قيل لَهُ - وَقد اشْترى حمارا -: مَا فِي هَذَا الْحمار عيبٌ إِلَّا أَنه نَاقص النَّفس بليدٌ يحْتَاج إِلَى عَصا. قَالَ: إِنَّمَا كنت أغتم لَو كَانَ يحْتَاج إِلَى بزماورد. فَأَما الْعَصَا فَإِنَّهَا سهل. احْتَاجَ مزبدٌ أَن يَبِيع جبته لسوء حَاله، فَنَادَى عَلَيْهَا الْمُنَادِي، فَلم يطْلب بشيءٍ؛ فَقَالَ: مُزْبِد: مَا كنت أعلم أَنِّي كنت عُريَانا إِلَى السَّاعَة. وَقع بَينه وَبَين رجل كلامٌ فَقَالَ لَهُ الرجل: تكلمني وَقد ن ... ت أمك فَرجع مُزْبِد إِلَى أمه، فَقَالَ لَهَا: يَا أمه، تعرفين بلبل؟ قَالَت: أَبُو علية؟ قَالَ: نَا. . ك يشْهد الله. . أَنا أَسأَلك عَن اسْمه، فتجيبنني عَن كنيته. قيل لمزبد: لم لَا تكون كفلانٍ؟ - يَعْنِي رجلا مُوسِرًا - فَقَالَ: بِأبي أَنْتُم، كَيفَ أتشبه بِمن يضرط ويشمت، وأعطس فألطم. وَنظر إِلَى رجل كثير شعر الْوَجْه؛ فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا؛ خَنْدَق على وَجهك لَا يتَحَوَّل رَأْسا. وَقَالَ لَهُ رجلٌ: من شجك هَا هُنَا؟ - وَأَشَارَ إِلَى استه - قَالَ: الَّذِي شج أمك فِي موضِعين. وَدخل بَيته، وَبَين رجْلي امْرَأَته رجل ين. . هَا وَبَاب الدَّار مَفْتُوح؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله أَنْت على هَذِه الْحَال وَالْبَاب مفتوحٌ؟ أَلَيْسَ لَو دخل غَيْرِي كَانَت الفضيحة. وَنظر يَوْمًا إِلَى امْرَأَته تصعد فِي دَرَجَة؛ فَقَالَ: أَنْت الطَّلَاق إِن صعدت، وَأَنت الطَّلَاق إِن وقفت، وَأَنت الطَّلَاق إِن نزلت. فرمت بِنَفسِهَا من حَيْثُ بلغت. فَقَالَ لَهَا: فدَاك أبي وَأمي إِن مَاتَ مالكٌ احْتَاجَ إِلَيْك أهل الْمَدِينَة فِي أحكامهم. وسكر يَوْمًا؛ فَقَالَت امْرَأَته: أسأَل الله أَن يبغض النَّبِيذ إِلَيْك. فَقَالَ: والفتيت إِلَيْك. ورثى مَعَ امرأةٍ يكلمها؛ فَقيل: مَا تُرِيدُ مِنْهَا؟ قَالَ: أناظرها فِي مَسْأَلَة من النِّكَاح.(3/158)
وَقيل: مَا نقُول فِي الْقبْلَة؟ قَالَ: السباب قبل اللطام. ونظروا إِلَيْهِ وَبَين يَدَيْهِ نَبِيذ أسود؛ فَقَالُوا لَهُ: مَا نبيذك هَذَا؟ قَالَ: أما ترَوْنَ ظلمَة الْحَلَال فِيهِ؟ . وَاشْترى مرّة جَارِيَة فَسئلَ عَنْهَا، فَقَالَ: فِيهَا خلَّتَانِ من خلال الْجنَّة: بردٌ وسعة. وَقَالَ مرّة: إِن أخي يلقى الله مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة بصحيفته مَمْلُوءَة خمرًا، وَهُوَ لم يشرب مِنْهَا جرعة؛ فَقيل لَهُ: كَيفَ ذَلِك؟ قَالَ: هُوَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة يبكر كل يَوْم فِي طلب الْخمر، فَلَا يجد إِلَيْهَا سَبِيلا لفاقته، وعزمه صَحِيح على شربهَا لَو وجدهَا. قيل لَهُ: مَا بَال حِمَارك يتبلد إِذا توجه نَحْو الْمنزل، وحمر النَّاس إِلَى منازلها أسْرع؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يعرف سوء المنقلب. دخل يَوْمًا على قينة وَهِي تغني: عادا قلبِي من الطَّوِيلَة عادا وَإِنَّمَا هُوَ عيد. فَقَالَ مُزْبِد: وَثَمُود، فَإِن الله لم يفرق بَينهمَا. وَقيل لَهُ: أيولد لِابْنِ ثَمَانِينَ؟ قَالَ: نعم. إِذا كَانَ لَهُ جارٌ ابْن ثَلَاثِينَ. واتهمه رجل بشيءٍ فَاعْتَذر إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِن كنت فعلت هَذَا فمسخني الله كَلْبا أنهس عراقيب الْمَلَائِكَة فِي الْموقف. وَقَالَت امْرَأَة مُزْبِد - وَكَانَت حُبْلَى، وَنظرت إِلَى قبح وَجهه -: الويل لي إِن كَانَ الَّذِي فِي بَطْني يشبهك؛ فَقَالَ لَهَا: الويل لي إِن كَانَ الَّذِي فِي بَطْنك لَا يشبهني. لَقِي مُزْبِد رجلا، فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: قرشي وَالْحَمْد لله؛ فَقَالَ مُزْبِد: الْحَمد لله فِي هَذَا الْموضع رِيبَة.(3/159)
سمع مزبدٌ رجلا يَقُول عَن ابْن عباسٍ: " من نوى حجَّة وعاقه عائق كتبت لَهُ ". فَقَالَ مُزْبِد: مَا خرج الْعَام كُله كراءٌ أرخص من هَذَا. وَقيل لَهُ: مَا ورثت أختك عَن زَوجهَا؟ فَقَالَ: أَرْبَعَة أشهرٍ وَعشرا. أسلم نَصْرَانِيّ، وَفعل فِي الْإِسْلَام فعلا قبيحاً؛ فَقَالَ مُزْبِد: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي أَسخط الْمَسِيح، وَلم يرض مُحَمَّدًا. دفع مرّة إِلَى وَالِي مَكَّة، وَقد أفطر فِي شهر رَمَضَان؛ فَقَالَ لَهُ الْوَالِي: يَا عَدو الله؛ تفطر فِي شهر رَمَضَان قَالَ: أَنْت أَمرتنِي بذلك. قَالَ: هَذَا شرٌّ، كَيفَ أَمرتك؟ وَيلك. قَالَ: حدثت عَن ابْن عباسٍ: أَنه من صَامَ يَوْم عَرَفَة عدل صَوْمه سنة، وَقد صمته. فَضَحِك الْوَالِي وخلاه. واعتل عِلّة، وأشرف مِنْهَا إِلَى الْهَلَاك، وَأَرَادَ أَن يُوصي، فَدَعَا بعض أوليائه، وَأوصى إِلَيْهِ، وَكتب كتاب وَصيته، وَأمر للْوَصِيّ بشيءٍ؛ فَلَمَّا فرغ من الْكِتَابَة رَآهُ مزبدٌ وَهُوَ يترب الْكتاب؛ فَقَالَ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال: نعم يَا سَيِّدي، فَهُوَ أقضى للْحَاجة. وَنظر إِلَى قومٍ مكتفين يذهب بهم إِلَى السجْن؛ فَقَالَ: مَا قصَّة هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: خيرٌ. قَالَ: إِن كَانَ خيرا فاكتفوني مَعَهم. وَطلب من دَاره بعض جِيرَانه ملعقةً، فَقَالَ: لَيْت لنا مَا نأكله بالأصابع. وَجلسَ يَوْمًا يَأْكُل السّمك والجبن وَقَالَ: وَمن أَيْن يعلم السّمك وَهُوَ ميتٌ أَنِّي أكلت الْجُبْن؟ وَخَاصم مرّة امْرَأَته، وَأَرَادَ أَن يطلقهَا؛ فَقَالَت لَهُ: اذكر طول الصُّحْبَة. قَالَ: وَالله مَا لَك عِنْدِي ذنبٌ غَيره. وَقَالَ يَوْمًا لامْرَأَته: اتخذي لي قريصاً فقد اشتهيته. قَالَت: فَأَيْنَ حَوَائِجه؟ قَالَ: فَلَا حصر الْبرد لفقده حَتَّى نَنْظُر فِي بَاقِي الْحَوَائِج. وَحضر مَعَ محبوبٍ مَجْلِسا فعربدوا عَلَيْهِمَا، فَقَامَ محبوبٌ يقاتلهم، ويفتري عَلَيْهِم؛ فَقَالَ مُزْبِد: اسْكُتْ يَا أخي، فَإِن الْقَوْم سكارى، يذهب شَتمنَا ضيَاعًا. وَمَرَّتْ بِهِ امرأةٌ قبيحة؛ فَقَالَ: لعنها الله، كَأَن وَجههَا وَجه إنسانٍ رأى شَيْئا فزع مِنْهُ.(3/160)
وهبت بِالْمَدِينَةِ ريحٌ صَرْصَر، أنكرها النَّاس وفزعوا؛ فَجعل مزبدٌ يدق أَبْوَاب جِيرَانه وَيَقُول: لَا تعجلوا بِالتَّوْبَةِ؛ فَإِنَّمَا هِيَ - وحياتكم - زَوْبَعَة، وسوف تنكشف السَّاعَة. ونام مرّة بِالْمَسْجِدِ، فَدخل رجلٌ فصلى، فَلَمَّا فرغ قَالَ: يَا رب؛ أَنا أُصَلِّي وَهَذَا نَائِم. فَقَالَ مُزْبِد: يَا ابْن أم؛ سل رَبك حَاجَتك. وَلَا تحرشه علينا. وَقَالَت لَهُ امْرَأَته مرّة: قد تمزق خَفِي، وَلَا يتهيأ لي أَن أخرج. قَالَ لَهَا: أَيّمَا أحب إِلَيْك؟ أَن تشتري خفاً أَو أَنِّي. . ك اللَّيْلَة أَرْبَعَة. قَالَت: هَذَا الْخلق يتهيأ أَن يدافع بِهِ الْوَقْت. وَكَانَت لَيْلَة الْفطر مرّة، فعلا مُزْبِد مَنَارَة مَسْجِد رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - ثمَّ نَادَى: أَلا سمع سامعٌ، إِنَّا قد شردنا رَمَضَان، فَمن آواه فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة. فَسَمعهُ الْوَالِي؛ فَضَربهُ مائَة سوطٍ؛ فَقَالَ: مَا أُبَالِي مَا كنت لأدع لذتها. وَكَانَت بِالْمَدِينَةِ جاريةٌ، يُقَال لَهَا: بصبص، مغنية، يجْتَمع الْأَشْرَاف عِنْد مَوْلَاهَا لسَمَاع غنائها، فَاجْتمع عِنْدهَا يَوْمًا مُحَمَّد بن عِيسَى الْجَعْفَرِي، وَعبد الله بن مُصعب الزبيرِي، فِي جمَاعَة من أَشْرَاف الْمَدِينَة، فتذاكروا أَمر مُزْبِد وبخله، فَقَالَت بصبص: أَنا آخذ لكم مِنْهُ ردهماً. فَقَالَ لَهَا مَوْلَاهَا: أَنْت حرةٌ إِن لم أشتر لَك مخنقةً بِمِائَة دِينَار إِن فعلت هَذَا، وأشتري لَهُ مَعَ ذَلِك ثوب وشيٍ بِمِائَة دِينَار، وَأَجْعَل لَك مَجْلِسا بالعقيق أنحر فِيهِ بَدَنَة لم تركب، وَلم تقتب. فَقَالَت: جِيءَ بِهِ، وَأَرْفَع الْغيرَة عني. قَالَ: أَنْت حرةٌ إِن منعتك مِنْهُ وَلَو رَأَيْته قد رفع رجليك، وَلَا عاديته على ذَلِك ن حصلت مِنْهُ الدِّرْهَم؛ فَقَالَ عبد الله بن مُصعب: أَنا لكم بِهِ زعيم. قَالَ عبد الله: فَصليت الْغَدَاة فِي مَسْجِد الْمَدِينَة، فَإِذا أَنا بِهِ قد أقبل؛ فَقلت: أَبَا إِسْحَاق؛ أما تحب أَن ترى بصبص؟ فَقَالَ: بلَى وَالله. امْرَأَته طَالِق إِن لم يكن الله ساخطاً على فِي أمرهَا فقد جفتني، وَإِلَّا فَأَنا أسأله مُنْذُ سنةٍ أَن أَلْقَاهَا فَلَا تُجِيبنِي.(3/161)
فَقلت: إِذا صليت الْعَصْر فأتني هَاهُنَا. فَقَالَ: امْرَأَته طَالِق إِن برح يَوْمه من هَاهُنَا إِلَى الْعَصْر. قَالَ: فتصرفت فِي حوائجي حَتَّى فَاتَت الْعَصْر، فَدخلت الْمَسْجِد فَوَجَدته؛ فَأخذت بِيَدِهِ فأتيتهم بِهِ، وَأكل الْقَوْم، وَشَرِبُوا حَتَّى صليت الْعَتَمَة، ثمَّ تساكروا وتناوموا. فَأَقْبَلت بصبص على مُزْبِد؛ فَقَالَت لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاق؛ كَأَنِّي - وَالله - فِي نَفسك تشْتَهي أَن أغنيك السَّاعَة: لقد رحلوا الْجمال ليه ... ربوا منا فَلم يئلوا. قَالَ لَهَا: امْرَأَته طَالِق إِن لم تَكُونِي تعلمين مَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. فغنته إِيَّاه فَقَالَت لَهُ: أَي أَبَا إِسْحَاق كَأَنِّي بك تشْتَهي أَن أقوم من مجلسي فأجلس إِلَى جَنْبك، فَتدخل يدك فِي جلبابي، فتقرص عكني قرصاتٍ وأغنيك: قَالَت وأبثثتها وجدي فبحت بِهِ فَقَالَ لَهَا: امْرَأَته طَالِق إِن لم تَكُونِي تعلمين مَا فِي الْأَرْحَام. وَمَا تكسبه الْأَنْفس غَدا، وَبِأَيِّ أرضٍ تَمُوت. قَالَت: نعم؛ فَقَامَ فَجَلَسَ إِلَى جنبها وَأدْخل يَده فِي جلبابها، وقرصها وغنت لَهُ. ثمَّ قَالَت: برح الخفاء. أَنا أعلم أَنَّك تشْتَهي أَن تقبلني شوق التِّين، وأغنيك هزجاً: أَنا أَبْصرت بِاللَّيْلِ ... غُلَاما حسن الدل كغصن البان قد أصب ... ح مسقياً من الطل فَقَالَ: امْرَأَته طالقٌ إِن لَك تَكُونِي نبيةً مُرْسلَة فقبلها، وغنته. ثمَّ قَالَت: يَا أَبَا إِسْحَاق رَأَيْت قطّ أنذل من هَؤُلَاءِ؟ يدعونك، ويخرجوني إِلَيْك، وَلَا يشْتَرونَ لنا ريحانا بدرهم، هَلُمَّ درهما نشتري بِهِ ريحاناً. فَوَثَبَ وَصَاح: واحرباه أَي زَانِيَة أَخْطَأت استك الحفرة، انْقَطع وَالله عَنْك الْوَحْي(3/162)
الَّذِي كَانَ يوحي إِلَيْك، ووثب من عِنْدهَا وَجلسَ نَاحيَة. فعطعط بهَا الْقَوْم، وَعَلمُوا أَن حيلتها لم تنفذ عَلَيْهِ، وعادوا لمجلسهم، وَخرج مُزْبِد من عِنْدهم فَلم يعد إِلَيْهِم. وَقيل لمزبد: أَيَسُرُّك أَن يكون عنْدك قنينة شراب؟ فَقَالَ: يَا بن أم؛ وَمن يسره دُخُول النَّار بالمجان. وضعت امْرَأَته المنخل على فرَاشه، فجَاء، فَلَمَّا رَآهُ تعلق بوتد كَانَ فِي دَاره، فَقَالَت امْرَأَته: مَا هَذَا؟ قَالَ: وجدت المنخل فِي موضعي، فصرت فِي مَوْضِعه. قَالَت امْرَأَة مزبدٍ لجارةٍ لَهَا: يَا أُخْتِي؛ كَيفَ صَار الرجل يتَزَوَّج بأربعةٍ، وَيملك من الْإِمَاء مَا يَشَاء، وَالْمَرْأَة لَا تتَزَوَّج إِلَّا وَاحِدًا وَلَا تستبد بمملوكٍ؟ . قَالَت لَهَا: يَا حبيبتي؛ قومٌ الْأَنْبِيَاء مِنْهُم، وَالْخُلَفَاء مِنْهُم، والقضاة مِنْهُم، وَالشّرط مِنْهُم، تحكموا فِينَا كَمَا شَاءُوا، وحكموا لأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَرَادوا. قَالَ مُزْبِد: جَاءَنِي صديقٌ لي فَقَالَ: أَلا تسْأَل فلَانا التَّاجِر أَن يقرضني مائَة دِرْهَم؟ على رهن وثيق، فَإِنِّي بِضيق، مُنْقَطع بِي، فَقلت: إِنَّه يفعل، فَمَا الرَّهْن؟ قَالَ: اكْتُبْ لَهُ على نَفسِي بِالْقَذْفِ، وَأشْهد الْعُدُول، فَإِن وفيته حَقه وَقت الْمحل، وَإِلَّا استعدى عَليّ، وَأقَام الْبَيِّنَة بِأَنِّي قَذَفته، حَتَّى أحد حد الْقَاذِف. فَقلت لَهُ: يَا أخي؛ هَذَا رهنٌ تقل رَغْبَة التُّجَّار فِيهِ. كَانَ لمزبد غُلَام، وَكَانَ إِذا بَعثه فِي حاجةٍ جعل بَينه وَبَينه عَلامَة، أَن يكون إِذا رَجَعَ سَأَلَهُ فَقَالَ: حِنْطَة أَو شعير، فَإِذا كَانَ عَاد بالنحج قَالَ: حِنْطَة، وَإِن لم يقْض الْحَاجة قَالَ: شعير. فَبَعثه يَوْمًا فِي حاجةٍ، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: حنطةٌ أم شعير؟ قَالَ: خرا. قَالَ: وَيلك وَكَيف ذَلِك؟ قَالَ: لأَنهم لم يقضوا الْحَاجة، وضربوني وشتموك. صلى مُزْبِد ذَات يَوْم فِي منزله، وَجعل يَدْعُو فِي دبر صلَاته، وسمعته امْرَأَته. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أصليني. فَقَالَت: أما هَذَا يَا رب فَلَا تشركني فِيهِ. فَقَالَ: يَا فاعلة، " تِلْكَ إِذا قسمةٌ ضيزى ". وَسمع رجلا يَقُول لآخر: إِذا استقبلك الْكَلْب فِي اللَّيْل فاقرأ:(3/163)
" يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض فانفذوا لَا تنفذون إِلَّا بسلطانٍ " فَقَالَ مُزْبِد: الْوَجْه عِنْدِي أَن يكون مَعَك عَصا أَو حجر، فَلَيْسَ كل كلبٍ يحفظ الْقُرْآن. وَوَقع بَينه وَبَين امْرَأَته خصومةٌ، فَحلف: لَا يجْتَمع رَأْسِي ورأسك على مخدة سنة؛ فَلَمَّا طَال ذَلِك عَلَيْهِ قَالَ: نقتنع باجتماع الأرجل إِلَى وَقت حُلُول الْأَجَل. وَغَضب عَلَيْهِ بعض الْوُلَاة وَأمر بحلق لحيته؛ فَقَالَ لَهُ الْحجام: انفخ فمك حَتَّى أحلق. قَالَ: يَا بن الفاعلة؛ أَمرك أَن تحلق لحيتي أَو تعلمني الزمر؟ . واشتهت امْرَأَته فالو ذجاً، فَقَالَ: مَا أيسر مَا طلبت عندنَا من آلَته أَرْبَعَة أَشْيَاء، وَبَقِي شَيْئَانِ تحتالين فيهمَا أَنْت. قَالَ: وَمَا الَّذِي عندنَا؟ قَالَ: الطنجير والإسطام وَالنَّار وَالْمَاء. وَبَقِي: الدّهن وَالْعَسَل؛ وهما عَلَيْك. وَسُئِلَ يَوْمًا عَن عدد أَوْلَاده، فَقَالَ: عهد الله فِي رقبته إِن لم تكن امْرَأَته تَلد أَكثر مِمَّا يني. . هَا. قَالَ يَوْمًا: قد عزمت فِي هَذِه السّنة على الْحَج، وأصلحت أَكثر مَا أحتاج إِلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا الَّذِي أصلحت؟ قَالَ: تحفظت التَّلْبِيَة. وَقيل لَهُ: كَيفَ حبك لأبي بكر وَعمر؟ قَالَ: مَا ترك الطَّعَام فِي قلبِي حبا لأحد. وَدخل على بعض العلوية؛ فَجعل يعبث بِهِ ويؤذيه، فتنفس مُزْبِد الصعداء وَقَالَ: صلوَات الله على الْمَسِيح، أَصْحَابه مِنْهُ فِي رَاحَة. لم يخلف عَلَيْهِم ولدا يؤذيهم. وَجَاء غريمٌ لَهُ يَوْمًا يُطَالِبهُ بحقٍ لَهُ؛ فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ لَك الْيَوْم عِنْدِي شَيْء، وحشره الله كَلْبا عقوراً ينهش عراقيب النَّاس فِي الْموقف، وَلَو علقنه من الشريا بزغبة قثاءةٍ مَا أَعطيتك الْيَوْم شَيْئا. بَاعَ جَارِيَة على أَنَّهَا طباخةٌ، وَلم تحس شَيْئا فَردَّتْ، فَلم يقبلهَا، وَقدم إِلَى القَاضِي، وطولب بِأَن يحلف أَنه ملكهَا وَكَانَت تطبخ وتحسن فَانْدفع وَحلف(3/164)
بيمينٍ غليظةٍ أَنه دفع إِلَيْهَا جَرَادَة فطبخت مِنْهَا خَمْسَة ألوانٍ وفصلت مِنْهَا شريحتين بالقديد سوى الْجنب، فَإِنَّهَا شوته. فَضَحِك من حضر، وأيس خصومه من الْوُصُول مِنْهُ إِلَى شيءٍ فخلوه. وَقَالَت لَهُ امْرَأَته فِي خُصُومَة بَينهمَا: يَا مُفلس، يَا قرنان. قَالَ: إِن صدقت فواحدةٌ من الله وَالْأُخْرَى مِنْك. وَقيل لَهُ: كم كَانَت سنك أَيَّام قتل عُثْمَان؟ فَقَالَ: كنت أول مَا قاذفت. جمع مُزْبِد بَين رجل وعشيقته فِي منزله، فعابثها سَاعَة، ثمَّ أَرَادَ أَن يمد يَده إِلَيْهَا، فَقَالَت: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه، وَسمع مزبدٌ قَوْلهَا فَقَالَ: يَا زَانِيَة، فَأَيْنَ مَوْضِعه؟ بَين الرُّكْن وَالْمقَام؟ أم بَين الْقَبْر والمنبر؟ وَالله مَا بنيت هَذِه الدَّار إِلَّا للقحاب والقوادات، ولأدفع ثمن خشبها إِلَّا من الْقمَار، فَأَي مَوضِع للزنى أَحَق مِنْهَا؟ . وشكا إِلَيْهِ رجل سوء خلق امْرَأَته؛ فَقَالَ لَهُ مُزْبِد: بخرها بمثلثة. يُرِيد: الطَّلَاق. وَقيل لَهُ: صَوْم يَوْم عَرَفَة يعدل صَوْم سنة. فصَام إِلَى الظّهْر ثمَّ أفطر فَقَالَ: يَكْفِينِي صَوْم نصف سنةٍ فِيهِ شهر رَمَضَان. قيل لمزبد وَقد عضه كلب: إِن أردْت أَن يسكن فأطعم الْكَلْب الشريد، فَقَالَ: إِذا لَا يبْقى فِي الدُّنْيَا كلبٌ إِلَّا جَاءَنِي وعضني. وَقيل لَهُ: إِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " إِذا رَأَيْت شخصا بِاللَّيْلِ فَكُن بالإقدام عَلَيْهِ أولى مِنْهُ عَلَيْك " قَالَ: أَخَاف أَن يكون قد سمع هَذَا الحَدِيث فأقع فِيمَا أكره. كَانَ مزبدٌ الغاضري فِي حبس مُحَمَّد بن عبد الله - رَضِي الله عَنهُ - حِين ظهر بِالْمَدِينَةِ؛ فَلَمَّا أَمْسَى فِي اللَّيْلَة الَّتِي قتل محمدٌ فِي صبيحتها وَجعل يَقُول: مَعنا علم الْغَيْب. قيل: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: مَا فِي الدُّنْيَا قومٌ يعْرفُونَ آجالهم غَيرنَا، إِذا أَصْبَحْنَا جَاءَت.(3/165)
وَقيل لَهُ: قد بيض النَّاس جَمِيعًا فِي سَائِر الْآفَاق. فَقَالَ: وَمَا ينفعنا من ذَلِك؟ وَهَذَا عِيسَى بن مُوسَى بعقوبنا، اعْمَلُوا على أَن الدُّنْيَا كلهَا زبدة. قَالَ: فَبِهَذَا سمي مزبداً. كَانَ لامْرَأَة مُزْبِد صديقٌ فضربها وشجها، وَدخل مُزْبِد فرآها على تِلْكَ الْحَال؛ فَقَالَ لَهَا: مَالك وَيلك؟ قَالَت: سَقَطت من الدرجَة، فَقَالَ لَهَا مُزْبِد: أَنْت طالقٌ، إِنَّك لَو سَقَطت من بَنَات نعش مَا أَصَابَك هَذَا كُله. زفت إِلَى مُزْبِد امرأةٌ قبيحة، فَجَاءَت إِلَيْهِ الماشطة، فَقَالَت: بِأَيّ شيءٍ تصبحها؟ قَالَ: بِالطَّلَاق. دفع مُزْبِد إِلَى وَالِي الْمَدِينَة وَمَعَهُ زق، فَأمر بضربه، فَقَالَ: لم تضربني؟ قَالَ: لِأَن مَعَك آلَة الْخمر. قَالَ: وَأَنت - أعزّك الله - مَعَك آلَة الزِّنَى. وَجلسَ مرّة على الطَّرِيق يَبُول وَهُوَ سَكرَان، وَعَلِيهِ طيلسان خلق، فَمر بِهِ رجلٌ فَأخذ طيلسانه؛ فَالْتَفت إِلَيْهِ مُزْبِد وَقَالَ: يَا بني، صرف عَنْك السوء. قَالَ مُزْبِد لرجل: كم تعلف حِمَارك؟ قَالَ: نخرةً بِالْغَدَاةِ، ونخرة بالعشى؛ فَقَالَ: اتَّقِ الله لَا تحمر عَلَيْك. دفع مُزْبِد فِي ذنبٍ إِلَى الْوَالِي؛ فَضَربهُ خَمْسَة وَسبعين سَوْطًا، ثمَّ ظهر لَهُ بَرَاءَة ساحته، فَأحْضرهُ واستحله، فَقَالَ مُزْبِد: لَا، وَلَكِن تقاصني بهَا كلما أذنبت ذَنبا، فَكَانَ يسحب لَهُ كل مرّة إِذا أذْنب بعشرةٍ وَمثلهَا إِلَى أَن نفدت وَفضل عَلَيْهِ شَيْء. وَقَالَ مزبدٌ يَوْمًا: مجالسة الْعضَاة الْحمر الَّتِي لَا ورق لَهَا خيرٌ من مجالسة النَّاس الْيَوْم. لم يبْق إِلَّا ظروفٌ قد عصرت أَرْوَاحهم فأخرجت، وَلَيْسَ فِي أَجْسَادهم أَرْوَاح، أَطُوف نهاري أجمع مَا أرى إِلَّا ظرفا. فَقَالَ لَهُ إِنْسَان: قد بقيت فِي النَّاس بقيةٌ. فَقَالَ مُزْبِد: تِلْكَ الْبَقِيَّة مثلث البلح ثَلَاثَة فِي ثفروقٍ.(3/166)
الْبَاب الثَّامِن نَوَادِر أبي الْحَارِث جمين
قيل لَهُ: مَا تَقول فِي فالوذجة؟ قَالَ: وَالله لَو أَن مُوسَى لَقِي فِرْعَوْن بفالوذجةٍ لآمن، وَلكنه لقِيه بعصا. وَقيل لَهُ يَوْمًا: مَا تشْتَهي؟ فَقَالَ: نشيش مقلاةٍ بَين غليان قدرٍ على رَائِحَة شواءٍ. وَكَانَ لَا يَأْكُل الباذنجان، فكايده مُحَمَّد بن يحيى وَاتخذ ألوانه كلهَا باذنجان، فَجعل كلما قدم لون فرابه الباذنجان فِيهِ توقاه، وَأَقْبل على الْخبز وَالْملح؛ فَلَمَّا عَطش قَالَ: يَا غُلَام، اسْقِنِي مَاء لَيْسَ فِيهِ باذنجان. وَكتب يَوْمًا إِلَى صديق لَهُ: أوصيك بتقوى الله، إِلَّا أَن ترى غير ذَلِك خيرا مِنْهُ. وَقيل لَهُ: سبقت ببرذونك هَذَا قطّ؟ قَالَ: بلَى، مرّة، دَخَلنَا زقاقاً لَا منفذ لَهُ وَكنت آخر الْقَوْم؛ فَلَمَّا رَجعْنَا كنت أول الموكب. وَدخل جمَاعَة من إخوانه، فاشتهوا عَلَيْهِ لوناً يطبخه لَهُم، فَدَنَا أحدهم من الْقدر ليذوقها، وَأخرج قِطْعَة لحم وأكلها، وَفعل كل وَاحِد مِنْهُم كَذَلِك؛ فَقَالَ أحدهم: هِيَ طيبةٌ لَكِنَّهَا تحْتَاج إِلَى شيءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَارِث: أَنا أعلم، هُوَ ذَا تحْتَاج إِلَى اللَّحْم.(3/167)
وَحكى دعبلٌ قَالَ: بَلغنِي أَن أَبَا الْحَارِث قد فلج، فاغتممت لظرفه وملاحته، فصرت إِلَيْهِ فَوَجَدته فِي عَافِيَة؛ فحمدت الله وَسَأَلته عَن خَبره؟ فَقَالَ: دخلت الْحمام وأكلت السّمك، ودعوت المزين فَأخذ شعرى، فَظن الفالج لما رأى المزين عِنْدِي أَنِّي احتجمت؛ فَلَمَّا علم أَنه أَخذ من شعري تركني وَانْصَرف. وَنظر يَوْمًا إِلَى برذون يستقى عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَمَا الْمَرْء إِلَّا حَيْثُ يَجْعَل نَفسه لَو أَن هَذَا هملج مَا كَانَ هَذَا. وَأكل يَوْمًا مَعَ الرؤساء بيضًا مسلوقاً، فَجعل يَأْكُل الصُّفْرَة، وينحى الْبيَاض إِلَى بَين يَدي أبي الْحَارِث عَبَثا بِهِ؛ فَقَالَ لما طَال ذَلِك عَلَيْهِ - وتنفس الصعداء -: سقى الله روح العجة فَمَا أعدلها. وَدخل إِلَى بعض أصدقائه يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ: مَا تشْتَهي؟ قَالَ: أما الْيَوْم فماء حصرم، وَأما غَدا فهريسة. قَالَ بَعضهم: دخلت على جمين أعوده من مرضٍ بِهِ، فَقلت لَهُ: مَا تشْتَهي؟ فَقَالَ: أعين الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحساد. مر رجلٌ بِهِ فَسلم عَلَيْهِ بِسَوْطِهِ، فَلم يرد عَلَيْهِ؛ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؛ فَقَالَ: سلم عَليّ بِالْإِيمَاءِ، فَرددت عَلَيْهِ بالضمير. وَسَأَلَهُ يحيى بن خَالِد عَن مائدة ابْنه؛ فَقَالَ: أما مائدته فَمن نصف كسرة، وَأما صحافه فمنقورةٌ من قشور حب الخشخاش، وَمَا بَين الرَّغِيف والرغيف مد الْبَصَر، وَمَا بَين اللَّوْن واللون فَتْرَة مَا بَين نَبِي وَنَبِي. قَالَ: فَمن يحضرها: قَالَ: خلقٌ كثيرٌ من الْكِرَام الْكَاتِبين. قَالَ: فيأكل مَعَه أحد؟ قَالَ: نعم، الذبان. قَالَ: سوءة لَهُ هَذَا، فشوبك مخرق وَأَنت بفنائه يطور، فَلَو رقعت قَمِيصك. قَالَ: مَا(3/168)
أقدر على إبرة، قَالَ: هُوَ يعطيك، قَالَ: وَالله لَو ملك بَيْتا من بَغْدَاد إِلَى النّوبَة مملوءاً إبراً فِي كل إبرةٍ خيطٌ، ثمَّ جَاءَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل ومعهما يَعْقُوب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يسألونه إبرة يخيط بهَا يُوسُف قَمِيصه الَّذِي قد من دبرٍ مَا أَعْطَاهُم. وَجَاء إِلَيْهِ رجل يسْأَله شَيْئا، وَقَالَ: قد قطع عَليّ الطَّرِيق. قَالَ: فعلي إِذا قطع الطَّرِيق. ولقيه رجلٌ - وَقد تعلق بِهِ غُلَام - فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَارِث؛ من هَذَا؟ قَالَ: هَذَا غُلَام الْفضل بن يحيى، كنت عِنْد مولى هَذَا أمس، فَقدم إِلَيْنَا مائدةً عَلَيْهَا رغيفان عملا من نصف خشخاشة سوى مَا ذهب عِنْد النحت، وثريدة فِي سكرجةٍ، وخبيصة فِي مسعط، فتنفست الصعداء فَدخل الخوان وَمَا عَلَيْهِ فِي أنفي، فمولاه يطالبني بِالْقيمَةِ. قَالَ الرجل: اسْتغْفر الله مِمَّا تَقول، فَأَوْمأ إِلَى غلامٍ مَعَه وَقَالَ: غلامي هَذَا حرٌ إِن لم يكن لَو أَن عصفوراً وَقع على بعض قشور ذَلِك الخشخاش الَّذِي عمل مِنْهُ ذَلِك، لما رَضِي مولى هَذَا حَتَّى يُؤْتى بذلك العصفور مشوياً بَين رغيفين، والرغيفان من عِنْد العصفور. ثمَّ قَالَ: وَعلي الْمَشْي إِلَى بَيت الله الْحَرَام، إِذا عطشت بالقرعاء رجعت إِلَى دجلت العوراء حَتَّى أشْرب مِنْهَا مَاء، لَو أَن مولى هَذَا كلف فِي يَوْم قائظٍ شَدِيد الْحر أَن يصعد على سلم من زبد، حَتَّى يلتقط كواكب بَنَات نعشٍ كوكباً كوكباً؛ لَكَانَ ذَلِك أسهل عَلَيْهِ من أَن يشم شام تِلْكَ الثريدة، أَو يَذُوق ذائقٌ تِلْكَ الخبيصة. فَقَالَ الرجل: عَلَيْك لعنة الله، وَعلي إِن سَمِعت مِنْك شَيْئا بعد هَذَا. وَقيل لَهُ وَهُوَ على نَبِيذ: كل من هَذَا الطين السيراني فَإِنَّهُ نظيف؛ فَقَالَ: وَمَتى بلغك أَن فِي بَطْني وكفاً. وَقيل لَهُ: مَا تغديت عِنْد فلَان؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي مَرَرْت بِبَابِهِ وَهُوَ يتغدى. قيل: وَكَيف علمت ذَلِك؟ قَالَ: رَأَيْت غلمانه بِبَابِهِ، بِأَيْدِيهِم قسي البنادق يرْمونَ الطير فِي الْهَوَاء. وَقَالَ لَهُ الرشيد: لم لَا تدخل إِلَى مُحَمَّد بن يحيى؟ فَقَالَ: أَدخل وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأما أكسى من الْكَعْبَة، وَأخرج وَأَنا أعرى من الْحجر الْأسود.(3/169)
قيل لأبي الْحَارِث: مَا تَقول فِي جواذب بطٍ فِي يَوْم صَائِف؟ . قَالَ: نعم، فِي يَوْم من أَيَّام تموز فِي حمام حَار بمنى. قيل لجمين - وَقد رأى سَوْدَاء قبيحة -: ابتلاك الله بحبها قَالَ: يَا بغيض لَو ابتلاني بحبها كَانَت عِنْدِي من الْحور الْعين، وَلَكِن ابتلاك الله بِأَن تكون فِي بَيْتك وَأَنت تبغضها. وَقَالَ لَهُ الرشيد: اللوزينج أم الفالوذج؟ قَالَ: أحضرهما يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فأحضرا، فَجعل يَأْكُل من هَذَا وَهَذَا، ثمَّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، كلما أردْت أَن أشهد لأَحَدهمَا غمزني الآخر بحاجبه. قَالَ بَصرِي لجمين: يأتينا الْمَدّ والجزر فِي كل يَوْم مرَّتَيْنِ. قَالَ: يسْتَأْذن الله فِي هلاككم مرَّتَيْنِ، وَكَأن قد. وَرَأَوا عَلَيْهِ جُبَّة قد تخرقت، فَقيل لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: غنت بقول الشَّاعِر: لقا فُؤَادِي، لقد بلَى جزعاً ... قطعه الْبَين والهوى قطعا ثمَّ قيل لَهُ بعد ذَلِك: كَيفَ تغني جبتك؟ فَقَالَ: قد كَانَت تغنى، وَقد صَارَت تلطم فِي مأتم. ودعته امرأةٌ كَانَ يُحِبهَا، فَجعلت تحادثه وَلَا تذكر الطَّعَام، فَلَمَّا طَال ذَلِك بِهِ قَالَ: جعلني الله فداءك، لَا أسمع للغداء ذكرا. قَالَت لَهُ: أما تَسْتَحي أما فِي وَجْهي مَا يشغلك عَن هَذَا؟ قَالَ: جعلني الله فداءك، لَو أَن جميلاً وبثينة قعدا سَاعَة لَا يأكلان شَيْئا لبزق كل مِنْهُمَا فِي وَجه صَاحبه.(3/170)
الْبَاب التَّاسِع نَوَادِر الجماز
قَالَ الجماز لأبي شراعة: كَيفَ تجدك؟ قَالَ: أجدني وقيذاً من دماميل قد ظَهرت فِي أقبح الْمَوَاضِع. قَالَ: مَا أرى فِي وَجهك مِنْهَا شَيْئا. قَالَ بعض إخْوَان الجماز - وَقد دخل إِلَيْهِ وَهُوَ يطْبخ قدرا -: لَا إِلَه إِلَّا الله مَا أعجب الرزق فَقَالَ الجماز: أعجب مِنْهُ الحرمان. امْرَأَته طَالِق إِن ذقتها. وَقَالَ لَهُ السهري: ولد لي البارحة ابنٌ كَأَنَّهُ الدِّينَار المنقوش. فَقَالَ الجماز: لَا عَن أمه. صلى رجلٌ صَلَاة خَفِيفَة؛ فَقَالَ لَهُ الجماز: لَو رآك العجاج لسر بك. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَن صَلَاتك رجز. وتغدى عِنْد إِنْسَان هاشمي وَمر الْغُلَام بصحفةٍ؛ فقطر مِنْهَا شيءٌ على ثوب الجماز، فَقَالَ الْهَاشِمِي: يَا غُلَام؛ اغسل ثَوْبه. فَقَالَ الجماز: دَعه، فمرقتكم لَا تدسم الثَّوْب. وَسمع مَحْبُوسًا يَقُول: اللَّهُمَّ احفظني؛ فَقَالَ: قل اللَّهُمَّ ضيعني حَتَّى تَنْفَلِت. وَقَالَت لَهُ امْرَأَته فِي يَوْم غائمٍ: مَا يطيب فِي هَذَا الْيَوْم؟ فَقَالَ: الطَّلَاق. أَدخل يَوْمًا غلاقاً إِلَى منزله، فَلَمَّا دخل ادّعى أَنه هُوَ فعل بالجماز، فَبَلغهُ ذَلِك؛ فَقَالَ: قد حرم اللواط إِلَّا بولِي وشاهدين.(3/171)
وَدخل مَعَ صاحبٍ لَهُ إِلَى قثمٍ بن جَعْفَر؛ فتغديا عِنْده وتحدثا، وَأَرَادَ قثم أَن يقيل، فَدَعَا غُلَاما رومياً وضيئاً فَقَالَ: قف هَاهُنَا، فَقَالَ الجماز لصَاحبه: قُم بِنَا نعرج. قَالَ: إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى السَّمَاء، فقد نزلت مَلَائِكَة اللَّيْل. رأى رجلٌ من ولد عبيد الله بن زِيَاد كَأَن النَّبِي وعلياً وَفَاطِمَة - عَلَيْهِم السَّلَام - فِي دَاره، فصَام وَتصدق تبركاً برؤياه، وقصها والجماز حَاضر؛ فَقَالَ: أَتَدْرِي لم جاءوك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: جاءوك ليشكروك على فعل أَبِيك بابنهم، فانخذل الرجل وود أَنه لم يذكر من ذَلِك شَيْئا. وَذكر يَوْمًا رجلا قَامَ من عِنْده؛ فَقَالَ: كَأَن قِيَامه من عندنَا سُقُوط جمرةٍ من الشتَاء. وَقيل لَهُ: مَا بقى من شهوتك للنِّسَاء؟ فَقَالَ: القيادة عَلَيْهِنَّ. قَالَ الجماز: رَأَيْت عجوزاً تسْأَل وَتقول: من تصدق علينا بكسرةٍ أطْعمهُ الله من طَيّبَات بَاب الطاق. وَقَالَ: قلت لرجلٍ: قد زَاد سعر الدَّقِيق؛ فَقَالَ: أَنا لَا أُبَالِي لِأَنِّي أَشْتَرِي الْخبز. قَالَ: قلت لرجلٍ رمد الْعين: بِأَيّ شيءٍ تداوي عَيْنَيْك؟ فَقَالَ: بِالْقُرْآنِ وَدُعَاء الوالدة. قلت: اجْعَل مَعَهُمَا شَيْئا يُقَال لَهُ: العنزروت. قَالَ: رَأَيْت بِالْكُوفَةِ رجلا وقف على بقال فَأخْرج إِلَيْهِ رغيفاً صَحِيحا؛ فَقَالَ: أَعْطِنِي كسراً، وبصرفه جزرا. وَقَالَ: حرم النَّبِيذ على ثَلَاثَة عشر نفسا: على من غنى الْخَطَأ، واتكأ على الْيُمْنَى، وَأكْثر أكل النَّقْل، وَكسر الزّجاج، وسرق الريحان، وبل مَا بَين يَدَيْهِ، وَطلب الْعشَاء، وَقطع البم، وَحبس أول قدح، وَأكْثر الحَدِيث، وامتخط فِي منديل الشَّرَاب، وَبَات فِي مَوضِع لَا يحْتَمل الْمبيت. طَالب الجماز امْرَأَته بِالْجِمَاعِ، فَقَالَت: أَنا حَائِض، وتحركت فضرطت؛ فَقَالَ لَهَا: قد حرمتنا خير حرك، فاكفينا شَرّ استك.(3/172)
قَالَ ابْن عمار: تَذَاكرنَا ضيق الْمنَازل، فَقَالَ الجماز: كُنَّا على نبيذٍ لنا، فَكَانَ أَحَدنَا إِذا دخل الكنيف، وَجَاء الْقدح، مديده إِلَى الساقي فَنَاوَلَهُ إِيَّاه. . قَالَ الجماز: مَرَرْت بنجادٍ - فِي قنطرة البردان طَوِيل اللِّحْيَة - وَامْرَأَته تطالبه بِشَيْء لَهَا عِنْده وَهُوَ يَقُول: رَحِمك الله. متاعك جافٌ وَيحْتَاج إِلَى حشوٍ كثير، وَأَنت من العجلة تمشين على أَربع. أمْلى خَالِد بن الْحَارِث أَحَادِيث حميد عَن أنس، فَكَانَت نسخته فِيهَا سقط. وَكَانَ الجماز يستملي عَلَيْهِ، فَقَالَ خَالِد: حَدثنَا حميدٌ عَن أنس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم. هَكَذَا فِي نُسْخَتي، وَهُوَ رَسُول الله إِن شَاءَ الله. فَقَالَ الجماز: حَدثكُمْ حميد بن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَشك أَبُو عُثْمَان فِي الله، فَقَالَ خَالِد: كذبت يَا عَدو الله، مَا شَككت فِي الله، وتضاحك أهل الْمجْلس، وأصلحت النُّسْخَة. وَكَانَ يَأْكُل عِنْد سعيد بن سلم على مائدةٍ دون مائدته، فَإِذا رفع من مائدة سعيدٍ شَيْء وضع على الْمَائِدَة الَّتِي عَلَيْهَا الجماز؛ فَالْتَفت الجماز؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرو، وَهَذِه عصبةٌ لتِلْك، كَمَا يُقَال: وَمَا بقى فللعصبة. وَقَالَ لَهُ المتَوَكل: أَي شَيْء أهديت لي يَوْم الْعِيد؟ قَالَ: حَلقَة رَأْسِي. وَأدْخل يَوْمًا غُلَاما، فَلَمَّا بطحه فسا فسوةً مُنكرَة، فَقَالَ الجماز: وَيلك هوذا، تذري من قبل أَن ندرس. وَدخل عَلَيْهِ ثقيلٌ يعودهُ من مَرضه؛ فَلَمَّا نَهَضَ قَالَ للجماز: تَأمر بشيءٍ. قَالَ: نعم بترك العودة. وَقَالَ لرجل: مَا أخرك عَنَّا؟ ؛ فَقَالَ: أصابتني خلفة؛ فَقَالَ الجماز: مَا أبين الخلفة فِي وَجهك. شهى جَعْفَر بن سُلَيْمَان أَصْحَابه؛ فتشهى كل إِنْسَان مِنْهُم جِنْسا من الطَّعَام؛ فَقَالَ للجماز: فَأَنت مَا تشْتَهي؟ قَالَ: أَن يَصح مَا اشتهوا. وَسَأَلَ يَوْمًا غُلَاما، وَأدْخلهُ مَسْجِدا؛ فَلَمَّا فرغ مِنْهُ أقبل الْمُؤَذّن، فَقَامَ الجماز، وخرى فِي الْمِحْرَاب؛ فَقَالَ الْمُؤَذّن: يَا عَدو الله، أعلم على أَنَّك(3/173)
فجرت بالغلام فِي الْمَسْجِد؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَك بَيت. مَا حجتك فِي أَن قذرت بالمحراب؟ قَالَ: علمت أَنه يشْهد عَليّ يَوْم الْقِيَامَة، فَأَحْبَبْت أَن أجعله خصمي لِئَلَّا تقبل شَهَادَته عَليّ. وَدفع إِلَى الْقصار قَمِيصًا ليغسله، فضيقه، ورد عَلَيْهِ قَمِيصًا صَغِيرا؛ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا قَمِيصِي، قَالَ: بلَى هُوَ قَمِيصك وَلكنه توزى وَفِي كل غسلةٍ يَتَقَلَّص وَيقصر؛ فَقَالَ الجماز: فَأحب أَن تعرفنِي فِي كم غسلةٍ يصير الْقَمِيص زراً؟ . وَقيل لَهُ: لم تقصر شعرك؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَلِيل مَا أجئ بِهِ كثيرا فِي جنب مَا يعطونني. وَحضر دَعْوَة بعض النَّاس فَجعل رب الْبَيْت يدْخل وَيخرج وَيَقُول: عندنَا سكباجةٌ تطير طيراناً، عندنَا قليةٌ تطير فِي السَّمَاء، فَلَمَّا طَال ذَلِك على الجماز وجاع قَالَ: يَا سَيِّدي، أحب أَن تخرج لي رغيفاً مقصوص الْجنَاح إِلَى أَن تقع ألوانك الطيارات. وَنظر إِلَى غُلَام؛ فَقَالَ: هَذَا كَانَ من المطففين. قيل: وَكَيف ذَاك؟ . قَالَ: كَانَ إِذا ناكه الْوَاحِد، وَكَانَ وَقت الْفَرَاغ، فرج بَين فَخذيهِ. وَوجد مَعَ غُلَام فِي مَوضِع خالٍ، وَقد حلا سراويلهما، فَقيل لَهُ: مَا تصنع؟ ، قَالَ: نتخاير بالتكك. قَالَ الجماز: اجتزت ببابٍ وَصَاحب الدَّار يُقَاتل امْرَأَته وَيَقُول: لأحملن عَلَيْك الْيَوْم مائَة رجل، فَجَلَسَ شيخ كَانَ خَلْفي على الْبَاب ينْتَظر؛ فَلَمَّا طَال دق الْبَاب وَقَالَ: تُرِيدُ أَن تحمل على هَذِه القحبة أَو انْصَرف. رأى رجلٌ الْهلَال فَاسْتَحْسَنَهُ؛ فَقَالَ لَهُ الجماز: وَمَا تستحسن مِنْهُ؟ فو الله إِن فِيهِ لخصالاً لَو كَانَت إِحْدَاهُنَّ فِي الْحمار لرد بهَا؛ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِنَّه يدْخل الروازن، وَيمْنَع من الدبيب، وَيدل على اللُّصُوص، ويسخن من المَاء، ويخرق الْكَتَّان، وَيُورث الزُّكَام، وَيحل الدّين، ويزهم اللَّحْم.(3/174)
كَانَ المتَوَكل يحدث عَن الجماز؛ فَكتب فِي حمله، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ لم يَقع الْموقع الَّذِي ظَنّه؛ فَقَالَ المتَوَكل: تكلم فَإِنِّي أُرِيد أَن أستبرئك. فَقَالَ الجماز: بحيضةٍ أَو بحيضتين؛ فَضَحكت الْجَمَاعَة. وَقَالَ لَهُ الْفَتْح: قد كلت أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيك حَتَّى ولاك جَزِيرَة القرود، فَقَالَ لَهُ الجماز: أفلست فِي السّمع وَالطَّاعَة أصلحك الله؟ ، فحصر الْفَتْح وَسكت. فَقَالَ لَهُ بعض من حضر: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يُرِيد أَن يهب لَك جَارِيَة. فَقَالَ: لَيْسَ مثلي من غرم نَفسه، وَلَا كذب عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ. إِن أرادتني أَن أَقُود عَلَيْهَا، وَإِلَّا فمالها عِنْدِي شَيْء؛ فَأمر لَهُ المتَوَكل بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وَأَخذهَا وَانْحَدَرَ؛ فَمَاتَ فَرحا. وَقَالَ لَهُ بعض ولد المتَوَكل فِي هَذَا الْمجْلس: يَا شيخ، أَلا تَسْتَحي مِمَّا تَقول؟ . قَالَ: لَا. قَالَ وَلم؟ . قَالَ: حَتَّى أرى من يستحيا مِنْهُ. رئي الجماز ين. . ك غُلَاما خلف الدَّرْب من قيامٍ؛ فَقيل لَهُ: إيش تعْمل؟ . قَالَ: هُوَ ذَا أبْصر أَنا أطول أم هُوَ.(3/175)
الْبَاب الْعَاشِر نَوَادِر المجانين
قَالَ مجنونٌ - ولقى النَّاس منصرفين من الْجُمُعَة -: أَيهَا النَّاس: " إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا ". فَقَالَ لَهُ مجنونٌ آخر: " وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه ". وَكَانَ بهْلُول من مجانين الْكُوفَة، وَكَانَ يتشيع؛ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق ابْن الصَّباح: أَكثر الله فِي الشِّيعَة مثلك. قَالَ: بل أَكثر الله فِي المرجئة مثلي، وَأكْثر فِي الشِّيعَة مثلك. وَمر مُوسَى بن أبي الروقاء، فناداه صباحٌ الموسوس: يَا بن أبي الروقاء أسمنت برذونك، وهزلت دينك، أما وَالله إِن أمامك لعقبةً لَا يجوزها إِلَّا المخف فحبس مُوسَى برذونه؛ فَقيل لَهُ: هَذَا صباحٌ الموسوس. قَالَ: مَا هُوَ بموسوس؟ . قَالَ ثُمَامَة: قَالَ لي مَجْنُون مرّة: يَا ثُمَامَة، تزْعم أَنْت أَن الِاسْتِطَاعَة إِلَيْك؟ قلت: نعم. قَالَ: فَإِن كنت صَادِقا فاخر وَلَا تبل. وقف رجلٌ على بهْلُول؛ فَقَالَ لَهُ: تعرفنِي؟ ؛ فَقَالَ بهْلُول: إِي وَالله، وأنسبك نِسْبَة الكمأة، لَا أصلٌ ثابتٌ، وَلَا فرعٌ نابت. ودعا الرشيد بهلولاً ليضحك مِنْهُ؛ فَلَمَّا دخل دَعَا لَهُ بمائدةٍ فَقدم عَلَيْهَا خبزٌ وَحده، فولى بهلولٌ هَارِبا؛ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْن؟ . قَالَ: أجيئكم يَوْم الْأَضْحَى، فَعَسَى أَن يكون عنْدكُمْ لحمٌ.(3/176)
أخرج بِلَال بن أبي بردة من حَبسه مَجْنُونا يمازحه، فَقَالَ لَهُ: أَتَدْرِي لم أخرجتك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لأسخر مِنْك. قَالَ: إِن الْمُسلمين حكمُوا حكمين فَسخرَ أَحدهمَا على بِالْآخرِ. قَالَ الْمبرد: دخلت يَوْمًا دير هزقل، فَرَأَيْت فِي صحن الدَّار مَجْنُونا، فدلعت لساني فِي وَجهه، فَنظر إِلَى السَّمَاء، وَقَالَ: الْحَمد وَالشُّكْر من حلوا وَمن ربطوا. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت بحمصٍ مَجْنُونا يَقُول: يَا قوم، من يتَعَلَّم: لَا أَدْرِي؟ يَا هَذَا، تعلم: لَا أَدْرِي؛ فَإنَّك إِذا قلت: لَا أَدْرِي علموك حَتَّى تَدْرِي وَإِذا قلت: أَدْرِي سألوك حَتَّى لَا تَدْرِي. رمى بهلولٌ رجلا فَشَجَّهُ؛ فَقدم إِلَى الْوَالِي، فَقَالَ لَهُ: لم رميت هَذَا؟ . قَالَ: مَا رميته وَلكنه دخل تَحت رميتي. وَقَالَ بهلولٌ يَوْمًا: أَنا وَالله أشتهي من فالوذج وَمن سرقين، فَقَالُوا: وَالله لنبصرته كَيفَ يَأْكُل، فاشتروا لَهُ الفالوذج، وأحضروا السرقين؛ فَأقبل على الفالوذج واكتسحه، وَترك السرقين، فَقَالُوا لَهُ: لم تركت هَذَا؟ . قَالَ: أَقُول لكم، أما - وَالله - يَقع لي أَنه مسمومٌ، من شَاءَ مِنْكُم يَأْكُل ربع رطلٍ حَتَّى آكل أَنا الْبَاقِي. وَجَاء مجنونٌ فَوقف عِنْد شَجَرَة ملساء، فَقَالَ: من يعطيني نصف دِرْهَم حَتَّى أصعد؟ فَعجب النَّاس وَأَعْطوهُ، فأحرزه، ثمَّ قَالَ: هاتوا سلما. قَالُوا: مَا كَانَ السّلم فِي الشَّرْط. قَالَ: وَكَانَ بِلَا سلم فِي الشَّرْط؟ . ووقف بهْلُول على رجل، وَقَالَ: خبرني عَن قَول الشَّاعِر: وَإِذا نبا بك منزلٌ فتحول(3/177)
كَيفَ هُوَ عنْدك؟ . قَالَ: جيدٌ. قَالَ: فَإِن كنت فِي الْحَبْس فَكيف تتحول؟ . قَالَ: فَانْقَطع الرجل، فَقَالَ بهْلُول: الصَّوَاب قَول غَيره: إِذا كنت فِي دارٍ يسوءك أَهلهَا ... وَلم تَكُ مكبولا بهَا فتحول أُصِيب إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن الصَّباح الْكِنْدِيّ بابنٍ لَهُ، فجزع؛ فَدخل أهل الْكُوفَة يعزونه، وَدخل فيهم بهْلُول؛ فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَنه بقى وَأَنه مثلي؟ . قَالَ: لَا وَالله، وَإِنَّهَا لتعزية. قَالَ بَعضهم: جَاءَنَا جعيفران فِي سوق أَصْحَاب اللُّؤْلُؤ، فوهب لَهُ إنسانٌ حَبَّة من الْحبّ الصغار؛ فَقَالَ لَهُ رجل: أتبيعها بطسوج؟ ، فَقَالَ: إِن كَانَ بطسوج بادرونا فَنعم. هرب مَجْنُون من الصّبيان، وَدخل دهليزا، وأغلق الْبَاب فِي وُجُوههم وَجلسَ؛ فَخرج إِلَيْهِ صَاحب الدَّار، فَقَالَ: لم دخلت دَاري؟ . قَالَ: من أَيدي هَؤُلَاءِ أَوْلَاد الزِّنَى. فَدخل صَاحب الدَّار، وَأخرج طبقًا عَلَيْهِ رطب كثير، فَجَلَسَ الْمَجْنُون يَأْكُل، وَالصبيان يصيحون على الْبَاب؛ فَأخْرج الْمَجْنُون رَأسه إِلَى صَاحب الدَّار، فَقَالَ: بابٌ بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب. قيل لمَجْنُون كَانَ بِالْبَصْرَةِ: عدلنا مجانين الْبَصْرَة. قَالَ: كلفتموني شططا، أَنا على عد عقلائهم أقدر. كَانَ بِبَغْدَاد مجنونٌ يلبس فَرْوَة مَقْلُوبَة، فَإِذا قيل لَهُ فِي ذَلِك قَالَ: لَو علم الله أَن الصُّوف إِلَى داخلٍ أَجود عمل الصُّوف إِلَى دَاخل. قَالَ الْفَزارِيّ: رَأَيْت مَجْنُونا يسوى رَأس سَكرَان، وَيَقُول لَهُ: يؤيؤ، وَالله لَا أفلحت أبدا. قيل لمَجْنُون: أَيْن المولد؟ . قَالَ: المولد الْبَصْرَة، والمنشأدير هزقل. شدّ مجنونٌ على رجل بِالْبَصْرَةِ، فَأَخذه الرجل فَضَربهُ. فَقَالَ النَّاس: إِنَّه مَجْنُون، وَجعل الْمَجْنُون من تَحْتَهُ: وَيحكم أفهموه.(3/178)
قيل لمَجْنُون: أَيَسُرُّك أَن تصلب فِي صَلَاح هَذِه الْأمة؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِن يسرني أَن تصلب الْأمة فِي صلاحي. قَالَ دَاوُد الْمُصَاب لصديق لَهُ: رَأَيْت البارحة رُؤْيا نصفهَا حق، وَنِصْفهَا بَاطِل، رَأَيْت كَأَنِّي قد حملت على عَاتِقي بدرة، فَمن ثقلهَا خريت فانتبهت فَرَأَيْت الخرا، وَلم أر البدرة. سمع مجنونٌ رجلا يَقُول: اللَّهُمَّ لَا تأخذنا على غَفلَة. فَقَالَ: إِذا لَا يأخذك أبدا. قَالَ بَعضهم: كَانَ بِالشَّام مجنونٌ يستطرف حَدِيثه، قَالَ: رَأَيْته يَوْمًا وَقد رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء وَهُوَ يَقُول: النَّاس كَذَا يعْملُونَ، وهذيانٌ كثير. قيل لَهُ: مَا تَقول؟ وَيحك. قَالَ: أعاتب رَبِّي. قيل: فَكَذَا يُخَاطب الله. قَالَ: قلت لَهُ: بدل مَا خلقت مائَة وجوعتهم لَو كنت تخلق عشرَة وتشبعهم لَكَانَ خيرا. جَاءَ مجنونٌ إِلَى يزِيد بن هَارُون، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا خَالِد؛ أَلَيْسَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمةٌ من الْأُمَم لأمرت بقتلها، وَلَكِن اقْتُلُوا مِنْهَا كل أسود بهيم ". قَالَ يزِيد: نعم. فَقَالَ الْمَجْنُون: أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى: " وَإِن من أمةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نذيرٌ ". فَمن نَذِير الْكلاب؟ قَالَ: فتحير يزِيد فِي جَوَابه. فَقَالَ لَهُ الْمَجْنُون: تحب يَا أَبَا خَالِد أَن أعرفك نَذِير الْكلاب؟ قَالَ: نعم، فَأخذ حجرا فَرمى بِهِ كَلْبا بِالْقربِ مِنْهُ؛ فَعدا الْكَلْب يعوي وينبح؛ فَقَالَ: يَا أَبَا خَالِد؛ الْحجر نَذِير الْكلاب. سَأَلَ بعض الْوُلَاة عَن أبي نصر الْهَرَوِيّ ليعبر لَهُ رُؤْيا رَآهَا، فَقيل لَهُ: هُوَ بمرو يأوي الصَّحرَاء؛ فَبعث إِلَيْهِ، فَأتي بِهِ؛ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت كَأَن فِي كمي عصافير؛ فَجعلت تفلت وَاحِدَة وَاحِدَة، وَتَطير؛ فَلَمَّا كَانَ آخر عصفورةٍ كَادَت تفلت، فحبستها. قَالَ الْمَجْنُون: أكلت عدسية، فَبت تضرط ليلتك؛ فَلَمَّا كَانَ آخرهَا أردْت أَن تسلح فحبسته. فَقَالَ الْوَالِي: اسْكُتْ قبحك الله. قَالَ: هُوَ وَالله مَا قلت. فَلَمَّا خرج قَالَ الرجل: وَالله مَا أَخطَأ شَيْئا.(3/179)
رثي بهْلُول مغموماً يبكي؛ فَقيل: مَا يبكيك؟ . قَالَ: كَيفَ لَا أبْكِي؟ وَقد جَاءَ الشتَاء وَلَيْسَ لي جُبَّة. فَقيل: لَا تبك؛ فَإِن الله لَا يدعك بِلَا جُبَّة. قَالَ: بلَى وَالله. عَام أولٍ تركني بِلَا جُبَّة وَلَا سَرَاوِيل، وأخاف أَن يدعني الْعَام بِلَا جُبَّة وَلَا سَرَاوِيل وَلَا قلنسوة. قَالَ بَعضهم: مَرَرْت يَوْمًا ببهلول، وَهُوَ يَأْكُل فرنية حوارِي مَعَ دجَاجَة، فَقلت لَهُ: يَا بهْلُول؛ أَطْعمنِي مِمَّا تَأْكُل، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لي - وحياتك - هَذَا دَفعته إِلَيّ أم جعفرٍ آكله لَهَا. نظر رجلٌ إِلَى جماعةٍ من المجان حول مَجْنُون، فَقَالَ لَهُ: ادخل إِلَى بعض الْمَوَاضِع حَتَّى يتفرقوا عَنْك. قَالَ: إِذا جَاعُوا انصرفوا. قيل لبهلول: تَأْخُذ درهما وتشتم فَاطِمَة؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِن هاتوا نصف درهمٍ حَتَّى أشتم عَائِشَة، وَأَزِيدكُمْ أَبَاهَا. كَانَ الجهجاه مَجْنُونا، وَكَانَ يَدعِي الْخلَافَة، فَأدْخل على الرشيد، وَعِنْده أَبُو يُوسُف القَاضِي، فَقَالَ: جَعْفَر بن يحيى كالهازئ بِهِ: هَذَا أَمِير الضراطين. يزْعم أَنه أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: لَو كنت كَذَلِك أوسع إمرةً من صَاحبك؛ لِأَن الضراط عامٌ، وَالْإِيمَان خاصٌ. قَالَ لَهُ الرشيد: لأضربنك بالسياط حَتَّى تقر بالزندقة. قَالَ: فَإِذا أَقرَرت ترى قَتْلِي؟ . قَالَ: نعم، قَالَ: فَالْتَفت إِلَى أبي يُوسُف، وَقَالَ: يَا يَعْقُوب؛ لَيْسَ لصاحبنا فقهٌ. قيل لبهلول: أيكفي اثْنَيْنِ رأسٌ وَاحِد؟ . قَالَ: إِذا كَانَ أَحدهمَا نَائِما. وَحضر مَجْلِسا فِيهِ قوم يتذاكرون الحَدِيث، فرووا عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: لَو أدْركْت لَيْلَة الْقدر مَا سَأَلت رَبِّي إِلَّا الْعَفو الْعَافِيَة. فَقَالَ بهْلُول: وَالظفر بعليٍّ يَوْم الْجمل. وَحكى أَن صَاحب المارستان أَتَاهُ بقدح فِيهِ دَوَاء، وَقَالَ لَهُ: اشرب يَا بن الزَّانِيَة؛ فَقَالَ: هَات حَتَّى أشربه وَالله أعلم أَنَّك أَحَق بِهِ مني. وَلما حمل إِلَى المارستان سَأَلَ النَّاس أَن يأذنوا لَهُ فِي أَن يلم ببيته، ويوصي أَهله بشيءٍ، فمنعوه، فَقَرَأَ: " فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصيةً وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ ".(3/180)
وَقيل لَهُ: مَا تشْتَهي من الْفَاكِهَة الرّطبَة؟ . قَالَ: لحمٌ. قيل: فَمن الْيَابِسَة؟ قَالَ: قديدٌ، قيل: فَمن الشَّرَاب؟ . قَالَ: مرقة. قيل: فَمن السماع؟ . قَالَ: نشيش المقالي. قَالَ قوم لمَجْنُون بِالْبَصْرَةِ أديب: عظنا، وهم يهزءون بِهِ؛ فَقَالَ: هَذِه قصورهم، وَهَذِه قُبُورهم. فأبكاهم. قَالَ أَبُو العيناء: حضرت أَبَا دينارٍ وَأَبا لُقْمَان الممرورين يتناظران عِنْد ابْن أبي دواد؛ فَقَالَ أَبُو لُقْمَان لأبي دِينَار: من أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ ، قَالَ ابْن دواد: أَبُو بكر الصّديق. فَقَالَ أَبُو لُقْمَان: أم الْكَاذِب زَانِيَة. قَالَ ابْن أبي دواد: هَذَا كَلَام قد انْتهى إِلَى آخِره. كَانَ بهلولٌ يجمع مَا يُوهب عِنْد مولاة لَهُ من كِنْدَة، وَكَانَت لَهُ كالأم، وَرُبمَا أُخْفِي عَنْهَا شَيْئا وَدَفنه، فجَاء يَوْمًا بِعشْرَة دَرَاهِم كَانَت مَعَه إِلَى خربة فدفنها فِيهَا، ولمحه رجلٌ، فَلَمَّا خرج بهلولٌ ذهب الرجل فَأخذ الدَّرَاهِم، وَعَاد بهْلُول فَلم يجدهَا. وَقد كَانَ رأى الرجل يَوْم دَفنهَا فَعلم أَنه صَاحبه، فجَاء إِلَيْهِ فَقَالَ: اعْلَم يَا أخي أَن لي دَرَاهِم مدفونة فِي مَوَاضِع كثيرةٍ مُتَفَرِّقَة، وَأُرِيد أَن أجمعها فِي موضعٍ دفنت فِيهِ هَذِه الْأَيَّام عشرَة دَرَاهِم؛ فَإِنَّهُ أحرز من كل مَوضِع، فَاحْسبْ بِاللَّه كم تبلغ جُمْلَتهَا. قَالَ: هَات. قَالَ: خُذ عشْرين درهما فِي مَوضِع كَذَا، وَخمسين فِي مَوضِع كَذَا، حَتَّى طرح عَلَيْهِ مِقْدَار ثلثمِائة دِرْهَم. ثمَّ قَامَ بَين يَدَيْهِ وَمر؛ فَقَالَ الرجل فِي نَفسه: الصَّوَاب أَن أرد الْعشْرَة إِلَى موضعهَا، حَتَّى يجمع إِلَيْهَا هَذِه الْجُمْلَة ثمَّ آخذها، فَردهَا. وَجَاء بهْلُول فَدخل الخربة، وَأخذ الْعشْرَة، وخرى مَكَانهَا، وغطاه بِالتُّرَابِ وَمر، وَكَانَ الرجل مترصداً لبهلول وَقت دُخُوله وَخُرُوجه؛ فَلَمَّا خرج مر بالعجلة، فكشف عَن الْموضع، وتلوثت يَده بالخرا، وَلم يجد شَيْئا، وفطن لحيلة بهْلُول عَلَيْهِ. ثمَّ إِن بهلولاً عَاد إِلَيْهِ بعد يَوْمَيْنِ فَقَالَ: احسب يَا سَيِّدي؛ عشْرين درهما، وَخَمْسَة عشر درهما، وَعشرَة دَرَاهِم، وشم يدك. فَوَثَبَ الرجل ليضربه، وَعدا بهْلُول. وَولى بعض بني هَاشم الْكُوفَة، فَلَمَّا صعد الْمِنْبَر قَالَ: الْحَمد لله، وَارْتجَّ عَلَيْهِ، فَجعل يُكَرر ذَلِك؛ فَقَالَ بهْلُول: الَّذِي ابتلانا بك.(3/181)
وَجَاز بهْلُول بسوق البزازين، فَرَأى قوما مستجمعين على بَاب دكان ينظرُونَ إِلَى نقبٍ قد نقب على بَعضهم، فَاطلع فِي النقب، ثمَّ قَالَ: وكلكم لَا تعلمُونَ ذَا من عمل من؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي أعلم. فَقَالَ النَّاس: هَذَا مجنونٌ يراهم بِاللَّيْلِ وَلَا يتحاشونه، فأنعموا لَهُ القَوْل لَعَلَّه يخبر بذلك. فَسَأَلُوهُ أَن يُخْبِرهُمْ. فَقَالَ: إِنِّي جَائِع، فهاتوا أَرْبَعَة أَرْطَال رقاقٍ ورأسين، فأحضروا ذَلِك وَأكل، فَلَمَّا استوفى قَالَ: هوذا أشتهي شَيْئا حلواً، فأحضروا لَهُ رطلين فالوذج فَأَكله، وَفرغ مِنْهُ وَقَامَ وَتَأمل النقب، ثمَّ قَالَ: كأنكم السَّاعَة لَسْتُم تعلمُونَ هَذَا من عمل من؟ . قَالُوا: لَا. قَالَ: هَذَا من عمل اللُّصُوص لَا شكّ. وَعدا. ولع الصّبيان بعيناوة، وصاحوا عَلَيْهِ، ورموه، فهرب مِنْهُم فاستقبلته امرأةٌ مَعهَا صبيٌ صَغِير، فَدَنَا مِنْهَا وَلَطم الطِّفْل لطمةً كَادَت تَأتي عَلَيْهِ، فَقَالَت الْمَرْأَة: قطعت يدك إيش أذْنب هَذَا إِلَيْك. قَالَ: يَا قحبة؛ هَذَا يكون غَدا شرا من هَؤُلَاءِ الكشاخنة. ركب الْهَادِي يَوْمًا، فَنظر إِلَى مَجْنُون يلقب بكسرة؛ ويرمى من يَقُول هَذَا اللقب، وَيعْمل الْعَجَائِب؛ فَأمر بِحمْلِهِ إِلَى الدَّار، فَقَالَ لَهُ: لم تَشْتُم النَّاس إِذا قَالُوا لَك: كسرة؟ . قَالَ: وَلم تضرب الْأَعْنَاق إِذا قيل لَك: مُوسَى اطبق؟ . قَالَ: أَنا لَا أغضب من هَذَا. قَالَ: فصح أَنْت بِي ثَلَاث مراتٍ، وأصيح مرَّتَيْنِ فَنَنْظُر من يحرد. قَالَ: قد رضيت. فَقَالَ الْهَادِي: يَا كسرة؛ يَا كسرة. ثَلَاث مَرَّات، وطولها، فَلم يلْتَفت الْمَجْنُون، وَلم يَتَحَرَّك وَلم يحرد، ثمَّ صَاح: يَا مُوسَى اطبق. فَلم يَتَحَرَّك الْهَادِي، فَقَالَ الْمَجْنُون: مَا يتغافل إِلَّا من أمه قحبة. فحرد الْهَادِي، ودعا بالنطع وَالسيف، فَقَالَ الْمَجْنُون: كَيفَ رَأَيْت؟ كَانَ الْمَجْنُون وَاحِدًا، صرنا اثْنَيْنِ. وَأَنا أَيْضا هَكَذَا؛ لَو قَالُوا: يَا كسرة؛ يَا رغيف. ألف سنة مَا باليت، وَلَكِن كَذَا يَقُولُونَ لي إِذا تغافلت. فَضَحِك الْهَادِي وَأمر لَهُ بجائزة. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت مجنونين قد رفعا إِلَى بعض أَصْحَاب الشَّرْط، وَقد تواثبا وتخاصما؛ فَقَالَ لأَحَدهمَا: لم فعلت هَذَا؟ . قَالَ: لِأَنَّهُ وثب عَليّ وشجني؛(3/182)
فَقَالَ: لم بَدأته بالرفس، ومددت خصيته، قَالَ: يَا ولد النَّجس من بَين الْأُمَرَاء؛ بِهَذَا اللبَاس الَّذِي عَلَيْهِ لَا تكفيه فَرد خصية؟ . ونظروا إِلَى ماني الموسوس يَأْكُل تَمرا، ويبتلع نَوَاه، فَقيل: لم لَا ترمي بالنوى؟ . قَالَ: هَكَذَا وزنوه عَليّ. قيل لبهلول: يَقع فِي الطفشيل قتٌ؟ . قَالَ: نعم إِذا كَانَ للبقل. وَكتب مَجْنُون إِلَى آخر: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وأمتع بك؛ كتبت إِلَيْك ودجلة تطفح، وسفن الْموصل تنحدر، وَمَا يزْدَاد الصّبيان إِلَّا لعنة، وَالْحجر إِلَّا قلَّة؛ فَلَا تنم إِلَّا وَعند رَأسك حجران، وَكن كَمَا قَالَ الأول: " وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قوةٍ ". وَإِيَّاك وَالْمَوْت فَإِنَّهُ طَعَام سوءٍ. وكتبت لأَرْبَع عشر يَوْمًا بقيت إِلَى عَاشُورَاء الأول سنة افتصد عجيف. كَانَ بِمَكَّة رجلٌ يرْمى بِأَنَّهُ لقيطٌ، وَلَا يعرف لَهُ أَب، وَكَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ بهَا مجنونٌ يَقْصِدهُ كثيرا فيبره وَيحسن إِلَيْهِ، فجَاء الْمَجْنُون يَوْمًا، فَرَآهُ قَاعِدا مَحْزُونا منقبضاً؛ فَقَالَ: جعلت فدَاك مَا لَك كَذَا؟ . قَالَ: لَا شَيْء. قَالَ الْمَجْنُون: بلَى، قد عرفت، ترى لَيْسَ بِمَكَّة ولد زنى غَيْرك. هم أَكثر ذَاك فَلَا تغتم. قيل لمَجْنُون: لم صَار الدِّينَار خيرا من الدِّرْهَم، وَالدِّرْهَم خيرا من الْفلس؟ . قَالَ: لِأَن الْفلس ثَلَاثَة أحرف، وَالدِّرْهَم أَرْبَعَة أحرف، وَالدِّينَار خَمْسَة أحرف.(3/183)
ولى الْعَلَاء بن عَمْرو بِلَاد سَارِيَة، وَكَانَ جائراً فَأصَاب النَّاس الْقَحْط، وَأَمْسَكت السَّمَاء قطرها؛ فَخَرجُوا يستسقون، وَصعد الْعَلَاء الْمِنْبَر؛ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْبلَاء والغلاء. فَوَثَبَ معتوهٌ كَانَ بهَا فَقَالَ: والْعَلَاء؛ فَإِنَّهُ شرٌّ من الغلاء، وَأَغْلظ من الْبلَاء. فَضَحِك النَّاس، وخجل الْعَلَاء وَانْصَرف. وَدخل دَاوُد الْمُصَاب بستاناً، فتعلقت بشوبه شوكةٌ، فَالْتَفت وَقَالَ: وَالله لَوْلَا أَنَّك بهيمةٌ لكسرت أَنْفك. قَالَ بَعضهم: مَرَرْت بعليان الْمَجْنُون، وَهُوَ جالسٌ فِي محلّة بني ضبة، فَقلت لَهُ: يَا أَبَا الْحسن؛ من أفضل عنْدك؟ أَبُو بكرٍ أم عَليّ؟ فَقَالَ: أما فِي بني ضبة فَأَبُو بكر. حج مُوسَى بن عِيسَى ببهلول مَعَه، فَأقبل مُوسَى يَدْعُو عِنْد الْبَيْت ويتضرع، وبهلول يَقُول: لَا لبيْك وَلَا سعديك. فَقَالَ لَهُ ابْنه الْعَبَّاس: وَيلك تَقول هَذَا القَوْل للأمير فِي مثل هَذَا الْموقف. قَالَ: أَقُول لَهُ مَا أعلم أَن الله يَقُول لَهُ. قيل لبهلول: عدلنا مجانين الْبَصْرَة. قَالَ: هَذَا يكثر وَيبعد جدا، وَلَكِن إِن أردتم عددت لكم عقلاءهم. سَأَلَ بَعضهم أَبَا لُقْمَان الممرور عَن الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ مَا هُوَ؟ ، فَقَالَ: الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ هُوَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. فَقَالَ لَهُ: وَلَيْسَ فِي الأَرْض لَا يتَجَزَّأ غَيره. قَالَ: بلَى، حَمْزَة جزءٌ لَا يتَجَزَّأ، وجعفرٌ جزءٌ لَا يتَجَزَّأ. قَالَ: فَمَا تَقول فِي أبي بكر وَعمر؟ . قَالَ: أَبُو بكر يتَجَزَّأ، وَعمر يتَجَزَّأ، وَعُثْمَان يتَجَزَّأ مرَّتَيْنِ، وَطَلْحَة يتَجَزَّأ مرَّتَيْنِ. قَالَ: فَمَا تَقول فِي مُعَاوِيَة؟ . قَالَ: مُعَاوِيَة جُزْء لَا يتَجَزَّأ وَلَا يتَجَزَّأ. قيل لأبي زيد الْمَجْنُون: مَا الْعِشْق؟ قَالَ: نيكٌ كُله. قيل لمَجْنُون: مَا فعلت حَتَّى ضربك الصّبيان؟ قَالَ: وَإِن امْرأ يُمْسِي وَيُصْبِح سالما ... من النَّاس إِلَّا مَا جنى لسَعِيد(3/184)
لما مَاتَ وَالِد بهْلُول خلف سِتّمائَة دِرْهَم، فحظر عَلَيْهِ القَاضِي، فَجَاءَهُ يَوْمًا، وَقَالَ: أَيهَا القَاضِي؛ ادْفَعْ إِلَيّ مائَة دِرْهَم، حَتَّى أقعد فِي الحلقات فَإِن أَحْسَنت أَن أتجربها دفعت إِلَيّ الْبَاقِي. فَدفع إِلَيْهِ ذَلِك، فَذهب وأتلفه وَعَاد إِلَى مجْلِس القَاضِي. وَقَالَ: إِنِّي قد أتلفت الْمِائَة، فتفضل بردهَا فقد أَسَأْت إِذْ دفعت إِلَيّ ذَلِك، وَلم يثبت عِنْدِي رشدي. فَقَالَ القَاضِي: صدقت، وَالْتزم الْمِائَة فِي مَاله. كَانَ مجنونٌ يُؤْذِيه الصّبيان، فَقَالَ لَهُ رجلٌ: تُرِيدُ أَن أطردهم عَنْك؟ . فَقَالَ: نعم، وتنطرد أَيْضا مَعَهم. قَالَ مجنونٌ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أجل مني، لَا أحاسب فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة. قَالَ الرشيد لبهلول: من أحب النَّاس إِلَيْك؟ فَقَالَ: من أشْبع بَطْني. فَقَالَ: أَنا أشبعك، فَهَل تحبني؟ . قَالَ: الْحبّ بِالنَّسِيئَةِ لَا يكون. كَانَ مجنونٌ يخْتَلف إِلَى المآتم، وَيَدْعُو، ورسمه أَن يعْطى دِرْهَمَيْنِ، فاتفق أَن آل الزبْرِقَان لم يمت مِنْهُم أحدٌ سِنِين كَثِيرَة، ثمَّ مَاتَ مِنْهُم وَاحِد فَحَضَرَ الْمَجْنُون، وَأعْطِي دِرْهَم وَاحِدًا. فَقَالَ: من كَثْرَة مَا تموتون حَتَّى نقصتم رسمي. وَكَانَ مجنونٌ آخر يحضر المآتم، ورسمه أَن يعْطى ثَلَاثَة أرغفة فَحَضَرَ يَوْمًا بعض الْمَوَاضِع وَأعْطِي سِتَّة أرغفة؛ فَلَمَّا أَرَادَ أَن يخرج قَالَ لأَصْحَاب التَّعْزِيَة: اذْكروا أَنه قد بقى لكم عَليّ ميتٌ آخر. قَالَ: لما ضمت الْمَدِينَة إِلَى الْحجَّاج مَعَ مَكَّة خرج إِلَيْهَا؛ فَبينا هُوَ يسير إِذْ قَالَ لأَصْحَابه: تَأَخَّرُوا حَتَّى أحدث نَفسِي؛ فتاخروا. وَمضى على حِمَاره حَتَّى انْتهى إِلَى مبقلة، فَإِذا رجلٌ جالسٌ على شَفير بئرٍ، فَوقف عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا يَقُول النَّاس فِي أَمِيرهمْ؟ . فَقَالَ: يَقُولُونَ: ظالمٌ متعدٍ ملعونٌ. قَالَ الْحجَّاج: أتعرفني؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: أَنا الْحجَّاج. قَالَ الرجل: أتعرفني أَنْت؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: أَنا مولى بني ثَوْر، أصرع فِي كل شهرٍ ثَلَاثَة أَيَّام، الْيَوْم أَولهَا وأشدها؛ فَضَحِك الْحجَّاج وَلم يَتَمَالَك، وَمضى، ولحقه النَّاس.(3/185)
قيل لبهلول: أتأكل فِي السُّوق وَأَنت تجَالس جَعْفَر بن مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ؟ . قَالَ: حَدثنِي مالكٌ عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مطل الْغَنِيّ ظلمٌ لَقِيَنِي الْجُوع، وَالْخبْز فِي كمي؛ فَكرِهت أَن أمطله. ورثى فِي مَقْبرَة؛ فَقيل لَهُ: هلا خالطت النَّاس؟ . فَقَالَ: إِنِّي بَين قوم إِن حضرت لم يؤذوني، وَإِن غبت لم يغتابوني. قيل لَهُ: فَادع الله، فَإِن النَّاس فِي ضرّ وَشدَّة من الغلاء. فَقَالَ: وَمَا عَليّ من ذَلِك، وَلَو بلغت الْحبَّة دِينَارا، وَإِنَّمَا عَليّ أَن أعبد الله كَمَا أَمرنِي، وَعَلِيهِ أَن يَرْزُقنِي كَمَا وَعَدَني. قيل لبهلولٍ: وزن أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا بالأمة فرجحا. فَقَالَ: كَانَ بالميزان غبن. وَجَاء بهلولٌ فَوقف بحذاء حَفْص بن غياث القَاضِي، فَقَالَ: هوذا، أجد الْبرد فِي قدمي ورأسي. فَأمر لَهُ بقلنسوةٍ وخفين. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي وقف بهْلُول بحذائه؛ فَقَالَ لَهُ: مَالك؟ . قَالَ: جزى الله القَاضِي عَن الْأَطْرَاف خيرا؛ فَأمر لَهُ بقميصٍ وسراويلٍ. جَاءَت امْرَأَة دندان الْمَجْنُون إِلَى القَاضِي؛ فَقَالَت: أصلحك الله، إِنَّه يجيعني ويضربني. قَالَ القَاضِي: مَا تَقول؟ . قَالَ دندان: أما الضَّرْب فَنعم، وَأما الْجُوع فَهِيَ طالقٌ ثَلَاثًا إِن لم تجئ معي إِلَى منزلي مَعَ أَصْحَابك أَيهَا القَاضِي، فَقَالَ لأَصْحَابه: قومُوا بِنَا لَا يَحْنَث. فَقَامَ القَاضِي، وَذهب مَعَه، فَلَمَّا دخل جَاءَ بِهِ إِلَى مزبلة فِيهَا رجيعٌ عَظِيم، فَقَالَ: أصلحك الله. هَذَا يخرج من بطن جائعٍ؟ . قَالَ: أخزاك الله، فَإنَّك أَحمَق. قَالَ: أَحمَق مني من أطَاع المجانين. كَانَ بهْلُول يَوْمًا جَالِسا وَالصبيان يؤذونه وَهُوَ يَقُول: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. يُعِيدهُ مرَارًا، فَلَمَّا طَال أذاهم لَهُ أَخذ عَصَاهُ وَقَالَ: حمي الْوَطِيس، وَطَابَتْ الْحَرْب، وَأَنا على بينةٍ من رَبِّي. ثمَّ حمل عَلَيْهِم وَهُوَ يَقُول: أَشد على الكتيبة لَا أُبَالِي ... أفيها كَانَ حتفي أم سواهَا(3/186)
فتساقط الصّبيان بَعضهم على بعض، وتهاربوا، فَقَالَ: هزم الْقَوْم وولوا الدبر. أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ - رَضِي الله عَنهُ - أَلا نتبع موليا، وَلَا ندفف على جريح، ثمَّ رَجَعَ وَجلسَ وَطرح عَصَاهُ، وَقَالَ: فَأَلْقَت عصاها وَاسْتقر بهَا النَّوَى ... كَمَا قر عينا بالإياب الْمُسَافِر وقفده رجلٌ كَانَت قد أَرْضَعَتْه امرأةٌ يُقَال لَهَا مجيبة، وَكَانَت رعناء، فَقَالَ بهْلُول: كَيفَ لَا تكون أرعن، وَقد أَرْضَعتك مجيبة؟ فوَاللَّه لقد كَانَت تزق لي الفرخ فَأرى الرعونة فِي طيرانه. وقف رجلٌ عَليّ بهْلُول، فَقَالَ لَهُ: قد وقفت أَنْت هَاهُنَا، والأمير يُعْطي المجانين كل وَاحِد دِرْهَمَيْنِ، فَقَالَ بهْلُول: فاعرض عَليّ درهميك. قَالَ الْفضل بن يحيى لجعيفران الْمَجْنُون: لم لَا تصير إِلَيّ؟ فَقَالَ: لأَنْت بحرٌ وَلَا أحسن أَن أسبح، فوصله بمالٍ. قيل لبهلول: مَا تَقول فِي رجل مَاتَ وَخلف أما وَزَوْجَة وبنتاً؟ فَقَالَ: للْأُم الثكل، وللابنة الْيُتْم، وللزوجة الْحَرْب، وَمَا بَقِي فللعصبة. وَقَالَ لَهُ الرشيد: أَبُو بكر وَعمر خير من عليٍّ، فَقَالَ: واحدٌ: لَا يجوز بِإِزَاءِ اثْنَيْنِ، وَلَكِن عَليّ وَالْعَبَّاس خيرٌ من أبي بكر وَعمر. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت شَيخا قد سكر وَسقط وسط الطَّرِيق، وَهُوَ ينخر، وَمَجْنُون واقفٌ على رَأسه يَقُول: يَا مخذول، تسكر وتنخر؟ . مَا تركت للصلح موضعا.(3/187)
الْبَاب الْحَادِي عشر نَوَادِر البخلاء
قَالَ بَعضهم لبخيل: لم لَا تَدعُونِي يَوْمًا؟ . قَالَ: لِأَنَّك جيد المضغ، سريع البلع، إِذا أكلت لقْمَة هيأت أُخْرَى. قَالَ: فتريد مني إِذا أكلت لقْمَة أَن أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أَعُود إِلَى الثَّانِيَة؟ . دخل واحدٌ إِلَى بَعضهم وَهُوَ يَأْكُل، وَمَعَهُ آخر؛ فَقَالَ الدَّاخِل: تعال كل. قد تغديت. فَقَالَ: هَذَا أَيْضا زعم أَنه تغدى. وَدخل آخر على بَعضهم وَبَين يَدَيْهِ طبق عَلَيْهِ تين؛ فَلَمَّا أحس بالداخل غطى الطَّبَق بذيله، وَأدْخل رَأسه فِي جيبه، وَقَالَ للداخل: كن أَنْت فِي الْحُجْرَة الْأُخْرَى حَتَّى أفرغ من بخوري. أكل ابْن الْمُدبر يَوْمًا عِنْد ابْن الْفَيَّاض، فَقدمت جوذابة فِي نِهَايَة الْجَوْدَة، وأمعن ابْن الْمُدبر فِيهَا؛ فَلم يصبر ابْن الْفَيَّاض حَتَّى قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ زعمت أَنَّك لست صَاحب جوذاب؟ . قَالَ بَعضهم: حضرت مائدة بَعضهم فَضرب رب الْبَيْت يَده إِلَى رغيف. ثمَّ قَالَ: يَقُولُونَ خبري صغَار. أَي: أَخُو قحبة. يتم من هَذَا رغيفاً؟ . وَقَالَ بعض المبخلين لرجلٍ على مائدته: اكسر ذَلِك الرَّغِيف. فَقَالَ: دَعه يبتلى بِهِ غَيْرِي. دَعَا بخيلٌ قوما، وَاتخذ لَهُم طَعَاما، فَلَمَّا جَلَسُوا يَأْكُلُون وَهُوَ قَائِم يخدمهم، وأمعنوا فِي الْأكل جعل صَاحب الْبَيْت يَتْلُو فِيمَا بَينه وَبَين نَفسه: " وجزاهم بِمَا صَبَرُوا جنَّة وَحَرِيرًا ". وَكَانَ جَعْفَر بن سُلَيْمَان بَخِيلًا على الطَّعَام، فرقعت الْمَائِدَة من بَين يَدَيْهِ وَعَلَيْهَا دجَاجَة، فَوَثَبَ عَلَيْهَا بعض بنيه وَأكل مِنْهَا، وأعيدت عَلَيْهِ من غَد؛ فَلَمَّا(3/188)
رَآهَا وَقد أكل مِنْهَا شَيْء. قَالَ: من هَذَا الَّذِي تعاطى فعقر؟ قَالُوا: ابْنك فلَان. فَقطع أرزاق بنيه كلهم، فَلَمَّا طَال عَلَيْهِم قَالَ بعض بنيه: أفتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا، فَأمر برد نصف أَرْزَاقهم. وقف واحدٌ على الحطيئة ليستقريه فَمَنعه، فَقَالَ: إِن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قَالَ: بل عَلَيْهِمَا تبردا. قَالَ: وَمَا عنْدك غير هَذَا؟ . قَالَ: بلَى، هراوةٌ من أرزن معْجزَة. قَالَ: إِنِّي ضيف. قَالَ: للضيفان أعددتها. قَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي - وَكَانَ بَخِيلًا -: لَو أَطعْنَا الْمَسَاكِين فِي أَمْوَالنَا كُنَّا أَسْوَأ حَالا مِنْهُم. قَالَ الجاحظ: حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ: كُنَّا منطلقين إِلَى رجلٍ من كبار أهل الْعَسْكَر، وَقد كَانَ لبثنا عِنْده يطول؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضنَا: إِن رَأَيْت أَن تجْعَل لنا أَمارَة إِذا ظَهرت خففنا، وَلم نتعبك بالقعود، فقد قَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة مثل الَّذِي قُلْنَا لَك؛ فَقَالَ: أَمارَة ذَلِك إِذا قلت: إِذا شِئْتُم. وَقَالَ أَصْحَاب يزِيد مثل ذَلِك، فَقَالَ: إِذا قلت: على بركَة الله. وَقيل لعبد الْملك؛ فَقَالَ: إِذا ألقيت الخيزرانة من يَدي، فَأَي شَيْء تجْعَل لنا أصلحك الله؟ فَقَالَ: إِذا قلت: يَا غُلَام، الْفِدَاء. نظر الْكِنْدِيّ إِلَى رجل يكسر درهما صَحِيحا؛ فَقَالَ: وَيحك لَا تفرق بَين الله وَرَسُول. قَالَ جحظة: دخلت وَأَنا فِي بقايا علةٍ على كَاتب، فَقدم إِلَيْنَا مضيرة، فأمعنت فِيهَا، فَقَالَ: جعلت فدَاك، أَنْت عليل، وبدنك نحيل، وَاللَّبن يسحيل، فَقلت: والعظيم الْجَلِيل لَا تركت مِنْهَا كثير وَلَا قَلِيل، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل. قَالَ رجلٌ من أهل الْمَدِينَة: أتيت صَاحب بر، وَكَانَ بَخِيلًا؛ فَقلت لَهُ: هَب لي فلسًا. قَالَ: لَيْسَ معي. قلت: فَهَب لي من هَذَا الْبر مَا أشْرب بِهِ مَاء. قَالَ: فَأَعْطَانِي خمس حبات؛ فَقلت لَهُ: لَا يسقيني الشَّارِب بهَا مَاء؛ فَقَالَ: احْمِلْ عَلَيْهِ كَمَا حملت عَليّ. كَانَ يعْمل لمعاوية لونٌ من المخ، لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد، فَأتي بِهِ فَضرب عبد الله بن جَعْفَر بِيَدِهِ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أردْت بِهِ أنسك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ:(3/189)
مَا آنستني، ثمَّ استحيا؛ فَأرْسل إِلَيْهِ عشرَة آلَاف؛ فَقَالَ عبد الله: كم فِي هَذِه من لون مخ؟ . وَقَالَ لرجلٍ واكله: ارْفُقْ بِيَدِك؛ فَقَالَ لَهُ: وَأَنت فاغضض بَصرك. قيل لبَعْضهِم: كَيفَ سخاء فلانٍ؟ . قَالَ: عينه دولاب اللقم فِي أَيدي الأضياف. تغدى أعرابيٌّ عِنْد مُعَاوِيَة؛ فَنظر مُعَاوِيَة إِلَى شعرةٍ فِي لقمته؛ فَقَالَ: يَا أَعْرَابِي خُذ الشعرة من لقمتك؛ فَقَالَ: وَإنَّك لتراعيني حَتَّى تبصر الشعرة فِي لقمتي، وَالله لَا أكلت مَعَك أبدا. كَانَ خَالِد بن صَفْوَان بَخِيلًا، فَحدث ذارع من أهل الْبَصْرَة قَالَ: دَعَاني خالدٌ فقسمت لَهُ مَالا، وأقمت حسابه، فَلَمَّا كَانَ عِنْد الظّهْر دَعَا بالغداء فجاءوه بدجاجةٍ، وجاءوني بزيتونٍ وبصل؛ فَقَالَ: تشْتَهي أَن تَأْكُل من هَذِه الدَّجَاجَة؟ فَقلت: وَمَا عَلَيْك لَو أكلت مِنْهَا؟ . قَالَ: إِذا كنت أَنا وَأَنت فِي مَالِي سَوَاء فَمَا يَنْفَعنِي مَالِي؟ . وَقَالَ آخر: كنت عِنْد رجلٍ من جلة النَّاس، فَقدمت لَو زينجة رطبَة، فَأكل وَاحِدَة وأكلت وَاحِدَة، ثمَّ أكل أُخْرَى وأكلت أُخْرَى؛ فَالْتَفت إِلَيّ؛ فَقَالَ: إِذا أكلت كَمَا آكل فَأَيْنَ فضل الْمَالِك؟ . أكل عِنْد بخيل، وأمعنوا فِي الْأكل، وَأَرَادَ أَن يقطعهم؛ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا أكل من يُرِيد أَن يتعشى. حقن عمر بن يزِيد الْأَسدي بحقنةٍ فِيهَا دهن؛ فَلَمَّا حركه بَطْنه كره أَن يذهب الدّهن ضيَاعًا، فَدَعَا بطستٍ وَجلسَ عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: صفوا هَذَا الدّهن فَإِنَّهُ يصلح للسراج. وَأوصى بَعضهم ابْنه؛ كن مَعَ النَّاس كلاعب الشطرنج يحفظ شَيْئه. كَانَ بِالْكُوفَةِ رجلٌ من المصلحين - وَهَذَا لقب المقدمين مِنْهُم فِي اللؤم - فَبَلغهُ أَن بِالْبَصْرَةِ رجلا من المصلحين مقدما فِي شَأْنه، فَقَامَ الْكُوفِي، وَصَارَ إِلَى الْبَصْرَة ليلقى صَاحبه، فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: من أَنْت؟ . قَالَ: أَنا مصلحٌ(3/190)
من أهل الْكُوفَة، وَقد بَلغنِي خبرك، فَرَحَّبَ بِهِ، وَأدْخلهُ الْبَيْت وَأَجْلسهُ، وَأخذ قِطْعَة وَمر ليَشْتَرِي لَهُ شَيْئا يَأْكُلهُ، فَلَمَّا خرج إِلَى السُّوق دنا من الْبَقَّال؛ فَقَالَ: عنْدك خبز؟ فَقَالَ: عِنْدِي خبزٌ كَأَنَّهُ السّمن؛ فَقَالَ المصلح فِي نَفسه: لم لَا أَشْتَرِي مَا نَعته بِهِ؟ فَذهب إِلَى آخر، وَقَالَ: أعندك سمن؟ فَقَالَ: عِنْدِي سمنٌ كَأَنَّهُ الزَّيْت؛ فَقَالَ فِي نَفسه: أذهب فآخذ مَا نَعته بِهِ، فَذهب إِلَى بقالٍ آخر؛ فَقَالَ: عنْدك زَيْت؟ قَالَ: عِنْدِي زَيْت كَأَنَّهُ المَاء، فَقَالَ فِي نَفسه: عِنْدِي وَالله راوية مَاء. فَرجع إِلَى الْبَيْت، وَأخذ المَاء فِي غضارة وَقدمه إِلَى الْكُوفِي وَقَالَ: كل هَذَا، فَإِنَّهُ نعت النَّعْت، فَقَالَ الْكُوفِي: أَنا أشهد أَنكُمْ أحذق بالإصلاح منا بِأَلف دَرَجَة. قَالَ مزبدٌ: أهل الْكُوفَة إِذا عتق عِنْدهم التَّنور دقوه وجعلوه فِي الفتيت. قَالَ بَعضهم: بت عِنْد رجلٍ من أهل الْكُوفَة. وَهُوَ من الموسرين المعروفين بِحسن الْحَال، وَله صبيان نيامٌ بِحَيْثُ أَرَاهُم، فرأيته فِي اللَّيْل يقوم فيقلبهم من جنب إِلَى جنب؛ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قلت لَهُ: رَأَيْتُك يَا أَبَا جَعْفَر البارحة تفعل كَيْت وَكَيْت. قَالَ: نعم، هَؤُلَاءِ الصّبيان يَأْكُلُون وينامون على الْيَسَار، فيمريهم الطَّعَام فيصبحون جياعاً، فَأَنا أقلبهم من الْيَسَار إِلَى الْيَمين؛ لِئَلَّا ينهضهم مَا أكلوه سَرِيعا. قَالَ بَعضهم: دخلت الْكُوفَة فَسمِعت امْرَأَة تَقول: يَا أَبَا جَعْفَر الدقاق، حسيبك الله - وَقد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِمَا - فَقَالَ الدقاق: مَالك؟ قَالَت: أَعْطَيْتنِي كيلجة دَقِيق مَا جَاءَ مِنْهَا إِلَّا ثَمَانُون رغيفاً. قَالَ: يَا مسرفة، إِذا كنت تخبزين رغفاناً مثل الأرحبة فَأَي ذَنْب لي؟ . وَقَالَ بَعضهم: رَأَيْت بِالْكُوفَةِ سَائِلًا يتَصَدَّق، وَمَعَهُ منهزة، فَقلت لَهُ: مَا هَذِه؟ . قَالَ: أصيد بهَا الْكسر. قَالَ: وَإِذا هُوَ كلما رموا إِلَيْهِ بكسرةٍ من تِلْكَ الروازين طارت بهَا الرّيح، فتلقاها بالمنهزة. قَالَ آخر: رَأَيْت بِالْكُوفَةِ صَبيا وَمَعَهُ قرصة، وَهُوَ يكسر لقْمَة لقْمَة، وَيَرْمِي بهَا إِلَى شقٍّ فِي بعض الْحِيطَان يخرج مِنْهُ دخانٌ، ويأكلها. قَالَ: فَبَقيت أتعجب مِنْهُ، إِذْ وقف عَلَيْهِ أَبوهُ يسْأَله عَن خَبره؛ فَقَالَ الصَّبِي: هَؤُلَاءِ قد طبخوا(3/191)
سكباجة حامضةً كَثِيرَة التوابل؛ فَأَنا أتأدم برائحتها. قَالَ: فصفعه أَبوهُ صفعةً صلبة كَاد يقطع بهَا رَأسه وَقَالَ: تُرِيدُ تعود نَفسك من الْيَوْم أَلا تَأْكُل خبْزًا إِلَّا بأدم. انْتقل قصابٌ من بَغْدَاد إِلَى الْكُوفَة، وَفتح بهَا دكاناً، وَذبح شَاة سَمِينَة، وَقعد من غدْوَة إِلَى الْعَصْر لم يبع شَيْئا، وَلم يقف عَلَيْهِ أحدٌ؛ فَلَمَّا كَانَ الْعَصْر إِذا هُوَ بعجوزٍ مَعهَا زبيل نخالة؛ فَقَالَت لَهُ: يَا ابْني، أَعْطِنِي بِهَذِهِ النخالة لَحْمًا، وقطعه بحياتك تقطيعاً حسنا. قَالَ: فحرد الْبَغْدَادِيّ، وَقَالَ: لعن الله بَلَدا يُبَاع فِيهِ اللَّحْم بالنخالة. فَوَلَّتْ الْعَجُوز متعجبةً مِنْهُ وَهِي تَقول: ويلٌ لي. هَذَا بغداديٌّ صلف، لَا يَبِيع إِلَّا بالنوى. قَالَ: وَرَأَيْت صبيةٌ قد وقفت على بقال بِالْكُوفَةِ، وأخرجت إِلَيْهِ رغيف شعير، وَقَالَت لَهُ: قَالَت أُخْتِي: أبدل هَذَا الرَّغِيف بِالْكَسْرِ وأعطها بصرفه جزرا. قَالَ بَعضهم: احتجت بِالْكُوفَةِ إِلَى دَقِيق الْحوَاري، فَسَأَلت عَنهُ وَعَن مَوْضِعه. فَقَالُوا: لَا تصيبه إِلَّا عِنْد الصيادلة، يبيعونه للدماميل. وَقَالَ آخر: كنت عِنْد صديقٍ لي بِالْكُوفَةِ، فَإِذا بجاريةٍ أمه قد جَاءَت وَمَعَهَا كوزٌ فارغ؛ فَقَالَت: تَقول أمك إِن يَوْمنَا يومٌ شَدِيد الْحر. فاملأ لي هَذَا الْكوز من مزملتكم؛ فَقَالَ لَهَا: كذبت، فَإِن أُمِّي أَعقل من أَن تبْعَث كوزاً فَارغًا. اذهبي واملئي الْكوز من مَاء حبكم، حَتَّى نَصبه فِي حبنا، ثمَّ نملأه من المزملة، حَتَّى يكون شيءٌ بشيءٍ. قَالَ وَرَأَيْت وَاحِدًا بِالْكُوفَةِ قد دنا من بقالٍ وَأَعْطَاهُ مِقْدَار حَبَّة. وَقَالَ: أَعْطِنِي بِهَذَا جبنا؛ فَقَالَ لَهُ الْبَقَّال: شمه وَانْصَرف، وَيبقى عَلَيْك طسوج. نزل بكوفيٍّ ضيفٌ، فَقَالَ لجاريته: يَا جَارِيَة، أصلحي لضيفنا فالوذجاً. قَالَت: الْجَارِيَة: لَيْسَ عندنَا شَيْء. قَالَ: وَيلك فهاتي قطيفة إبريسم حَتَّى ينَام.(3/192)
قَالَ الضَّيْف: يَا سَيِّدي، فَلَيْسَ بَين الفالوذج والقطيفة رغيفٌ وَقَلِيل جبنٍ؟ . وَقَالَ آخر: رَأَيْت كوفياً يُخَاصم جاراً لَهُ ويقاتله، فَقلت: مَا قصتكما؟ ؛ فَقَالَ أَحدهمَا: زارني زائرٌ، فتشهى على رُءُوسًا، فأطعمته، وَأخذت الْعِظَام؛ فرميت بهَا على بَاب دَاري أَتَجَمَّل بهَا، وَأَكَبَّتْ الْعَدو، فجَاء هَذَا، وَأَخذهَا من دَاري، وَجعلهَا على بَاب دَاره. وَكَانَ بعض المياسير مِنْهُم لَهُ والدةٌ عَجُوز: فَقيل لَهَا: كم يجْرِي عَلَيْك ابْنك؟ . قَالَت: درهما فِي كل أضحى. قيل: يَا سُبْحَانَ الله دِرْهَم فِي كل أضحى. قَالَت: نعم، وَرُبمَا أَدخل الْأَضْحَى فِي الْأَضْحَى. وَكَانَ بَعضهم يَأْكُل وَمَعَهُ على الْمَائِدَة ابْنه وَزَوجته؛ فَقَالَ: لعن الله الزحمة؛ فَقَالَ لَهُ ابْنه: يَا أبه، تعنيني؟ فَلَيْسَ هَا هُنَا غَيْرِي وَغير أُمِّي. اقل فترى أَعنِي نَفسِي؟ . خرج نفرٌ من أهل مرو فِي سفر، وصبروا على ترك السراج للارتفاق بِمَا يرجع عَلَيْهِم مِنْهُ حَتَّى أبلغ ذَلِك إِلَيْهِم، فاتفقوا على أَن يخرج كل وَاحِد مِنْهُم شَيْئا للسراج، وَامْتنع واحدٌ مِنْهُم من أَن يُعْطي شَيْئا؛ فَكَانُوا إِذا أسرجوا شدوا عَيْنَيْهِ بمنديل إِلَى وَقت النّوم وَرفع السراج. حُكيَ عَن بعض البخلاء أَنه قَالَ: إِذا رَأَيْت الْجُبْن على مائدةٍ رحمت صَاحبهَا لِكَثْرَة مَا يُؤْكَل من خبزه. ودعا آخر مِنْهُم على صَاحبه؛ فَقَالَ لَهُ: إِن كنت كَاذِبًا فعشيت السكارى بجبن، فَرَأى أَنه قد بَالغ فِي ملاعنته وَالدُّعَاء عَلَيْهِ. عمل سهل بن هَارُون كتابا مدح فِيهِ الْبُخْل، وأهداه إِلَى الْحسن ابْن سهلٍ، فَوَقع على ظَهره: قد جعلنَا ثوابك عَلَيْهِ مَا أمرت بِهِ فِيهِ. قَالَ رجلٌ لغلام: بكم تعْمل معي؟ . قَالَ: بطعامي. قَالَ لَهُ: أحسن قَلِيلا. قَالَ: فأصوم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس. قَالَ أَبُو نواس: قلت لرجلٍ من البخلاء: لم تَأْكُل وَحدك؟ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا سؤالاً، وَإِنَّمَا السُّؤَال على من أكل مَعَ الْجَمَاعَة؛ لِأَن ذَلِك تكلفٌ وَهَذَا هُوَ الأَصْل.(3/193)
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلَان؟ . قَالَ: الْمَلَائِكَة. قَالَ: لم أرد هَذَا. من يَأْكُل مَعَه؟ . قَالَ: الذبان. ومدح رجلٌ الْبُخْل؛ فَقَالَ: كَفاك من كرم الْمَلَائِكَة أَنه لم يبلهم بِالنَّفَقَةِ، وَقَول الْعِيَال: هَات، هَات. قَالَ دينارٌ الْحجام: حجمت أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور فِي خِلَافَته؛ فَأَعْطَانِي أَرْبَعَة دوانق فضَّة، وَأخذت شعر سعيد بن أبي عرُوبَة؛ فَأمر لي بقوصرة فارغة. قَالَ بعض البخلاء: فرحة السكر قلَّة الاحتشام، وفرحة الْخمار قلَّة الْإِنْفَاق. وَقَالَ آخر: من كثرت نَفَقَته كثر ندمه، وَمن كثر ندمه قلت دعواته. قيل على مائدة بعض البخلاء: مَا أحسن الْأَيْدِي على الْمَائِدَة؛ فَقَالَ صَاحب الْمَائِدَة: مقطعَة. قَالَ الْكِنْدِيّ: من ذل الْبَذْل أَنَّك تَقول: نعم. مطأطئاً رَأسك، وَمن عز الْمَنْع أَنَّك تَقول: لَا. رَافعا رَأسك. اشْترى كوفيٌّ مزادة ماءٍ برغيف؛ فَقَالَ لصَاحبه: كَيفَ ترى استرخاصي هَذِه المزادة؟ . قَالَ: فِيهَا غلاء غُصَّة. استسلف بعض الصيارفة من بقال كَانَ على بَابه دِرْهَمَيْنِ وقيراطا؛ فقضاه بعد سِتَّة أشهرٍ دِرْهَمَيْنِ وَثَلَاث حبات. فَقَالَ الْبَقَّال: سُبْحَانَ الله أَلا تستحيي؟ أَنْت رب مائَة ألف دِرْهَم، رأنا بقالٌ لَا أملك مائَة فلس، تنقضني بعد هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة؛ فَقَالَ: مَا توهمت مِنْك مَا ظهر لي من قلَّة معرفتك بِالْحِسَابِ. أسلفتني - أبقاك الله - فِي الصَّيف دِرْهَمَيْنِ وَأَرْبع شعيرات؛ فقضيتك فِي الشتَاء دِرْهَمَيْنِ وَثَلَاث شعيرات شتوية نديةٍ أرزن من أَربع شعيرات يابسةٍ صيفية، وَمَا أَشك أَن مَعَك فضلا. دخل هِشَام بن عبد الْملك حَائِطا لَهُ فِيهِ أَشجَار فَاكِهَة، وَمَعَهُ أَصْحَابه، فَجعلُوا يَأْكُلُون مِنْهُ، وَيدعونَ لَهُ بِالْبركَةِ؛ فَقَالَ هِشَام: كَيفَ يُبَارك فِيهِ وَأَنْتُم تَأْكُلُونَ؟ ، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام. اقلع هَذَا واغرس مَكَانَهُ الزَّيْتُون.(3/194)
قَالَ الْمَنْصُور للوضين بن عَطاء: مَا عِيَالك؟ . قَالَ: ثَلَاث بناتٍ وَالْمَرْأَة. قَالَ؛ فَقَالَ: أربعٌ فِي بَيْتك. قَالَ: فردد ذَلِك حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيصلني. قَالَ: ثمَّ رفع رَأسه؛ فَقَالَ أَنْت أيسر الْعَرَب، أَرْبَعَة مغازل تَدور فِي بَيْتك. أرسل مَرْوَان بن أبي حَفْصَة غُلَامه بفلس وسكرجة يَشْتَرِي لَهُ زيتاً؛ فَلَمَّا جَاءَ بالزيت استقله، وَقَالَ للغلام: خُنْتنِي يَا خَبِيث. قَالَ الْغُلَام: كَيفَ أخونك من فلس؟ . قَالَ: أخذت الْفلس لنَفسك، واستوهبت الزَّيْت. وَكَانَ مَرْوَان من أبخل الْخلق: اجتاز مرّة بامرأةٍ من الْعَرَب، فأضافته؛ فَقَالَ لَهَا: عَليّ إِن وهب لي أَمِير الْمُؤمنِينَ مائَة ألف درهمٍ أَن أهب لَك درهما، فَأعْطَاهُ سبعين ألفا، فَأَعْطَاهَا أَرْبَعَة دوانيق. وَسَقَى إنسانٌ بخيلٌ ضيفاً لَهُ نبيذاً عتيقاً على الرِّيق، فتأوه الرجل؛ فَقيل لَهُ: لم لَا تتلكم؟ فَقَالَ: إِن سكت مت، وَإِن تَكَلَّمت مَاتَ رب الْبَيْت. وَكَانَ بعض البخلاء يَأْكُل نصف اللَّيْل، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: يبرد المَاء وينقمع الذُّبَاب، وآمن فَجْأَة الدَّاخِل، وصرخة السَّائِل، وصياح الصّبيان. دخل أَبُو الْأسود الدؤَلِي السُّوق يَشْتَرِي شَيْئا، فَقَالَ الرجل: ادن أقاربك؛ فَقَالَ: إِن لم تقاربني أَنْت باعدتك أَنا. قَالَ: بكم؟ . قَالَ: طلب بِكَذَا. قَالَ: أَرَاك تحدث بخيرٍ قد فَاتَ. شكا بعض البخلاء بخله إِلَى بعض الْحُكَمَاء؛ فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْت ببخيل؛ لِأَن الْبَخِيل هُوَ الَّذِي لَا يُعْطي من مَاله شَيْئا، وَلست أَيْضا بمتوسط الْجُود؛ لِأَن الْمُتَوَسّط هُوَ الَّذِي يُعْطي بعض مَاله، وَيمْنَع بعضه، وَلَكِنَّك فِي غَايَة الْجُود؛ لِأَنَّك تُرِيدُ أَن تُعْطِي مَالك كُله. يَعْنِي: أَنه يَدعه كُله لوَارِثه. قَالَ صعصعة: أكلت عِنْد مُعَاوِيَة لقْمَة؛ فَقَامَ بهَا خَطِيبًا. قيل لَهُ: وَكَيف ذَاك؟ . قَالَ: كنت آكل مَعَه، فَهَيَّأَ لقْمَة ليتناولها، وأغفلها، فأخذتها فَسَمعته بعد ذَلِك يَقُول فِي خطبَته: أَيهَا النَّاس، أجملوا فِي الطّلب فَرب رَافع لقمةٍ إِلَى فِيهِ تنَاولهَا غَيره.(3/195)
اسْتَأْذن جحظة على صديقٍ لَهُ مبخلٍ؛ فَقَالَ غلمانه: هُوَ محمومٌ؛ فَقَالَ لَهُم: كلوا بَين يَدَيْهِ حَتَّى يعرق. وَقَالَ جحظة: أكلت مَعَ بخيلٍ مرّة؛ فَقَالَ لي: يَا هَذَا، مَا رَأَيْت أذلّ من الرَّغِيف فِي يدك. أصَاب أعرابيٌّ درهما فِي كناسَة الْكُوفَة؛ فَقَالَ: أبشر أَيهَا الدِّرْهَم، وقر قرارك فطالما خيض فِيك الغمار، وَقطعت فِيك الْأَسْفَار، وَتعرض فِيك للنار. أهل مروٍ موصوفون بالبخل، وَمن عَادَتهم إِذا ترافقوا فِي سفرٍ أَن يَشْتَرِي كل واحدٍ مِنْهُم قِطْعَة لحم، ويشدها فِي خيط، ويجمعون اللَّحْم كُله فِي قدرٍ، ويصبون عَلَيْهِ المَاء ويطبخونه، ويمسك كل واحدٍ مِنْهُم طرف الْخَيط الَّذِي قد شده فِي لَحْمه، فَإِذا نَضِجَتْ الْقدر جر كل وَاحِد خيطه، وَتفرد بِأَكْل مَا فِيهِ، وتسعدوا على المرقة. ويحكى أَن وَاحِدًا مِنْهُم لم يخرج ثمن البرر للسراج؛ فشدوا عينه لِئَلَّا يرى السراج. قَالَ: وَمن طرائف أُمُورهم أَنهم يستعملون الْخَادِم فِي سِتَّة أعمالٍ فِي وقتٍ واحدٍ: تحمل الصَّبِي، وَتَشْديد اليريند فِي صدرها، فتدور وتطحن وَفِي ظهرهَا سقاء تمخضه باختلافها وحركتها، وتدوس طَعَاما قد ألقِي تَحت رِجْلَيْهَا، وتلقى الْحِنْطَة فِي الرحا، وتطرد العصافير عَن طَعَام قد وكلت بِهِ. كَانَ بعض البخلاء، إِذا صَار فِي يَده خاطبه وناجاه، وفداه واستبطاه، وَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي. كم من أرضٍ قطعت، وكيسٍ خرقت، وَكم من خاملٍ رفعت، وَكم من رفيع أخملت لَك عِنْدِي أَلا تعرى وَلَا تضحى، ثمَّ يلقيه فِي كيسه وَيَقُول: اسكن على اسْم الله فِي مكانٍ لَا تَزُول عَنهُ، وَلَا تزعج مِنْهُ. ذكر ثُمَامَة مُحَمَّد بن الجهم، فَقَالَ: لم يطْمع أحدا فِي مَاله إِلَّا ليشغله بالطمع فِيهِ عَن غَيره، وَلَا شفع لصديقٍ، وَلَا تكلم فِي حاجةٍ إِلَّا ليلقن الْمَسْئُول حجَّة منع، وليفتح على السَّائِل بَاب حرمَان.(3/196)
تنَاول رجلٌ من بَين يَدي بعض الْأُمَرَاء البخلاء بَيْضَة؛ فَقَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّهَا بَيْضَة الْعقر، وحجبه بعد ذَلِك. قَالَ الْوَاقِدِيّ: خرجت أَنا وَابْن أبي الزِّنَاد إِلَى بعض الْمَوَاضِع بِالْمَدِينَةِ، ورجعنا نصف النَّهَار فِي يَوْم صائفٍ؛ فَقَالَ: مَا أحوجنا إِلَى شربة ماءٍ باردٍ فَإِذا نَحن بسعيدٍ مولى ابْن أبي الزِّنَاد؛ فَقلت لَهُ: ابْعَثْ لنا شربة مَاء؛ فَقَالَ: نعم وكرامة - اجْلِسْ - وبادر مستعجلاً، فَدخل الدَّار وَمكث طَويلا، ثمَّ خرج إِلَيْنَا؛ فَقَالَ: تعودُونَ العشية إِن شَاءَ الله. قَالَ الْعُتْبِي: لَو بذلت الْجنَّة للأصمعي بدرهمٍ لَا ستنقص شَيْئا. سَأَلَ متكففٌ الْأَصْمَعِي؛ فَقَالَ: لَا أرتضي لَك مَا يحضرني؛ فَقَالَ السَّائِل: أَنا أرْضى بِهِ؛ فَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ، بورك فِيك. أعْطى الْمَنْصُور بَعضهم شَيْئا ثمَّ نَدم؛ فَقَالَ لَهُ: لَا تنْفق هَذَا المَال واحتفظ بِهِ؛ وَجعل يُكَرر عَلَيْهِ ذَلِك؛ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَأَيْت فاختمه حَتَّى أَلْقَاك بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؛ فَضَحِك وخلاه. كَانَ رجلٌ على طَعَام بعض البخلاء؛ فَأخذ عراقاً فَلم يجد عَلَيْهِ لَحْمًا، فَوَضعه ليَأْخُذ غَيره؛ فَقَالَ صَاحب الْبَيْت: العب بمسك. قَالَ بَعضهم: فلَان عينه دولاب لقم أضيافه. قَالَ بَعضهم لغلامه: هَات الطَّعَام وأغلق الْبَاب؛ فَقَالَ الْغُلَام: هَذَا خطأ. أغلق الْبَاب، ثمَّ أقدم الطَّعَام؛ فَقَالَ: أَحْسَنت أَنْت حر. قَالَ أَبُو العيناء: أكلت مَعَ بعض أُمَرَاء الْبَصْرَة؛ فَقدم إِلَيْنَا جدي سمينٌ، فَضرب الْقَوْم بِأَيْدِيهِم إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: ارفقوا بِهِ فَإِنَّهُ بَهِيمَة. أكل أَعْرَابِي مَعَ أبي الْأسود رطبا وَأكْثر، وَمد يَده أَبُو الْأسود إِلَى رطبةٍ يَأْخُذهَا؛ فسبقه الْأَعرَابِي إِلَيْهَا وَأَخذهَا فَسَقَطت فِي التُّرَاب؛ فَأَخذهَا وَجعل يمسحها وَيَقُول: لَا أدعها للشَّيْطَان؛ فَقَالَ أَبُو الْأسود: ولجبريل وَمِيكَائِيل لَو نزلا.(3/197)
قَالَ بعض الْكُوفِيّين: عَلامَة نجابة الصَّبِي فِي ثلاثٍ: عرامته، وجبنه وبخله؛ فَإِنَّهُ لَا يكون شَدِيد العرامة إِلَّا من جودة نَفسه، وَلَا يبخل إِلَّا من مَعْرفَته، وَلَا يجبن إِلَّا من عقله. كَانَ زيد بن مُحَمَّد بن زيد الدَّاعِي مبخلاً؛ فَلَمَّا أسر بعد مقتل أَبِيه بجرجان، وَحمل إِلَى بُخَارى وَحبس مُدَّة، ثمَّ أفرج عَنهُ سعى بِهِ بعض أعدائه إِلَى السُّلْطَان؛ فَقَالَ: إِن زيدا قد حدث نَفسه بِالْخرُوجِ عَلَيْك وَالدُّعَاء إِلَى نَفسه، وإثارة الْفِتْنَة؛ فَقَالَ أَبُو عبد الله الجيهاني - وَكَانَ وزيراً -: إِن زيدا مَا دَامَ يبْنى الْحمام من اللَّبن والطين ببخارى لَا يسمو بِنَفسِهِ إِلَى ذَلِك. وَكَانَ قد فعل ذَلِك مَعَ عفونة أَرض بُخَارى، وَقلة ثبات الْأَبْنِيَة بهَا. فصدقوه وأمنوا جَانِبه وَلم يتَعَرَّضُوا لَهُ. سَأَلَ رجل أَبَا الْأسود شَيْئا فَمَنعه؛ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْأسود، مَا أَصبَحت حاتمياً؛ فَقَالَ: بل أَصبَحت حاتمياً. أما سَمِعت حاتماً يَقُول: أماوي، إِمَّا مانعٌ فمبين ... وَإِمَّا عطاءٌ لَا ينهنهه الزّجر كَانَ أحيحة بن الجلاح بَخِيلًا، فَكَانَ إِذا هبت الصِّبَا طلع من أطمه؛ فَنظر إِلَى نَاحيَة هبوبها، ثمَّ يَقُول: هبي هبوبك. قد أَعدَدْت لَك ثلثمِائة وَسِتِّينَ صَاعا من عَجْوَة، أدفَع إِلَى الْوَلِيد مِنْهَا خمس تمرات فَيرد عَليّ ثَلَاثًا لصلابتها. كَانَ خَالِد بن صَفْوَان قد أجْرى لوَلَده فِي الشَّهْر ثَلَاثِينَ درهما؛ فَكَانَ يَقُول: إِن الثَّلَاثِينَ لأعبث فِي المَال من السوس فِي الصُّوف فِي الصَّيف. عذل بعض البخلاء على بخله؛ فَقَالَ: يَا قوم؛ هَب النَّاس يلوموننا على التَّقْصِير فِيمَا بَيْننَا وَبينهمْ، مَا بالهم يلوموننا على التَّقْصِير فِيمَا بَيْننَا وَبَين أَنْفُسنَا؟ . سمع أَبُو الْأسود رجلا يَقُول: من يعشي الجائع؟ . فعشاه، ثمَّ ذهب السَّائِل ليخرج، فَقَالَ: هَيْهَات. على أَن تؤذي الْمُسلمين اللَّيْلَة؛ فَوضع رجله فِي الأدهم، وَقَالَ: لَا تروع مُسلما سائراً اللَّيْلَة.(3/198)
ووقف على بَابه سائلٌ وَهُوَ يَأْكُل؛ فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم. قَالَ: كلمةٌ مقولة. قَالَ: أَدخل؟ . قَالَ: وَرَاءَك أوسع. قَالَ: إِن الرمضاء قد أحرقت رجْلي. قَالَ: بل عَلَيْهَا. وأغلق دونه الْبَاب. وَكَانَ يمر بِهِ فَتى، وَأَبُو الْأسود على بَاب دَاره، فيدعوه إِلَى الْغَدَاء فيتورك على دَابَّته وَيَأْكُل وَأَبُو الْأسود على دكانٍ لَهُ صَغِير؛ فَلَمَّا كثر ذَلِك دس إِلَيْهِ إنْسَانا مَعَه دبة فِيهَا حَصى؛ فَلَمَّا تورك الْفَتى ليَأْكُل حرك الدبة فنفرت الدَّابَّة وَسقط الْفَتى، فاندقت عُنُقه. أرْسلت امرأةٌ من قوم أبي الْأسود ابْنهَا إِلَيْهِ أَنه يعيرها الْقدر، ويعلمه أَن أمه نذرت أَن تجْعَل للحي طَعَاما؛ فَقَالَ أَبُو الْأسود: سلوها؛ فَإِن كَانَت قَدرنَا دخلت فِي نذرها، وَإِلَّا فلتطلب غَيرهَا. وقف أَعْرَابِي على أبي الْأسود وَهُوَ يتغدى، فَسلم عَلَيْهِ، فَرد عَلَيْهِ، ثمَّ أقبل على الْأكل، وَلم يعرض عَلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ الْأَعرَابِي: أما إِنِّي قد مَرَرْت بأهلك. قَالَ: ذَاك كَانَ طريقك. قَالَ: هم صَالِحُونَ. قَالَ: كَذَاك فَارَقْتهمْ. قَالَ: وامرأتك حُبْلَى. قَالَ: كَذَاك عهدتها. قَالَ: ولدت. قَالَ: مَا كَانَ لَهَا بُد من أَن تَلد. قَالَ: ولدت غلامين. قَالَ: كَذَاك كَانَت أمهَا. قَالَ: مَاتَ أَحدهمَا. قَالَ: مَا كَانَت تقوى على إِرْضَاع اثْنَيْنِ. قَالَ: ثمَّ مَاتَ الآخر. قَالَ: مَا كَانَ ليبقى بعد أَخِيه. قَالَ: وَمَاتَتْ الْأُم. قَالَ: حزنا على وَلَدهَا. قَالَ: مَا أطيب طَعَامك. قَالَ: ذَلِك حداني على أكله. قَالَ: أُفٍّ لَك مَا ألأمك. قَالَ: من شَاءَ سبّ صَاحبه. سَأَلَ رجلٌ يحيى بن أَكْثَم شَيْئا؛ فَقَالَ: كَيفَ أُعْطِيك وَفِي أَربع خلال: أَنا تميمي، ومولدي الْبَصْرَة، ومنشئي بمرو، وَأَنا قاضٍ. وَذكر بَعضهم أَنه أكل مَعَه، فَأتوا بثريدة عَظِيمَة؛ فَلَمَّا أمعن فِيهِ وجد فِي وَسطهَا قَصْعَة مكبوبة، والثريد فَوْقهَا. وَذكر بعض من كَانَ ينادم بعض كبراء هَذَا الْوَقْت. قَالَ: أكلت مَعَه من قَصْعَة واحدةٍ؛ فَكَانَ الَّذِي يَلِيهِ من الثَّرِيد خبز حوارِي، وَالَّذِي يليني خبز خشكار.(3/199)
قَالَ أَبُو سهل الرَّازِيّ القَاضِي: دخلت على يحيى بن أَكْثَم يَوْمًا، والمائدة بَين يَدَيْهِ، والغلام وَاقِف؛ فَقَالَ لي: يَا مُحَمَّد، هَذَا غلامي، يَأْتِي عَليّ وقتٌ لَا أَدْرِي مَا اسْمه؛ وَهَذَا حدا سلم الْحَادِي بالمنصور فِي طَرِيقه إِلَى الْحَج؛ فحدا يَوْمًا بقول الشَّاعِر: أغر بَين حاجبيه نوره ... يزينه حياؤه وخيره ومسكه يشوبه كافوره. فطرب الْمَنْصُور حَتَّى ضرب بِرجلِهِ الْمحمل، ثمَّ قَالَ: يَا ربيع؛ أعْطه نصف دِرْهَم؛ فَقَالَ سلم: نصف درهمٍ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ وَالله لقد حدوت لهشامٍ فَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم؛ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: مَا كَانَ لَهُ أَن يعطيك ثَلَاثِينَ ألف درهمٍ من بَيت مَال الْمُسلمين. يَا ربيع، وكل بِهِ من يسْتَخْرج مِنْهُ هَذَا المَال. قَالَ الرّبيع: فَمَا زلت أَسْفر بَينهمَا حَتَّى شَرط عَلَيْهِ أَلا يلْزمه مئونةً فِي خُرُوجه وقفوله، ويحدو لَهُ. تزوج عَمْرو بن حُرَيْث ابْنة أَسمَاء بن خَارِجَة؛ فَقَالَت لَهُ يَوْمًا: مَا أحسبك وَأبي تقرآن من كتاب الله إِلَّا حرفين. قَالَ: وَمَا هما؟ . قَالَت: كَانَ أبي يقْرَأ: " وَمَا أنفقتم من شيءٍ فَهُوَ يخلفه وَهُوَ خير الرازقين " وَأَنت تقْرَأ: " إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين ". قَالَ أَبُو العيناء: دَعَاني جارٌ إِلَى وليمةٍ، وَكَانَ بَخِيلًا، فرأيته يَدُور على الْمَائِدَة ويتنفس الصعداء، وَيَقُول: " وجزاهم بِمَا صَبَرُوا جنَّة وَحَرِيرًا ". قَالَ مُحَمَّد بن أبي الْمعَافى: كَانَ أبي متنحياً عَن الْمَدِينَة، وَكَانَت إِلَى جنبه مزرعةٌ فِيهَا قثاء، وَكنت صَبيا قد ترعرعت؛ فَجَاءَنِي من جيراننا أقرانٌ لي، وَكلمت أبي ليهب لي درهما أَشْتَرِي لَهُم بِهِ قثاء، فَقَالَ لي: أتعرف حَال الدِّرْهَم؟ كَانَ فِي حجرٍ فِي جبلٍ، فَضرب بالمعاول حَتَّى استخرج، ثمَّ طحن، ثمَّ أَدخل الْقُدُور، وصب عَلَيْهِ المَاء، وَجمع بالزئبق، ثمَّ أَدخل النَّار فسبك، ثمَّ(3/200)
أخرج فَضرب، وَكتب فِي أحد شقيه: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَفِي الآخر: محمدٌ رَسُول الله. ثمَّ صير إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأمر بإدخاله بَيت مَاله، ووكل بِهِ عوج القلانس، صهب السبال، ثمَّ وهبه لجاريةٍ حسناء جميلَة. وَأَنت وَالله أقبح من قرد، أَو رزقه رجلا شجاعاً، وَأَنت وَالله أجبن من صفرر، فَهَل يَنْبَغِي لَك أَن تمس الدِّرْهَم إِلَّا بثوبٍ؟ . حكى بَعضهم أَنه أكل على مائدة بَعضهم، قَالَ: فطافت علينا هرةٌ وصاحت: فألقيت إِلَيْهَا لقْمَة من حوارِي؛ فَقَالَ صَاحب الدَّار: إِن كَانَ وَلَا بُد فَمن الخشكار. وَذكر غَيره أَنه كَانَ فِي دَعْوَة بعض التُّجَّار المياسير، فَألْقى للسنور لقْمَة خبزٍ، ثمَّ أَرَادَ أَن يثنيها؛ فَقَالَ التَّاجِر: دع، فَلَيْسَتْ الْهِرَّة لنا، إِنَّمَا هِيَ للجيران. كَانَ زِيَاد بن عبيد الله الْحَارِثِيّ على الْمَدِينَة، وَكَانَ فِيهِ جفاءٌ وبخلٌ، فأهدى إِلَيْهِ كاتبٌ لَهُ سلاسلاً فِيهَا أَطْعِمَة، قد تنوق فِيهَا، فوافقه وَقد تغدى، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ . قَالُوا: غذاءٌ بعث بِهِ الْكَاتِب، فَغَضب وَقَالَ: يبْعَث أحدهم ابْن اللخناء بالشَّيْء فِي غير وقته. يَا خَيْثَم بن مَالك - يَعْنِي: صَاحب الشَّرْط - ادْع أهل الصّفة يَأْكُلُون هَذَا. فَبعث خَيْثَم الحرس يدعونَ أهل الصّفة. فَقَالَ الرَّسُول الذب جَاءَ بالسلال: أصلح الله الْأَمِير. لَو أمرت بِهَذِهِ السلال تفتح وَينظر إِلَى مَا فِيهَا. قَالَ: اكشفوها، فَكشفت؛ فَإِذا طعامٌ حسنٌ من سمكٍ ودجاج وفراخٍ وجداء، وأخبصة وحلوى؛ فَقَالَ: ارْفَعُوا هَذِه السلال. قَالَ: وَجَاء أهل الصّفة؛ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ . قَالُوا: أهل الصّفة، أَمر الْأَمِير بإحضارهم؛ فَقَالَ: يَا خَيْثَم، اضربهم عشرَة أسواط. فَإِنَّهُ بَلغنِي أَنهم يفسون فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(3/201)
الْبَاب الثَّانِي عشر كَلَام الشطار وَمن يجْرِي مجراهم، ونوادرهم
حكى بَعضهم أَن شاطراً افتخر. قَالَ: فَحفِظت من كَلَامه: أَنا الموج الكدر، أَنا القفل الْعسر، هَذَا وَجْهي إِلَى الْآخِرَة، تَأمر بِشَيْء؟ لَك حَاجَة إِلَى مالكٍ خَازِن النَّار؟ . أَنا النَّار، أَنا الْعَار، أَنا الرحا إِذا دَار، أَنا مشيت مشيت سبوعين بِلَا رَأس، لَوْلَا أَنِّي عليلٌ لنخرت نخرة نصفهَا صَاعِقَة وَنِصْفهَا زَلْزَلَة. أضعك فِي جيبي، وأنساك حَتَّى تعفن السَّاعَة، أقطف رَأسك وأجعله زر قَمِيصِي، أَو أستنشقك فَلَا أعطسك إِلَّا فِي الْجِيم، أَو أشربك فَلَا أبولك إِلَّا على الصِّرَاط إِذا صَاح آدم: وامفقوداه. والك لَو كلمني الْفِيل لم يخرس، أَبُو الْبَحْر لم ييبس، أَو عضني الْأسد لم يضرس، أَو رَآنِي نمروذٌ لم يتقدس. أصدقائي أَكثر من خوص الْبَصْرَة، وخردل مصر، وعدس الشَّام، وحصى الجزيرة، وَشَوْك القاطول، وحنطة الْموصل وقصب البطائح، ونبق الأهواز، وزيتون فلسطين. والك أَنا أشْرب الرمل أُخْرَى صخرا، أبلع النَّوَى أُخْرَى نخلا. قَالَ: وَسمعت واعظأً مِنْهُم يَقُول: يَا بني، لوطوا؛ فَإِن النَّاس يلوطون، وازنوا؛ فَإِن النَّاس يزنون، وَإِيَّاكُم أَن تنا. . وَا؛ فو الله مَا يسرني أَن رجلا أَوْمَأ إِلَى استي بأيرٍ من خُرَاسَان، وَأَنه بُويِعَ لي بالخلافة. سَمِعت فَقِيها لَهُم يَقُول: سَأَلت سابلويه الباقلاني: لم لَا يجوز الن. . ك بَين الفخذين؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ يكره الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ. قَالَ سعيد بن حميد: رَأَيْت حارساً يشكو إِلَى آخر وَاحِدًا مِنْهُم خبب غُلَامه؛ فَأطَال الشكاية، ثمَّ تنفس الصعداء وَأَنْشَأَ يَقُول: كلما قلت قد رضى ... وتعشى وكل شي جَاءَ عَمْرو فخببه ... وَبَقينَا بِغَيْر شي(3/202)
قَالَ بَعضهم: مَرَرْت بِبَاب الطاق، وحارسان يأكلان، فَمر بهما حارسٌ آخر وَخَلفه كلب؛ فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: رَأَيْت مثل هَذَا الْكَلْب؟ أجرش أبرش حسن الشية، أعزل الذَّنب. فَقَالَ الآخر: لَا وَنور الله إِن كَانَ الْكَلْب كَلْبه، وَإِنَّمَا استعاره يتجمل بِهِ. قَالَ بَعضهم: نزلت فِي معسكرٍ بِإِزَاءِ قومٍ من الْجند، وَمَعَهُمْ مغنٍّ يتَغَنَّى بالعجائب، سمعته يُغني: من لقلبٍ مَا يفِيق من ألمٍ ... هائماً يهذي بخراز الْأدم قَالَ: فطرب أحدهم وَقَالَ ويلاه سنة. وحاتك، أَلِمَنْ الشّعْر؟ سَيِّدي. قَالَ: للخنساء. قَالَ: وَمن الخنساء؟ . قَالَ: فَتى من الأنباء. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت يَوْمًا مكارياً - وَهُوَ عُرْيَان - وَعَلِيهِ سَرَاوِيل خلقٌ متمزقٌ وفية تكة تَسَاوِي دِينَارا؛ فَقلت: لَو بِعْت هَذِه التكة فَقَالَ: لَا تفعل يَا شاطر مروة الرجل تكته. قَالَ: وَرَأَيْت وَاحِدًا مِنْهُم وَقد قَامَ فِي جماعةٍ من أَصْحَابه؛ فَقَالَ: يَا فتيَان هوذا، أشْرب وأسقكيم؛ فَقَالَ لَهُ وَاحِد مِنْهُم: اشرب فديتك كلنا، واسق أَي بَعْضنَا شِئْت. قَالَ: وَرَأَيْت شاطراً وَقد وقف على قبر شاطر؛ فَقَالَ: رَحِمك الله أَبَا لاش. كنت وَالله - مَا علمت - حاد السكين، فاره الصّديق، إِن نقبت فجرذٌ، وَإِن تسلقت فسنور، وَإِن استلبت فحدة، وَإِن ضربت فأرضٌ، وَإِن شربت فحب، وَلَكِنَّك الْيَوْم وَقعت فِي زَاوِيَة سوء. قيل لبَعض الشطار: كلما شهد شَاهد قبلت شَهَادَته؟ . قَالَ: لَا حَتَّى أعلم أَنه ابتلى فَصَبر، وَأَنه لَا يخبب على الأصدقاء، وَلَا يسرق الْجِيرَان. وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى كَانَ أرْحم بالفتيان أَن يَجْعَل النَّاس كلهم فتياناً؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز لفتىً أَن يسرق مَتَاع فَتى، وَلَا يخبب صديق فَتى، وَلَا يطْلب أثر فَتى إِلَّا أَن يكون الْغُلَام هُوَ الَّذِي يُريدهُ، وَنحن لَا بُد لنا من مالٍ ننفقه، وصديق نتخذه، فَلَو كَانَ النَّاس كلهم فتياناً هلكنا.(3/203)
ضرب حارسٌ أمه، فعوتب على ذَلِك؛ فَقَالَ: قد قلت لَهَا عشْرين مرّة، وَهَذِه الثَّالِثَة: إِذا كنت سَكرَان فَلَا تكلميني، فَإِن الشَّيْطَان نارٌ يرتعد. وَذكر بَعضهم أَنه حضر مَجْلِسا فِيهِ غُلَام وضيء الْوَجْه أديب، وَهُنَاكَ شَاب مخنجر اللِّحْيَة يتشطر، فَأخذ الْغُلَام تفاحة، فعبث بهَا سَاعَة، ثمَّ حَيا بهَا الْفَتى الشاطر، فَلم ينهنه أَن أكلهَا والغلام ينظر إِلَيْهِ؛ فَقَالَ الْغُلَام: سوءةً لَك ولوماً، أتأكل التَّحِيَّات؟ فَقَالَ: إِي وَالله، والصلوات الطَّيِّبَات. قَالَ بَعضهم: كنت فِي بَيت قمري الخبني، وداخل عَلَيْهِ صاحبٌ لَهُ، فَبَلغهُ عَن آخر من أَصْحَابه أَنه زِنَاهُ؛ فاغتاظ، وَجعل يلعنه؛ فَقُلْنَا لَهُ: زنه كَمَا زناك أَو اسْكُتْ. قَالَ: أَنا لَا أزنيه، وَلَا أكون سَفِيها، وَلَكِنِّي أَرْجُو أَن يزينه الله من فَوق سبع سموات. قَالَ: سَمِعت حارساً يَقُول: أَنا أَنِّي ... ك أم من زعم أَن النَّار فِي النّوم لَيْسَ هِيَ سُلْطَان عزلت، فَرَأَيْت فِي النّوم كَأَن النَّار أحرقت كوخي، وشرائح عَمَلي حَتَّى لَا تتْرك لي قَصَبَة؛ فَفَزِعت فَلم أصبح حسنا، حَتَّى سَمِعت دق الْبَاب فَإِذا نوفيل المصلحي قد وضع فِي يَدي المزراق، ومقود قلادة قرطاس، وَخَاتم طين بتسلم الْعَمَل، فَإِن الْملك عقيم. قَالَ بَعضهم: كَانَ لي صديقٌ يقامر، وَكنت أوبخه وألومه أبدا على ذَلِك؛ فَأَتَانِي يَوْمًا وَقَالَ: يَا أَبَا فلَان. تَقول لي: لَا تقامر. قد رهنت وَالله منديلي الَّذِي اشْتَرَيْته بِثَلَاثَة عشر درهما على عشْرين درهما، وَهَذَا يَا أَبَا فلَان ربح عَظِيم. قَالَ بَعضهم: سَمِعت بِبَاب الطاق شَيخنَا من سفلَة النَّاس يَقُول لآخر أَسْفَل مِنْهُ: وَيحك يَا مُحَمَّد، لَا تتعجب من ابْني عفويه، أَخَوَيْنِ أحدهم: مرعوشي وَالْآخر فضلي. قَالَ لَهُ: وإيش فِي هَذَا - هوذا - الْقُرْآن فِيهِ جيدٌ وَفِيه رديءٌ. قَالَ: وَيحك: كَيفَ يكون الردئ فِي الْقُرْآن؟ قَالَ: نعم: " قل هُوَ الله أحدٌ " بِأَلف دِينَار، وبجنبها " تبت " تَسَاوِي حبتين أسْتَغْفر الله.(3/204)
قَالَ بَعضهم: قلت لشاطرٍ: فلانٌ لَيْسَ يعدك شَيْئا؛ فَقَالَ: وَالله لَو كنت لَيْسَ أَنا أَنا، وَأَنا ابْن من أَنا مِنْهُ لَكُنْت أَنا أَنا وَأَنا ابْن من أَنا مِنْهُ. فَكيف؟ وَأَنا أَنا وَأَنا ابْن من أَنا مِنْهُ. اخْتصم اثْنَان من الشطار إِلَى قاضٍ لَهُم، يَقُول كل وَاحِد: أَنا أفتى مِنْك؛ فَقَالَ القَاضِي لأَحَدهمَا: الخبيص أحب إِلَيْك أم الفالوذج؟ فَقَالَ: الخبيص. وَقَالَ الآخر: الفالوذج. فَحكم للَّذي فضل الفالوذج، فَسئلَ عَن الْحجَّة؛ فَقَالَ: لِأَن الخبيص يعْمل من السكر، وَالسكر من القند، والقند من الْقصب، والقصب يمصه الصّبيان فِي الكتاتيب، وَالصبيان لَيْسَ لَهُم فتوة؛ والفالوذج يعْمل من الْعَسَل، وَالْعَسَل من الشهد، والشهد من النَّحْل، والنحل يأوي الْجَبَل، والجبل يكون فِيهِ الصعاليك والصعاليك فتيَان. قَالَ الجماز: رَأَيْت شاطراً وقف على جمَاعَة وَقد جرد سكينه وَقَالَ: من كلم مِنْكُم حمدَان الْغُلَام؟ ؛ فَقَالَ أحدهم: أَنا. قَالَ: فَلَا حسنٌ وَلَا جميل. قَالَ: فاجهد جهدك؛ فَقَالَ: خذلني الله لَو كَانَ غَيْرك. قَالَ: أَنا غَيْرِي. قَالَ: وَالله لَو كَانَ غير هَذَا الْموضع. قَالَ: فَنحْن بفرغانة. فَرد صَاحبه السكين فِي قرَابه وَقَالَ: وَيحك، أَنْت طَالب شرٍّ فتيَان بَاب الشَّام كلهم سعاتر. مَالك كَذَا روش؟ أَي: جدبة. اجْتمع أَرْبَعَة نفرٍ من الشطار يُقَال لأَحَدهم: صحناة، وَلآخر حَرْمَلَة، وللثالث: غزون، وللرابع طفشيةٌ، وَمَعَهُ غُلَام أَمْرَد يُرِيد أَن يَنْقَطِع إِلَى وَاحِد مِنْهُم. وكل واحدٍ يَطْلُبهُ لنَفسِهِ؛ فَتَحَاكَمُوا إِلَى شيخ مِنْهُم؛ فَقَالَ الشَّيْخ: ليذكر كل واحدٍ مَا فعله، وَمَا يقدر عَلَيْهِ حَتَّى أخير الْغُلَام؛ فَيصير إِلَى من أحب؛ فَقَامَ صحناة؛ فَقَالَ: وَال أمك، لَو تراني، ضبعوني فِي عَيْنك، يَا بن الْعَلامَة. أَنا هامان أَنا فِرْعَوْن، أَنا عَاد، أَنا الشَّيْطَان الأقلف، أَنا الدب الأكشف، أَنا الْبَغْل الحرون، أَنا الْحَرْب الزبون، أَنا الْجمل الهائج، أَنا الكركدن المعالج، أَنا الْفِيل المغتلم، أَنا الدَّهْر المصطلم، أَنا العير الشارد، أَنا، السَّبع الْوَارِد، أَنا سرداب(3/205)
التضريب، أَنا بوق الْحَرْب، أَنا طبل الشغب، محبوسٌ شَرْقي غربي، مضربٌ قَائِم نَائِم مبطوط الإليتين، معطل الدفتين. أبلغ أسنةً أُخْرَى جواشن، لَو ضرب رَبك عنقِي مَا مت بعد سنة. وَهَذَا حمدَان فروجٌ فِي حجري بالْأَمْس، حَتَّى جنى جِنَايَة رزق الطّلب، وحملان - وبيته - ضرب ألفا فَمَا عبس عَسى ينْطق أحد. فَقَالَ حَرْمَلَة: يَا بن الصفعان، أَنا حبست فِي أجمةٍ، أكلت مَا فِيهَا من السبَاع، وَجعلت الْحَشِيش نقلى، أَنا طوف الله الجائح فِي بَحر قلزم. لَو كلمني رجلٌ يعثر بسباله لعقدت شعر أَنفه إِلَى شعر استه، وأديره حَتَّى يشم فساه، يابه الْقُنْفُذ؛ لَو كلمني رجل لم الكمه لكمة فأبدد عِظَامه قلا تَجْتَمِع فِي شهر لَو كلمني رجلٌ لم أخرج أَنفه وأحرزه فِي قربةٍ، وأصفعه صفعة، فأبلع رَأسه مَعَ رطلين خرا. يابه الجرادة املأ عَيْنك مني والك وَأَنت زُرَيْق الجنى: طَعَامي الصَّبْر، وريحاني الدَّم، ونقلي أدمغة الأفاعي. أَنا أسست الشطارة، أَنا بويت العيارة. يَا بن الزارعة الفارشة الهارشة القلاشة النفاشة. من يتَكَلَّم؟ . قُولُوا. فَقَامَ غزون وَقَالَ: إيش تَقول لي يَا بن الطبزدانة؟ ، أَنا الْقدر والجذر والممزوج بالضجر، أَنا أَبُو إيوَان كسْرَى، حولت المحابس والمطابق، وَقطعت أكباد الْخَلَائق، أَنا أخرق الصفين، وأضرب العسكرين، رفيقي صياح الْكَلم، وجعفر ابْن الْكَلْب، ومُوسَى سلحة، وَعِيسَى ركبة، وكردويه الباقلاني. وفروج السماط، ودكرويه المكاري. انفوني - وَنور الله - إِلَى الشاش وفرغانة، وردوني إِلَى: طنجة، وإفرنجة، وأندلس، وإفريقية. ابْعَثُوا بِي إِلَى قَاف، وَخلف الرّوم وَإِلَى السد، وَإِلَى يَأْجُوج وَمَأْجُوج إِلَى مَوضِع لم يبلغ ذُو القرنين، وَلم يعرفهُ الْخضر، أَنا شهِدت الغول عِنْد نفَاسهَا، وحملت جَنَازَة الشَّيْطَان غير جبان، أَنا فِرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد. إِن لم أَقبض روحك مشيت سَبْعَة بِلَا رَأس، قطع ذَنبي فِي كل كرم، قطعت عروقي بِكُل خنجر، رضت عِظَامِي بِكُل منجل، لَو نخرت نخرةً لخرت صوامع النَّصَارَى، وتحطمت قُصُور بني إِسْرَائِيل. لَو عضني - وَنور الله - الْأسد لضرس، وَلَو كلمني إِبْلِيس لخرس، وَلَو رَآنِي العفريت لخنس.(3/206)
قَالَ طفشية: أَنا قتلت ألف، وجرحت ألف، وَأَنا فِي طلب ألف، يَا بن الخادمة، يتهيأ لفرعون أخي القحبة أَن يقطب فِي وَجْهي، أَو يقوم بقربي، أَو يناظرني كلمة وَكلمَة، رَأْسِي مُدَوَّرَة ولحيتي خنجرية، وسبالي مفصلي، واستي خرساء، وَأَنا مَشْهُور فِي الْآفَاق بِضَرْب الْأَعْنَاق، لَا يجوز عَليّ المخراق؛ أَنا الرّبيع إِذا قحط النَّاس، أَنا العنى إِذا كثر الإفلاس، أَنا أشهر من الْعِيد، سل عني الْحَدِيد، وَفِي المطبق الْجَدِيد. الْبَيْضَة مني تسوي ألف، لَو حضنت خرج مِنْهَا ألف شَيْطَان، أَنا شققت شدق النمر، وصيرت على الْأسد الإكاف، يَا كلب انبح، أَنا الشّجر، أَنا الأبحر، أَنا تنور يسجر، صديق صديقي، وزورٌ من عنتر، من الجلندا، من كركر، من الْأسد، من طَاهِر الْأَعْوَر. إِبْلِيس إِذْ آنى قطر. وَلَو كلمني رجلٌ رَأسه من نُحَاس، وَرجلَيْهِ من رصاص، أصفعه صفعةً فأصير أَنفه فِي قَفاهُ، أَنا السهل الهاطل، أَنا المقت الشاطر، أَنا بلاع القناطر، إِن لم أَلعَب بك فِي الطبطاب، وأفسيك فسو الصعو فِي الرطاب باسم شيطاني مستلاب، أَنا أقسى من الْحجر، وَأهْدى من القطاة، وأزهى من الْغُرَاب، وَأحذر من العقعق، وأولع من الذُّبَاب، وألج من الخنفساء، وَأحد من النورة وأغلى من الترياق، وأعز من السم، وَأمر من العلقم، وَأشهر من الزرافة. أَنا الموج الكدر، أَنا القفل الْعسر، رَأْسِي سندان، نابي سكين جزار، يَدي مطرقة حداد: إيش تَقول؟ صادقني وسل عني، أَنا صعصعة الْحَيّ. أَنا خيرٌ لَك من غَيْرِي. هوذا وَجْهي إِلَى الْآخِرَة، لَك حاجةٌ إِلَى رَبك؟ هوذا أجد ريح الدَّم. إيش ترَوْنَ؟ من ينْطق؟ . فَسكت الْقَوْم، وبادر الْغُلَام وَأخذ بِيَدِهِ وصادقه. كَانَ بمرو رجلٌ يتفتى ويتشطر، وَلم يكن لَهُ يومٌ من أَيَّام الفتيان قطّ وَلَا فتكةٌ من فتكانهم، إِلَى أَن وَقع بَينه وَبَين رجل قصارٍ ضعيفٍ شَرّ، فَضَربهُ ضربا وجيعاً وأذله فَكَانَ يفتخر بذلك ويتطاول عِنْد الفتيان بِهِ، فتأذى جِيرَانه بِوَاحِد(3/207)
قصابٍ جلد؛ فجاءوه وَقَالُوا: فلَان قد تأذينا بِهِ، فتكشف عَنَّا شَره وتذله. وتكفيناه. فَقَالَ: لَا أَدْرِي من فلَان؟ ، وَلَكِن إِذا شِئْتُم ضربت لكم الْقصار وأنزلت كل مَكْرُوه بِهِ. وَقع بَين شاطرٍ وَشبه لَهُ كلامٌ؛ فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر: لَوْلَا أَنَّك أكبر سنا مني لجرحتك، ثمَّ مضى غير بعيد، فَوَقع بَينه وَبَين آخر. فَقَالَ: وَالله لَوْلَا أَنَّك أَصْغَر مني لقاتلتك، فَقَالَ لَهُ رَفِيقه: يَا بن الزَّانِيَة، مَتى يتَّفق لَك توأمٌ تُقَاتِلهُ؟ . قَالَ بَعضهم: مَرَرْت بواحدٍ وَهُوَ يَقُول: يَا من أمه زورق تسع ألف كرٍّ بالمعدل خَرْدَل. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت شاطراً يضْرب بالقلس، وَهُوَ ينظر إِلَى الأَرْض؛ فَلَمَّا بلغ الضَّرْب مائَة قَالَ لَهُ الْوَالِي: ارْفَعْ رَأسك. فَقَالَ: يَا سَيِّدي، بَقِي رَأسهَا. قَالَ: وَمَا معنى: بَقِي رَأسهَا؟ . قَالَ الجلاد: كنت أضربه وَهُوَ يصور بِرجلِهِ فِي الأَرْض بطةً وَقد بَقِي رَأسهَا. قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي: دخلت على فتيانٍ من أهل الْمَدِينَة يشربون، وَإِذا هم متكئون على كلابٍ كردية؛ فَقَالَ بَعضهم: هاتوا وسَادَة لأبه مُحَمَّد؛ فَجَاءُوا بكلب؛ فَلَمَّا اتكأت عَلَيْهِ قَالُوا: هاتوا لَهُ أَيْضا مخدةً؛ فَجَاءُوا بجرو؛ فلكا تناولوا الأقداح جَاءَ غلامٌ وَفِي يَده قداحة يقْدَح فِي لحية من يحبس الْقدح. عزل حارس ناحيةٍ؛ فجَاء قومٌ إِلَى الْمَعْزُول يتوجعون لَهُ؛ فَقَالَ بَعضهم: لَو كَانَ غَرِيبا عذرناه، وَإِنَّمَا الْعجب أَنه أَخُوك؛ فَقَالَ: اعذروه فَإِن الْملك عقيقٌ، يُرِيد عقيم. كَانَ عُثْمَان الْخياط من كبار الفتيان والشطار؛ فَقَالَ: مَا سرقت جاراً قطّ وَلَو كَانَ عدوا، وَلَا سرقت كَرِيمًا رأنا أعرفهُ، وَلَا خُنْت من خانني. وَلَا كافأت غدراً بغدر، وَلَقَد قتلت بيَدي أَكثر من مائَة خناق ومبنج؛ لِأَنَّهُمَا لَا يقتلان وَلَا يسلبان إِلَّا عِنْد وجوب الْحُرْمَة، وَعند الاسترسال والثقة.(3/208)
وَكَانَ يُسمى الْخياط لِأَنَّهُ نقب نقباً فَأخْرج كل شيءٍ كَانَ فِي الْبَيْت، حَتَّى دثار الدَّار صَاحب الدَّار وشعاره، ثمَّ خرج وسد النقب، وسواه تَسْوِيَة كَأَنَّهُ خاطه أَو رفاه، فلقب بالخياط. وَكَانَ سُلَيْمَان بن طرادٍ مِنْهُم، وَكَانَ لَا يقْعد فِي دهليزه، وَلَا يشرب من جنَاحه، بل يصير فِي قصرٍ من قُصُور الأبلة، وَلَا يطلع فِي كوةٍ، وَيَأْمُر بذلك أصدقاءه وَأَصْحَابه، وَيَقُول: إِن تعودتم النّظر إِلَى المَاء وَالْخُرُوج إِلَى المتنزهات جزعتم من الْحَبْس لم تدفعوا ضيماً، وَلم تكسبوا مَالا. وَكَانَ يَقُول: لَا يُعجبنِي الْفَتى يكون لحاظاً. وَكَانَ صَاحب إطراقٍ. وَكَانَ يَقُول: إيَّاكُمْ وفضول النّظر، يَدْعُو إِلَى فضول القَوْل وَالْعَمَل. وَمِنْهُم بابويه؛ وَكَانَ شَيخا كَبِيرا ذَا رَأْي ونجدة، وَصدق وَأَمَانَة، وهمةٍ بعيدَة، وأنفةٍ شَدِيدَة. وَكَانَ مَحْبُوسًا بعدة دِمَاء فَلَمَّا نقب حمير بن مَالك السجْن، وَقَامَ على بَاب النقب يشرب النَّاس ويحميهم؛ ليستتم الْكَرَامَة، وَجَاء رَسُوله إِلَى بابويه، فَقَالَ: أَبُو نعَامَة ينتظرك، وَلَيْسَ لَهُ هم سواك، وَمَا بردت مِسْمَار، وَلَا فَككت حَلقَة، وَأَنت قَاعد غير مكترثٍ وَلَا محتفلٍ وَقد خرج النَّاس حَتَّى الضُّعَفَاء؛ فَقَالَ بابويه: لَيْسَ مثلي يخرج فِي الغمار، وتدفع عَنهُ الرِّجَال. لم أشاور وَلم أؤامر. ثمَّ يُقَال لي الْآن: كن كالظعينة، وَالْأمة، وَالشَّيْخ الفاني. وَالله لَا أكون فِي الْجنَّة تَابعا ذليلاً. فَلم يبرح، وَخرج سَائِر النَّاس - وإجرامه وَحده كإجرام الْجَمِيع - فَلَمَّا جَاءَ الْأَمِير وَدخل السجْن فَلم ير فِيهِ غَيره قَالَ للحرس: مَا بَال هَذَا؟ . فقصوا عَلَيْهِ الْقِصَّة؛ فَضَحِك وَقَالَ لَهُ: خُذ أَي طَرِيق شِئْت؛ فَقَالَ بابويه: هَذَا عَاقِبَة الصَّبْر.(3/209)
الْبَاب الثَّالِث عشر العي ومكاتبات الحمقى
كتب بعض الرؤساء إِلَى وكيلٍ لَهُ فِي ضيعةٍ: وَقد وصلت النعاج، وَهِي: تسع نعاج. وتسع نعاجٍ أربعٌ ونصفٌ نعاج. وَكتب فلَان ابْن فلَان فِي الْوَقْت المؤرخ فِيهِ. قَالَ بَعضهم: مَا من شرٍّ من دين؛ فَقيل لَهُ: وَلم ذَاك؟ . قَالَ: من جراء يتعلقون. قَالَ قَاسم التمار فِي كَلَام لَهُ: بَينهمَا كَمَا بَين السَّمَاء إِلَى قريبٍ من الأَرْض. وَقَالَ أَيْضا: لَو رَأَيْت إيوَان كسْرَى كَأَنَّمَا رفعت عَنهُ الْأَيْدِي أول من أمس. وَقَالَ الجاحظ: قَالَ لي ابْن بركَة: يَا أَبَا عُثْمَان، لَا تثقن بقحبةٍ وَلَو كَانَت أمك. قَالَ: فَلم أر تأديباً قطّ أبعد من جَمِيع الرشد من هَذَا. قَرَأت لبَعض كتاب الزَّمَان فِي كتاب سُلْطَان أنشأن: مَا سمع قرعي هَذَا. يُرِيد: مَا قرع سَمْعِي. وَبَعض كتاب الْأُمَرَاء يُوقع فِي الصكاك والمناشير: اللَّهُمَّ ألبسنا الْعَافِيَة. وَكَانَ بعض أكَابِر كتاب عضد الدولة يُوقع فِي الصكاك: الْحَمد لله فتاح المغاليق؛ فَكتب بعض البغداديين تَحت توقيعه: شربي وشربك مذ جِئْنَا على الرِّيق.(3/210)
تظلم أهل قُم إِلَى عبد الله القمي وَزِير ركن الدولة من أَخِيه - وَكَانَ واليهم - وَرفعُوا إِلَيْهِ رقْعَة؛ فَوَقع فِي قصتهم: من دفع فِي أخي درهما دفعت فِيهِ دِينَارا؛ فَإِن ودى ودى، وَإِن لَا ودى خرج من دقه وَجلده حَتَّى ودى؛ وَالسَّلَام. قَالَ بَعضهم: جِئْت إِلَى كاتبٍ وَسَأَلته كتاب شفاعةٍ إِلَى بعض أصدقائه؛ فَكتب: يجب أَن تصونه وتحوطه، وَترد عَلَيْهِ خطوطه. قَالَ: فَقلت: الرجل لم يعرفنِي قطّ وَلَيْسَ مَعَه شيءٌ من خطوطي؛ فَقَالَ: إِن أردْت أَن تَأْخُذ الْكتاب فَخذه، وَإِلَّا فَإِنِّي لَا أضيع سجعي. قَالَ بَعضهم: كتب إِلَى جَامع الصيدلاني كتابا؛ فَكتب جَوَابه. وَجعل عنوانه مني إِلَى ذَاك الَّذِي كتب إِلَيّ. كتب ابْن المتَوَكل إِلَى مُحَمَّد بن عبيد الله يطْلب فهداً؛ فَكتب إِلَيْهِ: نحرت عِنْد مقَام لَا إِلَه إِلَّا الله؛ صلى الله على سَيِّدي فديته، إِن كَانَ عِنْدِي مِمَّا طلبته وزن دنقٍ فَلَا تظن يَا سَيِّدي أَنِّي أبخل عَلَيْك بِالْقَلِيلِ دون الْكثير فضلا عَن الْكثير، وَالسَّلَام. وَكتب مُعَاوِيَة بن مراون - وَكَانَ محمقاً - إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك: قد بعثت إِلَيْك بقطيفةٍ حَمْرَاء حَمْرَاء حَمْرَاء؛ فَكتب فِي جَوَابه: قد وصلت، وَأَنت أَحمَق أَحمَق أَحمَق. قَالَ أَبُو العيناء: كتب بَعضهم إِلَى صديقٍ لَهُ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وأمتع بك، حفظك الله واتقي لَك من للنار سوء الْحساب. كتبت إِلَيْك والدجلة تطفح، وسفن الْموصل هَاهُنَا، وَالْخبْز رطلين؛ فَعَلَيْك بتقوى الله، وَإِيَّاك وَالْمَوْت؛ فَإِنَّهُ طَعَام سوءٍ، وَالسَّلَام. وَكتب بعض الهاشميين إِلَى السندي بن شاهك. باسم الله وأمتع بك: إِن أَخا خادمي أَخذ رجلا من الشَّرْط بِسَبَب كلب يُقَال لَهُ مُوسَى، ومُوسَى لَيْسَ عندنَا يداعى؛ فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بسبيل تخليته فعلت إِن شَاءَ الله.(3/211)
وَكتب بعض ولد المتَوَكل إِلَى أبي أَحْمد الْمُوفق: أَطَالَ الله بَقَاءَك يَا عمي، وأدام عزك وأبقاك: أَنا " - وَحقّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أحبك أَشد من المتَوَكل وَأَشد من وَالِدي، وَلَا أحتشمك أَيْضا. وَقد جابوا لَك مطبوخ من عكبرا، فَأحب أَن تبْعَث إِلَيّ مِنْهُ خمس دنان وَإِلَّا ثَلَاث خماسيات، وَلَا تردني فأحرد بحياتي. وَكتب بعض الهاشميين إِلَى عَليّ بن يحيى بن المنجم: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. أستوهب الله المكاره كلهَا فِيك يَا سَيِّدي برحمته، وَأحب يَا سَيِّدي أَنْت أَن تسقيني زبيب نبيذٍ وعسلٍ، فَإِنِّي عِنْدِي رجلٌ يشرب الْمَطْبُوخ إِن شَاءَ الله. وَكتب إِلَى صديقٍ لَهُ: فدتك نَفسِي. أَنا وحدي، والجواري عِنْدِي، وَأَنا وَأَبُو إِسْحَاق وَأبي الْعَبَّاس فِي الْبُسْتَان، موفقاً إِن شَاءَ الله. وَكتب إِلَى آخر يستعير مِنْهُ دَابَّة: أردْت الرّكُوب فِي حاجةٍ إِن شَاءَ الله؛ فَكتب إِلَيْهِ الرجل: فِي حفظ الله. قَالَ أَبُو العيناء: شكا بعض جيران مُحَمَّد بن عبيد الله بن الْمهْدي إِلَيْهِ أَذَى غلمانه للجيران؛ وَسَأَلَهُ أَن ينهاهم. فَكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد قبل كل شَيْء؛ فصحبك الله، أمالي بخيرٍ حِين تَشْكُو الغلمان بِسَبَب الْجِيرَان لم هم مملوكين. وَكم ثمن دَارك؟ . لَو كَانَت مثل قصر الْخَلِيفَة حَتَّى، لم أكن أمتنع من هبتها لغلامك وَلَو خرجت عَن دُخُول بَغْدَاد. إِنِّي وَالله لَو كنت حارس الْكَلْب إِذا كنت غَائِبا عَنْهَا. وَأَعُوذ بِاللَّه لَو كلمتك عشر سِنِين؛ فَانْظُر الْآن أَنْت إِلَيّ، عَليّ الْمَشْي إِلَى بَيت الله - أَعنِي بِهِ الطَّلَاق - وَثَلَاثِينَ حجَّة أَحْرَار لوجه الله، وسبيلي حبسٌ فِي دَوَاب الله. فعلت موفقاً إِن شَاءَ الله. قَالَ: وَكتب زنقاح - وَهُوَ مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ بن الْمهْدي - إِلَى طبيبه: وَيلك يَا بو حنا، وَأتم نعْمَته عَلَيْك. قد شربت الدَّوَاء خمسين مقْعدا، المغص والتقطيع يقتلان بَطْني، وَالرَّأْس فَلَا تسل لَهُ مصدعاً بعصابةٍ مذ بعد أمس، فَلَا تُؤخر احتباسك عني. فَسَوف أعلم أَنِّي سأموت، وَتبقى أَنْت بِلَا أَنا. فعلت موفقاً إِن شَاءَ الله.(3/212)
وَكتب إِلَى صديقٍ لَهُ يطْلب مِنْهُ بخوراً. شممت مِنْك الْيَوْم - وَحقّ الله عزك الله - رَائِحَة طيبَة وَذَلِكَ وحياتك بإطراح الحشمة موفقاً، إِن شَاءَ الله. قَالَ: وَكتب آخر إِلَى أَبِيه من الْبَصْرَة: كتابي هَذَا وَلم يحدث علينا إِلَّا خير وَالْحَمْد لله، إِلَّا أَن حائطنا وَقع، فَقتل أُمِّي وأختي وجاريتنا، ونجوت أَنا والسنور وَالْحمار. فعلت إِن شَاءَ الله. قَالَ أَبُو العيناء: شكا بعض الْكتاب فِي نكبته وَكَانَ قد وزر فَقَالَ: أخذُوا مَالِي، وقلعوا أسناني إِلَّا أَن دَاري لم تَبْرَح مَكَاني. قَالَ أَبُو هفان: سَمِعت بعض الحمقى يُخَاصم امْرَأَته، وَفِي جيرتهم أَحمَق آخر، فَاطلع عَلَيْهِم؛ فَقَالَ: مَا هَذَا، اعْمَلْ مَعَ هَذِه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: " إِمَّا إمساكٌ بإيش اسْمه، وَإِمَّا تسريحٌ بإيش يُقَال لَهُ " فَضَحكت من حسن بَيَانه. وَكتب آخرٌ إِلَى صديقٍ لَهُ يعزيه عَن دَابَّته: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. جعلني الله فدَاك، بَلغنِي منيتك بدابتك، وَلَوْلَا علةٌ نسيتهَا إِلَيْك حَتَّى أعزيك فِي نَفسِي. جَاءَ رجلٌ إِلَى الرشيد؛ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنِّي قد هجوت الرافضة. فَقَالَ: هَات. فَأَنْشد: رغيفاً وَسمنًا وَزَيْتُونًا ومظلمة ... من أَن ينالوا من الشَّيْخَيْنِ طغيانا فَقَالَ: وَيلك فسره لي. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَعَك مائَة ألف رجل من الْجند لَا تعرفه، كَيفَ أعرفهُ أَنا وحدي؟ . قَالَ أَبُو عُثْمَان: حَدثنِي مسْعدَة بن طَارق قَالَ: وَالله إِنَّا لوقوفٌ على حُدُود دَار فلَان للْقِسْمَة - وَنحن فِي خصومةٍ - إِذا أقبل سيد بني تَمِيم وموسرهم، وَالَّذِي يُصَلِّي على جنائزهم؛ فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ مُقبلا أمسكنا عَن الْكَلَام؛ فَأقبل علينا؛(3/213)
فَقَالَ: حَدثُونِي عَن هَذِه الدَّار هَل ضم مِنْهَا بعضٌ إِلَى بعضٍ أحدا؟ . قَالَ مسْعدَة: فَأَنا مُنْذُ سِتِّينَ سنة أفكر فِي كَلَامه، مَا أَدْرِي مَا عَنى بِهِ. كَانَت عَلامَة أبي الْحمار لما تقلد ديوَان الْخراج فِي سنة الْفِتْنَة، الَّتِي كَانَ يوقعها فِي الصكاك: لَا إِلَه إِلَّا الله. مَا أعجب مَا نَحن فِيهِ. فَكَانَ بعض الْكتاب بعد ذَلِك يَقُول: لَا وَالله، مَا نَحن إِلَّا فِي عَلامَة أبي الْحمار. حكى عَن حَمْزَة بن نصير - مَعَ جلالته عِنْد سُلْطَانه، وموضعه من ولائه -: أَنه دخل على امْرَأَته، وَعِنْدهَا ثوب وشى؛ فَقَالَت لَهُ: كَيفَ هَذَا الثَّوْب؟ . قَالَ: بكم اشْتَرَيْته؟ . قَالَت: بِأَلف دِرْهَم. قَالَ: قد - وَالله - وضعُوا فِي استك مثل ذَا، وَأَشَارَ بكفه مَقْبُوضَة مَعَ ساعده؛ فَقَالَت: لم أزن الثّمن بعد. قَالَ: فخاصهم بعد فِي يدك. قَالَت: فأختك قد اشترت شرا مِنْهُ بِأَلفَيْنِ. قَالَ: إِن أُخْتِي تضرط من استٍ وَاسِعَة. قَالَت: وَلَكِن أمك عرض عَلَيْهَا فَلم ترده. قَالَ: لِأَن تِلْكَ فِي استها شَعْرَة. قَالَ أَحْمد بن الطّيب: هَذَا كَلَام الخرس أحسن مِنْهُ. قَالَ أَبُو هفان: رَأَيْت شَيخا بِالْكُوفَةِ قَاعِدا على بَاب دَار، وَله زِيّ وهيئة وَفِي الدَّار صُرَاخ. فَقلت: يَا شيخ، مَا هَذَا الصُّرَاخ؟ ، فَقَالَ: هَذَا رجلٌ افتصد فَبلغ المبضع شادروانه فَمَاتَ. يُرِيد: بلغ المبضع شريانه. وصف بَعضهم امْرَأَة؛ فَقَالَ: عينهَا الْأُخْرَى أكبر من عينهَا الْأُخْرَى. كتب بعض من وزر بِالريِّ آنِفا كتابا فِي معنى أَبِيه إِلَى صديق لَهُ بِبَغْدَاد - وَكَانَ قد حج أَبوهُ -: هَذَا الْكتاب يوصله فلانٌ ابْن فلَان، وَهُوَ وَالِدي، وقديم الصُّحْبَة لي، وَاجِب الْحق عَليّ، ولي بأَمْره عناية. وَدخل أَبُو طَالب صَاحب الطَّعَام على هاشمية جَارِيَة حمدونة بنت الرشيد، على أَن يَشْتَرِي طَعَاما من طعامهم فِي بعض البيادر؛ فَقَالَ لَهَا: إِنِّي قد رَأَيْت متاعك. فَقَالَ هاشمية: قل طَعَامك. قَالَ: وَقد أدخلت فِيهِ يَدي فَإِذا متاعك قد خم وَحمى. وَقد صَار مثل الجيفة. قَالَت: يَا أَبَا طَالب، أَلَيْسَ قد قلبت الشّعير، فَأَعْطِنَا مَا شِئْت، وَإِن وجدته فَاسِدا.(3/214)
وَدخل أَبُو طَالب هَذَا على الْمَأْمُون؛ فَقَالَ: كَانَ أَبوك يَا با خيرا لنا مِنْك، وَأَنت يَا با لَيْسَ تعدنا، وَلَيْسَ تبْعَث إِلَيْنَا، وَنحن يَا با تجارك وَجِيرَانك. والمأمون فِي كل ذَلِك يتبسم. قَالَ الجاحظ: كتب رجلٌ إِلَى صديقٍ لَهُ: بَلغنِي أَن فِي بستانك آساً بهمنياً فَهَب أَي أمرا من أَمر الله الْعَظِيم. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ: كَانَ عياشٌ وثمامة حَتَّى يعظمني تَعْظِيمًا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مثله. فَلَمَّا مَاتَ ثُمَامَة صَار لَيْسَ يعظمني تَعْظِيمًا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مثله. وَكَانَ ابنٌ لسعيدٍ الْجَوْهَرِي يَقُول: صلى الله تبَارك وَتَعَالَى على محمدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَكَانَ بِالريِّ وراقٌ حسن الْخط، وَكَانَ إِذا كتب اسْم الله تَعَالَى أَو اسْم النَّبِي فِي الْقُرْآن أَو الشّعْر بعدهمَا مَا يَكْتُبهُ الانسان فِي سَائِر الْمَوَاضِع فَكَانَ يكْتب فِي الْقُرْآن: " إِن الله - عز وَجل - يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان ". " وَمَا محمدٌ - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - إِلَّا رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسُل ". وَكَانَ يكْتب فِي الشّعْر: إِن تقوى رَبنَا عز وَجل خير نفلوبإذن الله تبَارك وَتَعَالَى ريثي وَعجل وَيكْتب: هجوت مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأجبت عَنهُ: وَعند الله تَعَالَى فِي ذَاك الْجَزَاء(3/215)
وَقَالَ الجاحظ قلت لنفيس غلامي: بَعَثْتُك إِلَى السُّوق فِي حاجةٍ فَلم تقضها؛ فَقَالَ: يَا مولَايَ، أَنا ناقةٌ من مرضِي، وَلَيْسَ فِي ركبتي دماغ. وَقَالَ الجاحظ: قَالَ الْحجَّاج لأبي الجهير الْخُرَاسَانِي النخاس: أتبيع الدَّوَابّ المعيبة من جند السُّلْطَان؟ ؛ فَقَالَ: شريكاتنا فِي هوازها وشريكاتنا فِي مدائنها، وكما يَجِيء يكون. قَالَ الْحجَّاج: مَا تَقول؟ . قَالَ بعض من كَانَ قد اعْتَادَ الْخَطَأ وَكَلَام العلوج بِالْعَرَبِيَّةِ: يَقُول: شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن يبعثون إِلَيْنَا هَذِه الدَّوَابّ؛ فَنحْن نبيعها على وجوهها. قَالَ ابْن أبي فنن: طلبت من عبد الله بن أَحْمد بن الخصيب بخوراً؛ فَكتب إِلَيْهِ: فدتك نَفسِي من السوء برحمته، كتابي إِلَيْك وَأَنا وحدي، والجواري عِنْدِي؛ فَأَما البخور فَإِن أَبَا الْعَبَّاس فِي الْحمام إِن شَاءَ الله. وَكتب بعض الشُّيُوخ الْفُضَلَاء إِلَى شيخ من الْعُدُول بِالريِّ نفقت بغلته: نبئت أَن الشَّيْخ قد مَاتَ بغلته، هَيْهَات هَيْهَات. وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل، وَالْحَمْد لله وَحده، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد نبيه وعَلى آله الطاهرين وَسلم تَسْلِيمًا. / الْفَصْل الرَّابِع(3/216)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا إِلَى الْجنَّة بتوفيقه وتوقيفه، وَعدل بِنَا عَن النَّار بتحذيره وتخويفه، وَأرْسل رسله مبشرين برحمته الواسعة، ومنذرين بنعمته النازعة، وَخص مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله من بَينهم فِي الْآخِرَة بالحوض والشفاعة، والشرف والكرامة. وبالدرجات الْعلَا، وبسدرة الْمُنْتَهى وَفِي الدُّنْيَا بالبرهان الباهر، وَالسُّلْطَان القاهر، والمعجز الساطع، وَالسيف الْقَاطِع، والصراط الْمُسْتَقيم، والسبع المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم، وَجعل أمته أَكثر الْأُمَم عددا، وأوسطهم سددا، وأطولهم أمدا، وأهداهم قصدا، وأبينها رشدا، وَنسخ بملته الْملَل، وبنحلته النَّحْل، وَوصل شَرِيعَته بِالْيَوْمِ الآخر، وَجعلهَا خَاتِمَة الشَّرَائِع والأوامر. وأيده بِسَيْفِهِ المهند، وسهمه المسدد، وشباته المرهفة، وقناته المثقفة، خاصف النَّعْل، وآكل الطير، وقسيم الْجنَّة وَالنَّار، فَقتل غطارفة قُرَيْش، وجبابرة هوَازن وَثَقِيف، وطواغيت قُرَيْظَة وَالنضير، حَتَّى أذعن المعاند، وَأقر الجاحد، وذل الْبَاذِل وتطامن الشماخ، وَظهر دين الله، وَتب أَعدَاء الله، " وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين ". اللَّهُمَّ إِنَّا نشكرك على نِعْمَتك الَّتِي نرى توفيقك لشكرها نعْمَة أُخْرَى، هِيَ بِالْحَمْد لَهَا أولى، وبالثناء عَلَيْهَا أَحْرَى، أَنْعَمت علينا بِحَسب قدرتك المطيفة بالخلق، وكلفتنا من الشُّكْر بِقدر قوتنا الضعيفة على أَدَاء الْحق، ورضيت منا بالميسور من الْحَمد، وبالعفو من الشُّكْر دون الْجهد، فَأَنت الْمَحْمُود على نِعْمَتك، والمعبود لعزتك، والمدعو وَحدك لَا شريك لَك، أحَاط علمك بالخفية، وانبسطت يدك بِالْعَطِيَّةِ، وأذل عزك الْجَبَابِرَة، وقهر ملكك الْمُلُوك الْقَاهِرَة، مَالك الْخلق. الْأَمر، ومنشئ السَّحَاب ومنزل الْقطر.(4/3)
نَعُوذ بك من الخضوع والقنوع، والقلة والذلة، والمهانة والاستكانة، والطبع والطمع، وَمن الْحَسَد المضنى، وَمن الْحِرْص الْمَعْنى، وَمن الغضاضة فِي النَّفس، والخصاصة فِي الْحَال، وَمن سوء المآب وَشر المَال، وَمن كل مَا تطأطأ لَهُ الرُّءُوس وتطامن لَهُ النُّفُوس. كَمَا نَعُوذ بك من الْبَصَر والأشر، والبذخ والنخوى، وَسُوء احْتِمَال الْغنى والثروى، والاستئثار بِالْخَيرِ وَالنعْمَة، وقساوة الْقلب وَقلة الرَّحْمَة، وَمن استضعاف العائل، وانتهار السَّائِل، وَمن سوء الملكة عِنْد الاقتدار، وَمن التَّعَدِّي عِنْد الانتصاف، والاعتداء عِنْد الِانْتِصَار، وَمن الاستهانة بِذِي الْقُرْبَى الضَّعِيف، وَالْجَار المهين، والاستطالة على مَا ملكتنا رقابة من ملك الْيَمين. اللَّهُمَّ أَنْت أعلم بمصالح أحوالنا وعواقب أَعمالنَا، فسددنا لما فِيهِ خير الدُّنْيَا وَخير الاخرة، وصل على مُحَمَّد النَّبِي وعترته الطاهرة هَذَا هُوَ الْفَصْل الرَّابِع من كتاب نشر الدّرّ، وَهُوَ أحد عشر بَابا: الْبَاب الاول: كَلَام شرائف النِّسَاء الْبَاب الثَّانِي: نكت من كَلَام سَائِر نسَاء الْعَرَب وجواباتهن المستحسنة الْبَاب الثَّالِث: الْحِيَل والخدائع الْبَاب الرَّابِع: نكت من كَلَام الْحُكَمَاء الْبَاب الْخَامِس: جنس آخر من الحكم والآداب، وَهُوَ مَا جَاءَ على لفظ الْأَمر والنهى الْبَاب السَّادِس: جنس آخر من الحكم والأمثال الْبَاب السَّابِع: نكت فِي سياسة السُّلْطَان وأدب الرّعية الْبَاب الثَّامِن: نَوَادِر الجوارى وَالنِّسَاء المواجن الْبَاب التَّاسِع: نَوَادِر الْقصاص الْبَاب الْعَاشِر: نَوَادِر الْقَضَاء وَمن يتَقَدَّم إِلَيْهِم الْبَاب الْحَادِي عشر: نَوَادِر لأَصْحَاب النِّسَاء والزناة والزواني.(4/4)
الْبَاب الأول كَلَام للنِّسَاء الشرائف
فَاطِمَة ابْنة رَسُول الله عَلَيْهَا السَّلَام خطبتها لما منعهَا أَبُو بكر فدكا
قَالُوا: لما بلغ فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام إِجْمَاع أبي بكر منعهَا فدكا لاثت خمارها على رَأسهَا، واشتملت بجلبابها، وَأَقْبَلت فِي لمة من حفدتها وَنسَاء قَومهَا، تطَأ ذيولها، مَا تخرم مشيتهَا مشْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، حَتَّى دخلت على أبي بكر وَهُوَ فِي حشد من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَغَيرهم، فنيطت دونهَا ملاءة، ثمَّ أَنْت أنة أجهش لَهَا الْقَوْم بالبكاء، وَارْتجَّ الْمجْلس ثمَّ أمهلت هنيهة، حَتَّى إِذا سكن نشيج الْقَوْم، وهدأت فورتهم افتتحت كَلَامهَا بِحَمْد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ 347 وَالصَّلَاة على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَت: " لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم ". فَإِن تعرفوه تَجِدُوهُ أبي دون آبائكم، وأخا ابْن عمي دون رجالكم، فَبلغ الرسَالَة صادعاً بالنذارة، بَالغا بالرسالة، مائلاً عَن سنَن الْمُشْركين، ضَارِبًا لشبحهم، يَدْعُو إِلَى سَبِيل ربه بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، آخِذا بأكظام الْمُشْركين، يهشم الْأَصْنَام ويفلق الْهَام،(4/5)
حَتَّى انهزم الْجمع وولوا الدبر، حَتَّى تفرى اللَّيْل عَن صبحه، وأسفر الْحق عَن محضه، ونطق زعيم الدّين، وخرست شقاشق الشَّيْطَان، وتمت كلمة الْإِخْلَاص، " وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار "، ثهزة الطامع، ومذقة الشَّارِب، وقبسة العجلان، وموطئ الْأَقْدَام، تشربون الطّرق، وتقتاتون الْقد، أَذِلَّة خَاسِئِينَ، يخطفكم النَّاس من حَوْلكُمْ، حَتَّى أنقذكم الله بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ بعد اللتيا واللتي، وَبعد أَن مني ببهم الرِّجَال وذؤبان الْعَرَب، ومردة أهل الْكتاب " كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله ". أَو نجم قرن للشَّيْطَان، أَو فغرت فاغرة للْمُشْرِكين، قذف أَخَاهُ فِي لهواتها، فَلَا ينكفئ حَتَّى يطَأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عَادِية لهبها بِسَيْفِهِ - ويخمد لهيبها بحده مكدوداً فِي ذَات الله. وَأَنْتُم فِي رفاهة فكهون آمنون وادعون. حَتَّى إِذا اخْتَار الله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ دَار أنبيائه ظَهرت حسكة النِّفَاق، وسمل جِلْبَاب الدّين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر فِي عرصاتكم، وأطلع الشَّيْطَان رَأسه صَارِخًا بكم، فدعاكم فألقاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة ملاحظين؛ ثمَّ استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً؛ فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هَذَا والعهد قريب والكلم رحيب، وَالْجرْح لما يندمل. أبماذا زعمتم: خوف الْفِتْنَة؟ " أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين "، فهيهات فِيكُم، وأنى بكم، وأنى تؤفكون، وَكتاب الله بَين أظْهركُم، زواجره بَيِّنَة، وشواهده لائحة، وأوامره وَاضِحَة، أرغبة عَنهُ تُرِيدُونَ؟ أم بِغَيْرِهِ تحكمون؟ " بئس للظالمين بَدَلا " " وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين " ثمَّ لم تلبثوا إِلَّا ريث أَن تسكن نفرتها تشربون حسوا فِي ارتغاء، ونصير مِنْكُم على مثل حز المدى وَأَنْتُم الْآن تَزْعُمُونَ لَا إِرْث لنا " أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " إيها معشر الْمسلمَة المهاجرة؛ أأبتز إِرْث أَبِيه؟ أَبى الله فِي الْكتاب يَا بن قُحَافَة، أَن تَرث أَبَاك وَلَا أرث أَبِيه. لقد جِئْت شَيْئا فرياً، فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يَوْم حشرك، فَنعم الحكم لله، والزعيم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ، والموعد(4/6)
الْقِيَامَة، وَعند السَّاعَة يخسر المبطلون " وَلكُل نبأ مُسْتَقر وسوف تعلمُونَ " ثمَّ انكفأت على قبر أَبِيهَا صلى الله عَلَيْهِ فَقَالَت: قد كَانَ بعْدك أنباء وهنبشة ... لَو كنت شَاهدهَا لم تكْثر الْخطب إِنَّا فقدناك فقد الأَرْض وابلها ... واختل أهلك فاحضرهم وَلَا تغب وَذكر أَنَّهَا لما فرغت من كَلَام أبي بكر والمهاجرين عدلت إِلَى مجْلِس الْأَنْصَار فَقَالَت: يَا معشر الفئة، وأعضاد 348 الْملَّة، وحضنة الْإِسْلَام، مَا هَذِه الفترة فِي حَقي؟ وَالسّنة فِي ظلامتي؟ أما كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ أَن يحفظ فِي وَلَده؟ لسرع مَا أحدثتم! وعجلان ذَا إهانة أتقولون: مَاتَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ؟ فَخَطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه وفقد راتقه، وأظلمت الأَرْض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الحبال، وأكدت الآمال، وأضيع الْحَرِيم، وأزيلت الْحُرْمَة عِنْد مماته صلى الله عَلَيْهِ، وَتلك نازلة علن بهَا كتاب الله فِي أفنيتكم فِي ممساكم ومصبحكم، تهتف فِي أسماعكم ولقبله مَا حلت بِأَنْبِيَاء الله وَرُسُله صلى الله عَلَيْهِم. " وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يضر الله شَيْئا وسيجزي الله الشَّاكِرِينَ ". إيها بني قيلة؛ أأهتضم تراث أَبِيه وَأَنْتُم بمرأى مني ومسمع؟ تلبسكم الدعْوَة، وتشملكم الْحيرَة، وَفِيكُمْ الْعدَد وَالْعدة، وَلكم الدَّار، وعندكم الجنن، وَأَنْتُم الألى نخبة الله الَّتِي انتخب لدينِهِ، وأنصار رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ، وَأهل الْإِسْلَام والخيرة الَّتِي اخْتَار الله لنا أهل الْبَيْت فنابذتم الْعَرَب، وناهضتم الْأُمَم، وكافحتم البهم، لَا نَبْرَح نأمركم فتأتمرون، حَتَّى دارت لكم بِنَا رَحا الْإِسْلَام، ودر حلب الْأَيَّام وخضعت نعرة الشّرك، وباخت نيران الْحَرْب، وهدأت دَعْوَة الْهَرج، واستوسق نظام الدّين،(4/7)
فَأنى حرتم بعد الْبَيَان، ونكصتم بعد الْإِقْدَام، وأسررتم بعد التِّبْيَان، لقوم نكثوا " أَيْمَانهم اتخشونهم فَالله أَحَق أَن تخشوه إِن كُنْتُم مُؤمنين ". أَلا قد أرى أَن قد أخلدتم إِلَى الْخَفْض، وركنتم إِلَى الدعة، فعجتم عَن الدّين، ومججتم الَّذِي وعيتم، ولفظتم الَّذِي سوغتم " إِن تكفرُوا أَنْتُم وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا فَإِن الله لَغَنِيّ حميد " أَلا وَقد قلت الَّذِي قلته عَن معرفَة مني بالخذلان الَّذِي خامر صدوركم، واستشعرته قُلُوبكُمْ. وَلَكِن قلته فيضة النَّفس، ونفثة الغيظ. وبثة الصَّدْر، ومعذرة الْحجَّة فدونكموها فاحتقبوها مُدبرَة الظّهْر، ناقبة الْخُف، بَاقِيَة الْعَار مرسومة بشنار الْأَبَد، مَوْصُولَة بِنَار الله الموقدة، الَّتِي تطلع على الأفئدة. فبعين الله مَا تَفْعَلُونَ " وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون "، وَأَنا ابْنة نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، فاعلموا إِنَّا عاملون، وَانْتَظرُوا إِنَّا منتظرون.
قَوْلهَا عِنْد احتضارها
قَالُوا: لما مَرضت فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام دخل النِّسَاء عَلَيْهَا وقلن: كَيفَ أَصبَحت من علتك يَا بنة رَسُول الله؟ قَالَت: أَصبَحت وَالله عائفة لدنياكم، قاليةً لرجالكم؛ لفظتهم بعد أَن عجمتهم وشنئتهم بعد أَن سبرتهم، فقبحاً لفلول الْحَد، وخطل الرَّأْي " ولبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ " لَا جرم لقد قلدتهم ربقتها، وشنت عَلَيْهِم غارتها فجدعاً وعقراً وبعداً للْقَوْم الظَّالِمين. ويحهم. أَيْن زحزحوها عَن رواسي الرسَالَة وقواعد النُّبُوَّة ومهبط الرّوح الْأمين، والطبن بِأَمْر الدُّنْيَا وَالدّين " أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين " مَا الَّذِي نقموا من أبي الْحسن؟ نقموا وَالله نَكِير سَيْفه، وَشدَّة وطأته، ونكال وقعته وتنمرة فِي ذَات الله، وتالله لَو تكافوا عَن زِمَام نبذه إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ لاعتقله، ولسار بهم سجحاً لَا يكلم خشاشه وَلَا يتعتع 349 رَاكِبه، ولأوردهم(4/8)
منهلاً روياً فضفاضاً، تطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، وَقد تحيز بهم الرَّأْي، غير مستحل مِنْهُ بطائل، إِلَّا بغمر الناهل، أَو دعة سُورَة الساغب، ولفتحت عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء، وسيأخذهم الله بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. أَلا هَلُمَّ فاستمع. وَمَا عِشْت أَرَاك الدَّهْر عجبا وَإِن تعجب فَعجب لحادث إِلَى ملْجأ لجئوا واستندوا، وَبِأَيِّ عُرْوَة تمسكوا، " لبئس الْمولى ولبئس العشير ". واستبدلوا وَالله الذنابى بالقوادم، وَالْعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا " أَلا إِنَّهُم هم المفسدون وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ " ويحهم " أَفَمَن يهدي إِلَى الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى فَمَا لكم كَيفَ تحكمون ". أما لعمر إلهك لقد لقحت فنظرة ريث مَا تنْتج، ثمَّ احتلبوا طلاع الْقَعْب دَمًا عبيطا، وذعافاً ممقراً، فهنالك يخسر المبطلون، وَيعرف التالون غب مَا أسس الْأَولونَ، ثمَّ طيبُوا عَن أَنفسكُم أنفساً، وطامنوا للفتنة جأشاً، وَأَبْشِرُوا بِسيف صارم، وبهرج شَامِل، واستبداد من الظَّالِمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً فيا حسرة بكم، وَقد عميت عَلَيْكُم " أنلزمكموها وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون ".
عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا
روى أَنه لما كَانَ يَوْم الْجمل قَامَت عَائِشَة فتكلمت فَقَالَت: أَيهَا النَّاس، إِن لي عَلَيْكُم حق الأمومة وَحقّ الموعظة، لَا يتهمني إِلَّا من(4/9)
عصى ربه. قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين سحرِي وَنَحْرِي، وَأَنا إِحْدَى نِسَائِهِ فِي الْجنَّة، لَهُ ادخرني رَبِّي، وخصني من كل بضع وَبِي ميز مؤمنكم من منافقكم، وَفِي رخص لكم فِي صَعِيد الْأَبْوَاء وَأبي رَابِع أَرْبَعَة من الْمُسلمين، وَأول مُسَمّى صديقا. قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَنهُ رَاض فوقذ النِّفَاق، وأغاض نبع الرِّدَّة، وأطفأ مَا حشت يهود، وَأَنْتُم حِينَئِذٍ جحظ تنتظرون العدوة، وتستمعون الصَّيْحَة، فراب الثأي، وأوذم العطلة، وامتاح من المهوات، واجتهر دفن الرواء؛ فَقَبضهُ الله واطئاً على هَامة النِّفَاق، مذكياً نَار حَرْب الْمُشْركين، يقظان فِي نصْرَة الْإِسْلَام، صفوحاً عَن الْجَاهِلين. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت: تبرأت إِلَى الله من خطب جمع شَمل الْفِتْنَة، وَفرق أَعْضَاء مَا جمع الْقُرْآن أَنا نصب الْمَسْأَلَة عَن مسيري؟ هَذَا، أَلا وَإِنِّي لم أجرد وإثماً أدرعه، وَلم أدلس فتْنَة أوطئكموها. أَقُول قولي هَذَا صدقا وعذراً واعتذاراً وتعذيراً، وأسأل الله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله، وَأَن يخلفه فِي أمته أفضل خلَافَة الْمُرْسلين. قَالَ: فَانْطَلق رجل بمقالتها هَذِه إِلَى الْأَحْنَف، فَقَالَ الْأَحْنَف أبياتاً كَثِيرَة يَقُول فِيهَا: فَلَو كَانَت الأكنان دُونك لم يحد ... عَلَيْك مقَالا ذُو أذاةٍ يَقُولهَا فَبلغ عَائِشَة مقَالَته فَقَالَت: لقد استفرغ حلم الْأَحْنَف هجاؤه إيَّايَ إِلَيّ كَانَ يستجم مثابة سفهه؟ إِلَى الله أَشْكُو عقوق أبنائي.
خطْبَة أُخْرَى لَهَا حِين سَأَلت عَن عُثْمَان
قَالَ بَعضهم: شهِدت عَائِشَة يَوْم الْجمل وَقد ثاب إِلَيْهَا النَّاس فَقَالُوا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أَخْبِرِينَا عَن عُثْمَان، فَقَالَت: إِنَّا نقمنا على عُثْمَان 350 ثَلَاثًا: إمرة الْفَتى، وَضرب السَّوْط، وموقع الغمامة(4/10)
المتحاماة، حَتَّى إِذا أعتبنا مِنْهُنَّ مصتموه موص الثَّوْب بالصابون، ثمَّ عدوتم بِهِ الفواقر، أَو الْفقر الثَّلَاث: حُرْمَة الْإِسْلَام، وَحُرْمَة الْخلَافَة، وَحُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام. وَالله لعُثْمَان كَانَ أَتْقَاهُم للرب، وأوصلهم للرحم، وأعفهم لِلْفَرجِ، أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله لي وَلكم.
قَوْلهَا فِي أَبِيهَا أبي بكر
وَرُوِيَ أَنه بلغَهَا أَن نَاسا يتناولون أَبَا بكر، فَأرْسلت إِلَى أزفلة من النَّاس، فَلَمَّا حَضَرُوا أسدلت أستارها، وأعلت وسادها، ثمَّ دنت فحمدت الله، وأثنت عَلَيْهِ، وصلت على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعذلت وقرعت وَقَالَت: أبي وَمَا أَبِيه {أبي وَالله لَا تعطوه الْأَيْدِي، طود منيف، وظل مديد، هَيْهَات هَيْهَات} ! كذبت الظنون. أنجح وَالله إِذْ أكديتم، وَسبق إِذْ ونيتم سبق الْجواد إِذا استولى على الأمد فَتى قُرَيْش ناشئاً، وكهفها كهلاً، يريش مملقها، ويفك عانيها ويلم شعثها ويرأب صَدعهَا حَتَّى حلته قلوبها، ثمَّ استشرى فِي دينه فَمَا بَرحت شَكِيمَته فِي ذَات الله، حَتَّى اتخذ بفنائه مَسْجِدا يحيى فِيهِ مَا أمات المبطلون. وَكَانَ رَحْمَة الله عَلَيْهِ غزير الدمعة، وقيذ الجوانح شجي النشيج، فانفضت إِلَيْهِ نسوان مَكَّة وولدانها، يسخرون مِنْهُ، ويستهزئون بِهِ. " الله يستهزئ بهم ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون " وأكبرت ذَلِك رجالات قُرَيْش، فحنت إِلَيْهِ قسيها، وفوقت لَهُ سهامها وامتثلوه غَرضا فَمَا حُلْو لَهُ صفاة، وَلَا قصفوا لَهُ قناة، وَمر على سيسائه حَتَّى إِذا ضرب الدّين بجرانه، وَألقى بركه، ورست أوتاده، وَدخل النَّاس فِيهِ أَفْوَاجًا، وَمن كل شرعة أشتاتاً وأرسالاً اخْتَار الله جلّ اسْمه لنَبيه(4/11)
صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه وتحياته مَا عِنْده، فَلَمَّا قبض الله رَسُوله ضرب الشَّيْطَان برواقه، وَمد طنبه، وَنصب حبائله، وأجلب بخيله وَرجله، واضطرب حَبل الْإِسْلَام، ومرج عَهده، وماج أَهله وبغى الغوائل، وظنت رجال أَن قد أكثبت نهزها، ولات حِين الَّتِي يرجون، وأنى وَالصديق بَين أظهرهم؟ فَقَامَ حاسراً مشمراً قد جمع حاشيتيه، وَرفع قطريه، فَرد نشز الدّين على غره، وَلم شعثه بطبه، وَأقَام أوده بثقافه، فامذقر النِّفَاق بِوَطْئِهِ، وانتاش الدّين فنعشه. فَلَمَّا أراح الْحق على أَهله، وَأقر الرُّءُوس على كواهلها، وحقن الدِّمَاء فِي أهبها حَضرته منيته، نضر الله وَجهه، فسد ثلمته بنظيره فِي الرَّحْمَة ومقتفيه فِي السِّيرَة والمعدلة؛ ذَلِك ابْن الْخطاب، لله أم حملت بِهِ، وَدرت عَلَيْهِ. لقد أوحدت، ففنخ الْكَفَرَة ودنخها، وشرد الشّرك شذر مذر وبعج الأَرْض ونجعها، فقأت أكلهَا، ولفظت خبأها؛ ترأمه ويصدف عَنْهَا، وتصدى لَهُ ويأباها، ثمَّ وزع فَيْئهَا فِيهَا، وودعها كَمَا صحبها. فأروني مَاذَا ترتأون. وَأي يومي أبي تَنْقِمُونَ؟ أيوم إِقَامَته إِذْ عدل فِيكُم أَو يَوْم ظعنه إِذْ نظر لكم. أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله لي وَلكم. وَقَالَت: لَو نزل بالجبال الراسيات مَا نزل بِأبي لهاضها، قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، فاشرأب النِّفَاق، وارتدت الْعَرَب قاطبة. وَعَاد أَصْحَاب مُحَمَّد كَأَنَّهُمْ معزى مطيرة فِي خفش، فَمَا اخْتلفُوا فِيهِ من أَمر إِلَّا طَار أبي بغلائه وغنائه. وَمن رأى ابْن الْخطاب علم أَنه كَانَ عوناً لِلْإِسْلَامِ، كَانَ وَالله أحوذياً نَسِيج وَحده، قد أعد للأمور أقرانها. وَلما هلك أَبُو بكر الصّديق رَحمَه الله قَامَت على قَبره فَقَالَت: نضر الله وَجهك، وشكر لَك صَالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عَنْهَا، وَكنت للآخرة معزاً بإقبالك عَلَيْهَا. وَلَئِن كَانَ أعظم المصائب بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ رزؤك، وأكبر الْأَحْدَاث بعد فقدك، إِن كتاب الله ليعد بِحسن العزاء عَنْك حسن الْعِوَض مِنْك، فَنحْن نتنجز من الله موعوده بِالصبرِ عَلَيْك، ونستعيضه مِنْك(4/12)
بالاستغفار لَك؛ أما لَئِن كَانُوا قَامُوا بِأَمْر الدُّنْيَا لقد قُمْت بِأَمْر الدّين حِين وهى شعبه وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، فَعَلَيْك سَلام الله سَلام توديع غير قاليةٍ لحياتك، وَلَا زارية على الْقَضَاء فِيك.
حَدِيثهَا مَعَ ابْن عَبَّاس
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بَعَثَنِي عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام بعد دُخُوله الْبَصْرَة إِلَى عَائِشَة يأمرها بالرحيل إِلَى بلادها، فأتيتها فَدخلت عَلَيْهَا، فَلم يوضع لي شَيْء أَجْلِس عَلَيْهِ، فتناولت وسَادَة كَانَت فِي رَحلهَا فَقَعَدت عَلَيْهَا، فَقَالَت: يَا بن عَبَّاس: أَخْطَأت السّنة؛ قعدت على وسادتنا فِي بيتنا بِغَيْر إذننا. فَقلت: مَا هَذَا بَيْتك الَّذِي أَمرك الله أَن تقري فِيهِ، وَلَو كَانَ بَيْتك مَا قعدت على وِسَادَتك إِلَّا بإذنك. ثمَّ قلت: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرْسلنِي إِلَيْك يَأْمُرك بالرحيل إِلَى بلادك. قَالَت: وَأَيْنَ أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ ذَاك عمر. فَقلت: ذَاك عمر وَعلي. قَالَت: أَبيت أَبيت. قلت: أما وَالله مَا كَانَ إباؤك إِلَّا قصير الْمدَّة، عَظِيم التبعة، قَلِيل الْمَنْفَعَة، ظَاهر الشؤم: بَين النكد. وَمَا عَسى أَن يكون إباؤك؟ وَمَا كَانَ أَمرك إِلَّا كحلب شَاة، حَتَّى صرت لَا تأمرين وَلَا تنهين، وَلَا تأخذين وَلَا تعطين، وَمَا كَانَ مثلك إِلَّا كَقَوْل أخي بني أَسد: مازال إهداء الضغائن بَيْننَا ... نثو الحَدِيث وَكَثْرَة الألقاب حَتَّى تركت كَأَن صَوْتك فيهم ... فِي كل نائبة طنين ذُبَاب قَالَ: فَبَكَتْ حَتَّى سَمِعت نحيبها من وَرَاء الْحجاب ثمَّ قَالَت: إِنِّي مُعجلَة الرحيل إِلَى بلادي إِن شَاءَ الله؛ وَالله مَا من بلد أبْغض إِلَيّ من بلد أَنْتُم بِهِ. قَالَ: قلت: وَلم ذَاك؟ فوَاللَّه لقد جعلناك للْمُؤْمِنين أما، وَجَعَلنَا أَبَاك صديقا. قَالَت: تكلمني يَا بن عَبَّاس أتمن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقلت: مَا لي لَا أَمن عَلَيْك بِمن لَو كَانَ مِنْك لمننت بِهِ عَليّ. قَالَ: فَأتيت عليا فَأَخْبَرته بِقَوْلِي وَقَوْلها. فَقبل بَين عَيْني ثمَّ قَالَ: " ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض وَالله سميع عليم ".(4/13)
وَرُوِيَ أَن عَائِشَة قَالَت: مَكَارِم الْأَخْلَاق عشر: صدق الحَدِيث، وَصدق الْبَأْس، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وصلَة الرَّحِم، والمكافأة بالصنيع، وبذل الْمَعْرُوف، والتذمم للْجَار، والتذمم للصاحب، وقرى الضَّيْف، ورأسهن الْحيَاء. رُوِيَ عَن هَوْذَة بن نَافِع قَالَ: سَأَلت عَائِشَة مَا الَّذِي حملك على قتال أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب. قَالَت: لأَنْت أجرأ من خاصي الْأسد. وكتبت إِلَيْهَا أم سَلمَة لما هَمت بِالْخرُوجِ إِلَى الْبَصْرَة: يَا عَائِشَة؛ إِنَّك جنَّة بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَبَين أمته، وحجابك مَضْرُوب على حرمته، قد جمع الْقُرْآن ذيلك فَلَا تملخيه، وسكني عقيراك فَلَا تصحريها لَو ذكرتك قولةً من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ لتهششت تهشش الرقشاء المطرقة. مَا كنت قائلة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ لَو لقيك ناصةً قعُودا من منهل إِلَى منهل؟ قد بَرحت عهيداه، وهتكت ستره. إِن عَمُود الدّين لَا يرأب بِالنسَاء، وَلَا يُقَام بِهن إِذا انصدع. حماداهن خفض الْأَعْرَاض، وَقصر 352 الوهازة. اجعلي قَاعِدَة الْبَيْت قبرك حَتَّى تلقيه وَأَنت على ذَلِك. فَقَالَت عَائِشَة: يَا أم سَلمَة، مَا أعرفني بنصحك! وأقبلني لوعظك وَلَيْسَ الْأَمر حَيْثُ تذهبين، مَا أَنا بمغترة بعد قعُود، فَإِن أقِم فَفِي غير حرج، وَإِن أخرج فَفِي إصْلَاح بَين فئتين من الْمُسلمين متشاحنتين. وَقيل لعَائِشَة إِن قوما يشتمون أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ فَقَالَت: قطع الله عَنْهُم الْعَمَل مَا أحب أَن يقطع عَنْهُم الْأجر. وَرَأَتْ رجلا متماوتاً فَقَالَت: قطع الله عَنْهُم الْعَمَل مَا أحب أَن يقطع عَنْهُم الأجرولأت رجلا متماوتاً. مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: زاهد. فَقَالَت: قد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ زاهداً، فَكَانَ إِذا قَالَ أسمع وَإِذا مَشى أسْرع، وَإِذا ضرب فِي ذَات الله أوجع. وَذكر أَنَّهَا لما احتضرت جزعت. فَقيل لَهَا: أتجزعين يَا أم الْمُؤمنِينَ وَأَنت زَوْجَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَأم الْمُؤمنِينَ وَابْنَة أبي بكر الصّديق؟ فَقَالَت: إِن يَوْم الْجمل معترض فِي حلقي. لَيْتَني مت قبله أَو كنت نسياً منسياً.(4/14)
بَينهَا وَبَين عمرَان بن حُصَيْن
وَرُوِيَ عَن أبي الْأسود قَالَ: أنفذني عُثْمَان بن حنيف مَعَ عمرَان بن حُصَيْن إِلَى عَائِشَة فَقُلْنَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أَخْبِرِينَا عَن مسيرك هَذَا أَعهد عَهده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ أم رَأْي رَأَيْته؟ قَالَت: بل رَأْي رَأَيْته حِين قتل عُثْمَان إِنَّا نقمنا عَلَيْهِ ضَرْبَة السَّوْط. وموقع السحابة المحمية، وإمرة سعيد والوليد فعدوتم عَلَيْهِ فاستحللتم مِنْهُ الْحرم الثَّلَاث، حُرْمَة الْبَلَد، وَحُرْمَة الْخلَافَة، وَحُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام، بعد أَن مصناه كَمَا يماص الْإِنَاء فاستتبناه، فركبتم مِنْهُ هَذِه ظالمين. أغضبنا لكم من سَوط عُثْمَان وَلَا نغضب لعُثْمَان من سيفكم؟ قلت: مَا أَنْت وسيفنا وسوط عُثْمَان؟ وَأَنت حبيس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ. أَمرك أَن تقري فِي بَيْتك، فَجئْت تضربين النَّاس بَعْضًا بِبَعْض. قَالَت: وَهل أحد يقاتلني أَو يَقُول غير هَذَا؟ قلت: نعم. قَالَت: وَمن يفعل ذَلِك؟ أزنيم بن عَامر؟ هَل أَنْت مبلغ عني يَا عمرَان؟ قَالَ: لَا لست مبلغا عَنْك خيرا وَلَا شرا، قلت: لكني مبلغ عَنْك. هَات مَا شِئْت. قَالَت: اللَّهُمَّ اقْتُل مذمماً قصاصا بعثمان، وارم الأشتر بِسَهْم من سهامك لَا يشوى، وَأدْركَ عماراً بحفرته فِي عُثْمَان. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَت تَقول: لَا تَطْلُبُوا مَا عِنْد الله من عِنْد غير الله بِمَا يسْخط الله. وَكَانَت تَقول: لله در التَّقْوَى، مَا تركت لذِي غيظ شِفَاء. وَقَالَت يَوْم الْحكمَيْنِ: رَحِمك الله يَا أَبَت، فلئن أَقَامُوا الدُّنْيَا فَلَقَد أَقمت الدّين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، وانقبضت عَمَّا إِلَيْهِ أصغوا، وشمرت فِيمَا عَنهُ ونوا، واستصغرت من دنياك مَا أعظموا، ورغبت بِدينِك عَمَّا أغفلوا؛ أطالوا عنان الْأَمْن واقتعدت مطي الحذر، فَلم تهضم دينك، وَلم تنس غدك، ففاز عِنْد المساهمة قدحك، وخف مِمَّا استوزروا ظهرك.
قَوْلهَا لما قتل عُثْمَان
وَرُوِيَ أَنه لما قتل عُثْمَان قَالَت: أقتل أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالُوا: نعم، قَالَت: فرحمه الله وَغفر لَهُ. أما وَالله لقد كُنْتُم إِلَى تسديد الْحق وتأييده، وإعزاز الْإِسْلَام وتأكيده، أحْوج مِنْكُم إِلَى مَا نهضتم إِلَيْهِ، من طَاعَة من خَالف عَلَيْهِ، وَلَكِن كلما(4/15)
زادكم الله نعْمَة فِي دينكُمْ ازددتم تثاقلاً فِي نصرته طَمَعا فِي دنياكم. أما وَالله لهدم النِّعْمَة أيسر من بنائها، وَمَا الزِّيَادَة إِلَيْكُم بالشكر بأسرع من زَوَال النِّعْمَة عَنْكُم بالْكفْر، وأيم الله لَئِن كَانَ فني أكله، واخترم أَجله، لقد كَانَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ كذراع 353 الْبكر الْأَزْهَر، وَلَئِن كَانَت الْإِبِل أكلت أوبارها إِنَّه لصهر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، وَلَئِن كَانَ برك عَلَيْهِ الدَّهْر بزوره وأناخ عَلَيْهِ بكلكله، إِنَّهَا النوائب تترى تلعب بِأَهْلِهَا وَهِي جادة وتجذبهم وَهِي لاعبة، أما وَالله لقد حاط الْإِسْلَام وأكده، وعضد الدّين وأيده، وَلَقَد هدم الله بِهِ صياصي الْكفْر، وَقطع بِهِ دابر الْمُشْركين، ووقم بِهِ أَرْكَان الضَّلَالَة، فَللَّه الْمُصِيبَة بِهِ مَا أفجعها والفجيعة بِهِ مَا أوجعها! صدع الله بمقتله صفاة الدّين، وثلمت مصيبته ذرْوَة الْإِسْلَام.
من أقوالها وأخبارها
وَقَالَت: من أرْضى الله بإسخاط النَّاس كَفاهُ الله مَا بَينه وَبَين النَّاس، وَمن أرْضى النَّاس بإسخاط الله عز وَجل ذكره وَكله الله إِلَى النَّاس. وَقَالَت: إِنَّمَا النِّكَاح رق فَلْينْظر امرء من يرق كريمته. وَقَالَت: خرجت أقفو آثَار النَّاس يَوْم الخَنْدَق، فَسمِعت وئيد الأَرْض خَلْفي، فَالْتَفت فَإِذا أَنا بِسَعْد بن معَاذ. وَقَالَت لَهَا امْرَأَة: أأقيد جملي؟ قَالَت: نعم، قَالَت: أقيد جملي؟ فَلَمَّا علمت مَا تُرِيدُ قَالَت: وَجْهي من وَجهك حرَام؛ تَعْنِي بالجمل زَوجهَا أَي أوحده عَن النِّسَاء. وَقَالَت: لَا تُؤدِّي الْمَرْأَة حق زَوجهَا حَتَّى لَو سَأَلَهَا نَفسهَا وَهِي على ظهر قتب لم تَمنعهُ وَقَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ يقبل ويباشر وَهُوَ صَائِم وَلكنه كَانَ أملككم لإربه وَسمعت يَوْم الْجمل تَكْبِيرا عَالِيا فَقَالَت: اسْكُتُوا؛ فَإِن التَّكْبِير فِي هَذَا الْموضع فشل.(4/16)
قَوْلهَا حِين قتل عَليّ
وَرُوِيَ عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة قَالَت: كنت يَوْمًا عِنْد عَائِشَة، إِذْ دخل رجل معتم عَلَيْهِ أثر السّفر. فَقَالَ: قتل عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت عَائِشَة: إِن تَكُ ناعياً فَلَقَد نعاه ... نعي لَيْسَ فِي فَمه التُّرَاب ثمَّ قَالَت: من قَتله؟ قَالَ: رجل من مُرَاد. قَالَت: رب قَتِيل لله بيَدي رجل مُرَاد. قَالَت زَيْنَب: فَقلت: سُبْحَانَ الله! أتقولين مثل هَذَا لعَلي مَعَ سابقته وفضله. فَضَحكت وَقَالَت: بِسم الله، إِذا نسيت فذكريني.
زَيْنَب بنت عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام
قيل: لما قتل الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام، وَوجه ابْن زِيَاد لَعنه الله رَأسه والنسوة إِلَى يزِيد لَعنه الله، أَمر بِرَأْس الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام فأبرز فِي طست، وَجعل ينكت ثناياه بقضيب وينشد: لَيْت أشياخي ببدر شهدُوا ... الأبيات الْمَعْرُوفَة. فَقَالَت زَيْنَب بنت عَليّ عَلَيْهَا السَّلَام: صدق الله وَرَسُوله يَا يزِيد " ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساءوا السوأى أَن كذبُوا بآيَات الله وَكَانُوا بهَا يستهزءون " أظننت يَا يزِيد أَنه حِين أَخذ علينا بأطراف الأَرْض وأكناف السَّمَاء، فأصبحنا نساق كَمَا يساق الْأُسَارَى، أَن بِنَا هواناً على الله، وَبِك كَرَامَة؟ وَأَن هَذَا لعَظيم خطرك؟ فشمخت بأنفك، وَنظرت فِي عطفك، جذلان فَرحا حِين رَأَيْت الدُّنْيَا مستوسقة(4/17)
لَك، والأمور متسقة عَلَيْك، وَقد مثلت ونفست. وَهُوَ قَول الله تبَارك وَتَعَالَى " وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا إِنَّمَا نملى لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نملى لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَلَهُم عَذَاب مهين ". أَمن الْعدْل يَا بن الطُّلَقَاء تخديرك نِسَاءَك وإماءك، وسوقك بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ؟ قد هتكت ستورهن 354، وضحكت بحوجهن مكتئبات تخدى بِهن الأباعر، ويحدو بِهن الأعادي، من بلد إِلَى بلد لَا يراقبن وَلَا يؤوين، يتشوفهن الْقَرِيب والبعيد، لَيْسَ مَعَهُنَّ ولي من رِجَالهنَّ، وَكَيف يستبطأ فِي بغضتنا من نظر إِلَيْنَا بالشنف والشنان، والإحن والأضغان؟ أَتَقول: لَيْت أشياخي ببدر شهدُوا غير متأثم وَلَا مستعظم، وَأَنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ وَلم لَا تكون كَذَلِك وَقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة، بإهراقك دِمَاء ذُرِّيَّة مُحَمَّد صلى الله عله ونجوم الأَرْض من آل عبد الْمطلب، ولتردن على الله وشيكاً موردهم، ولتؤدن أَنَّك عميت وبكمت، وَإنَّك لم تقل: فاستهلوا وأهلوا فَرحا اللَّهُمَّ، خُذ بحقنا، وانتقم لنا مِمَّن ظلمنَا! وَالله مَا فريت إِلَّا فِي جِلْدك وَلَا خرزت إِلَّا فِي لحمك، وسترد على رَسُول الله برغمك، وعترته وَلحمَته فِي حَظِيرَة الْقُدس، يَوْم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث، وَهُوَ قَول الله تبَارك وَتَعَالَى: " وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين " وَسَيعْلَمُ من بوأك ومكنك من رِقَاب الْمُؤمنِينَ، إِذا كَانَ الحكم الله والخصيم مُحَمَّد، وجوارحك شاهدة عَلَيْك. فبئس للظالمين بَدَلا، وَأَيكُمْ شَرّ مَكَانا وأضعف جنداً، مَعَ أَنِّي - وَالله - يَا عَدو الله وَابْن عدوه أستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، غير أَن الْعُيُون عبرى، والصدور حرى وَمَا يجْرِي ذَلِك أَو يُغني عَنَّا، وَقد قتل(4/18)
الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام، وحزب الشَّيْطَان يقربنا إِلَى حزب السُّفَهَاء، ليعطوهم أَمْوَال الله على انتهاك محارم الله، فَهَذِهِ الْأَيْدِي تنطف من دمائنا، وَهَذِه والأفواه تتحلب من لحومنا، وَتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات. فلئن اتخذتنا مغنماً لتجدننا مغرماً، حِين لَا تَجِد إِلَّا مَا قدمت يداك، تستصرخ يَا بن مرْجَانَة ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعك عِنْد الْمِيزَان، وَقد وجدت أفضل زَاد زودك مُعَاوِيَة قَتلك ذُرِّيَّة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ؛ فوَاللَّه مَا اتَّقَيْت غير الله، وَلَا شكواي إِلَّا إِلَى الله، فكد كيدك، وَاسع سعيك، وناصب جهدك، فوَاللَّه لَا يرحض عَنْك عَار مَا أتيت إِلَيْنَا أبدا، وَالْحَمْد لله الَّذِي ختم بالسعادة وَالْمَغْفِرَة لسادات شُبَّان الْجنان، فَأوجب لَهُم الْجنَّة. أسأَل الله أَن يرفع لَهُم الدراجات، وَأَن يُوجب لَهُم الْمَزِيد من فَضله فَإِنَّهُ ولي قدير.
أم كُلْثُوم بنت عَليّ
رُوِيَ عَن بَعضهم قَالَ: رَأَيْت أم كُلْثُوم بنت عَليّ بِالْكُوفَةِ، وَلم أر خفرة وَالله أنطق مِنْهَا، كَأَنَّمَا تنطق وتقرع عَن لِسَان أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ، وَقد أَوْمَأت إِلَى النَّاس وهم يَبْكُونَ على الْحُسَيْن - رَضِي الله عَنهُ - أَن اسْكُتُوا فَلَمَّا سكنت فورتهم، وهدأت الْأَجْرَاس. قَالَت: أبدأ بِحَمْد الله وَالصَّلَاة على أَبِيه. أما بعد، يَا أهل الْكُوفَة يَا أهل الختر والخدل؛ أَلا فَلَا رقأت الْعبْرَة، وَلَا هدأت الرنة، إِنَّمَا مثلكُمْ كَمثل الَّتِي " نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم " أَلا وَهل فِيكُم إِلَّا الصلف والشنف، ملق الْإِمَاء وغمر الْأَعْدَاء وَهل أَنْتُم إِلَّا كمرعى على دمنة، وكفضة على ملحودة. أَلا سَاءَ مَا قدمت لكم أَنفسكُم أَن سخط الله(4/19)
عَلَيْكُم وَفِي الْعَذَاب أَنْتُم خَالدُونَ. أتبكون؟ إِي وَالله، فابكوا؛ فَإِنَّكُم وَالله أحرياء بالبكاء، فابكوا كثيرا 355 واضحكوا قَلِيلا، فَلَقَد فزتم بعارها، وشنارها، وَلنْ ترحضوها بِغسْل بعْدهَا أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل خَاتم النُّبُوَّة، ومعدن الرسَالَة، وَسيد شباب الْجنَّة، ومنار محجتكم، ومدرة حجتكم، ومفزع نازلتكم؟ فتعساً ونكساً! لقد خَابَ السَّعْي، وخسرت الصَّفْقَة، وبؤتم بغضب من الله، وَضربت عَلَيْكُم الذلة والمسكنة. " لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا تكَاد السَّمَاوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا ". مَا تَدْرُونَ أَي كبد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ فريتم، وَأي كريم لَهُ أبرزتم، وَأي دم لَهُ سفكتم. لقد جئْتُمْ بهَا شوهاء خرقاء طلاع الأَرْض وَالسَّمَاء، أفعجبتم أَن قطرت السَّمَاء دَمًا، " ولعذاب الْآخِرَة أخزى وهم لَا ينْصرُونَ " فَلَا يستخفنكم الْمهل، فَإِنَّهُ لَا تحفزه الْمُبَادرَة، وَلَا يخَاف عَلَيْهِ فَوت الثأر كلا إِن رَبك لنا وَلَهُم لبالمرصاد. ثمَّ ولت عَنْهُم. قَالَ: فَرَأَيْت النَّاس حيارى وَقد ردوا أَيْديهم إِلَى أَفْوَاههم وَرَأَيْت شَيخا كَبِيرا من بني جعفي وَقد اخضلت لحيته من دموع عَيْنَيْهِ، وَهُوَ يَقُول: كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إِذا عد نسل ل يبور وَلَا يخزي
حَفْصَة أم الْمُؤمنِينَ خطبتها عَن عمر
خطبت حَفْصَة بنت عمر فَقَالَت: الْحَمد لله الَّذِي لَا نَظِير لَهُ والفرد الَّذِي لَا شريك لَهُ.(4/20)
وَأما بعد، فَكل الْعجب من قوم زين الشَّيْطَان أفعالهم، وارعوى إِلَى صنيعهم، ودب فِي الْفِتْنَة لَهُم، وَنصب حبائله لختلهم، حَتَّى هم عَدو الله بإحياء الْبِدْعَة، ونبش الْفِتْنَة، وتجديد الْجور بعد دروسه، وإظهاره بعد دثوره، وإراقة الدِّمَاء، وَإِبَاحَة الْحمى، وانتهاك محارم الله عز وَجل بعد تحصينها، فتضرم وهاج وتوغر وثار غَضبا لله نصْرَة لدين الله، فأخسأ الشَّيْطَان ووقم كَيده، وكفف إِرَادَته، وقدع محبته، وصعر خَدّه السبقة إِلَى مشايعة أولى النَّاس بخلافة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، الْمَاضِي على سنته، الْمُقْتَدِي بِدِينِهِ، الْمُقْتَص لأثره؛ فَلم يزل سراجه زاهراً؛ وضوؤه لامعاً ونوره ساطعاً. لَهُ من الْأَفْعَال الْغرَر، وَمن الآراء المصاص، وَمن التَّقَدُّم فِي طَاعَة الله عز وَجل اللّبَاب، إِلَى أَن قَبضه الله إِلَيْهِ، قالياً لما خرج مِنْهُ، شانئاً لما نزل من أمره، شنفاً لما كُنَّا فِيهِ، صبا إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ، وائلاً إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ، عَاشِقًا لما هُوَ فِيهِ. فَلَمَّا صَار إِلَى الَّتِي وصفت، وعاين مَا ذكرت أَوْمَأ بهَا إِلَى أَخِيه فِي المعدلة ونظيرة فِي السِّيرَة، وشقيقه فِي الدّيانَة، وَلَو كَانَ غير الله أَرَادَ لأمالها إِلَى ابْنه، ولصيرها فِي عقبه، وَلم يُخرجهَا من ذُريَّته، فَأَخذهَا بِحَقِّهَا، وَقَامَ فِيهَا بقسطها، لم يؤده ثقلهَا، وَلم يبهظه حفظهَا، مشرداً للكفر عَن موطنه ونافراً لَهُ عَن وَكره، ومثيراً لَهُ من مجثمه، حَتَّى فتح الله عز وَجل على يَدَيْهِ أقطار الْبِلَاد، وَنصر الله يقدمهُ، وَمَلَائِكَته تكنفه، وَهُوَ بِاللَّه معتصم، وَعَلِيهِ متوكل، حَتَّى تأكدت عرا الْحق عَلَيْكُم عقدا، واضمحلت عرا الْبَاطِل عَنْكُم حلا، نوره فِي الدجنات سَاطِع، وضوؤه فِي الظُّلُمَات لامع، قالياً للدنيا إِذْ عرفهَا، لافظاً لَهَا إِذْ عجمها، وشانئاً لَهَا إِذْ سبرها؛ تخطبه ويقلاها، وتريده ويأباها، لَا تطلب سواهُ بعلاً، وَلَا نبغي سواهُ نحلاً 356 أخْبرهَا أَن الَّتِي يخْطب أرغد مِنْهَا عَيْشًا، وأنضر مِنْهَا حبوراً، وأدوم مِنْهَا سُرُورًا، وَأبقى مِنْهَا خلوداً، وأطول مِنْهَا أَيَّامًا، وأغذق مِنْهَا أَرضًا، وأنعث مِنْهَا جمالاً، وَأتم مِنْهَا بلهنية، وأعذب مِنْهَا رفنية فبشعت نَفسه بذلك لعادتها، واقشعرت(4/21)
مِنْهَا لمخالفتها، فعركها بالعزم الشَّديد حَتَّى أجابت وبالرأي الجليد حَتَّى انقادت، فَأَقَامَ فِيهَا دعائم الْإِسْلَام، وقواعد السّنة الْجَارِيَة، ورواسي الْآثَار الْمَاضِيَة وأعلام أَخْبَار النُّبُوَّة الظَّاهِرَة، وظل خميصاً من بهجتها، قالياً لأثاثها، لَا يرغب فِي زبرجها وَلَا تطمح نَفسه إِلَى جدَّتهَا حَتَّى دعِي فَأجَاب، وَنُودِيَ فأطاع على تِلْكَ الْحَال؛ فاحتذى فِي النَّاس بأَخيه فأخرجها من نَسْله، وصيرها شوري بَين إخْوَته، فَبِأَي أَفعاله يتعلقون؟ وَبِأَيِّ مذاهبه يتمسكون؟ أبطرائقه القويمة فِي حَيَاته، أم بعدله فِيكُم عِنْد وَفَاته، ألهمنا الله وَإِيَّاكُم طَاعَته، وَإِذا شِئْتُم فَفِي حفظ الله وكلاءته.
عَائِشَة بنت عُثْمَان خطبتها بعد مقتل عُثْمَان
قَالَ: كَانَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَاله بينبع فَلَمَّا قتل عُثْمَان بن عَفَّان خرج إِلَيْهِ عنق من النَّاس يتساعون، تشتد بهم دوابهم فاستطاروا فَرحا، واستفزهم الجذل، حَتَّى قدمُوا بِهِ فَبَايعُوهُ، فَلَمَّا بلغ ذَلِك عَائِشَة ابْنة عُثْمَان صاحت بِأَعْلَى صَوتهَا: يَا ثَارَاتِ عُثْمَان {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} أفنيت نَفسه، وطل دَمه فِي حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، وَمنع من دَفنه؟ اللَّهُمَّ لَو يَشَاء لامتنع، وَوجد من الله عز وَجل حَاكما، وَمن الْمُسلمين ناصرأ، وَمن الْمُهَاجِرين شَاهدا، حَتَّى يفئ إِلَى الْحق من شَذَّ عَنهُ، أَو تطيح هامات وتفرى غلاصم وتخاض دِمَاء، وَلَكِن استوحش مِمَّا أنستم بِهِ، واستوخم مَا استمرأتموه. يَا من اسْتحلَّ حرم الله وَرَسُوله، واستباح حماه، لقد كره عُثْمَان مَا أقدمتم عَلَيْهِ، وَلَقَد نقمتم عَلَيْهِ أقل مِمَّا أتيتم إِلَيْهِ، فراجع فَلم تراجعوه، واستقال فَلم تقيلوه. رَحْمَة الله عَلَيْك يَا أبتاه. أحتسبت نَفسك وَصَبَرت لأمر رَبك، حَتَّى لحقت(4/22)
بِهِ. وَهَؤُلَاء الْآن قد ظهر مِنْهُم تراوض الْبَاطِل، وَإِذ كاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وَإِدْرَاك الإحن والأوتار. وَبِذَلِك وشيكاً كَانَ كيدهم وتبغيهم وسعي بَعضهم بِبَعْض، فَلَمَّا أقالوا عاثراً، وَلَا استعتبوا مذنباً، حَتَّى اتَّخذُوا ذَلِك سَبِيلا إِلَى سفك الدِّمَاء، وَإِبَاحَة الْحمى، وَجعلُوا سَبِيلا إِلَى البأساء والعنت. فَهَلا علنت كلمتكم، وَظَهَرت حسدتكم، إِذْ ابْن الْخطاب قَائِم على رءوسكم، ماثل فِي عرصاتكم؛ يرعد ويبرق بإرغائكم، يقمعكم غير حذر من تراجعكم إِلَّا فِي بَيْنكُم؛ وهلا نقمتم عَلَيْهِ عوداً وبدءاً إِذْ ملك، وتملك عَلَيْكُم من لَيْسَ مِنْكُم بالخلق اللين، والخصم العضل يسْعَى عَلَيْكُم، وَينصب لكم، لَا تنكرون ذَلِك مِنْهُ خوفًا من سطوته، وحذراً من شدته، أَن يَهْتِف بكم متقسوراً، أَو يصْرخ بكم متعذوراً. إِن قَالَ صَدقْتُمْ قالته وَإِن سَأَلَ بذلتم سَأَلته، يحكم فِي رِقَابكُمْ وَأَمْوَالكُمْ كأنكم عَجَائِز صلع، وإماء قصع، فَبَدَأَ مفلتاً ابْن أبي قُحَافَة بِإِرْث نَبِيكُم على بعد رَحمَه وضيق بَلَده، وَقلة عدده فرقأ الله شَرها، زعم الله دره مَا أعرفهُ لما صنع؛ أَو لم يخصم الْأَنْصَار بقيس؟ ثمَّ حكم بِالطَّاعَةِ لمولى أبي حُذَيْفَة؟ يتمايل بكم يَمِينا وَشمَالًا، قد خطب عقولكم، واستمهر وجلكم، 357 ممتحنا لكم، ومعترفاً أخطاركم، وَهل تسمو هممكم إِلَى منازعته وَلَوْلَا تيك لَكَانَ قسمه خسيساً وسعيه تعيساً؛ لَكِن بدر بِالرَّأْيِ، وثنى بِالْقضَاءِ وَثلث بالشوري ثمَّ غَدا سامراً مسلطاً درته على عَاتِقه فتطأطأتم لَهُ تطأطؤ الحقة، ووليتموه أدباركم حَتَّى علا أكتافكم ينعق بكم فِي كل مرتع، ويشد مِنْكُم على كل مخنق، لَا يبتعث لكم هتاف وَلَا يأتلق لكم شهَاب يهجم عَلَيْكُم بالسراء، ويتورط بالحوباء عَرَفْتُمْ أَو أنكرتم، لَا تألمون وَلَا تستنطقون، حَتَّى إِذا عَاد الْأَمر فِيكُم وَلكم، فِي مونقة من الْعَيْش، عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظَلِيل تتناولون من كثب ثمارها أَنى شِئْتُم رغداً، وحلبت عَلَيْكُم عشار الأَرْض درراً، واستمرأتم أكلكم من فَوْقكُم وَمن تَحت أَرْجُلكُم، فِي خصب غدق، وأوق شَرق، تنامون فِي الْخَفْض وتستلينون الدعة، ومقتم زبرجة الدُّنْيَا وحرجتها، واستحليتم غضارتها ونضرتها وظننتم أَن ذَلِك سَيَأْتِيكُمْ من كثب عفوا، ويتحلب عَلَيْكُم رسلًا، قانتضبتم سُيُوفكُمْ، وكسرتم جفونكم، وَقد أَبى الله أَن تشام سيوف جردت بغياً وظلماً، ونسيتم قَول الله عز وَجل " إِن الْإِنْسَان خلق هلوعاً إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعاً وَإِذا مَسّه الْخَيْر(4/23)
منوعاً. " فَلَا يهنينكم الظفر. وَلَا يستوطنن بكم الْحَضَر، فَإِن الله بالمرصاد، وَإِلَيْهِ الْمعَاد، وَالله مَا يقوم الظليم إِلَّا على رجلَيْنِ، وَلَا ترن الْقوس إِلَّا على سيتين فأثبتوا فِي الغرز أَرْجُلكُم، فقد هدَاكُمْ فِي المتيهة الخرقاء كَمَا أضلّ أدحيته الحسل. وَسَيعْلَمُ كَيفَ يكون إِذا كَانَ النَّاس عباديد، وَقد نازعتكم الرِّجَال واعترضت عَلَيْكُم الْأُمُور، وساورتكم الحروب بالليوث، وقارعتكم الْأَيَّام بالجيوش، وحمي عَلَيْكُم الْوَطِيس، فيوماً تدعون من لَا يُجيب، وَيَوْما تجيبون من لَا يَدْعُو. وَقد بسط باسطكم كلتا يَدَيْهِ يرى أَنَّهُمَا فِي سَبِيل الله؛ فيد مَقْبُوضَة وَأُخْرَى مَقْصُورَة، والرؤوس تندر عَن الطلى، والكواهل كَمَا ينقف التنوم. فَمَا أبعد نصر الله من الظَّالِمين وَأَسْتَغْفِر الله مَعَ المستغفرين.
أروى بنت الْحَارِث حَدِيثهَا مَعَ مُعَاوِيَة
قيل: دخلت أروى بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب على مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان بِالْمَوْسِمِ وَهِي عَجُوز كَبِيرَة، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: مرْحَبًا بك يَا عمَّة. قَالَت: كَيفَ أَنْت يَا بن أخي، لقد كفرت بعدِي النِّعْمَة، وأسأت لِابْنِ عمك الصُّحْبَة، وتسميت بِغَيْر اسْمك، وَأخذت غير حَقك، بِغَيْر بلَاء كَانَ مِنْك وَلَا من آبَائِك فِي الْإِسْلَام؛ وَلَقَد كَفرْتُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ. فأتعس الله الجدود، وَصغر مِنْكُم الخدود، حَتَّى رد الله الْحق إِلَى أَهله، وَكَانَت كلمة الله هِيَ الْعليا، وَنَبِينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ هُوَ الْمَنْصُور على من ناوأه وَلَو كره الْمُشْركُونَ. فَكُنَّا أهل الْبَيْت أعظم النَّاس فِي الدّين حظاً ونصيباً وَقدرا، حَتَّى قبض الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ مغفوراً ذَنبه، مَرْفُوعَة دَرَجَته، شريفاً عِنْد الله مرضياً، فصرنا أهل(4/24)
الْبَيْت مِنْكُم بِمَنْزِلَة قوم مُوسَى فِي آل فِرْعَوْن، يذبحون أَبْنَاءَهُم ويستحيون نِسَاءَهُمْ؛ وَصَارَ سيد الْمُسلمين فِيكُم بعد نَبينَا بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى، حَيْثُ يَقُول: " ابْن أم إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني " وَلم يجمع بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ لنا شَمل، وَلم يسهل لنا وعر، وغايتنا الْجنَّة، وغايتكم النَّار. فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: أيتها الْعَجُوز الضَّالة أقصري من قَوْلك، وغضي من طرفك. قَالَت: وَمن أَنْت 358 لَا أم لَك؟ قَالَ: عَمْرو بن الْعَاصِ. قَالَت: يَا بن اللخناء النَّابِغَة، أتكلمني؟ ارْبَعْ على ظلعك، واعن بشأن نَفسك، فوَاللَّه مَا أَنْت من قُرَيْش فِي اللّبَاب من حسبها، وَلَا كريم منصبها. وَلَقَد ادعاك سِتَّة من قُرَيْش كلهم يزْعم أَنه أَبوك، وَلَقَد رَأَيْت أمك أَيَّام منى بِمَكَّة مَعَ كل عبد عاهر، فَأَنت فَأَتمَّ بهم، فَإنَّك بهم أشبه. فَقَالَ مَرْوَان: أيتها الْعَجُوز الضَّالة؛ ساخ بَصرك مَعَ ذهَاب عقلك إِذْ لَا تجوز شهادتك. قَالَت: يَا بني؛ أتتكلم؟ فوَاللَّه لأَنْت بسفيان بن الْحَارِث بن كلدة أشبه مِنْك بالحكم، وَإنَّك لشبهه فِي زرقة عَيْنَيْك، وَحُمرَة شعرك، مَعَ قصر قامته، وَظَاهر دمامته. وَلَقَد رَأَيْت الحكم ماد الْقَامَة ظَاهر الهامة سبط الشّعْر. وَمَا بَيْنكُمَا قرَابَة إِلَّا كقرابة الْفرس الضامر من الأتان المقرب فاسأل أمك عَمَّا ذكرت لَك فَإِنَّهَا تخبرك بشأن أَبِيك إِن صدقت.
رُؤْيا رقيقَة
قَالَ مخرمَة بن نَوْفَل: حَدَّثتنِي أُمِّي رقيقَة بنت أبي صَيْفِي بن هَاشم بن عبد منَاف، قَالَت: تَتَابَعَت على قُرَيْش سنُون أقحلت الضَّرع وأرقت اللَّحْم، وأدقت الْعظم فَبينا أَنا نَائِمَة، لاهم أَو مهمومة إِذا أَنا بهاتف يَهْتِف بِصَوْت صَحِلَ اقشعر لَهُ جلدي: معاشر(4/25)
قُرَيْش إِن النَّبِي الْأُمِّي الْمَبْعُوث مِنْكُم قد أَظَلَّتْكُم أَيَّامه، وَهَذَا أَوَان نجومه أَلا فحي هلا بِالْخصْبِ والحيا؛ أَلا فانظروا مِنْكُم رجلا وَسِيطًا عظاماً جِسَامًا أَبيض بضاً أَوْطَفُ الْأَهْدَاب، أَشمّ الْعرنِين سهل الْخَدين، لَهُ نجر يَكْظِم عَلَيْهِ وَسنة تهدى. إِلَيْهِ أَلا فليدلف هُوَ وَولده، وليدلف مَعَه من كل بطن رجل، فليشنوا من المَاء، وليمسوا من الطّيب ثمَّ ليستلموا الرُّكْن، وليرقوا أَبَا قبيس، وليدع، وليؤمن الْقَوْم على دُعَائِهِ، فغثتم مَا شِئْتُم. قَالَت: فَأَصْبَحت - علم الله - مَذْعُورَة قد وَله قلبِي، واقشعر جلدي لما رَأَيْت فِي مَنَامِي فقصصت رُؤْيَايَ، ونمت فِي شعاب مَكَّة، فوالحرمة وَالْحرم، مَا بَقِي أبطحي إِلَّا قَالَ: هَذَا شيبَة الْحَمد، هَذَا عبد الْمطلب. فتنامت إِلَيْهِ رجالات قُرَيْش، وَهَبَطَ إِلَيْهِ من كل بطن رجل، فَشُنُّوا وَمَسُّوا واستلموا، ثمَّ ارْتَقَوْا أَبَا قبيس، وَطَفِقُوا يزفون حواليه؛ مَا إِن يبلغ سَعْيهمْ مهله، حَتَّى إِذا اسْتَووا بِذرْوَةِ الْجَبَل قَامَ عبد الْمطلب، وَمَعَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، غُلَام قد أَيفع أَو كرب، فَرفع يَده إِلَى السَّمَاء وَقَالَ: اللَّهُمَّ كاشف الْكُرْبَة، وساد الْخلَّة، أَنْت عَالم غير معلم، مسئول غير مبخل هَذِه عبداك وإماؤك بِعَذِرَاتٍ حَرمك، يَشكونَ إِلَيْك سنتهمْ الَّتِي أذهبت الظلْف والخف، فاسمعن اللَّهُمَّ لنا، وأمطرن غيثاً مُغْدِقًا مريعاً. فَمَا راموا الْكَعْبَة حَتَّى تَفَجَّرَتْ السَّمَاء بِمَائِهَا، وكظ الْوَادي بشجيجه فلسمعت شَيْخَانِ قُرَيْش وجلتها؛ عبد الله بن جدعَان، وَحرب بن أُميَّة، وَهِشَام بن الْمُغيرَة يَقُولُونَ لعبد الْمطلب: هَنِيئًا لَك أَبَا الْبَطْحَاء هَنِيئًا لَك.
هِنْد بنت عتبَة وصف من خطب هندا ليعرف أَبوهَا رأيها
قَالَت هِنْد بنت عتبَة لأَبِيهَا: إِنِّي امْرَأَة قد ملكت أَمْرِي، فَلَا تزَوجنِي رجلا(4/26)
حَتَّى تعرضه عَليّ فَقَالَ: لَك ذَاك. وَقَالَ لَهَا ذَات يَوْم: إِنَّه قد خَطبك رجلَانِ من قَوْمك، وَلست مسمياً لَك وَاحِدًا مِنْهُمَا، حَتَّى أصفه لَك؛ أما الأول فَفِي الشّرف الصميم، والحسب الْكَرِيم، تخالين بِهِ هوجاً من غفلته، وَذَلِكَ إسجاح من شيمته، حسن 359 الصَّحَابَة، سريع الْإِجَابَة، إِن تابعته تابعك، وَإِن ملت كَانَ مَعَك، تقضين عَلَيْهِ فِي مَاله، وتكتفين بِرَأْيِك عَن مشورته. وَأما الآخر فَفِي الْحسب الحسيب، والرأي الأريب، بدر أرومته، وَعز عشيرته، يُؤَدب أَهله وَلَا يؤدبونه؛ إِن اتَّبعُوهُ أسهل بهم، وَإِن جانبوه توعر عَنْهُم، شَدِيد الْغيرَة، سريع الطَّيرَة، صَعب حجاب الْقبَّة إِن حَاج فَغير منزور، وَإِن نوزع فَغير مقسور، قد بنيت لَك كليهمَا. قَالَت: أما الأول فسيد مضياع لكريمته، موَات لَهَا؛ فَمَا عَسى إِن لم تعتص أَن تلين بعد إبائها، وتضيع تَحت خبائها إِن جَاءَتْهُ بِولد أحمقت وَإِن أنجبت فَعَن خطأ مَا أنجبت. أطو ذكر هَذَا عَنى لَا تسمه لي. وَأما الآخر فبعل الْحرَّة الْكَرِيمَة، إِنِّي لأخلاق هَذَا لوامقة، وَإِنِّي لَهُ لموافقة، وَإِنِّي لآخذه بأدب البعل، مَعَ لزومي قبتي وَقلة تلفتي، وَإِن السَّلِيل بيني وَبَينه لحري أَن يكون المدافع عَن حَرِيم عشيرته، الذائد عَن كتيبتها المحامي عَن حَقِيقَتهَا، الْمُثبت لأرومتها، غير متواكل وَلَا زميل عِنْد صعصعة الحروب. قَالَ: ذَلِك أَبُو سُفْيَان بن حَرْب. قَالَت: فَزَوجهُ وَلَا تلقني إِلَيْهِ إِلْقَاء الشكس وَلَا تسمه سوم الضرس، ثمَّ استخر الله عز وَجل فِي السَّمَاء يخرلك فِي الْقَضَاء. فَزَوجهَا أَبَا سُفْيَان. وَكَانَ الآخر سُهَيْل بن عَمْرو. قيل: إِنَّه لما نخس هَبَّار بِزَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ بلغ هنداً، فَقَامَتْ مُسندَة ظهرهَا إِلَى الْكَعْبَة وَقَالَت: أبابنة مُحَمَّد يَفْعَلُونَ هَذَا! أَفِي السّلم أعياراً جفَاء وغلظة ... وَفِي الْحَرْب أَمْثَال النِّسَاء العوارك(4/27)
قَوْلهَا حِين سَمِعت رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، أَنه قَالَ: لما كَانَ الْفَتْح قَالَ لي خَالِد بن الْوَلِيد: يَا أَبَا هُرَيْرَة، اذْهَبْ بِنَا إِلَى هِنْد بنت عتبَة، لَعَلَّك تقْرَأ عَلَيْهَا بعض الْقُرْآن لينفعها الله. قلت: انْطلق. فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا كَأَنَّهَا وَالله فرس عَرَبِيّ، وَكَأن وَرَاء عجيزتها رجلآً جَالِسا. فَقَالَ لَهَا خَالِد بن الْوَلِيد: يَا أم مُعَاوِيَة؛ هَذَا أَبُو هُرَيْرَة صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، جئْتُك بِهِ ليتلو عَلَيْك الْقُرْآن ويذكرك أَمر الْإِسْلَام. قَالَت: هَات. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقلت: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ": " تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك وَهُوَ على كل شَيْء قدير ". حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى قَوْله جلّ وَعز: " يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خاسئاً وَهُوَ حسير ". فَقَالَت: لأوسدن الْكَعْبَة. مَا سمعنَا بشاعر قطّ ينتحل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا شَاعِرهمْ هَذَا. قَالَ: فَقَالَ خَالِد: قُم يَا أَبَا هُرَيْرَة، فوَاللَّه لَا تسلم هَذِه أبدا. فقمنا فخرجنا من عِنْدهَا. وَكَانَت هِنْد تَقول: النِّسَاء أغلال فليختر الرجل غلاً ليده. وَكَانُوا يشبهون عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ بهند فِي عقلهَا.
رُؤْيا عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب
كَانَت عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، سَاكِنة بِمَكَّة مَعَ أَخِيهَا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فرأت رُؤْيا قبل يَوْم بدر، وَقبل قدوم ضَمْضَم عَلَيْهِم، فَفَزِعت مِنْهَا، فَأرْسلت إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب من لَيْلَتهَا، فَجَاءَهَا فَقَالَت: رَأَيْت اللَّيْلَة رُؤْيا قد أشفقت مِنْهَا، وخشيت على قَوْمك الهلكة. قَالَ: وماذا رَأَيْت؟ قَالَت: لن أحَدثك حَتَّى تعاهدني أَلا تذكرها لقَوْمك؛ فَإِنَّهُم إِن سمعوها آذونا وأسمعونا مَالا نحب. فعاهدها الْعَبَّاس فَقَالَت:(4/28)
رَأَيْت رَاكِبًا أقبل على رَاحِلَة من أَعلَى مَكَّة يَصِيح بِأَعْلَى صَوته: يَا آل غدر، اخْرُجُوا فِي لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث، ثمَّ أقبل يَصِيح حَتَّى دخل الْمَسْجِد على رَاحِلَته، فصاح ثَلَاث صيحات، وَمَال عَلَيْهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان، وفزع النَّاس لَهُ أَشد الْفَزع. قَالَت: ثمَّ أرَاهُ مثل ظهر الْكَعْبَة على رَاحِلَته فصاح ثَلَاث صيحات فَقَالَ: يَا آل غدر، يَا آل فجر اخْرُجُوا فِي لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث. ثمَّ أرَاهُ مثل عَليّ أبي قبيس كَذَلِك يَقُول: يَا آل غدر وَيَا آل فجر حَتَّى أسمع من بَين الأخشبين من أهل مَكَّة، ثمَّ عمد لصخرة عَظِيمَة فنزعها من أَصْلهَا ثمَّ أرسلها على أهل مَكَّة، فَأَقْبَلت الصَّخْرَة لَهَا حس شَدِيد، حَتَّى إِذا كَانَت عِنْد أصل الْجَبَل ارفضت، فَلَا أعلم بِمَكَّة بَيْتا وَلَا دَارا إِلَّا وَقد دَخَلتهَا فلقَة من تِلْكَ الصَّخْرَة. فقد خشيت على قَوْمك. فَفَزعَ من رؤياها الْعَبَّاس ثمَّ خرج من عِنْدهَا، فلقي الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي ربيعَة من آخر تِلْكَ اللَّيْلَة، وَكَانَ خَلِيلًا للْعَبَّاس، فَقص عَلَيْهِ رُؤْيا عَاتِكَة وَأمره أَلا يذكرهَا لأحد، فَذكرهَا لِأَبِيهِ عتبَة، وَذكرهَا عتبَة لِأَخِيهِ شيبَة، فارتفع الحَدِيث حَتَّى بلغ أَبَا جهل واستفاض فِي أهل مَكَّة. فَلَمَّا أَصْبحُوا غَدا الْعَبَّاس يطوف، فَوجدَ فِي الْمَسْجِد أَبَا جهل، وَأَبا البخترى فِي نفر من قُرَيْش يتحدثون، فَلَمَّا نظرُوا إِلَى الْعَبَّاس ناداه أَبُو جهل: يَا أَبَا الْفضل؛ إِذا قضيت طوافك فَهَلُمَّ إِلَيْنَا. فَلَمَّا قضى طَوَافه جَاءَهُم فَجَلَسَ إِلَيْهِم، فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: مَا رُؤْيا عَاتِكَة؟ قَالَ: مَا رَأَتْ من شَيْء قَالَ أَبُو جهل: أما رَضِيتُمْ يَا بني هَاشم بكذب الرِّجَال حَتَّى جئتمونا بكذب النِّسَاء. إِنَّا كُنَّا وَأَنْتُم كفرسي الرِّهَان، فاستبقنا الْمجد مُنْذُ حينٍ. فَلَمَّا تحاكت الركب قُلْتُمْ: منا نَبِي. فَمَا بَقِي إِلَّا أَن تَقولُوا: منا نبية. لَا أعلم فِي قُرَيْش أهل بَيت أكذب رجلا وَلَا امْرَأَة مِنْكُم. فآذوه أَشد الْأَذَى وَقَالَ أَبُو جهل: زعمت عَاتِكَة أَن الرَّاكِب قَالَ: اخْرُجُوا فِي لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث، فَلَو قد مَضَت هَذِه الثَّلَاث تبينت قُرَيْش كذبكم، وكتبنا سجلاً أَنكُمْ أكذب بَيت فِي الْعَرَب رجلا وَامْرَأَة. أما رَضِيتُمْ يَا بني قصي أَن ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء والرفادة حَتَّى جئتمونا بِنَبِي مِنْكُم. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس: هَل أَنْت منته، فَإِن الْكَذِب فِيك وَفِي أهل الْبَيْت. فَقَالَ من حضرهما: مَا كنت يَا أَبَا الْفضل(4/29)
جهولاً وَلَا خرقاً. ولقى الْعَبَّاس من عَاتِكَة فِيمَا أفشى عَلَيْهَا من رؤياها أَذَى شَدِيدا. فَلَمَّا كَانَ مسَاء اللَّيْلَة الثَّالِثَة من اللَّيَالِي الَّتِي رَأَتْ فِيهَا عَاتِكَة الرُّؤْيَا جَاءَهُم الرَّاكِب الَّذِي بعث بِهِ أَبُو سُفْيَان وَهُوَ ضَمْضَم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ فَصَرَخَ: يَا آل غَالب ابْن فهر؛ انفروا فقد خرج مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَأهل يثرب لأبي سُفْيَان فاحذروا عِيركُمْ. فَفَزِعت قُرَيْش أَشد الْفَزع وَأَشْفَقُوا من رُؤْيا عَاتِكَة. وَقَالَ الْعَبَّاس: هَذَا زعمتم كذبي وَكذب عَاتِكَة. فنفروا على كل صَعب وَذَلُول، فأظفر الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ ببدر.
فَاطِمَة بنت عبد الْملك بن مَرْوَان
روى عَن عَطاء قَالَ: قلت لفاطمة بنت عبد الْملك: أَخْبِرِينِي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز. قَالَت: أفعل، وَلَو كَانَ حَيا مَا فعلت. إِن عمر رَحمَه الله كَانَ قد فزع للْمُسلمين نَفسه، ولأمورهم ذهنه 361، فَكَانَ إِذا أَمْسَى مسَاء لم يفرغ فِيهِ من حوائج النَّاس فِي يَوْمه دَعَا بسراجه الَّذِي كَانَ يسرج لَهُ من مَاله ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ أقعى وَاضِعا رَأسه على يَدَيْهِ، تسيل دُمُوعه على خديه يشهق الشهقة تكَاد ينصدع لَهَا قلبه، أَو تخرج لَهَا نَفسه، حَتَّى يرى الصُّبْح. وَأصْبح صَائِما فدنوت مِنْهُ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ ألشيء كَانَ مِنْك مَا كَانَ؟ قَالَ: أجل، فَعَلَيْك بشأنك، وخليني وشأني. فَقلت: إِنِّي أَرْجُو أَن أتعظ. قَالَ: إِذا أخْبرك، إِنِّي نظرت قد وجدتني وليت أَمر هَذِه الْأمة أحمرها وأسودها، ثمَّ ذكرت الْفَقِير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وَذَا المَال الْقَلِيل والعيال الْكثير، وَأَشْيَاء من ذَلِك فِي أقاصي الْبِلَاد، وأطراف الأَرْض، فَعلمت أَن الله عز وَجل سائلي عَنْهُم، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجيجي، لَا يقبل الله مني فيهم معذرة، وَلَا يقوم لي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة، فرحمت وَالله يَا فَاطِمَة نَفسِي رَحْمَة دَمَعَتْ لَهَا عَيْني، ووجع لَهَا قلبِي، فَأَنا كلما ازددت ذكرا ازددت خوفًا فأيقظي أودعي.(4/30)
أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ
فِي حَدِيث أم سَلمَة أَنَّهَا أَتَت عَائِشَة لما أَرَادَت الْخُرُوج إِلَى الْبَصْرَة فَقَالَت لَهَا: إِنَّك سدة بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَأمته، وحجابك مَضْرُوب على حرمته، وَقد جمع الْقُرْآن ذيلك فَلَا تندحيه وَسكن عقيراك فَلَا تصحريها. الله من وَرَاء هَذِه الْأمة، لَو أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ أَن يعْهَد إِلَيْك عهدا. علت علت بل قد نهاك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الفرطة فِي الْبِلَاد؛ إِن عَمُود الْإِسْلَام لَا يُثَاب بِالنسَاء إِن مَال، وَلَا يرأب بِهن أَن صدع، حماديات النِّسَاء غض الْأَطْرَاف وخفر الْأَعْرَاض، وَقصر الوهازة. مَا كنت قائلة لَو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ عارضك بعض الفلوات ناصة قلوصاً من منهل إِلَى آخر أَن يعين الله مهواك، وعَلى رَسُوله تردين قد وجهت سدافته. - ويروى سجافته - وَتركت عهيداه. لَو سرت مسيرك هَذَا ثمَّ قيل: ادخلي الفردوس لاستحييت أَن ألْقى مُحَمَّدًا، هاتكة حِجَابا قد ضربه عَليّ. اجعلي حصنك بَيْتك، ووقاعة السّتْر قبرك، حَتَّى تلقيه وَأَنت على تِلْكَ أطوع مَا تكونين لله مَا لَزِمته، وأنصر مَا تكونين للدّين مَا جَلَست عَنهُ، لَو ذكرتك قولا تعرفينه نهسته نهش الرقشاء المطرقة. فَقَالَت عَائِشَة: مَا أقبلني لوعظك! وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا تظنين، ولنعم الْمسير مسير فزعت فِيهِ إِلَيّ فئتان متناجزتان - أَو متناحرتان - إِن أقعد فَفِي غير حرج، وَإِن أخرج فَإلَى مَا لَا بُد من الازدياد مِنْهُ. قَوْلهَا: قد جمع الْقُرْآن ذيلك فَلَا تندحيه أَي لَا توسعيه بالحركة وَالْخُرُوج يُقَال: ندحت الشَّيْء: إِذا وسعته. وَمِنْه يُقَال: أَنا فِي مندوحة عَن كَذَا. أَي فِي سَعَة. وَمن رَوَاهُ فَلَا تبدحيه فَإِنَّهُ من البداح وَهُوَ المتسع من الأَرْض وعقيراك: من عقر الدَّار.(4/31)
وعلت من الْعَوْل، وَهُوَ الْميل. وَمن رَوَاهُ: علت بِالْكَسْرِ فَهُوَ من عَال فِي الْبِلَاد يعيل. والفرطة: من الفرط. وَهُوَ السَّبق والتقدم. لَا يُثَاب: لَا يرد يُقَال ثَبت إِلَى كَذَا أَي عدت إِلَيْهِ. حماديات: جمع حمادي مثل قَوْلك قصاراك. الوهازة: قيل هُوَ الخطو. السدافة: الْحجاب والستر، من أسداف اللَّيْل: إِذا ستر بظلمته.
ملتقطات من كلامهن
قَالَت هِنْد بنت عتبَة وَقد عزيت عَن يزِيد بن أبي سُفْيَان لما مَاتَ فَقيل لَهَا: إِنَّا لنَرْجُو أَن يكون فِي مُعَاوِيَة خلفا مِنْهُ. قَالَت: أومثل مُعَاوِيَة يكون خلفا من أحد؟ وَالله لَو جمعت الْعَرَب من أقطارها ثمَّ رمي بِهِ فِيهَا لخرج من أَيهَا شَاءَ. قَالَت خالدة بنت هَاشم بن عبد منَاف لأخ لَهَا - وَقد سمعته تجهم صديقا لَهُ: أَي أخي، لَا تطلع من الْكَلَام إِلَّا مَا قد روأت فِيهِ قبل ذَلِك، ومزجته بالحلم، وداويته بالرفق؛ فَإِن ذَلِك أشبه بك. فَسَمعَهَا أَبوهَا هَاشم فَقَامَ إِلَيْهَا فاعتنقها وَقبلهَا وَقَالَ: واهاً لَك يَا قبَّة الديباج. فلقبت بذلك. قَالَت عَائِشَة للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقد دخل عَلَيْهَا: أَيْن كنت يَا رَسُول الله؟ قَالَ: كنت عِنْد أم سَلمَة. قَالَت: أما تشبع. فَتَبَسَّمَ. وَقَالَت: يَا رَسُول الله؛ لَو مَرَرْت بعدوتين إِحْدَاهمَا عَافِيَة لم يرعها أحد، وَأُخْرَى قد رعاها النَّاس، أَيهمَا كنت تنزل؟ قَالَ: بالعافية الَّتِي لم يرعها النَّاس. قَالَت: فلست كَأحد من نِسَائِك.
عمر وَأَبُو سُفْيَان
رُوِيَ أَن عمر نهى أَبَا سُفْيَان عَن رش بَاب منزله لِئَلَّا يمر بِهِ الْحَاج فيزلقون فِيهِ، فَلم ينْتَه. وَمر عمر فزلق بِبَابِهِ فعلاه بِالدرةِ وَقَالَ: ألم آمُرك أَلا تفعل هَذَا.(4/32)
فَوضع أَبُو سُفْيَان سبابته على فِيهِ. فَقَالَ عمر: الْحَمد لله الَّذِي أَرَانِي أَبَا سُفْيَان ببطحاء مَكَّة أضربه فَلَا ينتصر، وآمره فيأتمر. فَسَمعته هِنْد بنت عتبَة فَقَالَت: احمده يَا عمر فَإنَّك إِن تحمده فقد أَرَاك عَظِيما. كَانَت زَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن عَليّ تَقول: من أَرَادَ أَن يكون الْخلق شفعاءه إِلَى الله فليحمده. ألم تسمع إِلَى قَوْلهم: سمع الله لمن حَمده. فخف الله لقدرته عَلَيْك واستحي مِنْهُ لقُرْبه مِنْك. وَقَالَت زَيْنَب: لَو أدْرك الْمَنْصُور مَا سَاس بِهِ الْمَأْمُون بني أبي طَالب لخرج لَهُ عَمَّا يملك. لما تزوجت خَدِيجَة رضوَان الله عَلَيْهَا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كست أَبَاهَا حلَّة وخلقته ونحرت جزوراً، فَلَمَّا أَفَاق الشَّيْخ قَالَ: مَا هَذَا الحبير وَهَذَا العبير وَهَذَا العقير؟ فَقَالَت خَدِيجَة: زوجتني مُحَمَّدًا وَهُوَ كساك هَذَا.
حَال ابْنة عبد الله بن جَعْفَر بعد زواجها من الْحجَّاج
قيل: مَا رئيت ابْنة عبد الله بن جَعْفَر ضاحكة بعد أَن تزَوجهَا الْحجَّاج فَقيل لَهَا: لَو تسليت، فَإِنَّهُ أَمر قد وَقع. فَقَالَت: كَيفَ وَبِمَ؟ فوَاللَّه لقد ألبست قومِي عاراً لَا يغسل درنه بِغسْل. وَلما مَاتَ أَبوهَا لم تبك عَلَيْهِ. فَقيل لَهَا: أَلا تبكين على أَبِيك؟ قَالَت: وَالله إِن الْحزن ليبعثني وَإِن الغيظ ليصمتني. مَاتَ ابْن لِزَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن عَليّ فَوجه الْمَأْمُون بِصَالح بن الرشيد للصَّلَاة عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا صَالح: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول لَك: قد كنت على الرّكُوب، فعرضت لي عِلّة، وَقد وجهت صَالحا ليقوم مقَامي، عظم الله أجرك، فَإِنَّمَا فقدت شخصه، وثوابه مذخور لَك. قَالَ: فَظهر غَضَبهَا، وَرفعت ابْنا لابنها الْمَيِّت فَقَالَت: صل على أَبِيك وَقَالَت: سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الْكِير عَن خبث الْحَدِيد(4/33)
أما إِنَّه لَو كَانَ يحيى بن الْحُسَيْن بن زيد لوضعت ذيلك فِي فِيك، وعدوت خلف جنَازَته.
الْمَأْمُون وَأم جَعْفَر
لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد دخلت عَلَيْهِ أم جَعْفَر فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ 363 أهنئك بخلافة قد هنأت بهَا نَفسِي عَنْك قبل أَن أَرَاك. وَلَئِن فقدت ابْنا خَليفَة لقد عوضت ابْنا خَليفَة لم ألده. وَمَا خسر من اعتاض مثلك، وَلَا ثكلت أم مَلَأت يَدهَا مِنْك، فأسأل الله أجرا على مَا أَخذ، ومتاعاً بِمَا وهب. دخلت فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن على هِشَام بن عبد الْملك، فَقَالَ لبَعض جُلَسَائِهِ: حركها بِشَيْء تغْضب مِنْهُ. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِنَّهَا لَا تعرف الشَّرّ. فَقَالَت لَهُ: أَيهَا عَنْك. علمي بِهِ جنبنيه.
من أَعمال وأقوال فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن
روى عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمر بن عُثْمَان قَالَ: جمعتنَا أمنا فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت: يَا بني؛ إِنَّه وَالله مَا نَالَ أحد من أهل السَّفه بسفههم شَيْئا وَلَا أدركوه من لذاتهم إِلَّا وَقد ناله أهل المروءات، فاستتروا بستر الله. وَذكر أَن فَاطِمَة أَعْطَتْ وَلَدهَا من حسن بن حسن مَا ورثته مِنْهُ، وأعطت وَلَدهَا من عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان مورثها مِنْهُ، فَوجدَ ولد حسن بن حسن فِي أنفسهم لِأَن مَا ورثت من عبد الله بن عَمْرو كَانَ أَكثر فَقَالَت لَهُم: يَا بني، إِنِّي كرهت أَن يرى أحدكُم شَيْئا من مَال أَبِيه بيد أَخِيه، فيجد من ذَلِك فِي نَفسه فَلذَلِك فعلت مَا فعلت. وَدخلت مَعَ أُخْتهَا سكينَة على هِشَام بن عبد الْملك، فَقَالَ هِشَام لفاطمة: صفي لنا يَا بنة حُسَيْن ولدك من ابْن عمك، وصفي لنا ولدك من ابْن عمنَا قَالَ: فَبَدَأت بِولد الْحسن قَالَت: أما عبد الله فسيدنا وشريفنا والمطاع فِينَا، وَأما الْحسن فلساننا ومدرهنا وأشبه النَّاس برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شمائل وتقلعاً ولوناً - وَكَانَ(4/34)
رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا مَشى تقلع فَلَا تكَاد عقباه تقعان بِالْأَرْضِ - وَأما الذان من ابْن عمكم فَإِن مُحَمَّدًا جمالنا الَّذِي نباهي بِهِ، وَالقَاسِم عارضتنا الَّتِي نمتنع بهَا، وأشبه النَّاس بِأبي الْعَاصِ بن أُميَّة عارضة ونفساً. فَقَالَ: وَالله لقد أَحْسَنت صفاتهم يَا بنة حُسَيْن. ثمَّ وثب فجبذت سكينَة بردائه فَقَالَت: وَالله يَا أَحول لقد أَصبَحت تهكم بِنَا. أما وَالله مَا أبرزنا لَك إِلَّا يَوْم الطف، قَالَ: أَنْت امْرَأَة كَثِيرَة الشَّرّ.(4/35)
الْبَاب الثَّانِي نكت من كَلَام النِّسَاء ومستحسن جواباتهن وألفاظهن
جَوَاب امْرَأَة لبَعض الساخرين من بني نمير
مرت امْرَأَة جميلَة على مَسْجِد بني نمير بِالْبَصْرَةِ وَعَلِيهِ جمَاعَة مِنْهُم فَقَالَ بَعضهم: مَا أكبر عجيزتها، وَقَالَ آخر: إِنَّهَا ملفوفة. وَقَالَ آخر: أَنا أجيئكم بخبرها. فتبعها وَضرب يَده على عجيزتها. قَالَ: فالتفتت إِلَيْهِ وَقَالَت: " الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين " ثمَّ انصرفت إِلَى بني نمير فَقَالَت: يَا بني نمير؛ وَالله مَا حفظتم فِي قَول الله جلّ وَعز، وَلَا قَول الشَّاعِر؛ قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: " قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم " وَقَالَ الشَّاعِر: فغض الطّرف إِنَّك من نمير ... فَلَا كَعْبًا بلغت وَلَا كلاباً 364 - قَالَت امْرَأَة من نمير وحضرتها الْوَفَاة، وَأَهْلهَا مجتمعون: من الَّذِي يَقُول: لعمرك مَا رماح بني نمير ... بطائشة الصُّدُور وَلَا قصار قَالُوا: زِيَاد الْأَعْجَم. قَالَت: فَإِنِّي أشهدكم أَن لَهُ الثُّلُث من مَالِي. وَكَانَ الثُّلُث كثيرا. وَقَالَت امْرَأَة لزَوجهَا: إِن أكلك لاقتفاف، وَإِن شربك لاشتفاف، وَإِن ضجعك لالتفاف. تنام لَيْلَة تخَاف، وتشبع لَيْلَة تُضَاف.(4/36)
وصف امْرَأَة لزَوجهَا وَوَصفه لَهَا
طلق أَعْرَابِي امْرَأَته فَقَالَت لَهُ: جَزَاك الله خيرا؛ لقد كنت كثير المرق، طيب الْعرق، قَلِيل الأرق، قَالَ: وَأَنت فجزاك الله خيرا؛ لقد كنت لذيذة المعتنق عِنْد الْكرَى والأرق، وَلَكِن مَا قضى الله قد سبق. تزوج أَعْرَابِي امْرَأَة أشرف مِنْهُ حسباً ونسباً فَقَالَ: يَا هَذِه: إِنَّك مَهْزُولَة. فَقَالَت: هزالي أولجني بَيْتك. لما قتل حَاجِب بن زُرَارَة قراد بن حنيفَة قَالَت قبائل بني دارم لحاجب: إِمَّا أَن تقيد من نَفسك، وَإِمَّا أَن تدفع إِلَيْنَا رجلا من رهطك. فَأمر فَتى من بني زُرَارَة بن عدس أَن يذهب إِلَيْهِم حَتَّى يُقَاد. فَمروا بالفتى على أمه وحسبوها تجزع فَيدْفَع حَاجِب إِلَيْهِم غَيره. فَقَالَت: إِن حَيْضَة وَقت حاجباً الْمَوْت لعظيمة الْبركَة. قَالَت أعرابية وَقد دفع إِلَيْهَا علك لتمضغه: مَا فِيهِ إِلَّا تَعب الأضراس وخيبة الحنجرة. قيل لرملة بنت الزبير: مَا لَك أهزل مَا تكونين إِذا كَانَ زَوجك شَاهدا؟ قَالَت: إِن الْحرَّة لَا تضاجع بَعْلهَا بملء بَطنهَا. كَأَنَّهَا لم تأمن قرقرة الْبَطن وَغير ذَلِك. نظر رجل إِلَى امْرَأتَيْنِ يتلاعبان فَقَالَ: مرا لَعَنَكُمَا الله فَإِنَّكُنَّ صواحبات يُوسُف. فَقَالَت إِحْدَاهمَا: يَا عمي فَمن رمى بِهِ فِي الْجب: نَحن أم أَنْتُم؟ وَمَرَّتْ جَارِيَة بِقوم وَمَعَهَا طبق مغطى فَقَالَ بَعضهم: أَي شَيْء مَعَك على الطَّبَق؟ قَالَت: فَلم غطيناه؟ قَالَ الجاحظ: من الأسجاع الْحَسَنَة قَول الأعرابية حِين خَاصَمت ابْنهَا إِلَى عَامل المَاء: أما كَانَ بَطْني لَك وعَاء؟ أما كَانَ حجري لَك فنَاء؟ أما كَانَ ثديي لَك سقاء. وَقَالَت امْرَأَة: أَصْبَحْنَا مَا يرقد لنا فرس، وَلَا ينَام لنا حرس.
قَول امْرَأَة فِي رثاء ابْنهَا
مر رجل بِامْرَأَة من غاضرة، وَإِذا ابْن لَهَا مسجى بَين يَديهَا، وَهِي تَقول:(4/37)
يَرْحَمك الله يَا بني. فوَاللَّه مَا كَانَ مَالك لبطنك، وَلَا أَمرك لعرسك، وَلَا كنت إِلَّا لين العطفة، يرضيك أقل مِمَّا يسخطك. قَالَ: فَقَالَ لَهَا: يَا أمه، أَلَك مِنْهُ خلف؟ قَالَت: بلَى مَا هُوَ خير مِنْهُ: ثَوَاب الله وَالصَّبْر على الْمُصِيبَة. وَلما قتل الْفضل بن سهل دخل الْمَأْمُون إِلَى أمه يعزيها فِيهِ، وَقَالَ: يَا أمه؛ لَا تحزني على الْفضل؛ فَإِنِّي خلف لَك مِنْهُ. فَقَالَت لَهُ: وَكَيف لَا أَحْزَن على ولد عوضني خلفا مثلك، فتعجب الْمَأْمُون من جوابها. وَكَانَ يَقُول: مَا سَمِعت جَوَابا قطّ كَانَ أحسن مِنْهُ وَلَا أخلب للقلب.
قَول أعرابية حِين شربت النَّبِيذ
حُكيَ أَن عجوزاً من الْأَعْرَاب جَلَست فِي طَرِيق مَكَّة إِلَى فتيَان من قُرَيْش يشربون نبيذاً لَهُم، فسقوها قدحاً فطابت نَفسهَا وتبسمت ثمَّ سقوها قدحاً آخر، فاحمر وَجههَا وضحكت فسقوها قدحاً ثَالِثا، فَقَالَت: أخبروني عَن نِسَائِكُم بالعراق، أيشربن من هَذَا الشَّرَاب؟ قَالُوا: نعم. قَالَت: زنين وَرب الْكَعْبَة. 365 - سُئِلت أعرابية فَقيل لَهَا: أتعرفين النُّجُوم؟ قَالَت: سُبْحَانَ الله أما أعرف أشياخاً وقوفاً عَليّ كل لَيْلَة؟ قيل لامْرَأَة أُصِيبَت بِوَلَدِهَا: كَيفَ أَنْت والجزع؟ . قَالَت: لَو رَأَيْت فِيهِ دركاً مَا اخْتَرْت عَلَيْهِ، وَلَو دَامَ لي لدمت لَهُ. مر أَعْرَابِي بِجَارِيَة جابة تمدر حوضاً لَهَا، فَقَالَ: من دلّ على بعير بعنقه علاط. وبأنفه خزام، تتبعه بكرتان سمراوان؟ فَقَالَ الْقَوْم: حفظ الله علينا وَأمْسك عَلَيْك. وَالله مَا أحسسنا لَهَا خَبرا. . فَقَالَت الْجَارِيَة: لَا حفظ الله عَلَيْك يَا عَدو الله. فَقيل لَهَا: مَا ذَاك؟ قَالَت: إِنَّه ينشد سوءته. قَالَ بَعضهم: شهِدت امْرَأَة بالبادية، وَبَين يَديهَا ابْن لَهَا يجود بِنَفسِهِ فَوَثَبت عَلَيْهِ فأغمضته وعصبته وترحمت عَلَيْهِ، ثمَّ تنحت. فَقَالَت: مَا حق من ألبس(4/38)
النِّعْمَة، وأطيلت لَهُ الْعَافِيَة، وأديمت بِهِ النظرة أَلا يعجز عَن التَّوَثُّق لنَفسِهِ، من قبل حل عقوده، والحلول بعقوته، والحيالة بَينه وَبَين نَفسه.
وصف أعرابية لزَوجهَا
قَالَت أعرابية فِي الزَّوْج: لَا أريده ظريفاً وَلَا ظريفاً وَلَا رجل أَهله وَلَا السمين الألحم، وَلَكِنِّي أريده الضحوك ولاجاً، الكسوب خراجاً. خطب رجل ابْنة عَم لَهُ فَأَخْبرهَا أَبوهَا بذلك فَقَالَت: يَا أبه، سَله مَا لي عِنْده؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: ألطف برهَا، وأحمل ذكرهَا، وأعصي أمرهَا. فَقَالَت: زوجنيه. لما أهديت ابْنة عبد الله بن جَعْفَر إِلَى الْحجَّاج نظر إِلَيْهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وعبرتها تجول فِي خدها، فَقَالَ: مِم بِأبي أَنْت؟ . قَالَت: من شرف اتضع، وَمن ضعة شرفت. وَلما كتب عبد الْملك إِلَى الْحجَّاج بِطَلَاقِهَا قَالَ لَهَا: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي بطلاقك قَالَت: هُوَ أبر بِي مِمَّن زوجنيك
قَول امْرَأَة لِبلَال بن أبي بردة
حكم بِلَال بن أبي بردة بِالتَّفْرِيقِ بَين رجل وَامْرَأَته، فَقَالَت لَهُ الْمَرْأَة: يَا بن أبي مُوسَى إِنَّمَا بعثتم بِالتَّفْرِيقِ بَين الْمُسلمين. نزل رجل بِامْرَأَة من الْعَرَب فَقَالَ لَهَا: هَل من لبن أَو طَعَام يُبَاع؟ فَقَالَت: إِنَّك للئيم أَو حَدِيث عهد باللئام. فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهَا وخطبها فَتَزَوجهَا.
كَرَاهَة النِّسَاء للشيب
حدث بَعضهم قَالَ: خرجت إِلَى نَاحيَة الطفاوة فَإِذا أَنا بِامْرَأَة لم أر أجمل مِنْهَا. فَقلت: أيتها الْمَرْأَة؛ إِن كَانَ لَك زوج فَبَارك الله لَهُ فِيك، وَإِلَّا فأعلميني. قَالَ: فَقَالَت: وَمَا تصنع بِي وَفِي شَيْء لَا أَرَاك ترتضيه. قلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَت: شيب فِي رَأْسِي. قَالَ: فثنيت عنان دَابَّتي رَاجعا. فصاحت بِي: على رسلك أخْبرك بِشَيْء. فوقفت وَقلت: مَا هُوَ يَرْحَمك الله؟ فَقَالَت: وَالله مَا بلغت الْعشْرين بعد،(4/39)
وَهَذَا رَأْسِي - فَكشفت عَن عناقيد كالحمم - وَمَا رَأَيْت فِي رَأْسِي بَيَاضًا قطّ، وَلَكِن أَحْبَبْت أَن تعلم أَنا نكره مثل مَا يكره منا. وأنشدت: أرى شيب الرِّجَال من الغواني ... بِموضع شيبهن من الرِّجَال قَالَ: فَرَجَعت خجلاً كاسف البال. وصفت امْرَأَة نسَاء فَقَالَت: كن صدوعاً فِي صفا لَيْسَ لعاجز فِيهِنَّ حَظّ.
من أَقْوَال ابْنة الخس
قيل لابنَة الخس: من تريدين أَن تتزوجي؟ فَقَالَت: لَا أريده أَخا فلَان وَلَا ابْن عَم فلَان، وَلَا الظريف، وَلَا المتظرف، وَلَا السمين الألحم وَلَكِنِّي أريده كسوباً إِذا غَدا، ضحوكاً إِذا أَتَى، أخال وَلَا تيمنه وَقيل لَهَا: من أعظم النَّاس فِي عَيْنَيْك؟ قَالَت: من 366 كَانَت لي إِلَيْهِ حَاجَة. قيل لأعرابية قد حملت شَاة تبيعها: بكم؟ قَالَت: بِكَذَا. قيل لَهَا: أحسني. فَتركت الشَّاة وَمَرَّتْ لتنصرف. فَقيل لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَت: لم تَقولُوا أنقصي، وَإِنَّمَا قُلْتُمْ: أحسني. وَالْإِحْسَان ترك الْكل. قَالَت قريبَة الأعرابية: إِذا كنت فِي غير قَوْمك فَلَا تنس نصيبك من الذل قيل لأعرابية: مَا أطيب الروائح؟ قَالَت: بدن تحبه، وَولد تربه. سَأَلَ رجل الخيزران حَاجَة، وَأهْدى إِلَيْهَا هَدِيَّة فَردَّتهَا وكتبت إِلَيْهِ: إِن كَانَ الَّذِي وجهته ثمنا لرأي فِيك فقد بخستني فِي الْقيمَة، وَإِن كَانَ استزادة فقد استغششتني فِي النَّصِيحَة. قتل قُتَيْبَة أَبَا امْرَأَة وأخاها وَزوجهَا ثمَّ قَالَ لَهَا: أتعرفين أعدى لَك مني؟ قَالَت: نعم: نفس طالبتني بالغداء بعد من قتلت لي. تقدّمت امْرَأَة إِلَى قاضٍ فَقَالَ لَهَا القَاضِي: جامعك شهودك كلهم؟ فَسَكَتَتْ فَقَالَ كَاتبه: إِن القَاضِي يَقُول: جَاءَ شهودك مَعَك؟ قَالَت: نعم. ثمَّ قَالَت للْقَاضِي:(4/40)
أَلا قلت كَمَا قَالَ كاتبك. كبر سنك، وَذهب عقلك. وعظمت لحيتك فغطت على عقلك؛ وَمَا رَأَيْت مَيتا يحكم بَين الْأَحْيَاء غَيْرك. قَالَت أعرابية لزَوجهَا، ورأته مهموماً: إِن كَانَ همك بالدنيا فقد فرغ الله مِنْهَا، وَإِن كَانَ للآخرة فزادك الله هما بهَا. قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أعرابية تَقول: إلهي؛ مَا أضيق على من لم تكن دَلِيله، وأوحشه على من لم تكن أنيسه! وافتخرت جاريتان من الْعَرَب بقوسي أبويهما. فَقَالَت إِحْدَاهمَا: قَوس أبي طروح مروح، تعجل الظبي أَن يروح. وَقَالَت الْأُخْرَى: قَوس أبي كرة، تعجل الظبي النفرة. قَالَ عتبَة بن ربيعَة لابنته هِنْد: قد خَطبك إِلَيّ رجلَانِ؛ خَطبك السم ناقعاً، وخطبك الْأسد عادياً. فَأَيّهمَا أحب إِلَيْك أَن أزَوجك؟ قَالَت: الَّذِي يَأْكُل أحب إِلَيّ من الَّذِي يُؤْكَل. فَزَوجهَا أَبَا سُفْيَان، وَهُوَ الْأسد العادي وَكَانَ الآخر سُهَيْل بن عَمْرو. سَمِعت امْرَأَة بدوية وَهِي ترقص ابْنا لَهَا وَتقول: رزقك الله جدا يخدمك عَلَيْهِ ذَوُو الْعُقُول، وَلَا رزقك عقلا تخْدم بِهِ ذَوي الجدود.
حَدِيث أُخْتَيْنِ
قَالَ ابْن أبي طَاهِر: حَدثنِي عَليّ بن عُبَيْدَة قَالَ: تزاورت أختَان من أهل الْقصر، فأرهقتهما الصَّلَاة، فبادرت إِحْدَاهمَا فصلت صَلَاة خَفِيفَة، فَقَالَ لَهَا بعض النِّسَاء: كنت حريَّة أَن تطولي الصَّلَاة فِي هَذَا الْيَوْم شكرا لله حِين الْتَقَيْنَا. قَالَت: لَا، وَلَكِن أخفف صَلَاتي الْيَوْم وأتمتع بِالنّظرِ إِلَيْهَا، وأشكر الله فِي صَلَاتي غَدا. قَالَت الخنساء: النِّسَاء يحببن من الرِّجَال المنظراني الغليظ. القصرة، الْعَظِيم الكمرة، الَّذِي إِذا طعن حفر، وَإِذا أَخطَأ قشر، وَإِذا أخرج عقر. قيل لأعرابية فِي الْبَادِيَة: من أَيْن معاشكم؟ فَقَالَت: لَو لم نعش إِلَّا من حَيْثُ نعلم لم نعش.(4/41)
قيل لامْرَأَة من كلب: مَا أحب الْأَشْيَاء من الرِّجَال إِلَى النِّسَاء: قَالَت: مَا يكثر الْأَعْدَاد، وَيزِيد فِي الْأَوْلَاد؛ حَرْبَة فِي غلاف بحقوى رجل جَاف، إِذا عافى أوهن، وَإِذا جَامع أثخن. قَالَت عَائِشَة للخنساء، إِلَى كم تبكين على صَخْر، وَإِنَّمَا هُوَ جَمْرَة فِي النَّار؟ قَالَت: ذَاك أَشد لجزعي عَلَيْهِ. جَاءَت امْرَأَة إِلَى عدي بن أَرْطَاة تستعديه على زَوجهَا، وتشكو أَنه عنين لَا يَأْتِيهَا، فَقَالَ عدي: إِنِّي لأَسْتَحي للْمَرْأَة أَن تستعدي على زَوجهَا من 367 مثل هَذَا. فَقَالَت: وَلم لَا أَرغب فِيمَا رغبت فِيهِ أمك فَلَعَلَّ الله أَن يَرْزُقنِي ابْنا مثلك. وَقَالَت أعرابية لرجل: مَا لَك تُعْطِي وَلَا تعد؟ فَقَالَ لَهَا: مَالك وللوعد؟ قَالَت: يَنْفَسِخ بِهِ الصَّبْر، وينتشر فِيهِ الأمل، ويطيب بِذكرِهِ النَّفس، ويرجى بِهِ الْعَيْش، وتربح أَنْت بِهِ المرح بِالْوَفَاءِ. قيل لامْرَأَة: صفي لنا النَّاقة النجيبة، قَالَت: كالعقرب إِذا هَمت، وكالحية إِذا التوت، تطوي الفلاة وَمَا انطوت. صرخت أعرابية ذَات يَوْم، فَقَالَ لَهَا أَبوهَا: مَالك؟ قَالَت: لسعتني عقرب، قَالَ: أَيْن؟ قَالَت: حَيْثُ لَا يضع الراقي أَنفه. خطب أَعْرَابِي امْرَأَة وَكَانَ قَصِيرا فَاحش الْقصر، عَظِيم الْأنف جدا فَكَرِهته فَقَالَ: يَا هَذِه، قد عرفت شرفي وَأَنا مَعَ ذَلِك كريم المعاشرة، مُحْتَمل الْمَكْرُوه. فَقَالَت: صدقت مَعَ حملك هَذَا الْأنف أَرْبَعِينَ سنة.
أم أبان وَمن خطبهَا من الصَّحَابَة
كَانَت أم أبان بنت عتبَة بن ربيعَة عِنْد يزِيد بن أبي سُفْيَان فَمَاتَ عَنْهَا فَخَطَبَهَا عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فَردته فَقيل لَهَا: أَتردينَ عَليّ بن أبي طَالب ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، وَزوج فَاطِمَة وَأَبا الْحسن وَالْحُسَيْن، وحاله فِي الْإِسْلَام حَاله؟ قَالَت: نعم. لَا أوثر هَوَاهُ على هواي. لَيْسَ لامْرَأَته مِنْهُ إِلَّا جُلُوسه بَين شعبها الْأَرْبَع، وَهُوَ صَاحب صر من النِّسَاء.(4/42)
ثمَّ خطبهَا عمر فَردته. فَقيل أَتردينَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْفَارُوق، وحاله فِي الْإِسْلَام حَاله؟ قَالَت: نعم لَا أوثر هَوَاهُ على هواي، يدْخل عَابِسا وَيخرج عَابِسا، ويغلق عَليّ بَابه وَأَنا امْرَأَة بَرزَة. ثمَّ خطبهَا الزبير فَردته. فَقيل لَهَا: أَتردينَ الزبير حوارِي رَسُول الله وَابْن عمته وحاله فِي الْإِسْلَام حَاله؟ قَالَت: نعم. لَا أوثر هَوَاهُ على هواي. يَد فِيهَا قروني، وَيَد فِيهَا السَّوْط. ثمَّ خطبهَا طَلْحَة فَقَالَت: زَوجي حَقًا. يدْخل عَليّ بساماً وَيخرج بساماً، إِن سَأَلت بذل، وَإِن أعْطى أجزل، وَإِن أذنبت غفر، وَإِن أَحْسَنت شكر. فتزوجته. فأولم ثمَّ دَعَا هَؤُلَاءِ النَّفر وَهِي فِي خدرها وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ. فَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا أَبَا مُحَمَّد إيذن لي أكلم هَذِه فَأذن لَهُ. فَقَالَ: يَا أم أبان تستري. فتسترت ثمَّ رفع سجف الحجلة فَقَالَ: يَا عدية نَفسهَا خطبتك وَلَيْسَ بقرشية عني رَغْبَة بعد فَاطِمَة بنت رَسُول الله، فرددتني، وخطبك الزبير حوارِي رَسُول الله وَابْن عمته فرددته واخترت علينا ابْن الصعبة قَالَت: فَلَو وجدت نفقاً لدخلت فِيهِ. قَالَت: فأحلت على الزاملة الَّتِي تحمل كل شَيْء فَقلت: أَمر قضي، وَمَا كَانَ ذَاك بيَدي فَقَالَ: صدقت رَحِمك الله. أما على ذَلِك فقد نكحت أَصْبَحْنَا وَجها، وأسخانا كفا، وَأَكْرمنَا للنِّسَاء صُحْبَة. ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد، سلها عَمَّا قلت لَهَا فَإِنِّي لم أقل إِلَّا الَّذِي تحب. قَالَ: لَا أسألها عَنهُ أبدا. نظرت عَجُوز أعرابية إِلَى امْرَأَة حولهَا عشرَة من بنيها كَأَنَّهُمْ الصقور فَقَالَت: ولدت أمكُم حزنا طَويلا. خرج مُعَاوِيَة ذَات يَوْم يمشي، وَمَعَهُ خصي لَهُ حَتَّى دخل على مَيْسُونُ بنت بَحْدَل، وَهِي أم يزِيد فاستترت مِنْهُ. قَالَ: أتستترين مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ مثل الْمَرْأَة؟ قَالَت: أَتَرَى أَن الْمثلَة بِهِ تحل مَا حرم الله.
عُثْمَان ونائلة بنت الفرافصة
خطب عُثْمَان بن عَفَّان نائلة بنت الفرافصة بن الْأَحْوَص الْكَلْبِيّ وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَقَالَ لِابْنِهِ ضَب: تحنف وَزوجهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَفعل وَحملهَا إِلَى الْمَدِينَة. فَلَمَّا(4/43)
أدخلت إِلَيْهِ قَالَ لَهَا: أتقومين إِلَيّ أم أقوم إِلَيْك؟ قَالَت: مَا قطعت إِلَيْك عرض 368 السماوة وَأَنا أُرِيد أَن أكلفك طول الْبَيْت. فَلَمَّا جَلَست بَين يَدَيْهِ قَالَ: لَا يروعنك هَذَا الشيب قَالَت: أما إِنِّي من نسْوَة أحب أَزوَاجهنَّ إلَيْهِنَّ الكهل السَّيِّد قَالَ: حلي إزارك. قَالَت: ذَاك بك أحسن. فَلَمَّا قتل أصابتها ضَرْبَة على يَدهَا وخطبها مُعَاوِيَة فَردته وَقَالَت: مَا يحب الرِّجَال مني؟ قَالُوا: ثناياك. فَكسرت ثناياها وَبعثت بهَا إِلَى مُعَاوِيَة. وَقَالَ: ذَلِك مِمَّا رغب قُريْشًا فِي نِكَاح نسَاء كلب. تزوج الزبير أم مُصعب، وَتزَوج الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام أم سكينَة، وَتزَوج مَرْوَان أم عبد الْعَزِيز. اسْتعْمل الْمَنْصُور رجلا على خُرَاسَان فَأَتَتْهُ امْرَأَة فِي حَاجَة فَلم تَرَ عِنْده غناء. فَقَالَت: أَتَدْرِي لم ولاك أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لَا. قَالَت: لينْظر هَل يَسْتَقِيم أَمر خُرَاسَان بِلَا وَال. قَالَ بَعضهم: خطبت امْرَأَة فأجابت فَقلت: إِنِّي سيء الْخلق. فَقَالَت: أَسْوَأ خلقا مِنْك من يلجئك إِلَى سوء الْخلق. قيل: إِن الْحسن رَضِي الله عَنهُ طلق امْرَأتَيْنِ قرشية وجعفية وَبعث إِلَى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا عشْرين ألفا. وَقَالَ للرسول: احفظ مَا تَقول كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فَقَالَت القرشية: جزاه الله خيرا. وَقَالَت الجعفية: مَتَاع قَلِيل من حبيب مفارق. فَرَاجعهَا وطلق الْأُخْرَى.
بَين الْحُسَيْن وَامْرَأَته
وَكَانَت عِنْد الْحسن بن الْحُسَيْن امْرَأَة فضجر يَوْمًا وَقَالَ: أَمرك فِي يدك فَقَالَت: أما وَالله لقد كَانَ فِي يدك عشْرين سنة فحفظته، أفأضيعه فِي سَاعَة صَار فِي يَدي. قد رددت إِلَيْك حَقك. فأعجبه قَوْلهَا وَأحسن صحبتهَا. قَالَت الخيزران: قبح الله الخدم لَيْسَ لَهُم حزم الرِّجَال وَلَا رقة النِّسَاء. كتب الْمَأْمُون إِلَى شكْلَة أم إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي يتوعدها فأجابته: أَنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أم من أمهاتك، فَإِن كَانَ ابْني عصى الله فِيك فَلَا تعصه فِي، وَالسَّلَام.(4/44)
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: رَأَيْت هنداً بِمَكَّة جالسة، كَأَن وَجههَا فلقَة قمر وَخَلفهَا من عجيزتها مثل الرجل الْجَالِس، وَمَعَهَا صبي يلْعَب، فَمر رجل فَنظر إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي لأرى غُلَاما إِن عَاشَ ليسودن قومه. فَقَالَت هِنْد: إِن لم يسد إِلَّا قومه فَلَا جبره الله. قيل لأم الرشيد: أتخافين الْمَوْت؟ قَالَت: كَيفَ لَا أخافه؟ وَلَو كنت عصيت مخلوقاً مَا أَحْبَبْت لقاءه. فَكيف ألْقى الله وَقد عصيته؟
خبر أم الْحجَّاج مَعَ زَوجهَا
كَانَت الفارعة بنت مَسْعُود الثقفية أم الْحجَّاج عِنْد الْمُغيرَة بن شُعْبَة، فَدخل عَلَيْهَا ذَات يَوْم حِين أقبل من صَلَاة الْغَدَاة وَهِي تتخلل. فَقَالَ: يَا فارعة؛ لَئِن كَانَ هَذَا التخلل من أكل الْيَوْم إِنَّك لجشعة، وَإِن كَانَ من أكل البارحة إِنَّك لبشعة. اعْتدى فَأَنت طَالِق. فَقَالَت: سخنت عَيْنك من مطلاق. مَا هُوَ من ذَا وَلَا ذَاك. وَلَكِنِّي استكت فتخللت من شظية من سِوَاكِي. فَاسْتَرْجع ثمَّ خرج فلقي يُوسُف بن الحكم بن أبي عقيل. فَقَالَ: إِنِّي قد نزلت الْيَوْم عَن سيدة نسَاء ثَقِيف، فتزوجتها فَإِنَّهَا ستنجب. فَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ الْحجَّاج. دخلت ليلى الأخيلية على الْحجَّاج. فَقَالَ لأَصْحَابه: أَلا أخجلها لكم؟ قَالُوا: بلَى. قَالَ: يَا ليلى، أَكنت تحبين تَوْبَة؟ قَالَت: نعم أَيهَا الْأَمِير. وَأَنت لَو رَأَيْته أحببته.
الْوَلِيد بن عبد الْملك وزوجه
قَالَ ابْن عَيَّاش: تزوج الْوَلِيد بن عبد الْملك ثَلَاثًا وَسِتِّينَ امْرَأَة، وَكَانَ أَكثر 369 مَا يُقيم على الْمَرْأَة سِتَّة أشهر، وَكَانَ فِيمَن تزوج ابْنة عبد الله بن مُطِيع الْعَدوي، وَكَانَت جميلَة ظريفة، فَلَمَّا أهديت إِلَيْهِ قَالَ لسماره الَّذين كَانُوا يسمرون عِنْده: لَا تَبْرَحُوا - وَإِن أَبْطَأت - حَتَّى أخرج إِلَيْكُم. وَدخل بهَا وانتظروه حَتَّى خرج إِلَيْهِم فِي السحر وَهُوَ يضْحك. فَقَالُوا: سرك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: مَا رَأَيْت مثل ابْنة الْمُنَافِق. يَعْنِي عبد الله بن مُطِيع - وَكَانَ مِمَّن قتل مَعَ ابْن الزبير، وَكَانَ بَنو مَرْوَان(4/45)
يسمون شيعَة ابْن الزبير: الْمُنَافِقين - لما أردْت الْقيام أخذت بذيلي وَقَالَت: يَا هَذَا؛ إِنَّا قد اشترطنا على الجمالين الرّجْعَة. فَمَا رَأْيك؟ فأعجب بهَا وَأقَام عَلَيْهَا سِتَّة أشهر ثمَّ بعث إِلَيْهَا بِطَلَاقِهَا. قَالَ بَعضهم: قَالَت لي جَارِيَة لي: ظهر يَا مولَايَ الشيب فِي رَأسك. فَقلت: هُوَ مَا لَا تحبونه. فَقَالَت: إِنَّمَا يثقل علينا الشيب على البديهة، فَأَما شيب نَشأ مَعنا فَنحْن نَنْظُر إِلَيْهِ بِالْعينِ الأولى. افتخر على شاهفريد أم يزِيد بن الْوَلِيد نسَاء الْوَلِيد العربيات فَقَالَت: لَيست مِنْكُن امْرَأَة إِلَّا وَفِي عشيرتها من يفخر عَلَيْهَا، وَلَا يقر لَهَا بالشرف وَالْفضل. وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَعْجَمِيَّة تَفْخَر عَليّ. وَكَانَت من أَوْلَاد يزدجرد. وَلذَلِك يَقُول يزِيد بن الْوَلِيد: أَنا ابْن كسْرَى وَأبي مَرْوَان، وَقَيْصَر جدي، وجدي خاقَان.
بَين الرشيد وعنان
عرضت عنان جَارِيَة الناطفي على الرشيد وَهُوَ يتبختر، فَقَالَ لَهَا: أتحبين أَن أشتريك؟ فَقَالَت: وَلم لَا يَا أحسن النَّاس خلقا وخلقاً؟ فَقَالَ: أما الْخلق فقد رَأَيْته، فالخلق أَنى عَرفته؟ قَالَت: رَأَيْت شرارة طاحت من اليجمرة فلمعت فِي خدك فَمَا قطبت لَهَا وَلَا عاتبت أحدا. لما بنى الْمَأْمُون ببوران مد يَده إِلَيْهَا فَحَاضَت، فَقَالَت: أَتَى أَمر الله فَلَا تستعجلوه. فَفطن الْمَأْمُون ووثب عَنْهَا. كَانَ مُعَاوِيَة يمشي مَعَ أمه فعثر، فَقَالَت لَهُ: قُم لَا رفعك الله - وأعرابي ينظر إِلَيْهِ - فَقَالَ: لم تَقُولِينَ لَهُ هَذَا؟ فوَاللَّه إِنِّي لأظنه سيسود قومه. فَقَالَت: لَا رَفعه الله إِن لم يسد إِلَّا قومه. قَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان: جمعتنَا أمنا فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت: يَا بني إِنَّه وَالله مَا نَالَ أحد من أهل السَّفه بسفههم شَيْئا، وَلَا أدركوه من لذاتهم إِلَّا وَقد ناله أهل المروءات بمروءاتهم. فاستتروا بستر الله. لما قصد المعتضد بني شَيبَان اصْطفى مِنْهُم عجوزاً سريعة الْجَواب فصيحةً،(4/46)
فَكَانَ يغري بَينهَا وَبَين الجلساء، فَجَاءَت يَوْمًا فَقَعَدت بِلَا إِذن فَقَالَ لَهَا خَفِيف السَّمرقَنْدِي الْحَاجِب: أتجلسين بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلم يَأْذَن لَك؟ فَقَالَت: أَنْت جَار ذَلِك وحاجبه، كَانَ يجب أَن تعرفنِي مَا أعمل قبل دخولي إِذْ لم تكن لي عَادَة بِمثلِهِ. ثمَّ قَامَت. فتغافل المعتضد عَنْهَا فَقَالَت: يَا سيداه؛ أقيام إِلَى الْأَبَد، فَمَتَى يَنْقَضِي الأمد؟ فَضَحِك وأمرها بِالْجُلُوسِ. قَالُوا: طَاف عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس بِالْبَيْتِ، وَهُنَاكَ عَجُوز قديمَة وَعلي قد فرع النَّاس كَأَنَّهُ رَاكب وَالنَّاس مشَاة. فَقَالَت: من هَذَا الَّذِي قد فرع النَّاس؟ فَقيل: عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس، فَقَالَت: لَا إِلَه إِلَّا الله إِن النَّاس ليرذلون. عهدي بِالْعَبَّاسِ يطوف بِهَذَا الْبَيْت كَأَنَّهُ فسطاط أَبيض وَيُقَال: إِنَّه كَانَ عَليّ إِلَى منْكب أَبِيه عبد الله 370. وَكَانَ عبد الله إِلَى منْكب أَبِيه الْعَبَّاس وَكَانَ الْعَبَّاس إِلَى منْكب أَبِيه عبد الْمطلب. قَالَت هِنْد بنت عتبَة لأبي سُفْيَان بن حَرْب لما رَجَعَ مُسلما من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ إِلَى مَكَّة فِي لَيْلَة الْفَتْح فصاح: يَا معشر قُرَيْش، أَلا إِنِّي قد أسلمت، فأسلموا، فَإِن مُحَمَّدًا قد أَتَاكُم بِمَا لَا قبل لكم بِهِ. فَأخذت هِنْد رَأسه وَقَالَت: بئس طَلِيعَة الْقَوْم. وَالله مَا خدشت خدشاً. يَا أهل مَكَّة. عَلَيْكُم الحميت الدسم فَاقْتُلُوهُ. وَقَالَت هِنْد: إِنَّمَا النِّسَاء أغلال، فليختر الرجل غلا ليده. وَذكرت هِنْد بنت الْمُهلب النِّسَاء فَقَالَت: مَا زين بِشَيْء كأدب بارع تَحْتَهُ لب ظَاهر. وَقَالَت أَيْضا: إِذا رَأَيْتُمْ النعم مستدرة فبادروا بالشكر قبل حُلُول الزَّوَال.
ليلى الأخيلية وَالْحجاج
قدمت ليلى الأخيلية على الْحجَّاج ومدحته. فَقَالَ: يَا غُلَام؛ أعْطهَا خَمْسمِائَة، فَقَالَت: أَيهَا الْأَمِير، اجْعَلْهَا أدماً. فَقَالَ قَائِل: إِنَّمَا أَمر لَك بشاء. قَالَت: الْأَمِير أكْرم من ذَاك. فَجَعلهَا إبِلا إِنَاثًا استحياء. وَإِنَّمَا كَانَ أَمر لَهَا بشاء أَولا.(4/47)
كَانَت آمِنَة بنت سعيد بن الْعَاصِ عِنْد الْوَلِيد بن عبد الْملك، فَلَمَّا مَاتَ عبد الْملك سعت بهَا إِحْدَى ضراتها إِلَى الْوَلِيد. وَقَالَت: لم تبك على عبد الْملك كَمَا بَكت نظائرها. فَقَالَ لَهَا الْوَلِيد فِي ذَلِك فَقَالَت: صدق الْقَائِل لَك أَكنت قائلة: يَا ليته بَقِي حَتَّى يقتل أَخا لي آخر كعمرو بن سعيد. كَانَت ابْنة هاني بن قبيصَة عِنْد لَقِيط بن زُرَارَة، فَقتل عَنْهَا وَتَزَوجهَا رجل من أَهلهَا، فَكَانَ لَا يزَال يَرَاهَا تذكر لقيطاً. فَقَالَ لَهَا ذَات مرّة: مَا استحسنت من لَقِيط؟ فَقَالَت: كل أُمُوره كَانَت حَسَنَة. وكني أحَدثك إِن خرج مرّة إِلَى الصَّيْد وَقد انتشى، فَرجع إِلَيّ وبقميصه نضح من دم صَيْده والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشَّرَاب من فِيهِ. فضمني ضمة وشمني شمة، فليتني كنت مت ثمَّة. قَالَ: فَفعل زَوجهَا مثل ذَلِك ثمَّ ضمهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: أَيْن أَنا من لَقِيط؟ فَقَالَت: مَاء وَلَا كصداء، ومرعى وَلَا كالسعدان قَالُوا: كَانَ ذُو الإصبع العدواني غيوراً، وَكَانَ لَهُ بَنَات أَربع لَا يزوجهن غيرَة؛ فاستمع عَلَيْهِنَّ مرّة وَقد خلون يتحدثن، فذكرن الْأزْوَاج حَتَّى قَالَت، الصُّغْرَى مِنْهُنَّ: زوج من عود خير من قعُود. فخطبهم فزوجهن. ثمَّ أمهلهن حولا، ثمَّ زار الْكُبْرَى فَقَالَ لَهَا: كَيفَ رَأَيْت زَوجك؟ قَالَت: خير زوج يكرم أَهله، وينسى فَضله. قَالَ: حظيت ورضيت. فَمَا مالكم؟ قَالَت: خير مَال. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَت: الْإِبِل، نَأْكُل لحمانها مزعاً، وَنَشْرَب أَلْبَانهَا جرعاً وتحملنا وضعفتنا مَعًا. فَقَالَ: زوج كريم وَمَال عميم. ثمَّ زار الثَّانِيَة فَقَالَ: كَيفَ رَأَيْت زَوجك؟ قَالَت: يكرم الحليلة وَيقرب الْوَسِيلَة قَالَ: فَمَا مالكم؟ قَالَت: الْبَقر. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَت: تألف الفناء، وتملأ الْإِنَاء، وتودك السقاء، وَنسَاء مَعَ نسَاء. قَالَ: رضيت وحظيت. ثمَّ زار الثَّالِثَة فَقَالَ: كَيفَ رَأَيْت زَوجك؟ فَقَالَت: لَا سمح بذر، وَلَا بخيل حكر. قَالَ: فَمَا مالكم؟ قَالَت: المعزى. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَت: لَو كُنَّا نولدها(4/48)
فطماً، ونسلخها أدماً، لم نبغ بهَا نعما. فَقَالَ: جذوة مغنية. ثمَّ زار الرَّابِعَة فَقَالَ: كَيفَ رَأَيْت زَوجك؟ فَقَالَت: شَرّ زوج؛ يكرم نَفسه ويهين عرسه. قَالَ: فَمَا مالكم؟ قَالَت: شَرّ مَال؛ الضَّأْن. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَت: جَوف يشبعن، وهيم لَا ينقعن، وصم 371، لَا يسمعن، وَأمر مغويتهن يتبعن. فَقَالَ: أشبه امأ بعض بزه، فأرسلها مثلا.
امْرَأَة على قبر الْأَحْنَف
وقفت امْرَأَة من تَمِيم على قبر الْأَحْنَف. فَقَالَت: لله دَرك من مجن فِي جنن، ومدرج فِي كفن. نسْأَل الله الَّذِي فجعنا بِوَجْهِك، وابتلانا بفقدك، أَن يَجْعَل سَبِيل الْخَيْر سَبِيلك وَدَلِيل الْخَيْر دليلك، وَأَن يُوسع لَك فِي قبرك، وَيغْفر لَك يَوْم حشرك. فوَاللَّه لقد كنت فِي المحافل شريفاً، وعَلى الأرامل عطوفاً، وَلَقَد كنت فِي الْجُود مسوداً، وَإِلَى الْخَلِيفَة موفداً، وَلَقَد كَانُوا لِقَوْلِك مُسْتَمِعِينَ، ولرأيك متبعين.
الْمَأْمُون وزبيدة
قَالَ ثُمَامَة: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد دخلت عَلَيْهِ زبيدة أم الْأمين، فَجَلَست بَين يَدَيْهِ فَقَالَت: الْحَمد لله، أهنيك بالخلافة، فقد هنأت بهَا نَفسِي قبل أَن أَرَاك؛ وَلَئِن كنت قد فقدت ابْنا خَليفَة، لقد اعتضت ابْنا خَليفَة، وَمَا خسر من اعتاض مثلك، وَلَا ثكلت أم مَلَأت عينهَا مِنْك، وَأَنا أسأَل الله أجرا على مَا أَخذ، وإمتاعاً بِمَا وهب. فَقَالَ الْمَأْمُون: مَا تَلد النِّسَاء مثل هَذِه. مَاذَا ترَاهَا بقت فِي هَذَا الْكَلَام لبلغاء الرِّجَال. تزوج عبد الْملك لبَابَة بنت عبد الله بن جَعْفَر فَقَالَت لَهُ يَوْمًا: لَو استكت فَقَالَ: أما مِنْك فأستاك. وَطَلقهَا فَتَزَوجهَا عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ أَقرع لَا يُفَارِقهُ قلنسوته. فَبعث إِلَيْهِ عبد الْملك جَارِيَة وَهُوَ جَالس مَعَ لبَابَة، فَكشفت رَأسه على غَفلَة لترى مَا بِهِ. فَقَالَت لِلْجَارِيَةِ: قولي لَهُ: هاشمي أصلع أحب إِلَيْنَا من أموي أبخر.
حَدِيث أم زرع
اجْتمعت إِحْدَى عشرَة امْرَأَة فتعاهدن أَلا يكتمن أَخْبَار أَزوَاجهنَّ شَيْئا(4/49)
فَقَالَت الأولى: زَوجي لحم جمل غث، على جبل وعر، لَا سهل فيرتقى وَلَا سمين فينتقى، ويروى فَينْتَقل. وَقَالَت الثَّانِيَة: زَوجي لَا أبث خَبره، وَإِنِّي أَخَاف أَلا أذره إِن أذكرهُ أذكر عُجَره وبجره. قَالَت الثَّالِثَة: زَوجي العشنق إِن انْطلق أطلق، وَإِن أسكت أعلق. قَالَت الرَّابِعَة: زَوجي كليل تهَامَة، لَا حر وَلَا قر، وَلَا مَخَافَة وَلَا سآمة. قَالَت الْخَامِسَة: زَوجي إِن أكل لف، وَإِن شرب اشتف وَإِن اضْطجع التف، وَلَا يولج الْكَفّ ليعلم البث. قَالَت السَّادِسَة: زَوجي عياياء طباقاء كل دَاء لَهُ دَاء شجك أَو فلك، أَو جمع كلا لَك. قَالَت السَّابِعَة: زَوجي إِن دخل فَهد، وَإِن خرج أَسد، وَلَا يسْأَل عَمَّا عهد. قَالَت الثَّامِنَة: زَوجي الْمس مس أرنب، وَالرِّيح ريح زرنب. قَالَت التَّاسِعَة: زَوجي رفيع الْعِمَاد، طَوِيل النجاد، عَظِيم الرماد، قريب الْبَيْت من النادي. قَالَت الْعَاشِرَة: زَوجي مَالك وَمَا مَالك {مَالك خير من ذَلِك، لَهُ إبل قليلات المسارح كثيرات الْمُبَارك، إِذا سمعن صَوت المزهر أَيقَن أَنَّهُنَّ هوالك. قَالَت الْحَادِيَة عشرَة: زَوجي أَبُو زرع وَمَا أَبُو زرع} أنَاس من حلي أُذُنِي، وملأ من شَحم عضدي، وبجحني فبجحت إِلَى نَفسِي، وجدني فِي أهل غنيمَة بشق، فجعلني فِي أهل صَهِيل وأطيط، ودائس ومنق، وَعِنْده أَقُول فَلَا أقبح،(4/50)
وأشرب فأتقنح، وأرقد فأتصبح. أم أبي زرع وَمَا أم أبي زرع {عكومها رداح، وبيتها فياح. ابْن أبي زرع وَمَا ابْن أبي زرع} كمسل شطبة، وتشبعه ذِرَاع الجفرة. بنت أبي زرع وَمَا بنت أبي زرع {طوع أَبِيهَا وطوع أمهَا وملء كسائها، وغيظ جارتها. جَارِيَة أبي زرع وَمَا جَارِيَة أبي زرع} لَا تبث حديثنا تبثيثاً وَلَا تنقث 372 ميرتنا تنقيثاً، وَلَا تملا بيتنا تعشيشاً. خرج أَبُو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امْرَأَة مَعهَا ولدان لَهَا كالفهدين يلعبان من تَحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سرياً، ركب شرياً، وَأخذ خطياً، وأراح على نعما ثرياً. وَقَالَ: كلي أم زرع وميري أهلك، فَلَو جمعت كل شَيْء أعطانيه مَا بلغ أَصْغَر آنِية أبي زرع. قَالَت عَائِشَة: فَقَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كنت لَك كَأبي زرع لأم زرع.
إِسْلَام قيلة
وَفِي حَدِيث قيلة حِين خرجت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عَم بناتها أَرَادَ أَن يَأْخُذ بناتها مِنْهَا. قَالَت: فَلَمَّا خرجت بَكت هنيهة مِنْهُنَّ وَهِي أصغرهن، حديباء كَانَت قد أَخَذتهَا الفرصة، عَلَيْهَا سبيج لَهَا من صوف فرحمتها فحملتها مَعهَا فَبينا هما(4/51)
يرتكان، إِذْ تنفجت الأرنب. فَقَالَت الحديباء والقصية: وَالله لَا يزَال كعبك عَالِيا. قَالَت: وأدركني عمهن بِالسَّيْفِ، فأصابت ظبته طَائِفَة من قُرُون رأسيه. وَقَالَ: ألقِي إِلَيّ ابْنة أخي يَا دفار فألقيتها إِلَيْهِ، ثمَّ انْطَلَقت إِلَى أُخْت لي ناكح فِي بني شَيبَان أَبْتَغِي الصَّحَابَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَبَيْنَمَا أَنا عِنْدهَا لَيْلَة، تحسب عَيْني نَائِمَة، إِذْ دخل زَوجهَا من السامر، فَقَالَ: وَأَبِيك لقد أصبت لقيلة صَاحب صدق، حُرَيْث بن حسان الشَّيْبَانِيّ فَقَالَت أُخْتِي: الويل لي، لَا تخبرها فتتبع أَخا بكر بن وَائِل بَين سمع الأَرْض وبصرها، لَيْسَ مَعهَا رجل من قَومهَا. قَالَت: فصحبت صَاحب صدق، حَتَّى قدمنَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَصليت مَعهَا الْغَدَاة حَتَّى إِذا طلعت الشَّمْس دَنَوْت، فَكنت إِذا رَأَيْت رجلا ذَا رواء أَو ذَا قشر طمح بَصرِي إِلَيْهِ، فجَاء رجل فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله. فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَام. وَهُوَ قَاعد القرفصاء، وَعَلِيهِ أسمال مليتين، وَمَعَهُ عسيب نَخْلَة مقشور غير خوصتين من أَعْلَاهُ قَالَ: فَتقدم صَاحِبي يبايعه على الْإِسْلَام. ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله، اكْتُبْ لي بالدهناء لَا يجاوزها من تَمِيم إِلَيْنَا إِلَّا مُسَافر أَو مجاور. فَقَالَ: يَا غُلَام؛ اكْتُبْ لَهُ قَالَت: فشخص بِي وَكَانَت وطني وداري فَقلت: يَا رَسُول الله، الدهناء مُقَيّد الْجمل، ومرعى الْغنم، وَهَذِه نسَاء بني تَمِيم وَرَاء ذَلِك. فَقَالَ: " صدقت المسكينة، الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، يسعهما المَاء وَالشَّجر ويتعاونان على الفتان ". قَالَت: ثمَّ أَمر عَلَيْهِ السَّلَام فَكتب لي فِي قِطْعَة أَدَم أَحْمَر: لقيلة والنسوة وَبَنَات قيلة لَا يظلمن حَقًا وَلَا يُكْرهن على منكح، وكل مُؤمن مُسلم لَهُنَّ نصير، أحسن وَلَا تسئن. " وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ: أيلام ابْن هَذِه أَن يفصل الخطة، وينتصر من وَرَاء الْحُجْرَة. قَالَت: فَلَمَّا رأى حُرَيْث أَنه قد حيل دون كِتَابه صفق إِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى ثمَّ قَالَ: كنت أَنا وَأَنت كَمَا قَالَ الأول: حتفها حملت ضَأْن بأظلافها.(4/52)
قَالَت: فَقلت: أما وَالله لقد كنت دَلِيلا فِي اللَّيْلَة الظلماء، جواداً لذِي الرحل، عفيفاً عَن الرفيقة، صَاحب صدق حَتَّى قدمنَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ. على أَنِّي أسأَل حظي إِذا سَأَلت حظك. قَالَ: وَمَا حظك من الدهناء؟ لَا أَبَا لَك {} قَالَت: مُقَيّد جملي تسأله لجمل امْرَأَتك. قَالَ: أما إِنِّي أشهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ أَنِّي لَك أَخ مَا حييت إِذْ أثنيت هَذَا عَليّ عِنْده. قَالَت: إِذْ بدأتها فَإِنِّي لَا أضيعها. وقف الْمهْدي 373 وَقد حج على امْرَأَة من طَيء فَقَالَ: مِمَّن الْعَجُوز؟ قَالَت: من طَيء قَالَ: مَا منع طيئاً أَن يكون فِيهَا آخر مثل حَاتِم؟ قَالَت: الَّذِي منع الْعَرَب أَن يكون فِيهَا آخر مثلك. قَالُوا: سَارَتْ بَنو سعد إِلَى بكر بن وَائِل، وَكَانَت فيهم جَارِيَة عاشق فاكتلأت تنظر، فرأت رجلا معتجراً بشقة برد متنكباً قوسه فلاحت لَهَا صفحة الْقوس، فَأَنْبَهْت أَبَاهَا وَقَالَت: يَا أبه: إِنِّي رَأَيْت متن سيف أَو صفحة قَوس على مَوضِع السِّلَاح فِي الشمَال، من رجل أجلى الجبين براق الثنايا، كَأَن عمَامَته ملوية بشجرة. فَقَالَ: يَا بنيه، إِنِّي لأبغض الفتاة الكلوء الْعين. قَالَت: وَالله مَا كذبتك. فصاح فِي قومه فأنذرهم. فَقَالُوا: مَا نِيَّة ابْنَتك فِي هَذِه السَّاعَة. إِنَّهَا عاشقة، فاستحيا الشَّيْخ فَانْصَرف. فَقَالَت ابْنَته: ارتحل؛ فَإِن الْجَيْش مصبحك. وَوَقعت بَنو سعد ببكر بن وَائِل فَقتلُوا وملأوا أَيْديهم من السَّبي والغارة. قَالَ الْأَصْمَعِي: قيل لامْرَأَة: علام تمنعين زَوجك القضة؟ فَإِنَّهُ يعتل بك. فَقَالَت: كذب وَالله، إِنِّي لأطأطئ الوساد وأرخي اللباد.
رقية أعرابية
قَالَ بَعضهم: سَمِعت أعرابية بالحجاز ترقي رجلا من الْعين فَقَالَت: أُعِيذك بِكَلِمَات الله التَّامَّة، الَّتِي لَا تجوز عَلَيْهَا هَامة، من شَرّ الْجِنّ وَشر الْإِنْس عَامَّة، وَشر النظرة اللامة، أُعِيذك بمطلع الشَّمْس، من شَرّ ذِي مشي هَمس، وَشر ذِي نظر خلس، وَشر ذِي قَول دس، من شَرّ الحاسدين والحاسدات، والنافسين والنافسات، والكائدين والكائدات.(4/53)
نشرت عَنْك بنشرة نشار، عَن رَأسك ذِي الْأَشْعَار، وَعَن عَيْنَيْك ذواتي الأشفار، وَعَن فِيك ذِي المحار، وظهرك ذِي الفقار، وبطنك ذِي الْأَسْرَار، وفرجك ذِي الأستار، ويديك ذواتي الْأَظْفَار، ورجليك ذواتي الْآثَار، وذيلك ذِي الْغُبَار، وعنك فضلا وَذَا إِزَار، وَعَن بَيْتك فرجا وَذَا أَسْتَار. رششت بِمَاء بَارِد نَارا، وعينين أشفاراً، وَكَانَ الله لَك جاراً.
مُعَاوِيَة وَسَوْدَة بنت عمَارَة
وفدت سَوْدَة بنت عمَارَة الهمدانية على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهَا: مَا حَاجَتك؟ قَالَت: إِنَّك أَصبَحت للنَّاس سيداً، ولأمرهم مُتَقَلِّدًا، وَالله مسائلك عَن أمرنَا، وَمَا افْترض عَلَيْك من حَقنا، وَلَا يزَال يقدم علينا من ينوء بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس الْبَقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة. هَذَا بسر بن أَرْطَاة قدم علينا من قبلك، فَقتل رجالي، وَأخذ مَالِي، يَقُول لي: قوهي بِمَا أستعصم الله مِنْهُ، وَأَلْجَأَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَلَوْلَا الطَّاعَة لَكَانَ فِينَا عزة ومنعة؛ فإمَّا عزلته عَنَّا فشكرناك، وَإِمَّا لَا فعرفناك. قَالَ مُعَاوِيَة: أتهددينني بقومك؟ لقد هَمَمْت أَن أحملك على قتب أَشْرَس، فأردك إِلَيْهِ، ينفذ فِيك حكمه. فأطرقت تبْكي ثمَّ أنشأت تَقول: صلى الْإِلَه على جسم تضمنه ... قبر فَأصْبح فِيهِ الْعدْل مَدْفُونا قد حَالف الْحق لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا ... فَصَارَ بِالْحَقِّ وَالْإِيمَان مَقْرُونا قَالَ لَهَا: وَمن ذَاك؟ قَالَت: عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ: وَمَا صنع بك حَتَّى صَار عنْدك كَذَا؟ قَالَت: قدمت عَلَيْهِ فِي متصدق قدم علينا قبله، وَالله مَا كَانَ بيني وَبَينه إِلَّا مَا بَين 374 الغث والسمين، فَأتيت عليا عَلَيْهِ السَّلَام لأشكو إِلَيْهِ مَا صنع، فَوَجَدته قَائِما يُصَلِّي. فَلَمَّا نظر إِلَيّ انْفَتَلَ من صلَاته ثمَّ قَالَ لي برأفة وَتعطف: أَلَك حَاجَة؟ فَأَخْبَرته الْخَبَر. فَبكى ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك أَنْت الشَّاهِد عَليّ وَعَلَيْهِم، إِنِّي لم آمُرهُم بظُلْم خلقك، وَلَا بترك حَقك. ثمَّ أخرج من جيبه قِطْعَة جلد كَهَيئَةِ طرف الجراب، فَكتب فِيهَا:(4/54)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان " " وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين بقيت الله خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ " إِذا قَرَأت كتابي فاحتفظ بِمَا فِي يَديك من عَملنَا حَتَّى يقدم عَلَيْك من يقبضهُ مِنْك وَالسَّلَام. فَأَخَذته مِنْهُ وَالله مَا خَتمه بطين وَلَا خزمه بخزام فَقَرَأته. فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة: لقد لمظكم ابْن أبي طَالب الجرأة على السُّلْطَان فبطيئاً مَا تفطمون. ثمَّ قَالَ: اكتبوا لَهَا برد مَالهَا وَالْعدْل عَلَيْهَا. قَالَت: إِلَيّ خَاصَّة أم لقومي عَامَّة. قَالَ: مَا أَنْت وقومك. قَالَت: هِيَ وَالله إِذا الْفَحْشَاء واللؤم. إِن كَانَ عدلا شَامِلًا، وَإِلَّا فَأَنا كَسَائِر قومِي. قَالَ: اكتبوا لَهَا ولقومها.
مُعَاوِيَة والزرقاء بنت عدي
وأوفد مُعَاوِيَة الزَّرْقَاء بنت عدي بن غَالب فَقَالَ لَهَا: أَلَسْت راكبة الْجمل الْأَحْمَر يَوْم صفّين بَين صفّين، توقدين الْحَرْب، وتحضين على الْقِتَال؟ فَمَا حملك على ذَلِك؟ قَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ إِنَّه قد مَاتَ الرَّأْس، وَبَقِي الذَّنب، والدهر ذُو غير، وَمن تفكر أبْصر، وَالْأَمر يحدث بعده الْأَمر قَالَ لَهَا: صدقت. فَهَل تحفظين كلامك يَوْم صفّين؟ قَالَت: مَا أحفظه قَالَ: وَلَكِنِّي وَالله أحفظه. لله أَبوك! لقد سَمِعتك تَقُولِينَ: أَيهَا النَّاس؛ إِنَّكُم فِي فتْنَة، غشتكم جلابيب الظُّلم، وجارت بكم عَن قصد المحجة، فيا لَهَا من فتْنَة عمياء صماء لَا يسمع لقائلها، وَلَا ينقاد لسائقها. أَيهَا النَّاس؛ إِن الْمِصْبَاح لَا يضيء فِي الشَّمْس، وَإِن الْكَوَاكِب لَا تقد فِي الْقَمَر، وَإِن الْبَغْل لَا يسْبق الْفرس، وَإِن الزف لَا يوازن الْحجر، وَلَا يقطع(4/55)
الْحَدِيد إِلَّا الْحَدِيد أَلا من استرشدنا أرشدناه، وَمن استخبر أخبرناه، إِن الْحق كَانَ يطْلب ضالته، فصبراً يَا معشر الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، فَكَأَن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الْعدْل، وَغلب الْحق باطله، فَلَا يعجلن أحد فَيَقُول: كَيفَ وأنى. ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا. أَلا إِن خضاب النِّسَاء الْحِنَّاء، وخضاب الرِّجَال الدِّمَاء، وَالصَّبْر خير فِي الْأُمُور عواقباً إِلَى الْحَرْب قدماً غير ناكصين، فَهَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده. ثمَّ قَالَ مُعَاوِيَة: وَالله يَا زرقاء لقد شركت عليا فِي كل دم سفكه، فَقَالَت: أحسن الله بشارتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وأدام سلامتك. مثلك من بشر بِخَير وسر جليسه. قَالَ لَهَا: وَقد سرك ذَلِك؟ قَالَت: نعم وَالله، لقد سرني قَوْلك فَأنى بِتَصْدِيق الْفِعْل؟ فَقَالَ مُعَاوِيَة: وَالله لوفاؤكم لَهُ بعد مَوته أحب إِلَيّ من حبكم لَهُ فِي حَيَاته.
مُعَاوِيَة وَأم الْخَيْر بنت الْحَرِيش
وأوفد أم الْخَيْر بنت الْحَرِيش البارقية فَقَالَ لَهَا: كَيفَ كَانَ كلامك يَوْم قتل عمار بن يَاسر؟ قَالَت: لم أكن وَالله رويته من قبل 375 وَلَا دونته بعد. وَإِنَّمَا كَانَت كَلِمَات نفثهن لساني حِين الصدمة. فَإِن شِئْت أَن أحدث لَك مقَالا غير ذَلِك فعلت. قَالَ: لَا أَشَاء ذَلِك. ثمَّ الْتفت إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: أَيّكُم حفظ كَلَام أم الْخَيْر؟ قَالَ رجل من الْقَوْم: أَنا أحفظه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كحفظي سُورَة الْحَمد. قَالَ: هاته. قَالَ: نعم كَأَنِّي بهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك الْيَوْم وَعَلَيْهَا برد زبيدي كثيف الْحَاشِيَة، وَهِي على جمل أرمك وَقد أحيط حولهَا وبيدها سَوط منتشر الضفيرة، وَهِي كالفحل يهدر فِي شقشقته، تَقول: " يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم ". إِن الله قد أوضح الْحق، وَأَبَان الدَّلِيل، وَنور السَّبِيل، وَرفع الْعلم؛ فَلم يدعكم فِي عمياء مُبْهمَة، وَلَا سَوْدَاء مدلهمة، فَإلَى أَيْن تُرِيدُونَ رحمكم الله؟ أفراراً عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ، أم فِرَارًا من الزَّحْف، أم رَغْبَة عَن الْإِسْلَام، أم ارْتِدَادًا عَن(4/56)
الْحق؟ أما سَمِعْتُمْ الله عز وَجل يَقُول: " ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ ونبلوا أخباركم. " ثمَّ رفعت رَأسهَا إِلَى السَّمَاء وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ قد عيل الصَّبْر، وَضعف الْيَقِين، وانتشرت الرّعية، وبيدك يَا رب أزمة الْقُلُوب، فاجمع إِلَيْهِ كلمة التَّقْوَى، وَألف الْقُلُوب على الْهدى، واردد الْحق إِلَى أَهله هلموا رحمكم الله إِلَى الإِمَام الْعَادِل، وَالْوَصِيّ الوفي، وَالصديق الْأَكْبَر، إِنَّهَا إحن بدرية، وأحقاد جَاهِلِيَّة، وضغائن أحدية وثب بهَا مُعَاوِيَة حِين الْغَفْلَة، ليدرك بهَا ثَارَاتِ بني عبد شمس. ثمَّ قَالَت: " فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر إِنَّهُم لَا إِيمَان لَهُم لَعَلَّهُم ينتهون " صبرا معشر الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، قَاتلُوا على بَصِيرَة من ربكُم، وثبات من دينكُمْ؛ فَكَأَنِّي بكم غَدا قد لَقِيتُم أهل الشَّام كحمر مستنفرة فرت من قسورة، لَا تَدْرِي أَيْن يسْلك بهَا فِي فجاج الأَرْض باعوا الْآخِرَة بالدنيا، واشتروا الضَّلَالَة بِالْهدى، وَبَاعُوا البصيرة بالعمى. " وَعَما قَلِيل ليصبحن نادمين " تحل بهم الندامة فيطلبون الْإِقَالَة. إِنَّه وَالله من ضل عَن الْحق وَقع فِي الْبَاطِل، وَمن لم يسكن الْجنَّة نزل النَّار. أَيهَا النَّاس، إِن الأكياس استقصروا عمر الدُّنْيَا فرفضوها، واستبطئوا الْآخِرَة فسعوا لَهَا. وَالله أَيهَا النَّاس لَوْلَا أَن تبطل الْحُقُوق، وتعطل الْحُدُود، وَيظْهر الظَّالِمُونَ. وتقوى كلمة الشَّيْطَان، لما اخترنا وُرُود المنايا على خفض الْعَيْش وطيبه. فَإلَى أَيْن تُرِيدُونَ رحمكم الله؟ عَن ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، وَزوج ابْنَته، وَأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته، وَخَصه بسره، وَجعله بَاب مدينته، وَعلم الْمُسلمين وَأَبَان ببغضه الْمُنَافِقين. فَلم يزل كَذَلِك يُؤَيّدهُ الله عز وَجل بمعونته، وبمضي على سنَن استقامته، لَا يعرج لراحة الدَّار. هَا هُوَ مفلق الْهَام، ومكسر الْأَصْنَام، إِذْ صلى وَالنَّاس مشركون، وأطاع وَالنَّاس مرتابون، فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وَفرق جمع هوَازن. فيا لَهَا من وقائع زرعت فِي قُلُوب قوم نفَاقًا، وردة وشقاقاً. قد اجتهدت فِي القَوْل، وبالغت فِي النَّصِيحَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق 376 وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَقَالَ(4/57)
مُعَاوِيَة: وَالله يَا أم الْخَيْر مَا أردْت بِهَذَا الْكَلَام إِلَّا قَتْلِي. وَوَاللَّه لَو قتلتك مَا حرجت فِي ذَلِك. قَالَت: وَالله مَا يسوءني يَا بن هِنْد أَن يجْرِي الله ذَلِك على يَدي من يسعدني بشقائه. قَالَ: هَيْهَات يَا كَثِيرَة الفضول: مَا تَقُولِينَ فِي عُثْمَان بن عَفَّان؟ قَالَت: وَمَا عَسَيْت أَن أَقُول فِيهِ؟ اسْتَخْلَفَهُ النَّاس وهم كَارِهُون، وقتلوه وهم راضون. فَقَالَ مُعَاوِيَة: إيهاً يَا أم الْخَيْر. هَذَا وَالله أوصلك الَّذِي تبنين عَلَيْهِ. قَالَت: " لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك أنزلهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة يشْهدُونَ وَكفى بِاللَّه شَهِيدا " مَا أردْت لعُثْمَان نقصا. وَلَقَد كَانَ سباقاً إِلَى الْخيرَات وَإنَّهُ لرفيع الدرجَة. قَالَ: فَمَا تَقُولِينَ فِي طَلْحَة بن عبيد الله؟ قَالَت: وَمَا عَسى أَن أَقُول فِي طَلْحَة؟ اغتيل من مأمنه، وَأتي من حَيْثُ لم يحذر. وَقد وعده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجنَّة. قَالَ: فَمَا تَقُولِينَ فِي الزبير؟ قَالَت: يَا هَذَا لَا تدعني كرجيع الضبع يعرك فِي المركن قَالَ: حَقًا لتقولين ذَلِك. وَقد عزمت عَلَيْك. قَالَت: وَمَا عَسَيْت أَن أَقُول فِي الزبير ابْن عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحواريه؟ وَقد شهد لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ بِالْجنَّةِ. وَلَقَد كَانَ سباقاً إِلَى كل مكرمَة من الْإِسْلَام. وإنى أَسأَلك بِحَق الله يَا مُعَاوِيَة؛ فَأن قُريْشًا تحدث أَنَّك من أحلمها، فَأَنا أَسأَلك بِأَن تسعني بِفَضْلِك، وَأَن تعفيني من هَذِه الْمسَائِل. وامض لما شِئْت من غَيرهَا. قَالَ: نعم وكرامة قد أعفيتك، وردهَا مكرمَة إِلَى بَلَدهَا.
الجمانة بنت المُهَاجر وَابْن الزبير
ذكر أَن الجمانة بنت المهاجربن خَالِد بن الْوَلِيد نظرت إِلَى عبد الله بن الزبير وَهُوَ يرقى الْمِنْبَر، يخْطب بِالنَّاسِ فِي يَوْم جُمُعَة فَقَالَت حِين رَأَتْهُ رقى الْمِنْبَر: أيا نقار انقر. أما وَالله لَو كَانَ فَوْقه نجيب من بني أُميَّة، أَو صقر من بني مَخْزُوم لقَالَ الْمِنْبَر: طيق طيق. قَالَ: فأنمي كَلَامهَا إِلَى عبد الله بن الزبير، فَبعث إِلَيْهَا فَأتي بهَا فَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي بَلغنِي عَنْك بالكاع؟ قَالَت: الْحق أبلغت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ،(4/58)
قَالَ: فَمَا حملك على ذَلِك؟ قَالَت: لَا تعدم الْحَسْنَاء ذاماً. والساخط لَيْسَ براض. وَمَعَ ذَلِك فَمَا عدوت فِيمَا قلت لَك أَن نسبتك إِلَى التَّوَاضُع وَالدّين، وعدوك إِلَى الْخُيَلَاء والطمع. وَلَئِن ذاقوا وبال أَمرهم لتحمدن عَاقِبَة شَأْنك، وَلَيْسَ من قَالَ فكذب كمن حدث وَصدق. وَأَنت بالتجاوز جدير، وَنحن للعفو أهل فاستر على الْحُرْمَة، تستتم النِّعْمَة، فوَاللَّه مَا يرفعك القَوْل وَلَا يضعك. وَإِن قُريْشًا لتعلم أَنَّك عابدها وشجاعها، وسنانها ولسانها، حاط الله لَك دنياك، وعصم أخراك، وألهمك شكر مَا أولاك. ذكر الْأَصْمَعِي عَن أبان بن تغلب قَالَ: خرجت فِي طلب الْكلأ، فانتهيت إِلَى مَاء من مياه كلب، وَإِذا أَعْرَابِي على ذَلِك المَاء وَمَعَهُ كتاب منشور يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِم، وَجعل يتوعدهم. فَقَالَت لَهُ أمه وَهِي فِي خبائها. وَكَانَت مقعدة كبرا: وَيلك! دَعْنِي من أساطيرك. لَا تحمل عُقُوبَتك على من لم يحمل عَلَيْك، وَلَا تتطاول على من لَا يَتَطَاوَل عَلَيْك. فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا يقربك إِلَيْهِ حوادث الدهور، وَلَعَلَّ من صيرك إِلَى هَذَا الْيَوْم أَن يصير غَيْرك إِلَى مثله غَدا، فينتقم مِنْك أَكثر مِمَّا انتقمت 377 مِنْهُ، فَاكْفُفْ عَمَّا أسمع مِنْك ألم تسمع إِلَى قَول الأول: لَا تحقرن الْفَقِير علك أَن ... تركع يَوْمًا والدهر قد رَفعه
وَصِيَّة أعرابية
قَالَ مهْدي بن أبان: قلت لولادة العبدية - وَكَانَت من أَعقل النِّسَاء - إِنِّي أُرِيد الْحَج فأوصيني. قَالَت: أوجز فأبلغ، أم أطيل فأحكم. فَقلت: مَا شِئْت. قَالَت: جد تسد، واصبر تفز. قلت: أَيْضا. قَالَت: لَا يَتَعَدَّ غضبك حلمك، وَلَا هَوَاك علمك، وَفِي دينك بدنياك، وفر عرضك بعرضك، وتفضل تخْدم، واحلم تقدم. قلت: فَمن أستعين؟ قَالَت: الله. قلت: من النَّاس؟ قَالَت: الْجلد النشيط، والناصح الْأمين.(4/59)
قلت: فَمن أستشير؟ قَالَت: المجرب الْكيس، أَو الأديب الصَّغِير. قلت: فَمن أستصحب؟ قَالَت: الصّديق الْمُسلم، أَو المداجي المتكرم. ثمَّ قَالَت: يَا أبتاه؛ إِنَّك تفد إِلَى ملك الْمُلُوك، فَانْظُر كَيفَ يكون مقامك بَين يَدَيْهِ.
حَدِيث أم معبد الْخُزَاعِيَّة
رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ خرج لَيْلَة هَاجر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة أَبُو بكر رَحمَه الله وعامر بن فهَيْرَة ود \ لياهما اللَّيْثِيّ عبد لاله بن أريقط. فَمروا على خيمة أم معبد الْخُزَاعِيَّة. وَكَانَت امْرَأَة بَرزَة جلدَة تَحْتَبِيَ بِفنَاء الْكَعْبَة، ثمَّ تسقى وَتطعم - فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوهُ مِنْهَا، فَلم يُصِيبُوا عِنْدهَا شَيْئا من ذَلِك، وَكَانَ الْقَوْم مُرْمِلِينَ مسنين. فَنظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى شَاة فِي كسر الْخَيْمَة. فَقَالَ: مَا هَذِه الشَّاة يَا أم معبد؟ قَالَت: شَاة خلفهَا الْجهد عَن الْغنم. قَالَ: هَل بهَا من لبن؟ قَالَت: هِيَ أجهد من ذَلِك. قَالَ: أَتَأْذَنِينَ أَن أَحْلَبَهَا. قَالَت: بِأبي وَأمي أَنْت نعم: إِن رَأَيْت بهَا حَلبًا فاحلبها، فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشَّاة فَمسح ضرْعهَا، وسمى الله ودعا لَهَا فِي شَاتِهَا، فتفاجت عَلَيْهِ وَدرت وأخترت ودعا بِإِنَاء يربض الرَّهْط فَحلبَ فِيهِ ثَجًّا حَتَّى غَلبه الثمال، ثمَّ سَقَاهَا حَتَّى رويت، وَسَقَى أَصْحَابه حَتَّى رووا، ثمَّ شرب آخِرهم، وَقَالَ: ساقي الْقَوْم آخِرهم شربا. فشربواجميعا عللا بهدنهل، ثمَّ أراضوا، ثمَّ حلب فِيهِ ثَانِيًا عودا على بَدْء حَتَّى مَلأ الْإِنَاء، ثمَّ غَادَرَهُ عِنْدهَا وبايعها وَارْتَحَلُوا عَنْهَا. فَقل مَا لَبِثت حَتَّى جَاءَ زَوجهَا أَبُو معبد يَسُوق أَعْنُزًا حيلا عِجَافًا تساوك هزالًا، محهن قَلِيل وَلَا نقا بِهن فَلَمَّا رأى أَبُو معبد اللَّبن عجب وَقَالَ: من أَيْن هَذَا يَا أم معبد؟ وَالشَّاء عازبة حِيَال، وَلَا حلوبة فِي الْبَيْت. فَقَالَت: لَا وَالله، إِلَّا أَنه مر بِنَا رجل مبارك كَانَ من حَدِيثه كَيْت وَكَيْت. قَالَ: صَفِيَّة لي يَا أم معبد، فَقَالَت: رَأَيْت رجلا ظَاهر الْوَضَاءَة أَبْلَج الْوَجْه، حسن الْخلق، لم تَعبه ثجلة وَلم(4/60)
تزر بِهِ صَلْعَةٌ، وسيما قسيما فِي عَيْنَيْهِ دعجٌ، وَفِي أَشْفَاره وَطف وَفِي صَوته صَحِلَ، وَفِي عُنُقه سَطَعَ وَفِي لحيته كَثَافَة، أحور أكحل، أَزجّ أقرن، إِن صمت فَعَلَيهِ الْوَقار، وَأَن تكلم سما وعلاه الْبَهَاء، أجمل النَّاس وَأَبْهَاهُ من بعيد، وأحلاه وَأحسنه من قريب، حُلْو الْمنطق، فصل لَا نزر وَلَا هذر، كَأَن مَنْطِقه خَرَزَات نظم تتحدرن: ربعَة لَا تشنؤه من طول، وَلَا تَقْتَحِمُهُ الْعين من قصر، غُصْن بَين غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَة منْظرًا وَأَحْسَنهمْ قدرا لَهُ، رُفَقَاء يحفونَ بِهِ، إِن قَالَ أَنْصتُوا لقَوْله، وَإِن أَمر تبَادرُوا إِلَى أمره، مَحْفُودٌ محشود لَا عَابس وَلَا مُفند. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ أَبُو معبد: هُوَ وَالله صَاحب قُرَيْش الَّذِي ذكر لنا من أمره بِمَكَّة مَا ذكر. وَلَو كنت وافقته لالتمست صحبته، وَلَأَفْعَلَن إِن وجدت إِلَى ذَلِك سَبِيلا.
وَصِيَّة أُخْرَى لأعرابية
قَالَ أبان بن تغلب: سَمِعت امْرَأَة توصي ابْنا لَهَا وَأَرَادَ سفرا فَقَالَت: أَي بني، أوصيك بتقوى الله، فَإِن قَلِيله أجدى عَلَيْك من كثير عقلك، وَإِيَّاك والنمائم. فَإِنَّهَا تورث الضغائن، وتفرق بَين المحبين؛ وَمثل لنَفسك مِثَال مَا تستحسن لغيرك ثمَّ اتَّخذهُ إِمَامًا، وَمَا تستقبح من غَيْرك فاجتنبه، وَإِيَّاك والتعرض للعيوب فَتَصِير نَفسك غَرضا، وخليق أَلا يلبث الْغَرَض على كَثْرَة السِّهَام، وَإِيَّاك وَالْبخل بِمَالك، والجود بِدينِك. فَقَالَت أعرابية مَعهَا: أَسأَلك إِلَّا زِدْته يَا فُلَانَة فِي وصيتك قَالَت: أَي وَالله؛ والغدر أقبح مَا يُعَامل بِهِ الإخوان، وَكفى بِالْوَفَاءِ جَامعا لما تشَتت من الإخاء وَمن جمع الْعلم والسخاء فقد استجاد الْحلَّة، والفجور أقبح خلة وَأبقى عاراً.
وصف امْرَأَة عُرْوَة لَهُ
قَامَت امْرَأَة عُرْوَة بن الْورْد الْعَبْسِي بعد أَن طَلقهَا فِي النادي فَقَالَت: أما إِنَّك(4/61)
وَالله الضحوك مُقبلا، السُّكُوت مُدبرا، خَفِيف على ظهر الْفرس، ثقيل على متن الْعَدو، رفيع الْعِمَاد، كثير الرماد، ترضي الْأَهْل والجانب. قَالَ: فَتَزَوجهَا رجل بعده فَقَالَ: أثني عَليّ كَمَا أثنيت عَلَيْهِ. قَالَت: لَا تحوجني إِلَى ذَلِك فَإِنِّي إِن قلت قلت حَقًا فَأبى، فَقَالَت: إِن أكلك لاقتفاف وَإِن شربك لاشتفاف، وَإنَّك لتنام لَيْلَة تخَاف، وتشبع لَيْلَة تُضَاف.
وصف نسَاء لبناتهن ووصاياهن لَهُنَّ
بعث النُّعْمَان بن امْرِئ الْقَيْس بن عَمْرو بن عدي بن نصر إِلَى نسْوَة من الْعَرَب مِنْهُنَّ فَاطِمَة بنت الخرشب وَهِي من بني أَنْمَار بن بغيض، وَهِي أم الرّبيع بن زِيَاد وَإِخْوَته، وَإِلَى قيلة بنت الحسحاس الأَسدِية وَهِي أم خَالِد بن صَخْر بن الشريد، وَإِلَى تماضر بنت الشريد، وَهِي أم قيس بن زُهَيْر وَإِخْوَته كلهم، وَإِلَى الرواع النمرية، وَهِي أم يزِيد بن الصَّعق فَلَمَّا اجْتَمعْنَ عِنْده. قَالَ: إِنِّي قد أخْبرت بكن، وَأَرَدْت أَن أنكح إلَيْكُنَّ فأخبرنني عَن بناتكن. فَقَالَت: فَاطِمَة عِنْدِي الفتخاء العجزاء، أصفى من المَاء، وأرق من الْهَوَاء، وَأحسن من السَّمَاء. وَقَالَت تماضر: عِنْدِي مُنْتَهى الوصاف، دفيئة اللحاف، قَليلَة الْخلاف. وَقَالَت الرواع: عِنْدِي الحلوة الجهمة، لم تلدها أمة. وَقَالَت قيلة: عِنْدِي مَا يجمع صفاتهن وَفِي ابْنَتي مَا لَيْسَ فِي بناتهن. فَتزَوج إلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمَّا أهدين إِلَيْهِ دخل على ابْنة الأنمارية فَقَالَ: مَا أوصتك بِهِ أمك؟ قَالَت: قَالَت لي: عطري جِلْدك، وأطيعي زَوجك، واجعلي المَاء آخرطيبك. ثمَّ دخل على ابْنة السلمِيَّة فَقَالَ: مَا أوصتك بِهِ أمك؟ قَالَت: قَالَت لي: لَا تجلسي بالفناء، وَلَا تكثري من المراء، واعلمي أَن أطيب الطّيب المَاء. ثمَّ دخل على ابْنة النمرية فَقَالَ: مَا أوصتك بِهِ أمك؟ قَالَت: قَالَت لي: لَا تطاوعي زَوجك فتمليه، وَلَا تعاصيه فتشكعيه، واصدقيه الصغار، واجعلي آخر طيبك المَاء.(4/62)
ثمَّ دخل على ابْنة الأَسدِية فَقَالَ: مَا أوصتك بِهِ أمك؟ قَالَت: قَالَت لي: أدنى سترك، وأكرمي زَوجك، واجتنبي الإباء، واستنظفي بِالْمَاءِ.
وصف أَرْبَعَة رجال لنسائهن
وَكَانَت امْرَأَة من الْعَرَب عِنْد رجل فَولدت لَهُ أَوْلَادًا أَرْبَعَة رجَالًا ثمَّ هلك عَنْهَا زَوجهَا فَتزوّجت بعده، فنأى بهَا زَوجهَا عَن بنيها وَتَزَوَّجُوا بعْدهَا ثمَّ إِنَّهَا لقيتهم فَقَالَت: يَا بني، إِنِّي سألتكم عَن نِسَائِكُم فَأَخْبرُونِي عَنْهُن. قَالُوا: نَفْعل. فَقَالَت: لأَحَدهم أَخْبرنِي عَن امْرَأَتك. فَقَالَ: غل فِي وثاق، وَخلق لَا يُطَاق، حرمت وفاقها، ومنعت طَلاقهَا. وَقَالَت للثَّانِي: كَيفَ وجدت امْرَأَتك؟ قَالَ حسن رائع، وَبَيت ضائع، وضيف جَائِع. وَقَالَت للثَّالِث: كَيفَ وجدت امْرَأَتك؟ قَالَ: دلّ لَا يقلى، وَلَذَّة لَا تقضى وَعجب لَا يفنى، وَفَرح مضل أصَاب ضالته وريح رَوْضَة أَصَابَت ربابها. قَالَت: فَهَلا أصف لكم كَيفَ وجدت زَوجي. قَالُوا: بلَى، قَالَت: حيل ظغينة، وَلَيْث عرينة، وظل صَخْر وَجوَار بَحر. كَانَت حميدة بنت النُّعْمَان بن بشير بن سعد تَحت روح بن زنباع فَنظر إِلَيْهَا يَوْمًا تنظر إِلَى قومه جذام وَقد اجْتَمعُوا عِنْده فلامها. فَقَالَت: وَهل أرى إِلَى جذاماً؟ فوَاللَّه مَا أحب الْحَلَال مِنْهُم فَكيف الْحَرَام. قَالَت الجمانة بنت قيس بن زُهَيْر الْعَبْسِي لأَبِيهَا لما شَرق مَا بَينه وَبَين الرّبيع بن زِيَاد فِي الدرْع: دَعْنِي أناظر جدي، فَإِن صلح الْأَمر بَيْنكُمَا، وَإِلَّا كنت من وَرَاء رَأْيك. فَأذن لَهَا: فَأَتَت الرّبيع فَقَالَت: إِن كَانَ قيس أبي فَإنَّك يَا ربيع جدي، وَمَا يجب لَهُ من حق الْأُبُوَّة عَليّ إِلَّا كَالَّذي يجب عَلَيْك من حق النُّبُوَّة لي. والرأي الصَّحِيح تبعثه الْعِنَايَة، وتجلي عَن محضه النَّصِيحَة. إِنَّك قد ظلمت قيسا بِأخذ درعه، ولأجد مكافأته إياك سوء غرمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وَلَيْسَ قيس مِمَّن يخوف بالوعيد وَلَا يردعه التهديد، فَلَا تركنن إِلَى منابذته، فالحزم فِي متاركته، وَالْحَرب متلفة للعباد، ذهابة بالطارف والتلاد، وَالسّلم أرْخى للبال،(4/63)
وَأبقى لأنفس الرِّجَال. وبحق أَقُول. لقد صدعت بِحكم، وَمَا يدْفع قولي إِلَّا غير ذِي فهم. وَقَالَ الْمَدَائِنِي: لما أهديت بنت عقيل بن علفة إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان بعث مولاة لَهُ لتأتيه بخبرها قبل أَن يدْخل بهَا، فأتتها فَلم تَأذن لَهَا، أَو كلمتها فأحفظتها فهشمت أنفها، فَرَجَعت إِلَيْهَا فَأَخْبَرته، فَغَضب من ذَلِك، فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا قَالَ: مَا أردْت إِلَى عجوزنا هَذِه؟ قَالَت: أردْت وَالله إِن كَانَ خيرا أَن تكون أول من لَقِي بهجته، وَإِن كَانَ شرا أَن تكون أَحَق من ستره. لما انهزم النَّاس عَن الْمُخْتَار مر أَبُو محجن الثَّقَفِيّ بِأمة وَاسْمهَا دومة فَقَالَ: يَا دومة ارْتَدَّ فِي حلفي. قَالَت: وَالله لَئِن يأخذني هَؤُلَاءِ أحب إِلَيّ من أَن أرى خَلفك. كَانَت رقاش بنت عَمْرو عِنْد كَعْب بن مَالك فَقَالَ لَهَا يَوْمًا: اخلعي درعك قَالَت: خلع الدرْع بيد الزَّوْج. قَالَ: اخلعيه لأنظر إِلَيْك قَالَت: التجرد لغير نِكَاح مثلَة. كَانَ تَمِيم الدَّارِيّ يَبِيع الْعطر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ من لخم، فَخَطب أَسمَاء بنت أبي بكر فِي جاهليته فماكسهم فِي الْمهْر فَلم يزوجوه. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام جَاءَ بعطر يَبِيعهُ فساومته أَسمَاء فماكسها فَقَالَت لَهُ: طالما ضرك مكاسك، فَلَمَّا عرفهَا استحيا وسامحها فِي بَيْعه. أرسل مسلمة بن عبد الْملك إِلَى هِنْد بنت الْمُهلب وخطبها على نَفسه، فَقَالَت لرَسُوله: وَالله لَو أَحْيَا من قتل من أهل بَيْتِي وموالي مَا طابت نَفسِي بتزويجه بل كَيفَ يأمنني على نَفسه، وَأَنا أذكر مَا كَانَ مِنْهُ وثأري عِنْده. لقد كَانَ صَاحبك يُوصف بِغَيْر هَذَا فِي رَأْيه. وخطب عبد الْملك بن مَرْوَان رَملَة بنت الزبير بن الْعَوام فَردته وَقَالَت لرَسُوله: إِنِّي لَا آمن نَفسِي على من قتل أخي. وَكَانَت أُخْت مُصعب لأمه. كَانَت أمهما الْكَلْبِيَّة.(4/64)
من قَول ذَات النطاقين لابنها
دخل عبد الله بن الزبير على أمه أَسمَاء بنت أبي بكر فِي الْيَوْم الَّذِي قتل فِيهِ، فَقَالَ: يَا أمة؛ خذلني النَّاس حَتَّى أَهلِي وَوَلَدي وَلم يبْق معي إِلَّا الْيَسِير وَمن لَا دفع عِنْده أَكثر من صَبر سَاعَة من النَّهَار. وَقد أَعْطَانِي الْقَوْم مَا أردْت من الدُّنْيَا فَمَا رَأْيك؟ قَالَت: إِن كنت على حق تَدْعُو إِلَيْهِ فَامْضِ عَلَيْهِ، فقد قتل عَلَيْهِ أَصْحَابك، وَلَا تمكن من رقبتك غلْمَان بني أُميَّة فيتلعبوا بك. وَإِن قلت: إِنِّي كنت على حق فَلَمَّا وَهن أَصْحَابِي ضعفت نيتي فَلَيْسَ هَذَا فعل الْأَحْرَار، وَلَا فعل من فِيهِ خير، كم خلودك فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْل أحسن مَا تقع بِهِ يَا بن الزبير. وَالله لضربة بِالسَّيْفِ فِي عز أحب إِلَيّ من ضَرْبَة بِسَوْط فِي ذل. قَالَ لَهَا: هَذَا وَالله رَأْيِي، وَالَّذِي قُمْت بِهِ دَاعيا إِلَى الله. وَالله مَا دَعَاني إِلَى الْخُرُوج إِلَّا الْغَضَب لله عز وَجل أَن تهتك مَحَارمه. وَلَكِنِّي أَحْبَبْت أَن أطلع رَأْيك فيزيدني قُوَّة وبصيرة مَعَ قوتي وبصيرتي. وَالله مَا تَعَمّدت إتْيَان مُنكر وَلَا عملا بِفَاحِشَة، وَلم أجر فِي حكم، وَلم أغدر فِي أَمَان، وَلم يبلغنِي عَن عمالي فرضيت بِهِ. بل أنْكرت ذَلِك وَلم يكن شَيْء عِنْدِي آثر من رضَا رَبِّي. اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُول ذَلِك تَزْكِيَة لنَفْسي، وَلَكِن أقوله تَعْزِيَة لأمي لتسلو عني. قَالَت لَهُ: وَالله إِنِّي لأرجو أَن يكون عزائي فِيك حسنا بعد أَن تقدمتني أَو تقدمتك، فَإِن فِي نَفسِي مِنْك حرجاً حَتَّى أنظر إِلَى مَا يصير أَمرك. ثمَّ قَالَت: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طول ذَاك النحيب والظمأ فِي هواجر الْمَدِينَة وَمَكَّة وبره بِأُمِّهِ. اللَّهُمَّ إِنِّي قد سلمت فِيهِ لأمرك، ورضيت فِيهِ بِقَضَائِك، فاثبني فِي عبد الله ثَوَاب الشَّاكِرِينَ. فودعها وَقَالَ: يَا أمه لَا تَدعِي الدُّعَاء لي قبل قَتْلِي وَلَا بعده. قَالَت: لن أَدَعهُ لَك. فَمن قتل على بَاطِل فقد قتلت على حق. فَخرج وَهُوَ يَقُول: فلست بمبتاع الْحَيَاة بسبة ... وَلَا مرتق من خشيَة الْمَوْت سلما وَقَالَ لأَصْحَابه: احملوا على بركَة الله. وَحَارب حَتَّى قتل.(4/65)
وَرُوِيَ أَنه دخل على أمه أَسمَاء وَهِي عليلة، فَقَالَ: يَا أمه. إِن فِي الْمَوْت لراحة. فَقَالَت: يَا بني؛ لَعَلَّك تتمنى موتِي. فوَاللَّه مَا أحب أَن أَمُوت حَتَّى تَأتي على أحد طرفيك؛ فإمَّا أَن تظفر بعدوك فتقر عَيْني وَإِمَّا أَن تقتل فأحتسبك. قَالَ: فَالْتَفت إِلَى أَخِيه عُرْوَة وَضحك. فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِي صبيحتها دخل فِي السحر 381 عَلَيْهَا فشاورها، فَقَالَت: يَا بني لَا تجيبن إِلَّا خطة تخَاف على نَفسك الْقَتْل. قَالَ: إِنَّمَا أَخَاف أَن يمثلوا بِي. قَالَت: يَا بني؛ إِن الشَّاة لَا تألم السلخ بعد الذّبْح. خطب عمرَان بن مُوسَى بن طَلْحَة هِنْد بنت أَسمَاء بن خَارِجَة الْفَزارِيّ فَردته، وَأرْسلت إِلَيْهِ: إِنِّي وَالله مَا بِي عَنْك رَغْبَة، وَلَكِن لَيْسَ زَوجي إِلَّا من لَا يُؤَدِّي قتلاه وَلَا يرد قَضَاؤُهُ، وَلَيْسَ ذَلِك عنْدك.
الْحسن بن عَليّ وَإِحْدَى زَوْجَاته
حجت أم حبيب بنت عبد الله بن الْأَهْتَم فَبعث إِلَيْهَا الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِمَا السَّلَام فَخَطَبَهَا، فَقَالَت: إِنِّي لم آتٍ هَذَا الْبَلَد للتزويج، وَإِنَّمَا جِئْت لزيارة هَذَا الْبَيْت فَإِذا قدمت بلدي وَكَانَت لَك حَاجَة فشأنك. قَالَ: فازداد فِيهَا رَغْبَة، فَلَمَّا صَارَت إِلَى الْبَصْرَة أرسل إِلَيْهَا فَخَطَبَهَا، فَقَالَ إخوتها: إِنَّهَا امْرَأَة لَا يفتات على مثلهَا بِرَأْي، وأتوها فأخبروها الْخَبَر، فَقَالَت: إِن تزَوجنِي على حكمي أَجَبْته. فأدوا ذَلِك إِلَيْهِ فَقَالَ: امْرَأَة من تَمِيم، أَتَزَوَّجهَا على حكمهَا. ثمَّ قَالَ: وَمَا عَسى أَن يبلغ حكمهَا لَهَا؟ قَالَ: فَأَعْطَاهَا ذَلِك. فَقَالَت: قد حكمت بِصَدَاق أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَبنَاته، اثْنَي عشر أُوقِيَّة من الْفضة. فَتَزَوجهَا على ذَلِك، وَأهْدى لَهَا مائَة ألف دِرْهَم. فَجَاءَت إِلَيْهِ فَبنى بهَا فِي لَيْلَة قائظة على سطح لَا حظار عَلَيْهِ، فَلَمَّا غلبته عينه أخذت خمارها فشدته فِي رجله، وشدت الطّرف الآخر فِي رجلهَا. فَلَمَّا انتبه من نَومه رأى الْخمار فِي رجله. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَت: أَنا على سطح لَيْسَ عَلَيْهِ حظار، وَمَعِي فِي الدَّار ضرائر، وَلم آمن عَلَيْك وَسن النّوم، فَفعلت هَذَا حَتَّى إِذا تحركت تحركت مَعَك. قَالَ: فازداد فِيهَا رَغْبَة، وَبهَا عجبا.(4/66)
ثمَّ لم يلبث أَن مَاتَ عَنْهَا فكلموها فِي الصُّلْح عَن مِيرَاثه. فَقَالَت: مَا كنت لآخذ لَهُ مِيرَاثا أبدا، وَخرجت إِلَى الْبَصْرَة، فَبعث إِلَيْهَا نفر يخطبونها مِنْهُم يزِيد بن مُعَاوِيَة - لَعنه الله - وَعبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الله بن عَامر فَأَتَاهَا إخوتها فَقَالُوا لَهَا: هَذَا ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا ابْن عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، وَهَذَا ابْن حواريه، وَهَذَا ابْن عَامر أَمِير الْبَصْرَة. اخْتَارِي من شِئْت مِنْهُم. قَالَ: فردتهم جَمِيعًا. وَقَالَت: مَا كنت لأتخذ حماً بعد ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ.
ابْن زِيَاد وخارجية
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: أَتَى عبيد الله بن زِيَاد بِامْرَأَة من الْخَوَارِج، فَقطع رجلهَا وَقَالَ لَهَا: كَيفَ تَرين؟ فَقَالَت: إِن فِي الْفِكر فِي هول المطلع لشغلاً عَن حديدتكم هَذِه. ثمَّ قطع رجلهَا الْأُخْرَى وجذبها، فَوضعت يَدهَا على فرجهَا. فَقَالَ: إِنَّك لتسترينه. فَقَالَت: لَكِن سميَّة أمك لم تكن تستره قَالَ الْمهْدي للخيزران أم مُوسَى وَهَارُون ابنيه: إِن مُوسَى ابْنك يتيه أَن يسألني حَوَائِجه. قَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ألم تَكُ أَنْت فِي حَيَاة الْمَنْصُور لَا تبتدئه بحوائجك، وتحب أَن يبتدئك هُوَ؟ فموسى ابْنك كَذَلِك يحب مِنْك. قَالَ: لَا، وَلَكِن التيه يمنعهُ. قَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ فَمن أَيْن أَتَاهُ التيه؟ أَمن قبلي أم قبلك؟
حِكَايَة مَعَ أعرابية
رُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: بَينا أَنا ذَات يَوْم بالبادية، فَخرجت فِي بعض اللَّيَالِي فِي الظُّلم، فَإِذا أَنا بِجَارِيَة كَأَنَّهَا علم، فأردتها على نَفسهَا فَقَالَت: وَيحك {أما لَا زاجر من عقل إِذْ لم يكن لَك ناه من دين؟ قلت لَهَا: وَالله مَا يَرَانَا شَيْء إِلَّا الْكَوَاكِب. قَالَت: وَيحك. وَأَيْنَ مكوكبها؟} 382 قَالَ الجاحظ: لما مَاتَ رَقَبَة بن مصقلة أوصى إِلَى رجل وَدفع إِلَيْهِ شَيْئا. فَقَالَ: ادفعه إِلَى أُخْتِي. فَسَأَلَ الرجل عَنْهَا فَخرجت إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: أحضريني شَاهِدين يَشْهَدَانِ أَنَّك أُخْته. فَأرْسلت جاريتها إِلَى الإِمَام والمؤذن ليشهدا لَهَا. واستندت إِلَى الْحَائِط فَقَالَت: الْحَمد لله الَّذِي أبرز وَجْهي، وأنطق عني، وَشهر(4/67)
بالفاقة اسْمِي. فَقَالَ الرجل: شهِدت أَنَّك أُخْته حَقًا. وَدفع الدَّنَانِير إِلَيْهَا، وَلم يحْتَج إِلَى شَهَادَة من يشْهد لَهَا. خطب سعيد بن الْعَاصِ عَائِشَة بنت عُثْمَان. فَقَالَت: لَا أَتزوّج بِهِ وَالله أبدا، فَقيل لَهَا: وَلم ذَلِك؟ قَالَت: لِأَنَّهُ أَحمَق، لَهُ برذونان أشبهان، فَهُوَ يتَحَمَّل مؤونة اثْنَيْنِ واللون وَاحِد. ذكر رجل من قُرَيْش سوء خلق امْرَأَته بَين يَدي جَارِيَة لَهُ كَانَ يتحظاها فَقَالَت لَهُ: إِنَّمَا حظوظ الْإِمَاء لسوء خلائق الْحَرَائِر.
هِنْد بنت أَسمَاء تدافع عَن أَخِيهَا
اخْتلف الْحجَّاج وَهِنْد بنت أَسمَاء بن خَارِجَة فِي بَنَات قين، فَبعث إِلَى مَالك بن أَسمَاء فَأخْرجهُ من الْحَبْس، وَسَأَلَهُ عَن الحَدِيث فحدثه ثمَّ أقبل على هِنْد. فَقَالَ لَهَا: قومِي إِلَى أَخِيك. فَقَالَت: لَا أقوم إِلَيْهِ وَأَنت ساخط عَلَيْهِ. فَأقبل الْحجَّاج على مَالك فَقَالَ: إِنَّك وَالله - مَا علمت - للخائن لأمانته، اللَّئِيم حَسبه، الزَّانِي فرجه. فَقَالَت هِنْد: إِن أذن الْأَمِير تَكَلَّمت. فَقَالَ: تكلمي. فَقَالَت: أما قَول الْأَمِير: الزَّانِي فرجه، فوَاللَّه لَهو أَحْقَر عِنْد الله وأصغر فِي عين الْأَمِير من أَن يجب لله عَلَيْهِ حد فَلَا يقيمه. وَأما قَول الْأَمِير: اللَّئِيم حَسبه فوَاللَّه لَو علم مَكَان رجل أشرف مِنْهُ لصاهر إِلَيْهِ. وَأما قَوْله: الخائن أَمَانَته. فوَاللَّه لقد ولاه الْأَمِير فوفر، فَأَخذه بِمَا أَخذ بِهِ فَبَاعَ من وَرَاء ظَهره. وَلَو ملك الدُّنْيَا بأسرها لافتدى بهَا من هَذَا الْكَلَام. أَتَى الْبرد على زرع عَجُوز بالبادية، فأخرجت رَأسهَا من الخباء وَنظرت إِلَى الزَّرْع قد احْتَرَقَ فَقَالَت - وَرفعت رَأسهَا إِلَى السَّمَاء -: اصْنَع مَا شِئْت فَإِن رِزْقِي عَلَيْك. قيل لرابعة: إِن التَّزَوُّج فرض الله عز وَجل فَلم لَا تتزوجين؟ فَقَالَت: فرض الله قطعني عَن فَرْضه.(4/68)
عَاتِكَة بنت زيد وَمَوْت أزواجها
كَانَت عَاتِكَة بنت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل عِنْد عبد الله بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَقتل عَنْهَا، فخلف عَلَيْهَا عمر بن الْخطاب فَقتل عَنْهَا، فخلف عَلَيْهَا الزبير، فَقتل، فخلف عَلَيْهَا مُحَمَّد بن أبي بكر فَقتل. فَقَالَ عبد الله بن عمر: من سره الشَّهَادَة فليتزوج عَاتِكَة. فبلغها ذَلِك فَقَالَت: من سره أَن يكون بَيْضَة الْبَلَد، حُبْلَى لَا تطير وَلَا تَلد فَلْيَكُن كَعبد الله. فَبلغ ذَلِك عبد الله بن جَعْفَر الطيار فَضَحِك وَقَالَ: مَا هُوَ كَمَا قَالَت إِنَّه لمصباح بلد، وَابْن كَهْف الْإِسْلَام. وَقد رُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ: من اشتاق إِلَى الشَّهَادَة فليتزوج عَاتِكَة. وَقد رُوِيَ أَنه رَضِي الله عَنهُ خطبهَا فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا أرب بك عَن الْقَتْل. كَانَ عَمْرو أحد بني كَاهِل يَغْزُو فهما فَيُصِيب مِنْهُم فوضعوا لَهُ رصداً على المَاء فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ. ثمَّ مروا بأخته جنوب فَقَالُوا: إِنَّا طلبنا عمرا أَخَاك. قَالَت: لَئِن طلبتموه لتجدنه منيعاً، وَلَئِن ضفتموه لتجدنه مريعاً، وَلَئِن دعوتموه لتجدنه سَرِيعا. قَالُوا: قد أخذناه وقتلناه وَهَذَا سلبه. قَالَت: لَئِن سلبتموه لتجدون ثنته 383 وافية، لَا حجزته جافية وَلَا ضالته كافئة. ولرب ثدي مِنْكُم قد افترشه وَنهب قد اقترشه، وضب قد احترسه.
استعداء امْرَأَة على زَوجهَا
زوج رجل من بني أَسد بِنْتا لَهُ تدعى أم مَالك من ابْن أَخ لَهُ يدعى مرّة بن الْجَعْد، كَانَ شرطا من الرِّجَال دميماً، فجامحته وانسلت بِاللَّيْلِ، فَوَافَقت الْمَدِينَة تستعدي حسن بن زيد الْعلوِي على أَبِيهَا. فَلَمَّا وقفت بَين يَدَيْهِ نادت: إِنَّا بِاللَّه وَبِك يَا بن رَسُول الله، قد جَاوَزت إِلَيْك مخاوف، وَقطعت نتائف. أنتعل(4/69)
الحفى، وأحتمل الوجى عائذة بِاللَّه وَبِك من وَالِد مغبون، وقرين مأفون، شراني بأوكس الْأَثْمَان، وعكسني بدار مذلة وهوان، من زوج كَأَنَّهُ كلب مصرور، على جيفة مَمْطُور، فِي يَوْم صر مقرور، قد شرد بغضه نوم الجفون واستجلب قلاه مَاء الشئون. فالنوم موثق، والدمع مُطلق، إِذا استجم الدمع أفاضته أحزانها، وَإِذا فاض وكف بأسجانها. نؤمل من عدلك مَا نشر الله بِهِ حسن الظَّن بك، فآنسها فِي الوحشة وأطمعها فِي الإنجاح، ثمَّ أنشدته شعرًا لَهَا فَقَامَ الْحسن بأمرها حَتَّى بلغت مرادها. لما قَالَ النَّابِغَة للخنساء: مَا رَأَيْت ذَا مثانة أشعر مِنْك. قَالَت لَهُ: وَلَا ذَا خصيتين. وَقَالَ لَهَا عمر: يَا خنساء مَا أقرح مآقي عَيْنَيْك؟ قَالَت: بُكَائِي على السادات من مُضر. قَالَ: يَا خنساء؛ إِنَّهُم فِي النَّار. قَالَت: ذَاك أطول لعويلي عَلَيْهِم. وَكَانَت تَقول: كنت أبْكِي لصخر على الْحَيَاة ... وَأَنا أبْكِي لَهُ الْآن من النَّار قَالَت عمْرَة بنت مرداس بن أبي عَامر، وَهِي عروس أمهَا الخنساء فِي شَيْء كرهته. فَقَالَت الخنساء: يَا حمقاء؛ وَالله لكأنها بظير أمة ورهاء. أَنا وَالله كنت أكْرم مِنْك بعلاً، وأرقى مِنْك نعلا، وَأحسن مِنْك عرساً، وَأتم مِنْك أنسا؛ إِذْ كنت فتاة أعجب الفتيان، وأشرب اللَّبن غضاً قارصاً، ومحضاً خَالِصا، لَا أنهش اللَّحْم، وَلَا أذيب الشَّحْم، وَلَا أرعى البهم، كالمهرة الصَّنِيع، لَا مضاعة وَلَا عِنْد مضيع،(4/70)
عقيلة الحسان الْحور، أضيء فِي طخية الديجور، وَذَلِكَ فِي شبيبتي قبل شيبي. وَقَامَت مغضبة.
مغزل الْمَرْأَة
قَالَ بَعضهم: مَرَرْت على هِنْد بنت الْمُهلب، فَرَأَيْت بِيَدِهَا مغزلاً تغزل بِهِ، فَقلت لَهَا: تغزلين؟ قَالَت: نعم سَمِعت أبي يذكرهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " أعظمكن أجرا أَطْوَلكُنَّ طَاقَة، وَهُوَ يطرد الشَّيْطَان وَيذْهب بِحَدِيث النَّفس ". وَرُوِيَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: المغزل فِي يَد الْمَرْأَة مثل الرمْح فِي يَد الْغَازِي. قيل للخنساء: لم يكن صَخْر كَمَا وصفت. قَالَت: وَكَيف ذَاك؟ فوَاللَّه لقد كَانَ ندي الْكَفَّيْنِ، يَابِس الجنبين؛ يَأْكُل مَا وجده، وَلَا يسْأَل عَمَّا عَهده.
من أَقْوَال حبى المدينية
قيل لحبي المدينية: مَا السقم الَّذِي لَا يبرأ، وَالْجرْح الَّذِي لَا يندمل؟ قَالَت: حَاجَة الْكَرِيم إِلَى اللَّئِيم لَا يجدي عَلَيْهِ. قيل: فَمَا الشّرف؟ قَالَت: اعْتِقَاد المنن فِي أَعْنَاق الْكِرَام، يبْقى لِلْأَعْقَابِ على الأحقاب. ذكر نسْوَة أَزوَاجهنَّ فَقَالَت إِحْدَاهُنَّ: زَوجي عوني فِي الشدائد، والعائد دون كل عَائِد، إِن غضِبت عطف، وَإِن مَرضت لطف. وَقَالَت الْأُخْرَى: زَوجي لما عناني كَاف، وَلما أسقمني شاف، عناقه كالخلد، وَلَا يمل طول الْعَهْد. وَقَالَت الْأُخْرَى: زَوجي الشعار حِين أجرد، والأنس حِين أفرد، والسكن حِين أرقد. 384 - قَالَت امْرَأَة من أهل الْبَادِيَة: لَا يُعجبنِي الشَّاب يمعج معج الْمهْر طلقاً أَو طلقين ثمَّ يضطجع بِنَاحِيَة الميدان، وَلَكِن أَيْن أَنْت من شيخ يضع قب استه بِالْأَرْضِ ثمَّ سحباً وجراً؟ !(4/71)
قَالَ بَعضهم: رَأَيْت بِالْمَدِينَةِ امْرَأَة بَين عينيها سجادة، وَعَلَيْهَا ثِيَاب معصفرة، فَقلت لَهَا: مَا أبعد زيك من سمتك! فَقَالَت: وَللَّه مني جَانب لَا أضيعه ... وللهو مني جَانب وَنصِيب قَالَ الزبير بن بكار: قَالَت بنت أُخْتِي لزوجتي: خَالِي خير رجل لأَهله، لَا يتَّخذ ضرَّة وَلَا يَشْتَرِي جَارِيَة. فَقَالَت الْمَرْأَة: وَالله لهَذِهِ الْكتب أَشد عَليّ من ثَلَاث ضرائر.
أم الكملة
حجت فَاطِمَة بنت الخرشب الأنمارية أم الكملة؛ الرّبيع وَعمارَة وَقيس وَأنس، وَكَانَت حجتها هَذِه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ لَهَا رجل من أهل مَكَّة: من أشرف ولدك؟ قَالَت: الرّبيع. لَا بل عمَارَة. لَا بل قيس. لَا بل أنس. ثكلتهم إِن كنت أَدْرِي أَيهمْ أسود. وَكَانَ يُقَال للربيع الْكَامِل، ولأنس الطَّوِيل؛ ولقيس الوقاعة، ولعمارة دالق وَإِنَّمَا قيل لَهُ ذَلِك أَنه كَانَ يدلق الْخَيل فِي كل وَجه. وَفِيهِمْ يَقُول الشَّاعِر: بَنو جنية ولدت سيوفاً ... صوارم كلهَا ذكر صَنِيع قيل لرملة بنت الزبير: مَا بالك أهزل مَا تكونين إِذا حضر زَوجك. فَقَالَت: مَا أقبح الْمَرْأَة الشَّرِيفَة أَن تضاجع زَوجهَا بملء بَطنهَا.
زَوْجَة تخمد حَربًا
خرج الْحَارِث ين عَوْف المري خاطباً إِلَى أَوْس بن حَارِثَة بن لأم الطَّائِي. فَقَالَ لابنته الْكُبْرَى: يَا بنية؛ هَذَا سيد قومه قد أَتَانِي خاطباً لَك. فَقَالَت: لَا حَاجَة(4/72)
لي فِيهِ. إِن فِي خلقي ضيقا يصبر عَلَيْهِ الْقُرَبَاء، وَلَا يصبر عَلَيْهِ الْبعدَاء. فَقَالَ للَّتِي تَلِيهَا: قد سَمِعت مَا قَالَت أختك قَالَت: زوجنيه، فَإِنِّي إِن لم أصلح للبعداء لم أصلح للقرباء. فَزَوجهُ وَضرب عَلَيْهِ قبَّة، وَنحر لَهُ الْجَزُور. فَمد يَده إِلَيْهَا فَقَالَت ابْنة أَوْس: تمد إِلَيْهَا الْيَد بِحَضْرَتِهِ؟ قَالَ: فَتحمل بهَا فَلَمَّا كَانَ بِالطَّرِيقِ مد يَده إِلَيْهَا. فَقَالَت ابْنة أَوْس: أردْت أَن تمتّع بهَا فِي سفرك كَمَا تمتّع بسفرتك، فَكف عَنْهَا. فَلَمَّا حل فِي أَهله - وَقد وَقعت الْحَرْب بَين عبس وذبيان - فَمد يَده إِلَيْهَا فَقَالَت: لقد أَخطَأ الَّذِي سماك سيداً. أتمد يدك إِلَى النِّسَاء وقومك يتناحرون. قَالَ: فَمَا وضع يَده عَلَيْهَا حَتَّى أصلح بَين قومه وَتحمل دياتهم، ثمَّ دخل بهَا فحظيت عِنْده. خرج مُحَمَّد بن وَاسع فِي يَوْم عيد وَمَعَهُ رَابِعَة، فَقَالَ لَهَا: كَيفَ تَرين هَذِه الْهَيْئَة؟ فَقَالَت: مَا أَقُول لكم؟ خَرجْتُمْ لإحياء سنة وإماتة بِدعَة، فأراكم قد تباهيتم بِالنعْمَةِ، وأدخلتم على الْفَقِير مضرَّة. قَالَت امْرَأَة من بني تغلب للجحاف بن حَكِيم فِي وقْعَة الْبشر الَّتِي يَقُول فِيهَا الأخطل: لقد أوقع الجحاف بالبشر وقْعَة ... إِلَى الله فِيهَا المشتكى والمعول ففض الله عمادك، وأكبى زنادك، وَأطَال سهادك، وَأَقل زادك، فوَاللَّه إِن قتلت إِلَّا نسَاء أسافلهن دمى وأعاليهن ثدى - وَكَانَ قد قتل النِّسَاء والذرية. فَقَالَ لمن حوله: لَوْلَا أَن تَلد مثلهَا لاستبقيتها وَأمر بقتلها. فَبلغ ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ فَقَالَ: إِنَّمَا الجحاف جذوة من نَار جَهَنَّم. قَالَت أم عُمَيْر الليثية 385 للعوفي فِي مجْلِس الحكم: عظم رَأسك فَبعد فهمك، وطالت لحيتك فغمرت قَلْبك. وَإِذا طَالَتْ اللِّحْيَة انشمر الْعقل. وَمَا رَأَيْت مَيتا يقْضِي بَين الْأَحْيَاء قبلك.(4/73)
قَالَ ابْن الْأَحْنَف بن قيس لزبراء جَارِيَة أَبِيه: يَا زَانِيَة. فَقَالَت: وَالله لَو كنت زَانِيَة لأتيت أَبَاك بِابْن مثلك.
وصف امْرَأَة لزَوجهَا
طلق أَعْرَابِي امْرَأَته فذمها فَقَالَت: وَأَنت وَالله - مَا علمت - تغتنم الْأكلَة فِي غير جوع، ملح بخيل، إِذا نطق الأقوام أقعصت، وَإِذا ذكر الْجُود أفحمت؛ لما تعلم من قصر باعك، ولؤم آبَائِك، وتستضعف من تأمن، ويغلبك من تخَاف، ضيفك جَائِع، وجارك ضائع، أكْرم النَّاس عَلَيْك من أَهَانَك، وأهونهم عَلَيْك من أكرمك. الْقَلِيل عنْدك كثير، وَالْكَبِير عنْدك حقير. سود الله وَجهك، وبيض جسمك، وَقصر باعك، وَطول مَا بَين رجليك؛ حَتَّى إِن دخل انثنى، وَإِن رَجَعَ التوى. قَالَ بَعضهم: كنت عِنْد فَاطِمَة بنت الْمُهلب أعرض عَلَيْهَا طيبا فَقُمْت وَتركت الْمَتَاع بَين يَديهَا، فَلَمَّا جِئْت قَالَت: بئس مَا صنعت، لَا تأمنن امْرَأَة قطّ على رجل وَلَا على طيب. قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: خرجت ذَات لَيْلَة أَطُوف، فَإِذا أَنا بِامْرَأَة قد فَضَح وَجههَا ضوء الْقَمَر مُتَعَلقَة وَهِي تَقول: إلهي؛ أما وجدت شَيْئا تعذب بِهِ إِلَّا النَّار. ثمَّ ذهبت، فَنمت ثمَّ عدت فَوَجَدتهَا وديدنها أَن تَقول ذَلِك. قلت: لَو عذب بِمَا سوى النَّار، فَكَانَ مَاذَا؟ قَالَت: يَا عماه؛ أما وَالله لَو عذب بِغَيْر النَّار لقضينا أوطاراً. جعل ابْن السماك يَوْمًا يتَكَلَّم وَجَارِيَة لَهُ حَيْثُ تسمع كَلَامه، فَلَمَّا انْصَرف إِلَيْهَا قَالَ لَهَا: كَيفَ سَمِعت كَلَامي؟ قَالَت: مَا أحْسنه لَوْلَا أَنَّك تكْثر ترداده. قَالَ: أردده حَتَّى يفهمهُ من لم يفهم. قَالَت: إِلَى أَن يفهم مَا لَا يفهمهُ قد مله من فهمه.(4/74)
الْبَاب الثَّالِث الْحِيَل والخدائع
قدم بَعضهم رجلا إِلَى القَاضِي وَادّعى عَلَيْهِ مَالا فَقَالَ: صدقُوا أسألهم أَن يؤخروني حَتَّى أبيع مَالِي أَو عقاري أَو رقيقي أَو إبلي. فَقَالُوا: كذب أَيهَا القَاضِي. مَا لَهُ قَلِيل وَلَا كثير. وَلكنه يُرِيد مدافعتنا فَقَالَ: أصلحك الله. فقد شهدُوا بِالْعدمِ. فخلى سَبيله. قَالَ بَعضهم: خرجت لَيْلَة فَإِذا أَنا بِالطَّائِف قد أقبل: فَلَمَّا رَأَيْته من بعيد صحت: المستغاث بِاللَّه وبالطائف. فَقَالَ لي الطَّائِف: مَالك؟ قلت: قوم سكارى فِي بَيْتِي قد عربدوا، وسلوا السكاكين، وَجئْت فِي طَلَبك لتخلصني مِنْهُم. فَقَالَ: ايش بَين يَدي. فمشيت وَدخلت الْبَيْت، وأغلقت الْبَاب، وصعدت السَّطْح وتطلعت عَلَيْهِ وَقلت: انْصَرف مأجوراً فقد تصالحوا. سُئِلَ بَعضهم عَن رجل أَرَادوا أَن يزوجوه فَقَالَ: إِن لَهُ شرفاً وبيتاً وقدماً فنظروا فَإِذا هُوَ سَاقِط سفلَة. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: مَا كذبت شرفه أذنَاهُ، وَقدمه الَّتِي يمشي عَلَيْهَا، وَلَا بُد من أَن يكون لَهُ بَيت يأوي إِلَيْهِ. قَالَ مُعَاوِيَة لأبي هَوْذَة الْبَاهِلِيّ: لقد هَمَمْت أَن أحمل جمعا من باهلة فِي سفينة ثمَّ 386 أغرقهم. قَالَ أَبُو هَوْذَة: إِذا لَا ترْضى باهلة بِعدَّتِهِمْ من بني أُميَّة. قَالَ: اسْكُتْ أَيهَا الْغُرَاب الأبقع - وَكَانَ بِهِ برص. قَالَ أَبُو هَوْذَة: إِن الْغُرَاب رُبمَا درج إِلَى الرخمة حَتَّى ينقر دماغها، ويقتلع عينيها. فَقَالَ يزِيد: أَلا تقتله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَه. ونهض مُعَاوِيَة ثمَّ وَجهه فِي سَرِيَّة فَقتل. فَقَالَ مُعَاوِيَة ليزِيد: هَذِه أخْفى وأصوب. لما بَايع الرشيد وَلَده تخلف رجل مَذْكُور من الْفُقَهَاء، فَأحْضرهُ وَقَالَ لَهُ: لم(4/75)
تخلفت عَن الْبيعَة؟ قَالَ: عاقني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عائق فَأمر بِقِرَاءَة كتاب الْبيعَة عَلَيْهِ. فَلَمَّا قرئَ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذِه الْبيعَة فِي عنقِي إِلَى قيامي السَّاعَة فَلم يفهم الرشيد مَا أَرَادَ، وَقدر أَنه يُرِيد إِلَى قيام السَّاعَة وَذهب مَا كَانَ فِي نَفسه عَلَيْهِ. قيل لبَعض الْفُقَهَاء: لم استجزتم اسْتِعْمَال الْحِيَل فِي الْفِقْه؟ فَقَالَ: الله تَعَالَى علمنَا ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ: وَخذ بِيَدِك ضغثاً فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث ". لما حبس المقفع، وألح عَلَيْهِ صَاحب الاستخراج فِي الْعَذَاب خشِي على نَفسه فَقَالَ لصَاحب الاستخراج: عنْدك مَال وَأَنا أربحك ربحا ترضاه؟ وَقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني، فعيني مِقْدَار هَذَا النَّجْم. فَلَمَّا صَار عَلَيْهِ مَال ترفق بِهِ مَخَافَة أَن يَمُوت تَحت الْعَذَاب فيتوى مَاله. جحد رجل مَال رجل فاحتكم إِلَى إِيَاس بن مُعَاوِيَة فَقَالَ للطَّالِب: أَيْن دفعت إِلَيْهِ هَذَا المَال؟ قَالَ: عِنْد شَجَرَة فِي مَكَان كَذَا. قَالَ: فَانْطَلق إِلَى ذَلِك الْموضع لَعَلَّك تتذكر كَيفَ كَانَ أَمر هَذَا المَال، وَلَعَلَّ الله يُوضح لَك سَببا. فَمضى الرجل وَجلسَ خَصمه فَقَالَ إِيَاس بعد سَاعَة: أَتَرَى خصمك بلغ مَوضِع الشَّجَرَة. قَالَ: لَا بعد. قَالَ: يَا عَدو الله أَنْت خائن. قَالَ: أَقلنِي أقالك الله. فاحتفظ بِهِ حَتَّى أقرّ ورد المَال. قَالَ مُعَاوِيَة لعَمْرو: أَنْت أدهى أم أَنا؟ قَالَ عَمْرو: أَنا للبديهة وَأَنت للأناة. قَالَ: كلا. قَالَ عَمْرو: أدن مني رَأسك أسارك، فأدنى رَأسه فَقَالَ عَمْرو: هَذَا من ذَاك. هَل هَا هُنَا أحد غَيْرك. قَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة: مَا خدعني غير غُلَام من بني الْحَارِث بن كَعْب. فَإِنِّي ذكرت امْرَأَة مِنْهُم فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير لَا خير لَك فِيهَا. قلت: وَلم؟ قَالَ: رَأَيْت رجلا يقبلهَا. فأضربت عَنْهَا فَتَزَوجهَا الْفَتى. فَأرْسلت إِلَيْهِ: ألم تعلمني كَذَا وَكَذَا من أمرهَا. قَالَ: بلَى رَأَيْت أَبَاهَا يقبلهَا. كَانَ لعبد الله بن مُطِيع غُلَام مولد قد أدبه وخرجه وصيره قهرمانه، وَكَانَ أَتَاهُم قوم من الْعَدو فِي نَاحيَة الْبَحْر. فَرَآهُ يَوْمًا يبكي فَقَالَ: مَالك؟ قَالَ: تمنيت أَن أكون حرا، فَأخْرج مَعَ الْمُسلمين قَالَ: وتحب ذَاك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَنت حر(4/76)
لوجه الله فَاخْرُج. قَالَ: فَإِنَّهُ قد بدا لي أَلا أخرج. قَالَ: خدعتني وَالله. كَانَ عمر بن هُبَيْرَة أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب. وَكَانَ إِذا أَتَاهُ كتاب فَتحه وَنظر فِيهِ كَأَنَّهُ يَقْرَؤُهُ فَإِذا نَهَضَ من مَجْلِسه حملت الْكتب مَعَه. فيدعو جَارِيَة كاتبة وَيدْفَع إِلَيْهَا الْكتب فتقرأها عَلَيْهِ ويأمرها فتوقع بِمَا يُرِيد، وَيخرج الْكتاب. فاستراب بِهِ بعض كِتَابه فَكتب كتابا على لِسَان بعض الْعمَّال وطواه مُنَكسًا أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَله، فَلَمَّا أَخذه وَنظر فِيهِ وَلم يُنكره تحقق أَنه أُمِّي. 387 قَالَ بعض الْقُضَاة لرجل: كَيفَ أقبل شهادتك وَقد سَمِعتك تَقول لمغنية: أَحْسَنت؟ قَالَ: أَلَيْسَ إِنَّمَا قلت ذَلِك بعد سكُوتهَا. فَأجَاز شَهَادَته. أَتَى معن بن زَائِدَة بثلاثمائة أَسِير من حَضرمَوْت فَأمر بِضَرْب أَعْنَاقهم، فَقَامَ مِنْهُم غُلَام حِين سَالَ عذاره فَقَالَ: أنْشدك الله أَن تَقْتُلنَا وَنحن عطاش فَقَالَ: اسقوهم مَاء. فَلَمَّا شربوا قَالَ: اضربوا أَعْنَاقهم. فَقَالَ الْغُلَام: أنْشدك الله أَن تقتل ضيفانك. قَالَ: أَحْسَنت. وَأمر بإطلاقهم. كَانَ بالأهواز رجل لَهُ زَوْجَة، وَكَانَت لَهُ أَرض بِالْبَصْرَةِ، فَكَانَ يكثر الإنحدار إِلَيْهَا فارتابت زَوجته وتتبعت أَثَره، فوقفت على أَنه قد تزوج بِالْبَصْرَةِ فاحتالت حَتَّى صَار إِلَيْهَا خطّ عَم البصرية، وَبعث بِهِ إِلَى رجل يَحْكِي كل خطّ رَآهُ، وأجازته، حَتَّى كتب كتابا عَن لِسَان عَم البصرية إِلَى زَوجهَا يذكر أَن الْمَرْأَة قد مَاتَت، ويسأله التَّعْجِيل إِلَيْهِ لأخذ مَا تركت وسمى مَالهَا وجاريتها. ودست الْكتاب مَعَ ملاح قدم من الْبَصْرَة، فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْكتاب قَرَأَهُ فَلم يشك فِيهِ، وَدخل وَقَالَ لامْرَأَته: اعملي لي سفرة. قَالَت: وَلم؟ قَالَ: أُرِيد الْبَصْرَة. قَالَت: كم هَذِه الْبَصْرَة؟ ! قد رَابَنِي أَمرك. لَعَلَّ لَك بهَا امْرَأَة، فَأنْكر، فَقَالَت: احْلِف. فَحلف أَن كل امْرَأَة لَهُ غَيرهَا طَالِق، سكوناً إِلَى أَن تِلْكَ قد مَاتَت، وَمَا يضرّهُ ذَلِك. فَلَمَّا حلف قَالَت: دع السفرة. قد أَغْنَاك الله عَن الْبَصْرَة. قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: قد طلقت الفاسقة. وحدثته بالقصة فندم. مر شبيب بن يزِيد الْخَارِجِي على غُلَام قد استنقع فِي الْفُرَات. فَقَالَ: يَا(4/77)
غُلَام. اخْرُج إِلَيّ أسائلك. فَنظر الْغُلَام فَعرف شبيباً. فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف. فَهَل أَنا آمن إِلَى أَن أخرج وألبس ثِيَابِي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فوَاللَّه لَا ألبسها الْيَوْم وَلَا أخرج. فَقَالَ شبيب: أوه، خدعني الْغُلَام. وَأمر رجلا بحفظه لِئَلَّا يُصِيبهُ أحد بمعرة وَمضى، وَسلم الْغُلَام. قَالَ الْأَعْمَش: أَخْبرنِي تَمِيم بن سَلمَة أَن رجلا شهد عِنْد شُرَيْح وَعَلِيهِ جُبَّة ضيقَة الكمين. فَقَالَ شُرَيْح: أَنَتَوَضَّأُ وَعَلَيْك جبتك هَذِه؟ قَالَ: احسر عَن ذراعك. فحسر، فَلم يبلغ كم جبته إِلَى نصف الساعد. فَرد شَهَادَته. قدمت امْرَأَة زَوجهَا إِلَى أبي عمر القَاضِي، وَادعت عَلَيْهِ مَالا، فاعترف بِهِ فَقَالَت: أَيهَا القَاضِي خُذ بحقي وَلَو بحبسه. فتلطف لَهَا لِئَلَّا تحبسه، فَأَبت إِلَّا ذَلِك، فَأمر بِهِ، فَلَمَّا مَشى خطوَات صَاح أَبُو عمر بِالرجلِ وَقَالَ لَهُ: أَلَسْت مِمَّن لَا يصبر على النِّسَاء؟ فَفطن الرجل فَقَالَ: بلَى أصلح الله القَاضِي. فَقَالَ: خُذْهَا مَعَك إِلَى الْحَبْس. فَلَمَّا عرفت الْحَقِيقَة نَدِمت على لجاجها وَقَالَت: مَا هَذَا أَيهَا القَاضِي؟ قَالَ: لَك عَلَيْهِ حق، وَله عَلَيْك حق. وَمَالك عَلَيْهِ لَا يبطل مَا لَهُ عَلَيْك. فَعَادَت إِلَى السلاسة وَالرِّضَا. أَخذ عبد الْملك رجلا كَانَ يرى رَأْي الْخَوَارِج فَقَالَ لَهُ: أَلَسْت الْقَائِل: وَمنا سُوَيْد والبطين وقعنب ... وَمنا أَمِير الْمُؤمنِينَ شبيب فَقَالَ إِنَّمَا قلت: وَمنا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وناديتك، فخلى سَبيله. كَانَ يخْتَلف إِلَى أبي حنيفَة رجل يتَحَمَّل بالستر الظَّاهِر، والسمت الْبَين فَقدم رجل غَرِيب وأودعه مَالا خطيراً، وَخرج حَاجا، فَلَمَّا عَاد طَالبه بالوديعة فجحده، فألح الرجل عَلَيْهِ فتمادى، فكاد صَاحب المَال يهيم 388، ثمَّ اسْتَشَارَ ثِقَة لَهُ فَقَالَ لَهُ: كف عَنهُ، وصر إِلَى أبي حنيفَة، فدواؤك عِنْده.(4/78)
فَانْطَلق إِلَيْهِ وخلا بِهِ وأعلمه شَأْنه، وَشرح لَهُ قصَّته فَقَالَ لَهُ أَبُو حنيفَة: لَا تعلم بِهَذَا أحدا، وامض راشداً، وعد إِلَيّ غَدا. فَلَمَّا أَمْسَى أَبُو حنيفَة جلس كعادته للنَّاس، وَجعل كلما سُئِلَ عَن شَيْء تنفس الصعداء. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِن هَؤُلَاءِ - يَعْنِي السُّلْطَان - قد احتاجوا إِلَى رجل يبعثونه قَاضِيا إِلَى مَكَان. وَقَالُوا لي: اختر من أَحْبَبْت. ثمَّ أسبل كمه وخلا بِصَاحِب الْوَدِيعَة، وَقَالَ لَهُ: أترغب حَتَّى أسميك. فَذهب يتمنع تحلية. فَقَالَ لَهُ أَبُو حنيفَة: اسْكُتْ فَإِنِّي أبلغ لَك مَا تحب. فَانْصَرف الرجل مَسْرُورا يظنّ الظنون بالجاه العريض، وَالْحَال الْحَسَنَة. وَصَارَ رب المَال إِلَى أبي حنيفَة فَقَالَ: امْضِ إِلَى صَاحبك وَلَا تخبره بِمَا بَيْننَا، ولوح بذكري وَكَفاك، فَمضى الرجل واقتضاه وَقَالَ لَهُ: ارْدُدْ على مَالِي وَإِلَّا شكوتك إِلَى أبي حنيفَة. فَلَمَّا سمع ذَلِك وفاه المَال. وَصَارَ الرجل إِلَى أبي حنيفَة وأعلمه رُجُوع المَال إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: استره عَلَيْهِ. وَلما غَدا الرجل إِلَى أبي حنيفَة طامعاً فِي الْقَضَاء نظر إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَقَالَ لَهُ: نظرت فِي أَمرك فَرفعت قدرك عَن الْقَضَاء. قَالَ أَبُو يُوسُف: بقيت على بَاب الرشيد حولا لَا أصل إِلَيْهِ، حَتَّى حدثت مَسْأَلَة. وَذَلِكَ أَن بعض أَهله كَانَت لَهُ جَارِيَة، فَحلف أَنه لَا يَبِيعهَا إِيَّاه وَلَا يَهَبهَا لَهُ. وَأَرَادَ الرشيد شراءها فَلم يجد أحدا يفتيه فِي ذَلِك. فَقلت لِابْنِ الرّبيع: أعلم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن بِالْبَابِ رجلا من الْفُقَهَاء عِنْده الشِّفَاء من هَذِه الْحَادِثَة. فَدخل فَأخْبرهُ، فَأذن لي، فَلَمَّا وصلت مثلت، فَقَالَ: مَا تَقول؟ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أقوله لَك وَحدك أَبُو بِحَضْرَة الْفُقَهَاء؟ قَالَ: بل بِحَضْرَة الْفُقَهَاء، ليك الشَّك أبعد، وَأمر فَحَضَرَ الْفُقَهَاء، وأعيد عَلَيْهِم السُّؤَال. فَكل قَالَ: لَا حِيلَة عندنَا فِيهِ، فَأقبل أَبُو يُوسُف فَقَالَ: الْمخْرج مِنْهَا أَن يهب لَك نصفهَا، ويبيعك نصفهَا، فَإِنَّهُ لَا يَقع الْحِنْث. فَقَالَ الْقَوْم: صدق. فَعظم أَمْرِي عِنْد الرشيد، وَعلم أَن أتيت بِمَا عجزوا عَنهُ. كَانَ الْمُغيرَة من كبار المدمنين للشراب، فَقَالَ لصَاحب لَهُ يَوْم خَيْبَر: قد قرمت إِلَى الشَّرَاب. وَمَعِي دِرْهَمَانِ زائفان فَأعْطِنِي زكرتين فَأعْطَاهُ.(4/79)
فصب فِي إِحْدَاهمَا مَاء، وأتى بعغض الخمارين فَقَالَ: كل بِدِرْهَمَيْنِ. فكال فِي زكرته فَأعْطَاهُ الدرهمين فردهما، وَقَالَ: هما زائفان. فَقَالَ: ارتجع مَا أَعْطَيْتنِي فكاله وَأَخذه، وَبقيت فِي الزكرة بَقِيَّة فصبها فِي الفارغة، ثمَّ فعل ذَلِك بِكُل خمار حَتَّى ملا زكرته وَرجع وَمَعَهُ درهماه. قَالَ الْأَصْمَعِي: حمل يزِيد بن مره شَيْئا على رَأس حمال فعاسره فِي الْكِرَاء فَقَالَ لَهُ: أثبت أَن الَّذِي على رَأْسِي لَك. فأرضاه. وقف أَحْمد بن أبي خَالِد بَين يَدي الْمَأْمُون وَخرج يحيى بن أَكْثَم وَجلسَ على طرفه فَقَالَ أَحْمد: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ إِن يحيى صديقي وَأخي، وَمن أَثِق بِهِ فِي أَمْرِي كُله ويثق بِي، وَقد تغير عَمَّا كنت أعهده عَلَيْهِ، فَإِن رَأَيْت أَن تَأمره بِالْعودِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. فَإِنِّي لَهُ على مثله. فَقَالَ الْمَأْمُون: 389 يَا يحيى؛ إِن فَسَاد أَمر الْمُلُوك بِفساد الْحَال بَين خاصتهم. وَمَا يعد لَكمَا عِنْدِي أحد. فَمَا هَذَا النزاع بَيْنكُمَا؟ فَقَالَ لَهُ يحيى: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه ليعلم أَنِّي لَهُ على أَكثر مِمَّا وصف، وَأَنِّي أَثِق بِمثل ذَلِك مِنْهُ. وَلكنه رأى منزلتي هَذِه مِنْك فخاف أَن أتغير لَهُ يَوْمًا، فأقدح فِيهِ عنْدك، فَتقبل قولي فِيهِ فَأحب أَن يَقُول هَذَا لتأمرني بِأَمْر لَو بلغ نِهَايَة مساءتي مَا قدرت أَن أذكرهُ بِسوء عنْدك. فَقَالَ الْمَأْمُون: أكذاك هُوَ يَا أَحْمد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أستعين الله عَلَيْكُمَا. مَا رَأَيْت أتم دهاء وَلَا أقرب فطنة مِنْكُمَا. اسْتَأْذن أَخُو صَفِيَّة بنت حييّ بن أَخطب على سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَهُوَ خَليفَة فَقَالَ للآذن: خَال أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَدخل فَقَالَ: بِالْبَابِ رجل يَدعِي أَنه خَال أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: أدخلهُ. فَلَمَّا رَآهُ عرفه فَقَالَ: أَنْت لعمري خَالِي. أَي إِنِّي مُؤمن. أرسل فَتى من الْعَرَب إِلَى ابْنة عَم لَهُ وَلم يكن لَهُ مَال، ومانت كَثِيرَة المَال وخطبها نَاس كثير، فَقَالَ: يابنة عَم؛ هَل لَك فِي فَتى كاسٍ من الْحسب، عَار من النشب، يتقلقل فِي دَارك، وَيقبض غلَّة غلمانك، ويقلبك عَن يَمِينك لشمالك، وَيدخل الْحمام فِي كل يَوْم مرَّتَيْنِ؟ فتزوجته. دخل سلم بن زِيَاد على الْحجَّاج فِي أَمْوَال قبضهَا عَنهُ فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟(4/80)
قَالَ: سلم. قَالَ: ابْن من؟ قَالَ: ابْن زِيَاد. قَالَ: ابْن من؟ قَالَ: ابْن من شَاءَ الْأَمِير. فَرد عَلَيْهِ أرضه. أَتَى وَكِيع بن أبي سود إِيَاس بن مُعَاوِيَة وَهُوَ قَاض ليشهد عِنْده بِشَهَادَة، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا أَبَا مطرف، مَا جَاءَ بك؟ قَالَ: جِئْت لأشهد قَالَ: مَالك وللشهادة. إِنَّمَا يشْهد الموَالِي والتجار والسقاط. قَالَ: صدقت وَانْصَرف. فَقيل لَهُ: خدعك وَلم يقبل شهادتك فردك. فَقَالَ: لَو علمت لعلوته بالقضيب. كَانَ أَبُو بردة ولي الْقَضَاء بعد الشّعبِيّ بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ يحكم بِأَن رجلا لَو قَالَ لملوك لَا يملكهُ: أَنْت حر. أَنه يعْتق وَيُؤْخَذ الْمُعْتق بِثمنِهِ. قَالَ: فعشق رجل من بني عبس جَارِيَة لِجَار لَهُ فجن بهَا وجنت بِهِ، فَكَانَ يشكو ذَاك فلقيها يَوْم فَقَالَ لَهَا: إِلَى الله أَشْكُو قَالَت: بلَى وَالله إِن لَك حِيلَة، وَلَكِنَّك عَاجز. هَذَا أَبُو بردة يقْضِي فِي الْعتْق بِمَا قد علمت فَقَالَ لَهَا: أشهد إِنَّك لصادقة. ثمَّ قدمهَا إِلَى مجْلِس يتجمع فِيهِ قوم يعدلُونَ فَقَالَ: هَذِه جَارِيَة آل فلَان أشهدكم إِنَّهَا حرَّة فَأَلْقَت ملحفتها على رَأسهَا. وَبلغ ذَلِك مواليها فَجَاءُوا فقدمتهم إِلَى أبي برده وَقدمُوا الرجل فأنفذ عتقهَا، وألزم الرجل ثمنهَا، فَلَمَّا أَمر بِهِ إِلَى السجْن خَافَ إِذا ملكت أمرهَا أَن تصير إِلَى أول من يطْلبهَا، وَأَن تخيب فِيمَا صنع فِي أمرهَا. فَقَالَ: أصلح الله القَاضِي، لَا بُد من حبسي قَالَ: نعم أَو تعطيهم ثمنهَا. قَالَ: فَلَيْسَ مثلي يحبس فِي شَيْء يسير. أشهدكم أَنِّي قد أعتقت كل مَمْلُوك لأبي بردة، وكل مَمْلُوك لآل أبي مُوسَى، وكل مَمْلُوك لمذحج. فخلى سَبيله، وَرجع عَن ذَلِك الْقَضَاء فَلم يحكم بِهِ. لما خرج الْأَحْنَف مَعَ مُصعب أرسل إِلَيْهِ بِمِائَة ألف دِرْهَم وَلم يُرْسل إِلَى زبراء جَارِيَته بِشَيْء، فَجَاءَت حَتَّى قعدت بَين يَدي الْأَحْنَف ثمَّ أرْسلت عينيها. فَقَالَ لَهَا: مَا يبكيك؟ قَالَت: مَالِي 390 لَا أبْكِي عَلَيْك، إِذْ لم تبك على نَفسك. أبعد نهاوند ومرو الروذ صرت إِلَى أَن تجمع بَين غارين من الْمُسلمين؟ فَقَالَ: نصحتني وَالله فِي ديني، إِذْ لم أنتبه لذَلِك. ثمَّ أَمر بفساطيطه فقوضت.(4/81)
قَالَ: فَبلغ ذَلِك مصعباً، فَقَالَ: من دهاني فِي الْأَحْنَف؟ فَقيل: زبراء. فَبعث إِلَيْهَا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. فَجَاءَت حَتَّى أرخت عينيهل بَين يَدَيْهِ فَقَالَ: مَا لَك يَا زبراء؟ قَالَت: جِئْت بإخوانك من أهل الْبَصْرَة تزفهم كَمَا تزف الْعَرُوس، حَتَّى إِذا صيرتهم فِي نحور أعدائهم أردْت أَن تفت فِي أعضادهم. قَالَ: صدقت وَالله. يَا غُلَام؛ دعها. قَالَ: فاضطرب الْعَسْكَر بمجيء زبراء مرَّتَيْنِ فَذَهَبت مثلا. بلغ قُتَيْبَة بن مُسلم أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك يُرِيد عَزله وَاسْتِعْمَال يزِيد ابْن الْمُهلب فَكتب إِلَيْهِ ثَلَاث صَحَائِف وَقَالَ للرسول: إِن دفع كتابي الأول إِلَى يزِيد بن الْمُهلب فادفع إِلَيْهِ الثَّانِي، فَإِن شَتَمَنِي عِنْد الثَّانِي فادفع إِلَيْهِ الثَّالِث، فَدفع إِلَيْهِ الْكتاب الأول، فَإِذا فِيهِ: إِن بلائي فِي طَاعَة أَبِيك وأخيك كَذَا، وَأَنت تقْرَأ كتبي يزِيد. قَالَ: فَرمى بِالْكتاب إِلَى يزِيد، فَأعْطَاهُ الثَّانِي فَإِذا فِيهِ: كَيفَ تأمن يزِيد على أسرارك وَكَانَ أَبوهُ لَا يأمنه على أُمَّهَات أَوْلَاده. قَالَ: فشتمه، فَدفع إِلَيْهِ الثَّالِث فَإِذا فِيهِ: من قُتَيْبَة بن مُسلم إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الْملك سَلام على من اتبع الْهدى. أما بعد فلأوثقن لَك أخية لَا يَنْزِعهَا الْمهْر الأرن. قَالَ: فَقَالَ سُلَيْمَان: مَا أرانا إِلَّا قد عجلنا على قُتَيْبَة. يَا غُلَام؛ جدد لَهُ عَهده على خُرَاسَان خطب سلمَان إِلَى عمر بن الْخطاب ابْنَته فَلم يستجز رده، فأنعم لَهُ وشق ذَلِك عَلَيْهِ وعَلى ابْنه عبد الله بن عمر. فَشكى عبد الله ذَلِك إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ: أفتحب أَن أصرف سلمَان عَنْكُم؟ فَقَالَ لَهُ: هُوَ سلمَان، وحاله فِي الْمُسلمين حَاله. قَالَ: أحتال لَهُ حَتَّى يكون هُوَ التارك لهَذَا الْأَمر، والكاره لَهُ. قَالَ: وَدِدْنَا ذَلِك. فَمر عَمْرو بسلمان فِي طَرِيق فَضرب بِيَدِهِ على مَنْكِبه وَقَالَ لَهُ:(4/82)
هَنِيئًا لَك أَبَا عبد الله. قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: هَذَا عمر يُرِيد أَن يتواضع بك فيزوجك. قَالَ: وَإِنَّمَا يزوجني ليتواضع بِي؟ ! قَالَ: نعم. قَالَ: لَا جرم وَالله لَا خطبت إِلَيْهِ أبدا. كتب مُعَاوِيَة إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ والمغيرة بن شُعْبَة أَن يقدما عَلَيْهِ، فَقدم عَمْرو من مصر والمغيرة من الْكُوفَة فَقَالَ عَمْرو للْمُغِيرَة: مَا جَمعنَا إِلَّا ليعزلنا، فَإِذا دخلت عَلَيْهِ فاشك الضعْف واستأذنه أَن تَأتي الطَّائِف أَو الْمَدِينَة. فَإِنِّي إِذا دخلت عَلَيْهِ سَأَلته ذَلِك فَإِنَّهُ يظنّ أَنا نُرِيد أَن نفسد عَلَيْهِ. فَدخل الْمُغيرَة فَسَأَلَهُ أَن يعفيه وَيَأْذَن لَهُ. وَدخل عَلَيْهِ عَمْرو وَسَأَلَهُ مثل ذَلِك فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: قد تواطأتما على أَمر، وإنكما لتريدان شرا. ارْجِعَا إِلَى عمليكما. كَانَ الْإِسْكَنْدَر لَا يدْخل مَدِينَة إِلَّا هدمها وَقتل أَهلهَا حَتَّى مر بِمَدِينَة كَانَ فِيهَا مؤدبه. فَخرج إِلَيْهِ وألطفه الْإِسْكَنْدَر وأعظمه فَقَالَ لَهُ مؤدبه: إِن أَحَق من زين رَأْيك وسدده وأتى كل مَا هويت لأَنا. وَإِن أهل هَذِه الْمَدِينَة قد طمعوا فِيك لمكاني مِنْك فَأَنا أحب أَلا تشفعني فيهم، وَأَن تحلف يَمِينا أعْتَذر بهَا عِنْد الْقَوْم فاحلف 391 لي عِنْدهم أَنَّك لَا تشفعني فِي شَيْء أَسأَلك، وَأَن تخالفني فِي كل مَا سَأَلتك. فَأعْطَاهُ من ذَلِك مَالا يقدر على الرُّجُوع عَنهُ فِي دينه، فَلَمَّا توثق مِنْهُ قَالَ: فَإِن حَاجَتي أَن تدْخلهَا وتخربها وَتقتل من فِيهَا. قَالَ: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل وَلَا بُد من مخالفتك وَقد كنت مؤدبي وَأَنا إِلَيْك الْيَوْم أحْوج. فَلم يدخلهَا وضمه إِلَيْهِ. أَصَابَت الْمُسلمين جَوْلَة بخراسان، فَمر فيهم شُعْبَة بن ظهير على بغلة لَهُ فَرَآهُ بعض الرجالة فتقدر لَهُ على جذم حَائِط، فَلَمَّا حاذ بِهِ حَال فِي عجز بغلته. فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ الله فَإِنَّهَا لَا تحملنِي وَإِيَّاك. قَالَ: امْضِ فَإِنِّي وَالله مَا أقدر أَن أَمْشِي. قَالَ: إِنَّك تقتلني وَتقتل نَفسك. قَالَ: امْضِ فَهُوَ مَا أَقُول لَك. قَالَ: فصرف شُعْبَة وَجه البغلة قبل الْعَدو فَقَالَ لَهُ: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: أَنا أعلم أَنِّي مقتول، فَلِأَن أقتل مُقبلا خير من أَن أقتل مُدبرا. فَنزل الرجل عَن بغلته وَقَالَ: اذْهَبْ فِي حرق الله. اشْترى شريك بن عبد الله جَارِيَة من رجل فَأصَاب بهَا عَيْبا، فَقَالَ للَّذي(4/83)
اشْتَرَاهَا مِنْهُ: قد ظهر بهَا عيب. قَالَ: مَا عَلَيْك. هِيَ رخيصة، وَإِن أَحْبَبْت بعتها لَك بِرِبْح. قَالَ: فافعل. فَدفع الْجَارِيَة إِلَيْهِ وَأقَام أَيَّامًا ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لم أصب مِنْهَا ثمنا أرضاه. فَقَالَ لَهُ شريك: فَخذهَا واردد عَليّ الثّمن. فَقَالَ لَهُ الرجل: أبعد مَا وكلتني لأبيعها ورضيت تردها عَليّ؟ فَقَالَ: صدقت وَالله خدعتني. رأى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ابْنه عبد الله جَالِسا مَعَ رجل فَقَالَ لَهُ: يَا بني؛ احذر هَذَا، لَا تشترين مِنْهُ شَيْئا، فَإِنَّهُ يتبرأ إِلَى الرجل من الْعَيْب. وَالرجل لَا يفْطن لذَلِك. قَالَ: فَمر عبد الله بن عمر بِذَاكَ الرجل يَوْمًا وَمَعَهُ غُلَام وضيء، فَقَالَ لَهُ: تبيعه؟ قَالَ: نعم. قَالَ: بكم؟ قَالَ: بِكَذَا. قَالَ لَهُ: هَل بِهِ عيب. قَالَ: مَا علمت أَن بِهِ عَيْبا إِلَّا أَنا رُبمَا أرسلناه فِي الْحَاجة فيبطئ فَلَا يأتينا حَتَّى نبعث فِي طلبه. فَقَالَ عبد الله: وَمَا هَذَا؟ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ. فَلَمَّا صَار إِلَيْهِ أرْسلهُ فِي حَاجَة فهرب، فَطَلَبه أَيَّامًا حَتَّى وجده، فَأتى صَاحبه ليَرُدهُ عَلَيْهِ بالإباق، فَقَالَ لَهُ: ألم أخْبرك أَنا رُبمَا أرسلناه فِي الْحَاجة فَلَا يرجع حَتَّى نرسل فِي طلبه؟ فَعلم أَنه قد خدعه. كَانَ مَعَ يُوسُف بن عمر رجل يُقَال لَهُ عَبْدَانِ يأنس بِهِ وَلَا يَحْجُبهُ فِي دَار نِسَائِهِ. فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: أَنا أطول أم أَنْت؟ وَكَانَ عَبْدَانِ طَويلا. قَالَ: فَقلت فِي نَفسِي: وَقعت وَالله فِي شَرّ. إِن قلت: أَنا. خفت أَن يَقُول: يصغرني. وَإِن قلت أَنْت قَالَ: تهزأ بِي. فَقلت: أصلحك الله؛ أَنْت أطول مني ظهرا وَأَنا أطول رجلَيْنِ مِنْك. فَقَالَ: أَحْسَنت. كَانَ شُعْبَة بن المخش مَعَ زِيَاد، وَكَانَ أكولاً دميماً، فَقَالَ لَهُ زِيَاد: يَا شُعْبَة مَالك من الْوَلَد؟ قَالَ: تسع بَنَات. قَالَ: أَيْن جمالهن من جمالك؟ قَالَ: أَنا أجمل مِنْهُنَّ وَهن آكل مني. قَالَ: مَا أحسن مَا سَأَلت لَهُنَّ، وَألْحق بَنَاته فِي الْعِيَال. قَالَ الْأَصْمَعِي: ذكرُوا أَن مُحَمَّد بن الحنيفية أَرَادَ أَن يقدم الْكُوفَة أَيَّام الْمُخْتَار. فَقَالَ الْمُخْتَار حِين بلغه ذَلِك: إِن فِي الْمهْدي عَلامَة، يضْربهُ فِي السُّوق رجل ضَرْبَة بِالسَّيْفِ فَلَا يضرّهُ، فَلَمَّا بلغه ذَلِك أَقَامَ.(4/84)
سَأَلَ عبد الله بن الزبير مُعَاوِيَة شَيْئا فَمَنعه فَقَالَ: وَالله مَا أَجْهَل أَن ألزم 392 هَذِه البنية فَلَا أشتم لَك عرضا وَلَا أقضب لَك حسبا. وَلَكِن أسدل عمامتي من بَين يَدي ذِرَاعا وَمن خَلْفي ذِرَاعا أقعد فِي طَرِيق أهل الشَّام، وأذكر سيرة أبي بكر وَعمر فَيَقُول النَّاس: هَذَا ابْن حوارِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَابْن الصّديق. فَقَالَ مُعَاوِيَة: حَسبك بِهَذَا شرا، وَقضى حَاجته. قَالَ أَعْرَابِي لمعاوية: قَالَ أَعْرَابِي لمعاوية: استعملني على الْبَصْرَة. فَقَالَ: مَا أُرِيد عزل عاملها. قَالَ: فأقطعني الْبَحْرين. قَالَ: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل. قَالَ: فَمر لي بِأَلف دِرْهَم. فَأمر لَهُ بهَا. فَقيل للأعرابي فِي ذَلِك فَقَالَ: لَوْلَا طلبي الْكثير مَا أَعْطَانِي الْقَلِيل.
حلم الْأَحْنَف ودهاؤه
أَتَى رجل الْأَحْنَف فَلَطَمَهُ. فَقَالَ لَهُ: لم لطمتني؟ قَالَ: جعل لي جعل على أَن ألطم سيد بني تَمِيم. قَالَ: مَا صنعت شَيْئا. عَلَيْك بِجَارِيَة بن قدامَة فَإِنَّهُ سيدهم. فَانْطَلق فلطم جَارِيَة، فَأَخذه وَقطع يَده. وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَحْنَف ذَلِك بِهِ. قَالَ قوم من قُرَيْش: مَا نظن أَن مُعَاوِيَة أغضبهُ شَيْء قطّ. فَقَالَ بَعضهم: إِن ذكرت أمه غضب. فَقَالَ نالك بن أَسمَاء المنى الْقرشِي - وَهِي أمه - وَإِنَّمَا قيل لَهَا أَسمَاء المنى لجمالها: وَالله لأغضبنه إِن جعلتم لي جعلا. فَجعلُوا لَهُ جعلا وَأَتَاهُ وَقد حضر الْمَوْسِم فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أشبه عَيْنَيْك بعيني أمك. قَالَ: تِلْكَ عينان طالما أعجبتا أبي سُفْيَان. يَا بن أخي؛ خُذ جعلك وَلَا تتخذنا متجراً. ثمَّ دَعَا مُعَاوِيَة مَوْلَاهُ سَعْدا فَقَالَ لَهُ: أعدد لأسماء المنى دِيَة ابْنهَا فَإِنِّي قد قتلته وَهُوَ لَا يدْرِي. وَرجع الْغُلَام فَأخذ جعله. فَقَالَ لَهُ رجل مِنْهُم: إِن أتيت عَمْرو بن الزبير فشبهته بِأُمِّهِ فلك ضعفا جعلك. فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا بن الزبير؛ مَا أشبه وَجهك بِوَجْه أمك. فَأمر بِهِ فَضرب حَتَّى مَاتَ. فَبعث مُعَاوِيَة إِلَى أمه بديته وَقَالَ: أَلا قل لأسماء المنى أم مَالك ... فَإِنِّي لعمر الله أقتل مَالِكًا(4/85)
قيل لأعرابي: أنشرب قدحاً من لبن حازر وَلَا تتنحنح؟ قَالَ: نعم فَأَخذه فِي حلقه مثل الزّجاج فَقَالَ: كَبْش أَمْلَح. فَقيل لَهُ: إِنَّك تنحنحت فَقَالَ: من تنحنح فَلَا أَفْلح. وَمد صَوته فَقضى وطره. قَالَ عبيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان: إيَّاكُمْ والطمع فَإِنَّهُ يردي. وَالله لقد هَمَمْت أَن أفتك بالحجاج، فَإِنِّي لواقف على بَابه بدير الجماجم، إِذا بالحجاج قد خرج على دَابَّة، لَيْسَ مَعَه غير غُلَام، فأجمعت على قَتله فَكَأَنَّهُ عرف مَا فِي نَفسِي قَالَ: فَقَالَ: ألقيت ابْن أبي مُسلم؟ قلت: لَا. قَالَ: فالقه فَإِن عَهْدك مَعَه على الرّيّ. قَالَ: فطمعت وكففت فَأتيت يزِيد بن أبي مُسلم فَسَأَلته فَقَالَ: مَا أَمرنِي بِشَيْء. وَقَالَ عَمْرو بن يزِيد الأسيدي: خفنا أَيَّام الْحجَّاج، وَجَعَلنَا نودع متاعنا، وَعلم جَار لنا، فَخَشِيت أَن يظْهر أمرنَا، فعمدت إِلَى سفط فَجعلت فِيهِ لَبَنًا ودفعته إِلَيْهِ، فَمَكثَ عِنْده حَتَّى أمنا. فطلبت مِنْهُ، فَقَالَ لي: أما وجدت أحدا تودعه لَبَنًا غَيْرِي. لَقِي الْحجَّاج أَعْرَابِيًا خَالِيا بفلاة فَسَأَلَهُ عَن نَفسه فَأخْبرهُ بِكُل مَا يكره وَهُوَ لَا يعرفهُ. فَقَالَ: إِن لم أَقْتلك فقتلني الله. قَالَ الْأَعرَابِي: فَأَيْنَ حق الاسترسال؟ فَقَالَ الْحجَّاج: أولى. وَأعْرض عَنهُ.
حِيلَة عَمْرو بن الْعَاصِ
توجه عَمْرو بن الْعَاصِ حَيْثُ فتح قيسارية إِلَى مصر وَبعث إِلَى علجها فَأرْسل إِلَيْهِ: أَن أرسل إِلَيّ رجلا من أَصْحَابك 393 ُأكَلِّمهُ. فنظروا فَقَالَ عَمْرو: مَا أرى لهَذَا أحدا غَيْرِي. فَخرج وَدخل على العلج، فَكَلمهُ فَسمع كلَاما لم يسمع مثله قطّ، فَقَالَ: حَدثنِي. هَل فِي أَصْحَابك مثلك؟ قَالَ: لَا تسل عَن هواني عَلَيْهِم؛ إِلَّا أَنهم بعثوني إِلَيْك وعرضوني لَا يَدْرُونَ مَا تصنع بِي. فَأمر لَهُ بجائزة وَكِسْوَة وَبعث إِلَى البواب: إِذا مر بك فَاضْرب عُنُقه، وَخذ مَا مَعَه.(4/86)
فَخرج من عِنْده، فَمر بِرَجُل من نَصَارَى الْعَرَب من غَسَّان فَعرفهُ فَقَالَ: يَا عَمْرو، إِنَّك قد أَحْسَنت الدُّخُول فَأحْسن الْخُرُوج. فَرجع فَقَالَ لَهُ الْملك: مَا ردك؟ قَالَ: نظرت فِيمَا أَعْطَيْتنِي فَلم أَجِدهُ يسع بني عمي، فَأَرَدْت أَن أجيئك بِعشْرَة مِنْهُم تعطيهم هَذِه الْعَطِيَّة، وتكسوهم هَذِه الْكسْوَة، فَيكون مَعْرُوفك عِنْد عشرَة خيرا من أَن يكون عِنْد وَاحِد. قَالَ: صدقت. فاعجل بهم. وَبعث إِلَى البواب أَن خل سَبيله، فَخرج عَمْرو وَهُوَ يلْتَفت حَتَّى إِذا أَمن قَالَ: لَا أَعُود لمثلهَا أبدا. فَمَا فَارقهَا عَمْرو حَتَّى صَالحه، فَلَمَّا أُتِي بالعلج قَالَ: أَنْت هُوَ؟ قَالَ عَمْرو: نعم على مَا كَانَ من غدرك.
أَيمن بن خريم وَمُعَاوِيَة
كَانَت لأيمن بن خُزَيْمٌ الْأَسدي منزلَة عِنْد مُعَاوِيَة، وَكَانَ مُعَاوِيَة قد ضعف عَن النِّسَاء، فَكَانَ يكره أَن يذكر عِنْده رجل يُوصف بِالْجِمَاعِ فَجَلَسَ ذَات يَوْم وفاختة قريبَة مِنْهُ حَيْثُ تسمع الْكَلَام فَقَالَ: يَا أَيمن؛ مَا بَقِي من طَعَامك وشرابك وجماعك وقوتك؟ فَقَالَ: أَنا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ آكل الْجَفْنَة الْكَثِيرَة الدَّرْمَك وَالْقدر، وأشرب الرفد الْعَظِيم وَلَا أنقع بالغمر، وأركض بِالْمهْرِ الأرن مَا أحضر، وأجامع من أول اللَّيْل إِلَى السحر. قَالَ: فغم ذَلِك مُعَاوِيَة، وَكَلَامه هَذَا بأذني فَاخِتَة، فجفاه مُعَاوِيَة. فَشَكا أَيمن ذَلِك إِلَى امْرَأَته فَقَالَت: أذنبت ذَنبا. فوَاللَّه مَا مُعَاوِيَة بعابث وَلَا متجن قَالَ: لَا وَالله إِلَّا كَذَا وَكَذَا. قَالَت: هَذَا وَالله الَّذِي أغضبهُ عَلَيْك قَالَ: فأصلحي مَا أفسدت. قَالَت: كفيتك. فَأَتَت مُعَاوِيَة فَوَجَدته جَالِسا للنَّاس، فَدخلت على فَاخِتَة فَقَالَت: مَالك؟ قَالَت: جِئْت أستعدي على أَيمن. قَالَت: وَمَاله؟ قَالَت: مَا أَدْرِي أرجل هُوَ أم امْرَأَة. وَمَا كشف لي ثوبا مُنْذُ تزَوجنِي. قَالَت: فَأَيْنَ قَوْله لأمير الْمُؤمنِينَ؟ وحكت لَهَا مَا قَالَ. فَقَالَت: ذَاك وَالله الْبَاطِل.(4/87)
وَأَقْبل مُعَاوِيَة فَقَالَ: من هَذِه عنْدك يَا فَاخِتَة. قَالَت: هَذِه امْرَأَة أَيمن جَاءَت تشكوه. قَالَ: وَمَالهَا؟ قَالَت: زعمت أَنَّهَا لَا تَدْرِي أرجل هُوَ أم امْرَأَة، وَأَنه لم يكْشف لَهَا ثوبا مُنْذُ تزَوجهَا. قَالَ: كَذَاك هُوَ؟ قَالَت: نعم فَفرق بيني وَبَينه فرق الله بَينه وَبَين روحه! قَالَ مُعَاوِيَة: أَو خيرا من ذَلِك، هُوَ ابْن عمك، وَقد صبرت عَلَيْهِ دهراً. فَأَبت فَلم يزل بهَا يطْلب إِلَيْهَا حَتَّى سمحت لَهُ بذلك فَأَعْطَاهَا وَأحسن إِلَيْهَا وعادت منزلَة أَيمن عِنْد مُعَاوِيَة كَمَا كَانَت. كتب الْمُغيرَة بن شُعْبَة إِلَى مُعَاوِيَة حِين كبر وَخَافَ الْعَزْل: أما بعد؛ فَإِنَّهُ قد كَبرت سني، ورق عظمي واقترب أَجلي، وسفهني سُفَهَاء قُرَيْش، فَرَأى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي عمله موفق. وَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة: أما مَا ذكرت من كبر سنك فَإنَّك أكلت سنك عمرك، وَأما مَا ذكرت من اقتراب أَجلك فَإِنِّي لَو كنت أَسْتَطِيع أَن أدفَع الْمنية لدفعتها عَن آل أبي سُفْيَان، وَأما مَا ذكرت من سُفَهَاء قُرَيْش فَإِن حلماء قُرَيْش أنزلوك هَذَا الْمنزل، وَأما مَا ذكرت من الْعَمَل فَضَح رويداً يدْرك الهيجا حمل. فَاسْتَأْذن مُعَاوِيَة 394 فِي الْقدوم فَأذن لَهُ. قَالَ الرّبيع بن هذيم: فَخرج الْمُغيرَة وَخَرجْنَا إِلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ: يَا مُغيرَة كَبرت سنك، واقترب أَجلك، وَلم يبْق مِنْك شَيْء، وَلَا أظنني إِلَّا مستبدلاً بك، قَالَ: فَانْصَرف إِلَيْنَا وَنحن نَعْرِف الكآبة فِيهِ. فَقُلْنَا: مَا تُرِيدُ أَن تصنع؟ قَالَ: ستعلمون ذَلِك. فَأتى مُعَاوِيَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ إِن الْأَنْفس يغدى عَلَيْهَا وَيرَاح، وَلست فِي زمن أبي بكر وَلَا عمر، وَقد اجترح النَّاس، فَلَو نصبت لنا علما من بعْدك نصير إِلَيْهِ، مَعَ أَنِّي كنت قد دَعَوْت أهل الْعرَاق إِلَى يزِيد فَرَكبُوا إِلَيْهِ، حَتَّى جَاءَنِي كتابك. قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد؛ انْصَرف إِلَى عَمَلك فأحكم هَذَا الْأَمر لِابْنِ أَخِيك. قَالَ: فأقبلنا على الْبَرِيد نركض، فَقَالَ: يَا ربيع؛ وضعت وَالله رجله فِي ركاب طَوِيل ألغى على أمة مُحَمَّد. قَالَ: فَذَاك الَّذِي دَعَا مُعَاوِيَة إِلَى الْبيعَة ليزِيد. مر حَاجِب بن حميضة بقاص يقص فِي النجدية بِالْيَمَامَةِ، فَذكر عُثْمَان بن عَفَّان فنال مِنْهُ. فَقَالَ حَاجِب: لعن الله شركما. فَأَخَذُوهُ وَقَالُوا: يَا عَدو الله تلعن مُسلما وتولي كَافِرًا؟ فَقَالَ: لَا تعجلوا. فَأتوا نجدة فأخبروه فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، عُثْمَان شرهما. قَالَ: خلوا أَخَاكُم.(4/88)
حلف رجل من الْأَعْرَاب بِالْيَمَامَةِ أَلا يكْشف لامْرَأَته ثوبا، فَسَأَلَ القَاضِي فَأمره باعتزالها. فَقَالَت مَرْيَم بنت الْحَرِيش: لتكشف هِيَ ثوبها صاغرة قميئة. فَأمرهَا القَاضِي بذلك. اخْتلف إِبْرَاهِيم بن هِشَام وقرشي فِي حرف، فحكما أَبَا عُبَيْدَة بن مُحَمَّد بن عمار، فَقَالَ: أما أَفرس الْكَلَامَيْنِ فَمَا يَقُول الْأَمِير، وَأما مَا يَقُول النحويون الخبثاء فَمَا يَقُول هَذَا.
حِيلَة رجل
حدث الْمَدَائِنِي أَن مُخَارق بن غفار ومعن بن زَائِدَة فِي فوارس لقيا رجلا بِبِلَاد الشّرك وَمَعَهُ جَارِيَة لم ير مثلهَا شبَابًا وجمالاً، فصاحوا بِهِ أَن خل عَنْهَا وَمَعَهُ قَوس لَهُ فَرمى بَعضهم وجرحه، فهابوا الْإِقْدَام عَلَيْهِ، ثمَّ عَاد ليرمي فَانْقَطع وتره فَأسلم الْجَارِيَة واستند فِي جبل كَانَ قَرِيبا مِنْهُ، فابتدروا الْجَارِيَة وَفِي أذنها قرط فِيهِ درة فانتزعه بَعضهم من أذنها فَقَالَت: وَمَا قدر هَذِه؟ فَكيف لَو رَأَيْتُمْ درتين قلنسوته؟ فَاتَّبعُوهُ فَقَالَ: مالكم؟ ألم أدع لكم بغيتكم؟ قَالُوا: ألق مَا فِي قلنسوتك. فَرفع قلنسوته عَن رَأسه، فَإِذا فِيهَا وتر للقوس قد كَانَ أعده فأنسيه من الدهش. فَلَمَّا رَآهُ عقده فِي قوسه فولى الْقَوْم لَيست لَهُم همة إِلَّا أَن ينجوا بِأَنْفسِهِم وخلوا عَن الْجَارِيَة.
هدبة بن الخشرم وَامْرَأَة عَمه
قدم هدبة بن الخشرم ليقاد بِابْن عَمه زِيَادَة، وَأخذ ابْن زِيَادَة السَّيْف وَقد ضوعفت لَهُ الدِّيَة حَتَّى بلغت مائَة ألف دِرْهَم، فخافت أم الْغُلَام أَن يقبل ابْنهَا الدِّيَة وَلَا يقْتله فَقَالَت: أعْطى الله عهدا لَئِن لم تقتله لأتزوجنه فَيكون قد قتل أَبَاك ونكح أمك. فَقتله.
حِيلَة امْرَأَة
وَحدث الْمَدَائِنِي أَن قوما من الْمُسلمين أَسرُّوا قوما من الرّوم وَكَانَ فيهم فتيَان أخوة فَضربُوا أَعْنَاقهم، وَأخذُوا أمّهم وهم لَا يعرفونها، فأحبت أَن تقتل وَلَا(4/89)
تبقى بعد وَلها، فَقَالَت للَّذي صَارَت إِلَيْهِ: إِن علمتك شَيْئا تتخذه فَلَا يحيك فِيك السِّلَاح، تخلى سبيلي؟ قَالَ: نعم. فَأخذت أَشْيَاء سترتها عَنهُ فطلت بهَا رقبَتهَا وَقَالَت: دُونك أضْرب وَشد، فَإِن السَّيْف لَا يعْمل 395 فِي فَضرب رقبَتهَا فحز رَأسهَا فَعلم أَنَّهَا خدعته. لما بلغ يزِيد ومروان ابْنا عبد الْملك لعاتكة بنت زيد ين مُعَاوِيَة قَالَ لَهَا عبد الْملك: قد صَار ابناك رجلَيْنِ، فَلَو جعلت لَهما من مَالك مَا يكون لَهما بِهِ فَضِيلَة على أخوتهما. قَالَت: اجْمَعْ لي أهل معدلة من موَالِي ومواليك فَجَمعهُمْ وَبعث مَعَهم روح بن زنباع الجذامي - وَكَانَ يدْخل على نِسَائِهِم - فَدخل كهولتهم وجلتهم وَقَالَ لَهُ: أخْبرهَا برضائي عَنْهَا، وَحسن لَهَا مَا صنعت. فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهَا أَخذ روح فِي ذَلِك فَقَالَت: يَا روح، أَترَانِي أخْشَى على ابْني عيلة وهما ابْنا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أشهدكم أَنِّي قد تَصَدَّقت بِمَالي وضياعي على فُقَرَاء آل أبي سُفْيَان. فَقَامَ روح وَمن مَعَه. فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ عبد الْملك مُقبلا قَالَ: أشهد بِاللَّه لقد أَقبلت بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي أَدْبَرت بِهِ. قَالَ: أجل. تركت مُعَاوِيَة فِي الإيوان آنِفا. وَخَبره بِمَا كَانَ. فَغَضب فَقَالَ: مَه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذَا الْعقل مِنْهَا فِي ابنيك خير لَهما مِمَّا أردْت. قَالَ الْمَدَائِنِي: أَتَى عَلَيْهِ السَّلَام بِرَجُل ذِي مُرُوءَة قد وَجب عَلَيْهِ حد. فَقَالَ لخصمائه: ألكم شُهُود؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فأتوني بهم إِذا أمسيتم وَلَا تَأْتُونِي بهم إِلَّا معتمين. فَلَمَّا أَمْسوا اجْتَمعُوا فَأتوهُ، فَقَالَ لَهُم عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: نشدت الله رجلا لله عِنْده مثل هَذَا الْحَد إِلَّا انْصَرف قَالَ: فَمَا بقى أحد فدرأ الْحَد.
الْحجَّاج وَعمارَة بن تَمِيم اللَّخْمِيّ
قَالَ الْمَدَائِنِي: كَانَ الْحجَّاج حسوداً لَا ينشىء صَنِيعَة إِلَّا أفسدها فَلَمَّا وَجه عمَارَة بن تَمِيم اللَّخْمِيّ إِلَى ابْن الْأَشْعَث وَعَاد بِالْفَتْح حسده، فَعرف ذَلِك عمَارَة، وَكره منافرته، وَكَانَ عَاقِلا رَفِيقًا فظل يَقُول: أصلح الله الْأَمِير أَنْت أشرف الْعَرَب، من شرفته شرف، وَمن صغرته صغر، وَمَا ابْن الْأَشْعَث وخلعه حَتَّى استوفد عبد الْملك الْحجَّاج وَسَار عمَارَة مَعَه يلاطفه وَلَا يكاشفه، وَقدمُوا على عبد الْملك، وَقَامَت الخطباء بَين يَدَيْهِ فِي أَمر الْفَتْح، فَقَامَ عمَارَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ سل(4/90)
الْحجَّاج عَن طَاعَتي وبلائي. فَقَالَ الْحجَّاج: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لقد أخْلص الطَّاعَة، وأبلى الْجَمِيل. وَأظْهر الْبَأْس، من أَيمن النَّاس نقيبة، أعفهم سيرة. فَلَمَّا بلغ آخر التقريظ قَالَ عمَارَة: أرضيت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: نعم فرضى الله عَنْك. قَالَ عمَارَة: فَلَا رَضِي الله عَن الْحجَّاج يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَا حفظه وَلَا عافاه، وَهُوَ الأخرق السيء التَّدْبِير، الَّذِي قد أفسد عَلَيْك الْعرَاق، وألب عَلَيْك النَّاس، وَمَا أتيت إِلَّا من خرقه وَقلة عقله، وفيالة رَأْيه، وجهله بالسياسة، وَلَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِنْهُ أَمْثَالهَا إِن لم تعزله. فَقَالَ الْحجَّاج: مَه يَا عمَارَة، فَقَالَ: لامه وَلَا كرامه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كل امْرَأَة لي طَالِق وكل مَمْلُوك لي حر إِن سرت تَحت راية الْحجَّاج أبدا. فَقَالَ عبد الْملك: مَا عندنَا أوسع لَك. خطب رجل امْرَأَة فَقَالَت لَهُ: إِن فِي تقززا، وأخاف أَن أرى مِنْك بعض مَا أتقزز مِنْهُ فتنصرف نَفسِي عَنْك. قَالَ الرجل: أَرْجُو أَلا ترى ذَلِك. فَتَزَوجهَا فَمَكثت أَيَّامًا ثمَّ قعد مَعهَا يتغدى فَلَمَّا رفع الخوان تنَاول مَا سقط من الطَّعَام تَحت الخوان فَأَكله، فَنَظَرت إِلَيْهِ وَقَالَت: أما كَانَ يقنعك مَا على الخوان حَتَّى تلْتَقط مَا تَحْتَهُ 396 قَالَ: إِنَّه بَلغنِي أَنه يزِيد فِي الْقُوَّة على الني. .، فَكَانَت بعد ذَلِك تَفْعَلهُ، وتفت الْخبز كَمَا تفت للفروج. قَالَ الْكِنْدِيّ: كَانَ فِيمَا مضى رجل زاهد وَقع عَلَيْهِ من السُّلْطَان طلب، فَبَقيَ مدلها لَا يدْرِي مَا يصنع وَذَاكَ أَنه أذكيت عَلَيْهِ الْعُيُون، وَأخذت لَهُ المراصد، فجَاء إِلَى طنبور فَأَخذه وَلبس ثِيَاب البطالين، وَتعرض لِلْخُرُوجِ من بَاب الْبَلَد، فجَاء إِلَى الْبَاب وَهُوَ يتهادى فِي مشيته كَالسَّكْرَانِ، فَقَالَت الْعُيُون لَهُ عِنْد الْبَاب: من أَنْت؟ قَالَ: من أَنا؟ وَمن ترى أكون؟ أَنا فلَان الزَّاهِد. وَقَالَهُ متهزئاً. فَقَالَ الْقَوْم ضاحكين: مَا أحمقه! وخلوا سَبيله. فَخرج وَنَجَا وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِئَلَّا يكذب.(4/91)
حِيلَة شُرَيْح لبيع نَاقَة
عرض شُرَيْح نَاقَة للْبيع، فَقَالَ لَهُ المُشْتَرِي: كَيفَ غزارتها؟ قَالَ: احلب فِي أَي إِنَاء شِئْت. قَالَ: فَكيف وثاقها: قَالَ: احْمِلْ على الْحَائِط مَا شِئْت. قَالَ: فَكيف وطاؤها؟ قَالَ: افرش ونم. قَالَ: كَيفَ نجاؤها. قَالَ: هَل رَأَيْت الْبَرْق قطّ؟ قَالَ بَعضهم: ركض رجل دَابَّة وَهُوَ يَقُول: الطَّرِيق، الطَّرِيق. فصدم رجلا لم ينح، فاستعدى عَلَيْهِ، فتخارس الرجل فَقَالَ الْعَامِل: هَذَا أخرس. قَالَ: أصلحك الله. يتخارس عمدا، وَالله مَا زَالَ يَقُول: الطَّرِيق. الطَّرِيق. فَقَالَ الرجل: فَمَا تُرِيدُ وَقد قلت لَك الطَّرِيق؟ قَالَ الْعَامِل: صدق. قَالَ: كَانَت ابْنة عبد الله بن مَعْرُوف عِنْد أبي حرثان فَمَاتَ، وَلم يصل إِلَيْهَا لقوتها، فَتَزَوجهَا أَبُو دلف، فَكَانَت تمانعه سنة لَا يصل إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ معقل أَخُوهُ: مَا أَنْت بِرَجُل. وَقد عجزت عَن امْرَأَة. فَقَالَ: أحب أَن تبْعَث جاريتك فُلَانَة تكلمها. فَبعث بهَا وَأمر أَبُو دلف امْرَأَته أَن تلوي العمود فِي عنق الْجَارِيَة إِذا أتتها وتتركه. فَفعلت فَرَجَعت إِلَى معقل فَقَالَ: أشهد أَن أخي مَعْذُور، فَمَا قدر عَلَيْهَا أَبُو دلف حَتَّى احتال عَلَيْهَا، بِأَن قَالَ لَهَا يَوْمًا: مَا أَظُنك ببكر. فأمكنت من نَفسهَا.
حِيلَة سَلامَة الزَّرْقَاء
كَانَ بِالْكُوفَةِ لعبد الْملك بن رامين مولى بشر بن مَرْوَان جَارِيَة يُقَال لَهَا: سَلامَة الزَّرْقَاء. وَكَانَ روح بن حَاتِم المهلبي يهواها وَلَا تهواه، وَيكثر غشيان منزل مَوْلَاهَا، وَكَانَ مُحَمَّد بن جميل يهواها وتهواه، فَقَالَ لَهَا: إِن روح بن حَاتِم قد ثقل علينا. فَقَالَت: فَمَا أصنع؟ قد غمر مولَايَ ببره. قَالَ: احتالي. فَبَاتَ عِنْدهم روح لَيْلَة م اللَّيَالِي فَأخذت سراويله. فغسلته، فَلَمَّا أصبح سَأَلَ عَن سراويله. فَقَالَت: غسلناه. فَظن أَنه قد أحدث فِيهِ فاحتيج إِلَى غسله، واستحيا من ذَلِك، وَانْقطع عَنْهَا، وخلا وَجههَا لِابْنِ جميل.
حِيلَة أحد عُمَّال سُلَيْمَان بن عبد الْملك
لما اسْتخْلف سُلَيْمَان بن عبد الْملك دفع عُمَّال أَخِيه الْوَلِيد إِلَى يزِيد بن الْمُهلب وَأمره ببسط الْعَذَاب عَلَيْهِم، واستخراج المَال مِنْهُم، وَكَانَ فيهم رجل من(4/92)
بني مرّة فَقَالَ ليزِيد: أما أَنا فلست بِذِي مَال، وَلَا تنْتَفع بتعذيبي وَلَكِن عشيرتي تفكني بِأَمْوَالِهِمْ، فَأذن لي فِي أَن أجول فيهم. فَأذن لَهُ فَقَالَ لَهُم: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَخَذَنِي بِمَال، وَالْمَال عِنْدِي، وَلَكِن أكره أَن أقرّ بالخيانة، فاضمنوا لَهُ هَذَا المَال عني وأطلقوني من حَبسه، وَلَا غرم عَلَيْكُم فَإِنِّي مضطلع بأَدَاء هَذَا المَال. فَنَهَضَ وُجُوه عشيرته فِي أمره، وضمنوا المَال عَنهُ وأطلقوه، فَلَمَّا أخذُوا بِالْمَالِ قَالُوا للرجل: أد المَال كَمَا زعمت. فَقَالَ: يَا نوكى أتظنون 397 أنني اختنت مَالا تعرضت فِيهِ للمأثم وَسخط الْخَلِيفَة وعقوبته، وأؤديه الْيَوْم طَائِعا، وَقد صيرت مَا أطالب بِهِ فِي أَعْنَاقكُم، لبئس مَا ظننتم اغرموه من أعطياتكم وَأَنا فِيهِ كأحدكم. فَفَعَلُوا ذَلِك وَهُوَ كأحدهم. مر شبيب الْخَارِجِي على غُلَام فِي الْفُرَات مستنقع فِي المَاء فَقَالَ لَهُ شبيب: اخْرُج إِلَيّ أسائلك. فَقَالَ: فَأَنا آمن حَتَّى ألبس ثِيَابِي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فوَاللَّه لَا ألبسها.
من أَعمال الْمُغيرَة
خرج الْمُغيرَة بن شُعْبَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض غَزَوَاته، وَكَانَت لَهُ عنزة يتَوَكَّأ عَلَيْهَا فَرُبمَا أثقلته، فَيَرْمِي بهَا على قَارِعَة الطَّرِيق فيمر بهَا الْمَار فيأخذها. فَإِذا صَارُوا إِلَى الْمنزل عرفهَا فَأَخذهَا الْمُغيرَة. فَفطن لَهُ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: لأخبرن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ: لَئِن أخْبرته لَا ترد ضَالَّة بعْدهَا. فَأمْسك. كَانَ عبد الله بن عَمْرو بن غيلَان على الْبَصْرَة من قبل مُعَاوِيَة، فَخَطب يَوْمًا على منبرها، فَحَصَبه رجل من بني ضبة، فَأمر بِهِ فَقطعت يَده فَأَتَتْهُ بَنو ضبة فَقَالُوا: إِن صاحبنا جنى على نَفسه مَا جنى، وَقد بلغ الْأَمِير فِي عُقُوبَته، وَنحن لَا نَأْمَن أَن يبلغ خَبره أَمِير الْمُؤمنِينَ فتأتي من قبله عُقُوبَة تعم أَو تخص. فَإِن رأى الْأَمِير أَن يكْتب كتابا يخرج بِهِ أَحَدنَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنه قطعه على شُبْهَة وَأمر لم يَصح. فَكتب لَهُم بذلك إِلَى مُعَاوِيَة فأمسكوا الْكتاب حَتَّى توجه إِلَى مُعَاوِيَة ووافاه(4/93)
الضبيون، فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه قطع صاحبنا ظلما، وَهَذَا كِتَابه إِلَيْك. فَقَرَأَ الْكتاب وَقَالَ: أما الْقود من عمالي فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ. وَلَكِن إِن شِئْتُم وديت صَاحبكُم. فوداه من بَيت المَال وعزل عبد الله عَن الْبَصْرَة.
الْإِمَارَة وَلَو على الْحِجَارَة
قدم ابْن عَم لكاتب الْحجَّاج عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَن يشْغلهُ، فكره الْكَاتِب ذَلِك لسطوة الْحجَّاج، فَلَمَّا فرغ من بِنَاء مَسْجِد وَاسِط أَمر الْكَاتِب أَن يكْتب إِلَى صَاحب الْموصل فِي حمل حَصى رضراضٍ لفرشه، فَكتب الْكتاب، وأنفذ ابْن عَمه فتسلم الْحَصَى، فَلَمَّا حصل فِي الزوارق قَالَ لِلْعَامِلِ: لَيْسَ من الْحَصَى الَّذِي أَرَادَهُ الْأَمِير. قَالَ: وَكَيف هُوَ؟ قَالَ: أمرت أَلا أقبل حَصَاة أكبر من الْأُخْرَى، وَلَا مَا فِيهِ عوج. فَكبر ذَلِك عَلَيْهِ، وَكره سطوة الْحجَّاج فَعرض عَلَيْهِ عشرَة آلَاف دِرْهَم رشوة، فَأبى، فَلم يزل يزِيدهُ إِلَى أَن أعطَاهُ مائَة ألف دِرْهَم، فقبلها وَانْحَدَرَ. فَلَمَّا وافى أخبر ابْن عَمه بذلك، فَقَالَ: حبذا الْإِمَارَة وَلَو على الْحِجَارَة. وَبلغ الْخَبَر الْحجَّاج فَضَحِك وَأَعْجَبهُ فعله، وَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم وولاه عملا جَلِيلًا. قتل رجل نَصْرَانِيّا، فَعرض على أَخِيه الدِّيَة فَلم يقبلهَا، وَكَانَ الرجل صديقا لبشر المريسي، فَقَالَ بشر لِلنَّصْرَانِيِّ: إِن لم تقم شَاهِدين عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَن أَخَاك لم يزل يُؤَدِّي الْجِزْيَة إِلَى أَن مَاتَ لم تجب لَك الدِّيَة. فَانْقَطع وطل دَمه. وَمن نَوَادِر الْأَعْمَش أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور وَجه ببدرة، وَأمر بِأَن تدفع إِلَى أفقه أهل الْكُوفَة، فَأتى بهَا أَبُو حنيفَة وَابْن أبي ليلى فَلم يعرضا لَهَا وأتى الْأَعْمَش فَقَالَ للرسول: هَاتِهَا. فَقَالَ: حجتك. قَالَ: تسْأَل أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى عَن أفقه 398 أهل الْكُوفَة بعدهمَا فَإِنَّهُمَا يدلانك عَليّ، فتجيز شَهَادَتهمَا لي وتبطلها لأنفسهما فَأتى الرجل الْمَنْصُور فَأخْبرهُ فَقَالَ: صدق. حكى عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: قدم مُعَاوِيَة الْمَدِينَة، فَدخل الْمَسْجِد وَسعد بن أبي وَقاص جَالس إِلَى ركن الْمِنْبَر فَصَعدَ مُعَاوِيَة الْمِنْبَر فَجَلَسَ فِي مجْلِس النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهُ سعد: يَا مُعَاوِيَة؛ أجهلت فنعلمك، أم جننت فنداويك؟ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق؛ إِنِّي قدمت على قوم على غير تأهب لَهُم، وَأَنا باعث إِلَيْهِم بأعطياتهم(4/94)
إِن شَاءَ الله. فَسمع النَّاس كَلَام مُعَاوِيَة وَلم يسمعوا كَلَام سعد وَانْصَرف النَّاس وهم يَقُولُونَ: كَلمه سعد فِي الْعَطاء فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ. قيل: جَاءَ مازيار لعبد الله بن طَاهِر فَأعلمهُ أَن بازياً لَهُ انحط على عِقَاب فَقَتلهَا. فَقَالَ: إِنَّه هُوَ قتل الْعقَاب. قَالَ: اقتله فَإِنِّي لَا أحب لشَيْء أَن يجترئ على مَا فَوْقه. أَرَادَ أَن يبلغ ذَلِك الْمَأْمُون فيحظى عِنْده ويسكن إِلَى جَانِبه. لما عزل أَحْمد بن عُثْمَان عَن قَضَاء أَصْبَهَان تعرض لَهُ رجل وَقت خُرُوجه فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أراحنا من بغضك. فَأمر بحبسه وَقَالَ لشهود كَانُوا مَعَه: اشْهَدُوا أَن هَذَا فِي حبسي بِحَق وَجب عَلَيْهِ. فَكَانَ كلما ورد قَاض وفتش عَن المحبسين لم يعرف ذَلِك الْحق الَّذِي حبس بِهِ فَبَقيَ على ذَلِك زَمَانا حَتَّى توصل إِلَى تنجز كتاب مِنْهُ بعد حِين فَأَطْلقهُ. شهد رجل عِنْد سوار على آخر فَقَالَ سوار: أَظن الحكم قد توجه عَلَيْك فَقَالَ: أتجيز شَهَادَة رجل مَمْدُود؟ فَقَالَ سوار: أتارس أم رامح؟ فَقَالَ: تارس، فَقَالَ: ذَلِك شَرّ. سأعيد الْمَسْأَلَة عَنهُ ونما أَرَادَ أَنه مأبون. فتعجب من حضر من حِيلَة الرجل وفطنة سوار. هم الْأزَارِقَة بقتل رجل فَنزع ثَوْبه واتزر ولبى وَأظْهر الْإِحْرَام فَخلوا سَبيله لقَوْل الله جلّ وَعز: " لَا تحلوا شَعَائِر الله " غضب الْمَأْمُون على رجل وَقَالَ: لأَقْتُلَنك ولآخذن مَالك. اقْتُلُوهُ. فَقَالَ أَحْمد بن دؤاد: إِذا قتلته فَمن أَيْن تَأْخُذ المَال؟ قَالَ: من ورثته. فَقَالَ: إِذا تَأْخُذ مَال الْوَرَثَة، المَال للْوَرَثَة، وأمير الْمُؤمنِينَ يَأْبَى ذَلِك. فَقَالَ: يُؤَخر حَتَّى يستصفى مَاله. فانقرض الْمجْلس وَسكن غَضَبه وتوصل إِلَى خلاصه.
نصيحة أَحْمد بن أبي خَالِد
لما حبس الْمَأْمُون إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي عِنْد أَحْمد بن أبي خَالِد أَخذ فِي الْعِبَادَة وَالصَّلَاة، فَدخل إِلَيْهِ أَحْمد وَقَالَ: أمجنون أَنْت؟ أَتُرِيدُ أَن يَقُول الْمَأْمُون: هُوَ يتصنع للنَّاس. فيقتلك. قَالَ: فَمَا الرَّأْي؟ قَالَ: أَن تشرب وتطرب وتستحضر(4/95)
القيان. فَأخذ فِي ذَلِك وَدخل أَحْمد على الْمَأْمُون فَقَالَ لَهُ: مَا خبر الغادر؟ فَقَالَ: أصون سمع أَمِير الْمُؤمنِينَ عَمَّا هُوَ فِيهِ من الخسارة وَالشرب. فَقَالَ: وَالله لقد شوقتني إِلَيْهِ. وَصَارَ ذَلِك أحد أَسبَاب الرِّضَا عَنهُ. قيل: إِن المعذل مر بِقوم وَسلم فَلم يُجِيبُوهُ. فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تظنون مَا يُقَال من الرَّفْض. اعلموا أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً من تنقص وَاحِدًا مِنْهُم فَهُوَ كَافِر وَامْرَأَته طَالِق. فسر الْقَوْم ودعوا لَهُ. فَقَالَ بعض أَصْحَابه: وَيحك مَا هَذِه الْيَمين؟ فَقَالَ: إِنِّي أردْت بِقَوْلِي وَاحِدًا مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب وَحده.
انتقام كسْرَى من قَاتله
لما أَرَادَ شيرويه قتل أَبِيه وَجه إِلَيْهِ من يقْتله فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ كسْرَى: إِنِّي أدلك على شَيْء لوُجُوب حَقك عَليّ يكون فِيهِ غناك. . قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: الصندوق الْفُلَانِيّ. فَذهب الرجل إِلَى شيرويه فَأخْبرهُ الْخَبَر فَأخْرج الصندوق 399 فَإِذا فِيهِ ربعَة وَفِي الربعة حق وعَلى الْحق مَكْتُوب: فِيهِ حب من أَخذ مِنْهُ وَاحِدَة افتض عشرَة أبكار، وَكَانَ أمره فِي الباه كَذَا وَكَذَا. فَأخذ شيرويه مِنْهُ حَبَّة كَانَ هَلَاكه مِنْهَا. فَكَانَ أول ميت أَخذ ثَأْره من قَاتله.
حِيلَة مولى لسَعِيد بن الْعَاصِ
وَمرض مولى لسَعِيد بن الْعَاصِ. وَلم يكن لَهُ من يَخْدمه وَيقوم بأَمْره، وَلَا يجد أَيْضا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ. فَبعث إِلَى سعيد، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: إِنَّه لَيْسَ لي وَارِث غَيْرك، وَهَا هُنَا ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم مدفونة، فَإِذا مت فَخذهَا بَارك الله لَك فِيهَا. فَقَالَ سعيد حِين خرج من عِنْده: مَا أرانا إِلَّا وَقد أسأنا إِلَى مَوْلَانَا وقصرنا فِي تعاهده وَهُوَ من شُيُوخ موالينا. فَبعث إِلَيْهِ وتعاهده ووكل بِهِ من يَخْدمه. فَلَمَّا مَاتَ كَفنه وَشهد جنَازَته فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْبَيْت أَمر بِأَن يحْفر الْموضع فَلم يجد شَيْئا. وَجَاء صَاحب الْكَفَن فطالب بِالثّمن فَقَالَ: وَالله لقد هَمَمْت أَن أنبش عَن ابْن الفاعلة. بعث يزِيد بن مُعَاوِيَة عبيد الله بن عضاه الْأَشْعَرِيّ إِلَى ابْن الزبير فَقَالَ لَهُ: إِن أول أَمرك كَانَ حسنا فَلَا تفسده بِآخِرهِ. فَقَالَ ابْن الزبير: إِنَّه لَيست ليزِيد فِي عنقِي(4/96)
بيعَة. قَالَ لَهُ: وَلَو كَانَت أَكنت تفي بهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: يَا معشر الْمُسلمين قد سَمِعْتُمْ مَا قَالَ، وَقد بايعتم ليزِيد، وَهُوَ يَأْمُركُمْ بِالرُّجُوعِ عَن بيعَته. وَقَالَ ابْن الزبير لامْرَأَة فِي كَلَام جرى: أَخْرِجِي المَال من تَحت استك. فَقَالَت لمن حضر: أَسأَلكُم بِاللَّه هَذَا من كَلَام الْخُلَفَاء؟ فَقَالَ بَعضهم: لَا. فَقَالَت لِابْنِ الزبير: كَيفَ رَأَيْت هَذَا الْخلْع الْخَفي.
فَتْوَى لأبي حنيفَة
جَاءَت امْرَأَة إِلَى أبي حنيفَة فَقَالَت: إِن زَوجي حلف بطلاقي إِن أطبخ قدرا أطرح فِيهِ مكوكاً من الْملح فَلَا يتَبَيَّن طعم الْملح فِيمَا يُؤْكَل مِنْهَا. فَقَالَ لَهَا: خذي قدرا واجعلي فِيهَا المَاء واطرحي فِيهَا مكوك ملح، واطرحي فِيهَا بيضًا واسلقيه، فَإِنَّهُ لَا يُوجد طعم الْملح فِي الْبيض. افتعل رجل كتابا عَن الْمَأْمُون إِلَى مُحَمَّد بن الجهم فِي دفع مَال إِلَيْهِ، فارتاب بِهِ مُحَمَّد، وَأدْخلهُ على الْمَأْمُون. فَقَالَ الْمَأْمُون: مَا أذكر هَذَا. فَقَالَ الرجل: أكل مَعْرُوفك تذكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا نسيت وَقد فعلت. قَالَ: ادْفَعْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّد مَا فِي الْكتاب. كَانَ حوثة الضمرِي صديقا لعبد الْملك وَخرج مَعَ ابْن الزبير فَلَمَّا قتل ابْن الزبير استاء من النَّاس وأحضر حوثة فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: كنت مني بِحَيْثُ علمت فأعنت ابْن الزبير. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ هَل رَأَيْتنِي قطّ فِي حَرْب أَو سباق أَو نضال إِلَّا والفئة مغلوبة بحرقي، وَإِنَّمَا خرجت مَعَ ابْن الزبير لتغلبه بِي على رسمي. فَضَحِك عبد الْملك وَقَالَ: قد وَالله كذبت وَلَكِنِّي قد عَفَوْت عَنْك.(4/97)
قَالَت خيرة بنت ضَمرَة القشيرية امْرَأَة الْمُهلب للمهلب: إِذا انصرفت من الْجُمُعَة فَأحب أَن تمر بأهلي. فَقَالَ: إِن أَخَاك أَحمَق. قَالَت: فَأحب أَن تمر بِنَا. فجَاء وأخوها جَالس فَلم يتوسع لَهُ فَجَلَسَ الْمُهلب نَاحيَة ثمَّ أقبل عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا فعل ابْن عمك فلَان؟ قَالَ: حَاضر. قَالَ: أرسل إِلَيْهِ. فَفعل فَلَمَّا نظر إِلَى الْمُهلب غير مَرْفُوع الْمجْلس قَالَ: يَا بن اللخناء؛ الْمُهلب جَالس نَاحيَة، وَأَنت فِي صدر الْمجْلس وواثبه. فَتَركه الْمُهلب وَانْصَرف فَقَالَت لَهُ خيرة: أمررت بأهلي؟ قَالَ: نعم وَتركت أَخَاك الأحمق يضْرب.
أَسمَاء لمُحَمد بن خَارِجَة وَالْحجاج
قَالُوا: إِن الْحجَّاج بن يُوسُف قَالَ ذَات يَوْم لمُحَمد بن عُمَيْر بن عُطَارِد: اطلب 401 لي امْرَأَة حسيبة أَتَزَوَّجهَا: قَالَ: طلبتها إِن زوجتها. قَالَ: وَمن هَذَا الَّذِي يمْتَنع من تزويجي؟ قَالَ: أَسمَاء بن خَارِجَة. يَدعِي لَا أَنه كُفْء لبنَاته إِلَّا الْخَلِيفَة. قَالَ: فأضمرها الْحجَّاج إِلَى أَن دخل إِلَيْهِ أَسمَاء فَقَالَ: مَا هَذَا الْفَخر والتطاول؟ قَالَ: أَيهَا الْأَمِير؛ إِن تَحت هَذَا سَببا. قَالَ: بَلغنِي أَنَّك تزْعم أَن لَا كُفْء بناتك إِلَّا الْخَلِيفَة. فَقَالَ: وَالله مَا الْخَلِيفَة بِأحب أكفائهن إِلَيّ، ولنظرائي من الْعَشِيرَة أحب إِلَيّ مِنْهُ، لِأَن من خالطني مِنْهُم حفظني فِي حرمتي، وَإِن لم يحفظني قدرت على أَن أنتصف مِنْهُ. والخليفة لَا نصف مِنْهُ إِلَّا بمثيئته، وحرمته مضيمة مطرحة يقدم عَلَيْهَا من لَيْسَ مثلهَا، ولسان ناصرها أقطع. قَالَ: فَمَا تَقول فِي الْأَمِير؟ فَإِن الْأَمِير خَاطب هندا. قَالَ: قد زَوجته إِيَّاهَا بِصَدَاق نسائها. وحولها إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَتَى على الحَدِيث حولان دخل إِلَى الْحجَّاج فَقَالَ: هَل أَتَى الْأَمِير ولد، نسر وَنَحْمَد الله على هِبته. قَالَ: أما من هِنْد فَلَا. قَالَ: ولد الْأَمِير من هِنْد وَغير هِنْد عِنْدِي بِمَنْزِلَة. قَالَ: وَالله إِنِّي لأحب ذَلِك من هِنْد. قَالَ: فَمَا يمْنَع الْأَمِير من الضّر، فَإِن الْأَرْحَام تتغاير. قَالَ: أَو تَقول هَذَا القَوْل وَعِنْدِي هِنْد؟ قَالَ: أحب أَن يفشو نسل الْأَمِير. قَالَ: فَمِمَّنْ؟ قَالَ: على الْأَمِير بِهَذَا الْحَيّ من تَمِيم، فنساؤهم مناجيب. قَالَ: فأيهن؟ قَالَ: ابْنة مُحَمَّد بن عُمَيْر. قَالَ: إِنَّه يزْعم أَن لَا فارغة لَهُ. قَالَ: فَمَا فعلت فُلَانَة ابْنَته؟(4/98)
فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عُمَيْر قَالَ: أَلا تزوج الْأَمِير؟ قَالَ: لَا فارغة لي: قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانَة؟ قَالَ: زوجتها من ابْن أخي البارحة. قَالَ: أحضر ابْن أَخِيك؛ فَإِن أقرّ بهَا ضربت عُنُقه. فجيء بِابْن أَخِيه، وَقد أبلغ مَا قَالَ الْحجَّاج. فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ: بَارك الله لَك يَا فَتى. قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَالَ: فِي مصاهرتك لعمك البارحة. قَالَ: مَا صاهرته البارحة وَلَا قبلهَا. قَالَ: فَانْصَرف راشداً. وَلم ينْصَرف مُحَمَّد حَتَّى زوجه ابْنَته. وَحضر بعد ذَلِك من الْأَيَّام جمَاعَة من الْأَشْرَاف بَاب الْحجَّاج فحجب الْجَمِيع غير أَسمَاء وَمُحَمّد. فَلَمَّا دخلا قَالَ: مرْحَبًا بصهري الْأَمِير سلاني مَا تريدان أسعفكما فَلم يبقيا عانياً إِلَّا أطلقاه، وَلَا مجمراً إِلَّا أقفلاه. فَلَمَّا خرجا أتبعهما الْحجَّاج بِمن يحفظ كَلَامهمَا. فَلَمَّا فارقا الدَّار ضرب أَسمَاء يَده على كتف مُحَمَّد وَأَنْشَأَ يَقُول: جزيتك مَا أسديته بِابْن حَاجِب ... وَفَاء كعرف الديك أوقذة النسْر فِي أَبْيَات كَثِيرَة. فَعَاد الرجل فَأخْبر الْحجَّاج فَقَالَ: لله در ابْن خَارِجَة! إِذا وزن بِالرِّجَالِ رجح.
حكم مُعَاوِيَة فِي خُصُومَة
حُكيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه قَالَ: كَانَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحضر الْخُصُومَات وَيَقُول: إِن لَهَا قحماً وَإِن الشَّيْطَان يحضرها. فَكَانَ قد جعل خصومته إِلَى أَخِيه عقيل فَلَمَّا كبر ورق حولهَا إِلَيّ، فَكَانَ إِذا دخلت عَلَيْهِ خُصُومَة أَو نوزع فِي شَيْء قَالَ: عَلَيْكُم بِابْن جَعْفَر فَمَا قضي عَلَيْهِ فعلي، وَمَا قضى لَهُ فلي. قَالَ: فَوَثَبَ طَلْحَة بن عبيد الله على ضفيرة كَانَ عَليّ ضفرها، وَكَانَ لَهُ إِحْدَى عدوتي الْوَادي وَكَانَت الْأُخْرَى لطلْحَة. فَقَالَ طَلْحَة: حمل عَليّ السَّيْل وأضر بِي. قَالَ: قاختصمنا فِيهَا إِلَى عُثْمَان فَلَمَّا كثر الْكَلَام فِيهَا منا قَالَ: إِنِّي أركب مَعكُمْ فِي موكب من الْمُسلمين غَدا، فَإِن رَأَيْت ضَرَرا أَخَّرته. قَالَ: فَركب وركبنا وَمَعَهُ وَمُعَاوِيَة فِي قدمة عَلَيْهِ من الشَّام فو الله لكَأَنِّي أنظر 401 إِلَيْهِ على بغلة لَهُ بَيْضَاء يعنق أَمَام الموكب وَنحن نتداول الْخُصُومَة وَإِذ رمي(4/99)
مُعَاوِيَة بِكَلِمَة عرفت أَنه ردفني بهَا قَالَ: يَا هَذَانِ؛ إنَّكُمَا قد أكثرتما. أرأيتما هَذِه الضفيرة أَكَانَت فِي زمن عمر الْخطاب؟ قَالَ: فلقننيها. فَقلت: نعم، وَالله إِن كَانَت فِي زمن عمر. قَالَ: فَقَالَ الموكب جَمِيعًا: فَلَا وَالله لَو كَانَ ضَرَرا مَا أقره عمر. فَالله يعلم مَا انتهينا إِلَيْهَا حَتَّى يرد عَلَيْهِ الْقَضَاء إِن قيل: إِن كَانَت لفي زمن عمر. فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهَا عُثْمَان قَالَ: وَالله مَا أرى ضَرَرا. وَقد كَانَت فِي زمن عمر وَلَو كَانَ ظلما مَا أقره. خرج رجل من بني سليم على الْمَنْصُور فظفر بِهِ فَأمر أَن يضْرب بالسياط. فَلَمَّا أقيم بَين العاقبين. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن عقوبتي تجل عَن السِّيَاط، وعفوك يجل عَن التثريب. فإمَّا عاقبتني عُقُوبَة مثلى وَإِمَّا عَفَوْت عَفْو مثلك. قَالَ: قد عَفَوْت. وخلاه. أَتَى زِيَاد بِرَجُل فَأمر بِضَرْب عُنُقه. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير؛ إِن لي بك حُرْمَة قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: كَانَ أبي جَارك بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ: وَمن أَبوك؟ قَالَ: قد وَالله نسيت اسْم نَفسِي، فَكيف اسْم أبي؟ قَالَ: فَرد زِيَاد كمه إِلَى فَمه وَضحك وخلى سَبيله.
أَبُو الْعُرْيَان يُغير قَوْله فِي زِيَاد
مر زِيَاد بِأبي الْعُرْيَان فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقَالُوا: زِيَاد بن أبي سُفْيَان. فَقَالَ: رب أَمر قد نقضه الله، وَعبد قد رده الله. فَسَمعَهَا زِيَاد فكره الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَكتب بهَا إِلَى مُعَاوِيَة، فَأمره بِأَن يبْعَث إِلَيْهِ بِأَلف دِينَار، ويمر بِهِ وَيسمع مَا يَقُول. فَفعل زِيَاد ذَلِك، وَمر بِهِ فَقَالَ من هَذَا؟ قَالُوا: زِيَاد. فَقَالَ: رحم الله أَبَا سُفْيَان، لكأنها تسليمته ونغمته. فَكتب بهَا زِيَاد إِلَى مُعَاوِيَة فَكتب إِلَى أبي الْعُرْيَان: مَا لبثتك دنانيراً رشيت بهَا ... أَن لونتك أَبَا الْعُرْيَان ألوانا فَدَعَا أَبُو الْعُرْيَان ابْنه وأملى عَلَيْهِ إِلَى مُعَاوِيَة: من يسد خيرا يجده حَيْثُ يَطْلُبهُ ... أَو يسد شرا يجده حَيْثُمَا كَانَا تقدم رجل إِلَى سوار، وَكَانَ سواراً لَهُ مبغضاً فألح عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ سوار فِي بعض مخاطبته: يَا بن اللخناء. فَقَالَ: ذَاك خصمي. فَقَالَ الْخصم: أعدني عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الرجل: خُذ لَهُ بِحقِّهِ وَخذ لي بحقي. ففهم وَسَأَلَهُ أَن يغْفر لَهُ.(4/100)
قَالَ عبيد الله بن زِيَاد بن ظبْيَان: إيَّاكُمْ والطمع؛ فَإِنَّهُ دناءة. وَالله لقد رَأَيْتنِي على بَاب خَاصَّة الْحجَّاج، فَأَرَدْت أَن أعلوه بِالسَّيْفِ فَقَالَ: يَا بن ظبْيَان هَل لقِيت يزِيد بن أبي مُسلم قلت: لَا. قَالَ: فألقه فَإنَّا قد أمرناه أَن يعطيك عَهْدك على الرّيّ. قَالَ: فطمعت فكففت. فإياكم والطمع فَإِنَّهُ دناءة. وَكَأن الْحجَّاج فطن لما أَرَادَ عبيد الله فاحتال بِهَذَا الْكَلَام أَن يردهُ عَن نَفسه، وَلم يكن تقدم فِي بَابه وَفِي تَوليته بِشَيْء.
حِيلَة الحلاج
قَالُوا: لما حبس الحلاج عِنْد القشوري مرض ابْن لَهُ، واشتهى التفاح الشَّامي، وَكَانَ لَا يصاب لفوت أَوَانه، فتلطف الحلاج واحتال حَتَّى سَأَلَهُ القشوري تفاحة شامية. قصد بهَا ليعرف أَمر الحلاج فِي صدقه وَكذبه، وَأَرَادَ أَيْضا بُلُوغ مُرَاده فِي وَلَده. وَكَانَ الحلاج قد أعد تفاحة لذَلِك فحين سَأَلَهُ أَوْمَأ بِيَدِهِ هَكَذَا وأعادها بتفاحة. وتناولها القشوري يقبلهَا ويتعجب مِنْهَا والحلاج يَقُول: السَّاعَة قطعتها من شجر الْجنَّة قَالَ القشوري 402: إِنِّي أرى فِي مَوضِع مِنْك عَيْبا. قَالَ الحلاج غير مطرق وَلَا مكترث: أما علمت أَنَّهَا إِذا خرجت من دَار الفناء، لحقها جُزْء من الْبلَاء. فَكَانَ جَوَابه أحسن من فعله وحيلته.
عَفْو مُصعب بن الزبير
أَتَى مُصعب بن الزبير بِرَجُل من أَصْحَاب الْمُخْتَار، فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير؛ مَا أقبح بك أَن أقوم يَوْم الْقِيَامَة إِلَى صُورَتك هَذِه الْحَسَنَة، ووجهك هَذَا الَّذِي يستضاء بِهِ، فأتعلق بأطرافك وَأَقُول: يَا رب؛ سل مصعباً لماذا قتلني؟ فَقَالَ: أَطْلقُوهُ. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، اجْعَل مَا وهبت لي من حَياتِي فِي خفض(4/101)
عَيْش. قَالَ: أَعْطوهُ مائَة ألف دِرْهَم. قَالَ: بِأبي وَأمي أشهد الله أَنِّي قد جعلت مِنْهَا لِابْنِ قيس الرقيات خمسين ألفا. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لقَوْله فِيك: إِنَّمَا مُصعب شهَاب من الل ... هـ تجلت عَن وَجهه الظلماء فَضَحِك مُصعب وَقَالَ: فِيك مَوضِع للصنيعة وَأمره. بملازمته. خَاصم رجل رجلا إِلَى إِيَاس بن مُعَاوِيَة وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَة فَطلب مِنْهُ الْبَيِّنَة فَلم يَأْته بمقنع فَقيل لَهُ: استجر بوكيع بن أبي سود حَتَّى يشْهد لَك. فَإِن إياساً لَا يجترئ على رد شَهَادَته فَفعل فَقَالَ وَكِيع: وَالله لأشهدن لَك، فَإِن رد شهادتي لأعممنه السَّيْف. فَلَمَّا طلع وَكِيع فهم إِيَاس، فأقعده إِلَى جَانِبه ثمَّ سَأَلَهُ عَن حَاجته فَقَالَ: جِئْت شَاهدا. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْمطرف، أَتَشهد كَمَا تفعل الموَالِي والعجم؟ أَنْت تجل عَن هَذَا. قَالَ: إِذا وَالله لَا أشهد. فَقيل لوكيع بعد أَيَّام: إِنَّمَا خدعك. فَقَالَ: أولى لِابْنِ اللخناء.
عدي بن حَاتِم والوليد بن عقبَة
قَالُوا: كَانَ الْوَلِيد بن عقبَة أشعر بركاً لِأَنَّهُ كَانَ كثير شعر الصَّدْر، فَقَالَ عدي بن حَاتِم يَوْمًا: أَلا تعْجبُونَ لهَذَا؟ أشعر بركاً يُولى مثل هَذَا الْمصر؟ وَالله مَا يحسن أَن يقْضى فِي تمرتين. فَبلغ ذَلِك الْوَلِيد فَقَالَ على الْمِنْبَر: أنْشد الله رجلا سماني أشعر بركاً إِلَّا قَامَ. فَقَامَ عدي بن حَاتِم فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، إِن الَّذِي يقوم فَيَقُول أَنا سميتك أشعر بركاً لجريء فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ أَبَا طريف فقد برأك الله مِنْهَا. فَجَلَسَ وَهُوَ يَقُول: وَالله مَا برأني الله مِنْهَا.
الْمَنْصُور وَابْن المقفع
لما كتب الْمَنْصُور أَمَان عبد الله بن عَليّ واستقصى ابْن المقفع وَكَانَ كَاتب(4/102)
أَخِيه سُلَيْمَان بن عَليّ - وأكد سُلَيْمَان وأخوته الْإِيمَان والعهود على الْمَنْصُور فِي أَمَانه. قَالَ لَهُم الْمَنْصُور: هَذَا لَازم لي إِذا وَقعت عَيْني عَلَيْهِ. فَلَمَّا أَدخل دَاره تقدم حَتَّى عدل بِهِ، وَلم يره الْمَنْصُور فحبس. فَكتب من الْحَبْس إِلَى إخْوَته: هَذِه حِيلَة جرت عَليّ بكم ومنكم فاحتالوا لي فِيهَا. وَلما كتب الْمَنْصُور إِلَى عَامله بِالْبَصْرَةِ بِحَبْس ابْن المقفع وَقَتله جَاءَ عمومته وأحضروا الشُّهُود بِأَن ابْن المقفع دخل إِلَى دَار الْوَالِي وَلم يخرج مِنْهَا وطالبوه بالقود مِنْهُ. قَالَ الْمَنْصُور: إِن أَنا أقدت من عَامِلِي وقتلته ثمَّ خرج عَلَيْكُم ابْن المقفع من هَذَا الْبَاب، من الَّذِي يرضى بِأَن أَقتلهُ بعاملي قوداً مِنْهُ؟ فَسكت الْقَوْم وأهدر دم ابْن المقفع.
حِيلَة أبي حنيفَة
وَلما دخل الضَّحَّاك بن قيس الشَّيْبَانِيّ الْخَارِجِي الْكُوفَة قيل لَهُ: لم تقتل أهل الْأَطْرَاف ومعك بِالْكُوفَةِ أصل الإرجاء أَبُو حنيفَة. فَأرْسل إِلَيْهِ 403 فَأحْضرهُ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: اضربوا عُنُقه. من قبل أَن يكلمهُ. فَقَالَ أَبُو حنيفَة: كفرت. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: تقتل رجلا لم تسمع كَلَامه. قَالَ: مَا تَقول فِي الْإِيمَان؟ قَالَ: هُوَ قَول، قَالَ: قد صَحَّ كفرك. اضربوا عُنُقه. قَالَ: تضرب عنق رجل لم تستتبه. قَالَ: فَمَا تَقول؟ قَالَ: أَنا تائب. فَتَركه.
حِيلَة بكر بن وَائِل
قَالَ الْأَصْمَعِي: وَفد بكر بن وَائِل وخاله تَمِيم بن مر على ملك من مُلُوك(4/103)
الْيمن، فَكَانَ يقدم بكرا فَقَالَ تَمِيم: أَيهَا الْملك؛ إِن هَذَا ابْن أُخْتِي فَلَا تعطه شَيْئا إِلَّا أَعْطَيْتنِي مثله. قَالَ: فَقَالَ بكر: أَيهَا الْملك، خَالِي هَذَا أَسْوَأ النَّاس ظنا فَلَا تعطني عَطِيَّة إِلَّا أضعفتها لَهُ. فَقَالَ: نعم. فَفعل فَلَمَّا رَضِي تَمِيم قَالَ بكر: أُرِيد أَن تقلع إِحْدَى عَيْني وتقلع عَيْني تَمِيم. فَرجع هَذَا أَعور وَذَاكَ أعمى.
حِيلَة مُعَاوِيَة فِي بيعَة يزِيد
قَالَ سعيد بن جُبَير: لما حج مُعَاوِيَة وَقد ذكر بيعَة يزِيد فَقَالَ: قد اجْتمع النَّاس غير أَرْبَعَة: الْحُسَيْن بن عَليّ وَابْن عمر وَابْن الزبير وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فَأرْسل إِلَيْهِم فِي ذَلِك، وَقَالَ: من يرد عَليّ فِي ذَلِك؟ فَقَالُوا: يرد ابْن الزبير. فَقَالَ مُعَاوِيَة لَهُم: مَا تَقول؟ قَالَ: اختر منا ثَلَاث خِصَال: سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو سنة أَبُو بكر، أَو سنة عمر. أما النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فتوفى وَلم يسْتَخْلف أحدا، فَاجْتمع الْمُسلمُونَ على أفضلهم أبي بكر، وَاخْتَارَ هُوَ خَيرهمْ عمر، ثمَّ جعلهَا عمر شُورَى، وَله يَوْمئِذٍ ولد خير من ولدك مِمَّن صحب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَهَاجَر فَلم يفعل ذَلِك. وَأَنت أَخْبَرتنِي يَا مُعَاوِيَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا الْأَخير مِنْهُمَا. فَلَمَّا رأى مُعَاوِيَة ذَلِك قَالَ: تَسْمَعُونَ لي وتطيعون؟ قَالُوا: نعم. فَخَطب فَقَالَ: إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد بايعوني على مَا أردْت. ثمَّ انحدر فَركب رواحله وَانْطَلق فَحسب النَّاس أَنهم قد بَايعُوهُ.
حِيلَة مُعَاوِيَة فِي أَمر ابْن الزبير
كتب ابْن الزبير إِلَى مُعَاوِيَة: قد علمت أَنِّي صَاحب الدَّار وَأَنِّي الْخَلِيفَة بعد عُثْمَان وَلَأَفْعَلَن وَلَأَفْعَلَن. فَقَالَ مُعَاوِيَة ليزِيد: مَا ترى؟ قَالَ: أرى: وَالله أَن لَو كنت أَنْت وَابْن الزبير على سَوَاء مَا كَانَ يَنْبَغِي أَن ترْضى بِهَذَا. قَالَ: فَمَا ترى؟ قَالَ: أرى أَن توجه إِلَيْهِ جَيْشًا. قَالَ: إِن أهل الْحجاز لَا يسلمونه فكم ترى أَن أوجه إِلَيْهِ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ ألفا. قَالَ: لهَؤُلَاء دَوَاب، وكل دَابَّة تحْتَاج إِلَى مخلاة. فكم ثمن المخلاة؟ قَالَ: دِرْهَم. فَقَالَ: هَذِه أَرْبَعُونَ ألف دِرْهَم. ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام؛ اكْتُبْ إِلَى ابْن الزبير: قد وَجه إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ ثَلَاثِينَ ألفا فاستمتع إِلَى أَن يَأْتِيك رَأْيه.(4/104)
فَكتب إِلَيْهِ ابْن الزبير قد وصل إِلَيْنَا المَال، فوصل أَمِير الْمُؤمنِينَ رحما. فَقَالَ مُعَاوِيَة ليزِيد: قد ربحنا على ابْن الزبير فِي المخالي عشرَة آلَاف.
نصح أبي بكرَة لِأَخِيهِ زِيَاد
اسْتَأْذن زِيَاد مُعَاوِيَة فِي الْحَج فَأذن لَهُ وَبلغ ذَلِك أَبَا بكرَة وَكَانَ أَخَاهُ من أمةٍ اسْمهَا سميَّة وَكَانَ حلف أَلا يكلم زياداً حَيْثُ رَجَعَ عَن الشَّهَادَة على الْمُغيرَة وَألا يظله وإياه سقف بَيت أبدا. فَدخل أَبُو بكرَة دَار الْإِمَارَة على زِيَاد، فَأمر زِيَاد بكرسيين فوضعا فِي صحن الْقصر ليمينه، فَجَلَسَ أَبُو بكرَة على أَحدهمَا وَزِيَاد على الآخر وَمَعَ زِيَاد بني لَهُ حَيْثُ مَشى. فَقَالَ أَبُو بكرَة لِابْنِهِ: تعال يَا بن أخي. فجَاء الصَّبِي فَجَلَسَ فِي حجره فَقَالَ لَهُ: كَيفَ أَنْت؟ كَيفَ أهلك؟ اسْمَع مني يَا بن أخي - وَإِنَّمَا يُريدَان أَن يسمع 404 زياداً - إِن أَبَاك هَذَا أَحمَق، قد فجر فِي الْإِسْلَام ثَلَاث فجرات مَا سمعنَا بمثلهن؛ أما أولَاهُنَّ فجحوده الشَّهَادَة على الْمُغيرَة، وَالله يعلم أَنه قد رأى مَا رَأينَا فكتم، وَقد قَالَ الله: " وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه ". فَحَلَفت أَلا ُأكَلِّمهُ أبدا؛ وَأما الْأُخْرَى فانتفاوه من عبيد، وادعاؤه إِلَى أبي سُفْيَان، وَأقسم لَك بِاللَّه - يَا بن أخي - صدقا مَا رأى أَبُو سُفْيَان سميَّة قطّ فِي ليل وَلَا نَهَار، وَلَا فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام؛ وَأما الثَّالِثَة فأعظمهن. إِنَّه يُرِيد أَن يوافي الْعَام الْمَوْسِم، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تَأتي الْمَوْسِم كل عَام، فَإِن هُوَ أَتَاهَا فَأَذنت لَهُ كَمَا تَأذن الْأُخْت لأَخِيهَا فأعظم بهَا مُصِيبَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! وَإِن هِيَ حَجَبته وتسترت مِنْهُ فأعظم بهَا حجَّة عَلَيْهِ ثمَّ نَهَضَ. فَقَامَ زِيَاد فِي إثره وَأخذ بِقَمِيصِهِ وَقَالَ: جَزَاك الله من أَخ خيرا، فَمَا تركت النَّصِيحَة لأخيك على حَال. وَترك الْحَج. اسْتعْمل عمر الْمُغيرَة بن شُعْبَة على الْبَحْرين ثمَّ عَزله، فَقَالَ دهقان الْقرْيَة لأَهْلهَا - وَكَانَ مُطَاعًا فيهم: اجْمَعُوا لي مائَة ألف دِرْهَم آتِي بهَا عمر فَفَعَلُوا، فَقَالَ عمر: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أودعناه الْمُغيرَة. فَقَالَ عمر للْمُغِيرَة: مَا هَذَا؟ قَالَ: إِنَّهَا(4/105)
مِائَتَا ألف دِرْهَم. فَقَالَ للدهقان: قد تسمع. فَقَالَ: وَالله مَا أودعنا شَيْئا، إِلَّا أننا خفنا أَن ترده إِلَيْنَا. فَقَالَ عمر للْمُغِيرَة: مَا دعَاك إِلَيّ مَا قلت؟ قَالَ: أَحْبَبْت أَن أخزيه إِذْ كذب عَليّ. كَانَ سعد الْقرظ زنجياً عبدا لعمَّار بن يَاسر، وَكَانَ على نَخْلَة يجتبي مِنْهَا فَسمع الزنج يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا بَينهم فَأذن، فَاجْتمع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه فَقَالَ: مَا حملك على الْأَذَان؟ فَقَالَ: خفت عَلَيْك فَأَذنت ليجتمع إِلَيْك أَصْحَابك. فَأمره بعد ذَلِك بِالْأَذَانِ فَكَانَ مُؤذنًا. قَالَ عَبَّاس بن سهل السَّاعِدِيّ: لما ولي عُثْمَان بن حَيَّان المري الْمَدِينَة عرض ذَات يَوْم بِذكر الْفِتْنَة، فَقَالَ لَهُ بعض جُلَسَائِهِ: عَبَّاس بن سهل كَانَ شيعَة لِابْنِ الزبير وَكَانَ قد وَجهه فِي جَيش إِلَى الْمَدِينَة. قَالَ: فتغيظ عَليّ، وآلى ليقتلنني. فبلغني ذَلِك فتواريت عَنهُ حَتَّى طَال عَليّ ذَلِك، فَلَقِيت بعض جُلَسَائِهِ، فشكوت ذَلِك إِلَيْهِ، وَقلت لَهُ: قد آمنني أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْملك. فَقَالَ لي: مَا يخْطر ذكرك إِلَّا تغيظ عَلَيْك وأوعدك، وَهُوَ ينبسط للحوائج على طَعَامه، فتنكر وأحضر طَعَامه ثمَّ كَلمه بِمَا تُرِيدُ. فَفعلت، فَأتى بِجَفْنَة ضخمة فِيهَا ثردة عَلَيْهَا اللَّحْم. فَقلت: لكَأَنِّي أنظر إِلَى جَفْنَة حَيَّان بن معبد وتكاوس النَّاس على بباحته. ووصفت لَهُ باحته فَجعل يَقُول: أرأيته؟ فَقلت: لعمري كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ حِين تخرج علينا وَعَلِيهِ مطرف خَز يجر هدبه يتعلقه حسك السعدان مَا يكفه عَنهُ، ثمَّ يُؤْتِي بِجَفْنَة، فَكَأَنِّي أنظر إِلَى النَّاس يتكاوسون عَلَيْهَا؛ مِنْهُم الْقَائِم وَمِنْهُم الْقَاعِد. قَالَ: وَمن أَنْت رَحِمك الله قلت: آمني آمنك الله. قَالَ: قد آمنتك، قلت: أَنا عَبَّاس بن سهل الْأنْصَارِيّ. قَالَ: فمرحباً بك وَأهلا، أهل الشّرف وَالْحق. قَالَ عَبَّاس: فرأيتني وَمَا بِالْمَدِينَةِ رجل أوجه عِنْده مني. قَالَ: فَقَالَ بعض الْقَوْم بعد ذَلِك: يَا عَبَّاس؛ أَأَنْت رَأَيْت حَيَّان بن معبد يتكاوس النَّاس على جفنته. فَقلت: وَالله لقد رَأَيْته ونزلنا باحته فَأَتَانَا فِي رحالنا وَعَلِيهِ عباءة قطوانية، فَجعلت أذوده بِالسَّوْطِ عَن رحالنا خيفة أَن يسرقنا.(4/106)
الْبَاب الرَّابِع نكت من كَلَام الْحُكَمَاء
قيل لبَعْضهِم: أخرج هَذَا الْغم من قَلْبك. فَقَالَ: لَيْسَ بإذني دخل. قَالَ رجل لشبيب من شيبَة: أَنا وَالله أحبك يَا أَبَا معبد. قَالَ: أشهد على صدقك. قَالَ: وَكَيف ذَاك، قَالَ: لِأَنَّك لست بجار قريب، وَلَا ابْن عَم نسيب، وَلَا مشاكل فِي صناعَة. قَالُوا: صَاحب السوء قِطْعَة من النَّار. وَلذَلِك لما قَالَ الْقَائِل: مَا رَأينَا فِي كل خير وَشر خيرا من صَاحب. قَالَ الآخر: وَلَا رَأينَا فِي كل خير وَشر شرا من صَاحب. قَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ: أَتَت عَليّ مائَة وَثَلَاثُونَ سنة، مَا من شَيْء إِلَّا وَأَنا أجد فِيهِ النَّقْص إِلَّا أملي فَإِنِّي أَجِدهُ كَمَا أَو يزِيد. قَالَ بَعضهم: الْعَالم يعرف الْجَاهِل لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلا، وَالْجَاهِل لَا يعرف الْعَالم لِأَنَّهُ لم يكن عَالما. سُئِلَ بَعضهم عَن الْغنى فَقَالَ: شَرّ مَحْبُوب وَعَن الْفقر فَقَالَ: ملك لَيْسَ فِيهِ محاسبة. الفرصة مَا إِذا حاولته فأخطاك نَفعه لم يصل إِلَيْك ضره. بُلُوغ أَعلَى الْمنَازل بِغَيْر اسْتِحْقَاق من أكبر أَسبَاب الهلكة. كل شَيْء يعز إِذا قل، وَالْعقل كلما كَانَ أَكثر كَانَ أعز وأغلى. قَالَ عَامر بن عبد الْقَيْس: الْكَلِمَة إِذا خرجت من الْقلب وَقعت فِي الْقلب، وَإِذا خرجت من اللِّسَان لم تجَاوز الآذان.(4/107)
قَالُوا: مقتل الرجل بَين لحييْهِ. التثبت نصف الْعَفو. قَالَ أَكْثَم: الْكَرم حسن الفطنة. واللؤم سوء التغافل. قيل: أَسْوَأ النَّاس حَالا من اتسعت مَعْرفَته، وبعدت همته، وَضَاقَتْ مقدرته. كَانَ عبد الْملك بن الْحجَّاج: يَقُول: لأَنا للعاقل الْمُدبر أرجا مني للأحمق الْمقبل. وَقَالُوا: أَمْرَانِ لَا ينفكان من الْكَذِب: كَثْرَة المواعيد وَشدَّة الِاعْتِذَار. قَالَ الفضيل بن عِيَاض لِسُفْيَان الثَّوْريّ: دلَّنِي على من أَجْلِس إِلَيْهِ. قَالَ: تِلْكَ ضَالَّة لَا تُوجد. قيل لعبد الله بن كرز: هلا أجبْت أَمِير الْمُؤمنِينَ حِين سَأَلَك عَن مَالك. قَالَ: إِنَّه إِن استكثره حسدني، وَإِن استقله حقرني. قَالَ بَعضهم: عِيَادَة النوكى الْجُلُوس فَوق الْقدر، والمجيء فِي غير وَقت. قَالَ مُحَمَّد بن وَاسع: مَا آسى من الدُّنْيَا إِلَّا على ثَلَاث؛ بلغَة من عَيْش لَهُ لَيْسَ لأحد فِيهَا منَّة، وَلَا لله عَليّ فِيهَا تبعة، وَصَلَاة فِي جمَاعَة أكفى سهوها ويدخر لي أجرهَا، وَأَخ إِذا مَا أعوججت قومني. مر عمر بن ذَر بِابْن عَيَّاش المنتوف وَكَانَ قد سفه عَلَيْهِ ثمَّ أعرض عَنهُ، فَتعلق بِثَوْبِهِ وَقَالَ: يَا هَناه؛ إِنَّا لم نجد لَك إِذا عصيت الله فِينَا خيرا من أَن نطيع الله فِيك. قَالَ بَعضهم: مَا نصحت لأحد إِلَّا وجدته يفتش عَن عيوبي. قَالَ لبَعْضهِم: أَي النَّاس أحلم؟ قَالَ: سُفَهَاء لقوا أكفاءهم. قَالَ خَليفَة بن عبد الله التغلبي: مَا خَاصَمت أَحمَق وَلَا كيسا إِلَّا رَأَيْته بَصيرًا بِمَا يسوءني. سَأَلَ ابْن أبي بكرَة: أَي شَيْء أدوم إمتاعاً؟ قَالَ: المنى. وَقَالَ عَبَايَة مَا يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم.(4/108)
وَقَالَ ابْن أبي الزِّنَاد: المنى والحلم أَخَوان. وَقَالَ بَعضهم: الْأَمَانِي للنَّفس مثل الترهات للسان. قَالَ عَمْرو بن الْحَارِث: 406 كُنَّا نبغض من الرِّجَال ذَا الرِّيَاء والنفج وَنحن الْيَوْم نتمناهما. قَالَ صَالح المري: تَغْدُو الطير خماصاً، وَتَروح شباعاً، وائقة بِأَن لَهَا فِي كل غدْوَة رزقا لَا يفوتها. وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو غدوتم إِلَى أسواقكم على مثل إخلاصه لرجعتكم ودينكم أبطن من بطُون الْحَوَامِل. قَالَ خَالِد بن صَفْوَان: السّفر عتبات؛ فأولها: الْعَزْم، وَالثَّانيَِة: الْعدة، وَالثَّالِثَة: الرحيل، وأشدهن الْعَزْم. قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي: الْعَافِيَة الْملك الْخَفي. وَقَالَ الْفضل بن سهل؛ لَيست الفرصة إِلَّا مَا إِذا أخطأك نَفعه لم ينلك ضَرَره. قَالُوا: سوء حمل الْغنى يُورث مقتاً، وَسُوء حمل الْفَاقَة يضع شرفاً. وَقَالَ أَكْثَم: من جزع على مَا خرج من يَده فليجزع على مَا لم يصل إِلَيْهِ قَالَ بَعضهم: ظفر الْكَرِيم عَفْو، وعفو اللَّئِيم عُقُوبَة. كَانَ يُقَال: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يدع الحزم لظفر ناله عَاجز، وَلَا يرغب فِي التضييع لنكبة دخلت على حَازِم. وَكَانَ يُقَال: لَيْسَ من حسن التَّوَكُّل أَن تقال عَثْرَة ثمَّ يركبهَا ثَانِيَة قيل: لَوْلَا الإغضاء وَالنِّسْيَان، مَا تعاشر النَّاس لِكَثْرَة الأضغان. قَالُوا: ثَلَاث يرغمن الْعَدو: كَثْرَة العبيد، وأدب الْوَلَد، ومحبة الْجِيرَان. يُقَال: سوء القالة فِي الْإِنْسَان إِذا كَانَ كذبا نَظِير الْمَوْت؛ لفساد دُنْيَاهُ، وَإِذا كَانَ صدقا أَشد من الْمَوْت لفساد آخرته.(4/109)
قَالُوا: يرضى الْكِرَام الْكَلَام، ويصاد اللئام بِالْمَالِ: ويسبى النَّبِيل بالإعظام، ويستصلح السفلة بالهوان. قَالُوا: أَمْرَانِ أنس بِالنَّهَارِ وَحْشَة بِاللَّيْلِ: المَال والبستان. قَالُوا: لَا يزَال الْمَرْء مُسْتَمر مَا لم يعثر، فَإِذا عثر مرّة فِي الْخِيَار لج بِهِ العثار وَلَو كَانَ فِي جدد قَالَ بَعضهم: مَا شيبتني السنون، وَلَكِن شكري من أحتاج أَن أشكره. قَالُوا: المتواضع كالوهدة يجْتَمع فِيهَا قطرها وقطر غَيرهَا، والمتكبر كالربوة لَا يقر عَلَيْهَا قطرها وَلَا قطر غَيرهَا. يُقَال: إِنَّه لَا يصبر وَيصدق فِي اللِّقَاء إِلَّا ثَلَاثَة: مستبصر فِي دين، أَو غيران على حُرْمَة، أَو ممتعض من ذل. قَالَ بَعضهم: فِي مجاوزتك من يَكْفِيك فقر لَا مُنْتَهى لَهُ حَتَّى تَنْتَهِي عَنهُ. وَكَانَ يُقَال: العفاف زِينَة الْفقر، وَالشُّكْر زِينَة الْغنى. اعتذار من منع خير من وعد ممطول. خير المزاح لَا ينَال، وشره لَا يُقَال. وَإِنَّمَا سمي مزاحا لِأَنَّهُ أزيح عَن الْحق. الْيَأْس من أعوان الصَّبْر. قيل لبَعض الْحُكَمَاء: أَي الْأُمُور أعجل عُقُوبَة وأسرع لصَاحِبهَا صرعة؟ قَالَ: ظلم من لَا نَاصِر لَهُ إِلَّا الله عز وَجل، ومجاورة النعم بالتقصير واستطالة الْغَنِيّ على الْفَقِير. يُقَال: من سَعَادَة الْمَرْء أَن يضع معروفه عِنْد من يشكره. قَالُوا: شَيْئَانِ لَا يعرف طعمهما إِلَّا بعد فقدهما: الْعَافِيَة والشباب.(4/110)
نظر شَاب إِلَى شيخ يُقَارب خطاه فَقَالَ لَهُ: من قيدك؟ قَالَ: الَّذِي تركته يفتل قيدك. قيل لشيخ قد ذهب مِنْهُ المأكل وَالْمشْرَب وَالنِّكَاح: هَل تشْتَهي أَن تَمُوت؟ قَالَ: لَا. قيل: وَلم ذَاك؟ قَالَ: أحب أَن أعيش وأسمع الْأَعَاجِيب. قيل لبَعْضهِم: مَا بَال الشَّيْخ أحرص على الدُّنْيَا من الشَّاب؟ 407 قَالَ: لِأَنَّهُ قد ذاق من طعم الدُّنْيَا مَا لم يذقه الشَّاب. قَالُوا: الدّين عقلة الشريف، مَا اسْترق الْكَرِيم أفظ من الدّين. اخْتصم رجلَانِ إِلَى سعيد بن الْمسيب فِي النُّطْق والصمت: أَيهمَا أفضل؟ فَقَالَ: بِمَاذَا أبين لَكمَا؟ فَقَالَا: بالْكلَام. فَقَالَا: إِذا الْفضل لَهُ. وَقيل لبَعْضهِم: السُّكُوت أفضل أم النُّطْق؟ فَقَالَ: السُّكُوت حَتَّى يحْتَاج إِلَى النُّطْق. قيل: الْعقل يَأْمُرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل. قيل لبَعْضهِم: مَا جماع الْعقل؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْته مجتمعاً فِي أحد فأصفه، وَمَا لَا يُوجد كَامِلا فَلَا حد لَهُ. قَالَ الزُّهْرِيّ: إِذا أنْكرت عقلك فاقدحه بعاقل. وَقيل: عظمت المئونة فِي عَاقل متجاهل، وجاهل متعاقل. وَقيل: إِنَّك تحفظ. الأحمق من كل شَيْء إِلَّا من نَفسه. قيل لبَعْضهِم: الْعقل أفضل أم الْجد؟ فَقَالَ: الْعقل من الْجد. قَالَ بَعضهم: يَنْبَغِي للعاقل أَن يطْلب طَاعَة غَيره وَطَاعَة نَفسه عَلَيْهِ ممتنعة. قيل لآخر: أَتُحِبُّ أَن تهدى إِلَيْك عيوبك؟ فَقَالَ: أما من نَاصح فَنعم، وَأما من شامت فَلَا. قيل لآخر: هَل شَيْء أضرّ من التواني؟ قَالَ: الِاجْتِهَاد فِي غير مَوْضِعه. وَقيل: الْعَجز عجزان عجز التَّقْصِير. وَقد أمكن الْأَمر، وَالْجد فِي طلبه وَقد فَاتَ.(4/111)
وَقيل لآخر: أَسَأْت الظَّن. فَقَالَ: إِن الدُّنْيَا لما امْتَلَأت مكاره وَجب على الْعَاقِل أَن يملأها حذرا. تَأمل حَكِيم شَيْبه فَقَالَ: مرْحَبًا بزهرة الحنكة، وَثَمَرَة الْهدى، ومقدمة الْعِفَّة، ولباس التَّقْوَى. قيل: لَا يسود الرجل حَتَّى لَا يُبَالِي فِي أَي ثوبيه ظهر. سمع حَكِيم رجلا يَدْعُو لآخر وَيَقُول: لَا أَرَاك الله مَكْرُوها. فَقَالَ: دَعَوْت لَهُ بِالْمَوْتِ فَإِن من عَاشَ لَا بُد لَهُ فِي الدُّنْيَا من مَكْرُوه. قَالُوا: من صِفَات الْعَاقِل أَلا يتحدث بِمَا يُسْتَطَاع تَكْذِيبه. قيل لبَعْضهِم: مَتى يحمد الْكَذِب؟ فَقَالَ: إِذا قرب بَين المتقاطعين. قيل: فَمَتَى يذم الصدْق. قَالَ: إِذا كَانَ غيبَة. دنا رجل من آخر فساره فَقَالَ: لَيْسَ هَا هُنَا أحد، فَقَالَ: من حق السرَار التداني. وَكَانَ مَالك بن مسمع إِذا ساره إِنْسَان قَالَ لَهُ: أظهر؛ فَلَو كَانَ فِيهِ خير لما كَانَ مكتوماً. قيل: السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ والشقي من اتعظ بِهِ غَيره. قيل: مِمَّا يدل على كرم الرجل سوء أدب غلمانه. أفحش الظُّلم ظلم الضَّعِيف. العَبْد من لَا عهد لَهُ. قيل: إِن ذَا الهمة وَإِن حط نَفسه يأبي إِلَّا الْعُلُوّ، كالشعلة من النَّار يخفيها صَاحبهَا وتأبى إِلَّا ارتفاعاً. قيل: الْجد أجدى، وَالْجد أكدى. وَقَالُوا: الدّين غل لله فِي أرضه فَإِذا أَرَادَ أَن يذل عبدا جعله فِي عُنُقه وَقيل: تعرف مُرُوءَة الرجل بِكَثْرَة دُيُونه.(4/112)
قيل: الْعَاقِل إِذا تكلم بِكَلِمَة أتبعهَا مثلا، والأحمق إِذا تكلم بِكَلِمَة أتبعهَا حلفا. قيل: الْحَرَكَة نِكَاح الْجد الْعَقِيم. قيل: أَرْبَعَة لَا يستحيى من الْخَتْم عَلَيْهَا؛ المَال لنفي التهم، والجوهر لنفاسته، وَالطّيب للأبدان، والدواء للِاحْتِيَاط. قيل: إِذا أَيسَرت فَكل رجل رجلك، وَإِذا افْتَقَرت أنكرك أهلك. قَالُوا: لَو جعل المَال للعقلاء مَاتَ الْجُهَّال، فَلَمَّا صَار فِي أَيدي الْجُهَّال اسْتَنْزَلَهُمْ الْعُقَلَاء عَنهُ بلطفهم. قيل: نعم الْغَرِيم الْجُوع. 408 كلما أعطي أَخذ. قَالَ بَعضهم: مَا رددت أحدا عَن حَاجَة إِلَّا تبينت الْعِزّ فِي قَفاهُ والذل فِي وَجهه. قيل: الِابْتِدَاء بالصنيعة نَافِلَة، وربها فَرِيضَة. الْعَدو المبطن للعداوة كالنحل يمج الدَّوَاء ويحتقب الدَّاء. سُئِلَ ابْن الْقرْيَة: مَا الدهاء؟ قَالَ: تجرع الغصة، وتوقع الفرصة. قيل: الْحَاسِد يرى زَوَال نِعْمَتك نعْمَة عَلَيْهِ. الْحَسَد دَاء يَأْكُل الْجَسَد. التَّوَاضُع أحد مصايد الشّرف. تواضع الرجل فِي مرتبته ذب للشماتة عِنْد سقطته. كم من صلف أدّى إِلَى تلف. سوء الْخلق يعدي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو غَيره إِلَى أَن يُقَابله بِغَيْرِهِ. صحب رجل آخر سيئ الْخلق فَلَمَّا فَارقه قَالَ: قد فارقته وخلقه لَا يُفَارِقهُ.(4/113)
المزاح فَحل لَا ينْتج إِلَّا الشَّرّ. الْمُرُوءَة التَّامَّة مباينة الْعَامَّة. أَسْوَأ مَا فِي الْكَرِيم أَن يمنعك نداه، وَأحسن مَا فِي اللَّئِيم أَن يكف عَنْك أَذَاهُ. السّفل إِذا تعلمُوا تكبروا، وَإِذا تمولوا استطالوا، والعلية إِذا تعلمُوا تواضعوا، وَإِذا افتقروا صالوا. ثَلَاث لَا يستصلح فسادهن بِشَيْء من الْحِيَل: الْعَدَاوَة بَين الْأَقَارِب، وتحاسد الْأَكفاء، وركاكة الْمُلُوك. قيل لحكيم: أَي شَيْء من أَفعَال الْعباد يشبه لأفعال الله؟ قَالَ: الْإِحْسَان إِلَى النَّاس. يُقَال: السخي شُجَاع الْقلب، والبخيل شُجَاع الْوَجْه. الْبَخِيل يعِيش عَيْش الْفُقَرَاء، وَيُحَاسب محاسبة الْأَغْنِيَاء، الْعُزْلَة توفر الْعرض، وتستر الْفَاقَة، وترفع ثقل الْمُكَافَأَة. مَا احتنك أحد قطّ إِلَّا أحب الْخلْوَة. خير النَّاس من لم تجربه، كَمَا أَن خير الدّرّ مَا لم تثقبه. قَالَ بَعضهم: خالطت النَّاس خمسين سنة فَمَا وجدت رجلا غفر لي زله، وَلَا أقالني عَثْرَة، وَلَا ستر لي عَورَة، وَلَا أمنته إِذا غضب. الْكَرِيم لَا يلين على قصر، وَلَا يقسو على يسر. الْمَرْأَة إِذا أحبتك آذتك، وَإِذا أبغضتك خانتك، فحبها أَذَى، وبغضها دَاء بِلَا دَوَاء. الْمَرْأَة تكْتم الْحبّ أَرْبَعِينَ سنة، وَلَا تكْتم البغض سَاعَة وَاحِدَة. وَالرجل على عكس هَذَا.(4/114)
شاور رجل حكيماً فِي التَّزَوُّج فَقَالَ لَهُ: إياك وَالْجمال. وَأنْشد: وَلنْ تصادف مرعى ممرعاً أبدا ... إِلَّا وجدت بِهِ آثَار مَأْكُول قَالَ رجل: مَا دخل دَاري شَرّ قطّ. فَقَالَ حَكِيم: فَمن أَيْن دخلت امْرَأَتك؟ قيل لبَعض الْحُكَمَاء: مَا أحسن أَن يصبر الْإِنْسَان عَمَّا يَشْتَهِي. فَقَالَ: أحسن مِنْهُ أَلا يَشْتَهِي إِلَّا مَا يَنْبَغِي. قيل: شَرّ أَخْلَاق الرِّجَال الْجُبْن وَالْبخل وهما خير أَخْلَاق النِّسَاء. قيل: الممتحن كالمختنق؛ مَتى ازْدَادَ اضطراباً ازْدَادَ اختناقاً. قيل: إِذا رَأَيْت الزَّاهِد يستروح إِلَى طلب الرُّخص فَاعْلَم أَنه قد بدا لَهُ فِي الزّهْد. قيل: أجل مَا ينزل من السَّمَاء التَّوْفِيق، وَأجل مَا يصعد إِلَى السَّمَاء الْإِخْلَاص. قيل: كل مَال لَا ينْتَقل بانتقالك فَهُوَ كَفِيل. وَقيل: مَا دَار من يشتاق إِلَى السّفر بدار سَلامَة. قَالَ حَكِيم: من الَّذِي بلغ جسيماً فَلم يبطر، وَاتبع الْهوى فَلم يعطب، وجاور النِّسَاء فَلم يفتتن، وَطلب إِلَى اللئام فَلم يهن، وواصل الأشرار فَلم ينْدَم، وَصَحب السُّلْطَان فدامت سَلَامَته. 409 - اثْنَان يهون عَلَيْهِمَا كل شَيْء؛ الْعَالم الَّذِي يعرف العواقب، وَالْجَاهِل الَّذِي يجهل مَا هُوَ فِيهِ. وَقيل: شَرّ من الْمَوْت مَا إِذا نزل تمنيت لنزوله الْمَوْت، وَخير من الْحَيَاة مَا(4/115)
إِذا فقدته أبغضت لفقده الْحَيَاة. لتكن النوائب مِنْك ببال؛ فَأكْثر المكاره فِيمَا لم يحْتَسب. قَالَ سُفْيَان: مَا وضع أحد يَده فِي قَصْعَة غَيره إِلَّا ذل لَهُ وَقَالَ أَبُو حَمْزَة السكونِي: قَالَ لي أَبُو عبيد الله: من أكل من ثريدنا وطئنا رقبته. قَالَ رجل لمعروف: يَا أَبَا مَحْفُوظ، أتحرك لطلب الرزق أم أَجْلِس؟ قَالَ: لَا بل تحرّك؛ فَإِنَّهُ أصلح لَك. فَقَالَ: أمثلك يَقُول هَذَا يَا أَبَا مَحْفُوظ؟ فَقَالَ: مَا أَنا قلته وَلَا أمرت بِهِ، وَلَكِن الله تَعَالَى قَالَه وَأمر بِهِ حَيْثُ قَالَ لِمَرْيَم: " وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا " وَلَو شَاءَ أَن ينزله عَلَيْهَا بِلَا هز لفعل. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت عِكْرِمَة بِبَاب بَلخ فَقلت لَهُ: مَا جَاءَ بك إِلَى هَهُنَا؟ فَقَالَ: بَنَاتِي. قَالَ وهب: الدَّرَاهِم خَوَاتِيم رب الْعَالمين بمعاش بني آدم؛ لَا تُؤْكَل وَلَا تشرب، وَأَيْنَ ذهبت بِخَاتم رَبك قضيت حَاجَتك. قيل لبَعْضهِم: لم تحب الدَّرَاهِم وَهِي تدنيك من الدُّنْيَا؟ قَالَ: هِيَ وَإِن أدنتني من الدُّنْيَا فقد صانتني عَنْهَا. قيل لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة: مَا أَشد حبك للدرهم! فَقَالَ: مَا أحب أَن يكون أحد أَشد حبا لما يَنْفَعهُ مني. قيل لبَعْضهِم: أَيْن بلغت فِي الْعُلُوم؟ قَالَ: إِلَى الْوُقُوف على الْقُصُور عَنْهَا. قَالُوا: الْمَرْأَة كالنعل، يلبسهَا الرجل إِذا شَاءَ هُوَ لَا إِذا شَاءَت. قَالَ ابْن السماك: الْكَمَال فِي خمس؛ أَلا يعيب الرجل أحدا بِعَيْب فِيهِ مثله حَتَّى يصلح ذَلِك الْعَيْب من نَفسه، فَإِنَّهُ لَا يفرغ من إصْلَاح عيب وَاحِد حَتَّى يهجم على آخر فتشغله عيوبه عَن عيب النَّاس، وَالثَّانيَِة أَلا يُطلق لِسَانه وَيَده حَتَّى يعلم أَفِي طَاعَة ذَاك أَو فِي مَعْصِيّة، وَالثَّالِثَة أَلا يلْتَمس من النَّاس إِلَّا مثل مَا يعطيهم من نَفسه، وَالرَّابِعَة أَن يسلم من النَّاس باستشعار مداراتهم، وتوفيتهم حُقُوقهم،(4/116)
وَالْخَامِسَة أَن ينْفق الْفضل من مَاله ويمسك الْفضل من قَوْله. وَقَالَ آخر: عجبا لمن عومل فأنصف، إِذا عَامل كَيفَ يظلم، وأعجب مِنْهُ من عومل فظلم إِذا عَامل كَيفَ يظلم. قَالُوا: صديق الْبَخِيل من لم يجربه. قَالُوا: الصَّبْر مر، لَا يتجرعه إِلَّا حر. قرئَ من حجر منقور: من الْخَيط الضَّعِيف يفتل الْحَبل الحصيف، وَمن مقدحة صَغِيرَة تحرق سوق كَبِيرَة، وَمن لبنة لينَة تبنى مَدِينَة حَصِينَة. قيل: أبْصر النَّاس بعوار النَّاس المعوور. وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى تفرد بالكمال، وَلم يعر أحدا من خلقه من النُّقْصَان. قيل لبَعْضهِم: مَتى يحمد الْغَنِيّ؟ قَالَ: إِذا اتَّصل بكرم. قيل: فَمَتَى تذم الفطنة؟ قَالَ: إِذا اقترنت بلؤم. قَالَ آخر: عجبا لمن قيل فِيهِ الْخَيْر وَلَيْسَ فِيهِ كَيفَ يفرح. عجبا لمن قيل فِيهِ الشَّرّ وَهُوَ فِيهِ كَيفَ يغْضب. ثَلَاث موبقات: الْكبر؛ فَإِنَّهُ حط إِبْلِيس عَن مرتبته، والحرص؛ فَإِنَّهُ أخرج آدم من الْجنَّة، والحسد فَإِنَّهُ دَعَا ابْن آدم إِلَى قتل أَخِيه. قَالَ ابْن السماك: الْفِطَام عَن الحطام شَدِيد. قَالُوا: إِذا أَقبلت الدُّنْيَا أَقبلت على حمَار قطوف مديني، وَإِذا أَدْبَرت أَدْبَرت على الْبراق. التؤدة حَسَنَة 410 فِي كل شَيْء إِلَّا فِي الْمَعْرُوف فَإِنَّهَا تنغصه. أصَاب متأمل أَو كَاد، وَأَخْطَأ مستعجل أَو كَاد. .(4/117)
قيل لبَعْضهِم: كَيفَ لَا يجْتَمع المَال وَالْحكمَة؟ قَالَ: لعزة الْكَمَال. كَانَ يُقَال: لكل جَدِيد لَذَّة إِلَّا من الإخوان. الْعَجز عجزان: التَّقْصِير فِي طلب الْأَمر وَقد أمكن، وَالْجد فِي طلبه وَقد فَاتَ. قَالَ يزِيد بن أسيد: أسر السرُور قفلة على غَفلَة. قيل: سِتَّة لَا تخطئهم الكآبة: فَقير حَدِيث عهد بالغنى، ومكثر يخَاف على مَاله، وطالب مرتبَة فَوق قدرته، والحسود والحقود وخليط. أهل الْأَدَب وَهُوَ غير أديب. . قَالَ خَالِد بن صَفْوَان: من لم تكن لَهُ دَابَّة كثرت ألوان دوابه. قَالَ عبد الله بن أبي بكر: لَو كنت شَاعِرًا لبكيت على الْمُرُوءَة. وَقَالَ بَعضهم: طلبت الرَّاحَة لنَفْسي فَلم أجد شَيْئا أروح لَهَا من ترك مَا لَا يعنيها، وتوحشت فِي الْبَريَّة فَلم أر وَحْشَة أَشد من قرين سوء، وَشهِدت الزحوف وَلَقِيت الأقران فَلم أر قرنا أغلب للرجل من امْرَأَة سوء، وَنظرت إِلَى كل مَا يذل الْعَزِيز ويكسره فَلم أر شَيْئا أذلّ لَهُ وَلَا أكسر من الْفَاقَة. قَالُوا: أول أَمر الْعَاقِل آخر أَمر الْجَاهِل. قَالَ رجل لعبد الحميد: أَخُوك أحب إِلَيْك أم صديقك؟ قَالَ: إِنَّمَا أحب أخي إِذا كَانَ صديقا. قَالُوا: أَسْوَأ من فِي الْكَرِيم أَن يكف عَنْك خَيره، وَأحسن مَا فِي اللَّئِيم أَن يكف عَنْك شَره. كَانَ الْكِنْدِيّ يَقُول: المسترشد موتِي والمحترس ملقي. وَكَانَ يَقُول: العَبْد حر مَا قنع وَالْحر عبد مَا طمع. قيل لمُحَمد بن الجهم بعد مَا أَخذ من مَاله: أما تفكر فِي ذهَاب نِعْمَتك؟ فَقَالَ: لَا بُد من الزَّوَال؛ فَلِأَن تَزُول نعمتي وَأبقى خير من أَن أزول عَنْهَا وَتبقى.(4/118)
قَالَ الشَّافِعِي: اغتنموا الفرصة فَإِنَّهَا خلس أَو غصص. أغْلظ سَفِيه لحليم فَقيل لَهُ: لم لم تغْضب؟ فَقَالَ: إِن كَانَ صَادِقا فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن أغضب، وَإِن كَانَ كَاذِبًا فبالحري أَلا أغضب. قَالَ بَعضهم: مَا أحسن حسن الظَّن إِلَّا أَن مِنْهُ الْعَجز، وَمَا أقبح سوء الظَّن إِلَّا أَن فِيهِ الحزم. قَالَ قَيْصر: مَا الْحِيلَة فِيمَا أعيا إِلَّا الْكَفّ عَنهُ، وَلَا الرَّأْي فِيمَا لَا ينَال إِلَّا الْيَأْس مِنْهُ. قَالَ سهل بن هَارُون: مَا زلت أَدخل فِيمَا يرغب بِي عَنهُ مَتى اسْتَغْنَيْت عَمَّا يرغب لي فِيهِ. كَانَ يُقَال: الأحمق إِذا حدث ذهل، وَإِذا تكلم عجل، وَإِذا حمل على الْقَبِيح فعل. قيل: لَيْسَ الْمُوسر من ينقص على النَّفَقَة مَاله، وَلَكِن الْمُوسر من يزكو على الْإِنْفَاق مَاله. قَالَ أَبُو يُوسُف: إِثْبَات الْحجَّة على الْجَاهِل سهل وَلَكِن إِقْرَاره بهَا صَعب. قيل لبَعْضهِم: مَا الكلفة؟ قَالَ: طَلَبك مَا لَا يواتيك، ونظرك فِيمَا لَا يَعْنِيك قَالَ آخر: كَمَا أَن أواني الفخار تمتحن بأصواتها فَيعرف الصَّحِيح مِنْهَا من المنكسر، كَذَلِك يمْتَحن الْإِنْسَان بمنطقه فَيعرف حَاله وَأمره. قَالَ آخر: احْتِمَال الْفقر أحسن من احْتِمَال الذل على أَن الرِّضَا بالفقر قناعة وَالرِّضَا بالذل ضراعة. سمع بَعضهم رجلا يذكرهُ بِسوء فَقَالَ: مَا علم الله منا أَكثر مِمَّا تَقول. ابْن المقفع: إِن مِمَّا سخى بِنَفس الْعَاقِل عَن الدُّنْيَا علمه بِأَن الأرزاق لم تقسم على قدر الأخطار. قَالُوا: الدُّنْيَا حمقاء لَا تميل إِلَّا إِلَى أشباهها.(4/119)
لما قبض ابْن عُيَيْنَة صلَة الْخَلِيفَة قَالَ: يَا أَصْحَاب الحَدِيث؛ قد وجدْتُم مقَالا فَقولُوا. مَتى رَأَيْت أَبَا عِيَال أَفْلح؟ وَقَالَ: كَانَت لنا هرة لَيْسَ لَهَا جراء فَكَانَت لَا تكشف الْقُدُور، وَلَا تعيث فِي الدّور، فَصَارَ لَهَا جراء فَكشفت عَن الْقُدُور، وأفسدت فِي الدّور. قَالَ بَعضهم: إِذا أَنا فعلت مَا أمرت بِهِ وَكَانَ خطأ لم أذمم عَلَيْهِ، وَإِذا فعلت مَا لم أومر بِهِ وَكَانَ صَوَابا لم أَحْمد عَلَيْهِ. قَالَ آخر مَا استنبط الصَّوَاب بِمثل المشورة، وَلَا حصنت النعم بِمثل الْمُوَاسَاة، وَلَا اكْتسبت البغضة بِمثل الْكبر. قيل لروح بن زنباع: مَا معنى الصّديق؟ قَالَ: هُوَ لفظ بِلَا معنى. يَعْنِي لعوزه. وَقَالَ آخر: السّفر ميزَان الْأَخْلَاق. قَالَ عَليّ بن عُبَيْدَة: الْعقل ملك والخصال رَعيته، فَإِذا ضعف عَن الْقيام عَلَيْهَا وصل الْخلَل إِلَيْهَا. قَالُوا: الْكذَّاب يخيف نَفسه وَهُوَ آمن. قَالَ بَعضهم: لَو لم أدع الْكَذِب تأثماً لتركته تكرماً. وَقَالَ آخر: لَو لم أدع الْكَذِب تعففاً لتركته تظرفاً. وَقَالَ آخر: لَو لم أدع الْكَذِب تحوباً لتركته تأدباً. وَقَالَ آخر: لَو لم أدع الْكَذِب تورعاً لتركته تصنعاً. كَانَ الثَّوْريّ يَقُول: النَّاس عدُول إِلَّا الْعُدُول. كَانَ بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ احفظني من أصدقائي. فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنِّي أحفظ نَفسِي من أعدائي. قيل لبَعْضهِم: مَا الْمُرُوءَة؟ قَالَ: إِظْهَار الزي. قيل: فَمَا الفتوة؟ قَالَ: طَهَارَة السِّرّ. يحْكى ذَلِك عَن البوشنجي شيخ خُرَاسَان. سُئِلَ بَعضهم: أَي الرُّسُل أَحْرَى بالنجح؟ قَالَ: الَّذِي لَهُ جمال وعقل.(4/120)
قَالُوا: الْحِيلَة اعطف المتجني أعْسر من نيل التَّمَنِّي. قَالَ ابْن السماك: لَوْلَا ثَلَاث لم يسل سيف وَلم يَقع حيف: سلك أدق من سلك، وَوجه أصبح من وَجه، ولقمة أسوغ من لقْمَة. قَالَ بكر بن عبد الله: مَا رَأَيْت أحدا إِلَّا رَأَيْت لَهُ الْفضل عَليّ؛ لِأَنِّي من نَفسِي على يَقِين وَأَنا من النَّاس فِي شكّ. قيل لِابْنِ هُبَيْرَة: مَا حد الأحمق؟ قَالَ: لَا حد لَهُ. أُتِي ابْن عون بِمَاء يصب على يَده قبل الطَّعَام فَقَالَ: مَا أَحسب غسل الْيَد قبل الطَّعَام إِلَّا من توقير النِّعْمَة. قَالَ بَعضهم: تَعْرِيف الْجَاهِل أيسر من تَقْرِير الْمُنكر. كَانَ بَعضهم يَقُول: مَا بَقِي أحد يأنف أَن يؤنف مِنْهُ. كل شَيْء إِذا كثر رخص؛ غير الْعقل فَإِنَّهُ إِذا كثر غلا. قَالَ آخر: يحسن الامتنان إِذا وَقع الكفران، وَلَوْلَا أَن بني إِسْرَائِيل كفرُوا النِّعْمَة مَا قَالَ الله تَعَالَى لَهُم: " اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم " قيل لرجل مستهتر بِجمع المَال: مَا هَذَا كُله؟ قَالَ: إِنَّمَا أجمعه لروعة الزَّمَان، وجفوة السُّلْطَان، وبخل الإخوان، وَدفع الأحزان. قَالَ خَالِد بن صَفْوَان: أَنا لَا أصادق إِلَّا من يغْفر لي زللي، ويسد خللي، وَيقبل عللي. قَالَ بَعضهم: أول صناعَة الْكَاتِب كتمان السِّرّ. قَالُوا: الْخَوْف على ثَلَاثَة أنحاء: دين يخَاف معادا، وحر يخَاف عارا، وسفلة يخَاف ردعا. قَالَ عَليّ بن عُبَيْدَة: إِن أخذت عَفْو الْقُلُوب زكا ريعك، وَإِن استقصيت أكديت. قيل: الْحسن الْخلق قريب عِنْد الْبعيد، والسيئ الْخلق بعيد عِنْد أَهله.(4/121)
قَالَ الثَّوْريّ: إِذا رَأَيْت الرجل مَحْمُودًا فِي جِيرَانه فَاعْلَم أَنه يداهنهم. قيل لحكيم: كَيفَ للْإنْسَان بألا يغْضب؟ قَالَ: ليكن ذَاكِرًا فِي كل وَقت أَنه لَيْسَ يجب أَن يطاع قطّ، بل أَن يُطِيع؛ وَأَنه لَيْسَ يجب أَن يحْتَمل خَطؤُهُ فَقَط، بل أَن يحْتَمل الْخَطَأ عَلَيْهِ؛ وَأَنه لَيْسَ يجب أَن يصبر عَلَيْهِ فَقَط، بل أَن يصبر هُوَ 412 أَيْضا؛ وَأَنه بِعَين الله دَائِما، فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك لم يغْضب، وَإِن غضب كَانَ غَضَبه أقل. قَالَ بَعضهم: الإفراط فِي الزِّيَارَة مُمل كَمَا أَن التَّفْرِيط فِيهَا مخل. قَالَ الْعُتْبِي: إِذا تناهى الْغم انْقَطع الدمع. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن أدهم: أَنا مُنْذُ عشْرين سنة فِي طلب أَخ إِذا غضب لم يقل إِلَّا الْحق فَمَا أجد. وَقَالَ غَيره: إِذا ولى صديق لَك ولَايَة فَأَصَبْته على الْعشْر من صداقته فَلَيْسَ بِأَخ سوء. قصد ابْن السماك رجلا فِي حَاجَة لرجل فتعسر، فَقَالَ لَهُ: اعْلَم أَنِّي أَتَيْتُك فِي حَاجَة، وَإِن الطَّالِب وَالْمَطْلُوب إِلَيْهِ عزيزان إِن قضيت، وذليلان إِن لم تقض، فاختر لنَفسك عز الْبَذْل على ذل الْمَنْع، واختر لي عز النجح على ذل الرَّد. فقضاها لَهُ. وَقصد آخر مرّة فِي حَاجَة فتلوى، فكاد ينكل عَن الْكَلَام، ثمَّ سبق إِلَى معنى فخبره وَقَالَ للمسئول: أَخْبرنِي حِين غَدَوْت إِلَيْك فِي حَاجَتي، أحسن بك الظَّن، وأصوغ فِيك الثَّنَاء، وأتخير لَك الشُّكْر، وأمشي إِلَيْك بقدم الإجلال، وأكلمك بِلِسَان التَّوَاضُع، أصبت أم أَخْطَأت؟ قَالَ: فاقتحم الرجل وَقَالَ: بل أصبت. وَقضى حَاجته وَسَأَلَهُ المعاودة. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة: قلت لعَلي بن الْهَيْثَم: مَا يجب للصديق؟ قَالَ: ثَلَاث خلال: كتمان حَدِيث الْخلْوَة، والمواساة عِنْد الشدَّة، وإقالة العثرة. قيل: سوء حمل الْغنى يُورث الْمَدْح، وَسُوء حمل الْفَاقَة قد بضع الشّرف. قيل: الْهوى شريك الْعَمى.(4/122)
قيل لصوفي: مَا صناعتك؟ قَالَ: حسن الظَّن بِاللَّه وَسُوء الظَّن بِالنَّاسِ. ثَلَاثَة لم يمن بهَا أحد فَسلم: صُحْبَة السُّلْطَان، وإفشاء السِّرّ إِلَى النِّسَاء وَشرب السم للتجربة. لكل شَيْء مَحل، وَمحل الْعقل مجالسة النَّاس. أعجب الْأَشْيَاء بديهة أَمن وَردت فِي مقَام خوف. قَالَ ابْن المقفع: الْحِرْص مُحرمَة، والجبن مقتلة. فَانْظُر فِيمَن رَأَيْت أَو سَمِعت: من قتل فِي الْحَرْب مُقبلا أَكثر أم من قتل مُدبرا وَانْظُر من يطْلب بالإجمال والتكرم أَحَق أَن تسخو نَفسك لَهُ أم من يطْلب بالشره والحرص. قَالَ أَبُو بكر بن الْمُعْتَمِر: إِذا كَانَ الْعقل تِسْعَة أَجزَاء أحتاج إِلَى جُزْء من جهل ليقدم على الْأُمُور؛ فَإِن الْعَاقِل أبدا متوان مُتَوَقف مترقب متخوف. قيل: سِتَّة لَا يخطئهم الكآبة: فَقير قريب عهد بغنى، ومكثر يخَاف على مَاله، وطالب مرتبَة فَوق قدره، والحسود والحقود وخليط أهل الْأَدَب وَهُوَ غير أديب. قَالَ ابْن المقفع: عمل الرجل. بِمَا يعلم أَنه خطأ هوى، والهوى آفَة العفاف، وَتَركه للْعَمَل بِمَا يعلم أَنه صَوَاب تهاون، والتهاون آفَة الدّين. وإقدامه على مَا لَا يدْرِي أصواب هُوَ أم خطأ لجاج، واللجاج آفَة الْعقل. قَالُوا: مَا من مُصِيبَة إِلَّا وَمَعَهَا أعظم مِنْهَا؛ إِن جزع فالوزر، وَإِن صَبر فالثواب. قيل: ضعف الْعقل أَمَان من الْغم. لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يمدح امْرَأَة حَتَّى تَمُوت، وَلَا يمدح طَعَاما حَتَّى يستمرئه، وَلَا يَثِق بخليل حَتَّى يستقرضه. لَيْسَ من حسن الْجوَار ترك الْأَذَى، وَلَكِن حسن الْجوَار الصَّبْر على الْأَذَى. لَا يتأدب العَبْد بالْكلَام إِذا وثق بِأَنَّهُ لَا يضْرب. مَا السَّيْف الصارم فِي كف شُجَاع بِأَعَز لَهُ من الصدْق.(4/123)
إِذا كثرت خزان الْأَسْرَار 413 ضيَاعًا. ثَمَرَة القناعة الرَّاحَة، وَثَمَرَة التَّوَاضُع الْمحبَّة. الْكَرِيم يلين إِذا استعطف، واللئيم يقسو إِذا ألطف. أنكأ لعدوك أَلا تريه أَنَّك تتخذه عدوا. عذابان لَا يكترث لَهما: السّفر الْبعيد؛ وَالْبناء الْكَبِير. قَالُوا: " سَوف " جند من جنود إِبْلِيس أهلك بهَا بشرا كثيرا. وَقيل لبَعض الزهاد: أوصنا. فَقَالَ: إيَّاكُمْ " وسوف ". سُئِلَ بَعضهم: أَي الصدْق السُّكُوت عَنهُ أمثل؟ قَالَ: تَزْكِيَة الْمَرْء نَفسه. وَكَانَ يُقَال: ثَلَاثَة يؤثرون المَال على أنفسهم: تَاجر الْبَحْر، وَالْعَامِل بِالْأَجْرِ، والمرتشي على الحكم. قَالُوا: قبح الله الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا إِذا أَقبلت على الْإِنْسَان أَعطَتْهُ محَاسِن غَيره، وَإِذا أَدْبَرت عَنهُ سلبته محَاسِن نَفسه. أعجز النَّاس من قصر فِي طلب صديقه، وأعجز مِنْهُ من وجده فضيعه. قَالَ رجل لأبي عبيد الله: لَئِن أَصبَحت الدُّنْيَا بك مَشْغُولَة لتمسين مِنْك فارغة. فَقَالَ: أنْفق مَا يكون التَّعَب إِذا وعد كَذَّاب حَرِيصًا. اجْتمع عُلَمَاء الْعَرَب والعجم على أَنه لَا يدْرك نعم إِلَّا ببؤس، وَلَا رَاحَة إِلَّا بتعب. الْعَادَات قاهرات، فَمن اعْتَادَ شَيْئا فِي سره وخلواته فضحه فِي عَلَانِيَته وَعند الْمَلأ. قيل: المنى تخلق الْعقل، وتفسد الدّين، وتزرى بالقناعة. قَالَ قُتَيْبَة لحصين: مَا السرُور؟ قَالَ: عقل يقيمك، وَعلم يزينك وَولد يَسُرك، وَمَال يسعك، وَأمن يريحك، وعافية تجمع لَك المسرات.(4/124)
أسر رجل إِلَى صديق لَهُ حَدِيثا فَلَمَّا استقصاه قَالَ لَهُ: أفهمت؟ قَالَ: بل نسيت. وَقيل لآخر: كَيفَ كتمانك للسر؟ فَقَالَ: أجحد للْخَبَر وأحلف للمستخبر. وَالْعرب تَقول: من ارتاد لسره فقد أذاعه. وَيُقَال: للقائل على السَّامع جمع البال، والكتمان، وَبسط الْعذر. قَالُوا: كَثْرَة السرَار من أَسْوَأ الْآدَاب. وَقَالُوا: الْأَخ الْبَار مغيض الْأَسْرَار. قيل لبَعْضهِم: إِن فلَانا لَا يكْتب، وَقَالَ: تِلْكَ الزمانة الْخفية. قَالَ بَعضهم: قديم لبحرمة وَحَدِيث التَّوْبَة يمحقان مَا بَينهمَا من الْإِسَاءَة. قَالُوا: ركُوب الْخَيل عز، وركوب البراذين ذلة، وركوب الْبَغْل مهرمة، وركوب الْحمير ذل. قَالُوا: أَربع يسودن العَبْد: الصدْق وَالْأَدب وَالْفِقْه وَالْأَمَانَة. قَالَ الزُّهْرِيّ: الْكَرِيم لَا تحكمه التجارب. قَالُوا: الْعقل يظْهر بالمعاملة، وشيم الرِّجَال تعرف بِالْولَايَةِ. قَالَ رجل من قُرَيْش لشيخ: عَلمنِي الْحلم. فَقَالَ: هُوَ الذل أفتصبر عَلَيْهِ؟ . وَيُقَال: مَا قل سُفَهَاء قوم إِلَّا ذلوا. قَالَ مُحَمَّد بن عمرَان التَّيْمِيّ: مَا شَيْء أَشد على الْإِنْسَان حملا من الْمُرُوءَة؟ قيل لَهُ: وَمَا الْمُرُوءَة؟ فَقَالَ: أَلا تعْمل فِي السِّرّ شَيْئا تَسْتَحي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَة. قَالَ أَكْثَم: الانقباض من النَّاس مكسبة للعداوة، وإفراط الْأنس مكسبة لقرناء السوء. قيل لِابْنِ أبي الزِّنَاد: لم تحب الدَّرَاهِم وَهِي تدنيك من الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: إِنَّهَا وَإِن أدنتني مِنْهَا فقد صانتني عَنْهَا. قيل لبَعْضهِم: إِن فلَانا أَفَادَ مَالا عَظِيما. قَالَ: فَهَل أَفَادَ مَعَه أَيَّامًا يُنْفِقهُ فِيهَا؟ قيل لرجل: مَا لَك تنزل فِي الْأَطْرَاف؟ فَقَالَ: منَازِل الْأَشْرَاف فِي الْأَطْرَاف؛(4/125)
يتناولهم من يريدهم بِالْحَاجةِ. قطيعة الْجَاهِل تعدل صلَة الْعَاقِل. قَالَ الشّعبِيّ: عِيَادَة النوكى أَشد على الْمَرِيض من وَجَعه 414. وَقَالَ أَبُو بكر بن عبد الله لقوم عادوه فَأَطَالُوا عِنْده الْقعُود: الْمَرِيض يُعَاد وَالصَّحِيح يزار. عزى رجل رجلا فَقَالَ: لَا أَرَاك الله بعد هَذِه الْمُصِيبَة مَا ينسيكها. وعزى رجل الرشيد فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، كَانَ لَك الْأجر لَا بك وَكَانَ العزاء لَك لَا عَنْك. كَانَ يُقَال: لَك ابْنك ريحانك سبعا، وخادمك سبعا، ثمَّ عَدو أَو صديق قَالَ الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان: أفضل الْعِصْمَة أَلا تَجِد. قيل لبَعض الْحُكَمَاء: مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يحسن أَن يُقَال وَإِن كَانَ حَقًا؟ فَقَالَ: مدح الْإِنْسَان نَفسه. جلس بعض الزهاد إِلَى تَاجر ليَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئا، فَمر بِهِ رجل يعرفهُ، فَقَالَ للتاجر: هَذَا فلَان الزَّاهِد فأرخص مَا تبيعه مِنْهُ. فَغَضب الزَّاهِد وَقَامَ وَقَالَ: إِنَّمَا جِئْنَا لنشتري بدراهمنا لَا بمذاهبنا. قيل لبَعْضهِم: مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ فِي حَال من الْأَحْوَال؟ فَقَالَ: التَّوْفِيق. قيل لبَعض من يطْلب الْأَعْمَال: مَا تصنع؟ قَالَ: أخدم الرَّجَاء، حَتَّى ينزل الْقَضَاء. قَالَ بَعضهم: أوسع مَا يكون الْكَرِيم مغْفرَة، إِذا ضَاقَتْ بالمذنب المعذرة. قَالَ آخر: أمتع الجلساء الَّذِي إِذا عجبته عجب، وَإِذا فكهته طرب، وَإِذا أَمْسَكت تحدث، وَإِذا فَكرت لم يلمك. قيل لبَعْضهِم: مَتى يحمد الْغنى؟ قَالَ: إِذا اتَّصل بكرم. قيل: فَمَتَى تذم الفطنة؟ قَالَ: إِذا اقترنت بلؤم.(4/126)
قَالَ بَعضهم: ستر مَا عاينته أحسن من إِشَاعَة مَا ظننته. قيل لجميل بن مرّة: مذ كم هجرت النَّاس قَالَ: مذ خمسين سنة. قيل لَهُ: لم ذَاك؟ قَالَ: صحبتهم أَرْبَعِينَ سنة، فَلم أر فيهم غافراً لزلة وَلَا راحماً لعبرة، وَلَا مقيلاً لعثرة، وَلَا ساتراً لعورة، وَلَا حَافِظًا لخلة، وَلَا صَادِقا فِي مَوَدَّة، وَلَا رَاعيا لزمام حُرْمَة، وَلَا صَادِقا فِي خَبره، وَلَا عادلاً فِي حُكُومَة؛ فَرَأَيْت الشّغل بهم حمقاً، والانقطاع عَنْهُم رشدا. كَانَ بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ احفظني من أصدقائي. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنِّي حَافظ نَفسِي من أعدائي. قَالَ آخر: إساءة المحسن أَن يمنعك جدواه، وإحسان الْمُسِيء أَن يكف عَنْك أَذَاهُ. قيل لعبد الله بن الْمُبَارك: مَا التَّوَاضُع؟ قَالَ: التكبر على المتكبرين. قيل: من لَا ينفذ تدبيرك عَلَيْهِ فِي إذلاله، فتوفر على توخي إجلاله. قَالَ الشَّافِعِي: مَا رفعت أحدا فَوق مَنْزِلَته إِلَّا حط مني بِقدر مَا رفعت مِنْهُ. قَالَ الْمسيب بن وَاضح: صَحِبت ابْن الْمُبَارك مقدمه من الْحَج فَقَالَ لي: يَا مسيب، مَا أَتَى فَسَاد الْعَامَّة إِلَّا من قبل الْخَاصَّة. قلت: وَكَيف ذَاك رَحِمك الله؟ قَالَ: لِأَن أمة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام على طَبَقَات خمس: فالطبقة الأولى هم الزهاد، وَالثَّانيَِة الْعلمَاء، وَالثَّالِثَة الْغُزَاة، وَالرَّابِعَة التُّجَّار وَالْخَامِسَة الْوُلَاة. فَأَما الزهاد فهم مُلُوك هَذِه الْأمة، وَأما الْعلمَاء فهم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، وَأما الْغُزَاة فهم أسياف الله عز وَجل، وَأما التُّجَّار فهم الْأُمَنَاء، وَأما الْوُلَاة فهم الرُّعَاة. فَإِذا كَانَ الزَّاهِد طامعاً فالتائب بِمن يَقْتَدِي؟ وَإِذا كَانَ الْعَالم رَاغِبًا فالجاهل بِمن يَهْتَدِي؟ وَإِذا كَانَ الْغَازِي مرائياً فَمَتَى يظفر بالعدو؟ وَإِذا كَانَ التَّاجِر خائناً فعلام يؤتمن الخونة! وَإِذا كَانَ الرَّاعِي ذئباً فالشاة من يحفظها؟ قَالَ الْحُكَمَاء: خَمْسَة لَا تتمّ إِلَّا لقرنائها 415: الْجمال لَا يتم إِلَّا بالحلى، والحسب لَا يتم إِلَّا بالأدب، والغنى لَا يتم إِلَّا بالجود، والبطش لَا يتم إِلَّا بالجرأة، وَالِاجْتِهَاد لَا يتم إِلَّا بالتوفيق.(4/127)
قيل لبَعْضهِم: مَتى تطيعك الدُّنْيَا؟ قَالَ: إِذا عصيتها. قَالَ آخر: رب مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه، وَرب مَحْسُود على حَال هِيَ بلاؤه، وَرب مَرْحُوم من سقم هُوَ شفاؤه. قَالُوا: إِذا أَرَادَ الله أَن يُسَلط على عَبده عدوا لَا يرحمه سلط عَلَيْهِ حَاسِدًا. وَكَانَ يُقَال فِي الدُّعَاء على الرجل: طَلَبك من لَا يقصر دون الظفر، وحسدك من لَا ينَام دون الشَّقَاء. قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب: إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا زهده فِي الدُّنْيَا وفقهه فِي الدّين، وبصره عيوبه. قَالَ مَالك بن دِينَار: من طلب الْعلم لنَفسِهِ فالقليل يَكْفِي، وَمن طلبه للنَّاس فحوائج النَّاس كَثِيرَة. قَالَ رجل لآخر: إِنِّي أَتَيْتُك فِي حَاجَة فَإِن شِئْت قضيتها وَكُنَّا جَمِيعًا كريمين، وَإِن شِئْت منعتها وَكُنَّا جَمِيعًا لئيمين. قَالَ بعض النساك: قد أعياني أَن أنزل على رجل يعلم أَنِّي لَا آكل من رزقه شَيْئا. قيل: مثل شرب الدَّوَاء مثل الصابون للثوب ينقيه وَلَكِن يخلقه. كَانَ يُقَال: النّظر يحْتَاج إِلَى الْقبُول، والحسب إِلَى الْأَدَب، وَالسُّرُور إِلَى الْأَمْن، والقربى إِلَى الْمَوَدَّة، والمعرفة إِلَى التجارب، والشرف إِلَى التَّوَاضُع والنجدة إِلَى الْجد. قَالَ بَعضهم: أَعْنَاق الْأُمُور تشابه فِي الغيوب؛ قرب مَحْبُوب فِي مَكْرُوه ومكروه فِي مَحْبُوب. وَكم من مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه، ومرحوم من دَاء فِيهِ شفاؤه. وَقيل: رب خير فِي شَرّ، ونفع فِي ضرّ.(4/128)
قَالَ ابْن المقفع: الْحَسَد خلق دني، وَمن دناءته أَنه يُوكل بالأقرب فَالْأَقْرَب. قَالَ قَتَادَة: لَو كَانَ أحد مكتفياً من الْعلم لاكتفى نَبِي الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ قَالَ: " هَل أتبعك على أَن تعلمن وَمِمَّا علمت رشدا ". قَالَ دَغْفَل بن حَنْظَلَة: إِن للْعلم أَرْبعا: آفَة ونكداً وإضاعة واستجاعة فآفته النسْيَان، ونكده الْكَذِب، وإضاعته وَضعه فِي غير مَوْضِعه، واستجاعته أَنَّك لَا تشبع مِنْهُ. قَالَ أَبُو عُثْمَان الجاحظ: وَإِنَّمَا عَابَ الاستجاعة لِأَن الروَاة شغلوا عقولهما بالازدياد وَالْجمع عَن تحفظ مَا قد حصلوه، وتدبر مَا قد دونوه. قَالَ بَعضهم: عِيَادَة النوكى الْجُلُوس فَوق الْقدر، والمجيء فِي غير وَقت. قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي: مَا أحب أَن أكفى كل أَمر الدُّنْيَا. قَالُوا: وَإِن أسمنت وألبنت؟ قَالَ: نعم. أكره عَادَة الْعَجز. قَالَ أَبُو عُثْمَان: كتب شيخ من أهل الرّيّ على بَاب دَاره: جزى الله من لَا يعرفنا وَلَا نعرفه خيرا، فَأَما أصدقاؤنا الْخَاصَّة فَلَا جزاهم الله خيرا؛ فَإنَّا لم نُؤْت قطّ إِلَّا مِنْهُم. قيل لرجل من أهل الْبَصْرَة: مَالك لَا ينمى مَالك؟ قَالَ: لِأَنِّي اتَّخذت الْعِيَال قبل المَال، وَاتخذ النَّاس المَال قبل الْعِيَال. كَانَ خَالِد بن صَفْوَان يكره المزاح وَيَقُول: يُصِيب أحدهم أَخَاهُ ويصكه بأشد من الْحَدِيد، وأصلب من الجندل، ويفرغ عَلَيْهِ أحر من الْمرجل ثمَّ يَقُول إِنَّمَا مازحته. قَالَ إِبْرَاهِيم المحلمي: فِيك حِدة. فَقَالَ: أسْتَغْفر الله مِمَّا أملك وأستصلحه مَا لَا أملك. قيل لرجل: إِن فلَانا يشتمك. قَالَ: هُوَ فِي حل. قيل لَهُ: تحله وَقد(4/129)
شتمك؟ فَقَالَ: مَا أحب أَن أثقل ميزاني بأوزار إخْوَانِي. قَالَ الغاضري: أَعْطَانَا الْمُلُوك الْآخِرَة طائعين، وأعطيناهم الدُّنْيَا كارهين. قَالَ بَعضهم: الصَّبْر عَن النِّسَاء أيسر من الصَّبْر عَلَيْهِنَّ. ذكرت الْعَامَّة للأوزاعي فَقَالَ: هِيَ كالبحر، إِذا هاج لم يسكنهُ إِلَّا الله. قَالَ بَعضهم لصَاحب لَهُ: إِذا كنت لَا ترْضى مني بالإساءة فَلم رضيت من نَفسك بالمكافأة؟ . قَالَ بَعضهم: كل شَيْء يحْتَاج إِلَى الْعقل، وَالْعقل يحْتَاج إِلَى التجربة. قيل لبَعْضهِم: مَا الصدْق؟ قَالَ: اسْم لَا يُوجد مَعْنَاهُ. كَانَ يُقَال: طول اللِّحْيَة أَمَان من الْعقل. قَالُوا: إِذا قعدت وَأَنت صَغِير حَيْثُ تحب، قعدت وَأَنت كَبِير حَيْثُ تكره. قَالَ بَعضهم: شَرّ المَال مَا لزمك إِثْم مكسبه، وَحرمت لَذَّة إِنْفَاقه. قيل للعتابي: مَا الْمُرُوءَة؟ فَقَالَ: ترك اللَّذَّة. قيل: فَمَا اللَّذَّة؟ قَالَ: ترك الْمُرُوءَة. قيل لصوفي: كَيفَ أَنْت؟ قَالَ: طلبت فَلم أرزق، وَحرمت فَلم أَصْبِر. قَالَ أَحْمد بن المعذل لِأَخِيهِ عبد الصَّمد: أَنْت كالإصبع الزَّائِدَة إِن تركت شانت، وَإِن قطعت آلمت. قَالَ بَعضهم: إِن الْغنى والعز خرجا يجولان فلقيا القناعة فاستقرا. قَالَ بَعضهم: أَنا بِالصديقِ آنس مني بالأخ. فَقَالَ لَهُ ابْن المقفع: صدقت:(4/130)
الصّديق نسيب الرّوح، وَالْأَخ نسيب الْجِسْم. قَالَ أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي: إِذا دخلت الْهَدِيَّة صر الْبَاب وضحكت الأسكفة. قَالُوا: جِزْيَة الْمُؤمن كِرَاء منزله، وعذابه سوء خلق امْرَأَته. سمع رجل رجلا يَقُول لصَاحبه: لَا أَرَاك الله مَكْرُوها. فَقَالَ: كَأَنَّك دَعَوْت على صَاحبك بِالْمَوْتِ. أما مَا صَاحب صَاحبك الدُّنْيَا فَلَا بُد لَهُ من أَن يرى مَكْرُوها. قَالَ معن بن زَائِدَة: مَا أَتَانِي رجل قطّ فِي حَاجَة فرددته عَنْهَا إِلَّا تبين لي غناهُ عني إِذا أدبر. قَالَ بعض الصُّوفِيَّة: بالخلق يُسْتَفَاد الْكَوْن، وبالخلق يُسْتَفَاد الْخلد. أَرَادَ ملك سفرا فَقَالَ: لَا يصحبني ضخم جبان، وَلَا حسن الْوَجْه لئيم، وَلَا صَغِير رغيب. نظر أَعْرَابِي إِلَى خَالِد بن صَفْوَان وَهُوَ يتَكَلَّم فَقَالَ: كَيفَ لم يسد هَذَا مَعَ بَيَانه؟ فَقَالَ خَالِد: منعتم مَالِي، وكرهت السَّيْف. يُقَال: الْوَعْد وَجه والإنجاز محاسنه. قَالُوا: الْهَالِك على الدُّنْيَا رجلَانِ: رجل نافس فِي عزها، وَرجل أنف من ذلها. قَالَ مَيْمُون: الطَّالِب فِي حِيلَة، وَالْمَطْلُوب فِي غَفلَة، وَالنَّاس مِنْهُمَا فِي شغل. كَانَ ابْن السماك يَقُول: دلا أَدْرِي أأوجر على ترك الْكَذِب أم لَا لِأَنِّي أتركه أَنَفَة. قيل: إِن الرمد لَا يُعَاد، وَالسَّبَب فِيهِ أَلا يرَاهُ العواد وَمَا فِي منزله وَهُوَ لَا يراهم.(4/131)
قَالَ ابْن شهَاب: لَيْسَ بِكَذَّابٍ من دَرأ عَن نَفسه. قَالَ الْحجَّاج لِابْنِ قَرْيَة: مَا الأرب؟ قَالَ: الصَّبْر على كظم الغيظ حَتَّى تمكن الفرصة. قَالُوا: ثَلَاث لَا غربَة مَعَهُنَّ: مجانبة الريب، وَحسن الْأَدَب، وكف الْأَذَى. وَكَانَ يُقَال: عَلَيْكُم بالأدب، فَإِنَّهُ صَاحب فِي السّفر، ومؤنس فِي الْوحدَة، وجمال فِي المحفل، وَسبب إِلَى طلب الْحَاجة. قَالَ عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة: مَا أحسن الْحَسَنَات فِي آثَار السَّيِّئَات، وأقبح السَّيِّئَات فِي آثَار الْحَسَنَات، وأقبح من هَذَا وَأحسن من ذَاك السَّيِّئَات فِي آثَار السَّيِّئَات، والحسنات فِي آثَار الْحَسَنَات. قَالَ أَبُو إِدْرِيس الْخَولَانِيّ: الْمَسَاجِد مجَالِس الْكِرَام. قيل: الْمِنَّة 417 تهدم الصنيعة. وَكَانَ يُقَال: كتمان الْمَعْرُوف من الْمُنعم عَلَيْهِ كفر لَهُ، وَذكره من الْمُنعم تكدير لَهُ. كَانَ مَالك بن دِينَار يَقُول: مَا أَشد فطام الْكَبِير! كَانَ يُقَال: أنعم النَّاس عَيْشًا من عَاشَ فِي عيشة غَيره. قَالَ رجل لرجل من قُرَيْش: وَالله مَا أمل الحَدِيث. فَقَالَ: إِنَّمَا يمل الْعَتِيق. يرْوى عَن أَسمَاء بن خَارِجَة أَنه قَالَ: لَا أشاتم رجلا وَلَا أرد سَائِلًا، فَإِنَّمَا هُوَ كريم أَسد خلته، أَو لئيم أشترى عرضي مِنْهُ. كَانَ ابْن شبْرمَة إِذا نزلت بن نازلة قَالَ: سَحَابَة ثمَّ تتقشع. كَانَ يُقَال: أَربع من كنوز الْجنَّة: كتمان الْمُصِيبَة، وكتمان الصَّدَقَة، وكتمان الْفَاقَة: وكتمان الوجع. قيل: لَيْسَ للجوج تَدْبِير، وَلَا لسيىء الْخلق عَيْش، وَلَا لمتكبر صديق والْمنَّة تفْسد الصنيعة. كَانَ يُقَال: لَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يشاور وَاحِدًا من خَمْسَة: الْقطَّان والغزال(4/132)
والمعلم وراعي الضَّأْن وَلَا الرجل الْكثير المحادثة للنِّسَاء. وَقيل فِي مثل هَذَا: لَا تدع أم صبيك تضربه؛ فَإِنَّهُ أَعقل مِنْهَا وَإِن كَانَ طفْلا. قَالَ رجل لِابْنِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: مَا ترك لَك أَبوك؟ قَالَ: ترك لي مَالا كثيرا. فَقَالَ: لَا أعلمك شَيْئا هُوَ خير لَك مِمَّا ترك أَبوك؟ إِنَّه لَا مَال لعاجز، وَلَا ضيَاع على حَازِم، وَالرَّقِيق جمال وَلَيْسَ بِمَال، فَعَلَيْك من المَال بِمَا يعولك وَلَا تعوله. وَقيل الخريم الناعم: مَا النِّعْمَة؟ فَقَالَ: الْأَمْن؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لخائف عَيْش؛ والغنى؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لفقير عَيْش. وَالصِّحَّة؛ فَإِنَّهُ لسقيم عَيْش قيل: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: لَا مزِيد بعْدهَا. قيل: خير الْكَلَام مَا أغْنى اختصاره عَن إكثاره. قيل: النمام سهم قَاتل. أَرَادَ رجل الْحَج، فَأتى شُعْبَة بن الْحجَّاج فودعه فَقَالَ لَهُ شُعْبَة: أما إِنَّك إِن لم ترى الْحلم ذلاً، والسفه أنفًا سلم حجك. روى عَن بعض الْأَئِمَّة أَنه قَالَ: الْإِنْصَاف رَاحَة، والإلحاح قحة، وَالشح شناعة، والتواني إِضَاعَة، وَالصِّحَّة بضَاعَة، والخيانة وضاعة، والحرص مفقرة، والدناءة محقرة، وَالْبخل غل، والفقر ذل، والسخاء قربَة، واللؤم غربَة، والذلة استكانة، وَالْعجز مهانة، وَالْأَدب رياسة، والحزم كياسة، وَالْعجب هَلَاك، وَالصَّبْر ملاك، والعجلة زلل، والإبطاء ملل. ثَلَاثَة أَشْيَاء لَا ثبات لَهَا: المَال فِي يَد من يبذر، وسحابة الصَّيف، وَغَضب العاشق. قيل للشبلي: مَا الْفرق بَين رق الْعُبُودِيَّة ورق الْمحبَّة؟ فَقَالَ: كم بَين عبد(4/133)
إِذا أعتق صَار حرا، وَبَين عبد كل مَا أعتق ازْدَادَ رقا. قَالُوا: الزَّاهِد فِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم أعز من الدِّينَار وَالدِّرْهَم. وَقيل لمُحَمد بن وَاسع: كَيفَ أَنْت؟ قَالَ: كَيفَ أكون، وَأَنا إِذا كنت فِي الصَّلَاة فَدخل إِنْسَان غَنِي أوسع لَهُ بِخِلَاف مَا أوسع للْفَقِير. سُئِلَ بَعضهم: أَيّمَا أَحْمد فِي الصَّبِي الْحيَاء أم الْخَوْف؟ فَقَالَ: الْحيَاء لِأَن الْحيَاء يدل على عقل وَالْخَوْف يدل على جبن. قَالُوا: رب حَرْب جنيت بِلَفْظِهِ، وَرب ود غرس بلحظة. شكا رجل إِلَى بشر بن الْحَارِث كَثْرَة الْعِيَال فَقَالَ لَهُ: فرغك فَلم تشكره، فعاقبك بِالشغلِ. كَانَ يُقَال: إِذا تزوج الرجل فقد ركب الْبَحْر، فَإِن ولد لَهُ فقد كسر بِهِ. قَالَ يُونُس بن عبيد: مَا سَمِعت بِكَلِمَات أحسن من كَلِمَات ثَلَاث قالهن ابْن سِيرِين ومورق الْعجلِيّ وَحسان بن أبي سِنَان أما ابْن سِيرِين فَقَالَ: مَا حسدت على شَيْء قطّ، وَأما مُورق فَقَالَ: 418 مَا قلت فِي الْغَضَب شَيْئا فندمت عَلَيْهِ فِي الرِّضَا. وَأما حسان فَقَالَ: مَا شَيْء أَهْون من الْوَرع؛ إِذا رَابَك شَيْء فَدَعْهُ. قَالَ ابْن مسعر: كنت أَمْشِي مَعَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَسَأَلَهُ سَائل؛ فَلم يكن مَعَه مَا يُعْطِيهِ، فَبكى فَقلت لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّد؛ مَا يبكيك؟ قَالَ: وَأي مُصِيبَة أعظم من أَن يؤمل فِيك رجل خيرا فَلَا يُصِيبهُ مِنْك. قَالَ: كفى نصرا لمُؤْمِن أَن يرى عدوه يعْمل بمعاصي الله.(4/134)
قيل: ثَلَاثَة تعرض فِي الأحمق: سرعَة الْجَواب، وَكَثْرَة الِالْتِفَات، والثقة بِكُل أحد. قيل: صَلَاح كل ذِي نعْمَة فِي خلاف مَا فسد عَلَيْهِ. قيل لبَعْضهِم: كم آكل؟ قَالَ: فَوق الشِّبَع. قَالَ: فكم أضْحك قَالَ: حَتَّى يسفر وَجهك وَلَا يسمع صَوْتك. قَالَ: فكم أبْكِي قَالَ: لَا تمل أَن تبْكي من خشيَة الله. قَالَ: فكم أُخْفِي من عَمَلي؟ قَالَ: حَتَّى يرى النَّاس أَنَّك لَا تعْمل حَسَنَة. قَالَ: فكم أظهر من عَمَلي؟ قَالَ: حَتَّى يَقْتَدِي بك الْبر ويؤمن عَلَيْك قَول النَّاس. الْعُزْلَة عَن النَّاس توفر الْعرض، وتبقي الْجَلالَة، وتستر الْفَاقَة وترفع مُؤنَة الْمُكَافَأَة. وَنعم صومعة الرجل بَيته، يكف فِيهِ سَمعه وبصره وَلسَانه ويقل فكره. أنعم النَّاس عَيْشًا من تحلى بالعفاف، ورضى بالكفاف وَتجَاوز مَا يخَاف إِلَى مَالا يخَاف. قيل لرجل: مَا السَّيِّد فِيكُم؟ قَالَ: الْبَاذِل لنداه، الْكَاف لأذاه، النَّاصِر لمَوْلَاهُ. قيل: التَّوَاضُع نعْمَة لَا يفْطن لَهَا الْحَاسِد. قَالَ خَالِد بن صَفْوَان: يَنْبَغِي للعاقل أَن يمْنَع معروفه الْجَاهِل واللئيم وَالسَّفِيه؛ أم الْجَاهِل فَلَا يعرف الْمَعْرُوف وَالشُّكْر، وَأما اللَّئِيم فأرض سبخَة لَا تنْبت وَلَا تصلح، وَأما السَّفِيه فَإِنَّهُ يَقُول: أَعْطَانِي فرقا من لساني. خير الْعَيْش مَالا يُطْغِيك وَلَا يُلْهِيك. قَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز: مَا ضرب الْعباد بِسَوْط أوجع من الْفقر. قَالَ فَيْرُوز بن حُصَيْن: إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يزِيل عَن عبد نعْمَة كَانَ أول مَا يُغير مِنْهُ عقله. قيل لمُحَمد بن كَعْب الْقرظِيّ: مَا عَلامَة الخذلان؟ قَالَ: أَن يستقبح الْمَرْء من الْأَمر مَا كَانَ عِنْده حسنا ويستحسن مَا كَانَ عِنْده قبيحاً.(4/135)
قَالَ شيخ من أهل الْمَدِينَة: المعرض بِالنَّاسِ أتقي صَاحبه وَلم يتق ربه. قيل لشيخ هم أَي شَيْء تشْتَهي؟ قَالَ: أسمع الْأَعَاجِيب. قَالُوا: عشر خِصَال فِي عشرَة أَصْنَاف أقبح مِنْهَا فِي غَيرهم: الضّيق فِي الْمُلُوك والغدر فِي الْأَشْرَاف، وَالْكذب فِي الْقَضَاء، والخديعة فِي الْعلمَاء، وَالْغَضَب فِي الْأَبْرَار، والحرص فِي الْأَغْنِيَاء، السَّفه فِي الشُّيُوخ وَالْمَرَض فِي الْأَطِبَّاء والتهزي فِي الْفُقَرَاء، وَالْفَخْر فِي الْقُرَّاء. قَالَ ابْن أبي ليلى: لَا أماري أخي فَأَما أَن أكذبه أَو أغضبهُ. قَالَ حضين بن الْمُنْذر: لَوَدِدْت أَن لي أساطين مَسْجِد الْجَامِع ذَهَبا وَفِضة لَا أنتفع مِنْهُ بِشَيْء. قيل لَهُ: لما يَا أَبَا ساسان؟ قَالَ: يخدمني وَالله عَلَيْهِ موقان الرِّجَال. قَالَ بَعضهم: خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِي خَصْلَتَيْنِ: التقي والغني. وَشر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خَصْلَتَيْنِ: الْفُجُور والفقر. سُئِلَ بعض الْحُكَمَاء: أَي النَّاس أَحَق أَن يتقى؟ قَالَ: الْعَدو وَالْقَوِي، وَالصديق المخادع، وَالسُّلْطَان والغشوم. قيل لرجل: مَا أذهب مَالك؟ فَقَالَ: شرائي مَا لَا أحتاج إِلَيْهِ، وبيعي على الضَّرُورَة. عَاد قوم أَعْرَابِيًا 416 وَقد بلغ مائَة وَخمسين سنة. فَسَأَلُوهُ عَن سنه فَأخْبرهُم فَقَالَ بَعضهم: عمر وَالله. فَقَالَ الشَّيْخ: لَا نقل ذَاك، فوَاللَّه لَو استكملتها لاستقللتها. قَالُوا: أَصْبِر النَّاس الَّذِي لَا يفشي سره إِلَى صديقه مَخَافَة أَن يَقع بَينهمَا شَيْء فيفشيه. قَالُوا: ثَمَانِيَة إِذا أهينوا فَلَا يلوموا إِلَّا أنفسهم: الْآتِي طَعَاما لم يدع إِلَيْهِ(4/136)
والمتآمر على رب الْبَيْت فِي بَيته، وطالب الْمَعْرُوف من غير أَهله، وراجي الْفضل من اللئام، والداخل بَين اثْنَيْنِ لم يدْخلَاهُ، والمستخف بالسلطان، والجالس مَجْلِسا لَيْسَ لَهُ بِأَهْل، والمقبل بحَديثه على من لَا يسمعهُ. قَالُوا: ثَمَرَة القناعة الرَّاحَة، وَثَمَرَة التَّوَاضُع الْمحبَّة، وَثَمَرَة الصَّبْر الظفر. قَالَ بَعضهم: نَحن فِي دهر الْإِحْسَان فِيهِ من الْإِنْسَان زلَّة، والجميل غَرِيب، وَالْخَيْر بِدعَة، والشفقة ملق، وَالدُّعَاء صلَة، وَالثنَاء خداع، وَالْأَدب مَسْأَلَة، وَالْعلم شبكة، وَالدّين تلبيس، وَالْإِخْلَاص رِيَاء، وَالْحكمَة سفه، وَالْقَوْل هذر، والإطراق ترهب، وَالسُّكُوت نفاق، والبذل مُكَافَأَة، وَالْمَنْع حزم، والإنفاق تبذير. جلس رجل إِلَى سهل بن هَارُون فَجعل يسمعهُ كلَاما سخيفاً من صنوف الْهزْل، فَقَالَ لَهُ: تَنَح عني؛ فَإِنَّهُ لَا شَيْء أميل إِلَى ضِدّه من الْعقل. قيل لبَعض الْعلمَاء: أَي علق أنفس؟ فَقَالَ: عقل صرف إِلَيْهِ حَظّ. قَالُوا: الِاعْتِبَار يفيدك الرشاد؛ وَكَفاك أدباً لنَفسك مَا كرهت من غَيْرك. الْجزع من أعوان الزَّمَان. الْجُود حارس الْأَعْرَاض. وَالْعَفو زَكَاة الْقلب. اللطافة فِي الْحَاجة أجدى من الْوَسِيلَة. من أشرف أَفعَال الْكَرِيم غفلته عَمَّا يعلم. احْتِمَال نخوة الشّرف أَشد من احْتِمَال بطر الْغنى وذلة الْفقر مَانِعَة من الصَّبْر، كَمَا أَن عز الْغنى مَانع من كرم الْإِنْصَاف إِلَّا لمن كَانَ فِي غريزته فضل قُوَّة أَو أعراق تنازعه إِلَى بعد الهمة. قيل لبَعْضهِم: من أبعد النَّاس سفرا؟ قَالَ: من كَانَ فِي طلب صديق يرضاه. قَالَ يُونُس بن عبيد: أعياني شَيْئَانِ: دِرْهَم حَلَال وَأَخ فِي الله. قَالَ الْأَصْمَعِي: كل امْرِئ كَانَ ضره خَاصّا فَهُوَ نعْمَة عَامَّة، وكل امْرِئ كَانَ نَفعه خَاصّا فَهُوَ بلَاء عَام. استشارة الْأَعْدَاء من بَاب الخذلان.(4/137)
قَالُوا: إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد هَلَاكًا أهلكه بِرَأْيهِ، وَمَا اسْتغنى أحد عَن المشورة إِلَّا هلك. قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي: الْحر لَا يكون صريع بَطْنه وَلَا فرجه. قيل: سِتّ خِصَال تعرف فِي الْجَاهِل: الْغَضَب من غير شَيْء، وَالْكَلَام من غير نفع، والعطية فِي غير مَوضِع، وَلَا يعرف صديقه من عدوه، وإفشاء السِّرّ، والثقة بِكُل أحد. قَالَ مُحَمَّد بن وَاسع: إِنِّي لأغبط الرجل لَيْسَ لَهُ شَيْء وَهُوَ رَاض عَن الله. قَالُوا: سوء الْعَادة كمين لَا يُؤمن. الْعَادة طبيعة ثَانِيَة. التجني وَافد القطيعة. مِنْك من نهاك، وَلَيْسَ مِنْك من أغراك. ياعجبا من غَفلَة الحساد عَن سَلامَة الأجساد. من سَعَادَة الْمَرْء أَن يطول عمره وَيرى فِي عدوه مَا يسره. تورث الضغائن كَمَا تورث الْأَمْوَال. كم من عَزِيز أذله خرقه، وعزيز أذله خلقه. لَا يصلح اللَّئِيم لأحد وَلَا يَسْتَقِيم إِلَّا من فرق أَو حَاج؛ فَإِذا اسْتغنى أَو ذهبت الْهَيْئَة عَاد إِلَى جوهره. ثَلَاثَة فِي الْمجْلس لَيْسُوا فِيهِ: الْمُسِيء الظَّن بأَهْله 420 والضيق الْخُف، والحافر. قيل لبَعْضهِم: مَا أبقى الْأَشْيَاء فِي أنفس النَّاس؟ قَالَ: أما فِي أنفس الْعلمَاء فالندامة على الذُّنُوب، وَأما فِي أنفس السُّفَهَاء فالحقد. إِذا انْقَضى ملك الْقَوْم جبنوا فِي آرائهم. الضَّعِيف المحترس من الْعَدو الْقوي أقرب إِلَى السَّلامَة من الْقوي المغتر بالعدو الضَّعِيف.(4/138)
الْحزن سوء استكانة وَالْغَضَب لؤم قدرَة. كل مَا يُؤْكَل ينتن، وكل مَا يُوهب يأرج. لَا يصعب على القوى حمل، وَلَا على اللبيب عمل، وَلَا على المتواضع أحد. الطرش فِي الْكِرَام، والهوج والشجاعة فِي الطوَال، والكيس فِي الْقصار والملاحة فِي الْحول، والنبل فِي الربعة، والذكاء فِي الخرس، وَالْكبر فِي العور، والبهت فِي العميان. بالكلفة يكْتَسب الأصدقاء وَبِكُل شَيْء يُمكن اكْتِسَاب الْأَعْدَاء. أفقر النَّاس أَكْثَرهم كسباً من حرَام؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَانَ بالظلم مَا لَا بُد لَهُ من رده، وأنفد فِي اكتسابه أَيَّام عمره، وَمنعه فِي حَيَاته من حَقه، وَكَانَ خَازِنًا لغيره، وَاحْتمل الدّين على ظَهره، وطولب بِهِ فِي حِين فقره. الْأُم النَّاس من سعى بِإِنْسَان ضَعِيف إِلَى سُلْطَان جَائِر أعْسر الْحِيَل تَصْوِير الْبَاطِل فِي صُورَة الْحق عِنْد الْعَاقِل الْمُمَيز. الرِّيبَة ذل حَاضر، والغيبة لؤم بَاطِن. الْقلب الفارغ يبْحَث عَن السوء، وَالْيَد الفارغة تنَازع إِلَى الْإِثْم. لَا يصرف الْقَضَاء إِلَّا خَالق الْقَضَاء. لَا كثير مَعَ إِسْرَاف، وَلَا قَلِيل مَعَ احتراف، وَلَا ذَنْب مَعَ اعْتِرَاف. من كل شَيْء يقدر أَن يحفظ الْجَاهِل إِلَّا من نَفسه. المتعبد على غير فقه كحمار الرَّحَى يَدُور وَلَا يبرح. الْمحرم من طَال نَصبه، وَكَانَ لغيره مكسبه. كَيفَ يحب الدُّنْيَا من تغره، وتسوئه أَكثر مِمَّا تسرهُ.(4/139)
مَعَ العجلة الخطار، وَرُبمَا خطئَ المخاطر بِالْقضَاءِ. شَرّ أَخْلَاق الرِّجَال الْبُخْل والجبن وهما خير أَخْلَاق النِّسَاء. إِذا جَاءَ زمَان الخذلان انعكست الْعُقُول. سَعَة السمحاء أحد الخصبين، وَكَثْرَة المَال عِنْد البخلاء أصعب الجدبين. من سوء الْأَدَب مؤانسة من احتشمك، وكشف خلة من سترهَا عنْدك، والنزوع إِلَى مشورة لم تدع إِلَيْهَا. قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: نعم الْقَوْم السُّؤَال؛ يدقون أبوابكم وَيَقُولُونَ: هَل توجهون إِلَى الْآخِرَة شَيْئا بِشَيْء؟ فِي الِاعْتِبَار غنى عَن الاختبار. غيظ الْبَخِيل على الْجواد أعجب من بخله. أذلّ النَّاس معتذر إِلَى لئيم. أَشْجَع النَّاس أثبتهم عقلا فِي بداهة الْخَوْف. قَالَ مطرف: المعاذر، والمعاتب مغاضب. قَالَ بَعضهم: الْمُرُوءَة يَهْدِمهَا الْيَسِير، لَا يبنيها إِلَّا الْكثير. قَالَ ابْن المقفع: الْمُرُوءَة بِلَا مَال كالأسد الَّذِي يهاب وَلم يفرس، وكالسيف الَّذِي يخَاف وَهُوَ مغمد، وَالْمَال بِلَا مُرُوءَة كَالْكَلْبِ الَّذِي يجْتَنب عقراً وَلم يعقر. وَقَالَ: اطْلُبُوا الْأَدَب؛ فَإِن كُنْتُم ملوكاً برزتم، وَإِن كُنْتُم وسطا فقتم وَإِن أعوزتم الْمَعيشَة عشتم بأدبكم. وَقَالَ أَبُو الْأسود: لَيْسَ شَيْء أعز من الْعلم، والملوك حكام على النَّاس وَالْعُلَمَاء حكام على الْمُلُوك.(4/140)
وَقَالَ بَعضهم: لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يكون إِلَّا فِي إِحْدَى منزلتين: إِمَّا فِي الْغَايَة القصوى من مطَالب الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي غَايَة القصوى من التّرْك لَهَا. من أفضل أَعمال الْبر الْجُود 421 فِي الْعسرَة، والصدق فِي الْغَضَب، وَالْعَفو عِنْد الْقُدْرَة. الْبُخْل خير من الْفقر، وَالْمَوْت خير من الْبُخْل. قَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: إِن الله أنعم على الْعباد بِقدر قدرته، وكلفهم من الشُّكْر بِقدر طاقتهم. قَالَ مُحَمَّد بن حَرْب الْهِلَالِي: وجدت الْعَيْش فِي ثَلَاث: فِي صديق لَا يتَعَلَّم فِي صداقتك مَا يرصد بِهِ عداوتك، وَفِي امْرَأَة تسرك إِذا دخلت عَلَيْهَا وَتحفظ غيبك إِذا غبت عَنْهَا، وَفِي مَمْلُوك يَأْتِي على مَا فِي نَفسك كَأَنَّهُ قد علم مَا تُرِيدُ. قَالُوا: تحْتَاج الْقَرَابَة إِلَى مَوَدَّة وَلَا تحْتَاج الْمَوَدَّة إِلَى قرَابَة. مُخَالطَة الأشرار خطر، والصابر على صحبتهم كراكب الْبَحْر الَّذِي إِن سلم بِبدنِهِ من التّلف، لم يسلم بِقَلْبِه من الحذر. لَا يلْعَب الهموم إِلَّا مُرُور الْأَيَّام ولقاء الإخوان. شَرّ النَّاس من ضايق جليسه وَصديقه فِيمَا لَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ. لأخيك عَلَيْك إِذا حزبه أَمر أَن تُشِير عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ مَا أطاعك، وتبذل لَهُ النُّصْرَة إِذا عصاك. سُئِلَ خَالِد بن صَفْوَان عَن ابْن لَهُ فَقَالَ: كفاني أَمر دنياي، وفرغني لأمر آخرتي. قَالُوا الْغَيْبَة ربيع اللئام. أطول النَّاس نصبا الْحَرِيص إِذا طمع، والحقود إِذا منع. ثَلَاثَة أَشْيَاء يَنْبَغِي للمرء أَن يدْفع شينها بِمَا قدر عَلَيْهِ: فورة الْغَضَب وكلب الْحِرْص، وَعلل الْبُخْل.(4/141)
الشريف يقبل دون حَقه، وَيُعْطى فَوق الْحق الَّذِي عَلَيْهِ. من العجيب أَن يفشي الْإِنْسَان سره ويستكتم غَيره. يَنْبَغِي للرجل أَن يكون ضنيناً بِالْكَذِبِ، فَإِن احْتَاجَ إِلَيْهِ نَفعه. الحسود غَضْبَان على الْقدر وَالْقدر لَا يعتبه.(4/142)
الْبَاب الْخَامِس جنس آخر من الْأَدَب وَالْحكم وَهُوَ مَا جَاءَ لَفظه على لفظ الْأَمر وَالنَّهْي
كَانَ يُقَال: إِذا غضب الْكَرِيم فألن لَهُ الْكَلَام، وَإِذا غضب اللَّئِيم فَخذ لَهُ الْعَصَا. وَقَالَ بَعضهم: غضب الْعَاقِل فِي فعله، وَغَضب الْجَاهِل فِي قَوْله. قَالَ بَعضهم وَقد رأى رجلا يتَكَلَّم فيكثر: أنصف أذنيك من فمك؛ فَإِنَّمَا جعل لَك أذنان وفم وَاحِد لتسمع أَكثر مِمَّا تَقول. قَالُوا: دع المعاذر فَإِن أَكْثَرهَا مفاجر. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: دع الِاعْتِذَار فَإِنَّهُ يخالطه الْكَذِب. قَالُوا: مَكْتُوب فِي الْحِكْمَة: اشكر لمن أنعم عَلَيْك، وأنعم على من شكرك. قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: سل مَسْأَلَة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس يَعْنِي الْعلم. قَالُوا: مروا الْأَحْدَاث بالمراء، والكهول بالفكر، والشيوخ بِالصَّمْتِ. وَقَالَ: عود نَفسك الصَّبْر على جليس السوء؛ فَإِنَّهُ لَا يكَاد يخطئك. قَالَ حَاتِم لعدي ابْنه: يَا بني إِنِّي رَأَيْت الشَّرّ يتركك إِن تركته، فَاتْرُكْهُ. وَكَانَ يُقَال: لَا تَطْلُبُوا الْحَاجة إِلَى ثَلَاثَة: إِلَى كذوب، فَإِنَّهُ يقربهَا وَإِن كَانَت(4/143)
بعيدَة ويباعدها وَهِي قريبَة، وَلَا إِلَى أَحمَق، فَإِنَّهُ يُرِيد أَن ينفعك فيضرك؛ وَلَا إِلَى رجل لَهُ إِلَى صَاحب الْحَاجة حَاجَة، فَإِنَّهُ يَجْعَل حَاجَتك وقاية لِحَاجَتِهِ وَقَالُوا: لَا تصرف 422 حَاجَتك إِلَى من معيشته من رُؤُوس المكاييل وألسنة الموازين. وَكَانَ يُقَال: إياك وَصدر الْمجْلس وَإِن صدرك صَاحبه، فَإِنَّهُ مجْلِس قلعة. قَالُوا: احْذَرُوا صولة الْكَرِيم إِذا جَاع، واللئيم إِذا شبع. قَالَ بَعضهم: سرك دمك، فَلَا تجرينه فِي غير أوداجك. كَانَ يُقَال: إياك وَعزة الْغَضَب، فَإِنَّهَا تصيرك إِلَى ذلة الِاعْتِذَار. قَالَ بَعضهم: إِذا أرْسلت لتأتي ببعر فَلَا تأت بثمر، فيؤكل تمرك، وتعنف على خِلافك. قَالُوا: إِذا وَقع فِي يدك يَوْم السرُور فَلَا تخله فَإنَّك إِذا وَقعت فِي يَد يَوْم الْغم لم يخلك. قَالَ آخر: احفظ سيئك مِمَّن لَا تنشده. أَي مِمَّن تَسْتَحي أَن تسأله عَنهُ. وَمثله لِابْنِ المقفع: احذر من تأمن فَإنَّك مِمَّن تخَاف على حذر. قَالُوا: إِذا أردْت أَن تؤاخي رجلا فَانْظُر من عدوه. وَإِذا أردْت أَن تعادي رجلا فَانْظُر من وليه. قيل: إِذا قلدت أحدا مهما فَعجل لَهُ مَنْفَعَة، وأجمل لَهُ فِي الْعدة، وابسط لَهُ فِي الْمنية. قَالَ بَعضهم: الانقباض من النَّاس مكسبة للعداوة، والانبساط مجلبة لقرين السوء، فَكُن بَين المنقبض والمسترسل؛ فَإِن خير الْأُمُور أوساطها. كَانَ يُقَال: اجْعَل عمرك كَنَفَقَة دفعت إِلَيْك، فَأَنت لَا تحب أَن يذهب مَا تنْفق ضيَاعًا، فَلَا تذْهب عمرك ضيَاعًا.(4/144)
قيل: من أظهر شكرك فِيمَا لم تأت إِلَيْهِ فاحذر أَن يكفرك فِيمَا أسديت إِلَيْهِ. لَا تستعن فِي حَاجَتك بِمن هُوَ للمطلوب أنصح مِنْهُ لَك. لَا يؤمننك من شَرّ جَاهِل قرَابَة وَلَا إلْف، فَإِن أخوف مَا تكون لحريق النَّار أقرب مَا تكون مِنْهَا. لَا ترفع نَفسك عَن شَيْء قربك إِلَى رئيسك. كن فِي الْحِرْص على تفقد عيبك كعدوك. عَلَيْك بِسوء الظَّن فَإِن أصَاب فالحزم، وَإِن أَخطَأ فالسلامة. رضَا النَّاس غَايَة لَا تدْرك، فتحر الْخَيْر بجهدك، وَلَا تكره سخط من يرضيه الْبَاطِل. إِذا رَأَيْت الرجل على بَاب القَاضِي من غير حَاجَة فاتهمه. رأى رجل ابْنه يماكس فِي ابتياع لحم، فَقَالَ: يَا بني، ساهل فَمَا تضيعه من عرضك أَكثر مِمَّا تناله من غرضك. وَقَالَ بَعضهم: الدّين رق، فَلَا تبذل رقك لمن لَا يعرف حَقك. وَقَالَ بَعضهم: احذر كل الحذر أَن يخدعك الشَّيْطَان فيمثل لَك التواني فِي صُورَة التَّوَكُّل، ويورثك الهوينا بالإحالة على الْقدر، فَإِن الله أمرنَا بالتوكل عِنْد انْقِطَاع الْحِيَل، وبالتسليم للْقَضَاء بعد الْإِعْذَار فَقَالَ: " خُذُوا حذركُمْ. وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة " وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " اعقل وتوكل ". قَالُوا: لتكن عنايتك بِحِفْظ مَا اكتسبته كعنايتك باكتسابه، وَلَا تصْحَب غَنِيا؛ فَإنَّك إِن ساويته فِي الْإِنْفَاق أضرّ بك، وَإِن تفضل عَلَيْك استذلك. إِذا سَأَلت كَرِيمًا حَاجَة فَدَعْهُ يتفكر؛ فَإِنَّهُ لَا يفكر إِلَّا فِي خير. وَإِذا سَأَلت لئيماً حَاجَة فغافصه وَلَا تَدعه يتفكر فيتغير. وَفِي ضد ذَلِك:(4/145)
إِذا سَأَلت لئيماً حَاجَة فَأَجله حَتَّى يروض نَفسه. الْعَدو عدوان: عَدو ظلمته، وعدو ظلمك. . فَإِن اضطرك الدَّهْر إِلَى أَحدهمَا فَاسْتَعِنْ بِالَّذِي ظلمك؛ فَإِن الآخر موتور. لَا تستصغرن أَمر عَدوك إِذا حاربته، لِأَنَّك إِن ظَفرت بِهِ لم تحمد، وَإِن ظفر بك لم يعْذر، والضعيف المحترس من الْعَدو الْقوي أقرب إِلَى السَّلامَة من الْقوي 423 المغتر بالضعيف. لَا تصْحَب من تحْتَاج أَن مَا يعرفهُ الله مِنْك. صن الاسترسال مِنْك حَتَّى تَجِد لَهُ مُسْتَحقّا، وَاجعَل أنسك آخر مَا تبذله من ودك. لَا تسل غير الله فَإِنَّهُ إِن أَعْطَاك أَغْنَاك. الصاحب كالرقعة فِي الثَّوْب فالتمسه مشاكلاً. إياك وَكَثْرَة الإخوان؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْذِيك إِلَّا من يعرفك. قَالَ بَعضهم: لَا تسبوا الغوغاء؛ فَإِنَّهُم يطفئون الْحَرِيق، وَيخرجُونَ الغريق؛ ويسدون البثوق. قَالَ ابْن السماك: دع الْيَمين لله إجلالاً، وَلِلنَّاسِ جمالاً، وَاعْلَم أَن الْعَادَات قاهرات، فَمن اعْتَادَ شَيْئا فِي سره فضحه فِي عَلَانِيَته. قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُصعب: إِذا كَانَ لَك صديق فَلم تحمد إخاءه ومودته فَلَا تظهر ذَلِك للنَّاس؛ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة السَّيْف الكليل فِي منزل الرجل، ويرهب بِهِ عدوه، وَلَا يعلم الْعَدو أقاطع هُوَ أم كليل. قَالُوا: دع الذُّنُوب قبل أَن تدعك. كَانَ مُعَاوِيَة بن الْحَارِث يَقُول: لَا يطمعن الخب فِي كَثْرَة الصّديق، وَلَا ذُو الْكبر فِي حسن الثَّنَاء.(4/146)
قيل: من مدحك بِمَا لَيْسَ فِيك فَلَا تأمن بَهته لَك، وَمن أظهر لَك شكر مَا لم تأت فاحذر أَن يكفر نِعْمَتك. قَالَ عبد الحميد: لَا تركب الْحمار؛ فَإِنَّهُ إِن كَانَ فارهاً أتعب يدك، وَإِن كَانَ بليداً أتعب رجلك. كَانَ ابْن المقفع يَقُول: إِذا نزل بك مَكْرُوه فَانْظُر، فَإِن كَانَ لَهُ حِيلَة فَلَا تعجز، وَإِن كَانَ مِمَّا لَا حِيلَة فِيهِ فَلَا تجزع. قَالَ آخر: تصفح طلاب حكمك، كَمَا تتصفح خطاب حَرمك. قَالَ آخر: تعلمُوا الْعلم فَإِنَّهُ زين للغني، وَعون للْفَقِير. إِنِّي لَا أَقُول يطْلب بِهِ وَلَكِن يَدعُوهُ إِلَى القناعة. لَا ترض قَول أحد حَتَّى ترْضى فعله، وَلَا ترض فعل أحد حَتَّى ترْضى عقله، وَلَا ترض عقل أحد حَتَّى ترْضى حياءه؛ فَإِن ابْن آدم مطبوع على كرم ولؤم، فَإِذا قوي الْحيَاء قوي الْكَرم، وَإِذا ضعف الْحيَاء قوي اللؤم. تعلمُوا الْعلم وَإِن لم تنالوا بِهِ حظاً؛ فَلِأَن يذم الزَّمَان لكم أحسن من أَن يذم بكم. اجْعَل سرك إِلَى وَاحِد ومشورتك إِلَى ألف. قَالَ بَعضهم: إِن الله خلق النِّسَاء من عي وعورة؛ فداووا العي بِالسُّكُوتِ واستروا الْعَوْرَة بِالْبُيُوتِ. قَالَ رجل لِابْنِهِ: تزي بزِي الْكتاب، فَإِن فيهم أدب الْمُلُوك، وتواضع السوقة. قَالَ الزُّهْرِيّ: سَمِعت رجلا يَقُول لهشام بن عبد الْملك: لَا تعدن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عدَّة لَا تثق من نَفسك بإنجازها. وَلَا يغرنك المرتقى السهل إِذا كَانَ المنحدر وعراً. وَاعْلَم أَن للأعمال جَزَاء، فَاتق العواقب، وَأَن للأمور بغتات فَكُن على حذر.(4/147)
قَالَ آخر: لَا تُجَاهِد الطّلب جِهَاد المغالب، وَلَا تتكل إتكال المستسلم؛ فَإِن ابْتِغَاء الْفضل من السّنة، والإجمال فِي الطّلب من الْعِفَّة. وَلَيْسَت الْعِفَّة بدافعة رزقا، وَلَا الْحِرْص بجالب فضلا. سمع بَعضهم إنْسَانا يتَكَلَّم بِمَا لَا يعنيه فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّمَا تملي على حافظيك، وتكتب إِلَى رَبك؛ فَانْظُر على من تملى، وَإِلَى من تكْتب. قَالَ بَعضهم: أقِم الرَّغْبَة إِلَيْك مقَام الْحُرْمَة بك، وَعظم نَفسك عَن التعظم، وتطول وَلَا تتطاول. قَالَ آخر: عاملوا الْأَحْرَار بالكرامة الْمَحْضَة، والأوساط بالرغبة والرهبة والسفل بالهوان. كن لِلْعَدو المكاتم أَشد حذرا مِنْك لِلْعَدو المبارز. قَالَ سلم بن قُتَيْبَة لأهل بَيته: لَا تمازحوا فيستخف بكم السوقة، وَلَا تدْخلُوا 424 الْأَسْوَاق فتدق أخلاقكم وَلَا ترجلوا فيزدريكم أكفاؤكم. قَالَ آخر: احفظ شيئك مِمَّن تستحيي أَن تسأله عَن شَيْء إِن ضَاعَ لَك. إِذا كنت فِي مجْلِس فَلم تكن الْمُحدث وَلَا الْمُحدث فَقُمْ. كَانَ يُقَال: لَا تستصغرن حَدثا من قُرَيْش، وَلَا صَغِيرا من الْكتاب، وَلَا صعلوكاً من الفرسان، وَلَا تصادقن ذِمِّيا وَلَا خَصيا وَلَا مؤنثاً؛ فَإِنَّهُ لَا ثبات لموداتهم. قَالُوا: لَا تدخل فِي مشورتك بَخِيلًا فيقصر بعقلك، وَلَا جَبَانًا فيخوفك مَا لَا يخَاف. وَلَا حَرِيصًا فيعدك مَا لَا يُرْجَى؛ فَإِن الْجُبْن وَالْبخل والحرص طبيعة وَاحِدَة يجمعها سوء الظَّن. قَالَ عون بن عبد الله: لَا تكن كمن تغلبه نَفسه على مَا يظنّ وَلَا يغلبها على مَا يستيقن.(4/148)
قَالَ رجل لِابْنِهِ: يَا بني؛ اعص هَوَاك وَالنِّسَاء واصنع مَا بدا لَك. كَانَ مَالك بن مسمع إِذا ساره إِنْسَان فِي مَجْلِسه يَقُول: أظهره فَلَو كَانَ خيرا أَو حسنا مَا كتمته. وَكَانَ يُقَال: مَا كنت كاتمه من عَدوك فَلَا تظهر عَلَيْهِ صديقك. قَالَ: كل من الطَّعَام مَا تشْتَهي، والبس من الثِّيَاب مَا يَشْتَهِي النَّاس. قَالُوا فِي الدَّار: لتكن أول مَا يبْتَاع وَآخر مَا يُبَاع. قَالَ الثَّوْريّ: من كَانَ فِي يَده شَيْء فليصلحه، فَإِنَّكُم فِي زمَان إِذا احْتَاجَ الرجل فِيهِ إِلَى النَّاس كَانَ أول مَا يبذله لَهُم دينه. قَالَ الْحر الْعقيلِيّ لِابْنِهِ: إِذا قدمت الْمصر فَاسْتَكْثر من الصّديق، وَأما الْعَدو فَلَا يهمنك. قَالَ ابْن المقفع: ابذل لصديقك دمك وَمَالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك وللعامة بشرك وتحيتك. ولعدوك عدلك وإنصافك. واضنن بِدينِك وعرضك عَن كل حد. وَقَالُوا: رو بحزم، فَإِذا استوضحت فاعزم. قَالَ صعصعة لِابْنِ أَخِيه: إِذا لقِيت الْمُؤمن فخالطه، وَإِذا لقِيت الْفَاجِر فخالفه، وَدينك فَلَا تكلمنه. قَالُوا: لَا تَزَوَّجن حرمتك إِلَّا عَاقِلا؛ إِن أحبها أكرمها، وَإِن أبغضها أنصفها. دخل عبد الْعَزِيز بن زُرَارَة الْكلابِي على مُعَاوِيَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ جَالس الألباء أَعدَاء كَانُوا أَو أصدقاء؛ فَإِن الْعقل يَقع على الْعقل. قَالَ أَبُو السَّرَايَا لأبى الشوك غُلَامه: كن بحيلتك أوثق مِنْك بشدتك وبحذرك أفرح مِنْك بنجدتك؛ فَإِن الْحَرْب حَرْب المتهور وغيمة المتحدر. قَالَ بَعضهم: قَرَأت على قَائِم بحمص مَكْتُوبًا: إِذا عز أَخُوك فهن. وَتَحْته مَكْتُوبًا: قَالَ هامان: - وَكَانَ أعلم وأعقل وَأحكم: إِذا عز أَخُوك فأهنه. قَالُوا: النعم وحشية فقيدوها بِالْمَعْرُوفِ.(4/149)
قَالَ الرّبيع بن زِيَاد: من أَرَادَ النجابة فَعَلَيهِ بالمق الطوَال، وَمن أَرَادَ التَّلَذُّذ فَعَلَيهِ بالقصار؛ فَإِنَّهُنَّ كنائن الْجِمَاع. قَالَ الشَّافِعِي: احذر من تأمنه، فَأَما من تحذره فقد كفيته. وَقَالَ: إِذا أَخْطَأتك الصنيعة إِلَى من يَتَّقِي الله فاصنعها إِلَى من يَتَّقِي الْعَار. قَالَ ابْن السماك: لَا تشتغل بالرزق الْمَضْمُون عَن الْعَمَل الْمَفْرُوض. وَقَالَ عون بن عبد الله: لَا تكن كمن تغلبه نَفسه على مَا يظنّ وَلَا يغلبها على مَا يستيقن. قَالَ ابْن المقفع: إِذا أكرمك النَّاس لمَال أَو سُلْطَان فَلَا يعجبنك ذَلِك؛ فَإِن زَوَال الْكَرَامَة بزوالهما، وَلَكِن ليعجبك إِن أكرموك لأدب أَو دين. كَانَ مطرف يَقُول: انْظُرُوا قوما إِذا ذكرُوا بِالْقِرَاءَةِ لَا تَكُونُوا مِنْهُم، وقوماً إِذا ذكرُوا بِالْفُجُورِ لَا تَكُونُوا مِنْهُم، وَلَكِن كونُوا بَين هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء 425 قَالَ بَعضهم: من سَأَلَك لم يكرم وَجهه عَن مسألتك فَأكْرم وَجهك عَن رده. قَالَ مَيْمُون بن مَيْمُون: لَا تَطْلُبن إِلَى بخيل حَاجَة؛ فَإِن طلبت إِلَيْهِ فَأَجله حَتَّى يروض نَفسه. قَالَ ابْن المقفع: إياك ومشاورة النِّسَاء؛ فَإِن رأيهن إِلَى أفن، وعزمهن إِلَى وَهن، وأكفف عَلَيْهِنَّ من أبصارهن بحجابك إياهن، فَإِن شدَّة الْحجاب خير لَك من الارتياب وَلَيْسَ خروجهن بأشد من دُخُول من لاتثق بِهِ عَلَيْهِنَّ؛ فَإِن اسْتَطَعْت أَن لَا يعرفن غَيْرك افْعَل. وَلَا تملكن امْرَأَة من الْأَمر مَا جَاوز نَفسهَا، فَإِن ذَلِك أنعم لحالها، وأرخى لبالها. وَإِنَّمَا الْمَرْأَة رَيْحَانَة وَلَيْسَت بقهرمانة؛ فَلَا تعد بكرامتها نَفسهَا، وَلَا تعطها أَن تشفع لغَيْرهَا. وَلَا تطل الْخلْوَة مَعَ النِّسَاء فيمللنك وتملهن، واستبق من نَفسك بَقِيَّة؛ فَإِن إمساكك عَنْهُن وَهن يردنك باقتدار خير من أَن يهجمن مِنْك على انكسار. وَإِيَّاك والتغاير فِي غير مَوضِع غيرَة، فَإِن ذَلِك يَدْعُو الصَّحِيحَة مِنْهُنَّ إِلَى السقم.(4/150)
قَالَ ابْن المقفع: الْخَتْم حتم؛ فَإِذا أردْت أَن تختم على كتاب فأعد النّظر فِيهِ فَإِنَّمَا تختم على عقلك. وَقَالَ: الدّين رق، فَانْظُر عِنْد من تضع نَفسك. كَانَ يُقَال: إِذا قَالَ أحدكُم: وَالله. فَلْينْظر مَا يضيف إِلَيْهَا. دخل عبد الْعَزِيز بن زُرَارَة الْكلابِي على مُعَاوِيَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ جَالس الألباء؛ أَعدَاء كَانُوا أَو أصدقاء، فَإِن الْعقل يَقع على الْعقل. كَانَ بَعضهم يَقُول: أحيوا الْحيَاء بمجالسة من يستحيا مِنْهُ. كَانَ يُقَال: إِذا وجدت الشَّيْء فِي السُّوق فَلَا تطلبه من صديق. قَالَ الْعَبَّاس بن الْحسن الْعلوِي: اعْلَم أَن رَأْيك لَا يَتَّسِع لكل شَيْء، ففرغه للمهم من أمورك؛ وَأَن مَالك لَا يُغني النَّاس كلهم، فاخصص بِهِ أهل الْحق؛ وَأَن كرامتك لَا تطبق الْعَامَّة، فتوخ بهَا أهل الْفضل، وَأَن ليلك ونهارك لَا يستوعبان حوائجك فَأحْسن قسمتك بَين عَمَلك ودعتك. وَكَانَ يُقَال: أحيوا الْمَعْرُوف بإماتته. وَقَالَ قيس بن عَاصِم: يَا بني اصحبوا من يذكر إحسانكم إِلَيْهِ: وينسى أياديه لديكم. وَكَانَ مَالك بن دِينَار يَقُول: جاهدوا أهواءكم كَمَا تجاهدون أعداءكم. إِذا رغبت فِي المكارم فاجتنب الْمَحَارِم. من كَانَ فِي وَطن فليوطن غَيره وَطنه ليرتع فِي وَطن غَيره فِي غربته. أَرَادَ رجل سفرا فَقَالَ لَهُ بَعضهم: إِن لكل رفْقَة كَلْبا يشركهم فِي فضلَة الزَّاد، ويهر دونهم؛ فَإِن قدرت أَلا تكون كلب رفقتك فافعل، وَإِيَّاك وَتَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا فَإنَّك مصليها لَا محَالة، فصلها وَهِي تقبل مِنْك. قَالَ ابْن السماك: إِن من النَّاس نَاسا غرهم السّتْر، وفتنهم الثَّنَاء. فَلَا يغلبن جهل غَيْرك بك علمك بِنَفْسِك. قيل: لَا تثقن كل الثِّقَة بأخيك؛ فَإِن صرعة الاسترسال لَا تستقال.(4/151)
من أَمْثَال التّرْك: اسْكُتْ تربح مَا عنْدك، وشاور تربح مَا عِنْد غَيْرك. قيل: لَا تكن مثل من تغلبه نَفسه على مَا يظنّ وَلَا يغلبها على مَا يستقين. انتقم من الْحِرْص بالقناعة كَمَا ينتصر من الْعَدو بِالْقصاصِ. أوصى أَبُو الْهُذيْل أَصْحَابه فَقَالَ: لَا تدْخلُوا فِي الشَّهَادَة فتصيروا أسراء 426 الْحُكَّام، وَلَا فِي الْقَضَاء؛ فَإِن فرحة الْولَايَة لَا تفي بترحة الْعَزْل، وَلَا فِي رِوَايَة الحَدِيث فيكذبهم الْجُهَّال وَالصبيان، وَلَا فِي وَصِيَّة فيطعن عَلَيْكُم بالخيانة، وَلَا فِي إِمَامَة الصَّلَاة فَمن شَاءَ صلى وراءكم وَمن شَاءَ لم يصل. وَقَالَ: لَا تجالسوا من لَا يوثق بِدِينِهِ وأمانته، وَلَا تبدءوا الْمُخَالفين بِالسَّلَامِ فَإِنَّهُم إِن لم يجيبوا تقاصرت إِلَيْكُم نفوسكم ولحقتكم خجلة. قَالُوا: إِذا قصرت يدك عَن الْمُكَافَأَة فليطل لسَانك بالشكر. قَالَ بَعضهم لمؤدب وَلَده: فقههم فِي الْحَلَال وَالْحرَام، فَإِنَّهُ حارس من أَن يظلموا، ومانع من أَن يظلموا. كن إِلَى الِاسْتِمَاع أسْرع مِنْك إِلَى القَوْل، وَمن خطأ القَوْل أَشد حذرا من خطأ السُّكُوت. قَالَ بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ: اجتهدوا بِالْعَمَلِ، فَإِن قصر بكم ضعف فكفوا عَن الْمعاصِي. وَقَالَ بَعضهم: من لم ينشط بحديثك فارفع عَنهُ مئونة الِاسْتِمَاع مِنْك. قَالُوا: من ثقل عَلَيْك بِنَفسِهِ، وغمك فِي سُؤَاله، فألزمه أذن صماء، وعيناً عمياء. وَقَالَ عبد الله بن شَدَّاد: أرى دَاعِي الْمَوْت لَا يقْلع، وَأرى من مضى لَا(4/152)
يرجع. وَلَا تزهدن فِي مَعْرُوف؛ فَإِن الدَّهْر ذُو صروف، فكم من رَاغِب قد كَانَ مرغوباً إِلَيْهِ. وطالب أصبح مَطْلُوبا إِلَيْهِ، وَالزَّمَان ذُو ألوان، وَمن يصحب الزَّمَان ير الهوان وَإِن غلبت يَوْمًا على المَال فَلَا تغلبن على الْحِيلَة على كل حَال. وَكن أحسن مَا تكون فِي الظَّاهِر حَالا أقل مَا تكون فِي الْبَاطِن مَالا. وَقَالَ آخر: لَا يكونن مِنْكُم الْمُحدث لَا يستمع مِنْهُ، وَلَا الدَّاخِل فِي سر اثْنَيْنِ لم يدْخلَاهُ فِيهِ، وَلَا الْآتِي دَعْوَة لم يدع إِلَيْهَا، وَلَا جَالس فِي مجْلِس لَا يسْتَحقّهُ، وَلَا طَالب الْفضل من أَيدي اللئام، وَلَا المتعرض للخير من عِنْد عدوه، وَلَا المتحمق فِي الدَّالَّة. قَالُوا: اطْلُبُوا الْمَعيشَة فَإِن الْفقر أول مَا يبْدَأ بدين الْإِنْسَان. إِذا خالطت فخالط حسن الْخلق؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى خير، وَلَا تخالط سيء الْخلق؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى شَرّ. اطبع الطين مَا دَامَ رطبا، واغرس الْعود مَا دَامَ لدنا. قَالَ ابْن السماك: خف الله حَتَّى كَأَنَّك لم تطعه، وَأَرْجُو الله حَتَّى كَأَنَّك لم تعصه. قَالَ رجل لآخر: كَيفَ أسلم على الإخوان؟ فَقَالَ: لَا تبلغ بهم النِّفَاق وَلَا تقصر بهم عَن الإستحقاق. قَالَ بعض الْعَرَب: إِذا وضعت طَعَامك فافتح بابك، وَإِذا وضعت شرابك فأغلقه؛ فَإِن النَّبِيذ رضَاع فَانْظُر من تراضع. انصح لكل مستشر، وَلَا تستشر إِلَّا الناصح اللبيب. استشر عَدوك تعرف مِقْدَار عداوته. لَا تشَاور إِلَّا الحازم غير الحسود، واللبيب غير الحقود. قَالَ زِيَاد بن أبي حسان: لَا تطلب من نَفسك الْعَام مَا عودتك عَام أول. عاشروا النِّسَاء بِأُمُور ثَلَاثَة: ألزموهن الْبيُوت، واتهموهن على الْأَسْرَار، واطووا عَنْهُن الْأَحَادِيث.(4/153)
صن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الْخُيَلَاء، وجهدك بالإجمال فِي الطّلب. لَا تملك الْمَرْأَة من أمرهَا مَا جَاوز نَفسهَا، فَإِن ذَلِك أنعم بِحَالِهَا وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، وَلَا تطمعها فِي الشَّفَاعَة لغَيْرهَا فيميل من شفعت لَهُ عَلَيْك مَعهَا. 427 - عود نَفسك السماح، وتخير لَهَا من كل خلق أحْسنه؛ فَإِن الْخَيْر عَادَة، وَالشَّر لجاجة، والصدود آيَة المقت، والعلل آيَة الْبُخْل. كن سَمحا وَلَا تكن مبذراً، وَكن مُقَدرا وَلَا تكن مقتراً. إياك والمرتقى السهل إِذا كَانَ المنحدر وعرا. رُوِيَ ذَلِك عَن مُحَمَّد بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. احترس من ذكر الْعلم عِنْد من لَا يُريدهُ، وَمن ذكر الْقَدِيم عِنْد من لَا قديم لَهُ؛ فَإِن ذَلِك يحدث التعيير، وبالحري أَن تتخذه سلما إِلَى الضغن عَلَيْك. إِذا زللت فَارْجِع، وَإِذا نَدِمت فأقلع، وَإِذا أَسَأْت فاندم، وَإِذا مننت فاكتم، وَإِذا منعت فأجمل. وَمن يسلف الْمَعْرُوف يكن ربحه الْحَمد. اطلب الرَّحْمَة بِالرَّحْمَةِ. اتَّقِ العثار بِحسن الِاعْتِبَار. لَا تستأنس بِمن لم تبل خلائقه. لَا تأمن الْعَدو على حَال. لَا تغتر بِفضل قوتك على الضَّعِيف لتشتد وحشتك من اللَّطِيف الموتور. أعدد السَّيِّئَات للتراث. لَا تفرح بالرجاء فَإِنَّهُ غرور، وَلَا تتعجل الْغم بالخوف فَإِنَّهُ شكّ. حاسب نَفسك تسلم وتسعد. لن يخلوا أحد من ذمّ، فاجهد أَن تخلوا من ذمّ الأخيار.(4/154)
حَارب عَدوك مَا حاربك بشخصه، فَإِذا أخْفى شخصه فاحرس نَفسك مِنْهُ؛ لِأَن من يعلم أَنه لَا ينجيه مِنْك إِلَّا الْمَوْت لَا ينجيك مِنْهُ إِلَى مثل ذَلِك، والمستسلم للْمَوْت لَا يُبَالِي على مَا أقدم. احذر فلتات المزاحي وصرعات البغى. لَا تُجَاهِد الطّلب جِهَاد المغالب، وَلَا تتكل على الْقدر إتكال المستسلم فَإِن ابْتِغَاء الْفضل سنة، وإجمال الطّلب عفة، وَلَيْسَت الْعِفَّة بدافعة رزقا، وَلَا الْحِرْص بجالب فضلا، والرزق مَقْدُور وَالْأَجَل مَوْقُوف، وَفِي استعجال الْحَرِيص اكْتِسَاب المآثم. لَا تشبهن رضاك بِغَضَبِك؛ فَتكون مِمَّن لَا يضر غَضَبه وَلَا ينفع رِضَاهُ. اغتنم الْعَمَل مَا دَامَت نَفسك سليمَة، وَأَجْعَل كل سَاعَة بشغلها لآخرتك غنيمَة. لَا تكونن لغير الله عبدا مَا وجدت من الْعُبُودِيَّة بدا. احم نَفسك الْقنُوط، وأتهم الرَّجَاء. لَا تغير أَخَاك وَأحمد الَّذِي عافاك. أنظر مَا عنْدك فَلَا تضعه إِلَّا فِي حَقه، وَمَا لَيْسَ عنْدك فَلَا تَأْخُذهُ إِلَّا بِحقِّهِ. احْتمل مِمَّن أدل عَلَيْك وَأَقْبل مِمَّن أعْتَذر إِلَيْك. ليكن عَمَلك فِيمَا بَيْنك وَبَين أعدائك الْعدْل، وَفِيمَا بَيْنك وَبَين أصدقائك الرِّضَا؛ فَإِن الْعَدو خصم تصرفه بِالْحجَّةِ، وتغلبه بالحكم. وَالصديق لَيْسَ بَيْنك وَبَينه قَاض، وَإِنَّمَا هُوَ رِضَاهُ وَحكمه. إِذا أردْت أَن تخدع النَّاس فتغاب عَلَيْهِم. إِذا صافاك عَدوك رِيَاء مِنْهُ فتقلق مصافاته إياك بأوكد مَوَدَّة؛ فَإِنَّهُ إِذا ألف ذَلِك واعتاده خلصت لَك مودته. فكر قبل أَن تعزم، وَأعْرض قبل إِن تصرم، وتدبر قبل أَن تهجم، وشاور قبل أَن تقدم. اسع فِي طلب رضَا الْأَحْرَار فَإِن رضَا اللئام غير مَوْجُود. اقتصد وداوم وَأَنت الْجواد السَّابِق. لَا تألف الْمَسْأَلَة فيألفك الْمَنْع.(4/155)
لَا يغلبن جهل غَيْرك بك علمك بِنَفْسِك؛ فَإِن أَقْوَامًا غرهم ستر الله وفتنهم حسن الثَّنَاء. قَالَ ابْن ضبارة: لَيْسَ للأحرار ثمن إِلَّا الْكَرَامَة، فأكرموا الْأَحْرَار تملكوهم. اطلب الْحَاجة إِلَى إخوانك، قبل تَأَكد مَوَدَّتهمْ لَك؛ فَإنَّك 428 إِذا طلبتها مِمَّن قد وثق بك اتكل على الدَّالَّة، وردك عَن حَاجَتك بالثقة. لَا تسْأَل الْحَوَائِج غير أَهلهَا، وَلَا تسألها فِي غير حينها، وَلَا تسْأَل مَا لست لَهُ مُسْتَحقّا؛ فَتكون للحرمان مستوجباً. إِذا غشك صديقك فاجعله مَعَ عَدوك. إِذا غلبك عَدوك على صديقك فَخَل عَنهُ. لَا تعدن من إخوانك من آخاك فِي أَيَّام مقدرتك للمقدرة. وَاعْلَم أَنه يتثقل عَلَيْك فِي أَحْوَال ثَلَاث: فَيكون صديقا يَوْم حَاجته إِلَيْك، وَمَعْرِفَة يَوْم استغنائه عَنْك، ومتجنياً عدوا يَوْم حَاجَتك إِلَيْهِ. لَا تسرن بِكَثْرَة الإخوان مَا لم يَكُونُوا خياراً؛ فَإِن الإخوان عِنْد المتخيرين بِمَنْزِلَة النَّار، الَّتِي قليلها مَتَاع وكثيرها بوار. ارع حق الإخوان وَحقّ الْأَخ على الْأَخ أَن يحوطه غَائِبا، ويعضده شَاهدا ويخلف عَلَيْهِ محروباً، ويعوده مَرِيضا، ويواسيه مُحْتَاجا، ويضحك فِي وَجهه مُقبلا، وَيَدْعُو لَهُ مُدبرا. ليشتد عطفك على سقطات إخوانك. ارْض بِالْعَفو من إخوانك، وأبذل لَهُم مجهودك، واستزد من الْجَمِيع. إِذا دفعتم عَن حقكم فَاطْلُبُوا أَكثر مِنْهُ، وَإِذا بخع لكم بِهِ فصيروا إِلَيْهِ. جالسوا الألباء أصدقاء كَانُوا أَو أَعدَاء، فَإِن الْعُقُول تلقح الْعُقُول. لَا يغلبهن عَلَيْكُم سوء الظَّن فيدعكم ومالكم من صديق.(4/156)
الْبَاب السَّادِس جنس آخر من الحكم والأمثال والآداب وَهُوَ مَا كَانَ فِي أَوله " من "
من كثرت نعْمَة الله عِنْده كثر عدوه. من يصحب الزَّمَان ير الهوان. من لم يمت لم يفت. من صدق النَّاس كرهوه. من يطلّ ذيله ينتطق بِهِ. من فَسدتْ بطانته كَانَ كمن غص بِالْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَو غص بِغَيْرِهِ أجَاز بِهِ غصته. من أَكثر أسقط. من اتبع غي النَّاس كَانَ أغوى. من لَقِي النَّاس بِمَا يكْرهُونَ، قَالُوا فِيهِ مَا لَا يعلمُونَ. من أحب الذّكر فليستعمل الصَّبْر. وَمن شح على دينه فليستعمل الْخَوْف، وَمن ضن بعرضه فليمسك عَن المراء. من صفا قلبه صفا لِسَانه. من خلط خلط لَهُ. من لم يضن بِالْحَقِّ عَن أَهله فَهُوَ عين الْجواد. وَقَالَ الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ: من أيقظ فتْنَة فَهُوَ أكلهَا. وَمن كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ: من اشتاق إِلَى الْجنَّة سلا عَن الشَّهَوَات، وَمن أشْفق من النَّار كف عَن الْمَحَارِم، وَمن زهد فِي الدُّنْيَا تهاون بالمصائب، وَمن ارتقب الْمَوْت سارع فِي الْخَيْر.(4/157)
وَقَالُوا: من اسْتغنى كرم عَن أَهله. من قرب السفلة واطرح ذَوي الأحساب والمروءات اسْتحق الخذلان. من انتقم انتصف، وَمن عَفا تفضل، وَمن شفا غيظه لم يذكر فِي النَّاس فَضله. من كظم غيظه فقد حلم، وَمن حلم فقد صَبر، وَمن صَبر فقد ظفر. من طلب الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة خسرهما 429، وَمن طلب الْآخِرَة بِعَمَل الدُّنْيَا ربحهما. قَالَ بَعضهم: من ملك نَفسه عِنْد أَربع حرمه الله على النَّار: حِين يغْضب وَحين يرغب، وَحين يرهب، وَحين يَشْتَهِي. قَالَ بكر بن عبد الله: من كَانَ لَهُ من نَفسه واعظ عَارضه سَاعَة الْغَفْلَة وَحين الحمية. من أمل أحدا هابه، وَمن قصر عَن شَيْء عابه. قيل لحكيم: من أَسْوَأ النَّاس حَالا؟ قَالَ: من لم يَثِق بِأحد لسوء ظَنّه، وَلَا يَثِق بِهِ أحد لسوء أَثَره. قيل لبَعْضهِم: من أحب النَّاس إِلَيْك؟ قَالَ: من كثرت أياديه عِنْدِي قَالَ: فَإِن لم يكن؟ قَالَ: من كثرت أيادي عِنْده. كَانَ يُقَال: من طَال صمته اجتلب من الهيبة مَا يَنْفَعهُ، وَمن الوحشة مَالا يضرّهُ. من طلب موضعا لسره فقد أفشاه. قيل لحكيم: من أنعم النَّاس عَيْشًا؟ فَقَالَ: من كفي أَمر دُنْيَاهُ، وَلم يهتم بِأَمْر آخرته. وَقيل: من زَاد عقله نقص حَظه. وَمَا جعل الله لأحد عقلا وافراً إِلَّا احتسب عَلَيْهِ من رزقه.(4/158)
قيل لبَعْضهِم: من السَّيِّد؟ فَقَالَ: من إِذا حضر هابوه، وَإِذا غَابَ اغتابوه. من عمل بِالْعَدْلِ فِيمَن دونه رزق الْعدْل مِمَّن فَوْقه. من طلب عزا بذل وظلم وباطل، أورثه الله ذلاً بإنصاف وَحقّ. من حسد من دونه قل عذره، وَمن حسد من فَوْقه أتعب بدنه. وَمن وطئته الْأَعْين وطئته الأرجل. من عجز عَن تَقْوِيم نَفسه فَلَا يَلُومن من لم يستقم لَهُ. من رجى الْفرج لَدَيْهِ، صرفت أَعْنَاق الرِّجَال إِلَيْهِ. من قصر فِي أمره لم يسع لَهُ غَيره. من رباه الهوان أبطرته الْكَرَامَة. من ساسه الْإِكْرَام لم يصبر على المذلة. من انتجعك مؤملاً فقد أسلفك حسن الظَّن بك. من استكده الْجد استراح إِلَى بعض الْهزْل. من أحب أَن يطاع، سَأَلَ مَا يُسْتَطَاع. من أعذر كمن أنجح. وَمن لم يصن نَفسه لم يصن أَهله. من أَدخل نَفسه فِي عِظَام الْأُمُور بِغَيْر نظر وَلَا روية أوشك أَلا يخرج مِنْهَا. من كسل عَن عمله طمع فِي كل غَيره. من لم يرب مَعْرُوفَة لم يصنعه وَمن لم يَضَعهُ فِي أَصله فقد أضاعه. قَالَ بَعضهم: عاتبت غَسَّان بن عباد عَن اقتصاده فِي لبسه وزيه فَقَالَ: من عظمت مئونته فِي نَفسه قل فَضله على غَيره. من حمل الشَّيْء جملَة أَلْقَاهُ جملَة. من كَانَت الدُّنْيَا همه، كثر فِي الْقِيَامَة غمه. من أجمل فِي الطّلب أَتَاهُ رزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب. من حصن شَهْوَته صان قدره.(4/159)
من ضَاقَ خلقه مله أَهله. من ركب العجلة لم يَأْمَن الكبوه. من لم يَثِق لم يوثق بِهِ. من أقاده الدَّهْر أقاد مِنْهُ. من أَخطَأ مَوضِع قدمه، تعفر خداه بدمه. من ألحف أدّى. من استطال على الْأَكفاء فَلَا يثقن مِنْهُم بالصفاء. من أَكثر ذكر الضغائن اكْتسب الْعَدَاوَة. من لم يحمد صَاحبه على حسن النِّيَّة لم يحمده على حسن الصنيعة. ثَلَاثَة من كن فِيهِ اسْتكْمل الْإِيمَان: من إِذا غضب لم يُخرجهُ غَضَبه إِلَى الظُّلم، وَمن إِذا رضى لم يُخرجهُ رِضَاهُ عَن الْحق، وَمن إِذا قدر لم يتَنَاوَل مَا لَيْسَ لَهُ. من ضعف عَن عمله اتكل على زَاد غَيره. من أَطَالَ الحَدِيث عرض أَصْحَابه للسآمة وَسُوء الِاسْتِمَاع. قيل لبَعض السّلف: من الْكَامِل؟ فَقَالَ: من لم يبطر فِي الْغنى 430 وَلم يستكن للفاقة، وَلم تهده المصائب، وَلم يَأْمَن الدَّوَائِر وَلم ينس الْعَافِيَة وَلم يغتر بالشبيبة. قَالُوا: من أطرق فِي أمله فرط فِي عمله. قَالَ ابْن المقفع: من أَدخل نَفسه فِيمَا لَا يعنيه ابْتُلِيَ فِيهِ بِمَا يعنيه. من استخار ربه، وَاسْتَشَارَ نصيحه، واجتهد رَأْيه، فقد أدّى مَا يجب عَلَيْهِ لنَفسِهِ، وَيَقْضِي الله فِي أمره مَا أحب. من أصبح لَا يحْتَاج إِلَى حُضُور بَين السُّلْطَان لحَاجَة، أَو طَبِيب لضر، أَو صديق لمسألة فقد عظمت عِنْده النِّعْمَة. من كَانَت لَهُ غلَّة يستغلها فَإِنَّمَا يستغل عمره. قَالُوا: من كَانَ فِيهِ وَاحِدَة من ثَلَاث كَانَ محروماً: الْبَغي وَالْمَكْر والنكث. قَالَ(4/160)
الله تَعَالَى: " إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم " وَقَالَ: " وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله ". وَقَالَ: " فَمن نكث فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه ". قَالَ وهب: من لم يسْخط نَفسه فِي شَهْوَته لم يرض ربه فِي طَاعَته. قَالَ نصر بن سيار: من لم يحقد لم يشْكر. وَقَالَ غَيره: من لم يمْنَع لم يكن لَهُ مَا يُعْطي. قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: من كنى ذِمِّيا فقد هدم شُعْبَة من الْإِيمَان. قَالَ حَكِيم: من ذَا الَّذِي بلغ جسيماً فَلم يبطر، وَاتبع الْهوى فَلم يعطب، وجاور النِّسَاء فَلم يفتتن، وَطلب إِلَى اللئام فَلم يهن، وواصل الأشرار فَلم ينْدَم، وَصَحب السُّلْطَان فدامت سَلَامَته؟ قَالَ أَبُو حَازِم: ثَلَاث من كن فِيهِ كمل عقله: من عرف نَفسه وَملك لِسَانه وقنع بِمَا رزقه ربه. كَانَ شبيب بن شيبَة يَقُول: من سمع كلمة يكرهها فَسكت عَنْهَا انْقَطع عَنهُ مَا كره، وَإِن أجَاب عَنْهَا سمع أَكثر مِمَّا كره. وَكَانَ يتَمَثَّل: وتجزع نفس الْمَرْء من وَقع شتمة ... ويشتم ألفا بعْدهَا ثمَّ يصبر قَالَ الزهاد: من عرف نَفسه لم يذمم أحدا، وَمن عرف النَّاس لم يمدح أحدا. قَالَ عون بن عبد الله: كَانَ يُقَال: من كَانَ فِي صُورَة حَسَنَة ومنصب لَا يشينه، ووسع عَلَيْهِ فِي الرزق كَانَ من خَالِصَة الله. من أطَاع الْهوى نَدم. من لانت كَلمته وَجَبت محبته من لم يقدمهُ حزم أَخّرهُ عجز. من حبس الدَّرَاهِم كَانَ لَهَا وَمن أنفقها كَانَت لَهُ. من لم يكن فِيهِ خمس فَلَا ترجه: من لم يعرف بالوثاقة فِي أرومته وَالْكَرم فِي طَبِيعَته، والتثبت فِي بضيرته، والدماثة فِي خلقه، والنبل فِي همته.(4/161)
من لم تؤدبه الْكَرَامَة قومته الإهانة. من أنعم على الكفور كثر غيظه. من اقتصد فِي الْغنى والفقر فقد استعد لنوائب الدَّهْر. من لم ينشط لحديثك فارفع عَنهُ مؤونة الِاسْتِمَاع مِنْك. . من حذر شمر. من أَمن تهاون. من توقى سلم، وَمن تهور نَدم. من لم يتبع لم يشْبع. من شاخ باخ. من لم ينْتَفع بتجاربه اغْترَّ بالدهر ونوائبه. من ادّعى كرماً بعده لؤم فَلَا كرم لَهُ، من رَضِي بلؤم بعده كرم فَلَا لوم عَلَيْهِ. من تواضع للْعلم نبله، وَمن تعزز عَلَيْهِ ذلله. من قَالَ: لَا أَدْرِي. وَهُوَ يتَعَلَّم أفضل مِمَّن يدْرِي وَهُوَ يتعظم. من انتحل من الْعلم الْغَايَة لم يكن لجهله نِهَايَة. من يدع الْعلم جله أَعقل مِمَّن يَدعِيهِ كُله. 431 - من جَاع بَاعَ. وَمن أحسن الِاسْتِمَاع استعجل الِانْتِفَاع. من حلم سَاد. من اعْترف بالجريرة فقد اسْتحق الغفيرة. من رغب عَن الإخوان جسر على الزَّمَان. من اتبع هَوَاهُ أضلّهُ. من جهل النعم عرف النقم. من أبْصر أقصر. من أَكثر أَهجر. من دَامَ لَفظه كثر سقطه. من تفكر أبْصر. من كَانَت لَهُ فكرة فَلهُ من كل شَيْء عِبْرَة. من انتهز الفرصة أَمن الغصة. من كَانَ فِي الشدَّة فَهُوَ حقيق بالحدة. من سكت فَسلم كَانَ كمن قَالَ فغنم. من كره النطاح لم ينل النجاح. من كَانَ لَهُ فِي نَفسه واعظ كَانَ لَهُ من الله حَافظ. من نَالَ استطال. من جاد سَاد. من كَسَاه الْحيَاء ثَوْبه، حجب عَن الْعُيُون عَيبه.(4/162)
من كرم محتده حسن مشهده. من خبث عنصره سَاءَ محضره. من خَان هان. من أدمن قرع الْبَاب ولج. من استوطأ مركب الصَّبْر فلج. من أَخذ من أُمُوره بِالِاحْتِيَاطِ سلم من الِاخْتِلَاط. من نشر صبره طوى أمره. من امتن بمعروفه أفْسدهُ. من قل حياؤه كثر ذَنبه. من لَان عوده كثرت أغصانه. من حسن خلقه كثر إخوانه. من يُبرئ بصيرتك من الْعَمى أكمل مِمَّن يَصح بَصرك من القذى. من غرس الطَّعَام جنى الأسقام. من بَالغ فِي المزاح أَثم. من قصر فِيهِ خصم. من غض عينه حصن دينه. من أثقل عَلَيْك فأوله أذنا صماء وعيناً عمياء. من غره الشَّبَاب تقطعت بِهِ الْأَسْبَاب. من ختم البضاعة أَمن الإضاعة. من خلب جلب. . من عز بز. من نظر بِعَين الْهوى حَار، وَمن حكم بِحكم الْهوى جَار. من سَاءَ خلقه عذب نَفسه. من حب طب. من أحبك نهاك، وَمن أبغضك أغراك. من زرع الْمهل حصد الجذل. من أحسن الِاعْتِذَار اسْتوْجبَ الاغتفار. من طَال صبره ضَاقَ صَدره. من احْتَاجَ إِلَيْك ثقل عَلَيْك. من زرع شَيْئا حصده، وَمن قدم خيرا وجده. من تنزه عَن المطامع لم يعتبد. من لم يحْتَمل بشاعة الدَّوَاء دَامَ ألمه. من لم يصلحه الْخَيْر أصلحه الشَّرّ. من لم يصلحه الطالي أصلحه الكاوي. من تعلل بالمنى أفلس. من اغتاب خرق، وَمن اسْتغْفر رقع. من يرحم يرحم. من يصمت يسلم. من يقل الْخَيْر يغنم. من يكره الشَّرّ يعْصم. من لَا يملك لِسَانه ينْدَم. من بخل عَلَيْك ببشره لم يجد عَلَيْك ببره. من كف عَنْك شَره فَاصْنَعْ بِهِ مَا سره. من كف ضيره فقد بذل خَيره. من تشاغل بالسلطان لم يتفرغ إِلَى الإخوان. من حصن سره كَانَ الْخِيَار فِي يَده. من بدا جَفا. من تنقل تبقل، وَمن سعى رعى، وَمن نَام رأى الأحلام.(4/163)
من اسْتغنى بِرَأْيهِ فقد خاطر. من عرف الْأَيَّام لم يغْفل الاستعداد لَهَا. من أحب من لَا يعرفهُ فَإِنَّمَا يمازح نَفسه. من حصن شَهْوَته صان قدره. من ضَاقَ خلقه مله أَهله. من ركب العجلة لم يَأْمَن الكبوة. من تقدم بِحسن النِّيَّة بَصَره التَّوْفِيق. من قَارب النَّاس فِي عُقُولهمْ 432 سلم من غوائلهم. من سَاد عز. من التحف بالقناعة حالفه الْعِزّ. من كَانَت لَهُ إِلَى النَّاس حَاجَة فقد خذل. من عالج الشوق لم يستبعد الدَّار. من يزرع الشوك لَا يحصد بِهِ الْعِنَب. من اطْمَأَن قبل الاختبار نَدم. من وصلك وَهُوَ معدم خير مِمَّن جفاك وَهُوَ مكثر. من لم يغض على القذى لم يرض أبدا. من تقلبت بِهِ الْأَحْوَال علم جَوَاهِر الرِّجَال. من طمع ذل. من حفظ مَاله فقد حفظ الأكرمين: الدّين وَالْعرض. من تأدب صَغِيرا انْتفع كَبِيرا. من سره بنوه ساءته نَفسه. من أَسَاءَ لَفظه غبن حَظه. من عذل سَفِيها عرض للشتم نَفسه. من اتبع عَورَة أَخِيه الْمُسلم فضحه الله فِي بَيته. من قل حياؤه قل ورعه. من أَكثر من المزاح استخف بِهِ، وَمن أَكثر الضحك اجترئ عَلَيْهِ. من أَكثر من شَيْء عرف بِهِ. من طلب الْعلم بالنجوم تزندق. من طلب المَال بالكيميا أفلس. من طلب غرائب الحَدِيث كذب. من زنى زني بِهِ. من عتب على الدَّهْر طَالَتْ معتبته. من سَأَلَ فَوق قدره اسْتحق الحرمان. من شتم حَلِيمًا رَجَعَ ذَمِيمًا. من كفر النِّعْمَة منع الزِّيَادَة. من شَاب شيب لَهُ. من طلب عَظِيما خاطر بعظيمته. من يلق خيرا يحمد النَّاس أمره. من ملك اسْتَأْثر. من لم يشاور نَدم. من أصبح على الدُّنْيَا حَزينًا أصبح على الله ساخطاً. من شكا ضراً نزل بِهِ فَإِنَّمَا يشكو الله.(4/164)
من لم يدار عيشه مَاتَ قبل أَجله. من لاحى الرِّجَال ذهبت كرامته. من اتخذ التَّقْوَى صاحباً كَانَت لَهُ ردْءًا من الملمات. من كتم الْأَطِبَّاء مَرضه فقد غش نَفسه. من أحب أَن يصرم أَخَاهُ فاليقرضه ثمَّ يتقاضاه. من حقر حرم. من أحبك لشَيْء زَالَ حبه بزواله. من قَالَ فِي النَّاس مَا يكْرهُونَ قَالُوا فِيهِ مَا لَا يعلمُونَ. من عرف بِالصّدقِ جَازَ كذبه. من طلب مَا عِنْد السُّلْطَان بالغلظة لم يَزْدَدْ مِنْهُ إِلَّا بعدا. من عَامل النَّاس فَلم يظلمهم، وَحَدَّثَهُمْ فَلم يكذبهم، وَوَعدهمْ فَلم يخلفهم، فقد حرمت غيبته، وكملت مروءته، وَظَهَرت عَدَالَته، وَوَجَبَت أخوته. من استحيا من غَيره وَلم يستح من نَفسه فَلَيْسَ لنَفسِهِ عِنْده مِقْدَار. من أدب وَلَده صَغِيرا سر بِهِ كَبِيرا. من كثر خَيره كثر زَائِره. من أدب وَلَده أرْغم حاسده. من عرف حق أَخِيه دَامَ إخاؤه، وَمن تكبر على النَّاس وَرَجا أَن يكون لَهُ صديق فقد غر نَفسه. من بسط بِالْخَيرِ لِسَانه انبسطت فِي الْقُلُوب محبته. قَالُوا: أَصْبِر النَّاس من صَبر على كتمان سره فَلم يُبْدِهِ لصديق فيوشك أَن يكون عدوا فيذيعه. قَالَ ابْن السماك: من فكر فِي أمره نهج لَهُ طَرِيق رشده. من سل سيف الْبَغي قتل بِهِ. من أَطَالَ الأمل أَسَاءَ الْعَمَل. من بذل حُلْو كَلَامه وَمر فعاله فَذَلِك الْعَدو. من قصر عَن الفضول نَالَ من دهره كل مأمول. من جمع الْحيَاء والسخاء فقد استجد الْإِزَار والرداء. من لَا يبال بالشكاية فقد اعْترف بالدناءة. من رَجَعَ فِي هِبته فقد استحكم اللؤم. من جهل قدر نَفسه فَهُوَ بِقدر النَّاس أَجْهَل. من أنف من عمل نَفسه 433 اضْطر إِلَى عمل غَيره. من استنكف من أَبَوَيْهِ فقد انْتَفَى من الرشدة. من اسْتغنى بِرَأْيهِ(4/165)
فقد خاطر بِنَفسِهِ. وَمن اسْتعْمل وُجُوه الآراء عرف مواقع الْخَطَأ. من عرف بالحكمة لاحظته الْعُيُون بالوقار. من عرف الْأَيَّام لم يغْفل الاستعداد. من قاسى الْأُمُور عرف المستور. من رغب عَن الرشا اشْتَدَّ ظَهره عِنْد الْخِصَام. من لزم العفاف لزمَه الْعَمَل. من أكل قَلِيلا عمل طَويلا. من تعسف النِّعْمَة نفرت عَنهُ. من أدل على السُّلْطَان استثقله، وَمن امتن عَلَيْهِ عَادَاهُ. من كذب السُّلْطَان فقد خانه، وَمن أذاع سره فقد خاطر بِنَفسِهِ. من صحب السُّلْطَان لم يزل مرغوباً. من اجْتهد رَأْيه وشاور صديقه واستخار ربه فقد قضى الَّذِي عَلَيْهِ. وَلنْ يقْضِي الله إِلَّا مَا يحب فِي أمره. من قل طمعه صَحَّ جِسْمه. قَالَ أَكْثَم: من جَاع صَحَّ. من خَافَ الْكَذِب أقل من المواعيد. من أدْلج ولج. من طلب الْحَلَال خفت مئونته وَقل كبرياؤه. وَمن قدر على خير فَلم يعْمل بِهِ لَزِمته الْإِسَاءَة. من لم ينْتَفع بِهِ أحد لم يعظمه أحد، وَمن لم يعظمه أحد استخف بِهِ كل أحد، وَمن استخف بِهِ لَقِي الذل عيَانًا. من كثر ذامه اضْطر إِلَى مدح نَفسه. من كافأ الْإِحْسَان تنوفس فِي الْإِحْسَان إِلَيْهِ. من أنْفق سَرفًا يُوشك أَن يَمُوت أسفا. من تَأَول كَلَام النَّاس على السخط كثرت ذنُوب النَّاس إِلَيْهِ. من رغب فِي حسن الثَّنَاء طَابَ نفسا عَن الثراء. من أَمن الزَّمَان خانه، وَمن تعظم عَلَيْهِ أهانه، وَمن تضعضع لريبه قدعه وَمن لَجأ إِلَيْهِ أسلمه، وَمن كابره عطب. من سَبَقَك إِلَى الْخَيْر فاطلب أَثَره. وَمن ملك نَفسه لم تملكه شهواته، وَلم(4/166)
يصرعه هَوَاهُ، وَلم يملكهُ غَضَبه. من خَافَ شَيْئا اتَّقَاهُ. من أحب شَيْئا أَكثر ذكره. من وثق بِعَمَلِهِ اشتاق إِلَى الْجَزَاء. من خَافَ غير الله فَهُوَ غير واثق بِاللَّه. من طلب الْعِزّ بِلَا ذل، ذل من حَيْثُ يطْلب الْعِزّ. من أَطَالَ الحَدِيث عرض نَفسه للملالة وَسُوء الِاسْتِمَاع. من أظهر شكرك فِيمَا لم تأت إِلَيْهِ فاحذر أَن يكفر نِعْمَتك فِيمَا أسديت إِلَيْهِ. من تحدث بِحَدِيث قبل أَن يتدبره لم يسلم من عَيبه. من نظر فِي العواقب لم يشف غيظه. من زوج كريمته من سَفِيه فقد عقها. من منع بره قل أنصاره. من أطلق لِسَانه أهْدر دَمه. من تذكر قدرَة الله عَلَيْهِ لم يسْتَعْمل قدرته فِي ظلم عباده. من منع النَّاس مَا يُرِيد مِنْهُم مثله ظلم نَفسه. من استوحش فِي نَفسه بِالظَّنِّ أوحش من نَفسه بِالْيَقِينِ. من استقصى على النَّاس قل صديقه، وَمن أغضى على العوراء سهل طَرِيقه. من نظر فِي دينه إِلَى من هُوَ فَوْقه يستصغر عمله، وَنظر فِي دُنْيَاهُ إِلَى من هُوَ دونه ليستكثر مَا أعْطى فقد وفْق لحظه. من منع المَال من الْحَمد أورثه من لَا يحمده. من اقْتصر على قدره كَانَ أبقى لحاله. من سعى بالنميمة حذره الْغَرِيب، ومقته الْقَرِيب. من أَطَالَ النّظر أدْرك الْغَايَة. من أزعجه الْخَوْف أَمن. 434 من ضَاقَ قلبه اتَّسع لِسَانه. قَالَ يحيى بن أَكْثَم: من لم يرج إِلَّا مَا هُوَ مستوجب كَانَ قمنا أَن يدْرك حَاجته. من عرف ثمار الْأَعْمَال فَهُوَ جدير أَلا يغْرس إِلَّا طيبا. من صحب الْحُكَمَاء ظفر بِحسن الثَّنَاء. من اغْترَّ بالعدو الأريب خَان نَفسه. من عدم مَاله أنكرهُ أَهله ومعارفه. من جَانب هَوَاهُ صَحَّ رَأْيه. من عاقب بَرِيئًا فنفسه عاقب.(4/167)
من عرضت لَهُ بلية رحم، وَمن جناها ذمّ. من لم يجلس فِي شبيبته حَيْثُ يهوى جلس فِي كبره حَيْثُ لَا يهوى. من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب. من كَانَ أغلب خصاله عَلَيْهِ الْإِحْسَان اغتفرت زلته، وأقيلت عثرته. من عتب على الدَّهْر طَالَتْ معتبته. من لم يأس على مَا فَاتَهُ تودع بدنه، وَمن قنع بِمَا هُوَ فِيهِ قرت عينه. من رد الْكَرَامَة نصب شركا وثيقاً للعداوة. من بخل بِدِينِهِ عظم ربحه. من قاهر الْحق قهر. من ترك التوقي فقد استسلم لقَضَاء السوء. من أكدى فَكَأَنَّهُ لم يعْمل. من تياسر عَن الْقَصْد هجم على الضلال. من طلب بِاللَّه أدْرك. من لم تؤدبه المواعظ أدبته الْحَوَادِث. من تعود الْكِفَايَة لم يعرف مِقْدَار الرَّاحَة. من أَمن الزَّمَان ضيع ثغراً مخوفا. من استكفى من يتهمه خَان نَفسه. من أَمن مكايد الْأَعْدَاء لم يعد فِي الْعُقَلَاء. من لم يعرف قدره أوشك أَن يذل، وَمن لم يدبر مَاله أوشك أَن يفْتَقر. من رق وَجهه رق علمه. من لم يتحرز بعقله من عقله هلك من قبل عقله. من حرم الْعقل فَلَا خير لَهُ وَلَا للنَّاس فِي حَيَاته، وَمن حرم الْجُود فَلَا خير لَهُ وَلَا للنَّاس فِي سُلْطَانه، وَمن حرم الْفَهم فَلَا خير لَهُ وَلَا للنَّاس فِي قَضَائِهِ. من رَضِي عَنهُ الْجَمِيع المختلفون اسْتحق اسْم الْعقل. من احتقر مَا أعْطى فَهُوَ تَمام مَا أعْطى، وَمن استكثر مَا أَتَى إِلَيْهِ فقد قضى مَا عَلَيْهِ. من لم يحْتَمل زلل صديقه عَاشَ بِلَا صديق. من قَادَهُ الزَّمَان إِلَى صداقة عدوه فليكثر تيقظه. من حاول صديقا يَأْمَن زلته، ويدوم اغتباطه بِهِ كَانَ كضال الطَّرِيق الَّذِي لَا يزْدَاد لنَفسِهِ إتعاباً إِلَّا ازْدَادَ من غَايَته بعدا. من رَضِي بِصُحْبَة من لَا خير فِيهِ لم يرض بِصُحْبَتِهِ من فِيهِ خير. من جمع الْحِرْص على الدُّنْيَا وَالْبخل بهَا استمسك بعمودي اللؤم. من استثقل أَن يُقَال لَهُ الْحق كَانَ الْعَمَل بِهِ عَلَيْهِ أثقل.(4/168)
الْبَاب السَّابِع فِي سياسة السُّلْطَان وأدب الرّعية
قَالَ بعض الْحُكَمَاء: إِن قُلُوب الرّعية خَزَائِن واليها فَمَا أودعهُ وجده فِيهَا. قَالُوا: صنفان متباينان إِن صلح أَحدهمَا صلح الآخر: السُّلْطَان والرعية. قَالَ بعض الْحُكَمَاء: إِذا صَحِبت السُّلْطَان فلتكن مداراتك لَهُ مداراة الْمَرْأَة القبيحة لزَوجهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تدع التصنع لَهُ فِي كل حَال. قَالَ الْأَعْمَش: إِذا رَأَيْت الْعَالم يَأْتِي بَاب السُّلْطَان فَاعْلَم أَنه لص. 435 قَالَ بعض الْحُكَمَاء: ليغلق السُّلْطَان بَاب الْأنس بَينه وَبَين كفاته الَّذين تنفذ أُمُورهم فِي ملكه؛ فَإِن مؤانسته إيَّاهُم تبْعَث عَلَيْهِ بهم الجرأة وعَلى الرّعية الغشم. قَالُوا: صنفان لَو صلحا صلح جَمِيع النَّاس الْفُقَهَاء والأمراء. قيل: من دَاخل السُّلْطَان يحْتَاج أَن يدْخل أعمى وَيخرج أخرس. قيل للعتابي: لم لَا تقصد الْأَمِير؟ قَالَ: لِأَنِّي أرَاهُ يُعْطي وَاحِدًا لغير حَسَنَة وَلَا يَد، وَيقتل آخر بِلَا سَيِّئَة وَلَا ذَنْب. وَلست أَدْرِي أَي الرجلَيْن أكون أَنا، وَلست أَرْجُو مِنْهُ مِقْدَار مَا أخاطر بِهِ. قيل: الْعَاقِل من طلب السَّلامَة من عمل السُّلْطَان، فَإِنَّهُ إِن عف جنى عَلَيْهِ العفاف عَدَاوَة الْخَاصَّة، وَإِن بسط جنى عَلَيْهِ الْبسط أَلْسِنَة الْعَامَّة. قَالَ سعيد بن حميد: مجْلِس السُّلْطَان كالحمام؛ من فِيهِ يُرِيد الْخُرُوج وَمن هُوَ خَارج يُرِيد الدُّخُول فِيهِ. ابْن المقفع: إقبال السُّلْطَان تَعب، وإعراضه مذلة.(4/169)
وَقَالَ آخر: السُّلْطَان إِن أرضيته أتعبك، وَإِن أغضبته أعطبك. قَالُوا: يَنْبَغِي للْملك أَن يتفقد أَمر خاصته فِي كل يَوْم، وَأمر عامته فِي كل شهر، وَأمر سُلْطَانه فِي كل سَاعَة. قَالَ بَعضهم: إِذا كنت حَافِظًا للسُّلْطَان فِي ولايتك، حذرا مِنْهُ عِنْد تقريبه لَك، أَمينا لَهُ إِذا ائتمنك، تشكر لَهُ وَلَا تكلفه الشُّكْر لَك، تعلمه وكأنك تتعلم مِنْهُ، وتؤدبه وَكَأَنَّهُ يؤدبك، بَصيرًا بهواه، مؤثراً لمنفعته، ذليلا إِن ضامك، رَاضِيا إِن أَعْطَاك، قانعاً إِن حَرمك، وَإِلَّا فابعد مِنْهُ كل الْبعد. قَالَ حَكِيم: مَحل الْملك من رَعيته مَحل الرّوح من الْبدن، وَمحل الرّعية مِنْهُ مَحل الْبدن من الرّوح. فالروح تألم لألم كل عُضْو من أَعْضَاء الْبدن، وسائره لَا يألم لألم غَيره، وَفِي فَسَاد الرّوح فَسَاد جَمِيع الْبدن، وَقد يفْسد بعض الْبدن وَغَيره من سَائِر الْبدن صَحِيح. قَالَ سهل بن هَارُون: يَنْبَغِي للنديم أَن يكون كَأَنَّمَا خلق من قلب الْملك؛ يتَصَرَّف بشهواته، ويتقلب بإرادته، إِذا جد جد، وَإِذا تطلق تطلق؛ لَا يمل المعاشرة، وَلَا يسأم المسامرة، إِذا انتشى تحفظ، وَإِذا صَحا تيقظ. وَيكون كَاتِما لسره، ناشراً لبره، وَيكون للْملك دون العَبْد؛ لِأَن العَبْد يخْدم نَائِبا والنديم يحضر دائباً. كَانَ مَسْرُوق بن الأجدع يُنْهِي عَن عمل السُّلْطَان، فَدَعَاهُ زِيَاد وولاه السلسلة، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: اجْتمع عَليّ زِيَاد وَشُرَيْح والشيطان، فَكَانُوا ثَلَاثَة وَكنت وَاحِدًا فغلبوني. قيل لبَعض من يتَصَرَّف مَعَ السُّلْطَان: لَا تصحبهم؛ فَإِن مثلهم مثل قدر أسود كلما مَسّه إِنْسَان سوده. فَقَالَ: إِن كَانَ خَارج الْقدر أسود فَإِن دَاخله لحم سمين، وَطَعَام لذيذ. كَانَ يُقَال: لَا سُلْطَان إِلَّا بِرِجَال، وَلَا رجال إِلَّا بِمَال، وَلَا مَال إِلَّا بعمارة، وَلَا عمَارَة إِلَّا بِعدْل وَحسن سياسة. قَالَ بعض الْمُلُوك فِي خطْبَة: إِنَّمَا نملك الأجساد لَا النيات، ونحكم بِالْعَدْلِ(4/170)
لَا بِالرِّضَا، ونفحص عَن الْأَعْمَال لَا عَن السرائر. قيل: أفضل من عوشر بِهِ الْمُلُوك قلَّة الْخلاف وَتَخْفِيف المئونة. قيل: لَا يقدر على صُحْبَة السُّلْطَان 436 إِلَّا من يسْتَقلّ لما حملوه، وَلَا يلحف إِذا سَأَلَهُمْ، وَلَا يغتر بهم إِذا رَضوا عَنهُ، وَلَا يتَغَيَّر لَهُم إِذا سخطوا عَلَيْهِ، وَلَا يطغى إِذا سلطوه، وَلَا يبطر إِذا أكرموه. قيل لبَعض الْمُلُوك وَقد زَالَ عَنهُ ملكه: مَا الَّذِي سلبك مَا كنت فِيهِ؟ قَالَ: دفع عمل الْيَوْم إِلَى غده، والتماس عدَّة بتضييع عدد، وبذل أبطر وأضغن. ابْن المقفع: النَّاس على دين السُّلْطَان إِلَّا الْقَلِيل؛ فَلْيَكُن للبر والمروءة عِنْده نفاق فسيكسد بذلك الْفُجُور والدناءة. وَفِيمَا قَالَ أَبُو حَازِم لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك: السُّلْطَان سوق؛ فَمَا نفق عِنْده أَتَى بِهِ. قَالُوا: شَرّ الْأُمَرَاء أبعدهم من الْقُرَّاء، وَشر الْقُرَّاء أقربهم من الْأُمَرَاء. قيل: إِذا جعلك السُّلْطَان أَخا فاجعله رَبًّا، وَإِن زادك فزده. قَالَ مُسلم بن عَمْرو: يَنْبَغِي لمن خدم السُّلْطَان أَلا يغتر بهم إِذا رَضوا وَلَا يتَغَيَّر لَهُم إِذا سخطوا عَلَيْهِ، وَلَا يستثقل مَا حملوه، وَلَا يلحف فِي مسألتهم. قَالُوا: مثل صَاحب السُّلْطَان مثل رَاكب الْأسد؛ يهابه النَّاس وَهُوَ لمركبه أهيب. لِلْكَاتِبِ على الْملك ثَلَاث: رفع الْحجاب عَنهُ، واتهام الوشاة عَلَيْهِ، وإفشاء السِّرّ إِلَيْهِ. يجب على الْملك أَن يعْمل بِثَلَاث خِصَال: تَأْخِير الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب، وتعجيل مُكَافَأَة المحسن، وَالْعَمَل بالأناة فِيمَا يحدث، فَإِن لَهُ فِي تَأْخِير الْعقُوبَة إِمْكَان الْعَفو، وَفِي تَعْجِيل الْمُكَافَأَة بِالْإِحْسَانِ المسارعة فِي الطَّاعَة من الرّعية، وَفِي الأناة انْفِسَاخ الرَّأْي واتضاح الصَّوَاب.(4/171)
قَالَ رجل لبَعض السلاطين: أَسأَلك بِالَّذِي أَنْت بَين يَدَيْهِ أذلّ مني بَين يَديك، وَهُوَ على عقابك أقدر مِنْك على عقابي، إِلَّا نظرت فِي أَمْرِي نظر من يرى برئي أحب إِلَيْهِ من سقمي وبراءتي أحب إِلَيْهِ من جُرْمِي. ابْن المقفع: لَا يَنْبَغِي للْملك أَن يغْضب؛ لِأَن الْقُدْرَة من وَرَاء حَاجته. وَلَا يكذب؛ فَإِنَّهُ لَا يقدر أحد على استكراهه على غير مَا يُرِيد، وَلَا يبخل فَإِنَّهُ يخَاف الْفقر، وَلَا يحقد لِأَن خطره قد جلّ عَن المجازاة. قَالَ أَبُو حَازِم: للسُّلْطَان كحل يكحل بِهِ من يوليه، فَلَا يبصر حَتَّى يعْزل. حُكيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: حَاجِب السُّلْطَان نصفه، وكاتبه كُله. وَيَنْبَغِي لصَاحب الشرطة أَن يُطِيل الْجُلُوس، ويديم العبوس، ويستخف بالشفاعات. ابنلي بعض الْمُلُوك بصمم فَقَالَ: لَئِن كنت أصبت بسمعي، فَلَقَد متعت ببصري. ثمَّ نَادَى مناديه: من ظلم فليلبس ثوبا مصبوغاً وليقم حَيْثُ أرَاهُ فأدعو بِهِ وَأنْظر فِي أمره. كَانَ يُقَال، إِن الْمُلُوك من الْفرس وَغَيرهم كَانُوا يهنئون بالعافية، وَلَا يعادون من الْعلَّة؛ لِأَن عللهم كَانَت تستر نظرا وإبقاء عَلَيْهِم، وَلَا يعلمهَا إِلَّا خواصهم. وَكَانَت عافيتهم تشتهر؛ لما للنَّاس من الصّلاح بهَا، ودوام الألفة، واستقامة الْأُمُور عَنْهَا. قَالَ بَعضهم: إِذا صَحِبت السُّلْطَان فلتكن مداراتك مداراة الْمَرْأَة القبيحة للزَّوْج الْمُبْغض لَهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تدع التصنع لَهُ بِكُل حِيلَة. قَالَ فيلسوف: إِذا قربك السُّلْطَان فَكُن مِنْهُ على حد السنان، وَإِن استرسل إِلَيْك فَلَا تأمن انقلابه عَلَيْك، وارفق بِهِ رفقك بِالصَّبِيِّ، وَكَلمه بِمَا يَشْتَهِي. وَدخل يزِيد بن عمر بن هُبَيْرَة على الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ توسع توسعاً قرشياً، وَلَا تضق 437 ضيقا حجازياً. وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن سلطانكم حَدِيث، وإمارتكم جَدِيدَة، فأذيقوا النَّاس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرَارَة جورها، فوَاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لقد مخضت لَك. ثمَّ نَهَضَ فَنَهَضَ مَعَه تِسْعمائَة من قيس، فأتأره الْمَنْصُور بَصَره ثمَّ قَالَ: لَا يعز ملك فِيهِ مثل هَذَا.(4/172)
قَالُوا: عدل السُّلْطَان أَنْفَع للرعية من خصب الزَّمَان. كَانَ الْفضل بن الرّبيع يَقُول: مساءلة الْمُلُوك عَن أَحْوَالهم من كَلَام النوكى فَإِذا أردْت أَن تَقول: كَيفَ أصبح الْأَمِير؟ فَقل: صبح الله الْأَمِير بالكرامة. وَإِن أردْت أَن تَقول كَيفَ يجد الْأَمِير نَفسه؟ فَقل: وهب الله الْأَمِير الْعَافِيَة وَنَحْو هَذِه الْأَشْيَاء فَإِن المساءلة توجب الْجَواب فَإِن لم يجبك اشْتَدَّ عَلَيْك وَإِن جابك اشْتَدَّ عَلَيْهِ. قيل لِابْنِ عَبَّاس: إِن النَّاس قد فسدوا وَلَا يصلحهم إِلَّا الشَّرّ. قَالَ: بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ للجور أشب للشر، وَالْعدْل أطفأ للجور. وَفِي الْعدْل كِفَايَة، وَإِلَيْهِ انْتَهَت السياسة. وَقد يُصِيب الْوَالِي فِي رَعيته بِأَرْبَع من نَفسه وَأَرْبع من أنفسهم؛ فَأَما الْأَرْبَع اللواتي مِنْهُم فالرغبة والرهبة وَالْأَمَانَة والنصيحة. وَأما الْأَرْبَع اللواتي من نَفسه فإعطاء من نصحه، وَالْجَزَاء لمن أبلاه، وعقوبة ذِي الذَّنب بِقدر ذَنبه، والتنكيل بِمن تعدى أمره. فَإِن هُوَ لم يفعل ذَلِك وتراخى ابتلى مِنْهُم بِأَرْبَع: بالغش والخذلان والخيانة والنكد. قيل: ليعلم من نَالَ شرف الْمنزلَة من السُّلْطَان وَهُوَ دني الأَصْل أَنه ثأر الْأَشْرَاف، وَأَنه لَا نجاة لَهُ مِنْهُم إِلَّا أَن يعمرهم بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِم. إِذا كَانَ الْملك ضَعِيفا، والوزير شَرها، وَالْقَاضِي كذوباً فرقوا الْملك شعاعاً. ملك عسوف أجدى على الرّعية من ملك مقتصد السِّيرَة ضَعِيف؛ لِأَن العسوف الْقوي قد يدْفع عَن الْبَيْضَة بقوته، وَمَعَهُ أَنَفَة يحمي بهَا حوزته، والضعيف لَا يستقصي حقة، وَلَا يَأْخُذ حُقُوق رَعيته، وَلَا قُوَّة بِهِ على دفع عدوه وعدوهم. إِذا قنع الْملك بإفساد دينه لم تقنع رَعيته إِلَّا بِإِزَالَة ملكه. ظلم الرّعية استجلاب البلية. أحزم الْمُلُوك من ملك جده هزله، وقهر رَأْيه هَوَاهُ، وَعبر عَن ضَمِيره فعله، وَلم يخدعه رِضَاهُ عَن حَظه، وَلَا غَضَبه عَن كَيده.(4/173)
قَالُوا: أَرْبَعَة أَشْيَاء تقبح بِأَهْلِهَا: ضيق ذرع الْملك، وَسُرْعَة غضب الْعَالم، وبذاء النِّسَاء، وَكذب الْقُضَاة. خير الْمُلُوك من حمل نَفسه على خير الْآدَاب، ثمَّ حمل رَعيته على الإقتداء بِهِ. أعجز الْمُلُوك أضعفهم عَن إصْلَاح بطانته. إِذا اضْطر الْملك إِلَى الْكَذِب فليهرب من ملكه. الْعجب مِمَّن استفسد رَعيته وَهُوَ يعلم أَن عزه بطاعتهم. إِذا رغب الْملك عَن الْعدْل رغبت رَعيته عَن طَاعَته. إِذا لم يرجع الْملك إِلَّا إِلَى رأى وزيره، فالوزير هُوَ الْملك، وَالْملك سوقة مسخر. من لم يصلح نَفسه من الْمُلُوك عسر عَلَيْهِ إصْلَاح رَعيته، وَكَيف يعرف رشد غَيره من يعمى عَن ذَات نَفسه؟ لَا تخف صولة الْأُمَرَاء مَعَ صداقة الوزراء. طَال حزن من غضب على الْمُلُوك وَهُوَ لَا يقدر على الانتقام مِنْهُم. صُحْبَة السُّلْطَان بِلَا أدب كركوب الْبَريَّة بِغَيْر مَاء. اثْنَان يَنْبَغِي للْملك أَن يحذرهما: الزَّمَان 438 والأشرار. إِذا امتهنت خَاصَّة الْملك فالملك هُوَ الممتهن. يَنْبَغِي لصَاحب السُّلْطَان أَن يستعد لعذر مَا لم يجنه، وَأَن يكون آنس مَا يكون بِهِ أوحش مَا يكون مِنْهُ. فَإِذا سلمت الْحَال عِنْده فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَأْمَن ملالته. أقوى الْمُلُوك فِي الدُّنْيَا أعلمهم بضعفه فِي الْآخِرَة. لَا أحد أَمر عَيْشًا وَأكْثر نصبا وأطول فكرة من الْملك الْعَارِف بالعواقب، الموقن بالمعاد. موت الْملك الجائر خصب شَامِل، لِأَنَّهُ لَا قحط أَشد من جور السُّلْطَان. إِذا تفرغ الْملك للهوه تفرغت رَعيته لإفساد ملكه.(4/174)
إِذا وقفت الرّعية على سرائر الْمُلُوك هان عَلَيْهَا أمرهَا. يَنْبَغِي للْملك أَن يأنف من أَن يكون فِي رَعيته من هُوَ أفضل دينا مِنْهُ، كَمَا يأنف أَن يكون فيهم من هُوَ أنفذ أمرا مِنْهُ. أعجب الْأَشْيَاء ملك يطْلب نصيحة رَعيته مَعَ ظلمهم. ليعلم الْملك أَن الَّذِي لَهُ عِنْد رَعيته مثل الَّذِي لرعيته عِنْده. وضع الشدَّة فِي مَوضِع اللين سوء بصر بِالتَّدْبِيرِ، والاستسلام لرأي الوزراء هُوَ الْعَزْل الْخَفي. إِذا لم يشرف الْملك على أُمُوره فَليعلم أَن أغش النَّاس لَهُ وزيره. من استكفى الْأُمَنَاء ربح التُّهْمَة. قَضَاء حق المحسن أدب للمسيء، وعقوبة الْمُسِيء حسن جَزَاء المحسن. لن تَجِد الْحَرْب الغشوم أسْرع فِي اجتياح الْملك من تَضْييع الْمَرَاتِب، حَتَّى يُصِيبهَا أهل النذالة والفسولة، ويزهد فِيهَا أولو الْفضل، ويطمع فِيهَا الأراذل. قَالُوا: إِذا أَرَادَ الله إِزَالَة ملك عَن قوم جبنهم فِي آرائهم. الْعجب من سُلْطَان يَبْتَدِئ على رَعيته وَالسيف وَالسَّوْط بِيَدِهِ. لَا شَيْء أذهب بالدول من تَوْلِيَة الأشرار. الْملك لَا تصلحه إِلَّا الطَّاعَة والرعية لَا يصلحها إِلَّا الْعدْل. دخل أَبُو مجلز على قُتَيْبَة بخراسان وَهُوَ يضْرب رجلا بالعصا فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير؛ إِن الله جعل لكل شَيْء قدرا، وَوقت لَهُ وقتا؛ فالعصا للأنعام والهوام(4/175)
والبهائم الْعِظَام، وَالسَّوْط للحدود وَالتَّعْزِير، والدرة للأدب، وَالسيف لقِتَال الْعَدو والقود. قَالُوا: عمل السُّلْطَان حَدِيث فَكُن حَدِيثا حسنا. إِذا ضيعت الْمُلُوك سنَن أديانها أَنَّهَا تهدم أساس ملكهَا. لَا يَنْبَغِي للْملك أَن يكون سَفِيها وَمِنْه يلْتَمس الْحلم، وَلَا جائراً وَمِنْه يلْتَمس الْعدْل. إِذا لم يثب الْملك على النَّصِيحَة غشته الرّعية. وَفد على مُعَاوِيَة عبيد بن كَعْب النميري فَسَأَلَهُ عَن زِيَاد وسياسته فَقَالَ: يسْتَعْمل على الْجد وَالْأَمَانَة دون الْهوى، ويعاقب فَلَا يعدو بالذنب قدره ويسمر ليستجم بِحَدِيث اللَّيْل تَدْبِير النَّهَار قَالَ: أحسن. إِن التثقيل على الْقلب مضرَّة بِالرَّأْيِ. فَكيف رَأْيه فِي حُقُوق النَّاس فِيمَا عَلَيْهِ وَله؟ قَالَ: يَأْخُذ مَاله عفوا وَيُعْطِي مَا عَلَيْهِ عفوا. قَالَ: فَكيف عطاياه؟ قَالَ: يُعْطي حَتَّى يُقَال جواد، وَيمْنَع حَتَّى يُقَال بخيل. قَالُوا: التذلل للملوك دَاعِيَة الْعِزّ والتعزز عَلَيْهِم ذل الْأَبَد. كَثْرَة أعوان السوء مضرَّة للأعمال. الدَّالَّة على الْمُلُوك تعرض للسقوط. خير الْمُلُوك من ملك جَهله بحلمه، وخرقه برفقه، وعجلته باناته، وعقوبته 439 بعفوه، وعاجله بمراقبة آجله، وَأمن رَعيته بعدله، وسد ثغورهم بهيبته، وجبر فاقتهم بجوده. يعلم وَكَأَنَّهُ لَا يعلم، ويحسم الدَّاء من حَيْثُ استبهم. بغض الْمُلُوك كي لَا يبرأ، وحسدهم عر يتفشى. السُّلْطَان فِي تنقله وتنقل النَّاس مَعَه كالظل الَّذِي تأوي إِلَيْهِ السابلة. شدَّة الانقباض من السُّلْطَان تورث التُّهْمَة، وسهولة الانبساط تورث الملالة.(4/176)
من سَعَادَة جد الْمَرْء أَلا يكون فِي الزَّمَان الْمُخْتَلط مُدبرا للسُّلْطَان. من سَكَرَات السُّلْطَان أَن يرضى عَمَّن اسْتوْجبَ السخط، ويسخط على من اسْتوْجبَ الرِّضَا من غير سَبَب مَعْلُوم. بلغ بعض الْمُلُوك حسن سياسة ملك فَكتب إِلَيْهِ: قد بلغت من حسن السياسة مبلغا لم يبلغهُ ملك فِي زَمَانك، فأفدني الَّذِي بلغكه. فَكتب إِلَيْهِ: " لم أهزل فِي أَمر وَلَا نهي، وَلَا وعد وَلَا وَعِيد، واستكفيت أهل الْكِفَايَة، وَأثبت على الْغناء لَا على الْهوى، وأودعت الْقُلُوب هَيْبَة لم يشبها مقت، ووداً لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الفضول ". أَمْرَانِ جليلان لَا يصلح أَحدهمَا إِلَّا بالتفرد بِهِ، وَلَا يصلح الآخر إِلَّا بالتعاون عَلَيْهِ: وهما الْملك والرأى؛ فَإِن استقام الْملك بالشركاء استقام الرَّأْي بالتفرد بِهِ. لَا شَيْء أهلك للسُّلْطَان من صَاحب يحسن القَوْل وَلَا يحسن الْعَمَل. اصحب السُّلْطَان بإعمال الحذر، ورفض الدَّالَّة، وَالِاجْتِهَاد فِي النصح واصحبه بِثَلَاث: بِالرِّضَا وَالصَّبْر والصدق. اعْلَم أَن لكل شَيْء حدا، فَمَا جاوزه كَانَ سَرفًا، وَمَا قصر عَنهُ كَانَ عَجزا. فَلَا تبلغ بك نصيحة السُّلْطَان أَن تعادي حَاشِيَته من أَهله وخاصته؛ فَإِن ذَلِك لَيْسَ من حَقه عَلَيْك. وَلَكِن أقضى لحقه عَنْك، وأدعى للسلامة إِلَيْك أَن تستصلح أُولَئِكَ جهدك، فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك شكرت نعْمَته، وَأمنت حجَّته، وفللت عَدوك عِنْده. إِذا جاريت عِنْد السُّلْطَان كفئاً من أكفائك فلتكن مجاراتك إِيَّاه بِالْحجَّةِ، وَإِن عضهك، وبالرفق وَإِن خرق بك؛ وَاحْذَرْ أَن يستلجك فتحمى، فَإِن الْغَضَب يعمي عَن الفرصة، وَيقطع عَن الْحجَّة، وَيظْهر عَلَيْك الْخصم. احترس أَن يعرفك السُّلْطَان بِاثْنَيْنِ: بِكَثْرَة الإطراء للنَّاس عِنْده، وبكثرة(4/177)
ذمهم؛ فيعد ذَلِك غلاً مِنْك فَإِنَّهُ إِذا رأى كَثْرَة إطرائك للنَّاس وذمهم ضرّ ذَلِك صديقك وَإِن كَانَ محقاً، وَأمن عَدوك كيدك وَإِن كَانَ معوراً. وَعَلَيْك بِالْقَصْدِ والتحرز؛ فَإِنَّهُ إِن يعرفك بِهِ كنت لعدوك أضرّ ولصديقك أَنْفَع. لاتتورد على السُّلْطَان بالدالة وَإِن كَانَ أَخَاك، وَلَا بِالْحجَّةِ وَإِن وثقت أَنَّهَا لَك، وَلَا بِالنَّصِيحَةِ وَإِن كَانَت لَهُ دُونك فَإِن السُّلْطَان تعرض لَهُ ثَلَاث: الْقُدْرَة دون الْكَرم، وَالْحمية دون النصفة، واللجاج دون الْحَظ. سُئِلَ بَعضهم: أَي شَيْء أرفع بِذكر الْمُلُوك؟ قَالَ: تدبيرهم أَمر الْبِلَاد بِعدْل، ومنعهم إِيَّاهَا بعز. قيل: فَمَا الَّذِي على الْمُلُوك لرعيتهم، وَمَا الَّذِي على الرّعية لملوكهم؟ قَالَ: على الْمُلُوك لرعيتهم 440 مَا تأمن عَلَيْهِ أنفسهم ويرغد عَلَيْهِ عيشهم. وللملوك على رعيتهم الشُّكْر والنصيحة. اعْلَم أَن الْمُلُوك تحْتَاج إِلَى الْوَزير، وَأَشْجَع الرِّجَال يحْتَاج إِلَى السِّلَاح وأجود الْخَيل يحْتَاج إِلَى السَّوْط، وَأحد الشفار يحْتَاج إِلَى المسن. صَلَاح الدُّنْيَا بصلاح الْمُلُوك، وَصَلَاح الْمُلُوك بصلاح الوزراء، وَلَا يصلح الْملك إِلَّا لأَهله وَلَا تصلح الوزارة إِلَى لمستحقها. أفضل عدد الْمُلُوك صَلَاح الوزراء الكفاة؛ لِأَن فِي صَلَاحهمْ صَلَاح قُلُوب عوامهم لَهُم. خير الوزراء أَصْلحهم للرعية، وأصدقهم نِيَّة فِي النَّصِيحَة، وأشدهم ذباً عَن المملكة، وأشدهم بَصِيرَة فِي الطَّاعَة، وآخذهم لحقوق الرّعية من نَفسه وسلطانه. لَيْسَ شَيْء للملوك أولى بالفرح وَالسُّرُور بِهِ فِي ملكهَا من سيرة حَسَنَة يسيرونها، وَسنة صَالِحَة يجرونها، ووزير صَالح يؤيدون بِهِ. الْوَزير الْخَيْر لَا يرى أَن صَلَاحه فِي نَفسه كَائِن صلاحاً حَتَّى يتَّصل بصلاح الْملك ورعيته، وَتَكون عنايته فِيمَا عطف الْملك على عامته، وَفِيمَا استعطف قُلُوب الْعَامَّة على الطَّاعَة لملكه، وَفِيمَا قوم أَمر الْملك والمملكة من تَدْبيره، حَتَّى يجمع إِلَى أَخذ الْحق وتقديمه عُمُوم الْأَمْن والسلامة، وَيجمع إِلَى صَلَاح الْملك صَلَاح أَتْبَاعه. وَإِذا طرقت الْحَوَادِث، ودهمت المظائم، كَانَ للْملك عدَّة وعتاداً، وللرعية(4/178)
كَافِيا محتاطاً، وَمن وَرَائِهَا ذاباً ناصراً، يعنيه من صَلَاحهَا مَا لَا يعنيه من صَلَاح نَفسه دونهَا. مثل الْملك الصَّالح إِذا كَانَ وزيره فَاسِدا مثل المَاء الصافي العذب الَّذِي فِيهِ التماسيح؛ لَا يَسْتَطِيع الْإِنْسَان وَإِن كَانَ سابحاً، وَإِلَى المَاء ظامئاً، دُخُوله حذرا على نَفسه. لَا يَنْبَغِي للوالي أَن يسْرع إِلَى حبس من يَكْتَفِي لَهُ بالجفاء والوعيد. يَنْبَغِي للوالي أَن يكون عَالما بِأُمُور عماله فَإِن الْمُسِيء يخَاف خبرته قبل أَن تنزل بِهِ عُقُوبَته، والمحسن يستبشر بِعَمَلِهِ قبل أَن يَأْتِيهِ معروفه. يَنْبَغِي للوالي أَن تعرفه رَعيته بالأناة، وَألا يعجل بالعقاب وَلَا بالثواب؛ فَإِن ذَلِك أدوم لخوف الْخَائِف، ورجاء الراجي. يَنْبَغِي للوالي أَن تعلم رَعيته أَنه لَا يصاب خَيره إِلَّا بالمعونة لَهُ على الْخَيْر، فَإِن النَّاس إِذا علمُوا ذَلِك تصنعوا، والمتصنع لَا يلبث أَن يلْحق بِأَهْل الْفضل. من طلب مَا عِنْد السُّلْطَان وَالنِّسَاء بالشدة بعد عَنهُ مَا يطْلب، وَفَاته مَا يلْتَمس. وَدخل مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ على عمر بن عبد الْعَزِيز حِين اسْتخْلف فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مستعين بك على عَمَلي. قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي سأرشدك: أسْرع الِاسْتِمَاع، وأبطئ فِي التَّصْدِيق، حَتَّى يَأْتِيك وَاضح الْبُرْهَان، وَلَا تعملن سجنك فِيمَا يكْتَفى بِهِ بلسانك، وَلَا تعملن سَوْطك فِيمَا يكْتَفى فِيهِ بسجنك وَلَا تعملن سَيْفك فِيمَا يكْتَفى فِيهِ بسوطك. كَانَ بَعضهم يُوصي عماله فَيَقُول: سوسوا النَّاس بالمعدلة، واحملوهم على النصفة، واحذروا أَن تلبسونا جُلُودهمْ، أَو تطعمونا لحومهم، أَو تسقونا دِمَاءَهُمْ. بِالْولَايَةِ يعرف الرجل الحازم. إِذا أردْت أَن يقبل الْوَالِي مشورتك فَلَا تشبه بِشَيْء من الْهوى؛ فَإِن الرَّأْي يقبل، والهوى يرد.(4/179)
لَا يخطرن للْملك أَنه إِن اسْتَشَارَ الْملك الرِّجَال ظَهرت مِنْهُ الْحَاجة 441 إِلَى رَأْي غَيره؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ يُرِيد الرَّأْي للافتخار بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيد للِانْتِفَاع بِهِ. قَالَ حُذَيْفَة: إيَّاكُمْ ومواقف الْفِتَن، فَإِن أَبْوَاب الْأُمَرَاء، يدْخل الدَّاخِل على الْأَمِير فَيَقُول لَهُ الْبَاطِل ليرضيه. قَالَ ابْن المقفع: لتكن حَاجَتك فِي الْولَايَة ثَلَاث خِصَال: رضَا رَبك ورضا سلطانك، ورضا صَالح من تلِي عَلَيْهِ. وَلَا عَلَيْك أَن تلهو عَن المَال وَالذكر. فسيأتيك مِنْهُمَا مَا تكتفي بِهِ. إِن ابْتليت بِصُحْبَة وَال لَا يُرِيد صَلَاح رَعيته فَاعْلَم أَنَّك خيرت بَين خلتين لَيْسَ فيهمَا خِيَار، إِمَّا الْميل على الرّعية فَهُوَ هَلَاك الدّين، وَإِمَّا الْميل على الْوَالِي مَعَ الرّعية فَهُوَ هَلَاك الدُّنْيَا. تبصر مَا فِي الدُّنْيَا من الْأَخْلَاق الَّتِي تحب أَو تكره، ثمَّ لَا تكابره بالتحويل لَهُ عَمَّا يحب وَيكرهُ؛ فَإِن هَذِه رياضة صعبة تحمل على الإباء والقلى. قَلما يقدر على نقل رجل عَن طَرِيقَته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا بالمكابرة، وَلَكِن تقدر أَن تعينه على أحسن مذاهبه؛ فَإنَّك إِذا قويت لَهُ المحاسن كَانَت هِيَ الَّتِي تبصره الْمسَاوِي بألطف من تبصيرك فِي نَفسه. إِن كَانَ سلطانك على جدة دولة فَرَأَيْت أمرا استقام بِغَيْر رَأْي، وَعَملا استتب بِغَيْر حزم، وأعواناً أجيزوا بِغَيْر نيل، فَلَا يغرنك ذَلِك وَلَا تستنيمن إِلَيْهِ؛ فَإِن الْأُمُور تصير إِلَى حقائقها وأصولها. وَمَا بني مِنْهَا على غير أصل وثيق، ودعائم محكمَة، أوشك أَن يتداعى وينصدع. لَا تَطْلُبن من قبل السُّلْطَان بِالْمَسْأَلَة، وَلَكِن اطلبه بِالِاسْتِحْقَاقِ، واستأن بِهِ وَلَا تستبطئه، فَإنَّك إِذا استحققت مَا عِنْده أَتَاك عَن غير طلب، وَإِن لم تستبطئه كَانَ أعجل لَهُ. اعْلَم أَن السُّلْطَان إِذا انْقَطع عَنهُ الآخر نسي الأول، وَأَن أرحامه مَقْطُوعَة، وحباله مصرومة إِلَّا عَمَّن رَضِي عَنهُ. إياك أَن يَقع فِي قَلْبك التعنت على الْوَالِي، والاستزادة لَهُ؛ فَإِن ذَلِك إِذا وَقع(4/180)
فِي قَلْبك بدا فِي وَجهك إِن كنت حَلِيمًا، وعَلى لسَانك إِن كنت سَفِيها؛ وَإِذا ظهر ذَلِك للْوَلِيّ كَانَ قلبه أسْرع إِلَى التَّغَيُّر والتعتب من قَلْبك. إِذا أصبت الجاه والخاصة عِنْد السُّلْطَان فَلَا تَتَغَيَّر لأحد من أَهله وأعوانه؛ فَإنَّك لَا تَدْرِي مَتى ترى أدنى جفوة فتذل لَهُم، وَفِي ذَلِك من الْعَار مَا فِيهِ. لَا يواظب أحد على بَاب السُّلْطَان فَيلقى عَنهُ الأنفة وَيحْتَمل الْأَذَى ويكظم الغيظ. ويرفق بِالنَّاسِ إِلَّا كَاد يخلص إِلَى حَاجته عِنْد السُّلْطَان.(4/181)
الْبَاب الثَّامِن نَوَادِر النِّسَاء المواجن والجواري
قَالَ رجل: قلت لجارية أردْت شراءها: لَا يريبنك شيبي فَإِن عِنْدِي قُوَّة 442 فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَن عنْدك عجوزاً معتلمة. قَالَ آخر: كَانَت لي جَارِيَة، فأردتها على بعض الْأَمر فَقَالَت: إِن الْأَعْوَر الدَّجَّال لَا يدْخل الْمَدِينَة وَلَكِن يلم بأعراضها. كَانَت جَارِيَة الجمهوري فِي غَايَة المجون، وَلها إِلَيْهِ رسائل كثير مَعْرُوفَة قَالَت لَهُ يَوْمًا: إِن فلَانا الْيَهُودِيّ بذل لي عشْرين دِينَارا على أَن أعْطِيه فَردا فَلم أفعل. قَالَ مَوْلَاهَا: كذبت وَالله أَنْت حِينَئِذٍ فِي القيان وَيَقَع فِي يدك عشرُون دِينَارا بفرد فَلَا تجيبين إِلَيْهِ؟ فَقَالَت: محوت الصُّحُف إِن كنت فعلت ذَلِك عفافاً، وَلَكِن لم أشته أَن أَنَام تَحت أقلف: قَالَ: أسخن الله عَيْنك! الْيَهُود لَا يكونُونَ قلفاً. فَقَالَت: يَا مولَايَ؛ عزمك أَن تخرج إِلَى الْبُسْتَان، فَإِنِّي لم أعلم، وَقد نَدِمت، واليهودي بعد مُقيم على الْعَهْد. وَكتب إِلَيْهَا يَوْمًا: يَا سِتّ مَوْلَاهَا؛ مَا دمت فارغة خدي من ذَلِك اللوز المقشر وبخريه بخوراً طيبا فَإِن المحلب عندنَا قد نفذ، ومحلب السُّوق لَيْسَ بِطيب. فَكتبت إِلَيْهِ: سخنت عَيْنك يَا مطر؛ مذ لم أر من خبزه شعير وضراطه حوارِي غَيْرك. وكتبت إِلَيْهِ مرّة: قد صرت لوطيا صَاحب مردان. أعوذ بِاللَّه من البطر، وَلَكِن الحائك إِذا بطر سمي ابْنَته سمانة.(4/182)
استعرض رجل جَارِيَة فَقَالَ: فِي يَديك عمل؟ قَالَ: لَا وَلَكِن فِي رجْلي وَأدْخل على الْمَنْصُور جاريتان فأعجبتاه. . فَقَالَت الَّتِي دخلت أَولا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن الله قد فضلني على هَذِه بقوله: " وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ " فَقَالَت الْأُخْرَى: لَا بل قد فضلني بقوله: " وللآخرة خير لَك من الأولى " استعرض وَاحِد جَارِيَة فاستقبح قدميها فَقَالَت: لَا تبال؛ فَإِنِّي أجعلها وَرَاء ظهرك. طلبت جَارِيَة مَحْمُود الْوراق للمعتصم بسبعة آلَاف دِينَار، فَامْتنعَ من بيعهَا، واشتريت لَهُ بعد ذَلِك من مِيرَاثه بسبعمائة دِينَار، فَذكر المعتصم لَهَا ذَات يَوْم فَقَالَت: إِذا كَانَ اللخليفة ينْتَظر بشهواته الْمَوَارِيث فسبعون دِينَارا فِي ثمني كثير. فَكيف سَبْعمِائة؟ اقترح بَعضهم على جَارِيَة أَن تغني لَهُ: سري وسرك لم يعلم بِهِ أحد ... إِلَّا الْإِلَه وَإِلَّا أَنْت ثمَّ أَنا فَقَالَت: يَا سَيِّدي والقواد فَلَا تنسه. قَالَ بَعضهم: نظرت إِلَى جَارِيَة مليحة فِي دهليز، فَقَالَت: يَا سَيِّدي؛ تُرِيدُ الني.؟ قلت: أَي وَالله. قَالَت: فَاقْعُدْ حَتَّى يجِئ مولَايَ السَّاعَة فيني. . كَمَا نَا ... . . ني البارحة. كَانَ بعض المجان يعشق جَارِيَة أمجن مِنْهُ، فأضاق يَوْمًا فَكتب إِلَيْهَا: قد طَال عهدي بك يَا سيدتي، وأقلقني الشوق إِلَيْك، فَإِن رَأَيْت أَن تستدركي رمقي بمضغة علك تمضغينه وتجعلينه بَين دينارين وتنقذينه لأستشفى بِهِ فعلت إِن شَاءَ الله. فَفعلت ذَلِك وكتبت إِلَيْهِ: قد سارعت إِلَى أَمرك يَا سَيِّدي، فتفضل برد الطَّبَق والمكبة وَاسْتعْمل خبر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " استدروا الْهَدَايَا برد الظروف ". وَطلب آخر من عشيقته خَاتمًا كَانَ مَعهَا فَقَالَت: يَا سَيِّدي هَذَا ذهب وأخاف أَن تذْهب، وَلَكِن هَذَا الْعود حَتَّى تعود.(4/183)
وَقَالَ بَعضهم لأخرى: أرى شفتك مشققة فَقَالَت: التِّين إِذا احلولى تشقق. جَاءَت وَاحِدَة إِلَى مُنَاد فِي السُّوق فَقَالَت: خُذ هَذِه المخلاة وناد عَلَيْهَا. وأشارت إِلَى حرهَا فَقَالَ: أَنا السَّاعَة مَشْغُول وَلَكِن علقيه فِي هَذَا الوتد إِلَى أَن أفرغ. وَأَشَارَ إِلَى مَتَاعه. قَالَ الْأَصْمَعِي 443: مرت بِي أعرابيتان تتحدثان، فأصغيت إِلَيْهِمَا فَإِذا إِحْدَاهمَا تَقول لِلْأُخْرَى: مَا علمت أَن الزب من لحم حَتَّى قدمت الْعرَاق. قَالَ الجاحظ: ابْتَاعَ فَتى صلف بذاخ جَارِيَة بخارية حسناء ظريفة بزيعة فَلَمَّا وَقع عَلَيْهَا قَالَ لَهَا مرَارًا: مَا أوسع حرك. فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهَا قَالَت لَهُ: أَنْت الْفِدَاء لمن كَانَ يملؤه. وَمثل ذَلِك حَدِيث أبرويز مَعَ كردية أُخْت بهْرَام شوبين، وَكَانَت تَحت أَخِيهَا. فَلَمَّا قتل عَنْهَا تزَوجهَا أبرويز وحظيت عِنْده وَكَانَت فِي غَايَة الْجمال فَقَالَ لَهَا يَوْمًا: مَا يشينك شَيْء غير سَعَة حرك. فَقَالَت: إِنَّه ثقب بأير الرِّجَال. قَالَ بَعضهم: كَانَت لإِنْسَان جَارِيَة ظريفة يُقَال لَهَا عُطَارِد، وَقد كَانَت قومت الْكَوَاكِب بعدة زيجات قَالَ: فَحَدثني بعض الْحساب الَّذين كَانُوا يطارحونها أَنه قَالَ لَهَا يَوْمًا وَهُوَ يعلمهَا اسْتِخْرَاج التواريخ بَعْضهَا من بعض: إِذا أردْت ذَلِك فَخذي عدد السنين التَّامَّة إِلَى الْعَام الَّذِي أَنْت فِيهِ. ثمَّ خذي مَا مضى من الشُّهُور إِلَى الشَّهْر الَّذِي أَنْت فِيهِ، وخذي من أَيَّام الشَّهْر إِلَى الْيَوْم الَّذِي أَنْت فِيهِ. قَالَ: فَلَمَّا كثر عَلَيْهَا قولي: أَنْت فِيهِ مَا تمالكت أَن استلقت ضحكاً، وَبقيت خجلاً لَا أَدْرِي مِم تضحك. قَالَ: ثمَّ قَالَت لي: كم تَقول أنتفيه، أنتفيه هُوَ مثل الرَّاحَة، فَإِن هَمَمْت بِشَيْء فدونك. قَالَ: فوقفت على الْأَمر الَّذِي أضحكها وَخرجت فَلم أعد إِلَيْهَا من الْحيَاء. قَالَ الرشيد لغضيض جَارِيَته: إِنَّك لدقيقة السَّاقَيْن. قَالَت: أحْوج مَا تكون إِلَيّ لَا تراهما.(4/184)
اشْترى المكتفي جَارِيَة ماجنة من دَار مؤنس. وَكَانَ مؤنس مبخلاً فَسَأَلَهَا المكتفي عَن مروءته، فَقَالَت: طبخ لنا يَوْمًا عدسية ودعانا عَلَيْهَا، فَكَانَت العدسة تلقي العدسة فَتَقول: يَا أُخْتِي؛ مَا خبرك؟ وَمَا حالك؟ وَكَانَت الْقطعَة من اللَّحْم تعدو خلف الْقطعَة فَلَا تلحقها فتصيح خلفهَا وَتقول: وَالله لَئِن لحقتك لأضعفنك. فَضَحِك المكتفي حَتَّى غشي عَلَيْهِ. خَاصم رجل إمرأته فشتمته فَقَالَ لَهَا: وَالله لَئِن قُمْت إِلَيْك لأشقن حرك. فَقَالَت: لَا وَالله وَلَا كل أير بِبَغْدَاد. قيل لمدينية: أَيّمَا أحب إِلَيْك التَّمْر أَو الني؟ قَالَت: التَّمْر مَا أحببته قطّ. اجتازت امْرَأَتَانِ بشيخ فجمش إِحْدَاهمَا فَقَالَت لَهَا الْأُخْرَى: اقدحي لَهُ. أَي اضرطي عَلَيْهِ. فَقَالَت: يَا أُخْتِي الحراق رطب. أَدخل رجل فِي قحبة فِي شهر رَمَضَان، فَلَمَّا دفع فِيهَا أَرَادَ أَن يقبلهَا فحولت وَجههَا وَقَالَت: بَلغنِي أَن الْقبْلَة تفطر الصَّائِم. قَالَ شبيب بن شيبَة: اشْتريت جَارِيَة فَأَصَبْت مِنْهَا مَا يُصِيب الشَّيْخ من الشَّابَّة، ثمَّ خرجت لحاجتي فَرَجَعت وَقد تدثرت وعصبت رَأسهَا. وَقَالَت: مَالك لَا جَزَاك الله خيرا! وَالله مَا زِدْت عَليّ أَن هيجته عَليّ وَتركته يتقطع فِي أوصالي. كتب رجل إِلَى عشيقته: مري خيالك أَن يلم بِي. فَكتبت إِلَيْهِ: ابْعَثْ إِلَيّ بدينارين حَتَّى أجيئك بنفسي. قدم بَعضهم عجوزاً دلَالَة إِلَى القَاضِي فَقَالَ: أصلح الله القَاضِي؛ زوجتني هَذِه امْرَأَة فَلَمَّا دخلت بهَا وَجدتهَا عرجاء فَقَالَت: أعز الله القَاضِي: زَوجته امْرَأَة يُجَامِعهَا وَلم أزَوجهُ حمارة يحجّ عَلَيْهَا. كتب تَاجر من قطيعة الرّبيع إِلَى مغنية كَانَ يهواها رقْعَة قَالَ فِي أَولهَا: عصمنا الله وَإِيَّاك بالتقوى. فَكتبت إِلَيْهِ فِي الْجَواب: يَا غليظ الطَّبْع، إِن أجَاب الله 444 دعائك لم نلتق أبدا. وقطعته.(4/185)
كتب الجماز إِلَى مغنية رقْعَة وحشاها بالشعر، فَكتبت على ظهرهَا لَا تَجْتَمِع شعرتان بِشعر. قَالَ بَعضهم: سَمِعت امْرَأَة بِبَاب الطاق وَهِي تَقول لصاحبتها فِي عَشِيَّة يَوْم عيد: إيش رَأَيْت يَا أُخْتِي فِي هَذَا الزحام؟ قَالَت: يَا أُخْتِي، رَأَيْت الْعجب، رَأَيْت أيوراً تتمطى، وأرحاماً تتثاءب. لسع زنبور عروساً فِي هنها لَيْلَة زفافها، فَقَالَت الماشطة: من؟ وَلمن وَفِي أَي مَكَان؟ وأية لَيْلَة. دخل صبي مَعَ أَبِيه الْحمام فَعَاد إِلَى أمه فَقَالَ: مَا رَأَيْت أَصْغَر زباً من أبي. فَقَالَت: وَفِي أَي شَيْء كَانَ لأمك بخت حَتَّى يكون لَهَا فِي هَذَا؟ لما خست العقارات بِبَغْدَاد حضرت مغنية بعض الْمجَالِس وَهِي مختضبة فَقَالَ لَهَا إِنْسَان: مَا اسْم هَذَا الخضاب؟ قَالَت: ضراط السكان على أَصْحَاب الْعقار. قَالَ رجل وَاسع الْفَم أهدل الشفتين لمغنية: أشتهي أَن أَدخل لساني فِي فمك قَالَت: وَلم؟ قد قَامَت الْقِيَامَة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط؟ زحمت مدينية رجلا فَقَالَ: الْمُسْتَعَان الله مِنْكُن. مَا أكثركن {قَالَت: نَحن على هَذِه الْكَثْرَة وَأَنْتُم تلوطون وتتبادلون. فَلَو كَانَت فِينَا قلَّة ن. . تمّ الْحمير. عرضت على المعتز جَارِيَة فَقَالَ لَهَا: مَا أَنْت من شرطي قَالَت: وَلَكِنَّك من شرطي وَالله. فاشتراها وحظيت عِنْده. قَالَ أَحْمد بن يُوسُف كنت أعزل عَن جَارِيَة لي فَقَالَت لي يَوْمًا: يَا مولَايَ؛ مَا أقل حَاجَة الدَّرْدَاء إِلَى السِّوَاك} عرضت على المتَوَكل جَارِيَة فَقَالَ لَهَا: إيش تحسنين؟ قَالَت: عشْرين لوناً رهزا. فَأَعْجَبتهُ فاشتراها. قَالَ أَبُو العيناء: اشْتريت جَارِيَة مليحة ماجنة فَلَمَّا قُمْت إِلَيْهَا لم يقم أيري، فَأَخَذته بِيَدِهَا وَقَالَت: يَا مولَايَ؛ هَذَا يصلح للمضيرة قلت: وَكَيف ذَاك؟ قَالَت: أَلَيْسَ هُوَ البقلة الحمقاء.(4/186)
استعرض ابْن الْمُدبر طباخة فَقَالَ لَهَا: أتحسنين الحشو؟ قَالَت: الحشو إِلَيْك. عرضت جَارِيَة على فَتى للْبيع فَكشفت عَن حرهَا وَقَالَت: انْظُر كم مساحة هَذَا القراح. فَخَجِلَ الْفَتى. فَقَالَت لَهُ: لَو كنت ظريفاً لَقلت: حَتَّى أخرج قَصَبَة المساحة. قَالَ أَبُو النواس يَوْمًا لقينة وَأَشَارَ إِلَى أيره فِي أَي سُورَة هُوَ: " فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه " فاستلقت وتكشفت وَقَالَت: " إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ". وَكَانَ يَوْمًا عِنْد بغض إخوانه إِذْ خرجت عَلَيْهِ جَارِيَة بَيْضَاء عَلَيْهَا ثِيَاب خضر فَلَمَّا رَآهَا مسح عَيْنَيْهِ وَقَالَ: خيرا رَأَيْت إِن شَاءَ الله فَقَالَت: وَمَا رَأَيْت؟ قَالَ: رَأَيْت كَأَنِّي رَاكب دَابَّة أَشهب عَلَيْهِ جلّ أَخْضَر قَالَت: إِن صدقت رُؤْيَاك استدخلت فجلة. قَالَ أَبُو زيد عمر بن شبه وَكَانَ عَظِيم الْأنف: اشْتريت جَارِيَة بريعة، فَلَمَّا أهويت - إِلَيْهَا لأقبلها قَالَت: يَا مولَايَ، نح عَن وَجْهي ركبتيك، وَلَك فِيمَا دون ذَلِك متسع. مرت امْرَأَة حُبْلَى بِرَجُل، فتعجب من عظم بَطنهَا فَقَالَ: مَا كَانَ أحذق هَذَا الحشو! فَقَالَت الْمَرْأَة: إِذا شِئْت فَابْعَثْ بأمك حَتَّى آمُر زَوجي بِأَن يحشوها خيرا من هَذَا. اعْترض المتَوَكل جاريتين بكرا وثيباً، فَقَالَت الشيب: مَا بَيْننَا إِلَّا يَوْم وَاحِد. فَقَالَت الْبكر: " وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ ". وَقَالَت وَاحِدَة مِنْهُنَّ: الني. . فِي الاست وتد الْعِشْق. قَالَ رجل لابنَة لَهُ: أُرِيد أَن أزَوجك من فلَان. قَالَت: يَا أبه. الله الله. فَإِنِّي 445(4/187)
لَا أَصْبِر عَنْك وَلَا أحتاج إِلَى زوج. قَالَ: فَإِنِّي أتركه لَعَلَّ الله يسهل خيرا مِنْهُ، فَإِنَّهُ بَلغنِي عَنهُ خصْلَة لَا أرضاها لَك. قَالَت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَلغنِي أَن أيره مثل أير الْحمار. قَالَت: يَا أبه؛ زَوجنِي فِي حَيَاة مِنْك؛ فَإِن الْحَوَادِث لَا تؤمن. اشْترى رجل جَارِيَة نَصْرَانِيَّة فواقعها وَكَانَ لَهُ مَتَاع وافر، فَلَمَّا أدخلهُ عَلَيْهَا قَالَت: بِأبي النَّبِي الْأُمِّي. فَقَالَ الرجل: هَذَا أول حر أسلم على يَد أير. وَكَانَ مَعَ عبد الْملك جَارِيَة لَهُ لما وَاقع مُصعب بن الزبير فَنَظَرت إِلَى مقتول قد انْقَلب وانتفخ أيره. فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ مَا أعظم أيور الْمُنَافِقين {فلطمها وَقَالَ: اسكتي لعنك الله. وَكَانَ رجل دلّ بآلته وعظمها فَقَالَ يَوْمًا لامْرَأَة وَقد وَاقعهَا وَأَعْجَبهُ مَا مَعَه: ألم يخرج من حلقك بعد؟ قَالَت: أوقد أدخلته بعد؟ سَأَلت وَاحِدَة أُخْرَى: مَا تَقُولِينَ فِي ابْن عشْرين؟ قَالَت: ريحَان تشمين. قَالَت: فَابْن ثَلَاثِينَ؟ قَالَت: أَبُو بَنَات وبنين. قَالَت: فَابْن الْأَرْبَعين؟ قَالَت: شَدِيد الطعْن متين. قَالَت: فَابْن الْخمسين؟ قَالَت: يجوز فِي الخاطبين. قَالَت: فَابْن السِّتين؟ قَالَت: صَاحب سعال وأنين. قَالَت: فَابْن سبعين؟ قَالَت: اكتبيه فِي الضراطين. قَالَت: فَابْن ثَمَانِينَ؟ قَالَت: أَنْت فِي حرج إِن لم تسكتين. قَالَ بَعضهم: خرجت إِلَى بعض الْقرى فِي أَمَانَة، وَكنت مُولَعا بالباه، فَلَمَّا غبت أَيَّامًا لم أَصْبِر، فَخرجت يَوْمًا إِلَى الصَّحرَاء فَرَأَيْت عجوزاً عَلَيْهَا كسَاء وَمَعَهَا جرة فأخذتها فَقَالَت لي: من أَنْت؟ قلت: أَنا سبع آكلك فن. . تها وَمَضَت وَرجعت إِلَى السدر، وَأَنا قَاعد ذَات يَوْم فَإِذا بالعجوز قد عَرفتنِي، فَأَقْبَلت نحوي وَقَالَت: سبع، قُم كلني. وَحكى بَعضهم: أَنه كَانَ جَالِسا مَعَ امْرَأَته فِي منظرة فَجَاز غُلَام حسن الْوَجْه فَقَالَت الْمَرْأَة: أُعِيذهُ بِاللَّه مَا أحسن وَجهه} فَقَالَ الزَّوْج: نعم؛ لَوْلَا أَنه خصي، فَقَالَت: لعن الله من خصاه. لما زفت عَائِشَة بنت طَلْحَة إِلَى مُصعب قَالَ: وَالله لأقتلنها جماعاً. فواقعها مرّة ونام، فَلم ينتبه إِلَى السحر، فحركته وَقَالَت: انتبه يَا قتال!(4/188)
قَالَ بَعضهم، وَكَانَ دميماً: كنت ذَات يَوْم وَاقِفًا عِنْد الجسر أحدث صديقا لي، فوقفت امْرَأَة بحذائي وقوفاً طَويلا، وأدامت النّظر إِلَيّ، فَقلت لغلامي: انْظُر مَا تُرِيدُ هَذِه الْمَرْأَة. فَدَنَا مِنْهَا وسألها فَقَالَت: كَانَت عَيْني أذنبت ذَنبا، فَأَحْبَبْت أَن أعاقبها بِالنّظرِ إِلَى هَذَا الشَّيْخ. فال رجل لجاريته: أعطيني خلالة أَو شَيْئا. فَأَتَتْهُ ببعرة، وَقَالَت: لم تحضر الخلالة وَهَذَا شَيْء. غاضبت امْرَأَة زَوجهَا فأحال عَلَيْهَا يُجَامِعهَا فَقَالَت: لعنك الله كلما وَقع بيني وَبَيْنك شَرّ جئتني بشفيع لَا أقدر على رده. قَالَ جَعْفَر بن سُلَيْمَان: أَتَتْنِي امْرَأَة من أهل الْبَادِيَة فَقَالَت: يَا أَبَا سُلَيْمَان، لَا يُعجبنِي الشَّاب يمعج معجان الْمهْر طلقاً أَو طَلْقَتَيْنِ ثمَّ يضطجع بِنَاحِيَة الميدان، وَلَكِن أَيْن أَنْت من كهل يضع قب استه على الأَرْض، ثمَّ سحباً وجراً. قَالَ أَبُو النَّجْم: إِنِّي لما كَبرت عرض لي الْبَوْل فَوضعت عِنْد رجْلي شَيْئا أبول فِيهِ فَقُمْت من اللَّيْل لأبول فضرطت وتشددت ثمَّ عدت فَخرج أَيْضا صَوت فأويت إِلَى فِرَاشِي وَقلت: يَا أم الْخِيَار 446 هَل سَمِعت شَيْئا؟ قَالَت: لَا وَالله، وَلَا وَاحِدَة مِنْهُمَا. قيل لامْرَأَة ظريفة: أبكر أَنْت؟ قَالَت: أعوذ بِاللَّه من الكساد. وَسمعت امْرَأَة من عَائِشَة بنت طَلْحَة - وَعمر بن عبيد الله زَوجهَا يُجَامِعهَا - نخيراً وغطيطاً لم تسمع بِمثلِهِ، فَقَالَت لَهَا فِي ذَلِك، فَقَالَت إِن الْخَيل لَا يجيد الشّرْب إِلَّا على الصفير. وَرووا أَنَّهَا قَالَت: إِن الفحولة لم تستهب لم تهب. قيل لامْرَأَة: مَا تَقُولِينَ فِي السحاق؟ فَقَالَت: هُوَ التَّيَمُّم لَا يجوز إِلَّا عِنْد عدم المَاء. قَالَت امْرَأَة لزَوجهَا وَكَانَ أصلع، لست أحسد إِلَّا شعرك حَيْثُ فارقك فاستراح مِنْك. خطب رجل امْرَأَة فاشتطت عَلَيْهِ فِي الْمهْر وَغَيره فَقَالَ: نعم إِن احتملت عيوبي. قَالَت: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: أيري كَبِير، وَأَنا مستهتر بِالْجِمَاعِ لَا أريحك،(4/189)
وأبطيء الْفَرَاغ. فَقَالَت: يَا جَارِيَة، أحضري شُيُوخ الْمحلة تشهد على بركَة الله، فالرجل ساذج لَا يعرف الْخَيْر من الشَّرّ. قَالَ أَبُو العيناء: خطبت امْرَأَة فاستقبحتني فَكتبت إِلَيْهَا: فَإِن تنفري من قبح وَجْهي فإنني ... أديب أريب لَا عيي وَلَا فدم فأجابت: لَيْسَ لديوان الرسائل أريدك. قَالَ بَعضهم: ن ... ت جَارِيَة فِي استها فَقَالَت: اذكر سَيِّدي أَنَّك هوذا تني ... وَحدك. قَالَ رجل لجاريته وَقد رأى على ثَوْبه عذرة فمصه: يَا جَارِيَة خراء وَالله. ثمَّ شكّ فمصه أَيْضا وَقَالَ: خراء وَالله، ثمَّ شكّ فمصه ثمَّ قَالَ: يَا قوم خراء وَالله. ثمَّ قَالَ: يَا جَارِيَة؛ هَاتِي مَاء واغسليه فَقَالَت: يَا مولَايَ مَا تصنع بِالْمَاءِ وَقد أَكلته كُله. قَالَ شَاب لجارية: أيري يقْرَأ على حرك السَّلَام. فَقَالَت: حري لَا يقبل السَّلَام إِلَّا مشافهة. خرجت حبى المدينية لَيْلَة فِي جَوف اللَّيْل فلقيها إِنْسَان فَقَالَ لَهَا: تخرجين فِي هَذَا الْوَقْت؟ قَالَت: وَلم أُبَالِي؟ إِن لَقِيَنِي شَيْطَان فَأَنا فِي طَاعَته، وَإِن لَقِيَنِي رجل فَأَنا فِي طلبه. غَابَ رجل عَن امْرَأَته، فبلغها أَنه اشْترى جَارِيَة، فاشترت غلامين، فاتصل لخَبر بزوجها فجَاء مبادراً وَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا؟ فَقَالَت: أما علمت أَن الرَّحَى إِلَى بغلين أحْوج من الْبَغْل إِلَى الرحا. بِعْ الْجَارِيَة حَتَّى أبيع الغلامين فَفعل ذَلِك. لاعب الْأمين جَارِيَة بالنرد على إمرة مطاعة فغلبته فَقَالَ: احتكمي. فَقَالَت: قُم. فَقَامَ وَفعل، وعاود اللّعب مَعهَا فغلبته، فاحتكمت عَلَيْهِ مثل ذَلِك ثمَّ لاعبها الثَّالِثَة فغلبته وَقَالَت: قُم أَيْضا. فَقَالَ: لَا أقدر. قَالَت: فأكتب عَلَيْك بِهِ كتابا. قَالَ: نعم. فتناولت الدواة والقرطاس وكتبت، ذكر حق فُلَانَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَن لَهَا عَلَيْهِ فَردا تَأْخُذهُ بِهِ مَتى شَاءَت من ليل أَو نَهَار. وَكَانَ على رَأسهَا وصيفة بمذبة فِي يَدهَا. فَقَالَت: يَا ستي؛ اكتبي فِي الْكتاب: وَمَتى قَامَ بالمطالبة بِمَا فِي(4/190)
هَذَا الْكتاب أحد فَهُوَ ولي قبض مَا فِيهِ. فَضَحِك الْأمين وَأمر لَهَا بجائزة. دخل الجماز على صَاحب قيان وَعِنْده عشيقته. فَقَالَ لَهُ الرجل: أتأكل شَيْئا؟ قَالَ: قد أكلت. فَسَقَاهُ نَبِيذ عسل فَلَمَّا كظه جعل يَأْكُل الْورْد كَأَنَّهُ يتنقل بِهِ، ففطنت الْجَارِيَة فَقَالَت لمولاها: يَا مولَايَ أطْعم هَذَا الرجل رغيفاً، وَإِلَّا وَالله خرج خراه جلنجبين معسل. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت أم جَعْفَر فِي إيوَان كسْرَى بِيَدِهَا مدرى وَعَلَيْهَا قبَاء خَز طاروني وَهِي تكْتب على الْحَائِط: 447 - فَلَا تأسفن على ناسك ... وَإِن مَاتَ ذُو طرب فابكه ون. . من لقِيت من الْعَالمين ... فَإِن الندامة فِي تَركه قَالَ: فَقلت لَهَا: يَا سيدة عبد منَاف، مَا هَذَا الشّعْر؟ فَقَالَت: اسْكُتْ، هَذَا الَّذِي بلغنَا عَن آدم أَنه لما جَامع حَوَّاء قَالَت لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّد مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا يُقَال لَهُ الني فَقَالَت: زِدْنِي مِنْهُ فَإِنَّهُ طيب. كَانَ لرجل عنين امْرَأَة فرآها يَوْمًا تساحق أُخْرَى فَقَالَ: وَيلك، خرق على خرق؟ قَالَت: نعم حَتَّى يرْزق الله برقعة. كتبت سحاقة إِلَى حَبَّة لَهَا تزوجت: يَا أُخْتِي، مَا أقبح الصَّاد مَعَ اللَّام، وَأحسن الصَّاد مَعَ الصَّاد {فأجابتها: مَا أحسن اللَّحْم على اللَّحْم، وأقبح الْخبز على الْخبز.} وكتبت أُخْرَى إِلَى صديقَة لَهَا تغايظ بزوجها: لَو تطعمت بأيره مَا تلذذت بِغَيْرِهِ. وعوتبت أُخْرَى وَكَانَت قد تزوجت وَتركت السحاق وزهدت فِيهِ فَقَالَت: يَا أخواتي، رأيتن قفلاً يفتح بقفل؟ قُلْنَ: لَا. قَالَت: قد وجدت لقلي مفتاحاً لَا يتعاظمه ألف قفل، فَمن احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْكُن لم أبخل بِهِ عَلَيْهَا. قَالَت سحاقة لأخرى: لَيْسَ شَيْء أطيب من الموز - تكني عَن الْجِمَاع -(4/191)
قَالَت: صدقت، وَلكنه ينْفخ الْبَطن - تكنى عَن الْحَبل. دخلت ديباجة المدينية على امْرَأَة تنظر إِلَيْهَا فَقيل لَهَا: كَيفَ رَأَيْتهَا؟ فَقَالَت: لعنها الله كَأَن بَطنهَا قربَة، وَكَأن ثديها دبة، وَكَأن وَجههَا وَجه ديك قد نقش عفريته يُقَاتل ديكاً. خطب ثُمَامَة الْعَوْفِيّ امْرَأَة فَسَأَلت عَن حرفته فَكتب إِلَيْهَا. وسائلة مَا حرفتي؟ قلت: حرفتي ... مقارعة الْأَبْطَال فِي كل مأزق وضربي طلى الْأَبْطَال بِالسَّيْفِ معلما ... إِذا زحف الصفان تَحت الخوافق فَلَمَّا قَرَأت الشّعْر قَالَت للرسول: قل لَهُ: فديتك أَنْت أَسد فاطلب لنَفسك لبؤة؛ فَإِنِّي ظَبْيَة أحتاج إِلَى غزال. قَالَ رجل لجارية اعترضها - وَكَانَ دميماً فَكَرِهته وأعرضت عَنهُ: إِنَّمَا أريدك لنَفْسي. قَالَت: فَمن نَفسك أفر. وَذكر بَعضهم قَالَ: مرت بِي امْرَأَة وَأَنا أُصَلِّي فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاتقيتها بيَدي، فَوَقَعت على فرجهَا فَقَالَت: يَا فَتى، مَا أتيت أَشد مِمَّا اتَّقَيْت. قَالَ ابْن داحة: رَأَيْت عثيمة بنت الْفضل الضمرية تُرِيدُ أَن تعطس فتضع أصبعها على أنفها، كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَن ترد عطاسها وَتقول: لعن الله كثيرا، فَإِنِّي مَا أردْت العطاس إِلَّا ذكرت قَوْله: إِذا ضمرية عطست فن ... هَا ... فَإِن عطاسها حب السفاد دخلت عزة على عَاتِكَة بنت يزِيد فَقَالَت: أَخْبِرِينِي عَن قَول كثير: قضى كل ذِي دين فوفى غَرِيمه ... وَعزة ممطول معنى غريمها. مَا هَذَا الدّين الَّذِي كنت وعدته؟ قَالَت: كنت وعدته قبْلَة، فَلم أُفٍّ لَهُ بهَا. فَقَالَت: هلا أنجزتها لَهُ وَعلي إثمها.(4/192)
وَقَالَ عقيل بن بِلَال: سمعتني أعرابية أنْشد: وَكم لَيْلَة بتها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريانة الْقلب 448 - فَقَالَت لي: هلا أثمت أخزاك الله. جَاءَت حبى المدينية إِلَى شيخ يَبِيع اللَّبن ففتحت وطباً فذاقته ودفعته إِلَيْهِ وَقَالَت لَهُ: لَا تعجل الشدَّة، ثمَّ فتحت آخر فذاقته ودفعته إِلَيْهِ، فَلَمَّا شغلت يَدَيْهِ جَمِيعًا كشفت ثَوْبه من خَلفه وَجعلت تصفق بِظَاهِر قدمهَا استه وَهِي تَقول: يَا ثَارَاتِ ذَات النحيين! دونكم الشَّيْخ. وَالشَّيْخ يَصِيح وَهِي تصفق إسته فَمَا تخلص مِنْهَا إِلَّا بعد جهد. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت على خَاتم جَارِيَة: إِنَّا نفي إِن لم أُفٍّ. قَالَ: فَقلت: مِمَّن؟ قَالَت: من الزِّنَى. وَذكر أَن الْأَحْنَف اعتم وَنظر فِي الْمرْآة، فَقَالَت امْرَأَته: كَأَنَّك قد هَمَمْت أَن تخْطب امْرَأَة. قَالَ: قد كَانَ ذَلِك. قَالَت: فَإِذا فعلت فَاعْلَم أَن الْمَرْأَة إِلَى رجلَيْنِ أحْوج من الرجل إِلَى امْرَأتَيْنِ. فنقض عمته وَترك مَا كَانَ هم بِهِ. وصفت مدينية رجلا فَقَالَت:: نَا ... ني ني. . اً كَأَنَّهُ يطْلب فِي حري كنزاً من كنوز الْجَاهِلِيَّة. وَدخلت مدينية على فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن فرأت عِنْدهَا ابنيها عبد الله بن الْحُسَيْن وَمُحَمّد بن عبد الله فَقَالَت: من هَذَا؟ قَالَت: هَذَا ابْن الْحسن بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِم السَّلَام فَقبلت رَأسه وَقَالَت: هَذَا من العترة الطّيبَة الْمُبَارَكَة. فَمن الآخر؟ قَالَت: هَذَا مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان. قَالَت: هَذَا نصفه فِي الْجنَّة وَنصفه فِي النَّار. قَالَ بَعضهم: اشْتريت جملا صعباً فأردنا إِدْخَاله الدَّار فَلم يدْخل، فضربناه وأشرفت علينا امْرَأَة كَأَنَّهَا الْبَدْر فَقَالَت: مَا شَأْنه؟ قُلْنَا: لَيْسَ يدْخل. قَالَت: بلوا رَأسه حَتَّى يدْخل.(4/193)
قَالَ بَعضهم: عرضت عَليّ طباخة فَقلت: مَا تطبخين؟ فَقَالَت: أطبخ مَا يشتهيه المحموم والمخمور. فاشتريتها فَكَانَت على الزِّيَادَة مِمَّا وصفت. أَدخل علوي على امْرَأَة فَلَمَّا طالبها قَالَت لَهُ: هَات شَيْئا. قَالَ: أما ترْضينَ أَن يلج فِيك بضعَة مني. قَالَت: هَذَا جذر ينْفق بقم. كَانَت بذل الْكَبِيرَة ماجنة فنقشت على خاتمها: " فَالتقى المَاء على أَمر قد قدر ". نظر المتَوَكل إِلَى جَارِيَة منكبة فَلم يرض عجيزتها فَقَالَ: إِنَّك لرسحاء فَقَالَت: يَا سَيِّدي مَا نقصناه من الطست زِيَادَة فِي التَّنور. قَالَ المتَوَكل لجارية استعرضها: أَنْت بكر أم إيش؟ قَالَت: أَنا إيش يَا سَيِّدي. قَالَ بعض النخاسين: اشْتريت جَارِيَة سندية فَكنت إِذا خرجت أقفل عَلَيْهَا الْبَاب، فَجئْت يَوْمًا وَفتحت الْبَاب فَلم أَجدهَا فِي الدَّار، فَصحت بهَا فَلم تجدني، فَصَعدت السَّطْح فَإِذا هِيَ مطلعة على اصطبل وَقد أنزى حمَار على أتان، وَهِي تنظر إِلَيْهِ قَالَ: فأنعظت وَجئْت إِلَيْهَا وَهِي منكبة على الْحَائِط فأولجت فِيهَا فالتفتت إِلَيّ وَقَالَت: يَا مولَايَ، فحرك ذَنْبك واضرط. دَعَا رجل قوما، وَأمر جَارِيَته أَن تبخرهم؛ فأدخلت يَدهَا فِي ثوب بَعضهم فَوجدت إيره قَائِما، فَجعلت تمرسه وتلعب بِهِ وأطالت فَقَالَ لَهَا مَوْلَاهَا: فإيش آخر هَذَا الْعود؟ أما احْتَرَقَ بعد؟ قَالَت: يَا مولَايَ هُوَ عقدَة. 449 - هَذِه فُصُول من كتب زَاد مهر جَارِيَة ابْن جُمْهُور إِلَى مَوْلَاهَا تلِيق بِهَذَا الْبَاب. كتبت إِلَيْك وحياة أَنْفك القاطولي، لَا كَانَ فعالك بِي إِلَّا شرا عَلَيْك، وَلَكِنَّك السَّاعَة الْعَامِل فِي فسا، وَلَيْسَ تذكر مثلي فِي قحاب فسا، الَّذين يدْخلُونَ الرِّجَال وَالنِّسَاء حمام وَاحِد، أَنا أعلم أَنَّك لَو أخرجتني إِلَيْك لوجدت فِي بَيْتك أَربع قحاب كلهم حبالى من ذَلِك البزر الَّذِي لَا يخلف الْحَلَاوَة، كنه الْبِطِّيخ العبدلائي، وَالله(4/194)
إِن بزر الدفلى خير من بزرك. قطع ظهرك ونسلك! أشتهي وَالله أعلم البغاءات إيش يرَوْنَ فِي وَجهك؟ الَّذِي، وَالله، وَإِلَّا فَأَنا جاحدة مُشركَة إِن أخطئ أقبح من عُصْفُور مقلي بِزَيْت، وَلَكنهُمْ إِذا أبصروا الشوابير قَالُوا: ذَا من ولد الْعَبَّاس. يَا هَذَا، للنِّسَاء مُؤَن لَا يقف عَلَيْهَا الرِّجَال. أهونها الدبق. فَعَسَى تُرِيدُ أَن أطول طعنه فِي كبدك وآكله على حَال لَا بُد من تنظيفه. إِن لم نزن ساحقنا. وَاعْلَم علم يَقِين أَن النَّفَقَة وَالْكِسْوَة إِن تَأَخَّرت عني خرجت وَالله وغنيت وَقمت بَطْني وَعشرَة معي، وأنفقت على روحي كَمَا أشتهي، وَإِن فضل من الجذر شَيْء لم أظلمك وأبعث بِهِ إِلَيْك تنفقه أَنْت. وَاعْلَم أَن الْجَارِيَة إِذا خرجت للغناء دخل سراويلها الزِّنَى. فَأَنت أبْصر وَلَا تطمع أَن أخرج إِلَيْك. لَا وحياتك. طمعويه بنى غرفَة فانويه قعد فِيهَا. عَلَيْك يَا بن جُمْهُور بقحاب فسا وشيراز الَّذين يشتهونك مائَة بصفعة، الَّذين إِذا قُمْت على الْوَاحِدَة قُمْت وَفِي كمك عشْرين ضرطة يَا مداذية. وَلَوْلَا أَبوك الشَّيْخ - أبقاه الله - كنت قد خريت كبدك على لبدك. وَلَكِن إيش بعد قَلِيل تنْفق كل مَا جمعت فَتكون مثل ذَلِك الَّذِي تبخر وفسا، خرج لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ بالسواء، هوذا أنصحك. ابْعَثْ إِلَيّ بِنَفَقَة وَإِلَّا وحياتك خرجت وغنيت، فقد قَالَ الْقَائِل: من لم يكن يدك فِي قصعته لَا يهولك بريق صلعته. وَمن كتاب آخر لَهَا: إِن عزمت على حملي إِلَى عنْدك ابْعَثْ إِلَيّ رقْعَة بخطك تحلف فِيهَا بِالطَّلَاق أَنَّك لَا تضربني وَلَا تخاصمني وَلَا تعذبني، وَلَو قلعت لَك كل يَوْم حدقة، وَإِلَّا فَبَارك الله لَك وَبَارك الله لنا قواد ابْن أبي الساج هُوَ ذَا يدْخلُونَ الْبَصْرَة وَمن كَانَ جذرها عشْرين سَوف يصير أَرْبَعِينَ. وَأَنا سِتّ من خرجت وغنت. فَأَما قَوْلك فِي كتابك أَن اخْرُجِي إِلَى دارانجرد على الْبَحْر، فَإِنَّهُ أقرب،(4/195)
فأشير إِلَيْك إِذا أردْت أَن ترجع إِلَى الْبَصْرَة أَن تَأْخُذ على طَرِيق الْبَحْر، فَإنَّك رجل ومعك صناديق وَثقل، وَأَنا جَارِيَة ضَعِيفَة الْقلب، وسقوطي من الْحمار كل يَوْم عشر مَرَّات أحب إِلَيّ من أَن يأكلني السّمك. هتك سترك يَا بن جُمْهُور! فقد بَان لي هواني عَلَيْك، وَلَيْسَ مَا كنت تختم الْقُرْآن على حري كل يَوْم سبعين مرّة من الشَّفَقَة، وبينما تَقول لي: ارْكَبِي الْبَحْر. هِيَ لَك فِي قلبِي حَتَّى أَمُوت. أَنا أعلم وَأَنا أجيء إِلَيْك، وَقد فني مَاء صلبك، فَكل فِي كل يَوْم لحم كباب وبصلية 450 ومدققة واشرب وَلَا تزن حَتَّى أجيء إِلَيْك، وَهُوَ ذَا أنتف إِذا سلم الله وَبَلغت جويم ثمَّ أتبخر وأتطيب وَأدْخل إِلَيْك وَلَيْسَ - وَعزة الله - يَقع عَيْنك على بَاب الدَّار شهرا. فانبذ لي نبيذاً كثيرا وَلَا تحوجني إِلَى أَن أَشْتَرِي كل يَوْم نبيذاً وأرهن من بَيْتك علقاً وَيَقَع بَيْننَا الْخُصُومَات. وَفِي كتاب آخر: سخنت عَيْنك، قد صرت لوطياً صَاحب مردان، أعوذ بِاللَّه من البطر. وَلَكِن الحائك إِذا بطر سمى بنته نَخْلَة، وَأخذ خبزه من الزنجبيل وَجعله فِي سلة، وحياة رَأسك يَا أَبَا عَليّ لأغيظنك بِمَا أَنْت فِيهِ من هَذِه الْأَيَّام فَمَا أَخطَأ الْقَائِل: لَا تغبطن مقامراً بقماره ... يَوْم سمين دهره مهزول وَاعْلَم أَنِّي لست على سلال لالك فَمرَّة أَنْت صَاحب غلْمَان، وَمرَّة صَاحب نسَاء وقحاب. وَالله لأنصفنك: إِذا أخذت أَنْت فِي القحاب أَخذنَا فِي الربطاء وَإِذا أخذت أَنْت فِي الغلمان أَخذنَا فِي الحبائب، وَإِذا زَنَيْت قحبنا، وَإِذا لطت ساحقنا؛ حَتَّى نَنْظُر التُّرَاب من سبع مزابل على شقّ است من يكون منا، والندامة وَالْعَيْب على من يرجع. فِي است المعبون عود. لمه لَا أخرج خرجَة وَلَا أقلع خَفِي فِيهَا إِلَّا بِثَلَاثَة دَنَانِير، وَإِذا خرجت بِالْغَدَاةِ قلت: اصبحوا بِخَير، ثمَّ أجئ بِهِ لَك شهزوري مقمط مَكْحُول، أغمس يَده فِي الزَّعْفَرَان وأبعث بِهِ إِلَيْك فَإِذا رَأَيْت تمنيت أَن الَّذِي برزه كَانَ برزه لَك، من حِين لم تعْمل معي بالجنون وتأكل بِالصِّحَّةِ إِمَّا جِئْت إِلَى الْبَصْرَة وَإِلَّا وَعزة الله خرجت إِلَى بَغْدَاد. بَارك الله لَك فِي قلمك، وَلنَا فِي دواتنا، وَالسَّلَام، وَأطَال الله بَقَاء القَاضِي وَجَعَلَنِي فدَاه.(4/196)
وَمن كتاب آخر: وَلَيْسَ عجبي إِلَّا من غضبك ودلالك عَليّ، ويمينك فِي كتابك بالطالب الْغَالِب أَنِّي إِن لم أخرج إِلَيْك يَوْم الثَّالِث من مَجِيء غلامك أَنْت لَا تكْتب إِلَيّ وَلَا تتعرف بِي. آخ {بحياتي عَلَيْك لَا تفعل} قد احْتَرَقَ كمخت خَفِي من هَذَا الحَدِيث {بِاللَّه لَا تظن فِي قَلْبك أَنِّي منقطعتك، أَو قعيدتك، أَو بنت دايتك، أَو زنجية بَين يَديك. إِذا أردْت أَن تغْضب فنكب حدتك واشرب مَاء الباذنجان. حَتَّى يسكن مرارتك. لَيْسَ أَنا - فديتك سقوطرية وَلَا خلدية. فَإِذا أردْت أَن تكلمني فاغسل فمك بمسك وَمَاء ورد وَانْظُر كَيفَ تكلمني. هتك الله ستري إِن كنت أرْضى أَن تكون كاتبي، فَكيف مولَايَ؟ وَلَكِن الشَّأْن فِي البخت. وتهددك لي بِقطع النَّفَقَة عني أَشد من كل شَيْء فِي الدُّنْيَا، وَقد صَار وَجْهي إِصْبَعَيْنِ من الْغم. فَالله الله يَا مولَايَ اتَّقِ الله وَلَا تضيعني} لَا يحل لَك سُبْحَانَ الله، ذهبت الرَّحْمَة من قَلْبك. أَحسب أَنِّي بعض قراباتك الَّذين تجْرِي عَلَيْهِم، فَإِنِّي من الْغم مَا يدْخل لساني فِي أنفي وَلَا يَجِيء النّوم فِي عَيْني. وَقد قَرَأت فِي كتابك إِلَى أختك إِن نشطت مختارة أَن تخرج معي إِلَيْك يخرجونها، وَأَن يضمنوا لَهَا عَنْك النَّفَقَة الواسعة، وَالْكِسْوَة. وحديثك حَدِيث الَّذِي قَالَ: أخبروني أَنَّك تكسو العراة، اكس استك بادئاً أَنْت لَيْسَ يمكنك أَن تقوم بنفقتي وحدي ومئونتي. كَيفَ تقوم بمئونة غَيْرِي. وَلَكِن يَا بن جُمْهُور قَلْبك لَا يصبر عَن فُؤَادك. ذكر الْفِيل بِلَاده 451 وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ خَصْلَتَيْنِ إِمَّا أَن يكون فِي قَلْبك مِنْهَا شَيْء وَإِمَّا أَن يكون تُرِيدُ أَن تقين علينا جَمِيعًا فِي فَارس. عَسى قد ضَاقَ عَلَيْك المعاش وَهُوَ ذَا نجي جَمِيعًا، فاطلب لنا رقباء، وازرع بُسْتَان سذاب، وَافْتَحْ دكان واقعد لبان. فعلينا أَن نجيب لَك كل يَوْم زقين دوغ واقعد واشرب كَأَنَّك ابْن سِنِين، أَو ابْن أبي نبيه. أخير لَك يَا ميشوم من الْحَرَام وَعمل السُّلْطَان، تَأْخُذ دَرَاهِم النَّاس بِلَا طيبَة قُلُوبهم وَلَيْسَ يُعْطِينَا إِنْسَان درهما إِلَّا بِطيبَة قلب، وَبعد مَا يقبل الأَرْض، وَنحن نجيب إِلَيْك الْهَدَايَا، وَأَنت غافل فِي بَيْتك تن. . بِاللَّيْلِ بأيرك كُله وَإِذا حبلت الْوَاحِدَة منا ادَّعَتْهُ على وَاحِد من السلاطين والكتبة، تنتقي لكل ولد لَك كل كَاتب أنبل من الآخر. وَلَو شِئْت جِئْت إِلَى الأهواز، فَإِن هَذَا الْعَمَل لَيْسَ يجوز لنا فِي فَارس مَعَ الْأَمِير نجح - أعزه الله - فقد قَالَ لي غلامك إِنَّه مَا ترك فِي شيراز مغنية وَلَا مخنث وَلَا قواداً وَلَا نباذاً فَكيف تعْمل بِنَا تحتي يَا سخين الْعين(4/197)
إِذا جئتنا؟ وَالله إِنِّي أَرْجُو أَن تقعد وتعنى وَتَقَع الكبسة. ويحملونا كلنا إِلَيْهِ وَيحلف أَنه يحملني على عُنُقك وَيَطوف بِي شيراز كلهَا. فَإِنِّي وَالله قد كنت أشتهي أَرَاهَا وأطوف أسواقها راكبةً، فَلم يقْض ذَلِك. وَقد اشْتريت وصيفة قوالة بسبعة وَثَمَانِينَ دِينَارا حلوة الْوَجْه، مليحة الْأَطْرَاف لَهَا طبع، وَقد طارحتها ثقيل الأول، وتعلمت سِتَّة أصوات، وَبَدَأَ كفها يَسْتَوِي، وَقد جاب لي فِيهَا ابْن سخيب النخاس ربح خَمْسَة عشر دِينَارا وَلم أفعل. وسوف، وحياة شوابيرك، وملاحة كحلك، أخرج مِنْهَا جَارِيَة بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، وأخرجها تعنى. وَذَلِكَ الْوَقْت لَا أحتاج إِلَى كسوتك ونفقتك، وَلَا يكون لأحد على أحد فضل، وَلَا يقدر إِنْسَان يني ... إنْسَانا إِلَّا بِحقِّهِ وَصدقه؛ من رَضِي فَردا بِعشْرَة دَنَانِير، وَإِلَّا يَأْخُذ بيد نَفسه وينصرف وَإِن كلمني إِنْسَان أدخلته فِي صدغ أمه معرقف بطاقين وَهُوَ ذَا أجيء، وَتَطير ناريتك، ويسود سطحك، وَيطْلبُونَ لَك الْجِنّ، وَلَيْسَ، وَعزة الله، وحياة من أحب، وَإِلَّا حشرني الله حدباء على بقرة، وَبِيَدِي مغرفة، وَعلي لبادة فِي حزيران وتموز، وتطمع تطرح يدك إِلَّا بعد أَن تبلغ خمسين روزنامجه يَمِين، ثمَّ تحلف بِالطَّلَاق أَنَّك لَا تمد عَيْنك إِلَى حَلَال وَلَا حرَام غَيْرِي، وتبيع كل مَمْلُوك لَك أَمْرَد، وَإِلَّا تساهلنا حَتَّى نساهلك، وتغافل حَتَّى تتغافل. إِن بني إِسْرَائِيل شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم. وَقد احْتبست عَليّ علتي، والسحاق لَا يَجِيء مِنْهُ ولد، وأسأل الله السَّلامَة. وَقَالُوا: إِنَّك تخضب؛ فَلَيْسَ وَالله تصلح لي السَّاعَة، وَلَا بُد من ربيط شَاب، فطيب نَفسك بحب الرُّمَّان. فصل آخر: يصلح لَك مثل الحمارة الَّتِي فِي بَيْتك، تقير رَأسهَا وَلَا تقدر تكلمك، تظن بك أَنَّك ابْن الموبذ وَابْن طومار، مثل زادمهر الَّتِي تدقك دق الكشك، وتهينك هوان الْكَتَّان، لَا تصلح لَك وَالله. مَا كنت أشبه دَارك إِلَّا بدير هِرقل وَأَنا مَرْيَم وَأَنت الْمَجْنُون، فخلصني رَبِّي من ذُنُوبِي كَمَا خلصني مِنْك. حَسبك مَا بك، لِأَنِّي أعلم أَنَّك وَإِن كنت فِي عمل أَن الله لَا يضيع لَك.(4/198)
الْبَاب التَّاسِع نَوَادِر الْقصاص
نَوَادِر أبي القطوف الْقَاص
قيل لأبي القطوف وَكَانَ يُفْتِي وَيحدث ويقص وَهُوَ قَاضِي حران: مَا ترى فِي السماع؟ فَقَالَ: أما على الْخَسْف فَلَا. وَقيل لَهُ: مَا تَقول فِي نَبِيذ الْعَسَل؟ قَالَ: لَا تشربه. قيل: وَلم؟ أحرام هُوَ؟ قَالَ: بل هُوَ نعْمَة لَا تقوم بشكرها. وَقيل لطربال: مَا تَقول فِي الْإِبِط يمس، أيتوضأ مِنْهُ؟ قَالَ: يَا بن أَخ، كَمَا يكون الْإِبِط يغْتَسل مِنْهُ.
نَوَادِر أبي سِنَان السدُوسِي
وَكَانَ أَبُو سِنَان السدُوسِي يَقُول: فلَان عِنْدِي أكفر من رامهر مز وَبكى حوله وَلَده وَهُوَ يُرِيد مَكَّة فَقَالَ: لَا تبكوا، بِأبي أَنْتُم، فَأَنِّي أُرِيد أَن أضحي عنْدكُمْ. وَقَالَ: تزوجت امْرَأَة مخزومية عَمها الْحجَّاج بن الزبير الَّذِي هدم الْكَعْبَة.
من عَاشَ خمسين سنة لم يَعش شَيْئا
قَالَ أَبُو عُثْمَان: وَكَانَ عندنَا قاص يُقَال لَهُ: أَبُو مُوسَى كوش فَأخذ يَوْمًا فِي ذكر قصر أَيَّام الدُّنْيَا وَطول أَيَّام الْآخِرَة، وتصغير شَأْن الدُّنْيَا وتعظيم شَأْن الْآخِرَة، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي عَاشَ خمسين سنة لم يَعش شَيْئا وَعَلِيهِ فضل سنتَيْن! قَالُوا: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: خمس وَعِشْرُونَ سنة ليل هُوَ نَائِم فِيهَا، لَا يعقل قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَخمْس سِنِين قائلة، وَعِشْرُونَ سنة إِمَّا أَن يكون صَبيا، وَإِمَّا أَن يكون مَعَه سكر الشَّبَاب وَهُوَ لَا يعقل؛ وَلَا بُد من صبحة بِالْغَدَاةِ، ونعسة بَين الْمغرب وَالْعشَاء،(4/199)
ويناله فِيهَا كالغشي الَّذِي يُصِيب الْإِنْسَان مرَارًا فِي دهره؛ فَإِذا حصلنا ذَلِك فقد صَحَّ أَن الَّذِي عَاشَ خمسين سنة لم يَعش شَيْئا وَعَلِيهِ فضل سنتَيْن. قَرَأَ سيفويه الْقَاص: " ثمَّ فِي سلسلة ذراعها تسعون ذِرَاعا، فَقيل لَهُ: فَإِن الله يَقُول: " سَبْعُونَ ذِرَاعا "، وَقد زِدْت أَنْت عشْرين ذِرَاعا فَقَالَ: نعم هَذِه عملت لبغاً ووصيف، فَأَما أَنْتُم فيكفيكم شريط بدانق وَنصف. قَالَ جاحظ: كَانَ عبد الْأَعْلَى الْقَاص لغَلَبَة السَّلامَة عَلَيْهِ يتَوَهَّم عَلَيْهِ الْغَفْلَة، وَهُوَ الَّذِي ذكر الْفَقِير فِي قصصه مرّة فَقَالَ: الْفَقِير مرقته سلقة، وَرِدَاؤُهُ علقَة، وسمكته شلقة. قَالَ ثمَّ ذكر الْخصي فَقَالَ: إِذا قطعت خصيته قويت شَهْوَته، وسخنت معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته. واتسعت فقحته، وَكَثُرت دمعته. قَالَ أَبُو أَحْمد التمار فِي قصصه: وَلَقَد عظم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ حق الْجَار، وَقَالَ فِيهِ قولا أستحي من ذكره!
اسْم الذِّئْب الَّذِي أكل يُوسُف
قَالَ أَبُو عَلْقَمَة: كَانَ اسْم الذِّئْب الَّذِي أكل يُوسُف كَذَا. قَالُوا لَهُ: فَإِن يُوسُف لم يَأْكُلهُ الذِّئْب، وَإِنَّمَا كذبُوا على الذِّئْب. قَالَ: فَهَذَا اسْم الذِّئْب الَّذِي لم يَأْكُل يُوسُف. وَقَرَأَ فِي حَلقَة سيفويه: " كأنهن الْيَاقُوت والمرجان ". فَقَالَ سيفويه: هَؤُلَاءِ خلاف نِسَائِكُم القحاب. وَقَرَأَ آخر: " كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا من اللَّيْل مظلماً ". فَقَالَ سيفويه: فَإِذا الْقَوْم من أجل صلَاتهم بِاللَّيْلِ كَذَا. استفتي بَعضهم فِي إتْيَان النِّسَاء فِي أدبارهن فَقَالَ: مَالك يبيحه وَغَيره من(4/200)
الْفُقَهَاء يَقُول: إِنَّه إِذا استكرهت 453 الْمَرْأَة عَلَيْهِ وَجب على الزَّوْج أَن يزِيد فِي صَدَاقهَا عشرَة دَرَاهِم، وَإِن كَانَ بِرِضا مِنْهَا نقص مِنْهُ عشرَة. والتفت إِلَى ابْن لَهُ حَاضر وَأَشَارَ إِلَيْهِ فَقَالَ: تزوجت أم هَذَا على اثنى عشر ألف دِرْهَم عقدت على نَفسِي بهَا وَقد حصل الْآن لي عَلَيْهَا أَرْبَعمِائَة وَخَمْسُونَ درهما. كَانَ أَبُو سَالم الْقَاص الْبَصْرِيّ يُنَادي: اللَّهُمَّ، اجْعَلْنَا صَعِيدا زلقاً فَيَقُول الغوغاء: آمين آمين. وقص بَعضهم فَلَمَّا ابْتَدَأَ يسْأَل أُقِيمَت الصَّلَاة، وَخَافَ أَن يتفرق النَّاس. فَقَالَ: يَا فتيَان، الْعَجَائِب بعد الصَّلَاة.
نَوَادِر سيفويه
سَأَلَ وَاحِد سيفويه عَن حفظه الْقُرْآن فَقَالَ: أحفظه آيَة آيَة، قيل لَهُ: فَمَا أول الدُّخان؟ قَالَ: الْحَطب الرطب. وَكَانَ أَبُو كَعْب الْقَاص يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ صل على جِبْرِيل واغفر لأمنا عَائِشَة، وَعَافنِي من وجع الْبَطن. استفتي وَاحِد مِنْهُم فِي الْخُنْثَى وَقيل: لَهُ مَا للرجل وَمَا للْمَرْأَة؟ فَقَالَ: تزوج من حلقي يني ... هَا وتني. . هـ
صفة الْملك
كَانَ أَبُو عقيل الْقَاص يَقُول: الرَّعْد ملك أَصْغَر من نحلة وَأعظم من زنبور. فَقَالُوا: لَعَلَّك تُرِيدُ أَصْغَر من زنبور وَأعظم من نحلة. فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَا لم يكن يعجب. وَسَأَلَهُ رجل وَهُوَ فِي الْجَامِع عَن مَسْأَلَة فِي الْحيض لم يعرفهَا فَقَالَ: وَيلك. خرج هَذِه القاذورات من الْمَسْجِد حَتَّى نخرج. وَكَانَ بِالريِّ رجل مِنْهُم يُفْتِي، فَجَاءَتْهُ امْرَأَة وَسَأَلته عَن مَسْأَلَة فِي الْحيض فَأخْرج لَهَا دفتراً وَجعل يتصفحه ورقة ورقة لَا يَهْتَدِي مِنْهُ إِلَى شَيْء، إِلَى أَن بلغ إِلَى ورقة مخرمَة فَقَالَ للْمَرْأَة - وَعرض عَلَيْهَا الْخرق: أيش يمكنني أَن أفعل؟ وَمَوْضِع حيضك مخرق.(4/201)
دُعَاء
وَكَانَ بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لنا كل نعْمَة وحسنة، واحشرني فِي جملَة سَيِّدي أبي عبد الله بن حَنْبَل، وَلَا تغْفر للرافضة.
كَيفَ يَمُوت الشَّيْطَان
كَانَ بَعضهم يَقُول: يَا معشر النَّاس؛ إِن الشَّيْطَان إِذا سمى الْإِنْسَان على الطَّعَام وَالشرَاب لم يَأْكُل مَعَه. وَإِذا لم يسم أكل مَعَه؛ فَكُلُوا خبز الْأرز والمالح وَلَا تسموا ليَأْكُل مَعكُمْ، ثمَّ اشربوا وَسموا ليَمُوت عطشاً. حلق بَعضهم لحيته وَقَالَ: إِنَّهَا نَبتَت على الْمعْصِيَة. وَكَانَ بَعضهم يحجّ عَن حَمْزَة وَيَقُول: اسْتشْهد قبل أَن حج، ويضحى عَن أبي بكر وَعمر يَقُول أَخطَأ السّنة فِي ترك الْأُضْحِية. وَقيد آخر إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقَالَ: النّظر بهما إِسْرَاف. وَكَانَ بعض الْقصاص يتشدد فِي خلق الْقُرْآن، فَسئلَ عَن مُعَاوِيَة: هَل كَانَ مخلوقاً؟ فَقَالَ: كَانَ إِذا كتب الْوَحْي غير مَخْلُوق، وَإِذا لم يكْتب كَانَ مخلوقاً. قَالَ بعض الْقصاص يَوْمًا: يَا قوم، هَل علمْتُم أَن الله قد ذكر الهريسة فِي الْقُرْآن لفضلها؟ فَقَالُوا: أَيْن ذكرهَا؟ فَقَالَ: اذبحوا بقرة " واضربوه بِبَعْضِهَا "، " وفار التَّنور ": " ولتركبن طبقًا على طبق ". سَأَلَ رجل سيفويه الْقَاص: مَا الغسلين؟ فَقَالَ: على الْخَبِير سَقَطت. سَأَلت عَنهُ شَيخا من فُقَهَاء الْحجاز مُنْذُ أَكثر من سِتِّينَ سنة فَقَالَ: لَا أَدْرِي. وَجَاءَت امْرَأَة إِلَى وَاحِد مِنْهُم فَقَالَت: يَا جَعْفَر؛ مَرْيَم بنت عمرَان كَانَت نبية؟ قَالَ: لَا يَا فاعلة. قَالَت لَهُ: فإيش كَانَت؟ قَالَ: كَانَت مَلَائِكَة.(4/202)
وَكَانَ بِالْكُوفَةِ قاص يَقُول: إِن أَبَانَا آدم أخرجنَا من الْجنَّة، فَادعوا الله أَن يدخلنا من حَيْثُ أخرجنَا. وَكَانَ بِالشَّام قاص يَقُول: اللَّهُمَّ أهلك أَبَا حسان الدقاق 454 فَإِنَّهُ يتربص بِالْمُسْلِمين ويغلي أسعارهم، ومنزله أول بَاب فِي الدَّرْب على يسارك هُوَ. قَالَ أَبُو سَالم الْقَاص: لَو كنت هِنْد بنت عتبَة حِين لاكت كبد حَمْزَة أجازتها إِلَى جوفها مَا مستها النَّار. فَقَالَ النهرتيري: اللَّهُمَّ أطعمنَا من كبد حَمْزَة. جَاءَ رجل إِلَى سيفويه فَقَالَ: قد عزمت على أَن أَتُوب فَكيف أعمل؟ فَقَالَ: إِمَّا أَن تحلق لحيتك أَو تشتري سلما أَو تنحدر إِلَى وَاسِط.
أول مَا يدْخل الْجنَّة
كَانَ بَعضهم يَقُول: أول مَا يدْخل الْجنَّة من الْبَهَائِم الطنبور؛ قيل لَهُ: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يضْرب بَطْنه، ويعصر حلقه، وتعرك أُذُنه. وقف رجل على القتاد الصُّوفِي وَسَأَلَهُ عَن الْمحبَّة. فَقَالَ القتاد: قد جَاءَنِي بِرَأْس كَأَنَّهُ دبة ولحية كَأَنَّهَا مذبه، وقلب عَلَيْهِ مكبة، يسألني عَن طَرِيق الْمحبَّة، وَهُوَ قِيمَته حَبَّة.
فتيا القَاضِي أبي يُونُس
دخل أَبُو يُونُس وَكَانَ فَقِيه مصر على بعض الْخُلَفَاء فَقَالَ لَهُ: مَا تَقول فِي رجل اشْترى شَاة فضرطت، فَخرجت من استها بَعرَة، فقأت عين رجل. على من الدِّيَة؟ قَالَ: على البَائِع: قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَنَّهُ بَاعَ شَاة فِي استها منجنيق، وَلم يبرأ من الْعهْدَة. غزا قاص فَقيل لَهُ: أَتُحِبُّ الشَّهَادَة؟ فَقَالَ: إِي وَالَّذِي أسأله أَن يردني سالما إِلَيْكُم. كَانَ أَبُو تَوْبَة الْقَاص يَقُول: احمدوا ربكُم عز وَجل؛ تشترون شَاة سَوْدَاء فتحلبون مِنْهَا لَبَنًا أَبيض، وتبخرون فتعبق ثيابكم، وتفسون فِيهَا فَلَا تعبق.(4/203)
فتيا طريضة
كَانَ ابْن قريعة القَاضِي فِي مجْلِس المهلبي جَالِسا، فوردت عَلَيْهِ رقْعَة فِيهَا: مَا يَقُول القَاضِي أعزه الله فِي رجل الْحمام، وَدخل فِي الأبزن لَعَلَّه كَانَت بِهِ فَخرجت مِنْهُ ريح وتحول المَاء زيتاً، فتخاصم الحمامي والضارط، وَادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا أَنه يسْتَحق الزَّيْت جَمِيعًا بِحقِّهِ فِيهِ. فَكتب القَاضِي فِي الْجَواب: قَرَأت هَذِه الْفتيا الطريفة، فِي هَذِه الْقِصَّة السخيفة، وأخلق بهَا أَن تكون عنتاً بَاطِلا، وكذباً ماحلاً. وَإِن كَانَ ذَلِك كَذَلِك، وَهُوَ من أَعَاجِيب الزَّمَان، وبدائع الْحدثَان فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: أَن للصاقع نصف الزَّيْت بِحَق رجعائه وللحمامي نصف الزَّيْت بقسط مَائه، وَعَلَيْهِمَا أَن يصدقا الْمُبْتَاع مِنْهُمَا عَن خبث أَصله، وقبح فَصله، حَتَّى يَسْتَعْمِلهُ فِي مسرجته، وَلَا يدْخلهُ فِي أغذيته. قَرَأَ رجل فِي مجلي سيفويه: " وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه " فَقَالَ سيفويه: قد أَخذنَا فِي أَحَادِيث القحاب وَسمع رجلا يقْرَأ: " فبهت الَّذِي كفر " فَقَالَ: أتلومه! وَقَرَأَ قَارِئ: " وحملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر " فَقَالَ سيفويه: عز عَليّ حملانهم. يتَوَهَّم أَنَّهَا جَنَازَة. . وَكَانَ أَبُو أسيد يَقُول فِي قصصه: كَانَ ابْن عمر يحف شَاربه حَتَّى يرى بَيَاض إبطه.
من نَوَادِر عبد الْأَعْلَى
كَانَ عبد الْأَعْلَى قَاصا: فَقَالَ يَوْمًا: تَزْعُمُونَ أَنِّي مراءٍ، وَكنت وَالله أمس صَائِما، وَقد صمت الْيَوْم وَمَا أخْبرت بذلك أحدا.(4/204)
وَمر عبد الْأَعْلَى بِقوم وَهُوَ يتمايل سكرا فَقَالَ إِنْسَان: هَذَا عبد الْأَعْلَى الْقَاص. فَقَالَ: مَا أَكثر من يشبهني بذلك الرجل الصَّالح {قَالَ قاص بِالْمَدِينَةِ فِي قصصه: ود إِبْلِيس أَن لكل رجل مِنْكُم خمسين ألف دِرْهَم يطغى بهَا. فَقَالَ رجل من الْقَوْم: اللَّهُمَّ أعْط إِبْلِيس سؤله فِينَا. حُكيَ عَن شيخ مِنْهُم بِبَغْدَاد كَانَ يعرف بختن حمامة أَنه كَانَ يَقُول: خلفاء الله فِي الأَرْض ثَلَاثَة: آدم لقَوْله: إِنِّي جاعلك فِي الأَرْض خَليفَة وَدَاوُد: " إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض وَأَبُو بكر، لقَوْل الْأمة: أيا خَليفَة رَسُول الله. والأمناء ثَلَاثَة: جِبْرِيل لِأَنَّهُ تحمل عَن الله، وَمُحَمّد لِأَنَّهُ بلغ الْأمة، وَمُعَاوِيَة 455 لِأَنَّهُ كتب الْوَحْي. وَبلغ من عقله أَنه رأى عقرباً فِي دَاره فَقَالَ لَهَا: يَا مشئومة؛ اخْرُجِي لَا تقتلك أُمِّي. وَكَانَ مُولَعا بإطعام الْكلاب وَيَقُول إِذا أطعمها: هَؤُلَاءِ أولى من الرافضة. قَالَ الْأَصْمَعِي: اختصمت الطفاوة وَبَنُو راسب فِي صبي يَدعِيهِ كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى ابْن عرباض، فَقَالَ: الحكم فِي هَذَا بَين. قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: يلقى الصَّبِي فِي المَاء فَإِن طفا فَهُوَ طفاوي، وَإِن رسب فَهُوَ راسبي. كَانَت أم عَيَّاش تحسن إِلَى سيفويه وتتعهده، فَكَانَ إِذا اجْتمع إِلَيْهِ النَّاس قَالَ: يَا معاشر الْمُسلمين، ادعوا الله لأم عَيَّاش؛ فَإِنَّهَا صديقتي. فَبلغ عياشاً فَبعث إِلَيْهِ وَقَالَ: قد فضحتني بِهَذَا القَوْل فَأمْسك عَنهُ. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله} لَو أَنَّهَا معي فِي إِزَار وَاحِد مَا كنت تخَاف عَليّ.
دُعَاء قاص
قَالَ أَبُو العيناء: كَانَ عندنَا قاص جيد اللَّفْظ من الْعبارَة، وَكَانَ لوطياً، فَكَانَ إِذا رأى فِي حلقته غُلَاما يُعجبهُ رفع يَده ثمَّ قَالَ للْجَمَاعَة: قُولُوا عِنْد دعائي: آمين. ثمَّ يَقُول: هَذَا الْعَدو قد أقبل يُرِيدكُمْ: اللَّهُمَّ امنحنا أكتافهم. اللَّهُمَّ كبهم على مناخرهم ووجوههم، اللَّهُمَّ وَلنَا أدبارهم(4/205)
اللَّهُمَّ اكشف لنا عَوْرَاتهمْ، وسلط أرماحنا على أَجْوَافهم وَالْقَوْم يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ آمين. سُئِلَ أَبُو قَابُوس الصُّوفِي عَن النَّبِيذ فَقَالَ: حَلَال على السراة حرَام على السّفل.
نادرة طريفة عَن مُحدث
انحدر بعض أَصْحَاب الحَدِيث من سر من رأى فِي سفينة، وَمَعَهُ فِيهَا نَصْرَانِيّ فتغديا جَمِيعًا ثمَّ أخرج زكرة كَانَت مَعَه فِيهَا شراب، فصب فِي مشربَة كَانَت مَعَه، وَشرب، ثمَّ صب فِيهَا وعرضها على الْمُحدث فَتَنَاولهَا من غير امْتنَاع وَلَا مكاس وَشرب. فَقَالَ النَّصْرَانِي: جعلت فدَاك. إِنَّمَا عرضت عَلَيْك كَمَا يعرض النَّاس، وَإِنَّمَا هِيَ خمر. قَالَ: وَمن أَيْن علمت أَنَّهَا خمر؟ قَالَ: غلامي اشْتَرَاهَا من إِنْسَان يَهُودِيّ وَذكر أَنَّهَا خمر، فَشربهَا بالعجلة وَقَالَ: لَو لم يكن إِلَّا لضعف الْإِسْنَاد لشربتها. ثمَّ قَالَ لِلنَّصْرَانِيِّ: أَنْت أَحمَق. نَحن أَصْحَاب الحَدِيث نضعف حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَيزِيد بن هَارُون، أفنصدق نَصْرَانِيّا عَن غُلَامه عَن يَهُودِيّ. هَذَا محَال. سُئِلَ الشيرجي عَن أَرْبَعِينَ رَأْسا من الْغنم نصفهَا ضَأْن وَنِصْفهَا مَاعِز، مَا الَّذِي يجب فِيهَا؟ فَقَالَ: يجب فِيهَا شَاة نصفهَا ضَأْن وَنِصْفهَا مَاعِز. كسر جَامع الصيدلاني يَوْمًا كوزاً، فَخرج من جَوْفه لوزتان فَقَالَ: سُبْحَانَ الله من يصور فِي الْأَرْحَام مَا يَشَاء. وجاءته يَوْمًا فَقَالَت: لم يبْق البزر. فَقَالَ: وَكَيف يبْقى وَأَنْتُم تقعدون حوله عشرَة عشرَة. وَدخل يَوْمًا ليَشْتَرِي نعلا لابنته فَقَالُوا: كم سنّهَا. فَقَالَ: لَا أَدْرِي وَالله غير أَنَّهَا فِي حم السَّجْدَة. وَولد لَهُ ابْن فَقيل لَهُ: مَا سميته؟ فَقَالَ: سميته عَليّ بن عَاصِم الْمُحدث. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت سيفويه مُتَعَلقا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة وَهُوَ يَقُول: ارْحَمْ ترحم. ارْحَمْ ترحم.(4/206)
واجتاز بِبَاب شوكي فوطئ الشوك، وَدخلت فِي رجله شَوْكَة، فَقَالَ للشوكي: اجْعَلنِي فِي حل من هَذِه الشَّوْكَة. فَإِنِّي لست أقدر على إخْرَاجهَا فِي هَذِه السَّاعَة. فَكنت أردهَا عَلَيْك. وَاشْترى ديكاً هندياً وَشد فِي رجله فَرد نعل سندي لِئَلَّا يخرج، فَانْقَطع الْخَيط وَخرج الديك، فَخرج سيفويه فِي طلبه، وَجعل يسْأَل جِيرَانه وَيَقُول: أَرَأَيْتُم ديكاً هندياً فِي رجله نعل سندي. ألقِي إِلَى أبي سَالم الْقَاص خَاتم بِلَا فص. فَقَالَ أَبُو سَالم: إِن صَاحب هَذَا الْخَاتم يعْطى 456 يَوْم الْقِيَامَة فِي الْجنَّة غرفَة بِلَا سقف. وَقَالَ بَعضهم فِي حلقته: من صلى لَيْلَة الْجُمُعَة اثْنَتَيْ عشرَة رَكْعَة كَذَا وَكَذَا بنى الله لَهُ فِي الْجنَّة بَيْتا، فَقَامَ إِلَيْهِ رجل نبطي فَقَالَ: يَا فديت وَجهك: إِن صليت أَنا فعل بِي هَذَا؟ قَالَ: لَا يَا عاض بظر أمه. ذَاك لبني هَاشم وَالْعرب وَأهل خُرَاسَان، وَأما أَنْت فيبني لَك كوخ بعكبرا. قَالَ الجاحظ: وقفت على قاص وَقد اجْتمع عَلَيْهِ خلق كثير وَفِيهِمْ جمَاعَة من الخصيان، فوقفت إِلَى جَانِبه وَجعلت أُشير إِلَى النَّاس أَنه هُوَ ذَا يجود قَالَ: وَهُوَ يفرح بذلك. فَلم يُعْطه أحد شَيْئا فَالْتَفت إِلَيّ خفِيا وَقَالَ: السَّاعَة إِن شَاءَ الله أعمل الْحِيلَة. ثمَّ صَاح: حدث فلَان عَن فلَان عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: قَالَ رب الْعَالمين عز وَجل: مَا أخذت كَرِيمَتي عبد من عَبِيدِي إِلَّا عوضته الْجنَّة " أَتَدْرُونَ مَا الكريمتان فِي هَذَا الْموضع؟ قَالَ النَّاس: مَا هما؟ فَبكى، وَقَالَ: هما الخصيتان: وَهُوَ يتباكى ويكرر فَجعل كل وَاحِد من الخصيان يحل منديله حَتَّى اجْتمعت لَهُ دَرَاهِم كَثِيرَة. وَقَالَ آخر فِي قصصه: يَا بن آدم، يَا بن الزَّانِيَة، أما استحييت من الْملك الْجَلِيل وَالْملك الْكَرِيم، يصعد إِلَيْهِ عَنْك بِالْعَمَلِ الْقَبِيح، فَقيل: تَزني النَّاس؟ قَالَ: نعم؛ قد كَانَ الْحسن يكثر من قَول: يَا لكع قَالَ بَعضهم فِي قصصه: رَأَيْتُمْ أَجْهَل من إخْوَة يُونُس؟ يُرِيد يُوسُف، أخذُوا أَخَاهُم. وطرحوه فِي الْجب وكذبوا على الدب.(4/207)
قَالَ أَبُو العنبس: سَمِعت قَاصا بِالْكُوفَةِ يَقُول فِي قصصه: تَحت رَأس ولي الله فِي الْجنَّة سَبْعُونَ ألف مخدة، والمخدة سَبْعُونَ ألف حجاب، مَا بَين الْحجاب والحجاب سَبْعُونَ ألف عَام. قَالَ: فَقلت: فَإِن سقط من فَوق تِلْكَ الْفرش كَيفَ يعْمل؟ فَقَالَ: إِلَى النَّار يَا صفعان. قَالَ بَعضهم فِي قصصه: كَانَ أَبُو جهل خوزياً، فَقيل لَهُ: بل هُوَ قرشي مخزومي وَلكنه كَافِر. فَقَالَ: يتَكَلَّم أحدكُم بِمَا لَا يعلم، كل كَافِر خوزي. قَالَ آخر فِي مَجْلِسه: زعم قوم أَنِّي لَا أحسن الْقُرْآن. وَهل فِي الْقُرْآن أشرف من: " قل هُوَ الله أحد ". وَأَنا أَقروهُ مثل المَاء، وابتدأ وَقَرَأَ فَلَمَّا بلغ قَوْله: " وَلم يكن لَهُ " أرتج عَلَيْهِ فَقَالَ: من أَرَادَ أَن يحضر ختمة السُّورَة فليحضر يَوْم الْجُمُعَة. دفع وَاحِد قِطْعَة إِلَى قاص وَقَالَ: ادْع لي ولأبوي بالمغفرة، فَرفع الْقَاص رَأسه وَقَالَ: ثَلَاثَة أنفس بقيراط؟ {وارخصاه} قيل لبَعْضهِم: فِي لحيتك هريسة فَقَالَ: هَذِه من تِلْكَ الْجُمُعَة. قَالَ بَعضهم: سَمِعت قَاصا بعبادان وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ ارْزُقْ الْمَوْتَى الشَّهَادَة، وَيَا إخوتي ادعوا ليأجوج وَمَأْجُوج بِالتَّوْبَةِ. وَسقط عَن أَنفه ذُبَابَة فَقَالَ: أَكثر الله الْقُبُور بكم. جَاءَ أَبُو الْعَالِيَة الْقَاص يشْهد على رجل رَآهُ مَعَ غُلَام لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْوَالِي: بِمَ تشهد؟ قَالَ: أصلحك الله! رَأَيْته وَقد بطحه فَقلت: ينومه، ثمَّ كشف ثِيَابه فَقلت: يروحه، ثمَّ جلس عَلَيْهِ فَقلت يغمزه، ثمَّ بَصق فَقلت: يعوذه، ثمَّ أخرج شَيْئا فَلَا إِلَه إِلَّا الله. شهد أَبُو يحيى الْمُحدث عِنْد قاص أَنه يعرف الْحَائِط الْفُلَانِيّ لفُلَان. فَقَالَ لَهُ: مذ كم تعرف هَذَا الْحَائِط لَهُ؟ فَقَالَ: أعرفهُ وَهُوَ صَغِير لفُلَان. وَنظر إِلَى الْهلَال فَقَالَ: رَبِّي وَرَبك الله، سُبْحَانَ الله من خلقك من عود يَابِس. ذهب إِلَى قَوْله تَعَالَى " حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم ".(4/208)
نَوَادِر أبي سَالم
ووقف على أبي سَالم الْقَاص رجل رَاكب 1456 حمارا يتطلع فِي حلقته. وَيسمع قصصه، فناداه: يَا صَاحب الْحمار؛ امْضِ لسبيلك لَا يدل حِمَارك، فَإِن عندنَا نسَاء. وَقيل لَهُ: كم ولدا لإبليس؟ فَقَالَ: أَرْبَعَة؛ ثَلَاثَة ذكورة وَبنت. قَالُوا: فَمن أمّهم؟ قَالَ: شَاة كَانَت لآدَم فأهداها لَهُ. وَقيل: ادْع لفُلَان أَن يردهُ على أَبِيه وَأعْطى دِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قيل: بالصين. قَالَ: يردهُ من الصين بِدِرْهَمَيْنِ؟ بلَى؛ لَو كَانَ بسيراف أَو بجنابة أَو تستر. سرق لبَعْضهِم منديل فَقَالَ لغلامه: أَيْن المنديل؟ قَالَ: يَا مولَايَ. لَا أَدْرِي فَقَالَ: يَا بن الزَّانِيَة وَالله مَا سَرقه - بعد الله - غَيْرك.
نَوَادِر أبي أسيد
وَمَات عِيسَى بن حَمَّاد الطلحي وَقد أوصى بِأَكْثَرَ من ثلث مَاله، فَأجَاز ذَلِك وَلَده وَامْرَأَته، فَأتوا أَبَا أسيد ليكتب بذلك كتابا، فَقَالَ لَهُم: يَا فتيَان أمكُم قد بلغت مبلغ النِّسَاء أم لَا؟ وَكَانَ أَبُو أسيد هَذَا يَقُول: كَانَ ابْن عمر يحف شَاربه حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ. وَقَالَ يَوْمًا: مَا بَقِي من حمامي نافخ نَار، وَمر بِقوم يصيدون السّمك، فَقَالَ: يَا فتيَان؛ مالح أَو طري. وَدخل يَوْمًا فِي المَاء إِلَى كَعبه فصاح: الغريق، الغريق. فَقيل لَهُ: مَا دعَاك إِلَى هَذَا؟ فَقَالَ: أخذت بالوثيقة. قيل لبَعْضهِم: أَيَسُرُّك أَن الله أدْخلك الْجنَّة وَأَنت شَاة؟ قَالَ: نعم بِشَرْط أَلا يذهبوا بِي إِلَى التياس. جَاءَ رجل إِلَى وَاحِد مِنْهُم فَقَالَ: مَا تَقول فِي شرب النَّبِيذ؟ قَالَ: لَا يجوز قَالَ: فَإِن كَانَ الرجل قد أكل المالح؟ قَالَ: قد رجعت مسألتك إِلَى الطِّبّ. صلى سيفويه بِقوم وَسلم عَن يَمِينه وَلم يسلم عَن يسَاره، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: كَانَ فِي ذَلِك الْجَانِب إِنْسَان لَا ُأكَلِّمهُ.(4/209)
على من حرم التَّخَتُّم بِالذَّهَب
قَالَ بَعضهم: رَأَيْت بِالشَّام قَاصا روى فِي مَجْلِسه أَن أَبَا هُرَيْرَة رأى على ابْنَته خَاتم ذهب فَقَالَ لابنته: لَا تختمي بِالذَّهَب. فَإِنَّهُ لَهب. فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثهُمْ ويقص عَلَيْهِم إِذْ بَدَت يَده وَفِي إصبعه خَاتم ذهب، فَقَالُوا: يَا عَدو الله؛ تنْهى عَن شَيْء وتلبسه أَنْت؟ ووثبوا عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا قوم لست أَنا ابْنة أَبى هُرَيْرَة. إِنَّمَا حرم ذَلِك على تِلْكَ المشئومة. قَالَ آخر: رَأَيْت قصاصا يقص حَدِيث مُوسَى وَهَارُون وَيَقُول: لما صَار فِرْعَوْن فِي وسط الْبَحْر وَقَالَ الله للبحر: انطبق. وعلاه المَاء جعل فِرْعَوْن يضرط مثل الجاموس؛ نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك الضراط! قَالَ سيفويه يَوْمًا فِي قصصه أَتَدْرُونَ من هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّة؟ قَالُوا: من هم أكرمك الله؟ قَالَ: هم الَّذين يَجْلِسُونَ على الشط فيقدرون أستاه الغلمان. قَالَ آخر: رَأَيْت قَاصا يقص غَدَاة يَوْم، ثمَّ رَأَيْته عشياً فِي بَيت نباذ، والقدح فِي يَده فَقلت: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَنا بِالْغَدَاةِ قاص، وبالعشي ماص.
من نَوَادِر ابْن كَعْب
كَانَ ابْن كَعْب يقص فِي مَسْجِد عتاب بِالْبَصْرَةِ فِي كل يَوْم أَرْبعا، فاحتبس عَلَيْهِم فِي بعض الْأَيَّام، وَطَالَ انتظارهم، فَبَيْنَمَا هم إِذْ جَاءَ رَسُوله فَقَالَ: يَقُول لكم أَبُو كَعْب: انصرفوا راشدين فقد أَصبَحت الْيَوْم مخموراً.
أَبُو ضَمْضَم ينْسب آدم
جلس أَبُو ضَمْضَم ينْسب قبائل الْعَرَب فَقَالَ لَهُ بَعضهم: يَا أَبَا ضَمْضَم: آدم من أَبوهُ؟ فَحَمله استقباح الْجَهْل عِنْده بِشَيْء من الْأَنْسَاب على أَن قَالَ: آدم بن المضاء بن الخليج وَأمه ضباعة بن قرزام. فتضاحك الْقَوْم وثاب إِلَيْهِ عقله فَقَالَ: إِنَّمَا نسبت أَخا لآدَم من أمه. رأى بعض أهل نيسابور جَنَازَة فَقَالَ: رَبِّي وَرَبك الله لَا إِلَه إِلَّا الله. فَسَمعهُ آخر فَقَالَ: أَخْطَأت. قل: اللَّهُمَّ ألبسنا الْعَافِيَة، وتشاجرا 457 فتحاكما إِلَى قاضٍ لَهُم فَقَالَ: لم يصب وَاحِد مِنْكُمَا. إِذا رَأَيْتُمْ جَنَازَة فَقولُوا: سُبْحَانَ من يسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته.(4/210)
عبد الْأَعْلَى والاشتقاق
كَانَ عبد الْأَعْلَى الْقَاص يتَكَلَّف لكل شَيْء اشتقاقاً فَقَالَ: الْكَافِر إِنَّمَا سمي كَافِرًا لِأَنَّهُ اكْتفى وفر. قيل لَهُ: بِمَاذَا اكْتفى وَمن أَي شَيْء فر؟ قَالَ: اكْتفى بالشيطان وفر من الله. وَقَالَ: سمي الزنديق زنديقاً لِأَنَّهُ وزن فدقق. وَسمي البلغم بلغماً لِأَنَّهُ بلَاء وغم. وَسمي الدِّرْهَم درهما لِأَنَّهُ دَاء وهم. وَسمي الدِّينَار دينارأ لِأَنَّهُ دين ونار. وَسمي العصفور عصفوراً لِأَنَّهُ عَصا وفر. وَسمي الطفبشل طفبشلاً لِأَنَّهُ طفا وشال. وَسمي نوحًا لِأَنَّهُ كَانَ ينوح على قومه. وَسمي الْمَسِيح مسيحاً لِأَنَّهُ مسح الأَرْض. جَاءَ رجل إِلَى بَعضهم فَقَالَ: أفطرت يَوْمًا من شهر رَمَضَان سَاهِيا، فَمَا عَليّ؟ قَالَ: تَصُوم يَوْمًا مَكَانَهُ. قَالَ: فَصمت. فَأتيت أَهلِي وَقد عمِلُوا حَيْسًا، فسبقتني يَدي إِلَيْهِ فَأكلت مِنْهُ. قَالَ: تقضي يَوْمًا آخر. قَالَ: فَقضيت يَوْمًا مَكَانَهُ، وأتيت أَهلِي وَقد عمِلُوا هريساً فسبقتني يَدي إِلَيْهِ فَأكلت مِنْهُ فَمَا ترى؟ قَالَ: أرى أَلا تَصُوم إِلَّا ويدك مغلولة إِلَى عُنُقك. مَاتَت أم عَيَّاش فَأَتَاهُ سيفويه معزيا فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد، عظم الله مصيبتك. فَتَبَسَّمَ ابْن عَيَّاش وَقَالَ: قد فعل. فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد؛ هَل كَانَ لأمك ولد؟ فَقَامَ ابْن عَيَّاش عَن مَجْلِسه وَضحك حَتَّى اسْتلْقى على قَفاهُ. قَالَ الجاحظ: كَانَ عبد الْعَزِيز الغزال يَقُول فِي قصصه: لَيْت أَن الله لم يكن خلقني وَأَنِّي السَّاعَة مَقْطُوع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ. وَذكر أَن أَبَا سعيد الرِّفَاعِي سُئِلَ عَن الدُّنْيَا والدائسة. فَقَالَ: أما الدُّنْيَا فَهَذِهِ الَّتِي أَنْتُم فِيهَا وَأما الدائسة فَهِيَ دَار نائية من هَذِه الدَّار، لم يسمع أَهلهَا بِهَذِهِ الدَّار وَلَا بِشَيْء من أمرهَا، وَكَذَلِكَ نَحن نسْمع بِذكر تِلْكَ الدَّار؛ إِلَّا أَنه قد صَحَّ عندنَا أَن بُيُوتهم من قثاء، وسقوفهم من قثاء، وأنعامهم من قثاء، وأنفسهم من قثاء، وقثائهم أَيْضا من قثاء. قَالُوا: يَا أَبَا سعيد؛ زعمت أَن أهل تِلْكَ الدَّار لم يسمعوا بِأَهْل هَذِه الدَّار وَلَا بِشَيْء من أمرهَا، وَكَذَلِكَ نَحن لَهُم، وأراك تخبرنا عَنْهُم بأخبار كَثِيرَة: قَالَ: فَمن ثمَّ أَنا أعجب أَيْضا. قَالَ الجاحظ: كَانَ عندنَا بِالْبَصْرَةِ قاص لَا يحفظ شَيْئا سوى حَدِيث جرجيس، فَقص يَوْمًا فَبكى رجل من النظارة، فَقَالَ الْقَاص: أَنْتُم لأي شَيْء تَبْكُونَ؟ إِنَّمَا الْبلَاء علينا معاشر الْعلمَاء.(4/211)
وقص بعض العلوية بِالريِّ فَسَأَلَهُ وَهُوَ على كرسيه والعامة حواليه رجل مِنْهُم عَن مُعَاوِيَة فَقَالَ: أما مُعَاوِيَة فلحيته فِي إستي. قصّ أَبُو سَالم يَوْمًا وَفِي حلقته رجل أَعور، فَجعل الْأَعْوَر يهزأ بِهِ ويضحك مِنْهُ، فَفطن أَبُو سَالم فَقَالَ لأَصْحَابه: إِذا دَعَوْت فَقولُوا: آمين. قَالُوا: نعم. فَقَالَ: اللَّهُمَّ من كَانَ يسخر منا فافقأ عينه الْأُخْرَى. لَقِي رجل سيفويه فَسَأَلَهُ عَن حَاله وَعِيَاله فَقَالَ: هُوَ ذَا نقطع الدُّنْيَا يَوْمًا بِيَوْم، فَيوم لَا يرزقنا الله وَيَوْم يرزقنا الله. وَلَقي صاحباً لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أخي؛ أَيْن تكون؟ قد طلبتك عشْرين دفْعَة وَهَذِه الثَّانِيَة. دَعَا أَبُو سَالم على المتربصين فَقَالَ: اللَّهُمَّ امسخهم كلاباً وامسخنا ذئاباً حَتَّى نقطع لحومهم. قَالَ بَعضهم: سَمِعت قصاصا يَقُول: إِنِّي لأقص عَلَيْكُم، وَوَاللَّه إِنِّي لأعْلم أَنه لَا خبر عِنْدِي 1457 وَلَا عنْدكُمْ. وَلَكِن تبلغوا بِي حَتَّى تَجدوا خيرا مني.
حِيلَة قاص
قصّ وَاحِد وَمَعَهُ تعاويذ يَبِيعهَا فَجعلُوا يسمعُونَ قصصه وَلَا يشْتَرونَ التعاويذ، فَأخذ محبرته وَقَالَ: من يَشْتَرِي مني كل تعويذة بدرهم، حَتَّى أقوم وأغوص فِي هَذِه المحبرة باسم الله الْأَعْظَم الَّذِي كتبته فِي هَذِه التعاويذ. فاشتريت مِنْهُ التعاويذ فِي سَاعَة وَجمع دَرَاهِم كَثِيرَة. وَقَالُوا لَهُ: قُم فَادْخُلْ الْآن فِي المحبرة. فَنزع ثِيَابه وتهيأ لذَلِك والجهال يظنون أَنه يغوص فِيهَا. فبدرت امْرَأَة من خلف النَّاس وتعلقت بِهِ، وَقَالَت: أَنا امْرَأَته، من يضمن لي نفقتي حَتَّى أتركه يدْخل، فَإِنَّهُ دَخلهَا عَام أول، وَبقيت سِتَّة أشهر بِلَا نَفَقَة. كَانَ بعض الْقصاص يَدْعُو فَيَقُول: اللَّهُمَّ أهلك أَوْلَاد الزِّنَى الَّذين أَسمَاؤُهُم الكنى، وأنسابهم الْقرى، وشعورهم شُعُور النسا، وَهَهُنَا مِنْهُم جمَاعَة فِيمَا أرى. وَسمع قاص كَانَ يحض على الْجِهَاد قَارِئًا يقْرَأ سُورَة يُوسُف. فَقَالَ: دَعْنَا من آيَات القحاب وَخذ فِي آيَات طرسوس.(4/212)
الْبَاب الْعَاشِر نَوَادِر الْقُضَاة لمن تقدم إِلَيْهِم
اخْتصم رجل وَامْرَأَة إِلَى سوار، فَقَالَ الزَّوْج لسوار: أصلح الله القَاضِي، لَو عرفتها لبصقت فِي استها. فَقَالَ سوار: اغرب، عَلَيْك لعنة الله. قَالَ بَعضهم: سَمِعت رجلا جِيءَ بِهِ إِلَى التَّيْمِيّ القَاضِي، فَقَالَ: يَا معشر القَاضِي: كم يجرونك إِلَيّ بِحَال أَنهم وَاحِد وَأَنا سِتَّة،، لَا يَجدونَ أحدا يظلمونك إِلَّا غيرري. خَاصم رجل رجلا إِلَى الشّعبِيّ فَقَالَ: إِن هَذَا بَاعَنِي غُلَاما نصيحاً صبيحاً. قَالَ: هَذَا مُحَمَّد بن عُمَيْر بن عُطَارِد. قدمت جَارِيَة مولى لَهَا إِلَى بعض الْقُضَاة وَادعت عَلَيْهِ الْحَبل، فَأنْكر الْمولى وَادّعى أَنه كَانَ يسْتَعْمل الْعَزْل وَقت إتيانها، فاستثبته القَاضِي، وتعرف مِنْهُ صُورَة أمره مَعهَا فَقَالَ: أصلح الله القَاضِي، كنت آتيها فِي قبلهَا؛ فَإِذا أردْت الْفَرَاغ عزلت فأنزلت فِي دبرهَا. فَقَالَ القَاضِي: اسْكُتْ يَا فَاسق فَإنَّك هُوَ ذَا تسمي ولَايَة العراقين عزلاً.
أحد الْخَصْمَيْنِ يعرض على القَاضِي فراريج وحنطة
اخْتصم رجلَانِ إِلَى قَاض، فَدَنَا أَحدهمَا مِنْهُ وَقَالَ سرا: قد وجهت للدَّار فراريج كسكرية، وحنطة بلدية كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ القَاضِي بِصَوْت عَال: إِذا كَانَت لَك بَيِّنَة غَائِبَة انتظرناها، لَيْسَ هَذَا مِمَّا يسَار بِهِ.
قَضِيَّة غير مفهومة
قَالَ مُحَمَّد بن رَبَاح القَاضِي: تقدم إِلَى قثم مَعَ ابْن أَخِيه، فَادّعى عَلَيْهِ خَمْسَة آلَاف دِينَار فَقَالَ قثم: نعم لَهُ عَليّ ذَلِك من أَي وَجه. فَقلت: قد أَقرَرت لَهُ بِالْمَالِ،(4/213)
فَإِن شَاءَ فسر الْوَجْه، وَإِن شَاءَ لم يُفَسر. فَقَالَ ابْن أَخِيه: أشهد أَنه بَرِيء مِنْهَا إِن لم أثبتها. فَقلت: وَأما أَنْت فقد أَبرَأته إِلَى أَن تثبت ذَلِك، فَمَا رَأَيْت أَضْعَف مِنْهُمَا فِي الحكم.
يَمِين الطنبور
ادّعى رجل على آخر طنبوراً وأحضره عِنْد القَاضِي فَأنْكر، فَقَالَ: حلفه فَقَالَ القَاضِي: إِن كَانَ عنْدك هَذَا الطنبور فأيري فِي حر أمك. فَقَالَ الرجل: أَي يَمِين هَذَا؟ فَقَالَ القَاضِي: 458 يَمِين الطنبور. وَادّعى رجل على امْرَأَة عِنْد القَاضِي شَيْئا فأنكرت فَقَالَ لَهَا: إِن كنت كَاذِبَة فأير القَاضِي فِي حرك. فتوقفت الْمَرْأَة، فَقَالَ القَاضِي: قولي وَإِلَّا فاخرجي من حَقه. قَالَ بعض الْقُضَاة الحمقى: قد عزمت على أَن أخصي عَدْلَيْنِ للشَّهَادَة على النِّسَاء.
قَاضِي جبل
لما خرج الْمَأْمُون إِلَى فَم الصُّلْح لينقل بوران بنت الْحسن، إِذا جمَاعَة على الشط وَفِيهِمْ رجل يُنَادي بِأَعْلَى صَوته: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ نعم القَاضِي قَاضِي جبل جزاه الله عَنَّا أفضل مَا جزى أحدا من الْقُضَاة؛ فَهُوَ الْعَفِيف النَّظِيف، الناصح الجيب الْمَأْمُون الْغَيْب. وَكَانَ يحيى بن أَكْثَم يعرف قَاضِي جبل وَهُوَ ولاه وَأَشَارَ بِهِ. وَإِذا هُوَ القَاضِي نَفسه، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن هَذَا الَّذِي يُنَادي ويثني على القَاضِي هُوَ القَاضِي نَفسه. فاستضحك الْمَأْمُون واستطرفه وَأقرهُ على الْقَضَاء. وَقد كَانَ أهل جبل رفعوا عَلَيْهِ وَذكروا أَنه سَفِيه حَدِيد يعَض رُءُوس الْخُصُوم فَوَقع الْمَأْمُون: يشنق إِن شَاءَ الله. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت امْرَأَة قدمت زَوجهَا إِلَى أبي جَعْفَر الْأَبْهَرِيّ الْمَالِكِي وَكَانَ قَضَاء المحول فَقَالَت لَهُ: أعزّك الله، هَذَا زَوجي لَيْسَ يمسكني كَمَا يجب، حَسبك أَنه مَا أَطْعمنِي لَحْمًا مُنْذُ أَنا مَعَه. قَالَ القَاضِي: مَا تَقول؟ قَالَ: أعز(4/214)
الله القَاضِي البارحة أكلنَا مضيرةً. قَالَت الْمَرْأَة: ويلي أَلَيْسَ كَانَ ماست؟ قَالَ: وتناي ... نَا سِتَّة. قَالَ القَاضِي: هَذِه مضيرة بعصبان. جلس أَبُو ضَمْضَم القَاضِي للْحكم فلمح فِي مَجْلِسه رجلا مَعَه أَلْوَاح يعلق نوادره فَرَمَاهُ بالدواة وَشَجه ثمَّ أَمر بِهِ إِلَى الْحَبْس. فَقَالَ كَاتبه: مَا أكتب قصَّته فِي الدِّيوَان. قَالَ: اكْتُبْ: اسْترق السّمع فَأتبعهُ شهَاب ثاقب.
القَاضِي يحبس صَاحب الْحق
اخْتصم إِلَى أبي ضَمْضَم رجلَانِ فَأقر أَحدهمَا لصَاحبه بِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: أعز الله القَاضِي. إِنِّي كلما طلبته لأوفيه حَقه لَا أَجِدهُ فَإِنَّهُ رجل شريب منهمك فِي الشّرْب أبدا عِنْد أَصْحَابه وأصدقائه، وَأَنا رجل معيل أحتاج أَن أكسب قوت عيالي، وَلَا يتهيأ لي أَن أتعطل عَن كسبي وأدور فِي طلبه. فَأمر أَبُو ضَمْضَم بِحَبْس صَاحب الْحق. وَقَالَ لغريمه: اذْهَبْ فاشتغل بِطَلَب معاشك ومكسبك، فَإِذا حضرك مَا ترده عَلَيْهِ فاحمله إِلَى الْحَبْس حَتَّى لَا تحْتَاج أَن تَدور فِي طلبه. فَبَقيَ الرجل فِي الْحَبْس ثَمَانِينَ يَوْمًا وَصَاحبه يحمل إِلَيْهِ الشَّيْء بعد الشَّيْء إِلَى أَن بَقِي لَهُ عشرَة دَرَاهِم فَأرْسل إِلَى القَاضِي وَقَالَ: إِن رَأَيْت أَن تفرج عني فَلم يبْق لي على غريمي إِلَّا عشرَة دَرَاهِم فَقَالَ: لَا وَالله لَا تَبْرَح حَتَّى تَأْخُذ حَقك {
قَضِيَّة غير مفهومة
تقدم رجلَانِ إِلَى بعض الْقُضَاة فَقَالَ أَحدهمَا: أصلحك الله أَخُو ختن غُلَام أكار هَذَا سرق كسَاء أخي ختن أكار خَال ولد ختي. فَقَالَ القَاضِي: مَا تَقول؟} قَالَ: أعز الله القَاضِي. غير كسَاء غَيْرِي سرق غير ختن كسَاء هَذَا. أَنْت القَاضِي. أيش تُشِير عَليّ؟ قَالَ القَاضِي: أُشير عَلَيْك أَن تَأْخُذ أَي طَرِيق شِئْت فَمن كلمك فاصفعه.
نوع من الْقَرَابَة
ارْتَفع رجلات إِلَى قَاض أَحدهمَا يَدعِي على الآخر حَقًا لَهُ من مِيرَاث فَقَالَ القَاضِي للْمُدَّعِي: مَا تكون من هَذَا الرجل الَّذِي تَدعِي مِيرَاثه؟ قَالَ: أعز الله(4/215)
القَاضِي أَنا أحد قراباته: كَانَت أم أم أمه جدها لأمها أَخا خَال عَم أخي ختني. أَعنِي ابْن بنت زَيْنَب خَالَتِي فَقَالَ القَاضِي: يَا سفله، هَذِه صفة أخلاط الْخبث. ارفعها إِلَى الصيادلة حَتَّى يميزوها خلطاً خلطاً ثمَّ ردوهَا. سمع بعض الْقُضَاة امْرَأَة تَقول لأخرى 459 فِي جيرته فِي كَلَام بَينهمَا: وَإِلَّا فأير القَاضِي فِي حرك. فَقَالَ القَاضِي: إِن القَاضِي وَالله أَشْقَى بختاً من ذَاك. تشاجر رجل وَامْرَأَته فِي الأير إِذا قَامَ وانتفخ كم رطلا فِيهِ. فَقَالَ الرجل: يكون فِيهِ خَمْسُونَ رطلا، وَقَالَت الْمَرْأَة: لَا يكون. فَحلف بِطَلَاقِهَا أَنه إِذا انتفخ يكون فِيهِ أَكثر من ألف رَطْل. فارتفعا إِلَى الْحَاكِم ورشوه على الحكم لِئَلَّا يفرق بَينهمَا فَقَالَ: اذْهَبُوا، فَإِنَّهُ إِذا قَامَ فَهُوَ مثل شراع السَّفِينَة إِذا وَقع فِيهِ الرّيح يكون أَكثر من خَمْسَة آلَاف رَطْل. قدم رجل امْرَأَته إِلَى القَاضِي فَقَالَ: أعز الله القَاضِي أَنا رجل من دورق وَهَذِه امْرَأَة من درب عون، وَفِي قلبِي حب وَهِي تغار عَليّ وأريدها صاغرة. فَقَالَ القَاضِي: اذْهَبْ عافاك الله إِلَى دَار بانوكة حَتَّى يعْمل لَك قَاض من دن يحكم بَيْنكُمَا. غَابَ رجل فِي بعض أَسْفَاره، وطالت غيبته فَأَرْجَفَ بِهِ وبموته، وأتى على ذَلِك مُدَّة، وَبلغ قَاضِي الْبَلَد جمال امْرَأَته فَخَطَبَهَا وَتَزَوجهَا فَصَارَ إِلَيْهِ أهل بَيت زَوجهَا وَبَنُو أَعْمَامه وَقَالُوا: أعز الله القَاضِي. لم يَصح عندنَا موت هَذَا الرجل وَنحن فِي شكّ مِنْهُ، فَكيف تتَزَوَّج بامرأته؟ فَغَضب القَاضِي وَقَالَ: أَنْتُم تسخرون بِالنسَاء. وَالله مَا يغيب أحدكُم إِلَّا تزوجت بامرأته.
يَمِين أَصْحَاب الرياحين
تقدم رجلَانِ إِلَى قَاض وَادّعى أَحدهمَا على صَاحبه درهما من ثمن ريحَان اشْتَرَاهُ ف أنكر واستحلفه فَقَالَ القَاضِي: قل: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ. فَقَالَ الرجل: أصلحك الله لَيست هَذِه يَمِين أَصْحَاب الرياحين. قَالَ القَاضِي: وَمَا يمينهم؟ قَالَ: أَن يَقُول أمه فاعلة إِن كَانَ لهَذَا عَلَيْهِ شَيْء. قَالَ القَاضِي: مَا أَشك فِي صدقك، وَغرم الدِّرْهَم من عِنْده.(4/216)
تقدم رجلَانِ إِلَى الشّعبِيّ، فَقَالَ أَحدهمَا: لي عَلَيْهِ - أعز الله القَاضِي - كَذَا وَكَذَا من المَال. فَقَالَ: مَا تَقول؟ قَالَ: يسخر بك أعزّك الله.
قَاضِي حمص
تقدم إِلَى قَاضِي حمص رجل وَامْرَأَته فَقَالَ الرجل: أصلح الله القَاضِي إِنَّهَا لَا تطيعني. قَالَت: أصلح الله القَاضِي. إِنِّي لَا أقوى بِمَا مَعَه قَالَ: يَا هَذَا لَا تحملهَا مَا لَا تطِيق. قَالَ: أصلحك الله إِنَّهَا كَانَت عِنْد رجل قبلي فَكَانَت تكرمه وَتُطِيعهُ. فضرط القَاضِي من فَمه ثمَّ قَالَ: يَا جَاهِل، الأيور كلهَا تستوي؟ هوذا أَنا معي مثل أير الْبَغْل وَمن فِي الْبَيْت أستودعهم الله يستصغرونه.
كَيْفيَّة الْقصاص
ارْتَفَعت امْرَأَة مَعَ رجل إِلَى قَاضِي حمص. فَقَالَت: أعز الله القَاضِي. هَذَا قبلني قَالَ القَاضِي: قومِي إِلَيْهِ فقبليه كَمَا قبلك. قَالَت: قد عَفَوْت عَنهُ إِن كَانَ كَذَا. قَالَ القَاضِي: فإيش قعودي هَهُنَا؟ حَيْثُ أردْت أَن تهبي جرمه لم جِئْت إِلَى هَذَا الْمجْلس؟ وَالله لَا بَرحت حَتَّى تقتصي مِنْهُ حَقك وَبعد هَذَا لَو نَا ... ك رجل بحذائي لم أَتكَلّم. رفع أَبُو الْجُود الشَّامي امْرَأَته إِلَى أبي شيبَة القَاضِي وَقَالَت: أصلحك الله اخلعني مِنْهُ وَإِلَّا طرحت نَفسِي فِي دجلة. فَقَالَ زَوجهَا: أصلحك الله إِنَّهَا تدل بسباحة. فَقَالَ القَاضِي: مَا أَدْرِي أيكما أرقع قَالَ الشَّامي: إِن كنت لَا بُد فَاعِلا فارقعني ودعها.
من نَوَادِر قَاضِي حمص
أرسل الْمَأْمُون رجلا مَعَه كتاب إِلَى قَاضِي حمص. قَالَ الرجل: فَدخلت حمص فمررت على جمَاعَة من الْمَشَايِخ فِي مَسْجِد، فاسترشدتهم فَقَالُوا: أمامك. وحركت البغلة فضرطت فَقَالَ شيخ مِنْهُم كَانَ أحْسنهم هَيْئَة وأسنهم: على أيري.(4/217)
فتعجبت من قَوْله، وصرت إِلَى القَاضِي فَقَرَأَ كتابي ثمَّ تحدث 460 فانبسطت مَعَه فَقلت: أَلا أطرفك أَيهَا القَاضِي بِشَيْء. وقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة. فَقَالَ: يَا حَبِيبِي قد فسد النَّاس وَذَهَبت نصفتهم كَانُوا فِيمَا مضى إِذا سمعُوا ضرطة قَالُوا على أير القَاضِي فَصَارَ الْآن كل إِنْسَان يجر النَّار إِلَى قرصه.
الْأَخ وَالْأَخ الهجين
ذكر أَن أَعْرَابِيًا من بني العنبر صَار إِلَى سوار القَاضِي فَقَالَ: إِن أبي مَاتَ وَتَرَكَنِي وأخاً لي وَخط خطين ثمَّ قَالَ: وهجيناً. وَخط خطا نَاحيَة فَكيف يقسم المَال؟ فَقَالَ: أههنا وَارِث غَيْركُمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: المَال بَيْنكُم أَثلَاثًا. قَالَ: لَا أحسبك فهمت. إِنَّه تركني وَأخي وهجيناً لنا، فَقَالَ سوار مثل مقَالَته الأولى. فَقَالَ الْأَعرَابِي: أيأخذ الهجين كَمَا أَخذ أَنا وكما يَأْخُذ أخي؟ قَالَ: أجل. فَغَضب الْأَعرَابِي ثمَّ أقبل على سوار فَقَالَ: تعلم وَالله إِنَّك قَلِيل الخالات بالدهناء، فَقَالَ سوار: إِذا لَا يضرني ذَلِك عِنْد الله شَيْئا. تقدم رجل إِلَى شريك وَمَعَهُ غَرِيم لَهُ فَقَالَ: أصلحك الله لي عَلَيْهِ خَمْسمِائَة دِرْهَم. فَقَالَ للْغَرِيم: مَا تَقول؟ قَالَ: أصلحك الله يسخر بك فَقَالَ: قُم يَا ماص بظر أمه. قَالَ الْأَصْمَعِي: لقِيت قَاضِي سبدان فَقلت: على من تقضي؟ فَقَالَ: على الضَّعِيف. كَانَ أَبُو السكينَة قَاضِيا للحجاج بن يُوسُف وَكَانَ طَويلا فَقَالَ يَوْمًا: بَلغنِي أَن الطَّوِيل يكون فِيهِ ثَلَاث خلال لَا بُد مِنْهَا قَالَ: قلت: مَا هِيَ؟ قَالَ: يفرق من الْكلاب وَلَا وَالله مَا خلق الله دَابَّة أنالها أَشد فرقا من الْكلاب، أَو تكون فِي رجله قرحَة لَا وَالله مَا فَارَقت رجْلي قرحَة قطّ أَو يكون أَحمَق وَأَنْتُم أعلم بقاضيكم.
قَضَاء عكابة النميري
ولي عكابة النميري قَضَاء الْبَحْرين فالتاث أَهلهَا عَلَيْهِ فَركب فرسه وَأخذ رمحه وَقَالَ: وَالله لَا أَقْْضِي إِلَّا هَكَذَا من خالفني طعنته برمحي.(4/218)
كَانَ بِالْبَصْرَةِ قَاض، فاحتكم إِلَيْهِ حائك فِي حمامة فَأَخذهَا وَمسح عينهَا ثمَّ أرسلها. فَقَالَ الحائك: مَا فعلت أَيهَا القَاضِي؟ قَالَ: يذهب إِلَى بَيت صَاحبهَا.
قَضَاء أم مزايدة
وَتقدم إِلَيْهِ رجلَانِ ومعهما امْرَأَة فَقَالَ أَحدهمَا: أصلحك الله. هَذِه امْرَأَتي تَزَوَّجتهَا على سِتِّينَ درهما وَهَذَا يَدعِي أَنه يَتَزَوَّجهَا على سبعين فَقَالَ القَاضِي: عَليّ بِثَمَانِينَ. فَقَالَا: أصلحك الله جئْنَاك لِتَقضي بَيْننَا لم نجئك لتزايدنا. قَالَ القَاضِي: فَإِنَّمَا فِي شرى وَبيع، قوما فِي لعنة الله.
قَاضِي ماهر فِي الْحساب
تقدم إِلَى قَاض اثْنَان فَادّعى أَحدهمَا على صَاحبه ثَلَاثَة أَربَاع دِينَار. فَقَالَ القَاضِي: مَا تَقول؟ قَالَ لَهُ: عَليّ دِينَار غير ربع، ففكر سَاعَة ثمَّ قَالَ: أما تستحيان فِي هَذَا الْقدر. إِنَّمَا بَيْنكُمَا ثلث دِينَار! قوما فاصطلحا فَالصُّلْح خير. واختصم إِلَيْهِ رجلَانِ فِي ديك ذبحه أَحدهمَا فَقَالَ: ارتفعوا إِلَى الْأَمِير، فَإنَّا لَا نحكم فِي الدِّمَاء. وعزل يحيى بن أَكْثَم قَاضِيا كَانَ لَهُ على حمص من أَهلهَا فَلَمَّا قدم إِلَيْهِ رأى شَيخا وسيماً فَقَالَ لَهُ: من جالست يَا شيخ؟ فَقَالَ: أبي. فَظن أَن أَبَاهُ من أهل الْعلم. قَالَ: فَمن جَالس أَبوك: قَالَ: مَكْحُولًا قَالَ: فَمن جَالس مَكْحُول؟ قَالَ: سُفْيَان الثَّوْريّ. قَالَ: مَا كَانَ يَقُول أَبَاك فِي عَذَاب الْقَبْر؟ قَالَ: كَانَ يكرههُ. تزوج بعض الخصيان فِي زمن شُرَيْح بِامْرَأَة فَأَتَت بِولد فتبرأ مِنْهُ وترافعا إِلَى شُرَيْح. فَألْحق الْوَلَد بِهِ وألزمه أَن يحملهُ على عَاتِقه فَخرج على تِلْكَ الصُّورَة واستقبله خصي آخر. فَقَالَ لَهُ: انج بِنَفْسِك فَإِن شريحاً يُرِيد أَن يفرق الزِّنَى على الخصيان. 461 - سمع الْعَنْبَري القَاضِي صَبيا يَقُول لآخر وَإِلَّا فأير القَاضِي فِي حر أم الْكَاذِب، فَقَالَ القَاضِي: وَلم يَا صبي؟ قَالَ: لِأَن عَلَيْهِ أيراً مردوداً فِي حر أمه مثل سَارِيَة الْمَسْجِد. فَقَالَ القَاضِي: الِاسْتِقْصَاء شُؤْم.(4/219)
قدم رجل جمَاعَة إِلَى قَاضِي حمص يشْهدُونَ لَهُ على شَيْء ادَّعَاهُ فَقَالَ لَهُم القَاضِي: بِمَ تَشْهَدُون؟ فَقَالُوا: تُرِيدُ منا أَن نَكُون نمامين؟ قدمت امْرَأَة زَوجهَا إِلَى القَاضِي وَمَعَهَا طِفْل ادَّعَت أَنه وَلَده وَأنكر الرجل فَقَالَ القَاضِي: الْوَلَد للْفراش وَقد أَقرَرت بِالزَّوْجِيَّةِ فَقَالَ: أَيهَا القَاضِي وَالله مَا تناي. . نَا إِلَّا فِي الإست، فَقَالَت الْمَرْأَة وَأَنت أَيهَا القَاضِي مَا رَأَيْت غرفَة تكف. قَالَ القَاضِي: صدقت. خُذ بِيَدِهَا وبيد ولدك. دخل على بعض الْوُلَاة قَاض وَعِنْده مضحك عيار فَوَثَبَ فانكشف إسته وتلقى بهَا القَاضِي، فَحل القَاضِي سراويله وَأخرج أيره وتلقى بِهِ أسته. وَقَالَ: إِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا.
الْقَضَاء على شَيْء
يُقَال: إِن غلامين من أهل سنجار تقدما إِلَى قاضيها فَقَالَا لَهُ: أَيهَا القَاضِي قد جئْنَاك فِي شَيْء وَإِن لم يكن شَيْء. مَاتَ أَبونَا، وَخلف لنا دَارا لَا تَسَاوِي شَيْء، فاقتسمناها فَمَا أَصَابَنَا مِنْهَا شَيْء، وعرضناها فَمَا أعطونا بهَا شَيْء، وَنحن فُقَرَاء لَا نملك شَيْء، وجياع مَا فِي بطوننا شَيْء، وحفاة لَيْسَ فِي أَرْجُلنَا شَيْء، وَقد جِئْنَا إِلَى القَاضِي حَتَّى يُعْطِينَا شَيْء فنضم شَيْء إِلَى شَيْء ونشتري بِهِ شَيْء. قَالَ القَاضِي: قد وليت سنجار وَمَا معي شَيْء وأنزلوني فِي دَار لَيْسَ فِيهَا شَيْء، فأقمت بَينهم شَهْرَيْن مَا أَطْعمُونِي شَيْء، وحلفتهم فَمَا أقرُّوا إِلَيّ بِشَيْء، وَالْقَوْم جِيَاع لَيْسَ عِنْدهم شَيْء، وَلَو كَانَت داركم تسوى شَيْء كُنَّا قد بعناها لكم بِشَيْء، أعطيناكم شَيْء وأخذنا شَيْء، فَكَانَ يكون عنْدكُمْ شَيْء وَعِنْدنَا شَيْء {وَلَكِن هُوَ ذَا أفطنكم بِشَيْء} من لَيْسَ مَعَه شَيْء لَا يسوى شَيْء.(4/220)
الْبَاب الْحَادِي عشر نَوَادِر لأَصْحَاب النِّسَاء والزناة والزواني
كَانَ رجل يتعشق امْرَأَة، ويتبعها فِي الطرقات دهراً، إِلَى أَن أمكنته من نَفسهَا. فَلَمَّا أفْضى إِلَيْهَا لم ينتشر عَلَيْهِ فَقَالَت لَهُ: أيرك هَذَا أير لئيم. قَالَ: بل هُوَ من الَّذين قَالَ فيهم الشَّاعِر: وَأفضل النَّاس أحلاماً إِذا قدرُوا نظر مُغيرَة الْمُهلب يوماُ إِلَى أَخِيه يزِيد وَهُوَ يطالع امْرَأَته وَيَقُول لَهَا: اكشفي ساقك وَلَك خَمْسُونَ ألف دِرْهَم فَقَالَ: وَيلك يَا فَاسق؛ هَات نصفهَا وَهِي طَالِق. قَالَ بَعضهم لأعرابي: هَل يطَأ أحدكُم عشيقته؟ فَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي. ذَاك طَالب ولد لَيْسَ ذَاك بعاشق. سمع إِسْمَاعِيل بن غَزوَان قَول الله تبَارك وَتَعَالَى " قَالَت امْرَأَة الْعَزِيز الْآن حصحص الْحق أَنا راودته عَن نَفسه وَإنَّهُ لمن الصَّادِقين. ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ وَأَن الله لَا يهدي كيد الخائنين ". فَقَالَ: لَا وَالله إِن سَمِعت بأغزل من هَذِه الفاسقه. وَلما سمع بِكَثْرَة مراودتها 462 ليوسف واستعصامه بِاللَّه قَالَ: أما وَالله لَو بِي محكت. قَالَ الْأَصْمَعِي: راودت أعرابة شَيخا عَن نَفسه، فَلَمَّا قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من الْمَرْأَة أَبْطَأَ عَلَيْهِ الانتشار فَأَقْبَلت تستعجله وتوبخه فَقَالَ لَهَا: يَا هَذِه إِنَّك تفتحين بيتأ وَأَنا أنشر مَيتا.(4/221)
أَشَارَ ضيف لقوم إِلَى بنت لَهُم بقبلة وَهِي خلف الخباء، فَلَمَّا سمع الشَّيْخ قَول الْجَارِيَة: إِنِّي إِذا الطَّوِيلَة الْعُنُق قَالَ: وَبَيت الله لقد أَشَارَ إِلَيْهَا بقبلة. أَتَى نَوْفَل بِابْن أَخِيه وَقد أحبل جَارِيَة لغيره فَقَالَ: يَا عَدو الله؛ هلا إِذا ابْتليت بالفاحشة عزلت. قَالَ: بَلغنِي أَن الْعَزْل مَكْرُوه. قَالَ: أفما بلغك أَن الزِّنَى حرَام. جَاءَ رجل إِلَى عَابِد فَسَأَلَهُ عَن الْقبْلَة للصايم، فَقَالَ: تكره للْحَدَث، وَلَا بَأْس بهَا للمسن، وَفِي اللَّيْل لَك فسحة. فَقَالَ: إِن زَوجهَا يعود إِلَى منزله لَيْلًا فَقَالَ: يَا بن أَخ؛ هَذَا يكره فِي شَوَّال أَيْضا. قَالَ الجاحظ: تعشق الْمَكِّيّ جَارِيَة ثمَّ تزَوجهَا نهارية، فخبرني أَنَّهَا كَانَت ذَات صبيان وَأَنه كَانَ معجباً بذلك مِنْهَا، وَأَنَّهَا كَانَت تعالجه بالمرتك، وَأَنه نهاها مرَارًا حَتَّى غضب فِي ذَلِك. قَالَ: فَلَمَّا عرفت شهوتي كَانَت إِذا سَأَلتنِي حَاجَة وَلم أقضها قَالَت: وَالله لأمرتكن ثَلَاثًا. فَلَا أجد بدا من أَن أَقْْضِي حَاجَتهَا. قَالَ: فَلم أسمع قطّ بأطرف من قَوْله: فَلَا أجد بدا من أَن أَقْْضِي حَاجَتهَا. قَالَ بَعضهم: إِذا جمشت فَلَا تبهت مثل الْمَجْنُون، وَلَكِن السع وطر. أَخذ رجل مَعَ زنجية وَكَانَ قد أَعْطَاهَا نصف دِرْهَم، فَلَمَّا أَتَى بِهِ إِلَى الْوَالِي أَمر بتجريده وَجعل يضْربهُ وَيَقُول: يَا عَدو الله؛ تَزني بزنجية {فَلَمَّا أَكثر قَالَ: أصلحك الله، فبنصف دِرْهَم إيش أجد، وَمن يعطيني؟ فَضَحِك وخلاه. وجد شيخ مَعَ زنجية فِي لَيْلَة الْجُمُعَة فِي مَسْجِد، وَقد نومها على الْجِنَازَة فَقيل لَهُ: قبحك الله يَا شيخ. فَقَالَ: إِذا كنت أشتهي وَأَنا شيخ لَا يَنْفَعنِي شبابكم، قَالُوا: فزنجية. قَالَ: من يزوجني مِنْكُم بعربية؟ قَالُوا: فَفِي الْمَسْجِد} قَالَ: من يفرغ لي بَيته مِنْكُم سَاعَة؟ قَالُوا: فعلى جَنَازَة! قَالَ: إِن شِئْتُم جِئتُكُمْ لَيْلَة السبت، فضحكوا مِنْهُ وخلوه. قَالَ بَعضهم لقينة كَانَت إِلَى جَانِبه فِي مجْلِس: أشتهي أَن أَضَع يَدي عَلَيْهِ.(4/222)
قَالَت: إِذا كَانَ الْعَتَمَة. قَالَ: يَا ستي؛ إِذا كَانَ الْعَتَمَة وأطفئ السراج يكون الزحام عَلَيْهِ أَكثر من الزحام على الْحجر الْأسود. وَكَانَ بَعضهم فِي مجْلِس شرب فِيهِ مغنيات فَقَامَتْ وَاحِدَة مِنْهُنَّ فَكَانَت مليحة، فَوضعت الطبل وَقَعَدت عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا إخوتي. مَا كنت أَحسب أَنِّي أحب يَوْمًا مَا أَن أكون طبلاً حَتَّى السَّاعَة {وَحدث بَعضهم قَالَ: كنت فِي دَعْوَة وَبت، وَكَانَت هُنَاكَ مغنية قد باتت، فدب إِلَيْهَا بَعضهم فسمعتها فِي اللَّيْل تَقول: اعزل اعزل} . وَهُوَ يَقُول لَهَا: يَا قحبه تولين أَنْت وأعزل أَنا. قَالَ بَعضهم: بَينا أَنِّي. . قحبة فِي شهر رَمَضَان، وَذَهَبت أقبلها فحولت وَجههَا عني. فَقلت: لم تمنعينني الْقبْلَة؟ قَالَت: بَلغنِي أَن الْقبْلَة تفطر الصَّائِم. أَدخل رجل قحبة إِلَى خربة، فَبينا هُوَ فَوْقهَا إِذْ أحس بِوَقع قدم، فَأَرَادَ أَن يقوم. فَقَالَت لَهُ: شَأْنك فَإِنَّهُ 462 إِن كَانُوا أقل من أَرْبَعَة ضربوا الْحَد. كَانَ فِي جوَار ابْن المعذل قحبة تَزني نَهَارا وَتصلي بِاللَّيْلِ وَتَدْعُو وَتقول: اللَّهُمَّ اختم لي بِخَير. فَلَمَّا طَال ذَلِك على ابْن المعذل قَالَ لَهَا: يَا فاجرة، مَا ينفعك هَذَا الدُّعَاء؟ وَهُوَ يخْتم لَك بِاللَّيْلِ وتكسرين الْخَتْم بِالنَّهَارِ. كَانَ الحمدوني فِي مجْلِس فَقَالَت لَهُ قينة: ناولني ذَلِك الْكوز. فَقَالَ: يَا قحبة تريدين أَن تستأكليني. أَخذ شيخ مَعَ جَارِيَة سَوْدَاء فَقيل لَهُ: وَيحك تَزني بسوداء؟ ! قَالَ: أَنا الْيَوْم شيخ، إيش أُبَالِي مَا أَنِّي ... نزل سَبْعَة أنفس فِي خَان، وبعثوا إِلَى قوادة وَقَالُوا لَهَا: أحضري لكل وَاحِد منا امْرَأَة - وَكَانَ أحدهم يُصَلِّي - فَقَالَت: كم أَنْتُم؟ قَالُوا: نَحن سِتَّة. فَقَالَ الْمُصَلِّي: سُبْحَانَ الله سُبْحَانَ الله. وَأخرج يَده وَقد عقد على سَبْعَة. - أَي نَحن سَبْعَة.(4/223)
كَانَ بشيراز رجل وَله زَوْجَة فَاسِدَة، فَنزل بِهِ ضيف فَأَعْطَاهَا دَرَاهِم وَقَالَ لَهَا: اشْترِي لنا رُءُوسًا نتغدى بهَا، فَخرجت الْمَرْأَة ولقيها حريف فَأدْخلهَا إِلَى منزله وأحس بهَا الْجِيرَان، فرفعوهما إِلَى السُّلْطَان. وَضربت الْمَرْأَة وأركبت ثوراً ليطاف بهَا فِي الْبَلَد، فَلَمَّا أَبْطَأت على الرجل خرج فِي طلبَهَا، فرآها على تِلْكَ الْحَال فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا وَيلك؟ قَالَت: لَا شَيْء انْصَرف أَنْت إِلَى الْبَيْت فَإِنَّمَا بَقِي صفان: صف العطارين وصف الصيادلة ثمَّ أَشْتَرِي الرُّءُوس وأجيئك. قَالَت امْرَأَة أبي إِسْمَاعِيل الْقَاص لزَوجهَا: إِن الْجِيرَان يرمونني بالفاحشة قَالَ: لَا يحل لَهُم حَتَّى يروه فِيك كالميل فِي المكحلة. قيل لرجل: إِن فلَانا وَفُلَانًا حملا السّلم البارحة ونصباه إِلَى حَائِط دَارك؛ يُريدَان امْرَأَتك. قَالَ: على كل حَال إِذا حملوه بَين اثْنَيْنِ هُوَ أولى من أَن يكلفوني حمله وحدي. كَانَ على بعض أَبْوَاب الدّور خياط. وَكَانَت لَهُم جَارِيَة تخرج لحوائجهم فَقَالَ الْخياط لَهَا يَوْمًا - وَقد خرجت: أَخْبِرِي ستك أَن لي أيرين. فَدخلت الْجَارِيَة وَهِي تدمدم، قَالَت لَهَا ستها: مَالك؟ قَالَت: خير. قَالَت: لَا بُد من أَن تخبريني، فَأَخْبَرتهَا بقول الْخياط. فَقَالَت: أحضريه حَتَّى يقطع لنا أثواباً. فدعته وطرحت إِلَيْهِ ثوبا فَلَمَّا قطعه قَالَت لَهُ: بَلغنِي أَن لَك أيرين. قَالَ: نعم وَاحِد صَغِير أَنِّي. . بِهِ الْأَغْنِيَاء، وَآخر كَبِير أَنِّي ... بِهِ الْفُقَرَاء قَالَت الْمَرْأَة: لَا يغرنك شَأْننَا الَّذِي ترَاهُ؛ فَإِن أَكْثَره عَارِية. كَانَ عِنْد بَعضهم امْرَأَة يبغضها، وَكَانَت كل لَيْلَة تستعجله وَتقول: قُم حَتَّى تنام. وَكَانَ لَا ينشط، ويدافع بِالْوَقْتِ إِلَى أَن قَالَت لَهُ ذَات لَيْلَة ذَاك فَقَالَ: لَا تقولي حَتَّى تنام، وَلَكِن قولي حَتَّى تَمُوت. فَإِن الْمَوْت خير من النّوم مَعَك. تزوج رجل بامرأتين عَجُوز وشابة، فَجعلت الشَّابَّة كلما رَأَتْ فِي لحيته طَاقَة بَيْضَاء تنتفها، والعجوز كلما رَأَتْ طَاقَة سَوْدَاء تنتفها، فَمَا زَالا كَذَلِك حَتَّى أعاداه عَن قريب أَمْرَد أصلع. حكى عَن ابْن أبي طَاهِر قَالَ: كنت مَعَ عَليّ بن عُبَيْدَة فِي مجْلِس وَمَعَهُ(4/224)
عشيقة لَهُ فَجَلَسْنَا حَتَّى فانتنا صَلَاة الْعَصْر. فَقلت لَهُ: قُم حَتَّى نصلي. فَقَالَ: حَتَّى تَزُول الشَّمْس - يَعْنِي عشيقته. قيل لرجل رئي وَهُوَ يكلم امْرَأَة فِي شهر رَمَضَان: أتكلمها فِي مثل 461 هَذَا الشَّهْر؟ قَالَ: أدرجها لشوال. اعْترض رجل من أهل خُرَاسَان جَارِيَة لبَعض النخاسين فازدراه، فَوضع يَده على هميان فِي وَسطه فِيهِ دَنَانِير كَثِيرَة، ثمَّ أنزل يَده إِلَى ذكره وَقد أنعظ وَقَالَ: أَتَرَى سلعتك تكسد بَين هذَيْن السوقين. نظر رجل إِلَى مغن يطارح جَارِيَة للغناء وَقد غمزها فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِه الغمزة؟ قَالَ: غمزة فِي الْغناء. قَالَ: أَترَانِي لَا أعرف غمزة الْغناء من غمزة الزِّنَى. عشق أَبُو جَعْفَر الْقَارئ جَارِيَة بِالْمَدِينَةِ فَقيل لَهُ: مَا بلغ من عشقك إِيَّاهَا؟ قَالَ: كنت أرى الْقَمَر فِي دَارهم أحسن مِنْهُ فِي دَارنَا. قَالَ بَعضهم: مَرَرْت ذَات يَوْم بشارع السّري بسر من رأى فَرَأَيْت امْرَأَتي تمشي فظننتها من الْبَادِيَة، فتعرضت لَهَا وَقلت: إِلَى أَيْن يقْصد الغزال؟ فَقَالَت لي: إِلَى مغزلها يَا قَلِيل الْمعرفَة بِأَصْحَابِهِ. كَانَ فلَان مُفلسًا فَقَالَ لامْرَأَة: أَنا أحبك. قَالَت: وَمَا الدَّلِيل على ذَلِك؟ قَالَ: تُعْطِينِي قفيز دَقِيق حَتَّى أعجنه بدموع عَيْني. قَالَت: على أَن تَجِيء بخبزه إِلَيْنَا. قَالَ: يَا سيدتي، فَأَنت تريدين خبازاً لَا تريدين عَاشِقًا. تزوج رجل بشيراز امْرَأَة فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الْخَامِس من زفافها ولدت ابْنا، فَقَامَ الرجل وَصَارَ إِلَى السُّوق وَاشْترى لوحاً ودواة فَقَالُوا لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: من يُولد فِي خَمْسَة أَيَّام يذهب إِلَى الْكتاب فِي ثَلَاثَة أَيَّام. ذكر أَن رجلا لزم آخر بِحَق لَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلْزُوم: انْطلق معي إِلَى منزلي لعَلي أحتال لَك. فَانْطَلق مَعَه فَدخل وغريمه مَعَه فَجَلَسَ بَين يَدي الحجلة وَالْمَرْأَة(4/225)
ممسكة بسجفها وَمَعَهُ فِيهَا صديق لَهَا، فَكلم الرجل امْرَأَته فَقَالَ لَهَا: إِن لهَذَا عَليّ دينا، وَلَا أقدر على قَضَائِهِ، فأعينيني بحليك، عَليّ أَن أخلفه عَلَيْك. فَأَقْبَلت الْمَرْأَة على الْغَرِيم فَقَالَت لَهُ: يَا هَذَا؛ عَلَيْك عهد الله وميثاقه إِن رَأَيْت شَيْئا لتكتمنه وَلَا تخبر أحدا، فَحلف لَهَا فَخرجت من الحجلة، فأكبت على زَوجهَا وَأخذت رَأسه فقبلته، وَقَالَت: أفديك بِكُل شَيْء أملكهُ، وَخرج الرجل من الحجلة فَمضى وخلت عَن رَأس الزَّوْج. وجد رجل مَعَ أمه رجلا، فَقتل أمه وخلى عَن الرجل، فَقيل لَهُ: أَلا قتلت الرجل وخليت أمك؟ قَالَ: إِذا كنت أحتاج أَن أقتل كل يَوْم رجلا. وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل. تمّ بِحَمْد الله وعونه وتوفيقه الْجُزْء الرَّابِع ويليه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الْخَامِس(4/226)
الْجُزْء الْخَامِس / بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُقَدّمَة الْمُؤلف
اللَّهُمَّ أَنْت الرَّاعِي لَا يُراع سوامهُ، والحافظ لَا يُضاع ذمامُه، والصادق لَا يخلف وَعْده، والغني لَا ينفّدُ مَا عندَه. نحمدُك ونستعينُك، ونستعصمك ونستخيرُك، ونؤمن بك ونتوكلُ عَلَيْكَ، ونخضعُ لَكَ، ونفزع إليْك. اللَّهُمَّ فوفقنا لكل مَا ترضاه، وجنبنا بعض مَا نهواه، وبلغنا من الْخَيْر مُنتهاه واهدنا فِي الدُّنْيَا إِلَى مَا نحمدُ فِي الْآخِرَة عُقباه، وأسِبغْ علينا لباسَ الْكِرَام واعصمْنا مِمَّا نتعقبه بالندامة، وتغمدنا فِي الدُّنيا بِنِعْمَة تضفُوا مدَارعُها وَفِي الْآخِرَة برحُمة تصفُو مشارعُها، وابسُط أيْدَينا إِلَى خلقك بالأفضال والإسْعاف، واقْبِض أيْديَنا عَنْهُم بالقناعة والكَفاف، واجْعلنا عصمَة للخائف مِنْهُم إِذا استجار، والحائر إِذا اسْتَشَارَ، والسائل إِذا استمَار. لَكَ الحمْدُ والمنةُ، ومنك الإحْسانُ والنِّعمةُ وَعَلَى رَسُولك محمدٍ وأهلِ بَيته الصلاةُ وَالرَّحْمَة. هَذَا هُوَ الفصلُ الخامسُ من كتاب نثر الدُّر وَهُوَ اثْنَان وَعِشْرُونَ بَابا. الْبَاب الأول كَلَام زِيَاد وَولده الْبَاب الثَّانِي: كَلَام الْحجَّاج. الْبَاب الثَّالِث: كَلَام الْأَحْنَف بن قيس. الْبَاب الرَّابِع: كَلَام الْمُهلب وَولده.(5/3)
الْبَاب الْخَامِس: كَلَام أبي مُسلم صَاحب الدولة. الْبَاب السَّادِس: كَلَام جمَاعَة من أُمَرَاء الدولتين. الْبَاب السَّابِع: توقيعات وفصول للوزراء وَالْكتاب. الْبَاب الثَّامِن: كَلَام الْقُضَاة فِي الدولتين. الْبَاب التَّاسِع: كَلَام الْحسن الْبَصْرِيّ. الْبَاب الْحَادِي عشر: كَلَام الْخَوَارِج. الْبَاب الثَّانِي عشر: الْغَلَط، والتصحيف. الْبَاب الثَّالِث عشر: نَوَادِر فِي اللّحن والنحو. الْبَاب الرَّابِع عشر: نَوَادِر للمخنثين. الْبَاب الْخَامِس عشر: نَوَادِر اللاطة. الْبَاب السَّادِس عشر: نَوَادِر البغائين. الْبَاب السَّابِع عشر: نَوَادِر جحا. الْبَاب الثَّامِن عشر: نَوَادِر أشعب. الْبَاب التَّاسِع عشر: نَوَادِر السُّؤَال. الْبَاب الْعشْرُونَ: نَوَادِر المعلمين. الْبَاب الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: نَوَادِر الصّبيان. الْبَاب الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: نَوَادِر العبيد والمماليك.(5/4)
الْبَاب الأول كَلَام زِيَاد وَولده
قَالَ: إِن تَأْخِير جَزَاء المحسن لؤمٌ، وتعجيل عُقُوبَة المُسيء دناءةٌ. ثَوَاب المحسن والتثبٌّت فِي العُقوبة ربُّما أدّى إِلَى سَلامة مِنْهَا، وتأْخير الإحسانِ رْبِّما أدَّى إِلَى ندمٍ لم يُمكن صَاحبه أَن يتلافاهُ. كتب إِلَى معاويةُ: اعزل حُرَيثَ بن جَابر، فَإِنِّي مَا أذكُرُ قُبتَّه بصفِّين إِلَّا كَانَت حَرارةً، فِي جلدي. فَكتب إِلَيْهِ زيادٌ: خفِّض عَلَيْك أميرَ الْمُؤمنِينَ، فقد بسَق حُريثٌ بُسُوقاً لَا يرفُعه عملٌ، وَلَا يضعهُ عَزْلٌ. وَقَالَ زيادُ لَو أَن لي ألف ألْف دِرْهَم، ولي بعيرٌ أجربُ لقمتُ عَلَيْهِ قيامَ. رجل لَا يملكُ غيرَهُ. وَلَو أَن لي عشرَة دراهمَ لَا أمْلك غيرَها، ولزمني حقٌّ لوضعْتُها فِيهِ. وَقَالَ لِابْنِهِ: عليْك بالحجاب، فَإِنَّمَا تَجَّرأتِ الرُّعاةُ على السباح بِكَثْرَة نظرها إِلَيْهَا(5/5)
وخطب فَقَالَ: الأُمورُ جاريةٌ بأقدار الله، والناسُ متصَرِّفون بِمَشِيئَة الله، وهمْ بَين متسخِّط وراض، وكل يجْرِي فِي أجل وَكتاب. ويصيرُ إِلَى ثَوَاب أَو عِقَاب. أَلا رُب مسرور بِنَا لَا نسرُّه، وخائف ضدنا لَا نضُرُّه. وَكَانَ مجْلسه الَّذِي يأْذن فِيهِ للنَّاس أربعةُ أسْطْر فِي نواحيه، أولُها: الشِّدةُ فِي غير عُنف، واللينُ فِي غير ضعْف. وَالثَّانِي: المُحسنُ يُجازى بإحسانه، والمسيءُ يكافأُ بإساءته. وَالثَّالِث العَطيَّاتُ والأرزاقُ فِي إبانها وأوقاتها. والرابعُ: لَا احتجاب عَن صَاحب ثغر وَلَا طَارق ليل. وَقَالَ: أحْسنوا إِلَى أهل الْخراج، فَإِنَّكُم لَا تزالون سماناً مَا سَمنْوا. قدم رجلٌ خصْماً إِلَى زِيَاد فِي حَقٍّ لَهُ عَليْه، فَقَالَ: إِن هَذَا يُدلُّ بِخَاصَّة ذكرَ أَنَّهَا لَهُ مِنْك. فَقَالَ زيادٌ: صدّق. وسأُخبُرك بِمَا ينفعُه عِنْدِي منْ مودته إِن يكُن الحقُّ لَهُ آخذُك بِهِ أخْذاً عنيفاً، وَإِن يكُنِ الحقُّ لَك عَلَيْهِ أقْضِي عَلَيْهِ ثمَّ أقْضي عَنهُ. وَقَالَ: لَيْسَ العاقلُ الَّذِي يحتالُ للأمْر إِذا وَقع، وَلَكِن العَاقل الَّذِي يحتالُ لِلْأَمْرِ أَلا يَقع فِيهِ. قَالُوا: قدم زيادٌ البصْرة والياً لمعاوية والفسْقُ بالبصْرة ظاهرٌ فاشٍ فَخَطب خطْبَة بَتْرَاءَ لم يحمدِ الله فِيهَا. ويُقالُ: بل قَالَ: الْحَمد لله على أفْضاله، ونسْأَلُه المزيدَ منْ نعمه وإكرامه. اللهُم كَمَا زدْتنا نعَماً فأَلهِمنْا شكْراً. أما بعدُ: فَإِن الْجَاهِلِيَّة الجهُلاء، والضلالة العمْياء والغَيَّ المُوفدَ لأَهله على النَّار، مَا فِيهِ سفهاؤُكمْ، ويشتعلُ عَلَيْهِ حُلماؤكم، مِنْهُ الْأُمُور الْعِظَام، ينبتُ فِيهَا الصغيرُ، وَلَا يتحَاشى منْها الكبيرُ. كأنكم لم تقْرءُوا كتاب الله، وَلم تسمعُوا مَا أعد الله من الثَّوَاب الْكَرِيم لأهل طَاعَته، وَالْعَذَاب الْأَلِيم لأهل معْصيته فِي الزَّمن السرمدي الَّذِي لَا يزُولُ. أتكونون كمنْ طرفتْ عينه الدُّنيا، وسَدتْ مَسامعَه الشهواتُ، واختارَ الفانية على الْبَاقِيَة وَلَا تذْكُرونَ أَنكُمْ أحْدثتُم فِي الْإِسْلَام الحدَثَ الَّذِي لم تُسْبقُوا إليْه: منْ تَرْككُمْ الضعيفَ يُقْهرُ، ويُؤخَذُ مالُه، والضعيفةَ المسلوبةَ فِي النهارِ المُبصِرِ، والعددُ غيرُ قَلِيل.(5/6)
ألم يكنُ مِنْكُم نُهاةٌ تمنعُ الغُواةَ عنْ دَلَج الليلِ، وغارةِ النهارِ؟ قرَّبْتُم الْقَرَابَة، وباعْدتُمُ الدِّين. تعتذرُون بِغَيْر العُذْر وتُغُضون على المُخْتلسِ، كلُّ امْرِئ مِنْكُم يذُبُّ عَن شَفِيهِه ضنيع مَنْ لَا يخافُ عَاقِبَة، وَلَا يرجوُ مَعاداً. مَا أنتُم بالحُلماء، وَلَقَد اتَّبعُتم السُّفهاءَ، فَلم يزَلْ بهم مَا ترَوْن من قيامِكم دونَهُم، حَتَّى انتهكٌوا حُرَم الْإِسْلَام، ثمَّ أطْرَقُوا وراءَكم كُنُوساً فِي مكانِس الرِّيبَ حَرُم على الطعامُ والشرابُ حَتَّى أسَوِّيَها بِالْأَرْضِ هدماً وإحراقاً، إِنِّي رأيتُ آخر هَذَا الْأَمر لَا يصلحُ إِلَّا بِمَا صلح بِهِ أوَّلُه: لينٌ فِي غير ضعف، وشدةٌ فِي غير عنف. إِنِّي أقسمُ بِاللَّه لآخُذنَّ الْوَلِيّ بالمولىَ، والمقيمَ بالظاعن، والمقبل بالمُدبر، والصحيحَ مِنْكُم فِي نَفسه بالسقيم حَتَّى يَلْقى الرجلُ مِنْكُم أَخَاهُ فَيَقُول: انْجُ سعدٌ فقد هلك سُعَيد أَو تستقيمَ لي قناتُكُم. إِن كذبَة الْمِنْبَر. بلقاءُ مشهورةٌ، فَإِذا تعلقتم على بكذبة فقد حل لكم معصيَتي. من نُقِبَ عَلَيْهِ مِنْكُم فَأَنا ضامنٌ لمَا ذهب مِنْهُ، فإيايَ ودلج اللَّيْل، فإنِّي لَا أوتَى بمُدلِج إِلَّا سفكْتُ دَمه وَقد أجَّلتكُمْ فِي ذَلِك بِقدر مَا يَأْتِي الخبرُ إِلَى الْكُوفَة، ويرجعُ إِلَيْكُم. وإياي ودعَوى الْجَاهِلِيَّة، فإنِّي لَا أجد أحدا دَعَا بهَا إِلَّا قطعتُ لسانَهُ. وَقد أحدثْتُم أحداثاً لمْ تكن، وَقد أحْدثْنا لكلِّ ذنبٍ عُقُوبَة، فمَنْ غرَّق قوما غرَّقْناه، وَمن أحْرق على قومٍ أحْرَقناه ومَنْ نقَب على قوم بَيْتا نقَبْنا عنْ قلبه، وَمن نَبش قبر دفنَّاه فِيهِ حَيَّاً كُفُّوا عني أيْديكُم، وألْسنتكُم أكُفَّ عَنْكُم يَدي ولساني. وَلَا يظْهُر مْن أحدكُم خلافُ مَا عَلَيْهِ عامكم إِلَّا ضربْتُ عُنقَهُ. وَقد كَانَت بيني وبيْن أَقوام إحنٌ فجعلُتُ ذَلِك دبْرَ أذُني، وَتَحْت قدمي، فمنْ كَانَ مِنْكُم مُحْسناً فليزدَدْ إحساناً، ومَنْ كَانَ مُسيئاً فليرْتدعُ عَن إساءته. إِنِّي لَو علمتُ أَن أحدَكُم قد قتلهُ السُّل منْ بُغْضي لم أكشف عَنهُ قناعاً، وَلم أهُتكْ لَهُ سترا حَتَّى يُبْدي لي صَفحتهُ، فَإِذا فعَل لمْ أناظرهُ فاسْتأنفُوا أمُوركُم، وأعينُوا على أنْفُسكم، فُرب مُبْتئس بقُدُومنا سَيُسَرُّ، ومسرور لقُدومنا سَيبْتئسُ. أيُّها النَّاس: إِنَّا أصْبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادةً، نُسوسُكم بُسلْطان الله(5/7)
الَّذِي أعْطاناهُ، ونذُودُ عَنْكُم بفيءٍ الله الَّذِي خَولَنا. فلنا عَلَيْكُم السمْعُ والطاعةٌ فِيمَا أحْببْنا، وَلَكِن علْينا العَدْلُ فِيمَا ولِينا. فاستوجبُوا عَدْلنا وفيْئنا بِمُناصحَتِكُمْ لنا. وَاعْلَمُوا أَنِّي مُهَما قصَّرتُ عَنهُ فَلَنْ أقصِّرَ عَن ثَلَاث: لستُ مُحْتجباً عَن طَالب حاجةٍ مِنْكُم، وَلنْ أَتَانِي طَارِقًا بلَيْل، وَلَا حابساً عَطاء وَلَا رزُقا عَن إبانه، وَلَا مُجمِّراً لكم بعْثاً، فادْعوا اللهب الصّلاح لأئمتِّكم، فَإِنَّهُم ساستُكُم المؤُدِّبون، وكهفُكمُ الَّذِي إِلَيْهِ تأوُون. وَمَتى صلحُوا تصَلْحُوا، وَلَا تْسْرِبوا قُلُوبكُمْ بعْضَهُم فيشتد لذَلِك غيظكُمُ، وَيطول لذَلِك خُزْنكمُ، وَلَا تُدْركُوا حاجَتكم مَعَ أَنه لَو اسْتُجيب لكم فيهم كَانَ شرا لكم. أسْأَلُ الله أنْ يُعين كُلاً على كُلٍّ. وَإِذا رأيتْمُوني أنفذُ فِيكُم الأمرَ فأنفذُه على أذْلاله، وأيْمُ الله إِن لي فِيكُم لصَرْعى كَثِيرَة. فليَحْذرْ كل امْرِئ أنْ يكون من صَرْعاي. قَالَ: فَقَامَ عبدُ الله بنُ الْأَهْتَم، فَقَالَ: أشهدُ أَيهَا الأميرُ لقد أُوتيت الْحِكْمَة وفصْل الْخطاب. فَقَالَ لَهُ: كذبْت. ذَاك نَبِي الله دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فقامَ إِلَيْهِ الأحْنفُ ابنُ قيْس، فَقَالَ: إِنَّمَا الثناءُ بعْدَ الْبلَاء، الحمدُ بعد العطاءِ، وَإِنَّا لَا نُثْنِي حَتَّى نبْتلي، وَلَا نُحمدُ حَتَّى نُعْطَى. فَقَالَ زِيَاد: صدّقْتُ. قَالَ: فَقَامَ أَبُو بِلَال يهمسُ وَهُوَ يقولُ: أنْبأَنا اللهُ - جلّ وَعز - بِغَيْر مَا قُلت. قَالَ اللهُ تباركَ وَتَعَالَى: وَإبْراهيمَ الَّذِي وَفى. أَلا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخْرَى. وَأَن لَّيْسَ للإنسانِ إِلَّا مَا سَعَى. وأنَّ سعُيَهُ سَوف يُرَى. ثُم يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفىَ وَأَنت تزْعُم أَنَّك تأْخُذُ الصحيحَ بالسقيم، والطيع بالعاصي، والمُقْبِلَ بالمُدْبرِ. فَسَمعَهَا زيادٌ، فَقَالَ: إنَّا لَا نبلُغُ مَا نُريدُ بأصْحابك حَتَّى نَخُوضَ إليكمُ الْبَاطِل خَوضاً.(5/8)
وَقَالَ يَوْم على المنْبر: إِن الرجلَ ليتكلَّم بِالْكَلِمَةِ لَا يقطع بهَا ذنبَ عنز مَصُور لَو بَلغتْ إِمَامه سَفكَت دمَهُ. وَقَالَ. مَا قَرَأت كتابَ رجل قطُّ إِلَّا عرفتُ عَقْلَهَ فِيهِ. وخطب فَقَالَ: استوصُوا بِثَلَاثَة مِنْكُم خيرا: الشريف، والعالم، وَالشَّيْخ، فوَاللَّه لَا يأتيني شَريفٌ يستخفُّ بِهِ إِلَّا انْتقمتُ مِنْهُ، وَلَا يأتيني شيخٌ بشاب استخف بِهِ إِلَّا أوجعتُه، وَلَا يأتيني عالمٌ بجاهل استخف بِهِ إِلَّا نكلتُ بِهِ. قيل لزياد: مَا الحظُّ؟ قَالَ: منْ طالَ من عُمُرهُ، وَرَأى فِي عَدوِّه مَا يَسُرهُ فَهُوَ ذُو حظٍّ. وَكَانَ يَقُول: هُما طَرِيقَانِ للعَامة: الطاعةُ، والسيفُ. وَكَانَ المغيرةُ بن شُعبة يَقُول: لَا وَالله حَتَّى يُحمَلْوا على سَبْعُونَ طَرِيقا قبلَ السَّيْف. قَالَ رجلٌ لِلْحسنِ بن أبي الْحسن: أَلا أحَدِّثُك بِخطْبَة زِيَاد حِين دخَل العراقَ، وخطبة الْحجَّاج حِين قدمَ البصرةَ. أما زيادٌ فَحَمدَ الله - عز وَجل - وأثْنَى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن مُعَاوِيَة غيرُ مخوف على قومه، وَلم يكُنْ ليْلْحِق. بِنَسبه مَنْ لَيْسَ منهُ. وَقد شَهدتِ الشُّهودُ بِمَا قَد بَلغَكُم، والحقُّ أحَقُّ أَن يُتَّبعَ. واللهُ حيثُ وضعَ البيِّنات كَانَ أعلمَ. وَقد رَحلتُ عَنْكُم وَأَنا أعرفُ صديقي من عدوي وَقَدْ قدمت عَلَيْكُم وَقَدْ صَار الْعَدو صديقا(5/9)
مناصحاً وَالصديق عدُوا مُكاشحاً، فَاشْتَمَلَ كلُّ امْرِئ على مَا فِي صدرِه، وَلَا يكونَنَّ لسانُه شفْرةً تجْرِي على ودَجِه وليعلم أحدُكم إِذا خلا بنفْسه أَنِّي قد حملتُ سَيفي بِيَدِهِ، فإنْ شَهرهُ لم أغُمدْهُ، وإنْ أغُمَدهُ لم أشْهره. ثمَّ نزل. وَأما الحجاجُ فَقَالَ: مَن أعياه داؤهُ فعلينا دوَاؤه، وَمن استَعجَل إِلَى أَجله فعلينَا أنْ نُعجلَه. أَلا إِن الحزْمَ والجِد استلَبا مني سَوطِيَ، وَجعلا سَوْطِي سَيفي، فنجادُهُ فِي عنقِي وقائِمُه بيَدي، وذُبَابُه قِلادةٌ لمن اغترني. فَقَالَ الحَسنُ: البؤسُ لَهما. مَا أغرهما بربِّهما {} ؟ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمِّنْ يعُتبُر بهما. قَالَ بعضهُم: مَا رأيتُ زياداً كاسِراً إِحْدَى عينْيِه، وَاضِعا إحْدى زِجْليه على الْأُخْرَى، يخاطِبُ رجلا إِلَّا رحِمْتُ المخاطبَ. قَالَ عُبْيدُ الله بنُ زِيَاد: نِعم الشيءْ الإمارةُ لَوْلَا قَعْقَعةُ البَريد، وتَشرفُ المنبرِ. تَذَاكُروا عِنْد يزيدَ الْبَصْرَة والكوفَة، فَقَالَ زيادٌ: لَو ضلِّت البصرةُ جعلتُ الْكُوفَة لمن دَلِّني عَلَيْهَا. سمع زيادٌ رجلا يُسبُّ الزَّمَان: فَقَالَ: لَو كَانَ يدْري: مَا الزمانُ. لضربتُ عُنقَه. إِن الزَّمَان هُوَ السُّلطانُ. قالب زيادٌ لحاجبه: يَا عجلانُ، إِنِّي ولُيتُك هَذَا الْبَاب، وعزلْتُكَ عَن أَرْبَعَة: عزلتُك عَن هَذَا الْمُنَادِي إِذا دَعَا للصَّلَاة، وفلا سَبِيل لَك عَلَيْهِ، وَعَن طَارق اللَّيْل، فشر مَا جَاءَ بِهِ. وَلَو جَاءَ بِخَير مَا كنتَ من حَاجبه. وَعَن رَسُول صَاحب الثغر، فَإِن إبطاء سَاعَة يُفسد تدبيرَ سنة فَأدْخلهُ على وَإِن كنتُ فِي لِحَافي. وَعَن هَذَا الطباخ إِذا فرغ من طَعَامه فَإِنَّهُ إِذا أُعِيد عَلَيْهِ التسخينُ فَسدَ. وَقَالَ يُعجُبني من الرجل إِذا سيمَ خُطة الضيم أَن يَقُول: لَا يملئ فِيهِ وَإِذا أَتَى نَادِي قومٍ عَلمَ أَيْن يَنْبَغِي لمثله أَن يجلسَ، فجلسَ. وَإِذا ركب دَابَّة حمَلها على مَا يُحب، وَلم يَتبعْها إِلَى مَا يكرَهُ.(5/10)
وَكَانَ حارثةٌ بنُ بدر الغُدَاني قد غلبَ على زِيَاد - وَكَانَ الشَّرَاب قد غلب عَليه - فَقيل لزياد: إِن هَذَا قد غلب عَلَيْك وَهُوَ مُستهترٌ بِالشرابِ فَقَالَ زِيَاد: كَيفَ بأطراح رجل هُوَ يُسايُرني؟ قد دخلت عَلَيْهِ الْعرَاق، فَلم يصك ركابي ركاباه وَمَا راكبني قطّ فَسَمت ركبتي ركبتُه وَلَا تقدمني فَنَظَرت إِلَى قَفاهُ، وَلَا تأخًّر عني فلويتُ عُنقي إِلَيْهِ، وَلَا أَخذ عَليّ الشمسَ فِي شتاءٍ قطّ، وَلَا الرَّوْح فِي صيف قطّ، وَلَا سألْتُه عَن علْمٍ إِلَّا ظنتُه لم يُحسن غيرَه. فَلَمَّا مَاتَ زِيَاد جفاهُ عبيد الله، فَقَالَ لَهُ حارثةُ: أَيهَا الأميرُ. مَا هَذَا الجَفاءُ. مَعَ معرفتك بإحلال عِنْد أبي المُغيرة؟ فَقَالَ لَهُ عُبيدُ الله: إِن أَبَا الْمُغيرَة كَانَ قد برع بُروعاً لَا يلحقُه معَهُ وَأَنا حَدَثٌ، وَإِنَّمَا أُنَسبُ إِلَى مَن تغلَّب علىَّ، وَأَنت رجلٌ تُديم الشَّرَاب، فَمَتَى قرَّبتُك، فظهرت رائحةُ الشَّرَاب مِنْك لم آمَن أَن يُظن بِي. فدع النَّبِيذ، وكُن أول دَاخل، وَآخر خَارج. فَقَالَ لَهُ حارثةُ: أَنا لَا أدَعُه لمن يملكُ ضري ونفعي. أفأدعُه للْحَال عنْدك؟ قَالَ: فاختر من عَمَلي مَا شِئْت. قَالَ: تُولِّيني رامهرمز فَإِنَّهَا أرضٌ عَذِيَة وسُرَّق وإنَّ بهَا شرابًا وصف لي عَنهُ فولاه إياهُ. وَفِيه قيل: أحُارِ بن بدر قد وَليت ولَايَة فكُن جُرذاً فِيهَا تَخُونُ وتَسْرِقُ. وَقَالَ زِيَاد: كفى بالبخيل عاراً أَن أُسَمِّهِ لم يَقع فِي حَمد قطٌّ، وَكفى بالجواد مجداً أَن اسمَه لم يَقع فِي ذمّ قطّ. وَكَانَ عبيدُ الله بن زِيَاد قد لج فِي طلب الْخَوَارِج، وحَبْسهم، وقتلهم، فكُلِّم(5/11)
فِي بَعضهم فَأبى وَقَالَ: أقمَعُ النِّفَاق قبْل أَن يُنجِمَ الكلامُ هولاً أسْرع إِلَى الْقُلُوب من النَّار إِلَى اليراع. وَقَالَ زيادٌ: المْحظُوظُ المغبوطُ. مَن طَال عمرُه، ورأي فِي عدوه مَا يُسرهُّ. وَقَالَ: مِلاكُ السُّلْطَان الشدةُ عل المُريب واللين للمُحْسن، والوفاءُ بالعهد، وصدقُ الحَدِيث. وَقَالَ عبيدُ الله بنُ زِيَاد: نعم الشَّيْء الإمارةُ لَوْلَا قعْقعَةُ الْبَرِيد، والتشرُّفُ للخُطب. وخطب بِالْبَصْرَةِ بعدَ موْت يزِيد فَقَالَ: يَا أهل الْبَصْرَة. انُسبوني، وَالله مَا مُهاجَرُ أبي إِلَّا إِلَيْكُم، وَمَا مَوْلدي إِلَّا فِيكُم، وَمَا أَنا إِلَّا رجلٌ مِنْكُم. وَالله لقد وَليَكُم أبي ومَا مُقاتِلتُكم إِلَّا أَرْبَعُونَ ألفا. وَلَقَد بَلغ بهَا ثَمَانِينَ ألفا. وَمَا ذُرِّيتُكُم إِلَّا ثَمَانُون ألفا. وَقد بلغ بهَا عشْرين وَمِائَة ألف. وَأَنْتُم أوسعُ النَّاس جِلادا، وأبعدُه مَقاداً، وَأَكْثَره جُنُودا، وأغنى النَّاس عَن النَّاس. انْظُرُوا رجُلاً تُولُّونه أمركمُ، يكُفُّ سُفهاءَكم، ويَجبْي فيْئكم، ويقسمُهُ بَيْنكُم، فَإِنَّمَا أَنا رجلٌ مِنْكُم. فَلَمَّا أبَوْا عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي أخافُ أَن يكون الَّذِي يَدْعوكُم إِلَى تأميري حداثةُ عهدٍ بأمْري. وَقَالَ زِيَاد: مَا أتيْتُ قطُّ مَجْلِسا إِلَّا تركتُ مَا لَو أخذتُه لَكَانَ لي. وترْكُ مَالِي أحَبُّ إِلَيّ من أَخذ مَا ليْس لي. وَقَالَ: مَا قرأتُ مثل كُتُب الرّبيع بن زِيَاد الْحَارِثِيّ؟ مَا كتب إِلَى كتابا إِلَّا فِي احتواء مَنْفَعَة، أَو دَفع مضرَّة، وَلَا كَانَ فِي موْكب قطُّ فَتقدم عنانُ من دَابَّته عنانَ دَابَّتي، وَلَا مست رُكبتُهُ رُكبتي، وَلَا شاورتُ إنْسَانا قد. فِي أَمر إِلَّا سبقهُ إِلَيّ بِالرَّأْيِ. لما بنى عُبيدُ الله بنُ زِيَاد البَيْضاءَ كتب رجلٌ على بَابهَا: شَيْء ونصفُ شي، وَلَا شَيْء: الشيءُ: مجهدان، ونصفُ شيءٍ: هد شَيْء أشما، وَلَا شَيْء: عبيْد الله بن زِيَاد فَقَالَ عُبيدُ الله: اكتُبوا إِلَى جنبه: لَوْلَا الَّذِي زعمْت أَنه لَا شَيْء، لما كَانَ ذَلِك الشيءُ شَيْئا وَلَا ذَاك النِّصفُ نصفا. وَلما وردَ الحارثُ بنُ قيس الجَهضمي بعبيد الله بن زِيَاد مَنزل مسْعود بن(5/12)
عَمْرو العَتكي من غير إِذن، وَأَرَادَ مسعودٌ إِخْرَاجه عَن منزله - قَالَ عبيدُ الله. قد أجَارتني ابنةُ عمِّك عَلَيْك، وعقدُها العقدُ الَّذِي لَا يُحَلّ، ويلزُمك وَهَذَا ثوبها عَليّ، وطعامُها فِي مَدَاخري وَقد ألْتَفَّ عَليّ منزلُها. وَشهد لهُ الحارثُ بذلك. وأشارُوا مَرةً على عبيد الله بالحقنّة فتفحشها، فَقَالُوا: إِنَّمَا يتولاها الطبيبُ. قَالَ: أَنا بالصاحب آنس. وَقَالَ زِيَاد: لَا يغُرنك من الْجَاهِل كثرةُ الالتفاف، وسرعةُ الْجَواب. قدم رجلٌ إِلَى زِيَاد، فأمرَ بضرْبه بالسياط، فَقَالَ: أسأَلُك بِحَق عُبَيد قَالَ: دَعوه إِلَّا يكُن والداً فقد كَانَ أَبَا. قدم زِيَاد فَخَطب خُطبةً أعجبت مَن حضرهُ، فَقَالَ عَمْرُو بنُ الْعَاصِ: للهِ أَبُو هَذَا {} لَو كَانَ قُرشيا لساق الْعَرَب بعصَاه. قَالَ أَبُو سُفيان: أمَا وَالله إِنِّي لأعرفُ أَبَاهُ، وَالَّذِي وضعَهُ فِي رحم أمِّه. فَقَالَ لَهُ عَليّ - عَلَيْهِ السَّلَام -: مَه يَا أَبَا سُفْيَان، فَإنَّك تعلم أَن عمَر إِلَيْك بالمساءَة سريعٌ. فَلَمَّا كَانَ زمنُ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَولي زيادٌ فارسَ تأوي إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ كَمَا تأوي الطير إِلَّا وُكُورها، وأيْمُ الله، إِنَّه لَوْلَا انتظاري بك مَا الله أعلم بِهِ، ولقلت كَمَا قَالَ العَبْد الصَّالح: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بجنودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بهَا ولنُخرْجَنَّهم مِنْهَا أَذِلَّة وهُمْ صاغرون. وَكتب فِي أسْفل كِتَابه شعرًا يَقُول فِيهِ: تَنْسَى أَبَاك وَقد خفَّتْ نعامتُه ... إِذا تخطبُ الناسَ والوَالي لنا عُمَرُ فَقَامَ زِيَاد فَخَطب، ثمَّ قَالَ: والعَجَبُ كُل العَجب أَن ابْن آكِلَة الأكباد، وَرَأس النِّفاق يُهددني وبيني وَبَينه ابنُ عمِّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَآله، وزوجُ سيِّدة نساءِ الْعَالمين، وَأَبُو السِّبْطين، وصاحبُ الوَلاء والمنزلة والإخاء: أمَا وَالله لَو يَأذنُ لي فِيهِ لوجَدني أحُمرَ مِحَشًّا ضَرْوباً بِالسَّيْفِ(5/13)
قَالَ: وَكتب إِلَى عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا كتب إِلَى معاويةُ، فَكتب إِلَيْهِ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. أما بعد فَإِنِّي وَليتك مَا وليتُك، وَأَنا أَرَاك لذَلِك أهْلاً. وَإنَّهُ قد كَانَت من أبي سُفيان فلتةٌ لزمان عُمر من أماني التيه. وَكذب الْيَقِين لم تستوجبْ بهَا مِيرَاثا، وَلم يسْتَحق بهَا نسبا. وَإِن مُعَاوِيَة يَأْتِي الرجل منْ بَين يَدَيْهِ من خَلفه، وَعَن يَمِينه وَعَن شِمَاله كالشيطان الرَّجِيم. فاحذَرْه ثمَّ احذرْه. والسلامُ. فَلَمَّا كَانَ زمنُ مُعَاوِيَة، وَقدم عَلَيْهِ زيادٌ جمعَ مُعاوية النَّاس، وَصعد الْمِنْبَر، وأصعدَ زياداً مَعَه، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أَيهَا الناسُ، إِنِّي قد عرفتُ شَبَهنا أهْلَ الْبَيْت فِي زِيَاد. فمَن كَانَت عِنْده شهادةٌ فليَقُمْ بهَا. فَقَامَ الناسُ، فشهدُوا أَنه ابنُ أبي سُفيان، وَأقر بِهِ قبل مَوته. ثمَّ قَامَ أَبُو مَرْيَم السلُولي - وَكَانَ خَماراً فِي الْجَاهِلِيَّة - فَقَالَ: أشْهدُ - يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ - أَن أَبَا سُفْيَان قدم علينا الطائفَ، فأناني فاشتريتُ لَهُ لَحْمًا، وخمراً، وَطَعَامًا. فَلَمَّا أكل قَالَ: يَا أَبَا مَرْيَم، أصبْ لنا بغياً. فخرجتُ أتيتُ سُمية فقلتُ لَهَا: إِن أَبَا سُفْيَان مَنْ قد عرفت شرفَه وحاله. وَقد أَمرنِي أنْ أُصِيب لَهُ بغياً، فَقَالَت لي: نعم يجيءُ الْآن عُبيدٌ من قبَلِ غنمه - وَكَانَ رَاعيا - فَإِذا تعشى، وَوضع رأسَه أتيتُه فرجعتُ إِلَى أبي سُفْيَان فأعلمتُه. فَلم تلبثُ أَن جَاءَت تجُرُّ ذيلَهَا، فَدخلت مَعَه، فَلم تزلْ عِنْده حَتَّى أصبحتْ فقلتُ لما انصرفتْ: كيفَ رأيتَ صَاحبتَك؟ فَقَالَ: خَيْر صَاحب لَوْلَا دَفرٌ فِي إبطَيْها. فَقَالَ زِيَاد منْ فَوق الْمِنْبَر: مَهُ يَا أباَ مريْمَ: لَا تشتمْ أُمَّهَات الرجالِ فتُشتَمَ أمكَ. ثمَّ قَامَ زِيَاد، وأنْصت الناسُ، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أَيهَا الناسُ: إِن مُعَاوِيَة والشهودَ قد قَالُوا مَا سمعتُم، ولستُ أَدْرِي حق هَذَا منْ باطله، وَهُوَ(5/14)
والشهودُ أعلمُ بِمَا قَالُوا: وَإِنَّمَا عبيدٌ أبٌ مبْرورٌ أَو والدٌ مشكور. ثمَّ نزل. وَقَالَ الشّعبِيّ: قَدم زيادٌ الكوفةَ فدنوْتُ من الْمِنْبَر لأسمعَ كلامَه فَلم أرَ أحدا يتكلمُ فيُحسن إِلَّا تمنيت أنْ يسكتَ مخافةَ أَن يُسيءَ غيرَ زِيَاد، فإنَّه كَانَ لَا يزدَادُ إكثاراً إِلَّا ازدادَ إحساناً. فَقَالَ بعد أَن حمدَ الله: إِن هَذَا الأمرَ أَتَانِي وَأَنا بِالْبَصْرَةِ، فأردتُ أَن أخُرجَ إِلَيْكُم فِي أَلفَيْنِ مِنْ شُرطِها. ثمَّ ذكرتُ أَنكُمْ أهلُ حقٍّ، وَأَن الحقّ طالما دَفعَ الباطلَ. فخرجتْ إِلَيْكُم أهل بَيْتِي. فَالْحَمْد لله الَّذِي رفع منَّا مَا وضع الناسُ، وَحفظ منا مَا ضيعوا. أَيهَا النَّاس: إِنَّا سُسنا وساسَنا السائسون، وجَرَّبْنا، وجربَنا المجَرِّبون، فَوَجَدنَا هَذَا الأمرَ لَا يُصلحُنه إِلَى شدّة من غير عُنف، ولينٌ فِي غير ضعف، فَلَا أعلمَنَّ أنَّا أغلقْنا بَابا ففتحتُموه، وَلَا حللْنا عَقْدا فشدَدتُموه. وَإِنِّي لَا أعدُكم خيرا وَلَا شرا إِلَّا وفيتُ بِهِ، فَإِذا تعلقتُم على بكذبة فَلَا ولَايَة لي عَلَيْكُم. وَإِنِّي آمُرُكم بِمَا آمُرُ بِهِ نَفسِي وَأَهلي فمَنْ حَال دون أَمْرِي ضربتُ عُنُقه. أَلا وَأَنِّي لَا أهْتكُ لأحد مِنْكُم سِتْراً، وَلَا أطلع منْ وَرَاء بَاب، وَلَا أقيلُ أحدا مِنْكُم عَثْرةً. قَالَ: فحَصبْوه من كل جَانب فجلَس على الْمِنْبَر حَتَّى سكتُوا وأمسكوا ثُم نَادَى الشَّرْط، فَأخذُوا بِأَبْوَاب الْمَسْجِد، وَألقى كُرسياً على بعض الْأَبْوَاب ثمَّ عَرضَ الناسَ أَرْبَعَة أَرْبَعَة يستحلفهُم، فَمن حلف أَنه لم يحصبه تَركه، وَمن أَبى حبَسَه. قَالَ: فَقطع يَوْمئِذٍ أَيدي ثَمَانِينَ إنْسَانا ممنْ لم يحلف. فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أوعدَ عمرُ بنُ الْخطاب فُعوفي وأوعدَ زيادٌ فابتُلي وَقَالَ أَيْضا: تشبه زيادٌ بعمرَ فأفْرط، وتشبه الْحجَّاج بِزِيَاد فأهْلك الناسَ. قَالَ زيادٌ لِابْنِهِ: إِذا دخلْتَ على السُّلْطان فادعُ لَهُ، ثمَّ اصفح عَنهُ صفْحاً جميلاً. وَلَا يَرينَّ فِيك تهالُكاً عَلَيْهِ وَلَا انقباضاً مِنْهُ.(5/15)
وَسمع رجلا يَدْعُو عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُول: اللهمَّ اعزلْ عَنَّا زيادا. فَقَالَ لَهُ: قل، وأبْدلْنا بِهِ خيرا مِنْهُ. وَقَالَ لِابْنِهِ عبيد الله عِنْد مَوته: لَا تدنِّس عرضْك، وَلَا تَبْذُلَّن وَجهك، وَلَا تُخْلقن جدتك بِالطَّلَبِ إِلَى مَنْ ردك كَانَ ردُّه عليْكَ، وإنْ قضَى، حاجتَك جعلَها عليْك مَنًّا. فَاحْتمل الفقرَ بالتنزُّه عَمَّا فِي يَد غَيْرك، والزم القناعةَ بِمَا قُسم لَك، فَإِن سُوء حمل الْفقر يَضعُ الشريف، ويُخْملُ الذِّكْر، ويُوجبُ الحرمانَ. قَالَ زِيَاد: يُعجُبني من الرجل إِذا أَتَى مَجْلِسا أنْ يعلمَ أيْنَ مكانُهُ منْه فَلَا يتعداه إِلَى غَيره، وَإِذا سيمَ خُطةَ خسف أنْ يَقُول: لَا، بملء فِيهِ.(5/16)
الْبَاب الثَّانِي كَلَام الْحجَّاج
خطب فَقَالَ: أَيهَا الناسُ. من أعْياه داؤه فعنْدي دَواؤه، وَمن اسْتبط أَجله، فعلى أنْ أعجِّله. ومَنْ ثَقْلَ عَلَيْهِ رأسُه وضَعْتُ عَنهُ ثِقلَه، وَمن استطال ماضي عمره قصرْتُ عَلَيْهِ باقيَهُ: إنّ للشيطانِ طيفاً، وللسُّلطان سَيْفاً، فَمن سَقمتُ سريرَتُه صحت عقوبتُه، ومَن وضعَه ذنُبه رفعهُ صَلُبه، ومَن لم تسَعْهُ العافيةُ لم تضق عَنهُ الهلكةُ. وَمن سبقتهُ بادرةُ فَمه سَبقَ بدنَهُ بسفك دَمه. إِنِّي أنذرُ ثمَّ لَا أنظرُ، وأحذِّر ثمَّ لَا أعْذِر، وأتوعَّد ثمَّ لَا أغْفِر. إِنَّمَا أفْسدكُم تَرْنيقُ ولانكمُ. ومَنْ استرخى لببُه سَاءَ أدبُه. إِن الحزم والعزم سلباً مني سَوْطِي، وأبدلاني بِهِ سَيفي، فقائمهُ فِي يَدي ونِجَادُه فِي عنقِي، وذُبابُه قلادةٌ لمَنْ عَصَانِي. وَالله لَا آمُر أحَدكم أَن يخرج من بَاب من أَبْوَاب الْمَسْجِد، فيخْرجَ من الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ إلاّ ضربتُ عُنُقه. وخبط لما أَرَادَ الْحَج، فَقَالَ: أَيهَا الناسُ. إِنِّي أريدُ الحجَّ، وَقد استخْلفتُ عَلَيْكُم ابْني. وأوصيتُه بخلافِ وَصِيَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَنْصَار، فإنَّه أمرَ أَن يُقبلَ منْ مُحسنهم، ويُتجَاوز عَن مُسيئهم: أَلا وَإِنِّي أوصيتُه أَلا يقبل من مُحسنكم، وَلَا يتَجَاوَز عَن مُسيئكم. أَلا وإنكُم سَتقولُون بعّدي: لَا أحْسن الله لَهُ الصِّحابة. أَلا(5/17)
وَإِنِّي مُعجِّلٌ لكم: لَا أحْسنَ الله عليكُم الخلافةَ. وَقَالَ الحجاجُ لأنس بن مَالك حِين دخل إِلَيْهِ فِي شأْن ابْنه عُبيد الله وَكَانَ خرج مَعَ ابْن الأشَعث - لَا مرْحَبًا وَلَا أهْلاً. لَعنه الله عَلَيْك منْ شيخ جَوَّالٍ فِي الْفِتَن، مرّة مَعَ أبي تُراب، وَمرَّة مَعَ ابْن الْأَشْعَث. وَالله لأقْلعنك قلْع الصمغة ولأعصبنّك عَصب السَّلَمة، ولأجردنَك جردَ الضبِّ. قَالَ أنسُ: مَنْ يَعْنِي الأميرُ؟ قَالَ: إياك أعْني. أحمَّ اللهُ مَدَاك. فَكتب أنس بذلك إِلَى عبد الْملك، فَكتب عبدُ الْملك إِلَى الْحجَّاج يَا بن المستفرمة بعَجم الزَّبِيب. لقد هممتُ بِأَن أرْكُلك ركْلةً تهوى مِنْهَا إِلَى نَار جَهنَّم. قَاتلك الله أخْيفش الْعَينَيْنِ، أصَكَ الرجلَيْن أسود الجاعرَتين. وخطب الْحجَّاج يَوْمًا فَقَالَ فِي خطبَته: وَالله مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَّا مثلُ مَا مَضى، وَلَهو أشبهُ بِهِ من المَاء بِالْمَاءِ. وَالله مَا أحبُّ أنَّ مَا مضى من الدُّنْيَا لي بعمامتي هَذِه. وَقَالَ على الْمِنْبَر يَوْمًا: وَالله لألحونكم لحوَ العصَا، ولأعصبنَّكُم عصب السَّلمة، ولأضْربنكم ضرب غرائب الْإِبِل. يأهل الْعرَاق، يَا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوي الْأَخْلَاق. إِنِّي سمعتُ لكم تَكْبِيرا لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُراد بِهِ اللهُ فِي التَّرْغِيب، وَلكنه التكبيرُ الَّذِي يُراد بِهِ الترهيبُ. وَقد عرفْنا أَنَّهَا عجَاجةٌ تحتهَا قصْفٌ. أَي بَني اللكيعة، وعبيدَ الْعَصَا، وأبناءَ الْإِمَاء. إِنَّمَا مَثلى ومثلكم مَا قَالَ ابنُ براقة الهمدَاني: وَكنت إِذا قومٌ غزوْني غزوتهم ... فَهَل أَنا فِي ذَا يَالَ هَمدَان ظالمُ؟(5/18)
مَتى تجمع الْقلب الذكي وصارماً ... وأنْفاً حميا تجتنْبك المظالمُ أما وَالله لَا تقْرعُ عَصاً عَصا إِلَّا جعلتُها كأمس الذَّاهب. قَالَ مالكُ بن دِينَار: رُبَّما سَمِعت الْحجَّاج يذكُر مَا صنع بِهِ أهلُ الْعرَاق، وَمَا صنَع بهم، فيقعُ فِي نَفسِي أَنه يظْلمُونه لبيانه، وَحسن تخلُّصه للحُجَج. وخطبَ الْحجَّاج مرّة فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَرِنِي الغي غياً فأجتنبَه، وَأَرِنِي الهُدي هدى فَأتبعهُ، وَلَا تكلْني إِلَى نفْسي فأضل ضلالا بَعيدا. وَالله مَا أحب أَن مَا مضى من الدُّنْيَا بعمامتي هَذِه، وَلما بَقِي مِنْهَا أشْبهُ بِمَا مضى من المَاء بِالْمَاءِ وخطب بعد دَير الجَماجم فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق. إِن الشَّيْطَان قد استبطنكم فخالط. اللحمَ والدمَ والعصب والمسامع، والأطراف، والأعضاء، والشغاف، ثمَّ أفْضى إِلَى الأمخاخ والأصْماخ، ثمَّ ارْتَفع فعَشش، ثمَّ باض ففرخ، فحشاكم نفَاقًا وشقاقاً، وأشعركم خِلَافه. اتخذتموهُ دَلِيلا تتبعُونه، وَقَائِدًا تُطيعونه، ومؤآمِراً تستشيرونه. فَكيف تنفعكُم تجربةٌ، أَو تعظكم وقعةٌ، أَو يحجزُكم إسلامٌ، أَو ينفعكم بَيَان؟ ألستُم أَصْحَابِي بالأهواز حَيْثُ رُمتم المكَر، وسعيتُم بالغدر، واستجمعتُم للكُفْر. وظننْتُم أَن الله يخذُلُ دينه وخلافته، وَأَنا أرمْيكُم بطرْفي، وَأَنْتُم تتسللُون لوَاذاً، وتنهزمون سِرَاعاً؟ ثمَّ يَوْم الزاوية، وَمَا يومُ الزّاوية {} بهَا كَانَ فشَلكم وتنازعكُمُ وتخاذُلكم وتجادُلكم، وبراءةُ الله مِنْكُم، ونكوص وَلِيكُم عَنْكُم، إذْ وليتُم كَالْإِبِلِ الشوارد إِلَى أوطانها، النوازع إِلَى أعطانها. لَا يسألُ المرءُ عَن أَخِيه، وَلَا يلوي الشيخُ على بَنيه، حِين عضكم السلاحُ، ووقصتْكم الرِّماحُ.(5/19)
ثمَّ دَير الجماجم، وَمَا ديُر الجمَاجم {} بهَا كَانَت المعارك والملاحمُ، بِضَرْب يُزيلُ الْهَام عَن مَقيله، ويْذْهل الْخَيل عَن خَلِيله. يَا أهل الْعرَاق. الكَفَرات بعد الفَجرات، والغَدرات بعد الخَتَرات، والنزْوة بعد النزوات {} إنْ بعثتكُم إِلَى ثُغوركم غلْلُتم وجَبْنتم، وَإِن أمنْتُم أرْجفْتم، وإنْ خِفْتُمْ نافقْتُم لَا تتذكرون حَسَنَة، وَلَا تشكرون نعْمَة. هَل استخفّكُم ناكثٌ أَو استغواكم غاو؟ أَو استفزكم عَاص، أَو استَنْصركم ظَالِم، أَو استعْضَدَ بكم خَالع إِلَّا تبعتُموه، وآويتموه ونصرتموه وزكّيتموه؟ يَا أهلَ الْعرَاق، هَل شغَبَ شاغب، أَو نعب ناعبٌ، أَو زفر كاذبٌ إِلَّا كنتُم أتباعَه وأنْصَاره؟ يَا أهل العراقِ، أَو لم تنهكُم المواعظُ، وَلم تزْجركم الوقائعُ؟ ثمَّ الْتفت إِلَى أهلِ الشَّام فَقَالَ: يَا أهل الشَّام: إِنَّمَا أَنا لكم كالظَّليم الرامح عَن فِراخه ينْفي عَنْهَا القَذَرَ، ويباعد عَنْهَا الحجرَ، ويَكنُّها من الْمَطَر ويحميها من الضِّباب، ويحرسُها من الذِّئاب. يَا أهل الشَّام، أنتُم الجُنة والرِّداء، وَأَنْتُم العُدّة والحذاءُ. هَذِه خطْبَة أُخْرَى قَالَ مالكُ بنُ دِينَار: غدَوتُ إِلَى الْجُمُعَة، فَجَلَست قَرِيبا من الْمِنْبَر، فصَعد الحجاجُ ثمَّ قَالَ: امْرُؤ زوَّر عملهُ، وامُرؤ حاسب نفْسَه، امْرُؤ فكر فِيمَا يَقْرَؤُهُ غَدا فِي صَحيفته، وَيَرَاهُ فِي مِيزَانه. امُرؤُ كَانَ عِنْد قلبه زاجرٌ، وَعند همه أمرٌ، أخذٌ بعنان قلبه كَمَا يأْخُذُ الرجل بخِطام. جَمَله، فَإِن قادهُ إِلَى طَاعَة الله تبعه، وَإِن قادَهُ إِلَى مَعْصِيّة الله كَفه. وَكَانَ يَقُول: إِنَّا وَالله مَا خُلقنا للفناء، وَإِنَّمَا خُلقنا للبقاء، وَلَكِن نُنقل من دَار إِلَى دَار. وخطب يَوْمًا فَقَالَ إِن الله أمَرنا بِطَلَب الْآخِرَة. وكفانا مئُونة الدُّنْيَا، فليتنا كُفينا مُونة الْآخِرَة، وأمِرْنا بِطَلَب الدُّنْيَا. فَقَالَ حسن: ضَالَّة الْمُؤمن خرجت من قلب الْمُنَافِق.(5/20)
وأهدي إِلَى عبد الْملك فرسا وَبغلة وَكتب إِلَيْهِ: وجهتُ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فرسا سهل الخدِّ، حسن القدِّ، يسبقُ الطّرف، ويستغرقُ الْوَصْف وَبغلة هَواهَا زمامُها وسوطُها. وَكَانَ يَقُول: الْعَفو عَن المُقرِّ لَا عَن المُصر. وَقَالَ: الكوفةُ امْرَأَة حسناءُ عَاطل، والبصرةُ عجوزٌ درداء، قد أُوتيت من كل شَيْء. وَقَالَ بَعضهم، سمعتُ الْحجَّاج يَقُول - وَقد أذن فَلم تَجْتَمِع إِلَيْهِ النَّاس -: يُدعى: حَيّ على الصَّلَاة، فَلَا تُجيبون. أمَا وَالله لَو دُعي: حَيّ على أَرْبَعَة دراهمَ لغص الْمَسْجِد بأَهْله. وَقَالَ ابنُ الكلْبيِّ عَن أَبِيه: قاتِل الحُسَين - عَلَيْهِ السَّلَام - قد دخل إِلَى الْحجَّاج فَقَالَ: أَنْت قتلت حُسيناً؟ فَقَالَ: نعم قَالَ: وَكَيف قتلتهُ؟ قَالَ: دَسَرْتُه بِالرُّمْحِ دَسْراً، وهبَرتُه بِالسَّيْفِ هبراً، ووكلتُ رأسَه إِلَى امرئٍ غير وكد. فَقَالَ الحجاجُ: وَالله لَا تجتمعان فِي الجَنة أبدا. فخرجَ أهلُ الْعرَاق يقولُون: صدَق الأميرُ. لَا يجتمعُ - وَالله - ابْن رَسُول وقاتله فِي الْجنَّة أبدا. وَخرج أهلُ الشَّام يَقُولُونَ: صدَق الْأَمِير. وَلَا يجْتَمع مَن شقّ عَصا الْمُسلمين، وَخَالف أميرَ الْمُؤمنِينَ، وقاتلهُ فِي طَاعَة الله - فِي الْجنَّة أبَداً. وَقَالَ يَوْمًا على الْمِنْبَر: يَقُول سليمانُ: ربّ اغفرْ لي وَهبْ لي مُلكاً لَا ينبَغي لأحد من بعدِي إِن كَانَ لَحَوداً. وَكتب إِلَى عبد الْملك كتابا يَقُول فِيهِ: كنتُ أَقرَأ فِي الصُحف، فانتهيتُ إِلَى قَوْله الله عزّم وَجل: فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعمَ اللهُ عَلَيْهِم من النَّبِيين والصِّدِّيقين والشُّهدَاء وَالصَّالِحِينَ فأردتُ أَن أزيدَ فِيهَا: وَالْخُلَفَاء قَالَ. فَجعل عبد الْملك يَقُول: مَا للحجاج {} قاتلهُ اللهُ. وَقَالَ لَهُ بعضُ وُلَاة الْحجاز: إِن رَأْي أميرُ الْمُؤمنِينَ أَن يستهديني مَا شاءَ فليَفعل.(5/21)
قَالَ: أستهديك بغلة على شَرْطي. قَالَ: وَمَا شَرْطُك؟ قَالَ: بغلةٌ قصير شعْرُها، طويلٌ عِنانُها، همُّها أمامَها، وسوطُها لجامُها، تستبينُ فِيهَا العلفة، وَلَا تهزلها الرّكْبَة. وَقَالَ يَوْمًا لجلسائه: مَا يُذهبُ الإعياءَ؟ فَقَالَ بَعضهم: التمرُ. وَقَالَ آخر: التمزح وَقَالَ آخر: النومُ. قَالَ: لَا، وَلَكِن قضاءُ الْحَاجة الَّتِي أعْيَا بِسَبَبِهَا. أَتَى بدواب لِابْنِ الْأَشْعَث، فَإِذا سماتُها عدةٌ، فَوسَم تَحت ذَلِك للفرار. كتب الحجاجُ إِلَى قُتَيْبَة: لَا تهجنن بلاءَ أحد من جُندك وَإِن قل، فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك لم يرغب أحدٌ مِنْهُم فِي حُسْن البلاءِ. وأعْط الَّذِي يَأتيك بِمَا تكره صَادِقا مثل الَّذِي يأْتيك بِمَا تحبُّ كَاذِبًا، فَإنَّك إِن لم تفعل غرُّوك وَلم يأْتوك بِالْأَمر على وَجهه. واعلمْ أَنه لَيْسَ لمكذوبٍ رأيٌ، وَلَا فِي حسود، حِيلَة. وَقَالَ لكَاتبه: لَا تجعلن مَالِي عِنْد من لَا أَسْتَطِيع أَخذه مِنْهُ. قَالَ: ومَنْ لَا يَسْتَطِيع الأميرُ أَن يَأْخُذهُ مِنْهُ؟ قَالَ: المُفلس. وَكتب الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَيْهِ يأْمُره أَن يكْتب إِلَيْهِ بسيرته. فَكتب إِلَيْهِ: إِنِّي قد أيقظت رَأْيِي، وأنمت هواي، فأدنيت السيِّدَ المطاع فِي قومه، وَوليت الْحَرْب الحازمَ فِي أمره، وقلدت الْخراج الموفِّر لأمانته، وَقسمت لكل خصْم من نَفسِي قسْماً أعْطِيه حظاً منْ نَظَرِي، ولطيف عنايتي، وصرفت السَّيْف إِلَى النِطف. الْمُسِيء وَالثَّوَاب إِلَى المُحسن البريء، فخاف المُريب صولة الْعقَاب. وَتمسك المحسن بحظِّه من الثَّوَاب. وَقَالَ: لأطلبن الدنْيا طلب من لَا يَمُوت أبدا ولأنفقَنَّها كمَنْ لَا يعِيش أبدا. وخطب فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق: إِن الفتْنة تلْقح بالنجْوى، وتنبَح بالشكْوى، وتحْصدُ بِالسَّيْفِ. أمَا وَالله لقد أبغضتموني فَمَا تضرُّونني، وَلَئِن أحبَبْتموني مَا تنفعونني. وَمَا أَنا بالمُسْتوحش لعدَاوتكم، وَلَا المُسْتريح إِلَى مودتكم. زعمتم أَنِّي ساحرٌ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: وَلَا يفلح الساحرُ حَيْثُ أَتَى. وزعمتم أَنِّي أحسن الاسْمَ الأكبرَ. فلمَ تقاتلون من يعلم مَا لَا تعْلمون؟ ثمَّ الْتفت إِلَى أهل الشَّام، فَقَالَ: لأرواحُكم أطْيبُ منْ المسكِ، ولدنوُّكُم أنُس من الْوَلَد. وَمَا مثلكُم(5/22)
إِلَّا كَمَا قَالَ أخُو ذُبيان. إِذا حاولتَ فِي أَسد فُجورا ... فَإِنِّي لستُ مِنْك وَلست منِّي هُمُ دِرْعِي الَّتِي استلاهتُ فِيهَا ... إِلَى يَوْم النِّار وهمْ مِجَنِّي ثمَّ قَالَ: يَا أهل الشَّام، بل أنتُم كَمَا قَالَ الله عز وَجل: وَلَقَد سبقتْ كلمتُنا لعبادِنا المُرْسلين. إنَّهمْ لَهُم المنصورون. قَالَ بعضُهمْ: رأيتُ الْحجَّاج وعنبسة بنَ سعيد واقفَيْن على دجْلة. فَأقبل الحجاجُ، وَقَالَ عنبسةُ، إِذا كنتَ فِي بلد يضعُفُ سلطانُه، فاخرجْ عَنهُ، فَإِن ضعْف السُّلْطَان أضرُّ على الرّعية منْ جُوده. وَكَانَ يقُول: خيرُ المعْروف مَا نعشتَ بِهِ عثرات الْكِرَام. وَمِمَّا كفَّره بِهِ الفقهاءُ قولهُ: والناسُ يطُوفونُ بِقَبْر رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - ومنبره إِنَّمَا يطُوفُون بأعْوادٍ ورِمَّة. وَقَالَ يَوْمًا: وَالله إِن طَاعَتي أوجبُ من طَاعَة الله، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: " فتقُوا الله مَا استطعتُم فَجعل فِيهِ مثنويةً، وطاعتي لَا مثنوية فِيهَا. وَضرب رجلا فَقَالَ: اعتديت أيُّها الأميرُ. فَقَالَ: فَلَا عُدْوان إِلَّا على الظَّالِمين. وقف رجل لَهُ فَقَالَ: أصْلحَ اللهُ الأميرَ، جنى جَانٍ فِي الْحَيّ، فأُخذتُ بجريرته، وأسْقط عطائي. فَقَالَ: أمَا سَمِعت قَول الشَّاعِر: جانيك من يجني عَلَيْك وَقد ... تُعْدى الصِّحاحَ مباركُ الجرب ولُرب مأْخوذ بذنب صديقه ... وَنَجَا المُقارِفُ صاحبُ الذنبِ فَقَالَ الرجل: كتابُ الله أولى مَا اتّبع. قَالَ الله تَعَالَى: مَعاذَ الله أَن نأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا متاعَنا عِنْده. فَقَالَ الحجاجُ: صدقت. وأمَر بردِّ عطائه.(5/23)
وَقيل لَهُ - وَقد احتُضر -: أَلا تَتُوبُ؟ فَقَالَ: إِن كَانَت مُسيئاً فليسَت هَذِه ساعةَ التَّوبة، وَإِن كنتُ مُحْسناً فليستْ سَاعَة الْفَزع. لما نصبَ المنجنيق على الكَعْبةِ جَاءَت نارٌ فأحرقتِ المنجنيقَ، وامتنعَ أَصْحَابه مِن الرّيّ، فَقَالَ الحجاجُ: إِن ذَلِك نَار القربان دلتْ على أَن فعلكم مُتقبَّل. وَقَالَ على الْمِنْبَر: اقطَعوا هَذِه الأنْفسَ فَإِنَّهَا اسْأَل شيءٍ إِذا أعطيتْ، وأعصي شيءٍ إِذا سُئِلت. فرحمَ الله امْرأ جعل لنَفسِهِ خطاماً وزماماً، فقادَها بخطامها إِلَى طَاعَة الله، وعطفها بزمامها عَن مَعصية الله، فَإِنِّي رَأَيْت الصبرَ عَن مَحَارمه أيسر من الصَّبْر على عَذَابه. وَكَانَ يَقُول: إنّ امْرأ أتتْ عَلَيْهِ ساعةٌ من عُمُره لم يذكر ربه، وَلم يستغْفر من ذَنبه، أَو يفكر فِي معَاده. لجديرٌ أنْ تطول حَسرته يومَ الْقِيَامَة. لما قتل الْحجَّاج عبدَ الله بن الزُّبير ارتجتْ مَكة بالبكاء، فأمرَ الْحجَّاج بِالنَّاسِ، فجمعُوا إِلَى الْمَسْجِد، ثمَّ صَعدّ المنبرَ، فَحَمدَ الله وأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: يَا أهل مَكَّة. بَلغنِي إكْباركم واستفْظاعُكم قتل ابْن الزُّبير. أَلا وَإِن ابْن الزبير، كَانَ منْ أخُيار هَذِه الْأمة، حَتَّى رغب فِي الْخلَافَة، وَنَازع فِيهَا أهْلها، فَخلع طَاعَة الله، واستكنَّ بحرَم الله. وَلَو كَانَ شيءٌ مَانِعا للعُصاة لمنعتْ آدمَ حُرْمَة الْجنَّة، لِأَن الله تَعَالَى خلقه بِيَدِهِ، وَنفخ فِيهِ من روحه، وأسجَدَ لَهُ مَلَائكَته، وأباحه جنته، فَلَمَّا أَخطَأ أخرجَه من الْجنَّة بخطيئته. وآدَم على الله تَعَالَى أكُرمُ من ابْن الزبير، وَالْجنَّة أعظُم حُرْمَة من الْكَعْبَة. فاذكُروا الله يذْكرْكم. وَصعد الْمِنْبَر بعد قَتله ابْن الزّبير مُتلثِّماً، فحطَّ. اللِّثامَ عَنهُ، ثمَّ قَالَ: مَوْجُ ليلٍ الْتَطَمْ ... فانجلي بضوء صبحه يَا أهل الْحجاز. كَيفَ رَأَيْتُمُونِي؟ ألم أكشف ظلْمة الْجور، وطخية الْبَاطِل(5/24)
بِنور الْحق. وَالله لقد وطئكم الْحجَّاج وَطْأَة مُشْفق، عطفتْه رحمٌ، ووصْل قرَابَة. فإياكم أنْ تنزلُّوا عنْ سَنن مَا أقمناكم عَلَيْهِ، فأقطعَ عَلَيْكُم مَا وصَلْتُه لكم بالصارم البتَّات وأقيمَ من أوَدكم مَا يُقيم المُثقِّف من أوَد القنا بالنَّار. هَا إِلَيْكُم. ثمَّ نزل وَهُوَ يَقُول: أَخُو الْحَرْب إِن عضَّتْ بِهِ الحربُ عَضَّها ... وإنْ شمَّرتْ عَن سَاقهَا الحربُ شمرا. وخطب ذَات يَوْم فَقَالَ: إِنَّه وَالله مَا لكم عِنْدِي بُلهنيةٌ وَلَا رُفَهْنيةٌ، وَلَا رَبَغٌ عَن التحلية. وَلَا أَقُول لمن عثر مِنْكُم: دعْ. دعْ. وَلَكِن تعساً لِلْيَدَيْنِ وللفمِ. قَالَ الْحجَّاج لرجل من أهل الشَّام. وَقد أتِىَ بِرَجُل: قُم فاضربْ عُنقه فَقَالَ: أصلح الله الأميرَ، ولي نصْف أجرِه؟ فَقَالَ الحجاجُ: مَا أهمُّ بِأَمْر أَرْجُو فِيهِ القُربة والزُّلفة إِلَّا نازعنيه شاميٌّ. اضْرِب عنقهُ، وَلَك ثلثُ أجره. كَانَ الحجاجُ إِذا استغْرب ضحِكاً وَإِلَى بَين الاستغفارِ. وَكَانَ إِذا صعد الْمِنْبَر تلفَّعَ بمِطرَفه، ثمَّ تكلَّم رويداً فَلَا يكادُ يُسمعُ مِنْهُ، ثمَّ يتزيَّدُ فِي الْكَلَام حَتَّى يُخرج يَده مِن مطْرَفة يزجرُ الزْجرة فيقرعُ بهَا أقْصَى مَنْ فِي الْمَسْجِد. وَكَانَ يُطْعُم فِي كلِّ يَوْم على ألف مائدة، على كل مائدة ثريدٌ وجَنب من شوَاء، وسمكةٌ طريةٌ. ويطافُ بِهِ فِي مِحَفَةٍ على تِلْكَ الموائد ليفتقدَ أُمُور النَّاس، وعَلى كل مائدة عشرةٌ. ثمَّ يَقُول: يَا أهل الشَّام. كسرْوا الخُبز لِئَلَّا يُعادَ عليكُم. وَكَانَ لَهُ ساقيان: أحدُهما يسْقِي المَاء والعسلَ، وَالْآخر يسْقِي اللَّبن. يروي عَن مُحَمَّد بن المُنتشر الْهَمدَانِي، قَالَ: دفع إِلَى الْحجَّاج أزادْ مُرْد بن الهربذ وَأَمرَنِي أَن أستخرج مِنْهُ، وأُغلِظَ لَهُ. فَلَمَّا انْطَلَقت بِهِ قَالَ لي: يَا محمدُ. إِن لَك شرفاً وديناً، وَإِنِّي لَا أُعْطى على القسْر شَيْئا، فاستأْذِني، وارفُق بِي. قَالَ: فَفعلت. قَالَ: فأدّى إِلَيّ فِي أُسْبُوع خمْسَمائة ألف. قَالَ: فَبلغ ذَلِك الْحجَّاج، فأغضبَه، انتزعَه من يَدي، وَدفعه إِلَى رجل كَانَ يتَوَلَّى لَهُ الْعَذَاب، فدق يَدَيْهِ برجليه، وَلم يعطهم شَيْئا.(5/25)
قَالَ مُحَمَّد بن المُنتشر: فَإِنِّي لأُمرُّ يَوْمًا فِي السُّوق إِذا صائح بِي: يَا محمدُ. فالتفتُّ فَإِذا بِهِ معُروضاً على حمَار، مَوْثوقَ الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ فخِفْتُ الْحجَّاج إِن أتيتُه، وتذممت مِنْهُ. فملت إِلَيْهِ فَقَالَ لي: إِنَّك وليت منِّي مَا ولي هَؤُلَاءِ. فَرَفَقْت بِي فأحسنت إِلَيّ، وَإِنَّهُم صنعُوا بِي مَا ترى، وَلم أعْطهم شَيْئا. وَهَا هُنَا خَمْسمِائَة ألف عِنْد فلَان. فَخذهَا، فَهِيَ لَك. قَالَ: فَقلت: مَا كنت لآخذ مِنْك على معروفٌ أجْراً، وَلَا لأرزأك على هَذِه الْحَال شَيْئا. قَالَ: فَأَما إِذا أَبيت فاسمع أحدِّثك: حَدثنِي بعض أهل دينك عَن نبِّيك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا رضى الله عَن قوم أمْطرهم المطرَ فِي وَقته، وَجعل المَال فِي سُمحَائهم، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم خيارهم، وَإِذا سَخِط الله على قوم اسْتعْمل عَلَيْهِم شرارهم، وَجعل المَال عِنْد بخلائهم، وأمطرَ المطرَ فِي غير حِينه. قَالَ: فَانْصَرَفت، فَمَا وضعت ثوبي حَتَّى أَتَانِي رَسُول الْحجَّاج يأْمرني بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ. فَأَلْفَيْته جَالِسا على فرْشه. وَالسيف مُنْتضي فِي يَده. فَقَالَ لي: ادْن. فدنوت شَيْئا، ثمَّ قَالَ: ادْن. فدنوت شَيْئا. ثمَّ صَاح الثَّالِثَة: ادْن. لَا أبالك {} فَقلت: مَا بِي إِلَى الدُّنوِّ من حَاجَة. وَفِي يَد الْأَمِير مَا أرى. فأضحك الله سنه، وأغمد عني سيْفه. فَقَالَ لي: اجلسْ. مَا كَانَ من حَدِيث الْخَبيث؟ . فَقَالَت لَهُ: أيُّها الأميرُ. وَالله مَا غششتُك مُنْذُ استنصحتني، وَلَا كذبتك مُنْذُ اسْتخبرْتني، وَلَا خنتك مُنْذُ ائتمنتني. ثمَّ حّدثتُه الحَدِيث. فَلَمَّا صرت إِلَى ذكر الرجل الَّذِي المَال عِنْده أعْرض عنِّي بِوَجْهِهِ، وأوْمأ إِلَيّ بِيَدِهِ. وَقَالَ: لَا تسمِّه. ثمَّ قَالَ: إنّ للخبيث نفسا، وَقد سمع الْأَحَادِيث {} روى عَن عبد الْملك بن عُمير اللَّيْثي قَالَ: بيْنا أَنا جَالس فِي الْمَسْجِد الْجَامِع بِالْكُوفَةِ إِذا أَتَانِي آتٍ، فَقَالَ: هَذَا الحجّاج قد قدم أَمِيرا على الْعرَاق، فَإِذا بِهِ قدْ دخل الْمَسْجِد مُعُتماً بعمامة قد غطى بهَا أَكثر وَجْهه، مُتقلِّداً سيّفاً، متنكباً قوساً،(5/26)
ويؤم الْمِنْبَر. فَقَامَ الناسُ نَحوه، حَتَّى صَعد المنبرَ فَمَكثَ سَاعَة لَا يتَكَلَّم. فَقَالَ الناسُ بَعضهم لبَعض: قبح الله بني أُميَّة حَيْثُ يستعملون مثل هَذَا على العَراق. حَتَّى قَالَ عميْر بن ضابئ البُرجُمي: أَلا أحصبُه لكم؟ قَالُوا: أمْهل حَتَّى ننظرَ. فَلَمَّا رأى عُيُون النَّاس إِلَيْهِ حَسَر اللثامَ عَن فَمه، ونهض فَقَالَ. أَنا ابنُ جَلا وطلاعُ الثنايا ... مَتى أضعِ العِمامَةَ تَعرفوني؟ وَالله يَا أهل الْكُوفَة، إِنِّي أرى رؤساً قد أينْعت، وحان قطافها، وَإِنِّي لصاحُبها كَأَنِّي أنظرُ إِلَى الدِّماء بيْن العَمائم واللِّحىَ: هَذَا أوَانُ الشدِّ فاشتدِّي زِيَمْ ... قد لفها اللَّيْل بسَوِّاقٍ حُطمْ لَيْسَ براعِي إبلٍ وَلَا غنمْ ... وَلَا بجَزَّارٍ على ظهْرِ وَضَمْ قد لفها اللَّيْل بعصلبِيٍّ ... أروعَ خّرَّاجٍ من الدَّوى مهَاجر لَيْسَ بأعرابي قد شمرت عَن سَاقهَا فشّدوا ... وجدَّتِ الحربُ بكمْ فجِدُّوا والقوسُ فِيهَا وتَرٌ عَرُدُّ ... مثل ذِرَاع الْبكر أَو أشدُّ إِنِّي - وَالله - يَا أهل الْعرَاق، مَا يقعْقع لي بالشِّنان، وَلَا يغمز جَانِبي كغمزْ التِّين، وَلَقَد فُرِرتُ عَن ذكاء، وفتِّشت عَن تجْربة. وَإِن أميرَ الْمُؤمنِينَ نثر كِنَانَته، فعجمَ عيدانها عوداً عُوداً، فوجدني أمَرَّها عُوداً وأصلبها مكسراً، فرماكم بِي، لأنكم طالما أوْضعتم فِي الْفِتْنَة واضطجعتم فِي الضَّلَالَة. وَالله لأحْزمنكم حزم السلمة، ولأضربنّكم ضرْب غرائب الْإِبِل، فَأنْتم لكلٍّ أهلٌ. إِنَّمَا أَنْتُم أهلُ قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنةً يَأْتِيهَا رِزُقُها رغداً من كلِّ مكانٍ فكفرتْ بأَنُعمِ اللهِ فأذاقَها(5/27)
الله لباسَ الجُوعِ والخَوْف بِمَا كَانُوا يصنعُون وَإِنِّي - وَالله - مَا أَقُول إِلَّا وفَّيْتُ، وَلَا أهُم إِلَّا أمْضيت، وَلَا اخلق إِلَّا فَرَيْتُ. وَإِن أميرَ الْمُؤمنِينَ أَمرنِي بإعطائكم، وَأَن أوَجِّهكم لمحاربة عدوِّكم مَعَ المُلهب بن أبي صفرَة. وَإِنِّي أقسم بِاللَّه لَا أجد رجلا تخلف بعد إِعْطَائِهِ ثَلَاثَة إِلَّا ضربت عُنُقه. يَا غُلَام: اقْرَأ عَلَيْهِم كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَرَأَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: من عَبْدِ الْملك بن مرْوان أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى مَن بالكوفةِ من الْمُسلمين. حَتَّى قَالَ إِلَيّ سلامٌ عليكمْ فَلم يقلْ أحدٌ شيْئاً. فَقَالَ الْحجَّاج: أكْفف يَا غُلَام. ثمَّ أقبل على النَّاس، فَقَالَ: أيسلِّم عليكُم أميرُ الْمُؤمنِينَ فَلَا تَردُونَّ عَلَيْهِ السَّلَام؟ هَذَا أدّبُ ابْن أدّية. أما. وَالله لأؤَدِّبنكُم غير هَذَا الْأَدَب، أوْ تسْتقيمُن. اقْرَأ يَا غُلَام كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَرَأَ. فَلَمَّا بلغ إِلَى قَوْله: سَلام عَلَيْكُم لم يبْق فِي الْمَسْجِد أحدٌ إِلَّا قَالَ: وعَلى أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّلَام، ثمَّ نزل. فَوضع للنَّاس أعطياتهم، فَجعلُوا يأْخذون، حَتَّى أَتَاهُ شيخٌ يرعَش - كبَراً، فَقَالَ: أيُّها الْأَمِير: إِنِّي فِي الضعْف على مَا ترى، ولي ابنٌ هُوَ أقوى مني على الْأَسْفَار. أفتقبله منِّي بديلاً؟ قَالَ: نَفْعل أيُّها الشَّيْخ. فَلَمَّا ولي قَالَ لَهُ قائلٌ: هَذَا ابْن ضابئ البرجمي الَّذِي يَقُول أَبوهُ:(5/28)
هَمَمْتُ وَلم أفعلْ وكِدْتُ وَليْتَنِي تركت على عُثْمَان تبْكي حَلائله. وَدخل هَذَا الشَّيْخ على عُثْمَان مقتولاً، فوطئ بَطْنه، وكسَر ضلعين من أضلاعه. فَقَالَ: ردُّوه. فَلَمَّا: رُدَّ. قَالَ أيُّها الشَّيْخ: هلا بَعثْتَ يَوْم الدَّار فيرتحل، ويأْمر وليه أَن يلحَق بِهِ. فَفِي ذَلِك يَقُول ابْن الزَّبير الْأَسدي: تجهزْ فإمَّا أَن تزور ابْن ضابئ عُمَيْرًا وَإِمَّا أَن تزور المهلبا. وَكتب إِلَى الْوَلِيد بعد وَفَاة أَخِيه مُحَمَّد بن يُوسُف: أخبر أميرَ الْمُؤمنِينَ - أكرمَه الله - أَنه أُصِيب لمُحَمد بن يُوسُف خَمْسُونَ وَمِائَة ألف دِينَار، فَإِن يكن أَصَابَهَا من حلِّها فرحمه الله، وَإِن تكن من خِيَانَة فَلَا رَحْمَة الله. فَكتب إِلَيْهِ الْوَلِيد: أما بعد. فقد قَرَأَ أميرُ الْمُؤمنِينَ كتابك فِيمَا خلف محمدُ بن يُوسُف، وَإِنَّمَا أصَاب ذَلِك من تِجَارَة أحللناها لَهُ فترحم عَلَيْهِ، رَحمَه الله. وَكتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك: بَلغنِي أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عطسَ عطسة فشمته قومٌ. فَقَالَ: يغفُر الله لنا وَلكم. فيا لَيْتَني كنت مَعَهم. فأفوز فوزاً عَظِيما. ووفدَ مرّة على الْوَلِيد، فَقَالَ لَهُ الوليدُ - وَقد أكلا -: هَل لَك فِي الشَّرَاب؟ قَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ: لَيْسَ بِحرَام مَا أحللته، وَلكنني أمنع أهل عَمَلي مِنْهُ، وأكره أَن أُخَالِف قَول العَبْد الصّالح: وَمَا أريدُ أَن أخالِفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ فإعفاء. جلس الْحجَّاج لقتل أَصْحَاب ابْن الْأَشْعَث، فَقَامَ إِلَيْهِ رجلٌ مِنْهُم، فَقَالَ: أصلحَ الله الأميرَ. إِن لي عَلَيْك حَقًا. قَالَ: وَمَا حقُّك؟ قَالَ: سَبَّك عبدُ الرَّحْمَن يَوْم فَرددت عَلَيْهِ. فَقَالَ: من يعلُم ذَلِك؟ قَالَ: أنْشُدُ الله رجلا سّمع ذَلِك إِلَّا شهد بِهِ. فَقَامَ رجل من الأُسراء، فَقَالَ: قد كَانَ ذَلِك أيُّها الْأَمِير. قَالَ: خلُّوا عَنهُ. ثمَّ قَالَ: للِشَّاهدِ: فَمَا مَنعك أَن تنكرَ كَمَا أنكرَ؟ فَقَالَ: لقديم بغضي إياك. قَالَ: ولْيُخلَّ أَيْضا عَنهُ لصدقه.(5/29)
وَكَانَ يَقُول: البُخل على الطَّعَام أقبحُ من البرص على الْجَسَد. وَلما أتَى الْحجَّاج الْبَصْرَة، وَندب النَّاس إِلَى محاربة الْخَوَارِج، واللَّحاق بالمهلب كَانَ عَلَيْهِم أَشد إلحافاً، وَقد كَانَ أَتَاهُم خبرهُ بِالْكُوفَةِ، فتحمَّل الناسُ قبل قدومه. فُيرى عَن بَعضهم أَنه قَالَ: إنّا لنتغدى مَعَه إِذا جَاءَهُ رجلٌ من بني سليم بِرَجُل يقودُه، فَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير. إِن هَذَا عاصٍ. فَقَالَ لَهُ الرجل. أنْشُدُك الله أَيهَا الأميرُ فِي دَمى، فوَاللَّه مَا قبضتُ ديواناً قطٌّ، وَلَا شهِدت عسكراً، وَإِنِّي لحائكٌ أخِذت من تَحت الحُفٍ. فَقَالَ: اضربوا عُنُقه. فَلَمَّا أحس بِالسَّيْفِ سَجَد، فَلحقه السَّيْف - وَهُوَ ساجد - فأمسكنا - عَن الْأكل فَأقبل علينا الْحجَّاج، فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُم صَفرت أَيْدِيكُم واصفرَّت وُجُوهكُم، وحَدَّ نظرُكم من قتلِ رجُل وَاحِد؟ إِن العَاصِي يجمع خلالا تُخِلُّ بمركزه، ويعصي أميره، ويَغُرُّ الْمُسلمين، وَهُوَ أجِيرٌ لكم، وَإِنَّمَا يَأْخُذ الْأُجْرَة لما يعْمل، والوالي مُخَّير فِيهِ إِن شَاءَ قَتله وَإِن شَاءَ عَفا. ثمَّ كتب الْحجَّاج إِلَى الْمُهلب. أما بعدُ، فَإِن بشرا رَحمَه الله استكرهَ نفسَه عَلَيْك، وأراك غناءَه عَنْك. وَأَنا أريك حَاجَتي إلْيك فأربي الْجد فِي قتال عدوِّك. ومَن خفته على الْمعْصِيَة مِمَّن قبلك فاقتله، فَإِنِّي قَاتل مَن قبَلي. ومَن كَانَ عِنْدِي من وَلي مَن هرب عَنْك فَأَعْلمنِي مَكَانَهُ، فَإِنِّي أرى أَن أخُذ السمِي بالسمي وَالْوَلِيّ بالوليِّ. فَكتب إِلَيْهِ المهلبُ لَيْسَ قبلي إِلَّا مطيعٌ، وإنَّ الناسَ إِذا خافُوا الْعقُوبَة كبَّرْوا الذَّنب، وَإِذا أمنُوا الْعقُوبَة صغَّرُوا. الذَّنب، وَإِذا يئسوا من العَفْو أكُفرَهُم ذَاك. فهبْ لي هَؤُلَاءِ الَّذين سمَّيتهم عصاةً فإنهْمُ فريقان: أبطالٌ أرجُو أنْ يقْتل الله - عز وَجل - بهم العدوَّ، ونادمٌ على ذنْبه. وَصعد الْمِنْبَر بعد موتِ أَخِيه أَو ابْنه. فَقَالَ: يَقُولُونَ: مَاتَ ويموتُ الْحجَّاج. فمذ كَانَ مَاذا؟ واللهِ مَا أرجُو الخيرَ كُله إِلَّا بعد الموتِ. واللهُ مَا رَضِي الله(5/30)
البقاءَ إِلَّا لأهونِ خلقه عَلَيْهِ: إبليسَ، إِذْ قَالَ: رب فأنْظِرْني إِلَى يومِ يُبْعثون. قَالَ فَإنَّك مِن المنظرِين. وَقَالَ لمعلِّم وَلَده: علِّم وَلَدي السباحة قبل الْكِتَابَة، فَإِنَّهُ يجدُون من يكتُب عنهُمْ وَلَا يَجدونَ من يسْبَحُ عَنْهُم. وَسَأَلَ غُلَاما فَقَالَ لَهُ: غُلام مَن أَنْت؟ قَالَ: غُلامُ سيِّد قيْس. قَالَ: ومَن ذَلِك؟ قَالَ: زُرارةُ بن أوْفى قَالَ: كَيفَ يكونُ سيِّداً وَفِي دَاره الَّتِي ينزلها سُكانٌ؟ قطع ناسٌ من بني عمْرو بن تَمِيم وحَنظلة الطَّرِيق على قوم زمن الْحجَّاج. فَكتب إِلَيْهِم: أما بعدُ: فَإِنَّكُم استبحتُمْ الفِتنة، فَلَا عَن حقٍّ تقاتِلُون، وَلَا عَن مُنكر تَنْهون. وأيمُ الله إِنِّي لأهمُّ أَن تكُونُوا أول من يرد عَلَيْهِ مِن قبلي مَن ينسفُه الطارِفَ والتالِدَ، ويُخلِّي النساءَ أيَامي، والصِّبيان يتامى فأيما رُفقه مرّت بِأَهْل ماءٍ، فأهلُ ذَلِك المَاء ضامنُون لَهَا حَتَّى تصيرَ إِلَى المَاء الَّذِي يَلِيهِ. تقدمةً مني إِلَيْكُم. والسعيد مَن وُعظ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ بَعضهم: ارجُ نفسَك، واحقن دمَك، فَإِن الَّذِي بَين قَتلك وَبَيْنك أقصر منْ إِبْهَام الحباري. قَالُوا: قدم الحجاجُ الْمَدِينَة، فَفرق فيهم عشرَة آلَاف دِينَار، ثمَّ صعدَ الْمِنْبَر فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة: أَنْتُم أوْلى مَنْ عذر، فو الله مَا قدمُنا إِلَّا على قلائصَ حَراجيجَ شُنَّربٍ، مَا تُتابَع، مَا تلْحقُ أرْجلُها أيدَيها، وأنتُم أوْلى مَن عذر. فَقَامَ عبد الله بن عمار الديلِي فَقَالَ: لَا عذر اللهُ مَنْ يعذرُك، وأنْت ابنُ عَظِيم القريتين. وأمير العراقين. إِلَى مَتى؟ وَحَتَّى مَتى؟ فَنزل الْحجَّاج فعين مَالا كثيرا بِالْمَدِينَةِ، وفرقه فِي النَّاس. خطب ذَات يَوْم بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق. وأتيتكُم وَأَنا أرْفُل فِي لِمتي، فَمَا زَالَ شقاقُكُم حَتَّى اخضر شعري. ثمَّ كشف عَن رَأس لَهُ أَقرع، وَقَالَ: مَنْ يكُ ذَا لمة تكشّفها ... فإنني غير ضمائري ذُعْري لَا يمنعُ المرءَ أنْ يسودَ وأنْ ... يضربَ بِالسَّيْفِ قلَّة الشّعْر(5/31)
قَالَ الشعبيُّ: سمعتُ الْحجَّاج يقولُ: أما بعد، فَإِن الله. جلّ وَعلا كتب على الدُّنيا الفناءَ، وعَلى الْآخِرَة البقاءَ، فَلَا فنَاء لما كتب عَلَيْهِ البقاءَ، وَلَا بَقَاء لمَنْ كتب عَلَيْهِ الفناءَ، فَلَا يغرنكُم ساعد الدُّنْيَا عَن غَائِب الْآخِرَة، واقْهروا طول الأمل بقصر الْأَجَل. وَقَالَ ابْن عَيَّاش عَن أَبِيه، قَالَ: إِن أول يَوْم عُرِفَ فِيهِ الْحجَّاج - وَكَانَ فِي الشُّرط مَعَ عبد الْملك - أَن عبدَ الْملك بعث إِلَى زُفَر بن الْحَارِث عشرَة نفر، أَنا فيهم، ومعنا الحجاجُ وَغَيره من الشُّرط. قَالَ: فكلمناه، وأبلغُناه رِسَالَة عبد الْملك، فَقَالَ: لَا سَبِيل إِلَى مَا تُريدون. قَالَ: فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، أراهُ وَالله سيأُتيكَ مَالا قبل لَك بِهِ، ثمَّ لَا يُغْني عَنْك فُسَّاقُك هَؤُلَاءِ شَيْئا، فأطِعْني واخرُجْ. قَالَ: وَحَضَرت الصلاةُ فَقَالَ: نُصلي، ثمَّ نتكلم. فَأَقَامَ الصَّلَاة وَنحن فِي بيِته، فَتقدم وَصلى بِنَا وتأخَّر الحجاجُ، فَلم يصلِّ. فَقلت لَهُ: أَبَا مُحَمَّد. مَا مَنعك مِن الصَّلَاة! ؟ قَالَ: أَنا لَا أُصَلِّي خلف مُخَالف للجماعةِ، مُشاقٍّ للخلافة. لَا. واللهِ لَا يكونُ ذَلِك أبدا. قَالَ: فبلغتْ عبدَ الْملك. فَقَالَ: إِن شُرطيكم هَذَا لجَلْدٌ. وخطب يَوْم فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، إِن الصبْرَ من محارم الله أيسرُ من الصَّبْر على عَذَاب الله. فَقَامَ إِلَيْهِ رجلٌ فَقَالَ: مَا أصفق وجُهك، وأقَل حياءَك أَيهَا الحجاجُ؟ فَقَالَ لَهُ الحجاجُ: اجترأْت عَليّ. فَقَالَ لَهُ: أتجترئُ على الله وَلَا نُنْكِرُهُ. وأجْترئُ عَلَيْك فتُنكره فحلُم عَنهُ، وخلَّى سَبيله. قَالَ عبدُ الْملك بن عُمَيْر: سمعتُ الحجَاج يَقُول فِي خطبَته: أَيهَا الناسُ لَا يَملَّنَّ أحدُكم من المعروفِ، فَإِن صاحبَه يعْرِضُ خيرا، إِمَّا شكرٌ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا ثوابٌ فِي الْآخِرَة. وَقَالَ الحجاجُ لعبد الْملك: مَا فيَّ عيبٌ إِلَّا أَنِّي حسود، حقودٌ، لجوجُ فَقَالَ: مَا فِي الشَّيطان شيءٌ شرٌّ مِمَّا ذكرتَ.(5/32)
الْبَاب الثَّالِث كَلَام الْأَحْنَف
رأى مَعَ رجل درهما، فَقَالَ: تحِبُّه؟ قَالَ: نعم. أما إِنَّه لَا ينفعكُ حَتَّى تُفَارِقهُ. قَالَ: مَا عرضتُ الْإِنْصَاف على رجل فقبِله إِلَّا هبْتُه، وَلَا أباهُ إِلَّا طمعتُ فِيهِ. وَقَالَ: الْأَذَى تحكك فِي نَاحيَة بَيْتِي أحب إِلَيّ من أيِّم رددت عَنْهَا كُفواً. وَقيل لَهُ: من السَّيِّد؟ : قَالَ: الذليلُ فِي نَفسه، الأحمقُ فِي مالهِ، المعْنيُّ بِأَمْر قومه، النَّاظر للعامّة. وَقَالَ: رُب رجل لَا تُملُّ فَوَائده وإنْ غَابَ، وَأخر لَا يسلمَ جليُسه وَإِن احُترس. وَقَالَ: كلُّ ملك غدار وكلّ دَابَّة شرود وكل امْرَأَة خئُوفٌ. وَقَالَ: سهرت لَيْلَة فِي كلمة أرْضى بهَا سُلطاني، وَلَا أسخطُ بِها ربيِّ فَمَا وجدتُها. وَقيل لَهُ: مَا الْحلم؟ قَالَ: الرِّضاءُ بالذُّل.(5/33)
وَقيل لرجل: لَيْت طول حلمنا عَنْك لَا يدعُو جهل غَيرنَا إِلَيْك. وَقَالَ: أكْرمُوا سفهاءَكم فَإِنَّهُم يكفونكُم الْعَار وَالنَّار. وَقَالَ: وَإِيَّاكُم والكسل والضجر، فَإنَّك إِن كسلت لم تؤردِّ حَقًا، وَإِن ضَجِرت لم تصبر على حقِّ. وذكرَ رجلا فَقَالَ: لَا يحقر ضَعِيفا، وَلَا يحْسد شريفاً. وَقَالَ: الشرفُ مَن عُدَّت سقطاتُه. وَقيل لَهُ: مَا اللؤُّم؟ قَالَ: الاستعصاءُ على الملهوف. قيل: فَمَا الْجُود؟ قَالَ: الاحتيالُ للمعروف. وَسمع رجلا يَقُول: مَا بتُّ البارحةً من وجع ضرس. وَجعل يُكثر، فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَف: كم تكْثر {} فو الله لقد ذهبت عَيْني مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة، فَمَا قلتُ لأحد. وَقيل لَهُ: مَا الْحلم؟ قَالَ: الذُّل. وَقَالَ: لستُ بحليم وَلَكِنِّي أتحالم. وَقَالَ يومَ قُتل مُصعب: انْظُرُوا إِلَى المصعب، على أَي دَابَّة يخرج؟ فَإِن خرج على برْذَوْن فَهُوَ يُرِيد الْمَوْت، وَإِن خرج على فرس فَهُوَ يُرِيد الْهَرَب. قَالَ: فَخرج على برذونٍ يجر بَطْنه. وَقَالَ الْأَحْنَف: استميلُوا النِّساء بِحسن الْأَخْلَاق وفُحْشِ النكّاح. وَقَالَ: وجدتُ الحلمَ أنْصر لي من الرِّجال. جلس معاويةُ يَوْمًا - وَعِنْده وجُوه النَّاس، وَفِيهِمْ الأحنفُ، إِذا دخل رجلٌ من أهل الشَّام، فَقَامَ خَطِيبًا، وَكَانَ آخر كَلَامه: أَن لعَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام. فَأَطْرَقَ النَّاس، وَتكلم الأحنفْ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن هَذَا الْقَائِل آنِفا مَا قَالَ، لَو علم أَن رضاك فِي لعن الْمُرْسلين للعنهم، فَاتق الله، ودع عليا، فقد لَقِي الله، وافرد فِي حفرته، وخلا بِعَمَلِهِ. وَكَانَ - وَالله - مَا علمنَا المبرِّز بِسَيْفِهِ، الطَّاهِر فِي خُلُقه، الميمون النقيبة، الْعَظِيم الْمُصِيبَة.(5/34)
فَقَالَ مُعَاوِيَة، يَا أحنفُ لقد أغضيتَ العينَ عَن القذى، وقُلت بِغَيْر مَا نرى، وأيْم الله لتصعدنَّ الْمِنْبَر، فلتلعننه طَائِعا أَو كَارِهًا. قَالَ الْأَحْنَف: إِن تُعفني فَهُوَ خيرٌ، وَإِن تجبرني على ذَلِك، فو الله لَا تجْرِي بِهِ شفتاي. قَالَ: قُم، فاصعد. قَالَ: أمَا وَالله لأُنصفنك فِي القَوْل وَالْفِعْل. قَالَ مُعَاوِيَة وَمَا أَنْت قائلٌ إِن أنصفتني؟ قَالَ: أصعد فَأَحْمَد الله بِمَا هُوَ أهلُه، وأصلي على نبيه. ثمَّ أقولُ: أيُّها النَّاس. إِن مُعَاوِيَة أمَرني أَن ألعن عليا. أَلا وَإِن عليا وَمُعَاوِيَة اخْتلفَا واقتتلا، وَادّعى كلُّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنه مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ، وعَلى فئته، فَإِذا دعوتُ فأمِّنوا - يَرْحَمكُمْ الله. ثمَّ أقولُ: اللَّهُمَّ ألعن أَنْت وملائكتُك، وأنبياؤُك، ورسلك، وَجَمِيع خلقك الْبَاغِي مِنْهُمَا على صَاحبه، والعن الفئة الباغية على الفئة المبغى عَلَيْهَا. آمين رب الْعَالمين. فَقَالَ مُعَاوِيَة: إِذن نُعفيك يَا أَبَا بَحر. وَقَالَ لَهُ رجل: بِمَ سُدْتَ؟ قَالَ: بَتْركي من أَمرك مَا لَا يعنيني، كَمَا عناك من أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيك. وَقَالَ: من حقِّ الصّديق أَن تُحتمل لَهُ ثلاثٌ: ظلم الْغَضَب، وظلم الدَّالَّة، وظلم الهفوة. خطب مُعَاوِيَة مرّة، فَقَالَ: إِن الله يَقُول فِي كِتَابه: وَإِن مِّن شَيء إِلَّا عندنَا خزائنهُ فعلامَ تَلُومُونَنِي إِذا قصرتُ فِي أعطياتكم؟ فَقَالَ الأحنفُ: فَجَعَلته أَنْت فِي خزائنك، وحُلْت بَيْننَا وَبَينه وَلم تُنزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم. قَالَ: فَكَأَنَّمَا ألُقمه حَجَراً. وَقَالَ: مَا نَازَعَنِي أحد قطُّ إِلَّا أخذتُ عَلَيْهِ بأُمور ثَلَاثَة: إِن كَانَ فَوقِي عرفتُ لَهُ قدرهُ.(5/35)
وَإِن كَانَ دوني أكرمتُ نَفسِي عَنهُ، وَإِن كَانَ مثلي تفضلتُ عَلَيْهِ. وَقَامَ بصفِّين، فَاشْتَدَّ، فَقيل لَهُ: أَيْن الْحلم يَا أَبَا بَحر؟ . قَالَ: ذَاك عِنْد عُقْر الْحَيّ. وَقَالَ: لم تزل العربُ تستخفُّ بأبناءِ الإمَاءِ حَتَّى لحق هَؤُلَاءِ الثلاثةُ: عليُّ بن الْحُسَيْن، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَسَالم بن عبد الله. فاستقل بَنو الْإِمَاء ولحقُوا. وَقَالَ: لَا تشَاور الجائع حَتَّى يشْبع، وَلَا العطشان حَتَّى يَرْوى، وَلَا الأسيرَ حَتَّى يُطلق، وَلَا المضلَّ حَتَّى يجد، وَلَا الرَّاغِب حَتَّى ينجح. وأتى مصعبَ بنَ الزبير يكلِّمه فِي قوم حَبسهم، فَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير، إِن كَانُوا حُبُسوا فِي بَاطِل فالحقُّ يُخرِجُهم، وَإِن كانُوا حُبسوا فِي حقٍّ فالعفو يسعُهم. فخلاهُم. وَقَالَ: السُّودَد، مَعَ السوَاد. يُرِيد أَن السَّيِّد مَن أتتهُ السِّيادةُ فِي حداثته وسَواد رَأسه ولحيته. وَجلسَ على بَاب زِيَاد، فمرت بِهِ ساقيةٌ، فَوضعت قربتها، وَقَالَت: يَا شيخُ. احفظ قربتي حَتَّى أعودَ، وَمَضَت، وأتاهُ الأذنُ فَقَالَ: انهض. قَالَ: لَا، فَإِن معي وَدِيعَة. وأقامَ حَتَّى جاءَت. وَشَتمه يَوْمًا رجلٌ وألح عَلَيْهِ فَقَالَ لهُ: يَا بن أُمِّي. هَل لَك فِي الْغَدَاء؟ فَإنَّك منذُ الْيَوْم تَحْدْو بجَمل ثَفال. وَقَالَ: كُنا نختلفُ إِلَى قيس بن عَاصِم فِي الْحلم، كمَا يُختلفُ إِلَى الفُقهاءِ فِي الْفِقْه. وَشَتمه رجلٌ، فسَكت عنهُ، فأعادَ، فَسكت، فَقَالَ الرجلُ: والهفاهُ وَمَا يمنعهُ أَن يرد عليَّ إِلَّا هَوانِي عَليه. وَقَالَ الأحنفُ: مَن لم يصبر على كملة سمع كَلِمَات، ورُبَّ غيظ قد تجرعتُه مخافةَ مَا هُواَ أشدُّ مِنْهُ. وَكَانَ إِذا أتاهُ إنسانٌ أوسع لهُ، فَإِن لم يجد موضعا تحرّك ليريه أَنه يَوسعُ لَهُ.(5/36)
وَقَالَ: مَا جلستُ قطّ. مَجْلِسا. فخفتُ أَن أقامَ عنهُ لغيري. وَكَانَ يقولُ: إياك وَصدر الْمجْلس فَإِنَّهُ مجْلِس قُلعةٌ. وَقَالَ: خير الإخوان من إِذا اسْتَغْنَيْت عَنهُ لم يزدك فِي الْمَوَدَّة وَإِن احتْجتَ إِلَيْهِ لم يَنقصك مِنْهَا، وَإِن كُوثرت عَضَّدك، وَإِن احتجت إِلَى معونته رفدك. وَقَالَ: العتابُ مفتاحُ التِّقالِي، والعتابُ خيرٌ من الحقد. وَمر بعكرَاش بن ذُؤيب - وَكَانَ مِمَّن شهد الْجمل مَعَ عَائِشَة - فقُطعت يَدَاهُ جَمِيعًا. فصاح بِهِ عكراش: يَا مخِّذلُ. فَقَالَ الأحنفُ إِنَّك لَو كنت أطعتني لأكلت بيمينك وامتسحت بشمالك. وَيُقَال: إِنَّه لم يُرَ قطُّ ضجرا إِلَّا مرّة وَاحِدَة، فَإِنَّهُ أعطي خياطاً قَمِيصًا بخيطُهُ، فحَبسه حَوْلَيْنِ. فَأخذ الأحنفُ بيَد ابْنه بَحر، فَأتى بِهِ الْخياط، وَقَالَ: إِذا متُّ فادفع الْقَمِيص إِلَى هَذَا. وَكَانَ يَقُول: لَا صديقِ لملَول، وَلَا وَفاءَ لكّذوب، وَلَا رَاحَة لحسود، وَلَا مُرُوءَة لبخيل، وَلَا سودَد لسيِّئ الخلْق. وَقَالَ: كَاد العلماءُ يلونُون أَرْبَابًا، وكل عزٍّ لم يوطِّد بعلمٍ فَإلَى ذلٍّ مَا يصير. قَالَ رجلٌ للأحنف: تسمعُ بالمعيديِّ خير من أَن ترَاهُ. قَالَ: وَمَا ذممت منِّي يَا أخي؟ قَالَ: الدمامة، وقِصَرَ الْقَامَة. قَالَ: لقد عبت مَا لم أؤامَر فِيهِ. وأسمعه رجلٌ، فَأكْثر. فَلَمَّا سكت، قَالَ الأحنفُ: يَا هَذَا، مَا ستر اللهُ أَكثر. وَقَالَ: كثرةُ الضحك تُذهبُ الهيبة، وكثرةُ المَزح تُذهبُ الْمُرُوءَة، ومَن لزمَ شَيْئا عُرف بِهِ. لما نَصَّب معاويةُ ابْنه يزيدَ لولاية الْعَهْد أقعدهُ قبَّة حَمْرَاء، فَجعل النَّاس يُسلِّمون على مُعَاوِيَة، ثمَّ يميلُون إِلَى يزيدَ حَتَّى جاءهُ رجلٌ فَفعل ذَلِك. ثمَّ رَجَعَ إِلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، اعْلَم أَنَّك لَو لم تُولِّ هَذَا أُمُور الْمُسلمين لأضعتها - والأحنفُ جالسٌ - فَقَالَ لَهُ معاويةُ: مَا بالُك لَا تقولُ يَا أَبَا بَحر {} فَقَالَ:(5/37)
أخافُ الله إِن كذبتُ، وأخافكم إِن صدقتُ. فَقَالَ جَزَاك اللهُ عَن الطاعَة خيرا. وأمرَ لَهُ بأُلُوف. فَلَمَّا خرج الأحنفُ لقيَهُ الرجلُ بِالْبَابِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَحر: إِنِّي لأعْلم أَن شَرّ مَا خلق الله هَذَا وابنُه، وَلَكنهُمْ قد استوثقوا من هَذِه الْأَمْوَال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمعُ فِي استخدامها إِلَّا بِمَا سَمِعت. فَقَالَ لَهُ الأحنفُ: يَا هَذَا أمُسِك، فَإِن ذَات الوَجهين خليقٌ أَلا يكون عِنْد الله وَجيهاً. وَقَالَ الْأَحْنَف: أَلا أدلكُم على المحمَدة بِلَا مرزئة: الخلقُ السجيح والكفُّ عَن الْقَبِيح. وَقَالَ الْأَحْنَف: أَلا أخبركُم بأدوأ الداءِ؟ الخلقُ الدنيءُ، وَاللِّسَان الْبَذِيء وَقَالَ: ثلاثٌ فيَّ مَا أقولُهن إِلَّا ليعتبرَ معتبرٌ: مَا دَخلتُ بَين اثْنَيْنِ حَتَّى يُدخلاني بينهُما، وَلَا أتيتُ بَاب أحد من هَؤُلَاءِ مَا لم أدع إِلَيْهِ - يَعْنِي: السُّلطان - وَلَا حَللتُ حَبَوتي إِلَى مَا يقومُ إِلَيْهِ النَّاس. وَقيل لَهُ: أَي الْمجَالِس أطيبُ؟ قَالَ: مَا سَلم فِيهِ الْبَصَر، واتَّدع فِيهِ البدَنُ. وَكَانَ يَقُول: مَا تزالُ العربُ بِخَير مَا لَيست العمائمَ، وتقلدتِ السيوف وَلم تَعُدَّ الْحلم ذُلاً وَلَا النواهب بَينهَا ضعةً. قَوْله: لبست العمائم، يُرِيد مَا حافظت على زيِّها. وَقَالَ: مَا شاتمتُ أحدا منذُ كنت رجلا، وَلَا زحَمتْ رُكبتاي رُكْبَتَيْهِ، وَإِذا لم أصل مُجنديَّ حَتَّى يُنتح جَبينه - كَمَا تنتح الحميتُ فو الله مَا وصلتُه. وَقَالَ: إِنِّي لأجالس الأحمق السَّاعَة فأتبين ذَلِك فِي عَقْلِي.(5/38)
وَقَالَ لَهُ معاويةُ: بلَّغني عَنْك الثقّةُ. فَقَالَ: إِن الثِّقَة لَا يبلِّغُ. وعُدَّت على الْأَحْنَف سَقطةٌ، وَهُوَ أَن عَمرو بن الْأَهْتَم دس إِلَيْهِ رجلا ليسفِّههُ. فَقَالَ: يَا أَبَا برح: مَن كَانَ أَبوك فِي قومه؟ قَالَ: كَانَ من أوْسطهم، لم يسدُهم وَلم يتَخَلَّف عَنْهُم. فَرجع إِلَيْهِ ثَانِيَة، ففطِن الأحنفُ أَنه من قِبل عَمْرو. فَقَالَ: مَا كَانَ مالُ أَبِيك؟ قَالَ: كَانَت لَهُ صِرمةٌ يمنح مِنْهَا، ويقرى وَلم يكُن أهتَم سَلاَّحاً. وَسمع رجلا يَقُول: التعُّلم فِي الصِّغر، كالنقش على الْحجر. فَقَالَ الْأَحْنَف. الكبيرُ أكبرُ عَقْلاً، وَلكنه أشْغلُ قلْباً. وَلما قدَم على عمرَ فِي وفْد أهْل الْبَصْرَة وَأهل الْكُوفَة فَقضى حَوائجهُم قَالَ الأحْنفُ: إِن أهل هَذِه الْأَمْصَار نزلُوا على مثل حدّقة الْبَعِير، من الْعُيُون الْعَذَاب، تأْتيهم فواكهُهم لم تَتَغَيَّر. وَإِنَّا نزلنَا بِأَرْض سبخَة نشاشة، طرَفٌ لَهَا بالفلاة. وطرف بالبحر الأُجاج. يأْتينا مَا يأْتينا فِي مثل مَرئ النعامة، فَإِن لم ترفع خسيستنا. بعطاءٍ تُفضِّلُنا بِهِ على سَائِر الْأَمْصَار نهلك. قيل: لما أجمَع مُعاويةُ على الْبيعَة ليزيدَ جمع الخطباءَ فتكلموا - والأحنفُ ساكتٌ - فَقَالَ: يَا أَبَا بَحر. مَا منعَك من الْكَلَام؟ قَالَ: أَنْت أعلُمنا بيزيدَ ليله ونهاره، وسره، وعَلانيته، فَإِن كنت تعلُم أَن الْخلَافَة خيرٌ لهُ فاستخلفْه وَإِن كنت تعلُم أَنَّهَا شرُّ لَهُ فَلَا تُوَلِّه الدُّنَيا وَأَنت تذهبُ إِلَى الْآخِرَة، فَإِنَّمَا لَك مَا طَابَ، وعلينا أَن نقُول: سمعنَا وأطعنا: وَقَالَ الأحنفُ: المروءةُ كلُّها إصلاحُ المَال، وبذلُه للحقوق. وَكتب إِلَيْهِ الحسينُ عَلَيْهِ السَّلَام: فَقَالَ للرسول: قد بلونا أَبَا حسن، وَآل أبي حسن، فَلم نجد عندَهُم إيالةً للمُلك، وَلَا مكيدةً فِي الْحَرْب. وَقَالَ لعلّي عَلَيْهِ السَّلَام: إِنِّي قد عجمتُ الرجل، وحلبتُ أشطرَهُ فوجدتُه قريب العقْر، كليل المُدْية. يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.(5/39)
وَكَانَ يَقُول: مَا بعدَ الصَّوَاب إِلَّا الخطأُ، وَمَا بعد مَنْعِهِنَّ الأَكْفاءَ بذلُهن للسلفة والغوغاء. وَكَانَ يَقُول: لَا تطلُبوا الْحَاجة إِلَى ثَلَاثَة: إِلَى كذوبٍ فَإِنَّهُ يُقرِّبها عَلَيْك وَهِي بعيدةٌ، ويباعدُها وَهِي قريبةٌ، وَلَا أَحمَق فَإِنَّهُ يُرِيد أَن ينفعَك فيضرك، وَلَا إِلَى رجل لَهُ إِلَى صَاحب الْحَاجة حاجةٌ، فَإِنَّهُ يجعلُ حَاجَتك وقاية لِحَاجَتِهِ. وَقَالَ: مَا كشفتُ أحدا قطُّ عَن حَال عِنْده إِلَّا وجَدتُها دون مَا كنتُ أظنُّ. وَقَالَ: رُب ملوم لَا ذنْب لَهُ. وَقدم وَفد الْعرَاق على مُعَاوِيَة: وَفِيهِمْ الْأَحْنَف - فَخرج الْآذِن، فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يعزمُ عَلَيْك أَلا يتَكَلَّم أحدٌ إِلَّا لنَفسِهِ. فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهِ قَالَ الأحنفُ: لَوْلَا عزمةُ. أَمِير الْمُؤمنِينَ لأخبرتُه أَن دفةً دفت، ونازلةً نزلت، ونائبة نابت ونابتةً نَبتَت، كلُّهم بِهِ حاجةٌ إِلَى مَعْرُوف أَمِير الْمُؤمنِينَ، وبرِّه. قَالَ: حَسبك يَا أَبَا بَحر، فقد كفيت الْغَائِب والساعد. وَجرى ذكُر رجل عِنْده فاعتابوه. فَقَالَ الأحنفُ: مَا لكُم ولهُ؟ يَأْكُل لَذَّته، وَيَكْفِي قِرنه، وتحملُ الأَرْض ثقله. وَقَالَ لمعاوية - وَقد ذكَّره مقامهُ بصفين -: وَالله إِن الْقُلُوب الَّتِي أبغضناك بهَا لبين جوانحِنا، وَإِن السيوف الَّتِي قَاتَلْنَاك بهَا لعلى عواتِقنا. وَلَئِن مددت بشبر من غدر لنمدن بباع مِن مَحْتد، وَلَئِن شِئْت لتستصِفيَن كدر قُلوبنا بصفو حِلمك. قَالَ: فَإِنِّي أفعلُ. وَلما خطب زيادٌ بِالْبَصْرَةِ قَامَ الأحنفُ فَقَالَ: أَيهَا الأميرُ، قد قلت فأَسمعتَ ووعظت فأَبلغت أيُّها الأميرُ، إِنَّمَا السَّيْف بحدِّه، والفرُس بشدِّه، والرجلُ بجِده، وَإِنَّمَا الثناءُ بعد البلاءِ، والحمدُ بعد العطاءِ، وَلنْ نُثني حَتَّى نبتلي.(5/40)
وَقَالَ الأحنفُ: لَا تَعْدَّنَّ شتم الْوَالِي شتماً، وَلَا إغلاظهُ إغلاظاً، فَإِن ريحَ الْعِزَّة تبسط اللِّسان بالغِلظةِ فِي غير بأْس وَلَا سَخط. وَقَالَ: لَا تنقبضُوا عَن السُّلطان، وَلَا تتهالكُوا عليهِ، فَإِنَّهُ من أشرف للسُّلْطَان ازدراه، ومَنْ تفرغَ لَهُ تخطاه. وَقَالَ: مَا جَلستُ مذ كنت مَجِلِسَ قُلْعَةٍ وَلَا ردَدتُ على كُفو مقَالَة تُسوءُه وَلَا خاصمتُ فِي أمرِ كريهةٍ لي، لِأَن مَا بذلُتُ لصاحِبها أكثرُ مِمَّا أخاصِمُه فِيهِ من أجْلِها. وَقَالَ كفى بالرجلِ حَزْماً إِذا اجْتمع عَلَيْهِ أمْران، فَلم يدرِ أيُّهما الصًّوابُ أَن ينظْرَ أغلبهما عَلَيْهِ فيحذرهُ. وَلما حُكِّم أَبُو مُوسَى أتاهُ الأحنفُ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى. إِن هَذَا مسيرٌ لَهُ مَا بَعْدَه من عزِّ الدُّنيا أَو ذُلِّها آخرَ الدَّهْر. ادعُ القوْم إِلَى طَاعَة عَليّ، فَإِن أبَوْا فادْعهُم إِلَى أَن يخْتَار أهلُ الشَّام من قُرَيْش الْعرَاق مَن أحبُّوا، ويختار أهلُ الْعرَاق من قُرَيْش الشامِ من أحبُّوا. وَإِيَّاك إِذا لقِيت ابْن الْعَاصِ أَن تصافحَه بنية أَو أَن يُقعِدَك على صَدْر الْمجْلس، فَإِنَّهَا خديعةٌ، أَو أَن يَضُمَّكَ وإياه بيتٌ يكمنُ لَك فِيهِ الرجالُ، ودَعْهُ فليتكلمْ لتَكون عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، فَإِن البادئ مُستغلقٌ، والمجيب ناطقٌ. فَمَا عمل أَبُو مُوسَى إِلَّا بِخِلَاف مَا أَشَارَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الأحنفُ - والتقيا بعد ذَلِك -: أدْخِلْ - واللهِ - قدميْك فِي خُفٍّ وَاحِد. وَقَالَ بخُراسان: يَا بني تَميم، تحابُّوا وتباذَلَوا تعْتدل أمورُكم، وابدءُوا بجهادِ بطونكم، وفروجِكم يصلُح دينكُمْ، وَلَا تَغُلُّوا يسلم لكم جهادكم. وَقَالَ لأهل الْكُوفَة: نَحن أبعدُ مِنْكُم سرَّيةً، وأعظَمُ مِنْكُم تجربةً، وَأكْثر مِنْكُم دُرِّيةً، وأعْدى مِنْكُم برِّية. وَلما قدمت الوفودُ على عُمَر قَامَ هلالُ بنُ بِشر، فَقَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ إِنَّا غُرَّةُ من خَلْفنا مِن قَومنَا، وشادةُ من وَرَاءَنَا من أهلِ مِصْرِنَا، وَإنَّك إِن تصرِفنا بِالزِّيَادَةِ فِي أعطِياتنا، والفرائض لعيالاتنا - يزددُ بذلك الشريفُ تأميلاً، وتكُن لَهُم أَبَا وَصُولا، وَإِن تكُنْ - مَعَ مَا نَمُتُّ بِهِ من فضائِلكُ ونُدْلي بأسبابك - كالجُدِّ لَا(5/41)
يُحلُّ وَلَا يرْحلُ نرْجِع بآنُفٍ مَصْلوَمة، وجُدود عاثرةٍ، فِمحنا وأهالينا بَسْجلٍ مُتْرَع من سِجالك المُترعة. وَقَامَ زيدُ بن جبلة، فَقَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، سوِّدِ الشريف، وَأكْرم الحسيبَ، وأزْرعْ عِندنا من أيَاديِك مَا تسدُّ بِهِ الْخَصَاصَة ونطرد بِهِ الْفَاقَة. فَإنَّا بقُف من الأَرْض يَابِس الأكناف، مٌقشعرِّ الذروَة، لَا شجر وَلَا زرع، وَإِنَّا من الْعَرَب الْيَوْم إِذا أَتَيْنَاك بمرأى ومسمع. فَقَامَ الأحنفُ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن مفاتيحَ الْخَيْر بيد الله، والحرصَ قائدُ الحرمان، فَاتق الله فِيمَا لَا يُغني عَنْك يومَ الْقِيَامَة قيلا، وَلَا قَالَا وَاجعَل بَيْنك وَبَين رعيتك من الْعدْل والإنصاف، شَيْئا يَكْفِيك وفادة الوُفوِد، واستماحةَ المُمْتاح، فَإِن كُل امْرِئ إِنَّمَا يجمع فِي وعائه إِلَّا القُل مِمَّن عَسى أَن تقتحمهُ الأعينُ وتخونهم الألسن، فَلَا يفد إِلَيْك.(5/42)
الْبَاب الرَّابِع كَلَام الْمُهلب وَولده
قيل للمهلِّب: مَا النبلُ؟ قَالَ أَن يخرج الرجلُ من منزله وَحده ويعودَ فِي جمَاعَة. وَقَالَ: مَا رأيتُ الرجل يضيقُ قلوبُها عِنْد شَيْء كَمَا تضيق عِنْد السرِّ. خطب يزيدُ بنُ الْمُهلب بواسطٍ فَقَالَ: إِنِّي قد أسمعُ قَول الرِّعاع: قد جَاءَ مسلمةُ وَقد جاءَ العباسُ، وَقد جَاءَ أهلُ الشَّام. وَمَا أهل الشَّام إِلَّا تسعةُ أسياف: سبعةٌ مِنْهَا معي، وَاثْنَانِ عَليّ. وَأما مسلمة فجرادة صَفراء، وَأما العباسُ فنسطوسُ بنُ نسطوس، أَتَاكُم فِي بَرابَرة وصقالية، وجَرَامقة، وأقباط، وأنباط، وأخلاط. إِنَّمَا أقبل إِلَيْكُم الفلاحُون وأوباشٌ كأشْلاء اللَّحْم. وَالله مَا لقوا قطّ كحدكم، وحَديدكم، وعَديدكم. وأعيُروني سَواعدكم سَاعَة من نَهَار تصِفقُون بهَا خراطيمهُم. وَإِنَّمَا هِيَ غَدوة أَو روحةٌ حَتَّى يحكُمَ الله بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الظَّالِمين. قَالَ المهلبُ: يَا بني، تباذلُوا تحَابوا، فَإِن بني الْأُم يختلفُون، فَكيف ببني العلات؟ إِن الْبر ينسأ فِي الأجَل، ويزيدُ فِي العَدَد، وَإِن القطيعة تُورث الْقلَّة، وتُعقب النَّار بعد الذلة. وَاتَّقوا زلَّة اللِّسان، فَإِن الرجل تزلُّ رجلُه، فينتقشُ، ويزل(5/43)
لسانُه فيهلكُ، وعليكُم فِي الْحَرْب بالمكيدة، فَإِنَّهَا أبلغُ من النجدة، فَإِن الْقِتَال إِذا وَقع دَفع القضاءَ، فَإِن ظفر فقد سَعد، وَإِن ظُفر بِهِ لم يقولُوا فَّرط. قَالَ الجاحظُ: قَالَ المهلبُ: لَيْسَ أنمَى مِن سيف. فوجدَ الناسُ تَصْدِيق قَوْله فِيمَا قَالَ وَلَده من السَّيْف، فَصَارَ فيهم النَّماءُ. وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: بقيةُ السَّيْف أنمى عَدَداً، وأكرمُ ولدا. وَوجد الناسُ ذَلِك بِالْبَيَانِ الَّذِي صَار إِلَيْهِ ولُده مِن نهكِ السيفِ، وَكَثْرَة الذُّرِّيَّة وكرم النجل. وَمن كَلَام الْمُهلب: عجبتُ لمن يَشْتَرِي الممالِيك بمالِه، وَلَا يَشْتَرِي الْأَحْرَار بمعُرُوفه.(5/44)
وَقَالَ يزيدُ بن الْمُهلب لِابْنِهِ مخلد - حِين ولاه جُرجَان: استظرفْ كاتِبك، واستعِقلْ حاجِبَك. قَالَ حبيب بن الْمُهلب: مَا رَأَيْت رجلا مُستلئماً فِي الْحَرْب إِلَّا كَانَ عِنْدِي رجُلين، وَلَا رَأَيْت حاسرين إِلَّا كُنَّا عِنْد وَاحِدًا. فَسمع بعض أهل الْمعرفَة هَذَا الْكَلَام، فَقَالَ: صَدق: إِن للسلاح فَضِيلَة. أمَا تراهم ينادون عِنْد الصَّرِيخ: السلاحَ السِّلَاح، وَلَا ينادُون: الرِّجَال، الرِّجَال. قيل يزيدَ بن الْمُهلب: أَلا تبني دَارا؟ فَقَالَ: مَنزلي دَار الإمَارة أَو الْحَبْس. أغْلظ. رجلٌ للمهلب، فحلم عَنهُ، فَقيل لَهُ: جَهل عَلَيْك وتحلُمُ عَنهُ؟ فَقَالَ: لم أعرف مَساوَيه، وكرهت أَن أبهته بِمَا لَيْسَ فِيهِ. قَالَ يزيدُ بن الْمُهلب: مَا رَأَيْت عَاقِلا ينوبه أمرٌ إِلَّا كَانَ مقوله على لَحْييه. وَقيل لَهُ: إِنَّك لتُلْقي نفسَك فِي المهالك. قَالَ: إِنِّي إِن لم آتٍ الْمَوْت مُسترسلاً أَتَانِي مُستعجلاً. إِنِّي لست أُتِي الْمَوْت من حُبِّه، وَإِنَّمَا أتيه من بغضه، ثمَّ تمثل: تأَخرت أستبقى الْحَيَاة فَلم أجد لنَفْسي حَيَاة مثل أَن أتقدمَا. كتب الْمُهلب إِلَى الْحجَّاج لما ظفر بالأزارقة: الحمدُ لله الَّذِي كفى بِالْإِسْلَامِ فقدُ مَا سواهُ، وَجعل الْحَمد مُتَّصِلا بنعَمه، وَقضى أَلا يَنْقَطِع المزيدُ من فَضله، حَتَّى يَنْقَطِع الشُّكْر من عبَاده ثمَّ إِنَّا وعَدوَّنا كُنَّا على حَالين مُختلفتين، نرى فيهم مَا يسرُّنا أَكثر مِمَّا يسوؤُنا، ويروَن فِينَا مَا يُسوءُهم أَكثر ممَا يسرُّهم. فَلم يزل الله يكثرُنا ويمحقهم، وينصرنا ويخذلهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كَانَ عَلن أمُرهم حَتَّى ارتاعَت لَهُ الفتاة، ونوِّم بِهِ الرضيعِ، فْانتهزْتُ مِنْهُم الفرصة فِي وَقت إمكانها، وأدنَيْتُ السوادَ، مِن السوَاد حَتَّى تعارفَتِ الوُجوه. فَلم نزل كَذَلِك حَتَّى بلغ بِنَا وبهم الْكتاب أجَله. فقطِعَ دَابُر القومِ الَّذين ظَلَمْوا والحمدُ لله ربِّ الْعَالمين.(5/45)
وَقَالَ الْمُهلب لِبَنِيهِ: يَا بني، إِذا غَدا عَلَيْكُم الرجل، ولاحَ مُسلِّما، فَكفى بذلك تقاضيا. وَقيل لَهُ: أيُّ الْمجَالِس خيرٌ؟ قَالَ: مَا بَعُدَ فِيهِ مَدَى الطرْف، وَكثر فِيهِ فَائِدَة الجليس. قَالَ الْمُهلب: الْعَيْش كلُّه فِي الجليس المُمتع. وَقَالَ يزيدُ بن الْمُهلب: مَا يسرُّني أَنِّي كفيت أمَر الدُّنيا. قيل مُهَاجِرين: وَلم؟ قَالَ: أكره عَادَة العَجْز. وَقَالَ المهلبُ لبنية: إِذا وليتُم فلينُوا للمُحْسن، واشتدُّوا على المُريب، فَإِن الناسَ للسُّلطان أهيبُ مِنْهُم لِلْقُرْآنِ. وَكَانَ يَقُول: أدْنى أَخْلَاق الشريف كتمانُ السِّر، وأعْلى أخلاقه نسيّانُ مَا أسر إِلَيْهِ. وَلما اسْتخلف ابْنه الْمُغيرَة على حَرْب الْخَوَارِج، وَعَاد هُو إِلَى مُصْعب بن الزبير جمعَ الناسَ فَقَالَ لَهُم: إنِّي قد استخلفتُ عَلَيْكُم الْمُغيرَة، وهُو أَبُو صغيركم رقةً وَرَحْمَة، وابنُ كبيركم طَاعَة وَبرا وتبجيلا، وأخُو مثله مواساة ومناصحة. فلتحُسن لَهُ طاعتُكم، ولْيِلن لَهُ جانبكُم، فوَاللَّه مَا أردتُ صَوَابا قطُّ إِلَى سَبقني إِلَيْهِ. وَكَانَ الحجاجُ كتب إِلَيْهِ وَهُوَ فِي وَجْه الْخَوَارِج: أما بعدُ فَإِنَّهُ بَلغنِي أَنَّك قد أَقبلت عَلى جبَاية الْخراج، وَتركت قتال العدُوِّ. وَإِنِّي ولَّيْتُك وَأَنا أرى مَكَان عبد الله بن حكيمٍ الْمُجَاشِعِي، وَعباد بن حصَين الحَبطي، واخترتُك وَأَنت من أهل عمان، ثمَّ رجل من الأزد. فالْقهُم يَوْم كَذَا فِي مَكَان كَذَا وَإِلَّا أشرعتُ إِلَيْك صَدْر الرماح فشاورَ بنيهِ، فَقَالُوا: إِنَّه أميرٌ فَلَا تغْلْظ عَلَيْهِ فِي الْجَواب. فَأَجَابَهُ المهلبُ: وردَ علىَّ كتابُك، تزعُم أَنِّي أقبلتُ على جباية الْخراج، وتركتُ قتال العدُو. ومَن عجز عَن جبايةِ الْخراج فهُو عَن قتال العدوِّ أعجَزُ، وزعمتَ أَنَّك وليتني، وَأَنت ترى مَكَان عَبدِ الله بن حَكِيم، وعَبادِ بن حُصَيْن ولوْ وليْتهُما لكانا مُسْتحقَّيْن لذَلِك فِي فضلهما، وغنائهما، وبطشِهما. وَإنَّك اخترتني - وَأَنا رجلٌ من الأزد. ولعَمَري إِن شرا من الأزد لقبيلةٌ تنازعها ثلاثُ قبائل لم تستقِر(5/46)
فِي وَاحِدَة منهُن. وَزَعَمت أَنِّي إِن لم ألقهُم فِي يَوْم كَذَا أشرعْت إِلَى صَدْر الرُّمْح. فَلَو فعلت لَقلَبْتُ إِلَيْك ظَهْرْ المِجّنِّ وَالسَّلَام. وَوجه الحجاجُ إِلَيْهِ الجراحَ بن عَبْد الله يستبطئُه فِي مناجَزة الْقَوْم. وَكتب إِلَيْهِ: أما بعد. فَإنَّك جَبيتَ الْخراج بالعلل، وتحصنتَ بالخنادق، وطاولت الْقَوْم وَأَنت أعزُّ ناصراً، وَأكْثر عَددا. وَمَا أظنُّ بك مَعَ هَذَا مَعْصِيّة وَلَا جبْناً، وَلَكِنَّك اتخذتهم أُكْلاً. وَكَانَ بقاؤهم أيْسرَ عَلَيْك من قِتَالهمْ. فناجزْهم، وَإِلَّا أنْكرتني. والسلامُ. فَقَالَ الْمُهلب للجراح: يَا أَبَا عقبَة. وَالله مَا تركتُ حِيلَة إِلاَّ احتلْتُها، وَلَا مكيدة إِلَّا أعُملتُها. وَمَا العجبُ من إبطاء النَّصْر، وتراخي الظفر، وَلَكِن الْعجب أَن يكون الرأيُ لمنْ يملُكه دون مَن يبصرهُ. ثمَّ ناهضهم ثَلَاثَة أَيَّام يُغاديهم الْقِتَال، وَلَا يزالُون كَذَلِك إِلَى الْعَصْر، حَتَّى قَالَ الْجراح: قد أعذرت وينصرفُ أصحابهُ. وبهم قَرْح، وبالخوارج قَرْح، وَقتل. وَكتب الْمُهلب إِلَى الْحجَّاج: أَتَانِي كتابُك: تستبطئُني فِي لِقَاء الْقَوْم. على أَنَّك لَا تُظنُّ بِي مَعْصِيّة وَلَا جبْناً. وَقد عاتبْتني مُعاتبة الجَبان، وواعدتني وعيدَ العَاصِي. فسل الْجراح. وَالسَّلَام. وَكتب إِلَيْهِ الحجاجُ: أما بعد. فَإنَّك تتراخى عَن الْحَرْب حَتَّى يأْتيك رُسلي فيرجعوا بُعذْرك، وَذَاكَ أَنَّك تُمسك حَتَّى تَبرأ الجِرَاحُ، وتُنَسى القتْلى، ويجُمَّ الناسُ، تلْقاهم فتحتملَ مِنْهُم مثْلَ مَا يحْتَملُونَ مِنْك من وْحشة الْقَتْل، وألمِ الْجراح. وَلَو كُنت تلْقاهُم بذلك الجِد لَكَانَ الداءُ قدْ حُسِم، والقرنُ قد قُصِم. ولعَمْرِي مَا أنْت والقومُ سَوَاء، لِأَن مِنْ ورائك رجِالاً. وأمامك أَمْوَالًا. وَلَيْسَ للْقَوْم إِلَّا مَا مَعَهم،؟ وَلَا يُدرَكُ الوجيفُ. بالدبيبِ وَلَا الظفَر بالتعذير. فَكتب الْمُهلب إِلَيْهِ: أما بعدُ. فإنِّي لم أعْط رسلك على قَول الحقِّ أجرا، وَلم أحتج مِنْهُم مَعَ الشاهدة إِلَى تلقين ذكرت أَنِّي أجُمُّ الْقَوْم، وَلَا بُد من رَاحَة(5/47)
يستريح فِيهَا الْغَالِب، ويحتال فِيهَا المغلوب، وذكرتَ أَن فِي الجمام مَا يُنسي الْقَتْلَى، ويْبرِئُ الْجراح. وهيهات أنْ يُنَسى مَا بَيْننَا وَبينهمْ تأْتي ذَلِك قَتْلَى لم تُجَن، وقروح لم تُتَقرف. وَنحن وَالْقَوْم على حَالة وهم يرقبُون منا حَالات، وَإِن طمعُوا حَاربُوا، وَإِن مَلُّوا وقفُوا، وَإِن يئُسوا انصرَفوا، وعلينا أَن نقاتلهم إِذا قَاتلُوا، ونتحرز إِذا وَقفُوا، ونطلب إِذا هربوا، فإنْ تَرَكتنِي والرأي كَانَ القِرن مفصُوما، والداءُ - بِإِذن الله - محسُوماً، وَإِن أعجَلتني لم أطعك، وَلم أعص، وَجعلت وَجْهي إِلَى بابك وَأَنا أعوذ بِاللَّه من سَخط الله عزّ وَجل ومَقت النّاس {وخطبَ يزيدُ بن الْمُهلب بواسط} فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق، يَا أصحَاب السَّبق والسِّباق، وَمَكَارِم الْأَخْلَاق. إِن أهل الشَّام فِي أفوَاههم لقمةٌ دَسمةٌ قد زيِّنت لَهَا الأشداق، وقامُوا لَهَا على سَاق، وهم غير تاركيها لكم بالمراءِ والجدال، فالْبُسوا لَهُم جُلودَا النمر. وَقيل للمهلب فِي بعض حروبه: لَو نمت. فَقَالَ: إِن صَاحب الْحَرْب إِذا نَام نامَ جَدُّه. وَقَالَ كفى بِالْمَرْءِ مَسْأَلَة أَن يغدُوَ عَلَيْك ويرُوح. وَقَالَ لَهُ رجل: إِن لي حَاجةً لَا ترزؤك فِي مَالك، وَلَا تنكُدُك فِي نَفسك قَالَ: وَالله لَا قَضَيتْها. قَالَ: ولمَ؟ قَالَ: لِأَن مثلي لَا يسال مثلهَا. وَقَالَ: مَا السَّيْف الصارم فِي كف الشجاع بِأَعَز من الصِّدق؟ وَمر بِقوم من ربيعَة فِي مجْلِس لَهُم، فَقَالَ رجلٌ من الْقَوْم: هَذَا سَيِّدُ الأزد، قيمتُه خَمْسمِائَة دِرْهَم. فَسَمعهُ الْمُهلب، فَأرْسل إِلَيْهِ بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم. قَالَ: دُونك يَا ابنُ، قيمةَ عمِّك، وَلَو كنت زِدْت فِيهَا لزدتك.(5/48)
الْبَاب الْخَامِس كَلَام أبي مُسلم
قيل لَهُ: مَا كَانَ سبَب خُرُوج الدولة عَن بني أُميَّة؟ فَقَالَ: ذَلِك لأَنهم أبعدُوا أولياءهم ثِقَة بهم، وأدَنوْا أعداءَهم تأَلُّفاً لَهُم، فَلم يصر العدوُّ بالدنُّو صَديقاً وَصَارَ الصّديق بالبعاد عدُوّاً. وَقيل لَهُ فِي حداثته: إِنَّا نرَاك تأْرق كثيرا، وَلَا تنام كأَنك مُوَكلٌ برَعي الكوَاكب، وأو مُتوقِّعٌ للوَحي من المساءِ. فَقَالَ: وَالله مَا هُوَ ذَاك، وَلَكِن لي رأيٌ جوالٌ، وغريزةٌ تامةٌ، وذهنٌ صَاف، وهمة بعيدَة ونفسٌ تَتُوقُ إِلَى معالي الْأُمُور مَعَ عَيْش كعيش الهمَج والرِّعاع، وحَالٍ مُتناهية من الأتَضاع، وإنِّي لأَرى بعض هَذِه مُصِيبَة لَا تجبرُ بسهر، وَلَا تتلافى بأرق. قيل لَهُ: فَمَا الَّذِي يُبْرِدُ عَليك، ويشفي أجَاج صدرك؟ قَالَ: الظفرُ بالمُلك. وَقيل لَهُ: فاطلب. قَالَ: إِن المُلك لَا يطْلب إِلَّا بُركوب الْأَهْوَال. قيل: فاركب الأَهوال: قَالَ: هَيْهَات. الْعقل مانعٌ من ركُوب الْأَهْوَال. قيل. فمَا تصنع وَأَنت تُبْلَى حسرةً وتذوب كمداً؟ . قَالَ: سأجعَل من عَقلي بعضه جهلا، وأحاول بِهِ خطراً، لأنال بِالْجَهْلِ مَالا يُنال إِلَّا بِهِ. وأدَبِّر بِالْعقلِ مَالا يحفَظ. إِلَّا بقوته، وأعيش عَيْشًا يُبين مَكَان حَياتِي فِيهِ من مَكَان مَوتي عَلَيْهِ، فإنّ الخمول أخُوا العَدم والشُّهرةَ أَبُو الْكَوْن.(5/49)
قَالَ رجلٌ من أهل الْعرَاق: أَوْصَانِي أَبُو مُسلم وآنَسنى، ثمَّ سَأَلَني، فَقَالَ: أيُّ الْأَعْرَاض أدنى؟ فَقلت: عِرْض بخيل. قَالَ: كلا. رُبَ بُخْل لم يَكْلَم عرضا. قلت: فأيها أصلحَ الله الأميرَ؟ قَالَ: عرضٌ لمَ يَرتع فِيهِ حربٌ وَلَا دمٌ. قَالَ أَبُو زيد: سَمِعت رؤبة يَقُول: مَا رَأَيْت أروَى لأشعارنا أبي مُسلم من رجل يرتضخ لُكْنةً. قَالَ أَبُو زيد: وَإِذا قَالَ رؤبة لرجل يرتضخ لكنة فَهُوَ من أفْصح النَّاس. وَقَالَ أَبُو سلم: أَشد من يُقَاتِلكُمْ مُمتعضٌ من ذلةٍ، أَو محام على ديانَة أَو غيورٌ على حُرْمَة. كَانَ فاذوسبان. من كبار أهل نيسابور، وَكَانَت لَهُ عِنْد أبي مُسلم يدٌ فِي اجتيازه إِلَى خُراسان، فَكَانَ يرعَى لَهُ ذَلِك. فَقَالَ لَهُ يَوْمًا الفاذُوسبان: أيُّها السَّلاَّرُ - وَبِذَلِك كَانَ يخاطَبُ أَبُو مُسلم قبل قَتله ابنَ الكِرماني -: هَل مَال قَلْبك إِلَى أحد بخراسان؟ فَقَالَ: كنت فِي ضِيَافَة رجل يُقَال لَهُ فلانٌ السَّمرقَنْدِي، فَقَامَتْ بَين يَدي جاريةٌ لَهُ توضيني فاستحليتُها قَالَ: فانفذ الفاذوسبان إِلَى سَمَرْقَنْد، واحتال فِي تَحْصِيل الْجَارِيَة، ثمَّ أضَاف أَبَا مُسلم، وأمرَها بأَن توضئه، فَلَمَّا نظر إلّيها عرفهَا فَوَهَبَهَا لَهُ الفاذوسبان وَكَانَ لَا يُحجَب عَن أبي مُسلم فِي أَي وَقت جَاءَهُ، فَدخل إِلَيْهِ يَوْمًا فَوَجَدَهُ نَائِما فِي فرَاشه، فَانْصَرف، فَأمر أَبُو مُسلم برده، فجاءَ حَتَّى وقف عَلَيْهِ رَآهُ مضاجعاً تِلْكَ الْجَارِيَة وهما فِي ثيابهما وَبَينهمَا سيفٌ مْسلولٌ. فَقَالَ: يَا فاذو سبان، إِنَّمَا أَحْبَبْت أَن تقف على صُورَة مَنَامِي، لتعلم أَن من قَامَ بِمثل مَا قُمْت بِهِ لَا يفرغ إِلَى مُباشرة النِّساء. وَأنْشد: قومٌ إِذا حَاربُوا شدُّوا مآزرهم ... دون النِّساء وَلَو باتت بأطهار. وَكتب المنصورُ إِلَيْهِ: أحص خَزَائِن عبد الله عليَّ. فَقَالَ أبوْ مُسلم لتُعِطينَّ: قُل لَهُ: يَا بن سَلامَة نحنُ أمناءُ على الدِّماء، خونةٌ على الْأَمْوَال. كتب عبد الحميد عَن مَرْوَان كتابا إِلَى أبي مُسلم: صَاحب الدولة. وَقَالَ(5/50)
لمروان: إِنِّي قد كتبتُ كتابا إِن نجع فَذَاك وَإِلَّا فالهلاكُ. وَكَانَ من كبر حجمه يُحمل على جمل، وَكَانَ نفث فِيهِ خَراشِي صَدره، وضمَّنه غرائب عجَره وبُجَره. وَقَالَ: إِنِّي ضامنٌ أنّه مَتى قَرَأَ الرسولُ - على المُستكفين قولَ أبي مُسلم، ذَلِك بمشهد مِنْهُ - أَنهم يَخْتَلِفُونَ وَإِذا اخْتلفُوا كَلَّ حَدُّهم، وَذَلِكَ جدُّهم. فَلَمَّا ورد الْكتاب على أبي مُسلم دَعَا بِنَار فطرحه فِيهَا إلاًّ قَدْرَ ذِراع فَإِنَّهُ كتب عَلَيْهِ: محا السيفُ أسطار البلاغة وانتحى ... عَلَيْك لُيوث الغاب من كل جَانب فَإِن تُقْدِمُوا نُعمل سُيوفاً شحيذة ... يهون عَلَيْهَا العتبَ من كلِّ عَاتب. ورَدَّه. فَحِينَئِذٍ وَقع اليأْسُ من مُعالجته. وَلما بلغهُ خبرُ وَفَاة السفاح فِي طَرِيق مَكَّة عَائِدًا. وَكَانَ قد تقدم المنصورُ كتب إِلَيْهِ: لأبي جَعْفَر من أبي مُسلم. أما بعد: فَإِن أَبَا الْعَبَّاس قد هلك، وَإِن تحتج إلىّ تجدْني بحيثُ تُحب. فَلَمَّا وبَّخهُ أبْو جَعْفَر عِنْد قَتله قَالَ وتُكاتُبني - وَأَنا الخليفةُ - لأبي جَعْفَر من أبي مُسلم. وَشَجر بَين أبي مُسلم وَصَاحب مَرْو كلامٌ أربى فِيهِ صَاحب مرو عَلَيْهِ. فاحتمله أَبُو مُسلم. فندم صَاحب مرو، ووجع إِلَى أبي مُسلم معتذراً. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسلم: مَه؟ ؟ لسانٌ سبق، وهمٌ أَخطَأ، والغشب شيطانٌ وَأَنا جَرًّأتك عَليّ باحتمالك، فَإِن كنت للذنب مُعْتَمدًا فقد شاركتك فِيهِ وَإِن كنتَ مَغْلُوبًا، بِالْعَفو يسعُك.(5/51)
فَقَالَ لَهُ صَاحب مرو: وعِظَمُ ذَنبي يمْنَع قلبِي من الهدوء. فَقَالَ أَبُو مُسلم يَا عجبا، أقابلك بِإِحْسَان أَنْت مُسيء، ثمَّ أقابلك بإساءة وَأَنت محسنٌ وَقَالَ صَاحب مرو: الْآن وثِقْت بك. وَكتب إِلَى السفاح: أرِحُ نَفسك من كَبْشَي الْعرَاق: سُليمِ بن حبيب بن الْمُهلب، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن الْمُهلب، فقتلْهما جَمِيعًا. وَكَانَ أولَ من أظهر السوَاد بِالْبَصْرَةِ عبدُ الرَّحْمَن بن يزِيد، وَجعل يَقُول حِين دَعَا إِلَى بني هَاشم: أما وَالله إِنِّي لأَفْعَل هَذَا، وأعلمُ أَنِّي من ذَبَائِحهم. قيل لِأَنِّي مُسلم: من أَشْجَع؟ قَالَ: كلُّ قوم فِي إقبال دولتهم.(5/52)
الْبَاب السَّادِس كَلَام جمَاعَة من الأُمراء
خطب يُوسُف بن عُمر، فَقَالَ: اتَّقوا الله عباد الله. فكم من مُؤمِّل أملاً لَا يبلُغُه، وجامعٍ مَالا يأْكله، ومانعٍ مَا سَوف يترُكه، وَلَعَلَّه من باطلٍ جمَعَهُ، وَمن حقٍّ مَنعه. أَصَابَهُ حَرَامًا وَورثه عدُوا، وَاحْتمل إصره، وباءَ بوزره، وورَد عَلَى ربه آسفاً لاهفاً خسر الدُّنيا وَالْآخِرَة ذَلِك هُوَ الخسْران المبينُ. صعد وردُ بن حَاتِم الْمِنْبَر، فَلَمَّا رَآهُمْ قد فتحُوا أسماعَهم، وشَقُّوا أبْصارهم نَحوه قَالَ: نكِّسوا رؤوْسكم، وغُضُّوا أبْصاركم، فَإِن أوَّل مركبٍ صعبٌ، وَإِذا يسَّر الله فتْحَ قُفْلِ تَيسَر. كَانَ يوسفُ بنُ عُمر يَقُول: كَانَ الْحجَّاج الدُّخان وَأَنا اللهب؟ قَامَ خالدُ بنُ عبد الله على الْمِنْبَر بواسط خَطِيبًا. فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: أيُّها النَّاس تنافُسوا فِي المكارم، وسارعُوا إِلَى الْمَغَانِم، واشتُروا الْحَمد بالجُود، وَلَا تكتسبُوا بالمَطْل ذماً وَلَا تعتدُّوا بِالْمَعْرُوفِ مَا لم تُعجِّلُوه، وَمهما يكُن لأحدكم عِنْد أحد نعمةٌ فَلم يبلُغ شكرَها فَالله أحسنُ لَهَا جَزَاء وأجزلُ عَلَيْهَا عَطاء. واعلُموا أَن حوائج النّاس إليكُم نعمَ من الله(5/53)
عليكُم، فَلَا تملُّوا النِّعم فتتحولَ نقماً. وأعلمُوا أَن أفضل المَال مَا أكسبَ أجرا، وورَّث ذكرا، وَلَو رأيتُم الْمَعْرُوف رجلا رأيتُموه حسنا جميلاً يسر الناظرين ويفوق الْعَالمين وَلَو رَأَيْتُمْ الْبُخْل رجلا رَأَيْتُمُوهُ مُشوَّهاً قبيحاً تنفر عنهُ القُلوبُ وتغضِي عنهُ الأبصارُ. أَيهَا الناسُ: إِن أَجود النَّاس من أعْطى من لَا يرجُوهُ، وأعظمَ النَّاس عفوا من عَفا من قُدرة، وأوصل النَّاس من وصل من قطعهُ وَمن لم يطب حرثُه لم يَزْكُ نبتُه. والأصولُ عَن مغارسها تنمُو، وبأُصولها تسمُو. أقولُ قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله لي ولكُم. أَرَادَ رجلٌ أَنِّي مدح رجلا عِنْد خَالِد بن عبد الله، فَقَالَ: وَالله لقد دخلتُ إِلَيْهِ فرأيته أهْدى النَّاس دَارا وفَرْشاً وَآلَة. فَقَالَ خالدٌ: لقد ذممتُه من حَيْثُ أردْت مدحهُ هَذَا وَالله حَال من لم تدع فِيهِ شهوتُهُ للمعروف فضلا. حدث بعضُهم قَالَ: لما وَلي أبُو بكر بنُ عبد الله الْمَدِينَة وَطَالَ مُكُثهُ عَلَيْهَا كَانَ يبلُغُهُ عَن قوم من أَهلهَا تناولٌ لأَصْحَاب رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وإسعافٌ من آخَرين لهُم على ذَلِك، فَأمر أهل البُيوتات، ووجوه النَّاس فِي يَوْم جُمعة أَن يقرُبُوا من الْمِنْبَر، فَلَمَّا فرغ من خطْبَة الجُمعة قَالَ: أيُّها الناسُ: إنِّي قائلٌ قولا، فَمن وعاهُ وأدأه فعلى الله جزاؤُه وَمن لم يعه فَلَا يَعْدَمَنَّ ذماً. مهما قصرتُم عنْهُ من تفْضِيلة فَلَنْ تعجِزُوا عَن تحصيلهِ، فأرعُوه أبصَاركُم، وأوعُوهُ أسمَاعَكُم، واشْعِرُوه قُلُوبَكُم، فالموعِظةُ حَيَاةٌ والمؤمنُون إخُوةٌ. وعَلى الله قصدُ السَّبِيل، وَلَو شاءَ لهداكُم أَجْمَعِينَ. فأْتوا الهدّي تهتدوا، وَاجْتَنبُوا الغي ترشُدوا وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون. وَالله جلّ ثَنَاؤُهُ. وتقدست أسماؤه أمَرَكم بِالْجَمَاعَة، ورضيَها لكم، ونهاكم عَن الْفرْقَة، وسخطها مِنْكُم " اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ. واعتصموا بحَبل الله جَمِيعًا لَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذا كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا ". جعلنَا الله وَإِيَّاكُم مِمَّن تتبع رضوانه، وتجنبَ سخطه، فَإِنَّمَا نَحن بِهِ وَله. إِن الله بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالدِّين، وَاخْتَارَهُ على الْعَالمين، وَاخْتَارَ لَهُ أصحاباً(5/54)
على الحقِّ، ووزراءَ دون الْخلق، اخْتصم بِهِ، وانتخبهم لَهُ، فصدقوه، ونصروه، وعَزروه، ووَقروه، فَلم يُقدِموا إِلَّا بأَمره، وَلم يُحْجِموا إِلَّا عَن رَأْيه، وَكَانُوا أعوانه بعهده، وخلفاءَه من بعده، فوصفهم فأحسَن صفتهمْ، وَذكرهمْ فَأثْنى عَلَيْهِم، فَقَالَ وَقَوله الحقُّ: " محمدٌ رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداءُ على الكفاء رُحَمَاء بَينهم تراهم رُكَعاً سُجّداً يَبْتغُونَ فضلا من اللهِ ورضواناً سِيماهم فِي وُجُوههم من اثر السُّجود ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرجَ شطأه فآزره فاستغلظ. فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الْكفَّار وعدّ الله الَّذِي آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغفرةٌ وَأَجرا عَظِيما. فَمن غاظوه فقد كفرَ، وخاب، وفجر، وخسر، وَقَالَ عز وَجل: " للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضواناً الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون. وَالَّذِي تبوءُوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم يحبُّون مَن هاجرَ إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَةٌ وَمن يُوقَ شح نَفسه فأُولئك هم المفلحون. وَالَّذِي جاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجعَل فِي قُلُوبنَا إلاّ للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤُوفٌ رَحِيم ". فَمن خَالف شريطة الله عَلَيْهِ لَهُم، وأمْرَه إِيَّاه فيهم، فَلَا حق لَهُ فِي الْفَيْء، وَلَا سَهمَ لَهُ فِي الْإِسْلَام فِي آيٍ كَثِيرَة من الْقُرْآن. فَمَرقت مارقةٌ من الدِّين وفارقوا الْمُسلمين، وجعلوهم عِضين، وتشعبوا أحزاباً أشابات، وأوشابا، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءَه عَلَيْهِم، وآذوا رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَسلم - فهيم، فخابوا، وخسروا الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين. " أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن زيِّن لَهُ سوءُ عَمله وَاتبعُوا أهواءَهم ". مَالِي أرى عيُونا خُزْرا، ورقاباَ صُعْرا، وبطونا بُجْرا، وشجى لَا يسيغه المَاء، وداءً لَا يشرب فِيهِ الدَّوَاء. " أفنضرب عَنْك الذكرَ صفحاً أَن كُنْتُم قوما مسرفين ". كلا وَالله، بل هُوَ الهناءُ، والطلاء حَتَّى يظهرَ الْعذر، ويبوح الشرُّ، ويَضِحَ الغيْب، ويُسَوَّسَ الجُنُب، فَإِنَّكُم لم تخلقوا عَبَثا، وَلنْ تتركوا(5/55)
سدى. وَيحكم {} إِنِّي لست أتاوياً أعَلم، وَلَا بَدَوياً أفهم. قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطناً، وأظهرا، فَعرفت أنحاءكم، وأهواءَكم، وَعلمت أَن قوما أظهرُوا الْإِسْلَام بألسنتهم، وأسروُّا الكفرَ فِي قُلُوبهم، فَضربُوا بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وولَّدْوا الرِّوَايَات فيهم، وضربوا الِاثْنَيْنِ. ووجَدوا على ذَلِك من أهل الْجَهْل من أبنائهم أعواناً يأْذنون لَهُم، ويُصْغُون إِلَيْهِم. مهلا مهلا. قبل وُقُوع القوارع وحلول الروائع، هَذَا لهَذَا، وَمَعَ ذَلِك فلست أعتنش آئباً، وَلَا أؤنب تَائِبًا. عَفا الله عَمَّا سلف وَمن عادَ فينتقم الله مِنْهُ وَالله عزيزٌ ذُو انتقام: فأسرُّوا خيرا، وأظهروه، وأجهَروا بِهِ، وَأَخْلصُوا، فطالما مَشيْتُم الْقَهْقَرَى ناكصين. وليعلمْ مَن أدبَر وأسَرَّ أَنَّهَا موعظةٌ بَين يَدَي نقمةٍ. وَلست أدعوكم إِلَى هوى يتبع، وَلَا إِلَى رَأْي يبتدع. إِنِّي أدعوكم إِلَى الطَّرِيقَة المُثلى الَّتِي فِيهَا خير الْآخِرَة والأُولى. فَمن أجَاب فَإلَى رُشْده، ومَن عَمِىَ فَعَن قَصده. فَهلُم إِلَى الشَّرَائِع لَا إِلَى الخدَائع، وَلَا تَوَلًّوا عَن سَبيل الْمُؤمنِينَ، وَلَا تستبدلوا الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خيرٌ، بئسَ للظالمين بَدَلا. وَإِيَّاكُم وبُنَيَّات الطَّرِيق، فَعندهَا الترنيق، والرهق وَعَلَيْكُم بالجادة فَهِيَ أسدُّ وَأورد، ودَعُوا الْأَمَانِي فقد أردَتْ من كَانَ قبلكُمْ. وَلَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سَعى، وَللَّه الْآخِرَة وَالْأولَى و " لَا تفتُروا على الله كذبا فُيسحتكم بِعَذَاب وَقد خَابَ من افترى " " رَبنَا لَا تزع قلوبَنا بعد إِذْ هديتنا وهب لنا من لُدنك رَحْمَة إِنَّك أَنْت الوهابُ " قَالُوا: إِن قُتَيْبَة بن مُسلم قَالَ لما قدم خراسَان: مَن كَانَ فِي يَده شَيْء من مَال عبد الله بن خازم فليَنبذه، وَإِن كَانَ فِي فِيهِ فليلفظه، وَإِن كَانَ فِي صَدره فليَنفثه. فَعجب النَّاس من حسن مَا فصًّل وقسَّم. وَقَالَ قُتَيْبَة: إِن الحريصَ يستعجل الذِّلة قبل إِدْرَاك البُغية. أهْدى عبيدُ الله بن السّدي إِلَى عبد الله بن طَاهِر لما وَلي مصرَ - مائَة(5/56)
وصيف، مَعَ كلِّ وصيف ألف دِينَار، ووجهَ بذلك لَيْلًا. فَرده، وبَعَثَ إِلَيْهِ: لَو قبلت هديتك لَيْلًا لقبلتها نَهَارا وَمَا " أَتَانِي الله خيرٌ مِمَّا أَتَاكُم بل أَنْتُم بهديتكم تفرَحُون " قَالَ الْمَأْمُون لطاهر بن الْحُسَيْن: صف لي عبد الله ابْنك. قَالَ: عَن مدَحتُه هجّنتُه، وَإِن هجوتُه ظلمتُه. ولدَ الناسُ ابْنا، وَولدت ابْنا يُحِسن مَا أحسن وَلَا أحسن مَا يحسن. وليّ عبدُ الله بن طَاهِر رجلا بريدَ مَا وَرَاء النَّهر، فَكتب إِلَيْهِ: أنَّ هَا هُنَا قوما من الْعَرَب قد تعصبُوا وتأشبوا، أظنُّ أمَرهم سيرتقي إِلَى مَا هُوَ أغْلظ. مِنْهُ. فَكتب إِلَيْهِ عبدُ الله: إِنَّمَا بُعِثْتَ للْأَخْبَار السَّابِقَة والحوادث الظاهرَة لَا للكهانة والتظنَّي. قَالَ عبيدُ الله بن عبد الله بن طَاهِر: لَا يَنْقَضِي عَجبي من ثَلَاثَة: إفلات عبّاس بن عَمْرو من القرمطيِّ، وهُلْك أَصْحَابه، وَوُقُوع الصغار، وإفلات أَصْحَابه. وَولَايَة ابْني الجسريْن وَأَنا متعظل. وَقَالَ محمدُ بن عبد الله بن طَاهِر لوَلَده: عِفُّوا تشرُفوا، واعشقوا تَظْرُفوا وَقَالَ عُبيدُ الله بن عبد الله فِي علته: لم يبْق على من بأْس الزَّمَان إِلَّا الْعلَّة والخَلة وأشدهما على أهونهما على النَّاس. ولأنَّ ألمَ جسمي بالأوجاع أَهْون عَليّ من ألم قلبِي للحقِّ المُضاع. جرى ذكرُ رجل فِي مجْلِس سَلم بن قُتَيْبَة، فنال مِنْهُ بَعضهم، فَأقبل سَلم فَقَالَ: يَا هَذَا، أوحَتْستَنا من نَفسك، وأيأَستنا من مودتك، ودَللْتَنا على عورتك. قَالَ بَعضهم: كنت عِنْد يزِيد بن حَاتِم بإفريقية، وَكنت بِهِ خَاصّا فَعرض عَلَيْهِ تاجرٌ أدراعاً، فَأكْثر تقليبها، ومزاولة صَاحبهَا. فَقلت لَهُ: أصلح الله الأميرَ. فعلامَ تلوم السُّوق؟ فَقَالَ: ويحَك {} إين لست أَشْتَرِي أدراعاً إِنَّمَا أَشْتَرِي أعماراً.(5/57)
قَالَ الْمَأْمُون لطاهر بن الحُسَين: أشر عَليّ بِإِنْسَان يَكْفِينِي أمرَ مصرَ والشّام. فَقَالَ لَهُ طاهرٌ: قد أصبته. قَالَ: من هُوَ؟ قَالَ: عبدُ الله ابْني، وخادُمك، وعَبدُك. قَالَ كَيفَ شجاعته؟ قَالَ: مَعَه مَا هُوَ خيرٌ من ذَلِك قَالَ لَهُ المأْمون: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الحزم. قَالَ: فيكف سخاؤه؟ قَالَ: مَعَه مَا هُوَ خير من ذَلِك. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: التنزُّه وخُلْفُ النَّفس. قَالَ: فولاه فَعَفَّ عَن إِصَابَة خَمْسَة آلَاف ألف دِينَار. وَهب الْمَأْمُون لطاهر الهني والمري - وهما نهران بِقرب الرقة - فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: كفى بِالْمَرْءِ شرَهاً أَن يَأْخُذ كل مَا أعطي. مَا هما يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من ضيَاع السُّوقة، مَا يصلحان إِلَّا لخليفة أَو وليّ عهد. فَلم يقبلهما. كتب الحجاجُ إِلَى قُتَيْبَة بن مُسلم: أَنِّي قد طلقت أم خَالِد بنت قطن الْهِلَالِيَّة عَن غير رِيبَة، وَلَا سوءٍ، فتزوَّجْها. فَكتب إِلَيْهِ قُتَيْبَة: إِنَّه لَيْسَ كلُّ مَطالع الْأَمِير أحِبُّ أَن أطلع. فَقَالَ الْحجَّاج: ويَل أمِّ قُتَيْبَة. وَأَعْجَبهُ ذَلِك. وَكَانَ خالدُ بن عبد الله الْقَسرِي مَال عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وتنقّصه على المنابر. وذُكر أَنه اتخذ طستاً فِي الْمَسْجِد بِالْكُوفَةِ ميضأةُ، وخَرق قناةً من الْفُرَات إِلَيْهَا. ثمَّ أَخذ بيد أَسْقُف النَّصَارَى يمشي فِي مَسْجِد عَليّ حَتَّى وقف على الطست. ثمَّ قَالَ للأسقف: ادْع فِيهَا بالبرَكة. فوَاللَّه لدُعُاؤك عِنْدِي أَرْجَى من دُعاء عَليّ بن أبي طَالب - صلوَات الله عَلَيْهِ وسلامُه على عَليّ، وغضبُه على خَالِد. وَقدم عَلَيْهِ محمدُ بن عبد الله بن عَمْرو عُثْمَان يَسْتمْنِحُه، فَلم يفعل بِمَا يُحب. فَقَالَ: أما الْمَنَافِع فلهذين الهاشميَّين. يَعْنِي داودَ بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس، وزيدَ بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.(5/58)
وَأما نَحن فَلَيْسَ لنا إِلَّا شتمُةُ عليا على الْمِنْبَر. فَبلغ ذَلِك خَالِدا فَقَالَ: إِن أحب تناولنا لَهُ عُثمان بِشَيْء. وَكَانَ لعنهُ الله يلعن على المنابر عَلياً - عَلَيْهِ السَّلَام - فَيَقُول: لعن الله لَاعن عليِّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب ابْن هَاشم بن عبد منَاف، وَابْن عمِّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَزوج ابْنَته، وَأَبا الْحسن والحُسين، ثمَّ يُقبِل على النَّاس فيقولك أكَنَيْتُ. وَبنى خالدٌ بِيعةً لأمِّه - وَكَانَت نَصْرَانِيَّة فاستعفاه الْمُسلمُونَ مِنْهَا. فَقَالَ: لعن الله دينهم إِن كَانَ شرا من دينكُمْ. قَالَ الْمَأْمُون لطاهر: يَا أَبَا الطّيب صف لي أَخْلَاق المخلُوع. قَالَ: كَانَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَاسع الطرَب، وضيِّق الأدَب، يُبيح لنَفسِهِ مَا تعافهُ هِمَمُ ذَوي الأقدار. قَالَ: كَيفَ كَانَت حرُوبُه؟ قَالَ: كَانَ يجمع الْكَتَائِب بالتبذير، ويفضُّها عَنهُ بِسوء التّدبير. قَالَ: فَكيف كنتُم لَهُ؟ قَالَ: كُنَّا أُسْداً تبيتُ، وَفِي أشداقها حُلوقُ النَّاكِثِينَ، وَتَحْت صدورها صدورُ المارقين. قَالَ: إمَا أَنه أولُ مَن يأْخذُ اللهُ بدَمه يومَ الْقِيَامَة ثلاثةٌ: لستُ أَنا وَلَا أَنْت رابعَهم، وخامسهُم: الْفضل بنُ الرّبيع، وَبشر بن المُعتمر، والسندي بن شاهك. واللهُ ثأَر أخي، وَعِنْدهم دَمُه. مرض عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، فَركب إِلَيْهِ الوزيرُ، فَلَمَّا انْصَرف عَنهُ كتب إِلَيْهِ عبيدُ الله: مَا أعرفُ أحدا جزى الْعلَّة خيرا غَيْرِي، فَإِن جزيتُها الخيرَ، وشكرتُ نعمتها عَليّ، إِذْ كَانَت إِلَى رُؤيتك مؤديةً. فَأَنا كالأعرابي الَّذِي جزى يومَ الروع خيرا فَقَالَ: جَزى اللهُ يَوْم الروع خيرا فإنهُ أرانا على علاته لُقى ثَابت وَكتب المأْمونُ إِلَى طَاهِر يسألهُ عَن اسْتِقْلَال ابْنه عبد الله.(5/59)
فَكتب طاهرٌ إِلَيْهِ: عبدُ الله - يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ - ابْني. وَإِن مدحتُه ذممتُه وَإِن ذممتُه ظلمتُه. ولنعمم الخلَفُ هُوَ لأمير الْمُؤمنِينَ من عَبده. فَكتب إِلَيْهِ المأْمونُ: مَا رضيتَ أنْ قرَّظتهُ فِي حياتك حَتَّى أوصَيتَنا بِهِ بعدَ وفاتك. قَالَ طاهرٌ: طولُ الْعُمر ثَائِر مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُخْليك من رُؤْيَة محَبة فِي عدوَّ. قَالَ الكبيُّ: قَالَ لي خالدُ بنُ عبد الله بن يزِيد الْقَسرِي: مَا يُعدُّ السُّؤدد. فيكُم؟ فقلتُ: أما فِي الْجَاهِلِيَّة فالرِّياسةُ، وَأما فِي الْإِسْلَام فالولاية، وخيرُ من هَذَا وَذَاكَ التَّقْوَى. فَقَالَ لي: صدقت. كَانَ أبي يقولُ: لم يُدرك الأولُ الشّرف إِلَّا بِالْفِعْلِ، وَلَا يُدركُ الأخِرُ إِلَّا بِمَا أدْرك بِهِ الأوِّلُ. قَالَ: فَقلت: صدق أبُوك سَاد الأحنفُ بِحمْلِهِ، وساد مالكُ بنُ مِسمع بمحبة الْعَشِيرَة لَهُ، وساد قُتيبة بدهائه، وسادَ الْمُهلب بِجَمِيعِ هَذِه الخِلال. فَقَالَ لي: صدقت. كَانَ أبي يقولُ: خيرُ النَّاس للنَّاس خيرُهُم لنَفسِهِ إِنَّه إِذا كَانَ كَذَلِك أبقى على نَفسه من السرَق لِئَلَّا يُقطع، ومِن القتْل لِئَلَّا يُقادَ، ومِن الزِّنى لِئَلَّا يُحد، فسَلمَ الناسُ مِنْهُ بإبقائِه على نفسِهِ. قيل: وَكَانَ عَبدُ الله بنُ يزيدَ أَبُو خَالِد مِن عقلاء الرِّجال. وَقَالَ لَهُ عبدُ الْملك يَوْمًا: مَا مالُك؟ فَقَالَ: شَيْئَانِ لَا عَيْلة عَليّ مَعَهُمَا: الرِّضا عَن الله عزّ وَجل، والغني عَن النَّاس. فَلَمَّا نَهَضَ مِن بَين يَديه قيل لَهُ: هلا خبرتهُ بِمِقْدَار مالِك؟ فَقَالَ: لم يعدُ أَن يكون قَلِيلا فيَحقِرني، أَو كثيرا فيحْسدني. وخطب عبدُ الرَّحْمَن بنُ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بالمِربْد عِنْد ظُهُور أمّر الْحجَّاج عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيهَا الناسُ. إِنَّه لم يبْق من عَدوكُمْ إِلَّا كَمَا يبْقى من ذَنْب الوزغَة، تضرب يَمِينا وَشمَالًا، فَلَا تلبثُ أَن تَمُوت.(5/60)
فَسَمعهُ رجلٌ من بني قُشَيْر بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصة فَقَالَ: قبح الله هَذَا. يَأْمر أَصْحَابه بقلة الاحتراس من عدوهم، ويعدُهْم الغُرَور. وَقيل لنصْر بن سيار: إِن فلَانا لَا يكتُبُ. فَقَالَ: تِلْكَ الزِّمانةُ الخفيةُ. وَقَالَ: لوْلا أَن عمرَ بن هُبيرة كَانَ بَدويّاً مَا ضبَط. أَعمال الْعرَاق، وَهُوَ لَا يكْتبُ. اعتذر رجلٌ إِلَى مُسْلم بن قُتَيْبَة من أمْر بلغهُ عَنهُ، فعذرُه ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا: لَا يحْملنك الخروجُ مِن أَمر تخلصْت مِنْهُ على الدُّخُول فِي أمْر لَعَلَّك لَا تتخلصُ مِنْهُ. وَقَالَ مُسلُم بنُ قُتَيْبَة: الشبابُ الصحةُ، والسُّلْطانْ الْغَنِيّ، والمروءةُ الصبرُ على الرِّجَال. وَقَالَ خَالِد بن عبد الله القسْري: يُحَمدُ الجودُ مَا لمْ يسْبقُه مَسْألةٌ وَمَا لم يتبعهُ مَن، وَلم يُزْر بِهِ قصورٌ، وَوَافَقَ مَوضِع الْحَاجة. قَالَ الرشيد لسَعِيد بن سَلْم: يَا سعيدُ، مَنْ بيتُ قيس فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. بنُو فَزَارَة. قَالَ: فمَنْ بيتُهُم فِي الْإِسْلَام؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: الشريفُ مَنْ شرفتُموه. قَالَ: صدقت. أَنْت وقومُك. قَالَ بَعضهم: أريت نصْرَ بن سيار على الْمِنْبَر بسَرْخس. وَقد حسَر ذِرَاعَيْهِ - وَكَانَ أشعرَ طَوِيل الساعدَين. وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنَّك تعلُم أَن جعُفرَ بن مُحَمَّد حَدثنِي عَن آبَائِهِ أَن رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ: مَا منْ أحد أنْعمَ على قوم نعْمَة فكفرُوا نعمتَه، فَدَعَا الله عَلَيْهِم إِلَّا أجيبتْ دَعوته. اللَّهُمَّ إِنَّك تعلُم أَنِّي أحسَنْتُ إِلَى ألِ بسَّام فَكَفرُوا نِعْمتي. اللَّهُمَّ افْعَل بهم. ودَعَا عَلَيْهِم. قَالَ: فَلم يَحُلِ الحولُ وعَلى الأَرْض مِنْهُم عين تطرف: وَكَانُوا سبعين رجلا، كلُّهم قد ركب الْخَيل.(5/61)
كَانَ أَبُو هبَيرة يَقُول: أعوذ بك من كلِّ شَيْطَان مستغرب وكل نبطي مستعرِب. خطب بِلَال بن أبي بُردَة بِالْبَصْرَةِ، فَعرف أَنهم قد استحَسنوا كلامَه، فَقَالَ: لَا يمنعنكم أقبحُ مَا تعلمُونَ فِينَا أَن تقبلُوا أحسن مَا تَسْمَعُونَ منا. قَالَ ابْن هُبَيْرَة لبَعض وَلَده: لَا تكونن أول مشير، وَإِيَّاك والهوى والرأي الفطيرَ، وتجنب ارتجال الْكَلَام، وَلَا تشر على مستبدٍّ وَلَا على وغد وَلَا مثلوِّن وَلَا لجوج، وخَفِ الله فِي مُوَافقَة هوى المستثير، فَإِن التماسَ مُوَافَقَته لؤمٌ، وسوءَ الِاسْتِمَاع مِنْهُ خيانةٌ. قَالَ رجل ليزيدَ بن أَسد يَدْعُو لَهُ: أَطَالَ الله بقاءَك. فَقَالَ: دَعوني أمُتْ، وَفِي بقيةٌ تَبْكُونَ بهَا عَليّ. وشخصَ يزِيد بنُ عمرَ بن هُبَيْرَة إِلَى هِشَام بن عبد الْملك فَتكلم فَقَالَ هِشَام: مَا مَاتَ من خلف مثل هَذَا. فَقَالَ الأبرشُ الكبيُّ: لَيْسَ هُنَاكَ، أمَا نراهُ يرشح جَبينُه لضيق صَدره. فَقَالَ يزِيد: مَا لذَلِك أرشحُ وَلَكِن لجُلوسك فِي مثل هَذَا الْموضع. وَدخل يزيدُ بن عمر على الْمَنْصُور - وَهُوَ يَوْمئِذٍ أميرٌ - فَقَالَ: أيُّها الأميرُ إنَّ عَهدَ الله لَا يُنكث، وعَقدَهُ لَا يُحَل، وَإِن إمارتكُم بِكْرٌ. فأذيقُوا الناسَ حلاوَتها، وجنِّبُوهم مَرارتها. اتخذ يزيدُ بنُ الْمُهلب بستاناً بخُراسَان فِي دَاره فَلَمَّا ولي قتيبةُ بنُ مُسلم جعل ذَلِك لإبله. فَقَالَ لَهُ مَرزُبانُ مَروٍ: هَذَا كَانَ بستاناً وَقد اتخذته لإبلك؟ فَقَالَ قتيبةُ: عَن أبي كَانَ أشترباذ وَأَبُو يزيدَ كَانَ بُسْتَان باذ. قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي الحكم: لَوْلَا ثلاثٌ مَا بالَيْتُ مَتى متُّ: تزحُّف الْأَحْرَار إِلَى طَعَامي، وبذلُ الْأَشْرَاف وجوهَهُم إِلَى، وقولُ الْمُنَادِي: الصَّلَاة أيُّها الْأَمِير. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث: لَوْلَا أربعُ خِصَال مَا أعطيتُ أحدا طَاعَة، لَو(5/62)
مَاتَت أمُّ عمرَان - يَعْنِي: أمه، وَلَو شَاب رَأْسِي، وَلَو قرأتُ الْقُرْآن، وَلَو لم يكُن رَأْسِي صَغِيرا. خطب قُتيبةُ بن مُسلم بخُراسان حِين خُلع، فَقَالَ: أتدرُون لمن تُبَايعون؟ إِنَّمَا تُبَايِعُونَ يزيدَ بن ثروان، يَعْنِي هينقة الْقَيْسِي كَأَنِّي بأمير من حاء وَحكم، قد أَتَاكُم يحكم فِي دمائكم وفروجكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَبْشَاركُمْ ثمَّ قَالَ: الْأَعْرَاب. وَمَا الْأَعْرَاب؟ ؟ لعنةُ الله على الْأَعْرَاب جمعتكم كَمَا يُجَمع قَزَع الخريف من منَابت الشِّيح والقيصُوم، ومنابت الفلفل، وجزيرة أبر كاوَان. تركُبون الْبَقر، وتأكلُون القضْب فحملتكُم على الْخَيل، وألبستكُم السِّلاحَ، حَتَّى منع الله بكم الْبِلَاد، وأفاءَ بكم الفيءَ. قَالُوا: مُرنا بِأَمْرك. قَالَ: غُرُّوا غَيْرِي. وخطب مرّة أُخْرَى فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق. أَلَسْت أعلمَ النَّاس بكم؟ أما هَذَا الْحَيّ من أهل الْعَالِيَة فنعَمُ الصدَقة. وَأما هَذَا الْحَيّ من بكر بن وَائِل فعِلْجةُ بظراءُ لَا تمنعُ رِجْلَيْهَا، وَأما هَذَا الْحَيّ من عبد الْقَيْس فَمَا ضرب العَيْر بذنبهِ. وَأما هَذَا الحيُّ من الأزد فعُلوجُ خَلْقِ الله وأنباطُه. أيمُ الله لَو ملكتُ أمرَ النَّاس لنقشتُ أَيْديهم. وَأما هَذَا الحيُّ من تَمِيم فَإِنَّهُم كَانُوا يسمُّون الغدْر فِي الجاهليةِ كَيسان. وخطب مَرةً أُخْرَى، فَقَالَ: يَا أهل خُراسَان. قد جربتُم الوُلاة من قبلي أتاكُم أميةُ، فَكَانَ كاسمه أميةَ الرَّأْي، وأميةَ الدّين. فَكتب إِلَى خَلِيفَته إِن خراجَ خُراسان وسجستان لَو كَانَ فِي مَطبخه لم يكفهِ. ثمَّ أتاكُم بعَده أَبُو سعيد يَعْنِي الْمُهلب بن أبي صُفرة فدوم بكم ثَلَاثًا. أما تدرُون فِي طَاعَة أَنْتُم أم فِي مَعْصِيّة؟ ؟ ثمَّ لم يَجْب فَيْئا وَلم يَنْكَ عدوا، ثمَّ أتاكُم بنُوهُ بعده مثل أطباء الكلبة، مِنْهُم ابْن دحمة: حمَار يَضْربُ فِي عانةٍ، وَلَقَد كَانَ أَبوهُ يخافهُ على أمهاتِ أَوْلَاده. وَلَقَد أصبحتُم - وَقد فتح اللهُ عَلَيْكُم البلادَ، وَأمن لَكِن السُّبل. حَتَّى أَن الظعينةَ لتخرجُ مِن مَرو إِلَى سَمرقَند فِي غير جوَار. صعد خَالِد بنُ عبد الله القسْري المنبرَ بالبصْرة فأرْتج عَلَيْهِ. فَقَالَ: أيُّها النَّاس إنَّ الْكَلَام يجيءُ أَحْيَانًا فيتسبَّبُ سَببه، ويعزُّ أَحْيَانًا فيعزّ طَالبه. فَرُبمَا طلب فَأبى،(5/63)
وكُوبر فعسا فالتأني لِمَجِيه أصوبُّ من التعاطي لأبيِّه. ثمَّ نزل. قَالَ عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر: كَانَ أبي كثيرا مَا يقولُ إِذا سر: هَذَا يومٌ جريريُّ. قَالَ: فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: لقَوْله: فيالك يَوْمًا خيرهُ قبْلَ شرِّه تغَّيب واشِيِه وأقصَرَ عاذِلُه وَمثل ذَلِك مَا حكى عَن عبد الله بن طَاهِر: أنَّه كَانَ يقولُ: هَذَا من أَيَّام الكوزِ. فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: كَانَ رجلٌ إِذا مرَّ لَهُ يومٌ طيبَّ ألْقى حَصَاة فِي كوز. فَإِذا سُئِلَ عَن عمره عد الْحَصَى وَقَالَ كَذَا يَوْمًا. كَانَ مُسلم بن قُتَيْبَة يَقُول: أحزمُ النَّاس من وقى مَاله بسلطانهِ، وَوقى نفسَه بمالهِ، وَوقى دينه بِنَفسِهِ وَقَالَ إِذْ تخالجتك الأمورُ فاسْتقِلَ بأعظمها خطراً، فَإِذا لم تستبن فأرجَاها، فَإِن اشتبهت فأحُراحا أَلا يكُون لَهَا رجوعٌ عَلَيْك. وَقَالَ: احملوا الْأُمُور فِيمَا بَيْنكُم على أشُدِّها، وَلَا تراضْوا بالْقَوْل دون الفعْل. وخطب خَالِد بنُ عبد الله، فَقَالَ: أيّها النَّاس، عليكُم بالمعروفِ، فإنَّ فَاعله لَا يعْدم جوازيَه. مهما ضعف النَّاس عَن أَدَائِهِ قوى اللهُ على جَزائِه. أيُّها النَّاس، لَا يعتدَّنَّ أحدٌ مِنْكُم مَعْرُوفا لم يخرج مِنْهُ سهلاً، إِنَّكُم لَو رأيتُم الْمَعْرُوف شخصا لرأيتُموه حسَناً جميلاً. أعاذنا اللهُ وَإِيَّاكُم من الكُفر وَالْبخل. وَقَالَ خالدٌ: أيلبس الرجلُ أجودَ ثِيَابه. ويتطيّب بأطيب طيبه. ثمَّ يتخطى إِلَى الْقَبَائِل، والوجوهَ، لَا يُريد إِلَّا قَضَاء حَقي، وتعظيمي بسؤالهِ حَاجته. فَلَا أعرفُ ذَلِك لَهُ وَلَا أكافئُه عَلَيْهِ؟ تخطيتُ - إِذن - مكارمَ الْأَخْلَاق ومحاسنها إِلَى مساويها. اغتاب رجلٌ رجلا عِنْد قُتَيْبَة فَقَالَ لَهُ قتيبةُ: أمْسِكْ عَلَيْك فَلَقَد تلمَّظْت بُمضْغة طالما لَفظهَا الكرامُ. لما وَلي عثمانُ بن حيَّان المرِّي الْمَدِينَة بعد عمر بن عبد الْعَزِيز نزل دَار مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ يقولُ: مِحْلالٌ مِظعانٌ. المغرورُ من اغترَّ بك.(5/64)
الْبَاب السَّابِع فضول الْكتاب والوزراء وتوقيعات ونكت من كَلَامهم ونوادر لَهُم
أمرَ المأْمونُ أَحْمد بن يُوسُف أَن يكْتب فِي الْآفَاق بتعليق المصابيح فِي الْمَسَاجِد فِي شهْر رَمَضَان. قَالَ: فأخذتُ القِرْطاسَ لأكتب، فاستعْجم عَليّ، ففكَّرتُ طَويلا، ثمَّ غشِيتَنْي نعْسةٌ فَقيل لي: اكتبْ: فإنَّ فِي كَثْرَة المصابيح إضاءةً للمتهجِّدين، وأنْساً للسَّابلةِ، ونفياً لمكامِن الرِّيب، وتنزيها لبيوت الله عَن وحْشة الظُّلم. أهْدى سعيدُ بن حميد إِلَى الْمَأْمُون فِي يَوْم مِهْرَجان خِوان جزْع، وَاتخذ ميلًا من ذهب بِقدر، وَحمله مَعَه. وَكتب إِلَيْهِ: قد أهديت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ خوان جزع ميلًا فِي ميل. فاستحسَن ذَلِك وَقَبله. وقَّع جَعْفَر بنُ يحيى فِي رُقَعِة متُحرِّم بِهِ: هَذَا فَتى لَهُ حرمةُ الأمل، فامتحنه بِالْعَمَلِ، فَإِن كَانَ كَافِيا فالسلطانُ لَهُ دُوننَا، وَإِن لم يكن كَافِيا فَنحْن لَهُ دون السُّلْطَان. كتبَ أَحْمد بن يُوسُف إِلَى إِسْحَاق الْموصِلِي وَقد زَارَهُ إِبْرَاهِيم بنُ الْمهْدي: عِنْدِي مَنْ أَنا عندَه، وحجَّتُنا عَلَيْك إعلامنا إياك ذَلِك قد أذنَّاك.
فصل لِأَحْمَد بن يُوسُف
أَكثر من يلجأُ إِلَى الحيلةِ مَنْ عجز عَن المبادأة والإصحار، وَأكْثر مَنْ يروم(5/65)
المبابذة مَنْ قصَّر عَن لِطيف الخُدَع، وخفِّي الاستدراج. وَالْقَصْد مؤّد إِلَى الرشْدِ. تَأَخّر إسحاقُ ابنُ إبراهيمَ الْموصِلِي عَن إبراهيمَ بن الْمهْدي، فَكتب إليهِ: لَا عذْر لَك فِي التأَخُّرَ عنِّي، فإنِّي لَا أَخْلو من خَالَيْنِ: سَخط أَمِير الْمُؤمنِينَ علىَّ فَهُوَ لَا يكرهُ أَن يُضرني، أَو رِضَاهُ عَنِّي فَهُوَ لَا يكُرَهُ أَن يسرَّني. أمرَ المأمونُ عمْروَ بن مسْعدَة أَن يكْتب كتاب عِناية، ويوجز. فَكتب: كتابي كتابُ واثق بِمن كتْبتُ إِلَيْهِ، مَغْنِيُّ بِمن كتبت لَهُ، وَلنْ يضِيع بَين الثِّقةِ والعنايةِ مُوَصِّله. كتب أَحْمد بنُ يُوسُف إِلَى صديق لَهُ: كتبتُ إِلَيْك فِي الظُّهر تفاؤلاً بأنْ يُظهرَك اللهُ على مَنْ ناوأك، ويجعلك ظهرا لمن وَالاك. كتب بعضُهم إِلَى رَئِيس: تختم كتُبَكَ لِأَنَّهَا مطايا الْبر، وَلَا أختمها لِأَنَّهَا حوامل الشّكر. وَقع جَعْفَر بنُ يحيى إِلَى عَامل لَهُ: وأنْصفْ من وَليت أمْرَهُ، وَإِلَّا أنْصَفهُ مِنْكَ مَنْ ولي أمرَك. وَقع أَحْمد بنُ هِشام فِي قِصَةِ مُتظلَّمٍ: أكْفِني أمْرَ هَذَا، وَإِلَّا كَفيْتُه أمرَك. استشهدَ ابنُ الفُرات فِي أَيَّام وزارته على بن عِيسَى، فَلم يشْهَدْ لهُ، وَكتب إِلَيْهِ لما عادَ إِلَى بيتهِ: لَا تلُمْني على نُكُوصي عَن نُصْرتِك بِشَهَادَة زُور، فإنَّه لَا اتِّفاق على نِفاق. وَلَا وَفَاء لذِي مَيْن واختلاق. وأحْرِ بِمَنْ تعدَّى الحقَّ فِي مسرَّتِك إِذا رَضى، أَن يتعدَّى إِلَى الْبَاطِل فِي مَسَاءتِك إِذا غضِب. وَالسَّلَام. وَقع إِبْرَاهِيم ابنُ الْعَبَّاس فِي ظهرِ رُقعة: إِذا كَانَ للمحْسِنِ من الحقِّ مَا يقنِعه، وللمسيءِ مِنَ النَّكالِ مَا يقمعه، بذلَ المُحسنُ الحقَّ رغبةَ وانقادَ المُسيءُ لهُ رهبةً. كتبَ الْقَاسِم بنُ عُبَيِدْ الله الكرْمي إِلَى بعضِ الوزُراء: ولي فيمَا جدّدَ اللَّهُ من هَذِه النعمةِ للوزيرِ مِنْ بُلُوغ النِّهَايَة، مَا انتزعتُه من كتابِ الله تَعَالَى فِي قولهِ: اليْومَ أكْمَلْتُ لكم دينَكُمْ وأتْمَمْت عليكُم نعْمَتِي. وَقد عَلمَ أَن دين الله بعد نزولِ هَذِه الْآيَة لم يَزلْ نامياً عَالِيا على كل دين، وأنَّه إِنَّمَا ضرَب بجرانِهِ وقهرَ الأمَمَ شرقاً وغرباً بعد كمالهِ.(5/66)
وقّع ذُو الرياستين إِلَى طَاهِر بن الْحُسَيْن: يَا نِصْف إِنْسَان. وَالله لئنْ أمرْتُ لأُنفذنَّ، ولئِنْ أنفذتُ لأُبرمَنّ، وَلَئِن أبرمتُ لأبلغنَّ. فأجَابَهُ: أَنا - أعزَّك الله - كالأمَةِ السَّوْدَاء، إِن حمل عَلَيْهَا دمْدَمتْ وَإِن رُفِّه عَنْهَا أشِرتْ. وَإِن عُوقبتْ فباستحقاق، وَإِن عُفِي عَنْهَا فبإحسَان. كتب إبْرَاهيم بنْ الْعَبَّاس إِلَى أهل حِمْصَ: أمَّا بعدُ فَإِن أميرَ الْمُؤمنِينَ يرى مِنْ حَقِّ اللهِ عليهِ اسْتِعْمَال ثَلَاث يُقدّمُ بعضُهن على بعْض: الأُولى تَقْدِيم تَنْبِيه وتوجيه، ثمَّ مَا يستظهر بِهِ من تحذير وتخويف. ثمَّ الَّتِي لَا ينفعُ لحسُم الدَّاء غَيرهَا. أَنَاة فإنْ لِم تُغْنِ أعقبَ بعدَها ... وَعِيداً فإنْ لم تُجْدِ أغنتْ عزائِمْ ويقالُ: إنَّ هَذَا أوّلُ كتاب صدَر عَن خَليفَة من بني الْعَبَّاس وَفِيه شِعرٌ. وَقيل: إِن إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس لم يتَعَمَّد أنْ يَقُول شعرًا، ولكنَّهُ لما رَآهُ موزُوناً تركهُ. كَاتب: أمَّا بعد، فكأنِّا فِي الثَّقةِ بك مِنْك، وكأنكَّ فِي الرأفةِ عليْنا مِنا، لأنِّا لم نرِدْك لأمْر إِلَّا نِلناهُ، وَلَا خِفْناك عَلى أمْر إِلَّا أمِنَّاه. كتب أَحْمد بنُ يُوسُف إِلَى إبراهيمَ بن الْمهْدي: الثقةُ بك سهَّلت السَّبِيل إِلَيْك، فأهْلنِا هَدِيَّة مَنْ لَا يحتشِمُ، إِلَى مَنْ لَا يغُتنِم. كتب إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس إِلَى عَليّ بن عِيسَى بن ماهان: قد بلغ مِنْ حسن ظَنك بِالْأَيَّامِ أَن وثقت بالسلامةِ مِنْها مَع الظُّلم، وَلَيْسَ هَذَا من عادَتِها. اعتذر كاتبٌ إِلَى صديق لَهُ تأخُّر اللِّقَاء، فأجابَه: أنْت فِي أوسَع العُذْر عِنْد ثِقتي، وَفِي أضْيق العذرْ عندَ شوقي. كتب رجلٌ إِلَى ابنِ سيَابه يسألُهُ عنْ رجل فَكتب فِي الْجَواب: هَو الله غثُّ فِي دينه، قذرٌ فِي دنْياه، رث فِي مروءته، سمْجٌ فِي هيئتهِ، منقطعٌ إِلَى نَفسه، رَاض عقلُه، بخيلٌ بِمَا وسّع الله عليهِ من لذَّته، كَتُومٌ لما أتَاهُ اللهُ من فضلهِ، حلافٌ، لجوجٌ، لَا ينصفُ إِلَّا صاغراً، وَلَا يعدِلُ إِلَّا راغماً، وَلَا يَرفعُ نفسَه عَن منزلَة إِلَّا ذل بعد تعززه فِيهَا.(5/67)
كتب إسْحاقُ بنُ إبراهيمَ الْموصِلِي إِلَى إِبْرَاهِيم بنِ الْمهْدي: مَنْ كانَ كُله لَك وَقع كلُّه عليْكَ. وقَّعَ عليُّ بنُ عِيسَى على قصَّة لاْبنِ قرابةَ العطَّار: منْ تحقق بالوزراء وجالس الأُمراء ودَاسَ بُسطَ الْخُلَفَاء وماثَل الكبراءَ وأمرَ ونهىَ فِي مجالسِ الرؤساء، بعَقلٍ يسير وفهْم قصيرِ، وَرَأى حقير وأدب صَغِير - كَانَ خليفاً بالنكبة، وحرياً بالمصيبة، وجديراً بالمحْنة، وَأَنا أتلكًّم إِذا حضرني الكلامُ فِيك بِمَا يقربُني إِلَى الله. كَاتب: لَا أعِدُك فأطمعك وَلَا أويسك فأقطعك، وَإِن أمكنتْني فَرْصةٌ فعلتُ. أخر: قد أعليتَ من يدٍ كَانَت مَقْبُوضَة، واسْمَيْت مِنْ مقْلة كَانَت مغْضُوضَةً. كتب بعضهُم إِلَى صديق لَهُ - وَقد تَأَخّر عَنهُ كِتَابه: إِن كنتَ لَا تُحسنُ أَن تكتُب فَهُوَ زَمانةٌ، وَإِن كنت تكتبُ وَلَا تكاتبُ إخوانَكَ فَهُوَ كسلٌ، وَإِن كنت تكتبُ وليسَ لَك قِرْطاسٌ ودواةُ فِي سوءُ تَدْبِير، وَإِن اعتذرت بِغَيْر مَا كتبت فهُو وَقاحةٌ. فصلٌ: أظلنِي من مولَايَ عارضُ غيث أخْلف ودقةُ، وشاقني رائحُ غوْث كذب برقُه، فقابله فِي حَرَّان مُمْحل أخطأهُ النّوء، وحَيْرَان مظلم خذلهُ الضوءُ - فصل: لِيَهنك أنّ جَمِيع نظرائك، وأكفائك يتنازعُون الْفضل فَإِن انْتَهوا إليكَ أقرُّوا لكَ ويتناصَفونَ المنازلَ فَإِن بلغوك وقفُوا دُونك - آخر: ثقْ مني بكتمان وَإِن أتعبَ القلبَ، ومساعدة وَإِن ثلمَتِ المروءةَ وَطَاعَة وَإِن قدحَتْ فِي الدِّين - آخر: حَقُّ لمن غُدي ببركَ، وارتضَعَ أخَلافَ إحسانكَ، وتنسَّم رَوْح خلائِقك أَن يكثُر عِنْد ذكرِكَ إِيَّاه شكرُه، ويتمهد عِنْد نسيانِك لَهُ عّذْره. كتب بعضُ عُمَّال إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس إِلَيْهِ يستزيدُه، فَوَقع فِي كتاب: اسْتدْع مَا عِنْدِي بالأثرِ لَا بالطلبِ. كَاتب: اتَّصل بِي خبرُ الفَتْرة فِي إلمامها وانسحارِها، ونبأ الشَّكاةِ فِي حُلُولها وارْتحالها، فَسَاد يسْعضلُ القلق بأوله عَن السُّكون لأخرِه، وتذهلُ عاديةُ الْحيرَة فِي ابْتِدَائه عَن عَائِدَة المسّرة فِي انتهائه، وَكَانَ التَّصَرُّف فِي الْحَالَتَيْنِ بِحَسب قدرهَا(5/68)
ارتياعاً للأُولى وارتياحاً للأُخرى - غضب يحيى بنُ خَالِد على بعض كتُابِه، فَكتب إِلَيْهِ الْكَاتِب: إِن لله قبلكَ تبعات وَلَك قبْلَة الحاجاتِ إِلَّا فأسألك بِالَّذِي يهب لَكَ الْحَاجَات وهبتَ تبعتك - قيلي لَهُ. فَرِضِي عَنهُ - قَالَ بعضُ الْكتاب: إِذا أقبلتِ الدّوَلُ كَثُرتِ العُدَدُ وإنْ قل العَدْد وَإِذا أدْبرتْ كثر العَدَدُ وقلتُ العُدَدُ كتب ابْن صبيح: فهمتُ كتابك باعتذارِك، فَجرد الْإِقْرَار بالذنب فَإِن الأول يَقُول: لَا تَرجُ رجعةَ مذنبٍ خلط احتجاجاً باعتذار الحسنُ بن وهب: إنّ حُسْن ثَنَاء الصادرين عَنك إليْنا يزِيد فِي عدد الوَاردين عَلَيْك من قِبَلنا. وَقع جوهرٌ مولى الفاطميين لما افْتتح مصر فِي قصَّة رَفعهَا إِلَيْهَا أهلُها سُوءَ الاحترام أوقْع بكم حُلُول الانتقام. وكفرُ الإنْعام أخَّوكْم منْ حفظ الذِّمام. فالواجبُ فِيكُم ترْكُ الْإِيجَاب، واللازمُ لكم ملازمةُ الاجتناب، لأنكم بدأتُم فأسأتُم، وعدْتُم فتعديتُم. فابتداؤكم مَلوم، وعَودْكم مذْموم، وَلَيْسَ بَينهمَا فُرْجةٌ تَقْتَضِي إِلَّا الذَّم لكم، والإعراض عَنْكُم ليرى أَمِير الْمُؤمنِينَ - صلواتُ الله عَلَيْهِ - رأيهُ فِيكُم. كتب عَليّ بن هِشَام إِلَى المَوْصلي: مَا أَدْرِي كَيفَ أصنع؟ أغِيبُ فأشتاق، وألْقى فَلَا أشتِفي. ثمَّ سَيُحدِث لي اللقاءُ نوعا من الحُرقة، للوعة الْفرْقَة. كتب آخر: من الْعجب إذكار معنَّى، وحثُّ متيقظ، واستبطاءُ دابر إِلَّا أنّ ذَا الحاجةِ لَا يدَع أَن يَقُول فِي حَاجته. كتب بَعضهم إِلَى ابْن الزيات: إِنَّا مِمَّا يطمعني فِي بقائنا عَلَيْك، ويزيدني بَصِيرَة فِي دوامها لَك - أَنَّك أَخَذتهَا بحقك، واستدَمتها بِمَا فِيك من أَسبَابهَا. وَمن(5/69)
شأْن الْأَجْنَاس أَن تتقاوم، وَالشَّيْء يتقلقل إِلَى معدته، ويحنُّ إِلَى عنصره، فَإِذا صَادف مَنبِته ركَن فِي مغرسه، وَضرب بعِرقه، وسمق بفرعه، وَتمكن للإقامة، وَثَبت ثبات الطبيعة. آخر: إِلَّا ابْن خاقَان: رايتُني فِيمَا أتعاطى من مَدحك كالمُخبِر عَن ضوء النَّهَار الباهر، وَالْقَمَر الزَّاهِر، الَّذِي لَا يخفى على نَاظر، وأيقنت أَنِّي حَيْثُ أَنْتَهِي من القَوْل منسوبٌ إِلَى الْعَجز، مقصَّرٌ عَن الْغَايَة، فَانْصَرَفت عَن الثَّنَاء عَلَيْك إِلَى الدُّعاء لَك، ووكلت الْإِخْبَار عَنْك إِلَى علم النَّاس بك. كتب الْحسن بن وهْب إِلَى صديق لَهُ يَدعُوهُ: افتتحت الْكتاب - جعلني الله فدَاك - والآلات معدةٌ، والأوتار ناطقةٌ، والكأْس محثوثة، والجو صَاف، وحواشي الدَّهْر رقاقٌ، ومخايل السرُور لائحةٌ، ونسأل الله إتْمَام النِّعْمَة بِتمَام السَّلامَة من شوب الْعَوَائِق، وطروق الْحَوَادِث، وَأَنت نظام شمْل السرُور، وَكَمَال بهاء الْمجْلس. فَلَا تخترِمْ مَا بِهِ يَنْتَظِم سروري وبهاء مجْلسي. كَاتب: قد أهديت لَك مودّتي رَغْبَة، ورضيت مِنْك بقبولها مثوبة، وَأَنت بِالْقبُولِ قَاض لحق، ومالكٌ لرقٍّ. آخر: قلّ مَن يَضبِط مَن وَجهه صُفرة الْفرق، وحمْرة الخجَل، وإشراق السُّرور، وكمَد الحُزن، وَسُكُون الْبَرَاءَة، واضطراب الرِّيبة. قَالَ بَعضهم: كنت بِحَضْرَة عبيد الله بن سُلَيْمَان، فوردتْ عَلَيْهِ رقعةٌ من جَعْفَر بن مُحَمَّد بن ثوابة نُسختُها: قد فتحتَ للمظلوم بابك، وَرفعت عَنهُ حجَابك، فَأَنا أحاكم الأيامَ إِلَى عدْلك، وأشكو صروفها إِلَى فضلك، واسْتجير من لؤم غلبتها بكرم قدْرتك وَحسن ملكيتك، فَإِنَّهَا تؤخِّرني إِذا قدِمَتْ، وتحرمني إِذا قسَمَتْ، فَإِن أعْطت أَعْطَتْ يَسِيرا، وَإِن أرتجعت ارتجعت كثيرا، ولمْ أشكها إِلَى أحد قبلك، وَلَا اعتمدتُ للانتصاف مِنْهَا إِلَّا فضلك، ولي مَعَ ذِمَام المْسألة لَك وحقِّ الظُّلامة إِلَيْك ذمام تأْميلك، وقدّم صدق فِي طَاعَتك. وَالَّذِي يملأُ من النصفة(5/70)
يَدي، ويفرغ الْحق عَليّ حَتَّى تكون إِلَى محسناً، وأكون بك للأيام مقرفاً - أَن تخلطني بخواص خدَمك الَّذِي نقلتهم من حرِّ الْفَرَاغ إِلَى الشُّغل، وَمن الخمول إِلَى النباهة وَالذكر، فَإِن رَأَيْت أَن تقرّبني فقد استعديت إِلَيْك، وتنصرني فقد عذت بك، وَتوسع لي كنفك فقدْ أدَيْتُ إِلَيْهِ، وتَسِمَني بإحْسانك فقد عوّلت عليْه، وتسْتعمل يَدي ولساني فِيمَا يصلحان لَهُ من خدْمتك، فقد درست كتب أسْلافك، وهم القدْوة فِي الْبَيَان، واستضأْت بآرائهم واقتفرت آثَارهم اقتفاً جعلني بَين وَحشِي الْكَلَام وأنسيّه، ووقفني مِنْهُ على جادة متوسِّطة يرجع إِلَيْهَا الغالي، وَيلْحق بهَا للقصِّر التَّالِي، فطتُ إِن شَاءَ الله. قَالَ فَجعل عبيد الله يردّدها، ويستحسنها، ثمَّ قَالَ: هَذَا أَحَق بديوان الرسائل. كَاتب: كَانَ لي أملان: أَحدهمَا لَك، وَالْآخر بك، وَأما الأمل لَك فقدْ بلغته، وَأما الأمل بك فأرجو أَن يحققه الله ويوشكه. آخر: ودّعتُ قلبِي بتوديعك، فَهُوَ يتَصَرَّف بتصرِّفك، وينصرف بمنصرفك. آخر: قد كنتَ لنكبات الدَّهْر مستعداً، ولغدَراته متحرِّفاً، فَهَل زَاد على أنْ صدقَك عَن نَفسه، وأتاك بِمَا كنت علما أَنه يَأْتِيك؟ فَكيف تجزع وَأَنت تعلم أَنه ليسَ لما وَقع مَرَدٌّ وَلَا لمَا ذهب مرتجَع؟ تهنئة بابنْة: رب مَكْرُوه أعْقب مَسَرةً، ومحبةٍ أعقبت معَرةً، وخالق الْمَنْفَعَة والمضرة أعلم بمواضع الخيرَة. آخر: إِنَّه ليتربص بك الدَّوَائِر، ويتمنى لَك الغوائل، وَلَا يؤمِّل صلاحاً إِلَّا بِفساد حالك، وَلَا رفْعَة إِلَّا بِسُقُوط قدْرك. فصل: حسر الدَّهْر عَن تجمُّلي قِناع القناعة، ولكنِّي مَعَ الضمأ - عَن دني الْمَوَارِد - نافرٌ، وَمَعَ الْفَاقَة بغنى النَّفس مُكاثرً. فصل: من تهنئة بإملاك: وَكَيف يرتاع لهجوم غُرْبة، وأو يجاور توحُّش نُقلة مَن لم يقطعهُ اتِّصَاله بِي عَنْك، وَلَا باعده انْتِقَاله إِلَيّ مِنْك، فَهُوَ مخاطبٌ على الْبعد(5/71)
بألفاظك، مرموقٌ بالمرَاعاة من ألحاظك، غير نازح عَمَّا أَلفه من عَواطف الولادَة، ورأفة التربية، وانبساط الأُنسة، وَالله يُسْعدها بِمن سارتْ بهَا من وفدتْ عليْه، ويُريني من المحبةِ فِيهَا مثلَ مَا أرانيه من الْمحبَّة بهَا، وَكَيف يُوصَى النَّاظر بنوره، أم كَيفَ يُحضُّ الْقلب على حفظ سروره. وَمثله لأبي إسْحاق الصابي، كِتَابه عَن بختيار إِلَى أبي تغلب وَقد نقل إِلَيْهِ ابْنَته: قد وجدت الْوَدِيعَة، وَإِنَّمَا نقلتْ من وَطن، إِلَى سَكن، وَمن مَغرِس إِلَى مُعَرسّ، وَمن مأوى ير وانعطافْ، إِلَى مَثوَى كَرَامَة وألطاف، وَمن مَنبِت درت لَهَا نعماؤه إِلَى منشأٍ يجود عَلَيْهَا سماؤُه، وَهِي بضعةٌ مني انفصلتْ إليْك، وثمرةٌ من جَنَى قلبِي حَصلتْ لديْك، وَلَا ضَياع عَليّ مَن تصحبه أمانتك، ويشتمل عليْه حفظك ورعايتك. فصل: إِذا طلبْتُ عِنْد غَيْرك مَا لُم أنلْ نلتُ مِنْك مَا لمْ أطلبْ، وَإِذا عدمتُ عِنْد سواكَ مَا رجوتُ وجدتُ عندَك مَا لم أرج، فاليأس من خيرك أَنْفَع من رجاي لغيرك، لِأَنَّك لَا تَقول فتفعلُ، وغيْركُ يقولُ فَلَا يفعلُ، ولأنك تعتذرُ من الجزيل إِذا امتن غَيْرك بِالْقَلِيلِ. فصل: مِلْكُ الْأَنْعَام أكْرم من مِلْكِ الرِّق، ورق الحرِّ أَفْخَر من رق العَبْد، لِأَن العَبْد يعطيك طاعتهُ كُرهاً، وضميره سواهَا، والحرُّ يبذلُها لَك طَوْعًا، ويعتقد ظَاهرهَا وفحواها. كتب أَبُو النَّجْم حبيب بن عِيسَى إِلَى عَمْرو بن مسعدةَ: يَنْبَغِي لمن علقتْه حبائلُك، وشقي بصُحبتك أَن يكون لَهُ صبرُ أيوُّب، وَعمر نوح، وكنوزُ قَارون، ومُلكُ هَارُون، فيستعين بِالصبرِ على ممَاطلتك، بالعُمِر على طول أيامك،(5/72)
وبالكنوز، على مواعدك، وبالملك على مَا ينالُه من الذلِّ ببَابك. كتب سهلُ بن هَارُون إِلَى ذِي الرياستين: إِلَى اللازمنة فرجا. فَكُن من وُلاة فرجهَا، ولأيامَها دُولا، فخُذ بحظك من دوَلْتك مِنْهَا، ولدُولها أمْراً فتزود قبل أَوَان تصرُّمها، فَإِن تعاظمَك مَا أنبأْتُك عنهُ فَانْظُر فِي جَوَانبها تأْخذك الموعظةُ من جَمِيع نَوَاحِيهَا، وَاعْتبر بذلك الِاعْتِبَار على أَنَّك مسلمٌ مَا سلم إليكَ مِنْهَا. قَالَ: فَكتب عهدهُ على فَارس. كتب بَعضهم إِلَى الْفضل بن سهل: يَا حافظَ من يُضيعُ نَفسه عِنْده، وَيَا ذَاكر مَن ينسى نصِيبه منْه، لَيْسَ كتابي إِذا كتبتُ استبطاء، وَلَا إمساكي إِذا أمسكتُ اسْتغْنَاء، لَكِن كتابي تذكرةٌ لَك وإمساكي عَنْك ثقةٌ بك. وصف الحسنُ بنُ سهلٍ المحن فَقَالَ: مَعهَا تمحيصٌ من الذِّئْب وتنبيهٌ من الغفْلة، وتعريضٌ للصَّوَاب بِالصبرِ، وتذكيرٌ بالنِّعْمة، واستدعاءُ للتوبْة، وَفِي قدر الله عز وجَل وقضائه. كتب أَبُو عَليّ بُرْد الْخِيَار بن مُقْلة إِلَى أبي الْحسن بن الْفُرَات اقتصَرت - أَطَالَ الله بَقَاء الْوَزير - عَن الاستعطاف والشكوى، وَحَتَّى تناهت المحنةُ والبلوى فِي النَّفس وَالْمَال، وَالْجِنْس، وَالْحَال إِلَى مَا فِيهِ شفاءُ للمنتقم، وتقويم للمجترم، وَحَتَّى أفضيتُ إِلَى الحيْرة والتبلُّد وعيالي إِلَى الهلكة والتلدُّد: وَمَا أقولُ إِن حَالا أَتَاهَا الوزيرُ - أيده اللهُ - فِي أَمْرِي إِلَّا بِحَق وَاجِب، وَظن صَادِق غير كَاذِب، وَإِلَّا أَن القُدرة تُذْهبُ الحفيظة، وَالِاعْتِرَاف يزُيلُ الاقتراف. ورَبُّ الْمَعْرُوف يؤثرهُ أهلُ الفضْل وَالدّين، والإحسانُ إِلَى الْمُسِيء من أفْعال المتّقين، وعَلى كلِّ حَالَة فلي ذمامٌ وحُرمةٌ وتأْميلٌ، وخدمةً إِن كانتْ الإساءةُ تُضيعُها، فرعايةُ الْوَزير - أيدهُ اللهُ - تحفظُها. كتب بَعضهم إِلَى آخر: أما بعدُ: فقد كُنْتَ لنا كلُّك فَاجْعَلْ لنا بعضك وَلَا ترض إِلَّا بالكُلِّ منَّا لَك.(5/73)
كتب يحيى بن خَالِد إِلَى الرشيد من الْحَبْس: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، إنْ كَانَ الذْنبُ خَاصّا فَلَا تعمنَّ بالعُقوبة، فَإِن الله يقولُ: " وَلَا تزرُ وازرةٌ وزْر أخْرى ". وجُد فِي كتاب لجَعْفَر بن يحيى أربعةُ أسطر بِالذَّهَب: الرزقُ مقسومٌ، والحريصُ محرومٌ، والبخيلُ مذمومٌ، والحسودُ مَغْمومٌ. قَالَ منصورُ بنُ زِيَاد. الكاتبُ: للمعلى بن أيُّوب: وَالله إِنِّي لأبذلُ، وَإِنِّي لأقدر وَإِنِّي لأختارُ، وَإِنِّي لأستشير، وَإِنِّي لأحب مَعَ طيب لخير، وَحسن المنظر، وَإِنِّي لأعشقُ الْبَهَاء كَمَا تتعشقُ الْمرْآة الحسناءُ، وَإِنِّي مَعَ ذَلِك لأدخُل دَارك فأحقر كل شَيْء فِي دَاري. فَمَا العلةُّ؟ قَالَ: أَو مَا تعلمُ؟ قَالَ لَا. قَالَ لِأَنِّي أقدَمُ عني مِنْك. كَانَ نقش مُحَمَّد بن داودَ الجرْاح: من نمٍّ إِلَيْك نمِّ عَلَيْك. قَالَ مُسلم بن الْوَلِيد: سَأَلت الْفضل بن سهل حَاجَة. فَقَالَ: أشوقك الْيَوْم بالوعد، وأحْبوك غَدا بالإنجاز، فَإِنِّي سَمِعت يحيى بن خَالِد يَقُول: المراعيد شبكةٌ من شباك الْكِرَام، يصيدون بهَا محامدَ الْأَحْرَار وَلَو كَانَ المعْطي لَا يَعدُ، لارتفعت مفاخرُ إنجاز الوَعْد، ونقَص فضل صدق الْمقَال. ووقَع الْفضل إِلَى تَمِيم بن مخرمَة الْأُمُور بِتَمَامِهَا، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها، وَإِلَى الْغَايَة مَا يجْري الجَواد، فهناك كشفت الْخِبْرَة قناع الشَّك، فحمِد السَّابِق، وذمِّ السِّاقط. كَانَ يحيى بن خَالِد: يَقُول لسْتَ ترى أحدا تكبِّر فِي إِمَارَة إِلَّا وَقد دَل على أَن الَّذِي نَالَ فَوق قدره، ولسْت ترى أحدا تواضع فِي الْإِمَارَة إِلَّا وَهُوَ فِي نَفسه أكبر مِمَّا نَالَ من سُلطانه. احْتَاجَ يحيى فِي الحَبْسٍ إِلَى شَيْء فَقيل لَهُ: لَو كتبتَ إِلَى صديقك فلَان فَقَالَ: دعُوه يكن صَديقاً. وَحضر الْفضل بن الرّبيع جَنَازَة ابْن حمدون بعْدَ نكبة البرامكة، فذكرَهم، وأطراهم، وقرظهم، وَقَالَ: كُنَّا نعتب عليهمْ، فصرنْا نتمنِّاهمْ وتبكي عليهمْ، ثمَّ أنْشد متمثلاً. عتبتُ على سلم فلَّما فقدْتُه ... وجريت أَقْوَامًا بَكَيْت على سَلم(5/74)
قَالَ الْفضل بن سهل: رَأَيْت جملَة السخِّاءِ حسن الظَّن بِاللَّه، وَجُمْلَة الْبُخْل سوء الظنِّ بِاللَّه، وَقَالَ الله تَعَالَى: الشَّيْطَان يعدُكم الفقرَ. وَقَالَ: " وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلف " احْتِيجَ أَن يكْتب على المعتضد كتابٌ يشْهد عَلَيْهِ فِيهِ العُدول، وفلما عُرضت النُّسْخَة عَن عبيد الله بن سُلَيْمَان، وَكَانَ ابْن ثوابة قد كتبهَا كَمَا يكْتب فِي الصكاك فِي صِحَة عقله، وجَواز أمْره لَهُ وعليْه، فضرَب عليْه عبيد الله وَقَالَ: هَذَا لَا يجوز أنْ يُقَال للُخليفة، وَكتب: فِي سَلامَة من جسْمه، وأصالة من رَأْيه. قَامَ رجلٌ إِلَى الرشيد يحيى بنُ خَالِد يسايره فَقَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ أَنا رجلٌ من المُرابطة وقدْ عطبتْ عابتي. فَقَالَ: يعْطى ثمن دابّته خمْسمائة دِرْهَم. فغمزه يحيى، فَلَمَّا نزل، قَالَ يأبَهُ. أَوْمَأت إِلَيّ بِشَيْء لم أفهمهُ. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. مثلُك لَا يجْرِي هَذَا المقدارُ على لسانهِ، إِنَّمَا يَذكر مثلُك خَمْسَة آلَاف ألفٍ إِلَى مائةِ ألف. قَالَ: فَإِذا سُئِلتُ مِثل هَذَا، كَيفَ أقولُ؟ قَالَ: تقولُ: تُشتَرى لَهُ دابّةٌ: يُفْعَل بهِ مَا يُفْعلُ بأمثاله. لما صَار نعيم بن حَازم إِلَى الْحسن بن سهل أقبل يَقُول: ذَنبي أعظمُ من الْمسَاء، أكثرُ من المَاء. فَقَالَ الحسنُ لَهُ: لَا عليكَ. تقدمتْ لَك خِدمة، وتوسّطت مِنْك طاعةٌ وعقِّبتَ باعتذار، وَمَا للذنبِ بَين هَذِه مَقَر، وَلَيْسَ ذنبُك فِي الذنوبِ بأعظمَ من عفْو أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْعَفو، وَأصْلح أمره. دخلَ الأصْمَعي إِلَى الحسنِ بن سَهْل فَقَالَ: يَا أصمعي: مَا أحْسنُ الكَلامِ؟ فَقَالَ: أصلح الله الأميرَ. مَا فَهمتْهُ العامةُ، وقدمته الْخَاصَّة. قَالَ رجلٌ لعبد الحميد أخُوكَ أحبُّ إليكَ أم صديقُك؟ قَالَ: إِنَّمَا أحِب أخي إِذا كَانَ صديقا. قَالَ ثُمامةُ: لما دخل الفضلُ بنُ سهل إِلَى الرشيد - وَقد وصفهُ لهُ يحيى بنُ(5/75)
خَالِد - حضر فَلم ينْطق، فَأنْكر الرشيدُ ذَلِك، فَقَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ: إنَّ من أبيْنَ الدلالةِ على فراهةِ الخادِم شِدّةُ إفراطِ هيبتهِ لسَيِّده، فَقَالَ الرشيد: أحْسنت، إِن كنت لتقولُ هَذَا، وَإِن كَانَ هَذَا شَيْئا أدركك عِنْد انقطاعك، إِنَّه لأحسنُ وأحسنُ وأحسنُ، ثمَّ ضمهُ إِلَى المَأمون. وَقَالَ الْفضل بن سهل: الرَّأْي يَسُدّ ثُلمَ السَّيْف، وَالسيف لَا يسُد تُلَم الرَّأْي. قَالَ ابنُ الزيَّات الْوَزير: لَا يتصورنًّ لَك التواني بِصُورَة التوكُّل، فتخلدَ إِلَيْهِ، وتُضيع الحْزمَ، فَإِن الله وَرَسُوله أمرا بِغَيْر ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى: وشاروهْم فِي الْأَمر فَإِذا عزمْت فتوكل على الله، فَجعل التَّوَكُّل بعد الْعَزْم، والمشورةِ. وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لصَاحب الناقةِ: اعقلها وتوكّل. قَالَ رجلُ لِعبيد الله بن سُلَيْمَان: لَو كَانَ للوزير بِي عنايةٌ مَا كَانَ عَليّ نابي الطّرف، وَلَا كنتُ من دركي مِنْهُ على حرف، فَقَالَ عبيدُ الله: أَيهَا الرجل. على رسْلِك، فَعَسَى نَظَرِي لَك فِي الْإِعْرَاض عَنْك، وَلَعَلَّ اُستصلاحي إيُاك بالانقباض مِنْك ثق باهتمامي بك إِلَى أوَان إسعافك، فَإِن تقربُّك إِلَيّ بتعريضكِ أجلبُ للنيل إِلَيْك مِن تباعدِك عني باقتضائك. وَأعلم أَنِّي وَزِير. وقّع ابنُ الزيات إِلَى بعْض عماله: توهمتُك شهماً كَافِيا، فوجدتك رسْماً عافياً، لَا محامياً وَلَا واقياً. أخبرنَا الصاحبُ - رحمهُ الله - قَالَ: أخبرنَا عبدُ الله بنُ مُحَمَّد الأيجي قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن الْأَزْدِيّ. قَالَ أخبرنَا أَبُو حَاتِم سهل بن مُحَمَّد السجسْتانِي قَالَ: ورد علينا عاملٌ من أهل الْكُوفَة، لم أر فِي عُمَّال السُّلْطَان بِالْبَصْرَةِ أبرَعَ مِنْهُ، فدخلتُ مُسلما عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا سجستاني مَن عُلَمَاؤُكُمْ بِالْبَصْرَةِ؟ قلت: الزيَادي أعلمنَا بِعلم الْأَصْمَعِي، والمازني أعلمنَا بالنحو، وهلالُ الرَّأْي من أفقهنا، والشاذكُوني من أعلمنَا بالحديثِ، وَأَنا - رَحِمك اللهُ - أنسبُ إِلَى علم الْقُرْآن، وَابْن الْكَلْبِيّ من أكتبنا للشروط. قَالَ: فَقَالَ لكَاتبه: إِذا كَانَ غَدا فاجمعهُم لي، قَالَ: فجمعنا فَقَالَ: إيكم الْمَازِني؟ قَالَ أَبُو عُثْمَان: هانذا يَرْحَمك الله، قَالَ هَل تُجزئ فِي كَفَّارَة الظِّهَار عتقُ عبدٍ أعورٍ؟ فَقَالَ الْمَازِني: لستُ صاحبَ(5/76)
فقه. أَنا صاحبُ عَرَبِيَّة، فَقَالَ: يَا زيادي. كَيفَ تكتبُ كتابا بَين رجل وَامْرَأَة خَالعهَا على الثلاثِ من صَدَاقهَا؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا من علمي، هَذَا من علم هِلَال الرَّأْي. قَالَ يَا هلالُ: كم أسْند ابنُ عون عَن الْحسن؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِن علمي، هَذَا من علم الشاذكُوني، قَالَ: يَا شاذكوني. من قَرَأَ: " فتثبتُوا أَن تصيبوا قَالَ: لَيْسَ هَذَا من علمي: هَذَا من علم أبي حَاتِم. قَالَ يَا أَبَا حَاتِم: كَيفَ تكتبُ كتابا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ تصف فِيهِ خصاصةَ أهل الْبَصْرَة وَمَا أصابُهم فِي الثَّمَرَة. وتسألُه لَهُم النظرَ والنظرة؟ فَقلت: لستُ - رَحِمك اللهُ - صَاحب بلاغة وَكِتَابَة: أَنا صاحبُ قُرْآن. فَقَالَ: مَا أقبحَ بِالرجلِ أَن يتعاطى الْعلم خمسين سنة لَا يعْرف إِلَّا فنَّا وَاحِدًا، حَتَّى إِذا سُئِلَ عَن غَيره، لم يُحل فِيهِ وَلم يُمِرّ، لَكِن عالمنا بِالْكُوفَةِ الْكسَائي لَو سئُل عَن كل هَذَا لأجاب. قَالَ يحيى بن خَالِد: مَا رَأَيْت شِريبَ خمر نزع، ولَّصا أقلع، وَصَاحب فواحشٍ رَجَعَ. وَقَالَ: مَا سقطَ غُبارُ موكبي على أحد إِلَّا أوجبتُ حقَّهُ. كتب أَبُو صَالح بن يزدَاد إِلَى جَعْفَر بن مَحْمُود: مَا زلتُ - أيدَّكَ الله - أَذمّ الدهرَ بذمك إِيَّاه، وأنتظر لنَفْسي وَلَك عقبَاه، وأتمنى زوَال حَال من لَا ذَنْب لَهُ إِلَى رَجَاء عاقبةٍ محمودة، تكون لَك بزوَالِ حالهِ، وَتركت الإعْذارَ فِي الطّلب على اختلال شَدِيد إِلَيْهِ، وضنَّا بالمعروفِ عِنْدِي إِلَّا عَن أَهله، وحبساً لشكري إلاّ من مُسْتَحقّه.(5/77)
فوقعَ جَعْفَر: لم أوخر ذكرَك تناسياً لحقك، وَلَا إغفالاً لواجبك، وَلَا إرجاءً لِمُهمِّ أمرِك، وَلَكِن يرقَبتُ اتْساع الْحَال وانفساحَ الأعْمال لأخصِّك بأسْناها خطراً، وأجَلِّها قدْراً، وأعْودِها ينفعٍ عَلَيْك، وأوْفرها رزقا لَك، وأقربها مَسَافَة مِنْك، وَإِذا كُنت مِمَّن يحفرُهُ الإعْجال، وَلَا يتسعُ لَهُ الإمُهال، فسأختارُ لَك مَا يُشِير إِلَيْهِ الوَقت، وأقَدمُ النظرَ فِيهِ وأجعلُه أول مَا أمَضيه. قَالَ الحسنُ بنُ سهل: لَا يكسد رَئِيس صِناعة إِلَّا فِي شَرّ زمَان، وأخس سُلْطَان. اعتل ذُو الرّياستين بخُرَاسانَ مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ أبَلّ واستقلّ وَجلسَ للنَّاس فدخلُوا إِلَيْهِ وهنئُوه بالعافية، فأنصت لهمْ حَتَّى تقضي كَلَامهم، ثمَّ انْدفع فَقَالَ: إِن فِي الْعِلَل نِعماً لَا يَنْبَغِي للعقلاء أَن يجهلُوها، مِنْهَا تمحيصٌ للذنب، وتعريضٌ لثواب الصبْر، وإيقاظٌ من الغفلةِ، وإذكارٌ بالنعمةِ فِي حَال الصِّحَّة، واستدعاءٌ للتَّوْبَة، وحضًّ على الصدقةِ، وَفِي قَضَاء اللهِ وَقدره بعد الخيارُ. فَانْصَرف النَّاس بِكَلَامِهِ، ونسوا مَا قَالَ غَيره. كتب عَمْرو بن مسعدةَ: وَأَنا أحبُّ أَن يتقَّررَ عِندك أَن أملي فِيك أبعد من أَن أختلسَ الْأُمُور اختلاس من يرى أَن فِي عاجِلك عوضا من آجلِك، وَفِي الذاهبِ من يومِك بَدَلا من المأْمولِ فِي غدك. كتبَ ابْن الفراتِ على بن مُحَمَّد، وَمُحَمّد بنُ داودَ، وَمُحَمّد بنُ عبدون رقُعةً إِلَى الْعَبَّاس بنِ الحسنِ الوزيرِ يستزيدون فِيهَا، فَوَقع بخطٍ على ظهرهَا مَا حالكم حَال مستنيد، وَلَا فَوق مَا أَنا عليهِ لكم مِن مزِيد، فَإِن تكن الاستزادةُ من مَال فَهُوَ موفورٌ عليكُم، وَإِن نَكُنْ من رَأْي فالأعمالُ لكُم، ولي اسْمها، وَعلي عبُثُها، وثِقلُ تدبيرها وَأَقُول لعَلي بنِ مُحَمَّد من بينكمْ: مَا يطيقُ نَفسه تدللا واعتداداً أَمن بِؤُس كَانَت هَذِه الاستزادة أم من بطر النعمةِ، ودلالِ الترفة، ولي فِي أمرِ جماعتكم نظرٌ ينكشِفُ عَن قريب، حَسْبي، وحسبكم الله ونعمَ الحسيبُ -. قَالَ عبيد الله بنُ سُلَيْمَان: كنتُ أكتبُ بَين يَدي أبي سُلَيْمَان داودَ ابْن الْجراح فَقَالَ لي يَوْمًا: أصلحْ قلمَكَ، وأكتب أطالَ اللهُ بَقَاءَك، وأعزك، وأكرمَك، وَأتم نعمتَهُ عَلَيْك، وإحسانه إليكَ.(5/78)
كُتبتُ الْوَكِيل - أعزّك اللهُ متصلةٌ بشُكرك، والضيْعةُ ضيْعَتُكَ، وكلُ ماتيهَ فِي أمرِها فموقعهُ يحسنُ مني وشُكري عليْه يتضاعفُ، وخطاباً فِي هَذَا الْمَعْنى. وَكَانَت هَذِه المخاطبةُ لَا يخاطبُ بهَا إِلَّا صاحبُ مصرَ أَو فَارس، فقلتُ: قد ابْتاعَ ضَيعةً بأحَدِ الموْضعين! ثمَّ أصْلح الْكتاب فَقَالَ: عنونْه إِلَى الرخجي وَكَانَ يتقلَّد النهرَوانَ الْأَوْسَط - ثمَّ رمى إِلَى كتابا لصاحبِ بريد، فقالَ: وَقع عَلَيْهِ. أنتَ أعزّك الله تقفُ على مَا تضمنُه هَذَا الكتابُ، وَلَئِن كَانَ مَا تضمنُه حَقًا لأفعلنَّ ولأصْنعنَّ. وخطاباً أغْلظ فِيهِ، ثمَّ قَالَ: عَنْوِنه للرخجي فعجبت من الكتابيْن. وفطن لما فِي نَفسِي فَقَالَ: أظنُّك قد أنكرْت الخطابيْن. هَذِه غايتي خدَمْتُها وَهَذَا حقُّ سلطاني استوفيتُه. وقعَ أبُو صَالح بنُ يزدادَ فِي وزارتهِ إِلَى عَامل خافهُ: لَيْسَ عَلَيْك بأسٌ مَا لم يكن مِنْك يأسٌ وَإِلَى آخر قد تجاوزتُ عَنْك وَإِن عدتَ أعدْتُ إِلَيْك، فاصْرفنهُ عَنْك. وَإِلَى آخرَ أدلَّ بكفاية: أدْللت فأضللت فاستصْغرْ مَا فعلت تَبلغ مَا أملت. خاصمَ أحمدُ بنُ يوسفَ رجلا بَين يَدي الْمَأْمُون وَكَانَ صفي المأمونُ إِلَيْهِ على أَحْمد فَعرف أحمدُ ذَلِك: فَقَالَ يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ إِنَّه يستملي من عَيْنَيْك مَا يلقاني بِهِ، ويستبينُ بحركتك مَا تجُنهُ لَهُ وبُلوغُ إرادتك أحب إِلَيّ من بُلُوغ أملي ولذةُ إجابتِك أثُر لدي من لَذَّة ظفري. وَقد تركتُ لهُ مَا نَازَعَنِي فِيهِ، وسَلمتُ إِلَيْهِ مَا طالبني بِهِ. فكشر ذَلِك المأمونُ لَهُ. كَانَ أحمدُ بن يُوسُف يكتبُ بَين يَدي الْمَأْمُون منهُ السكين فدفعَها إِلَيْهِ، والنصَابُ فِي يدهِ، فنظرَ إِلَيْهِ الْمَأْمُون نظر مُنكر، فَقَالَ: عَليّ عمْد فعلتُ ذَلِك، ليَكُون الحدُّ لأمير الْمُؤمنِينَ. فَعجب الناسُ مِن سُرْعةِ جَوَابه وشِدة فِطنتِه. قَالَ إبراهيمُ بنُ لعباس: واللهِ لَو وزُنت كلمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمحاسن النَّاس لرجحَت وَهِي قولُه: " إنكُمْ لن تسعوا الناسَ بأموالكم فسعوهُم بأخلاقكُم ". هَذَا أَبُو عباد كَانَ كريمَ العهدِ، كثيرَ الْبَذْل، سَرِيعا إِلَى فعل الْخَيْر فطمسَ ذَلِك سوءُ خُلُقهِ، فَمَا نرى لَهُ حَامِداً.(5/79)
وَقع ابنُ يزدَاد إِلَى عَامل: مَا بُين لنا مِنْك حُسنُ أثر، وَلَا يأتينا عَنْك سَار حبرٍ وَأَنت - مَعَ ذَلِك دائباً - تمدحُ نفسَك، وتصف كفايتك والتصفحُ لأفعَالِكَ يكذبُك، والتتبُّع لآثارك يردُّ قولَك، وَهَذَا الفعلُ إِن اتكلتَ عَلَيْهِ، وأخلدتَ إِلَيْهِ، أعْلقكَ الذّمَّ، وألحقكَ الْعَجز، فليكُن رائِدُ قولِك مصدِّقاً لموجودِ فِعْلِكَ إِن شَاءَ اللهُ. قَالَ أَبُو العْيناء: سمعتُ الْحسن بن سهل يقولُ: كانَ أنُوشروانَ لَهُ أَرْبَعَة خواتيمَ: خاتمٌ للخَراج، نَقشُه العدْلُ، وخاتمٌ للضّياه نقشهُ العمارةُ، وخاتمٌ للمعونةِ نقشُه الأناةُ، وخاتمُ للبريد نقشُهُ الرجاءُ، وَمَا نحنُ مِن هَذَا فِي شَيْء. اعتل بعضُ إخْوَان الْحسن بن سهل، فَكتب الحسنُ إِلَيْهِ: أجدني وَإِيَّاك كالجسم الواحِدِ إِذا خص عضوا مِنْهُ ألمٌ عمَّ سائِرَه فعَافاني الله بعافيتِك وأدام لي الإمتاع بك. كتب مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات إِلَى إبراهيمَ بن الْعَبَّاس الصُّولي: قلةُ نَظرك لنفسِكَ حرَمتك سَناء المنزلةِ، وإغفالُك حظَّك حَطَّكَ عَن أعْلى الدرجَة، وجهلُك بِقدر النِّعْمةِ أحلَّ بكَ البأُس والنِّقَمةَ حَتَّى صرتَ من قُوّة الْأَلَم معْتاضاً شِدّةَ الوَجَل، وَمن رجاءِ الغدِ متعرِّضاً يأْسَ الأبَد، وركبتَ مطيَّة المخافةِ بعد مَجْلس الْأَمْن والكرامةِ، وصرتَ معرَّضاً للرحمة بَعْدَمَا تكنَّفتْك الغبطةُ. وَقد قَالَ الشَّاعِر: إِذا مَا بدأتَ أمرأ جَاهِلا ... ببرٍّ فقصرَ عَن جهلِه ولمْ ترهُ قَابلا للجميل ... وَلَا عَرفْ الْفضل من أَهله فسِمهُ الهوانَ فَإِن الهوان ... دواءُ لذِي الْجَهْل مِنْ جُهله قد فهمتُ كتابك، وإغراقَك، وإطنابك، وَإِضَافَة مَا أضفتَ بتزويق الْكتب بالأقلام، وَفِي كِفَايَة الله غنى عَنْك يَا إبراهيمُ، وعِوضٌ مِنْك، وَهُوَ حَسُبنا وَنعم الْوَكِيل.(5/80)
قيل ليعقوبَ بن دَاوُد: لم لَا تسمع الغناءَ؟ قَالَ: يحلّ عُقدةَ حلمي. ذكر الْفضل بن الرّبيع يَوْمًا الْأمين، فَقَالَ: ينَام نومَ الظربَان، وينتبه انتباه الذِّئْب. همَّتُه بطنُه ولذتُه فُرْجَة لَا يفكرِّ فِي زَوَال نعْمَة وَلَا يروي فِي إِمْضَاء رَأْي وَلَا مكيدة، قد شمر لَهُ عبد الله عَن سَاقه، وَفَوق لَهُ أسَدًّ أسْهمه، يرميه على بُعد الدَّار بالحَتْف الفاقدِ، والإوت القاصدِ قد عبأ لَهُ المنايا على متُون الْخَيل، وناط لَهُ البلايا بأسنة الرماح وشِفار السُّيوف، ثمَّ تمثَّل بِشعر البعيث: يقارعُ أتراكَ ابنِ خاقانَ ليله ... إِلَّا أنْ يَرى الإصباحَ لَا يتلعثم فَيُصْبِح مِنْ طول الطَّرادِ وجسمه ... نحيل وأضحى فِي النَّعيم أصِمَّم فشتَّان مَا بيني وَبَين ابْن خَالد ... أميةَ فِي الرِّزق الَّذِي اللهُ يقسَّم ثمَّ قَالَ يَا أَبَا الْحَارِث: ونحْنُ نجري إِلَى غَايَة إِن قَصرنَا عَنها ذُممْنا، وَإِن اجتهدَنا فِي بُوغها انقطعْنا. وَإِنَّمَا نحنُ شعب من أصْل إِن قوي قوينا، وَإِن ضعف ضعُفْنا. إِن هَذَا الرجل قد ألْقى بِيَدِهِ إلقاءَ الأمةِ الوكعاءِ، يُشاورُ النساءَ ويعْتزم على الرُّؤْيَا، قد أمْكن أهل الخسَارة واللَّهو من سَمْعه. فهم يمنُّونهُ الْفَوْز والظَّفر ويعدونُه عُقبى الْأَيَّام. والهلاكُ أسْرع إليْه من السَّيْل إِلَى قيعان الرَّمْل. ذكر سليمانُ بن وهب أحمدَ بن أبي دَوْاد وإحسانه إِلَيْهِ حِين نكبهُ الواثقُ، فقالَ لما جَار علينَا بالنكبة الزمانُ، وجَفانا من أجْلها الإخوانُ، أنصفنا ابنُ أبي دواد مِنهم بتفضُّله، وكفانا الْحَاجة إِلَيْهِم بتفقُّدِهِ، فكأنا وإياهُ كَمَا قَالَ الحطيئة. جاورتُ أل مقلَّد فوجدْتُهم ... إِذا لَا يكادُ أخُو جوَار يُحمَدُ ايامَ مَن يُرِدِ الصَّنيعةَ يصْطِنعْ ... فِينَا وَمن يُرد الزَّهادَة يزهدُ كتب عَليّ بنُ عِيسَى بن ماهان إِلَى الرَّشيد كتابا يقولُ فِيهِ: إنَّ البرامكة زنادقةٌ، وَكَانَ لهُ فيهمْ بُعْدُ رأى فَدفع الْكتاب إِلَى جَعْفَر وَقَالَ علمي بِقَصْدِهِ إيَّاكُمْ(5/81)
يزِيل مَا كتب بِهِ فأجبه جَوَابا جميلاً، فَقَالَ جَعْفَر: وَالله يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، مَا نَدْرِي على أَي الْحَالَتَيْنِ نشكُرك؟ أَعلَى إعلامك إيانا بِمَا كَانَ، أم على تجاوزك عمَّا قَالَ. ثمَّ وقَّع فِي كتاب عَليّ بن عِيسَى: حبب اللهُ إِلَيْك الوَفاء فقد أبغضُتَهُ، وبغّض إِلَيْك الغدْر فقدْ أحبْبته إِنَّا وَإِن جرَت الأمورُ بِخِلَاف مَا نحب مِنْك فَلَنْ نبْعُد عمَّا نحبُّ لَك، وَفِي كثير إحسانك عندنَا مَا يعفِّى على قَلِيل إساءتك وَقد نَسِينَا هَذِه عَن لمْ تذكِّرْناها بأخت لَهَا. وَالسَّلَام. عتب أَحْمد بنُ خَالِد على أَحْمد بن هِشَام فِي أَمر كَانَ بينُهما فَاعْتَذر إِلَيْهِ، فَقَالَ ابنْ أبي خَالِد: لَا اقبلْ لَك عُذراً حَتَّى أَتَى إِلَيْك. فَقَالَ: وَالله لَئِن فعلت لَا استعَدْيتُ عليْك إِلَّا ظُلمك، وَلَا أطمعني فِيك إِلَى بغْيُك. قَالَ الفضلُ بن يحيى لبَعض المتحرِّمين بِهِ: أعْتَذر إِلَيْك بِصَالح النِّيَّة، وأحتجُّ عَلَيْك بغالب الْقَضَاء. وَكتب إِلَى عَامل لَهُ: بئسَ الزادُ إِلَى الْمعَاد العدوانُ على الْعباد. وَقَالَ لرجلٍ استْبطأ عنْدَهُ الرشيدَ - وَكَانَ منْ أهل بيْته - إنَّما شغلَ عَنْك أميرَ الْمُؤمنِينَ حُقوقُ أهل الطَّاعَة دُونك، وَلَو قد فرغ فيهمْ إِلَيْك لم يُؤثر مَن دُونك عَلَيْك. فَقَامَ أَبوهُ يحيى، فقبَّل رأسَه. كتب محمدُ بن عبد الْملك إِلَى عبد الله بن طَاهِر: لَو لم يْكن من فضل الشُّكر إِلَّا أنَّه يُرى بَين نعْمَة مَقْصُورَة عَلَيْهِ أَو زِيَادَة منتظرة، فَقَالَ: عبدُ الله لكَاتبه: كَيفَ ترى. مَسْمع هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ؟ فَقَالَ: كأنهُمَا قُرْطان بَينهمَا وجَهٌ حسنٌ. رَقع جعفرُ بنُ يحيى على ظهر كتاب لعَلي بن عِيسَى: حبب الله إِلَيْك الْوَفَاء - ياخي - فقد أبغضته، وَبَعض إِلَيْك الغَدْر فقد أحببته. إِنِّي نظرت فِي الْأَشْيَاء لأجدَ فِيهَا مَا يُشبُهكُ. فَلَمَّا لمْ أجدْ رجتُ إِلَيْك فشَّبهتُك بك. وَلَقَد بَلغ من حسْن ظَنك بالأيَّام أَن أمنت السلامَة مَعَ البغْي، وليَس هَذَا من عَادتِها. قَالَ يحيى بنُ خَالِد: ذُلُّ العَزْل يضْحَكُ مِنْ تيهِ الْولَايَة.(5/82)
وَقَالَ الفضلُ بنُ مَرْوَان: إنَّ الكاتِب مثلُ الدُّولاب إِذا تعطَّل تكَّسرَ. قَالَ المأمونُ لأحمدَ بن يوسُف: إنَّ أصْحَاب الصَّدقاتِ تظلموا مِنْك، فَقَالَ: يَا أميرَ المؤْمنين وَالله مَا رضى أصحابُ الصدقاتِ عنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليهُ وسلَّمَ حَتَّى أنزل اللهُ فيهم: " ومنهمْ مَن يَلمزُك فِي الصَّدقات فَإِن أعْطُوا مِنْهَا رَضوا، وَإِن لمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذا همْ يسْخطون فَكيف يرضوْن عني؟ فاسْتضْحك المأْمونُ، وَقَالَ لهُ: تأمَّل أحُوالهُم، وأحْسن النَّظرَ فِي أمرهمْ. قَالَ أَحْمد بن الخصيب للمنتصر: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ: إنَّ الناسَ قد نسبوا إِلَيْك مَا نسبوا واستفَظعوا ذَلِك، فَأَنت كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وذنبي ظاهرٌ لَا ستر عنهُ ... لطالبه وعذري بالمغيبِ فأحسنْ إِلَى النَّاس يُحبُّوكَ، وأفْشِ فيهْم العدْل يحمدوك، وَلَا تُطْلِق لغيرْك عَلَيْهِم لِساناً وَلَا بدا فيَذمُّوك. قَالَ أبُو عبَّاد. مَا جَلَسَ أحدٌ بَين يَدي إِلَّا تمثَّل لي أَنِّي سأجلس بَين يدْيِه. قَالَ الحسنُ بنُ وهب: كَاتب رئيسَكَ بِمَا يستحقُّ. وَمَا دُونك بِمَا يسْتَوْجب، وَكَاتب صديقك كَمَا تكاتب حبيبَك، فإنَّ غزل المودَّة أدقُّ من غزل الصَّبَابة. قَالَ إبراهيُم بن الْعَبَّاس: السُّلْطَان كالثعبان وَنعم الرُّشا ألذُّ شيءٍ. قَالَ عبيد الله بن سُلَيْمَان: أستؤذن لنجاح بن سَلمَة عَلي أبي، وَكَانَ بَينهمَا ذَلِك التباعدُ فَقَالَ أبي: يَا بني تفقَّدُه إِذا دَخل، فَانْظُر، فَإِن نظر إِلَى مَا بَين يَدَيْهِ فَلم يأْت لخلَّة. وَإِن نظر إِلَى السَّقف، فَعرفنَا مَا عِنْده. كتب كاتبٌ لرجاء الحصَارى كتابا عَنهُ فلمَّا عَنونه، كتب مِنْ أبي فلَان. فَقَالَ لَهُ رجاءٌ: لمَ كنيت: من أبي؟ فَقَالَ: هَو أجلُّ لَك. وَالسُّلْطَان إِذا عظم قدْر رجل ذكره بالكنية فَيَكْفِي ذَلِك الرّجل. فَقَالَ لَهُ: السُّلطان أولى بِمَا يَفْعَله، ولكنَّك نسْبتني إِلَى أسفلَ، وَإِنَّمَا ينتسب الناسُ إِلَى فوقَ. وَيحك؟ كل شَيْء تضمُّه إِلَى أَب وَابْن فإنِّما تذكُره للتعريف، ولأنْ أعرف بِأبي أحبُّ إِلَيّ من أَن أعرَف بابْني. أكتب من فلَان ابْن فلَان.(5/83)
وَلي الرشيدُ عَاملا خراجَ طَساسيج السَّواد، فَقَالَ لجَعْفَر ويحْيى: أوْصياه. فَقَالَ جعفرٌ: وفِّرْ واعْمُر. وَقَالَ يحيى: أنصِفْ وانتصف. وَقَالَ الرشيدُ يَا هَذَا: أحْسِنْ واعْدل. ففضَّل الناسُ كَلَام الرَّشيد. فَقيل لَهما: لمَ نقصَ كلامكما عَن كَلَامه؟ فَقَالَ جعفرٌ: لَا يعتدُّ هَذَا نُقْصَانا إِلَّا مَن لَا يعرف مَا لنا وَمَا عَلينا. إِنَّمَا أمَرْنا بمَا عليْنا أَن نأْمَر بِهِ، وأمير الْمُؤمنِينَ بِمَا لَهُ أَن يأْمرَ بِهِ؟ قَالَ رجلٌ ليحيى بن خَالِد - وَكَانَ مِنْ صنائعهِ: إِنِّي سمعتُ الرشيدَ وَقد خرجتَ من عندهِ يقولُ: قَتلنِي اللهُ إنْ لمْ أقْتلْك، فاحْتلْ لنفِسكَ. فَقَالَ: اسْكُتْ يَا أخي، إِذا جاءَ الإدبارُ كَانَ العطبُ فِي الحيلةِ. وأمَرَ يحيى كاتبيْن من كُتَّابهِ أَن يكتُبَا كتابا فِي معنى وَاحِد، فكّتبا، واخُتصَر أحدهُما، وأطَال الأخُر، فلّما قَرَأَ كتاب المختصِر، قَالَ: مَا أجدُ مَوْضع مَزيد. ثمَّ قَرَأَ كِتاب المطيلِ، فَقَالَ: مَا أجدُ موضِع نُقْصان؟ اعتذر رجلٌ إِلَى أبي عبد الله، فَلَمَّا أبْرم قالَ: مَا رَأيتُ عُذْراً أشْبَه باسْنِنان ذنبٍ من هَذَا. قَالَ بعضُهم الإبنِ الزياتِ: أَنا أمت إِلَيْك بجِوَاري لَك، وأرغبُ فِي عَطفك. فَقَالَ: أمَّا الجوارُ فنسبٌ بني الحِيطانِ، وأمّا العَطفُ والرقةُ فهُما للصبيانِ وَالنِّسَاء. وناظَره رجل فصَالحهُ على مَال، فَقَالَ لَهُ: عجَّل بِهِ. فَقَالَ الرجلُ. . أظُلمّ وتعجيلٌ؟ قَالَ: فصُلحٌ وتأْجيل؟ قيل ليحيى بن خَالِد: غيِّر حاجَبك. قَالَ: فمْن يعرف إخْوَانِي القُدماء؟ قَالَ عُبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر: أَتَانِي كتابُ المعْتز، وكتابُ أحمدَ بن إسْرائيل. مَع رَسُول، ومعهُ رَأس بغُا. وَفِي الكُتُب أَن أنصِّبَهُ عَلى الْجَانِبَيْنِ، فلمْ أفَعل وكتبتُ إِلَى أحمدَ بن إِسْرَائِيل: قد أوجَب اللهُ عَليّ نُصح أَمِير الْمُؤمنِينَ من جهاتٍ: مِنها مَا تقتضيِه الدِّيانةُ، وتوجُبُهُ الإمامةُ، ومنْها اصطناع آبَائِهِ لخدمهمْ من أسْلافي، وَمِنْهَا اخْتِصَاصه إيَّايَ بجميل رأيهِ، وَمَعَ هَذَا فلمْ أكْن لأوخّر عَنك رَأيا مَعَ مَا أَنا علية من المناصَحةِ والشُّكر. وإنّ الكُتُب وَردت عَليّ بِنصب رأسِ بُغا فِي الجانِبيْن، وَقد أخرت ذَلِك حَتَّى يعودَ إِلَى الأمرُ بِمَا أعملُ عليْه وبُغا فقدْ علمْتُ(5/84)
أنَّه عَدَوُّ أَمِير الْمُؤمنِينَ وعدوّك وَقد أراحَ اللهُ منهُ حيثُ لم تتَهمْوا فِيهِ، وأخافُ أَن تتبعَكُم الأتراكُ عِنْد أوَّل شَغْبة بِهِ، ويطالبوكم بدمِهِ. ويجعلُوا ذلكِ ذَرِيعَة إِلَى إِيقَاع سُوءٍ، وَكَانَ الصَّوَابُ عِنْدِي أَن يغسِلهُ أميرُ الْمُؤمنِينَ ويُصَلِّي عليْه، ويدفنهُ ويُظهر حزنا، وَيَقُول: مَا أحِبُّ أَن يصَاب صغيرٌ مْنكم وَلَا كبيرُ، وَقد غمَّني أمْرُ بغا وَلَو وَصَل إِلَى لزدتُ فِي مرتْبِته، وَمَا يُشبهُ هَذَا. فوردَ على كتابُ أَحْمد بن إِسْرَائِيل يشكُر مَا كَانَ مني وَيحلف أنَّهُ سبقني إِلَى هَذَا الرَّأْي، واجتهدَ فيهِ، فَمَا أمْكنه إِلَّا أَن يفعل مَا فعَل، ولمْ يقبلْ قَوْله. وَفِي آخر كِتَابه. واعلمْ أنَّه قد حدث بعدَك وَهُوَ مِمَّا لَا نعْرفُه نحنُ، وَلَا أَنْت - رأيٌ للحُرَم والخدَم يُقبَل ويعملُ عَلَيْهِ، وَهَذَا فتح للخطأ وإغلاقُ للصوَّاب فانصب الرأسَ قَلِيلا، ثُمَّ أنفِذهُ إِلَى خراسَان. كُتب إِلَى جَعْفر بن يحيى أنَّ صَاحب الطَّرِيق قَدْ اشتطّ؟ َ فِيمَا يطلبُ من الْأَمْوَال، فوقّع جعفرٌ: هَذَا رجلٌ منقطعٌ عَن السُّلْطَان، وَبَين ذُؤبانِ العَرَب، بِحَيْثُ العددُ والعُدَّةُ، والقلوب القاسيةُ، والأُنوفُ الحميةْ، فليُمدَدْ من المَال بِمَا يستصلح بِهِ من مَعَه ليدفع بِهِ عدوَّه فغن نفقاتِ الحروب يُستَظهرُ لَهَا وَلَا يُستظهرُ عَلَيْهَا. وَأكْثر الناسُ شكيةَ عاملٍ فَوَقع إِلَيْهِ فِي قِصَّتهم يَا هَذَا قد كثر شاكُوك، وقلَّ حامِدوك، فإمِّا عدلتَ إمِّا اعتزلتَ. وَكَانَ يَقُول: إِن قدرتُم أَن تكُون كتبُكُم كلّها توْقيعات فافعلوا. كتب الفضلُ بنُ سهل فِي كتاب جَوَاب ساعٍ: وَنحن نرى أنَّ قبُول السِّعاية شرٌ من السّعَايَة، لأنّ السّعَايَة دلالةٌ، وَالْقَبُول إجازةٌ، فَاتَّقُوا السَّاعِي فَإِنَّهُ لَو كَانَ فِي سعَايته صَادِقا لَكَانَ فِي صدقِه لئيماً، إذْ لم يحفَظ الْحُرْمَة وَلم يسْتُر الْعَوْرَة. كَانَ يحيى بنُ خَالِد يَقُول: مَن تسبَّب إِلَيْنَا بشفاعة فِي عَمَل فقدْ حلِّ عندنَا محلَّ من ينهضُ بغيرِه، وَمن لم ينْهض بنفسهِ لمْ يكن للْعَمَل أَهلا. قَالَ ثُمامة: كَانَ جَعْفَر بن يحيى أنطق النَّاس، قد جمع الهُدوَّ والتمهُّل والجَزالة، والحلاوة، وإفهاماً بُغنيه عَن الْإِعَادَة، وَلَو كَانَ فِي الأَرْض ناطقٌ يَسْتَغْنِي بمَنطقهِ عَن الْإِشَارَة لاستغني جعفرٌ عَن الْإِشَارَة كَمَا اسْتغنى عَن الْإِعَادَة.(5/85)
وَقَالَ مرّة: مَا رأيتُ أحدا كَانَ لَا يتحبَّسُ، وَلَا يتوقَّفُ، وَلَا يتلجْلج، وَلَا يرتقبُ لفظا قد استدعاه من بُعْدٍ، وَلَا يلْتَمس التخلُّصَ إِلَى معنى قد تعصى عَلَيْهِ، بَعْد طلبهِ لَهُ: مِن جعْفر بن يحيى. وَقَالَ: قُلتُ لجعْفر مَا البيانُ؟ قَالَ: أَن يكون الأسم يُحيطُ بمعناك، ويُجلِّي عَن مغزاك، ويُخرجه من الشّركة، وَلَا تستعينُ عَلَيْهِ بالكفرة. وَالَّذِي لَا بُد مِنْهُ أَن يكون سَليماً من التَّكَلُّف بَعيدا مِن المنعة، بَرِيئًا من التعقد، غَنِيا عَن التأْويل. قَالَ الجاحظُ: هَذَا هُو تأْويلُ قَول الأصْمعي: البليغ مَن طبَّق المَفصِل، وأغناك من المقسّر. كتب يحيى بنُ خَالِد إِلَى بَعضهم: قد حملَّتُ حَاجتي فلَانا لَا لأنَّ شُكري ضعُف عَن حَبْل أياديك، بل أحبْبتُ أَن يكون لي أعوانٌ على شُكرك وشهودُ على فضلِك. وَقَالَ لأبنْهِ. جعْفر: يَا بُني، مَا دَام قلمُك يعرفُ فأمْطِرهُ مَعْرُوفا وَكَانَ يحيى يَقُول: كَيفَ يلام الْمُلُوك على مَا يَفْعَلُونَ؟ وَإِذا أساءُوا وجدوا مَنْ يُزيِّن لَهُم سُوءَ مَا يعْملُونَ، ويزكي مَا يفْعلُون؟ وَقَالَ الفضلُ بنُ يحيى: الصبرُ على أَخ تعتِبُ عليْه خيْرٌ من أَخ تستأْنِفُ مودَّته. وَقَالَ أحمدُ بنُ يُوسُف: لَا تجوزُ قطيعةُ الصِّدِيق، وَلَا يُحمَلُ الْأَمر فِيهَا إِلَّا على واحدٍ من اثْنَيْنِ ليسَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا عُذْرٌ: إمَّا سُوءُ اخْتِيَار فِي نفسِ الصَّداقةِ أوْ ملالٌ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بنُ سَعْد: كنتُ بَين يَدي عَليّ بن عِيسَى الْوَزير، فرأيتُ لَهُ أقْلاماً رديَّةً الْبري، فأصْلحتُها، فقالَ: يَا أبَا الحُسْين. عَلَيْك بالكتابةِ فهذهِ تجارةٌ. قَالَ الفضلُ بنْ سَهْل: مَنْ أحَّب الازديادَ من النعمةِ فليشكرْ، ومَنْ أحَبَّ الْمنزلَة عِنْد سَلُطانهِ فلْيكْفهِ، وَمن أحبَّ بَقَاء عِزّة فليُسقِطْ الدَالة. وَمن أحب السَّلامة فليلزم الحذر؟(5/86)
الْبَاب الثَّامِن نكت مستحسنة للقضاة
قَالَ شُريح: إنَّا لَا تَعِيبُ الشهودَ، وَلَا نلقِّن الخصومَ، وَلم نُسلَّط على أشْعاركم وأبْشاركم، إِنَّمَا نَقْضي بَيْنكُم، فَمن سَلَّم لقضائنا فَيِها، ومَنْ لَا، أمَرنْا بِهِ إِلَى السّجن. كتب الفضلُ بن الرّبيع إِلَى عبدِ الله بن سوَّار يسألُه أَن يَشْتَرِي لَهُ ضيعةٌ فَكتب إِلَيْهِ: إِن الْقَضَاء لَا يُدنَّس بالوَكالة. قَالَ الزّهري: ثلاثٌ إِذَا كُنَّ فِي القَاضِي فليسَ بقاض إِذا كره اللَّوائَم، وأحبَّ المحامد، وكَرهَ العَزْل. قَالَ أيُّوب: إِن مِن أَصْحَابِي مَنْ أَرْجُو دعوتَه، وَلَا أُجِيز شهادَته. وَقَالَ سوَّار: مَا أعُلمُ أحدا من أَصْحَابِي أفضلَ من عَطاء السُّلمي، وَلَو شَهد عنْدي عَليّ فَلْسين مَا أجَزْتُ شهادتَه - يذهبُ إِلَى أنَّه ضعيفٌ ليسَ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة لَا يُجوِّز شهادةَ أَصْحَاب الْحمير.(5/87)
وسُئل قَتَادَة عَن شَهَادَة الصَّيرفيَّ. فَقَالَ: لَا تَجوز شهادتُه. ولِيَ عبيدُ الله بنُ أبي بكرَة قضاءَ الْبَصْرَة فَجعل يُحاني الناسَ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: وَمَا خيرُ رجل لَا يقطعُ لِأَخِيهِ مِن دينه؟ قَالَ شُرَيْح: الحِدَّةُ كنيةُ الْجَهْل. قَالَ ابنُ شُبُرمة لرجل: أتشربُ النبيذَ؟ قَالَ: أشربُ الرِّطلين وَالثَّلَاثَة فَقَالَ: وَالله مَا شربته شُرب الفِتْيان، وَلَا تركتَه ترك القُرآن وَقيل لهُ: لم تركت النَّبِيذ؟ فقالَ إِن كَانَ حَلَالا فحظي تركتُ، وَإِن كَانَ حَرَامًا فبالحزم أخذتُ. وسُئل شَريكٌ عَن النَّبِيذ. فَقَالَ: قد شربه قوم صالحَون يُفتدى بهم فَقيل: كَمْ أشربُ؟ قَالَ: مَالا يشْرَبُك. لما ولي يحْيى بنُ أَكْثَم قَضَاء البصْرة استصغروا سنْهُ، فَقَالَ لهُ رجلٌ كمْ سنُّ القَاضِي أعزَّهُ الله؟ فَقَالَ: سِنُّ عتاب بن أسِيْدِ حِين ولاهُ. رسولُ الله صلى الله عليهِ وَسلم مَكَّة، فَجعل جَوَابه احتجاجاً. ساوَم عُمرُ بنُ الخطّاب أعْرابيَّاً بفرس لَهُ فلمَّا قامَت عْلى ثمن أَخذهَا منهُ عمرُ أنهُ فِيهَا بِالْخِيَارِ، إِن رضى أمْسَك، وَإِن كره ردَّ، فَحمل عُمَرُ عليْها رجلا يُشوِّرُها فوقعتْ فِي بِئْر فتكَّسرت، فَقَالَ الْأَعرَابِي ضمنت فرسي يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، قَالَ: كلاَّ، فَإِنِّي لمْ أرْضها. فَقَالَ الْأَعرَابِي فاجْعل بيني وَبَيْنك رجُلاً من الْمُسلمين. فَجعلَا بينهمَا شريحاً، فقصَّا عليهِ القصَّة، فقالَ شريحُ ضمِنْت يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ فرسَ الرجُل، لِأَنَّك أخذتَها على شيءٍ معْلُوم، فَأَنت لَهَا ضامِنٌ حَتَّى تردَّها عليْهِ، فَقبل ذَلِك عمر، وَبعث شريحاً على قَضَاء الكوفةِ. سُئِلَ شريكٌ عَن النبيذِ. فَقَالَ: اشربْ مِنْهُ مَا وَافَقَك، ودَعْ منهُ مَا جنى(5/88)
عَلَيْك، وذُمَّه إِذا ذمَّهُ النَّاس، وَلَا نْصرُهُ، فبئْسَ المنْصورُ، واللهِ. سُئِلَ الشَّعْبيُّ عَنْ مَسْأَلة فَقَالَ: لَا عِلمَ لي بهَا. فَقيل: لَا تَسْتَحي؟ قَالَ: وَلم أسْتحي ممَّا لم يستحي منهُ الملائِكُة حِين قَالَ: " لَا علمَ لنا إِلَّا مَا علَّمْتنا؟ كَانَ شريحٌ يقولُ: مَنْ سَأَلَ حَاجَة فقد عَرض نَفسه على الرّقّ فَإِن، قَضَاهَا المسئولُ استبعدَهُ بهَا، وإنْ ردَّه عَنْهَا رَجَعَ حُراً، وهُمَا ذليلان: هَذَا بذُلِّ اللُّؤم، وَذَاكَ بذُلِّ الرَّدَّ. قَالَ بكارُ بن مُحَمَّد رأيتُ سَوار بن عبد الله - وَأَرَادَ أَن يحكمَ فَرفع رأسَهُ إِلَى الَّسماء وترقْرقتْ عيناهُ ثمَ حكم. وَكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور فِي مَال كَانَ لَهُ على سَلمَة بن سَعيدِ: لماَّ مَاتَ سَلمةُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْن للنَّاس وللمنصُور، وَكتب إِلَيْهِ: استوفِ لأمير الْمُؤمنِينَ دَيْنه، وَفرق مَا يبْقى الغُرمَاء. فَلم يلتفِتْ إِلَى كِتَابه، وضرَب للمنصور بِسَهْم فِي المَال كَمَا ضرب لوَاحِد من الغُرمَاءِ ثمَّ كتب إليهِ إِنِّي رأيتُ أميرَ الْمُؤمنِينَ غريماً من الغُرماء. فَكتب إِلَيْهِ: ملِئتِ الأَرْض بك عَدْلاً. قَالَ الهيْثم: مَا رأيتُ ابْن شُبْرمَة قطُّ. إِلَّا وهُو متهيئٌ، كَأَنَّهُ يُريد الرُّكوب، فذٌكرَ لَك لهُ - وَأَنا حَاضِرٌ - فَقَالَ: إنَّ الرَّجل لَا يستجمعُ لَهُ رَأْيه حَّتى يجْمَع علْيه ثيابَهُ، ثمَّ قَالَ: إنَّ رجلا من الْحَيّ كَانَ لَهُ شرفٌ، قَالَ لدَهْقان الفلّوجة يَا هَذَا؟ إِنَّمَا رُبَّما انتشرَ على أمرئ فِي الرَّأْي، فهلْ عِنْدَك مشهورةٌ؟ قَالَ: نعمْ احْتبِ وتهَّيأْ، والبَسْ ثِيَابك، ثمَّ اهمُمْ بِمَا تُرِيدُ فَهُوَ اجْمَعْ لرَأيك، فليسَ مِنْ أحد يفعلُ مثل ذَلِك إِلَّا اجْتمع لهُ رأْيُهُ. قَالَ الحسنُ بنُ قحْطبة: دخلتُ على المهدِي نفسهِ وقدْ دخل شريكٌ فسلّم فَقَالَ: لَا سَلَّم اللهُ عَليْك يَا فاسِقُ. فَقَالَ شريكٌ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، إنَّ الفاسِق(5/89)
عَلَامَات تعرفُ: شرب الْخُمُور، واتخاذ الْقَيْنَات والمعازفِ، قَالَ: قتلني اللهُ إِن لم أقتلْك. قَالَ: ولِمَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: رأيتُ فِي الْمَنَام كأنِّي مُقبلٌ عليْك أكلِّمك وَأَنت تُكلِّمُنِي مِن قفاك. فَقَالَ لي المعبِّر: هَذَا رجلٌ يَطأُ بِسَاطك وَهُوَ مُخالِفٌ لَك. قَالَ شريك: إِن رؤْيَاك لَيست برؤْيا يُوسُف بن يعْقُوب. وإنَّ دِمَاءَ الْمُسلمين لَا تُستحلُّ بالأحْلام. فنكّسَ المهديُّ رأسَهُ، ثمَّ أَشَارَ إِلَيْهِ: أنِ اخُرجْ، فخرجَ وخرجتُ خَلفه. فَقَالَ لي: أمَا رَأَيْت مَا أرادَ صاحبُك أَن يفْعَل؟ فقلْتُ: اسكُتْ فلِلَّهِ أبُوك {} قَالَ ابْن شُبْرمُة لإياس بن مُعَاوِيَة: شكلي وشكلُك لَا يتفقان: أَنْت لَا تشْتهي أَن تسْكُت، وَأَنا لَا أشتهي أنْ أسْمَع. كَانَ طارقٌ صاحبَ شرطةِ خالدِ بن عبد اللهِ القسْري، فمرّ بابنِ شُبْرُمَة وَهُوَ فِي موْكبِه. فَقَالَ ابنُ شُبرمة: سَحابةُ صَيف عَن قَلِيل تقشَّعُ اللهُمَّ لي ديني ولهُمْ دُنْياهُم. فاستعْملَ ابْن شبْرمَة بعد ذَلِك الْقَضَاء. فَقَالَ لَهُ ابنهُ أَتَذكر قَوْلك يومَ مرِّ طارقٌ فِي موْكبهِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَّي إنهمُ يجدُون مثل أَبِيك، وَلَا يجد مِثْلهُمْ أبُوك، إِن أباكَ أكل منْ حلوائِهم وحُطَّ فِي أهْوائِهم. قِيلَ لِشَرِيك: أَكَانَ مُعاوِيةُ حَلِيمًا؟ قَالَ: لَو كَانَ حَلِيمًا مَا سفَّهَ الحقَّ، وَقَاتل عليا. وَقَالَ: لَو كَانَ حَلِيمًا مَا حملَ أبناءَ العَبيد على حُرَمه، ولمَا أنْكح إلاَّ الأكْفاءَ. قَالُوا: وأصوبُ مِنْ ذَلِك قولُ الآخر: كَانَ معاويةُ يتعرَّضُ ويحلُم إِذا أسْمع، ومَن تعرَّض للسَّفه فَهُوَ سَفِيه. قيل للشعبيِّ: مَا أحسنَ البراعة فِي الإماءِ! فَقَالَ: تورُّد ماءِ الْحيَاء فِي وَجه الحُرِّ أحسنُ.(5/90)
دخل شريحٌ على بعض الأُمراء، فَقَالَ الأميرُ: يَا جَارِيَة، هَاتِي عوداً. فَجَاءَتْهُ بعُود يضْرب. فَلَمَّا بصُر بِهِ الأميرُ خَجل، وَقَالَ: نِعْم هَذَا أُخذ البارحة مَعَ إِنْسَان فِي الطَّوف. اكسروهُ. ثمَّ صَبر قَلِيلا، وَقَالَ: يَا جاريةُ. هَاتِي عوداً للبخورِ. فَقَالَ شُرَيح: أتخافُ أَن تغلطَ مرّة ثَانِيَة؟ ؟ شهد رجلٌ من جلسان الْحسن بِشَهَادَة عِنْد إِيَاس بن مُعَاوِيَة، فردّه، فَشَكا الرجلُ ذَلِك إِلَى الحَسن. فَأَتَاهُ الْحسن فَقَالَ: يَا أَبَا واثِلةَ، لم ردَدْتّ شَهَادَة فلَان؟ فَقَالَ: يَا أَبَا سعيد، إِن اللَّهَ يَقُول " مِمَّن ترضوْن مِن الشُّهَدَاء " وَلَيْسَ فلَان مِمّن أرْضى. وَشهد عِنْد عُبيدِ الله بن الْحسن رجلٌ من بني نهْشل على أَمر، فَقَالَ لَهُ: أترْوي قَول الأسْود بن يعْفر: نَام الخلِيُّ فَمَا أحِسُّ رُقادي فَقَالَ لَهُ الرجل: لَا. فَقَالَ: تُردَّ شهادتُه. وَقَالَ: لَو كَانَ فِي هَذَا خيرٌ لروَى شرف أهلِه. جَاءَ رجلٌ إِلَى شُرَيْح فكلَّمه بِشَيْء، وأخفاهُ. فَلَمَّا قَامَ قَالَ لَهُ رجل: يَا أَبَا أميَّة، مَا قَالَ لَك؟ قَالَ: بِابْن أخي. أَو مَا رَأَيْته أسَّرهُ مِنْك؟ كَانَ شُرَيْح عِنْد زِيَاد - وَهُوَ مَرِيض - فلمَّا خرجَ مِن عِنْده أرسل إِلَيْهِ مسروقُ بنُ الأَجدع رَسُولا وَقَالَ: كَيفَ تركت الأميرَ؟ فَقَالَ: تركتُه يأْمُر وَينْهى. قَالَ مَسْرُوق: إِنَّه صَاحب عويص، فأرجع إِلَيْهِ وأسأَلْهُ: مَا يأْمر وَمَا ينْهَى؟ قَالَ: يأْمُر بِالْوَصِيَّةِ وَينْهى عَن النّوْح. وَمَات ابنُ لشريح فَلم يشْعر بِمَوْتِهِ أحدٌ، وَلم تصرخ عَلَيْهِ صارخةٌ، فَقيل لَهُ: يَا أَبَا أميّة، كَيفَ أَمْسَى ابنُك؟ قَالَ: سكن علزه ورجاهُ أَهله. وَمَا كَانَ مُنْذُ اشْتَكَى أسكن من اللَّيْلَة.(5/91)
حكى عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: شهدتُ شريحاً، وجاءته امرأةٌ تخاصم زوجَها، فأَرسلتْ عينيها، فَبَكَتْ. فقلتُ: يَا أَبَا أميَّة، مَا أَظن هَذِه البائسة إِلَّا مظلومةً. فَقَالَ: يَا شعبيُّ، إِن إخْوَة يُوسُف جَاءُوا أباهم عشَاء يبْكُون. كَانَ شُرَيْح إِذا قيل لَهُ: كَيفَ أصبحْت يَا أَبَا أميَّة؟ قَالَ: أصبحتُ ونصفُ النَّاس غضابٌ. تقدم إِلَى شُرَيْح قومٌ فَقَالُوا: إنَّ هَذَا خطب إِلَيْنَا فَقُلْنَا لَهُ: مَا تبيعُ؟ فَقَالَ: أبيع الدوابَّ. فزوَّجَّناه، فَإِذا هُو يبيعُ السنانيرَ. قَالَ: أَفلا قلتُم لَهُ: أيَّ الدَّوَابّ من الدَّواب؟ وَأَجَازَ النِّكَاح. قَالَ الشعْبيُّ: كَانَ شريحٌ: يقولُ: إياكُمْ والجوابَ، فقُلنا لَهُ يَا أَبَا أميَّة. إنَّك لتكُثِر مِن هَذَا. قَالَ: قد آن لكُم أَن تَسلْوني. تقدمَ إِلَى رجلَانِ، فأكثرَ على أحدُهما، فقلتُ: أظنُّك ضَعِيفا؟ قَالَ: مَا عَلي ظنِّك خرَجتُ مِن أَهلِي، فكرهتُ أَن يَجِيء مِنْهُ غيرُ هَذَا فكففتُ عَنهُ. أَتَى عَدي بنُ أَرْطَاة شريحاً ومعهُ امرأةٌ لَهُ من أهل الْكُوفَة يخاصِمُها، فَلَمَّا جَلس بَين يَدي شُرَيْح. قَالَ عدي: أَيْن أَنْت؟ قَالَ: بَيْنك وبيني الحائظِ. قَالَ إِنِّي امْرُؤ من أهل الشَّام. قَالَ: بعيدٌ سحِيق. قَالَ: وإنِّي قدِمتُ الْعرَاق: قَالَ: خيرَ مَقْدم. قَالَ: وَقد تزوّجتُ هَذِه الْمَرْأَة. قَالَ: بالرِّفاءِ والبنين. قَالَ: وإنَّها ولدتْ غُلاماً. قَالَ: ليْهنِك الفارسُ. قَالَ: وَقد أردتُ أَن أنقلها إِلَى دَاري. قَالَ: الْمَرْء أحقُّ بأَهله. قَالَ: قد كنتُ شرطْتُ لَهُ دارها. قَالَ: الشرطُ. أمْلكُ. قَالَ: أقض بيْننا. قَالَ: قد فعلتُ. قَالَ: فعلى مَن قضيت؟ قَالَ: على ابنِ أمِّك.(5/92)
انْصَرف شريحٌ يَوْمًا مِن مجْلِس القضاءِ، فلقيهُ رجلٌ، فَقَالَ: أمَا حَان لَك يَا شيخُ أَن تخَاف الله وتستحي،؟ قَالَ: وَيلك! مِن أَي شَيْء؟ . قَالَ: كَبرت سنُّكُ، وفسَد ذِهنُك، وكثرُ نِسيانُك، وادّهن كاتبك وارتشي ابنُك، فَصَارَت الأُمُورُ تجوزُ عَلَيْك. فَقَالَ: لَا واللهِ لَا يَقُولهَا لي أحد بعْدَك. واعَتزل عَن القضاءِ، ولزمَ منِزله: قَالَ الشَّعْبي: أصَاب متأَمِّلٌ أوْ كادَ، وأخطأَ مُسْتعجلٌ أَو كَاد. كَانَ شريحٌ فِي منزل القَضاءِ، فَنظرَ إِلَى رجل من أعوانه قائِمٍ، فَضَحِك فَقَالَ: أتضحك؟ وَيلك، وأنَا أتقلَّبُ بَيْنَ الجنَّة وَالنَّار. أَقَامَ رجلٌ شهوداَ عِنْد شُرَيْح فاستَحلَفه، فتلكَّأ، فَقَالَ لَهُ: سَاءَ مَا تثنى على شهودك. وقضَى شريحٌ بِالْكُوفَةِ سِتِّينَ سنة، ولاه عمرُ بن الْخطاب، وَبَقِي إِلَى أَيَّام الْحجَّاج. كَانَ رجلٌ يُقَال لَهُ خُنَيْس يجلس إِلَى الشعْبي، فتحدَّث الشَّعْبيُّ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ خنيسٌ: أتَّق الله وَلَا تكذب. فَقَالَ لَهُ الشعْبيُّ: ويحكَ يَا خُنَيس مَا أحْوجَكَ إِلَى مُحَدْرَج شديدِ الفتل، ليِّن المَهزَّة، عَظِيم الثَّمَرَة، قد أخذَ مِن عَجْب ذَنَب إِلَى مغرز عنُق، فيوضَعُ على مِثل ذلِك منكَ، فتكثرُ لَهُ رقصَائُك من غير جَذل، قالَ: وَمَا هُوَ يَا أَبَا عَمْرو؟ قَالَ: هُوَ وَالله أمرٌ لنا فِيهِ أرَبٌ، ولَكَ فِيهِ أدبٌ. كَانَ لشريح حائِط مائِلٌ، فَقَالَ لَهُ جارٌ لَهُ: حائطُكَ هَذَا مائِلٌ. قالَ: لَا تُفَارقني أَو يُنْقَض. قَالَ: فنقضَهُ مِن سَاعَته. . فَقَالَ الرجلُ: لَا تعْجَل يَا أبَا أُميَّة. فذاكَ إليْكَ. قَالَ: بعْد أَن أشْهدتَ علَّي؟ قَالَ الشعبْي: وجَّهني عبد الْملك بنُ مَرْوَان إِلَى مِلك الرُّوم، فلماَّ قدِمتُ عَلَيْهِ ودَفعْتُ إِلَيْهِ كتاب عبد الْملك جعل يُسائِلُني عَن أشياءَ، فأُخبرُهَ بهَا، فأقمتُ(5/93)
عِنْده أَيَّامًا، ثمَّ كتب جوابَ كتابي، فلمَّا انصَرفتُ رفعتُه إِلَى عبد الْملك فَجعل يَقْرَؤُهُ، ويتغَّير لونُه، ثمَّ قَالَ: يَا شعْبيُّ: علمتَ مَا كتب الطاغيةُ؟ قلتُ: يَا أميرَ المؤمنينَ. كَاتب الكتُبُ مختومةً وَلم لْم تكُن مختومةً مَا قرأتُها. وَهِي إليكَ. قَالَ: إِنَّه كتبَ: إنّ العجبَ من قوم يكُونُ فيهم مثلُ من أرَسَلتَ بِهِ إلىَّ فيملِّكون غيْرهُ. قَالَ: فقلتُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ذَاك لأنَّه لم يركَ. قَالَ: فَسرِّىَ عَنهُ، ثمَّ قَالَ: حسدني علْيكَ، فأرادَ أَن أقْتلك. سَأَلَ رجلٌ الشَّعْبيَّ، قالَ: أتَشْرَبُ نبيذَ الجرِّ الأخْضر؟ قَالَ: نعمْ، وأشربُ نَبِيذ الدَّن. سَأَلَ رجلٌ الشعْبيَّ عَن رجل لَطم عيْن رجل فشرقتْ أوْاغرَوْقت: مَتى تقاد مِنْهَا. قَالَ الشّعبِيّ: قدِمتُ على عبدِ الْملك، فَمَا رأيتُ أحسن حَدِيثا مِنْه إِذا حدَّثَ، وَلَا أحسَن إنْصاتاً مِنْهُ إِذا حُدِّثَ، وَلَا أَعْلَم مِنْهُ إِذا خُولِفَ، وأخطأتُ عِنْده فِي أَربع: حَدثنِي يَوْمًا بِحَدِيث، فقلتُ: أعِدْهُ عَليّ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: أمَا عَلمتَ انه لَا يُستعادُ أميرُ الْمُؤمنِينَ؟ وَقلت لَهُ حِين أذنَ لي عَلَيْهِ: أَنا الشعْبيُّ يَا أميرَ المؤمنينَ. فقالَ: مَا أدْخلنَاكَ حَتَّى عرفْناك. وكنَيتُ عِنْد رجلا فَقَالَ: أمَا علمتَ أَنه لَا يُكنْى أحدٌ عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ وسألتُه أنْ يكتبَني حَدِيثا. فَقَالَ: إنَّا نُكْتِبُ وَلَا نَكْتُب. لما أَخذ الحجاجُ الشّعبِيّ - وَكَانَ خرج عَلَيْهِ مَعَ ابْن الأشْعث، قَالَ: يَا شعبيُّ، ألمْ أرفع مِن قدرك، وبلغتُ بك شرف العطاءِ، وأوْفدتُك عَليّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، ورضيتُك جَلِيسا لي ومحدِّثاً؟ قَالَ: بلَى. أصلح اللهُ الأميرَ. قَالَ: فَمَا أخرجك مَعَ ابْن الأشعثِ تُقَاتِلنِي على غير دين وَلَا دُنيا؟ فَأَيْنَ كنت مِن هَذِه الفِتنةِ؟ فَقَالَ: أصلح اللهُ الْأَمِير، أوْحش الجنابُ، وأحْزن بِنَا المنزلُ، واستشعرنا الْخَوْف، واكتحلنا السهر، وفقدنا صالِحَ الإخوان، وشملتنا فتنةٌ لم نَكُنْ فِيهَا بررةً أتقياءَ، وَلَا فجرةً أقوياءَ. فضحِك الحجاجُ، وَعَفا عَنهُ. قَالَ الشعبيُّ: مَنْ أمِن الثٌّقل ثقُل.(5/94)
أسْمَع رجلٌ الشّعبِيّ كلَاما، وعدَّد فِيهِ خِصالاً قبيحةً - وَالشعْبِيّ ساكتُ - فَلَمَّا فرغ الرجلُ مٍِن كَلَامه، قَالَ: واللِّهِ لأغيظنَّ مَن أمَرك بِهَذَا إِن كُنت صَادِقا، فغفرَ اللهُ لي، وَإِن كنت كاذِباً فغفرَ اللهُ لكَ. قيل: يَا أَبَا عَامر: ومَن أمرهُ بِهَذَا؟ قَالَ: الشيطانُ. خطب رجل إِلَى قوم، فجاؤوا إِلَى الشّعبِيّ يسألونه عنهُ - وَكَانَ عَارِفًا بِهِ - فَقَالَ: هُوَ وَالله - مَا علمتُ - نافذُ الطَّعنِة، ركينُ الجلسةِ. فزوَّجوهُ، فَإِذا هُوَ خياطٌ. فأتوْهُ، فَقَالُوا. غدرتنا. فَقَالَ: مَا فعلتُ، وَإنَّهُ لَكمَا وصفتُ. وَقيل لهُ وَقد بنى بأهلهِ: كَيفَ وجدت أهلك؟ قَالَ: فلِم أرخيتُ السِّتر إِذن؟ لما قدم الشعبيُّ من الْبَصْرَة قَالُوا لَهُ: وَكَيف تركت إِخْوَاننَا من أهل الْبَصْرَة؟ قَالَ: تركُتهم قد سادَهُم مَوْلَاهُم، وَذَاكَ أَنه اسْتغنى عنهُمْ فِي دُنياهم واحْتاجُوا إِلَيْهِ فِي ديِنهم. يَعْنِي الْحسن الصريَّ. وَكَانَ الشّعبِيّ يقولُ: لَو كَانَت الشَّيعةُ من الطير لكانوا رخماً وَلَو كَانُوا من الدوابِّ لكانوا حَمِيراً. قَالَ العشبي: لَا تُقدِمُوا على أمْر تخافون أَن تقصِّروا فِيهِ، فَإِن الْعَاقِل يحجزُه عَن مَرَاتِب المُقدَّمين مَا يرى من فضائِل القصِّرين. وَلَا تعدُوا أحدا عِدَةً لَا تَسْتَطِيعُونَ إنجازها، فإنَّ الْعَاقِل يحجزه عَن مَحْمدة المواعيد مَا يرى مِن المذمَّة فِي الخُلْفِ، وَلَا تُحدِّثوا أحدا من النَّاس تخافون تكذيبَهُ، فَإِن الْعَاقِل يُسلِّيه عَمَّا فِي الحديثِ مَا يَرى من مَذلَّة التَّكْذِيب، وَلَا تسألُوا أحدا من النَّاس تخافُون مَنعه، فَإِن الْعَاقِل يحجزه عَمَّا نالهُ السائلُ مَا يرى من الدَّناءة فِي الطَّمَع. تحدث الشعبيُّ يَوْمًا عِنْد ابْن عُمر، فَقَالَ: إِنَّه ليحدِّثنا بمواطِن شهدْناها وَغَابَ عَنْهَا، فكأنَّه شَهِدَهَا وغِبْنا عَنْهَا.(5/95)
قَالَ الشعبيُّ: تعامل الناسُ فِيمَا بَينهم بالدِّين زَمنا طَويلا، ثمَّ بالوَفاءِ حَتَّى ذهب الوفاءُ، ثمَّ بالمروءة حتَّى ذهبت المروءةُ، ثمَّ بالحياءِ حَتَّى ذهب الحياءُ، ثمَّ صَارُوا إِلَى الرَّغبة والرَّهبةِ. قَالَ: العِلم أكثرُ مِن أَن يُحصَى، فخُذُوا مِن كلِّ شَيْء أحْسَنهُ. وَكَانَ يَقُول: مَا رأيتُ مِثلي: مَا أشاءُ أَن أرى أحدا أعلمَ بِشَيْء منِّي إكلا وجدتُه. وَقيل لَهُ: مَالك لَا تَأتي السُّلطان؟ قَالَ: أخافُ خَصْلَتَيْنِ: طعامهم الطَّيب، ولباسَهم اليِّن. وَكَانَ يَقُول: الخالُ زَيْنَب، والثؤلول شيْنٌ. وَقَالَ: أقلُّ مَا أحسِنُه الشعرُ، وَلَو أنشدتكم شهرا لما فني مَا عِنْدِي. وَذكروا مُعَاوِيَة يَوْمًا عِنْده، فَقَالَ رجل: كَانَ حَلِيمًا. فَقَالَ الشّعبِيّ: وَيحك {} وَهل أغمدَ سيفَه وَفِي قلبه شيءٌ على أحَدٍ، وَلَكِن قل: كَانَت لَهُ سياسةٌ وعَقل. وَقَالَ الشّعبِيّ: إنَّ كرامَ النَّاس أسرعهم مَوَدَّة وأبطؤهم عَدَاوَة مثل الكُوز مِن الفضةِ يبطئُ الانكسار، ويُسرعُ الانجِبَار، وَإِن لئامَ النَّاس أبطؤهم مَودةً، وأسرعُهم عَدَاوَة مثلُ الْكوز من الفَخَّار يسْرع الإنكسار ويبطئُ الانجبار. وَقَالَ ابْن شبْرمَة: مَنْ بَالغ فِي الْخُصُومَة أثِمَ، وَمن قصَّر خصِم. وَقَالَ: منْ لزم العفَاف هَانَتْ عَلَيْهِ موجِدةُ الملُبوك. دخل رجلٌ على عِيسَى بن مُوسَى بِالْكُوفَةِ فكلَّمه، وَحضر عبدُ الله بن شُبْرمة فأعانه، وَقَالَ: أصلحك اللهُ. إنّ لَهُ شرفاً، وبيتاً وقدَماً. فَقيل لِابْنِ شبْرمَة: أتعْرفُه؟ قَالَ: لَا. قالُوا: فَكيف أثنيتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: قلتُ: إِن لَهُ شرفاً، أَي: أذُنين ومَنكبين، وبيتاً يأوي إِلَيْهِ، وقدماً يطأُ عَلَيْهَا. وَقَالَ لَهُ رجل: صنعتَ إِلَى فُلان، وصنعت، فَقَالَ: اسْكُتْ، فَلَا خير فِي الْمَعْرُوف إِذا أحصى. وَكَانَ إِذا وُلِدَ لَهُ غُلَام يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ بّاتقِيا، وَاجعَل لذَّته فِي بلدِه.(5/96)
قيل: بَينا رقبةُ بن مَصْقلةَ القَاضِي فِي حَلقة إِذْ مرَّ رجل غليظُ العُنق، فَقَالَ لَهُ بعض جُلَسَائِهِ: يَا أَبَا عبد الله، وَهَذَا الَّذِي ترى مِن أعبدِ النَّاس. فَقَالَ رقبةُ: إِنِّي لأرى لهَذَا عُنقُاً قلِّما وقذتها العبادةُ. قَالَ: فَمضى الرجل، ثمَّ عَاد قَاصِدا إِلَيْهِم، فَقَالَ رجل لرقبة: يَا أَبَا عبد الله، أخبرُهُ بِمَا قلت، لَا تكون غيبَة. قَالَ: نعم. أخْبرهُ حَتَّى تكون نميمةً. وَكَانَ رقبةُ يَقُول: أيُّ مجلسٍ المسجدُ لَو كَانَ عَلَيْك فِيهِ إذنٌ! وَقَالَ: مَا رَأَيْت كذبةً أحضر من كذِبِة الَّذين يتّكِئون فِي الْمَسْجِد، فَإِذا أُقِيمَت الصَّلاةُ قلتَ لأَحدهم: نِمت، فَيَقُول: واللهِ مَا نِمتُ وَقد خَرِىَ. وَدخل رقيةٌ الْمَسْجِد الْأَعْظَم، فَألْقى نَفسه إِلَى حلقةِ قوم، ثمَّ قَالَ: قَتِيل فالوذج رحمكم اللهُ. قَالُوا: عِنْد مَن؟ قَالَ: عِنْد من حكم فِي الفُرقة، وَقضى فِي الْجَمَاعَة يَعْنِي بِلَال بن أبي بُردْة. ذكرت الآراء عِنْد رَقَبَة، فَقَالَ: أمّا الرافضةُ فإنَّهم اتَّخذُوا الْبُهْتَان حُجَّةً، والْعضِيهة مغلبةً. وَأما النَّيديَّةُ فَإِنِّي أظنُ الَّذِي وضع لَهُم رأيَهُم امْرَأَة. وَأما الخوارجُ فأعرابٌ جُفاةٌ لَا يعقِلون. وَأما المُرْجئةُ فإنهَّم على دين الْملك وَأما المعتزلةُ فوَاللَّه مَا خرجتُ إِلَى ضيعتي قطُّ إِلَّا ظننتُ إِنِّي لَا أرجعُ حَتَّى يتْركُوا دينهُم. وَقيل لَهُ: إِنَّك لتُكثر الشكَّ. قَالَ: وَهل ذاكُم إِلَّا المحاماةُ عَن الْيَقِين. اخْتصم إِلَى شُريح امْرَأَتَانِ فِي وَلد هِرَّة، فَقَالَ: ألْقُوها مَعَ هَذِه، فَإِن هِيَ قرَّت، ولزَّت، واسبطرَّت فَهِيَ لَهَا. وَإِن هِيَ هرَّت، وفرَّت، وازبأرّت فَلَيْسَتْ لَهَا. وَقَالَ الشّعبِيّ: مَا طلع السماكُ قطُّ إِلَّا غارزاً ذَنبه فِي بُرد.(5/97)
وَكَانَ إِذا سُئِل عَن مُعضلة، قَالَ: ربَّاهُ ذاتُ وَبر أعيت قائدَها، وسائقها لَو ألقيت على أَصْحَاب محمَّد لأعضلت بهم. قَالَ شُرَيْح: الْقَضَاء جمْرٌ، فارفع الجمْر عَنْك بعُودين، يَعْنِي: الشَّاهِدين. روى عَن شَقِيق بن سَلمة قَالَ: وَقعت فتنةُ ابنِ الزبير فاعتزل شريحٌ الْقَضَاء، وَقَالَ: لَا أقضِي بني اثْنَيْنِ فِي فتْنَة. قَالَ: فغدوتُ عَلَيْهِ ذَات يَوْم. فقلتُ: يَا أَبَا أُمية، كَيفَ أَصبَحت؟ قَالَ: أحمدُ الله العزيزُ الجبّار إِلَيْك: وَقعت الفتنةُ تسع سِنِين فَمَا أخْبرت وَلَا اسْتُخبرت. قلتُ: يَا أَبَا أُميَّة لقد صبرتَ. قَالَ: فيكف بهواي فِي أحدِ الْفَرِيقَيْنِ؟ قَالَ شُرَيْح يَوْمًا لأَصْحَابه: لقد أكلتُ الْيَوْم لَحْمًا قد أَتَى عَلَيْهِ عشرُون سنة. فَقَالُوا: سُبْحَانَ الله. أبدا تأْتينا بالعجائب. فَقَالَ: كَانَت عِنْدِي ناقةٌ قد أَتَت عَلَيْهَا عشرُون سنة، فنحرْتُها، وأكلتُ من لَحمهَا. ورُثى شُرَيْح بجولُ فِي الْأَسْوَاق، والطرقِ، فَقيل: مَا غدَا بِك؟ فَقَالَ: عسْيتُ أَن أنظرَ إِلَى صُورَة حَسَنَة. كَانَ يقالُ: أوَّلُ من أظهر الجوْر من الْقُضَاة فِي الحكم بلالُ بن أبي بردةَ بن أبي مُوسَى، وَكَانَ أميراَ الْبَصْرَة، وقاضيَها. وَكَانَ يَقُول: إِن الرجُلين ليتقدَّمان إِلَيّ، فأَجدُ أحدَهما أخفَّ على قلبِي، فأَقضى لَهُ. وَفِيه يَقُول رُؤُبة: وَأَنت يَا بن القاضِيَيْن قاضٍ يُرِيد أبَاهُ أَبَا بُردةَ. وَكَانَ الحجاجُ وُلَاة القضاءَ حِين استعفى شُريح، فاستشارهُ فِيمَن يولِّيه. فَقَالَ شُريحٌ. عَلَيْك بالشريفِ العفيفِ أبي بردة. وجدُّه أَبُو مُوسَى وَهُوَ قَاضِي عُمر، وأحدِ الْحكمَيْنِ.(5/98)
وذُكر أنَّ رجلا جَاءَ إِلَى بِلَال يسْعَى إِلَيْهِ بآخر. قَالَ: فأقعدهُ، وَأرْسل فِي الْمَسْأَلَة عَنهُ. فذُكر لَهُ، أنَّه يُعرفُ بِغَيْر أبيهِ المنتسب إِلَيْهِ. فَقَالَ بلالٌ: أَنا أَبُو عَمْرو، حَدثنِي أبي عَن جدِّي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن السَّاعِي بِالنَّاسِ لغير أَبِيه الَّذِي يُنسب إِلَيْهِ " شهد سوَّارُ بن عبد الله العَنبري عِنْد بِلَال بِشَهَادَة، وشهدَ مَعَه رجلٌ أخرُ لَيْسَ بذاكٍ. فَقَالَ بلالٌ: يَا سوَّارُ، مَا تقولُ فِي هَذَا الرجل؟ قَالَ: إِنَّمَا جئتُ شَاهدا لَا مُزكِّياً. قَالَ: فَحَضَرَ هَذَا مَعَك هَذِه الشَّهَادَة؟ قَالَ: نعم: فأجازهُ. خَاصم رجلٌ خَالِد بن صَفْوَان إِلَى بِلَال، فَقضى الرجلُ عَلَيْهِ. فَقَامَ خالدٌ وَهُوَ يقولُ: سحابةُ صيف عَن قَلِيل تقشَّعُ. فَقَالَ بِلَال: أما إِنَّهَا لَا تتقشع حَتَّى يصيبك مِنْهَا شُؤبوبُ برد، وَأمر بِهِ إِلَى الْحَبْس. فَقَالَ خَالِد: علام تحبسُني؟ فوَاللَّه مَا جنيتُ جِنَايَة فَقَالَ بِلَال: يخبرنا عَن ذَلِك بابٌ مُصمَتٌ، وأقيادٌ ثِقالٌ، وقيِّم يُقَال لَهُ: حفصٌ. قَالَ بِلَال: إِذا رأيتَ الرجل لجُوجاً مماريا، معجَباً بِرَأْيهِ، فقد تمَّت خَسارتُه. كَانَ إياسُ بن مُعَاوِيَة بن قرّة صَادِق الظنّ، لطيفاً فِي الأُمور، وتولىَّ قضاءَ الْبَصْرَة فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز. واختصم إِلَيْهِ رجلَانِ فِي مُطرف خزِّ، وأنبجانِّي، فادَّعى كلُّ وَاحِد مِنْهُمَا الْمطرف الخزَّ أَنه لَهُ، وأنَّ الأنبجاني للآخرِ. فَدَعَا إِيَاس بِمشْط. وماءٍ، قبلَّ رأسَ كلِّ وَاحِد مِنْهُمَا. ثمَّ قَالَ لأَحَدهمَا: سرِّح رَأسك. فَخرج فِي المُشط غفرُ الْمطرف وَفِي مشط الآخر غفرُ الأبجاني. فَقَالَ: يَا خبيثُ، الأنبجاني لَك. فأمرَّ فَدفع الْمطرف إِلَى صَاحبه. استودع رجلٌ رجلا من أمناءِ إِيَاس مَالا، وَخرج الرجلُ إِلَى مَكَّة. فَلَمَّا رَجَعَ طَالبه بِالْمَالِ فجحده، فَأتى إياساً فأخُبرهُ، فَقَالَ إياسٌ علِم أَنَّك أتيتني؟ قَالَ: لَا. قَالَ فنازعته عِنْد أحد؟ قَالَ: لَا. لَا يعلم أحدٌ بِهَذَا. قَالَ: فانصرِف، واكتب أَمرك ثمَّ عُد إليّ بعد يَوْمَيْنِ. فَمضى الرجل، دَعَا إِيَاس أَمِينه ذَلِك. فَقَالَ: قد(5/99)
حضر مَال كثيرٌ، وَأُرِيد أَن أصيِّرَه إِلَيْك أتحصِّننَّ مَنْزِلك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فأَعِدَّ موضعا لِلْمَالِ، وقوماً يحملونه. وَعَاد الرجل إِلَى إِيَاس، فَقَالَ لَهُ: انطلِق إِلَى صاحبِك، فاطلُب مَالك، فَإِن أَعْطَاك فَذَاك، وَإِن جحدك فقْل لَهُ: أنِّي أخُبِر القَاضِي. فَأتى الرجلُ صاحبهُ، فَقَالَ: مَالِي، وَإِلَّا أتيتُ القَاضِي، وشكوتُ إِلَيْهِ. فَدفع إِلَيْهِ مَاله، وَرجع الرّجلُ إِلَى إِيَاس فَأخْبرهُ، وَجَاء الأمينُ لموعِدِه، فزجره إياسُ وَقَالَ: لقد بَان يَا خائن. قَالَ إِيَاس لقوم من أهل مكَّة: قدمنَا بِلَادكُمْ، فَعرفنَا خِياركم، وشراركم قَالُوا: وَكَيف عَرَفْتُمْ؟ قَالَ: كَانَ مَعنا أخيارٌ، وأشرارٌ نعرِفُهم، فلحِق كلُّ جنس بِجِنْسِهِ. كَانَ إياسُ يَقُول: الخبُّ لَا يخدعُني، وَلَا يخدع ابْن سِيرِين، ويخدع الحَسن، ويخدعُ أبي. وتبصروا هِلَال شهرِ رَمَضَان وهم جماعةٌ، وَفِيهِمْ أنسُ بن مَالك وَقد قاربَ المائةَ، فَقَالَ: قد رأيتُه. فَقَالَ إياسٌ: أشِر إِلَى مَوْضِعه. فَجعل يشيرُ، وَلَا يروْنَه. وَنظر إِيَاس إِلَى أنس فَإِذا شَعرةٌ من حَاجِبه بيضاءُ قد انثنتْ، فَصَارَت على عينهِ، فمسَحها إياسٌ وسوَّاها، ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا حمزةَ أرِنا موضِع الْهلَال. فنظرَ، فَنظر، فَقَالَ: مَا أرى شَيْئا. قَالَ رجل لإياس: هَل ترى عَليّ بأْساً إِن أكلتُ تَمرا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَل ترى بأْساً إِن أكلتُ مَعَه كَيُسوماً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن شربتُ عَلَيْهِمَا مَاء؟ قَالَ: جائزٌ. قَالَ الرجل: فَلم تحرِّم السُّكر وَإِنَّمَا هُوَ مَا ذكرتْه لَك؟ فَقَالَ إِيَاس: لَو صبْبتْ عَلَيْك مَاء. هَل كَانَ يضرُّك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن نثرتُ عَلَيْك تُرَابا وتبناً، هَل كَانَ يضرُّك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن أخذتُ ذَلِك، وخلطتُه، وعجنتُه، وجعلتُ مِنْهُ لبنةً عَظِيمَة، فَضربت بهَا رأسَكَ، أَكَانَ يضُرُّك؟ قَالَ: كنت تقتلُني. قَالَ: فَهَذَا مثلُ ذَلِك.(5/100)
كَانَ إِيَاس يقولُ: مَن أرادَ الصّلاح فَعَلَيهِ: بحُميدِ الطًّويل وتدرُون مَا يَقُول؟ يَقُول لهَذَا: انقص قَلِيلا، وَلِهَذَا: زد قَلِيلا، فينقطعُ الْأَثر بذلك. وَمن أَرَادَ الفُجورَ فليأْخُذ صالحَ بن خلاف وتدرون مَا يقولُ للمدَّعي عَلَيْهِ؟ : اجحَد مَا عَلَيْك، وللمدَّعِي: ادَّع مَا لَيْسَ لَك. أَتَى إِيَاس حَلقَة من حلقات قُرَيْش فِي مسْجدٍ دمشقَ، فاستولى على الْمجْلس، ورأوْه ذَمِيمًا، باذَّ الْهَيْئَة، فاستهانوُا بِهِ. فَلَمَّا عرفُوه اعتذرُوا إِلَيْهِ، وقالُوا: الذَّنبُ بينَنَا، وَبَيْنك مقسومٌ، فَإنَّك أتيتَنا فِي زيِّ مِسْكين، تكلِّمُنا بِكَلَام الْمُلُوك. أَخذ الحكمُ بنُ أيُّوب إياسَ بن مُعَاوِيَة فِي ظِنَّة الْخَوَارِج، فَقَالَ لَهُ الحكمُ: إِنَّك خارجيٌ مُنَافِق، وأوسَعه شتماً. ثمَّ قَالَ لَهُ: إيتنِي بكَفيل. فَقَالَ: أكْفُل أيُّها الْأَمِير. فَمَا أحَدٌ أعرفَ منكَ بِي. قَالَ: وَمَا عِلمِي بك وَأَنا من أهل الشَّام، وأنتَ مِن أهلِ الْعرَاق؟ فَقَالَ لَهُ إِيَاس: ففِيمَ هَذِه الشَّهادةُ منذُ الْيَوْم؟ فضحِكَ وخلَّى سَبيله. كَانَ ابْن أبي ليلى وِلي الْقَضَاء لبني أُميَّة، وبعدهم لبني الْعَبَّاس. وَقيل: وَهُوَ أول من تولى قضاءَ بَغْدَاد. وَقيل: بل أوَلُ من تولاها من القُضاة شَريك. وَقَالَ سفيانُ بن عُيَيْنةَ: شهد محمدُ بنُ عبد الرَّحْمَن بن الأسودِ عِنْد ابْن أبي ليلى بِشَهَادَة، فتوقَّف فِي شهادتِه. قَالَ ابْن عُيَيْنَة: فناظرتُ. بن أبي ليلى فِي ذَلك، وَقلت لَهُ: أَنِّي لَك بِالْكُوفَةِ رجلٌ مثلهُ؟ ؟ فَقَالَ: هُوَ كذَلك، إلاَّ أنّ الَّذِي شهد بِهِ عظيمٌ، وَالرجل فقيرٌ. قَالَ: فَأَعْجَبَنِي هَذَا من قَوْله. وأخذَ عَليّ ابنِ أبي ليلى رجلٌ جُلَسائه كلمة، فَقَالَ لَهُ ابنُ أبي ليلى: أهد إِلَيْنَا مِن هَذَا مَا شِئْت. وَكَانَ يقولُ: أحذِّرُكم الثِّقات. دَعَا المنصورُ ابْن أبي ليلى، فأَرادَهُ على الْقَضَاء، فَأبى، فتوعّده إِن لم يفعْل، فَأبى أَن يفعل، ثمَّ إنَّ غدَاء الْمَنْصُور حضرَ، فَأتى فِيمَا أَتَى بصحفة فِيهَا مثالُ رَأس. فَقَالَ لِابْنِ أبي ليلى: خُذ أَيهَا الرجلُ مِن هَذَا. قَالَ ابنُ أبي ليلى: فجعلتُ أضْرب بيَدي إِلَى الشَّيْء، فَإِذا وضعتُه فِي فَمي سَالَ، لَا أحتاجُ إِلَى أَن أمضغهُ. فَلَمَّا فَرغ الرجل جعل يلحسُ الصحفةَ. فَقَالَ لي: يَا محمدُ. أَتَدْرِي مَا كنت تأكُل؟ قلتُ: لَا(5/101)
- وَالله - يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: هَذَا مخُّ النِّينان معقودٌ بالسكَّر الطَّبَرزَذ. وَتَدْرِي بكم تقوَّم هَذِه الصَّحفةُ علينا؟ قلت: لَا، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: تقومُّ بِثَلَاث مائَة وبضعةَ عشر. أَتَدْرِي: لِمَ ألحسُها؟ هَذِه صفحةُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأَنا أطلبُ البَركةَ بذلك. فَلَمَّا خرج ابنُ ليلى من عِنْده رفعَ رأسَه إِلَى الرّبيع. فَقَالَ: لقد أكل الشَّيخ عِنْدَمَا أَكلَة لَا يفلِحُ بعْدهَا أبدا. فَلَمَّا كَانَ عَشى ذَلِك الْيَوْم رَاح ابنُ أبي ليلَى إِلَى الْمَنْصُور، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فكرتُ فِيمَا عرضت عَليّ، فرأيتُ أَنه لَا يسَعُني خِلافُك. فولاه القضاءَ. ثمَّ قَالَ للربيع: كَيفَ رأيتَ حَدسي؟ روى عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد أنَّه قَالَ: لمَّا أرادَ المنصورُ شريكَ بنَ عبد الله على القضاءِ قالَ: أُرِيد " ُ أَن تكلِّم أميرَ الْمُؤمنِينَ ليُعفيَني. فَقلت لَهُ: إنَّ أَبَا جَعْفَر إِذا عزم أمرا لم تُردّ عَزماتُه. قَالَ: فَلَمَّا قَامَ، وأقَرَّه على الْقَضَاء قلتُ لَهُ: إِن أميرَ الْمُؤمنِينَ المهديَّ ألينُ عَريكةً من الْمَاضِي. فَقَالَ: أما الْآن فلاَ، فَإِنِّي أخْشَى شماتَة الْأَعْدَاء. قَالَ بعضُ أَصْحَاب الحَدِيث: سأَلتُ شَرِيكا عَن النَّبِيذ، فَقَالَ لي أمّا أَنا فَلَا أتركُهُ حَتَّى يكونَ أَسْوَأ عَمَلي. وَقَالَ شريك لرجل: كم تشربُ من النَّبِيذ؟ فَقَالَ: الرِّطلَ والرِّطلين. فَقَالَ: يَا أخي، مَا شربتَه شُرب الفِتيان، وَلَا تركتهُ ترك الْقُرْآن. ذكر عِنْد شَريك العربُ والعجمُ، فغضِب، وَقَالَ ذهبَ العربُ الَّذين كَانُوا إِذا غضِبُوا كفرُوا. وَقَالَ عبدُ الله بنُ مُصعَب الزُّبيري لِشريك: بَلغنِي أَنَّك تشتُم أَبَا بكر وعُمَر. فَقَالَ: وَالله مَا أشتُم الزبير، فَكيف أشتُمُهما؟ مر؟ ّ شريكٌ بِالْبَصْرَةِ - وَكَانَ خرج مَعَ الْمَنْصُور إِلَيْهَا - فسألُوه أَن يُحَدِّثهُمْ(5/102)
فَقَالَ: يأْتيني أحدُهم مُشتَمِلاً على أَن يسأَلني الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو عبيدةَ: البلاءُ مُوكَّلِ بالمنطِق. كانَ جدُّ هَذَا: شريك يَعملُ الدّنَّ بوزارةً فَقتل رجلا، وهربَ إِلَى خُراسان، فَقدم ابنُه وادَّعى إِلَى العَرب. وَكَانَ شريك مِنَ النخع وَقيل: إِن جدّه هُوَ سِنَان ابْن أنس قَاتل الْحُسَيْن صلى الله عَلَيْهِ ولَعَن قاتِله. وَلما عُزل شريك عَن القضاءِ قَامَ إِلَيْهِ رجل، فَقَالَ: الحمدُ لله الَّذِي عزَلك فقد كنت تُطيل النَّشوةَ، وتَقبل الرّشوةَ، وتوطىُّ العشوةَ. فَقَالَ رجلٌ فخنقه. فجَعل يَصِيح: قتلِني يَا أَبَا عبدِ الله - جعلني الله فِداك - فَقَالَ شريك: قد ذلَّ مَن لَيْسَ لَهُ سَفيهٌ. وَسُئِلَ عَن أبي حنيفَة، فَقَالَ: أعلَمُ الناسِ بِمَا لَا يكونُ، وأجَهلُهم بِمَا يكونُ. وَدخل على الْمهْدي فَقَالَ لَهُ: يَا شريكُ، بَلغنِي أنَّك فاطميُّ. فَقَالَ: أتحبُّ فاطمةَ؟ أعثرَ الله من لَا يحبُّ فاطمةَ. فَقَالَ الْمهْدي: آمين فَلَمَّا خرج شريكٌ قَالَ المهديُّ لمن عِنْده: لَعنهُ الله، مَا أظنُّهُ إِلَّا عَنَاني. وَقَالَ لَهُ يَوْمًا: أيُّنا أشرفُ: نَحن أم ولدُ عليَّ؟ فَقَالَ شريك أمَّا مثلَ فَاطِمَة حَتَّى تُساويُهم فِي الشَّرف. وَلما دَعَاهُ المهديُّ إِلَى الْقَضَاء قَالَ لَهُ: لَا اصلُحُ لذَلِك. قَالَ: ولَم ذَلِك قَالَ: لِأَنِّي نسَّاءٌ. قَالَ: عَلَيْك بمضغِ اللُّبان. قَالَ: إِنِّي حَدِيدٌ. قَالَ: قد فرض لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ فالُوذَجةَ توقرك. قَالَ: إِنِّي امرُؤ أقضى على الْوَارِد، والصادرِ.(5/103)
قَالَ: اقضِ عليَّ، وعَلى وَالِدي. قَالَ: فاكفِني حاشِيتَك. قَالَ: قد فعلتُ. فَكَانَت أول رُقْعة وَردت عَلَيْهِ خالصةُ جاريةُ الْمهْدي. فَجَاءَت لتتقدَّم الخصْم، فَقَالَ: وراءَك مَعَ خصْمِك مِراراً. فأبَتْ. فَقَالَ: وراءكِ بالخَنْاءُ قَالَت: يَا شيخُ، أَنْت أحمقُ. قَالَ: قد أخْبرتُ مَوْلَاك، فَأبى عَلي. فَجَاءَت إِلَى الْمهْدي تَشْكُو إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: الْزميِ بيتَكِ، وَلَا تعْرضي لَهُ. قَالَ ابنُ أبي ليلى: مَا لِقينا مِن هُنئ، كلما تُوجِّهت لنا قضيةٌ نقضَها علينا أَبُو حنيفَة. وَشهد أَبُو حنيفَة عِنْد شريك، فَلم يُجز شهادَته، وَقَالَ: يكف أجيزُ شهادةَ قوم يَزْعمُونَ أَن الصَّلاةَ ليستْ من الْإِيمَان. وَكَانَ بانُ شُبْرُمة يَقُول: لأنْ استعمِلَ خائناً بَصيرًا بعملِه أحَبُّ إليَّ من أَن أسْتَعْمل مُضيِّعا لَا يُبصِر العملَ. وَدخل سوَّارُ بن عبد الله عَليّ الْمَنْصُور - والمصحفُ من حجره، وعيناهُ تهملان - فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم. يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ يَا سوَّارُ، ألاَ مرّة على الْمُؤمنِينَ؟ ؟ هدمتَ ديني، وَذَهَبت بآخرتي، وأفسدت مَا كَانَ من صَالح عَمَلي. قَالَ سَّوارُ: فانتهزتُها فُرصةً، وطلبتُ ثَوَاب الله فِي عظته فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّك جديرٌ بالبُكاءِ، حقيقٌ بطُول الحُزن مَا أَقمت فِي الدُّنْيَا. وَقد استرعاك اللهُ أَمر الْمُسلمين، واستحفظك أَمْوَالهم، يَسْأَلك عَمَّا عملت فِيمَا أسترعاك فِي الْيَوْم الَّذِي أعلمت فِي كِتَابه، فَقَالَ " يَوْمئِذٍ يصدُرُ النَّاس أشتاتاً لُيروْا أَعْمَالهم. فَمن يَعملْ مِثْقالَ ذرَّةٍ خيرا يّرَهُ وَمن يعْمل مِثقْال ذَرَّة شرا يره ". فازداد بُكاءً، وَقَالَ: " يَا لَيْتَني مِتُّ قبلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْياً مَنّسياً ". ثمَّ قَالَ يَا سوَّارُ إِنِّي أُعالج نَفسِي، وأُعاتبها مُنْذُ وليتُ أُمُور الْمُسلمين على حمل الدِّرّة على عُنقي، وَالْمَشْي فِي الْأَسْوَاق على قدمي، وَأَن أسدَّ بالجريش من الطَّعَام جوْعتي، وأوارىَ بأَخشن الثِّياب عورتي، وأضعَ قدر من أَرَادَ الدُّنيا، وَأَرْفَع قدْر من أَرَادَ الْآخِرَة، وسعى لَهَا، فَلم تُطْعني، وعصتْني، ونفرتْ نُفوراً شَدِيدا.(5/104)
قَالَ سوّار لَا تجتِّسمها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ صعاب الأُمور، وَلَا تُحمِّلها مَا لَا تُطيق، وألزمها أَربع خِصَال تسلمْ لَك دنياك وأخرتُك: أقِم الْحُدُود واحكُم بِالْعَدْلِ، واجْبِ الْأَمْوَال من وُجوهها، واقسمها على أَهلهَا بالحقِّ. خَاصم عبد الله بنُ عبدْ الْأَعْلَى الكريزي مولى لَهُ فِي أَرض إِلَى سوَّار - وَكَانَ جدُّهُ أقطعها جدَّه - فَقَالَ سوار: إِنِّي لأرغبُ بك عَن هَذَا، تُنازعُه فِي أَرض أقطعها جدُّك جدَّه؟ فَقَالَ الكريزي الشحيح أغدرُ من الظَّالِم. فَنَكس سوارُ طَويلا، ثمَّ رفع رأسَه، فَقَالَ: اللهمَّ أردُدْ على قُرَيْش أخطارها. دَعَا الرشيدُ أَبَا يُوسُف القَاضِي لَيْلًا فَسَأَلَهُ عَن مَسْأَلَة، فأفتاه. فَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم فَقَالَ: إنْ رَأْي أميرُ الْمُؤمنِينَ أَن يأْمر بتعجيلها قبل الصُّبح. فَقَالَ: عجِّلوها لَهُ. فَقيل: إِن الخازن فِي بَيته، والأبواب مغلقةٌ. فَقَالَ أَبُو يُوسُف: وَقد كنتُ فِي بَيْتِي والدروب مُغلقة، فحين دُعي بِي فُتِحتُ وَقَالَ لَهُ الرشيدُ: بَلغنِي أنَّك لَا ترى لُبس السَّواد. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَلم؟ وَلَيْسَ فِي يَدي شيءٌ أعز عَليّ مِنْهُ. قَالَ: مَا هُو؟ قَالَ: السوَاد الَّذِي فِي عَيْني. وسُئل مرّة عَن السَّواد، فَقَالَ: النُّورُ فِي السَّواد - يُرِيد سَواد الْعين وَكَانَ خَالِد بن طليق الخُزاعي قَاضِيا، فاختصم إِلَيْهِ اثْنَان، فَكَانَ أحدُهُما كلما أَرَادَ أَن يتكلَّم غمزه الشرطي أَلا يتَكَلَّم. فَلَمَّا كثُر ذَلِك عَلَيْهِ قَالَ: أيُّها القَاضِي، أتقضي على غَائِب؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ أَنا غائبٌ إِذا لم أترك أَن أتكلَّم. وَكَانَ خَالِد تمياها صلفاً، وَقَالَ يَوْمًا لمُحَمد بن سُلَيْمَان - مَعَ محلِّه وشرفه وثروته - نحنُ وأنتُم فِي الْجَاهِلِيَّة كهاتين. وَجمع بَين إصبعيه. كَانَ عُبيدُ بن ظبْيَان قَاضِي الرَّقَّة، فَجَاءَهُ رجلٌ واستعدَاه على عِيسَى بن جَعْفَر، وَكَانَ الرشيدُ إِذا ذَاك بالرَّقة فَكتب ابنُ ظبْيَان إِلَى عِيسَى أمَّا بعد أَطَالَ الله بقاءَ الْأَمِير وَحفظه وَأتم نعْمَته عَلَيْهِ. أَتَانِي رجلٌ فَذكر أنَّ لَهُ عَلَى الْأَمِير خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم. فَإِن رأى الأميرُ - أعزَّه الله - أَن يحضر مجْلِس الحكم، أَو يُوكِّل وَكيلا يُناظر عَنهُ فعل.(5/105)
وَدفع الْكتاب إِلَى الرُّجل، فَأتى بَاب عِيسَى، فَدفع كِتَابه إِلَى الْحَاجِب، فأوصله إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: كُل هَذَا الْكتاب {} فَرجع إِلَى القَاضِي فأخبرَه. فَكتب إِلَيْهِ: أبقاك الله وحفظك، وأتمَّ نعمتهُ عَلَيْك. حضر رجلٌ يُقَال لَهُ فلانُ بنُ فلَان وَذكر أنَّ لَهُ عَلَيْك حقّاً، فصر مَعَه إِلَى مجْلِس الحكم، أَو وَكيلك إِن شَاءَ الله. وَوجه الْكتاب مَعَ عَوْنَيْنِ من أعوانه، فحضرا بَاب عِيسَى، ودفعا الْكتاب إِلَيْهِ، فَغَضب ورمَى بِهِ، فَأَخْبَرَاهُ. فَكتب إِلَيْهِ: حَفِظك الله وأبقاك - لَا بُدَّ من أَن تصير أَنْت وخصمك إِلَى مجلسِ الحُكم، فَإِن أَبيت أنهيتُ ذَلِك إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن شَاءَ الله. ووجَّه بِالْكتاب، فرَمى بِهِ عِيسَى. فعادا، وأبلغاهُ، فختم قِمَطُره، وَانْصَرف، وَقعد فِي بَيته. وَبلغ الخبرُ الرشيدَ، فَدَعَاهُ، فَسَأَلَهُ، فأخبرَه بالقِصَّة حَرفا حَرفاً. فَقَالَ لإِبْرَاهِيم بن عُثْمَان صَاحب شُرطته: صِر إِلَى بَاب عِيسَى بن جَعْفَر، فاختم أبوابَه كلَّها، وَلَا يَخرجنَّ أحدٌ مِنْهَا، وَلَا يدخلّنَّ حَتَّى يخرج إِلَيّ الرجل من حَقه، أَو يصير معهُ إِلَى الْحَاكِم. فأحاط إِبْرَاهِيم مَعَ أَصْحَابه بِالدَّار، وَختم الْأَبْوَاب. فظنَّ عِيسَى أَنه قد حَدث للرشيد رأيُ فِي قتلهِ، وَلم يدْر مَا سببُ ذَلِك؟ وارتفع الصِّياحُ، وصراخُ النِّسَاء مِن دَاره، وَقَالَ مِن وَرَاء الْبَاب ادْعُوا أَبَا إِسْحَاق لأكلِّمه. فجَاء إبراهيمُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى وَيلك {} مَا حالُنا؟ فَأخْبرهُ بِالْأَمر فَأمر بِأَن يُحضر خَمْسمِائَة ألفِ دِرْهَم من ساعتها، وتُدفع إِلَى الرجل وَأخْبر الرشيد فَأمر بِفَتْح أبوابه. وَكَانَ عباد بنُ مَنْصُور التاجي على قضاءِ الْبَصْرَة فِي أَيَّام أبي جَعْفَر وَأَصْحَاب الحَدِيث يُضعفون حَدِيثه، ويقولُون كَانَ قدريا. وَتقدم إِلَيْهِ برذوّيْه وَمَعَهُ امرأةٌ تخاصمه فِي مهْرها وَكَانَ جميلَة. فَقَالَ كمْ مهْرُك؟ قَالَ: مِائَتَا دِرْهَم فَقَالَ عباد: وَيحك يَا برذويه {} مَا أرخص مَا تزوَّجْتَها؟ ؟ قَالَ: أفَلا أوليكها أصلحك الله. ذكر أَنه لما حكم وفَرض يحيى بنُ أَكْثَم فرضهُ الْمَشْهُور للغلمان عابه الناسُ(5/106)
فَكتب إِلَى المأْمون: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قد أكْرم الله أهل جنَّتِه بِأَن أطاف عَلَيْهِم الغِلْمانَ فِي وَقت كرامته، لفضلِهم فِي الخِدمةِ على الْجَوَارِي، وامتنَّ عَلَيْهِم بذلك. فَمَا الَّذِي بَلغنِي عَاجلا مِن طلب هَذِه الكرامةِ المخصوصِ بهَا أهلُ القُرْبة عِنْد الله؟ ؟ فَوَقع الْمَأْمُون: اذكْر يَا يحيى مِنْ كتاب الله مَا كُنَّا عَنهُ غافلين، فَلَا يُعْترضُ عَلَيْهِ فِيمَا يقدّر من الأرزاق فِي فرْضِه، وَلَا لمبْلغهم فِي العِدادِ، وقُرْب الْوَلَاء، فإنَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ يحبُّ مَا أحبَّ اللهُ، ويرضْاهُ لخاصته. وَكَانَ لَهُ من المأْمون محلٌّ عَظِيم. وَذكر بختيشوعُ أَنه سمع المأْمون يَقُول - لما جَاوز الدّرب بالرقة: يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي لَا آمنُ الحِدْثان، فَإِن كَانَ فيحيى بنُ أكْثم معكُمْ حَتَّى نُبلغكُم مأْمنكُم، ثمَّ تختارُون لأنفسكم. وَرفع مُحَمَّد بنُ عمرَان صاحبُ الْبَرِيد إِلَى الْمَأْمُون ذكر خوْض النَّاس فِي يحيى بن أَكْثَم وَمَا يَقُولُونَ فِي تهتكه. فَدَعَا بِهِ، ثمَّ قَالَ لَهُ: كم تكْثِرُ عَليّ فِي أَمر يحيى؟ رجل فسد عَلَيْهِ عضْوٌ من أَعْضَائِهِ، وَصلح لي؟ أأْستفْسِد؟ ثمَّ سخط عَلَيْهِ. وَكتب فِي مَعْنَاهُ كتابا طَويلا إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم من الثَّغْر يَقُول لِأَبِيهِ: فَلَمَّا استشفَّ أميرُ الْمُؤمنِينَ حَاله وَسيرَته ألفاهُ بَعيدا من الْإِيمَان، قَرِيبا من الْكفْر، لِهجاً باللّواط، مْؤثراً لِلْحَرَامِ على الْحَلَال، قد أعلن الفِسق، وَأظْهر المُرُوق، وجاهر بِالْمَعَاصِي، وأظْهر الملاهي، ورخّص فِي الدَّنِّ، وَخَالف دين الْمُسلمين، فَرَأى أميرُ الْمُؤمنِينَ أَن إخراجهُ من عسْكره، وَبعده من جواره، أسلمُ لَهُ، أصْرف للمكروه عَنهُ، فأسْلُبهُ - قبحهُ اللهُ - القنا والقلْنسُوة، وخُذْ مِنْهُ السَّيف. وَكَانَ المأْمون قد أَمر بِأَن يفْرض لَهُ الحُدود، وَكَانَ الكاتبُ الَّذِي أمرِ فْرضهم يُقَال لَهُ زيدٌ فَقَالَ فِيهِ بعضُهم: يَا زيدُ يَا صَاحب فرْض الْفراش ... أكلُّ هَذَا طلبا للمعاش؟ مَالِي أرى يَا زيدُ حمْلائكُمثبتتْ فِي الدِّفْتر قبل الكباش وَلما خرج المأْمونُ إِلَى الأُردنِّ - وَيحيى مَعَه - شكا الحمالُ الغلمان، وَقَالَ المأُمون: إِنَّه يتظافرُون من محْمل إِلَى محمل، فَقَالَ لَهُ المأْمون: لم لَا تنهاهم؟(5/107)
فَقَالَ: لَا ينتهُون. فَقَالَ لَهُ: لَعَلَّك ترى فيهم مَا يرى يحْيى. وَتقدم المأْمونُ بَين يَدَيْهِ مَعَ رجل ادَّعى عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار. فطُرح للمأْمون مُصلَّي يجلس عَلَيْهِ. فَقَالَ يحيى: لَا تأْخُذْ على خصْمك شرف الْمجْلس، وَلم تكُنْ للرجل بيٍّنةٌ، فَحلف المأْمونُ. فَلَمَّا فرغ وثب يحيى، فَقَامَ على رجْليه، فَقَالَ: مَا أقامك؟ . فَقَالَ: إِنِّي كنتُ فِي حقِّ الله حَتَّى أخذتُه مِنْك، وليَس الْآن من حقِّك أَن أتصدَّر علْيك. فَأعْطى الرجل المأْمونُ مَا ادَّعاه، وَهُوَ ثَلَاثُونَ ألف دِينَار، وَقَالَ: خذْهُ إِلَيْك، إِنِّي - واللهِ - مَا كنتُ لأحلِف على فجَرة. ثمَّ أسْمح لَك بِالْمَالِ، فأُفسد ديني ودنيايَ. وَالله مَا دفعتُ إِلَيْك هَذَا المَال السَّاعَة إلاّ خوفًا من هَذِه العامَّة، فلعلها ترى أنْ تناولْتُك من هَذِه القُدرة، ومنعتك حقَّك بالاستطالةِ عَلَيْك. فَأَما الْآن فَإنَّك تعلمُ أَنِّي مَا كنتُ لأسمح بِالْيَمِينِ وَالْمَال. وأمرَ ليحيى بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار. وتصدَّق بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار. وَكَانَ يحيى يَقُول: سياسةُ الْقَضَاء أسدُّ من الْقَضَاء. كَانَ أَبُو خَازِم عبدُ الحميد بن عبد الْعَزِيز الْكُوفِي قَاضِيا للمعتمدِ. ودخلَ إِلَى عُبيْد الله بن سُلَيْمَان، فَسَأَلَهُ عَن النَّبيذِ، فَقَالَ: هُو عِنْد أَصْحَابِي كَمَاء دجْلَة، غيرَ أنَّه يُودِي. وجَرى بينَه وَبَين عُبيد الله شيءٌ، فَقَامَ أَبُو خَازِم عَن الْمجَالِس، وَأخذ قلَنْسُوته عَن رَأسه بِيَدِهِ، فَقَالَ عبيدُ الله: انْظُرُوا مَا صَنَع أبُو خازم، أَخذ قلنسوتَه بِيَدِهِ يُعْلِمنا أَنه مَا يُبالي إنْ عزلتُه. وَمَات فِي أَيَّامه الضّبعيُّ صاحبُ الطَّعَام، وَله أطفالٌ، وَعَلِيهِ ديونٌ، وللمعتضِد عَلَيْهِ أربعةُ آلَاف دِينَار: فَقَالَ المعتضدُ لِعبيد الله بنِ سُلَيْمَان: قل لعبد الحميد أنْ يدْفع إِلَيْنَا هَذَا المالَ من تَرِكَة الضَبعي. فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ أَبُو خازم: إِن المعتضِدَ كأسوة الغُرمَاءِ فِي تَرِكة الضبعِي. فَقَالَ لَهُ عبيد الله: أَتَدْرِي مَا تقولٌ؟ فَقَالَ أَبُو خازم: هُوَ مَا قلتُ لَك. وَكَانَ المعتضد يلحُّ على عُبيد الله فِي اقْتِضَاء المَال: وعبيدُ الله يؤخِّرُ مَا قَالَ(5/108)
لَهُ أَبُو خازم فَلَمَّا ألحَّ عَلَيْهِ أخبَرهُ بِمَا قَالَ أبُو خازم، فأطَرق المعتضدِ، ثمَّ قَالَ: صدَق عبد الحميد، هُوَ كَمَا قَالَ نَحن كَسَائِر الغُرماء وأسْوتهم. تقدم رجل إِلَى أبي خازم، وقدَّم أباهُ يطالبُه بدين لَهُ عَلَيْهِ. فَأقر الأبُ بذلك. فَأَرَادَ الأبنُ حبس أَبِيه بِالدّينِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِم: هَل لأَبِيك مَال؟ قَالَ: لَا أعلمهُ. قَالَ: فُمْذ كمْ داينْتَهُ بِهَذَا المَال؟ قَالَ: مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فقد عرضتُ عَلَيْك نَفَقَة أَبِيك من وَقت المُدانية. فحبس الابْن، وخلَّي عَن الْأَبَد. وَكَانَ إِسْمَاعِيل بنُ إسحاقُ قَاضِيا للمعتمد بِمَدِينَة السَّلَام. فَدخل على الْمُوفق، فَقَالَ لَهُ: يَا إسماعيلُ: مَا تَقول فِي هَذَا النَّبِيذ؟ فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الأميرُ، إِذا أصبح الإنسانُ وَفِي رَأسه مِنْهُ شَيْء. قَالَ مَاذَا؟ قَالَ الْمُوفق: يقُولُ: أَنا مخمورٌ. قَالَ: فَهُوَ كاسمه. قدم البلاذُري إِلَى الْحسن بن أبي الشَّوَارِب فِي ديْن عَلَيْهِ، فادَّعى غريمهُ مِائَتي دِينَار. فَذكر البلاذري مُعَاملَة بَينهمَا. وَعَادَة جرت بالنّظرة. فَقَالَ لَهُ القَاضِي: أنظرهُ. فَقَالَ: لم أطالبه إِلَّا وَقد علمتُ السَّاعَة نعْمَته. فَقَالَ البلاذري: صدق أَيهَا القَاضِي، إِنِّي من الله لفي نعم، لَا أقومُ بشكرها، أَولهَا: نعمةُ الْإِسْلَام - وَهِي الَّتِي لَا تعدلُها نعمةٌ. ثمَّ نعمةُ الْعَافِيَة - هِيَ أفضلُ النِّعم بعدَها - وَمَا يُقضي من هَاتين الدينُ. فَقَالَ القَاضِي لغريمه: انْصَرف، ورُحْ إِلَى فراح إِلَى القَاضِي، فَأعْطَاهُ عَنهُ مِائَتي دِينَار. كَانَ يحيى بنُ سعيد الْأنْصَارِيّ قَاضِيا للرشيد، وَكَانَ خَفِيف الْحَال وَكَانَ لَهُ مجْلِس من السُّوق. فَلَمَّا ولي القضاءَ، وارتفع شأْنُه لم يتْرك مَجْلِسه فِي السُّوق. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: مَن كَانَت لَهُ نفسٌ واحدةٌ لم يغيَّره الإقتارُ، وَلَا المالُ. كَانَ البَرْقيُّ عفيفاً، صَالحا، وَولي قَضَاء مَدِينَة السَّلَام أَيَّام الْمُعْتَمد، وَكَانَ قد ولاه قبل ذَلِك يحيى بنُ أَكْثَم. فَقيل لَهُ: وليتَ البرقي القضاءَ - وَهُوَ رجلٌ من أهل السوَاد؟(5/109)
فَقَالَ يحيى: ألم تسمع قَول الله تَعَالَى: " وَمَا أرسلْنا مِن رَّسُول إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمه " قَالَ بعضُهم: رأيتُ البرقيّ يَوْمًا. هُوَ يقْرَأ علينا شَيْئا من حَدِيث سُفْيانَ - فَقَالَ لَهُ رجل كَانَ مَعنا: يَا أَبَا الْعَبَّاس. فَقَالَ إِلَيْهِ البرقي، وَضرب لحيته، وَقَالَ لَهُ: أَنا قَاض مُذ كَذَا وَكَذَا سنة {} تقولُ: هيا يَا أَبَا الْعَبَّاس. وَذكر أَن البرقي صَار إِلَى عبد الْعَزِيز الْهَاشِمِي - وَكَانَ صديقهُ - فَهُوَ مَعَه جالسٌ إِذْ دخل عَلَيْهِ رجلٌ فَسلم، وقعدَ، فَقَالَ لَهُ عبدُ الْعَزِيز: مَا خبرُك؟ قَالَ: قد وليت السَّواني لأسني المَاء للْحَاج. ثمَّ دَعَا بكُوز من مَاء فشربهُ. ثمَّ صَبر سَاعَة، فَدَعَا بكوز آخر فشربه، ثمَّ صَبر سَاعَة، ودعا بكوز آخر - والبرقيُّ يراهُ - فَقَالَ لعبد الْعَزِيز: يَا أَبَا الْقَاسِم، هَذَا قد وَلي السواني. لَئِن خرج هَذَا إِلَى مَكَّة ليشربن كل مَا يسنى. كَانَ عبد الْملك بنُ عُمَيْر قَاضِي الْكُوفَة، فهجاهُ هُذيلٌ الْأَشْجَعِيّ بِأَبْيَات فِيهَا: إِذا ذاتُ دلٍّ كلمتهُ بحاجة ... فهم بِأَن يقْضِي تنحنح أَو سعل فَكَانَ عبدُ الْملك يَقُول: قاتلهُ الله. وَالله لرُبما جائتني النحنحةُ وَأَنا فِي المتوضأ، فأذكرُ مَا قَالَ فأردُّها. قَالَت امرأةٌ لشُريح: إِنَّك قضيت على وظلمتني - وَالله يدخلُك النَّار. فَقَالَ شريحٌ لَهَا: أما أَنا فَلَا أدخُلُها إِلَّا بعد سَبْعَة، وهم: الَّذِي عَلمنِي، وَالَّذِي ولاني، وَالَّذِي جَاءَ بك إِلَيّ، والشاهدان والمُزكِّيان. قَالَ الوايق لِأَحْمَد بن أبي دُواد: إِن حوائجك، ومسائلك تستنفد بيُوت الْأَمْوَال. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أتخافُ الْفقر وَالله مادتُك. قَالَ بعضُهم: سَمِعت ابْن أبي دُواد يقولُ: إين لأكرهُ أَن أكلِّم الخلفاءَ بِحَضْرَة ابْن الزيات خوفًا من أَن أعلِّمه التأتِّي لَهَا. وَكَانَ المعتصمُ غضب على خَالِد بن يزِيد بن مزِيد. فَلم يزل بِهِ أحمدُ بن أبي(5/110)
دواد حَتَّى عَفا عَنهُ، وَأَعْطَاهُ، وولاه، وَخرج على النَّاس بِالْخلْعِ وهم ينتظرون رأسهُ. فَقَامَ بعد ذَلِك رجلٌ إِلَى خَالِد، فَقَالَ: يَا سيِّد الْعَرَب فَقَالَ: ذَلِك ابنُ أبي دُواد. وَكَانَ أَبُو العيناء يَقُول: كَانَ أحمدُ بنُ أبي دُواد إِذا رأى صديقه مَعَ عدوِّه صديقهُ. وَقَالَ أَبُو العيناء: مَا رأيتُ مثل ابْن أبي دُواد من رجل قد مُكِّن من الدُّنْيَا ذَلِك التَّمْكِين، كنت أراهُ فِي مجْلِس سقفُه غير مُغرى، جَالس على مسح وأصحابُه مَعَه يتدَّرنُ القميصُ عَلَيْهِ فَلَا يبدَّلهُ، حَتَّى يعاتبَ فِي ذَلِك، لَيست لَهُ همةٌ وَلَا لذةٌ من لذات الدُّنْيَا إِلَّا أَن يحمل رجُلاً على مِنْبَر، وَآخر على جذع. وَقَالَ لَهُ المعتصمُ فِي أَمر الْعَبَّاس بن المأْمون: يَا أَبَا عبد الله، أكرهُ أَن أحبسه، فأهتكه وأكرهُ أَن أَدَعهُ فأُهمله. فَقَالَ لَهُ ابْن أبي دُواد: الحبسُ - يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ - فَإِن الِاعْتِذَار خيرٌ من الاغترار. وَكَانَ الأفشين يحسدُ أَبَا دُلف، ويبغضُه للغربية، والشجاعة أَبَا والجُود. فاحتال عَلَيْهِ حَتَّى شُهد عَلَيْهِ بخيانة فَجَلَسَ لَهُ، وأحضرهُ، وأحضر السياف لقَتله. وَبلغ ذَلِك أَحْمد بن أبي دواد، فَركب مَعَ من حَضَره من عُدْوله. وَدخل على الأفشين وَقد جِيءَ بِأبي دلفُ ليُقتل. فَوقف، ثمَّ قَالَ: إِنِّي رسولُ أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَيْك بألا تحدث فِي الْقَاسِم حَدثا حَتَّى تحمله إِلَيْهِ مُسلما. ثمَّ الْتفت إِلَى العُدُول، فَقَالَ: أشهدوا أَنِّي أديتُ الرسالةَ والقاسُم حَيّ مُعافى. وَخرج فَلم يقدم الأفشينُ عَلَيْهِ. وَصَارَ ابنُ أبي دواد من وقته إِلَى المعتصم، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد أديتُ عَنْك إِلَى الأفشين رسالةٌ لم تقُلها لي، لَا أعتدُّ بِعَمَل عملته خير مِنْهَا، وَإِنِّي لأرجُو لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بهَا الْجنَّة. وَخَبره الْخَبَر، فصوب رَأْيه، وَأمر بالإفرج عَن أبي دُلف. . وَكَانَ أحمدُ بنُ أبي دُواد بعد ذَلِك يقرَّظُ أَبَا دلف ويصفُه للمعتصم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الله، إِن أَبَا دلف حَسنُ الْغناء، جيِّدُ الضَّرْب بِالْعودِ فَقَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، القاسمُ فِي شجاعته وبيته فِي الْعَرَب يفَعلُ هَذَا {}(5/111)
ثمَّ أحب المعتصمُ أَن يَسمعهُ ابنُ أبي دُواد. فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا قاسْم، غنّني. فَقَالَ، وَالله مَا أستطيعُ ذلكَ - وَأَنا أنظرُ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ - هَيْبَة وإجلالاً. قَالَ: فاجلس من وراءِ ستارة. فَفعل وغنى. وأحضر ابْن أبي دُواد، وأجلَسه وَقَالَ: كَيفَ تسمعُ هَذَا الْغناء؟ قَالَ: أميرُ الْمُؤمنِينَ أعلمُ بِهِ، ولكنِّي أسمعُ حسنا. فغمز غُلَاما، فهتك السِّتارة، فَإِذا أبُو دلف. فَلَمَّا رأى أَبُو دلف ابْن أبي دُواد وثب قَائِما، وَاقْبَلْ على ابْن أبي دُواد، فَقَالَ: إِنِّي أجُبرتُ على هَذَا. فَقَالَ: مَا ماجنُ. لَوْلَا دربتُك فِي الْغناء، منْ أينَ كنت تَأتي مثل هَذَا؟ هبْك أجُبرْت على أَن تُغني، مَنْ أجُبرَك على أَن تُحسن؟ ذكر ابنُ أبي دواد أَبَا الهذيْل، فَقَالَ: كلامُه مُطلٌّ على الْكَلَام كإطلال الغَمام على الْأَنَام. لما مَاتَ عبدُ الله بن طَاهِر قَالَ الواثقُ لأحَمد بن أبي دُواد: قد عزمتُ يَا أَبَا عبد الله - على أَن أقَلِّد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم خُرَاسَان. فَقَالَ: لرأي أَمِير الْمُؤمنِينَ فضْلُه، غير أَنِّي رأيتكُم تحفظُون الأخْلافَ للأسلاف. فَقَالَ: حسْبُك. وَعقد لطاهر بن عبد الله. قَالَ العدلي الشِّطْرنجي للواثق: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. مَا قَمرني فلانٌ إِلَّا أَنِّي كنت سكْرانَ. فَقَالَ لِابْنِ أبي دُواد: يَا أَبَا عبد الله. فأقم عَلَيْهِ الْحَد. قَالَ: وَلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قد أقرَّ على نَفسه بالسُّكْر. فَقَالَ: هَذَا إقرارُ افتخار لَا إقرارُ اعْتِرَاف. قَالَ يحيى بنُ أَكْثَم: نلتُ القضاءَ، وقضاءَ القُضاة، والوزارة، مَا سُررتُ بِشَيْء مثل قَول المُستمْلي: من ذكرتَ - رَحِمك الله؟ دخل عبدُ الرَّحْمَن بنُ إِسْحَاق القَاضِي على إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الظَّاهِرِيّ، فَبينا هُوَ يخاطبُه إِذا وَقعت عينُه على قِطْعَة وتر للعود كانتْ على البَساط، فَأَخذهَا، وَجعل يلفُّها على يَده، ويبعثُ بهَا سَهْوا. ورآهُ إِسْحَاق فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد: لَا(5/112)
تغلطْ، وتخرجْ وَفِي يدك مَا فِيهَا، فتلْقَى من الْعَامَّة مِثْلَمَا لَقينَا مِنْك. فاستحى عبدُ الرَّحْمَن وَأَلْقَاهَا، وَضرب إسحاقُ الفراشين ألْف مقْرعة بِهَذَا السَّبب. لما قَالَ دِعْبلُ فِي المعتصم: ملوكُ بَنِي العباسِ فِي الكُتب سبعةٌ ... وَلم يأتينا فِي ثامن لَهُم كُتبُ كَذَلِك أهلُ الْكَهْف فِي الْكَهْف سبعةٌ ... خِيَار إِذا عُدُّوا وثامنُهم كلبُ لقد ضَاعَ أْمرُ النَّاس حِين يسُوسُهم ... وصيفٌ وأشْناسٌ وَقد عظُم الخطبُ نذر المعتصمُ دمَه، وطُلب طلبا شَدِيدا، فتوارى وهرب. فَسمع ابنُ أبي دواد المعتصم يَوْمًا يَقُول: لأقْتلن دْعَبلا. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: هجاني. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. إِن دعبلا شريفٌ، وَعِنْده من الْفضل مَا يردَهُ عْن هَذَا. وَلَكِن أَخْبرنِي من المُبْلغُ لَك ذَلِك عنْه؟ قَالَ: عمِّي إبراهيمُ الْمهْدي. قَالَ: أَتَاك الخبرُ، أنَّ إِبْرَاهِيم موتورٌ، فَفِي حُكْمك قبولُ قَول حاقد مُحْفظَ. قَالَ: معاذَ الله. قَالَ: إِن دعبلاً هتك إِبْرَاهِيم عمَّك بقوله أَيَّام تولِّيه الْخلَافَة: إِن كانَ إبراهيمُ مُضْطلعاً بهَا ... فَلتصلُحن من بعده لمخارق ولتَصْلُحَنْ من بعد ذَاك لزلزلٍ ... ولتصلحن من بعده للمارق فَضَحِك وقَال: أجلْ. إِن كانَ إبراهيمُ خليفةٌ فمخارق وليُّ عْهد، وَقد صفَحنَا عمَّا أَردْنا. قَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أجلٌّ من أَن يعْمُرَ قلباً بحزْن ساخطاً، وَلَا يعمره بسرور رَاضِيا. قَالَ: فاحكُمْ يَا أَبَا عبد الله. قَالَ: خَمْسُونَ ألف دِرْهَم يرمٌّ بهَا حَاله. فَقبض المَال، وأنفذ الكتابُ إِلَى مصرَ، وَكَانَ دعبلٌ بهَا فلمْ يشكْرهُ دعبل وكافأه بِأَن قَالَ فِيهِ: سحقتْ أمُّهُ ولاط أبُوه ... لَيْت شعْري عَنهُ، فمنْ أَيْن جَاءَ؟ فِي أهاج كَثِيرَة لَهُ فِيهِ.(5/113)
وسُعي بِأبي تَمام إِلَى المعتصم أنَّه قَالَ فِي شعريٍ مدح بِهِ أَبَا سعيد الثفري. تزحزحي عَن طَرِيق المُجِد يَا مضرُ ... هَذَا ابنُ يُوسُف لَا يُبقي وَلَا يذرُ فَنَذر المعتصمُ دَمه. فَقَامَ ابنُ أبي دواد، فكذب عَنهُ، وحَلف مُجْتَهدا: أَن هَذَا الشّعْر لَيْسَ من طرفِ شعر أبي تَمام حَتَّى استنقذه من سَخطِهِ. فكافأَهُ أَبُو تَمام أحسن مُكَافَأَة، وشكره أحسن شكر، ومدحهُ بقصائدهِ الْمَشْهُورَة فِيهِ. غضب المهديُّ يَوْمًا على شريك فَقَالَ: يَا بن الزَّانِيَة. فَقَالَ شريك: أمة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَمَا عِلمتُها إِلَّا صوّامةً قوّامة. فَقَالَ لَهُ: يَا زنديقُ، لأقتْلنَّك. فَقَالَ شريك، وَكَانَ جهوريَّ الصوتِ -: إِن للزنادقة عَلَامَات يُعرفون بِهَا، شربهم القهواتِ، واتخاذهم القّيناتِ، ونومهم عَن العتماتِ فأطَرق المهديُّ، وَقَامَ شريك، فَخرج. ذكر أنَّ جمَاعَة من الرؤساء باتُوا عِنْد أبي دُواد فَلَمَّا أخذُوا مضاجعَهم إِذا الخدمُ قد أخرَجُوا لكل وَاحِد مِنْهُم جَارِيَة. قَالَ: فاحتشموا مِن ذَاك. وَبَات الْجَوَارِي نَاحيَة، وَقَامَ، بعضُهم، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا وَجه بجاريةِ كل وَاحِد إِلَى منزله، وَمَعَهَا وصيفةٌ. دخل ابنُ أبي دُواد إِلَى الواثق - وَقد أَتَى بِابْن أبي خَالِد الَّذِي كَانَ بالسِّند، فَقَالَ: وَالله، لأضربنَّك بالسِّياط. وَوَاللَّه لَا يكلٍّمُني فِيك أحدٌ من النَّاس إِلَى ضربتُ بَطْنه، وظهرَه. فَسكت حَتَّى ضربه عشْرين سَوْطًا. ثمَّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فِي هَذَا أدبٌ، وَفِي دُونِه استصلاح، ومجاوزتُه سرفٌ. وَإِنَّمَا أبقى عَلَيْك من القصاصِ. قَالَ: أَو مَا سمِعتَ يَمِيني أَلا يكلمني فِيهِ أحدٌ إِلَّا ضربتُ ظَهره وبطنه. قَالَ: قد سمعتُ. لَكِن يُكفِّر أميرُ الْمُؤمنِينَ، وَيَأْتِي الَّذِي هُو إِلَى الله عز وَجل أقربُ، وَعِنْده أفضلُ. قَالَ: خليا عَنهُ. كفِّر يَا غلامُ عَن يَمِيني. سُئل رجلٌ من البُلغاءِ عَن يحيى بن أَكْثَم، وأحمدَ بن أبي دُواد: أيُّهما أنبلُ؟(5/114)
فَقَالَ: كَانَ أَحْمد يجدُّ مَعَ جَارِيَته وَابْنَته، وَيحيى يهزلُ مَعَ خَصمه وعدوِّه. وَكَانَ ابنُ أبي دواد يتَحَلَّل عَن أَن يُخَاطب بالوزارة، وَالْقَضَاء فَلَا يخاطبُ إِلَّا بالكُنيه. وَكَذَلِكَ روحُ بنُ حَاتِم المهلَّبي ولِي إفريقية وَالْبَصْرَة، والكوفة، وأرمينية وَغير ذَلِك، فَلم يُسُمَّ بالإمرة قطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ يكنَّى بكُنيته، وَكَانَ يكنَّى أَبَا خلف. وَكَذَلِكَ السِّنديُّ بنُ شاهك. وَقَالَ ابنُ الزيَّات يَوْمًا لِابْنِ أبي دواد فِي مناظرة بَينهمَا: لستُ بنبطي، وَلَا دَعي - يعرض بِهِ. فَقَالَ: مَا دُونك أحدٌ فتنزل إِلَيْهِ، وَلَا فَوْقك من يقبلُك فتنتمي إِلَيْهِ. قَالَ الحسنُ بن وهب: شكرتُ أَبَا عبد الله أَحْمد بن أبي دواد على شَيْء كَانَ مِنْهُ. فَقَالَ لي: لَا أحُرَجك اللهُ، وَلَا إيّانا إلاّ أَن نَعْرِف مَالنا عِنْد الأصدقاء. وتخطى بعضُ بني هَاشم رِقَاب النَّاس عِنْد ابْن أبي دواد، فَقَالَ: يَا بُني، إِن الْأَدَب ميراثُ الْأَشْرَاف، وَلست أرى عِندك مِن سَلفِك مِيرَاثا. فاستحسَن كلامَه كلُّ من حضر. قَالَ الواثق يَوْمًا لِأَحْمَد بن أبي دواد فِي رجل حُمِل إِلَيْهِ من بعض النواحي: قد عزمَتُ على ضرب عُنقه. فَقَالَ: لَا يحِلّ لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فأضربه بالسِّياط. قَالَ: ظهر الْمُسلم حِمى إِلَّا من حد. قَالَ لَهُ: أَنْت أبدا تعترض عَليّ. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أخافُ عَلَيْك العامَّة. قَالَ: وَمَا عَسى العامَّةُ تفعلُ؟ قَالَ: أقولُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَا تغْضب. قَالَ: قُل. قَالَ إِذا رأوْك قد جُرْت فِي الحكم، أخذُوا بِيَدِك فأقامُوك عَن مجْلِسِك، وأجْلْسوا غَيْرك. قَالَ: فأمْسك الواثقُ، وَلم يحر جَوَابا، وَزَالَ الْمَكْرُوه عنْ ذَلِك الرجل. وَقَالَ ابنُ أبي دْواد: موتُ الْأَحْرَار أشدُّ من ذهَاب الْأَمْوَال. وَقَالَ: الشجاعةُ شجاعةٌ فِي الْقلب، والبخلُ شجاعةٌ فِي الوَجْهِ.(5/115)
قَالَ رجل لِابْنِ شُبْرُمة: ذهب العلمُ إِلَّا غُبَّراتٍ فِي أوعيةِ سوء. وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ بَين عبدِ الله بنِ شُرَيْح وَبَين قوم خصومةٌ. فَقَالَ: يَا أبهْ. إِن بيني وَبَين قوم خُصُومَة، فإنْ كَانَ الحقُّ لي خاصمتهُم. قَالَ: اذكر لي قصَّتك. فَذكر مَاله، قَالَ: إيتني بهم. فَلَمَّا أتاهُ بِهم قضى على ابْنه، فَقَالَ لمْا رَجَعَ: يَا أبه. لَو لمْ أخُبِرك بقصتي كَانَ أعذر لَك عِنْدِي. فَقَالَ: يَا بُني أَنْت أعزُّ عَليّ من ملءِ الأَرْض مثلهمْ، واللهُ أعزُ عَليّ مِنْك، كرهتُ إِن أخبَرتُك أَن الْقَضَاء عَلَيْك أَن تخافهم فتصالحهم.(5/116)
الْبَاب التَّاسِع كَلَام السحن الْبَصْرِيّ
كَانَ الحجاجُ يقولُ: أخطبُ النَّاس صاحبُ الْعِمَامَة السوداءِ بَين أخصَاص الْبَصْرَة، إِذا شَاءَ تكلمَ، وَإِذا شاءَ سكت يَعْنِي الْحسن كتب إليْه عُمر بنُ عبد الْعَزِيز: أَن أَعنِي بِبَعْض أَصْحَابك. فَكتب إِلَيْهِ الحسنُ: أما بعد. فَإِنَّهُ مَن كَانَ من أَصْحَابِي يُرِيد الدُّنْيَا فَلَا حَاجَة لَك فِيهِ، ومَن كَانَ يُرِيد الْآخِرَة فَلَا حَاجَة لَهُ فِيمَا قَبَلك، وَلَكِن عَلَيْك بذوي الْإِحْسَان فَإِنَّهُم إِن لم يتقوا استحيُوا، وَإِن لم يستحيُوا تكرموا. وَقَالَ: كن فِي الدُّنْيَا كالغريب الَّذِي لَا يجزعُ من ذُلِّها وَلَا يُشَارك أَهلهَا فِي عزِّها. للنَّاس حالٌ وَله حالٌ أُخْرَى، قد أهمته نَفسه، وَعلم لما بعْد الْمَوْت، فَالنَّاس مِنْهُ فِي عَاقِبَة، ونفْسهُ مِنْهُ فِي شُغل. ذكرُوا أَنه سمع رَجلاً يقُولُ: أهْلَك اللهُ الفُجَّارَ فَقَالَ: إِذن نَسْوحِشُ فِي الطُّرق. قَالَ أَعْرَابِي المحسن: علِّمني دينا وسُوطا، لَا ذَاهِبًا شطُوطاً، وَلَا هابطاً هبوطاً. فَقَالَ الحسنُ: لَئِن قُلت ذَلِك، إِن خيرَ الْأُمُور لأوْساطُها. وَقَالَ لهُ رجلٌ: إِنِّي أكرَهُ الْمَوْت. قَالَ: ذَاك أَنَّك أخرت مَالك وَلَو مقدمتهُ لسرك أَن تلْحق بِهِ. وَقَالَ: اقدّعُوا هَذِه النُّفوسَ فَإِنَّهَا طُلعةٌ، واعْصُوها فإنكُمْ إِن أطعتموها تنزِع(5/117)
بكُمْ إِلَى شرِّ غَايَة، حادثُوها بالذِّكر فَإِنَّهَا سَريعةُ الدُّثور. قَالَ عنبَسَةُ: شهدْتُ الْحسن يقُولُ - وَقَالَ لَهُ رجلٌ بلغنَا أَنَّك تقولُ: لوْ كَانَ عَليّ بِالْمَدِينَةِ يأْكُل من حَشفها كَانَ خيرا لهُ مِمَّا صَنع - فَقَالَ الحسنُ: يالُكِعُ أما وَالله لقد فقدتُموه سَهماً من مَرَامي الله غير سَئُوم عَن أَمر الله وَلَا سروقة لمَال الله. أعْطى الْقُرْآن عَزائمَهُ فِيمَا عَلَيْهِ، ولهُ، فأحلَّ حلالهُ، وحرّم حَرامَهُ، حَتَّى أورْدَهُ ذَلِك رياضاً مونقةٌ، وَحَدَائِق معدِقةً ذَاك ابنُ أبي طَالب يَا لُكعُ. وَقَالَ الحسَنُ: لَا تزُولُ قدمُ ابْن أدَم حَتَّى يُسْأَل عَن ثَلَاث: شبابه: فيمَ أبلاه؟ وعمْره: فيمَ أفناهُ؟ وَمَاله: من أَيْن اكْتَسبهُ؟ وفيم أنفقهُ؟ وَرَأى رجلا يكيد بِنَفسِهِ فَقَالَ: إِن أمْرأً هَذَا آخرهُ لجديرٌ أَن يزهدَ فِي أَوله، وَإِن امْرأ هَذَا أولُه لجدير أَن يخَاف آخِره. وَقَالَ: بِعْ دنياك بآخرتك تربحُهما جَمِيعًا، وَلَا تبع آخرتك بدنياك فتخسرَهُما جَمِيعًا. وَقَالَ: مَن أَيقَن بالخلف جادَ بِالْعَطِيَّةِ. وَقَالَ: مَن خَافَ الله أَخَاف الله مِنْهُ كل شيءٍ، ومَن خَافَ الناسَ أخافهُ اللهُ من كل شيءٍ. وَقَالَ: مَا أُعْطى أحدٌ شيئْاً من الدُّنيا إِلَّا قيل لهُ: خُذْهُ وَمثله من الحرْص. قَالَ الحَسنُ: إِن قوما جعلُوا تواضُعَهُمْ فِي ثِيَابهمْ، وكبرَهُمْ فِي صرورهم حَتَّى لصَاحبُ المدْرعة فِي مدْرعَته أشدُّ فَرحا من صَاحب المُطرف بمطْرفه. وَقَالَ: مَن كَانَ قبْلكُم أرقُّ قلوباً، وأصْفقُ دينا، وأنتُمْ أرقَّ منهُمْ دينا، وأصْفقُ قلوباً. قيل لخَالِد بن صَفْوَان: مَن أبلغُ النَّاس؟ قَالَ: الحَسنُ البصريُّ لقَوْله فضحَ الموْتُ الدُّنيا. لوْ عقل أهلُ الدُّنيا خربَتْ الدُّنيا. وَقَالَ: أهينُوا الدُّنيا فو الله لأهنأُ مَا تكُونُ حِين تُهينُونها. وَقَالَ لَهُ رجلٌ: مَا تَقول فِي الدُّنيا؟ قَالَ: حَلالُها حسابٌ، حرامها عذابٌ.(5/118)
فَقَالَ لَهُ: مَا رأيتُ أوْجز من كلامك. فَقَالَ الحسنُ بل كلامُ عمرَ بن عبد الْعَزِيز أوجزُ من كَلَامي. كتب إِلَيْهِ بعضُ عُمَّال حمْص: أما بعد: فإنَّ مَدِينَة حمْص قد تهدمت، واحتاجَت إِلَى إصْلَاح. فَكتب إِلَيْهِ عمر: حصِّنها بالعْدل، ونقِّ طُرقها من الجورْ. والسلامُ. قَالَ الْحسن لفرقْد: يَا أَبَا يعْقُوب. بَلغنِي أنَّك لَا تَأْكُل الفالوُذج. قَالَ: يَا أَبَا سَعيد. أخافُ أَلا أودي شُكرَهُ. قَالَ: يَا لكُع {} هلت تُؤَدّى شكرَ المَاء الْبَارِد؟ ؟ وسَمعَ رجلا يشكُو علَّةً بِهِ إِلَى آخر. فَقَالَ: أمَا أنَّك تشكُو مَن يَرْحَمك إِلَى مَن لَا يرْحَمك. وَقيل لهُ: مَن شرُّ النَّاس؟ قَالَ: الَّذِي يرى أنَّهُ خيرُهم. وَقَالَ: قدْ ذمّ اللهُ الثِّقَل فِي القُرآن بقوله " فَإِذا طعمْتُمْ فَانْتَشرُوا " وَقَالَ: الدُّنيا كُلُّها غمُّ، فَمَا كَانَ فِيهَا من سرُور فَهُوَ ربحٌ. وَقَالَ: إِن الله - جلّ ثناؤهُ - لم يأْمرْ نبيَّه عَلَيْهِ السلامُ بمشاوَرة أَصْحَابه لحَاجَة منهُ إِلَى آرائهمْ، ولكنَّهُ أحبَّ أَن يُعَلِّمه مَا فِي المشورة منْ البَركة. ويُروي عَنهُ أَنه قَالَ منذُ دَهر ندْعُو الله فنقولُ: اللَّهُمَّ اسْتعْمل علينا أخيارنا فأعظمْ بهَا مُصِيبَة أَلا يُسْتجاب لنا، وأعظمُ من ذَلِك أَن يكون اسْتجيب لنا فَيكون هؤلاءِ خيارنا. وَذكر الدُّنْيَا فَقَالَ: المؤمنُ لَا يجزعُ من ذُلِّها وَلَا يُنافس فِي عزِّها. وَقَالَ: أربعٌ قواصم لِلظهْرِ: إمامٌ تُطيعُه ويُضلُّك، وزوْجةٌ تأْمنُها وتخونُك، وجارٌ إِن علم خيرا سترهُ، وَإِن علم شرّاً نشرَهُ وفقرٌ حاضرُ لَا يجدُ صاحبُه عَنهُ شارداً. وَوصف الْأَسْوَاق. فَقَالَ الأسْواقُ مَوَائِد الله مَن أَتَاهَا أصَاب مِنْهَا.(5/119)
وَقَالَ: من عمل بالعَافية فيمَن دونه رزُق بالعافية مِمَّن فوقهُ وَقيل لهُ: كَيفَ رَأَيْت الوُلاة يَا أَبَا سَعيد؟ قَالَ رأيتهُمْ يبْنون بِكُل ريع أَيَّة يعْبثُون. ويتخذُون مصانع لعَلهُمْ يخلدُونَ. وَإِذا بطشُوا بطشُوا جبارين. وَكَانَ يقولُ: ذمُّ الرجل نفسَهُ فِي العَلانية مدَحٌ لَهَا فِي السِّر. وَقَالَ: مَن وسَع اللهُ عَلَيْهِ فِي ذَات يَده فَلم يخف أَن يكُون ذَلِك مكراً من الله بِهِ فقد أَمن مخُوفاً، ومَن ضيق اللهُ عَليه فِي ذَات يَده فَلم يرْجُ أَن يكُون ذَلِك نظرا من الله لهُ فقد ضيّع مأْمولاً. وَقَالَ: إِن من عَظِيم نعم الله على خلقه أنْ خلق لُهمْ النَّار يحُوشُهم بهَا إِلَى الْجنَّة. وَقَالَ لرجُل: كيْف طَلَبك للدُّنيا؟ قَالَ شَدِيد. قَالَ: فَهَل أدْركت مِنْهَا مَا تُريد؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَهَذِهِ الَّتِي تطلُبها لم تدْرك مِنْهَا مَا تُرِيدُ فَكيف بِالَّتِي لَا تطلُبها؟ وَقَالَ: ابنُ آدم أسبرُ الجُوع، صريعُ الشَّبع. وَذكر يَوْمًا الْحجَّاج فَقَالَ: أَتَانَا أعيْمشَ أخيفشَ. لَهُ جُمَيْعةٌ يُرَجِّلُها فَأخْرج إِلَيْنَا لماماً قِصارا، وَالله مَا عرق فِيهَا عنانٌ فِي سَبِيل الله. فَقَالَ: بايعوني. فبايعْناهُ ثمَّ رقى هَذِه الأعوادَ ينظر إِلَيْنَا بِالتَّصْغِيرِ، وَنَنْظُر إِلَيْهِ بالتعظيم، يأْمُرنا بِالْمَعْرُوفِ ويجتنبُه، وينهانا عَن الْمُنكر ويرتكُبه. وسُئل عَن قَوْله تَعَالَى: " إنْ الَّذين يَشْتَرُون بعَهْد الله وأيْمانِهِمْ ثمنا قَلِيلا " مَا الثمنُ القليلُ؟ قَالَ: الدُّنيا بحذافيرها. وَقَالَ: الدُّنْيَا تطلبُ الهاربَ مِنْهَا، وتهرُبُ من الطَّالِب لَهَا، فَإِن أدْركت الهارب مِنْهَا جرحَتهُ، وَإِن أدْركهَا الطَالبُ لَهَا قتلتُه. وَقَالَ: رُب هَالك بالثناء عليْه، ومغرور بالستر عليْه، ومسْتدرَج بالإحُسان إِلَيْهِ. وَقَالَ: عَن لمْ تُطعْك نفسُك فِيمَا تحملُها عليْه مِمَّا تكرَهُ فَلَا تُطعْها فِيمَا تِحملُك عَلَيْهِ. مِمَّا تهوى.(5/120)
وَقَالَ تشبه زيادٌ بعمرَ فأفرط. وتشبه الْحجَّاج بِزِيَاد فأفرط، وَأهْلك الناسَ. وَقَالَ: المؤُمنُ لَا يحيفُ على مَن يُبْغِض، وَلَا يأْثم فِيمَن يُحبُّ. وَقَالَ لهُ بعضُ الجُند فِي زمن بني أمَية: تُرَى أَن آخذ أرزاقي أوْ أتركها حَتَّى آخذ من حَسَناتهم يَوْم القيامَة؟ قَالَ: مُرْ فخُذ أرزاقك، فَإِن الْقَوْم يَوْم الْقِيَامَة مفاليُس. وَكتب إِلَى أَخ لَهُ: أما بعد: فَإِن الصِّدق أمانةٌ، وَالْكذب خيانةٌ والإنصاف راحةٌ، والإلحاح وقاحةٌ، والتواني إضاعةٌ، والصِّحة بضاعةٌ، والحزم كباسةٌ، والأدَب سياسة. وَقَالَ: يَا ابْن آدم. اصحب الناسَ بِأَيّ خُلأق شِئْت يصحَبُوك بِمثلِهِ. وَقَالَ: الرِّجالُ ثلاثةٌ، رجلٌ بِنَفسِهِ، وَآخر بِلِسَانِهِ، وَآخر بِمَالِه. وَقَالَ لَهُ رجُل: لي بُنيةً وَأَنَّهَا تُخطبُ. فمّن أزوِّجُها؟ قَالَ: زَوجهَا مِمَّن يَتَّقِي الله فَإِن أحبها أكرمَها، وَإِن أبغضها لمْ يظلمْها. وَقَالَ: كُنَّا فِي أَقوام يخزُنُون ألسنتهُم، ويُنفقُون أوراقهم، فقدْ بَقينَا فِي أَقوام يخزنُون أوراقُهم، وينفِقُون ألْسِنتهم. وَكتب إِلَى عُمرَ بن عبدِ الْعَزِيز. أمَّا بعدُ: فكأنْك بالدنُّيا لم تكُن، وكأنْك بِالآخِرَة لم تَزَلْ. وَقيل لَهُ فِي أَمِير قدِم الْبَصْرَة، وَعَلِيهِ دَيْنٌ قد قضاهُ. فَقَالَ: مَا كَانَ قطُّ أَكثر دَيْناً مِنْهُ الْآن. وَقَالَ: يُنَادي مُنَاد يَوْم القيامةِ: من لهُ عَلى الله أجرٌ فليقُمْ، فيقُومُ العافُون عَن النّاس. وتلا قَوْله تَعَالَى: " فَمن عَفا، وأصْلح فأجْرهُ على الله " اجْتاز نخَّاسٌ مَعَ جَارِيَة بهِ. فَقَالَ أتبيعُها؟ قَالَ: نعَمْ. قَالَ: أفترضى أَن تقبض ثمنهَا الدِّرهم والدِّرهمْين حَتَّى تستوفي؟ قَالَ: لَا: قَالَ: فَإِن الله عزَّ وَجل(5/121)
قد رضى فِي الحُور الْعين بالفلسِ والفلسَين. وَطلب ثوبا ليَسْتتِر بِهِ، فَقيل لهُ: بثلاثةَ عَشر درهما ونِصف. فَقَالَ خُذ أَرْبَعَة عشر. فالمُسْلم لَا يُشاطرُ أخاهُ الدِّرهمَ. وَقيل لَهُ: مَا بالُ النَّاس يُكرمون صَاحب المَال؟ قَالَ: لِأَن عشيقهُم عِنْده. وَكَانَ بلالُ بن أبي بُردة أكُولاً. فَقَالَ الحسنُ فِيهِ: يتكئ على شمالهِ. ويأْكل غيرَ مَاله، حَتَّى إِذا كظَّه الطعامُ يقولُ: ابغُوني هاضُوما. ويَلك {} وَهل تهضم إِلَّا دينك {} وَكَانَ الحسنُ إِذا دخل خَتَنُة تنحى عَن مَكَان لَهُ، وَيَقُول: مرْحباً بِمن كفى المؤنثة، وَستر العورةَ. وَمن كَلَامه: مسكينٌ بانُ آدم، مكتومٌ الأجَل والعِلل، أسيرُ الجُوع والشَّبع. وَنظر إِلَى جَنَازَة قد ازدحَم الناسُ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا لكُم تزدَحُمون؟ ؟ هَا هِيَ تِلْكَ ساريتُه فِي الْمَسْجِد اقعدوا تحتهَا، وصنعُوا مَا كَانَ يصنع حَتَّى تَكُونُوا مثله. وَقَالَ لشيخ فِي جَنَازَة: أتُرى أَن هَذَا الميِّت لَو رَجَعَ إِلَى الدُّنْيَا يعملُ علما صَالحا؟ قَالَ: نعمْ قَالَ لَهُ: إِن لم يكن ذَاك فكنْ أنتَ ذَاك. وَنظر إِلَى قُصُور المهالبةِ، فَقَالَ: يَا عجبا رفعوا الطين، ووضعُوا الدِّين، وركُبوا البراذِين، وَاتَّخذُوا الْبَسَاتِين، وتشبهوا بالدَّهاقين فذرهم فِي غمُرنهم حَتَّى حِين. وَكَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نعوذُ بك أَن نملَّ معافاتك. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك. فَقَالَ: أَن يكون الرجلُ فِي خفض عَيْش فتدْعُوه نفسهُ إِلَى سَفر. وَدخل إِلَى مَرِيض قدْ أبلَّ من علَّته، فَقَالَ لَهُ: إنَّ الله ذكرك فاذكُرْه وأقالك فاشكُره. ويقالُ: إنَّ أوّل كَلَامه أنَّه صلى يَوْمًا بِأَصْحَابِهِ، ثمَّ انْفَتَلَ، وَأَقْبل عَلَيْهِم، فَقَالَ: أَيهَا الناسُ، إِنِّي أعظُكُم، وَأَنا كثيرُ الإسْراف على نَفسِي، غير مصلح لَهَا،(5/122)
وَلَا حاملها على الْمَكْرُوه من طَاعَة ربِّها. قد بلوْتُ نَفسِي فِي السراءِ والضَّراءِ، فلمْ أجدْ لَهَا كثير شُكر عِنْد الرَّجَاء وَلَا كَبِير صَبر عِنْد الْبلَاء وَلَو أَن الرجل لَمْ يعظ أَخَاهُ وَحَتَّى بحكمَ أمْرَ نَفسه، ويكمل فِي الَّذِي خُلق لَهُ من طَاعَة ربه لقلَّ الواعظونُ الساعون إِلَى الله بالحثِّ على طَاعَته، وَلَكِن فِي اجْتِمَاع الإخوان واستماع حَدِيث بَعضهم من بعض حيّاة للقلوب، وتذكيرٌ من النِّسيان. أَيهَا الناسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دارُ مَن لَا دَار لَهُ، وَبهَا يفرحُ من لَا عَقل لهُ، فأنزلُوها منزلتها. ثُمَّ أمْسَك. وَلما مَاتَ أخوهُ بَكَى، فَقيل لَهُ: أَتَبْكِي يَا أَبَا سَعيد؟ فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي لمْ يَجْعَل الحزنَ عاراً على يعقُوب. وَقَالَ: إِذا خرجتَ من مَنْزِلك فَلَقِيت من هُو أسنُّ مِنْك فقُل: هَذَا خيرٌ مني عبَدَ الله قبْلي، وَإِذا لقِيت من هُوَ دُونك فِي السنِّ فَقل: هَذَا خيرٌ مني عصيْتُ الله قبلهُ. وَإِذا لقيتَ من هُوَ مثلُك فَقل: هَذَا خيرٌ مني أعرفُ من نفس مَالاً أعرفُ مِنْهُ. وَكَانَ يقولُ: يَا عجبا لقوم قَدْ أمروا بالزاد، وأوذنُوا بالرحيل، وَأقَام أولهُم عَلَى آخِرهم، فليْت شعري مَا الَّذِي ينتظرون؟ ونظرَ إِلَى النَّاس فِي مصلى الْبَصْرَة يضحكُون، ويلعبون فِي يَوْم عيد، فَقَالَ: إِن الله - عزّ وجلّ - جعلَ الصَّوْم مضماراً لِعِبَادِهِ ليستبقُوا إِلَى طَاعَته، ولعمْري لَو كُشف الغطاءُ لشُغل محْسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإسَاءته عَن تجْديد ثوم، أَو ترطيل شعر: وَكَانَ يَقُول: اجْعَل الدُّنيا كالقنطرة تجوزُ عَلَيْهَا وَلَا تعمرها وَقَالَ تلقى أحدهُم أبيْض بضا يملخُ فِي الْبَاطِل مَلخاً، وينفض مذروْيه، ويضربُ أصدريه، يقولُ هأنذا فاعرفُوني قَدْ عرفناك، فمَقتك اللهُ ومقتك الصالحُون. وَقَالَ: نِعَمْ اللهِ أَكثر من أَن تُشكرَ إِلَّا مَا أعَان عَلَيْهِ. وذُنوب ابْن آدم أَكثر من أَن يسْلم مِنْهَا إِلَّا مَا عَفا عَنهُ وَكَانَ يقولُ ليسَ العجبُ مِمَّن عطب كَيْفَ عطب؟ إِنَّمَا العجبُ مِمَّن نجا كَيْفَ نجا؟(5/123)
وَكَانَ يقولُ: حادثُوا هَذِهِ القُلُوب فَإِنَّهَا سريعةُ الدُّثُور، واقدَعُوا هَذِهِ الْأَنْفس فَإِنَّهَا طلعةٌ، فَإِنَّكُم إِلَّا تقدعُوها تنْزع بكُم إِلَى شرِّ غَايَة. وَقَالَ لمطرِّف بن عبد الله بن الشخير: يَا مطرَفُ، عظ أَصْحَابك. فَقَالَ مطرِّفُ: إِنِّي أخافُ أَن أقولَ مَالا أفعلُ. فَقَالَ الحسنُ: يَرْحَمك الله وأيُّنا يفعلُ مَا يقُولُ؟ يود الشَّيطانُ أَنه ظفِر بهذهِ مِنْكُم، فلمْ يأْمرْ أحدٌ بِمَعْرُوف، وَلَمْ ينْه عَن مُنكر. وَكَانَ يقولُ: مَا حَاجةُ هَؤُلَاءِ، السُّلْطَان، إِلَى الشرطِ. فَلَمَّا ولي القضاءَ، كثُر عَلَيْهِ النَّاس فَقَالَ: لَا بُدَّ للِنَّاسِ مِن وزعَةٍ. وَكَانَ يقُولُ: لِسَانُ العاقِل مِن وراءِ قلبهِ فَإِن عرض لَهُ القولُ نظرَ فَإِن كَانَ لهُ أَن يَقُول قَالَ، وإنْ كَانَ عليْه القولُ أمسْك، ولسانُ الأحمق أَمَام قلْبه فَإِذا عرَض لهُ القولُ قَالَ عليهِ أوْ لهُ. وَكَانَ الحسنُ ينُكر الحكُومة، وَكَانَ يذكر عُثمان فيترحم عليْه، ويلَعنُ قتلتهُ، وَيَقُول: لَو لم نلعْنهُم للَعُنَّا. ثمَّ يذكُر عليا - عَلَيْهِ السَّلَام - فَيَقُول: لمْ يزلْ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رحمهُ الله - يتعرفُ النَّصْر، ويساعدهُ الظفر حَتَّى حكّم. ولمَ تُحكِّم والحقُّ مَعَك؟ أَلا تمْضِي قدُماً - لَا أَبَاك - وأنْت على الحقِّ.؟ ؟ قَالَ المبِّرد: قَوْله: لَا أبالك كلمةُ فِيهَا جفاءُ. والعربُ تستعمُلها عِنْد الحثِّ على أخْذ الحّقِّ والإغْراءِ. وَذكر الْخَوَارِج: فَقَالَ: دعاهم إِلَى دين الله فجعلُوا أصابَعْهم فِي آذانهم وأصرُّوا واستكبروا استكباراً، فَسَار إِلَيْهِم أبوُ الْحسن فطحنهُم. وَقَالَ: لَو لم يُصب ابنُ آدم الصِّحة والسَّلامة لأوشكا أَن يرداه إِلَى أرْذل(5/124)
العمُر فحدِّث بذلك محَّمدُ بن جَعْفَر فأعجَبه، وَقَالَ: سُبْحَانَ الله مَا أعجَب كَلَام الْعَرَب وأشبه بعضه بِبَعْض؟ ؟ وَالله لَكَانَ النَّمر بنْ توْلب، سمع هَذَا. فَقَالَ: يُسر الْفَتى طولُ السَّلامة جاهداً ... فَكيف ترى طول السَّلامة يفْعلُ؟ وَقَالَ حميد بن ثَوْر وحسْبُك دَاء أنْ تصحَّ وتسْلما. وَكَانَ يدعُو ويقُولُ: اللَّهُم أعْطنا قُوَّة فِي عبادتك، وبصراً فِي كتابك، وفهْماً فِي حكمك، وأتنا كِفْلين مِنْ رحْمتِك. بيِّض وجُوْهنا بنُورك، واجْعلْ راحتنا فِي لِقائِك، واجعلْ رغبتنا فِيمَا عنْدَك مِن الْخَيْر. اللهمَّ إننَّا نعُوذُ بك منْ العَجز والكسل، والهرم، والجُبْن، البُخل اللَّهُمَّ إنَّا نعوذُ بك مِنْ قُلُوب لَا تخشعُ، وأنْفُس لَا تشبعُ، اللَّهُم إنَّا نُعِيذ بك أنْفسَنا وأهلينا وذرارينا من الشَّيْطَان الرَّجيم. وَقَالَ: إنَّما تعظُ مُسترْشداً ليفهم، أَو جَاهِلا ليتعلم، فأمَّا منْ وضع سَيْفه وسوطهُ: أحذرني فَمَا لَك ولهُ؟ وَقَالَ: إنَّ قوما لسُوا هَذِه المطارف الْعتاق، والعمائِمَ الرِّقاق، وأوْسعُوا دُورهم، وضيَّقُوا قبورهُم، وأسْمنُواً دواتهم، وأهزلُوا ديِنهُم، طَعَام أحدهمْ غصْب، وخادِمُه سُخره، يتكئ على شمالهِ، ويأْكل من غير مالهِ، حَتَّى إِذا أدركْتهُ الكظَّةُ، قَالَ: هَلُمِّي يَا جَاريةُ. هاضُوماً. وَيلك {} وَهل تحطم إِلَّا دينك؟ . . أَيْن مساكينك؟ أيْن يتامالك؟ أيْن مَا أمَرك اللهُ بِهِ أَيْن؟ أَيْن؟ ؟ . وَرَأى رجلا يمشي مشْيَة منْكرةً. قَالَ: يخْلجُ فِي مشْيِه خلجان المجنُون. لله فِي كلِّ عُضْو منهُ لقمةٌ، وللشَّيطْان لعبةٌ. كَانَ أَبُو الْحسن اسمُه يسارٌ، واسُم أمِّه خيرةُ، مولاةٌ لأمِّ سَلمَة أمِّ الْمُؤمنِينَ،(5/125)
وَكَانَت خيرةُ رُبمَا غابتْ فيبْكي الحسنُ فتعطيه أمُّ سَلمَة ثدْيها تُعلِّلُه بهِ، وَإِلَى أَن تجيءَ أمهُّ فدرَّ عَلَيْهِ ثديُها. فيرون أَن تكل الْحِكْمَة والفصاحة، مِنْ برَكةِ ذَلِك. ونشأَ الحسنُ بوَادي القُرىِ. وشكا إِلَيْهِ رجلٌ ضِيق المعاش، فَقَالَ: ويحَك {} أهاهُنا ضيقٌ أوْ سعةٌ إنَّما الضيقُ والسَّعةُ أمامك. وَقَالَ: لوْلا قِصَر هِمَم النَّاس مَا قامتْ الدُّنيا. وَقَالَ: يَا بْن آدَم: إِنَّمَا أنْت عَدَدْ أيامك إِذا مضى يومٌ مضى بعْضُك وتذاكُروا عنْدهُ أمْرَ الصَّحابةِ. قَالَ الحسنُ: رحمهُم الله، شهدُوا وغِبنْا وعَلموا وجَهلْنا، وحفِظْوا ونسينا. فَمَا أجْمعُوا عليْه اتبْعَناهُ، وَمَا اختلفُوا فِيهِ وقفناه. وَقَالَ: حَقُّ الوَالِد أعظمُ وبر والوَالدة ألزمُ. وَقَالَ: عَاشر أهْلك بِأَحْسَن أخْلاقك، فإنَّ الثَّواءَ فيهم قليلٌ. وَقَالَ: السُّؤالُ نصفُ العِلْم، ومُدَاراةُ النَّاس نصفُ العَقْل، والقصدُ فِي الْمَعيشَة نصفُ الْمَعيشَة. وَمَا عَال مُقْتصدٌ. وَقَالَ: خف الله خوفًا أنَّك لَو أتيتهُ بحَسناتِ أهْل الأَرْض لم يقبلْها منْك وأرْجُ الله رَجَاء ترى أنَّك إنْ أتيتهُ بسيِّئاتِ أهْل الأَرْض غفرها لَك. وَقَالَ: مَا استْودَع اللهُ رجلا عقْلاً إِلَّا اسْتنْقذهُ بِهِ يَوْمًا مَا. وَقَالَ: المؤمنُ من لَا يَحِيفُ على مَنْ يُبغْض، وَلَا يأْثُم فيمَنْ يحب. وَدخل إليْهِ أمْردُ حَسنُ الوجْهِ، فَالْتَفت إِلَى أصْحابه، فَقَالَ: لقد ذكَّرني هَذَا الْفَتى الحُور العِين. ووُلِدَ لهُ غلامٌ فَقَالَ لهُ بعضُ جُلسَائِه: بَارك الله لَك فِي هِبَتِه، وزادَك فِي نعْمتِهِ. فَقَالَ الحسنُ: الحمدُ للهِ على كلِّ حَسنة، ونسْأَلهُ الزيادَة مِنْ كلِّ نعْمة، وَلَا مرْحباً بمَنْ كُنْتُ مُقِلاً أنْصبَني، وإنْ كُنْتُ عنيّاً أذْهلني لَا أْرضى بسعْي لَهُ سَعْياً، وَلَا بكدِّي عَلَيْهِ فِي الْحَيَاة كدَّاً، حَتَّى أشْفِق عَلْيهِ بعد وفاتي من الفاقةِ، وَأَنا فِي حَال لَا يصلُ إِلَى مِنْ همةً حُزنٌ، وَلَا مِن فرَحه سُرُورٌ.(5/126)
وَقَالَ: عِزُّ الشَّريف أدبُهُ، وعزُّ المؤمِن استِغْناؤه عَن النَّاس. وَقَالَ: العلمُ فِي الصغر كالنَّقْش على الحجَر، وَفِي الكبرَ كالرِّقُم على الماءِ. وَقَالَ: مَا أنْعَمَ اللَّهُ على عبد نعُمةً إِلَّا وَعَليِهُ فِيهَا تبعةٌ إِلَّا سُليمْان فإنَّ الله - قَالَ: " هَذَا عطاؤنا فأمننُ أَو أمسكْ بِغَيْر حِسَاب. وَقَالَ: لَا أبالك، إنْ لم تكُنْ حَلِيمًا فتحلَّمْ فإنَّه قلَّ رجلٌ يتشبَّهُ بِقوم إِلَّا أوشك أنْ يكُون مِنهُمْ. وَقَالَ: لَا تشترِين عَداوَة رجل بمودَةِ ألفِ رجُل. وَقيل أهلك فلانٌ فجْأةً. فَقَالَ: لوْ لمْ يهْلِكْ فَجْأَة لمَرض فجْأةً. وَقَالَ: مَنْ زهِدَ فِي الدُّنْيا ملكهَا، ومَن رغِب فِيهَا عبدَها. وَكَانَ يقولُ: الحُريصُ الجاهِدُ، والقانعُ الزِّاهدُ كِلاهُمَا مُسْتْوفٍ أكُلهُ عز فُنقص شَيْئا قُدرَّ لهُ، فعَلام التَّهافُتُ فِي النَّار؟ . وسَمع رجُلاً يقُولُ: الشَّحيحُ أعْذر مِن الظَّالِم فَقَالَ: وَالله إنَّ رجُلين أعْذرُهما الشَّحيحُ لرَجُلاَ سوءٍ. وَقَالَ: إنَّ الله تفرَّدَ بالكمالِ ولمْ يُعَرِّ أحَداً من النُّقصانِ. قَالَ لَهُ رجلٌ: يَا أَبَا سَعيد، مَا تقُولُ فِي الْغناء؟ قَالَ: نِعْم الشيءُ الْغَنِيّ تصلُ بِهِ الرَّحِمَ، وتفُكُّ بهِ العاني، وتُنفِّسُ بِهِ عَن المكُروب. قالَ: لستُ عنْ هَذَا أسْأَلُكَ، إِنَّمَا أسْأَلُكَ عَن الغنِاء قَالَ يَوْمًا هُوَ أتعرفُ منْهُ شَيْئا؟ قالَ: نعَمْ: قالَ: فهاتِهِ. فانْدَفَع يُغني، ويَلْوي شِدقَيْهِ، ومِنخَريْهِ، ويكسِرُ عيْنيْهِ: قَالَ: فَبُهِتَ الحسَنُ، وجَعَل يعْزُبُ عنهُ بعضُ عَقْله حَتَّى فَعَلَ كَمَا فَعَلْ الرَّجلُ يحركِ عَيْنيهِ، وكَسْر حاجبْيهِ، ثمَّ قَالَ لما تَنبَّهَ مِنْ سِنَتِه: أمسكْ يَا هَذا، قَبَّح اللهُ هَذَا. مَا كْنتُ إِلَّا فِي حُلْم. قالُوا: وَلي الحَسنُ القضَاء فَمَا حُمِدَ. يريدُ أنَّه لَوْ حُمِدَ إنْسانٌ فِي ولَايَة أوْ فضاء لحُمِدَ الحسَنُ.(5/127)
وَقَالَ: يَا بُنَ أدَمَ تعفَّفْ عنَ مَحارم الله تكُن عابداً، وارْضَ بِمَا قَسَم اللهُ لكَ مِن الرزق تكُنْ غَنِيا. صَاحب الناسَ بِمَا تُحبُّ أنْ يُصاحِبُوكَ بهِ تكُنْ عَدْلاً، وإيَّاكَ وكثرةَ الضَّحكِ فإنَّه يُميتُ القَلْبَ. لقَدْ كانَ قَبلَكَ أقْوامٌ جَمَعُوا كَثيراً، وأمَّلوا بَعيداً، وبَنَوْا شَدِيدا، فأصْبحَ جمْعُهم بُوراً، ومَسَاكنهُم قُبوراً، وأمَلُهْم غُرُوراً. وقالَ: يَا بْنَ آدَمَ لَا تُجاهِدِ الطّلب جهادَ الغَالِب، وَلَا تَتَّكلْ علَى القَدَر اتكالَ المُسْتسْلم، فإنَّ ابتغاءَ الْفضل من الشرةِ، والإجُمالَ فِي الطَّلب مِنْ العِفَّةِ، وليْسَتِ العِفَّةُ بدافعة رزْقاً، وَلَا الحِرصُ بجالب فضْلاً، وإنَّ مِن الحِرصُ اكتسابَ الإثْم. وقَالَ: اشْكُرْ لِمنْ أنُعَمَ عليكَ، وأنعِمْ على مَنْ شَكَر لَكَ، فإنَّهُ لَا زَوَالَ للنعم إِذا شَكَرْتَهَا، وَلَا إدَامةً إِذا كَفَرْتَهَا، والشَّكُر زَيادةٌ فِي النِّعم، وأمَانٌ من الغِيرَ. وقالَ: إنَّ الله تباركَ وَتَعَالَى لمْ يقْصُصْ عليْنا ذُنُوبَ الأنبياءِ عليْهم السلامُ تعييراً لهُمْ، إِلَّا إزْرَاءً بهمْ، ولكنَّهُ قَصَّها عليْنَا كليلا نَيْأًس من التَّوْبَة. وَقَالَ: مثلُ المنافِق مَثلُ الدِّرْهَم القسي ينفُق فِي النَّاس مَا لمْ يُعرفُ، فَإِذا عُرفِ كسدَ. وَقيل لهُ: أيحسد المؤمنُ أخاهُ؟ قَالَ: لَا أبَالَك؟ إنِستَ إخُوَةَ يُوسف عليْهِ السلامُ. وقالَ: أوْعَد عمُر فَعوفي، وأوْعَد زيادٌ فابْتلُي. عادَ الحسنُ عبد الله بن الأهْتَم فِي مرضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ، فأقْبلَ عبدْ الله بضْربُ ببَصرِه إِلَى صُنْدوق فِي جَانبِ البيْتِ، ثمَّ قالَ للحَسن، يَا أَبَا سعيد: مَا تقُولُ فِي ماِئة ألف من هَذَا الصُّندوقِ لم يؤد مِنْهَا زكاةٌ، ولمْ يُوصَلْ بِها رحمٌ؟ فَقَالَ الْحسن ثكلتك أمك فَلم أعددتها قَالَ أعددتها لورعة الزَّمَان ومكاثرةِ الإخْوانِ، وجَفْوةِ السُّلطانِ، ثمَّ مَاتَ فحضَر الحسنُ جنازتهُ فَلَمَّا دفِنَ ضَربَ بإحْدى يديهِ على الْأُخْرَى، ثمَّ قَالَ: إنْ هَذَا أتَاهُ شيْطانُهُ، يخذرهُ روية زَمَانه، وجفوةَ سلْطانه، ومكَاثُرة إخْوانِهِ فِيمَا اسْتودَعَهُ اللهُ إيَّاهُ، ثُمَّ خرجَ منْه حَريباً سليباً لم يؤدِّ مِنْها زَكَاة، ولمْ يصل مِنْهَا رحِماً. ثمَّ التفَتَ فَقالَ: أيُّها الوارِثُ كلْ هَنِيئًا، فقَد(5/128)
أتاكَ هَذَا المالُ حَلَال، فَلَا يكُنْ عَلْيكَ وَبَالاً. أَتَاك مِمنْ كَانَ لَهُ جَمُوعاً مَنُوعاً، يلجّجُ فِيه لُججَ الْبحار، ومفاوز القفار. مِنْ بَاطِل جَمعَهُ ومِنْ حق منَعهُ، لم ينْتفع بهِ. فِي حَيَاته، وضرهُ بعد وفاتِه، وجمعَهُ فأوعَاهُ، وشدَّه فأوْكَاهُ، إنَّ يومَ الْقِيَامَة ليومٌ ذُو حَسرات، وإنَّ أعْظَامَ الحسَرات أنْ تَرى مالكَ فِي ميزانِ غَيْركَ ذَاكَ رجلٌ أتاهُ اللهُ مَالا حَلَالا فبَخلَ أَن يُنْفقَهُ فِي طاعةِ اللهِ فورثَهُ اللهُ غَيْرَه. فأنفقَهُ فِي طاعةِ الله. فيا لَهَا حسرةً لَا تُقَالُ، وَرَحْمَة لَا تُنَال، فَإنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ راجعُون. وَقَالَ: ابنَ آدم: بعْ دُنْياكَ بآخِرتِك تربَحْهُما جَمِيعًا، وَلَا تَبعْ آخرتكَ بدنْياك فتخسرهما جَمِيعًا. يَا بن آدم: وَإِذا رأيْت النَّاس فِي الْخَيْر فنافسُهم فيهِ، وَإِذا رأيتَ النَّاس فِي الشرِّ فَلَا تغبطهم الثواء قَلِيل هَا هُنَا والبقاء طَوِيل هُنَاكَ أمتكُم أخِر الأُمم وأنتُمْ آخِر أمّتِكُمْ، وقدْ يسرِعُ بخياركُمْ فَمَاذَا تنتظُرون؟ المعاينة: فكأنْ قَد. هيْهاتَ هيهاتَ ذهبت الدُّنْيَا لحالِ بالها، وبقيتِ الأعمالُ قَلائدَ فِي أعُناقِ بني آدم، فيا لَهَا موعظةً لَو وافقَتْ قبولاً! إنهُ وَالله لَا أمة بعد أمتكُم، وَلَا نَبِي بعد نَبِيكُم، وَلَا كتابَ بعدَ كتابكُمْ. أنْتُم تسوقُونَ الناسَ والساعةُ تسُوقُكُمْ، وَإِنَّمَا ينُتظرُ بأولكمْ أَن يَلْحق أخِركم. مَنْ رأى مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ فقد رآهُ غَادياً رائِحاً، لم يَضَعْ لَبنةً على لبنة وَلَا قصَبةً عَلَى قَصَبَة رفع لَهُ علم فشمر إِلَيْهِ فالوحاء الْعَطاء والنجاء علام تعرجون. أتيتُهم وَرب الكعبةِ أسْرع بخياركم وأنتُم كل يَوْم ترذُلُون. فَمَا تَنْظرون؟ ؟ إِن اللهَ بعثَ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ عَلىَ علم مِنْهُ، واختارَهُ لنفْسِهِ، وبعثَهُ برسالته، وأنْزَالَ عليهِ كتابهُ، وكانَ خَيرتَهُ من خَلقِهِ، ورسولهُ إِلَى عباده، وثُم وضَعَهُ من الدّنْيا موضِعاً ينظُرُ إليْه أهلُ الأرْض، وأتَاهُ مِنْها قوتاً وبُلْغةً ثمَّ قَالَ: " لقد كَانَ لكم فِي رسُول اللهِ أسوةٌ حسنةٌ " فَرغب قومٌ عَنْ عَيشهِ، وسَخطوا مَا رَضِي لهُ ربهُ، فأبعدَهُمُ اللهُ واسْحقَهُم. وابنَ أدمَ: طأْ بقدمكَ الأرْضَ فَإِنَّهَا بعد قَلِيل قبرُكَ واعْلم أنكَ لم تزَلْ فِي هَدْم عمرك مذُ سقطتَ من بطن أمك. رحِم الله عبدا نظر ففكر، وفكر فاعتبرَ، وَاعْتبر فأبصَر، وأبصرَ فصبرَ، فلقدْ أبْصَرَ أقوامٌ فلمْ يصبرُوا فذهبَ الجزعُ بقلوبهم، وَلم يُدْركُوا مَا طَلَبُوا، وَلم يَرْجعُوا إِلَى مَا فارقُوا يَا بنَ آدَمَ اذكر قولهُ " وكلُ(5/129)
إنُسان ألزَمناهُ طائِرهُ فِي عُنقُهِ ونُخرجُ لَهُ يومَ الْقِيَامَة كتابا يلُقَاهُ منْشوراً. اقُرَأ كتابكَ كفى بنفْسِكَ اليومِ عليكَ حسبياً " ابْن آدمَ عَدَل عَلَيْك من جعلكَ حسيبَ نفسكَ. خُذُوا مِن الدُّنيا مَا صَفَا، وذرُوا مَا كدر. فليْس الصفْوُ مَا عادَ كَدراً، وَلَا الكَدر مَا عادَ صَفَاء. دَعُوا مَا يُريُبكُمْ إِلَّا مالاَ يُريبكُمْ. ظَهَر الجفاءُ، وقلتِ العُلَماء، وعَفَتِ السُّنةُ وشاعَت البدْعةُ. لَقدْ صَحبتُ أَقْوَامًا صُحْبتَهُم قرةٌ العْين وجلاءُ الصدْر، وَلَقَد رأيتُ أقْواماً كانُوا مِنْ حَسناتهم أنْ تُرَد عَلَيْهِم أشفقَ منكُم من سَيِّئَاتكُمْ أَن تُعذبُوا عَلَيْهَا، وكانُوا فِيمَا أحَل اللهُ لَهُم مِن الدنْيا أزْهدَ مِنْكُم فِيمَا حَرمَ عليْكُم مِنْها أسْمَعُ حسيساً وَلَا أرى أنيساً. ذَهبَ الناسُ، وبقيتُ فِي النِّسْنَاس، لَو تكاشَفْتُم مَا تَدافَنْتُمْ. تَهاديْتُم الأطباق، وَلم تهادَوْا النصائح. قَالَ عمرُ بنُ الْخطاب: رحمَ اللهُ مَنْ أهْدى إليْنا مَساويَنَا. أعِدوا الجوَابَ فإنكُم مسئُولُون. الْمُؤمن من لَا يَأْخُذ دينهُ عَن رَأْيه، وَلكنه يأخذُهُ من قبَل ربه، وَإِن هَذَا الْحق قد أجْهدَ أهْلهُ، وَمَا يَصْبُر عليْه إِلَّا مَنْ عرفَ فضلهُ، وَرَجا عاقبتَهُ، فَمن حمد الدُّنْيَا ذمّ الْآخِرَة، وَلَيْسَ بكرهُ لقاءَ الله إِلَّا مقيمٌ على سخطه. بِابْن آدَمَ إِن الإيمانَ لَيْسَ بالتحلي وَلَا التَّمَنِّي، ولكنهُ مَا وقَر فِي القلْب، وصدقتْهُ الأعمالُ. وكانَ إِذا قَرَأَ " ألْهَكُمُ التكاثُرُ " قالَ: عَم أَلْهَاكُم؟ عَن نَار الخُلود، وجنة لَا تبيد. هَذَا وَالله فضَحَ القَوْمَ، وهتك السترْ، وأبدي العورةَ، تُنْفِقُ مثل دينك فِي شهوتكَ سَرفًا، وتمنع فِي حق الله درهما {ستعلَم يالُكَع} {. الناسُ ثلاثةٌ: مؤمنٌ، وكافرٌ، ومنافقٌ: فَأَما المؤمنُ فقدْ ألجَمهُ الخوفُ وقومهُ ذكرُ العَرْض. وَأما الكافرُ فقد قمعهُ السيفُ، وشردَهُ الخَوفُ، وأذعَنَ بالجزْيةِ، وأسْمَح بالضريبة. وَأما المنافقُ فَفِي الحُجراتِ والطرقَات، ويُسروُّن غَيرَ مَا يُعْملُون، ويُضْمُرونَ غَيْرَ مَا يُظْهرُونَ، فاعُتبرُوا إنْكارَهُم ربهُم بأعْمَالهمْ الخَبيثَةِ. ويْلَكَ} قَد قَتَلْتَ وَليَّهُ، ثُم تَتَمَنى عليهِ جنتهُ! ابنَ آدمَ. كَيفَ تكونُ مُسْلماً - وَلم يسْلَمْ مِنْكَ جارُك؟ وكيفَ تكُونَ مُؤمنا - ولمْ يأمنْك الناسُ. وكانَ يقولُ: رحِمَ اللهُ أمرأً اكْتَسَب طيِّباً، وأنْفَقَ قصْداً، وقَدم فضْلاً. وجِّهُوا(5/130)
هذِهِ الفضولَ حيثُ وجهَها اللهُ، وضَعُوهَا حيثُ أمَر اللهُ، فَإِن مَنْ كانَ قَبْلكُمْ كانُوا يأْخُذُون مِن الدُّنْيا بُلْغَتَهُمْ، ويْؤثرون بالفَضْل أَلا إِن هَذَا الْمَوْت قد أضرّ بالدنيا ففضحها فَلَا وَالله مَا وجدَ ذُو لُب فِيَها فَرحا، وإياكُم وَهَذِه السُّبُلَ المُتفرِّقة الَّتِي جماعُها الضلالةُ وميعْادُها النارُ. ابنَ أدَم: إنْ كانَ لَا يُغْنيكَ مَا يكُفيكَ فليْسَ هَاهُنَا شيءٌ يُغْنيكَ، وإنْ كانَ يُغْنيكَ مَا يَكفيكَ فالُقليلُ مِنَ الدُّنْيا يَكفيكَ. ابْنَ أدَمَ: لَا تَعْملْ شيْئاً مِن الحقِّ ريَاءً وَلَا تَتْركُهُ حَيَاءً. وكانَ إذَا ذُكرَ الحجاجُ قَالَ: يتْلُوا كتابَ الله على لخْم وجذام ويَعظُ عظةَ الأزَارقِة، ويَبْطِشُ بَطْش الجبارين. وَبعث عمرُ بنُ هُبيرةَ إِلَى الحسنِ، وابنِ سِيرِين، والشْعبي فقدمُوا عليْهِ فَقَالَ: إنهُ تأْتيني مِنْ أَمِير الْمُؤمنِينَ كتبٌ أعرِفُ فِي تنفيذِها الهلَكةَ فإنْ أطَعتُه عَصيْتُ الله فَمَاذَا تَروْن؟ فَقَالَ الحَسنُ. يَا بنَ سِيرِين أجبِ الْأَمِير فسَكَتَ ثمَّ قالَ: يَا شعْبيُّ أجبِ الْأَمِير - فَتكلم الشعْبي بِكَلَام هَيْبةً وتقيةٌ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعيد، وَمَا تَقُول؟ فقالَ: أما إذْ سألْتنِي فَإِنَّهُ يَحِقُّ على أنْ أجِيبَكَ، وَإِن الله مَانُعِكُ مِنْ يزيدَ، وَلنْ يمنعَكَ يزيدُ مِن اللهِ، وَإنَّهُ يوشكُ أَن ينظلَ بكَ مَالكٌ من السَّمَاء فيَسْتنزِلكَ مِنْ سريرك إِلَى سعةِ قَصْركِ ثُم يخرجَكَ من سَعةِ قَصْرِك إِلَى بَاحةِ دَارِك ثمَّ يخرجكَ من باحة دَارِكَ، إِلَى ضيق قَبْركِ، ثُم لَا يُوسِعُ عليْكَ إِلَّا عملُك. يَا بْنَ هُبيرةَ إِنِّي أنْهَاكَ عنِ الله أَن تعرضَ لهُ فَإِنَّمَا جَعلَ اللهُ السلطانَ ناصراً لعبادِهِ، ودِينِه، فَلَا ترْكَبُوا عبادَ الله بُسلْطان الله فتُذلوهُم، فَإِنَّهُ لَا طاعةَ لمخلُوق فِي مَعْصيةِ الله. يَا بْن هُبيرةَ إِنِّي قَد أدُركتُ نَاسا من صَدْرِ هذِه الأمةِ كَانُوا فِيمَا أحَل الله لهُم أزهدَ مِنكُمْ فِيمَا حرم الله علْيكُمْ، وكانُوا لِحَسنَاتِهِم أَلا تُقْبلَ أخُوَفَ مِنكُمْ لسيئاتِكم أَلا تُغُفَرَ. وكانُوا وَالله لثوابِ الآخرِة بِقلوبهم أبصرَ مِنْكُمْ لمتاع الدُّنيا بأعُينكمِ، فكانُوا وَالله عَن الدنُّيا وَهِي إليهِمْ مُقْبلةٌ أَشد إدباراً مِنْ إقبالكم علْيها وَهِي عَنْكُم مُدْبرةٌ. يَا عُمَرُ، إِنِّي أخوفُكَ مقَاما خَوفكَهُ اللهُ مِنْ نفْسِهِ، فقالَ: " ذلكَ لمن خافَ(5/131)
مقَامي وخَافَ وَعيد ". يَا عُمرُ. وَإِن تكُنْ مَعَ يَزيد يكْفك الله بائَقَتَهُ. وإنْ تكُنْ مَعَ يَزيدَ عَلى الله يَكلِكَ إليهِ. قَالَ فبكَى عُمَرُ ثمَّ قامَ بعَبْرَتِهِ وأرْسَلَ إليهِمْ مِنَ الغَد بإذنهم وجائزتهمْ وأعْطَى الحَسنَ أرْبَعةَ آلَاف دِرهم وكُل وَاحِد منهُما ألَفيْنِ ألفَينِ فَخرج الشّعبِيّ إِلَى الْمَسْجِد فَحدث النَّاس سَاعَة ثُمَّ قَالَ: من قدر مِنْكُم يَا أيُّها الناسُ أنْ يُؤْثَر اللهَ على خَلْقه فليَفْعَلْ، فَإِن الأميرَ ابنَ هبيرةَ أرسَلَ إِلَيّ وَإِلَى الحسنِ وبنِ سِيرينَ، فسألَنَا عَنْ أمْرِ اللهِ. فوَاللَّه مَا عَلمَ الحسنُ مِنْه شَيْئا جهِلتُهُ وَلَا علمتُ شَيْئا جَهِلهُ ابنُ سِيرينَ، وَلَكِن أردْنا وجَه ابْن هبيرةَ فأقصَانا الله، وقصّرنا فقصّر لنا، وَأَرَادَ الحسنُ وَجْه الله فحباهُ وزاده. وروى أَن الشعْبي قَالَ لابنِ هُبيرة: لَا عليكَ أَيهَا لأميرُ. إِنَّمَا الْوَالِي والدٌ يُخطئ ويصيبُ، وَمَا يرد عَلَيْك مِنْ رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن اسْتَطَعْت أَن ترده فَرده وَإِلَّا فَلَا ضيْرَ عَلَيْك. فَقَالَ: مَا تقُول يَا أَبَا سَعيد؟ فَقَالَ الحَسنُ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من استرعاهُ اللهُ رعيةً فَلم يُحطْ من ورائِها بالنَّصيحةِ حرمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنة ". وأمَّا رأيُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِذا وردَ عليْك فاعُرضْهُ عَلَى كتاب الله فإنْ وافقَه فأمْضهِ، وإنْ خالفهُ فأرْددهُ، فإنَّ الله يمنعك مِنْ يزيدَ من الله وَلنْ يمنعك يزِيد من الله. ثمَّ أقْبَل على الشّعبِيّ فَقَالَ: مَا لَك ويْلك يَا شعُبيُّ {} يقولُ النَّاس: الشّعبِيّ فقيهُ أهُله الكُوفةِ تدْخُلُ عَلى جَبَّار مِن الجَبابرَةِ فتُزيِّنُ لَهُ الْمعْصِيَة. فَقَالَ: واللهِ يَا أَبَا سَعيد لقد قُلْتُ وَأَنا أعُلم مَا فِيهِ. قَالَ: ذَاك أؤكُد للُحجِةَّ عَليك وَأبْعد لَك مِن الْعذر. وَقَالَ الحسنُ: لَا دين إِلَّا بمروءة. وشتمَهُ رجلٌ وأربى عليْهِ. فَقَالَ لهُ الحسنُ: أمَّا أنْتَ فَمَا أبْقيْتَ شَيْئا وَمَا يَعْلَم اللهُ أَكثر. ودَخَلَ عليْه فَرْقد وَعَلِيهِ صٌوفً وعَلَى الحَسن مُطْرف خَزٍّ، فجعَلَ ينظُر إليْه، فقَال الحسنُ: مَا تَنْظرُ؟ على ثيابُ أهْل الْجنَّة، وَعَلَيْك ثيابُ أهْل النَّار، وإنَّ أحَدهُمْ جَعَلَ زُهْدهُ فِي ثيابِه، وكِبرَهُ فِي صدرْه، فَلَهُواَ أَشدُّ عجَباً بصُوفِه مِنْ صَاحب المطرفِ بمْطرَفِهِ.(5/132)
وقالَ الحَسَنُ: ذكَر اللهُ الثِّقَلَ فِي الْقُرْآن فَقَالَ عزَّ وجَلَّ: " فَإِذا طِعمتُمْ فانتشِرُوا " وَقَالَ: حَسْبُك مِنْ شرفِ الفَقْر أنَّكَ لَا تَرىَ أحدا يَعْصِي الله ليَفتقِرَ. وَقَالَ: مَا أحْسَنَ الرُّجُلَ نَاطِقاً عَالما، ومسْتَمعاً وَاعياً، وخَائِفاً عَامِلاً. وَقَالَ: إنَّ أهل بَدْر أسْلَموا مِنْ خشيَة اللهِ، وإنَّ الناسَ أسْلموا مِن خشَيَةِ أهُل بدْر. وقالَ: لولاَ أَن الله عَزَّ ذِكُرهُ أذَلَّ ابْن أدَم بِثَلَاث مَا طَأْطَأ رأسَهُ، وإنَّهُ مَع ذلكَ لوثابٌ: يمْرَضُ فجأَةً، ويموتُ فجْأةً ويَفْتقِر فَجْأةُ. وقَالَ: السِّوَاكُ مطْهَرةٌ للفم، مَرضاةٌ للرَّب، مقُرَبَةٌ مِن الملائِكةِ، مَنْفَرَةٌ للشَّيَاطين، ويَجْلُو البَصَر، ويُقِلُّ البَلْغم، ويُصْلِحُ المعِدَة، ويشُد اللَّثَتةَ ويُذْهِبُ الْحفر. وقالَ: أشدُّ النَّاس صُرَاخاً يومَ الْقِيَامَة رجلٌ سَنَّ ضَلَالَة فاتُّبع عَلَيْهَا، ورَجلٌ سيءُ المَلكة، ورجلٌ فَارغ مكفي استعَان على مَعَاصِي الله بِنعَمِهِ. وَلما مَاتَ الحجَّاجُ قالَ الحسنُ: الَّلهُمَّ أنْتَ أمتَّهُ فاقْطعْ عَليْنَا سُنَّتهُ، فإنَّهُ أتَانا أخَيْفِشَ أعَيْمِش، يمدٍ بيد قَصِيرَة البَنان. وَالله مَا عَرق فِيهَا عنانٌ فِي سَبيل الله، يُرجِّلُ جُمَّته ويخْطِر فِي مشيته، ويَصْعَد المنبرَ فيهْدِرُ حَتَّى تفوته الصَّلاةُ، لَا مِن اللهِ يَتَّقِي، وَلَا مِن النَّاس يستحي، فَوْقهُ الله وتحتهُ مائةٌ ألف أوْ يزِيدُونَ، لَا يقُولُ لَهُ قائلٌ: الصَّلاةَ أيُّها الرَّجلُ. ثمَّ يقولُ الحسنُ هَيْهاتَ. حَالَ دُونَ ذَلِكَ الَّسيْفُ والسَّوْط. وكَانَ يقُولُ: إِنَّمَا كانتْ خطيئةُ أبيكُمْ أدَم عليْهِ السلامُ فِي أكْلَة وَهِي بليَّتكُمْ إِلَى يومِ القيامةِ. وقَالَ للصُّوفيينَ: إنْ كانَتْ هَذِهِ سَرِيرَتَكُم فَقْدَ أظهر تمُوهاً، وإنْ كانَتْ خلافًا لما أعْلَنْتُمْ فقدْ هَلَكْتُمْ. وقَالَ: العِصْمةُ مَا لَمْ تجدْ، والعِفةُ إذَا قَدرْتَ.(5/133)
وقَالَ: مَنْ بَدَلَ دِرهَمَهُ أحبهُ الناسُ طَوْعاً وكَرْهاً. وقَالَ: كيْفَ للرجُل بإحُراز دينهِ وهُو يطلُبُ معَاشَهُ مِمنْ لَا يُزَكى عَملَهُ. وَقَالَ: مَنْ تعززَ بالمعْصِيةٍ أوْرَثُهُ الله الذِّلةَ. وقالَ: مَن اتكلَ على حُسْنِ اختيارِ اللهِ لهُ لم يتمَن أنهُ فِي غَيرِ حَالتهِ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ لهُ. وَقَالَ: مَنْ لمْ يُؤمن بالقدرِ كَفرَ، وَمن حملَ ذنبهُ على اللهِ فجرَ. وَقَالَ: رُب مَحْسُود عَلَى رَجاءٍ هُوَ بلاؤهُ، ومَرْحوم مِنْ سقَم هُوَ شِفاؤُه، ومغُبوطِ بِنعمة هِيَ داؤه. وقالَ: لهَذِهِ القُلوبِ إقْبَالٌ وإدبارٌ، فَإِذا أقْبَلتْ فاحُملُوها على النوافِل، وَإِذا أدْبرتْ فاحُمِلُوها على الفَرائضِ. وقَالَ: تجْرِي الأمورُ على المقاديرِ وَالنَّاس لَا يَقْبلُونَ المعَاذِيرَ. وَقَالَ: حَسْبُكَ مِن العِلمْ أَن تَخْشَى اللهَ، وحَسْبُكَ مِنَ الجَهْل أنْ تُعْجَبَ بِعِلُمِكَ. وقالَ: وجدتُ خَيْرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَة فِي صَبْرِ سَاعَة. وَقَالَ: جَهد الحقُّ الناسَ فَلَا يَصْبِرُ لهُ إِلَّا مَنْ عَرفَ فضْلَهُ ورجَا عاقِبتَهُ. وسألَه رجلٌ فَقَالَ: غُلامٌ يتعلمُ القِرآنَ، وأبُوهُ بأْمُرهُ أنْ يتعلمَ الشِّعْرَ فَقَالَ. يتعلمُ القُرآنَ ويتعلمُ مِنَ الشِّعْرِ مَا يُرْضِي أَبَاهُ. وقَالَ: لِأَن أقْضِي حاجةَ أَخ أحبُّ إِلَيّ مِنْ أنْ اعْتَكِفَ سنَةً. وروُي عَنْ أبي عَمُرِو بن الْعَلَاء أنهُ قَالَ: مَا رأيتُ قَرَوييْنِ أفْصَحَ مِن الْحسن وَالْحجاج.(5/134)
ونَظَرَ أعْرابي إِلَى الحَسن، فقيلَ لهُ: يكفَ تراهُ؟ فَقَالَ: أرى خيْشُوم حُرٍّ. وقَالَ لهُ رجلٌ يَا أَبُو سعيد. فقَالَ الحسنُ: شغلَكَ كَسْبَ الدوَانِيقِ عنْ أنْ تقُولُ يَا أبَا سَعيد. وقَالَ لهُ آخَرُ: يَا بُو سَعيد. فقالَ: أينَ غذيِتَ قالَ: بِلَا يلة. قَالَ: مِنْ هَذَا أتيتَ. وَقَالَ: من دخلَ مَدَاخِلَ التُّهَمةِ لَم يكُنْ لَهُ أجرُ الغَيْبةِ. وَقَالَ: من أمَّلً فَاجِراً كانَ أدنَى عُقُوبَتِهِ الحرمانُ. دخَل أعْرابيُّ البَصْرة، فَقَالَ: مَنْ سَيِّدُّهُم؟ قَالُوا: الحَسنُ بنُ أبي الحَسن. قَالَ: وبِمَ؟ قَالُوا: اسْتَغْنَى عَمَّا فِي أيْديهم من دُنْيَاهُمْ. واحُتَاجوا إِلَى مَا فِي يَدَيْهِ من دينه. فقالَ: بخ بخ. بِهَذَا سَادهُمْ. وسَمعَ الحسنُ رجلا يصفُ الفالوذَج فقالَ: فُتَاتُ البُرِّ بلُعابِ النحُلِ بخالِصِ السمْنِ. مَا عَابَ هَذا مُسْلِمٌ.(5/135)
الْبَاب الْعَاشِر نُكَتٌ مِنْ كَلام الشِّيَعة
أخُبرنَا الصاحبُ كَافِي الكفَاةِ رحمةُ اللهِ عليْهِ قالَ: أخبرنَا عبدُ اللهِ بنُ محمَّد، قالَ: أخْبرَنَا عبْدُ الله بنُ الْحسن، قَالَ: أخُبرَنَا سهْلُ بنُ مُحَمَّد قَالَ: أخُبرنَا عبْدُ الرَّحمَن بن الْمثنى قَالَ: عبد الْملك فَلَمَّا بلغ إِلَى العظة قَامَ إِلَيْهِ رجل من آل صُوحانَ. فقالَ: مَهْلاً مَهْلاً. تأُمُرونَ فَلَا تأُتَمرونُ، وتَنْهَوْنَ وَلَا تنتهُون، وتعظُون وَلَا تتعظُونَ. أفَنَقْتَدي بسيرتكُمْ فِي أنْفُسكُم أمْ نُطيع أمُركُمْ بأَلْسنَتكُم؟ فإنْ قُلْتُم: اقتَدُوا بسيرتنَا فَإِنِّي؟ وكَيْفَ وَمَا الحُجَّةُ؟ ومَا النصيرُ منَ الله بإقتداء سيرَة الظَّلمَة الفسَقة، والجَورة الخَونة الَّذين اتخَذُوا مَال الله دُولا، وعبيدهُ خَولاً وَإِن قُلْتُمْ: اقبلُوا نَصيحتنَا، وأطيعُوا أمرنَا، فكْيفَ يَنُصَحُ لغيره مَنْ يَغُش نَفْسَهَ.؟ أمْ كيْفَ تَجبُ الطاعةُ لمنْ لمْ تَثُبتْ عنْدَ الله عدالَتُه؟ وإنْ قلُتْم خُذوا الحكمَةَ من حُيثُ وجدتُموهَا، وأقبلُوا العظَةَ ممَّن سَمعتُموهَا فَعلامَ وليْنَاكم أمْرَنَا، وحَكَّمْناكُمْ فِي دمائنا وأمْوالنَا؟ أمَا علمتُمْ أنَّ فينَا مَنْ هُوَ أنْطَقُ منْكُم باللغَات وأفْصَحُ بالعِظاتِ؟ فَتحلْحلوا عَنْهَا أَولا، فأطْلِقُوا عِقَالَها، وَخَلُّوا سَبيلَهَا يَبتْدِرْ إِلَيْهَا ألُ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الذينَ شَرَّدْتُموهُمْ فِي البلادِ، وفرَّقتُموهُمْ فِي كُلِّ وَاد، وبل تثْبت فِي أيْديِكُمْ لانْقِضاءِ المُدَّةِ وبُلُوغ المُهْلةِ، وعِظَم المحنةِ. إِن لكُلّ قَائِم قَدَراً لَا يعْدُوهُ وَيَوْما لَا يخُطوه، وكتاباً معدَه يتلُوهُ " لَا يُغادِرُ صغيرَةً، وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحْصاها " و " سَيَعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أيَّ مُنْقَلَب يَنْقِلبون ". قَالَ ثُمَّ أجْلسَ الرَّجُلُ فطُلِبَ فَلَمْ يُوجَدْ.(5/136)
نَظَر شريفٌ إِلَى رءوسِ بنيِ أُميَّة - وَقد حُمِلتْ إِلَى أبي العبَّاسِ فقَامَ وقَالَ: هذِه رؤسٌ ربَّاهَا النِّفاقُ، ورَّبتهُ، وغَذَّاهَا الكُفْرُ وغَذَّتْهُ، ودَعاهَا الجْهلُ فأجَابتْهُ. صَرفُوا الصَّدقاتِ فِي الشَّهواتِ، والفيءَ فِي الغي والغانِمَ فيِ المحارمِ. لمَّا ماتَ الصادِقُ عليْه السلامُ قَالَ أَبُو حَنيْفَةَ لشَيْطان الطَّاق مَاتَ إمَامُك. قَالَ: لَكِن إمامَكَ لَا يموتُ إِلَى الحشْرِ. يعْني السُّنَّةَ. قالَ مُعَاويةُ لأبي الْأسود: لَوْ كُنْتَ أحَدَ الحكمَيْنِ مَا كُنْتَ صانعاً؟ قالَ: كْنْتُ أقولُ: أليْسَ أحقَّ الناسِ أنْ يُتخَيَّر مِنْهُم المهاجرُون والأنصَارُ؟ فإنَّهُ كانَ يقالُ: بَلَى: فكنتُ أقُولُ: فاعُتزِلُوا مَنْ ليْسَ منهُمْ. قَالَ معاويةُ الحمدُ لله الَّذِي كفانَاكَ. جَلسَ مُعاويةُ بالكُوفة يُبَايعُ على الْبَرَاءَة منْ على عليْهِ السَّلَام فجَاء رجلٌ مِنْ بني تَمِيم فأراده. عَلى ذلكَ فقالَ: يَا أميرَ المُؤمنين. نُطيعُ أحُياءَكُم وَلَا نتبرأ من موتاكُم. فَالْتَفت إِلَى المُغيرةِ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا رجلٌ. فاسْتَوْصِ بِهِ خيْراً. قَالَ الشَعبي: مَا لقينَا منْ عَليّ بن أبي طَالب: إنْ أحَبَبْناهُ قُتِلْنَا وإنْ أبغْضَنَاه هَلكْنَا. قَالَ عبدُ الْملك بن مروانَ لعبد الله بن عبد الْأَعْلَى الشَّاعِر: أخْبرني عَنْ أكْرَم العَرب؟ قالَ: يَا أميرَ المُؤمنين: قد سمعتَ كَما سَمِعت، وعلمتَ كَمَا علمت. قَالَ: أقْسم عليكَ لتخبرني. قَالَ: أكْرم العَرب مَنْ يحبُّ أَلا يكونَ من غَيرهَا، وَلَا يحب غَيرَه أَن يكونَ إِلَّا منْهَا. وألام العَربَ مَنْ يحب أنْ يكونَ منْ غيرهَا وَلَا يحب غَيره أنْ يكونَ مِنْها. قَالَ، فَوضَعَ عَبد الملكِ يدَه على منِكبه وقَالَ: لَو مسَحتُكَ لتناثَر منْكَ ترابٌ. يعرِّض(5/137)
لَهُ بحب عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَبني هَاشم. كَانَ أَبُو الهذَيْل يَقُول: أوَّل سِهام مَنْ تحب آل محَّمد صلى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الَّتِي لَا يطيش عنْ أعدَائهم قَوْلهم: الْحَمد لله على طيبِ المولد. قَالَ يُونُس: قلت للخُليلِ: مَا بَال أصحَابِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُمْ بَنو أمٍّ وإخوة، وَعلي كنه ابْن عَلَّة؟ فَقَالَ لي: منْ أَيْن لَكَ هَذَا السُّؤَال؟ فقلْت: أُرِيد أَن تُجِيبنِي. قالَ عَلَي أنْ تكْتم عَليّ مَا دمتْ حَيا. قلْت: أجَلْ. قالَ تقدَّمَهم إسلاماً، وبذَّهم شَرَفاً، وفَاقَهم علْماً، ورَجَحَهم حلْماً، وكانَ أكْثرَهم زهْداً، فَخسروه والناسُ إِلَى أشُكَالِهم أميل. قَالَ المتَوَكل لبَعض العلوية: مَا يَقُول ولُد أبيكَ فِي العباسِ؟ قَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ مَا يَقُول ولَد أبي فِي رَجُلٍ فَرض الله حقَّ رسُولهِ على عِبَادِهِ: وفَرضَ حقَّه عَلَى رسُوله. قَالَ لَهُ: وَالْفرق بينَنَا وبينَكم. قَالَ: ذَاكَ بيِّنُ. لوْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وسَلَّم حَيا: أكانَ حَلالاً لهُ أَن يكُونَ حُرَمي متكشفاتِ الروؤس؟ قَالَ: نَعَمْ. سُئِلَ أحمدُ بنُ حَنْبَل عَنْ قَول الناسِ: على قَسِيمُ الجنَّةِ والنَّار. فقَالَ: هَذَا(5/138)
صحيحُ لأنَّ النَّبِي عَلَيْهِ السلامُ قالَ لعَلي: " لَا يحبُّك إِلَّا مؤمِنٌ وَلَا يُبغضُكَ إِلَّا مُنَافقٌ " وَالْمُؤمن من الجنَّةِ والمُنافِقُ فِي النِّار. لمَّا قدِمَ طلحةُ والزبيرُ البصْرة قامَ المطرفُ بنُ عبد الله خَطِيبًا فِي مَسْجدِهَا، فقالَ: أيُّها الناسُ: إنّ هذيْن الرَّجُلين - يَعْنِي طلحَةَ والزبيرَ - لما أضَلا دينَهُمَا ببلدِهما جاءَا يطلبانِهِ فِي بلدِكُمْ، وَلَو أصابَاه عندَكُمْ مَا زَادَاكُمْ فِي صَلاتِكُمْ، وَلَا فِي زَكَاتِكُمْ، وَلَا فِي صَومْكم وَلَا فِي حجِّكُمْ، وَلَا غَزْوكُم، وَمَا جَاءَا إِلَّا لينَالاَ دُنْياهُمَا بدينكُمْ، فَلَا تَكْونَنَّ دُنْيا قوم آثَرَ عِندكُم مِن دينكُمْ والسَّلامُ. وَكَانَ بعضُ قُضَاة الكُوفَةِ يذكرُ يَوْمًا فضائلَ أَمِير المؤمنينَ - صلوَات الله عليهِ - وحضرهُ بعَث الحشوية فقالَ للْقَاضِي: لَا أَرَاك تذْكُرُ مِنْ فضَائِلِ أبي بكر وعُمرَ شَيْئا. فقالَ القَاضِي: يَا أحمقُ، نحنُ نذكُرُ المُقاتِلَةَ وأنْتَ تَذَكُر النظارَةَ. لَقِي أبُو مُوسَى الأشعريُّ أَعْرَابِيًا، قَدْ قِدمَ من دومة والجْنَدل، فَقَالَ: يَا أعرابيُّ، مَا عِنْدَكَ مِن خَيرَ النَّاس؟ قَالَ: تركْتُهُم يَا يلعَنُونَ ثَلَاثَة قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْأَشْعَرِيّ، وأبَا مُوسِى، وعبدَ اللهِ بنَ قيس، كَانَ بعضُ أهل الْبَصْرَة يتَشِّيعُ وَكَانَ لهُ صديقٌ يفد إِلَيْهِ وَيُوَافِقهُ فِي مَذْهَبه فأودَعهُ مَالا فجَحَدهُ، فاضطْرَّ إِلَى أَن قالَ لمُحمدِ بن سُلَيْمَان، وَسَأَلَهُ أَن يحضرهُ، ويُحلفه بِحَق عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، فَفعل ذَلِك. فَقَالَ: أعزَّ اللهُ الأميرَ. هَذَا الرجلُ صَديقي، وَهُوَ أعزُّ عَليّ، وأجلُّ عنْدي منْ أنْ أخلف لهُ بِالْبَرَاءَةِ مْن مُخْتلفٍ فِي ولَايَته وإيمانه، وَلَكِنِّي أَحْلف لَهُ بالبَراءة منْ الْمُتَّفق على إيمَانهما وولايتهما: أبي بكر وعمَرَ، فَضَحِك محمَّد بن سُلَيْمَان، وَالْتزم المَال، وخلَّى عَن الرَّجل. قالَ أَبُو معاويةَ الضَّريرُ: بعثَ هِشَام بنُ عبد الملكِ إِلَى الأعْمش أَن أكتُبْ إِلَى بمنَاقب عُثمانَ ومساوئ عَليّ على فأخذَ الأعمشُ القرطاس، فأدخلهُ فِي فَم شَاة،(5/139)
فأكلتهُ. وَقَالَ: قُلْ هَذَا جَوابُهُ. فرجَع الرسولُ ثُم عَادَ فَأتى الأعمشَ. فقالَ الرسولُ. إنَّهُ قد آلى أنْ يَقْتُلَني إنْ لمِ آتِهِ بِالْجَوَابِ وَتحمل إليْه بإخُوانِه. فقالُوا: يَا أبَا مُحمد افتِده مِن القَتْل. فلماَّ ألحُّوا قَالَ: اكُتبْ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. . أما بعدُ. فلوْ كَانتْ لعثمانَ مناقبُ أهل الأَرْض مَا نَفَعَتْكَ، وَلَو كانَتْ لعلى مساوئ أهْل الأَرْض مَا ضَرَّتكَ فعليْكَ بخُويصةِ نَفْسِكَ. والسَّلامُ. قَالَ ابنُ الْفرق: رأيْتُ المختارَم مسْتُورَ العْين. قلتُ: مَنْ فَعل بكَ هَذَا قطعَ الله يدهُ فَقَالَ: ابنُ الفَاعلة عبيدُ الله بنُ زِيَاد، وَالله لأقطَعَنَّ أنَامِلهُ وأباجلَهُ، ولأقتُلن بالحسيْن عَدَدَ مَنْ قُتِلَ بيْحيى بن زَكَرِيَّا. ثمَّ قَالَ. يَا بنَ الْفرق، وَإِن الفْتنَةَ قدْ ألقتْ خِطامَها، وخبطتْ وشمسَت. ثمَّ قَالَ: ورَافِعةَ ذيْلَهَا، وقائِلة: وَيْلَهَا بدجلة أَو حولهَا {} ! قَالَ عبيدُ الله بن زِيَاد لبعْض بني بكر بن وَائِل: مَا تقولُ فِينَا وَفِي الحُسَيْن وَفِي قَتْلنا إيَّاهُ؟ فقالَ: مَا أقُولُ؟ يجي جدُّه يومَ القيامةِ فيشفَعُ لَهُ ويجيءُ جدك فيشفعُ لكَ. كَانَ أبُو الأسودِ يتشيع وَكَانَ ينزلُ فِي بني قُشَيْر - وهُمْ عثمانيةٌ فَكَانُوا يرمونه بِاللَّيْلِ، فَإِذا أصْبحَ شكا ذَلِك فشكاهُم مرّة، فَقَالُوا لَهُ مَا نَحنْ نَرْميكَ وَلكنِ الله. فقالَ كذبتْمْ - وَالله - لَو كَانَ اللهُ يرِميني لما أخْطَأني. كَانَ سُفْيانُ بنُ عُييْنةَ إِذا يُشِّر بمَوْلُود مِن العلّوَيةِ أعْطى بشَارةً، وَإِذا نُعى إليْه واحدٌ جلَسَ للتعزيةِ. فقِيلَ لهُ فِي ذلكَ. فقالَ: يذهبُ أمانٌ، ويزيدُ أمانٌ، همْ أمانُ أهْل الأرْض مِن الْعَذَاب. سمعْتُ عمْرَو بن ديِنار عَن ابْن عَبَّاس أنَّ رسولَ الله صلى الله عليهَ. قَالَ: النجُومُ أمانٌ لأهْل السِّماء، وأهلُ بَيْتِي أمانٌ لأْمتي. قَالَ عبد اللهِ بنُ عَبَّاس المَخْزُومِي: قلتُ: يَا عمُّ، حَدثنِي عَمَّا كَانَ من صفو النَّاس معَ عَليّ وَإِنَّمَا هُوَ غُلامٌ منْ قُرَيْش، وَلأبي بكْر مِن السابقةِ مَا قدْ عَلمتَ،(5/140)
قَالَ: إِن عليا كانَ مَا شئْتَ من ضرس قَاطع، والسلطةِ فِي الْعَشِيرَة، والقدم فِي الإسْلام، والصِّهر لِرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ، والعِلْم بالقُرآن، والفقْه فِي السُّنَّة، والنَّجدة فِي الحرْب، والجُودِ بالماعُون. دخَلَ أبوْ الطفيْل عامرُ بنُ وائلة الكنانيُّ على معاويةَ فقالَ لهُ: أْنتَ مِنْ قَتله عُثْمانَ؟ قالَ: لَا. ولكنني مِمنْ حضَرهُ فَلم يَنْصرْهُ. قالَ: ومَا منعَكَ منْ نَصْره؟ قَالَ: لمْ ينصرْهُ المُهَاجروُنَ والأنْصارُ. قالَ معاويةُ: لقد كَانَ حقهُ وَاجِبا، وَكَانَ يجبُ عليهمْ أنْ ينصروهُ. قَالَ: فَمَا منَعَكَ منْ نُصْرتَه يَا أميرَ المؤْمنينَ ومَعكَ أهْلُ الشَّام؟ قالَ: أومَا طَلَبي بدمِهِ نصرةٌ لهُ؟ فضَحكَ عامِرٌ فَقَالَ: أنْتَ وَالله وَعُثْمَان كقولِهِ: لأعْرفنَّكَ بعْدَ الموتِ تندُوبُني وَفِي حَياتِي مَا زَوَّدْتَني زادي فَقَالَ لهُ معاويةُ: دَعْ هَذَا عنْكَ، وقُلْ لي: مَا بقَّاهُ الدَّهْر مِنْ ثُكْلِكَ على عَليّ ابنْ أبي طَالب فقالَ: ثُكْلُ الْعَجُوز المِقْلاتِ، والشَّيخ الرَّقوبِ قالَ: فكيْفَ حبُّكَ لَهُ؟ فقالَ: حُبُّ أمِّ مُوسى لموسَى، وَإِلَى الله أشْكُو التَّقْصيرَ.(5/141)
الْبَاب الْحَادِي عشر كَلَام الْخَوَارِج
من كَلَام أبي حمزةَ: تَقْوى اللهِ أكرمُ سَريرة، وأفضلُ ذَخِيرة، مِنْها ثقَةُ الوَاثق، وعليْها مِقَةُ الوَامِق. ليعمَل أمرؤ فِي فكَاك نَفْسِهِ وَهُوَ رخي اللبَب، طويلُ السَبَب، وليعْرفَ مَمدَّ يَدِه، ومَوضِعَ قَدَمِهِ، وليَحْذَر الزَّلَلَ والعلَ الَّتِي تقْطَعُ عَنِ العمَل. رحِمَ اللهُ عبدا آثَرَ التَّقْوىَ، واستشْعرَ وشعارَها واجتنىَ ثمارها. باعَ دَارَ النفدِ بدار الأبَدِ. الدُّنْيا كروْضَة اعتمَّ مَرْعَاهَا، وأعْجَبتْ مَنْ يَراهَا، تمجُّ عروقُها الثرى، وتنظفُ فروعها الندي، حَتَّى إِذا بلغَ العُشْب إناهُ، وانْتَهى الزبرج منتهاه، ضعفَ العُمودُ، وَذَوي العُودُ، وتولي مِن الزَّمان مَالا يُعود، فَحنَتِ الرياحُ الورقَ، وفرقتْ مَا أتسقَ، فأصبحَ هشيماً تذروهُ الرياحُ وَكَانَ اللهُ على كل شَيْء مُقْتَدِراً. كَانَ شبيب يقُولُ: الليلُ يكْفيكَ الجَبَانَ ونِصْفَ الشُّجَاع. أَتَى الحجاجُ بامْرَأة مِنْ الخَوارج، فقالَ لِمنْ حَضَر: مَا تروْنَ فِيها؟ قالُوا: اقْتُلْها. فقالَتْ: جُلُساءُ أخيكَ خيرٌ مِنْ جُلسائكَ: قَالَ: مَنْ أخي؟ قالتْ: فِرْعُونُ: لما شاورَ جُلساءهُ فِي مُوسَى " قَالُوا أرْجِهُ وأخَاهُ وأبعثْ فِي المدَائِنِ حاشرين " فأمَرَ بقَتْلِهَا.(5/142)
مرَّ رجلٌ من الْخَوَارِج بدار تُبنى، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُقيم كَفِيلا؟ أَخذ ابنُ زِيَاد بنَ أديَّةَ: أخَا أبي بِلَال، فَقَطعه يَدَيْهِ، وَرجلَيْهِ، وصلبه على بابِ دارِه فَقَالَ لأَهله وَهُوَ مصْلوبٌ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الموكَّلين بِي فأحسِنُوا إِلَيْهِم فَإِنَّهُم أضيافكم. أَنِّي عتابُ بن وَرْقَاء بِامْرَأَة من الْخَوَارِج فَقَالَ لَهَا: يَا عدوةَ الله، مَا دعاكِ إِلَى الْخُرُوج؟ أمَا سمعتِ الله تَعَالَى يَقُول: كُتِبَ الْقَتْل والقتال علينا ... وعَلى الْمُحْصنَات جرُّ الذيول قَالَت: يَا عَدو الله، أخرجني قلةُ معرفتك بِكِتَاب الله. كَانَ الْجُنَيْد بن عبد الرَّحْمَن يَلِي خُرَاسَان فِي أَيَّام هِشَام، فظفر بصبيح الْخَارِجِي، وبِعده، مِن أَصْحَابه، فقتلهُم جَمِيعًا، غيرَ رجل أعمى كَانَ فيهم. فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَى: أَنا أدلُّك على أَصْحَاب صبيح، وأجازيك بِمَا صنعتَ، فَكتب لَهُ قُوماً. فَكَانَ الْجُنَيْد يقتلهُمْ حَتَّى قتل مائَة. فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَى عِنْد ذَلِك: لعنكم الله. تزعُم أَنه يحلُّ لَك دمي. وَأَنِّي ضالَ. ثمَّ تَقبلُ قولي فِي مائَة فتقتلهم. لَا - وَالله - مَا كتبتُ لَك من أَصْحَاب صبيح رجلا وَمَا هُمْ إِلَّا مِنْكُم فقدَّمه، وَقَتله. دخل أَبُو حَمْزَة - واسْمه يحيى بن الْمُخْتَار - مَكَّة، فَصَعدَ منبرها متوكئاً على قَوْس لَهُ عَرَبِيَّة، فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: أيُّها الناسُ، إِن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يتقدمُ وَلَا يتأخَّرُ إِلَّا بأمْرِ اللهِ وإذْنِه ووحيهِ، أنَزلَ اللهُ لَهُ كتابا بيَّنَ لهُ فيهِ مَا يأْتي وَمَا يَتَّقِي، فَلم يَكُ فِي شَكِّ مِنْ دينهِ، وَلَا شُبْهة منْ أمْرهِ، ثمَّ قبضَهُ اللهُ إليهِ، وَقد علمَ المسْلمينَ معالم دينهِ، وَولى أَبَا بكر صلاتَهُمْ وولاه المسلمونَ أَمر دُنْياهُمْ حيثُ ولاهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليْه وَسلم أمْرَ دينهِم، فقَاتَل أهْلَ الردِة، وعملَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ومَضى لسَبيِلهِ - رحمهُ اللهُ - وَولي عمرُ بنُ الْخطاب، فسارَ بسيرةِ صَاحبهِ، وعَمِلَ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وجبى الفيءَ، وفَرضَ الأعْطِيةَ، وجمَعَ الناسَ فِي شَهْرِ رمضانَ، وجلدَ فِي الخَمْرِ ثمانينَ، وغَزَا العدوَّ فِي بلادِهمْ، ومَضَى لسبيلهِ رحمهُ اللهُ. وَولي عُثْمَان بن عفانَ فسارَ ستَّ سِنِين بسيرةِ صاحبيهِ، وكانَ دُونَهَما ثمَّ سَارَ(5/143)
فِي الستِّ الأواخرِ بِمَا أحبطَ الأوائلَ، ثمَّ مَضى لسبيلهِ، وَولي عَليّ بنُ أبي طَالب فَلم يَبْلُغ من الْحق قصْداً، وَلم يرفْع لَهُ منَاراً. ثُم مضَى لسبيله، وَولي مُعَاوِيَة بنُ أبي سُفيانَ لَعينُ رسولِ الله وابنُ لعينِه فاتخذَ عبادَ الله خولاً، ومالَ اللهِ دُولاً، ودينهُ دَغَلاً فالعنُوهُ لعنَهُ اللهُ. ثمَّ ولي يزيدُ بن مُعَاوِيَة، يزيدُ الخمورِ، ويزيدُ القُرودِ، ويزيدُ الفُهودِ، الفاسقُ فِي بطنِهِ، المأبُونُ فِي فَرْجِهِ، ثمَّ اقتصهُمْ خَليفَة خَليفَة. فَلَمَّا انْتهى إِلَى عُمَرَ بن عبد العزيزِ أعْرَضَ عَن ذِكْرِهِ. ثمَّ ولي يزيدُ بنُ عبد الْملك الفاسقُ فِي بْطِنه المأبُونُ فِي فَرِجهِ الَّذِي لم يؤنس مِنْهُ رُشدٌ، وَلم يُرْعَ لَهُ عهْدٌ. وَقد قالَ اللهُ فِي أَمْوَال الْيَتَامَى " فَإِن آنستُمْ منهُمْ رُشداً فادْفعُوا إلَيهِمْ أموْالَهُم ". فأمرُ أمة مُحَمَّد أعظمُ يأكلُ الحرامَ، وبِشرْبُ الحرامَ، ويلْبس الحُلَّة قُومِّتْ ألفَ دِينَار قد ضُرِبتْ فِيهَا الأبشارُ، وهُتِكتْ فِيهَا الأسْتَارُ، وأخِذتْ مِن غير حِلِّها. حَبابة عَن يمينِهِ، وسلامةُ عَن يَسَارهِ يُغنيانِه حَتَّى إِذا أخذَ الشرابُ مِنْهُ كلَّ مَأْخَذ قَدَّ ثوبَهُ، ثمَّ التفَتَ إِلَى إحداهُمَاَ فَقالَ: أَلا أطيرُ؟ نَعمْ، فِطِرْ إِلَى النَّارِ. وَأما بنُو أُميَّة فَفٍِرقَةٌ الضلالةِ، بْطشُهمْ بطْشُ جَبْريَّة، يأخُذُونَ بالظنة، ويقْضُونَ بالهوى، ويقتُلُون على الغضبِ، ويحْكُمون بالشفَاعة، ويأخُذُونَ الفَريضَةَ مِنْ غيرِ موضعهَا، ويضعُونَها فِي غير أهْلِها، وَقد بيَّن الله أهْلَهَا فجعلَهُم ثمانيةَ أَصْنَاف. قالَ: " إنِّما الصدقاتُ للْفُقَرَاء " إِلَى آخر الْآيَة فأقبلَ صِنْفٌ تاسعٌ لَيْسَ مِنْهمَا فأخَذَها كلَّها. تْلكُمُ الأمةُ الحاكِمةُ بغَيْرِ مَا أنْزَل اللهُ.
خطْبَة قطري بن الْفُجَاءَة
أمَّا بعدُ: فَإِنِّي أحذِّرُكم الدُّنْيَا فَإِنَّهَا حُلوة خَضِرةٌ، حُفَّتْ بالشهوات وراقتْ بِالْقَلِيلِ، وتَحبَّبتْ بالعاجلةِ، وخلّبتْ بالآمال، وتَزيَّنتْ بالغُرور وَلَا تَدْمَ حَبْرتها، وَلَا تؤْمنُ فجيعتْها، وغرارة ضرارة، وحائلةٌ زائلةٌ، ونافِدةٌ بائدةٌ، أكالةٌ غَوَّالة، لَا تعْدُو - إِذا تناهتْ إِلَى أُمْنِية أهل الرَّغْبَة فِيهَا، والرِّضَا عَنْهَا - أنْ تكونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى " كَمَاء أنْزَلَناهُ من السَّمَاء، فاختلط بِهِ نباتُ الأَرْض فأصبحَ هشيماً تَذْرُوهُ الرياحُ وَكَانَ اللهُ على كل شَيْء مقتدراً.(5/144)
مَعَ أَن امْرأ لم يكن مِنْهَا فِي حَبْرة إِلَّا أعقبتْهُ بعْدهَا عِبْرَة وَلم يلْقَ من سرائها بَطنا إِلَّا منحتْه من ضَرائها ظهْراً وَلم تَظِله غيمةُ رخاءٍ إِلَّا هطلتْ عَلَيْهِ مُزْنةُ بلَاء، وحريةٌ إِذا أصبحتْ لَهُ منتصرةً، أنْ تُمسي لَهُ خاذلةً مُتنَكرة، وَإِن جانِبٌ مِنْها أعذوذبَ وَاحِد ولي أَمر عَلَيْهِ مِنْهَا جانبٌ وأوبى. وإنْ آتت امْرأ من غضارتها وَرقا أرهقته من نوائبها تعباً. وَلم يْمس مِنْهَا امْرُؤ فِي جنَاح أمنٍ إِلَّا أصبحَ مِنْها على قوادمِ خوف. غرّارةٌ غرورٌ مَا فِيهَا، فانيةٌ فَإِن من عَلَيْهَا لَا خيرَ فِي شَيْء من زَاد مِنْهَا إِلَّا التَّقْوَى. من أقل مِنْهَا استكثرَ مِمَّا يؤمنهُ، وَمن استكثر منهَا استكْثَر مِما يُوبقُه ويطيل حُزنه، ويبكي عينَه، كم واثقٍ بهَا فجعته، وَذي طمأنينة إِلَيْهَا قد صرعتْه، وَذي احتيال فِيهَا قد خدعته، وَكم ذِي أبهة فِيهَا قد صيرته حَقِيرًا، وَذي نخوة قد ردْتهُ ذليلاً، وَمن ذِي تَاج قد كبتْه لِلْيَدَيْنِ، وللفَم. سلطانُها دُوَلٌ، وعيشُها رنَق وعذبها أجَاجٌ وحُلوُها صَبرٌ، وغذاؤها سِمامٌ، وأسْبابها رِمامٌ، وقطافُها سَلَع، حيُّها بعَرَضِ موت، صحيحُها بعَرَضِ سقم، منيعُها بِعَرضِ اهتضَام. مليكُها مسلُوب، وعزيزُها مغْلوبٌ، وسليمُها منكُوب، وجارها محروبٌ، مَعَ أنَّ وَرَاء ذَلِك سكراتِ الْمَوْت، وهولَ المطلعِ، والوقوفَ بَين يَدي الحكم الْعدْل " ليجزي الَّذين أساءْوا بِما عَملوا وَيجْزِي الذينَ أحْسنُوا بالحُسْنى ". ألستُم فِي مسَاكِن من كَانَ قَبْلكم أطولَ أعْمارً، وأوضح منكُم آثاراً، وَأعد عديداً، وأكثفَ جُنوداً، وأشدَّ عُنوداً. تُعبِّدوُا للدنيا أَي تعبُّد، وآثَرُوها أَي إِيثَار، وظعَنُوا عَنْهَا بالكُره والصغَار فَهَل بلَغكُم أنَّ الدُّنْيَا سمحَتْ لَهُم نفْساً بِفدْية، أَو أغْنَتْ عَنْهُم فِيمَا قد أهلكتْهُم بخَطْب؟ بل قدْ أرهقتْهُم بالفوادح، وضَعْضَعْتهُمُ بالنوائب، وعقرتهُم بالفجائع. وَقد رأيتُم تنكُّرَها لمنْ دَانَ لَهَا، وآثَرها وأخْلَدَ إِلَيْهَا حِين ظَغنُوا عَنْهَا لفراقِ الأبَد إِلَى آخرِ المُسْند. هَل زودتَهْمُ إِلَّا السغَب، وأحلَّتهم إِلَّا الضّنْكَ، أوْ نورت لَهم إِلَّا الظُّلمةَ أَو(5/145)
أعقُبتْهم إِلَّا الندامة؟ أفهذه تُؤثرون أمْ عَليّ هَذِه تَحْرِصُون؟ أم إِلَيْهَا تطمئنون؟ يقولَ الله عز وَجل: " مَنْ كَانَ يُريد الحياةَ الدُّنْيَا وزِينتَها نُوَفِّ إِلَيْهِم أعْمالهم فِيهَا وهم فِيهَا لَا يُبْخَسُون " فبئستْ الدارُ لمنْ أقامَ فِيهَا فاعلُموا - وَأَنْتُم تعلمُونَ - أَنكُمْ تَارِكُوها لَا بُدَّ، فَإِنَّمَا هِيَ كَمَا وصفَها اللهُ باللعب، وَاللَّهْو. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " أتبنْون بكُلِّ ريع أَيَّة تَعْبَثُون وتتَّخذُونَ مصانعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدون وَإِذا بطشتُم بطَشتُم جبارين ". ذكر الَّذين قَالُوا: " من أشدُّ منا قُوَّة " ثمَّ قَالَ: حُملُوا إِلَى قُبورهم فَلا يُدعَون رُكْباناً، وأنْزِلوا فَلَا يُدعَوْنَ ضيفَاناً، وَجعل الله لَهُم من الضريح أجْناناً، وَمن الترابِ أكْفاناً، وَمن الرفُّات جِيراناً، وهم جِيرةٌ لَا يُجِيبون دَاعيا، وَلَا يمنعُون ضَيماً. إِن خَصبوا لم يَفْرحُوا، وَإِن قَحطوا لم يقُنطوا. جَميعٌ وهم آحَاد، جِيرةٌ وهم أبْعادٌ، مُتَناءْون لَا يزورُون وَلَا يُزَارُون. حُلماءُ قد ذهبتْ أضْغانُهم، وجُهلاءُ قد ماتتْ أحقادهُمْ، لَا يُخشى فجْعهُمُ، وَلَا يُرْجَى دَفْعُهمُ، وكما قَالَ الله تَعَالَى: " فتلْكَ مساكُنهم لم تُسْكَنْ منْ بعْدِهِم إِلَّا قَلِيلا وكُنَّا نحنُ الوارِثين ". واستبدلَوا بظَهْرِ الأَرْض بطْناً، وبالسَّعة ضِيقاًُ، وبالأهل غُربةً، وبالنور ظُلمة، ففَّارَقُوها كَمَا جاءُوها حُفاةً، عُرَاة، فُرادى، غيرَ أنْ ظعنُوا بأعمالهم إِلَى الحياد الدائمة، وَإِلَى خُلُود الأبَد، يقولُ الله تبَارك وَتَعَالَى: " كَمَا بدأنا أول خلق نُعيدُه وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا فَاعِلينَ ". فاحذَروا مَا حذَّركُم الله، وانتفعُوا بمواعظه، واعتصمُوا بحَبْله. عَصَمنا اللهُ وَإِيَّاكُم بِطَاعَتِهِ، ورزَقنا إياكُم أداءَ حقِّه. قَالُوا: لما أَخذ أَبُو بيهس الْخَارِجِي، وقُطِعتَ يداهُ، ورِجْلاهٌ، تُرك يتمرغُ فِي الترابِ. فَلَمَّا أصْبح قَالَ: هَل أحدٌ يُفْرِغُ على دَلْوين؟ فَإِنِّي احتلمتُ فِي هَذِه الليلةِ. هَذَا إِن كَانَ صَادقاً فَهُوَ عجيبٌ، وإنْ كَانَ قالهُ استهانةً بمَنْ فَعلَ ذَلِك فَهُوَ أعجبُ. قَالَ بعضُهم: سمعتُ أَبَا بِلَال فِي جَنَازَة وَهُوَ يقولُ: أَلا كلُّ ميتةٍ ظنُونٌ إِلَّا ميتةَ الشجاء. قَالُوا: وَمَا ميْتةُ الشجاء؟ قالَ: امرأةٌ أَخذهَا زيادٌ فقطعَ يديْها،(5/146)
ورجليها، فَقيل لَهَا: كَيفَ تريْنَ يَا شجَاءُ؟ قالتْ: قد شَغلني هولُ المطَّلَع عَن بَرْدِ حَدِيدكم. قَالَ الْحجَّاج لامْرَأَة من الْخَوَارِج: اقرئي شَيْئا من الْقُرْآن. فقالتْ: " إِذا جَاءَ نَصْر الله والفتْحُ، ورأيتَ الناسَ " " يخرجونَ فقَالَ: وَيحك يدخُلُون. قالتْ: قد دَخَلُوا، وأنتَ تُخْرِجُهم. وَقَالَ الحجاجُ لأخرى: لأحصدنكُمْ حصْداً. قالتْ: أنتَ تحصُدُ، وَالله يزرَعُ، فانظُرْ أينَ قُدْرةُ المخلُوقِ من قدرةِ الْخَالِق؟ رَأَتْ أُخْرَى منهُمْ رجلا بضًّا فقالتْ إِنِّي لأرى وَجها لم يُؤثِّرْ فِيهِ وضوء السبرَات. كَانَ شبيبُ الْخَارِجِي ينعى لأمة: فَيُقَالُ: قُتِلَ: فَلَا تُصَدِّقُ، إِلَّا أنْ قِيل لَها: غَرِقَ: فولولتْ، وصدقَتْ. فَقِيلَ لَهَا فِي ذلكَ. فقالتْ: إِنِّي رأيتُ حِين ولدتُهُ إنهُ خَرجَ مني نارٌ فعِلمتْ أنهُ لَا يُطفئُهُ إِلَّا الماءُ. وقَفَ رجُلٌ على أبي بيْهَسَ وقَدْ أمِرَ بقَطْع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فَقَالَ: أَلا أعْطيكَ خَاتمًا تتختُم بِهِ؟ فقالَ لَهُ أَبُو بيْهسُ: أشْهَد أنَّكَ إنْ كُنت مِنَ العَرب فَأَنت مِن هُذَيْل، وَإِن كنت مِن العجَم فَأَنت بَرْبَري. فسُئِل عَنه فَإِذا هُوَ منْ هُذَيْل وأمهُ بَربْرِيَّةٌ. أَتَى رجُلٌ من الخَوارج الحسنَ الْبَصْرِيّ، فقالَ لَهُ: مَا تَقولُ فِي الخَوارج قالَ: هُمْ أصْحَابُ دُنيا، وقَالَ: وَمن أينَ قُلتَ وأحدهُمْ يمْشي فِي الرُّمح حَتَّى ينكَسرَ فِيهِ، وَيخرج من أَهله ووَلَده؟ فَقَالَ الحسنُ: حَدثنِي عَن السُّلْطَان أيَمْنعُكَ من إقَامَة الصَّلَاة، وإيتَاءٍ الزَّكَاة، والحجِّ والعُمْرة؟ " قَالَ لاَ. قَالَ: فأرَاهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ الدنُّيا فقاتلتَ. نَزَلَ رجُلٌ من الخَوارج عَلى أَخ لهُ منهُمْ فِي اسْتتارة منَ الحجَّاج، وأرادَ صاحبُ الْمنزل شُخُوصاً إِلَى بلد آخَرَ لحَاجة لهُ، فقَالَ لامْرَأَته: يَا زرقَاءُ أوصيك بضَيْفي هَذا خيرا وبَعُدَ لِوجهتهِ. فَلَمَّا عَادَ بَعْدَ شهر قَالَ لَهَا: يَا زرقاءُ. كَيفَ رأيْتِ(5/147)
ضيفنا؟ قَالَت مَا أشغلهُ بالعمى عَن كلِّ شَيْء وَكَانَ الضيفُ أطبقَ عينهُ فَلم ينظُرْ إِلَى الْمَرْأَة والمنزل إِلَى أنْ عَادَ زَوْجُهَا. اجتمعَ ثلاثةٌ من الْخَوَارِج فعقد اثْنَان لِواحِد، وخَرجُوا يمْشُونَ خلْفَهَ يَلْتمِسونَ شيْئاً يركَبُهُ، فجعَلَ الأثْنان يِتَلاحيان، فالتَفتَ إليهمَا وَقَالَ: مَا هذهِ الضَّوضاءُ الَّتِي أسمَعُهَا فِي عَسْكِري؟ ؟ كبرَ رجُلَ منهمْ وهَرمَ حَتَّى لم يكُنْ بهِ نهوضٌ، فأخَذّ منزلا على ظهر الطَّرِيق، فَكلما جاءَ مطرٌ وابتلتْ الأرضُ أخذَ زجاجاً، وكَسَرهَ، ورماهُ فِي الطَّرِيق، فَإِذا مر إنسانٌ وعَقَرَ رجلَهُ الزُّجاجُ قَالَ الْخَارِجِي من وَرَاءِ البَاب: لأحُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ ثُم يقولُ: اللهُمَّ إنَّ هَذا مجْهُودي. لِقي رجلٌ بعضَ الْخَوَارِج بالموْقِفِ عشيةَ عرفةَ، فَقال لهُ: مَنْ حج فِي هَذِه السنةِ منْ أصْحابكم؟ فَقالَ: مَا حَجَّ غَيْرِي. فقالَ لَه: إنِّما بَاهي اللهُ عزَّ وجَلَ ملائِكتَهُ فِي هّذِهِ السنةِ بشقِّ محُملِهِ. وأحْضَرا الحجَّاج رجُلاً من الْخَوَارِج، فمنَّ عليهِ، وأطْلَقُه، فَلَمَّا عَادَ إِلَى أصْحابِه، قالُوا لَهُ: إنَّ اللهَ مخَلِّصُك مِنْ يدِهِ ليزيدَك بَصِيرَة فِي مذهبكِ، فَلَا تُقصِّرْ فِي الخُروج عليْهِ. فقالَ. هيْهاتَ. غل يدا مطلقُها، استرقَّ رقَبَةً معْتِقُهَا. نَظرَ رَجلٌ مِنَ الْخَوَارِج إِلَى رَجل مِنْ أصُحاب السُّلطان يتصدَّقُ على مِسْكين فقَالَ: انظْرْ إِلَيْهِم: حَسناتُهم مِنْ سيِّآتِهم. قَالَ المنْصُورُ لبعَض الْخَوَارِج - وَقد ظَفِرَ بهِ: عرفني مَنْ أشدُّ أَصْحَابِي إقْداماً كَان فِي مبارزتِك. فقالَ: مَا أعَرِفهُمْ بوجُوهِهم، وَلَكِنِّي أعْرفُ أقْفَاءَهُمْ. فقُلْ لَهُمْ يُدْبروا حَتَّى أصِفَهم، فاغتَاظَ وأمَر بقتْلِهِ. قَالَ الحجاجُ لرجل منهمْ: وَالله إِنِّي لأبْغِضُكُم. فقالَ الخارجيُّ: أدْخَل اللهُ أشدنا بُغْضاً لصاحِبهِ الجنةَ. وقيلَ إنَّ أوَّلَ مَنْ حكَّم عُروةُ بن أدَيَّة وَهُوَ عُرْوَة بنُ حُدير أحد بني ربيعةَ ابْن حنظلةَ. وأديَّة جَدَّةٌ لَهُ وَهُوَ ممَّن نجا مِن حرْب النَهْرَوان، وبَقِي إِلَى أَن أَتَى بِهِ زِيَاد فقتَلًهُ ثمَّ دَعَا مؤْلاهُ، فقالَ: صِفْ لي أمورَهْ. فقالَ: أأُطِنبُ أمْ أخْتصِر؟ فقَالَ: بلْ(5/148)
اختَصِرْ فَقالَ: مَا أتيتُهُ بطَعام بنهار قطُّ، وَلَا فَرَشْتُ لَهُ فِراشاً بلّيْل قطُّ. وَكَانَ زيادٌ سألهُ عَن مُعاوية فَسَبَّهُ، وسألهُ عَن نفْسهِ، فقالَ: أولكَ لزينْةَ، وآخركَ لدعْوة وأنتَ بعد عَاص لربِّك. قالَ المبِّردُ: قد اسْتَهْوى رأيُ الْخَوَارِج جمَاعَة من الأشرَاف، يُروْى إنَّ المُنْذِرَ بنَ الجارودِ كَانَ يرى رأيهُمْ، وكانَ يزيدُ بن أبي مُسلم صاحبُ الحجَّاج يراهُ ونُسِبَ إِلَيْهِ عِكْرَمةُ مَولى ابْن عبَّاسِ ومالكُ بنُ أنس. وروى أنَّه كَانَ يذكُرَ عثمانَ، وعلياً، وطلحَةَ، والزُّبيرَ فيقولُ: واللهِ مَا اقْتَتَلوا إِلَّا على الثريدِ الأعْفَر. وَأما أبُو سَعيد الحسنُ البصريُّ فَإِنَّهُ كَانَ يُنْكرُ الحكُومةَ وَلَا يرى رأيَهُمْ. ذكَرُوا أنَّ عبدَ الْملك أتوهُ بِرَجُل من الخَوارج، فأرادَ قَتله، فَأدْخل على عَبد الْملك ابْن لهُ صغيرٌ - وَهُوَ يْبكي - فَقَالَ الخارجيُّ: دَعْهُ بيكِ فإنَّهُ أرْحبُ لِشدتُهِ، وأصَح لدِمَاغِه، وأذْهُبُ لصَوتِهِ، وأحُرى أَلا تأْبى عليهِ عينُه إِذا حَفزَته طاعَةُ الله فاستدْعى عَبْرَتَها. فأُعجبَ عبدُ الملكِ بقولهِ. وقالَ لهُ مُتعجِّباً: أمَا يشغَلُكُ مَا أنْتَ فِيهِ عَن هَذَا؟ فقالَ: مَا يَنْبغي أنْ يَشْغَلَ المؤمِنَ عَنْ قَول الحقِّ شيءٌ. فأمَرَ عبْدُ المَلكِ بحَبْسِه، وصَفَحَ عَنْ قَتْلِهِ. كانَ جماعةٌ من الخَوارج تجمعَتْ بعْد حَرْب النَّهروان فَتأسفُوا عَليّ خِذْلانِهم أصْحابَهُمْ، فقَامَ مِنْهُم قائمٌ يقالُ لهُ المُسْتَوردُ مِن بني سَعْدِ ابْن زيدِ مَنَاة، فحمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ، وَصلى على مُحَمَّد صلى اللهُ عليهِ، ثُمَّ قالَ: إِن رسُول اللهِ - صلى الله عليهِ - أَتَانَا بالعَدْل تخْفقُ راياتُه، وتَلْمع مَعَالُمه ويبلِّغُنَا عَنْ رَبِّهِ وينصَحُ لأمتِه حَتَّى قبضَهُ اللهُ مُخَيّرا مُخْتَارًا، ثُم قَامَ الصدِّيقُ فَصدّقَ عَن نبيهِ، وقاتَل مَنْ ارْتدَّ عَن دِين(5/149)
ربِّهِ، وذكَرَ أَن الله عز وجَلَ قَرَنَ الصلاةَ بالزَّكاةِ، فَرَأى تْعطيلَ إحداهُما طعْناً على الْأُخْرَى، لَا بل عَلَى جَمِيع منازِلِ الدينِ، ثمَّ قبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ مَوفُوراً. ثمَّ قَامَ الفارُوقُ، فَفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل مسوياً بَين النَّاس، وَلَا مؤثراً لأقاربه، وَلَا مُحَكماً فِي دين ربه، وَهَا أنتُم تَعلَمُون مَا حَدَثَ: واللهُ يقولُ: " وفضَّل اللهُ المُجاهدين على القاعدين أجرأ عَظِيما " وَكَانَ المستوردُ كثيرَ الصَّلَاة شديدَ الِاجْتِهَاد، وَله آدابٌ محفوظةٌ عنْه. كَانَ يَقُول: إِذا أفُضيت بسرى إِلَى صديقي فأفشاه لم ألمه لِأَنِّي كنْت أولى بحفظه. وَكَانَ يَقُول: لَا تفْش إِلَى أحد سرا. وإنْ كانَ لَك مخْلصاً إِلَّا على جِهَة الْمُشَاورَة. وَكَانَ يَقُول: كن أحْرصَ على حفْظ سر صَاحبك منكَ على حَقْن دَمك وكانَ يَقُول: أقَلُّ مَا يدلُّ عَلَيْه عائب النِّاس معْرفته بالعيوب وَلَا يعيب إِلَّا معيبٌ. وَكَانَ يَقُول: المَال غير باقٍ فآشْتَر بِهِ منَ الحمْد مَا يبْقى عليكَ. وَكَانَ يَقُول: بذل المَال فِي حَقه استدعاءٌ للمزيد من الْجواد. وكانَ يُكثِرُ أنْ يَقولَ: لَو ملكت الدُّنْيا بحَذافيرها. ثمَّ دُعيت إِلَى أنْ أسْتقيلَ بهَا خَطِيئَة عَليّ لفعَلْت. وَلما أَتَى عبيدُ الله بن زِيَاد بعروةَ بن أدية - وكانَ قد أصيبَ فِي سَريَّة للعلاء بن سُويْد فِي استتاره - قَالَ لَهُ عبيدُ الله: جهزْتَ أخاكَ عَليّ: فَقَالَ: وَالله لقد كنت بِهِ ضَنيناً وكانَ لي عزا. وَلَقَد أردْت لَهُ مَا أريده لنَفْسي، فعزَم عزماً فمضَى عَلَيْهِ، وَمَا أحبُّ لنَفْسي إِلَّا المقامَ وتَرْكَ الْخُرُوج. قَالَ لَهُ: أفأنتَ على رَأْيه؟ قَالَ: كنَّا نعْبد رَبًّا وَاحِدًا. قَالَ أما لأمثلنَّ بكَ. قَالَ فاخترْ لنَفسك من القصَاص مَا شئْتَ. فأمرَ بِهِ فَقطعوا يَديْه ورجْلَيه. ثمَّ قَالَ: كيفَ تَرى؟ قَالَ أفسدتَ عَليّ دنْياي وأفسدتُ عَلَيْك آخرتَك. وَفِي(5/150)
كتاب لنافع بن الْأَزْرَق كتبه إِلَى قعدَة الْخَوَارِج: وَلَا تطْمَئنُّوا إِلَى الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غّرارةٌ، مكَّارة، لذتها نافذةٌ، وَنَعِيمهَا بائد. حُفت بالشهوات اغْتِرَارًا، وأظهرتْ حَبْرةً، وأضمرتْ عَبرة، فَلَيْسَ لآكلٍ مِنْهَا أكلةٌ تسرُّه، وَلَا شربة تونقه إِلَّا دنا بهَا دَرَجَة إِلَى أَجله، وتباعدَ بهَا مَسَافَة منْ أمله. وَإِنَّمَا جعلهَا الله دَار لمنْ تزوَّد مِنْهَا إِلَى النَّعيم الْمُقِيم، والعيش السَّلِيم، فلَنْ يرضى بهَا حازمٌ دَارا، وَلَا حَكِيم بهَا قراراً، فَاتَّقُوا الله، " وتزودوا فإنَّ خَيْرَ الزادِ التَّقْوى " وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى. وَلما حاربهم المهلّب يسلى، وسليري فُقتِل رئيسهم: ابْن الماخور اجْتَمعُوا على الزبير بن عَليّ من بني سليط، وَبَايَعُوهُ، فَرَأى فيهم انكسار شَدِيدا، فَقَالَ لَهُم: اجْتَمعُوا. فَحَمدَ الله وَأُنْثَى عَلَيْهِ، وَصلى على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ - ثمَّ أقبل عَلَيْهِم فَقَالَ: إِن الْبلَاء للْمُؤْمِنين تمحيص وأجرٌ، وَهُوَ على الْكَافرين عقوبةٌ وخزي. وَإِن يُصبْ مِنْكُم أميرُ الْمُؤمنِينَ فَمَا صَار إِلَيْهِ خير مِمَّا خلف. وَقد أصبْتُم فيهم مسلمَ بن عُبيْس، وربيعاً لأجْذم، والحجاجَ بن بَاب، وحارثه بن بدر، وأشجيتم بالمهلب، وقتلتم أَخَاهُ المعارك. وَالله يَقُول لإخوانكم من الْمُؤمنِينَ: " إِن يمسسكم قرحٌ فقد مس القومَ قرحٌ مثله وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس فَيوم سلى كَانَ لكم بلَاء وتمحيصاً، وَيَوْم سولاف كَانَ لَهُم عُقُوبَة ونكالاً. فَلَا تُغلبُنَ عَن الشُّكْر فِي حِينه، والصبْر فِي وقته. وثقوا بأنكم المستخلفون فِي الأَرْض وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين. وَلما اسْتردَّ مصْعبٌ المهلبَ من وَجْه الْأزَارِقَة، وولاه الموصلَ شاور الناسَ فِيمَن يستكفيه أمْرَ الْخَوَارِج، فَقَالَ قومٌ: وَلِّ عبيدَ الله بنَ أبي بكرَة. وَقَالَ قوم: ولِّ عمر بن عبيد الله بن معمر. وَقَالَ قوم: لَيْسَ لَهُم إِلَّا المهلبُ فارْدده إِلَيْهِم. وبلغتْ المشورة الخوارجَ، فأداروا الأمَر بَينهم. فَقَالَ قطريُّ بن الْفُجَاءَة الْمَازِني: إنْ جَاءَكُم عبيد الله بن أبي بكرَة أتاكْم سيدٌ، سمح، كريم، جواد، مُضيعٌ(5/151)
لعسكره، وَإِن جَاءَكُم عمر بن عبيد الله أَتَاكُم شجاعٌ بَطلٌ، فارسٌ، يُقَاتل لدينِهِ، ولملكه، وبطبيعة لم أرَ مثلهَا لأحد، فقد شهدتُه فِي وقائع فَمَا نُودي فِي الْقَوْم لِحَرْب إِلَّا كَانَ أولَ فَارس يطلع حَتَّى يشدِّ على قِرنْه فيضربه. وإنْ ردّ الْمُهلب فَهُوَ مَنْ قد عرفتموه، إِن أخذْتم بطرَف ثوب أخَذَ بطرفه الآخر، ويمدُّه إِذا أرسلْتموه، ويرسله إِذا أمْددتموه. لَا يبدؤكم إِلَّا أَن تبدءوه، وَإِلَّا أَن يرى فرْصَة فينتهزَها، فَهُوَ اللَّيْث المبرُّ، والثعلب الرواغ، وَالْبَلَاء الْمُقِيم. وَلما قُتل مُصعب أَتَى الْخَبَر الخوارجَ ولمْ يأْت المهلَّبَ وأصُحابه، فتواقفوا يَوْمًا على الخَنْدَق، فناداهم الْخَوَارِج: مَا تَقولُونَ فِي المُصعب؟ فَقَالُوا: إِمَام هدي: قَالوا: فَمَا تَقولُونَ فِي عبْد الْملك؟ قَالُوا: ضَالُّ مُضل. فَلَمَّا كَانَ بعدَ يَوْمَيْنِ أَتَى الْمُهلب قتلُ المصعَب، وأنَّ النَاسَ قدْ اجْتَمعُوا على عبد الْملك ووردَ عَلَيْهِ كتاب عبد الْملك بولايته. فَلَمَّا تواقفوا نَاداهمُ الْخَوَارِج مَا تقولونَ فِي مصْعب؟ قَالُوا: لَا نخبركمْ. قَالُوا: فَمَا تقولونَ فِي عبد الْملك قَالُوا: إِمَام هُدى. قَالُوا: يَا أعْداءَ الله، بالأمْس ضالٌّ مُضل، واليومَ إِمَام هدي. يَا عَبيدَ الدُّنْيا عليْكمْ لعنة الله. أَتَى الْحجَّاج بأمْرأة منَ الْخَوَارِج فجَعلَ يكلِّمها، وَهِي مُعْرضةٌ عنْه فقالَ لَهَا بعْض الشُّرط: يكلمكِ الْأَمِير وأنْت معُرضةٌ عنْه؟ قَالَت إِنِّي لأَسْتَحي من الله أَن أنظر إِلَى من لَا ينظر إِلَيْهِ أَتَى زِيَاد بِامْرَأَة مِنْهُم فَقَالَ: أما وَالله لأحصدنكم حصداً ولأخفينكم عدا قَالَت: كلا إِن الْقَتْل ليزرعنا قَال: فَلَمَّا هَمَّ بقَتْلها تسترَتْ بثوبْهَا فقالَ: اتَتسْترينَ - وَقد هَتَكَ الله ستْرَك؟ قالَتْ: أَي وَالله أَتَستر وَلَكِن الله أبدى عورةَ أمكَ على لسَانك، إذْ أقرَرْتَ أنَّ أبَا سفْيَانَ زَنَى بهَا، فأمَرَ بقَتْلهَا. وَقَالَ الحجَّاج لرَجل منْهمِ: أجَمعْتَ القرآنَ؟ فَقَالَ: أمَتفرِّقاً كَانَ فأجمَعه قالَ: أتقرؤه ظَاهرا قالَ: بَلْ أقرؤه وَأَنا أبْصره. قَالَ أفتحفظه؟ قالَ: أخَشيت فراره فأحْفَظه. قَالَ: مَا تَقول فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَبدْ الْملك؟ قَالَ: لعَنه الله، ولَعَنكَ مَعَه. قالَ،: إنكَ مقْتولٌ. وكيْفَ تلْقَى الله؟ قالَ: أَلْقَاهُ بعَملي وتلْقَاه بدمي. كَانَ عمْران بن حطَّان منْ أقُبح النَّاس وجْهاً، وأسْمَجهم منْظرًا، وكانتْ لَهُ امرأةٌ(5/152)
كأنَّها القمَرُ أديبةٌ، فَصيحةٌ. فقالَتْ لَهُ يوْماً: أنَا وأنْتَ فِي الجنَّة جَمِيعًا. قَالَ: وكيْفَ عَلمت؟ قالَتْ: لِأَنِّي ابْتليت بكَ فصَبْرت، وأعْطيتَ مثلىَ فَشَكَرت، والصابرون والشاكرون فِي الْجنَّة. قَتَل زِيَاد رجلا منْ الْخَوَارِج بعْد أنْ سَأَلَهُ عَنْ عثمانَ فتبرأ مِنْهُ، وَعَن معاويةَ فَسَبهُ، وعَنْ نفْسه فقَالَ: إنكَ أولكَ لزينة، وآخركَ لدَعْوَة وأنتَ بعْد - عَاص لربكَ. فأمَرَ بِهِ فضربتْ عَنهُ. ثمَّ قَالَ لمُؤْمِن لَهُ: صفُ لي أمورَه قالَ: أأطنبُ أم أختصرُ؟ قَالَ: بل اختصر. فقالَ مَا أتيْه بِطَعَام بنهار قطُّ، وَلَا فرشت لَهُ فراشا بلَيْل قطّ. كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجلٌ من الخَوارج قالَ بعْضهم: فرأيته يَحْذف قنَاديل المسْجدِ بالحصى، فيكْسرها. فقلْت لَهُ: مَا تصْنَع؟ قَالَ: أنَا - كَمَا ترى - شيخٌ كبيرٌ، لَا أقْدر لهُمْ عَلَى أكْر من هَذَا، أغرمُهُمْ قنْديلاً، قنْديلَيْنِ فِي كلِّ يَوْم. وَصلى الله عَلَى مُحَمَّد وَآله. وَهَذَا مُخْتَصر عمله الصاحب رحمهُ الله وَسَماهُ
الْكَشْف عَن مناهج أَصْنَاف الْخَوَارِج
الْحَمد لله رب الْعَالمين. وَصلى الله عَلَى النَّبِي مُحَمَّد، وَآله أَجْمَعِينَ. سألتَ أَن أذكرَ لَكَ ألقابَ طوائف الخوارجِ، وذَرْواً من اختلافها. وَأَنا أثبتُ مَا يحضر حفْظي. عَلَى أنَّ هَذِهِ الألقابَ تجمع أصولاً، وفروعاً، فربَّ طَائِفَة لحقها لقبٌ ثُمَّ تفرّد من جُمْلَتهَا فريق فلحقهم لقبٌ آخر. وَالَّذِي يجمعهُمْ من القَوْل تَكْفِير أَمِير الْمُؤمنِينَ - صلوَات الله عَلَيْهِ وتكفيرُ عُثْمَان، وإنكارُ الْحكمَيْنِ، والبراءةُ مِنْهُمَا، وممَّن حكَّمهما أَو تولى أحدا مِمَّن صوَّبهما. وَأول من حكم بصفيِّن عُروة بن حُدَير: أَخُو أبي بِلَال مرْداس، وَقيل عَاصِم للمحاربي، وَأول من تشرى رجلٌ من يشكُرَ، وَكَانَ أَمِيرهمْ - أولَ مَا اعتزلوا - عبد الله بن الكَوَّاء، وأمير قِتَالهمْ شبت بن ربعي، ثُمَّ بَايعُوا لعبد الله بن وهب الرَّاسِبِي.
ذكر ألقاب فرَقهم مَعَ جمل منْ مذاهبِهم
الْأزَارِقَة: أَصْحَاب نَافِع بن الْأَزْرَق، يبرءُون من القعَدة.(5/153)
النجدية: أصحابُ نَجْدةَ بنِ عَامر الْأَسدي. تتولى أَصْحَاب الكَبائر من الخوارجِ إِذْ لمْ يُصِروا. ومَن أصر منهُم فَهُوَ مُشرِكٌ عندَهُمْ. الإباضية: أصحابُ عبد الله بن إباضِ التَّمِيمِي. فَأَما عبد الله بنُ يحيى الأباضي الملقَّب بطالب الْحق فهُواَ منْسُوبٌ إليهمْ ومعهُ خَرجَ أبُو حمزَةَ الْخَارِجِي الصفرية: أصحابُ زِيَاد بنِ الأصفرِ وقيلَ أصحابُ عبدْ الله الصفار العطرية: أصْحابُ عطيةَ بنِ الأسْود الْحَنَفِيّ منْ المنكرينَ عَلَى نَافع. العَجَاردة: أصحابُ عبد الْكَرِيم بن عجرد، وهم عَطوية، إِلَّا أَنهم يوجِبُونَ دُعاءَ الْأَطْفَال عِنْد بُلُوغهم والبراءةَ منهُمْ قبْلَ ذَلِكَ. الميمْونيةُ: ميْمون هَذَا عبدُ لعبد الْكَرِيم بنِ عجرَد ويقولُ بالعَدْلِ، ويَرَى قتْلَ السُّلطانِ خاصَّة، ومَنْ رضى ظُلْمةَ، وأعَانَهُ دُونَ سَائِر النَّاس ويحكى عَنْهُم أَن التزوجَ ببنات الأبنِ وَبَنَات البنَات، وَبَنَات بنَات الأخَوات وَبَنَات بني الْإِخْوَة جائزٌ، وَأَن سُورة يوسُفَ ليستْ من القرآنِ. وأكَثرُ من بسجِسْتان ميْمونيةٌ، وعجاردةُ. وقيلَ مَيْمُون رجلٌ من أهلِ بلْخ. الخلفية: يقولُون بالجَبْرِ، ويخالفُون الميْمونيَّةَ فِي العَدْلِ. الحمزْيَّة: أصحابُ حَمزة بن أدْرك. يقولُون. بالعَدْل. وَلَهُ فارَقُوا الخَليفيةَ. الخازمية: وهم الشعيبية أصلُهم عجاردة، وهمْ أصحابُ شُعيب يقولُون: إنَّ الْولَايَة والعَداوَة صفتَان فِي ذَات الْقَدِيم. وهُم مجْبِرة. المعْلومية: مِنَ الخَازميَّة يَقُولُونَ: مَنْ لَمْ يَعْلمِ الله بِجَمِيعِ أسْمائه، وعرَفَه بِبَعْضِهَا فَهُو عارفٌ بِهِ. المجْهولية يَقُولُونَ: مَنْ لَمْ يعلم الله عَز وَجل بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ فَهُوَ جاهلٌ بِهِ. الصلتية: عَجَاردةٌ أصحابُ عُثْمَان بن أبي الصلْت. يقولُون: إِذا اسْتَجَابَ الرجلُ لِلْإِسْلَامِ برِئْنا من أطْفالهم حَتَّى يُدْركوا. الثعالبة: عجاردةٌ، وصاحبهُم ثعلبةُ، خالفَ عبْد الْكَرِيم بن عجرد فِيمَا قَالَه فِي الطِّفْل.(5/154)
الأخْنَسيَّة: أصحابُ، الأخْنَس يحرِّمون الْبَنَات، والغيلة ويقفون عَمَّن فِي دَار التَّقية حَتَّى يعُرفوه. العبْدية: رَأَوْا أخْذَ زكاةِ أمْوالِ عبيدهم إِذا استَغَنَوا، وإعْطاءهُم إِذا افتقروا. الشَّيبانيةُ أصحابُ شَيبان بن سَلَمة. الزيادية: أصحابُ زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن. العُشريَّة: وهم الرشيدية، كَانُوا يرَوْنَ فِيمَا سُقي بالأنهار الْجَارِيَة نصف العْشر، وخالفت الزياديةَ فِي إِيجَابهَا العُشرَ. المكرمية: أَصْحَاب أبي مكرم. قَالَت: تَارِك الصَّلَاة كافرٌ. وَمن أَتَى كَبِيرَة فَهُوَ جاهلٌ بِاللَّه. وَقَالَت بالموافاة. الفُدَيكية: أَصْحَاب أبي فُديك الَّذِي غلب عَلَى عسكره نجدةُ، وَأنكر عَلَيْهِ. الحَفْصيَّة وصاحبهم حَفْصُ بن أبي الْمِقْدَام وهم إباضيّة: زَعم أنَّ مَنْ عَرف الله ثُم أنكر الأنْبياء أَو غير ذَلك فَهُوَ كَافِر. وَلَيْسَ بمشْرك. اليزيدية: رئيسهم يزِيد بنُ أنيسَة يتَوَلَّى الإبَاضيَّة كلَّها. والمحكِّمة الأُولى. وَيَزْعُم أَن الله يبعثُ رَسُولا من الْعَجم ويُنْزل عَلَيْهِ كتابا بغيْر شريعتنا وَيَكُونُونَ صابئبين. الحارِثية: أصحابُ الْحَارِث الإباضي. يقولُون بالعدلِ وأنَّ مخالفيهم كفارٌ غيْر مشْرِكين تحلُّ مناكحتُهم، وَيحرم سَبْيهمْ. ودارُ مخالفيهم دارُ تَوْحِيد إِلَّا عسكرَ السُّلطان فَإِنَّهُ دارُ بغي. وأنِّ مُرْتكبي الْكَبَائِر موحَّدون غير مؤمنينْ. الواقفية: وقفتْ فِي جَوازِ بيع الأمَةِ مِنْ مُخالفيهم، ويُسمونَ: صَاحب المرأةِ. الضحاكية: يقالُ لَهُم: أصحابُ النِّساء. وجوزوا تَزْوِيج المرأةِ الْمسلمَة مِنْ كُفّارِ قومِهِم فِي دَار التَّقية. البَيْهسيَّة: أصحابُ أبي بَيْهَس هَيْصم بن جَابر. كفَّر مَنْ حرَّم بيعَ الأمَة من المخَالفين. وكلُّ ذنْب لَمْ يحكُمْ اللهُ تَعَالَى فِيهِ حُكْماً مُغلظاً فَهُوَ مغْفُورٌ عِنْده.(5/155)
الْعَونْيَّةُ: تقولُ: إِذا كفَرَ الإمامُ كفرتِ الرعيةُ: الغائبُ، وَالشَّاهِد. السؤالية: تقُولُ: مَنْ أَقَامَ الشَّهادتين، وواليَ أَوْلِيَاء الله، وعادي أعداءهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ إِلَى أَن يُبْتَلى فِي غير ذَلِكَ. التَّفْسيريةُ: رئيسُهم الحكم بن يحيى الْكُوفِي. ومِنْ قَوْلهم: إنِّ مَنْ شَهد شَهادة أخِذَ بتْفسيرها وكَيْفيَّتها. الصالحية: أصْحابُ صَالح بن مسَرح. الشَّمراخية: مِنْ قَوْلهم: إنَّ قتْلَ الْأَبَوَيْنِ المخَالِفّيْن حرامٌ فِي دَار التقيَّة، وَدَار الْهِجْرَة. البدعية: يقْطعونَ عَلَى أنفسِهم وموافِقيهم أنَّهم فِي الجنَّةِ. الخشَبيَّة: رئيسُهم أبُو الخَشب. المغْروريًّة: صُفريةٌ وموضِعُهم البيضاءُ من الْمغرب، وصاحِبُهم المغْرورُ بنُ طالُون. والبلاد الَّتِي يغْلِبُ عَلَيْهَا الخارجيةُ الجزيرةُ وأطرافُ الموْصلِ. وشهرزور، والبحرين وسِجِسْتانَ، وتَاهرت. وَكثير مِن أذْرَبيجانَ. وهم يُلقَّبون بالخوارج لخروجِهم عَلَى الإِمَام الْعَادِل عَلَيْهِ السَّلَام، والمَارقةِ لإخبار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلَى آله لأَنهم. يَمْرقُون من الدِّين، والحَرُورية لنزولهم حَروراءَ. والمُحكمة لقولها كثيرا: لَا حُكْمَ إِلَّا لله. ولقَّبتْ أنفسَها: الشُّراة، أَي أَنا شريْنا أنفسَنا فِي طَاعَة الله. ومضَغوا كتبهمْ عبد الله بن يزِيد، وَمُحَمّد بن حَرْب، وَيحيى بن كَامِل، واليمانُ بن دياب. وأصولُ الْخَوَارِج الإباضيَّةُ، والأزارقةُ والصُّفرية، والنجدِية. فَإِذا ذكِرتْ فِرقةٌ مِن هَذِهِ الْفرق عُلِم أَنَّهَا مُباينةٌ للفِرَق الثَّلاثِ. ثمَّ سائرِ الألقاب تتبيَّن بتفْصيلِ مقالاتِهم، وَإِلَى الله نبْرأ من جَمَاعَتهمْ، ونسأله أَن يُصَلِّي عَلَى النَّبِي. وابنِ عَمه الرضى، وأهلِ بَيته الَّذين أذهبَ الله عَنْهُم الرِّجسَ وطهرَّهم تَطْهِيرا.(5/156)
أدْخِلَ رجلٌ من الشُّراة إِلَى الْحجَّاج فاسْتحقرهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ويْحكَ {} مَا أخرجَك؟ ؟ فواللهِ مَا أظنُّك تعْرِفَ مواقِيتَ الصَّلاة. فَقَالَ: ذاكَ لَو اتكلتُ عَلَى تعْليمك يَا حجّاجُ، كنتُ بالحري أَن أنزلَ بهذهِ المنزلةِ. قَالَ: مَا أخْرجَكَ؟ قَالَ: مَخافَةُ يَوْم أَنا وأنتَ إِلَى نصير. قَالَ: وَمَا ذَالك الْيَوْم؟ قَالَ: أول آخِرٌ، وأخِرٌ أولٌ. مستقبلٌ أول، مستدْبِرٌ آخِر. لَا بعدَهُ أجَلٌ وَلَا فِيهِ عمَل، وَلَا فِيهِ مسْتغِيثٌ، وَلَا إِلَى غَيره مَذْهب، يأْمَنُ فِيهِ الخائفُ، ويخف فِيهِ الأمِنُ، ويعزُّ الذليلُ ويذلُّ فِيهِ العزيزُ وَفِي مِثْل هَذَا مَا أقْلقَ مِثلي عَن الفِراش، والأئمةُ تعْدِلُ، فكيْفَ إِذا كانتْ تَضِلُّ وتُضلِّلُ؟ فاقضِ مَا أنتَ قاضٍ. قَالَ: أجزِعتَ من الموتِ؟ قَالَ: واللهِ مَا جزعتُ مِن قضاءِ، وَلَا أسفتُ من بلاءٍ، وَلَا كرهت لرَبي لِقَاء، وللموت مَا خلقتُ، وَمَالِي حاجةٌ إِلَّا فِيهِ. فَهَل يجزعُ الرجلُ من قَضاء حاجتِهِ؟ قَالَ: أمَا وَالله لأعجِّلنَّ لَكَ من العذابِ الأدْنَى دُونَ العذابِ الْأَكْبَر. قَالَ: أمَا واللهِ لَو علمتُ أنَّ بِيَدِك تعْجيلَه لعلمْتُ أنَّ بِيَدِك تأْخيرَه. قَالَ: وَالله لأقتُلنَّك. قَالَ: لَا يعزُّ اللهُ بقتلي باطِلاً وَلَا يُبطِلُ بِهِ حَقًا. وَلَئِن قتلْتَني لأُخاصمنَّكَ بِحَيْثُ يزولُ عنْكَ وَعَن أبي الزَّرقاء عزُّكُما وَلَا يدْفعُ عنكُما سلطانُكُما، وحيثُ لَا يُقْبل لَكمَا عذْرٌ وَلَا تنفعكُما حجُةٌ. أَمر بقَتْله.(5/157)
الْبَاب الثَّانِي عشر الْغَلَط والتصِحيف
قَالَ بَعضهم: خَالِفْ تَذْكُرْ. فَقيل لَهُ: إنَّما هُوَ تْذْكَر فَقَالَ،: هَذَا أول الخِلاف. وَقَرَأَ بَعضهم فِي كتاب: أنَّ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بَلعَ قَدِيداً، وإنَّما بلَغ قُدَيداً. وَقَرَأَ آخَر: أنَّه كَانَ يُحِبُّ الْعَسَل يومَ الْجُمُعَة، وإنمَّا هُوَ الغُسْلَ وَقَرَأَ آخر: أَنه كَانَ يكره النَّوم فِي القِدْر، وإنَّما هُوَ الثَّوم. وَقَرَأَ آخر: وَلَا يرِث جميلٌ إِلَّا بُثينةَ، وَإِنَّمَا هُوَ لَا يُورَّثُ حميلٌ إِلَّا ببيِّنة وَقَالَ آخر: إِذا أردْتَ أَن ننعظ فَادْخُلْ المقابرَ، وَإِنَّمَا هُوَ تتَّعِظُ وَقَرَأَ رجل عَلَى ابْن مُجَاهِد: بل عَجَنْتَ، ويَسْجرون. فَقَالَ: أحْسَنْتَ، مَعَ العَجْن يُسْجَرُ التَّنُّور. كتب صاحبُ الْخَبَر بأصْبهانَ إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر: إنَّ فلَانا القائدَ يلبس خُرلخيةً، وَيقْعد مَعَ النِّسَاء: فَكتب إِلَى العامِل: ابْعَثْ إِلَى بفُلان وخرلخيته. فَصّحفَ القارئُ. وَقَرَأَ: وجزَّ لِحْيَتهُ، فَفعل ذَلِكَ بِهِ، وأشْخصَهُ. علِّق سترٌ عَلَى بعض أَبْوَاب أمِّ جَعْفَر، وَكَانَ أَمر أنْ يُكَتب عَلَيْهِ المسيدة الميمونة المباركةِ فأغفلَ الناسخُ الراءَ. وَدخل الرشيد فقرأهُ الميمونةِ المناكة فأمَرَ بتمْزيقه. وَكَانَ كَافِي الكُفاة يكرهُ أَن يكونَ فِي مخاطباتِ النِّساء حراستُها ونظرها وعقلها، وَيَقُول: لَا يُؤمَنُ أنْ يُصَحَّفَ فَيقْرَأ: حِراسْتُها، وعَقْلُها، ويظْرها.(5/158)
وَكَانَ حمَّادٌ الراويةُ لَا يقرأُ القرآنَ فاستقرى فَقَرَأَ، ولمَ يَزِلَّ إِلَّا فِي أَرْبَعَة مَواَضِعَ: عَذَابي أصيبُ بِهِ منْ أسَاءَ. وَمَا كَانَ اسِتغفارُ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَوْعدة وعدها أَبَاهُ. ومِن الشَّجر وَمِمَّا يغْرسون. بل الَّذين كفَروا فِي غِرَّةٍ وشِقاق. وَقد رُوي أَنه صحَّفَ فِي نيِّف وَعشْرين موْضعاً كلهَا متشابهة وَأَنا أذكُرها جَمِيعًا مِنْ بعدُ بِإِذن الله. غضب كاتِبُ المأْمون عَلَى غُلامه فَرَمَاهُ بالدَّواة، وشجَّه، فَلَمَّا رأى الدَّمَ يسيل قَالَ: صدق الله تَعَالَى: وَالَّذين " إِذَا مَا غَضِبوا هم يَغْفِرون " فَبلغ ذَلِكَ المأمونَ. فأنَّبه. وَقَالَ: ويلَكَ! أما تُحسنُ أَن تقْرأ آيَة من القُرآنِ؟ فَقَالَ بلَى وَالله إِنِّي لأقرأُ من سُورة وَاحِدَة ألفَ آيَة. قَالَ بعضُهُم: قَرَأَ عبدُ الله بنُ أحمدَ بن حَنبل فِي الصَّلاة: اقْرَأ باسم ربِّك الَّذِي خُلِق. فَقيل لَهُ: أَنْت وَأَبُوك فِي طرفِي نقيض. زعَم أبُوك أَن القرآنَ لَيْسَ بمخْلوق، وَأَنت قَدْ جعلْت ربَّ القرآنِ مخلوقاً. وَحكى أنَّ المحامِلي المحدِّث قَرَأَ: وَفَاكِهَة وإبا. فَقيل لَهُ: الألفُ مفتوحةٌ. فَقَالَ: هُوَ فِي كتابي محفوظٌ مضْبوطٌ. وحكِي أنَّ ابنَ أبي حَاتِم قَرَأَ: فصيامُ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وتِسْعة إِذا رجعتم، تِلْكَ(5/159)
عشرةٌ كاملةٌ. كَانَ اسمَ أبي الْعَتَاهِيَة: زيدٌ فنقش عَلَى خَاتِمه أيا زيد ثق فكَانَ النَّاس يتنادَلُوَنَه: أنَا زِنْدِيق. قَالَ بعضُهم: سمعتُ ابْنَ شاهين المحدِّثَ فِي جَامع المنْصور يَقُول فِي الحَدِيث: نهى النبيُّ عَلَيْهِ السَّلَام عَن شَقِيق الْحَطب. فَقَالَ بعض الملاحين: يَا قومُ، فَكيف نعملُ والحاجةَ ماسةٌ، وَهُوَ شَقِيق الْخطب. قَالَ: وسمعتُه مرّة أُخْرَى وَهُوَ يفسِّر قولَه تَعَالَى: " وثيابَك فَطَهِّر " فَقَالَ: قيل لَا تَلْبسها عَلَى غدرة. وَهُوَ لَا تلبسها عَلَى عَذِرة. وَكَانَ كيسانُ مستمِلي ابْن الْأَنْبَارِي، وكانَ أعْمى القلبِ فَسُمع ابنُ الْأَنْبَارِي وَهُوَ يَقُول: كيسانُ يسمعُ غيرَ مَا أقولُ، ويكتبُ غير مَا يسمعُ وَيقْرَأ غيرَ مَا يكتُبُ، ويحفظُ غيرَ مَا يَقْرَؤُهُ. وَحكى عَنهُ أَنه كَانَ يكتبُ مَا يسمعُ فِي الخزف، ويجمعهُ فِي حُبِّ، فَاشْترى راويةَ ماءٍ فغلطَ السَّقَّاءُ بيْنَ حُبِّ المَاء وحُبِّ الخَزف، فصبَّ الماءَ فِي حبِّ العِلْم فرأيْنا كيسانَ وَقَدْ وضع يدَه على رَأسه، وَذهب علمه كلُّه. وَقَالُوا تقدَّمتِ امرأةٌ إِلَى عمرَ فَقَالَت: أَبَا غَفَر حَفْصٍ اللهُ لكَ. فَقَالَ: مَالك: أغْفَرتِ؟ قَالَت: صلَعَتْ فرقتُك. قَرَأَ الباغنْدي: وكلُّ شيءٍ فَعلُوه فِي الدُّبُر فصِيح بِهِ مِنْ جَوانِب المجِلس. فَقَالَ: يَا قومُ لَا تضجُّوا فالباءُ منْقوط. وروى أبُو ربيعَة المحدِّثُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السلامُ كَانَ يغْسِلُ(5/160)
حُصى الْحمار. قيل: وَلَمَ ذاكَ يَا أَبَا ربيعةَ؟ قَالَ كَانَ يُظْهر تواضُه بذلك. وَالْخَبَر أَنه كانَ يغْسِلُ حَصَى الْجمار. قَالَ بعضُ المحدِّثين: حَدثنِي فُلانٌ عَن فُلان عَن سَبْعةَ وسبعينَ، يُرِيد عَن شُعبَة وسُفْيَان. كَانَ يزْدَانفَ ذار فِيهِ لُكْنةٌ، وَكَانَ يجْعلُ الحاءَ هَاء، أمْلى عَلَى كاتبٍ لَهُ: والهَاصلُ ألفُ كُرٍّ. فكتبها الكاتِب بِالْهَاءِ. كَمَا لفَظَها، فأعادَ عَلَيْهِ الْكَلَام، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكَاتِب الْكتاب، فَلَمَّا فطن لاجتماعهما عَلَى الْجَهْل، قَالَ: أنتَ لَا تُهْسِن تكتبُ، وَأَنا لَا أهسِنُ أمْلي. فكتُبْ: الجاصل ألف كُر فكتبها بِالْجِيم مُعْجمَة. قالتْ أمُّ ولد لجرير لبعَض ولدِها: وقَع الجرْدانُ فِي عجَان أمِّكم. أبْدلتْ الذَّال دَالا وضمت الجيمَ، وَجعلت الْعَجِين عِجَاناً. وَإِنَّمَا أرادتْ وقَع الجرذانُ فِي عَجين أمِّكم. وَدخل رجلٌ عَلَى آخَرَ وَهُوَ يأْكل أتْرجّاً، وعَسَلاً. فَأَرَادَ أنْ يَقُول السَّلامُ عليْكُم. فلفَظ عَسَليكم. وَدخلت جاريةٌ روميةٌ عَلَى بَعضهم لتسأَل عَن مَولاتها، فبصُرتْ بِحِمَار قَدْ أدْلى، فقالتْ: قالتْ مولاني كيفَ أيْر حِمَاركم؟ قَالَ بعضُ الجَّهال إِلَى عالِم، وَسَأَلَهُ عَنْ قَول الشَّاعر. يَوْم تُبدي لَنَا قتيلةُ عَن جيد فَقَالَ: مَا العَنْجيدُ؟ وَسَأَلَ عَن قولهِ تَعَالَى: " والهدْى مَعْكوفاً " فَقَالَ: مَنْ كَانَ كُوفاً من أَصْحَاب البني عَلَيْهِ السَّلَام. وَسَأَلَ آخرُ عَن قولِهمْ: " زاحم بِعَوْد أوْ دَعْ " فَقَالَ: مَا الأوْدَع؟ .(5/161)
كات أحْمد بنُ مُوسَى بن إسحاقَ من قُضاة السُّلطان بأصْبهانَ، فأملى يَوْمًا عَلَى أَصْحَاب الحَدِيث: حَدثنِي فلانٌ عَنْ فُلان عَن هِند أنَّ المعتُوهَ يُريد عَن هنْد أنَّ المغيرةَ. وكانَ أهل الْبَصْرَة يرْوون عَن عَليّ عَلَيْهِ السلامُ أَنه قَالَ: إِلاَّ إنَّ خراب بصْرتِكمُ هَذِهِ يكونُ بِالرِّيحِ، فَمَا أقْلعُوا عَن هَذَا التَّصحيفِ إِلَّا بعدْ مائَتي سنة عِنْد خرابها بالزنْج. وَقيل فِيمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أنَّهُ قَالَ: تختَّموا بالعقيق. إِنَّمَا هُوَ " تَخيمَّوا بالعقيق "، لواد بالمدينةِ. وروى بعضُ جلَّةِ المحدِّثين: أنَّ مرْحَبًا الْيَهُودِيّ قتلهُ عَلَى يَوْم حُنَيْن وَإِنَّمَا قتَله يَوْم خيْبرَ. وروى آخرُ: الجارُ أحقُّ بصُفَّتِه، يُرِيد بصقَبهِ. وروى آخر: لَا بأْسَ أنْ يُصَلِّي الرجلُ وَفِي كُمِّه سِنَّورةٌ، وإنَّما هِيَ سبُّورة وَهِي الألواحُ من الآبنوسِ يكتبُ فِيهَا التَذكرة. وروى آخر: عمُّ الرجل ضيقُ أَبِيه. إِنَّمَا هُوَ صِنْو. وروى آخرُ: لُعِن الْيَهُود، حرمتْ عَلَيْهِم الشحومُ فحملُوها. وَإِنَّمَا هُوَ فجمَّلُوها، أذَابُوها. وروى بعضُهم: أنَّ الحارثَ بن كَلَدة كَانَ يقولُ الشمسُ تثقل الرّيح، وإنّما هُوَ تَتْفُلُ الرّيح. وَقَالُوا: كَانَ يجْلسُ فِي مًقثاة. وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَقْناة. وروَوْا: أَنه نهى عَن لُبْس القَسي وَإِنَّمَا هُوَ القُسِي لضَربٍ من الثِّيَاب وَرووا أَن أَعْرَابِيًا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلَى يَده سخلة تبْعَر. وإنَّما هُوَ تَيْعُر من اليَعَار. وَهُوَ صوتُها. قَالَ بعضُهم: قَالَ الرياشي لي يَوْمًا - وَقَدْ جئتُ مِنْ مجْلِس ابْن أبي الشَّوارب: أَرِنِي مَا أملي عليكُمْ، فأريْتُه، فمرَّ بِهِ هَذَا الحديثُ: آخِر مَا يجازفُ بِهِ الْمُؤمن عَرقُ جَبينه.(5/162)
فَقَالَ الرياشي: مَا أحوجَ هَؤُلَاءِ إِلَى بعض عِلْمنا إِنَّمَا هُوَ يُحارفُ، والحريفُ الشَّريك، يقالُ: فُلان حَريف فلَان، أَي شريكُه ومُحاسِبُه. وَقَالَ بعضُهم: حضرتُ رجلا من الكُبراء - وَقَدْ قَرَأَ فِي المصحفَ: يَا عِيسَى ابنَ مَرْيَم اذكُرْ نِعْمتي عَليك وَعَلَى والديك. وَقَرَأَ بَعضهم: وَالْعَادِيات صُبْحاً. وَقَالَ آخر: فكذَّبُوهما فَغدرْنَا بثالث وَقيل: إنّ سُلَيْمَان بن عبد الْملك كتب إِلَى عامِله عَلَى المدينةِ: أحْص المخنثين: يريدُ: عُدَّهم. فَقَرَأَ الْكَاتِب: أخْص، فَخَصَاهُمْ. ومِمَّنْ أخَجلَهُ التصحيفُ فِي مجَالِس الخُلفاء أحمدُ بنُ أبي خَالِد وَزِير المأْمون، فإنَّه حضر مجْلسَه للمظالم يقْرَأ عليْه القصصَ، وَكَانَ فَهماً، فمرت بِهِ قصةٌ مكتوبٌ عَلَيْهَا: فُلان البَريدي، فقرأها: الثريدي فَقَالَ الْمَأْمُون أَبُو الْعَبَّاس جائعٌ. هاتُوا لَهُ ثَريدةً. فقُدمتْ إِلَيْهِ، وأكْرهَهُ عَلَى أكلهَا، وغسَلَ يدَه، وَعَاد إِلَى تصَفّح القصَص، فمرتْ بِهِ قصةٌ مكتوبٌ عَلَيْهَا فلَان الْحِمصِي فقرأها الخبيصي. فَقَالَ المأْمون: كَانَ غداءُ أبي الْعَبَّاس غيرْ كَاف، لَا بُدَّ للثريدة من أَن تُتَبع بخَبيصة. فقُدمت إِلَيْهِ، وأكلها. وَمِنْهُم شجاعُ بنُ الْقَاسِم. قَرَأَ عَلَى المتوكّل: حَاضِرُ طَيئ 0 فقرأه جَاءَ ضريطي. كَانَ للمتوكل صَاحب خَبر يُقَال لَهُ ابنُ الكلْبي، وَكَانَ يرْفَعُ كلٌ مَا يسمعهُ من غثٍّ وسمين، وجِدٍّ وهَزْل ليَمين كَانَ حلّفَه بِهَا، فرفَع يَوْمًا وعربْدت علَيهْا(5/163)
وجرحَتها فِي صَدْغَها، ولمْ ينقُط. الغيْنَ، فقرأها المتوكِّلُ فِي صَدْعِا. ثُمَّ قَالَ: إنَّا لله تعطل عَليّ ابْن الكبي مَناكُه. وَقَرَأَ علىَ عُبيدِ الله بن زِيَاد كاتبُهُ كتابَ عبيدِ الله بن أبي بكرَة: أنَّه وجَد ابنَ أديَّةَ مَعَ جمَاعَة من الْخَارِج فِي شُرْب. فَقَالَ ابنُ زِيَاد: كيفَ لي بِأَن يكُون الخوارجُ يرَوْنَ الشُّرْب. وَإِنَّمَا هُوَ سَرَب.
الحروفُ الَّتِي ذكر أَن حَمَّادا صحَّفَها من الْقُرْآن
وَأوحى ربُّك إِلَى النَّحْل أَن اتخذي من الجبالِ بُيُوتًا وَمن الشّجر وَمِمَّا يغرسون وَمَا كَانَ استِغفَارُ إبراهيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَوعدةٍ وعَدَها أبَاه. ليَكُون لَهُم عَدْواً وحَربَا وَمَا يجْحد بِآيَاتِنَا إِلَّا كلُّ جبَّار كَفُور. وعزَّزُوه ونصروه وتُعززُوهُ ونُوقّرُوه. لكل امرىءٍ يَوْمئِذٍ شأنٌ يعْفيه. بِالْفَاءِ هم أحْسنُ أثاثاً وزشياً عَذَابي أُصِيب بِهِ مَن أسَاءَ. يَوْم يُحْمى غَليُها فِي نَار جَهَنَّم.(5/164)
فبادوا ولاتَ حينَ مناصٍ ونَبْلُو أخياركم صِيغَة الله، ومَن أحسنُ مِنَ الله صِيغَة فاستعانهُ الَّذِي مِن شِيعتهِ سلامٌ عليكُم لَا نتَّبعُ الْجَاهِلين قل إِن كَانَ للرحمن وَلدٌ فَأَنا أول العائذِين. حكى أَبُو حَاتِم أَنه كَانَ يقْرَأ شعرَ المتلمس عَليّ الْأَصْمَعِي، وأرادَ أَن يقولَ: إغنيتُ شأني فأغنُوا اليومَ شأنكُم واستحمقُوا فِي مِرَاس الحربُ أَو كِيُسوا. قَالَ: فَغلطتُ، وقُلْتُ: أغنيتُ شأني. قَالَ: فقالَ الْأَصْمَعِي بالعجلة: فأغنوا اليومَ تَيْسكُم، وأشارَ إِلَيّ، فَضحِكَ جَميعُ الْحَاضِرين. وقَدِم محمدُ بنُ الْحسن الفقيهُ العِرَاقَ، وَاجْتمعَ الناسُ عَلَيْهِ يسألونَهُ، ويَسْمعُون كلامَهُ، فَرْفَع خَبُره إِلَى الرِشيدِ، وقيلَ لهُ: إنِّ معهُ كتَابَ الزيديةِ فَبعثَ بمنْ كَبَسهُ وحملَهُ وحَملَ مَعَه كُتبَهُ، فأمَر بتفْتيشِها، فَقَالَ مُحمدٌ: فَخشيتُ عَلَى نَفْسي من كتاب الْحِيَل من الرشيد. فَقَالَ لي الكاتبُ مَا ترجمةُ هَذَا الْكتاب؟ فَقَالَت كتاب الْخَيل فَرمى بِهِ.
وَنَذْكُر الْآن بعض مَا أُخذ من الْعلمَاء مِنَ التصَّحيف
قَالَ كيسانُ: سمعتُ أَبَا عُبَيْدَة ينشد:(5/165)
مَا زالَ يَضْربُني حَتَّى خَزِيتُ لَهُ ... وحالَ من دُونِ بَعْضِ البغْيةِ الشَّفَقُ قَالَ: فقلتُ خزيت خَزيتَ؟ ؟ وضحكتُ، فغضبَ وَقَالَ: فَكيف هُوَ؟ قلتُ: إِنَّمَا هُوَ خَذِيتُ. قَالَ: فانْخَزَلَ وَمَا أحارَ جَواباً. وروى أَيْضا أبُو عُبَيْدة أبياتَ لَقِيط فِي يَوْم جَبَلةَ يَا قَومُ قَدْ حرَّقْتموني باللَّوْم ... وَلَمْ أقاتِلْ عَامِرًا قبلَ اليوْم سيان هذَا والعِنَاقُ والنّوم ... والمَشْرَبُ الباردُ فِي ظلِّ الدَّوْم وَقَالَ يَعْنِي فِي ظلّ نخل المُقْل: فَقَالَ الأصْمعيُّ: قَدْ أحالَ ابنُ الحائِك لِأَنَّهُ ليسَ بِنَجْد دَوْمٌ. وجبلةُ بنجْد، وَإِنَّمَا الرَّاوية فِي الظل الدّوم، أَي الدَّائِم. وروى الْأَصْمَعِي بَيت أَوْس بن حَجَر أجَوْنُ تدَارَكْ نَاقَتي بِقرى لَهَا ... وأكبرُ ظَنِّي أنَّ جَونْاً سَيفْعلُ فَقَالَ ابْنُ الْأَعرَابِي: صَحف الدعي، وإنّما هُوَ تدَارَكْ نَاقَتي بقُرَابها، أَي مَا دُمتُ أطْمعُ فِيهَا. وَفِي مَثلٍ للعرَب: " الفِرارُ بقراب أكيسُ ". وروى بيتَ الْحَارِث بن حلزة عَنَتاً بَاطِلا وظلْماً كَمَا تُعْتَ ... زُ عَن حَجْرة الربيضِ الظباءُ وَقَالَ: العَنزة: الحَربةُ يُنحر بِهَا. فَرد عَلَيْهِ أبُو عَمْر وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ تُعتر، وَمن العَتيرة وَهِي ذَبيحةُ الصَّنم روى بيتُ الحُطيئة: وغَررتني وزعمْتَ أنْ ... نَكَ لَا تَنِي بالضَّيفِ تأْمر(5/166)
وَقَالَ أَبُو عَمْرو: إِذا صحفتُم فصحفوا مِثلَ تصحيفه وإنَّما هُوَ لابنٌ بالصيفِ تَامِرٌ. وروى بَيت عنترة: وآخَر منهمُ أجْررْتُ رُمْحي ... وَفِي البَجَليِّ مِعْبلةٌ وَقيِعُ فَقَالَ كيسانُ: لَهُ: إِنَّمَا هُو فِي البجْلي - بِإِسْكَان الْجِيم - منسوبٌ إِلَى بجْلةَ بطْن مِنْ بَني سُلَيم وروى لذِي الرُّمِة: عين مطحْلبةُ الأرجاء طَاميةٌ ... فِيهَا الضّفادعُ والحِيتانُ تصّطخِبُ. فَقيل: هُوَ يَصْطحبُ، لِأَن الحيتانَ لَا تصْطخبُ، وَلَا صوتَ لَهَا. وروى لرؤبةَ: شمطاءُ تَنْوي الغيظ حِين تَرأمُ فَقيل: إِنَّمَا هُوَ تَبْوى، أَي تجعلُه بمنزلةِ البو روى أَبُو عمْرو بن العَلاء بيتَ امْرِئ الْقَيْس تأوبني دائي القديمُ فَغلِّسا ... أحاذرُ أَن يشْتَد داني فأنكَسَا فَقَالَ أَبُو زَيد: هَذَا تصحيفٌ لِأَن المتأوبَ لَا يكونُ مغَلساً فِي حالِ وَاحِدَة لِأَن غلس: أَتَى فِي آخِر اللَّيْل، وتأوبَ جَاءَ فِي أَوله، وَإِنَّمَا هُو معلساً، أَي اشْتَدَّ وبرح. وروى المفضَّل للمخَّبل: وَإِذا ألمَّ خيالُها طَرفتْ ... عيْني فماءُ شُئونها سَجم(5/167)
فَقَالَ لَهُ خلفٌ: إنَّما هُوَ طُرِفَتْ عَيْني. فرجَع عنْهُ. وروى لامرئ الْقَيْس: نَمُسُّ بأعْراف الجيادِ أكُفنّا ... إِذا نَحنُ قمنا عَنْ شِواءٍ مَضهَّب فَقَالَ لَهُ خلفٌ: إنَّما هُو نمشُّ، وَهُوَ مسحُ اليَد. ومِنْه - قِيلَ للمنديل: مَشُوشٌ. وَأنْشد - والأصمعيُّ حاضرٌ. وذاتِ هدمٍ عَارٍ نَواشِرُها ... تُصْمِتُ بِالْمَاءِ تَوْلباً جَذَعا فَجعل الذَّال مُعْجمَة، وَفتحهَا، وَذهب إِلَى الأجْذَاع. فَقَالَ الأصمعيُّ: إِنَّمَا هُوَ: توْلَباً جَدِعا بالدَّال غير مُعْجمَة مَكْسُورَة، أَي: سيئ الغِذاءِ. فضجَّ المفضَّلُ، وَرفع صوتَه، فَقَالَ لَهُ الأصمعيُّ: لَو نفخْتَ فِي شَبُّور اليهودِ لمْ ينفَعْك. تكلَّمْ كَلامَ النَّمل وأصِبْ. وروى بيْنَ الأراكِ وَبني النَّخل تشْدخُهم ... رزقُ الأسِنَّة فِي أطرافِها شَامُ فَقَالَ الأصْمعِيُّ: يَا أَبَا الْعَبَّاس: لَعَلَّ الرماحَ استحالَتْ كأَفْر كُوبات، فَهِيَ تشدخُ. فَقَالَ: كيفَ رويتَهُ يَا أَبَا سَعيد؟ فَقَالَ: تَسْدحُهُمْ. والسَّدْح: الصَّدْع. وَقد أخِذَ على الْخَلِيل فِي كِتَابه الْعين حروفٌ كثيرةٌ مِنْهَا: يومُ بغُاث بالغَيْن المنقوطة، وَهُوَ يومٌ مشهورٌ بَين الْأَوْس والخزرج، وَهُوَ بعاثٌ بِالْعينِ غير المنقوطة.(5/168)
وَقَالَ فِي حرف الخاءِ: فَخَجَجْنَا. وَهُوَ بِالْحَاء غير منقوطَة. وَقَالَ: الخضبُ: الحيَّة وَإِنَّمَا هُوَ: الحِضْب. وَقيل: إنَّ ذَلِك من غَلط اللَّيث على الخَليل. وَكَانَ الأصمعيُّ يُنكر على الْخَلِيل روايتَه لهَذَا البيتِ. أفَاطِمُ إِنِّي هالِكٌ فَتَبيَّني ... وَلَا تَجْزعِي كلُّ النِّسَاء يَتيُم وَقَالَ: إنَّما تَئِيمُ مِنْ آمَتِ المرأةُ تَئِيم إِذا ماتَ زَوْجُها. وَأنْشد أَبُو الْخطاب الأخْفشُ قالتْ قتيلةُ مَالهُ ... قد جُلِّلَتْ شيباً شَوَاتُهْ فَقَالَ أَبُو عَمْرو: صَحَّفتَ، وإنَّما هُو سرَاتُهْ. فسكَتَ أبُو الخطَّاب ثمَّ أقْبل على القوُم، وَقَالَ: بلْ هُو صحَّفَ، وَإِنَّمَا هِيَ شَواتُه. والشَّواةُ: جلدةُ الرأسِ. وَذكر أنّ ابنَ الأعْرابي أنْشد بيْتَ جَرير - وعندهُ عبد الله بن يَعْقُوب - وبُكرةَ شَابك الأنياب عاتٍ ... مِنْ الحيِّاتِ مَسْموم اللُّعاب فَقَالَ لَهُ عبد الله: إِنَّمَا هُوَ نُكْزَةُ، مِن قوْلهم: نَكَزتْهُ الحيَّةُ وَذكر عبد الله بن يَعْقُوب أنَّه سمعَ ابنَ الْأَعرَابِي يَقُول: تَلَع الشيبُ فِي رَأسه فَذهب بِهِ إِلَى أَعلَى الرَّأْس، من التلعةِ. فَقَالَ: إِنَّمَا هُو بلَّعَ: أَي طلَع. ويُقال مِنْهُ: بَلَّع النَّجم. وَمِنْه اشتقاقُ سَعْد بُلَع.(5/169)
وَذكر عسل بن ذكْوَان أَن ابنَ الْأَعرَابِي صحَّفَ بَيت الهُذَلي أرقتُ لَهُ مثل لمْع البشِير ... يقلِّبُ بالكفِّ قُرْصاً خَفيفاً وإنَّما هُو فَرضاً، أَي تُرْساً وَكَانَ يُخَالف ابْن الْأَعرَابِي الْأَصْمَعِي فِي بَيت للحطيئَةِ، ويدعى كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر التَّصْحِيف. والبيتُ. كَفَوْا سَنَتَيْن بالأضْيافِ نَقْعاً ... علَى تِلْكَ الجفان مِن النقى هَذِه رِوَايَة ابْن الْأَعرَابِي. والنّقْعُ عِنْده: النّحر. والنَّقى: الحُوارى. فَيَقُول كَفَى الأضْيافَ، جمع ضْيف سَنَتَيْن وروايةُ الأصْمعي: كُفُوا سَنِتِينَ بالأصْيَافِ بُقْعاً ... على تلكَ الجفار من النفى وسَنِتينَ عندَه: من أسْنَتَ القومُ: من أسْنَتَ القومُ: إِذا أجْدبُوا، والأصْيافُ: جمع الصَّيف، والبُقْع: يَعْنِي أنَّهم بُقْعُ الظُّهُور. من النَّفْي: نَفِي الأرْشِيةِ، إذَا اسْتَقَوْا للناسِ. والجفارُ: جمع الجَفْر. وَهِي البئرُ البعيدةُ المَاء وروى الْكسَائي كأنَّ تحتَ رَيْطهَا القَشِيب ... أعْيسَ مِنْها، لاَ مِنَ الكَئيب فبلغتْ روايتُه أبَا عُبَيْدَة. فَقَالَ: أبْلغُوهُ أنَّ الرِّوايةَ: أعْيَس مُنْهالاً مِنَ الكثِيب فَهُوَ منهالٌ. فَقَالَ الكِسَائي: أصَاب الشَّيخُ، وأخطأْتُ أَنا. وروى الفراءُ.(5/170)
يَا قَاتلَ اللهُ صِبياناً تجيءُ بهم ... أم الهُنَيِّينَ مِنْ زَنْدٍ لَهَا وارى فَقيل لَهُ: إنَّما هُو أمُّ الهُنَيْبِر وَهِي الضَّبَعُ. وَيُقَال لَهَا أم عَامر. فَقَالَ: هَكَذَا أنْشَدَنيه الكِسَائي، فأحال على الْكسَائي. حكى أَبُو الْحسن الطوسي، قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِس اللحياني وَهُوَ عَلى أَن يُملي نَوادِره ضِعْفَ مَا أمْلى. فَقَالَ: " مُثَقَّلٌ اسْتَعَان بذَقنِهِ " فقامَ ابنُ السكِّيتِ إِلَيْهِ - وَهُوَ حَدثٌ - فَقَالَ: يَا أبَا الْحسن: إنَّما تَقول العربُ: " مُثقَّلٌ اسْتَعان بدَفيْهِ "، لِأَن البعيرَ إِذا رَامَ النُّهوضَ استعانَ بجنْبيْه. فقطَع الإمْلاءَ. فلمَّا كانَ فِي الْمجْلس الثَّانِي أمْلَى: تقولُ العربُ: " هُوَ جاري مُكَاشِري " فَقَامَ إِلَيْهِ ابنُ السكِّيت. وَقَالَ: أعَزك اللَّهُ، إِنَّمَا " هُوَ جَاري مُكاسِري ". أَي كسْرُ بيْتي إِلَى كسْر بَيته. فَقطع الإملاءَ، وَمَا أمْلَى بَعْدَ ذَلك. وَقَالَ: مَن احتجَّ عَن اللحْياني: البعيرُ إِذا رَام النُّهوضَ اسْتَعانَ بعُنُقه وذَقنِه. والمثلث علَى مَا رَواه اللحياني صحيحٌ. وروى ابنُ السِّكيت. هَرِقْ لَهَا مِنْ قَرْقَرىَ ذَنْوبا ... إِن الذَّنوب تَنْفَعُ المغْلُوبَا(5/171)
فَقَالَ ثَعْلب: إِنَّمَا تَنقَع: أَي تُرْوِي. قَالَ ابنُ دُرَيد: وجدتُ للجاحظ فِي كتاب الْبَيَان تصحيفاً شَنيعاً، فإنَّه حدَّثني محمدُ بنُ سَلام، قَالَ: سَمِعتُ يونُسَ يقولُ: مَا جَاءَنَا مِن أحدٍ مِنْ روائع الكَلام مَا جاءَنَا عَن النَّبِي صلى الله عليْهِ وسلَّمَ. إنَما هُو عَن البتِّي: عَن أبي عُثْمَان البَتِّي. فَأَمَّا النبيُّ عَلَيْهِ السلامُ فلاَ شَكَّ عِنْد المِلِّي وَالذِّمِّيّ أنَّه كَانَ أفْصَحَ الخَلْق. أنشدَ أبُو البيدْاءِ الرَّماحي أبَا عَمْرو وَلَو أنَّ حياَّ للمنَايا مقاتِلاً ... يكونُ لقاتَلْتٌ المَنِيَّةَ عَنْ مَعْن فتي لَا يقولُ الموتُ مِنْ حرّ وَقُعِهِ ... لَك ابنُكَ خُذْه لَيْسَ مِنْ سمتي دعْني فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرو: صحَّفتَ، إنّما هُو: قِتالاً يقُولُ. روى الْكلابِي بيتَ عمرَ بن أبي ريبعةَ. كَأَن أحورَ مِنْ غزلان ذِي بقر ... أهْدى لَهُ شَبَهُ الْعَينَيْنِ والجِيدَا فَقَالَ ابنُ الْأَعرَابِي لَهُ: صحفْتَ. إنَما هُو سِنةُ العْينيْنِ. روى عَن قَتَادة قَالَ: حضرتُ الْحسن - وَقد سُئِل - عَن قَوْله جلّ وَعز " جَعَل ربُّكِ تَحْنَكِ سَريّاً " فَقَالَ: إِن كَانَ لسَرياً، وَإِن كانَ لكريمأ. وَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟(5/172)
قَالَ: الْمَسِيح. فَقَالَ لَهُ حميدُ بن عبد الرَّحْمَن: أعِدْ نَظَراً، إِنَّمَا السَّريُّ: الجدولُ فتمعَّرَ لَهُ، وقالَ: يَا حميدُ، غَلَبتْنَا عَلَيْك الإماءُ. قَالَ إِبْرَاهِيم بن حمزةَ: سمعتُ عَن أبي دأب ينشد لأبي ذُؤَيْب الهُذلي. وَيَوْم بذاتِ الدَّير. . فَقلت لَهُ: وَمَا لُهذَيل والدّيَارات؟ إنَّما هُوَ بِذَات الدَّبرْ، وَهِي أكَمةٌ فِي بلادِهم. فَقَالَ: لَا أدْري، كَذَا سَمِعتُه. قَالَ: ثمَّ سمعتُه من قائلٍ ذَلِك العامَ فِي الْمَسْجِد الحرامِ يُنْشده بذاتِ الدَّبْر.
هَذِه حُرُوف وكلمات من الْمُصحف الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ النَّاس عمدا لَا سَهوا
كتب أَبُو تَمام الطَّائِي رُقعة إِلَى مُحَمَّد بن عبد الْملك بن صاحل يسْأَله فِيهَا مُحالاً، وَكتب على عُنْوانها حبيب. فَأَخذه مُحَمَّد ونقطة خَبِيث. وَرفع آخر رقعةٌ إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر، وَعَلَيْهَا حُرَيْث بنُ الْفَارِس وَكَانَ اسمَ الرجل، فجعلَه مُحَمَّد خريتَ فِي الْفراش وَكتب تَحْتَهُ: بئْسَمَا فعلْتَ. ونهض الحسنُ بن وهب ذاتَ لَيْلَة من مجلسِ ابنِ الزَّيات بنيه أَي بت بِهِ. وَقف رجلٌ على الْحسن الْبَصْرِيّ فَقَالَ: اعتمِرُ، أخْرجُ، أبادِرُ. فَقَالَ الْحسن: كذبُوا عَلَيْهِ، مَا كَانَ ذَلِك. يُرِيد السائلُ: أعثمانُ أخرج أَبَا ذرٍّ؟ وَمن تَصْحِيف مُحَمَّد بن طَاهِر: متملْمِل. يُرِيد: مَنْ ملَّ مُلَّ. وَقَالَ المعتصم يَوْمًا لطَّباخ لَهُ فَارسي: حَاسبت رشيد. فَقَالَ: زِنْ نَبِيذ أَرَادَ(5/173)
المعتصمُ: جَاءَ شَتيت رسيد، أَي أدَركَ غَدَاؤك وَقَالَ لأخر: رسيد، أَي أدْرَك. وَقَالَ المتوكِّلُ يَوْمًا ليحيى بنِ ماسَوَيْه: بعتُ بيْتي بِقَصْرَين. فَقَالَ لَهُ يحيى: أخِّر الغِذاء. أَرَادَ المتَوَكل: تعشَّيتُ فضرني. فَأَجَابَهُ ابنُ ماسويه بالعلاج.
وَمن هَذَا الْجِنْس حُرُوف وكلمات من الْمُصحف عمدا لَا سَهوا
الخِنْصر: الحبُ ضَر. مَتَى ألج ببيتِ هِنْد؟ : ميِّت الْحبّ شهيدَ. نرجس طري: برح بِي نَظَرِي. بمطرف تَستُري: نَمَّ طَرفي بسِرى. طَسْتٌ حَسنٌ: طبيبي: حَبِيبِي. القَبَعْثَريَ وحَلُبس: ألفْتِ غَيْري وخلَّيتني فنعت بتكْفيلي: فِي عيْنيكَ قتْلى. وحموه حدَّثك بشأني: حمر خَدَّيك سباني خشخاشٌ: حبيبٌ خانَني. مِشمشةٌ ثقيلةٌ: مَنْ يَنَمْ يُنبَّه بقُبلة - صِينية حَسنةٌ: صَبٌّ نبَّه حَبيبه. محبرَةُ آبنوس: مُحِب زَها ببوس. كلنى بيمينك فبعْني بحبتَّين: كلُّ شَيْء مِنْك فِي عَيْني حَسنٌ. لببُ سرج مُضِري: لَيْسَ ترحم ضُرى. مَسعودٌ: مَتى تعود؟ الثوبُ يماني بِثَوْب: ألْتوتْ ثمَّ اسْتوتْ سَعيد بنُ جُبَير: نَبْتٌ عِنْد نرْجس. فرُّوج مُسَمَّن بحبِّة: تودُّ جَمْش مَنْ تُحبه. تَحت الْفِيل مِرْوحةُ خَيش: تحبُّ القُبل مِن وجُهٍ حَسَن. حَبَشٌ بن حنين: حَبِيبِي بتَّ بِخَير. سكْباج: ثنيك باخ. كشكيَّةَ: كنت نُكْتَة. قلْنُسوة خَضْرا: قلبِي يتوهجُ ضُراً. لمازحٍ مقَالٌ يضم: لمَّا رَحمَ قَالَ: نعَمْ. سوقي جرَّ بَعِيري: فتش تجرِّبُ غيْري. ضرَب عَيْني بنواتين: صريعٌ بَين نِسْرين. وآسٍ مُسلم بن قيس: مَتى يُلِمُّ بِي بنُو أُميَّة. أليتُ بربي قد خضعتُ رَاهِبًا: الشُّربُ بقدح صَغِير أهْنأ. أسرتْني بيَدي: اشربْ سيِّدي. وَمن المقلوب: ظلمتنا: أَنْت ملط. كرهَتَنا: أَنْت هِرك. دعُوتنا: أنْتَ وغْد. أرحتنا: أَنْت خرا. جَفَوتنا: أنْتَ وقح:(5/174)
وَوَقع بعضُ الوزراء: غَرَّك: عَرك فصَار: قصار. ذَلِك: دلّك. فاخْش: فَاحش. فعْلك: فعلَّك. بِهَذَا: تهدأ. وَقع محمدُ بن عبد الْملك بن طَاهِر إِلَى ابْنه: يَا بُني: يَا بْني: مُصِيبَة: مضْنية. أمرضى: أمْرُ صبي. مجذورٌ: محذورٌ. عليْه: عِلَّته. بقرع: يفرع قلْبي: لمُبِّي. وأله: وإلهٌ. أحمرُ: أحمدُ. وقدْ: وفَد وصَيفٌ: وصنَّف رجَاله: رجّالَة يحتلُّ: بخيل وقَّع بَعضهم على رُقْعة رَجل: هَذَا: هذّا. كَانَ مُحَمَّد بن نَفِيس غيوراً، فأخُبر أنَّ جَارِيَة لَهُ كتبتْ إِلَى خَاتمها: مَنْ ثَبَتَ نبتَ حُبهُّ. فَدَعَاهَا فَوقَفها علَى ذَلِك، فَقَالَت: لَا - وَالله - أصلحكَ الله، مَا هُو مَا قِيلَ لَك، وَلَكِنِّي كتبتُ على خاتَمي: من يَتُبْ يُثَبْ جَنةً. ومِنَ الغلطِ. قَول نحيت وَكَانَ الحجاجُ وجَّه إِلَى مطهر بن عمَّار بن يَاسر عبدَ الرَّحْمَن بن سَلِي الكلْبي. فَلَمَّا كَانَ بحُلوان أتبعه مدَداً، وَقدم إِلَيْهِ بذلك كتابا مَعَ نحيت الْغَلَط - وَكَانَ يُقَال لَهُ ذَلِك لِكَثْرَة غَلَطِه -، فمرَّ بالمدَدِ وهُمْ يُعرضُون بخَانقين. فَلَمَّا قَدِم علَى عبد الرَّحْمَن قَالَ: أينَ تركت مدَدنا؟ قَالَ: تركتُهم يُخنقُون بعَارضين. قَالَ: أَو يُعَرضُون بخانقين. قَالَ: نعم: اللَّهُمَّ لَا تُخانِقْ فِي باركين. وَلما ذهب ليجْلسَ ضَرط، وَأَرَادَ عبد الرَّحْمَن أَن يقولَ لَهُ: أَلا تفدي؟ فَقَالَ: أَلا تضْرطُ؟ قَالَ: قد فعلتُ، أصْلحَك الله - قَالَ: مَا هَذَا أردتُ قَالَ صدقتَ، وَلَكِن الأميرَ غلط كَمَا غلطنا. قَالَ بعضُهم: سمعتُ بعضَ الْكتاب الأكَابر يقولُ: أَنا أسْتَاكُ بالعراق يريدُ بالأراك. وَقَالَ آخر: سمعتُ بعضَهم يقولُ: جَعْدة الطَّرِيق فأنكَر صاحِبُه، وَقَالَ: الجعْدةُ هُوَ مَا يوضع فِيهِ السِّهام. وَقَرَأَ الخطيبُ فِي المسْجدِ الْجَامِع: والسَّماءِ والطَّارق. فَقَالَ: يخرج مِنْ بَين التُّرب والصّلائب. وَقَالَ الوَليد بنُ عبد الْملك لسُليمانَ بن خالِد بن الزُّبير يَوْمًا - وعروةُ جالسٌ عِنْده - مَا سِنُّك؟ فَقَالَ: قُتِلتُ أَيَّام وُلد مُصْعبٌ.(5/175)
الْبَاب الثَّالِث عشر نَوَادِر من النَّحْو واللحن
سمع رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجُلاً قَرَأَ، فلَحنَ فَقَالَ أرشدوا أَخَاكُم. قَالَ الأصْمَعي: قلتُ لأبي مَهْديّة: كَيفَ تقولُ: لَا طِيبَ إِلَّا المسكُ قَالَ: فأينَ أَنْت عَن العنبر؟ قلتُ: فَقل لَا طِيبَ إِلَّا المسكُ والعنبر. فَقَالَ: أَيْن أَنْت عَن البان؟ قلتُ: قُلْ لَا طِيبَ إِلَّا المِسكُ والعنبرُ والبَانُ. قَال: فأيْنَ أنْت عَن أدْهان محُمر؟ قَالَ قلتُ: فَقل لَا طيبَ إِلَّا المسكُ والعنبر والبانُ وأدهانُ محمَرّ. قَالَ: فَأَيْنَ أَنْت عَن فارة الْإِبِل صادرةً؟ عمِلَ بعضُ النَّحُويين كتابا فِي التَّصغير، وأهداهُ إِلَى رَئِيس كَانَ يختلفُ إِلَيْهِ، فَنَقص عطَّيتَه، فصنَّف كتابا فِي الْعَطف، وأهدَاهُ إِلَيْهِ، وَكتب مَعَه: رأيتُ بابَ التصغير قد صغرني عِنْد الْوَزير، أرجُو أنْ يعطِفَهُ على بابُ العطفِ. سَمِعت الصاحبَ - رَحْمَة اللهُ - يَقُول: كَانَ سببُ اتِّصَال ابْن قريعَةَ القَاضِي بالوزير أبي مُحَمَّد المهلبي أَن ابنَ قريعةَ كَانَ قَيِّمَ رحى لَهُ، فرفعَ إِلَيْهِ حِساباً، فِيهِ دِرْهَمَانِ ودانقان، وحَبَّتان، فدعاهُ، وأنكرَ عَلَيْهِ الإعرابَ فِي الْحساب. فَقَالَ: أيُّها الوزيرُ، صارَ لي طَبْعاً، فلستُ أَسْتَطِيع لَهُ دَفْعاً. فَقَالَ: أَنا أزيلُه عَنْك صَفْعاً. ثمَّ استداناهُ بعد ذَلِك، وقرَّبُه. قَالَ نحوي لرجل: هَل ينصرفُ إسماعيلُ؟ قَالَ: نعم. إِذا صلى العشاءَ فَمَا قُعوده؟(5/176)
وَحكى أَن جمَاعَة عِنْد مُحَمَّد بن بَحر اختلَفُوا فِي بناءِ سَراويل، فَدخل البرقيُّ. وَقَالَ: فيمَ كنتُم؟ قالُوا: فِي بِنَاء سَراويلَ. فَمَا عندَك فِيهِ؟ قَالَ: مثلُ ذِرَاع البكْر أَو أشدُّ. قَالَ النوشجَانُ: حضرتُ مجْلِسَ المبرِّدِ، فسمِعنا وَاحداً يَقُول: فِي حرامِ أصْبهان. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هَذَا قد شتمَك على مذْهب قَول الله تَعَالَى: " واسْأَلِ القريةَ ". سمع ذُو الرُّمة رجلا يَقُول: على فُلان لعْنةَ اللهِ. فَقَالَ: لم يرْضَ بِوَاحِدَة حَتَّى شفَعَها بأخْرى. وَذَلِكَ أَنه لما سَمِعهُ مَفْتُوحًا قدَّر أنَّه أرادَ التثنيةَ: لعنتَا الله. قيل لرجل كَانَ يكْثُر اللَّحنُ فِي كلامِه: لَو كنتَ إِذا شككتَ فِي إِعْرَاب حَرْف وتخلصْت مِنْه إِلَى غيْره، مِنْ غير أنْ تُزيلَ الْمَعْنى عَن جِهَته، كَانَ الكلامُ واسِعاً عَلَيْك، فلقي رجلا كَانَ مَشْهُورا بالأدب. فَأَرَادَ أنْ يسْأَله عنْ أَخِيه، وخشي أَن يَلْحنَ فِي مُخَاطَبَتِه، فذهبَ إِلَى أنْ يتخلَّص عِنْد نفُسِه إِلَى الصَّواب. فَقَالَ: أخُوك، أَخِيك، أَخَاك هَا هُنا؟ فَقَالَ لَهُ الرجلُ: لَا، لُو، لي ماهر حاضرٌ. وقف نحوي على صَاحب باذِنْجان، فَقَالَ لَهُ: كَيفَ تبيعُ؟ قَالَ: عِشرين بدانق. قَالَ: مَا عَلَيْك أَن تقولَ: عشرُون بدانق {} فقدَّر أنَّه يسْتزيدُه. فقالَ: ثَلَاثِينَ بدانق. فَقَالَ: وَمَا عليكَ أَن تقولَ: ثَلاثون؟ فَمَا زالاَ على ذَلِك إِلَى أَن بلَغَ تِسْعين. فَقَالَ: وَمَا عليْكَ أنْ تقُولَ يتسَعون؟ فَقَالَ: أراكَ تَدورُ على المائتون، وَهَذَا مَا لَا يكون. وَمر نحوي بقصَّاب - وَهُوَ يسْلُخ شَاة - فَقَالَ: كيفَ المسْتْطرَقُ إِلَى درْب الرآسِين؟ فَقَالَ القصابُ: اصبرْ قَلِيلا حَتَّى يخرج الكرْشُ وأدلَّك على الطَّرِيق. وَقدم نحوي خَصْماً لَهُ إِلَى القَاضِي، وَقَالَ لَهُ: لي عليكَ مِائَتَان وخَمْسون درهما.(5/177)
فَقَالَ لخَصمه: مَا تَقول؟ فَقَالَ: اصلح الله القَاضِي، الطلاقُ لازمٌ لَهُ إنْ كَانَ إِلَّا ثَلاثمائة. وَإِنَّمَا تَرك مِنْهَا خمْسين ليُعلمَ القَاضِي أَنه نحوي. وقدَّم آخر خصْماً لَهُ إِلَى القَاضِي، وَقَالَ: لي عَلَيْهِ دِينَارَانِ، صَحِيحَانِ، جيِّدان. . قَالَ: القَاضِي: مَا تقولُ؟ قَالَ: أعز الله القَاضِي، هَذَا بغيضٌ. قَالَ: بلَى. قَالَ فأصْفَعه؟ قَالَ: إذنْ تَزنُ قَالَ: لَا أُبَالِي قَالَ القَاضِي: وَأَنا شريكُك. زنْ أَنْت دِينَار وأزِنُ أَنا دِينَار وأصْفَعه. دقَّ رجل بَاب بعْضِ النَّحْوِيين، فَقَالَ صاحبُ الدَّار: مَنْ ذَا؟ قَالَ: أَنا الَّذِي أَبُو عَمْرو الجصَّاص عقد طَاقَ بابِ هَذِه الدَّار. قَالَ النحويُّ: مَا أرى لَك من صِلَةِ الَّذِي شَيْئا. فانصرِفْ راشداً. قيلَ: النَّحْو مِلْحُ الْعلم، وَمَتى اسْتُكْثِر مِن الْملح فِي الطَّعام فَسدَ. سمع الْمَازِني قَرْقَرةً مِنْ بطنِ رجُل، فَقَالَ: هَذِه ضَرْطةُ مضْمرَةٌ. قيل: لأبي سعيد السيرافي: مَا علامةُ النَّصب فِي عَمْرو. فَقَالَ: بُغْضُ عَليّ بن أبي طَالب وَأنْشد ذُو الرمة وعينان قَالَ الله كُونا فكانتا ... فُعولان بالألباب مَا تَفْعل الْخمر فَقَالَ لَهُ عِيسَى بن عُمر: فَعْولَيْن. فَقَالَ ذُو الرمة: لَو سَلَحْتَ كَانَ خيرا لَك. أَتَرَى الله أمَرَهُما أَن يسحرا. مرَّ أبُو عَلْقَمَة بأغْلال قد كُتِبَ عَلَيْهِ رُبِّ سُلِّم لأبي فلَان. فَقَالَ لأَصْحَابه: لَا إِلَه إِلَّا اللهُ يلحنُون، ويربحون. قَالَ رجل لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ يَا بُو سعيد: أَنا أفْسِي فِي ثوبي، وأصلي يجوزُ؟ قَالَ: نعَمْ. لَا أكثرَ اللهُ فِي الْمُسلمين مِثلكَ. وَجَاء إِلَيْهِ رجلٌ فَقَالَ: مَا تقولُ فِي رجل ماتَ، وَترك أَبِيه وأخيه؟ فَقَالَ لَهُ(5/178)
الحَسنُ: ترك أباهُ، أَخَاهُ. فَقَالَ: فَمَا لأباه وأخاه فَقَالَ الْحسن فَمَا لِأَبِيهِ وأخيه؟ فَقَالَ الرجلُ: إِنِّي أَرَاك كُلَّما طاوعتُك تخالفني. قَالَ سعيدُ بن سلم: دخلت على الرشيد فجَهدني، وملأ قلبِي، فلحن، فخفَّ على أمرُه. قَالَ الزُّهري: أحْدثُ الناسِ مُرُوءَة أحبُّ إِلَيّ من طلب النَّحْو. سمع أَبُو عَمْرو أَبَا حنيفَة يتكلَّم فِي الفِقه، ويلحَنُ، فاسْتحسَن كَلَامه، واستقبحَ لحْنه. فَقَالَ: إِنَّه لخطابٌ لوْ ساعَدهُ صَوَاب. ثمَّ قَالَ لأبي حنيفَة: إِنَّك أحوجُ إِلَى إصْلَاح لسانِك مِن جَمِيع النَّاس. قَالَ أَبُو سعيد السِّيرافي: سمِعتُ نفطويه يَقُول: لحنُ الكُبراءِ النَّصبُ، ولحنُ الأوساطِ الرَّفعُ، ولحنُ السفلةِ السْرُ. دخل خالُد بنُ صَفوان الْحمام. وَفِيه رجلٌ مَعَ ابْنه - فأرادَ أَن يُعرِّف خَالِدا بلاغته فَقَالَ لِابْنِهِ، يَا بني، أبدأ بيداك وثنِّ برجُلاك. ثمَّ الْتفت إِلَى خَالِد، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفوان، هَذَا كلامٌ قد ذهب أهلُه. فَقَالَ خالدٌ: هَذَا كلامٌ مَا خلق الله لهُ أَهلا. قَالَ أَبُو هِفَّان: رَأَيْت بعض الحَمْقى يَقُول لآخرَ: قدْ تعلمتُ النحوَ كلَّه إِلَّا ثَلَاث مَسائل. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبُو فلَان، وَأَبا فلَان، وأبى فلَان. قَالَ: هَذَا سهلٌ. أما أَبُو فُلان فللملوك، والأُمراءِ، والسلاطين، والقُضاة. وأمَّا أَبَا فلَان فللبناة والتُّجار، والكُتَّاب. وأمَّا أبي فلَان فلِلسِّفل والأوْغاد. قَالَ السيرافي: رأيتُ رجلا من المتكلِّمين بِبَغْدَاد بلغ بِهِ نقصُه فِي معرفَة الْعَرَبيَّة أنهُ قَالَ فِي مجْلِس مَشْهُور، بَين جمَاعَة حُضُور: إِن العْبدَ مُضطرُّ، وإنَّ الله مُضطِرُّ بِكَسْر الطاءِ، وزعمَ أنَّ الْقَائِل: الله مضطرُّ كافرٌ. قَالَ رجلٌ لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ: إِن هَذَا الرّجُل قد زوَّج أمَّه مِن رجل نبطي. فَقَالَ لَهُ الرجلُ: يأبُو سعيد. هَذَا محروم. يُرِيد محَرَّم. فَقَالَ الحسنُ: كَذَا أشتهي أَن تكون لغةُ مَن زوج أمَّه.(5/179)
قيل لأعرابي: هَذَا قصرٌ. بِمَا ارْتَفع. فَقَالَ: بالجصِّ والأجُرِّ. مدح شاعرٌ طَلْحَة صَاحب الْبَرِيد بأصبهان، فَلم يُثِبه. فَقَالَ: لَو كنتُ من مدحي بِلَا صفد لاكتلتُ مِن طلحةٍ كُرين مِن خير. فَقَالَ لَهُ طلحةُ: لحنت، لِأَنَّك صرفتَ طَلْحَة، وطلحةُ لَا ينْصَرف. فَقَالَ لَهُ: الَّذِي لَا ينصرفُ طلحةُ الطلحات فَأَما أَنْت فتبلغُ الصِّين بنفخة. قيل لأعرابي: كَيفَ تقولُ: ضرب عبد الله زيد؟ فَقَالَ: كَمَا قُلتَ. قيل: لِمَ؟ قَالَ: لشر أَحْسبهُ وَقع بَينهمَا. قدِم رجلٌ على بعض الْوُلَاة، فَقَالَ لَهُ: مِن أَيْن أَقبلت؟ قَالَ: من أرْض اللهُ. قَالَ: وَأَيْنَ تُريد؟ قَالَ: بَيت الله. قَالَ: ومِمَّن أَنْت لَا أمَّ لَك؟ قَالَ: مِن تيم الله. فأمَر بوجيء عُنُقِه. فَقَالَ: بِسم الله. فَقَالَ: اتْرُكُوا ابْن الخبيثةِ. فَلَو ترك الرّفْع وقتا تركهُ السَّاعة. قَالَ أَبُو العَينْاء: دخل رجلٌ إِلَى عَليل: فَقَالَ لَهُ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَإِن شِئْت لَا إلهٌ إِلَّا الله، وَالْأولَى أحبُّ إِلَى سيبيويه فَقَالَ أَبُو العليل: حَرَمني اللهُ أجْرَه إِن لم يكن مَشهدُك لَهُ أشدَّ عَليّ مِن مؤْته. قَالَ رجلٌ لآخر: تأْمرُ بشيئاً؟ قَالَ: بتقوى اللهِ، وإسقاطِ الْألف. قَالَ خلف قلتُ لأعرابي: ألقِي عَلَيْك بَيْتا؟ قَالَ: على نفسِك فألُقِه. قَالَ رجلٌ من البَلديينَ لأعرابي - وَأَرَادَ مَسْأَلته عَن أهلهِ - كَيفَ أهلكَ؟ قَالَ - بكسْر اللَّام. فَقَالَ الْأَعرَابِي: صَلْباً. لِأَنَّهُ أجَابه على فهمِه، وَلم يعلمْ أَنه أرادَ المسأَلة عَن أَهله. قَالَ الجاحظ: قَالَ بشر المريسي لجلسائه: قضى اللهُ لكم الحوائجَ على أحسن الْوُجُوه، وأهنؤها. فَقَالَ لَهُ قاسمٌ التمارُ: هَذَا على قَوْله: إِن سُليَمْي وَالله يكلؤُها ... ضنَّت بِشَيْء مَا كَانَ يرزؤها(5/180)
فَصَارَ احتجاجُ قَاسم أطيبَ مِن لحْن بشر. وَقَالَ: قدَّم رجلٌ من النَّحْوِيين رجُلاً إِلَى السُّلطان فِي دَين لَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أصلح الله الأميرَ، لي عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ. فَقَالَ خَصمه لَهُ: وَالله - أصْلحك الله ثلاثةُ دراهمَ وَلكنه لظُهُور الْإِعْرَاب ترك من حَقه درهما. وَكَانَ سَابق الْأَعْمَى يقْرَأ: " الخالقُ البارئ المُصور " فَكَانَ ابْن جَابان إِذا لقيهُ قَالَ: يَا فاسقُ مَا فعل الحرفُ الَّذِي تُشركُ بِاللَّه فِيهِ؟ قَالَ: وَقَرَأَ مرّة: " وَلَا تُنْكحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا " بِفَتْح تَاء تنْكِحُوا، فَقَالَ ابْن جَابَان: وَإِن آمنُوا لَمْ نَنكحهم. سمع أَعْرَابِي رجلا يَقُول: أشهد أنَّ مُحمَّداً رَسُول الله بِالْفَتْح، فَقَالَ: يفعل مَاذَا؟ قيل لأعرابي: كَيْفَ تقولُ استخذيت أَو استخزيت؟ فَقَالَ: لَا أقولهما. قيل: ولِمَ؟ قَالَ: العربُ لَا تستخذي. سَكر هَارُون بن مُحَمَّد بن عبد الْملك لَيْلَة بَيْنَ يَدي الموَفَّق، فَقَامَ لينصَرف، فغلبهُ السُّكرُ، فَقَامَ فِي المضرب. فَلَمَّا انْصَرف الناسُ جَاءَ راشدٌ الحاجبُ، فأنبههُ وَقَالَ: يَا هارونُ انْصَرف. فَقَالَ بسكره: هارونُ لَا ينصرفُ. فَسمع الموفَّق فَقَالَ: هَارُون لَا ينصرفُ فَتَركه راشدٌ فَلَمَّا أصبح الموفقُ وقف عَلَى أَن هَارُون بَات فِي مَضرَبه. فَقَالَ: يَا راشِدٌ أيبيتُ فِي مضربي رجلٌ لَا أعلم بِهِ؟ فَقَالَ: أَنْت أمَرْتني بِهَذَا، قلتَ: هارونُ لَا ينْصَرف. فَقَالَ: إنَّا لله - وَضحك - أردْتُ الْإِعْرَاب وظننت أَنْت غيْرهُ. يُقَال: إِن يزيدَ بن المهلَّب كَانَ فصيحاً لَمْ يُؤخذ عليْه زلةٌ فِي لفظ إِلَّا وَاحِدَة، إِنَّه قَالَ عَلَى المِنبر - وذكرَ عبد الحميدِ بن عبد الرَّحْمَن بن زيد ابْن الْخطاب فَقَالَ -: وَهَذِه الضبُعةُ العرْجاءُ. فاعتْدَّت عَلَيْهِ لحْناً، لِأَن الْأُنْثَى إنَّما يُقالُ لَهَا الضَّبعُ، وَيُقَال للذّكر الضبعَانُ. قيل: كَانَ خَالِد بن صَفْوَان يدخُلُ عَلَى بِلَال بن أبي بُردة يحدَّثُه، فيلحنُ. فَلَمَّا كثُر ذَلِكَ عَلَى بِلَا قَالَ لهُ: أتحدثني أَحَادِيث الْخُلَفَاء، وتلحنُ لحن الستات.(5/181)
وَكَانَ خالدٌ بعْد ذَلِكَ يَأْتِي المسجدَ ويتعلَّمُ الْإِعْرَاب. كَانَ الشِّيْرَجّيُ إِمَامًا من أَئِمَّة الحنبلية، اجتاز بِمَسْجِد فِيهِ معْزّي فَخرج عَلَيْهِ مِنْهُ نحْوي بِغيضٌ. فَقَالَ لَهُ الشيرجي: من المُتوفي؟ فَقَالَ النَّحْوِيّ: الله نبيه. وَقَالَ زنديقٌ: واللهُ رفعهُ إِلَى الحَشر. قَرَأَ الْوَلِيد بنُ عبد الْملك يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَر: " يَا ليتَها كَانَتْ القاضية " فَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: عَلَيْكَ. سُئِل نحْوي عَن تَصْغِير عُبَيْد الله. فَقَالَ: ليسَ فِي سَجْدَتي السَّهو سَهوٌ. وذُكر أنَّ مُعاوية قَالَ: كَيْفَ أَبُو زيادٍ؟ فَقَالُوا: ظريفٌ عَلَى أَنه يلحنُ. فَقَالَ: أَو ليسَ ذَاكَ أظرف لَهُ؟ أَرَادوا اللَّحن الَّذِي هُوَ الْخَطَأ. وَذهب معاويةُ إِلَى اللَّحن الَّذِي هُوَ الفطنةُ. قَالُوا: كَانَ سَبَب عَمل أبي الْأسود الدؤَلِي النَّحو هُوَ أول من وضعهُ، وَقيل إِن أميرَ الْمُؤمنِينَ عليا عَلَيْهِ السَّلَام جعل لَهُ مِثالاً فَبنى عَلَيْهِ واحْتذاه أَن أَبَا الْأسود سمع رجلا يقْرَأ: " إِن الله بريءٌ مِن الْمُشْركين ورسولُه " بالخفض. وَسمع ابْنَته تَقول: مَا أطيبُ الرُّطب؟ وَهِي تُريد التَّعجب، وَظن أَنَّهَا تُرِيدُ الِاسْتِفْهَام، فَعمل شَيْئا من النَّحو، وغرضهُ عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام. فَقَالَ: مَا أحسنَ هَذَا النَّحْو الَّذِي أخذتَ فِيهِ. فُسمي نحْواً. مر الشّعبِيّ بناس من الموَالِي يتذاكرون النَّحو، فَقَالَ: لَئِن أصْلحتموه إنِّكُم لأوّلُ من أفسدَه. وروى أَن الْحجَّاج قَرَأَ: إِنَّا من المجرمون مُنتقمون. وَكَانَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان يَقُول فِي خُطبته: إِن الله وملائكتهُ بِرَفْع(5/182)
الْمَلَائِكَة فَقيل لَهُ فِي ذَلِكَ. قَالَ فخرجُوا لَهَا وَجهاً، وَلَمْ يدَعِ الرَّفع. قَالَ بَعضهم: قلتُ لوَاحِد مِن أَيْن جِئْت؟ قَالَ: مِن عِنْد أهلُونا. قَالَ: فقلتُ لَهُ: قل: أَهْلينَا. قَالَ: سُبْحَانَ الله نعْدِل عَن قَول الله تَعَالَى " شَغَلَتْنَا أموالُنا وَأَهْلُونَا " قدم العُريانُ بنُ الْهَيْثَم عَلَى عبد الْملك، فَقيل لَهُ: تحفَّظْ من مَسْلمةَ فَإِنَّهُ يَقُول: لِأَن يُلقمني رجلٌ حجرا أحبُّ إِلَيّ مِن أَن يُسْمعني لحْناً. فأتُاه العُريانُ ذَات يَوْم، فسلَّم عليْهِ. فَقَالَ لَهُ مَسْلمةُ: كمْ عطاءك؟ فَقَالَ العُريان ألْفين. فَقَالَ: كمْ عطاؤك؟ قَالَ: أَلفَانِ. فَقَالَ: مَا الَّذِي دعَاك إِلَى اللَّحن الأول؟ فَقَالَ: لحنَ الْأَمِير، فكرهتُ أَن أعرِب، وأعْرَب فأعرَبتُ. فاسْتحسَن قَوْله، وَزَاد عطاءه. قَالَ رجلٌ لآخر: مَا فعل فُلان بحماره؟ قَالَ: أَنا بسرت بِالْبَاء. قَالَ: وَأَنا أَيْضا بسرتُ بِالْبَاء. وَقَالَ أَعْرَابِي: كنتُ أَظن أَبَا المُهَاجر رجلا صَالحا، فَإِذا هُوَ يلحنُ. قَالَ يونسُ: كُنا ننظُر إِلَى الشَّبَاب فِي المسجدِ الْجَامِع بِالْبَصْرَةِ يخطرْ بَيْنَ السَّوَارِي. فَنَقُول: إِمَّا أَن يكون قرشياً أَو نحُوياً. قيل لبَعض النَّحْوِيين: مَا تَقول فِيمَن سَها فِي سَجْدَني السَّهو؟ فَقَالَ: لَيْسَ للتصغير تصغيرٌ.(5/183)
الْبَاب الرَّابِع عشر نَوَادِر المخنثين
قَالَ بعضُهم: شهدتُ مجْلسا فِيهِ قينةٌ تغني، فَذَهَبت تتكلف صَيْحَة شَدِيدَة فَانْقَطَعت. فصاحت من الخجل: اللصوصَ اللصوصَ. فَقَالَ لَهَا مُخنَّثاً كَانَ فِي الْمجْلس: وَالله يَا زانيةُ مَا سُرق من الْبَيْت شيءُ غيرُ حَلقِك. استوهب رجلٌ من مخنَّث فِي الحمَّام خطمياً، فمنعَه. فَقَالَ: سُبحان الله {} تمنعني الخطمي وقفيزٌ مِنْهُ بدرهم؟ ؟ فَقَالَ المخنُّثُ: فاحسبُ حِسابك أَنْت عَلَى أَرْبَعَة أَقْفِزَة بدرهم، كم يصيبك بِلَا شَيْء؟ قَالَ جَحْظةُ: فاخرني بعضُ المخنّثين فَقَالَ: يَا أَبَا الْحسن، وَفِي الدُّنيا مثلُ المخنثين؟ قلتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: إِن حدَّثوا ضحكتُم، وَإِن غنُّوا أطرِبتم، وَإِن نَامُوا نكتُم. قَالَ المتَوَكل لعبادة: مَا تَقول فِي تطبيل سَلمان المخنَّث؟ قَالَ: هُوَ حسنٌ، ولكنَّه مثلُ الهيْضة يَأْتِي بأكثرَ مِمَّا يُحتاجُ إِلَيْهِ. سمع مخنثُ أَن صومُ عَرفَة كفارةُ سنة، فصَام إِلَى الظّهْر، ثُمَّ أفطرَ، وَقَالَ: يكْفيني ستةُ أشهر.(5/184)
قيل لآخرَ: تُناك فِي الأسْت؟ فَقَالَ: أَو لي موضعٌ آخرُ؟ وَقل لآخر: أما تٌُستحي من أَن تُناكَ؟ فَقَالَ: ذوقوا، ثُمَّ لُومُوا. وَدخل مخنثٌ الحمَّام، فنظرَ إِلَى رجل طويلِ الخُصيتين، قصير الأير، فَقَالَ سخنتْ عيْنُك. الغِلالة أطْولُ من الْقَمِيص. وَسمع آخر قوما يَقُولُونَ: إِن من كَثْرة الحِجامة يعرضُ الأرتعاش. وَأخذ شَعره يَوْمًا وارتعش فَقَالَ يَا رب أخذتُ شَعري. لَمْ أحتجم. مر عِيسَى بنُ مُوسَى بعد أَن خلعهُ المنصورُ - وَكَانَ ولي عهدٍ بعدَه وقدَّم الْمهْدي عَلَيْهِ - بمخنَّثٍ. فَقَالَ: إنسانُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ المخّنثُ: هَذَا الَّذِي كَانَ غَدا فَصَارَ بعدْ غَد. قيل لعبادة: منْ يضربُ عَليّ ابْن أبي العَلاء؟ قَالَ: ضِرْسه. مرتْ امْرَأَة بمخنّث حسن الوجْه - وَمَعَهَا ابنةٌ لَهَا - فَقَالَت: لَيْت لابنتي حسن وجْهك. قَالَ: وطلاقي. قالتْ: تَعِستَ. قَالَ: فتأْخذين مَا صَفا وتتركين مَا كَدر؟ وصف مخّنثٌ امْرَأَة فَقَالَ: كَأَنَّ رَكَبَها دارةُ الْقَمَر، وَكَأن شفْريها أير حمَار فَلوى. سمع آخر رجلا يقولُ: دعَا أبي أربعةَ أنفسِ، وأنْفَق عَلَيْهِم أرْبعمائة دِينَار، فَقَالَ: يَا بنَ البَغِيضةِ لعلَّة ذَبحَ لَهُم مغنيتين، وزامرةً، وَإِلَّا فأربعمائة فِي أيش أنفقها؟ قَالَ شيخٌ لقرقر المخنثِ: أبُو مَنْ أَنْت؟ قَالَ: أم أَحْمد فديتُك {} سمع شاهِكُ المخنَّثُ رجلا يصفُ الكَرفْس، وأنَّه جيد لفتْح السَّدد. فَقَالَ: لَا كَانَ الله لَكَ. أَنا إِلَى سدِّ الْفَتْح أحْوج. تَابَ مخنثٌ، فَلَقِيَهُ مخنّث آخرُ، فَقَالَ: يَا أَبَا فلَان: أيش حَالك؟ قَالَ: قَدْ تُبتُ.(5/185)
قَالَ: فَمن أينَ معَاشُك؟ قَالَ: بقيتْ لي فضيلةٌ من الكَسْب القَديم فَأَنا أتمزَّزُ لَهَا. فَقَالَ: إِذَا كَانَتْ نفقتُك مِنْ ذَلِكَ الكَسْب فلحم الخنْزير طري خيرٌ من قَدِيد. رأى عبَادَة دَابَّة مُخَارق - وَهِي تُقرْمِط مَشْيهَا - فَقَالَ: يَا مخارقُ برذونُك هَذَا يمشي عَلَى استحياء. عُرض عَلَى عبَادَة خادِمٌ فَقَالَ: أَنا لَا أركبُ سفينة بِغَيْر دَقَل. قُدِّم إِلَى عبادةَ رغيفٌ يابسٌ، فَقَالَ: هَذَا نُسِج فِي أَيَّام بني أُميَّة وَلَكِن بِلَا طراز. ضُربَ طويسٌ فِي الشَّرَاب فَقيل لَهُ: كيْفَ كَانَ جَلَدك عَلَى وَقع السياطِ؟ قَالَ: بَلغنِي أَنِّي كنتُ صَبُوراً. كَانَ للمتوكل مضحكان مخنثان يقالُ لأَحَدهمَا شعرةٌ وَللْآخر بعْرة. فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا فعل فَلَا نٌ فِي حاجتِك؟ قَالَ: مَا فتَّني وَلَا قَطعك ذُكِرت العراقُ لمخنّث مِنْ أهل الشَّام، فَقَالَ: لعَن الله العِراقَ، لَا يُشربُ مَاؤُهَا أَو يصْلب، وَلَا يشربُ نَبيذُها أَو يضرَب. قَالَ الجماز: مَاتَ مخنّث يُقَال لَهُ نويفل فرآهُ إنسانٌ فِي النّوم كَأَنَّهُ يَقُول لَهُ: أيش خَبرك يَا نُويْفل؟ فَقَالَ: لَا تسألْ. فيقولُ لَهُ: إِلَى أَيْن صِرتَ يَا نويْفل؟ قَالَ: إِلَى النَّار. قَالَ: ويْلك {} فمني ينيكَ فِي النَّار قَالَ: ثمَّ يزِيد بن مُعَاوِيَة لَيْسَ يُقصِّر فِي أمْرئ. نظر مخنَّث إِلَى رجل دَميم الوَجْهِ فَقَالَ: وجهُك هَذَا نموذج جَهَنَّم. اخْرج إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ عبَادَة لمكار: نِكني يَخْت أَي يَخْتْ قَالَ: وَكَيف ذَاكَ؟ قَالَ: تُدْخِلُه يَابسا فإمَّا أنْ ينْدقَّ أيرك، وَإِمَّا أَن ينشَقَّ استي.(5/186)
كَانَ لمخنّث جاريةُ نفيسةٌ، فَقَالَت لَهُ يَوْمًا: ويْلك {} مَنْ أبْلاني بك؟ فَقَالَ: من أبْلاكِ بحَرك، سوًّد وجهَهُ وشقَّ وَسطه، وَقطع لسانَه، وَجعل إِلَى جَانِبه صُرَّةً لَهُ. قَالَ ابْن قريعة كَانَ لبَعض المخنثُين أير عَظِيم. فَكَانَ يَقُول: اشتهي من ينيكُني بأيري. وَقيل لمخنّث: لَا تتنور؟ قَالَ: إِذا كثر الدغَل أَخذ النَّاس طَرِيق الجادة. قَالَ آخر: الأسْتُ مِسن الأير، والقُبلة بريد النَيك. نَظَرَ مخنّثٌ إِلَى مَسْجِد صَغِير لطيف، فَقَالَ لآخر: أما تُرِيدُ هَذَا الْمَسْجِد؟ مَا أملحَهُ، لَا يصلح وَالله إِلَّا أَن يُحُمل فِي السَّفر. نظر مخنَّث إِلَى رجل مِنْ ولدِ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَمْشي وهُو يتبخْتر فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى مشيَةِ مَنْ خَدَعَ أَبَاهُ عَمْرو ابْن الْعَاصِ. أصَاب رجلا الحُصْر. فَقيل لَهُ: احتقن. قَالَ: لَو كَانَ قَدْر حُمٌّصةٍ مَا قدرتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مخنَّث كَانَ حاضِراً: لأنَّكَ ضيْعْتَ نفسَك فِي صغرك. تقرى مخّنثٌ فأتَى جبل لُكام عَلَى أَن يتعبَّد فِيهِ، فَأخذ زادَه وصَعد، وَسَار عَلَى سهل، فنفدَ زادُه وَجلسَ قَدْ أعيا فَرفع رأسَه فَإِذا بينَه وَبَين الْجَبَل مسافةٌ، وتطلَّع إِلَى أسْفلَ، فَإِذا هُوا قَدْ قطَع أكْثره، فَنظر إِلَى الْجَبَل وَقَالَ: واشماتتي بكَ فِي يَوْم أَرَاك كالعِهْن المنْفُوش. جلس قومٌ فِي مجْلس - ومعهُم مخنَّث - وَقَالَ رجلٌ مِنْهُم: أَنا أشتهي كشكيةً حَامِضة وضرط. فَقَالَ المخنثُ: قطع الله ظهْرَ الكشْكيَّةِ، مَا أسْرعَ مَا تَنفُخُ البطنَ {} قَالَ عبَادَة يَوْمًا للمتوكل: قَدْ عُمِل بِي البارحة كَذَا وَكَذَا دفْعَة. فَقَالَ لَهُ(5/187)
المتَوَكل: ويْحكَ {} أما أعْييتَ؟ قَالَ: إنّما يعْيا الْبَرِيد لَا الطَّرِيق. ضُربَ مَخنَّثٌ بالسِّياط فسَلَح. فقيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: ويَلَكُم {} فَمَا ذِي أدَّخِرهُ إِذا؟ قَالَ: إذَا أرادَ المخنَّثُ أنْ يعيبَ صاحِبهَ قَالَ: لَا - وَالله - بَلَى مَا أنْتَ بمَخنَّث وَلَا أنْتَ إِلَى رجلٌ جيِّدٌ. كَانَ عبادةُ يُسمي السراويلَ مقطرة الإست. نَظرَ مُخَنَّثٌ إِلَى رجل يغْسِلُ اسْتَه، ويَسْتقصِي جدا. قَالَ: عافات الله {} تُريدُ: يُشْربُ بِهَا سَويقٌ؟ كانَ بِالْمَدِينَةِ مخنَّثٌ يُكنى أَبَا الخَزِّ، وَكَانَ مليحاً، فَدخَلَ عليْه لِصٌّ لَيْلَة، فجمعَ مَا وجَدَ فِي بَيته، وأبُوا الخَزِّ ينْظُرُ إِلَيْهِ، لَا يجْتريءُ عَلَى أَن يُكلِّمهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللص الخُروجَ قَالَ لهُ: فدَيتُكَ. مَا اسمُكَ؟ قَالَ: نافعٌ قَالَ: نافعٌ واللهِ لغيْري. تلَّبس مُخَنَّثٌ. واحتارَ، فَقَالَ لَهُ رجلٌ: إِلَى أيْنَ يَا خرَا؟ قَالَ: إِلَى شَاربك. قَالَ المتوكلُ يَوْمًا لجُلَسائِه: أتعلمونَ مَا أولُ مَا عتَب الْمُسلمُونَ عَلَى عثمانَ؟ فَقَالَ أحدُهم: نعم. يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، إِنَّه لمَّا قُبض النبيُّ عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ أَبُو بكر عَلَى الْمِنْبَر دون مَقام النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بمْرقَاة. ثُمَّ قَامَ عمرُ دون مَقام أبي بكر بمرْقاة. فَلَمَّا وَلي عثمانُ صعد ذرْوَة الْمِنْبَر، فَأنْكر الْمُسلمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وكانُوا أَرَادوا مِنْه أَن ينزل عَن مَقام عُمر بمَرقاة. فَقَالَ عبادةُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. مَا أحدٌ أعْظمَ مِنةً عَلَيْكَ، وَلَا أسْبَغ مَعْرُوفا من عُثمانَ. قَالَ: وكيفَ. ويْلك! قَالَ: لِأَنَّهُ صعد ذِرْوة الْمِنْبَر، فَلَو أَنه كُلما قَامَ خليفةٌ نزل عَنْ مقَام من تقدَّمهُ مرقاة كنتَ أَنْت تخطبُ علينا من بَيْنَ جَلْوتي. دخل مخنث ذَات يَوْم نَهرا ليغتسل، فجَاء قوم من آل أبي مُعَيط. وَجعلُوا يرمُونَه، وعرَفهُم فَقَالَ: لَا ترْموني فَلسْتُ بِنَبِي.(5/188)
نظر عبَادَة إِلَى زُنام الزامرِ يبكي عَلَى بِنْت لَهُ ماتتْ، فَقَالَ: قُطع ظَهْرك {} كَأَنَّك وَالله مطبخ يَكِف. وَقَالَ عبَادَة: كلُّ شَيْء للرجالِ لَهُ معنى إِلَّا اللُّحي، والخُصي. وَقَالَ بعض المخَنَّثين: إِذَا كَانَ الْمُغنِي بَارِدًا فصاحبُ البيْتِ عليلُ القَفَا. . أخِذ مخنثٌ فِي شَيْء، وأحْضِرَ عِنْد الْوَالِي، فَأمر بضَربْه، فصاح: يَا سَيِّدي. كذَابُوا وَالله عَليّ كَمَا كَذبُوا عَلَى المُري. قَالَ: وَكَيف كذبُوا عَلَى المري؟ قَالَ: هُوَ منِ البُر؟ يَقُولُونَ هُوَ من الكامَخ. فضَحك الْوَالِي، وخلاهُ. وَقيل لمخنَّث كَانَ يتجر: لَمْ لَا تركبُ البحرَ فإنَّ فِيهِ الْغَنِيّ والتمولَ؟ قَالَ: يَا غافلُ. أَنا أعصيه منذُ أَرْبَعِينَ سنة، أذهبُ فأضع يَدي فِي يَده؟ اجتاز مخنث بنائحةٍ جالسة عَلَى بَاب دَار، فَقَالَ لَهَا، مَا جلوسُك هَا هُنَا؟ قَالَت: خيرٌ. قَالَ: لَو كانَ خيْرا كنتُ أَنا هاهُنا لَا أنْت. نظر مُخنَّث إِلَى رجُل مُقيد قَدْ أخرج للعَرْض، وَهُوَ ينظرُ إِلَى غُلام أمْردَ فَقَالَ: العصفور فِي الفَخِّ وقلُبه فِي سوقِ العلفِ. قَالَ سمسنة المخنثُ لرجل كَانَ يكْتب كتابا إِلَى معرفَة السمسنة: أقرئه سَلامي فِي كِتابك. قَالَ: قد فعلتُ. قَالَ: فأرني اسْمِي الَّذِي يشبهُ الدابَّة الَّتِي تدخل الآذان. وَوصف مخنث الحرِ، فَقَالَ: كَأَنَّهُ أنُو شرْوَان فِي صَدْر الإيوان، مَكورٌ كَأَنَّهُ سَنام نَاقَة صَالح، موطأ كَأَنَّهُ أليةُ كَبْش إِبْرَاهِيم، غليظ الشفتين، كَأَنَّهُ شفةُ بقرة بني إِسْرَائِيل. لقى مخّنث آخر ليودِّعه، فَقَالَ: أحمدُ الله عَلَى بُعد سفَرِك، وَانْقِطَاع أثَرك، وشِدة ضَررِك فَقَالَ لَهُ: أَنا أسْتودِعك الْعَمى. والضَنى، وَانْقِطَاع الرزق من السما. وَقَالَ مخنثٌ لآخر: أَرَانِي الله وَجْهك الساطور، وفِي عَيْنيْكَ الكافُور، وَفِي شقَّ استك الناسور.(5/189)
وَقَالَ آخر: ضَحكُ الحرُ يومَ الخِتانِ ضحكُ النعجة بَيْنَ الذئاب، ضَحكُ الدُّب بَيْنَ الكِلابِ، ضَحِكُ الرَّأْس عَن الرآسي، ضحك البغاية إِذا عزلْتها الدَّاية. ومرَّ آخر بقاضٍ وَهُوَ يقولُ: إنَّ إسْرَافيل مُلتقِم الصُّور، ينْظُر مَتى يُؤمَرُ بالنَّفخ. فَقَالَ: إِنَّا لله، إنْ عَطَس افْتضحْنا. قَالَ عَلانُ شدْق - وَكَانَ قبيحاً جدا: مررتُ بمخنَّث يعْزلُ عَلَى حَائِط فَقَالَ لي: مِنْ أيْن أتيْت؟ قلتُ: مِن البَصْرَةِ. فَقَالَ. لَا إِلَه إِلَّا اللهُ {} تغَّير كُلُّ شَيْء حَتَّى هَذَا {} كانتْ القُرودُ تُجلبُ مِن اليَمن. الْآن تجيءُ من العِرَاق. وحجّ مخنًّثٌ فَرَأى إنْسَانا قبيحاً يَرْمِي بالجمار، فَقَالَ لَهُ المخنَّثُ: بِأبي أنْت، لستُ أشِيرُ عَلَيْكَ أنْ تعودَ إِلَى هَذَا الْمَكَان. قَالَ: ولمَ؟ ألستُ مسْلماً؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِن لَا أرى لَكَ أَن تبْخل عَلَى أهْل النَّار بِهَذَا الوجْهِ. نظرَ مخنّث إِلَى رجل قصِير عَلَى حِمار صَغير، فَقَالَ: هُما تؤْأمان. وَقَالَ بعضُ المخنثين: كَانَ لي أسْتاذٌ مخّنث يقالُ لَهُ زائدةُ، فَمَاتَ. فرأيتهُ فِي النَّوم فقلتُ لَهُ: مَا فعل اللهُ ربُّك بك؟ قَالَ: أدْخلني النَّار. قلت: فمَنْ توْرُك فِيهَا؟ قَالَ: هَيْهَات {} انقلبت المسألةُ أَنا تور فِرْعَوْن. غمز عبَادَة رجُلاً فِي دْرب، ووقف لَهُ عَلَى بَاب دَار، وجَعل الرجلُ يدْفع فِيهِ، فأشْرفتْ عَلَيْهِ امْرَأَة، وصاحتْ: اللُّصُوص. فَرفع عبادةُ رأسَه إِلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: يَا بظراءُ. النقْب فِي حائطي أوْ حائطك {} قيل لمخنث: مَا أقْبحَ استك {} قَالَ: ترَاهَا لَا تصْلُح للخرا {} ضرب عاملُ الْمَدِينَة مخنثاً عشرَ دُرَر، فضرط إِحْدَى عشرَة. فَقَالَ لَهُ ويلكَ {} ضربتكُ عشر، وتضرط إحْدى عشرَة؟ ؟ قَالَ لَه: ويْلكَ أصْلحك اللهُ، البدءُ كَانَ مني. فَضَحِك، وخلاهُ.(5/190)
قَالَ بَعضهم لمخنّث: لقد قمتُ إِلَيْك لأدخِلنَّك مِن حيثُ خرجْتَ، فَنظر إِلَى نفْسه وَكَانَ عظيمَ الجثَّةِ ثُمَّ قَالَ: يَا أخي. إنْ فعلتَ ذَاكَ إنَّك لرَفيق. قيل لمخنّث: مَنْ تَرى يرغَبُ فِيك مَعَ قُبْحكَ؟ فَقَالَ: الحمارُ إِذا جَاع أكَل المِكْنَسَة. نظَر رجلٌ إِلَى أير ابنهِ فِي الْحمام - وَهُوَ كبيرٌ - فضربهُ، وَقَالَ: مَا طَال أيركَ إِلَّا مِنْ كثْرةِ مَا تُناك. فَقَالَ مخنثٌ كَانَ معَهُ فِي الحمَّام: لَا تَفْعَلْ، فَلَو كانَ هَذَا حَقًا لكانَ أيرى وَبظر أمِّه قَدْ بلَغَا مكةَ. قَالَ مخنثٌ لامْرَأَة: لَوْلَا أنَّ الْحق مُرٌّ لسألتك عَن شَيْء. قَالَت: مَا يغْضَبُ من الْحق إِلَّا أحمقُ، فسلني يَا بنَ الفاجرةِ. فَقَالَ لَهَا: لَم صَار فمك بالعرضِ وحركِ بالطولِ؟ قَالَت اسْكُتْ يَا بن الفَاجرة قَالَ هَذَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ. ناك رجلٌ مخّنثاً فِي بيْت فِيهِ تِبْنٌ، وَكَانَ أيره يزلِقُ من استِ المخنثِ ويتلوثُ بالتبن، وَيَردهُ الرجلُ. فقالَ المخنثُ، حَبيبي. هُوَ ذَا نيكُك أَو تحْشوا مسورة؟ ؟ ؟ قيل لمخنث: كَمْ سِنُوك؟ قَالَ: خمسٌ وتِسْعونَ. قيل: فَلِمَ لَا تتزوجُ؟ قَالَ: ليْس فِي رجال هَذَا الزمانِ خيرٌ. قيل لآخر: مَا تحبُ من الثِّيَاب؟ قَالَ: التكة قيل: فَمن السِّلَاح؟ قَالَ العَمُود. قيل: فَمن اللَّحْم؟ قَالَ العصيب قيل: فَمن البُقُول؟ قَالَ: القِثَّاء. قيل: فَمن البَوارِد؟ قَالَ: الهلْيون. قيل: فَمن الفَاكهة؟ قَالَ: الموزُ. قيل فَمن الحَلواء؟ قَالَ: الحلاقيم. قيل: فَأَي مَنازلِ مَكَّة أفضلُ؟ قَالَ: ذَات عِرْق. قيل فمَنْ خير الصَّحَابَة؟ قَالَ: الزبير. قيل: فَمَا أُحْسنُ شَيْء فِي الْإِنْسَان؟ قَالَ الأير. قَالَ رجل لمخنّث: صَحَّ لي بذلك المُجتاز. فقالَ: وَمَا اسمهُ؟ قَالَ: هِلالٌ. فَجعل يُنَادِيه: يَا رأسَ الشَّهر. ضرب مخنثً يدَه إِلَى أير رجل، وَجعل يشغلهُ بالْكلَام، ثُمَّ قَالَ لهُ فِي كَلَامه: من بَقِي من أهل بَيْتك؟ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي فِي يدك؟ تَابَ مخنّثٌ، فَلَمَّا كانَ فِي بعض الْأَيَّام لَقيهُ مخنثٌ آخر، فَقَالَ لَهُ التائبُ: أما(5/191)
آن لَكَ أَن تتوبَ؟ ؟ ويل مِنْ عَاصِم. قَالَ: ومَنْ عاصمٌ؟ قَالَ: خازنُ جَهَنَّم. قَالَ: أخيي، لَو تختثت خَمسين سنة أُخْرَى كَانَ أصلح لَكَ من أنْ ترجَفَ بِالْمَلَائِكَةِ. مَتى غزلوا مَالك، وولوا عاصِمَ؟ سمع مخنّث طَبِيبا يذكُر الطبائع الأربعَ، فَقَالَ: الطبائعُ الْأَرْبَع عندنَا الأكْلُ، والشُّربُ، أَن تنيك وتُناك. جمع مخنثٌ بَيْنَ نفْسيْن، فَأخذُوا جَمِيعًا، أفرج عنهُما. ورُفع المخنثُ إِلَى السُّلْطَان فسألهُ عَن قِصَّته، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ وجدُوا طائرين فِي قفص، فَخلُّوا الطائرين وجبسوا القَفَصَ. نظر رجلٌ قَبِيح الوجُه فِي الْمرْآة، فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أحسن خلقي فَقَالَ مخنثٌ حَضرهَ: أم مَنْ يبهتُ ربهُ زانيةٌ. رأى عبَادَة دِينَار بن عبد الله - وَقد ولي مصر - فَقَالَ: يَا فرعونُ أرفع رَأسك وَانْظُر من نُدِب لمكانِك. واشتكى مخنثٌ، ثُمَّ تماثل، فَقيل لَهُ: كَيْفَ أَنْت؟ فَقَالَ جَاءَتْنِي العلةُ باقاتٍ وتجيئني العافيةُ طاقات. سمع مخنّث قَول ابْنة الخس لما قيل لَهَا: مَا حملك عَلَى الزِّنَى؟ فَقَالَت: طولُ السوادِ وقُربُ الوسَاد. فَقَالَ المخنّث: وحبُّ السِّفاد. سمع مخنث رجلا يقْرَأ قِرَاءَة قبيحة، فَقَالَ: أظنُ أَن هَذَا الْقُرْآن هُوَ الي يزْعم ابنُ أبي دواد أَنه مخلُوقٌ. سمع مخنث رجلا يَقُول: اللَّهُمَّ اجَعل الموتَ خيرَ غَائِب أنتظِرهُ فَقَالَ: إِذا غيابُك غيابُ سوء. قَالَ المتَوَكل لعبادة: كَمْ سِنُّك؟ قَالَ: وَالله مَا أعْرفُ الحِسابَ، وَلَكِن تعرفُ أَنْت عفْرويه. قَالَ: لَا - وَالله - ومَنْ عَفرويه؟ قَالَ: الَّذِي يَقُول فِيهِ الْقَائِل. ضراط عَفرويْه بليلٍ طرقا احسب الْآن كَيْفَ شِئت(5/192)
وتزوجتُ أم مخنّث، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الزفاف جعل يتسمعُ عَلَيْهِمَا فَلَمَّا سمعَ الْحس. قَالَ: يَا أُمِّي. وَذَا تأكلين وحْدَكِ. لَا هَنَّأَك اللهُ. قيل لمخنّث: كَيْفَ تَرى الدُّنيا؟ قَالَ: مِثلنَا. نخن يَوْمًا عِنْد الأسخياء، وَيَوْما عِنْد البخلاء. قَالَت امْرَأَة لعبادة: اشتريتُ قَفيزاً بثلاثةَ عَشرَ درهما، كم يصِيبني بِثَلَاثَة دَراهمَ؟ فَقَالَ: أَنْت طُولُكِ وعَرضْك لَا تعرفين هَذَا {} يصيبك قَفيزٌ إِلَّا بِعشْرَة دَرَاهِم. دخل عبَادَة الحمامَ يَوْمًا فَرَأى غُلَاما كبيرَ الأير، فبادر فَقبض عَلَيْهِ، فَقَالَ الْغُلَام: مَا هَذَا. عافَاك الله؟ قَالَ: أما سَمعت قَول الشَّاعِر: إِذا مَا رايةٌ رِفُعت لمجدٍ ... تلقاها عرابةُ بِالْيَمِينِ. ألزَم المتوكلُ عبَادَة فِي يَوْم من شهر رَمَضَان أنْ يقْرَأ فِي المُصْحَف، فَقَرَأَ وَجعل يصحَّف، ويغْلطُ. حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله " وَبشر المخْبتين " فصحفَه، وَقَالَ وبشِّر المخنثين فطردَه. نظر مخنث إِلَى إِنْسَان وَحش الخِلْقه، فَقَالَ: هَذَا نموذج جَهَّنم أخْرجَ إِلَى الدُّنْيَا. طلب رجل منزلا يكتريه، فجَاء إِلَى بَاب دَار ودفعهُ، وَقَالَ: لكمْ منزلٌ للكِرَاء؟ وَإِذا فِي الدَّار مخنثٌ - وفوقَه رجلٌ - فصاح مِنْ تَحتِه: أليسَ ترانَا بعْضَنا فَوق بعض منْ ضِيق الْمَكَان؟ مِنْ أَيْن لنا مَنزلٌ يُكْرى؟ ؟ قَالَ مخنْث لآخَرَ: ذهبتِ الأيور الباستانية الَّتِي كُنَّا نَعْرفُها. فَقَالَ: مَا ذَهبت الأيورُ، وَلَكِن اتْسعنْا نَحن. رأى إنسانٌ مخنثاً ينتِف لحيتَه، فَقَالَ لَهُ: ويلكَ. لأي شَيْء تنْتِفُ لحيتَكَ؟ فَقَالَ: يُسرك أنَ مِثلْها فِي استِكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ المخنثُ: فشيء تأنفُ لاستكَ مِنْهُ، لَا آنفُ لوجْهي مِنْهُ؟ ؟(5/193)
كَانَ المتَوَكل على برْكة يصيدُ السَّمكَ - وَعِنْده عبادةُ المخنثُ - فَتحَرك المتوكِّل، فضرط، وَقَالَ لعبادة: اكتمها عَليّ فإنَّك إِن ذكرْتَها ضربتُ عُنقَك. وَدخل الفتحُ: أيشْ صدْتُم مِن الغَداة؟ م فَقَالَ لَهُ عبادةُ: مَا صِدَنا شَيْئا، وَمَا كَانَ معنَا أَيْضا أفْلتَ. ركب المتَوَكل يَوْمًا زلالا وَمَعَهُ جماعةٌ، فعصفَت الريحُ، وفزعَ الناسُ. فَقَالَ عبَادَة. يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ. أما كُنيزُ دُبَّةَ فَإِنَّهُ لَا يخافُ الغَرق. فَقَالَ المتوكّلُ: وكيفَ ذَاك؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يسْبحُ على رَق. وَكَانَ كنيزٌ مخنَّثاً آدَر. كَانَ بعض ولد الْفضل بن الرّبيع يتخَنّثُ، فوكَل بِهِ أبُوه غُلاماً يمنعُه من نتْف لحُيته، فَبَاتَ لَيْلَة. فَلَمَّا اصبح رَآهُ منتوفَ اللِّحْيَة، فَقَالَ: أهلكْتني - وَالله - أَيْن لحيتُك؟ قَالَ: " فَطَافَ عَلَيْهَا طائِفٌ مِنْ رَبِّك وهُم نائمون. فأصْبحت كالصرِيم ". قيل لمخنث: كَيفَ تتهجى بكمرة؟ فَقَالَ: كَاف، مِيم، رَاء، هَاء قَالُوا: هَذِه كَمرة. قَالَ: كل إِنْسَان يتهجي مَا يشْتهي. لقى الطائفُ - وَكَانَ مَاجِنًا - جمَاعَة من المخنثين، فَقَالَ: نيكُوا بني الزواني، واضربُوا بني القُحاب. فَقَالَ مخنثٌ مِنْهُم: يَا سَيِّدي. سَبقتْ رحمتُك غضَبَك. أدْخلَ مخنثٌ على العُرْيان بن الْهَيْثَم - وَهُوَ أميرُ الْكُوفَة - فَقَالُوا: إِنَّه يَفعلُ ويصَنعُ. فَقَالَ لَهُ الْعُرْيَان: يَا عدوَّ اللهِ. لمَ تفعلُ هَذَا؟ قَالَ: كذّبوا عَليّ - أَيهَا الْأَمِير - كَمَا كذَابوا عليكَ. فَغَضب العريانُ، واسْتوى جَالِسا، وَقَالَ: وَمَا قيلَ فِي؟ قَالَ: يُسمُّونك العريانَ وَعَلَيْك عشرُون قِطْعَة ثِيَاب. فَضحِك. وخلاه. قَالَ مخنث: رمضَانُ بَين شَوالٍ وشعْبانَ مخشلبةٌ بَين دُرتين.(5/194)
وَقيل لمخنّث: مَا الَّذِي أفدت من التخنيث؟ قَالَ: است مخرقة، واسمٌ قبيحٌ. قَالَ هيتُ المخنّثُ لُعَمر بن أم سلمةَ: إِن فتح الله عليكُم الطائِف فسل رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهبَ لَك بادنَة بنت غيلَان بن سلَمة، فَإِنَّهَا كحْلاءُ، سموعٌ، نَجْلاءُ، خُمصَانةٌ، هَيْفاء إنْ مشتْ تثنَّت، وَإِن جلَست تدنَّتْ، وَإِن تكلَّمتْ تغنَّت، وتُقِبلُ بِأَرْبَع، وتدبرُ بثمان، وفخذَيْها كالإناء المكْفأ. فَروِي أَن كلامَه بلغ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمنع المخنَّثين من الدُّخول على النِّسَاء. نظر مخنث إِلَى إِنْسَان كَبِير الْأنف، قد أشرف على فَمه. فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَيْهِ كَأَن أَنفه أير يتطلَّع فِي بِئْر الخَلا.(5/195)
الْبَاب الْخَامِس عشر نَوَادِر اللاطةِ
روادَ إنسانٌ متقر على الفُجور، فقَال: مَا تعُطيني؟ فَقَالَ، أستغفرُ لَك وأقرأ لَك كل يَوْم آيَات أعوذكُ بهَا، فَقَالَ الغلامُ الْيَوْم عَاجلا " وردّ للهُ الَّذين كفرُوا بغيظِهمْ " رُؤِيَ بعضُ اللاطة مَعَ غُلَام أسودَ، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، قالَ: الأسودُ طيبُ النَكْهةِ ليِّنُ الأفْخاذِ، مُلْتهبُ الْجوف، رخيص الجذر سريع الْإِجَابَة لِأَنَّك تَدعُوهُ لتنيكه فيظن أَنَّك دعوتَه لينكيك. قيل لبَعض المتصوفةِ: أَنْت لُوطي. فَقَالَ: مَا تقولُ فِي لص لَا يسرق، هَل يلْزمه القطعُ؟ قَالَ بَعضهم: رَأَيْت شَيخا يُطَاف بِهِ، وينادي عليْه: هَذَا جزاءُ من يلَوطُ، والشيخُ يَقُول: بخ بخ لِواطٌ محضٌ، لَا زنى، وَلَا سرَقٌ. قل لشيخ لاطَ: أَلا تَسْتَحي؟ فَقَالَ: أستحي وأشتهي. قَالَ بَعضهم: الغُلام استطاعةُ المعتزلةِ، لِأَنَّهُ يصلُح للضدين، يَفْعلُ ويُفْعُل بِهِ. وَالْمَرْأَة استطاعة المُجبرةِ: لَا تصلح إِلَّا لعمل وَاحِد. قيل لأعرابي: مَا تقولُ فِي نيك الغِلمان؟ فَقَالَ: اعُزبْ، قبَّحك اللهُ. وَالله إِنِّي لأعافُ الخَار أَن أَمر بِهِ، فكيفَ ألجُ عَلَيْهِ فِي وَكره؟(5/196)
وجُد شيخٌ فِي مَسْجِد، وتحتَه صبي، فَلَمَّا هجمَ عَلَيْهِ عدَا الصَّبِي، وَقَامَ الشيخُ متأسفاً وَجعل ينظر إِلَى متَاعِهِ ويقولُ. كَانَ ببغدادَ لوطي مُوسِرٌ، فَكَانَ إِذا جاءَ وقتُ الزَّكَاة وزنَ زَكَاة مَاله، ووضعهُ. فَإِذا حصَل عِنْده مؤاجرٌ وزَنَ جذْره منهُ، وَقَالَ: ألكَ أمُّ أوْ أختٌ تسْتَحقّ الزَّكَاة؟ فيدْفَعهُ إِلَيْهِ، ويقولُ: خُذْهَا مِن زَكاة مَالي، وأعْطني مَا أريده منْك تفضُّلاً. وَكَانَ بعض المؤاجِرين يتحرجُ فَكَانَ إِذا أعطاهُ إنسانٌ جذْرَهُ أخْرج تُفاحةٌ أَو مَا يشبهُهَا، وَقَالَ للرجل: قد اشتريتَ مني هَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهم. فَيَقُول اللوطيُ: نعم. فَيَقُول: فَأَما الْآن فَأُعطيك مَا تريدُ من غَيْر جذْر. قيل لوحد: لم فَضَّلتَ الْغُلَام على الجاريةِ؟ قَالَ: لأنهُ فِي الطَّرِيق صَاحب وَمَعَ الإخوان نديمٌ، وَفِي الخلْوة أهلٌ. قَالَ ابنُ قريعة القَاضِي: مَرَرْت بشِيخ قد خَرج من خَربة، وَبِيَدِهِ أيرُه وَهُوَ يَقُول: مَا أعجبَ أسبابَ النّيك؟ فقلتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّمَا يقالُ: مَا أعجبَ أسبابَ الرَزق؟ ؟ قَالَ: خُذْ حَدِيثي، ودخلتُ هَذَا الخرابَ لأبولَ، فأنعظتُ فهممتُ أَن اجْلِد عميرةَ. فَدخل صبيان كالقمرين، فَلم يرياني، وأخذا يتبادلان فَقُمْت إِلَى هَذَا فنكته، وَإِلَى هَذَا فنكته. وخرجتُ كَمَا تراني مُتَعَجِّبا بِاللَّه، مَا هَذَا بعجب؟ ؟ قلت - بلَى وَالله - وَانْصَرف لَا حَفِظك الله. جاءُوا إِلَى أبي نُواسٍ بِغُلَام ملِيح، إِلَّا أَنه أعُرجُ. فَقَالَ: مَا أصنعُ بِهِ وَهُوَ أعرجُ؟ فَقَالَ الغلامُ: إنْ أردَتني لِأَن تضربَ عَليّ بالصوالجةِ فَلَا أصلحُ لذَلِك وَإِن أردتَني للنيك فقُم. كتب رجلٌ إِلَى غُلَام كَانَ يعشقُه: وضعتُ على الثرى خدي لترضَى. فَكتب إِلَيْهِ الْغُلَام: زنْ عشرَة دَراهم، وضَعْ خدَّك على خدي.(5/197)
وصفُوا غُلَاما عِنْد بعض اللاطة، فَقيل: هُوَ فاسدٌ. قَالَ: فِي فَسادِه صَلاحي. نظر غُلَام فِي الْمرْآة، فرى لحيتَه قد بدتْ وَقَالَ فَقَالَ قَوَّادُه بعث المبرِّد غلامَه، وَقَالَ بِحَضْرَة النَّاس: امْضِ فإنْ رأيتَه فَلَا تقُلْ لَهُ، وَإِن لم ترَه فَقل لَهُ. فَذهب الغلامُ، ورجعَ فَقَالَ: لم أره، فقلتُ لَهُ، فجاءَ فلمْ يجِئ فسُئِل الغلامُ بعد ذَلِك، فَقَالَ: انْفذَني إِلَى غُلام، فَقَالَ: إِن رَأَيْت مولاهُ فَلَا تقُلْ لَهُ شَيْئا، وَإِن لم تره فادْعُه. فذهبُ فَلم أرَ مَولاهُ، فقلتُ: فجَاء الموْلى، فَلم يجِئ الْغُلَام. أَدخل ابنُ سَيابةَ غُلَام ليفسِقَ بِهِ، فقالَ لَهُ الغُلامٌ: أَنْت ابنُ سَيابة الزنديقُ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَيْن الزندقةُ؟ ونومَه، وَأدْخل عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: يَا بُني: قيل لأبي نواس لِمَ تُؤْثر الغُلامَ الْفَحْل على الخصى؟ فَقَالَ: لَان الْغُلَام مَعَه بيْذقان فِي وسط الرقعة يدْفع بهما الشاةَ. قيل للوطي: كَيفَ رَأَيْت فلَانا؟ لغلام كَانَ يتعاطَاهُ. فَقَالَ: يجعلُ البيذّقَ فِرْزَاناً. غَمز لوطي غُلَام، فَقَالَ الغلامُ: أَنا لَا أصلُحُ لما تريدُ. فَقَالَ اللوطي: وَأَنا أجعلُك بحيثُ تصلُح. قَالَ بَعضهم سمعتُ شيْخاً قد خرف بعد شطارة يَقُول: نكتُ غُلَاما فِي دهليزي أمس فأردتُ أَن أدخُل عَلَيْهِ، فَقَالَ لي: لَا تفعلْ، فَإِنِّي مسحُتُ على خُفي، وأكرهُ أَن ينْتَقض وضوئي. فقلتُ: إنَّ نيك الغِلمان بَين الفخذين لَا ينقضُ وضُوءَهم. وَقَالَ آخر: رأيتُ شَيخا مِنْ كبار الشُّطار، يمرُّ ومعهُ صَبي صَغيرٌ. فقلتُ: بلغنَا هَذِه الحالَ. فَقَالَ: يَا سَيِّدي إِن الْأسد إِذا كبر يَصيدُ الضفادع. وجدَ شيخ مَعَ صبي خلفَ كرَب فَقَالُوا لَهُ يَا شيخُ. أما تَسْتحي وَأَنت رجلٌ(5/198)
عَاقل؟ لم لَا تحصن نفْسَك؟ فَأخْرج من فِيهِ قِطْعَة فِيهَا قيراطٌ، وَقَالَ: وَالله مَا أملكُ غَيره وَقد رضى بهَا هَذَا الصَّبِي. فَهَل فِيكُم مَنْ يزوجني بهَا حَتَّى أتحصن؟ سَأَلَ بعضُهم غُلَاما، وَإِعْطَاء دِرْهمين، فَأَرَادَ أنْ يدخُل عَلَيْهِ، فَامْتنعَ، وَقَالَ: لَا أقْوى. فَقَالَ الرجل قد خيَّرتُك فِي إِحْدَى ثَلَاث - وَكَانَ يعْلم أَن الْغُلَام يذْهب مَذْهَب الجَماعةِ - إِمَّا أَن تردَّ الدِّرهمين، أوْ تدعَني أدخلُه، أَو تَقول: الْقُرْآن مَخْلُوق. قَالَ الْغُلَام: أما ردُّ شيءٍ من الدرهمين فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، وَأما القرآنُ فَلَو ضربْت عنُقي مَا قلتُ إنَّه مخْلوقٌ، وَأما الثَّالثةُ فأتحمّلُها فَأدْخل عَلَيْهِ، وَصَاح الغلامُ وَجعل يَقُول: صَاح الصبيانُ بِأبي سعيد الخرزي: يَا لوطي يَا لُوطي. فَجعل يضحكُ فَقيل لَهُ: يَا شيخ. أمَا تَسْتَحي؟ يَصِيح بك الصبيانُ - وَأَنت تضحكُ؟ قَالَ: فديتُك. إِذا صدقُوا أيش يمكنني أنْ أقُول؟ غضب سعيد بن وهب يَوْمًا على غُلَام لَهُ، فأمَرَ بِهِ، فبطحَ، وكشف الثَّوْب عَنهُ ليضربه، وَقَالَ: يَا بن الفاعِلة. إنَّما غرتْك استُك هَذِه حَتَّى اجترأتَ على هَذِه الجرْأة، وسأُريك هوانها عَليّ. فَقَالَ الغلامُ: طالما غرتْك هَذِه الأستُ حَتَّى اجترأت على اللهِ، وسوف ترى هوانك عليْه. قَالَ سعيدٌ: فورد على مِن حالهِ مَا حيرني، وَسقط السَّوْط. من يَدي. قسَم بعضُ الْوُلَاة بِالْمَدِينَةِ قسْماً فِي الزَّمني، فأتاهُ أَبُو خزيْمَة، فَقَالَ: أَعْطِنِي فَإِنِّي زمِنٌ. قَالَ: مَا أرى بك زمَانةً. قَالَ: بلَى قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَنا لُوطي. قَالَ: نعم، إنَّك لزمِنٌ من عقلك، وأعْطاه. سُئِلَ ابنُ سيابة عَن مؤاجر، فَقَالَ وَكَانَ يَقُول: نيك وَكَانَ يترافق اثْنَان: أَحدهمَا " يَقُود بالصِّبيان الصغار، وَالْآخر، بالبالغين الْكِبَار، وكلُّ وَاحِد يعيبُ صاحبَه، ويعنِّفُه، حَتَّى أخِذ فِي بعض الأيّام صَاحِبُ الصِّغار مَعَ صبي، ورُفع إِلَى السُّلطان فضُرب، وحَمل الصَّبِي على عاتِقِه ليطاف بِهِ فِي البَلد، فلقيّهُ رفيقُه، وَهُوَ(5/199)
على تِلْكَ الْحَال، فَقَالَ: قد كنتُ أَنهَاك عَن الصِّغار حذرا عَلَيْك من مثْل هَذَا، وَلَو كَانَ كَبِيرا لم ينكرْ كونُه مَعَك فِي البيْتِ. فَقَالَ: اسكتْ يَا أحمقُ. فَلَو قبلتُ مِنْك وَكَانَ مَكَان هَذَا الصَّغِير ذَاك الْكَبِير، فَكَانَ يُدَقُّ عنقب بثقِله. وجُد آخرُ مَعَ صبي فِي مَنَارَة المسْجد، وسَراويلاتُهما محلولةٌ، فَقيل: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أُرِيد أَن أبْدل تكتهُ بتكتي. قَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ للغلام أير ضخمٌ فَهُوَ فخذٌ ثَالِث. قيل لبَعْضهِم: اللواطُ إِذا استحكَ صَار حُلاقاً. قَالَ: هَذَا مِن أراجيف الزنُّاة. قَالَ بَعضهم: نزل بِي ضيف فنومتُه فِي الدَّار، فوجدتُه فِي بعض اللَّيْل معي على السرير فِي الْبَيْت ينيكني، فقلتُ: ويحْك {} لم دَخلت الْبَيْت؟ قَالَ: وجدتُ البرْدَ. قلتُ: فَلم صعدت السريرَ؟ قَالَ: من البراغيثِ. قلتُ فلمَ تنيكني؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوضِع المسأَلة. دب واحدٌ على غُلام، فانتبه الغُلامُ، وَأخذ شَيْئا فرمَاهُ بِهِ، وَشَجه. فَلَمَّا أصْبحَ، قيل لَهُ: استعْدِ عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا قوم أنيكُهم من غير أَن أستأْذنَهم. ثمَّ أْستعدى عَلَيْهِم إِذا ضربوني؟ ؟ هَذَا لَا يجُوز. كَانَ غلامان يلعبان بالطيور، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: إِذا كَانَ غَدا وتسابقْنا تنايكنا. قَالَ صَاحبه: وَإِن لم نتسابقْ لم نتنايك؟ قَالَ الجاحظُ: كَانَ بعضُ المؤاجرين يعْطي فِي الشَّمال بأَرْبعَة دَراهم وَفِي الْجنُوب بِدِرْهَمَيْنِ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك. فَقَالَ: فِي الشمَال الريحُ عَليّ، وَفِي الجنُوب الريحُ معي. أَرَادَ رجل أَن ينيك غُلَاما بَين فَخذيهِ، فصاح، وَقَالَ: لَا أَنا لَا أطيقُ خَارج نظر رجلٌ إِلَى غُلام وَفِي وَجهه وجبينه أثرٌ. فَقَالَ لَهُ الغُلام - وَقد أدْمَن النظرَ(5/200)
إِلَيْهِ -: يسألُك الله عَن سوء ظنِّك. قَالَ: بل يسألُك عَن سوء مصْرَعِك. نظر بَعضهم إِلَى غُلَام أمْردَ وَهُوَ يتكلَّم بقِحَة، ورقاعة. فَقَالَ: هَذَا وجهُ من يشمُّ التُّرَاب. أَخذ رجلٌ مَعَ غُلَام، فَرفع إِلَى صَاحب الشُّرطة، فأدَّبه، ثمَّ وجدَ بعدَ ذَلِك مَعَ امْرَأَة وعُوقب. وَبعد ذَلِك مَعَ مخنّث فأدِّب، ثمَّ وجد فِي خربة ينيك أناناً. فَقَالَ لَهُ صاحبُ الشُّرطة: وَيلك {} لم لَا تعمِد أيركَ؟ قَالَ: يَا سَيِّدي هَذَا غِمْده، ولكنْ لَسْتُم تتركونني أنْ أغْمده. فضحِك وخلاه. قيل للوطي: وَيحك؟ ؟ إِن مِن النَّاس من يسرقُ، ويزني، وَيعْمل العظائمَ سِنِين كَثِيرَة، وأمْره مسْتُور، وَأَنت إِنَّمَا لُطت منذُ شهور. وَقد شُهرت وافتضحت. فَقَالَ: من يكونُ سرهُّ عِنْد الصِّبيان، كَيفَ يكونُ حَاله؟ نظر بعضُهم إِلَى غُلَام وأدَمنَ النّظر. قَالَ: فَقَالَ الغلامُ: لمَ هَذَا النَظر؟ فقلتُ: سَيِّدي: أَيْن منزلكم؟ قَالَ: فِي النَّار، تطلُب أثرا بعد عين أَن تُؤخر الْيَوْم لغد، وتتبعَ مَالا تأْمَنُ السائِق عَلَيْهِ. دخل بَعضهم الْحمام فَرَأى فِيهِ غُلَاما صبيحاً، فأرادَه على نفْسه فَامْتنعَ، فكابر، وَأَخذه وأفلت الغلامُ، وصاحَ، فَدخل القيِّم وَجَمَاعَة مَعَه، فَقَالُوا للرجل: أَلا تَسْتَحي سوءة لَك؟ قَالَ: قلتُ لَهُ: صُب المَاء عَليّ فَامْتنعَ. قَالُوا: فَمَا بالُ أيرك قَائِما؟ ؟ قَالَ: قَامَ من شدَّة الغَضَب. قيل للوطي: مَتى عَهْدك بِالْحرِّ؟ قَالَ: مذ خرجتُ منْه. ذكر يُونُس بعضَ اللاطة فَقَالَ: يضربُ مَا بَين الكُركى إِلَى العنْدليب يَقُول: لَا يدَعُ رجلا وَلَا صَبيا إِلَّا عفَجهُ. حكى بَعضهم قَالَ: رأيتُ بعضَ اللاطة يضربُ غُلَاما لَهُ ضرْب التَّلف، ويدعى عَلَيْهِ فَسَأَلته عَن ذَنبه. قَالَ: لَيْسَ قلبه فِي الْعَمَل، نكته الْيَوْم وَكَانَ أيره نَائِم.(5/201)
قيل الفتيان: نيك الرجل ريبةٌ. قَالَ: هَذَا مِن أراجيف الزناة. رأى يحيى بنُ أَكْثَم غُلَاما حسنَ الوجْه فِي دَار المأْمون فَقَالَ فَرفع ذَلِك إِلَى المأْمون، فَعَاتَبَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ انْتهى درسِي إِلَى ذَلِك الْموضع، فَضَحك. استنقَع بعضُهم فِي المَاء متكشِّفاً، فَمر بِهِ غلامٌ عمَري كَانَ يتعسفُ فأنكرَ ذَلِك على الرجل كالمحتْسب. فَقَالَ لهُ الرجلُ: بِأبي أنتَ {} أردْتَ إماتَة منْكرٍ، فأحييْتَ أنْكرَ مِنْهُ، وأوْمى إِلَى مَتَاعه. قَالَ بَعضهم: كنتُ عِنْد يحيى بن أكْثم عَشِيَّة، فَدخل إِلَيْهِ عبد الْملك بن عُثمان بن عبد الْوَهَّاب - وَكَانَ يُرمى بِهِ - فَقَالَ: أصلَح اللهُ القَاضِي، إِنَّك أدْخلتَ علينا أَمينا فِي وقُفِنَا، ففعلَ، وفَعلَ. فَقَالَ لَهُ: وتدعُ أنْتَ إنْسَانا يدخلُ عليْك؟ فَمَا سمعتُها نهضتُ. فلمَّا كنتُ فِي صحْن الدَّار سمعتُه يقولُ لَهُ: حُلَّ حُلَّ. وَكَانَ يحيى يقولُ بِالْبَصْرَةِ لي رجلَانِ أبعثُهما ليأتياني بالغِلمان، فأحدهما لَا يأتيني بالغُلام حَتَّى ينيكَ الغلامَ، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق. وَالْآخر لَا يأْتيني حَتَّى ينيكهُ الغلامُ وَهُوَ صلْت بن مَسْعُود. قَالَ العدلي الشِّطْرنجي: كنتُ غُلَاما، فضمني المأْمونُ إِلَى يحيى، فَإِنِّي لِعنْدَهُ يَوْمًا إذْ جَذبَني إِلَى مخْدعٍ فِي مَجْلِسه، وأضْجعني الفاحشةَ، وَنظر مِن ورَاء السّتْر، فَرَأى ابنَ الْعَلَاء بن الوضاح - وَكَانَ مفْرط الْجمال فضربَ عَليّ جَنْبي، وَقَالَ: قُمْ.(5/202)
الْبَاب السَّادِس عشر نَوَادِر البغائين
قَالَ بَعضهم: قلتُ لرجل كَانَ يتعاطى الأدبَ - وَكَانَ مُتَّهمًا -: مَا معنَى قولِهم: " إِذا عزَّ أخُوك فَهُنْ؟ " قَالَ: إِذا لَمْ ينم لتنيكَه فنَمْ حَتَّى ينيكَكَ. دخل عبَادَة على المتَوَكل وَهُوَ نائمٌ، وَمَعَهُ فِي الْفراش أسود قد ظَهرت رجْلاه من اللحافِ، فَقَالَ عبَادَة: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ. بت البارحةَ فِي خُفيكَ وَكَانَ المتَوَكل مِمَّن يُرمى ويتهم بذلك، وخبَره فِي أَمر بشياط الهليوف معروفٌ. قيل لمأْبون: إِن بنتك بِهِ أبنَة فَقَالَ: قيل لِابْنِ عوْن: إِن المتوكلَ قد بنَى بناءَين سماهما الشاةَ: والعروس فَقَالَ: قد فرغ من تحميل النَّاس على النَّاس حَتَّى صَار يُنايك بينْ الأبِنيَةِ فَقَالَ وَقع بينَ أَحْمد بن السندي وبينَ غُلَامه كلامٌ، فَهجَرهُ الغلامُ أَيَّامًا فكادَ أَن يُجَنَّ، فتحمَّل عَلَيْهِ بغَرسَةَ المحتِسب، فَلم يُجبْه الغُلام. وَكَانَ غرسةُ أَيْضا مأبوناً. فَقَالَ: يَا غلامُ. لَو كَانَ أيرك مثل أير بغْل سماعةَ مَا زادَ على هَذَا. فَقَالَ أَحْمد بنُ السندي هُوَ قريبُ مِنْهُ. وَتحمل عَلَيْهِ بإخوانه حَتَّى صالحَهُ، وَاتخذ دَعْوَة أرْعَد فِيهَا وأبْرق. فقيلَ للحنْظلي: عِنْدَ مَنْ كنتُم أمس؟ قَالَ: كُنَّا فِي دَعْوة أير غُلَام أَحْمد بن السنْدي ومرَّ أحمدُ بنُ السندي ببغْل أبي كَانَ الطَّحان - وَقد أدْلىَ - فوقفَ بإزائه ثمَّ تنفس الصُّعَداءَ، فقالَ: هَذَا الأير {} لَا مَا نُعللُ بِهِ استاهنا أَرْبَعِينَ سنة.(5/203)
قيلَ: وَكَانَ هَذَا البغْلُ إِذا أدْلى أَخذ فِي الأَرْض بِرَأْس غُرْمولِه التُّرابَ، فَإِذا ضربَ بِهِ بطْنَه رأيتَ الغُبارَ يتطاير عَن يَمينِه وشِمَاله. قَالَ بعضُهم: دخْلتُ إِلَى رجل من كبار النَّاس بِبَغْدَاد فُجاءةً، وَإِذا غُلامٌ لَهُ فوقْه. فَلَمَّا رَآنِي استَحْيا وقالَ: زعمَ هَذَا الغلامُ أَنه احتْلَم البارحةَ، فأردتُ أنْ أجرِّبه. وَقَالَ أَبُو العيناء: دخلتُ على أبي العلاءَ المنْقَري - وَغُلَامه على ظهْره - فقلتُ: مَا الخَبر؟ فَقَالَ: إنَّ هَذَا الغُلام زعَم أنَّه قد احتْلَم، فظنْنتُ أَنه يكْسَلُ عَنْ خِدْمة النِّساء، فأحُبَبْتُ أَن أمتحنَه. قَالَ: فحدثُتُ بِهَذَا المعتصمَ فَقَالَ: لعَنهُ اللهُ تركني. قيل لرجل من وَلد بشْر بن دَاوُد - وَكَانَ مأْبُونا -: أما تَسْتحي وأبُوك كَانَ سيفَ السُّلطان؟ قَالَ: فَأَنا جُعْبَتُه. وَقَالَ لَهُ آخر: إنَّ أبَاك كَانَ ينيك، وأنتَ تناك. قَالَ: نقَضَنِي ديْنه. قَالَ ابنُ حمدون: بَات عِندي المراكبي الشطْرنْجي - وَكَانَ مأْبُوناً - فسمِعْتُه يقولُ لغُلام كَانَ قد بَاتَ أَيْضا عِنْدي: أعْطِيكَ دينَاراً وتُبادلني، وَأُعْطِيك أنَا قبلا. وَإِن صَغُرت لم أبَال؟ ؟ قيل لبَعْضهِم: لوطي أَنْت أم صاحبُ نِسَاء؟ قَالَ: أنَا لُوطي، وزانٍ وأميلُ إِلَى المخنثين، وأدبُّ بِاللَّيْلِ أَي دِباب، ويعُتريني قليلُ بغَاء. أحْضِرتْ بصَليةٌ فِي منزل رجل كَبِير من أهل بَغْدَاد - وابنُ الهفتي حاضرٌ - وَكَانَ يعاتبه كثيرا، فتسرع ابنُ الهفتي أَيْضا، فَقَالَ لَهُ: أتعِجبك بالأبنةِ قَالَ: هِيَ ألذُّ من طيب الطَّعَام عنْدي. قَالَ: خُذوهَا مِنْ بيْن أيْدينا، فَإِنِّي لَا أشْتهيها. قَالَ: هَذِه أَيْضا فضَيلةٌ مِنْ فَضَائِل البصليَّة لَا يشتهيها البغَّاءُون. وَكَانَ الرجل مرْمياً بالأبْنة. وَقَالَ لَهُ يَوْمًا وَقد رأى لَهُ كنيفاً لَا يدخُلهُ غَيْرهُ: استك عامةُ وكنيفُك خَاصَّة.(5/204)
كَانَ بعضُ آل الجُنيد إذَا رأى إنْسَانا يُرْمي بالبغاء دعَا لفتُحته بِأَن عَافِيَة. فَقَالَ لَهُ عبادةُ مَا صحتْ نيتُك فِي الدُّعاء، لِأَنَّك بَعْد تسألُ بَان. قيل لأبي سَوار: قد امْتهنَك غُلامك هَذَا الْأسود. قَالَ: مَا امْتهنَني، لكني أمتهنُه. عَمدتُ إِلَى أكْرم عِلْق فِيهِ، واستعُملتُه فِي أقْذر مدْخَل فيَّ. أشرفَت امرأةٌ مِن منْظَرة لَهَا فرأتْ فَتى جميلاً أعْجبها، فَقَالَت لجاريتها: أدخليه فأدخلْته. فقدمتِ الطعامَ، وأكلا، أحضرتِ الشرابَ، وآنَستْه، فَلم تَجِد عنْده شَيْئا. فقالتْ مَا أحْوجَنا إِلَى مَنْ كَانَ ينيكنا جَمِيعًا. فَقَالَ: أخذتيها من فمي. أدخَل بعضُ البغائين وَاحِد من السقائين، وحَمَله على نفْسه، فَلَمَّا واقعه قَالَ: أوجعتني، لَا تدخلْه كُله. قَالَ السقاء: فأُخُرجُه؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَمَا أصنَعُ؟ قَالَ: دعهُ مكانَه. قَالَ السقَّاءُ: فمَنْ يحْفظُ البغْل؟ كَانَ الناصرُ ولي وَاحِدًا عَملَ البندرة بجرجانَ، وَكَانَ يُرمي بالأبنْة، فاستقصره يَوْمًا فِي سَبب مَال وجَبَ لمَنْ يَجْبيه. فَقَالَ: أيُّها النَّاصِر، إِنَّمَا الصَّاحِب رحِمه الله بعضُ الكتَّاب مِن الْعرَاق مِمن كَانَ عرَفَهُ وقْتَ مُقامه بِبَغْدَاد، وشكى سوء حَاله، فأحْسَن إِلَيْهِ، وولاه عَملاً، وأجْرى لَهُ فِي كل شهر خمْسَمائة دِرْهَم. وَكتب صَكَّة بذلك؟ َ، فحسدَه بعضُ الحَاضرين وَقَالَ للصَّاحب: إنَّ هَذَا رجلٌ مأْبونٌ، معروفُ الطَّرِيقَة بالفَسادِ، وجَميع مَا تصلُه بِهِ، وتُوصَّلُه إِلَيْهِ ينفقُه على مَنْ يرتكِبُ مَعَه الفضيحةَ، وأفْرطَ فِي ذمَّ الرَّجل، والدَّلالةِ على قَبائحهِ حتَّى طن أَنه قد أفْسدَ حَاله. فَلَمَّا رُدَّ الصَّكُّ إِلَيْهِ للتوقيع فِيهِ لم يشُكَّ السَّاعِي أَنه يُبْطلهُ أَو يمزّقُه. فَلَمَّا(5/205)
أخذهُ، وَنظر فِيهِ كتبَ تحْت مَا كَانَ قَدَّرَ لَهُ كلَّ شهر: ولغُلام يَخْدمه ويستعينُ بِهِ خَمْسُونَ درهما، وَوَقع فِي الصَّك وردَّه إِلَيْهِ. كَانَ لعبادَة غلامٌ كَبِير الفَقْحَة. فَقيل لَهُ: أَنْت بغاء فَيالكَ غُلَام كَبِير الفقحة؟ ؟ قَالَ: يَا حْمقَى: مَا يدريكم: كلما ثقلتْ المرزبَّة كانَ أشدَّ لدُخُول الوتَر.؟(5/206)
الْبَاب السَّابِع عشر نَوَادِر جحا
حكى الجاحظُ. أنَّ اسمهُ نوحٌ، وكنيته أَبُو الغُصن، وَأَنه أربى عَليّ المائِةِ، وَفِيه يقولُ عمرُ بنُ أبي ربيعَة: ولَّهتْ عَقْلي وتلقّبتْ بِي ... حَتَّى كَأَنِّي مِنْ جنُوني جُحا ثمَّ أدْرك أَبَا جعْفر، ونزلَ الكوفةَ. قيلَ لجحا: أتعلمتَ الحسابَ؟ قَالَ: نعمْ. فَمَا يُشكلُ على شيءٌ مِنْهُ. قَالَ لَهُ: اقْسم أربعةَ دراهَم على ثَلَاثَة. فَقَالَ: لِرجلَيْنِ دِرْهَمَانِ، دِرْهَمَانِ، وَلَيْسَ للثالثِ شيءٌ وَأَرَادَ المهديُّ أَن يعبث بِهِ فَدَعا النطع والسَّيف، فَلَمَّا أقُعد فِي النطع، وَقَامَ السيافُ على رَأسه وهز سَيْفه، وَرفع إِلَيْهِ رأسهُ. فَقَالَ: انظُر لَا تُصيبُ محاجمي بالسيفِ، فَإِنِّي قد احتجمتُ فَضَحِك المهديُّ وأجَازَه. وَمَاتَتْ لِأَبِيهِ جاريةُ حبشية: فبعثَ بِهِ إِلَى السُّوق ليَشْتَرِي لَهَا كفناً، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ حَتَّى أنفذ غَيره، وَحمل الْكَفَن، وحُمِلتْ جِنازتُها، فجَاء جُحا - وَقد حُملتْ - فَجعل يعدو فِي الْمَقَابِر، وَيَقُول: رَأَيْتُمْ جَنَازَة جَارِيَة حبشية، كفنُها معي؟ وجمحت بِهِ يغلةٌ يَوْمًا، فأخذتْ بِهِ فِي غير الطَّرِيق الَّذِي أرادَه، فَلَقِيَهُ صديقٌ لَهُ. فَقَالَ: أينَ عزمْت يَا أَبَا الغصنِ؟ فَقَالَ: فِي حاجةٍ للبغْلةِ. وَكَانَ يَأْكُل يَوْمًا مَعَ أمه خُبزاً وبقلاً، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمي، لَا تأكلي الجرجيرَ فَإِنَّهُ يقيمُ الأير.(5/207)
وَمَرَّتْ بِهِ جَنَازَة، فقالَ: بَارك اللهُ لنا فِي الْمَوْت وَفِيمَا بعدَ الموتِ. فَقيل: إِنَّهَا جنازةُ نَصْراني. فَقَالَ: إذنْ لَا بَارك اللهُ لنا فِي الموتِ، وَلَا فِيمَا بعد الْمَوْت. وكانتْ لَهُم جاريةٌ يُقَال لَهَا عميرةُ، فضربتْها أمُّه ذَات يَوْم، وصاحتِ الجاريةُ وَاجْتمعَ الجيرانُ على الْبَاب. فخرجَ إِلَيْهِم، وَقَالَ: مالكُم؟ عافاكم الله. إِنَّمَا هِيَ أُمِّي تجْلد عميرةَ. وَصلى بِقوم - وَفِي كُمِّهِ جَرْو كلب - فَلَمَّا ركَع سقط الجروُ، وَصَاح، وتنحنْح. فالتفتَ إِلَيْهِم، وَقَالَ: إنَّه سلُوقُّي عافاكم الله. وَحمل جرةً خضراء إِلَى السُّوق يبيعُها. فَقَالُوا: هِيَ مثقوبةٌ. فَقَالَ: لَيْسَ تسيل، فإنَّه كَانَ فِيهَا قُطنٌ لوالدتي. فَمَا سالَ مِنْهُ شيءُ. وَأَعْطَاهُ أَبوهُ درهما يزنُه، فطرحَهُ فِي الكِفة، وطرَحَ فِي الكِفة الْأُخْرَى سنجة دِرْهَمَيْنِ، وَهُوَ يحسبهما سَنْجةَ دِرْهَم، فَلم يستويا، فَطرح سنجةَ الدِّرهم على رَأس الدِّرهم، فكانَ أقلَّ، فَطرح حبتين أَيْضا، ثمَّ قَالَ لِأَبِيهِ: لَيْسَ فِي شَيْء، وينقُص حبتين. وَنظر يَوْمًا إِلَى السَّماء، فَقَالَ: مَا أخْلَقها بالمطر لَو كَانَ متغيمةً. ورأوهُ يَوْمًا فِي السُّوق يَعْدو فَقَالُوا: مَا شأْنُك؟ قَالَ: مرّت بكم جاريةٌ رجل مخضوب الْحَيَّة؟ واجتَازَ يَوْم بِبَاب الْجَامِع فَقَالَ: لِمنْ هَذَا الْقصر؟ قَالُوا لَهُ: هَذَا مَسْجِد الْجَامِع. قَالَ: رحِمَ اللهُ جَامعا. مَا أحسنَ مَا بَنَي مسجدَه؟ ؟ وذهبتْ أمُّه فِي عرس، وتركتْهُ فِي البيْتِ، وقالتْ لَهُ: احفَظ الْبَاب. فجلَس إِلَى الظّهْر. فَلَمَّا أبطأَتْ عَلَيْهِ قامَ، فقلَع البابَ، وحملَه على عاتِقِه. وَنظر إِلَى رجل مقيَّد - وَهُوَ مغْتَم - فَقَالَ لَهُ: مَا غمُّك؟ إِذا نُزع عنكَ فثمنُه قائمٌ، ولبسه ربحٌ. وماتتْ خالتُه، فَقَالُوا: اذْهبْ، واشتر لَهَا حَنوطاً. فَقَالَ: أخْشى أَلا ألحق الجنازةَ.(5/208)
وتبخَّر يَوْمًا فأُحْرِقتْ ثيابُه. فَقَالَ: واللهِ لَا تبخرتُ أبدا إِلَّا عُرْياناً لما قَدَم أَبُو مُسلم الْعرَاق قَالَ ليَقْطين بن مُوسَى: أحبُ أنْ أرى جحا. قَالَ: فوجَّه يقطينُ إِلَيْهِ فدعاهُ وَقَالَ: تهيأْ حَتَّى تدخُل على أبي مُسلم فَإِذا دخلْت عليْه فَسلِّم، وإيَّاك أَن تَتَعلَّقَ بِشَيْء دونَ أنْ تشْتدَّ فَإِنِّي أخشاهُ عليْكَ قَالَ: نعمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَد، وجلسَ أَبُو مسْلم وجَّه يقْطينُ إِلَيْهِ فَدَعاه، فأدخلَ على أبي مُسلم - وَهُوَ فِي صَدْر الْمجْلس - ويقطينُ إِلَى جنبه، فسلَّم. ثمَّ قَالَ: يَا يقَطينُ. أيُّكُما أَبُو مُسلم؟ فَضَحِك أَبُو مُسلم حَتَّى وضَع يَده على فَمه. وَلم يكُن رُئي قبلَ ذَلِك ضَاحِكا. وَأَرَادَ جحا الخروجَ إِلَى ضيعْةٍ، فقيلَ لَهُ: أحْسنَ الله صَحَابتَك: فَقَالَ: الموضعُ أقربُ مِنْ ذَاك. وعُجنَ فِي منزلِه، فطلَبوا منْه حطباً. فقالَ: إنْ لم يكُن حطبٌ فأخُبزوه فطِيرا. وَلما حذق الكتابةَ والحسابَ بعث بِهِ الْمعلم مَعَ الصّبيان إِلَى أَبِيه. فَقَالَ لَهُ أبوهُ كمْ عشْرين فِي عشْرين؟ فَقَالَ: أَرْبَعِينَ ودانقين. فَقَالَ وَكَيف صارَ فِيهِ دانقين؟ قَالَ: كَانَ فِيهَا دِرْهم ثقيلٌ. أكلَ جحا يَوْمًا مَعَ قوم رؤساً، فَلَمَّا فرغ من الْأكل دَعَا للْقَوْم، وَقَالَ: أطْعمكُم اللهُ مِنْ رُؤْس أهل الْجنَّة. وضرطَ أَبوهُ يَوْمًا، فَقَالَ جحا: على أيري. فَقَالَ أَبوهُ: ويْلكَ أيش قُلْتَ؟ قَالَ: حسبتُك أُمِّي. وماتتْ أمه فجعلَ يبكي، ويقولُ: رَحمك الله فلقدْ كَانَ بابُكِ مَفْتُوحًا، ومتاعك مبذُولاً. دخلَ البيتَ وَإِذا جاريةُ أَبِيه نائمةٌ، فاتكأ عليْها، فانتبَهتْ، وقالتْ: من ذَا؟ قَالَ: اسكُني أَنا أبي. ورأوهُ فِي جَنَازَة أبي الْعَبَّاس النَّحْوِيّ وَهُوَ يَقُول: يَا أَبَا العَّباس رحمَك اللهُ(5/209)
مَنْ حُرْمَتُنا بعْدك يَا أَبَا الْعَبَّاس. وَسمع قَائِلا يَقُول: مَا أحْسنَ القمرَ؟ فَقَالَ: أَي وَالله خَاصَّة بِاللَّيْلِ. وَجَاز بِقوم فِي كُمِّه خُوخٌ، فَقَالَ لَهُم: مَنْ أخُبرَني بمَا فِي كُمي فلَه أكبر خُوخة فِيهِ؟ قَالُوا: خُوخٌ. فَقَالَ: مَا قَالَ لكم إِلَّا مَنْ أمُّه زانيةُ. وَقَالَ لَهُ أَبوهُ يَوْمًا: احملْ هَذَا الحُب فَقَيرهُ. فَذهب بِهِ، وقيرهُ مِنْ خَارج. فَقَالَ أبُوه: أسْخَنَ اللهُ عينْك: رأيتَ مَنْ قير الحبَّ مِنْ خَارج؟ فَقَالَ جحا: إنْ لم ترْضَ - عافاك اللهُ - فاقْلبه مثلَ الخُفِّ حَتَّى يصيرَ القيْر مِن داخِل. وَبَات لَيْلَة مَعَ صبيانٍ لَهُ، فَجعلُوا يفُسون. فَقَالَ لامْرَأَته: هَذَا - واللهِ - بليةٌ. قَالَت دَعْهم يفْسون فإنَّه أدفأُ لَهُم. فَقَامَ وخرى وسطَ الْبَيْت، ثمَّ قَالَ: أنْبهى الصبيانَ حَتَّى يصْطلُوا بِهَذِهِ النَّار. قيل لَهُ: مَا لوجهك مستطيلاً؟ قَالَ: ولدتُ فِي الصيفِ، وَلَوْلَا أَن الشتَاء أدركهُ لَسَالَ وَجْهي. ورثى يَوْمًا مَغْمُوماً، فَقيل لَهُ: مالَك؟ قَالَ: وقعتْ أُمِّي من السَّطْح على مذاكيرها. وَأخذ بَوْلَه فِي قَارْورة، فَأتى بِهِ الطبيبَ. فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد أنْ أنقطع إِلَى بعْض الملُوكِ. فانظْرْ: هَل أصيبُ مِنْهُ خيرا؟ وَكَانَ فِي دَارهم شجرةُ تين، وكانتْ الدَّار لأمه. فَدَعَا أَبوهُ قوما فسكِروا، وَجعلُوا يَبُولُونَ فِي الْبُسْتَان. فَقَالَ لأُمه: يَا أمه: {} هُوَ ذِي يبولُون فِي أصْل تينك. وَمَاتَتْ ابْنة لَهُ فَذهب ليَشْتَرِي لَهَا كفناً، فَلَمَّا بلغ البزازين رَجَعَ مسرعاً فَقَالَ: لَا تحملُوها حَتَّى أجيءَ أَنا. ومرَّ فِي الميدانِ فَرَأى قصرا مشرفاً، فَوقف ينظر إِلَيْهِ، ويتأمْله طَويلا، ثمَّ(5/210)
قَالَ أتوهمُ أَنِّي رايتُه فِي مَجلَّةِ بني فُلان. وَدخل الْبُسْتَان فتعلَّق ثوبُه بشجرة، فَالْتَفت، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّك بَهِيمَة لكسرتُ أنْفك. وَخرج يَوْمًا بقُمقم يَسْتَقِي فِيهِ مِن مَاء النَّهر، فَسقط مِنْ يَده وغرِق فَقعد على شطِ النَّهر، فمَّر بِهِ صاحبٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا يُقعِدك هَا هُنا؟ قَالَ: قمقمٌ لي قدْ غرق وَأَنا أنْتظُر أنْ ينتَفخَ ويطفُو فوقَ المَاء. وَاشْترى يَوْمًا نفانق فانقض عَلَيْهِ عقابٌ، وانتسفَ بعض النفانِق فَطَار بِهِ فنظَر إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا شقيُّ. وَمن أَيْن لَك خَردَلٌ تأكلُه بِهِ؟ ؟ وأسلمتْه أمُّه فِي البزازين، فقالتْ لَهُ بعْد حَولين: توجهتَ فِي شَيْء؟ قَالَ: نعمْ. تعلمت نصْفَ الْعَمَل. قيل: وَمَا تعلَّمتَ؟ قَالَ: تعلمتُ النشرَ، بَقِي الطيُّ. وَقيل لَهُ - وَكَانَ بَرِيء من جِرَاحَة أَصَابَته: بِمَ تداوَيْت؟ قَالَ: بدَم الْوَالِدين. يُريد دمَ الْأَخَوَيْنِ. وَركب يَوْمًا حمارا، وعقر ذنَبه. فَقَالُوا: لِم فعلت ذَلِك؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ يقدِّمُ سَرجْه. وتعلَّق بلص فِي بعض اللَّيْل، فصاح اللصُّ: قُرحتي. فخلاهُ حَتَّى مر، وَقَالَ: خشيتُ أنْ أوجعهُ. وَكَانَ نقشُ خَاتمه: عَشاءُ اللَّيْل رديءُ. وأخذهُ صاحبُ الْمصلحَة فقدَّمه إِلَى الْوَالِي، فَقَالَ: رأيتُ هَذَا يجْلِده عَميرة. فَقَالَ: احْبِسُوهُ. فلقِيَهُ صديقٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا حالُكَ؟ قَالَ: قصتي عجيبةُ، لَا يَدَعَونا " ننيكهُم. فَإِذا نكنا أنفسَنا حَبَسونَا.(5/211)
الْبَاب الثَّامِن عشر نَوَادِر أشعب
كَانَ يَقُول: كَلْبِي كلبُ سوء، يبصبص للأضياف وينبح أصحابَ الْهَدَايَا. وأشعبُ هَذَا هُوَ الموصوفُ بالطمع. وَقيل لَهُ: مَا بلغ مِنْ طمعك؟ قَالَ: لم تقُلْ هَذَا إِلَّا وَفِي نفْسِك خيرٌ تَصنعهُ بِي. ومِن عَجِيب أخباره أَنه لم يمتْ شريفٌ قطّ من أهل الْمَدِينَة إِلَّا استعدى أشعب عَليّ وَصيته، أَو وَارثه، وَقَالَ لَهُ: احْلِف أَنه لمْ يُوصِ لي بشي قبل مَوته. وَقيل لَهُ: لقد لِقيتَ رجلا من أصْحاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَو حَفظتَ أَحَادِيث تتحدَّثُ بهَا؟ ؟ قَالَ: أَنا أعلُم الناسِ بِالْحَدِيثِ. قيل: فحدِّثنا. قَالَ: حَدثنِي عِكرمةُ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: خلَّتَان لَا تجتمعان فِي مُؤمن إِلَّا دخلَ الجنةَ. ثمَّ سكتَ. قيل لَهُ: هاتِ، مَا الخلَّتان؟ قَالَ: نسِي عِكرمةُ إحداهُما، ونسيُ أَنا الْأُخْرَى. قَالَ بعضُهم: قلت لَهُ: لَو تحدثتَ عِنْد العَشيّة {} فَقَالَ: أخافُ أَن يجِئ إنسانٌ ثقيل: قلتُ: لَيْسَ مَعنا ثالثٌ. فمضَى معي. فَلَمَّا صليتُ دعوتُ بالعشاء، فَلم يلبثْ أنْ جَاءَ صديقٌ يدقُّ البابَ، فَقَالَ أشْعَبُ: تُرى قد صِرنْا إِلَى مَا نكُرهُ؟ قَالَ: قلتُ لَهُ: عِنْدي فِيهِ عشرُ خِصال لَا يُكرهُ مِنْهَا خَصْلةٌ، فَإِن كرهت وَاحِدَة لم آذن لَهُ. قَالَ. هَات. قلت: أولَاهُنَّ أَنه لَا يَأْكُل. فَقَالَ التسع الْبَاقِيَة لَك. أدخلهُ. وَكَانَ أشبعُ لَا يغب طَعَام سَالم بنِ عبد الله بن عُمَر فاشتهى سالمٌ أنْ يأْكل مَعَ بناتِه. فَخرج إِلَى بُستان لَهُ، فجَاء أشعبِ فَخُبر بالقصة فاكترى جملا بدرهم.(5/212)
فَلَمَّا حَاذَى حائطَ الْبُسْتَان. وثبَ، فَصَارَ عَلَيْهِ، فَغطّى سالمٌ بناتَه بِثَوْبِهِ. وَقَالَ: بَنَاتِي بَنَاتِي. فَقَالَ أشعبُ: إِنَّك لتعلَم مَا لنا فِي بناتك من حق وإنّك لتعلَم مَا نُريد. قيل: بغتْ أم أشعب، فضُربتْ، وحُلِقتْ، وحملت على بعير يُطاف بهَا، وَهِي تَقول: منْ رَآنِي فَلَا يزْنينَّ. فأشرفتْ عَلَيْهَا ظريفةٌ من أهل الْمَدِينَة: فَقَالَت لَهَا: إِنَّك لمطاعةٌ {} نَهَانَا الله عنهُ، فَمَا ندعُه، ونَدعهُ لِقَوْلِك؟ ؟ كَانَ زِيَاد بنُ عبدِ الله الْحَارِثِيّ على شُرطةِ الْمَدِينَة، وَكَانَ مبخلاً على الطَّعَام فَدَعَا أشعبَ فِي شهر رمضانَ ليفطرَ عِنْده، فقدِّمتْ إِلَيْهِ فِي أول لَيْلَة بَصَليةٌ معْقُودةٌ، كانتْ تُعْجِبه، فَجعل أشعبُ يُمِعنُ فِيهَا - وزيادٌ يلمحه - فَلَمَّا فَرغوا من الْأكل قَالَ زِيَاد: مَا أظُنُّ أَن لأهل السجْن إِمَامًا يُصَلِّي بهم فِي هَذَا الشَّهْر فَلُيصَلِّ بهم أشْعَبُ. فَقَالَ أشْعبُ: لَو غَير ذَلِك - أصْلحَك الله -؟ قَالَ: وَمَا هُو؟ قَالَ: أحْلِفُ أَنِّي لَا أَذُوق بصَلَيّةً أبَدا. فَخَجِلَ زيادٌ، وتغَافل عَنهُ. قَالَ أشَعب: جَاءَتْنِي جاريةٌ بِدِينَار، وقالتْ هَذِهِ ودَيعةٌ عندكَ. فجعلتُه بيْن ثِنْى الْفراش. فجاءتْ بعد أَيَّام فقالتْ: بِأبي الدينارَ فقلتُ: ارفعي الْفراش، وخُذي ولدّهُ. وكنتُ تركتُ إِلَى جَنْبه درهما فَتركت الدينارَ. وَأخذت الدِّرْهَم وعادت بعد أَيَّام فوجدتْ معهُ درهما آخرَ، فَأَخَذته. وعادت فِي الثَالثة كَذَلِك. فَلَمَّا رأيتُها فِي الرابعةِ بكيتُ. فَقَالَت: مَا يُبكيكَ؟ قلتُ ماتَ دينارُك فِي النِّفاس. قَالَت: وَكَيف يكون للدينار نِفَاسٌ؟ ؟ قلتُ: يَا فاسقةُ تُصدقين بِالْولادَةِ، وَلَا تصدقين بالنفاس {} سَأَلَ سَالم بنُ عبدِ الله بن عمر أشعبَ عَن طمعه، فَقَالَ: قلتُ لصبيان مرَّةً: اذهبُوا. هَذَا سَالم قد فتَح بيتَ صدَقَة عمرَ حَتَّى يُطعمكم تمرْاً. فلمَّا احْتبسوا ظننْتُ انه كَمَا قلتُ لَهُم فغدوْتُ فِي أثَرهم. وَقيل لَهُ: مَا بلغ مِنْ طَمَعِكِ؟ قَالَ: أرى دُخَانَ جَاري فأُرد. وَقيل لَهُ أَيْضا: مَا بلغَ من طمعك؟ قَالَ: لم أر اثْنَيْنِ قطُّ. يتسَارانِ إِلَّا ظننتُ أَنَّهُمَا يأمران لي بِشَيْء.(5/213)
وَقيل أَيْضا: مَا بلغ من طمَعكَ؟ قَالَ: مَا رأيتُ عروساً بِالْمَدِينَةِ تُزفُّ إِلَّا كنستُ بَيْتِي، ورششتُه طمَعاً فِي أَن تُزفَّ إليَّ. ووقف علىَ رجل خَيْزُراني - وَكَانَ يعْمل طبقًا - فَقَالَ لَهُ: وسعْه قَلِيلا. قَالَ الخَيْزْراني: وَمَا تُريد بذلك؟ كأنَّك تُريد أنْ تشتريَه؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن يَشْتَرِيهِ بعضُ الْأَشْرَاف، فَيْهدي إِلَيّ فِيهِ شَيْئا. وَقَالَ لَهُ ابنُ أبي عَتيق: أمَا تَسْتَحي - وعندكَ مَا أرى - مِنْ أنْ تسْأَل الناسَ؟ قَالَ: معي من لُطفِ المسألةِ مَالا تطيبُ نَفسِي بترْكه. وَكَانَ أشعبُ يحدِّث عَنْ عبد الله بن عُمر، فيقولُ: حدَّثني عبد الله، وَكَانَ يُبغضُني فِي الله. وَجلسَ يَوْمًا فِي الشتَاء إِلَى رجل من وَلدِ عُقبة بن أبي مُعَيْطٍ، فمرَّ بِهِ حسنُ بن حسن، فَقَالَ: مَا يُقعِدُك إِلَى جَنْب هَذَا؟ قَالَ: أصْطلي بناره. وَلما مَاتَ ابنُ عائشةَ الْمُغنِي جعل أشْعبُ يبكي، وَيَقُول: قلتُ لكم زوجوا ابْن عَائِشَة من الشماسيةِ حَتَّى يخرجَ بَينهمَا مَزَامِير داودَ، فَلم تَفعلُوا وَكَانَ لَا يُغني حذرٌ مِنْ قَدَر: وَلما أخرجت جنازةُ الصريميةِ المغنّيةِ كَانَ أشعبُ جَالِسا فِي نفر من قُريش، فَبكى عَلَيْهَا، وَقَالَ: اليومَ ذهبَ الغِناءُ كلهُّ. وترحَّمَ عَلَيْهَا، ثُم مَسحَ عيْنَيهِ، والتفتَ إلهيمْ، وَقَالَ: وعَلى ذلكَ فقد كانتْ الزانِيةُ شرَّ خلْق الله فضحكوا، وَقَالُوا: يَا أشعبُ، لَيْسَ بَين بُكائِكَ عليْها، وَبَين لغْنِك إِيَّاهَا فرقٌ. قَالَ: نعم كُنَّا نحبوها الفاجرَة بكَبْش إِذا أردْنَا أَن نزورَها فتطبخ لنا فِي دارها ثمَّ لَا تُعشينا - يشْهد الله - إِلَّا بسلق. وَجَاز بِهِ يَوْمًا سبطٌ لِابْنِ سُريج وَهُوَ جَالس فِي فتية من قُرَيْش، فَوَثَبَ إِلَيْهِ، وَحمله على كتفه، وجعلَ يُرقْصُه ويقولُ: فُديتَ من ولَد عَليّ عُودٍ، واستهل بغناء، وحُنِّك. بحلْوى، وَقطعت سرتُه بزير وخُتِنَ بمِضْراب.(5/214)
وتَبع مرّة امْرَأَة فَقَالَت لَهُ: وَمَا تصنَعُ بِي ولي زوجٌ؟ قَالَ: فتسري بَين فديتك. وقيلَ لَهُ: هَل رأيتَ أطْمعَ مِنْك؟ قَالَ: نعمْ: كَلْب أمِّ حومل، تَبِعنِي فَرسخيْن، وَأَنا أمضُع كُنْدراً. وَلَقَد حسدْتُه على ذَلِك. وخفَّفَ الصَّلَاة مرّة، فَقَالَ لَهُ بعضُ أهل الْمَسْجِد: خفَفتَ الصلاةَ جدا {} قَالَ: لِأَنَّهُ لم يُخالطْها رياءٌ. وَقَالَ لَهُ رجل: ضَاعَ معْروفي عندَك. قَالَ: لِأَنَّهُ جاءَ من غير محْتسب ثمَّ وقَعَ عِنْد غير شَاكر. قيل لَهُ: هَل رأيتَ أحدا أطمعَ مِنْك؟ قَالَ: نعمْ. خَرجْتُ إِلَى الشَّام مَعَ رَفِيق لي، فنزلنا بعض الديارات، فتلاحَيْنَا. فقلتُ: أير هَذَا الراهب فِي حر أم الْكَاذِب. فَلم نشعر إِلَّا بِالرَّاهِبِ قطّ اطلع عليْنَا، وَقد أنعظ وَهُوَ يَقُول: أيُّكم الكَاذِبُ؟ وَدخل يَوْمًا إِلَى بعض الرؤساء - وَهُوَ يَحْتَجم فَقَالَ لَهُ أشعبك حَجمَك بنُوك. كَانَ أشعب عِنْد الْحسن بن الْحسن بن عَليّ عَلَيْهِم السَّلَام، فَدخل عَلَيْهِم أَعْرَابِي مشعث اللِّمة، قَبِيح الْخلقَة متنكِّباً قوساً. فَقَالَ أشعبُ لِلْحسنِ: تأذنُ أنْ أسْلحَ عَلَيْهِ فَسَمعهُ الْأَعرَابِي، فَوضع سَهْما فِي كَبِير قوسه، وفوقه نَحْو أشعب وَقَالَ: لَئِن فَعلت ليكونَنَّ آخِر سلْح تسْلحه أبدا فَقَالَ أشعب لِلْحسنِ: يَا سَيِّدي. أَخَذَنِي وَالله القولنج. قَالَ رجل لأشْعبَ - وَكَانَ صديقَ أَبِيه -: يَا بني. كَانَ أَبوك عظيمَ اللِّحْيَة، فمنْ أشبهتَ أَنْت؟ قَالَ: أشبهتُ أُمِّي.(5/215)
الْبَاب التَّاسِع عشر نَوَادِر السُّؤَّال
قَالَ بَعضهم: رأيتُ سَائِلًا بِبَغْدَاد فِي الزياتين - وهم أنصَب منْ فِي الأَرْض - يسْأَل، وَيَقُول: تَصَدقوا على حُبَّا وكرامةً لأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب. وَلَيْسَ يلتفتُ إِلَيْهِ أحد، وَلَا يُعطيهِ شَيْئا. فدفعتُ إِلَيْهِ درهما، وقلتُ فِي نَفْسي: إِن هَذَا الْمِسْكِين لَا يعرفُ هَؤُلَاءِ وبُعْضهم لعَلي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَأخذ الدرهمَ مني، وَقَالَ: يَا صَاحب الصدقَةِ، إنْ كنتَ تصدقتَ بهَا على وَفِي قَلْبك بُغْضٌ لأبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وفلانٍ، وفلانٍ ومعاويةَ خَالِ الْمُؤمنِينَ رديفِ المصْطفى، وَكَاتب الْوَحْي فَقطع اللهُ يديكَ ورجلَيْك وأعْمى عَيْنيكَ. قَالَ: فأخذتُه الدراهمُ مِنْ كل جانبٍ، وبقيتُ أَنا متحيراً. ثُمَّ مضى فلحظتُه. فَعلِم مَا فِي قلبِي. فَقَالَ: يَا فَتى. على رسْلكَ {} عِنْدك أَن هَؤُلَاءِ القَرانِنةَ لَا يصَّدَّقون على إِلَّا بمثْل هذِه الحيلةِ. جَاءَ سائلٌ إِلَى قوم فَسَأَلَهُمْ، فَردَّوا عَلَيْهِ، وألحَّ عَلَيْهِم فردَّوا. فألحَّ، فخرجَ إِلَيْهِ بعضُهم فَقَالَ: عَافَاك اللهُ. أمَا سمعتَ الرَّدَّ؟ قَالَ: وَلَكِنَّكُمْ غَممتْمُوني فأردتُ أنْ أغمّكم يَا قَرانِنةُ. وقف سائلٌ على قوم، فَقَالَ بعضُهم: يضاعتُنا واحدةٌ. فَقَالَ السائلُ: أَنا أَقُود عَليّ أُمِّي. أعطي سائلٌ كسرةً صَغِيرَة. فَقَالَ: رحم الله من تممها لُقمةٌ. قَالَ بَعضهم: رأيتُ بِبَغْدَاد مكفوفاً: من أَعْطَانِي حَبّةً سقاهُ اللهُ من(5/216)
الْحَوْض على يَد مُعَاوِيَة. فتبعتُه حَتَّى خَلوتُ بِهِ، ولطمْتُه، وقلتُ: يَا كَذَا عَزلتَ أميرَ الْمُؤمنِينَ عَن الحْوض. فَقَالَ: أردْتَ أنْ أسْقَيهُمْ بِحَبَّة على يَد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام؟ ؟ لَا، وَلَا كرامةَ. سَأَلَ أَبُو فِرْعَوْن رجلا، فمنعهُ. فألحَّ عليْه فَأعْطَاهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أخْرنَا وإيَّاهُمْ. نسْألهم إلحافاً، ويعطوننا كُرهاً، فَلَا يُبَاركُ اللهُ لنا فِيهَا، وَلَا يأْجرهُم عَلَيْهَا. وقف سَائل على بَاب، فَقَالَ: يأهَل الدَّار. فبادر صاحبُ الدَّار قبلَ أَن يُتم السائلُ كَلَامه، وَقَالَ: صنَع اللهُ لَك. فَقَالَ السَّائِل: يَا بنَ البَظْراء. كنتَ تصبر حَتَّى تسمع كَلَامي عَسى جئتُ أَدْعُوك إِلَى دَعوة. وقف أَعْرَابِي سَائل على بابٍ، وَسَأَلَ. فَأَجَابَهُ رجلٌ: لَيْسَ هَا هُنا أحدٌ قَالَ: إنَّك لاحدٌ لوْ جعل اللهُ فِيك بَرَكةً. قَالَ الجّمازُ: سمعتُ سَائِلًا يَقُول: مَنْ يعطيني حُبَّا لأمينين: جِبْرِيل وَمُعَاوِيَة؟ وقف سائلٌ على بابٍ وَكَانَت صاحبهُ الدَّار تبولُ على البالوعة. فحسبَ السائلُ أَن صوتَ بولها نشيشُ المقلي. فَقَالَ: أطعمُونَا مِنْ هَذَا الَّذِي تقْلُونه. فضرطتْ المرأةُ، وقالتْ: حطُبنَا - وحياتِك - رطبٌ لَيْسَ يشتعل. وَكَانَ آخر يَقُول منْ يعطينى قِطْعَة حُبًّا لهندِ حماة النَّبِي. ووقف سَائل بِبَاب المافروخي عَامل الأهواز، وَسَأَلَ فأعَطَوه لقْمَة من خُبز فسكتَ سَاعَة، وَلم يبرح. ثمَّ صَاح، وقالَ: هَذَا الدّواءُ لأي شيءٍ ينفْعُني؟ وَكَيف آخذُه؟ وقف سَائل على بَاب قوم فَقَالَ: تصدقُوا عَليّ فَإِنِّي جَائِع. قَالُوا: لم نَخبزْ بعدُ. قَالَ: فكفّ سَويق؟ قَالُوا: مَا اشترينا بعدُ. قَالَ: فشربة مَاء فَإِنِّي عطشانْ. قَالُوا: مَا أَتَانَا السقاء بعدُ. قَالَ: فيسيرُ دُهن أضعُه على رَأْسِي. قَالُوا: ومِنْ أَيْن لنا الدهنُ؟ فَقَالَ: يَا أولادَ الزني، فَمَا قعودُكم هَا هُنا؟ ؟ قومُوا وسلُوا معي. وقف سَائل على بَاب دَار فَقَالَ: تصدَّقوا عَليّ. فَقَالَت جاريةٌ من الدَّار: مَا(5/217)
عندنَا شيءٌ نعطيكَ، وسِتى فِي المأتم. فَقَالَ السائلُ: أَي مأتم أعظمُ من مأتمكُم إِذا لم يكن عنْدكُمْ شيءٌ؟ ؟ وقف آخر بِبَاب دارٍ، فَسَأَلَ، فَقَالَ صاحبُ الدَّار: أغْناكَ اللهُ، فَلَيْسَ صبيانُنا هَا هُنَا. قَالَ: إنَّما طلبْتُ كسرةً: لمْ اطلُب الجماعَ. وقفَ آخر بِبَاب فَقَالَ: أوسِعُوا عَليّ مِمَّا رَزَقكم الله فَإِنِّي فِي ضيق. فقالَ. صاحبُ الدَّار: إِن كُنتَ فِي الدّهْليز فِي ضِيق فادخُل الدَّار فَإِنَّهُ أوسعُ لَك فَقَالَ السَّائِل: إِنَّمَا قُلتُ: تأْمُر لي بشيءٍ. فقالَ: قد أمرتُك أنْ تشتري لِابْني قَلنسوة. فَقَالَ السَّائِل: أيش تريدُ مني يَا هَذَا؟ قَالَ: أريدُ مِنْك عشرةَ دَرَاهِم أوديها عَن كِرا الدَّار. فولى السائلُ هَارِبا. وقف أَعْرَابِي على قوم يسألهم، فَقَالَ أحدُهُم لَهُ: بُورك فيكَ. وقالَ آخرُ مَا أَكثر السُّؤَّال؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: تُرانا أكثَر مِنْ بورك فِيك؟ وَالله لقد علمكُم اللهُ كلمة مَا تُبالُون وَلَو كُنا مثل ربيعَة ومُضر. وقف آخُر على بابٍ، فأجابتْه امرأةٌ من الدَّار: مَا خبَزْنا الْيَوْم. قَالَ: فَأعْطِنِي كف دَقِيق. قالتْ: مَا اشترينا بعدُ دَقِيقًا. قَالَ: فاستقْرضي منْ الْجِيرَان رغيفاً. قَالَت لَا يقرضونا. قَالَ قد أحْسَنُوا يَا زانيةُ تستقرضين، وَلَا تردين. لَا يُقْرضُونكِ {} وقف سَائل على إِنْسَان - وَهُوَ مقبلٌ على صديق لَهُ يحدثهُ، ويتغافلُ عَن السَّائِل - ثمَّ قَالَ لهُ بعد سَاعَة طَوِيلَة: صنع الله لَك. فَقَالَ لَهُ السَّائِل: أَيْن كَانَ هَذَا يَا سَيِّدي إِلَى هَذَا الْوَقْت؟ كَانَ فِي الصُّنْدوق؟ وَكَانَ رجل بِبَغْدَاد من الشحاذين فَكَانَ دأبُه أَن يترصَّد إقبال الرّبيع، فيطلبُ وردةً أول مَا تطلُع، وقبْل أَن يَرَاهَا الناسُ فيأْخُذها، ويحملها إِلَى الحذائين ويبشِّرهم بمجيء الصَّيف، وحاجةِ النَّاس إِلَى النّعال، فيجبّون لَهُ شَيْئا، ويعطونه. وَإِذا أقبل الخريفُ عَمدَ إِلَى جَزرة قبل أنْ يرى الناسُ الجزر، ويُهديها إِلَى الخفافين، ويبشرهم بمجيء الشتَاء. فَمَا زَالَ هَذَا دأبه يتعيش مِنْهُ طول عُمره.(5/218)
وَكَانَ رجلٌ منْهم مَعَه صحيفَة، ودواةٌ، فَكَانَ يتَقَدَّم إِلَى الرجل منْ أهْل السُّوق وَغَيرهم، فيسألهُ أنْ يُعطيه شَيْئا، ثمَّ يَقُول لَهُ: أَنا أرْضى بدرهم وَاحِد تُعْطينيه فِي مثل هَذَا الْيَوْم من السّنة الْقَابِلَة. فيستحي الرجلُ فيقولُ: أثبتْ لي خطك بِهَذَا الدِّرْهَم الواحدِ، فيأْخُذ خطَّه، وَيعود فِي الْقَابِل، وَفِي الْيَوْم الَّذِي يكون قدْ أرخه فَيَأْخُذ مِنْهُ ذَلِك. فَكَانَ يجتمعُ لَهُ فِي كل سنة جملةٌ جَاملةٌ. سمع رجل سَائِلًا فِي مسْجد الْكُوفَة يَقُول: أَسأَلكُم بحقِّ أبي بكر وعُمَر، فَمَا أعطَاهُ أحدٌ شَيْئا. فَقَالَ: ليسَ لهَؤُلَاء الْقَوْم هَاهُنَا جاهٌ. رأى أَبُو القمقام الْهلَال على وَجه قصرية فَقَالَ لَهَا: اضحكي فِي وَجْهي وخُذي هَذَا الدِّينَار مني. فاستظرفته، وَأخذت منهُ الدِّينار عَبَثا. فَقَالَ: قد تفاءلتُ بَوجْهك، فَمَا لي عنْدك؟ قَالَت: أردُّ دِيناراً. قَالَ: هَذَا كُما كُنَّا فأينْ حلاوةُ الفأل؟ وصدقت، فَأَعْطَتْهُ دِينَارا. فَقَالَ: التجارةُ بركةٌ والخديعةُ يُمْنٌ. وَكَانَ على عَصا ساسان الْمكْرِي مَكْتُوبًا بِالذَّهَب: الْحَرَكَة بركةٌ، الطراوة سُفتجَة، الكسل شؤْمٌ، التمييزُ جُرمٌ. حكى بعضُهم قَالَ: سَمِعتُ أبن سكّرة يَقُول: كَانَ شرطي مَعَ خمْرة - وَهِي الَّتِي يشببُ بهَا فِي شِعْره، وفيهَا يقولُ. لِخَمرةَ عِنْدِي حديثٌ يطولُ ... رأتني أبولُ فَكَادَتْ تبولُ أَن أعطيها على كل فَرد أَرْبَعَة دوانيق. فَقَالَ: فجاءتني يَوْمًا فأعطيتُها دِرْهَمَيْنِ ونكتها مرَّتَيْنِ. وَلم ينتشر عَليّ فِي الثَّالِث، فأردتُ ارتجاع قسط الْوَاحِد مِنْهَا وامتْنعَتْ من ذَلِك. فبيْنا نحنُ فِي ذَلِك إذْ وقف سائلٌ على الْبَاب، ودعا وَسَأَلَ. فقُلْتُ لَهُ: ادخُل: فَدخل. فقلْتُ: ليْس يحضُرني. ولكنْ نِكْ هَذِه، فقد استْوفتْ جذْرها. قَالَ: فَأخذ بِيَدِهَا، وَدخل الْبَيْت، وناكها. وخرجَ - وأيره فِي يَده - وَهُوَ يقطُر، ويشيرُ إِلَيْهِ، وَيَقُول لي: ثقل اللهُ بِهَذَا مِيزانك يَوْم القيامةِ.(5/219)
الْبَاب الْعشْرُونَ نَوَادِر المعلمين
قَالَ بعضُهم: مَرَرْت بِبَعْض سككِ الْبَصْرَة وَإِذا معلمٌ قد ضرب صَبيا، وَأقَام الصّبيان صفا، وَهُوَ يقولُ هَلُمَّ: اقْرَءُوا. ثمَّ جَاءَ إِلَى صبي بجنْب الصَّبِي الَّذِي ضربه، فَقَالَ: قُل لهَذَا يقرأُ، فَإِنِّي لست ُأكَلِّمهُ. قَالَ أبُو عُثْمَان: كَانَ ابنُ شُبرمة لَا يقبلُ شَهَادَة المعلِّم، وَرُبمَا قبل شَهَادَة المؤدِّب. وَكَانَ يحيى بنُ أَكْثَم أَسْوَأ النَّاس رَأيا فيهم. وَكَانَ السنديُّ بنُ شاهك لَا يستحلِفُ المكاري، وَلَا الحائكَ، وَلَا الملاحَ، ويجعلُ القولَ قولَ المدَّعي ويقولُ: اللَّهم إِنِّي أستَخيرُك فِي الحمَّال ومعلِّم الْكتاب. وصفَ بعضُهم معلِّماً فَقَالَ: هُوَ أفْرهُ الناسِ وصيفاً، وأكثرهُم رغيفاً. قَالَ بَعضهم: مررْتُ بمعلم وَإِذا صِبيانُه يلعبُون ويقتَتِلُون، فقلتُ للمعلم: مَا بالُ صبيانكَ ليْسُوا يَفْرَقُون مِنْك {} قَالَ: وَأَنا أيْضاً لستُ أفُرقُ منْهم. قَالَ: وَقَالَ غُلام لِأَبِيهِ: لَا أُرِيد هَذَا الْمعلم. فَقَالَ لَهُ أبُوه: مَا لَهُ؟ ؟ قَالَ: يصْنُع بِي أمْراً عَظِيما. قَالَ: يسْتخدِمُك؟ قَالَ: أَشد مِنْ ذَلِك. قَالَ: فيضربُك؟ قَالَ أَشد من ذَاك. قَالَ: فيعُفجُك؟ قَالَ أَشد مِن ذَاك. قَالَ: فأيُّ شيءٍ وَيلك يفعلُ بك؟ قَالَ: يأكُل غدايَ. قَالَ: كَانَ معلمٌ يُقيمُ الصبيانَ صَفَّين، ويتكئ صبيين بيدَيْهِ، ويقولُ: أربعةُ وأربعةٌ: ستةٌ. فَقلت لَهُ: إِذا كانَ أربعةٌ وأربعةٌ سِتَّة، فكمْ يكونُ ثلاثةٌ وثلاثةٌ؟ قَالَ: صدقتَ. لم آخذْ جذْره.(5/220)
وَكَانَ لأبي دواد المعلِّم ابنُ، فَمرضِ، فَلَمَّا نَزعَ قَالَ: اغْسِلوه. قَالُوا. لم يمتْ بعد. قَالَ: إِلَى أَن يُفرغَ من غَسْله مَا قد ماتَ. وَقَالَ شريكُه: تعلِّم الصبيانَ - وَعَلَيْك قميصٌ جديدٌ فيسودونه عَلَيْك؟ قَالَ: قد اشتريتُ قطْناً، وَقلت لأهِلنا: يغْزلُون قَمِيصًا خَلَقاً. قَالَ: مررتُ يَوْمًا بمعلِّم - والصبيانُ يحذِفُون عينَه بالقَصب - وَهُوَ ساكتٌ - فَقلت: ويحْكَ {} أرى مِنْك عَجَبا. فَقَالَ: وَمَا هُو؟ قلتُ: أراكَ جالِساً والصبيانُ يَحْذفُون عَيْنِك بالقَصب {} فَقَالَ: اسكتْ، ودَعْهُم. فَمَا فَرحي وَالله إِلَّا أنْ يُصيبَ عَيْني شيءٌ، فأريكَ كيفَ أنتِفُ لِحَي آبَائِهِم. كَانَ بحمص مُعلم يُكنى أَبَا جَعْفَر يتعاطى عِلْمَ الْحساب، فصارتُ إِلَيْهِ يَوْمًا امرأةٌ، فقالتْ: يَا أَبَا جَعْفَر:؛ قفيزُ دَقِيق بثمانيةِ دَرَاهِم كم يُصيبُني بأَرْبعَة دراهمَ؟ فَقَالَ لَهَا، بعد أَن فكَّرَ: فِي هَذِه المسألةِ ثلاثةُ أَقْوَال: أَحدهمَا أنْ تُعطى الرجُل أربعةٌ أُخْرَى، وتأْخُذي قفِيزاً، وَالْآخر: لَك قفيزٌ إِلَّا بأربعةِ دَرَاهِم. وَالثَّالِث: تدفعين دِرْهمَ درهمَ، وتأْخذين مَكُّوكَ مكُّوكَ حَتَّى تستوفين. وَصَارَ إِلَيْهِ ثلاثةُ روز جارتين قد أخذُوا أجْرتَهم دِرهمين فَقَالُوا: يَا أَبَا جَعْفَر، كَيفَ نَقْتٍسم الدِّرهمين ونحنُ ثلاثةٌ؟ قَالَ: أسْقِطوا مِنْكُم وَاحِدًا، وخُذوا دِرهماً درهما. قَالُوا: سبحانَ الله {} كيفَ نُسْقِط أحدَنَا وَقد عمِلَ؟ قَالَ: فزيدوا وَاحِدًا. وخذوا نِصْفَ نصف. قَالُوا: كَيفَ نزيد فينَا من لم يعْمل ويأْخذ كرانا؟ قَالَ: فَخُذُوا نِصْفاً نصْفاً واشتروا بِالْبَاقِي تَمرا، وكُلوه. وَسَأَلته امرأةٌ، فَقَالَت: أربعةُ أَرْطَال تمر بدرهم، كم يُصيبُني بدانق وَنصف؟ ففكر سَاعَة طولة، وأدخلَ يَدَيْهِ تَحت ذَيْلِه، وجعلَ يحُسِبُ بهما ثمَّ أخْرج يديْه وَقد جَمعُهما، وَقَالَ: كُتلةٌ مثلُ هَذِه كبيرةٌ. وَقَالَ بَعضهم مررتُ بمعلم وَهُوَ جالسٌ وَحده، وَلَيْسَ عِنْده من الصّبيان أحدٌ، فقلتُ لَهُ: يَا معلِّمُ، مَا فعل صبيانُك؟ فَقَالَ: خلْف الدُّور يتصافَعون. فقلتُ: أُرِيد أَن أنظرَ إِلَيْهِم. فَقَالَ: إِن كَانَ وَلَا بُدَّ فغط رأسكَ، لَا يحسبُونك أَنا فيصفعُوك. قَالَ: ورأيتُ مُعلِّماً وَقد جَاءَ غلامان قد تعلَّق أَحدهمَا بِالْآخرِ، وَقَالَ: يَا(5/221)
معلِّمُ، هَذَا عضَّ أذُني. فَقَالَ الآخر: واللهِ مَا عضَضْتُها، وإنَّما هُوَ عضّ أذن نفْسِه. فَقَالَ لَهُ الْمعلم: يَا بنَ الخبيثةِ. صَار جَمَلاً حَتَّى يعضَّ أذنَ نفسِه؟ قَالَ: رأيتُ معلما بِالْكُوفَةِ - وَهُوَ شيخٌ مخضوبُ الرَّأْس واللحْية - وَهُوَ يجلس يبكي فوقفتُ عَلَيْهِ، وقلتُ: يَا عمّ: مِمَّ تبْكي؟ فَقَالَ: سرق الصبيانُ خُبْزي. قَالَ: وسمعتُ معلِّماً وَهُوَ يقرئُ صبيّاً وَمَا أمْرُنَا إِلَّا واحدةُ كَلمح بالبصر والصبيُّ يَقُول: كلحم بالبَصِل فَقَالَ لَهُ: يَا فاعلُ، أحسبك تشْتَهي بصَليَّة قَالَ: وَقَرَأَ صبي على معلِّم " الَّذين يَقُولُونَ لَا تُنْفقُوا على مَنْ عِنْد رَسُول الله " فَقَالَ الْمعلم: من عِند أَبِيك القرنَان أوْلى، فَإِنَّهُ كثير المَال يَا بنَ الفاعلة، هُوَ ذَا؟ ؟ تُلْزمُ النَّبِي نَفَقَة لَا تجبُ عَلَيْهِ. أعجبكَ كَثْرَة مَاله؟ ؟ قَالَ: وَرَأَيْت معلما وَقد جَاءَ صبي، فصفعة محكمَة. فَقَالَ لَهُ الْمعلم: أيّهما أصْلبُ: هَذِه أم الَّتِي صَفعْتُك أمْس؟ قَالَ: وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ معلِّم يُفْرط فِي ضرْب الصّبيان، ويشتمهُم. فلاموه على ذَلِك، فَسَأَلَنِي أَن أقْعدَ عِنْده، وأشاهدَ حَاله مَعَهم، فقعدْتُ عِنْده، فَإِذا بصبي يَقُول: يَا معلمُ: " وَإِن عَلَيْك اللعنةَ إِلَى يَوْم الدّين " فَقَالَ: عليكَ وعَلى أبويْكَ. وَجَاء آخر، فَقَالَ: يَا معلِّم: " فاخرجْ مِنْهَا فَإنَّك رَجيم " قَالَ: ذاكَ أبُوك الكَشْخَان. وَجَاء آخر، فَقَالَ: يَا معلِّم: إِنِّي أُرِيد أَن أنْكِحَك " قَالَ: انكح أمَّك الفاعلة. وَقَالَ آخر: يَا معلم: " مَا لنا فِي بَنَاتِك من حقِّ " قَالَ: لَا، وَلَا كرامَة، فَلَا يزالُ مَعَهم فِي مثل هَذَا وَهُوَ يَضْربُهم، ويُزَنِّيهم. قَالَ: ومررت بمعلِّم وَقد جَاءَ صبي صَغِير، فصفعه. فَقلت لَهُ: لمَ تَدَعُ هَذَا(5/222)
الصَّبِي يجترئُ عَلَيْك؟ فَقَالَ: دعْهُ فَإِنِّي أشكُوه غَدا إِلَى أَبِيه. قَرَأَ غلامٌ عَليّ معلم: " إِنَّا وجدْنا آبَاءَنَا على " أمْك " وَإِنَّا على آثَارهم " فَرد عَلَيْهِ الْمعلم " على أمَّةٍ " فَقَالَ: على أمِّك. فَلَمَّا تكَّررَ قَالَ المعلِّم: قُلْ: على أمِّي. فَقَالَ على أمِّي. فَقَالَ الْمعلم: على أَي حَال إِذا وجَدْتَ أباكَ على أمِّك خيرا من أَن تَجدَه على أميِّ أنَا واستفتحَ غلامٌ، فَقَالَ: يَا معلِّم " إِن أبي يدعوكَ " فَقَالَ: هَاتُمْ نعْلِي. فَقَالَ الغلامُ: إِنَّمَا استَفْتحتُ. فَقَالَ: قد أنكرتَ أَن يُفْلح أبُوك. قَالَ معلم لغلام: قُلْ: " قد أفْلحَ مَنْ زَكَاهَّا. وَقد خَابَ من دسَّاها ". فَقَالَ: وَقد داس مَنْ خبَّاها. فَلم يزل يكرِّرُ ذَلِك عَلَيْهِ إِلَى أَن أعْيَتْه العِلَّةُ. فَقَالَ الْمعلم: وَقد داسَ مَنْ خبَّاها. فَقَالَ الغلامُ " وَقد خَابَ من دسَّاها ". فَقَالَ الْمعلم لِأَبِيهِ: قد قلتُ لكَ إِنَّه لَا يُفْلِح. قَالُوا: إِذا قَالَ المعلّم للصبيان: تَهجَّوْا ذَهبّ عقْلُهُ أربعينَ صَباحاً. وَكَانَ بعضُ المعلمين يعلِّم صَبيا، وأمُّهُ حاضرةٌ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأ وَإِلَّا قمتُ ونكتُ أمَّك. فَقَالَت الأمُّ: إنَّه صبي، ويتيم، واليتيمُ فِيهِ لجَاجٌ، وَلَا يؤمِنُ بالشَّيْء حَتَّى يرَاهُ. أَرَادَ معلم أَن يتزوجَ امْرَأَة كَانَ ابنُها عِنْده، فامتنعتْ عَلَيْهِ، فَأمر بحْمل ابْنهَا وضرْبه، وَقَالَ: لم قلتَ لأمك إِن أير الْمعلم كَبِير؟ فَلَمَّا رَجَعَ الصَّبِي إِلَى أمه قَالَ: ضَرَبَنِي المعلمُ وَقَالَ لي: كَذَا، وَكَذَا. فوجَّهتْ إِلَى المعلِم: احضِرْ شهودَك تتزوجُّ. وتزوجته. قَالَ آخر: مَرَرْت بأحدِهم وَصبي يقْرَأ عَلَيْهِ: " فَذَلِك الَّذِي يدُعُّ اليَتِيمَ " والمعلمُ يرد عَلَيْهِ: يدْعُو اليتيمَ، ويضربُه. قَالَ: فجئتُ إِلَيْهِ، وقلتُ: هَذَا من الأمْر بالمعروفِ. ففسَر. فقلتُ: يَا شيخُ، الصَّبِي على الصَّواب، وَأَنت على الْخَطَأ. وإنهما معنى يدعُّ: يدْفعُ. قَالَ: فزبرني، وأغْلظَ لي وقالَ: إِنَّمَا معْناهُ يدعُو اليتيمَ ليفْسِقَ بِهِ. قَالَ: فوليتُ وقلتُ: أَنْت لَا تَرْضى أَن تُخطئ حَتَّى تفسرَ.(5/223)
وَقَالَ: مررتُ بمعلم وَهُوَ يضْرب صَبيْانَه كلَّهم، فسألتُه عَن الذَّنْب فَقَالَ: يُرْجفُون بِي. قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: يزعُمون أَنِّي أحجُّ العامَ، وأمُّ مَنْ نوى هَذَا قَحبةٌ. قَالَ: كَانَ يعلم معلمٌ صبيّاً: " وَإِذا قَالَ لُقْمَان لابْنهِ " " لَا تقصُصْ رُؤْيَاك على إخُوتك فَيَكيدُوا لَك كَيْداً " قيل: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَبوهُ يدخلُ مشاهرة شهر فِي شهر، وَأَنا أدخلهُ مِن سُورَة فِي سُورَة. وَقَرَأَ صبي على معلِّم: أريدُ أَن أنكحكَ. فَقَالَ: هَذَا إِذا قرأتَ على أمِّك الزانيةِ. وَقَرَأَ آخر {} وأمَّا الآخرُ فتصلَبُ. فَقَالَ: هَذَا إِذا قَرَأت عَليّ أَبِيك القَرنَان. قَالَت امرأةٌ لمعلم: إِذا كَانَ مكُّوكُ دَقِيق بدرهم. كم يكون بِربع دِرْهَم؟ فتحير، ثمَّ قَالَ: مِمَّن اشتريتِ؟ قَالَت: مِنْ فلَان الدَّقاق. قَال: اقْنعي بِمَا يعطيك فَإِنَّهُ ثِقةٌ. قَالَ جرابُ الدولة: كَانَ عندنَا بسجستانَ معلمٌ سخيف اجتزتُ يَوْمًا بِهِ يقولُ لصبي بَين يَدَيْهِ: اقْرَأ يَا بنَ الزَّانية. فَأخذت أوبِّخه، فَقَالَ: اسكتْ. فقد نكتُ أمَّه كثيرا. قَالَ: أَبُو دواد لشَرِيكه: يَا أَبَا الْحُسَيْن، دارُ جَعْفَر بن يحيى، خيرٌ أَو دارُ وردِ؟ فأطرقَ، ثمَّ قَالَ: خَيُرهما عِنْد الله أتْقاهُما. قَالَ بعضُهم: مررتُ بمعلِّم وَهُوَ يتلَوى، فقلتُ: مَا شأْنُكَ يَا شيخُ؟ قَالَ: مَا نمتُ البارحةَ من ضَرْبَان العُرُوق. فنظرْت إِلَيْهِ، وقلتُ: أنتَ وَالله صحيحٌ سليمٌ مثلُ الظلِيم. فغضِب واستشَاط، وَقَالَ: أحدُكم يضربُ عَلَيْهِ عِرقٌ وَاحِد فَلَا ينامُ اللَّيْلَة كُله من الصياح، وَأَنا يَضْربُ على حُزمة عروق، وتريدونَ مني أَلا أصِيحَ؟ فقلتُ: وأيُّ حزمة تضربُ عَلَيْك؟ فكشفَ عَن أير مثل أير الْبَغْل وَقَالَ: هَذَا. وَقَالَ بعضُهم: سألتُ معلما: أَنْت أسَنُّ أمْ أَخُوك؟ فَقَالَ: إِذا جَاءَ رمضانُ استوينا.(5/224)
حُكي أَنه كَانَ فِي بعض دُروب بغدادَ معلمٌ، فاجتازَ بِهِ أَبُو عمر القَاضِي يَوْمًا بزينة تامَّة، وهيئة حَسَنَة، فَقَالَ الْمعلم: تَرونَ هَذَا؟ إِن خشخشةَ ثِيَابه، وقَعْقَعةَ مرْكبهِ هُوَ تظْلُّم الأرامل والأيْتَام. فَبلغ ذَلِك أَبَا عُمر، فدعاهُ، وأدْنَاهُ، وأحْسنَ إِلَيْهِ، فَكَانَ إِذا رَآهُ بعد ذَلِك يَقُول: مَا خَشْخشةُ ثِيَابه، وقعقعةُ مرْكبه إِلَّا تسبيحُ الملائكةِ وتهلُيلهم.(5/225)
الْبَاب الْحَادِي وَالْعشْرُونَ نَوَادِر الصِّبيان
قَالَ رجل لِابْنِهِ: مَا أَرَاك تُفْلح أبدا. فَقَالَ الأبن: إِلَّا أنْ يَرْزُقنِي الله مؤدبا غيرَك. قَالَ بَعضهم: أحضِرْتُ لتعليم المعتزّ - وَهُوَ صَغِير - فَقلت لَهُ: بِأَيّ شَيْء تبدأ الْيَوْم؟ فَقَالَ: بالانصراف. قَالَ بَعضهم: رأيتُ أَعْرَابِيًا يعاتبُ ابْنا لَهُ صَغِيرا، وَيذكر حَقه عَلَيْهِ. فَقَالَ الصَّبِي: يَا أبهْ إنَّ عِظمَ حقِّك عَليّ لَا يُبطلُ صغيرَ حَقي عَلَيْك، وَالَّذِي تمتُّ بِهِ إِلَى أمتُّ بِمثلِهِ إِلَيْك، وَلست أقولُ: إِنَّا سواءُ، وَلَكِن لَا يجْمُل الاعتداءُ. عرْبدَ غُلَام على قوم، فَأَرَادَ عمُّه أَن يعاقبَه، ويؤدِّبَه، فَقَالَ لَهُ: يَا عمِّ: إِنِّي قد أسأْتُ، وليسَ معي عقْلي، فَلَا تُسيء بِي ومعَك عقلُك. وَنظر دَميمٌ يَوْمًا فِي الْمرْآة، وَكَانَ ذَمِيمًا، فَقَالَ: الحمدُ لله، خلقّني فَأحْسن خلقي وصورني فاحسن صُورَتي، وَابْن لَهُ صغيرٌ، يسمع كَلَامه. فَلَمَّا خرج سألهُ رجلٌ - كَانَ بِالْبَابِ - عَن أَبِيه. فَقَالَ: هُوَ بالبيتِ يكْذبُ على الله. كَانَ الفتحُ بن خاقَان - وَهُوَ صبي - بَين يديى المعتصم، فَقَالَ لَهُ، وعرضَ عَلَيْهِ خاتَمّهُ: هَل رأيتَ - يَا فتحُ - أحسنَ من هَذَا الفصِّ؟ قَالَ: نعم: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ اليدُ الَّتِي هُوَ فِيهَا أحسنُ مِنْهُ. وَعَاد المعتصمُ أَبَاهُ - وَالْفَتْح صغيرٌ - فَقَالَ لَهُ: دَاري أحسنُ أم دارُ أَبِيك؟ قَالَ: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ، دارُ أبي مَا دُمتَ فِيهِ. قَالَ ابنُ أبي ليلى: رأيتُ بِالْمَدِينَةِ صَبيا قد خرجَ من دَار، وبيدِه عُودٌ(5/226)
مكشوفٌ. فقلتُ لَهُ: غطه لَا ذُعِرْتَ. قَالَ: أَو يْغطى من اللهِ شيءٌ. لَا تلفتَ. قَالَ الفرزدقُ لغلام أعجبهُ إنشادُه: أيسرني أَنِّي أَبوك؟ قَالَ: لَا، ولكنْ أُمِّي، لُيصيبَ أبي من أطايبك. قَالَ البلاذُري: أدخِلَ الرّكاضُ وَهُوَ ابنُ أَربع سِنِين إِلَى الرشيد ليعجبَ من فطنته، فَقَالَ لَهُ: مَا تحبُّ أنْ أهَبَ لَك؟ قَالَ: جميلَ رَأْيك فَإِنِّي أفوزُ بِهِ فِي الدُّنيا، وَالْآخِرَة، فَأمر لَهُ بدنانيرَ، ودراهمَ فصُبَّتْ بَين يَدَيْهِ. فَقَالَ: اختر الأحبَّ إِلَيْك. قَالَ: الأحبَّ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا مِنْ هذَين، وضربَ يدَه إِلَى الدَّنانير فَضَحِك الرشيدُ، وَأمر أَن يضم إِلَى وَلَده، وَيجْرِي عَلَيْهِ. اجتازَ عمرُ بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بصبيان يَلْعَبُونَ، وَفِيهِمْ عبدُ الله ابْن الزُّبير فتهاربُوا إِلَّا عبدَ الله فَإِنَّهُ وقفَ. فَقَالَ لَهُ عمرُ: لِمَ لمْ تَفِرّ مَعَ أَصْحَابك؟ قَالَ: لم يكُن لي جُرمٌ فأفرَّ مِنْك، وَلَا كَانَ الطريقُ ضيّقاً فأُوسِّعَهُ عَلَيْك. قَالَ إياسُ: كَانَ لي أخٌ، فَقَالَ لي وَهُوَ غُلَام صغيرٌ: مِنْ أَي شَيْء خُلقنا قلتُ: مِنْ طين. فَتَنَاول مَدَرةً، وَقَالَ: مِنْ هَذَا؟ قلتُ: نعم. خلَق الله آدم من طين: قَالَ: فيستطيع الَّذِي خلقنَا أَن يُعيدنا إِلَى هَذَا الَّذِي خلقنَا مِنْهُ؟ قلتُ: نعمْ. قَالَ: فَيَنْبَغِي لنا أَن نخافَه. قيل لغلام: أتحبُّ أَن يموتَ أبُوك؟ قَالَ: لَا، ولكنْ أحِبُّ أنْ يُقتلَ لأرثَ ديتَه فإنَّه فَقير. قَعَدَ صبي مَعَ قوم، فقُدم شَيْء حارٌّ، فَأخذ الصَّبِي يبكي. فَقَالُوا: مَا يُبْكيك؟ قَالَ: هُوَ حارٌّ. قَالُوا: فاصبرُ حَتَّى يبرَدَ. قَالَ: أَنْتُم لَا تصبرون. خرج صبي من بيتِ أمِّه فِي صَحو، وَعَاد فِي مطر شَدِيد، فَقَالَت لَهُ أمُّه: فَديتُك ابْني هَذَا المطُر كلهُّ على رأسِك يَجِيء. قَالَ: لَا يامي. كَانَ أكْثُره على الأَرْض، وَلَو كَانَ كلُّه على رَأْسِي لَغرقتُ. وَسمع آخر أمَّه تبْكي فِي السَّحرَ، فَقَالَ: لِمَ تبكينَ؟ قالتْ: ذكرتُ أَبَاك، فَاحْتَرَقَ قلبِي. قَالَ الصبيُّ: صدقْتِ. هَذَا وقتُه. وجهّ(5/227)
رجل ابْنه إِلَى السُّوق ليَشْتَرِي حبلاً للبئر، وَيكون عشْرين ذِرَاعا، فَانْصَرف مِنْ بعض الطَّرِيق. وَقَالَ: يَا أبي. فِي عرْض كَمْ؟ قَالَ: فِي عَرْض مصيبتي فِيك. وَقَالَ آخر لِابْنِهِ، وَهُوَ فِي الْمكتب. فِي أَي سُورة أَنْت؟ فَقَالَ: لَا أقِسمُ بِهَذَا الْبَلَد، ووالد بِلَا ولد. فقَال: لعمرْي. مَنْ كنتَ ولدَه فَهُوَ بِلَا ولد. وَقَالَ آخر لِابْنِهِ: أَيْن بلغْتَ عِنْد المعلِّم؟ فَقَالَ: الفرجَ. أَرَادَ الفجرَ. فَقَالَ الأبُ: أَنْت بعدُ فِي حر أمِّك. قيلَ لبَعْضهِم: إِن ابنكَ يناك. فَقَالَ لأبنه: مَا هَذَا الَّذِي يُقال؟ قَالَ: كذَبُوا وَإِنَّمَا أَنا أنيكهم: فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام رآهُ وَقد اجْتمع عَلَيْهِ عدةٌ من الصّبيان ينيكونه، فَقَالَ: مِمَّن تعلمتَ هَذَا النيك؟ قَالَ: مِنْ أُمِّي. قَالَ ابنُ أبي زيد الحامِض: قَالَ لي أبي: يَا بني، لَيْسَ واللهِ تُفْلحُ أبدا فَقَالَ لَهُ: يَا أبه {} لَيْسَ وَالله أُحْنِثُك. جَاءَ صبي إِلَى أَبِيه، فَقَالَ: يَا أبَه. قد وجدتُ فأساً قَالَ: هاته - يَا بُني. قَالَ: لَيْسَ فِي رَأسه حديدٌ. قَالَ: يَا مشئوم {} فَقل: وجدتُ وتدا.(5/228)
الْبَاب الثَّانِي وَالْعشْرُونَ نَوَادِر للعبيد والمماليك
ولي بعض الْأُمَرَاء مولى بعد غيبَة طَوِيلَة فَقَالَ: أَنْت فِي الْأَحْيَاء بعد فَقَالَ: وَأَنا أستخير أَن أَمُوت قبل مولَايَ الْأَمِير. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت فِي السُّوق غُلَاما يُنادي عَلَيْهِ، فقدمتُ واستعرضته فَقَالَ: إِن أردْت أَن تشتريني فَاعْلَم أَنِّي قد حَلَفت أَن لَا أنيك مولَايَ أبدا حَتَّى ألْقى الله، فَإِذا إنّه الْمِسْكِين كَانَ مُبلى بِصَاحِب يُؤْذِيه ويستنيكه. استباع غُلَام فَقيل: لم تستبيع؟ قَالَ: لِأَن مولَايَ يُصَلي من قعُود وينيكني من قيام ويلحَن إِذا قَرَأَ الْقُرْآن ويُعرب إِذا زنا بِي. قَالَ الدّارمي لغلامه: بِأبي أَنْت وَأمي لَو كَانَ العِتق مثل الطّلاق لسَررتُك بِوَاحِدَة. اعْترض بَعضهم غُلَاما أَرَادَ شِرَاءَهُ فَقَالَ يَا غُلَام: إِن أشتريتك تُفلح؟ فَقَالَ: فَإِن لم تشتر. قَالَ أَبُو العيناء: أشتُرى للواثق عبدٌ فصيحٌ من الْبَادِيَة، فأتيناه وَجَعَلنَا نكتب عَنهُ كلّ مَا يَقُول، فَلَمَّا رأى ذَلِك مِنّا قلّب طرفه وَقَالَ: إنّ تُرَاب قعرها لملتْهب. يُقَال ذَلِك للرجُل يُسَر النَّاس بِرُؤْيَتِهِ لانتفاعهم بِهِ وأصل ذَلِك: أنّ الْحَافِر يحْفر فَإِن خرج التّراب مُرّا علم أنّ المَاء مِلح وَإِن كَانَ طيّباً علم أنّ المَاء عذب فأنبط وَإِذا خرج طيّباً انتبه الصّبيان.(5/229)
اشْترى بعضُ الهاشميّين غُلَاما فصيحاً فَبلغ الرشيد خَبره، فَأرْسل إِلَيْهِ يَطْلُبهُ. فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لم أشتره إِلَّا لَك، فلمّا وقف الْغُلَام بَين يَدي الرّشيد قَالَ لَهُ: إنّ مَوْلَاك قد وهبك لي. فَقَالَ الْغُلَام: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا زِلْتُ وَلَا زُلْتُ. قَالَ: فَسِّر. فَقَالَ: مَا زِلتُ لَك وَأَنا فِي مِلكه وَلَا زُلتُ عَن مِلكه، فأُعجب الرّشيد بِهِ وقدّمه. قَالَ أَبُو العيناء: مَرَرْت بسُوق النخّاسين بِالْبَصْرَةِ، فَإِذا غُلَام يُنادي عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ دِينَارا والغلام يُساوي خَمْسمِائَة دِينَار، فاشتريته وَكنت أبني دَارا فَدفعت إِلَيْهِ عشْرين دِينَارا على أَن يُنفقها، فَلم أزل أصك عَلَيْهِ حَتَّى أنْفق نَحْو الْعشْرَة. ثمَّ صككت بِشَيْء آخر. فَقَالَ لي: فَأَيْنَ أصل المَال؟ قلتك ارْفَعْ إِلَيّ حِسَابك، فَرفع حِسَاباً بِعشْرَة دَنَانِير. فَقلت: فأَين الْبَاقِي؟ قَالَ: اشْتريت ثوبا مصمتاً وقطعته. قلت: من أَمرك بِهَذَا؟ قَالَ: إنّ أهل المُرَوَّات والأقدار لَا يعيبون على غلمانهم إِذا فعلوا فعلا يعود زِينَة عَلَيْهِم. قَالَ: فقلتُ فِي نَفسِي: أشتريتُ الْأَصْمَعِي وَابْن الْأَعرَابِي وَلم أدر. وَكَانَت فِي نَفسِي امْرَأَة أردْت تزوجّها فَقَالَت يَا غُلَام: فِيك خير. قَالَ: وَهل الْخَيْر إِلَّا فِي. فَقلت لَهُ: قد عزمت على كَذَا. وتزوجتها ودفعتُ إِلَى الْغُلَام دِينَارا وقلتُ لَهُ: خُذ لنا سمكًا هازبي، فَأَبْطَأَ وَاشْترى مارماهي فأنكرت عَلَيْهِ خلافي. فَقَالَ يَا مولَايَ: فكّرتُ فَإِذا بُقراط يَقُول: الهازبي يُولد السّوداء والمارمَاهي أقلّ غائلة. قلت: لَا الَّذِي بقُراط أَنْت أم جالينوس وأدخلته الْبَيْت وضربته عشرَة، فَلَمَّا قَامَ أَخَذَنِي وضربني سَبْعَة وَقَالَ يَا مولَايَ: الْأَدَب ثَلَاثَة وَسَبْعَة لَهَا قِصاص، فغاظني ورميته فشججته، فَمضى إِلَى ابْنه عمي وَقَالَ لَهَا: الدّين النَّصِيحَة وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من غَشنَا فَلَيْسَ منّا. وَقَالَ: مولى الْقَوْم مِنْهُم: وأعلمك أنّ مولَايَ تزوّج وَاسْتَكْتَمَنِي، فَلَمَّا أعلّمتُه أَنِّي مُعرفّك مَا فعل شجنّي، فوجّهت إِلَى بنت عمى بغِلمان، فبطِحت فِي(5/230)
الدّار وَضربت وسمتّه النّايح، فَمَا كَانَ يتهيأ لي كَلَامه. فَقلت: اعتقه، فلعلّه يمْضِي عني، فلزمني ولذّ بِي وَقَالَ: الْآن وَجب حَقك عَليّ، ثمَّ إنّه أَرَادَ الحجّ، فجهزّته، فَغَاب عني عشْرين يَوْمًا وَرجع فَقلت: لم رجَعْتَ؟ فَقَالَ: قُطع علينا وفكّرتُ، فَإِذا الله جلّ وعزّ يَقُول: " وَالله على الناسِ حج البيتِ مَنِ اسْتطاعَ إليْه سبِيلاً " وَكنت غير مُستطيع وَإِذا حَقك أوجَبُ على فرَجَعْتُ، ثمَّ إِنَّه أَرَادَ الْغَزْو فجهّزتُه، فَلَمَّا صَار على عشرَة فراسخ بعتُ مَا كَانَ لي بِالْبَصْرَةِ وَخرجت عَنْهَا خوفًا أَن يرجع وصرت إِلَى بَغْدَاد. قَالَ بَعضهم: استعرضْتُ غُلَاما فَقلت لَهُ: يَا غُلَام تحبّ أَن أشتريك. فَقَالَ: حَتَّى أسأَل عَنْك. أعتق عبد الله بن جَعْفَر غُلَاما، فَقَالَ الْغُلَام: أكتُب كَمَا أملي. قَالَ: فأملِ. قَالَ: اكتُب: كنتَ بالأمسِ لي، فوهَبْتُك لمن وهَبَكَ لي، فَأَنت الْيَوْم وَالْيَوْم صرت مثلي، فَكتب ذَلِك وَاسْتَحْسنهُ وزاده خيرا. قَالَ حَمَّاد بن إِسْحَاق الْموصِلِي: كَانَ لأبي غُلَام يسْتقي المَاء لمن فِي دَاره على بغْلَين، فَانْصَرف أبي يَوْمًا وَهُوَ يَسُوقُ الْبَغْل وَقد قَرُب من الْحَوْض الَّذِي يصُبّ فِيهِ المَاء. فَقَالَ: مَا خبَرُك يَا فتح؟ قَالَ: خبري أنّه لَيْسَ فِي الدّار أشقي منّي ومنك. قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنَّك تُطعمهم الخُبز وَأَنا أسقيهم المَاء، فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ: فَمَا تحب أَن أصنع بك؟ قَالَ: تعتقني وتهب لي هذَيْن البغلين، فَفعل ذَلِك. استعرض رجلغلاما فَقَالَ لَهُ: أشتريك؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: وَلم؟ قَالَ: كَيفَ تتخذني عبدا بعد أَن اتخذتني مُشِيرا. وَقَالَ رجل لعَبْدِهِ: اذْهَبْ إِلَى الْمنزل واحمل الشمع لأعود بِهِ فَقَالَ: أَنا لَا أجسر. فَقَالَ: معي حَتَّى أحملهُ وننصرف جَمِيعًا. وَالْحَمْد لله حق حَمده وَالصَّلَاة على نبيه مُحَمَّد وَآله.(5/231)
الْجُزْء السَّادِس بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وأنعمت فزد، الْحَمد لله الَّذِي إِذا أَرَادَ شَيْئا قدره تَقْديرا، وَكَانَ خلقه عَلَيْهِ يَسِيرا، " إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون ". خلق ورزق، وَقد أبدأ وَعلم، وألهم وسدد، وأرشد وَبشر، وأنذر ووعد وأوعد، خلقنَا بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَة، ورزقنا من نعْمَته السابغة، وذرأنا بقوته الْقَاهِرَة، وبرأنا بقدرته الباهرة، وَعلمنَا رشد الدّين، وألهمنا برد الْيَقِين، وسددنا للنهج القويم، وأرشدنا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم،، وبشرنا بثوابه الْعَظِيم، وأنذرنا بعقابه الْأَلِيم، ووعدنا على الطَّاعَة خيرا دَائِما، وأوعدنا عَن الْمعْصِيَة شرا لَازِما، وَبعث إِلَيْنَا رسله الداعين إِلَيْهِ، الدالين عَلَيْهِ، نادين إِلَى فَرْضه، قَائِمين بِحقِّهِ فِي أرضه، واجتبى مِنْهُم مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله واصطفاه وَاخْتَارَهُ لدينِهِ وارتضاه فَبَعثه إِلَى الْأسود والأحمر، والفصيح والأعجم، وَالْمُؤمن والمعاند، وَالْمقر والجاحد، والداني والشاحط، والراضي والساخط، وَالْبر والفاجر، وَالْمُسلم وَالْكَافِر، حَتَّى أوضح لَهُم الدّين. وأرشدهم أَجْمَعِينَ، فَوَجَبت فِرْيَة الثَّوَاب لمن اسْتَجَابَ فاهتدى. وحقت كلمة الْعَذَاب على من ارتاب فاعتدى. وَسعد من سمع دعاءه فَأقر وقر، وشقى من صم عَنهُ فنفر وفر، وَبَعثه تَعَالَى بِكَلِمَة الصدْق وأرسله بِالْهدى وَدين الْحق، وأيده بالأعلام من أسرته، والنجوم من عترته، والسابقين إِلَى صحبته ونصرته، حجج الله على الْخلق، وسيوفه على المارقين من الْحق، جاهدوا فِي الله حق الْجِهَاد، وأذلوا أهل الشقاق والعناد ن حَتَّى قَالَ عز من قَائِل " يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ "، اللَّهُمَّ فضل عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم صَلَاة أوجبتها لَهُم بإحسانك العميم، واستوجبوها مِنْك باجتهادهم(6/3)
الْعَظِيم إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْمُجيب اللَّهُمَّ وفقنا لاتباع أَمرك، وأعنا على أعباء شكرك، وَلَا تَحْرِمنَا الشُّكْر إِذا أوليت، وَالْأَجْر إِذا أبليت، وَاجعَل توفيقك لنا رائداً وَقَائِدًا وهاديا وحاديا وموافقا ومرافقا ومعينا وقريبا، فَلَا حول إِلَّا بك وَلَا توفيق إِلَّا مِنْك، وَلَا عصمَة إِلَّا إِذا عصمت، وَلَا سَلامَة إِلَّا إِذا سلمت، فاقرن لنا سَلامَة النَّفس بسلامة الْيَقِين، وسعادة الدُّنْيَا بسعادة يَوْم الدّين، وصل على السراج الْمُنِير والنور المستبين مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله الطاهرين. هَذَا هُوَ الْفَصْل السَّادِس من كتاب نثر الدّرّ ويشتمل على سِتَّة عشر بَابا الْبَاب الأول: فِيهِ نكت من كَلَام فصيح الْأَعْرَاب الْبَاب الثَّانِي: فِيهِ فقر وَحكم للاعراب الْبَاب الثَّالِث: أدعية وَكَلَام لسؤال الْأَعْرَاب الْبَاب الرَّابِع: فِي أَمْثَال الْعَرَب الْبَاب الْخَامِس: فِي النُّجُوم وأنواعها على مَذْهَب الْعَرَب الْبَاب السَّادِس: أسجاع الْكُهَّان الْعَرَب الْبَاب السَّابِع: أوابد الْعَرَب الْبَاب الثَّامِن: وَصَايَا الْعَرَب الْبَاب التَّاسِع: أسامي أَفْرَاس الْعَرَب الْبَاب الْعَاشِر: أسامي سيوف الْعَرَب الْبَاب الْحَادِي عشر: نَوَادِر الْأَعْرَاب الْبَاب الثَّانِي عشر: أَمْثَال الْعَامَّة والسفل الْبَاب الثَّالِث عشر: نَوَادِر أَصْحَاب الشَّرَاب والسكارى الْبَاب الرَّابِع عشر: فِي أكاذيب الْعَرَب وَغَيرهم الْبَاب الْخَامِس عشر: فِي نَوَادِر المجان الْبَاب السَّادِس عشر: نَوَادِر فِي الضراط والفساء(6/4)
الْبَاب الأول نكت من فصيح كَلَام الْعَرَب وخطبهم
حَدثنَا الصاحب كَافِي الكفاة رَحْمَة الله عَلَيْهِ عَن الأبجر عَن ابْن دُرَيْد عَن عَمه عَن ابْن الْكَلْبِيّ عَن أَبِيه قَالَ: ورد بعض بني أَسد من المعمرين على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ: مَا تذكر؟ قَالَ: كنت عشيقاً لعقيلة من عقائل الْحَيّ أركب لَهَا الصعب والذلول، أتهم وأنجد وأغور لاآلو مربأة فِي متجر إِلَّا أَتَيْته، يلفظني الْحزن إِلَى السهل، فَخرجت أقصد دهماء الْمَوْسِم، فَإِذا أَنا بقباب سامية على قلل الْجبَال مُجَللَة بأنطاع الطَّائِف وَإِذا جزر تنحر، وَأُخْرَى تساق، وَإِذا رجل جَهورِي الصَّوْت على نشز من الأَرْض يُنَادي: يَا وَفد الله: الْغَدَاء، الْغَدَاء إِلَّا من تغدى فَليخْرجْ للعشاء. قَالَ: فجهرني مَا رَأَيْت فدلفت أُرِيد عميد الْحَيّ، فرأيته على سَرِير ساسم على رَأسه عِمَامَة خَز سَوْدَاء كَأَن الشعرى العبور تطلع من تحتهَا، وَقد كَانَ بَلغنِي عَن حبر من أَحْبَار الشَّام أَن النَّبِي التهامي هَذَا أَوَان مبعثه. فَقلت: عله. وكدت أفقه بِهِ. فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله.(6/5)
فَقَالَ: لست بِهِ، وَكَأن قد وليتني بِهِ، فَسَأَلت عَنهُ فَقيل: هَذَا أَبُو نَضْلَة هَاشم بن عبد منَاف فَقلت هَذَا المحبر والسناء والرفعة لَا مجد بني جَفْنَة. فَقَالَ مُعَاوِيَة: أشهد أَن الْعَرَب أُوتيت فصل الْخطاب. وصف أَعْرَابِي قوما فَقَالَ كَأَن خدودهم ورق الْمَصَاحِف، وَكَأن حواجبهم الْأَهِلّة وَكَأن أَعْنَاقهم أَبَارِيق الْفضة. دخل ضرار بن عَمْرو والضبي على الْمُنْذر بعد أَن كَانَ طعنه عَامر بن مَالك فأذراه عَن فرسه فأشبل عَلَيْهِ بنوه حَتَّى استشالوه فَعندهَا قَالَ: من سره بنوه ساءته نَفسه، فَقَالَ لَهُ الْمُنْذر: مَا الَّذِي نجاك يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: تَأْخِير الْأَجَل، وإكراهي نَفسِي على المق الطوَال. قَالَ مُعَاوِيَة: لصحار الْعَبْدي: مَا هَذِه البلاغة الَّتِي فِيكُم؟ قَالَ: شَيْء تجيش بِهِ صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فَقَالَ لَهُ رجل من عرض الْقَوْم: هَؤُلَاءِ بالبسر أبْصر مِنْهُم بالخطب. فَقَالَ صحار: أجل وَالله إِنَّا لنعلم أَن الرّيح لتلقحه، وَالْبرد ليعقده، وَأَن الْقَمَر ليصبغه، وَأَن الْحر لينضجه، فَقَالَ مُعَاوِيَة: فَمَا تَعدونَ البلاغة فِيكُم؟ قَالَ الايجاز قَالَ: وَمَا الإيجاز؟ قَالَ: أَن تجيب فَلَا تبطئ، وَتقول فَلَا تخطئ. قَالَ مُعَاوِيَة: أَو كَذَا لي تَقول؟ قَالَ صحار: أَقلنِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تبطئ وَلَا تخطئ. تكلم صعصعة عِنْد مُعَاوِيَة فعرق، فَقَالَ مُعَاوِيَة: بهرك القَوْل؟ قَالَ صعصعة: إِن الْجِيَاد نضاحة بِالْمَاءِ. قيل لبَعْضهِم: من أَيْن أَقبلت؟ قَالَ: من الْفَج العميق. قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْبَيْت الْعَتِيق. قَالُوا: وَهل كَانَ ثمَّ من مطر؟ قَالَ: نعم حَتَّى عفى الْأَثر وأنضر الشّجر، ودهده الْحجر.(6/6)
قَالَ الجاحظ: وَمن خطباء إياد قس بن سَاعِدَة الَّذِي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْته بسوق عكاظ على جمل أَحْمَر وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس اجْتَمعُوا واسمعوا وعوا، من عَاشَ مَاتَ، وَمن مَاتَ فَاتَ، وكل مَا هُوَ آتٍ آتٍ. وَهُوَ الْقَائِل فِي هَذِه: " الْآيَات محكمات، مطر ونبات، وآباء وَأُمَّهَات، وذاهب وَآت، ونجوم وتمور وبحار لَا تغور وَهُوَ الْقَائِل: " يَا معشر إياد: أَيْن ثَمُود وَعَاد؟ أَيْن الْآبَاء والأجداد؟ وَأَيْنَ الْمَعْرُوف الَّذِي لم يشْكر؟ وَأَيْنَ الظُّلم الَّذِي لم يُنكر؟ أقسم قس قسما إِن لله لدينا وَهُوَ أرْضى لَهُ وَأفضل من دينكُمْ هَذَا. سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمْرو بن الْأَهْتَم عَن الزبْرِقَان ابْن بدر فَقَالَ: إِنَّه لمَانع لحوزته، مُطَاع فِي أدنيه قَالَ الزبْرِقَان حسدني يَا رَسُول الله وَلم يقل الْحق. قَالَ عَمْرو. وَهُوَ وَالله زمر الْمُرُوءَة، ضيق العطن، لئيم الْخَال. فَنظر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عَيْنَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله رضيت. فَقلت: أحسن مَا علمت، وغضبت. فَقلت: أَسْوَأ مَا علمت وَمَا كذبت فِي الأولى وصدقت فِي الْأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن من الْبَيَان لسحرا ". وَكَانَ عَامر بن الظرب العدواني حكما وَكَانَ خَطِيبًا رَئِيسا وَهُوَ الَّذِي قَالَ: يَا معشر عدوان، الْخَيْر أُلُوف عروف وَلنْ يُفَارق صَاحبه حَتَّى يُفَارِقهُ، وَإِنِّي لم أكن حكيماً حَتَّى اتبعت الْحُكَمَاء وَلم أكن سيدكم حَتَّى تعبدت لكم. قَالَ بَعضهم، قلت لأبي الْحصين: مَا أعجب مَا رَأَيْت من الخصب؟ قَالَ: كنت أشْرب رثيئة تجرها الشفتان جراً، وقارصاً إِذا تجشأت جدع أنفي، وَرَأَيْت الكمأة تدوسها الْإِبِل بمناسمها، وخلاصة يشمها الْكَلْب فيعطس.(6/7)
قيل لأعرابي: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: خلفت أَرضًا تتظالم معزاها يَقُول: سمنت، وأشرت فتظالمت. قَالَ سعيد بن سلم: كنت والياً بأرمينيه فغبر أَبُو دهمان الْغلابِي على بَابي أَيَّامًا فَلَمَّا وصل مثل بَين يَدي قَائِما بَين السماطين فَقَالَ: إِنِّي وَالله لأعرف أَقْوَامًا لَو علمُوا أَن سف التُّرَاب يُقيم من إصْلَاح أَوْلَادهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عَن عَيْش رَقِيق الْحَوَاشِي، أما وَالله إِنِّي لبعيد الوثبة، بطيء العطفة، إِنَّه وَالله مَا يثنيني عَلَيْك إِلَّا مثل مَا يصرفك عني، وَلِأَن أكون مقلاً مقرباً، أحب إِلَيّ من أَن أكون مكثراً مُبْعدًا وَالله مَا نسْأَل عملا لَا نضبطه وَلَا مَالا إِلَّا وَنحن أَكثر مِنْهُ، إِن هَذَا الْأَمر الَّذِي صَار فِي يدك قد كَانَ فِي يَد غَيْرك، فأمسوا وَالله حَدِيثا، إِن خيرا فخيراً، وَإِن شرا فشراً فتحبب إِلَى عباد الله. بِحسن الْبشر ولين الْجَانِب، فَإِن حب عباد الله مَوْصُول بحب الله، وبغضهم مَوْصُول ببغض الله وهم شُهَدَاء الله على خلقه، ورقباء على من اعوج عَن سَبيله. دخل على الْمهْدي وُفُود خُرَاسَان فَقَامَ رجل مِنْهُم فَقَالَ: أَطَالَ الله بَقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّا قوم نأينا عَن الْعَرَب، وشغلتنا الحروب عَن الْخطب، وأمير الْمُؤمنِينَ يعرف طاعتنا، وَمَا فِيهِ مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير دون الْكثير ويقتصر منا على مَا فِي الضَّمِير دون التَّفْسِير فَقَالَ أَنْت خطيب الْقَوْم. قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء، رَأَيْت أَعْرَابِيًا بِمَكَّة فاستفصحته فَقلت مِمَّن الرجل؟ قَالَ، أسدي يُرِيد أزدي قلت، أَيْن بلدك؟ قَالَ، عمان قلت: صف لي بلدك. فَقَالَ: بلد صلدح، وكثيب أصبح، وفضاء صحصح قلت: مَا مَالك؟ قَالَ: النّخل قلت: أَيْن أَنْت من الْإِبِل؟ قَالَ: إِن النّخل ثَمَرهَا غذَاء، وسعفها ضِيَاء وكربها صلاء وليفها رشاء، وجذعها بِنَاء، وقروها إِنَاء قلت أَنى لَك هَذِه(6/8)
الفصاحة؟ قَالَ: إِنَّا ننزل حجرَة لَا نسْمع فِيهَا ناجخة التيار. وخطب بعض الْأَعْرَاب فَقَالَ: إِن الدُّنْيَا دَار بَلَاغ، وَالْآخِرَة دَار قَرَار، أَيهَا النَّاس خُذُوا من ممركم لمقركم، وَلَا تهتكوا أستاركم عِنْد من لَا تخفى عَلَيْهِ أسراركم، واخرجوا من الدُّنْيَا قُلُوبكُمْ قبل أَن تخرج مِنْهَا أبدانكم فَفِيهَا حييتُمْ ولغيرها خَلفْتُمْ، الْيَوْم عمل بِلَا حِسَاب وَغدا حِسَاب بِلَا عمل، إِن الرجل إِذا هلك قَالَ النَّاس: مَا ترك؟ وَقَالَت الْمَلَائِكَة: مَا قدم؟ فَللَّه آباؤكم قدمُوا بَعْضًا يكن لكم قرضا، وَلَا تخلفوا كلا فَيكون عَلَيْكُم. قيل لبني عبس: كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا لَا نبدأ أبدا بظُلْم، وَلم نَكُنْ بالكثير فنتوكل، وَلَا بِالْقَلِيلِ فنتخاذل، وَكُنَّا نصبر بعد جزع النَّاس سَاعَة. وَسُئِلَ دَغْفَل عَن المماليك فَقَالَ: عز مُسْتَفَاد، وغيظ فِي الأكباد كالأوتاد. قَالَ أَبُو بكر لسَعِيد، أَخْبرنِي عَن نَفسك فِي جاهليتك وإسلامك فَقَالَ: أما جاهليتي فوَاللَّه مَا خمت عَن بهمة، وَلَا هَمَمْت بِأمة وَلَا نادمت غير كريم، وَلَا رئيت إِلَّا فِي خيل مُغيرَة أَو فِي حمل جريرة أَو فِي نَادِي عشيرة، وَأما مذ خطمني الْإِسْلَام فَلَنْ أذكي لَك نَفسِي. قَالَ رجل لغلامه: إِنَّك مَا علمت لضعيف قَلِيل الْغناء. قَالَ: وَكَيف أكون ضَعِيفا قَلِيل الْغناء، وَكَيف كفيتك ثَمَانِينَ بَعِيرًا نزوعاً وفرساً جروراً ورمحاً خطيا وَامْرَأَة فاركاً. قيل لأعرابي: صف لنا خلوتك مَعَ عشيقتك قَالَ: خلوت بهَا وَالْقَمَر يرينيها، فَلَمَّا غَابَ الْقَمَر أرتنيه، قيل فَمَا أَكثر مَا جرى بَيْنكُمَا؟ قَالَ: أقرب مَا أحل الله مِمَّا حرم، الْإِشَارَة بِغَيْر بَأْس، والتعرض لغير مساس، وَلَئِن كَانَت الْأَيَّام طَالَتْ بعْدهَا، لقد كَانَت قَصِيرَة مَعهَا. وَذكر بَعضهم مَسْجِد الْكُوفَة فَقَالَ: شاهدنا فِي هَذ الْمَسْجِد قوما كَانُوا إِذا خلعوا الْحذاء، عقدوا الحبا، وقاسوا أَطْرَاف الْأَحَادِيث، حيروا السَّامع وأخرسوا النَّاطِق.(6/9)
دخل عبد الله بن عبد الله بن الْأَهْتَم على عمر بن عبد الْعَزِيز مَعَ الْعَامَّة فَلم يفاجأ عمر إِلَّا وَهُوَ ماثل بَين يَدَيْهِ، فَتكلم، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: أما بعد، فَإِن الله خلق الْخلق غَنِيا عَن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، وَالنَّاس يَوْمئِذٍ فِي الْمنَازل والرأي مُخْتَلفُونَ، وَالْعرب بشر تِلْكَ الْمنَازل، أهل الْحجر والوبر، وَأهل الْمدر الَّذين تحتار دونهم طَيّبَات الدُّنْيَا، ورفاغة عيشها، ميتهم فِي النَّار، وحيهم أعمى مَعَ لَا يُحْصى من المرغوب عَنهُ، والمزهود فِيهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الله أَن ينشر عَلَيْهِم رَحمته، بعث إِلَيْهِم رَسُولا من أنفسهم عَزِيزًا عَلَيْهِ مَا عنتوا، حَرِيصًا عَلَيْهِم، بِالْمُؤْمِنِينَ رءوفاً رحِيما، فَلم يمنعهُم ذَلِك من أَن جرحوه فِي جِسْمه، ولقبوه فِي اسْمه وَمَعَهُ كتاب من الله نَاطِق، لَا يرحل إِلَّا بأَمْره، وَلَا ينزل إِلَّا بِإِذْنِهِ، واضطروه إِلَى بطن غَار، فَلَمَّا أَمر بالعزيمة، انبسط لأمر الله لَونه، فأفلح الله حجَّته، وَأَعْلَى كَلمته، وَأظْهر دَعوته، وَفَارق الدُّنْيَا تقيا نقياً، ثمَّ قَامَ بعده أَبُو بكر فسلك سنته، وَأخذ بسبيله، وارتدت الْعَرَب، فَلم يقبل مِنْهُم بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الَّذِي كَانَ قَابلا مِنْهُم، فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيرَان من شعلها، ثمَّ ركب بِأَهْل الْحق إِلَى أهل الْبَاطِل، فَلم يبرح يفصل أوصالهم، ويسقي الأَرْض دِمَاءَهُمْ حَتَّى أدخلهم فِي الَّذِي خَرجُوا مِنْهُ، وقررهم بِالَّذِي نفروا مِنْهُ، وَقد كَانَ أصَاب من مَال الله بكرا يرتوي عَلَيْهِ، وحبشية ترْضع ولدا لَهُ، فَرَأى من ذَلِك غُصَّة عِنْد مَوته فِي حلقه، فَأدى ذَلِك إِلَى خَليفَة من بعده وَبرئ إِلَيْهِم مِنْهُ، وَفَارق الدُّنْيَا تقياً نقياً(6/10)
على منهاج صَاحبه ثمَّ قَامَ من بعده عمر بن الْخطاب فمصر الْأَمْصَار، وخلط الشدَّة باللين، فحسر عَن ذِرَاعَيْهِ، وشمر عَن سَاقيه وَأعد للأمور أقرانها، وللحرب آلتها، فَلَمَّا أَصَابَهُ قن الْمُغيرَة اسْتهلّ بِحَمْد الله أَلا يكون أَصَابَهُ ذُو حق فِي الْفَيْء فيستحل دَمه بِمَا اسْتحق من حَقه، فقد كَانَ أصَاب من مَال الله مائَة وَثَمَانِينَ ألفا فَكسر بهَا رباعه، وَكره بهَا كَفَالَة أَوْلَاده، فأوى ذَلِك إِلَى خَليفَة من بعده، وَفَارق الدُّنْيَا تقياً نقياً على منهاج صَاحِبيهِ، ثمَّ إِنَّا وَالله مَا اجْتَمَعنَا بعدهمَا إِلَّا على ظلع، ثمَّ إِنَّك يَا عمر ابْن الدُّنْيَا وَلدتك مُلُوكهَا، وألقمتك ثديها، فَلَمَّا وليتها ألقيتها حَيْثُ أَلْقَاهَا الله، فَالْحَمْد لله الَّذِي جلا بك حوبتنا، وكشف بك كربتنا، امْضِ وَلَا تلْتَفت، فَإِنَّهُ لَا يعز على الْحق شَيْء، أَقُول قولي هَذَا واستغفر الله لي وَلكم وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات، وَلما أَن قَالَ: ثمَّ إِنَّا وَالله مَا اجْتَمَعنَا بعدهمَا إِلَّا على ظلع سكت النَّاس إِلَّا هشاما فَإِنَّهُ قَالَ: كذبت. قَالَ الْأَصْمَعِي: كَانَ حبيب الرّوم يَقُول فِي قصصه: اتَّقوا لقية من خنع فقنع، واقترف فاعترف، ووجل فَعمل، وحاذر فبادر، أَفَادَ ذخيرة، وأطاب سريرة، وَقدم مهاداً وَاسْتظْهر ذاداً. لما وصل عبد الْعَزِيز بن زُرَارَة إِلَى مُعَاوِيَة قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لم أزل اسْتدلَّ بِالْمَعْرُوفِ عَلَيْك، امتطي النَّهَار عَلَيْك، فَإِذا الوى بِي اللَّيْل فَقبض الْبَصَر وَعفى الْأَثر وَالِاجْتِهَاد يعْذر وَإِذا بلغتك فقطني. قَالَ أَعْرَابِي خرجت حِين انحدرت أَيدي النُّجُوم، وشالت أرجلها فَمَا زلت أصدع اللَّيْل، حَتَّى انصدع الْفجْر. سُئِلَ أَعْرَابِي عَن زَوجته - وَكَانَ حَدِيث عهد بعرس - كَيفَ رَأَيْت أهلك؟ فَقَالَ: أفنان أثلة، وجنى نَخْلَة، وَمَسّ رَملَة، وَرطب نَخْلَة، وَكَأَنِّي كل يَوْم آئب من غيبَة. وصف آخر مرح فرس فَقَالَ: كَأَنَّهُ شَيْطَان فِي أشطان. وَقيل لآخر: كَيفَ عَدو فرسك؟ قَالَ: يعدو مَا وجد أَرضًا.(6/11)
وَقَالَ الآخر لِأَخِيهِ وَرَأى حرصه على الطّلب: يَا أخي، أَنْت طَالب ومطلوب، يطلبك من لَا تفوته، وتطلب مَا قد كفيته، فَكَأَن مَا غَابَ عَنْك قد كشف لَك، وَمَا أَنْت فِيهِ قد نقلت عَنهُ. يَا أخي: كَأَنَّك لم تَرَ حَرِيصًا محروماً، وَلَا زاهداً مرزوقاً. ذمّ أَعْرَابِي رجلا فَقَالَ: أَنْت وَالله مِمَّن إِذا سَأَلَ ألحف، وَإِذا سُئِلَ سَوف، وَإِذا حدث خلف، وَإِذا وعد أخلف، تنظر نظرة حسود، وَتعرض إِعْرَاض حقود. قَالَ بَعضهم، مضى سلف لنا اعتقدوا منناً، وَاتَّخذُوا الأيادي عِنْد إخْوَانهمْ ذخيرة لمن بعدهمْ، وَكَانُوا يرَوْنَ اصطناع الْمَعْرُوف عَلَيْهِم فرضا وَإِظْهَار الْبر وَالْإِكْرَام عِنْدهم حَقًا وَاجِبا، ثمَّ حَال الزَّمَان عَن نشء آخر حدثوا، اتَّخذُوا مننهم صناعَة وأياديهم تِجَارَة، وبرهم مُرَابحَة، واصطناع الْمَعْرُوف بَينهم مقارضة، كنقد السُّوق، خُذ مني وهات. افْتتح بَعضهم خطْبَة فَقَالَ: بِحَمْد الله كَبرت النعم السوابغ، والحجج البوالغ، بَادرُوا بِالْعَمَلِ، بَوَادِر الْأَجَل، وَكُونُوا من الله على وَجل، فقد حذر وأنذر، وأمهل حَتَّى كَأَن قد أهمل. وَفد هَانِئ بن قبيصَة على يزِيد بن مُعَاوِيَة فاحتجب عَنهُ أَيَّامًا ثمَّ إِن يزِيد ركب يَوْمًا يتصيد، فَتَلقاهُ هَانِئ فَقَالَ: إِن الْخَلِيفَة لَيْسَ بالمحتجب المتخلي، المتنحي، وَلَا بالمتطرف المتنحي وَلَا الَّذِي ينزل على العدوات والفلوات، ويخلو باللذات والشهوات، وَقد وليت أمرنَا، فأقم بَين أظهرنَا، وَسَهل إذننا واعمل بِكِتَاب الله فِينَا، فَإِن كنت عجزت عَمَّا هَاهُنَا، واخترت عَلَيْهِ غَيره، فازدد علينا بيعتنا، نُبَايِع من يعْمل بذلك فِينَا ونقمه، ثمَّ عَلَيْك بخلواتك، وصيدك وكلابك. قَالَ: فَغَضب يزِيد وَقَالَ: وَالله لَوْلَا أَن أسن بِالشَّام سنة الْعرَاق لأقمت أودك. ثمَّ انْصَرف وَمَا هاجه بِشَيْء وَإِذن لَهُ وَلم تَتَغَيَّر مَنْزِلَته عِنْده، وَترك كثيرا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ. كَانَ العيالمي يَقُول: النَّاس لصَاحب المَال ألزم من الشعاع للشمس وَمن(6/12)
الذَّنب للمصر، وَمن الحكم للقر، وَهُوَ عِنْدهم أرفع من السَّمَاء، وأعذب من المَاء، وَأحلى من الشهد، وأذكى من الْورْد، خَطؤُهُ صَوَاب، وسيئته حَسَنَة، وَقَوله مَقْبُول، يغشى مَجْلِسه، وَلَا يمل حَدِيثه قَالَ: والمفلس عِنْد النَّاس أكذب من لمعان السراب، وَمن رُؤْيا الكظة، وَمن مرْآة اللقوة وَمن سَحَاب تموز، لَا يسْأَل عَنهُ إِن غَابَ وَلَا يسلم عَلَيْهِ إِن قدم، إِن غَابَ شتموه، وَإِن حضر زبروه، وَإِن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الْوضُوء، وقراءته تقطع الصَّلَاة، أثقل من الْأَمَانَة، وَأبْغض من الْمُلْحِف المبرم. قَالَ أَعْرَابِي: خرجت فِي لَيْلَة حنلس قد أَلْقَت أكارعها على الأَرْض فمحت صور الْأَبدَان فَمَا كُنَّا نتعارف إِلَّا بِالْأَذَانِ، فسرنا حَتَّى أَخذ اللَّيْل ينفض صبغه. بعث النُّعْمَان جَيْشًا إِلَى الْحَارِث بن أبي شمر فَقَالَ: من يعرف عدونا الَّذِي أنقذنا إِلَيْهِ جيشنا؟ فَقَالَ بعض بني عجل: أَنا قلت: فصفه قَالَ: هُوَ قطف نطف، صلف قصف، فَقَامَ الوديم وَهُوَ عَمْرو بن ضرار فَقَالَ: أَبيت اللَّعْن، أَو طَال العشوة، هُوَ وَالله حَلِيم النشوة، جواد الصحوة شَدِيد السطوة. فَقَالَ: هَكَذَا يَنْبَغِي أَن يكون عدونا. سُئِلَ أَعْرَابِي من عبس عَن وَلَده، فَقَالَ: ابْن قد كهل، وَابْن قد رفل، وَابْن قد عسل، وَابْن قد فسل، وَابْن قد مثل، وَابْن قد فصل. قَالَ الْأَصْمَعِي: قيل لبني عبس: كَيفَ صَبَرْتُمْ، وَكَيف كَانَت حالكم فِيمَا كُنْتُم فِيهِ؟ قَالُوا طاحت وَالله الغرائب من النِّسَاء، فَمَا بَقِي إِلَّا بَنَات عَم، وَمَا بَقِي مَعنا من الْإِبِل إِلَّا الْحمر الكلف، وَمَا بَقِي من الْخَيل إِلَّا الْكُمَيْت الوقاح(6/13)
وطاح مَا سوى ذَلِك من الأهلين وَالْمَال. وذم أَعْرَابِي قوما فَقَالَ: بيُوت تدخل حبواً إِلَى غير نمارق، وشبارق فصح الْأَلْسِنَة برد السَّائِل، جذم الأكف عَن النائل. قَالَ الْأَصْمَعِي: حججْت فَبينا أَنا بِالْأَبْطح إِذا شيخ فِي سحق عباء، صعل الرَّأْس أثط أخزر أَزْرَق، كَأَنَّمَا ينظر من فص زجاج أَخْضَر، فَسلمت فَرد عَليّ التَّحِيَّة، فَقلت: مِمَّن الشَّيْخ؟ قَالَ: من بني حَمْزَة ابْن بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة. قلت: فَمَا الِاسْم؟ قَالَ خميصة ابْن قَارب. ثمَّ أَعْرَابِي أَنْت؟ قلت: نعم قَالَ: من أَيَّة؟ قلت: من أهل بصرة قَالَ: فَإلَى من تعتزي؟ قلت: قيس بن غيلَان. قَالَ: لأيهم؟ قلت: أحد بني يعصر، وَأَنا أقلب ألواحاً معي. قَالَ: مَا هَذِه الخشبات المقرونات قلت: اكْتُبْ فِيهِنَّ مَا أسمع من كلامكم. قَالَ: وَإِنَّكُمْ مختلون إِلَى ذَلِك. قلت: نعم، وَأي خلة. ثمَّ صمت مَلِيًّا ثمَّ قَالَ فِي وصف قومه: كَانُوا كالصخرة الصلادة تنبو عَن صفحاتها المعاول ثمَّ زحمها الدَّهْر بمنكبه فَصَدَعَهَا صدع الزجاجة مَالهَا من جَابر فَأَصْبحُوا شذر مذر أيادي سبأ، وَرب يَوْم وَالله عَارِم قد أَحْسنُوا تأديبه، ودهر غاشم قد قومُوا صعره، وَمَال صَامت قد شتتوا تألفه، وخطة بؤس قد حسمها إحسانهم وَحرب عبوس ضاحكتها أسنتهم، أما وَالله يَا أَخا قيس لقد كَانَت كهولهم جحاجح، وشبابهم مراجح ونائلهم مسفوح، وسائلهم ممنوح وجنانهم ربيع وجارهم منيع. فَنَهَضت لأنصرف فأصر بِمَجَامِع ذيلي وَقَالَ: أَجْلِس فقد أَخْبَرتك عَن قومِي حَتَّى أخْبرك عَن قَوْمك فَقلت فِي نَفسِي: إِن الله يشيد فِي قيس وَالله وصمة تبقى على الدَّهْر. فَقلت: حسبي، لَا حَاجَة لي إِلَى ذكرك قومِي قَالَ: بلَى هم وَالله هضبة ململمة الْعِزّ أَرْكَانهَا وَالْمجد أحضانها، تمكنت فِي الْحسب الْعد تمكن الْأَصَابِع فِي الْيَد فَقُمْت مسرعاً مَخَافَة أَن يفْسد عَليّ مَا سَمِعت.(6/14)
قَالَ أَعْرَابِي لِقَوْمِهِ وَقد ضافوا بعض أَصْحَاب السُّلْطَان: يَا قوم لَا أغركم من نشاب مَعَهم فِي جعاب كَأَنَّهَا نيوب الفيلة وقسي كَأَنَّهَا العتل ينْزع أحدهم حَتَّى يتفرق شعر إبطه ثمَّ يُرْسل نشابه كَأَنَّهَا رشاء مُنْقَطع فَمَا بَين أحدكُم وَبَين أَن يصدع قلبه منزلَة! قَالَ: فصاروا وَالله رعْبًا قبل اللِّقَاء. ذكر أَعْرَابِي امْرَأَة فَقَالَ: رحم الله فُلَانَة إِن كَانَت لقريبة بقولِهَا بعيدَة بِفِعْلِهَا يكفها عَن الخنى أسلافها، ويدعونا إِلَى الْهوى كَلَامهَا كَانَت وَالله تقصر عَلَيْهَا الْعين وَلَا يخَاف من أفعالها الشين. وصف أَبُو الْعَالِيَة امْرَأَة فَقَالَ جَاءَ بهَا وَالله كَأَنَّهَا نُطْفَة عذبة فِي شن خلق ينظر إِلَيْهِ الظمآن فِي الهاجرة. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان رَأَيْت عبدا أسود لبني أسيد قدم علينا من شقّ الْيَمَامَة فبعثوه ناطوراً وَكَانَ وحشياً يغرب فِي الْإِبِل فَلَمَّا رَآنِي سكن إِلَيّ، فَسَمعته يَقُول: لعن الله بلاداً لَيْسَ بهَا عرب قَاتل الله الشَّاعِر. حَيْثُ يَقُول: حر الثرى مستغرب التُّرَاب إِن هَذِه العريب فِي جَمِيع النَّاس كمقدار القرحة فِي جلد الْفرس فلولا أَن الله رق عَلَيْهِم فجعلهم فِي حشاه، لطمست هَذِه العجمان آثَارهم أَتَرَى الأعيار إِذا رَأَتْ الْعتاق لَا ترى لَهَا فضلا، وَالله مَا أَمر نبيه بِقَتْلِهِم إِلَّا لضنه بهم وَلَا ترك قبُول الْجِزْيَة مِنْهُم إِلَّا لتركها لَهُم. قَالَ حصن بن حُذَيْفَة: إيَّاكُمْ وصرعات الْبَغي وفضحات المزاح. وقف جَبَّار بن سلمى على قبر عَامر بن الطُّفَيْل فَقَالَ: كَانَ وَالله لَا يضل حَتَّى يضل النَّجْم وَلَا يعطش حَتَّى يعطش الْبَعِير، وَلَا يهاب حَتَّى يهاب السَّيْل،(6/15)
وَكَانَ وَالله خير مَا يكون حِين لَا تظن نفس بِنَفس خيرا. قيل لشيخ: مَا صنع بك الدَّهْر فَقَالَ: فقدت الْمطعم وَكَانَ الْمُنعم واجمت النِّسَاء وَكن الشِّفَاء فنومي سبات وسمعي خفات وعقلي تارات. وَسُئِلَ آخر فَقَالَ: ضعضع قناتي وأوهن شواتي وجرأ عَليّ عداتي. صعد أَعْرَابِي منبراً فَلَمَّا رأى النَّاس يرمقونه صَعب عَلَيْهِ الْكَلَام فَقَالَ: رحم الله عبدا قصر من لَفظه، ورشق الأَرْض بلحظه، ووعى القَوْل بحفظه قدم وَفد من الْعرَاق على سُلَيْمَان بن عبد الْملك فَقَامَ خطيبهم فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا أَتَيْنَاك رهبة وَلَا رَغْبَة فَقَالَ سُلَيْمَان: فَلم جِئْت لَا جَاءَ الله بك. قَالَ: نَحن وُفُود الشُّكْر أما الرَّغْبَة فقد وصلت إِلَيْنَا فِي رحالنا، وَأما الرهبة فقد أمناها بعدلك، وَلَقَد حببت إِلَيْنَا الْحَيَاة، وهونت علينا الْمَوْت. فَأَما تحبيبك الْحَيَاة إِلَيْنَا فبمَا انْتَشَر من عدلك وَحسن سيرتك وَأما تهوينك علينا الْمَوْت فَلَمَّا نثق بِهِ من حسن مَا تخلفنا بِهِ فِي أعقابنا الَّذين تخلفهم عَلَيْك. فاستحيى سُلَيْمَان وَأحسن جائزته. ذكر أَعْرَابِي فِي ظلم وَال وليهم فَقَالَ: مَا ترك لنا فضَّة إِلَّا فضها وَلَا دهباً إِلَّا ذهب بِهِ، وَلَا غلَّة إِلَّا غلها، وَلَا ضَيْعَة إِلَّا أضاعها وَلَا عقارا إِلَّا عقره، وَلَا علقاً إِلَّا اعتلقه، وَلَا عرضا إِلَّا عرض لَهُ، وَلَا مَاشِيَة إِلَّا امتشها، وَلَا جَلِيلًا إِلَّا جله، وَلَا دَقِيقًا إِلَّا دقه. قَالَ عمر لعَمْرو بن معدي كرب: أَخْبرنِي عَن قَوْمك. فَقَالَ: نعم الْقَوْم قومِي، عِنْد الطَّعَام الْمَأْكُول، وَالسيف المسلول. دخل خَالِد بن صَفْوَان التَّمِيمِي على السفاح وَعِنْده أَخْوَاله من بني الْحَارِث بن كَعْب فَقَالَ: مَا تَقول فِي أخوالي؟ قَالَ: هم هَامة الشّرف وخرطوم الْكَرم، وغرس الْجُود إِن فيهم لخصالاً مَا اجْتمعت فِي غَيرهم من قَومهمْ إِنَّهُم لأطولهم أمماً، وَأكْرمهمْ شيماً، وأطيبهم طعماً، وأوفاهم ذمماً وأبعدهم همماً، هم الْجَمْرَة فِي الْحَرْب، والرفد فِي الجدب، وَالرَّأْس فِي كل خطب، وَغَيرهم(6/16)
بِمَنْزِلَة الْعجب. فَقَالَ لَهُ: وصفت أَبَا صَفْوَان فأحسنت، فَزَاد أَخْوَاله فِي الْفَخر، فَغَضب أَبُو الْعَبَّاس لأعمامه فَقَالَ: أَفْخَر يَا خَالِد؟ فَقَالَ: أَعلَى أخوال أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ . قَالَ: نعم، وَأَنت من أَعْمَامه. فَقَالَ: وَكَيف أفاخر قوما هم بَين ناسج برد وسائس قرد، ودابغ جلد، وراكب عرد. دلّ عَلَيْهِم الهدهد، وغرقتهم فَأْرَة، وملكتهم امْرَأَة؟ فأشرق وَجه أبي الْعَبَّاس وَضحك. حدث أَن صبرَة بن شيمان الْحَرَّانِي دخل على مُعَاوِيَة، والوفود عِنْده فتكلموا فَأَكْثرُوا فَقَالَ صبرَة: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّا حَيّ فعال، ولسنا بحي مقَال وَنحن بِأَدْنَى فعالنا عِنْد أحسن مقالهم فَقَالَ: صدقت. يرْوى أَن مُعَاوِيَة قَالَ لدغفل: مَا تَقول فِي بني عَامر بن صعصعة؟ فَقَالَ: أَعْنَاق ظباء، وأعجاز نسَاء. قَالَ: فَمَا تَقول فِي بني تَمِيم؟ قَالَ: حجر أخشن إِن صادفته آذَاك، وَإِن تركته أعفاك. قَالَ: فَمَا تَقول فِي الْيمن؟ قَالَ: سيود أَبوك. قَالَ الجاحظ: رَأَيْت رجلا من غنى يفاخر رجلا من بني فَزَارَة ثمَّ أحد بني بدر بن عَمْرو، وَكَانَ الغنوي مُتَمَكنًا من لِسَانه، وَكَانَ الْفَزارِيّ بكياً. فَقَالَ الغنوي: ماؤنا بَين الرقم إِلَى كَذَا، وهم جيراننا فِيهِ، فَنحْن أقصر مِنْهُم رشاء، وأعذب مِنْهُم مَاء، لنا ريف السهول ومعاقل الْجبَال، وأرضهم سبخَة، ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، وَالْعرب من عز بز فبعزنا مَا تخيرنا عَلَيْهِم، وبذلهم مَا رَضوا عَنَّا بالضيم. ذكر حجل بن نَضْلَة بَين يَدي النُّعْمَان مُعَاوِيَة بن شكل فَقَالَ: أَبيت اللَّعْن إِنَّه لقعو الأليتين، مقبل النَّعْلَيْنِ، مشاء بأقراء، تبَاع إِمَاء قتال ظباء. فَقَالَ النُّعْمَان: أردْت أَن تذيمه فمدهته.(6/17)
لما ظفر الْمُهلب بالخوارج وَجه كَعْب بن معدان إِلَى الْحجَّاج فَسَأَلَهُ عَن بني الْمُهلب فَقَالَ: الْمُغيرَة فارسهم وسيدهم، وَكفى بِيَزِيد فَارِسًا شجاعاً، وسخيهم قبيصَة، وَلَا يستحي الشجاع أَن يفر من مدرك، وَعبد الْملك سم ناقع، وحبِيب موت ذعاف، وَمُحَمّد لَيْث غَابَ، وَكَفاك بالمفضل نجدة. قَالَ: فَكيف خلفت جمَاعَة النَّاس؟ قَالَ: خلفتهم بِخَير، قد أدركوا مَا أملوا، وأمنوا مَا خَافُوا قَالَ: وَكَيف كَانَ بَنو الْمُهلب فيهم؟ قَالَ: كَانُوا حماة السرج نَهَارا، فَإِذا اليلوا ففرسان البيات. قَالَ: فَأَيهمْ كَانَ أنجد؟ قَالَ: كَانُوا كالحلقة المفرغة لَا يدرى أَيْن طرفها. قَالَ: فَكيف كُنْتُم أَنْتُم وَعَدُوكُمْ؟ قَالَ: كُنَّا إِذا أَخذنَا عَفَوْنَا جدوا فيئسنا مِنْهُم، وَإِذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم. فَقَالَ الْحجَّاج: إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين. كَيفَ أفلتكم قطري؟ قَالَ: كدناه بِبَعْض مَا كادنا بِهِ فصرنا مِنْهُ إِلَى الَّتِي نحب. قَالَ: فَهَلا اتبعتموه؟ قَالَ: كَانَ الْحَد عندنَا أثرا من الفل. قَالَ: فَكيف كَانَ لكم الْمُهلب وكنتم لَهُ؟ قَالَ: كَانَ لنا مِنْهُ شَفَقَة الْوَالِد، وَله منا بر الْوَلَد. قَالَ فَكيف اغتباط النَّاس؟ قَالَ فَشَا فيهم الْأَمْن وشملهم النَّفْل. قَالَ: أَكنت أَعدَدْت هَذَا الْجَواب؟ قَالَ: لَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله عز وَجل. فَقَالَ: هَكَذَا وَالله يكون الرِّجَال، الْمُهلب كَانَ أعلم بك حَيْثُ وَجهك. وَقَالَ عمر لمتمم بن نُوَيْرَة: إِنَّك لجزل، فَأَيْنَ كَانَ أَخُوك مِنْك؟ قَالَ:(6/18)
كَانَ وَالله يخرج فِي اللَّيْلَة الصنبر يركب الْجمل الثفال، ومجنب الْفرس الحرور، وَفِي يَده الرمْح الخطي، وَعَلِيهِ الشملة الفلوت وَهُوَ بَين المزادتين حَتَّى يصبح، فَيُصْبِح مُتَبَسِّمًا. يرْوى أَن خَالِد بن صَفْوَان دخل على يزِيد بن الْمُهلب وَهُوَ يتغدى فَقَالَ: ادن، فَكل. فَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير لقد أكلت أَكلَة لست ناسيها. قَالَ: وَمَا أكلت؟ قَالَ: أتيت ضيعتي لإبان الأغراس، وَأَوَان الْعِمَارَة فَجلت فِيهَا جَوْلَة حَتَّى إِذا صحرت الشَّمْس، وأزمعت بالركود، ملت إِلَى غرفَة لي هفافة، فِي حديقة قد فتحت أَبْوَابهَا، ونضح بِالْمَاءِ جوانبها وفرشت أرْضهَا بألوان الرياحين من بَين ضيمران نافخ، وسمسق فائح، وأقحوان زَاهِر، وَورد ناضر، ثمَّ أتيت بِخبْز أرز كَأَنَّهُ قطع العقيق، وسمك جراني بيض الْبُطُون، زرق الْعُيُون، سود الْمُتُون، عراض السرر: غِلَاظ الْقصر، ودقة وخلول، ومرى وَبقول، ثمَّ أتيت برطب أصفر صَاف غير أكدر لم تبتدله الْأَيْدِي، وَلم تهتشمه كيل المكاييل، فَأكلت هَذَا ثمَّ هَذَا، قَالَ يزِيد: يَا بن صَفْوَان لِأَلف جريب من كلامك، خير من ألف جريب مزروع. علم الْمَنْصُور ابْنه صَالحا خطْبَة فَقَامَ بهَا فِي النَّاس فِي مَجْلِسه فَلم يشيع كَلَامه أحد خوفًا من الْمهْدي، فَبَدَأَ شبة بن عقال الْمُجَاشِعِي من الصَّفّ فَقَالَ: وَالله مَا رَأَيْتُك الْيَوْم خَطِيبًا أبل ريقاً وَلَا أنبض عروقاً وَلَا أثبت جناباً وَلَا أعذب لِسَانا، وَقَلِيل ذَلِك لمن كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبَاهُ وَالْمهْدِي أَخَاهُ، هُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر: هُوَ الْجواد فَإِن يلْحق بشاوهما ... على تكاليفه فَمثله لَحقا. . أَو يسبقاه على مَا كَانَ من مهل ... فَمثل مَا قدما من صَالح سبقا(6/19)
فَاسْتحْسن كَلَامه وعلقه الْمَنْصُور بِيَدِهِ. وَمن الْأَخْبَار الْقَدِيمَة أَن لُقْمَان بن عَاد ولقيم ابْنه أغارا فأصابا إبِلا، ثمَّ انصرفا نَحْو أهلهما، فنحرا نَاقَة فِي منزل نزلاه. فَقَالَ لُقْمَان: أتعشى أم أعشى لَك؟ فَقَالَ لقيم أَي ذَلِك شِئْت. قَالَ لُقْمَان: اذْهَبْ فارع إبلك وعشها حَتَّى ترى النَّجْم قمة رَأس، وَحَتَّى ترى الجوزاء كَأَنَّهَا قطاً نوافر وَحَتَّى ترى الشعرى كَأَنَّهَا نَار، فإلا تكن عشيت فقد آنيت. قَالَ لَهُ لقيم: واطبخ أَنْت لحم جزورك فأز مَاء واغله حَتَّى ترى الكراديس كَأَنَّهَا رُؤُوس شُيُوخ صلع، وَحَتَّى ترى اللَّحْم يَدْعُو غطيفاً أَو غَنِيا أَو غطفان، فَإِن لم تكن أنضجت فقد آنيت. ذكر عِنْد عمر الزَّبِيب وَالتَّمْر أَيهمَا أطيب، فَقَالَ رجل: الحبلة أفضل أم النَّخْلَة؟ فَقَالَ: الزَّبِيب إِن آكله أضرس وَإِن أتركه أغرث لَيْسَ كالصقر فِي رُؤُوس الرقل الراسخات فِي الوحل، المطعمات فِي الْمحل تحفة الصَّائِم، وتحفة الْكَبِير وصمتة الصَّغِير وتعلة الصَّبِي وَنزل مَرْيَم ابْنة عمرَان، وينضج وَلَا يعْنى طابخه وتحترش بِهِ الضباب من الصلعاء. قَالَ: وَبعث رجل بَنِينَ لَهُ يرتادون فِي خصب فَقَالَ أحدهم: رَأَيْت بقلاً وَمَاء غيلاً، يسيل سيلاً، وخوصة تميل ميلًا، يحسبها الرائد لَيْلًا. وَقَالَ الثَّانِي: رَأَيْت دِيمَة على دِيمَة فِي عهاد غير قديمَة، تشبع مِنْهَا الناب قبل الفطيمة. وَقيل لبَعْضهِم: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: التُّرَاب يَابِس، وَالْأَرْض سراب، فَالْمَال عائس عَابس. قَالَ خَالِد للقعقاع: أنافرك على أَيّنَا أعظم للسجاح، وأطعن بِالرِّمَاحِ. وَأنزل بالبراح قَالَ: لَا بل عَن أَيّنَا أفضل أَبَا وَأما وجدا وَعَما، وقديماً وحديثاً. فَقَالَ خَالِد: أَعْطَيْت يَوْمًا من سَأَلَ وأطعمت حولا من أكل، وطعنت فَارِسًا طعنة(6/20)
شَككت فَجَذَبَهُ بِجنب الْفرس، فَأخْرج الْقَعْقَاع نَعْلَيْنِ وَقَالَ: ربع عَلَيْهِمَا أبي أَرْبَعِينَ مرباعاً لم يثكل فِيهِنَّ تميمية ولدا. ذكر متمم بن نُوَيْرَة أَخَاهُ مَالِكًا فَقَالَ: كَانَ يخرج فِي اللَّيْل الصنبرة، عَلَيْهِ الشملة الفلوت، بَين المزادتين النضوحتين، على الْجمل الثفال، معتقل الرمْح الخطي فَيُصْبِح مُتَبَسِّمًا. وَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمْرو بن الْأَهْتَم عَن الزبْرِقَان فَقَالَ: مَانع لحوزته، مُطَاع فِي أدنيه فَقَالَ الزبْرِقَان أما أَنه قد علم أَكثر مِمَّا قَالَ وَلكنه حسدني شرفي. فَقَالَ عَمْرو أما لَئِن قَالَ مَا قَالَ فوَاللَّه مَا عَلمته إِلَّا الضّيق العطن، زمر الْمُرُوءَة، لئيم الْخلق، حَدِيث الْغنى، فَلَمَّا رأى أَنه قد خَالف قَوْله الأول وَرَأى النكار فِي عين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: يَا رَسُول الله رضيت؟ فَقلت: بِأَحْسَن مَا علمت وغضبت، فَقلت: بأقبح مَا علمت. كَانَت خطْبَة النِّكَاح لقريش فِي الْجَاهِلِيَّة: بِاسْمِك اللَّهُمَّ ذكرت فُلَانَة، وَفُلَان بهَا شغوف لَك مَا سَأَلت، وَلنَا مَا أَعْطَيْت. دخل الْهُذيْل بن زفر على يزِيد بن الْمُهلب فِي حمالات لَزِمته، ونوائب نابته. فَقَالَ لَهُ: أصلحك الله قد عظم شَأْنك عَن أَن يستعان بك، ويستعان عَلَيْك، وَلست تصنع شَيْئا من الْمَعْرُوف وَإِن عظم إِلَّا وَأَنت أعظم مِنْهُ، وَلَيْسَ الْعجب أَن تفعل وَإِنَّمَا الْعجب أَلا تفعل. فَقَالَ يزِيد: حَاجَتك؟ فَذكرهَا، فَأمر لَهُ بهَا وبمائة ألف دِرْهَم فَقَالَ: أما الحمالات فقد قبلتها، وَأما المَال فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَسَأَلَ عمر رَضِي الله عَنهُ عَمْرو بن معدي كرب عَن سعد فَقَالَ: خير أَمِير، نبطي فِي حبوته، عَرَبِيّ فِي نمرته أَسد فِي تامورته يعدل فِي الْقَضِيَّة، وَيقسم بِالسَّوِيَّةِ، ينْقل إِلَيْنَا حَقنا، كَمَا تنقل الذّرة. فَقَالَ عمر: لسر مَا تقارضتما الثَّنَاء. قيل لوَاحِد من الْعَرَب: أَيْن شبابك؟ فَقَالَ: من طَال أمده وَكثر وَلَده،(6/21)
ودف عدده، وَذهب جلده، ذهب شبابه. وَقَالَ رجل من بني أَسد: مَاتَ لرجل منا ابْن، فَاشْتَدَّ جزعه عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ شيخ منا فَقَالَ: اصبر أَبَا مهدية فَإِنَّهُ فرط أفترطته، وَخير قَدمته، وَذخر أحرزته فَقَالَ مجيباً لَهُ، بل ولد ودفنته، وثكل تعجلته، وغيب وعدته، وَالله لَئِن لم أجزع من النَّقْص، لم أفرح بالمزيد. قَالَ ابْن أقيصر: خير الْخَيل الَّذِي إِذا استدبرته حنأ، وَإِذا استقللته أقعى، وَإِذا استعرضته اسْتَوَى، وَإِذا مَشى ردى، وَإِذا عدا دحا. وَنظر إِلَى خيل عبد الرَّحْمَن ابْن أم الحكم، فَأَشَارَ إِلَى فرس مِنْهَا فَقَالَ: تَجِيء هَذِه سَابِقَة، قَالُوا: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: رَأَيْتهَا مشت فكتفت، وخبت فوجفت وعدت فنسفت فَجَاءَت سَابِقَة. قَالَ الْحجَّاج لرجل من الأزد: كَيفَ علمك بالزرع؟ قَالَ: إِنِّي لَا أعلم من ذَلِك علما. قَالَ: فَأَي شَيْء خَيره؟ قَالَ: ماغلظ قصبته وأعتم نبته وعظمت حبته. قَالَ: فَأَي الْعِنَب خير؟ قَالَ: مَا غلظ عموده، واخضر عوده، وَعظم عنقوده. قَالَ: فَمَا خير التَّمْر؟ قَالَ: مَا غلظ لحاه ودق نَوَاه ورق سحاه. وَتكلم أهل التَّمْر وَأهل الزَّبِيب عِنْد عمر فَقَالَ: أرْسلُوا إِلَى أبي حثْمَة الْأنْصَارِيّ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لَيْسَ كالصقر فِي رُؤُوس الرقل الراسخات فِي الوحل، المطعمات فِي الْمحل، تعلة الصَّبِي، ينضج وَلَا يعْنى طابخه بِهِ، يحترش بِهِ الضَّب من الصلعاء، لَيْسَ كالزبيب الَّذِي إِن أَكلته ضرست، وَإِن تركته غرثت. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس لخَالِد بن صَفْوَان: يَا خَالِد إِن النَّاس قد أَكْثرُوا فِي النِّسَاء، فَأَي النِّسَاء أحب إِلَيْك؟ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أحبها لَيست بالضرع الصَّغِيرَة، وَلَا بالفانية الْكَبِيرَة وحسبي من جمَالهَا أَن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب، أَعْلَاهَا قضيب. وأسفلها كثيب، غذيت فِي النَّعيم، وأصابتها(6/22)
فاقة فأدبها النَّعيم، وأذلها الْفقر، لم تفتك فتمجن، الهلوك على زَوجهَا، الحصان من جارها، إِذا خلونا كُنَّا أهل دنيا، وَإِذا افترقنا كُنَّا أهل آخِرَة. قَالَ عمَارَة بن عقيل: أصابتنا سنُون ثَلَاث لم نحتلب فِيهِنَّ رئلاً، وَلم نلقح نَسْلًا، وَلم نَزْرَع بقلاً. تكلم الْوُفُود عِنْد عبد الْمُلُوك حَتَّى بلغ الْكَلَام إِلَى خطيب الأزد فَقَامَ فَقبض على قَائِم سَيْفه ثمَّ قَالَ: قد علمت الْعَرَب أَنا حَيّ فعال، ولسنا بحي مقَال، وَأَنا نجزى بفعلنا عِنْد أحسن قَوْلهم، ونعمل السَّيْف. فَمن مَال قوم السَّيْف أوده. وَمن نطق الْحق أرده. ثمَّ جلس. فَحفِظت خطبَته دون كل خطْبَة. قَالَ الْأَصْمَعِي: بَلغنِي عَن بعض الْعَرَب فصاحة فَأَتَيْته لأسْمع من كَلَامه فصادفته يخضب فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: إِن الخضاب لمن مُقَدمَات الضعْف، وَلَئِن كنت قد ضعفت فطالما مشيت أَمَام الجيوش وعدوت على صيد الوحوش ولهوت بِالنسَاء، واختلت فِي الرِّدَاء، وأرويت السَّيْف، وقريت الضَّيْف، وأبيت الْعَار، وحميت الْجَار، وغلبت القروم، وعاركت الْخُصُوم، وشربت الراح، ونادمت الجحجاج، فاليوم قد حناني الْكبر، وَضعف الْبَصَر، وَجَاءَنِي بعد الصفاء الكدر. قَالَ: سَمِعت أَعْرَابِيًا يُعَاتب أَخَاهُ وَيَقُول: أما وَالله لرب يَوْم كتنور الطهاة رقاص بالحمامة، قد رميت بنفسي فِي أجيج سمومه أتحمل مِنْهُ مَا أكره لما نحب. قَالَ روح بن زنباع لمعاوية: نشدتك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تحط مني شرفاً أَنْت رفعته، أَو أَن تهدم مني بَيْتا أَنْت شيدته، وَأَن تشمت بِي عدوا أَنْت قمعته. ذكر عَمْرو بن معد يكرب بني سليم فَقَالَ: بَارك الله على حَيّ بني سليم مَا أصدق فِي الهيجاء لقاؤها، وَأثبت فِي النَّوَازِل بلاؤها، وأجزل فِي النائبات عطاؤها، وَالله لقد قاتلتهم فَمَا أجبنتهم، وهاجيتهم فَمَا أفحمتهم وسألتهم فَمَا أبخلتهم. جرى بَين الخوات وَبَين جُبَير وَالْعَبَّاس بن مرداس كَلَام فَقَالَ خَوات: أما(6/23)
وَالله لقد تعرضت لشبابي، وشبا أنيابي، وَحسن جوابي، لتكرهن غيابي. فَقَالَ عَبَّاس: أَنْت وَالله يَا خَوات لَئِن اسْتقْبلت لعني وفني، وذكا سني، لتنفرن مني. أإياي توعد يَا خَوات، يَا مأوى السوآت وَالله لقد استقبلك اللؤم فودعك، واستدرك فكسعك، وعلاك فوضعك، فَمَا أَنْت بمهجوم عَلَيْك من نَاحيَة إِلَّا عَن فصل أَو إيَّايَ ثكلتك أمك تروم وَعلي تقوم، وَالله مَا ميطت سوأتك بعد وَلَا ظَهرت مِنْهَا. فَقَالَ عمر: أَيهَا عنكما، إِمَّا أَن تسكتا، وَإِمَّا أَن أوجعكما ضربا. فصمتا وكفا. كَانَ الرّبيع بن ضبع من المعمرين وَدخل على عبد الْملك بن مَرْوَان فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: وَأَبِيك يَا ربيع لقد طَلَبك جد غير عاثر ثمَّ قَالَ: فصل لي عمرك قَالَ: عِشْت مِائَتي سنة فِي الفترة من عِيسَى بن مَرْيَم وَعشْرين وَمِائَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَام فَقَالَ: أَخْبرنِي من فتية من قُرَيْش المتواطئ الْأَسْمَاء. قَالَ: سل عَن أَيهمْ شِئْت. قَالَ: أَخْبرنِي عَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: فهم وَعلم وَعَطَاء، خدم ومقرىء ضخم. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن عبد الله بن عمر قَالَ: حلم وَعلم وَطول كظم، وَبعد عَن الظُّلم. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن عبد الله بن جَعْفَر قَالَ: رَيْحَانَة طيب رِيحهَا، لين مَسهَا، قَلِيل عَن الْمُسلمين ضرها. قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن عبد الله بن الزبير. قَالَ: جبل وعر، تنحدر مِنْهُ على الصخر. قَالَ: لله دَرك يَا ربيع مَا أخْبرك بهم؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قرب جواري، وَكثر استخباري. كَانَ كَعْب بن لؤَي يقوم فِي النَّاس أيا م الْحَج فَيَقُول: أَيهَا النَّاس اسمعوا وأنصتوا وَاعْلَمُوا وتعلموا، ليل سَاج، ونهار ضاح وَالْأَرْض مهاد، وَالْجِبَال أوتاد والنجوم أَعْلَام، وَالْأُنْثَى وَالذكر زوج، روالآخرين كالأولين، وإلف يَلِي كل مَا يهيج، هَل رَأَيْتُمْ ظَاعِنًا رَجَعَ الدَّار أمامكم؟ وَالظَّن غير مَا تَقولُونَ، صلوا أَرْحَامكُم، واحفظوا أظهاركم، وثمروا أَمْوَالكُم. حرمكم زينوه وعظموه، تمسكوا بِهِ، فَسَيَأْتِي لَهُ نبأ وَيبْعَث بِهِ نَبِي. كَانَ قَابُوس بن مُنْذر ملكا مترفاً قَلِيل الْغَزْو، كثير اللَّهْو وَكَانَ لَهُ سمار، وَكَانَ يُحِبهُ أَن يعري بَين أَصْحَابه ليتسابوا، فَاجْتمع فِي مَجْلِسه أَرْبَعَة من رجال الْعَرَب مِنْهُم الْحصين بن ضرار الضَّبِّيّ، وأحمير بن بَهْدَلَة السَّعْدِيّ، وضمرة بن(6/24)
جَابر النَّهْشَلِي وَعمارَة وَابْن رشد الْعَبْسِي فَقَالَ قَابُوس: يَا حُصَيْن إِن هَذَا وَأَشَارَ إِلَى ضَمرَة يزْعم أَنَّك غَانِم الفرى صيك الذَّر، إِنْزَال بالغموض، رعاء بالرفوض. فَقَالَ: أَيهَا الْملك إِن زعم ذَلِك فَإِنَّهُ خَبِيث الزَّاد، لاصق الرماد، قصير الْعِمَاد تبَاع للأذواد فَقَالَ ضَمرَة: وَالله أَيهَا الْملك إِنَّه لوعاء خطائط، وَزَاد مطائط. ولاج موارط، غير صميم لأواسط، ثمَّ أقبل على أُحَيْمِر فَقَالَ: إِن هَذَا وَأَشَارَ إِلَى عمَارَة يزْعم إِنَّك بقاق فِي النزى، كل على القوى، مَذْمُوم الشيم محجل الْبرم. فَقَالَ: أَبيت اللَّعْن أما إِنَّه إِن زعم ذَلِك فَإِنَّهُ لمناع للموجود سآل عَن الْمَفْقُود، بكاء على الْمَعْهُود، فناؤه وَاسع، وضيفه جَائِع، وشره شَائِع، وسره ذائع. فَقَالَ عمَارَة. هُوَ وَالله أَيهَا الْملك ذري المنظر سيء الْمخبر، لئيم المكسر يهلع إِذا أعْسر، وَيبْخَل إِذا أيسر، ويكذب إِذا أخبر. إِن عَاهَدَ غدر وَإِن أؤتمن ختر، وَإِن قَالَ أَهجر، وَإِن وعد أخلف، وَإِن سَأَلَ ألحف، يرى الْبُخْل حزماً، والسفاه حلما، والمرزئة كلما، فَقَالَ: قدك ألهمته. قَالَ رائد مرّة تركت الأَرْض مخضرة كَأَنَّهَا حولا بهَا قصيصة رقطاء، وعرفجة خاضبة، وعوسج كَأَنَّهُ النعام من سوَاده. وَقَالَ آخر فِي صفة نَاقَة إِذا اكحالت عينهَا وأللت أذنها وسجح خُذْهَا وهدل مشفرها واستدارت جمجمتها فَهِيَ كَرِيمَة.(6/25)
الْبَاب الثَّانِي فقر وَحكم للأعراب
ذكرُوا أَن قوما أَضَلُّوا الطَّرِيق، فاستأجروا أَعْرَابِيًا يدلهم على الطَّرِيق، فَقَالَ: إِنِّي وَالله مَا أخرج مَعكُمْ حَتَّى أشرط لكم وَعَلَيْكُم. قَالُوا: فهات مَالك. قَالَ: يَدي مَعَ أَيْدِيكُم فِي الْحَار والقار. ولي مَوضِع فِي النَّار موسع عَليّ فِيهَا، وَذكر وَالِدي محرم عَلَيْكُم. قَالُوا: فَهَذَا لَك، فَمَا لنا عَلَيْك إِن أذنبت؟ قَالَ: إعراضة لَا تُؤدِّي إِلَى عتب، وهجرة لَا تمنع من مجامعة السفرة. قَالُوا: فَإِن لم تعتب؟ قَالَ: حذفة بالعصا أَصَابَت أم أَخْطَأت. كَانَ الرشيد معجباً بِخَط إِسْمَاعِيل بن صبح فَقَالَ لأعرابي حَضَره: صف إِسْمَاعِيل. فَقَالَ: مَا رَأَيْت أطيش من قلمه، وَلَا أثبت من حلمه. مدح أَعْرَابِي رجلا برقة اللِّسَان فَقَالَ: كَانَ وَالله لِسَانه أرق من ورقة، وألين من سَرقَة. وَقَالَ آخر: أتيناه فَأخْرج لِسَانه كَأَنَّهُ مِخْرَاق لاعب. نظر عمر بن الْخطاب إِلَى نهشل بن قطن وَكَانَ ملتفاً فِي بت فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، وزاده آهبة وَقلة. وَعرف تَقْدِيم الْعَرَب لَهُ فِي الحكم وَالْعلم فَأحب أَن يكشفه ويسبر مَا عِنْده فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو تنافرا إِلَيْك الْيَوْم لأيهما كنت تنفر، يَعْنِي عَلْقَمَة بن علاثة وعامر بن الطُّفَيْل. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو قلت فيهمَا كلمة(6/26)
لأعدتها جدعة قَالَ عمر: لهَذَا الْعقل تحاكمت إِلَيْك الْعَرَب. قَالَ عَامر بن الظرب: الرَّأْي نَائِم، والهوى يقظان فَمن هُنَاكَ يغلب الْهوى الداني. قَالَ أَعْرَابِي لهشام بن عبد الْملك بن مَرْوَان: أَتَت علينا أَعْوَام ثَلَاث، فعام أكل الشَّحْم، وعام أكل اللَّحْم، وعام أنتقي الْعظم، وعندكم فضول أَمْوَال، فَإِن كَانَت لله فأقسموها بَين عباد الله، وَلَو كَانَت لكم فتصدقوا، إِن الله يَجْزِي المتصدقين. قَالَ: هَل من حَاجَة غير ذَلِك؟ قَالَ: مَا ضربت إِلَيْك أكباد الْإِبِل، ادرع الهجير، وأخوض الدجى لخاص دون عَام. قيل لأعرابي: مَالك لَا تضع الْعِمَامَة عَن رَأسك؟ قَالَ: إِن شَيْئا فِيهِ السّمع وَالْبَصَر لحقيق بالصون. كَانَ هِشَام يسير وَمَعَهُ أَعْرَابِي إِذا انْتهى إِلَى ميل عَلَيْهِ كتاب، فَقَالَ للأعرابي أنظر أَي ميل هَذَا؟ فَنظر ثمَّ رَجَعَ. فَقَالَ: عَلَيْهِ محجن، وحلقة، وَثَلَاثَة كأطباء الكلبة وَرَأس كَأَنَّهُ منقار قطاة فَعرفهُ هِشَام بِصُورَة الهجاء وَلم يعرفهُ الْأَعرَابِي، وَكَانَ عَلَيْهِ خَمْسَة. قَالَ الْهَيْثَم بن عدي: يَمِين لَا يحلف بهَا الْأَعرَابِي أبدا أَن يَقُول لَهُ: لَا أورد الله لَك صادراً، وَلَا أصدر لَك وارداً، وَلَا حططت رحلك، وَلَا خلعت نعلك. خرج عُثْمَان من دَاره فَرَأى أَعْرَابِيًا فِي شَمله. فَقَالَ: يَا أَعْرَابِي أَيْن رَبك؟ قَالَ: بالمرصاد. وَكَانَ الْأَعرَابِي عَامر بن عبد قيس وَكَانَ ابْن عَامر سيره إِلَيْهِ. سَأَلَ الْحجَّاج أَعْرَابِيًا عَن أَخِيه مُحَمَّد بن يُوسُف فَقَالَ: كَيفَ تركته؟ قَالَ: عَظِيما سينماً قَالَ لَيْسَ عَن هَذَا أَسأَلك قَالَ تركته ظلوماًغشوماً قَالَ: أما علمت أَنه أخي؟ قَالَ: أتراه بك أعز مني بِاللَّه. قيل لشيخ من الْأَعْرَاب: قُمْت مقَاما مَا خفنا عَلَيْك مِنْهُ؟ قَالَ: الْمَوْت أخاذ(6/27)
شيخ كَبِير، وَرب غَفُور لَا دين، وَلَا بَنَات. وَقَالَ آخر لبَعض السلاطين: أَسأَلك بِالَّذِي أَنْت بَين يَدَيْهِ، أدل مني بَين يَديك، وَهُوَ على عقابك أقدر مِنْك على عقابي، أَلا نظرت فِي أَمْرِي نظر من ير براءتي، أحب إِلَيْهِ من سقمي. قَالَ إِسْحَاق الْمدنِي: جلس إِلَى أَعْرَابِي فَقَالَ: إِنِّي أحب الْمعرفَة، وأجلك عَن الْمَسْأَلَة. حبس مَرْوَان بن الحكم رجلا من بني عبس فَأَتَاهُ بشيخ مِنْهُ فَكَلمهُ فِيهِ فَأبى أَن يُطلقهُ. فَقَالَ: أما وَالله لَئِن كنت حَبسته، لقد كَانَ تقياً، ذَا مُرُوءَة. قَالَ: وَمَا الْمُرُوءَة فِيكُم يَا أَخا بني عبس؟ قَالَ: صدق الحَدِيث وصلَة الرَّحِم، وَإِصْلَاح المَال. فأعجب مَرْوَان وَكَانَ إِذا أعجب الشَّيْء دَعَا لَهُ ابنيه عبد الْملك وَعبد الْعَزِيز ليسمعاه، قَالَ: فدعاهما ثمَّ استعاده، فَأَعَادَ الشَّيْخ القَوْل، وَحضر طَعَام مَرْوَان فَدَعَاهُ إِلَى طَعَامه فَلم يجبهُ، فَدَعَا ابْنا لَهُ كَانَ مَعَه فَأجَاب. قَالَ مَرْوَان لشيخ. ابْنك خير مِنْك يَا أَخا بني عبس، دعوناك إِلَى طعامنا فَلم تجب، ودعوناه فَأجَاب فَقَالَ الْعَبْسِي: مَا أَحْسبهُ ضرّ أَبَاهُ إِن كنت خيرا مِنْهُ. فَضَحِك مَرْوَان حَتَّى اسْتلْقى وَأطلق لَهُ صَاحبه. قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لرجل من الْعَرَب: كَيفَ علمك بالكواكب؟ قَالَ: لَو لم أعرف مِنْهَا غير النَّجْم لكفاني، - يُرِيد نجم الثريا - فَقَالَ لَهُ: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: إِذا طلعت من الْمشرق حصدت زرعي، وَإِذا توسطت السَّمَاء جردت نخلي، وَإِذا سَقَطت فِي الغرب دفنت بذري، هَذَا تَدْبِير معيشتي. فَقَالَ عبد الْملك: حَسبك بهَا علما. قَالَ هِشَام لأعرابي: كَيفَ أفلت من فلَان عَامل لَهُ؟ قَالَ: ببراءته وعدله. وَقَالَ آخر: نعم أَخُو الشريف درهمه، يُغْنِيه عَن اللئام، ويتجمل بِهِ فِي الْكِرَام. دخل أَعْرَابِي على بعض الْوُلَاة فَقَالَ: مِمَّن الرجل؟ فَقَالَ: من قوم إِذا أَحبُّوا مَاتُوا. قَالَ: عُذْري وَرب الْكَعْبَة.(6/28)
تَقول الْعَرَب: طلع النَّجْم غديه ... فابتغى الرَّاعِي شكيه طلع النَّجْم عشَاء ... فابتغى الرَّاعِي كسَاء يُرِيدُونَ الثريا، وَيَقُولُونَ فِي الْهلَال: ابْن لَيْلَة عتمه سخيله حل أَهلهَا برميلة. ابْن لَيْلَتَيْنِ، حَدِيث أمتين، بكذب ومين ابْن ثَلَاث، حَدِيث فتيات غير جد مؤتلفات. ابْن أَربع عتمة ربع، غير جَائِع وَلَا مرضع. ابْن خمس عشَاء خلفات قعس. ابْن سِتّ سر وَبت. ابْن سبع، دلجة الضبع. ابْن ثَمَان، قمر إِضْحِيَان، ابْن تسع، ملتقط مِنْهُ الْجزع، ابْن عشر يؤديك إِلَى الْفجْر. قَالَ أَعْرَابِي: مَا غبنت قطّ حَتَّى يغبن قومِي. قيل: وَكَيف؟ قَالَ: لَا أفعل شَيْئا حَتَّى أشاورهم. قَالَ أَعْرَابِي: وَرَأى إبل رجل كثرت بعد قلَّة، فَقيل لَهُ أَنه قد زوج أمه فَجَاءَتْهُ بِمَال. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من بعض الرزق. سَأَلَ أَعْرَابِي رجلا حَاجَة فَمَنعه فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أفقرني من مَعْرُوفك وَلم يعنك عَن شكري. قَالَ أَعْرَابِي لِابْنِهِ وَتكلم فأساء: اسْكُتْ يَا بني، فَإِن الصمت صون اللِّسَان وَستر العي. قَالَ آخر: ابذل لصديقك كل مَوَدَّة، وَلَا تبذل لَهُ كل طمأنينة واعطه من نَفسك كل مواساة، وَلَا تفض إِلَيْهِ بِكُل الْأَسْرَار. اجْتمع قوم بِبَاب الْأَوْزَاعِيّ يتذاكرون، وأعرابي من كلب سَاكِت، قَالَ لَهُ(6/29)
رجل: بِحَق مَا سميتم خرس الْعَرَب. فَقَالَ: يَا هَذَا أما سَمِعت أَن لِسَان الرجل لغيره وسَمعه لَهُ. وَشتم رجل أَعْرَابِيًا فَلم يجبهُ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: أَنا لَا أَدخل فِي حَرْب الْغَالِب فِيهَا شَرّ من المغلوب. قَالَ أَعْرَابِي: أَكثر النَّاس بالْقَوْل مدل وبالفعل مقل. . وَقَالَ آخر: رب بعيد لَا يفقد بره، وَرب قريب لَا يُؤمن شَره. وَقَالَ آخر: أبين الْعَجز: قلَّة الْحِيلَة، وملازمة الحليلة. وَقَالَ آخر: ألم أكن نهيتك أَن تريق مَاء وَجهك بمسألتك من لَا مَاء فِي وَجهه؟ ! . وصف آخر عبد الله بن جَعْفَر فَقَالَ: كَانَ إِذا افْتقر نَفسه وَإِذا اسْتغنى لم يسْتَغْن وَحده. وَقَالَ آخر: أحسن الْأَحْوَال حَال يغبطك بهَا من دُونك، وَلَا يحقرك بهَا من فَوْقك. وصف آخر رجلا: إِن أَتَيْته احتجب، وَإِن غبت عَنهُ عتب وَإِن عاتبته غضب. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: أعجز النَّاس من قصر فِي طلب الأخوان، وأعجز مِنْهُ من ظفر بِهِ مِنْهُم، ثمَّ ضيعهم. وَقَالَ آخر: لَو عاونني الْحَال مَا استبطأتك إِلَّا بِالصبرِ وَلَا استزدتك إِلَّا بالشكر. وَقَالَ آخر: إِن يسير مَال أَتَانِي عفوا لم أبذل فِيهِ وَجها، وَلم أبسط إِلَيْهِ كفا، وَلم أغضض لَهُ طرفا، أحب إِلَيّ من كثير مَال أَتَانِي بالكد، واستفراغ الْجهد. وَقَالَ آخر: لَا تصغر أَمر من حَارَبت أَو عاديت فَإنَّك إِن ظَفرت لم تحمد وَإِن عجزت لم تعذر.(6/30)
هَنأ بَعضهم فَتى أَرَادَ الْبناء على أَهله فَقَالَ: بِالْبركَةِ وَشدَّة الْحَرَكَة وَالظفر فِي المعركة. قَالَ أَعْرَابِي وَقد نظر إِلَى دِينَار: قَاتلك الله مَا أَصْغَر قيمتك، وأكبر همتك. وَقَالَ آخر: اجْمَعُوا الدَّرَاهِم فَإِنَّهَا تلبس اليلمق: وَتطعم الجردق. قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: دفعت إِلَى نَاحيَة فِيهَا نفير من الْأَعْرَاب فرأيتها مُجْدِبَة فَقلت لبَعْضهِم مَا بلدكم هَذَا؟ فَقَالَ: لَا ضرع وَلَا زرع. قلت: فَكيف تعيشون؟ قَالَ: نحترش الضباب، ونصيد الدَّوَابّ فنأكلها، قلت: كَيفَ صبركم عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: يَا هَناه! نسْأَل خَالق الأَرْض. هَل سويت؟ فَيَقُول: بل رضيت. قَالَ أَعْرَابِي: هُوَ أمزح من المطل الْوَاجِد والظمآن الْوَارِد، والعقيم الْوَالِد. قَالَ أَعْرَابِي: الْعَزِيز منوع، والذليل قنوع، والواجد متحير. وَقَالَ آخر: عَلَيْك بالأدب فَإِنَّهُ يرفع العَبْد الْمُلُوك حَتَّى يجلسه فِي مجَالِس الْمُلُوك. قيل لبَعْضهِم: مَا بَال فلَان يتنقصك؟ قَالَ: لِأَنَّهُ شقيقي فِي النّسَب، وجاري فِي الْبَلَد، وشريكي فِي الصِّنَاعَة. وَقَالَ آخر: عباد الله، الحذر، الحذر، فوَاللَّه لقد ستر كَأَنَّهُ غفر. وشكا أَعْرَابِي ركود الْهَوَاء فَقَالَ: ركد حَتَّى كَأَنَّهُ أذن تسمع. وَقَالَ آخر: كل مَقْدُور عَلَيْهِ مختور أَو مَمْلُوك. لَقِي رجل أَعْرَابِيًا لم يكن يعرفهُ قَالَ لَهُ: كَيفَ كنت بعدِي؟ فَقَالَ لَهُ الْأَعرَابِي: وَمَا بعد مَالا قبل لَهُ.(6/31)
قيل لأعرابي: أعْطى الْخَلِيفَة فلَانا مائَة ألف. قَالَ: بل أعطَاهُ إِيَّاه الَّذِي لَو شَاءَ لأعطاه مَكَانَهُ عقلا. قيل لأعرابي لَهُ أمة يُقَال لَهَا زهرَة: أَيَسُرُّك أَنَّك الْخَلِيفَة وَأَن زهرَة مَاتَت؟ قَالَ: لَا وَالله! قيل: وَلم؟ قَالَ: تذْهب الْأمة، وتضيع الْأمة. أَتَى الْحجَّاج بأعرابي فِي أَمر احْتَاجَ إِلَى مَسْأَلته عَنهُ، فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: قل الْحق وَإِلَّا قتلتك. فَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ أَنْت بِهِ فَإِن الَّذِي أَمر بذلك أقدر عَلَيْك مِنْك عَليّ. فَقَالَ الْحجَّاج: صدق، فخلوه. مدح أَعْرَابِي قوما فَقَالَ: يقتحمون الْحَرْب حَتَّى كَأَنَّمَا يلقونها بنفوس أعدائهم. قَالَ أَعْرَابِي فِي حكم جليس الْمُلُوك: أَن يكون حَافِظًا للسمر، صَابِرًا على السهر. وَقَالَ بَعضهم: قلت لأعرابي: كَيفَ رَأَيْت الدَّهْر؟ فَقَالَ: وهوبا لما سلب، سلوبا لما وهب، كَالصَّبِيِّ إِذا لعب. وَقَالَ أَعْرَابِي: لَا يقوم عَن الْغَضَب بذل الِاعْتِذَار. وَوصف آخر رجلا فَقَالَ: ذَاك مِمَّن ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، وَلَا يستمرا ظلمه. وَقَالَ آخر: فلَان حتف الأقران غَدَاة النزال، وربيع الضيفان عَشِيَّة النُّزُول. وَقَالَ آخر: لكل كاس حاس، وَلكُل عَار كاس. وَقَالَ آخر: لَا أمس ليومه، وَلَا قديم لِقَوْمِهِ. وَقَالَ آخر: فلَان أفْصح خلق الله كلَاما، إِذا حدث، وَأَحْسَنهمْ استماعاً إِذا حدث، وأمسكهم عَن الملاحاة إِذا خُولِفَ، يُعْطي صديقه النَّافِلَة وَلَا يسْأَله الْفَرِيضَة، لَهُ نفس عَن العوراء محصورة وعَلى الْمَعَالِي مَقْصُورَة، كالذهب(6/32)
الإبريز الَّذِي يعز فِي كل أَوَان وَالشَّمْس المنيرة الَّتِي لَا تخفى بِكُل مَكَان، هُوَ النَّجْم المضيء للجيران، والبارد العذب للعطشان. وَقَالَ آخر: فلَان لَيْث إِذا عدا، وغيث إِذا غَدا، وَبدر إِذا بدا، وَنجم إِذا هدى، وسم إِذا أردى. وَقَالَ آخر: الْفَقِير فِي الْأَهْل مصروم، والغني فِي الغربة مَوْصُول. وَقَالَ آخر: الاغتراب يرد الْجدّة ويكسب الْجدّة. وَقَالَ آخر: أعظم لخطرك، الآ ترى عَدوك أَنه لَك عَدو. قيل لأعرابي: كَيفَ أبنك؟ فَقَالَ: عَذَاب رعف بِهِ الدَّهْر، فليتني قد أودعته الْقَبْر، فَلِأَنَّهُ بلَاء لَا يقاومه الصَّبْر، وَفَائِدَة لَا يجب فِيهَا الشُّكْر. قَالَ أَعْرَابِي: لَا تضع سرك عِنْد من لَا سر لَهُ عنْدك. وَقَالَ آخر: من سعى رعى، وَمن لزم الْمَنَام رأى الأحلام. قَالَ أَعْرَابِي لرجل: وَيحك! إِن فلَانا وَإِن ضحك إِلَيْك فَإِن قلبه يضْحك مِنْك، وَلَئِن أظهر الشَّفَقَة عَلَيْك، فَإِن عقاربه لتسري إِلَيْك فَإِن لم تتخذه عدوا فِي علانيتك، فَلَا تَجْعَلهُ صديقا فِي سريرتك. وحذر آخر رجلا فَقَالَ: احذر فلَانا فَإِنَّهُ كثير الْمَسْأَلَة حسن الْبَحْث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول كلامك على آخِره وَيعْتَبر مَا أخرت بِمَا قدمت فباثه مباثة الأَرْض، وَتحفظ مِنْهُ تحفظ الْخَائِف وَاعْلَم أَن من يقظة الْمَرْء إِظْهَار الْغَفْلَة مَعَ الحذر. قَالَ أَعْرَابِي: حاجيتك: مَا ذُو ثَلَاث آذان تسبق الْخَيل بالرديان؟ يَعْنِي: سَهْما. ومدح أَعْرَابِي نَفسه فَقيل لَهُ: أتمدح نَفسك؟ قَالَ: أفآكلها إِلَى غَيْرِي.(6/33)
قَالَ آخر: أفآكلها إِلَى عَدو يذمني. وَقَالَ آخر: الْخَيل تجْرِي فِي المروج على أعراقها، وَفِي الحلبة على جدود أَرْبَابهَا، وَفِي الطّلب على إقبال فرسانها وَفِي الْهَزِيمَة على آجالهم. وَقَالَ آخر: حق الجليس إِذا دنا أَن يرحب بِهِ، وَإِذا جلس أَن يُوسع لَهُ، وَإِذا حدث أَن يقبل عَلَيْهِ. وَقَالَ آخر: هَلَاك الْوَلِيّ فِي صَاحب يحسن القَوْل وَلَا يحسن الْعَمَل. وَقَالَ أَعْرَابِي فِي الثَّنَاء على الرشيد عَام حج، قد أصبح المختلفون مُجْتَمعين على تقريظك ومدحك، حَتَّى أَن الْعَدو يَقُول اضطراراً مَا يَقُوله الْوَلِيّ اخْتِيَارا، والبعيد يَثِق من إنعامك عَاما، بِمَا يَثِق بِهِ الْقَرِيب خَاصّا. وَقَالَ آخر لِلْحسنِ بن سهل: قد أَصبَحت للخاصة عدَّة، وللعامة عصمَة، وَللْإِمَام ثِقَة، وللغني جمالاً، وللفقير ثمالاً. وَمن كَلَامهم: اندب إِلَى طَعَامك من تَدعُوهُ إِلَى جفانك. وَمِنْه: الْحِيلَة لعطف المتجني، أعْسر من نيل المتمني. وَمِنْه: الْعقل وَزِير نَاصح، والهوى وَكيل فاضح. وَقَالَ آخر لصَاحب لَهُ: لَا تقل فِيمَا لَا تعلم، فتتهم فِيمَا تعلم. وَقَالَ آخر: نبو النّظر عنوان الشَّرّ، وَقَالَ آخر: استشر عَدوك الْعَاقِل، وَلَا تستشر صديقك الأحمق، فَإِن الْعَاقِل يَنْفِي على رَأْيه الزلل، كَمَا يَتَّقِي الْوَرع على دينه الْحَرج. وَمن كَلَامهم: الحسود لايسود. وَمِنْه: الواقية خير من الراقية. وَقَالَ بَعضهم: لم تَجْتَمِع ضعفا إِلَّا قووا حَتَّى يمتعوا، وَلم يتفرقوا قَوِيا إِلَّا ضعفوا حَتَّى يخضعوا. قَالَ أَعْرَابِي: العبوس بؤس، والبشر بشرى، وَالْحَاجة تفتق الْحِيلَة وَالْحِيلَة تشحذ الطبيعة.(6/34)
وَقَالَ آخر: مجالسة الأحمق خطر، وَالْقِيَام عَنهُ ظفر. قَالَ الْأَصْمَعِي: جلس إِلَى أَعْرَابِي تَقْتَحِمُهُ الْعين يحمي دربه. وَالله مَا ظننته يجمع بَين كَلِمَتَيْنِ فاستنطقته، فَإِذا نَار تأجج فَقلت: أتحسن شَيْئا من الْحِكْمَة تفِيد مِنْهُ؟ قَالَ: نعم، الرُّجُوع عَن الصمت أحسن من الرُّجُوع عَن الْكَلَام، والعطية بعد الْمَنْع، أجمل من الْمَنْع بعد الْعَطِيَّة، والإقدام على الْعَمَل بعد التأني فِيهِ، أحسن من الْإِمْسَاك عَنهُ بعد الْإِقْدَام عَلَيْهِ. قَالَ فَعظم فِي عَيْني حَتَّى مَلأ عَيْني وقلبي هَيْبَة. قَالَ أَعْرَابِي: الْعذر الْجَمِيل أحسن من المطل الطَّوِيل، فَإِذا أردْت الإنعام فانجح، فَإِن تَعَذَّرَتْ الْحَاجة فأفصح. قيل لأعرابي: مَا وقوفك هَا هُنَا؟ فَقَالَ: وقفت مَعَ أَخ لي يَقُول بِلَا علم، وَيَأْخُذ بِلَا شكر، وَيرد بِلَا حشمة. قَالَ أَعْرَابِي لآخر: لَا كل لسَانك عَن الْبَيَان، وَلَا أسكتك الزّجر والهوان. وَقَالَ آخر لرجل: حَاجَتي إِلَيْك حَاجَة الضال إِلَى المرشد، والمضل إِلَى المنشد. وَقَالَ آخر: بالفحول تدْرك الذحول. وَقَالَ آخر: أَنا أستنجدك إِذا كنت مُضَافا، وأسترفدك إِذا كنت مضيفاً. قيل لأعرابي: كَيفَ أَصبَحت؟ قَالَ: أَصبَحت أحتسب على الله الْحَسَنَة، وَلَا أحتسب على نَفسِي السَّيئَة. وَقَالَ آخر وَقد قيل لَهُ: أَيَسُرُّك أَنَّك أَحمَق وَأَن لَك مائَة ألف دِرْهَم؟ قَالَ: لَا. قيل: وَلم؟ قَالَ: لِأَن حمقة وَاحِدَة تَأتي على مائَة ألف، وَألْفي بعْدهَا أَحمَق. قَالَ آخر: من جاد بِمَالِه فقد جاد بِنَفسِهِ، إِلَّا يكن جاد بهَا فقد جاد بقوامها. وَقَالَ آخر: من هذل جَوَاده فِي الرخَاء، قَامَ بِهِ فِي الشدَّة.(6/35)
ذكر رجل عِنْد أَعْرَابِي بِشدَّة الْعِبَادَة فَقَالَ: هَذَا وَالله رجل سوء يظنّ أَن الله لَا يرحمه حَتَّى يعذب هَذَا التعذيب. قَالَ رجل لشيخ بدوي: تمرنا أَجود من تمركم. فَقَالَ: تمرنا جرد فطس، عراض كَأَنَّهَا ألسن الطير، تمضغ التمرة فِي شدقك فتجد حلاوتها فِي عقبك. قَالَ أَعْرَابِي: سَأَلت فلَانا حَاجَة أقل من قِيمَته، فردني ردا أقبح من خلقته. وَقَالَ: مواقعة الرجل أَهله من غير عَبث من الْجفَاء. قيل لأعرابي: مَا تصنع بالبادية إِذا اشْتَدَّ القيظ وحمي الْوَطِيس. فَقَالَ: يمشي أَحَدنَا ميلًا، حَتَّى يرفض عرقاً ثمَّ ينصب عَصَاهُ، ويلقي عَلَيْهَا كَسَاه، فَكَأَنَّهُ فِي إيوَان كسْرَى. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت أَعْرَابِيًا يُصَلِّي ويسيء الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ رجل: يَا أَعْرَابِي، أحسن صَلَاتك. فَقَالَ: إِن المطالب بهَا كريم. عَابَ أَعْرَابِي قوما فَقَالَ: هم أقل النَّاس ذنوباً إِلَى أعدائهم، وَأَكْثَرهم تجرماً على أصدقائهم، يَصُومُونَ عَن الْمَعْرُوف، ويفطرون على الْفَحْشَاء. وصف بعض الْأَعْرَاب النِّسَاء فَقَالَ: عَلَيْك مِنْهُنَّ بالجاليات الْعُيُون، الآخذات بالقلوب، بارع الْجمال، وَعظم الأكفال، وسعة الصُّدُور ولين الْبشرَة ورقة الأنامل وسبوطة الْقصب، وجزالة الأسوق، وجثولة الْفُرُوع، ونجالة الْعُيُون، وسهولة الخدود، وامتداد القوام، ورخامة الْمنطق، وَحسن الثغور، وَصغر الأفواه وصفاء الألوان. وصف أَعْرَابِي امْرَأَة: هِيَ خَالِيَة إِلَّا من أَلا وليت. قيل لأعرابي: كَيفَ كتمانك للسر؟ فَقَالَ: أجحد الْمخبر، وأحلف للمستخبر.(6/36)
قيل لآخر: بِمَاذَا تغلب النَّاس؟ قَالَ: أبهت بِالْكَذِبِ، وأستشهد بالموتى. قَالَ الْأَصْمَعِي: سَأَلت أَعْرَابِيًا عَن الدُّنْيَا فَقَالَ: إِن الآمال قطعت أَعْنَاق الرِّجَال، كالسراب، غر من رَآهُ، وأخلف من رجاه، وَمن كَانَ اللَّيْل وَالنَّهَار مطيته، أَسْرعَا السّير بِهِ وَالْبُلُوغ. ثمَّ أنْشد يَقُول: الْمَرْء يدْفع بِالْأَيَّامِ يَدْفَعهَا ... وكل يَوْم مضى يدني من الْأَجَل ذكر أَعْرَابِي رجلا بقلة الْحيَاء فَقَالَ: لَو دقَّتْ بِوَجْهِهِ الْحِجَارَة لرضها وَلَو خلا بِالْكَعْبَةِ لسرقها. قيل لأعرابي: بِمَ سدت قَوْمك؟ قَالَ: بِحَسب لَا يطعن عَلَيْهِ، ورأي لَا يسْتَغْنى عَنهُ. قيل لآخر: بِمَ تعرفُون السؤدد فِي الْغُلَام؟ قَالَ: إِذا كَانَ سابل الْغرَّة، طَوِيل الغرلة، ملتاث الأزرة، وَكَانَت فِيهِ لوثة، فلسنا نشك فِي السؤدد. وَقَالَ آخر لسنان بن سَلمَة الْهُذلِيّ: مَا أَنْت بأرسخ فَتكون فَارِسًا، وَلَا بعظيم الرَّأْس فَتكون سيداً. وَقَالَ بَعضهم: نَحن لَا نسود إِلَّا من موطننا رَحْله، ولفرسنا عرضه ويملكنا مَاله. سَأَلَ أَعْرَابِي عَن رجل فَقَالَ: أَحمَق مَرْزُوق. فَقَالَ: وَالله ذَاك الرجل الْكَامِل. قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: تمرنا جرد فطس، يغيب فِيهَا الضرس عراض كَأَنَّهَا ألسن الطير تضع التمرة فِي فِيك فتجد حلاوتها فِي كعبك. قَالَ أَعْرَابِي لِأَخِيهِ: إِن لم يكن مَالك لَك، كنت أَنْت لَهُ، فَإِن لم تفنه، أفناك، فكله قبل أَن يَأْكُلك.(6/37)
وَحلف آخر فَقَالَ: لَا وَالَّذِي شقهن خمْسا من وَاحِد، وَأَشَارَ إِلَى كَفه، شقّ الرِّجَال للخيل، وَالْجِبَال للسيل. وَقَالَ آخر فِي رجل: صغره فِي عَيْني، كبر الدُّنْيَا فِي عينه. قيل لأعرابي: كَيفَ حزنك على ولدك؟ قَالَ: مَا ترك لنا حب الْغَدَاء وَالْعشَاء حزنا. قيل لرجل مِنْهُم كَانَ يجمع بَين ضرائر: كَيفَ تقدر على جمعهن قَالَ: كَانَ لنا شباب يظأرهن علينا، وَمَال يصيرهن لنا، ثمَّ قد بَقِي لنا خلق حسن، فَنحْن نتعايش بِهِ. قَالَ أَعْرَابِي: مَا تمّ عقل أحد، إِلَّا قل كَلَامه. وَقَالَ أَعْرَابِي: إِن فلَانا ليكنس على أَعْرَاض النّيل من غيظه. وَقَالَ آخر: مَعَ الشعاب التحاب، والافراط فِي الزِّيَارَة مُمل، والتفريط فِيهَا مخل. قدم أَعْرَابِي على السُّلْطَان وَمَعَهُ كتاب قد كتب فِيهِ قصَّته، فَجعل يَقُول: هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه. فَقيل لَهُ: هَذَا يُقَال يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ: هَذَا وَالله شَرّ من يَوْم الْقِيَامَة، إِنَّه يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بحسناتي وسيئاتي، وَأَنْتُم جئْتُمْ بسيئاتي، وتركتم حسناتي. قَالَ أَبُو العيناء: قلت لأعرابي: إِن الله محاسبك فَقَالَ: سررتني فَإِن الْكَرِيم إِذا حاسب تفضل. وَقَالَ مُعَاوِيَة لأعرابي: مَا الْعَيْش؟ قَالَ: ركُوب الْهوى وَترك الحيا. قيل لأعرابي وَقد عمر مائَة وَعشْرين سنة: مَا أطول عمرك؟ قَالَ: تركت الْحَسَد فَبَقيت.(6/38)
حلف أَعْرَابِي بِالْمَشْيِ إِلَى بَيت الله أَلا يكلم ابْنه فحضرته الْوَفَاة فَقيل لَهُ: كَلمه قبل أَن تفارق الدُّنْيَا. قَالَ: وَالله مَا كنت قطّ أعجز عَن الْمَشْي إِلَى بَيت الله منى السَّاعَة. قَالَ عبد الْملك لأعرابي: تمن. قَالَ: الْعَافِيَة. قَالَ: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: رزق فِي دعة. قَالَ: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ الخمول، فَإِنِّي رَأَيْت الشَّرّ إِلَى ذَوي النباهة أسْرع. قيل لأعرابي من بني يَرْبُوع: مالكم على مِثَال وَاحِد؟ قَالَ: لأَنا من بني فَحل وَاحِد. ذمّ أَعْرَابِي رجلا فَقَالَ: عَلَيْهِ كل يَوْم قسَامَة من فعله تشهد عَلَيْهِ بِفِسْقِهِ وشهادات الْأَفْعَال، أعدل من شَهَادَات الرِّجَال. وَذكر آخر رجلا بالعي فَقَالَ: رَأَيْت عورات النَّاس بَين أَرجُلهم وعورة فلَان بَين فَكَّيْهِ. وَقَالَ آخر لرجل دَفعه: لتجدني ذَا منْكب مزحم، وركن مدعم، وَرَأس مصدم، ولسان مرجم وَوَطْء ميثم. قَالَ الْأَصْمَعِي: نظر أَعْرَابِي إِلَى الْهلَال فَقَالَ: لَا مرْحَبًا بك عقفان يحل الدّين، وَيقرب الْآجَال. قيل لأعرابي: مَا تلبس؟ فَقَالَ: اللَّيْل إِذا عسعس، وَالصُّبْح إِذا تنفس. سُئِلَ أَعْرَابِي عَن ألوان الثِّيَاب فَقَالَ: الصُّفْرَة أشكل والحمرة أجمل والخضرة أنبل والسواد أهول وَالْبَيَاض أفضل. وصف أَعْرَابِي الْكتاب، وَقد دخل الدِّيوَان فَرَآهُمْ فَقَالَ: أَخْلَاق حلوة وسمائل معشوقة ووقار أهل الْعلم وظرف أهل الْفَهم فَإِن سبكتهم وَجَدتهمْ كالزبد يذهب جفَاء. وذم أَعْرَابِي رجلا فَقَالَ: عبد الْبدن، خَز الثِّيَاب، عَظِيم الرواق، صَغِير الْأَخْلَاق، الدَّهْر يرفعهُ وهمته تضعه.(6/39)
قيل لأعرابي ينسج: أَلا تَسْتَحي أَن تكون نساجاً؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أستحي أَن أكون أخرق لَا أَنْفَع أَهلِي. مد الْمَأْمُون يَده إِلَى الْأَعرَابِي ليقبلها فَتَنَاولهَا بكمه فَقَالَ: أتتقزز مِنْهَا؟ قَالَ: لَا بل أتقزز لَهَا. وصف أَعْرَابِي قوما فَقَالَ: هم كلاب وَفُلَان من بَينهم سلوتي. سُئِلَ رجل عَن نسبه فَقَالَ: أَنا ابْن أُخْت فلَان. فَقَالَ أَعْرَابِي: النَّاس ينتسبون طولا وَأَنت تنتسب عرضا. رأى أَعْرَابِي عوداً فَلَمَّا عَاد إلىالبادية وَصفه لأَصْحَابه فَقَالَ: رَأَيْت خشباً محدودب الظّهْر، أرسح الْبَطن، أكلف الْجلد، أجوف أغضف، جَبينه فِي استه، وَعَيناهُ فِي صَدره، وأمعاءه خَارج بَطْنه، بهَا يتَكَلَّم، وعينه تترجم، معروك الْأذن، مخنوق الْحلق. سُئِلَ آخر عَن امْرَأَته فَقَالَ: أفنان أثلة، وجنى نَخْلَة، وَمَسّ رَملَة وَكَأَنِّي قادم فِي كل سَاعَة من غيبَة. اجْتمع إعرابي مَعَ صَاحِبَة لَهُ فَلَمَّا قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من امْرَأَته ذكر معاده فاستعصم وَقَالَ: إِن من بَاعَ جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض بِمِقْدَار فتر بَين رجليك، لقَلِيل الْبَصَر بالمساحة. اشْتَكَى أَعْرَابِي بالحضر فَقيل: مَا تشْتَهي؟ قَالَ: حشك فلاة، وحسي قلاة. قَالَ أَعْرَابِي لرجل: اكْتُبْ لِابْني تعويذاً. فَقَالَ: مَا اسْمه؟ قَالَ: فلَان قَالَ: فَمَا اسْم أمه؟ قَالَ: وَلم عدلت عَن اسْم أَبِيه؟ قَالَ: لِأَن الْأُم لَا يشك فِيهَا. قَالَ: فَاكْتُبْ: فَإِن كَانَ ابْني فعافاه الله، وَإِن لم يكن ابْني فَلَا شفَاه الله. قيل لأعرابي: مَا تَقول فِي إِبْنِ الْعم؟ قَالَ: عَدوك وعدو عَدوك. وَوعظ آخر ابْنا لَهُ أفسد مَاله فِي الشَّرَاب فَقَالَ: لَا الدَّهْر يعظك وَلَا الْأَيَّام تنذرك، وَلَا الشيب يزجرك، والساعات تعد عَلَيْك، والأنفاس تعد مِنْك والمنايا تقاد إِلَيْك، أحب الْأَمريْنِ إِلَيْك، أردهما بالمضرة عَلَيْك.(6/40)
قيل لأعرابي: مَا تَقول فِي الجري. قَالَ: تَمْرَة نرسيانة غراء الطّرف، صفراء السائر، عَلَيْهَا مثلهَا من الزّبد، أحب إِلَيّ مِنْهَا وَلَا أحرمهُ. وَقَالَ آخر: كن حُلْو الصَّبْر عِنْد مر النَّازِلَة. وَمر أَعْرَابِي فِي أطمار رثَّة بِرَجُل فَقَالَ الرجل: وَالله مَا يسرني أَنِّي كنت ضيفك فِي لَيْلَتي هَذِه. فَقَالَ لَهُ الْأَعرَابِي: أما وَالله لَو كنت ضَيْفِي، لغدوت من عِنْدِي أبطن من أمك قبل أَن تضعك بساعة، أما الله إِنَّا وجدناك آكلكم للمأدوم، وأعطاكم للمحروم. قَالَ أَعْرَابِي: رب موثق مؤبق. قيل لآخر: أتشرب النَّبِيذ؟ فَقَالَ: وَالله مَا أرْضى عَقْلِي مجتمعاً فَكيف أفرقه؟ . وَقيل لآخر: أما تشرب؟ قَالَ: أَنا لَا أشْرب مَا يشرب عَقْلِي. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت أَعْرَابِيًا وَالْإِبِل قد مَلَأت الْوَادي فَقلت: لمن هَذِه؟ فَقَالَ: لله فِي يَدي. قَالَ أَبُو العيناء: أضفت أَعْرَابِيًا قدم من الْمَدِينَة، فَلَمَّا قعدنا نَأْكُل، جعلت أذكر غلاء السّعر فِي تِلْكَ السّنة، فَرفع الْأَعرَابِي يَده عَن الطَّعَام، وَقَالَ: لَيْسَ من الْمُرُوءَة ذكر غلاء الأسعار للضيف. فَقَامَ، فاجتهدت بِهِ أَن يَأْكُل شَيْئا فَأبى، وَانْصَرف. حكى عَن حُصَيْن بن أبي الْحر قَالَ: وفدت إِلَى مُعَاوِيَة فطلبت عَامر بن عبد قيس فَقَالَ لَا تريه بِالنَّهَارِ فَأَتَيْته عِنْد الْمغرب وَهُوَ يتعشى، فَسلمت عَلَيْهِ فَرد السَّلَام، وَلم يدعني إِلَى عشائه وَلم يسألني عَن أَهله، فَقلت: الْعجب مِنْك لم تدعني إِلَى عشائك وَلم تَسْأَلنِي عَن أحد من أهلك، فَقَالَ: أما عشائي فخشن، وَأَنت قد تعودت النِّعْمَة، فَكرِهت أَن أحملك من تجشمه على مَا يشق عَلَيْك. وَأما أَهلِي، فَأَنا أعرف أخبارهم، الْمَاضِي فَلَا يرجع إِلَيْهِم، وَأما الْبَاقِي فَلَا حق بِمن مضى مِنْهُم.(6/41)
قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: المعتذر من غير ذَنْب يُوجب الذَّنب على نَفسه. قَالَ: وَقلت لغلام عُذْري: مَا بَال الْعِشْق يقتلكم؟ قَالَ: لِأَن فِينَا جمالاً وعفة. قَالَ أَعْرَابِي: بلوت فلَانا فَلم يزدني اختباره إِلَّا اخْتِيَارا لَهُ. وَقَالَ آخر: هَلَاك الْوَالِي فِي صَاحب، يحسن القَوْل، وَلَا يحسن الْعَمَل. تكلم أَعْرَابِي فَقَالَ: لَا تنكحن وَاحِدَة فتحيض، إِذا حَاضَت، وتمرض إِذا مَرضت، وَلَا تنكحن اثْنَتَيْنِ، فَتكون بَين شرتين، وَلَا تنكحن ثَلَاثًا، فيفلسنك ويهزمنك، وينحلنك ويحظرنك. فَقيل لَهُ: حرمت مَا أحل الله. وَأثْنى أَعْرَابِي على رجل فَقَالَ: إِن خيرك لصريح، وَإِن مَنعك لمريح وَإِن رفدك لربيح. قيل لأعرابي: مَا أَعدَدْت للشتاء؟ فَقَالَ: جلة لبوضاً وصيصية سلوكاً، وشملة مكورة قويمصاً دفياً وناقة مجالحة. وَقيل لآخر: مَا أَعدَدْت للشتاء؟ فَقَالَ: شدَّة الرعدة وقرفصاء الْقعدَة، وذرب الْمعدة. وَقيل لآخر: كَيفَ الْبرد عنْدكُمْ؟ قَالَ: ذَاك إِلَى الرّيح. سمع عمر أَعْرَابِيًا يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لأم أوفى. فَقَالَ: وَمن أم أوفى؟ قَالَ: امْرَأَتي وَأَنَّهَا لحمقاء مرغامة، أكول قامه، لاتبقى لَهَا حامة، غير أَنَّهَا حسناء فَلَا تفرك، وَأم غلْمَان فَلَا تتْرك. قَالَ أَبُو مهدى: تحرشت بِشُجَاعٍ فَخرج يطردني كَأَنَّهُ سهم رابح، ثمَّ استكف كَأَنَّهُ كفة فِي ميتَة، فانتظمت ثَلَاثَة إثنان أحدهن رَأسه. قَالَ الْأَصْمَعِي: كَانَت الْعَرَب تستعيذ من خمشة الْأسد، ونفثة الأفعى وضبطة الفالج.(6/42)
قَالَ أَبُو زيد: رب غيث لم يَك غوثاً، وَرب عجلة نهب ريثاً. وَقَالَ آخر لرجل رَآهُ يذم قرَابَته: أما سَمِعت مَا يَقُول الْعَرَب، فَإِنَّهَا تَقول: الرَّحِم بكدرها والمودة بصفائها. قدم هَوْذَة بن عَليّ، على كسْرَى فَسَأَلَهُ عَن بنيه، فَذكر عددا، فَقَالَ: أَيهمْ أحب إِلَيْك؟ قَالَ: الصَّغِير حَتَّى يكبر، وَالْغَائِب حَتَّى يقدم، وَالْمَرِيض حَتَّى يَصح. فَقَالَ لَهُ كسْرَى: مَا غداؤك فِي بلدك؟ قَالَ: الْخبز. قَالَ كسْرَى لجلسائه: هَذَا عقل الْخبز يفضله على عقول أهل الْبَوَادِي، الَّذين يغتذون اللَّبن وَالتَّمْر. قَالَ الْأَصْمَعِي: كنت بالبادية فجَاء بِي أَعْرَابِي مَعَه عبد أسود فقلال: يَا حضري، أتكتب؟ قلت: أكتب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من عرْفجَة التغلبي لميمون مَوْلَاهُ، إِنَّك كنت عبد الله فوهبك لي، فرددتك ووهبتك لواهبك للْجُوَاز على الصِّرَاط، قد كنت أمس لي، وَأَنت الْيَوْم مثلي وَلَا سَبِيل لي عَلَيْك إِلَّا سَبِيل وَلَاء. أَتَى مُعَاوِيَة بِرَجُل من جرهم قد أَتَت عَلَيْهِ الدهور فَقَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَمَّا رَأَيْت فِي سالف عمرك؟ قَالَ: رَأَيْت بَين جَامع مَالا مفرقاً، ومفرق مَالا مجموعاً، وَمن قوى يظلم، وَضَعِيف يظلم، وصغير يكبر، وكبير يهرم، وَحي يَمُوت، وجنين يُولد، وَكلهمْ بَين مسرور بموجود ومحزون بمفقود. قَالَ أَعْرَابِي: خرجنَا حُفَاة وَالشَّمْس فِي قلَّة السَّمَاء، حَيْثُ انتعل كل شَيْء ظله وَمَا زادنا إِلَّا التَّوَكُّل، وَمَا مطايانا إِلَّا الْأَجَل، حَتَّى لحقنا الْقَوْم. وصف آخر تعادى قوم، فَقَالَ: ألحاظهم سِهَام، وَأَلْفَاظهمْ سمام.(6/43)
وَقَالَ آخر: هبت عَلَيْهِم ريح التعادي، فنسفتهم عَن النوادي والبوادي. وَقَالَ آخر: مَا النَّار باحرق للفتيلة، من التعادي للقبيلة. وَقَالَ آخر: مَعَ الْقَرَابَة والثروة، يكون التناكر والتحاسد وَمَعَ الغربة والخلة، يكون التناصر والتحاشد. وَقَالَ الْحجَّاج لأعرابي: أخطيب أَنا؟ قَالَ: نعم، لَوْلَا أَنَّك تكْثر الرَّد، وتشير بِالْيَدِ، وَتقول أما بعد. وَيَقُول الْأَعرَابِي لراعي إبِله إِذا استرعاه: إِن عَلَيْك أَن ترد ضَالَّتهَا، وَتَهْنَأ جرباتها، وتلوذ حَوْضهَا وتترك مبسوطة فِي الرُّسُل، مالم تنهك حَلبًا أَو تضر بِنَسْل. فَيَقُول لَهُ الرَّاعِي: لَيْسَ لَك أَن تذكر أُمِّي بِخَير وَلَا شَرّ، وَلَك حذفة بالعصا عِنْد غضبك أَخْطَأت أم أصبت، ولي مقعدين من النَّار مَوضِع يَدي من الْحَار. ذكر أَعْرَابِي السُّلْطَان فَقَالَ: أما وَالله لإن عزوا فِي الدُّنْيَا بالجور، لقد ذلوا فِي الْآخِرَة بِالْعَدْلِ. وَقَالَ آخر: الْعَاقِل بخشونة الْعَيْش مَعَ الْعُقَلَاء، آنس مِنْهُ بلين الْعَيْش مَعَ السُّفَهَاء. قَالَ بَعضهم: رَأَيْت أَعْرَابِيًا يرْعَى غنما فَقلت لَهُ: أَنْت راعي هَذِه الْغنم؟ فَقَالَ: أَنا راعيها وَالله يرعاها. قَالَ الْمفضل: قلت لأعرابي: مَا البلاغة؟ قَالَ: الايجاز من غير عجز، والأطناب فِي غير خطل. وَكَانَ أَعْرَابِي يُجَالس الشّعبِيّ وَلَا يتَكَلَّم، فَسئلَ عَن طول صمته فَقَالَ: أسمع وَأعلم، واسكت فَأسلم. وصف آخر رجلا فَقَالَ: صَغِير الْقدر، قصير الشبر، ضيق الصَّدْر لئيم الْخَبَر، عَظِيم الْكبر، كثير الْفَخر.(6/44)
قدم وَفد طَيء على مُعَاوِيَة فَقَالَ: من سيدكم الْيَوْم؟ قَالُوا: خُزَيْمٌ بن أَوْس بن حَارِثَة بن لَام، من احْتمل شَتمنَا، وَأعْطى سائلنا وحلم عَن جاهلنا، وأغتفر ضربنا إِيَّاه بعصينا. حلف أَعْرَابِي على شَيْء فَقيل لَهُ: قل إِن شَاءَ الله، فخضع نَفسه حَتَّى لصق بِالْأَرْضِ ثمَّ قَالَ: إِن شَاءَ الله تذْهب بِالْحِنْثِ، وترضى الرب، وترغم الشَّيْطَان، وتنجح الْحَاجة. قَالَ أَعْرَابِي لِابْنِ عَم لَهُ: مَالك أسْرع إِلَى مَا أكره من المَاء إِلَى قرارة وَلَوْلَا ضني بإخائك، لما أسرعت إِلَى عتابك، فَقَالَ الآخر: وَالله مَا أعرف تقصيراً فأقلع، وَلَا ذَنبا فأعتب، وَلست أَقُول لَك كذبت، وَلَا أقرّ إِنِّي أذنبت. وَقَالَ أَعْرَابِي: مَا زَالَ يعطيني حَتَّى حسبته يردعني، وَمَا ضَاعَ مَال أودع حمداً. وَقَالَ أَعْرَابِي: شَرّ المَال، مَالا أنْفق مِنْهُ، وَشر الأخوان الخاذل فِي الشدائد وَشر السُّلْطَان من أَخَاف البرى، وَشر الْبِلَاد مَا لَيْسَ فِيهِ خصب وَأمن. وَقَالَ: سَمِعت آخر يَقُول لِابْنِهِ: صُحْبَة بليد نَشأ مَعَ الْحُكَمَاء، خير من صُحْبَة لَبِيب نَشأ مَعَ الْجُهَّال. قَالَ أَعْرَابِي لِابْنِهِ: إياك يَا بني وسؤال البلغاء فِي الرَّد. قيل لإعرابي: كَيفَ كتمانك السِّرّ؟ قَالَ: مَا جوفي لَهُ إِلَّا قبر. وَأسر رجل إِلَى بَعضهم، ثمَّ قَالَ لَهُ: أفهمت؟ قَالَ: بل جهلت قَالَ: أحفظت؟ قَالَ: بل نسيت. قَالَ أَعْرَابِي من غطفان: لقد أَحْبَبْت امْرَأَة من بني ذهل بن شَيبَان، فَكنت أَنَام وقلبي طَائِر، وَأهب ودمعي قاطر. قيل لأعرابي: عَليّ من الْبرد أَشد؟ قَالَ: عَليّ خلق فِي خلق. قيل لطائي مرّة: إِن امْرَأَتك تبغضك. فَقَالَ: مَا أُبَالِي إِذا نلْت مِنْهَا ذُو أحب، أَن تنَال مني ذُو تكره. وَذُو فِي لُغَة طَيء: الَّذِي.(6/45)
مدح أَعْرَابِي رجلا قَالَ: فَهُوَ أكسبكم للمعدوم، وآكلكم للمأدوم وأعطاكم للمحروم. قَالَ أَعْرَابِي: مَا رَأَيْت كفلان، إِن طلب حَاجَة، غضب قبل أَن يرد عَنْهَا وَإِن سُئِلَ، رد صَاحبهَا قبل أَن يفهمها. وذم آخر رجلا فَقَالَ: لم يقنع كمياً سَيْفا، وَلَا قرى يَوْمًا ضيفاً وَلَا حمدنا لَهُ شتاء وَلَا صيفاً.؟ ؟ ؟(6/46)
الْبَاب الثَّالِث أدعية مختارة وَكَلَام للسؤال من الْأَعْرَاب وَغَيرهم
وقف أَعْرَابِي فِي بعض المواسم فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن لَك حقوقاً فَتصدق بهَا عَليّ، وَلِلنَّاسِ تبعات قبلي فتحملها عني، وَقد أوجبت لكل ضيف قرى، وَأَنا ضيفك فَاجْعَلْ قراي فِي هَذِه اللَّيْلَة الْجنَّة. قَالَ آخر لرجل سَأَلَهُ: جعل الله للخير عَلَيْك دَلِيلا، وَلَا جعل حَظّ السَّائِل مِنْك عذرة صَادِقَة. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ لَا تنزلني مَاء سوء، فَأَكُون امرء سوء. وقف سَائل مِنْهُم فَقَالَ: رحم الله امرء أعْطى من سَعَة، وواسى من كفاف، وآثر من قوت. وَمن دُعَائِهِمْ: أعوذ بك من بطر الْغنى، وذلة الْفقر. وَقَالَ آخر: أعوذ بك من سقم وعدواه، وَذي رحم ودعواه، وَفَاجِر وجدواه، وَعمل لَا ترضاه. وَسَأَلَ أَعْرَابِي فَقَالَ لَهُ صبي فِي جَوف الدَّار. بورك فِيك، فَقَالَ: قبح الْفَم، لقد تعلم الشَّرّ صَغِيرا. ودعا آخر فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من طول الْغَفْلَة، وإفراط الفطنة، اللَّهُمَّ لَا تجْعَل قولي فَوق عَمَلي، وَلَا تجْعَل أَسْوَأ عَمَلي مَا قرب من أَجلي. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ هَب لي حَقك وَارْضَ عني خلقك. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ إِنَّك أمرتنا أَن نعفو عَمَّن ظلمنَا، فقد ظلمنَا أَنْفُسنَا. فَاعْفُ عَنَّا.(6/47)
وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ امتعنا بخيارنا، وأعنا على شرارنا، وَاجعَل الْأَمْوَال فِي سمائحنا. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ إِن كَانَ رِزْقِي فِي السَّمَاء فأنزله، وَإِن كَانَ فِي الأَرْض فَأخْرجهُ، وَإِن كَانَ بَعيدا فقربه، وَإِن كَانَ قَرِيبا فيسره، وَإِن كَانَ قَلِيلا فكثره، وَإِن كَانَ كثيرا فَبَارك فِيهِ. سمع عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رجلا يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من الأقلين. فَقَالَ لَهُ عمر: وَمَا هَذَا الدُّعَاء؟ قَالَ سَمِعت الله يَقُول: " وَقَلِيل ماهم " وَقَالَ ذكره جلّ وَعز: " وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَلِيل من عبَادي الشكُور ". فَقَالَ عمر: عَلَيْك من الدُّعَاء بِمَا يعرف. دَعَا الغنوي فِي حَبسه: أعوذ بك من السجْن وَالدّين، والغل والقيد والتعذيب والتحبيس، وَأَعُوذ بك من الْجور بعد الكور، وَمن سوء الْخلَافَة فِي النَّفس والأهل وَالْمَال، وَأَعُوذ بك من الْحزن وَالْخَوْف، وَأَعُوذ بك من الْهم وَالرّق، وَمن الْهَرَب والصلب، وَمن الاستخفاء، وَمن الاستخذاء، وَمن الأطراد والأعراب، وَمن الْكَذِب والعيضهة، وَمن السّعَايَة والنميمة، وَمن لؤم الْقُدْرَة ومقام الخزي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة: إِنَّك على كل شَيْء قدير. وَكَانَ بَعضهم يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ احفظني من صديقي، وَكَانَ فِي دُعَاء آخر: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بواثق الثِّقَات. قَالَ أَعْرَابِي فِي دُعَائِهِ: تظاهرت على بادئ مِنْك النعم، وتكاثفت مني عنْدك الذُّنُوب، فأحمدك على النعم الَّتِي لايحصيها أحد غَيْرك، وأستغفرك من الذُّنُوب الَّتِي لَا يُحِيط بهَا إِلَّا عفوك. سَأَلت أعرابية فَقَالَت: سنة جردت، وأيد جمدت، وَحَال جهدت، فَهَل من آمُر بمير، أَو دَال على خير، أَو مُجيب بِخَير، رحم الله من رحم، وأقرض من لَا يظلم. قَالَ مَنْصُور بن عمار صَاحب الْمجَالِس: اللَّهُمَّ اغْفِر لأعظمنا جرما وأقسانا(6/48)
قلباً، وأقربنا بالخطيئة عهدا، وأشدنا على الذَّنب إصراراً فَقَالَ لَهُ الخريمي وَكَانَ حَاضرا. امْرَأَتي طَالِق، إِن كنت أردْت غير إِبْلِيس. قَالَ: إِذا دعت الْأَعْرَاب لمسافر قَالُوا: اللَّهُمَّ قو ضعفته، واحرس غفلته، وَشد منته، اللَّهُمَّ اطو عَنهُ غول الأَرْض وهولها، وحببه إِلَى أَصْحَابه واحمله على ركابه، سلم لَهُ عصيها وقصبها، وألق عَلَيْهِ السخرة والبلاغ، وادرأ عَنهُ وعنها الْأَعْرَاض والأمراض، حَتَّى توديه سالما إِلَى سَالِمين. كَانُوا يَقُولُونَ: نَعُوذ بِاللَّه من ضَرْبَة الجبان، وضبطة الْأَعْمَى، وبادرة الصَّبِي، ودعوة الْبَخِيل، وضرط الرَّقِيب، ونادرة الْمَجْنُون، وذلة الْعَالم. قَالَ أَعْرَابِي فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أرزقني صِحَة لَا تلهي، وغنى لَا يطغي وسريرة لَا فضيحة فِيهَا وَلَا شنعة، وَعَلَانِيَة لَا رِيَاء تطغي فِيهَا وَلَا سمعة. سَأَلَ رجل من بني كلاب مَعْرُوف النّسَب فَقَالَ: إِنِّي رجل من بلعنبر، ولي سنّ، وَبِي فقر وَعِنْدِي دُعَاء وشكر، وَفِي إعطائي أجر وَذخر. فَقيل لَهُ: أَنْت من بني كلاب وتتنسب إِلَى بلعنبر قَالَ: إِنَّه مقَام خزي، وهم لنا عَدو. فَأَحْبَبْت أَن يلحقهم عاره. دَعَا أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن أفتقر فِي غناك، أَو أضلّ فِي هداك، أَو أذلّ فِي عزك، أَو أضام فِي سلطانك، أَو أضطهد وَالْأَمر لَك. قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِنِّي لواقف بِعَرَفَة وأعرابي إِلَى جَانِبي فَسَمعته يَقُول: اللَّهُمَّ قد أنضيت ظَهْري، وأبعدت مطلبي، ووقفت ببابك ضارعاً خاضعاً، فَإِن كنت لم تقبل تعبي ونصبي، فَلَا تحرمني أجر الْمُصَاب على مصابه. فَلَمَّا قربت الشَّمْس أَن تغرب قَالَ: اللَّهُمَّ عجت الْأَصْوَات بضروب اللُّغَات ليسألونك الْحَاجَات، وحاجتي إِلَيْك أَن لَا تنساني على طول الْبكاء إِذا نسيني أهل الدُّنْيَا.(6/49)
سَأَلَ أَعْرَابِي قوما فَقَالَ: رحم الله امْرَءًا لم تمج أُذُنه كَلَامي، وَقدم لنَفسِهِ معَاذَة من سوء مقَامي، فَإِن الْبِلَاد مُجْدِبَة وَالدَّار مضيعة وَالْحَال مسبغة، وَالْحيَاء زاجر ينْهَى عَن كلامكم، والفقر عاذر يَدْعُو إِلَى إخباركم، وَالدُّعَاء إِحْدَى الصدقتين. فرحم الله امرء آسى بمير، أَو دَعَا بِخَير. فَقَالَ لَهُ رجل: مِمَّن يَا أَعْرَابِي؟ فَقَالَ: مِمَّن لَا تنفعكم مَعْرفَته وَلَا تضركم جهالته اللَّهُمَّ غفراً، إِن يَوْم الِاكْتِسَاب، يمْنَع من كرم الانتساب. دَعَا أَعْرَابِي فِي الْكَعْبَة فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك عَالم بحوائجي فاقضها، وعارف بذنوبي فاغفرها. فَقيل لَهُ: اختصرت. فَقَالَ: لَا وَالله بل بالغت. وَقَالَ آخر فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْخَوْف مِنْك، حِين يأمنك من لَا يعرفك، وَأَسْأَلك الْأَمْن مِنْك، حِين يخافك من يغتر بك. ودعا آخر فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَمَا أعرف مُعْتَمدًا من زِيَارَة فاطلب، وَلَا أجد غنى فأترك فِي الْحجَّة، فَإِن أطنبت فِي سؤالك فلفاقتي إِلَى مَا عنْدك، وَإِن قصرت فِي دعائك فَلَمَّا تعودت من ابتدائك. قَالَت أعرابية عِنْد الْكَعْبَة: إلهي لَك أذلّ، وَعَلَيْك أدل. كَانَ من دُعَاء شُرَيْح: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْجنَّة بِلَا عمل عملته، وَأَعُوذ بك من النَّار بِلَا ذَنْب تركته. يُقَال إِنَّه كَانَ من دُعَاء يُونُس فِي الظُّلُمَات: لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين، وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني، أكن من الخاسرين، مسني الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ. قَالَ أَعْرَابِي فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من حَاجَة إِلَّا إِلَيْك، وَمن خوف إِلَّا مِنْك، وَمن طمع إِلَّا فِيمَا عنْدك. قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة: إلهي {من أولى بالزلل وَالتَّقْصِير مني وَقد خلقتني ضَعِيفا، إلهي} من أولى بِالْعَفو عني مِنْك، وقضاؤك نَافِذ، وعلمك بِي مُحِيط، أطعتك بإذنك، والْمنَّة لَك عَليّ، وعصيتك بعلمك، وَالْحجّة لَك عَليّ، فبثبات حجتك وَانْقِطَاع حجتي، وبفقري(6/50)
إِلَيْك وغناك عني، أَلا غفرت لي ذُنُوبِي. دَعَا أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك حصيت ذُنُوبِي فاغفرها، وَعرفت حوائجي فاقضها. وَكَانَ بَعضهم يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَعنِي على ديني بديناً، وأعني على آخرتي بتقوى. ودعا آخر: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْفَاجِر وجدواه والغريم وعدواه، وَأَعُوذ بك من سقم، وعداوة ذِي رحم، وَعمل لَا ترضاه، اللَّهُمَّ أعوذ بك من الْفقر إِلَّا إِلَيْك، وَمن الذل إِلَّا لَك. سَأَلَ أَعْرَابِي قوما وهم فِي مُصِيبَة فَقَالُوا: مَا ترى شَغَلَتْنَا قَالَ: مَا بكم بدأت وَلَا إِلَيْكُم انْتَهَت. قَالَ الْأَصْمَعِي،: مر بِي يَوْمًا أَعْرَابِي سَائل فَقلت لَهُ: كَيفَ حالك؟ فَقَالَ: أسأَل النَّاس إجحافاً، ويعطوننا كرها، فَلَا يؤخرون مَا يُعْطون وَلَا يُبَارك لنا فِيمَا نَأْخُذ، والعمر بَين ذَلِك فَإِن وَالْأَجَل قريب والأمل بعيد. قَالَ الْأَصْمَعِي: اعترضنا أَعْرَابِي فِي طَرِيق مَكَّة فَقَالَ: هَل عَائِد عَليّ بِفضل، أَو مواس من كفاف؟ فَأمْسك عَنهُ الْقَوْم. فولى وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ لَا تكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فنعجز، وَلَا إِلَى النَّاس فنضيع. وقف أَعْرَابِي على حَلقَة الْحسن فَقَالَ: رحم الله من عَاد بِفضل وواسى من كفاف، وآثر من مَعْرُوف فَقَالَ الْحسن: مَا بَقِي مِنْكُم أحدا. دَعَا عَمْرو بن عتبَة فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعنِي على الدُّنْيَا بالقناعة، وعَلى الدّين بالعصمة، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من طول الْغَفْلَة وإفراط الفطنة. اللَّهُمَّ لَا تجْعَل قولي فَوق عَمَلي، وَلَا تجْعَل أَسْوَأ عَمَلي مَا ولى أَجلي، اللَّهُمَّ إِنِّي أستغفرك مِمَّا أملك، وأستصفحك لما لَا أملك، اللَّهُمَّ لَا تجعلني مِمَّن إِن مرض شجن، وَإِن اسْتغنى فتن، وَإِن افْتقر حزن. سَأَلت أعرابية بِالْبَصْرَةِ فَقَالَت: يَا قوم! طرائد زمَان، وفرائس نازلة، نبذتنا(6/51)
الرّحال، ونشرتنا الْحَال، وأطعمنا السُّؤَال، فَهَل من كاسب لأجر، أَو رَاغِب فِي ذخر. سَأَلَ أَعْرَابِي رجلا حَاجَة فَقَالَ: إذهب بِسَلام. فَقَالَ لَهُ: أنصفنا من ردنا فِي حوائجنا إِلَى الله. وَكَانُوا يستنجحون حوائجهم بِرَكْعَتَيْنِ يَقُولُونَ بعدهمَا: اللَّهُمَّ إِنِّي بك استفتح، وَبِك استنجح، وبحمد نبيك إِلَيْك أتوجه، اللَّهُمَّ ذلل لي صعوبته وَسَهل حزونته، وارزقني من الْخَيْر أَكثر مِمَّا أَرْجُو، واصرف عني من الشَّرّ أَكثر مِمَّا أَخَاف. ودعا بَعضهم فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من حَيَاة على غَفلَة، وَمن وَفَاة على غرَّة، وَمن مرد إِلَى حسرة، وَأَسْأَلك الْعَافِيَة من أَن أمل عافيتك وأكفر نِعْمَتك، أَو أنسى حسن بلائك، أَو أستبدل بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَة. سَأَلَ أَعْرَابِي فَقَالَ: سنة حردت، وَحَال جهدت، وأيد حمدت، فرحم الله من يرحم. تَقول الْعَرَب فِي الدُّعَاء على الرجل: لَا طلبته الْخُيُول للغارة أَو يتكاره جَدب الزَّمَان وعَلى هَذَا الْمَعْنى حمل قَول الشَّاعِر: وجنبت الْخُيُول أَبَا زنيب ... وجاد على منازلك السَّحَاب دَعَا رجل لآخر فَقَالَ لَا جعل الله حَظّ السَّائِل مِنْك عذرة صَادِقَة دَعَا أَعْرَابِي أَبْطَأَ عَنهُ ابْنه فخاف عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت أنزلت بِهِ بلَاء فَأنْزل مَعَه صبرا، وَإِن كنت وهبت لَهُ عَافِيَة فافرغ، عَلَيْهِ الشُّكْر، اللَّهُمَّ إِن كَانَ عذَابا فاصرفه، وَإِن كَانَ فلاحاً، فزد فِيهِ وهب لنا الصَّبْر عِنْد الْبلَاء وَالشُّكْر عِنْد الرخَاء.(6/52)
كَانَ قيس بن سعد يَقُول: اللَّهُمَّ ارزقني مجداً وحمداً، فَلَا حمد إِلَّا بفعال، وَلَا مجد إِلَّا بِمَال. اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من فقر مكب، وضرع إِلَى عير مخب. كَانَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر يَقُول: اللَّهُمَّ قو فرحي بأهلي، فَإِنَّهُ لَا قوام لَهُم إِلَّا بِهِ. قَالَ بَعضهم: كنت مَعَ سعيد بن عبد الْملك فقصدت لَهُ أعرابية تُرِيدُ أَن نَسْأَلهُ فمنعت مِنْهُ، فَلم تزل تحتال حَتَّى وقفت عَلَيْهِ، فَقَالَت أَبَا عُثْمَان: حياك من لم تكن ترجو تحيته ... لَوْلَا الْحَوَائِج مَا حياك إِنْسَان وَسَأَلت أعرابية الْمَنْصُور فِي طَرِيق مَكَّة، فَمنعهَا فَقَالَت متمثلة: الطَّوِيل: إِذا لم يكن فيكُن ظلّ وَلَا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات وَسَأَلته أُخْرَى فَمنعهَا، فَقَالَت: دنوك إِن كَانَ الدنو كَمَا أرى ... علىّ وَبعد الدَّار مستويان زَعَمُوا أَن الْحُسَيْن الْخَادِم أَطَالَ الْجُلُوس عِنْد الواثق فَقَالَ: أَلَك حَاجَة؟ فَقَالَ: أما إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَا، وَلَكِن إِلَى الله فِيهِ، وَهِي أَن يُطِيل بَقَاءَهُ ويديم نعماءه. قَالَ الْحُسَيْن بن وهب: شكرت ابْن أبي دَاوُد فَقَالَ لي: أحوجك الله إِلَى أَن تعلم مَالك عِنْد صديقك. قَالَ رجل لرجل: سترك الله. فَقَالَ: وَإِيَّاك فَستر، وَلَا جعل مَا تَحت السّتْر مَا يكره، فكم مَسْتُور مِنْهُ على مَا يكرههُ الله. قَالَ الْأَصْمَعِي كَانَ من دُعَاء أبي الْمُجيب: اللَّهُمَّ اجْعَل خير عَمَلي مَا قَارب أَجلي. وَكَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ لَا تكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فنعجز، وَلَا إِلَى النَّاس فنضيع. وَقَالَ أَبُو زيد: وقف علينا أَعْرَابِي فِي حَلقَة يُونُس فَقَالَ: الْحَمد لله كَمَا هُوَ(6/53)
أَهله، ونعوذ بِاللَّه أَن أذكر بِهِ وأنساه، خرجنَا من الْمَدِينَة مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثُونَ رجلا مِمَّن أخرجته الْحَاجة، وَحمل على الْمَكْرُوه لَا يمرضون مريضهم، وَلَا يدفنون ميتهم، وَلَا ينتقلون من منزل إِلَى منزل، وَإِن كرهوه، وَالله يَا قوم، لقد جعت حَتَّى أكلت النَّوَى المحرق، وَلَقَد مشيت حَتَّى انتعلت الدَّم، وَحَتَّى خرج من قدمي لحم كثير. أَفلا رجل يرحم ابْن سَبِيل، أذلّ طَرِيق، ونضو سفر، فَإِنَّهُ لَا قَلِيل من الْأجر، وَلَا غنى عَن الله عز وَجل، وَلَا عمل بعد الْمَوْت، وَهُوَ يَقُول جلّ ذكره " من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه " ملي، وَفِي، ماجد، وَاجِد لَا يستتقرض من عوذ وَلكنه يبلو الأخيار. قَالَ فبلغني أَنه لم يبرح حَتَّى أَخذ سِتِّينَ دِينَارا. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: سَمِعت سَوْدَاء بِعَرَفَة تَقول: يَا حسن الصُّحْبَة: أَسأَلك سترا لَا تهتكه الرِّيَاح، وَلَا تخرقه الرماح. كَانَ من دُعَاء ابْن السماك: اللَّهُمَّ إِنَّا نحب طَاعَتك وَإِن قَصرنَا، ونكره معصيتك وَإِن ركبناها، اللَّهُمَّ فتفضل علينا بِالْجنَّةِ وَإِن لم نَكُنْ أَهلهَا، وخلصنا من النَّار وَإِن كُنَّا قد استوجبناها. ووقفت امْرَأَة من الْأَعْرَاب من هوَازن على عبيد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة فَقَالَت أصلحك الله، أَقبلت من أَرض شاسعة، يرفعني رَافِعَة، ويخفضني خافضة بملمات من الْبلَاء، وملمات من الدهور برين عظمي، وأذهبن لحمي، وتركنني ولهة أَمْشِي بالحضيض، وَقد ضَاقَ بِي الْبَلَد العريض، لَا عشيرة تحميني، وَلَا حميم يَكْفِينِي، فَسَأَلت فِي أَحيَاء الْعَرَب من المرجو سيبه، الْمَأْمُون عَيبه، المكفي سائله، الْكَرِيمَة شمائله، المأمول نائله، فأرشدت إِلَيْك، وَأَنا امْرَأَة من هوَازن، مَاتَ الْوَالِد وَغَابَ الرافد، وَأَنت بعد الله غياثي، ومنتهى أملي، فَاصْنَعْ إِلَيّ إِحْدَى ثَلَاث: إِمَّا أَن تقيم أودي، أَو تحسن صفدي، أَو تردني إِلَى(6/54)
بلدي. قَالَ: بل: أجمعهن لَك وَحيا. ووقفت أعرابية على قوم فَقَالَت: بَعدت مشقتي، وَظَهَرت محارمي، وَبَلغت حَاجَتي إِلَى الرمق، وَالله سَائِلكُمْ عَن مقَامي. وَسَأَلت أُخْرَى فَقَالَت: ساءلتكم، فسؤلكم الْقَلِيل الَّذِي يُوجب لكم وَالْكثير، رحم الله وَاحِدًا أعَان محقاً. ووقفت أُخْرَى فَقَالَت: يَا قوم، تغير بِنَا الدَّهْر إِذْ قل منا الشُّكْر ولزمنا الْفقر، فرحم الله من فهم بِالْعقلِ، وَأعْطى من فضل، وآثر من كفاف، وأعان على عفاف. كَانَ بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ قني عثرات الْكِرَام. وَكَانَ بعض السّلف يَقُول: اللَّهُمَّ أحملنا من الرجلة، وأغننا من الْعيلَة. وَسَأَلَ أَعْرَابِي فَقيل لَهُ: بورك فِيك ونوالي عَلَيْهِ ذَلِك من غير مَكَان فَقَالَ: وكلكم الله إِلَى دَعْوَة لَا تحضرها نِيَّة. وَقَالَ بَعضهم: اللَّهُمَّ أَعنِي على الْمَوْت وكربته، وعَلى الْقَبْر وغمته، وعَلى الْمِيزَان وحقته، وعَلى الصِّرَاط وذلته، وعَلى يَوْم الْقِيَامَة وروعته. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ أغنني بالإفتقار إِلَيْك، وَلَا تفقرني بالاستغناء عَنْك. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ أَعنِي على الدُّنْيَا بالقناعة، وعَلى الدّين بالعصمة. وَقَالَ آخر: اللَّهُمَّ أمتعنا بخيارنا، وأعنا على أشرارنا، وَاجعَل المَال فِي سمحائنا. وَلما ولي مَسْرُوق السلسلة انبرى لَهُ شَاب فَقَالَ لَهُ: وقاك الله خشيَة الْفقر، وَطول الأمل، وَلَا جعلك ذُرِّيَّة للسفهاء، وَلَا شيناً للفقهاء.(6/55)
وَقَالَ أَعْرَابِي فِي دُعَائِهِ! اللَّهُمَّ لَا تحيني وَأَنا أرجوك، وَلَا تعذبني وَأَنا أَدْعُوك، اللَّهُمَّ قد دعوتك كَمَا أَمرتنِي، فأجبني كَمَا وَعَدتنِي. وَقَالَت امْرَأَة من الْأَعْرَاب: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرّ قُرَيْش وَثَقِيف وَمَا جمعت من اللفيف، وَأَعُوذ بك من ملك امْرَأَة، وَمن عبد مَلأ بَطْنه. كَانَ قوم فِي سفينة فهاجت الرّيح فَقَالَ رجل مِنْهُم: اللَّهُمَّ إِنَّك أريتنا قدرتك، فأرنا رحمتك. وَرَأى آخر رجلا سَائِلًا يسْأَل يَوْم عَرَفَة فَقَالَ: أيهذا إلام تسْأَل غير الله؟ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كم من أَشْعَث أغبر ذِي طمرين لَا يؤبه لَهُ، لَو أقسم على الله لَأَبَره، مِنْهُم الْبَراء بن مَالك، فَاجْتمع إِلَيْهِ النَّاس وَقد دهمهم الْعَدو، فأقسم على الله فمنحهم الله أكتافهم. ودعا سعيد بن الْمسيب فَقَالَ رغبك الله فِيمَا أبقى، وزهدك فِيمَا يفنى، ووهب لَك الْيَقِين الَّذِي لَا تسكن النُّفُوس إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تعول فِي الدّين إِلَّا عَلَيْهِ. وَكَانَ مطرف يَقُول: اللَّهُمَّ إِنَّك أمرتنا بِأَمْرك، وَلَا نقوى عَلَيْهِ إِلَّا بعونك، ونهيتنا عَمَّا نَهَيْتنَا عَنهُ، وَلَا ننتهي عَنهُ إِلَّا بعصمتك، وَاقعَة علينا حجتك، غير معذورين فِيمَا بَيْننَا وَبَيْنك، وَلَا منجوسين فِيمَا عَملنَا لوجهك. ودعا أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْفقر المدقع، والذل المضرع. وَقَالَ آخر وَقد سمع صَوت الصَّوَاعِق: اللَّهُمَّ إِن كَانَ عذَابا فاصرفه، وَإِن كَانَ صلاحاً فزد فِيهِ، وهب لنا الصَّبْر عِنْد الْبلَاء، وَالشُّكْر عِنْد الرخَاء، اللَّهُمَّ إِن كَانَت محنة فَمن علينا بالعصمة، وَإِن كَانَت عقَابا فَمن علينا بالمغفرة.(6/56)
قَالَ طَاوُوس: يَكْفِي من الدُّعَاء مَعَ الْوَرع، مَا يَكْفِي الْعَجِين من الْملح. دَعَا أَعْرَابِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْبَقَاء، والنماء وَحط الْأَعْدَاء، وَطيب الإتاء. وقف أَعْرَابِي فِي جَامع الْبَصْرَة فَقَالَ: أما بعد فَإنَّا أَبنَاء السَّبِيل، وأنضاء الطَّرِيق، تصدقوا علينا فَإِنَّهُ لَا قَلِيل من الْأجر، أما وَالله إِنَّا لَا نقوم هَذَا الْمقَام، وَفِي الصُّدُور حزازة، وَفِي الْقلب غُصَّة. قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا على بَاب الْكَعْبَة وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ سَائِلك ببابك نفدت أَيَّامه، وَبقيت آثامه، وانقطعت شهواته، وَبقيت تبعاته، اللَّهُمَّ فَاغْفِر لي، فَإِن تغْفر لي، فَاعْفُ عني فَرُبمَا عَفا المليك عَن مَمْلُوكه وَهُوَ مغضبه. وَقَالَ وَسمعت آخر وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من المفر مِنْك وَمن الذل إِلَّا لَك، وَمن التعزز إِلَّا بك، فَأعْطِنِي الْخَيْر، واجعلني لَهُ آهلاً، وجنبني الشَّرّ، وَلَا تجعلني لَهُ مثلا. وَقَالَ: وَسمعت آخر يَدْعُو فِي يَوْم عَرَفَة يَقُول: اللَّهُمَّ لَا تحرمني خير مَا عنْدك، لسوء مَا عِنْدِي، وَإِن كنت لَك تقبل تعبي ونصبي، فَلَا تحرمني أجر الْمُصَاب على مصيبته. وقف أَعْرَابِي على قوم فَسَأَلَهُمْ فانتهروه فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من القناعة مَا يقلل عِنْدِي الْمُسْتَفَاد، ويهون عَليّ الأسف على مَا فَاتَ ثمَّ أقبل على الْقَوْم وَقَالَ: وَأَنْتُم فحرمكم الله من الشُّكْر مَا تستوجبون بِهِ الزِّيَادَة. وقف أَعْرَابِي على قوم فَقَالَ: أَخ فِي كتاب الله، وجار فِي بِلَاد الله وطالب إِلَيْكُم من رزق الله، فَهَل من أَخ موَات فِي ذَات الله؟ ! . كَانَ يُوسُف بن الْحُسَيْن المرازي يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي(6/57)
نصحت النَّاس قولا، وخنت نَفسِي فعلا، فَهَب خيانتي لنَفْسي لنصيحتي للنَّاس. دع أَعْرَابِي فَقَالَ: يارب إِن كنت تدع رِزْقِي لهواني عَلَيْك، فنمروذ كَانَ أَهْون مني، وَإِن كنت تَدعه لكرامتي عَلَيْك، فسليمان كَانَ أكْرم مني. حج رجل من الْأَعْرَاب فَقَالَ: اللَّهُمَّ حضرني إِلَيْك الرغب والرهب فأدأبت النَّهَار، وأسأدت اللَّيْل، غير وعد وَلَا رسل أصل الجعجاع، وأدمن الإيضاع، فأنقيت الْخُف، وبريت الْعظم، وأكلت السنام، لَك بذلك الإمتنان، وَفِي قديم إِلَيّ مِنْك الْإِحْسَان، أَنا ضيفك أَرْجُو قراك، فلينلني عفوك وليسعني فضلك، اللَّهُمَّ أحيني الْعَاقِبَة، والغفران، يَا إِلَه الطول وَالْإِحْسَان. دَعَا أَعْرَابِي على آخر فَقَالَ: رماك الله بليلة لَا أُخْت لَهَا. ودعا آخر فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك طعم الْأَهْل، وخصب الرجل. وَكَانَ آخر يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من قرع الْغناء، وكساد أيم، وَغَضب الْعَاقِل.(6/58)
الْبَاب الرَّابِع أَمْثَال الْعَرَب
هَذَا الْبَاب نذْكر فِيهِ صوراً من؟ أَمْثَال الْعَرَب مِمَّا يحسن المحاضرة بِهِ فِي المحاورات، وإيراده فِي أثْنَاء المكاتبات ومجنس أجناساً، وَيتبع فِي تجنيسه الْأَلْفَاظ دون الْمعَانِي. يقدم فِي كل مَا جَاءَ مِنْهَا على لفظ: " أفعل " فَإِنَّهَا أَكثر تَكْرَارا فِي الْكَلَام، وَالْحَاجة إِلَيْهَا أمس، وَالنَّاس بهَا ألهج.
فِي أَسمَاء الرِّجَال وصفاتهم
آبل من حنيف الحناتم. أبخل من مادر. أبلغ من سحبان وَائِل. أبين من قس. أبخل من ذِي معذرة. أبخل من ذِي الضنين بنائل غَيره. أبر من فلحس. وَهُوَ رجل من شَيبَان، حمل أَبَاهُ على ظَهره وَحج بِهِ. أَبْطَأَ من فند: بعثته مولاته ليقتبس نَارا فَعَاد إِلَيْهَا بعد سنة. أجمل وأجمل من ذِي الْعِمَامَة: وَهُوَ سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة. أَجود من حَاتِم. أَجود من كَعْب بن مامة.(6/59)
أَجود من هرم. أجن من دقة: هُوَ دقة بن عَبَايَة بن أَسمَاء بن خَارِجَة. أَحمَق من هبنقة: ذِي الودعات. أَحمَق من شرنبث. أَحمَق من بيهس. أَحمَق من حجينة، رجل من بني الصيداء. أَحمَق من أبي غبشان: بَاعَ مَفَاتِيح الْكَعْبَة لقصي بزق خمر. أَحمَق من حذنة. أَحمَق من شيخ: فَهُوَ بطن من عبد الْقَيْس اشْترى الفسو من إياد، وَكَانُوا يعيرون بِهِ، فيروي خَيره، فعيرت بعد ذَلِك عبد الْقَيْس بالفسوة. أَحمَق من ربيعَة الْبكاء: هُوَ ربيعَة بن عَامر بن ربيعَة ابْن صعصعة رأى أمه - وَهُوَ رجل - تَحت زَوجهَا، فقرر أَن يَقْتُلهَا فَبكى، وَصَاح، فَقيل لَهُ: أَهْون مقتول أم تَحت زوج.
من الْحِكْمَة
أحكم من لُقْمَان. أحكم من هرم بن قُطْبَة. أحمى من مجير الْجَرَاد: وَهُوَ مُدْلِج بن سُوَيْد الطَّائِي. أحمى من مجير الظعن: وَهُوَ ربيعَة بن مكدم. أحلم من الْأَحْنَف. أحلم من قيس بن عَاصِم. أحزم من سِنَان بن أبي حَارِثَة.(6/60)
أخسر من شيخ مهو. أخسر صَفْقَة من أبي غبشان. أخلى من جَوف حمَار: رجل من عَاد وجوفه وَاد كَانَ ينزل بِهِ فَلَمَّا كفر أخرب الله واديه. أخنث من هيت. أخيب من حنين. أخنث من طويس. أخنث من الدَّلال. أخجل من مقمور. وَهُوَ صَاحب الْخُفَّيْنِ. أَخطب من قس. أدل من حنيف الحنائم. أدل من دعيميص بن زُهَيْر. أدهى من قيس بن زُهَيْر. أرمى من ابْن تقن. وَهُوَ رجل من عَاد. أروى من معجل أسعد: كَانَ رجلا أَحمَق وَقع فِي غَدِير فَجعل يُنَادي ابْن عَم لَهُ يُقَال لَهُ: أسعد وَيَقُول: ناولني شَيْئا أشْرب بِهِ المَاء ويصيح بذلك حَتَّى غرق. أزنى من قرد. أسأَل من فلحس: وَهُوَ رجل من بني شَيبَان كَانَ سيداً عَزِيزًا يسْأَل سَهْما فِي الْجَيْش وَهُوَ فِي بَيته فَيعْطى لعزه فَإِذا أعْطِيه، سَأَلَ لامْرَأَته، فَإِذا أعْطِيه سَأَلَ لبعيره، وَكَانَ لَهُ ابْن يُقَال لَهُ زَاهِر فَكَانَ مثله فَقيل فِيهِ: الْعَصَا من العصية: هَكَذَا رَوَاهُ ابْن حبيب، فَأَما أَبُو عبيد فَإِنَّهُ يَقُول: الفلحس: الَّذِي يتحين طَعَام النَّاس يُقَال: أَتَانَا فلَان يتفلحس، كَمَا يتطفل.(6/61)
أسأَل من قرثع. أسرق من شظاظ: رجل من بني ثَعْلَب. أسرق من برجان. أشأم من خوتعة. أشأم من قدار. أشأم من أَحْمَر عَاد. أشأم من طويس. أَصْبِر من قضيب: رجل من بني ضبة. أَشد من لُقْمَان بن عَاد. أسبل من جذل الطعان. أضيع من دم سلاغ جَبَّار: هُوَ رجل من عبد الْقَيْس. أضلّ من سِنَان: هُوَ سِنَان بن أبي حَارِثَة المري، وَكَانَ قومه عنفوه على الْجُود فَركب نَاقَته، وَرمى بهَا الفلاة، فَلم ير بعد ذَلِك وسمته الْعَرَب: ضَالَّة غطفان. وَقَالُوا: إِن الْجِنّ استفحلته تطلب كرم فَحله. أضبط من عَائِشَة بن عثم: هُوَ رجل من بني عبد شمس بن سعد من حَدِيثه أَنه كَانَ يسْقِي إبِله يَوْمًا، فَأنْزل أَخَاهُ فِي الرَّكية ليميحه، فازدحمت الْإِبِل فهوت بكرَة فِي الْبِئْر فَأخذ ذنبها، وَصَاح بهَا أَخَاهُ: يَا أخي الْمَوْت! فَقَالَ: ذَلِك إِلَى ذَنْب البكرة ثمَّ اجتذبها فأخرجها. أطمع من أشعب. أظلم من جلندي. أطمع من مقمور. أعز من قنوع.(6/62)
أَفرس من ملاعب الأسنة. أفرغ من حجام ساباط. أعز من كُلَيْب وَائِل. أعز من مَرْوَان الْقرظ. أعدى من الشنفري. أعدى من السليك. أعيى من الباقل. أغزل من امْرِئ الْقَيْس. أغدر من قيس بن عَاصِم. أغدر من عتيبة بن الْحَارِث. أغْلى فدَاء من حَاجِب بن زُرَارَة. أغْلى فدَاء من بسطَام بن قيس. أفتك من البراض. أفتك من الْحَارِث بن ظَالِم. أفتك من عَمْرو بن كُلْثُوم. أكذب من حجينة. أفلس من ابْن المذلق. أفلس من الْعُرْيَان: وَهُوَ الْعُرْيَان بن شهلة الْقطَامِي. أكذب من الْمُهلب بن أبي صفرَة. أكذب من قيس بن عَاصِم. أقرى من زَاد الركب. وهم ثَلَاثَة نفر من قُرَيْش.(6/63)
أقرى من غيث الضريك: وَهُوَ قَتَادَة بن مسلمة الْحَنَفِيّ. أقرى من مطاعيم الرّيح: وهم أَرْبَعَة أحدهم أَبُو محجن الثَّقَفِيّ. أقرى من أرماق المقوين: وهم كَعْب وحاتم وهرم. أقرى من آكل الْخبز: وَهُوَ عبد الله بن حبيب الْعَنْبَري. أكفر من نَاشِرَة: وَهُوَ عبد الله، من كفران النِّعْمَة. أكفر من حمَار. ألأم من ابْن قرصع: رجل من أهل الْيمن. ألأم من جدرة. ألأم من الْبرم الْقُرُون. ألأم من ضبارة: وهما رجلَانِ معروفان باللؤم. سَأَلَ بعض مُلُوك الْعَرَب عَن ألأم النَّاس فَذكر إِلَيْهِ وجاءوه بجدرة، فجدع أَنفه وفر ضبارة. فَقَالُوا فِي الْمثل: نجا ضبارة لما جدع الجدرة. ألأم من راضع. ألهف من قضيب: رجل من الْعَرَب كَانَ تماراً بِالْبَحْرَيْنِ وَله حَدِيث. أمضى من سليك المقانب. أمنع من عنز: رجل من عَاد. أمطل من عقرب: رجل تَاجر بِالْمَدِينَةِ. أنعم من خُزَيْمٌ: رجل من ولد سِنَان بن أبي حَارِثَة كَانَ فِي زمَان الْحجَّاج. أنعم من حَيَّان أخي جَابر. أنوم من عبود: عبد نَام فِي محتطبه أسبوعاً أنكح من ابْن ألغز.(6/64)
ألوط من رَاهِب. أنكح من حوثرة: رجل من قيس. أكذب من أَسِير السَّنَد: رجل من عبد الْقَيْس. أكذب من أخيذ الديلم. أكذب من أخيذ الْجَيْش. أكذب من أخيذ الصبحان. أكذب من الشَّيْخ الْغَرِيب. أكذب من مجرب. أندم من أبي غبشان. أندم من شيخ مهو. أندم من الكسعي. أوفى من أبي حَنْبَل. أوفى من الْحَارِث: تَقول مُضر: هُوَ الْحَارِث بن ظَالِم. وَتقول ربيعَة: هُوَ الْحَارِث بن عباد. أوفى من عَوْف بن ملحم. أوفى من السمؤال. أوفر فدَاء من الْأَشْعَث: أسرته مذْحج ففدى نَفسه بِثَلَاثَة أُلَّاف بعير. أَهْون من تبَالَة على الْحجَّاج: تبَالَة: بَلْدَة صَغِيرَة من بلدان الْيمن يُقَال إِنَّهَا أول بَلْدَة وَليهَا الْحجَّاج، فَيُقَال إِنَّه لما سَار إِلَيْهَا قَالَ للدليل: أَيْن هِيَ؟ قَالَ: قد سترهَا هَذِه الأكمة عَنْك، فَقَالَ: أَهْون عَليّ بِعَمَل بَلْدَة تسترها أكمة وَرجع.(6/65)
أَهْون من قعيس على عمته: رهنته على صَاع من بر فَلم تفكه. أهْدى من دعيميص الرمل: دَلِيل مَعْرُوف. أجبن من المنزوف ضرطاً. أجرأ من فَارس خصاف. أجرأ من خاصي الْأسد. أجرأ من الْمَاشِي بترج: وَهِي مأسدة. سَائِر مَا جَاءَ من الْأَمْثَال فِي أَسمَاء الرِّجَال مواعيد عرقوب. يضْرب فِي الْخلف والمطل. يلقى مَا لالقى يسَار الكواعب: يضْرب لمن يطْمع فِيمَا يورطه. لَا أفعل كَذَا حَتَّى يؤوب القارظان. لَا أفعل كَذَا حَتَّى يؤوب المنخل: يضْرب لما يكون صَفْقَة لم يشهدها حَاطِب لأمر، لَو شهده من غَابَ عَنهُ لأنكره. أسعد أم سعيد؟ . أَنْج سعد فقد هلك سعيد. أَيْنَمَا أوجه ألق سَعْدا. إِن تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ. نفس عِصَام سودت عصاماً. كبر عَمْرو عَن الطوق. أوردهَا سعد وَسعد مُشْتَمل. سد ابْن بيض الطَّرِيق. جَزَاء سنمار.(6/66)
أودى كَمَا أودى درم. جَار كجار أبي دؤاد. إِنَّمَا سميت هانئاً لتهنأ: وَيُقَال لتهنأ. لَا حر بوادي عَوْف. هما كند ماني جذيمة. عِنْد جُهَيْنَة الْخَبَر الْيَقِين. مَا وَرَاءَك يَا عِصَام. أَنا مِنْهُ فالج بن خلاوة. لَا يطاع لقصير أَمر. لأمر مَا جدع قصير أَنفه. خُذ من جذع مَا أَعْطَاك. لَا آتِيك حَتَّى يؤوب هُبَيْرَة بن سعد. تجشأ لُقْمَان من غير شبع. إِذا أتلف النَّاس، أخلف إلْيَاس. إِنَّمَا خدش الخدوش أَبونَا أنوش. يَعْنِي بذلك أول من كتب. من يطع عريباً يمس غَرِيبا. عريب بن عمليق. من يطع نمرة يفقد ثَمَرَة. من يطع عكباً يمس منكباً. إِن لَام المعدى وَنَفر إِذْ لَام ارْتَفع. بِمثل جَارِيَة فلتزن الزَّانِيَة سرا أَو عَلَانيَة هُوَ جَارِيَة بن سُلَيْمَان ابْن الْحَارِث بن يَرْبُوع بن حَنْظَلَة وَكَانَ جميلاً لَهُ حَدِيث.(6/67)
إِن الشقي وَافد البراجم. شاكه أَبَا يسَار. شدت لأسر عَمْرو بن عدي. يحمل شن ويفدي لكيز.
الْأَمْثَال فِي النِّسَاء
أبْصر من الزَّرْقَاء: يُرِيد زرقاء الْيَمَامَة وَهِي مَعْرُوفَة. أبذى من الْمُطلقَة. أحيى من هدى. أحيى من فتاة. أحلى من مِيرَاث الْعمة الرقوب. أخرق من ناكثة غزلها: وَهِي امْرَأَة من قُرَيْش. أخزى من ذَات النحيين. أَحمَق من دغة. أخيل من مذالة: يعنون الْأمة لِأَنَّهَا تهان وَهِي تتبختر. أخيل من واشمة استها. أزنى من سجَاح. أزنى من هر. وَهِي امْرَأَة يَهُودِيَّة، وَهِي إِحْدَى من قطع المُهَاجر يَدهَا حِين شمتت بِمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أزهى من واشمة استها. أسْرع من نِكَاح أم خَارِجَة. أشأم من البسوس.(6/68)
أسْرع من المهثهثة. أشأم من منشم قيل هِيَ النمامة. أشأم من رغيف الحولاء. أشأم من وَرْقَاء. أشغل من ذَات النحيين. أشبق من حبى المدينية. أضلّ من موءودة. أطول من طُنب الحمقاء أعز من الزباء. أعز من حليمة. أعز من أم قرفة. أغنج من مفنقة. أغلم من سجَاح. أفرغ من فؤاد أم مُوسَى. أكذب من السالئة. أنقى من مرْآة الغريبة. أَنْجَب من مَارِيَة: ولدت لزرارة: حاجباً، ولقيطاً وعلقماً. أَنْجَب من بنت الخرشب: ولدت لزياد الْعَبْسِي الكملة وعلقمة، ربيعاً الْكَامِل، وَعمارَة الْوَهَّاب، وَقيس الْحفاظ، وَأنس الفوارس. أَنْجَب من أم الْبَنِينَ: ولدت لمَالِك بن جَعْفَر بن كلاب، ملاعب الأسنة: عَامِرًا، وَفَارِس قرزل: طفيل، وربيع المقترين: ربيعَة، ونزال المضيف: سلمى، ومعوذ الْحُكَمَاء: مُعَاوِيَة.(6/69)
أَنْجَب من خبيئة: ولدت لجَعْفَر بن كلاب: خَالِدا الْأَصْبَغ وَمَالك الطيان وَرَبِيعَة الْأَحْوَص. أَنْجَب من عَاتِكَة: ولدت لعبد منَاف هاشماً وَعبد شمس وَالْمطلب. أوفى من خماعة. أوفى فكيهة. أوفى من أم جميل. أَقُود من ظلمَة: وَقد قيل: أَقُود من الظلمَة. لن ترْضى شانئة إِلَّا بجرزة: يُرَاد بِهِ الاستئصال. إِن الْعوَان لَا تعلم الْخمْرَة. قطعت جهيزة قَول كل خطيب: يضْرب لمن يقطع على النَّاس كَلَامهم بجمعه. إِن النِّسَاء لحم على وَضم إِلَّا مَا ذب عَنهُ. كل ذَات صدار خَالَة لي. كل شَيْء مهة ومهاة مَا خلا النِّسَاء وذكرهن. أطري فَإنَّك ناعلة. أَمر مبكانيك لَا أَمر مضحكاتك. مَالِي ذَنْب إِلَّا ذَنْب صحر. إِن سرارها قوم لي عنادها. وَقعت فِي مرتعة فعيثي. ذري بِمَا عنْدك ياليغاء. تحسبها حمقاء وَهِي باخس.(6/70)
توقري يَا زلزة. تعلم من أطفح: يُرَاد تعلم لمن الذَّنب. قوري وألطفي. كالممهورة من مَال أَبِيهَا: يضْرب لمن يتحمد بِمَا لم يكن فِيهِ. أَنْت كالممهورة إِحْدَى خدمتيها. لَو ذَات سوار لطمتني. خرقاء وجدت صُوفًا. قيل لحبلى: مَا تشتهين؟ فَقَالَت التَّمْر وواهاً ليه. لن تعدم الْحَسْنَاء ذاماً. إسق رقاش إِنَّهَا سِقَايَة. القَوْل مَا قَالَت حذام. الْمَرْأَة من الْمَرْء وكل أدماء آدم. إِن النِّسَاء شقائق الأقوام: أَي لَهُنَّ مثل مَا عَلَيْهِنَّ. عثرت على الْغَزل بِأخرَة فَلم تدع بِنَجْد قردة. اطرقي وميشي: يضْرب لمن يخلط فِي كَلَامه. لَا تحمد أمة عَام اشترائها وَلَا حرَّة عَام ابتنائها. كل ذَات ذيل تختال. خرقاء وجدت ثلة. لَا تعدم صناع ثلة. خرقاء ذَات نيقة. خرقاء عيابة.(6/71)
لَا تعظيني وَلَا تعظعظي. محسنة فهيلي. الثّيّب عجالة الرَّاكِب: يضْرب فِي الْحَث على الرِّضَا باليسير إِذا أعوز الْكثير. كالفاخرة بحدج ربتها. وَحمى وَلَا حُبْلَى. يَا عبرى مقبلة، وَيَا سهرى مُدبرَة. جلت الهاجن عَن الْوَلَد: الهاجن الصَّغِيرَة. قد كنت مصفرة قبل عاشرينا. وأخبرينا أخْبرهَا دماءها. حانية مختضبة. إِلَّا حظية فَلَا ألية. كفا مُطلقَة تفت اليرمع. جعلت مَا بهَا بِي، وَانْطَلَقت تلمز. من حظك نفاق أيمك. إِن الحماة أولعت بالكنه وأولعت كنتها بالظنة.
الْأَمْثَال فِي الْقَبَائِل والآباء والأمهات والشيوخ وَالصبيان والأخوة وَالْأَخَوَات والأحرار وَالْعَبِيد وَالْإِمَاء
أتيه من فقيد ثَقِيف: وَهُوَ الَّذِي هوى امْرَأَة أَخِيه فتاه حَيا. أتيه من أَحمَق ثَقِيف: هُوَ يُوسُف بن عمر، وَهُوَ من التيه وَالْكبر. أذلّ من قيسي بحمص.(6/72)
أضلّ من قارظ عنزة. أفسى من عَبدِي. أبطش من دوسر. كَتِيبَة النُّعْمَان. أحنى من الْوَالِد. أحنى من الوالدة. أخرق من صبي. أَشْجَع من صبي. أضبط من صبي. أظلم من صبي. أكذب من صبي. أبخل من صبي. أبكى من يَتِيم. أسْرع من دمعة الْخصي.
الْقَبَائِل
لَا يدرى أسعد الله أَكثر أم جذام. فرق مَا بَين معد تحاب. قدما كل المعدى أكل سوء. وَافق شن طبقه. لَوْلَا وئام هَلَكت جذام. بعد الدَّار كبعد النّسَب. ارعى فَزَارَة لَا هُنَاكَ المرتع.(6/73)
يَا شن أثخني قاسطاً. لَا تعدم من ابْن عمك نصرا. يابعضي دع بَعْضًا: يضْرب فِي عطف ذِي الرَّحِم. رب ابْن عَم لَيْسَ بِابْن عَم لَك. ربضك مِنْك وَإِن كَانَ سماراً. تَبَاعَدت الْعمة عَن الْخَالَة. إِلَى أمه يلهف اللهفان. لست على أمك بالدهنا تدل. هَل لَك فِي أمك مَهْزُولَة؟ قَالَ: إِن مَعهَا إِلَّا إخلابة، يضْرب للرجل يحض على حق يلْزمه فيرضى فِيهِ بِأَمْر مقارب. أم فرشت فأنامت. تَنْهَانَا أمنا عَن الغي وتعدوا لَهُ فِيهِ. لم ولمه عصيت أُمِّي الْكَلِمَة؟ يضْرب عِنْد النَّدَم على مَعْصِيّة الشَّقِيق. هوت أمه وهبلته لمه: يُقَال فِي مدح الْأَب. من أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم. كل فتاة بأبيها معجبة. لَا أَبوك نشر وَلَا التُّرَاب نفد. من يكن أَبوهُ حذاء تجدّد نعلاه.
الْأَخ
رب أَخ لم تلده أمك. هَذَا التصافي لَا تصافي المحلب.(6/74)
إِذا عز أَخُوك فهن. اسْقِ أَخَاك النمرى. النَّاس إخْوَان وشتى فِي الشيم. انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما. مكره أَخُوك لَا بَطل. من لَك بأخيك كُله. أَخُوك من صدقك. إِن أَخَاك ليسر بِأَن يعتقل: يُقَال فِي الذَّم. من كل شَيْء تحفظ أَخَاك إِلَّا من نَفسه. إِن على أختك تطردين: أَي قد أعد لَك قرنك. لاتلم أَخَاك، وَاحْمَدْ رَبًّا عافاك. إِذا ترضيت أَخَاك فَلَا إخاء لَك بِهِ. أَنا عذله وَأخي خذله، وكلانا لَيْسَ بِابْن أمه. لَا يدعى للجلى إِلَّا أَخُوهَا. النَّفس تعلم من أَخُوهَا.
الشُّيُوخ
بئس مقَام الشَّيْخ أمرس أمرس. كل امْرِئ سيعود مريئاً. من العناء رياضة الْهَرم. تركته تقاس بالخداع: يضْرب للشَّيْخ، أَي هُوَ شَاب فِي جلده. أَهْون هَالك عَجُوز فِي عَام سنة.(6/75)
أَهْون مظلوم عَجُوز معقوقة.
الشَّاب وَالصَّبِيّ
كَانَ ذَلِك من شب إِلَى دب. كل امْرِئ فِي بَيته صبي. اتَّقِ الصّبيان لَا تصبك بأعقائها. أدْرك القويمة لَا تأكلها الهويمة.
العبيد
عبد صريخه أمة. استعنت عَبدِي فاستعان عَبدِي عَبده. مساواك عبد غَيْرك. لَيْسَ عبد بِأَخ لَك. عبد وخلى فِي يَده. أعطي العَبْد كُرَاعًا. وَمثله: عبد ملك عبدا فَطلب دراعاً. الْحر يعْطى وَالْعَبْد يألم قلبه. يَا عبد من لَا عبد لَهُ. حبيب إِلَى عبد سوء محكده. احْمِلْ العَبْد على فرس إِن هلك، هلك، وَإِن عَاشَ فلك. لَا أفعل ذَلِك مَا أبس عبد بناقته. عبد أرسل فِي سومه. هُوَ العَبْد زلمة.(6/76)
الْإِمَاء
لَا تفش سرك إِلَى أمه. لَا تفاكه أمة، وَلَا تبل على أكمة. كالأمة تَفْخَر بحدج ربتها. تركته تغنيه بحدج ربتها. تركته تغنيه الجرادتان: أَي لاهياً فِي إمائها. تلقى أمه عَملهَا. من أضْرب بعد الْأمة المعارة؟ هَاجَتْ زبراء: وَهِي جَارِيَة أحنف.
الغلمان
لَا تغز إِلَّا بِغُلَام قد غزا. كَيفَ بِغُلَام قد أعياني أَبوهُ. تبشرني بِغُلَام قد أعياني أَبوهُ.
الْأَحْرَار
لَا حر بوادي عَوْف. تجوع الْحرَّة وَلَا تَأْكُل بثدييها. أنْجز حر مَا وعد.
الْوَلَد
ولدك من دمي عقبيك. ابْنك ابْن بوحك. من سره بنوه، ساءته نَفسه.(6/77)
إِن الموصين بَنو سهوان. زين فِي عين وَالِد وَلَده. هم فِي أَمر لَا يُنَادي وليده. أَبِهَذَا الَّذين يشبهون. يعود لما أبني فيهدمه حسل: يَعْنِي وَلَده. مثل ابْنة الْجَبَل مهما يقل تقل. أَنا ابْن بجدتها. تحلب بني وَأَشد على يَدَيْهِ، يُقَال لمن يُفْتِي غَيره على فعل ينْسبهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فَاعل. دع بنيات الطَّرِيق: أَي خدم مُعظم الطَّرِيق، أَي الْأَمر. احفظي بَيْتك مِمَّن لَا تنشدين. بنت برح. بنت طبق. شرك على رَأسك: يُقَال ذَلِك فِي الشَّيْء إِذا استعظموه من داهية وَغَيرهَا. الْأَمْثَال فِي النَّفس والجسد والأعضاء والجوارح وَالشعر وَمَا يشبه ذَلِك: أسْرع من العير. أسْرع من طرف الْعين. أسْرع من لمح الْبَصَر. أَوْهَى من طرف المؤق. أجرد من صَلْعَةٌ. أهْدى من الْيَد إِلَى الْفَم.(6/78)
أعرى من إِصْبَع. أقصر من الْيَد إِلَى الْفَم. أهْدى من الْإِنْسَان إِلَى فِيهِ. أسْرع من الْيَد إِلَى الْفَم. أدق من الشّعْر. أَهْون من الشّعْر السَّاقِط. ألزم من شَعرَات القص. ألزم من الْيَمين للشمال. أفرغ من يَد تفت اليرمع. أقصر من أُنْمُلَة. أذلّ من يَد فِي رحم. أَضْعَف من يَد فِي رحم. أعيى من يَد فِي رحم: يُرَاد الجنيف. أَحمَق من الممتخط بكوعه. أدنى من حَبل الوريد. أَشك من نَاب جَائِع. أعظم كمراً من الحواثر. آكل من الضرس.
النَّفس والجسد
ألْقى عَلَيْهِ شرا شَره: أَي ألْقى نَفسه عَلَيْهِ من حبه. ألْقى عَلَيْهِ بعاعه. مثله:(6/79)
ألْقى عَلَيْهِ أوراقه. مثل ذَلِك: هجم عَلَيْهِ نقابا: أَي بِنَفسِهِ. ضرب على ذَلِك الْأَمر حاشه: أَي نَفسه. ألْقى عَلَيْهِ أجرامه وأجرانه: أَي هَوَاهُ. ضرب عَلَيْهِ جروته: أَي وَطن عَلَيْهِ نَفسه. صدقته الكذوب: يَعْنِي نَفسه. مَا أَنْت بأنجاهم مرقة: يَعْنِي نفسا. النَّفس أعلم من أَخُوك النافع. أكذب النَّفس إِذا حدثتها. النَّفس مولعة بحب العاجل. مَا زلت أفتل فِي الذرْوَة وَالْغَارِب. نَفسِي تعلم أَنِّي خاسر. حَتَّى أسمحت قرونته وقرينيه أَيْضا. النَّفس عروف: أَي إِذا نزل أَمر اعْترفت نَفسك بِمَا نجحجح أعلم.
الرَّأْس والعنق
هُوَ فِي ملْء رَأسه: أَي هُوَ فِيمَا يشْغلهُ. جاحش عَن خيط رقبته: يضْرب للَّذي يدافع عَن دَمه. أعطَاهُ بقوف رقبته: أَي بجملته. أَخذه بقوف رقبته. وَأَخذه سَوط رقبته.(6/80)
وَأَخذه بظوف رقبته. بولغ بِهِ المخنق. فِي رَأسه خطة. فِي رَأسه نعرة. رَمَاه بأقحاف رَأسه أَي بالدواهي. هُوَ قفا غادر شَرّ. من نجا بِرَأْسِهِ فقد ربح. وَقع فِي سي رَأسه: يُرِيد بِهِ الخصب وَالْخَيْر. وسيء بِرَأْسِهِ وسوا رَأسه وسوأ رَأسه. تقطع أَعْنَاق الرِّجَال المطامع. رَأس بِرَأْس وَزِيَادَة مائَة. رمى مِنْهُ فِي الرَّأْس: يضْرب فِي البغض حَتَّى لَا ينظر إِلَيْهِ. اخْتلفت رؤوسها فرتعت: يُقَال فِي اخْتِلَاف الأراء. إِنِّي لَا كل الرَّأْس وَأعلم مَا فِيهِ.
الْوَجْه
وَجه المحرش أقبح. أقبح فِي وَجه الْمَآل تعرف إمرته. مَا يعرف قطاته من لطاته. قبل الْبكاء كَانَ وَجهك عَابِسا. وابآ بِي وُجُوه الْيَتَامَى: يضْرب فِي التحنن على الْأَقَارِب.
اللِّحْيَة وَالشعر
فَلم خلقت إِذا لم أخدع الرِّجَال: يَعْنِي لحيته.(6/81)
أصهب السبال: من أَسمَاء الْعَدو. اقشعرت مِنْهُ الذوائب: يضْرب فِي الجبان.
الْعين
نظرت إِلَيْهِ عرض عين. نظرة من ذِي علق. عينه فرارة. أَعور، عَيْنك وَالْحجر. جعلته نصب عَيْني. لَا آتِيك مَا حملت عَيْني المَاء. مَا بهَا عين وَمَا بِالدَّار عين. وَمَا سقت عَيْني المَاء. عِنْد فلَان من المَال عائرة عين: يُرَاد بِهِ الْكَثْرَة. إِذا جَاءَ الْحِين، حارت الْعين. أَزْرَق الْعين: من أَسمَاء الْعَدو. هُوَ على حندر عينه: يضْرب فِي البغض. لأرينك لمحاً باصراً: يضْرب فِي التوعد. غره بَين عَيْني ذِي رحم. لَيْسَ لعين مَا رَأَتْ، وَلَكِن لكف مَا أخذت. هُوَ فِي مثل صَدَقَة الْبَعِير. وَفِي مثل حولاء النَّاقة: أَي فِي الخصب. عين عرفت فذرفت.(6/82)
لحظ أصدق من لفظ. هُوَ شَدِيد جفن الْعين: يُقَال ذَلِك للصبور على السهر. احذر إِذا احْمَرَّتْ حماليقه. لَيست لما قرت بِهِ الْعين ثمن. أطلب أثرا بعد عين. بِعَين مَا أرينك: أَي اعجل وَكن كَأَنِّي أنظر إِلَيْك.
الْأذن
لَا يسمع أذنا خمشاً: أَي لَا يقبل نصحاً. لَيست على ذَلِك أُذُنِي: أَي سكت عَنهُ. أَسَاءَ سمعا، فأساء إِجَابَة. بأذن السماع سميت: مَعْنَاهُ أَن فعلك يصدق. من يسمع يخل. جَاءَ بأذني عنَاق الأَرْض: أَي بِالْبَاطِلِ وَالْكذب وَيُقَال فِي الداهية أَيْضا. جعلت ذَلِك دبر أُذُنِي. جَاءَ ناشراً أُذُنَيْهِ: أَي طامعاً.
الْأنف
كل شَيْء أَخطَأ الْأنف جلل. أرغت حَيْثُ لَا يضع الراقي أَنفه. جرحه حَيْثُ لَا يضع الراقي أَنفه: أَي لَا دَوَاء لَهُ. أَنْفك مِنْك وَإِن كَانَ أجدع.(6/83)
شفيت نَفسِي وجدعت أنفي. مَاتَ فلَان حتف أَنفه. أنف فِي السَّمَاء وإست فِي المَاء. جدع الْحَلَال أنف الْغيرَة قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. كاس أَنفه فِيمَا يكره. أَفعلهُ رغم أَنفه. لَا أحب رئمان أنف وَأَمْنَع الضَّرع. رب حام لأنفه وَهُوَ جادعه. شامخ بِأَنْفِهِ: يَعْنِي الصلف. لمكر مَا جدع قصير أَنفه. أَنْفك مِنْك وَإِن دن.
الْأَسْنَان
إِنَّه ليحرق عَلَيْهِ الأرم. قد تحدته من بَنَات النواجز. قد عض على نواجزه. مَتى عَهْدك بِأَسْفَل فِيك: أَي مَتى أبعدت فَضرب مثلا لِلْأَمْرِ الْقَدِيم. مَا فِي فِيهِ حاكه وَلَا تاكه. جَاءَ تضبب لثته: يُرَاد بِهِ الْحِرْص. جَاءَ وَهُوَ يقرع سنّ نادم. أعييتني بأشر فَكيف بدردر؟(6/84)
أهد لجارك أَشد لمضغك: يَقُول إِذا أهديت أهدوا إِلَيْك. الصَّبِي أعلم بمضغ فِيهِ. ضرسوا فلَانا: إِذا أدموه، اللِّسَان والنطق. كدمت غير مكدم. أَهْون مرزئة لِسَان ممخ. عَلَيْهِ من الله لِسَان صَالِحَة: يُقَال ذَلِك فِي الثَّنَاء. من عض على شبدعه سلم من الآثام: يُرِيد اللِّسَان. سكت ألفا ونطق خلفا. سرت إِلَيْنَا شبادعهم: أَي ذمهم وعيبهم. مقتل الرجل بَين فَكَّيْهِ.
الذقن
ذليل اسْتَعَانَ بذقنه. أفلتني جريعة الذقن. لألحقن حواقنك بذواقنك.
الْفَم
كل جَان يَده إِلَى فِيهِ. جرى مِنْهُ مجْرى اللدود. لَو وجدت إِلَى ذَلِك فاكرش لفعلته: أَي لَو وجدت سَبِيلا. فاهاً لفيك. أفواهها مجاسها. وَيُقَال أَيْضا:(6/85)
أخاكها مجاسها. أَرَاك بشر مَا أحار مشفر. حياك من خلا فوه. ذَكرنِي فوك حماري أَهلِي. حَدثنِي فَاه إِلَى فِي. فلَان خَفِيف الشّفة: أَي قَلِيل الْمَسْأَلَة.
الْيَد
أطعمتك يَد شبعت ثمَّ جاعت ثمَّ شبعت، وَلَا أطعمتك يَد جاعت ثمَّ شبعت. إِذا أرجحن شاصيا فارفع يدا. وَإِذا ارْجِعْنَ أَيْضا. حلبت بالساعد الأشد: لِلْيَدَيْنِ والفم. صفرت يَدَاهُ لي عِنْد فلَان. يَد مَا تحجر فِي عكم: أَي لَا تخفى وَلَا تستر. بالساعد تبطش الْكَفّ. ذَهَبُوا أَيدي سبأ. على يَدي دَار الحَدِيث. هُوَ على حَبل ذراعك. أَرَادَ أَن يَأْكُل بيدين. لَا تبطر صَاحبك ذرعه: أَي لَا تحمله مَالا يُطيق. مَا تبل إِحْدَى يَدَيْهِ الْأُخْرَى. يُقَال للبخيل. اقصر بذرعك.(6/86)
ارق على ظلعك. يداك أوكتا وفوك نفخ. تركته على أنقى من الرَّاحَة. لَقيته أول ذَات يدين. كَانَ فلَان كُرَاعًا فَصَارَ ذِرَاعا. كفا مُطلقَة تفت اليرمع. الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى. إِن الذَّلِيل لَيْسَ لَهُ عضد. فلَان على يَدي عدل. هَذِه يَدي لَك: يُرِيد الانقياد. فلَان يقلب كفيه على كَذَا: يُقَال عِنْد النَّدَم. سقط فِي يَده: إِذا نَدم. رددت يَده فِي فِيهِ: إِذا غطته. فلَان نَازع يداي عَاصِيا. أعطَاهُ عَن ظهر يَد. الْأَيْدِي الْوَاحِد بِعشْرَة. مَالِي بِهَذَا الْأَمر يدان. فلَان عِنْدِي بِالْيَمِينِ وَفُلَان عِنْدِي بالشمال. تربت يداك. هم عَلَيْهِ يَد: أَي مجتمعون. أشدد يَديك بغرزه: أَي ألزمهُ.(6/87)
عي أبأس من شلل.
الصَّدْر
شدّ لِلْأَمْرِ حزيمه. جَاءَ يضْرب أصدريه: إِذا جَاءَ فَارغًا. تأبى ذَلِك بَنَات لببي. صدرك أوسع لسرك.
الْجنب
عركت ذَلِك بجنبي. مَا أُبَالِي على أَي قطريه وَقع. وقتريه أَيْضا. بجنبه فلتكن الوجبة. مَا أُبَالِي على أَي قطريه وَقع. وقتريه أَيْضا. بخيبة فلتكن الوجبة. من كلا جنبيك لَا لبيْك.
الْبَطن وَالظّهْر
انْقَطع السلى فِي الْبَطن: أَي فَاتَ الْأَمر. مَا فِي بَطنهَا نعرة: أَي لَيْسَ بهَا حَبل. بَطْني فعطري، وسائري فذري. نزت بِهِ البطنة. كَيفَ توقي ظهر مَا أَنْت رَاكِبه؟ قلب الْأَمر ظهرا لبطن.(6/88)
إِن كنت تشد بِي أزرك فارخه. مَاتَ ببطنته لم يتغضغض مِنْهَا شَيْء: يُقَال للبخيل. مَاتَ وَهُوَ عريض البطان. مَا أعرفني كَيفَ يجز الظّهْر. لَا تجْعَل حَاجَتي مِنْك بِظهْر. ببطنه يعدو مثل ذَلِك الذّكر. حولهَا من ظهرك إِلَى بَطْنك: أَي أحلهَا إِلَى قرين. مَا حك ظَهْري مثل يَدي. عرف بَطْني تربة: قيل فِي ذروته وغاربه.
الْقلب والكبد
يستمع الْمَرْء بأصغريه. اجْعَلْهُ فِي سويداء قَلْبك. مَا أبردها على الكبد. هُوَ بَين الخلب والكبد. هُوَ أسود الكبد.
الرجل والساق
رَمَاه فأشواه: من الشواء وَهِي القوائم. إرق على ظلعك. قدح فِي سَاقه. قرع لَهُ سَاق. قرع لَهُ ظنبوبه إِذا حدا.(6/89)
إِن يدم أظلك فقد نقب خفى. بق نعليك وابذل قَدَمَيْك. هَلَكُوا على رجل فلَان: أَي فِي زمن فلَان. لَا يُرْسل السَّاق إِلَّا ممسكاً ساقاً. شَرّ مَا أجاءك إِلَى مخة عرقوب. أتتك بحائن رِجْلَاهُ. لفُلَان قدم فِي الْخَيْر. جَاءَ فلَان يجر رجلَيْهِ. لأطأنهم بأخمص رجْلي. قد شمرت سَاقيهَا فشمري. جَاءَ بوركي خبر أَرْجُلكُم.
الْعُرُوق
أخْبرته بعجري وبجري. فتح صدرك بِعلم عجرك وبجرك. أيعيرني ببجري وينسى بجره. إِن الْعُرُوق عَلَيْهَا ينْبت الشّجر.
السه
الْعين ذكاء السه. إياك وكل قرن أهلب. كالمصطاد أَنْت باسته. طَار باست، فزعة.(6/90)
فِي استها مَالا يرى. يضْرب لمن يحيره أَكثر من مرآه. اتَّقى بسلحه سمره. جَاءَ ينفض مذرويه. أفلت وانحص الذَّنب. أفلت وَله حصاص. قبل الضراط استحصاف الأليتين. استه الْبَائِن أعلم. است لم تعود المجمر. إِنَّك لتمد بسرم كريم. أريها استها وتريني الْقَمَر. أضْحك من ضرطه، ويضرط من ضحكي. استه أضيق من ذَلِك. أضرطاً وَأَنت الْأَعْلَى. استي اخبثي. إست فِي الأَرْض، وأنف فِي السَّمَاء.
الذّكر
نعم عوفك. إِن الكمر أشباه الكمر. من يطلّ أير أَبِيه ينتطق بِهِ. لَو خفت خصاهم وَلكنهَا كالمزاد. هَذَا حر مَعْرُوف. لَا ماءك أبقيت وَلَا حرك أنقيت.(6/91)
النِّكَاح
انكحيني وانظري. كمعلمة أمهَا البضاع. لقُوَّة صادفت قبيصاً. بالرفاء والبنين. هنئت فَلَا تنكه. قرب الوساد وَطول السوَاد. من ينْكح الْحَسْنَاء يُعْط مهْرا.
الْأَمْثَال فِي الْإِبِل وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير
أحقد من جمل. أحسن من شنف الأنضر. أخف حلماً من بعير. أخيب من ناتج سقب من حَائِل. أخلف من ثيل الْبَعِير. أخلف من بَوْل الْبَعِير. أذلّ من السقبان بَين الحلائب. أذلّ من الحوار. أخبط من عشواء. أذلّ من بعير سانية. أروى من بكر هبنقة. أصُول من جمل.(6/92)
أَصْبِر من عود بدفيه جلب. أَصْبِر من ذِي ضاغط معرك. أشْرب من الهيم. أغير من الْفَحْل. أغير من الْجمل. ألأم من سقب رَيَّان. أملخ من لحم الحوار. أَهْون من ضرطة الْجمل. أثقل من حمل الدهيم. أتخم من فصيل. أَحمَق من الرّبع. أنفر من أزب. أهْدى من جمل. أشأم من قاشر: وَهُوَ فَحل. أعز من الأبلق العقوق. أشهر من فَارس الأبلق. أشهر من رَاكب الأبلق. أسمع من فرس. أشأم من خميرة. أطوع من فرس. أعدى من فرس.(6/93)
أقصر من ظَاهِرَة الْفرس. أجرأ من فَارس خصاف. أجرأ من خاصي خصاف. أتعب من رائض مهر. أحسن من الدهم الموقفة. أبْصر من فرس. أخلف من ولد الْحمار. أذلّ من عير أبي سيارة. أذلّ من حمَار مُقَيّد. أَجْهَل من حمَار. أقصر من غب الْحمار. أعقم من بغلة. أعقر من بغلة. أَهْون من ذَنْب الْحمار على البيطار. أتبع من تولب. أشأم من داحس. أشأم من الزَّرْقَاء: قَالُوا هِيَ النَّاقة، وَرُبمَا نفرت وَذَهَبت فِي الأَرْض. أكذب من الأخيذ الصيحان: قَالُوا هَذَا الفصيل الَّذِي أتخم من اللَّبن وَقيل غير ذَلِك. أشأم من سراب: وَهِي نَاقَة البسوس. أسْرع من فريق الْخَيل: يُرِيد السَّابِق الَّذِي يفارقها.(6/94)
أنشط من عير الفلاة. أضرط من حمَار. أَحمَق من أم الهنبر: قَالُوا: هِيَ الهنبر ولد الْحمار وَأمه الأتان.
الْإِبِل
صدقني سنّ بكره. كَانَت عَلَيْهِم كراغية الْبكر. أكْرم نجر الناجيات نجره. كل نجار إبل نجارها. نجارها نارها. لَا تنسبوها وانظروا مَا نارها: قَالُوا ذَلِك للبعير. أصوص عَلَيْهَا صوص: الأصوص النَّاقة الْحَائِل السمينة والصوص الرجل اللَّئِيم. أخذت الْإِبِل أسلحتها. أعجب حَيا نعمه. يهيج لي السقام، شولان البروق فِي كل عَام. أَصْبِر من عود. إِنِّي وَالله لَا أحسن تكذابك وتأثامك، تشول بلسانك شولان البروق. كالمهدر فِي الْعنَّة. لَا يعْدم الحوار من أمه حنة. لَا تعدم نَاقَة من أمهَا حنة.(6/95)
تكذابك وتأثامك، تشول بلسانك شولان الْبَرْق. كفضل ابْن المغاض على الفضيل: يُرَاد بِهِ التقارب. استنت الفصلان حَتَّى القريعي. امهلني فوَاق نَاقَة. لَا آتِيك مَا حنت النيب إِلَى النيب. لَا آتِيك مَا أطت الْإِبِل. مَا أفعل ذَلِك حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط. الغاشية تهيج الآبية. إِن الغاشية تعشى النابية. حرك لَهَا حوارها تحن. الْفَحْل يحمي شوله معقولاً. أدع لَهَا حوارها تحن. زاحم بِعُود أَو دع. الذود إِلَى الذود إبل. اذهبي فَلَا أنده سربك. شنشنة أعرفهَا من أخزم. إِن جرجر الْعود فزده ثقلاً، وَإِن أعيا فزده نوطا. إِنَّمَا يجزى الْفَتى لَيْسَ الْجمل. لَا يضير الحوار وَطْء أمه. هَل تنْتج النَّاقة إِلَّا لمن لقحت. أخلبت نَاقَتك أم أحلبت.(6/96)
رئمت لفُلَان بو ضيم. غلبت جلتها حواشيها. عود يقلح. وَمثله: وَمن العناء رياضة الْهَرم. عود يعلم العنج. استنوق الْجمل. جَاءُوا على بكرَة أَبِيهِم. اللقوح الربعية مَال وَطَعَام. القزم من الأفيل. إِذا زحف الْبَعِير أعيته أذنَاهُ. اضربه ضرب غرائب الْإِبِل. لَا نَاقَتي فِي هَذَا وَلَا جملي. هان على الأملس مَا لَاقَى الدبر. هما كركبتي الْبَعِير. مَا تقرن بفلان الصعبة. شَتَّى تؤوب الحلبة. أدْرك أَرْبَاب النعم: أَي من كَانَ لَهُ عناية بِالْأَمر. لكل أنَاس فِي بعيرهم خبر. عرض عَليّ الْأَمر سوم عَالَة. مَا استتر من قاد الْجمل.(6/97)
كفى برغائها منادياً. عرف حميقاً جمله. اخْتَلَط المرعى بالهمل. إِن تسلم الجلة فالنيب هدر. قودوه لي باركاً. ضرب الْبَعِير فِي جهازه: إِذا مَاتَ وَضرب فِي رقبته. اتخذ اللَّيْل جملا تدْرك. إِن الضجور قد تحلب العلبة. كل أزب نفور. مَا أرخص الْجمل لوما الهر. كالنازي بَين القرينين. وَقع الْقَوْم فِي سَلِي جمل: يُرَاد بِهِ الشدَّة. هَذَا أَمر لَا تبرك عَلَيْهِ الْإِبِل. أَي شَدِيد. وَمَا هُوَ فِي العير وَلَا فِي النفير. يخبط خبط عشواء. كلكُمْ فليحتلب صعُودًا. يَا إبلي عودي إِلَى مبارك. أرخت مشافرها للعس والحلب. عشمشم يغشي الشّجر: وهما الأيهمان. جلّ الْوَلَد عَن الهاجن. بئس الْعِوَض من جمل قَيده.(6/98)
عجبا تحدث أَيهَا الْعود. لَا يجمل الْكَذِب بالشيخ. إِحْدَى نواده الْبكر. أعديتني فَمن أعداك؟ : يُخَاطب نَاقَته وَقد تثاءبت لتثاؤب لص فتثاءب لتثاؤبها. نَاب وَقد تقطع الدوية. كلا زعمت العير لَا تقَاتل. الإبساس قبل الإيناس. لَا أفعل ذَلِك مَا أرزمت أم حَائِل. آخر الْبَز على القلوص: يَعْنِي الدهيم الَّتِي حملت رُؤُوس زناد الذهلى. مَاله سارحة وَلَا رَائِحَة. لَا أفعل ذَلِك مَا حنت الدهماء. لَا أفعل ذَلِك مَا حنت النيب. لَا أفعل ذَلِك. مَا أطت الْإِبِل. لقد كنت وَمَا يُقَاد بِي الْبَعِير. لَا تراهن على الصعبة، وَلَا تنشد القريض. الْحَرَام يركب من لَا حَلَال لَهُ. قد لَا يُقَاد بِي الْجمل. ضرح الشموس ناجزاً بناجز. أوسعتهم سباً وأودوا بِالْإِبِلِ. العنوق بعد النوق.(6/99)
يَوْم بِيَوْم الحفض المجور. كالحادي وَلَيْسَ لَهُ بعير. فِي مثل حدقة الْبَعِير. هم فِي مثل حولاء النَّاقة: مثل ذَلِك يُرِيدُونَ العشب وَالْخصب.
الْخَيل
هَذَا أَوَان الشد، فاشتدي زيم: زيم اسْم فرس. كَانَ جذعاً باسقاً من صوره، مَا بَين لحييْهِ إِلَى سنوره. إِنَّه لحثيث التوالي وسريع التوالي: يُقَال للْفرس، وتواليه: مآخيره. لَا يعْدم شقي مهْرا. طلب الأبلق العقوق. كَانَ جوادي فخصي. كل مجر بالخلاء يسر. جرى مذك حسرت عَنهُ الْحمر. جرى المذكيات غلاب. مذكية تقاس بالجذاع. الْخَيل تجْرِي على مساويها. قد تبلغ القطوف الوساع. جَاءَ فلَان وَقد لفظ لجامه. تجْرِي يَلِيق وتذم: ويليق اسْم فرس. إِن الْجواد عينه فراره. هما كفرسي رهان. الْخَيل(6/100)
أعلم بفرسانها. أحشك وتروثني. عَرفتنِي نسأها الله. تقفز الجعثن بِي، يَا مر زدها قَعْبًا: يَعْنِي فرسه. شَتَّى تؤوب الحلبة: قَالُوا هُوَ فِي الْخَيل إِذا عازف من الحلبة. غضب الْخَيل على اللجم. لألحقن قطوفها بالمعناق. ترك الخداع من أجْرى من مائَة. كالأشقر إِن تقدم نحر، وَإِن تَأَخّر عقر. اتبع الْفرس ولجامها. مَا يشق غباره: أَصله للخيل. أَحَق الْخَيل بالركض المعار.
الْأَمْثَال فِي الْحمار
أكرمت فَارْتَبَطَ. إِذا أدنيت الْحمار من الردهة فَلَا تقل لَهُ سأ. إِذا قربت الْحمار من الوهدة فَلَا تقل هد وهت. ودق العير إِلَى المَاء: يضْرب فِي المستسلم. أدني حماريك فأزجري. أَنْكَحنَا الفرا، فَسَوف ترى. دون ذَا أَو ينْفق الْحمار. قد يضرط العير والمكواة فِي النَّار.(6/101)
إِنَّك لآذى من العير إِلَى السهْم. اتخذوه حمَار الْحَاجَات. هما حماري الْعَبَّادِيّ. مَا بَقِي مِنْهُ إِلَّا قدر ظمء الْحمار. فلأضربنه ضرب أداني الْحمر. ذَكرنِي فوك حماري أَهلِي. ضرها جد العير الصليانة: يضْرب للْحَالِف. كَانَ حمارا فاستأتن. أودى العير إِلَّا ضرطاً. مَا بالعير من قماص. العير أوقى لدمه. جَاءَ كخاصي العير. وَقعا كعكمي عير. إِن ذهب عير فَعير فِي الرِّبَاط: لمن جَاءَ مستجيباً. عير بعير وَزِيَادَة عشرَة. عير عاره وتده. كل صيد فِي جَوف الفرا. نجى حمارا سمنه. لَا يَأْبَى الْكَرَامَة إِلَّا حمَار. سواسية كأسنان الْحمار. قبل عير وَمَا جرى.(6/102)
تركته جَوف حمَار: قيل لِأَنَّهُ لَا ينْتَفع بِشَيْء فِي بَطْنه وَلَا يُؤْكَل وَقيل غير ذَلِك. هُوَ عير وَحده وجحيش وَحده. عير ركضته أمه، وركلته أَيْضا. قد حيل بَين العير والنزوان. معيوراء تكادم. الْبَغْل نغل وَهُوَ لذَلِك أهل. الجحش لما فاتك الأعيار.
الْأَمْثَال فِي الْبَقر وَالْغنم والظباء
أعجل من نعجة إِلَى حَوْض. أَهْون من ضرطة عنز. أقفط من تيوس البياع. أصرد من عير جرباء. أغر من ظَبْي مقمر. أصح من ظَبْي. أَشْقَى من راعي ضَأْن ثَمَانِينَ. أشغل من مرضع بهم ثَمَانِينَ. أقفط من تَيْس بني حمان. آمن من ظَبْي مقمر. أنوم من غزال. أوقل من وعل.(6/103)
أَحمَق من نعجة على حَوْض. أسخى من لافظة. أذلّ من اليعر. أذلّ من النَّقْد. أبله من ثَوْر. أزهى من ثَوْر.
الْغنم والضأن
لَا تحبق فِي هَذَا الْأَمر عنَاق حوليه. لَا ينفط فِيهِ عنَاق. عِنْد النطاح يقلب الْكَبْش الأجم. لَا تنطح بهَا ذَات قرن جماء. لَا ينتطح فِيهِ عنزان. لَا أفعل ذَلِك حَتَّى تَجْتَمِع معزى الفزر. رمدت الضَّأْن فربق ربق. أضرعت المعزى فرمق رَمق، ورنق أَيْضا. مَاله عافطة وَلَا نافطة. مَاله ثاغية وَلَا راغية. عنز فِي حَبل فاستتيست. المعزى تبهى وَلَا تبنى. كل شَاة تناط برجلها. مَا لَهُ هلع وَلَا هلعة. قَالُوا: هُوَ الجري والقناص.(6/104)
خير حالبيك تنطحين. حتفها تحمل ضَأْن بأظلافها. لَا يعرف هراً من بر: الهر: دُعَاء الْغنم، وَالْبر: سوقها. فرارة تسفهت قرارة. أَي الضَّأْن. نزو الْفِرَار استجهل القرارا. أعنز بهَا كل دَاء. هيل هيل، دري دبس. اسْم شَاة. لَا تنطح جماء ذَات قرن. كالخروف أَيْنَمَا مَال اتَّقى الأَرْض بصوف. مَا لفُلَان أَمر وَلَا آمرة: الْأَمر: الخروف. الآمرة: الرحل. أجْرى الله غنما خَيرهَا. الخروف يتقلب على الصُّوف. كالكبش يحمل شفرة وزناداً. كل شَاة معلقَة برجلها. باءت غرار بكحل. الْكلاب على الْبَقر. نزو الْفِرَار استجهل القرارا. ولد الْبَقر من الْوَحْش. إِنَّمَا أكلت يَوْم الثور الْأَبْيَض. كالثور يضْرب لما عافت الْبَقر.(6/105)
تركت فلَانا بملاحس الْبَقر. أَي الْموضع لَا أنيس بِهِ. جَاءَ يجر بقره. من عِيَال الْبَقر أَوْلَادهَا. فِي الظباء تَرِكَة. ترك ظَبْي ظله. كَيفَ الطلا وَأمه. لَا أفعل ذَلِك مَا لألأت بِهِ ظَبْي الْعرف بأذنابها. بِهِ دَاء ظَبْي. من لي بالسانح بعد البارح. مَا يجمع بَين الأروى والنعام. هُوَ كَادِح الأروى بِمثل مطرد الأوابد. تَركتهم فِي كصيصة الظبي. بحازج الأروى، قَلِيلا مَا ترى. أول الصَّيْد فرع. تَيْس الْحَلب. ضَب السحاة. قنفذ برقة. أرنب الْخلَّة. شَيْطَان الحماطة. ذَنْب الْحمير.(6/106)
الْأَمْثَال فِي الْأسد وَالسِّبَاع والوحوش
أبخر من أَسد. أجرأ من خاصي أَسد. أجرأمن ذِي لبد. أجرأ من أُسَامَة. أجرأ من قسورة. أجرأ من لَيْث بخفان. أجوع من ذِئْب. أحمى من أنف الْأسد. أخف رَأْسا من الذِّئْب. أَخبث من ذِئْب الخمير. أَخبث من ذِئْب الغضى. أختل من ذِئْب. أخون من ذِئْب. أخب من ذِئْب. أَشْجَع من أُسَامَة. أَشْجَع من لَيْث عريسة. أَشْجَع من لَيْث عفرين. أشره من أَسد. أصح من ذِئْب. أَشد من أَسد.(6/107)
أظلم من ذِئْب. أعز من أست النمر. أعز من أنف الْأسد. أعدى من الذِّئْب. أَعْتَى من الذِّئْب. أعق من ذئبه. أمنع من لهاة اللَّيْث. أنشط من ذِئْب. أيقظ من ذِئْب. آلف من كلب. أبْصر من كلب. أبخل من كلب. أبخر من فَهد. أجوع من كلبة حومل. أَشْجَع من كلب. أبول من كلب. أَحمَق من أم الهنبر. أَحمَق من جهيزة. أحذر من ذِئْب. أَحول من ذِئْب. أحرص من ذِئْب.(6/108)
أخرس من كلب. أحرس من كلبة كريز. أخب من ثعالة. أختل من ثعالة. أخيل من ثعالة. أخيل من ثَعْلَب فِي استه عهنة. أروغ من ثعالة. أزنى من قرد. أزنى من هجرس. أزنى من ضيون. أزنى من قطّ. أزنى من هر. أجبن من هجرس. أزهى من ثَعْلَب. أسْرع من كلب إِلَى ولوغه. أعطش من ثَعْلَب. أسْرع من لحسة الْكَلْب أَنفه. أسمع من سمع. أذلّ من صيد لَيْث عفرين. أعبث من قرد. أكسب من فَهد.(6/109)
أكسب من ذِئْب. ألح من كلب. ألأم من كلب على عرق. ألوط من دب. أوقح من ذِئْب. أولغ من كلب. أنبش من جيأل. أنعس من كلب. أنوم من فَهد. أجرأ من خاصي الْأسد. أسْرع غدرة من الذِّئْب. أبقى عدوا من الذِّئْب. أسلط من سلقة: وَهِي الذئبة. أنكد من كلب أجص. أجوع من ذِئْب. أعق من ذئبة. أعيث من جعار. أَحمَق من ضبع. أغزل من الفرعل. أفحش من كلب. أجوع من زرْعَة وَبني كلبة.(6/110)
لَا قَرَار على زأر من الْأسد. أَخذه أَخذ سَبْعَة. قَالُوا أَرَادَ سَبْعَة وَقيل: أَرَادَ الْعَدو وَقيل هُوَ اسْم الرجل.
الذِّئْب
أبشر بغزو كولغ الذِّئْب. من استرعى الذِّئْب ظلم. الذِّئْب يأدوا للغزال ليأكله. وَيُقَال: يدأي أَي متدارك. الذِّئْب يكنى أَبَا جعدة. سقط الْعشَاء بِهِ على سرحان. الذِّئْب خَالِيا أَشد. الذِّئْب مغبوط جائعاً. لقد كنت مَا أخْشَى بالذئب فاليوم قيل: الذِّئْب. ويضربون الْمثل ب: الذِّئْب الْخمر. وذئب الغضا. وسرحان القصيم. خش ذؤاله بالحبالة. الذؤالة: الذِّئْب. نزلنَا ببلدة يتنادى أصرماها: وهما الذِّئْب والغراب. ذِئْب الغضى. سرحان القصيم. ضريت فَهِيَ تخطف: وَضربت أَيْضا قيل أَرَادوا بِهِ الذِّئْب.(6/111)
الذِّئْب أدغم: يضْرب لمن يظنّ بِهِ الْخَيْر وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الذئاب دغم. الذِّئْب للضبع. لبست لَهُ جلد النمر.
الضبع
أطرقي أم عَامر. خامري أم عَامر. خامري حضاجر أَتَاك مَا تحاذر. عيثي جعار. الضبع تَأْكُل الْعِظَام وَلَا تَدْرِي مَا قذى استها. كمجير أم عَامر. اعْرِض عَلَيْهِ خصلتي الضبع الرَّاكِب. أَحَادِيث الضبع استها. كرهت خنازير الْحَمِيم الموغر.
فِي الْكَلْب
استعسب فلَان استعساب الْكَلْب. على أَهلهَا تجني براقش. وَهِي كلبة وَقيل إمرأة. نعم كلب فِي بؤس أَهله. لَا أفعل ذَلِك حَتَّى ينَام ظالع الْكلاب. سمن كلبك يَأْكُلك. لَا تقتن من كلب سوء جروا.(6/112)
أحب أهل الْكَلْب إِلَى الْكَلْب الظاعن. فلَان مَا يعوي وَلَا ينبح. كلب عس، خير من أَسد ربض. كلب عس خير من أَسد أندس. الْكَلْب على الْبَقر. أجع كلبك يتبعك. يبْعَث الْكلاب عَن مرابضها. أحب أهل الْكَلْب إِلَيْهِ خانقه. عجلت مَا عجلت الكلبة أَن تَلد ذَا عينين. النبح وَمن بعيد، أَهْون من الْعَدو من قريب. على فلَان واقية الْكلاب. لَا يضر السَّحَاب نباح الْكلاب.
الثَّعْلَب
إِنَّمَا فلَان ذِئْب الثَّعْلَب. لقد ذل من بَالَتْ عَلَيْهِ الثعالب. كَذَلِك النجار يخْتَلف: مثل ينْسب إِلَى الثَّعْلَب. زمَان أربت بالكلاب الثعالب.
الهر
إِذا اعترضت كاعتراض الْهِرَّة، أوشكت أَن تسْقط فِي أفرة. مَا يعرف هراً من بر.(6/113)
الْأَمْثَال فِي الْهَوَام والحشرات
آكل من السوس. أجول من قطرب. أشهر من قطرب. أفسد من السوس. أجوع من قراد. أسمع من قراد. أذلّ من قراد بمنسم. أَجْهَل من فراشة. أَضْعَف من فراشة. أطيش من فراشة. أخف من فراشة. أَخطَأ من فراشة. أَجْهَل من عقرب. أزب من عقرب. أعدى من الْعَقْرَب. أجمع من الذّرة. أضبط من ذرة. أخْفى من الذّرة. أقطف من فريخ الذَّر. أَشمّ من ذرة.(6/114)
أكسب من جَراد. أجرد من جَراد. أصفى من لعاب الْجَرَاد. أصفى من لعاب الجندب. أصرد من جَرَادَة. أسرى من جَراد. أعظم من جَراد. أغوى من غوغاء الْجَرَاد. أفسد من الْجَرَاد. أنزى من الْجَرَاد. أزهى من ذُبَاب. أَشْقَى من الذُّبَاب بالذباب. أندى من الذُّبَاب. أطيش من ذُبَاب. أمهن من ذُبَاب. أَهْون ذُبَاب. أجل من الحرش: مثل يحْكى عَن الضَّب. أشرد من ورل. أَصْبِر من ضَب. أضلّ من ضَب. أل من ورل.(6/115)
أطول ذماء من الضَّب. أسمع من ضَب. أروى من ضَب. أخب من ضَب. أخدع من ضَب. أحير من ضَب. أخير من ورل. أظلم من ورل. أعق من ضَب. أعقد من ذَنْب الضَّب. أعقد من بعج الضَّب. أعمر من ضَب. أقصر من فتر الضَّب. هُوَ أعلم بضب من حرشه. أقصر من إِبْهَام الضَّب. أذلّ من حمَار قبان. أطول ذماء من الخنفساء. أخنس من الخنفساء. أخس من الخنفساء. أنحس من فاسية. أسْرع غَضبا من فاسية.(6/116)
ألج من الخنفساء. ألزق من الْجعل. آكل من الْحُوت. أسبح من نون. أروى من الْحُوت. أظمأ من حوت. أعطش من حوت. أَشْجَع من لَيْث عفرين. أصنع من سرفة. أوهن من بَيت العنكبوت. أصنع من النَّحْل. أصنع من دود القز. أَضْعَف من بقة. أعز من مخ البعوض. أضبط من نملة. أروى من النملة. أعطش من النَّمْل. أكسب من النَّمْل. أَكثر من النَّمْل. أقوى من النملة. أقصر من زب النملة.(6/117)
أقطف من نملة. أسرى من جَراد. أضلّ من ولد اليربوع. أسرق من زبابة. أكسب من فأر. أطول من الْحَيَّة. أسمع من حَيَّة. أظلم من الْحَيَّة. أظلم من أَفْعَى. أعدى من الْحَيَّة. أروى من الْحَيَّة. أعرى من الأيم. أثبت من قراد. أظفر من برغوث. أفحش من قالية الأفاعي. أشهر من جرجر. أسرى من أنقد. أسمع من قنفذ. أرسح من ضفدع. أعطش من النقاقة. أدب من قرنبي.(6/118)
أخشن من الشهيم. أَجْزم من حرباء. أظلم من تمساح. أعلق من قراد. أغزل من عنكبوت. أغزل من سرفة. أفسد من أرضة. أفسى من ظربان. أقطف من حلمة. ألزق من برام. ألزق من قرنبي. أنتن من ظربان. أشرد من ورل الحضيض. أسْرع من تلمظة الورل. أشرد من ورل الحضيض. أضلّ من ورل. أسمع من دُلْدُل. أعذر من أم أدراص. أَكثر من الدُّبَّاء. أَسْوَأ من جَرَادَة. أَخطَأ من ذُبَابَة.(6/119)
الضَّب
أطْعم أَخَاك من عقنقل الضَّب، إِنَّك إِن تَمنعهُ مِنْهُ يغْضب. هَذَا أجل من الحرش. أتعلمني بضب أَنا حرشته. مَا أُبَالِي مَا نهئ من الضَّب وَمَا نضج. مَا نهئ من ضبك. كل ضَب عِنْده مرداته. لَا أفعل ذَلِك سنّ الحسل. خله درج الضَّب. لَا يكون ذَلِك حَتَّى يحن الضَّب فِي أثر الْإِبِل الصادرة. مَا هُوَ إِلَّا الضَّب كدية. ضَب قلعة. مَا هُوَ إِلَّا ضَب كَذَا، وضب كلدة. أَي لَا يقدر عَلَيْهِ. إِن تَكُ ضباً فَأَنا حسلة. أَخذه أَخذ الضَّب وَلَده. أَنا أعلم بضب احترشته. إِذا أخذت بِرَأْس الضَّب أغضبته. إِذا أخذت بِذَنبِهِ أغضبته. الضَّب أَخبث نَفسه. حَتَّى يؤلف بَين الضَّب وَالنُّون. تطلب ضباً وَهَذَا ضَب مخرج رَأسه.(6/120)
الظربان
هما يتماشيان جلد الظربان. بَينهمَا جلد الظربان. فسا بَينهم ظربان.
الْقُنْفُذ
ذَهَبُوا إسراء قنفذ. قنفذ برقة: يضْرب بِهِ الْمثل.
الفأر
سرينا لَيْلَة ابْن انقد. أضلّ دريص نفقه. سقط فِي أم أدراص بلَيْل مضلل. بَات بليلة أنقد. برز نارك، وَإِن هزلت فارك.
الْحُوت
أحوتا تماقس؟ الْحَيَّة شَيْطَان الحماطة: يضْرب بِهِ الْمثل فَهُوَ الْحَيَّة. إِنَّه لهتر أهتار، وصل أصلال. صمي صمام ابْنة الْجَبَل. يُرَاد بِهِ
الْحَيَّة
. هُوَ كالأرقم إِن يقتل ينقم، وَإِن يتْرك يلقم.(6/121)
أطرق إطراق الشجاع. جَاءَ بِإِحْدَى بَنَات طبق. لَا يلسع الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ. قد بكرت شبوة تزبئر. سرت إِلَيْنَا شبارعهم. وَهِي العقارب. دبت إِلَيْنَا عقاربهم. تلدغ الْعَقْرَب وتصيء الْجَرَاد. لَا أَدْرِي أَي الْجَرَاد عاره. جَاءَ الْقَوْم كالجراد المشعل. علقت معالقها وصر الجندب. وَقع فِي أم جُنْدُب. قد بَدَت جنادعه.
القراد
القردان حَتَّى الْحلم. فلَانا يقرد فلَانا: أَي يحتال لَهُ بخدعة. لَا يَلِيق هَذَا بصفري: والصفر: حَيَّة تكون فِي الْبَطن. القرنبي فِي عين أمهَا حَسَنَة. مَا عَلَيْهَا خَز بصيصة: قَالُوا هِيَ البقة. مَا الذُّبَاب وَمَا مرقته. كلفتني مخ البعوض. لَا أفعل ذَلِك حَتَّى يحجّ البرغوث.(6/122)
طامر بن طامر: قَالُوا: هُوَ البرغوث. أَنا أُغني عَنهُ من التفة عَن الرفة: قَالُوا: التفة: عتاق الأَرْض، الرفة: التِّبْن.
الْأَمْثَال فِي الطُّيُور ضواريها وبغاثها
آمن من حمام مَكَّة. آلف من حمام مَكَّة. أَحمَق من حمامة. أخرق من حمامة. آلف من غراب عقدَة. أبعد من بيض الأنوق. أعز من بيض الأنوق. أبْصر من باز. أبْصر من عِقَاب ملاع. أحذر من فرخ عِقَاب. أحزم من فرخ عِقَاب. أخطف من عِقَاب. أزهى من غراب. أعز من الْغُرَاب الأعصم. أعز من عِقَاب الجو. أبْصر من نسر. أبْصر من غراب.(6/123)
أخيل من غراب. أحذر من غراب. أبكر من غراب. أبْصر من الوطواط بِاللَّيْلِ. أجبن من صافر. أجبن من صفرد. أجبن من كروان. أجبن من ليل. أجبن من نَهَار. أَحمَق من نعَامَة. أحذر من ظليم. أروى من نعَامَة. أَحمَق من رخمة. أَحمَق من الحباري. أَحمَق من عقعق. أسْرع من عقعق. ألص من عقعق. أحذر من عقعق. أحلم من فرخ الطَّائِر. أحسن من طَاوُوس. أحسن من الديك.(6/124)
أخف رَأْسا من الطير. أصفى من عين الديك. أَشْجَع من ديك. أخف حلماً من العصفور. أخيل من ديك. أزهى من ديك. أزهى من طَاوُوس. أسخى من لافظة. أسفد من ديك. أسفد من عُصْفُور. أسلح من حباري. أسلح من دجَاجَة. أشأم من طير العراقيب. أشأم من غراب الْبَين. أشبه من الْغُرَاب بالغراب. أشرد من ظليم. أشْرب من خفيدد. أَشمّ من نعَامَة. أَشمّ من هِقْل. أصنع من تنوط. أصدق من قطاة.(6/125)
أصفى من عين الْغُرَاب. أَصْغَر من صعوة. أقصر من إِبْهَام القطاة. أكذب من فَاخِتَة. أكمد من حباري. أكبر من لبد. أمنع من عِقَاب الجو. أنفر من نعَامَة. أند من نعَامَة. أهْدى من قطا. أهْدى من حَمَاقَة. أصح من ظليم. أحذر من قرلي. أحزم من قرلي. أبخر من صقر. أثقل من زواقي: وَهِي الديكة. أموق من الرخمة. أموق من نعَامَة. أَنْجَب من نعَامَة. أَشد سواداً من حنك: وَهِي الديكة. أنسب من قطاة.(6/126)
أشأم من الشقراق. وجد تَمْرَة الْغُرَاب. أذلّ من بضة الْبَلَد. أقصر من إِبْهَام الحباري.
العنقاء وَالْعِقَاب
حلقت بِهِ عنقاء مغرب. طارت بهم العنقاء. أودت بهم عِقَاب ملاع. عِقَاب قلاع كَأَنَّهُ لبد. إِن البغاث بأرضنا يستنسر. أنطقي يَا رخم إِنَّك من طير الله. وَقعت رخمته: إِذا وَافقه وأحبه.
النعام
الأوب أَوب نعَامَة. مَا يجمع بَين الأروى والنعام. خفت نعامته. شالت نعامتهم.
الصَّقْر والبازي
صقر يلوذ حمامه بالعوسج. وَهل ينْهض الْبَازِي بِغَيْر جنَاح؟ !(6/127)
مَا رَأَيْت صقراً يرصده خرب. تقلدها طوق حمامة.
الْغُرَاب
هم فِي خير لَا يطير غرابه. لَا يكون كَذَا حَتَّى يشيب الْغُرَاب. فلَان وَاقع الْغُرَاب. مثل قَوْله: إِنَّه لساكن الرّيح وسكنت رِيحه. تفرس الْأسد المشتم. وتفرق من صَوت الْغُرَاب. تركت فلَانا بوحش الإصمت. أَخَاك كغراب الصرد. هُوَ غراب بن دأية: يُقَال ذَلِك للكذاب.
الْحُبَارَى
كل شَيْء يحب وَلَده حَتَّى الحباري. أطرق كراً، إِن النعام فِي الْقرى. بَات فلَان كمد الحباري. أطرق كراً يحلب لَك. أطرق كراً إِنَّك لن ترى. وَعِيد الحباري الصَّقْر.
القطا
لَو ترك القطا لَيْلًا لنام.(6/128)
لَيْسَ قطاً مثل قطي. لاقيت الأخيل: دُعَاء على الْمُسَافِر.
الطير
إِنَّه لوَاقِع الطير. يُقَال للحليم. كَأَن على رَأسه الطير. خلا لَك الجو فبيضي واصفري. مَا يزْجر الطير بأسمائها، وَمَا يُسمى البقل بأسمائه. لَيْسَ هَذَا بعشك فادرجي. لَا تَأْكُل حَتَّى تطير عصافير نَفسك. طَار أنضجها. طَار طَائِره. فلَان طيور فيوء. انْقَطع قوى من قاوية، وَيُقَال: قابية من قوبها. كَانَت بَيْضَة الْعقر. كَانَت بَيْضَة الديك. فلَان بَيْضَة الْبَلَد. يُقَال فِي الْمَدْح والذم. أفرخ قيض بيضها المنقاض. أفرخوا بيضتهم. مَرَرْت بهم الْجَمَّاء الْغَفِير. قَالَ بَعضهم: الْجَمَّاء: الْبَيْضَة والغفير: الريش، يُرِيد الْكَثْرَة. كلفتني بيض السمائم.(6/129)
كلفتني بيض السماسم. فلَان مَا يفقئ الْبيض. فلَان لَا يُرِيد الرادية. فلَان لَا ينضج الكراع. يُقَال ذَلِك فِي الضَّعِيف. فلَان يحمي بيضته.
الْأَمْثَال فِي السَّمَاء والهواء وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب
أطول من السكاك. أطول من اللَّوْح. أرفع من السَّمَاء. أنأى من الْكَوَاكِب. أبعد من الْكَوَاكِب. أبعد من النَّجْم. أهْدى من النَّجْم. أوسع من اللَّوْح. أبعد من منَاط العيوق. أرق من الْهَوَاء. أشهر من الشَّمْس. أشهر من الْقَمَر. أشهر من الْبَدْر. أطول صُحْبَة من الفرقدين. أنكد من تالي النَّجْم.(6/130)
أبين شؤماً من زحل. أضيع من قمر الشتَاء.
السَّمَاء والهواء
لَا أفعل ذَلِك مَا إِن السَّمَاء سَمَاء. لَا أفعل ذَلِك مَا إِن فِي السَّمَاء نجماً. لَا أفعل ذَلِك مَا عَنى فِي السَّمَاء نجم. رأى فلَان الْكَوَاكِب ظهرا ومظهراً. أريها السهى وتريني الْقَمَر. جلاء الجوزاء، يضْرب للَّذي يتوعد وَلَا يصنع شَيْئا. جَاءَ بالضح وَالرِّيح. الضح: الشَّمْس. لَا أفعل ذَلِك ماذر شارق. إِن يبغ عَلَيْك قَوْمك لَا يبغ الْقَمَر. لَا آتِيك السمر وَالْقَمَر. سر وقمر لَك. فِي الْقَمَر ضِيَاء، وَالشَّمْس أَضْوَأ مِنْهُ. هَل يخفى الْقَمَر؟ !
فِي اللَّيْل وَالنَّهَار والغداة والعشي وَالزَّمَان والدهر وَالْأَحْوَال
أبقى من الدَّهْر. أبين من وضح الصُّبْح. أبين من فلق الصُّبْح. أشهر من فلق الصُّبْح.(6/131)
أَضْوَأ من الصُّبْح. أَضْوَأ من ابْن ذكاء. أَضْوَأ من نَهَار. أطول من الفلق. أطول من يَوْم الْفِرَاق. أطول من شهر الصَّوْم. أطول من الدَّهْر. أطغى من اللَّيْل. أطفل من ليل على نَهَار. أحير من اللَّيْل. أنم من الصُّبْح. أَسِير من اللَّيْل. أنم من ذكاء. أجرأ من اللَّيْل. أظلم من اللَّيْل. أَقُود من اللَّيْل. أَقُود من وضح النَّهَار. أندى من اللَّيْل الماطر.
اللَّيْل وَالنَّهَار
لَا أفعل ذَلِك مَا اخْتلف الجديدان والملوان والفتيان. لَا أفعل ذَلِك مَا اخْتلفت الصرفان.(6/132)
خير لَيْلَة بالأبد، لَيْلَة بَين الزباني والأسد. السميرات عَلَيْك. جرشا فتعشه: بِالسِّين والشين، وَهِي السَّاعَة. الهوية من اللَّيْل. باتت بليلة حرَّة. باتت بليلة شتاء. مَا يَوْم حليمة بسر. لَيْلَة ليلاء. يَوْم أيوم. المكثار كحاطب اللَّيْل. اللَّيْل أخْفى للويل. سمر ذيلاً وادرع لَيْلًا. اتخذ اللَّيْل جملا تدْرك. إِن اللَّيْل طَوِيل وَأَنت مقمر. يَوْم النازلين بنيت سوق ثَمَانِينَ. أسائر الْيَوْم وَقد زَالَ الظّهْر. إِن مَعَ الْيَوْم غَدا يَا مسْعدَة. وَهل يخفى على النَّاس النَّهَار. مَا أشبه اللَّيْل بالبارحة. اللَّيْل وأهضام الْوَادي. يذهب يَوْم الْغَيْم وَلَا يشْعر بِهِ.(6/133)
الْيَوْم ظلم. إِحْدَى لياليك فهيسي هيسي. يُرِيك يَوْم بِرَأْيهِ. تركته على مثل لَيْلَة الصَّدْر. من ير يَوْمًا ير بِهِ. يَوْم بِيَوْم الحفض المجور. إِحْدَى لياليك فهيسي. من ابْن كل جدة تبليها عدَّة. اللَّيْل أَعور لَا يبصر فِيهِ. لم أر كَالْيَوْمِ فِي الحريمة. لم أر كَالْيَوْمِ واقية. لَا أفعل ذَلِك مَا حدا اللَّيْل نَهَارا. أصبح ليل. أَنا ابْن جلا. يُرِيدُونَ النَّهَار. حلب فلَان الدَّهْر أشطره. أودى بِهِ الأزلم الْجذع. مَا نَلْتَقِي إِلَّا من عفر. لَا أَفعلهُ مَا جمر ابْن جمير: قَالُوا: السمير: الدَّهْر، والجمير مثله. لَا أفعل ذَلِك سجيس الأوجس. لَا أفعل ذَلِك سجيس عجيس.(6/134)
لَا أفعل ذَلِك دهر الدهارير. لَا أفعل ذَلِك أَبَد الأبيد. من عتب على الدَّهْر، طَالَتْ معتبته. لَا أفعل ذَلِك عوض العائضين، وَلَا أَفعلهُ عوضي. قد بَين الصُّبْح لذِي عينين. أَقمت عِنْده فِي ضغيغ دهره: أَي قدر تَمَامه. كَانَ ذَلِك زمن الفطحل. ضح رويداً. لَقيته قبل كل صِيحَ وَنَفر. لَقيته صَكَّة عمي. أرقب لَك صبحاً. لكل صباح صبوح. برد غَدَاة، غر عبدا من ظمأ. عِنْد الصَّباح يحمد الْقَوْم السّري. عش وَلَا تغتر. يَأْتِيك كل غَد بِمَا فِيهِ. لَقيته ذَات العويم. وَقع النَّاس فِي قُحُوط. عش رجباً تَرَ عجبا.(6/135)
الْأَمْثَال فِي الأَرْض وَالْجِبَال والرمال وَالْحِجَارَة والبلدان والمواضع وَالْمَاء وَالنَّار والزناد وَالتُّرَاب وَالْبَحْر
: آمن من الأَرْض. أَصْبِر من الأَرْض. أوثق من الأَرْض. أوطأ من الأَرْض. أحفظ من الأَرْض. أحمل من الأَرْض. آكل من النَّار. أثقل من ثهلان. أكتم من الأَرْض. أَكثر من الرمل. أتقل من نضار. أثقل من عماية. أثقل من شمام. أثقل من أحد. أثقل من دمخ الدماخ. أسْرع من المَاء إِلَى قراره. أرق من المَاء. أَحمَق من لاعق المَاء. أَحمَق من ماضغ المَاء.(6/136)
أصفى من المَاء. أَحمَق من الْقَابِض على المَاء. أذب من خباب المَاء. أَحمَق مِمَّن لطم طم المَاء. أَحمَق من ترب العقد. أحر من النَّار. أحر من الْجَمْر. آكل من النَّار. أحسن من النَّار. أَحْقَر من التُّرَاب. أحضر من التُّرَاب. أخْفى من المَاء تَحت الرفة. أخلف من نَار الحباحب. أسْرع من النَّار فِي يبيس العرفج. أسْرع من شرارة فِي قصباء. أطمع من قالب الصَّخْرَة. أطول صُحْبَة من ابْني شمام. أطول من فرسخي دير كَعْب. أَصْلَب من جندل. أَصْلَب من حجر. أقضى من صَخْر.(6/137)
أقسى من الْحجر. أجْرى من المَاء. أظلم من رمل. أعذب من مَاء غادية. أعذب من مَاء المفاصل. أعذب من مَاء الحشرج. أعرض من الدهناء. ألذ من مَاء غادية. أعطش من رمل. أعذب من المَاء البارق. أعمق من الْبَحْر. ألطف من المَاء. ألهف من قالب الصَّخْرَة. أنم من التُّرَاب. أوجد من المَاء. أوجد من التُّرَاب. أوسع من الدهناء. أندى من الْبَحْر. أيبس من الصخر. أهول من الْحَرِيق.(6/138)
أسْرع من الخذروف. وَهُوَ حجر يلْعَب بِهِ. ألْقى من وَحي فِي حجر. فلَان أَكثر حَصى من فلَان: أَي أَكثر عددا. أعطش من رمل العقد. أشْرب من الهيم: قيل هِيَ رمال بِعَينهَا واحدتها: هيماء. أسهل من جلدان: وَهُوَ حمى من وَرَاء الطَّائِف إِلَى نَاحيَة الْيمن. أَحمَق من ناطح المَاء. أَحمَق من ماطخ المَاء: والمطخ: اللعوق. أصفى من مَاء المفاصل.
الأَرْض
قتل أَرضًا عالمها. من سلك الجدد أَمن العثار. قتلت أَرض جاهلها. النَّقْد عِنْد الحافرة: قَالُوا: الحافرة: الأَرْض وَقيل غير ذَلِك. إِنَّه لأريض للخير. لقِيه بَين سمع الأَرْض وبصرها. لَقيته بوحش أصمت. أخذت الأَرْض زخارفها. تِلْكَ الأَرْض لاتقض بضعتها وَلَا تنعفر بضعهَا. برح الخفاء. الخفاء: المتطأطئ من الأَرْض. قَالُوا: أصايرا ظَاهرا.(6/139)
إِن جَانب أعياك، فَالْحق بِجَانِب. من تجنب الخبار، أَمن العثار. التقى الثريان. لَا تؤبس الثرى بيني وَبَيْنك. جَاءَ بالطم والرم: الطم: الْبَحْر. والرم: الثرى. أفق قبل أَن يحْفر ثراك. خُذ من الرضفة مَا عَلَيْهَا. مَا يبض حجره. رمى فلَان بحجره. كَانَت وقرة فِي حجر. وَجه الْحجر وجهة مَاله، وَقد بيضت وجهة وَجهه. صمت حَصَاة بِدَم. الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر. جَاءَ فلَان بالقض والقضيض. يَا حبذا الْإِمَارَة وَلَو على الْحِجَارَة. كَأَنَّمَا ألقمه حجرا. على مَا خيلت وعث القصيم. هَل بالرمل من أوشال. وَقَعُوا فِي أم حبوكر: أم حبوكر: الرملة. أشرق ثبير، كَيْمَا نغير. الله أعلم مَا حطها من رَأس يسوم.(6/140)
رَمَاه بثالثة الأثافي. هُوَ إِحْدَى الأثافي. لَكِن بشعفين أَنْت جدود. إِن وَرَاء الأكمة مَا وَرَاءَهَا. لَا تفش سرك إِلَى أمة، وَلَا تبل على أكمة. هُوَ ابْنة الْجَبَل. صمي ابْنة الْجَبَل. مهما يقل تقل. اللَّيْل يواري حضناً. إِذا قَطعنَا علما بدا علم. أنجد من رأى حضناً. مَا حللت بِبَطن تبَالَة لتحرم الأضياف. خذمتها مَا قطع الْبَطْحَاء. كلا جَانِبي هرشي لَهُنَّ طَرِيق. وَقع فِي وَادي خدبات. أَلْقَت مراسيها بِذِي رمرام. أَلْقَت مراسيها بوادي مضلل. أَلْقَت مراسيها بوادي ثهلل. تمرد مارد وَعز الأبلق. يَكْفِيك مَا بلغك المحلا. أمرع واديه وأجني حلبه.(6/141)
رويداً يعلون الجدد. هَيْهَات، هَيْهَات الجناب الْأَخْضَر. هَذَا وَلما تردي تهَامَة. بِكُل وَاد أثر من ثَعْلَبَة. ليتك من وَرَاء حَوْض الثَّعْلَب. تركته بوحش أصمت. جرى الْوَادي فطم على الْقرى. سَالَ الْوَادي فذره. تركته ببلدة إصمت. قد بل عَرْشه ببقة. أبرم الْأَمر ببقة. أشبه شرج شرجاً لَو أَن أسيمرا. دخل ظفارحم. لَيْسَ سلامان كعهدان. لاهلك بواد خبر. عَسى الغوير أبؤساً. فلَان فِي سر قومه. يُقَال للْأَرْض إِذا كَانَت طيبَة أَرض سر. قد بلغ المَاء الزبى. إِن ترد المَاء بِمَاء أَكيس. مَاء وَلَا كصدءاء. كالقابض على المَاء.(6/142)
لَو بِغَيْر المَاء غصصت المَاء: ملك الْأَمر. هُوَ يرقم فِي المَاء. فلَان مَاء مسوس. أعطَاهُ غيضاً من فيض. لَا أفعل ذَلِك مَا بل الْبَحْر صوفه. لَا أفعل ذَلِك مَا إِن فِي الْفُرَات قَطْرَة. هُوَ أبرص من عير. ماؤكم هَذَا، مَاء عنَاق. لتجدن نبطة قَرِيبا. ثأطة مدت بِمَاء. فِي كل شجر نَار واستمجد المرخ والعفار. ارخ يدك، واسترخ إِن الزِّنَاد من مرخ. اقدح بدخلي فِي مرخ، ثمَّ شدّ بعد أَو أرخ. إِنَّه لمعتلث الزِّنَاد. فلَان وارى الزِّنَاد. وريت بك زنادي. فلَان ثاقب الزِّنَاد. فلَان كَافِي الزند. صلدت زناده. أضئ لي أقدح لَك. وَيُقَال:(6/143)
أقدح الزند بعفار أَو مرخ. لَيْسَ فِي جفيره غير زندين. هما زندان فِي وعَاء. مَا يصطلي بناره. كَأَنَّهُ نَار حباحب. فلَان حَسبه ثائب. مَا بهَا نافخ ضرمة. أَتَانَا وَكَأن لحيته ضرمة عرفج. كَا لمستغيث من الرمضاء بالنَّار. نجارها نارها: وَالنَّار هَاهُنَا: السمة. هُوَ القابس العجلان. أَي فَتى قَتله الدُّخان؟ هرق على جمرك مَاء. لَو كنت أنفخ فِي فَحم. اقدح إِن لم تؤذ نَارا ببحر.
الْأَمْثَال فِي السَّحَاب والرعد والبرق والرياح والسراب والمطر والثلج والسيل والنسيم
: أبرد من ثلج. أبرد من الغب: وَهُوَ الْبرد. أبرد من عضرس. أبرد من حبقر.(6/144)
أبرد من عبقر. أبرد من غب الْمَطَر. أبرد من أَمْرَد. أخف من النسيم. أخف من الهباء. أرق من الهباء. أرق من دمع الْغَمَام. أرق من رقراق السراب. أسْرع من الرّيح. أسْرع من الْبَرْق. أسْرع من السَّيْل إِلَى الحدور. أطفى من السَّيْل تَحت اللَّيْل. أجرأ من السَّيْل. أجرأ من الأيهمين. أغر من سراب. أغشم من السَّيْل. أكذب من يلمع. أكذب من اليهير. أمضى من الرّيح. أمضى من السَّيْل تَحت اللَّيْل. أولج من ريح. أَهْون من النباح على السَّحَاب.(6/145)
أهول من السَّيْل. أَشد بَيَاضًا من الْبرد. إِنَّمَا هُوَ كبرق الخلب. يذهب يَوْم الْغَيْم وَلَا يشْعر بِهِ. فلَان يرعد ويبرق. رب صلف تَحت الراعدة. برق لمن لَا يعرفك. وَيُقَال: برقي بالتأنيث. أرنيها نمرة أركها مطرة. ذهب دَمه درج الرِّيَاح. ذهبت هيف لأديانها. إِنَّه لساكن الرّيح. إِن كنت ريحًا لقد لاقيت إعصاراً. ريح حزاء فالنجاء. ريحمها جنوب. يُقَال للمتصافيين فَإِذا تفَرقا قيل: شملت رِيحهَا سراب. لَيْسَ بِأول من غره السراب. أوردته حِيَاض عطيش: يعنون السراب. الْمَطَر عَام الرّبيع. الصَّيف بِحَسب الممطور. إِن كل مطر الْغَيْث يصلح. الْغَيْث مصلح مَا خبل على العرفجة.(6/146)
بَرِئت مِنْهُ مطر السَّمَاء: أَي أبدا. رب عجلة تهب ريثاً. وَرب غيث لم يكن غيثاً. رب فروقة يدعى ليثاً. قد بلغ السَّيْل الزبى. قد سيل بِهِ وَلَا يدْرِي. كالسيل تَحت الدمن. مَا أقوم بسيل تلعتك. إِنَّمَا أخْشَى سيل تلعتي. اضطره السَّيْل إِلَى معطشة. هم درج السُّيُول. من يرد السَّيْل على أدراجه.
الْأَمْثَال فِي الشّجر وَالرَّوْضَة والصمغ والنبات والمرعى والشوك
: أذلّ من هرمة. أَشد حمرَة من المصعة. أطيب نشراً من رَوْضَة. أَضْعَف من بروقة. أغر من الدُّبَّاء. أَمر من العلقم. أكره من العلقم. أذلّ من فقع بقاع.(6/147)
أَمر من الدفلى. أَحمَق من رجلة. أكسى من البصل. أبعد خيرا من قَتَادَة.
الشّجر
: طمعوا بِخَير أَن ينالوه فَأَصَابُوا سلعاً وقاراً. ذليل عاذ بقرملة. فِي عضة مَا ينبتن شكيرها. تحمل عضة جناها. فِي عيصه مَا ينْبت الْعود. عيصك مِنْك وَإِن كَانَ أشبا. النبع يقرع بعضه بَعْضًا. هَذَا على طرف الثمام. عصبه عصب السلمة. هُوَ يدب لَهُ الْخمر. يمشي لَهُ الضراء. كَانَ ذَلِك كسل أمصوخة، وأمسوخة: بِالسِّين. أَنا إِذن كالخاتل بالمرخة. ضغث على إبالة. شجر يرف. أَنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.(6/148)
تجنب الرَّوْضَة وأحال يعدو. وَقع فِي رَوْضَة وغدير. إيَّاكُمْ وخضراء الدمن.
النَّبَات
: لَا يغرنك الدُّبَّاء، وَإِن كَانَ فِي المَاء. جذها جذ العير الصليانة. حول الصليان الزمزمة. مرعى وَلَا كالسعدان. تَسْأَلنِي برامتين شلجما. المَال بيني وَبَينه شقّ الأبلمة. دقك بالمنخار حب القلقل. لست بخلاة بنجاة. لَيْت حظي من العشب خوصه. أوضع من ابْن قوضع. لتجدني بقرن الْكلأ. عثر بأشرس الدَّهْر. الشرس: مَا صفر من الشوك. إِنَّك عَالم بمنابت القصيص. كَانُوا مخلين فلاقوا حمضاً. هُوَ حواءة: يُقَال لمن يلْزم بَيته. وَهُوَ نبت. لَا ينْبت البقلة إِلَّا الحقلة. لقد اتقيتهم حَتَّى مَا أسمي البقل بأسمائه.(6/149)
أَحْمَر كَأَنَّهُ الصربة. لأقلعنك قلع الصمغة الشبوك. لَا تجن من الشوك الْعِنَب. لَا تنقش الشَّوْكَة بِالشَّوْكَةِ فَإِن ضلعها مَعهَا. لطمه لطم المنتقش. جَاءَ فلَان بالشوك وَالشَّجر. استغنت الشَّوْكَة عَن التَّنْقِيح. من دون ذَلِك خرط القتاد. لَا المرعى مرعى، وَلَا الوله عشب وَلَا بعير أخلف. أَسَاءَ رعياً فسقى. رعى فأقصب. شَرّ الرعاء الحطمة. كثر الحلبة وَقل الرعاء. أمرعت فَانْزِل. أصَاب قرن الْكلأ. اخْتَلَط المرعى بالهمل.
الْأَمْثَال فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد وَالسيف وَالرمْح وأصناف السِّلَاح
: أحسن من شنف الأنضر. أَشد من الْحَدِيد. أرق من شقّ الجلم.(6/150)
أَشد من حد الجلم. أنفذ من الإبرة. أضيق من خرت الإبرة. أضيق من سم الإبرة. أمضى من الصمصامة. أمضى من النصل. أنفذ من سِنَان. أمضى من سِنَان. أطول من الرمْح. أطول من ظلّ الرمْح. أضيق من ظلّ الرمْح. أنفذ من خازق. أسْرع من السهْم. أنفذ من السهْم. أصرد من السهْم. أمرق من السهْم.؟ ؟ ؟
الْجلد
:؟ خُذْهُ وَلَو بقرطى مَارِيَة. عِنْده كنز النُّطْفَة وجران الرَّقِيق. مَا يحسن القلبان فِي يَدي حالبة الضَّأْن. لَو ذَات سوار لطمتني.(6/151)
الْحَدِيد
: الْحَدِيد بالحديد يفلح. لم أجد لشفرتي محزاً. كالباحث عَن المدية.
السَّيْف
: سبق السَّيْف العذل. لَا يجْتَمع السيفان فِي غمد وَاحِد. إِنِّي لأنظر إِلَى السَّيْف وَإِلَيْك. من يَشْتَرِي سَيفي وَهَذَا أَثَره.؟ محا السَّيْف مَا قَالَ ابْن دارة أجمعا. ماز رَأسك وَالسيف. سلوا السَّيْف واستللت المنتن. وَيُقَال المنتل. لكل صارم نبوة. لَا تأمن الأحمق وَبِيَدِهِ السَّيْف. فِي نظم سَيْفك مَا ترى يالقيم. ذَكرتني الطعْن وَكنت نَاسِيا. الْأَمر سلكي وَلَيْسَ بمخلوجة. يشج مرّة ويأسو مرّة. الطعْن يظأر. لأطعنن فِي حوصهم. فلَان صلب الْقَنَاة.(6/152)
ظئار قوم طعن. وَمثله: إِن الهوان للئيم مرأمة. عَاد السهْم إِلَى النزعة. مابها أهزع، وَمثله: ومخشوب لم ينقح. الحذر قبل إرْسَال السهْم. قد انصف القارة من راماها. نعتني بدائها وانسلت. مَا بللت من فلَان بأفوق ناصل. مَا بللت مِنْهُ بأعزل. رجح بأفوق ناصل. ثار حابلهم على نابلهم. اخْتَلَط الحابل بالنابل. قبل الرماء تملأ الكنائن. وَيُقَال أَيْضا: قبل الرَّمْي يراش السهْم. إِحْدَى حظيات لُقْمَان. تركته خير قَوس سَهْما. وَمَا تنهض رابضته. أَي رميته. أصمي رميته وأنمى رميته. هُوَ أوثق سهم فِي كِنَانَتِي. مَا أصبت مِنْهُ أقذ وَلَا مريشاً.(6/153)
فاق السهْم بيني وَبَينه. من فَازَ بكم فَازَ بِالسَّهْمِ الأخيب. إعط الْقوس باريها. إنباض الرَّمْي يراش السهْم. أدركني وَلَو بِأحد المغروين. نبل العَبْد أَكْثَرهَا المرامي. إِن فلَانا ليكسر على أرعاظ النبل غَضبا. لَيْت القسي كلهَا أرجلاً. مَعَ الخواطىء سهم صائب. رَمَاه بنبله الصائب. ارْجع إِن شِئْت فِي فَوق، وَيُقَال فِي فَوقِي. من أَنى ترمي الْأَقْرَع تشجه. لَا خير فِي سهم زلج. لَا تعجل بالإنباض قبل التوتير. كالمستتر بالغرض. ركب فلَان عوداً وَأَصله فِي السهْم. شغل عَن الرَّامِي الكنانة بِالنَّبلِ. ألْقى عَصَاهُ. شقّ الْعَصَا. مَا قرعت عَصا على عَصا إِلَّا حزن لَهَا قوم وسر آخَرُونَ.(6/154)
عَصا الجبان أطول. لَا تدخل بَين الْعَصَا ولحائها. قشرت لَهُ الْعَصَا. الْعَصَا من العصية. قلب لَهُ ظهر الْمِجَن.
الْأَمْثَال فِي الْحَرْب وَالْقَتْل والأسر والجبن والفزع والشجاعة والغزو والصياح
. مَا كفى حَرْب جانيها. الْحَرْب غشوم. الْحَرْب خدعة. إِن أَخا الهيجاء من يسْعَى مَعَك.
الْقَتْل
: لَيْسَ بعد الإسار إِلَّا الْقَتْل. سَوَاء علينا قاتلاه وسالبه. لَا يحزنك دم هراقة أَهله. أهل الْقَتِيل يلونه. أَبى قَائِلهَا إِلَّا تماً. كالمتمرغ فِي دم الْقَتِيل. لَيْسَ بعد السَّلب إِلَّا الإسار. قتل نفسا مخيرها. بسلاح مَا يقتلن الْقَتِيل.(6/155)
الدَّم الدَّم، وَالْهدم الْهدم. إِن الجبان حتفه من فَوْقه. دردب لما عضه الثقاف. أفرخ روعك. أغيرة وجبناً. بصيصن إِذْ حَدَّيْنِ بالأذناب. بسلاح مايقتل الرجل. أضرطاً وَأَنت الْأَعْلَى. لَا يدعى للجلى إِلَّا أَخُوهَا. ضربا وطعناً أَو يَمُوت الأعجل: الشجاع. مكره أَخُوك لَا بَطل. الفرا بقراب أَكيس. إِن رمت المحاجزة فَقبل المناجزة. التَّقَدُّم قبل التندم. أجر مَا استمسكت. رويد الْغَزْو ينمرق. أول الْغَزْو ينمرق. أول الْغَزْو أخرق. لَا تسل الصَّارِخ وَانْظُر مَاله. ابدأهم بالصراخ يَفروا. بعد الهياط والمياط. أرطي إِن خيرك بالرطيط.(6/156)
مثل صَيْحَة الحبلى. أصاخ إصاخة المنده للناشد. أَتَيْتُك عاتاً وصاتاً وصت.
الْأَمْثَال فِي الثِّيَاب واللباس والخز والأدم والقز والآنية والدل والسقاء والوعاء والعطر
. هُوَ أَهْون عَليّ من طلبه وَمن طلباء. أذلّ من النَّعْل. أرجل من خف. أكذب من صنع. أَحمَق من الدابغ على التحلي. أطيب نشراً من الصوار. أَهْون من ربذة. أَهْون من ثملة. أطول من جيد الخرقاء. وَمثله: أطول من طُنب الخرقاء. أعرض ثوب الملبس. وَمثله: أعرض ظهر الملبس. أَو، عرض جنب الملبس. أَعرَضت القرفة. مَا كَانُوا عندنَا إِلَّا ككفة ثوب.(6/157)
كَأَنَّهَا بردة أَخْمَاس. هُوَ كالساقط بَين الفراشين. شمر واتزر، والبس جلد النمر. كمش ذلاذلة. من يطلّ ذيله ينتطق بِهِ. هُوَ الشعار دون الدثار. جليس كثرت نفس شاغليه. لَيْسَ عَلَيْك نسجه فاسحب وجر. خلع الدرْع بيد الزَّوْج. فلَان نسج وَحده. غرني برداك من غدافلي. فلَان طَاهِر الثِّيَاب. فلَان دنس الثِّيَاب. أم فلَان فِي ثوب فلَان. ألبس لكل حَالَة لبوسها إِمَّا نعيمها وَإِمَّا بؤسها. من عز بز. أشبه امْرَءًا بعض بزه. هم كبيت الْأدم. إِن الشرَاك قد من أديمه. أجمع سِيرِين فِي خرزة. إِنَّمَا يُعَاتب الْأَدِيم ذُو الْبشرَة.(6/158)
هُوَ مؤدم مُبشر. بق نعليك وابذل قَدَمَيْك. رَجَعَ بخفي حنين. كل الْحذاء يحتذى الحافي الوقع. زلت بِهِ نَعله. لَو كنت منا لحدوناك. رب نعل شَرّ من الحفاء. قد علقت دلوك دلو أُخْرَى. كَأَنَّمَا أفرغ عَلَيْهِ ذنوباً من مَاء. ألق دلوك فِي الدلاء. هرق لَهَا فِي قرقر ذنوبا. ساجل فلَان فلَانا. أَهْون مظلوم سقاء مروب. خل سَبِيل من وهى سقاؤه: وَمن هريق بالفلاة مَاؤُهُ. مَا يقعقع لَهُ بالشنان. هَذَا أَمر لَا تفشأ لَهُ قدري. استعجلت قديرها فامتلت. خير إناءيك كفأت. كفت إِلَى وئية. أُدي قدرا مستعيرها. مَا أصغيت لَك إِنَاء وَلَا أصفرت لَك فنَاء.(6/159)
إِذا كنت فِي قوم فاحلب فِي إنائهم. سمن حَتَّى صَار كَأَنَّهُ الخرس. حن قدح لَيْسَ مِنْهَا. صدقني وسم قدحه. من فَازَ بفلان فقد فَازَ بِالسَّهْمِ الأخيب. لَيْسَ الهناء بالدس. عنية تشفي الجرب. ألْقى حبله على غاربه. رمى برسنه على غاربه. قد أَخذه برمتِهِ. جَاوز الحزام الطبيين. الْتَقت حلقتا البطان. هُوَ يحطب فِي حبله. مَا أَنْت بلحمة وَلَا ستاه. وَمَا أَنْت بنيرة وَلَا حفة. قد عي فلَان بالإسناف. هُوَ على حَبل ذراعك. جروا لَهُ الخطير مَا انجر لكم. مَا حويت وَلَا تويت. جاحش عَن خيط رقبته. النَّقْد عِنْد الْحَافِر.(6/160)
جَاءَ بقرني حمَار: إِذا جَاءَ بِالْبَاطِلِ وَالْكذب. كطالب الْقرن جدعت أذنَاهُ. وجدت الدَّابَّة ظلفها. اجْعَلْهُ فِي وعَاء غير سرب. طويت فلَانا على بلاله، وبلوله، وبللته. إِن بَينهم عَيْبَة مَكْفُوفَة. كلفت إِلَيْك عرق الْقرْبَة، وعلق الْقرْبَة. لَيْت لي من فلَان عرق الْقرْبَة. احفظ مَا فِي الْوِعَاء بشد الوكاء. مَا يحجز فلَان فِي العكم. لَا يَخُصهَا مني فِي سقاء أوفر. إِذا سَمِعت بسرى الْقَيْن فَإِنَّهُ مصبح. مثل جليس السوء كالقين إِلَّا يحرق ثَوْبك بشراره أَو يُؤْذِيك بدخانه. إِنِّي صناع لَو تبالي صنعتي. أجناؤها أبناؤها. حلأت حَالية عَن كوعها، ويروى: حزت حازة عَن كوعها. اعْمَلْ فِي عَاميْنِ كرزاً من وبر. حزت حازة عَن كوعها. هُوَ مَاعِز مقروظ. بقه وَقد حلم الْأَدِيم.(6/161)
مَا يَجْعَل قدك إِلَى أديمك. لَا يعْدم جلد السوء عَن عرف السوء. أَحْمَر كالقرف. هَذَا حَظّ جد من المبناة. دقوا بَينهم عطر منشم. لَا مخبأ لعطر بعد عروس. لَا عطر بعد عروس. قَالَ الْمفضل: عروس رجل بِعَيْنِه.
الْأَمْثَال فِي الرَّحَى وَالطَّعَام وَالْأكل وَالشرب وَاللَّبن وَسَائِر المأكولات والمشروبات
. أقدم من الْحِنْطَة. أشأم من رغيف الحولاء. أدق من الشخب. أَلين من الزبدة. أمسخ من اللَّحْم الحوار، وأملخ ... أحلى من النشب. أحلى من الشهد. أحلى من السلوى. ألذ من السلوى. أحلى من التَّمْر الجني. آنس من نَخْلَة. أعظم بركَة من نَخْلَة مَرْيَم.(6/162)
أصيغ من تمر بِلَاد الطَّائِف. أسمع جعجعة وَلَا أرى طحناً. كل أَدَاة الْخبز عِنْدِي غَيره. طحنه طحن إبل لم يكن طحن قبله. تطعم تطعم. اعلل تحظب. تخرسي يَا نفس لَا مخرسة لَك الْيَوْم. رب أَكلَة تمنع الأكلات. لَيْسَ لشبعة خير من صفرَة تحفزها. الثّيّب عجالة الرَّاكِب. يلقم لقماً ويغدي زَاده. إِنَّك لتأكل وسطا وتربض حجرَة. يدْرك الخضم بالقضم. قد يبلغ بالقضم الخضم. من يَأْكُل لَا يَأْكُل قضماً، وَمن يَأْكُل قضماً لَا يَأْكُل خضماً. تجشأ لُقْمَان من غير شبع. قد نهيتك عَن شربة بالوشل. لَا تشرب مشرب صفو بكدر. إِنَّك رَيَّان فَلَا تعجل بشربك. لَيْسَ الرّيّ عَن التشاف. أكل عَلَيْهِ الدَّهْر وَشرب.(6/163)
أحس فذق وَمثله: إِنَّه لشراب بأنقع. أحلب حَلبًا لَك شطرة. لَا أفعل ذَلِك مَا اخْتلفت الدرة والجرة. لَا يكون أول من التبأ لبأة. إِن الرثيئة مِمَّا تفثأ الْغَضَب. ربضك مِنْك وَإِن كَانَ سماراً. شخب فِي الْإِنَاء وشخب فِي الأَرْض. أمهلني فوَاق نَاقَة. صرح الْحق عَن محضه. أبان الصَّرِيح عَن الرغوة. أَبى الْحَقَّيْنِ الْعذرَة. أعن صبوح ترقق. يسر حسواً فِي ارتغاء. حَال صبوحهم دون غبوقهم. سبق درته غراره. لَيْسَ كل حِين أحلب فأشرب. الصَّيف ضيعت اللَّبن. أَتَاك رَيَّان بلبنه. حلبتها ثمَّ أقلعت. درت حلوبة الْمُسلمين. أثر الصرار يَأْتِي دون الذيار.(6/164)
لم تحلب وَلم تغار فأودي اللَّبن. شخب طمح. لَا يلبث الْحَلب الحوالب. أدرها وَإِن أَبَت. عدا القارص فحرز. شب شوباً لَك بعضه. يشوب ويروب. يحلب بنى وَأَشد على يَدَيْهِ. من ير الزّبد يعلم أَنه من اللَّبن. من ير الزّبد يخله من لبن. لَو قيل للشحم: أَيْن تذْهب؟ لقَالَ: أسوي العوج. أَنا مِنْهُ كحاقن الإهالة. اخْتَلَط الخاثر بالزابد. مَا يدْرِي أيخثر أم يذيب. جمل واجتمل. لوشكان ذَا إهالة. وَمثله: لسرعان ذَا إبانة وَمثله: وشكان ذَا إذابة وحقناً. يَا نَفسِي لَا لهف لَك كل بَيْضَاء لَك: يُرِيد الشّجر. لَا نجم فِي ذَنْب الْكَلْب. لَيْسَ الشَّحْم بِاللَّحْمِ وَلَكِن من قواصيه. شحمتي فِي قلعي. سمنهم(6/165)
فِي أديمهم. وَقع على شحمة الركي. والرقي. مَا كل بَيْضَاء شحمة وَلَا كل سَوْدَاء تَمْرَة. لَكِن على الأثلاث لحم لَا يظلل. شوى أَخُوك حَتَّى إِذا أنضج رمد. إِنَّه يعلم من أَيْن تُؤْكَل الْكَتف. غثك خير من سمين غَيْرك. كسؤر العَبْد من لحم الحوار. من اشتوى أكل شواؤكم. مَا هُوَ بخل وَلَا خمر. الْيَوْم خمر وَغدا أَمر. هِيَ الْخمر تكنى الطلاء. ذُقْ تغتبط. لَا تكن حلواً فتسترط وَلَا مرا فتعقى. وجد تَمْرَة الْغُرَاب. التمرة إِلَى التمرة تمر كِلَاهُمَا. التَّمْر فِي الْبِئْر وعَلى ظهر الْجمل. إِنَّه لأشبه من التَّمْر بِالتَّمْرِ السويق. أحشفاً وَسُوء كيلة؟ . ترى الفتيان كالنخل، وَمَا يدْريك مَا الدخل. كمستبضع التَّمْر إِلَى هجر.(6/166)
مَتى كَانَ حكم الله فِي كرب النّخل. قيل للحبلى مَا تشتهين؟ قَالَت: التَّمْر وواهاً ليه. مَا ظلمته نقيراً وَلَا فتيلاً. مَا الخوافي كالقلبة وَلَا الخناز كالثعبة. عرف النّخل أَهله. كل حَاطِب على لِسَانه تَمْرَة.
الْأَمْثَال فِي المَال والغنى والفقر والصدق وَالْكذب، وَالْحق وَالْبَاطِل، والحمق وَالْحِيلَة، والإطراق وَالشَّر وَالظُّلم، وَالدُّعَاء والاعتذار، وَالْعلم والرأي
: لم يذهب من مَالك مَا وعظك. خير مَالك مَا نفعك. جَاءَ فلَان بالطم والرم. من مَال جعد، وجعد غير مَحْمُود. فِي وَجه المَال تعرف إمرته. خير مارد فِي أهل وَمَال. جَاءَ بالهيل والهيلمان. لفُلَان كحل، وَمثله: وَلفُلَان سَواد. حَسبك من غنى شبع ورى. الْغنى طَوِيل الذيل مياس. سوء حمل الْفَاقَة يضع من الشّرف. الْمَسْأَلَة آخر كسب الرجل.(6/167)
الْخلَّة تَدْعُو إِلَى السلَّة. سَوَاء هُوَ والمعدوم والعدم. رب مكثر مُسْتَقل لما فِي يَده. عر فقره بِفِيهِ، لَعَلَّه يلهيه. من قنع فنع، وَمن قنع شبع. إِن فِي المرتعة لكل كريم مقنعة. الصدْق ينبى عَنْك لَا الْوَعيد. من عرف بِالصّدقِ جَازَ كذبه. عِنْد النَّوَى يكذبك الصَّادِق. من عرف بِالْكَذِبِ لم يجز صدقه. إِن خَصْلَتَيْنِ خيرهما الْكَذِب لخصلتا سوء. لَيْسَ لمكذوب رَأْي. رَأْي الكذوب قد يصدق. قد قيل ذَلِك إِن حَقًا وَإِن كذبا. أكذب النَّفس إِذا حدثتها. لَا يدْرِي المكذوب كَيفَ يأتمر. الْحق أَبْلَج، وَالْبَاطِل لجلج. أبْغض حق أَخِيك. مَا يمعن بحقي وَلَا يذعن. إِذا طلبت الْبَاطِل انجح بك. قد اتخذ الْبَاطِل دغلاً.(6/168)
من خَاصم بِالْبَاطِلِ أنجح بِهِ. أَحمَق لَا يجأي مرغه. أَحمَق بلغ. معاداة الْعَاقِل، خير من مصادقة الْجَاهِل. زادك الله رعالة، كلما ازددت مثالة. خرقاء عيابة. إِن تَحت طريقتك لعِنْد أوة. مخرنبق لينباع. لَو كَانَ ذَا حِيلَة تحول. الْمَرْء يعجز لَا المحالة. لَا تَنْفَع حِيلَة مَعَ غيلَة. أمكراً وَأَنت فِي الْحَدِيد. مجاهرة إِذا لم أجد مختلاً. ترك الخداع من أجْرى من مَائه. إِن لم تغلب فاخلب. الْمعَافى لَيْسَ بمخدوع. أَي فَتى قَتله الدُّخان. لَو كَانَ ذَا حِيلَة تحول. إِذا نزل بك الشَّرّ فَاقْعُدْ بِهِ. الشَّرّ يبدوه صغاره. من شَرّ مَا أَلْقَاك أهلك.(6/169)
إِن من الشَّرّ خياراً. بعض الشَّرّ أَهْون من بعض. إِن حَسبك من شَرّ سَمَاعه. استقدمت رحالتك: يُقَال: للمتعجل إِلَى الشَّرّ. من نجل النَّاس نجلوه: أَي شارهم. الشَّرّ أَخبث مَا أوعيت من زَاد. حلقي وثوبي: يضْرب فِي الشَّرّ. ادْفَعْ الشَّرّ عَنْك بِعُود أَو عَمُود. لَيْسَ أَخُو الشَّرّ كمن توقاه. هُوَ يكايله الشَّرّ ويحاسيه الشَّرّ. سرق مَا بَينهم بشر. أترك الشَّرّ يتركك. أر غياً أزدد فِيهِ. رَأَيْته بأخي للشر: أَي بشر. وَمثله: رَأَيْته بأخي الْخَيْر. خَيرهَا بشرها وَخَيرهَا بخيرها. ادْفَعْ الشَّرّ عَنْك بِمثلِهِ إِذا أعياك غَيره. الظُّلم مرتعه وخيم. من أشبه أَبَاهُ فَمَا ظلم. الشحيح أعذر من الظَّالِم. هَذِه بِتِلْكَ والبادي أظلم. لعالك عَالِيا.(6/170)
تعساً لِلْيَدَيْنِ والفم. مَاله أحَال وأجرب. عقرا حلقا. اللَّهُمَّ غيظاً لَا هبطاً. هنئت فَلَا تنكه. رب سامع عذرتي لم يسمع قفوتي. رب سامع بخبري لم يسمع عُذْري: لَعَلَّ لَهُ عذر وَأَنت تلومه. ترك الذَّنب أيسر من الِاعْتِذَار. المعاذير مكاذب. أعذر من أنذر. قد بلغ فلَان فِي الْعلم أطوريه. الْعَالم كالحمة يَأْتِيهَا الْبعدَاء، ويزهد فِيهَا الْقُرَبَاء. إِذا زل الْعَالم زل بزلته الْعَالم. علمَان خير من علم. الرَّأْي الدُّرِّي. رَأْي فاتر وغدر حَاضر. قد أحزم لَو أعزم.
الْأَمْثَال فِي النّوم والفلك والطب والمنية والدواهي
آلف من الْحمى. أحر من القرع. أطب من ابْن حذيم. وَيُقَال جد لم.(6/171)
الْحمى أضرعتني لَك. إِنِّي إِذا حككت قرحَة أدميتها. غُدَّة كَغُدَّة الْبَعِير، وَمَوْت فِي بَيت سَلُولِيَّة. مَا بِهِ قلبة. مَا بِهِ ظبظاب. عوير وكسير وكل غير خير. مَا هُوَ إِلَّا شَرق أَو غرق. أضَاف حَتَّى مَا يشتكي السواف. لَا يعْدم مَانع عِلّة. كَانَ مثل الذبْحَة على النَّحْر. حَال الجريض دون القريض. أغبيط أم عَارض. لَو كَانَ درءاً لم تئل. لَا عِلّة، هَذِه أوتاد وأخلة، وفهرنا فِي الْحلَّة. أرق على ظلعك. آخر الدَّاء الكي. يَا طَبِيب طب لنَفسك، وطب أَيْضا. الْقَوْم طبون، وَقرب طب. قرب طِبًّا. بقطيه بطبك. إِن دَوَاء الفتق أَن تحوصه.(6/172)
دمث لجنبك قبل النّوم مضجعاً. مطله مطل نُعَاس الْكَلْب. يَأْكُل وسطا ويربض حجرَة. نَام نومَة عبود. ظلت على فراشها تكري وَيُقَال تكري. لَا ينَام من أثير. المنايا على الحوايا. لم يفت من لم يمت. الثكل أرامها ولدا. لَا أفعل ذَلِك مَا حَيّ حَيّ، أَو مَاتَ ميت. الْمنية وَلَا الدنية. الْمَوْت الْأَحْمَر. لَا عتاب بعد الْمَوْت. لَا يملك الخائن حِينه. الْمَوْت السجيح خير من الْحَيَاة الذميمة. العقوق ثكل من لم يثكل. ولى الثكل بنت غَيْرك. إِنَّه لداهية الغبر. إِنَّه لعضلة من العضل. جَاءَ بالداهية الدهياء. جَاءَ بِالرَّقْمِ الرقماء.(6/173)
جَاءَ بِأم الربيق على أريق. جَاءَ بِإِحْدَى بَنَات الطَّرِيق. جَاءَ بمطفئة الرضف. صمي صمام. وصمي ابْنة الْجَبَل أَيْضا. إِن الدَّوَاهِي فِي الْآفَاق تهترش، وَيُقَال: ترتهس. إِن الخصاص يرى فِي جَوْفه الرقم.
الْأَمْثَال الْأَفْرَاد
إِلَّا ده فَلَا ده. ضرب أَخْمَاسًا لأسداس. ويل للشجي من الخلي. خُذ مَا طف واستطف. مَا يدْرِي قبيلاً من دبير. سمن فأرن. عَاد الحيس يحاس. هما صوعان فِي إِنَاء. اعْتبر السّفر بأوله. سَوَاء لِوَاء، وَقَالَ بَعضهم: سواهُ لواه. لأقيمن قذلك ولأقيمن حدلك. اذكر غَائِبا يقترب. هَذِه بِتِلْكَ فَهَل جزيتك.(6/174)
الحفائظ تحلل الأحقاد. ملكت فاسجح. الْمقدرَة تذْهب الحفيظة. لَوْلَا الوئام هلك اللئام. من يبغ فِي الدّين يصلف. استكرمت فاربط. أَنا غريرك من هَذَا الْأَمر. على الْخَبِير سَقَطت. عاط بِغَيْر أنواط. خُذ الْأَمر بقوابله. الملسى لَا عُهْدَة لَهُ. إِن السَّلامَة مِنْهَا ترك مَا فِيهَا. افْعَل كَذَا وخلاك ذمّ. صيدك لَا تحرمه. رب عجلة تهب ريثاً. النجاح مَعَ الشُّرَّاح. قد نفخت لَو كنت تنفخ فِي فَحم. إِن كنت تشد بِي أزرك فأرخه. رضيت من الْغَنِيمَة بالإياب. الْحَرِيص يصيدك لَا الْجواد. جَاءَ فلَان وَقد لفظ لجامه.(6/175)
سرق السَّارِق فانتحر. ذل لَو أجد ناصراً. يعود على الْمَرْء مَا يأتمر. جانيك من يجني عَلَيْك. أَنا مِنْهُ فالج بن خلاوة. وجدت النَّاس أخبر نَقله. لَا ينفعنك من جَار سوء توق. أَنْت تئق وَأَنا مئق، فَمَتَى نتفق؟ . عَادَة السوء شَرّ من للمغرم. همك مَا همك وَيُقَال: همك مَا أهمك. مَا أباليه عبكة. يَكْفِيك نصيبك شح الْقَوْم. الْمَرْء تواق إِلَى مالم ينل. خلاؤك أقنى لحيائك. تسْقط بِهِ النَّصِيحَة على الظنة. لَا بقيا للحمية بعد الحرائم. إِنَّه لنكد الحظيرة. رهباك خير من رغباك. دردب لما عضه الثقاف. أَنْت مرّة عَيْش وَمرَّة جَيش. يَا حبذا التراث لَوْلَا الذلة.(6/176)
لأمدن غضنك. قد بدا نجيث الْقَوْم. لَا يحسن التَّعْرِيض إِلَّا ثلباً. سَفِيه لم يجد مسافهاً. من قل ذل، وَمن أَمر فل. فلَان ألوى بعيد المستمر. من حفنا أَو رفنا فليقتصد. قد ألنا وإيل علينا. إرض من الْمركب بِالتَّعْلِيقِ. أجر الْأُمُور على أذلالها. مَا فِيهَا صافر. كَأَنَّهُمْ جن عبقر. قَالَ فلَان قولا مَا مؤس الْبَحْر. غَمَرَات ثمَّ ينجلين. ضربك بالفطيس خير من المطرقة. صغراها مراها. مصى مصيصاً. يُقَال لمن يُؤمن بالتثبت والتوقر.(6/177)
الْبَاب الْخَامِس النُّجُوم والأنواء ومنازل الْقَمَر على مَذْهَب الْعَرَب
نذْكر أَولا فِي هَذَا الْبَاب منَازِل الْقَمَر وَمَا قَالَت الْعَرَب فِيهَا، وَفِي نزُول الْقَمَر بهَا أَو مصورة عَنْهَا، وطلوع كل واحدٍ وَسُقُوط رقيبه مِنْهَا، ثمَّ نذْكر الصُّور والبروج، والصور خَاصَّة، وعَلى مَوْضِعه من بروجه الَّذِي هُوَ فِيهِ من فلك البروج عَامَّة بعون الله تَعَالَى. فَأَما الْمنَازل وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نجماً الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزبانيان والإكليل وَالْقلب والشولة والنعائم والبلدة وَسعد الذَّابِح وَسعد بلع وَسعد السُّعُود وَسعد الأخبية وَفرغ الدَّلْو الْمُقدم، وَفرغ الدَّلْو الْمُؤخر، وبطن الْحُوت. قَالَت الْعَرَب فِي أسجاعها عِنْد طُلُوع كل نجم، إِذا طلع الشرطان، أَلْقَت الْإِبِل أوبارها فِي الأعطان، ويوشك أَن يشْتَد حر الزَّمَان. ثمَّ البطين فَقَالَت: إِذا طلع البطين، طلعت الأَرْض بِكُل زين، وَحسنت فِي كل عين. ثمَّ الثريا - وَهُوَ النَّجْم - إِذا طلع النَّجْم، فالبرد فِي هدم، والعانات فِي كَدم، والفلاحون فِي ضجم، والقيظ فِي حذم، وَالْبرد فِي حطم، والعشب فِي صلم.(6/178)
ثمَّ الدبران، إِذا طلع الدبران توقدت الحزان، وأخمدت النيرَان. وَبَات الْفَقِير بِكُل مَكَان. ثمَّ الهقعة: إِذا طلعت الهقعة، انْتقل النَّاس للقلعة. ثمَّ الهنعة، إِذا طلعت الهنعة طلب النَّاس النجعة، وأحبوا إِلَى الوليف الرّجْعَة. ثمَّ الذِّرَاع: إِذا طلعت الذِّرَاع، حسرت الشَّمْس القناع، وأشعلت فِي الْأُفق الشعاع، وترقرق السراب بِكُل قاع. النثرة إِذا طلعت النثرة، الْتقط البلح بِكَثْرَة، وأصابك من القر خضرَة، ويوشك أَن تظهر الخضرة. ثمَّ الطرفة: إِذا طلعت الطرفة، حسنت السعفة، وَصَارَ التَّمْر تحفة. ثمَّ الْجَبْهَة، إِذا طلعت الْجَبْهَة أرطبت النَّخْلَة، وَحسن النّخل حمله. ثمَّ الزبرة وَهِي الخراتان إِذا طلعت الزبرة أرطبت البسرة وَإِذا طلعت الخراتان طابت أم الجرذان، وتزينت القنوان. ثمَّ الصرفة، إِذا طلعت الصرفة احتال كل ذِي حِرْفَة، وَرَأَيْت الطير حفة، وفشت الخفة. ثمَّ العواء، إِذا طلع العواء لم يبْق فِي كرم جناء، واكتنس الظباء، وطاب الْهَوَاء، وَضرب الخباء، وَأمن على عوده الحرباء. ثمَّ السماك: إِذا طلع السماك ولت العكاك فأجل حراك، وَأصْلح خباك، وَصوب فناك، فكأنك بالفرقد أَتَاك. ثمَّ الغفر: إِذا طلع الغفر، حسن فِي عين النَّاظر الْجَمْر، وطاب التَّمْر، وَذهب الْبَصَر، وأتى من الْبرد السّفر. ثمَّ الزبانيان إِذا طلعت الزباني فاطلب مَا يَكْفِيك زَمَانا، واستعد لشتائك وَلَا تواني.(6/179)
ثمَّ الإكليل: إِذا طلع الإكليل، هَاجَتْ الفحول، ووفى كل خَلِيل، واستبان على أهليه الْكثير والقليل. ثمَّ الْقلب: إِذا طلع الْقلب. جَاءَ الشتَاء كَالْكَلْبِ، وَوَقع الثَّلج كالثرب وطلع على النسْر كالركب، وانحجر من الْبرد الضَّب. ثمَّ الشولة إِذا طلعت الشولة، أَتَاك الشتَاء بصولة، وَخرج النَّحْل، وللطير عَلَيْهِنَّ دولة. ثمَّ النعائم: إِذا طلعت النعائم، التطت الْبَهَائِم من الصقيع الدَّائِم، وخلص الْبرد إِلَى كل نَائِم. ثمَّ الْبَلدة: إِذا طلعت الْبَلدة، أصَاب النَّاس من الْبرد شدَّة، وفشت الرعدة وأكلت القشدة، وَقيل للبرد: اهده. ثمَّ سعد الذَّابِح، إِذا طلع سعد الذَّابِح، انحجزت الضوابح، وَلم تهر النوابح، من الْبرد البارح، وأورى عوده كل قَادِح. ثمَّ سعد بلع، إِذا طلع سعد بلع، شيع الْعَاجِز الهبع، وطاب الوقع، وهيئت الرّبع، وكأنك بالبرد قد انقشع. ثمَّ سعد السُّعُود: إِذا طلع سعد السُّعُود، ذاب كل مجمود، وخضر كل عود، وَوقى كل مصرود، وانتشر كل مَوْلُود، وَكره عِنْد النَّار الْقعُود. ثمَّ سعد الأخبية: إِذا طلع سعد الأخبية طابت الأفنية، وَقصرت الْأَبْنِيَة وزقت الأسقية، وانتشرت الأخبية. ثمَّ فرغ الدَّلْو الْمُقدم: إِذا طلع الدَّلْو، شيع الضَّعِيف الْخُلُو، وهيب الجزو، وَمن القيظ بعض الشبو. ثمَّ فرغ الدَّلْو الْمُؤخر: إِذا طلع الفرغ، طلب الْكَلْب الوغل، وشبع الْفَحْل فَلم يرع. ثمَّ الْحُوت وَهُوَ السَّمَكَة: إِذا طلعت السَّمَكَة، وتعلقت بِالثَّوْبِ الحسكة، نصبت الشبكة، وطاب الزَّمَان للنسكة.(6/180)
وَقَالُوا: أَيْضا: طلع النَّجْم عشَاء، ابْتغى الرَّاعِي كسَاء. يُرِيدُونَ طُلُوع الثريا بالعشيات وَذَلِكَ عِنْد اشتداد الْبرد. وطلع النَّجْم غدية، ابْتغى الرَّاعِي شكية. يُرِيدُونَ شكوة يحمل فِيهَا المَاء لشدَّة الْحر. وَجعلُوا السّنة أَرْبَعَة أَجزَاء. فَجعلُوا الزَّمن الأول الصفرية. وَسموا مطره الوسمي وحصته من السّنة وَاحِد وَتسْعُونَ يَوْمًا، وَجعلُوا حِصَّته من النُّجُوم سَبْعَة أنجم تسْقط مَعَ الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس بَين كل نجمين ثَلَاثَة عشر يَوْمًا، فَأول الصفرية وَهُوَ أول الوسمي سُقُوط أول نجومه، وَهِي عرقوة الدَّلْو السُّفْلى وَهُوَ الفرغ الْأَسْفَل. والحوت والشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة، وَسُقُوط عرقوة الدَّلْو السُّفْلى يكون لعشر يمضين من أيلول، وَيَسْتَوِي اللَّيْل وَالنَّهَار بعد ذَلِك بِأَرْبَع عشر لَيْلَة وَهُوَ فصل، وَسُقُوط كل نجم أَن ينظر إِلَيْهِ النَّاظر مَعَ طُلُوع الْفجْر إِذا قيد فرسه من تَحت بَطنهَا فِي الْأُفق مِمَّا يَلِي الْمغرب وَكلما سقط نجم طلع نَظِيره من الْمشرق وَلَا يرين الطالع عِنْد سُقُوط السَّاقِط لِأَنَّهُ قريب من الشَّمْس، فيفضحه ضوء النَّهَار، ونوء كل نجم مَا بعده إِلَى سُقُوط النَّجْم الَّذِي يَلِيهِ، فَإِذا تمّ سُقُوطهَا انْقَطع مطر الوسمي. وَجعلُوا الزَّمن الثَّانِي الشتَاء وحصته من السّنة أحد وَتسْعُونَ يَوْمًا بِسُقُوط أول نجومه الهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة، فسقوط الهنعة يكون لعشر لَيَال تمْضِي من كانون فَعِنْدَ ذَلِك تسْقط الهنعة وَيَنْتَهِي طول اللَّيْل وَقصر النَّهَار بعد ذَلِك بِإِحْدَى عشرَة، فَإِذا سَقَطت الصرفة قَالُوا: انْصَرف الشتَاء، فَعِنْدَ ذَلِك يَنْقَطِع الشتَاء، وَمِنْهُم من يُسمى الشتَاء ربيعا. ثمَّ جعلُوا الزَّمن الثَّالِث الصَّيف وَهُوَ زمن الرّبيع وحصته من السّنة إِحْدَى وَتسْعُونَ يَوْمًا وَهُوَ فِي آذار قَالُوا: إِذا مضى عشر من آذار، برد مَاء الْآبَار، وتصرم الثِّمَار، وصور النَّحْل الْآبَار، واشتهى الْغُلَام الْإِزَار، وشدت على المطايا(6/181)
الأكوار، واستوى اللَّيْل وَالنَّهَار وحصته من النُّجُوم العواء والسماك والغفر والزبانيان والإكليل وَالْقلب والشولة، فسقوط العواء فِي أحد عشر يَوْمًا من آزَار وَيَسْتَوِي اللَّيْل وَالنَّهَار بعد ذَلِك بِإِحْدَى عشرَة لَيْلَة فَإِذا تمّ سُقُوط هَذِه انْقَضى مطر الصَّيف وَذَلِكَ عِنْد طُلُوع الثريا. وَجعلُوا الزَّمن الرَّابِع القيظ وَيُسمى مطر الخريف وحصته من السّنة إِحْدَى وَتسْعُونَ يَوْمًا، بِسُقُوط أول نجومه وَذَلِكَ لعشر تمْضِي من حزيران ونجومه النعائم والبلدة وَسعد الذَّابِح وَسعد بلع وَسعد السُّعُود وَسعد الأخبية وعرقوة الدَّلْو الْعليا وَهِي الفرغ الْمُقدم فَإِذا تمّ سُقُوطهَا انْقَطع مطر الخريف وزمان القيظ وَعَاد زمَان الصُّفْرَة. فَذَلِك أَرْبَعَة أزمنة عَددهَا ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ يَوْمًا وَيُزَاد فِيهَا يَوْم الْجَبْهَة حَتَّى يتم الْعدَد بثلاثمائة وَخمْس وَسِتِّينَ يَوْمًا وَيصِح كل زمن فِي وقته. وَمن الْعَرَب من جعل السّنة سِتَّة أَجزَاء، فَجعل الزَّمَان الأول الوسمي وَجعل حِصَّته من السّنة شَهْرَيْن وحصته من النُّجُوم أَرْبَعَة أنجم وثلثي نجم. وَجعل الزَّمن الثَّانِي الشتَاء، وَجعل حِصَّته من السّنة شَهْرَيْن وَمن النُّجُوم أَرْبَعَة أنجم وثلثي نجم. وَجعل الزَّمن الثَّالِث الرّبيع، وَجعل حِصَّته من السّنة شَهْرَيْن وَمن النُّجُوم أَرْبَعَة أنجم وثلثي نجم. وَجعل الزَّمن الرَّابِع الصَّيف وحصته من السّنة شَهْرَيْن وَمن النُّجُوم أَرْبَعَة أنجم وثلثي نجم. وَجعل الزَّمن الْخَامِس الْحَمِيم وَجعل حِصَّته من السّنة شَهْرَيْن وَمن النُّجُوم أَرْبَعَة أنجم وثلثي نجم. وَجعل الزَّمن السَّادِس الخريف وَجعل حِصَّته من السّنة شَهْرَيْن وَمن النُّجُوم أَرْبَعَة أنجم وثلثي نجم. ويكرهون أَن يكون ابْتِدَاء مطرهم بالشرطين وَيَخَافُونَ أَن يكون ذَلِك الْعَام جدباء، وَيَقُولُونَ: إِنَّه إِذا أَصَابَهُم فِي الشَّرْطَيْنِ مطير قَالُوا: تخَاف أَن يكون(6/182)
أحداجا من الأنواء. يسمونها الأنيسين وَيُقَال للْوَاحِد الأنيس وَيُقَال: هما كوكبان بَين يَدي شرطين وَسُقُوط الْجَبْهَة هُوَ أول الرّبيع، وَهُوَ انكسار الْبرد، وَظُهُور مظهر الدفء، وإنهاك العشب، ونتاج الْإِبِل، وتوليد الْغنم، وَحِينَئِذٍ ينتجون ويولدون ويحضنون. وَقَالَت امْرَأَة من الْعَرَب: لم أر كالربيع مضى، لم تقم عَلَيْهِ المآتم، وَيَقُولُونَ أَن القر فِي بطُون الْإِبِل، فَإِذا ذهب القر سحت الْإِبِل. قَالَ بَعضهم إِذا سَقَطت النثرة سرت الْإِبِل وَأَنت قبل ذَلِك باركة فِي أعطانها، وتلقى جلالها عَنْهَا ويؤمن هربه عل المَال، ويدب القراد ويطلع الضَّب رَأسه وينضر الشّجر لسخونة الأَرْض قبل أَن يظْهر الدفء. وَقَالُوا: كفا الشتَاء: الذراعان والنثرة، وَقَالُوا: لَا يورق الْعود حَتَّى تنوء الْجَبْهَة، فَإِذا أَنْت سَقَطت الْجَمْرَة الأولى، والجمرات ثَلَاث: فأولها: سُقُوط الْجَبْهَة لأَرْبَع عشرَة يمضين من شباط. وَالثَّانِي: مَعَ سُقُوط الزبرة لثمان وَعشْرين من شباط. وَالثَّالِثَة مَعَ سُقُوط الصرفة لثلاث عشرَة يمضين من آذار. وَفِي أول الجمرات مَعَ سُقُوط الْجَبْهَة ساخ الثرى وماذ المعرق، وأورق الْعود، وَاخْتلفت رُءُوس الْإِبِل فِي مباركها، ولفظت الأَرْض مَا فِيهَا من نبت، وتزعم الْعَرَب أَن نوء الْجَبْهَة أَعم الْمَطَر نفعا يصل مَا قبله وَمَا بعده. وَيُقَال: إِنَّه لم يمتلئ غَائِط قطّ من مَاء نوء الْجَبْهَة إِلَّا امْتَلَأَ عشباً. وَيَقُولُونَ عَن نوء الْجَبْهَة إِنَّه يظْهر كل ثرى كَانَ فِي بطن الأَرْض قبله وَأَنه إِذا اخلف نوءها لم يتم ربيع ذَلِك الْعَام. وعقارب الشتَاء أَربع وَهِي الْبرد ينزل بِهن الْقَمَر فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من(6/183)
الشُّهُور الْعَرَبيَّة فِي ليَالِي الشتَاء وَقل مَا يخلفوا أَن يكون فِيهِنَّ فرقا ولهن للمجرة ينزل الْقَمَر الأول الْعَقْرَب وَلَيْلَة سِتّ وَعشْرين من الشَّهْر الْعَرَبِيّ وَهِي تشرين الآخر، ثمَّ الثَّانِيَة الْعَقْرَب الهزار بقارن الْقَمَر الْعَقْرَب لأَرْبَع وَعشْرين من شهر الْعَرَب وَذَلِكَ فِي كانون الأول ثمَّ الْعَقْرَب الجثوم الثَّالِثَة لاثْنَتَيْنِ وَعشْرين من شهر الْعَرَبِيّ وَذَلِكَ فِي كانون الآخر. ثمَّ عقرب الختران لَيْلَة عشْرين من شهر الْعَرَبِيّ فِي شباط، وَسميت الأولى المخرمة لِأَن الْقَمَر حِين يحلهَا وَلَا يخرج مِنْهَا حَتَّى يستسر. وَسميت الثَّانِيَة الهرار لموافقة طُلُوع الهرارين قلب الْعَقْرَب والنسر الْوَاقِع حِين يسريان فِي الْمشرق مَعَ طُلُوع الْفجْر، وَسميت الجثوم لشدَّة الشتَاء وجثومه، وَسميت الختران لنتاج الْإِبِل وَكَثْرَة الختران فِي ذَلِك الْوَقْت ثمَّ يقارن الْقَمَر الثريا بعد ذَلِك بِخمْس عشرَة لَيْلَة فَيكون لخامسة تمْضِي من الشَّهْر الْعَرَبِيّ وَفِيه قَالَ الشَّاعِر. إِذا مَا قَارن الْقَمَر الثريا ... لخامسةٍ فقد ذهب الشتَاء ثمَّ الشَّهْر الَّذِي بعد هَذَا من شهور الْعَرَب يقارن فِيهِ الثريا لثالثة وَيُقَال إِنَّهَا أغزر لَيْلَة فِي السّنة فِي كَثْرَة اللَّبن، وَذَلِكَ لِأَن الْإِبِل يتكامل نتاجها، وتجلب الحملان فِي ذَلِك الْوَقْت فتخلو ألبان الشتَاء لأَهْلهَا. وَقَالَ الشَّاعِر: إِذا مَا قَارن الْقَمَر الثريا ... لثالثةٍ فقد كثر السلاء. . ثمَّ يقارن الْقَمَر الثريا فِي الشَّهْر الثَّالِث مَعَ اسمراره، وَيُقَال عِنْد سُقُوط السماك يخَاف الناشرة. وَذَلِكَ لِأَن الْمَطَر يَنْقَطِع قبل سُقُوط السماك ثمَّ يكون مطره عِنْد سُقُوطه غير مُتَّصِل بِمَا كَانَ قبله، وَقد هَاجَتْ الأَرْض، وَذَهَبت الوغرات، فَإِذا أَصَابَهُ مطر نوء السماك نشر وَعَاد الْعود أَخْضَر، وَعَاد فِي أُصُوله الْوَرق، فَإِذا رعته الْمَاشِيَة، أدراها وضرها وأصابها عَنهُ دَاء يسمونه الهرار،(6/184)
وَقد جعلُوا لكل من كَانَ نجوماً، وَسموا سُقُوطهَا وطلوعها أنواء، فَجعلُوا السُّقُوط علما لنجوم الوسمي، والشتاء وَالربيع، وَهُوَ نصف السّنة وَحين الْبرد وَمَا قاربه من الَّذِي من قبله، وَمن بعده، وَجعلُوا الطُّلُوع علما لنجوم الصَّيف وَالْحَمِيم والخريف، وَمَا دنا مِنْهَا من لين الزَّمَان وَهُوَ نصف السّنة. قَالُوا: سُقُوط الفرغ للأسفل، هُوَ ذهَاب الْحر وَدخُول الْبرد، واستغناء عَن أَكثر سقى الْإِبِل، لِأَن الظمأ يطول وَإِنَّمَا يحْتَاج لِلْإِبِلِ فِي الشَّهْر إِلَى أَن ترد مرّة لَا تحْتَاج الْغنم إِلَى أَكثر من مرَّتَيْنِ فِي الشَّهْر وَإِن وَقعت الأمطار جرأت الْمَاشِيَة فَإِذا سقط فرغ الدَّلْو للأسفل عدوه طلع السماك الرامح وَلذَلِك قَالَ الشَّاعِر: حَتَّى رَأَيْت عراقي الدَّلْو سَاقِطَة ... وَذَا السِّلَاح مصوح الدَّلْو قد طلعا ورقيب الفرغ الأَسفل العواء السماك الرامح يطلع مَعَه، وَهُوَ يطلع قبل السماك الأعزل الَّذِي ينزل بِهِ الْقَمَر، وَأَرَادَ بقوله ذُو السِّلَاح، السماك الرامح، وَيَزْعُم أهل الشَّام أَن اسْتِوَاء اللَّيْل وَالنَّهَار فِي اسْتِقْبَال الشتَاء يكون فِي أيلول لست تبقى مِنْهُ، فِي ذَلِك الْيَوْم يطلع العواء وَيسْقط الدَّلْو وَبَينه الفرغ الْمُؤخر وَيعود إِلَى السُّقُوط وَيدعونَ مؤخره أَشد تقارباً لطلوع النَّجْم والدبران ثمَّ تسْقط الهنعة، ويطلع رقيبها النعائم لأربعة وَعشْرين يَوْمًا يمْضِي من كانون الأول فسقوطها عدوه هُوَ أول مطر الشتَاء وأنوائه. ثمَّ تسْقط الذِّرَاع ويطلع نظيرها البدرة لسبعة أَيَّام تمْضِي من كانون الآخر ونوءها خمس لَيَال وَقل مَا يخلف نوء الذِّرَاع، والذراع عِنْدهم ذِرَاع الْأسد والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء من الْأسد، فَمَا بَين العواء والذراع عِنْدهم من الْأسد، وَمِنْهُم من يَجْعَل السماك مِنْهُ ثمَّ يسْقط النثرة لعشرين تمْضِي من كانون الآخر ويطلع رقيبها سعد الذَّابِح ونوءها سبع لَيَال. قَالَ ذُو الرمة: مرن الضُّحى طاوٍ بني صهواتِه ... لزوايا غمام النثرة المترادف ثمَّ يسْقط الطّرف، ويطلع نَظِيره سعد بلع، ليومين يمضيان من الشباط(6/185)
ونوءه لست لَيَال، لِأَن الْجَبْهَة تقترن بِمَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا، ونوءها غزير طَوِيل مثل نوء الثريا، ثمَّ يسْقط الْجَبْهَة لخمسة عشر يَوْمًا من شباط، ويطلع رقيبها سعد السُّعُود، ونوءها سبع لَيَال، فَإِذا سَقَطت الْجَبْهَة انْكَسَرَ الشتَاء، وَولد النَّاس، واجتنى أَوَائِل الكمأة، وَسَقَطت الْجَمْرَة الأولى، ثمَّ تسْقط الزبرة ليَوْم تبقى من شباط ويطلع رقيبها سعد الأخبية، وَهِي الْجَمْرَة الْوُسْطَى، ومطرها ينْسب إِلَى الْجَبْهَة لقربها مِنْهَا، ونوءها أَربع لَيَال ثمَّ تسْقط الصرفة لثَلَاثَة عشر يَوْمًا تمْضِي من آزَار، ويطلع رقيبها فرغ الدَّلْو، ونوءه ثَلَاث لَيَال وَهُوَ آخر نُجُوم الشتَاء، وينصرف الشتَاء وتمضي نصف السّنة، وَفِي خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا من آذار يسْقط العواء ويطلع رقيبه فرغ الدَّلْو الْمُؤخر ونوءه ثَلَاث لَيَال، وَتخرج الشَّمْس من الْحُوت وَتدْخل الْحمل ثمَّ يجْرِي مصعده نَحْو الشمَال، وَيَسْتَوِي اللَّيْل وَالنَّهَار، وَقد مضى خطّ الوسمي والشتاء من السّنة ثمَّ يجِئ حد الصَّيف، فَإِذا طلع النطح وَهُوَ الشرطان كَانَ أول الصَّيف وَأول البوارح بِطُلُوع النُّجُوم لَا بسقوطها، وبارح كل نجم الطُّلُوع، ونوء العواء أَربع لَيَال وَهُوَ أول الوسمي، وَيسْقط الْحُوت لثمان يمضين من تشرين الأول، ويطلع رقيبه السماك الأعزل ونوءه لَيْلَة، ونوء الْحُوت لَيْسَ نوءه بغزير وَلَا مشهود وَلَا يكَاد الْعَرَب تذكره فِي كَلَامهَا وَلَا أشعارها، وَذَلِكَ أَنه نوء قصير عِنْدهم لَا مطر فِيهِ، ونوء الدَّلْو غزير طَوِيل فَهُوَ يغترف نوء الْحُوت فَلَا يكَاد يذكر، ثمَّ يسْقط الشرطان، وَهُوَ النطح ويطلع رقيبة الغفر فِي أحد وَعشْرين يَوْمًا من تشرين الأول، وَهُوَ عِنْد الْعَرَب أغزر من الْحُوت. وهم لَهُ أذكر ومطره بِإِذن الله من أَنْفَع الْمَطَر لِأَنَّهُ خير ولي للدلو، لَا يجِف ثرى الدَّلْو حَتَّى يكون السرطان لَهُ وليا، لِأَنَّهُ ينوء حِين تحْتَاج الأَرْض إِلَى الْمَطَر. قَالَ ذُو الرمة: حواءُ قرحاءُ أشراطية وكفت ثمَّ يسْقط البطين غدْوَة، ويطلع رقيبة الزبانيان لثلاث يمضين من تشرين(6/186)
الآخر، وَهُوَ عِنْدهم شَرّ الأنواء يكْرهُونَ الْمَطَر فِيهِ لِأَنَّهُ نزر قَلِيل، وَقل مَا أَصَابَهُم إِلَّا أخطأهم نوء الثريا، ونوءها أشرف الأنواء وأغزرها وهم لَا يذكرُونَ نوء البطين فِي شعر وَلَا غَيره. ثمَّ يسْقط الثريا وَهِي النَّجْم فيعترض فِي الْأُفق سبعا فِي سِتّ عشرَة يَوْمًا تمْضِي من تشرين الآخر، ونوءه سَبْعَة أَيَّام ويطلع رقيبها الإكليل، ونوء الثريا أحب الأنواء إِلَى الْعَرَب لِأَنَّهَا تنوء وَقد دخلُوا فِي الْبرد، فَإِذا أَصَابَهُم نوءها، برقتْ الأَرْض سنتها فَإِذا جادهم وثقوا بالحيا بِإِذن الله، فَإِذا أخطأهم فَهِيَ السّنة والقحط، إِلَّا أَن يكثر مطر الْجَبْهَة، ثمَّ يسْقط الدبران ويطلع رقيبه الْقلب لتسعة وَعشْرين يَوْم من تشرين الآخر، ويطلع مَعَ النسْر الْوَاقِع، وَتسَمى الْعَرَب قلب الْعَقْرَب والنسر الْوَاقِع إِذا طلعا الهرارين وَلَيْسَ سُقُوط الدبران وطلوع قلب الْعَقْرَب النوء، وَلَا غرر، لِأَن نوء الثريا يفْتَرق مَا قبله وَمَا بعده، وَيُقَال أَن لَيْسَ فِي السَّمَاء نجماً مِمَّا ينزل بِهِ الْقَمَر ثَلَاثَة عشر يَوْمًا، إِلَى أَن يطلع الَّذِي بعده، وَذَلِكَ مَا كَانَ لَهُ بارح من منَازِل الْقَمَر فقد يكون البارح لغير الْمنَازل، فَيكون بارحه بِقدر مَا بَينه وَبَين الَّذِي يتلوه من الْكَوَاكِب، فطلوع الشَّرْطَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة تتبقى من نيسان، وَيسْقط الغفر ثمَّ يطلع البطين ليَوْم يمْضِي من آيار، وَيسْقط الزبانيان، ثمَّ يطلع النَّجْم وَهُوَ الثريا، فَأول البوارح بارح الثريا، وَهُوَ أقلهَا بارحاً، وبارحه لين، وَرُبمَا سكن وابتداؤه الْيَوْم الرَّابِع عشر من آيار وَمَعَهُ يطلع العيوق، فَيكون بارحه ثَلَاثَة عشر يَوْمًا، ويهيج الْعود وَيسْقط رقيبه الإكليل، ثمَّ يطلع الدبران الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين من آيار، وبارحه أَشد من بارح النَّجْم وَاضع وَهُوَ بارح طيب لَا يشْتَد فِيهِ الشمَال وَلَا الحرور، وَيسْقط رقيبه الْقلب ثمَّ يطلع الهقعة وَهُوَ أول جوزاء عِنْد الْعَرَب لعشر يمْضِي من حزيران، وَيسْقط رقيبها الشولة وَيسْتر بارحها، وَهُوَ أول بارح فِي الجوزاء، وَفِيه يُؤْكَل البلح، وَيدْرك بعض الْفَوَاكِه، ثمَّ يطلع الهنعة وَهِي آخر الجوزاء لثمان تبقى من حزيران وَهُوَ أَشد ريحًا وحروراً وسموماً، وَيسْقط رقيبها النعائم وَهُوَ أول مَا يرى الْأَحْمَر والأصفر من النسْر وَتحرق الرمضاء. قَالَ ذُو الرمة:(6/187)
حدا بارح الجوزاء أعراف مورِه ... بِهِ وعجاج الْعَقْرَب المتناوح يَجْعَل البارح للجوزاء وَجعل العجاج للعقرب وَإِذا استتم طُلُوع الجوزاء وَاشْتَدَّ الْحر وأوردوا إبلهم قَالُوا لِلرَّاعِي: صر شطور إبلك لَا توردها بهلاً يَقُول: حَتَّى تجود بهَا لَبَنًا. فيصر خلفين من أخلاف النَّاقة، وَيتْرك اثْنَيْنِ للفصيل. فَإِذا طلعت الشعرى قيل لِلرَّاعِي: ثلث فيصر ثَلَاثَة أخلاف، فَإِذا طلع السهيل قيل لِلرَّاعِي: اجْمَعْ. فيصر أخلافها كلهَا فَلذَلِك قَالُوا: " إِذا طلع سُهَيْل فلأم الفصيل الويل " وَإِنَّمَا الويل للفصيل لأَنهم يصرون أخلاف النَّاقة كلهَا. وَإِذا طلعت الجوزاء ترقدت المعزاء وكنست الظباء فَلَا تزَال تقيل فِي مكانسها حَتَّى تطلع الْعذرَة، وطلوعها بَين طُلُوع الشعرى وطلوع السهيل، ثمَّ تطلع الشعرى الغميصاء وَهِي الذِّرَاع، وطلوعها لخمس تمضين من تموز وَذَلِكَ أَشد بوارح القيظ سموماً، وَفِيه أول إِدْرَاك الْبُسْر، وَيسْقط رقيبها الْبَلدة، وَيسْقط النسْر وَالْوَاقِع وَهِي أَشد الوغرات وَهِي الَّتِي يغطس فِيهَا الْإِنْسَان بَين الْبِئْر والحوض، وَعِنْدهَا أَو بعيدها قَلِيلا بسط المجرة وَقَالُوا: جنى النّخل بكرَة، وَلم تتْرك ذَات در قَطْرَة ثمَّ طلع النثرة والشعرى والعبور لثماني عشرَة من تموز وَذَلِكَ أَشد مَا يكون من الْحر التهاباً، والشعرى لَيْسَ لَهَا نوء فِي الْمَطَر ووغرتها مثل وغرة جوزاء، وَيسْقط رقيبها سعد الذَّابِح ثمَّ يسْقط الطّرف لثلاث يمضين من آب، وتطلع مَعهَا الغدرة فِي تِلْكَ الْغَدَاة وَيَا ريَاح وغلة وحر شَدِيد، وَعند ذَلِك تُؤْكَل الرطب وَيسْقط رقيبها سعد بلع. وَقَالَت الْعَرَب: إِذا طلعت الغدرة، فعلة نكرَة، فِي بِلَاد الْبَصْرَة. ثمَّ تطلع الْجَبْهَة لست عشرَة تمْضِي من آب ويومئذ يرثى أهل الْحجاز سهيلاً، وفيهَا بارح وحرور، وَيكثر الرطب وَيسْقط رقيبها سعد السُّعُود. وَسَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا من آب يرى أهل الْبَصْرَة سهيلاً، وَسُهيْل الْجَبْهَة(6/188)
يطلعان فِي يَوْم وَاحِد، وَقَالُوا: إِذا طلع سُهَيْل رفع كيل، وَوضع كيل، ولاح للفصيل الويل. يَقُولُونَ يرفع كيل الْحبّ، وَيُوضَع كيل الزَّبِيب وَالتَّمْر، ويفصل الفصيل غَرَامَة. وَعند طُلُوع سُهَيْل، يُقَال: يَا آل سُهَيْل فِي الأوعية، لِأَنَّهُ يفْسد كثيرا مِمَّا يتخذونه من الْأَشْرِبَة والمري والكواميخ وَأكْثر ذَلِك أَن يطيب لَيْلَة، فَعِنْدَ ذَلِك يُقَال: برد مَاء الخرقاء، وَذَلِكَ أَن المَاء يبرد من غير مبرد للْمَاء، وَمَاء الخرقاء الَّتِي لَا تبرد بمنزله. قَالَ الشَّاعِر: إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرةٍ ... سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب وَالْعرب تَسْتَغْنِي بِذكر سُهَيْل عَن ذكر الْجَبْهَة فَلَا يذكرونها فِي أشعارهم، ثمَّ تطلع الزبرة وَهِي الخراتان، ويبرد اللَّيْل لسبعة وَعشْرين يَوْمًا من آب ويستقل سيهل وَيسْقط رقيبها سعد الأخبية. ثمَّ يطلع الصرفة لعشر تمضين من أيلول، وَيُقَال: إِذا طلعت الصرفة انْصَرف القيظ، فند ذَلِك ابْتِدَاء السّنة وَدخُول الصفرية، وَيسْقط رقيبها فرغ الدَّلْو الْأَعْلَى ثمَّ يطلع العواء لثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا يمضين من أيلول، وَيسْقط رقيبه فرغ الدَّلْو الْأَسْفَل، ثمَّ يطلع السماك لست تمْضِي من تشرين الأول، وَيسْقط رقيبه بطن الْحُوت، فَعِنْدَ ذَلِك يصرم النّخل وَلَيْسَ من هَذِه الوغرات وغرة إِلَّا وَلها بارح فَإِن اشْتَدَّ هَانَتْ، وَإِن هان اشتدت فاستحقاق البوارح والوغرات من طُلُوع النَّجْم إِلَى أَن تنام الجوزاء، وَذَلِكَ إِلَى استتمام طُلُوع الهنعة، ثمَّ يطلع الغفر لسبعة عشر يَوْمًا تمْضِي من تشرين الأول، وَيسْقط رقيبه الشرطان ثمَّ يطلع الزبانيان ليومين يمضيان من تشرين الآخر، وَيسْقط رقيبها البطين ثمَّ يطلع الإكليل لخمسة عشر يَوْمًا من تشرين الآخر، وَيسْقط رقيبه النَّجْم، ثمَّ يطلع الْقلب لثمانية وَعشْرين(6/189)
يَوْمًا تمْضِي من تشرين الآخر وَيسْقط رقيبه الدبران، ويطلع النسْر الْوَاقِع، ثمَّ يطلع الشولة الْيَوْم التَّاسِع من كانون الأول، وَيسْقط رقيبها الذِّرَاع، ثمَّ يطلع سعد الذَّابِح لثمانية أَيَّام تمْضِي من كانون الآخر، وَيسْقط رقيبها النثرة، ثمَّ يطلع سعد بلع لأحد وَعشْرين وَيَوْما من كانون الآخر، وَيسْقط رقيبه الْجَبْهَة، ثمَّ يطلع سعد الأخبية لخمسة عشر يَوْمًا تمْضِي من شباط، وَيسْقط رقيبه الزبرة، ثمَّ يطلع فرغ الدَّلْو الْمُقدم ليَوْم تبقى من شباط، وَيسْقط رقيبه الصرفة. ثمَّ يطلع فرغ الدَّلْو الْمُؤخر لإحدى عشرَة يَوْمًا تمْضِي من آزَار، وَيسْقط رقيبه العواء، ثمَّ يطلع الْحُوت لأربعة وَعشْرين يَوْمًا تمْضِي من آذار، ويطلع رقيبه السماك. وَأول منَازِل الْقَمَر: الشرطان وَيَقُولُونَ هما قرنا الْحمل، وهما كوكبان مفترقان عِنْد الْأَعْلَى، الشَّامي مِنْهُمَا كَوْكَب صَغِير، وتسميان أَيْضا النطح وهما عَن يَمِين المدقق ويدعيان أَيْضا الإنسانين ولسقوطهما بِالْغَدَاةِ نوء لَيْلَة، ولطلوعهما بالغداه بارح لَيْلَة وَالله أعلم. ثمَّ ينزل بالبطين وَهُوَ بطن الْحمل، وَهُوَ ثَلَاثَة كواكب صغَار متفرقات غير نيرات وَهِي عَن يَمِين الْمنْكب، ولسقوطهما نوء ثَلَاثَة لَيَال، ولطلوعهما بارح ثَلَاث لَيَال. ثمَّ ينزل بِالثُّرَيَّا وَهِي سِتَّة كواكب مجتمعات طمس على حلقه إلية الشَّاة، ونوءها سبع لَيَال وبارحها أَربع ليل، ثمَّ ينزل بالدبران وَيُسمى التَّابِع والمجدح ويسميه بعض الْعَرَب الضيقة وَهُوَ كَوْكَب أَحْمَر نير، وَيُسمى الْكَوَاكِب الصغار الَّتِي مَعَ القلائص نوء لَيْلَة، وبارحة لَيْلَة وَهُوَ أول بوارح الصَّيف وَيقصر الْقَمَر أَحْيَانًا فَينزل بالضيقة وَهِي بَين النَّجْم والدبران كوكبان صغيران متقاربان كالملتصقين وَقد قَالَ الشَّاعِر: بضيقةِ بَين النجمِ والدبرانِ(6/190)
ثمَّ ينزل بالهقعة وَهِي رَأس الجوزاء وَتسَمى تحياه وَهِي ثَلَاثَة كواكب مُتَقَارِبَة، كَمَا تنكت فِي الأَرْض بالإبهام والسبابة الْوُسْطَى مَضْمُومَة، ونوءها ثَلَاث لَيَال وبارحها لَيْلَة. ثمَّ ينزل بالهنعة وَهِي فِي المجرة وَبَينهمَا وَبَين الذِّرَاع المقبوضة وهما كوكبان مقترنان، وَعِنْدَهُمَا يقطع الْقَمَر المجرة شامياً ونوءها ثَلَاث لَيَال وبارحها لَيْلَة، ثمَّ ينزل بِذِرَاع الْأسد المقبوضة، وهما كوكبان نيران بنيهما كواكب صغَار يُقَال لَهَا الْأَظْفَار وَيبعد أَحْيَانًا فَينزل بالذراع المبسوطة وهما أَيْضا كوكبان أَحدهمَا نير يُقَال لَهَا الشعرى الغميصاء، وَالْآخر أَصْغَر مِنْهُ يمِيل إِلَى الْحمرَة يُقَال لَهُ المرزم وَهُوَ مرزم الذِّرَاع، ونوءها خمس لَيَال، وَعند ذَلِك يشْتَد الْبرد، وبارحها لَيْلَة وَعند طُلُوعهَا تشتد ريَاح الصَّيف وَيكثر الحرور والسموم، ثمَّ ينزل بالنثرة وَهِي فَم الْأسد ومنخراه وَهِي لطخة صَغِيرَة بَين كوكبين صغيرين وتدعى أَيْضا باللهاة، ولسقوطها نوء لَيْلَة ولطلوعها بارح لَيْلَة، وَهُوَ أَشد مَا يكون الْحر، ثمَّ ينزل بالطرف وهما كوكبان صغيران مفترقان، وهما عينا الْأسد وَقُدَّام الطّرف كواكب صغَار يُقَال لَهَا: الأشفار ونوءه سِتّ لَيَال وَفِيه تنق الضفادع، وتتزاوج الطير وتهب الجنائب، ولطلوعه بارح لَيْلَة، ثمَّ ينزل بالجبهة وَهِي كواكب أَرْبَعَة، وَهُوَ فِيهَا عوج أَحدهمَا براق وَهُوَ الْيَمَانِيّ مِنْهَا، ونوءها سبع لَيَال وَفِيه ينكسر حد الشتَاء، وتورق الشّجر، ويزقو المكاء، بارحها لَيْلَة وَسُهيْل يطلع بالحجاز مَعَ طُلُوع الْجَبْهَة ثمَّ ينزل بالخراتين وهما كوكبان نيران وهما زبرة الْأسد، واسقوطهما نوء ثَلَاث لَيَال وَيرى فِيهِ الْمَطَر فَإِن أخلف فبرد شَدِيد، ولطلوعهما بارح ثَلَاث لَيَال، وَيرى سُهَيْل بالعراق. ثمَّ ينزل بالصرفة وَهِي كَوْكَب أَزْهَر، عِنْده كواكب صغَار طمس وَيُسمى قنب الْأسد، ونوءها ثَلَاث لَيَال وَعند طُلُوعهَا، برد اللَّيْل كُله،(6/191)
ثمَّ ينزل بالعواء وَهِي خَمْسَة كواكب مصطفة كَأَنَّهَا كِتَابَة ألف وتدعى وركا الْأسد وَبَعْضهمْ يَقُول: كلاب تتبع الْأسد. ونوءها لَيْلَة وبارحها ثَلَاث لَيَال وَرُبمَا كَانَ مطر هَذَا البارح لِأَنَّهُ يُوَافق نوء الدَّلْو. ثمَّ ينزل السماك الأعزل وَهُوَ كَوْكَب أَزْهَر وَيُقَال، أحد ساقي الْأسد، والسماك الرامح السَّاق الْأُخْرَى، ويعدل أَحْيَانًا فَينزل بعجز الْأسد وَهِي أَرْبَعَة كواكب أَسْفَل العواء يَمَانِية وتدعى أَيْضا: عرش السماك، ولسقوط السماك نوء لَيْلَة، ولطلوعه بارح لَيْلَة ثمَّ ينزل بالغفر وَهُوَ ثَلَاثَة كواكب غير زهر، ثمَّ كوكبان مفترقان وهما قرنا الْعَقْرَب ويسميهما أهل الشَّام يدا الْعَقْرَب، ثمَّ ينزل بالإكليل وَهُوَ رَأس الْعَقْرَب وَهُوَ ثَلَاثَة كواكب مصطفة، ثمَّ ينزل بالشولة وَهِي ذَنْب الْعَقْرَب ويسميها أهل الشَّام الإمرة، وتقصر أَحْيَانًا فَينزل بالغفر مِمَّا بَين الْقلب والشولة، ثمَّ ينزل بالنعائم وَهِي ثَمَانِيَة كواكب زهر، مِنْهَا أَرْبَعَة وَارِد فِي المجرة، وَيُسمى النعام الْوَارِدَة وَأَرْبَعَة خَارِجَة مِنْهَا تدعى النعام الصادرة، ويدعى مَوضِع النعائم الْوَصْل، ثمَّ ينزل بالبلدة وَهِي رقْعَة فِيمَا بَين النعائم وَسعد الذَّابِح، مَوضِع قفر لَيْسَ فِيهِ كَوْكَب إِلَّا خَفِي، ويعدل الْقَمَر أَحْيَانًا فَينزل بالقلادة، وَهِي كواكب صغَار مستديرة خُفْيَة فَوق الْبَلدة، ثمَّ ينزل سعد الذَّابِح وَهُوَ كوكبان صغيران مقترنان أَحدهمَا مُرْتَفع فِي الشمَال والأخر هابط فِي الْجنُوب، عِنْد الْأَعْلَى مِنْهُمَا كَوْكَب صَغِير يُقَال هِيَ شاته الَّتِي يذبحها، وَبَين الكوكبين قدر ذِرَاع فِي الْعين وَكَذَلِكَ كل سعد فِي السُّعُود. ثمَّ ينزل بِسَعْد بلع، وهما كوكبان صغيران مستويان فِي المجرى. ثمَّ ينزل بِسَعْد السُّعُود وَهُوَ ثَلَاثَة كواكب أَحدهمَا أنور من الآخرين(6/192)
وَيقصر الْقَمَر أَحْيَانًا، فَينزل بِسَعْد بأثره، وهما كوكبان أَسْفَل من سعد السُّعُود، ثمَّ ينزل بِسَعْد الأخبية وَهُوَ أَرْبَعَة كواكب، وَاحِد مِنْهَا فِي وَسطهَا، ثمَّ ينزل بعرقوة الدَّلْو الْعليا، وَهِي كوكبان أزهران مفترقان يُقَال لَهما فرغا الخريف، ويدعيان ناهزى الدَّلْو المقدمين، والناهز الَّذِي يُحَرك الدَّلْو ليمتلئ، ثمَّ ينزل بعرقوة الدَّلْو السُّفْلى وَهِي كوكبان أزهران مفرقان وَيُقَال لَهما فرعا الرّبيع ويدعيان ناهزى الدَّلْو المؤخرين، ولسقوطهما بِالْغَدَاةِ نوء أَربع لَيَال، ولطلوعهما بِالْغَدَاةِ بارح لَيْلَة، وَيقصر الْقَمَر أَحْيَانًا فَينزل بالكرب، وَالْكرب الَّذِي فِي وسط الْعرَاق، وَرُبمَا نزل ببلدة الثَّعْلَب وَهِي بَين الدَّلْو والسمكة عَن يَمِين الْمرْفق ثمَّ ينزل بِبَطن السَّمَكَة وَهُوَ كَوْكَب أَزْهَر نير فِي وسط مِنْهَا مِمَّا يَلِي الرَّأْس، وَصُورَة السَّمَكَة عَن يَمِين الْمرْفق ثمَّ ينزل بِبَطن السَّمَكَة وَهُوَ كَوْكَب أَزْهَر نير فِي وسط مِنْهَا مِمَّا يَلِي الرَّأْس، وَصُورَة السَّمَكَة الَّتِي فِي المجرى على حَلقَة السَّمَكَة كواكب تنفرج فِي فَم السَّمَكَة فَلَا تزَال تتسع كالجبلين إِلَى وَسطهَا، ثمَّ لَا تزَال تنضم إِلَى ذنبها ويعدل الْقَمَر أَحْيَانًا فَينزل بالسمكة الصُّغْرَى وَهِي أعلاهما فِي الشمَال على مثل صورتهَا إِلَّا أَنَّهَا أعرض وأقصر، وَهِي تَحت نحر النَّاقة، وَلها نوء لَيْلَة عِنْد الْعَرَب ولطلوعها بِالْغَدَاةِ بارح لَيْلَة. قد ذكرنَا منَازِل الْقَمَر وَمَا قيل من الْعَرَب فِي الأنواء والبوارج والمنازل وَنَذْكُر الْآن صور الْكَوَاكِب على مَذْهَب المنجمين، وَنسب كل كَوْكَب عَرفته الْعَرَب إِلَى مَوْضِعه مِنْهَا بعون الله وتوفيقه. قَالُوا: إِن جَمِيع الْكَوَاكِب المرصودة سوى الصغار الَّتِي لم ترصد ألف وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ كوكباً سوى الصَّغِيرَة وَهِي ثَلَاثَة كواكب تجمعها ثَمَان وَأَرْبَعُونَ صُورَة، مِنْهَا فِي النّصْف الشمالي إِحْدَى وَعِشْرُونَ صُورَة وأسماؤها الدب الأَصغر، والدب الْأَكْبَر، كوكبة التنين، قيقاوس العواء الَّذِي يُقَال لَهُ الصياح، الإكليل الشمالي وَهُوَ الفكة، الجاثي على ركبته، الشلياق وَهُوَ النسْر الْوَاقِع، الطَّائِر وَهُوَ الدَّجَاجَة، ذَات الْكُرْسِيّ، برشاوش وَهُوَ حَامِل رَأس الغول، مُمْسك الأعنة، الحواء الَّذِي يمسك الْحَيَّة، حَيَّة الحواء، السهْم، الْعقَاب وَهُوَ النسْر الطَّائِر،(6/193)
الدلفين، قِطْعَة الْفرس الثَّانِي المسلسلة، المثلث كوكبة الْفرس الْأَعْظَم. وَعدد كواكب هَذِه الصُّورَة الَّتِي من نفس الصُّورَة ثَلَاثمِائَة وَوَاحِد وَعِشْرُونَ كوكباً، وَالَّتِي حوالي الصُّور تِسْعَة وَعِشْرُونَ كوكباً، وَمِنْهَا على فلك البروج اثْنَتَا عشرَة صُورَة وَهِي: الْحمل، والثور والتوأمان، والسرطان، والأسد، والعذراء، وَالْمِيزَان، وَالْعَقْرَب، والرامي والجدي، وساكب المَاء وَهُوَ الدَّلْو، والسمكتان وهما الْحُوت. وكواكبها من نفس الصُّور مِائَتَان وَتِسْعَة وَثَمَانُونَ كوكباً وحوالي الصُّور سَبْعَة وَخَمْسُونَ كوكباً سوى الضفيرة، وَمِنْهَا فِي النّصْف الجنوبي خمس عشرَة صُورَة وَهِي قيطس، والجبار وَهُوَ الجوزاء، النَّهر، الأرنب، الْكَلْب الْأَصْغَر، السَّفِينَة، الشجاع، الباطئة، الْغُرَاب، قيطورس، الضبع، المجمرة، الإكليل الجنوبي، الْحُوت الجنوبي وكواكبها مِائَتَا وَسَبْعَة وَتسْعُونَ كوكباً، وحوالي الصُّور تِسْعَة عشر كوكباً. فَأول الصُّور كوكبة الدب الْأَصْغَر وكواكبها من نفس الصُّورَة سَبْعَة مِنْهَا ثَلَاثَة على الذَّنب: وَأَرْبَعَة على مربع مستطيل. وَالْعرب تسميه بَنَات نعش الصُّغْرَى، مِنْهَا أَرْبَعَة الَّتِي على المربع نعش وَالثَّلَاثَة الَّتِي على الذَّنب بَنَات وَتسَمى النيرين من الْأَرْبَعَة الفرقدين، والنير الَّذِي على طرف الذَّنب الجدي، وَهُوَ الَّذِي يتوخى بِهِ الْقبْلَة، وَمَوْضِع الثَّلَاثَة الَّتِي على الذَّنب من قسْمَة البروج فِي الجوزاء وَالْأَرْبَعَة الْأُخْرَى فِي السرطان. وكواكب الدب الْأَكْبَر سبع وَعِشْرُونَ من الصُّورَة وَثَمَانِية حوالي الصُّورَة، وَالْعرب تسمى الْأَرْبَعَة النيرة على مربع نعش سَرِير بَنَات نعش وَالثَّلَاثَة الَّتِي على الذَّنب بَنَات نعش الْكُبْرَى. وَبني نعش وَآل نعش وَتسَمى الَّذِي على أصل الذَّنب الْجَوْز، وَالَّتِي على وَسطه العناق وَالَّذِي على طرفه القايد وَفَوق العناق كَوْكَب صَغِير يلاصق لَهُ يُسمى السها والستا وَهُوَ الَّذِي يمْتَحن بِهِ أَبْصَارهم وَيُسمى الصيدق ونعيشا وَفِي أمثالهم " أريها السها وتريني الْقَمَر ". وَتسَمى السِّتَّة الَّتِي على الْأَقْدَام الثَّلَاثَة على كل قدم مِنْهَا اثْنَان فِي قدر وَاحِد، على ثَلَاثَة من أَقْدَام الدب، على رجله الْيُمْنَى، كوكبان تسمى قفزات الظباء، كل اثْنَيْنِ مِنْهَا(6/194)
قفزة تشبه أثر ظلفى الظبي، والقفزة الأولى وَهِي الَّتِي على الرجل الْيُمْنَى من الصُّورَة تتبعها الصرفة وَهُوَ الْكَوْكَب النير الَّذِي على ذَنْب الْأسد، والضفيرة وَهِي الْكَوَاكِب المجتمعة الَّتِي فَوق الصرفة وَهِي الَّتِي تسميها الْعَرَب الهلبة، وَبَين الهلبة وَبَين القفزة الأولى من الْبعد مثل الْبعد مَا بَين كل قفزتين. تَقول الْعَرَب: " ضرب الْأسد بِذَنبِهِ الأَرْض فقفزت الظباء ". وَتسَمى أَيْضا الثعيليات والقرائن. ويسمون الْكَوَاكِب السَّبْعَة الَّتِي على الْعُنُق الصُّورَة وصدرها، وَهِي كَأَنَّهَا نصف دَائِرَة، تسمى سَرِير نَبَات النعش، والحوض وَالْكَوَاكِب الَّتِي على الْحَاجِب والعينين وَالْأُذن والحطم يُسمى الظباء، يَقُولُونَ: إِن الظباء لما قفزت وَردت الْحَوْض. وَفِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة الْخَارِجَة من الصُّورَة كَوْكَب تسمى: كبد الْأسد وفيهَا أَيْضا كوكبان يسميان مَعَ كواكب خُفْيَة كَثِيرَة أَوْلَاد الظباء وَأكْثر كواكب هَذِه الصُّورَة فِي السرطان غير الثَّلَاثَة الَّتِي على الذَّنب فَإِن اثْنَيْنِ مِنْهُمَا فِي الْأسد، وَالثَّالِث الَّذِي على طرف الذَّنب فِي الْأسد. كوكبة التنين وكواكبه أحد وَثَلَاثُونَ كوكباً كلهَا حزاء الصُّورَة وعَلى طرف لِسَانه كَوْكَب تسميه الْعَرَب،: الراقص وعَلى رَأسه أَرْبَعَة تسميه العوائد، وَفِي وسط العوائد كَوْكَب صَغِير جدا يُسمى الرّبع، وَبَين العوائد وَبَين الفرقدين كوكبان نيران يسميان الذئبين والجرين، والعوهقين، وَفِي أصل الذَّنب كَوْكَب يُسمى الذّبْح وقبلهما كوكبان خفيان يسميان أظفار الذِّئْب، وَقد وَقعت العوائد بَين الذئبين وَبَين النسْر الْوَاقِع فشبهت الْعَرَب النيرين، بذئبين والراقص فِي الْعَقْرَب وَاثْنَانِ من العوائد فِي الْعَقْرَب، وَاثْنَانِ فِي الْقوس وَاحِد من الأثافي فِي الْحمل وَاثْنَانِ فِي الثور والذنبان والذيخ فِي السنبلة والأظفار فِي الْأسد قد طَمَعا فِي استلاب الرّبع وشبهت العوائد بِأَرْبَع أينق قد عطفن على الرّبع، والنسر أَيْضا يحامي عَلَيْهِ، وعَلى وسط الصُّورَة ثَلَاثَة كواكب تسمى الأثافي كواكب تسمى الأثافي وَهُوَ الملتهب. كوكبة قيقاوس وَهُوَ الملتهب كواكبه أحد عشر من الصُّورَة وَاثْنَانِ من خَارج الصُّورَة وعَلى جنبه الْأَيْمن كَوْكَب وعَلى مَنْكِبه الْأَيْسَر اخْتلفت الرِّوَايَات عَن الْعَرَب فَذكر بَعضهم أَنَّهَا تسميها كوكبى الْفرق. وَذكر آخَرُونَ أَنَّهُمَا كوكبي(6/195)
الْقرن، وَأَن هُنَاكَ رَأس ثَوْر، وَهَذَانِ الكوكبان على قرنيه وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء من ذَلِك، وَإِنَّمَا وجدوا الْكَوْكَب الَّذِي بَين هذَيْن الكوكبين. وَقد سمته الْعَرَب الفرجة وموقعه بَين الكوكبين كموقع الفرجة من أُذُنِي الدَّابَّة وقرني الثور، فصحفوا الْفرق وجعلوه قرنا وَذَلِكَ غلط مِنْهُم لأَنهم سَموهَا كوكبي الْفرق لافتراقهما والفرجة هُوَ كَوْكَب على صدر الصُّورَة، وعَلى مرفقه الْأَيْمن كوكبان وَهِي على دَائِرَة وَاسِعَة من كواكب بَين كوكبي الْفرق وَبَين الثَّلَاثَة الَّتِي على طرف الْجنَاح الْأَيْمن من صُورَة الدَّجَاجَة وَتسَمى هَذِه الدائرة، الْقدر، وَبَين فَخذيهِ وَرجلَيْهِ كواكب كَثِيرَة تسمى الشتَاء وَتسَمى الأغنام أَيْضا وَهَذِه الْكَوَاكِب فِي الثور وَالْحمل والحوت. كوكبة العواء وَيُسمى الصياح والنقار وحارس الشمَال: كواكبه اثْنَان وَعِشْرُونَ كوكباً من الصُّورَة، وَوَاحِد خَارج الصُّورَة، وَهُوَ صُورَة رجل بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَصا فِيمَا بَين كواكب الفكة وَبَين بَنَات نعش الْكُبْرَى، فَأَما الْكَوْكَب الْوَاحِد الْخَارِج من الصُّورَة فَهُوَ بَين فَخذيهِ وتسميه الْعَرَب السماك الرامح وَإِنَّمَا سموهُ رامحاً لِأَنَّهَا شبهت الكوكبين، أَحدهمَا أَعلَى فَخذ الصُّورَة وَالْآخر على سَاقه رمح لَهُ، وشبهت كوكبين متقاربين على منْطقَة الصُّورَة بعذبة الرمْح من هَذَا الطّرف، وكوكبين آخَرين بعذبة الطّرف الآخر سموا الطّرف الَّذِي على الْفَخْذ تَابع الشمَال، وَرَايَة الشمَال وَرَايَة الفكة، وَيُسمى السماك مُنْفَردا: حارس السَّمَاء أَيْضا لِأَنَّهُ يرى أبدا فِي السَّمَاء لَا يغيب تَحت شُعَاع الشَّمْس، وَكَذَلِكَ حكم سَائِر الْكَوَاكِب الَّتِي لَهَا عرض كَبِير فِي الشمَال، على رَأس الصُّورَة ومنكبيه والعصا، كواكب يسميها الْعَرَب، الضباع، وعَلى الْيَد الْيُسْرَى وَمَا حولهَا كواكب خُفْيَة يسمونها أَوْلَاد الضباع وحول السماك كواكب خُفْيَة يسمونها: السِّلَاح، وَقد يُسمى الَّذِي على السَّاق الْيُسْرَى مُفردا: الرمْح، والاثنان اللَّذَان مَعَه السِّلَاح وَأكْثر الْعَرَب جعلُوا السماكين ساقي الْأسد، وَجعلُوا الرامح على سَاقه الْيُمْنَى وَهَذِه الْكَوَاكِب فِي السنبلة. وَالْمِيزَان. كوكبه الإكليل الشمالي وَهِي الفكة وكواكبها ثَمَانِيَة على استدارة خلف عَصا الصياح وتسميها الْعَرَب الفكة وَفِي استدارتها ثلمة تسميها الْعَامَّة: قَصْعَة(6/196)
الْمَسَاكِين وفيهَا كَوْكَب نير تسمى الْمُنِير من الفكة وَهِي فِي الْمِيزَان وَالْعَقْرَب. وكوكبة الجاثي على رُكْبَتَيْهِ وَيُسمى: الراقص أَيْضا، وَهُوَ صُورَة رجل قد مد يَدَيْهِ، وكواكبه ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ سوى كَوْكَب على طرف رجله الْيُمْنَى، فَإِنَّهُ مُشْتَرك بَينه وَبَين طرف عَصا الصياح وعَلى يَدَيْهِ كواكب تسميها الْعَرَب مَعَ كواكب أخر من كوكبة الشلياق وَهِي مصطفة مَعهَا النسق الشَّامي وعَلى رَأسه كَوْكَب تسميه كلب الرَّاعِي وعَلى مَسَافَة كَوْكَب تسميه النسق مُفردا وحوالي النسق كواكب تسمى الثماثيل وَفِي هَذِه الصُّورَة أَيْضا كواكب من جملَة الْكَوَاكِب الَّتِي تسمى الضباع وَهَذِه الْكَوَاكِب فِي الْقوس، وَالْمِيزَان. كوكبة الشلياق وَيُسمى أَيْضا اللوزا وَالصُّبْح والمعرفة والسلحفاة وكواكبه عشرَة، النير مِنْهَا هُوَ، النسْر الْوَاقِع، شبهته الْعَرَب بنسر قد ضم جناحية إِلَى نَفسه كَأَنَّهُمَا قد وَقعا، والجناحان هما اللَّذَان مَعَ هَذَا النير على مثلث والعامة تسميه: الأثافي، وَقُدَّام النير كواكب خضبة يسمونها الْأَظْفَار ويسمون النسْر الْوَاقِع مَعَ قلب الْعَقْرَب الهراربن لِأَنَّهُمَا يطلعان مَعًا فِي كثير من الْعرُوض وَهِي فِي الجدي. كوكبه الطَّائِر وَهُوَ الدَّجَاجَة كواكبه سَبْعَة عشر كوكباً من الصُّورَة، وَاثْنَانِ من خَارج الصُّورَة وَأكْثر كواكبه فِي المجرة، وَفِي الصُّورَة أَرْبَعَة كواكب مصطفة قد قطعت المجرة عرضا تسميها الْعَرَب الفوارس شبهوها بأَرْبعَة فوارس يتسايرون، على ذَنبه كَوْكَب مُنِير تسميه ردفاً كَأَنَّهُ ردف للفوارس، بَعْضهَا فِي الجدي وأكثرها فِي الدَّلْو. كوكبة ذَات الْكُرْسِيّ وَهِي صُورَة امْرَأَة قَاعِدَة على كرْسِي وَهِي فِي نفس المجرة وكواكبها ثَلَاثَة عشرَة كوكباً، وَالْعرب تسمى النيرة مِنْهَا الْكَفّ الخضيب، وَهِي كف الثريا الْيُمْنَى المبسوطة، وَذَلِكَ أَنه يَمْتَد من عِنْد الثريا سطر من كواكب فِيهِ تقويس فيمر على أَكثر كواكب مُمْسك رَأس الغول، ويتصل بِهَذِهِ الْكَوَاكِب النيرة، فشبهت الْعَرَب السطر بيد ممدودة للثريا، وشبهت هَذِه الْكَوَاكِب النيرة بأنامل مخضوبة وأحدها يرسم على الاسطرلاب وَتسَمى: الْكَفّ الخضيب، وَتسَمى أَيْضا سَنَام النَّاقة، لِأَن هُنَاكَ كواكب تشبه صُورَة نَاقَة، ولطخة سحابية(6/197)
على يَد مُمْسك رَأس الغول جعلوها مَوضِع السمة على فَخذ النَّاقة وَهِي فِي الْحمل والثور. كوكبة برشاوش وَهُوَ حَامِل رَأس الغول، وَهُوَ صُورَة رجل قَائِم على رجله الْيُسْرَى وَقد رفع رجله الْيُمْنَى وَيَده الْيُمْنَى فَوق رَأسه، وَبِيَدِهِ الْيُسْرَى رَأس غول، وكواكبه كلهَا فِيمَا بَين الثريا وَبَين كوكبة ذَات الْكُرْسِيّ، وَهِي سِتَّة وَعِشْرُونَ كوكباً من الصُّورَة، وَثَلَاثَة حوالي الصُّورَة، يَمْتَد من عِنْد اللطخة الَّتِي على يَدَيْهِ الْيُمْنَى، سطر يمر على كواكب كَثِيرَة حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى كوكبين على قدمه قريبين من الثريا، شبهت الْعَرَب جَمِيعهَا مَعَ كوكبة ذَات الكراسي الَّتِي على ظهر النَّاقة بيد الثريا، ممدودة فَسَمت النيرة الَّتِي على ظهر النَّاقة الْكَفّ واللطخة والمعصم، وَالَّذِي على الْمرْفق الْأَيْمن من حَامِل رَأس الغول مَعَ الَّذِي على مَنْكِبه الْأَيْمن الساعد واللذين على الْجنب المابض، وَآخر على الْجنب أَيْضا إبرة الْمرْفق، وَثَلَاثَة أَحدهمَا على الْقدَم الْيُمْنَى وَاثْنَانِ على الْجنب الْعَضُد، وَالَّذِي على السَّاق الْيُسْرَى الْمنْكب، والاثنين المتقارنين اللَّذين يليان الثريا وهما على الْقدَم الْيُسْرَى العاشق، وَهِي كلهَا فِي الثور. كوكبة مُمْسك الأعنة وَهُوَ صُورَة رجل قَائِم خلف مُمْسك رَأس الغول، بَين الثريا وَبَين كوكبة الدب الْأَكْبَر، وكواكبه أَرْبَعَة عشر كوكباً وعَلى رَأسه كوكبان تسميها الْعَرَب مَعَ كواكب أخر بِقرب مِنْهَا الخباء لِأَنَّهَا على صُورَة الخباء، وعَلى مَنْكِبه الْأَيْسَر كَوْكَب نير تَسْمِيَة العيوق، وعَلى مرفقه الْأَيْسَر كَوْكَب تَسْمِيَة العنز وعَلى المعصم الْأَيْسَر كوكبان متقاربان تسميان الجديين وَتسَمى العيوق لأجل ذَلِك العناز ويسمونه أَيْضا: العنز وَيُسمى رَقِيب الثريا لِأَنَّهُ يطلع فِي كثير من الْمَوَاضِع بِطُلُوع الثريا. وَلذَلِك قَالَ أَبُو ذُؤَيْب: فوردن والعيوق مقْعد رابئ ال ... ضرباء فَوق النَّجْم لَا يتتلع(6/198)
وَيُسمى أَيْضا عيوق الثريا وعَلى مَنْكِبه الْأَيْمن كَوْكَب يُسمى مَعَ آخَرين على الْكَعْبَيْنِ تَوَابِع العيوق والأعلام. وَذكر بعض من صنف فِي الأنواء أَن بَين عاتق الثريا وَبَين العيوق كوكبين تَحت المجرة يسميان المرجف والبرجيس، كواكبه كلهَا فِي الجوزاء. كوكبة الحوا والحية: هِيَ صُورَة رجل قَائِم، قد قبض بيدَيْهِ جَمِيعًا على حَيَّة، وكواكب الحوا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ من الصُّورَة، وَخَمْسَة خَارِجَة مِنْهَا، وكواكب الْحَيَّة ثَمَانِيَة عشر كوكباً، وعَلى منشأ عنق الْحَيَّة كَوْكَب، وَآخر على صدغها، يتصلان بالكواكب المصطفة الَّتِي على الْمنْكب والعضد والمرفق الْأَيْمن من صُورَة الجاثي، يعدهما الْعَرَب من جملَة النسق الشَّامي، وَتسَمى أَرْبَعَة كواكب من كواكب الْحَيَّة، مَعَ النيرين اللَّذين على ركبتي الحواء الَّذِي على سَاقه الْيُمْنَى وَهِي كلهَا مصطفة على سطر فِيهِ تعويج النسق الْيَمَانِيّ وسمت هَذِه النسق يَمَانِيا لِأَن كواكبه تغيب فِي نَاحيَة الشَّام وشق الْيمن، وسمت الأول شامياً لِأَن كواكبه تغيب فِي نَاحيَة الشَّام، وَيُسمى الْبقْعَة الَّتِي بَين النسقين الرَّوْضَة، والكوكب الَّتِي فِي الرَّوْضَة الأغنام، وَالَّذِي على رَأس الحوا الرَّاعِي وَالَّذِي على رَأس الجاثي كلب الرَّاعِي، كواكبها فِي الْعَقْرَب، والقوس. كوكبة السهْم هِيَ خَمْسَة كواكب بَين منقار الدَّجَاجَة وَبَين النسْر الطَّائِر فِي نفس المجرة الْعَظِيمَة، ونصل السهْم إِلَى نَاحيَة الْمشرق والفوق إِلَى نَاحيَة الْمغرب، وَلم يذكر عَن الْعَرَب فِيهَا شَيْء وَهِي فِي الجدى. وكوكبة الْعقَاب: وَهُوَ النسْر الطَّائِر، وكواكبه تِسْعَة من الصُّورَة وَسِتَّة خَارِجَة مِنْهَا، وَالْعرب تسمى الثَّلَاثَة المصطفة النسْر الطَّائِر لِأَن بازائه النسْر الْوَاقِع، وَسمي وَاقعا لوُقُوع جناحيه، سمي هَذَا طائراً لانبساط جناحيه، وَتسَمى كوكبين من الْخَارِجَة عَن الصُّورَة وهما بَين الثَّلَاثَة الَّتِي ذكرهَا وَبَين النعام الصَّادِر الظليمين الصغيرين وَهِي فِي الجدي. كوكبة الدلفين وكواكبه على مربع شَبيه بالمعين تسميها الْعَرَب: الْقعُود والعامة تسميها: الصَّلِيب، وَيُسمى الْكَوْكَب الَّذِي على ذَنْب الدلفين عَمُود الصَّلِيب وَهِي فِي الدَّلْو.(6/199)