النقد والبلاغة:
مقدمة:
إذا كان الشعر الجاهلي قد بقي محفوظًا في الذاكرة بفضل الوزن والقافية، حتى وصلت إلينا منه صورة صالحة، فإننا لا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن النقد الذي أحاط بهذا الشعر, ومع ذلك, فإن الشذرات القليلة التي نقلت إلينا من النقد الجاهلي, تدل على تفطّن لدقائق الصياغة الشعرية يوازي ما بلغه الشعر الجاهلي نفسه من النضج, وسيظل الاهتمام بالصياغة هو الغالب على النقد العربي وسليلته البلاغة منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، باستثناء عصر البعثة النبوية, وشيء من عصر الخلفاء الراشدين، حين انصبّ الاهتمام على المضمون أكثر من الشكل، كما هي الحال في كل دعوة جديدة. واستمرت العناية بالمضمون مجاورة للعناية بالشكل لدى النقاد الكبار في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث، ولم تلبث أن أخذت شكل الخلاف حول تفضيل اللفظ أو المعنى، ولكن هذا الخلاف لم يكن يمس أصول المعاني, مما يتعلق بأغراض الشعر المنتزعة من الحياة ومواقف الشعراء من مشكلات العصر، وهو ما نفهمه اليوم من كلمة المضمون، بل كانت "المعاني" عندهم هي المعاني الجزئية؛ من تشبيه أو استعارة أو نحوهما، مما لا يخرج عن مدلول الصياغة، أما المعاني التي تدل(1/379)
على رأي أو موقف, فقد عدوها مقحمة على الشعر، وظلّ هذا هو الاتجاه الغالب لدى جمهور النقاد، حتى شاعت بين المتأخرين هذه القولة: المتنبي والمعري حكيمان, وإنما الشاعر البحتري.
هذه هي السمات العامة المميزة للتراث النقدي والبلاغي عند العرب، على أن البحث في الصياغة قد استقطب مسائل كثيرة؛ منها ما كان يتعلق بالشعر، ومنها ما كان يتعلق بالقرآن الكريم.
وتطور البحث في هذه المسائل على أيدي فئات مختلفة من العلماء، ووصل إلى درجة من العمق أباحت لناقد معاصر -وهو محمد مندور- أن يقارن بين بلاغة عبد القاهر الجرجاني ونظريات دي سوسير في اللغة. وسنحاول جمع أطراف تلك المسائل, ورصد معالم ذلك التطور تحت العناوين التالية:
1- النقد في العصر الجاهلي.
2- النقد في العصر الإسلامي.
3- نقد الرواة.
4- تشعب مسائل النقد - الجاحظ.
5- التيار العربي المحافظ "الفقهاء وعلماء اللغة".
6- التأثير اليوناني "كتاب الدواوين".
7- التيار الفني "الشعراء والكتاب".
8- البحث في إعجاز القرآن "المتكلمون".
9- تبلور علوم البلاغة - عبد القاهر الجرجاني.
10- ضمور النقد واتساع التأليف في البلاغة.(1/380)
1- النقد في العصر الجاهلي:
كان الشعر في العصر الجاهلي مقومًا أساسيًّا من مقومات الحياة العربية، فهو علم العرب الذي لم يكن عندهم علم أصح منه، كما قال عمر بن الخطاب: يحفظ أنسابهم وأيامهم, ويعبر عن آلامهم وأحلامهم, ومن ثَمَّ كانت "السلطة الأدبية" التي ترضى عن هذا الشعر أو تسقطه, هي سلطة الجمهور، كشأن اليونان القدماء في مسابقاتهم التي كانت تقام في مناسبات معلومة, يتنافس فيها الشعراء, ويبدو أن مكة كانت أشبه بعاصمة أدبية لبلاد العرب في العصر الجاهلي، مع أننا لا نعرف نقادًا مكيين في الجاهلية, وإنما نعرف أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش, فما قبلوه منها كان مقبولًا, وما ردوه كان مردودًا، أي: أن الشعراء كانوا يحتكمون إلى جمهور أهل مكة، وشأن الجمهور في كل عصر أن يستحسن ما يستحسن, ويسقط ما يسقط, دون أن يعلل حكمه بالاستحسان أو ضده، فيروى أن علقمة بن عبدة التميمي قدم عليهم فأنشدهم قصيدته التي مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلُها إذ نأتك اليومَ مصرومُ
فقالوا: هذه سمط الدهر؛ شبهوا القصيدة بالعقد النارد لنفاستها، ثم عاد إليهم في العام التالي فأنشدهم قصيدته التي مطلعها:
طحا بك قلبٌ في الحسان طروب ... بُعَيْد الشباب عصرَ حانَ مشيبُ
فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
ومن قبيل هذا النقد الذي نستطيع أن نسميه: "نقد الجمهور", ما روي من أن النابغة الذبياني كان يقوي في شعره -والإقواء عيب في القافية, باختلاف حركة الروي من بيت إلى بيت- فنزل يثرب فأوعز أهلها إلى جارية أن تغنيه بقوله:
أمن آل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّدِ
زعمَ البوارحُ أن رحلتنا غدًا ... وبذاك حدَّثنا الغدافُ الأسودُ
فحين مدت صوتها بحركة الرويّ في كلٍّ من البيتين, ظهر له هذا العيب فلم يعد إليه.
فإذا صحت هذه القصة, فهي تدل على أن "نقد الجمهور" لم يقتصر على(1/381)
الاستحسان أو التفضيل، أي: أنه لم يكن نقدًا ذوقيًّا محضًا، بل كان في بعض الأحيان نقدًا معللًا، وكانت علل الاستحسان أو عدمه راجعة إلى الصياغة, ومن قبيل الاستحسان المطلق اتفاق العرب على تفضيل سبع أو عشر من القصائد الطوال, وهي التي سميت بالمعلقات، ولا يعرف أصل هذه التسمية على وجه اليقين, ولا من أطلقها، وهناك رواية تقول: إن العرب اختاروا هذه القصائد وكتبوها على القباطي -صنف من الحرير النفيس كان يجلب من صر- بماء الذهب، وعلقوها على أستار الكعبة، ومع أن مؤرخي العرب يضعفون هذه الرواية، فحقيقة التفضيل نفسها غير منكورة، ومن المرجّح أنها ترجح إلى العصر الجاهلي.
ومعظم الملاحظات النقدية التي أُثِرَت عن العصر الجاهلي تدور حول الموازنة بين الشعراء، كما هي الحال عند اليونان أيضًا، فأقدم نص يوناني نعرفه في النقد الأدبي هو جزء من مسرحية "الضفادع" لأرسطوفانيس -القرن الرابع قبل الميلاد, وهو يدور حول موازنة بين الشاعرين السابقين أيسكيلوس ويوريبيدس في أبيات بعينها، وينتهي إلى تفضيل الأول منهما. وأسلوب النقد هنا أسلوب تأثري يتجلى فيه الإعجاب بالشاعر المتقدم "أيسكيلوس" والازدراء بالمتأخر "يوريبيدس"، فهو أقرب إلى أن يعد مزيجًا من المدح والهجاء.
وكانت أسواق العرب -ولا سيما سوق عكاظ- تضم ندوات أدبية تنشد فيها الأشعار, وتلقى الأحكام النقدية. ويروى أن النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة من جلد في سوق عكاظ, ويفد إليه الشعراء فينشدونه ويسمعون رأيه، فيقال: إن الأعشى أنشده ذات مرة، وتلاه حسان بن ثابت، ثم الخنساء، فأعجب بشعرها، وقال لها: لولا أن أبا بصير -يعني الأعشى- أنشدني قبلك, لقلت إنك أشعر الجن والإنس, أي: إنه قدم عليها الأعشى، وقدمها على حسان، وطبيعي أن يسخط حسان على هذا الحكم، ويرد على النابغة ردًا عنيفًا.(1/382)
2- النقد في العصر الإسلامي:
كان الشعر سلاحًا من أسلحة المعركة التي دارت رحاها بين الإسلام وخصومه بعد هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة.
وقد تولَّى الرد على شعراء قريش ثلاثة من شعراء الأنصار، وهم: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. كان ثلاثتهم ينافحون عن المهاجرين والأنصار, ويهجون كفار قريش، ولكن هؤلاء كانوا يجزعون من شعر حسان ما لا يجزعون من شعر صاحبيه؛ لأن حسان كان يغمز أنسابهم وأحسابهم، ولم يكن العرب في الجاهلية يعتزون بشيء كما يعتزون بالأنساب والأحساب، فلما دخل كفار قريش في الإسلام كانوا أشد جزعًا من شعر عبد الله بن رواحة؛ لأنه كان يعيِّرهم بالكفر، وهنا نلمس أثر الإسلام في تبديل القيم التي تقوم عليها معاني الشعر، فقد أصبح العرب حين أسلموا يرون الكفر مذمَّة أمرّ من قعود الحسب وغموض النسب، ومعنى ذلك: أن الشعر أصبح في نظر الجمهور الذي يستمع إليه مرتبطًا بالدين والأخلاق, وقد وضَّحَ التنزيل الحكيم الفرق بين هذين النوعين بجلاء تامٍّ، وذلك في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224-227] .
وقد أمدَّ الاتجاه الديني الأخلاقي نقد الشعر بالأساس النظري الذي(1/384)
كان يعوزه. يروى أن عمر بن الخطاب سأل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: هل تروي لشاعر الشعراء؟ فقال ابن عباس: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: ابن أبي سلمى, قال ابن عباس: وبم صار كذلك؟ قال عمر: لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل من المنطق، ولا يمتدح الرجل إلّا بما يكون فيه.
فعمر -رضي الله عنه- قدَّمَ زهيرًا على سائر الشعراء لسببين: أحدهما يرجع إلى المعاني, والآخر إلى الصياغة. فأما السبب الذي يرجع إلى المعاني: فهو أنه لا ينسب إلى ممدوحه فضائل ليست فيه، فهو يتحرّى الصدق في مدحه، على خلاف معظم الشعراء، وهكذا نرى المقياس الأخلاقيّ في نقد الشعر ظاهرًا جليًّا، وأما السبب الذي يرجع إلى الصياغة فوضوح ألفاظه وتراكيبه، وهذا السبب وثيق الصلة بالسبب الأول، فالشاعر الصادق الذي لا يتكلف في معانيه حريٌّ ألا يتكلف كذلك في ألفاظه، والشعر الذي يؤدي رسالة تعليمية حري أن يكون واضحًا كي يفهمه الناس.
وكما كان عمر -رضي الله عنه- يستحسن شعر زهير، كان يستحسن هذا البيت لسحيم:
عميرة ودِّع إن تجهزت غازيًا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا
والمعنى الديني الأخلاقي أكثر ظهورًا في هذا البيت، مع سهولة واقتصاد في الأسلوب.
وكان لعمر موقف صارم من الهجاء والهجائين، فلم يكن الإسلام ليسمح بسب أعراض المسلمين، ومن ثَمَّ حبس الحطيئة حين هجا الزبرقان بن بدر، ثم أطلقه على ألّا يعود إلى الهجاء، واشترى منه أعراض المسلمين بمبلغ من المال.
ولا شك أن القرآن الكريم كان له الأثر الأكبر في تغيير مفاهيم العرب(1/385)
الفنية؛ فقد بهرهم بنمطٍ من القول لا عهد لهم بمثله، فوقفوا أمامه حيارى؛ قالوا: إنه أضغاث أحلام، وقالوا: إنه إفك مفترى، وقالوا: إنه شعر، وقالوا: إنه سجعٌ كسجع الكهان، وقالوا: إنه أساطير الأولين نقلها محمد عن بعض الأعاجم، ولما ضاقت بهم الحيل زعموا أنه سحر.
وقد ردّ القرآن على هذه المزاعم جميعًا، ولكي يقطع عليهم الحجة تحداهم أن يأتوا بمثله، فليس شيء مما ذكروه إلّا وقد مهروا فيه، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سورة مثله مفتريات، ثم بسورة واحدة. وكان هذا الجدل كله داعيًا لأن يتأمل العرب -قبل إسلامهم وبعد إسلامهم- القيم الفنية التي احتوى عليها القرآن، ويلاحظوا الفروق بينه وبين غيره من أجناس الكلام, ولا سيما الشعر, والنظر في هذه الفروق باب مهم في أصول النقد. وقد أرشدهم القرآن الكريم نفسه إلى فارق عظيم الشأن, حين نبه إلى أن الشعر لا يليق بمرتبة النبوة: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] فالشعر -كما لاحظ المفسرون- لا يخلو من زخرف يراد به الطرب, أو إثارة الإعجاب فحسب، وأهم زخارفه الوزن والقافية، وقد تنزه القرآن عن ذلك، ففيه موسيقى شديدة التأثير في النفس، ولكنها لا تجري على نسق واحد كأوزان الشعر، ولكثير من أوزانه فواصل, قد تبدو شبيهة بالقوافي، ولكنها لا تلتزم كما تلتزم القوافي؛ ذلك بأن القرآن الكريم لا يريد تلهية سامعيه كلهوهم بسماع الشعر، وإنما يريد تذكيرهم وتنبيههم، فهو "ذكر" يوقظ وليس شعرًا يهدهد، وهو "قرآن" يتلى, وليس "غناء" يترنم به، وهو "بيان" يكشف الغموض، "وبلاغ" يؤدي الرسالة، و"فرقان" يميز بين الحق والباطل.(1/386)
3- نقد الرواة:
حوالي منتصف القرن الثاني نشطت حركة جمع الشعر القديم وتدوينه، وكان القائمون على هذه الحركة، من علماء اللغة والأدب، ذوي مشارب متعددة؛ فمنهم: أبو عمرو بن العلاء "1564هـ" أحد القراء السبعة، والقراء والمفسرون كانوا يعنون بالشعر لقول إمامهم ابن عباس: إذا تعاجم عليكم شيء من القرآن فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي, ومنهم: الأصمعيّ، عبد الملك بن قريب "2314هـ" الذي شغف بجمال اللغة العربية والشعر العربي, وغاص في دقائقهما، وكان فيما يظهر، أكثر من مجرد عالم بالشعر، فقد كان حسن الأداء لما يحفظ، وهو كثير، ولذلك شبهه معاصروه بالبلبل, ومنهم: نديده أبو عبيدة معمر بن المثنى "209هـ", الذي اشتهر بحفظ الأخبار, واتهم بالشعوبية، وقيل: إنه كان يتتبع مثالب العرب، ولذلك عني عنايةً خاصةً بنقائض الشعراء الأمويين الثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل، لما احتوت عليه من سباب شنيع. وتخصص في رواية الشعر رجال مثل خلف الأحمر "180هـ" الذي اتهم هو نفسه بأنه لم يكن أمينًا دائمًا فيما يرويه، وقيل: إنه وضع اللامية المشهورة:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلًا دمه ما يطل
ونسبها إلى تأبط شرًّا, أو إلى ابن أخته، ولكن محمد بن سلام الجمحي "232هـ", صاحب "طبقات الشعراء" يقول عنه: "أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت الشعر، وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا أن لا نسمعه من صاحبه".
وكتاب "طبقات الشعراء", هذا هو أول نص يصور لنا النقد, وقد استوى علمًا متميزًا من علوم العربية, على أن هذا العلم كان وثيق الصلة بسائر العلوم التي كانت كلها ناشئة آنذاك, وتظهر هذه الصلة في ملاحظات نحوية ولغوية وعروضية عني ابن سلام بروايتها وتسجيلها، كما تظهر في مقدمة "الطبقات"، التي تعد مرجعًا قيمًا لنشأة النحو, كما أن الكتاب كله مرجع قيم لنشأة النقد. والنقد في هذه المرحلة هو عمل أولئك الرواة الذين عنوا بتمييز الصحيح من المنحول فيما يحمل إليهم من شعر، ومن أجل ذلك كان هذا(1/387)
النقد جزئيًّا محضًا يتتبع مذاهب الشعراء في أشعارهم, ويميز خصائص كل واحد منهم في ألفاظه أو معانيه. فابن سلام يقول عن عديّ بن زيد مثلًا: "وعديٌّ بن زيد كان يسكن الحيرة ومراكز الريف, فلان لسانه وسهل منطقه, فحمل عليه شيء كثير", ويقول عن أمية بن أبي الصلت: "وكان أمية كثير العجائب, يذكر في شعره خلق السموات والأرض, ويذكر الملائكة, ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء", ويقول عن كثيّر عزة وجميل بن معمر: "وكان لكثيّر في التشبيب نصيب وافر, وجميل مقدم عليه في النسيب, وله في فنون الشعر ما ليس لجميل، وكان جميل صادق الصبابة, وكان كثيّرُ يقول ولم يكن عاشقًا".
ولم يكن غريبًا أن يقصر هؤلاء النقاد الرواة اللغويون عنياتهم على الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وألّا ينظروا في شيء من شعر المحدثين الذين نشأوا في عصرٍ اضطربت فيه اللغة, وشاع اللحن, حتى على ألسن السراة. على أن عنايتهم بشعر القدماء لم تكن -فيما يبدو- راجعةً إلى أسباب لغوية فقط، بل كان لها جانبها الذوقي أيضًا، يدل على ذلك قول عمرو بن العلاء عن أشعار المحدثين إنها كنقط العروس، تذهب رائحتها بعد قليل، وكأبعار الظباء، تشم لها ريحًا طيبة أول عهدها, ثم تعود إلى رائحة الأبعار، أما أشعار القدماء فإنها كالمسك, كلما حركته ازداد طيبًا.
وكان الذوق غير المعلل هو السمة الغالبة على هذا النقد، كما كان السمة الغالبة على النقد في الجاهلية, وابن سلّام يقرر ذلك صراحةً، فبعد أن يحدثنا في مطلع كتابه أن للشعر صناعة كغيرها من الصناعات، تعين عليها كثرة الدراسة, ويختص بها فريق من الناس كاختصاص غيرهم بالجهبذة بالدينار والدرهم, أو البصر بغريب النخل, أو بأنواع المتاع، يُروَى أن خلاد بن يزيد الباهلي -وكان حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله- سأل خلفًا الأحمر: بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروى؟ فقال له خلف: هل تعلم(1/388)
أنت منها ما إنه مصنوع لا خير فيه؟ قال نعم, قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم منك بالشعر؟ قال: نعم, قال: فلا تنكر أن يعرفوا من ذلك ما لا تعرفه أنت.
وتظهر الصبغة التأثرية في أحكام ابن سلّام نفسه، فهو لا يعلل استجادته لما يختار من الأبيات أو القصائد، وإذا عرض للموازنة بين الشعراء -وخصوصًا شعراء الطبعة الأولى- حرص على أن يذكر ما احتج به أصحاب كل شاعر، فأثبت لهؤلاء المحتجين من الذاتية ما أثبته لنفسه، وتجنب أن يرد خلافهم إلى مقياس موضوعي عام. وعباراته في وصف مذاهب الشعراء عبارات أدبية, كثيرًا ما تصور وقع الشعر في نفسه, دون أن تحدد صفات الشعر الموضوعية؛ فهو يقول عن الحطيئة مثلًا: "وكان الحطيئة متين الشعر شرود القافية", ويقول عن عبد بني الحسحاس: "وهو حلو الشعر, رقيق حواشي الكلام", ويقول عن البعيث: "وكان البعيث شاعرًا فحلًا, رقيق الكلام, حر اللفظ", ويقول عن القطامي: "وكان القطاميّ شاعرًا فحلًا, رقيق الحواشي, حلو الشعر" وهكذا.
على أن كتاب ابن سلام هو أول محاولة لتصنيف الشعراء, والتصنيف عملية أساسية في كل جهد علمي. وإذا كان ابن سلام في تقسيمه للشعراء إلى جاهليين وإسلاميين, لم يزد على أن اتبع تقسيمًا سار عليه الناس في شئون الحياة كلها، وإذا كان ترتيبه كل قسم على طبقات بحسب منازل الشعراء إكثارًا وإحسانًا, قد التزم عرفًا سار عليه الرواة اللغويون من قبله، وأسهم في تقليد "الموازنة" الذي عطل البحث عن قيمة الشعر في ذاته، فإن إفراده "شعراء المراثي" و"شعراء القرى العربية" و"شعراء يهود" بأقسام خاصة -وإن لم يبين علة هذا الإفراد- يدل على تنبه مبكر إلى العوامل الثلاثة المؤثرة في الشعر، وهي: النفسية، والبيئة، والثقافية.(1/389)
4- تشعب مسائل النقد - الجاحظ:
مع أن كتاب "طبقات الشعراء" يعد أكمل صورة وصلت إلينا من عمل الرواة اللغويين -والبصريين منهم خاصة- فالظاهر أن ابن سلّام حين فرغ من تأليفه قبيل وفاته سنة 232هـ، كان يؤرخ لدور في حياة النقد أوشك أن يصل إلى نهايته, فهذا بصريٌّ آخر أصغر سنًّا، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، المتوفى سنة 255هـ، يحدثنا عن اتجاهات الرواة الذين استمع إليهم في مطلع شبابه فيقول:
"وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين -نسبة إلى مسجد البصرة الجامع وسوقها المشهور- ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب, ونسيب الأعراب, والأرجاز الأعرابية القصار, وأشعار اليهود والأشعار المنصفة, فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة, ثم استبردوا ذلك كله, ووقفوا على قصار الحديث والقصائد والفقر والنتف من كل شيء, ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلّا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب, فصار زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسب الأعراب, ثم رأيتهم منذ سُنيَّات وما يروى عندهم نسيب الأعراب إلّا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر, أو فتيانيّ متغزل.
"وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن نجيم وأبي مالك عمرو بن كركرة، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله.
"ولم أر غاية النحويين إلّا كل شعر فيه غريب, أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج, ولم أر غاية رواة الأخبار إلّا كل شعر فيه الشاهد والمثل, ورأيت عامتهم -فقد طالت مشاهدتي لهم- لا يقفون إلّا على الألفاظ المتخيرة, والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن, وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام(1/390)
له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدر عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني, ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر, ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه، ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خُيِّلَ إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدًا أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء.
"ولولا أن أكون عيابًا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة! " "البيان والتبيين، ط. عبد السلام هارون، ج4، ص23-24".
هذا النص يضعنا في أجواء لرواية الشعر تختلف عما تحدثنا عنه في الفقرة السابقة، وعما مثله لنا كتاب ابن سلّام؛ فمدلول كلمة "الرواية" في عصر الجاحظ, أوسع كثيرًا من مدلولها في دراساتنا الحديثة؛ فنحن حين نستعمل كلمة "الرواة" اليوم, فإنما نريد بها علماء اللغة الذين جمعوا أصولها، مفرادات وتراكيب وقصائد, من أفواه أهلها, ولكن الرواية عند الجاحظ وغيره من القدماء لا تعني إلّا السماع والحفظ، فهي تشمل هؤلاء ومعهم كل ما يهتمون بالشعر ويتناشدونه، أو جمهور المتذوقين وهم من نسميهم اليوم قراء الشعر, ولا شك أن هؤلاء هم الذين يشير إليهم الجاحظ بقوله: "ثم رأيتهم منذ سُنيّات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلّا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر, أو فتياني متغزل".
وإذن فقد تكوّن جمهور جديد من متذوقي الشعر, جمهور لم يكن الشعر عنده مقومًا من مقومات الحياة كما كان عند الجاهليين، بل كان طرفة تقتنى، وملحة يتفكه بها، وسمة من سمات الظرف والبراعة؛ هذا الجمهور الذي وفَّر له الرواة العلماء فنونًا من الشعر متبانية "من أشعار المجانين - لعل(1/391)
المقصود هو من يسمون اليوم بالعذريين, إلى الأشعار المنصفة, أي: التي كان شعراء الأعراب يقولونها في وصف شجاعة أعدائهم؛ كما طلع عليهم المعاصرون -كالعباس بن الأحنف- بمذاهب جديدة خالفت مألوفهم في أغراض الشعر الكبرى, هذا الجمهور الجديد من كل النواحي، هو الذي صنع الذوق الأدبي العربي لمدة طويلة.
وكما كان هذا الجمهور مختلفًا عن جمهور العصر الجاهلي، فقد كان مختلفًا أيضًا عن فئة "الرواة العلماء" الذين أمدّوه بحاجته من الشعر القديم. كان الرواة العلماء لا ينظرون إلى شعر المحدثين, أما الجمهور الجديد، جمهور القرن الثالث، جمهور الحضارة العباسية المترفة، فكان يتذوق الجديد كما يتذوق القديم, واتساع مجال التذوق سمة من سمات الثقافة المتطورة، ولكنه يؤدي غالبًا إلى الاهتمام بالشكل، وإهمال الرؤيا التي تكمن خلف القصيدة أو المقطوعة، أو ربما البيت المفرد. وسواء انصبَّ الاستحسان على اللفظ -وهو الغالب- أو على المعنى -وهو قليل- فإن المتذوق أو الناقد لا يتجاوز السطح، وقلَّمَا يتذكر أن وراء الشعر شاعرًا، ووراء الكلام إنسانًا, وهو يأمل أن تمهد له رواية الكلام البليغ سبيل البلاغة في القول والكتابة، فقد أصبحت الكتابة في الدواوين حرفةً ينال من يحسنها نصيبه وافيًا من الدنيا، وربما ارتقى إلى مرتبة الوزارة.
وهكذا تأكد ميل النقد العربي إلى جانب الصياغة, وإذا نسي الجانب الآخر وهو التعبير, فلن يكون المثل الأعلى للشعر إلّا التناسق اللفظي -السبك الجيد والمائية والرونق- وطرافة المعنى مع وضوحه -المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم.
ولعل خلفًا الأحمر كان أقرب الرواة العلماء إلى فهم هذا الذوق الجديد والاستجابة له، أما الجاحظ فكان أول ممثليه, وسخريته المرة من أبي عمرو الشيباني, وتعريضه بأبي عبيدة, يدلان دلالة واضحة على المنحى الجديد، وقد(1/392)
ساعد هذا المنحى على بلورة القضايا الرئيسية التي شغلت النقد العربي طوال العصور التالية، وأولها قضية اللفظ والمعنى.
وثمَّة نص مشهور للجاحظ تناقله النقاد والبلاغيون من بعده، وجعلوه أصلًا في هذه القضية، وهو قوله:
"وأنا رأيت أبا عمرو الشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين, ونحن في المسجد يوم الجمعة أن كلف رجلًا حتى أحضر دواة وقرطاسًا حتى كتبهما له, وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرًا أبدًا، ولولا أن أدخل في الخصومة بعض الغيب لزعمت أن ابنه لا يقول شعرًا أبدًا, وهما قوله:
لا تحسبنّ الموت موت البلى ... فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا ... أفظع من ذاك لذل السؤال
وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". "الحيوان، ط. عبد السلام هارون، ج3 ص131-ص132".
ولا شك أن شيوخ اللغة كانوا معنيين أيضًا بأمر الدين -كان بعضهم -كما سبق القول- من علماء القراءات- فلا عجب أن نظروا إلى الشعر نظرة أخلاقية، حتى غابت عنهم في كثير من الأحيان، الصفات المميزة للشعر, أما الجمهور الجديد من "الرواة" فكانوا طلاب فن، وكان من المضحك، في نظرهم، أن يعد بيتان كاللذين أوردهما الجاحظ شعرًا، مهما يكن فيهما من الحكمة.
يمكننا أن نقول: إن قضية اللفظ والمعنى, قد أعادت النقد سيرته الأولى(1/393)
بعيدًا عن الأخلاق، وبعيدًا عن المجتمع، وسواءً أكان ذلك خيرًا أم شرًّا، فإن التأثر بالمبادئ الإسلامية في نقد الشعر لم يدم طويلًا، وكان من عوامل ذلك: أن الباحثين في إعجاز القرآن أنفسهم أولوا عنايتهم الكبرى للفظ، كما سنعرف عندما نعرض لجهودهم النقدية, ومع أن الجاحظ وضع هذه القضية وضعًا غاية في البساطة، فقد فجّرت عباراته البسيطة مناقشات طويلة بين النقاد, استمرت بقية القرن الثالث وطوال القرن الرابع وشطرًا من الخامس، إلى أن أقام عليها عبد القاهر الجرجاني -المتوفى سنة 471هـ- فلسفته البلاغية كلها.
ولقضية اللفظ والمعنى تفريعات لطيفة عند الجاحظ، لم يلتفت إليها خلفه الذين شغلوا بالجدل حول أصل القضية؛ منها قوله عن ترجمة الشعر: "وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليوناينة، وحوّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لوحولوها لم يجدوا في معناها شيئًا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمتهم" "الحيوان ج1 ص75". وقوله في أن الإعراب يفسد نوادر المولدين: "وأنا أقول: إن الإعراب يفسد نوادر المولدين, كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب، لأن سامع ذلك الكلام إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج، وتلك اللغة, وتلك العبارة، فإذا دخَّلت على هذا الأمر، الذي إنما أضحك بسخفه وبعض كلام العجمية التي فيه -حروف الإعراب والتحقيق والتثقيل- وحولته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء, وأهل المروءة والنجابة, انقلب المعنى مع انقلاب نظمه, وتبدلت صورته". "الحيوان ج1 28".
وقوله عن ميل كل جماعة وكل شاعر إلى ألفاظ خاصة، وهو ما نسميه اليوم المعجم الخاص: "ولكل قوم ألفاظ قد حظيت عندهم، وكذلك كل بليغ في الأرض, وصاحب كلام منثور، وكل شاعر وصاحب كلام موزون، فلا بد أن يكون قد لهج وألف ألفاظًا بأعيانها ليديرها(1/394)
في كلامه، وإن كان واسع العلم, غزير المعاني, كثيّ اللفظ". "الحيوان ج3 ص366" ولكن أهم هذه التفريعات بدون شك، هو قول الجاحظ في أخذ بعض الشعراء عن بعض: "ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في بديع مخترع، إلّا وكل من جاء من الشعراء من بعده, أو معه, إن هو لم يعدُ على لفظه؛ فيسرق بعضه, أو يدعيه بأسره, فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى ويجعل نفسه شريكًا فيه؛ كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدهم أحق بذلك المعنى، من صاحبه، أو لعله أن يجحد أنه سمع بذلك المعنى قط، وقال: إنه خطر على بالي من غير سماع، كما خطر على بال الأول". "الحيوان ج1 ص 311-ص312" ولا شك أن في هذه الفقرة تعديلًا مهمًّا لكلامه السابق عن اللفظ والمعنى، ولعل عبد القاهر الجرجاني أفاد منها, أو مما يماثلها, عندما تناول هذه المشكلة فيما بعد. وعلى كل حالٍ, فقد كان لهذه الفقرة امتداد طويل عريض لدى النقاد فيما عرف باسم: "السرقات الشعرية".
على أن نصَّ الجاحظ الذي أوردناه فيما سبق, كان يمكن أن يصير قضيةً أخرى، لولا أن النقاد الذين جاءوا بعد الجاحظ عبروا عليها عبورًا كما فعل الجاحظ نفسه، وهي قضية: "الطبع والصنعة"؛ فالجاحظ يجمع بين "صحة الطبع" وكون الشعر صناعة، في سياق يدل على أنه لا يرى ثَمَّةَ تعارضًا بينهما, ولكن مدلول كلمة "الصنعة" كان قد بدأ يتخذ وجهةً أخرى، حتى في زمن الجاحظ نفسه، تجعله مضادًّا للطبع, ومع أن الحديث عن "الطبع والصنعة" لم ينقطع من النقد العربي المحافظ على وجه الخصوص، فإن هذه المسألة لم تتحول إلى أساس من الأسس النظرية للنقد والبلاغة, كماحدث في قضية اللفظ والمعنى. ويمكن أن يلاحظ أن الحديث عن الطبع والصنعة نشأ في بيئات المعتزلة المعنية بالفكر النظري، ثم انتقل إلى النقد التطبيقي, فلم يتطور من الناحية النظرية, على حين سلك اصطلاحا "اللفظ والمعنى"(1/395)
الاتجاه المعاكس.
وثمة قضية ثالثة تعبر عن منحى الجاحظ الموالي للذوق الجديد، وهي قضية: "القدماء والمحدثين"؛ فقد رأينا الرواة العلماء في الجيل الذي سبق الجاحظ يعرضون عن شعر المحدثين، ولا يروونه ولا يشجعون على روايته، مع أنه كان رائجًا عند الجمهور الجديد، حتى قيل عن بشار مثلًا: إنه لم يكن في زمنه بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلّا يروي من شعره. وموقف الجاحظ في هذه القضية يتسم بالاعتدال، والظاهر أنها كانت قضية شائكة؛ لأنها اتصلت بحركة الشعوبية -وشعوبية بشار وأبي نواس معروفة، ولكن على كل حالٍ يخالف الرواة الذين رفضوا شعر المحدثين مخالفة شديدة، ويصرِّحُ بأن الجودة هي المعيار الوحيد الذي يُعْتَدُّ به. وعبارته في ذلك توحي بشيء من جوّ الخصومة حول هذه القضية, يقول الحاجظ: "والقضية التي لا أحتشم منها، ولا أهاب الخصومة فيها، أن عامة العرب والأعراب والبدو، والحضر من سائر العرب، أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى من المولدة والنابتة، وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه, وقد رأيت ناسًا منهم -أي: من الرواة المتقدمين- يبهرجون أشعار المولدين, ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلّا في رواية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان". "الحيوان ج3 ص131".
وملاحظات الجاحظ النقدية المتناثرة في كتابيه: "البيان والتبيين" و"الحيوان", لا تعبِّرُ فقط عن ذوق جمهور الشعر الجديد، بل تسجِّل اتجاهًا آخر, كان له أثر كبير في بث الروح العلمية في النقد والبلاغة، وهو الاتجاه المعتزلي, الذي عني بالكلام البليغ من حيث هو رسالة بين قائل ومستمع, فقد تولى المعتزلة الأوائل مهمة الدفاع عن الإسلام ضد مطاعن أصحاب النحل القديمة، ولذلك عنوا بتعليم الخطابة، وهي -في أوسع مفهوم لها-(1/396)
الكلام الذي يراد به التأثير في المستمعين. ويظهر أن المعتزلة التفتوا أيضًا إلى حال القائل، ولاحظوا العلاقة بين تقبل المستمع للرسالة وإيمان القائل بها، ومن هنا أكدوا أهمية "الطبع"، ولم يروا ثمة تضادًّا ولا تنافرًا بينه، وبين "الصنع"، كما لاحظنا في نص الجاحظ عن اللفظ والمعنى؛ "فالطبع" ضده التكلف لا الصنعة، بل إن الطبع عندهم هو قوام الصنعة، وهذا ما يدل عليه النص الذي أورده الجاحظ لبشر بن المعتمر -أحد أئمة المعتزلة، توفي سنة 210هـ- ويقول فيه: "فإن ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة, أو جريت من الصناعة على عرق".
ويبدو من نص بشر هذا، ومن نص الجاحظ السابق، أن المعتزلة تكلموا عن "الطبع" و"الطبيعة" كاستعدادين نفسيين، قبل أن يتلقفهما النقاد الأدباء فيجعلوهما مقابلين للصنعة.
والظاهر أن العناية بتعليم الخطابة لم تكن مقصورة على بيئات المعتزلة؛ فالجاحظ يورد نص بشر السابق بعد خبر مؤداه: أن بشرًا مرَّ بأحد الخطباء ببغداد، وحوله جماعة من الفتيان يعلمهم الخطابة، فوقف يسمع، فظن المعلم أن بشرًا إنما وقف ليستفيد، ثم رفع إليهم صحيفة من تحبيره، جمع فيها نصائح لمن يريد أن يتصدى لمخاطبة الجماهير، ولم يقتصر على فن الخطابة, بل تكلم عن فن القول عمومًا، سواءً أكان منطوقًا أم مكتوبًا، منثورًا أم منظومًا، فلما قرئت الصحيفة قال المعلم: إني أحوج إلى هذه الصحيفة من هؤلاء الفتية.
وصحيفة بشر يمكن أن تعتبر أول نص بلاغي في العربية، من حيث إن البلاغة تتميز عن النقد بصفات أربع: الغرض العملي، والشكل(1/397)
التعليمي، والاهتمام بالأحكام العامة، والتركيز على بحث العبارة. وقد كان إسهام المعتزلة -مع غيرهم من أصحاب الاتجاهات النظرية- في تأسيس علم البلاغة أعظم كثيرًا من إسهام الأدباء الذوقيين, وصحيفة بشر تتناول الجوانب الثلاثة لعملية "التبليغ", وهي المصدر والمتلقى والرسالة، مع التركيز على الجانب الأول، مما يدل على صبغتها العملية. والاتجاه "الإعلامي" في هذه الصحيفة يظهر من قول بشر: "فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك, وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام".
يمثل إنتاج الجاحظ النقدي، والأدبي بعامة، بحيرة واسعة صبت فيها جميع روافد الثقافة العربية، ثم انطلقت منها أنهار وفروع, والمقصود بهذا القول هو: عصر الجاحظ أكثر من الجاحظ نفسه, وقد رأينا في النقد والبلاغة بعد الجاحظ أربعة تيارات مهمة؛ التيار الأول: عربي خالص، تألف من أدباء ذوي ثقافة دينية ولغوية، تابعوا عمل الرواة الأولين، ولم يرفضوا ذوق الجمهور الجديد، وقبلوا أطرافًا من الثقافات الأجنبية التي تمثلت فيما سُمِّيَ بالعلوم الدخلية، ولكنهم قاوموا طغيانهم على الثقافة العربية الأصيلة, والتيار الثاني: غلب عليه التأثير اليوناني، ومثَّلَته طائفة من كتاب الدواوين, نبعوا من أصول أعجمية، ونهلوا من ثقافات أجنبية، قبل أن يتقنوا العربية بحكم عملهم، ويشاركوا في بناء ثقافتها بفضل تأثيرهم في غيرهم, التيار الثالث: تيار فني, تألَّفَ من الشعراء والكتاب الذين شغلوا "بالصنعة"، وقد كان الاتجاه السائد في هذا التيار نحو رصد الملامح الأسلوبية, مع عناية قليلة بالتعريف, وعناية كبيرة بالنماذج، وانصراف عن الجدل الذي كان طابع التيار الأول، والتحليل النظري الذي كان طابع التيار الثاني, والتيار الرابع والأخير: هو تيار المتكلمين الذي شغلتهم قضية إعجاز القرآن، ولعل هذه القضية أن تكون قد بدأت بالتفكير في طبيعة الوحي؛ من حيث هي مسألة إيمانية, هل الموحي به هو المعنى والألفاظ جميعًا, أو المعنى فقط واللفظ للرسول. هذا إلى جانب أن الظاهرة القرآنية -كظاهرة بلاغية خارجة عن المألوف- قد شغلت المتكلمين كما شغلت غيرهم من المسلمين, وقد كان لهذا التيار الأخير أثره الحاسم في بلورة علوم البلاغة كما نعرفها اليوم.
وسنتحدث فيما يلي عن كل واحد من هذه التيارات الأربعة بشيء من التفصيل.(1/398)
5- التيار العربي المحافظ:
إذا عُدَّ كتاب "طبقات الشعراء" لابن سلام ممثلًا لبداية النقد المتخصص على أيدي الرواة اللغويين، فإن كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتبية عبد الله بن مسلم "276هـ", يُعَدُّ استمرارًا وتطويرًا لهذا الاتجاه؛ فابن قتيبة فوق ثقافته اللغوية والأدبية, كان فقيهًا ومؤرخًا وكان مؤلفًا من ذلك الطراز الموسوعيّ الذي بدأه الجاحظ، وقد تأثر بمذهب الاعتزال، وألَمَّ ببعض الثقافات الأجنبية، ولكنه بقي متعصبًا للثقافة العربية الأصيلة، ومجموع كتبه يمكن أن يعد عملًا واحدًا متصلًا لنشر هذه الثقافة، كما أن مقدمة كتابه: "أدب الكاتب" تحمل هجومًا عنيفًا على ذلك الفريق من الكتاب الذين فتنوا بالعلوم الدخيلة، إلى حد إهمال ثقافتهم العربية, وقد ترجم ابن قتبية في كتابه "الشعر والشعراء" لمشاهير الشعراء المحدثين؛ كبشار بن برد, وأبي العتاهية, وأبي نواس، بعد أن ترجم للجاهليين والإسلاميين، وأورد نماذج من أشعار هؤلاء وهؤلاء، وصرَّح في المقدمة بأنه لم يسلك في هذا الاختيار مسلك أولئك الرواة الذين نظروا إلى الشاعر المتقدم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظر بعين العدل إلى الفريقين, فهو إذن يسلك مسلك الجاحظ في احترام الذوق المعاصر، ولكنه يصرّح في المقدمة نفسها أيضًا بأن أكثر قصده كان للمشهورين من الشعراء، الذين يعرفهم جُلِّ أهل الأدب، والذي يقع الاحتجاج بأشعارهم في(1/399)
الغريب وفي النحو، وفي كتاب الله -عز وجل، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فهو إذن لم يتخل عن المبادئ الأصيلة لدى الرواة اللغويين، وكأنه كان يسير على آثار بعض اللغويين المتقدمين، كسيبويه والأصمعيّ، الذين روي أنهم كانوا يستشهدون أحيانًا بشعر بشار؛ لأنهم اطمأنوا إلى فصاحته.
ولم يرتب ابن قتيبة شعراءه في طبقات كما فعل ابن سلام, ولعل هذا الاختلاف بين الصنيعين يؤكد ما ذكره الجاحظ من اختلاف الأذواق وتقلبها في عصره، بحيث لم يعد الرواة اللغويون قادرين على أن يمارسوا في النقد سلطةً تشبه سلطة المجامع في أيامنا, وقد حاول ابن قتيبة أن يوفِّق بين الذوق القديم والذوق الجديد في موقفه من قضية اللفظ والمعنى، فهو لم يجعل البلاغة في واحد منهما دون الآخر، ولكن قَسَّمَ الشعر أقسامًا أربعة: فقسم منه حسن لفظه وجاد معناه، وقسم جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وقسم تأخر معناه وتأخر لفظه. على أن أحكامه على حسن اللفظ وجودة المعنى ذوقية محضة، ومن العسير أن نهتدي من خلالها إلى مفهوم واضح "للفظ" أو "للمعنى", فهو يعد بيت الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
من القسم الذي جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه, فإذا كان قد أراد بجودة المعنى ما في البيت من تشبيه بياض الشعر بالنهار وسواده بالليل، فهو مفهوم للمعنى يختلف عن المفهوم الذي من أجله قال عن بيت أبي ذؤيب الهذلي:
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
إنه حسن اللفظ جيد المعنى؛ فهذا البيت الأخير يمثل ذوق المتقدمين في تفضيل أبيات الحكمة، وليس في بيت الفرزدق شيء من ذلك, إلّا على تأويل(1/400)
بعيد جدًا. كذلك يصعب أن نبين ما يريده بتقصير اللفظ في بيت الفرزدق، إلّا أن يكون في استعماله لفظ "الشباب" كنايةً عن الشعر الأسود, وهذا الضرب من التوسع اللغوي كثير لا يربك السامع.
وقوله عن القسم الثاني: "إنه ما حسن لفظه وحلا, فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى" يشعر بأنه لا يزال أميل إلى ذوق الرواة المتقدمين؛ لأن الفائدة في المعنى, إنما تكون في أبيات الحكمة ونحوها, ولهذا قال: "إن هذا الصنف في الشعر كثير"، وعد منه أبياتًا استحسنها النقاد من بعده, لدقة ما فيها من التصوير، لا لمجرد "حلاة المخارج والمطالع والمقاطع" التي عني بها ابن قتبية حلاوة الجرس الموسيقي، على ما يبدو. ولكن مفهومه "للفظ والمعنى" يزيد إبهامًا لدينا حين يضيف أن من الشعر ما يختار ويحفظ لأسباب غير جودة اللفظ والمعنى، ويعد من هذه الأسباب: الإصابة في التشبيه، وخفة الرويّ.
وإلى ابن قتيبة يرجع الوهم الشائع بأن القصيدة الجاهلية لا تكون إلّا متعددة الأغراض، مع أنه لم يقل ذلك، ولكنه قدّم تعليلًا نفسيًّا لتسلسل الأغراض في القصيدة الواحدة، بلغ من إقناعه، فيما يبدو، أن تصور من بعده من النقاد والشعراء حتى يومنا هذا, أن ذلك التسلسل هو النمط النموذجي للقصيدة العربية الأصيلة؛ فقد علل بدءها بالنسيب ووصف الأطلال باستمالة قلوب السامعين؛ إذ كانت عاطفة الحب مشتركة بين البشر جميعًا، فلا يخلو إنسان أن يكون متعلقًا منه بسبب، وعلَّلَ انتقالها إلى وصف الرحلة بأن الشاعر بعد أن ضمن إقبال النفوس عليه وإصغاء الآذان له، قدَّم وصف موجبات الحقوق لدى الممدوح؛ من متاعب تجشمها قبل الوصول إليه, ومن ثَمَّ يتهيأ له الدخول في الغرض الأصلي من قصيدته وهو المديح.
على أن ابن قتيبة يبدو أشد محافظة حين يقرر أنه "ليس لمتأخر الشعراء(1/401)
أن يخرج على مذاهب المتقدمين في هذه الأقسام؛ فيقف على منزل عامر ويبكي عند مشيد البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم الصافي، أو يرحل على حمارٍ أو بغلٍ فيصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذبة الجواري؛ لأن المتقدمين وقفوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والورد والآس؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار".
ولا شك أن ابن قتيبة كان يرد بهذه الملاحظات على شاعر مثل بشار, الذي وصف في إحدى قصائده المدحية رحلته على ظهر سفينة، أو شاعر مثل أبي نواس, الذي وقف على منازل اللهو والشراب.
وهكذا يبدو أن نشاط النقد العربي المحافظ كان يشتد كلما حاول الشعراء المجددون أن يخرجوا على تقاليد الشعر القديم، أو حاول النقاد المتأثرون بالثقافة اليونانية -كما سيأتي- أن ينظروا في الشعر نظرة عقلية, وقد كان ظهور أبي تمام بمذهب جديد في الشعر، يقوم على الصنعة الذهنية والتدقيق في المعاني، حتى جاء بكثير من الاستعارات الغامضة, ووقع في ألوانٍ من التعقيد الأسلوبي، رافعًا إلى مزيد من النشاط من قِبَلِ النقاد المحافظين. وقبل أن تهدأ المعركة حول أبي تمام ظهر المتنبي بشخصيته الفذة التي زينت له في شبابه الإقدام على مبالغات غير معقولة، وأغرته دائمًا بالتجبر على اللغة، فشغل النقد أكثر مما شغله أبو تمام, وفي هاتين المعركتين كان النقاد المحافظون دائمًا ينصرون "الطبع" على "الصنعة"، وقد أصبحا الآن ضدين، "فالطبع" يعني: السهولة -وهي صفة في المعاني والتراكيب النحوية- والعذوبة -وهي صفة في الأصوات اللغوية- وما سموه حسن السبك -وهو وصف جامع للصفتين السابقتين، بينما تعني "الصنعة": إعمال الذهن في المعاني والتراكيب للإتيان بمعانٍ جديدةٍ أو تراكيب غير متوقعة. وهكذا بانت "الصنعة" منافية في كثير من الأحيان لجودة الصياغة، وزادت الهوة عمقًا بين اللفظ والمعنى.(1/402)
شهد القرن الرابع قمة المعركة بين المحافظين والمجددين، وزادها احتدامًا أن هؤلاء وجدوا في ممثلي التيار اليوناني سندًا ونصيرًا، حتى أن قدامة بن جعفر، الذي كان اهتمامه بالشعر منصبًّا على الناحية النظرية، تجاوز هذا الاهتمام ليؤلف كتابًا في "الرد على بن المعتز, فيما عاب به أبا تمام". وقد أنتجت هذه المعركة أهم كتابين في النقد العربي التطبيقي، وكلاهما ثمرة من ثمار التيار العربي المحافظ، وهما: "الموازنة بين الطائيين" لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي "370هـ". و"الوساطة بين المتنبي وخصومه" للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني "366هـ".
يبدأ الآمدي موازنته بين أبي تمام والبحتري بعرض محايدٍ -ظاهريًّا على الأقل- لمذهب كلٍّ من الشاعرين. فأحدهما -البحتري- يعنى بصحة السبك ورونق العبارة, بينما يعنى الآخر بالصنعة في المعاني والغوص على الأفكار. ويكتفي الآمدي بأن يحيل القارئ على ذوقه في اختيار أحد المذهبين، ثم يمضي إلى خطة رسمها لبيان أخطاء كلٍّ من الشاعرين وسرقاته، ثم الموازنة بين ما جاء به في أغراض الشعر المعروفة؛ من الوقوف على الديار, وذكر تعفية الزمان لها, والبكاء عليها, إلخ. وهو في بيان الأخطاء شديد العناية بالناحية اللغوية، كثير الاحتكام إلى الشعر القديم، يكاد يجعل المعاني -كالألفاظ- حفظًا وروايةً عن العرب، فإذا كان الشعراء الأقدمون قد تعودوا أن يصفوا مرورهم على ديار الأحبة؛ فيجعلوا ذلك وقوفًا عندها, أو تعريجًا عليها في أثناء سفرهم, فلا يسوغ للشاعر المحدث أن يقصد إلى دار محبوبته قصدًا. وإذا كان الشعراء الجاهليون قد وصفوا ناقتهم عند الوقوف بشدة النشاط, فلا ينبغي أن يصورها الشاعر المحدث, وقد أتعبها السير وقصر خطواتها الأين والكلال. والآمدي هنا يسلك مسلك العلوم اللغوية؛ فيجعل معاني الأقدمين "أصولًا" تعتمد ويقاس عليها.
وإذا وجدنا الآمدي ناقدًا يغلب عليه الميل إلى الناحية اللغوية،(1/403)
والتشدد في اتباع الأقدمين، فإننا نجد الجرجاني أميل إلى الناحية الأدبية الخالصة، وأجرأ على نقد المتقدمين؛ فهو يكثر من إيراد الشعر المختار، وربما روى منه قطعًا طويلة أو قصائد كاملة، وهو يعطينا الكثير من الأحكام الذوقية الخالصة، في أسلوبٍ تغلب عليه مسحةُ التعبير الوجداني الرقيق، ثم هو يقرر أن المتقدمين قد يخطئون في اللغة أو المعاني كما يخطئ المحدثون، ويورد لذلك أمثلة كثيرة من أشعارهم التي عابها متقدمو النحويين, وتكلف الاحتجاج لها متأخروهم. ولكن خصائص النقد العربي المحافظ ليست أقل وضوحًا عند الجرجاني منها عند الآمدي؛ فالنقد عنده لا يزال ذاتيًّا تطبيقيًّا، ولا يزال للجانب اللغوي فيه نصيب موفور، وإكثاره من إيراد المختارات الشعرية ليس إلّا صورة مما نجده عند ابن سلام وابن قتيبة, من إيراد ما يستجاد من شعر الشاعر على سبيل الرواية, لا على سبيل النقد والتحليل, والمثل الأعلى للشعر عند الآمدي والجرجاني واحد، وإن جهد كلاهما في إخفائه ليحتفظ بصفة القاضي العادل؛ وهو المعنى الواضح في اللفظ الرشيق. والجرجاني يعنى بتقرير مذهب في الأسلوب, أشار إليه الجاحظ والآمدي قبله، أما هو فتناوله بشيء من التفضيل والتعليل, يوضح ما لهذا المذهب من اتصال وثيق بتطور اللغة وتجارب الشعراء؛ فبعد أن يقرر أثر الحضارة في تهذيب اللغة، يستحسن النمط الأوسط من الأساليب، وهو "ما ارتفع عن الساقط السوقيّ، وانحطَّ عن البدويّ الوحشيّ", وهذا مذهب في الأسلوب مستمدٌّ من التجارب الخاصة للغة العربية، التي عانت فترة من الزمان اختلاف لغة البدو عن لغة الحضر، ثم عانت فترةً أخرى اختلاف لغة العامة عن لغة الأدب، فأصبح مدار الاهتمام في العبارة الشعرية على مادة الألفاظ لا على طريقة استخدامها، وأصبح مَثَلُهَا الأعلى يقوم على التوسط لا على الغرابة المقصودة.
أما السرقات الشعرية التي تشغل من كتاب الجرجاني زهاء النصف، كما تشغل من كتاب الآمدي قرابة الثلث، فلا تقوم على بحث نظري أو(1/404)
"قانون عام", إلّا ما كان من التفرقة بين المشترك والمبتدع من المعاني، وتقرير أن ادعاء السرقة لا يكون إلّا في المعاني المبتدعة. والناقد يعنى بتسجيل الأبيات التي لوحظ فيها السرقة، وقد يقف وقفة ليفاضل بين صورة الصياغة عند الشعراء الذين تعاقبوا على المعنى الواحد؛ فالبحث كله، كما لوحظ فيما سبق -الفقرة4- ناشئ عن تركيز النقد على الصياغة لا على المعاني، وإن بدا الأمر بعكس ذلك للوهلة الأولى؛ فإن التيار النقدي العربي المحافظ، القائم على الرواية, المعنيّ بالجزئيات، المعجب بالقديم، وجد في هذا البحث مجالًا واسعًا لعرض محصوله، كما استطاع أن يسخره للرد على أبي تمام وأنصاره الذين ادعوا له فضل السبق إلى اختراع المعاني وابتداع الأفكار, ومع ذلك, فإن أعلام هذا النقد المحافظ لم يخف عليهم أنهم وضعوا الشعراء المحدثين جميعًا في مأزقٍ حين ألزموا الشاعر المحدث بأن يجاري القدماء في أوصافهم وتشبهاتهم، فلا يستحسن إلّا ما استحسنوه، ولا يذم إلّا ما ذموه، ولا يُشَبِّه إلّا على طريقتهم، ولا يستعير إلّا على أساليبهم، حتى إذا وافق الشاعر المحدث شاعرًا متقدمًا في معنًى أو أسلوبًا فهو آخذ وهو مسبوق، ولن ينجو من هذه اللفظة البشعة, لفظة السرقة؛ لذلك رأينا هؤلاء النقاد أنفسهم يقفون من السرقات موقف إغضاء وتسامح، فالآمدي يقول: "إن من أدركته من أهل العلم لم يكونوا يرون سرقات المعاني من كبير مساوئ الشعراء وخاصة المتأخرين؛ إذ كان هذا بابًا ما تعرى منه متقدم ولا متأخر". وهو موقف غريب من ناقد بذل جهدًا كبيرًا في بحث السرقات، وكأن هذا البحث لم يزد عن كونه نوعًا من اللعب العقليّ لا يمس جوهر التجربة الشعرية. ومن هنا لم يُخَطِّئ البلاغيون المتأخرون حين ألحقوا السرقات الشعرية بالبديع، فهي كأنواع البديع، صور من الزخرفة، وهي في النقد نفسه نوع من الزخرفة أيضًا؛ ولعل الآمدي كان أقرب إلى فهم جوهر الموضوع، وهو أن العمل الأدبي يقوم في جانب كبير منه على الاستمداد والاستيحاء، وأن الموهبة الفردية مهما عظمت فإنها لا يمكن أن تنجو من تأثير(1/405)
الإطار الثقافي المشترك، حين قال -متأثرًا بميله الشخصي إلى البحتري: "إلّا أنه "أي: البحتري" -مع هذا- لا ينكر أن يكون قد استعار بعض معاني أبي تمام، لقرب البلدين، وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام, فيعلق شيئًا من معانيه، معتمدًا للأخذ أو غير معتمد".
لقد بقي التيار العربي المحافظ، محافظًا على جميع خصائصه المهمة، متأثرًا بالصراع العربي الشعوبي، ربما إلى العصر الحاضر, وربما التبس الأمر على بعض الدارسين فحسبوا أن التيارين العربي واليوناني التقيا التقاءً مثمرًا عند رجل كالآمدي؛ لأنه تحدَّث في موازنته عن العلل الأربع: الهيولانية والصورية والفاعلية والتمامية, وطبَّقَ هذا المبدأ الأرسطي على نقد الشعر؛ فقال: إن العلة الهيولانية هي الألفاظ, والعلة الصورية هي إصابة الغرض فيها بقصد الصانع صنعته، والعلة الفاعلة هي صحة التأليف إلى تمام صنعته من غير نقص منها ولا زيادة عليها, وخلص إلى قوله: "فهذا قول جامع لكل الصناعات المخلوقات، فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته معنًى لطيفًا مستغربًا كما قلنا في الشعر، من حيث لا يخرج عن الغرض، فذلك زائد في حسن صنعته وجودتها، وإلّا فالصنعة قائمة بنفسها, مستغنية عما سواها".
وقد يخيل إلى الدارس أن حكيمًا أو فيلسوفًا يتكلم في الشعر لن يبلغ من تطبيق الفلسفة على الصنعة الشعرية أكثر من هذا البليغ، ولكنه إذا أمعن النظر وقاس الكلام بمعايير الفلسفة الأرسطية, وجده لم يأخذ من هذه الفلسفة إلّا الشكل الخارجي؛ فهو لم يعرف منزلة "العلة الصورية" من هذه العلل الأربع، وأنها هي التي تقوم بها الصفة الذاتية للشيء، وكأنه توهم من قولهم: إن العلة الهيولانية هي "الأصل", أن العلل الباقيات فروع لها، وهو قد رأى هذه العلة الهيولانية في الألفاظ دون أن يلاحظ أن الألفاظ دوالٌّ على معانٍ، ومن ثَمَّ كان بعيدًا كل البعد عن أن يبين -بطريقة فلسفية- صفات الشعر الجديد، وانتهى إلى حيث بدأ من تقرير أن المعاني اللطيفة في الشعر نافلةٌ ليست بأصل.
ولكن هذه الفقرة تدل -من جهة أخرى- على أن الثقافة الفلسفية قد بلغ من تمكنها في ذلك العهد -حتى في مسائل الأدب- أن رجلًا كالآمدي عُنِيَ بأن يصب فكرته في وعائها لتزداد قبولًا عند الناس.(1/406)
6 التيار اليوناني:
في أواخر القرن الثاني الهجري أو أوائل الثالث، عُرِفَت في العالم العربي ترجمة لكتاب "الخطابة" الأرسطي، أما "كتاب الشعر" فقد ترجمه إسحق بن حنين "298هـ"، وأعاد ترجمته متّى بن يونس "328هـ" ويذكر صاحب "الفهرست" أن الكندي -في أوائل القرن الثالث- اختصركتاب الشعر، وأن الفارابي "339هـ" فسر كتاب الخطابة, وحتى لو اعتبرنا التواريخ المتأخرة، فإن معرفة العرب بالكتابين وافقت عهد تبلور مسائل النقد، ولا يبعد أن يكون الجاحظ قد تأثر في فكرة كتابه "البيان والتبيين"، وبعض مباحثه النظرية، بكتاب الخطابة, إلى جانب كتب أرسطو المنطقية, ولكن شروح الفلاسفة العرب "الفارابي وابن سينا وابن رشد" للكتابين, كان لها أكبر الأثر في الملاءمة بينهما وبين الأفكار العربية.
وقد كان الرأي السائد، إلى وقت قريب، هو أن العرب لم يتأثروا بكتاب الشعر على الإطلاق، مع ترجيح أنهم تأثروا بكتاب الخطابة، وبعض الباحثين جزم بهذا، اعتمادًا على أن القسم الثالث من كتاب الخطابة، وهو الخاص بالأسلوب، يتناول مباحث شبيهة بمباحث البلاغة العربية، ولكننا لا نزال نفتقر إلى المقارنات الدقيقة التي تثبت حقيقة هذا التأثر وتبين مداه, أما كتاب الشعر فقد أمكن القطع بأنه ترك أثرًا قويًّا في النقد العربي،(1/407)
وخاصةً بعد أن عرف كتاب "مناهج البلغاء" لحازم القرطاجني، ويسود الحديث عنه في موضعه من هذه الفقرة.
ولا نزاع في أن كتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر, الكاتب البغدادي -أواخر القرن الثالث- يحمل آثارًا قوية من الفكر اليوناني, وقد كان قدامة نفسه شارحًا لبعض كتب الفلاسفة، وكتابه "نقد الشعر" مؤلف على طريقة فلسفية، فهو يبدأ بحدِّ الشعر وبيان أقسامه -الفصل الأول, ثم يصف نعوت كل قسم -افصل الثاني, ثم عيوب كل قسم -الفصل الثالث. وهذه محاولة واسعة المدى لتنظيم "علم الشعر" تنظيمًا أشبه بالعلوم الفعلية، وجعله علمًا معياريًّا يوقف به على تمييز جيد الشعر من رديئه. يُعَرِّفُ قدامة الشعر بأنه: "قول موزون مقفًّى يدل على معنًى"، ويتبع هذا التعريف بتحليل فلسفي للشعر إلى مادة وصورة، والمادة كما يفهم من تحليل قدامة هي المعاني والأغراض، والصورة هي نظم الشاعر لهذه المعاني والأغراض, ويبني قدامة على ذلك رأيًا في صلة الشعر بالأخلاق؛ فالرفعة والضعة والشرف والخسة صفات للأغراض والمعاني، أي: للمادة التي ينظم منها الشعر، ولا شأن لها بصورة الشعر، أي: صفة الذاتية التي تقاس بها جودته؛ وإذن فالشعر لا يحسن أو يقبح بسبب أخلاقي من شرف المعنى أو خسته، بل بجودة صناعته, وأثر "الفلسفة الأولى" الأرسطية في هذه الفكرة واضح وأصيل، إذا قورنت بفكرة الآمديّ، ولكنها تنتهي إلى ما انتهت إليه هذه من تأكيد الميل الثابت في النقد العربي, نحو جانب الصياغة, أما فنون الشعر فقد جعلها قدامة راجعة كلها إلى فنين وهما المديح والهجاء، ولعل ذلك صدًى لتقسيم أرسطو الشعر كله إلى محاكاة للأفاضل ومحاكاة للأشرار, ويفصِّلُ قدامة "نعوت الشعر" طبقًا لعناصره الأربعة الظاهرة في تعريفه، والائتلاف بين تلك العناصر؛ فنعوت للفظ, ونعوت للمعنى, ونعوت للقافية, ونعوت للوزن, ونعوت لائتلاف اللفظ مع المعنى, وائتلاف المعنى مع القافية, إلخ. ويدخل في هذه "النعوت" ظواهر أسلوبية؛ كالتشبيه والتمثيل والترصيع والجناس, عرفت عند سابقيه، ووافق ابن المعتز صاحب "البديع" -انظر الفقرة التالية- في تسمية معظمها(1/408)
وخالفه في بعضها؛ كالطباق الذي سمَّاه قدامة "التكافؤ"، والكتابة التي سماها "الإرداف". وظهر التأثير اليوناني صراحةً في قوله عن الغلو: "هو ما ذهب إليه أهل العلم بالشعر والشعراء قديمًا، وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه، وكذا نرى فلاسفة اليونان في الشعر على مذهب لغتهم". والظاهر أن قدامة أخذ هذا المعنى من قول أرسطو في كتابه "الشعر": "والأمر العجيب يلذ، ويكفي لإثبات ذلك أن كل من يروي قصة يضيف إليها بعض العجائب ليسر السامعين, وقد كان هوميروس خاصة هو الذي علم الشعراء الآخرين كيف يتقنون الكذب، وما ذلك إلّا القياس الكاذب". "الشعر: ف24". كما ظهر تأثر قدامة بأرسطو في تمييزها بين الغلو المستحسن في الشعر، والاستحالة غير المقبولة؛ فالغلو يتناول صفات غير خارجة عن طباع الشيء الموصوف، أما الإحالة فإنها تتجاوز ما هو من طباع الموصوف إلى ما يمتنع أن يكون له. هذا قول قدامة، أما أرسطو فيقول: "وإذا كان الشاعر يصور المستحيل فهو مخطئ، ولكن الخطأ يمكن أن يعتذر عنه إذا بلغت به الغاية، أعني: إذا زاد روعة هذا الجزء أو أي جزء آخر من القصيدة ... أما إذا أمكن أن تبلغ الغاية بمثل هذه القوة, مع المحافظة على أصول الصناعة, فلا وجه للاعتذار؛ إذ يجب أن يجتنب كل خطأ يمكن اجتنابه" "الشعر: ف25".
إنما يظهر التأثير اليوناني على أتم صورة عند حازم القرطاجني "684هـ", صاحب "مناهج البلغاء"، وهذا الكتاب قمة من قمم النقد في العربية؛ فصاحبه قد اطَّلَع على خير ثمار النقد العربي إلى عهده، فهو يشير إلى آراء الجاحظ وقدامة والآمدي وغيرهم، وإذا أورد شيئًا من كلامهم فهو ينصه في دقة وعناية، ثم يناقشه أو يوازن بينه وبين غيره، أو يشرحه ويبسطه في قوة واقتدار, وربما ولَّدَ من الفكرة القديمة أفكارًا جديدة قيمة. ثم هو -وإن غلبت على كتابه صفة البحث النظري- واسع الأفق في استشهاده بالشعر، يختار نماذجه من جميع عصور الشعر العربي، وإن كان ميله إلى(1/409)
المحدثين أظهر، ونصيب المتنبي -خاصة- من نماذجه أوفر, وكتابه يسير على منهج منظم؛ فهو يقسمه أربعة أقسام: القسم الأول في الألفاظ، والثاني في المعاني، والثالث في النظم، والرابع في الطرق الشعرية, ودون أن يزجَّ بنفسه في تلك المشكلة التي اضطرب فيها البلاغيون قبله -مشكلة اللفظ والمعنى- نراه يرتقي من النظر في الألفاظ المفردة إلى النظر في المعاني المفردة، ثم إلى نظم المعاني والألفاظ في القصيدة الكاملة، ثم إلى الأغراض التي ينحى بالشعر نحوه، والمَنَازع التي يختص بها الشاعر فتميز أسلوبه. وإذا كان حازم قد أزاح قضية اللفظ والمعنى جانبًا، فإنه يلتقط قضية أخرى طرحها نقاد المعتزلة الأُوَل دون أن يبسطوا القول فيها، وتناولها النقاد المحافظون دون أن يتعمقوها، وهي قضية الطبع؛ فيرى حازم أن الشاعر لا يكمل لقول الشعر إلّا بأن تكون له ثلاث قوى: حافظة ومائزة وصانعة؛ فأما القوة الحافظة فهي ما نسميه اليوم الذاكرة، وما سماه ابن سينا "المصورة", وهي مستودع الصور التي يحصلها العقل من المحسوسات، وهذه تختلف بين الشعراء؛ فتكون عند بعضهم منتظمة مترتبة، فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها، وتكون عند آخرين معتكرة الخيالات غير منتظمة التصور، فإذا أجال خاطره في أوصاف الأشياء وخيالاتها اشتبهت عليه واختلط, وأخذ منها غير ما يليق بمقصده, والقوة المائزة: هي التي بها يميز الإنسان ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض، والتدرج من بعضها إلى بعض.
وتحدث حازم في قسم "النظم" عن بناء القصدة، محاولًا أن يصور هذه القوى, وهي في حالة الفعل, وإذا كان ابن قتيبة قد سبق إلى الكشف عن بناء القصيدة العربية التقليدية, وتوضيح دلالته بالنسبة إلى السامعين, فقد خلفه من النقاد مَنْ حاول أن ينظر إلى بناء القصيدة من حيث هو تكوين يظهر إلى(1/410)
الوجود شيئًا فشيئًا حتى يكتمل، ولم ينظر إلى القصيدة التقليدية بالذات، ولا ألزم الشاعر انتقالات معلومة، وإن كنا نستطيع أن نفترض، اعتمادًا على التجارب الشعرية نفسها، أن هذا لا يعني إطلاق الحرية للشاعر في بناء قصيدته على نحو مخالف، بل النظر إلى البناء التقليدي على أنه وضع مسلم به, هذا ما نجده عند ابن طباطبا العلوي "322هـ" في كتابه "عيار الشعر". أما حازم: فإنه لا يبدأ الكلام على بناء القصيدة إلّا بعد أن يورد نصيحة أبي تمام للبحتري، وهي فصيحة تناولتها كتب الأدب، وأهم ما فيها: اعتماد الأوقات التي تصفو فيها القريحة، وإراحة الخاطر إذا استعصى القول، وهذا معنًى يشبه المعنى الذي أكدته صحيفة بشر بن المعتمر. ثم يبني حازم على هذه المقدمة تفصيلات عملية أكثر؛ فبعد أن يتهيأ الناظم لقول الشعر على الوجه الذي نصح به أبو تمام، يأخذ في استحضار المقصد في ذهنه وخياله، وتتبع المعاني المناسبة له في عبارات متناثرة، ثم يلاحظ ما بينها من كلمات متماثلة تصلح أن تكون قوافي، ويضع الوزن والروي بناءً على ذلك, ثم يقسم المعاني والعبارات فصولًا، ويبدأ بأشبه هذه الفصول بغرضه، ويتبعه ما يليق به من الفصول, حتى ينتهي إلى الغاية, ثم يأخذ في نظم العبارات التي أحضرها في خاطره منتثرة؛ فيصيرها موزونة بما يحدثه فيها من تغيير وإضافة وحذف.
هذا هو منهج بناء القصيدة كما رآه حازم -وهو لا يختلف كثيرًا عنه عند ابن طباطبا، وهو يدل على وعي بنوع من الوحدة، أو التناسب على الأقل بين أجزاء القصيدة، ولكنه يدل أيضًا على أن الحدود بين الشعر والنثر لم تكن واضحة عند القوم وضوحًا كافيًا، ولعل هذا هو ما سوَّغ لهم أن يجعلوا بين أنواع البديع نوعين هما: "حل المنظوم ونظم النثر". وهو تداخل إن قرّب الشعر من النثر أحيانًا، فقد قرب النثر من الشعر في أكثر الأحيان, وقد تعرض حازم في موضع آخر للفرق بين الأقاويل الشعرية والأقاويل غير الشعرية؛ فأرجعه إلى أن الأقاويل غير الشعرية تكتفي بالدلالة الإجمالية،(1/411)
على حين أن "الأقاويل الشعرية" تفصح عما تتعلق به الأغراض الإنسانية من لواحق الشيء وأغراضه.
ويتطرق حازم إلى مسألة "السرقات الشعرية" التي عُنِيَ بها النقاد التقليديون، ولكنه لا يتناولها تحت هذا العنوان، بل يدخل إليها من مدخل مختلف كل الاختلاف، فيتكلم عن "طرق اقتباس الأفكار"، وأن منها "ما يكون بمجرد الخيال وحثّ الفكر, ومنها ما يستند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو حديث أو مثل".
هذه المباحث -وأمثالها- تدل على منهج حازم الفلسفي في النقد، ولكنها لا توضح التأثير المباشر للنقد اليوناني في كتابه, وأظهر ما يكون هذا التأثير في حديثه عن "التخييل والمحاكاة", ومعروف أن أرسطو يقرر في كتاب الشعر أن الفن كله أنواع من المحاكاة، أما التخييل: فهو الترجمة التي قدمها الفلاسفة العرب لاصطلاح "المحاكاة" الأرسطي، وقد تأثّر حازم تأثرًا شديدًا بشروح هؤلاء الفلاسفة لكتاب الشعر، ولا سيما شرح ابن سينا, ويتبع حازم فلسفة أرسطو الفنية عندما يقرر أن "التخييل والمحاكاة" هي الحقيقة المميزة للشعر؛ إذ يقول في فصلٍ عَقَدَهُ للتعريف بماهية الشعر وحقيقته: إن الشعر كلام موزون مقفًّى, من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها, ويكرّه إليها ما قصد تكريهه؛ لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له ومحاكاة، ومستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه، أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب، فإن الاستغراب والعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوى انفعالها وتأثرها".
فعلى الرغم من أن حازمًا أحاط "التخييل والمحاكاة" بمجموعة من الصفات في العمل الشعريّ, فإنها لا تزال الخاصة المميزة له, وقد تكلم أرسطو من قبل عن "الوزن" وميل النفس إليه، وجعله أداة من أدوات المحاكاة كالقول(1/412)
والإيقاع، وإضافة القافية إلى الوزن لازمة ما دام الحديث عن الشعر العربي, أما النص على "التحبيب والتكريه" فنتيجة ضرورية لاعتبار فن الشعر قسمًا من المنطق الأرسطي؛ فقد رأى الفلاسفة العرب أن البرهان والشعر والخطابة كلها قضايا ترتب بحيث تؤدي إلى نوعٍ من القبول أو الرفض؛ فالقضايا البرهانية تؤدي إلى يقين, والخطبية إلى اقتناع, والشعرية إلى ميل أو نفور, ومع أن الأرسطية المعاصرة لا تقبل إدراج كتابي الشعر والخطابة ضمن كتب أرسطو المنطقية، فيجب ألّا ننسى أن أرسطو نفسه يقول في الفقرة التاسعة عشرة من كتاب الشعر: "وكل ما عبر عنه باللغة فهو من قبيل الفكر، وأجزاؤه: الإثبات والمناقضة، وإثارة الانفعالات, والخوف والغضب, وغيرها، والتعظيم والتحقير".
وأما الكلام على التعجيب فمبنيٌّ على قول أرسطو: "والأمر العجيب يلذ، ويكفي لإثبات ذلك أن كل من يروي قصة يضيف إليها بعض العجائب ليسر السامعين" "الشعر: ف24".
ولكن حازمًا، على كل حال، لا يزال يقرر مع أرسطو أن المحاكاة هي الخاصة المميزة للشعر عن سائر أنواع الكلام، ويضيف أنها يمكن أن تستقل بنفسها كما يمكن أن تقترن بحسن تأليف الكلام, أو قوة صدقه, أو قوة شهرته، وحتى في هذه الإضافة لا يبدو أنه ابتعد كثيرًا عن أرسطو، الذي عَدَّ "الفكر" أحد عناصر التراجيديا الستة, وقال: إن القدامى من الشعراء المحدثين يجعلونهم يتكلمون على منحى الخطابة", "الشعر: ف6".
ولا شك أن أيّ تنظير للشعر العربي، الذي قام في كثير من الأحيان بوظيفة الخطابة، كان حريًّا أن يلتقط هذه الإشارة ليؤكد الارتباط بينهما، وهو ما فعله حازم في فصول كثيرة من كتابه.
ولكن الاختلاف الأساسي بين المحاكاة الأرسطية والمحاكاة عند ابن(1/413)
سينا ثم عند حازم، يرجع إلى أن الأولى موضوعها الأفعال، كما في الملحمة والتراجيديا "اللتين تستغرقان القسم الأكبر من كتاب الشعر" والثانية: موضوعها "الذاوات"، وهو ما امتازت به أشعار العرب, والواقع أن أحدًا من الشراح العرب لكتاب الشعر لم يفهم مدلول الكلمتين اليونانيتين فهمًا واضحًا؛ فابن سينا يعرّبهما "الإفي" و"الطراغوذيا" ويحاول تعريفهما فلا يتمكن من إعطاء فكرة واضحة عن أيهما، وابن رشد يعود إلى اصطلاح قدامة بن جعفر ومتّى بن يونس "المديح والهجاء"، وإن اقترب في بعض المواضع من إدراك طبيعتهما القصصية, أما حازم فيقول عن الشعر اليوناني: "ومدار جُلِّ أشعارهم على خرافات كانوا يضعونها، يفرضون فيها وجود أشياء لم تقع في الوجود, ويجعلون أحاديثها أمثالًا وأمثلة لما في الوجود, وكانت لهم أيضًا أمثال في أشياء موجودة نحوًا من أمثال كليلة ودمنة، ونحوًا مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها, وكانت لهم طريقة أيضًا -وهي كثيرة في أشعارهم- يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه, وما تجري عليه أحوال الناس وتؤول إليه؛ فأما غير هذه الطرق, فلم يكن لهم فيها كبير تصرف، كتشبيه الأشياء بالأشياء, فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه، وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال".
وانطلاقًا من هذه الفكرة يقسم حازم المحاكاة قسمين: محاكاة الشيء في نفسه وهي الوصف، ومحاكاة الشيء في غيره وهي التشبيه, وقد تحدَّث قدامة من قبل عن نعت الوصف ونعت التشبيه على أنهما من نعوت المعنى، وقد يبدو أن حازمًا لم يدخل جديدًا في النقد العربي حين رجع بالمحاكاة إلى هذين المصطلحين القديمين، ولكن الواقع أن مفهوم "المحاكاة" ظلّ ماثلًا أمامه بوضوح وهو يتحدث عن الوصف، فهو يلاحظ أن الأمور التي يتعرض الشاعر لوصفها؛ منها ما يدرك بالحس, ومنها ما لا يدرك بالحس، ولكن طريقة الشاعر في وصفها يجب أن تكون حسية دائمًا، بأن يخيل الشيء الموصوف بما يطيف به عن هيئات وأحوال محسوسة، فيكون "تخيل الشيء من جهة ما(1/414)
يستبينه الحس من أحواله, والآثار اللازمة له حال وجوده، والهيئات المشاهدة لما التبس به ووجد عنده، وكل ما لم يحدد بين الأمور غير المحسوسة بشيء من الأشياء, ولا خصص بمحاكاة حال من هذه الأحوال، بل اقتصر على إفهامه بالاسم الدال عليه، فليس يجب أن تعتقد في ذلك الإفهام أنه تخييل شعري أصلًا؛ لأن الكلام كله قد يكون تخييلًا بهذا الاعتبار".
ولا شك أن هذا التميز بين التعبير الشعري وغير الشعري كان جديدًا على النقد العربي, وقد حاول حازم بعد ذلك أن يضع للمحاكاة الشعرية أحكامًا، قياسًا على المحاكاة التصويرية، وأن يطبق هذه الأحكام نفسها على الحكمة والتاريخ, وكل هذا يدل على أن "التخييل والمحاكاة" لم يكن عنده مجرد "نعت"، بل كان فلسفة فنية.(1/415)
7- التيار الفني:
كان هذا التيار وثيق الصلة بالتيار العربي المحافظ، ولكنه تميز عنه بخصائص مهمة، فقد كان كل منهما يمثل بيئة ثقافية مختلفة, كان التيار العربي المحافظ يمثل بيئة الأدباء العلماء، الذين كانت عنايتهم باللغة مواكبة ومتممة لعنايتهم بالشعر، وكانوا أقرب إلى مناهج الرواة الأول، من حيث الاتجاه إلى الأحكام الجزئية، والالتفات إلى أخطاء الشعراء في الألفاظ والمعاني، وكانت علوم اللغة قد قطعت أشواطًا واسعة، فاتسع مجال المناقشة أمام هؤلاء الرواة العلماء، كما نرى عند الآمدي بوجهٍ خاصٍّ، وغزرت الرواية، واشتدت المنافسة بين الشعراء، فأصبح تتبع السرقات الشعرية موضوعًا جذّابًا لهم ولقرائهم. أما التيار الفني: فقد كان يمثل بيئة الشعراء والكتاب، وكانت كثرة الشعراء تميل نحو "حسن السبك" الذي امتدحه النقاد المحافظون، وتتجافى عن "الصنعة المعنوية" التي استثقلوها، والأفذاذ منهم كأبي تمام والمتنبي والمعري يرفدون شعرهم بروافد ثقافية كثيرة، ويغمسون الشعر في الفلسفة، ويتعرضون بذلك لسخط النقاد(1/415)
المحافظين. أما الكتاب فيبدو أننا يجب أن نميز من بينهم كثرةً هي التي عملت في ديوان الرسائل، كمحمد بن عبد الملك الزيات, وهلال بن إبراهيم الصابي، وهؤلاء هم الذين وصفهم الجاحظ بأنهم كانوا يروون الشعر الحلو اللفظ، الحسن السبك, و"كل كلام له ماء ورونق", وإلى جانب هؤلاء قلة عملت في ديوان الخراج؛ كقدامة بن جعفر، فشغلوا بالحساب، وتطرقوا منه إلى سائر العلوم العقلية الدخيلة، وهؤلاء هم الذين هاجمهم ابن قتيبة في مقدمة "أدب الكاتب".
هذه الكثرة من الشعراء والكتاب كونت بيئة فنية همها الطرافة لتستلفت الأنظار، والأناقة لتحوز الإعجاب، والسهولة لتخف على القلوب, وفي هذه البيئة نما تيار نقدي لم يكن يهتم بالمناقشات الفلسفية أو اللغوية، ولا يأبه كثيرًا للسرقات، ولكنه يتتبع طرق الصياغة المستحسنة في الشعر والنثر، لا يقف طويلًا عند التفريعات، ولكنه يكثر من النماذج التي يسردها سردًا بدون تحليل, ولا شك أن الذي أعطى هذا التيار سماته المميزة كان -خليفة اليوم الواحد- ابن المعتز العباشي، بكتابه "البديع"، ومن أجله عُدَّ واضع علم البديع, وسنبحث مكان هذا العلم من الدراسات النقدية والبلاغية في الفقرة العاشرة من هذا المقال، أما الآن: فيجب أن ننبه إلى أن كلمة "البديع" كانت حين ألف ابن المعتز كتابه سنة 274هـ، تعني: أسلوبًا أو مذهبًا في الشعر؛ فالجاحظ بعد أن يورد هذا البيت للأشهب بن رميلة:
همُ ساعدُ الدهر الذي يتَّقى به ... وما خير كفٍّ لا تنوء بساعد
يعقب عليه بقوله: قوله: "هم ساعد الدهر" إنما هو مثل، وهذا الذي تسميه الرواة البديع, وقد قال الراعي:
هم كاهل الدهر الذي يَتَّقي به ... ومنكبه إن كان للدهر منكب
وقد جاء في الحديث: موسى الله أحدّ، وساعد الله أشدّ.(1/416)
والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغته كل لغة، وأربت على كل لسان, والراعي كثير البديع في شعره، وبشار حسن البديع، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار".
وهذا النص يجعلنا نشك في كون الجاحظ قد اطلع على كتاب الخطابة لأرسطو، فقد تكلم في القسم الثالث منه، وهو الخاص بالأسلوب، عن الاستعارة التي عناها الجاحظ بالبديع والمثل, ولعل الجاحظ لم يبعد عن الحقيقة كثيرًا حين سماها البديع, وجعلها مذهبًا في الشعر، فهي أساس الصنعة الشعرية عند أرسطو أيضًا، وهذا ما أدركه أبو تمام، فاعتمد عليها وأغرب فيها، وضم إليها ألوانًا من المشاكلة والمقابلة، فاختلف طريقه في الشعر عن طريق القدماء، مع أن أصول هذا المذهب قديمة قدم اللغة نفسها. وقد تصدى ابن المعتز في كتابه "البديع" لإثبات هذه الحقيقة، فساق نماذج كثيرة من القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر القديم تشتمل على بديع، ولم يكتف بإطلاق اسم واحد أو عدة اسماء مترادفة على هذا المذهب، بل فصَّلَ أنواع البديع؛ فجعل منها خمسةً أساسية؛ وهي: الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد الأعجاز على ما تقدمها والمذهب الكلامي، وأردفها بمحسنات ثلاثة عشر؛ وهي: الالتفات والاعتراض والرجوع والخروج وتأكيد المدح بما يشبه الذم, وتجاهل العارف, والهزل يراد به الجد, وحسن التضمين والكناية والإفراط في الصفة وحسن التشبيه والإعنات وحسن الابتداء.
وكانت طريقته في بحث كل نوع هي أن يورد بعد اسم النوع تعريفًا موجزًا له، ويتبع التعريف بعدد من النماذج بادئًا بالقرآن الكريم, ومثنيًا بالحديث الشريف, ومعقبًا بأشعار القدماء فالمحدثين.
فكتاب "البديع" كتاب نقدي يمثل موقفًا من قضية القدماء والمحدثين، ويعبر عن ذوقٍ أخذ يسود في أواخر القرن الثالث، وغلب على الأدب العربي شعره ونثره منذ القرن الرابع, وهو في الوقت نفسه كتاب بلاغي يجمع أنماطًا(1/417)
مستحسنة من الاستعمالات الأدبية، فيدل الناشئ في صناعة الشعر أو النثر على طرق الإجادة، تبعًا لما يقتضيه ذلك الذوق, وقد كُتِبَ في زمن احتدمت فيه المعركة بين القديم والجديد، فتغلب الهدف النقدي من تأليفه على الهدف التعليمي، وظهر ذلك في ميله إلى الاختصار، وعبَّر عنه المؤلف في المقدمة بقوله: "ولعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته، فيسمي فنًّا من فنون البديع بغير ما سميناه به، أو يزيد في الباب من أبوابه كلامًا منثورًا، أو يفسر شعرًا لم نفسره، أو يذكر شعرًا قد تركناه ولم نذكره، إمَّا لأن بعض ذلك لم يبلغ في الباب مبلغ غيره فألغيناه، أو لأن فيما ذكرنا كافيًا ومغنيًا. وليس من كتاب إلّا وهذا ممكن فيه لمن أراده، وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع، وفي دون ما ذكرنا مبلغ الغاية التي قصدناها".
ولكن البديع، كذوقٍ فنيٍّ سائدٍ، ومذهبٍ في النظم والكتابة، ظلَّ يتنامى، فتتابعت الكتب التي تشرح فنونه، وكان كل من سلكوا هذا المسلك، شعراء وكتابًا، لا يميلون كثيرًا إلى الكتابات النظرية، وينفرون نفورًا خاصًّا من الفلسفة، وكانت كتبهم دائمًا -كما تدل عناوينها- موجهة نحو غاية تعلمية: "عيار الشعر" لابن طباطبا "395هـ"، "كتاب الصناعتين" لأبي هلال العسكري "395هـ، "العمدة في صناعة الشعر ونقده" لابن رشيق القيرواني "456هـ", "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لضياء الدين بن الأثير "637هـ", وقد حاولت هذه الكتب -على اختلاف أساليبها- أن تخضع الأنواع البديعية لتبويب شامل، وإن لم تعتمد على طريقة القسمة المنطقية التي اعتمدها البلاغيون فيما بعد، كما حاولت أن تدخل في دراسة الأنواع البديعية مسائل نقدية عامة، فتناول أبو هلال -مثلًا- قضية اللفظ والمعنى، وتحدث ابن رشيق عن بواعث الشعر ومنازع الشعراء، وتكلم ابن الأثير عن ثقافة الشاعر والكاتب, ولكن التآليف البديعية عادت بعد ذلك إلى سرد الأنواع على طريقة ابن المعتز، غير معترفة بالتقسيم المدرسي للبلاغة إلى معانٍ وبيانٍ وبديعٍ، وكان أكبر هَمِّ المؤلفين البديعيين المتأخرين هو أن يضيفوا إلى الأنواع البديعية المعروفة أنواعًا جديدةً من ابتكارهم أو ابتكار معاصريهم، كما سنعرف بشيء من التفصيل، في الفقرة العاشرة من هذه المقالة.(1/418)
9- التيار الكلامي: البحث في إعجاز القرآن:
مرَّ البحث في إعجاز القرآن بمرحلتين:
مرحلة التفسير اللغوي لمعاني القرآن الكريم, ثم مرحلة التصنيف العلمي لجهات الإعجاز البلاغي.
ففي النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، اكتملت علوم اللغة ضبطًا وتنظيمًا؛ إذ جمع الخليل بن أحمد أول معجمٍ عربيٍّ شاملٍ, وهو الذي سُمِّيَ: "كتاب العين"؛ لأنه كان يبدأ بالكمات التي أولها حرف العين، وكتب سيبويه كتابه الشامل في النحو, وهو الذي أصبح عمدةً لجميع النحويين من بعده، وكانت المادة اللغوية والنحوية تجمع من الشعر القديم ومن أفواه الأعراب الفصحاء, وفي هذه الفترة نفسها كانت الأجيال المولدة من العرب والشعوب التي اعتنقت الإسلام محتاجةً إلى أن يفسر لها القرآن الكريم تفسيرًا لغويًّا يكشف عن معاني مفرداته، ووجوه إعرابه, كما يعرفهم بمواطن البلاغة في أساليبه, وهنا تظهر كتب تتناول "غريب القرآن" و"مشكل القرآن" و"إعراب القرآن" لتوضح لهم ما تقصر كتب اللغة العادية عن إيضاحه من معاني القرآن الكريم.
من أوائل هذه الكتب كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثنّى, "المتوفى سنة 210هـ". وينبغي أن نلاحظ أن كلمة "مجاز" في هذا العنوان لا تعني بالضبط ما أصبحت تعنيه بعد ذلك في كتب البلاغة؛ فأبو عبيدة يستعمل كلمة المجاز في مقدمة الكتاب بمعنى: "طريقة التعبير" فيقول مثلًا:(1/419)
"ومن مجاز ما حذف وفيه مضمر ... ", "ومن مجاز ما كف عن خبره استغناءً عنه وفي ضمير..", "ومن مجاز ما جاءت مخاطبته الشاهد, ثم تركت وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب ... " فكلمة مجاز في هذه المواضع تدل على ما تدل عليه اليوم بكلمة "أسلوب", وبعد المقدمة يأتي تفسير المواضع المشكلة من السور، على ترتيبها في المصحف الشريف، وهنا نجد كلمة "مجاز" مساوية لكلمة "معنى" مرةً, ولكلمة "تفسير" مرة أخرى؛ فمن الأول قوله في تفسير أول آية من سورة يونس: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} مجازها: هذه آيات الكتاب الحكيم، أي: القرآن, والحكيم: مجازه المحكم المبين الموضح، والعرب قد تضع "فعيل" في معنى "مفعل"، وفي آية أخرى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} ، مجازه: معد.
ومن القسم الثاني ما جاء في تفسير قوله تعالى: {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} مجازه على وجهين: أحدهما أن بعض العرب يظهرون كناية الاسم مع إظهار الاسم الذي بعد الفعل، كقول أبي عمرو الهذلي: أكلوني البراغيث، والموضع الآخر أنه مستأنف؛ لأنه يتم الكلام إذا قلت: عموا وصمو، ثم سكت، فتستأنف فتقول، كثير منهم.
و"المجاز" في استعمال أبي عبيدة يمكن -على هذا- أن يشمل جميع الأساليب البلاغية, ولكنه في الواقع يشير إشارات مجملة إلى بعض منها فقط، كالحذف والمجاز المرسل -دون أن يسميه بهذا الاسم- وخروج الاستفهام عن معناه إلى معنى التقرير, ويُلاحَظُ أن أبا عبيدة يكتفي بالدلالة على معنى اللفظة القرآنية أو التركيب القرآني دون أن يبين السر في مجيئها على غير الأسلوب المألوف، أي: أنه ينبه على خصائص الأسلوب القرآني فحسب، دون أن يبين تأثيرها في المعنى, فنحن لا نزال في بدايات البحث البلاغي، ولا بد أن ننتظر قرابة ثلاثة قرون حتى يكتمل البحث في أسرار الإعجاز, وتكتمل معه علوم البلاغة.(1/420)
ومن معاصري أبي عبيدة أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء, المتوفى سنة 209هـ، وكان شيخ النحويين واللغويين في الكوفة، وله كتاب "معاني القرآن", والصنعة الإعرابية هي الصفة الغالبة على هذا الكتاب, فهو يعنى ببيان ارتباط الألفاظ بعضها ببعض، وما يجوز فيها من وجوه الإعراب, وما يتخللها من حذفٍ يوجب النحو تقديره, وهو مثل "مجاز القرآن" من حيث الاكتفاء ببيان أصل التركيب اللغوي, والاستشهاد بما يشبهه من كلام العرب، دون الدخول في الفروق الدقيقة بين أسلوب وأسلوب.
ولكن الناحية البلاغية لا تلبث أن تظهر في كتاب ثالث وهو "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة, وقد أفاد من السابقين كما أفاد كثيرًا من الملاحظات المتفرقة التي وردت في كتاب أستاذه الجاحظ, المتوفى سنة 255هـ. وابن قتيبة يتحدث بمزيد من التفصيل عن المجاز والاستعارة، وإن لم يميز بينهما تمييزًا واضحًا، كما يتحدث عن الحذف، والتكرار، والكناية، وبعض المعاني التي يخرج إليها الاستفهام والأمر، وكثير من الشواهد التي جاء بها ابن قتيبة, دخلت فيما بعد في كتب البلاغة.
وكان هذا الكتاب إيذانًا بالمرحلة الثانية من البحث في إعجاز القرآن، وهي مرحلة التصنيف العلمي لأبواب الإعجاز، وقد نهض به علماء الكلام الذين شغلتهم قضية الإعجاز لمكانها من أصول العقيدة, وقد تبلورت هذه المرحلة قرب نهاية القرن الرابع في ثلاثة كتب: "النكت في إعجاز القرآن" للرماني, المتوفى سنة 386هـ, و"بيان إعجاز القرآن" للخطابي, المتوفى سنة 388هـ, و"إعجاز القرآن" للباقلاني, المتوفى سنة 403هـ.
وفي هذه الكتب الثلاثة عرضت أمهات المسائل البلاغية، وقد أفاد أصحابها من التفاسير اللغوية السابقة، كما أفادوا من دراسات نقاد الشعر التي عرفناها في الفقرات السابقة، ولكنهم امتازوا عن الفريقين معًا بخصلتين: أولاهما: تفصيل الأقسام بحيث جاءت كتب الإعجاز أكثر(1/421)
استيعابًا لوجوه البلاغة، والخصلة الثانية: بيان الأسباب التي لأجلها كانت الأساليب البلاغية أقوى تأثيرًا في النفس من الأساليب العادية, ولعل كتاب "النكت في إعجاز القرآن" للرماني, هو أهم تلك الكتب الثلاثة وأعظمها تأثيرًا في المؤلفات البلاغية من بعد؛ فقد امتاز إلى جانب هاتين الخصلتين بالتعريفات المحكمة الواضحة، فهو يعرف "الإيجاز" مثلًا بأنه: "تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى" ويقسمه إلى نوعين: إيجاز حذف وإيجاز قصر، ويفرق بين الإيجاز والتقصير أو الإخلال، كما يفرق بين الإطناب والتطويل, وقد أخذ مؤلفو كتب البلاغة -من بعد- هذه الأفكار كلها عن الرماني، كما أخذوا كثيرًا من نماذجه، كتمثيله لإيجاز القصر بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ومقارنته بقول العرب "القتل أنفى للقتل".
ويعرف التشبيه بأنه: "العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حسٍّ أو عقلٍ"، ويقسمه قسمين أيضًا، تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما، وتشبيه شيئين مختلفين لمعنًى يجمعهما مشترك بينهما، والقسم الثاني -كما يقول الرماني: هو الذي يتفاضل فيه الشعراء, وتظهر فيه بلاغة البلغاء، وهو فعلًا ما اصطلح البلاغيون على إطلاق اسم التشبيه عليه. ويفسر بلاغة التشبيه بما فيه من البيان، والبيان في التشبيه يكون على وجوه: منها تصوير غير المحسوس في صورة المحسوس؛ كقوله تعال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] .
ومن وجوه البيان في التشبيه, إخراج غير المألوف في صورة المألوف؛ كقوله تعالى في صفة يوم القيامة: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] . ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت: 41] .
وكذلك يصنع الرماني في باب الاستعارة, وقد نقلت كتب البلاغة في(1/422)
العصور التالية معظم ما جاء في هذين البابين، واهتم الرماني بوجوهٍ أخرى من الإعجاز القرآني, أشار إليها سابقوه إشارات عابرة, وقصر عن توفيتها حقها من أتوا بعده, من ذلك كلامه عن "التصرف" أي: تناول المعنى الواحد بطرق مخلفة، وهذا من أجلِّ وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وأجدرها بعناية البلغاء، فالقرآن الكريم يتناول البعث والحساب، وخلق الإنسان، وأحوال الكفار، وأحوال المنافقين, وقصص الأمم السابقة, يتناول كل موضوع من هذه الموضوعات في سور كثيرة، فتتنوع طرق التناول دون أن تتعارض أو تتناقض, ويكون من ذلك تشويق للسامع، وتثبيت للعظة، وتأكيد للتحدي.
ويفصل الرماني القول في "التلاؤم", أي: تناسب الحروف من الناحية الصوتية، وهو باب من أبواب الإعجاز القرآني, قَلَّ من أشاروا إليه قبل الرماني، وقَلَّ من عنوا به من البلاغيين بعده، ومعظم كتب البلاغة المتأخرة تكتفي باشتراط "الخلو من التنافر" ليكون الكلام فصيحًا، ولا تقف عند ما نبه إليه الرماني, من أن "التلاؤم" لا يعني مجرد الخلو من التنافر، فليس كل كلام خالٍ من تنافر الحروف متلائمًا بدرجة واحدة، بل إنه يتفاوت في درجات هذه الفضيلة, وأعلاه القرآن الكريم.
أما كتاب "بيان إعجاز القرآن" للخطابي, فأقل تفصيلًا من الناحية النظرية؛ فهو يتناول الإعجاز من جهة اللفظ والمعنى، فقوام البلاغة ثلاثة عوامل: معنى، ولفظ، ونظم يؤلف بينهم، وقد بلغ القرآن الكريم درجة تعجز عنها قوى البشر من هذه الجهات الثلاث، وجمع في نظمه بين صفتي الفخامة والعذوبة، وهما صفتان تبدوان في كلام البشر كالضدين، فإما أن يميل الكلام إلى هذه, وإما إلى تلك.
ويمتاز كتاب الخطابي بعد ذلك بإيراد الأمثلة الكثيرة للتدليل على قيمة اللفظ القرآني, أو التركيب القرآني في سياقه الخاص، مشيرًا إلى الفروق الدقيقة بين معاني المفردات التي تبدو مترادفة، أو التراكيب التي تبدو(1/423)
متقاربة، ومبينًا الأسرار اللطيفة في استعمال كلمة يبدو للنظر القاصر, أن غيرها أحق منها بذلك الموضع، أو تركيب يخيل لمن لا يحسن الفهم أن فيه عدولًا عن الوجه.
وآخر هذه الكتب الثلاثة "إعجاز القرآن" للباقلاني, ينقل وجوه الإعجاز التي أوردها الرماني في كتابه "النكت في إعجاز القرآن" كما ينقل عن بعض الأدباء كابن المعتز وقدامة بن جعفر كثيرًا من وجوه البلاغة التي أطلق عليها اسم "البديع"، ولكن الباقلاني ينفرد عن هؤلاء جميعًا برأي له طرافته ووجاهته أيضًا، وهو أن هذه الوجوه لا تكفي لتعليل الإعجاز, وحجته في ذلك أنها يمكن أن تحصل بالدراسة والمران, وإنما يعرف الإعجاز بائتلافها جميعًا في نظمٍ لا يقدر البشر أن يأتوا بمثله، وقد دلل على قوله هذا بنقد تطبيقيٍّ تفصيليٍّ لمعلقة امرئ القيس, وقصيدة للبحتري.
والجديد في نقد الباقلاني, أنه تناول قصيدتين كامتلتين على خلاف ما جرت عادة النقاد العرب من الوقوف عند البيت أو البيتين، وإن كانت المعاني الجزئية والعبارات عنها, هي التي استأثرت بانتباهه, كما هي الحال عند غيره, ولكنه حين يأتي للكلام على النظم القرآن ينهج سبيلًا لم يسبقه إليه أحد, ولم يتبعه فيه أحد على ما نعلم, وهو الكلام على وحدة السور, ولوحدة السور عند الباقلاني معنيان: وحدة النظم في الاستواء والإحكام، بحيث لا يعتريه شيء من التهافت عند اختلاف الموضوعات والأغراض، كما نجد في أشعار البشر. ووحدة النظم بتلاؤم الأجزاء، وحسن الانتقالات وإحكام المقاطع, وقد مثَّل الباقلاني لذلك بسورة الشعراء، وإن كان تحليله لها مجملًا غاية الإجمال, ولعل عبد القاهر الجرجاني، إمام البلاغيين، لو وقف أمام هذا المعنى في النظم القرآني لكانت لنا بلاغية مختلفة عن هذه التي بين أيدينا, ولكنه كان نحويًّا، فاستأثر بانتباهه نظم الجملة دون نظم السورة أو القصيدة, كما سنرى في الفقرة التالية.(1/424)
عبد القادر الجرجاني وتأسيس علوم البلاغة
...
9- عبد القاهر الجرجاني وتأسيس علوم البلاغة:
كان بحث الإعجاز هو التربة الخصبة التي نمت فيها الدراسات البلاغية، مع أن البذرة -كما رأينا- ترجع إلى العصر الجاهلي نفسه، وقد عاونت في تغذيتها المباحث النقدية على مختلف اتجاهاتها، ولا سيما مباحث الشعراء والكتاب التي تركزت حول فني النظم والنثر. ويبدو أن قضية "النظم" أخذت تستقطب جميع المباحث النقدية والبلاغية منذ أواخر القرن الرابع، ولا غرابة في ذلك، فقد كانت هذه المباحث كلها تمت بسبب قريب أو بعيد إلى فكرة "الصياغة", وهكذا أصبح الجو مهيئًا لاستكمال دراسة العبارة وفقًا لمنهج مستوعب، نتج عنه علما المعاني والبيان، ولم يلبث أن جاء البلاغيون المدرسيون الذين نظموا أبوابهما, وأضافوا إليهما علمًا ثالثًا سموه علم البديع، بنوه على أعمال المدرسة الفنية التي كان رائدها ابن المعتز، ولكن بعد أن أخضعوه لإطار نظري شامل ,أصبح بمتقضاه علمًا إضافيًّا مكملًا لعلمي المعاني والبيان، هذا بينما استمر الشعراء والكتاب سائرين على النمط الذي ابتدعه ابن المعتز، فأنتجوا كتبًا في البديع تجاوزت حدود المفهوم الذي حاول البلاغيون المدرسيون أن يعرضوه، وحافظت على فكرة "البديع" كمذهب في الصناعة، لا كعلم داخل منظومة تسمى علوم البلاغة، أيًّا كان موضعه في هذه المنظومة؛ في الصلب أو في الهامش.
كان عبد القاهر الجرجاني "471هـ", هو مؤسس المنهج البلاغي, وكان نحويًّا ومتكلمًا, وكان فيما يظهر مطلعًا اطلاعًا جيدًا على ما ترجم ولخص من آثار الفكر اليوناني، كما كان مطلعًا على المناقشات التي دارت بين النقاد العرب المحافظين، بما فيها من مثمر وعقيم، وعلى رأسها قضية اللفظ المعنى، وقضية السرقات الشعرية, ثم إنه، بوصفه متكلمًا، كان مضطرًا أن يصل إلى حلٍّ يرتضيه لقضية الإعجاز، وبوصفه نحويًّا كانت تشغله العلاقة بين القواعد التي يعنى بها النحويون لضمان سلامة العبارة، و"حسن(1/425)
السبك" الذي يلهج به النقاد لضمان حسن موقعها من النفس, ومن هذا المزيج كله تكونت فلسفته البلاغية. فإذا اعتبرنا الجاحظ ممثلًا لعصره -النصف الأول من القرن الثالث- الذي كان النقد فيه بحيرةً غذتها منابع مختلفة، فعبد القاهر الجرجاني يمثل عصره أيضًا -النصف الأول من القرن الخامس- إذ أصبح للنقد نهر عظيم صبت فيه كل الروافد المهمة, وكان هذا النهر، الذي أخمل النهيرات، هو نهر البلاغة.
ترك الجرجاني كتابين جليلين في البلاغة، وهما "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". ولا شك أن فكرة "النظم" هي الفكرة المحورية في الكتاب الثاني، ولا شك أيضًا أن هذه الفكرة كانت هي الأساس الذي أقام عليه البلاغيون المدرسيون من بعده علم المعاني, والمرجح -من مقارنة النصوص- أن "الأسرار" سبق "الدلائل" تاريخًا، ومن ثَمَّ يمكن افتراض أن فكرة "النظم" كانت هي الخلاصة والتتويج لأفكار عبد القاهر البلاغية, ولكن الظاهر أن هذه الأفكار انطلقت أصلًا من مناقشة مزاعم بعض المتكلمين عن كون الإعجاز في اللفظ، وعرض هذا الزعم على ما يقوله الفلاسفة بشأن مادة الشعر وصورته، ويبدو أن عبد القاهر لم يكتف بما قرره قدامة بن جعفر في ذلك، بل رجع أيضًا إلى الفلاسفة الشراح الذين جاءوا بعده, فهو يقول في أول "الأسرار":
"وأعلم أن غرضي من هذا الكلام الذي ابتدأته، والأساس الذي وضعته، أن أتوصل إلى بيان أمر المعاني، كيف تتفق وتختلف، ومن أين تجتمع وتفترق ... وأن من الكلام ما هو شريف في جوهره كالذهب الإبريز الذي تختلف عليه الصور، وتتعاقب عليه الصناعات، وجلّ المعوّل في شرفه على ذاته، وإن كان التصوير قد يزيد في قيمته, ويرفع في قدره، ومنه ما هو كالمصنوعات العجيبة من مواد غير شريفة، فلها -ما دامت الصورة محفوظة(1/426)
عليها لم تنتقض، وأثر الصنعة باقيًا معها لم يبطل- قيمة تغلو، ومنزلة تعلو، وللرغبة بها انصباب، وللنفوس بها إعجاب "أسرار البلاغة" ط. المنار 1947م. ص19-ص20.
ويبدو من هذا النص أن عبد القاهر مستعد لأن ينظر في قيمة المعنى في ذاته، أي: بصرف النظر عن صياغته، ولكن يعود إلى الفكرة نفسها في "دلائل الإعجاز" ليقرر أن "شرف المعنى" خارج عن بحث البلاغة، فبعد أن يورد نص الجاحظ المشهور في تفضيل اللفظ على المعنى، يقول عبد القاهر:
"وأعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا وحكمة, وكان غريبًا نادرًا, فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص ألّا يعتبر في قضيته تلك, إلّا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته، وألا ينظر فيها إلى جنس آخر وإن كان من الجنس الأول بسبيل, أو متصلًا به اتصال ما لا ينفك منه, ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار, فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته, أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة, أو الذهب الذي وقع فيه العمل, وتلك الصنعة, كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه, وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتمٍ بأن تكون فضة هذا أجود أو فصه أنفس, لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتًا عل بيت من أجل معناه, ألّا يكون تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام, وهذا قاطع فاعرفه"."دلائل الاعجاز، ط. المنار سنة 1331هـ ص196, 197".
غير أن مناقشة أنصار اللفظ تشغل في كتابي عبد القاهر أضعاف الحيز(1/427)
الذي تشغله مناقشة أنصار المعنى، والظاهر أن المعركة بلغت في زمن عبد القاهر حدًّا من العنف والتطرف أدى بالقائلين باللفظ إلى مزاعم مضحكة؛ كقولهم: إن منشد الشعر مثل قائله, في أن كليهما "ناظم"، وأن الكلام المفسر لا يفضل تفسيره إلّا بالألفاظ. وعبد القاهر يفتتح "أسرار البلاغة" ويختم "دلائل الإعجاز" بمناقشة هذه المزاعم، ويخلص منها إلى تقرير فكرة "النظم" بلغة الترجمة الذاتية: "ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيئ وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج..".
والإشارات والتنبيهات التي يعتمد عليها عبد القاهر في تفسير معنى البلاغة والبيان, إلخ ... هي ألفاظ مثل "النظم" و"التصوير" و"الصياغة"، وردت كثيرًا في كلام المتقدمين حول هذه المعاني؛ فإذا رجعنا إلى الدلالات الحقيقية لهذا الألفاظ، عرفنا أن المقصود هو الترتيب والتأليف والتركيب.
ولكن التأليف والتركيب لا يكون في اللفظ من حيث هو لفظ, والدليل على ذلك أننا إذا نظرنا إلى لفظة ما قبل دخولها في التأليف, وأدائها لمعنى في جملة، لم نتصور أن تكون أبلغ أو أقل بلاغة من غيرها, فهل يمكن أن يقال -مثلًا: إن كلمة "رجل" أدل على مفهوم الرجل من كلمة "فرس" على مفهوم الفرس؟ وهل يتصور أن اسم "الليث" أدل على ذلك الحيوان المعروف من اسم "الأسد"؟
فالعبرة في بلاغة الكلام بحسن تأليفه، والعبرة في حسن التأليف بالمعنى, وإذ كان النحو هو الذي يعرفنا أنواع التأليف المختلفة للدلالة على المعاني المختلفة، فمدار البلاغة إذن هو وضع التراكيب النحوية في مواضعها، واستعمالها فيما ينبغي لها, ولا يعني عبد القاهر بهذا مجرد(1/428)
الصحة، بل تخير الأسلوب المناسب من بين أساليب متعددة كلها صحيح نحويًّا، وكلها تؤدي معنًى واحدًا، إلّا أن لكل واحد منها خصوصية في ذلك المعنى, ليست للأساليب الأخرى. ويمثل عبد القاهرة لذلك باختلاف الوجوه في الأساليب الخبرية نحو قولك: زيد منطلق, وزيد ينطلق, وينطلق زيد, ومنطلق زيد, وزيد المنطلق, والمنطلق زيد, وزيد هو المنطلق, وزيد هو منطلق، واختلاف الوجوه في الشرط والجزاء, بين أن نقول: إن تخرج أخرج، وأن نقول: إن خرجتَ خرجتُ، أو: إن تخرج فأنا خارج، أو: أنا خارج إن خرجت، أو: أنا إن خرجت خارج، واختلاف الوجوه في الحال, بين أن نقول: جاءني زيد مسرعًا، وأن نقول: جاءني يسرع، أو: جاءني وهو مسرع، أو جاءني هو يسرع، أو جاءني قد أسرع، أو جاءني وقد أسرع.
ثمة إذن دلالة اللفظ المفرد في سياقه "رجل، فرس، ليث، أسد" ودلالة التركيب النحوي من حيث هو, هاتان هما دعامتا البلاغة، ولكن ثمة فرقًا بينهما؛ فنحن حين نوازن بين التراكيب النحوية ننظر إلى علاقات معنوية، أو إلى أفكار مجردة، ولكننا حين نوازن بين ألفاظ مفردةٍ, ننظر إلى فروق في أدائها للمعنى الواحد أو الفكرة الواحدة. فيم تكمن هذه الفروق؟ لم يستطع عبد القاهرة أن يردها جميعًا إلى النظم، ولذلك نراه يستخدم فكرة "التمثيل" أي: تقريب المعاني من الحس؛ فمع أن عبد القاهر في جداله للقائلين ببأن البلاغة كلها في اللفظ, يؤكد "أن التشبيه قياس", ويرى أن النمط الأعلى من الاستعارة هو ما كان وجه الشبه فيه "صورة عقلية", فإنه حين يبتعد عن هذا الجو الجدلي في "أسرار البلاغة" على وجه الخصوص, يقول عن التمثيل مثلًا: "وأعلم أن مما اتفق عليه العقلاء, أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني, أو برزت هي باختصار في معرضه, ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وأكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها...." وبعد أن يستشهد بعدد من النماذج يتساءل: لم كان للتمثيل هذا(1/429)
التأثير؟ ويجيب بأن ثَمَّةَ أسبابًا وعللًا، "كلٌّ منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل وينبل، ويشرف ويكمل، فأدل ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيها بصريح بعد مكنيّ، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها من العقل إلى الإحساس, ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع". ويعبر عن هذا المعنى نفسه بقوله: "إن التمثيل يفتح إلى مكان المعقول من قلبك بابًا من العين".
وينبغي أن يتوقف دارس البلاغة عند إشارة عبد القاهر إلى مجيء التمثيل في أعقاب المعاني، وإلى بروزها باختصار في معرضه, ونقلها عن صورها الأصلية إلى صورته، فهذه الفكرة أقرب إلى الفكرة التي بدأ بها, وهي التمييز بين جوهر المعنى وصورته؛ من حديثه عن النظم. وقد حاول عبد القاهر أن يجمع بين فكرة النظم وفكرة التمثيل أو التصوير, وسماها: "اللفط", "في فصل من دلائل الإعجاز" جعل عنوانه: "فصل في النظم يتحد في الوضع, ويدق فيه الصنع" وانتهى فيه -بعد تحليل دقيق لعدد من النماذج- إلى هذا القول:
"وجملة القول: إن ههنا كلامًا حسنه للفظ دون النظم، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ، وثالثًا قريّ الحسن من الجهتين، ووجد له المزية بكلا الأمرين، والإشكال في هذا الثالث وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، وتراك قد حفت فيه على النظم فتركته، وطمحت ببصرك إلى اللفظ، وقدرت في حسن كان به وباللفظ أنه لحفظ خاصة. وهذا هو الذي أردت حين قلت لك: إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته".
وهكذا يبدو أن عبد القاهرة ميّزَ مستويات ثلاثة في الكلام البليغ؛ مستوى المعنى المجرد، ومستوى التصوير أو اللفظ، ومستوى النظم، ومع أنه لم ينكر(1/430)
قيمة المعنى المجرد إذا تضمن أدبًا وحكمة, فقد حصر الأحكام البلاغية في اللفظ والنظم، وجعل الثاني مهيمنًا على الأول؛ فكان هذا هو الأساس الذي اعتمد عليه السكاكي ومن تبعه في تقسيم علم البلاغة إلى فرعين: علم المعاني وعلم البيان.
ومما هو جدير بالذكر أن عبد القاهر الجرجاني، وإن عُدَّ واضع هذين العلمين، لم يضع لهما هذين الاسمين, بل لم يقم حدودًا واضحةً بينهما، سوى ما رأيناه من تمييزه بين اللفظ والنظم, وكثيرًا ما يستعمل اسم "البديع" ليدل به على الصنعة مطلقًا، كما جرت عادة المدرسة الفنية، ويعد الاستعارة من البديع.(1/431)
10- ضمور النقد واتساع التأليف في علم البلاغة:
كانت نشأة فكرة النظم في أوساط المتكلمين، حتى اكتملت على يدي عبد القاهر الجرجاني، هي أساس توجيه البحث في العبارة الأدبية إلى دراسة إعجاز القرآن، وامتزاجه بالمباحث الكلامية والمنطقية، وخضوعه لمنهج علمي في التبويب والتصنيف, وهذه هي السمات التي ميزت "علم البلاغة", وبفضل ارتباط هذا العلم بالقرآن، تواصل الاهتمام به, وكثر التأليف فيه طوال العصور المتأرة, وإن أخذ -غالبًا- شكل المتون والشروح كما جرت عادة المتأخرين. وبجانب هذا الاتجاه المدرسي في البلاغة، الموجَّه أساسًا لخدمة التفسير، استمرّ الاتجاه البديعي في سيره المطّرد، ممثلًا للذوق السائد في بيئات الكُتَّاب والشعراء، فبعد ثمانية عشر نوعًا من البديع أحصاها ابن المعتز، رأينا أسامة بن منقذ "584هـ" في "بديعه" يبلغ بها خمسة وتسعين, وابتداءً من القرن الخامس تكثر الكتب في فن التجنيس خاصة، فقد أصبح هذا الفن البديعي لعبة الشعراء والكتاب، وأشهر هذه الكتب اثنان: "الدر النفيس في أجناس التجنيس" لصفي الدين الجلي "750هـ", و"جنان الجناس" للصلاح الصفدي(1/431)
"764هـ", ثم تصبح التورية هي بدع العصر، فيضع ابن حجة الحموي "837هـ" كتابه "كشف اللثام، في التورية والاستخدام", ويبدأ الحلي نوعًا جديدًا من النظم بقصيدته البديعية في مدح الرسول، عارض فيها بردة البوصيري، ولكنه تحرَّى أن يضمن كل بيت منها نوعًا من البديع، وأخذ الشعراء يتواردون على هذا الفن, ويبذلون جهدهم في الإكثار من الأنواع، ويلحقون بالقصيدة شرحًا يفصل كل نوع, ويورد نماذج منه. وأشهر هذه الشروح وأوسعها كتاب "خزانة الأدب" لابن حجة الحموي.
أما النقد: فلا نعرف إضافة قيمة فيه بعد "مناهج البلغاء", والملاحظات المتناثرة التي نعثر عليها في "المثل السائر" ولا سيما في المقدمة؛ فمعظم الكتب المؤلفة في النقد، ابتداءً من القرن السابع، يعتمد على النقل عن السابقين, ولذلك فإن أبا تمام والمتنبي يغلبان على موضوعات هذه الكتب، مثل: "تنبيه الأريب على ما في شعر أبي الطيب من الحسن والمعيب" لعبد الرحمن بن عبد الله باكثير الحضرمي "حوالي 975هـ", و"هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام", و"الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" ليوسف البديعي "1073هـ", ولذلك فإن الإضافة الحقيقية لهذا العصر تبقى منحصرة في تقنين علوم البلاغة.
وأول من قام بهذا الجهد هو الفخر الرازي "606هـ" في كتابه "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز", وهو يصرح في خطبة الكتاب باعتماده على كتابي عبد القاهر، اللذين يأخذ عليهما عدم الترتيب وكثرة الإطناب, ولذلك يقسم كتابه إلى جملتين أومقالتين: أولاهما خاصة بالمفردات، ويتناول فيها مباحث "اللفظ" عند عبد القاهر، ولكن بعد أن يقدم لهما بمقدمة عن أنواع "الدلالة" يستعيرها من المنطق, ومن ثَمَّ تنقسم هذه الجملة قسمين أحدهما: خاص بالدالة الوضعية, ويتناول بعض المحسنات التي تكون في الألفاظ المفردة خطًّا أو نطقًا، وأهمها الجناس بأنواعه، والقسم الثاني موضوعه:(1/432)
الدلالة المعنوية, وفي يدرس التشبيه والاستعارة والكناية, والجملة الثانية خاصة بالنظم، وهو يأخذ عن عبد القاهر تعريفه بأنه: تآخي معاني النحو, ويلخص أبحاثه في التقديم والتأخير والحذف والذكر والفضل والوصل والإيجاز والقصر، ويحدد ألوانًا من النظم اكتفى عبد القاهر بالإشارة إليها، كاللف والنشر والجمع والتفريق والتقسيم.
أما إمام البلاغيين المدرسيين فهو، بدون شك، أبو يعقوب السكاكي "626هـ", صاحب "مفتاح العلوم" والمقصود هو العلوم الأدبية "حسب رأي السكاكي", وقد سلك سبيل الرازي من قبله في اعتبار علم البلاغة وسيلة إلى معرفة الإعجاز، وزاد بأن جعله عملًا معياريًّا؛ فصيَّره ثالثًا لعلم الصرف وعلم النحو، وسار إلى آخر الشوط الذي بدأه عبد القاهر الجرجاني حين قال: "إن التشبيه قياس" فرأى أن علم البيان لا يتم إلّا ببحث الاستدلال, كما رأى أن معرفة الشعر والنثر لا تتم إلّا بدراسة العروض والقوافي، فأضافها إلى "مفتاحه". وبما أن دراسة البلاغة، حتى عند الرازي، كانت لا تزال تدور حول البحث عن جمال العبارة، فقد كان على السكاكي أن يعتمد اعتبارًا آخر في تقسيم المباحث البلاغية، تتوفر له "المعيارية" التي أصبحت طابع هذا العلم, ومع أن البلاغة عنده ظلت قائمة على هذين الركنين، اللفظ والنظم، فقد أخضعهما لمنظومة نحوية كلامية منطقية, غايتها تمييز الخطأ من الصواب، لا الكشف عن أسرار الصنعة الأدبية، وإن كانت طبيعة المادة قد اضطرت السكاكي نفسه في كثير من الأحيان إلى الخروج عن حدود هذه المنظومة, والغوص في تحليلات جمالية لا تخلو من ذوق ولماحية. وجدير بالذكر أن السكاكي، رغم كل ما صاغه من قوانين بلاغية، لا يرى مرجعًا في معرفة وجه الإعجاز سوى الذوق.
وطبقا لهذه المنظومة، تتألف البلاغة من علمين: علم المعاني وعلم البيان؛ فعلم المعاني: "هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة, وما يتصل(1/433)
بها من الاستحسان وغيره؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره". ومقتضى الحال لا يتطلب -أحيانًا- أكثر من ألفاظ مستعملة في دلالاتها الوضعية, ومؤلفة على كيفية تفيد معنى، ببحث يتطلب -أحيانًا أخرى- ما هو أكثر من ذلك, والاحتراز عن الخطأ المقصود في علم المعاني، هو ما يتعلق بهذا القسم الثاني، دون الأول الذي يقوم به علم النحو.
وبناءً على ذلك, يدرس علم المعاني أساس التركيب النحوي، وهو الإخبار "وقد أخذ السكاكي هذه الفكرة عن عبد القاهر" وضده الطلب. ثم يدرس الفروق المختلفة في الأخبار من جهة التراكيب والمعاني التي تدل عليها هذه التراكيب، طبقًا لأحوال المخبر عنه "المسند إليه" من تعريف أو تنكير، وتقديم أو تأخير، ولأحوال الخبر "المسند" من مثل ذلك، ومن فعلية أو اسمية، وتقييد أو إطلاق. وبعد الانتهاء من دراسة التراكيب الداخلة في نطاق الجملة، أو الخبر الواحد، ننتقل إلى دراسة الربط بين الجمل "الفصل والوصل", ثم إلى الدراسة الكمية لعلاقة الألفاظ بالمعاني "الإيجاز والإطناب والمساواة".
وأما علم البيان فهو: "معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه وبالنقصان، ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه", وبما أن إيراد المعنى بالدلالات الوضعية للألفاظ لا يؤدي إلى زيادة أونقص في الوضوح، كما إذا قلت: "هزبر" عوضًا عن "أسد"، فإن الكلمتين بمنزلةٍ سواء لدى السامع الذي يعرف معناهما معًا، وإنما يوجد الاختلاف في الوضوح إذا استعملت كلمتان في غير معناهما الوضعي، كأن تدل على معنى "الرفعة" مرة باسم "الشمس" ومرةً باسم "العلم" فإن مباحث علم البيان تنحصر في الدلالات غير الوضعية، أي: الدلالات العقلية، التي تسمى في المنطق: "دلالة الالتزام". وعلى أساس(1/434)
العلاقة بين المعنيين "اللازم والملزوم" يقسِّم السكاكي مباحث البيان إلى استعارة ومجاز مرسل وكناية, وبما أن الاستعارة تبنى على علاقة التشبيه، فيجب أن تشتمل مباحث البيان على "التشبيه" أيضًا.
هذه هي المنظومة البلاغية التي رتبها السكاكي، والتزمها أتباعه, وعلى رأسهم "الخطيب القزويني" "734هـ" الذي لخص قسم البلاغة من المفتاح وسماه "تلخيص المفتاح"، وأصبح "التلخيص" تناوله عدد من الشراح منهم القزيني نفسه في كتابه "الإيضاح", ولم يخرج القزويني عن هذه المنظومة إلّا إلى مزيد من المعيارية, حين اعتبر أن ثمرة علم البيان ليست "الاحتراز عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه" كما قال السكاكي, بل الاحتراز عن التعقيد المعنوي الذي يأتي من صعوبة الانتقال من اللازم إلى الملزوم.
ولا شك أن المنظومة السكاكية حين رتبت المعاني الأدبية في درجات تبدأ من "أصل المعنى" وهو "الإفادة" وترتقي إلى "ما يتصل بها من الاستحسان وغيره", ثم إلى "تمام المراد" لم تحسم قضية المعنى, ولعل ذلك راجع إلى أن ثقافة العصر النفسية ربطت المعنى دائمًا بالوعي والمنطق، ولكنها استطاعت -على كل حالٍ- أن تشير إلى ما نسميه اليوم "مستويات العمل الأدبي" في حدود الجملة والجملتين, ولعلها لولم تلتزم بالفكرة المعيارية لجاءت أقرب إلى مفاهيمنا النقدية المعاصرة. أما المسألة الأكثر إشكالًا فهي موقف هذه المنظومة من البديع؛ فالسكاكي وأتباعه رأوا أن البلاغة تنحصر في علمي المعاني والبيان "ما دام الأول قد تكفل بصحة المعنى، والثاني قد تكفل بإتمامه"، ومن ثَمَّ بقي عدد كبير من الأساليب الفنية، التي أحصتها مدرسة البديع، خارج هذا التصنيف، فاضطروا إلى أن يضيفوا علمًا ثالثًا سموه: "علم البديع"، وقدموه بقولهم: إنه يضم زيادات مستحسنة، يصار إليها بعد رعاية تطبيق الكلام على مقتضى الحال ووضوح الدلالة.(1/435)
ولعل إفراط البديعيين في ابتكار الأنواع ورصدها, كان سببًا في هذا الموقف المتشكك، أو المترفع، من جانب البلاغيين الذين صدروا عن البحث في إعجاز القرآن, وقد أنكر أحد متقدميهم، الباقلاني، أن يقال: إن في القرآن سجعًا، وسماه: "فواصل"، وكلهم أكدوا أن المحسنات البديعية يجب أن تكون تابعة للمعنى, وإذا كان أحد البديعيين، ابن أبي الإصبع "645هـ", قد ألف كتابًا في "بديع القرآن", فالراجح أنه كان نوعًا من الرد على ذلك الترفع أو التشكك.(1/436)
مراجع عامة:
إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، شوقي ضيف: البلاغة، تطور وتاريخ، طه أحمد إبراهيم: تاريخ النقد الأدبي العرب، محمد زغلول سلام: تاريخ النقد العربي، محمد مصطفى هدارة: مشكلة السرقات في النقد العربي، محمد مندور: النقد المنهجي عند العرب.(1/436)