرع في اليمين، كأنه اقتلعها اقتلاع العير هذا النبت. جاءت امرأة بزوجها إلى ابن شبرمة فحلف لها، فلما ولي أنشد:
ألم تعلمي أني جموح عنانه ... وأنّي لا أعدي عليّ أمير «1»
محوت الذي في الصكّ عنّي بحلفة ... سيغفرها الرحمن وهو غفور
فسمعها الحاكم فردّه، فعلم الأعرابي أنه أخطأ، فقال: أيها الحاكم أنت أفضل من أن ترجع في قضيتك، فقال: صدقت ولكنني أقضي عنك، وقضى عنه. قال البحتري:
سألوني اليمين فارتعت منها ... ليغروا بذلك الارتياع «2»
ثم أرسلتها كمنحدر السّيل ... تهاوى من المكان اليفاع «3»
وكان الشمّاخ عليه دين فقعد به، فقيل له: إنك تحضر القاضي وتحلف فتروع لذلك، فقال: حاش الله أن أحلف، ولو سيم مني باطل فكيف وعليّ حق لازم، فاغتر خصمه فأحضره وحلفه فحلف وخرج من عند الحاكم، فقال:
وجاءت سليم قضّها بقضيضها ... تنفض حولي بالبقيع سبالها
يقولون لي إحلف قلت لست بحالف ... أخادعهم عنها لكيما أنالها
ففرّجت همّ النفس عنّي بحلفة ... كما قدّت الشقراء يوما جلالها «4»
وقال أعرابي:
إذا حلّفوني بالغموس منحتهم ... يمينا كسحق الألحمي المحرق «5»
وإن حلّفوني بالعتاق فقد درى ... سحيم غلامي أنني غير معتق «6»
قال ابن المعتز بودي لو أن لي بيت الخثعمي بألف بيت:
وآلت يمينا كالزجاج رقيقة ... وما حلفت إلا لتحنث من أجلي(1/564)
الحثّ على الحنث وكفّارة اليمين
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا له منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. وقال أبو العيناء: أتي بابن أبي خالد الذي كان بالسند بين يدي المتوكل، فقال: والله لأضربنه بالسياط، والله لا يشفع فيه أحد إلا ضربت ظهره وبطنه.
وكان ابن أبي دؤاد حاضرا فتركه حتى ضربه عشرين سوطا، ثم قال يا أمير المؤمنين في هذا أدب وإن تجاوزت فسرف. فقال له: أما سمعت يميني، فقال: بلى ولكن ما كان أمير المؤمنين ليؤثر غيظه على ما قال نبيه وابن عمه صلوات الله عليه وعلى آله، قال: من حلف على شيء فرأى خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، وكفارة أمير المؤمنين مع العفو أقرب إلى الله وأفضل، فعفا عنه وكفّر عن يمينه.
سأل بعض الناس بعض الخلفاء حاجة، فقال: حلفت أن لا أفعل. فقال يا أمير المؤمنين: إن لم تكن حلفت بيمين إلا بررتها فما أحب أن أكون أوّل من يؤثمك وإن كنت ربما حلفت فرأيت ما هو خير منها فكفرتها، فلست أحب أن أكون أهون إخوانك عليك، فقال سحرتني وقضى حاجته.
الإستثناء في اليمين
قال بعضهم لرجل يحلف: قل إن شاء الله فإنه يدفع الخبث ويذهب الحنث وينجز الحاجة ويدرأ اللجاجة. كانت العرب تسمي الاستثناء في اليمين التحليل والمثنوية على ذلك، قال الشاعر:
تحلّل أبيت اللعن في قول آثم
وقال:
وإذا حلفت مماريا فتحلّل «1»
وقال تعالى: تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
«2» .
وقال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنويّة «3»
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الاستثناء بعد تراخي الأزمان يصح وكان المنصور دعا أبا حنيفة يوما، فقال الربيع وكان يعاديه هذا: أبو حنيفة يخالف جدك حيث يقول إذا استثنى الرجل في يمين بعد يوم جاز استثناؤه، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين هذا الربيع يزعم أنه ليس لك بيعة في رقبة جندك، قال: كيف؟ قال:
يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور، وقال:
يا ربيع إياك وأبا حنيفة، فلما خرجا قال الربيع: كدت تشيط بدمي، فقال أبو حنيفة: أنت أردت أن تشيط بدمي فحصنت نفسي وإياك.(1/565)
المعاريض «1» في الأيمان
قيل: في المعاريض مندوحة على الكذب. وقال عمر رضي الله عنه: إن في المعاريض ما يكفي أن يعف الرجل عن الكذب. وقال أبو الحسن اللؤلؤي: واللاه لا أفعل كذا، ويعني فاعل اللهو، ومالي صدقة يعني ليس لي صدقة. وفي كتاب المنقذ للمفجع الشاعر ما فيه مقنع من معاريض الأيمان.
الإيمان بالله
من حلف أمير المؤمنين رضي الله عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا والذي أمن من آمن به، وبالله جهد المقسم، وبالله الذي لا شيء أعظم منه وكل يمين بعد دونه، وأنا أعلم علم اليقين واحلف إن دعيت إلى اليمين الصابي، والله العظيم مالك يوم الدين وأنا غني عن اليمين، إني أعلم ذلك علم اليقين، بالله يمينا حلوة مرة. ومن أقسام النبي صلّى الله عليه وسلم: لا ومقلب القلوب، لا والذي نفسي بيده، قال شاعر:
وأقسمت بالرحمن لا شيء غيره ... يمين امرىء برّ ولا أتحلّل «2»
قال أبو بكر الصولي: لا أعرف في الأيمان شعرا أعذب من قول البحتري:
حلفت بربّ زمزم والمصلّى ... وربّ الحجر والحجر اليماني
وبالسّبع الطّوال ومن تولّى ... تلاوتهنّ والسبع المثاني «3»
اليمين بالبيت والهدى
تقول العرب: وحقّ هذه البنية.
قال عويف بن الأحوص:
وإنّي والذي حجّت قريش ... محارمه وما جمعت حراء
وشهر بني أميّة والهدايا ... إذا حبست تضرّجها الدماء «4»
وقال الفرزدق:
حلفت بما إليه يؤم ناس ... من الآفاق من يمن ومصر
اليمين بالطّلاق
أول من استحلف بالطلاق ابن مسلمة، وكان واليا على كرمان، استحلف جنده بالطلاق، فقال بعضهم:
رأيت هذيلا أحدثت في طلاقهم ... طلاق نساء لم يسوقوا لها مهرا «5»(1/566)
وقيل: أول من استحلف بالطلاق العبّاس بن عبد المطلب استحلف الأنصار ليلة العقبة حين أخذ عليهم البيعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
طلق رجل امرأته عدد نجوم السماء فجاء إلى ابن عباس واستفتاه، فقال: يكفيك من ذلك الهقعة «1» ، وهي رأس الجوزاء ثلاثة أنجم. قيل لمزيد المديني: لم تكثر الحلف بالطلاق؟ فقال لأني لما تزوجت امرأتي حلفت بالطلاق إني أحلف بالطلاق في كل حقّ وباطل كل يوم، فيميني بالطلاق إمساك لها وإلا بانت «2» . حلف رجل بالطلاق فقدمته امرأته إلى القاضي فسأله عن اليمين فأخبره فجعل القاضي يتفكر، فقال له الرجل: فيم تتفكر؟ قال:
أطلب لك مخرجا من اليمين قال قد هون الله عليك: أشهدك أنها طالق سبعين. قال الأصمعي: كان على بعض الأعراب دين ثقيل فتعلق به غرماؤه وكان معدما فساموه أن يحلف لهم بالطلاق أن لا يهرب فحلف لهم بطلاق امرأتين كانتا له ثم هرب، وأنشأ يقول:
لو يعلم الغرماء ما مقتي لهم ... ما حلّفوني بالطّلاق العاجل
قد ملّتا ومللت من وجهيهما ... عجفاء مرضعة وأخرى حامل «3»
وقال ابن الرومي:
إذا ما حلف النغل ... ففي أيمانه رخصه «4»
وقال منصور بن باذان:
يا ذا الذي جعل الطلا ... ق سلاحه عند الحقيقه
لا تحلفنّ بطلاق من ... أمست حوافره رقيقه
هيهات قد علم الأنا ... م بأنّها صارت صديقه
الأيمان بأهل البيت
كان حمّاد بن موسى يترفض، وكان له صديق يثق إليه ويوافقه في مذهبه فأودعه حمّاد دراهم وطالبه بها بعد مدة، فجحده فاضطر إلى أن مضى لمحمد بن سليمان وسأله أن يحضره، ويحلف له بحق عليّ بن أبي طالب فإنه يتحرج من ذلك، فقال: أعز الله الأمير، هذا الرجل أجل عندي من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه، ولكني أحلف له بالمتفق على إيمانهما وخلافتهما أبي بكر وعمر فضحك محمد بن سليمان، والتزم بعض ما ادّعى عليه وصالحه على بعض.
اعترضت امرأة المأمون، وكان قد غصبها ضيعة، فقالت:
ألا أيّها الملك المرتجى ... لريب المنون وصرف الزّمن «5»(1/567)
بحقّ النبيّ وحقّ الوصيّ ... وحقّ الحسين وحقّ الحسن
وحقّ التي غصبت حقّها ... ووالدها بعد ذا ما اندفن «1»
شفعت إليك بأهل الكساء ... فإن لم تشفع شفيعي فمن «2»
وكان أهل الكوفة إذا حلفوا يقولون: وحق الثلاثة يعنون النبي وأبا بكر وعمر، فرفع رجل إلى الحسن بن زيد وهو أمير المدينة في ذنب فأمر أن يضرب فقال له: بحق الثلاثة عليك إلا ما عفوت عني، فقال: وحق أحد الثلاثة عليّ وحقي على الإثنين ألا أوجعتك، فبلغ قوله المنصور، فقال: قاتله الله فما أمر نفسه.
أيمان الأعراب
اختصم أعرابيان في حق فأقبلا إلى وال فوجبت اليمين على أحدهما، فقال المدّعي:
كله إليّ أيها الحاكم أحلفه، فقال له: أنت وذاك فدوّر له دائرة في الأرض، وقال: إجلس فيها فجلس، فقال له: جعل الله نومك نغصا وأكلك غصصا ومشيك رقصا ومسحك برصا وقطعك حصصا فأدخلك قفصا وأدخل في إستك هذا العصا، فأبى أن يحلف واتقاه بحقّه.
واستحلف أعرابي خصما فقال: قل لا أصحبني الله عصمة ولا سدّ عنّي خلة وأحضرني كل نقمة وأثكلني كل نعمة وصرّد لي المشرب وسلبني الأقرب فالأقرب، إن كان ما ادعيت حقا، فاتقاه بحقّه.
اختصم أعرابيان إلى أمير اليمامة فقال أحدهما: إن لي قبل صاحبي حقا فمره يخرج منه فأنكر، فقال الوالي: أحالف أنت؟ قال: نعم، فقال خصمه: دعني من يمينك حتى أحلفه، فقال: قل لا ترك الله لي خفا يتبع خفا ولا ظلفا يتبع ظلفا، وحتني «3» من أهلي ومالي حتّ الورق، وخلعني من أهلي ومالي خلع الخضاب، وأحوجني إلى شرّ خلق الله إن كان لهذا قبلي حق. فقال: لا أحلف واتقاه بما ادّعى عليه.
وحلف أعرابي آخر، فقال: قل لا استتبت الله من خطيئة ولا استنجدته لبليّة ولا وفيت له بعهد ولا استجزته أوان جهد، فأتقاه بحقّه. وقال أعرابي لآخر في حق: أتحلف، فقال نعم، فقال: قل ألزمني الله الزلل ولا سدّ عني الخلل، وألبسني القل والملل، وألصق بي الغمّ والعلل، وقطع عني سببه وأصحبني غضبه وأحضرني نقمه وأعدمني نعمه، وكدر لي المشرب وأفقدني الأقرب فالأقرب، إن كان لك عندي حق فاتّقاه ولم يحلف.
أيمان الأسخياء وذوي العلاء
كان من يمين يحيى بن خالد: لا وعزّة الوفاء وحرمة السخاء. قال الأشتر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس(1/568)
وقال أبو علي البصير:
أكذبت أحسن ما يظنّ مؤمّلي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عوّدتها ... قدما من الإخلاف والإتلاف
وغضضت من ناري ليخفى ضوؤها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافي «1»
إن لم أصب على عليّ حلّة ... أضحت قذى في أعين الأشراف
وقال أبو مسلم الرستمي:
إذا فلا رفعت كاسا بنان يدي ... ولا سعت بي لتطلاب العلى قدمي
وأثكلتني القوافي رقّتي وغدت ... في نسجها كلمى غفلا بلا علم «2»
وقال الأستاذ الرئيس:
عققت العلى إن كنت خنتك بالقلا ... وعفت النّدى إن لم أكن ذا جوى يذوي «3»
وقال التنوخي:
إذا فرأيت العرف في صورة النكر
وقال آخر:
إذا فلا بلغت نفسي أمانيها
وقال آخر:
إذا فثكلت سابغتي وسيفي ... غداة وغى وراحلتي وزادي «4»
وقال الموسوي:
وإلا فلا أمّني النازلون ... ولا جاءني الطارق المجتدي «5»
أيمان الشّرب ومتعاطي اللهو
قال وهب الهمذاني:
لا والذي سنّ للمدامة ولا ... ماء نكاحا بغير طلاق
وقال المخزومي:
لا والذي قسّم الصهباء من ذهب ... والماء من فضّة ما ساد من بخلا
وقال علي الأحول:
كفرت إذا بحقوق الصّديق ... وعربدت في الشّرب عند المدام «6»(1/569)
أيمان الكهنة وأهل الجاهلية
أقسم بالضياء والحلك، والنجوم والفلك، والشروق والدلك «1» . لقد خبأت ثدين فرخ في إعليط مرخ.
كانت العرب تتحالف على النار وتتعاقد على الملح، ولذلك قال الشاعر:
حلفت لهم بالملح والقوم شهد ... وبالنّار واللات التي هي أعظم
وقال الكميت:
بهولة ما أوقد المخلفون ... لدى الخائفين وما هوّلوا «2»
والهولة نار كانوا يوقدونها ويلقون عليها الكبريت ليستعظم مرآها، ويهابها من أقدم على اليمين، ويخشاها.
أيمان النوكة والسفل
من أيمان أهل بغداد: أعطيت الله ألف جوالق عهود، ويقولون: أعطيت الله مائة ألف كر مواثيق. كانت أيمان مزبد، وإلا فسلحت في القبلة وحشرت في صورة قرد. قال: بعض أعقاب الأنبياء: ادّعى رجل على آخر طنبورا عند بعض القضاة، فقال: حلفه، فقال القاضي: إن كان عندك الطنبور فأيري في حجرك، فقال: أي يمين هذا، فقال: يمين الطنابيريين.
وادّعى رجل على امرأة، فقال الرجل: إن كنت كاذبة فأير القاضي في حرّك فتوقفت المرأة. فقال لها القاضي: قولي وإلا أخرجي من حقه. وادّعى ريحاني شيئا على آخر عند قاض، فقال القاضي له: قل والله الذي لا إله غيره، فقال: ليس هذا من يمين الريحانيين.
أمي بظراء إن كان له عندي شيء، فقال القاضي: قم فما أراك إلا صادقا. وحلف مزبد فقال: إن كان كذا فعليّ أن أصعد السماء في حزيران على سلم من الزبد.
أيمان الظرفان
قال الرصافي:
أما وتفتير طرفك الوسن ... وحسن خال بخدّك الحسن «3»
وقال الخبزارزي:
بمجاري فلك الحسن التي في وجناتك
وقال ابن المعتز:
وحياة عاذلتي لقد صارمته ... وكذبت بل واصلته وحياته «4»(1/570)
وقال البحتري:
وحياة من أهوى فإنّي لم أكن ... أبدا لأحلف كاذبا بحياته
أيمان أهل الذمة
قال إسحاق الموصلي: وجبت على عون العيادي يمين بحضرة الفضل بن الربيع، وكانت بيننا وحشة، فقلت: ولّني استحلافه، فقال: قد فعلت، فقلت: قل بالذي لا يعبد غيره ولا ندين إلا له وإلا فخلعت النصرانية وبرئت من المعبودية، وطرحت على المذبح حيض يهودية، وقلت في المسيح ما يقول المسلمون إن الله خلقه من غير أب كمن خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، ولعنك البطريق الأكبر والبطارقة والقمامسة والأساقفة والديرانيون وأصحاب الصوامع عند مجمع الخنازير وتقريب القربان، وعليك لعنة الثمانية عشر أسقفا الذين خرجوا من رومية حتى أقاموا عهود النصرانية، وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم الجمل يوم الإثنين عند مدخل الصوم وهدمت كنيسة لد وبنيت بحجارتها مستراحا لليهود، وهتكت درع داود وإلا فسقط عليك قربانك من يدك وأخذته من يد يهودي، وأنت حنيف مسلم، وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك، فقال: والله ما أجوز أن أسمعها فكيف أحلف بها.
ومن أيمان اليهود
والله الذي لا إله إلا هو منزل التوراة على موسى، وإلا فأنت بريء من اليهودية داخل في الحنيفية، وبرئت من الآيات العشر التي أنزلت على موسى بطور سيناء، وبرأك الله من الأربعة الأخياط التي في كساء هارون أخي موسى، وبرئت من شمعون وشمعى ومن يوم السبت وحقّه، وحرمت الفطير في وقته، وخرقت توراة موسى بأسنانك ومحوت كل آية بلسانك، وعليك المشي إلى بيت المقدس.
أنواع من ذلك
حلف أعرابي بالمشي إلى بيت الله أن لا يكلم ابنه، فحضرته الوفاة فقيل له كلمة قبل مفارقة الدنيا، فقال: ما كنت قط أعجز عن المشي إلى بيت الله منّي الساعة. كان قوم عليهم دين لأعرابي فقدموا على أن يحلفوا، فقال الأعرابي:
يا ربّ إن كان بنو عميره ... قد أجمعوا بحلفة مشهوره
فابعث إليهم سنة قاشوره ... تحتلق المال احتلاق النوره «1»(1/571)
(5) وممّا جاء في الاكتساب والإنفاق
الحثّ على تثمير المال في الصّغر والكبر
حكي أن كسرى مرّ بشيخ كبير يغرس فسيلا «1» ، فقال له يا هذا: كم أتى عليك من العمر؟ قال: ثمانون سنة، قال أفتغرس فسيلا بعد الثمانين. فقال: أيها الملك لو اتكل الآباء على هذا لضاع الأبناء. قال كسرى: زه «2» يأخذ أربعة آلاف درهم. فقال: أيها الملك:
الفسيل يطعم بعد سنين من غرسه وهذا قد أطعمني في سنته فقال: زه يأخذ أربعة آلاف درهم فقال: أيها الملك: الفسيل يطعم في السنة مرة وهذا قد أطعمني في أوّل السنة مرتين، فقال:
زه يأخذ أربعة آلاف درهم، فقال الوزير: إن لم ينهض الملك أردى هذا بحكمته بيت المال.
تثمير ذي مال كثير لمال حقير
قال سعيد: ولاني عتبة بن أبي سفيان ماله بالحجاز، فقال: تعهد صغير مالي يكبر ولا تجف كبيره فيصغر، فإنه ليس يمنعني كثير ما في يدي من إصلاح قليل مالي، ولا يشغلني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني. وأتى قوم قيس بن عبادة يسألونه حمالة، فصادفوه في حائط له يتبع ممّا يسقط من الثمر فيعزل جيده ورديئه، فقاموا حتى فرغ، فكلّموه في ذلك، فبذل لهم ما أرادوا، فقال بعضهم: صنيعك هذا مناف لترقيح «3» عيشك، فقال: بما رأيتم من فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم. وقال زياد: لو أن لي ألف ألف درهم ولي بعير أجرب لقمت به قيام من لا يملك غيره، ولو أن عندي درهما واحدا فلزمني حق لوضعته فيه. قال الوليد بن يزيد:
لأجمعن جمع من يعيش أبدا ولأنفقنّه إنفاق من يموت غدا.
التمدح بالتكسّب والحثّ على ذلك
قال الله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
«4» ، فدل على وجوب الطلب أو فضيلته. قال الموصلي: عليكم بالتكسب فأوّل ما يبدأ به الفقر دين الإنسان. ولما أقبل النبي صلّى الله عليه وسلم من غزوة تبوك استقبله معاذ فصافحه، فقال: كبنت يداك، قال: نعم أحترث بالمسحاة وأنفقه على عيالي فقبله، وقال لا تمسها النار. وقال بعض الحكماء: لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان فالكريم محتال والدنيء عيال.
قال عروة بن الورد:
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا(1/572)
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وقيل: هو أكسب من الذر والنمل ومن الذئب. وقيل: فلان يسعى سعي الأم البرّة ويجمع بجهده جمع الذره.
تفضيل الكسب على السؤال
كان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى فتى وأعجبه، سأل: هل له حرفة فإذا قالوا: لا سقط من عينه. وكان يقول: مكسبة فيها دناءة خير من مسألة الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنه:
قدم قوم على النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن فلانا يصوم النهار ويقوم الليل ويكثر الذكر، فقال: أيكم كان يكفي طعامه وشرابه، فقالوا: كلنا فقال كلكم خير منه. وروى أنس أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: أتيتك من أهل بيت لا أراني أرجع إليهم من الجوع، فقال: أما عندك شيء؟
قال: لا، فأعطاه درهمين وقال له: إذهب فابتع بأحدهما طعاما وبالآخر فاسا واحتطب وبع.
فغاب خمسة عشر يوما ثم جاء فقال: بارك الله لي فيما أمرتني به أصبت عشرة دراهم فابتعت لأهلي بخمسة طعاما وبخمسة كسوة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: هذا خير لك من المسألة «1» ، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة دم موجع أو غرم مفظع أو عدم مدقع.
وقال إبراهيم عليه السلام: يا رب استحييت من كثرة تصرّفي في طلب الرزق فأوحى الله إليه ليس طلب المعيشة من طلب الدنيا.
وقال شاعر:
ولا تدع مكسبا حلالا ... تكون منه على بيان
تفضيل التكسّب على التوكّل
قال حكيم لرجل يجلس إليه: ما حرفتك؟ قال التوكل على ربّي والثقة بما عنده، فقال الحكيم: الثقة بربّك تحرم عليك إصلاح معيشتك، أو ما علمت أن طلب ما تعف به عن المسألة حزم والعجز عنه فشل والفقر مفسد للتقى، متهم للبريء ولا يرضى به إلا الدنيء، وأنشد:
فإن قلت يكفيني التوكّل والأسى ... فقد يطلب الرزق الذي يتوكّل
وقيل لحكيم: إحذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان فيمثل لك التواني في التوكل ويورثك الهوينا بإحالتك على القدر، فإن الله أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل والتسليم للقضاء بعد الأعذار، فقال: خذوا حذركم، وقال: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إعقلها وتوكل. وقال عمر لرجل: ما معيشتك؟ قال: رزق الله، فقال: لكل رزق سبب فما سبب رزقك؟ قال أبو تمّام:
وصدقت إن الرزق يطلب أهله ... لكن بسيرة متعب مكدود(1/573)
وقال الموسوي وقد أحسن في معناه:
اعزم فليس عليك إلّا عزمة ... والعجز عنوان لمن يتوكّل
أو حمّل اللّوم القضاء فإنه ... عود لأحمال الملام مذلّل «1»
الترغيب في طلب المعاش مع مراعاة المعاد
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: خيركم من لم يدع دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إحرث لآخرتك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ينبغي للعاقل أن يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد ومرمة لمعاش ولذة في غير محرم، قال جرير:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا غرض الدّنيا عن الدّين شاغله
وقال خالد: يا بني، خصلتان لا تبال ما صنعت بعدهما، دينك لمعادك ودرهمك لمعاشك.
التّرغيب في اكتساب الحلال
قال ابن المبارك: لقيت رجلا بمكة يبيع الخرز وكان أبوه خزازا فسألته عن ذلك، فقال: إن الله لا يسألني هلّا كنت خزازا، وإنما يسألني من أين اكتسبت وفيم أنفقت؟ وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يكتسب عبد درهما من حرام فيتصدق به أو ينفقه أو يتركه إلا كان زاده إلى النار.
وقال سفيان: عليكم بعمل الأبطال الإكتساب من الحلال والإنفاق على العيال.
واستأذن رجل النبي صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: ألك من تعوله؟ قال: نعم، قال: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعوله.
النّهي عن التّواني في التّكسب
قال هرم: من التوفيق رفض التواني ومن الخذلان مسامرة الأماني.
قال شاعر:
وإنّ وطاء العجز أورث خلّة ... وأصلد ما أورى الأكّف القوادح «2»
وقال:
وما طلب المعيشة بالتمنّي ... ولكن ألق دلوك في الدّلاء
وقيل:
حبّ الهوينا يكسب النّصبا «3»(1/574)
مدح الشغل وذمّ الفراغ
قال بزرجمهر: إن يكن الشغل محمدة فالفراغ مفسدة. الراحة للرجال عقلة وللنساء غلمة. واستشار رجل في عمل يتولاه آخر، فقال: إعلم أن الفراغ من شأن الأموات والإشتغال من شأن الأحياء، فإن قدرت أن تكون حيا فافعل. وقال حكيم: لا تفرغ قلبك من ذكر ولا ولدك من شغل، فالقلب الفارغ يبحث عن السوء واليد الفارغة تنازع إلى الإثم. وقال آخر: أحذركم عاقبة الفراغ فإنه شر من السكر. وقال الفضل بن مروان:
الكاتب كالدولاب إذا تعطل انكسر.
الأمر بالاقتصاد في الطلب
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اقتصدوا في الطلب فإن ما رزقتموه أشد طلبا منكم له وما حرمتموه فلن تنالوه ولو حرصتم. وقيل: لا يدرك بالحذق هارب الرزق.
قال المرقش الأصغر:
أجمل العيش إن رزقك آت ... لا يرّد الترقيح شروى فتيل «1»
وقال أبو الشّيص:
لكل امرىء رزق وللرزق جالب ... وليس يفوت المرء ما خطّ كاتبه «2»
يساق إلى ذا رزقه وهو وادع ... ويحرم هذا الرزق وهو يطالبه
وقال أبو تمّام:
والحظ يعطاه غير طالبه ... ويحرز الدرّ غير مجتلبه
تلك بنات المخاض راتعة ... والعود في كور وفي قتبه «3»
وقال آخر:
حظك يأتيك وإن لم ترم
وقال راشد الكاتب:
إذا كانت الأرزاق في القرب والنّوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدّعه «4»
وإن ضاق أمر يفرج الله ما ترى ... ألا ربّ ضيق في عواقبه سعه
وقال العطوي:
لا تحسبنّ طول الرحل ... يزيد في رزق الأجل(1/575)
ولا مقاما وادعا ... يدفع رزقا قد نزل
وقيل: لبعض من تقاعد به الزمان ألق الدلاء وأجذبها ملاء، فقال: كيف أنزع دلوا خان رشاؤها «1» وأسدد سهما زالت أغراضها.
الحثّ على السفر في طلب المال
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
«2» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: سافروا تغنموا. وسئل ضمرة بن ضمرة عن الفقر الحاضر والعجز الظاهر، فقال: أما الفقر الحاضر فمن لا تشبع نفسه وأما العجز الظاهر فالشاب القليل الحيلة اللازم الحليلة إن غضبت ترضّاها وإن رضيت فداها، يحوم حولها ويطيع قولها.
قيل: رأس العجز أن تقيم فلا تريم وأن تخيم فلا تظعن، فمن طلب جلب ومن تبغل تبقل، ومن نام رأى الأحلام. وقيل: الحركة لقاح الجد العقيم.
قال أبو تمّام:
أراد بأن يحوي الغنى وهو وادع ... وهل يغرس الليث الطلا وهو رابض «3»
قال بزرجمهر: السعيد يتبع الغني والشقي يتبع مسقط رأسه، قال شاعر:
ذو اللبّ تنزع للرفاهة نفسه ... وترى الشقي نزوعه للموطن
أخذه المبرّد:
الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان
وقال آخر:
وكلّ بلاد أخصبت فبلادي
وقال المتنبيّ:
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق «4»
إقامة العذر في الطلب
قال عروة بن الورد:
لتبلغ عذرا أو تصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
وقال كشاجم:
وعليّ أن أسعى وليس ... عليّ إدراك النّجاح(1/576)
وقال آخر:
قد قضى ما عليه من بلغ الجه ... د وإن لم يصل إلى ما أرادا
المتكسّب بسلاحه
دخل رجل على أبي دلف فاستماحه وانتسب له، فقال له: أتستميح وجدك القائل:
ومن يفتقر منّا يعيش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخرج الرجل وجرّد سيفه فاستقبله وكيل لأبي دلف معه مال، فاستلبه وقتله، فاتصل الخبر بأبي دلف. فقال: دعوه، فإني علّمته. وقال بعض الشجعان: التظلل ضرر والاتكال غرر، ولا يكسب الأموال إلا منازلة الأبطال ومصاولة الرجال وتجريد السيوف ومباشرة الحتوف.
قال الأعشى:
فتى لا يحب الزاد إلا من التّقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
وقال ابن نباتة:
شرابهم في الحرب ما تمطر القنا ... وأكلهم ما تجتنيه الصوارم «1»
وصف الناس بأنّ تصرفهم في طلب المعاش
وقال أبو العتاهية:
المرء يغلط في تصرّف حاله ... فلربما اختار العناء على الدّعه
كل يحاول حيلة يرجو بها ... دفع المضرّة واجتلاب المنفعه
وقيل لفارسي: فيم تقلب الناس، فقال بالفارسية أش نياز واز، أي من الفقر والحرص، قال آخر:
كلّ امرىء مشتغل بنفسه ... يطلب ما يطحنه بضرسه
النهي عن الاغترار بما في يد الغير
قيل: غثّك خير من سمين غيرك. قال شاعر:
وإن حدّثتك النفس أنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فجرّب
وقال أبو العتاهية:
لا تغضبنّ على امرىء ... لك مانع ما في يديه
واغضب على الطمع الذ ... ي استدعاك تطلب ما لديه(1/577)
تفضيل الحاضر على المنتظر
في المثل: عش ولا تغتر. وقيل: لقمة في فمك أحضر منفعة من فخذ في تنور.
معاطاة الموجود خير من انتظار المفقود.
الحثّ على حفظ المكتسب
قال سقراط: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته كعنايتك باكتسابه. قال شاعر:
لحفظك مالا قد عنيت بجمعه ... أشدّ من إدراك الذي أنت طالبه
وقال آخر:
لحفظ المال خير من ضياع ... وطوف في البلاد بغير زاد
وقيل: حفظ الموجود أيسر من طلب المفقود، وقيل: احذر نفاد النعم فما كل شارد مردود.
الحثّ على حفظ المال لنوب الأيام «1»
قال محمد بن غالب:
إنّما الدّنيا ضباب قذى ... تكفّ الأحزان عن مطره «2»
فاتّخذ للدهر في يسر ... عدة تقضي على عسره
وقال البديهي:
لا تحسبنّ إدخار المرء قنيته ... لصونه وجهه بل لا، هو الكرم «3»
عزّ القناعة بالموجود يمنع من ... ذلّ القنوع، وحفظ العرض مغتنم
حفظ المال بالختم عليه
قيل: من ختم البضاعة أمن الضياعة. من الكيس ختم الكيس «4» . طينة خير من ظنّة.
وقيل: أربعة أشياء لا يستحيا من الختم عليها: المال لنفي التهمة، والجوهر لنفاسته والطّيب للإبدال، والدواء للاحتياط.
الحثّ على حسن التدبير والنهي عن التبذير
قيل: حسن التدبير نصف الكسب وسوء التدبير داعية البؤس. الإفلاس سوء التدبير.
كن مقدرا لا مقترا. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة. قال الله(1/578)
تعالى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ
«1» . وقيل: التبذير إنفاق المال في غير الحق. وسئل سعيد بن جبير رضي الله عنه عن التبذير، فقال: هو أن تنفق الطيب في الخبيث.
وقال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ
«2» ولم يأذن في الفضول وقال عزّ من قائل: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
«3» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. وقال: ليس في السرف شرف.
وقال معاوية: ما رأيت تبذيرا إلّا وإلى جنبه حق مضيع. وقال صلّى الله عليه وسلم: ما عال امرؤ عن اقتصاد.
وقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد.
وقيل: ما وقع تبذير في كثير إلّا هدمه ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره.
وقيل: إنك إن أعطيت مالك في غير الحق يوشك أن يجيء الحق وليس عندك ما تعطي منه.
التهكّم على مبذّر
قيل في المثل: خرقاء وجدت صوفا. وقيل: من يطل ذيله ينتطق به. وقيل: يطأ فيه. ومن وجد دهنا دهن إسته. وقيل: عبد خلي في يديه، وعبد ملك عبدا. وكان بعض المتخلفين ورث مالا فكان يحمل الدنانير ويأتي الشطّ فيقذف واحدا واحدا في الماء، فقيل له في ذلك، فقال: يعجبني طليته وصوته. وبنى عون العبادي دكانا وسط داره وأسرف في الإنفاق عليه إسرافا متناهيا فليم في ذلك، فقال: ما أصنع بالدراهم إذا.
الحثّ على حفظ المال والإستغناء به عن الأنذال
كان لسفيان بن عيينة صرة دنانير يحفظها، فقيل له: أتحفظ ذلك وأنت موصوف بالزهد؟
فقال: لئلا أكون مناديل الغمر من الرجال. وقيل لأفلاطون: لم تدخر المال فأنت شيخ؟ فقال:
لأن يموت الإنسان ويخلف ما لا لعدوّه خير من أن يحتاج إلى أصدقائه في حياته.
وقيل: خلّف للأعداء ولا تحتج إلى الأصدقاء. وقيل لحكيم: لم حفظت الفلاسفة ما في أيديهم؟ فقال: لئلا يقيموا أنفسهم المقام الذي لا يستحقونه، فقد علموا أن لا اتكال على ما في يد الغير. وفي المثل: بق نعليك وابذل قدميك «4» .
النهي عن إنفاق جميع المال والرخصة في ذلك
روي في الخبر: أن كعب بن مالك أراد أن يتصدق بماله كله، فنهاه النبي صلّى الله عليه وسلم وقال(1/579)
له: إمسك عليك مالك فإنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
وقال ابن عباس رضي الله عنه حث النبي صلّى الله عليه وسلم ذات يوم على الصدقة، فجاء أبو بكر بماله كله، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أعددت لعيالك فقال الله ورسوله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له: ما أعددت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله ونصف مالي، فقال صلّى الله عليه وسلم:
بين الرجلين ما بين الكلمتين.
وسئل الشبلي عمّا يجب في مائتي درهم، فقال: أما من جهة الشرع فخمسة دراهم وأما من جهة الإخلاص فالكل. وقيل للمأمون لا شرف في السرف، فقال: لا سرف «1» في الشرف.
الإنفاق على الأهل
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نفقة الرجل على أهله صدقة، وقال: خيركم خيركم لأهله، وقال:
ابدأ بمن تعول ولا تعجز عن نفسك.
وكان أيوب يقول لأصحابه: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف ولا تدعوهم يطمحوا بأبصارهم إلى ما في أيدي الناس.
وقال زيد بن على رضي الله عنه: ثلاث لا يسأل الإنسان عنها: ما ينفقه في مرضه وما ينفقه في إفطاره، وما ينفقه على ضيفه.
مدح مفيد مبيد
مدح إعرابي رجلا، فقال: هو أكسبكم للمعدوم وآكلكم للمأدوم وأعطاكم للمحروم.
وقال الوليد بن يزيد: لأجمعنّ جمع من يعيش أبدا ولأنفقنه إنفاق من يموت غدا.
قال أبو تمّام:
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشر ... أغارت عليهم واحتوته الصنائع
وقال آخر:
إذا أسلفتهن الملاحم مغنما ... دعاهن من كسب المكارم مغرم
وقال المتنبّي:
والسّلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء «2»
النهي عن إمساك المال
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ينادي مناد كلّ ليلة، فيقول: اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا.(1/580)
وقال صلّى الله عليه وسلم: أنفق بلالا «1» ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
قال شاعر:
وإن أشدّ الناس في الحشر حسرة ... لمورث مال غيره وهو كاسبه
ولهذا باب في ابتداء فضل الجود.
الحثّ على الإنفاق وقت السعة وإظهار أثر النعمة
قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
«2» (الآية) . وبعث عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو أمير الشام مالا، وقال للرسول: أنظر ماذا يصنع فرآه يوسع على عياله، ثم نقص من أرزاقه فقتر عليهم. فقال عمر: رحم الله أبا عبيدة وسعنا عليه فوسع وقترنا عليه فقتر. وسئل الحسن رضي الله عنه عن رجل آتاه الله مالا فأنفق على أهله ما لو أنفق دونه لكفى، فقال: وسع على نفسك وعلى عيالك كما وسع الله عليك فإن الله قد أدب عباده أحسن تأديب. فقال: لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، وما عذب الله قوما وسع عليهم فشكروه ولا غفر لقوم ضيق عليهم فكفروه.
وقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس. وقال صلّى الله عليه وسلم:
من آتاه الله خيرا فلير أثره عليه.
ذهاب المال الحرام في الأباطيل
قال الحسن رحمه الله: إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل المال فأنظر في أي شيء ينفقه، إن الخبيث ينفق في إسراف. وقيل: من درى من أين أخذ درى أين أنفق.
التظلف والتذمم لمكسب دنيء
قيل في المثل: نفع قليل وفضحت نفسي. تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها.
قال شاعر:
أصبت صنوف المال من كلّ وجهة ... فما نلته إلا بكفّ كريم
وإنّي لأرجو أن أموت فتنقضي ... حياتي وما عندي يد للئيم
حكم وجود الضالة
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ضالّة الإبل، فقال: مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر. قيل: فضالة الغنم، قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. وسئل عن اللقطة فقال: إحفظ عفاصها ووكاءها «3» وعرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها.(1/581)
وروى جارود بن المعلى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ضالّة المؤمن حرق النار.
وقيل: ما يوجد بمكة فلا يجوز الانتفاع به، لقوله صلّى الله عليه وسلم إن الله حرم مكة ما بين لابتيها لا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعروف.
وقال عمر رضي الله عنه: إذا وجدتم تمرة ملقاة في الطريق فليلتقطها من هو أحوج إليها. ووجد النبي صلّى الله عليه وسلم تمرة ساقطة، فقال: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها.
(6) وممّا جاء في مدح الغنى وذمّ الفقر
منفعة المال دينا ودنيا
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، وقال صلّى الله عليه وسلم: نعم العون على تقوى الله المال. وقال أبو قلابة: الغنى من العافية. نظر أعرابي إلى دينار فقال:
ما أصغر مرآك وأكثر منافعك.
قال ابن الرومي:
لم أر شيئا صادقا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف
يقضي له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف «1»
وقيل: نعم العون على الدين اليسار. وقال شاعر في معناه:
ما أرسل الإنسان في حاجة ... أقضى من الدرهم في كمّه
وقال آخر:
إذا ما خليلي صدّ عني بنبوة ... فدرهمي المنقوش خير خليل «2»
قال أحمد بن أبي طاهر:
ولا يساوي درهما واحدا ... من ليس في منزله درهم
وقال آخر:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... دنانير فيها جمّة ودراهم
وقيل في قوله: فأرسل حكيما ولا توصه، إنه الدرهم. وقيل: الدرهم هو الأخرس النجيح «3» . قال وهب بن منبه: الدرهم والدينار خواتيم ربّ العالمين أينما بعث قضى الحوائج.(1/582)
محبّة النّاس للمال
قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما أشد حبك للمال، قال: ولم لا أحبه وأنا أتعبد به مثلك، وأبتاع به مروءتك ودينك. وقال بعض الفرس: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، وإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق. وقيل لابن زياد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد أغنتني عنها. وقيل: تقليب الدرهم يوقف الشيب ويزيل الهم والتعب، وقيل: من نقر درهما زرع في قلبه شهوة.
تشاحح «1» الناس بالمال
قال يونس: لو أن الدنيا مملوءة دراهم على كل درهم مكتوب من أخذه دخل النار لأمست وما على ظهرها درهم يوجد. وقيل: لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة وجمع أصحابه، فقال: قد وجدت ما استغنيت به عنكم في تضليل الناس فالأب يقتل إبنه والابن يقتل أباه بسببه.
وصف أنواع المال وتفضيل بعضها على بعض
سئل أبو بكر عن أصناف الأموال، فقال: أما الماشية فإنها تقبل من السنة إذا أقبلت وتدبر معها إذا أدبرت، وأما الرقيق فإنه يغدو عليها ضرّها ونفعها وقليل الضر يأتي على كثير النفع، والصامت مال من لا مال له، لأنه إن أنفقه أتلفه وإن أمسكه أهان به نفسه، وكان كمن لا مال له.
وقال: خير المال ما أطعمك ما لا تطعمه. وقال عبد الله بن الحسن: غلّة الدور مسألة «2» وغلّة النخل كفاف «3» ، وغلة الحب غنى. وقيل للأحنف: أي المال أبقى وأوفى؟
فقال: المساكن والأرضون، وقيل في قوله تعالى: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً
«4» إن له غلة شهر بشهر. قيل لمجنون لم صار الدينار خيرا من الدرهم والدرهم خيرا من الفلس؟ فقال: الفلس ثلاثة أحرف والدرهم أربعة أحرف والدينار خمسة.
وقيل لآخر: لم صار لون الذهب أصفر؟ فقال لأن طلابه كثير. وقيل لآخر، فقال:
لخوف الدفن.
وقيل لرجل: لم فضل الدينار على الدرهم؟ فقال: لأن الدينار يؤدي إلى النار والدرهم دار هم، وعذاب الهم عاجل وعذاب النار آجل، وإلى ذلك محيا وممات.
ودفع إلى أعرابي دينار فحمله إلى الصرّاف فملأ له يديه دراهم، فقال: ما أصغر منظرك وأعظم مخبرك.(1/583)
وقال أنصاري لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك أبوك لك من المال؟ فقال: ترك أموالا كثيرة. فقال: ألا أعلمك ما هو خير لك مما ترك أبوك، قال: نعم، قال: إعلم أنه لا مال لعاجز ولا ضياع على حازم والرقيق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما يعولك لا بما تعوله.
وصف الحيوان من بين المال
قيل لابنة الحسن: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: غنى، قيل: وفي مائة من الضأن قالت: قنى، قيل: وفي مائة من الإبل قالت: منى. قيل: فما تقولين في الحمار قالت: أخزاه الله، مال لا يزكي ولا يذكي.
وقيل لرجل: أي مركب إذا كان أكبر كان أنذل «1» ؟ فقال: الحمار. وقيل لآخر: أي المال أحب إليك؟ فقال: الذي يقيم بقيامي ويظعن ويحملني ومالي وداري، يعني الإبل.
وعلى عكسه، قول الآخر:
وإن اقتناء النوق موق وحرفة ... يبيت على يسر ويغدو على ثكل «2»
قدر ما يحمد من المال
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم المال الأربعون والكثير الستون، وويل لأصحاب المائتين إلا من أعطى في نجدتها، ونحر سمينها ومنح لبونها وأطرق فحلها وأفقر ظهرها. قال خالد بن صفوان: من كان له مال كفافا فليس بغني ولا فقير، لأن النائبة إذا أتت أجحفت بكفافه.
ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غني.
وصف درهم أو دينار ثقيل الوزن
كان المتوكل ضرب دراهم وزن كل واحد عشرة، وعلى جانب منه مكتوب:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وكلّ فعالها حسن جميل
وعلى الآخر:
فإن غضبت فأحسن ذي دلال ... وإن رضيت فليس لها عديل
ووجد في خزانة جعفر بن يحيى دنانير، في كل دينار مائة مثقال ومثقال، نقشه:
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر «3»
يزيد على مائة واحدا ... إذا ناله معسر يوسر
وأهدى عضد الدولة إلى ركن الدولة دنانير كل دينار منها مائة مثقال، ونقشه:
بذكر الله أكرم مستجار ... ضربناه من الذهب النّضار(1/584)
جعلنا وزنه مائة فأضحى ... عديم الندّ مفقود النّجار «1»
لنهديه إلى الركن المرجّى ... بويه إلى علي ذي الفخار
وأمر الصاحب أن يضرب دينار من ألف مثقال، وأهداه إلى فخر الدولة وكتب عليه.
وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة ... وأوصافه مشتقّة من صفاته «2»
فإن قيل دينار فقد ذكر اسمه ... وإن قيل ألف كان بعض سماته
بديع فلم يطبع على الدهر مثله ... وإن ضربت أضرابه ببراته
لقد أبرزته دولة فلكيّة ... أقام بها الأفلاك صدر قناته
وصار إلى شاهان شاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته «3»
تأنّق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته
وصفهما إذا كانا خفيفين
كان المتوكل أمر أن يضرب له ألف ألف درهم في كل درهم قيراط، لينثره مكان الورد، وأمر بأن تصبغ صفرا وحمرا وخضرا. وكان الدرهم يبقى في الهواء بقاء الورد.
قال العبّاس في وصف دينارين خفيفين:
جاد بدينارين لي جعفر ... أصلحه الله وأخزاهما «4»
وكاد لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلاهما
قال ابن الرومي في دينار خفيف:
كأنّه في الكفّ من خفّة ... مقداره من صفرة الشمس
وقيل لرجل: ما أولاك فلان، فقال: درهما كأنما عناه الشاعر بقوله:
مرّ بنا والعيون ترمقه ... تجرح منه مواضع القبل «5»
وصف مال بالكثرة
قيل: هو في خير لا يطير غرابه، ووجد فلان تمرة الغراب. وعنده عائرة عير وله كحل وسواد، والنشب والعرض والطم والرم. وجاء بما صأى وصمت وبالضح والريح.(1/585)
كون المال موفيا على الحسب والنسب
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه هذا المال، وفي مثل: ربّ حسب دفنه الفقر. قال شاعر:
وأجهد الناس من بعنصره ... يزهو على من يزينه النشب «1»
وقف إعرابي من بني فقعس يسأل وهو عريان:
كساني فقعس وكسا بنيه ... عطاف المجد أن له عطافا «2»
فقال له بعض الحاضرين: لو كساك خرقة تواريك لكان أصلح لك.
من سوّده ماله
قيل: المال يسوّد غير السيد ويقوّي غير الأيد «3» .
قال شاعر:
الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسوّد غير السيد المال
وقال عمارة:
حيّاك من لم تكن ترجو تحيّته ... لولا الدراهم ما حيّاك إنسان
تعظيم النّاس لذي المال
قيل للحسن رضي الله عنه: ما بال الناس يكرمون أرباب المال؟ فقال: لأن عشيقتهم عندهم. ومر موسر بالشعبيّ فتزعزع له، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت ذا المال مهيبا.
وعوتب ابن أبي ليلى لتخفره لغني مرّ به، فقال: إن تعظيم ذوي المال شيء جعله الله في القلوب لا يستطاع دفعه.
وقال العطوي:
اقصد إلى أيّ ودّ شئت معتصما ... بحبل ودّ فلا ذئب ولا ضبع
المال أعضب سيف عند صولته ... من أن يعنّ له في منهل سبع «4»
وهذا كقول بعض اللصوص لبعض أصحابه: لا تنقبوا على غني، وكونوا مع الله على المدبر.
مصادقة الناس للأغنياء ومعاداتهم للفقراء
قيل لبعض العقلاء: كم لك من صديق، فقال: لا أعلم ذلك لأن الدنيا مقبلة عليّ(1/586)
والأموال موجودة عندي، وإنما أعرف ذلك إذا ولت، ألم تسمع قول طريح:
الناس أعداء لكلّ مدقع ... صفر اليدين وإخوة للمكثر «1»
ولما استوزر علي بن عيسى ورأى اجتماع الناس عليه، تمثل بقول أبي العتاهية:
ما النّاس إلّا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا «2»
وقال شاعر:
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت ... إليه ومال الناس حيث يميل
ومثله لأبي العتاهيّة:
النّاس أخوة نعمة ... لله ما دامت عليكا
وقول الآخر:
إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال
وقال آخر:
النّاس خلّانك ما لم تفتقر
وقيل: إذا أيسرت فكل رحل رحلك وإذا افتقرت أنكرك أهلك. وقيل: العسرة والعشرة لا يجتمعان.
زيارة النّاس لذي المال
قال بشار:
يزدحم النّاس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزّحام «3»
وقال آخر:
إن الغنى يهدي لك الزوّارا
وقال آخر:
وأيّ الناس زوّار المقلّ؟
الفقر مجمع العيوب
قيل: الفقر مجمع العيوب. وقال بعضهم: وجدت خير الدنيا والآخرة في شيئين، وشرّهما في شيئين، خيرهما الغنى والتقى، وشرّهما الفقر والفجور.(1/587)
قال جرير:
ترادفهم فقر قديم وذلّة ... وشرّ الرديفات المذلّة والفقر «1»
وقيل: ما روي أجود من قول عروة في ذم الفقر:
ذريني للغنى أسعى فإنّي ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وما من خصلة تكون للغني مدحا إلا وتكون للفقير ذما. إذا كان حليما، قيل: هو بليد، وإذا كان شجاعا قيل: هو أهوج، وإذا كان لسنا قيل: مهذار. ولقد صدق من قال:
إن ضرط الموسر في مجلس ... قالوا له يرحمك الله
أو عطس المفلس في مجلس ... سبّ وقالوا فيه ماساه
فمضرط الموسر عرنينه ... ومعطس المعسر مفساه «2»
وقال حسّان:
ربّ حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطّى عليه النعيم
وكان الحسن رضي الله عنه إذا رأى المساكين، قال: هؤلاء مناديل الخطأ. وقيل:
الخلّة «3» تقدح في الذهن وتغمز في العقل.
خفة الموت في جنب الفقر
قيل: القبر ولا الفقر
ولا الموت خير للفتى من قعوده ... عديما ومن مولى تدبّ عقاربه «4»
وقال آخر:
خير حال الفقير عند ذوي ال ... ألباب أن تنطوي عليه القبور
وقال ابن طباطبا:
قد يصبر الحرّ على السيف ... ويجزع الحرّ من الحيف
ويؤثر الموت على حالة ... يعجز فيه عن قرى الضّيف
التعوذ من الفقر وكونه كالكفر
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من الكفر والفقر، فقال له رجل: أيستويان؟ فقال: نعم. كاد الفقر أن يكون كفرا. ودعا رجل لمسروق فقال: جنّبك الله الفقر وطول الأمل. وقال سفيان: كان من دعائهم اللهم زهّدنا في الدنيا ووسعها علينا ولا تزوها عنا وترغبنا فيها.
وقالت المجوس: من لا مال له لا عقل له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا دين.(1/588)
عدم المجد حيث عدم المال
كان طلحة رضي الله عنه يقول: اللهم أرزقني مجدا ومالا فلا يصلح المجد إلا بالمال، ولا يصلح المال إلا بالأفعال.
قال المتنبي وقد أخذ هذا المعنى:
فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قلّ مجده
وقال هرم بن عمير التغلبي:
إني امرؤ هدم الاقتار مأثرتي ... واجتاح ما بثّت الأيام من خطري «1»
أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطّلها الرامي من الوتر
ومما يناقض هذا الباب قول جرثومة بن مالك:
فتى إن تجده معوزا من تلاده ... فليس من الرأي الأصيل بمعوز «2»
وقال الأحنف:
وإن المروءة لا تستطاع ... لمن لم يكن ماله فاضلا
صعوبة الفقر على ذي همّة وجود
قيل لحكيم من أشقى الناس؟ فقال من اتسعت معرفته وضاقت مقدرته.
وقال أعرابي: لا تنظر إلى هيئتي وانظر إلى همّتي.
وقال الطرمّاح:
أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهنّ مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخل ... ومالي لا يبلغني فعالي
وقال المتنبيّ:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى صالح الأخلاق لا أستطيعها
أرى خلة في إخوة وقرابة ... وذي رحم ما كنت ممّن يضيعها
وقال آخر:
أرى الدهر يجفوني ونفسي عزيزة ... وليس معي زهد فأسطو على الدّهر
صعوبة الفقر على متعودّي اليسر
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من الحور بعد الكور «3» ، وقال: إرحموا ثلاثة، عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر وعالما بين جهال.(1/589)
وقيل: جهد البلاء أن تزول النعمة وتبقى العالة ثم لا تعدم صديقا مؤنبا وعدوا شامتا وزوجة مختلفة وجارية مستبيعة وعبدا يحقّرك وولدا ينتهرك.
وأتى عبد الله بن معاوية بأسير، فقال: هذا هو جهد البلاء، فقال الأسير: كلا جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع.
صعوبة مقاساة الجوع
قتل رجل بصفّين أبا امرأة وابنها وأخاها وعمّها وعشرين من أهل بيتها، ثم أتت تسأله، فقال: ما أظن على ظهر الأرض أبغض إليك منّي، فقالت: بلى، إن الذي ألجأني إليك أبغض إليّ منك، وهو جوع بطني.
وأخذ رجل بلجام عبد الملك، فقيل له: ما جرأك، فقال: الجوع شجاع. وقيل:
الجائع فقير ضيّق النفس والشبعان واسع الصدر غنيّ النفس.
ستر الحال في العسر واليسر
قال عبد الملك للهيثم بن الأسود: كم مالك فلم يخبره به. فقيل له في ذلك، فقال: صاحب المال بإحدى منزلتين إن كان كثيرا حسد وإن كان قليلا حقر. وقيل: رضي بالذلّ من كشف ضرّه وبالحسد من كشف يسره.
شاك فقره
قال الحاركي:
من كانت الدنيا له شارة ... فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كثب حسرة ... كأنّنا لفظ بلا معنى «1»
قال العطوي:
أنا طرح بين خلا ... ت حديدات النّصال «2»
بين دين وشتاء ... وعيال واختلال
وقال آخر:
من رآني فقد رآني ورحلي
وقال آخر:
ومن عجب أنّ حلف الفسوق ... غنى وقد أعدم الأتقياء
وقال مخنث: أنا عظيم البليّة أموت من حبّ رزقي، ويموت هو من بغضي.
نادرة ماجن شاكي الفقر
شكا بعضهم فقره، فقيل له: احمد الله الذي رفع السماء بغير عمد، فقال: وددت(1/590)
أنه وسع رزقي وجعل بين كل ذراع أربع أسطوانات، فليس لي دار يضيقها. سمع صبي فقير امرأة في جنازة تقول: يذهبون بك إلى بيت ليس له غطاء ولا وطاء ولا عشاء ولا غداء ولا سراج، فقال الصبي: يا أبت إنهم يذهبون به إلى بيتنا. وقيل لمزبد: بع قطيعتك، فقال له: ما ملكت قط إلا قطيعة الرحم، قيل له ما عندك من آلة الخبيص، قال: الماء، وقيل له ما أعددت للبرد، قال: الرعدة.
متعذر لفقره بأنّ الجود فرق ماله
طلب قوم ابن هرمة فلم يجدوه في منزله فقالوا لابنته: أقرينا، قالت: مالنا شيء، قالوا فأين قول أبيك:
لا أمتع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلا قصيرة الأجل
قالت فذلكم الذي منعكم القرى.
قال دعبل:
قالت سلامة أين المال قلت لها ... المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا
الحمد فرق مالي في الحقوق فما ... أبقين ذما ولا أبقت له نشبا «1»
وقال جحظة:
جاء الشتاء وما عندي له ورق ... مما وهبت ولا عندي له خلع «2»
كانت فبدّدها جود ولعت به ... وللمساكين أيضا بالنّدى ولع «3»
من نسي فقره بعد زواله
قال شاعر:
يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى ... وكلّ كأن لم يلق حين يزايله «4»
وقال آخر:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا
تأسّف من ضيّع ماله ثم احتاج إليه
وكان المال يأتينا فكنّا ... نبذّره وليس لنا عقول
فلمّا أن تولّى المال عنّا ... عقلنا حين ليس لنا فضول «5»
تأسّف من وجد خيرا لم ينتفع به
قال القلابي: دخلت على الجاحظ في منصرفي من عند السلطان، وقد حسنت حاله(1/591)
واشتدّت علته، فسألته، فقال: كنا إذا أردنا لم نجد حتى إذا وجدنا لم نرد.
الموصوف بالفقر والجهل
وقال شاعر:
يظلّ عديم أموال ولبّ ... يرقّ له المكاشح والمعادي «1»
وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ماله حول ولا معقول ولا مال ولا حال.
ذمّ دنيء تموّل
إذا أيسر الدنيء ابتلي به ثلاثة، صديقه القديم يفارقه، وامرأته يتسرّى عليها وباب داره يغيّره، وقد نظم ذلك في قوله:
إذا استغنى الوضيع ونال جاها ... وأنكر نخوة في النّاس نفسه
حبا خلصان إخوته جفاء ... وغيّر بابه وأبان عرسه «2»
أخذه من ابن أبي البغل:
إذا ما ساقط أثرى تعدّى ... وأنكر قبل كلّ الناس نفسه
وغيّر باب منزله وأربى ... على جيرانه وأبان عرسه
قال عمرو بن العاص: لأن يسقط ألف من العلية خير من أن يرتفع واحد من السفلة.
وقال البحتري:
محاريب الدنيا نباهة جاهل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
النهي عن البطر عند الغنيّ وذمّ ذلك
قال الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
«3» . وقيل: البطر يقتضي الفقر والنظر يقتضي العبر. وقيل: أكثر شكر الله على نعمه فالبطر من قلّة الشكر.
وقال شاعر:
خلقان لا أرضى طريقهما ... خلق الغنى ومذلّة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدّهر «4»
وفي كتاب كليلة: لا يبطر العاقل لمنزلة أصابها كالجبل الذي لا تزلزله الرياح الشديدة والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذي تحركه أدنى الرياح.(1/592)
وقيل: سوء حمل الغنى أن يكون الفرح مرحا وسوء حمل الفقر أن يكون الطلب شرها. وقيل: حمل الغنى أشدّ من حمل الفقر ومؤنة الشكر أصعب من مشقة الصبر.
وقال بعضهم في من لا يبطر ولا يمكنه ستر غناه:
تأبى الدراهم إلا كشف أرؤسها ... إن الغنى طويل الذيل ميّاس «1»
وقال المرقّش:
إن يخصبوا يعيوا بخصبهم ... أو يجدبوا تجديهم الأم «2»
وقال الخبزارزي:
قد كان في حال محسود فأبطره ... طغيانه فاغتدى في حال مرحوم
وقال مسلم بن الوليد:
فالكلب إن جاع لم يعدمك بصبصة ... وأن ينل شبعة ينبح على الأثر «3»
مدح من لا يبطره اليسر ولا يدقعه الفقر
وقال هدبة:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب
وقال طرفة بن العبد:
إن ننل منفسة لا تلفنا ... ترف الخيل ولا نكبو لضرّ «4»
وقال الزبير بن الأسدي:
ولا يراني على ما ساء مكتئبا ... ولا يراني على ما سرّ مبتهجا
ومثله:
فتى إن هو استغنى تحذّق في الغنى ... وإن قلّ ما لا لم يضع سنة الفقر «5»
اجتناب عرض الدنيا
قيل: العاقل من لا يجزع من قعود الدهر به علما بأن مراتب الأقسام توضع على قدر الأففام. وقيل: وكل الله الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل ليعلم العبد أن ليس له من أمر الرزق شيء.(1/593)
وقيل: أبت الدنيا أن تعطي أحدا ما يستحقه، إمّا محطوط عن درجته أو مرفوع فوق قدره. وقيل لأفلاطون: لم لا يجتمع العلم والمال، فقال لعزّة الكمال، قال:
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وقيل: من أعطاه الله عقلا احتسب عليه من الرزق، وقيل لو جعل الله المال للعقلاء مات الجهال، فلما جعله في أيدي الجهال استقلّهم العقلاء واستنزلوهم عنه بلطفهم. وقد تقدم في باب العقل شيء من هذا.
علّة ميل الدنيا إلى الأنذال
قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال. وقال حكيم: إذا أردت أن تزهد في الدنيا فانظر عند من هي. وقال النظّام: مما يدل على لؤم الذهب والفضة كثرة كونهما عند اللئام فالشيء يصير إلى شكله ومن هنا أخذ المتنبي قوله:
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام «1»
وقال حسان:
المال يغشى رجالا لا طباع لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي «2»
وقال أبو تمّام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالي
وقال ابن الرومي:
رأيت الدهر يرفع كلّ وغد ... ويخفض كلّ ذي رتب شريفه «3»
كمثل البحر يرسب فيه حيّ ... ولا ينفكّ تطفو فيه جيفه «4»
وكالميزان يخفض كلّ واف ... ويرفع كلّ ذي زنة خفيفه
معاتبة الدهر لتقديم جاهل وتأخير فاضل
وقال جحظة البرمكي:
غلط الدهر بما أعطاكم ... وفعال الدهر جهل وغلط
وقال الموسوي:
ومما يحلّل ذمّ الزما ... ن إقصاؤه الأفضلين الخيارا(1/594)
وقال أبو حاتم:
أظنّ الدهر قد آلى فبرّا ... بأن لا يكسب الأموال حرّا «1»
لقد قعد الزمان بكلّ حرّ ... ونقص من قواه ما استمرّا
وقال أبو تمّام:
لقد ساسنا هذا الزمان سياسة ... سدى لم يسسها قطّ عبد مجدّع «2»
حلّت نطف منها النكس وذو الحجى ... يداف له سم من العيش منقع «3»
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا ... وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع «4»
وما أحسن ما قال:
ليس المقلّ على الزمان براض ... ومن السخف قول التماري «5»
وقيل:
أرى فقحة الدنيا على معشر تخرى ... فإن أقبلت نحوي رأيت بها خضرا
ومن الجيد في هذا قول عابدة المهلبيّة ويروى للمهلبي:
ألست ترى استراق الدهر حظّي ... وكيف يفيت في أدب الخمول
أأبغي العون منه وهو خصمي ... كما استبكت ضرائرها الثّكول «6»
وقال رجل لمنجم: أنظر في نجمي هل ترى لي غنى؟ فقال: دع عنك هذا فإن الدهر مشغول بالسفل فلا يتفرغ إلى أحد. وقيل: الدهر لا يعطي أحدا ما يستحقه إما أن يزيده أو ينقصه.
معاتبة القدر في ذلك
قال أبو العيناء لرجل سأله: ما بال الركيك الأحمق يرزق والأديب يحرم؟ فقال: لأن هذا الدنيا دار اختبار وأحب الرازق أن يعلمهم أن الأمور ليست لهم، فإن غلات السواد تباع بكف أنموذج فهلا اكتفى في ذلك بنقرة.
وقال جحظة:
يا ربّ إن الشكوك قد علقت ... أوكارنا والشّكوك تعترض
وغد له نعمة مؤثّلة ... وسيّد لا يزال يعترض(1/595)
فنحن من قبح ما نشاهده ... من معشر في قلوبهم مرض
وقال عبدان:
لقوله نحن قسمنا ... بينهم زال المرا «1»
ولو تولّى غيره ... قسمة أرزاق الورى
جرت حظوظ بيننا ... لكنّنا تحت العرا
وقيل: إذا رأيت الجاهل مرزوقا والعاقل منحوسا فاعلم أن بين السماء والأرض أكرادا يقطعون الطرق. وقيل لمدني شكا الفقر: احمد الله فإنه رزقك الإسلام والعافية، فقال: أجل لكن جعل بينهما جوعا تقلقل منه الأحشاء. قال شاعر:
يا حجة الله في الأرزاق والقسم ... ومحنة لذوي الأخطار والهمم
تراك أصبحت في نعماء سابغة ... إلا وربّك غضبان على النعم «2»
وقال آخر:
عجبا للناس في أرزاقهم ... ذاك عطشان وهذا قد غرق
سؤال الله تعالى الغني بغلظة مقال
قال الأصمعي: رأيت بالموقف أعرابيا قد رفع يده إلى السماء، وهو يقول:
أما تستحي يا خالق الخلق كلّهم ... أناجيك عريانا وأنت كريم
أترزق أولاد اللئام كما ترى ... وتترك شيخا من سراة تميم
فقلت له: ما هذه المناجاة؟ فقال: إليك عني فإني أعرف من أناجيه، إن الكريم إذا هز اهتز. فرأيته بعد أيام عليه ثياب حسنة، فقال لي: ألست ترى الكريم كيف أعتب.
ودعا أعرابي، فقال: يا رب إن كنت تدع رزقي لهواني عليك فنمرود كان أهون منّي، وإن كنت تدعه لكرامتي عليك فسليمان بن داود كان أكرم مني، فقيل له: أخذت الحبل بطرفيه.
(7) وممّا جاء في الزهد ومدح الفقر وذم الغنى
حقيقة الزهد والحرص واليقين
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس الزهادة في الدنيا تحريم الحلال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق ممّا في يدك.(1/596)
سئل حكيم عن الزهد، فقال: أن لا تطلب المفقود حتى تفقد الموجود. وقيل:
ظلّف النفس عن الشهوة. وقال سفيان: هو قصر الأمل لا أكل الغليظ ولبس العباء.
وقال يونس بن حبيب: هو ترك الراحة. وسئل الجنيد عنه، فقال: خلو الأيدي من الأملاك وخلو القلب من التتبع. وسئل مرة، فقال: ترك ما في الدار على من في الدار.
وذكر الزهد عند الفضيل، فقال: هو حرفان في كتاب الله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. وهذا يوافقه قول من قيل له من الزاهد؟ فقال: من لم يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره.
وسئل الجنيد رحمه الله عمّن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة، فقال:
المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
وقال يحيى: الزاهد هو الذي بلغ من حرصه في تركها حرص الحريص في طلبها.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: الزهد ثلاثة، زهد فرض وذلك في الحرام وزهد فضل وذلك في الحلال وزهد سلامة وذلك في الشهوات.
وقيل: أصل القناعة والزهد اليقين، فمن أيقن قنع وزهد وقال ذو النون: الزهد الاستخفاف بثلاثة أشياء بالنفس والشيء والخلق فإذا استخف بالنفس عزّ به وإذا استخف بالشيء ملكه، وإذا استخف بالخلق خدمه. اليقين ترك التدبير فيما لا تملك. الحرص طلب ما في يد الغير. وقيل: الحرص تضييع الكثير وطلب القليل.
حقيقة التوكّل ووصفه
قيل: التوكل هو الاعتماد على الحقّ والتخلّي من الخلق. وقيل: الاستسلام لما قضى. وقيل: الثقة بالله فيما ضمن. وقيل: الاكتفاء بضمانه وإسقاط التهم في قضائه.
وقيل للحارث ما علامة المتوكل؟ فقال: أن لا يحركه إزعاج المستبطىء فيما ضمن له من رزقه، فقيل له: هل ينقص من توكله قصده من يسد جوعته، فقال: لا، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج فلقيه أبو بكر وعمر، فقال: ما الذي أخرجكما، قالا الجوع، فقال: أخرجني الذي أخرجكما، فدخلوا منزل أبي الهيثم فأكلوا وشربوا.
وقيل: التوكّل الانقطاع إلى الله تعالى في إيصال النعماء ودفع البلاء، ثم تلا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
«1» .
خيّر يوسف عليه السلام بين خصلتين، فاختار إحداهما، فقيل له: اخترت فتركناك مع اختيارك فبقي في السجن ما بقي.
ذمّ المال
قال الله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«2» وقال المسيح عليه السلام: لا خير(1/597)
في المال، فقيل: ولم يا روح الله؟ فقال: لأنه يجتمع من غير حلّ. قيل: فإن جمع من حلال؟ قال: لا يؤدي حقّه، قيل: فإن أدى حقّه، قال لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء، قيل فإن سلم قال: يشغل عن ذكر الله، قيل: فإن لم يشغل، قال: يطول عليه الحساب يوم القيامة.
وذكر المال عند أفلاطون، فقال: ما أصنع بما يعطيه الحظّ ويحفظه اللؤم ويهلكه الكرم؟ وقيل لآخر، فقال: ما أصنع بشيء يجيء بالإتفاق لا الإستحقاق، والزهد والجود يأمران بإتلافه والشؤم والبخل يأمران بإمساكه.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش. وإذا شيك فلا انتقش.
وقال أبو الدرداء: أعوذ بالله من تفرقة القلب، قيل وما تفرقة القلب؟ قال: أن يكون للإنسان مال في كل واد. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله منه باليسير من العمل.
كثرة المال سبب الهلاك وقال ابن طباطبا:
إنّ في نيل المنى وشك الرّدى ... وقياس القصد ضدّ السّرف «1»
كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طف «2»
وقال ابن الرومي:
ألم تر أن المال يهلك أهله ... إذا جم آتيه وسدّ طريقه «3»
ومن جاوز الماء الغزير مجمّه ... وسدّ سبيل الماء فهو غريقه «4»
وقيل: صاحب الدنيا كدودة القز لم يزدد الأبريسم على نفسه إلّا زاد من الخلاص بعدا. وقال عبد الله بن رؤبة:
يرى راحة في كثرة المال ربّه ... وكثرة مال المرء للمرء متعب
إذا قلّ مال المرء قلّت همومه ... وتشعبه الأموال حين تشعب
كون العدم نعمة وبسط الدنيا نقمة
قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
«5» . وقال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ
«6» . وفي بعض المناجاة: يا من منعه عطاء. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:(1/598)
يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، وقال ابن أبي عيينة:
لا تشعرنّ قلبك حبّ الغنى ... إنّ من العصمة أن لا تجد
كم واجد أطلق وجدانه ... عنانه في بعض ما لم يرد «1»
وقال الحسن رضي الله عنه: ما بسط الله على أحد دنياه إلّا اغترارا، ولا طواها عنه إلا اختبارا. وقال بعضهم: نعمة الله علينا فيما طواه عنا أعظم من نعمته علينا في ما بسطه لنا.
وقال محمود الوراق:
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى لو صحّ منك النّظر
أنك تعصي لتنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر
وقال عبدان:
تبيّن فضل الفقر عندي على الغنى ... بواحدة فيها عزاء لذي حجر
متى متّ لم آسف على فقد نعمة ... يودّ الفتى من أجلها المدّ في العمر
صنوف الفقر وما يحمد منه:
قيل: الفقر على ثلاثة أقسام، فقر الخلق إلى الله وعدم الأملاك لعرض الدنيا والحرص وهو فقر الناس إلى الناس، وهو الذي استعاذ منه النبي صلّى الله عليه وسلم، والمشار إلى فضله ما حكي عن الجنيد أنه قيل له: متى يكون الفقير مستوجبا لدخول الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؟ فقال: إذا كان موافقا لله تعالى، يعد فقره نعمة يخاف على زوالها مخافة الغني على زوال نعمته وغناه، مستغنيا بربّه، كما قال تعالى للفقراء: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
«2» الآية.
نفي العار بالفقر
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين. وكان صلّى الله عليه وسلم يستنصر بصعاليك المهاجرين، وقال صلّى الله عليه وسلم: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، وقال العطوي:
ما الفقر عار إنّما العار الثرا والبخل «3»(1/599)
وقال رجل من بني قريع:
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
وقال أبو تمّام:
لا يحسب الإقلال عدما بل يرى ... أن المقلّ من المروءة معدم «1»
طيب عيش مؤثر الفقر وعزّته وفضله
كان سقراط فقيرا، فقال له بعض الملوك: ما أفقرك؟ فقال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجّع لي، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة. وقيل له: لم لا يرى أثر الحزن عليك؟ فقال: لأني لم أتخذ ما إن فقدته أحزنني. وقال بعض الحكماء: من أحبّ أن تقلّ مصائبه فليقل قنيته للخارجات من يده، لأن أسباب الهمّ فوت المطلوب وفقد المحبوب، ولا يسلم منهما إنسان، لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد.
وبهذا ألمّ ابن الرومي، فقال:
ومن سرّه أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتّخذ شيئا يخاف له فقدا
حكي أنه لما غرقت البصرة أخذ الناس يستغيثون، فخرج الحسن رضي الله عنه ومعه قصعة وعصا، فقال: نجا المخفّون. وقال بعض الزهاد، وقد قيل له أترضى من الدنيا بهذا؟
فقال: ألا أدلك على من رضي بدون هذا؟ قال: نعم، قال: من رضي بالدنيا بدلا من الآخرة.
وقيل لمحمد بن واسع رحمه الله: أترضى بالدون، فقال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا وترك الآخرة.
طيب عيش من قنع بما رزق
سئل الفرغاني عن الفتوّة، فقال: هو أن يكون في كل وقت بشرطه. وقيل لبزرجمهر أي الناس أقل هما، فقال: ليس في الدنيا إلا مهموم، ولكنّ أقلهم هما أفضلهم رضا وأقنعهم بما قسم.
وقيل لبعضهم: من أنعم الناس عيشا؟ فقال: من رضي بحاله ما كانت. وقيل: من رضي بما قسم له كان دهره مسرورا. وقيل لابن عوف ما تتمنى؟ فقال: أستحي أن أتمنى على الله ما ضمنه لي، قال بعض النقّاد:
دنيا تخادعني كأنّي ... لست أعرف حالها
حظر الإله حرامها ... وأنا احتميت حلالها «2»(1/600)
ووجدتها محتاجة ... فوهبت لذّتها لها
كون الدنيا عبدا لمن زهد فيها
قال زاهد لملك: أنت عبد عبدي لأنك تعبد الدنيا لرغبتك فيها، وأنا مولاها لرغبتي عنها وزهدي فيها. ويقوي ذلك ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الله أمر الدنيا فقال: من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه. وقيل: من زهد في الدنيا ملكها ومن حرص عليها أملكها. وقال الحسن رضي الله عنه: أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون حين تهان.
وقال أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذابا كلّما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر ... وتكرم كلّ من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعة ... وخذ ما أنت محتاج إليه
الحثّ على التوكّل في أمر الرزق وترك الحرص
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن في القرآن آية لو أن جميع الناس أخذوا بها لكفتهم في القناعة. قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
«1» .
وسئل بزرجمهر عن الرزق، فقال: إن كان قد قسم فلا تعجل وإن كان لم يقسم فلا تتعب. وقال الحسن رضي الله عنه: الحريص الجاهد والقنع الزاهد كلاهما مستوف حظّه، وأكله غير منتقص ما قدر له، فعلام التهافت في النار؟
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا «2» وتروح بطانا «3» . وقيل للحارث كيف قال ذلك والطير تغدو في طلب الرزق وتروح؟ فقال: مهلا إن الطير يأخذ في الحوصلة وأنت لا تقنع بذلك، مع أن الطير لم يخاطب بالضمان منه لرزق ولم ينزل عليه كتاب.
وقال سهل بن وهبان: لا تكونوا للمضمون مهتمين. وقال أعرابي لآخر رآه حريصا:
يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك طالب ولن تفوته وتطلب ما كفيته كأنك لم تر حريصا محروما ولا زاهدا مرزوقا.
وقال آخر: إنك لا تدرك أملك ولا تسبق أجلك ولا تغلب على رزقك ولا تعطي حظ غيرك، فعلام تهلك نفسك؟ لكل صباح صبوح ولكل عشاء عشاء. وفي بعض كتب الله: يا ابن آدم لو أن لك الدنيا كلها لم تنل منها إلا القوت فإذا أعطيتك القوت، وجعلت حسابه على غيرك ألم أكن محسنا إليك.(1/601)
من قلّ تفكّره في أمر الأرزاق وتوكّل على الرزّاق
قيل لصوفي من أين رزقك؟ قال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين. وقيل لآخر، فقال: من كدك على رغم أنفك رب ساع لقاعد. وقيل لزاهد من أين المطعم؟ فقال: من عند المنعم، فقال: هل بالقرب من يأتيك برزق من قوم؟ قال يأتيني به من لا تأخذه سنة ولا نوم.
وأتى رجل إلى شقيق البلخي يطلبه، فقالت امرأته قد خرج إلى الجهاد، فقال: وما خلف عليكم؟ فقالت: أرزاق شقيق أو مرزوق؟ فقال: بل مرزوق، فقالت: إن المرزوق خلف علينا الرزاق. يا هذا لا تعد إلينا فتفسد على الله قلوبنا، وسئل آخر فقال:
إن الذي شقّ فمي ضامن ... لي الرزق حتّى يتوفّاني
وسئل أحمد بن الجلاء عن قوم يدخلون البادية بلا زاد، قال: هم رجال الحق، قيل: فإن هلك أحدهم، قال: الدية على العاقلة. وقال عبد الواحد بن زيد: اجتزت بجبل لكّام «1» فرأيت جارية سوداء عليها جبة صوف، قلت من أين؟ قالت: من عند من لا تخفى عليه خافية، فقلت: إلى أين؟ قالت: إلى من يعلم السرّ وأخفى، فقلت ليس معك زاد، فنظرت إليّ شزرا وقالت:
من قصد الله لا يبالي ... بأيّ أرض بها يموت
ولم يخامره فسخ عزم ... إن هو أبطأ عليه قوت «2»
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده أن قوما من اليمن يحجون بلا زاد، فقال: أليس قد قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى
«3» . وقيل: عجبا لمن آمن بكتاب الله تعالى ثم رفع بعد سماعه لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ
«4» حاجة إلى غير الله تعالى.
تبكيت من يشفق لفقد القوت ويبكي لضرّ
شكا رجل إلى الحسن سوء الحال وجعل يبكي، فقال الحسن: يا هذا كل هذا اهتماما بأمر الدنيا، والله لو كانت الدنيا كلها لعبد فسلبها ما رأيتها أهلا لأن يبكى عليها، قال كشاجم:
لا تغد كلّا واجتنب ... أمرا يخاف العبد عاره «5»
وإذا عدمت من المآ ... كل كلّها فكل الحجاره(1/602)
ذمّ المشتغل برزق مستقبل الزّمان
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا تجعل همّ يومك لغدك فإن غدك إن كان من أجلك يأتي الله برزقك. وقيل: إذا طالبتك نفسك برزق غد فقل هاتي كفيلا بالغد.
وقال شاعر:
إن ربّا كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك
وقال آخر:
ولا يكن همّكم في يومكم لغد
وقال آخر:
من كان لم يعط علما في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد
النهي عن النظر إلى من هو فوقه
روي في الخبر: أنظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري بنعمة الله. وقال الضحاك: خصلة من وفّق لها وفق لحظة من نظر في دنياه إلى من هو دونه فاستكثر قليل ماله.
نهي ذوي عيال عن الاهتمام برزقهم
شكا رجل إلى الشبلي عياله، فقال: له إرجع إلى بيتك، ومن لم يكن منهم رزقه على الله فأخرجه من دارك. وقيل لرجل كان كثير الحاشية: لو أخرجت بعضهم لكان يكثر مالك، فهمّ بذلك فرأى ليلة في المنام كان العيال الذين همّ بإخراجهم يدخلون بيته ويخرجون دقيقا يحملونه، فسألهم عن حمل ذلك فقالوا هذا رزقنا نخرجه من دارك إلى من يتكفل بنا، فانتبه وعلم خطأ عزمه فقارّهم وزاد لكل منهم.
مدح من لا يدّخر
أتى عمر رضي الله عنه بمال فقال: له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لو حبست من هذا المال في بيت المال شيئا لنائبة، فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان لقنني الله حجتها ووقاني فتنتها، أأعصي الله العام مخافة القابل «1» أعد لهم تقوى الله، قال تعالى:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ولتكونن فتنة على من بعدك.
قال النابغة:
ولست بخابىء لغد طعاما ... حذار غد، لكلّ غد طعام «2»
وأخذه الآخر فقال:
إن كان عندك رزق اليوم فاطرحن ... عنك الهموم فعند الله رزق غد(1/603)
وقال آخر:
رزق غد يأتي معه
وقال آخر:
لأصبرنّ على عسري وميسرتي ... يوما بيوم كما تحيى العصافير
نهي من لا عيال له عن الاهتمام بالمعيشة
قيل:: لا تهمنّك المعيشة ما كنت وحدك، فإن المرء يعيش بالبقلة كما يعيش بالكسرة، ويروى بالمذقة «1» كما يروى بالضرع «2» . وقيل: قلة العيال أحد اليسارين.
طيب عيش من لا مال له ولا عيال
وقال أبو حازم:
فلا ولد يروعني بسقم ... ولا مال على شرف الثّواء «3»
ولا لي صاحب أبكي عليه ... ولا عقب أخلف من ورائي
وقال ابن عبد القدوس:
الله أحمد شاكرا ... فبلاؤه حسن جميل
أصبحت مستورا معا ... في بين أنعمه أجول
خلوا من الأحزان خفّ ... الظهر يقنعني القليل
حرا فلا منّ لمخلوق ... عليّ ولا سبيل
ونفيت بالياس المنى ... عنّي فطاب لي المقيل
طيب عيش من عنده قوت يومه
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. وقال سفيان رضي الله عنه: من كان عنده قوت يومه فليس بفقير.
وقيل: من أعطي القوت فطلب مالا كمن أعطي السلامة فطلب المال، فإن المال ألم.
وقال شاعر:
إذا ما أصبنا كلّ يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار جوائز
فنحن ملوك النّاس خصبا ونعمة ... ونحن أسود الغيل عند الهزاهز «4»
وقال آخر:
أراني وقارونا سويين في الغنى ... إذا كان عندي ما يزجى به الوقت «5»(1/604)
وقال أبو العتاهية:
إذا القوت تأتّى لك وال ... صّحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
وقال آخر:
إذا كان لي قوت بيومي وصحّة ... فلا حال أرجو بعدها أن أنالها
ولم أتتبع رتبة إن بلغتها ... أخاف بعزل أو بموت زوالها
ذمّ النفس لخوف الفقر والطمع
قيل:: أهلك الناس حب الفخر وخوف الفقر.
وقال أبو العتاهية:
رأيت النفس تحقر ما لديها ... وتطلب كل ممتنع عليها
فإن طاوعت حرصك كنت عبدا ... لكلّ دنيئة تدعو إليها «1»
تبكيت شيخ يعمر دنياه
قال محمود:
يا عامر الدنيا على شيبه ... فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عذر من يعمر بنيانه ... وعمره مستهدم يخرب «2»
وقال آخر:
عجبت لتغريسي نوى النخل بعدما ... طلعت على الستين أو كدت أفعل
وأدركت ملء الأرض ناسا فأصبحوا ... كأهل ديار أدلجوا فتحمّلوا «3»
وما الناس إلا رفقة قد تحملت ... وأخرى تقضي حاجها ثم ترحل
راحة القنع وعزّته
قال الحسن في قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
«4» ، أنها القناعة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الزهد في الدنيا يريح البدن والرغبة فيها تكثر الهم والحزن. وقيل لمحمد بن واسع:
أوصني، فقال: كن ملكا في الدنيا ملكا في الآخرة. فقال آجله. وكيف لي هذا، قال:
ازهد في الدنيا واقنع.
وقال بزرجمهر: القنع عزيز في عاجله مثاب في آجله، وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ما كرمت على أحد نفسه إلا هانت عليه دنياه. من حصّن شهوته صان قدره.(1/605)
وقال الموسوي:
من كان يرجو نعيما لا زوال له ... فلا تكن هذه الدنيا له شجنا «1»
قال وهب: خرج العزّ والغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا. قال شاعر:
بلوغ المنى أن لا تكاثر بالمنى ... ونيل الغنى أن لا تنافس في الغنى
ومن كان للدنيا أشدّ تصوّرا ... تجده عن الدنيا أشدّ تصونا «2»
وقيل: ثمرة القنع الراحة وثمرة التواضع المحبة.
قال الموسوي:
وإني لألقى راحتي في تقنع ... وفي طلب الإثراء طول عنائيا «3»
وله:
حسبي غنى نفسي الباقي فكلّ غنى ... من المغانم والأموال ينتقل
وقال ابن نباتة:
وإن المرء ما استغنى غنى ... وحاجته إلى الشيء افتقاره
غمّ الحريص وتعبه
من لم يكن قنعا لم يزل جزعا. الرغبة مفتاح التعب وغاية النصب. وقيل: جعل الله الخير في بيت وجعل مفتاحه الزهد، وجعل الشر في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وقال بزرجمهر: الغنى قلة التمنّي والرضا بما يكفي. غمّ الدنيا الحرص عمّا لعلك لا تناله، إياك والحرص فإنه يورد المشارب الكدرة ويسف للمطاعم القذرة.
وقال عمر رضي الله عنه: ما كانت الدنيا هم أحد إلا لزم قلبه أربع، فقر لا يدرك غناه وهم لا ينقضي مداه وشغل لا تنفذ أولاه وأمل لا يدرك منتهاه، وقيل: لا تخدم الحرص تعش ذا سرور. واجتاز عبد الله الصفار بسجن فقال لصاحب له: بم حبس من في السجن؟
فقال: لا أدري، فقال: غطى النعيم على قلبك في شيئين التشفّي والشره.
ذمّ الحريص وعزّة القنع
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حب الدنيا رأس كل خطيئة ومن خطبها تأهب للذل. من قل قنوعه كثر خضوعه. الحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع. الطمع طبع من صبر على الخل والبقل لم يستعبد.
وقال أبو العتاهية:
إذا ما المرء لم يقنع بعيش ... تقنّع بالمذلّة والصّغار «4»(1/606)
بينما فتح الموصلي في أصحابه إذا بصبيين معهما رغيفان، على رغيف أحدهما كامخ وعلى رغيف الآخر عسل، فقال: صاحب الكامخ لصاحب العسل: أطعمني من عسلك، فقال: أطعمك على أن تكون لي كلبا، فقال: أنا كلبك فجعل في فمه خرقة يجرّه بها، فالتفت فتح إلى أصحابه، وقال: لو قنع هذا بكامخه لم يصر كلبا لصاحب العسل.
ولقي صاحب سلطان فيلسوفا يلتقط الحشيش ويأكله، فقال له: لو خدمت الملوك لم تحتج إلى أكل الحشيش، فقال: وأنت لو أكلت الحشيش لم تحتج إلى خدمة الملوك.
وقيل: يا عجبا من مسكين بقناعته ثري ومن غنيّ بحرصه دنيء.
قال عبد الصمد لأبي تمام:
لست تنفكّ طالبا لوصال ... من حبيب أو راغبا في نوال «1»
أي أخي ما لحرّ وجهك يبقى ... بين ذلّ الهوى وذلّ السّؤال
وقال آخر:
أذلّ الحرص أعناق الرّجال
وقال أبو العتاهية:
الحرص داء قد أضرّ ... بمن ترى إلا قليلا
طالب الدنيا متحمّل للذلّ
قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: إنما الدنيا جيفة حولها كلاب فمن أحبها فليصبر على معاشرة الكلاب. ومن ذلك أخذ ابن حجاج:
تركت مطالب الدنيا لقوم ... دعتهم للمخازي فاستجابوا
وليس الليث من جوع بغاد ... على جيف يطوف بها كلاب «2»
ومثله:
إنّما الدنيا ومن يص ... بو من النّاس إليها
جيفة بين كلاب ... قاتلوا حرصا عليها
الحرص فقر حاضر
قيل في قول الله تعالى فإن له معيشة ضنكا، إنه الحرص. الحرص فقر واليأس غنى. قد يكثر المال والإنسان مفتقر، وهذا مأخوذ من قول بعضهم وقد سئل: أفلان غني، فقال: لا أدري غناه ولكنه كثير المال. سأل النعمان ضمرة بن ضمرة عن الفقير، فقال: الذي لا تشبع نفسه وإن كان من ذهب حلسه. وحمل رجل إلى إبراهيم بن أدم شيئا، فقال: ألك مال، قال: نعم. قال: أتحب أكثر منه، قال: شديدا، قال: إنك فقير.
وأنا لا أقبل الصلة إلا من غني، عنى بذلك ما روي: الغنى غنى النفس.(1/607)
الحرص عماد كلّ شرّ
قال الفضيل: جعل الشر كلّه في بيت وجعل مفتاحه حبّ الدنيا، وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقيل: الحرص رأس كل خطيئة. وفي الحديث:
إن الصفاة الزلاء التي لا يثبت عليها قدم العلماء الطمع.
الحرص يمنع صاحبه التمتّع بما خوّله
قيل:: الحريص يشغله طلب ما أمل عن التمتع بما خول، ومن هذا أخذ كشاجم:
ومستزيد في طلاب الغنى ... يجمع لحما ما له طابخ
ضيّع أموالا بما يرتجي ... والنّار قد يطفئها النافخ «1»
الحرص سبب التلف
الليث يبعث حتفه كلبه. في كتاب كليلة: من لم يرض بما يكفيه وطلب الفضول، كان كالذباب الذي لا يرضى حتى يطلب الماء السائل من آذان الفيلة فتضربه بآذانها فترديه.
وقيل:
إن المطامع تنصب الشبكا «2»
وقال ابن أبي الأسود:
قد دعاه الطمع الكا ... ذب والحرص اللجوج
صيد بالحرص وقد يصطا ... د بالحرص الزّنوج
قدح الحرص في العقل
قيل:: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع. وقال عمر رضي الله عنه: ما الخمر صرفا أذهب لعقول الرجال من الطمع، ما أعمى النفس الطامعة عن العقبى الفاجعة.
وقيل: الحرص والطمع إلهان معبودان.
عود حريص على نفسه باللائمة
وقال شاعر:
ولو أنّي رضيت مقسوم أمري ... لكفاني من الكثير القليل
وقال آخر:
نسعى وأيسر هذا السعي يكفينا ... لولا تطلبنا ما ليس يعنينا
وقال أبو العتاهية:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا(1/608)
وقال آخر:
رأيت مخيلة فطمعت فيها ... وفي الطمع المذلّة للرّقاب «1»
وقال الحارثي:
حتّى متى وإلى متى ... طول التّمادي في اللعب
لا تستفيق ولا تفيق ولا تمل من الطلب
وقال سابق البربري:
النفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها
وقال أبو جرير السلمي:
كلّفني حرصي على الدراهم ... خدمة من لست له بخادم
وقال أحمد بن بارس:
أجيء به من حلّه وحرامه ... إلى حامد لي فيه أو غير حامد «2»
وأشقى به من بينهم بحسابه ... وحظّي من إنفاقه حظّ واحد
وأنشد عبد الله الخازن لنفسه:
يا نفس يا نفس ثقي ... بالله ربا واتّقي
لا تحسبي أنّك إن ... لم تتعبي لم ترزقي
واقتصدي واقتصري ... فما أقلّ ما بقي
نهي المرء عن جمع ما عساه لا ينفعه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن لك في مالك شريكين الحارث والوارث فلا تكن أخس الثلاثة نصيبا. وقال صلّى الله عليه وسلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو تصدقت فأمضيت أو لبست فأبليت، وما سوى ذلك فهو للوارث.
وقيل لبخيل: لم تحبس المال وتقاسى الشدة؟ فقال: خشية الفقر، فقيل: قد نزل بك الفقر بتضييقك عن نفسك، ومن هنا أخذ المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
وقال العطوي:
جمعت مالا ففكر هل جمعت له ... يا جامع المال أياما تفرّقه
وقال أبو العتاهية:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع(1/609)
وقال آخر:
نرقع بعض دنيانا ببعض ... ونترك ما نرقعه ونمضي
وقال آخر:
وما تصنع بالدّنيا ... وظلّ الميل يكفيك «1»
التزهيد في الإدخار للوارث والتحسّر على ذلك
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: يا بنيّ لا تخلف وراءك شيئا من الدنيا فإنك تخلفه على رجلين: رجل عمل بطاعة الله تعالى فسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عونا له على ذلك، وليس أحد بحقيق «2» على أن تؤثره على نفسك أغبن الغبن كدك فيما نفعه لغيرك.
وقال أبيّ لأخيه، وكان مثريا بخيلا: يا أخي إن مالك إن لم يكن لك كنت له فلا تبق عليه فإنه لا يبقى عليك، وكلّه قبل أن يأكلك.
قال الخليل: لم ير الرجل يجمع المال إلا لثلاثة أنفس، وهم أبغض خلق الله إليه، لزوج امرأته وامرأة ابنه وزوج ابنته. وقيل: المأكول للبدن والموهوب للشكر والمدخر والمحفوظ للعدو. وقيل: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه. وقال جعفر بن يحيى: شر مالك ما لزمك مكسبه وحرمت أجر إنفاقه.
وقال أبو الشّيص:
يقول الفتى ثمّرت مالي وإنّما ... لوارثه ما ثمّر المال كاسبه
يحاسب فيه نفسه بحياته ... ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه «3»
وقال آخر:
بقيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم حالت بك الجال
ملّوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال «4»
وقال آخر:
هالوا عليه الترب ثم انثنوا ... عنه وخلّوه وأعماله
لم ينقض النّوح من داره ... عليه حتّى اقتسموا ماله
وقال آخر:
إذا كنت جمّاعا لمالك ممسكا ... فأنت عليه خازن وأمين(1/610)
تؤديه مذموما إلى غير حامد ... فيأكله عفوا وأنت دفين
وقال النمر بن تولب:
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في سقيها ودؤوب «1»
غدت وغدا ربّ سواه يسوقها ... وبدّل أحجارا وجال قليب «2»
وقال أبو العتاهية:
ومن الحزم أن أكون لنفسي ... قبل موتي فيما ملكت وصيا
أوصى رجل أكتب: ترك فلان ما يسؤوه وينوؤه مالا يأكله وارثه ويبقى عليه وزره.
وقيل لرجل: أشرف، وكان قد جمع مالا ولم يكن له ولد، فقال: حصلت لغير الولد حسرة الأبد.
وكان هشام بن عبد الملك حبس عياض بن مسلم كاتب الوليد بن يزيد وضربه وألبسه المسوح، فلم يزل محبوسا مدة ولاية هشام فلما ثقل هشام، وصار في حد من لا يرجى، أرسل عياض إلى الخزّان أن احفظوا ما في أيديكم، فأفاق هشام وطلب شيئا، فلم يؤت به، فقال: ترانا كنا خزانا لغيرنا. فخرج عياض من الحبس فختم الباب وأمر بهشام فأنزل عن فراشه ومنع أن يكفن من الخزانة، فاستعير قمقم أغلى الماء فيه له، فقال الناس:
إن في هذا العبرة لمن اعتبر.
قال الموسوي:
وما جمعي الأموال إلا غنيمة ... لمن عاش بعدي واتهام لرازقي
وفي الحديث: ما أعطى عبد شيئا من عرض الدنيا إلا قيل له خذه وضعفيه حرصا.
وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد الإنسان منه شربا ازداد عطشا.
قال محمود الورّاق:
أراك يزيدك الإثراء حرصا ... على الدنيا كأنّك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما ... إليها قلت حسبي قد غنيت
وقيل: مريد الدنيا كشارب الخمر قليلها يدعو إلى كثيرها. المستغني بالدنيا عن الدنيا كمطفىء النار بالتبن وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو أن لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وقال أيضا: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا. وقال بعضهم:
غنى النفس ما يكفيك من سدّ حاجة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا(1/611)
وقال ابن نباتة:
كلّما يفضل الكاف فضول
التحذير من طول الأمل وقرب الأجل
كم من مستقبل يوما ليس بمستكمله ومنتظر غدا ليس من أجله، ولو رأيتم الأجل ومروره لأبغضتم الأمل وغروره. وكان الحسن رضي الله عنه إذا نعى له دنيوي، يقول:
شقي والله ما بقيت له الدنيا ولا بقي لها، ولو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال. من جرى في عنان أمله عثر لا شك في أجل. كم منية جلبت منية.
بقاء الأمل وازدياده مدة بقاء الأجل
قيل:: الآمال لا تنتهي والحي لا يكتفي. وقيل: المرء ما دام حيا خادم الأمل. وفي الخبر: يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل. أخذه المتنبي، فقال:
وفي الجسم نفس لا تشيب لشيبه ... ولو أنّ ما في الوجه منه حراب «1»
يغيّر منّي الدهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب «2»
وقيل للمسيح: ما بال المشايخ أحرص على الدنيا من الشبان، فقال: لأنهم ذاقوا من طعم الدنيا ما لم يذقه الشبان.
حاجة الحيّ لا تنقطع
قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ
«3» قيل معناه: يكابد مضايق الدنيا ما دام حيا بعضهم. وحاجة من عاش لا تنقضي، وقال عبدة بن الطبيب:
والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل
وأنشد ذلك عمر رضي الله عنه، فأخذ يكرره ويعجب من صحة تقسيمه. وقال آخر:
النّفس لا تنقضي مآربها
وقال آخر:
والمرء تواق إلى ما لم ينل
وقال الموصلي:
المرء ما عاش لا يزال له ... في نفسه حاجة يطالبها
وقال لبيد:
إذا المرء أسرى ليله خال أنّه ... قضى عملا والمرء ما عاش عامل «4»(1/612)
قلّة وجود الزّهد
سمع بعضهم رجلا يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فقال: إقلب وضع يدك على من شئت، قال:
وقلّما تجد الراضين بالقسم
وقيل: لم يقسم الله شيئا بين العباد أقل من الزهد واليقين.
التخويف من النفس والشهوة والاستعاذة منهما
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله معبود. الخائف من يخاف نفسه أكثر مما يخاف عدوه. قال ابن مسعود رضي الله عنهما: اللهم إني أستعيذك على نفسي عدوّي ولا عقوبة فيها.
وقال أعرابي لرجل: كبت الله كل عدو لك إلا نفسك. وقال صوفي: من توهم أن له عدوّا أعدى من نفسه قلّ علمه بنفسه.
وقال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلا وخصمي لا عقل له، فقيل له ومن خصمك؟ فقال: نفسي، فأيّ عقل لها وهي تبيع الخلود في الجنة بشهوة ساعة.
من سامح نفسه فيما تحب أتعب جوارحه وفقد من الراحة حظّه. من كثرت شهوته دامت هفوته.
قال شاعر:
ولم تتغالب شهوة ومروءة ... فيفترقا إلا وللشهوة الغلب
وقال آخر:
شهوات الإنسان تكسبه الذ ... لّ وتلقيه في البلاء الطويل
الحثّ على قدع «1» النفس
قال ابن المقفع: أعظم الجهاد جهاد المرء نفسه، لقول الله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء.
قال عمر رضي الله عنه: جاهدوا أنفسكم كما تجاهدون أعداءكم. وكان الحجاج يقول على المنبر: إقذعوا هذه النفس فإنها طلعة «2» . وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها فإن لها خدائع ومتى سكنت إليها فأنت مخدوع.
وسئل أنوشروان: أي الأشياء أحق بالإتقاء؟ قال: أعظمها مضرة. قال: فإن جهل قدر المضرة؟ قال: أعظمها من الهوى نصيبا، فالهوى للنفس البهيمة والرأي للنفس الإنسانية.(1/613)
قال بعض الحكماء: قبيح للرجل أن يركب الفرس فيكون الفرس هو الذي يدبر الفارس، وأقبح من ذلك أن تكون هذه النفس التي ألبسناها هي التي تدبرنا لا نحن ندبّرها.
قال شاعر:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
وقال أبو العتاهية:
إذا طاوعت نفسك كنت عبدا ... لكلّ دنيئة تدعو إليها
وقال عبيد العنبري:
يعدّ الفتى أعداءه وصديقه ... ونفس الفتى أعدى عدوّ يحاوله
وقال آخر:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما «1»
قضى وطرا منه وغادر سبّة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وقال آخر:
وأنت إذا أعطيت فرجك سؤله ... وبطنك نالا منتهى الذمّ أجمعا
وقد مضى بعض ذلك في موضع آخر.
النفس تنبسط إذا بسطت وتنقدع إذا قدعت
قال منصور بن عمار: عود نفسك الخير فإن النفس عروف ألوف، واعتبر أنك إذا أصبحت مفطرا طمعت في الغداء وإذا أصبحت صائما يئست منه. قال أبو ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وقال بعضهم: لا تحدث نفسك بالفقر وطول البقاء ولكن حدثها بالكفاف والفناء، قال أبو العتاهية:
إقنع لنفسك ترضها ... واملك هواك وأنت حرّ
وقال آخر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلّت «2»
مدح قادع نفسه عن الشّهوات
قد مدح الله قادع نفسه عن الشهوات، فقال: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ(1/614)
الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى
«1» قال أبو حازم: ما احتجت إلى شيء مما يستقرض إلا استقرضته من نفسي. وقال ملك لعابد ما منعك أن تخدمني وأنت عبدي، فقال: لو صدقت نفسك لعلمت أنك عبد عبدي؟ فقال: كيف؟ قال: لأني ملكت الشهوة فهي عبدي وقد ملكتك فأنت عبدها فقال: صدقت. قال أشجع:
تجافى عن الدّنيا فقد فتقت له ... خواصرها واستقبلته أمورها
وقال آخر:
وخلّى عن الدّنيا وقد فرشت له ... محفلة أخلافها لم تصرّم
مدح متظلف «2» عن مال غيره متبرع بماله
وصف أعرابي رجلا، فقال: هو بماله متبرّع وعن مال غيره متورّع.
وقال شاعر:
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه «3»
وقال آخر:
وإني لعفّ الفقر مشترك الغنى
وقال إبراهيم بن العباس:
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
وقال آخر:
فتى إن هو استغنى تخرّق في الغنى ... وإن قلّ مالا لم يضع سنّة الفقر «4»
وقال ابن أبي ليلى لابن شبرمة: أما ترى هذا الحائك لا نفتي في مسألة إلا خالفنا فيها، يعني أبا حنيفة رضي الله عنه، فقال: ابن شبرمة: لا أدري حياكته ولكني أعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منّا فطلبناها.
ذمّ إظهار الفقر والنهي عنه
قيل: أشدّ الأشياء مؤنة الفاقة وأشدّ من ذلك الاستكانة إلى من لا يجبرها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: رضي بالذل من كشف ضرّه. وقال حكيم: استتر من الشامتين بحسن العزاء عند النوائب.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ(1/615)
مِمَّا يَجْمَعُونَ
«1» . قال بزرجمهر: لم أر ظهيرا على تقلب الدول كالصبر ولا مذلا للحاسد كالتجمّل. وسئل متى يفحش زوال النعمة؟ فقال: إذا زال معها حسن التجمّل.
وقال زيد الفوارس:
ألم تعلمي أني إذا الدهر مسّني ... بنائبة زلّت ولم أتترس «2»
مدح صابر على فقره صائن لنفسه
قال كثيّر:
إذا قلّ مالي زاد عرضي كرامة ... عليّ ولم أتبع دقاق المطامع
قال خليفة بن مر:
إنا إذا حطمة حتّت لنا ورقا ... نكابد العيش حتّى ينبت الورق «3»
وقال آخر:
وكم أزمة للدهر ألقت جرانها ... عليّ فلم تهتك مذلّتها ستري «4»
وقال ابن هرمة:
وأصرف عن بعض المياه مطيّتي ... إذا أعجبت بعض الرجال المشارع «5»
المتسلّي عمّا يذهب له من المال
أصيب أعرابي بزرع لم يكن له غيره، وكان بقفر خلاء، فقال: يا رب اصنع ما شئت فرزقي عليك. وقيل: إذا سلمت النفس فالمال هدر. ودخل على علي بن الجهم صديق له، وقد أخذ كلّ ماله وهو يضحك، فقال له في ذلك، فقال: لأن يزول مالي وأبقى أحب إليّ من أن أزول ويبقى مالي.
قال شاعر:
نعمة كانت على قو ... م زمانا ثم زالت
هكذا النعمة والإن ... سان مذ كان وكانت
تسلب النعمة أو يخ ... رج منها إن أقامت
البيت الأخير كالخبر المتقدم.(1/616)
عفّ الفقر مشترك الغنى
قال جرير:
وإني لعفّ الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض داري انتقاليا
وقال عمرو بن سراقة:
ولست بولّاج البيوت لفاقة ... ولكن إذا استغنيت عنها ولجتها «1»
وقال ابن أبي فنن:
ليس لي في العلا شريك ولا الفق ... ر، ولي في الثّراء ألف شريك
ولهذا باب في الأخوانيات.
مدح صابر على الجوع
قيل لبعضهم: إنك قد أطلت جوعك فكيف ترى ذلك، فقال: نعم الغريم الجوع كلما أعطى شيئا رضي.
وقال الخبزارزي:
يطوي إذا ما الشحّ أبهم فعله ... بطنا من الزاد الخبيث خميصا «2»
وقال آخر:
إذا مطعمي كان ذا غصّة ... غسلت يدي منه قبل اكتفائي
وقال آخر:
لأكلة بجريش الملح تأكله ... ألذّ من ثمرة تحشى بزنبور «3»
وذكر بعض ذلك في فصل الأكل.
فقير عرض عليه مال فتزهّد فيه
لما رجع الرشيد عن الحج كان قد نذر أن يتصدق بألف دينار على أحق من يجده، فدفع يوما ألف دينار إلى بعض ثقاته وأمره أن يطلب فقيرا مستحقا فيعطيه، فأخذ يطوف في الأسواق فإذا رأى فقيرا مستحقا للإعطاء، قال: لعلّي: أجد أفقر منه، فانتهى بالعشي إلى عريان محلوق الرأس في خربة، فقال في نفسه: لا أجد أفقر من هذا. فقال: يا فتى خذ هذا المال واستغن به، فقال: لا حاجة لي فيه، قال: أحب أن تأخذه، قال: إن كان(1/617)
ولا بد فثم حجّام حلق رأسي ولم يكن معي شيء فادفعه إليه، قال: فقصدت الحجام فامتنع من أخذه، فقلت: هو ألف دينار، فقال: ما حلقت رأسه إلا للثواب فلا آخذ عليه أجرة. قال: فعدت وما وجدت أكرم منهما وأهون منّي، فأخبرت الرشيد بأمرهما فبعثني في طلبهما فكأن الأرض ابتعلتهما ولم أظفر بهما.
ولما حجّ الرشيد دخل على الفضيل فوعظه بما وعظه، وأراد الخروج، فقال: يا فضيل هل عليك دين؟ فقال: نعم، دين ربي لو يحاسبني عليه. فالويل لي إن حاسبني عليه، والويل لي إن ناقشني، فقال الرشيد: إني أسألك عن دين العباد، فقال: عندنا بحمد الله خير كثير لا نحتاج معه إلى ما في أيدي الناس، قال: هذه ألف دينار فاستعن بها، فقال: يا حسن الوجه أدلك على النجاة وتكافئني بالهلاك، اسأل الله التوفيق فلما خرج عاتبته بنيّته، فقالت: لو أخذتها فاستعنا بها، فقال: إن مثلي ومثلكم مثل قوم كان لهم بعير يكدونه ويأكلون من كسبه فلما كبر وسقط عن العمل نحروه فأكلوه.
ومر الإسكندر ببلد كان ملكه سبعة ملوك من صلب واحد ففنوا، فقال لأهله: هل بقي من نسل الأملاك السبعة أحد؟ قالوا: نعم، رجل يكون في المقابر فقصده، وقال: ما دعاك إلى ملازمة المقابر؟ فقال: أردت أن أعزل عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدت عظامهم سواء. قال: فهل لك أن تتبعني فأحيي لك شرف آبائك إن كان لك همّة، قال: إن همتي عظيمة إن كانت بغيتي عندك، قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها وشباب لا هرم معه، وغنى لا فقر بعده، وسرور لا يغيره مكروه، فقال: لا أقدر على ذلك، فقال:
إمض لشأنك ودعني أطلب بغيتي ممّن عنده ذلك. قال الإسكندر: هذا أحكم من رأيت.
وقف أعرابي على محمد بن معمر، وكان محمد جوادا، فسأله، فخلع خاتمه ودفعه إليه، فلما ولّى قال: يا أعرابي لا تخدعنّ عن هذا الفصّ فإن شراءه على مائة دينار، فمضغ الأعرابي الخاتم وقلع فصه، وقال دونكه فالفضة تكفيني أياما، فقال: هذا والله أجود مني.
التّحذير من مخالطة الأغنياء
قال أبو الدرداء عن النبي عليه الصلاة والسلام: إياكم ومجالسة الأموات، قالوا ومن الأموات؟ قال: الأغنياء وقال الثوري: إياكم وجيران الأغنياء وقراء الأسواق وعلماء الأمراء. وقال خباب في قول الله تعالى ولا تعد عيناك عنهم، نزلت في الفقراء.
وقال عمر رضي الله عنه: لا تدخلوا بيوت الأغنياء فإنها مسخطة للرزق. وقال سوار لأولاده: لا تعاشروا المهالبة فإنكم إذا رأيتم نعمتهم تسخطتم ما قسم لكم.
وقيل: لا تصحب غنيا فإنك إن ساويته في الإنفاق أضرّ بك وإن تفضّل عليك استذلّك.
ووقف بعض المجانين على قوم لهم بعض يسر، فقال:
سلامة الدّين والدّنيا فراقكم ... وحبّكم آفة الدّنيا مع الدين
وجاء أبو محمد السمرقندي إلى الفضيل، ومعه أولاد البرامكة وعليهم قمص لها(1/618)
جربانات عراض، فسألوه أن يحدثهم فامتنع، فقام مغضبا، فقال الفضيل: ردّوه فردّوه، فقال: بلغنا أن عيسى صلوات الله عليه قال: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إليه بالتباعد عنهم والتمسوا رضاه بسخطهم، فقيل: يا روح الله فمن نجالس؟ فقال: من تذكركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه وترغبكم في الآخرة مجالسته، قم فقد حدثتك.
متزهّد اضطرارا لا اختيارا
قيل لرجل: أزهدت؟ فقال: زهدي اضطراري.
قال الموسوي:
زهدت وزهدي في الحياة لعلّة ... وحجّة من لا يبلغ الأمل الزهد
وله:
قالوا أتقنع بالدّون الخسيس وما ... قنعت بالدّون بل قنّعت بالدّون «1»
أخي من باع دنياه وزخرفها ... بصوفة كان عندي غير مغبون «2»
وقال ابن الرومي:
أنا الرجل المدعو عاشق فقره ... إذا لم تكارمني صروف زماني «3»
وقال بعضهم:
إذا المرء لم يقدر له ما يريده ... تحمّل ما يقضى له شاء أم أبى
وهذا نحو: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
اعتبار ديانة المرء بزهده في المال وحرصه عليه
روي في الخبر: لا تنظروا إلى صوم الرجل وصلاته وانظروا إلى طمعه إذا أشرف.
وفي عكس ذلك، قيل لعمر بن عبد العزيز: فلان عفيف عن الدراهم، فقال: الشيطان أعف منه لا يمس قط درهما ولا دينارا.(1/619)
الحدّ التاسع في الاستعطاء والعطاء
(1) فمّما جاء في قصد أولي الآمال
المأمول مقصود. شكا الفضل بن سهل إلى الزبير بن بكار كثرة من يقتفي بابه للحوائج، فقال: لا عليك، إن أحببت أن لا يلتقي ببابك إثنان فاعتزل ما أنت فيه من عمل السلطان، فإن نعم الله جاءت بهم إليك، ثم أنشده:
من لم يواس النّاس من فضله ... عرّض للإدبار إقباله «1»
فقال: صدقت وبررت. وسأل رجل عن فضل بعض الأكابر، فقال: أما ترى إزدحام الناس على بابه وكثرة قصاده وطلابه.
قال أشجع:
على باب أبي منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل
وقال بعضهم:
يزدحم النّاس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزّحام
الممدوح بكثرة القصّاد
قال زهير:
قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
وقال حسّان:
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «2»
وقال أعرابي: قصدت فلانا فوجدت بابه كعرصة المحشر «3» يهوي إليه كل معشر،(1/620)
فداره مجمع العفاة ومربع المكرمات حاضرة الجود والحسب.
وقال وهب الهمداني:
فتى داره معمورة بعفاته ... ومجلسه بالمكرمات منجد «1»
وقال الجاحظ: كان العلماء يستجيدون بيت الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق «2»
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق «3»
حتى قال: الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «4»
فحينئذ فضلوا هذا وصار لحسنه ناسخا لبيت الأعشى.
من دعا العفاة إليه كثرة الثناء عليه
دخل رجل على أبان بن الوليد، فقال: أصلح الله الأمير أحفيت إليك الركاب وقطعت العقاب وأخلقت الثياب، فقال أبان: ما دعاك إلى ذلك، أقرابة أم جوار أم عشرة متقدمة أم وصلة متأكدة، فقال: لم يكن من ذلك شيء، ولكني سمعت الناس ينشدون بيتا قلته فيك فعلمت فيك خيرا، وهو:
وما شيم لي برق وإن كان نازحا ... فيخلف إذ بعض البوارق خلّب «5»
فأمر له بجمال ومال، ولما قصد ذو الرمّة بلال بن أبي بردة وأنشده:
سمعت النّاس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا «6»
وصيدح اسم ناقته. قال: يا غلام أعلفها قتا ونوى.
وقال بشار:
دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضمّ
ولولا الذي خبّروا لم يكن ... لأحمد ريحانه قبل شمّ
وقال الموسوي:
دعاني إليك العزّ حتّى أجبته ... ومن طلبته جمّة الماء أوردا(1/621)
قصد من يتلقّى زائره النجاح
قال بعضهم:
أتينك لم يزجرن دونك سانحا ... ولا بارحا إلا وهنّ سعود «1»
وقال المتنبيّ:
ولو سرنا إليه في طريق ... من النيران لم نخف احتراقا
وقال القاضي علي بن عبد العزيز:
كلّ الزمان إذا أفضى تصرّفه ... إليك وقت نزول الشمس في الحمل «2»
وقال ابن أبي طاهر:
بلغت مرادي واطمأنّت بي النّوى ... وقال لي الورّاد أعشبت فانزل
وقال أعرابي:
كلّ أيامه توالت علينا ... بسعود بلغننا ما نوينا
لم يكن دهره كما قيل في الأمث ... ال يوم لنا ويوم علينا
من أطمع مخلفيه في نوال من يعتفيه
قال أبو عثمان المازني: أشخصني الواثق، فلما دخلت عليه سألني عن اسمي، فقلت: بكر بن محمد، فقال: هل لك من ولد، قلت: نعم بنيّة قال: فما قالت لك حين فارقتها، قال: أنشدتني بيت الأعشى:
فيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم «3»
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى ويقطع منّا الرحم «4»
قال فبم أجبتها، قلت: ببيت جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح
فقال: أعطوه ألف دينار.
وقال أبو نواس:
تقول التي من بيتها خفّ مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للفتى متّطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير(1/622)
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير «1»
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور «2»
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير
من يهين أو يكرم مركوبه إذا بلغ مطلوبه
وقال الشمّاخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فأشرقي بدم الوتين «3»
قد استقبح الناس هذا المعنى، وقالوا: بئسما جازاها. وهذا مثل ما قال النبي صلّى الله عليه وسلم للمرأة التي ركبت بعير النبي صلّى الله عليه وسلم وتخلصت به، فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن خلصني الله به لأنحرنّه، فقال صلّى الله عليه وسلم: بئسما جازيته لا نذر في مال غيرك.
وقال أبو نواس معارضا للشمّاخ:
أقول لناقتي إذ بلّغتني ... لقد أصبحت عندي بالثمين
فلم أجعلك للغربان نحلا ... ولا قلت أشرقي بدم الوتين
وقال آخر:
وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرجال حرام
قرّبننا من خير من وطىء الثّرى ... فلها علينا حرمة وذمام «4»
من ذكر أنه تحمّل تعبا في قصد معتفاه
دخل رجل على معاوية، فقال: هززت ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولا إلّا عليك، أمتطي إليك بعد النهار واسم المجاهل بالآثار، يقودني نحوك رجاء ويسوقني إليك بلاء، والنفس مستبطئة والاجتهاد عاذر إذا بلغتك فقط، فقال: إحطط رحالك وقوّ آمالك وكن على ثقة بالإنصاف والإسعاف.
وقدم وفد بني تميم على عبد الملك وفيهم عمرو بن عتبة، فقال: يا أمير المؤمنين نحن من نعرف وحقّنا لا ينكر، وجئناك من بعيد ونمت بقريب وما تعطينا من خير فنحن أهله، وما ترى من جميل فأنت أصله، فضحك عبد الملك، وقال: يا أهل الشأم هؤلاء قومي وهذا كلامهم.(1/623)
الرّاغب عن كلّ نعمة دون بلوغ مجتداه
وقال طريح:
قصدتك عاريا من كلّ منّ ... لكل الخلق في كلّ المعاني
فلو دنياي قابلني غناها ... بغيرك ما ثنيت لها عناني «1»
وقال سعد بن ضمضم:
أظل أدعو باسمه ودونه ... قوم كرام رغبة تركتهم
تخيّروا فاخترته عليهم ... وما بهم بأس ولا ذممتهم
وقال ابن الرومي:
جعلت على ملوك الأرض طرّا ... محار مطيّتي وعليه حبسي «2»
وقال المتنبيّ:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن ورد البحر استقلّ السواقيا «3»
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا
فتأتّى له أجود معنى بقوله إنسان عين زمانه لجودة المعنى، ثم لموافقة كون ممدوحه أسود، وله يخاطب ناقته:
أمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأيمّمنّ أجلّ بحر جوهرا «4»
تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلبا لقوم يوقدون العنبرا «5»
ومثله للأسدي:
إليك أمير المؤمنين رحلتها ... من الطلح تبغي منبت الزرجون «6»
وقال الموسوي:
أتيت وفي كفّي خطام نجيبة ... مدفّعة في كلّ قرب إلى بعد «7»
فما خدعتها روضة عن مسيرها ... ولا لمع معسول تطلع من ورد «8»
إذا لحظت ماء جذبت زمامها ... وقلت ارغبي بالقل عن مورد ثمد «9»(1/624)
وقال آخر:
كرام نقصت النّاس لمّا بلغتهم ... كأنّهم ما جفّ من زاد قادم
قصد من طاب في فنائه الزمان والحياة
وقال ابن الرومي:
أريد مكانا من كريم يصونني ... وإلّا فلي رزق بكلّ مكان
وقال المتنبيّ:
وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنّها في مفخر أستجدّه «1»
وله:
إذا نلت منك الجاه فالمال هيّن ... وكلّ الذي فوق التّراب تراب «2»
من قصد سلطانا سائلا لقومه
أتى عبد العزيز بن زرارة باب معاوية، فلما أذن له وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل واحتملت جفوتك بالصبر، ورأيت قوما أدناهم منك الحظ وآخرين باعدهم منك الحرمان، فليس للمقرب أن يأمن ولا للمبعد أن ييأس.
وقال زياد بن أبيه: أشخصت قوما إليك الرغبة وأعقدت آخرين عنك المعاذير، وقد جعل الله في سعة فضلك ما يجير المتخلف ويكافىء الشاخص، والخير دليل على أهله، والخصب منتجع في مظانّه.
وقيل: أصاب القوم مجاعة في عهد هشام فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء، وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي وعليه جبة صوف مشتمل عليها بشملة قد اشتمل بها الصماء، فنظر هشام إلى حاجبه نظر لائم في دخول درواس إليه، وقال: أيدخل عليّ كل من أراد الدخول. وكان درواس مفوّها فعلم أنه عناه، فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخلّ بك دخولي عليك ولقد شرفني ورفع من قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أعجموا عنه، فإن أذنت في الكلام تكلّمت، فقال هشام: لله أبوك تكلّم، فما أرى صاحب القوم غيرك، فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث، أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فانتقت المخ ومصت العظم، ولله في أيديكم أموال، فإن تكن لله فأعطفوا بها على عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فقال هشام: لله أبوك ما تركت واحدة من ثلاث، وأمر بمائة ألف دينار فقسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين ألكل رجل من المسلمين مثلها، قال: لا ولا يقوم بذلك بيت المال، فقال: لا حاجة لي فيما(1/625)
يبعث على ذمّك، فلما عاد إلى داره أمر بذلك فبعث إليه فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من إحياء العرب، وحبس عشرة آلاف درهم فبلغ ذلك هشاما، فقال: لله دره إن صنيعة مثله تبعث على الاصطناع.
من رغب في الإيناس والبسط منه
قال العتابي: دخلت على المأمون فسلمت فاجلسني، وقال لي: تكلّم. فقلت: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس، قال: إن ذلك من أقل ما نوحيه قال: ثم أقبل على أحمد بن هشام يحدّثه فلما اطمأن بي المجلس ذهبت لأتكلم، فقال المأمون: إن أحب شيء إلينا اليوم أن نبسطك بالحديث النادر والكلام الطيّب والعشرة الرضية، فو الله لقد أعطاني من نفسه ما لم يعط أحد ممن شاهدت وعاشرت.
من قصد سلطانا فحثّه على اصطناعه
وقال ابن الرومي:
زني القوم حتّى تعرفي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل
وقال جرير، وهو أبياته الرائقة وأشعاره الجيدة:
إذا سرّكم أن تمسحوا وجه سابق ... جواد فمدّوا وابسطوا من عنانيا «1»
ألا لا تخافا نبوتي في ملمّة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا «2»
وقال المتنبيّ:
فكن في اصطناعي محسنا ومجرّبا ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه «3»
إذا كنت في شكّ من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعدّه «4»
وما الصّارم الهنديّ إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النّجاد وغمده «5»
من عاتب صاحبه في قلّة معرفته بفضله
وقال ابن الرومي:
قوّمتني غير قيمتي غلطا ... شاور ذوي الرأي تعرف القيّما
وقال ابن نباتة:
أشدد يديك بي الغدا ... ة فإنّني علق المضنّه «6»(1/626)
وقال آخر:
ليس له ناقد فينقده ... وآفة التبر ضعف منتقده «1»
وقال آخر:
ومثلك ليس يجهل حقّ مثلي ... ومثلي لا تضيعه الكرام
(2) وممّا جاء في السؤال
الإستغناء بالله عن الناس
قال أعرابي: اطلب الرزق من حيث كفل لك فالمتكفل به أمين، ولا تطلبه من طالب مثلك لا ضمان لك عليه.
وشكا رجل ضيقا، فقال له الحسن: شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وقال هشام لرجل في بيت الله: سلني، فقال: لا أسأل في بيت الله غيره.
وقال شاعر:
لا تسل النّاس وسل من أنت له
وسأل بعض الزهّاد صديقا له شيئا لشدة الأمر به، فأعطاه صديقه وقال: يا أخي في ثقتك بحسن عائدة الله عليهم كفاية لهم، فقال: لا حاجة لي بالمال فقد استغنيت بهذا المآل.
التّحذير من سؤال الناس
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: المسألة كدوح أو خدوش أو خموش في وجه صاحبها. وقال صلّى الله عليه وسلم:
إن أحدكم يخرج بمسألة من عندي متأبطا وما هي إلا النار، فقال عمر رضي الله عنه: ولم تعطيه وهي له نار، فقال: يأبون، إلا أن يسألوا ويأبى الله لي البخل.
وقيل: إياك وطلب ما في أيدي الناس فإنه فقر حاضر. قال ابن المقفع: السخاء سخاآن سخاؤك بما في يدك وسخاؤك بما في يد غيرك وهو أمحض في الكرم وأبعد في الدنس، ومن جمعهما فقد استكمل الفضل. وقيل: من لم يستوحش من ذلّ السؤال لم يأنف من ذلّ الردّ. وقيل: جلّ في عينك من استغنى عنك، قال:
متى ترغب إلى النّاس ... تكن للنّاس مملوكا
وقال آخر:
إنّ الغنى عن لئام النّاس مكرمة ... وعن كرامهم أدنى إلى الكرم(1/627)
ولعابدة المهلبية:
لا تسألنّ المرء ذات يديه ... فيحقّرنّك من رغبت إليه
المرء ما لم ترزه لك مكرم ... فإذا رزأت المرء هنت عليه «1»
وقال آخر:
استغن ما استطعت عن أخيك ولو ... أعشب كلّ البلاد عن مطره «2»
وقيل: إياك والمسألة فإنها آخر كسب المرء.
قال أحدهم:
وذقت مرارة الأشياء جميعا ... فما طعم أمرّ من السؤال
وقال آخر:
ذلّ السؤال وثقل الشّكر ما اجتمعا ... إلا أضرّا بماء الوجه والبدن
وقال المخزومي:
ما أبعد المكرمات عن رجل ... على نوال الرّجال يتّكل
وقال آخر:
إن السّؤال يريد وجه حديد
ومما يدخل في هذا الباب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف عليه ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك.
النّهي عن سؤال من تعوده
. قال شاعر:
فإن كنت لا بدّ مستطعما ... فمن غير من كان يستطعم «3»
وقال آخر:
ولا تطلبنّ المال ممّن أفاده ... حديثا ومن لم يورث المال وارثه «4»
وقيل: إدخالك اليد في فم التنين أسهل من سؤال دنيء تعوّد المسألة.
ولعابدة المهلبية:
إذا ما طلبت نوال الفتى ... وقد نالك الدهر من شدّه
فلا تسألنّ فتى كالحا ... أصاب الرياسة من كدّه «5»(1/628)
عذر من سأل سائلا
قال ابن بابك:
إنّي إذا شئت أن أكدي ... حوشيت كديت من مكد «1»
تشفعت حرمّة التّساوي ... وكان ردّي من التعدّي
أصبحت لا عند لي ولكن ... ما عند مولاي فهو عندي
وقال آخر:
شاعر يطلب رزقا ... من أخي شعر مكد
جعل الريح إلى الر ... يح فتى يطلب رفدي «2»
إنّ ذا عندي بديع ... خاض فيه النّاس بعدي
وقال أبو تمّام:
ومفحم يأخذ من شاعر «3»
التّحذير من سؤال اللئام
قال أعرابي: أشدّ الأشياء مؤنة إخفاء الفاقة وأشدّ من ذلك السؤال إلى من لا يجبرها.
قال أعرابي لصاحبه: نهيتك عن مسألة قوم أرزاقهم في ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل، فمن جعل صرما له من الدوانيق فعطيّته لا تكون فوق القراريط.
وقال آخر: نهيتك أن تريق ماء وجهك بسؤال من لا ماء في وجهه. لا شيء أوجع للأحرار من الاضطرار إلى مسألة الأشرار.
وقيل: لحيي المدينية: ما الداء العياء؟ فقالت: حاجة الكريم إلى لئيم لا يجدي عليه. وقال خالد بن صفوان: أشد من فوت الحاجة طلبها إلى غير أهلها.
وقال الأعشى:
حسب الكريم مذلّة ونقيصة ... أن لا يزال إلى لئيم يرغب
وقال آخر:
وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على حاجة عند اللئيم يطالبه
وقال البديهي:
ومن الذلّ والبلاء إذا اضط ... رّ كريم إلى سؤال لئيم
وقال آخر:
ومن طلب الحاجات في دون أهلها ... يجد دونها بابا من اللؤم مغلقا(1/629)
وقيل: إذا سألت بخيلا مؤنة أدركت الحرمان والعداوة.
تحمّل المكاره تفاديا من السّؤال
قال أبو عمرو بن العلاء اجتزت بكناس ينشد:
إذا أنت لم تعرف لنفسك قدرها ... هوانا لها كانت على النّاس أهونا
فلا تسكننّ الدهر مسكن ذلّة ... تعدّ مسيئا فيه إن كنت محسنا
فقلت: سبحان الله أتنشد مثل هذا وتتعاطى مثل هذا الفعل، فقال: إن إنشادي لمثله أصارني إلى هذا فرارا من ذل السؤال.
وقال الأصمعي: مررت بكناس وهو ينشد:
جنّباني ديار سعدى وليلى ... ليس مثلي يحلّ دار الهوان
فقلت: وأي هوان فوق هذا، فقال: مه، ذلّ سؤال مثلك. إن كنس ألف كنيف أهون من وقوف على مثلك.
وقيل لرجل كان يعمل في المعادن: ما أشد عملك. فقال: استخراج الماء من الجبال أهون من إخراجه من أيدي الأنذال.
ذمّ قوم يجب تجنّب سؤالهم
قال سلم: لا تطلب حاجتك إلى كذّاب فلعل حاجتك قريبة فيبعدها أو بعيدة فيقربها؛ ولا إلى رجل له إلى صاحبك حاجة، فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.
وقال أبو عبّاس الكاتب: لا تنزل حوائجك مجيد اللسان ولا بالمتسرّع إلى الضمان، فالعجز مقصور على المتسرع ومن وثق بجودة لسانه ظنّ أن فضل بيانه مما ينوب عن إفضاله.
وقيل: إياك ومسألة الموقح الممرن وذي اللسان البيّن، وعليك بالحصر البكي وبذي الحياء الرضي، فمثقال من شدة الحياء والعي أنفع في الحاجة من قنطار من سليط. وعليك بالشمم الذي إذا عجز أيأس وإن قدر أطمع.
وقال عمر رضي الله عنه: لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تسألن حاجة بالليل ولا تسألن أعمى، فإن الحياء في العينين.
الحثّ على الإجمال في الطّلب
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لم يعد المرء ما قسم له فأجملوا في الطلب، فإن في القناعة سعة وكفا عن كلفة لا تحل. وقيل: اطلبوا الحاجات بعزّة الأنفس فإنّ بيد الله قضاءها.(1/630)
التّزهيد في نوال يتوصّل إليه بسؤال
قيل: السؤال وإن قلّ ثمن لكل نوال وإن جلّ.
قال شاعر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا وإن نال الغنى بسؤال «1»
وإذا السّؤال مع النّوال قرنته ... رجح السّؤال وخفّ كلّ نوال
التّزهيد في إحسان يتوصّل إليه بهوان
وقال ابن الرومي:
إذا أنا نالتني فواضل مفضل ... فأهلا بها ما لم تكن بهوان
فأما إذا كان الهوان قرينها ... فبعدا لها ما ينقضي لأوان
ومن ذا الذي يلتذّ شهدا بعلقم ... أبت لهواتي ذاك والشفتان
أريد مكانا من كريم يصونني ... وإلّا فلي رزق بكل مكان
وكان يجري على أبي العيناء رزق فتأخّر عنه فتقاضاه مرارا ثم تركه، وقال: لا حاجة لي فيه فهو رقّ لا رزق، وبلاء لا عطاء ومحنة لا منحة.
ذمّ الإلحاح
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله يبغض من عباده البذي الفاحش السائل الملحف. وفي كتاب الهند: لا يكثرن الرجل على أخيه المسألة، فإن العجل إذا أفرط من مص أمه نطحته ونحّته. وقيل: كل إلحاف شين إلا مسألة رب العالمين.
ودخل علوي على أبي السائب فنظر إلى إبريق، فقال: هبه لي، فقال: لست أستغني عنه، فقال: هب لي هذا الآخر فقال: هو من جهاز أمي أتبرك به، فقال: هب لي تلك المنارة، فقال أبو السائب: صلى الله على المسيح حيث لم يترك على أمته ولدا يؤذيهم.
جلس بعض أصحاب الحديث إلى رجل فقال: تفضّل بقلم، فناوله، قال: وورقة فأعطاه، فقال: قدّم لي المحبرة فأولاه، فقال: يا فتى أتنشط للتزوج فإن أمي فارغة.
الحثّ على ردّ الملحّ
من ثقل عليك بنفسه وعمل بسؤاله فولّه إذنا صمّاء وعينا عمياء. من ألحّ في السؤال رزق الحرمان.
قال بشّار:
وليس للملحف مثل الردّ
ووقّع بعض الكبار في قصة ملحّ مكثر للسؤال: دع هذا الضرع يدرّ لغيرك كما درّ لك.(1/631)
إعطاء الملحّ للتبرّم به
قال أعرابي لمعاوية وقد أضجره: قد تحلب الناقة العلبة وهي ضجور، فقال معاوية:
وقد تكسر الإناء وتدق أنف حالبها، فقال الأعرابي: وقد تثني أهلها رقبتها فتدرّ لبنها، فضحك وأعطاه.
استماح أعرابي خالد بن عبد الله فألحف وأبرم، فقال خالد: أعطوه بدرة يدخلها في حر أمه، فقال: وأخرى لإستها يا سيدي لا تبقى فارغة. فضحك، وقال: أخرى لإستها.
وسأل الأصمعي حاجة ألحّ فيها، فقال:
أرحني واسترح منّي فإني ... ثقيل محملي ذرب لساني «1»
وقال أبو سعيد الموسوي في معناه:
أزح علّتي واصرف إلى النّار طلعتي ... فما كلّ وقت رؤيتي بمري «2»
الحثّ على ترك تجاوز الحدّ في السؤال
من سأل فوق قدره فقد استوجب الردّ، ومن لم يرجّ إلا ما هو مستحق له فإلى الرفد. قيل: إذا أردت أن تطاع فاسأل ما يستطاع، قال: الشاعر:
إنّك إن كلفتني ما لم أطق ... ساك ما سرّك منّي من خلق «3»
التّرغيب في سؤال السّلاطين
قيل: مسألة الرجل السلطان ومسألة الابن أباه لا تنقصه ولا تشينه. وقال شاعر:
وإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا ... فابذله للمتكرّم المفضال
التّرغيب في سؤال الصّباح دون القباح
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اعتمد لحوائجك الصّباح الوجوه، فإن حسن الصورة أول نعمة تلقاك من الرجل. وروي عنه عليه الصلاة والسلام: أطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه.
وسئل ابن عائشة عن هذا الحديث، فقال: معناه أطلبوها من الوجوه التي تحسن بالإنسان أن يطلب منها. ونظر ابن عبّاس إلى رجل حسن الوجه، فقال:
أنت شرط النبيّ إذ قال يوما ... أطلبوا الخير من حسّان الوجوه
وقال البحتري:
من حسّن الله وجهه وسجا ... ياه وأعطاه كلّف الكلفا «4»(1/632)
سؤال الشبان دون الشيوخ
قال حكيم: طلب الحوائج عند الشبان أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى أن يعقوب عليه السلام لما سأله بنوه أن يستغفر، قال: لهم سوف أستغفر لكم ربّي، وقال يوسف عليه السلام: لا تثريب «1» عليكم اليوم.
قال يحيى بن خالد: إذا كرهتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم، فاحذروه وإذا أحببتموه من غير خير سبق منه إليكم فارجوه.
تفضيل سؤال كريم فقير على غني لئيم
قال الرفّاء:
صرفت عن الكثير الوفر طرفي ... وها أنا للقليل الوفر راج
وكم من نطفة عذبت وكانت ... أحبّ إليّ من بحر أجاج «2»
عيّ من سأل لنفسه شيئا
كلّم أعرابي خالد بن عبد الله وتلجلج في كلامه، فقال: لا تلمني على الاختلاط فإن معي ذلّ الحاجة ومعك عز الاستغناء. وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر من العيّ فيهما إذا سألت حاجة لنفسي وإذا كلمت جاهلا.
وقيل: سار الفضل بن الربيع إلى أبي عباد في نكبته يسأله حاجة فأرتج عليه، فقال له: يا أبا العباس بهذا اللسان خدمت خليفتين، فقال: إنّا تعوّدنا أن نسأل لا أن نسأل.
الحثّ على ترك الاستنكاف من السؤال
قال رجل لآخر: قد وضع منك سؤالك، فقال: لقد سأل موسى والخضر عليهما السلام أهل قرية فأبوا أن يضيفوهما، فو الله ما وضع هذا من نبيّ الله وعالمه فكيف يضع منّي؟ قيل لزرعة: متى تعلمت الكدية والسؤال، قال: يوم ولدت منعت الثدي فصحت وبكيت فأعطيت الثدي فسكت.
الحثّ على استعمال الوقاحة
قال بعض المكدين: مكتوب على باب الجنة من صبر عبر. وقيل: الهيبة خيبة.
وقال شاعر:
هيبة الإخوان مقطعة ... لأخي الحاجات عن طلبه
فإذا ما هبت ذا أمل ... مات ما أمّلت من سببه «3»(1/633)
وكان مكتوبا على عصي ساسان: الكسل شؤم والمتميز مذموم، والحركة بركة والتواني هلكة، وكلب طائف خير من أسد رابض.
قال أشجع:
ليس للحاجات إلا ... من له وجه وقاح
وقال سلم الخاسر:
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللّذة الجسور «1»
الحثّ على المطالبة
وقال أبو تمّام:
وخذهم بالرقى إن المهارى ... يهيجها على السير الحداء «2»
وقال آخر:
حرّكه فالأشجار في تحريكها ... تجني جناها والقلوب تقلّب
وقال ابن الرومي:
نذكّر بالرقاع إذا نسينا ... ونذكّر حين تمطلنا الكرام
فإن الأمّ لم ترضع صبيّا ... مع الإشفاق لو سكت الغلام «3»
الحثّ على معاودة السؤال
قال عمر رضي الله عنه: إذا سألتمونا حاجة فعاودونا فيها، فإنما سمّيت القلوب لتقلبها. وقال عبد الملك في خطبته: لا يمنعنّ رجلا سأل اليوم شيئا فمنعته أن يسأل غدا فإن الأمور بيد الله لا بيدي. ودخل بعض الطالبين على إسحاق بن إبراهيم فسأله حاجة فمنعه، فأنشد الطالبيّ:
لا ييئسنّك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم «4»
فإذا نبا فاستبقه وتأنّه ... حتّى يفيء بها الطباع الأكرم
وقيل: إذا سألت كريما حاجة فدعه وسوّم نفسه، فإنه لا يفكر إلا في خير، وإذا سألت لئيما حاجة فعافصه ولا تدعه يتفكر فيتغير. وقال بعضهم في ضد ذلك: إذا سألت لئيما حاجة فأجّله حتى يروّض نفسه ويطابق ما قاله قول الشاعر:
يعالج نفسا بين جنبيه كزّة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا «5»(1/634)
الاعتذار لتأكيد السّؤال
قال أبو تمّام:
لو رأينا التوكيد خطة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتثويب «1»
وقال ابن الرومي:
قد يحث الجواد غير بطيء ... ويهز الحسام غير كهام «2»
وقال بشّار:
هززتك لا أني وجدتك ناسيا ... لأمري ولا أنيّ أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سلّه ... إلى الهزّ محتاجا وإن كان ماضيا
عذر من سأل لئيما وأخذ منه
قيل للأعمش: كيف تصنع إذ كان لك إلى لئيم حاجة؟ قال: آتيه كما آتي الحش «3» ، ومنه قال الشاعر:
وعند الضرورة آتي الكنيفا
وقال المتنبيّ:
غير اختيار قبلت برّك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف «4»
وقال أبو تمّام:
وخذ القليل من اللئ ... يم إذا أبى أهل الكرم
فالليث يفترس الكلا ... ب إذا تعذّرت الغنم
قال ابن شادان: دخلت مع جماعة من الصوفيّة على الشبلي رحمه الله فبعث إلى بعض المياسير يسأله ما ينفقه عليهم، فقال للرسول: قل له يا أبا بكر أنت تعرف الحق فلم لا تطلب منه. فقال الشبلي: عد إليه، وقل له: الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك، وأطلب من الحقّ الحق، فوجه إليه بمائة دينار.
وفي المثل: خذ من جذع ما أعطاك.
اللّطافة في المسألة
قيل: اللطافة في المسألة أجدى من الوسيلة، قال:
إحلب لبونك إبساسا وتمرية ... لا يقطع الدرّ إلّا عنف محتلبه «5»(1/635)
ومثله:
وإذا جفوت قطعت عنك وسائلي ... والدر يقطعه جفاء الحالب
تواطأ أبو دلامة مع أمّ دلامة على أن يأتي هو المهدي فينعيها، وتأتي على الخيزران فتنعيه. فأتى أبو دلامة المهدي وهو يبكي، وأنشد:
وكنّا كزوج من قطا في مفازة ... لدى خفض عيش مورق ناضر رغد «1»
فأفردنا ريب الزمان بطرفه ... ولم نر شيئا قط أوحش من فرد
فقال له: ما بالك؟ فقال: ماتت أم دلامة وإني لاحتاج إلى تجهيزها فأطلق له مالا.
وأتت أم دلامة الخيزران وقالت: إن أبا دلامة مضى لسبيله، فاغتمّت وأمرت لها بمال وأعطتها ثيابا وطيبا. ثم لما دخل المهدي على الخيزران قالت له يا أمير المؤمنين: إن أبا دلامة مضى لسبيله أبقى الله أمير المؤمنين، وأمّ دلامة كانت عندي الساعة فأعطيتها التجهيز لزوجها. فقال المهدي: إن أم دلامة مضت لسبيلها وكان عندي أبو دلامة الساعة وأعطيته نفقة تجهيزها، فعلما أنهما احتالا فضحكا واستدعياهما وخوّلاهما شيئا وضحكا منهما.
وقال رجل لآخر: لو مت أنا ما كنت تفعل؟ قال: كنت أكفنك وأدفنك، قال:
فاكسني الساعة ما تكفنني به وإذا متّ فادفني عريانا.
من عرّض بسؤاله أو تلطّف فيه
أكل شعبة مع زياد وهو يتأمله وكان يأكل أكلا ذريعا «2» ، فقال له زياد: كم لك من الولد؟ فقال: تسع بنات أنا أجمل منهن وهن آكل منّي، فقال: ما أحسن ما استعطيت لهن فأثبتهن في العطاء.
ساير رجل بعض الولاة، فقال له الوالي: ما أهزل برذونك، فقال: يده مع أيدينا، فوصله. عرض عمرو بن الليث عسكره فمرّ به رجل تحته دابة مهزولة، فقال: أتأخذون المال وتسمنون به فقاح «3» نسائكم، فقال: أيها الأمير لو نظرت إلى فقحة امرأتي لوجدتها أهزل من كفل دابتي، فضحك منه وأمر له بزيادة عطائه.
وكان لأبي الأسود جبّة خزّ قد تقطّعت، فقال له معاوية: ما تملّ لبسها؟ فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه، فأمر له بمال. قال أبو جعفر الورّاق للصاحب: إن جرذان داري يمشين بالعصار هزالا، فقال: بشّرهن بمجيء الحنطة. وكان أبو الحسن الورّاق قصد سيف الدولة في جملة الشعراء فناوله درجا يوهم أنه شعر له، فنشره سيف الدولة، فقال: ليس فيه شيء مكتوب، فقال: سيدنا يكتب فيه لعبده، فضحك وأمر له بمال.(1/636)
وقسم عبد الله بن عبيد مالا بين بنيه، فقال له عبد صغير: فأعطني أوّلا، فقال له:
ولمه، قال: لأن الله تعالى يقول المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فبدأ بالمال وأنا مالك، فأعطاه وقدّمه. وسأل أعرابي عبد الملك، فقال له: سل الله، فقال: سألته فأحالني عليك، فضحك منه وأعطاه.
المستغني بالسّلام عن السؤال
قال أميّة بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء «1»
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء
وقال ابن الرومي:
يا من إذا التعريض صافح نفسه ... أغنى العفاة به عن التصريح «2»
وقال آخر:
وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا رآك مسلّما عرف الذي ... حملته وكأنّه ملزوم
وقال الريّاشي:
وحسبك من تقاضي المرء يوما ... لحاجته الزيارة والحديث
وقال آخر:
وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي «3»
وقال المتنبيّ:
أخفّ سلامي حب ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب «4»
المتوصّل بسؤال حاجة إلى أخرى
في المثل: أعن صبوح تفرقوا.
وقال شاعر:
وحاجة دون أخرى قد سجحت بها ... جعلتها للذي أخفيت عنوانا «5»
وقال آخر:
وأرضع حاجة بلبان أخرى ... كذاك الحاج ترضع باللبان «6»(1/637)
وقيل: سرين في خريزة لحاجتين في حاجة. وخيّر رجل بين شيئين فقال: كلاهما وتمرا. وقال بعض الخلفاء لأبي دلامة: سل، فقال: كلبا أصيد به، فقال أعطوه. قال:
ودابّة أركبها إذا خرجت أصطاد، فقال: أعطوه. قال: وغلاما يخرج معي إذا ركبت يمسك كلبي، قال: أعطوه، قال: وجارية تصلح ما أصيده، قال أعطوه، فقال: كلب ودابة وغلام وجارية لا بدّ لهم من دار تأويهم ولا بدّ لهم مما يمونهم، فقال تقطع له ضيعة، فقال: يا أمير المؤمنين أعطني يدك أقبلها، فقال دع هذا، فقال: ما منعت عيالي شيئا أشدّ فقدا عليهم من هذا.
النّهي عن ردّ الرّاغب إليك
قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرقّ، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن ردّه رجع حرا، وهما ذليلان، هذا بذلّ اللؤم وهذا بذل السؤال.
وقال سعيد بن العاص: ما رددت أحدا عن حاجة إلا تبينت العزّ في قفاه والذلّ في وجهي، وقيل: من قضى حاجة سائله اجتمع معه في العزّ وإن حرمه اجتمع معه في الذلّ.
النّهي عن خيبة من أراق ماء وجهه لسؤالك
من انتجعك مؤملا فقد أسلفك حسن الظنّ بك. وأدخل ابن السماك رجلا إلى الفضل بن الربيع، فقال: إن هذا بذل لك ماء وجهه فأكرم وجهك عن ردّه.
قال أبو تمام:
ما ماء كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض
الحثّ على استرقاق الأحرار
قيل: العجب لمن يشتري العبيد بالأموال ولا يشتري الأحرار بالنّوال والإفضال.
وقيل: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرمهم تملكهم.
الحثّ على اصطناع المعروف وإن لم يشكر
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفر، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه.
الحثّ على اصطناع المعروف وإن لم يسأل
قيل: لا تلجىء الآمل إلى كدّ المسألة ولا تكلّفه خشوع التضرّع. وسئل خالد بن يزيد: ما الجود؟ قال: أن تعطي من سألك، فقال ابنه: يا أبت هذا هو الكد إنما الجود أن تعطي من سألك ومن لم يسألك.
وقيل لرجل: سل، فقال: إني أكره أن أعطي ثمن السؤال.
وقال محمد بن أبي عمران.(1/638)
أجرني من ذلّ السؤال واعفني ... فكلّ عزيز في السؤال ذليل
وقال العماني:
أنت تسقي والربيع ينتظر ... وخير أنوار الربيع ما ابتكر «1»
الحثّ على تعجيل السؤال
وقال بعضهم «2» :
جعلت فداك لم أسأ ... لك ذاك الثوب للكفن
سألتكه لألبسه ... وروحي بعد في البدن
وقيل: أهنأ المعروف أعجله. وقال بعض الناس: إذا أوليتني نعمة فجعلها فإن النفس مولعة بحب العاجل، وإن الله تعالى قد أخبر عما في نفوسنا، فقال: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
«3» . وقال مروان بن أبي حفصة:
فما نحن نخشى أن يخيب دعاؤنا ... لديك ولكنّ أهنأ العرف عاجله «4»
الحثّ على تعجيل الرّفد أو الرد
قيل: من الظفر تعجيل اليأس من الحاجة إذا أخطأك قضاؤها. وقيل: السراح من النجاح. وقال بعضهم: أنت ذو أناة أعجز عن الصبر عليها، فوعد نجيح أو يأس مريح.
وسأل رجل طائيا، فمنعه. فقال له: لم تجد جوادا حاتميا، فقال: إن لم أجد جوده فقد منعت منه، حيث يقول:
أماري فأما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنه الزّجر «5»
وقال آخر:
أرحني بيأس أو بتعجيل حاجة ... فكلتاهما للمرء روح منعم «6»
ولا تك كالعذراء يوم نكاحها ... إذا استؤذنت في نفسها لم تكلّم
وقيل: إن بعض الناس أقام بباب بعض الملوك مدة فلم يحظ منه بشيء، فكتب أربعة أسطر في رقعة: الأول الأمل والضرورة أقدماني عليك، الثاني ليس على العدم صبر، الثالث الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء، والرابع إما نعم مثمرة وآمالا ميئسة، فكتب تحت كل سطر: زه يعطى لكل منها أربعة آلاف درهم.
من سأل وذكر أنّ النعمة لا تغني في غير وقتها
.(1/639)
قال البحتري:
وأعلم بأن الغيث ليس بنافع ... للمرء ما لم يأت في إبّانه «1»
وله:
وإذا العليل أبلّ ممّا يشتكي ... لم يرج منه مثوبة العوّاد «2»
وله:
يرجى الطبيب لساعة الأوصاب
سؤال من بعدت داره عن مسؤوله
وقال ابن الرومي:
لا تجشّمنّ أهلي إليك وفادة ... ليعد إليهم برّك الوفاد «3»
يسري السحاب إلى البعيد بغيثه ... فيظلّ منه وادعا ويجاد
ولأنت أولى أن تجود لمجدب ... عفوا ولم تشدد له أقتاد «4»
سؤال من قرب ارتحاله
قال بعضهم:
جعلت فداك قد وجب الذمام ... وطال بي التلبّث والمقام
وقد أزف الرحيل إلى بلادي ... فرأيك لا عدمتك والسّلام
وقال المتنبيّ:
لقد نظرتك حتّى حان مرتحلي ... وذا الوداع فكن أهلا لما شيتا «5»
من استزاد
قال المتنبيّ:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب «6»
وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب «7» «8»(1/640)
من سأل وذكر أنّ مسؤوله أهل لذلك
قال أحمد بن أبي طاهر:
أتيتك لم أطمع إلى غير مطمع ... كريم ولم أفزع إلى غير مفزع
وقال علقمة:
وفي كلّ شيء قد خبطت بنعمة ... فحق لناس من نداك ذنوب «1»
الحثّ على إتمام النّعمة
العرف إذا لم يستتم كالبرد ما لم يعلم، ولا يحسن العرف إلا بتمامه ولا يروق الهلال إلا بتمامه. وقيل: أتبع الدلو الرشاء والفرس لجامه. وقيل: تمام الربيع الصيف.
وقال أبو تمّام:
إن ابتداء العرف مجد سابق ... والمجد كلّ المجد في استتمامه
هذا الهلال يروق أبصار الورى ... حسنا وليس كحسنه لتمامه
وقال ابن الرومي:
لا تصنعنّ صنيعة مبتورة ... فإذا اصطنعت إلى الرجال فتمّم
لا تطعمنّهم فتقطع عنهم ... أشبع إذا أطعمت أو لا تطعم
وأمر المنتصر وهو أمير الحجاز بشيء فهمّ الوكيل بمصارفته، فقال: والله لصرفي أحسن من مصارفتي، فلم يصارفه واستحسن في المطالبة بأمر تأخر فاختلت به الحال.
قال المتنبي:
فإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها قد نضب «2»
تربية النّعمة عند المصطنع إليه
قال حكيم: ما ربّيت غير رجلين، رجل له عندي يد فأخاف كفرانه ورجل لي عنده يد فأخاف إفساده. وقيل: رب المعروف أشد من ابتدائه. وقيل: الإبتداء بالصنيعة نافلة وربّها فريضة. وقيل: من لم يربّ معروفه فكأنما لم يصطنعه.
من رغب إلى مسؤوله في الجري على العادة في إعطائه
قال ابن الحجّاج:
نفسي تقي نفسك ما تشتكي ... لمثل هذا اليوم أعددتكا
فاجر على العادة في برّ من ... يجري على العادة في شكركا(1/641)
قال أحمد بن أبي طاهر:
جعلت فداك قد أنسيت ذكري ... وقد أسقطت من ديوان برّك «1»
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما أحسن الحسنة في أثر السيئة وأقبح السيئة في أثر الحسنة، وأحسن من هذا وأقبح من ذاك الحسنة في أثر الحسنة والسيئة في أثر السيئة.
من سأل وذكر أنه يعذر مسؤوله إن لم يعطه
وقف قيس بن خفاف البرجمي على حاتم، فقال: إني حملت دماء وعوّلت فيها على مال وآمال، فقدمت مالي وكنت من أكبر آمالي، فكم من حق قضيت وكم من هم كفيت، وإن حال دونك حائل لم أذمم يومك ولم أيأس من غدك.
وكتب أبو العيناء إلى ابن أبي دؤاد: مسّنا وأهلنا الضرّ وبضاعتنا المودّة والشكر، فإن تعطنا فأنت أهل لذلك وإن لم تعطنا فلسنا ممّن يلزمك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. قال أبو نواس:
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلّا فإني عاذر وشكور
وقال ابن الرومي:
وإن عاق القصائد نداك عنّي ... فلست أراك في منعي مليما
وما غيث إذا يجتاز أرضا ... إلى أخرى بمعتد لئيما
من سأل وذكر أنه غير عاذل
لمّا دخل الحجاج مكة، قال لأهلها: أتيناكم وقد غاض الماء لكثرة النوائب فاعذرونا، فقال رجل: لا عذر الله من عذرك وأنت أمير المصرين وابن عظيم القريتين، فقال: صدقت، واستقرض مالا من التجار ففرّقه فيهم.
قال أبو تمّام:
فلو حازرت شول عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدرّ والضرع حافل «2»
وقال ابن الرومي:
أنّى يكون ربيعي ممرعا غدقا ... إن لم يكن هكذا والشمس في الحمل «3»
وقال البسامي:
ولست أقول إن قصرت فيما ... أؤمله عذرت فذاك كذب(1/642)
فكم من مرّة قد ضاق رزقي ... فأنكبني المنى والربّ ربّ
النّهي عن الاعتذار بالشغل
اعتذر رئيس إلى سائل بقلّة فراغه، فقال: لا بلغني الله يوم فراغك فقضى حاجته في الوقت. قال أبو علي البصير:
لا تصيّر شغلك اليو ... م اعتذارا لمطالك
إنّما يحمد أن تف ... رغ في وقت اشتغالك
لو تفرغت من الشغ ... ل استوينا في المسالك «1»
من سأل وذكر أنّ إعطاءه ومنعه يظهران في الورى
وقال شاعر:
بأي الخصلتين عليك أثني ... فإنّي عند منصرفي سؤول
أبالحسنى وليس لها ضياء ... عليّ، فمن يصدّق ما أقول؟
أم السوأى ولست لها بأهل ... وأنت لكلّ مكرمة فعول «2»
وقال آخر:
ماذا أقول إذا انصرفت وقيل لي ... ماذا أفدت من الجواد المفضل
فاختر لنفسك ما أقول فإنّني ... لا بدّ مخبرهم وإن لم أسأل
الرّاضي بأخذ الطفيف بعد سؤال الكثير
قال أعرابي لمعاوية: استعملني على البصرة، قال: ما أريد بعاملها بدلا، قال:
أقطعني البحرين، قال: مالي إلى ذلك سبيل، قال فمر لي بألف درهم فأمر له، فقيل له:
قد أشططت أولا ثم انحططت آخرا، فقال: لولا طلبي كثيرا ما أعطاني قليلا. وقال خالد بن عبد الله لأعرابي قال فيه:
أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيّهما تأتي وأنت جواد
سل ما بدا لك، فقال: مائة ألف درهم، قال أسرفت، قال: ألف درهم، قال خالد:
ما أدري أمن إسرافك أتعجب أم من حطك، فقال: إني سألتك على قدرك، فلما أبيت سألت على قدري، فقال: إذا والله لا تغلبني على معروفي.(1/643)
ذمّ طالب كثيرا بعد أن حرم صغيرا
سأل رجل معاوية شيئا فمنعه، فسأله ما هو أكبر منه، فقال معاوية: طلب الأبلق العقوق فلما لم ينله أراد بيض الأنوق «1» ، وقال:
شرّ ما رام امرؤ ما لم ينل
ويقاربه:
تسألني برامتين سلجما «2»
الحثّ على أخذ القليل عند تعذّر الكثير
خذ ما طف لك واستطف، خذ ما قطع البطحاء، خذ من جذع ما أعطاك صيدك لا تحرمه الجحش لما بذل الاعيار «3» .
الحثّ على إعطاء القليل
قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
«4» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يمنعكم من معروف صغره. قال ابن عباس: من حقر حرم. قال:
ما استغرب الناس أفضالا ولا شهروا ... من حاتم غير جود بالذي يجد
وقال عبد الله بن جعفر: لا تستح من إعطاء القليل فإن المنع أقل منه. وقال البحتري:
لا تحقرنّ صغير الخير تفعله ... فقد يروي غليل الحائم الثمد «5»
وقيل: زوج من عود خير من قعود.
من خيّر فتلطّف في الاختيار
مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة، فقال له: إن شئت أجزناك وإن شئت مدحناك، فاستحيا مطيع أن يختار الثواب وكره العدول إلى المدح، فقال:
ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب مغنم وأخي ثراء
ولكنّ الزمان أطال دائي ... وما مثل الدراهم من دواء
وقال بعض الخلفاء لعاف: احتكم، فقال: يد أمير المؤمنين أبسط من لساني بالمسألة فأجزل له العطية.
قال المتنبي:
ما لنا في النّدى عليك اختيار ... كلّ ما يمنح الشريف شريف(1/644)
ودخل أشعريّ «1» على الرشيد وسأله، فقال: احتكم، فقال: أشعري يحتكم بعد أبي موسى، فضحك منه وأجازه.
من سأل وذكر أنه أمر بذلك في المنام.
كتب بعضهم إلى أبي سليمان:
رأيت في النوم أنّي مالك فرسا ... ولي وصيف وفي كمّي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة ... خيرا رأيت وللمال التياسير
أقصص منامك في دار الأمير تجد ... تفسير ذلك وللأحلام تفسير
فوقّع أبو سليمان: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. ودخل أعرابي على تمّار بالكوفة. فقال:
رأيتك في النّوم أطعمتني ... قواصر من تمرك البارحه «2»
فقلت لصبياننا ابشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه
قواصر تأتيكم بكرة ... وإلا فتأتيكم رائحه
فقل لي نعم إنها حلوة ... ودع عنك لا إنها مالحه
فأعطاه قوصرة تمر، وقال: أحبّ أن تتركني من هذه الرؤيا، فإن رؤيا يوسف صدقت بعد أربعين سنة.
السّائل حاجة زعمها صغيرة
قال رجل لابن عبّاس رضي الله عنهما: أتيتك في حاجة صغيرة، فقال: هاتها فالحر لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره. وقال رجل لعمارة: أتيتك في حويجة، فقال أطلب: لها رجيلا. وقال آخر مثله، فقال: دعها حتى تكبر.
تأسّف من حرمه رزاق
قال البحتري:
سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم «3»
وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رحلي منه أغبر مظلم
أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذمّ الغيث إلا مذمّم «4»(1/645)
وقال منقذ الهلالي:
علام أرى من ضروب الغيو ... ث حولي وأحرم أمطارها
وقال الحسين الخليع:
أنا في ذمّة السّحاب والظما ... إن هذا لوصمة في السّحاب «1»
وقال آخر:
أيا عجبا لبحر ظلّ يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي «2»
من سأل أن لا يؤذى إن لم يعط
قال العجّاج:
يا ليت حظّي من نداك الصّافي ... والحظّ أن تتركني كفافي
وقال آخر:
فإن زوى عنّي الجمار طلعته ... فلا تصبني بخدّي شوكة السّعف «3»
وقال المتنبيّ:
ليت العهاد الذي عندي صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم «4»
معاتبة من يقول نذرت أو حلفت أن لا أعطي.
قال بعضهم:
فقل لأبي عمرو متى تبلغ العلا ... وفي كلّ معروف عليك يمين
وقال البحتري:
فإن قلت نذر أو يمين تقدمت ... فأيّ جواد حلّ في ماله النذر «5»
تعريض السائل بمن خيّبه
كتب أبو السائب إلى صديق يستميحه، فاعتل بأنه فقير: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت محجوجا فجعلك الله معذورا. وتعرضت امرأة للمنصور في طريق مكة فحرمها، فأنشدت:
إذا لم يكن فيكنّ ظلّ ولا جنى ... فأبعدكنّ الله من سمرات «6»
وسأل أعرابي على باب فقال له صبي من الدار: بورك فيك، فقال له: قبح الله هذا(1/646)
الفم، فقد تعلم الشر صغيرا. ووقف سائل على قوم، فقال أحدهم صناعتنا واحدة، فقال القائل: فأنا قواد فهل أنتم قوادون.
وكان أبو الأسود يأكل على باب داره تمرا، فوقف عليه أعرابي، فقال: شيخ هم غابر ماضين ووافد محتاجين أكله الفقر وتداوله الدهر، فناوله تمرة، فزجّ بها الأعرابي في وجهه، وقال: جعلها الله حظك عنده وألجأك إليّ كما ألجأني إليك، ليبلوك بي كما بلاني بك.
وقف فقير على باب المافروحى بالأهواز فأعطوه لقمة صغيرة، فقال: هذا الدواء كيف يشرب؟ وأعطي سائل مبطنة صغيرة، فقال رحم الله من تممها جبة.
وينشد في من ينسى حاجتك قول الشاعر:
إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسنا ... لإخواننا لم تغن عنها الرتائم «1»
ونحوه:
إذ الموصوفون بنو سهوان
اجتمع يحيى بن زياد وحمّاد عجرد وبشار على طعام، فوقف سائل بالباب، فقال:
يا مسلمين، فقال يحيى: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. فقال: إرحموني، فقال:
حمّاد: قد رحمناك. فقال إسمعوا كلامي، فقال بشّار:
لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
سأل متكفف الأصمعي، فقال: لا أرتضي لك ما يحضرني، فقال: أنا أرتضيه، فقال: هو بورك فيك. قال:
ألم ترني أبغضت ليلى وذكرها ... كما أبغض المسكين بورك فيكا
وقال: سائل لعبادة: إرحمني، فقال: قد رحمتك، فقال: تصدّق عليّ، فقال حاجتين في حاجة لا يكون. سأل رجل متكففا، فقال: الصنعة واحدة، فقال: أنا أقود على بنتي وأحمل الكلاب على أمي، لا شك أن الصنعة واحدة.
حكايات عن متكفّف فصيح
قال المازني: وقف علينا أعرابي، فقال: رحم الله أمرأ يمجّ أذنه كلامي وقدم معذرة لسوء مقامي، فإن الفقر يدعوني إلى إخباركم والحياء يمنعني من سؤالكم، فقلت له: ممن الفتى؟ فقال: إن سؤالا الإكتساب يمنع من الانتساب.
وقف أعرابي على حلقة الحسن البصري، فقال: رحم الله امرأ أعطى من سعة، وواسى من كفاف وآثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك أحدا منكم حتى سأله.
وقال الأصمعي: وقفت علينا أعرابية، فقالت: أتأذنون في الكلام فإنه فرج من وساوس الهموم ودليل على ضمائر القلوب؟ فقال بعضنا: أما بما يحسن به الاستماع في(1/647)
العاجل وتخفّ به المؤنة في الآجل فنعم، فقالت: اللهم غفرا فإن هذه شريطة لا يتعلق بها الوفاء، قال: فناولتها درهما فرفعته إلى السماء بين أنملها، وقالت: اللهمّ إنه قد كان في كيسه متمهدا وفي معاشه متصرفا فأتجر به إليك، اللهمّ فلا تجزه على قدر البضاعة ولكن على قدر الصبر على مكروه السؤال.
وقالت أعرابية تتكفف «1» : يا قوم طرائد زمان وفرائد حدثان ولحمان، وضم بذتنا الرجال وانتشر منّا الحال، فهل من مكتسب للأجر أو راغب في الذخر.
وقالت أعرابية: سنة جردت وحال أجهدت وأيد جمدت فرحم الله من رحم. وكان آخر يقول: من حملني على نعلين فكأنما حملني على ناقة.
(3) وممّا جاء في الوعد والإنجاز والمطل
ما يجد به الوعد والوعيد والإنجاز والخلف
قيل: الوعد قول الرجل أفعل كذا، ويقال في الخير والشر. يقال: وعدته خيرا وشرا وإطلاقه بالخير أولى، والإيعاد في الشرّ لا غير. وقيل: يقال أوعدت فلانا ومتى ذكرت الشر معه قلت وعدته بلا ألف، والإنجاز مطابقة الفعل ما سبق منك من القول، والخلف هو أن تعد بخير ثم لا تفعل.
وقال محمد بن الحسين رضي الله عنه: الخلف أن تعد ومن نيتك أن لا تفعل، فأما إذا وعدت ومن نيتك أن تفعل فليس بخلف.
وقال عمر بن عبد العزيز: أربع إذا قلتها متى وعدت ثم لا تفعل لم تكن مخلفا: إن شاء الله، ولعل وأنظر، وأرجو.
النّهي عن التسرّع إلى الوعد
قال المهلب: يا بني إياك والسرعة عند المسألة بنعم فمدخلها سهل ومخرجها وعر، واعلم أن لا وإن قبحت فربما أروحت، فإذا سئلت ما قدرت عليه فاطمع ولا توجب وإذا علمت معذرة فاعتذر، فالاتيان بالعذر الجميل خير من المطل الطويل. وسأل رجل الفضل بن الربيع، فقال: أكره أن أقول نعم فأكون ضامنا، وأن أقول لا فأكون ميئسا، ولكن ننظر فسيسهل الله تعالى.(1/648)
النّهي عن تكثير الوعد
قيل: من كثر وعده ووعيده اجترأ عليه صديقه وعدوّه. وقيل للمهلّب: بم سدت؟
فقال: بإيثاري فعل ما أحمد بن على بذل الوعد.
الحثّ على الإنجاز أو ترك الوعد
قال المثقّب:
لا تقولنّ إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم
فإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إن الخلف ذم
إن «لا» بعد «نعم» فاحشة ... فبلا فابدأ إذا خفت النّدم
وقال الموسوي:
إيّاك أن تسخو بوعد ... ليس عزمك أن تفي به
عتب من يعد ويمطل
لا خير في وعد مبسوط وإنجاز مربوط، وفي وعد يقظان وإنجاز وسنان «1» . ذكر إعرابي رجلا، فقال: أوله طمع وآخره يأس، وما هو إلا كالسراب يخلف من رجاه ويغم من رآه.
وقال حكيم: مطل السائل أقبح من مطل الغريم، لأن الغريم إنما يسلف بفضل، والكريم لا يسأل إلا من جهد الحر يتقاضى بالوعد نفسه، واللئيم يجتهد أن يطيل حبسه.
قال أبو تمّام:
إني أخاف وأرتجي عقباك أن ... تدّعي بموعدك المطول الملحفا «2»
هبّت رياحك لي جنوبا سهوة ... حتّى إذا أورقت صارت خرفا «3»
ما عذر من كان النوال طبيعة ... في راحتيه أن يجود تكلّفا
وقال أبو مسهر الرملي:
فيّ احتشام وفيك تقصير ... والصبر ما بين ذاك تعذير
تقدّم القول حين تسأل في الحا ... جة والفعل فيه تأخير
وقال العتابي:
لحسن اعتذار المرء أوقى لعرضه ... من الذمّ من توكيد وعد يماطله
ذمّ من يماطل ثم يخلف
كان أعرابي يفتح مواعده بالمطل ثم يختمها بالخلف، وقال أبو تمام:(1/649)
عداة كريعان السراب إذا بدت ... تبشّر عن مين وتطوى على مطل «1»
وقال آخر:
وقد كان منّاني ثلاثة أشهر ... بوعد ووافت بعد ذلك معاذره»
من يحلف على وعده ثم يخلف
قال بعضهم: فلان يحلف على وعده ثم يخلف، ويؤلي «3» لك ثم لا يواليك، أي يحلف لك ثم لا يعطيك.
وقال شاعر:
وليتك لم تحلف لنا حين تخلف
وقال عبد الرحمن بن معاوية:
ألا لا تحلفن لنا يمينا ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا
وقال المتنبي:
وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متهم
مطل يتبعه هبة خسيسة
قال ابن الرومي:
قال ابن الرومي:
فلا يك ما تجديه كالبقل خسة ... وكالنخل تأخيرا فما ذاك بالعدل «4»
وقال آخر:
من الحيف تخفيف النّوال ومطله ... فعجّل خسيسا أو فأجّل موفرا
وكن نخلة تلوي وتسني عطاءها ... وإلا فكن عفصا أقلّ وأيسرا «5»
من لا يتناهى مطله
وعد أبو الصقر أبا العيناء بشيء فتقاضاه فقال: غدا، فقال له: إن الدهر كله غد، فهل عندك وعد يخلو من المعاريض؟ فقال رجل حاضر قد استعمل المعاريض قوم صالحون حدثنا فلان عن فلان، فقال أبو العيناء: من هذا الذي يحدث في حرماننا بالأسانيد؟ قال ابن الرومي:
أرفه ما أرفه في التقاضي ... وليس لديك غير المطل نقد «6»
إذا انجاز وعدك كان وعدا ... فيكفيني من الوعدين وعد(1/650)
وله:
فعلام أمنع واجبا ... وعلام أمطل سرمدا
قال ابن وهب: كان ميعاده الخميس وقد مر خميس لوعده وخميس آخر:
إلى كم تمنّيني بعود وإنّما ... خراب بيوت المملقين بعود
وقال ابن أبي فنن:
يقول لنا في الجمعة السبت موعد ... وهل جمعة إلا ومن بعدها سبت
وقال الخوارزمي:
إذا أضحى فموعده مساء ... وإن أمسى فموعده ضحاء
من خاف أن يموت قبل قضاء حاجته لفرط مطله
قيل لمزبد: إصبر فالفرج قريب، فقال أخاف أن يجيء الفرج فلا يراني. وقال معاوية ابن أبي أيوب:
أعلى الصراط تريد رعية حرمتي ... أم في الحساب تمنّ بالإنعام
وقال ابن الرومي:
طال المطال متى الوفاء فلا خلو ... د فحاجة أو برد يأس ينقع
واعلم بأني لا أسرّ بحاجة ... إلا وفي عمري بها متمتع
وقال آخر:
مواعد منك لا يقضي القضاء لها ... أخاف أن ينقضي من قبلها أجلي
ووعد رجل أبا العيناء دابة فأخّرها، فكتب إليه: إن كانت الدابة التي وعدتني بها دابة الأرض فقد مضى خبرها مع منسأة سليمان، وإن كانت دابة الصفا انتظرنا خبرها مع سابق الحاج، وإن كانت من دواب الدنيا فقد جاز عمر وعدك عمر الدواب، فهيء لي غيرها، وإن كانت دابة تدفعها إليّ في الآخرة فإن الله تعالى يقول: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
«1» .
ذمّ من لا يعد ولا يفي
قيل: من بذل لك حلو مقاله ومر نواله فهو العدو بعينه، أحسن العدّة وأطال المدّة.
وقيل: لسانه عامر بالوعد وكفه غامر عن الرفد، وأنشد:
علام قلت نعم حتّى إذا وجبت ... أتبعت لا بنعم ما هكذا الجود
وقيل لأبي العيناء: كيف تركت فلانا مع قومه؟ قال يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. وقال أعرابي: أما الكلام فما أوسع له فمكم وأما الفعال فرجلي معه في إست أمكم.(1/651)
قال أبو الشمقمق:
الصدق في أفواههم علقم ... والإفك مثل العسل الماذي «1»
وكلّهم في بخله صادق ... وفي النّدى ليس بأستاذ
وقال أعرابي ليزيد بن مزبد:
عداتك ريح يا يزيد بن مزبد ... وأنت على اسم الله فاختة البلد «2»
وقال آخر:
بدل الوعد للإخلاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للع ... ين ويأبى الإثمار كلّ الإباء «3»
وقال آخر:
يا من إذا ما سألناه استهلّ لنا ... وإن سكتنا يخلي علّة الطلب
لولا الثمار التي تزكو منافعها ... ما فضّل النّاس تفّاحا على غرب «4»
وقال آخر:
يعد الوعد ولكن ... دونه لمع السّراب
وقال آخر:
يباري الرّياح بمثل الريا ... ح من كاذبات مواعيده
تقبّل الإنجاز
قال الصاحب: سأنجز الوعد حتى ترى الطلّ وإبلا «5» والهلال بدرا كاملا.
ولو علمت أبناء تغلب ما الذي ... أريد لها ما استعظمت ما أنيلها
الحثّ على إنجاز الوعد السّابق
قال بعضهم: حقيق على من أزهر بقول أن يثمر بفعل. وقف بعضهم على أبي دؤاد، فقال:
حتّى متى أنا موقوف على وجل ... بين السبيلين لا ورد ولا صدر
فقضى حاجته.
قال بعضهم: أورقت نعمك فليثمر كرمك.
ومما فيه جفوة وغلظة ما أنشده الصاحب عن بعض مجان بغداد:(1/652)
أبا أحمد لست بالمنصف ... ومثلك إن قال قولا يفي
فأنجز فديتك ما قد وعدت ... وإلا هجوت وأدخلت في
النعمة الممطولة في حكم الممنوعة
قال الكندي:
كلّ برّ يشوبه كدر المط ... ل حقيق بأن يكون عقوقا «1»
وقال آخر:
لا تقضينّ حاجة أثخنت صاحبها ... بالمطل منك فتضحي غير محمود
وقال آخر:
ليس يستوجب شكرا رجل ... نلت منه الخير من بعد سنه
إستقباح مطل قادر
قال ابن الرومي:
ألا ليت شعري لم مطلت مثوبتي ... ولم تؤت من بخل ولم تؤت من عسر
وقال آخر:
ما أقبح المطل من أخي كرم ... وعيب من قلّ عيبه شنع
وقال جحظة البرمكي:
إذا كانت صلاتكم رقاعا ... تخطط بالأنامل والأكفّ «2»
ولم تكن الرقاع تجرّ نفعا ... فها خطي خذوه بألف ألف «3»
وقال العطوي:
هذي رقاعكم بالرفد وافدة ... وليس فيها بحمد الله توفير
أمضيت عزمك في تضييع حرمتنا ... فليس عندك في التقصير تقصير
الحامد مطل واعده
قال ابن الرومي:
ولم يمطل جواد قطّ إلا ... أتاك جداؤه ضخم السّواد «4»
إذا ما حامل جرت بحمل ... أجلّت شخصه عند الولاد(1/653)
وقال المتنبيّ:
ومن الخير بطء سيبك عنّي ... أسرع السحب في المسير الجهام
وله:
وإن تأخّر عنّي بعض موعده ... فما تؤخّر آمالي ولا تهن
وهو الوفيّ ولكنّي ذكرت له ... مودّة فهو يبلوها ويمتحن «1»
الممدوح بإنجاز الوعد
فلان يعد وعد من يخلف وينجز إنجاز من يحلف.
قال أبو تمّام:
يقول قول الذي ليس الوفاء له ... عزما وينجز إنجاز الذي حلفا
وفي المثل: أنجز حر ما وعد لم يشنه مطل، ورفد لم يشبه منّ، وبرّ لم يمازجه ملق، وودّ لم يخالطه مذق «2» .
أعمار موعده قصار تنقضي ... مثل العطايا في أكفّ عداته
قال بشّار:
كأنّ حقوق النّاس حين ضمنتها ... قذى في حقوق العين منّي أواربه «3»
وقال آخر:
أعمار أعدائهم إذا قصدوا ... أقصر من وعدهم إذا سئلوا
الممدوح بإنجاز الوعد دون الوعيد
قيل: إن وعد وفى، وإن أوعد استثنى. قال شاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقال آخر:
وعيد عقيم ووعد ولود «4»
وقال ابن الرومي:
إن خلف الوعيد ليس بعار ... إنّما العار كلّه خلف وعدك
الممدوح بإنجازهما
قال ابن هرمة:
إذا ما أبى شيئا مضى كالذي أبى ... وما قال إنّي فاعل فهو فاعل(1/654)
وقال أبو تمّام:
قوم إذا وعدوا أو أوعدوا غمروا ... صدقا ذوائب ما قالوا بما فعلوا
وقيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل.
الموفي بوعيده دون وعده
يخلف الوعد ويوفي بالوعيد. قال ابن طباطبا:
وفيّ بما أوعدني ... وما وفى بما وعد
وقال آخر:
لها كلّ يوم موعد غير ناجز ... ووعد إذا ما رأس حول تخرّما
فإن أوعدت شرّا أتى دون وقته ... وإن وعدت خيرا أراث وأعتما «1»
المظهر رضاه بالوعد وإن لم يتبعه إنجاز
قال العبّاس:
وإني ليرضيني الذي غيره الرّضا ... وتقنع نفسي بالمواعيد والمطل
وقال آخر:
هلا تعلّلني بوعد كاذب
وقال كشاجم:
ألا لا أرى شيئا ألذّ من الوعد ... ومن أمل فيه وإن كان لا يجدي
وقال الموسوي:
وما ضرّهم إن لم يجودوا بمقنع ... من النيل لو منّوا قليلا وسوّفوا «2»
وقال النظّام: كنا نلهو بالأماني، ونتمثل في هذا الباب، بقول المتنبيّ:
أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به ... فإنّك ما أحببت فيّ أتاني
وقال بعضهم: كان الناس يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، والآن ليسوا يقولون ولا يفعلون.
عذر من أخلف وعدا
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده، ثم لم ينجزه، فقال: أخلفت. فقال أبو عمرو: فمن أولى بالغم؟ قال الرجل: أنا، فقال: بل أنا لأني وعدتك فأبت بفرح الوعد وأبت بهمّ الإنجاز، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة فلقيتني مدلا ولقيتك محتشما.(1/655)
وقال أحمد بن أبي طاهر:
قد كنت أنجز دهرا ما وعدت إلى ... أن أتلف الدهر ما جمعت من نشب «1»
فإن أكن صرت في وعدي أخا كذب ... فنصرة الصّدق أوفت بي إلى الكذب
الحثّ على المطل
قال أحمد بن علويه:
إذا شئت أن تبلي أمرأ ببليّة ... وتحرمه سيب العطايا السوابغ «2»
فعده وماطله فإنّك بالغ ... به في الأذى والضرّ أقصى المبالغ
وقال سهل بن هارون:
إن الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي
فامنحه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد
حتّى إذا طالت شقاوة جدّه ... بتردّد فاجبهه بالردّ «3»
المتبجّح بالمطل وخلف الوعد
وقال أبو نواس:
وأشمط ولّاج إليّ ورائح ... رجاء نوال لو أعان بجود «4»
وإنّي وإياك القرينان نصطلي ... من المطل نارا غير ذات خمود «5»
فإن كنت لا عن سوء رأيك مقلعا ... فدونك فاستظهر بنعل حديد
فعندي مطل لا يطير غرابه ... عتيد ولا يدعى له بوليد «6»
وقال الصّاحب:
والله ما وافى بحق قاضيا ... بل جاءني لمبرّتي متقاضيا
والمال في يومي تعذّر ورده ... فليحضرني إن أراد القاضيا
كان محمد بن بشير ولي فارس، فأتاه شاعر فمدحه، فقال: أحسنت، وأقبل على كاتبه وقال: أعطه عشرة آلاف درهم، ففرح الشاعر، فقال: أراك قد طار بك الفرح بما أمرت لك يا غلام اجعله عشرين ألفا، فلما خرج، قال الكاتب: جعلت فداك هذا كان يرضيه اليسير فكيف أمرت له بهذا المال، فقال: ويحك وتريد أن تعطيه ذلك. إنما قال لنا(1/656)
كذبا سرّنا وقلنا له كذبا سره، فما معنى بذل المال؟ أما قول بقول فنعم، وأما بذل بقول فمحال.
كثرة مسألة مماطل
قال العبّاس بن الأحنف:
ومتى لا تملّ مطلي فإنّي ... مغرم لا أملّ طول التقاضي
وقال محمد بن بشير:
إصبر لمرّ قضاء الحقّ معترفا ... فقد صبرنا لطول الحقّ مذ حين
وقال آخر:
أناجز لي في ذا العام موعدكم ... أم موعد هو منظور إلى قابل
وقيل: أنفق ما يكون التعب إذا وعد كذّاب حريصا.
إن كان ينفع رقية أو رقعة ... فلسوف أملؤكم رقى ورقاعا
ومن نوادر هذا الفصل، قيل لبعضهم: كيف حالك مع فلان؟ فقال: لا أحصل منه إلا على دقّ الصدر والجبهة، فقيل: كيف؟ قال: إذا سألته دقّ صدره ويقول أفعل، وإذا عاودته وتقاضيته دقّ جبهته، ويقول: لا قوة إلا بالله نسيت.
ويقارب هذا ما حكى عن الفضل عن مرداس أنه قيل له: قد تقطع صدر قميصك وركبته دون الباقي، قال: نعم، إني أقعد بالباب فيمرّ بي المار فيقول: سل السلطان لي كذا وافعل كذا، فأدقّ صدري إيجابا، ويأتي آخر فيقول: مات فلان أو حدث كذا فأدق ركبتي اغتماما.
(4) وممّا جاء في الشفاعات
حثّ ذي الجاه على الشفاعة لذي الحاجة
قال الله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها
«1» وقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن ماله وعمره، فيقول جعلت لك جاها فهل نصرت به مظلوما أو قمعت به ظالما أو أغثت به مكروبا.
وقال صلّى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له. وقال: الشفاعة زكاة ونصرة اللسان فوق نصرة السنان.
وكان زياد يقول لأصحابه: إشفعوا لمن وراءكم فليس كل من أراد السلطان وصل إليه، ولا كل من وصل استطاع أن يكلّمه.(1/657)
قال أبو تمّام:
وإذا امرؤ أسدى إليّ صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله
وقال آخر:
فرضت عليّ زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين فأشفعا
من سأل سأل غيره يشفع له
سأل رجل آخر أن يشفع له فقال: صل جناحي فالشفيع جناح الطالب.
قال ابن الرومي:
ليس من كنت ربحه ببعيد ... من سماء يبلّه ببلال «1»
وكذاك الكريم سآل حاجا ... ت سواه وليس بالتسآل «2»
وقال ابن الحجّاج:
يا سيّدي كم منية نلتها ... منك كما أهوى وأخرى بكا
لولاهما أصبحت مستضعفا ... في قبضة الدّهر ومستهلكا
فامنن بإصلاح اختلالي الذي ... إليك من شدّته المشتكى
وقال أحمد بن المعدل: قلت لبعض أصدقائي كن شفيعي إلى فلان، فقال: أنت لا تحتاج إلى شفيع، معك من الحذاء والسقاء ما تروى بهما الماء وتأكل من لبّ الشجر.
مدح متشفّع معط
مدح أعرابي رجلا، فقال: تهب لي من مالك وتستوهب لي بجاهك، فأنت قليب «3» مرّة ورشاء مرة، ومنه أخذ أبو تمّام، فقال:
ممطولي بالمال والجاه ... لا ألقاك إلا مستوهبا أو وهوبا
فإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا «4»
وقيل لشعبة: أفنيت مالك وأخلقت جاهك في حوائج الناس، فقال أصونهما للتراب، قال الخبزأرزي:
خرق يجود بماله وبجاهه ... والجود كلّ الجود بذل الجاه
شفيع مشفع
قال الخبزأرزي:
شفيعك لو في الروح والمال كلّه ... يشفع لم يكبر له أن يشفعا(1/658)
وقال آخر:
ما تبالي وذا شفيعك لو كن ... ت كعاد في غيّها وثمود
ذاك لو كان في المعاد شفيعا ... رضي الله عن جميع العبيد
مدح شفيع لم يشفع
إذا الشافع استقصى لك الجهد كلّه ... وإن لم ينل نجحا فقد وجب الشكر
نفي العار عمّن يعطي بشفاعة قال ابن الرومي:
لن يعيب السحاب أن تتولّى ... منه أيدي الرّياح حلّ العزالي»
المتشفّع بكرم مسؤوله
قال عبد الله بن جعفر: إن أحقّ من تشفعه من توسل إليك بالأمل. وقال شاعر:
مالي سواك شفيع أستعين به ... إلا رجائي وإفراديك بالأمل
وقال آخر:
ولو أن لي في حاجة ألف شافع ... لما كان فيهم مثل جودك شافع
وقال جحظة:
ومالي حق واجب غير أنّني ... إليكم بكم في حاجتي أتوسّل
وقال أبو سعيد الأصبهاني:
قصدتك عاريا من كلّ منّ ... لكل الخلق في كلّ المعاني
وقال رجل لجعفر بن يحيى: أمت إليك بذمام الأمل وحسن الظنّ وأدل بقرابة العلم، فقال: ما ذكرت موجب حقا وعاقد فرضا ورحم العلم أمسّ قرابة وألطف ظؤرة «2» .
المتشفّع بامرأة
كان لعبد الله بن الزبير حاجة إلى معاوية رضي الله عنهما، فلم يجبه، فاستعان ببعض نسائه فقضى حاجته، فعيّر بذلك. فقال: إذا تعذرت الأمور من أعاليها طلبناها من أسافلها.
وقال البحتري:
إذا ما أعالي الأمر لم تعطك المنى ... فلا بأس باستنجاحها بالأسافل
وقال الهذلي:
إذا جئته في حاجة فارش عرسه ... وأرض ابنه تستغن عن كلّ شافع «3»(1/659)
وقال الفرزدق:
أما البنون فقد ردّت شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن ريّانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
كون المحسن محبّبا إلى المحسن إليه:
قال الفزاري:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
وقال المتنبيّ:
وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كفّ في الورى كفّ منعم «1»
وقال الموصلّي:
أرى النّاس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلا له في العالمين خليل
كون المحسن إليه محبّبا إلى المحسن
قيل لبعضهم: أي الناس أحب إليك؟ قال من أولاني معروفا، قيل: فإن لم يكن؟
قال من أوليته معروفا. وقيل: أكرم الناس من كثرت أياديّ إليه. وقام رجل من مجلس خالد بن عبد الله، فقال خالد: إني لأبغض هذا الرجل وماله إلي ذنب، فقال رجل: أوله خيرا تحببه فأولاه معروفا، فما لبث أن كان من المحظيين عنده. وقال رجل لهشام: إن الله تعالى جعل العطاء محبّة والمنع مبغضة، فأعنّي على حبّك.
وقيل للفرزدق: إنك لتمدح آل المهلب وتحبّهم بعد أن لم تكن على ذلك، فقال:
أما علمت أن إعطاء اللها «2» يفتح اللها ويغرس الهوى.
حثّ من آتاه الله نعمة على حفظها بإسداء الصّنيعة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من اتصلت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن لم يحتمل تلك المؤن عرض لزوال تلك النعم. أخذه الشاعر، فقال:
من لم يواس النّاس من فضله ... عرّض للإدبار إقباله
وقيل: اجعل معروفك حرزا من بداية الغرر وبوادر الغير، وقال خالد بن عبد الله:
حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم فلا تملّوا النعم فتتحول نقما، وأفضل الأموال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا.
قال دعبل:
قال العواذل أودى المال قلت نعم ... ما بين أجر ألقاه ومحمدة «3»(1/660)
أرزاق ربّ لأقوام يقدرها ... من حيث شاء فيجريهن في هبة
صعوبة الجود في النّفوس
قيل لحاتم: كيف تجد الجود في قلبك؟ فقال: إني لأجده كما يجده الناس ولكن أحمل على خطط الكرام. وقال البحتري:
وأشقّ الأفعال أن تهب الأنفس ما ... أغلقت عليه الأكفّ
وقال الجريمي:
ودون النّدى في كلّ قلب ثنيّة ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل «1»
كون السّماحة كالشّجاعة
قيل: من جاد بماله فقد جاد بنفسه وإن لم يجد بها فقد جاد بما لا قوام لها لا به.
ووصف رجل خالد بن عبد الله القسري بالشجاعة، فقال بعض من حضره: إن خالدا لم يلق حربا قط، فقال: الصبر على السخاء أشد من الصبر في الهيجاء. وقال ابن أبي خالد:
لا تعدّن نفسك شجاعا حتى تكون جوادا، فإنك إن لم تقو على أن تقاتل نفسك على البخل لا تقدر على عدوك بالقتل. إن الجواد على بذل الندى البطل. وقيل: السخي شجاع القلب والبخيل شجاع الوجه.
وقال أبو تمّام:
وإذا رأيت أبا يزيد في ندى ... الوغا ووغى ومبدىء غارة ومعيدا
أيقنت أنّ من السماح شجاعة ... تدمي وأنّ من الشجاعة جودا
وقال البديهي:
وإذا اختبرت علمت غير مدافع ... أن السماح سجيّة الأبطال
كون البخل منافيا للخصال المحمودة
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: شرّ ما في الإنسان شح هالع «2» وجبن خالع. وروي عنه صلّى الله عليه وسلم: أي داء أدوى من البخل.
وسمع رجل يقول: الشحيح أغدر من الظالم، فقال: لعن الله الشحيح ولعن الظالم، فإن خصلتين خيرهما الظلم لخصلتا سوء.
وقال كسرى لجلسائه: أي شيء أضرّ فأجمعوا على الفقر، فقال: الشحّ أضر منه لأن الفقر قد ينفرج والشحّ لا يفارق. وقيل: من أيقن بالخلف جاد بالنشب، وذلك من قول النبي صلّى الله عليه وسلم منع الموجود سوء الظن بالمعبود. ومن هذا أخذ الفضل بن سهل فيما حكى عنه أنه قال: رأيت جملة البخل سوء الظن بالله وجملة السخاء حسن الظن بالله.(1/661)
وقال بعضهم:
ذريني فإنّ البخل يا أمّ هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق
حثّ القادر على مبادرة اصطناع المعروف
قال شاعر:
بادر بمعروفك آفاته ... فبنية الدنيا على القلعه «1»
وازرع زروعا ترتضي ريعها ... يوما فكلّ حاصد زرعه
وقال أحمد بن أبي بكر صاحب خراسان:
أحسن فقد أحسن الزمان ... وصحّ منه لك الضمان
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان
وقال محمد بن غالب:
وما اسطعت من بذل أكرومة ... فلا يمنعنّك عنها التّواني
فإنّك في زمن دهره ... كيوم ودولته ساعتان
الحثّ على الإعطاء في العسر واليسر:
قالت امرأة لابنها: إذا رأيت المال مقبلا فانفق فإنه يحتمل، وإذا رأيته مدبرا فانفق فذهابه فيما تريد أجدى من ذهابه في ما لا تريد. قال الشاعر:
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف
فإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف «2»
وقال آخر:
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضرّ مع الإقبال إنفاق
الحثّ على إعطاء فقير يرجى غناه
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد «3»
وقال آخر:
ارفع ضعيفك لا يسؤوك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد غني
وقال وهب بن منبه: اتخذوا عند المساكين يدا فإن لهم دولة يوم القيامة.
الحثّ على سبق الوارث في إعطاء المال وإنفاقه
في الخبر: إن لك في مالك شريكين الحارث والوارث، فلا تكن أعجز الثلاثة.(1/662)
أخذه الشاعر، فقال:
مالك للدهر غير شكّ ... إن لم تبادر به انتكاثه «1»
أو لنسيب قريب رحم ... إن متّ أضحى له وراثه
أنفقه من قبل ذين تغنم ... ولا تكن أعجز الثلاثه
وقال الحسن بن عليّ رضي الله عنهما: يا بني لا تخلف وراءك شيئا فإنما تخلفه لأحد رجلين، رجل عمل فيه بطاعة الله فيسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عونا له. وليس أحد هذين حقيقا على أن تؤثره على نفسك.
قال أبو الشيص:
يقول الفتى ثمّرت مالي وإنّما ... لوارثه ما ثمّر المال كاسبه
يحاسب فيه نفسه في حياته ... ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه
وقال آخر:
إنما مالي ما أنفقته ... والذي أتركه للورثة
وقال آخر:
أبقيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال تسرّهم ... فكيف بعدهم حالت بك الحال «2»
وقال أبو العتاهية:
ومن الحزم أن أكون لنفسي ... قبل موتي فيما ملكت وصيّا
النّهي عن ادّخار المال للإعقاب.
قيل لعمر بن عبد العزيز: أوص بابنك، فقال: أوصيت به إلى من أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. وكان محمد بن كعب أصاب مالا، فقيل له ادخره لولدك من بعدك، فقال: لا والله أدخره لنفسي وأدخر ربي لولدي. أخذه محمود، فقال:
وقالوا ادّخر ما حزته وجمعته ... لعقبك إن الحزم أدنى من الرّشد «3»
فقلت سأمضيه لنفسي ذخيرة ... وأجعل ربّي الذخر للأهل والولد
الحثّ على إنفاق المال وأنه لا يبقى
قال حاتم:
أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأقاويل والذكر(1/663)
وقال ثوبة:
ومن يبق مالا عزة وصيانة ... فلا الشحّ مبقيه ولا الدهر وافره
وقال بشّار:
أخالد إن الجود يبقى لأهله ... جمالا ولا تبقى الكنوز على الكدّ «1»
وقال آخر:
رأى المال لا يبقى فأبقى به حمدا
قلّة الاعتداد بموت من لا ينتفع به
قيل: من لا يعتد بحياته لم يتوجع لمماته. قال ابن مقبل:
وأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحيّ من لا يبلغ الحيّ نائله
طيب عيش من عاش غيره فنائه
قيل للمغيرة بن شعبة من أحسن الناس عيشا، فقال: من عاش غيره في خير عيشه.
وقال آخر: أفضل الناس عيشا من عاشت الرجال في فضله.
المال لا ينفع من خلّفه
قال أبو كدوا:
ليست بباكية إبلي إذا فقدت ... صوتي ولا وارثي في الحيّ يبكيني
قال ضمرة:
هل تخمشنّ إبلي على وجوهها ... أم تعصبنّ رؤوسها بسلاب «2»
وقال حاتم:
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت نفس وضاق بها الصّدر «3»
المال لا يقي من الموت
قال حاتم:
أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لؤمها
وقال سوادة:
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله
وقال المخبّل:
إني وجدّك ما تخلدني ... مائة يطير عفاؤها أدم «4»(1/664)
قلّة نفع المال ما لم ينفق
قال هبيرة السلوليّ:
وما الفرق بين المال لولا امتهانه ... وبين الحصى المجموع أو كثب الرمل
المتبجّح بإنفاق ماله لتصوّر مماته
وقال بعضهم:
ولقد علمت لتأتينّ عشيّة ... لا بعدها خوف عليّ ولا عدم
وأزور بيت الحقّ زورة ماكث ... فعلام أحفل ما تقوض وانهدم
فلأتركنّ الساملين حياضهم ... ولأحبسنّ على مكارمي النعم «1»
وكتب روح إلى خالد بن عبد الله القسري يحثه على الإمساك، فأجابه وقال:
خوفتني مما يجوز كونه والسلامة منه ونهيتني عن فعل ما أوجب الحق، وما أنا ممن يترك ما أوجبه الحق لما خوف منه ظن.
من لا يكفّه قول العذّال عن إنفاق المال
قال أبو أسد:
أرادت لتثني الفيض عن عادة النّدى ... ومن ذا الذي يثني السّحاب عن القطر «2»
وقال المتنبيّ:
وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل «3»
وقال آخر:
فنفسك ولّي اللوم عاذل وانطحي برأسك إن كان الصّفا وذريني «4»
من عادته البذل
يقال إنه لما مات حاتم تشبه به أخوه، فقالت له أمه: لاتتعبن فيما لا تناله، فقال وما يمنعني وقد كان شقيقي وأخي من أمي وأبي، فقالت: إني لما ولدته كنت كلما أرضعته أبي أن يرضع حتى آتيه بمن يشاركه فيرضع الثدي الآخرة وكنت إذا أرضعتك ودخل صبي بكيت حتى يخرج، قال شاعر:
يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يملك البحر أن لا يفيضا(1/665)
وقال آخر:
باتت تلوم وتلحاني على خلق ... عوّدته عادة والخير تعويد
وقال آخر:
وإني امرؤ عوّدت نفسي عادة ... وكلّ امرىء جار على ما تعوّدا
وقال الموسوي:
دعي عذلي فليس العذل يجنى ... به ما أثمرت شيمي وعادي
وقال آخر:
إذا كنت شمسا نورها من طباعها ... فكيف بأن نلقاك غير منير
من لا يترك عادته في الجود وإن دفع إلى ضيق
كانت أخت حاتم سخية لا تبقي شيئا، فحظّر عليها إخوتها وحبسوها حتى ذاقت طعم الجوع والفقر، فظنّوا أنها قد وجدت ألم الضيق والفقر، فأطلقوها ودفعوا إليها صرمة فأتتها سائلة، فقالت: دونك الصرمة، لقد غضّني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلا أبدا، ثم أنشأت:
لعمري لقدما عضّني الدهر عضّة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا
وقال آخر:
وإن مسّه الإقواء والجهد زاده ... سماحا وإتلافا لما كان في اليد «1»
ولما أسنّ ابن جذعان أخذ بنو تميم على يده، فكان إذا أتاه سائل يقول: أدن مني فيلطمه، ويقول: أطلب من قومي قصاص لطمتي، ولا ترض بدون كذا، فيفعل فترضيه بنو تميم.
قال سلم:
وكلّ فخر إذا فاخرت مطّرح ... وكلّ جود إذا ما جدت مغمور
وقيل:
يغمر ضحضاحه غمرات الأجواد وتستر نفحاته بحور الامجاد «2» وقال المتنبيّ:
وهب الملوك وسدتهم بمواهب ... درّ الملوك لدرّها أغبار
وله:
وإن جاد قبلك قوم مضوا ... فإنّك في الكرم الأوّل(1/666)
من فضل في الجود على الورى
قال الشاعر:
لو أدرك العصر من كعب ومن هرم ... وحاتم جود كفّيه لما ذكروا
وقال الغساني:
لو أنّ عين زهير أبصرت حسنا ... وكيف يصنع في أمواله الكرم
إذا لقال زهير حين يبصره ... هذا الجواد على العلّات لا هرم
وقال الفرزدق:
لو أن كعبا أو حاتما نشرا ... كانا جميعا في بعض ما يهب
من لو قسّط جوده على الورى لجادوا
قال منصور بن الفقيه:
لو أنّ ما فيه من جود يوزعه ... على الخلائق عادوا كلّهم سمحا
قال ابن الرومي:
خلائق لو فضّت على النّاس كلّهم ... محاسنها لم يبق في الأرض مشتم
من يحاكي بعطائه القطر والبحر
كأنّ فيض يديه قبل مسألة ... باب السماء إذا ما بالحياء انفتحا
وقال ابن الرومي:
وأنت كالبحر لا كفاء له ... في بعد غور وقرب مغترف
وقال آخر:
وما الغيث إلا مثل كفّك في المحل
وقال آخر:
أغنيت ما أغنى المطر
وقال الغسّاني:
مطرت أنامل راحتيه فوائدا ... هانت علينا بعدها الأمطار
وقال بشّار:
إذا القطر لم يغزر علينا سماؤه ... بأرض وثقنا من سمائك بالغزر
من سماؤه تقطر المال
قال أبو نواس:
كلّ يوم له عليّ سماء ... ثرّة تستهلّ بالعقيان «1»(1/667)
وقال سلم الخاسر:
وفي يديه سماء غير مقلعة ... بالجود صوب عزاليها الدنانير «1»
من فضّل على البحار والسّحاب
قال الغسّاني:
قوم إذا مطرت سماء نوالهم ... ذمّ الأنام سحائب الأمطار
وقال آخر:
البحر يغرق في بحور سخائه
وقال علي بن الجهم:
ولو قرنت بالبحر سبعة أبحر ... لما بلغت جدوى أنامله العشر «2»
وقال المتنبيّ:
ولما تلقّاك السحاب بصوبه ... تلقّاه أعلى منه كعبا وأكرم «3»
من يستحي منه السّحاب ويحسده
قال الأمويّ:
يجود فتستحيي السحاب إذا رأت ... نداه وتخطّيه الغيوث المواطر
وقال التنوخي:
إذا انبسطت بالمكرمات أكفّهم ... رأيت الحيا من سيبهنّ قد استحيا «4»
وقال آخر:
ويحسد كفّيه ثقال الغمائم
المهين لماله
وقال ابن هرمة:
يداه يمينان لم تجمدا ... ولم تأخذا عادة الأشمل
وقال آخر:
أنا الرجل الذي كلتا يديه ... يمين في صروف النّائبات «5»
الباذل بكلتا يديه
قال ابن الرومي:
ولم أر مالا جاره مثل عزّهم ... يروح ويغدو وهو نهب مقسّم(1/668)
وقال آخر:
وليس لمالي دون حقّ كريمة ... يعزّ وما فيه عليّ كريم
وقال المتنبيّ:
ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب ... يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا
وقال بكر بن النطاح:
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب «1»
من لا يرى الإعطاء حتما
وقال بشّار:
كأنّ لهم دينا عليه وما لهم ... سوى جود كفّيه عليه حقوق
وقال أبو تمّام:
ترى ماله نصب المعالي فأوجبت ... عليه زكاة الجود ما ليس واجبا
من يبسط الآمال
قال أبو تمّام:
ألبستني حلل الغنى فلبستها ... وجعلت آمالي لهنّ ذيولا
وله:
ويحكّم الآمال في الأموال
وقال البحتري:
ثنى أملي فاختاره عن معاشر ... يبيتون والآمال فيهم مطامع
المتلقّي سؤاله بطلاقة وجهه
قيل: بسط الوجه يقوم مقام البذل، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق.
وفي كتب الفرس: لأن تلقي الأحرار بالبشاشة ويحرموا، أحسن من أن يلقوا بالفظاظة ويعطوا، فانظر إلى خلّة أفسدت مثل الجود فاجتنبها وإلى خلّة عفت عن مثل البخل فالزمها.
قال أحمد بن أبي فنن:
بسطت له وجها طليقا إلى النّدى ... وشرّ الوجوه ما يعبسه البخل
وقال كاتب: لما سألته تهلّل واهتز هزّ المهند وابتسم إبتسام الروض عن زهره.(1/669)
وقال بشّار:
وتأخذه عند المكارم هزّة ... كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب «1»
وقال آخر:
وليس بسعّال إذا سيل حاجة ... ولا بمكبّ في ثرى الأرض ينكت»
وقال أعرابي: سألت فلانا فما عبس ولا خنس «3» ولا حبس. وقيل لآخر: أحسن من أريحية الباذل.
من آثار آلائه ظاهرة
قال سلم الخاسر:
لنعمان آثار علينا مبينة ... كما بيّنت آثار غيب مسائله
وقال أبو تمّام:
وصنيعة لك قد كتمت جزيلها ... فأبى تضوّعها الذي لا يكتم «4»
ومثله لأبي نواس:
نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريح فيفوح
من أخذ مواهبه بزين
قال بعضهم:
إذا أعطى القليل فتى شريف ... فإنّ قليل ما يعطيه زين
وإن تكن العطيّة من دنيء ... فإنّ كثيرها عار وشين «5»
وقال أحمد بن ثور:
فضع الزيارة حيث لا يزري بها ... كرم المزور ولا يخيب الزّور «6»
من هو هشّ العود
وريق عودهم أبدا رطيب ... إذا ما اغبرّ عيدان اللئام
وقال آخر:
ألم يك رطبا يعصر القوم ماءه ... وما عوده للكاسرين بيابس(1/670)
الخصيب الفناء
قال بعضهم لعاف: نزلت بواد ممطور وفناء معمور، فحطّ رحلك فقد صادفت أهلك. قال الحطيئة:
إذا نزلوا بمحلّ روّضوه ... بآثار كآثار الغيوم «1»
وقال ابن الرومي:
أنخت بحيث تبيضّ الأيادي «2» ... وتسودّ المطابخ والبرام «3»
من علّم الناس الجود وأعداهم حسن صنيعه
قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا، فأغنانا عن آخرنا، فقلت له: كيف؟ فقال: علمنا مكارم الأخلاق فعاد أغنياؤنا على فقرائنا فصرنا كلنا أجوادا.
وكان عبد الله بن العباس يسمّى معلم الجود لسخائه وحثّه على ذلك قولا وفعلا.
قال شاعر متمثلا معاتبا لصاحبه:
فلو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البحتري
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر
وقال ابن الرومي:
حبّبت كفّه النوال إلى النا ... س جميعا وكان غير حبيب
وقصد أبو العريان بعض الأكابر فكساه وأولاه مالا، فخرج ووزع على أصحابه، وقال:
لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفّه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأفسد ما عندي
من الجود عبده ورقيقه
قصد أعرابي خالد بن يزيد، فقال إني امتدحتك ببيتين فهل تسمعهما، فقال: إن أحسنت فنعم ولك ثواب، فأنشد:
سألت النّدى والجود حرّان أنتما ... فقالا جميعا إننا لعبيد
فقلت ومن مولاكما فتطاولا ... جميعا وقالا خالد ويزيد
فاهتزّ طربا لهما، وأمر له بصلة سنيّة.
قال دعبل:
الجود يعلم أنّي منذ عاهدني ... ما خنته وقت ميسوري ومعسوري(1/671)
من سكن الجود كفّيه
وصف رجل آخر، فقال: الجود معتكف عليه والفضل مقترن بكفّيه.
وقال آخر:
كفّه بالجود سائلة وبالمعروف شائلة «1»
وقال مسلم:
هانت الدّنيا عليه ... فهي نهبى في يديه «2»
يصبح الجود ويمسي ... عاكفا في راحتيه «3»
من حلّ بحلوله الجود
قال أبو نواس:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير
وقال نصيب:
وإنّ خليليك السماحة والنّدى ... مقيمان بالمعروف ما كنت توجد
وقال أشجع:
وإنّ وجود الجود في كلّ بلدة ... إذا لم يكن يحيى بها لغريب
المعطي قبل أن يسأل
قيل: أكرم الناس معطي من لا يرجوه ولا يعفوه، وقيل: فلان دواء الفقر، إن سئل أعطى وإن لم يسأل ابتدأ.
وقال خالد بن يزيد لابنه: السخاء أن تعطي كل من سأل، فقال: يا أبت هذا هو الكدّ، السخاء أن تعطي قبل أن تسأل. وقال مسلم بن قتيبة: إني لأعجز عن مكافأة من رآني لحاجته أهلا، فقال أبو عطاء: أيها الأمير فاجعل فضلك ابتداء حتى ترفع عن نفسك ثقل المكافأة.
قال مسلم:
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال
وقال أبو علي البصير:
كفاني ولم أستكفه متبرّعا ... فتى غير ممنون العطاء ولا نزر
وقال البلاذري:
نالني معروفه مبتدئا ... وكفاني جوده أن أسأله(1/672)
وقال البحتري:
مواهب ما تجشّمنا السؤال لها ... إنّ الغمام قليب ليس يحتفر
وقال أبو تمّام:
أعطي ونطفة وجهي في قرارتها ... تصونها الوجنات الغضّة القشب
لن يكرم الظّفر المعطى وإن أخذت ... به الرغائب حتّى يكرم الطّلب
من يكتفي في سؤاله بالتّعريض
قال ابن الرومي:
يا من إذا التعريض صافح سمعه ... أغنى العفاة به عن التّصريح
وقال المتنبيّ:
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عنّي ولم أتكلّم
المغني سائله عن سؤال غيره
سئل بعض الأدباء عن جعفر بن يحيى بعد ما قتل، فقال: تركني مقطوع الآمال زاهدا بعده في طلب الأموال. قال ابن الرومي في معناه:
سألتك إغنائي عن النّاس كلّهم ... فأغنيتني عنهم وعنك جميعا
وقال أبو تمّام:
لم يدعني وفي يميني فضل ... لندى غيره ولا في شمالي
وقال ابن نباتة:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل
ولعابدة المهلبيّة:
بحمدك لا بحمد النّاس أضحى ... وكيلي ليس يقنعه وكيل
وكانوا كلّما كالوا وزنّا ... فصاروا كلّما وزنوا نكيل
وكنت وناقص وزني فأضحى ... مفاعيلن مفاعيلن فعول
من يصير سائله مسؤولا بما يعطيه
مدح أعرابي رجلا، فقال: يعود عليه المجتدي مجديا ومستعطي رفده معطيا والمنتجع منه منتجعا. قال أبو تمّام:
وكم لحظة أهديتها لابن نكبة ... فأصبح منها ذا عفاة ونائل «1»(1/673)
وله:
وما يلحظ العافي جداك مؤمّلا ... سوى لحظة حتّى يؤوب مؤمّلا
من لا يردّ سائله
قال أعرابي في مدح رجل: لم ينظر قط إلى محروم. قال ابن خارجة: لا أرد سائلا فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أشتري عرضي منه.
وقال أبو علي البصير:
فتى لا يفيد المال إلا لبذله ... ولا يتلقّى صفحة الحقّ بالعذر
وقال حاتم:
أماوي أني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوما حلّ في مالنا نذر «1»
وقال النّمر بن تولب:
ولا رحلي بمخزون عليه ... إذا جاري استعار، ولا ردائي
المحقق رجاء آمليه
قضى رجل حاجة أعرابي، فقال: وضعتني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك.
قال أبو تمّام:
رجعت المنى خضراء تثني غصونها ... علينا وأطلقت الرجاء مكبلا
وله:
همّ سرى ثم أضحى همّه أمما ... راحت رجاء وباتت وهي في نشب «2»
وقال الخوارزمي:
كنّا وردنا وكلّنا أمل ... ثمّ صدرنا وكلّنا نعم «3»
وقال البحتري:
ولئن كفيت مهمها ... فلمثلها أعددت مثلك «4»
من لا يقطع نواله عمّن غضب عليه
كان العبّاس بن محمد يجري على رجل شيئا فغضب عليه، وكان ابنه كتب إطلاقات رفعت إليه، فترك اسم المغضوب عليه، فقال: فأين ذكر رزق فلان؟ فقال: إنك قد كنت غضبت عليه، فقال: يا بني غضبي لا يسقط هبتي، إن أباك لا يغضب في النوال.(1/674)
وسئل بعض الصوفيين: لم وصف الله تعالى بخير الرازقين، فقال: لأنه إذا كفر أحدهم لا يقطع رزقه.
وكان محمد بن سليمان يجري على رجل شيئا، فغضب عليه فقطعه، ثم رضي عنه فردّه، فأبى الرجل أن يقبله، وقال: إني كنت أظن أن إعطاءه مكرمة، فأما وقد صار غضبه يقطعه فلا حاجة لي فيه.
من عطاؤه لا ينقطع
قال الأعشى:
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
وقال ابن الرومي:
نوالك كالسيل المسهل بعضه ... لبعض طريق الجري في السّهل والوعر
وقال آخر:
كلّما عدنا لنائله ... افتررنا جوده جذعا «1»
وقال آخر:
وما كان نفعك لي مرّة ... ولا مرتين ولكن مرارا
وقال الحطيئة:
وما أجم المعروف من طول كره ... وأمرى بأفعال الندى وافتعالها «2»
المتجنّب لفظ المنع
قال بعضهم: فلان خلقت نعم للسانه قبل أن خلق لسانه، فاجتنب «لا» ولزم «نعم» .
وقال لبيد:
وبنو الديّان أعداء للا ... وعلى ألسنهم ذلّت نعم
وأنشد عبد الرحمن الكندي:
لو قيل للعبّاس يا ابن محمّد ... قل لا، وأنت مخلّد ما قالها
فقال: ليس يجب أن يقول الإنسان في كل شيء نعم، وكان الوجه أن يستثني. ثم قال:
هجرت في القول لا إلا لنائبة ... تكون أولى بلا في اللفظ لا بنعم
ويستحسن قول الآخر:
لا فرق في ناطق بالشرك عندهم ... وناطق في جواب السائلين بلا(1/675)
وقال العتبي:
ما قال لا إلّا لعذّاله ... وهو بها عن سائل أعجم «1»
من هو مقصد العفاة
قيل: أطيب الناس عيشا من كثرت عفاته «2» وعاش الناس في كنفه، وقيل: فلان داره مجمع عفاته ومربع عطياته. قال أبو نواس:
ترى النّاس أفواجا على باب داره ... كأنّها رجلا دبى وجراد «3»
وقال وهب الهمداني:
فتى داره معمورة بعفاته ... ومجلسه بالمكرمات منجد
وقال أشجع:
على باب ابن منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل
وقال بشار:
يطوف العفاة بأبوابه ... كطوف الحجيج ببيت الحرم
وقال البديهي:
وللجود حسن أيّ وقت بذلته ... وأحسنه ما كان في زمن المحل
باعث رفده إلى تارك قصده
قال الحجّاج يوما: قلّ عفاتنا، فقال رجل: أصلح الله الأمير إنك أكثرت خير البيوت فاستغنى الناس بما يصل إليهم عن الترحال، فسرّ الحجاج، وقال: بارك الله فيك وأحسن إليه.
أنشد مروان بن أبي حفصة قول الشاعر:
إذا جئت أعطاني وإن أنا لم أجىء ... أتاني من جدواه ما كنت أرتجي
فقال مروان قد قلت أحسن من هذا، بعث إليّ عبد الله بن طاهر عشرين ألفا فقلت فيه:
لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله «4»
ونعم الفتى، والبيد بيني وبينه ... بعشرين ألفا صبّحتنا رسائله(1/676)
وقال ابن الرومي:
ويشرك أدنى الأرض في صوبه القصوي «1» وقال آخر:
لا أشتكي البدر على بعده ... لقد أضاءت لي آفاقه
وقال عمارة:
لعمرك ما النائي البعيد بنازح ... إذا قربت ألطافه ونوائله «2»
وما ضرّنا أن السماك محلّق ... بعيد، إذا جادت علينا هو اطله «3»
من أعطى الغنيّ والفقير
روي في الخبر: أعطوا السائل ولو جاء على فرس، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل معروف صدق لغني أو فقير. وقيل لبعضهم: ما الجود؟ فقال: أن تعطي الغني والفقير ولا تخص ولأحمد بن أبي طاهر:
ونداه مثل الغيث جاد لمجدب ... وعر، وحلّ على المحلّ الممرع «4»
وقال المتنبيّ:
ويد لها كرم الغمام لأنّه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا «5»
المستشهد على فرط جوده بعفاته وزمانه
قال الخطيم:
وإن تلق ندماني تخبرك أنّني ... وكاء لكيس لم أعد منه بالفقر «6»
وقال ديك الجن:
سلا هل كمجدي أو كفخري لفاخر ... وعندكما من قبل إن تسألا خبر
وقال المتوكل الليثي:
فإن يسأل الله الشهود شهادة ... تنبىء جمادى عنكم والمحرّم «7»
بأنكما خير الحجاز وأهله ... إذا جعل المعطي يملّ ويسأم
من يباري الرياح
قال عبد الله بن أبي السمط:
أعطى أبو دلف والريح عاصفة ... حتّى إذا وقفت أعطى ولم يقف(1/677)
وقال آخر:
يكلون الرياح إذا تبارت ... ويمتثلون أفعال السّحاب «1»
المعطي بلا شفاعة
قال ابن الرومي:
النائل المعطي بغير وسيلة ... كالماء مغترفا بغير رشاء «2»
وقال آخر:
أفردته برجائي أن يشاركني ... فيه الوسائل أو ألقاه بالكتب
من شارك في ماله عفاته
قال ابن الرومي:
وامدح فتى حظّه منّ ومأثرة ... كحظّ ناظرنا من وجهه الحسن
وقال أبو تمّام:
لو كنت شاهد بذله لشهدت لي ... بوراثة أو شركة في ماله
من لا يبقي مالا.
كأنّ عليه أن يفرّق ماله ... ألية مبرور الألية محترز «3»
وقال المتنبيّ:
عجبا له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها»
وله:
لو كان ضوء الشموس في يده ... أضاعه جوده وأفناه «5»
وقال آخر:
يقول أناس لو جمعت دراهما ... وكيف ولم أخلق لجمع الدّراهم
أبى الله إلا أن تكون دراهمي ... مدى الدّهر نهبى بين عاف وغانم «6»
وقال أعرابي: حسن الحديث ضعيف خيط الدرهم.(1/678)
من لا تجب عليه زكاة لإنفاقه ماله
قال بكر بن النطاح:
وما وجبت عليّ زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على الفقير
وقال رجل من بني عذرة:
والله ما بلغت للجود ماشيتي ... حدّ الزكاة ولا إبلي ولا مالي
من ماله ماله معدّ للبذل
قال البحتري:
فتى لا يريد الوفر إلا ذخيرة ... لمأثرة تزداد أو مغرم يعرو «1»
وقال عليّ بن الجهم:
ولا يجمع الأموال إلا لبذلها ... كما لا يساق الهدي إلا إلى النّحر «2»
من لا يبخل بروحه ولا ماله لو سئل
مدح رجل آخر، فقال: كيسه محلول وماله مبذول، يطعمك نفسه إن أوكلتها ويسقيك روحه إن شربتها، ومنه أخذ بعض بني غطفان:
ولو لم أجد لنزيلي قرى ... قطعت له بعض أطرافيه
وقال بكر بن النطاح:
ولو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وقال الكميت:
وتبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقّا عليه ابتذالها
وقال أبو هفّان في معناه، وإن كان في وصف الضيافة:
ولو نزل الأضياف ليلة لا قرى ... لأطعمتهم لحمي وأسقيتهم دمي
وقال ابن نباتة:
وحكّمني حتّى لو أنّي سألته ... شبابي وقد ولّى به الشّيب ردّه
المنخدع المتباله في ابتذال ماله
قيل: الكريم هو المنخدع عن ماله حتى يحكم فيه الطمع ويستعمل في ماله الخدع.
وقيل لبعضهم: ما الشرف؟ فقال: الإنخداع عن المال. ولا تجد أحدا يتغافل عن ماله إلا وجدت له في قلبه فضيلة لا تقدر على دفعها، وقد أدّبنا نبيّنا صلّى الله عليه وسلم بقوله: رحم الله سهل البيع سهل الشراء وهذا خلاف قول الناس: المغبون غير محمود ولا مأجور.(1/679)
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: ألا أدلّكم على شيء يحبّه الله ورسوله، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: التغابن للضعيف.
قال شاعر:
ممّن يغرّ على الثّناء فيمدح
وقال البحتري:
وإذا خادعته عن ماله ... عرف المسلك فيه فانخدع
وله:
وقد يتغابى المرء في عظم ماله ... ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو «1»
وله:
إذا معشر صانوا السماح تعسّفت ... به همّة مجنونة في ابتذاله
وتخطّى أبو تمّام ذلك حتى استقبح قوله، فقال:
ما زال يهذي بالمكارم والعلى ... حتى ظننّا أنه محموم
والهذيان والحمى مستقبح ذكرهما في المدح، قال المنذر الغساني يوصي ابنه: آمرك بالذل في نفسك والإنخداع في مالك.
من عيبه إفراطه في الجود
فتى كملت أخلاقه غير أنّه ... جواد فلا يبقي من المال باقيا
وقال كشاجم:
ما فيهم عيب سوى الإ ... فراط في الجود فقط
وقال أبو هفان:
عيب بني مخلد سماحتهم ... وأنّهم يتلفون ما ملكوا
وقيل للحسن بن سهل، وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله: ليس في السرف خير، فقال: ليس في الخير سرف.
وقال المأمون لمحمد بن عباد: إنك متلاف، فقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود.
وفي الزهد أخبار من ذلك.
الساتر عطيّته
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ملك أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية، فنزل فيه قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً
«2» الآية.(1/680)
وقال المتنبيّ:
ستروا النّدى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفى الرباب الهاطل «1» ؟
ووصف أعرابي رجلا، فقال إذ أعطى شكر وإذا أعطى ستر.
المسرور بما يعطيه
لمّا دخل الفضل بن يحيى الرقّة، قال لو كلائه: أحصوا منزل من يغنيه ألف درهم فاحصوا ثلاثمائة منزل فوجه إليهم ثلاثمائة ألف درهم، ثم وضع له الطعام، فقال: ما أكلت طعاما أهنأ منه اليوم، وقد علمت أني أغنيت ثلاثمائة بيت.
قال أبو تمّام:
لو يعلم العافون كم لك في النّدى ... من لذّة وقريحة لم تحمد «2»
وقال زهير:
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
وقال الأعشى:
يرى البخل مرّا والعطاء كأنّما ... يلذّ به عذبا من الماء باردا
وقال أبو تمّام:
ونغمة معتف يرجوه أحلى ... على أذنيه من نغم السّماع
وقال معاوية يوما لجلسائه: ما بقي من لذاتكم؟ فقالوا: ضروب من القول، فقال ذلك لوردان مولى عمر، فقال: النظر في وجه كريم أصابته من دهره جائحة فاصطنعت إليه، فقال معاوية: أنا أحق بهذه منك، فقال: أحق بها من سبق إليها وأنت أقدر عليها فافعل.
ودخل هشام بن عروة على المنصور، فشكا إليه دينا، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال من أعطى عطية وهو طيب النفس بورك للمعطي والمعطى منها، أفنفسك طيبة بها، قال: نعم.
من اشتغاله بالعطاء
قال بعضهم:
فتى لا تراه الدهر إلا ونفسه ... تجود بخير أو تهمّ بخير
وقال آخر:
لا يعدّ المال إلا وهبا(1/681)
وقال دعبل:
يعدّ ما أنفق من ماله ... غنما وما وفّره غرما
وله:
فتى لا يرى المال إلا العطاء ... ولا الكنز إلا اعتقال المنن
من لا يعدّ ماله إلّا ما وهبه
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة جهد من مقل. وقال بعض الصوفية: ليس السخاء أن تعطي الواجد العادم إنما السخاء أن تعطي العادم الواجد قال شاعر:
إذا تكرّمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
بثّ النوال ولا يمنعك قلّته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
وقال آخر:
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتّى تجود وما لديك قليل
وقيل: لم يحرم من قصد له.
من يكثر العطاء وإن قلّ ماله
قال ابن هرمة:
وينال بالمال القليل تبرّعي ... فما يضيق بها ذراع المكثر
وقال العرندس:
ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
وقال آخر:
ما كان عارا إذا ضيف تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقلّ إذا أعطاك نائله ... ومكثر من غنى سيّان في الجود
وقال معن بن زائدة: طلبني المنصور فهربت منه متنكرا، فلقيني أسود فتعلق بي وقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت: إتق الله فإني غريب، فقال: دعني من هذا، فقلت: إنك إن أتيته بي لا تنتفع منه بكثير نفع، فدونك هذه الجواهر فقيمتها ألوف دنانير، فقال: دعني من ذا أنت موصوف بالجود، هل أعطيت مالك كلّه أو نصفه أو ثلثه، فقلت:
لا، فقال: أنا مشاهرتي كل شهر عشرون درهما ومالي على ظهر الأرض ما قيمته مائة درهم، وها أنا قد وهبت لك هذه الجواهر ووهبتك لنفسك لتعلم أن لله عبادا أسخى منك، ففارقته وأنا بعد في طلبه.
من أعطى الكثير لمن يرضيه القليل
سوّى حجّام شارب الحسن فأعطاه درهمين، فقيل: إنه كان يكتفي بدانق، فقال: لا تدنقوا يدنق عليكم.(1/682)
ومرّ يزيد بن المهلّب بأعرابي في خروجه من السجن، فسأله شيئا، فقال لغلامه: ما معك؟ قال: مائة دينار، فقال: أعطه، فقال الغلام: هذا يرضيه اليسير، فقال: أنا لا يرضيني إلا الكثير. قال: إنه لا يعرفك، قال: أنا أعرف نفسي. وأثنى أعرابي على رجل فقال: ما زال يعطيني حتى ظننت أنه يودعني وما ضاع مال أورث حمدا.
المحكّم سائله في ماله
قال التنوخي:
إن جاءهم سائل يبغي نوالهم ... أعطوه من مالهم ما شاء واقترحا
وقال ابن نباتة:
وحكّمني حتّى لو أني سألته ... شبابي وقد ولّى به الشّيب ردّه
ودخل الغافري على الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، فقال: إني عصيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: بئس ما صنعت، كيف؟ قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يفلح قوم ملكت أمرهم امرأة وقد ملكت عليّ امرأتي، أمرتني أن أشتري عبدا فاشتريته فأبق منّي، فقال:
اختر إحدى ثلاث إن شئت فثمن عبد، فقال: قف ههنا ولا تتجاوزه، فقد اخترته فأعطاه ذلك.
من جاد بالعرض دون العرض
قال أبو شراعة:
عرض مصون وتراث منتهب
وقال ابن الرومي:
قريب النوال بعيد المنال ... ومسكنه شرف ممتنع «1»
كمثل السحاب نأى شخصه ... ولم ينأ منه صيّب همع «2»
وقال يعقوب التمّار:
حمى أعراضه ضنّا وشحّا ... وصيّر ماله نهبا مباحا
الصّائن عرضه بماله
قيل: فلان منع الناس من عرضه، بما نشر عليهم من فضله.
وقال آخر:
خير العروض وقاية الأعراض
وقال آخر:
وما أنال المال صان الجاها(1/683)
وقال أحمد بن أبي طاهر:
العرض ليس يصونه مال إذا ... ما المال عند حقوقه لم يبذل
وقال آخر:
لا يقي بالإحسان مالا ولكن ... يجعل المال جنّة الإحسان «1»
المبتاع الحمد بالمال
ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب
وقال مجنون:
وما اشتريت بمال قطّ مكرمة ... إلا تيقنت أنّي غير مغبون
وفرّق علي بن موسى الرضى ماله بخراسان كلّه في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: ما هذا المغرم؟ فقال: بل هو المغنم لا تعدن مغرما ما ابتعت به أجرا وكرما.
من يعطي طوعا ويتأبّى خسفا
خبر الدهقان الذي طالبه بالمال قد تقدم في خبر السلاطين. وقيل: فلان لا يسمح بالغلب ولا يدرّ على الغضب. وقال معن بن أوس:
ونأبى فلا نعطي على الخسف درّة ... ميسا ولكن بالتودّد نختل «2»
وقال البحتري:
حرون إذا عازرته في ملمّة ... فإن جئته من جانب الذلّ أصحبا «3»
وقال المتنبي:
وأنتم فئة تسخو نفوسكم ... بما يهون ولا تسخون بالسلب «4»
إعطاء المستحقّ وغيره والشاكر والكافر
قيل: لأن أخطىء باذلا أحب إليّ من أن أصيب مانعا. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم يصطنع إليه.
قال بعضهم:
يد المعروف غنم حيث كانت ... تضمّنها كفور أو شكور(1/684)
فعند الشاكرين له جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور
وقال محمود:
سأمنح مالي كلّ من جاء عافيا ... واجعله فرضا على الفرض والفرض
فإما كريم صنت بالجود عرضه ... وأما لئيم صنت عن لؤمه عرضي
وقال آخر:
لا يذهب العرف بين الله والنّاس
الحثّ على منع اللّئام ومن يستضرّ بإعطائه
قيل في التوراة: مكتوب من صنع معروفا إلى غير أهله كتب له خطيئة. وقال بزرجمهر: المصطنع إلى اللئيم كمن طوق الخنزير تبرا وقرّط الكلب درا وألبس الحمار وشيئا وألقم الحية شهدا.
وقيل: من أشبع لئيما فقد ضرى عدوا عاتيا وسبعا عاديا. وقيل: اللئيم يزداد بالعرف خبالا كما يزداد المريض من كثرة الطعام وبالا.
قال أبو بجيلة:
متى تسد معروفا إلى غير أهله ... رزئت ولم تظفر بحمد ولا أجر
وقال آخر:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أمّ عامر
وقال آخر:
هم سمّنوا كلبا فأتلف بعضهم ... ولو أخذوا بالحزم ما سمّنوا كلبا
وقال آخر:
ليس في منع غير ذي الحقّ بخل
من لا يبخل في حقّ يلزمه ولا يسرف فيما يخوّله
قيل للمنبوذ: إنك بخيل، فقال: ما أحمد في حق ولا أذوب في باطل. وقيل لفيلسوف: متى يكون قليل النوال موفيا على الكثير؟ فقال: إذا كان قليله في الحقوق وكثيره في الإسراف.
وقيل لمعاوية: ما الجود؟ فقال: إصابة موضع البذل والمنع. وقيل: السخاء أن تأخذ الشيء من حل وتضعه في حق.
قال الراعي:
فلست إن نابني حقّ بمنتكر ... فيه ولا برم تعيى به السّبل(1/685)
الممدوح بمنع العطاء غير مستحقّه.
قيل:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو خليل تخالقه «1»
منعت وبعض المنع عزم وقوّة ... ولم يبتذلك المال إلا حقائقه
المشارك ذويه في ما يملكه ويحويه
صادف رجل موسرا يصحبه معسر، فسأل الموسر عن صاحبه، فقال: هو أخي، فقال له: ولم أنت غني وهو فقير؟ أما سمعت قول عبد الله بن معاوية:
وإذا أصبت من القوافل رغبة ... فامنح عشيرتك الأدنى فضلها «2»
وأحسن بقول الآخر:
بدا حين أثرى بإخوانه ... فقلّل منهم شياة العدم «3»
وعرفه الحزم صرف الدهور ... فبادر بالعرف قبل النّدم «4»
وقال عمرو بن الأطنابة:
كريم رأى الإقلال عارا فلم يزل ... أخا طلب للمال حتّى تموّلا
فلمّا أفاد المال عاد بفضله ... على كلّ من يرجو جداه مؤمّلا «5»
وقال أبو عمر القاضي:
وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تحوز يدي ظلم لهم وعقوق
وقيل: لا تعدنّ غنيا من لم يكن غناه مشتركا.
الإعطاء في حال السّكر والصّحو
لما كان السكر قد يذر البخيل كريما، كرهوا مدح المرء بأنه يسخو في حال السكر، فغضوا من قول عمرو:
إذا ما الماء خالطها سخينا
واستجادوا قول امرىء القيس:
ينال جودك في صحو وفي سكر «6»(1/686)
وقد استجيد قول زهير:
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنّه قد يهلك المال نائله
أي ليس ممن يعطى لسكره ولكن يعطي لسخائه. وقيل: ليس ينفق ماله في شرب الخمر ولكنه في البذل. قال البحتري:
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما استطعن أن يحدثن فيك تكرّما
وقال المتنبيّ:
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلّة تلافاها «1»
عذر سخيّ بخل في بعض الأحوال
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لرجل سأله شيئا، فلم يمكنه: لو أمكنني لكان الحظ فيه لنا دونك، فإن حرمنا شكرك فلا تحرمنا سعة عذرك. قصد رجل الحسن بن سهل في حالة عسره فاستماحه، فلم ينل منه مطلبه فعاتبه، فقال الحسن:
الجود طبعي ولكن ليس لي مال ... وكيف يسمح من بالدين يحتال
وشيمتي في العطايا لا تزايلني ... وليس ما أشتهي يأتي به المال
واستبطأ دعبل أبا دلف، فبعث إليه دنانير، وكتب معها:
أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلا ولو أمهلتنا لم تقلل
فخذ القليل وكن كأنّك لم تسل ... ونكون نحن كأنّنا لم نسئل
ومدح البحتري طاهر بن محمد، فبعث إليه دنانير، وكتب معها بأبيات منها:
والشريف الظريف يسمح بالعذ ... ر إذا قصّر الصديق المقلّ
فكتب إليه البحتري:
وإذا ما جزيت شعرا بشعر ... يبلغ الحقّ فالدنانير فضل
دخل بعض الطالبيين على إسحاق الموصلي فأطال الجلوس، فلما خف الناس كلّمه في حاجة، فقال: ما إلى ذلك سبيل. فسكت قليلا ثم عاوده، فقال له كذلك، فقال:
لا ييئسنّك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم «2»
فإذا أبى فاستبقه وتأنّه ... حتى يفيء به الطباع الأكرم
فاهتز لكلامه، وقال: قد عاد الطباع الأكرم وخوّله.
وفي المثل: بيتي يبخل لا أنا. وقال وال لرجل كان يكثر سؤاله: دع الضرع يدرّ لغيرك كما درّ لك.(1/687)
ووقّع عبد الحميد في رقعة مستميح كان قد برّه مرارا: قد نفد ما عندنا لمثلك فارغب إلى من لا ينفد ما عنده.
عذر من أعطى قليلا
أتى رجل زياد بن أبي سفيان سائلا، فأعطاه درهما، فقال: صاحب العراقين يعطيني درهما، فقال: إنّ من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخص عبيده التمرة واللقمة وما يكثر عندي أن أصل رجلا بمائة ألف درهم ولا يصغر أن أعطي سائلا رغيفا، إذا كان رب العالمين يفعل ذلك.
ورفع حشم جعفر بن يحيى إليه قصة يستزيدونه أرزاقهم، فقال لعمرو بن مسعدة، فكتب إليه: قليل دائم خير من كثير منقطع، فقال جعفر: أي وزير بين جنبيه.
عذر من أفقره الجود
قصد جماعة ابن هرمة فخرجت بنية له فاعتذرت، فقالوا: أليس أبوك الذي يقول:
لا أمنع العود بالفصال ولا ... ابتاع إلا قريبة الأجل
فقالت: نعم. هذه العادة منه تركتكم بلا قرى.
قال جحظة:
جاء الشتاء وما عندي له ورق ... فيما عددت ولا عندي له خلع
كانت فبدّدها جود ولعت به ... وللمساكين أيضا بالنّدى ولع
وقال أبو الشمقمق:
الجود أفلسهم وغيّر حالهم ... واليوم إن سئلوا النوال تمحّلوا «1»
وسأل رجل آخر شيئا فاعتذر إليه فقال السائل: العذر الصادق مع النية الجميلة يقومان مقام النجح.
أنواع مختلفة من باب الجود
قال ابن الرومي:
يعطي وينمي الله أمواله ... والبحر لا ينضبه النزح «2»
ومما روي في الخبر: أن لله ملائكة تنادي كل صباح ومساء اللهمّ اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا.
وقال البحتري فيمن سامحه بخراجه:
وكنت إذا ما رمت عندك حاجة ... على كند الأيام هان علاجها «3»(1/688)
فلم لا أغالي بالضّياع وقد دنا ... عليّ مداها واستقام اعوجاجها
إذا كان لي تربيعها واغتلالها ... وكان عليه عشرها وخراجها «1»
وقال شرحبيل للرشيد: أعطني عطية تشبهك أو تشبهني، فقال: فوقك ودوني فأولاه مالا، والعطايا تختلف أسماؤها فالحذياء للمبشر والحذية للعدل والبسلة للراقي، والحلوان للكاهن، والنشوع للساحر، والزبد للدلال، والشبر للنكاح والعزير ثمن المرعى، والجعل للشرط.
(5) وممّا جاء في البخل بالأموال
حقيقة البخل
سئل الحسن رضي الله عنه عن البخل، فقال: هو أن يرى الرجل ما أنفقه سرفا وما أمسكه شرفا. وقال آخر: البخل جلباب المسكنة. وقيل للأحنف: ما اللؤم؟ فقال:
الاستفضال على الملهوف، فقيل: وما الجود؟ فقال: الاحتيال للمعروف.
ذمّ البخل وتعظيمه على كلّ الذّنوب
قيل لإبليس: من أحب الناس إليك؟ فقال: عابد بخيل. قيل: فمن أبغض الناس إليك، قال فاسق سخيّ فينجيه سخاؤه.
وقيل: من بخل بمال في واجب ذهب ضعفه في باطل. وقيل: السخي حرّ لأنه يملك بماله والبخيل لا يستحق اسم الحرية، لأنه يملكه ماله.
وقال بشر بن مروان: لو أن أهل البخل لم ينلهم من بخلهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عجيبا. وقيل: أعجب ما في البخيل أنه يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء. قال شاعر:
إن البخيل فقير غير مأجور
وقال الديسق اليربوعي:
إذا ذو المال ضنّ بما لديه ... وأشفق فهو محتاج فقير
كثرة البخل وقلّة الجود في الناس
لما قال أبو العتاهية:
إطرح بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا(1/689)
قيل له: بخّلت الناس كلهم، فقال: كذّبوني بواحد.
قال كشاجم:
إجتنب النّاس طريق النّدى ... كأنّما قد أنبت العوسجا «1»
وهذا مأخوذ من قول بعضهم، وقد سمع رجلا يقول: تجنّب الناس طريق الندى، فقال: ذاك طريق نبت فيه العوسج:
أكلّ وميض بارقة كذوب ... أما في الدّهر شيء لا يريب
وشاع البخل في الأشياء حتّى ... يكاد يشحّ بالريح الهبوب
فكيف أخصّ باسم العيب شيئا ... وأكثر ما أشاهده معيب
وقال ابن نباتة:
كيف السبيل إلى الغنى ... والبخل عند النّاس فطنه؟
معاتبة من يرجو لئيما
قيل: من أمل فاجرا فأدنى عقوبته أن يحرمه. وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه: نزلت بواد غير ممطور ورجل غير مسرور، فارتحل بندم أو أقم بعدم. ذم العبّاس بن الحسين بعض الوزراء، فقال: الذليل من اعتزى إليك والفقير من أملك. وقيل:
كدمت غير مكدم «2» ، نفخت لو تنفخ في فحم، هيهات تضرب في حديد بارد.
وقال رجل: إني أقصد فلانا راجيا نداه، فقال له صاحبه:
ترجو النّدى من إناء قلّما ارتشحا ... كالمستذيب لشحم الكلب من ذنبه «3»
وقال أبو العتاهية:
وإنّ من يرتجي نداك كمن ... يحلب تيسا من شهوة اللبن
وقال بعضهم:
أمن دار الكلاب تروم عظما ... لقد حدّثت نفسك بالمحال
وقال إسماعيل القراطيسي:
لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
وقال أبو تمّام:
ومالي من ذنب إلى الرزق خلته ... سوى أملي إيّاكم للعظائم
ونحوه:
سجدنا للقرود رجاء دنيا ... حوتها دوننا أيدي القرود(1/690)
فما بلّت أناملنا بشيء ... علمناه سوى ذلّ السّجود
وقال المتنبيّ:
تظنّ ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلّا ضاحك من رجائيا «1»
من لا ينال خيره ولا يرجى فضله
قال الصاحب بن زرارة في أخيه صاعد: هو والله ليس برطب فيعصر ولا بيابس فيكسر، ما عنده خلّ ولا خمر، سواء هو والعدم.
وكان عبد الملك يقال له رشح الحجر لبخله.
وشاتم أعرابي رجلا فقال: إنكم لتقصرون العطاء وتعيرون النساء وتبيعون الماء، ما عنده فائدة ولا عائدة، ولا رأي جميل ولا إكرام دخيل. وقالت امرأة لزوجها: والله ما يقيم الفأر في دارك إلا حبّ الوطن. وقيل في رجل: بئس منتجع المجدب. قال شاعر:
وبحر السراب يفوت الطّلاب ... فقل في طلابك جئنا به
وقال المتنبيّ:
ولا يدرّ على مرعاكم اللبن «2»
وقال أبو هفّان:
سواء إذا ما زرتهم في ملمّة ... أزرتهم أم زرت من في المقابر
وقيل لأبي العيناء: كيف وجدت فلانا لما قصدته؟ قال: وجدته لا يعود إليه حرّ.
وقصد رجل سلطانا فلما رجع، قيل له: ما ولّاك؟ فقال: ولّاني قفاه وأولاني منعه وحماني نفعه.
من تأبى نفسه السّماحة
قال شاعر:
يعالج نفسا بين جنبيه كزّة ... إذا همّ بالمعروف قالت له: مهلا «3»
وقال آخر:
كأنّما يعطيك من بصره
وقال سعيد بن عبد الرحمن:
أبي لك فعل الخير رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها(1/691)
المتلقّي سائله بلفظ المنع
قيل: فلان مشجب، من أي النواحي أتيته وجدت لا. وقال عمرو بن عبيد لرجل قد أكثر من لا: أيها الرجل أقلّ من لا فليس في الجنة لا. قال أعرابي: وجدت فلانا أخرس بنعم فصيحا بلا.
بخيل متكبّر
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: خصلتان لا يجتمعان في مؤمن، البخل وسوء الخلق.
قال خلف الأحمر:
أناس تائهون لهم رواء ... تغيم سماؤهم من غير وبل «1»
وقيل: ربّ صلف تحت راعدة.
وقال أحدهم:
أتجمع بخلا فاحشا وتكبّرا ... وما جرّ ذما كالتكبّر والبخل
فلو كان عفى البخل منك تواضع ... أو الكبر جود كنت من ذاك في وعل «2»
وقد تقدّم بعض ذلك في الكبر.
من عادته البخل
قيل لثمامة: أي الناس أبخل؟ فقال: لم أر الديكة في بلد إلا وتأخذ بمناقيرها ما تلتقطه فتلقيه قدّام الدجاج إلا ديكة مرو، فإنها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبوب، فعلمت أن البخل في طباعهم.
وقال بعضهم: من لم يأت الخير صغيرا لم يأته كبيرا، أما سمعت قول الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد
وقال ابن العميد:
البخل مستحسن في شيمة الخوز «3»
ذمّ من لا يعطي إلّا على الخسف
قال أبو نعامة: جلّ الناس لا ترشح أناملهم إلا بعسف وعنف. هذا محمد بن علي بن عصمة صرت إليه أطوارا أقتضيه، فكان يعد ويماطل، فأتيته يوما فقلت: أتسمع بيتا حضر، قال: هات، فقلت:
محمد بن علي بن عصمة بن عاصم(1/692)
فقال: هذه نسبتنا، فقلت:
جليل فضل كريم ... من أهل بيت كرام
فقال أحسنت، فقلت: أتسمع بيتا أم تنجز الوعد؟ فقال: غدا، فقلت: فاسمع.
لكنّه مستهام بأخذ أير الغلام
فقال: آه آه ويلك يا غلام أعطه وأرحنا منه. قال بعضهم:
العبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا
وقال آخر:
رأيتك مثل الجوز يمنع خيره ... صحيحا ويعطي نفعه حين يكسر
وقال شاعر:
صاحب لي ليس فيه ... خصلة أشكرها له
سمجا شخصا ومخبو ... را وتفصيلا وجمله
ومريدا من جفاه ... ومهينا من أدلّه
فهو كالدينا ... ر لا يكرم إلّا من أذلّه
بخيل أعطى عطيّة لطمع
قيل لأعرابي: أعطاك فلان، فقال: نعم أعطاني طلب الثواب وصانع المعروف لعاجل الجزاء، كملقي الحب للطير ليصيده به لا لينفعه. ومن هنا أخذ المتنبي تعريضا بكافور.
ومن قد ظنّ نثر الحبّ جودا ... وينصب تحت ما نثر الشّباكا
المصطنع إلى الأراذل دون الأفاضل
قال ابن الرومي:
تنبّه للأنذال يرفع أمرهم ... وأصبح عن أهل المروءة ساهيا
وقال آخر:
صنائعه لدى الأنذا ... ل تنبي أنّه سفله
وقال آخر:
وابن اللئيمة للئام وهوب
بخيل متشبّه بالأسخياء
كان لبعض الموسرين أخ لا يواسيه، فقيل له: لو واسيت أخاك كان أشبه بك من هذا البخل الذي استشعرته، فقال: والله ما أنا ببخيل. لو ملكت ألف ألف لوهبت له الساعة خمسمائة درهم، ثم التفت إلى القوم، فقال: يا قوم رجل يهب لأخيه في مجلس واحد(1/693)
خمسمائة درهم يقال له بخيل. قالوا: والله أنت أجود من يمشي على قدم. قال جحظة:
وممخرق يصف السما ... ح ونفسه نفس بخيله «1»
وقيل للماجشون كيف رأيت أهل العراق؟ فقال:
ما شئت من رجل بخيل ... يأوي إلى عرض دخيل
يأتي الجميل بقوله ... وفعاله غير الجميل
المتعجّب من بخيل سمح وقتا بطفيف
تعجّبت لما ابتدا بالجميل ... وما كان يعرف فعل الجميل
فأطلع لي كوكبا كالسّهى ... قليل الضياء سريع الأفول
وما كان إعطاؤه سوددا ... ولكنّها غلطة من بخيل
قال الخليل بن أحمد في سليمان، وقد ذكر له إنسان أنه جاءه فأعطاه شيئا:
وخصلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا
لا تعجبنّ لخير جاء من يده ... فكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا «2»
وقال أبو تمّام:
ربّما أمكنت جناها السحوق «3»
وقال الموسوي:
ومبخل أعطى القليل وربّما ... سمحت حروف التاء للتمتام
من أعطى للتهوّر
قال شاعر:
لا تمدحنّ حسنا في الجود إن مطرت ... كفّاه يوما ولا تذممه إن رزما «4»
فليس يبخل إبقاء على نشب ... ولن يجود بفضل المال معتزما
لكنّها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
ردّ عطيّة خسيسة
قصد أعرابي أبا الغمر، فسأله فأعطاه درهمين، فردهما إليه، ثم قال:
رددت لبحر درهميه ولم يكن ... ليدفع عن فاقتي درهما عمرو
فقلت لبحر خذهما واصطرفهما ... وأنفقهما في غير حمد ولا أجر(1/694)
أتمنع سؤال العشيرة بعد ما ... تسمّيت بحرا واكتنيت أبا الغمر؟
وكان ربيعة مدح العباس بن محمد بقوله:
لو قيل للعبّاس يا ابن محمّد ... قل لا وأنت مخلّد ما قالها
فأعطاه بعد مطل كثير دينارين فوهب ربيعة ذلك لصاحب دواته، وقال: خذ هذه الرقعة وأوصلها، وكتب فيها:
مدحتك مدحة السيف المحلّى ... لتجري في الكلام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت
وصف غني لا يعطي ولا ينفق
قيل: فلان سمين المال مهزول النوال. وقيل: بطر الدعة بخيل السعة. وقيل لجعفر بن محمد إن منصورا لا يلبس منذ صارت الخلافة إليه إلا الخشن ولا يأكل إلا الخشن، فقال: ويحه مع ما يكون له من السلطان وجبي له من الأموال، قالوا: إنما يفعل ذلك بخلا، فرفع يده إلى السماء، فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما ترك من أجله دينه. وقيل: إنه كان أعد اثني عشر ألف عدل من الثياب، فأخرج يوما ثوب خز، وقال: يا ربيع إقطع منه جبة لي وقلنسوة، وبخل أن يأتي بثوب آخر، فلما أفضت الخلافة إلى المهدي أنهبها الغلمان.
قال البسامي:
لقد أوتيت من ملك عظيم ... فما آتيت إنسانا فقيرا
وقال آخر:
ولو يكون على الخزّان يملكه ... لم يسق ذا غلّة من مائه الجاري
وقال آخر:
ألا ليت شعري آل خاقان هل لكم ... إذا ما سلبتم نعمة الله ذاكر
فأما وأنتم لابسون ثيابها ... فما لكم والحمد لله شاكر
المزداد بالثّراء بخلا
أحسن ابن الرومي في قوله:
إذا غمر الماء البخيل وجدته ... يزيد به يبسا وإن ظنّ يرطب
وليس عجيبا ذاك منه فإنه ... إذا غمر الماء الحجارة تصلب
وكان ذلك ممّا روي في الخبر: أن الله إذا سأله عبد شيئا يقول خذه وضعفيه حرصا.
قال ابن الحجّاج:
أناس كلّما ازدادوا علاء ... تناهوا في نفوسهم استفالا(1/695)
من لا يفرج عمّا يقع في أنامله
فلان لا تندى أنامله ولا ترجى فواضله، ألين من كفيه الحجر، هو نزر العرف جامد الكف:
كأنّما خلقت كفّاه من حجر ... فليس بين يديه والنّدى عمل
وقال آخر:
وهل للصّفا العادي ماء إذا عصر «1»
هو نكد الحظيرة أي مانع لما في يديه. قال شاعر:
لو عبر البحر بأمواجه ... في ليلة مظلمة بارده
وكفّه مملوءة خردلا ... ما سقطت من كفّه واحده
وقال البحتري:
جدّة يذود البخل عن أطرافها ... كالبحر يدفع ملحه عن مائه «2»
وقال الفرزدق:
فتى ماله كالبحر يمنع صاديا ... من الريّ منه وكدره أجاجه «3»
وقال الزبرقان:
طوى كلّ معروف وأحضر دونه ... عقارب أخشى لسعها وأفاعيا
الرّاجع في هبته والقاطع لصلته
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الراجع في هبته كالعائد في قيئه، وهذا مما يستدل به على تحريم الرجوع في الهبة بأنه حرام. كما أن أكل المتقيء حرام.
قال ابن الرومي:
لا تكن كالدّهر في أفعاله ... كلّما أعطى عطاياه رجع
وقال البحتري:
أعطى القليل وذاك مبلغ قدره ... ثم استردّ وذاك مبلغ رأيه
وأجرى بعض الكبار على أعرابي شيئا قطعه عنه، فقال فيه:
إن الذي شقّ فمي ضامن ... لي الرزق حتّى يتوفّاني
حرمتني نفعا قليلا فما ... زادك في نفعك حرماني
وقال ابن هرمة:
كممكنة من درّها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلب(1/696)
السّالب مستعطيه
قيل في المثل: طلب القرن فجدعت أنفه، وقال بشّار:
فصرت كالهبتي غدا يبتغي ... قرنا فلم يرجع بأذنين «1»
وقيل:
سقط العشاء به على سرحان «2»
وقال آخر:
كمبتغي الصّيد في عريسة الأسد «3»
الصّائن ماله بعرضه والممنوع من سؤاله.
قيل: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه. من صان نفسه أهان فلسه.
وقيل: كان جحا إذا جلس كشف إسته ورفع عنه ثوبه، فقيل له في ذلك، فقال:
جلدة الإست أبقى من الثوب. وهذا نحو المثل: إبق نعليك وابذل قدميك.
قال أبو تمّام:
أضحوا بمستن سبل الذمّ فارتفعت ... أموالهم في هضاب المطل والعلل «4»
وقال ابن الرومي:
لا تطالبه بالثّواب فما رز ... ء ثواب من مثله بحلال
المقتّر على نفسه والتارك لشهوته
قال شاعر:
ولو يسطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد
وقال آخر:
يحبّ المديح أبو خالد ... ويفزع من صلة المادح
كبكر تودّ لذيذ النّكاح ... وتخشع من صولة النّاكح
الضّنين بمال غيره والسّمح به
قيل فلان يمنع درّه ودرّ غيره. الحرّ يعطي والنذل يألم قلبه. وقيل البخيل يمنع ماله ويغضب على الجواد إذا رأى ابتذاله. قال أبو تمّام:
وإن امرأ ضنّت يداه على امرىء ... بنيل يد من غيره، لبخيل
وقال آخر:
سبط البنان بما في رحل صاحبه ... جعد البنان بما في رجله قطط(1/697)
الموصوف بالسّكوت عند السّؤال
قال بعضهم: فلان مرتز نكدكز «1» . وقال بعضهم:
كأنّهم عند السؤال جلامد «2»
وقال آخر:
إن اللئيم إذا سألت بهرته ... عند السّؤال وقلّ منه المنطق
وأتى بعض الشعراء رجلا فسأله فما زاده على التنحنح والتحوقل، فقال:
فلا حول إلا بالإله وقوّة ... إذا قلتها دلّت على طرق البخل
وإنّي لأرجو ان أفوز بأجرها ... كما قلتها بعد التنحنح من أجلي
الحزين الهارب مخافة أن يسأل
قال بعضهم:
مخافة أن يرجى نداه حزين
وقال جحظة:
إذا ذكر النّاس التطول أرعدت ... فرائصه خوفا لذكر التطوّل «3»
وقال بشّار:
إذا سلّم المسكين طار فؤاده ... مخافة سؤال واعتراه جنون
وقيل: فلان يبغض نعمة الله عليه مخافة أن يستماح.
المتلقّي عافية بقطوب وجهه
ذم أعرابي رجلا، فقال: رآني فخالني في نداه راغبا ولجدواه طالبا، فقرب من حاجب حاجبا.
كأنّما وجهه بالخلّ منضوح
وقيل لامرأة: كيف وجدت فلانا لما اعتفيته، فقالت:
تلقّاني بوجه مكفهرّ ... كأنما عليه أرزاق العباد
وقال آخر:
وعنون لي إطراقه عن قطوبه «4»
وقال آخر:
طعم النّدى عندهم حامض
وقال شاعر:
كالح الوجه كان مصّ حماضا ... وسما تعبيسه ذوق حماض(1/698)
وأصل ذلك من قول الأعشى:
يزيد يغضّ الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم «1»
المتلقي عافيه ببشاشة من غير جدوى:
قيل لرجل: ما رأيت من فلان، فقال: برقا بلا مطر وورقا بلا ثمر. وجه كريم وفعل لئيم.
وقال أبو العيناء لعبيد الله بن سليمان: أيّد الله الوزير لي منك قرب الولي وحرمان العدو.
وقال ابن الرومي في معاتبة بعض الرؤساء:
لولا الثمار التي ترجى منافعها ... ما فضّل الناس تفّاحا على غرب «2»
ولجحظة:
وبأحسنت لا يباع الدقيق
وقال أبو العتاهية:
إن السلام وإن الردّ من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
المعتذر إلى سائله ببشاشة من غير جدوى
سأل أبو العيناء رجلا شيئا فاعتذر إليه وحلف أنه صادق في اعتذاره، فقال: من كان الصدق حرمان صديقه ماذا يكون كذبه؟
وسأل رجل آخر فاعتذر بأحسن اعتذار، فقال: يعبر عن اللئيم لسانه وعن الكريم فعاله. واعتذر آخر، فقال السائل: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت معتذرا فجعلك الله معذورا. وهذا مأخوذ من قول الآخر: لا جعل الله حظ السائل منك عذرة صادقة. قال الجريمي:
لا ينهضون إلى مجد ولا كرم ... ولا يجودون إلا بالمعاذير
المحلف إذا سأل الحارم إذا سئل
قال أعرابي: فلان إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، وإذا حدث حلف، وإذا وعد أخلف، ينظر نظر الحقود ويعتذر اعتذار الحسود. وقيل: إذا سئل أقنط وإذا سأل أفرط.
وقال آخر: لم أر أحصر يدا منه بالنوال ولا أطول لسانا منه بالسؤال «3» ، إن سئل فجحد وإن سأل فحرب. إن سئل أرز «4» وإن سأل انتهز. هو بالإنجاح إذا سأل واثق، وبالرد إذا سئل حاذق.(1/699)
وقال شاعر:
وأخ إن جاءني في حاجة ... كان بالإنجاح منّي واثقا
وإذا ما جئته في مثله ... كان بالردّ بصيرا حاذقا
يعمل الفكرة في ردّي بها ... قبل أن أفرغ منها ناطقا
وممّن تلطّف لردّ سائل
. كان لسعيد بن خالد قصر بإزاء قصر عبد الملك، فقال له عبد الملك: إن لي إليك حاجة فقال مقضية، قال: إجعل لي قصرك. قال: هو لك، فقال عبد الملك: فلك خمس حاجات مقضية، فقال سعيد: أولها أن ترد عليّ قصري، قال: فعلت فما بعد ذلك، قال:
أنت في حل من الأربع.
وقال رجل لآخر: إن لي إليك حاجة، قال: بشرط، أن تقضي قبلها لي حاجة، فقال لك ذلك، قال: حاجتي أن لا تسألني حاجة، قال: قد فعلت.
من ردّ سائله بشتم أو سفاهة
سأل أعرابي شيخا من بني أمية وحوله مشايخ، فقال: أصابتنا سنة ولي بضعة عشر بنتا، فقال الشيخ: وددت أن الله ضرب بينكم وبين السماء صفائح حديد، فلا تقطر عليك قطرة، واضعف بناتك أضعافا وجعلك بينهن مقطوع اليد والرجل، ما لهن كاسب سواك، ثم صفر بكلب له فشدّ عليه وقطع ثيابه، فقال السائل: ما أدري ما أقول لك إنك لقبيح المنظر سخيف المخبر فأعضك الله ببظور أمهات من حولك.
ودخل رجل إلى محمد بن عبد الملك، فقال: لي بك سببان، الجوار وسوء الحال، وذلك داع إلى الرحمة، فقال: أما الجوار فبين الحيطان والرحمة من أخلاق الصبيان، اخرج عني. فما مضى عليه أسبوع حتى نكب.
ذمّ من ينسب بخل نفسه إلى القدر
خطب معاوية ذات يوم فقال: إن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ
«1» فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف، فقال: إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله تعالى، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه، فسكت معاوية.
وقال بعض الشعراء:
إذا أعطاك قصّر حين يعطي ... وإن لم يعط قال أبى القضاء
يبخل ربّه سفها وجهلا ... ويعذر نفسه فيما يشاء(1/700)
المحسن للبخل المحتجّ له
قيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق ومالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش أبدا؟ قال: لا، ولا أخاف أن أموت في أوله.
قال الجاحظ: قلت لبعض الأغنياء البخلاء أرضيت أن يقال لك إنك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم، لأنه لا يقال بخيل إلا لذي مال، أعطني المال وادعني بما شئت من الأسماء.
من وهب ماله في عمله فهو أحمق ومن وهبه في عزله فهو مجنون. وقيل لأبي الأسود: أنت ظرف علم ووعاء حلم غير أنك بخيل، فقال: وما خير ظرف لا يمسك ما فيه. وقيل: من لم يمنع لم يكن له ما يعطي. قال: وللبخل خير من سؤال بخيل.
وقيل: الشحيح أعذر من الظالم. وقال المنصور: الناس يزعمون أني بخيل وما أنا ببخيل، ولكني رأيت الناس عبيد المال فحظرت ذلك عليهم ليكونوا عبيدي.
وعمل سهل بن هارون كتابا في مدح البخل وأهداه إلى الحسن بن سهل، وطلب منه ثوابا، فوقع على ظهره: قد جعلنا ثوابك ما حسنته وأمرت به.
قال الموسوي في عذر فاضل بخيل:
لا غرو إن كنت حرا لا تفيض ندى ... فالبحر غمر ولكن ليس بالجاري
ذمّ ممتنّ بالإعطاء
قيل: المنّة تهدم الصنيعة. وقيل لأعرابي: فلان يزعم أنه كساك، فقال: المعروف إذا منّ به كدر، ومن ضاق قلبه اتسع لسانه. وقيل لآخر في المعروف إذا أحصى، قال:
إنّ الذين يسوغ في أعناقهم ... طعم يمن عليهم للئام
وقال آخر:
أفسدت بالمنّ ما قدّمت من حسن ... ليس الجواد إذا أسدى بمنّان
وقيل لرجل: هل لك في ندى فلان؟ فقال: لا خير في ثمرة مقترنة بزنبور.
ومن ذا الذي يلتذّ شهدا بعلقم ... أبت لهواتي ذاك والشفّتان «1»
وقيل: شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد، وقول الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ
«2» ، قال فتقديره يقولون إنما نطعمكم، قال مجاهد لم يكن ذلك منهم مقالا وإنما أخبر عما كان لهم اعتقادا.(1/701)
دعا المنصور طبيبا للخيزران، وكانت قد اشتكت عينها، فقال: إن هذه في عينها شوكة سنبل فانتزع من عينها، فإذا هو شيء طار من السنبل ولصق بعينها وتراكبت الأكحال التي تعالج بها فزال الألم في الوقت، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فلما دفعها إليه ندم.
فأوصاه فقال: إحفظها فإنها مال له خطر، فقال: نعم، وفارقه فاستردّه، وقال: إياك أن تنفق منها شيئا حتى تتفق ضيعة تشتريها بها، فقال: نعم وفارقه، ثم استرده فأوصاه فقال: إن رأيت يا أمير المؤمنين فاختمها بختمك حتى ألقاك بها يوم القيامة على الصراط بختمك، فضحك وخلاه.
النّهي عن الامتنان
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياكم والامتنان بالمعروف، فإن ذلك يبطل الشكر ويمحق الأجر، ثم تلا قول الله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى
. وقيل: تمام البذل ترك المنّ، وقال بعضهم: لا تمنّ بالمعروف فالمعروف إذا ذكر كدر، وإذا أنسي أمر. تعداد المنة من ضعف المنة. وقيل: المنة تهدم الصنيعة وتسترد النعمة فنزه منتك عن الامتنان، وسأل رجل آخر حاجة فجعل يؤنبه، فقال: أترى أن تقيم ترك التأنيب مقام قضاء الحاجة.
أنواع منه
قال المتنبي:
وما كلّ بمعذور ببخل ... ولا كلّ على بخل يلام
وقال نصيب الصغير:
متى يجتمع يوما حريص ومانع ... فليس إلى حمد هناك سبيل
وقال آخر:
ولو عليك اتكالي في الطّعام إذا ... لكنت أول مدفون من الجوع
أحقر الناس البخيل لكي يستغنوا عن ماله. وسأل ابن عباس إنسانا حاجة فرده، فقال: أبوك لم يرد حاجة أحد جودا. كان قد أتاه قوم يستعبرون كلبا لينزوه على كلبتهم، فقال: لا ينزو عليها غيري إيجابا لكم. وقيل: أتاك ريان بلبنه إذا أعطى ما يفضل منه.
قال أبو علي المحمودي:
أعزّ عليّ من أبويّ عندي ... ومن نفسي أعزّ عليّ فلسي
فلولا الفلس هنت على صديقي ... ولم تكرم على الأطماع نفسي
وله:
ومتّ على الدّرهم المنقوش موت فتى ... يرى الممات عليه أكرم الكرم
ولولا غناك لكنت الكلب عندهم ... فإن أبيت فجرّب واشق بالنّدم(1/702)
وقال آخر:
لا لوم في القصد على ذي حبا ... يكرّم ما يكرّم من أجله «1»
وقال آخر:
لا أحسبنّك بعد الموت تنفعني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي
ومن أمثالهم:
لأيّ يوم يخبّىء المرء السعة
وقال آخر:
إذا فات في الدنيا الذي بك أرتجي ... فنفعك عنّي في المعاد قليل
وقال محمد بن يزيد، كتبه إلى من استعان به في أمر فلم يجد عليه:
أترضى لي بأن أرضى ... بتقصيرك في أمري
لعلّ الله أن يصنع ... لي من حيث لا تدري
فألقاك بلا شكر ... وتلقاني بلا أجر(1/703)
الحد العاشر في الأطعمة
(1) فممّا جاء في أوصاف الأطعمة
الخبز
قيل: الخبز يسمّى جابرا وعاصم بن حبة، كما قيل: التمر بنت نخيلة. وقال أعرابي عيّر بعمل تعاطاه.
فلا تلوماني ولوما جابرا ... فجابر كلّفني الهواجر «1»
وقيل لأعرابي: الخبز أحب إليك أم التمر؟ فقال: التمر طيب، وما عن الخبز صبر.
وقيل لبعضهم: ما طعم الخبز؟ قال: طعم أدامه، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز، فإن الله تعالى سخّر له ما في السموات والأرض.
السّويق
عاب عائب السويق عند الطفاوية، وكانت امرأة أدركت أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: لا تفعل فإن السويق طعام المسافر والعجلان والحزين والسمنة والنفساء والمريض. وقيل: هو يرفو الضعيف ويشدّ فؤاد السقيم وفقاره ويجلو البلغم ومسمونه يصفّي الدم، إن شئت كان ثريدا وإن شئت كان خبيصا.
حمد اللّحم وذمّه
قيل: أطيب اللحم عوده أي ما عاد منه بالعظم، وقيل: اللحم أقل الطعام نجوا «2» .
وقيل: من لم يأكل اللحم أربعين يوما نقص عقله. وقيل: من تركه أربعين يوما ساء خلقه.
وقال بعض الأطباء: عجبا لمن أكله الخبز واللحم وشربه ماء الكرم «3» ، ثم اقتصد في تناولها كيف يموت. واستقبل عمر رجلا ثلاثة أيام على الولاء وقد اشترى لحما فعلاه بالدرة، وقال: إن الله تعالى يبغض قوما لحميين، عاقب بين اللحم وغيره. وقيل: إياكم(1/704)
وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقال المسيح: ألحم «1» تأكل لحما، أف لهذا عملا.
وسئل بعض الرهبان عن تركه أكل اللحم، فقال: إنا رأينا الغوائل تتولّد من أكل اللحم، ألا ترى أن أكلة اللحم من السباع هي أشد ضررا من أكلة الحشيش.
السكباج والزّيرباج
يقال للسكباج: الخليّة والمخللة والشمقمقة والصفصاف لغة ثقيف، وسمّوه أم القرى. ولم يكن يطلق السكباج «2» أن يطبخ في أيام الفرس إلا بخاتم من الملك وسئل بعضهم عنه، فقال: إنه يشفي العرم ويفتق الشهوة ويقدم في الثرائد وتزيّن به الموائد، تجيدها الخاصة ولا تغلط فيها العامّة.
قال الحجاج لطباخه: اتخذ لنا صفصفاة «3» وأكثر فيجنها «4» ، فلم يدر الطباخ ما عناه، فسأل ابن القرية، فقال: اتخذ سكباجة وأكثر سدابها.
وقال المنصور يوما لحظيّة له: إلى كم نأكل السكباج، يعرّض بها، فقالت: يا أمير المؤمنين هو مخ الأطعمة لا يملّ حارّها ولا يكره باردها، فاستحيا منها.
قال عبد الملك بن محمد بن إسماعيل:
وسكباجة تشفي السقام بطيبها ... على أنّها جاءت بلون سقيم
إذا زارها أيدي الرجال تزاحمت ... كأيدي نساء في ظلال نعيم
وقال بعضهم:
فتنتنا بريحها السكباجة ... فتركنا من أجلها ألف حاجة
وأكل أعرابي القريش، فقيل له: ما أكلت قال: الفالوذج «5» إلا أنكم هضمتموه بعد.
وقال بعضهم:
قدم طاهيك زير باجه ... وهي على الدّهر خير باجه
صبيغة الزعفران تحوي ... أطايب الفرخ والدجاجه
وقدم إلى طفيلي سكباجة بلا زعفران، فقال: ما لها خرجت متفضلة بلا لباس.
الثّريد
قيل لأعرابي: أي الطعام أطيب؟ فقال: ثريدة دكناء من الفلفل رقطاء من الحمص(1/705)
ذات حفافين من الصبغ، لها جناحان من العراق أضرب فيها ضرب الولي السوء في مال اليتيم.
قال حسّان:
ثريد كأنّ السمن في جنباته ... نجوم الثريّا أو عيون الضياون «1»
قال الأصمعي: قلت لأعرابي هل لك في ثريدة؟ قال نعم:
ثريدة محمومه ... في ضحفة مكمومه
قد ألحفت رقاقا ... وكللت عراقا «2»
المرق
قيل: المرق أحد اللحمين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم اللحم فليستكثر من المرق، فمن عدم اللحم أكل المرق، فهو أحد اللحمين، قال:
وأكثر الشّرب إن لم يكثر اللبن
وأهدى صالح بن عميرة إلى سعيد بن سلم جوذابة، فكتب إليه:
بعثت إليّ بجوذابة ... فأين التي جاء جوذابها «3»
فقال لابن أخيه أجبه، فكتب إليه:
بعثنا إليك بجوذابة ... وحاز الأوزّة أصحابها
الشّواء
قال ابن الرومي:
وسميطة صفراء دينارية ... ثمنا ولونا زفّها لك حزور «4»
ظلنا نقشر جلدها عن لحمها ... فكأنّ تبرا عن لجين يقشر «5»
ويقاربه في صفته:
شديد اصفرار الكشيتين كأنما ... يطلى بورس بطنه وشواكله «6»
وقال ابن طباطبا:
لا أنس لم أنس قبل الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل
إذ أقبل الجدي مكشوفا ترائبه ... كأنّه متمطّ دائم الكسل
قد مدّ كلتي يديه لي فأذكرني ... بيتا تمثّلته من أحسن المثل(1/706)
كأنّه عاشق قد مدّ بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
وقدّم إلى بعضهم جدي خشب لم ينضج، فقال: كأنه شريحة من قصب. قال ابن طباطبا يذمّه:
قد أتينا به عواري ضلوع ... هي في الوصف والمدار سواء
حار فهمي فلست أدري أمدرا ... ة بدت أم شريحة أم شواء
وقدّم لأبي على القسري مرّة شواء غير نضيج، فقال: هذا لا تعمل فيه العوامل.
وقال بعض القدماء في سفود عليه لحم:
وذي شعب شتّى كسوت فروجه ... بغاشية يوما مقطّعة حمرا
وينشد في غير النضيج عبدة بن الطيب:
لما نزلنا رفعنا ظلّ أخبية ... وفاز للحم بالقوم المراجيل
وردا وأشقر لم ينهبه طالبه ... ما غير القلي منه فهو مأكول
القديد
حمل إلى أعرابي لحم مقدّد صلب، فقال: ما هذا لحم مقدّد بل حبل ممدّد.
البيض والعجّة
قال ابن أبي البغل:
وصفّ على الكانون بيض كأنّه ... فرائد درّ سلّ من صدف البحر
كما اصطفّ أرجاء الندى وصائف ... على دستبيد قد تملّى من الخمر «1»
أكل بعضهم بيضا مع سلطان يأكل الصفرة ويؤثره بالبياض، فقال الرجل: سقى الله العجّة ما أعد لها. وكتب منصور الفقيه إلى جار له يستدعي منه بيضا لابنه:
لأبي الفضل إذا هـ ... مّ بما يهوى لجاجه
فله عندك مطلو ... ب ومأمول وحاجه
درّة ليست من البح ... ر ولكن من دجاجه
البرزماورد
قيل: البرزماورد نرجس الموائد، وقد أحدثته الفرس في بعض الحروب واستخفّوا حمله في المعازل، وسموه رزماورد. هو طعام أفاده الحرب، ثم قيل بزم أورد. وقيل:
سمي زماورد وسمي المهيأ والميسر، قال الشاعر:
كلّ الميسّر من راسين يا سكني ... لا يستطاع ولا سيفان في غمد(1/707)
البقل
قال أبو نواس: مائدة بلا بقل كشيخ بلا عقل، ومجلس بلا ريحان كشجرة بلا أغصان.
الخلّ
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم الإدام الخلّ، وقال: ما أقفر بيت فيه خلّ.
الأرز
كان الحسن بن سويد يأكل مع المأمون، فقدم الأرز، فقال: الأرز يزيد في العمر.
فقال المأمون: كيف؟ فقال: ذكر أطباء الهند أن الأرز يرى المنامات الحسنة، ومن رأى مناما حسنا كان في نهارين، فاستحسن المأمون منه ذلك. وجرى ذكر البهطّة «1» في مجلس إبراهيم التيمي القاضي، فقال رجل حضر لإقامة شهادة: ما هو؟ فقيل: الأرز باللبن، فقال: لا أشتهيه. فسكت ثم قال: وما أظن عاقلا يشتهيه. فقال إبراهيم: أما الأولى فقد احتملناها وأما الثانية فلا محتمل عليها، فأخر شهادته.
وكان بعض شعراء الزمان عند عضد الدولة، فقدم البهطة، فقال: صفها فعجز عن ذلك، فقال عضد الدولة:
وبهطة تعجز عن وصفها ... يا مدّعي الأوصاف بالزّور
كأنّها في الجام مجلوة ... لآلىء في ماء كافور
وقال آخر:
ولست أحبّ الرزّ إن قلّ طبخه ... فكيف أحبّ الرزّ وهو مسخن
الطباهجة «2»
قال ابن الرومي:
طباهجة كأعراف الديوك ... تروق العين من شرط الملوك
هلمّ إلى مساعدتي عليها ... فلست لمثل ذلك بالتّروك
الهريسة
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن نبيا من أنبياء الله تعالى شكا ضعفا في بدنه ووجعا في صلبه،(1/708)
فأوحى الله تعالى إليه أن أطبخ اللحم بالبرّ وكل، فإني قد جعلت القوة فيهما قال ابن الرومي:
هلمّ إلى من عذبت طول ليلها ... بأضيق حبس في تنّور تعذّب
وقال آخر:
وقد ضربت حدّين وهي بريئة ... فقوموا إلى دفن الشهيدة تؤجروا
وقيل: الهريسة أوطأ فراش هيء لنبيذ. وللخوارزمي:
هل تنشطون لتنوريّة خنقت ... من أول الليل حتّى قلبها يجف
كأنّها وهي فوق الجام قد غرقت ... في دفنها، قمر بالشمس ملتحف
أو درهم فوقه الدينار منطبق ... أو لوح عاج على الزرياب مكتنف «1»
وقال أبو طاهر المأموني:
درّ نثير أسلاكه قطع ... في ماء ورد وصندل نقعا «2»
الرؤوس
كان الثوريّ يعجب بالرؤوس ويسمّيها مرة عرسا لما تجمع من الألوان المختلفة الطيّبة، ومرّة الجامع، ومرّة الكامل ويقول: هو شيء واحد ذو ألوان عجيبة وأطعمة مختلفة. وقيل لأعرابي: تحسن أكل الرؤوس؟ فقال: نعم، أبخص عينيه وأقلع أذنيه وأفك لحييه وأشجّ شدقيه وأرمي بالعظم إلى من هو أحوج إليه منّي.
ودعا بعضهم آخر إلى دعوته، وقال: عندي رغف خوّارة ورؤوس فوّارة. ودعي رجل إلى أكل الرؤوس، فلما قام قال: أطعمكم الله من رؤوس أهل الجنة. وقال ابن الرومي:
هام وأرغفة وضاء ضخمة ... قد أخرجا من فاحم فوّار
كوجوه أهل الجنّة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النّار
الدّماغ والمخّ
قيل: أضرّ الأطعمة للبدن الدماغ، فإنه يعلق بالمعدة ويتغرى ما بين غضونها، فلا يدخلها غداء ولا دواء إلا زلق عنها. والعرب تكره أكل المخ وتتعير به، وذلك قول الشاعر:
ولا ننتفي المخّ الذي في الجماجم
قال الأصمعي: كان أعرابي في يده عظم وعنده ثلاثة بنين، فقال للأكبر: إن أعطيتك هذا العظم ما تصنع به؟ قال: أتعرّقه حتى لا أدع لذرّ فيه مقيلا، قال الأوسط: أتعرّقه حتى لا يدري أهو لعامنا أم لعام أول، فقال الأصغر: أتعرّقه ثم أتمشّشه ثم أدقّه فأستفه، فقال:(1/709)
خذه، فأنت صاحبه. وقال في صفة جدب:
وبات شيخ العيال يصلب
أي يطبخ العظم فيخرج الدسم ويسمى ذلك الصلب.
المضيرة
قيل: شكا نبيّ من الأنبياء إلى الله تعالى ضعفه، فأوحى إليه أن أطبخ اللحم باللبن وكله تقو.
قال بعض الشعراء:
مضيرة تنتمي في طيب نكهتها ... وفي الصّفاء إلى مسك وكافور
كأنّما البصل الثّاوي بصفحتها ... فرائد فرشت في صحن بلّور
المصليّة
قال ابن أبي البغل:
ومصليّة أما مجال وشاحها ... فقرع وأما خصرها فثريد
كأن هبير اللحم في جنباتها ... قطا جثم وسط الفلاة ركود
الشيراز
لا أحمد المراقصي ما يبيض به ... إذا اعتصرناه أصناف الشواريز
ما متعة العين في خدّ تورده ... يزهى إليك بخال فيه مركوز
أشهى إليك من الشّيراز قد وضحت ... في صحن وجنته خيلان شونيز «1»
الكشك
قال بعضهم:
أمّ ذا الكشك زانيه ... إن طبخناه ثانيه
وقيل: من حمّ يوما واحدا فلا يأكلن الكشك سنة، ونزل رجل بأعرابي فكان كل يوم يقول لامرأته: قومي ائتني بخبز وما رزق الله، فكانت تأتيه بالخبز والكشك، فقال يوما ذلك، فقال لها الضيف: هاتي الخبز ودعي ما رزق الله.
الكامخ
دفع إلى إعرابيين رغيفان بينهما كامخ، فقال أحدهما: خرء ورب الكعبة، فذاقه(1/710)
الآخر واستطابه، فقال: نعم، ولكنه خرء الأمير. وقال آخر: لا يفرق بين الكامخ والخرء إلا بالذوق.
وأضيف أعرابي فأطعم الكوامخ مرارا، فاستفتح الصلاة خلف الإمام، فقرأ الإمام حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فقال الأعرابي: والكوامخ فلا تنسها.
وقال النيختي:
أتتني سكرجة لونها ... يرفّ كبلّورة صافيه
مضمنة من وضيء الطعام ... لما يذكر العيشة الراضيه
فلم أدر هل ضمّنت كامخا ... من الطّيب أم ضمّنت غاليه
وقال آخر ضده:
شيب رأسي وحنى أعظمي ... طول ائتدامي الخبز بالكامخ
فهو إلى نفسي من بغضه ... يعدل سمّ الأسود السالخ «1»
اللبن
قال الله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ
«2» لم يتغير طعمه. وقال: من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين. وقيل: اللبن أحد اللحمين، وسموه شحما لما كان من الشحم يتولد.
وقيل لرجل الحليب أحب إليك أم الرائب، فقال: الرائب، فإنه على كل حال بات مع اللحم ليلة. وقيل: ما غص أحد باللبن قط لقوله تعالى: لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ
«3» . وفي الحديث: أن البقر لحومها داء وألبانها شفاء، وقال صلّى الله عليه وسلم: عليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر. وقيل: ما رغى من اللبن أطيب من المصرح، وقيل: إن الرثيئة مما يغثا الغضب. قال ذو الرمة: كان إذا نزل بنا نزيل، قلنا له الحليب أحب إليك أم المخيض، فإن قال المخيض، قلنا: عبد من أنت، وإن قال الحليب، قلنا: ابن من أنت وقال شاعر:
إذا شئت عناني على رحل فتية ... الحضجر يداوي بالبدور كبير «4»
يعني أنه يمخض له. وقيل لبعضهم: الحليب أحبّ إليك أم الرائب، فقال: هو أكرم وأطيب من أن ينفى له حال.
الجبن
قال خالد بن صفوان لجاريته: أطعمينا جبنا فإنه يشّهي الطعام ويدبغ المعدة ويهيج الشهوة، فقالت: ما عندنا، فقال: ما عليك فإنه يقدح في الأسنان ويلين البطن وهو من طعام أهل الذمة. فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟ فقال: إذا حضر فبالأول وإذا(1/711)
غاب فبالثاني.
وكتب كسرى إلى واليه: ابعث إليّ بشرّ إنسان على شرّ دابة مع شر طعام، فبعث إليه بخوزي على خنزير معه جبن. قال شاعر:
إنما الجبن آفة الجسم سقما ... وعلى القلب كربة الأوهام «1»
بدّلوها بلقمتي سكباج ... أو شواء مفصل من عظام
السمك
قال أعرابي: كل من السمك القذال ودع منه المبال وقال آخر: كل ما تفلس ودع ما تملس، وقدم إلى جعفر بن يحيى سمك، فقال: هذا إن لم يكفن بخبيص ويقبر بنبيذ فالحذر منه. وقال طبيب الهند: اجتنبوا ما يخرج من الضرع والبحر. قال أبو طالب المأموني:
ماويّة فضّيّة لحمها ... ألذّ ما يأكله الآكل
يضمّها من جلدها جوشن ... مدبل فهو لها شامل «2»
تعيشها اللجّة ما خيمت ... بها كما يتلفها الساحل
لو نلت من فضّتها عسجدا ... بقليها ما ضافني نازل «3»
الباذنجان
في الخبر: كلوا القرع واجتنبوا الباذنجان. قيل لأعرابي: ما تقول في الباذنجان، قال: لونه لون بطون العقارب وأذنابه كأذناب المحاجم وطعمه طعم الزقّوم، فقيل: إنه يحشى باللحم ويقلى بالزيت فيكون طيبا، فقال: لو حشي بالتقوى وقلي بالمغفرة وطبخته الحور العين وحملته الملائكة ما كان إلا بغيضي.
وقيل لآخر: ما تقول في باذنجان عملته بوران، فقال إن شققته مريم وطبخته سارة وقدمته فاطمة لا رغبة لي فيه. وحكي أن الشبلي رئي يوما على الجسر، وكان يوما مطيرا، فقيل له: إلى أين؟ فقال: بلغني أن فلانا يعيب الباذنجان فأريد أن أمرّ عليه فأخاصمه. وقال الوأواء الدمشقي:
أتانا بمقلي بورانه ... وشيرازه من لبان الغنم «4»
وقد شنّج القلي منه الجلود ... كتشنيج أوجه سود الخدم
وقال آخر:
كرة من المسك الذكيّ تضمّنت ... من تحت مسك لؤلؤا مقشورا(1/712)
وقال عبد العزيز:
وسود تروّت بالدّهان فأبدلت ... بتوريدها لونا من النّار أكلفا «1»
كأفواه زنج تبصر الجلد أسودا ... وتبصر إن فرّت لجينا مؤلفا «2»
كخلق حبيب خاف إكثار حاسد ... فأظهر صرما وهو يعتقد الوفا «3»
المزور
قال أحمد بن حمدون:
قلت الطعام فقالوا من مزورة ... فقلت زور وليس الزور من وطري
هاتوا أطايب ثور فائق سمنا ... كالفيل قدّا وإن عدّوه في البقر
وسكبجوها ووفّوها توابلها ... وزعفروها وصفّوها عن الغير «4»
وقدّموها على بيضاء صافية ... كأنّما خرطت من دارة القمر
فمن نجا فدفاع الله سلّمه ... ومن مضى فإلى الفردوس أو سقر «5»
وقال ابن سكرة:
قد صرت كالزور في أكلي مزورة ... فإنّها كاسمها بين الورى زور
خذ الحقائق واترك ما تزوّره ... فالحق متّبع والزور مهجور
ولا تؤخّر لذيذ الأكل خوف أذى ... فليس في الموت تقديم وتأخير
طعام يعاد على مائدة واحدة
قال ابن طباطبا:
أرزّ جاء يتبعه أرزّ ... هو الإيطاء يتّخذ اتّخاذا «6»
فإيطاء القريض كما علمنا ... وإيطاء الطّعام كمثل هذا
الملح
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعا من الداء، منها الجذام والبرص. وقال الخوارزمي:
فهو بقل وروضة وجوارشن وأدم وزاد حامل زاد وقال المأموني:
لا تدن منّي الملح إن شبته ... من الأبازير بألوان «7»(1/713)
فوجهه أبرص ذو نمشة ... بين ثآليل وخيلان
وهاته من غير خلط له ... إدام زهّار ورهبان
العسل
قيل: أجود العسل الذهبي الذي إذا قطرت منه على الأرض قطرة استدارت استدارة الزئبق ولم يتغبش ولم يختلط بالتراب. وقيل: أجوده ما يلطخ على الفتيلة ثم توقد فيها النار فتعلق. وكتب هشام إلى عامله: أن ابعث إليّ بعسل من عسل خدار من النخل الأبكار من المستشار الذي لم تقر به نار.
وقيل لرجل: ما تشتهي؟ فقال جنى النحل وجنى النخل. فقيل له: أيهما أحب إليك؟
قال: أشفاهما وأنقاهما وأبعدهما من الداء وأدناهما من الشفاء، وجعله الله تعالى في الجنان اللطيف بلا تفل، الخفيف بلا ثقل. وقال ديموقراطيس، وقد سئل عما يزيد في العمر، فقال: من أدام أكل العسل ودهن جسمه زاد الله في عمره.
الحلواء
قال بختيشوع: الحلواء كلّها، حقّها إن تؤكل بعد الطعام، لأن للمعدة ثورانا عقيب الامتلاء كثوران الفقاع، فإذا صادفت الحلاوة سكنت. وقول الناس إن في المعدة زاوية لا يسدها إلا الحلاوة على أصله، قال: والآكل إذا اشتهى الحلاوة ثم فقدها وجد في حواسه نقصا.
الفالوذج والخبيص
قال سفيان: لا بد للعاقل في كل أربعين يوما من خبيصة تحفظ عليه قوّته. كل طعام بلا حلو فهو خداج «1» ، وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض لي من الحلواء، فقال: ربّ ملوم لا ذنب له.
وسمع الحسن قائلا يعيب الفالوذج، فقال: لباب البرّ بلعاب النحل بسمن الماعز، ما عاب هذا مسلم قط.
وقال أعرابي: وددت أن الموت والفالوذج اعتلجا في صدري. وبعث رجل إلى مزبد فالوذجا قليل الحلاوة، فقال: ينبغي أن يكون هذا عمل قبل أن يوحي ربك إلى النحل.
وقيل: ذهبت بهجة الخبيص منذ عمل من عسل.
وأتى يزيد بن الوليد بفالوذج فجعل الغاضري يأكل ويسرع، فقال يزيد: أرفق، فالإكثار منه يقتل. فقال الغاضري: منزلي على طريق المقابر، وما رأيت جنازة قيل إن صاحبها مات من أكل الفالوذج.(1/714)
اللوزينج
قيل لبعض الناس: إن التمر يسبح في البطن، فقال: إذا كان التمر يسبح في البطن فإن اللوزينج يصلّي فيها التراويح. وقيل: اللوزينج قاضي قضاة الحلاوات. قال شاعر في وصفه:
مستكثف الحشو ولكنّه ... أرقّ جسما من نسيم الصّبا
يخال من رقّة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا «1»
لو أنّه صوّر من خبزه ... ثغر لكان البارد الأشنبا «2»
وقيل لآخر: ما تقول في لوزينجة قد رقّ قشرها وغرقت في سكرها ودهن لوزها، فقال: فما أشدّ الوصف إذا عدم الموصوف.
العصيدة
قال بعض الأغفال:
وقدم من قبل الخبيص عصيدة ... مغشى أعاليها بمنثور سكّر
ترى الجمر أثناء العصيدة كامنا ... فتحسب مسكا بين إقطاع عنبر «3»
ورئي مخارق، وهو يدور حول قدر يتخذ فيها عصيدة، ويقول بلحن عجيب:
أنت يا ذات الأثافي ... أسمعينا غليانك
فبنشّك ونشيشك ... طاب عنبرك وبابك
إنما قتلي لنفسي ... واجتهادي لمكانك
القطائف
قال كشاجم:
قطائف مثل أضابير الكتب ... كأنّها إذا تبدّت من كثب
كوائر النحل بياضا وثقب
وقال آخر:
ألذّ شيء على الصّيام ... من الحلاوات في الطّعام
قطائف نضّدت فحاكت ... فرائد الدرّ في النّظام
منوّمات على جنوب ... في الجام كالصّبية النيّام «4»(1/715)
التّمر
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من تصبّح بسبع تمرات عجوة لم يصبه يومه ذلك سم ولا سحر وقال صلّى الله عليه وسلم: أول ما يفطر به الرطب والتمر وأول ما تأكل النفساء الرطب والتمر، لأن الله سبحانه وتعالى قال لمريم: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا
«1» .
وقال شيخ: ما وضع الناس في أفواههم شيئا أطيب من عجوة، ووصف أعرابي تمرا، فقال: تمرات جرد فطس يغيب فيهن الضرس، كأن نواها ألسن الطير تضع التمرة في فمك فتجد حلاوتها في كعبك.
وقال أعرابي: ضفنا فلانا فأتى بتمر كأعنان الوردان يوحل فيه الضرس. وقيل: خير التمر ما غلظ لحاه ورقّ سحاه ودقّ نواه.
قال النابغة يصفه:
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر
وقال آخر:
وكنت إذا ما قرّب الزاد مولعا ... بكلّ كميت جلده لم يؤسف
مداخلة الأقراب غير ضئيلة ... كميت إذا خفت مزادة مخلف
وقال آخر:
يا حبّذا التمرة ما أحلاها ... تدمن الفقحة من ذكراها «2»
وقال الحجّاج يوما لجلسائه: ليكتب كل واحد منكم أطيب طعام وليدفعه إليّ، فكتب كلهم: التمر والزبد، وقال سوار لرجل حضر الشهادة، بم تشهد، فقال:
شهدت بأن التمر بالزبد طيّب ... وإن الحبارى خالة الكروان
فقال أما الأول فإني أشهد به أيضا.
أكل التمر
قال بعضهم: لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصفهان، فالزنج لا تختار وأنا أختار، وأهل أصفهان يأخذون قبضة فإلى أن يفرغوا من أكلها لم يأخذوا من غيرها وأنا أختار كما أحب. وقيل: فلان برم قرون أي لا يخرج مع أصحابه ويأكل تمرتين تمرتين.(1/716)
الرّطب
قال ابن هبيرة: أي لقمة مخلوقة غير مصنوعة، وصرف غير ممزوجة أطيب، فقال بعضهم البيضة، وقال بعضهم: التمرة، فقال: هلا قلتم رطبة.
قال المتوكل يوما للفتح: الحلواء أطيب أم الرطب؟ فقال يد الله أصنع. وقال الثوري: ما أعنف رجلا يبيع ثيابه أيام الرطب فيشتريه بها.
ذاكر الرشيد عيسى بن جعفر، أي الرطب أطيب؟ فقال الرشيد: القريتا، وقال عيسى: السكر، فأرسلوا إلى الأصمعي، فسأل الأصمعي الرسول عمّا دعي له فقال الرسول: كان كذا، فلما دخل سألاه، فقال: هذا لا يخفي أن القريتا أجود. إنّا كنا بالبصرة صبيانا نلعب بالنوى، فنجعل نوى القريتا دنانير ونوى السكر دراهم، فنعطي نواة من قريتا ونأخذ عشرين من سائر النوى، فضحك الرشيد وأمر له بصلة.
العنب
قيل: أجود العنب ما غلظ أعمده وأخضر عوده وسبط عنقوده. وقال أبو حنيفة الدينوري عن بعض أهل دمشق: إنه وزن حبة عنب مجلوبة من قرية يقال لها قرية العنب، فكان وزنها عشرة دراهم، وإن العنقود منها يملأ السلة. قال ابن الرومي:
ورازقي مخطف الخصور ... كأنّه مخازن البلّور
قد ضمنت مسكا إلى السّطور ... وفي الأعالي ماء ورد جوري
لم يبق منه وهج الحرور ... إلا ضياء في ظروف نور
لو أنّه يبقى على الدّهور ... قرط آذان الحسان الحور
وقال الصاحب:
وحبة من العنب ... من المنى متّخذه
كأنّها لؤلؤة ... في وسطها زمرّده
وله:
حسبتها من بعد تمييزي لها ... لؤلؤة قد ثقبت من جانب
الخوخ
قال الطيلساني:
وخوخة أعطيتها هشّة ... بيضاء مثل اللبن المخض
كأنّها كفّ امرىء شدّها ... قبضا لضرب منه أو عضّ
وقال آخر:
كأنّه الزبد إذا ما التوى ... بالعسل الماذيّ في صحنه(1/717)
وقال الصنوبريّ:
كوجنة ألبست خلوقا ... فزال عن بعضها الخلوق «1»
الرّمان
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم الشيء الرمان، ما من رمانة إلا وفيها حبة من الجنة، من أكلها نورت قلبه وأذهبت عنه الوسواس. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة. وقال الواسطي.
رأيت رمّانة من فوق دوحتها ... ولونها ببديع الحسن منعوت
فالقشر حقّ لماض ضمّ رائحة ... والشحم قطن له والحبّ ياقوت «2»
أبو طالب المأموني:
حقّ خليع ناصع دهنه ... مستودع حمر اليواقيت
وله في وصفه عند تفتيته:
الجام أرض وبناني حيا ... تمطر منه بردا أحمرا «3»
وقال ابن شاه:
ورمانة شبهتها إذ رأيتها ... بثدي كعاب أو بحقّة مرمر
منمنمة صفراء نضّد حولها ... يواقيت حمر في ملاء معصفر
لها قشر عقيان ورأس مشرق ... وأغصان خيري وأوراق عبهري «4»
التّين
قال كشاجم:
أهلا بتين جاءنا ... مبتسما على طبق
كسفرة مضمومة ... قد جمعت بلا حلق «5»
وقال البحتري:
وتين كأطراف الثّدي معسل
وقال كشاجم:
سفر جمعن من الحرير الأصفر(1/718)
الزبيب
خطب أعرابي امرأة، فطلب سكّرا للنثار فرآه غاليا، فاشترى زبيبا فنثره، وقال:
ولما رأيت السكّر العام قد غلا ... وأيقنت أنّي لا محالة ناكح
نثرت على رأسي زبيبا وصحبتي ... وقلت كلوا، كلّ الحلاوات صالح
وقال بعضهم:
حوى زقّين من عسل مصفّى ... نسينا عند طيبته الرّضابا «1»
وهاب الاغتصاب عليه منّا ... فأنشأ فيه تدبيرا عجابا
أرانا فوق عاتقه سنانا ... وأودع بينها خشبا صلابا
وله:
خذ عسلا في زبرجد جعلوا ... له صماخا يصون ما فيه «2»
وقال المأموني:
وذات احمرار صادق اللون خلتها ... أرتنا بأعكان لها شطب النّصل «3»
قد انتحلت لونا من النّحل ناصعا ... ليعلم ما تحويه من عسل النّحل
الكشمش
قال المأموني:
وكشمش كخرز ... للنظم لم يثقب
تتلى بها الكاس لما ... بينهما من نسب
كأنّه أوعية ... يحملن ذوب الضّرب «4»
أو لؤلؤ حلّي أع ... لاه بماء الذّهب
الطين
سئل بعض الفقهاء عن أكل الطين، فقال: لا يجوز، لأن الله تعالى قال: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا
«5» ولم يقل كلوا الأرض. وقيل لرجل: كل من هذا الطين، فقال: أو بلغك أن في بطني ركنا أو ثلمة يجب سدّها.
وكان المأمون مولعا بأكله، فسأل ابن بختيشوع عن دوائه، فقال: عزمة من عزمات الرجل فآلى على نفسه أن لا يعاود تناوله.(1/719)
الموز
قال ابن الرومي:
إنما الموز حين يمكن منه ... كاسمه مبدلا من الميم فاء
وكذا فقده العزيز علينا ... كاسمه مبدلا من الزاي تاء
فلهذا التأويل سمّاه موزا ... من أفاد المعاني الأسماء
وله مثله في طيب الطعم:
يكاد من موقعه المحبوب ... يدفعه البلع إلى القلوب
الجوز واللّوز
قال ابن الواسطي في وصفه:
قطع العاج لفّفت في حرير ... أحمر في مداهن من ساج «1»
وقال المأموني:
ومحقق التدوير يبعد نفعه ... من كفّ من يجنيه ما لم يكسر
درع يسوغ لآكليه يضمّه ... صدف تكوّن جسمه من عرعر «2»
متدرّع في السّلم فوق غلالة ... درعا مظاهرة بثوب أخضر
وله في اللوز:
ومستجنّ عن الجانين ممتنع ... بجنّة لم يحكها كفّ نسّاج «3»
درّ تكوّن من عاج تضمّنه ... في البرّ لا البحر أصداف من العاج
الفستق
قال الصنوبريّ:
من الفستق الشاميّ كلّ مصونة ... تصان عن الأحداث في بطن تابوت
زبرجدة ملفوفة في حريرة ... مضمّنة درّا مغشّى بياقوت
وقال ابن الواسطي:
مثل الزمرّد في حرير أخضر ... قد ضمّه صدف من العاج الحسن
الشاهبلوط
قال ببغا:
وشاهبلوط تناهى واستتم ... كخرز من سبح لم ينتظم «4»(1/720)
كأنّه لمّا تراءى من أمم ... في صحّة التشبيه أظلاف الغنم «1»
العنّاب
قال بعضهم:
بنادق قد خرطت ... من العقيق الأحمر
الأجاص
قال بندار:
إجّاصة تحكي إذا حدّ النظر ... في شكلها سود صغيرات الأكر
محزوزة ولا يرى فيها أثر
المشمش
قال رجل طبيب لرجل يغرس مشمشا: ما تصنع؟ فقال: أغرس شجرة تثمر لي ولك، فأخذ هذا المعنى ابن الرومي، فقال:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... تعلم يقينا أنه لطبيب
يغلّ له ما لا يغلّ لأهله ... يغلّ مريضا حمل كلّ قضيب «2»
وقال آخر:
كأنّها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب «3»
الفرصاد «4»
قال بعضهم:
وجني فرصاد كأنّ متونه ... برش على ياقوتة حمراء
السّفرجل
قال أبو علي بن أبي العلاء في وصفه:
نصف السفرجل ثدي ... والنّصف يحسب سرّه
فمن أحبّ رآه ... فما يغادر ذرّه «5»
وقال آخر:
إن السّفرجل ريحان وفاكهة ... يحظى المشمّ بها والذوق والنظر(1/721)
يحكي وديكة تبر بل لهيب لظى ... شبّت ضحى وشعاع الشمس منتشر «1»
وقال ابن طباطبا:
سفر جلة حذفوا راءها ... تجم الفؤاد لقول النّبي
وقد ذكر ما يضارع ذلك مع ذكر الأشجار والنبات في حده.
جهل العرب بطيبات الأطعمة
كانت العرب لا تعرف طيّبات الأطعمة، إنما كان طعامهم اللحم يطبخ بماء وملح، حتى أدرك معاوية رضي الله عنه الإمارة، فاتخذ ألوان الأطعمة. قال أبو بردة: كانوا يقولون من أكل الخبز الحواري سمن، فلما فتحنا خيبر أجهضناهم عن خبزهم فقعدت عليه آكل وأنظر في أعطافي هل سمنت.
وقال خالد بن عمير العطوي: شهدت فتح الأيلة فوجدنا سفينة مملوءة جوز، فقال رجل: ما هذه الحجارة؟ ثم كسروا واحدة، فقالوا: طعام طيّب.
وقال بعضهم: أصابوا أجربة من الكافور فقالوا هاء الملح فذاقوه، وقالوا: لا ملوحة لهذا الملح، ففطن ناس من أهل الخبرة فجعلوا يعطونهم جرابا من الملح ويأخذون جرابا من الكافور.
وقدّم إلى أعرابي خبز عليه لحم فأكل اللحم وترك الخبز، وقال: خذوا الطبق. وقدّم فالوذج إلى أعرابي فقيل له ما هذا؟ قال: الرمان المعلق.
قاذورات أطعمة العرب
كانت بنو أسد يأكلون الكلاب، ولذلك قال الفرزدق:
إذا أسدي جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله
ويأكلون الهبيد، وهو الحنظل المالح، وقال بعضهم: نزلت برجل فأضافني فأتى بحيّة فشواها فأطعمنيها، ثم أتى بماء منتن فسقانيه، فلما أردت الإرتحال قال: ألا أقمت، طعام طيّب وماء نمير.
وكانوا يأكلون في الجدب العلهز وهو الحلم الكبار يدق مع الوبر.
وكان أحدهم يتناول الشعر المحلوق فيجعله في حفنة من الدقيق ثم يأكله مع ما فيه من القمل. ولذلك قال شاعرهم:
بني أسد جاءت بكم قمليّة ... بها باطن من داء سوء وظاهر
ومن طعامهم الفظّ وهو ماء الكرش. وقيل لأعرابي ما تأكلون؟ فقال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين، فقال: لتهن أم حبين العافية.(1/722)
قال أبو نواس:
ولا تأخذ عن الأعراب طعما ... ولا عيشا فعيشهم جديب
وكان رؤبة يأكل الفأر، فقيل له ألا تستقذره، فقال: هو والله ما يأكل إلا فاخرات متاعنا. وبنو تميم يعيّرون بأكل الضبّ.
قال أبو نواس:
إذا ما تميميّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّب
أكل قاذورات على غلط
قال الأصمعي: دنوت من بعض الأخبية في البادية فسقيت لبنا في إناء، فلما شربته، قلت: هل كان هذا الإناء نظيفا؟ فقيل: نعم، إنا نأكل منه بالنهار ونبول فيه بالليل، فإذا أصبحنا سقينا الكلب فيه فلحسه ونقاه. فقلت: لعن الله هذه النظافة ولعنكم من قوم متقذّرين. قال: ونزلت على امرأة فنظرت إلى قطع من القديد منظومة في خيط فأمعنت في أكله، فأقبلت المرأة، فقالت: يا هذا ليس ما أكلت مما يؤكل، فقلت ما هو، قالت: إني امرأة خاتنة أختن جواري الحيّ، فكلما خفضت واحدة نظمت خافضتها في هذا الخيط لأعرف عددهن، فتقيّأت استبشاعا.
وقعد رجل في سفينة وركب معه يهودي قد احتضن سلّة قديد فاستولى عليها الرجل، وأخذ يأكلها حتّى لم يبق إلا عظيمات. فلما أراد الخروج إلى البرّ، رأى اليهودي السلّة فارغة فسأل عنها، فقيل: إن هذا الرجل أكل ما فيها فولول، وقال أكلت أبي؛ فسئل عن ذلك، فقال:
كان أبي أوصى أن يدفن ببيت المقدس فلما مات قددناه ليسهل حمله، فأكله هذا.
الموصوف بالطّيب
يقال: ألذ من زبد بندسيان «1» وأحلى من الشهد وأزكى من الورد وأشهى من إنجاز الوعد. أحلى من المنّ والسلوى، ألذ من نظر المعشوق في وجه عاشق بابتسام. قال آخر:
وألذ من أنغام خلة عاشق ... زارته بعد تمنّع وشماس «2»
أعذب من الماء الزلال. أطيب من قبلة الحبيب على غفلة الرقيب. طعام تضنّ به العين عن الفم.
وقال رقبة بن مصقلة في صفة دعوة: جاؤونا بخوان كالقاع في بياض الفضة عليه رقاق كقباطي مصر، ورغف كدارة القمر وبقول كوشي السندس، وخلّ كذوب العقيق، ثم جاؤوا بفالوذج كأن الزئبق الجاري ينبع من خلله للجريان على وجهه، ترى نقش الدرهم من تحته ظاهرا يذوب قبل التطعم ويبتلع قبل التينع.(1/723)
الموصوف بالنّتن
أنتن من الجيفة، ومن ريح الجورب، ومن العذراء، ومن مرقات النعجة، أي ما تمرق من شعرها أي ما ينتف.
كنى الأطعمة وأسماؤها الأعلام عند الصّوفيّة
قد أكثر الناس من ذلك وذكرت منه طرفا هو أقرب: الخبز أبو جابر، والسكباج أم القدور، والقلية زلزل المغني، والطباهج الزرزر الصناج، والمضيرة الشيخ اليهودي أبو الزئبق، البقل أبو زحام بلا منفعة، الخل أبو عامر الغضبان، الخيار أبو الأخضر البندق، القثاء أبو القرون، البصل أبو قمصان، الدجاج أم حفص، الفروج بنات المؤذن، السكر أبو شيبة الخوزي.
أنواع من ذكر الأطعمة
كان النظّام إذا خلط كلامه في ذكر الأطعمة ببعض الفاكهة يقول: الزيت نصراني والخل يهودي، واللبن والزبيبان نصرانيان راهبان. وعلى لون صبغهما صبغوا ثيابهم.
وقيل: الصحناة والتفشيل يهوديان، والسمن مسلم.
من تعود أكل الطعام وإن كان ضارا لم يضره بل ينفعه، حتى أن السم من تعود أكله لم يضره. والطعام الجيد النافع للعامة إذا أكله من كان مستغربا له غير عاهده يضرّه.
وقد ذم الأطباء ما يخرج من الضرع. وقريش تعودت أكلها وانظر كيف كرمها وسخاؤها وعقولها ودهاؤها.
ومرّ جالينوس مع تلامذته ببقلة فسألوه عنها فقال: هي سم ساعة فإذا رجل يأكلها ولا تضرّه فسألوه، فقال: هذا غداء لنا، فقال جالينوس: هل لك في مصاحبتي فأحسن إليك؟ فقال الرجل: بلى، فصاحبه زمانا يأكل ما يأكلونه ثم عرض عليه ذلك البقل، فأكله فمات لوقته. قال أبو طالب المأموني في السكنجبين:
ومستنتج ما بين خلّ وسكّر ... دوائي من دائي به وشفائي
رأيت به في الكاس أعجب منظر ... مذاب عقيق فيه جامد ماء
(2) وممّا جاء في أحوال الأكل والأكلة والتطفل
الرّخصة في تناول المباحات
قال الله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا
«1» وقال: وَكُلُوا(1/724)
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
«1» . وقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ
«2» وقال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
«3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: اعمل صالحا وكل طيبا والبس لينا. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: كل ما شئت وألبس ما شئت ما أخطاك إسراف ومخيلة. ورغّب الله تعالى آدم في الخلود في الجنة، فقال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى
»
. فبدا باشتراط الشبع.
ومرّ عمر رضي الله عنه بشاب فاستسقاه ماء فخاض له عسلا فلم يشرب، وقال: إني سمعت الله تعالى يقول أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، فقال الفتى: إنها والله ليست لك أقرأ ما قبلها ويوم يعرض الذين كفروا على النار، فشربها عمر رضي الله عنه، وقال: كل الناس أفقه من عمر. واجتمع فرقد السنجي والحسن على مائدة، فأتي بجام خبيص فأبى فرقد أن يأكل، وقال: أخاف أن لا أؤدي شكر الله تعالى عليه، فقال الحسن: كل فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم منها في الخبيص. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: فانظر إلى فقه الحسن وفهمه وإلى ضعف رأي فرقد مع إسلامه، واعتبر بهما قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
غسل اليدين قبل الطّعام
دعي سلمان رضي الله عنه إلى طعام فلما دخل توضأ للصلاة فصلّى، ثم قدم الطعام فاستدعى الماء وغسل يده، فقيل: ألم تغسلها آنفا، فقال: نعم، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من غسل يده قبل الطعام وبعده أكل في سعة من رزقه. وقال الحسن رضي الله عنه: غسل اليد قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللّمم «5» . وامتنع رجل من غسل اليد للطعام عند موسى الرضا، فقال: أغسلها فالغسلة الأولى لنا والثانية لك، فإن شئت فاتركها. وغسل رجل يده عند المأمون ومدّ يده إلى رأسه فأمر بإعادة غسلها، ثم مدّها إلى لحيته فأمره بإعادته. وقال: لا يلي غسل اليد للطعام إلا الطعام.
وقدّم إلى مالك بن أنس رضي الله عنه حيث يراه المهدي الماء ليغسل يده للطعام، فقال:
هذا بدعة، فقال المهدي: يا أبا عبد الله البدعة تعتبر في الشرّ، فأما أبواب الخيرات فإحداثها سنة. وغسل رجل يده مرارا فلم تذهب عنها الدسومة. فقال: كاد هذا الدسم أن يكون لنا نسبا وصهرا. وامتنع أعرابي من غسل اليد بعد الطعام فسئل عنه، فقال: فقد رائحته كفقده.
وكان أعرابي عند سعيد بن مسلم فقعد للطعام فقتل قملة، فقيل له: أغسل يدك، فقال:
لا ضير ما بقي على يدي الأخرى شأوها. وكان أعرابي يفلّي ثوبه ويأكل ويحبق «6» فقيل له: أما تستحي ويحك، فقال: وما أنكرت، أدخل حديثا وأخرج عتيقا وأقتل عدوا. وكان عبد الله بن(1/725)
سلمان يبطىء في غسل اليدين ويقول: يجب أن تكون مدته مدة زمان الأكل.
ذكر الله على الطّعام قيل: إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل، إذا كان حلالا وكثرت عليه الأيدي وسمّي الله في أوله وحمد في آخره. وقال طاوس: من سمّى الله على طعامه لم يسأله عن نعيمه.
وقيل: ذكر الله على الطعام شفاء يبرىء من الداء، وذكر الناس داء لا يقبل الشفاء.
وقيل: إذا أكلتم فسمّوا وأدنوا، أي أذكروا الله وكلوا مما بين أيديكم.
وكان ابن عباس إذا وضع الطعام يقول: بسم الله عنّي وعن كل آكل معي. وكان سعيد بن جبير إذا فرغ من الطعام يقول: اللهم قد أشبعت وأرويت وطيبت فهنئنا برحمتك.
وقال بعض القصاد: يا معشر الناس إن الشيطان إذا سمّي الإنسان على الطعام والشراب لم يأكل معه، فكلوا خبز الذرة والمالح ولا تسمّوا ليأكل معكم، ثم اشربوا الماء وسمّوا الله حتى تقتلوه عطشا.
حمد الأكل من جانب الصّحفة وعذر ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن البركة تنزل في وسط الصحفة فكلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها. وقال أنس بن مالك: كل بيمينك وتناول مما يليك. وأكل أعرابي مع بعض السلاطين، فقال: كل ممّا يليك، فقال: رأيت جانبك أمرع ومن أجدب انتجع. وأكل أعرابيان على مائدة، فمدّ أحدهما يده، فقال له الآخر: كفّ يدك، فإن لك في ما بين يديك مقنعا، فقال: إني من قوم إذا أجدبوا انتجعوا، فقال له: ويلك وهل على مائدة أمير المؤمنين جدب، ثم مد الآخر يده، فقال له صاحبه: كفّ يدك، فقال: إني من قوم إذا أخصبوا تخيّروا فاستحسن عبد الملك كلامه، وأمر له بصلة.
وأكل أعرابي من بني عذرة مع معاوية، فمدّ يده إلى ثريدة بين يدي معاوية، فقال معاوية: أخرقتها لتغرق أهلها، فقال الأعرابي: ولكن سقناه إلى بلد ميت، فضحك معاوية وأمر له بجائزة. وكان أبو علي بن حمدون في مجلس وعند القوم نقل «1» فمد يده إلى ما بين يدي صديق له، فقيل له: ما تفعل؟ فأنشد:
وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الهائم الشاعر على مائدة عليها جدى فجعل يجرّ الجدي الذي كان يليه ولم ينجر، وكان الجانب الذي عليه اللحم يلي قوما آخرين، فقال:
ففينا غواشيها وفيهم صدورها(1/726)