علم العروض:
مقدمة:
يقتضي التعريف بعلم العروض أن نقدم بين يدي ذلك كلمة عن طبيعة العربي في شبه الجزيرة التي عاش في رحابها، لا يحجبه شيء عن سمائها ومظاهر الطبيعة فيها، فاتسع خياله اتساع صحرائها, وساعدته اللغة بكثرة مترادفاتها على صياغة الشعر سليقةً وطبعًا، فهم أمة كما قيل: قد حرموا الطعام ومنحوا الكلام، وقد عرفوا بالقصد في القول والإيجاز والفصاحة وإصابة المعنى عن قرب، وغلب عليهم هذا اللون من القول, ألَا وهو الشعر، حتى قيل: إنه قد وجد قبل النثر الذي لا يخضع لنظم ولا قوانين، ولا نعني النثر الفنيّ بحال؛ فقد وصلنا من تراثهم الشعري أكثر مما وصلنا من نثرهم؛ لأنهم اعتمدوا في ديوانهم الشعري على الذاكرة، فاحتفظت به العرب تراثًا على مَرِّ الزمن، لسهولة حفظه؛ لما فيه من الإيقاع والوزن, ولما يحمله من موسيقا، قال ابن فارس: "ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل, قال: ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير، وأحر بهذا القول أن يكون صحيحًا"1. وهي كلمة مشهورة لأبي عمرو بن العلاء من قبله.
وقد ظلت الأمة العربية على فصاحتها لعزلتها، إلى أن دبَّ اللحن في أوصالها, وخاصة حين اختلط العرب بالعجم بفعل الفتوحات الإسلامية، فاحتاجت إلى وضع العلوم وتدوينها، فكان على رأسها النحو وتدوين(1/439)
الحديث بعد ذلك، ثم ظهر العروض والقافية على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي، المولود بالبصرة سنة 100هـ, والمتوفى سنة 174، على خلاف في ذلك، أوائل خلافة الرشيد، ليعرف بهما صحيح الشعر من فاسده وسقيمه، وليحكم الشعر من أراد صوغه؛ ليكون ذلك كالمعايير والمووازين لهذا الفن الذي حفلت به العرب.
وعلم العروض وعلم القافية داخلان في "علوم العربية" التي اشتملت على اثني عشر علمًا هي:
علم اللغة، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق -وإن كان جزءًا من الصرف, وعلم النحو، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم العروض، وعلم القافية، وعلم قرض الشعر، وعلم الخط، وعلم إنشاء النثر من الرسائل والخطب، وعلم المحاضرات ومنه التواريخ.
هذا ما تعنيه كلمة "العربية" بالمعنى العام، أما بالمعنى الخاص فتطلق على النحو والصرف.
وكلمة "العروض" من حيث اللغة تعني أشياء كثيرة؛ لأنها من المشترك اللفظي، فهي تعني مكة والمدينة وما حولهما، أي بين مكة واليمن، قال لبيد: نقاتل ما بين العروض وخثعما, ويقال: عرض الرجل, أي: أتى العروض، وفي حديث عاشوراء: "فأمر أن يؤذنوا أهل العروض" قيل: أراد من بأكناف مكة والمدينة، كما تعني الناقة التي لم تُرَض، ومن هذا المعنى حديث عمر -رضي الله عنه: "واضرب العروض وازجر العجول"، فميزان الشعر يمسمى العروض مجازًا، لصعوبته؛ كهذه الناقة التي لم تذلل، وقيل في سبب تسميته أن الخليل قد وضعه بمكة, وهي العروض فسماه باسمها تفاؤلًا، أو هو من تسمية الكل باسم الجزء مجازًا، والأوفق من ذلك ما ذكره الخليل, فقد قال: "العروض عرض الشعر؛ لأن الشعر يعرض عليه، ويجمع أعاريض، وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث، والتذكير(1/440)
جائز"، ولذا قيل العروض طرائق الشعر وعموده مثل الطويل, يقال: هو عروض واحد، واختلاف القوافي تسمى ضروبًا. بل ذهب ببعضهم الخيال والمواءمة بين العلم والفن والبيئة العربية إلى حَدِّ أن قال أبو إسحاق: إنما سُمِّيَ وسط البيت عروضًا؛ لأن العروض وسط البيت من البناء, والبيت من الشعر مبنيٌّ في اللفظ على بناء البيت من الشعر المسكون عند العرب، فقوام البيت من الكلام عروضه، كما أن قوام البيت من الخرق العارضة التي في وسطه, فهي أقوى ما في بيت الخرق. أقول: وإتيان الخليل بالسبب وهو الحبل، والوتد -وهو ما تشد به الخيمة، والمصراع, وغير ذلك من مصطلحات العروض, تشير إلى أنه قد استوحى في ذلك البيئة العربية. وقيل: سُمِّيَ عروضًا لأن الشعر يعرض عليه، فالنصف الأول من البيت عروض؛ لأن الثاني يبنى على الأول، ويسمى النصف الأخير الشطر، وهذ القول أرجح لموافقته نص الخليل, وتعني هذه الكلمة أيضًا الجهة والناحية، يقال: أخذ فلان في عروض ما تعجبني، أي: في طريق وناحية، قال الأخنس بن شهاب التغلبي:
لكل أساس من معدٍّ عمارة ... عروض إليها يلجأون وجانب
والعروض من الكلام فحواه، يقال: عرفت ذلك في عروض كلامه، ومن ذلك أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، بأن تورّي ولا تصرّح, والعارضة الخشبة التي يدور فيها الباب، وللبيت الشعري مصراعان كما للباب. أما الضرب فهو مذكر, معناه: المثل والشبه قال الشاعر:
ونبئت ليلى العامرية أصبحت ... على ضرب ليلى حبذا ذاك من ضرب3
والعروض اصطلاحًا: آخر جزء من الشطر الأول، والضرب آخر جزء من الشرط الثاني.
أما علم العروض اصطلاحًا: فهو علم بمعرفة أوزان الشعر العربي، أو(1/441)
هو علم بأوزان الشعر الموافق أشعار العرب التي اشتهرت عنهم، وصحّت بالرواية من الطرق الموثوق بها, وهو عند ابن فارس: " ... العروض التي هي ميزان الشعر, وبها يعرف صحيحه من سقيمه"4.
الحاجة إلى هذا العلم: والحاجة ماسّة إلى معرفة الوزن؛ إذ به يعرف المستقيم والمنكسر من أشعار العرب، والصحيح من السقيم, والمعتل من السليم، وعليه مدار القريض, وبه يسلم من الأود والانكسار. قال ابن الأثير: " ... وأما النوع الثامن وهو ما يختص بالناظم دون الناثر، وذلك معرفة العرض، وما يجوز منه من الزحاف وما لا يجوز، فإن الشاعر محتاج إليه، ولسنا نوجب عليه المعرفة بذلك، لينظم بعلمه، فإن النظم مبني على الذوق، ولو نظم بتقطيع الأفاعيل لجاء شعره متكلفًا غير مرضٍ، وإنما أريد للشاعر معرفة العروض؛ لأن الذوق قد ينبو عن بعض الزحافات, ويكون ذلك جائزًا في العروض, وقد ورد للعرب مثله، فإذا كان الشاعر غير عالمٍ به, لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز، وكذلك أيضًا يحتاج الشاعر إلى العلم بالقوافي والحركات، ليعلم الرويّ والردف, وما يصح من ذلك وما لا يصح، فإذا أكمل صاحب هذه الصناعة معرفة هذه الآلات, وكان ذا طبع مجيب، وقريحة مواتية، فعليه بالنظر في كتابنا هذا، والتصفح لما أودعناه من حقائق علم البيان، ونبهنا عليه من أصول ذلك وفروعه"5.
ولهذا نجد الشاعر العربي يتثبت من صحة الوزن بعدما يعد القصيدة، كما يعدل في ألفاظها ويغير فيها كالمنقحين؛ من أمثال: زهير, صاحب الحوليات، قال عدي بن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها
وذلك كله ليوائم بين الألفاظ، ويكمل الموسيقا, وغير ذلك من مقومات الشعر؛ لأن كثيرين من الشعراء خلطوا ووقعوا في الزلل؛ كالمرقش وعبيد بن الأبرص وأبي العتاهية والمتنبي، فقد خرج بعضهم عن أوزان الخليل أحيانًا،(1/442)
وإن كان الشعر في حقيقة أمره ملكة وموهبة وعاطفة مشبوبة, قبل كل شيء، قال شوقي:
والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة ... أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
وقال الزهاوي:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه ... فليس خليقًا أن يُقَالَ له شعر
وربما كانت صعوبة العروض داعية قول الجاحظ: "العروض علم مستبرد، ومذهب مرفوض، يستكد العقول بمستفعلن ومفعول، من غير فائدة ولا محصول" كما قال عن النحو: "وأما النحو فلا تشغل قلبه -أي: الصبي- به, إلّا بمقدار ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه، وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو من رواية المثل الشاهد, والخبر الصادق, والتعبير البارع، وإنما يرغب في بلوغ غايته, ومجاوزة الاقتضاء فيه من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور ... ومن ليس له حظ غيره ولا معاش سواه، وعويص النحو لا يجدي في المعاملات, ولا يضطر إليه في شيء". ومن بعده جاء ابن حزم الظاهريّ فقال أيضًا: "يكفي أن يعرف الطالب من النحو ما يصل به إلى ضبط الألفاظ، وما زاد على ذلك فليس بضروري" فهما من دعاة التيسير لا الرفض، وقد صرح الخليل بمثل ذلك حينما وصف النحو بأنه: لا يصل إليه أحدٌ حتى يخوض كثيرًا مما لا يحتاج إليه, وهذه سعة أفق منهم، فما أحسن قول أبي نواس:
تكلفوا المكرمات كدًّا ... تكلف النظم بالعروض
وكل هذا لا ينفي قيمة هذا العلم، وحقًّا لقد كان علم العروض ولا(1/443)
يزال صعبًا، فهذا رجل أراد أن يتعلمه, فلما يئس منه الخليل أمره أن يقطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ففهم الرجل مراده وانقطع، ومن الطرائف أن أبا جعفر أحمد بن محمد بن يونس المرادي النحوي, المعروف بالنحاس، كان يومًا جالسًا على درج المقياس بالروضة, في سنةٍ لم يزد النيل فيها كعادته, وهو يقطع بيتًا من الشعر، فمر به رجلان فسمعاه يتكلم بكلام غير مفهوم، فتوهما أن يسحر النيل، فدفعاه إلى النهر فمات غريقًا في ذي الحجة سنة 328هـ.
فهذا ونظائره لا يغض من قيمة العروض؛ حيث كان مجال قدح ومدح؛ إذ العالم بالعروض إن حاول النظم على بحرٍ ما, علم ما يسوغ منه وما لا يسوغ، فأمن بذلك الفساد واختلاط الأوزان، فكم من شاعر مغلق اشتبه عليه أمر الوزن, فخلط بين البحور في قصيدة واحدة، هذا إن أراد إنشاء الشعر الذي لا بد فيه فوق العاطفة والطبع من القصد والصنعة، وإن قرأ شعرًا أقام وزنه وأحكم إنشاده، وإن سمعه أو تناوله تعليمًا وتعلمًا ميّزَ صحيحه من فاسده، ولئن كان اللحن في النحو يزري بصاحبه، فإن الإخلال بالشعر أدعى إلى هلهلته والذهاب بموسيقاه وإيقاعه، وبالتالي بالإمتاع به.
وإن تعجب فعجب أن تجد في القرآن الكريم كثيرًا من الآيات جاءت موزونة، ومثّلت كل بحور الشعر المعروفة، ولم تعتبر شعرًا؛ لأنها خلت من عنصر القصد، أي: قصد أن يكون شعرًا.
قال ابن فارس موضحًا ضرورة القصد في الشعر: "الشعر كلام موزون مقفًّى دالٌّ على معنًى، ويكون أكثر من بيت، وإنما قلنا هذا لأن جائزًا اتفاق سطرٍ واحدٍ بوزن يشبه وزن الشعر من غير قصد، فقد قيل: إن بعض(1/444)
عقال، فاستوى هذا في الوزن الذي يسمى "الخفيف", ولعل الكاتب لم يقصد به شعرًا". وعندما تقول: سلام عليكم, تجيء على غير قصد منك على وزن فعولن فعولن, وهذه تفعيلة "المتقارب", وهذا ما ساعد على الاقتباس والتضمين من القرآن في الشعر من نحو قول الشاعر:
وإن تبدلت بنا غيرنا ... "فحسبنا الله ونعم الوكيل"
وقال أبو نواس:
"لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون
وقد ذهب بعضهم إلى عدم جواز ذلك زاعمًا أنه ربما أدى إلى الكفر, على أن القرآن لم يذم الشعر لذاته، فقد قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... } فالآية وردت مقرونة بالسبب، فقد كان أعذب الشعر أكذبه، ومن مقومات الإسلام الصدق في القول، فليس ذلك راجعًا إلى طبيعة الوزن، بل إلى شيء آخر يتعلق بالسلوك، فقد استثنى المؤمنين، وحسَّان كان شاعر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان يقول له: اهجهم وروح القدس معك, وقد استمع بنفسه إلى قصيدة كعب بن زهير بالمسجد، بل وخلع عليه بردته التي توورثت حتى العصر العباسي, وعفا عنه حينما أنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم اليوم متبول(1/445)
أولية هذا العلم: يرجع ذلك إلى الخليل واضعه ومبتكره، فقد كان ذا عقلٍ رياضيٍّ كما كان مؤلفًا موسيقيًّا، وهذه هي عدة الفيلسوف، فاستطاع أن يؤلف أول معجم عربي هو "العين", وأن يخترع العروض والقافية، وإن قيل أنه سبق إلى ذلك، فقد روي أنه سئل: هل للعروض أصل عند العرب؟ فقال الخليل: نعم، مررت بالمدينة حاجًّا فرأيت شيخًا يعلم غلامًا يقول له: قل: نعم لا، نعم لالا، نعم لا، نعم لا لا نعم لا،(1/445)
نعم لالا، نعم لا، نعم لا لا, فقلت له: ما هذا الذي تقوله للصبي؟ فقال: عمل يتوارثونه عن سلفهم يسمونه "التنعيم"؛ لقولهم فيه: "نعم", قال الخليل: فرجعت بعد الحج فأحكمتها ... ومعنى ذلك أنه وزن نعم لا بفعولن، ونعم لا لا بمفاعلين، وهما على نمط واحد من حيث توالي الحركات والسكنات، أي: من حيث تكونهما من الأوتاد والأسباب، وربما كان هذا الوزن هو الوزن القديم للبحر الطويل، وفي ذلك تعزيز -إن صحت هذه الرواية- لكلام ابن فارس, فقد قال: " ... فإن قال قائل، فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أوّل من تكلَّم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العلمين قد كانا قديمًا، وأتت عليهما الأيام, وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب ... وزعم ناس أن علومًا كانت في القرون الأوائل، الزمن المتقادم, وأنها درست وجددت منذ زمان قريب ... "6. إلّا أن الوثائق والشواهد والدلائل تعوزنا, غير أننا نعلم من ابن هشام في السيرة النبوية قول الوليد بن المغيرة في القرآن, حينما أرسله المشركون إلى الرسول, فاستمع منه ورجع إليه فقال: "والله, ما هو بشاعر, لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه، ومقبوضه, ومبسوطه، فما هو بالشعر"، فهو يذكر بعض بحور الشعر باسمائها وبعض مصطلحاته كذلك، مما يدل على قدم هذا العلم, وجاء في رواية أخرى عن أبي ذر: "لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد"، وهذه قضية تحتاج إلى تحقيق وتمحيص.
وأيًّا كان الأمر, فقد استعان الخليل بخبرات غيره -على الأقل- في هذا العمل كما نرى، أو أنه استعان على ذلك بالشعر اليوناني.
وقد ظلَّ هذا العلم على نحو ما صنعه الخليل إلى يومنا هذا، رغم تأليف الجرمي والزجاجيّ وابن قتيبة وغيرهم في هذا العلم، واستدراكهم(1/446)
أشياء حسب اجتهادهم، ورغم ما جاء به الجوهري من إرجاعه تلك البحور إلى اثني عشر بحرًا، بعضها مفرد وبعضها مركب من بحرين، ورغم ما استدركه الأخفش من بحر "المتدارك", أو زيادة بعض الأضرب في البحر المديد، أو ما حكاه الأخفش أيضًا من أن للوافر عروضًا مجزوءة مقطوفة, يخرج عليها قول الشاعر:
أشاقك طيف مامه ... بمكة أو حمامه
وهكذا لم يكن للاحقين فيه إلّا بعض التفريعات والخلافات، ففي علم العروض والقافية ما في النحو من الصعوبة والخلاف، ولا غرو, فقد كان العروضيون نحاة، فإذا احتاج النحو إلى تيسير، فالعروض أشد حاجة منه إلى ذلك, وسيأتي شيء عن تطوره.
ونشرع الآن في قوانين هذا العلم، فأول ما تجب معرفته:
الكتابة العروضية: فالكتابة ألوان مختلفة، ولها اصطلاحات خاصة، والرموز التي تستخدم فيها تختلف من علم إلى آخر، فالقرآن الكريم رسمه متوارث, واتباعه سنة، والعروض كذلك له خطه الخاص به، وكلا الرسمين رسم المصحف, ورسم العروض يخالف الرسم الإملائي المعهود، قال ابن درستويه في كتابه "كتاب الكتاب": " ... ووجدنا كتاب الله -جَلَّ ذكره- لا يقاس هجاؤه، ولا يخالف خطه، ولكنه يتلقى بالقبول على ما أودع المصحف، ورأينا العروض إنما هو إحصاء ما لفظ به من ساكن ومتحرك، ليس يلحقه غلط، ولا فيه اختلاف بين أحد، فلم نعرض لذكرهما في كتابنا هذا, وقد نقل عنه هذا النص الزمخشريّ في مقدمة تفسيره "الكشاف".
وإذا اتخدنا هذا النصَّ أساسًا للكتابة العروضية، وجدنا أن لها اصطلاحًا خاصًّا بالعروضيين، أساسه: أن كل ما نطق به وسمعته الأذن يحسب ويعد في الوزن ويعتبر, فهو أساس سمعي، وما لم ينطق به، ولم يلفظ, ولم يسمع، يُهْمَلُ ويُسْقَطُ, ولا يلتفت إليه، وكذلك لما كان الأساس في هذا(1/447)
هو الموسيقا والنغم والإيقاع، لم تعتبر وحدة الكلمة اللغوية، بل أهدرت كرامتها، فلا مانع من تجزيئها إذا لم تستقل وحدها بالوزن, فتشترك بين وحدتين "تفعيلتين" من وحدات العروض, تبعًا للمقاطع الصوتية التي سنتحدث عنها. وكذلك لم تعتبر فيه الحركات بخصوصها، فالضمة تساوي الكسرة التي تساوي بدورها الفتحة في هذا العلم، على العكس منها في ميدان النحو؛ إذ الفتحة أخفها من ناحية, وتدل على معنًى معين، والضمة فيه لشيء, والكسرة لشيء آخر، فالحركات فيه للمعاني، أما العروض فلا ينظر فيه إلّا إلى الزمن الذي يستغرقه نطق الحركة، وسواء كانت الحركة عارضة أو أصلية فهي حركة، وكذلك السكون عارضًا أو أصليًّا.
وتطبيقًا لذلك تكتب كلمة "هذا" عروضًا هكذا: هاذا، فالألف لا تكتب إملاءً, ولكنها تسمع عروضيًّا، فهي معتبرة, و"ذلك" بعد الذال ألف مسموعة, فهي تكتب عروضيًّا "ذالك", والحرف المشدد يعتبر حرفين أولهما ساكن وثانيهما متحرك، فكلمة "لكنَّ" تكتب: "لاكنن" ففيها ألف ونونان، وكلمة "عمرو", لا تعتبر الواو؛ لأنها لا تسمع, فهي معدومة عند العروضيين، وإذا قلت: "خرجت من البيت" سقطت همزة الوصل, فلا تعد معنا كما تسقط "أل" الشمسية في نحو: "هذه الشمس" و"ذلك التراب" فإننا نسمع بعد الهاء مباشرةً شينًا ساكنة, وأخرى بعدها متحركة، وبعد الكاف ننطق التاء المشددة في كلمة "التراب" على النحو السابق، فتكتب الجملتان عروضيًّا هكذا: هاذهششمسو، ذا لكتتراب، وهكذا في كل لام شمسية مدغمة فيما بعدها، وتسقط يا "في" في نحو: "في البيت رجل"، وذلك لالتقاء الساكنين, وتكتب "فلبيت رجلن"، ويلاحظ أن التنوين في "رجل" كتب نونًا ساكنة لسماعه هكذا، وكذلك تحذف ألف المقصور في نحو: "هذا فتى القوم" وتكتب "هاذا فتلقوم"، وكذلك يا المنقوص نحو: "قاضي المدينة حاضرٌ" "قاضلمدينة حاضرن", وليكن معلومًا أن الوزن العروضي إنما يحفل بالحركات والسكنات، بصرف النظر عن الحروف، فليس معنا فيه إلّا متحرّك أو ساكن، وبصرف النظر عن خصوص الحركة وجنسها ما هي، ولو اعتضنا عن الحركة بشرطة هكذا: / وعن السكون بدائرة صغيرة هكذا: 5, أمكننا ترجمة كل بيت شعري بهذه الرموز، وسأجتزئ في ذلك, وبيانه ببعض البحور لتكون مثالًا يحتذى في غيرها.(1/448)
وحدة البيت الشعري: لكل شيء وحدة ونواة تكونه، ففي العملة إذا تكرر القرش وهو وحدة مائة مرة سمي جنيهًا، وهذه الوحدة بدورها تنقسم إلى وحدات أصغر منها وهي المليم، فكل عشرة ميلمات تسمى وتكون قرشًا، والمتر وحدة الأطوال، فكل ألفٍ منه تسمى الكيلومتر, وهو بدوره ينقسم إلى وحدات أخرى هي الديسيمتر، وهذا بدوره إلى السنتيمتر, وهكذا، وكل وحدة لها ما فوقها, ولها ما تحتها، والشأن هكذا في مقياس العروض، فالبيت الشعري من حيث الوزن، هو وحدة في القصيدة، وتتكون هذه الوحدة من عدد معين مما يسمى "التفعيلات" العروضية, بنسب متساوية في كل من شطري البيت، وهذه الوحدة بدورها تتكون من أجزاء أصغر منه, هي ما يسمى الأسباب والأوتاد بأنواعها، مع ملاحظة أن البيت الشعري قد يتكون من وحدة متكررة عددًا معينًا من المرات على سبيل التساوي، فالبحر المتقارب يتكون من "فعولن" ثماني مرات, في كل شطر أربع منها، وقد يتركب الوزن الشعري من تفعيلتين مختلفتين تركيبًا على سبيل التجاوب، فالبحر الطويل يدخل في تركيبه تفعيلتان, هما فعولن مفاعيلن, وتتكرران على هذا النحو أربع مرات في البيت، فالتفعيلة الثالثة: فعولن, تجاوب فعولن الأولى، والتفعيلة الرابعة: مفاعيلن, تجاوب التفعيلة الثانية فيه وهي مفاعيلن.
والبحور الشعرية كلها تتركب من بين التفعيلات الأصول التي هي: فعولن، مفاعيلن، مفاعلتن، فاع لاتن, ومن الفروع معها أيضًا وهي: فاعلن، مستفعلن، فاعلاتن، متفاعلن، مفعولات، فهذه تسع تفعيلات لا(1/449)
يخرج عنها بحر ما, وضابط الأصل في هذه التفعيلات هو ما بدئ بوتد مجموع أو مفروق, وضابط الفرع ما بدئ بسبب خفيف أو ثقيل، وقد استنبط الخليل التفعيلات الفرعية عن الأصلية بطريق القلب المكاني، وذلك بتقديم الأسباب على الأوتاد في الأصول، وهو ما فعله في تقاليب الكلمة اللغوية في معجمه العين، حيث يجمع رعب, وبدع, وعبد, إلخ في مكان واحد، ففاعلن تفرعت عن فعولن هكذاك فعو/لن- لن/ فعو, فقدَّم السبب على الوتد المجموع فصارت: لن فعو, وهي تساوي عروضيًّا فاعلن، إذ كل منهما تكون من سبب خفيف فوتد مجموع، "لن" تقابل "فا", و"فعو" تقابل "علن", أو بالعكس. وهكذا نشأت مستفعلن عن مفاعيلن، وفاعلاتن عن مفاعيلن، ولكن بتقديم السبب الأخير منها فقط، ومتفاعلن من مفاعلتن، ومفعولات من فاع لاتن, بتقديم سببيه الأخيرين، ومستفع لن عن فاعلاتن كذلك, ولكن بتقديم سببه الأخير فقط.
والتفعيلات السابقة تتكون بدورها من أجزاء أصغر منها, هي ما سميت بالأسباب والأوتاد, وحصرًا لذلك جمعوا هذه الأسباب والأوتاد في قولهم: "لم أر على ظهر جبل سمكة" و"لم" سبب خفيف، "أر" سبب ثقيل، و"على" وتد مجموع, و"ظهر" وتد مفروق, و"جبلن" فاصلة صغرى، وإن شئت فقل: هي سبب ثقيل وهو "جب", وسبب خفيف هو "لن, و"سمكتن" فاصلة كبرى، وإن شئت فقل: هي سبب ثقيل هو "سم", ووتد مجموع هو "كتن". وجميع التفاعيل السابقة تتكون من هذه الأجزاء، وهي عبارة عن ألفاظ الوزن الصرفي مع زوائد، وحروفها كلها جمعت في قولهم: "لمعت سيوفنا".
فإذا أردنا تقطيع بيت من الشعر تبعًا لهذا، قابلنا المتحرك من البيت بالمتحرك من الوزن, والساكن بالساكن, مراعين تجزئة البيت إلى وحدات "تفعيلات", وتجزئة التفعيلات إلى أسباب وأوتاد، فالتفعيلة هي التي تكون ما(1/450)
يسمى بالكلمة العروضية, وهي خلاف الكلمة اللغوية، كما سيتضح ذلك عند التقطيع العروضي للشعر.
ولابد أن تعرف أن البيت الشعري ينقسم إلى قسمين متساويين من حيث الموسيقا، كل قسم يسمى شطرًا أو مصراعًا، والأول منهما يسمى الصدر, والثاني عجز البيت.
والجزء الأخير من الشطر الأول, أي: التفعيلة الأخيرة منه, أي: ما يقابلها من البيت الشعري تسمى العروض، والأخيرة من الشطر الثاني تسمى الضرب، وما بينهما يسمى حشوًا، وللعروض والضرب أهمية خاصة، إذ هما اللذان يشكلان الأنواع المختلفة لموسيقا البحر الواحد.
وكما أن لكل بحر تفاعيله الخاصة به, ووحداته التي يتألف منها، كذلك له نظامه الخاص به، فيما يمكن أن يعتريه من التغيير بالزيادة أو بالحذف, أو بتسكين المتحرك, وفيما يدخل الحشو أو العروض من هذه التغييرات التي تسمى اصطلاحًا: بالزحاف والعلة؛ لأن أوزان الخليل أوزان مطلقة عامة مثالية، يخالفها واقع الشعر العربي بدخول هذه التعديلات فيها، والميزان العروضي كالميزان الصرفي، إذا حذف شيء من الموزون حذف نظيره من الميزان، أي: ما يقابله منه، وإذا زدنا حرفًا في الموزون, زدنا ما يقابله في الميزان.
وهناك من الشعر ما يسمى: "المجزوء", وهو ما حذف جزء منه, أي: تفعيلة أخيرة من كلا شطريه، وهو ظاهرة تدخل بعض البحور على سبيل الوجوب, وفي بعضها على سبيل الجواز، وتمتنع في بعضها الآخر, ومنه ما يسمى: "المشطور", وهو الذي حذف شطره, أي: نصفه، ومنه ما يسمى: "المنهوك", وهو ما حذف ثلثاه, فإذا كان تركيب البيت من ثماني تفعيلات، وحذفت تفعيلتين معينتين كان مجزوءًا، وإذا تركب من ست تفعيلات وحذفت ثلاثًا كان مشطورًا، فإذا حذفت أربعًا كان منهوكًا.(1/451)
وقد تحدث عنه أبو العلاء في "اللزوميات" فقال: "والمنهوك خامس الرجز, يسمى بذلك لأنه سقطت منه أربعة أجزاء, وبقي على جزأين, مثل قوله: يا ليتني فيها جذع، وإنما يجيء في شذوذ من الشعر، ولم تسمع منه أرجوزة طويلة من المتقدمين؛ لأنه لا يبلغ القائل غرضه من أجل قصره، وزعم بعض الناس أنه لا يحسب شعرًا".
ومن الشعر ما هو مصرع، وهو ما تغيرت عروضه لتصير مثل ضربه في الوزن والقافية، ولا يكون إلّا في مطلع القصيدة، أو إذا انتقل الشاعر فيها من غرض إلى آخر، ولذا نلاحظ أن الشطر الأول من مطلع القصيدة يقفّى ويُبْنَى على حرف الرويّ إيذانًا بذلك، كما في معلقة امرئ القيس:
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فمنزل آخرها كما في حومل، فهي لامية, ويسمى ذلك "المقفّى" وربما اقتضى التصريح تغير العروض بالزيادة كما في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... وربع خلت آياته منذ أزمان
فالعروض فيه على وزن "مفاعيلن", وكان حقها أن تكون على "مفاعلن", وجاءت هكذا لأن الضرب على وزن "مفاعيلن", وربما جاء بالنقص كما في قول الشاعر:
أجارتنا أن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
فالعروض هنا هي "تنوب" وهي على وزن "فعولن", وكان حقها أن تكون على وزن "مفاعلن", وإنما جاءت هكذا لتصير مثل الضرب, وهو "عسيب" على وزن "فعولن"، ولهذا فإن الشاعر في البيت الثاني من القصيدة يأتي بالعروض على ما تستحقه.
والبيت المدور, ما اشتركت كلمة منه بين شطريه، فكان كل جزء من الكلمة اللغوية تابعًا لشطر من حيث الوزن، ولهذا نكتبها بتمامها وبعدها الرمز "م", دلالة على ذلك, وإذا استطاع المرء تحديد نهاية الشطر الأول من هذه الكلمة, وبداية الشطر الثاني, فعل ذلك, واستغنى عن الرمز.(1/452)
بحور الشعر: باستقراء ما ورد عن العرب من أشعار، وجد الخليل أنها تنحصر في خمسة عشر بحرًا هي: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، المتقارب. ثم صارت ستة عشر وزنًا بإضافة "المتدارك" الذي استدركه عليه الأخفش، وهذا ترتيب ملزم، لتعلقه بنظام الدوائر الشعرية عند الخليل, وسأجتزئ بالصورة الأولى من كل بحر، فالبحر الواحد تتشكل موسيقاه داخل إطار عامٍّ تنتج عنه تشكيلات موسيقية أخرى داخلة تحت هذا الإطار بفعل التغييرات الطارئة على الوزن العام للبحر, خاصة بعروضه وضربه، كالماء تلقي فيه بالحجر، ترى كل دائرة أصغر من التي قبلها حدوثًا, حتى تصل إلى مركز هذه الدوائر، وسأوضح ذلك في البحر الطويل فقط، خوف الإطالة.
فمن بحور الشعر المستعملة "الطويل" , الذي سُمِّيَ بذلك لأنه أتمّ البحور استعمالًا، أو لأنه أكثرها حروفًا ولا مشارك له في هذا، كما سُمِّيَ: "الركوب"؛ لكثرة ما كانت تستعمله العرب في أشعارها، قال أبو العلاء في "جامع الأوزان": "إن أكثر أشعار العرب من الطويل والبسيط والكامل، ومن تَصَفَّحَ أشعارهم, وقف على صحة ذلك". وقال" ... والمديد والطويل البسيط تجمعهن دائرة وحدة، والبسيط والطويل ليس في الشعر أشرف منهما وزنًا, وعليهما جمهور شعر العرب، وإذا اعترضت الديوان من دواوين الفحول كان أكثر ما فيها طويلًا وبسيطًا" ثم أوضح ذلك فقال: "والأوزان التي تتقدم(1/453)
في الشعر كله، خمسة: ثلاثة في ضروب الطويل بأسرها، والضربان الأولان من البسيط" يعني: الصورتين الموسيقيتين الأوليين منه, ثم قال: "ويلي هذه الخمسة في القوة ثلاثة أوزان, وهي: الوافر الأول, والكامل الأول والثاني" يعني: الصورة الأولى من الوافر, والأولى والثانية من الكامل.
ويتألف الطويل من تفعيلتين هما: فعولن مفاعيلن, تتكرران على هذا النحو أربع مرات في البيت، وإن شئنا قلنا: من وتد مجموع "فعو", وسبب خفيف "لن", ووتد مجموع "مفا", وسببين خفيفين "عيـ/لن". وهو من البحور القليلة التشكيل الموسيقي، فموسيقاه تأتي على ثلاث صور؛ إذ إن له عروضًا واحدةً مقبوضةً وجوبًا، ولها ثلاثة أضرب تتغير من قصيدة إلى أخرى، أما القصيدة الواحدة فعروضها واحدة, وضربها واحد في جميع أبيات القصيدة.
1- الصورة الأولى: وهي ما تُسَمَّى بالضرب الأول الصحيح, ومثالها قول أبي نواس:
فكدنا جميعًا من حلاوة لفظه ... نجنّ ولم نسطع لمنطقه صبرا
ويقطع هكذا:
فكدنا جميعنمن حلاو تلفظهي نجنن ولمنسطع لمنط قهيصبرا
فعولن مفاعيلن فعول مفاعلن فعول مفاعيلن فعول مفاعيلن
//5/5 //5/5/5 //5/ //5//5 //5/ //5/5/5 //5/ //5/5/5
وهنا ملحوظات يجب الوقوف عندها هي: معنى "القبض": حذف الخامس الساكن من التفعيلة, وقد حدث هنا في "مفاعيلن" وهي العروض, فصارت به "مفاعلن"؛ إذ حذفت الياء الساكنة, وليس ما يقابلها موجودًا في الموزون من ألفاظ البيت اللغوية، وهو حذف واجب هنا، وهو في الأصل زحاف لا(1/454)
يلزم، وإذا دخلت ظاهرة زحاف القبض في حشو البيت صار جائزًا, وقد تمثَّل ذلك في هذا البيت في "فعولن" وهي التفعيلة الثالثة صارت به فعول، وكذلك في الخامسة والسابعة، في حين خلت منه التفعيلة الأولى فجاءت صحيحة، كما يلاحظ أننا أتينا بياء في كلمة "لفظه", نائشة عن كسرة الهاء تتمة للوزن الشعري، واعتبرنا لحرف المشدد حرفين كما في "يجنن", ومددنا الهاء في "منطقه", فزدنا ياء للإشباع, وذلك تبعًا لإنشاد الشعر، فالإنشاد معتبر من الوزن الشعري، فقد تدخل هنا في الوزن, أو أن الوزن تحكَّمَ في الإنشاد, وذلك كله استيفاء للوزن.
والزحاف: تغيير يدخل في الحرف الثاني من السبب خاصة، ولا يختص بتفعيلة معينة، وإذا دخل لا يلزم, ويكون بالحذف في السبب الخفيف، وبالإسكان في السبب الثقيل, كما سيأتي في "الكامل", ولا يكون بالزيادة. ونظير الزحاف ومقابله "العلة", وهي تدخل الأسباب كما تدخل الأوتاد, وتلزم حينما تعرض، ومكانها خاصٌّ هو العروض أو الضرب، وتكون بالزيادة أو بالنقصان، فهي تغيير كالزحاف إلّا أن لكلٍّ خصائصه, وهناك زحاف يجري مجرى العلة في اللزوم, كما حدث في قبض عروض الطويل, وعلّة تجري مجرى الزحاف في عدم اللزوم ...
2- الصورة الثانية من موسيقا هذا البحر يشكلها الضرب؛ حيث يأتي مقبوضًا كالعروض, فيصير على وزن "مفاعلن" كقول المتنبي:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
بذاق ضتلأييا ممابي نأهلها مصاء بقومنعن دقومن فوائدو
فعول مفاعيلن فعولن مفاعلن فعول مفاعيلن فعولن مفاعلن
//5/ //5/5/5 //5/5 //5//5 //5/ //5/5/5 //5/5 //5//5(1/455)
لاحظ القبض في "فعولن" في أول شطر به، واجتلاب واو الإشباع في"فوائد"؛ لأنها نهاية البيت ورويه, وهو الدال مضموم والواو من جنس الضمة، ولو كانت مفتوحةً لنشأت ألف, ولو كانت مكسورة لنشأت ياء. فهذه الصورة تختلف عن السابقة, في أن الضرب في الأولى وزنه "مفاعيلن", وفي هذه جاء على وزن "مفاعلن", بتغيير طفيف لم يخرج البيت عن الجو الموسيقي لهذا البحر، غير أن التغيير في الصورة الثالثة الآتية أكبر من هذا.
3- الصورة الثالثة من موسيقاه يشكلها الضرب أيضًا؛ لأن عروض هذا البحر لا تختلف، فهي دائمًا على وزن مفاعلن، أما هذا الضرب فمحذوف، والحذف علّةٌ تكون بحذف السبب الخفيف من آخر التفعيلة، ولذا يلزم في كل أبيات القصيدة, فيصير على وزن "مفاعي" بحذف "لن" من آخره, ويصير عبارة عن وتد مجموع هو "مفا", وسبب خفيف هو "عي", وعندنا تفعيلة مستعملة في هذا البحر هي "فعولن", وهي مساوية لها في الأجزاء، ولذا ينقلها العروضيون إليها, ومثاله قول الشيخ محمد عبد المطلب في الدين:
رويدك جفني كم تفيض غروبًا ... وحسبك أوسعت الزمان نحيبا
ويأيها الباقي وقد ظن أنه ... أسال عيونًا أو أذاب قلوبا
رويد كجفنيكم تفيض غروبا وحسب كأوتسعتز زمان نحيبا
فعول مفاعيلن فعول فعولن فعول مفاعيلن فعول فعولن
//5/ //5/5/5 //5/ //5/5 //5/ //5/5/5 //5/ //5/5
ويلاحظ أن العروض هنا على وزن "فعولن", وكان حقها أن تكون "مفاعلن", لكن الشاعر غيَّرَها من أجل التصريع في مطلع القصيدة؛ لتصير مثل الضرب وزنًا، ولذا بنى الشطر الأول على الباء التي هي رويّ القصيدة،(1/456)
فهي بائية، وتجده في البيت الثاني مباشرة يرجع إلى العروض الأصلية، فعروض البيت الثاني كلمة "نانْنَهو" ووزنها "مفاعلن"، ولا يخفى عليك تقطيع الباقي, فقد اشتمل البحر على موسيقا عامة دخل تحتها الصور الثلاث عن طريق التغييرات التي حدثت.
ومن هذا البحر معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل, ومعلقة طرفة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد, ولكن كيف اكتسب الوزن الشعري هذه الموسيقا؟ هذا ما سنتناوله عقب البحور وخصائصها.
البحر المديد: لهم في تسميته علل، وأجزاؤه هي "فاعلاتن فاعلن" أربع مرات في البيت الواحد، وهذا هو الأصل النظري له، غير أن واقع الشعر العربي يوجب أن يكون مجزوءًا، أي: على ست تفعيلات فقط، وإنما ألجأنا إلى القول بجزئه ما ابتدعه الخليل من الدوائر والنسب بين بعض البحور وبعض، تبعًا لعبقريته الرياضية الفذة, وفلسفتها من حيث التأليف.
وهذا البحر تناوله أبو العلاء فقال: " ... المديد وزن ضعيف, لا يوجد في أكثر دواوين الفحول، والطبقة الأولى ليس في ديوان أحد منهم مديد، أعني: امرأ القيس, وزهيرًا, والنابغة, والأعشى في بعض الرويات، وقد جاءت لطرفة قصيدة من المديد وهي:
أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه
وربما جاءت منه الأبيات الفاردة، وقصيدة منسوبة إلى تأبط شرًّا، مطلعها
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلًا دمه ما يطل
وتوجد هذه الأوزان القصار في أشعار المكيين والمدنيين؛ كعمر بن أبي ربيعة, ومن جرى مجراه؛ كوضَّاح اليمن, والعرجي, ويشاكلهم في ذلك عديّ بن(1/457)
زيد؛ لأنه كان من سكان المدر بالحيرة، وله قصيدة في المديد من سادسه وهي: يا لُبَيْني أوقدي النارا". ويأتي وزن هذا البحر على ستة تشكيلات؛ أولها تكون فيه العروض صحيحة "فاعلاتن"؛ لأنه مجزوء كما قلنا، وضربها مثلها, نحو قول عمر بن أبي ربيعة:
قال لي ودّع سُلَيْمَى ودعها ... فأجاب القلب لا أستطيع
قالليود دعسلي ماودعها ... فأجابل قلبلا أستطيعو
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن ... فعلاتن فاعلن فاعلاتن
ويلاحظ أن التفعيلة الأولى من الشطر الثاني حذف الساكن الثاني منها، وهو زحاف يسمى: "الخبن", ولا يلزم فهي مخبونة, ومن البحر المديد قول أبي العتاهية:
إن دارًا نحن فيها لدار ... ليس فيها لمقيم قرار
كم وكم حلها من أناس ... ذهب الليل بهم والنهار
البحر البسيط: سموه بذلك لانبساط الحركات فيه، أو لانبساط أسبابه وتواليها في أجزائه السباعية، ويتركب من جزئين هما: "مستفعلن فاعلن" أربع مرات، ويتشكل من هذا سبع صور، سأعرض لاثنين منها مع ملاحظة أن عروضه "فاعلن" لا تأتي إلّا مخبونة, فتصير على "فعلن" أي: مخبونة، فالصورة الأولى مثل نهج البردة لشوقي:
ريم على القاع بين البان والعلم ... أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
ريمنعلل قاعبي نلبانول علمي أحللسف كدمي فلأشهرل حرمي
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن متفعلن فعلن مستفعلن فعلن
لاحظ أن التفعلية الأولى من الشطر الثاني دخلها الخبن، وكذلك(1/458)
التفعيلة الثانية منه فصارتا "متفعلن فعلن" فهما مخبونتان، أي: دخلهما زحاف الخبن، وزدنا الياء في نهاية القافية إشباعًا.
ومن هذا البحر نهج البردة للبوصيري، وقصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير, التي مدح فيه الرسول، مع تغيير الضرب في قصيدة كعب إلى "فاعل", وأصلها "فاعلن", دخلها القطع؛ وهو علة حذف, عبارة عن حذف ساكن الوتد المجموع وإسكان ما قبله، وحذفت النون, وسكنت اللام, فصارت سببين خفيفين. وهذا البحر يكثر فيه زحاف الخبن، وكذلك زحاف الطيّ, وهو عبارة عن حذف الرابع الساكن، ويدخل "مستفعلن" بحذف الفاء فتصير "مستعلن"، وتنقل إلى "مفتعلن" لمساواتها لها مع خفة نطقها. وتسمى حينئذ مطوية، ومن هذا البحر معلقة النابغة الذبياني: يا دار مية بالعلياء فالسند, ومعلقة الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل, ومنه "العمرية" لحافظ إبراهيم في عمر بن الخطاب وزهده وسلوكه ومنها:
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها ... من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به ... أولى فقومي لبيت المال رديها
أما الصورة الثانية التي آثرت ذكرها، فلأنها أخذت لقبًا هو "مخلع البسيط" لكثرة التصرف والتغيير في موسيقا البحر العامة، وهو يتكون من مجزوء البسيط وعروضه "مستفعلن", ثم تدخلها العلة اللازمة التي تسمى "التخليع"، وهي عبارة عن خبن+قطع، فمستفعلن إذا خبنت أصبحت متفعلن، وإذا قطعت حذفنا النون وسكنَّا اللام قبلها, فأصبحت "متفعل", أي: وتدًا مجموعًا فسببًا خفيفًا, وهي تساوي في الوزن "فعولن" فيكون وزنه "مستفعلن فاعلن فعولن" مرتين، وقد نظم عليه ابن الرومي قوله:(1/459)
وجهك يا عمرو فيه طول ... وفي وجوه الكلاب طول
والكلب يحمي عن الموالي ... ولست تحمي ولا تصول
وجهكيا عمرفي هطولو ... وفيوجو هلكلا بطولو
مستفعلن فاعلن فعولن ... متفعلن فاعلن فعولن
ويلاحظ أن التفيلة الأولى دخلها "الطيّ" فحذف رابعها الساكن، والتفعيلة الأولى من الشطر الثاني دخلها "الخبن"، حذف ثانيها الساكن، أما العروض والضرب فدخلهما "التخليع", وأصلها "مستفعلن" قبل دخول هذه العلة، وزدنا واوًا في العروض والضرب ناتجةً عن إشباع الضمة؛ لأنهما نهايات فصارت ضمة طويلة صوتيًّا استغرق النطق بها زمن ضمتين, كما نظم على هذا البارودي قوله:
توازن الصيف والشتاء ... واعتدل الصبح والمساء
البحر الوافر: سُمِّيَ وافرًا لوفور حركاته أو لغير ذلك, وأجزاؤه "مفاعلن" ست مرات، ولا يستعمل إلّا مجزوءًا أومقطوعًا، ويكثر فيه زحاف العصب, ويأتي تشكيله على ثلاث صور، أولاها: تكون العروض فيها على وزن "فعولن", وضربها مثلها, وذلك كقول الفرزدق:
أمير المؤمنين وأنت برّ ... كريم ليست بالطيع الحريص
أميرلموء منينوأن تبررن ... كريمنلس تبططيعل حريصي
مفاعلْتن مفاعلتن فعولن ... مفاعلْتن مفاعلتن فعولن
ويلاحظ أن العصب, وهو زحاف عبارة عن تسكين الخامس المتحرك, قد دخل التفعيلة الأولى من كل شطر فهي معصوبة، أما العروض والضرب فهما مقطوفان، والقطف علة عبارة عن "حذف" +"عصب" فمفاعلتن بالعصب تصير "مفاعلْتن" بتسكين اللام, وبالحذف يحذف السبب الأخير وهو "تن"؛ فتصير "مفاعل" وتساوي وزنًا "فعولن" المستعملة في البحر الطويل والتي(1/460)
هي تفعيلة "المتقارب" والطاء مشددة اعتبرت حرفين، ونشأ عن إشباع كسرة الرويّ وهو الصاد ياء، وقد سبق لذلك نظائر. ومن هذا البحر معلقة عمرو بن كلثوم: ألا هبي بصحنك فأصبحينا, وقول قطريّ بن الفجاءة: أقول لها وقد طارت شعاعًا, وقصيدة شوقي: سلوا قلبي غداة سلا وتابا, وإذا دخل "العصب" جميع أجزاء هذا البحر إذا كان مجزوءًا اشتبه ببحر "الهزج", ولم نذكره هنا إيثارًا لنظام الدوائر, وإن كان الأفضل أن يدرس مع هذا البحر لتتضح وجوه الشبه بينهما.
البحر الكامل: يتكون هذا البحر من "متفاعلن" ست مرات, ويأتي تامًّا أو مجزوءًا، ويكثر فيه زحاف "الإضمار" الذي هو عبارة عن تسكين الثاني المتحرك, وسُمِّيَ بذلك لكمال الحركات فيه, أو لكثرة أضربه، فهو يتشكل على تسع صور, أولاها: كقول عنترة:
وإذا صحوت فما أقصرّ على ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي
وإذا صحو تفماأقص صرعنندي ... وكما علم تشمائلي وتكررمي
متفاعلن متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلن متفاعلن
وإذا دخل الإضمار جميع تفعيلاته صارت "متْفاعلن" وتساوي "مستفعلن"، ولهذا يشتبه حينئذ ببحر الرجز، وقد أكثر شوقي في شعره من النظم على الكامل كقوله:
من أيّ عهد في القرى تتدفق ... وبأي كفٍّ في المدائن تغدق
إلّا أن الإضمار دخل التفعلية الأولى والثانية والخامسة، ومنه قصيدة: سلام من صبا بردي أرق, ومعلقة لبيد: عفت الديار محلها فمقامها, ومعلقة عنترة: هل غادر الشعراء من متردم.(1/461)
بحر الهزج: سُمِّيَ بذلك لأنه ضربٌ من الأغاني وفيه تراكم، والعرب كثيرًا ما كانت تهزج, أي: تغني، فمن عجب أن يقل النظم عليه عندهم، ولعل لذلك تفسيرًا خفي أمره علينا، ويتكون من "مفاعيلن" ست مرات، وهذا من حيث النظر المثالي للبحور، أما من حيث الواقع الشعري فلا يأتي إلّا مجزوءًا وجوبًا، فيصير على أربع تفعيلات، أولاها: نحو قول الفند الزماني:
صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
صفحناعن بنيذهلن ... وقلنلقو مئخوانو
مفاعيلن مفاعيلن ... مفعيلن مفاعيلن
وقد شذَّ مجيئه تامًّا على ستة أجزاء كقول الشاعر:
ترفق أيها الحادي بعشاق ... نشاوى قد تعاطوا كأس أشواق
ومن هذا البحر قول صاحب رواية "العباسة":
عجيبًا لم نكن حربًا ... على مصر ومن فيها
بحر الرجز: سمي بذلك تشبيهًا بالناقة الرجزاء, وهي التي ترتعد فخذاها وترتعش، لأنه مضطرب، كثرت فيه العلل والزحافات, ودخله الشطر والجزء والنهك، فهو أكثر البحور تغيرًا، وهذا حمل بعضهم على أن يتصور فيه بذور البحور الأخرى, واعتباره أصل الشعر7، وأجزاؤه "مستفعلن" ست مرات، وزحافه الخبن والطيّ ويدخلانه كثيرًا، وقد يجتمعان معًا في الجزء الواحد فيكون زحافًا مزدوجًا, ويلاحظ أن هذا البحر والكامل والوافر ركبت من تفعيلة واحدة على سبيل التساوي، أما الطويل والمديد والبسيط, فركبت من تفعيلتين مختلفتين على سبيل التجاوب، وتشكيل هذا البحر يأتي على خمس صور, أولاها: كقول البهاء:(1/462)
كأنها بعض الظباء السانحة ... باتت بها صفقة ودّي رابحة
كأننها بعضظظبا ءسسانحة ... باتتبها صفقتود ديرابحة
متفعلن مستفعلن مستفعلن ... مستفعلن مستعلن مستفعلن
ويلاحظ أن التفعلية الأولى دخلها "الخبن", والثانية من الشطر الثاني دخلها "الطيّ".
ومن مشطوره قول الحطيئة:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه.
زلت به إلى الحضيض قدمه
وقد استخدم الشعراء مشطوره مزدوجًا باتحاد القافية في كل بيتين؛ كقول أبي العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أيّ مفسده
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
وكذلك ركبه النظّامون في العلوم، فعليه جاءت ألفية ابن مالك في النحو، فكان جديرًا باسم "حمار الشعراء" فقد دخل ميدان الفقه والرياضة وغيرهما، بل لم يسمعه بعض العرب شعرًا.
بحر الرمل: سُمِّيَ بذلك لسرعة النطق به، فالرمل لغة هو الإسراع في المشي، ومنه الرمل في أشواط الطواف حول الكعبة. ويتكون من "فاعلاتن" ست مرات، ويكثر فيه زحاف الخبن، وتشكيله يأتي على على ست صور، الأولى منها تكون فيها العروض محذوفة فتصير "فاعلًا" وتنقل إلى "فاعلن" لأنها تساويها، والضرب مثلها؛ كقوله عمر بن أبي ربيعة:(1/463)
وتمنّى نظرة يشفي بها ... غلّة الشوق فكانت مهكا
وتمنني نظرتنيش فيبها ... غللتششو قفكانت مهلكا
فعلاتن فاعلاتن فاعلن ... فاعلاتن فعلاتن فاعلن
يلاحظ أن الخبن دخل التفعيلة الأولى، والتفعيلة الثانية في الشطر الثاني، أما العروض والضرب فمحذوفان وأصلهما "فاعلاتن", حذفت السبب الخفيف "تن", ومنه قول محمد عبد المطلب:
جدّدت عهدي بأيام الربا ... نفحة جاءت بها ريح الصبا
البحر السريع: سُمِّيَ بذلك لسرعة النطق به لكثرة أسبابه، وأجزاؤه: "مستفعلن مستفعلن مفعولات" مرتين، ويكثر فيه زحاف الخبن وزحاف الطي، ويستعمل مشطورًا وتامًّا, وتشكيله على ست صور، الأولى منها تكون فيه العروض مطوية مكشوفة، فإذا طويت صارت "مفعلات", والكشف عبارة عن حذف السابع المتحرك، فإذا كشفت صارت "مفعلا" وتنقل إلى "فاعلن" لتساويهما عروضيًّا، وضربها يكون مثلها، كقول البارودي:
هجوته لا بالغًا لؤمه ... لكنني كفكفت من عربه
هجوتهو لابالغن لؤمهو ... لاكننني كفكفتهن عريهي
متفعلن مستفعلن فاعلن ... مستفعلن مستفعلن فاعلن
ويلاحظ أن التفعيلة الأولى دخلها الخبن, ويشتبه هذا البحر مشطورًا ببحر الرجز؛ لأنه يأتي مشطورًا مثله.
المنسرح: سُمِّيَ بهذ لانسراحه وسهولته على اللسان، وأجزاؤه، "مستفعلن مفعولات مستفعلن" مرتين، وهي الأجزاء ذاتها التي تكوَّنَ منها السريع، مع فارق هو توسط "مفعولات" هنا, وتأخيرها هناك، وتأتي في هذا(1/464)
البحر مطوية في الكثير الغالب فتصير "مفعلات" وهذه التاء المتحركة في نهاية الوحدة الصوتية العروضية جعلت نغمته أشبه بالنثر؛ لأن العرب تستحب المقطع المغلق, وتنتهي بالحركات إلى السكون ولا سيما في النهايات، كما يظهر في الوقف في الكلام, وتشكيله يأتي على ثلاث صور، أولاها: تكون العروض صحيحة مطوية, وضربها مثلها, فتصير هي والضرب على وزن "مستعلن"، التي تساوي "مفتعلن"، كقول عمر بن أبي ربيعة:
اعتادني بعد سلوة حزني ... طيف حبيب سرى فأرقني
اعتادني بعدسلو تنحزني ... طيفحبي بنسراف أررقني
مستفعلن مفعلاتُ مستعلن ... مستعلن مفعلات مستعلن
ومن المنسرح قصيدة الأعشى:
إنّ محلّا وإن مرتحلا ... وإن في السّفر إذ مضوا مهلا
الخفيف: سُمِّيَ بذلك لتوالي الأسباب الخففة فيه، وأجزاؤه: "فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن" مرتين، ويدخله الخبن كثيرًا، ولا سيما جزؤه الثاني منه، وتشكيله يأتي على خمس صور, أولاها: تكون العروض فيه صحيحة وضربها مثلها, كقول عمر بن أبي ربيعة:
من لقلبي أمسى حزينًا معنّى ... مستكينًا قد شفّه ما أجنّا
منلقلبي أمساحزي ننمعننا ... مستكينن قدشففهوا ما أجننا
فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن ... فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن
ومن الخفيف معلقة الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء ... ربّ ثاوٍ يملّ منه الثواء(1/465)
وقول المتنبي:
من أطاق التماس شيء غلابا ... واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا
المضارع: أجزاؤه: "مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن" مرتين، وهو مجزوء وجوبًا، وسمي بذلك لمضارعته الهزج في الجزء، أو لمشابهته الخفيف، ومنه قول أبي نواس:
أيا ليل لا انقضيت ... ويا صبح لا أتيت
المقتضب: لأنه اقتضب من الشعر، واقتطع منه، أو من المنسرح, وأجزاؤه: "مفعولات مستفعلن مستفعلن" مرتين, غير أنه مجزوء وجوبًا، فأجزاؤه وأجزاء السريع والمنسرح واحدة، والتغيير فيها إنما هو في ترتيبها ووضعها، وصورته تكون العروض مطوية, وضربها مثلها, فتصير على وزن "مفعولات مستعلن"، كقول الشاعر:
يا مليحة الدّعج ... هل لديك من فرج
يا مليح تددعجي ... هللديك منفرجي
مفعلات مفتعلن ... مفعلات مفتعلن
المجتث: لاقتطاعه من الخفيف، وأجزاؤه "مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن" مرتين، فهي تفعيلات الخفيف ولكن بتقديم "مستفع لن"، وهو مجزوء وجوبًا, فيصير وزنه "مستفع لن فاعلاتن" مرتين، كقول ابن سهل:
تدنيك زور الأماني ... مني وتنأى طلابًا
تدنيكزو رلأماني ... مننيوتن أأطلابا
مستفع لن فاعلاتن ... مستفع لن فاعلاتن
قال أبو العلاء عن هذه البحور الثلاثة الأخيرة: "وقصيدة عبيد: أقفر(1/466)
من أهله ملحوب, وزنها مختلف، وليست موافقة لمذهب الخليل في العروض ...
والأوزان الثلاثة: المضارع والمقتضب والمجتث، قلما توجد في أشعار المتقدمين", وكل ما أورده الخليل من شواهد عليها, قال عنها المعري: إنها لم تسمع في شعر العرب.
المتقارب: سُمِّيَ بذلك لقرب أسبابه من أوتاده، وأجزاؤه: "فعولن" ثماني مرات، ويكثر فيه القبض، وله ست صور، الأولى منها صحيحة, وضربها مثلها, كقوله الحطيئة:
تحنّن عليّ هداك المليك ... فإنّ لكل مقام مقالا
تحنن عليي هداكل مليكو ... فإنن لكلل مقامن مقالا
فعولن فعول فعولن فعولن ... فعول فعول فعول فعولن
المتدارك: لتداركه المتقارب والتحاقه به, أو لأن الأخفش الأوسط "سعيد بن مسعدة, المتوفى 215هـ" تداركه على البحور التي عرفها الخليل, كما سُمِّيَ من أجل ذلك المخترع والمتسق، وسُمِّيَ ضرب الناقوس لأنه قد يأتي على "فعلن"، وأجزاؤه: "فاعلن" ثماني مرات، وصوره أربع, أولاها: تامة صحيحة وضربها مثلها كقول الشاعر:
لم يدع من مضى للذي قد غبر ... فضل علم سوى أخذه بالأثر
لم يدع منمضى لللذي قدغبر ... فضلعل منسى أخذهي بالأثر
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن ... فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
دوائر العروض: هذه هي البحور بترتيبها طبقًا لما ابتدعه الخليل من فكرة الدوائر التي تضم كل دائرة منها مجموعة من البحور السابقة المستعملة(1/467)
إلى جانب بحور أخرى مهملة، فكانت في نظره وسيلة إلى حصر كل مجموعة من الأوزان الشعرية في دائرة خاصة بها، شأنه في حصر مفردات اللغة بعملية رياضية, ثم تمييز المستعمل منها والمهمل, ونصه على ذلك في معجمه، وكذلك فعل هنا في العروض.
وقد أراد بها الخليل أن يثبت أن لأوزان الشعر العربي نسبًا ترجع إليها, وأصولًا تمضها، وأن كل دائرة وشيجة تفرعت عنه جملة من الأوزان، وعلى كلٍّ فهي طرفة من طرفه، ودليل على قوة ملكة التأليف والوضع عنده.
وأساس هذه الفكرة أمرأن: أولهما أن البحر عبارة عن أركان هي التفاعيل، وأصول لها هي الأوتاد والأسباب، وأنه كلما تغيرت الأركان تبدلت الأوزان، فتكون البحور، وذلك بالتقديم والتأخير، فإذا جاءت الأسباب متقدمة على الأوتاد كما في "مستفعلن"، كان ذلك رجزًا، وإن أخرتها، كانت "مفاعيلن" وصار ذلك هزجًا وهكذا "لاحظ أجزاء المقتضب والمنسرح والسريع". وثانيهما: أن الخليل نظر إلى البحر الطويل فرأى مواضع اتفاق بينه وبين المديد والبسيط, في أنَّ كلًّا منهما مؤلف من أسباب خفيفة وأوتاد مجموعة، فجرّب كيف يستخرج واحدًا من الآخر، فرأى أنه لو رتب أوتاد الطويل وأسبابه على حسب ورودها في تفاعيله، أمكنه إذا تجاوز الوتد الأول في فعولن, وبدأ من لن وجعل يوالي ربط الأسباب بالأوتاد حتى يصل إلى حيث ابتدأ، تكون له شطر المديد، وذلك لأن الدائرة العروضية كالدائرة الهندسية، إذا بدأت من نقطة وسرت معها حولها انتهيت حيث ابتدأت، وهكذا إذا تجاوز عن مبدأ المديد, واستمر يوالي بين الأوتاد والأسباب التي على الدائرة, اجتمع له وزن مهمل، ثم إذا بدأ بأول سبب يلي بدء هذا البحر المهمل السابق, واستمر كما سبق إلى حيث ابتدأ، تكون له البسيط، فإذا تجاوز بدء البسيط تكون له بحر مهمل, ثم بدأ بعد ذلك عاد إلى الطويل.(1/468)
ومن الممكن جعل ذلك على صورة مستقيمات، وقد أبرز بها مواطن الزحاف في تحديد كل مجموعة وتناظرها، وهذه الدوائر الخمس تسمى:
المختلف، المؤتلف، المجتلب، المشتبه، المتفق، كما تسمى كل دائرة باسم أول بحر فيها, الذي تستخرج منه البحور الأخرى مستعملة ومهملة، وسآخذ منه الدائرة الأولى مثالًا لذلك, مشيرًا إلى بدء كل بحر بسهم قرين اسم البحر الذي تتسمى باسمه الدائرة.
فالدائرة الأولى دائرة المختلف, وسميت بذلك لاختلاف أجزائها، فهي من جزأين: خماسي وسباعي, فعولن مفاعيلن, وتسمى أيضًا دائرة الطويل، وتشتمل على خمسة أبحر هي: الطويل، المديد، المستطيل، وهو بحر مهمل -والبسيط- والممتد- وهو بحر مهمل، ففيها ثلاثة مستعملة واثنان مهملان، وهي مثمنة التفاعيل في كل بحر، وقد جعلوا لها بيتًا هو:
ألا حيّيا رسمًا بدارين قد مرت ... به أعصر من عهد كسرى وسابورا
"أنظر أجزاء بحورها فيما سبق".(1/469)
فالطويل يستخرج من "فعو" إلى آخر الدائرة، والمديد من "لن" إلى آخرها، والمستطيل من "مفا" والبسيط من عي" والممتد من "لن"، فما يترك في الأول يضاف إلى الآخر لتكون انتهيت حيث بدأت.
والبحر الأول المهمل يسمى الوسيط أو المستطيل، وهو عكس الطويل، أجزاؤه: "مفاعيلن فعولن" أربع مرات، والبحر الثاني المهمل يُسَمَّى الممتد أو الوسيم، وهو مقلوب المديد, ووزنه "فاعلن فاعلاتن" أربع مرات، وقد نظم على هذه البحور المهملة المولدون من الشعراء.
والدائرة الثانية: "المؤتلف" لائتلاف أجزائها وتماثلها، فهي سباعية وتسمى "الوافر" وتشتمل عليه, ثم على الكامل, ثم على بحر مهمل يسمى المتوفر، والدائرة الثالثة: "المجتلب" لاجتلاب أجزائها من دائرة "المختلف"، فمفاعيلن من الطويل, وهي وحدة الهزج، ومستفعلن من البسيط, وهي وحدة الرجز، وفاعلاتن من المديد, وهي وحدة الرمل, وليس فيها بحر مهمل, وتسمى أيضًا "الهزج", فكل وحداتها من الدائرة الأولى.
والدائرة الرابعة: "المشتبه" لاشتباه بحورها، فبعضها مجموع الوتد. وبعضه مفروقه، وتشتمل على السريع وتسمى باسمه, ثم المتئد, وهو مهمل, ثم المنسرد, وهو مهمل أيضًا، ثم المنسرح, ثم الخفيف, ثم المضارع, ثم المقتضب, ثم المجتث, ثم المطرد, وهو مهمل, ستة أبحر مستعملة وثلاثة مهملة.
والدائرة الخامسة: "المتفق", لاتفاق تفاعيلها وتسمى "المتقارب", وبحرها المستعمل هو المتقارب عند الخليل، والمهمل فيها هو المتدارك، وهو مستعمل عند الأخفش, ومن الممكن ضم البحور المتشابهة الإيقاع على النحو التالي:
الأولى: تضم المديد والرمل والخفيف والمجتث, ومجموعة تضم الوافر والهزج، ومجموعة تضم الكامل والرجز والسريع، وقد سبق شيء من تشابه البحور, أو أخذها من الأخرى. كما يمكن ترتيبها طبقًا لما فيها من نسب بين السواكن والمتحركات، وهو أساس يفسر لنا اجتماع بعض البحور ببعض, أو اشتباهها بغيرها، أو طبقًا لنسبة شيوعها في الشعر العربي، فالمجموعة الأولى تضم الطويل والبسيط، والثانية تضم الوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والسريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث، والثالثة تضم المتقارب والمتدارك، والرابعة يستقل به المديد وحده، ومع هذا يمكن غض النظر عن المديد لقلة استعماله, ولإمكان ضم المتقارب والمتدارك إلى غيرهما، فتكون البحور في مجموعتين فقط بناءً على هذا الأساس.(1/470)
أولية الشعر العربي: البحث في ذلك كالبحث فيما وراء الطبيعة، وليس من شكٍّ أنه بدأ مع العمل المتقضي للحركة، ليخفف من مشقته، وكان تعبيرًا عن انفعالات بدائية تمثلت أولًا في السجع, ثم في بعض ضروب الرجز, كما في الترقيص للأبناء وغير ذلك، هذا التنوع الذي كان حلقةً وسطى بين السجع والشعر، وخاصة الكلام المشتمل على الموازنة والازدواج, أي: النثر المقفَّى الخالي من الوزن، ثم ترقى السجع إلى بحر الرجز، ثم نشأت البحور الأخرى بفعل الغناء؛ كما في الحداء والركبانية والنصب والتقليس مما عرف عندهم. وإذن فقد قام الشعر في أوليته على السجع الذي قام في بعض أحواله على الموازنة بين التراكيب والمناسبة بين الأوزان الصرفية التي امتازت به العربية، فكل اسم فاعل من الثلاثي على فاعل؛ ككاتب وصاهل وقارئ, واسم المفعول به على مفعول؛ كمكتوب ومعلوم ومفروض، وكذلك جميع المشتقات المطردة والتعجب والتفضيل، كما حظيت بوفرة من الجموع والمصادر والمترادفات التي أفسحت المجال للساجع في إتمام سجعاته، وللشاعر في إقامة وزنه، ففي سفر الأمثال: طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي ينال الفهم، ومثل هذا النوع احتاج إلى الغناء والموسيقا تعويضًا عما لحقه من نقص الوزن الشعري، إلى أن استوى للعربي أمر الوزن، فكان الرجز الذي لا يعده بعضهم شعرًا، وعدَّه أبو العلاء من سفساف القريض، وحينما مرَّ بأبيات ليس لها سموق الأبيات الأخرى "في(1/471)
رسالة الغفران" سأل عنها, فقيل: إنها للرجاز, فقال: لقد قصرتم فقصر بكم. والنبي -صلى الله عليه وسلم- رغم نهيه عن سجع الكهان، كان يتحرى الازدواج أو يجيء على لسانه، كما في قوله للنساء: ارجعن مأزورات غير مأجورات, وإنما هي موزورات من الوزر لا من الأزار، ولكن حمله على ذلك لتتساوى وتزودوج مع مأجورات، وقوله في رقية الحسن والحسين: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامة, وحقها ملمة, وقد بقي السجع إلى ما بعد استواء الشعر على قدميه، بل وواكبه، ففي غزة الخندق ارتجز المسلمون برجل يقال له جعيل, سماه الرسول عمرًا فقالوا:
سماه من بعد جعيل عمرًا ... وكان للبائس يومًا ظهرًا
فإذا مروا بكلمة عمرو قال الرسول مرددًا عمرًا، وإذا مروا بكلمة ظهر, ردد معهم ظهرًا, وجاء على لسانه:
ما أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
ومن الترقيص: أشبه أبى أو أشبهن أباكًا, وقولهم:
لأنكحنّ بَبَّهْ ... جارية حدّبه
مكْرَمة محبّهْ ... تجب أهل الكعبة
وأم الفضل بنت الحارث الهلالية ترقص ابنها عبد الله بن عباس فتقول:
ثكلت نفسي وثكلت بكري ... إن لم يسد فهرًا وغير فهر
بالحسب العدّ ونيل الوفر ... حتى يواري في ضريح القبر
ولنعد إلى غنائهم، فقد كان للعرب حداء الإبل لتسرع في السير وتنشط كقولهم:(1/472)
دع المطايا تنسم الجنوبا ... إن لها لنبأ عجيبا
حنينها وما اشتهت لغوبا ... يشهد أن قد فارقت حبيبا
ولهم النصب وهو أرقّ من الحداء, عندما يجدّون في السير، والركبانية تنشده جماعة الركبان عندما يستريحون، ولهم التغبير من الغبار، وقد تمثّل في إنشادهم الديني، وكان لأهل الكتاب، ومنه قولهم:
عبادك المغبّره ... رشّ علينا المغفره
وقد نهى عنه الشافعي, والتقليس تحية قدوم العظيم عند أهل الكتاب, يصحبه صخب وضرب بالدف ونفخ في المزامير، وقد استقبل به عمر، وقد كان الحبشة في عهد الرسول يمارسون ألعابهم حتى أشهد عائشة من ذلك، وللعلاقة بين السجع والرجز أورد بعض أسجاعهم وتلبياتهم في الجاهلية، ويقول كاهنهم: أخبأتم لي شيئًا طار, فسطع فتصوّب فوقع في الأرض منه بقع، ثم قال موضحا ذلك: شيء طار فاستطار ذو ذنب جرار, وساق كالمنشار ورأس كالمسمار، وشبه به قول الراجز:
أسود كالليل وليس بالليل ... له جناحان وليس بالطير
يجر فدانًا وليس بالثور
ويقول الراجز:
قد أمرتني زوجتي بالسمسره ... ونبهتني لطلوع الزهره
فكان ما أصبت وسط الغيثره ... وفي الزحام أن وضعت عشره
وتأخيذ النساء لأزواجهن من هذا الباب، وتلبيات العرب في الجاهلية ترينا طورًا من أطوار الكلام الفني عند العرب بين السجع والرجز والشعر، فقد ذكر أبو العلاء أن تلبيات العرب جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا(1/473)
وزن له، ومنهوك، ومشطور، فالمسجوع كقوله:
لبيك ربنا لبيك، والخير كله بيديك
والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرجز, والآخر من المنسرح، فالذي من الرجز كقولهم: لبيك إن الحمد لك، والملك لا شريك لك، إلّا شريك هو لك، تملكه وما ملك، أبو بنات يفدك ... والذي من المنسرح جنسان, أحدهما في آخره ساكنان؛ كقولهم: لبيك رب همدان، من شاحط ومن دان، جئناك نبغي الإحسان ... والآخر لا يجتمع فيه ساكنان, كقولهم: لبيك عن بجيله، الفخمة الرجيلة، ونعمت القبيلة، جاءتك بالوسيلة تؤمل الفضيلة، وربما جاءوا به على قوافٍ مختلفة، كما ورد في تلبية بكر بن وائل: لبيك حقًّا حقّا، تعبدًا ورقّا، جئناك للنصاحة، لم نأت للوقاحة.
والمشطور جنسان, أحدهما عن الخليل من الرجز كما روى في تلبية تميم:
لبيك لولا أن بكرًا دونكا ... يشكرك الناس ويكفرونكا
... والآخر من السريع: كما في تلبية همدان:
لبيك مع كل كل قبيل لبوك ... همدان أبناء الملوك تدعوك
قد تركوا أصنامهم وانتابوك ... فاسمع دعاء في جميع الأملوك
.... والموزون من التلبية يجب أن يكون لكه من الرجز ...(1/474)
لغة الشعر وموسيقاه وتطورها: أصدِّرُ هذا القسم بكلمة لابن فارس عن العلاقة بين العروض والموسيقا، قال: " ... ومعنًى آخر في تنزيه الله -جل ثناؤه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن قيل الشعر أن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلّا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان(1/474)
بالنغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة، فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع، والإيقاع ضرب من الملاهي، لم يصلح ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "ما أنا من در ولا در مني" 8. وقد مضى ياقوت على أن معرفة الخليل بالإيقاع هي التي أعانته على اختراع العروض، كما ذكر القفطيّ في أنباه الرواة, أن الخليل اهتدى إلى معرفة العروض من سماع النقر بالنحاس في سوق الصفارين"9.
والشعر يكتسب موسيقاه من عدة عوامل معقدة, تتضافر كلها على إكسابه هذه الخاصية، منها لغة الشعر إلى جانب الإيقاع والوزن، ومكان الوتد من الأجزاء، وما تحمله من نبر وارتكاز، ونغم وتقسيم داخليّ أحيانًا, أو سجع وموازنة، ومن زحاف وعلل, لتعادل نسب السواكن إلى المتحركات, وتعويض للمحذوف, أو اعتماد وحروف تكثر فيه, وكم مقطعي وإنشاد, وغير ذلك من المقومات التي لا يستغنى عن إحداهما. أما عن لغة الشعر، فهي داخل الإطار اللغوي العام، وإنما يختار الشاعر الألفاظ الموجبة التي تتناسب وعاطفته من ناحية، والوزن الذي يصب فيه ذلك من ناحية أخرى، فقد استسمجت فيه ألفاظ, ككلمة أيضًا, واستحسنت أخرى، ولا بد من تآلف حروف كلماته، وليس سر هذا في المخارج المتباعدة، وإنما في تآلفها مع غيرها، ومن أجل هذا أباحوا للشاعر الحرية في تركيب الجملة العربية, كما نصَّ عليه ابن فارس في قوله: "والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون, ويختلسون ويعيرون ويستعيرون، فإما لحن في إعراب, أو إزالة كلمة عن نهج صواب, فليس لهم ذلك, ولا معنى لقول من يقول: إن للشاعر عند الضرورة أن يأتي في شعره بما لا يجوز.."10 ولذا نجده في كتابه "متخير الألفاظ" ينص على ذلك فيقول: " ... وعولت في أكثره على ألفاظ الشعراء بعد التنقير عن أشعارهم والتأمل لدواوينهم"11 ويقول: "ومن ألفاظ الشعراء: أقصر جهلي، وصاب حلمي، ونهنه الشيب عن عرامي، "إنه لموسوم بالحسن غير(1/475)
قطوب، ويقولون: هو أحسن من دينار الأعزة"، "ينعش المولى، ويحتمل الجلي"، "خلجات البخل"، "لا يروم الضيف ناره" "إنه يجري إلينا غير ذي رسن" إلى كثير من أمثال ذلك.
وها هو ذا الأخفش عند تحليله لبيتٍ من أبيات الضرورة الشعرية يقول: "وكأنها لغة الشعراء" ومخطئ من يرجع سر الموسيقا الشعرية إلى عامل واحد، وهي لا حدود لها, ولا تنحصر فيما أتى به الخليل، بل تطورت على يد الزمخشري الذي عقد قسمًا في مفتتح كتابه عن العروض بعنوان:"بناء الشعر العربي على الوزن المخترع الخارج عن بحور شعر العرب" ذهب فيه إلى أن ذلك، لا يقدح في كونه شعرًا؛ إذ يضم الشعر أربعة عناصر هي: اللفظ، والمعنى، والوزن، والقافية، والعرب تتميز بالعنصر الأول منها فقط, ثم قال: " ... ثم إن من تعاطي التصنيف في العروض من أهل هذا المذهب, فليس غرضه الذي يؤمه أن يحصر الأوزان التي إذا بنى الشعر على غيرها, لم يكن شعرًا عربيًّا.. وإنما الغرض حصر الأوزان التي قالت عليها العرب أشعارها، وليس تجاوز مقولاتها بمحظور في القياس على ما ذكرت12.." ظهر تطور الوزن في المسمطات، وفي الموشحات، وفي شعر التفعيلة، والشعر الحر مما يحتاج إلى بحث خاص13.
أما الإيقاع والنغم، فمعلوم أن الخليل كان على علمٍ بالإيقاع, وله فيه تأليف، ومعرفته بالنغم ومواقعها, أحدثت له علم العروض. قال الزبيدي: "وكذلك ألف كتاب الموسيقا، قدم فيه أصناف النغم، وحصر به أنواع اللحون، وحدد ذلك كله وحصره ولخصه وذكر مبالغ أقسامه، ونهاية أعداده, فصار الكتاب عبرة للمعتبرين، آيةً للمتوسمين"14. وقد ذكر أبو الفرج الأصبيهاني، أن منزلة الإيقاع من الغناء بمنزلة العروض من الشعر، وأن الأوائل أوضحوه ووسموه بسمات، ولقبوه بألقاب، وهو أربعة أجناس: ثقيل الأول وخفيفه، وثقيل الثاني وخفيفه، والإيقاع هو الوزن، وقد صوّر ذلك أبو العلاء بنقرات الأصابع كما يفعل في الموسيقا15.(1/476)
والمرحوم د/ غنيمي هلال, فرَّق بين الوزن والإيقاع، فالإيقاع عنده هو التفعيلة، والوزن مجموع التفعيلات التي يتألف منه البيت16. ويقول ابن رشيق في العمدة: "نحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان" فمعنى وقّع وزن، ولم يوقع معناها خرج عن الوزن, وعند صفي الدين الأرموي، هو جماعة نقرات بينها أزمنة محددة المقادير لها أدوار متساوية الكمية على أوضاع مخصوصة ... ومثل ذلك بأنه يمكنك أن تلفظ بأسباب ثقال على التتالي, حافظًا لتساوي الأزمنة، وتقرن بكل حركتي سبب منها نقرة حال التلفظ بهما معًا ... ويمكنك أيضًا أن تلفظ بجماعة أسباب خفاف على التتالي, وتقرن بناء كل سبب منها نقرة دون نونه الساكنة ... وكذلك يفعل في الموسيقا، وهكذا فيما بقي من الأوتاد والفواصل, وبعد أن عرف الإيقاع هذا التعريف قال: "وليكن تلفظك ونقراتك معتدلًا بين السريع والبطيء، وأن تعلم أن أزمنة ما بين نقرات الأسباب الثقال أقصر من أزمنة ما بين نقرات الأسباب الخفاف", وكان الفارابي أوضح منه حين قال: "والأقاويل إنما تعتبر موزونة, وذلك إنما يمكن أن يكون بحروف ساكنة، فلذلك يلزم أن تكون متحركات محدودة, وأن تتناهى أبدًا إلى ساكن، فإذن نسبة وزن القول إلى الحروف كنسبة الإيقاع المفصل إلى النغم، فإن الإيقاع المفصل هو نقلة منتظمة على النغم ذات فواصل، والفاصلة يجب أن تكون أطول من كل زمان يحيط به الأعداد المتوالية"17. وابن عبد ربه في "العقد الفريد" يسمي التفاعيل فواصل. كما قال الدكتور عبد الله الطيب في كتابه "المرشد إلى فهم أشعار العرب": إن العرب بنوا شعرهم حين أحكموه على عناصر أربعة من النغم: أولاها الموازنة، وثانيها السجع, وثالثها التجنيس, ورابعها الوزن والقافية، وإن هذا الأخير هو الفاصل ما بين الشعر والنثر، فالإيقاع هو المميز لكليهما عن الآخر, والوزن عبارة عن نِسَبٍ موسيقية محضة, تؤلف معًا ليتكون منها قالب موسيقي محض، ولهذا اختلف إيقاع الشعر عن إيقاع النثر، إذ إن(1/477)
إيقاع النثر يقوم على جرس اللفظ وموازنة العبارات، ولكن الإيقاع في القالب الموسيقي الناشئ عن الوزن والقافية، فإنه يدور على تناسب ضربات لها أبعاد زمانية أشبه بالضربات المصاحبة للتأليف الموسيقي", كما عرض لهذا الفارق بينهما الفاربي فقال: "والأقاويل ذوات الأجزاء، منها ما هي ذوات عودات، ومنها ما ليست ذوات عودات، وذوات العودات هي التي تتساوى أجزاؤها التامة في عدد الحروف ويتشابه ترتيبها، وذوات العودات منها ما هي موزونة, ومنها ما هي غير موزونة، والفرق بين الموزونة وغير الموزونة أن تكون ذوات فواصل، فإن ذوات العودات متى كانت ذوات فواصل كانت موزونة، ومتى لم تكن لها فواصل لم تكن موزونة". فالإيقاع على النغم في الموسيقا يشبه الإيقاع على الحروف في العروض، والنفوس تميل إلى شدة الإيقاع وتقصيره في النهاية، فلا بد قبل أن ينتهي الموقع أن يخبر السامع بالنهاية, ولعل كون الجواب في الموسيقا أعلى من نغمة القرار, والأساس له ارتباط بذلك, وهذا موجود في الشعر العربي؛ إذ إن الإيقاع على التفاعيل يتكرر على مسافات زمنية متساوية، فيما عدا الجزء الأخير، قبل الوقوف في نهاية الشطر أو البيت، بمعنى أقرب على العروض أو الضرب، ولذا يحدث التقصير فيهما أو في أحدهما, أو التطويل في الضرب عن طريق التذييل والترفيل، فهما أكثر تفاعيل البيت تغيرًا بما يعتريهما من العلل السابقة, ومن عوامل هذه الموسيقا الشعرية، كثرة حروف المد في اليت، إذ هي إطلاق للصوت دون حواجز، وربما كان هذا وما بعده عوامل مساعدة، وكذلك ما يدخل الوزن المثالي من زحاف، حيث يعوض المحذوف بسكتة زمنية، أو باعتماد على وتد قبله أو بعده يرتكز عليه، وكذلك منها نسبة الساوكن إلى المتحركات التي ينبغي أن تحوم حول الثلث، كما ارتأى حازم القرطاجني في كتابه18. ومنها "النبر" أو الارتكاز أو الضغط، فهو من أهم العوامل في تكوين موسيقا الشعر، ويتوج هذا كله الإنشاد الشعري، فقد يقرأ إنسان بيتًا من الشعر يفقده ما فيه من موسيقا،(1/478)
في حين إذا أنشد على نحوٍ معيّن برزت موسيقاه، وقد رأيت ظاهرة الإشباع فيما سبق، والإنشاد في قراءة البيت يتبع المعنى، فتتنوع الوحدة الواحدة حسب ما يقتضيه فن الإلقاء من الضغط على بعض المقاطع دون بعض، وطول الصوت في بعضها, أو تقصيره في الأخرى، وعلوه أو إنخفاضه.
فهناك إذن مقاييس غير الوزن لها تأثيرها على كميات حروف الكلمات وموسيقاها، منها درجة الصوت علوًّا وانخفاضًا، ودوامه طولًا وقصرًا، ونبرته قوةً وضعفًا، ثم نسبة ورود الصوت قلةً وكثرةً, وأثره الإيحائيّ، مما جعل للشعر كما قلت لغة خاصة.
ولما كانت هذه الموسيقى نتاج عوامل عدة، احتمل عمل الخليل تفسيرات كثيرة، فمنهم من فسرها على أساس الكم المقطعي كما فعل الدكتور أنيس؛ إذ تقوم على قصر المقاطع أو طولها، تماثلها واختلافها، فالطويل يستغرق في نطقه ضعف الزمن الذي يستغرقه القصير، وأن البحور اختلفت مقاطعها باختلاف نظامها في ترتيب المقاطع القصيرة، والمقاطع الطويلة، بل توقفت على مكان الوتد من التفعيلة، هل هو واقع بدءًا أو وسطًا أو آخرًا، وعلى ما يفصله من نظيره، وعلى نوع الزحاف المحقق لذلك، ومقدار وروده, والإيقاع عند بعضهم يتولد من عودة ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة, سميت بالارتكاز على جزء معين يتكرر في كل تفعيلة، ولهذا ذهبوا إلى تفسيرها على أساس من النبر, وأنه كل شيء في هذه الموسيقا، وقسموه إلى نبر أساسيٍّ وآخر ثانويٍّ، وحددوا موقع كل منهما في البيت الشعري، واعتمدوا عليه في تغير التشكيل والصور في البحر الواحد، وأعطوا أنفسهم الحرية في انتقال هذا النبر في البحر الواحد، ليطوع لديهم بذلك التشكيل المراد، وعقدوا علاقة بين النبر الصوتي اللغوي المحض، وبين النبر الشعري الخاص19.
وليس النبر وحده كافيًا في تفهم موسيقى البيت، إذ تقوم الأصوات نفسها بدور لا يقل أهميةً عنه, أو من ذلك دور حروف المد، تلك الحروف التي تملك قوة من الإيضاح السمعيّ تجعل لها قيمة موسيقية خاصة, ولعلنا نلاحظ ارتباط مكان النبر بهذه الحروف؛ إذ هو مصاحب لها. وليست حروف السين والصاد والزاي بأقل شأنًا من دور حروف المد.
لقد ذهب الخليل إلى ربه راضيًا مرضيًا، ولعل المستقبل يأتي بتفسيرات أخرى لهذا العمل الجليل الذي ضاع سره بضياع كتابي الخليل عن النغم وعن الإيقاع20. هذا وإرجاع الأوزان إلى وزن واحد، ما هو إلّا مجرد محاولات، وإلّا فكل وزن مستقل في نظر الخليل؛ لأنه بنى ذلك عن طريق الإحصاء، وإن قسمها بعد إلى مجموعات.(1/479)
خصائص البحور: بناء على ما عند اليونان من تخصيص كل بحر بغرض معين، حاول الأدباء والنقاد تطبيق نحو من هذا على الشعر العربي، فقالوا عن الطويل: إنه يمتاز بالرصانة والجلال في دقاته وذبذباته المنسابة الهادئة، ورأوه من أجل ذلك أصلح لمعالجة الموضوعات الجدية التي تحتاج إلى نفس طويل وروية، كالمديح والرثاء والفخر والعتاب والاعتذار، وأنه لذلك شاع في الشعر العربي؛ لأنه غنائيّ يتحدث عن النفس، والمعلقة خير رد على هذا، بتوحد وزنها وتعدد أغراضها، وعلى هذا النمط تناولوا كل بحور الشعر21. فما قالوه أقرب إلى الضوابط منه إلى باب القواعد الكلية.(1/480)
القافية: هي ما تقفو البيت, أي: تتبعه، فتكون وجهًا له وصيغة ورابطة بين الأبيات، وهي حروف وحركات معينة يلتزم الشاعر منها ما يأتب به في مطلع القصيدة، وهي في الواقع أصوات تتكرر في نهاية البيت، وقد فصلها العروضيون، وأهم حروفها الرويّ الذي تنسب إليه القصيدة، فمعلقة امرئ القيس لامية؛ لأن رويّها اللام، وهو العنصر الوحيد الذي لا تخلو منه قصيدة ما, مطلقة كانت أو مقيدة "أي: ساكنة"، ويكتنفه حروف سابقة عليه, هي التأسيس ومعه الدخيل، أو يسبقه الردف بأحد حروف العلة الثلاثة،(1/480)
وبعده يكون الوصل وهو الإشباع بالألف أو الياء أو الواو، كما قد يكون بالهاء الساكنة، أو بالهاء المتحركة، وحينئذ يكون معها حرف الخروج بأحد حروف العلة تبعًا لحركة هذه الهاء, وحروف المعجم تتفاوت في نسبة ورودها رويًّا؛ فمنها ما يرد كثيرًا, ومنها ما يستعصي, ومنها الذلل, ومنه النفر, إلخ، وللقافية حركات تلتزم على النحو السابق في مطلع القصيدة، وهي فتحة من أجل ألف التأسيس، وتسمى "الرس", وحركة الدخيل الذي يتكرر لها بحرف معين، وتسمى "الإشباع", وحركة ما قبل الرويّ المقيد, وتسمى "التوجيه" وحركة الرويّ التي تسمى "الإطلاق أو المجرى" وحركة ما قبل الردف وتسمى "الحذو", وحركة هاء الوصل وتسمى "النفاد"؛ إذ بها تنتهي أصوات القافية، وقد استوفى الشاعر أغلب أصواتها في قوله:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها
فقد جاء فيها بالقاف رويًّا، والهاء بعدها وصل، والألف بعدها خروج، وأتى قبل الرويّ بألف التأسيس، ثم بعدها بالدخيل وهو الفاء، ففيها خمسة أحرف، كما أتى من حركات القافية بالرس، والإشباع، والإطلاق أو المجرى، والنفاد، ففيها أربع حركات، مجموع أصوات القافية هنا تسعة، وهذا أقصى ما يجتمع فيها. وإذا خرج الشاعر عمَّا ألزم نفسه به منها في مطلع القصيدة، كان واقعًا في عيب من عيوبها.(1/481)
تعليقات ومراجع:
1- الصاحبي, لابن فارس. طبع السلفية 1328/ 1910 بالقاهرة, ص34.
2- معجم "العين" للخليل بن أحمد، تركيب "عرض", وهو أول معجم عربي بناه على مخارج الحروف وتقاليب المادة.
3- انظر "لسان العرب" لابن منظور، "وتاج العروس" للزبيدي. مادة عرض.
4- الصاحبي, ص43.
5- انظر المثل السائر لابن الأثير, الطبعة الأولى سنة 1935 بالقاهرة, ص13.
6- الصاحبي ص10, وانظر السيرة النبوية لابن هشام, طبع الشعب 6/ 283، 7/ 319.
7- نشأة الوزن المقفَّى عند العرب الأوائل, بقلم د/ عبد الحميد عابدين, مجلة جامعة أم درمان الإسلامية, العدد الأول, 1388/ 1968م.
8- الصاحبي 230.
9- معجم الأدباء لياقوت 11/ 73, وأنباه الرواة للقفطي, ترجمة "الخليل".
10- الصاحبي 231, وانظر فصل "الضرائر الشعرية" في دراسة نظرية تطبيقية لكاتب هذا المقال "القاهرة 1972" ص102-ص129.
11- متخير الألفاظ, لأحمد بن فارس, طبع المكتب الدائم لتنسيق التعريف حققه, وقدم له هلال ناجي.(1/482)
12- انظر القسطاس في علم العروض للزمخشري, تحقيق د/ بهيجة الحسى ص56-58.
13- انظر "عروض الموشح" في مؤتمر الدورة الأربعين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة, مارس 1974 ص90-92، 267-278, ودراسة نظرية تطبيقية "مبحث الخروج عن الأوزان" ص214-241.
14- أنباه الرواة 1/ 343, وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي, تحقيق أبو الفضل إبراهيم, ص43-47, والبغية, ترجمة "الخليل".
15- مجلة الشعر, العدد السادس, أبريل سنة 1977 "ظواهر من العروض والقافية" لكاتب البحث, انظر فيه: لغة الشعر، وأجناس الإيقاع، والوضوح في الشعر، وبعض عيوب القافية، والخروج على الوزن, وتداخل البحور ص28-35.
16- النقد الأدبي الحديث, للمرحوم غنيمي هلال, الطبعة الثالثة, ص418.
17- الموسيقى الكبير للفارابي, تحت عنوان: "أصناف الأقاويل".
18- منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرجاطني, تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة, تونس 1966.
19- "في البنية الإيقاية للشعر العربي" للدكتور: كمال أبو ديب, طبع بيروت, الطبعة الأولى 1974, و"في الميزان الجديد" للدكتور محمد مندور، و"موسيقا الشعر العربي للدكتور شكري عياد", و"موسيقى الشعر" للمرحوم د/ إبراهيم أنيس، و"فن إنشاد الشعر للأب فاكيتي", وكتاب "الشعر" لمحمود شاكر 1972.
20- فقد كان الخليل على علم تام بالموسيقى، وعلى علم بالأصوات، وللتحقق من ذلك يحسن مراجعة "رسالة ابن المنجم في الموسيقى, وكشف رموز كتاب الأغاني" تحقيق وشرح د/ يوسف شوقي, الهيئة المصرية للكتاب 1976، فهناك تلاق بين ما في الموسيقى والعروض(1/483)
حتى في استخدام الدوائر، وتنقل النغم على الأوتار يشبه تنقله على التفاعيل المختلفة وتبادل ذلك، ولعل الوتد يمثل نغمة العماد التي هي أول النغم العشر، وهي آلية النغم وأحدها وأشدها العاشرة، والجمع بين نغمتين إحداهما حادة والأخرى غليظة في نقرة واحدة، يكون لها وقع لذيذ جميل في الأذن، ينأى بها عن الرتابة والملل، وهذه وظيفة الزحاف, والموصلي قسَّم النغم إلى مؤتلفة ومختلفة، والكندي قسمها إلى ثابتة ومتبدلة، وفي الوزن الشعري ما يتماثل, ومنه ما يختلف، وقد وضعوا دوائر تسمى: النغم العشر ودائرة الوسطى ودائرة البنصر، وهكذا، ودوائر أخرى للمقامات مما لا يقف عليه إلّا المتمكن من الموسيقى.
21- مجلة الشعر, العدد الثامن أكتوبر 1977, مقال لكاتب البحث بعنوان: "المضمون الشعري وخصائص البحور بين الوزن والرويّ", ص48-ص56.(1/484)
الفهرست
1- فن الحرب عند العرب في الجاهلية 5
أساليب القتال 7
أسلحة القتال 10
الإعاشة والقضايا الإدارية 14
غنائم الحرب 15
معاملة الأسرى 16
2- فن الحرب عند العرب في الإسلام 19
العقيدة العسكرية العربية 21
النظرية الاستراتيجية للحرب - الردع 22
الحرب النفسية 24
التأهب والاستعداد للقتال 28
المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية 29
نظام وإعداد المقاتلين 32
مبادئ وتدريب وتنظيم الجيش 36
الانضباط العسكري والتقاليد العسكرية 39
أسس بناء الروح المعنوية وإرادة القتال 41
نظام إعداد القادة 44
دور المرأة في المعركة 50
اقتصاديات الحرب 51
آداب الحرب 53
المراجع 57(1/485)
3- تطور النظم الحربية عند العرب المسلمين 58
الجيش الدائم 61
الوحدات المدنية الملحقة بالجيش 64
الإمداد والإعاشة 65
أسلحة القتال الخفيفة 69
آلات الحصار والأسلحة الثقيلة 72
أسلحة الوقاية والدفاع 77
الموانع الدفاعية 79
التحصينات 81
نظام إدارة الحرب 83
استخدام الجواسيس 86
الخداع التكتيكي والاستراتيجي 91
البريد الحربي 93
الموسيقى 94
الأسطول والحرب البحرية 103
المراجع 103
4- العلم العسكري وفن الحرب 104
بدء كتابة التاريخ العسكري 105
كتب العلم العسكري وفن الحرب 106
كتب عن الحرب البحرية 107
المراجع 108
5- الآثار الحضارية لفن الحرب عند العرب 109
الحرب العادلة وآثارها الاستراتيجية في إقامة السلام 112
فرض التبعية على العرب في فن الحرب 114
المراجع 116(1/486)
أثر الحروب الصليبية في العالم العربي 117
مقدمة 119
دعوت البابا أوربان الثاني 122
الاستعمار الاستيطاني 127
سقوط بيت المقدس 129
مصادر لاتينية وعربية 136
رد الفعل الإسلامي 140
صلاح الدين الأيوبي واختفاء الخلافة الفاطمية 144
آخر الحملات الصليبية 148
التأثير الاجتماعي للحروب الصليبية على المجتمع العربي 152
النظام الإقطاعي المملوكي 154
أول هزيمة كبرى للمسلمين 158
التأثيرات السياسية للحروب الصليبية 165
فضل الخلافة الفاطمية تجاه الصليبيين 169
الهجوم الكبير على المملكة اللاتينية 173
بروز دولة المماليك 176
الظاهر بيبرس 178
بعض مظاهر الحياة اليومية في عصر سلاطين المماليك 181
مقدمة 183
النظرية السياسية لدولة المماليك 185
انقسام المجتمع إلى طبقتين - الحكام والرعية 187
"أولاد الناس" 191
المدن المصرية في عصر سلاطين المماليك 195(1/487)
العادات الاجتماعية في عصر سلاطين المماليك 200
الأعياد والمناسبات 208
أعياد اليهود والمسيحيين 220
المجاعات وبعض مظاهر الاضطرابات 224
نظم الحكم والإدارة
في عصر الأيوبيين والمماليك 235
مصادر ومراجع 289
المرأة في الحضارة العربية 291
مراجع 336
المؤسسات الاجتماعية في الحضارة العربية 337
مراجع 376
النقد والبلاغة 377
مقدمة 379
1- النقد في العصر الجاهلي 380
2- النقد في العصر الإسلامي 384
3- نقد الرواة 386
4- تشعب مسائل النقد - الجاحظ 390
5- التيار العربي المحافظ 399
6- التيار اليوناني 407
7- التيار الفني 415(1/488)
8- التيار الكلامي: البحث في إعجاز القرآن 423
9- عبد القاهر الجرجاني وتأسيس علوم البلاغة 425
10- ضمور النقد واتساع التأليف في علم البلاغة 431
مراجع عامة 436
علم العروض 437
مقدمة 439
أولية هذا العلم 445
الكتابة العروضية 447
وحدة البيت الشعري 449
بحور الشعر 453
البحر الطويل 453
الصورة الأولى 454
الصورة الثانية 455
الصورة الثالثة 456
البحر المديد 456
البحر البسيط 458
البحر الوافر 460
البحر الكامل 461
بحر الهزج 462
بحر الرجز 462
بحر الرمل 463
البحر السريع 464
البحر المنسرح 464
البحر الخفيف 465(1/489)
البحر المضارع 466
البحر المجتث 466
البحر المتقارب 467
البحر المتدارك 467
دوائر العروض 467
أولية الشعر العربي 471
لغة الشعر وموسيقاه وتطورها 474
خصائص البحور 480
القافية 480
تعليقات ومراجع 482(1/490)