وقولي فيه أيضًا:
مرج حماة بنواعيره ... زاد على المقياس في روضته
واغتاظ نمروذ دمشق لذا ... فقلت لا أفكر في غيظته1
وجلست يومًا في قطاف السفرجل على عين الغيضة الموصوفة بست الشام، مع جماعة من أهل العلم والأدب، فنظم كل منهم ما يليق بذلك المقام على قدر مقامه، فنظمت قولي:
تقول ست الشام لما غازلت ... بعينها فأنعشت حياتي
وانتقشت بمرجها وأبرزت ... نهدًا حلا لأنه نباتي
خذني بغير ضرة فإنني ... بديعة في الحسن والصفات
واستجلني عروسة يتيمة ... شامية وعش بلا حماة
وقولي في وادي رشعين وعينه، بظاهر مدينة طرابلس:
أرض وادي رشعين مفتوحة العيـ ... ـن لها نقطة على النيرين2
ما حللنا هناك إلا وقالت ... أجلسوهم على محاجر عيني
وقولي بوادي المنافس، بظاهرها أيضًا:
وادي المنافس من مغنى طرابلس ... بطيب أنفاسه أبدى نفائسه
وكاد يلحق بالشقرا وأبلقها ... فلا تلوموا إذ أقوى منافسه3
وقولي برأس العين ببعلبك:
ولما نزلنا بعلبك تفكهت ... عيوني وأذواقي وصلت على البين
وطالبتها يومًا برؤية مرجها ... وخضرته قالت على الرأس والعين4
ومن أغزالي البديعة قولي:
ماس في الروض وانثنى ... بخدود مورده
فرأينا غصونه ... وهي خشب مسنده
__________
1 النمروذ: نوع من الأزهار.
2 النيرين: الشمس والقمر.
3 أقوى: ضعف وبلي.
4 على الرأس والعين: تعبير عن الاستجابة للطلب.(2/231)
وقلت موريًا ومقتبسًا ومكتفيًا:
قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما برى بوصله سقاما
اصبر عسى تسقى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتا على ما1
وقولي:
أرخت لنا ذوائبًا من شعرها ... عشرًا وفرق الفجر فيهم يسري
فصرت بالفجر لها معوّذًا ... لما بدا بين ليال عشر2
وقولي: موريًا مع بديع التضمين:
سرنا وليل شعره منسدل ... وقد غدا بنومنا مضفرا3
فقال صبح ثغره مبتسمًا ... عند الصباح يحمد القوم السرى4
وقولي:
قف واستمع طربًا فليلي في الدجى ... باتت معانقتي ولكن في الكرى
وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أتُرى درى هذا الرقيب بما جرى
وقولي:
كم صحت في ظلمة الليالي ... ويلاه من نومي المشرد
والدمع في وجنتي ينادي ... أواه من شملي المبدد
وقولي:
يقول معذبي حسن تخير ... سواي فقلت قد عز اصطباري
وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري
وقولي:
أرشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقه
فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه5
وقولي:
أبصروا عند وداعي ... عقدها وهو مفرط
لمتها في ذاك قالت ... برح الشوق وأفرط6
__________
1 يا حسرتا على ما: على ماء ريقها أو على ما أؤمل.
2 الفجر: سورة الفجر. معوّذًا: حاميًا من التعويذ وهو الاحتماء بآيات القرآن الكريم وبالطلاسم.
3 مضفرًا: بشكل ضفائر واحدتها ضفيرة وهي الجديلة من الشعر أو غيره.
4 السرى: السير ليلًا.
5 الرقة: مدينة سورية.
6 أفرط: زاد.(2/232)
وقولي:
سجدت جفوني هيبة لما بدا ... محراب حاجبه بغير حجاب
الله أكبر وهو يغزو مهجتي ... حربًا ولم أخرج عن المحراب1
وقولي:
طلبت منه قبلة فقال لي ... وقد بدا يشرع في الإعراض
نسيت فعل سيف لحظي قلت لا ... يا قاتلي وكيف أنسى الماضي
وقولي:
قيل لي لما عرتني شدة ... وتناءى فرجٍ عني مده
يا أخا الأشواق ماذا تبتغي ... قلت أبغي فرجًا من بعد شده
وقولي:
مذ جفاني ممرض القلب ولم ... ألق في الضعف وفي الكسر انجبارا
قلت للعارض يا آسي إذا ... درت داري ممرض القلب فدارا
وقولي:
طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه
فرق لي قلبه وقال إذا ... قبلت خدي لا تنكر الحسنه
وقولي موريًا ومضمنًا:
حثثت عزمي شوقًا إليكم ... فلم أطق مكثه بأرض
وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي
وقولي:
جاء بصبح ثغره مبتسمًا ... يمشي بليل الشعر في دلال
قلت له دمت لقلبي هكذا ... ما دامت الأيام والليالي
وقولي مرتجلًا في جبهة دمشق، من دو بيت:
لما ملأ الجبهة بالأنوار ... لمناه على ذلك خوف العار
قال انصرفوا سئمت من بلدتكم ... والجبهة من منازل الأقمار
وقولي:
مذ أظهر ورده لنا ريحانه ... ناديت لتلك المقلة الكسلانه
قد دب عذاره على وجنته ... قومي انتبهي قالت أنا نعسانه
وقولي:
أحببته متأدبًا ونظمت في ... حسن ابتدائي فيه نظم المرقص
وأشار في حسن الختام أجبته ... حسن الختام يكون بعد تخلصي
__________
1 المحراب: مكان العبادة.(2/233)
وقولي:
يحاضرني بأبيات ولكن ... يعيرني إذا طال اجتماعي
فإن أنشدت أشعار السلام ... يطارحني بأبيات الوداعِ "عي"
وقولي:
قلت للخال إذ بدا ... في نقا جيده السعيد
فزت يا عبد قال لي ... أنا عبد لكل جيد
وقولي:
قال أراك الحمى تعوّض ... بغصن قدي إذا جفاكا
فقلت من بعد قد حبي ... والله ما أشتهي أراكا
وقولي:
رمت يوم العيد منه وقفة ... ليرى من بعده حالي وضعفه
فطر القلب وولى قائلًا ... يا معنى ما لعيد الفطر وقفه1
وقولي:
قال نهد الحب صفني مذ غدا ... قاعدًا في الصدر بالتصدير يجهر
قلت إذ برز في تحقيقه ... أنت بالتحقيق والله مصدر
وقولي:
أسياف لحظ قاتلي ... لما تعدت حدها
وعربدت من سكرها ... قلت استحي فردّها2
وقال لي موريًا ... لا بد أن أحدها3
وقولي:
عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكى نشفا
فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفا4
وقولي:
قالت وقد قبلتها في جيدها ... تصبو إلى غيري وتخلص من يدي
فأجبت حين تقلدت بمدامعي ... يا هند خوضي في دمي وتقلدي5
وقولي:
بنقطة الخال وطعم اللمى ... وخضرة الشارب يا عاتبي
قد ملت للنقطة بعد التقى ... وقلت بالمشروب والشارب
__________
1 الوقفة: اليوم الذي يسبق عيد الأضحى وفيه يقف الحجيج بعرفة.
2 عربد: تكلم بكلام ماجن فاحش.
3 أحدها: أعاقبها والحد العقاب المعروف كحد السرقة: القطع، وحد الزنى الجلد إلخ....
4 وكف الدمع: انصبابه.
5 خاض في دمه: قتله. تقلدي: البسي قلادة وهي العقد.(2/234)
وقولي:
أرداف من أهواه قد تثاقلت ... لما تجافى الشعر يوم البين
بعد ذا وجنته تلوّنت ... وساقه والله ذو وجهين
وقولي:
برامة لي ظبي ... تخشى الأسود مرامه
كم هام قلبي فيه ... بين العذيب ورامه
وقولي:
هويت غصنًا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد
قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم أعين سودوا1 "د"
وقولي:
قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهمًا بجعبة رشقه2
خفت من الفتك رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه3
وقولي:
في سويداء مقلة الحب نادى ... لحظه وهو يقنص الأسد صيدا4
لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا
وقولي:
بروحي أفتدي ظبيًا نفورًا ... يحق له بروحي أن يفدى
جلا لصدا قليبي فرد يوم ... بوصل منه ثم جفا وصدا
وقولي مورّيًا مضمنًا:
ومذ كلمت جسمي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم5
فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتًا يتكلم
وقولي:
جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي
أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي6
وقولي:
رأيت مع المنثور بعض وقاحة ... ولم أدر ما بين الغدير وبينه
تلوّن منه ثم مد أصابعًا ... إلى وجهه قصدا وخضر عينه
__________
1 سودوا: كونوا سادة، تزعموا.
2 الجعبة: مكان وضع السهام.
3 ملق: كذب واحتال. ملقة: أملس.
4 قنص: صاد بغتة.
5 كلم: جرّح.
6 هذا البيت مأخوذ من بيت لعنترة بن شداد يفخر فيه بشربه الخمر فيقول:
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
وكما علمت شمائلي وتكرمي
والندى: العطاء والكرم. والشمائل: الصفات الحسنة.(2/235)
وقولي:
حيا بها عاصرها في كأسها ... مشرقة باسمة كالثغر
وقال هذي تحفة في عصرنا ... قلت اسقنيها يا إمام العصر
وقولي:
لما غدا حباب كأسي شاعرًا ... لنظم خمرياته يحرّر1
أوقفت ساقينا على نظامه ... فقال لي والله هذا جوهر
وقولي:
لما غدا راحي نحيلًا باليًا ... وكاد أن لم يك في الزجاج
وجاز بالماء إلى بحرانه ... ورق قالوا صنه بالعلاج
فجئته مستقصيًا أعراضه ... وجدته معتدل المزاج2
وقولي:
في حب كأسي لامني ... من ليس يدري حالتي
فقلت دعني إنني ... وجدت فيها راحتي
وقولي مماجنًا:
أعنابكم إن حرموا ماءها ... وحرفوا فيها على الشارب
لا تحرموني التين إني امرؤ ... أعشقه بالقلب والقالب
وقولي:
أدخلت أيري فيه ... أصبت منه المقاتل
فقلت كيف تراه ... فقال والله داخل
وقولي:
العلم ابن الكوير قال معي ... لطف وظرف حواهما الكرم
وقامتي بانة مهفهفة ... فقلت لا بانة ولا علم
وقولي:
قالوا صفي الدين أشعاره ... ما للورى في طرقها ممشى
وهكذا إنشاؤه مسكر ... قلت لهم والله ما أنشا
وقولي:
ديوان نظمي جاء وهو محرّر ... برقيق نظم لفظه يستعذب
فإذا بدى لا تستقلوا حجمه ... وحياتكم فيه الكثير الطيب
انتهى ما أوردته في باب التورية من كتاب الله وحديث نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكلام أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- ومن نظم فحول العرب والمولدين، إلى أن ارتفع العلم الفاضلي وأوردت محاسنه، ومحاسن من مشى تحت علمه المحمدي، إلى أن اتصل هذا السند بأعيان أهل العصر.
قلت ولولا الحياء من العصابة النباتية، وأنا منها، لعززت العلمين من الوداعي
__________
1 حرّر: كتب.
2 مستقصيًا: متتبعًا ومتبينًا. وأعراض المرض: مظاهره وعلاماته.(2/236)
بثالث، فأوردت هنا من مطرب عطر مفرداته ما يغني عن المثاني والمثالث، فإنه أحد أئمة هذا المذهب، وإذا ذكرت التورية فهو عذيقها المرجب، وعلى كل تقدير ففرسان العلمين المشهورين الفاضلي والنباتي هم الذين أبرزوا عروس التورية من خدرها، وحققوا للناس من تساذج عن نقوش القاعدة وسفل عن علوّ قدرها، ولم أخل بذكر الشهاب محمود، وكان محمود الحشمة في ألفاظه على كل ناظم وناثر، إلا أن التورية كانت غير مذهبه، ووقوعها في نظمه ونثره من النوادر، وتمذهب بها القاضي شهاب الدين بن فضل الله، ولكن ما تفقه في هذا المذهب ولا حرره، ولا أبدر فيها بدر الدين بن حبيب، وكانت ليالي سطورها بنظمه غير مقمرة، ولهذا خدمها حذاق الأدب وحافظوا على الخدمة وثابروا وأنشدوا من رضي بالشعر الموزون:
إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وازن وما أنا شاعر1
قلت: ومما تخيرته من نظم القاضي شهاب الدين بن فضل الله -رحمه الله- من النكت التي وقعت له عفوًا من غير كد ولا تكلف، قوله:
جاءوا بأنواع من الطيب لنا ... تحملها معشوقة ممشوقه2
قلت خذوا الطيب لكم جميعه ... بشرط أن لا تأخذوا المعشوقه
ومما اخترته من نظم بدر الدين بن حبيب -رحمه الله تعالى- قوله:
وجنته الحمراء لما اكتست ... خضرة أذناب الطواويس
عابوا لفرط الحسن دينارها ... فقلت خلوه على كيسي
قلت: وقد عنَّ لي أن أورد هنا نبذة من نظم من كانت التورية غير مذهبه، لأجعلها في مهالك الأشكال وموانع العقادة جل مطلبه، وما عليَّ ممن تأخر عصرًا أو تقدم، فإن الغرض أن يصير عقد التورية وهو بنظم من شعر بها منظم، وما خفي أن من حذاق الأدب من وقعت له التورية عفوًا، وصار العفو محلًا عند القدرة، ومنهم من نقب عنها وعسعس عليه ظلام التكليف، فلم يبرزها نيرة، كالشيخ صفي الدين، فإنها كانت غير مذهبه، وحاولوا مرارًا فأتى بها مغصوبة، ولم يبلغ من اقتناص شواردها بحبائل فكره مطلوبه، كقوله:
__________
1 وازن: هكذا في الأصل ونظنه من التحريف فالبيت غير قائم الوزن والأصح: وزّان: وهو الذي ينظم الشعر الموزون حسب التفعيلات.
2 ممشوقة: طويلة القوام.(2/237)
وساق من بني الأتراك طفل ... آتيه به على جمع الرقاق1
أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي2
قلت: لا شك أن مراده بالمعنى الواحد من التورية ساقي الراح، وهو ظاهر صحيح، وبالمعنى الآخر أن يكون هذا الساقي ساقًا للشيخ صفي الدين، وهو غير ممكن ولعمري إن هذا مسلك من ليس له في باب التورية مدخل، وهذه النكتة أبرزتها معلمة الطرفين، وأنا إذ ذاك مبتدئ لم أبلغ من البلاغة أشدي، ولا ثبت عند قضاة الأدب رشدي، بقولي موريًا ومضمنًا:
يا حسن ساق يقول إن ذهبت ... مدامكم تكيفوا بأحداقي
شمر عن ساقه لنا وسقى ... قامت حروب الهوى على ساق
قلت: ومما عقده الشيخ صفي الدين، في هذا الباب، بيت بديعيته الذي نظمه شاهدًا على هذا النوع، وهو قوله في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم:
خير النبيين والبرهان متضح ... في الحجر عقلًا ونقلًا واضح اللقم3
قلت: ومن تواريه التي يستشهد بها على رفضه، ولا بد أن الله تعالى يقابله فيها على قبح سريرته وقلة أدبه، قوله:
إذا شاهدت عيناك وجه معذبي ... وقد زارني بعد القطيعة والهجر
رأيت بقلبي من تلقيه مرحبًا ... وسيف عليَّ في لحاظ أبي بكر
وكذلك الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي، ناظم البديعية، كان عن نظم التورية بمعزل، ولم ترض أن تنزل من أبياته بمنزل، وبيت نظمه في بديعيته، شاهدًا على هذا النوع، في غاية العقادة والسفالة، وهو قوله:
لا يرفع العين للراجين يمنحهم ... بل يخفض الرأس قولًا هاك فاحتكم
وهذه البديعية غالبها سافل على هذا النمط، والتورية تجل عن أن تكون من مخدرات هذا البيت. ولكن أورد له الشيخ أبو جعفر، في شرحه الذي كتبه على بديعيته، ما هو منقول في هذا الباب، وهو قوله:
__________
1 أتيه: أفتخر.
2 ساقي: الساق المعروفة وساقي الخمر.
3 اللقم: الطريق والنهج الواضح.(2/238)
وقفت للوداع زينب لما ... رحل الركب والمدامع تسكب
مسحت بالبنان دمعي وحلو ... سكب دمعي على أصابع زينب
قلت: ورتبة الشيخ صفي الدين بالنسبة إلى ابن جابر معلوم أنها عالية، ولكن التورية ما دخلت إلى بيت من بيوته إلا خرجت غير راضية.
ومن التواري التي وقعت لناظمها عفوًا، بل سحرًا من غير كد، قول القائل:
قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف
فذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف1
ومن ذلك قول جلال الدين شاعر ماردين قديمًا:
ويوم برد يد أنفاسه ... تخمس الأوجه من قرصها2
يوم تودّ الشمس من برده ... لجرت النار إلى قرصها
ومثله قوله شرف الدين بن منقذ:
ولرب ليل تاه فيه نجمه ... وقطعته سهرًا فطال وعسعسا3
وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا
ومثله قول ابن نبيه، وكانت التورية غير مذهبه:
تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمي ما بعينيه من سقم
فصعدت أنفاسي وقطرت أدمعي ... فصح بذا التدبير تصفية الجسم
ومثله قول ظهير الدين بن البارزي:
يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي
هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك تبت
ومثله قول أمين الدين السليماني:
أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر
__________
1 الخلاف: الصفصاف. وبلا خلاف: بلا شك.
2 تخمش: تلطم وتخدش. القرص: شدة البرد.
3 تاه النجم: غاب. عسعس الليل: انتشر.(2/239)
ومثله قول محاسن الشواء:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأوني ساهيًا ... وقالوا به عين فقلت وعارض2
ومثله قول سعد الدين الفارقي:
قف بي على نجد فإن قبض الهوى ... روحي فطالب خد ليلى بالدم
وإذا دجى ليل الفراق فناده ... يا كافرًا أحللت قتل المسلم
ومثله قول شهاب الدين بن أبي الحوف:
أقول لعقد أذهل الطرف حسنه ... على جيد خود وصلها كل مقصودي3
أخذت نظامًا راق معنى فقال لي ... وما زلت في عمري أدور على الجيد
ومثله قول إبراهيم بن عبد الله الغرناطي:
يا رب كأس لم تشج شمولها ... فأعجب لها جسمًا بغير مزاج
لما رأينا السحر من أشكالها ... جملًا نسبناه إلى الزجاج5
ومثله قول مجير الدين بن حبان الشاطبي:
تؤمون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق
وألفاظي العذيب وأضلعي المنـ ... ـحنى ودموع مقلتي العقيق6
ومثله قول الشريف محمد بن قاضي الجماعة بغرناطه، وهو:
حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقه البهاء
فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء7
__________
1 قارض: جائز قاطع من قرض إذا جاز وقطع.
2 العين: صيبة العين. والعارض: المس.
3 الجيد: العنق. الخود: القناة الحسناء.
4 تشج الكأس: يمزج ما فيها من الخمرة بالماء لكسر سورتها.
5 الزجاج: أحد النحويين العرب.
6 العذيب والمنحنى والعقيق: أودية بظاهر المدينة المنورة.
7 النعمان: الزهر المعروف بشقائق النعمان، والنعمان بن المنذر بن ماء السماء، الملك.(2/240)
ومنه قول لسان الدين بن الخطيب:
جلس المولى لتسليم الورى ... ولفضل البرد في الجوّ احتكام
فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام
ومنه قول الشيخ شمس الدين الأدفوي:
كم للنسيم على الربا من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن تجحدا1
ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهز لها الشمائل بالندى2
ومثله، في الحسن واللطف، قول الشيخ موفق الدين الحكيم:
لله أيامنا والشمل مجتمع ... نظمًا به خاطر التفريق ما شعرا
وا لهف قلبي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعه المختار مختصرا
ومنه قول عبد العزيز الآمدي:
إن الذي في وجهه جنة ... حفت بمكروه من العذل
مقلته في وسط قلبي غدت ... أرملة تأكل بالغزل
ومنه قول القائل وأجاد:
ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت على ضعف النسيم بخطها
كتبت سقيمًا في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها
ومثله، في الحسن، قول علاء الدين بن البطريق ناظر الجيش ببغداد:
دار السراج بديعة ... فيها تصاوير بمكنه
تحكي كتاب كليلة ... فمتى أراها وهي دمنه3
ويعجبني في هذا الباب قول القائل في حمام:
إن حمامك التي نحن فيها ... أي ماء لها وأية نار
قد نزلنا فيها على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخارِ "ي"
__________
1 جحد: أنكر.
2 الفاقة: الحاجة. الشمائل: المكرمات. الندى: العطاء والكرم.
3 دمنة: أخو كليلة الثعلب الذي ورد اسمه في عنوان كتاب لابن المقفع "كليلة ودمنة" والدمنة آثار الدار أو الخربة.(2/241)
ومن المخترعات في هذا الباب، قول الشيخ شمس الدين الواسطي يهجو عوادًا وزامرًا:
شبهت ذا العوّاد والزامر إذ ... ضاقت علينا بهم المناهج
بعقرب يضرب وهو ساكت ... وأرقم بنفخ وهو خارج1
ويعجبني قوله، من دو بيت:
إن ضرمني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري
فالعاذل في هواه لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري
ومنه قول القاضي علاء الدين بن الجويني صاحب الديوان ببغداد:
يا طيب مبيتنا بواد السمر ... في بهجة ليلة بضوء القمر
وافى بفراقنا نسيم سحرًا ... ما أبرد ما جاء نسيم السحر
ومن الغايات في هذا الباب، قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل:
كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل2
والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تُحدُّ والقنا تعتقل3
ومثله قوله:
يا غاية منيتي ويا معشوقي ... من بعدك لم أمل إلى مخلوق
يا خير نديم كان لو يؤنسني ... من بعدك صليت على الراووق4
ويعجبني، من نظم المواليا في هذا الباب، قول القائل:
حبي ومحبوبتي مذ بان يوم البين ... زاروا عشا ليلة الاثنين قبل الحين
فصرت أنظر إلى زينه وألمح زين ... وأقول يا قلب ما أحلى ليلة الاثنين
ومثله، في اللطف، قول الآخر:
سمعتها وهي داخل دارها في الصحن ... تنشد رمل صحنت قلبي المعنى صحن5
يا ليتها مع تغنيها وطيب اللحن ... ترفع أجر ودع يدخل على اللحن6
__________
1 الأرقم: ذكر الحية.
2 الأسل: الرماح. والبيض: الخوذ.
3 تحدّ: تقاصص بالحد وهو قصاص محدد.
4 الراووق: إناء الخمرة.
5 صحنت: ضربت.
6 اللحن: الموسيقى والخطأ النحوي.(2/242)
ومثله قول الآخر:
قالت لها أختها قصدي يسمعنا ... ما النحو قالت لها نحن بأجمعنا
للرفع والنصب أنا وأنتِ ومن معنا ... للجر والزوج حرف جاء للمعنى
ومنه قوله:
ستي الكبيرة لها الخدام والحرمه ... تحلف على النيك بالمصحف وبالختمه
جاها الطواشي أفشخت لو ناك من كلمه ... راحت يمين القواقية على قرمه
ومثله في اللطف قول القائل:
يا منيتي زدت لهواتي تنشفها ... واحرمتني الشفة الحمراء أرشفها
تحب بيضا وأجفانك تحشفها ... بالله أنظر ظلاماتي وكشفها
ويعجبني قول الشيخ حامد الحكاك:
ثار الغرام الذي في مهجتي خامد ... وسال دمعي الذي كنت أعهده جامد
وأنا ببغداد والمحبوب في آمد ... مصيبتي عظمت وأنا لها حامد
وقد طال الشرح، وأوردت في باب التورية من المحاسن ما يكفي، قديمًا وحديثًا، وأوردت بعد ذلك ما وقع فيها من النظم، عفوًا وتكليفًا. وقد تعين على إيراد ما وعدت به في ديباجة هذا الباب، من فقه التورية والكلام على أنواعها وأقسامها، فإن القول على اختلاف عبارات الحدود قد تقدم، والكل راجع إلى مقصود واحد، إذ القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركًا بين معنيين أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد، ويوري عنه بالقريب، فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك، ولهذا سمي هذا النوع إيهامًا.
أنواع التورية:
والتورية أربعة أنواع: مجردة، ومرشحة، ومبينة، ومهيأة.
النوع الأول التورية المجردة: وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورى به، وهو المعنى القريب، ولا من لوازم المورى عنه، وهو المعنى البعيد. وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ط: 5/ 20] ؛ لأن الاستواء على معنيين: أحدهما الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب، والثاني الاستيلاء والملك، وهو المعنى
__________
1 طه، 20/ 5.(2/243)
البعيد المورى عنه، وهو المراد؛ لأن الحق سبحانه منزه عن المعنى الأول، ولم يذكر من لوازم هذا شيئًا، ولا من لوازم ذاك، فالتورية مجردة بهذا الاعتبار. ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خروجه إلى بدر، وقد قيل له: ممن أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل، فقال: من ماء، وأراد أنّا مخلوقون من ماء، فورى عنه بقبيلة من العرب يقال لها ماء. ومن ذلك قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الهجرة وقد سئل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل من هذا؟ فقال هذا هاد يهديني. أراد أبو بكر هاديًا يهديني إلى الإسلام، فورى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر. ومنه قول القاضي عياض، في سنة كان فيها شهر كانون معتدلًا فأزهرت فيه الأرض:
كأن نيسان أهدى من ملابسه ... لشهر كانون أنواعًا من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل1
فالتورية هنا مجردة، والشاهد في الغزالة والجدي والحمل، فإن الناظم لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئًا من لوازم المورى به، كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية، من طول العنق وسرعة الالتفات وسرعة النفرة وسواد العين، ولا من أوصاف المورى عنه، كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية، من الإشراق والسمو والطلوع والغروب. فإن قيل إن الغزالة قد رشحت بذكر الجدي والحمل، وهما مرشحان بالغزالة، فالجواب إن لازم التورية من شرطه أن يكون لفظه غير مشترك، والغزالة هنا مشتركة وكذلك الجدي والحمل.
ومنه قول القاضي محيي الدين بن زيلاق، وقد أهدى لصاحب الموصل حملًا:
يا أيها المولى الذي ... ببابه كل أمل
لو لم تكن بدرًا لما ... أهدى لك الثور حمل
فالتورية وقعت بين البدر والثور والحمل، ولم يذكر لواحد منها لازمًا، فالبدر مشترك بين اسم الممدوح وبدر السماء، والثور مشترك بين الحيوان والبرج في السماء، وكذلك الحمل. ومنه قول بعضهم، من كان وكان:
لو سنبله خلف ظهرو ... ناظر إليها المشتري2
ولو ذنب ما يقارن ... حتى يرى الميزان3
__________
1 الغزالة: الشمس والحيوان المعروف. خرفت: فقدت قدرتها على التفكير والتمييز بين الأشياء. الجدي والحمل: منزلتين من منازل الشمس والمدارين المعروفين وحيوانين معروفين.
2 سنبلة: الشمس في منزلة تدعى السنبلة. المشتري: الكوكب المعروف.
3 ذنب: مذنب وهو مجموعة من الكواكب. الميزان: مجموعة من الكواكب.(2/244)
ومنه قوله القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر يصف واديًا:
وبطحاء من واد يروقك حسنه ... ولا سيما إن جاد غيث مبكر1
به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به العيش يحيى وهو لا شك جعفر2
فالتورية وقعت هنا في الفضل والربيع ويحيى وجعفر، والاشتراك في كل من الأربعة ظاهر.
النوع الثاني: التورية المرشحة: وهي التي يذكر فيها لازم المورى به، سميت بذلك لتقويتها بذكر لازم المورى به، ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية، وتارة بعده، فهي بهذا الاعتبار قسمان: فالقسم الأول منها، هو ما ذكر لازمة قبل لفظ التورية، وأعظم أمثلته قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} 3 فإن قوله بأيد يحتمل الجارحة، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح، البنيان، ويحتمل القوة وعظمة الخالق، وهذا المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد، فإن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول.
ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة:
فلما نأت عنّا العشيرة كلها ... أنخنا فخالفنا السيوف على الدهر
فما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وقر4
الشاهد في الجفون فإنها تحتمل جفون العين، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وقد تقدم لازمًا من لوازمه على جهة الترشيح، وهو الإغضاء؛ لأنه من لوازم العين، وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو مراد الناظم.
ومن ألطف ما وقع في هذا القسم قول شمس الدين الحكيم بن دانيال الكحال:
يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وصنعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
الشاهد هنا، في أعين الناس، فإنها تحتمل الحسد وضيق العين، وهو المعنى
__________
1 البطحاء: الأرض المنبسطة. جاد الغيث: المطر إذا تساقط.
2 الفضل والربيع ويحيى وجعفر: من البرامكة والزيادة وفصل من فصول السنة، ويعيش والنهر.
3 الذاريات: 51/ 47.
4 الوقر: الذل.(2/245)
القريب المورى به، وقد تقدم لازمه على جهة الترشيح، وهو درهم الإنفاق لأنه من لوازم الحسد، ويحتمل العيون التي يلاطفها بالكحل، وهذا هو المعنى المورى عنه، وهو مراد الناظم الكاحل.
انتهى القسم الأول من التورية المرشحة، والقسم الثاني منها، هو ما ذكر لازمه بعد لفظ التورية، ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر:
مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم
قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... خالي قد هام بي عمي
الشاهد في الخال، فإنه يحتمل خال النسب، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو العم.
ومنه قول الشاعر:
أقلعت عن رشف الطلا ... واللثم في ثغر الحبب1
وقلت هذي راحة ... تسوق للقلب التعب
الشاهد هنا في الراحة التي هي ضد التعب، وقد ذكر التعب بعدها على جهة الترشيح لها، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل الراحة التي هي من أسماء الخمر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو مراد الناظم.
النوع الثالث: التورية المبينة: وهي ما ذكر فيها لازم المورى عنه، قبل لفظ التورية أو بعده، فهي بهذا الاعتبار أيضًا قسمان: فالقسم الأول: هو ما ذكر لازمه من قبل، واستشهدوا عليه بقول البحتري:
وراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب
الشاهد هنا في تملح، فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي ضد العذوبة، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو مراد الناظم، وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين ملية بالحسن.
قلت: هذا الشاهد الذي استشهدوا به من نظم البحتري فيه نظر، ولكن يأتي
__________
1 أقلع عن العادة: تركها. الرشف: الشرب على مهل. الطلا: الخمرة.(2/246)
الكلام عليه في موضعه. ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول الشيخ شرف الدين بن عبد العزيز شيخ شيوخ حماة، رحمه الله تعالى:
قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى
يا عاذلي دونك من لحظه ... سهمًا ومن عارضه سطرا
الشاهد هنا في موضعين، وهما: السهم وسطرا، فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمتنزهات دمشق، وذكر النزهة بجلق قبلهما هو المبين لهما، وأما المعنى القريب فسهم اللحظ وسطر العارض.
القسم الثاني من التورية المبينة: هو الذي يذكر فيه لازم المورى عنه بعد لفظ التورية، ومن أمثلته البديعة قول الشاعر:
أرى ذنب السرحان في الأفق ساطعًا ... فهل ممكن أن الغزالة تطلع1
الشاهد هنا في موضعين2:
أحدهما ذنب السرحان، فإنه يحتمل أول ضوء الفجر، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو مراد الناظم، وقد بينه بذكر لازمه بعده بقوله ساطعًا، ويحتمل ذنب الحيوان المعروف، وهذا هو المعنى القريب المورّى به.
واستشهدوا على هذا القسم بقول ابن سناء الملك، وهو:
أما والله لولا خوف سخطك ... لهان عليَّ ما ألقى برهطك
ملكت الخافقين فتهت عجبًا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
الشاهد هنا في: الخافقين، فإنه يحتمل أن يريد قلبه وقرط محبوبه، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم، وقد بينه بالنص عليه فإنه صرح بعد الخافقين بذكر القلب والقرط، ويحتمل أن يريد ملك المشرق والمغرب وهذا هو المعنى القريب المورى به.
النوع الرابع: التورية المهيأة: وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها، أو باللفظ الذي بعدها، أو تكون التورية في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت في الآخر. فالمهيأة، بهذا الاعتبار، ثلاثة أقسام: القسم الأول من التورية المهيأة: وهو
__________
1 السرحان: الذئب والفجر.
2 يبدو أن ابن حجة نسي أن يذكر الموضع الثاني من الشاهد وهو قول الشاعر: الغزالة: التي يحتمل أن تكون ذلك الحيوان المعروف التي تشبه الفتاة الحسناء كما يحتمل أن تكون الشمس.(2/247)
الذي تتهيأ فيه التورية من قبل، وقد استشهدوا على ذلك، بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة:
وسيرك فينا يسرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب1
وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب
الشاهد هنا في الفرض والندب، وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء، والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ولولا ذكر السنة لما تهيأت التورية فيهما، ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية.
القسم الثاني من التورية المهيأة: وهو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعد، ومن أمثلته نثرًا قول الإمام على بن أبي طالب -كرم الله وجهه- في الأشعث بن قيس: "إنه كان يحول الشمال باليمين". فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد.
ومنه نظمًا قول الشاعر:
لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبًا في جنابك خدمة ... لأكون مندوبًا قضى مفروضا2
فالمندوب هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد، ويحتمل أن يكون أحد الأكام الشرعية، وهو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر المفروض بعده لم يتنبه السامع لمعنى المندوب، ولكنه لما ذكر تهيأت التورية بذكره. ومثله قول أبي الحسين الجزار:
يا عذولي دعني من العذل إن ... النصح في مذهب الهوى تحريض
مت لما نأى فها أنا مندو ... ب فراق وحبه مفروض
الكلام على هذا الشاهد كالكلام على الذي قبله.
__________
1 روح عن القلب: فرحه من بعد حزن. الكرب: الشدة والهم.
2 النحب: النحيب وهو أشد البكاء والعمر أو المدة منه.(2/248)
القسم الثالث من التورية المهيأة: وهو الذي تقع التورية فيه في لفظين، لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر، واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو:
أيها المنكح الثريا سهيلًا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
الشاهد، في البيت الأول، في الثريا وسهيل، فإن الثريا يحتمل أن يكون أراد بها بنت على بن عبد الله بن الحرث بن أمية الأصغر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو المراد، والقريب ثريا السماء، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وسهيل يحتمل أيضًا سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل كان رجلًا مشهورًا من اليمن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل النجم المعروف بسهيل، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر الثريا التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل، وكل واحد منهما صالح للتورية.
والتورية هنا، لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبينة؛ لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم خاص، والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية واللفظ الذي تترشح به واللفظ الذي تتبين به، أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيأة، لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلًا، واللفظ المرشح والمبين إنما هما مقوّيان للتورية، فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة.
وسبب نظم هذين البيتين أن سهيلًا المذكور تزوَّج الثريا المذكورة، وكان بينهما بون بعيد في الخلق، فإن الثريا كانت مشهورة في زمانها بالجمال، وسهيل بالعكس، وهذا مراد الناظم بقوله: عمرك الله كيف يلتقيان. وأيضًا هي شامية الدار، وسهيل يماني.
انتهى الكلام على التورية المهيأة وهي آخر أنواع التورية.
وهنا تنبيه فيه فائدة: وهو أن مشايخ هذا العلم قالوا: ليس كل لفظ مشترك بين معنيين تتصور فيه التورية، كاللغات التي تدور على الألسنة، وإنما تتصور حيث يكون المعنيان ظاهرين، إلا أن أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر.
وقد عنَّ لي أن أختم باب التورية بفائدة تكون مسكًا لختامها وبدرًا لتمامها، وهي أن بعض علماء هذا الفن قالوا، إن التورية، إذا جاءت بلازمين فتكافآ ولم يترجح أحدهما على الآخر، فكأنهما لم يذكرا وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة(2/249)
واحدة، وتلحق هذه التورية بالمجردة وتعد فيها قسمًا ثانيًا، وتصير مجردة بهذا الاعتبار. واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر:
غدوت مفكرًا في سرّ أفق ... أرانا العلم من بعد الجهاله
فما طويت له شبك الدراري ... إلى أن أظفرته بالغزاله
وقالوا: إن الشبك من لوازم الغزالة الوحشية، والدراري من لوازم الغزالة الشمسية. قلت: أما قوله في تقريره: إن اللازمين إذا تكافآ ولم يترجح أحدهما على الآخر تصير التورية كالمجردة، فقريب. وأما الشاهد ففيه نظر، فإنه صدر بقوله: غدوت مفكرًا في سرّ أفق فالتفكر في سرّ هذا الأفق الذي أراه العلم من بعد الجهالة؛ لازم خاص يرجح جانب الغزالة الشمسية، وأما الشبك فاستعارة مرشح بالحسن لنجوم الدراري، وهي أيضًا مما يرشح جانب الشمس عند طيها، الذي أراد به الناظم غيابها، ولو كانت الشمس مجردة من الدراري، ربما كان للغزالة الوحشية بعض مقاربة، وعين الشمس هنا ما تغطى على الترجيح، والله أعلم.
واستشهدوا أيضًا على هذا بقول مجير الدين بن تميم:
وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحًا تسل شبابي من يد الهرم1
ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم
وقالوا أيضًا: إن الصبح من لوازم الغزالة الشمسية، والرعي من لوازم الغزالة الوحشية. قلت: أما الصبح فمن لوازم الغزالة الشمسية، كما قالوا، وأما رعي نرجس الظلم فليس من لوازم الغزالة الوحشية، وإنما هو استعارة مرشحة بالحسن للنجوم، وهي مثل استعارة الشباك والدراري، والغزالة الوحشية ليس لها هنا مرعى، فإنها أجنبية من رعي نرجس الظلم الذي هو عبارة عن النجوم، والله أعلم.
وقد تقدم قولي على الشاهد الذي أوردوه للبحتري، في التورية المبينة، بذكر لازم المورى عنه من قبل وقلت: فيه نظر، وهو قوله:
ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلب وتعذب
هذا الشاهد تعارض فيه اللازمان وتكافآ، وهو أقرب إلى المجردة، وما ذاك إلا أن الشاهد في قوله: تملح، يحتمل أن يكون من الملوحة، ولازمه تعذب، وهو المعنى.
__________
1 الغياهب: الظلمات. الراح: الخمرة. سل: سحب بسرعة.(2/250)
القريب، ويحتمل أن يكون من الملاحة، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ولازمه ملية بالحسن، وقد تعارض اللازمان، وهذا هو الشاهد على هذا القسم الذي اختاروه أن يكون قسمًا ثانيًا للتورية المجردة، وأقرب منه قول الشيخ زين الدين بن الوردي:
قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري
صد ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري
ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
حملت خاتم فيه فصًّا أزرقا ... من كثرة اللثم الذي لم أحصه
لولاه ما علم الرقيب فيا له ... من خاتم نقل الحديث بفصه
والأشباه والنظائر من هذا القسم كثير، والغرض أن اللازمين، إذا تعارضا وتكافآ في التورية، يلحق هذا القسم بالتورية المجردة.
انتهى الكلام على التورية، وقد قدمت من نظم الجماعة الذين مشوا تحت العلمين المشهورين ما هو أشهر من الأعلام، فالمتأمل إذا جمع بين طرفي هذا الباب، وعرف الأنواع والأقسام، وضع كل شيء في محله فإني كشفت له اللثام عن وجه التورية، وأما أبيات البديعيات فقد تقدم ذكرها، والله أعلم بالصواب.(2/251)
ذكر المشاكلة:
ن اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم
المشاكلة: في اللغة هي المماثلة، والذي تحرر في المصطلح، عند علماء هذا الفن، أن المشاكلة هي ذكر الشيء بغير لفظه، لوقوعه في صحبته، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 1، فالجزاء عن السيئة في الحقيقة، غير سيئة، والأصل: وجزاء سيئة عقوبة مثلها، ومثله قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 2 والأصل: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما عندك، فإن الحق، تعالى وتقدس، لا يستعمل في حقه لفظ النفس، إلا أنها استعملت هنا مشاكلة لما تقدم من لفظ النفس، ومنه قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 3 والأصل: أخذهم بمكرهم، ومنه قوله تعالي: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 4 أي: فعاقبوه، فعدل عن هذا لأجل المشاكلة اللفظية.
وفي الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا يمل حتى تملوا". الأصل: فإن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا عن مسألته، فوضع لا يمل موضع لا يقطع الثواب، على جهة المشاكلة، وهو مما وقع فيه لفظ المشاكلة أولًا.
ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
__________
1 الشورى: 42/ 40.
2 المائدة: 5/ 116.
3 آل عمران: 3/ 54.
4 البقرة: 2/ 194.(2/252)
أي فنجازيه على جهله، فجعل لفظة نجهل موضع فنجازيه، لأجل المشاكلة. ومثله قول الشاعر، وتلطف ما شاء:
قالو اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
أراد خيطوا، فذكره بلفظ اطبحوا، لوقوعه في صحبة طبخه.
قلت: قد تقرر أن هذا النوع، أعني المشاكلة، اللفظية، أن يأتي المتكلم في كلامه باسم من الأسماء المشتركة في موضعين، فتشاكل إحدى المشاكلتين اللفظيتين الأخرى في الخط واللفظ ومفهومها مختلف. ومن إنشادات التبريزي في هذا الباب، قول أبي سعيد المخزومي:
حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتال
فلفظة الآجال الأولى: أسراب البقر الوحشية، والثانية: منتهى الأعمار، وبينهما مشاكلة في اللفظ والخط. قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمى: "بتحرير التحبير"، هذا الشاهد وأمثاله داخل في باب التجنيس. قلت: قول الشيخ زكي الدين ظاهر ليس في صحته سقم، وهذا البيت الذي أنشده التبريزي من أحسن الشواهد على الجناس التام، ولو اعتمد البديعيون على المشاكلة المعنوية لخلصوا من هذا الاعتراض. وعلى كل تقدير، فالمعارضة تعدّت حكم الالتزام في نظم هذا النوع، أعني المشاكلة اللفظية. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته، على هذا النوع، قوله عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديًا منهم على إرم1
وبيت العميان:
سقاهم الغيث ماء إذ سقى ذهبًا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم2
وبيت الشيخ عز الدين:
يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم
__________
1 إرم: مدينة قوم عاد الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 89/ 7] .
2 شام: طلب.(2/253)
ذكر الجمع مع التقسيم:
مع الأعادي بتقسيم يفرّقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم1
هذا النوع، أعني الجمع مع التقسيم، هو أن يجمع الناظم بين شيئين فأكثر، ثم قسم. كقول أبي الطيب المتنبي:
الدهر معتذر والسيف منتصر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
وقد يتقدم التقسيم ويتأخر، كقول حسان بن ثابت:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا2
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع3
فالأول أحسن وأوقع في القلوب، وعليه مشى أصحاب البديعيات.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
أبادهم فلبيت المال ما جمعوا ... والروح للسيف والأجساد للرخم4
__________
1 الضرم: الاحتراق.
2 أو حالوا: هكذا وردت في الأصل، ونظن أنه سقط منها حرف الواو وهي: حاولوا. أشياعهم: أتباعهم.
3 السجية: العادة. المحدث: الجديد الذي كان بعد أن لم يكن. البدع: الافتراءات وهي ما يستحدث في الدين زورًا وبهتانًا.
4 الرخم: طير من الجوارح كبير الجثة وحشي الطباع.(2/254)
وبيت العميان في بديعيتهم:
والمال والماء في كفيه قد جريًا ... هذا لراج وذا للجيش حين ظمي
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
علم ومال على جمع تقسمه ... هذا لغمر وهذا نفع مغترم4
وبيت بديعيتي:
جمع الأعادي بتقسيم يفرقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم
__________
1 الغمر: الجاهل غير المجرب للأمور. المغترم: الآثم.(2/255)
ذكر الجمع مع التفريق:
ناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى
والعزم كالبرق في تفريق جمعهم
هذا النوع، أعنى الجمع مع التفريق: هو أن يجمع الشاعر بين شيئين في حكم واحد، ثم يفرق بينهما في ذلك الحكم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 1 فكأنه يقول: الشمس والقمر كوكبان، فهذا نهاري، وهذا ليلي، فجمع بينهما إذ هما كوكبان، ثم فرق بأن هذا يضيء نهارًا وهذا يضيء ليلًا، فوقع الفرق في الشيء الذي وقع به الجمع.
واستشهدوا على هذا النوع بقول الفخر عيسى:
تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة
فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي
هذا الناظم جمع بين الدمعين في الشبه، ثم فرق بينهما بأن دمعها أبيض، فإذا جرى على خدها صار أحمر بسبب احمرار خدها , وأن دمعه أحمر؛ لأنه يبكي دمًا وجسده من النحول أصفر، فإذا جرى عليه الدمع حمره.
ومنه قول البحتري:
ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر منا ولاقطه2
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
__________
1 الإسراء: 17/ 12.
2 لاقط الدر: جامعه.(2/256)
وبيت الصفي الحلي:
سناه كالبرق يجلو كل مظلمة ... والعزم كالنار يفني كل مجترم1
وبيت العميان في تركيبه قلق، حيث قالوا:
فلذ بمن كفه والبحر ما افترقا ... إلا بكف وبحر في كلامهم2
وبيت الشيخ عز الدين، شن فيه الغارة على بيت الشيخ صفي الدين الحلي، بقوله:
وعزمه النار في جمع يفرقه ... ووجهه النور يجلو ظلمة الغشم3
وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
سناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم
__________
1 المجترم: مرتكب الجريمة.
2 لاذ: احتمى.
3 الغشم: الظالمون، والليالي المظلمة.(2/257)
ذكر الإشارة:
من إشارته في الحرب كم فهم ألـ ... أنصار معنى به فازوا بنصرهم
هذا النوع، أعني الإشارة، مما فرّعه قُدَامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ القليل مشتملًا على المعنى الكثير، بإيماء ولمحة تدل عليه، كما قيل في صفة البلاغة، هي لمحة دالة. وتلخيص هذا الشرح: إنه إشارة المتكلم إلى المعاني الكثيرة بلفظ يشبه، لقلته واختصاره، بإشارة اليد. فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء، لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة. ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة، وحسن البيان مع الاختصار؛ لأن المشير بيده، إن لم يفهم المشار إليه معناه، فإشارته معدودة من العبث.
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم: سهل الإشارة، كما كان سهل العبارة وهذا ضرب من البلاغة يمتدح به.
والإشارة قسمان: قسم للسان، وقسد لليد. ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} 1 فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء، وذهاب الماء الذي كان حاصلًا على وجه الأرض قبل الإخبار، ولو لم يكن كذلك لما غاض الماء. ومنه قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} 2 فالمح أيها المتأمل كل ما تميل النفوس إليه من اختلاف الشهوات، وملاذ الأعين في اختلاف المرئيات لتعلم أن بلاغة هذا اللفظ القليل جدًّا، عبرت عن المعاني
__________
1 هود: 11/ 44.
2 الزخرف: 43/ 71.(2/258)
التي لا تنحصر عدا. ومنه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 1. ومن المنظوم قول زهير في هذا النوع:
فإني لو لقيتك فاتجهنا ... لكان لكل منكرة لقاء
يعني قابلت كل منكرة بمثلها.
ومن أمثلة هذا النوع قول امرئ القيس:
بعزهم عززت فإن يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا
فانظر كم تحت قوله: أنالك ما أنالا، من أنوع الذل ومثله قوله:
فلأشكرن غريب نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل
أنت الشجاع إذا هم نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل
فالحظ كم تحت قوله: وفضله الفضل، بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت، من أصناف المدح وترجيح فضله على الشكر، وفي قوله: غريب نعمته، غاية المدح، إذ جعل نعمته غريبة لم يقع مثلها في الوجود، وكم تحت قوله: وفعلك الفعل، بعد إخباره بنزول القوم عند المضيق الدال على صبرهم وشجاعتهم، وما في ذلك من ترجيح شجاعته عليهم. ومنه قوله في صفة الفرس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا واني2
فإنه أشار بقوله: أفانين، إلى جمع صنوف عدو الخيل المحمودة، والذي يدل على ذلك قوله: قبل سؤاله، فإن الأفانين المحمودة كانت منه عفوًا من غير طلب ولا حث، وهذا كمال الوصف. ولو عدت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها، لاحتاجت في العبارة إلى ألفاظ كثيرة.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته:
يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكًا كبيرًا عدا ما في نفوسهم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
ما تشتهي النفس يهدي في إشارته ... يعطي فنونًا بلا من ولا سأم
وبيت بديعيتي:
ومن إشارته في الحرب كم فهم ... الأنصار معنى به فازوا بنصرهم
__________
1 النجم: 53/ 10.
2 الهيكل: الحصان الضخم الجثة الغليظ العظام. الكزّ: السريع. الواني: البطيء.(2/259)
ذكر التوليد:
ليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم
قلت: هذا النوع أعني، التوليد: ليس تحته كبير أمر، وهو على ضربين من الألفاظ والمعاني، فالذي من الألفاظ تركه أولى من استعماله؛ لأنه سرقة ظاهرة، وما ذاك إلا أن الناظم يستعذب لفظة من شعر غيره، فيقتضبها ويضمنها غير معناها الأول في شعره، كقول امرئ القيس في وصف الفرس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل1
فاستعذب أبو تمام قيد الأوابد فنقلها إلى الغزل فقال:
لها منظر قيد الأوابد لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب2
والتوليد من المعاني، هو الأجمل والأستر3، وهو الغرض ههنا، وذلك أن الشاعر ينظر إلى معنى من معاني من تقدمه، ويكون محتاجًا إلى استعماله، في بيت من قصيدة له، فيورده ويولد منه معنى آخر، كقول القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل4
وقال من بعده، ونقص الألفاظ، وزاد تمثيلًا وتوكيدًا وتذييلًا:
__________
1 الوكنات: جمع وكنة وهي العش والمخبأ. المنجرد: الذي يسهل قيادة قيد الأوابد: يعني أنه لسرعته لا تفلت منه الوحوش. الهيكل: الضخم
2 الخفارة: الحراسة.
3 "الأستر": هكذا وردت ونعتقد أنها: "الأَسْيَر" أي الأكثر وجودًا في النظم.
4 المتأني: المتمهل. الزلل: الخطأ.(2/260)
فمعنى صدر هذا البيت معنى بين القطامي بكماله، ومعنى عجزه نوع التذييل، وما تقدم ذكره، وهو مولد.
قال ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير": أغرب ما سمعت في التوليد قول بعض العجم:
كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشهي العذب صاد
وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد1
فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد لصًّا، وولد من معناه ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم، فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع.
من سبّق لا يرى سوط لها سملا ... ولا جديد من الأرسان واللجم2
بيت صفي الدين هنا غير صالح للتجريد، وقد تكرر عليه هذا النقد في كثير من الأبيات، فإن بيته لم يظهر له معنى إن لم ينشد البيت الذي قبله، وهذا العيب سماه علماء هذا الفن التضمين، ويأتي الكلام عليه في موضعه، ولكن هو أقبح ما يكون في البديعيات؛ لأن المراد من بيت البديعيات أن يكون بمجرده شاهدًا على النوع المذكور، ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده.
وبيت صفي الدين مولد من قول أبي عبد الله بن الحجاج:
خرقت صفوفهم بأقب نهد ... مراح السوط متعوب العنان3
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين:
ما لي بتوليد مدحي في سواه هدى ... لمعشر شبهوا الهندي بالجلم4
وبيت عز الدين هنا صالح للتجريد، فإن ضميره عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما قوله:
__________
1 بهيم: شديد السواد.
2 السبق: الخيل السابقة. السوط: الكرباج. سمل: البالي من كثرة استعماله أي هي خيول تسبق دون أن تضرب. اللجم جمع لجام وهو حديدة توضع في فم الخيل ليسهل قيادها والسيطرة عليها.
3 الأقب: من الخيل الضامر. النهد: السريع القفز. مراح السوط: مدهونه وذلك ليصير أشد لسعًا. متعوب العنان: عنانه تعب لسرعته.
4 الهندي: السيف. الجلم: المقص.(2/261)
لمعشر شبهوا الهندي بالجلم، فإن ذكر في شرحه أنه ولده من قول أبي الطيب المتنبي:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما أراه من الإحسان عميانا1
ثم قال في الشرح: ما شبه السيف بالمقص إلا أعمى. قلت: ومن أين لنا أن تشبيه السيف بالجلم مولد من بيت المتنبي، وألفاظها ومعانيها ظاهرة للمتأمل.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
توليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم
معنى هذا البيت ولدته من قول أبي تمام:
والنصر من شهب الأرماح لامعة ... بين الخميس علا في السبعة الشهب2
ولكن ذكر التوليد هنا، وهو اسم النوع البديعي، مع النصرة لا تخفى محاسنه على حذاق الأدب، فإنه التوليد في التوليد، وذكر الرمل هنا توليد آخر، وقد جمعت في صدر هذا البيت وعجزه بين التوليد الذي هو المراد من التورية في تسمية النوع، وبين التذييل بقولي، بعد تتمة الفائدة: ما توليد رملهم، وبين مراعاة النظير، بذكر التوليد والرمل والسبعة الشهب والنصرة، وجمعت بين قسمي التوليد في اللفظ والمعنى، والذي بينهما من توليد المحاسن الظاهرة الزائدة على بيت أبي تمام غير خاف على المتأمل المنصف، والله أعلم.
__________
1 العيس: الإبل جمع أعيس.
2 الخميس: الجيش.(2/262)
ذكر الكناية:
قالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم1
الكناية: هي الإرداف بعينه، عند علماء البيان، وإنما علماء البديع أفردوا الإرداف عنها، والكناية هي أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى ردفه في الوجود فيومئ إليه، ويجعله دليلًا عليه، مثال ذلك قولهم: طويل النجاد، كثير الرماد، يعنون بذلك أنه طويل القامة، كثير القرى2. فلم يذكروا المراد بذكره الخاص به، ولكن توصلوا إليه بمعنى آخر هو رديفه في الوجود، ألا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر الرماد؟ ومن أحسن الأمثلة على هذا النوع قول الشاعر:
بعيدة مهوى القرط أما لنوفل ... أبوها وأما عبد شمس وهاشم3
أراد أن يذكر طول جيدها فأتى بتابعه وهو بعد مهوى القرط. ومثله قول ليلى الأخيلية:
ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
كَنّتْ عن الإفراط في الجود بخرق القميص، لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء.
والأبلغ في هذا الباب والأبدع، أن يكني المتكلم عن اللفظ القبيح باللفظ الحسن.
__________
1 نجاد السيف: حمائله وطويل نجاد السيف كناية عن طول قامته.
2 القِرى: إطعام الضيوف.
3 بعيدة مهوى القرط: كناية عن طول عنقها. والمهوى: الموضع، والقرط: ما تتزين به المرأة في أذنيها.(2/263)
والمعجز في ذلك قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1 كناية عن الحدث، وقوله جل جلاله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} 2 يريد بذلك ما يكون بين الزوجين. وعلى الجملة لا تجد معنى من هذه المعاني في الكتاب العزيز إلا بلفظ الكناية؛ لأن المعنى الفاحش متى عبر المتكلم عنه بلفظه الموضوع له كان الكلام معيبًا، من جهة فحش المعنى، ولهذا عاب قدامة على امرئ القيس قوله:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول3
إذا ما بكى من تحتها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول
قال، أعني قدامة: عيب هذا الشعر من جهة فحش المعنى، والقرآن منزه عن ذلك. ولو استعار امرؤ القيس لمعناه الفاحش لفظ الكناية لسلم من العيب، وهذا القدر ينتقد على مثله. وفي السنة النبوية من الكنايات ما لا يحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم: لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن الضرب، أو كثرة السفر. وحكى ابن المعتز أن العرب كانت تقول لمن به أُبنة4 أنت تحت العصا وأنشد:
زوجك زوج صالح ... لكنه تحت العصا
ومن نخوة العرب وغيرتهم كانت كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض، وقد جاء القرآن العزيز بذلك، فقال سبحانه: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 5. وقال امرؤ القيس في معلقته:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهواتها غير معجل6
أي بيضة خدر يعني امرأة كالبيضة في صيانتها لا يرام خباؤها لعزتها. ومن لطائف الكنايات قول بعض العرب:
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمه الله السلام
__________
1 المائدة: 5/ 75.
2 النساء: 4/ 21.
3 طرق: زار ليلًا. ذو التمائم: الولد. المحول: الذي له حول من العمر.
4 الأُبنة: العيب.
5 الصافات: 37/ 49.
6 بيضة الخدر: المرأة المصونة في خدرها وهو الخباء. لا يرام: لا يمكن الوصول إليه. لهواتها: واحدتها لهاة وهي قطعة من اللحم مدلاة في سقف الفم.
وهذا البيت يروى كما يلي:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
وغير معجل: غير مستعجل، دليل على عدم الخوف.(2/264)
سألت الناس عنك فخبروني ... هناة ذاك تكرهه الكرام1
وليس بما أحلّ الله بأس ... إذا هو لم يخالطه الحرام
فإن هذا الشاعر كنى بالنخلة عن المرأة، وبالهناة عن الرفث، فإن العرب كانت تكني بها عن مثل ذلك. وأما الكناية بالنخلة عن المرأة من ألطف الكنايات.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته عن الكناية قوله:
كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم2
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
داع كثير رماد القدر إن وصفت ... كناية بطنها والظهر بالدسم
قول الشيخ عز الدين: كثير رماد القدر، معلوم أنه أراد بذلك الكرم، وأما تتمة البيت، فالدسم الظاهر من القدر في ظاهرها تعافه النفس، ولفظة الدسم سافلة بعيدة عن حشمة الألفاظ.
وبيت بديعيتي:
ؤقالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم
تقدم القول إن الناس كنوا بطول النجاد عن طول القامة، وبكثرة الرماد عن كثرة القرى، ولكن الكناية بألسن النار عن كثرة الكرم والقرى لا تخفى استعارتها التي كادت تقوم مقام الحقيقة من المحاسن الظاهرة، والله أعلم بالصواب.
__________
1 الهناة: واحدتها هنة وهي الضعف والعيب.
2 الصوارم: السيوف.(2/265)
ذكر الجمع:
آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم
هذا النوع، أعني الجمع: هو أن يجمع المتكلم بين شيئين فأكثر في حكم واحد، كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1 جمع سبحانه وتعالى المال والبنون في الزينة. ومنه قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 2 فجمع بين الشمس والقمر في الحسبان، وجمع بين النجم والشجر في السجود. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنًا في سربه معافَىً في بدنه -ويروى في جسده- عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها، وهي النواحي والواحد حذفار، ومنه قول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
فجمع بين الشباب والفراغ والجدة في المفسدة.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الجمع قوله:
آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم
وبيت العميان في بديعيتهم:
قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم
__________
1 الكهف: 18/ 46.
2 الرحمن: 55/ 5، 6.(2/266)
وبيت الشيخ عز الدين:
للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والعلم والحلم جمع غير منخرم1
قلت: حشو لفظة يرى، في بيت الموصلي، أذهب طلاوة الانسجام.
وبيت بديعيتي:
آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم
__________
1 المنخرم: المنقطع، والمثقوب والمنثلم.(2/267)
ذكر السلب والإيجاب:
إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المنّ منه سلب محتشم
هذا النوع، أعني: السلب والإيجاب، ذكر ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير": أنه من مستخرجاته. ولكن رأيت لأبي هلال العسكري تقريرًا حسنًا على هذا النوع، وهو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة، وإثباته من جهة أخرى، والذي قرَّره ابن أبي الأصبع، هو أن يقصد المادح إفراد ممدوحه بصفة لا يشركه فيها غيره، فينفيها في أوّل كلامه عن جميع الناس، ويثبتها لممدوحه بعد ذلك، كقول الخنساء في أخيها:
وما بلغت كف امرئ متطاولًا ... من المجد إلا والذي نلت أطول
ولا بلغ المهدون للناس مدحة ... وأن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: ويروى متناولًا، ونصبها على أنها مفعول به، وما هنا أبلغ، وعلى هذه الرواية رسمنا هذا الشاهد. وأخذ أبو نواس معنى البيت الثاني، ولكن لم يتمكن منه إلا في بيتين، ومع ذلك قصر عنه تقصيرًا زائدًا، فقال:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ منا بمدحة ... لغيرك إنسانًا فأنت الذي نعني
هذا كله عين كلام الخنساء، ولكن فاته وإن أطنبوا في بيت الخنساء، وقولها: وما بلغ المهدون، وكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس، والفرق بين فأنت الذي نعني، وبين الذي فيك أفضل ظاهر وأعظم الشواهد علي هذا النوع قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} 2 ومنه قول امرئ القيس:
__________
2 الإسراء: 17/ 23.(2/268)
هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج1
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع:
أغرّ لا يمنع الراجلين ما طلبوا ... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله:
لم ينف ذمًا بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم
وبيت بديعيتي:
إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب محتشم
__________
1 هضيم الحشا: دقيقة الخصر. الحجل والدملج: الأساور والمجوهرات.(2/269)
ذكر التقسيم:
هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيًّا وميتًا ومبعوثًا مع الأمم
التقسيم أول أبواب قدامة، وهو في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزأته، وفي الاصطلاح اختلفت فيه العبارات والكل راجع إلى مقصود واحد، وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين ليخرج اللف والنشر، هذه عبارة صاحب التلخيص وذكر بعضها في الإيضاح.
وقال السكاكي: هو أن يذكر المتكلم شيئًا ذا جزأين أو أكثر ثم يضيف إلى واحد من أجزائه ما هو له عنده.
ومنهم من قال: هو أن يريد المتكلم متعددًا، أو ما هو في حكم المتعدد، ثم يذكر لكل واحد من المتعددات حكمه على التعيين.
وتعجبني بلاغة زكي الدين بن أبي الأصبع، فإنه قال: التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، ومثل ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 1 ليس في رؤية البرق غير الخوف من الصواعق، والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة، تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق لا يحصل فيها المطر في أول برقة، ولا يحصل إلا بعد تواتر البرقات، فإن تواترها لا يكاد يكذب، ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة ثم تنتجع، فلا تخطئ الغيث والكلأ، وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:
وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام
__________
1 الرعد: 13/ 12.(2/270)
فلما كان الأمر المخوف، من البرق، يقع في أول برقة، أتى ذكر الخوف في الآية الكريمة أولًا، ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف، أتى ذكر الطمع في الآية الكريمة ثانيًا، ليكون الطمع ناسخًا للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 1 فاستوفت الآية الكريمة جميع الهيئات الممكنات. ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه} 2 فاستوفت الآية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها، فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة. ومنه قوله تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} 3 فالآية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة، ولا رابع لها، والمراد الحالي والماضي والمستقبل فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل، وما خلفنا المراد به الماضي، وما بين ذلك الحال.
وفي الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أوتصدقت فأبقيت". ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أقام الصلاة كان مسلمًا ومن آتى الزكاة كان محسنًا ومن شهد أن لا إله لا الله كان مخلصًا". فإنه صلوات الله عليه استوعب الوصف الذي من الدرجات العليا والوسطى والسفلى. ومنه قول على بن أبي طالب، كرم الله وجهه: "أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره". فإنه استوعب أقسام الدرجات، وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص.
ويحكى أن بعض وفود العرب قدم على عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وكان فيهم شاب فقام وتقدم في المجلس وقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون. سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لنا لا تمنعونا، وإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين. قال عمر بن عبد العزيز: ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرًا.
ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضله، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت: قال الحسن: ما ترك الأعرابي في واحدة عذرًا.
__________
1 آل عمران: 3/ 191.
2 فاطر: 35/ 32.
3 مريم: 19/ 64.(2/271)
ومن النظم قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم1
ونقل أبو نواس جد زهير إلى الهزل، فقال:
أمر غدٍ أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس
فإنما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس2
وقال ابن حيوس، وأجاد في تقسيمه:
ثمانية لم يفترقن جميعها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شقر3
ضميرك والتقوى وكفك والندى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض، قدس الله روحه:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ... ونور ولا نار وروح ولا جسم
وأنشد سيبويه بيتًا بديعًا على هذا الباب، وهو قوله:
فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريق أيمن الله ما ندري
ويعجبني قول الحماسي في هذا الباب.
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... عن الدار أو من غيبته المقابر
ويعجبني قول، أبي تمام في مجوسي أحرق النار:
صلى لها حيًّا وكان وقودها ... ميتًا ويدخلها مع الفجار
ومنه قول عمرو بن الأهتم:
اشربا ما شربتهما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير
وبيت صفي الدين مأخوذ من قول عمرو بن الأهتم:
أفنى جيوش العدا غزوًا فلست ترى ... سوى قتيل ومأسور ومنهزم
__________
1 غم: جاهل.
2 ابنة الشمس: من أسماء الخمرة.
3 ذبَّ: دافع وحامى. الشَّقْر: الأمر المهم.(2/272)
وبيت النعمان في بديعيتهم
غيثان أما الذي من فيض أنمله ... فدائم والذي للمزن لم يدم
وبيت الشيخ عز الدين:
تقسيمه الدهر يومًا أمسه كغد ... في الحلم والجود والإيفاء للذمم
قلت: قد تقدم شرح هذا النوع، وتقرر أن الاثنين في التقسيم لا يمكن أن يكون لهما ثالث، والثلاثة لا يجوز أن يكون لها رابع. وقد تقدم في الاثنين قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 1 وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في المطر. وتقدم في تقسيم الثلاثة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت". ولا رابع لهذه الثلاثة.
ورأيت باب الزيادة في بيت الشيخ عز الدين مفتوحًا، فإنه يحتمل الحلم والجود وإيفاء الذمم والشجاعة والصبر والقناعة والدين وهلم جرًا. وتقدم أن بيت صفي الدين الحلي مأخوذ من بيت عمرو بن الأهتم.
اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير
فهذه الثلاثة لا تحتمل رابعًا.
وكذلك بيت صفي الدين، فإنه مأخوذ من هنا. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيًّا وميتًا ومبعوثًا مع الأمم
وهذه الثلاثة أيضًا لا يمكن أن يكون لها رابع، وهذا النوع ليس في تحصيله على واضعه مشقة زائدة على حذاق الأدب، لا سيما مثل الشيخ عز الدين. والذي أقوله: إنه لم تضق عليه المسالك إلا بالتزام التورية في تسمية النوع، والله أعلم.
__________
1 الرعد: 13/ 12.(2/273)
ذكر الإيجاز:
أوجز وسل أوّل الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم
هذا النوع، أعني الإيجاز، اعتنت به فصحاء العرب وبلغاؤها كثيرًا، فإنهم كانوا إذا قصدوا الإيجاز أتوا بألفاظ استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة، كأدوات الاستفهام والشرط وغير ذلك. فقولك: أين زيد؟ مغن عن قولك: أزيد في الدار أم في المسجد، إلى أن تستقري جميع الأماكن. وقولك: من يقم أقم معه، مغن عن: إن يقم زيد أو عمرو أقم معه. وما بالدار من أحد، مغن عن قولك: ليس فيها زيد ولا عمرو. فغالب كلام العرب مبني على الإيجاز والاختصار، وأداء المقصود من الكلام بأقل عبارة.
وهذا النوع على ضربين: إيجاز قصر، وإيجاز حذف. فإيجاز القصر: اختصار الألفاظ، وهو كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1 فهذا اللفظ الوجيز المعجز المختصر، غاية في الإيجاز والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2 وعظ في ذلك بألطف موعظة، وذكر بألطف تذكرة، واستوعب جميع أقسام المعروف والمنكر، وأتى بالطباق اللفظي والمعنوي، وحسن النسق والتسهيم، وحسن البيان والإيجاز، وائتلاف اللفظ ومعناه، والمساواة وصحة المقابلة وتمكين الفاصلة. ومن ذلك قول الشاعر:
يا أيها المتحلي دون شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
__________
1 البقرة: 2/ 179.
2 النحل: 16/ 90.(2/274)
وإيجاز الحذف: عبارة عن حذف بعض لفظه، لدلالة الباقي عليه كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} 1 وكقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدًا سيفًا ورمحا
أي ومعتقلًا رمحا. ومثله قول الشاعر: علفتها تبنًا وماء باردًا،
أي: وسقيتها ماء باردًا.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على الإيجاز:
واستخدم الموت ينهاه ويأمره ... بعزم مغتنم في زي مغترم
تقديره بعزم رجل مغتنم، ومثله في زي مغترم، ولكنه ما تحته في بلاغة الإيجاز كبير أمر.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وقول الشيخ عز الدين:
وسل زمانك تلف الكتب راوية ... إيجاز معنى طويل الذكر مرتسم2
الشيخ عز الدين إيجازه: وسل زمانك، أي أهل زمانك، وأما بقية البيت فلا أفهم له معنى، فإن البيت الذي قبله متعلق بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ماش في أثر الأبيات التي قبله، وأما رواية الكتب لإيجاز هذا المعنى الطويل المرتسم، فإنه نوع من المعميات، والله أعلم.
وأما بيت بديعيتي فهو قولي عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم
الضمير في لفظة فيه عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيجاز البديع البليغ الغريب في قولي:
وسل أول الأبيات، فإنه إشارة إلى أول بيت وضع للناس، والإيجاز الثاني في قولي: وسل مكة أي وسل أهل مكة، فهذا البيت المبارك فيه إيجازان بليغان، وفيه التورية بتسمية النوع، وفيه المناسبة البديعة بين مكة والبيت والحرم، ومراعاة النظير أيضًا بين الإيجاز والمدح والإثبات، وفي الأبيات تورية أخرى، ونوع التمكين في القافية ظاهر.
__________
1 يوسف: 12/ 82.
2 تَلْفَ: تجد.(2/275)
ذكر المشاركة:
بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم1
هذا النوع، أعني الاشتراك، جعله ابن رشيق وابن أبي الأصبع ثلاثة أقسام: قسمان منها من العيوب والسرقات، وقسم من المحاسن: وهو أن يأتي الناظم في بيته بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكًا أصليًّا، أو فرعيًّا، فيسبق ذهن سامعها إلى المعنى الذي لم يرده الناظم، فيأتي في آخر البيت بما يؤكد أن المقصود غير ما توهمه السامع، كقول كثير عزة:
وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلَيّ ولم تعلم بذاك القصائر2
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء الحباتر3
فإنه أثبت في البيت الثاني ما أزال به وهم السامع من أنه أراد القصار مطلقًا، وقد يلتبس الاشتراك بالتوهيم على من لا يحققه، والفرق بينهما أن الاشتراك لا يكون إلا باللفظة المشتركة، والتوهيم يكون بها وبغيرها من تحريف أو تصحيف أو تذييل، والفرق بينه وبين الإيضاح أن الإيضاح في المعاني خاصة، لا تعلق له بالألفاظ، وهذا نوع اشتراك اللفظة. وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع قوله:
شيب المفارق يروى الضرب من دمهم ... ذوائب البيض بيض الهند لا اللمم
__________
1 اللقم: الطريق والنهج.
2 القصائر: النساء المقصورات في خدورهن.
3 الْحَبَاتر: القصار، مفردها حباتر وحبتر.(2/276)
هذا البيت الاشتراك فيه بين البيض، فلولا بيض الهند التي ترشح بها جانب السيوف، بذكر الهند، لسبق ذهن السامع إلى أنه أراد الذوائب البيض، ولكن بيت الشيخ صفي الدين لم يخل من بعض عقادة.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
وللغزالة تسليم به اشتركت ... مع التي هي ترعى نرجس الظلم
هذا البيت يصلح أن يعد من باب الإشارة في الجناس المعنوي، فإن الشيخ عز الدين أضمر أحد الركنين وأظهر الآخر، وهذا حد جناس الإشارة من المعنوي، فإنه ذكر الغزالة في أول البيت وأضمر الغزالة الشمسية في الشطر الثاني، وهذا النوع تقدم تقريره، ولو صرح الشيخ عز الدين في الشطر الثاني بلفظة الغزالة، وذكر معها الإشراق والنور بحيث يزيل وهم السامع أن المراد الغزالة الوحشية، ويتحقق أن المراد الغزالة الشمسية، أو بالعكس، كان نوع الاشتراك في بيته خالصًا، مع ما فيه من النظر، وهو أن كلًّا من الغزالتين سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه أظهر لفظ الغزالة الثانية، فتحتم أنه صار جناسًا معنويًّا، ولعمري إنه أحسن من بيته الذي استشهد فيه على الجناس المعنوي في أول بديعيته:
وكافر نعم الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي
فإن أظهر في أول البيت لفظة كافر، والليل يسمى كافرًا، فأضمر لفظة كافر الذي هو الليل، وتالله إن بيته الذي نظمه شاهدًا على نوع الاشتراك يستحق الجناس المعنوي، استحقاقًا ذوقيًّا وهو أسجم من هذا البيت وأرق للمعنى وأوقع في الأسماع. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم
هذا البيت يجب أن يعتمد عليه في هذا النوع، ولا يخفى على أهل الذوق السليم ما في تركيبه. والعميان ما نظموه في بديعيتهم. وبيت عز الدين تقرر أن الجناس المعنوي أحق به، واشتراك بيتي في لفظة الحجر، فإني قلت في أول بيتي بالحجر ساد وهذه اللفظة مشتركة بين العقل وسورة الحجر، فلما قلت في الشطر الثاني: حجر الكتاب المبين، زال الالتباس عن السامع وعلم المراد، وترشح عنده جانب السورة المنزلة على الممدوح فيه، صلى الله عليه وسلم.(2/277)
ذكر التصريع:
تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم
هذا النوع، أعني التصريع: هو عبارة عن استواء آخر جزء في صدر البيت، وآخر جزء في عجزه في الوزن والروي والإعراب، وهو أليق ما يكون بمطالع القصائد، وفي وسطها ربما تمجه الأذواق والأسماع. وهذا وقع في معلقة امرئ القيس فإنه صرع المطلع بقوله:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوي بين الدخول فحومل1
وقال في أثناء هذه القصيدة:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
قلت: وعلى كل تقدير، ليس في نوع التصريع كبير أمر حتى يعد من أنواع البديع، ولكن القوم كلما تغالوا في الرخص رغبوا في الكثرة. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
لاقاهم بكماة عند كرهم ... على الجسوم دروع من قلوبهم2
والعميان ما نظموه. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
لا زال بالعزمات العز والهمم ... يصرع الضد بالتشطير في القمم
__________
1 سقط اللوى والدَّخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء.
2 الكماة: الأبطال الشجعان.(2/278)
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم:
تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم
انظر أيها المتأمل المنصف إلى بديع التورية وترشيحها، عند ذكر الأبواب بالفتح، هو فتوح في هذا الباب، مع سهولة التركيب، وحسن الانسجام، وتمكين القافية.(2/279)
ذكر الاعتراض:
فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم
هذا النوع، أعني الاعتراض، هو عبارة عن جملة تعترض بين الكلامين، تفيد زيادة في معنى غرض المتكلم. ومنهم من سماه الحشو، وقالوا في المقبول منه: حشو اللوزينج، وليس بصحيح، والفرق بينهما ظاهر، وهو أن الاعتراض يفيد زيادة في غرض المتكلم والناظم، والحشو إنما يأتي لإقامة الوزن لا غير. وفي الاعتراض من المحاسن المكملة للمعاني المقصودة ما يتميز به على أنواع كثيرة، ومن معجزه في القرآن: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1. ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 2 ومن الشواهد الشعرية قول بعضهم:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله: وبلغتها، من الاعتراضات التي زادت المعنى فائدة في غرض الشاعر، وهو الدعاء للمخاطب، وأمثلته كثيرة، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
فإن من أنفذ الرحمن دعوته ... وأنت ذاك لديه الجار لم يضم3
__________
1 البقرة: 2/ 24
2 الواقعة: 56/ 76.
3 أنفذ: جح. يضم: يصاب بالضيم وهو الضيق والهوان.(2/280)
فقوله: وأنت ذاك، هو الاعتراض بعينه، فإنه زاد المعنى. وسماه قدامة التفاتًا، وهو قريب.
والعميان ما نظموه. وبيت الشيخ عز الدين:
فلا اعتراض علينا في السؤال به ... أعني الرسول لكي ننجو من الضرم1
فقول الشيخ عز الدين: أعني الرسول، هو الاعتراض الذي أراده. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم
فقولي، بين الكلامين: هو الشفيع، هو الاعتراض البديع المتمكن، فإن في قول عز الدين: أعني الرسول، ركة تدل على ضعف التركيب، وكذلك قول الشاعر في مخلص مديحه: أعني فلانًا، يدل على ضعف رويته وقلة تصرفه، فإنهم عدوا ذلك من المخالص الواهية، ولم يجنح إليه إلا عوام أهل الأدب، ومثل الشيخ عز الدين ينتقد عليه ذلك والله أعلم.
__________
1 الضرم: النار والاحتراق بها.(2/281)
ذكر الرجوع:
وما لنا من رجوع عن حماة بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم1
هذا النوع، أعني الرجوع، ذكره ابن المعتز وأبو هلال العسكري، وسماه بعضهم استدراكًا واعتراضًا، وليس بصحيح. قال القاضي جلال الدين القزويني في "التلخيص والإيضاح": هو العود على الكلام بالنقض لنكتة، كقول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم2
والنكتة فيه، كأنه لما وقف بالديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من التغير، فقال لم يعفها القدم، ثم رجع إلى عقله وتحقق ما هي عليه من الدروس، فقال بلى عفت، وعليه بيت الحماسة:
أليس قليلًا نظرة إن نظرتها ... إليك وكل ليس منك قليل
ويعجبني هنا قول أبي البيداء:
وما لي انتصار إن غدا الدهر جائرًا ... عليَّ بلى إن كان من عندك النصر
وأما من سَمّى هذا النوع استدراكًا واعتراضًا، فتسميته غير صحيحة، والذي أقول: إن هذا الرجوع لا فرق بين السلب والإيجاب، وقد تقدم قول أبي هلال العسكري: إن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة، وإثباته من جهة.
__________
1 الحشم: العيال والأهل والتابعون.
2 يعفها: يبلها. القِدَم: العِتق. الأرواح: الرياح. الديم: الأمطار.(2/282)
أخرى. وقال القاضي جلال الدين: الرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض، وكل من التقريرين لائق بالنوعين، وللمتأمل أن ينظر في ذلك ليحسن ذوقه.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات إن العذر لم يقم
وبيت العميان:
قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي1
وبيت الشيخ عز الدين:
رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم2
قلت: ليس في بيت الشيخ عز الدين رجوع، إلا عن حشمة الألفاظ وفخامتها في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن قوله: سديد القول، دون من أنزل الله القرآن في أوصافه.
ويعجبني قول ابن نباتة في لاميته:
ماذا عسى الشعراء اليوم مادحة ... من بعد ما مدحت حم تنزيل3
وأيضًا، فإنه كان يجب على الشيخ عز الدين أن يقول في النوع البديعي، الذي هو الرجوع: رجعت عن الأمداح، حتى يصح النقض في الشطر الثاني، وإنما قال: رمت، كأنه يرى أن يرجع. وعلى الجملة، فالبيت قاصر من كل وجه.
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولي:
وما لنا من رجوع عن حماة بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم
هذا البيت لم يحتج إلى إطلاق عنان القلم في ميادين الطروس، بوصف ما فيه من المحاسن، إذ في مدح أهل الذوق، من علماء هذا الفن، ما يغني عن ذلك والله أعلم.
__________
1 فلوا: قطعوا والغرب: العزيمة والقوة. الشانئ: العدو المبغض. حمي: احتمى.
2 رام: طلب وأراد. سديد القول: صائبه.
3 حم تنزيل: من سور القرآن الكريم وفيها مدح للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم.(2/283)
ذكر الترتيب:
ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم1
هذا النوع، أعني الترتيب، من استخراجات التيفاشي، ذكره في كتابه وسماه بهذا الاسم، وقال: هو أن يجنح الشاعر إلى أوصاف شتى في موضوع واحد، أو في بيت وما بعده على الترتيب، ويكون ترتيبها في الخلقة الطبيعية، ولا يدخل الناظم فيها وصفًا زائدًا عما يوجد علمه في الذهن أو في العيان، كقول مسلم بن الوليد:
هيفاء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب على حقف النقا الدهس2
فإن الأوصاف الأربعة على ترتيب خلقة الإنسان، من الأعلى إلى الأسفل.
وبيت صفي الدين الحلي:
كالنار منه رياح الموت إن عصفت ... روى صرى مائه أرض الوغى بدم3
ترتيب بيت صفي الدين على العناصر الأربعة، وهي الماء والنار والهواء والتراب.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين:
له الملائك والإنسان أجمعهم ... والجن والوحش في الترتيب كالخدم
__________
1 الأكم: التلال والأمكنة المتكاتفة الأشجار.
2 حقف النقا: كثيب الرمل. الدهس: غير الصافي. أي الممزوج بالتراب وغيره.
3 الصرى: المحبوس والمجتمع في مكان ما. الوغى: الحرب.(2/284)
هذا البيت، ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه على ترتيب المخلوقات: الملائك والإنس والجن والوحش، ولكن وضع هذا الترتيب غير منتظم على ما قرره التيفاشي.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم
معلوم أن الموجودات ثلاثة، وهي حيوان ونبات وجماد، والثلاثة على ترتيب خلقة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل، فإذا قلنا: جسم نام، خرج الجماد لأنه لا ينمو، وإذا قلنا: جسم نام متحرك بإرادته، خرج النبات، وإذا قلنا: جسم نام متحرك بإرادته ناطق، خرج باقي الحيوان وبقي الإنسان، وهذا حده. والله أعلم بالصواب.(2/285)
ذكر الاشتقاق:
محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم
هذا النوع، أعني الاشتقاق، استخرجه الإمام أبو هلال العسكري، وذكره في آخر أنواع البديع من كتابه المعروف "بالصناعتين"، وعرفه بأن قال: هو أن يشتق المتكلم من الاسم العلم معنى، في غرض يقصده، من مدح أو هجاء أو غيره، كقول ابن دريد في نفطويه:
لو أوحي النحو إلى نفطويه ... ما كان هذا العلم يعزى إليه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صياحًا عليه1
وهذا النوع، ما ذكره القاضي جلال الدين القزويني في "التلخيص" ولا في "الإيضاح"، ولا ذكره الشهاب محمود في "حسن التوسل"، ولا نظمته العميان ولا غيرهم من أصحاب البديعيات، غير الشيخ صفي الدين الحلي، وبيت بديعيته، التي ذكر أنه جمعها من سبعين كتابًا، قوله:
لم يلق مرحب مني مرحبًا ورأى ... ضد اسمه عند هدّ الحصن والأطم2
الشيخ صفي الدين اشتق من اسم مرحب، الترحاب، حتى يقابله بضده، وهذا هو الغرض الذي أراده الناظم، وبيت الشيخ عز الدين في المعارضة قوله:
__________
1 ذلك أن النصف الأول لاسمه هو: نفط ومعناه البترول تلك المادة المشتعلة، والنصف الآخر: ويه وهي للندبة.
2 الأطم: الحصون. ومرحب هو الفارس اليهودي الذي قتله الإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- يوم فتح حصن خيبر.(2/286)
ميم وحا في اشتقاق الاسم محوُ عِدا ... والميم والدال مد الخير للأمم
هذا البيت يشق عليّ أن أشرح اشتقاقه، وأذكر ما فيه من التعسف والزيادة، وعدم القبول للتجريد، فإنه أراد أن يمشي على طريق ابن دريد في الاشتقاق، فلم يأتِ بغير الشقاق، وما ذاك إلا أن اسم نفطويه سداسي، قسمه الناظم في الاشتقاق نصفين: جعل النصف الأول نفطًا، والثاني صياحًا، وهذا الاشتقاق صحيح على هذا التفصيل، وقالوا هو في محمد رباعي من أين للشيخ عز الدين -غفر الله له- هذا حتى تصح معه لفظة محو، مع أني راجعت شرحه فوجدته قال: الميم والحاء، من اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- فيهما محو لأعدائه، وأيضًا فلم نجد أحدًا استشهد، في بيت من بيوت بديعيته وصدر بيته، بقوله: ميم وحا في اشتقاق الاسم محو عدا، إلا الشيخ عز الدين، فإن المراد من بيت البديعية أن يكون صالِحًا للتجريد خاليًا من العقادة، ليصح الاستشهاد به على ذلك النوع.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم
قد تقدم تقرير أبي هلال العسكري، في هذا النوع، وهو أن يشتق المتكلم معنى لغرض يقصده. والغرض هنا، إن كلًّا من محمد وأحمد وصفتهما المحمودة مشتق من الحمد، وشرف هذا المدح ظاهر. والله أعلم.(2/287)
ذكر الاتفاق:
ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم
الاتفاق: عزيز الوقوع جدًّا، وهو أن تتفق للشاعر واقعة وأسماء مطابقة لتلك الواقعة تعلمه العمل في نفسها، إما بالمشاهدة، أو بالسماع، فإن السبق إلى معاني الوقائع، يشترك الناس في مشاهدتها وفي سماعها فضل لا يجحد، وإن حصل للشاعر في ذلك قران سعادة، سارت الركبان بقوله، وترنم الحادي والملاح به، كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري، في حسام الدين لؤلؤ صاحب الملك الناصر، يوسف، حين غزا الفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، فظفر الحاجب بهم فقال ابن أبي حصينة يخاطب الفرنج:
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير
وأحسن من ذلك وأبدع، ما اتفق للشيخ شمس الدين الكوفي، الواعظ، في الوزير مؤيد الدين العلقمي حيث قال:
يا عصبة الإسلام نوحي والْطمي ... حزنًا على ما حل بالمستعصم
دَستُ الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي1
فاتفق أن المذكورين كانا وزيرين، وأن المورى بهما: "الفرات والعلقمي" نهران معروفان، وقد طابق الناظم بينهما بالفرات الحلو والعلقم المر.
__________
1 دَست الوزارة: منصبها.(2/288)
ومنه قول ابن الساعاتي، وقد حضر الملك الناصر بيت يعقوب من حصون الشام يخاطب الفرنج: دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف.
ومنه قول ابن أبي الأصبع، وقد اجتمع الملك الأشرف موسى بالملك الظاهر، وهو الخضر بن يوسف بن أيوب:
غدا مجمع البحرين شاطي فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقي الخضرا
واتفق لي مع الملك ما يناسب هذه الاتفاقات البديعية، فإني أنشدته، وقد كسر النيل في شهر مسرى، وبلغه في يوم الكسران نوروز قد وصل من الشام إلى غزة، وقصد الديار المصرية، فقلت:
أيا ملكًا بالله أضحى مؤيدًا ... ومنتصبًا في ملكه نصب تمييز
كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي ... وحقك بعد الكسر أيام نيروز1
الاتفاق البديع الغريب، في هذا البيت، أن كسر نوروز بعد كسر مسرى، ويسميه المصريون: الكسر النيروزي، ولم يبق بعده كسر. واتفق لي نظير ذلك بالحضرة المؤيدية وهو أن المقر التاجي، نائب السلطنة الشريفة، نقل عنه إلى المسامع الشريفة كلام، فثبت فيه براءته فأنشدته الحضرة الشريفة المؤيدية ما حصل به للخواطر الشريفة الرضا الزائد، وهو قولي:
سبع وجوه لتاج مصر ... تقول ما في الوجوه شبهي
وعندنا ذو الوجوه يهجى ... وأنت تاج بفرد وجه
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع:
ومن غدا اسم أمه نعتًا لأمته ... فتلك آمنة من سائر النقم
اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي آمنة وآمنة. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
محمد واسمه بالاتفاق له ... وصف يشاكله في اسمه العلم
وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأذكر فيه وصفه الشريف لابنه الحسن2
__________
1 المسرى: المجرى. النيروز: عيد الربيع عند الإيرانيين ويصادف رأس السنة الفارسية.
2 الحسن والحسين -رضي الله عنهما- هما ابنا على بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يقول إنهما ابناه إشعارًا للمسلمين بقربهما له وبأنهما من ورثته فهما ابنا بنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- والتي كان يقول فيها: "فاطمة بضعة مني،.... وفاطمة أم أبيها ... من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله".(2/289)
رضي الله عنه:
ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم
اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي: حسن وحسن الوصف، هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إلى الحسن -رضي الله عنه- وقال: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". اهـ.(2/290)
ذكر الإبداع:
إبداع أخلاقه إيداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهِمِ1
الإبداع: هو أن يأتي الشاعر في البيت الواحد بعدة أنواع، أو في القرينة الواحدة من النثر وربما كان في الكلمة الواحدة ضربان من البديع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإبداع، كقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. هذه الآية الشريفة استخرج منها زكي الدين بن أبي الأصبع أنواعًا كثيرةً من البديع منها: المناسبة التامة بين ابلعي وأقلعي، والمطابقة اللطيفة بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: ويا سماء، ومراده مطر السماء، والاستعارة في قوله: أقلعي، والإشارة في قوله تعالى: وغيض الماء، فإنه بهاتين اللفظتين عبر عن معانٍ كثيرة، والتمثيل في قوله تعالى: وقضي الأمر، فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ الموضوع له، والإرداف في قوله تعالى: واستوت على الجودي، فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى، والتعليل؛ لأنه قوله تعالى: غيض الماء، علة الاستواء، وصحة التقسيم، إذ قد استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه، والاحتراس، في قوله تعالى: وقيل بعدًا للقوم الظالمين، إذ الدعاء عليهم مشعر بأنهم مستحقون الهلاك، احتراسًا من ضعيف يتوهم أن الهلاك شمل من يستحق ومن لا يستحق، فأكد بالدعاء على المستحقين، والمساواة؛ لأن لفظ الآية الشريفة لا يزيد على معناها، وحسن النسق؛ لأنه سبحانه وتعالى قص القصة،
__________
1 هِم: أمر من هام يهيم أي أحبَّ حبًّا شديدًا.
2 هود: 11/ 44.(2/291)
وعطف بعضهما على بعض، بحسن ترتيب، وائتلاف المعنى؛ لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها، والإيجاز؛ لأنه سبحانه وتعالى قص القصة بأقصر عبارة، والتسهيم؛ لأنه من أول الآية إلى قوله: أقلعي، يقتضي آخرها، والتهذيب؛ لأن مرادات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، وعليها رونق الفصاحة لسلامتها من التعقيد والتقديم والتأخير، والتمكين؛ لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وهو تحدر الكلام بسهولة، كما ينسجم الماء، وباقي مجموع الآية الشريفة هو الإبداع الذي هو المراد هنا، مع تكرار الأنواع البديعية.
وسهوت عن تقديم حسن البيان، وهو أن السامع لا يتوقف في معرفة معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء من هذه النظائر، وهذا الكلام تعجز عنه قدرة البشر.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على الإبداع قوله:
ذل النضار كما عز النظير لهم ... بالفضل والبذل في علم وفي كرم1
الشيخ صفي الدين في بيته من أنواع البديع: التجنيس، والتسجيع، واللف والنشر، والكناية عن الكرم، في قوله: ذل النضار، وائتلاف المعنى مع المعنى.
والعميان ما نظموا هذا في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي ذكر فيه ستة عشر نوعًا، ما أمكن العبد استيعابها، وتركته لحذاق الأدب، وهو قوله:
كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم ... وأترعوا حوض فضل قبل قولهم
وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
إبداع أخلاقه إبداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهم
الشطر الأول من هذا البيت مشتمل على: التورية، وعلى جناس التصحيف، وعلى الجناس المطلق، وعلى الترصيع، والمماثلة، والتسجيع، وائتلاف المعنى مع المعنى، والسهولة. والشطر الثاني فيه: التورية، ومراعاة النظير، والاعتراض، والانسجام ظاهر في البيت بكماله، والإبداع الذي هو المراد هنا، والله أعلم.
__________
1 النضَار: الجود والكرم.(2/292)
ذكر المماثلة:
فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم
هذا النوع، أعني المماثلة: هو أن تتماثل ألفاظ الكلام، أو بعضها، في الزنة دون التقفية، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} 1 وقد تأتي ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد؛ لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة، كقول امرئ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر العطر
وأما الشاهد الذي هو على أصل هذا الباب في الزنة دون التقفية، فهو كقول الشاعر:
صفوح صبور كريم رزين ... إذا ما العقول بدا طيشها2
والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المتزنة وتفرقها في المناسبة، قلت: هذا النوع، أعني المماثلة، ما تستحق عقود أنواع البديع، بسموها، أن ينتظم النوع السافل في أسلاكها، وما أعلم وجه الإبداع فيه ما هو، ولا نرى من استخراجه وعده بديعًا غير الكثرة، وقد حسن أن أنشد ههنا:
وكثر فارتابت ولو شاء قلّلا
وبالله ما اختلج في فكري من حين تأدبت أن أرصعه في قصيدة من قصائدي، ولكن حكم المعارضة أوجب ذلك.
__________
1 الطارق: 86/ 31.
2 الصفوح: المتسامح المتساهل. الرزين: الوقور العاقل.(2/293)
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
سهل خلائقه صعب عرائكه ... جم غرائبه في الحكم والحكم1
والعميان ما نظموا. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
يبدي مماثلة يعطي مناسبة ... يجزي مجانسة في الكلم والكلم
وبيت بديعيتي:
فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم
__________
1 العرائك: جمع عريكة وهي العشرة والمعاملة. جم: كثير.(2/294)
ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي:
الحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يحلق بالكلي للعظم
هذا النوع الغريب اخترعه الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع فيجعله، بالتعظيم له، جنسًا، بعد حصر أقسام الأنواع فيه والأجناس، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 1 فإنه سبحانه وتعالى يعلم ما في البر والبحر، من أصناف الحيوانات والجماد حاصر الجزئيات المولدات، فرأى الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح، لاحتمال أن يظن ضعيف أنه جلّ جلاله يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات، وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم، فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، فقال، لكمال التمدح: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} 2. وعلم سبحانه وتعالى أن علم ذلك يشاركه فيه كل ذي إدراك، فتمدّح بما لا يشاركه فيه أحد فقال عز من قائل: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} 3 ثم ألحق هذه الجزئيات بالكليات فقال: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4 وأمثاله من النظم قول الشاعر:
إليك طوى عرص البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النشر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
__________
1 الأنعام: 6/ 59.
2 الأنعام: 6/ 59.
3 الأنعام: 6/ 59.
4 الأنعام: 6/ 59.(2/295)
المراد من النوع، البيت الثالث، فإن الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصد فيها، ومدح يومه الذي لقيه فيه، فجعل الممدوح جميع الورى، وجعل داره الدنيا، ويومه الدهر، فجعل الجزء كليًّا بعد حصر أقسام الجزئي، أما جعله الجزئي كليًّا فلأن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدّهر، وأما حصر أقسام الجزئي؛ فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك، وهذا النوع صعب المسالك في نظمه، عزيز الوقوع والتحصيل، وقد فر العميان من نظمه.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيه:
شخص هو العالم الكلي في شرف ... ونفسه الجوهر القدسي في عظم
الشيخ صفي الدين جعل الجزئي كليًّا فقط، وهو القسم الأول، لكون الواحد لا يسع جميع القيود وبيت الشيخ عز الدين:
فألحق الجزء بالكلي منحصرًا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم
هذا البيت ما وجدت فيه للكلام فسحة لأمور، وبيت بديعيتي:
ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم
النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح أن يكون هنا كليًّا، العلو مقداره وعظمه، فقولي عن الأنبياء: فالجزء يلحق بالكلي للعظم، لا يخفى ما فيه من المبالغة والمغالاة في وصف الممدوح، صلى الله عليه وسلم، هذا مع تحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة، وإيضاحه مع التورية باسمه، وسهولة تركيبه وانسجامه، وما أعلم له في هذا الباب نظيرًا، وما أوضحه وزاده طلاوة وحسنًا إلا تشريفه بالمديح النبوي.(2/296)
ذكر الفرائد
وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدًا غير منفصم
الفرائد: نوع لطيف مختص بالفصاحة دون البلاغة؛ لأن المراد منه أن يأتي الناظم، أو الناثر، بلفظة فصيحة من كلام العرب العرباء تتنزل من الكلام منزلة الفرائد من العقد، وتدل على فصاحة المتكلم بها، بحيث أن تلك اللفظة لو سقطت من الكلام لم يسد غيرها مسدها، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1 قوله تعالى: الرفث، فريدة لا يقوم غيرها مقامها، وكقوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} 2 فقوله سبحانه وتعالى: أهش بها على غنمي، فريدة يعز على الفصحاء أن يأتوا بمثلها في مكانها، ومنه قول عنترة في معلقته:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي
فعمي صباحًا، فريدة في مكانها. وروي أن أبا ذر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: عم صباحًا، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلني ما هو خير منها". فقال: ما هي؟ قال: "السلام".
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
ومن له جاور الجزع اليبيس ومن ... بكفه أورقت عجزاء ذي سلم3
__________
1 البقرة: 2/ 287
2 طه: 10/ 18.
3 الجزع: الخرز الأسود والأبيض من العقيق. العجزاء: العصا أو بقية الشجرة. وذي سلم: في نسخة: من سلم.(2/297)
الفريدة في بيت الحلي هي العجزاء، والعجزاء هي العصا المعقدة.
والعميان ما نظموا هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين:
كم حصحص الحق إذ وافت فرائده ... وفي الوطيس بدا ثبًتا بلا برم1
الفريدة في بيت الشيخ عز الدين هي لفظة الوطيس، وأما برم فما أبرم فيها أمرًا.
وبيت بديعيتي أقول فيه، وأنا مستمر على خطابي لمن رام مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- فإني قلت في البيت الذي قبله:
ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم
وقلت بعده في الفرائد:
وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدًا غير منفصم2
الفرائد في هذا البيت ثلاثة وهي شم وحنانيك ومنفصم والوميض صالح لذا، والله أعلم بالصواب.
__________
1 حصحص الحق: ظهر وبان. الوطيس: احتدام المعارك. الثبت: الشجاع الذي يثبت في المعركة. البرم: التذمر.
2 شم: أمر من شام: طلب. الوميض: اللمعان. حنانيك: رحمك الله. مقصم: منقطع.(2/298)
ذكر الترشيح:
يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم
هذا النوع، أعني الترشيح: هو أن يأتي المتكلم بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن، حتي يؤتى بلفظة ترشحها وتؤهلها لذلك، كقول التهامي في مرثيته المشهورة:
وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار1
فلولا ذكر الشفير، لما كان في الرجاء تورية برجا البئر، ولكان من رجوت الأمر، لقوله أولًا: وإذا رجوت المستحيل. قلت: وهذا النوع تقدم ذكره، في باب التورية المرشحة، وقد تقدم أيضًا أن التورية أربعة أنواع: مجردة ومرشحة ومهيأة ومبينة، فالمرشحة هي التي يذكر فيها لازم من لوازم المورى به قبل لفظ التورية أو بعده، وسميت مرشحة لترشيحها وتقويتها بذكر لازم المورى به، وتقدم هذا في باب التورية المرشحة، ولكن ذكروا في تكرير الترشيح هنا فائدة لم يكن لمكررها حلاوة، وهي إذا قيل: ما الفرق بين التورية والترشيح، وقد جعلت مثاليهما واحدًا؟ قلت: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما من أنواع البديع ما لا يحتاج إلى ترشيح، وهي التورية المجردة المحضة، والثاني أن الترشيح لا يختص بالتورية دون بقية الأبواب، بل يعم المطابقة والاستعارة وغيرهما، في كثير من الأبواب، ألا ترى إلى قول أبي الطيب المتنبي:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما
__________
1 الرجاء: للبئر، الناحية والأمل. الشفير: الحرف، والجنب، والناحية. الهار: الموشك على السقوط والخراب.(2/299)
فإن قوله: يا جنتي، رشحت لفظة جهنم للمطابقة، ولو قال مكانها: يا منيتي، لم يكن في البيت مطابقة البتة، وأما ترشيح الاستعارة، فكقول بعض العرب:
إذا ما رأيت النسر عزى ابن دأية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي
فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البياض، وشبه الشعر الأسود بابن دأية، وهو الغراب، لاشتراكهما في السواد، واستعار التعشش من الطائر للشيب، لما سماه نسرًا ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره لنفسه من الطائر، فقد ترشح باستعارة إلى استعارة، ولولا خشية الإطالة لذكرت ترشيح التشبيه، وترشيح غيره من الأنواع.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
إن حل أرض أناس شد أزرهم ... بما أباح لهم من حط وزرهم1
لفظة شد، في البيت، للشيخ صفي الدين، رشحت لفظة حل، للمطابقة، ولو أبقاها على حالها في معنى الحلول، لم يكن في البيت مطابقة البتة.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
في الفتح ضم من الأنصار شملهم ... جبرًا لكسر بترشيح من الرحم
الترشيح في بيت الشيخ عز الدين ظاهر، فإنه رشح الفتح للتورية بصريح الضم، ورشح الضم للتورية بذكر الكسر.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم
فذكر لقمان رشح يس للتورية، وذكر النون والقلم رشح لقمان للتورية والفريق بين قولي: وبان ترشيحه في نون والقلم، وبين قول الشيخ عز الدين: بترشيح من الرحم، ظاهر، وأما سهولة التركيب وعذوبة الانسجام وتمكين القافية، فلم أحتج معهما إلى إقامة دليل، والله تعالى أعلم.
__________
1 الأزر: القوة والظهر. الوزر: الحمل الثقيل.(2/300)
ذكر العنوان
النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم التباهل: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1 وكان قد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- محتضنًا الحسين آخذًا بيد الحسن -عليهما السلام- وفاطمة تمشي خلفهما -سلام الله عليهم أجمعين- فحين رآهم العاقب قال للنصارى: لا تباهلوا محمدًا فإني أرى معه وجوهًا لو أقسم على الله أن يزيل بها الجبال لأزالها، فانصرفوا وقبلوا الجزية.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
بشرى المسيح أتت عنوان دعوته ... وقبله كل هاد صادق القدم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
هبه العصا أثمرت عزًّا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم
هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج فيه إلى شرح، ولكن التورية في العنوان وترشيحها، بلفظة محت، لا يخفي ما فيها من المحاسن؛ لأنها اسم النوع الذي هو القصد هنا، وأما قولي: به العصا أثمرت، فهي مناسبة ليس لها في الحسن مناسب.
__________
1 آل عمران: 3/ 61.(2/302)
ذكر التسهيم:
كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم
هذا النوع مأخوذ من الثوب المسهم، وهو الذي يدل أحد سهامه على الآخر الذي قبله، لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص به، لمجاورة اللون الذي قبله. ومن المؤلفين من جعل التسهيم والترشيح شيئًا واحدًا، والفرق بينهما: أن الترشيح لا يدل على غير القافية، والتسهيم تارة يدل على عجز البيت، وتارة يدل على ما دون العجز، وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما يتأخر، تارة بالمعنى وتارة باللفظ، كأبيات أخت عمرو ذي الكلب، فإن الحذاق بمعاني الشعر وتأليفه يعلمون معنى قولها:
فأقسم يا عمرو لو نبهاك. يقتضي أن يكون تمامه: إذا نبها منك داء عضالًا، دون غيره من القوافي؛ لأنه لو قال، مكان داء عضالًا: ليثًا غضوبًا، أو أفعى قتولًا، أو ما ناسب ذلك، لكان الداء العضال أبلغ، إذ كل منهما ممكن مغالبته والتوقي منه، والداء العضال لا دواء له، هذا مما يعرف بالمعنى، وأما ما يدل على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده:
إذا نبها ليث عرّيسة ... مقيتًا مفيدًا نفوسًا ومالًا1
وكذلك قولها:
وخرق تجاوزت مجهولة ... بوجناء حرف تشكي الكلالا2
فكنت النهار به شمسه
__________
1 العريسة: الأكمة، أو الشجر الملتف يكون مأوى للأسد.
2 الخرق: الأحمق. الوجناء: من النوق، الشديدة القوية. الحرف: من النوق: المهزولة.(2/303)
يقتضي أن يتلوه: وكن دجا الليل فيه الهلالا. ومنه قول البحتري:
أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فليس الذي قد حللت بمحلل
ومن هنا يعرف المتأدب أن تمامه: وليس الذي قد حرمت بحرام.
الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
كذلك يونس ناجي ربه فنجى ... من بطن حوت له في اليم ملتقم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، في بديعيته يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
تسهيمه في الوغى حسم لمتصل ... تسليمه في الرضا وصل لمحتشم
قلت: الشيخ عز الدين رماه التسهيم في العكس، فتشوش إذ صار كل من النوعين يتجاذبه، وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم
لفظة التسهيم، في هذا البيت، انحصر فيها ثلاثة أنواع أحدها تسمية النوع، والثاني الاستعارة البديعية، والثالث التورية المرشحة، فإن لفظة التسهيم رشحت التورية، بذكر الإصابة وتحرير النوع ظاهر في دلالة الأول على الثاني.
__________
1 اليم: البحر. ملتقم: مبتلع.(2/304)
ذكر التطريز:
شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم
هذا النوع، أعني التطريز: هو أن يبتدئ المتكلم، أو الشاعر، بذكر جمل من الذوات غير منفصلة، ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قرره وقدره، في تلك الجملة الأولى، وعدد الجمل التي وصفت بالذوات عدد تكرر واتحاد لا عدد تغير، كقول ابن الرومي:
قرون في رءوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب
ومثله قوله:
كأن الكأس في يدها وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق1
ومثله قول ابن المعتز:
فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق
وأبدع من الجميع وألطف، قولي من قصيدتي المصغرة:
لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التطريز:
فالجيش والنقع تحت الظل مرتكم ... في ظل مرتكم في ظل مرتكم
__________
1 فيها: فمها.(2/305)
قلت: هذا البيت لا يخلو أن يكون للعقادة فيه بعض تراكم.
والعميان ليس في بديعيتهم تطريز: وبيت الشيخ عز الدين الموصلي -رحمه الله تعالى- في بديعيته قوله:
الدين والنقع تطريز لمحترم ... في نصر محترم في نصر محترم
هذا البيت لم أفهم منه غير لفظة التطريز، الذي هو اسم النوع.
وبيت بديعيتي أقول عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم
هذا البيت بهجة التطريز ظاهرة على أركانه، وقد جمعت فيه بين التطريز الذي هو المراد، والتورية، واللف والنشر، والترشيح، والاستعارة، ومراعاة النظير، والسهولة، والانسجام، والجناس التام، والله أعلم.(2/306)
ذكر التنكيت:
وأله البحر آل إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم1
هذا النوع، أعني التنكيت، يستحق لغرابته أن ينتظم في أسلاك البديع، ويغار عليه أن يعد مع المماثلة والموازنة ومع التطريز والترصيع، وقد تقدم الكلام على سفالة هذه الأنواع.
والتنكيث: عبارة عن أن يقصد المتكلم شيئًا بالذكر دون أشياء كلها تسد مسده، لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود، ترجح اختصاصه بالذكر. وعلماء هذا الفن أجمعوا على أنه لولا تلك النكتة التي انفرد بها، لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهرًا عند أهل النقد، وجاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 2 فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر، دون غيره من النجوم، وهو رب كل شيء؛ لأن من العرب من عبد الشعرى، وكان يعرف بابن أبي كبشة، ودعا خلقًا إلى عبادتها، فأنزل الله تعالى:
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم، وفي النجوم ما هو أعظم منها. ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 3 فإنه سبحانه وتعالى خص تفقهون دون تعلمون، لما في الفقه من الزيادة على العلم، والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام: الفقه في معرفة كنه التسبيح من
__________
1 آله: أهله وأقاربه. آل: سراب. إن: لا.
2 النجم: 53/ 49.
3 الإسراء: 17/ 44.(2/307)
الحيوان البهيمي والنبات والجماد، الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه. ومن الأمثلة الشعرية قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره بكل غروب شمس
فخصت هذين الوقتين بالذكر، وإن كانت تذكره كل وقت، لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة للمبالغة، في وصفه بالشجاعة والكرم؛ لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدا، وغروبها وقت وقود النيران للقرى.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، على التنكيت:
وآله أمناء الله من شهدت ... لقدرهم سورة الأحزاب بالعظم
الشيخ صفي الدين خصص سورة الأحزاب هنا بالذكر؛ لأن فيها تصريحًا بمدح آل البيت -عليهم السلام- بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 ولولا هذا الاختصاص كانت كغيرها من السور.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، رحمه الله:
ففي براءة تنكيت بمدحته ... معناه في الشرح يشفي داء ذي البكم2
ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أن النكتة المقصودة في بيته، في سورة براءة، هي قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3 وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
وآله البحر آل إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم
التنكيت، في هذا البيت بديع وغريب في بابه، فإنني خصصت الندى بالذكر عند مقايسته بالبحر، في قولي: إن البحر عند ندى كفوفهم كالآل، والآل هو الذي يحسبه الظمآن ماء، ولو قلت: أنهاركفوفهم أو جداول كفوفهم لسد كل واحد منهما مسده بزيادة زائدة، ولكن في الندى نكتة ليست فيهما، وهي الغلو في أن البحر يصير عند هذا الندى سرابًا، وهذا الذي أوجب تخصيص الندى بالذكر دون غيره، وقد اجتمع في هذا البيت التنكيت الذي هو القصد هنا، والتورية، والغلو، ومراعاة النظير، والجناس، والله أعلم.
__________
1 الأحزاب، 33/ 33.
2 البكم: العجز عن التكلم خِلقة.
3 التوبة: 9/ 40.(2/308)
ذكر الإرداف:
وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنًا ... من العدا في محل النطق بالكلم
نوع الإرداف: قالوا إنه هو والكناية شيء واحد. قلت: وإذا كان الأمر كذلك كان الواجب اختصارهما.
وإنما أئمة البديع، كقدامة والحاتمي والرماني، قالوا: إن الفرق بينهما ظاهر، والإرداف: هو أن يريد المتكلم معنى، فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه، كقوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 1 فإن حقيقة ذلك جلست على المكان، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى لفظ هو رديفه، وإنما عدل عن لفظ الحقيقة، لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف، من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ جلست وقعدت، ومن الأمثلة الشعرية على الإرداف قول أبي عبادة البحتري يصف طعنة:
فأوجرته أخرى فأحللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد
ومراده القلب، فذكره بلفظ الإرداف، والفرق بين الإرداف وبين الكناية أن الإرداف قد تقرر أنه عبارة عن تبديل الكلمة بردفها، والكناية هي العدول عن التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزم؛ لأن الإرداف ليس فيه انتقال من لازم إلى ملزوم، والمراد بذلك انتقال المذكور إلى المتروك كما يقال: فلان كثير الرماد، ومراده نقله إلى ملزومه، وهي كثرة الطبخ للأضياف.
__________
1 هود: 11/ 44.(2/309)
وبيت الشيخ صفي الدين -رحمه الله تعالى- على الإرداف قوله:
بقتبة أسكنوا أطراف سمرهم ... من الكماة محل الضغن والأضم1
الشيخ صفي الدين زاحم البحتري في بيته، إلى أن نزع قلبه من صدره، بل جل قصده في إردافه هنا القلب وكان الواجب العدول عنه لشهرته في هذا الباب عند أهل البديع.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
للطعن والضرب إرداف يحل به ... في موضع العقل يحكيه ذوو الحكم
وبيت بديعيتي، قلت قبله عن آل النبي -صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى الغلوّ في كرمهم:
وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم
وأردفته بقولي في الشجاعة:
وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم
انظر أيها المتأمل في بديع هذا الإرداف الغريب الذي ميزته على أقرانه من البحتري إلى الشيخ عز الدين، بحسن مراعاة النظير الذي أسكنت به الألسنة بالأفواه، بقولي: في محل النطق بالكلم، مع التورية بتسمية النوع، والله سبحانه أعلم.
__________
1 القتبة: جمع قتب وهو الضيق الخلق السريع الغضب من الرجال. الكماة: جمع كمي وهو الفارس المغوار. السمر: الرماح. الضغن: البغض والكره. الأضم: الحقد.(2/310)
ذكر الإيداع:
وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم1
هذا النوع أعني الإيداع، يغلب عليه التضمين، والتضمين غيره، فإنه معدود
من العيوب، والعيب المسمى بالتضمين هو أن يكون البيت متوقفًا في معناه على البيت الذي بعده، كقول النابغة:
وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني
شهدت لهم مواطن صادقات ... أنبئهم بود الصدر مني
والإيداع الذي نحن بصدده: هو أن يودع الناظم شعره بيتًا من شعر غيره، أو نصف بيت أو ربع بيت، بعد أن يوطئ له توطئة تناسبه بروابط متلائمة، بحيث يظن السامع أن البيت بأجمعه له. وأحسن الإيداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول، ويجوز عكس البيت المضمن، بأن يجعل عجزه صدرًا أو صدره عجزًا، وقد تحذف صدور قصيدة بكمالها وينظم لها المودع صدورًا، لغرض اختاره وبالعكس. وقد تقدم وتقرر أن الأحسن، في هذا الباب، أن يصرف الشاعر ما أودعه في شعره عن معناه الذي قصد صاحبه الأول، ويجوز تضمين البيتين بشرط أن ينقلهما من معناهما الأول إلى صيغة أخرى، كما حكي أن الحيص بيص قتل جرو كلب وهو سكران، فأخذ بعض الشعراء كلبة وعلق في رقبتها قصة وأطلقها عند باب الوزير، فإذا فيها مكتوب:
يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بخزية ألبسته العار في البلد
__________
1 العقبان والرخم: من الطيور الجوارح.(2/311)
أبدى شجاعته بالليل مجترئًا ... على جريّ ضعيف البطش والجلد1
فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت ... دم الأبليق عند الواحد الأحد2
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من بعد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابنها، فقالت ذلك تسلية. ومنهم من أودع شعره بيتين، وكل بيت منهما لشاعر، كقول القاضي شهاب الدين محمود:
وبتنا على حكم الصبابة مطعمي ... زفيري وأشجاني وشربي المدامع
وخلي يعاطيني كئوس ملامة ... وينشدني والهم للقلب صادع
أتطمع من ليلى بوصل وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
البيت الأخير للنابغة، قلت غاية الأوائل أن ينقلوا المعنى الأول في الإيداع إلى معنى آخر، إن كان في بيتين أو بيت واحد أو نصف بيت، ولكن الفرقة التي مشت تحت العلم الفاضلي، وتحلت بالقطر النباتي وهلم جرًا، لم يرضوا بنقله مجردًا من التورية أو ما يناسبها من أنواع البديع، ومما يؤيد قولي هذا قول القاضي جلال الدين القزويني، في التلخيص وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة، كالتورية والتشبيه، وممن أبدع في نقله إلى التورية علامة هذا الفن، الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى- بقوله:
أتاني على البانياسيّ منشدًا ... فيا لك من شعر ثقيل مطوّل
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
ومثله قوله في مليح اسمه حبيب وهو:
حبيب حبيب القلب أخلى منيزلًا ... به كان في عرس المسرة ينجلي
فيا صاحبي الذكر قد لذ بالبكا ... قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
وما يشك من عنده ذوق أن المقطوعين في الإيداع تميز المحاسن التورية، وغريب النقل إلى غرض كل من الناظمين وكذلك تقطيع أعناق الرجال، في إيداع الشهاب محمود، فإنهم نقلوه إلى الصفع، وجاءت توريته في غاية الحسن، وهذا هو المذهب
__________
1 جريّ: تصغير جرو وهو ولد الكلب.
2 الأبليق: هكذا في الأصل ونظنها من الأخطاء الطباعية والأصح: الأبيلق: وهو تصغير الأبلق الذي في لونه الأسود بقع بيضاء، وكان قد صغر جرو في البيت الذي قبله. فيصير جُرَيٌّ أبيلق، والله أعلم.(2/312)
الذي انتهت غايات المتأخرين إليه، ومن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضًا وهو:
أقول لمعشر جلدوا ولاطوا ... وباتوا عاكفين على الملاح
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقولي:
ومذ كلمت قلبي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم
فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتًا يتكلم
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ... فيا خجلتي لما دنوت وإذلالي
فقلت امعكيه بالأنامل فالتقى ... لدى وكرها العناب والحشف البالي1
وقولي طاول الليل بالذؤابة قبس ... وتثنى عجبًا بلطف وكيس2
فحلا لي السهاد مذ طال ليلي ... يا خليليّ من ذؤابة قيس
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
تصدى إلى أيري فقلت له اتئد ... وحقك لو عاينته وهو ثائر3
رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أن صابر
وأنشدني، من لفظه لنفسه الكريمة، مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، كان، تغمده الله برحمته، ما اختلف هو والشيخ جمال الدين بن نباتة في إيداعه واتفقا في معناه، والمعنى في البيتين المذكورين قبل. وأما الترشيح فعندي أن التورية في بيتي المقر الناصري أرجح، وهما قوله:
أقول وقد أبى عن أخذ أيري ... وسالت من محاجره دموع
إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
__________
1 امعكيه: ادلكيه. وكرها: فرجها، شبهه بوكر الطير. العناب: البظر: شبهه بالعناب: الثمر المعروف. الحشف: التمر أو التمرة من قضيب الرجل على التشبيه.
2 الكيس: اللباقة.
3 اتئد: تمهل. ثائر: منتصب.(2/313)
الذي ترجع عندي أن قوله: وجاوزه أعقد من قول الشيخ جمال الدين: لا كله، والذي أقوله: إن كلًّا منهما في بابه بديع وغريب، وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
لم أنس موقفنا بكاظمة ... والعيش مثل الدار مسود
والدمع ينشد في مسائله ... هل بالطلول لسائل ردّ
ومثله قولي:
قف واستمع طربًا فليلى في الدجى ... باتت معانقتي ولكن في الكرى
وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أترى دري ذاك الرقيب بما جرى
ومن إيداعاتي الغريبة قولي من إعجاز الملحة:
تنكر الحال علينا عندما ... سال عليه العارض المسلسل
فعنه سلني إن ترد تعريفه ... فإنه منكر يا رجل
ومما انفرد به الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى- تضمين أعجاز الملحة، والذي يؤيد انفراده حسن تخلصه من الغزل، وهو ماش على التضمين، إلى مدح قاضي القضاة، ولم يزل مستمرًا على غرر المدائح اللائقة بالقاضي إلى حسن الختام.
وضمن الشيخ زين الدين بن الوردي نبذة من أعجاز الملحة، ولم يفرغها في غير قوالب الغزل، فإن التخلص من الغزل إلى المدح من المستحيلات في هذا الباب، ولكن الشيخ جمال الدين بن نباتة كان في ذلك العصر نسيج وحده، ومن المعلوم أن الجماعة مثل الشيخ زين الدين بن الوردي، والشيخ صلاح الدين الصفدي، والشيخ برهان الدين القيراطي، وغيرهم ممن عاصره، ما منهم إلا من تطفل على موائد حلاواته النباتية. وقد عنَّ لي أن أورد هنا نبذة من التضمين للشيخين، وأجعل كلًّا من أبيات الشيخين وقفًا محبسًا على أصحاب الذوق السليم. قال الشيخ جمال الدين في المطلع:
صرفت فعلي في الأسى وقولي ... بحمد ذي الطول الشديد الحول1
وقال الشيخ زين الدين -رحمه الله تعالي- في المطلع:
يا سائلي عن الكلام المنتظم ... هو الذي في لفظ من أهوى قسم
هذا المطلع من إيداع الذي قصر فيه باع الشيخ زين الدين بن الوردي، فإنه صدر
__________
1 الْحَوْل: القوة.(2/314)
مطلعه بالصدر وهو جائز، ولكنه غير المراد، فإن الشيخ جمال الدين تقدمه بتضمين الإعجاز ونسج إبداعه على هذا المنوال، ومن أغزال الشيخ جمال الدين البديعة في هذا الباب قوله:
أفدي غزالًا مثلوا جماله ... في مثل قد أقبلت الغزاله
ما قال مذ ملك قلبي واسترق ... كقولهم رب غلام لي أبق1
للقمرين وجهه مطالع ... فهي ثلاث ما لهن رابع
لأحرف الحسن على خديه خط ... وقال قوم إنها اللام فقط
منفرد بالوصل في دار الهنا ... مثاله الدار وزيد وأنا
لا يختشي تلاعب الظنون ... والأمر مبني على السكون
في خده التبري هان نشبي ... وقيمة الفضة دون الذهب2
فاصرف عليه ثروة تسام ... فما على صارفها ملام
وإن رأيت قدّه العالي فصف ... وقف على المنصوب منه بالألف
والعارض النوني ما أنصفته ... وإن تكن باللام قد عرّفته
واهاله من حرف نون قد عرف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف
يأتي بنقط الخال في الإعجام ... وتارة يأتي بمعنى اللام
للحظه المسكر فعل يطرب ... مفعوله نحو سقى ويشرب
ولا تلم فيه عويشقًا تلف ... ولا سكيران الذي لا ينصرف
جسمي وذاك الخصر والجفن الدنف ... هن حروف الاعتلال المكتنف2
فيا مليحًا عنه أخرت القمر ... أما لا هوان وإما لصغر
كرر فما أحلى بسمعي السامي ... قولك يا غلام يا غلامي
وارفق بمضناك فما سوى اسمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه
وقد حكى العذار في الوقوف ... فاعطف على سائلك الضعيف
وافخر بمعنى لحظك المعشوق ... في كل ما تأنيثه حقيقي
يا لك لحظًا بسعاد أزرى ... وجاء في الوزن مثال سكرى
يا ناصبًا أوصاف ذياك الصبي ... تم الكلام عنده فلتنصب
هيهات بل دع عنك ما أضنى وما ... وعاص أسباب الهوى لتسلما
__________
1 استرقّ: استعبد. أبق: هرب.
2 التبر: الذهب. نَشَبي: مالي، الثابت والمنقول.
3 الدنِف: المريض. المكتنف: الذي أصاب المصيب.(2/315)
وكرر الأمداح في علي ... قاضي القضاة الطاهر النقي
بكل معنى قد تناهى واستوى ... في كلم شتى رواها من روى
بادر بنا ذاك الحمى العالي وصف ... إذا اندرجت قائلًا ولا تقف
دونك والمدح زكيًا معجبًا ... نحو لقيت القاضي المهذبا
فالجود والعلم عليه أرسي ... وهكذا أصبح ثم أمسي
واهرع إلى قارٍ قراه نافع ... وافزع إلى حام حماه مانع1
يقول للضيف نداه جب وجل ... ومثله ادخل وانبسط واشرب وكل
وإن ظفرت عنده بموعد ... تقول كم مال أفادته يدي
لله ما ألينه عند العطا ... وما أحد سيفه إذا سطا
إن قال قولًا بين الغرائبا ... وقام قس في عكاظ خاطبًا
وإن سخا أتى على ذي العدد ... والكيل والوزن ومذروع اليد
معطل السمع عن العذال ... فما له مغير بحال
الفضل جنس بيته المهنا ... ونوعه الذي عليه يبنى
سام به أهل العلا جميعًا ... وارفع ولا رد ولا تقريعًا2
وإن ذكرت أفق بيت قد نما ... فانصب وقل كم كوكب تحوي السما
بيت عظيم المجد والعلاء ... عند جميع العرب العرباء3
إذا اجتليت في العطا جبينه ... أو استثرت للرجا يمينه
منها والبيت مضمن بكماله:
تقول قد خلت الهلال لائحًا ... وقد وجدت المستشار ناصحًا
كم بالغنى عنه تولى راجل ... وواقف بالباب أضحى سائل
قال له الشرع امض ما تحاوله ... واقض قضاء لا يرد قائله
وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد4
ولا تقل كان غمامًا ورحل ... كان وما انفك الفتى ولم يزل
باب سواه اهجر عداك عيب ... وصغر الباب وقل بويب
أود به أنسى أحاديث المطر ... فليس يحتاج لها إلى خبر
__________
1 قارٍ: الذي يقري الضيوف أي يطعمهم. والقِرى: إطعام الضيف.
2 التقريع: اللوم والتوبيخ.
3 العرب العرباء: العرب الخلص، الأقحاح.
4 الجدد: نوع من السير السريع ويكون في الأرض المستوية.(2/316)
خذ بحر شعر جبته للذكر ... وغصت في البحر ابتغاء الدر
حتى ملا عيني نداه عينًا ... وطبت نفسًا إذ قضيت الدينا
دونكها معسولة الآداب ... ممزوجة بملحة الإعراب1
مضى بها الليل مضيّ الأنجم ... وبات زيد ساهرًا لم ينم
فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبًا فسد الخللا
لا زلت مسموع الثنا ذا منن ... جائلة دائرة في الألسن
ما لعداك راية تقام ... فليس إلا الكسر والسلام
وقال الشيخ زين الدين بن الوردي:
في صدغه للحسن آيات تخط ... وقال قوم إنها اللام فقط
قلت: الشيخ جمال الدين تقدمه في هذا البيت بالإيداع، وهنا بحث لطيف أبحثه مع حذاق الأدب، قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: "لأحرف الحسن على خديه خط" ومراده بذكر الأحرف هنا مخالفة القوم له، على أنها ليست بأحرف وإنما هي حرف اللام فقط. وقال الشيخ زين الدين: "في خده للحسن آيات تخط" فلم يبق لقول من خالفه بقوله. وقال قوم إنها اللام فقط موضع ولا محل، وأين الآيات التي تخط من اللام، ولعمري إن هذا الإيداع، على هذا التقدير، يصير بينه وبين العجز من بيت الملحة بعض مباينة، وكان الأليق للشيخ زين الدين الإعراض عن إيداع هذا البيت بعد الشيخ جمال الدين، فإنه لم يترك لغيره مجالًا فيه، والله أعلم. وقال الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى:
زمانه غض فلا يخشى فرط ... إذ أَلِفُ الوصل متى يدرج سقط
بسيف حفنه قتلت نفسي ... فإنه ماض بغير لبس2
فيا غزال إن أبنت ما اعتدى ... فأسقط الحرف الأخير أبدا
قلت لمذكر لحي خلّ الفند ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد
وهذا الإيداع أيضًا نسخه الشيخ زين الدين من قول الشيخ جمال الدين، وسبكه في غير قالبه، وأين هذا من قول الشيخ جمال الدين في إشاراته إلى قاصد ممدوحه:
وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد
__________
1 معسولة الآداب: حلوة الآداب. وكأن آدابها مزجت بالعسل لحلاوتها.
2 ماضٍ: قاطع. اللبس: الشك والريبة.(2/317)
قال الشيخ زين الدين:
وإن يكن عدلك في المؤنث ... فقل لها خافي رجال العبث
منها وأجاد إلى الغاية:
قوامه أشبه شيء بالألف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف
ومثله في الحسن قوله:
يا خصره من ردفه بالمنح ... ولا تسل أخف وزنًا أم رجح
تركيب هذا البيت غاية في هذا الباب؛ لأنه قدم ذكر الألف في الأول، وقال في عجز بيت الملحة كمثل ما تكتبه لا يختلف، بخلاف قوله في ذلك البيت آيات، وقوله في عجز بيت الملحة. وقال قوم إنها اللام فقط وقال:
عذاره الرقيم فز بلثمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه1
ولكن مرسوم الشيخ جمال الدين أمثل، وأين قول الشيخ جمال الدين: "وارفق بمضناك فما سوى اسمه" حتى يقول بعد التوطئة: "ولا تغير ما بقي من رسمه". من قول الشيخ زين الدين: "عذاره الرقيم فز بلثمه". وقال الشيخ زين الدين بعد بيته الأول:
تقول فيه خضرة يسيره ... كما تقول ناره منيره
دينار وجهه به شححت ... وكم دنينير به سمحت2
يا ليته يعطف بالوصال ... والعطف قد يدخل في الأفعال
لا ما حلا لي في هواه العذل ... لشبهه الفعل الذي يستقبل
منها وأجاد:
عيناه أفنت أكثر العشاق ... وهكذا تفعل في البواقي
في ثغره جواهر غوالي ... جلوتها منظومة اللآلي
صورته كالبدر فوق الغصن ... فانظر إليها نظر المستحسن
وخل عنك يا عذول العذلا ... وإن تجد عيبًا فسد الخللا
وهذا البيت أيضًا منسوخ من إيداع الشيخ جمال الدين، والبون بينهما بعيد، فإن
__________
1 الرقيم: المنقش. والرقيم، الكتاب أو اللوح نقش فيه.
2 شح: بخل.(2/318)
الشيخ جمال الدين اعتذر للممدوح في آخر القصيدة، عن التقصير، كما جرت عادة الشعراء بقوله:
فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبًا فسد الخللا
هذا، مع مطابقة الفتح بالسد في هذا الباب، وهذا غاية، وأما اعتذار الشيخ زين الدين للعاذل، وقوله له عن محبوبه: "وإن تجد عيبًا فسد الخللا" فالمحبوب عند محبه أجل من هذا القدر، والله أعلم، وختام الشيخ زين الدين بن الوردي -رحمه الله- قوله:
حتى رثى لي وألان القولا ... والحمد لله على ما أولى
ولعمري إني اختصرت من إيداع الشيخ زين الدين بن الوردي جانبًا لم أرضه له.
ومن الإيداعات التي برز فيها الشيخ زين الدين بن الوردي، قصيدته التي امتدح بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وضمن فيها أعجاز قصيدة أبي العلاء المعري وبعض صدورها، وهي القصيدة الرائية التي امتدح بها أبو العلاء المعري ابن القصيصي، ونقلها الشيخ زين الدين بن الوردي إلى مستحقها صلى الله عليه وسلم، وقد عنَّ لي أن أجمع هنا بين الأصل والفرع، لتظهر مزية الشيخ زين الدين، فإنه أظهر في إيداعه العجائب وأتى بالغرائب، ومطلع الشيخ زين الدين خال من الإيداع، وهو:
أدر أحاديث سلع والحمى أدر ... والهج بذكر اللوى أو بانة العطر1
ومطلع الشيخ أبي العلاء المعري:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانًا على السهر
قال الشيخ زين الدين بعد المطلع:
وقف على الجزع واذكرني لساكنه ... لعل بالجزع أعوانًا على السهر
وقال في إيداع صدر مطلع أبي العلاء:
إذا تبسم ليلًا قل لمبسمه ... يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر
قال أبو العلاء يخاطب البرق:
وإن بخلت على الأحياء كلهم ... فاسق المواطرَ حيًّا من بني مطر
__________
1 سلع والحمى واللوى وبانة العطر: أسماء أماكن في الجزيرة العربية.(2/319)
وقال أبو العلاء، في قصر الليل على العاشق ليلة الوصل:
يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح، وأجاد إلى الغاية، بقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم:
تشرف الركن إذا قبلت أسوده ... وزيد فيه سواد القلب والبصر
قال أبو العلاء:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
فنقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، فقال يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم:
عذبت وردًا فلم تهجر على خصر ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر1
قال أبو العلاء يخاطب محبوبته:
قلدت كل مهاة عقد غانية ... وفزت بالشكر في الآرام والعفر2
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وما أحق المادح والممدوح به، فقال:
إن الغزالة لما أن شفعت نجت ... وفزت بالشكر في الأرآم والعفر
قال الشيخ أبو العلاء:
أقول والوحش ترميني بأعينها ... والطير تعجب مني كيف لم أطر
نقله الشيخ زين الدين وقال:
ضمنت مدح رسول الله مبتهجًا ... والطير تعجب مني كيف لم أطر
قال أبو العلاء:
في بلدة مثل ظهر الضب بت بها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر3
نقله الشيخ زين الدين وقال:
ولي ذنوب متى أذكر سوالفها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر
__________
1 الإفراط: الزيادة. الخصر: الاختصار.
2 المهاة: البقرة الوحشية. الغانية: الفتاة الحسناء. الأرآم: جمع رئم وهو الظبي الأبيض. العفر: جمع أعافر وهو نوع من الظباء الضعيفة العدو.
3 الضب: من الزواحف شبيه بالحرذون. الروق: القرن. الظبي: الغزال.(2/320)
قال أبو العلاء يخاطب صاحبيه:
لا تطويا السير عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر
قال الشيخ زين الدين بعد قوله: ولي ذنوب:
ومطمعي أنها لا شراك "إلا" بشركها ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر
قال أبو العلاء:
يا روع الله سوطي كم أروع به ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر1
نقله الشيخ زين الدين وقال:
ولي فؤاد متى تفخر سوى مضر ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر
قال أبو العلاء في المخلص، بعد روع الوجناء:
باهت بمهرة عدنانا فقلت لها ... لولا القصيصيّ كان المجد في مضر
قال الشيخ زين الدين لله دره:
والله لو أن أهل الأرض قاطبة ... مثل القصيصيّ كان المجد في مضر
قال أبو العلاء مشيرًا إلى ممدوحه، وأساء الأدب:
وقد تبين قدري أن معرفتي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر
نقله الشيخ زين الدين بن الوردي إلى المديح النبوي، وقال بحق:
يا نفس لا تيأسي يوم المعاد فلي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر
قال أبو العلاء، وكذب عن القصيصي في قوله:
ولو تقدم في عصر مضى نزلت ... في وصفه معجز الآيات والسور
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وقال -رحمه الله- حيث قال:
وأين شعري من الهادي الذي نزلت ... في وصفه معجزات الآي والسور
__________
1 السوط: الكرباج، قطعة من الجلد تستعمل للضرب. راع: أخاف. الوجناء: من النوق: الشديدة القوية.(2/321)
قال الشيخ أبو العلاء يخاطب ممدوحه:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر1
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وقال يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسبى العقول بقوله:
وأنت في القبر حي ما اعتراك بلى ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر
قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه:
أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر
والبيت نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي بكماله، ولكن كان فارس ميدانه وقائد عنانه، وكأنه كان معدًّا لقصيدته حتي يبرزه في محله من مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو:
لله قولي لعبد الله والده ... قولًا إلى فص علياه على قدر2
أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر
قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه:
سافرت عنا فظل الناس كلهم ... يراقبون إياب العيد من سفر3
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح، فقال يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم:
كم راقبت أمم منك القدوم كما ... يراقبون إياب العيد من سفر
قال أبو العلاء يخاطب الممدوح:
لو غبت شهرك موصولًا بتابعه ... وأُبت لانتقل الأضحى إلى صفر4
قال الشيخ زين الدين يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم:
سل تعط واشفع تشفع ما ترده يكن ... لو شئت لانتقل الأضحى إلى صفر
__________
1 الوهن: من الليل بُعَيد منتصف الليل. السحر: قبيل الفجر.
2 إلى فص علياه: إلى أصلها.
3 الإياب: الرجوع.
4 الأضحى: عيد الأضحى عند المسلمين. وهو العيد الذي يقدم فيه الحجيج الأضحيات قربة إلى الله تعالى.(2/322)
قال أبو العلاء في ختام قصيدته:
ولا تزال بك الأيام ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر1
قال الشيخ زين الدين في ختامه:
وارتجي بك من ذي العرض عافية ... في الآل والحال والعلياء والعمر
رحم الله الشيخ زين الدين، هذه القصيدة معدودة من محاسنه، ولولا خشية الإطالة لاستوعبتها بكمالها، فإنها بديعة في باب الإيداع. انتهى.
وأما أعجاز قصيدة امرئ القيس اللامية المعلقة، فإن جماعة من أهل الأدب ثابروا على تضمينها وتضمين البعض منها، وسبكوها في قوالب مختلفة الأنواع.
كتب إلَيّ مولانا قاضي القضاة، صدر الدين بن الآدمي الحنفي -سقى الله ثراه- من دمشق المحروسة إلى حماة المحروسة، في صدر رسالته:
أحن إلى تلك السجايا وإن نأت ... حنين أخي ذكرى حبيب ومنزل
وأهدي إليها من سلامي معطرًا ... بمسكٍ سحيق لا بريّا القرنفل2
وأذكر ليلات بكم قد تصرّمت ... بدار حبيب لا بدارة جلجل3
شكوت إلى صبري اشتياقي فقال لي ... ترفق ولا تهلك أسى وتجمل
وقلت له إني عليك معول ... وهل عند رسم دارس من معول4
فأجبته وصدرت الرسالة بقولي:
سرت نسمة منكم إلَيّ كأنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
فقلت لليلي مذ بدا صبح طرسها ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
جنت ما حلا ذوقًا فقلت تقربي ... ولا تبعدينا عن جناكِ المعلل
ورقت فأشعار امرئ القيس عندها ... كجلمود صخر حطه السيل من علِ
فقلت قفا نضحك لرقتها على ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
__________
1 الآل: الأهل والعشيرة.
2 ريا القرنفل: رائحة القرنفل وهو نبات طيب الرائحة.
3 تصرّم: انقضى.
4 الرسم: الأثر. الدارس: الممحو، غير الواضح. معول: فائدة.(2/323)
وتطارح الشيخ جمال الدين، والشيخ صلاح الدين قبلنا، في جانب كثير منها، ولكن الشيخ جمال الدين تنازل فيها إلى الغاية فقال:
رأى فرسي إصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأما الشيخ صلاح الدين فإنه كتب إلى الشيخ جمال الدين، في معنى العتب المفرط:
أفي كل يوم منك عتب يسوؤني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وترمي على طول المدى متجنيًا ... بسهميك في أعشار قلب مقتل1
فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... إذا جاش فيه حميه غلي مرجل2
تطير شظاياه بصدري كأنها ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل3
وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... على النحر حتى بل دمعي محملي
إذا عاين الأخوان ما بي من الأسى ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
ترفق ولا تجزع على فائت الوفا ... فما عند رسم دارس من معول
ولي فيك ود طال ما قد شددته ... بأمراس كتان إلى صم جندل4
ولي خطرات فيك منها جوانحي ... صبحن سلافًا من رحيق مفلفل
كأن أمانيها كئوس مدامة ... غذاها نمير الماء غير محلل5
سلوت غوايات الشبيبة والصبا ... وليس فؤادي عن هواها بمنسلي
وأجلو محيا الودّ فيك لأهله ... متي ما ترق العين فيه يسهل
فكر على جيش الجناية عائدًا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل6
تجد خفرات الأنس منها كواعبًا ... ترائبها مصقولة كالسجنجل7
__________
1 لمتجني: الذي يبدأ الجناية. السهمان: هما النظرتان. الأعشار: الأجزاء
2 جاش: تحرّك صعودًا وهبوطًا، ثار. الْمِرجل: القدر يطبخ فيها.
3 الشظايا: القطع. الأنابيش: جذور الأشجار وبقاياها. العنصل: نبات معمر من الفصيلة الزنبقية له ورق كورق الكراث.
4 الصم: الصلاب. الجندل: الصخور.
5 نمير الماء: الصافي منه والعذب.
6 المنجرد: الحصان القصير الشعر. قيد الأوابد: كناية عن السرعة، الأوابد: الوحوش. الهيكل: الضخم.
7 خفرات: شديدات الحياء. الكواعب: جمع كاعب وهي الفتاة نهد ثدياها. الترائب: عظام الصدر. السجنجل: المرآة. رومية معربة.(2/324)
وخل الجفا وارجع إلى معهد الوفا ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل1
حلا ودك الماضي وإن لم تعد أعد ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل2
فأجابه الشيخ جمال الدين متهكمًا في المطلع، والتهكم فيه غاية لا تكاد تخفى على حذاق الأدب، بقوله:
فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبًا ... أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
فأحييت ودًّا كان كالرسم عافيًا ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل3
تعفي رياح العذر منك رقومه ... لما نسجتها من جنوب وشمأل4
نعم قوّضت منك المودة وانقضت ... فيا عجبًا من رحلها المتحمل
أمولاي لا تسلك من الظلم والجفا ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل5
ولا تنس مني صحبة تصدع الدجى ... بصبح وما الإصباح مني بأمثل
صحبتك لا ألوي على صاحب عطا ... بجيد معم في العشيرة مخول6
وحاولت من إدناء ودك ما نأى ... فأنزلت فيه العصم في كل منزل
يقلب لي وجدي به سوط سائق ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل7
وكم خدمة عجلتها ومحبة ... تمتعت من لهو بها غير معجل
وكم أسطر مني ومنك كأنها ... عذاري دراري في ملاء مذيل8
وقلب خليل ينشد الودّ همه ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
__________
1 الصرم: القطيعة. أزمع: نوى وعزم على الأمر.
2 سمرات: جمع سمرة وهي شجرة الطلح. الحنظل: نبات شديد الحرارة. الناقف: الذي يكسر الحنظل، وناقف الحنظل يبقى سائل الأنف، كثير الدمع لشدة حرارة الحنظل.
3 العافي: الممحو غير الواضح. الرسم: الأثر. سقط اللوى والدخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء العربية.
4 الرقوم: النقوش. الجنوب والشمأل: الريح.
5 الخبت: الوادي العميق المحدود. القفاف: التلال والوهدات ويروى: حقاف وهي الرمال المرتفعة. العقنقل: الوادي العظيم المتسع والكثيب من الرمل.
6 المعم: ذي الأعمام. المخول: ذي الأخوال.
7 الإرخاء: السير السريع. السرحان: الذئب. التقريب: السير البطيء. التتفل: ولد الثعلب أو الثعلب عينه.
8 الملاء: الثوب الفضفاض تلتف به المرأة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. المذيل: المطرزة أذياله.(2/325)
وكم ناصح كذبت دعواه إذ غدت ... عليّ وآلت حلفة لم تحلل1
ولحية لاح غاظها ضحكي على ... أثيث كقنو النخلة المعثكل2
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل
نزعت لسكري ساحبًا من صبابتي ... على إثرها أذيال مرط مرحل3
إلى أن تبدى عذره متمطيًا ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل4
فلاطفته في حالتيه ولم أقل ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وضن بأسطار كأن يراعها ... أساريع ظبى أو مساويك إسحل5
ويقرع سمعي من معاريض لفظه ... مداك عروسك أو صلاية حنظل6
وعدنا لود يملأ القلب عوده ... بشحم كهداب الدمقس المفتل
أعدت صلاح الدين عهد مودة ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل7
فدونك عتبي اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل8
وعادات حب هن أشهر فيك من ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
والذي أقوله: المهيع الذي اخترعه الصاحب فخر الدين بن مكانس، ومشى عليه في تضمين هذه المعلقة، يعد من المعلقات في بابه، فإنه ضمنها في مداعبة رجل من أصحابه، كان كبير الأنف وأتى بما لا اختلج في صدر متأدب، ولا سمع بعده المرقص والمطرب، وهو قوله:
تأنف عن وصف الغزال تغزلي ... بلحية أنف ذي عقاص ومرسل
انظر أيها المتأدب ما ألطف تأنف هنا، وألطف منه قوله بلحية أنف، فإن العقاص
__________
1 آلى: حلف.
2 اللاحي: اللائم. الأثيث: الملتف. قنو النخلة: العنقود. المتعثكل: المتشابك.
3 المرِط: الإزار. المرحل: الموشى.
4 أردف أعجازًا: أتبع المؤخرة. ناء بعد. الكلكل: الصدر.
5 أساريع الظبي: أصابعه واحدها أسروع. المساويك: جمع مسواك: وهو عود تنظف به الأسنان. الإسحل: الشجر الذي تتخذ منه المساويك.
6 المداك: المسك المدقوق دقًا وتستعمله العرائس عادة أو هو الحجر الذي يسحق به. صلاية الحنظل: الحجر الأملس الذي يكسر عليه، وهو نبات شديد الحرارة.
7 مغار القتل: محكم الجدل وهو الحبل المتين. يذبل: اسم جبل في الصحراء.
8 نصّته: أبرزته وأظهرته. المعطل: الذي لا حلي فيه.(2/326)
جمع عقيصة وهو ما جمع من الشعر، والمرسل الشعر المسرح، ومراده أن لحية هذا الأنف غزيرة الشعر مسرحة وقال مشيرًا إليها:
من البقّ فيها جملة قد تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل1
فيا قبح شعر فوق أنف معرقص ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل2
الأثيث الكثير، والمتعثكل الذي دخل بعضه في بعض لكثرته وتدلى وهكذا قنو النخلة الذي شبه به الصاحب فخر الدين هذا الأنف، ولعمري إن هذا الإيداع من السحر في نقله إلى هذه الصفة الغريبة وقال بعده:
وقالوا اختبا في شعره فكأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل
هذا التشبيه بالنسبة إلى كبر الأنف نوع من الغلوّ، وهو من المخترعات في بابه، فإن امرأ القيس شبه به جبل ثبير فقال:
كأن ثبيرًا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
والعرانين جمع عرنين وهو الأنف، والوبل ما عظم من المطر، والبجاد كساء مخطط من الشعر الأبيض والأسود، فنقله الصاحب فخر الدين في إيداعه إلى الأنف، لما فيه من الشعر الأبيض والأسود الذي انتسج في أنفه كالبجاد، ولما اختفى في ذلك الشعر، بكبير أناس في بجاد مزمل أي ملتف، وقد تقدم قولي إنه من المخترعات.
مقلص كلتا الجانبين كأنه ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وهذا التشبيه أيضًا من العجائب، فإن هذا الأنف لم يبرح سائلًا، فشبهه الصاحب برجل ناقف حنظل، فإن ناقف الحنظل كثير الدمع لشدة حرارته. وقال:
ترى القمل والصيبان في عرصاته ... وقيعانه كأنه حب فلفل3
وفي جوفه شعر طويل كأنه ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
فيا لك شعرًا فوق أنف معظم ... يلوح كهداب الدمقس المفتل
وكم قلت إذ أرخى ذوائب أنفه ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ ... بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ
__________
1 البق: نوع من الحشرات التي تشبه القمل ولكنها أكبر منه.
2 المعرقص: المجعد كثيرًا.
3 العرصات: واحدتها عرصة وهي ساحة الدار. والقيعان: مفردها قاع: وقاعة الدار ساحتها أيضًا.(2/327)
الصاحب فخر الدين -رحمه الله- ضمن هنا عجزًا وبيتًا كاملًا بنصف بيت واحد، وفي هذا من الروية والقوة ما يزيد على الوصف، وأما قوله بعدما أرخى هذا الرجل ذوائب أنفه: ألا أيها الطويل ألا انجل، فإن هذا نوع من السحر بل السحر بعينه، ومن المبالغة المفرطة في هذا الباب قوله:
كأن الفسا إن قس مع ريح أنفه ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل1
ترى شعرات الأنف سدت خدوده ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
وقد درست بالأنف آثار وجهه ... فهل عند رسم دارس من معوّل
كأني بمولانا على وصف أنفه ... تولى بأعجاز وناء بكلكل
وجرد شعر الأنف منه وجاءنا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من علِ
هذا الذي وقع عليه الاختيار من اختراع الصاحب فخر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه- ولعمري إنه من الاختراع الذي لم يسبق إليه، ولا حام فكر من قبله عليه، انتهى.
وكان الأمير مجير الدين بن تميم يجنح إلى نوع الإيداع كثيرًا، وأتى فيه بالعجائب والغرائب، وقال من شغفه بالتضمين:
أطالع كل ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري
أضمن كل بيت فيه معنى ... فشعري نصفه من شعر غيري
ومن تضامينه:
أفدي الذي أهوى بفيه شاربًا ... من بركة راقت وطابت مشرعًا
أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معًا
وله أيضًا:
وشبابة قد كنت أهوى سماعها ... وقد صرت منها بعدما تبت أنفر3
وها أنا قد فارقتها غير نادم ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
__________
1 الفسا: الريح الذي يخرج من دبر الإنسان.
2 درس: امّحى. المعول: الفائدة أو ما يعوّل عليه.
3 الشبابة: آلة موسيقية قديمة يستعملها الرعاة عادة وهي عبارة عن قصبة فيها خمسة ثقوب أو ستة توضع عليها الأصابع وينفخ فيها مع تحريك الأصابع فيسيل منها نغم مطرب، وقد تكون مصنوعة من الحديد أو النحاس أو ما إلى ذلك وتعرف أيضًا بالقصبة.(2/328)
وأورد العميان في شرح بديعيتهم بيتين ذكروا أن تضمينهما لبعض المتقدمين المغاربة، وهما على طريقتهم، ولكن أعجباني، وهما:
وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار
فنادى وجهه لا خوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار
ومن التضامين البديعة قول زكي الدين بن أبي الأصبع، وقد جعل مطلع أبي الطيب عجزين لبيتين، فلم يلحق فيهما، فإنه نقلهما من فخامة التحمس إلى زخارف الغزل بقوله:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
ومن تضامين ابن تميم:
عاينت في الحمام أسود واثيًا ... من فوق أبيض كالهلال المسفر1
فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقال في الفانوس:
يقول لي الفانوس حين أتوا به ... وفي قلبه نار من الوجد تسعر
خذوا بيدي ثم اكشفوا الثوب تنظروا ... ضنى جسدي لكنني أتستر
وله:
أزهر اللوز أنت لكل زهر ... من الأزهار يأتينا إمام
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام
وقال:
لو كنت إذ أبصرتها موارة ... للشمس في أمواهها لألاء2
لرأيت أعجب ما ترى من بركة ... سال النضار بها وقام الماء
وقال غيره، وسبكه في غير هذا القالب:
لو كنت في الحمام والحنا على ... أعطافه ولجسمه لألاء
لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... سال النضار بها وقام الماء
__________
1 واثيًا: مصابًا بالوثء وهو وصم يصيب لحم اليد ولا يبلغ العظم المسفر: المكشوف.
2 أمواه: جمع ماء.(2/329)
وقال:
يا من يقول بأن رشـ ... ـف لمى الحبائب لم يرق
وغدا يعنفني به ... دع عنك تعنيفي وذق
وقال:
لما رأيت البدر في ساعدي ... ونرجس الأنجم قد صوّحا1
أفنيت رشفًا فيه ريق الدجى ... من قبل أن ترشف شمس الضحى
وقوله:
صهباء ريقته رشفت سلافها ... وتغلبت فعجزت أن أتكلما
وإذا سئلت أقل لمن هو سائل ... إني لأعلم ما تقول وإنما2
ومن محاسن الشيخ سراج الدين الوراق قوله:
توارت من الواشي بليل ذوائب ... له من جبين واضح تحته فجر
فدل عليها شعرها بظلامه ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
نقله الشيخ شمس الدين بن الصائغ إلى المداعبة، وزاده تورية، بقوله:
تطلبت حجرًا في الظلام فلم أجد ... ومن يك مثلي حية دأبة الحجر3
فناداني البدر الأديب إلى هنا ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ويعجبني من تضمين ابن أبي الأصبع قوله، وهو منقول من الحماسة إلى الغزل:
له من ودادي مثل كفيه صافيًا ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل
ومن قده الزاهي ونبت عذاره ... صدور رماح أشرعت وسلاسل
وقوله:
هذا الذي أنا قد سمحت بحبه ... كرمًا بلؤلؤ دمعي المتنظم
لا تحرموني ضم أسمر قدّه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
ومن تضامين الشيخ محمود البديعة قوله:
من حاتم عدّ عنه واطرح فيه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل
لو مثل الجود سرحًا قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل4
__________
1 صوّح: جف ويبس.
2 وإنما لا أستطيع التكلما.
3 الحجر: بيت الحية. دأبه الحجر: دأبه طلب الحجر.
4 لا ناقة لي في هذا ولا جمل: مثل يضرب فيمن لا يعنيه شيء من الأمر.(2/330)
ومن محاسن تضامين شمس الدين محمد بن العفيف البديعة قوله:
قالوا غدا تندم عن لثمه ... في خده إذ يغلب السكر
فقال لي مبسمه دعهم ... اليوم خمر وغدًا أمر1
وقال:
جلا ثغرًا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا
وأنشد ثغره يبغي افتخارًا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
ومن تضامين مجير الدين بن تميم التي تطفل الناس عليها بعده قوله:
إن تاه ثغر الأقاحي إذ تشبهه ... لله حبك واستولى به الطرب
فقل له عندما يحكيه مبتسمًا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب2
ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله:
وناطقة بالروح عن أمر ربها ... تعبر عما عندها وتترجم
سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
ومن تضامين الشيخ صلاح الدين الصفدي قوله:
ملكت كتابًا أخلق الدهر رسمه ... وما أحد في دهره بمخلد
إذا عاينت كتبي الجديدة جلده ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وقال:
قل للرقيب يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى
وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى
وقال مضمنًا ومكتفيًا:
رشفت ريقك حلوًا ... فلم يكن لي صبر
وسوف أحظى بوصل ... وأوّل الغيث قطر
ومن تضامين الشيخ عز الدين الموصلي:
وعلق يرى للترك فيه تحمس ... يقود عليه أحدب ويعاشره3
إذا جاءه اللوطي يطلب وصله ... ثنى طرفه نحو الحسام يشاوره
__________
1 اليوم خمر وغدًا أمر: قالها امرؤ القيس عندما بلغه مقتل والده وقد كان خليًّا لا هم له يشرب الخمر ويلهو، فصار مهتمًا بالثأر لأبيه.
2 حكيت: شابهت. الشنب: بياض الأسنان ورقتها.
3 العلق: الصعلوك من الناس، أو المخنث المتشبه بالنساء. يقود عليه: يجلب له الزبائن وهي القوادة أي القيادة إلى الفحش. يعاشره: يجامعه، يلوطه.(2/331)
وله أيضًا:
جاد لنا كالشادن الربيب ... لحظته بالنظر المريب
فقال في السكرة عند نومه ... يا رب سلمها من الدبيب1
وقال:
نادمت قومًا لا خلاق لهم ولا ... ميل إلى طرب ولا سمار
يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار
وقال:
لحديث نبت في العذار حلاوة ... وطلاوة هامت بها العشاق
فإذا نهاني المرد قلت تمهلوا ... فإليكم هذا الحديث يساق2
ومن تضامين الشيخ برهان الدين المعمار التي أجاد فيها قوله:
عزمت على رقيى محاسن وجهه ... بأنوار آيات الضحى حين أقبلا
فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أوّلا3
وكتب الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، إلى الشيخ سيف الدين الآمدي:
لئن تقدم قوم عصر سيدنا ... فكم تقدم خير المرسلين نبي
وإن يكن علمه فرعًا لعلمهم ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب
وإن أتت قبله كتب مؤلفة ... فالسيف أصدق إنباء من الكتب
ومن الغايات في هذا الباب، قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب:
لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروض تطفوا على نهر أزاهره
وللوفاء عمود من أصابعه ... مخلق تملأ الدنيا بشائره
ومما جاد به الشيخ برهان الدين القيراطي، في تضمينه:
قل في اخضرار عذاره وقوامه ... خلع الربيع على غصون البان
وانشر من الأغزال في أردافه ... حللًا فواصلها على الكثبان4
ومن غايات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في هذا الباب قوله:
قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج
__________
1 الدبيب: سريان الخمرة في المفاصل بعد شربها.
2 المرد: جمع أمرد وهو الشاب لم تنبت لحيته بعد.
3 يفتر: يبتسم حتى تبدو أسنانه.
4 الأرداف: جمع ردف وهي المؤخرة. الكثبان: جمع كثيب: تلة الرمل.(2/332)
ومن تضامين علاء الدين بن أيبك الدمشقي البديعة قوله:
أقول وقد ظمئت ووجه حبي ... له عرق على ورد الخدود
أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله:
لقد قال لي إذ رحت من خمر ريقه ... أحث كئوسًا من ألذ مقبل1
بلثم شفاهي بعد تقبيل مبسمي ... تنقل فلذات الهوى في التنقل
وظريف في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن المنيجي:
ولما خلونا والمسرة بيننا ... وقد عز شرب الراح فينا عن الشرب2
تعوّض كل بالحشيش عن الطلا ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب3
ومن تضامين شهاب الدين بن أبي حجلة البديعة قوله:
يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقًا تألق موهنًا لمعانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
وقال فيه:
أنا في الدجى ألقى الهوى وبمهجتي ... حرق يذوب لها الفؤاد جميعه
وكأنني في الليل صب مغرم ... كتم الهوى فوشت عليه دموعه
وقال وأجاد:
يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس
وكسا العذار الخد حسنًا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس
ومن تضامين الشيخ برهان الدين القيراطي:
تجمعت من نطف ذاته ... حتى بدا في قالب فاسد
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
__________
1 المقبّل: مكان التقبيل وهو الفم.
2 المسرّة: الفرحة. الشرب: الذين يشربون الراح وهي الخمرة.
3 الحشيش: نوع من المسكرات يدخن تدخينًا والطلا: الخمرة.(2/333)
وقال مضمنًا في قطائف:
لقد نطقت زهر الثنا بقطائف ... تخيرتها فاختر لنفسك ما يحلو
تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي ... وكلي إن حدثتكم السن تتلو
وله في باذهنج وأجاد:
بروحي أفدي باذهنجًا موكلًا ... بإطفاء ما ألقاه من حرق الجوى6
إذا فتتحت في الحر منه طوابق ... أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
وقال فيه:
أيا باذهنجًا صح فيه لنا الهوا ... صفاتك ما وفى بهن خطاب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن عشقي في هواك صواب
وقال فيه الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وأجاد:
هجا الشعراء جهلًا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدًا عليل
فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا
ويعجبني من قصائد الشيخ برهان الدين القيراطي قوله:
وموسوس عند الطهارة لم يزل ... أبدًا على الماء الكثير مواظبا
يستصغر البحر الكبير لذقنه ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
ومن غاياته في هذا الباب قوله:
ولما بدا والليل أسود فاحم ... قد انتشرت في الخافقين غياهبه2
أضاء بدر الثغر عند ابتسامه ... دجا الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3
وقال بدر الدين حسن الزغاري وأجاد:
وبي سامري مربى في عمامة ... قد اكتسبت من وجنتيه احمرارها
موردة دارت بوجه كأنما ... تناولها من خده فأدارها
__________
1 الباذهنج: شجر طيب الرائحة.
2 الخافقين: الأفقين. الغياهب: الظلمات.
3 الجزع: نوع من الخرز الأسود.(2/334)
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي:
وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجمًا وهذا النجم غرار
تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار
ومن تضامين محيي الدين بن قرناص الحموي:
أفديه أغيد زارني تحت الدجى ... وعليه من فرعيه ليل ساجي
والفرق بين الشعر فوق جبينه ... عريان يمشي في الدجى بسراج
وقال أيضًا:
سقى الله روضا قد تبدى لناظري ... به شادن كالغصن يلهو ويمرح
وقد نضحت خداه من ماء ورده ... وكل إناء بالذي فيه ينضح
وقوله في كاحل:
دعوا الشمس من كحل الجفون فكفه ... تسوق إلى الطرف الصحيح الدواهيا1
فكم أذهبت من ناظر بسواده ... وخلت بياضًا خلفها ومآقيا
وقال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة:
ومتى امتطيت من الكئوس كيمتها ... أمسيت تمشي في المسرّة راكبًا
ومتى طرقت عشى آنس ديرها ... لم تلقَ إلّا راغبًا أو راهبا
وقال ابن الوردي: تعجبت من اشتهار بيتين ما أحكمهما بانيهما، ولا اعتنى بمعانيهما وهما:
مقامات الغريب بكل أرض ... كبنيان القصور على الثلوج
يذوب الثلج تنهدم البنايا ... وقد عزم الغريب على الخروج
فخلصتهما من مقامات الغريب بكل أرض، وأوقدت فكرتي فذاب الثلج، وانهدمت البنايات المستحقة للنقض، وجعلتهما أسمى من السماء، ونقلتهما من كثافة الأرض فقلت:
مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج
خذوا من خده القاني نصيبًا ... فقد عزم الغريب على الخروج
__________
1 الدواهيا: المصائب.(2/335)
قلت، وقد سألني بعض حذاق الأدب عن بيت ابن مطروح، الذي لم تصل أفواه البلغاء إلى لثم أعتابه، ولا الحضور إلى جنابه، ولا وجدوا طاقة للدخول من بابه، فضمنته تضمينًا لو سمعه ابن مطروح لطرح نفسه خاضعًا، وسلم إلَيّ مفاتيح بيته طائعًا، وهو قوله:
لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل
فقلت:
ولما خلعنا العذار ... فككنا طويق الخجل
لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل
ومن تضامين الشيخ زين الدين بن الوردي ما ذكره في ديوانه، أنه كان له صاحب يدعي بالمجد، حصل له أذية مفرطة من زوجته، وأبيها وجدها، فكتب إليه الشيخ:
زوجة مجد الدين والداها ... في ثلب عرض المجد أشبهاها1
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
ومن تضميني الذي ما حام فكر من ضمن إعجاز الملحة عليه، ولا سبقني جواد من فحول العربية إليه قولي مداعبًا:
نصبت أيري إذ نحوت نيكه ... وهو يريد رفعها لي ابتدا
وبعد ذا للجر قد أضفته ... وفي المضاف ما يجر أبدا
وأنشدني من لفظه الكريم، قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر، من هذا الباب بيتين كان مولانا قاضي القضاة علاء الدين يترنم بهما:
تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل
لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل2
وقال أيضًا في المجون:
وشاعر فاسق أتى امرأة ... من خلف إذ سامه المليح قِلى
وقال إذا عاتبوه معتذرًا ... تلجي الضرورات في الأمور إلى3
__________
1 ثلب: تجريح. وعيب.
2 القعاقع: الكثير التصويت على غير طائل، والطائل: النتيجة والفائدة والمعنى.
3 إلى: إلى الممنوعات.(2/336)
ومن تضاميني الغريبة:
حثثت عزمي شوقًا إليكم ... فلم أطق مكثة بأرض
وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي
وقولي:
يقول معذبي حسن تخير ... سواي فقلت قد عز اصطباري
وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري
وأنشد المقر المرحومي محمد بن منهال ناصر الدين، عين الموقعين بدمشق المحروسة، بيتين لابن الوردي، والأصل للحريري صاحب المقامات:
لوجنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة في الملح
يقول لنبت العذار اجتهد ... ومدّ الشباك وصد من سنح1
فنظمت في ذلك المجلس بيتين اعترفت لهما القصور العوالي بالقصر، وما شك أحد أن أبا بكر مقدم على عمر:
غدا طير أفراحنا سانِحًا ... يحوم على ورد عذب القدح
فقلنا لبدر الحباب اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح
ومن تضاميني الغريبة ما ضمنته قول عنترة في معلقته:
وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
فقلت:
جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي
أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي
وبيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع:
إذا رآه الأعادي قال قائلهم ... حتام نحن نساري النجم في الظلم
الشيخ صفي الدين ضمن في بيته الشطر الأول من مطلع المتنبي، وشطره الثاني: "وما سراه على خف ولا قدم".
__________
1 سنح: ظهر وتعرّض أو مرّ من اليمين إلى الشمال.(2/337)
وبيت العميان:
واسمح بنفسك وابذل في زيارته ... كرائم المال من خيل ومن نعم
والعميان ضمنوا الشطر الثاني من بيت الشريف الرضي، وشطره الأول: "ماض من العيش لو يفدى بذلت له".
وبيت الشيخ عز الدين:
إيداعه الفضل في الأصحاب شرفهم ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
والشيخ عز الدين ضمن الشطر الثاني من بيت المتنبي، من قصيدته التي ضمن فيها الشيخ صفي الدين الشطر الأول وهو قوله:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على المديح النبوي تابع لقولي، وهو:
وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم
وفي الوغى رادفوا لُسنَ القنا سكنًا ... من العدا في محل النطق بالكلم
وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم
وأنا أيضًا ضمنت في بيتي شطرًا ثانيًا من ميمية المتنبي، والشطر الأول: "ولا تشك إلى خلق فتشمته"، ووجه الاستحقاق هنا سافر لمستجلي محاسن هذا النوع، والله أعلم.(2/338)
ذكر التوهيم:
والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم1
قلت: هذا النوع، أعني التوهيم، وتقدمه باب الترشيح، كان الأليق بهما أن ينتظما في سلك باب التورية ويذكر التوهيم مع إيهامها والترشيح مع المرشحة، وقد تقرر كل من النوعين وتقدم في بابه، والذي مشى عليه الشيخ صفي الدين هنا هو إيهام التورية وهو قوله:
حتى إذا صدروا والخيل صائمة ... من بعد ما صلت الأسياف في القمم
فذكر صيام الخيل، هنا، يوهم السامع أن السيوف صلت من الصلاة، ومراده الصليل وهو صوت الحديد، وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 2 بعد قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 3 فإن ذكر الشمس والقمر، هنا، يوهم السامع أن المراد بالنجم أحد النجوم، والمراد به النبت الذي لا ساق له.
قال ابن أبي الأصبع: وقد يأتي التوهيم للمطابقة، كقول أبي تمام، رحمه الله تعالى:
تردّى ثياب الموت حمرًا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فإنه أوهم بالمطابقة بين الأحمر والأخضر، وليس يطابق، إذ الأحمر لا يطابق
__________
1 السمر: الرماح. التقبيل: الطعن في الثغر. ويحتمل أن يكون السمر النساء، والتقبيل: الاتجاه نحو القبلة.
2 الرحمن: 55/ 6.
3 الرحمن: 55/ 5.(2/339)
الأخضر وفرع منه ضربًا آخر فقال: هو أن يأتي المتكلم بكلمة توهم، بما بعدها من الكلام، أن المتكلم أراد تصحيفها ومراده خلاف ذلك، كقول أبي الطيب:
وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس
فإن الأرجل أوهمت السامع أن لفظة الفئام بالقاف، ومراد الشاعر الفئام بالفاء، وهي الجماعات الكثيرة، هكذا روي هذا البيت، والمبالغة تقتضيه فإن القيام بالقاف يصدق عليه أقل الجمع. انتهى.
وبيت عز الدين الموصلي:
يا سائرًا مفردًا أعربت لحنك في ... توهيم منع رضاع الشاء من حلم
قلت: هذا البيت المبارك عجزت عن حل معناه، إذ ليس له تعلق بما قبله، ولا بما بعده، ولا بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم أزل في حيرة إلى أن وقفت على شرح المصنف، فوجدته قد قال: الحلم مشتق من الحلمة، وهي رأس الثدي، ويحصل في جلد الشاة دود، فتقول العرب: حلمت وحلم أديمها، أي وجد الدود في جلدها، ثم قال: ومعنى البيت، أني أخاطب سائرًا في الطريق منفردًا بنفسه عن الناس، لا يرغب في مرافقة أحد، فقلت: له وأنت تتوهم بترك اجتماعك بالناس معنى لا تظهره، كما يوهم الراعي بمنع رضاع الشاء، أن جلودها حلمت، وحلم بين حلم الشاة وحلم الأديب. قلت والله ما ازددت إلا حيرة في تفسير هذا الشرح، والذي أقوله: إن الشرح والنظم في العقادة، وعدم الفائدة، كفرسي رهان.
وبيت بديعيتي تقدم قبله وهو:
وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم
وقلت بعده في التوهيم:
والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم
فذكر الموت في البيت يوهم السامع أن نساءهم السمر قد أدارتهم إلى جهة القبلة، كما هو المعهود. والتوهيم هنا في التقبيل وفي السمر، والمراد بالسمر الرماح، وبالتقبيل الطعن في الأفواه التي تنزل هنا منزلة التقبيل، واستعارة التقبيل للرماح في غاية الحسن، فإنهم شبهوا سنان الرماح باللسان، وشبهوا مواقع الطعن بالثغور. ويعجبني هنا قول ابن المزين في الرمح:(2/340)
أنا أسمر والراية البيضاء لي ... لا بالسيوف وسل من الشجعان
لم يحل بي عيش الغداة لأنني ... نوديت يوم الجمع بالمران1
وإذا تفاخمت الكماة بجحفل ... كلمتهم فيه بكل لسان2
__________
1 المران: الرماح اللدنة الصلبة واحدتها مرانة.
2 تفاخمت: علت قدرًا. الكماة: الأبطال الشجعان. الجحفل: الجيش الجرار. كلم: جرح. اللسان من الرمح سهمه.(2/341)
ذكر الألغاز:
وكل ما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزري بفهمهم
هذا النوع، أعني الألغاز: يسمى المحاجاة والتعمية، وهي أعم أسمائه، وهو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ مشتركة، من غير ذكر الموصوف، ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليه، وأبدع ما فيه أنه لم يسفر في أفق الحلى غير وجه التورية، وأما تعسف الفرقة التي ليس لها إلمام بالتورية في الألغاز، فأمرهم مسلم إليهم، وأما علماء هذا الفن فإنهم ما قرروا غير ما قررناه، فمن ذلك قول أبي العلاء في إبرة:
سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثرًا والله شاف من السم1
كست قيصرًا ثوب الجمال وتبعًا ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وقول ابن حراز في خيمة:
ومضروبة من غير ذنب أتت به ... إذا ما هدى الله الأنام أظلت2
قلت: لغز أبي العلاء ولغز محيي الدين، لم تسفر فيهما الوجوه الحسان إلا من وراء ستور التورية، ومنه قول ابن حراز فيمن اسمه عثمان:
حروفه معدودة خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان
ومن ألطف الألغاز في القلم:
وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعه من جفنه جاري
مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري
__________
1 السم: الثقب، وذات السم: الإبرة. والسم: مادة تسبب الموت.
2 المضروبة: التي ضربت من الحيوانات فشارفت على الموت، والخيمة.(2/342)
وقول ابن عبد الظاهر في شربه في كوز الوزير:
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب
إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب
ومن لطائف ما وقع في باب الألغاز أن شيخ الشيوخ بحماة كتب إلى والده ملغزًا في باب، بقوله:
ما واقف بالمخرج ... يذهب طورًا ويجي
لست أخاف شره ما لم يكن بمرتج1 ... فكتب إليه والده في الكتاب
ذهاب ومجيء وخوف وشر، هذا باب خصومة والسلام.
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ملغزًا في باب:
أي شيء تراه في الدور والكتـ ... ـب مجازًا هذا وذاك محقق
هو زوج وتارة هو فرد ... وهو في أكثر الأحايين يطرق
وطليق في نشأتيه ولكن ... بحديد من بعد ذلك يوثق2
وهو في القلب يستوي وتراه ... بان تصحيفه لمن يترمق3
فأجبني عنه بقيت مطاعًا ... نست في حلبة الفضائل تسبق
وقال الشيخ برهان الدين القيراطي في باذهنج، وأجاد:
أهواؤنا المختلفة ... قد أصبحت مؤتلفه
في شامخ بأنفه ... على العوالي أنفه
وذي جناح لم يطر ... وكل طير ألفه
جناحه طول المدى ... يبدي علينا رفرفه
في الريح ضاع قول من ... على هواه عنّفه
عليله الصحيح كم ... شفى قلوبًا دنفه
وروحه لطيفة ... وذاته منحرفه
__________
1 أرتج: الباب، أقفله.
2 يوقف: يربط، ويقيد.
3 التصحيف: تغيير نقط الحروف. المترمق: المحد النظر.(2/343)
عن قبلة الدين أرى ... حب الهوا قد صرفه
ولم تكن مع الهوا ... أعطافه منعطفه
هواه تحت طوعه ... كيف يشاء صرفه
ما زال غير شاكر ... ساكنه مذ ألفه
وكلما أسرف في ... بذل شكرنا سرفه
أنفاسه كم أودعت ... مجلسنا تلطفه
كم رنحت من غصن ... وقامة مهفهفه1
معتله هو الصحيـ ... ـح عند من قد عرفه
وقال محيي الدين ملغزًا في قمري:
ما معمى ورأسه ... في عداد المطير
كم له من مترجم ... كم له من مسحر
كم خواف له بدت ... لالتماع المبصر2
كله معجم وإن ... زال بعض اسمه قري
وقال المقر المرحومي الأميني، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، ملغزًا في فاختة3:
وما طائرًا يهوى الرياض تنزهًا ... ويسرح في أفنانها ويغرد
هجاء اسمه خمس حروف تعدها ... وخمساه حرف إن تأملت مفرد
وبعدهما تصحيف باقية إن ترد ... بيانًا له أفعى تبين وتشهد
وفيه أخ إن تهت عنه فأخته ... تدل على ما قد عنيت وترشد
هذا اللغز ورد إلى الديار المصرية، وحله بقية السلف الشيخ زين الدين بن العجمي، وأجاب عنه بقوله:
أيا من له مجد أثيل وسودد ... غدا دون مرقاه سماك وفرقد4
تفيد يسار المقترين يمينه ... ويسراه من يمنى الغمامة أجود
__________
1 رنح: أسكر، وأمال.
2 الخوافي: أربع ريشات في جناح الطائر تختفي إذا ضم الطائر جناحه، واحدتها خافية.
3 الفاختة: نوع من الحمام المطوق، يباعد بين جناحيه وإبطيه ويتمايل في مشيه.
4 الأثيل: الأصيل المتجذر. السؤدد: الرفعة. مرقاه: ارتقاؤه. السماك والفرقد: نجمان، وهنالك سماكان وفرقدان.(2/344)
ونقل الشيخ جمال الدين الدميري في كتابه "حياة الحيوان" لغزًا في بجع:
ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب
منقاره في وسطه ... والعين منه في الذنب
وكتب علامة العصر الشيخ بدر الدين الدماميني، إلى المجدي فضل الله بن مكانس، ملغزًا في قدح، فقال: ما اسم حبيب إلى النفوس، شبيه بالبدر حليق للشموس، إن قلب كان لقلبه من العين مكان المناسبه، أو سقط قلبه مع الفعل كان ضدًّا للأقوال الكاذبه، وإن صحف بعد العكس أنبأ عن الذكاء وهذا غاية الشرح، وإن غير ثانيًا علم رب الكلام المحرر أنه دال على الطرح، حاشيتاه مع التصحيف آلة للصيد، معينة على المكر والكيد، وإن قطع طرفه كان صراح باقيه قوامًا، وإن عكس على الطرف صار بتصحيفه مدامًا، وإن زال أوله كان العكس عقابًا بالمتعاطي إثمه، أو صحف اشتاقت الشفاه إلى تقبيله ولثمه، وربما كان الحد عند تصحيفه الآخر منافيًا لاسمه، مبيانًا في الحقيقة لحده ورسمه.
فكتب الجناب المجدي الجواب وألغز فيه ورد بقوله: يقبل الأرض التي أطالت بالجفاء حرمانه، وتداركته بعد إجراء دموعه فعظمت في الحالين شانه، وانتهى المملوك إلى اللغز الذي تمتع بملحه، وشرب بقدحه، فابتهل شكرًا، ومالت أعطافه بالقدح الفارغ سكرًا، فوجده كما قال مولانا حبيبًا إلى النفوس، مجتهدًا في التوصل بما حازه إلى الرءوس، وكتب في الجواب لغزًا، وخالف نفسه إذ قالت لا ينبغي مجاراة هذا الجواد لزًّا1. "وهو" ما عاطل يتحلى به المجالس، ويتفكه به في المجالس، تحمر وجناته من الشرب، وتحمد آثاره في البعد والقرب، إن قلبته وجدته تاجًا، وإن تركته على حاله زادك ابتهاجًا، يعذب بالنار وغيره الجاني، ويريك إن بدلت أوله برد الأماني، يستخرج وهو داخل، ويرى دمعه من نار قلبه هاطل، لا تبرح به في غبطة، ولا تجد فيه مع انهماله نقطة، فإن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمرًا بالشراب، وإن فعلت كذا في ثانيه رأيت ما بقي مولدًا للمحبة بين الأحباب، وورّ إن حذفت آخره كمن وري، وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج درًا، والمملوك يسأل الصفح فإنه لولا المحبة ما أجاب، ولا طرق بعد فقد أبيه هذا الباب.
فكتب إليه الشيخ بدر الدين الجواب: يقبل الأرض وينهي ورود الجواب، الذي شفى القلوب بوروده، واللغز الذي نسي بوروده، بان الحمى وطيب وروده، فوجده روض
__________
1 اللز: الإلتصاق، والسرعة.(2/345)
سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل ... على عودها في الروض تشدو وتنشد
وتجذبني بالطوق عند نشيدها ... لنحو التصابي لا أطيق أفند
ومذ بان منها الطرف أمست لعكسها ... تخاف الردى ممن لها يترصد
وإن حذفت ثاني الأخير فإنه ... على العكس خاف بل يلوح ويشهد
فأولها مع ما يليه وحرفها ... لنا فاه بالمعنى الذي فيه يقصد
وحرفان منها فرد حرف لناطق ... واف لمن بالعكس في ذاك يجحد
بقيت بقاء الدهر عزك باذخ ... وفي مفرق الجوزا لواؤك يعقد1
وقال ملغزًا في درة:
أي شيء من الجمادات يلفى ... وتراه من بعد ذا حيوانا
وترى ذلك الجماد عزيزًا ... غاليًا منه رصعوا تيجانا2
وترى الروح منه في حيوان ... ذي جناح ويألف الطيرانا
وإذا ما شدا على العود يومًا ... فوق دف يحرك الأغصانا
أو بدا في مقفص فابن برد ... عند أسجاعه يصير مهانا
كله طائر وفي ثلثيه ... لك ذو أربع مع العكس بانا
كله عاطل به تتحلى ... كل خود وتستقل الجمانا3
وتراه عند الملوك عظيمًا ... وبتصحيفه حقيرًا مهانا
عكسه في تصحيفه زد بنقص ... فالمعمى هنا فكن يقظانا
وإذا لم تدر التصاحيف ذره ... للذي فيه فهو يدري البيانا
وبتحريفه تؤدب من شئـ ... ـت إذا كان يجهل العرفانا
ثلثاه در نفيس وفي فيـ ... ـه إذا جاء يصحب المرجانا
لكن الثلث عنده نصف وحش ... ذب عنا تصحيفه ما اعترانا
وهو في البر نافر وإذا ما ... حضروه قد يألف الإنسانا
فافترسه بالحل إن كنت ليثًا ... فهو لغز عن فضله قد أبانا
وعلى ذكر القمري والفاختة، أوردت هنا ما ألغزته في القفص، وهو قولي:
أي مغنى أعواده بيت شدو ... مرقص مطرب وبالقلب صفق
ولمجموعه النباتي حسن ... فزت من بعضه بسجع المطوق
__________
1 الباذخ: عظيم الشأن. اللواء: الراية.
2 عزيزًا: عزيز الوجود: نادره. رصّع: زخرف وزين.
3 العاطل: الذي لا حلي له. الخود: الحسناء. استقل: رأى الشيء قليلًا. الحجان: اللؤلؤ.(2/346)
بلاغة عدم العاتب والعائب، وترعرع زهره حيث أمطرته من الأنامل المجدية خمس سحائب، فلو شاهده ابن الوردي لاحمرّ خجلًا، أو صاحب زهر الأدب لتلوّن وجلًا، ثم تأمل حل اللغز فوجده قد كشف المشكل وجلى، واعترف أنه لم يمر بذوقه أطيب من ذلك الحل ولا أحلى، وتحقق أن مولانا أوسع المملوك في مقام الأدب بفضله إيناسًا، وتناول منه قدحًا أعاده بألفاظه المسكرة كاسًا، وانتهى المملوك إلى اللغز المخدومي، فقال:
مولاي مجد الله يا من فضله ... يروي وجود كفوفه يروي الصدى
ألغزت في اسم عاطل حليته ... فينا بدرّ اللفظ أو قطر الندى1
إن أورد التحريف في أثنائه ... قد كان للشاني هلاكًا أو ردى2
وقال مجيبًا له أيضًا عن الورد:
لله لغزك يا مولى فضائله ... قد عطر الكون منها طيب أنفاس
أتى بورد فحياني على قدحي ... به وأبهجني ما بين جلاسي
وقد أسا جرح كسرى حين أقبل لي ... روحي الفداء لذكر الورد والآس
فاستحلى المملوك بالتحريف ورده، وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده، ورده إلى ذل القصور عاريًا عن ملابس عزه، وأنشد قول ابن قلاقس وقد تقلى بنار عجزه:
إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم3
فراح على بهرج هذا الرأي الكاسد، واقتنع بالشميم على رغم أنف الحاسد، وعلم أن تلك الورود لا تخرج إلا من تلك الخضرة، وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها باليد المخدومية بهجة ونضرة، وتمشى المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحقيقة، ورأى كل ورقة فاحمرت الوجنات الحمر فتحير أهي وردة أم شقيقة4، وتفكه به معجبًا بثمار غرسه، منشدًا لمن كرر النظر في صحيفتي طرسه:
إن كنت تزعم ما في خده عجبًا ... فانظر إلى الورد في خديه منثورًا
فلقد ظفرت من نفسه الوردي بالعنبر الورد، وعودته عند تبديل الثلاثة بالواحد
__________
1 العاطل: الذي لا حلي له.
2 الشاني: الشانئ: المبغض. الهلاك: الموت. الردى: الموت.
3 الشميم: ما يشتم من الرائحة.
4 الشقيقة: واحدة الشقائق، وهي أزهار حمراء قانية فيها بقع سوداء تعرف بشقائق النعمان.(2/347)
الفرد، وتأملت بقصور راحتي نكتة برد الأماني، فانعقد لسحر البيان لساني، وتيقنت أنه لا يقوى على فهم هذا البرد إلا كل حديد النظر، ووجدت تصحيف هذه الكلمة، يا شمس الفضائل للعقول قمر، وعلمت أن الفكر لا يجاري من بديهته من بحر الفضائل رويه، وأن الخاطر لا يقوى على سلطان هذا اللغز؛ لأن شوكته قوية، وقلت للذهن رد1 بعضه لتنتهل شرابًا سائغًا، وزد تصحيفه ليكون في التعريف بمعناه مبالغًا، وتمتعت من ورده بالمشموم، ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم، فاستقطر البين ماء الورد من حدقي ولمولانا الصفح عن مقابلة هذا الدر بالسقط2، وتمر هجر بهذا الحشف الملتقط3.
قلت وعلى ذكر القدح والورد، حسن أن نورد هنا لغزًا في المدام وقفت عليه، للشيخ صلاح الدين الصفدي بخطه:
وما شيء حشاه فيه داء ... وأوله وآخره سواء
إذا ما زال آخره فجمع ... يكون الحد فيه والمضاء4
وإن أهملت أوله ففعل ... له بالرفع والنصب اعتناء
قلت: لا بد للمدام من ماء من حيث الممازجة:
ووقفت بالديار المصرية على لغز للشيخ زين الدين بن العجمي، ألغزه في الماء فأعجبني، وهو قوله: سألتك أعزك الله عن سائل لا حظ له في الصدقة، ولم يكن متصل النسب بالأشراف، وتراه كثير الرجفان. من غير أن يخاف، كم رد سائله نهرًا، وعفر وجه قائده في التراب قسرًا، مذكر كثير الحيض، لطيف الانبساط سريع الفيض، مطلق التصرف وعليه الحجر5، وطال ما قبل العشاء أبدى لنا الفجر، يتشعب ويتكسر، ويتعوج ويتدور، وتبدو له خمسون عينًا وأكثر، يحمل القناطير المقنطرة، ويعجز عن حمل إبرة، سرع الاستحالة، قل أن يثبت على حاله، بعيد الغوص ليس له قرار، ويعاجل صفاء وراده بالأكدار، ويسكن في تخوم الغبرا6، وينم على أحوال السماء نثرًا، بعيد الغوص رقيق القلب على كل عديم، وكيف لا وهو المولى الحميم، يجود بأفخر الحلى، ولا يردّ
__________
1 رِدْ: أمر من وَرَدَ.
2 السقط: من كل شيء الرديء.
3 الحشف: التمر الرديء، وتمر هجر أحسن أنواع التمر، وهجر مدينة اشتهرت بتمرها.
4 الحدّ: قصاص مفروض من الله سبحانه وتعالى مقابل جنايات معينة. والمضاء: التنفيذ.
5 الْحَجْر: المنع من التصرف والحركة.
6 الغبرا: الأرض.(2/348)
من نداه مؤملًا، كم عمر سبيلًا، وقطع طريقًا وأخاف سبيلًا، وكم طغى واحترق، وأظهر الجفاء وهو كثير الملق1، صقيل يجلو الصدى، ويظهر على شدة البرد تجلدا، قد جمع فيه الخوف والرجا، والكدر والصفا، فسبحان من جمع فيه هذه الأصداد، وأرسله رحمة للعباد.
ويعجبني فيه قول أبي الفضل بن الخازن:
وخل صفاء زرته بعد هجعة ... فألفيت شخصي في حشاه مصورا2
وأودعته سري فأفشاه للورى ... فيا حسن ما أفشى الغداة وأظهرا3
أبوه حليف للثريا وأمه ... به حامل في بطن منخفض الثرى
سطيح له جسم بغير جوارح ... يباري الرياح الذريات إذا جرى
تزر عليه الريح ثوبًا موردًا ... وتكسوه شهب الليل ثوبًا مدثرًا4
قلت: وعلى ذكر الماء يحسن أن نورد هنا لغزًا في القربة. كتب الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المقر الأميني، أمين الدين الحمصي، كاتم السر بدمشق صاحب، ديوان الإنشاء بالشام لغزًا في قربة تزاحم سرب الأدب على الشرب منها، ولو عاش صريع الدلاء ودّ أن يكون راوية عنها، وهو قوله:
أكاتب سر الملك والفاضل الذي ... ثناه على الأفكار فرض مرتب
يحدث عن سهل رواة كلامه ... إذا ما أتاه اللغز يرويه مصعب
فديتك ما ذات أطالعكم بها ... ويبحث في الأسفار عنها وتطلب
تشدوكم في الأرض قارٍ أمالها ... وصدق إذا ما قيل تملى وتكتب5
وما هي في التحقيق راوية وكم ... لها خبر في الذوق يحلو ويعذب
مليحة شكل يألف الحب صبها ... زمانًا وفي وقت لها يتجنب
وتبلغ منها للحياض حقيقة ... ولكن رأينا قلبها وهو طيب
يزيد مريدوها إذا ما تصوفت ... ويشكرها أهل الزوايا ويطنبوا6
__________
1 الملق: الكذب والمراءاة.
2 الهجعة: سكون الليل وهدوؤه. الحشا: الجوف والداخل.
3 أفشى السر: كشفه وأذاع به. الورى: الناس.
4 تزر عليه: تلبسه. المدثر: الذي رسمت على أطرافه الدنانير.
5 القاري: مطعم الضيوف. تملى: تملأ. تكتب: يقال كتبت القربة إذا ربطت بابها وشددتها بالوكاء.
6 الزوايا: أماكن العبادة التي اشتهرت في تونس في فترة من الفترات وكان أشهرها الزوايا السنوسية. أطنب: زاد وتوسّع.(2/349)
لها أربع لكن بساق رأيتها ... على السعي في الأحياء بالنفع تدأب1
وما نال إثْمًا في تعاطيه بعدما ... رأيناه من تلك العتيقة يشرب
وشم فما المفتوح كم راح سائلًا ... وما نطقت حرفًا عن القصد يعرب
وترضع أحيانًا وما حان رضعها ... وكم من فتى في حملها راح يرغب
وتحمل ما فيه الحياة لربها ... فيا حبذا منها البسيط المركب2
وترسله فاعجب له من مسلسل ... غدا مرسلًا عن الرواية تعجب3
وكم من خليع شمته إذ تعتقت ... يمد إليها الراح لهوًا ويطرب
وكم قد تعبدنا بتحريف لفظها ... ولم أر بالتحريف من يتقرب
وتصحيفها يا جبهة الدهر بلدة ... حواها من الأقطار شرق ومغرب
وتوجد في الأفلاك عالية لها ... ويألفها بعض الجواري ويصحب
ويا من لرق الفضل أصبح مالكًا ... فما لي إلا نحو علياه مذهب
تلفت للغز نحو بابك قد أتى ... وكل غدا من ظرفه يتعجب
وقال بعضهم ملغزًا في قربة السباحة:
وذات فم طورًا تسبح ربها ... ولم تكتسب أجرًا بتسبيحها قط
معانقة الصبيان مضمرة الهوى ... كأن بقايا قوم لوط لها رهط
قلت: أما لغز الشيخ بدر الدين في القرية فنسيج وحده، وما ذاك إلا أنه لم يحتج فيه إلى عقادة من تمذهب بغير مذهبنا، ولم يسبكه في غير قوالب التورية، وقد أذكرني لغزًا ألغزته في قصب السكر بطرابلس المحروسة، وقد أنشدني بعض المخاديم وهو المقر المرحوم الشهابي الدنيسري لغزًا في قصب السكر أيضًا، وهو:
وحاملة درًا حكى الخمر لذة ... ونشرًا يروي شربه ويقوت
تعيش إذا لم يبد منها فإن بدا ... فمهجتها في إثر ذاك تفوت
فلم تر عيني مرضعًا في مثالها ... من الخلق تسقي درها وتموت
وقال بعد الإنشاد: ولا أعلم في هذا الباب مثل هذا اللغز؛ لأنه سالم من التعقيد
__________
1 أربع: أي أربع سوقٍ.
2 ربها: صاحبها.
3 المرسل من الحديث: ما سقط من إسناده الصحابي ويرويه التابعي بقوله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون ذكر الصحابي الذي أخذه عنه.(2/350)
والتصحيف والتحريف والعكس والحذف والإبدال، فنظمت هذا اللغز في يوم الإنشاد وهو:
وعسالة تبدو بغير أسنة ... ولا طعن فيها وهي داخلة الصدر1
ممشقة هيفاء حلو مذاقها ... به يطرح في المهمة القفر2
منعمة لقاء مهضومة الحشا ... تكاد بأن تنقد من رقة الخصر
وتحلو على البيض الرشاق شمائلًا ... إذا ما تثنت في غلائلها الخضر
يلذ قبيل العصر في الظهر رشفها ... وبرد لماها من أليم الجوى يبري
وإن سقيت ماء سقتك سلافة ... بطيب مزاج وهي طيبة النشر4
وينبت حلو الثغر حلو نباتها ... فيرشف أرياقا ألذ من الخمر
وإن لمعت في ثغرها وتبلجت ... دع ابن جلا يقرع ثناياه في الثغر5
على عودها كم للرباب مواقع ... وموصولها يغني عن الناي والزمر
وإن قطعوا موصولها شببت به ... ألو الذوق تشبيبًا شفى غلة الصدر
وترفع بعد النصب والكسر جرها ... فتجزم ما للفارسي من الذكر
وهمزاتها همزات وصل وقطعها ... إذا ما أميلت جائز لك يا مقري6
وفي أول الأعراف تروي من الظما ... وتضرم نيران الجوى وهي في العصر
ومن حلها إن أفرغت في قوالب ... يقول الورى هذا هو السكر المصري
ومن أجل ذا عنها ابن سكرة روى ... وأما النباتي قال من ههنا قطري
كذا ابن الجلاوي قلبه معها يرى ... كسيرًا وكم قد أوردته لظى الجمر
فيا من حلا ذوقًا وحل بدائعي ... وفي عقد عقد الألغاز يا نافت السحر
تأملت بعد الحل كيف تنوعت ... حلاوتها حتى رقت منبر الشكر
بنية فكر من حماة تغربت ... وغربتها والله قد أشغلت فكري
__________
1 العسّالة: الخلية والجعبة التي توضع فيها السهام.
2 المرّان: الرماح اللدنة الصلبة واحدتها مرانة. المهمة: الأرض الواسعة.
3 الغلائل: واحدتها غلالة وهي الرقيق من الثياب.
4 السلافة: الخمرة. النشر: الرائحة التي تنتشر منها.
5 تبلج: بان ووضح. ابن جلا: الحجاج بن يوسف لقب به لقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
6 المقري: المقرئ وهو علم تقريبًا على قارئ القرآن. والإمالة: تقريب الفتحة والألف في اللفظ من الكسرة والياء.(2/351)
ومن شط ذاك النهر يا بحر قد أتت ... فلا تنهروها فهي في جيرة البحر
سعت من أبي بكر لأحمد خدمة ... وأحمد من أولى الورى بأبي بكر
فلا زلت في حل وظعن مؤملًا ... لكل غريب جاء حتى من الشعر
قلت: وبعد قصب السكر يحلو أن نورد هنا شيئًا مما ألغزوه في العسل، فمن ذلك ما كتب به الشيخ شرف الدين عيسى العالية، إلى سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة بدر الدين بن الدماميني، وهو:
يا أيها المولى الرئيس ومن له ... ألّفت مدحًا كالجواهر نظمه
اسمع سمعت الخير أمرًا محكمًا ... يمضي على الألغاز جمعًا حكمه
قالوا من الأطيار حقًّا أصله ... أكرم به لغزًا يروقك طعمه
لكنه ما حاز منقارًا ولا ... ريشًا وأجنحة ولست أذمه
من أين يعرف ما اسم شيء ربما ... أكلته في بعض المجاعة أمه
فأجابه الشيخ بدر الدين بقوله:
يا فاضلًا نثر المحاسن نظمه ... يوللغزه قد ذل عجزًا خصمه
وتطرزت حلل البديع بمنطق ... منه علا بين الأفاضل رسمه
شرف لأعراض البدائع سابق ... ومن الفضائل قد توفر قسمه
ألغزت في اسم عاطل حليته ... بنفيس در صح فينا يتمه1
فإذا أضفت القلب منه لأصله ... قلنا بهذا الفعل قد وضح اسمه
وإذا عكست الأصل منه فهو إن ... أعربت لحنًا ليس يجهل حكمه
قد كانت الأذهان منه خلية ... فحوت به شهدًا لذيذًا طعمه
ورأى ابن سكرة حلاوة طعمه ... فقضى بتقطير المرارة وهمه
ورأى بعين لغزك الحلو الجنى ... حلو المذاق فحار فيه فهمه
وأعاذه بعلي أمير النحل إذ ... أضحى عليًّا في الفصاحة نظمه
فاصفح بفضلك عن جواب سافل ... يا طالعًا في خير أفق نجمه
قلت: وعلى ذكر العسل يحلو أيضًا أن نورد هنا ما ألغزه مولانا المقر المرحومي القاضي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي في سكر نبات، وكتب به إلَيّ، وهو:
__________
1 العاطل: الذي لا حلي له. النفيس: الثمين. اليتيم: من الدر، الذي لا ثاني له.(2/352)
يا قاضي الأدب احكم لي فذا أدبي ... حلا مذاقًا ووقع لي بتحسين
واقبل شهادة ما أهديته تر من ... تصحيف معكوسه ثانٍ يزكيني
ورسم لي بحل اللغز والجواب فألغزت مع الحل لغزًا زائد الحلاوة في قطر، وهو:
أهديت لغزًا حلا ذوقًا مكرره ... فانحل مذ حل في قلبي بتمكين
وفزت منه بشكر في مصحفه ... وجاء منه بثانٍ قلت يكفيني
تصحيف معكوسه من غير تزكية ... وحكمه ثابت عندي بتبيين
حماة منبته لكن بمصر له ... مزية تزدري نبت الرياحين
فحل منه لنا لغزًا مجانسيه ... يحل أحشاء أرضينا فيرضيني
يرادف اسم رباب فهو يطربني ... هذا وتصحيفه في العيد يأتيني
حلو رقيق بلا حشو لذائقه ... لأن قطر النباتي عنه ينسيني
فلا برحت برغم الكسر تجبرني ... وكلما مرّ لي عيش تحليني
قلت: وعلى ذكر القطر، يحلو أن نورد هنا شيئًا من بديع ما ألغزوه، في الكنافة والقطائف، فمن ذلك ما ألغزه الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي في النوعين وهو قوله:
هذان لغزان قد حلا ببابك يا ... قاضي البرية ما هذان خصمان
اسمان كل خماسي إذا كتبت ... حروفه فهما لا شك حرفان
تباينا في الورى شكلًا إذا نظرا ... وصورة وهما في الأصل مثلان
هما إلى الصين منسوب مقرهما ... أن أحضرا في مكان بين أخوان
لذا كنى وهو بين الناس ليس له ... من كنية ما انتحى في ذلك اثنان
في البر يلقى وإن فتشت عنه تجد ... في لجة البحر ملقى خمسه الثاني
نبت أرى النار قد أبدت له ورقًا ... فأعجب له ورقًا ينمو بنيران
يحيا إذا ما سقاه القطر وابله ... وجاده بسحاب منه هتان1
ذو رقة فإذا صحفته ظهرت ... كثافة منه فاستره بكتمان
هذا وكم من بدور فيه قد طلعت ... في آخر الشهر لم تمحق بنقصان2
فقدها خيط فجر أبيض عجل ... بالبرق يسطو عليها سطوة الجاني
__________
1 الهتان: الشديد المطر متتابعة.
2 محق: البدر صار في المحاق وهي المنزلة التي ينزلها القمر قبل أن يبدأ بالإثارة، أو الهلال قبل رؤيته.(2/353)
واللغز الآخر في اسم ذات ألسنة ... لم يبد منها لنا بالنطق حرفان
يا حسنها ألسنا أضحت حلاوتها ... يحلو المديح لها من كل ملسان1
بالطي والنشر في حال قد اتصفت ... والطي والنشر فيما قيل ضدان
كم سكرت ففتحنا بالدخول بها ... أبوابها فتلقتنا بإحسان
حسناء أجمع أهل العقد كلهم ... والحل منها عليها بعد عرفان
وصالها حل بالإجماع في زمن ... فيه الوصال حرام عند أعيان
ثلثا ثلاثة أخماس لها وجدا ... شيئا يجيء بإيضاح وتبيان
وما ذكرت من الأخماس قد نطقت ... صدقًا بذكر اسمها من غير بهتان2
وخمسها جبل لكن بقيتها ... في مكرة يرتجى فوزًا بغفران
ما ملَّ راوٍ من القالي أماليه ... عنها وما خاطر القالي لها شاني3
في الجوف منها قلوب جمة جمعت ... ولا يكون بجوف الشخص قلبان
كم ظل يطرحها من ليس ذا شرف ... جهرًا ويوصف مع هذا بإتقان
بالحل أنعم سقى القطر المواطئ من ... إقدام سعيك من إرواء ظمآن
وكتب مولانا قاضي القضاة، صدر الدين بن الآدمي الحنفي -رحمه الله- إلى علامة العصر سيدنا ومولانا الشيخ بدر الدين بن الدماميني -رحمه الله- ملغزًا في لوزينج وأجاد إلى الغاية، وهو:
يا من له في علوم النظم أي يد ... فاق الخليل بها فضلًا وتمكينا
ما اسم دوائره في نظمها ائتلفت ... والثلم في صدرها مستعمل حينًا
أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت ... هذا ويقطع مطويًّا ومخبونا
تصحيف معكوسه لفظ يرادفه ... يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا
والعيد منتظر من حله فرجًا ... لا زال سعدك بالإقبال مقرونًا4
فحله المشار إليه -رحمه الله- وأجاد إلى الغاية، والجواب:
يا مرسلًا من شهي النظم لي كلمًا ... منها ابن سكرة قد راح مغبونًا
لله درك صدرًا من حلاوته ... وجوهر النظم لم يبرح يحلينا
__________
1 الملسان: الفصيح.
2 البهتان: الافتراء والكذب.
3 شاني: شانئ مبغض. والقالي. صاحب الأمالي والمبغض أيضًا.
4 السعد: الحظ. مقرونًا: مقترنًا ملازمًا.(2/354)
حليت لغزك إذ أبهمته فلذا ... يا فاتني رحت بالإعجاب مفتونا
هذا وكم قد رأينا في دوائره ... للكف قبضًا يزيد العقل تمكينا
وليس إضماره مستحسنًا فأين ... بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا
وكن لنا هاديًا صوب الصواب ودم ... فينا أمينًا رشيد العقل مأمونا
والله تعالى يمن على أفواه شاكريه بما هو أشهى من اللوزينج وأحلى، ويحلي أعناق المتأدبين من كلمه بما هو أنفس من الدر وأغلى.
وكتب الشيخ بدر الدين، المشار إليه، أيضًا لغزًا في دواة وجهزه إلى المقر المرحومي الأميني المقدم ذكره، وهو هذا:
كتبت وأعذاري إليك تقرر ... ونظمي بها يا كاتب السر يجهر
أتتك بأبيات المعاني فرضتها ... وحكت حبير اللفظ وهو محرر1
وحليت أهل العصر إذ كنت خاتمًا ... لهم فعليك الآن يعقد خنصر
وما أنت إلا البحر جاش عبابه ... ولكن رأينا منك علمًا يجسر2
فما كلمة أفديك دام اعتلالها ... وفيها دواء إن عراها تغير
ويحفظها ذو السر وهي التي وشت ... وذلك من عاداتها ليس يترك
وما مسها إلا وجادت بنفسها ... وصحف ترى المقصود بالنفس يظهر
وتحمل سمر الخط رايات ملكها ... على الرأس عباسية حين تخطر
كحيلة طرف تعشق العين شكلها ... ويحسن مرآها إذا ما تحبر
مؤنثة كم ذكرتنا بلونها ... عهود الصبا والشيء بالشيء يذكر
وكم قد أرانا ريقها من مسلسل ... يلذ به في الذوق ورد ومصدر
وكم لاقت الأحبار منها محاسنًا ... فعادت لها الجهال بالعي تحصر3
مسودة إن ترض فالعيش أخضر ... وإن غضبت فالموت لا شك أحمر
ويعذب للسمر الرقاق رضابها ... فتنهل منها موردًا لا يكدر
لقد أحكمت والنسخ ما زال دأبها ... بذلك قد جاء الكتاب المسطر
وما هي إلا ذت متربة غدت ... وكم ذي غنى عن قصدها ليس يفتر4
__________
1 حبير اللفظ: المحبر، المكتوب.
2 جاش: هاج واضطرب. عبابه: وسطه ولجته.
3 الأحبار: مفردها حبر وهو الرئيس الديني للنصارى. العي: عدم القدرة على التكلم. تحصر: تمنع من الكلام.
4 المتربة: الحاجة والفقر. يفتر: يضعف.(2/355)
ولسنا نراها غير سائلة ولم ... تفه بسؤال فاعترانا التحير1
فانعم بحل اللغز يا خير منعم ... فأنت به والله أجدى وأجدر
فلا زالت الأقلام تسعى لشكركم ... على رأسها طول المدى لا تقصر
فكتب المقر المرحومي الأميني الجواب بعد أيام، وهو قوله:
مواقع أقلام لها الفضل ينشر ... وروضة آداب بها القلب يجبر
تحرر معنى حسنه نسيج وحده ... فيا حبذا الإسكندري المحرر
تشق على الأفهام شقة شأوها ... فكم من بليغ عن مداها يقصر2
أتت سهلة الألفاظ ممنوعة الذرا ... حماها من العلياء لا يتسوّر3
تشير إلى الحبلى التي عز وضعها ... فأحشاؤها فيها الأجنة تقبر
ينامون لا تغشاهم سنة الكرى ... فإن هب فرد ظل يسعى ويحضر
وإن أرشفته من زلال رضابها ... تهادى بها نشوان يمشي ويعثر
وأما إذا اعتموا السواد فكلهم ... خطيب له فوق الأنامل منبر
وينطق عن علم وطول نباهة ... وعما رآه في المنام يعبر
تطاول سمر الخط أنى تشامخت ... سموًا ومع هذا على الطول تقصر
وكل بني الآداب تلفى بيوتهم ... تقام بها بين الأنام وتعمر
فأكرم بما قد ولدته وأنشأت ... وربت ويكفيها بذلك مفخر
نجية وجهي إن جلست ووجهها ... تجاهي وجاهي عندها ليس يحقر4
وقد فتحت فاها فقالت وقصرت ... وأنى استقالت فهي في ذاك تعذر
فلا زلتم أهل الجمال وخيركم ... لدى النقص مثلي فهو حظ موفر
بمدحكم الأقلام يضحك سنها ... بحق وأفواه الدواة تقطر
ويعجبني من الألغاز، في التورية، قول شهاب الدين الغزاوي، في قوس، وهو:
ما عجوز كبيرة بلغت سنًا ... طويلًا وتتقيها الرجال
ولها في البنين سهم وقسم ... وبنوها كبار قدر نبال
ومن غريب ما أعجبني في هذا الباب قول القائل في كمون وهو:
__________
1 سائلة: من الأجسام التي تشبه الماء، والتي تطلب العطاء، فاه: تكلم، نطق.
2 شق: صعب وصار شاقًّا. الشأو: المدى والغاية.
3 تسوّر: تسلق، الذرا: القمم والأعالي.
4 النجية: التي تحادث وجهًا لوجه ولكن عن بعد.(2/356)
يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك1
تنظره بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومك
ومثله قول شمس الدين الهيتي في ورق، وهو:
وشيء بلا جرم يصلب تارة ... ويقطع حينًا في حضور وأسفار2
ومن قدم قد بيض الله وجهه ... على أنه ما انفك يومًا عن القار3
ومن لطائف الشيخ شمس الدين بن الصاحب في هذا الباب قوله في سهم:
لله مملوك إذا ... ما قام في الشغل اعترض
لكنه في لحظة ... محصل لك الغرض
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله- ملغزًا في قلم:
مولاي ما اسم لنا حل دنف ... وما به علة ولا سقم
لسان قوم فإن حذفت وإن ... صحفت بعض الحروف فهو فم
وقال ملغزًا في علي:
أمولاي ما اسم جلي إذا ... تعوض عن حرفه الأوّل
لك الوصف من شخصه سالِمًا ... وإن قلعت عينه فهو لي
ويعجبني في هذا الباب قول ابن المرجاني ملغزًا في مشط وهو:
يا إمامًا سألته حل لغز ... شط منه مزار أهل الذكاء4
أهمل الثلث باعتناء وقلب ... تره جاء قائد الشعراء
ويعجبني قول الشيخ صلاح الدين ملغزًا في قريشة:
أي شيء يروق الناس أكلًا ... ذو بياض وأصله من حشيشه
خمسة أثقل الجمادات وزنًا ... فتعجب له وباقيه ريشه
__________
1 السوم: التثمين والتسعير.
2 الجرم: الجسم والجسد.
3 القار: الزفت وبزيادة الياء: مطعم الضيوف.
4 شط المزار: بعد المسكن والمقام.(2/357)
ويعجبني لغز ابن منقذ في الضرس، وهو:
وصاحب لا أملُّ الدهر صحبته ... يسعى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه تفارقنا إلى الأبد
ومن الغايات التي لم تدرك، في هذا الباب، قول القاضي صدر الدين بن الآدمي -رحمه الله- ملغزًا في كشتوان:
ما رفيق وصاحب لك تلقاه ... معينًا على بلوغ المرام
هو للعين واضح وجلي ... وتراه في غاية الإبهام1
واستظرف قول بعض مواليا ملغزًا في بدرة:
محبوبتي وجهها يغني عن المقباس ... واسمها ينقذ العاشق من الإفلاس2
إن تعكسوا تجدوا ضدين في الأجناس ... هذا نفور وهذا يقبل الإيناس
وسألني جماعة من فضلاء أهل الأدب بالديار المصرية أن أنظم لهم لغزًا في كرمة، وأطلق لهم عنان القلم في ذلك فقلت:
أخبروني عن فاضل بأصولٍ ... وفروع يسمو على كل فاضل
أسبغ الله ظله فهو ظل ... سابغ وافر مديد وكامل
وأبو محجن يقول ادفنوني ... تحته إن أتاني الموت عاجل
كم إلينا قد مد كفًا نديًّا ... فصير العيش أخضرًا في المنازل
نقط الطل فوقه وضحته ... عند توقيعها به وهو عاطل3
ما تبدى لنا بعين ولكن ... حرفته وصحفته الأفاضل
فرأينا للترك فيه اسم عين ... بفتور الأجفان جاءت تغازل
إن تذكره أحرف الكل تبدي ... كرمًا والندى من الكف هاطل
أو تؤنثه يقبل الهاء في الحا ... ل ومن بعد ذا يرى وهو حامل
ويقل شطره لمن عابه مه ... لك هم بالعكس عندي حاصل4
هو حلو وفيه مرّك يبدو ... عند تحريف عكسه المتماثل
__________
1 الإبهام: الغموض، والأصبع الكبرى لليد.
2 المقباس: الذي ينار به الضوء ويؤخذ منه القبس من النور.
3 الوضحة: الجبهة من الوضوح. عاطل: غير محلى.
4 مه: اسم فعل أمر بمعنى اكفف، للزجر.(2/358)
وبلا أول يرى فعل أمر ... واقلب الفعل منه فالأمر حاصل
وهو خشب مسندات ولكن ... حاز نجلًا يبدو رقيق الغلائل1
ومن العز جسمه الغض يدمى ... وتراه من بعد ذا وهو ذابل
وإذا ما فرطت فيه تراه ... لم يحل عنك وهو نعم الخصائل
ذو بياض وحمرة ولّدا لي ... فرحًا راح ساريًا في المفاصل
فتراه يومًا عقود بلخش ... نظمت سلكها بغير أنامل2
وتراه يبدو عقود جمان ... ما لها غير ثغر حبي مماثل
وتراه طورًا سلافة راح ... ولدر الحباب فيه حواصل3
وعلى عوده يغني علينا ... أعجمي به تهيج البلابل
لك منه فواكه وشراب ... كل غض إليك تلقاه واصل
وحلاواته بها كل قلب ... كسروه والكسر للقلب حامل
وترى وصله بمصر قليلًا ... وهو بالشام لا يزال يواصل
وتراه بذات عرق مقيمًا ... في نعيم وظله غير زائل
وإذا قلت في المخيم بالغور ... رأيناك فيه أصدق قائل
ولقد جاءنا بعتب لطيف ... عند تصحيفه لمن هو هازل
كيف لا والكتاب عن جنتيه ... قد أتى مخبرًا بكل الفصائل
فتفكه من حله بقطوف ... دانيات لكل آت وراحل4
وأقم تحت ظله فهو لغز ... ظله ظاهر على كل قائل
ثم دم للألغاز في الحل والعقـ ... ـد غني إذا أتى اللغز سائل
قلت: ومما ألحقوه بالألغاز، ما حكي عن بعض ولاة الطوف ببغداد: جاءوا إليه بغلامين غلب عليهما السكر، فقال لأحدهما من أبوك؟ فقال:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قِدْرُه ... وإن نزلت يومًا فسوف تعود 5
ترى الناس أفواجًا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
__________
1 النجل: الابن. الغلائل: الثياب الرقيقة الناعمة.
2 اللخش: لم نعثر لها على معنى وربما كانت اسْمًا للخرز أو الجواهر.
3 الحباب: فقاقيع الماء. الحواصل: جمع حوصلة وهي بالنسبة للطائر كالمعدة بالنسبة للإنسان.
4 الحل: الحلال. القطوف الدانية: القريبة المتدلية.
5 القِدر: وعاء يستعمل للطبخ.(2/359)
فأطلقه وعظم في عينه، وقال: هذا أبوه من بيت كبير، وقال للآخر: من أبوك؟ فقال:
أنا ابن من دانت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها1
تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها
فقال الوالي: ما أشك أن هذا أبوه كان ملكًا شجاعًا، فأمر بإطلاقهما فلما انصرفا كان في المجلس رجل نبيه فقال للوالي: الشاب الأول كان أبوه فوّالًا، والثاني كان أبوه حجامًا. فأعجب الوالي منه ذلك، فقال:
كان ابن من شئت واكتسب أدبًا ... يغنيك مضمونه عن النسب2
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
وبيت الشيخ صفي الدين على الألغاز في بديعيته:
حرّان ينقع حر الكر غلته ... حتى إذا ضمه برد المقيل ظمي3
الشيخ صفي الدين ألغز هنا في السيف فإنه يروي في حر الكر بالدماء، وإذا أدخل القراب الذي كنى به عن برد المقبل، كان ظامئًا.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
إن المنافق لغز قلبه زغل ... وهو المعمى كمثل الأرزة الرزم4
قلت: الشيخ عز الدين -غفر الله له- لم يأت في بيته بغير الجناس المقلوب، في لغز وزغل، وأما التعمية بالأرزة الرزم، فما علمت ما المراد منهما حتى نظرت في شرحه، فوجدته قد قال: الرزم القائم والأرزة شجرة الصنوبر، فما ازددت في التعمية غير تعمية.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
وكلما ألغزوه حله لَسِنٌ ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم
__________
1 دان: خضع.
2 مضمونه: معناه ويروى: محموده.
3 الحرّان: الشديد العطش. نقع: روى. الكر: المعركة. الغلة: شدة العطش. ظمي: ظمئ، عطش.
4 الزغل: الخبث والانطواء عليه. الأرزة: شجرة من فصيلة الصنوبريات وهي شعار اللبنانيين وتتوسط علمهم. من الناس الأرزة: المنقبض. الرزم: الثابت القائم على الأرض.(2/360)
قد تقدم، وتقرر أن أحسن التعمية في اللغز ما أسفر بعد الحل عن تورية بديعة في بابها، وهذا البيت أيضًا بديع في هذا الباب، فإن اللغز في الرمح والتورية في لسن؛ لأن لسان الرمح لسان القائل في التورية للتكليم، وفي التعقيد المشترك بين تعقيد اللغز وتعقيد الرمح، وأما المناسبة بين الحل والتعقيد، والإزراء بالفهم بعد ذكر الألغاز، فمحاسنها لا تخفى على حذاق الأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(2/361)
ذكر سلامة الاختراع:
وقده باختراع سالم ألف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي1
هذا النوع، أعني سلامة الاختراع: هو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق إليه، كقول عنترة في وصف الذباب:
وخلا الذباب بها فليس بنازحٍ ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدْحَ المكب على الزناد الأجذم
هذا المعنى إذا تأمله المتأدب، وتخيله في فكره يجده غريبًا في بابه، فإنه قال: إن هذا الذباب لَمّا خلا بهذه الروضة التي أعاد الضمير إليها في قوله: بها، صار هزجًا مترنّمًا يحك ذراعه بذراعه من الطرب الذي اعتراه، فشبهه عنترة برجل أجذم قاعد يقدح زنادًا بذراعيه، والأجذم المقطوع اليد، والتقدير في البيت قدح الأجذم المكب على الزناد. انتهى.
ومنه قول ابن الرقاع، في تشبيه قرن الخشف:
يزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها2
وعدّوا قول ابن الرومي من المخترعات التي لم يسبق إليها، فإنه قال في تشبيه الرقاقة حين يبسطها الخباز:
__________
1 الترويس: الرأس المحدد. والألف: الرمح، وترويسه: سهمه. الكمي: البطل الشجاع.
2 يزجي: يرسل ويحث. الأغن: الذي في صوته غنه. الروق: القرن.(2/362)
لم أنس بالأمس خبازًا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر1
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر2
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر3
وأجمعوا على أن قول أبي الطيب من الاختراعات التي لم يسبق إليها، وهو قوله:
حلفت وفيًّا إن رُدِدْت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
قلت: أما أبو الطيب فإنه شن الغارات على معاني المتقدمين كثيرًا، وما خفي ما أورده عليه الحاتمي في الحاتمية، وكان قد عنَّ لي أن أورد، في هذا الشرح المبارك -له ولمن تقدمه ولمن تأخر عنه- جملة مستكثرة مما وقع لهم من معانيهم، من سلامة الاختراع بالنسبة إلى اطلاعي، وخفت أن يقع اختياري على معنى أعده لصاحبه من سلامة الاختراع، فيأتي من تبحر في اطلاعه على معنى له لغيره ممن تقدمه، فأضربت عن ذلك وجنحت إلى ذكر ما وقع لي في نظمي، من سلامة الاختراع التي لم أسبق إليها، ولا حام طائر فكر غيري عليها، فمن ذلك قولي من قصيدة رائية:
وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو مشعور4
ومذ بدت نسمات الثغر باردة ... بدا بإغضاء ذاك الجفن تكسير
وقلت منها في وصف القلم:
له يراع سعيد في تقلبه ... إن خط خطًّا أطاعته المقادير
ومنها:
وأشقر يده البيضاء غرته ... له إلى الرزق فوق الطرس تيسير5
بل أسمر عينه السوداء يلحظها ... وهدب أجفانها تلك المشاعير6
__________
1 يدحو: يدوّر. الرقاقة: الرغيف ويروى: ما أنسى لا أنسى خبازًا مررت به.
2 قوراء: لم تستكمل دورتها بعد.
3 انداح: استدار.
4 مشعور: مكسور دون انفصال أجزائه وتبعثرها.
5 الطرس: ما يكتب عليه.
6 المشاعير: الخطوط الدقيقة.(2/363)
ومثله قولي من القصيدة:
كذا محابره سود العيون فإن ... دنت أياديه فهي الأعين الحور
ومنه قولي من قصيدة ميمية:
حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمنم1
ومنه قولي في وصف حماة من قصيدة طائية:
ينظم بالشطين دور ثمارها ... عقودًا لها العاصي رأيناه كالسمط2
وقد مد ذاك النهر ساقًا مدملجًا ... وراح بنقش النبت يمشي على بسط3
لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دورًا على ساقة الشط
وقلت من قصيدة أخرى:
وعاص رحيب الصدر قد خر طائعًا ... ودولابه كالقلب يخفق في الصدر
وقلت من قصيدة أخرى:
وهززت فيه كل عود أراكةٍ ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا
والمعنى المخترع قولي بعده:
ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنبا4
ومن اختراعاتي التي لم أسبق إليها، وسارت الركبان بها قولي في المدائح المؤيدية:
فرج على الملجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر5
فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر6
وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر
والمعنى المخترع فيها قولي:
وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر
__________
1 الخز: الحرير. المنمنم: المزركش.
2 العاصي: نهر العاصي وهو نهر ينبع من لبنان ويصب في سوريا. السمط: العقد.
3 المدملج: الذي يلبس الدملج وهو من الأساور والحلى.
4 مطنبًا: مرفوعًا أو مشدودًا بالطنب وهي حبال وأعمدة الخيمة.
5 الملجون: الورق اللزج.
6 انبت: انقطع. الزحاف: في المصطلح العروضي تغيير يلحق ثاني السبب من التفعيلة.(2/364)
ومنها في سلامة الاختراع قولي:
وإذا مددت يراع رمحك ماله ... إلا قلوب الدارعين محابر1
ونعال خيلك كالعيون ومالها ... إلا جماجم من قتلت محاجر
ومنه قولي متغزلًا في مليح مشطوب:
بالصدع أبدى شطبة ... من شكله محوّط2
سألته عن أمرها ... فقال زاد اللغط3
قلتم بدا لي عارض ... مشكل منقط
جئت شطبت فوقه ... وقلت هذا غلط
ولي من قصيدة بديعة مشتملة على وصف متنزهات حماة المحروسة:
والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين4
والمعنى المخترع قولي بعده:
والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين
وقلت في مطلع قصيدة:
ألف القد مدها لي بعزه ... وعليها من عطفة الصدغ همزه
وقلت من قصيدة فائية:
وعارضه في الوضع لامٌ وصِدغه ... إذا مدها من فوقه تتكوف5
ولعمري، إن الشرح قد طال، ولولا خشية الإطالة لذكرت من هذا الباب قدرًا وافيًا، بالنسبة إلى ما أدى إليه اجتهادي، وقلت: إني مخترعه، وبشهادة الله إني ما تطفلت بالنسبة إلى علمي على معنى لغيري، اللهم إلا أن تكون أحكام المواردة قد حكمت عليّ فالحكم لله العلي الكبير.
__________
1 الدارعين: لابسي الدروع. المحابر: جمع محبرة وهي الدواة.
2 الشطبة: أثر الجرح. محوّط: مرقيّ بالرقي لإبعاد الضرر عنه.
3 اللغط: القيل والقال.
4 التلحين: من الألحان بمعنى الزقزقة والتغريد ومن اللحن وهو الخطأ اللغوي وكذلك: معرب: مبين واضح وحسب قواعد الإعراب.
5 تتكوّف: تتجمع وتستدير.(2/365)
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على سلامة الاخترع قوله:
كادت حوافرها تدمي جحافلها ... حتى تشابهت الأحجال بالرثم1
جحفلة الفرس شفته العليا، والرثم بياض شفتيه، وكأنه يقول: إن هذه الفرس لسرعة جريانها اتصلت أحجالها إلى شفتها فتشابها في البياض.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، -رحمه الله- في بديعيته قوله:
سلامة لاختراعي في علا هممي ... اسمي وفعلي كحرف عند رسمهم
وقال في الشرح: اسمي علا، وفعلي علا، والحرف المشبه بهما على هذا المعنى على الذي هو معدود من حروف الجر، قلت: لو ألحق الشيخ عز الدين ما قاله هنا بالألغاز لكان أقرب وأليق، فإن سلامة الاختراع وغرابة المعنى عنه بمعزل.
وبيت بديعيتي تقدمه قولي في الألغاز بالرمح بقولي:
وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم
ولم أخرج عن الرمح بل قلت مخترعًا فيه اختراعًا بعد من المرقص والمطرب، بعد بيت الألغاز، وهو:
وقده باختراع سالم ألف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي2
تقدم قولي: أنه كان عنّ لي أن أورد هنا، من سلامة الاختراع للمتقدمين والمتأخرين، جمل مستكثرة ولم يصدني عن ذلك إلا الخيفة ممن تبحر علي في المطالعة، فيورد ما أثبت من المعنى المخترع لزيد، أنه مسبوق إليه من عمرو، فأردت أن أخلص من هذا الاعتراض، وأورد هنا نبذة من مخترعات ابن حجاج، فإنه منوال ما نسج عليه غيره، وقد تقدم قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في ديباجة كتابه المسمى: "بتلطيف المزاج من شعر ابن الحجاج"، وأما أشعار أبي عبد الله الحسيني بن حجاج، فإنه أمة غريبة تبعث وحدها، وذرية تبلغ بإتقان اللهو رشدها، فمن ذلك قوله:
يا ديمة الصفع صبي ... على قفا المتنبي
__________
1 الجحفلة: شفة الحيوان ذي الحافر. الأحجال: مفردها حجل وهو بياض يكون في قوائم الخيل. الرثم: بياض الشفة عند الخيل.
2 الألف: الرمح. الترويس: السهم. الكمي: البطل الشجاع.(2/366)
وأنت يا ريح بطني ... على عذاريه هبي
ويا قفاه تقدم واقعد ... قليلًا بجنبي
وإن صفعتك ألفا ... فلا تقولن حسبي
وقد تعشقت معنى ... طرطورك المتعبي1
يا لحية هي عن أهـ ... ـل شيخنا النذل تنبي
قومي ادخلي جوف بطني ... فقد وقعت بقلبي
وأنت عندي مكان ... السواد من عين صلبي
ومنه قوله:
كأنما باب سور مبعرها ... عنقود كرم مزبب العنب2
كأنما الأير فوق عصعصها ... راكب حمارة على قتب
ومنه قوله:
جارية قد سمطت فيشتي ... بوهج حمى سرمها الصالب3
أخذت في الليل مجس استها الـ ... ـحامي وقد نامت إلى جانبي
أوجب إخراج دم فاسد ... من عين قيفال استها الضارب4
لبظرها الأسود دنية ... تصلح للقاضي أبي السائب
خطبت بالأمس عليها استها ... فأنعمت للخاطب الراغب
وبات أيري رافضي الخصى ... يعطي قفا مبعرها الناصب
وقال أيضًا:
قوموا افتحوا باب سرمها ولجوا ... فكل عضو من استها شرج
قوموا فعين استها لرؤيتكم ... بالليل فوق الفراش تختلج
إن لم يسعكم ممر عصعصها ... فثم بالطول تحته أزج
وفي استها خاتم للولبه ... طوق محلى وفصه سبج5
إذا الخصي صافح استها خريت ... تحتي وبالبيض تعمل العجج
وقال أيضًا:
بأبي من تمكنت من فؤادي ... فأنا الدهر كله في اجتهاد
قدها في القياس من قوم يأجو ... ج ولكن بظرها قوم عاد
__________
1 الطرطور: من حلى النساء: قلنسوة دقيقة طويلة ويقال: طنطور بالنون.
2 المبعر: مكان خروج البعر والبعر هو فضلات الحيوانات أو روثها.
3 الفيشة: الحشفة من الأير. السرم: طرف المعي الغليظ أو مكان خروج البراز. الصالب: الحمى الشديدة الحرارة.
4 القيفال: وريد في الجانب الوحشي من العضد.
5 السبج: خرز أسود.(2/367)
وقفت لي فبستها من قعود ... بوسة بردت غليل فؤادي1
ولها شعرة ولا زبد البحـ ... ـر بياضًا وعصعص كالمداد
وحر أشمط العذارين الحي ... فيه سمت النساك والعباد
بظرها فوقه كدنية الحا ... كم يوم انحداره في السواد
ما توهمته وحقك إلا ... بعض أصحابنا بني حماد
يوم حاملتها فلما أحست ... في خراها بمثل شرط الفصاد2
جذبت لحيتي وقالت أيا شيخ ... ترى أنت كافر بالمعاد
أنت ممن يبغي خلافًا على الله ... ويسعى في أرضه بالفساد
قلت كفي إنا وجدنا على هـ ... ـذا أيور الآباء والأجداد
عرفيني وخبريني متى كا ... نت سيوف الخصي بلا أغماد
ومن غاياته في هذا الباب قوله:
مولاي يدعوك شيخ لا وقار له ... حتى القيامة سكران ومخمور
ما فيه للشيب إكرام فيزجره ... عن الخمور ولا للسن توقير
يقول بالأمرد المصقول عارضه ... مقسمًا فيه تأنيث وتذكير
وبالفتاة التي تنور مدخلها ... بعد العشا لشوى الخصيان مسجور3
وبالعجوز التي في أصل عنبلها ... غداة بعث المخاصي ينفخ الصور
زبال زرع استها يسقى بدالية ... وبظرها واقف في الزرع ناطور4
لها حر أشمط قد شاب مفرقه ... عليه بظر طويل فيه تدوير
كأنه شاعر قد جاء من حلب ... شيخ على رأسه المحلوق طرطور5
هذا الاستطراد في البيت الأخير استطرد فيه إلى أبي الطيب، وهو في غاية اللطف والظرف، وقد تقدمت إشارته إلى طرطوره في الأبيات المتقدمة البائية، ومن اختراعاته في هذا الباب قوله:
أحب من الكس تقبيله ... إذا كان في شفتيه لعس6
__________
1 البوسة: القبلة:
2 الشرط: البضع والجرح. الفصاد: عملية إخراج الدم الفاسد من العروق.
3 مسجور: محميّ.
4 الزبال: ما تحمله النملة. الدالية: الناعورة. البظر: نتوء في فرج المرأة.
5 الطرطور: القلنسوة.
6 الكس: فرج المرأة. اللعس: سواد مستحسن في باطن الشفة.(2/368)
ويعجبني منه أني إذا ... نقرت أنفه بقمدي عطس1
وواسعة السرم تشكو استها ... إذا مسها النيك ضيق النفس
فتاة لدرب إستها حارس ... يعلق من خصيتيه جرس
ويعجبني قوله من قصيدة:
في إستها سدرة إذا نفضوها ... جمعوا لي من تحتها كف نبق2
وهو نبق بلا نوى أسود اللو ... ن إذا لكته تحمض شدقي3
__________
1 القمد: الطويل الضخم العنق.
2 النبق: ثمرة شجر الدر أو دقيق يخرج من لب جذع النخلة.
3 لاك: مضغ.(2/369)
ذكر التفسير:
وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم
هذا النوع، أعني التفسير، من مستخرجات قدامة، وسماه قوم التبيين، وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر في بيت بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون تفسيره، إما في البيت الآخر، أو في بقية البيت، إن كان الكلام يحتاج إلى التفسير في أوله. والتفسير يأتي بعد الشرط وما هو في معناه، وبعد الجار والمجرور، وبعد المبتدأ الذي يكون تفسيره خبره، بشرط أن يكون المفسَّر مجملًا والمفسر مفصلًا. فمن بديع التفسير الذي وقع في بيت واحد قول بعض المغاربة:
صالوا وجادوا وضاءوا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال
فإنه أحسن الترتيب في عجز البيت كله، وجعل المفسَّر في الصدر، بحيث أتى كل قسم مستقلًا بنفسه.
ومثال ما وقع من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط، قول الفرزدق:
لقد جئت قومًا لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملًا ثقل مغرم
لألفيت منهم معطيًا ومطاعنًا ... وراءك شزرًا بالوشيج المقوّم1
والفرزدق ما راعى حسن الترتيب في بيته، فإن عندهم عدم الترتيب مع حسن الجوار، وقرب الملائم، لا ينقص حسن الكلام البليغ. ألا ترى إلى قوله تعالى:
__________
1 ألفيت وجدت. الشزر: النظر بطرف العين. الوشيج المقوم: الرمح المستقيم.(2/370)
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} 1. ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} 2.
ومن الأمثلة الواقعة بعد الجار والمجرور في باب التفسير، قول شرف الدين القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العقبى وللخائف الأمن
ومما جاء من التفسير بعد المبتدأ، قول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم3
قالوا إن هذا أبلغ ما وقع في التفسير من الأمثلة الشعرية، فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة.
ومن بديع هذا النوع قول محمد بن وهيب في المعتصم:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
ومثله في الحسن قول محمد بن شمس الخلافة:
شيئان حدِّثْ بالقساوة عنهما ... قلب الذي يهواه قلبي والحجر
وثلاثة بالجود حدث عنهم ... البحر والملك المعظم والمطر
ومن معجز التفسير، ما جاء في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 4 فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولًا، حيث قال: كل دابة فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج، ثم فسر سبحانه هذا الجنس، بعد ذلك، بالأجناس المتوسطة والأنواع، حيث قال: فمنهم ومنهم ومنهم، مراعيًا للترتيب، وذلك أنه قدم ما يمشي على غير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي
__________
1 آل عمران: 3/ 106.
2 آل عمران: 3/ 107.
3 رجوم: ظنون لا دليل على صحتها.
4 النور: 24/ 45.(2/371)
بآلة، فلذلك كان تقديمه ملائمًا لمقصود الآية الشريفة، ثم ثنى بالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الآدمي والطير لتمام خلق الإنسان وكمال صورته ولما في الطير من عجب الطيران الدال على الخفة مع ما فيه من الكثافة الأرضية، وثلّث بما يمشي على أربع؛ لأنه أحسن الحيوان البهيمي وأقواه، فتضمنت هذه الكلمات، التي هي بعض آية، عدة من المحاسن، وهي صحة التفسير وصحة التقسيم مع مراعاة الترتيب والإشارة وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق. والفرق بين التفسير والإيضاح: أن التفسير تفصيل الإجمال، والإيضاح رفع الإشكال؛ لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال.
وبيت صفي الدين على التفسير قوله:
هم النجوم بهم يهدى الأنام ... وينجاب الظلام ويهمي صيب الديم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
ذكر الإمام وابنيه يفسره ... عليّ والحسنان أكرم بذكرهم
الشيخ عز الدين ما أفادنا في التفسير هنا شيئًا
وبيت بديعيتي أقول فيه، عن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم
هذا هو التفسير الذي لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، في الشطر الأول من البيت، إلا بتفسيره من الشطر الثاني على الترتيب. وأما ذكر الإمام عليّ -كرّم الله وجهه- وذكر ولديه -رضي الله عنهما- في بيت الشيخ عز الدين -رحمه الله- فإنه غير محتاج إلى تفسير والله أعلم.
__________
1 انجاب: انكشف. يهمي: يمطر بغزارة. الديم: الغيوم.(2/372)
ذكر حسن الاتباع:
ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم1
هذا النوع، أعني حسن الاتباع، هو أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيره فيحسن اتّباعه فيه، بحيث يستحق بوجه من الوجوه الزائدة التي توجب للمتأخرين استحقاق معنى التقدم، إما باختصار لفظه، أو قصر وزن أو عذوبة لفظ، أو تمكين قافية، أو تتميم نقص، أو تحلية من البديع توجب الاستحقاق، كاتباع أبي نواس جريرًا
في قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
فنقل أبو نواس المعنى من الفخر إلى المدح بقوله:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
فزاد على جرير زيادات، منها: قصر الوزن، وحسن السبك، وإخراج كلامه من الظن إلى اليقين، وأيضًا فإن ذكر العالم، أعم من ذكر الناس في بيت جرير.
وعدوا من الشواهد الحسنة في حسن الاتباع، قول منصور النميري، في زينب أخت الحجاج وأترابها، وهو:
وهي اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطّعن الحشا حسرات
__________
1 شان: عاب.(2/373)
فأحسن اتباعه ابن الرومي بقوله:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
قلت: وقع السهام ونزعهن، بعد ويلاه، في بيت ابن الرومي، تركت بيت النميري أطلالًا بالية:
وقال أبو عبادة البحتري:
أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجبًا وبرُّ راح وهو جفاء
وأحسن أبو العلاء وقال:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
لأنه استوعب معنى البيتين في صدر بيته، وأخرج العجز مخرج المثل السائر، مع الإيجاز والإيضاح وحسن البيان.
وقال عنترة:
إني امرؤ من خير عبس منصبًا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل1
فأحسن اتباعه منصور الفقير في شريف نسبه، وكان شرفه من جهة أبيه لا من جهة أمه، بقوله:
إن فاتني بأبيه ... فلم يفتني بأمه2
ورام شتمي ظلمًا ... سكت عن نصف شتمه
فإن هذا الفقيه أحسن غاية الإحسان، من وجوه: أحدها الإيجاز، فإنه عمل معنى عنترة الذي جاء به في بيت تام من الكامل، في بيت من المجتث، وأتى بالمطابقة المعنوية، فأما قوله سكت عن نصف شتمه، ففيه من التأدب الديني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاحتراس، ما يزيد على الوصف.
وقال ابن الرومي:
تخذتكم درعًا حصينًا لتدفعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها
__________
1 المنصل: السيف.
2 لم يفتني: بالقرابة.(2/374)
وكنت أرجي منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن كنتم لا تحفظون مودتي ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي للعدا ونبالها
فأحسن ابن سنان الخفاجي اتباعه بقوله:
أعددتكم لدفاع كل ملمة ... عونًا فكنتم عون كل ملمة
وتخذتكم لي جنة فكأنما ... نظر العدو ومقاتلي من جنتي1
فلأنفضن يدي يأسًا منكم ... نفض الأنامل من تراب الميت
ويعجبني هنا قول القائل:
وأخوان حسبتهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وقال ابن الرومي:
سد السداد فمي عما يريبكم ... لكن فم الحال عني غير مسدود
وأحسن زكي الدين بن أبي الأصبع اتباعه فقال:
هبني سكت فما لسان ضرورتي ... أهجى لكل مقصر عن منطقي
وقال سليك بن سلكة:
وتبسم عن ألمي اللثاة مفلج ... خليق الثنايا بالعذوبة والبرد2
وما ذقته إلا بعيني تفرسًا ... كما شيم برق في السحابة من بعد3
وقال نصيب:
كأن على أنيابها الخمر شجها ... بما الندى في آخر الليل عابق4
وما ذقته إلا بعيني تفرسًا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق
__________
1 أي منكم عرف العدو كيف يقتلني. والمقاتل: الأمكنة التي إذا أصيب فيها الإنسان قتل.
2 ألمى: أسمر. اللثاة: مفردها لثة وهي مكان انغراز الأسنان في الفم. مفلج: بين أسنانه فسحات متساوية.
3 التفرّس: التثبت بالنظر. شيم: انتظر.
4 شجها: الخمرة مزجها بالماء. العابق: اللبق الظريف.(2/375)
وأحسن بشار بن برد اتباعهما بإيجازه، وقال:
يا أطيب الناس ريفًا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك1
وقال السموأل:
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
فأحسن بشار اتباعه بزيادة محاسن، فقال: أفناهم الصبر إذ أبقاهم الجزع.
وقال الأسود ابن يعفر:
يسعى بها ذو توأمين كأنما ... قنأت أتأمله من الفرصاد2
وأحسن أبو نواس اتباعه، بزيادة من المحاسن، وقال:
تبكي فتذري الدمع من نرجس ... وتلطم الورد بعناب
استوفى أبو نواس المعنى في نصف بيت، وأخذه الوأواء الدمشقي من أبي نواس، وزاد عليه زيادة عجيبة، بقوله:
وأمطرت لؤلؤًا من نرجس فسقت ... وردًا وعضت على العناب بالبرد
وقال مسلم بن الوليد:
تجري محبتها في قلب عاشقها ... مجرى المعافاة في أعضاء منتكس3
فأحسن أبو نواس اتباعه فقال:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
وجميع ذلك مأخوذ من قول بعض الملوك باليمن:
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت في النفس
نقل أبو هلال العسكري في "الصناعتين" عن الصولي أنه قال: حدثني أبو بكر بن هارون بن عبد الله المهلبي، قال: كنا في حلقة دعبل الشاعر، فجرى ذكر أبي تمام،
__________
1 المساويك: مفردها مسواك وهو غصن شجر يستاك به أي تنظف به الأسنان.
2 قنأ: احمر كثيرًا- الفرصاد: التوت أو صبع أحمر، أو نوى العنب.
3 المعافاة: البرء. المنتكس: الذي يعود إليه المرض بعد تماثله للشفاء.(2/376)
فقال دعبل: كان يتبع معانِيَّ فيأخذها، فقال له رجل في مجلسه: مثل ماذا أعزك الله؟ فقال: قلت:
وإنّ امرأ أسدى إلَيَّ بشافع ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق
فأخذه أبو تمام، وقال:
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
فقال الرجل: أحسن والله! فقال دعبل: كذبت والله، قبحك الله. فقال الرجل: إن كان سبقك بهذا المعنى وتبعته فما أحسنت، وإن كان أخذه منك فقد أجاد فصار أولى به منك على الحالين، فغضب دعبل وقام.
وقال بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج1
فأحسن اتباعه سلم الخاسر، وقال:
من راقب الناس مات غمًا ... وفاز باللذة الجسور
فلما سمع بشار هذا البيت قال: قد ذهب ابن الفاعلة ببيتي.
وممن زاد على المتقدمين بحسن سبكه وعذوبة لفظه، ابن المعتز -رحمه الله- بقوله:
ولا ضوء هلال كاد يفضحه ... مثل القلامة قد قدت من الظفر2
وهو مأخوذ من قول الأول:
كأن ابن ليلته جانح ... إلى مسقط الأفق من خنصر3
وقال أبو العتاهية:
كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه
فأحسن أبو تمام اتباعه فقال:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله أدنى القوم بالنعم
__________
1 الفاتك: الشجاع. اللهج: المثابر.
2 القلامة: قصاصة الظفر. قُدّ: قُطِع.
3 ابن ليلته: الهلال مضت عليه ليلة واحدة بعد المحاق. الخنصر: الأصبع الأصغر.(2/377)
فزاد عليه، إلا أنه أتى بعكس المعنى، وما يعرف للمتقدمين معنى شريف، إلا نازعهم إياه المتأخرون وطلبوا الشركة معهم فيه، إلا قول عنترة: وخلا الذباب بها فليس بنازح1. فإنه ما نوزع في هذا المعنى، على جودته، وقد رامه بعض المجتهدين فافتضح، وتقرر ذلك في بيت سلامة الاختراع.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، على حسن الاتباع قوله:
ينازع السمع فيها الطرف حين جرت ... فيرجعان إلى الآثار في الأكم2
بيت الشيخ صفي الدين مأخوذ من قول القائل:
وطرف يفوت الطرف في جريانه ... ولكن للأسماع فيه نصيب
والعميان ما نظوا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
والجزع حن إليه بعد فرقته ... حسن اتباع لتلك الأربع الحرم
ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أنه اتبع الفرزدق في قوله، في مديح الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ -رضي الله عنهما- وهو هذا:
هذا ابن من تعرف البطحاء وطأته ... والركن يعرفه والبيت والحرم
وبيت بديعيتي تقدمه قولي، في حق الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم
ثم إني قلت بعده، في حسن الاتباع عن الصحابة:
ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم
هذا المعنى سبقني إليه الشيخ شرف الدين بن الفارض، وكنت في صغري أترنم به وهو قوله:
فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام
الشيخ شرف الدين قرر: إن ذكر محبوبه يحلو، ولو كان في محل خصام من
__________
1 نازح: مغادر.
2 الأكم: المكان الملتف الأشجار، المرتفع.(2/378)
العذال، وقولي أبلغ في حق الصحابة -رضي الله عنهم- لأن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يطربهم والسيوف تنهل من أجسامهم، وأين الطرب في هذا المقام؟ من يحلو في ذلك المقام؟ وأين المخاصمة بالألسن من التكليم بألسنة السيوف؟ والزيادة التي ما على حسنها من مزيد، قولي: لم يشن حسن اتباعهم، فإن شدة الحرب وتكليم النفوس، ما شان حسن السيوف وذهاب الأنفس، ما شان حسن اتباعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا من الأيام. والتورية، في حسن الاتباع الذي هو المراد من تسمية النوع، محاسنها لا تخفى على المنصفين من أهل الأدب، والله أعلم.(2/379)
ذكر المواردة:
نما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيفوهم1
هذا النوع، أعني المواردة: هو أن يتوارد الشاعران على بيت، أو بعض بيت، بلفظه ومعناه: فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق، وإلا فلكل منهما ما نظمه كما جرى لامرئ القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما، وهو قول امرئ القيس:
وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
قال طرفة: أسى وتجلد. فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت، كان اليوم الذي نظما فيه واحدًا. وقد يقع مثل ذلك أو دونه في بيت يخالف وزن البيت الأصلي.
وبيت الشيخ صفي الدين على الواردة قوله:
تهوى الرقاب مواضيهم فتحسبها ... حديدها كان أغلالًا من القدم
وبيت الشيخ صفي الدين ذكر في شرحه أنه نظم بيتًا من جملة أبيات، وهو:
تهوى مواضيك الرقاب كأنما ... من قبل كان حديدها أغلالا
ثم ذكر أنه سمع بعد ذلك بيتًا لا يعلم قائله وهو:
تهوى الرقاب مواضيه فتحسبها ... تود لو أصبحت أغلال من أسرا
فأسقط البيت الذي له، فلما تعددت عليه الأنواع في نظم البديعية، ووصل إلى
__________
1 الأحداق: جمع حدقه وهي استدارة العين. والهام: الجباه.(2/380)
المواردة، ألجأته الضرورة إلى نظمها، ليكون البيت المنظوم منتظمًا في سلك شواهد بديعيته، بحيث لا تخلو من هذا النوع.
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
بيت المدائح تستوفي علاه ولو ... تواردت في مديح غير منصرم
الشطر الأول من هذا البيت، ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أنه توارد هو وأبو الطيب المتنبي عليه.
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. ومعنى المواردة في بيت بديعيتي أني كنت مدحت تمر بغاء الأفضلي الشهير بمنطاش، ورياحين الشبيبة غضة، ونشوة الابتداء تحث على دور كاسات الأدب، وكان المشار إليه إذ ذاك كافل المملكة الحموية، بقصيدة رائية سارت ببديع محاسنها الركبان، واحتوت على معان لم أسبق إليها، وتمثلت في غصون نظمها بين يدي شيخي، وهو مولانا قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن على القضامي الحنفي -رحمه الله- وقد علق بخاطري منها أبيات، فأنشدته في ذلك الوقت ما علق بخاطري، وهو قولي منها:
له مطالعة في الحرب حين يرى ... دم العدا فوق طرس الأرض قد سطرا
إن راسل القوم أنشا في رسائله ... سجعات ضرب بها الهامات قد نثرا
كتابه السيف والخطي له قلم ... والرسل أسهم حتف توضح الخبرا1
إن كان قد نظم الأعدا مكيدتهم ... فقل لهم إنه من قبلهم شعرا
لأنه ببديع الحسن لف لنا ... شملًا ولكن لأرقاب العدا نشرا
وخط من فوق ألواح الصدور لهم ... بابًا من الخوف في أحشائهم وقرا
وصار يكتب بالهندي ويعجم بالـ ... ـخطي فعل شجاعٍ قد قرا ودرى2
تراه بالرمح بدرًا حاملًا غصنًا ... وبالتريسة غصنًا حاملًا قمرا3
إن جس عودًا لضرب مال سامعه ... والخيل يرقصها إن حرك الوترا
وصار4 كلما أنشدته بيتًا من هذه الأبيات يترنم كثيرًا، ويرسم لي بإعادته حتى انتهيت إلى قولي:
__________
1 الخطي: الرمح.
2 الهندي: السيفن ويكتب بالهندي: يفرض بالسيف. يعجم: يزيل الإبهام، ويختبر. قرا: قرأ.
3 التريسة: الترس وهو ما يتقى به السيف.
4 في الأصل: صرت.(2/381)
كأنما الهام أحداق أضرّ بها ... سهد وأسيافه في الحرب طيب كرى
فلما سمع هذا البيت لم يترنم كما ترنم للأبيات التي قبله، وقال: أبو الطيب هو أبو عذرة هذا المعنى ولكن أحسنت الاتباع، بقولك: أضر بها سهد، وبقولك في الشطر الثاني: طيب كرى، فإن فيهما زيادتين حسنتين، فالتزمت له بيمين أنني ما ملكت ديوان المتنبي يومًا من الأيام، ولا طالعته عند غيره، وما كنت في ذلك الوقت أطالع غير ديوان الشيخ جمال الدين بن نباتة، وديوان الشيخ صفي الدين الحلي، فتعجب مولانا قاضي القضاة من ذلك وبالغ في الجبر والثناء، ولكني أسقطت البيت من القصيدة، خوفًا من قدح حاسد، فلما وصلت بديعيتي إلى نوع المواردة ألجأت الضرورة إلى نظمه في سلك أنواعها.
وبيت المتنبي الذي حصلت المواردة به قوله:
كأنّ الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد1
وبيت بديعيتي:
كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم
والترشيح أيضًا هنا ظاهر في قولي: مسهدة، والترشيح، في تورية المواردة، بتسمية النوع وزيادة المعنى، غير خاف على أهل الأدب.
__________
1 الهام: جمع هامة وهي الجبهة من الإنسان.(2/382)
ذكر الإيضاح:
هذا تزداد إيضاحًا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم
هذا النوع، أعني الإيضاح: هو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس، فلا يفهم من أول وهلة، حتى يوضحه في بقية كلامه، كقول الشاعر:
يذكرنيك الخير والشر كله ... وقيل الخنى والحلم والعلم والجهل1
فألقاك عن مكروهها متنزهًا ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل
معنى البيت الأول ملتبس، وما ذاك إلا أنه يقتضي المدح والذم ولكنه أوضحه بقوله:
فألقاك عن مكروهها متنزهًا ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل
وقد يكون الإيضاح في الوصف الذي لا يتعلق به مدح ولا هجاء، وذلك أن يخبر المتكلم بخبر واحد عن شيء واحد يحصل فيه الإشكال، فيوضح ذلك الإشكال بما يفهم منه كشف اللبس عن الحد الأول، كقول ابن حيوس:
ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه2
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه
فإنه لو اقتصر على البيت الأول أشكل الأمر من جهة الوجه، فإنه وإن كان حسنًا لا يغني النديم عن الخمر، فأزال اللبس في البيت الثاني وأوضحه، وقد تقدم وتقرر الفرق بين الإيضاح والتفسير.
__________
1 الخنى: القول الفاحش.
2 المقرطق: لابس القرطق وهو ثوب فارسي مزركش.(2/383)
وبيت الشيخ صفي الدين قوله:
قادوا الشواذب كالأجبال حاملة ... أمثالها ثبتة في كل مصطدم1
العميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
للخير والشر إيضاحًا به فبذا ... أمر وعن ذاك نهيٌ حب نصحهم
والذي أقوله: إن الشيخ عز الدين -غفر الله له- لم يتضح في بيته غير الإشكال.
وبيت بديعيتي تقدم قولي قبله في وصف الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- بحسن الاتباع والصبر والإقدام، إلى أن قلت في المواردة:
كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم
ثم إني قلت بعده في الإيضاح:
هذا وتزداد إيضاحًا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم
الإطناب والمبالغة، في وصف الصحابة -رضي الله عنهم- قد تقدم بالشجاعة التي هي فوق الوصف، فلما قلت في هذا البيت: إن مخافتهم تزداد إيضاحًا في كل معترك، ظهر اللبس فأوضحته بقولي: من بطش ربهم. والتورية بتسمية النوع، الذي هو المطلوب هنا، محاسنها لم تفتقر إلى الإيضاح، والله الموفق.
__________
1 الشواذب: جمع مفرده الشاذب وهو المتنحي عن وطنه. ثبتة: شجاعة. المصطدم: مكان الاصطدام أو ساحة المعركة.(2/384)
ذكر التفريع:
ما العود إن فاح نشرًا أو شدا طربًا ... يومًا بأطرب من تفريع وصفهم
هذا النوع، أعني التفريع، وهو ضد التأصيل، هو أن يصدّر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي، بما خاصة، ثم يصف ذلك الاسم المنفي بأحسن أوصافه المناسبة للمقام، إما في الحسن وإما في القبح، ثم يجعله أصلًا يفرع منه جملة، من جار ومجرور، متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، ثم يخبر عن ذلك الاسم بأفعل التفضيل، فتحصل المساواة بين الاسم المجرور بمن وبين الاسم الداخل عليه ما النافية؛ لأن حرف النفي قد نفى الأفضلية. فتبقى المساواة بين ذلك أن تقول: ما الزهر إذا بكى الغمام فضحك، بأحسن من أخلاق زيد. فالمساواة بين الزهر والأخلاق ههنا ثابتة، بالشروط المذكورة، ومن الأمثلة الشعرية قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحسن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل1
يضاحك الزهر منها كوكب شرق2 ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يومًا بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل3
__________
1 غناء: ملتفة الشجر. جاد: هطل. المسيل: من المطر: الناز من السحاب بغزارة. هطِل: صيغة مبالغة من هطل.
2 شرِق: واضح الإشراق. مؤزر: يلبس الإزار. مكتهل: كبير السن.
3 الأصل: الأصيل أو وقت الغروب.(2/385)
وقد يجيء الفرع والأصل في بيت واحد، كقول أبي تمام:
ما ربع مية معمورًا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب1
ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب
فذكر في البيت الأول الأصل والفرع، وكذلك في البيت الثاني، فالأصل هو الاسم المنفي مع ما ذكر من أوصافه، والفرع هو أفعل التفضيل مع ما يتعلق به.
ويعجبني في هذا الباب قول إبراهيم بن سهل الأشبيلي، من قصيدة، وهو:
وما وَجْدُ أعرابية بان دارها ... وحنت إلى بان الحجاز ورنده2
إذا آنست ركبًا تكفل شوقها ... بنار قراه والدموع بورده
وأن أوقدوا المصباح ظنوه بارقًا ... يحيي فهشت للسلام ورده
بأعظم من وجدي بموسى وإنما ... يرى أنني أذنبت ذنبًا لوده
ومن إنشاء القاضي شهاب الدين محمود، في هذا الباب، قوله: وما أم طفل قذفها الزمن العنيد، في بعض البيد، في أرض موحشة المسالك، قليلة السالك، قد لمع صوابها، وتوقدت هضابها، وصرخ بومها، ونفر ظليمها3، وحضر سمومها4، وغاب نسيمها، فلما خافت على ولدها من الظمأ الهلاك، أجلسته إلى جنب كثيب هناك، ثم ذهبت في طلب الماء للغلام، لئلا يقضي عليه الأوام5، فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير، وآثار مطي بوارك، تدل على أن الطريق هنالك، فعادت إلى ولدها مسرعة، وكل أعضائها إليه عيون متطلعة، فلما شارفت جنب الكثيب، رأت ولدها في فم الذيب:
بأكثر مني حسرة وتلهفًا ... وأعظم مني حرقة وتأسفًا
وأغزر دمعًا عندما قيل لي الذي ... كلفت به أضحى على البعد مزمعًا
وذكر صاحب الإيضاح، للتفريع، قسمًا ثانيًا لم يذكره غيره، ولا نسج على منواله أصحاب البديعيات فألغيته أيضًا، والشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع اخترع قسمًا ثالثًا،
__________
1 غيلان: اسم ذي الرمة الشاعر.
2 بان: بَعُد. البان: شجر طيب الرائحة طويل الأغصان طريها. الرند: شجر طيب الرائحة يشبه الآس وينبت في البادية.
3 الظليم: ذكر النعام.
4 السموم: الريح الحارة.
5 الأوام: شدة العطش.(2/386)
ولكن وجدت هذا النوع الذي نحن بصدده أحلى في الأذواق، وأوقع في القلوب، وعلى سننه مشى أصحاب البديعيات، فألغيت أيضًا ما اخترعه ابن أبي الأصبع، رحمه الله.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع في وصف الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
ما روضة وشع الوسمي بردتها ... يومًا بأحسن من آثار سعيهم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
ما الدوح تفريعه بالزهر متسق ... نظمًا بأطيب من تعريف ذكرهم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
ما العود إن فاح نشرًا أو شدا طربًا ... يومًا بأطيب من تفريع وصفهم
هذا البيت فيه نوع التفريع، الذي هو القصد هنا، والتورية بتسميته، والاستخدام، ومرعاة النظير، وفيه الانسجام، والتمكين، والله أعلم.
__________
1 وشّح: زين وزخرف. الوسمي: مطر الربيع.(2/387)
ذكر حسن النسق:
من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم
هذا النوع، أعني حسن النسق، ويسمى التنسيق، من محاسن الكلام، وهو أن يأتي المتكلم بالكلمات من النثر، والأبيات من الشعر، متتاليات متلاحمات تلاحمًا مستحسنًا مستبهجًا، وتكون جملها ومفرداتها منسقة متوالية، إذا أفرد منها البيت قام بنفسه واستقل معناه بلفظه، كقوله شرف الدين القيرواني:
جاور عليًّا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل1
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
فالحظ حسن النسق، وصحة هذا التركيب فيه، واستيعاب هذا التقسيم، ووضوح هذا التفسير.
ومنه قول أبي نواس:
وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس
وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس
حسن النسق، هنا، لأمرين بين فنين متضادين، في هذين البيتين، وهما المجون والزهد، حتى صارا كأنهما فن واحد.
__________
1 ادّرع: لبس الدرع. الأسل: الرماح.(2/388)
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
والذئب سلم والجني أسلم والثـ
ـعبان كلم والأموات في الرحم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
فالضيق أذهب والتوفيق سبب والتنـ ... ـسيق رتب في تصديق حكمهم
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة -رضوان الله عليهم- بقولي:
من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم
__________
1 سلم: رضي. الجني: واحد الجن. أسلم: انقاد وتدين بالإسلام. الثعبان: الحية ذكرًا كانت أو أنثى. كلّم: تكلم ورد الجواب. الأموات في الرحم: الأجنة. والبيت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.(2/389)
ذكر التعديد:
تعديد فضلهم بيدي لسامعه ... علمًا وذوقًا وشوقًا عند ذكرهم
هذا النوع، أعني التعديد، ذكره الإمام فخر الدين الرازي وغيره، وسماه قوم الإعداد، وهو عبارة عن إيقاع أسماء منفردة على سياق واحد، فإن روعي في ذلك ازدواج، أو مطابقة، أو تجنيس، أو مقابلة، فذلك الغاية في حسن النسق. مثاله قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 1 ومن الأمثلة الشعرية قول أبي الطيب المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله:
يا خاتم الرسل يا من علمه ... والعدل والفضل والإيفاء للذمم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت عز الدين في بديعيته قوله:
تعديد أوصافهم في المدح يعجزنا ... أهل التقى والنقا والمجد والهمم
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- بقولي:
تعديد أوصافهم بيدي لسامعه ... علمًا وذوقًا وشوقًا عند ذكرهم
__________
1 البقرة: 2/ 155.(2/390)
ذكر التعليل:
نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم
هذا النوع، أعني التعليل: هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع، أو متوقع، فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة تتقدم على المعلول، كقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 فسبق الكتاب من الله تعالى علة النجاة من العذاب، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فخوف المشقة على الأمة، هو علة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة.
ومن أمثلته الشعرية قول البحتري:
ولو لم تكن ساخطًا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا
فوجود سخط الممدوح، هو علة في شكوى الشاعر.
ومنه قول ابن هانئ الأندلسي:
ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما صح عندي علة للتيمم
وفي رواية: لما كنت أدري، وعلى كلتا الروايتين، ففي الغلو قبح وإساءة أدب، كيف أنه لم يدر علة للتيمم إلا بما ذكر، وقد علمت صحة التيمم من نص الكتاب والسنة.
ولقد أحسن ابن رشيق القيرواني، في تعليل قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا"، حيث قال:
__________
1 الأنفال: 8/ 68.(2/391)
سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهرًا وطيبا
فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا
فتخلص مما وقع فيه ابن هانئ، لكونه سأل الأرض عن العلة، وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في إيرادها. وقد يتقدّم المعلول على العلة في هذا الباب، وعلى هذا المنوال نسج ابن رشيق.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التعليل قوله:
لهم أسام سوام غير خافية ... من أجلها صار يدعى الاسم بالعلم1
وبيت العميان:
لم تبرق السحب إلا أنها فرحت ... إذ ظللته فأبدت حسن مبتسم
وبيت الشيخ عز الدين قوله:
تعليل طيب نسيم الروض حين سرى ... بأنه نال بعضًا من ثنائهم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة:
نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم
__________
1 أسامٍ: جمع مفرده اسم. سوام: جمع مفرده سامي: عالي المكانة.(2/392)
ذكر التعطف:
تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخبر ما زال في أبواب صفحهم1
التعطف شبيه بالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت، والفرق بينهما أن التعطف شرطه أن تكون إحدى كلمتيه في مصراع، والأخرى في مصراع آخر.
قلت: وهذا النوع أيضًا من الأنواع التي تقدمت، وقررت أن ليس تحتها كبير أمر، وأن رتبة البديع أعلى من هذه الأنواع السافلة، ولكن تقدم قولي: إن القوم كلما طلبوا الكثرة تغالوا في الرخيص، والشروع في المعارضة ملزم، وقد استشهدوا على هذا النوع -أعني: التعطف- بقول أبي الطيب المتنبي:
فساق إلَيَّ العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم
وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع الرخيص قوله:
وصحبه من لهم فخر إذا افتخروا ... ما أن يقصر عن غايات فضلهم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
تعطفوا برضا أحبابهم وعلى ... أعدائهم عطفوا بالصارم الخذم2
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة -رضي الله عنهم- بقولي:
تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم
وقلت بعده مشيرًا إليهم.
__________
1 الصفح: العفو والغفران.
2 الصارم: السيف القاطع. الخذم: القاطع.(2/393)
ذكر الاستتباع:
يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم
الاستتباع: هو استفعال من تتبع الرجل، إذا اقتفى أثره. وفي الاصطلاح: هو أن يذكر الناظم أو الناثر معنى مدح أو ذم أو غرض من أغراض الشعر، فيستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصف ذلك الفن، كقول أبي الطيب المتنبي:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
فإنه مدحه بالشجاعة، على وجه استتبع مدحه بكونه سببًا لإصلاح الدنيا، حيث جعلها مهنأة بخلوده ومثله قوله:
إلى كم ترد الرسل فيما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام
فمدحه بالشجاعة إيماء، وألغز في رد الرسل عما أتوا به وصدهم عن مطلوبهم والتهاون بمرسلهم، واستتبع في آخر البيت مدحه بالكرم، لعصيان الملام في الهبات.
ويعجبني هنا قول أبي بكر الخوارزمي:
سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله
فإنه مدحه بذلاقة اللسان على وجه استتبع الكرم.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله:
الباذلو النفس بذل الزاد يوم قرى ... والصائنو العرض صون الجار والحرم1
__________
1 القرى: إطعام الضيوف، ويوم القرى: يوم المسغبة أو يوم الحاجة.(2/394)
وبيت العميان:
تجري دماء الأعادي من سيوفهم ... مثل المواهب تجري من كفوفهم
وبيت الشيخ عز الدين:
يستتبعون ببذل العلم بذل ندى ... ويحفظون المعالي حفظ عرضهم
وبيت بديعيتي:
يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم(2/395)
ذكر الطاعة والعصيان:
اعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلوّ فجانسه بمدحهم
هذا النوع، أعني الطاعة والعصيان، استنبطه أبو العلاء المعري في شرحه الذي سماه: "معجز أحمد" عند نظره في شعر أبي الطيب، وهو قوله:
يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وسماه الطاعة والعصيان، وقال: إنما أراد أبو الطيب أن يقول: يرد يدًا عن ثوبها وهو مستيقظ، بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت، بقوله: راقد، فلم يطعه الوزن في ذلك، ولما عصاه الوزن عدل إلى لفظة: قادر، وجعلها مكان مستيقظ، لما فيها من معنى اليقظة وزيادة، فأطاعه التجنيس المقلوب، بين قادر وراقد، وعصته المطابقة، بين راقد ومستيقظ، فلم يخل بيته عن معنى بديعي، وقيل إن هذا النوع لم يسمع له مثال قبل أبي العلاء، ولا بعده في سائر كتب البديع، لقلة وقوعه وتعذر اتفاقه، وإنما وقع للمتنبي نادرًا.
قلت: أنا تابع، في هذا النوع، مذهب علامة هذا العلم، وهو الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع -تغمده الله برحمته ورضوانه- فإنه كشف عن وجه الإشكال، وأرشد من كان متعلقًا بحبال المحال، فإن القوم أضربوا عن هذا النوع وهو ظاهر؛ لأن الشيخ زكي الدين قال: إضرابهم عن النظر فيه، إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه العصمة من الخطأ والسهو، وإما أن يكون مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت، إذ ليس في البيت شيء أطاع الشاعر ولا شيء عصاه، ودليل ذلك قول المعري: إن المتنبي أراد مستيقظًا، ليحصل بينها وبين لفظة راقد طباقًا، فعصته لفظة مستيقظ.(2/396)
لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، وهذا محال؛ لأن المتنبي لو أراد أن يقول: يردُّ يدًا عن ثوبها وهو ساهر، لحصل له غرضه من الطباق، ولم يعصه الوزن، وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس، فعدل عن لفظة ساهر إلى قادر؛ لأن القادر ساهر وزيادة، وحصل بين راقد وقادر الطباق المعنوي، وجناس العكس؛ لأن الطباق أنواع: منها المعنوي: كما أن الجناس أنواع: منها العكس، ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ، ولا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي، حصل في البيت الطباق والجناس معًا، وما كان فيه الطباق والجناس معًا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق. ولو عدل المتنبي إلى ما ذكره المعري، لفاته هذا الفضل، والله أعلم.
وقد ثبت من هذا البحث، أن بيت المتنبي لا يصلح أن يكون شاهدًا على هذا الباب؛ لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره، وكذلك بيت الشيخ صفي الدين في بديعيته وهو قوله:
لهم تهلل وجه بالحياء كما ... مقصوره مستهل من أكفهم1
فإنه ذكر، في شرحه، أنه أراد الجناس، بين الحياء والحيا، ولما عصاه الوزن وتعذر التجنيس عدل إلى لفظة مقصوره، وهي ردف لفظة الحيا، فأطاعه الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه. اهـ.
قلت: والذي قرره الشيخ صفي الدين أيضًا محال، ولو قال:
لهم تهلل وجه بالحياء كما ... لنا الحيا مستهل من أكفهم
لحصل له ما أراد من الجناس، وخلص من ثقل مقصوره، وحصل لبيته طلاوة في الأذواق، وخلا من العقادة، وتحقق المتأمل أن عصيان الوزن هنا محال، وكذلك بيت الشيخ عز الدين وهو:
أطاعه وعصاه المؤمنون ومن ... ناواه ذا الفرق بين الإنس والنعم2
فإنه ذكر، في شرحه، أنه أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين، فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة، فأتى بلفظة ناواه، فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن.
قلت: والذي قرره الشيخ عز الدين أيضًا ههنا محال، ولو قال:
أطاعه وعصاه المؤمنون وجمـ ... ـع الكافرين ولم يحفل بجمعهم
__________
1 المقصور: الذي يقتصر عليهم منه. مستهل: نازل أو بادئ.
2 ناواه: ناوأه: عصاه وعمل ضده. النعم: الأنعام وهي الحيوانات.(2/397)
لحصل له ما أراد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين، وخلص من ثقل ناواه وتجشم الإنس والنعم التي زلزلت أركان بيته، وأما قوله: أطاعه وعصاه فهذه المطابقة تحصيل الحاصل؛ لأنها تسمية النوع الذي هو المراد هنا، وجل القصد: أن عصيان الوزن في بيت أبي الطيب، وبيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين محال.
وبيت بديعيتي أقول فيه، عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:
طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم
هذا البيت أردت أن أجانس فيه بين العلوّ والغلوّ، فلم يطع فيهما الوزن، فلما عصى ذلك عدلت إلى لفظة مجانسة، فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه، فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة، فإن الناظم أراد فيه جناس التصحيف، فعصاه الوزن وأطاعه الجناس المعنوي. والعميان ما نظموه في بديعيتهم، والله أعلم.(2/398)
ذكر المدح في معرض الذم:
في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم
هذا النوع، أعني المدح في معرض الذم، من أنواع ابن المعتز، وهو أن ينفي صفة ذم ثم يستثني صفة مدح، كقولك: لا عيب في زيد سوى أنه يكرم الضيف. وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 1
ومن الشواهد الشعرية قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب2
ومنه قول الشاعر:
ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن
ومنه أيضًا قول الشاعر:
ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم3
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم
__________
1 الواقعة: 56/ 25، 26.
2 فلول: كسور. قراع: قتال. الكتائب: مجموعات من الجيوش.
3 الرشا: الغزال. اللدن: الطريء.(2/399)
وبيت العميان في بديعيتهم:
لا عيب فيهم سوى أن لا ترى لهم ... ضيفًا يجوع ولا جارًا بمهتضم1
قلت: بين قول الشيخ صفي الدين، عن الضيف أنه يسلو عن الأهل والأوطان والحشم، وبين قول العميان عن الضيف، أنه لا يجوع، بون بعيد.
وبيت الشيخ عز الدين:
في معرض الذم إن رمت المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى الإعدام للنعم
وبيت بديعيتي:
في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم
__________
1 مهتضم: مغموط الحق أو لحق به الجور.(2/400)
ذكر البسط:
هم معشر بسطوا جودًا سقاه حيًّا ... فأخضر العيش في أكتاف أرضهم1
هذا النوع، أعني البسط، من مستخرجات ابن أبي الأصبع، والبسط بخلاف الإيجاز لكونه عبارة عن بسط الكلام، لكن شروطه زيادة الفائدة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم".
فبسط هذه اللفظة الجامعة، ليفرد الأئمة بالذكرمن جملة المسلمين، ولم يكن الاقتصار على الأئمة لأجل نقص المعنى، إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة المسلمين، فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى، بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر.
ومن الأمثلة الشعرية المستحسنة على البسط، قول البحتري في الخيري وهو المنثور الأصفر:
قد نفض العاشقون ما صنع الـ ... ـهجر بألوانهم على ورقه
فإن حاصل هذا الكلام الإخبار بصفرة الخيري، فبسط اللفظ الذي لو اقتصر عيه لما حصل به المراد، لما في البسط من حسن إدماج الغزل في الوصف، بغير لفظ التشبيه ولا قرينة، إذ مفهوم اللفظ أن صفرة المنثور تشبيه ألوان المهجورين.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته:
سهل الخلائق سمح الكف باسطها ... منزه قوله عن لا ولئن ولم
__________
1 الحيا: المطر. الأكناف: النواحي. مفردها كنف.(2/401)
والعميان ما نظموه في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
ذو بسط كف وخلق زانه خلق ... أثنى عليه إله العرش بالعظم
وبيت بديعيتي، أنا مستمر فيه على مدح الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
هم معشر بسطوا جودًا سقاه حيًّا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم(2/402)
ذكر الاتساع:
نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم
هذا النوع، أعني الاتساع، يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظم فيه، وبحسب ما يحتمل ألفاظه من المعاني، كقول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوّع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل
فإن هذا البيت اتسع النقد في تأويله، فمن قائل: تضوع المسك منهما بنسيم الصبا، ومن قائل: تضوع المسك منهما بفتح الميم، يعني الجلد بنسيم الصبا، وهو أضعف الوجوه، والوجه الثاني مذهب ابن أبي الأصبع، وهو أنور الوجوه. ومن ذلك فواتح السور التي أقسم الله بها، فإنهم اتسعوا في تأويلها، ولم يترجح من ذلك إلا أنها أسماء للسور.
وبيت الحلي في بديعيته قوله:
بيض المفارق لا عار يدنسهم ... شم الأنوف طوال الباع والأمم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
__________
1 شم الأنوف: أي رافعو الرءوس كناية عن العزة. طوال الباع: طوال ما بين البلدين إذا مدتا وهذا كناية عن القوة والقدرة. بيض المفارق كناية: عن نقاء العرض والنسب أو الشرف. الأمم: قريب التناول.(2/403)
بان اتساع المعالي في الصحابة كالفاروق ثم شهيد الدار ذي الحرم1
وبيت بديعيتي، أنا مستمر فيه على مدح الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم
__________
1 الفاروق: لقب عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين بعد أبي بكر. شهيد الدار: هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث.(2/404)
ذكر جمع المؤتلف والمختلف:
جمعت مؤتلفًا فيهم ومختلفًا ... مدحًا وقصرت عن أوصاف شيخهم
هذا النوع -أعني جمع المؤتلف والمختلف- ذكر المؤلفون فيه أقوالًا كثيرة غير سديدة، ومثلوه بأمثله غير مطابقة، ولم يحرره ويطابقه بالأمثلة الصحيحة اللائقة غير الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، والذي تحرر عنده: أن هذا النوع عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعانٍ مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر، بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الآخر، فيأتي لأجل الترجيح بمعانٍ تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 1 فحصلت المساواة في الحكم والعلم، فساوى بينهما في أهلية الحكم، ثم رجح سليمان فقال: ففهمناها سليمان، ثم راعى حق الوالد فقال: وكلًّا آتينا حكمًا وعلمًا، فحصلت المساواة في الحكم والعلم. وكقول الخنساء في أخيها، وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة مدح لا ينقص به حق الولد:
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر2
وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا على وكر
حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر
__________
1 الأنبياء: 21/ 78, 79.
2 تعاور: تداور أي كل واحد يلبسها مرة. الملاءة: الثوب الفضفاض.
3 نزا: طاش، والقلب: طمح. لزّت: ألصقت.(2/405)
وعلا طباق الأرض أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري
برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي -رحمه الله- في بديعيته قوله:
هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... سوى الإخاء ونص الذكر والرحم
قلت: الحلي أساء الأدب في نظم هذا البيت، وكان يجب أن يؤدب على نظمه، فإنه بخس فيه حق صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب في الثلاثة التي استثناها، وقال: إن الصحابة -رضي الله عنهم- عدموها وقوله: هم هم في جميع الفضل، لا يفهم منه مدح؛ لأنه سلبهم الفضل في الشطر الثاني من البيت، ولهذا قال الشيخ عز الدين في بديعيته مشيرًا إلى هذا البيت:
هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... ما قاله الرافضي النذل في الكلم1
وعلى هذا الترتيب الفاسد. فما اجتمع في بيت الصفي غير المختلف؛ لأن المؤتلف عنه بمعزل.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
جمع لمؤتلف فيهم ومختلف ... في العلم والحلم مع تقديم ذي قدم
وبيت بديعيتي يجب أن لا يستشهد على هذا النوع بغيره، فإني قلت فيه، عن الصحابة رضي الله عنهم:
جمعت مؤتلفًا فيهم ومختلفًا ... مدحًا وقصرت عن أوصاف شيخهم
__________
1 الرافضي: لقب للذي يرفض خلافة أبي بكر وعمر، يجمع على الروافض وهو منسوب إليهم. النذل: الخسيس من الناس الدنيء.(2/406)
ذكر التعريض:
تعريض مدح أبي بكر يقدّمني ... في سبق حُليِّهم مع موصليهم
هذا النوع -أعني التعريض- نوع لطيف في بابه، وهو عبارة عن أن يكني المتكلم بشيء عن آخر، لا يصرح به، ليأخذه السامع لنفسه ويعلم المقصود منه، كقول القائل: ما أقبح البخل، فيعلم أنك أردت أن تقول له: أنت بخيل. وكقول بعضهم للآخر: لم تكن أمي زانية، يعرض بأن أمه زانية، والتعريض نوع من الكناية، ومن أمثلته الشعرية قول الحجاج، يعرض بمن تقدمه من الأمراء:
لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم1
والشواهد على هذا النوع كثيرة، ولكن أردت أن أجعل العمدة فيه على بيتي المنتظم في سلك بديعيتي، فإنه من الأمثلة البديعة، وليس في هذا النوع له مثال، ولكن نبدأ ببيت الشيخ صفي الدين -رحمه الله- لأجل الترتيب، وهو:
ومن أتى ساجدًا لله ساعته ... ولم يكن ساجدًا في العمر للصنم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي -رحمه الله- قوله:
تطويل تعريض شانئهم يعظمهم ... والرفض أقبح شيء موجب الأضم2
__________
1 الوضم: الخشبة التي يقطع عليها الجزار اللحم.
2 الشانئ: المبغض والكاره. الأضم: الحقد والعداوه.(2/407)
وبيتي الذي أطنبت في وصفه، هو قولي بعد:
جمعت مؤتلفًا فيه ومختلفًا ... مدحًا وقصرت عن أوصاف شيخهم
تعريص مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم(2/408)
ذكر الترصيع:
نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي
هذا النوع، أعني الترصيع: هو عبارة عن مقابلة كل لفظة من صدر البيت، أو فقرة النثر، بلفظة على وزنها ورويها، وهو مأخوذ من مقابلة ترصيع العقد، ومن أمثلته الشريفة في الكتاب العزيز قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 1 ومثله قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2 ومنه قول الحريري في المقامات: يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.
وإن كان مع الترصيع زيادة بديع، كطباق أو مقابلة أو جناس، كان ذلك زيادة حسنة. ومن أمثلته الشعرية قول أبي فراس:
وأفعالنا للراغبين كرامة ... وأموالنا للطالبين نهاب
ومنه قول الشاعر:
فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مواف موافق
والمبرز في هذا النوع هو الذي يخلي نظم بيته من الحشو، والحشو فيه عبارة عن تكرار الألفاظ التي ليست من الترصيع، بحيث لا يأتي في صدر بيته بلفظة إلا ولها أخت تقابلها في العجز حتى في العروض والضرب، كقول ابن النبيه:
فحريق جمرة سيفه للمعتدي ... ورحيق خمرة سيبه للمعتفي3
فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه فإن المقابلة فيه حاصلة بين حريق
__________
1 الانفطار: 82/ 13، 14.
2الغاشية: 88/ 25، 26.
3 السيب: الكرم والعطاء، المعتفي: طالب المعروف.(2/409)
ورحيق، وبين جمرة وخمرة، وبين سيفه وسيبه، وبين المعتدي والمعتفي، وأبو فراس بيته خال من ترصيع العروض والضرب. والشاهد الثاني كرر فيه ناظمه حرف النداء، فدخل عليه الحشو.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الترصيع قوله:
من حاسر بغرار العضب ملتحف ... وسافر بغبار الحرب ملتثم1
صفي الدين فاته في هذا البيت ترصيع العروض والضرب وقد تسامحوا فيهما ولكن الغاية ما قررته في نظم هذا النوع، وأيضًا فإن الشيخ صفي الدين غير عاجز عن ذلك. فإن أتى في بيته بالحشو مع عدم ترصيع العروض والضرب، وناهيك أن العميان تبصروا له ونظموه في بديعيتهم، وهو:
فهجر ربعي لذاك الربع مغتنمي ... ونثر جمعي لذاك الجمع معتصمي
هذا البيت استشهد به العميان على الترصيع الواقع في جميع ألفاظ البيت، ولكن ذاك في مقابلة ذاك اعتذر عنهما الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الشارح، وقال: إن معناهما مختلف، فإن الإشارة الأولى للربع، والثانية للجمع، وعلى كل تقدير فالنظر فيهما مجال.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
كم رصعوا كلمًا من در لفظهم ... كم أبدعوا حكمًا في سر علمهم
الشيخ عز الدين رصع، حتى في العروض والضرب، ولكن كرر في بيته لفظة كم. ودخل عليه الحشو وهو من وفى، والكمال لله.
وبيت بديعيتي أقول فيه بعد قولي في بيت التعريض:
نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي
التنبيه على محاسن هذا البيت، كالتنبيه على محاسن بيت ابن النبيه، وفي حقوق هذا النوع في نظمه، وأما الجماعة المذكورون معه، فما منهم إلا من بخسه بعض حقه، لما أدخله في بيته. وقد تميز بيتي على بيت ابن النبيه أيضًا في ترصيع نظمه بزيادة جوهرتين، فإني قابلت فيه خمسة بخمسة، وابن النبيه وبقية القوم قابلوا أربعة بأربعة، والزيادة على ابن النبيه أيضًا في تسمية النوع الذي هو الترصيع، ولعمري إنها تورية ما رصع في العقود نظيرها، وهذا البيت مشتمل على الترصيع، والتورية، والجناس اللاحق، واللزوم، والتمكين، والموازنة، ومراعاة النظير، والسهولة والانسجام، والله أعلم.
__________
1 الحاسر: كاشف الرأس. غرار العضب: حد السيف القاطع. السافر: كاشف الوجه.(2/410)
ذكر السجع:
سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم
السجع: مأخوذ من سجع الحمام، واختلف فيه، هل يقال في فواصل القرآن أسجاع أو لا؟ فمنهم من منعه ومنهم من أجازه، والذي منع تمسك بقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 1 فقال: قد سماه فواصل، وليس لنا أن نتجاوز ذلك.
والسجع ينقسم أربعة أقسام: المطرف، والموازي، والمشطر، والمرصع. القسم الأول: المطرف، وعلى منواله نسج نظام البديعيات، وهو أن يأتي المتكلم في أجزاء كلامه، أو في بعضها بأسجاع غير متزنة بزنة عروضية، ولا محصورة في عدد معين، بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية، كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 2 وكقولهم: جنابه محط الرحال، ومخيم الآمال. ومن الأمثلة الشعرية قوله أبي تمام:
تجلّى به رشدي وأثرت به يدي ... وفاض به ثمدي وأورى به زندي3
الثاني: الموازي، وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي، كقوله تعالى: {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} 4. ومنه قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا". ومنه قول الحريري في المقامات: ألجأني
__________
1 فصِّلت: 41/ 3.
2 نوح: 71/ 13، 14.
3 الثمد: الماء. وأورى: اشتعل. والزند: عود تقتدح به النار.
4 الغاشية: 88/ 13، 14.(2/411)
حكم دهر قاسط، إلى أن أنتجع أرض واسط. وقوله: وأودى بي الناطق والصامت، ورثى لي الحاسد والشامت. ومن أمثلته الشعرية قول أبي الطيب المتنبي:
فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل
القسم الثالث: المشطر، وهو أن يكون لكل نصف من البيت قافيتان مغايرتان لقافيتي النصف الأخير، وهذا القسم مختص بالنظم، كقول أبي تمام:
تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب في الله مرتعب
الرابع: المرصع، وقد تقدم الكلام عليه.
قلت: وإذ كنت منشئ ديوان الإنشاء الشريف، أنشأت جميع ما يحتاجون إليه من الفوائد التي أخذتها عن علماء هذا الفن، فإن قصر الفقرات يدل على قوة المنشئ، وأقل ما يكون من كلمتين، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 1 وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العزيز، لكن الزائد على ذلك هو الأكثر وكان بديع الزمان يكثر من ذلك، كقوله: كميت نهد2، كأن راكبه في مهد، يلطم الأرض بزبر3، وينزل من السماء بخبر. لكن قالوا: التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه إلى ما ورد منه متزايدًا على سمعه. وأما الفقر المختلفة، فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى بقدر غير كثير، لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة، وإن زادت القرائن على اثنتين، فلا يضر تساوي القرينتين الأوليين، وإن زادت الثانية على الأولى يسيرًا، والثالثة على الثانية، فلا بأس، ولا يكون أكثر من المثل. ولا بد من الزيادة في آخر القرائن.
مثاله في القرينتين: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا} 4 فالثانية أطول من الأولى، ومثاله في الثالثة قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} 5 ومن قواعد الإنشاء، أن تكون كل فاصلة مخالفة لنظيرتها في المعنى؛ لأن اللفظ إذا كان
__________
1 المدثر: 74/ 1-4.
2 الكميت: الأحمر الذي يميل إلى السواد. والنهد: السريع.
3 الزبر: الحديد وهي قطع توضع في أسفل حافر الحصان "النضوة".
4 مريم: 19/ 88- 90.
5 الفرقان: 25/ 11- 13.(2/412)
من القرينة بمعنى نظيره من الأخرى كان معيبًا، كقول الصاحب بن عباد يصف منهزمين: طاروا واقين بظهورهم صدورهم، وبأصلابهم نحورهم. فالظهور بمعنى الأصلاب والصدور بمعنى النحور, ومنه قول الصابي: يسافر رأيه وهو لا يبرح، ويسير وهو ثاوٍ لا ينزح. ويبرح وينزح بمعنى واحد، ويسافر ويسير كذلك.
ومن فوائد الإنشاء التي يطول بها باع المنشئ، أن السجع مبني على الوقف، وكلمات الأشجاع بين القرائن ويزاوج، ولا يتم له ذلك إلا بالوقف، إذ لو ظهر الإعراب، لفات ذلك الغرض، وضاق ذلك المجال على قاصده، ألا ترى أنهم لو بينوا الإعراب، مثل قولك: ما أبعد ما فاتَ، وما أقرب ما هو آتٍ، للزم أن تكون التاء الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة منونة فيفوت غرض الاتفاق؟ ومن ذلك أن السجع مبني على التغيير، فيجوز أن تغير لفظة الفاصلة لتوافق أختها، فيجوز فيها حالة الازدواج ما لا يجوز فيها حالة الانفراد. فمن ذلك: الإمالة، فقد يكون في الفواصل ما هو من ذوات الياء وما هو من ذوت الواو، فتمال التي هي من ذوات الواو وتكتب بالياء حملًا على ما هو من ذوات الياء، لأجل الموافقة، نحو قوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1. أميلت والضحى وكتبت بالياء حملًا على ما هي من ذوات الياء، لأجل الموافقة، وكذلك: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} 2 أميلت فيها ذوات الواو وكتبت بالياء حملًا على ما هي من ذوات الياء. ومن ذلك، حذف المفعول، نحو قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 3. الأصل وما قلاك. حذفت الكاف لتوافق الفواصل. ومن ذلك، صرف ما لا ينصرف، كقوله تعالى: {قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَا} 4 صرفه بعض القراء السبعة، ليوافق فواصل السورة الكريمة. ولو تتبع المتأمل ذلك في الكتاب العزيز، لوجده كثيرًا.
ومما جاء من الحديث5، قوله صلى الله عليه وسلم: "أعيذه من الهامة والسامة، ومن كل عين لامة". والأصل: عين ملمة؛ لأنه من ألم، ولكنه لأجل الموافقة قيل: لامة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجعن مأزورات غير مأجورات". الأصل: موزورات بالواو؛ لأنه من الوزر، ولكن ليوافق مأجورات. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم". الأصل: ما وادعوكم، ولكن حذف الألف ليحصل الاتفاق مع تركوكم.
__________
1 الضحى: 93/ 1، 2.
2 الشمس: 91/ 1.
3 الضحى: 93/ 3.
4 الإنسان: 76/ 15، 16.
5 أي من السجع.(2/413)
وسمعت أن بعض علماء الإنشاء صنع مؤلفًا في أحكام الفواصل. ومن ذلك أن المراد من علم الإنشاء: البلاغة في المقاصد. والبلاغة هي أن يبلغ المتكلم بعبارته كنه مراده، مع إيجاز بلا إخلال، وإطالة من غير إملال. والفصاحة خلوص الكلام من التعقيد. وقيل: البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ، فيقال: لفظ فصيح ومعنى بليغ. والفصاحة خاصة تقع في المفرد، يقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة، وأنت تريد المفرد، فإنه يقال للقصيدة كلمة، كما قالوا: كلمة لبيد. ففصاحة المفرد خلوصه من تنافر الحروف، والفصاحة أعم من البلاغة؛ لأن الفصاحة تكون صفة للكلمة والكلام، يقال: كلمة فصيحة وكلام فصيح. والبلاغة لا يوصف بها إلا الكلام، فيقال: كلام بليغ، ولا يقال: كلمة بليغة. واشتركا في وصف المتكلم بهما فيقال: متكلم فصيح بليغ.
فمن الإنشاء الفصيح البليغ، قول ابن عباد، وقد قيل له: ما أحسن السجع! فقال: ما خف على السمع. فقيل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا ومنه، ما كتب به عبد الحميد، عند ظهور الخراسانية بشعار السواد: فاثبتوا ريثما تنجلي به هذه الغمرة، وتصحو هذه السكرة، فينصب السيل وتمحى آية الليل. ومنه قول أبي نصر العتبي: دب الفشل في تضاعيف أحشائهم، وسرى الوشل1 في تفاريق أعضائهم، فجيوب الأقطار عنهم مزرورة2، وذيول الخذلان عليهم مجرورة. ومنه قول الصابي: نزغ به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه3. ومنه قول بديع الزمان: كتابي إلى البحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه، فقد تصورت خلقه، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره. ومنه قول القاضي الفاضل رحمه الله: ووافينا قلعة نجم وهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة إذا خضبتها أيدي الأصيل كان الهلال لها قلامة.
ويعجبني في هذا الباب، من إنشاء الشهاب محمود قوله في وصف مقدم سرية: لا زال في مقاصده أخف من وطأة ضيف، وفي مطالبه أخفى من زورة طيف، وفي تنقله أسرع من سحابة صيف، وأروع للعدا من سلة سيف. ومثله في الحسن قوله في صدر مثال شريف سلطاني: أصدرناها والسيوف قد أنفت من الغمود ونفرت من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب وتشوقت إلى الارتواء من قلبها، والسيوف قد أضرمت الحمية.
__________
1 الوشل: الوهن والضعف.
2 مزرورة: مقفلة.
3 الأشطان: جمع شطن وهو الحبل.(2/414)
للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين فأعرضت عن برد الثغور وطيب شنبها، والحماة ما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال ما فيهم من يسأل عن عدد العدو بل عن مكانه.
قلت: ما أوردت كثيرًا من الإنشاء ههنا إلا لأن يطيب للتأمل تنقله من شطوط البحور، إلى التنزه في رياض المنثور. فمن ذلك ما أنشأته في تقليد مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري، محمد بن البارزي الشافعي، بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، وهو قولي: وقد أوصلناه إلى رتبة استحقاقه من رتب المعالي، ورقيناه إلى درجات الكمال، علمًا أن الكمال ما خرج عن بيته العالي، فإنه المنشئ الذي ما للصاحب دخول إلى ديوانه، ولا لابن عبد الظاهر بلاغته وقوة سلطانه، ولا للشهاب محمود أن يباهي كماله في طارفه وتليده، ولا للقاضي الفاضل شرف البارزي وتمييزه ولو بالغ في كثرة شهوده، ما نثر في كمام طرسه1 زهره إلا وأرانا ذيول زهر المنثور، ولا قرع أبواب المصطلح إلا فتحت ودخل بيتها بغير دستور، ولا تسنم منبرًا إلا أجاد بألفاظ كان مزاجها من تسنيم، وقالت البلغاء للفصاحة المحمدية ما ثم إلا الرضا والتسليم.
ومنه ما أنشأته في تقليد ولده، وهو مولانا المقر الأشرف الكمالي عظم الله شأنه، بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، وهو قولي: فإنه من البيت الذي وهبه الله شرف العلم ورحم منه كل ميت، فقل لكل من مشايخ الإسلام ناشدتك الله هل تنكر هبة الله لهذا البيت، وما خفي أن إمامكم الأعظم أول من راعى حقوقه وبادر إلى رفع مثاله، وشرع في رفع قواعده وتشييد كماله، ولهم هذا الفرع الذي زكت أصوله وسقيناه ماء القرب فأتمر، وقد أنبته الله نباتًا حسنًا والنبات الحموي حسنه لا ينكر. غاب نيره الأكبر فأبدر بعده وهذا البدر في كماله ما أبهاه، ولجأ إلى الله ثم إلينا فزاده الله كمالًا وعلمنا أن الكمال لله، وسلكناه في حياة والده فكان لمشيختنا الشريفة نعم المريد، وأخذ عنا الأدب فجاد نظمه وها هو في البيوت البارزية بيت القصيد، والكتابة دون كماله ومحاسنه تجل أن تقابل بمثال، وإن كان الكمال زها بحاشيته فحاشيتنا زهت بهذا الكمال، وكان والده عقدًا فرط فيه الزمان ولكن استدرك فارطه، وقد نظمناه في عقد سلكنا الشريف إلى أن صار به نعم الواسطه. وامتدت ألسن الأقلام إلى ثغور المحابر فقبلتها، وانشرحت صدور الأوراق وعلق فيها عنابر سطور فحملتها، وقالت لحمر أقلامه: أهلًا بالعربيات التي ليس لها إلا الأيدي الجهينية غرر، ومرحبًا بعد النوبة بقهوة الإنشاء
__________
1 الطرس: ما يكتب عليه.(2/415)
فإن شباب الزمان قد عاد وزهر المنثور قد زهر، وجاء الإمام الذي إن كتب تقليدًا قالت البلغاء هذا الإمام الذي يجب تقليده، وهذا هو الخليفة على السر الشريف وأمينه ومأمونه ورشيده. إن تحمس في إنشائه قال الجبان لا أقعد الجبن عن الهيجا، أو استطرد إلى وصف روض ممرج زاد هرجًا ومرجا، أو ترسل غراميًا فما حديقة زهير عند زهر منثوره، أو كتب عنا تهديدًا سال جامد الصخر، ولو سمعت الجوزاء حديثه لسقطت مع الحصى عند خريره فإنه المنشئ الذي ما اعتقل رمح فمه بيمينه وهزه هزه، إلا قال كل منشئ دخلت أصبع قلمي. من دواتي تحت رزه1. ولا حرك من دوح أقلامه فرعًا إلا تساقط بين الأوراق ثمرات شهيه، فلو أدركها الصاحب لقدمها وأخر الفواكه البدرية، ولو ناسبه الفتح لقابله المؤمنون بالقتال، وكان والده قد اعترف بكماله وهذا هو التقليد لثبوت ذلك الاعتراف أسجال2، فإنه الأمين الذي إن تصرف في مزررتنا3، الشريفة، فقد ثبت أن توثيق العرا4 لبيته العالي، أو أملى في ديواننا الشريف كانت أماليه أمالي المحب لا أمالي القالي5 ولولا خشية الإطالة، لأوردت هذا التقليد الشريف بكماله؛ لأنه في صناعة الإنشاء لنسيج وحده.
ومنه ما أنشأته عن ملانا السلطان الملك المؤيد، سقى الله ثراه من غيث الرحمة جوابًا عن مكاتبة الملك الناصر صاحب اليمن، وهو: لا زال جناس مجده سعيد الحركة بين اليمن واليمن، وسيفه اليماني لم يرض بمجانسة سيف بن ذي يزن، والأمة بأحمدها تهنأ بجنات عدنٍ6 في عدن، ولا برحت صنائعه بصنعاء محبرة حتى في سطور الطروس، وأقلام الثناء سود اللمم بمدحه ولو تركت لاعتراها شيب الرءوس، وتحياته المكرمة مخصوصة منا بشرف التسليم، وبدور مودته سافرة في ليالي سطورها بين بديعي التكميل والتتميم، أصدرناها وشاهد المودّة قد وضع رسم شهادته وكتب، وأثبت مقدمات الإخلاص فحكم له قاضي المحبة بالموجب، وأودعناها من السلام ما تعمه رحمة الله وبركاته، ومن طيب الثناء ما يتأرج بين إدراك ذلك المندل7 الرطب نفحاته، ومن خالص المودة ما يضم به بعد حسن المخلص من طيب أعرافه حسن الختام، ومن سجعات
__________
1 رزه: ورقه الصقيل.
2 أسجال: إثباتات.
3 المزررة: مكان الأزرار.
4 العرا: جمع عروة وهو فتحة الزر.
5 القالي: أبو علي صاحب الأمالي المشهورة، والقالي: الهاجر الكاره.
6 عدْنٍ: خلد ونعيم. وعَدَن بالمكان أقام فيه.
7 المندل: بفتح الميم: عود طيب الرائحة.(2/416)
الأشواق كل مصونة ليس لها غير سواد النقس لثام. وتبدى لعلمه ورود المثال العالي بطيب تلك المعادن التي ود النسيم أن يقيدها ويحتبس، ولقد رافقها الاكتساب اللطيف ولكن سرق من طيب عرفها وتكلم بنفس، فأكرم به مثالًا أرانا خفر الملك على كل قرينة لها من حجب البلاغة ستور، وخدامها من سود سطورها وبيض طروسها عنبر وكافور، ورد صحف الصفاء صقيلة فتمثل فيها، وأظهر من أوراقه ثمرات المودة ونحن بيد القبول نجنيها، وقدم من ذلك الحرم الأحمدي فكان أكرم وافد قوبل منا بالإكرام، وفتح أبواب الدخول إلى السلام فسلمنا وقلنا لخواصنا ادخلوها بسلام. ولقد ثملنا بكأس إنشائه وهو بحضرتنا الشريفة دائر، وعلمنا أن هذا الإنشاء لا يصدر إلا من فاضل والفاضل لا ينسب إلا إلى الناصر، وتغزلنا في محاسنه بحيرة اليمن بعد تغزلنا بحيرة العلم، وراعنا تحمس بلاغته فقلنا هذا لا يصدر إلا من رب سيف وقلم، وود كل دوح أن يملأ طروس أوراقه بريحان سطوره، وتطفل كل روض أريض1 عند وروده على زهر منثوره، وقالت فصاحته وتلك البلاغة التي جاءت بسحر البيان، هل يفتى لنا بصدق المحبة فقال لهما القلب: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فهذا نفس طيب عرفنا معدن طيبه فلم نقل من أين، وهذه سلافة إنشاء دارت سلطانياتها فأنشأت أهل الخافقين2، وهذا سحر صدقت عزائمه في العطف والقبول بين الملكين، وأبطل هذا السحر الحلال ما حرم ببابل من سحر الملكين3، واشتمل على نظم ونثر رأينا شعار السلطنة عليهما عيانا4، كأن البلاغة قالت لهما قديمًا سنجعل لكما سلطانا5، فيا له من مثال تدرع زرد ميماته فقلنا لا طعن فيك لطاعن، وتشرع طباق بديعه فكانت على أكناف النيل من أثره مساكن، وأطرب بأنفاس علمنا أنها من يراع ما برح بالسعادة موصولًا، وطاف في حضرتنا الشريفة بكاس يمانية كان مزاجها زنجبيلا6. ولقد أكثر هذا المقال في كتابه المبين من إيناس الخطاب، وقضت به الوحشة أجلها فقلنا لكل أجل كتاب.
وهذا الجواب أيضًا، لولا خشية الإطالة لاستوعبته بكماله، فإن اليمن ما دخل إليها من الديار المصرية نظيره، والله أعلم.
__________
1 الأريض: والأروض: الروض الذي كسى الأرض بالنبات.
2 الخافقين: المشرق والمغرب.
3 الملكين: هما هاروت وماروت اللذان ورد ذكرهما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ....... يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} البقرة: 2/ 102.
4 العيان: الظاهر للعين، الواضح.
5 السلطان: السلطة والقوة.
6 الزنجبيل: نوع من الشراب كالخمرة أو هو الخمرة ذاتها.(2/417)
ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد -سقى الله ثراه- جوابًا عن مكاتبة وردت من صاحب تونس، وهو المتوكل على الله أبو فارس عبد العزيز -رحمه الله- وهو: لا زالت سيوف عزائمه في الجهاد ماضية الضرب، ولا برح جوده وإقدامه متطابقين في السلم والحرب، تخصه بسلام هو لنا والشوق برد وسلام، وسقاية وداد ماء زمزم تسنيم قبولها إلا تعالى ذلك المقام، وتحيات تنطق بها عن مواظبة الخمس1 ألسنة الأقلام، وثناء يقلد بخالص عقوده جيد الزمان، وينسى قلائد العقيان، ومحبة يقمر صدقها في ذلك الأفق الغربي ويشمس، وتزيل وحشة من سلا عن غيرها في المغرب وتونس ... واستطردت مفاوضتكم إلى الوصية بحاج المغرب فبادرنا إلى قبول ذلك، فإن هذا قد يتبرك من النجب السائرة به بالمبارك، وقد أعدناه مصحوبًا بالسلامة وحداته2 تطرب بنغمتها الحجازية، وتهيم اشتياقًا عند تشبيبها بذكرالطلعة المتوكلية، وأعدنا جواب ذلك على يد رسولكم الذي لم يقابل منا بغير القبول، ليكون خالص ودنا متمسكًا بالكتاب والرسول.
ومنه ما كتبته جوابًا عن مكاتبة وردت من الجناب العالي، الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان، وهو: لا زالت تحياته مخصوصة منا بشرف التسليم، وسيره العثماني محفوظًا في بيعة المودة بالتقديم، وشعراء الإخلاص في كل بيت من معاني محبته تهيم، وفروض الجهاد بسيوفه المسنونة في كل وقت تقام، وبلاده الإسلامية محروسة بالجناب المحمدي عليه السلام، وهمزات عوامله بصدور الكفار موصوله، وألسن سيوفه بثغور بلادهم من رشف أرياق دمائهم مبلولة، ولا برح يجاهد في سبيل الله برًّا ويتخذ في البحر سبيله، فإنه من الذي علا بمحمد مقامه، وانسجم بالخلف العثماني نظامه، واقتدى بمشيختنا المؤيدية والنجح في هذا الاقتداء له شريك، وساعدته تورية السعادة لما تمسك بقول من قال: ولا بد من شيخ يريك، ولم يبق بعد الاقتداء بهذه المشيخة إلا الفتوحات المقبوله، والمشاركة في القبول على ما يرضي الله ورسوله، صدرت هذه المفاوضة إلى الجناب المحمدي تأرّج بطيب السلام عليه، وتنسم نسيمات القبول من أخبارها الطيبة ما تنقله إليه، وحملناها ثناء أطلقنا عنان كميت القلم وهو غرة في جبهته، وتوجهت رءوس الأقلام قبل ركوعها إلى قبلته، "ومن الإنشاء الملوكي ما أطلق به فصيح القلم لسانه وخضر الشباب على عوارض نفسه ومحاسن سجعاته، وقال الفاضل الناصر هذا الإنشاء الذي ما خرس لسانه قلمه ولا شابت لمة دواته" وتبدى لعلمه الكريم ورود ما أهداه من
__________
1 الخمس: يعني الصلوات الخمس: الصبح والظهرين والمساءين.
2 الحداة: جمع حادي، وهو الذي يسوق الإبل بالحداء وهو نوع من الغناء.(2/418)
ثمرات المودة يانعًا في أوراقه، مختالًا في شعار الإخلاص فعلمنا أنه عنوان لعهده وميثاقه، وقد أتحف من نبات الإيناس ما غرس بأكناف النيل فحلا نباته، ودنت قطوف أنسه وظهر في فروع المحبة ثمراته، فاقتطفنا زهر المنثور من رياضه عند الورود1، وتغزلنا في رقم سطوره على بياض طروسه بين العوارض2 والخدود. وطالعنا مجموع محاسنه الذي لم ينس فعلمنا أنه للملوك تذكرة، وتبصرنا فيما أدهش من حكمه فرأينا المدهش في التبصرة، وقلنا هذه لمعة لو أدركها السراج لقصر لسانه وقال: سراج الملوك حرمته قوية، أو القاضي السعيد لقال: ما لسناء الملك بهجة عند هذه الأنوار المحمدية ... وقد تيقظت عيون عزمنا الشريف للجهاد وعن قريب تهدر مقل السيوف أجفانها، وتتجرد لقتال المشركين وقد تكنى لها النصر بأبيه فأيد سلطانها، وإذا قدحت سيوف الدولتين في عباب البحر على الكفار نارًا، تلا لسان النصر: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} 3. "ومن إنشاء الفاضل عن الناصر هنا ما يحسن أن يشنف به سمعه الكريم، فإنه عن أبي الفتوحات الذي مشى على هذا الصراط المستقيم" وهو: إذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي آلة المقيم الراتب4. وأعطاهم المراكب وهي آلة الظاعن5 الهارب، فقد علمنا لمن عقبى الدار، ومن ينقله الله تعالى انتقال قوم نوح من الماء إلى النار. فالجناب يوطن نفسه على حسن المآل في الحالين، ويعلم أنه من المكرمين في الدارين6، وقد تلمظت7 ألسن سيوفنا شوقًا لحلاوة نصره، وتحركت عيدان رماحنا طربًا عند سماع ذكره، ونفضت جوارح سهامنا ريش أجنتها لاقتناص تلك الغربان، وهامت فرساننا المؤيدية إلى منازل الأحباب لتريه من أعدائه مقاتل الفرسان، فإنه المجاهد الذي حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود، وكم أذاقهم الموت الأحمر، وكمال التدبيج يقول أهلًا بعيش أخضر يتجدد، وتتولد نصرتنا عنده برفع راية الفرح في كل وقت عليه مبارك، ويتأيد بعز نصرنا المؤيدي حتى يقول له لسان الحال: أعز الله أنصارك، فتقديمه العثماني من جهة الاستحقاق قد ثبت عندنا وتقرر، وهو اليوم إمام المجاهدين الذي ما صلت سيوفه في محراب القتال إلا قال مرقي النصر الله أكبر. والله
__________
1 الورود: المجيء.
2 العوارض: جمع عارض وهو صفحة الخد.
3 نوح: 71/ 26.
4 الراتب: الدائم الثابت، وعند المحدثين: ما يأخذه الموظف من أجر شهري لقاء عمله.
5 الظاعن: الراحل.
6 الدارين: الدنيا والآخرة.
تلمظ: السيف: خرج واهتز.(2/419)
يجريه على أجمل العوائد من هذا النصر، ليصير الكافرون في زلزلة من قارعة سيوفه بهذا العصر.
ومنه ما كتبته جوابًا عن مولانا السلطان الملك المؤيد -سقى الله عهده- عن مثال كريم ورد من قرى يوسف صاحب العراقين، وهو: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الجمالي اليوسفي، لا زالت زوراء العراق في أيامه القويمة مستقيمة الجانبين، وحلتها الفيحاء عالية المنار وشمل الدين بها مجتمعًا في الجامعين، وعراق العرب والعجم بارزين من محاسنه اليوسفية في حلتين، فلامية العرب تقول:
ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لديّ ومأكل
ولامية العجم تقول:
حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل
فأكرم بهما لامين دارا على وجنات الطروس لكمال المحاسن اليوسفية، وفتحت لها الميمات أفواه الشكر؛ لأنها من الأحرف المؤيدية، أصدرناها إلى المقر وسواجعها تغرد بالثناء بين أوراقها، وألسن الأقلام قد أودعت صدور طروسها سر أشواقنا عند انطلاقها، فإنها الصدور التي تعرب من نفثاتها عن ضمائر الأشواق، وإذا أطلقت من فض الختم خففت أجنحتها بذلك الثناء على الإطلاق، ونبدي لكريم علمه ورود البشير بالقرب اليوسفي، وقد حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف، وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف، وضاع نشرها1 اليوسفي، فقال شوقنا اليعقوبي: إني لأجد ريح يوسف، وتأملنا كريم مثاله فوجدناه قد مد أطناب المحبة وخيم على معاني المودة، وحام عليه صادي الأشواق فوجده منها قد أعذب الله في مناهل الصفاء ورده، وأومض البرق في الظلمات من رقم سطوره فما شككنا أنه نظم برده، فهو مثال يوسفي ولكن ظهر السر الداودي من فصل خطابه، وصدقنا رسوله لما جاءنا بكريم كتابه، والتفتت من كناس سطوره آرام الإيناس فاقتنصنا منها ما هو عن العين شارد، وألفت القلوب على الولاء فضربت الأعداء من جماد الجسد في حديد بارد، وأمست الدجلة والنيل لامتزاجهما بسلاف المحبة كالماء الراكد، وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا، وقد تعين على المقر أن يقول: أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، وسرتنا الإشارة الكريمة بالتمكين من أرض الأعداء ومطابقة الطول بالعرض، وعلمنا أن هذا الاسم الكريم قد
__________
1 ضاع نشرها: انتشر ريحها الطيب.(2/420)
شملته العناية قديمًا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} 1 وأما قرا عثمان فمقل سيوفنا ما غمضت عنه في أجفانها، وأنامل أسنتنا، ما ذكرت نوبته إلا شرعت في جس عيدانها، وجوارح سهامنا ما برحت تنفض ريش أجنحتها للطيران إليه، وإن كان معنى سافلًا فلا بد لأجل الغرض اليوسفي أن نخيم عليه، وننزل سلطان قهرنا بأرضه، ونغرس فيها عوامل المران2، وإن كانت من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يهمل إلا لاشتغال الدولتين بالدخول في تطهير الأرض من الخوارج، وإيقاع الضرب الداخل بعد جس العيدان في كل خارج، وقد آن سله لئلا يكون بين المحب والمحبوب رقيبًا، ولا بد أن يجانسه العكس ويرى ذلك قريبًا، ويدهمه من أبي النصر أبناء حرب شرف في أنساب الوقائع جدهم، ورد الجموع الصحيحة إلى التكسير فردهم، وإذا كثرت الخدود وتوردت بالدماء غردت بورق الحديد الأخضر مردهم3، وإذا امتدوا إلى أمد تلالهم حصنهم سورة الفتح قبل القتال، فإنهم مريدون ولهم شيخ منحه الله بكثرة الفتوح والإقبال، وإذا صرفوا الهمم المؤيدية لم تكن لهم حصونهم عند ذلك الصرف مانعة، ولم يسمع لساكنها مجادلة إذا صدموا بالحديد وتلت تلك الحصون الواقعة4، وإن كانت المنايا غابت عنه مدة، كلمته ألسنة سيوفهم وقالت حصرت، وإذا طرق بروجه منهم طارق رأى سماء تلك البروج قد انفطرت، وما خفي عن كريم علمه ما جمعه الناصر من الجموع التي مزقها الله أيدى سبأ، وكم سائل سأل وقد رآهم في النازعات عن ذلك النبأ.
وقد أشار بعض شعراء دولتنا الشريفة إلى ذلك بقصيدة كامل بحرها مديد، ولكن القصد هنا من أبيات تلك القصيدة:
يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر
والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر
فرج على اللجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر5
فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر6
وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر
وعى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر
__________
1 يوسف: 12/ 21.
2 المران: جمع مرانة وهي الرمح اللدن في صلابة.
3 المرد: جمع أمرد وهو الشاب لم تنبت لحيته بعد.
4 الواقعة: القتال، المجادلة، الحديد، الطارق، النازعات، النبأ: أسماء لسور من القرآن الكريم.
5 اللجون: البطيء الثقيل المشي، أو الورق اللزج: الملجون. وقد وردت في ما سبق "الملجون".
6 انبت: انقطع. الزحاف: من علل الشعر، وهو تغيير يلحق ثاني السبب من التفعيلة.(2/421)
وما خفي عن علمه الكريم أمر الذين نقضوا بيعتنا بعد الناصر فاشتروا الضلالة بالهدى، ودعوا سيوفهم الصقيلة لما حاق1 بهم المكر السيئ فأجابهم الصدا، ولم يكن لحرارة عزمنا الشريف عند عصيانهم البارد فترة2، حتى أظهرنا تلون الشام من دمائهم على تدبيج الدروع ألوان النصرة، وأخذوا سريعًا شبان حرب ما شابت عوارضهم إلا بغبار الوقائع، وحكم برشدهم ولم يخرجوا من تحت حجر المقامع3، وقد أسبع الله ظلال الملك وخيم به على الدولتين، ولم يظهرلمحراب بهجة إلا بهاتين القبيلتين، ولو صلت السيوف لغيرهما ما قبلت، أو صرفت العوامل4 للإعراب عن سواهما ما عملت، وقد فهمنا كريم الالتفات إلى أن تدار كئوس الإنشاء بيننا ممزوجة بصافي المودة، وعلمنا أنها أحكام صحيحة في شرع الأخوة. وهذه الأحكام عندنا عمدة، وتالله لقد سابق القصد اليوسفي بسهام مراده إلى الغرض، وقضى حاجة في نفس يعقوب لي عنها عوض، ولم يبق إلا اتصال شمل الأوصال بكل رسالة سطور الأخوة في رقاعها محققة، وتصديق ما يقصه في الجواب فإن القصة اليوسفية ما برحت مصدقة، والله تعالى يمتع الأسماع والأبصار بمشاهدة مثلته وطيب أخباره، ويفكهنا من بين أوراقها بشهي ثماره.
ومما أنشأته بالديار المصرية، وحصل إجماع الأمة على أنه من الأفراد، تقليد مولانا قاضي القضاة جلال الدين شيخ الإسلام البلقيني -نور الله ضريحه- بعد عزل الهروي، ويوم قراءته بالجامع المؤيدي أرخه المؤرخون، وذكروا أنه لم يتفق بملك مصر يوم نظيره، وهو: الحمد لله الذي أبان فضل العرب على العجم في الكتاب والسنة، وأظهر جلال سراجهم المنير فأوضح بحسن تدريبه طريق الجنة، وأزال ظلم الجهل بنور هذا الجلال فله الحمد على هذه المنة، ونكرر حمده على نصرة أصحاب الشافعي وعود جيرته إلى منازلها العالية، ونشكره على نيل الغرض بسهام ابن إدريس فمن جهل أحكام القضاء أمست عليه قاضية، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعين بحسن أدائها على القضاء والقدر، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي من قابل شريعته المطهرة بدنس الجهل فقد كفر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أزالوا بفصاحتهم
__________
1 حاق: أحاط وطوّق.
2 فترة: وهن وضعف.
3 المقامع: جمع مِقمعة وهي خشبة أو حديدة في طرفها سلك معدني أو خيط يضرب بها الحيوان والإنسان ليُقْمَع ويذل.
4 العوامل: مصطلح نحوي يعني الكلام الذي يسبب رفعًا أو نصبًا أو جرًّا في غيره من الكلام، كالفعل مثلًا يعمل الرفع في الفاعل والنصب في المفعول به، والمبتدأ يعمل الرفع في الخبر، بينما الإبتداء يعمل الرفع في المبتدأ ... إلخ.(2/422)
العربية كل عجمة، وتميزوا على العجم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وهذا التمييز نصبه مرفوع على كل أمة، صلاة نسن بها سيوف السنة على من تسربل بدروع ضلاله، ونقيم حدودها على من بدل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وجهل أسماء رجاله، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فالهناء بنصرة هذا الدين القيم بين هذه الأمة مشترك، وكيف لا وقد ظهر جلاله مقمرًا وأنشدوا:
يا ليل طل أو لا تطل ... فليس نرعى قمرك
وقد حلا مكرر الحمد بنشر الأعلام المؤيدية على أئمتنا الأعلام2، وحلت أيضًا مواقع التورية بنصرة شيخ الإسلام، فهو الليث الذي كان لظما العلماء إلى إمامهم نعم الغوث والغيث، حتى تأيدوا بمؤيدهم وأعز الله أنصارهم بالشافعي والليث، حجبناه عن غيوم العزل، وقلنا وقد ساعدنا رأينا الشريف في إظهاره:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل3
وولى غيره فأنشد كل عالم أظلم ضوء نهاره:
ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأنذال والسفل
واعتلت كتب العلم فقالت وعيون سطورها باكية:
لعل إلمامة بالجذع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي
وأنشد لسان حال شيخ الإسلام وقطوف قربه دانية:
تقدمتني رجال كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل
وأشار إلينا وقال وخواطرنا الشريفة بإشارته راضية:
لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبّه لي
فتنبهنا له وقلنا لضده وقد أهبطناه من تلك الرتبة العالية:
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقًا ... في الأرض أو سلمًا في الجو فاعتزل
وكيف يطلب من نار خامدة هدى، أو يجعل السراب ماء، وإذا دعونا الري جاوبنا الصدى، ويأبى الله أن يطابق سحبان بباقل، أو يجاري فارس العلم براجل:
ومن يقل للمسك أين الشذى ... كذبه في الحال من شما
__________
1 الزخرف: 43/ 3.
2 الأعلام: الفطاحل الهداة.
3 العطل: عدم التزين. والخطل: خطأ الرأي.(2/423)
وتالله لقد زادنا بحجبه في غيوم العزل علمًا بعلو مقداره، وكان عزلًا أظلمت بسببه الدنيا إلى أن من الله على المسلمين بإبداره، وقالت الأمة ذلك ما كنا نبغي، واستوفى كل عالم شروط المحبة واستوعب، وعلمنا أن الحكم العدل حكم بتقديم هذا الإمام بالموجب، أنلنا وظيفته غيره فزلزلت الأرض زلزالها، وقلنا يخف على قلبنا فأخرجت الأرض أثقالها، وأظهرنا جلال العرب فأطلقوا أعنة بلاغتهم في ميادين الفصاحة، وما أحقهم هنا بقول الفاضل: وتناجدت أهل نجد فكل صاح يا صباحه، وعلمنا أن هذا فضل رفل به أبناء العرب في حلل التقديم، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وامتلأ صحن جامع القلعة بحلاوة هذه البشرى، وهلل مؤذنوه وذكروا طلعته الجلالية فكبروا وأنشدوا:
لو أن مشتاقًا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وأزهرت هذه البشرى في ربيع ولكنه ربيع الأبرار الذي نزه الله روحه وريحانه عن كل نمام، وصان فيه المسلمين ممن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام. ونشر الله أعلام كتب العلم وزاد الله بالسيف المؤيدي إسعافها. وكانت ستور الجهل قد أسبلت على التفاسير فأظهر السر للآي كشافها، أما القراءات فهي في قرى1 شيخ الإسلام وفضله فيها عاصم من الجهل ونافع2 وأما الحديث فهو مجلي مبهماته بنور جلاله الساطع. وأما العربية فقد ظهر بعد وعر العجم تسهيلها، وشرعت بيوت العرب لشواهدها وأكرم نزيلها. وأما المعاني فقد أظهر الله بيانها وجليت بها عروس الأفراح واهتدينا بنور جلالها ففتحت لنا أبوابها بغير مفتاح. وأما المنطق فمقدمات منطقه العذب أرتنا نتائجه يقينًا، وأما العقليات فما رأينا لمن ناظره فيها في هذه المدة عقلًا ولولا الحياء لقلنا ولا دينا، وها هو قد نبه الفقه من سنة الغفلة بعدما أمرض الجهل عيونه وأرمد، والحاوي أظهر ما حواه من العلم بعدما كان هلك أسى وتجلد، والروضة أزهرت في حدائق هذه المسرة بين أوراقها فأينعت، ومدة الشافعية أصول دوحتها فتفرعت، وظهرت رفعة الرافعي في أفق كماله، ونور الله ضريح الشافعي بنور سراجه وبهجة جلاله.
"ولما كان" الجناب الكريم الجلالي هو الذي ناظرناه بغيره فقال نور الشريعة وهو أشهر من نار على علم:
__________
1 قِرى: طعام الضيف أو قراءة.
2 عاصم ونافع: من المقرئين الأفذاذ.(2/424)
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
فعلمنا أنه حجة للشافعي الذي منه الاستقاء وإليه منتهى السؤال، وما أبدر في أفق درس لا أزال ظلم الشك بأنواره وأسفر أبداره عن التتمة والإكمال، وهو أبو العلماء الذي ولد من الأم أفراحهم، وأبو المهمات الذي شهر من العدة الكاملة في ميدان الفرسان سلاحهم، وإليه انتهت الغاية فإنه ما برح يأتينا في وجيز تقريبه بالعجاب، ويغنينا عن موضح القشيري فإنه يغذينا في إبانته باللباب.
اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعيده إلى منال شرفه بعد التحجب وها هو قد ظهر، ويتسلسل في أيامنا الشريفة عند الرواة حديث ابن عمر، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي السيفي، لا زالت الشافعية في أيامه الشريفة بجلالهم في ترشيح بهجة وابتهاج، وثبت الله القواعد وأقامها في ملكه عي التحرير ومشى الرعية فيها على أوضح منهاج، أن تفوض إلى الجناب المشار إليه وظيفة كذا وكذا. وقد وقع التمويه في الفروق بينه وبين غيره عند أهل التبصرة والهداية وهو نهاية المطلب، وعيون المسائل وتاج رءوسها والمذهب الذي تهذيبه في أدب القاضي كفاية، وهو البحر الذي ما دخلنا بسيطه المبسوط، إلا قالت التورية إنه في البسيط كامل، ولا نظرنا إلى حليته الجلالية إلا غنينا عن المصباح بنوره الشامل، وقد ميزناه على مناظريه لما أقروا له بالتعجيز، وقرت عيون ابن البارزي -نور الله ضريحه- بهذا التمييز، وألغينا ذكر علوم يجل قدره عن نسبتها إليه، ولكن ثغور سيناتها تبسم عند ذكره وأفواه ميماتها تكثر الثناء عليه، فليتلق ذلك فإنه العزيز عندنا والمنتقى لهذا التشريف الذي هو ديباجة رقمه، وإذا ذكرنا الأصول فأصوله محفوظة، وهو المعتمد عليه في التمهيد والمستصفى ببديع عمله، ولو عاشن ابن الحاجب ما تغزل في رفع حاجبه وخفض له جانبه، وعلم أن جلالنا عين الإسلام فلم نرفع على العين حاجبه، والوصايا كثيرة ولكن جواهر ذخائرنا تلتقط من إملائه وأماليه، وهو جامع مختصراتها ومظهر زوائدها ببيانه ومعانيه، لا زال حديث فضله يتسلسل مع الرواة ويسند، ولا برح أجل من أوضح الرسالة في مسند محمد وأحمد.
"ورسم" لي في الأيام الشريفة المؤيدية، سنة تسع عشرة وثمانمائة، أن أنشئ رسالة بوفاء النيل المبارك لم أسبق إليها، ولا حام طائر فكر عليها، وأحضر مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصر محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية -تغمده الله بالرحمة والرضوان- قطعة من إنشاء القاضي الفاضل بوفاء النيل وقرئت على المسامع الشريفة المؤيدية، وحذرت من التعرض إلى شيء من ألفاظها ومعانيها فأنشأت رسالة حكم لأبي بكر بها على كل فاضل بالتقديم، وإن(2/425)
كان لسان القلم قد طال فأنا أقطه1 ههنا تأدبًا مع عبد الرحيم، وقد وصلنا ههنا شمل القطعتين، ليتفكه المتأمل في جنى الجنتين، ويتنزه نظره في حدائق الروضتين، ويطرب لسجع حمام الدوحتين.
"قال القاضي الفاضل": نعم الله سبحانه وتعالى من أصوبها بزوغًا، وأضفاها سبوغًا، وأصفاها ينبوعًا، وأسناها منفوعًا، وأمدها بحر مواهب، وأضمنها حسن عواقب، النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الآمال ويقبضها مده وجزره، ويربي النبات حجره، ويجري على سواد الأرض بفضته البيضا، ويهنأ بيده الخصيبة نقب الجرب من الحربي، ويحيي مطلعه أنواع الحيوان، ويجني ثمرات الأرض صنوان وغير صنوان، وينشر مطوي حريرها وينشر مواتها، ويوضح معنى قوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ، وكان وفاء النيل المبارك في تاريخ كذا وكذا، فأسفر وجه الأرض وإن كان قد تنقب، وأمن يوم بشراه من كان خائفًا يترقب فرأينا الإبانة عن لطائف الله سبحانه وتعالى وقد حققت الظنون، ووفت بالرزق المضمون، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وقد أعلمناك لتوفي حقه من الإذاعة، وتبعده من الإضاعة، وتتصرف فيه على ما يصرفك من الطاعة، وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته، وتمده بإيصال رسمه إليه على عادته.
"فقلت بعد الفاضل": ونبدي لعلمه ظهور آية النيل المبارك الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزيادة، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة، وحلق أصابعه ليزيل الإبهام فأعلن المسلمون بالشهادة، كسر بمسرى فأصبح كل قلب بهذا الكسر مجبورًا، وأتبعناه بنوروز2 ما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مسكوًّا، دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع3 عليه، وقبل ثغور الإسلام وأرشفها ريقه الحلو فمالت بأعطاف غصونها إليه وشبب خريره في الصعيد بالقصب، ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب، فضرب الناصرية واتصل بأم دينار، وقلنا إنه صبغ بقوة لما جاء وعليه الاحمرار، وأطال الله عمر زيادته فتردد الناس على الآثار، وعمته البركة فأجرى سواقي مكة إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار، وحصن مشتهى الروضة في صدره وحنى عليه حنوّ المرضعات على الفطيم.
وأرشفه على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم4
__________
1 قطّ: قصّ وقصّرَ.
2 النوروز: والنيروز: عيد الربيع عند الفرس وهو رأس السنة الفارسية.
3 القِلْع: الصدرية والرجل الذي لا يثبت على ظهر الخيل. وبفتح القاف وكسر العين: الذي لا يثبت في البطش ولا على السرج، والرجل البليد.
4 الزلال: الماء الصافي. وأرشف: سقى.(2/426)
وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات، وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب، فأرضع جنين النبت وأحيا لها أمهات العصف والأب1، وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتيمه العقيقية، ولبس الورد تشريفه وقال أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية، ونسي الزهري بحلاوة لقائه مرارة النوى، وهامت به الشقراء فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوا، واستوفت الأشجار ما كان لها في ذمة الري من الديون، ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكّر والليمون، وانجذب إليه الكباد2 وامتد ولكن قوي قوسه لما حظي منه بنصيب سهم لا يرد، ولبس شربوش الأترج3 وترفع إلى أن لبس بعده التاج، وفتح منشور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج. فتناول معالم الشنبر4 وعلم بأقلامها ورسم لمحبوس كل سد بالإفراج، وسرح بطائق السفن فخفقت بمخلق بشائره، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره، وحظي بالمعشوق وبلغ من كل أمنية مناه، فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه للمطالعة بعدما تفقه وأتقن باب المياه، ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الحور، وزاد بسرعته فاستحلى المصريون زائده على الفور. ونزل بركة الحبش فدخل التكرور5 تحت طاعته، وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه، وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه، وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله، فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله، وأمست واوات دوائره على وجنات الأرض عاطفة، وثقلت أردافه على خصور الجواري فاضطربت كالخائفة، ومال إليه باسق النخل فلثم طلعه وقبل سوالفه، وأمست سود السفن كالحسنات في حمرة وجناته، وكلما زاد زاد الله في حسناته، فلا فقير سد إلا وحصل له من فيض نعمائه الفتوح، ولا ميت خليج إلا عاش به ودبت فيه الروح.
ولكنه احمرت عيونه على الناس بزيادة وترفع، فقال له المقياس عندي قبالة كل عين أصبع، فنشر النيل أعلام قلوعه وحمل وله من ذلك الخرير زمجره، ورام أن يهجم
__________
1 الأب: ورد ذكره في قوله تعالى، في سورة عبس: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا،.... وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 80/ 27-30. وهو "المرعى لأنه يؤب أي يؤم أو الفاكهة اليابسة تؤب أي تعد للشتاء" "تفسير الزمخشري، ص549".
2 الكبّاد: عامية معناها الأترج ويقال له أيضًا الترنج وهو ثمر شبيه بالليمون.
3 الشربوش: لغة في الطربوش، والأترج: الكبّاد.
4 الشنبر: لم نعثر على هذه اللفظة في ما بين أيدينا وربما كانت بمعنى "القصب"
5 التكرور: لقب حاكم الحبشة في ذلك الوقت.(2/427)
على عير بلاده فبادر إليه عزمنا المؤيدي وكسره، وقد أثرنا المقر بهذه البشرى التي عم فضلها برًّا وبحرًا، وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالًا وصدرًا، ليأخذ حظه من هذه البشرى البحرية بالزيادة الوافرة وينشق من طيها نشرًا، فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاسًا عاطره، والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كل وقت مشنفًا، ولا برح من نيلنا المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا.
ومما انفردت بإنشائه: رسالة السكين، فإن الشيخ جمال الدين بن نباته سبق إلى رسالة السيف والقلم، وتقدمه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني إلى رسالة القوس. وكتاب الإنشاء لا بد لهم من سكين فقلت: وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفاء، وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفاء، وتالله ما غابت إلا وصلت الآلام من تعثرها إلى الجفاء زرقاء1، كم ظهر للبيض منها ألوان، خرساء ومن العجائب أنها لسان كل عنوان، ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب، وذل بعد أن خضعت له الرءوس والرقاب. كم أيقظت طرف القلم بعدما خط، وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط، وكم وجد بها الصاحب في المضائق نفعًا، وحكم بحسن صحبتها قطعًا، ماضية العزم قاطعة السن فيها حدة الشباب من وجهين؛ لأنها بالناب والنصاب معلمة الطرفين، وأنملة صبح تقمعت بسواد الدجى، فعوذتها بالضحى والليل إذا سجى، ولسان برق امتد في ظلمات الليل، فتنكرت الأشعة الأنجم وما عرف منها سهيل2، هذا وتقطيعها موزون إذ لم يتجاوز في عروض ضربها الحد، ومعلوم أن السيف والرمح لم يعرفا غير الجزر والمد.
من أجل ذا تدخل في مضائق ليس فيها قط مدخل، وكلما تفعله ترجزه والرمح في تعقيده مطول. إن هجعت بجفنها كانت أمضى من الطيف، وكم لها من خاصة جازت بها الحد على السيف. تنسى حلاوة العسال3 فلا يظهر لطوله طائل، ويغني عن آله الحرب بإيقاع ضربها الداخل. إن مرت بكلها المحلى تركت المعادن عاطلة، ولم يسمع للحديد في هذه الواقعة مجادلة. شهد الرمح بعدالته أنها أقرب منه إلى الصواب، وحكم لها بصحة ذلك قبل أن يستكمل النصاب. ما طال في رأس القلم شعرة إلا سرحتها بإحسان، ولا طالعت كتابًا إلا أزالت غلطه بالكشط من رأس اللسان.
__________
1 رزقاء: نافعة.
2 سهيل: نجم يظهر في أواخر شهر تموز يقولون إن خروجه دليل على نضوج الفواكه وانقضاء القيظ، وفي المثل: إذا طلع سهيل رفع كيل، ووضع كيل يضرب في تبدل الأحكام.
3 العسّال: الرمح. وهو في الأصل الذي يستخرج العسل.(2/428)
تعقد عليها الخناصر لأنها عِدَة، وتالله ما وقعت في قبضة إلا أطالت لسانها وتكلمت بحدّة. إن أدخلت إلى القراب كانت قد سبكت1 على الدخول، أو أبرزت من غيمه كان على طلعتها قبول. تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس، وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس2. وكم لها من عجائب صار بها جدول السيف في بحر غمده كالغريق، ولو سمع بها قبل ضربه ما حمل التطريق, فلو عارضها أبو طاهر لعراك من قوسه الأذنين، وقال له جحدت رسالتك يا ذا القرنين. فإن جذبت إلى مقاومتها وكان لك يد تمتد، وصلت السكين إلى العظم وصار عليك قطع وانتهى أمرك إلى هذا الحد. وهل تعاند السكين صورة ليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ولو لمحها الفاضل لحقق قوله إن خاطر سكينه كل، أو أدركها ابن نباتة ما أقر برسالة السيف وفل، وقال لقلم رسالته أطلق لسانك بشكر مواليك، وأخلص الطاعة لباريك، وما قصد المملوك الإيجاز في رسالة السكين ونظمها، إلا لتكون مختصرة كحجمها، لا زالت صدقات مهديها تنحف بما يذبح نحر فقري، وتأتي بما يشفي وإيهام التورية يقول ويبري.
قلت: الذي أوردته ههنا من إنشائي وإنشاء غيري، كان من الواجب؛ لأن الباب الذي تحتم عليّ شرحه وبيانه وإيضاحه، باب التسجيع، وهو عبارة عن علم الإنشاء، وقد تقدم تقرير السجع وأقسامه، وعلم أنها أربعة أقسام، وهي المطرّف والموازي والمشطر والمرصع، وذكرت فيه الفوائد التي منها أحكام الفواصل، وأوردت المباحث في الإنشاء الذي فيه نظر بالنسبة إلى الحالة التي هي المطلوب، وأوردت من بديع الإنشاء وغريبه، هذه النبذة التي هي من إنشائي وإنشاء غيري، ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك ما يذبل عنده زهر المنثور، ويقرط3 في قلائد النحور، ومن أراد البحث عن صحة ذلك فعليه بمصنفي المسمى: "بقهوة الإنشاء"، فإنه خمسة مجلدات، منها مجلد أنشأته بالبلاد الشامية، قبل أن أستقر منشئ دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية، وثلاثة مجلدات أنشأتها عن مولانا السطان الملك المؤيد -سقى الله ثراه- ومجلد أنشأته عن الملك المظفر والملك الظاهر والملك الصالح، وعن مولانا السلطان الملك الأشرف، وعن مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله -زاده الله شرفًا وتعظيمًا. انتهى.
__________
1 سبكت: جبلت عليه وفُطِرت فهو خُلق منها.
2 الخمس: يعني الصلوات اليومية، والمواظبة عليها: المداومة.
3 يُقرَّط: يجعل أقراطًا. القلائد: جمع قلادة وهي الحلية تلبسها المرأة في عنقها. والنحر: موضع القلادة "العنق وما يليه من الصدر".(2/429)
والفرق بين التسجيع والتجزئة، اختلاف زنة أجزائه ومجيئه على قافية واحدة، من غير عدد معين محصور. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسجيع قوله:
فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم
وبيت العميان:
من لي بمستلم لليد معتصم ... بالعيش لا مسئم يومًا ولا سئم1
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
كم قاتل بصحيح الجمع مقتحم ... وقائل لنظيم السجع ملتزم
قلت: الذي يظهر لي أن الشيخ عز الدين لم يمش في نظم بديعيته مشي محقق، لأنه تقرر عنده وعند الجماعة في شروحهم: أن التسجيع هو أن يأتي المتكلم في أجزاء بيته أو كلامه أو في بعضها، بأسجاع غير متزنه، والشيخ أتى في شطر بيته الأول بأسجاع قابل كلًّا منها في الشطر الثاني بوزنه، مثل: قاتل وقائل، وصميم ونظيم، وجمع وسجع، ومقتحم وملتزم، وهذا هو الترصيع بعينه. فإن الترصيع من شرطه أن تقابل كل لفظة من البيت بوزنها ورويها وليته نقل هذا البيت إلى الترصيع فإن بيته في الترصيع ناقص بالذي أظهره، مع قصر باعه فيه من الحشو، وهو:
كم رصعوا كلِمًا من درّ لفظهم ... كم أبدعوا حِكمًا في سر علمهم
مع أنه نظر في بيت الشيخ صفي الدين الحلي، وهو:
فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم
ورأى اختلاف الوزن بين ملتزم ومعتصم.
وبيت بديعيتي أقول فيه:
سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم
__________
1 المسئم: العمل المتعب. والسئم: الملول التعِب.(2/430)
ذكر التسميط:
تسميط جوهره يلقى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي1
هذا النوع -أعني التسميط- هو أن يجعل الشاعر كل بيت، بسمطه، أربعة أقسام ثلاثة منها على سجع واحد، بخلاف قافية البيت، كقول مروان بن أبي حفصة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
والفرق بين التسميط والتسجيع، كون أجزاء التسميط غير ملتزم أن تكون على روي البيت، وكون أجزائه متزنة فيكون عددها محصورًا، والفرق بين التفويف وبينه تسجيع بيت التسميط. قال ابن أبي الأصبع: ما خالفوا بين قافية البيت وأسجاع التسميط إلا لتكون القافية كالسمط، والأجزاء المسجعة بمنزلة حب العقد؛ لأن السمط يجمع حب العقد، والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع ويسمى تسميط التبعيض، ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع، وهو أن تسجع جميع أجزاء التفعيل على روي يخالف القافية، كقول ابن أبي الأصبع:
وأسمر مثمر من مزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن
فجاءت جميع أجزاء التفعيل من هذا البيت، من سباعيها وخماسيها، مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت.
__________
1 التسميط: في اللغة أن تجعل الجواهر سماطًا أو عقدًا. والرشف: الشرب على مهل. والكوثر: النهر العذب الماء الصافي. والظمي: الظامئ: العطشان.(2/431)
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسميط:
فالحق في أفق والشرك في نفق ... والكفر في فرق والدين في حرم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
تسميط ذي أدب تنظيم ذي أرب ... تحقيق ذي غلب بالنصر ملتزم1
وبيت بديعيتي أشرت فيه إلى نظمي ونثري، ترفعًا بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم- بقولي:
سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمتي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم
وقلت بعده مشيرًا إلى النظم:
تسميط جوهره يلفى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي
التورية في التسميط هنا منتظمة في سلك الجواهر، وقد تقرر أن السمط هو الذي يجمع حب العقد، ولهذا قلت: تسميط جوهره، والمناسبة البديعية حاصلة بقولي: يلفى بأبحره، فمحاسنه غير خافية بعد ذكر الجوهر، مثل ذلك الرشف للكوثر والري للظامئ، وتمكين القافية ظاهر. والله أعلم.
__________
1 الأرب: الحاجة، والبغية والأمنية، والمهارة.(2/432)
ذكر الالتزام:
لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه مدح سواه ليس من لزمي1
هذا النوع الذي سماه قوم: الالتزام، ولزوم ما لا يلزم، ومنهم من سماه: الإعنات، والتضييق، وهو في الاصطلاح أن يلتزم الناثر في نثره، أو الناظم في نظمه، بحرف قبل حرف الروي أو بأكثرمن حرف، بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف، وقد جاء في الكتاب العزيز في مواضع تجل عن الوصف، كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 2 وكقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} 3 ومثله قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} 4، وأما الشعراء فأبو العلاء كان أكثرهم في هذا النوع التزامًا، حتى إنه صنع كتابًا وسماه: "اللزوميات" جاء فيه بأشياء بديعة، إلا أن فيه من عثرات لسانه كثيرًا، كقوله:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يُعادُ لنا سبك
ومنه قوله:
لا تطلبن بآلة لك رفعة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل
__________
1 ملتزمي: التزم به، واجبي. واللزم: الواجب.
2 التكوير: 81/ 16.
3 القلم: 68/ 2، 3.
4 الانشقاق: 48/ 17، 18.(2/433)
ومنه قوله:
يقولون في البستان للعين لذة ... وفي الراح والماء الذي غير آسن1
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على لزوم ما لا يلزم قوله:
من كل مبتدر للموت مقتحم ... في مارق بغبار الحرب ملتجم2
وبيت العميان:
وميل سمعي لنيل القرب من شيمي ... وسيل دمعي بذبل الترب كالديم3
وبيت الشيخ عز الدين قوله:
لي التزام بمدحي خير معتصم ... بربه وارتباط غير منفصم
وبيت بديعيتي أقول فيه:
لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدح سواه ليس من لزمي
__________
1 آسن: الماء: فسد وتغير لونه وطعمه وريحه. أو ركد.
2 المبتدر: الذي يبادر إلى الأمر ويندفع إليه. المارق: من الدين الخارج عنه، ومن الغبار الخارج منه.
3 الشيم: جمع شيمة: وهي الخلق الحسن، والخصلة النبيلة.(2/434)
ذكر المزاوجة:
إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح منّ ونجّاني من النقم
هذا النوع، سمّوه المزاوجة والازدواج، وهو في اللغة مصدر زاوج بين الشيئين، إذا قارب بينهما، وفي الاصطلاح قال السكاكي ومن تبعه: هو أن يزاوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزاء، كقول البحتري:
إذا ما نهى الناهي فلج لي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر1
ومنه قوله:
إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها2
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
ومن إذا خفت في حشري فكان له ... مدحي نجوت وكان المدح معتصمي
وبيت العميان:
إذا تبسم في حرب وصاح بهم ... يبكي الأسود ويرمي اللسن بالبكم3
__________
1 لجّ: ألح. وأصاخ: أنصت وسمع كلامه وأطاعه. والواشي: النمّام الذي ينقل الكلام بين اثنين وأكثر بهدف إفساد ذات البين.
2 احتربت: تحاربت. والقربى: الأقرباء.
3 اللُسن: الفصحاء. البَكَم: العي والخرس.(2/435)
وبيت الشيخ عز الدين:
إذا تزاوج خوف الذنب في خلدي ... ذكرت أن نجاتي في مديحهم
وبيت بديعيتي أقول فيه:
إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح منّ ونجّاني من النّقم1
__________
1 منَّ: تفضَّل. النقم: الانتقام.(2/436)
ذكر التجزئة:
ورّيت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي
التجزئة: هي أن يأتي المتكلم ببيت ويجزئه جميعه أجزاء عروضية، ويسجعها كلها على وزنين مختلفين جزءًا بجزء، أحدهما على روي يخالف روي البيت، والثاني على روي البيت، كقول الشاعر:
هندية لحظاتها خطية ... خطراتها دارية نفحاتها1
وبيت الشيخ صفي الدين:
ببارق خذم في مارق أمم ... أو سابق عرم في شاهق علم2
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله:
ذي فضل أندية عدل تجزئة ... فالذئب في ظلم يمشي مع الغنم
الشيخ عز الدين سها في هذا البيت عن رتبة التجزئة في الشطر الثاني، بالنسبة إلى التقرير، في شرط الرتبة.
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى ما أبديته من المحاسن في المديح النبوي، بقولي:
وريت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي
__________
1 هندية: نسبة إلى الهند. خطية: نسبة إلى الرماح الخطية أي تفعل فعلها. ودارية: نسبة إلى داريا.
2 البارق: السيف. الخذم: القاطع. المارق: الخارج من الشيء. الأمم: المأموم وهو المضروب على أم رأسه. السابق: الفارس. العرم: السّريع الطعن الشرس.
الشاهق: الشديد الارتفاع. والعلم: الجبل.(2/437)
ذكر التجريد:
لي المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي1
التجريد، عرفه صاحب التلخيص بأن قال: هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله، وفائدته المبالغة في تلك الصفة، كقولك: مررت بالرجل الكريم، والنسمة المباركة. فجردت من الرجل نسمة متصفة بالبركة، وعطفتها عليه كأنها غيره، وهي هو.
ومن أمثلته الشعرية قول الشاعر:
أعانق غصن البان من لين قدّها ... وأجني جنيَّ الورد من وجناتها
فإنه جرد من قدها غصنًا ومن وجنتيها وردًا.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله:
شوس ترى منهم في كل معترك ... أسد العرين إذا حر الوطيس حمي2
والشيخ صفي الدين جرد في بيته أسد العرين من الشوس.
وبيت العميان في بديعيتهم:
من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن لفظه در لمنتظم
__________
1 الكمي: الفارس المغوار.
2 الشوس: والأشاوس: الشجعان. العرين: بيت الأسد. الوطيس: المعركة.(2/438)
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
من لفظه واعظ بالنصح جرد لي ... يا نفس توبي وللتجريد فالتزمي
وبيت بديعيتي في المديح النبوي قولي:
لي في المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي(2/439)
ذكر المجاز:
وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم
المجاز: هو عبارة عن تجوز الحقيقة، فإن المراد منه أن يأتي المتكلم بكلمة يستعملها في غير ما وضعت له في الحقيقة في أصل اللغة، هذا رأي السكاكي وأصحاب المعاني والبيان، وقال البديعيون: المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة، بحيث يأتي المتكلم إلى اسم موضوع لمعنى فيخصه، إما أن يجعله مفردًا بعد أن كان مركبًا، أو غير ذلك من وجوه الاختصاص.
والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة، كالاستعارة والمبالغة والإرداف والتمثيل والتشبيه، وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد. وهذه الأنواع وإن كانت من المجاز، فكونها متعددة لخلوها عن معنى زائد عن تجوز الحقيقة، كالاستعارة والتشبيه وبقية ما ذكره من الأنواع، فلما لم يكن له غير تجوز الحقيقة اختصارًا، أفرد باسم المجاز إذ لا يليق به غيره.
وعمل الشريف الرضي كتابًا سماه: "مجاز القرآن" ومات قبل استيفائه، ومن أمثلته الشعرية قول العتابي:
يا ليلة لي بحوّارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير
قوله: ساهرة، مجاز.
وبيت الشيخ صفي الدين قوله:
صالوا فنالوا الأماني من مرادهم ... ببارق في سوى الهيجاء لم يشم(2/440)
المجاز في بيت الشيخ صفي الدين في لفظة بارق.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله:
أحيا فؤادي مجازي نحو حجرته ... وقد دهشت لجمع فيه مزدحم
وبيت بديعيتي تقدمه قولي: إني تجردت لمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وقلت بعده في المجاز:
وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم(2/441)
ذكر الائتلاف:
وهو أربعة أنواع هي:
1- ائتلاف اللفظ مع المعنى:
تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم
هذا النوع ذكره قدامة -أعني ائتلاف اللفظ مع المعنى- وترجمه منفردًا ولم يبين معناه وشرحه الآمدي وأطال، ولم توف عبارته بإيضاحه. وأوضحه ابن أبي الأصبع وقال: مختصر عبارة هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعاني المطلوبة ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى، إن كان اللفظ جزلًا كان المعنى فخمًا، أو رشيقًا رقيقًا كان المعنى غريبًا، كقول زهير بن أبي سلمى:
أثافيّ سفعًا في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم1
فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا انعم صباحًا أيها الربع واسلم
فإن زهيرًا قصد تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى غريب، لكن المعنى غير غريب، فركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما جنح في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأوّل وأغرب، ركبه من ألفاظ مستعملة معروفة.
وبيت الحلي في بديعيته قوله:
كأنما حلق السعدي منثرًا ... على الثرى بين منقض ومنقصم
__________
1 الإثافيّ: حجارة الموقد. السفع: تغير اللون. المعرّس: المنزل، أو مكان التعريس وهو التجمع، والمعرس: هو الدار أو مكان الخيمة، وهنا مكان القدر أو الموقد. والمرجل: القدر يطبخ به. النؤي: نهير صغير يحفر حول الخيمة ليمنع دخول ماء المطر إليها. الجذم: البقية والأثر. تثلم: تشقق وتكسّر وخرب.(2/442)
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ... تبارك الله منشي الدرّ في الكلم
بيت الشيخ عز الدين في هذا النوع عامر، وبيت الشيخ صفي الدين خراب؛ لأنه غير صالح للتجريد، ولم يظهر له معنى حتى يأتي بالمشبه به في البيت، وعلى هذا التقرير لم يحصل في بيته ائتلاف بين اللفظ والمعنى.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
تآلف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم
2- ائتلاف اللفظ مع الوزن:
واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم
هذا النوع، أعني ائتلاف اللفظ مع الوزن، قال قدامة: هو أن تكون الأسماء والأفعال تامة لم يضطر الشاعر في الوزن إلى نقصها في البنية، ولا إلى الزيادة، ولا إلى التقديم والتأخير. ومنهم من قال: هذا النوع لا مثال له بصورة معينة؛ لأنه عبارة عن أنه لا يضطر إلى ما لا يلزمه منه فساد صورة المعنى وذهاب رونق اللفظ، كقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا ملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
وفي رواية: أخو أمه: فإن اضطرار الوزن حمله على رداءة السبك، فحصل في الكلام تعقيد يمنع من فهم معناه بسرعة، ولو قال: ما مثله إلا مملك أبوه يقارب خاله، لسهل مأخذه وقرب تناوله.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله:
في ظل أبلج منصور اللواء له ... عدل يؤلف بين الذئب والغنم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
أؤلف اللفظ مع وزن بمدحة مو ... لانا وذم عدوّ بين الثلم
قلت: ثقل الهمزة في اللفظة أؤلف، والوقوف لتحرير الوزن عند قوله: بمدحة مولانا، كان سببًا في عدم ائتلاف اللفظ مع الوزن في بيت الشيخ عز الدين(2/443)
وبيت بديعيتي قلت فيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قولي فيه في ائتلاف اللفظ مع المعنى:
تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم
وقلت بعده:
واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم
3- ائتلاف المعنى مع الوزن:
والوزن صح مع المعنى تألّفه ... في مدحه فأتى بالدرّ في الكلم
هذا النوع -أعني ائتلاف المعنى مع الوزن- هو أن تأتي المعاني في الشعر صحيحة، لا يضطر الشاعر في الوزن إلى قلبها عن وجهها، ولا إلى خروجها عن صحتها، كقول عروة بن الورد:
فإني لو شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق1
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما يطيق2
فإنه أراد أن يقول: فديت نفسي بنفسي ومالي، فألجأته ضرورة الوزن إلى قلب المعنى. ومهما كان الشعر سليمًا من مثل هذا، كان الشعر الذي ائتلف معناه مع وزنه.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
من مثله وذراع الشاة حذره ... عن سمه بلسان صادق الرتم3
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
تؤلف اللفظ والمعنى مدائحه ... فللمعاني ترى الألفاظ كالخدم
قلت: بيت الشيخ صفي الدين، في هذا النوع، قاصر عن بيت الشيخ عز الدين فإن الشيخ عز الدين أتى أولًا بالانسجام والسهولة مع التورية بتسمية النوع وتمكين القافية، فإن لفظة رتم، في بيت الشيخ صفي الدين غير ممكنة، وأيضًا فإن الوزن والمعنى في بيت الموصلي في غاية الائتلاف.
وبيت بديعيتي قلت فيه:
واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم
__________
1 يفوق: يجود.
2 آلى: أقسم وحلف اليمين.
3 الرتم: الكلام الخفي.(2/444)
وقلت بعده في ائتلاف المعنى مع الوزن:
والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدرّ في الكلم
4- ائتلاف اللفظ مع اللفظ:
هذا النوع، أعني ائتلاف اللفظ مع اللفظ: هو أن يكون في الكلام معنى يصح معه هذا النوع، ويأخذ عدة معانٍ فيختار منها لفظة بينها وبين الكلام ائتلاف، كقول البحتري في الإبل النحيلة:
كالقسي المعطفات بل الأسـ ... ـهم مبرية بل الأوتار1
فإن تشبيه الإبل بالقسي كناية عن هزالها، فلو شبهها بغير ذلك كالعرجون والدال جاز، ولكن المناسبة والائتلاف بين الأسهم والأوتار والقسي حسنت التشبيه.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته:
خاضوا عباب الوغى والخيل سابحة ... في بحر حرب بموج الموت ملتطم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الموصلي في بديعيته:
ساروا وجدوا النوى واللفظ مؤتلف ... من لسنِ دمعي بلفظ جِدُ منسجم2
الذي فهمته من هذا النوع معنى الشطر الأول، وأما الشطر الثاني فما حصل بينه وبين هذا النوع ائتلاف.
وبيت بديعيتي قلت قبله:
والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدرّ في الكلم
وقلت بعده، في ائتلاف اللفظ مع اللفظ:
واللفظ باللفظ في التأسيس مؤتلف ... في كل بيت بسكان البديع حمي
__________
1 القسي: جمع قوس. المعطفات: المحنيات. الأسهم المبرية: المحدودة الرءوس.
2 جدّوا النوى: أسرعوا بالبعاد والسفر. وقد ورد الشطر الثاني من هذا البيت بلفظ "خد" بدل "جدُّ" التي أثبتناها وهي كما هو واضح، أصح وأقوم.(2/445)
ذكر التمكين:
تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي
هذا النوع -أعني التمكين- وهو ائتلاف القافية، منهم من سماه بالتمكين، منهم من سماه بائتلاف القافية: وهو أن يمهد الناثر لسجعه فقرة، أو الناظم لقافية بيته تمهيدًا تأتي به القافية ممكنة في مكانها، مستقرة في قرارها، غير نافرة ولا قلقة، ولا مستدعاة بما ليس له تعلق بلفظ البيت ومعناه، بحيث إن منشد البيت، إذا سكت دون القافية، كملها السامع بطباعه بدلالة من اللفظ عليها. وأكثر فواصل القرآن على هذه الصورة، والذي عقد البديعيون عليه الخناصر في هذا الباب، قول أبي الطيب:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
وقال ابن أبي الأصبع: لم نسمع لمتقدم شعرًا متمكنًا في قافية أشد من تمكين النابغة الذبياني، حيث قال:
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي
زعم الغمام ولم أذقه بأنه ... يروي بريقته من العطش الصدي
قلت: ويعجبني هنا قول صدر الدين بن عبد الحق، ولعمري إنه أمكن وألطف وأظرف، وهو:
ورب ظبي آنس ... حشاشتي ملّكته
أسقيته أسكرته ... حركته نبهته
نادمته أعجبته ... حدثته أطربته
مددته كشفته ... بلا طويل نكته(2/446)
وبيت الحلي على تمكين القافية قوله:
به استغاث خليل الله حين دعا ... رب العباد فنال البرد في الضرم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
تمكين حبك في قلبي نسخت به ... محبة الكل من عرب ومن عجم2
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي
__________
1 الضرم: النار الملتهبة، والبيت عبارة عن قوله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
2 النسخ: الإبطال، ومنه الناسخ والمنسوخ في القرآن، والآيات التي جاءت لتبطل أحكام آيات جاءت قبلها.(2/447)
ذكر الحذف:
وقد أمنت وزال الخوف منحذفًا ... نحو العدوّ ولم أحقر ولم أضم1
هذا النوع، أعني الحذف، عبارة عن أن يحذف المتكلم من كلامه حرفًا من حروف الهجاء، أو جميع الحروف المهملة، بشرط عدم التكلف والتعسف، وهذا هو الغاية، كما فعل الحريري في المقامة السمرقندية، بالخطبة المهملة التي أجمع الناس على أنها نسيج وحدها، وواسطة عقدها. "وقد عن لي" أن أوردها ههنا بكمالها، وأورد معها ما نسج المتأخرون على منوالها، وهي قوله:
الحمد لله الممدوح الأسماء والمحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعوّ لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم2، وأهل السماح والكرم، ومهلك عاد وإرم، أدرك كل سرّ علمه، ووسع كل مصر حلمه، وعمّ كل عالم طوله، وهدّ كل مارد حوله، أحمده حمد موحد مسلم، وأدعوه دعاء مؤمل مسلم، وهو الله لا إله إلا هو الواحد الصمد، لا والد ولا ولد، أرسل محمدًا للإسلام ممهدًا، وللملة موطدًا، ولأدلة الرسل مؤكدًا، وللأسود والأحمر مسدّدًا، وصل الأرحام، وعلّم الأحكام، ووسم الحلال والحرام، ورسم الإحلال والإحرام، كرَّم الله محله، وكمل الصلاة والسلام له، ورحم آله الكرماء، وأهله الرحماء، ما همر ركام3 وهدر حمام، وسرح سوام4، وسطا حسام.
__________
1 أُضم: مجزوم أضام, أي لم أصب بأذى أو أتضايق.
2 الرمم: واحدتها رمة وهي عبارة عن الهيكل العظمي البالي.
3 الركام: الغيوم المركوم بعضها فوق بعض.
4 السوام: الماشية.(2/448)
اعملوا رحمكم الله عمل الصلحاء، واكدحوا لمعادكم كدح الأصحاء، واردعوا أهواءكم ردع الأعداء، وأعدوا للرحلة إعداد السعداء، وادّرعوا حلل الورع، وداووا علل الطمع، وسووا أود العمل، وعاصوا وساوس الأمل، وصوّروا لأوهامكم حئول الأحوال، وحلول الأهوال، ومساورة الأعمال، ومصارمة المال والآل، وادّكروا الحمام وسرعة مصرعه1، والرمس وهول مطلعه2، واللحد ووحدة مودعه، والملك وروعة سؤاله ومطلعه، والمحوا الدهر ولؤم كرّه، وسوء محاله ومكره، كم طمس معلمًا، وأمّر مطعمًا، وطحطح عرمرمًا، ودمر ملكًا مكرمًا، همه سك المسامع، وسح المدامع، وإكداء المطامع، وإرداء المسمع والسامع، عم حكمه الملوك والرعاع، والمسود والمطاع، والمحسود والحساد، والأساود والآساد، ما موّل الآمال، وعكس الآمال، ولا وصل الأوصال، وكلم الأوصال، ولا سر إلا وسا3، ولؤم وأسا4، ولا أصح إلا ولّد الداء، وورع الأودّاء.
الله الله، رعاكم الله، إلام مداومة اللهو، ومواصلة السهو، وطول الإصرار، وحمل الإصار، واطّراح كلام الحكماء، ومعاصاة إله السماء، أما الهرم حصادكم، والمدر5 مهادكم، أما الحِمام مدرككم، والصراط مسلككم، وأما الساعة موعدكم، والساهرة موردكم، أما أهوال الطامة6 لكم مرصده، أما دار العصاة الحطمة المؤصدة7، حارسهم مالك، ورواؤهم حالك، وطعامهم السُّموم، وهواؤهم السَّموم8، لا مال أسعدهم ولا ولد، ولا عدد حماهم ولا عدد، وألا رحمه الله امرأً ملك هواه، وأَكَّم مسالك هداه، وأحكم طاعة مولاه، وكدح لروح مأواه، وعمل ما دام العمل مطاوعًا، والعمر موادعًا والصحة كاملة، والسلامة حاصلة، ولا دهمه عدم المرام، وحصر الكلام، وإلمام الآلام، وحموم الحمام، وهدوء الحواس، ومراس الأرماس، آهًا لها حسرة ألمها مؤكد، وأمدها سرمد، وممارسها مكمد9، ما لولهه حاسم، ولا لسدمه10 راحم، ولا له
__________
1 الحِمام: بكسر المهملة: الموت.
2 الرمس: القبر.
3 سا: ترخيم ساءَ: أحزن.
4 أسا: ترخيم أساء: أضر.
5 المدَر: الطين الذي لا يخالطه رمل.
6 الطامة: المصيبة الكبيرة، والقيامة.
7 الحطمة: نار جهنم. المؤصدة: المقفلة، التي لا يمكن الخروج منها.
8 السَّموم: الريح الحارة "ريح جهنم". والرياح الخمسينية.
9 مكمد: مكبوت الحزن، مهموم.
10 السدم: الهم مع الندم، أو الغيظ مع الحزن.(2/449)
مما عراه عاصم، ألهمكم الله أحمد الإلهام، وردأكم رداء الإكرام، وأحلكم دار السلام، وأسأله الرحمة لكم ولأهل ملة الإسلام، وهو أسمح الكرام والمسلم والسلام.
قلت: رحم الله أبا القاسم الحريري، أتى في عاطل هذه الخطبة بالسهل الممتنع، ولكن ألجأته ضرورة العاطل، في مواضع، إلى الإتيان بألفاظ تفتقر إلى الحل. وقد تعين هنا تفسيرها، لئلا يتعذر على الطالب مرام، ولا يحصل هذا الإشكال في مرآة الأفهام.
فاللأواء: الشدة. والأحمر والأسود: العرب والعجم، ووسم بمعنى علم. وهمر بمعنى صب والركام: السحاب المتراكم. والكدح: عمل الإنسان، من الخير والشر.
والأود: المعوّج، والمساورة: المواثبة, وطحطح بمعنى هدّ وأهلك. والسَّكك ضيق الصماخ. والرعاع: السفلة. والأساود: الحيات. والآصار: جمع إصر، وهو الثقل. والساهرة: قيل إنها عرصات القيامة، وقيل إنها وجه الأرض. انتهى.
"وأوقفني" رجل من طلبة العلم بحلب المحروسة، يقال له الشيخ بدر الدين بن محمد بن الضعيف، سنة أربع عشرة وثمانمائة، على رسالة مشتملة على حِكَم ومواعظ، على طريق الفقهاء لا على طريق الأدباء، وسألني الكتابة عليها فامتنعت من ذلك، فتوصل إلى أن رسم لي مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، روَّح الله روحه، وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه، أن أكتب له على رسالته العاطلة تقريظًا عاطلًا، فقلت: هذا النوع من المستحيلات، فإن الخطب والوعظيات ثمرات، ألفاظها دانية القطوف. وأما التقريظ فالتوصل إلى تحصيل ألفاظه العاطلة غير ممكن؛ ولأن كف المتناول من ذلك صفر، والطريق مخوف، فلم يحصل عن المرسوم رجوع، وعلمت، أن الصرف إلى غير الامتثال، ممنوع. "فكتبت" هذا التقريظ الذي ما سبقني ناثر إليه، ولا حام طائر فكره عليه، وهو:
طالع المملوك رسالة محمد وسلم، وأحكم السمع والطاعة لكلامها المحكم. والله ما سمعها عالم إلا وهام، ولا ردع سحرها الحلال مسلمًا إلا كره الحرام، وعاد عاملًا وأعد للصلاح حواصله، وصار له مع الله معاملة, ما أحلى ما كرر عاطلها المحلى، وأهلًا لسهولة مسلكها وسهلًا، ما لولد ساعة سعد أحكامها، ولا أهل العصر سكر إلا ما أدار كأس مدامها، ولا لعمارة عامر صرحها ورهطه، ولا للصرّ در كلؤلؤها وسمطه1، ولا لولد مطروح مع طرحها المحرر مطارحه، ولا صار لولادة رسالة مسموعة ولا لسرحها آرام
__________
1 السمط: عقد اللؤلؤ.(2/450)
سارحه، ولا مسارح الماء الحلو لملحها إلا كالآل1، وما عامر ما أسه المعمار إلا أطلال، وما المطاعم الحلوة معها إلا مالحة، وما صوادح الكلام الصادح إلا حول دوجها صادحة، وما لطعم الراح مع حلاوة وردها راحة، ولا لسلسل الورد معها طلاوة ولو كلل الطلُّ2 أدواحه، ولا لسلوك الدر در سلوكها، ولا للمسوك العاطرة عطر مسوكها.
ولم لا ومحكمها حرسه الله صارملكًا ولحكمه أحكام، وكلام الملوك ملوك الكلام، لا إله إلا الله ما أسرار ولد آدم إلا حكمة، وما كلام الحكماء وما أحكموه إلا حرمة، وما أمة رسول الملك العلام إلا سادة الأمم، وما سماه صدورهم إلا مطالع أهل الحكم، أطال الله عمره وما ملها سامع، وأطلع هلال دالها1 وسعد السعود لها طالع، وحصل للعالم لما هل هلالها سرور، وأكرموا محلها وأحلوها الصدور. أحكامها عمدة لأمة محمد، وما أعادها السامع إلا صار العود أحمد:
سلسلوا دورها لسمع كساه ... درّها وهو عاطل كل حلّه
لا سماع إلا لها لا كلام ... لسواها كرره كرره الله
وع ما حكاه، ولد همام أو رواه، واسمع مسامرة همام صعد طور الحكم وساعده الله، وحسم كل كلامه مادة العواطل، وسلسل لطروسه وسطوره سلاسل الدور ودور السلاسل، ولو سمعها ملك العواطل أمال رءوس رماحه، وكلَّ حدُّ سلاحه، وسع معالم العلم ومعاهده صدره، وأدرّ لأهل الموارد الحلوة ولله دره، ما للكمال أصول سطوره الكاملة، ولا ورد مع رسول كرسال محمد مراسلة، رحم الله امرأً أطاع أوامر حكمها، وسمع مرسوم رسمها، ودارس ما أحكمه ممهدها وأملاه، أمد الله عمره والحمد لله.
والحلي بنى بيت بديعيته، في باب الحذف، على العاطل، وهو:
آل الرسول محل العلم ما حكموا ... لله إلا وُعدوا أعدل الأمم
والعميان ما نظموا نوع الحذف في بديعيتهم، وأنا والشيخ عز الدين تعذر علينا نظم الحذف عاطلًا، لأجل تسمية النوع في البيت، إذ فيه الذال والفاء ولا بد من التورية بتسمية النوع، كما شرط أولًا، فكل منا جنح في باب الحذف إلى جهة. أما الشيخ عز الدين فإنه ذكر أنه نظم بيته من الحروف النورانية المقطعة، وسمى الحذف في بيته إسقاطًا، فقال:
__________
1 الآل: السَّراب الذي: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} .
2 الدال: جمع الدالة وهي الشهرة والسلطان.(2/451)
أروم إسقاط ذنبي بالصلاة على ... محمد وعلى صديقه العلم1
وبيت بديعيتي حذفت منه الأحرف التي تنقط من تحت، وهو الذي نظمته بعد قولي:
تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي
فقلت:
وقد أمنت وزال الخوف منحذفًا ... نحو العدوّ ولم أحقر ولم أضم
__________
1 أروم: أتوخى وأقصد. الصدّيق: الخليفة الثاني أبو بكر وكان ملقبًا بالصدّيق.(2/452)
ذكر التدبيج:
واخضر أسود عيشي حين دبجه ... بياض خطي ومن زرق العداة حمي
نوع التدبيج من مستخرجات ابن أبي الأصبع، وهو عبارة عن أن يذكر الناظم أو الناثر ألوانًا يقصد بها التورية والكناية بذكرها عن أشياء، من تشبيب أو مدح أو وصف أو غير ذلك من الأغراض, فمن التدبيج على طريق التورية قول الحريري، في المقامة الزورائية: فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسودّ يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثا لي العدوّ الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.
ومنه، ما كتبت به جوابًا عن مولانا السلطان الملك المؤيد -رحمه الله- إلى الجناب العالي الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان. فإن المجاهد الذي جعل حظ بني الأصفر، في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود، فأذاقهم الله به الموت الأحمر، وكمال التدبيج يقول: أهلًا بعيش أخضر يتجدد.
ومن الأمثلة الشعرية في باب التدبيج قول ابن حيوس:
إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فالقهم في منازل أو نزال1
تلق بيض الوجوه سود مثار النـ ... ـقع خضر الأكناف حمر النصال
ومثله قوله:
ببياض عزم واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب2
__________
1 النزال: الحربْ.
2 الصوارم: السيوف. النقع: غبار الحروب.(2/453)
وظريف هنا قول الشيخ زين الدين بن الوردي، من أبيات:
ولي صاحب بالمدح والهجو كسبه ... يقول أتدري كيف أصنع بالخلق
إذا حَمَّروا وجهي وما بيضوا يدي ... ازرقّ لهم رجلي ولو خضروا عنقي1
ويعجبني قول الشيخ عز الدين في هذا الباب:
خضرة الصدغ والسواد من العيـ ... ـن بياض المشيب قد أورثاني
واحمرار الدموع صفّر خدي ... كل ذا من تلونات الزمان
قلت: تلونات الزمان، في باب التدبيج، غاية في الحسن.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في التدبيج قوله:
خضر المرابع حمر السمر يوم وغى ... سود الوقائع بيض الفعل والشيم2
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم, وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
خضر المرابع حمر البيض سوى ردى ... بيض الثنا فاستمع تدبيج وصفهم
قلت: ما يليق بالشيخ عز الدين ما اعتمده في بيت الشيخ صفي الدين، من أخذ لفظه ومعناه، والحق أنه تلون في باب التدبيج على الصفي، وتحرم على الحلي: وبيت بديعيتي قولي:
واخضر أسود عيشي حين دبجه ... وبياض حظي ومن زرق العداة حمي
__________
1 حَمّر الوجه: أخجل صاحبه. بيضوا يدي: بالعطاء والهدايا. أزرق لهم رجلي: أسرع لهم الخطو.
2 السمر: الرماح. المرابع: الدور وأماكن النزول.(2/454)
ذكر الاقتباس:
وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم
الاقتباس: هو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية، أو آية من آيات كتاب الله خاصة، هذا هو الإجماع. والاقتباس من القرآن على ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول: ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحو ذلك. والثاني: ما كان في الغزل والرسائل والقصص. والثالث: على ضربين: أحدهما، ما نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقّع على مطالعة فيها شكاية من عماله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 1 والآخر تضمين آية كريمة في معنى هزل، ونعوذ بالله من ذلك، كقول القائل:
أوحى إلى عشاقه طرفه ... {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} 2
وردفه ينطق من خلفه ... {لمثل ذا فليعمل العاملون} 3
ومن الاقتباسات التي هي غير مقبولة، قول ابن النبيه في مدح الفاضل:
قمت ليل الصدود إلا قليلًا ... ثم رتلت ذكركم ترتيلًا
ووصلت السهاد أقبح وصل ... وهجرت الرقاد هجرًا جميلًا
مسمعي كَلَّ عن سماع عذول ... حين ألقى عليه قولًا ثقيلًا
وفؤادي قد كان بين ضلوعي ... أخذته الأحباب أخذًا وبيلًا4
__________
1 الغاشية: 88/ 26.
2 المؤمنون: 23/ 36.
3 الصافات: 37/ 61، مع إبدال "ذا" بـ "هذا".
4 وبيلًا: شديدًا قاسيًا.(2/455)
قل لراقي الجفون إن لعيني ... في بحار الدموع سبحًا طويلًا
ماس عجبًا كأنه ما رأى غصـ ... ـنًا طليحًا ولا كثيبًا مهيلا
وحمى عن محبه كاس ثغر ... كان منه مزاجها زنجبيلا1
بان عني فصحت في أثر العيـ ... ـس ارحموني ومهلوهم قليلا
أنا عبد للفاضل بن علي ... قد تبتلت بالثنا تبتيلا2
لا تسميه وعد بغير نوال ... {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} 3
ونعوذ بالله من قوله بعد ذلك:
جل عن سائر الخلائق فضلًا ... فاخترعنا في مدحه التنزيلا
واعلم أن الاقتباس على نوعين: نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه، كقول الحريري: فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب، حتى أنشد فأغرب. فإن الحريري كنى به عن شدة القرب، وكذلك هو في الآية الشريفة. ونوع يخرج به المقتبس عن معناه، كقول ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدحيـ ... ـك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي ... {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} 4
فإن الشاعر كنى به عن الرجل الذي لا يرجى نفعه، والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة، شرفها الله وعظمها.
ثم اعلم أنه يجوز أن يغير لفظ المقتبس منه، بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال الظاهر من المضمر أو غير ذلك، فالزيادة وإبدال الظاهر من المضمر، كقول الشاعر:
كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا
فزاد الألف في راجعون على جهة الإشباع وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله: إنا إلى الله، ومراده آية التعزية في المصيبة، وهي قوله تعالى:
__________
1 الزنجبيل: مشروبات الروحية. وهو قريب من الخمرة.
2 تبتل: انقطع لعبادته ومنه البتول مريم التي انقطعت لعبادة ربها.
2 مفعولًا: نافذًا. وسام: طلب. و"وعد" وردت بالرفع وكان حقها النصب "وعدًا".
4 إبراهيم: 14/ 37.(2/456)
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1. والنقصان ما تقدم من قول الحريري: فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب، فإنه أسقط لفظة هو، إذ الآية الكريمة لفظها: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} 2. والتقديم والتأخير، كقول الشاعر:
قال لي إن رقيبي ... سيئ الخلق فداره
قلت دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره
هذا الاقتباس من الحديث، فإنه تقدم أن الإجماع على جواز الاقتباس من القرآن ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث النبوي اقتباسًا، وزاد هنا الطيبي في الاقتباس من مسائل الفقه، والشاعر قدم في لفظ الحديث وأخر؛ لأن لفظ الحديث: "حفت الجنة بالمكاره"، ومن هنا يتبين لك قطع نظرهم في الاقتباس عن كونه نفس المقتبس منه، ولولا ذلك للزمهم الكفر في لفظ القرآن، والنقص منه، ولكنهم يأتون به على أنه لفظ القرآن، ومن أمثلته الشعرية قول الحماسي:
إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر
سيبقى لها في مضمر الحب والحشا ... سرائر تبقى يوم تبلى السرائر3
ومنه:
أهدى إليكم على بعد تحيته ... حيّوا بأحسن منها أو فردوها
ويعجبني هنا قول ابن سنا الملك في بعض مطالعه:
رحلوا فلست مسائلًا عن دارهم ... أنا باخع نفسي على آثارهم4
ومن لطائف هذا الباب قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في معشوقه المسمى بالنسيم:
إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا
فأنا الذي أتلو لهم {يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسولا سبيلا} 5
ومثله في الحسن، قول شيخ شيوخ حماة المحروسة رحمه الله تعالى:
__________
1 البقرة: 2/ 156.
2 النحل: 16/ 77.
3 السرائر: الأولى: الأسرار، والثانية: النوايا أو مكان الأسرار وتبلى: تختبر وتجرّب.
4 باخع نفسه: قاهرها وقاتلها غيظًا وغمًّا.
5 الفرقان: 25/ 26. بزيادة "كنت" عليها.(2/457)
يا نظرة ما جلت لي حين طلعته ... حتى انقضت وأدامتني على وجل
عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 1
ومثله:
إن دمعت عيني فمن أجلها ... بكى على حالي من لا بكى
أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا
ومثله:
قسمًا بشمس جبينه وضحاها ... ونهار مبسمه إذا جلاها
وبنار خديه المشعشع نورها ... وليل ضدغيه إذا يغشاها
لقد ادعيت دعاويًا في حبه ... صدقت وأفلح من بذا زكّاها
فنفوس عذّالي عليه وعذّري ... قد ألهمت بفجورها تقواها
فالعذر أسعدها مقيم دليله ... والعذل منبعث له أشقاها
ومنه قول القاضي محيي الدين بن قرناص:
إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين باصره
أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهرة2
ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمه الله تعالى:
وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى3
أجل نظرًا في حاجبيه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى
ومنه قول الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى:
رب فلاح مليح ... قال يا أهل الفتوّة
كفلي أضعف خصري ... فأعينوني بقوّة4
ومنه قول المعمار:
ابن الجمالي مات حقًّا ... برّح بي موته وآذى
ورحت أقرأ عليه جهرًا ... {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} 5
__________
1 الأنبياء: 21/ 37. وإنسان العين: بؤبؤها.
2 الساهرة: من الأرض المنبسطة المطمئنة، وجهها.
3 الأغيد: الفتاة التي تتمايل في مشيها "الغادة". الوسنى: الناعسة.
4 الكفل: الردف أو العجيزة.
5 مريم: 19/ 23.(2/458)
ويعجبني في هذا الباب قول سيدنا الإمام القدوة، الحافظ الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي -تغمده الله برحمته- وهو:
خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما جرى كالبحر سرعة سيره
فحبسته لأصون سر هواكم ... {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1
وقلت:
ناحت مطوّقت الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه
لكن له لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به
وهنا فائدة يتعين ذكرها في هذا الباب، وهي أن العلماء في هذا الباب قالوا: إن الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن، أما الناثر فهو الذي يقتبس كالمنشئ والخطيب، فمن ذلك قول الحريري: فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادّعى، {ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} 2، وعلم أن الفائز من ارعوى، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} 3، وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِْ} 4، وأميز صحيح القول من عليله. وكقول ابن نباته الخطيب في الخطب التي في ديوانه: أما أنتم بهذا الحديث تصدقون، ما لكم لا تشفقون، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 5.
قلت: وأما عبد المؤمن الأصفهاني، صاحب أطباق الذهب، فإنه عنوان هذا الكتاب، وإمام هذا المحراب، فمن قوله في الأطباق: فمن عاين تلوين الليل والنهار لا يغتر بدهره، ومن علم أن بطن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره، فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض، {أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} 6. وقوله: ولو علم الجذل صولة النجار، وعضة المنشار، لما تطاول شبرًا، ولا تخايل كبرًا، وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابًا، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} 7، وقوله:
لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا
__________
1 النساء: 4/ 140.
2 النازعات: 79/ 40.
3 النجم: 53/ 39، 40.
4 يوسف: 12/ 45.
5 الذاريات: 51/ 23.
6 الملك: 67/ 16.
7 النبأ: 78/ 40.(2/459)
هم السلاطين في أطمار مسكنة ... استعيدوا من ملوك الأرض أقيالا1
هذي المكارم لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصًا فعادا بعد أسمالا
هذي المناقب لا قعبان من لبن ... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا2
هم الذين جبلوا براء من التكلف، {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} 3
وقوله أهل التسبيح والتقديس، لا يؤمنون بالتربيع والتسديس، والإنسان بعد علو النفس، يجل عن ملاحظة السعد والنحس، وإن في الدين القويم، لشغلًا عن الزيج4 والتقويم. الإيمان بالكهانة, باب من أبواب المهانة، فأعرض من الفلاسفة، وغض بصرك عن تلك الوجوه الكاسفة، فأكثرهم عبدة الطبع، وحرسة الكواكب السبع، فما للمنجم الغبي، وما للكاهن الأجنبي، وسر حُجِبَ عن غير النبي، وهل ينخدع بالفال إلا قلوب الأطفال، وإن امرأ جهل حال قومه، وما الذي يجري عليه في يومه، كيف يعرف حال الغد وبعده، ونحس الفلك وسعده، وإن قومًا يأكلون من قرصة الشمس5 لمهزولون، وإنهم عن السمع لمعزولون، ما السموات إلا مجاهل والكواكب ضواها، وما النجوم إلا هياكل سبعة ومن الله قواها، كلُّ يسري لأمر معمى، {وَكُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} 6.
وقوله: الحرص يسبل على وجوه الظلمة براقعًا، والظلم يدع الديار بلاقعًا7، يرضون طيب الحياة وينسون يوم النشور، ويفتكون فتك البزاة ويؤملون عمر النسور. فلا تغرنك من الظلمة كثرة الجيوش والأنصار، {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} 8. وقوله: اغتنم فودك9 الفاحم قبل أن يبيض، فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقض، فلا يغرنك قطفها النضيج هو {غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} 10. قوله في آخر مقالة من الأطباق: تلك أمة قد خلت ذكروا الله في الخلوات،
__________
1 الأطمار: الثياب البالية. الأقيال: جمع مفردة قيل وهو الملك العظيم.
2 المناقب: الأعمال الجليلة. قعبان: مثنى قعب وهو القدح الضخم أو وعاء الحلب.
3 البقرة: 2/ 273.
4 الزيج: خيط البناء الذي يمد على الحائط لتضبيط المداميك.
5 فرصة الشمس: عينها.
6 الرعد: 13/ 2، وفاطر: 335/ 13، والزمر: 39/ 5.
7 بلاقع: مقفرة.
8 إبراهيم: 14/ 41.
9 الفود: جانب الرأس مما يلي الأذنين إلى الأمام. الشعر الذي عليه.
10 الحد: 57/ 20.(2/460)
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} 1. وقوله: أصدق الأرواح روحان ممتزجان، وأخلص القلوب قلبان يزدوجان، يتصاحبون {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2، وآخرون {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 3. وقوله لله دره: فيا هذا لا تحسد المتنعم على ترفه، ولا تغبط المتكبر على شرفه، وقل له إذا برزت الجحيم وقدم له الحميم، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 4. وقوله: أليس من الخسران جزار يأكل الميت، ومكّيّ لا يزور البيت، فلا تكن كالجمل الطليح5 يحمل لغيره أسفارًا، ولأنك كـ {الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 6.
قلت: هذا القدر الذي أوردته هنا كافٍ في الاقتباسات التي تليق بمواعظ الخطب، فيتعلم بليغ الخطباء منها سلوك الأدب، ولم يبق إلا إظهار نور الاقتباس من مشكاة نور المترسلين، فإنهم ملوك هذا الشأن، ومن استضاء بسحر اقتباسهم قال: إن هذا إلا سحر مبين. "ومن ذلك" قول مالك أزمة هذا الفن القاضي الفاضل من تقريظ ورأيت كل معتاض غيره لصناعة البديع لاهجًا بالبدعة خارجًا عن الشرعة، دارجًا في غير عشه، مخرجًا ميت القول من طرسه على نعشه، فهي المدام وما دون فهم عنها قدام، ووفود بلاغة لو وجهت إلى الجنة لقال رضوانها: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} 7 وكل ابنة فكر ما طالعت فكره إلا صاح لسان طربه: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} 8 وكل غصن ألف وكل همزة حمام، وفيها وفيها، وأخاف أن أقول ولا أوفيها، وليت هذه المحاسن وليت الأسماع، وألقت القناع، وفي العمر مستمتع، وفي قوس الشبيبة منزع، ولكن ضاق فتر عن مسير، وجاء فضلها الأوَّل في الزمن الأخير، وقد حان أن تخيب في البلاغة القدحان9، وأنى وإنه {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} 10.
وقوله: لا زالت الملوك تنزل لركوبه، والسيوف تضحك لقطوبه، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وكتب له في الدنيا حسنة وفي الآخرة، وغض عيون أعدائه فإذا هم
__________
1 مريم: 19/ 59.
2 آل عمران: 3/ 191.
3 آل عمران: 3/ 167.
4 الدخان: 44/ 59.
5 الطليح: المهزول المجهود.
6 الجمعة: 62/ 5.
7 الحجر: 15/ 46.
8 يوسف: 12/ 19.
9 القدحان: جمع مفرده قدح وهو ما كان يستقسم به أو قَدَح: وهو الإناء.
10 يوسف: 12/ 41.(2/461)
بالساهرة1. وقوله: وقف الخادم على الكتاب فارتقى إلى سماء المكرمات وكانت سطوره درجا، وأضاءت في خاطره فما استمدت مدادًا ولكن أذكت سرجًا، ونهجت له طريق السعادة فللَّه من كتاب لولا الغلو لقلنا من كتاب {لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 2. وقوله: ورد على الخادم الكتاب الكريم فشكره وقربه نجيا ورفعه مكانًا عليا، وأعاد عليه عصر الشباب وقد بلغ من الكبر عتيا. وقوله: كتبها الخادم وقد أخرجت السماء أثقالها، وفتحت من العز إليَّ أقفالها، وركضت الرعود لابسة من الغيم جلالها، وثوب الليل بالغمام غسيل، وسبج3 الظلام بسيف البروق قتيل. وقد زادت السيول إلى أن صارت الخيام عليها فواقع، وهمهم الرعد قارئًا فاستقبلت قبابها بين ساجد وراكع، وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا، وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قال: آتوني أفرغ عليه قطرا. وقوله: ونفذت بلاغته بسلطانها، ونفثت بسحر بيانها، وصلى القلم من يده في محراب، ومن طرسه على سجادة وجاء منه كتاب، لو كان البحر مدادًا لما زاده، وكم كتاب لا يساوي مداده و {أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} 4 وحملت من الأسلحة أحرفها، وشنت الغارة على السمع والبصر، فسلم لها من سلم وبهت الذي كفر. وقوله: النوبة البغدادية الحديث فيها زائد وناقص، والخبر عنها مشوب وخالص، وابن أبي عصرون قوم يقولون قد وزر، ويوم يقولون كلا لا وزر. وقوله: وقفت على تلك الألفاظ المجنسة التي هي ذرية بعضها من بعض، وثمرات الجنة فكلما رزقت منها رزقًا قلت كقول أهلها: الحمد لله الذي أورثنا الأرض.
وقوله: ومما يجب أن يعانيه تربية الحمام التي سكنت في البروج فهي أنجم، وأعدت كنانتها للحاجات فهي أسهم، وقد كادت أن تكون من الملائكة فإذا نيطت بها الرقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقوله: وعملوا الأبرجة الخشبية، وزحفوا بها إلى الأبراج الحجرية، وخصوصًا إلى برج يعرف بالذباب، ولكن حماه ذباب السيف الإسلامي من الذباب، فلم يقدروا أن يستنقذوه، وضعفوا عنه فسلبهم أرواحهم {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ} 5. وقوله: والإسلام مد إلى ترابه باعًا طويلًا، ألقى عليه الشرك من ألسنة السيوف قولًا ثقيلًا، وحصون العدوّ قامت قيامتها فحالها اليوم كيوم
__________
1 الساهرة: الأرض المنبسطة المطمئنة. وجهها.
2 الكهف: 18/ 1.
3 السيج: نوع من الخرز أسود اللون، وسبج الليل وسواده.
4 يونس: 10/ 24.
5 الحج: 22/ 73.(2/462)
تكون الجبال كثيبًا مهيلًا. وقوله، مما كتب به عن السلطان الملك الناصر إلى أمير المؤمنين المستضيء بالله، وهو: سلام قولًا من رب رحيم و {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} 1، مملوك العتبات الشريفة وعبدها، ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها، ينهى أن الله سبحانه شرف ملة الإسلام على الملل، ودولة أمير المؤمنين على الدول، وقد أقام سيفه حسان الكفرة فأظهر تحريف حسابها، ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، وظلت أقحاف بني حام تحت غربان الفلاة غربانًا، وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالًا وألوانًا. وعزّت سيوف الإسلام فظلت أعناقهم لها خاضعين، وعوتبت منهم الأنفس والرءوس فقالتا أتينا طائعين.
ومن اقتباسات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة، قوله, من رسالته التي كتبها عن السلطان الملك الظاهر إلى شمس الدين آق سنقر الفارقاني، جوابًا عن كتابه الذي أرسله بفتوح النوبة، لما توجه إليها من الديار المصرية، "وهو": أدام الله نعمة المجلس ولا زالت عزائمه مرهوبة، وغنائمه مجلوبة ومحبوبة، وسطاه وخطاه هذي تكفي النوب2 وهذه تفتح أرض النوبة، ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة، وآمالها لهلاك الأعداء كرماحه ممتدة، ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي يرى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 3 والله يشكر تفاصيل همم المجلس وجملها, وآخر غزواته وأولها, وإذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالِمًا إلى مستقره، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 4.
وقوله: في وصية العهد الشريف الذي أنشأه السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل، عن والده الملك المنصور قلاوون الصالحي -رحمه الله- وهو: والشرع الشريف هو قانون الحق المتبع، ومأمون الأمر المستمع، به يتمسك من يمتار5 ويمتاز، وهو جنة والباطل نار، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
"ومن ذلك" اقتباس العلامة أبي طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني، في
__________
1 الواقعة: 56/ 89.
2 النوب: الكوارث والمصائب.
3 فصلت: 41/ 46.
4 يس: 36/ 38.
5 امتارَ: وامترى: شكَ وجادل.(2/463)
رسالة القوس وهو صورة مركبة، وليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم.
"ومن ذلك" ما أورده الشيخ جمال الدين بن نباته من الاقتباسات البديعية، في رسالة السيف والقلم، فرقى الأنامل على أعواده وقام خطيبًا بمحاسنه في خلعة سواده، والتفت إلى السيف فقال: {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 1. الحمد لله الذي علم بالقلم، وشرفه بالقسم، وخط به ما قدر وقسم، وصلى الله على سيدنا محمد القائل: "جف القلم بما هو كائن"، وعلى آله وصحبه ذوي المجد البين وكل مجد بائن، صلاة واضحة السطور، فاتحة أدراج الصدور، ما نقلت عن صحائف البحار غواديها، كتبت أقلام النور على مهارق الرياض حكمة باريها.
أما بعد: فإن القلم منار الدين والدنيا، وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا، ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيى، وسفير الملك المحجب، وعذيق الملك المرجب2، وزمام أموره السائرة، وقادمة أجنحته الطائرة، وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة، به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- التي تهذب الخواطر والخواطل3. فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة، وحسبه ما جرى على يده الشريفة من منّه، إن نظمت فرائد العلوم فالقلم سلكها، وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها. هذا، وهو الجاري بما أمر الله به من العدل والإحسان، والمسود الناظر فكأنما هو ملكها. هذا، إنسان، طالما قاتل على البعد والصوارم في القرب، وأوتي من العجزات نوعًا من النصر والرعب، لا يعاديه إلا من سفه نفسه، ولبس لبسه، وطبع على قلبه، وفل الجدال من غربه، وكيف يعادي من إذا كرع من نفسه4. فقل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 5 وإذا ذكر شانئه فقل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} 6. فعند ذلك نهض السيف عجلًا، وتلمظ لسانه للقول مرتجلًا، وقال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 7.
__________
1 القلم: 68/ 1، 2.
2 العذيق: الذكي اللبق. والمرجّب: المبجّل، المعظم والمهيب.
3 الخواطل: جمع خاطل من الخطل وهو خطأ الرأي، والخواطر بمعنى الآراء.
4 النقس: المِداد.
5 الكوثر: 108/ 3.
6 الكوثر: 108/ 1.
7 الحديد: 57/ 25.(2/464)
الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف، وشيد بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا، كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف، صلى الله سيدنا محمد هازم الألوف، وعلى آله وأصحابه الذين طالما محوا بريق الصوارم من سطور الصفوف، وسلم.
أما بعد فإن السيف زند الحق القوي وزنده الوري، به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء، وجلا شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء، وأجرى سيوله بالأباطح فأما الحق فمكث وأما الباطل فذهب جفاء، وحملته اليد الشريفة النبوية، وخصته على الأقلام بهذه المزية، وأطلعته في ليالي النقع1 والشك سراجًا وهاجًا، وفتح باب الدين إلى أن دخلت فيه الناس أفواجًا، فهو ذو العزم الثاقب، وسماء المجد الذي زينت آثاره بزينة الكواكب، والحد الذي كأنه ماء دافق يخرح من بين الصلب والترائب، تحسم به أدواء الفتن المضلة، وتحذف هممه الجازمة حروف العلة، ويحيا من سماء القتام بالضرب فقل: يسألونك عن الأهلة، يجلس على رءوس الأعداء قهرًا، ويصرع أبناء الشجاعة قائلًا للقلم: ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا. وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعضت الحرب الضروس بنابه، وقذف شياطين القراع بشهبه، ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه، ومنها أن الله أنشأ برقه، وكان للمارد مصرعا، وللرائد مرتعا، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 2 فقام القلم في دواته وقعد، واضطرب على وجه القرطاس وارتعد، وانحرف إلى السيف وقال أيها المضر بطبعه، المغر بلمعه، الناقض حبل الأنس بقطعه، الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ، الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين، الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 3، فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر من نابك في هذه المكاشرة، فما يحسن بالصامت محاورة المفصح، والله يعلم المفسد من المصلح، أولست الذي قيل فيه:
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم؟!
فدع عنك هذا الفخر المديد، وتأمل قدري إذا كشف عنك الغطاء {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 4.
__________
1 النقع: الغبار الذي يحجب الرؤية.
2 الروم: 30/ 24.
3 الأعراف: 7/ 12.
4 حديد: قوي جدًّا. ق: 50/ 22.(2/465)
قلت: لولا خشية الإطالة لأوردت هنا رسالة السيف والقلم بكمالها، ولكن في هذا القدر من نور اقتباسه ما يهتدي به الأعشى، ويستغني بإنشائه عن سلافة الإنشا.
ومن غريب اقتباسات الشيخ جمال الدين أيضًا، ما كتب به مع منقد نحاس، "وهو قوله فيه": طالما حمدت معاشرته ولذت في الليالي مسامرته، وأطلع من أفقه نجومًا سعيدة القران، وتلا على الريح والثلج {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} 1. "ومن ذلك" بديع الاقتباس للشيخ زين الدين بن الوردي في خطبته في الكلام على المائة غلام. "وهو": لعمري ما أنصفني من أساء بي الظن، وقال إني رضيت مع درجة العلم بهذا الفن، والصحابة كانوا ينظمون وينثرون، ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون. "ومن ذلك" قوله في توقيع عدالة بعض الشهود بحلب المحروسة، "وهو": الحمد لله الذي شاد رتبة العدالة وحماها، وجعلها همة من شرفت نفسه فزكت {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} 2 وعصمة من فرقة في قلوب الحكام من نار تدليسهم وقود، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 3. "ومن ذلك" ما كتب به عنه وعن أخيه يوسف: وإذا عني الصاحب بالأخ رفقًا وإحسانًا، تلونا {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا} 4، والله يعلينا بعلوك، ويبلغنا مرجونا ببلوغ مرجوك، حتى يقول أولاد الصاحب عنا {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} 5. "ومن ذلك" ما كتب به بقية السلف، الشيخ زين الدين أبو بكر العجمي، على قصيدتي الكافية البرهانية، تقريظًا أشرفت أقطار الأدب بنور اقتباسه، والاقتباس في التقريظ: فيا له من قصيد رد عيون أعيان هذه الصناعة من الحياء مطرقة، تالية على من قاسها بامرئ القيس {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 6. "ومن ذلك" ما كتب به الشيخ برهان الدين القيراطي إلى الشيخ جمال الدين بن نباته: يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها، وعمر الله بمعانى الحسن أبياتها.
"منها": فلا غرو أن فصح بديع الزمان بلفظه البديع، وأزهرت الأوراق بمنثور رسائله التي كل فصل منها ربيع، وخجلت صفحة الخد المنمنمة بطراز العذار المرقوم، وقالت الكئوس حين شبهت في إمالة الأعطاف بألفاظه وما منا إلا له مقام معلوم. "ومنها":
__________
1 الرحمن: 55/ 35.
2 الشمس: 91/ 9.
3 البروج: 85/ 7.
4 يوسف: 12/ 65.
5 يوسف: 12/ 8.
6 النساء: 4/ 129.(2/466)
فسبحان من أسرى بها في ليل نقسها إلى المحل الأقصى، وحباها بالفضل الذي لا يحصى، وأنبت دوحتها في رياض الفصاحة، ونمق حدائقها التي لو فتح النرجس عينه في عينها لنسب إلى الوقاحة. فتبارك الذي جعل في سماء دوحته لشمس بلاغته بروجًا، وأعلى هممه التي لا ترضى الشهب جيادًا والأهلة سروجًا، حتى أقام يراع قلمه لسوق الأدب قصبه، وشاد من قصائده كل بيت إذا مر الحاسد ببابه قبل العتبة، وسارت كالسبعة السيارة مصنفاته، وعلت من قصره المشيد بسينات سطوره شرفاته، وفديت بالمباسم والقدود ميماته وألفاته، وزهت أمداحه المؤيدية فأصبت بيوته المرفوعة ذات العماد، وراقت محاسنها التي لم يخلق مثلها في البلاد، وفضحت لسهلها الممتنع أدباء العصر الذين جابوا الصخر بالواد. "ومنها": طالما سرح الناظر في بستانها منظره، ورام ابن سكرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتي فوجدوها مسكره، وعلم المتنبي أن هذا خاتم الأدباء لا محالة، والمترسل الذي نهض دونه بأعباء كل رسالة، وأقام بتقديمها على غيرها براهين الاحتجاج، وقال الملحي عندما قابل بحرها الحلو ببحره {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} 1.
ومن ذلك ما نقلته من خط الصاحب فخر الدين بن مكانس، تغمده الله برحمته "وهو": ورد علينا شخص من أهل القيروان ضرير، يسمى عبد الله الزغبي يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي عن المعاني، فتردد إلَيَّ في مجالس متفرقة، ثم بلغني أنه وشى إلى صاحبنا الشيخ زين الدين بن أبي بكر العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف، أني اهتضمت جانبه، وانتقصته وغضيت منه بالنسبة إلى الأدب، وأنه يستعين بكلام غيره كثيرًا فتأذى من ذلك. وتأذيت من كذب الناقل، فكتبت: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 2 بلغني، بلغ الله سيدنا ومولانا الإمام العالم العلامة الأديب الشاعر الناظم الناثر المحقق الأمة الكاتب الحجة زين الدنيا والدين هرة عين الكرام والكاتبين، أقصى ما ينتهي إليه تنافس المتنافس، وتبتهج به صدور الأولياء والرؤساء والمجالس، ولا زال زينة يحلى به العاطل، ويظل تحت جناح أدبه القائل، من غيبة ذلك الضرير، ما لا خشي الله فيه بظهر الغيب، ونقل إلى المسامع الكريمة ما لا يحتاج للاعتذار عنه لما فيه من الريب، ولكن لا غناء لسيف ذهن المملوك الكليل من التنصل، ولا بد من نهلة اعتذار على سبيل التعلل. وكان المملوك يترقب سببًا للمطارحة، فهذا المغتاب الآن صار عنده محمودًا، إذ كان السبب لحسن التوسل إلى صناعة الترسل. "ومنها" فلو اختلف الأدباء على إمام لأهل هذه
__________
1 فاطر: 35/ 12.
2 النور: 24/ 61.(2/467)
الصناعة مطهر من الأرجاس، لقال لهم لسان البلاغة مروا أبا بكر فليصل بالناس، وكيف يسوغ للمملوك أن يدعي غير هذا، وكيف ولِمَ ولماذا؟ أحسدًا على الأدب فما أهجرني له من عصر الصبا بحمد الله وما أغناني، أو تفاخرًا بالنظم فما أشغلني عنه بتدبير الممالك بما عناني. نعم, وإن كان جوهر الألفاظ مما يحسد عليه فما أزهدني والله في هذا العرض الفاني. "ومنها" والمسئول من إحسانه أمران: الجواب فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة، والآخر رد كل فاسق عن الباب العالي فإن أبا بكر أول من تصلب في الرِدَّة1. وبلغ المملوك أن هذا الضرير قصد بعض الأصحاب برمية كهذه فأصمى، وتردد إليه مرة أخرى فـ {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} 2.
"ومن ذلك" ما كتبت به إلى المقر الصاحبي الفخر المشار إليه بعد توجهي من خدمته إلى دمشق المحروسة، ومشاهدتي ما قدر الله عليها من الحريق والحصار من قبل الملك الظاهر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وهذه الرسالة التي سارت بها الركبان، وجاء لبديع الاقتباس في معانيها بيان، "وهي": يقبل الأرض التي من يممها أو تيمم ترابها حصل له الفخر والمجد، فلا برح هيام الوفود إلى أبوابها أكثر من هيمان العرب إلى ربا نجد، ولا زالت فحول الشعراء تطلق أعنة ألفاظها، وتركض في ذلك المضمار، وتهيم بواديها الذي يجب أن ترفع فيه على أعمدة المدائح بيوت الأشعار، وينهى بعد أشواق أمست العين بها في مجاري العين معثرة، ولو لم يقر إنسانها بمرسلات الدمع لقلت في حقه {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 3 وصول المملوك إلى دمشق المحروسة فيا ليته قبض قبل أن يكتب عليه ذلك الوصول، ودخوله إليها والله لقد تمنى خروج الروح عند ذلك الدخول. "ومنها": وتطرقت بعد ذلك إلى الحدادين ولقد نادتهم النار بلسانها من مكان بعيد {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} 4. لقد كان يوم حريقها يومًا عبوسًا قمطريرًا، ضج المسلمون فيه من الخيفة وقد رأوا سلاسل وأغلالًا وسعيرًا. يا مولاي لقد لبست دمشق في هذه المآتم السواد، وطبخت قلوب أهلها وسلقوا من الأسنة بألسنة حداد، ولقد نشفت عيونهم من الحريق واستنشقوا فلم ينشقوا رائحة الغادية، وكم رؤي في ذلك اليوم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} 5، وكم رجل تلا عند لهيب بيته: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 6 وخرج هاربًا، وامرأته حمالة الحطب.
__________
1 الرّدّة: الارتداد عن الدين.
2 عبس: 80/ 2.
3 عبس: 80/ 17.
4 الكهف: 18/ 96.
5 الغاشية: 88/ 2-4.
6 المسد: 111/ 1.(2/468)
"ومنها": ونظرت بعد ذلك إلى القلعة المحروسة، وقد قامت قيامة حربها حتى قلنا: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ} 1 وستروا بروجها من الطارق بتلك الستائر وهم يقولون {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 1. "ومنها": وتطاول إلى السور المشرف، وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات، فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصًا لما أبداه من المشكلات، فلا وأبيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال، لقلت ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وإلى المحاصرين وقد جاءوا فارسًا وراجلًا ليشهدوا القتال لقلت: {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} 2، وإلى كواكب الأسنة وقد انتثرت وإلى قبور الشهداء وهي تحت أرجل الخيل قد بعثرت، وإلى كر الفوارس وفرها لقلت: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} 3. "ومنها": وتصفحت بعد ذلك فاتحة باب النصر فعوذته بالإخلاص4 وزدت الله شكرًا وحمدًا، وتأملت أهل الباب وهم يتلون لأهل البلد سورة الفتح وللمحاصرين {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} 5 وكم طلبوا فتحه ولم يجدوا لهم طاقة وضرب بينهم بسور له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} 6. "ومنها": هذا وكم من مؤمن قوم خرج من دياره حذر الموت وهو يقول النجاة وطلب الفرار، وكلما دعاه قوم لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} 7. "ومنها": فأعيذ ما بقي من السبعة بالسبع المثاني والقرآن العظيم، فكم رأينا بها يعقوب حزن رأي سواد بيته فاصفر لونه {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} 8. "ومنها": وتوصلت إلى ظاهر كيسان، فأنفقت كيس الصبر لما افتقرت من دنانير تلك الأزهار والدراهم رباها، وكابرت إلى أطراف الباب الصغير فوجدت فاضل النار لم يغادر منها {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} 9. "ومنها": هذا وكم خائف قبل اليوم آويناه بها إلى ربوة ذات قرار، وكم كان بها مطرب طير خرج بعدما كان يطرب على عود وطار.
__________
1 النجم: 53/ 57، 58.
2 ق: 50/ 21.
3 الانفطار: 82/ 5.
4 الإخلاص: من سور القرآن الكريم، وتسمى: التوحيد والصمد.
5 يس: 36/ 9.
6 الحديد: 57/ 13.
7 غافر: 40/ 41.
8 يوسف: 12/ 84.
9 الكهف: 18/ 49.(2/469)
وأوضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش الخضل واليسر عسيرة، لقد كان أهلها في ظل ممدود {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} 1.
ومن ذلك، ما أنشأته قديمًا في توقيع لمولانا قاضي القضاة، علاء الدين عالم المسلمين، أبي الحسن علي الحنبلي -جمل الله الوجود بوجوده- بنظر البيمارستان2 النوري بحماة المحروسة. والذي أوردته في التوقيع، من الاقتباسات البديعة, قولي: وصفت مشارب الصفا بعد الكدر {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} 3 وتلا من سعى لهم في ذلك وجزى بالخيرات، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورًا، ودار شرب العافية على أهل تلك الحضرة بالطاس والكاس، وحصل لهم البرء من تلك البراني4 التي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وتمشت الصحة في مفاصل ضعفائه وقيل لهم: جوزيتم بما صبرتم، وامتدت مقاصيرهم {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} 5.
"ومن ذلك"، ما اقتبسته في ديباجة عهد مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله، زاده الله شرفًا وتعظيمًا، وهو: الحمد لله الذي شد عضد هذه الأمة بمن أمسى به معتضدا، وأسعفنا من البيت النبوي بخليفة ما برح شيخ الملوك في تقديم بيته الشريف مجتهدًا، وأقام العلم العباسي بعد أبي مسلم بأبي النصر فأكرم بحسن الختام وحسن الابتدا، وتكرر حمده على سلطان مؤيد أتحف به العلماء الأعلام، وظهر لجلالهم في أيامه الزاهرة بهجة فقال: هذا زمان مشايخ الإسلام، ونحمده على حكمته التي اقتضت أن تكون الخلافة عمدة الأحكام يزول بها الالتباس، وهو القائل تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} 6.
"من ذلك" ما اقتبسته في عهد مولانا السلطان الملك الظاهر ططر، بقولي منه: فإن البغاة لاحتجاب السلطنة عنه سدا أسسته على الطغيان، فقيل لأهل البيعة: قد فتح الله لأبي الفتح {فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} 7.
__________
1 الواقعة: 56/ 32.
2 البيمارستان: فارسية معرّبة بمعنى العيادة والمستشفى.
3 الإنسان: 76/ 21.
4 البراني: جمع مفرده برينة وهي إناء من فخار.
5 الزمر: 39/ 73.
6 سورة ص: 38/ 26.
7 الرحمن: 55/ 33.(2/470)
"من ذلك"، ما اقتبسته في مثال شريف مؤيدي، كان جوابًا لقرا يوسف: وتبدّى لعلمه الشريف ورود البشير بالقرب اليوسفي، وقل حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف، وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف، وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} 1 وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا، وقد تعين على المقر أن يقول: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} 2.
"واتفق لي" في تقليد قاضي القضاة، ولي الدين العراقي اقتباسات بديعية "منها": وكم قال هذا المنصب رب قد أضعفني اليتم وصار الباطل قويًّا فهب لي من لدنك وليًّا. "ومنها": وأعاذنا الله من ولاية قوم يسمعون بينة الحق وإذا اجتمعوا على الرشوات، تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات.
"ومن ذلك"، ما كتبته على ديوان المقر البارعي الكاملي الأديبي العماد ي، إسماعيل بن الصائغ الحلبي، أحد الأعيان كتاب الإنشاء الشريف الذي عارض به ديوان الصبابة، للشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة -رحمه الله- وهو: وقفت على هذا الكتاب الذي رفع عماد الأدب في هذا الجيل، وشرعت في ذكر محاسنه فقال لسان القلم واذكر في الكتاب إسماعيل. "ومنه": وأما ابن حجة فقد ندب إلى الواقعة على عرفات هذا الفضل المعروف، والامتثال هنا واجب ولكن الكف صفر والطريق مخوف. هذا وقد ذوت من حدائق فكري زهرة الشباب، واختفى لساني كما قال ابن نباتة وأغلق عليه من شفتيه مصراعي باب، وخمد جمر القريحة وجمد ذلك الذهن السيال، ونأى عن خدمتي كافور الطروس وعنبر المداد وصواب المقال، ولكن هبت علَيَّ نسمات الشبيبة من دوحة هذا المصنف الجليل، فقلت وقد شبت نار القريحة وأملت عليَّ هذا الوصف الجميل: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل.
وهذا القدر الذي أوردته كافٍ هنا في الاقتباس من القرآن، فإني أخشى باب الملالة، ولكن عنَّ لي أن أفرد كتابًا وأسميه: "رفع الالتباس عن بديع الاقتباس"، وقد تقدم وتقرر أيضًا أنه إن جاء في المنظوم فهو عقد وتضمين، وإن كان في المنثور فهو اقتباس. وقد أوسع بعض علماء هذا الفن المجال في ذلك، فذكر أن الاقتباس يكون في مسائل الفقه، وقال بعضهم: إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه، بل يكون في غيره من العلوم. وعلى هذا التقدير تعين أن نورد هنا ما وقع من الاقتباس في الحديث
__________
1 يوسف: 12/ 94.
2 يوسف: 12/ 90.(2/471)
النبوي وبقية العلوم، بحيث لا يخلو هذا الشرح الغريب من الغرائب، فإن الظاهر من كلامهم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث. فمما وقع من الحديث النبوي قول الصاحب بن عباد:
أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحت غواديها بهطل ... حوالينا الصدود ولا علينا
الصاحب اقتبس من قوله عليه الصلاة والسلام، حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم: "اللهم حوالينا ولا علينا".
"ومنه" قول أبي الحسن علي بن المفرج المنجم، لما احترقت دار الوجيه بن صورة بمصر:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم1
كذا كل مال أصله من نهاوش ... فعما قليل في نهاير يعدم2
وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم
اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصاب مالًا من نهاوش أهلكه الله في نهابر". النهاوش: بالنون المظالم. والنهابر: المهالك، الواحد نهبور.
"ومنه" قول شمس الدين محمد بن عبد الكريم الموصلي:
ومنكر قتل شهيد الهوى ... ووجهه ينبئ عن حاله
اللون لون الدم من خده ... والريح ريح المسك من خاله
اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم، في وصف دم الشهيد: "اللون لون الدم، والريح ريح المسك".
ومن اقتباسات الحديث في النثر، قول الحريري في المقامات: إنما الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات. ومنه قوله: شاهت3 الوجوه. وقبح اللكع4 ومن يرجوه. اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وقد رمى الكفار بكف من الحصى: "شاهت الوجوه".
__________
1 المارج: الشعلة. يتضرم: يلتهب.
2 النهاوش: المظالم. النهابر: جمع مفرده نُهبُرة وهي الحفرة بين الآكام.
3 شاهت الوجوه: قبحت.
4 اللكع: اللئيم الخسيس.(2/472)
ويعجبني من المنظوم، هنا، قول الشيخ شهاب الدين أبي جعفر بن مالك الأندلسي الغرناطي:
لا تعاد الناس في أوطانهم ... قلما يرعى غريب في الوطن
وإذا ما شئت عيشًا بينهم ... خالق الناس بخلق ذي حسن
اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم، لأبي ذر: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وهذا الحديث صحيح.
ومن الاقتباس في مسائل الفقه، في المنظوم، قول بعضهم:
أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكمي1
ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأدر زكاة منظرك البهي
فقال أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصبي
وإن تك مالكيّ الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي
فلأنك طالبًا مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي
ومثله قول أبي العلاء، أحمد بن سليمان المعري:
أيا جارة البيت الممنع جاره ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل
لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
ومما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله:
خذوا بدمي هذا الغزال فإنه ... رماني بسهمَيْ مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد
ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي:
يزرع وردًا ناضرًا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع
فلم حرمتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع
وله أيضًا:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت تعالوا فاطلبوا اللص بالحدّ2
فقلت لها إني فديتك غاصبّ ... وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد3
__________
1 الشادن: الغزال تشبه به الحسناء. اللحظ: النظر. الكمي: الشجاع.
2 الحدّ: قصاص معلوم وهو القصاص الشرعي، منه حدّ الزنا وحدّ السرقة.
3 الردّ: إرجاع المغضوب وهو المأخوذ عنوة وبالقوة.(2/473)
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه1
المعنى أن النظرة الأولى أتلفت مهجتي، فلزم غرمها بنظرة ثانية؛ لأنه من أتلف شيئًا حكم عليه بغرمه، ولكن في التركيب قلق وعقادة.
"ومنه": قول شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي رحمه الله تعالى:
طلبت زكاة الحسن منها فجاوبت ... إليك فهذا ليس تدركه مني
عليَّ ديون للعيون فلا ترم ... زكاة فإن الدين يسقطها عني
ومنه قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل:
يا سيدي إن جرى من مدمعي دمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك
لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك2
ومن الاقتباسات في علم المنطق، قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني:
للمنطقيين أشتكي أبدًا ... عين رقيب فليته هجعا
صادرها من أحبه فأبى ... أن نختلي ساعة ونجتمعا
كيف غدت دائمًا وما انفصلت ... مانعة الجمع والخلو معا
وهذه الأبيات في غاية الحسن، ولكن أورد بعضهم إيرادًا وقال: ظاهر كلامه التعجب من هذه القضية، والمراد في مثل هذا أن يتعجب مما خرج عن القواعد, وهذه القضية موجودة مستعملة، وذلك قولهم: العدد إما زوج وإما فرد، فهذه القضية مانعة الجمع فإن الزوجية والفردية لا يجتمعان، ومانعة الخلو فإن العدد لا يخلو من أحدهما، فلا معنى للتعجب.
ومنه قول بعضهم:
مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصلة
تمنعنا الجمع والخلو معا ... وإنما ذاك حكم منفصله
__________
1 غارم: كافل ضامن. والمتلف: المفسد.
2 القود: الثأر، والقصاص.(2/474)
هذا تعجب مما يسوغ التعجب منه؛ لأن منع الجمع لا يكون في المتصلة؛ وإنما هو في حكم المنفصلة.
وأما الاقتباس، في علم الجدل، فمنه قول شمس الدين بن العفيف:
وما بال برهان العذار مسلمًا ... ويلزمه دور وفيه تسلسل
وعندي أن الشمس بالصحو آذنت ... وسكري أراه من محياك يقبل
وأما الاقتباس، من علم النحو، فقد اتسع مجالهم فيه، حتى غلب على غالبهم التوجيه، فمنه قول أبي الطيب:
حولي بكل مكان منهم حلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
أبو الطيب يقول إذا استفهمت عن مثل هؤلاء الأقوام لا تستفهم بمن لأن من لمن بعقل وهؤلاء عندي بمنزلة ما لا يعقل، فحقهم أن يستفهم عنهم بما. ومنه قوله:
إذا كان ما ينويه فعلًا مضارعًا ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
يقول إذا هم بفعل أوقعه، قبل أن يمنع وينهى عنه, ويقال له: لا تفعل، أو ينفى فيقال: لم يفعل. ومنه قول ابن عنين في معزول:
فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفة
ومنه قول ابن أبي الأصبع في ذلك:
أيا قمرًا من حسن وجنته لنا ... وظلّ عذاريه الضحى والأصائل
جعلتك للتمييز نصبًا لناظري ... فهلا رفعت الهجر فالهجر فاعل
قلت: ومن أغرب ما وقع في هذا الباب، أن شرف الدين محمد بن عنين مرض فكتب إلى الملك المعظم هذين البيتين:
أنظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي1
أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والدعاء الوافي2
فجاءه الملك المعظم يعوده ومعه ألف دينار، وقال له: أنت الذي، أنا العائد، وهذه الصلة.
__________
1 يولي: يعطي. الندى: العطاء. تلاف: أمر من تلافي أي اجتنب وتحاش. وتلافي: هلاكي.
2 الثناء: المدح. الوافي: الكثير.(2/475)
ومنه قول البهاء زهير:
يا ألفًا من قده أقبلت ... بالله كوني ألف الوصل
ومنه قول الأمير أمين الدين علي السليماني:
أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر
ومنه قول شمس الدين بن العفيف:
يا ساكنًا قلبي المعنى ... وليس فيه سواه ثاني
لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان
أما البيتان، فإنهما في غاية اللطف، ولكن أوردوا عليها أيضًا إيرادًا حسنًا، وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما، وهو الأول وكلامه في البيتين أن المكسور غير الاثنين.
ومنه قول ابن الوردي:
شاعر أخرج نصفًا زغلًا ... عند خباز فلما أن عرف1
قال لم تصرف هذا قال مه ... يصرف الشاعر ما لا ينصرف
قلت: قد أتيت في معنى هذه النكتة، بما هو أبدع من بيت زين الدين بن الوردي، وما ذاك إلا أن مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري، محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف -رحمه الله- وأحالني على شهاب الدين الذهبي بخمسين دينارًا، ومطل بها مدة، فكتبت إليه:
قد منعتم صرف الدنانير عني ... ولكم في الورى هبات كثيرة
وأنا شاعر وفي شرع نظمي ... صرفها جائز لأجل الضرورة
ويعجبني في هذا الباب إلى الغاية، قول الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى:
وأغيد يسألني ... ما المبتدا والخبر
مثَّلهما لي مسرعًا ... فقلت أنت القمر
وحكي أنه كان بالعراق غلامان، أحدهما اسمه عمر، والآخر أحمد، فعزل عمر عن عمله وولي أحمد مكانه بسبب ما وزنه، فقال بعض الشعراء في ذلك:
__________
1 الزغل: الغش.(2/476)
أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد في الولاية مطمئن
وكل منكما كفوء كريم ... ومنع الصرف فيه كما يظن
فيصدق فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن
ومنه قول الفاضل:
لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون
فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلك التنوين
ويعجبني، في الاقتباس من علم العروض، قول القائل:
وبقلبي من الجفاء مديد ... وبسيط ووافر وطويل
لم أكن عالِمًا بذاك إلى أن ... قطّع القلب بالفراق الخليل
وهذا القدر كافٍ، في الاقتباس من القرآن والحديث النبوي ومسائل الفقه والمنطق وعلم العربية والعروض وغيره، وقد تقدم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث في النثر، وأما في النظم فهو عبارة عن عقد وتضمين.
ونظام البديعيات لم يقتبسوا من غير القرآن، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورًا على غنمي1
وبيت العميان:
ذو مرة فاستوى حتى دنا فرأى ... وقيل سل تعط قد خيرت فاحتكم2
وبيت الشيخ عز الدين:
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... ولا اقتباس يرى من هذه الأطم3
وبيت بديعيتي قولي:
وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم4
__________
1 أهُش: أهوّل، وأنهر. والبيت عبارة عن قوله تعالى على لسان النبي موسى -صلى الله عليه وسلم- بعد سؤاله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} .
2 مِرَّة: قوة. استوى: استقام والبيت اقتباس لقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} .
3 البيت اقتباس لقوله تعالى في معرض حديثه عن قوم عاد: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} الأحقاف: 46/ 25. والأطم: الحصون أو البيوت العالية، جمع آطام وأطوم.
4 البيت اقتباس لقوله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} ، يس: 36/ 27.(2/477)
ذكر السهولة:
يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم
السهولة: ذكرها التيفاشي مضافة إلى باب الظرافة، وشركها قوم بالانسجام، وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب: "سر الفصاحة"، فقال في مجمل كلامه: هو خلوص اللفظ من التكلف، والتعقيد والتعسف في السبك.
وقال التيفاشي: السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة تتميز على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل الأدب، وهي تدل على رقة الحاشية، وحسن الطبع وسلامة الروية.
ومن ألطف الأمثلة، "عليها" قول الشاعر:
أليس وعدتني يا قلب أني ... إذا ما تبت عن ليلى تتوب
فها أنا تائب عن حب ليلى ... فما لك كلما ذكرت تذوب
ومنه قول أبي العتاهية:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
فلم تكن تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ومذهبي: أن البهاء زهير، قائد عنان هذا النوع وفارس ميدانه، فمن ذلك قوله:
ومدام من رضاب ... بحباب من ثنايا
كان ما كان ومنه ... بعد في النفس بقايا
مثله قوله:
إن أمري لعجيب ... ما يُرى أعجب منه
كلّ أرض لي فيها ... غائب أسأل عنه(2/478)
ومثله قوله:
شوقي إليك شديد ... كما علمت وأزيد
وكيف تنكر شيئًا ... به ضميرك يشهد
ومثله قوله:
أوحشتني والله يا مالكي ... قطعت يومي كله لم أرك
هذا جفاء منك ما اعتدته ... فليتني أعرف من غيرك
ومثله قوله:
سيدي قلبي عندك ... سيدي أوحشت عبدك
أترى تذكر عهدي ... مثل ما أذكر عهدك
أترى تحفظ ودي ... مثل ما أحفظ ودك
قم بنا إن شئت عندي ... مسرعًا أو شئت عندك
أنا في داري وحدي ... فتفضل أنت وحدك
ومنه قوله:
هذا كتاب محب ... قد زاد فيك غرامه
أضناه فرط اشتياق ... فرقّ حتى كلامه
أما ترى كيف أضحى ... مثل النسيم سلامه
ومنه قوله:
كلمني والمدام في فمه ... قد نفحت من حباب مبسمه1
وماس كالغصن في تمايله ... سكران يشتط في تحكمه2
بالله يا برق هل تحدثه ... عن نار وجدب وعن تضرّمه3
وهل نسيم سري يبلغه ... رسالة من فمي إلى فمه
عجبت من بخله عليّ وما ... يذكره الناس من تكرمه
هم علموه فصار يهجرني ... رب خذ الحق من معلمه
وقال، ويكاد يسيل رقة وسهولة:
كتبت إليك أشكو في كتابي ... أمورًا من فراقك أشتكيها
وفي سوق الهوان عرضت نفسي ... رخيصًا لم أجد من يشتريها
فهل وعد إلى سنة فإن لم ... يكن فيها يكن فيما يليها
وقد أنهيت من شوقي فصولًا ... لمولانا علوُّ الرأي فيها
ومثله في الرقة والسهولة قوله:
ملكتموني رخيصًا ... فانحط قدري لديكم
__________
1 الحباب: المحبوب.
2 ماس: تمايل. يشتط: يجور.
3 الوجد: شدة الشوق. التضرم: شدة الاشتعال.(2/479)
فأغلق الله بابًا ... دخلت منه إليكم
حتى ولا كيف أنتم ... ولا السلام عليكم
وألطف منه قوله:
أنا أدري بأنني ... قل قسمي لديكم
فإلى كم تطلعي ... والتفاتي إليكم
كان ما كان بيننا ... وسلام عليكم
وألطف منه قوله:
أما تقرّر أنا ... فلم تأخرت عنا
وما الذي كان حتى ... حللت ما قد عقدنا
ولم يكن لك عذر ... ولو يكون علمنا
فلا تلمنا فإنا ... قلنا وقلنا وقلنا
ومنه قوله:
قال ما ترجع عني قلت لا ... قال ما تطلب مني قلت شيّ
فانثنى يحمر مني خجلًا ... وثناه التيه عني لا إليّ1
كدت بين الناس أن ألثمه ... آه لو أفعل ما كان عليّ
ومنه قوله:
قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحية
فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العارية
ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقية
ويميلني نحو الصبا ... قبل رقيق الحاشية
فيه من الطرب القديـ ... ـم بقية في الزاوية
وقال، وزنًا وقافية وسال برقته:
من لي بقلب أشتريـ ... ـه من القلوب القاسيه
وإليك يا ملك الملا ... ح وقفت أشكو حاليه
وإني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه
أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عاريه2
__________
1 ثنى: ردّ. التيه: الخيلاء والتكبر.
2 عارية: إعارة.(2/480)
وأعيدها لك لا عدمـ ... ـت بعينها وكما هيه
وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه
ومنه قوله:
إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم
لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم
قصروا عمر ذا الجفا ... طوّل الله عمركم
كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم
قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم
قد رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم
لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم
ومن المرقص في هذا الباب قوله:
تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا
حاشاك يا نور عيني ... تلقى الذي أنا ألقى
ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا
يا أنعم الناس بالًا ... إلى متى فيك أشقى
سمعت عنك حديثًا ... يا رب لا كان صدقا
وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا
لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقّا
يا ألف مولاي مهلًا ... يا ألف مولاي رفقا1
قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى
وبيت الشيخ صفي الدين في السهولة قوله:
وقلت هذا قبول جاءني سلفًا ... ما ناله أحد قبلي من الأمم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. ولا وجدته في بديعية الشيخ عز الدين الموصلي، إلا أن يكون في نسخة غير التي نقلت منها، وعلى كل تقدير فالشيخ عز الدين قدم العقادة في بيته على السهولة.
وبيت بديعيتي:
يا رب سهّل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم
__________
1 الرّفق: اللطف والتمهل.(2/481)
ذكر حسن البيان:
حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم
حسن البيان: قالوا هو عبارة عن الإبانة عما في النفس، بعبارة بليغة بعيدة عن اللبس، إذ المراد منه إخراج المعنى إلى الصورة الواضحة، وإيصاله إلى فهم المخاطب بأسهل الطرق، وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز، وطورًا من طريق الإطناب، بحسب ما يقتضيه الحال، وهذا بعينه هو البلاغة وحقيقتها. وفي البيان: الأقبح والأوسط، والأحسن, فالأقبح، كبيان باقل وقد سئل عن ثمن ظبي في يده، فأراد أن يقول أحد عشر، فأدركه العي، حتى فرق أصابعه وأدلع لسانه فأفلت الظبي. ومن هنا يعلم أنه ليس كل إيجاز بلاغة, ولا كل إطالة عيًّا، فإنه لا إيجاز في الأفهام أوجز من بيان باقل؛ لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة واحدة. وقد ضرب به المثل بالعي في بيانه. وكان الأحسن أن يقول: أحد عشر. والأوسط: أن يقول: ستة وخمسة، أو عشرة وواحد.
والنور المبين في هذا الباب، بيان القرآن الكريم، كقوله تعالى، وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} 1. وكقوله سبحانه، وتعالى: وقد أراد أن يبين عن الوعد: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 2، وكقوله سبحانه، وقد أراد أن يبين عن الوعيد: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} 3، وكقوله تعالى، في الاحتجاج القاطع للخصم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ
__________
1 الدخان: 44/ 25.
2 الدخان: 44/ 51.
3 الدخان، 44/ 40.(2/482)
خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. كقوله تعالى، وقد أراد أن يبين عن العدل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 2، وأمثال هذا الباب كثيرة لمن يتتبعها في القرآن.
ومما جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية:
يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكرا
وكقول الآخر:
له لحظات في خفايا سريرة ... إذا كرّها فيها عتاب ونائل3
فإن هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة، ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم المهابة، بعد الله سبحانه وتعالى، فإذا نظر أحدهما نظرة أو حرك القضيب مرة أو أطرق مفكرًا، اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس، فأبانا عن هذه المعاني بأحسن إبانة.
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله تعالى:
وعدتني في منامي ما وثقت به ... مع التقاضي بمدح فيك منتظم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله:
حسن البيان بحمد الله بين لي ... هدي النبي الرضي الواضح اللقم4
وبيت بديعيتي قلت قبله، في السهولة:
يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم
وقلت بعده، في حسن البيان:
حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم
__________
1 يس: 36/ 78، 79.
2 الأنعام: 6/ 28.
3 كرّها: كرّرها تكرارًا.
4 اللقم: النهج والطريق.(2/483)
ذكر الإدماج
قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم1
هذا النوع، أعني الإدماج: هو أن يدمج المتكلم غرضًا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني، ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصده، كقول عبد الله بن عبيد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب، حين وَزِر للمعتمد، وكان ابن عبيد الله قد اختلّت حاله فكتب لابن سليمان:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا في من نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
فأدمج شكوى الزمان، وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة، وتلطف في التلويح، ورقق التخيّل لبلوغ الغرض، مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال. لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله.
ومن لطيف الإدماج قول ابن نباته السعدي:
ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فهل من حليم أودع الحلم عنده
ابن نباتة أدمج الفخر في الغزل فإنه جعل حلمه لا يفارقه البتة، ولا يرغب عنه بنفسه جملة، وإنما عزم على أن يودعه، إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب لأن الودائع تستعاد، ثم استفهم عن الخل الصالح الذي يصلح لهذه الوداعة استفهامًا إنكاريًّا،
__________
1 العنم: شجر ذو ثمار حمراء، واحدته عنمة. والبَهار: الجَمَال أو تكون فارسية معربة بمعنى: "الربيع".(2/484)
فيكون مفهوم الخطاب: بقيا حلمه لعدم من يصلح للوداعة، ثم أدمج في ضمن الفخر الذي أدمجه في الغزل شكوى الزمان لقلة الإخوان، بحيث إنه لم يبق منهم من يصلح لهذا الشأن، ومنه قول ابن المعتز في وصف الخيري:
قد نقض العاشقون ما صنع الـ ... ـدهر بألوانهم على ورقه
قصد وصف الخيري بالصفرة، وأدمج فيه وصف ألوان العشاق.
وبيت الحلي في الإدماج قوله:
لصدق قولك لو حب امرؤ حجرًا ... لكان في الحشر عن مثواه لم يرم
هذا البيت فيه إدماج سؤاله حسن المحشر في زمرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في طي تصديقه الحديث المأثور عنه.
وبيت العميان:
لهم أحاديث مجد كالرياض إذا ... أهدت نواسم أحيت دارس السلم
قال الشيخ أبو جعفر الشارح: إن الناظم جعل لهم أولًا أحاديث مجد طيبة. وأدمج في ذلك وصف الرياض.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
أدمجت شكواي من ذنبي بمدحته ... عساك تشفع لي يا شافع الأمم
الشيخ عز الدين ذكر أنه أدمج الشكوى من ذنبه، لكن نوع الإدماج البديعي لا أعلم أين أدمجه. والله أعلم.
وبيت بديعيتي:
قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم
هذا البيت أبدع من بيت ابن المعتز، وفيه زيادة وإدماج آخر. فإن ابن المعتز غاية قصده وصف الخيري1 بالصفرة، وأدمج فيه ألوان العشاق. وأنا قصدت شرح الحال في غرة إدماج الشوق بواسطة جريان الدمع، وأدمجت في ذلك صفرة اللون وحمرة الدموع. هذا محاسن التورية بتسمية النوع غير خافية على أهل الإنصاف من حذاق الأدب. والله أعلم.
__________
1 الخيريّ: نوع من الحمام.(2/485)
ذكر الاحتراس:
فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم
الاحتراس: هو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل فيفطن له، فيأتي بما يخلصه من ذلك ومثاله في كتاب الله عز وجل: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} 1 فاحترس بقوله تعالى: من غير سوء، عن إمكان أن تدخل في البرص والبهق2 وغير ذلك، ومثال ذلك في الشعر، قول طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي
فقوله: عير مفسدها احتراس من مقابله وهو محو معالمها، والفرق بين الاحتراس والتتميم والتكميل أن المعنى قبل التكميل صحيح تام، ثم يأتي التكميل بزيادة تكمل حسنه، إما بفن زائد أو معنى، والتتميم يأتي لتتميم نقص المعنى ونقص الوزن معًا، والاحتراس إنما هو لدخل يتطرق إلى المعنى وإن كان تامًّا كاملًا ووزن الشعر صحيحًا.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
فوفني غير مأمور وعودك لي ... فليس رؤياك أضغاثًا من الحلم3
احتراس الشيخ صفي الدين، في قوله: غير مأمور، فإن لفظة وفني في البيت فعل أمر، ومرتبة الآمر فوق مرتبة المأمور، فاحترس بقوله: غير مأمور.
__________
1 القصص: 28/ 32.
2 البهق: بياض في الجسد غير البرص.
3 أصغاث: جمع مفرده ضغث وهو الكلام لا خير فيه، وأضغاث أحلام: لا يمكن تأويلها لالتباسها واختلاطها.(2/486)
والعميان ما نظموا هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين:
حبي له يتمشى في المفاصل قل ... بالاحتراس تمشي البرء في السقم1
قلت: الشيخ صفي الدين احترس في بيته، بقوله: غير مأمور. واحتراس الشيخ عز الدين عجزت عن تحقيقه بل عن تحقيق معناه، فإن هذا البيت مأخوذ من قول أبي نواس، في وصف الخمرة:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
وبيت بديعيتي:
فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم
فقولي: غير مطرود، هو الاحتراس الذي يليق بمقام المادح، بالنسبة إلى مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- والتورية باسم النوع في قولي: لم أحترس بعدها، محاسنها توري. والتكميل، بقولي: من كيد مختصم، هو الذي زاد محاسنها بهجة وكمالًا.
__________
1 احتراس الشيخ عز الدين في قوله: "بالاحتراس". إذ يكون معنى البيت قل إن حبي له يتمشى في المفاصل تمشي البرء في السقم، واحتراس بقوله: "بالاحتراس" لئلا يخيل للسامع أن هذا التمشي على كل حال. والله أعلم.(2/487)
ذكر براعة الطلب:
وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم
هذا النوع من مستخرجات الشيخ عز الدين الزنجاني، في كتاب: "المعيار". وهو أن يلوّح الطالب بالطلب، بألفاظ عذبة مهذبة منقحة مقترنة بتعظيم الممدوح خالية من الإلحاف1 والتصريح، بل يشعر بما في النفس دون كشفه، كقول أبي الطيب المتنبي:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب2
والفرق بين براعة الطلب وبين الإدماج، أن الإدماج أن يقدر معنى من المعاني، ثم يدمج غرضه ضمنه ويوهم أنه لم يقصده، وهذا مقصور على الطلب فقط، وهو أيضًا فرق بينه وبين الكناية. وبيت الشيخ صفي الدين قوله:
وقد علمت بما في النفس من أرب ... وأنت أكرم من ذكري له بفمي3
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله قوله:
براعة بان فيها منتهى طلبي ... وأنت أكرم من نطق بلا ولم
وبيت بديعيتي:
وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم
__________
1 الإلحاف: الرّمز أو ما خفي معناه من الكلام، والتلميح.
2 الفطانة: سرعة البديهة. والذكاء، وقوة الذاكرة مجتمعة.
3 الأرب: الحاجة الماسة.(2/488)
ذكر العقد:
قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإنّ منه لسحرًا غير سحرهم
العقد ضد الحل؛ لأن العقد نظم المنثور والحل نثر المنظوم. ومن شرائط العقد أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه، فيزيد الناظم فيه وينقص ليدخل في وزن الشعر، ومتى أخذ بعض المنثور دون لفظه كان ذلك نوعًا من أنواع السرقات، ولا يسمى عقدًا إلا إذا أخذ الناظم المنثور برمته، وإن غير منه طريقًا من الطرق التي قدمناها كان المتبقي منه أكثر من المغير، بحيث يعرف من البقية صورة الجميع، كما فعل أبو تمام، في كلام عزى به الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- الأشعثَ بن قيس، في ولده، وهو: إن صبرت صبر الأحرار، وإلا سلوت سلوّ البهائم، فعقده أبو تمام شعرًا فقال:
وقال علي في التعازي لأشعثٍ ... وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاءً وحِسبة ... فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم1
وبيت الشيخ صفي الدين قوله:
ما شب من خصلتي حرصي ومن أملي ... سوى مديحك في شيبي وفي هرمي
المقصود، في هذا البيت، من العقد، قول النبي، صلى الله عليه وسلم: يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
__________
1حِسبة: أي تحتسب أجر الصبر عند الله سبحانه وتعالى.(2/489)
عقد اليقين صلاتي والسلام على ... محمد دائمًا مني بلا سأم
قلت: أما الشيح صفي الدين فإني لم أصادف في بيته من عقد الحديث النبوي محلًا، ولكن ذكر فيه حكاية حاله. وأما الشيخ عز الدين -غفر الله- له فإنه ذكر، في شرحه أن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". وفي حديث آخر: "قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم". وفي الحديث: "أكثروا من الصلاة عليَّ".
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. وذكر أنه عقد الآية والحديث، ولم يظهر لي حل هذا العقد في أي موضع هو من البيت.
وبيت بديعيتي:
قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإن منه لسحرًا غير سحرهم
العقد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا". والله أعلم.
__________
1 الأحزاب: 33/ 56.(2/490)
ذكر المساواة:
تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم
هذا النوع -أعني: المساواة- مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ مساويًا للمعنى، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهذا من البلاغة التي وصف بها بعض الوصاف بعض البلغاء فقال: كأن ألفاظه قوالب لمعانيه، ومعظم آيات الكتاب العزيز كذلك.
واعلم أن البلاغة قسمان: إيجاز وإطناب، والمساواة معتبرة في القسمين معًا. فأما الإيجاز فكقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 1. والإطناب في هذا المعنى كقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 2. وقال سبحانه وتعالى، في قسم الإيجاز من غير هذا المعنى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3. وقال عز من قائل، في الإطناب: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} 4. الآية.
ولا بد من الإتيان بهذا الفصل، لئلا يتوهم المتأمل أن الإطناب لا يوصف بالمساواة. ومن الشواهد على المساواة قول امرئ القيس:
فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا الذم لا نقصد
__________
1 البقرة: 2/ 179.
2 الإسراء: 17/ 33.
3 الأعراف: 7/ 199.
4 النحل: 16/ 90.(2/491)
وقول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم1
وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
وقد مدحت بما تم البديع به ... مع حسن مفتتح منه ومختتم
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:
خطت مساواة معناه وصورته ... في الحسن شاهده في نون والقلم2
وبيت بديعيتي في المساواة قولي:
تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم
__________
1 الخليقة: العادة والخصلة، والخلق. خال: ظن.
2 نون والقلم: سورة القلم من القرآن الكريم.(2/492)
ذكر حسن الختام
حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي
هذا النوع ذكر ابن أبي الأصبع أنه من مستخرجاته، وهو موجود في كتب غيره بغير هذا الاسم، فإن التيفاشي سماه: "حسن المقطع"، وسماه ابن أبي الأصبع: "حسن الخاتمة". وهذا النوع الذي يجب على الناظم والناثر أن يجعلاه خاتمة لكلامهما، مع أنهما لا بد أن يحسنا فيه غاية الإحسان، فإنه آخر ما يبقى في الأسماع، وربما حفظ من دون سائر الكلام في غالب الأحوال، فلا يحسن السكوت على غيره.
وغاية الغايات، في ذلك، مقاطع الكتاب العزيز في خواتم السور الكريمة. فمن المعجز في ذلك، قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} 1. انظر أيها المتدبر هذه البلاغة المعجزة. فإن السورة الكريمة بدأت بأهوال يوم القيامة، وختمت بقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} "ومثله" قوله تعالى، في سورة عبس: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} 2. ومن ذلك قوله تعالى:
__________
1 الزلزلة: 99/ 7، 8.
2 عبس: 80/ 34- 42.(2/493)
{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.
ومن كلام أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وهو المقدم في فنون البلاغة على بلغاء البدو والحضر، في ختام جواب كتاب كتب به إلى معاوية: ثم ذكرت أن ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، وإني مرقل2 إليك بجحفل من المهاجرين والأنصار، وقد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية، عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك، وما هي من الظالمين ببعيد.
وأجمعوا، بعد ذلك، على أن فواصل المقامات تقوم غالبها مقام المثل السائر، وحسن خواتمها تعقد عليه الخناصر. "وقد عنّ لي" أن أورد هنا مقامة كاملة، فإذا نظر المتأمل إلى براعة استهلالها، وفهم القصد الذي جنح إليه الحريري، عرف مقدار حسم الختام الذي تمت به الفائدة؛ وحسن السكوت عليه. "وقد اخترت المقامة الثالثة عشرة"، وهي الزورائية؛ لأنه ثبت عن القاضي الفاضل أنه شرع في معارضة المقامات، وعارض منها كل فصل بفصل أحسن منه، إلى أن وصل إلى فصل هذه المقامة الذي سيأتي وأنبه عليه في موضعه.
والمقامة الموعود بإيرادها هو قوله: "حكى الحرث بن همام" قال: ندوت3 بضواحي الزوراء، مع مشيخة من الشعراء، لا يعلق لهم مبار بغبار، ولا يجري معهم ممار4 في مضمار، فأفضنا في حديث يفضح الأزهار، إلى أن نصفنا النهار، فلما غاض در الأفكار، وصبت النفوس إلى الأوكار، لمحنا عجوزًا تقبل من البعد، وتحضر إحضار الجرد5، وقد استتلت صبية أنحف من المغازل، وأضعف من الجوازل، فما كذبت إذ رأتنا أن عرتنا، حتى إذا ما حضرتنا، قالت حيا الله المعارف. وإن لم يكن معارف. اعلموا يا مآل الآمل، وثمال الأرامل، أني من سروات القبائل، وسريات العقائل.
"والفصل الذي عجز الفاضل عنه، هو": لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاء، وفجع
__________
1 الزمر: 39/ 75.
2 أرقل: أسرع. والجحفل: الجيش الكثير العدد.
3 لم نشرح من هذه المقامة إلا الألفاظ التي لم يشرحها الكاتب إذ إنه يعود إلى شرح ما استعجم من مفرداتها بعد إتمامها.
4 المماري: المجادل المناقش.
5 الجرد من الخيول: السريعة واحدها أجرد.(2/494)
بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهرًا لبطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، ونفدت الراحة، وصلد الزند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب.
قلت: وهذا الفصل الذي أحجم القاضي عن معارضته، قلت في معناه، وكتبت إلى سيدنا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي -نوّر الله ضريحه- رسالة مجسدة، مشتملة على ذلك جيدة، راعيت فيها النظير، لأجل الصدر من الرأس إلى القدم، ولم أخرج فيها عن حسن الختام الذي ما ختمت رسالة بنظيره، والتزمت فيها السجع الذي فر الحريري منه في فصله. "وقد عنّ لي" أن أثبت الرسالة هنا بكمالها، وأرجع إلى ما كنا فيه من حسن الختام في المقامة الحريرية. "والرسالة هي":
يقبل أرضًا بالعلا قد تجسدت ... بأرواح أهل العلم روضة مشتهى
وهبت بأنفاس العلوم قبولها ... ولا زال صدر الدين منشرحًا بها
وينهى أن الصدر رأس العلوم، وكم له من فرق دق على الأفهام، وهو كالغرة في جباه الأيام، لا زال المجد له حاجيًا1 مقرونًا بسعده الشامل، ولا برح بعلمه عينًا لوجوه المسائل. فللَّه أهداب معانيه التي هي أسحر من عيون الغزلان، وأمضى من السيوف إذا برزت من الأجفان، وأصداغ فضائله التي هي عاطفة على وجنات الوجود، لأنها كالعوارض الماطرة، وكم أنست عند ذكره من سالفة، وكم لها في قلوب الأعداء من خدود وندى جوده الذي إذا جاءه الشارب وجد عنده شفاه، حلاوة نظمه الذي أنسانا ذكر العذيب وثناياه، وعنق مكارمه التي ألفت من البديع الالتفات؛ وأوصافه التي غدت على خد الدهر شامات، حتى تبدلت سيئاته حسنات. كف عنا تعب الفقر بكرم راحته المتزايد، من غير أن يقال له ساعد، وشهدنا بأن أياديه بحر يفيض بصنائعه. فأشار النيل إلى قبول هذه الشهادة بأصابعه. فللَّه ندى يمينه الذي لم يزل المملوك به في بلاد الشام مكفى، وكم فاض منه قلب النيل وجهد أن يوفيه بالباع والذراع فما وفى. جبلت على محبته القلوب فصار حبه ظاهرًا في كل باطن، وحنت إليه الجوارح لما سارت مناقبه إلى جانب فحركت كل ساكن، ورفع المملوك أدعيته التي هي إن شاء الله تعالى نعيم للبدن الكريم، واعتدال اللطيف ذلك المزاج، وأثنيته التي هي كالمناطق على خصور الحسان وبها لكل قلب ابتهاج, لكن تثاقلت2 عليه أرداف النوى، وأسكنت في وسط لبه الجوى وقده الانقطاع بسيفه الذي زاد في حده, ولكن جار في قده, ولو حصر المملوك
__________
1 حاجيًا: ملازمًا وسابقًا.
2 تثاقلت: أصبحت ثقيلة. وفي النسخة المطبوعة: "تناقلت" بالنون وما أثبتناه هو الصحيح. كما هو ظاهر.(2/495)
ما ساق إليه البعد من الاشتياق إلى تقبيل الأقدام لم تسعه قائمة، وهو يعد القلب بالصبر، ولكن كما ذكر كعب عن مواعيد عرقوب، فنسأل الله حسن الخاتمة.
"رجع" إلى ما كنا فيه من تكملة المقامة الحريرية، والتنبيه على حسن ختامها. قال بعد الفصل المجسد الذي آخره: ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. فمذ اغبرّ العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر. وتلوى من ترون عينه فراره، وترجمانه اصفراره، قصور بغية أحدهم ثرده1، وقصارى أمنيته برده. وكنت آليت أن لا أبذل الحر إلا للحر، ولو أني مت من الضر، وقد ناجتني القرونة، بأن توجد عندكم المعونة، وآذنتني فراسة الحوباء، بأنكم ينابيع الحباء، فنضر الله امرأ أبر قسمي، وصدق توسمي ونظر إليَّ بعين يقذيها الجمود، ويقذيها الجود. "قال الحرث بن همام": فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعارتها، وقلنا لها: قد فتن كلامك، فكيف إلحامك. فقالت: يفجر الصخر ولا فخر، فقلنا لها: إن جعلتنا من رواتك، لم نبخل بمواساتك. فقالت: لأرينكم أولًا شعاري، ثم لأروينّكم أشعاري. فأبرزت ردن درع دريس2 وبرزت عجوز دردبيس، وأنشأت تقول:
أشكو إلى الله اشتكاء المريض ... جور الزمان المعتدي البغيض
يا قوم إني من أناس غنوا ... دهرًا وجفن الدهر عنهم غضيض
فخازهم ليس له دافع ... وصيتهم بين الورى مستفيض
كانوا إذا ما نجعة أعوزت ... في السنة الشهباء روضًا أريض
تشب للسارين نيرانهم ... ويطعمون الضيف لحمًا غريض
ما بت جار لهم ساغبًا ... ولا لروع قال حال الجريض
فغيضت منهم صروف الردى ... بحار جود لم أخلها تغيض3
وأودعت منهم بطون الثرى ... أسد التحامي وأساة المريض
فمحملي بعد المطايا المطا ... وموطني بعد اليقاع الحضيض
وافرخي ما تأتلي تشتكي ... بؤسًا له في كل يوم وميض4
إذا دعا القانت في ليله ... مولاه نادوه بدمع يفيض
يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض
__________
1 الثردة: الخبز المثرود بمرق اللحم: "الثريد" وقد كنى به عن تفاهة الغاية.
2 دريس: بالٍ.
3 غيض: الماء، غار في العمق ومنه قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} . لم أَخَلْها: لم أظنها.
4 إئتلى: ملّ، ما تأتلي ما تنفك. الوميض: الإشارة الخفية أو اللمعان الخفيف.(2/496)
أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس اللؤم نقي رحيض
يطفئ نار الجوع عنا ولو ... بمذقة من جازر أو مخيض1
فهل فتى يكشف ما نابهم ... ويغنم الشكر الطويل العريض
فوالذي تعنو النواصي له ... يوم وجوه الجمع سود وبيض2
لولاهم لم تبد لي صفحة ... ولا تصديت لنظم القريض
"قال الراوي": فوالله لقد صدعت بأبياتها أعشار القلوب، واستخرجت خبايا الجيوب، حتى ماحها من دينه الامتياح، وارتاح لرفدها من لم تخله يرتاح، فلما افعوعم جيبها تبرا، وأولاه كل منا برا تولت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشكر فاغر، فاشرأبت الجماعة بعد ممرها إلى سبرها، لتبلو مواقع برها، فكفلت لهم باستنباط السر المرموز، ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهت إلى سوق مغتصة بالأنام، مختصة بالزحام، فانغمست في الغمار، وأملست من الصبية الأغمار، ثم عاجت بخلو بال، إلى مسجد خال، فأماطت الجلباب، ونضت النقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب وأرقب ما ستبدي من العجاب، فلما انسرت أهبة الخفر، رأيت محيا أبي زيد قد سفر، فهممت بأن أهجم عليه، لأعنفه على ما أجرى إليه، فاستلقى استلقاء المتمردين، ثم رفع عقيرة المغردين، واندفع ينشد:
يا ليت شعري أدهري ... أحاط علمًا بقدري
وهل درى كنه غوري ... في الخدع أم ليس يدري
كم قد قمرت بنيه ... بحيلتي وبمكري
وكم برزت بعرف ... عليهم وبنكر
أصطاد قومًا بوعظ ... وآخرين بشعر
واستفز بخل ... عقلًا وعقلًا بخمر
وتارة أنا صخر ... وتارة أخت صخر3
ولو سلكت سبيلًا ... مألوفة طول عمري
لخاب قدحي وقدحي ... ودام عسري وخسري
فقل لمن لام هذا ... عذري فدونك عذري
"قال الحرث بن همام": فلما ظهرت على جلية أمره. وبديعة أمره، وما زخرف في
__________
1 المذقة: الشربة. الجازر: اللبن. المخيض: اللبن الذي سُحب منه الدسم بواسطة المخض.
2 تعنوا: تخضع. النواصي: جمع مفرده ناصية وهي مقدم الشعر من الرأس وكنى بها عن الرأس.
3 صخر: هو ابن عمرو الشريد أخو الخنساء الشاعرة واسمها تماضر بنت عمرو الشريد.(2/497)
شعره من عذره، علمت أن شيطانه المريد لا يسمع التفنيد1، ولا يفعل إلا ما يريد، فثنيت إلى أصحابي عناني، وأبثثتهم ما أثبته عياني، فوجموا لضيعة الجوائز، وتعاهدوا على محرمة العجائز.
"قلت": قد علمت أيها المتأمل أن هذا المقامة البديعة بنيت على ترهات هذه العجوز، وما زخرفته من الباطل، في نظمها ونثرها، الذي خلب كل منهما القلوب وسلب عقول السامعين إلى أن بالغوا في إكرامها. فلما كشف لهم الغطاء عن جميع ما نمقته، وتحققوا أنه بني على الباطل، كانت الخاتمة, فوجموا لضيعة الجوائز، وتعاهدوا على محرمة العجائز.
والألفاظ المحتاجة إلى الحل، في هذه المقامة، هي قوله: ندوت أي حضرت النادي، والجوازل: فراخ الحمام، واحدها جوزل. وعرتنا قصدتنا: يقال عراه واعتراه. والمعارف: الوجوه. المعارف الثانية: من المعرفة. وثمال القوم: من يقول بأمرهم. وسروات القبائل: السرو: وهو السخاء والمروأة. واحد السروات سراة، لا يجوز أن يكون سراة بالضم، وسريات: جمع سرية، وهي العقيلة السخية. والقلب: هنا قلب العسكر ويمطون الظهر: أي يحملون المنقطع. ويولون اليد: أي النعمة، وأردى: أهلك. والأعضاد: جمع عضد، وهو ما يمسك الشيء ويقويه. والجوارح: هنا الأعضاء التي تجرح. وقوله: وانقلب ظهرًا لبطن: المراد به عكس الحال. ونبا: ارتفع. والحاجب: صاحب الأمير. وصلد الزند: أي لم يور. ووهت: أي ضعفت. واليمين: القوة. والثنية: الناقة التي لها ستة أعوام. والناب: المسنة. واغبرّ العيش: أي تكدر. وازورّ: مال والمحبوب الأصفر: هو الدينار. وفودي: صدغي. والموت الأحمر كناية عن الفقر. والعدو الأزرق الشديد العداوة، والأصل فيه: العطش، وبه فسر قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} 2 أي عطاشًا. وتلوى تابعي عينه فراره: أي عيانه يغنيك عن اختباره، وفي المثل: إن الجواد عينه فرارة. أي عيانه. وقصارى أمره: أي آخر أمره. وآليت: أي حلفت. وأبذل الحر: أي الوجه. والقرونة: النفس. والحوباء: النفس أيضًا. ونضر: بمعنى حسن. ويقذيها: يلقي فيها القذى. والجمود: الإمساك. ويقذيها الجود: يخرج عنها القذى. والحامك: بمعنى نظمك الشعر. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. والدثار: ما فوقه. والردن: الكم ودردبيس: من أسماء الداهية. والسنة الشهباء:
__________
1 التفنيد: الاحتجاج والمناقشة.
2 طه: 20/ 102.(2/498)
المجدبة. وتشب: توقد، وغريض: طري. وساغب: جائع. والجريض: العصص والأساة: الأطباء. والمطايا: الإبل. والمطا: الظهر. واليفاع: التل المشرف. والحضيض: القرار من الأرض. تأتلي: تترك. والنعاب: فرخ الغراب. والمهيض: الذي كسر بعد جبر. وأتح: وفق. ورحيض: مغسول. وبمذقة: أي بجرعة. وأعشار القلوب: أي قطع القلوب. وحتى ماحها من دينه الامتياح: أي أعطاها من عادته يعطي. وافعوعم: امتلأ، وفاغر: مفتوح. فاشرأبت: تطلعت. وسبرها: اختبارها. واستنباط: استخراج. والمرموز: المبهم. والغمار: الزحام. والأغمار: البله. وعاجت: عطفت. وأماطت الجلباب: باعدته، وهو الرداء. ونضت: جردت. وخصاص: جمع خصاصة، وهو الثقب في الباب، وكذلك الصبر. وفي الحديث: من نظر إلى قوم من صير باب فقئت عينه. وانسرت: انكشفت. والخفر: الحياء. وسفر: انكشف. وأسفر: أضاء. وأجرى: قصد. واستلقى: رقد على ظهره ورفع رجلًا على رجل. والمغردين: المطربين. والعقيرة: الصوت. وكنه غوري: حقيقة أمري. والخل والخمر: هنا كنايتان عن الخير والشر. وقدحي: سهمي. وقدحي: استخراجي أمره العجيب. والمريد: العاتي. والمرادة: العتو. وجموا: أي سكتوا. ا. هـ. تفسير الألفاظ المحتاجة إلى البيان من هذه المقامة.
"ومن صناعات القاضي الفاضل، في حسن الخواتم، قوله": في حسن خاتمة رسالة كتب بها إلى الديوان العزيز الخليفي، وهو: لا برحت راياته السود سويدات1 قلوب العساكر، وأجنحة الدعاء المحلق إلى السماء من أفق المنابر.
ومثله قوله: لا برحت الأقدار له جنودًا، والجديدان2 يسوقان إليه في أيامهما ولياليهما إماء3 وعبيدًا؟
ومثله قوله: والله تعالى يرده رد السحب الهاطلة إلى الأمكنة الجدوب4، والمغفرة الشاملة إلى مواقع الذنوب، والمسرة إلى مستقرها من مطالع القلوب.
"ومن ذلك" قوله، في ختام جواب كتاب ناصري: ولا زال كالئًا5 للإسلام بسيفه الذي جفنه كجفنه ساهر، ولا أخلى الله منه الدين بقوة منه ولا ناصر.
__________
1 سويدات: جمع مفرده سويداء وهي مركز العواطف من القلب.
2 الجديدان: الليل والنهار سميا بذلك لتجددهما الدائم.
3 الإماء: الخدم من النساء، جمع أَمَة.
4 الجدوب: المقفرة.
5 كالئ: حافظ، حامي.(2/499)
"ومنه قوله": والله تعالى يغني عن المكاتبات بلقائه، كما أغنى عن بقية الخلق ببقائه.
"ومن ذلك قول العلامة الشهاب محمود في ختام رسالة": والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفًا للأولياء وقد جعل.
"وصرع" ابن الصاحب أمين الدين مرزمًا، وهو من أصناف الطير الجليل، ومن طيور الواجب، وسأل الشيخ جمال الدين في إنشاء مطالعة إلى الحضرة الشريفة المقدسة الخليفية، يسأل فيها القبول فيما صرعه من الواجب، فأنشأ الشيخ جمال الدين بن نباتة رسالة بديعة، في هذا المعنى، وحسن ختامها أبدع "وهو": والله المسئول سبحانة أن يمتع المملوك في ولاء المواقف المقدسة باتباع طرقه، وأن ينفعه بالانتماء إذا ألزمته الدنيا طائره في يديه، وألزمته الآخرة طائره في عنقه.
"ومن ذلك"، حسن ختام العهد الذي أنشأه القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، لولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل، "وهو": والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إمامًا، وللمعتدين انفصامًا1، ويطفئ بماء سيوفه نار كل حطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميِّه بردًا وسلامًا.
"ومن ذلك"، حسن ختام رسالتي، التي تقدم ذكرها في باب الاقتباس، والمشتملة على الكائنة التي قدرها الله تعالى على دمشق المحروسة، من الحريق وغيره، "وهو": فوصل المملوك إلى البلاد وقد ودّ يومه لو تبدل بالأمس، ولم يسلم له في وقعة الحرب غير الفرس والنفس! فأعاذ الله مولانا وبلاده من هذه القيامة القائمة، وبدأه في الدنيا ببراعة الأمن وفي الآخرة بحسن الخاتمة.
"ومن أبدع الأمثلة، التي ليس لها مثال في حسن الختام، قولي في تقليد بالإشارة الشريفة": والوصايا كثيرة ولكن لا يهدى تمر إلى هجر، فإننا إلى مشورته أحوج من المبتدأ إلى الخبر. والله تعالى يديمه ركنًا لهذا البيت الشريف، الذي تطوف الناس حوله ويُسعى إليه، ولا برح كلامه في المشورة، لفظًا ومعنى، تتم الفائدة به ويحسن السكوت عليه.
"وقلت في خاتمة تقليد بنظر الكسوة": فليباشر ذلك علماؤنا أنه من تقرب إلى الله بخدمة بيوته فقد فاز، ولا بد أن يصير لديباجة هذا البيت بحسن توشيحه دار الطراز، فقد
__________
1 الانفصام: التفريق.(2/500)
أسعده الله وظهر له في توشيح هذا البيت نظم مفيد، ولا ينكر حسن هذا التوشيح للقاضي السعيد، والله تعالى يكرم مثواه في الآخرة بتشييد هذا البيت وقيام شعاره، ولا زالت أنامل بره تتختم بخواتيم الخبر وتنقل أحاديث المحاسن بفصها في أخباره.
"ومثله قولي": في تقريظ كتبته لأقضى القضاة، ولي الدين القرشي، على كتابه المسمى: "بعمدة المناسك" "وهو": والله تعالى يزيد صناعة هذا النسك بهجة على كل ناظم، ويجعله لأعماله الصالحة المقبولة من أحسن الخواتم.
"وتقدم لي بالديار المصرية" بشارة بوضع المقر الأشرف، سيدي موسى ولد المقام الشريف المؤيدي -سقى الله من غيث الرحمة ثراه- من رأس القلم بالحضرة الشريفة جاءت نسيج وحدها، وواسطة عقدها. "منها": حملت به أمه وأبرزته كشمس الحمل1 بهجة ونورًا، وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا ولكن ملأ الدنيا سرورًا.
"وتوجهت"، بعد ذلك التاريخ، إلى المقر ثغر الإسكندرية المحروسة في مهم شريف، فورد على نائب الثغر المحروس بشارة شريفة، بمولد سيدي المقر الأشرف الناصري، محمد ولد المقام الشريف المؤيدي -نوّر الله ضريحه- فركب نائب السلطنة الشريفة بالثغر منها، "وهو": أكرم بها صحيفة محمدية أمسى بها كل قلب مأنوسًا، وتلت مسرتها من تقدم قبلها من الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى. فالحمد لله على تواتر هذه التهاني التي أتهم بها كل حادٍ وأنجد، وعمت بركتها بإبراهيم وموسى ومحمد، والله تعالى يوصل أحاديث التهاني المؤيدية ليتسلسل كل حديث بمسنده، ولا برحت الخواطر الشريفة مسرورة بمحمد وحديثه ومولده.
"ومن ذلك"، قولي في ختام تقليد قاضي القضاة ولي الدين العوافي بقضاء قضاة الشافعية، بالديار المصرية والممالك الإسلامية، "وهو": والله تعالى يطلق له أعنة الإقبال، وينيله من نعمه ما لا يخطر قبل وقوعه ببال، ويحلي به جيد الدهر وقد تحلى بعدما ذهب رونقه وزال، كما أحسن له في البداية، أن يحسن إليه في النهاية، حتى يقول الحمد لله على كل حال.
"ومثله" في الحسن، ختام تقليد قاضي القضاة أبي البقاء علم الدين صالح البلقيني، "وهو": والله يرفع علم علمه على كل غاد ورائح، ويجعل كلًّا من عمله وحكمه واسمه الكريم صالِحًا في صالح في صالح.
__________
1 الحمل: منزلة من منازل الشمس أحسن ما تكون فيها نورًا.(2/501)
"وقد عنَّ لي" أن أختم ما تقدم لي من الأمثلة في حسن الخواتم، بختام كتاب المسك من أقل عبيده، ويود منثور الدر أن ينتظم في سلك عقوده، وذلك أني كتبت للمقر المرحومي الفتحي، فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، كان على لسان قاضي القضاة شرف الدين مسعود الشافعي وأعيان طرابلس المحروسة، وقد وصلوا إلى الديار المصرية في البحر قسرًا، مما عاينوه من أهوال تلك المحنة المشهورة، التي قدرها الله تعالى على طرابلس المحروسة. وحسن الختام في القصة المذكورة قولي: والقوم يا نظام الملك قد دهمهم من لم يفرق بين التحليل والتحريم، إلى أن صرحوا بالطلاق، ووقعوا في التغابن، وشمت المنافقون، ومنعوا في الجمعة الصف، ومست فرقتهم الممتحنة في الحشر، ولم يسمع لهم مجادلة، لما فزعوا بالحديد في هذه الواقعة، ولكن منّ الرحمن، وطلع قمر الأمن، ولاحظهم نجم السعد وصعدوا طور النجاة، وكفكفوا ذاريات الدموع، وطردت عنهم العداة إلى قاف، لما دخلوا حجرات مصر، وحظوا من مولانا السلطان بعد سد المذاهب بالفتح1.
"قلت": هذا الختام جعلته خاتمة للأمثلة المنثورة في هذا الباب. وأما الأمثلة الشعرية، فمن المجيدين فيها أبو نواس، حيث قال في خاتمة قصيدة مدح بها الخصيب:
وإني جدير إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور
ومنه قول أبي تمام معتذرًا في آخر قصيدة:
فإن يك ذنب عنَّ أو تكُ هفوة ... على خطإٍ مني فعذري على عمد1
ومنه قول أبي الطيب، في ختام قصيدة:
فلا حطت لك الهيجاء سَرْجًا ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا2
وقال أبو العلاء، من ختام قصيدة:
ولا تزال بك الدنيا ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر3
__________
1 عنَّ: ظهر وبان.
2 السرج: البردعة توضع على ظهر الحصان ليركب.
3 الآل: الأهل.(2/502)
وقول الأرجاني في ختام قصيدة:
بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحًا ... فإنك في هذا الزمان فريد1
عُلاك سوار والممالك معصم ... وجودك طوق والبرية جيد2
وقول ابن نبيه، في ختام قصيدة أشرفية:
دمتم بني أيوب في نعمة ... تجوز في التخليد حد الزمان
والله لا زلتم ملوك الورى ... شرقًا وغربًا وعلى الضمان
وقال شيخ شيوخ حماة، في ختام مديح مظفري:
فلا زلت ذا ملك جديد مؤيد ... تدين لك الدنيا وتصفو لك الأخرى
ولا زال للأيام طول على الورى ... وما الطول إلا أن يطيل لك العمرا
وقال ابن سنا الملك، في ختام مديح عادلي:
بقيت حتى يقول الناس قاطبة ... هذا أبو إلياس أو هذا أبو الخضر3
وقال الشيخ جمال الدين بن نباته -رحمه الله- في ختام مديح مؤيدي:
فابق عالي المقام داني العطايا ... قاهر الباس ظاهر الأنباء
يتمنى عدوّك العيش حتى ... أتمنى له امتداد البقاء
وقال الشيخ برهان الدين القيراطي -رحمه الله تعالى- في ختام مديح نبوي:
يا إمام الهدى عليك الصلاة ... وسلام في الصبح ثم العشاء
ما صبا في أصائل قلب صب ... ذكر الملتقى على الصفراء
ومثله قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي، في ختام قصيد نبوي:
صلى عليك الله يا خير الورى ... ما نار نور من ضريحك في الدجى
ومثلهما قولي، في ختام مديح نبوي، لكن مسك هذا الختام أضوع من ختامهما في المديح النبوي، وهو:
__________
1 الكاشح: المبغض.
2 السوار: ما تتحلى به المرأة في معصمها. والجود: الكرم. والطوق: القلادة تطوق العنق. والجيد: العنق وما يليه من النحر.
3 إلياس والخضر: من أنبياء الله سلامه عليهم.(2/503)
عسى وقفة أو قعدة لابن حِجة ... على بابكم يسعى بها وهو مُحرِم
فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت ... وقدرك في يوم الشفاعة أعظم
وقد ناله في عنفوان شبابه ... هموم وسيف الهم للظهر يقصم
وعارضه قد شاب في زمن الصبا ... عسى بك من ذا العارض الصعب يسلم
فيا وردنا الصافي طيور قلوبنا ... عليك إذا ما نابها الضيم حُوَّم
وقلت بعده في حسن الختام:
عليك سلام نشره كلما بدا ... به يتغالى الطيب والمسك يختم
وبيت الشيخ صفي الدين في حسن الختام "هو":
فإن سعدت فمدحي فيك موجبه ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم
وبيت العميان فيه "هو":
لكن وإن طال مدحي لا أفي أبدًا ... فاجعل العذر والإقرار مختتمي
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فجعل له مخلصًا من قبح زلته ... في حسن مفتتح منه ومختتم
وبيت العميان في حسن الختام أبدع من بيت الشيخ صفي الدين الحلي في حسن ختامه، وموجب ذلك التورية بتسمية النوع، وتمكين القافية في آخر البيت. وبيت الشيخ عز الدين وأبدع من بيت العميان، إذ فيه الترشيح بذكر التخلص والافتتاح والمختتم، ولكن فاته الترتيب، فإنه قدم ذكر التخلص على الافتتاح.
وبيت بديعيتي:
حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي
هذا البيت العامر بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ختامه مسك، لكونه جاء خاتمة لما وصلت إليه القدرة من الأوصاف النبوية، واجتمع فيه: حسن الابتداء مورى به، مع حسن التخلص، وحسن الختام على الترتيب. ولو قال الشيخ عز الدين في بيته: بحسن مبتدأ، ساعدته التورية بتسمية النوع الذي هو حسن الابتداء.
__________
1 العارض: الأولى: بمعنى الشعر الذي على قفى الرأس بين الأذنين. والثانية: بمعنى ما يعرض له من مرض وأحداث.(2/504)
قال المؤلف، رحمه الله تعالى: هذا المصنف المبارك، أعني البديعية وشرحها، وإذا ملكه متأدب شرفت نفسه عن النظر في غيره من تذاكر الآداب، فإني ما تركت نوعًا من أنواع البديع إلا أطلقت عنان القلم في ميادين الطروس، مستطردًا إلى استيعاب ما وقع من جيده ورديئه، ونصبت فيه البحث بين المقصرين والمجيدين. بيد أني أقول وبالله المستعان: إن العميان اختصروا جانبًا كبيرًا من البديع، وما أجادوا النظم فيما وقع اختيارهم عليه. والشيخ صفي الدين الحلي أجاد في الغالب، لخلاصه من التورية في تسمية النوع، ولكنه قصَّر في مواضع نبهت عليها في مظانها. والشيخ عز الدين -رحمه الله- قصّر في غالب بديعيته، لالتزامه بتسمية النوع البديعي ومراعاة التورية. والبحث مقرر مع كل منهم في إجادته وتقصيره، عند إيراد بيته على ذلك النوع الوارد.
وقد تقدم الإطناب في تقرير حسن الابتداء وبراعة الاستهلال، وفي الفرق بينهما، وأوردت في حسن التخلص ما وقع من غريبه وبديعه، وما تقرر من البحث مع المقصر في نظمه، وما يتفرق به شمل مجاميع الأدب وينسى تذاكره، وقد انتهت الغاية بحمد الله إلى حسن الختام. وأوردت فيه ما لا خفيت محاسنه على المتأمل، ولا ضمه صدر كتاب، وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة، وببركة الممدوح عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. وقد فرغت من تأليف الكتاب في شهر ذي الحجة الحرام سنة ست وعشرين وثمانمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم.(2/505)
فهرس الموضوعات
3 ذكر النوادر
7 ذكر المبالغة
11 ذكر الإغراق
16 ذكر الغلو
21 ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى
24 ذكر نفي الشيء بإيجابه
27 ذكر الإيغال
31 ذكر التهذيب والتأديب
36 ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس
39 ذكر التورية
252 ذكر المشاكلة
254 ذكر الجمع مع التقسيم
256 ذكرالجمع مع التفريق
258 ذكر الإشارة
260 ذكر التوليد
263 ذكر الكناية
266 ذكر الجمع
268 ذكر السلب والإيجاب
270 ذكر التقسيم
274 ذكر الإيجاز(2/507)
276 ذكر المشاركة
278 ذكر التصريع
280 ذكر الاعتراض
282 ذكر الرجوع
248 ذكر الترتيب
286 ذكر الاشتقاق
288 ذكر الاتفاق
291 ذكر الإبداع
293 ذكر المماثلة
295 ذكر حصر الجزئي وإلحاقة بالكلي
297 ذكر الفرائد
299 ذكر الترشيح
301 ذكر العنوان
303 ذكر التسهيم
305 ذكر التطريز
307 ذكر التنكيت
309 ذكر الإرداف
311 ذكر الإيداع
399 ذكر التوهيم
342 ذكر الألغاز
362 ذكر سلامة الاختراع
370 ذكر السير
373 ذكر حسن الاتباع
380 ذكر المواردة
383 ذكر الإيضاح
385 ذكر التفريع
388 ذكر حسن النسق
390 ذكر التعديد
391 ذكر التعليل
393 ذكر التعطف(2/508)
394 ذكر الاستتباع
396 ذكر الطاعة والعصيان
399 ذكر المدح في معرض الذم
401 ذكر البسط
403 ذكرالاتساع
405 ذكر جمع المؤتلف والمختلف
407 ذكر التعريض
409 ذكر الترصيع
411 ذكر السجع
431 ذكر التسميط
433 ذكر الالتزام
435 ذكر المزاوجة
437 ذكر التجزئة
438 ذكر التجريد
440 ذكر المجاز
442 ذكر الائتلاف
446 ذكر التمكين
448 ذكر الحذف
453 ذكر التدبيج
455 ذكر الاقتباس
478 ذكر السهولة
482 ذكر حسن البيان
484 ذكر الإدماج
486 ذكر الاحتراس
488 ذكر براعة الطلب
489 ذكر العقد
491 ذكر المساواة
493 ذكر حسن الختام(2/509)