يقول الأعداء إذا أرادوا كعانك رأوا طعانك ورأوا اذرع قناك لطولها وسرعة وصولها إليهم أميلا يني أن رماحك تطول فتصل إليهم سريعةً وهذا ضد قوله، طوال قنا تطاعنها قصارُ، وقال ابن جنى أي لشدة الرعب رأوا ذلك كذلك وهذا كقوله تعالى يرونهم مثليهم رأى العين هذا كلامه أما شدة الرعب فله وجهُ واحتجاجه بالآية خطأ ويجوز أن يريد بالقنا قنا الأعداء الذين يحاولون الطعان والمعنى أنهم كلما تعاطوا رماحهم لطعانك استطالوها فرأوا أذرعها أميلا أي أنها تثقل عليهم جبنا وخوفا منك
بسط الرعب في اليمين يميناً ... فتولوا وفي الشمال شمالا
أي شاع الخوف فيهم شيوعا عاما وكأن الخوف بسط يمينه في ميامن عسكرهم وشماله في مياسرهم حتى انهزموا
ينفض الروع أيدياً ليس تدرى ... أسيوفاً حملن أم أغلالا
يعني أن الخوف عمل فيهم حتى ارتعدت أيديهم وصارت السيوف فيها كالأغلال عليها حين لم تعمل ولم تقدر على الضرب
ووجوها أخافها منك وجه ... تركت حسنها له والجمالا
قوله وجوها عطف على الأيدي من حيث اللفظ لا من حيث المعنى لأنه ليس يريد ينفض وجوها والمعنى ويغير وجوها أي يغير ألوانها بأن يصغرها فهومن باب، ورأيت زوجك في الوغا، متقلدا سيفاً ورمحا، ومعنى أخافها أخاف أصحابها منك وجه تلك الوجوه اطعته حسنها وجمالها أي الحسن والجمال كان لوجهك لا لوجوههم
والعيان الجليُّ يحدث للظ ... ن زوالا وللمراد انتقالا
كانوا يظنون أنهم يقدرون على قتالك فلما قصدوا محاربتك أنهزموا وعاينوا قصورهم عنك فأزال العيان ما كان الظن يحدث لهم وانتقل ذلك المراد الذي كانوا يريدونه من محاربتك
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
هذا كما تقول العرب في أمثالها كال مجرٍ في الخلاء يسر والمعنى أن الجبان إذا كان وحده منفردا يحس من نفسه بشجاعة ويظن عنده غناء ويطلب الطعان والمنازلة يريد أنهم شجعاء ما لم يروك
أقسموا لا رأوك إلا بلقبٍ ... طالما غرت العيون الرجالا
قوله إلا بقلب أي إلا والقلب معهم يريد حلفوا ليحضرن عقولهم وليعملن أفكارهم في قتالك ثم قال طالما غرت العيون الرجال أي كذبهم عنك كثيرا ما رأوه بعيونهم مما يوهمهم أنهم يقاومونك ولا تناقض بين قوله غرت العيون الرجال وبين قوله والعيان الجليّ لأن ذلك بعد التجربة وقوله غرت العيون يعني قبل التجربة
أي عينٍ تأملتك فلاقت ... ك وطرفٍ رنا إليك فآلا
هذا متناقض الظاهر لأنه ينكر أن تمسكه عين بان تديم النظر إلهي في المصراع الأول وفي الثاني ينكر أن يعود طرف رنا إليه ولم يشخص ويحمل المعنى على عيون الأعداء والأولياء فعين العدو لا تلحيه لأنه لا تديم النظر إليه هيبةً له وعي الوليّ تتحير فيه فتبقى شاخصةً فلا تؤول إلى صاحبها وهذا مما لم يتكلم فيه أحد ويقال لاق الشيء وألاقه أي أمسكه
ما يشك اللعين في أخذك الجي ... ش فهل يبعث الجيوش نوالا
هذا استفهام تجاهلٍ لأنه علم أنه لا يبعث الجيش للنوال ولكن لما كانت الحالة توجب هذه الشبهة قال ذلك والمعنى أن كل جيش بعثهم إليك غنمتهم فهل يبعثهم لتأخذهم وليكونوا نوالا لك
ما لمن ينصب الحبائل في الأر ... ض ومرجاه أن يصيد الهلالا
المرجاة مصدر كالرجاء مثل المسعاة والمعلاة والمغزاة فإذا قلت ومرجاه فهو مفعل من الرجاء بمعنى المصدر يقول ما لهذا الذي ينصب في الأرض حبالةً ورجاؤه أن يصيد الهلال وهذا استفهام تعجب يتعجب من جهل من يعمل هذا وهذا مثل يريد امتناع سيف الدولة عليه وبعده من أن تناله يد وبعثه إليه الجيش طمعا في أخذه والظفر به فهو في ذلك كمن يروم صيد الهلال بحبالة ينصبها في الأرض ومن روى ومرجاة جعلها مفعولا معها كقولك ما لزيد وعمروا ولو جرها عطفا على من كان اظهر كما تقول ما لزيد وعمرو ليس من مضمرا يقبح عطف الظاهر عليه من غير حرف جرٍ كقولك ما لك وزيدا ولا يجوز وزيدٍ لأن الكاف مضمر لا يعطف عليه بالخفض
إن دون التي على الدرب والأح ... دب والنهر مخلطا مزيالا
يعني قلعة الحدث يقول دون الوصول إليها رجل مزيال وهو الكثير الخلاط للأمور والزيال لها يخالطها ثم يزايلها يعني سيف الدولة وأراد بالأحدب جبلا هناك(1/293)
غصب الدهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدهر خالا
يعني أنه استنقذها من أيدي الدهر والملوك يقال غصبته على كذا أي قهرته عليه وقوله فبناها في وجنة الدهر خالا يجوز أن يريد به الشهرة كشهرة الخال في الوجه ويجوز أن يريد به ثبوتها ورسوخها فيكون كقول مزرد، فمن أرمهِ منها بسهمٍ يلح به، كشامة وجهٍ ليس للشام غاسلُ،
فهي تمشي مشي العروسٍ اختيالا ... وتثنى على الزمان دلالا
القلعة لا تمشي ولا تثنى ولكن المعنى أنها لو مشت لاختالت ف مشيها عزةً وتكبرا ولكانت مدلة على الزمان حين لم يقدر الزمان على اصابتها بسوء
وحماها بكل مطرد الأك ... عب جور الزمان والأوجالا
يقول منعها أن يصيبها الزمان بجورٍ أو خوف وحفظها بالرماح من ذلك والمطرد المستقيم المستوى
وظبي تعرف الحرام من الح ... ل فقد أفنت الدماء حلالا
قال ابن جنى هذا مثل ضربه أي سيوفه معودة للضرب فهي تعرف بالدربة الحلال من الحرام وقال ابن فورجة العادة والدربة ليستا مما يعرف به الحلال والحرام في الناس فكيف فيما لا يعقل وإنما يعني أن سيف الدولة غاز للروم وهم كفار فلا يقتل إلا من حل دمه فنسب ذلك إلى سيوفه هذا كلامه وأظهر مما قاله أن يقال إما عني بمعرفة الحلال والحرام أصحابها فكأنه قال وذوي ظبي يعرفون الحرام من الحلال فلما حذف المضاف عاد الكلام إلى المضاف إليه
في خميسٍ من الأسود بئيس ... يفترسن النفوس والأموالا
البئيس الشديد ذو البأس وأراد يفترسن النفوس وينتهبن الأموال وقد مر مثله قبل وإنما ذكر الأموال بعد ذكر النفوس بيانا أنه أراد بالأسود الرجال لأن الأسود لا تنتهب الأموال ثم أكد هذا وقال
إنما أنفسُ الأنيس سباع ... يتفارسن جهرةً واغتيالا
يريد بالنيس الناس جعلهم كالسباع المفترسة لوجود الأفتراس منهم في الحالتين مجاهرين ومغتالين والبيتان بعد هذا تأكيد لهذا وهما
من أطاق التماس شيء غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
كل غادٍ لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وأنشد سيف الدولة متمثلا بقول النابغة، ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم، بهن فلول من قراع الكتائب، تخيرن من أزمان يوم حليمة، إلى اليوم قد جربن كل التجارب، وقال أبو الطيب مجيبا له
رأيتك توسع الشعراء نيلاً ... حديثهم المولد والقديما
أي أنك تكثر للشعراء العطاء مولديهم وقدمائهم ثم فصل وبين وقال
فتعطى من بقي مالا جسيما ... وتعطي من مضى شرفا عظيما
لغة طيىءٍ بقي وفنى في بقي وفنى ومنه قول زيد الخيل الطاءي، لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي، على الأرض قسيٌّ يسوق الأباعرا، يقول تعطي الباقين عطاء جزيلا والماضين شرفا عظيما بأن تنشد شعرهم فيكون ذلك شرفا لهم
سمعتك منشدا بيتي زيادٍ ... نشيدا مثل منشده كريما
فما أنكرت موضعه ولكن ... غبطت بذاك أعظمه الرميما
زياد اسم النابغة الذبياني يقول لم أنكر موضع النابغة من الشعر وأنه أهل لأن تنشد شعره ولكني غبطت عظامه البالية في التراب بإنشادك شعره وقال سنة إحدى وعشرين وثلثمائة برأس العين وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد وبني ضبة ولم ينشده إياها فلما لقيه دخلت في جملة مديحه
ذكر الصبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقتِ حمامي
يريد بمرابع الآرام ديار الحبائب والمعنى أنها أوردت عليّ حالةً هي والموت سواء يعني شدة وجده على فراقهن فكأنه مات قبل موته لشدة الوجد
دمن تكاثرت الهموم عليّ في ... عرصاتها كتكاثرِ اللوامِ
وكأن كل سحابةٍ وقفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزامِ
عروة بن حزام هو صاحب عفراء وهو أحد العشاق المعروفين الذين تذكر قصتهم شبه هطلان السحاب في تلك الدمن ببكاء عروة بن حزام على فراق صاحبته وهذا من قول الطاءي، كأن السحاب الغر غيبن تحتها، حبيبا فما ترقى لهن مدامعُ، ومثله لمحمد بن أبي زرعة، كأن صبين باتا طول ليلهما، يستمطران على غدرانها المقلا،
ولطالما أفنيت ريق كعابها ... فيها وافنت بالعتاب كلامي
طالما رشفت كعاب تلك الدمن هناك وأطالت هي عتابي حتى أفحمتني وقطعتني بعتابها
قد كنت تهزأ بالفراق مجانةً ... وتجر ذيلي شرةٍ وعرامِ(1/294)
المجانة مثل الخلاعة والماجن الذي لا يبالي ما بتكلم به والعرام الخبث والشرة من أخلاق الشباب يقول لنفسه حين كنت شابا ولم تبتل بالفراق وما كنت تدري وجد الفراق وشدته فكنت تهزأ به غافلا عنه في شرتك وعرامك
ليس القباب على الركاب وإنما ... هن الحياة ترحلت بسلام
ليس الذي تراه قبابهن وهوادجهن على الإبل ولكنها الحياة ترحلت عنا يعني أنه يموت بعد فراقهن
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخفافهن مفاصلي وعظامي
متلاحظين نسح ماء شؤوننا ... حذراً من الرقباء في الأكمامِ
أي هي تنظر إليّ وأنا أنظر إليها وكلانا يبكي ويستر بكاءه وقدم الحال على العامل فيها وهو قوله نسح
أرواحنا انهملت وعشنا بعدها ... من بعد ما قطرت على الأقدام
لو كن يوم جرين كن كصبرنا ... عند الرحيل لكن غير سجامِ
يقول لو كانت الدموع يوم جرت كصبرنا في القلة لكانت قليلة ولم تكن سجاما غزيرة وقوله كن يوم جرين أخبار عن جريها فيما مضى من يوم الفراق وقوله كن كصبرنا اخبار عن كونها غزيرة لا تشبه الصبر في القلة والتقدير لو كن كصبرنا يوم جرين ولم يفد الكون الأول إلا الأخبار عن جريها فيما مضى ويجوز أن يقدر الكون الأول والثاني زيادةً والعرب ربما تجعل الكون صلة في الكلام وكثيرٌ من النحويين حملوا الكون في قوله تعالى كيف نكلم من كان في المهد صبيا على الزيادة وينشدون قول الفرزدق، جياد بني أبي بكرٍ تسامي، على كان المسومة العراب، وكان في هذا البيت زيادة بلا خلاف
لم يتركوا لي صاحبا غير الأسى ... وذميل ذعلبةٍ كفحل نعامِ
ذعبلة ناقة سريعة يقول فارقوني فصاحبت بعدهم الحزن وسير ناقةٍ كالظليم في سرعتها
وتعذر الأحرار صير ظهرها ... إلا إليك على فرج حرامِ
يريد تعذر وجود الأحرار حرم عليّ أن أركبها إلا للقصد إليك لأنك الحر المستحق لأن يقصد ويزار فني اتجنب ركوبها إلا إليك كما ااتجنب فرجا حراما عليّ اتيانه
أنت الغريبة في زمانٍ أهلهُ ... ولدت مكارمهم لغير تمامِ
قال ابن جنى أنت الغريبة لأنه أراد الحال أو الخصلة أو السلعة وأخطأ في هذا لأنه لا يقال للرجل أنت الحال الغريبة أو الخصلة الغريبة وإنما خاطب بهذا الممدوح والصحيح أن يقال الهاء للمبالغة لا للتأنيث كما يقال راوية وعلامة أو يقال أنت الفائدة الغريبة في زمان أهله كلهم ناقصو الكرم لم تتم مكارمهم ويقال ولد المولود لتمام
أكثرت من بذل النوال ولم تزل ... علما على الإفضال والإنعامِ
العلم العلامة وهي التي يعرف بها الشيء يقول لم تزل يعرف بك الأفضال والإنعام أي لم تزل منعما مفضلا
صغرت كل كبيرةٍ وكبرت عن ... لكأنه وعددت سن غلامِ
يقول صغرت كل كبيرة بالإضافة إليك وكبرت عن ان تشبه بشيء فيقال كأنه كذا وأنت مع ذلك شاب لم تبلغ الحنكة وهو أشرف لك وأمدح واللام في لكأنه لام التأكيد وتدخل في ابتداء الكلام
ورفلت في حلل الثناء وإنما ... عدم الثناء نهايةُ الإعدامِ
يقول عليك من الثناء حلل سابغة تتبختر فيها وهاية الإعدام عدم الثناء لا عدم الثراء
عيب عليك ترى بسيفٍ في الوغا ... ما يصنع الصمصام بالصمصامِ
أراد أن ترى فحذف أن والباء في بسيف هي بمعنى مع كما يقال ركب الأمير بسلاحه وأراد أنت في حدتك ومضائك فلا حاجة بك إلى السيف
إن كان مثلك كان أو هو كائنٌ ... فبرئت حينئذٍ من الإسلامِ
هذا من المدح البارد الذي يدل على رقة دين وسخافة عقل وهو من شعر الضبي
ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيامِ
يقال زهيَ الرجل فهو مزهو إذا تكبر وكان حقه أن يقال زهيت إلا أنه جاء به على لغة طيىءٍ في قولهم بقي في بقي كذلك قال زهي في زهيَ فسكن الياء فلما دخلت تاء التأنيث سقطت الياء الساكنة
وتخاله سلب الورى من حلمهِ ... أحلامهم فهم بلا أحلامِ
أي لرجاحة حلمه على أحلام الناس كأنه أخذ أحلامهم فجمعها إلى حلمه
وإذا امتحنت تكشفت عزماتهُ ... عن أوحدي النقص والإبرامِ
أي عن رجل أوحدي النقص والإبرام والمعنى أنه لا نظير له في عزماته نقص الأمر أو أبرمه
وإذا سألت بنانه عن نيلهِ ... لم يرض بالدنيا قضاء ذمامِ(1/295)
أي إذا طلبت عطاءه لم ير جميع الدنيا لو أعطاها قضاء حق لك
مهلا ألا لله ما صنع القنا ... في عمرو حاب وضبةَ الأغتامِ
أراد عمرو بن حابس فرخم المضاف إليه وذلك غير جائز لأن الترخيم حذف يلحق أواخر الأسماء في النداء تخفيفا والكوفيون يجيزونه في غير النداء وينشدون، أبا عروَ لا تبعدْ وكل ابن جرةٍ، سيدعوه أغتاما لأنهم كانوا جاهلين حين عصوه حتى فعل ما فعل
لما تحكمت الأسنة فيهمِ ... جارت وهن يجرن في الأحكامِ
فتركتهم خلل البيوتِ كأنما ... غضبت رؤسهم على الأجسامِ
أي غزوتهم في عقر دارهم حتى تركتهم خلال بيوتهم أجساما بلا رؤوس
أحجار ناسس فوق أرضٍ من دمٍ ... ونجومُ بيضٍ في سماء قتامِ
يصف المعركة وكثرة القتلى يقول صارت الأرض دما وصار مكان الحجارة ناس قتلى فوق تلك الأرض والهوا صار نجوما من البيض في سماء من العجاج
وذراع كل أبي فلان كنيةً ... حالت فصاحبها أبو الأيتامِ
وذراع عطف على قوله احجارُ ناس والمعنى ثم احجار ناس وثم ذراع كل أبي فلان أي ذراع مقطوعة من رجل كان يكنى أبا فلان فلما قتل حالت كنيته فصار صاحب تلك الكنية يقال له أبو الأيتام لن ولده ييتمُ بهلاكه ونصب كنيةً على الحال من أبي فلان وتقديره كل أب لفلانٍ لأن ما بعد كل إذا كان واحدا في معنى جماعةٍ لا يكون إلا نكرة كما تقول كل رجل وكل فرس وهذا كما يقال رب واحدِ أمهِ لقيت ورب عبد بطنه ضربت على تقدير رب واحد لأمه ورب عبدٍ لبطنه فالإضافة يراد بها الإنفصال
عهدي بمعركةِ الأمير وخيلهِ ... في النقع محجمةً عن الإحجامِ
يجوز وخيله بالكسر عطفا على المعركة وتنصب محجمة على الحال ومن رفع وخيله فالواو للاستئناف ومعناه الحال يقول لم أعهد معركته إلا وخيله مقدمةٌ متأخرة عن الأحجام
صلى الإله عليك غير مودعٍ ... وسقى ثري أبويك صوب غمامِ
قول الناس عند التوديع غير مودع معناه أنا معك قلبا وإن فارقت شخصا ويجوز أن يكون من جهة الفأل ويجوز أن يكون المعنى أن روحي صحبتك فأنت مشيع غير مودع
وكساك ثوب مهابةٍ من عنده ... وأراك وجه شقيقك القمقامِ
عني أخاه ناصر الدولة والقمقام السيد واصله البحر لأنه مجتمع الماء من قولهم قمقم الله عصبه أي جمعه وقبضه
فلقد رمى بلد العدو بنفسه ... في روق أرعن كالغطم لهامِ
روق العسكر أوله ومقدمته والمعنى في روق جيش أرعن والغطم البحر العظيم الماء واللهام الذي يلتهم كل شيء
قوم تفرست المنايا فيكمُ ... فرأت لكم في الحرب صبر كرامِ
يقول أنتم قوم تأملتكم المنايا فرأتكم في الحرب صبرا كراما وإذا صبروا في الحرب كانت المنايا إليهم اسرع
تالله ما علم امرؤ لولاكم ... كيف السخاء وكيف ضرب الهامِ
أي منكم استفاد الناس السماحة والشجاعة ولولا أنتم لما عرفتا وقال أيضا يمدحه وقت منصرفه من بلاد الروم سنة 345
الرأي قبل شجاعة الشجعانِ ... هو أول وهي المحل الثاني
أي العقل مقدم على الشجاعة فإن الشجاعة إذا لم تصدر عن عقل أتت على صاحبها فاهلكته وتسمى خرقا والمعنى أن العقل في ترتيب المناقب هو الأول ثم الشجاعة ثانٍ له
فغذا هما اجتمعا لنفسٍ مرةٍ ... بلغت من العلياء كل مكانِ
إذا اجتمع العقل والشجاعة لنفس مرة أبيةٍ للذلل والضيم ولا تستلينها الأعداء بلغت أعلى المبالغ من العُلى
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقرانِ
هذا تفضيل للعقل يقول قد طعن أقرانه بالمكيدة ولطف التدبير ودقة الرأي قبل أن يصرح القتال
لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ
ولما تفاضلت النفوس ودبرت ... أيدي الكماة عوالي المرانِ
يقول إنما تتفاضل نفوس الحيوان بالعقل فالأدمي أفضل من البهيمة لعقله ثم بنو آدم يتفاضلون أيضا بالعقل كما قال المامون الأجساد أبضاع ولجوم وإما تتفاضل بالعفل فإنه لا لحم أطيب من لحمٍ وقوله ودبرت يعني ولما دبرت أي إنما توصلوا إلى استعمال الرماح في الحرب بالعقل ولولا العقل ما عرفت الأيدي تدبير الطعان بالرماح يريد أن الشجاعة إنما تستعمل بالعقل
لولا سميُّ سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لكن كالأجفانِ(1/296)
أي لولا سيف الدولة ما أغنت السيوف شيئا ولكانت في قلة الغناء كالأجفان لأن السيف إنما يعمل بالضارب
خاض الحمام بهن حتى ما درى ... أمن إحتقارٍ ذاك أم نسيانِ
أي خاض الموت بسيوفه حتى ما علم أن ذاك الخوض من احتقار للموت أم نسيانٍ للموت وغفلة عنه ودري لغة طيىء
وسعى فقصر عن مداه في العلى ... أهل الزمان وأهلُ كلِّ زمانِ
تخذوا المجالس في البيوت وعنده ... أن السروج مجالسُ الفتيانِ
تخذوا بمعنى اتخذوا يعني أن أهل الزمان مجالسهم في البيوت ومجالسه في السروج كما قال عنترة وحشيتي سرج البيت
وتوهموا اللعب الوغا والطعن في ال ... هيجاء غير الطعنِ في الميدانِ
أي ظنوا أن الحرب لعب والطعن في اللعب غير الطعن في الحرب لأن ذلك طعن مع ابقاء ولا ابقاء في الحرب
قاد الجياد إلى الطعان ولم يقد ... إلا إلى العادات والأوطانِ
يقول إذا قاد خيله إلى الطعان فقد قادها إلى ما هو عادة له وإلى وطنه لأنه من المعركة في وطن
كل ابن سابقةٍ يغير بحسنه ... في قلب صاحبهِ على الأحزانِ
يقول كل فرس ولدته سابقة من الخيل إذا نظر إليه صاحبه سره بحسنه فأذهب حزنه
إن خليت ربطت بآداب الوغا ... فدعاؤها يغني عن الأرسانِ
يعني أن خيله مؤدبة وإن كانت مخلاةً كانت مربوطة بما فيها من الأدب وإذا دعوتها أتتك فلا تحتاج إلى جذبها بالرسن وهذا كقوله، وأدبها طول القياد البيت، وكقوله، تعطف فيها والأعنة شعرها،
في جحفلٍ ستر العيون غبارهُ ... فكأنما يبصرن بالآذانِ
أي في جيشٍ عظيمٍ غباره كثيف يستر الأعين حتى لا ترى فيه الخيل مع صدق حاسة نظرها وإذا أحست بشيء نصبت آذانها كأنها بها تبصر كما قال البحتري، ومقدم أذنينِ تحسبُ أنه، بهما رأى الشخص الذي لأمامهِ،
يرمي بها البلد البعيد مظفرٌ ... كل البعيد له قريبٌ دانِ
فكأن أرجلها بتربة منبجٍ ... يطرحن أيديها بحصنِ الرانِ
منبج بالشام وحسن الران بالروم يريد سعة خطوها في العدو يقول كان أرجلها بالشام وأيديها بالروم لبعد مواقع ايديها من أرجلها أي كأنها تقصد أن تبلغ الروم بخطوة واحدة قال ابن جنى وبينهما مسيرة خمس يريد السرعة
حتى عبرن بأرسناس سوابحا ... ينشرن فيه عمائم الفرسان
ارسناس نهر بالروم بارد الماء جدا يريد لسرعتها في السباحة تنشر عمائم فرسانها
يقمصن في مثل المدى من باردٍ ... يذر الفحول وهن كالخصيانِ
يقول هذه الخيل تثب لي هذا النهر الذي هو كالمدى لضرب الريح أياه حتى صيرته طرائق كأنها مدى من ماء بارد يذر الفحل كالخصي لتقلص خصيتيه لشدة برده
والماء بين عجاجتين مخلصٌ ... تتفرقان به وتلتقيان
يريد أن الجيش صار فريقين في عبور هذا النهر فريق عبروا وفريق لم يعبروا بعد ولكل واحد منهما عجاج الماء يميز بينهما والعجاجتان تفترقان بالماء وتلتقيان إذا كثرتا وقال ابن جنى يعني عجاجة الروم وعجاجة المسلمين وليس ما ذكر لأنهم عند عبور النهر ما كانوا يقاتلون الروم
ركض الأمير وكاللجين حبابهُ ... وثنى الأعنة وهو كالعقيان
يقول ركض خيله إلى الروم والماء أبيض كالفضة فلما قتلهم وجرت فيهم دماؤهم عاد وقد احمر كالذهب
فتل الحبال من الغدائر فوقه ... وبنى السفين له من الصلبانِ
يقول اتخذ حبال سفنه من ذوائب من قتله واتخذ خشبها من عود الصلب لكثرة ما غنم منها
وحشاه عاديةً بغير قوائمٍ ... عقم البطون حوالك الألوان
أي حشا الماء سفنا تعدو ولا قوائمَ لها بطونها عقم لا تلد وهي سود الألوان لأنها مقيرة
تأتي بما سبت الخيولُ كأنها ... تحت الحسانِ مرابض الغزلانِ
تأتي بالجواري اللاتي سبين وكأنهن غزلان والسميريت مرابضهن
بحر تعود أن يذم لأهله ... من دهره وطوارق الحدثانِ
هذا الماء الذي عبره سيف الدولة بحر تعود أن يجعل من وراءه في ذمته فلا يصل إليهم أحد وهو في جواره من الدهر وحوادثه
فتركته وإذا أذم من الورى ... راعاك واستثنى بني حمدانِ
يقول تركت هذا النهر بعبورك إياه يجير أهله من كل أحد إلا من بني حمدان فإنه لا يجيرهم منك يعني أن غيرك لا يقدر على عبوره(1/297)
ألمخفرين بكل أبيض صارمٍ ... ذمم الدروع على ذوي التيجانِ
أي الذين ينقضون عهود الدروع على الملوك بسيوفهم وذلك أنهم تحصنوا بالدروع فكأنهم في ذممها ثم سيوف هؤلاء تنقض تلك الذمم بهتك دروعهم والوصول إلى أرواحهم والمخفر الذي ينقض العهد
متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشان
التصعلك التشبه بالصعاليك وهم المتلصصون الذين لا ما لهم يقول هم على عظم ملكهم كالصعاليك لكثرة أسفارهم وغاراتهم وهم مع عظم شأنهم يتواضعون تقربا من الناس
يتقيلون ظلال كل مطهمٍ ... أجل الظليمِ وربقةِ السرحانِ
روى ابن جنى والناس كلهم يتقيلون من قولهم فلان يتقيل أباه إذا كان يتبعه ثم قال معناه يتقيلون آباءهم السابقين إلى المجد والشرف كالفرس المطهم وقال غيره على هذه الرواية معنى يتقيلون ينامون وقت الظهيرة في ظل خيلهم أي هم بداةٌ لا ظل لهم فإذا قالوا لجؤوا إلى ظلال خيلهم وهذا قول العروضي وقال ابن فورجة ليست الرواية إلا يتفيؤون والمعنى أنهم يستظلون بأفياء خيلهم في شدة الحر يصفهم بالتغرب والتبدي ومعنى قوله أجل الظليم وربقة السرحان أنها إذا طردت النعام والذياب ادركتها فقتلتها ومنعتها من العدو وهو من قول امرء القيس، بمنجرد قيدٍ الأوابدِ هيكلِ،
خضعت لمنصلك المناصل عنوةً ... وأذل دينك سائر الأديانِ
وعلى الدروب وفي الرجوع غضاضةٌ ... والسير ممتنع من الإمكانِ
قال ابن جنى سألته عن هذا فقال معناه وكان هذا الذي ذكرته على الدروب أيضا إذ في الرجوع غضاضة على الراجع وإذا السير ممتنع من الإمكان قال العروضي نعوذ بالله من الخطل لو كان سأله لأجابه بالصواب وجواب وعلى الدروب ظاهر في قوله نظروا إلى زبر الحديد والقول ما قال العروضي لأنه لو كان كما قال أبو الفتح لما احتاج إلى الواو في قوله وعلى الدروب لأنه يقال كان كذا وكذا على الدروب ولكن الواو في وعلى الدروب واو الحال وكذلك ما بعدها من الواوات يقول حين كنا على الدروب يعني مضايق الروم واشتد الأمر حتى تعذر الإنصراف والتقدم
والطرق ضيقة المسالك بالقنا ... والكفر مجتمع على الإيمانِ
وضاقت الطرق بكثرة الرماح وأهل الكفر محيطون بأهل الإيمانِ
نظروا إلى زبر الحديد كأنما ... يصعدن بين مناكب العقبانِ
يقول في هذه الأحوال التي ذكرها وفي المكان الذي ذكره نظروا إلى المسلمين وهم مقنعون في الحديد حتى كأنهم قطع الحديد لاشتماله عليهم وهم يركبون خيلا كالعقبان في خفتها وسرعتها ويجوز أن يريد بزبر الحديد السيف وصعودها إلى الهواء برفع الأبطال أياها للضرب وهذا أولى لأنه ذكر الفوارس في قوله
وفوارسٍ يحيى الحمامُ نفوسها ... فكأنها ليست من الحيوان
ونظروا إلى فوارس إذا قتلوا في الحرب حيوا يرون حيوتهم في هلاكهم في الحرب وكأنهم ليسوا من الحيوان لأن الحيوان لا يحيا بهلاكه والمعنى أنهم غزاة ومن استشهد منهم بالقتل صار حيا مرزوقا عند الله تعالى
ما زلت تضربهم دراكا في الذرى ... ضربا كأن السيف فيه اثنانِ
أي ما زلت تضربهم ضربا متتابعا في أعالي ابدانهم ضربا يعمل السيف الواحد فيهم عمل السيفين
خص الجماجم والوجوه كأنما ... جاءت إليك جسومهم بأمانِ
فرموا بما يرمون عنه وأدبروا ... يطؤون كل حنيةٍ مرنانِ
الحنية القوس والمرنان الذي يسمع له رنين يقول رموا بالقسي التي كانوا يرمون عنها وادبروا يطؤونها في الهزيمة
يغشاهم مطر السحاب مفصلا ... بمهندٍ ومثقفٍ وسنانِ
يعني أن وقع السلاح بهم كوقع المطر يأتي دفعةً وأراد بالسحاب الجيش وبالمطر الوقعات التي تقع بهم من هذه الأسلحة التي ذكرها وهي تقع بهم مفصلة لأنهم يطعنون تارةً بالرماح وتارةً بالسيوف يضربون
حرموا الذي أملوا وأدرك منهمُ ... آمالهُ من عادَ بالحرمانِ
حرموا ما أملوا من الظفر بك ومن عاد إلى بيته بحرمان الغنيمة فقد أدرك أمله لأنه نجا برأسه ومن روى بالذال فمعناه أدرك أمله بالحيوة وأغتنم النجاة من هلاكه بحرمان الغنيمة ورضى بهم فلم يحضر الحربَ
وإذا الرماح شغلن مجهة ثائرٍ ... شغلته مهجته عن الإخوانِ(1/298)
إذا تناوشت الرماحُ طالبَ ثار شغلته صيانةُ روحه عن إدراك ثار إخوانه والمعنى أنهم شغلوا بأنفسهم عن إدراكهم ثار قتلاهم
هيهات عاق عن العوادِ قواضبٌ ... كثر القتيل بها وقل العاني
أي بعد ما أملوا من العود إلى القتال فقد عاقهم عن ذلك سيوفٌ كثرت بها القتلى منهم وقل الأسير أي انهم لم يؤسروا بل قتلوا
ومهذب أمر المنايا فيهمِ ... فأطعنه في طاعةِ الرحمانِ
يعني بالمهذب سيف الدولة وإن المنايا أطاعته في الروم وذلك طاعة الله تعالى
قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفةَ الغربانِ
أي أسودت الأشجار بشعورهم التي طيرتها الريح فيها فكان الغربان قد دنت منها أي وقعت عليها شبه سواد شعورهم على الأشجار بالغربان السود وقوله فيه أي في الشجر والمسفة الدانية
وجرى على الورقِ النجيعُ القاني ... فكأنه النارنجُ في الأغصانِ
النجيع دم الجوف والقاني الشديد الحمرة والمعنى أنهم قتلوا على الجبال فاسود شجرها بشعورهم وأوراق الشجر احمرت بما سال عليها من دمائهم
إن السيوف مع الذين قلوبهم ... كقلوبهن إذا التقى الجمعانِ
يقول السيوف إنما تعين الشجعان الذي لا يفزعون في الحرب كما لا تفزع هي واستعار لها قلوبا لما ذكر قلوبهم وهذا من قول البحتري، وما السيف إلا بزغادٍ لزينةٍ، إذا لم يكن أمضى من السيف حاملهْ،
تلقى الحسامَ على جراءة حدهِ ... مثل الجبان بكف كل جبانِ
رعفت بك العرب العمادَ وصيرت ... قمم الملوك مواقدَ النيرانِ
أي شرفت العرب بك يقال فلان رفيع العماد إذا كان شريفا وقاتلوا الملوك فاوقدوا على رؤسهم نار الحرب
أنساب فخرهم إليك وإنما ... أنسابُ أصلهمِ إلى عدنانِ
يا من يقتل من أراد بسيفهِ ... أصبحت من قتلاك بالإحسانِ
أي أحسنت إليّ حتى استبعدتني بالمنة والإحسانِ
فإذا رأيتك حار دونك ناظري ... وإذا مدحتك حار فيك لساني
وقال أيضا يمدحه ويذكر كذب البطريق في يمينه برأس الملك أنه يعارض سيف الدولة في الدرب سنة 345
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندمُ ... ماذا يزيدك في إقدامك القسمُ
يقول عاقبة القسم على عاقبة الحرب ندمٌ يعني من حلف على الظفر في عاقبة الحرب ندم لأنه رما لا يظفر ذكر أن القسم لايزيد في الإقدام لأن الجبان لا يقدم وإن حلف
وفي اليمين على ما أنت واعدهُ ... ما دل أنك في الميعاد متهمُ
إذا حلفت على ما تعده من نفسك دلت اليمين على أنك غير صادق فيما تعده لأن الصادق لا يحتاج إلى اليمين
آلي الفتى ابن شمشقيقٍ فأحنثه ... فتى من الضرب ينسى عنده الكلمُ
ابن شمشقيق بطريق الروم يقول حلف فاحنثه من ينسى عند ضربه اليمين والكلام لشدته يعني سيف الدولة
وفاعلٌ ما اشتهى يغنيه عن حلفٍ ... على الفعال حضورُ الفعلِ والكرمُ
يفعل ما يريد لأنه ملك لا معارض له ويغنيه عن القسم على ما يفعله حضور فعله وكرمه أي أنه موثوق به لكرمه وفعله ما يريد حاضرٌ عاجلٌ فلا يحتاج أن يقسم على ما يريد فعله
كل السيوف إذا طال الضراب بها ... يمسها غير سيف الدولة السأمُ
لو كلت الخيل حتى لاتحملهُ ... تحملتهُ إلى أعدائه الهممُ
قال ابن جنى الاختيار في تحمله الرفع لأنه فعل الحال من حتى كأنه قال حتى هي غير متحملة والنصب جائز على معنى إلى أن لا تحمله يقول لو عجزت الخيل عن حمله إلى اعدائه لسار إليهم بنفسه لأن همته لا تدعه يترك القتال
أين البطاريق والحلف الذي حلفوا ... بمفرقِ الملك والزعمُ الذي زعموا
يقول أين ذهبوا وكيف تركوا يمينهم برأس الملك وأين ما وعدوه من أنفسهم من القتال والزعم كنايةٌ عن الكذب يعني أن كل ذلك كان كذبا وروى ابن جنى البطارق بغير ياء والأصل بالياء
ولي صوارمهُ إكذابَ قولهمِ ... فهنَّ ألسنةٌ أفواهُها القممُ
ولى سيف الدولة سيوفه أن تكذبهم فيما قالوا من الصبر على القتال فكذبتهم سيوفه بقطع رؤوسهم وجعلها كالألسنة تعبر عن تكذيبهم ولما جعلها السنة جعل رؤوسهم كالأفواه لأنها تتحرك في تلك الرؤوس تحرك اللسان في الفم
نواطق مخبراتٌ في جماجمهم ... عنه بما جعلوا منه وما علموا(1/299)
هذا البيت تفسير للمصراع الأخير من البيت الأول يقول سيوفه تخبرهم عن سيف الدولة بما علموا من إقدامه وشجاعته وصبره في الحرب وبما جهلوا منه لأنهم لم يعرفوا ما عنده من الشجاعة تمام المعرفة
الراجع الخيل محفاةً مقودةً ... من كل مثل وبارٍ أهلها إرامُ
يقول هو الذي يرد الخيل عن غزواته وقد حفيت بكثرة المشي يقودها من كل بلد مثل وبار في الهلاك وأهلها بادوا وهلكوا هلاك ارم وليس يريد أن وبار كان أهلها أرم بل يريد أن الديار التي رد عنها خيله كانت كوبار خرابا وأهلها هلاكا ووبار مدينة قديمة الخراب يقال أنها من مساكن الجنّ قال ابن جنى وهي مبنية على الكسر مثل حذامِ وقطامِ وإرمُ جيل من الناس هلكوا في قديم الدهر يقال أنهم من عادٍ
كتل بطريق المغرور ساكنها ... بأن دارك قنسرون والأجمُ
تل بطريق بلد بالروم وهو تفسير لقوله من كل مثل وبار يعني من كل بلد مثل وبار كتل بطريق التي غر ساكنها بأنك بعيد عنهم لا تقدر على قطع ما بينك وبينهم من المسافة وقنسرون بالشام والأجم مكان بقرب الفراديس
وظنهم أنك المصباح في حلبٍ ... إذا قصدت سواها عادها الظلمُ
أي غروا بظنهم أنك لا ترتحل عن حلب لأنك إذا ارتحلت عنها وبعدت انتقضت عليك ولايتها
والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا ... والموت يدعون إلا أنهم وهموا
أي جهلوا أنك كالشمس تعم الأماكن وإن كانت بعيدة وغلطوا فلم يعرفوا أنك كالمو الذي لايتعذر عليه مكان
فلم تتم سروج فتح ناظرها ... إلا وجيشك في جفنيه مزدحمُ
يقول لم تصبح سروج إلا وخيلك مزدحمة عليها جعل الصباح لها بمنزلة فتح الناظر
والنقع يأخذ حرانا وبقعتها ... والشمس تسفر أحيانا وتلتثمُ
حران على بعد من سروج يعني أن الغبار وصل إليها لعظم الحرب وقال أوب العلاء المعري بقعتها بفتح الباء مكان كالبطحاء يعرف ببقعة حران وأحسن بما قال فإن ذكر البقعة بالضم ها هنا لا يحسن لأن النقع إذا أخذ حرانا أخذ بقعتها وإن لم تذكر
سحب تمر بحصنِ الران ممسكةً ... وما بها البخل لولا أنها نقمُ
يعني جيش سيف الدولة وحسن الران من عمله يقول أمساكها ليس بخلا وإنما هو اشفاق على دياره والنقم تصب على ديار الأعداء
جيش كأنك في ارضٍ تطاولهُ ... فالأرض لا أمم والجيش لا أممُ
التاء في تطاوله للارض يقول بعدت الأرض فاطلت كأنها تطاول جيشك الكبير البعيد أطرافه ولاكهما كان طويلا ثم فسر هذا بقوله
إذا مضى علم منها بدا علمٌ ... وإن مضى علم منه بدا علمُ
علم الأرض هو الجبل وعلم الجيش معروف أي فلا الجبال كانت تفنى ولا أعلام الجيش
وشرب أحمت الشعري شكائمها ... ووسمتها على آنافها الحكمُ
الشرب جمع الشارب وهو الضامر من الخيل والشعري من نجوم القيظ يقول حميت حدائد لجمها بحرارة الهواء حتى جعلت الحكم وهو جمع حكمة اللجام تسم أنوف الخيل
حتى وردن بمسنين بحيرتها ... تنش بالماء في أشداقها اللجمُ
حتى وردت الخيل بحيرة هذا الموضع وكرعت في الماء فسمع للجمها نشيش في أشداقها ويريد أنها كانت محماةً فلما أصابها الماء نشت ويريد أنها لسرعتها تشرب الماء على اللجم
وأصبحت بقورى هنزيط جائلةً ... ترعى الظبا في خصيب نبتهُ اللممِ
يقول أصبحت الخيل بقرى هذا المكان تجول للغارة والقتل والسيوف ترعى في مكان خصيب من رؤوسهم غير أن نبت ذلك المكان الشعور والمعنى أن السيوف تصل من الرؤوس مثل ما يصل إليه المال الراعي في البلد الخصيب
فما تركن بها خلداً له بصرٌ ... تحت الترابِ ولا بازا له قدمُ
الخلد ضرب من الفار ليس لها عيون يعني أن أهل الروم كانوا قسمين قسم دخل المطامير والأسراب كالفار إذا ريعت من شيء دخلت جحرها وقسم توقلوا في الجبال واعتصموا بها كالبازي يطير علواً وجعل من دخل الأسراب خلدا ذا أعين والذين تحصنوا بالجبال بزاةً لها أقدامٌ لأنه يريد بالفريقين ناسا والمعنى ما تركت السيوف انسانا دخل المطورة تحت الأرض فصال كالخلد ولا من تعلق برأس الجبال فصار كالبازي إلا اهلكته
فلا هزبرا له من درعهِ لبدٌ ... ولا مهاةً لها من شبهها حشمُ(1/300)
ولا بطلا كالهزبر له مكان اللبد الدرع ولا جاريةً كالمهاة لها خدم من شبهها والمهاة التي هي البقرة الوحشية لا خدم لها من شبهها
ترمي على شفراتِ الباترات بهم ... مكامنُ الأرض والغيطان والأكمُ
أي لقرب حينهم وحلول آجالهم لم ينفعهم الهرب حتى كأن مهاربهم من الغيطان والجبال ترمي بهم على حد السيف
وجاوزوا أرسناسا معصمين به ... وكيف يعصمهم ما ليس ينعصمُ
يقول قطعوا هذا النهر متمسكين بقطعه ليعصمهم عنك وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم منك لأنك تقطعه وتربه بالسفن ورآءهم
وما يصدك عن بحرٍ لهم سعةٌ ... وما يردك عن طودٍ لهم شممُ
أي سعة بحارهم لا تصدك عنها لأنك تقطعها وإن كانت واسعةً وارتفاعُ جبالهم لا يردك عنها لأنك تفرعها
ضربته بصدور الخيل حاملةً ... قوماً إذا تلفوا قدما فقد سلموا
يقول ضربت النهر بصدور الخيل حتى عبرته وهي تحمل قوما التلف عندهم في الأقدام سلامة أي لا يهابون التلف بل يتسرعون إليه
تجفل الموج عن لبات خيلهمِ ... كما تجفل تحت الغارة النعمُ
يقول الموج ينبسط على الماء صادرةً عن صدور خيلهم السابحة فيه كما تنبسط النعم متفرقةً عند الغارة والتجفل الإسراع في الذهاب
عبرت تقدمهم فيه وفي بلدٍ ... سكانهُ رممٌ مسكونها حممُ
عبرت النهر بتقدم الفرسان فيه وفي بلد قتلت أهلها فصاروا رمما واحرقت مساكنهم فصارت حمما وحمم جمع حمة وهل كل ما احترق بالنار ومنه قول طرفة، أشجاك الربعُ أم قدمه أم رمادٌ دارسٌ حممهُ،
وفي أكفهم النار التي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرمُ
يعني السيوف التي كانت مطاعةً في كل وقت قبل أن عبدت المجوسُ النار وهي نارٌ تضطرم إلى هذا اليوم أي تتوقد وتتبرق
هندية إن تصغر معشرا صغروا ... بحدها أو تعظم معشرا عظموا
قاسمتها تل بطريقٍ فكان لها ... أبطالها ولك الأطفال والحرمُ
قاسمت سيوفك هذه البلدة يعني أهلها فأعطيتها المقاتلة أي قتلتهم وسبيت الذرية والنساء
تلقى بهم زبد التيار مقربةٌ ... على جحافلها من نضحه رثمُ
عنى بالمقربة السفن جعلها كالخيل المقربة وقد ذكرناها والنضح أثر الماء والرثم بياض في شفة الفرس العلياء يريد أنه عبر بالسبي الماء وهم في زوارق وسميريات ولما سماها مقربة جعل ما لصق من زبد الماء بها كالرثم في جحافل الخيل
دهم فوارسها ركاب أبطنها ... مكدودةٌ وبقومٍ لا بها الألمُ
أي سود مقيرةٌ يركب بطنها لا ظهرها والتعب في سيرها على الملاحين لا عليها
من الجياد التي كدت العدو بها ... وما لها خلق منها ولا شيمُ
يقول هذه المقربة يعني الزوارق من الخيل التي جعلتها كيدا لاعدائك وليس لها خلق الخيل وصورها ولا أخلاقها
نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ ... كلفظ حرف وعاهُ سامعٌ فهمُ
أي هم مما أحدثه رأيك في وقت قريب المدة كالمدة في فهم السامع كلمةً بها ناطق أي كانت المدة في اتخاذها كالمدة في فهم السامع حرفا أي كلمةً ويجوز أن يريد الواحد من حروف المعجم مما له معنى كع من وعيت ود من وديت
وقد تمنوا غداة الدرب في لجبٍ ... أن يبصروك فلما أبصروك عموا
اللجب اختلاط الأصوات واللجب بكسر الجيم نعتٌ للجيش العظيم الذي تختلط اصواتهم يقول أرادوا أن يبصروك فلما أبصروك غضت هيبتك عيونهم عنك فكأنهم عموا وذكر ابن جنى في تفسير عموا وجهين احدهما هلكوا وزالت ابصارهم والآخر عموا عن الرأى والرشد أي تحيروا وكلاهما ليس بالوجه
صدمتهم بخميس أنت غرتهُ ... وسمهريتهُ في وجههِ غممُ
جعل الرماح في هذا الجيش كالغمم في الوجه وهو كثرة الشعر وهو من قول الآخر، فلو أنا شهدناكم نصرنا، بذي لجب أزب من العوالي،
فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم
والأعوجية ملء الطرق خلفهم ... والمشرفية ملء اليوم فوقهم
الأعوجية الخيل المنسوبة إلى أعوج فحل معروف عن فحول العرب أي كانت لكثرتها تملأ الطرق وجعل السيوف ملء اليوم لأنها تعلوا في الجو وتنزل عند الضرب في الهواء فأينما كان النهار كانت السيوف وهذا مبالغة في القول وإغراق في الوصف
إذا توافقت الضربات صاعدةً ... توافقت قللٌ في الجو تصطدمُ(1/301)
إذا اتفقت الضربات من الأبطال صاعدةً في الهواء لأن اليد ترفع للضرب اتفقت رؤوس مقطوعة بتلك الضربات متصادمة في الهواء يعني أ، هم لا يضربون ضربةً إلا قطعوا بها رأسا فالرؤوس مقطعوة على قدر الضربات لا تخطىء لهم ضربة عن قطع الرأس
وأسلم ابن شمشقيقٍ أليتهُ ... ألا أنثنى فهو ينأى وهي تبتسمُ
ترك يمينه التي حلف بها على الصبر والثبات وإن لا ينهزم فهو يبعد في الهزيمة ويمينه تسخر منه وتضحك
لا يأمل النفس الأقصى لمهجتهِ ... فيسرق النفس الأدنى ويغتنمُ
أي ليأسه عن نفسه لا يرجو أن يدرك النفس البعيد فيغتنم نفسه في الحال
ترد عنه قنا الفرسان سابغةٌ ... صوب الأسنة في أثنائها ديمُ
أي تمنع الرماح من النفوذ يه درع سابغة وقد تلطخت بالدماء التي تسيل من الأسنة عليها واثناؤها مطاويها
تخط فيها العوالي ليس تنفذها ... كأن كل سنانٍ فوقها قلمُ
أي تؤثر فيها ولا تنفذها حتى كأنها قلم يؤثر في الكاغد ولا ينفذه
فلا سقى الغيث ما واراه من شجرٍ ... لو زل عنه لوارت شخصه الرخمُ
يريد أنه دخل في خمر من الشجر فستره عن أعين الخيل ولولا ذلك لقتل وألقى للطير فكانت تجتمع عليه فتوارى شخصه ودعا على تلك الشجرة بأن لا تسقى الماء
ألهى الممالك عن فخرٍ قفلت به ... شرب المدامة والأوتارُ والنغمُ
الممالك جمع المملكة وهي جمع ملك كالمشائيخ جمع المشيخة وهي جمع شيخ ويجوز أن يريد به أرباب الممالك فحذف المضاف يقول شغلهم اللهو عما كسبت من الفخر في هذه الغزوة
مقلدا فوق شكر الله ذا شطبٍ ... لا تستدام بأمضى منهما النعمُ
أي جعلت الشكر شعارك وقلدت فوقه سيفا تجاهد به أعداء الله تعالى ولا شيء في استدامة النعم مثلهما
ألقت إليك دماء الروم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضربٍ أجاب دمُ
يسابق القتل فيهم كل حادثةٍ ... فما يصيبهم موتٌ ولا هرمُ
نفت رقاد عليٍّ عن محاجرهِ ... نفسٌ يفرج نفساً غيرها الحلمُ
القائم الملك الهادي الذي شهدت ... قيامه وهداه العربُ والعجمُ
القائم أي بالأمور يدبرها ويمضيها على وجهها الهادي إلى دين الله حضرت العرب العجم قيامه بالأمور والحروب وهداه في الدين
إبن المعفر في نجدٍ فوارسها ... بسيفه وله كوفان والحرمُ
هو ابن الذي عفر فوارس نجدٍ أي القاهم على العفر وهو التراب يعني حرب أبي الهيجاه للقرامطة وولايته طريقَ مكة وكوفان اسم الكوفة
لا تطلبن كريما بعد رؤيته ... إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعرٍ بعد شاعرهِ ... قد أفسد القول حتى أحمد الصممُ
وقال أيضا وقيل أنه أراده به
فارقتكم فإذا ما كان عندكم ... قبل الفراقِ أذى بعد الفراقِ يدُ
يقول ما كان يؤذيني منكم قبل فراقكم صار يدا بعد فراقكم لأن ذلك بعثني على مفارقتكم
إذا تذكرت ما بيني وبينكمُ ... أعان قلبي على الشوق الذي أجدُ
أي الجفاء أعان قلبي على الشوق فلا يغلبه شوق إليكم أي لا أشتاق إليكم إذا تذكرت ما كان بيننا قبل الفراق هذا الذي ذكرنا في البيتين قول ابن جنى وعليه أكر الناس وقال العروضي هذا غلط ألا يرونه يقول أعان قلبي على الشوق الذي أجد ومن تخلص من بلية لم يتداركه شوق إليها ومعنى البيت الأول ما كنت أحسبه عندكم أذى كان إحسانا إلى جنب ما ألقاه من غيركم كما قال آخر، عتبت على سلمٍ فلما هجرته، وجربت أقواما بكيتُ على سلمِ، ثم قال إذا تذكرت ما بيني وبينكم من صفاء المودة أعانني ذلك على مقاومة الشوق إذا علمت أنكم على العهد والوفاء بالمودة وقول ابن جنى أظهر من قول العروضي وقال يرثي أخت سيف الدولة الكبرى ويعزيه بها وتوفيت بميافارقين
يا أخت خير أخٍ يا بنتَ خيرِ أبِ ... كنايةً بهما عن أشرفِ النسبِ
أراد يا أخت سيف الدولة ويا بنت أبي الهيجاء فكنى عن ذلك ونصب كنايةً على المصدر كأنه قال كنيت كناية
أجل قدرك أن تسمى مؤبنةً ... ومن يصفك فقد سماكِ للعربِ(1/302)
مؤنبة مرثية من التأبين وهو مدح الميت وتسمى بمعنى تسمى أي أنت أجل من أن تعرفي بإسمك بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك كما قال أبو نواس، فهي إذا سميت لقد وصفتن فيجمع افسم معنيين معاً،
لا يملك الطرب المحزون منطقهُ ... ودمعهُ وهما في قبضةِ الطربِ
من استخفه الحزن غلب على لسانه ودمعه فلا يبقى له ملكة عليهما وإذا ملكهما غلبه الطرب وصارا في قبضته والمعنى أن المحزون يسبقه لسانه ودمعه فلا يملكهما ويريد بالطرب ها هنا ما يقلقه من الحزن
غدرت يا موت كم أفنيت من عدد ... بمن أصبت وكم أسكت من لجبِ
قال ابن جنى يقول غدرت بها يا موت لأنك كنت تصل بها إلى أفناء عدد الأعداء وأسكات لجبهم أي كانت فاضلةً تغزي الجيوش وتبير الأعداء قال العروضي قلما توصف المرأة بهذه الصفة وعندي أنه أراد مات بموتها بشر كثير وأسكت لجبهم وترددهم في خدمتها ويجوز أن يريد أنهم سقطوا عن برها وصلتها فكأنهم ماتوا انتهى كلامه وشرح هذا أن يقول وجه غدر الموت أنه اظهر اهلاك شخص وأضمر فيه أهلاك عالم كانت تحسن إليهم فهلكوا بهلاكها هذا معنى قوله كم أفنيت من عدد كما قال الآخر، فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ، ولكنه بنيان قومس تهدما، وكقول أبن المقفع، وأنت تموت وحدك ليس يدري، بموتك لا الصغير ولا الكبير، تقتلني فتقتل بي كريما، يموت بموته بشر كثير، ومعنى آخر وهو أنه يقول غدرت بسيف الدولة يا موت حيث أخذت أخته وكنت تفنى به العدد الكثير وتهلك به الجيوش الذين لهم لجب وهو اختلاط الأصوات وإذا كان هو عونك على الافناء والأهلاك كان من حقك أن لا تصيبه بأخته
وكم صحبت أخاها في منازلةٍ ... وكم سألت فلم يبخل ولم تخبِ
أي كم سألته تمكينك من اهلاك من أردت فأجابك إلى ذلك ومكنك بسيفه ممن أردت وهذا كقوله أيضا شريك المنايا
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ
يريد خبر نعيها وأنه رجا أن يكون كذبا وتعلل بهذا الرجاء
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
أي حتى إذا صح الخبر ولم يبق أمل في كونه كذبا شرقت بالدمع لغلبة البكاء أياي حتى كاد الدمع يشرق بي أي كثرت الدموع حتى صرت بالإضافة إليها لقلتي كالشيء الذي يشرق به والشرق بالدمع أن يقطع الانتحاب نفسه فجعله في مثل حال الشرق بالشيء والمعنى كاد الدمع لاحاطته بي أن يكون كأنه شرق بي
تعثرت به في الإفواه ألسنها ... والرد في الطرق والأقلام في الكتبِ
أي لهول ذلك الخبر لم تقدر الألسن في الأفواه أن تنطق به ولا البريد في الطريق أن يحمله ولا الاقلام أن تكتبه ولم يلحق الياء في به بالهاء واكتفى بالكسرة ضرورةً وقد جاء عن العرب ما هو أشد من هذا كقول الشاعر، وأشربُ الماء ما بي نحوه عطشٌ، إلا لن عيونه سيل واديها، وهذا كقراءة من قرأ لا يؤده إليك بسكون الهاء ويروي تعثرت بك يخاطب الخبر ويترك لفظ الغيبة
كأن فعلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب
كنى بفعلة عن أسمها خولة يذكر مساعيها أيام حياتها يقول كأنها لم تفعل شيئا مما ذكر لن ذلك انطوى بموتها
ولم ترد حيوةً بعد توليةٍ ... ولم تغث داعياً بالويل والحربِ
يعني أنها كانت في حيوتها ترد حيوة الملهوف والمظلوم بالإغاثة والإجارة والبذل وتغيث الداعي بالويل والحرب
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
يقول طال ليل أهل العراق مذ أتى نعيها حزنا عليها فكيف ليل أخيها سيف الدولة في حلب
يظن أن فؤادي غير ملتهبٍ ... وأن دمع جفوني غير منسكبِ
أراد أيظن بالاستفهام فحذفه وهو يريده والتاء للخطاب والياء اخبار عن سيف الدولة
بلى وحرمة من كانت مراعيةً ... لحرمة المجد والقصاد والأدبِ
أي بلى فؤادي ملتهب ودمعي منسكبٌ ثم أقسم على هذا بحرمة من كانت تراعي حرمة ما ذكر
ومن مضت غير موروثٍ خلائقها ... وإن مضت يدها موروثةَ النشبِ
يعني ومن ماتت ولم تورث خلائقها لأنه ليس يوجد بعدها من يتخلق باخلاقها وإن كان مالها موروثا
وهمها في العلى والمجد ناشئةً ... وهم أترابها في اللهو واللعبِ(1/303)
هذا من قول حمزة بن بيضن فهمك فيها جسام الأمور، وهم لداتك أن يلعبوا،
يعلمن حين تحيى حسن مبسمها ... وليس يعلم إلا الله بالشنبِ
يقول أترابها إذا حيينها راين حسن مبسمها ولم يطلع على ما وراء شفتها من الشنب إلا الله لأنه لم يذقه أحد والشنب برد الريق ومنه قول الراجز، وا بأبي أنتِ وفوكِ الأشنبُ، واساء في ذكر حسن مبسم أخت ملك وليس من العادة ذكر جمال النساء في مراثيهن قال ابن جنى فكان المتنبي يتجاسر في الفاظه جدا
مسرةٌ في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرةٌ في قلوب البيض واليلبِ
الطيب يسر باستعمالها إياه والبيض يتحسر على تركها لبس البيض واستعار لها قلوبا لما وصفها بالسرور والحسرة واليلب سيور تجعل تحت البيض وربما لبسوها إذا لم يكن لهم درع
إذا رأى ورآها رأس لابسهِ ... رأى المقانع أعلى منه في الرتبِ
إذا رأى البيت أو اليلب رأس لابسه ورأى هذه المرأة رأى المقانع التي تلبسها هذه المرأة أعلى رتبةً من البيض
وإن تكن خلقت أنثى لقد خلقتْ ... كريمةً غير أنثى العقلِ والحسبِ
وإن تكن تغلبُ الغلباءُ عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنبِ
الغلباء الغليظة الرقبة وهو نعت تغلب وجعلهم غلاظ الرقاب لأنهم لا يذلون لأحد ولا ينقادون له وفي هذا البيت تفضيل هذه المرأة على أبائها التغلبيين كتفضيل الخمر على العنب والعنب أصلها وهي أفضل من العنب وهذا كقوله، فإن تفق الأنام وأنت منهم، فإن المسك بعض دم الغزال، وكقوله، وما أنا منهم بالعيش فيهم، البيت
فليت طالعة الشمسين غائبةٌ ... وليت غائبةَ الشمسين لم تغبِ
جعلها وشمس النهار شمسين ثم قال ليت طالعتهما وهي شمس النهار غائبة وليست غائبتهما وهي المرثية لم تغب أي أنها كانت أعم نفعا من شمس النهار فليتها بقيت وفقدنا الشمس
وليت عين التي آب النهارُ بها ... فداء عينِ التي زالت ولم تؤبِ
أي ليت عين الشمس فداء عين هذه المرأة التي فارقت ولم تعد
فما تقلد بالياقوت مشبهها ... ولا تقلد بالهندية القضبِ
أي لم يكن لها شبيه لا من الرجال ولا من النساء والقضب جمع القضيب وهو اللطيف الدقيق من السيوف
ولا ذكرت جميلا من صنائعها ... إلا بكيت ولا ود بلا سببِ
يقول إذا ذكرت صنائعها بكيت لمحبتي إياها والمحبة لها سبب وسبب محبتي صنائعها لدي وإحسانها إليّ وروى ابن جنى بلا ود ولا سبب أي لم يكن بكائي لود أو سببٍ سوى صنائعها
قد كان كل حجابٍ دون رؤيتها ... فما قنعت لها يا أرض بالحجبِ
أي كانت محجوبة عن الأعين بكل حجاب فأحبت الأرض أن تكون من حجبها فانضمت عليها
ولا رأيت عيون الإنس تدركها ... فهل حسدت عليها أعين الشهبِ
يقول للأرض هل حسدت أعين الكواكب على رؤيتها حتى حجبتها بنفسك فإن عيون الإنس كانت لا تدركها
وهل سمعت سلاما لي ألم بها ... فقد أطلت وما سلمت من كثبِ
يقول للأرض هل سمعت سلاما لي أتاها يريد أنه يجهر إليها السلام والدعاء وسال الأرض عن بلوغ سلامه إليها ثم قال وقد أطلت التأبين والمرثية وتجهير السلام عليها ولم أسلّم عليها من قرب وذلك أنها ماتت على البعد منه ولم يعرب أن جنى معنى هذا البيت فجعل الاستفهام فيه استفهام إنكار قال يقول قد أطلت السلام عليها وإنا بعيد عنها فهل سمعت يا ارض سلامي قريبا منها ويدل على فساد هذا قوله
وكيف يبلغ موتانا التي دفنت ... وقد يقصر عن أحيائنا الغيبِ
روى ابن جنى عن احبابنا الغيب قال أي كيف يبلغ سلامي الموتى وقد يقصر دون الإحياء يعرض بسيف الدولة فإنه يقصر سلامه دونه وأنكر ابن فورجة هذا التعريض وقال هذا على العموم أي أن السلام قد يقصر على الحيّ الغائب فكيف عن الميت وليس في الكلام ما يدلع لى التعريض بسيف الدولة
يا أحسن الصبر زر أولى القلوبِ بها ... وقل لصاحبهِ يا أنفع السحبِ
أولى القلوب بهذه المرأة قلب سيف الدولة والهاء في لصاحبه تعود على أولى القلوب وصاحبه سيف الدولة أي وقل لسيف الدولة يا أنفع السحب يريد أن عطاءه أهنأ لنه بلا أذى والسحاب قد يؤذي سيله وتهلك صواعقه
وأكرم الناس لا مستثنياً أحداً ... من الكرام سوى آبائك النجبِ(1/304)
قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... فعاش درهما المفديُّ بالذهبِ
يعني بالشخصين أختيه ماتت أحدهما وهي الصغرى وبقيت الكبرى فكانت كدرٍّ فدى بذهبٍ جعل الكبرى كالدر والصغرى كالذهب
ما كان أقصر وقتا كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقربِ
يريد أن قصر ما كان بين موتيهما من الزمان كان كقصر ما بين الورود والليلة التي يصبح فيها الماءُ
جزاك ربك بالأحزان مغفرةً ... فحزن كل أخي حزنٍ أخو الغضبِ
إنما استغفر له من الأحران لأن الحزن كالغضب والغضب ممن هو تحتك إذا أصابتك منه ما تكره والحزن ممن هو فوقك وقد جمعهما الله تعالى في قوله ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فالغضب إنما كان على قومه الذين عبدوا العجل والأسف إنما كان بسبب خذلان الله إياهم حين عبدوا العجل والإنسان إذا حزن لمصيبةٍ تصيبه فكأنه على القدر المقدور حيث لم يجر بمراده والغضب على المقدور مما يستغفر منه
وأنتم نفر تسخو نفوسكم ... بما يهبن ولا يسخون بالسبِ
أي كان الدهر سلبك وأنت تجزع لأنك لا تسخو بالسلب وهذا كقوله، لا جزعا بل أنفا شابه، أن يقدر الدهر على غصبهِ، وقوله ولا يسخون إخبار عن النفوس كقوله تعالى إلا أن يعفون يعني النساء
حللتم من ملوكِ الناس كلهمِ ... محل سمرِ القنا من سائر القصبِ
فلا تنلك اليالي إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغربِ
النبع ما صلب من الخشب وهو ينبت في الجبال والغرب نبت ضعيف يقول لا أصابتك الليال بسوء فإنها تغلب القويَّ بالضعيف ولهذا قال
ولا يعن عدوا أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخربِ
الخرب ذكر الحباري وجمعه خربان كما قال
وإن سررن بمحبوبٍ فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجبِ
يقول إن سرتك الأيام بوجود ما تحبه فجعتك بفقده إذا استردته وقد ارينا العجب حيث سررنك بها ثم فجعنك بفقدها فكانت سببا للسرور والفجيعة وهذا عجب أن يكون شيء واحد سببا للمسرة والمساءة
وربما أحتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمرٍ غير محتسبِ
أي قد يحسب الإنسان أن المحن قد تناهت فيأتيه شيء لم يكن في حسابه والمعنى أنه لا يؤمن فجاآت الدهر
وما قضى أحدٌ منها لبانته ... ولا انتهى أربٌ إلا إلى أربِ
لم يقضِ أحد حاجته من الليالي لن حاجات الإنسان لا تنقضي وهو قوله ولا انتهى اربٌ إلا إلى أرب كما قال الآخر، تموت مع المرء حاجاته، وتبقى له حاجةٌ ما بقي، واللبانة الحاجة والأرب الغرض
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجبٍ والخلف في الشجبِ
يقول جرى الخلف في كل شيء حتى لم يتفق الناس إلا على الهلاك وهو أن منتهى الحيوان أن يموت فيهلك ثم قال والخلف الحقيقي في الهلاك وهو ما ذكره في قوله
فقيل تخلص نفس المرء سالمةً ... وقيل تشرك جسمَ المرء في العطبِ
يريد بالنفس الروح والناس مختلفون في هلاك الأرواح فالدهرية والذين يقولون بقدم العالم يقولون الروح تفنى كما يفنى الجسم والمومنون بالبعث يقولون الأرواح تسلم من الهلاك ولا تفنى بفناء الأجسام
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامهُ الفكر بين العجز والتعبِ
إنما يقيمه الفكر بين العجز والتعب لأنه يتعب تارة في طلب الدنيا وتارةً يترك طلبها للعجز خوفا على مهجته فلا ينفك الإنسان من تعب أو عجز فالطالب متعوب والقاعد عن الطلب عاجز وإنما عجزه للخوف على مهجته فلو تيقن بسلامة المهجة لم يقعد عن الطلب ولم يركن إلى العجز وقال أيضا يمدحه وقد بعث إليه هديةً إلى العراق ومالا دفعةً بعد دفعة في شوال سنة 351
ما لنا كلنا جو يا رسولُ ... أنا أهوى وقلبك المتبولُ
المتبول الذي قد أفسده الحب ومنه قول الشاعر، تبلت فؤادك في المنام خريدةٌ، تسقي الضجيع بباردٍ بسامِ، والجوى الذي قد أصابه الجوى وهو داء في الجوف يتهم رسله الذي يرسله إلى الحبيبة بمشاركته إياه في حبها يقول ما لنا كلانا جوٍ بحبها أنا العاشق وقلبك الفاسد بالحب
كلما عاد من بعثت إليه ... غار مني وخان فيما يقولُ
يقول كلما عاد إليّ الرسول غار عليّ بحبها لأنه رأى حسنها فحمله ذلك على الغيرة وخان فيما يؤدي من الرسالة إليّ منها وإليها مني(1/305)
أفسدت بيننا الأماناتِ عينا ... ها وخانت قلوبهن العقولُ
يقول عيناها بسحرهما أفسدتا عليّ أمانة الرسول حتى ترك الأمانة في الرسالة حبا لها وخانت العقول قلوبها أي فارقت العقول القلوبَ سببها وفي قوله قلوبهن ضمير قبل الذكر كما تقول ضرب غلامه زيد ومعنى خيانة العقول أنها لا تصور للقلوب وجوب حفظ الأمانة لأن الرسول إذا نظر إليها غلبه هواها على الأمانة وغلب عقله وهذا كقوله، وما هي إلا لحظة بعد لحظة، إذا نزلت في قلبه رحلَ العقلُ،
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ... ق إليها والشوق حيث النحولُ
يقول الحبيبة تشكو من الشوق ما أشكو إليها ثم كذبها في تلك الشكوى فقال والشوق حيث النحول يعنيأن للشوق دليلا من النحول فمن لم يكن ناحلا لم يكن مشتاقا
وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ ... فعليه لكل عينٍ دليلُ
زودينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حالٌ تحولُ
وصلينا نصلك في هذه الدن ... يا فإن المقام فيها قليلُ
من رآها بعينها شاقه القط ... انُ فيها كما تشوق الحمولُ
يقول من نظر إلى الدنيا بالعين التي ينبغي أن ينظر بها إليها رق للباقين رقته للماضين الفانين وكنى عن الرقة بالشوق لأن الشوق ترقيق القلب والحمول المرتحلون وكأنه أراد ذا الحمول فحذف المضاف والقطان السكان المقيمون
إن تريني أدمت بعد بياضٍ ... فحميد من القناةِ الذبولُ
يقول أن غيرت الأسفار وجهي حتى صرت آدم بعد بياض الوجه فليس ذلك بعيب فيّ كما أن الذبول وإن كان مذموما في غير القناة فإنه محمود فيها لأنه يؤذن بصلابتها كما قال أبو تمام، لانت مهزتة فعزوا إنما، يشتد رأس الرمح حين يلين،
صحبتني على الفلاةِ فتاةٌ ... عادةُ اللونِ عندها التبديلُ
يريد بالفتاة الشمس لأن طلوعها يتجدد فهي بكر كل يوم أو لأن الدهر لا يؤثر فيها والشمس تبدل اللون وتحول البياض إلى السواد
سترتك الحجال غنها ولكن ... بك منها من اللمى تقبيلُ
يقول أنت في كن من الشمس لا يصيبك حرها ولكن بك منها تقبيل لمى في شفتك من السواد كأنها قبلتك فاورثتك اللمى
مثلها أنت لوحتني وأسقم ... ت وزادت أبهاكما العطبولُ
يقول أنت مثل الشمس في أنها غيرت لوني فاسقمتني أنت وزادت تأثيرا في أبهاكما وهي أنت ثم وصفها فقال العطبول وهي التامة الجسم
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ ... أطويل طريقنا أم يطولُ
هذه رواية ابن جنى يقول أطويل هو في الحقيقة أم يطوله الشوق إلى المقصود يقول كنا أعلم بمقدار الطريق ولكنا سألنا والصحيح رواية غيره أقصير طريقنا أم يطول يقول علمنا قصر الطريق من طوله ولكنا سالنا تعللا بذكر الطريق إليه فإن الإنسان إذا أحب شيئا أكثر السؤال عنه وإن كان يعرفه كما قال بشر بن أبي حازم، أسائل صاحبي ولقد أراني، بصيرا الظعائن حيث صاروا، وكما قال الآخر، وخبرني عن مجلس كنت زينه، بحضرةِ قومس والملاء شهودُ، فقلت له كر الحديث الذي مضى، وذكرك من كر الحديث أريدُ، أناشده إلا أعاد حديثه، كأني بطيء الفهم حين يعيد، وقد أكد هذا المعنى فقال
وكثير من السؤال اشتياقٌ ... وكثير من رده تعليلُ
يقول كثير من السؤال يكون سببه الاشتياق وكثير من رد السؤال يكون تطييبا للسائل يريد أن الذي ملني على السؤال عن الطريق الاشتياق ولن أتعلل بالجواب عن السؤال
لا أقمنا على مكان وإن طا ... ب ولا يمكن المكان الرحيلُ
لا أقمنا معناه لم نقم كقوله تعالى فلا صدق ولا صلى وقال ابن فورجة معناه والله لا أقمنا قال ويجوز أن يكون على الدعاء كما تقول لا يفضض الله فاك يقول لم نقم في الطريق إليه بمكان وإن طاب ذلك المكان ثم قال ولا يمكن المكان أن يرتحل أي لو أمكنه لأرتحل معنا شوقا إليه
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيلُ
كلما طاب لنا مكان كأنه يرحب بنا لطيب المقام به قلنا لذلك المكان لا نقيم عندك لن قصدنا حلب وأنت الممر فلا نقيم عندك وإن طاب المكان ثم فسر فيما بعد فقال
فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والذميلُ
والمسمون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمولُ
الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي ما يزولُ(1/306)
زلت عنه فارقته عطاءه إياه وأنه لا يتوجه وجها إلا لقي جوده وقوله كل وجه أي كل طريق أتوجه إليه له أي لنداه كفيل بوجهي وهذا محمولٌ على القلب أراد لي كفيل بوجه نداه يرينيه ويأتيني به والقلب شائع في الكلام وهو كثير في الشعر يقول كل وجه توجهته لي كفيل بوجه نداه ويصح المعنى من غير حمل اللفظ على القلب وذلك أن من واجهك فقد واجهته ومن استقبلك فق استقبلته والأفعال المشتركة: يستوي المعنى في اسنادها إلى الفعال وإلى المفعول كما تقول لقيني زيد ولقيت زيدا وأصابني مال واصبت مالا وإذا كان للندى كفيل بوجهه كان لوجهه كفيل بالندى
فإذا العذل في الندى زار سمعا ... ففداه العذول والمعذولُ
يقول إذا عذل جواد على الجود فسمع ذلك ووعاه ففداء هذا الممدوح السمحاء والعذلون هذا اشارة إلى أنه لا يسمع العذل وغيره يسمع قال ابن فورجة أراد فداءك كل من عذل في جودٍ سمعه أو رده لنك فوقه جودا
وموالٍ تحييهم من يديه ... نعم غيرهم بها مقتولُ
يقول وفدته موالٍ حيوتهم من أنعامه عليهم وغيرهم مقتول بذلك الإنعام حسدا لهم أو أنه يسلبها من الأعداء فيقتلهم ويعطي أولياءه ثم ذكر تلك النعم
فرس سابق ورمح طويل ... ودلاص زغف وسيف صغيلٌ
الدلاص الدرع البراقة زغف لينة وفرس بدل من نعم وتفسير لها
كلما صبحت ديار عدو ... قال تلك الغيوث هذي السيولُ
كلما أتت مواليه صباحا للغارة دار عدو قال العدو تلك التي رأيناها قبل كانت بالإضافة إلى هؤلاء غيوثا عند الإضافة إلى السيول يريد كثرة مواليه وقال ابن جنى هذا مثل وعني بالغيوث سيف الدولة وبالسيوف موالية وذلك أن السيل يكون من الغيث وكذلك مواليه به قدروا وعزوا
دهمته تطاير الزرد المح ... كم عنه كما يطير النسيل
دهمته فاجأته يريد فاجأت الموالي العدو وهي تهتك دروع العدو حتى تطيرها عنهم كما يطير الريش إذا سقط من الطير
تنقص الخيل خيله قنص الوح ... ش ويستأسر الخميس الرعيلُ
يقول خيله تصيد الخيول كما تصيد الوحش والقليل من جيشه يأسر الجيش الكثير والرعيل القطعة من الخيل والخميس الجيش الكثير الذين هم خمس كتائب القلب والجناحان والمقدمة والساقة
وإذا الحرب أعرضت زعم الهو ... ل لعينيه أنه تهويلُ
يقول إذا قامت الحرب وظهرت لم تهله يزعم الهول لعيني الممدوح أنه تهويل لا حقيقة له والمعنى أنه لا يهوله شيء يراه وكأن الهول يقول له لا يهولنك ما ترى وذلك إن التهويل يكون بالكلام
وإذا صح فالزمان صحيحٌ ... وإذا اعتل فالزمان عليلُ
يقول هو الزمان فصحته صحة الزمان وكذلك علته وهذا كما يروي عن معاوية أ، هـ قال نحن الزمان فمن رفعناه ارتفع ومن وضعناه أتضع وروى أنه سمع رجلا يذم الزمان فقال لو يعلم ما يقول لضربت عنقه أن الزمان هو السلطان
وإذا غاب وجهه عن مكانٍ ... فبه من نثاه وجه جميلُ
الثنا الخبر وهو ما ينثي أي نشر من حديث يقول بكل مكان يسمع له خبر جميل
ليس إلاك يا عليُّ همامٌ ... سيفهُ دون عرضه مسلولُ
يقول ليس أحد من الملوك يقي عرضه بسيفه غيرك أي أنت الشجاع دونهم
كيف لا يأمن العراق ومصرٌ ... وسراياك دونها والخيولُ
يقول أنت وخيلك في وجه الروم تدفعونهم عن ديار المسلمين
لو تحرفت عن طريق الأعادي ... ربط السدر خيلهم والنخيلُ
يقول لو ملت عن طريق الروم لساروا فأوغلوا في ديار العرب حتى يربطوا خيولهم بالسدر والنخيل التي بالعراق والمعنى لولا ذبك عن هذه الممالك لملكتها الأعداء يريد بهذا الغض ممن بالعراق ومصر ن الملوك والرفع من شأن سيف الدولة وجعل الفعل للسدر والنخيل توسعا لأنها هي الممسكة إذا ربطت إليها فكأنها ربطتها
ودرى من أعزه الدفع عنه ... فيهما أنه الحقير الذليلُ
يعني وعلم من أعزه دفعك عنهما في مصر والعراق يعني كافورا وآل بويه أنه حقير ذليل بغلبة العدو إياه
أنت طول الحياة للروم غازٍ ... فمتى الوعد أن يكون القفولُ
وسوى الروم خلف ظهرك روم ... فعلى أي جانبيك تميلُ
يقول سوى الروم لك وراء ظهرك أعداء كالروم في المعاداة يعني آل بوبه
قعد الناس كلهم عن مساعي ... ك وقامت بها القنا والنصولُ(1/307)
يقول لم يبلغ أحد من الملوك مساعيك التي قامت بها رماحك وسيوفك
ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدارُ الشمولُ
يريد أن غيره من الملوك يشتغلون باللهو وشرب المدام وهو مشغول بالحرب
لست أرضى بأن تكون جوادا ... وزماني بأن أراك بخيلُ
أي لا أرضى بأن يصل إليّ عطاؤك وأني على البعد منك لا أراك
نغص البعدُ عند قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي هزيلُ
قوله مرتعي مخصب وجسمي هزيل يقول أنا في قرب عطائك مني وبعدي عنك كمن يرتع في مكان مخصب وهو مع ذلك مهزول أي لست أتهنأ بعطائك مع البعد عن لقائك
إن تبوأت غير دنياي دارا ... وأتاني نيل فأنت المنيلُ
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو ... رٍ ولي من نداك ريف ونيلُ
الريف سواد العراق والنيل فيض مصر
ما أبالي إذا اتقتك الرزايا ... من دهتهُ خبولها والحبولُ
الخبول جمع خبل وهو الفساد والحبول الدواهي وهي نجمع حبل يقول إذا أخطأتك المنايا فلا أبالي من أصابته وكتب إليه سيف الدولة يستدعيه فأجابه بهذه القصيدة في شوال سنة 353
فهمت الكتاب أبر الكتب ... فسمعا لأمر أميرِ العرب
وطوعا له وابتهاجا به ... وإن قصر الفعل عما وجب
يقال طاع له وأطاع إذا انقاد أي أطيعك وابتهج بكتابك وإن كان فعلي في طاعتك لا يبلغ ما يجب عليّ
وما عاقني غير خوف الوشاة ... وإن الوشايات طرقُ الكدب
يقول لم يمنعني عن اللحوق بك إلا خوف الوشاة والوشاية طريقها الكذب أي إذا وشى الإنسان كذب فخفت كذبهم
وتكثير قومس وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
مفعول التكثير والتقليل محذوف على تقدير وتكثير قوم يعني الوشاة معايبنا وتقليلهم مناقبنا كذبا منهم وعدوهم بيننا بالنمائم والفساد والتقريب ضرب من العدو
وقد كان ينصرهم سمعه ... وينصرني قلبهُ والحسبْ
أي كان يصغي إليهم بأذنه ولا يصدقهم بقلبه لكرم حسبه قال ابن جنى أي كان يسمع منهم إلا أن قلبه كان على كل حال معي
وما قلت للبدر أنت اللجين ... ولا قلت للشمس أنت الذهب
ضرب هذا مثلا أي لم أنقصك عما تستحق من المدح كما ينقص البدر بأن يشبه باللجين والشمس بأن تشبه بالذهب أي لم أهجك فتتنكر لي وهو قوله
فيقلق منه البعيد الأناةِ ... ويغضب منه البطيء الغضب
البعيد الأناة الذي لا يستخف عن قربٍ والأناة الرفق والتثبت
وما لاقني بلد بعدكم ... ولا اعتضت من رب نعماي رب
لاقني وألاقني أمسكني وحبسني أي لم أقم ببلد بعدكم ولا أخذت عوضا ممن أنعم عليّ
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
رب هذا مثلا له ولمن لقي بعده من الملوك كقول خداش بن زهيرٍ، ولا أكون كمن ألقى رحالته، على الحمارِ وخلى صهوةَ الفرس،
وما قست كل ملوك البلادِ ... فدع ذكر بعضٍ بمن في حلب
ولو كنت سميتهم باسمه ... لكان الحديد وكانوا الخشب
أي لو سميتهم سيوفا لكانوا سيوفا من الخشب وكان هو سيفا من الحديد والمعنى أن مدحتهم كان ذلك مجازا وحقيقة المدح كانت له
أفي الرأي يشبه أم في السخا ... ء أم في الشجاعة أم في الأدب
هذا استفهام إنكار أي لا يشبهه أحد من الملوك في شيء مما ذكر
مبارك الإسم أغر اللقب ... كريم الجرشي شريف النسب
أي اسمه عليٌّ وهو اسم مبارك يتبرك به لمكان عليّ بن أبي طالب رضه ولأنه مشتق من العلو والعلو مبارك وهو مشهور اللقب لأنه سيف الدولة والجرشي النفس
أخو الحرب يخدم مما سبى ... قناه ويخلع ما سلب
أي إذا أعطى أحدا خادما أعطاه مما سباه بنفسه لا مما اشتراه لأنه صحب الحرب فمماليكه من سباياه وإذا خلع على إنسان ثوبا كان مما سلبه من أعدائه
إذا حاز مالا فقد حازهُ ... فتى لا يسر بما لا يهب
إذا جمع مالا فقد جمعه من لا يسر من ماله بما يدخره أي غنما يسر بما يهبه كما قال البحتري، لا يتمطى كما احتج البخيل ولا، يحب من ماله إلا الذي يهبُ،
وإني لأتبع تذكاره ... صلوة الإله وسقى السحب
أي كلما ذكرته دعوت له بهذين فقلت صلى الله عليه وسقاه الله
وأثنى عليه بآلآئهِ ... وأقرب منه نأي أو قرب(1/308)
أي أقرب منه بالموالاة والمحبة
وإن فارقتني أمطارهُ ... فأكثر غدرانها ما نضب
أي أن انقطع عني بره فإن الذي عندي من النعم من عطاياه كالغدران إذا امتلأت بماء المطر بقي ماؤها بعد انقطاع الأمطار
أي سيف ربك لا خلقهِ ... ويا ذا المكارمِ لا ذا الشطب
يقول أنت سيف الدولة لا سيف الناس وأنت صاحب المكارم لا سيف فيه طرائق من سيوف الحديد يعني لست سيفا كسائر السيوف
وأبعد ذي همةٍ همةً ... وأعرف ذي رتبةٍ بالرتب
أراد أبعد ذوي الهمم فأوقع الواحد موقع الجماعة كما تقول هذا أول فارس مقبل والمعنى أنه أبعد الناس همةً واعرفهم بمراتب الرجال لأنه أعلم بهم فهو يعطي كل واحد ما يستحق من الرتبة
وأطعن من مس خطيةً ... وأضرب من بحسامٍ ضرب
بذا اللفظ ناداك أهل الثغورِ ... فلبيت والهام تحت القضبْ
بهذا الفظ دعوك فقالوا يا أطعن من طعن بقناة خطية ويا أضرب الضاربين بالسيوف فأجبتهم ورؤسهم تحت سيوف الروم أي قد غلبوهم
وقد يئسوا من لذيذ الحيوةِ ... فعين تغور وقلبٌ يجب
غارت العين إذا انخسفت للحزن والهزال والوجيب خفقان القلب
وغر الدمستق قول العدا ... ة إن عليا ثقيلٌ وصب
أي إنما أتاهم الدمستق لن الأعداء أرجفوا بأنك عليل ويقال وصب وصبا فهو وصبٌ إذا نحل جسمه
وقد علمت خيله أنه ... إذا هم وهو عليلٌ ركب
أتاهم بأوسع من أرضهم ... طوال السبيب قصار العسبْ
اتاهم الدمستق بخيلٍ موضعها من الأرض أوسع من أرضهم والسبيب شعر الناصية وشعر الذنب والعسيب عظم الذنب والمستحب في الخيل إن يطول شعر الذنب ويقصر عظمه
تغيب الشواهق في جيشه ... وتبدو صغارا إذا لم تغب
أي لكثرته يعم الجبال وتغيب في جيشه وإن ظهر منها شيء ظهر اليسير منها
ولا تعبر الريح في جوجهِ ... إذا لم تخط القنا أو تثبِ
يعني كثرة رماح جيشه وتضايق ما بينهما وإن الهواء غص بها فلا تجد الريح منفذا إلا أن تتخطى وتثب
فغرق مدنهم بالجيوش ... وأخفت أصواتهم باللجب
أي أتاهم من الجيوش بما عم بلادهم فكأنها غرقت فيه وأخفت أصواتهم بصوت جيوشه
فأخبث به طالباً قتلهم ... وأخبث به تاركا ما طلب
يريد أنه خبيث طالبا وهاربا ويروي فأحبب به طالبا وأخيب به تاركا وهذا أحسن
نأيت فقاتلهم باللقاء ... وجئت فقاتلهم بالهرب
يريد أنه لما كنت بعيدا عن أهل الثغور أتاهم للقتال فلما جئت جعل الهرب موضع القتال فكان قتاله الهرب
وكانوا له الفخر لما أتى ... وكنت له العذر لما ذهب
أي كان يفخر بأن قصدهم ثم عذر بأن ذهب هاربا منك لأنه لا يقوم لك
سبقت إليهم مناياهم ... ومنفعة الغوث قبل العطب
أي أدركتهم قبل أن يقتلهم فأغثتهم قبل أن يعطبوا وإنما ينفع الغوث إذا كان قبل الهلاك وبعده لا منفعة للغوث كما قال الطائي، وما نفع من قد مات بالأمس طاويا، إذا ما سماء الناس طال انهمارها، وقال البحتري، وأعلم بأن الغيث ليس بنافعٍ، للناس ما لم يأت في إبانه،
فخروا لخالقهم سجدا ... ولو لم تغث سجدوا للصلب
أي سجدوا لله شكرا حين أتيتهم ولو لم تأتهم لسجدوا للصلب خوفا منه
وكم ذدت عنهم ردىً بالردى ... وكشفت من كربٍ بالكرب
كم قد منعت عنهم الهلاك بإهلاكك من بغي هلاكهم وكم كشفت الكرب عنهم بالكرب التي انزلتها بأعدائهم
وقد زعموا أنه إن يعد ... يعد معه الملكُ المعتصبْ
زعم الروم أن الدمستق يعود ومعه الملك الأعظم والمعتصب المتتوج الذي يعتصب التاج برأسه ومعنى يعد معه الملك يجيء معه لأنه لم يكن قبل ذلك قصدهم والعود قد يراد به الابتداء
ويستنصران الذي يعبدان ... وعندهما أنه قد صلب
يعني أن الدمستق والملك يستنصران المسيح ويسألانه النصرة على المسلمين ثم قال وعندهما أنه قد صلب لان النصارى يقولون أن اليهود صلبت المسيح وقتلته
ويدفع ما ناله عنهما ... فيا للرجال لهذا العجب(1/309)
ويدفع المسيح عن الدمستق والملك ما نال المسيح من الهلاك ثم تعجب من هذا أي كيف يدفع عنهما ولم يقدر على الدفع عن نفسه بزعمهم أنه قتل وصلب واللام في الرجال لام الاستغاثة وهي منصوبةٌ واللام في لهذا لام التعجب وهي مكسورة انشد سيبويه لقيس بن ذريح، تكنفني الوشاة فأزعجوني، فيا للناس للواشي المطاعِ،
أرى المسلمين مع المشركي ... ن إما لعجزٍ وإما رهب
أي قد هادنوهم وتركوا قتالهم إما عجزا وأما رهبةً
وأنت مع الله في جانبٍ ... قليلُ الرقادِ كثيرُ التعب
مع الله أي مع أمر الله بالجهاد القتال أي أنت الذي تطيعه في جهاد الروم وجانبت غيرك من المهادنين والموادعين
كأنك وحدك وحدته ... ودان البرية بابنٍ وأب
أي كأنك الموحد لله تعالى وحدك وغيرك يدينون دين النصارى من قولهم في الله والمسيح أبٌ وابن كما اخبر الله عنهم في قوله وقالت النصارى المسيح ابن الله
فليت سيوفك في حاسدٍ ... إذا ما ظهرت عليهم كئب
كئب كآبة إذا حزن وظهر فيه الإنكسار يقول ليت الحاسد الذي يحزن بظفرك بالروم قتل بسيفك
وليت شكاتك في جسمهِ ... وليتك تجزى ببغضٍ وحب
يريد بالشكاة المرض الذي يشكوه وعاتبه في آخر البيت يقول ليتك تجزي من ابغضك ببغضه ومن أحبك بحبه لأنال منك نصيبي من الجزاء بالحب
فلو كنت تجزي به نلت من ... ك أضعف حظٍ بأقوى سبب
قال ابن جنى أي لو تناهيت في جزائك أياي على حبي إياك لكان ضعيفا بالإضافة إلى قوة سببي في حبي لك قال أبو الفضل العروضي وهذا لا يقوله مجنونٌ لبعض نظرائه أو لمن هو دونه فكيف ينسب المتنبي مثل سيف الدولة إلى أنه لو احتشد وتكلف في جزائه لم يبلغ كنهه وهذا عتبا يقول لو جزيتني بحبي لك وهو أقوى سببٍ لأن حبي لك أكثر من حب غيري لنلت منك القليل يشكو أعراضه عنه وأنه لا يصيب منه حظا مع قوة سببه هذا آخر ما قاله في الامير سيف الدولة ثم خرج من عنده مغاضبا إلى مصر ومدح الأسود كافورا الأخشيدي.
وقال أبو الطيب يمدح كافورا الأخشيدي في جمادي الأخرة سنة 346
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
كفى بك معناه كفاك والباء زيدت في المفعول هاهنا كما تراد في الفاعل نحو كفي الله وذكرنا هذا في قوله كفى بجسمي نحولا يقول كفاك داء رؤيتك الموت شافيا أي أن داء شفاؤه الموت أقصى الأدواء والمنية إذا صارت أمنية فهو غاية البلية وفاقرة الخطوب
تمنيتها لما تمنيت أن ترى ... صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
يقول تمنيت المنية لما طلبت صديقا مصافيا فأعجزك أو عدوا مساترا للعداوة وعند عدم الصديق المصادق والعدو المنافق يتمنى المرء المنية وهذا تفسير الداء المذكور في البيت الأول
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلةٍ ... فلا تستعدن الحسام اليمانيا
إذا رضيت بذلة العيش فما تصنع بالسيف اليماني تعده أي إنما تحتاج إلى السيف لنفي الذل
ولا تستطيلن الرماح لغارةٍ ... ولا تستجيدن العتاق المذاكيا
لا تتخذن الرماح الطويلة للغارة ولا تتخذن الخيل الجياد الكرام التي قد تمت أسنانها
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تتقي حتى تكون ضواريا
هذا حث على الوقاحة والتجليح وضرب المثل بالأسد لأنه لو لزم الحياء ولم يصد بقي جائعا غير مهيب وإنما يهاب ويتقي لكونه ضاريا مفترسا حريصا على الصيد
حببتك قلبي قبل حبك من ناي ... وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
حببت لغة في احببت شاذ ولا يستعمل منه إلا المحبوب يقول لقلبه احببتك قبل ان أحببت أنت هذا الذي بعد عنا يعرض بسيف الدولة وقد كان غدارا فلا تغدر بي أنت أي لا تكن مشتاقا إليه ولا محبا له أي فإنك إن أحببت الغدار لم تفِ لي
وأعلم أن البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن أيتك شاكيا
يقول لقلبه أعلم أنك تشكو فراقه لالفك إياه ثم هدده فقال إن شكوت فراقه تبرأت منك
فإن دموع العين غدرٌ بربها ... إذا كن إثر الغادرين جواريا
غدر جمع غدور يقول الدموع إذا جرت على فراق الغادرين كانت غادرة بصاحبها لأنه ليس ن حق الغادر أن يبكي على فراقه فإذا جرت الدموع في إثره وفاء له كان ذلك الوفاء غدرا بصاحب الدموع(1/310)
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
يقول إذا لم يتخلص الجود من المن به لم يبق المال ولم يحصل الحمد لان المال يذهبه الجود والأذى يبطل الحمد فالمانّ بما يعطى غير محمود ولا مأجور وشبه لا بليس فنصب الخبر
وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
يقول أخلاق الإنسان تدل عليه فيعرف إن جوده طبعٌ أم تكلفٌ
أقل اشتياقا أيها القلب ربما ... رايتك تصفي الود من ليس جازيا
يقول للقلب لا تشتق إليه فإنك تحب من ليس يجازيك بالحب كما قال البحتري، لقد حبوت صفاء الود صائنه، عن وأقرضته من لا يجازيني،
خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصبي ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
هذا البيت رأس في صحة الألف وذلك أن كل أحد يتمنى مفارقة الشيب وهو يقول لو فارقت شيبي إلى الصبي لبكيت عليه لألفي إياه إذ خلقت ألوفا
ولكن بالفسطاط بحرا أزرته ... حيوتي ونصحي والهوى والقوافيا
ذكر في البيت الأول أنه ألوف لما يصحبه من حالٍ وإن كانت مكروهةً ثم استثنى فقال لكني على هذه الحالة من الألفة قصدت مصر وحملت هواي والنصح والشعر على زيارة جوادٍ هناك كالبحر
وجردا مددنا بين آذانها القنا ... فبتن حفافا يتبعن العواليا
أي وخيلا جرادا مددنا الرماح بين آذانها فباتت تتبع عوالي الرماح في سيرها ما قالت الخنساء، ولما أن رأيت الخيل قبلا، تباري بالخدود شبا العوالي،
تماشى بأيدٍ كلما وافتِ الصفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا
يقول هذه الجراد تمشي بأيدٍ إذا وطئت الحجارة أثرت فيها تأثير نقش صدور البزاة وجعلها حوافي مبالغةً في وصف حوافرها بالشدة والصلابة يعني أنها بلا نعال تؤثر في الصخور بحوافرها
وينظرن من سودٍ صوادق في الدجى ... يرين بعيدات الشخوص كما هيا
يعني بالسود أعينها وصوادق تريها الشيء حقيقةً فهي ترى الأشخاص البعيدة عنها كما هي لصدق نظرها في ظلمة الليل والخيل توصف بحدة البصر ولذلك قالوا أبصر من فرسٍ دهماء في غلس
وتنصب للجرس الخفي سوامعا ... يخلن مناجاة الضمير تناديا
ويصدق حس سمعها حتى تسمع الصوت الخفي فتنصب آذانها كعادتها إذا حست بشيء وحتى إن ما يناجي الإنسان به ضميره يكون عندها كالمناداة لحدة حس آذانها
تجاذب فرسان الصباح أعنةً ... كأن على الأعناقِ منها أفاعيا
فرسان الصباح الغارة وذلك أن الغارة تقع وقت الصبح أغفل ما يكون الناس فصار الصباح اسما للغارة يقول هذه الخيل تجاذب فرسانها أعنتها لما فيها من القوة والنشاط ثم شبه أعنتها في طولها وامتدادها بالحيات وهو منقول من قول ذي الرمة، رجيعةُ أسفارٍ كأن رماحها، شجاعٌ لدي يسري الذراعين مطرقُ،
بعزمٍ يسير الجسم في السرج راكبا ... به ويسير القلب في الجسم ماشيا
يقول سرنا بعزم قويّ كان الجسم وهو مقيم في السرج يسبق السرج كان القلب وهو مقيمٌ في الجسم يسبق الجسم لقوة العزم على السير
قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
قواصد حال من الجرد أي هن يقصدنه ويتركن غيره لأنه البحر وغيره كالساقية وهي النهر الصغير وهذا من قول البحتري، ولم أر في رنق الصرى لي موردا، فحاولت ورد النيل عند احتفاله،
فجاءت بنا إنسان عين زمانهِ ... وخلت بياضا خلفها ومآقيا
جعله إنسان عين الزمان كنايةً عن سواد لونه وأنه هو المعنى والمقصود من الدهر وابنائه وإن من سواه فضول لا حاجة بهم فإن البصر في سواد العين وما حوله جفون ومآق لا معنى فيها
نجوز عليها المحسنين إلى الذي ... نرى عندهم إحسانه والأياديا
نتخطى على هذه الخيل المحسنين يعني سيف الدولة وعشيرته إلى الذي يحسن إليهم وينعم عليهم يعني الأسود وأنه فوقهم
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلا نرجى التلاقيا
قوله إلا نرجى حال صرفت إلى الاستقبال والمعنى إلا مرجين التلاقي يريد أنه كان يرجو لقاءه مذ قديمٍ حين كان ينتقل في اصلاب أبائه
ترفع عن عون المكارمِ قدرهُ ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا(1/311)
العون جمع العوان وهي التي بين السنين يقول هو أجل قدرا من أن يفعل في المكرمات فعلا قد سبق إليه وإنما يأتي بالمكارم ابتداء اختراعا كما قال أيضا، يمشي الكرام على آثار غيرهم، وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع،
يبيد عداوات البغاة بلطفهِ ... فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا
أي يسل سخائم الأعداء برفقه وتلطفه لهم فإن لم تذهب اضغانهم وعداوتهم أبادهم وأهلكهم
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا ... إليه وذا الوقت الذي كنت راجيا
يقول وجهك الذي أراه الوجه الذي كنت اشتاق إليه وهذا الوقت الذي أنا فيه الوقت الذي كنت أرجو أدراكه يعني وقت لقائه والتوقان النزاع يقال تاق إليه يتوق توقانا
لقيت المروري والشناخيب دونه ... وجبت هجيرا يترك الماء صاديا
المروري جمع المروراة وهي الفلاة الواسعة والشناخيب جمع شنخوب وشناخب وهي ناحية الجبل المشرفة وفيها حجارة نابتة والصادي العطشان يذكر ما لقي من التعب في الطريق إليه وما قاسى من حر الهواء والهواجر التي تيبس الماء والماء لا يكون صاديا لكنه مبالغةٌ
أبا كل طيبٍ لا أبا المسك وحده ... وكل سحابٍ لا أخص الغواديا
يدل بمعنى واحد كل فاخرٍ ... وقد جمع الرحمان فيك المعانيا
يقول كل فاخر إنما يفخر بمنقبة واحدة وقد جمع الله لك جميع المناقب والمفاخر كما قال أبو نواس، كأنما أنت شيء، حوى جميع المعاني،
إذا كسب الناس المعالي بالندى ... فإنك تعطي في نداك المعاليا
يقول إذا جاد الجواد ليحصل له العلو بالجود فإنك تعلى من تعطيه وتشرفه بعطائك لأن الأخذ منك يكسب الآخذ شرفا ويعلي محله كما قال الطائي، ما زلت منتظرا أعجوبةً زمنا، حتى رأيت سؤالا يجتني شرفا، ويجوز أن يريد بقوله تعطى المعالي أنه يهب الولايات والأمور التي يشرف بها الناس فالمعالي من عطاياه كما قال البحتري، وإذا اجتداه المجتدون فإنه، يهب العلي في نيله الموهوب،
وغير كثير أن يزورك راجلٌ ... فيرجع ملكا للعراقين واليا
هذا البيت يدل على صحة الوجه الثاني في البيت الذي قبله
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ... لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
يقول إذا غزاك جيش أخذته فوهبته لسائلٍ واحدٍ أتاك يسألك
وتحتقر الدنيا احتقار مجربٍ ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
يقول أنت تحتقر الدنيا احتقار من جربها فعرفها وعلم أن جميع ما فيها يفنى ولا يبقى فلذلك تهبها ولا تدخرها وقوله حاشاك استثناء مما يفنى ذكر هذا الاستثناء تحسينا للكلام واستعمالا للادب في مخاطبة الملوك وهو حسن الموقع
وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيامٍ أشبن النواصيا
يقول لم تدرك الملك بالتمني والاتفاق ولكن بالسعي والجهد والوقائع الشديدة التي تشيب نواصي الأعداء والمراد بالأيام الوقائع ومنه قوله تعالى وذكرهم بأيام الله قيل في التفسير يعني وقائع الله في المم الخالية وهذا من قول الطائي، فتى هز القنا فحوى سناء، بها لا بالأحاظي والجدود، ومثله قول يزيد بن المهلبي، سعيتم فأدركتم بصالح سعيكمْ، وأدرك قوم غيركم بالمقادرِ، وله أيضا، إذا قدم السلطان قوماً على الهوى، فإنكم قدمتم بالمناقب،
عداك تراها في البلاد مساعيا ... وأنت تراها في السماء مراقيا
قال ابن جنى أي تعتقد في المعالي اضعاف اعتقاد الناس فتحسب ذلك مما يكون طلبك لها وشحك عليها هذا كلامه والمعنى على ما قال بأن اعداءك يرون الأيام والوقائع مساعي في الأرض وأنت تراها مراقي في السماء لأنك بها تنال العلو
لبست لها كدر العجاج كأنما ... ترى غير صافٍ أن ترى الجو صافيا
يقول لبست للحروب وللمساعي عجاجا مظلما كأنما ترى صفاء الجو أن لا يصفو من الغبار أي أنت أبدا تثير غبار الحرب وكأنك إذا رأيت الجو صافيا رأيته غير صاف لكراهتك لصفائه من الغبار
وقدت إليها كل أجرد سابحٍ ... يؤديك غضبانا ويثنيك راضيا
يقول قدت إلى الحرب كل فرس يوردك الحرب وأنت غضبانٌ ويرجعك عنها راضيا لإدراك ما طلبت
ومخترطٍ ماضٍ يطيعك آمراً ... ويعصي إذا استثنيت أو صرت ناهيا(1/312)
يريد بالمخترط سيفا منتضى إذا أمره بالقطع أطاعه فمضى في الضريبة وإن نهاه واستثنى شيئا من القطع عصاه ولم يقف لسرعة نفاذه في الضريبة
وأسمر ذي عشرين ترضاه واردا ... ويرضاك في إيراده الخيل ساقيا
يعني رمحا أسرم ذا عشرين كعبا أو ذراعا ترضاه إذا أورد دماء الأعداء ويرضاك ساقيا له في إيراده خيل الأعداء والبيت منقول من قول عبد الله بن طاهر في صفة السيف، أخو ثقةٍ أرضاه في الروع صاحبا، وفوق رضاه أنني أنا صاحبه، أي هو يرضى بي أيضا صاحبا فوق الرضا
كتائب ما انفكت تجوس عمائراً ... من الأرض قد جاست إليها فيافيا
أي قدت كتائب وإن رفعت فالمعنى كتائبك أو لك كتائب لا تزال تطأ وتدوس قبائل للغارة وقد قطعت إليها مفاوز والعمائر جمع العمارة وهي القبيلة والمعنى أن كتائبه لا تزال تأتي الأعداء للغارة عليهم
غزوت بها دور الملوك فباشرت ... سنابكها هاماتهم والمغانيا
وأنت الذي تغشى الأسنة أولاً ... وتأنف أن تغشى الأسنة ثانيا
يريد أنه أول من يبارز فيأتي الطعان ويأنف أن يأتيه ثانيا لأول سبقه إليها
إذا الهند سوت بين سيفي كريهةٍ ... فسيفك في كف تزيلُ التساويا
إذا طبعت الهند سيفين فجعلتهما سواء في الحدة والمضاء فالسيف الذي في كفك يكون أمضى لأن كفك تزيل تساويهما بشدة الضرب
ومن قول سامٍ لو رآك لنسلهِ ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
سام بن نوح أبو البيضان وحام أبو السودان يقول لو رآك سام كان من قوله لنسله فدى ابن أخي ولدي ونفسي ومالي أي لكان يفديك بنفسه وولده ويقول لولده أنا وأنتم فداء ابن أخي
مدى بلغ الأستاذ أقصاهُ ربه ... ونفسٌ له لم ترض إلا التناهيا
أي الذي ذكرته من مناقبك مدى بلغك الله غايته ونفسك التي لا ترضى إلا أن تبلغ النهاية
دعته فلباها إلى المجد والعلى ... وقد خالف الناس النفوس الدواعيا
دعته نفسه إلى المجد فلباها وأجابها وغيره لم يجب لما دعته نفسه إلى المجد لأنه لم يأت ما يكسبه المجد والشرف من الجود والشجاعة والأخلاق الحميدة كما أتيتها أنت
فأصبح فوق العالمين يرونه ... وإن كان يدنيه التكرم نائيا
أي يرونه نائيا عنهم وإن كان التكرم يدنيه إليهم ودخل عليه بعد انشاده هذه القصيدة وابتسم إليه الأسود ونهض فلبس نعلا فرأى أبو الطيب شقوقا برجليه فقال يهجوه
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
يقول لو أخفت النفس ما فيها من كراهتك لأريتك الرضا أي لو قدرت على اخفاء ما في نفسي من البغض لك والكراهة لقصدك لكنت أريك الرضا ولكني لست براضٍ عن نفسي في قصدي إليك ولا عنك أيضا لتقصيرك في حقي والخافي ضد الظاهر
أميناً وإخلافاً وغدراً وخسةً ... وجبنا أشخصاً لُحت لي أم مخازيا
نصب هذا كله على المصدر بفعل مضمر كأنه قال أتمين مينا وتخلف أخلافا والمعنى اتجمع بين هذه المخازي كما تقول العرب أحشفا وسوء كيلةٍ أي تجمع بين سوء الكيلة وإعطاء الحشف ثم قال أنت شخص ظهرت لي أم مخازٍ أي كأنك مخاز ومقابح لاجتماعها فيك ووجودها منك
تظن ابتساماتي رجاء وغبطةً ... وما أنا إلا ضاحكٌ من رجائيا
وتعجبني رجلاك في النعل أنني ... رأيتك ذا نعلٍ إذا كنت حافيا
يقول أتعجب منك إذا كنت ناعلا لأني أراك إذا كنت حافيا ذا نعل لغلظ جلد رجلك وتعجبني معناه من التعجب لا من الإستحسان وأنني بفتح الهمزة معناه لأنني ويجوز بكسر الهمزة على الابتداء
وإنك لا تدري ألونك أسود ... من الجهل أم قد صار أبيض صافيا
ويذكرني تخييط كعبك شقهُ ... ومشيك في ثوبٍ من الزيتِ عارياً(1/313)
يروي تخييط رفعا ونصبا فمن رفع أضمر المفعول الثاني ليذكرني وهو الكاف على تقدير ويذكرنيك خياطتك شق كعبك وقال ابن فورجة يروي تخييط كعبك ومشيك منصوبين قال وفاعل يذكرني رجلاك في النعل وقد تقدم وتخييط مفعول ثانٍ ومشيك كذلك هذا كلامه وأراد تخييط شق كعبك فقدم الكعب ثم كنى عنه وقوله في ثوب من الزيت ذكر أن مولاه كان زياتا يبيع الزيت وأن الأسود كان يحمل الزيت عاريا ويمشي متلطخا به فكأنه في ثوبٍ من الزيت هذا معنى قول ابن جنى وقال ابن فورجة يعني أنه أسود إلى الصفرة كلون الزيت وأهل العراق يسمون من كان غير مشبع السواد زيتيا أي أنت في حال كونك عاريا في ثوبٍ من الزيت لأنك حبشي
ولولا فضول الناس جئتك مادحا ... بما كنت في سري به لك هاجيا
أي أنا أهجوك في سري وإن مدحتك ظاهرا فلولا فضول الناس لأظهرت هجاءك وقلت أنا أمدحك به فكنت لا تعلم ذلك ولكن الناس فيهم فضول فهم كانوا يقولون الذي اتاك به هجاء لا مديحٌ
فأصبحت مسرورا بما أنا منشدٌ ... وإن كان بالإنشاد هجوك غاليا
أي كنت تسر بإنشادي هجاءك تظنه مديحا وإن كان يغلو هجوك بالإنشاد لأنك أقل قدرا من أن تهجي وينشد هجاؤك
فإن كنت لا خيرا أفدت فإنني ... أفدت بلحظي مشفريك الملاهيا
أي إن لم تفدني خيرا ولم تحسن إليّ فإني استفدت الملاهي برؤيتي شفتيك هذا إذا جعلت أفدت بمعنى استفدت ويجوز أن يكون المعنى أفدت نفسي الملاهي بلحظي مشفريك فيكون المفعول الأول مقدرا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدةٍ ... ليضحك رباتِ الحداد البواكيا
هذا تفسير الملاهي التي ذكرها وبني كافور دارا بإزاء الجامع الأعلى على البركة وتحول إليها وطالب أبا الطيب بذكرها
إما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء
يدني يفتعل من الدنو يقول رسم التهانىء إنما يجري بين الأكفاء وبينك وبين من تقرب إليك من بعد
وأنا منك لا يهنىء عضو ... بالمسراتِ سائرَ الأعضاء
يقول أنا منك أي أشاركك في أحوالك أسر بسرورك ولا يجري التهانىء بين أعضاء الإنسان وأجزائه لاشتراكهما في بدنٍ واحدٍ وهذا طريق المتنبي يدعي لنفسه المساهمة والكفاءة مع الممدوحين في كثيرٍ من المواضع وليس ذلك للشاعر فلا أدري لم أحتمل ذلك منه
مستقل لك الديار ولو كا ... ن نجوما آجر لهذا البناء
يقول أنا استقل لك الديار وإن بنيت بالنجوم بدل الأجر يروي مستقل لك الديار
ولو أن الذي يخر من الأم ... واهِ فيها من فضةٍ بيضاء
يخر من خرير الماء
أنت أعلى محلةً أن تهني ... بمكانٍ في الأرض أو في السماء
ولكن الناس والبلاد وما يس ... رح بين الخضراء والغبراء
وبساتينك الجياد وما تح ... مل من سمهرية سمراء
أي إنما بساتينك الخيل والرماح فهما نزهتك
إنما يفخر الكريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
أي فخره ببناء المعالي لا ببناء من المدر والطين كما قال، بنى البناة لنا مجدا ومكرمةً، لا كالبناء من الأجر والطين،
وبأيامه التي انسلخت عن ... هـ وما داره سوى الهيجاء
أي يفخر بأيامه التي مضت ولم يكن له فيها دار سوى الحرب والمعركة
وبما أثرت صوارمه البي ... ض له في جماجمِ الأعداء
أي ويفخر بتأثير سويفه في رؤوس اعدئه
وبمسكٍ يكنى به ليس بالمس ... ك ولكنه أريج الثناء
أي ويفخر بمسكٍ يكنى به وذلك أن كنيته أبو المسك وهو كناية عن طيب الثناء عليه وليس بالمسك المعروف إنما كني بأبي المسك لما يثني عليه من الثناء الذي يطيب روائحه في الناس فهو يفخر بذلك
لابما تبتني الحواضر في الري ... ف وما يطبي قلوب النساء
أي لا يفخر بما يبنيه أهل الحضر في البلاد ولا بالمسك الذي يستميل قلوب النساء وإنما يفخر ببناء العلياء وبالمسك الذي هو طيب الثناء ويقال طباه وأطباه إذا دعاه واستماله ومنه قول كثير، له نعل لا يطبي الكلب ريحها، وإن خليت في مجلس القوم شمت، يعني أنها من جلد مدبوغ طيب الريح
نزلت إذ نزلتها الدار في أح ... سن منها من السنا والسناء
يقول الدار نازلة منك لما نزلتها فيمن هو أحسن منها رفعةً وضوءا أي تجملت بك الدار وتزينت بقربك(1/314)
حل في منبت الرياحين منها ... منبتُ المكرمات والآلاء
تفضح الشمس كلما ذرت الشم ... س بشمسٍ منيرةٍ سوداءِ
يريد أنه في سواده مشرق فهو بإشراقه في سواده يفضح الشمس ويجوز أن يريد شهرته وأنه اشهر من الشمس ذكرا أو يريد نقاءه من العيوب والإنارة تعود إلى احد هذين المعنيين ويجوز أن يراد بالإنارة الشهرة لأن المنير مشهور فقيل للمشهور منيرٌ وإن لم يكن ثم إنارة وكذلك المنير نقي من الدرن فقيل للنقي من العيوب منير ويدل على صحة ما ذكرنا قوله
إن في ثوبك الذي المجدُ فيه ... لضياء يزرى بكل ضياء
أخبر أنه أراد بانارته ضياء المجد وضياءه شهرته ونقاؤه مما يعاب به وإن ذلك الضياء أتم كل ضياء
إنما الجلد ملبس وابيضاض ال ... نفس خير من أبيضاض القباء
يقول الجلد ملبسٌ يلبسه الإنسان كالقباء والثوب ولأن تكون النفس بيضاء نقيةً من العيوب خير من أن يكون الملبس أبيضَ
كرمٌ في شجاعةٍ وذكاءٌ ... في بهاء وقدرةٌ في وفاء
أي لك كرم في شجاعة يريد أنه كريم شجاع ذكي الطبع بهيُّ المنظر ذو قدرة على ما يريد وافٍ بالعهد والوعد فيما يقول
من لبيض الملوك أن تبدل اللو ... ن بلونِ الأستاذ والسحناء
يقول الملوك البيض الألوان يتمنون أن يبدلوا ألوانهم بلونك وإن تكون هيئتهم في اللون كهيئتك والسحناء الأثر والهيئة يقال رأيته وعليه سحناء السفر يقول من يكفل لهم بهذه الأمنية ثم ذكر لم تمنوا هذا فقال
فتراها بنو الحروب بأعيا ... نٍ تراه بها غداة اللقاء
أي ليراهم أهل الحرب بالعيون التي يرونك بها وذلك إن الأسود مهيبٌ في الحرب ولا يظهر عليه اثر الخوف أيضا
يا رجاء العيون في كل أرضٍ ... لم يكن غير أن أراك رجائي
ولقد أفنت المفاوز خيلي ... قبل أن نلتقي وزادي ومائي
يذكر طول الطريق إليه وإن ذلك أهلك مركوبه وزاده والمعنى أني زرتك على بُعد ما بيننا من المسافة
فارم بي ما أردت مني فإني ... أسدُ القلب آدمي الرواءِ
يقول استكفني ما شئت من أمرٍ ترميني إليه فإني كالأسد شجاعةً وإن كانت أدمي الصورة
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
وقال يمدح كافورا الأخشيدي في شوال سنة 346 بهذه القصيدة الفريدة وهي من محاسن شعره
من الجآذر في زيِّ الأعاريبِ ... حمرُ الحلي والمطايا والجلابيب
يقول من هؤلاء النسوة اللاتي كأ، هن أولاد بقر في حسن عيونهن وزيها زي الأعراب كأنه قال أرى جآذر في زي الأعراب فمن هن ثم ذكر أنهن متحليات بالذهب الأحمر رواكب غبل حمر الألوان لابسات جلابيب حمرا يعني أنهن بنات ملوكٍ وإنهن شواب وهذا كقوله أيضا، ظعائن حمر الحلي حمر الأيانق، والحلي جمع حلية ويقال حلى بالضم أيضا
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيدٍ وتعذيبِ
يخاطب نفسه يقول إن كنت تستفهم عنهن شكا في معرفتهن فمن سهدك وعذبك يعني انهن تيمنك بحبك حتى صرت مسهدا معذبا وإنما استفهم عنهن لصحة شبههن بالجآذر حتى كأنهن جآذر لا نساء كما قال ذو الرمة، أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ، وبين النقا آأنت أم أم سالمِ،
لا تجزني بضني بي بعدها بقرٌ ... تجزي دموعي مسكوبا بمسكوبِ
عني بالبقر هؤلاء النسوة يقول لا جزينني بإن يضنين بعدي ويورثهن الفراق الضني بحبي كما يجزين دموعي بالبكاء ويبكين على فراقي وهذا على سبيل الدعاء والمعنى لا ضنيت كما ضنيت بعدها وإن قد جرت دموعهن كما جرت دموعي وقوله بضني بي بعدها أي بالضني الذي حصل بي بعدهن
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعةً بين مطعونٍ ومضروبِ
يذكر أنهن في منعة وعز فمن يعرض لهن طعن أو ضرب
وربما وخدت أيدي المطي بها ... على نجيعٍ من الفرسان مصبوبِ
يقول ربما سارت بهن مطاياهن على دمٍ مصبوبٍ من الفرسان يريد أنهن ممنوعات دونهن ضراب وطعان وقتلٌ
كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
يصف شجاعته في زيارة الحبائب وقلة مبالاته بمن يحفظن من ذوي الغيرة عليهن يقول كم قد زرتهن زيارةً لم يعلم بهم أحد كزيارة الذئب الغنم على غفلةٍ من الراعي يقع فيما بينها ويذهر ببعضها وإنما يخاطب نفسه بهذا(1/315)
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثنى وبياض الصبح يغري بي
جمع في هذا البيت بين خمس مطابقات الزيارة والانثناء وهو الإنصراف والسواد والبياض والليل والصبح والشفاعة والأغراء ولي وبي ومعنى المطابقة في الشعر الجمع بين المتضادين يقول أزورهم والليل لي شفيع لأنه يسترني عنهم وعند الأنصراف يشهرني الصبح وكأنه يغريهم بي حيث يريهم مكاني
قد وافقوا الوحش في سكني مراتعها ... وخالفوها بتقويضٍ وتطنيبِ
يقول هؤلاء الأعراب كالوحوش في أنهم سكنوا مراتعها من البدو غير أن لهؤلاء خياما يقوضونها ويطنبونها ولا خيام للوحوش والتقويض حط البيت
جيرانها وهم شر الجوارِ لها ... وصحبها وهم شر الأصاحيبِ
يقول هم جيران الوحوش غير أنهم شر المجاورين لها وأراد بالجوار المجاورين سماهم بإسم المصدر وأراد أنهم يسيئون الجوار مع الوحش لأنهم يصيدونها ويذبحونها وقال ابن جنى أراد هم شر أهل الجوار لها فحذف المضاف والأول الوجه
فؤادُ كل محبٍّ في بيوتهمِ ... ومال كل أخيذ المال محروبِ
يعني أن فيهم الجمال والشجاعة ونساؤهم بينهن القلوب ورجالهم ينهبون الأموال والمحروب الذي أخذت حريبته أي ماله
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
الرعبوبة المرأة التارة السمينة يفضل نساء البدو على نساء الحضر يقول الأوجه المستحسنات بالحضر ليست كاوجه نساء البدو ثم ذكر العلة في البيت الثاني فقال
حسن الحضارة مجلوب بتظريةٍ ... وفي البداوةِ حسنٌ غير مجلوبِ
الحضارة الكون في الحضر والبداوة الكون في البدو وأراد حسن أهل الحضارة فحذف المضاف يقول حسنهم متكلف مجلوب بالاحتيال وحسن البدويات طبع طبعن عليه ثم ذكر لهن مثلا من الظباء والمعز
أين المعيز من الآرام ناظرةً ... وغير ناظرةٍ في الحسن والطيبِ
المعيز اسم لجماعة المعز كالكليب والعبيد جعل نساء الحضر كالمعز ونساء البدو كالظباء يقول أين يقع المعيز من الظباء في الحسن والطيب ناظراتٍ وغير ناظراتٍ أي الظباء أحسن منها عيوناً وغيرها من سائر الأعضاء
أفدى ظياء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
أراد بظباء الفلاة النساء العربيات وإنهن فصيحات لا يمضغن الكلام ولا يصبغن حواجبهن كعادة الحضريات
ولا برزن من الحمام مائلةً ... أوراكهن صقيلات العراقيبِ
أراد حسنهن من غير تصنع ولا تطريةٍ بدخول الحمام وصقل العرقوب
ومن هوى كل من ليست مموهةً ... تركت لون مشيبي غير مخضوبِ
التمويه شبه التلبيس يقول من حبي كل امرأةٍ لا تموه حسنها بتكلف وتعمل لم أخضب شيبي يعني أنهن ما موهن حسنهن فلم أموه أيضا شيبي
ومن هوى الصدق في قولي وعادتهِ ... رغبت عن شعرٍ في الوجه مكذوبِ
يقول من حبي الصدق في كل شيء تركت الشعر المكذوب في وجهي وهي الذي سود الخضاب فهو شعر مكذوب فيه والضمير في وعادته يعود إلى الصدق
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت ... مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
يقول الحوادث أخذت مني الشباب وأعطتني الحلم والتجربة فليتها باعت ما أخذت مني بما أعطت وهذا من قول عليّ بن جبلة، وأرى الليالي ما طوت من قوتي، زادته في عقلي وفي إفهامي، وقول ابن المعتز، وما ينتقص من شباب الرجالِ، يزد في نهاها وألبابها،
فما الحداثة من حلمٍ بمانعةٍ ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
يريد أنه كان قبل تحليم الحوادث أياه حليما وإن الحداثة لا تمنع من الحلم فقد يكون الشاب حليما كما قال أبو تمام، حلمتني زعمتم وأراني، قبل هذا التحليم كنتُ حليما،
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلاً ... قبل اكتهالٍ أديبا قل تأديبِ
هذا تأكيد للذي قبله يريد أنه شب وارتفع مكتهلا أي في حلب الكهول قبل أن يكتهل وأديبا قبل أن يؤدب يعني أنه نشأ على طبع الحلم والأدب ولم يستفدهما من مر الليالي
مجربا فهماً من غير تجربةٍ ... مهذبا كرما من قبل تهذيبِ
أي ترعرع مجربا قبل ان يجرب لما طبع عليه من الفهم ومهذبا قبل أن يهذب بما طبع عليه من الكرم ونصب فهما وكرما على المصدر كأنه قال فهم فهما وكرم كرما ويجوز أن ينتصب على المفعول لهما(1/316)
حتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمه في ابتدآت وتشبيب
يقول أصاب نهاية الدنيا وهي الملك لأن لا شيء في الدنيا فوق الملك ولم يبلغ بعد نهاية همته فهمته مع إصابته الملك في ابتدائها وأول أمرها ومعنى التشبيب ذكر أيام الشباب واللهو والغزل وذلك يكون في ابتداء قصائد الشعر يبدأ به أولا هذا هو الأصل ثم يسمي ابتداء كل أمر تشبيبا وإن لم يكن في ذكر الشباب
يدبر الملك من مصر إلى عدن ... إلى العراق فأرض الروم فالنوب
يريد فسحة رقعة ملكه وسعة ولايته وأن تدبير المملكة في هذه البلاد على تباعد اطرافها إليه
إذا أتتها الرياح النكب من بلد ... فما تهب بها إلا بترتيب
النكب جمع نكباء وهي العادلة عن المهب إلى غير استواء يقول إذا أتت بلاده رياح غير مستوية الهبوب لم تهب بها إلا بترتيب من جهة الرياح نفسها إعظاما له أو بترتيب من جهة الممدوح إياها لأنها مطيعة له والأول قول أبن جنى والثاني قول أبن فورجة
ولا تجاوزها شمس إذا شرقت ... إلا ومنه إذن بتغريب
يصرف الأمر فيها طين خاتمه ... ولو تطلس منه كل مكتوب
يقول أمره مطاع ومثاله في هذه البلاد يؤتمر أمره بمكتوب يكتبه ويختمه بطين وإن انمحى المكتوب يراعى حكمه إعظاما له
يحط كل طويل الرمح حامله ... من سرج كل طويل الباع يعبوب
يحط ينزل ويضع واليعبوب الفرس الكثير الجري يقول حامل خاتمه ينزل الفارس الطويل الرمح من سرج الفرس وذلك أن الفارس إذا رأى خاتمه سجد له فينزل من فرسه ولم يعرف أبن جنى معنى هذا فقال مرة يقول يقتل حامل خاتمه كل فارس فيذريه عن سرج فرسه وقال مرة يحط حامل خاتمه أعداءه عن سروجهم وليس البيت من القتل ولا من إنزال الأعداء في شيء
كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
يعني أنه يفرح إذا سمع سؤال السائل فرح يعقوب لما رأى قميص يوسف
إذا غزته أعاديه بمسألة ... فقد غزته بجيش غير مغلوب
إذا قصدته الأعداء بالسؤال فقد قصدته بجيش لا يغلب لأنه لا يرد السائل
أو حاربته فما تنجو بتقدمة ... مما أراد ولا تنجو بتجبيب
وإن أتوه محاربين لم ينجوا من إرادته فيهم بالإقدام ولا بالهرب ولا بالشجاعة ولا بالجبن والتقدمة مثل التقديم يريد أن قدموا خيلهم واستعملوا الشجاعة والتجبيب أن تولى الرجل هاربا من الشيء
أضرت شجاعته أقصى كتائبه ... على الحمام فما موت بمرهوب
يقول عود أصحابه المحاربة ومرنهم على الموت وليس الموت عندهم بمرهوب لأنهم تعودوا الحرب والقتال ويريد بأقصى كتائبه الجبناء الذين لا يشهدون القتال ويقال ضرى بالشيء إذا اعتاده ومنه قيل كلب ضار وأضريته على كذا
قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
الشؤبوب الدفعة من المطر الشديدة وجمعه شآبيب قال أبن جنى يقول تركت القليل من ندى غيره إلى الكثير من نداه قال أبن فورجة هذا محتمل لكنه أراد أن مصر لا تمطر فيقول لا منى الناس في هجري بلاد الغيث فقلت تعوضت عنها غيوث يديه
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا تمن على آثار موهوب
في هذا تعريض بسيف الدولة
ولا يروع بمغدور به أحدا ... ولا يفزع موفورا بمنكوب
يقول لا يغدر بأحد من أصحابه ليروع به غيره ولا ينكب أحدا بظلم وأخذ مال ليفزع به موفورا وهو الذي لم يؤخذ ماله أي أنه حسن السيرة في رعيته لا يفزع بالإساءة إلى أحد منهم آخر غيره
بلى يروع بذي جيش يجدله ... ذا مثله في أحم النقع غربيب
الأحم والغربيب الأسود يقول بلى يخوف بصاحب جيش يصرعه على الجدالة بأن يقتله في غبار أسود آخر مثله ذا قوة وكثرة ليعتبر به فيخافه ويطيعه والمعنى أنه إذا رآه ملك وقد صنع بملك آخر ما صنع هابه وحذر خلافه
وجدت أنفع مال كنت أذخره ... ما في السوابق من جري وتقريب
جعل جري الخيل أنفع مال كان يدخره لأنها حملته إلى الممدوح وأخرجته من بين الغادرين به وقد ذكر ذلك فيما بعد فقال
لما رأين صروف الدهر تغدرني ... وفين لي ووفت صم الأنابيب
يقول لما غدر بي الزمان يعني أهل الزمان وفت لي الخيل والرماح أي أوصلتني إلى ما أريد وأراد بصم الأنابيب الرماح(1/317)
فتن المهالك حتى قال قائلها ... ماذا لقينا من الجرد السراحيب
قال أبن جنى أي ضجت المفاوز من سرعة خيلي ونجاتها وقوتها هذا كلامه وعلى ما قال المهالك المفاوز والمعنى أن خيلنا قطعت المفاوز حتى لو كان لها قائل لقال ماذا لقينا من هذه الخيل في تذليلها إيانا بالوطىء وقطعها البعد في سرعة نجاتها من غوائل الطريق وقال أبن فورجة المهالك إذا أطلقت لم يفهم منها المفاوز وإنما يفهم الأمور المهلكة يعني أن هذه الخيل لم يعلق بها شيء من الهلاك حتى تعجبت المهالك من نجاتها بسلامة منها هذا كلامه وآخر البيت يدل على ما قال أبن جنى ويجوز أن يعود الضمير في القائل إلى السوابق أي قال قائل السوابق يعني الذي يمدحها ويذكر حسن بلائها ماذا لقينا من انجائها إيانا من الأعداء وهذا استفهام تعجب
تهوى بمنجرد ليست مذاهبه ... للبس ثوب ومأكول ومشروب
يقول هذه الخيل تسرع برجل ماض في الأمور ليس مذهبه في صحبة الدهر أن يقنع بملبوس ومطعوم كما قال حاتم، لحى الله صعلوكا مناه وهمه، من الدهر أن يلقى لبوسا ومطعما، وكما قال آخر، وليس فتى الفتيان من راح واغتدى، لضر عدو أو لنفع صديق، وقد شرح هذا المعنى خفاف البرجمي في قوله، ولو أن ما أسعى لنفسي وحدها، لزاد يسير أو ثياب على جلدي، لهان على نفسي وبلغ حاجتي، من المال مال دون بعض الذي عندي، ولكنما أسعى لمجد مؤثل، وكان أبي نال المكارم من جدي، وكلهم احتذى مثال امرىء القيس في قوله، فلو أن يدرك المجد المؤثل أمثالي، ومثل هذا لأبي الطيب أيضا، وفي الناس من يرضى بميسور عيشه، ومركوبه رجلاه والثوب جلده، ومعنى قوله ليست مذاهبه للبس ثوب أي ليست أسفاره لهذا
يرمي النجوم بعيني من يحاولها ... كأنها سلب في عين مسلوب
يقول إذا نظر إلى النجوم نظر إليها بعين من يطلبها لبعد همته يطمع في درك النجوم حتى كأنها سلبت منه والمسلوب ينظر إلى ما سلب منه نظر من يطمع في رجوعه إليه
حتى وصلت إلى نفس محجبة ... تلقى النفوس بفضل غير محجوب
الملوك يوصفون بأنهم محجبون عن الناس يقول هو وإن كان محجبا فإن عطاءه قريب عمن طلبه غير محجوب ويجوز أن يريد بالنفس همته وأنها محجبة عن الناس لا يبلغها كل أحد لأنه قال
في جسم أروع صافي العقل تضحكه ... خلائق الناس إضحاك الأعاجيب
يريد بالأروع الذكي القلب كأنه مرتاع لذكائه والأروع في غير هذا الذي يروعك حسنه يقول إذا نظر إلى أخلاق الناس ضحك منها هزوأ واستصغارا
فالحمد قبل له والحمد بعد لها ... وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
له أي لكافور ولها أي للخيل والإدلاج سير الليل والتأويب سير النهار يقول أحمدك وأحمد خيلي ورماحي وسيري إذ بلغني إليك وهو قوله
وكيف أكفر يا كافور نعمتها ... وقد بلغنك بي يا كل مطلوبي
يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
الغاني المستغني يقال غنى بكذا واستغنى به يقول أنت مشهور الأسم يستغنى بذكر اسمك عن وصفك وذكر لقبك من سماك وهذا كما يروى أن رؤبة بن العجاج أتى النسابة البكري فقال من أنت قال أنا رؤبة بن العجاج فقال قصرت وعرفت فقال رؤبة يفتخر بذلك، قد رفع العجاج إسمي فادعني، بإسمي إذا الأنساب طالت يكفني،
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محبا غير محبوب
يقول أنت المحبوب أحبك وأعوذ بك من أن لا تحبني لأن أشقى الشقاوة أن تحب من لا يحبك كما قال الأخر، ومن الشقاوة أن تحب ولا يحبك من تحبه، وقال يمدح كافورا في ذي الحجة من سنة ست وأربعين وثلثمائة
أود من الأيام مالا توده ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده
يقول أحب من الأيام الإنصاف والجمع بيني وبين أحبتي وذلك مالا توده الأيام وأشكو إليها الفراق والأيام جند للفراق لأنها سبب البعد والتفريق وقوله بيننا إنتصابه بالشكو لا بالظرف ويرد بالبين الفراق والهاء في جنده للبين أي الزمان هو الذي حتم البين فإذا شكوت إليه لم يشكني
يباعدن حبا يجتمعن ووصله ... فكيف بحب يجتمعن وصده(1/318)
يباعدن معناه يبعدن ووصله وصده معطوفان على الضمير في يجتمعن من غير أن أتى بتوكيد وهو جائز في الضرورة وجعل الأيام تجتمع مع الوصل والصد لأنهما يكونان فيها والظرف يتضمن الفعل وإذا تضمنه فقد لابسه فكأنه اجتمع معه يقول إذا كانت الأيام يبعدن منا الحبيب المواصل لنا فكيف يقربن الحبيب المقاطع المهاجر لنا والمعنى أن الأيام يبعدن عنا حبيبا ووصله موجود فكيف الطمع في حبيب صده موجود
أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه ... فما طلبي منها حبيبا ترده
قوله تديمه من فعل الدنيا وكذلك ترده أي تدفعه ويجوز أن يريد ترده إلى الوصل يقول حبيب تديمه الدنيا لنا قد أبت ذلك أي تأبى أن تديم لنا حبيبا على الوصال فكيف إذ أطلب منها حبيبا تمنعه عن وصالنا أو كيف أطلب منها أن ترده إلى الوصل بعد أن أعرض وهجر
واسرع مفعول فعلت تغيرا ... تكلف شيء في طباعك ضده
يقول أن الدنيا لو ساعدتنا بقرب أحبتنا لما دام لنا ذلك لأن الدنيا بنيت على التغير والتنقل فإذا فعلت غير ذلك كانت كمن تكلف شيئا وهو ضد طباعه فيدعه عن قريب ويعود إلى طبعه كما قال حاتم، ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه، يدعه وتغلبه عليه إليه الرواجع، ومثله قول الأعور الشني، ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه، يدعه وتغلبه عليه الطبائع، وأدوم أخلاق الفتى ما نشأ به، وأقصر أفعال الرجال البدائع، ومثله قول إبراهيم المهدي، من تحلى شيمة ليست له، فارقته وأقامت شيمه، ومثله، يا أيها المتحلي غير شيمته، إن التخلق يأتي دونه الخلق،
رعى الله عيسا فارقتنا وفوقها ... مها كلها يولى بجفنيه خده
يدعو الإبل التي حملت النسوة فذهبت بهن وهو قوله وفوقها مها ثم ذكر أنهن يبكين لأجل الفراق فقال كلها يولى أي يمطر خده بجفنيه من الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي جعل بكاءهن كالمطر من جفونهن
بواد به ما بالقلوب كأنه ... وقد رحلوا جيد تناثر عقده
أي فارقتنا بواد به من الوجد والوحشة لفراقهم ما بالقلوب أي استوحش وتغير لارتحالهم فصار كأنه جيد تناثر عقده يعني أن الوادي كان متزينا بهم فلما ارتحلوا تعطل من الزينة
إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده
الرند شجر طيب الريح يقال أنه الآس يقول مراكب هذه النسوة إذا سارت فوق نبات الوادي وهو رند وهن قد استعملن المسك وتطيبن به اختلطت رائحة المسك برائحة الرند وذلك هو التفاوح
وحال كإحداهن رمت بلوغها ... ومن دونها غول الطريق وبعده
يقول رب حال هي في الصعوبة والإمتناع كإحدى هؤلاء النسوة في تعذر الوصول إليها طلبت أن أبلغها وقبل الوصول غليها بعد الطريق وما فيه من مهالك يعني أنه يطلب أحوالا عظيمة وغول الطريق ما يغول سالكه من تعبه ومشقته
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
هذا مثل ضربه لنفسه كأنه يقول أنا أتعب خلق الله لزيادة همتي وقصور طاقتي من الغنى عن مبلغ ما أهم به وهذا مأخوذ مما في الحديث أن بعض العقلاء سئل عن أسوء الناس حالا فقال من قويت شهوته وبعدت همته واتسعت معرفته وضاقت مقدرته وقد قال الخليل أبن أحمد، رزقت لبا ولم أرزق مروته، وما المروة إلا كثرة المال، إذا أردت مساماة تقاعدي، عما ينوه باسمى رقة الحال،
فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان بالمال عقده
هذا نهي عن تبذير المال والاسراف في إنفاقه يقول لا يذهبن مالك كله في طلب المجد لأن من المجد مالا يعقد إلا بالمال فإذا ذهب مالك كله انحل ذلك المجد الذي كان يعقد بالمال ألا ترى إلى قول عبد الله بن معاوية، أرى نفسي تتوق إلى أمور، يقصر دون مبلغهن مالي، فلا نفسي تطاوعني ببخل، ولا مالي يبلغني فعالي، يتأسف على قصور ماله عن مبلغ مراده وأبو الطيب يقول ينبغي أن تقتصد في العطاء وتدخر المال لتطيعك الرجال فتنال العلى وتصل إلى الشرف ثم ضرب لهذا مثلا فقال
ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زنده
يقول دبر مالك تدبير المحارب الذي لا يقدر على الضرب إلا باجتماع الزند والكف جعل الكف مثلا للمجد والزند مثلا للمال فكما لا يحصل الضرب إلا باجتماع الزند والكف كذلك لا يحصل الكرم والعلو إلا باجتماع المال يريد أنهما قرينان(1/319)
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
أي الفقير الذي لا مال له لا يبلغ الشرف والذي لا مجد له كأنه ليس له مال وأن كان مثريا لأنه إذا لم يطلب بماله المجد فكأنه لا مال له لمساواته الفقير
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
يقول في الناس من هو دني الهمة يرضى بما تيسر له من العيش ولا يطلب ما وراءه يمشي راجلا عاريا
ولكن قلبا بين جنبي ما له ... مدى ينتهي بي في مراد أحده
يقول لكن لي قلبا ليس له غاية ينتهي بي إلى تلك الغاية في مطلوب أجعل له حدا يعني إذا جعلت حدا لمطلوبي لم يرض قلبي بذلك فطلب ما وراءه
يرى جسمه يكسى شفوفا تربه ... فيختار أن يكسى دروعا تهده
هذا القلب الذي لي يرى جسمه يكسى ثيابا رقيقة بلينها ونعمتها فيأبى ذلك ويريد أن يكسى دروعا تكسره بثقلها يعني لا يرضى قلبي بأن أتنعم بالثياب الرقيقة ويريدني على طلب المعالي بلبس الدروع
يكلفني التهجير في كل مهمة ... عليقي مراعيه وزادي ربده
يقول قلبي يكلفني السير في الهواجر في كل فلاة بعيدة لا عليق لفرسي منها إلا أن يرتعي في مراعيها ولا زاد لي فيها إلا النعام الربد وهي السود أصيدها فآكلها
وأمضى سلاح قلد المرء نفسه ... رجاء أبى المسك الكريم وقصده
يقول رجائي أب المسك وقصدي إياه أمضى سلاح أتقلده على الحوادث والنوائب يعني إنهما يدفعان عني ما أخافه
هما ناصرا من خانه كل ناصر ... وأسرة من لم يكثر النسل جده
يقول هما ينصران على الزمان من لا ناصر له ومن ليست له عشيرة يعز بهم فيكونان له بمنزلة الأسرة والعشيرة
أنا اليوم من غلمانه في عشيرة ... لنا والد منه يفديه ولده
الولد يكون واحدا وجمعا يذكر أنه وهب له غلمانا وأنه منهم في عشيرة لأنه إذا ركب ركبوا معه وأطافوا به فكأنهم عشائره وأقاربه ثم قال لنا والد منه أي هو لنا كالوالد ونحن له كالأولاد البررة نقول له نفديك بأنفسنا
فمن ماله مال الكبير ونفسه ... ومن ماله در الصغير ومهده
يعني أنه عم الكبير والصغير ببره فالذي يملكه مما وهبه له ونفسه أيضا من ماله لأنه غذى بإنعامه واللبن الذي يرتضعه الصغير وموضعه الذي هيىء لنومه من ماله أيضا لأنه ملك له الأمر والتصرف في كل شيء
تجر القنا الخطى حول قبابه ... وتردى بنا قب الرباط وجرده
أي نخدمه أينما نزل ونصبت قبابه وتعدو بنا في صحبته ضوامر الخيل وجردها والرباط اسم لجملة الخيل
ونمتحن النشاب في كل وابل ... دوي القسي الفارسية رعده
أراد بالوابل السهام التي يرمونها لكثرتها شبهها بالوابل من المطر وأراد بدوي القسي صوتها ولما استعار للسهام اسم الوابل جعل صوت القسي رعدا لذلك الوابل يقول نتناضل ونترامى بالسهام والقسي كعادة الفرسان والشبان من أهل الحروب
فإن لا يكن مصر الشرى أو عرينه ... فإن الذي فيها من الناس أسده
روى أبن جنى فإن التي قال لأنه أراد الفئة والجماعة والشرى موضع كثير الأسد والعرين الأجمة يقول أن لم يكن مصر هذا الموضع الذي هو مأسدة، ولا عرين هذا الموضع فإن أهلها من الناس أسود الشرى
سبائك كافور وعقيانه الذي ... بصم القنا لا بالأصابع نقده
هذا تفسير لقوله فإن الذي فيها من الناس أسده سبائك كافور أي هم سبائك كافور وعقيانه والسبائك جمع سبيكة وهي المذاب من الذهب والفضة على معنى أنهم له بمنزلة الذخائر والأموال لغيره من الملوك لأنه بهم يصل إلى مطالبه كما يصل غيره بالمال وكلن نقد هذه السبائك لا يكون بالأنامل إنما يكون بالرماح أي يستعملون الرماح فيتبين المطعان ومن يصلح للحرب ممن لا يصلح لها
بلاها حواليه العدو وغيره ... وجربها هزل الطراد وجده
أي اختبرها الأعداء في المحاربة حوالي كافور أي حاربوا أعداءه وشهدوا معه المعارك فصاروا مجربين بكثرة القتال وهزل الطراد وهو أن يطارد بعضهم بعضا وجده وهو أن يطاردوا الأعداء في القتال
أبو المسك لا يفنى بذنبك عفوه ... ولكنه يفنى بعذرك حقده
يريد أنه كثير العفو وأن عفوه أكثر من ذنب المذنبين وأنه ليس بحقود وإذا اعتذر إليه الجاني ذهب حقده(1/320)
فيا أيها المنصور بالجد سعيه ... ويا ايها المنصور بالسعي جده
يريد أن النصرة والسعادة قد اجتمعتا له وإذا سعى في أمر نصر سعيه بالجد فيصير مجدودا في ذلك السعي وجده أيضا منصور بسعيه لأنه لا يعتمد على الجد في الأمور بل يسعى فيها وأن كان مجدودا والجد والسعي إذا اجتمعا لإنسان بلغ أقصى المبالغ
تولى الصبي عني فأخلفت طيبه ... وما ضرني لما رأيتك فقده
أي اعطيتني الخلف من طيب الصبي والمعنى أني سررت بك سروري بالشباب حتى لم يضرني فقد الشباب مع رؤيتك
لقد شب في هذا الزمان كهوله ... لديك وشابت عند غيرك مرده
هذا تأكيد لما ذكره يريد أن الكهول في حسن سيرتك وعدلك صاروا شبابا والأحداث عند غيرك صاروا شيبا بظلمه وسوء سيرته
ألا ليت يوم السير يخبر حره ... فتسأله والليل يخبر برده
يذكر أنه قاسى في الطريق إليه حر النهار وبرد الليل يقول ليتهما يخبران فتسألهما عما قاسيت
وليتك ترعاني وحيران معرض ... فتعلم أني من حسامك حده
ترعاني ليس من رعاية الحفظ إنما هو بمعنى تراني وترقبني وحيران اسم ماء ومعرض ظاهر يقال اعرض الشيء إذا بدا للناظر ومنه، وأعرضت اليمامة واشمخرت، كأسياف بأيدي مصلتينا، يقول ليتك كنت تراني وأنا بهذا الماء فترى جلدي وانكماشي فتعلم أني ماض في الأمور مضاء حد حسامك
وأني إذا حاولت أمرا أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشده
ومازال أهل الدهر يشتبهون لي ... إليك فلما لحت لي لاح فرده
أي مازال أهل الدهر متساوين متشاكلين في مسيري إليك فلما ظهرت لي ظهر الفرد الذي لا مشاكل له وهذا كقوله، الناس ما لم يروك أشباه، ومعنى قوله إليك أي قاصدا إليك وسائرا إليك فهو من صلة الحال المحذوفة
يقال إذا أبصرت جيشا وربه ... أمامك ملك رب ذا الجيش عبده
هذا تفسير للذي قبله أي إذا رأيت جيشا وملكه فاستعظمته قيل لي أمامك ملك هذا الذي تراه عبده فالذين رآهم هم الذين اشتبهوا له والذي قيل له رب ذا الجيش عبده هو الفرد الذي لاح
وألقى الفم الضحاك أعلم أنه ... قريب بذي الكف المفداة عهده
أي إذا لقيت إنسانا ضاحكا علمت قرب عهده بكفك وأخذه عطاءك
فزارك مني من إليك اشتياقه ... وفي الناس إلا فيك وحدك زهده
يخلف من لم يأت دراك غاية ... ويأتي ويدري أن ذلك جهده
أي غاية كل طالب مرتبة دارك ونهاية ما يأتيه متكسب المجد أن يقصدك فمن لم يأت دارك فقد خلف غاية فإذا أتاها علم أن ذلك جهده في ابتناء المجد واكتساب المعالي كما قال هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى
فإن نلت ما أملت منك فربما ... شربت بماء يعجز الطير ورده
يقول أن بلغت أملي فيك فلا عجب فكم قد بلغت الممتنع من الأمور الذي لا يدرك وجعل الماء الذي لا يرده الطير مثلا للممتنع من الأمر وإنما ضرب هذا المثل لأمله فيه لبعد الطريق إليه وأبن جنى يقول يمكن أن يقلب هذا هجاء ومعناه إن أخذت منك شيئا على بخلك وامتناعك من العطاء فكم قد وصلت إلى المستصعبات واستخرجت الأشياء المعتاصة
ووعدك فعل قبل وعد لأنه ... نظير فعال الصادق القول وعده
يقول وعدك فعل بلا وعد وهو عين النقد لأن الفعل قبل الوعد نقد ومن كان وافيا بمواعيده فوعده نظير فعله لأنه إذا وعد شيئا فعله فلركون النفس إلى وعده كأنه نقده
فكن في اصطناعي محسنا كمجرب ... يبن لك تقريب الجواد وشده
يقول جربني في اصطناعك إياي ليتبين لك أني موضع للصنيعة فإن بالتجربة يعرف الفرس وأنواع جريه من التقريب والشد
إذا كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعده
يقال نفاه ونفاه مخففا ومشددا يقول إذا جربت السيف بان لك صلاحه وفساده فإما أن تلقيه لأنه كهام وإما أن تعده للحرب لأنه حسام وهذا مثل ضربه لنفسه يقول جربني فإما أن تصطنعني وإما أن ترفضني ثم أكد هذا بقوله
وما الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده(1/321)
يقول السيف القاطع الهندي كغيره من السيوف إذا لم يسل في الحرب ولم يجرب أي إنما يعرف ما عنده من المضاء وحسن الأثر إذا جرب كذلك أنا ما لم أجرب لم يعرف ما عندي ولم يكن بيني وبين غيري فرق وكان يطلب منه أن يوليه يقول له جربني لتعرف ما عندي من الكفاية وأني اصلح لأن أكون واليا وهذا من قول الطائي، لما انتضيتك للخطوب كفيتها، والسيف لا يكفيك حتى ينتضي،
وإنك للمشكور في كل حالة ... ول لم يكن إلا البشاشة رفده
الكناية تعود إلى المشكور يقول أنت مشكور من جهتي في كل حال وإن لم تعطني إلا طلاقة وجهك أي أكتفي منك بأن أراك بشاشا طلق الوجه واشكرك على ذلك
فكل نوال كان أو هو كائن ... فلحظه طرف منك عندي نده
يقول نظرك إلى نظير كل نوال منك أخذته أو سآخذه
وإني لفي بحر من الخير أصله ... عطاياك أرجو مدها وهي مده
يريد كثرة ما يصل إليه من الخير والبر والصلات والمد زيادة الماء يقول أرجو زيادة عطاياك فإنها زيادة ذلك البحر الذي أنا فيه وهي مادته
وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنها في مفخر أستجده
يقول لست أرغب في ذهب ومال من جهتك ولكن في فخر جديد كأنه أراد أن يوليه ولاية كما قال المهلبي، يا ذا اليمينين لم أزرك ولم، أصحبك من خلة ولا عدم، زارك بي همة منازعة، إلى جسيم من غاية الهمم، ومثله، لم تزرني أبا علي سنو الجدب وعندي من الكفاف فضول، غير أني باغ جليلا من الأمر وعند الجليل يبغي الجليل، ومثله للطائي، ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم، فإني لم أخدمك إلا لأخدما، ومثله لأبي الطيب، فسرت إليك في طلب المعالي، وسار سواي في طلب المعاش،
يجود به من يفضح الجود جوده ... ويجمده من يفضح الحمد حمده
أي تجود به أنت وجودك فافضح لجود غيرك بزيادته عليه واحمدك أنا وحمدي يفضح حمد غيري لأنه فوقه
فإنك ما مر النحوس بكوكب ... وقابلته إلا ووجهك سعده
يقول النحوس لا يمر بكوكب وله من وجهك سعد إذا قابلته كما قال الطائي، تلقى السعود بوجهه وبحبه، وعليك مسحة بغضة فتحبب، والمعنى إنك تسعد المنحوس وتغني الفقير ودس الأسود إلى أبي الطيب من قال له قد طال قيامك في مجلسه يريد أن يعلم ما في نفسه فقال
يقل له القيام على الرؤوس ... وبذل المكرمات من النفوس
يقول يقل له أن نقوم في خدمته ولو على الرؤوس وأن نبذل في خدمته النفوس المكرمة ومن روى المكرمات أراد الأفعال الكريمة أي يقل له أن نكرمه بخدمة أنفسنا إياه
إذا خانته في يوم ضحوك ... فكيف تكون في يوم عبوس
إذا خانته النفوس فلم تقم له ولم تخدمه في السلم فكيف تخدمه ي الحرب ومات للأسود خمسون غلاما في الدار الجديدة التي انتقل إليها في أيام يسيرة ففزع وخرج منها إلى دار أخرى فقال أبو الطيب
أحق دار بأن تدعى مباركة ... دار مباركة الملك الذي فيها
يقول أحق الديار بأن تدعى وتسمى مباركة دار ملكها أو ملكها الذي فيها مبارك يعني إذا كان صاحب الدار مباركا فداره مباركا أحق الدور بأن تدعى مباركة
وأجدر الدور أن تسقى بساكنها ... دار غدا الناس ستسقون أهليها
يقول أولى الدور بأن تكون مسقية ببركة من يسكنها دار سكانها سقاة الناس يعني إذا كان السكان يسقون الناس وينفعونهم فدارهم مسقية بهم تشمل بركاتهم الدار
هذي منازلك الأخرى نهنئها ... فمن يمر على الأولى يسليها
يقول هذه التي انتقلت وعدت غليها نهنئها بعودتك إليها فمن الذي يأتي الدار التي فارقتها فيعزيها
إذا حللت مكانا بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها
أي إذا نزلت مكانا بعد ارتحالك عن مكان أخر اعطيته فخرا على المرتحل عنه بنزولك إياه
لا ينكر العقل من دار تكون بها ... فإن ريحك روح في مغانيها
يقول لا تتعجب من أن تكون الدار التي تحلها عاقلة حتى تفرح بسكناك وتحزن لمفارقتك فإن ريحك روح لها
أتم سعدك من لقاك أوله ... ولا أسترد حياة منك معطيها
وقال أيضا يمدحه وقد قاد إليه مهرا أدهم في شهر ربيع الآخر سنة 347
فراق ومن فارقت غير مذممِ ... وأم ومن يممتُ صير ميممِ(1/322)
يقول عند ارتحاله فراق أي هذه الحال التي أنا فيها فراق والذي أفارقه غير مذموم يعني سيف الدولة وهذا الفراق قصد لإنسان آخر وهو خير مقصود يعني الأسود
وما منزل اللذات عندي بمنزلٍ ... إذا لم أبجل عنده وأكرمِ
يقول لا أقيم بمكان للذة العيش وطيب الحيوة إذا لم أكن مكرما معظما
سجيةُ نفسٍ لا تزالُ مليحةً ... من الضيمِ مرميا بها كل مخرمِ
المليحة المشفقة الخائفة يقال ألاح من الأمر إذا اشفق منه والمخرم الطريق في الجبل يقول هذا الفراق سجيةٌ نفسي التي هي أبدا خائفة من أن تظلم ويبخس حقها من الأكرام وأنا أرمي بها كل طريق هاربا بها من الضيم والذل
رحلت فكم باكٍ بأجفانِ شادنٍ ... عليَّ وكم باكٍ بأجفانِ ضيغم
أي فكم من رجال ونساء بكوا على فراقي وجزعوا لارتحالي عنهم فالباكي بجفن الشادن المرأة المليحة الحسناء والباكي بأجفان الأسد الرجل الشجاع الكريم
وما رب القرطِ المليحِ مكانهُ ... عذرت ولكن من حبيبٍ معممِ
أي لو كان الذي أشكوه من الغدر بي كان من امرأة عذرتها لأن شيمة النساء الغدر ولكنه من رجلٍ والمعمم كناية عن الرجل لأن المرأة لا تتعمم
رمى واتقى رميي ومن دونِ ما اتقى ... هوى كاسرٌ كفى وقوسي وأسمهي
هذا مثل يقول لم يحسن إليّ ولم أهجه لحبي إياه فضرب المثل لاساءته إليه بالمر ولأمنه عن المكافاة بالهجاء بالاتقاء بحب يكسر كفه وقوسه وسهامه إن أراد أن يرميه والمعنى أن حبي إياه منعني عن مكافاته بالإساءة فكان كرامٍ يرميني وهو وراء جنةٍ من حبي تمنعي عن أن أرميه
إذا ساء فعلٌ المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهمِ
يقول المسيء الظن لا يأمن من اساء إليه وما يخطر بقلبه من التوهم على اصاغره يصدق ذلك وهذا كما قال بعضهم، وما فسدت لي يشهد الله نيةٌ، عليك بل استفسدتني فاتهمتني،
وعادى محبيه بقولِ عداتهِ ... وأصبح في ليلٍ من الشك مظلمِ
أصادق نفس المرء من قبل جسمهِ ... وأعرفها في فعلهِ والتكلمِ
يريد بالنفس الهمة والمعاني التي في نفس الإنسان من أخلاقه يذكر لطف حسه ودقة علمه وأنه قبل أن تقع بينه وبين من يحبه المعرفة يصادق نفسه أولا ويستدل عليها فعله وكلامه
وأحلمُ عن حلي وأعلم أنه ... متى أجزهِ حلما على الجهلِ يندمِ
يقول أصفح عن خليلي علما بأني متى جازيته على سفهه وجهله بالحلم ندم على قبيح فعله فاعتذر إليّ وأعتب إلى مرادي وهذا المعنى من قول سالم بن وابصه، ونيربٍ من موالي السوء ذي حسدٍ، يقتات لحمي وما يشفيه من قرمٍ، داويتُ صدرا طويلا غمرهُ حقداً، منه وقلمت أظفاراً بلا جلم، بالحزم والخير أسديه وألحمه، تقوى الإله وما لم يرع من رحمي، فأصبحت قوسه دوني موترةً، يرمي عدوي جهارا غير مكتتمِ، إن من الحلم ذلا أنت عارفهُ، والحلمُ عن قدرةٍ فضل من الكرم، ومن روى أنني متى أجزه يوما على الجهل أندم أي متى جهلت عليه كما جهل عليّ ندمت على ذلك لأن السفه والجهل ليس من أخلاقي
وإن بذل الإنسان لي جود عابسٍ ... جزيت بجود التاركِ المتبسمِ
يقول أن جاد عليّ إنسان في كراهةٍ وعبوس جزيت جوده بترك عطائه في تبسم ورضاً بتركه
وأهوى من الفتيان كل سميدعٍ ... نجيبٍ كصدرِ السمهري المقومِ
يقول أحب من الفتيان كل كريم يأتي الناس بيته للضيافة نجيب طويل القد كالرمح المقوم
خطت تحته العيش الفلاة وخالطت ... به الخيل كبات الخميس العرمرمِ
أي قد سافر كثيرا وقطعت به الإبل الفلاة وشهد الحرب فخالطت به الخيل الجيش والكبة الصدمة والحملة من قولهم كبه لوجهه إذا ألقاه قال بعض العرب طعنته في الكبة طعنةً في السبة فأخرجتها من اللبة فقيل كيف طعنته في السبة وهي حلقة الدبر فقال إن رمحه كان قد سقط من يده فأكب ليأخذه فطعنته
ولا عفةٌ في سيفه وسنانهِ ... ولكنها في الكف والفرج والفمِ
أي هو عفيف النفس وليس بعفيف السيف والسنان إذا شهد الحرب قتل الأقران ولم يثعفف عن دمائهم
وما كل هاوٍ للجميلِ بفاعلٍ ... ولا كل فاعلٍ له بتممِ
يقول ليس كل من يحب الأمر الجميل يصنعه وليس كل من يصنعه يكلمه(1/323)
فدًى الكرام كخيل سوابق وجعله كأدهم يتقدم تلك السوابق وهن يجرين على إثره يعني أنه أمام الكرام وسابقهم
أغر بمجدٍ قد شخصن وراءه ... إلى خلقٍ رحبٍ وخلقٍ مطهمِ
أراد بأدهم أغر بمجد جعل غرته المجد لا البياض وهذه السوابق قد مددن أعينها وراء هذا الأغر ينظرن إلى خلق واسع وخلقٍ تام الجمال
إذا منعت منك السياسة نفسها ... فقف وقفةً قدامهُ تتعلمِ
يقول إذا لم تحسن السياسة فأخدمه بالقيام أمامه مرةً تتعلم منه حسن السياسة
يضيق على من راءه العذر أن يرى ... ضعيف المساعي أو قليل التكرمِ
يقول من رآه لم يكن له عذر أن يكون ضعف المسعاة قليل الكرم يعني منه تتعلم هذه الأشياء فمن رآه ولم يتعلمها منه فهو غير معذور وابن جنى جعل هذا داخلا في الهجاء على معنى أن مثله في خسته ولوم أصله إذا كانت له مسعاةٌ وتكرمٌ فلا عذر لأحد بعده في تركها كما قال الآخر، ولا تيأسن من الإمارة بعد ما، خفقت اللواء على عمامةِ جرولِ،
ومن مثل كافورٍ إذا الخيل أحجمت ... وكان قليلا من يقول لها أقدمي
يقول إذا أحجمت الكتيبة وقل من يحثها على ورود المعركة فمن مثله أي أنه يحث الخيل عند الإحجام ويشجعها على لقاء العدو والرواية اقدمي بضم الدال أي تقدمي من قدم يقدم إذا تقدم ومن روى بفتح الدال فمعناه ردي الحرب من قدامه يقدم قدوما
شديد ثبات الطرف والنقع واصلٌ ... إلى لهواتِ الفارسِ المتلثمِ
يقول إذا سطع الغبار حتى وصل إلى لهوات من شد على فمه اللثام فهو حينئذٍ ثابت في المعركة لا يحجم ولا يتأخر ومن روى بفتح الطاء فمعناه أن عينه لا تبرق ولا يتداخله الفزع
أبا المسك أرجو منك نصرا على العدا ... وآمل عزا يخضب البيض بالدمِ
أي أرجو منك عزا أتمكن به من أعدائي
ويوما يغيظ الحاسدين وحالةً ... أقيم الشقا فيها مقام التنعمِ
يقول أرجو أن أدرك بعزك حالةً شقائي فيها وتعبي مثل التنعم عندي أي أشقى في حرب الأعداء فاتنعم بذلك ويجوز أن يكون المعنى أني أبدل تنعم الأعداء بالشقاء لما أورد عليهم من الحسد لنعمتي والغيظ لمكاني ويشقون بي ويجوز أن يريد أني أستبدل بالشقاء تنعما
ولم أرج إلا أهل ذاك ومن يرد ... مواطرَ من غيرِ السحائب يظلمِ
يقول أنت أهل لأن يرجى عندك ما رجوته ولم أضع الرجاء منك في غير موضع كمن يرجو مطرا من غير سحاب فيقال له ظلمت حين رجوت المطر من غير موضعه
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيم
ولا نبحت خيلي كلاب قبائلٍ ... كأن بها في الليلِ حملات ديلمِ
يريد أنه كان يمر بالليل في طريقه إلى مصر على لاقبائل فتصول كلابها على خيله كأنها أعداء تحمل عليها وأراد بالديلم الأعداء والعرب تعبر عن اسم الديلم بالأعداء وهم جيل من الناس كانت بينهم وبين العرب عداوة فصار أسمهم عبارة عن الأعداء ومنه قول عنترة، زوراء تنفر عن حياض الديلم، وقال ابن جنى سأل أبا الطيب بعض من حضر فقال أتريد بالديلم الأعداء أم هذا الجيل ن العجم فقال بل من العجم
ولا أتبعت آثارنا عين قائفٍ ... فلم تر إلا حافراً فوق منسمِ
يقول إن الذي اتبعنا ليردنا عن المسير إليك لم ير إلا آثار الإبل والخيل أي لم يدركنا لسرعة سيرنا وعادتهم إذا طالت عليهم الرحلة إن يركبوا الإبل ويجنبوا الخيل فلذلك قال إلا حافرا فوق منسم يعني إلا أثر حافر فوق أثر خف ومن هذا قول الآخر، أولى فأولى يا أمرء القيس بعدما، خصفنا بآثار المطي الحوافرا،
وسمنا بها البيداء حتى تغمرت ... من النيل واستذرت بظل المقطمِ
يقول وسمنا البيداء بآثار خيلنا وركابنا حتى وردت النيل فشربت منه دون الريّ والتغمر الشربُ القليل من الغمر وهو القدح الصغير وإنما قل شربها لأنها وردت الماء مكدودة فقل شربها حينئذٍ ومنه قول طفيل، أنخنا فسمناها النطافَ فشاربٌ، قليلً وابٍ صد عن كل مشربِ، واستذرت نزلت في ذراه أي في ناحيته وكنفه والمقطم جبل مروف بمصر
وأبلخ يعصي باختصاصي مشيره ... عصيت بقصديه مشيري ولومي(1/324)
الأبلخ العظيم في نفسه وهو من صفات الملوك وبالجيم الجميل الوجه وهو عطف على المقطم أي وبظل أبلخ يعصي من يشير عليه بتركي بأن يختصني دون غيري كما أني عصيت من أشار عليّ بترك المسير إليه ولا معنى في ذلك لبعد الطريق يقال أنه أراد بهذا ابن حنزابة وزير الأسود ولم يكن المتنبي مدحه
فساق إلي العرف غير مكدرٍ ... وسقت إليه الشكر غير مجمجمِ
أي لم يكدر إحسانه إليّ بالمنذ ولم ينغصه بالأذى والمجمجم من قولهم جمجم كلامه إذا عماه وستره ولم يأت به على الوجه الذي يهتدي إليه فقال ابن جنى أي ليس فيه عيب ولا إشارة إلى ذم
قد اخترتك الأملاك فاختر لهم بنا ... حديث وقد حكمت رأيك فأحكمِ
أراد من الأملاك فحذف من واوصل الفعل كقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا يقول اخترتك من جملة ملوك الدنيا بالقصد إليك فاختر لهم بنا حديثا من مدحٍ أو هجاء بمنعٍ أو عطاء أي أنهم يتحدثون بنا وبما كان منا فاختر ما تريد من ثناء وإطراء بالبر والإحسان أو ذم أو هجاء بالبخل والحرمان ولم يعرف ابن جنى هذا فقال أي افعل بي فعلا إذا سمعوه كان مختارا مستحسنا عندهم وليس هذا الذي يقوله بالبيت ألا ترى أنه قال وقد حكمت رأيك فأحكم أي أنت المحكم فيما تختار ولو أراد ما قاله لم يكن محكما
فأحسن وجهٍ في الورى وجه محسنِ ... وأيمن كف فيهم كف منعمِ
هذا البيت يروى عن هطاء له بقبح الصورة وأنه لا منقبة له يمدح بها غير أنه أحسن بالأعطاء فوجهه أحسن الوجوه بالإحسان ويده أيمن الأيدي بالإنعام وكذلك البيت الذي بعده
وأشرفهم من كان أشرف همةً ... وأكثر إقداما على كل معظمِ
يريد أنه خالٍ مما يمدح به الملوك من حسب أو نسبٍ أو شرف تليد فإن لم يستحدث لنفسه شرفا مطرفا بعلو همة أو إقدام لم يكن له خصلة يمدح بها
لمن تطلبُ الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مسآءة مجرمِ
أي إنما تراد الدنيا لنفع الأولياء وضر الأعداء وليست تصلح لغير هذين
وقد وصل المهر الذي فوق فخذهِ ... من اسمك ما في كل عنقٍ ومعصمِ
يريد أن المهر كان موسوما بأسمه الذي هو سمةٌ لكل حيوان يعني أنه ملكٌ مالكٌ كل حيّ ألا ترى إلى قوله
لك الحيوان الراكب الخيل كله ... وإن كان بالنيران غير موسم
ولو كنت أدرى كم حياتي قسمتها ... وصيت ثلثيها انتظارك فاعلمِ
هذا استبطاء لما يرجو منه يقول لو كنت أعرف كم قدر في الدنيا لجعلت ثلث ذلك القدر مدة انتظار عطائك وهذا من قول مسلم بن الوليد، لو كان عندك ميثاق يخلدنا، إلى المشيب انتظرنا سلوة الكبر،
ولكن ما يمضي من الدهر فائتٌ ... فجد لي بحظ الباردِ المتغنمِ
يقول ما فات من العمر لا يعود يعني لا يطول مدة البقاء فإن الماضي غير مسترك فجد لي بحظ من يستعجل ويغتنم وقت القدرة والإمكان
رضيت بما ترضى به لي محبةً ... وقدت إليك النفس قود المسلمِ
هذا كالعود من عتاب الإستبطاء يقول إن كنت ترضى بتأخير ما أرجوه فأنا أرضى به أيضا محبة لك وانجذابا إلى هواك لأني قدت نفسي إليك قود من يسلم لك ما تفعله والمسلم لا يعارض بشيء
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلمهُ عني ولم أتكلمِ
يقول مثلك في كرمك وسماحتك يكون فؤاده وسيطا بينه وبيني فيكلمه عني ولا يحوجني إلى الكلام وخرج من عنده فقال يهجوه
أنوك من عبدٍ ومن عرسه ... من حكم العبد على نفسهِ
النوك الحمق والأنوك الأحمق يقول الذي يجعل العبد حاكما على نفسه فهو أنوك من عبد ومن عرس نفسه يعني المرأة أي أحمق من المرأة ومن العبد من يكون في طاعة العبد ومن ابتداء وخبره ما قبله كما تقول أحسن من عمرو ومن أخيه زيدٌ ويجوز أن يعود الضمير في عرسه على العبد ويريد به الأمة لأن العبد يتزوج بالأمة في غالب الأحوال وهذا عتاب يعاتب به نفسه حين أتى الأسود فأحتاج إلى أن يطيعه
ما من يرى أنك في وعدهِ ... كمن يرى أنك ي حبسهِ
يقول الذي يرى أنك في وعده يحسن إليك ويبرك والذي يرى أنك في حبسه يذلك ويسيء إليك يعني أنه في حبس كافور ليس في وعده
وإنما يظهرُ تحكيمهُ ... ليحكم الإفسادَ في حسهِ
يريد من أظهر تحكيم العبد على نفسه دل ذلك على سوء اختياره وسوء الأختيار يدل على فساد الحس(1/325)
العبد لا تفضل أخلاقهُ ... عن فرجه المنتن أو ضرسهِ
يريد أن همة العبد مقصورة على فرجه وبطنه فلا فضل فيها من هذين لمكرمةٍ وبر وإحسان
لا ينجز الميعاد في يومهِ ... ولا يعي ما قال في أمسهِ
لا ينجز ما وعده في يوم انقضاء الوعد كما تقول وعدتك كذا في يوم كذا فإذا جاء ذلك اليوم فهو يوم الميعاد ولا يعي أي لا يحفظ ما قاله بالأمس يعني أنه لغفلته وسوس فطنته ينسى ما يقوله
وإنما تحتال في جذبه ... كأنك الملاحُ في قلسهِ
القلس حبل السفينة يقول لا يأتي مكرمةٌ بطبعه بل تحتال فتجذبه كما يجذب الملاح السفينة لتجري
فلا ترج الخير عند امرىءٍ ... مرت يد النخاس في رأسهِ
وإن عراك الشك في نفسهِ ... بحالهِ فانظر إلى جنسهِ
يقول إن شككت في حاله ولم تعرفه فقسه بغيره من العبيد فأنك لا ترى أحدا منهم له مروةٌ وكرم
فقلما يلؤم في ثوبهِ ... إلا الذي يلؤم في غرسهِ
يريد أن اللؤم طبيعةٌ طبع عليها اللئيم في غرسه ومن كان لئيما كان مولودا على اللؤم
من وجد المذهب عن قدره ... ولم يجد المذهب عن قنسهِ
القنس الأصل يقول من ذهب عن قدر استحقاقه في الدنيا فنال وولاية أو غنى وهو لا يستحق ذلك لم يذهب عن أصله في اللؤم لأن الأشياء تعود إلى أصولها ومن كان لئيم الأصلِ فهو ينزع إلى ذلك اللؤم وأتصل قوم من الغلمان بأبن الأخشيدي مولى كافور طلبا للفساد بينهما وجرت وحشة أياما ثم ردهم إليه واصطلحا فقال أبو الطيب
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسادِ
يقول أشتهت الأعداء أن يهيج بينكما شر والحساد أذاعوا ذلك ثم أنحسم بالصلح ما اشتهوه وأذاعوه
وأرادته أنفس حال تدبي ... رك ما بينها وبين المرادِ
أي وحسم ما أرادته أنفس منع تدبيرك بينهم وبين ما أراده من أثاره الشر
صار ما أوضع المخبون فيه ... من عتابٍ زيادةً في الودادِ
يقال أوضع الراكب بعيره إذا حمله على السير السريع والمخبون الذين خيلهم على الخبب يقول صار سعي من سعى بينكم في الفساد زيادةً في الوداد لأن الود بعد العتاب اصفى
وكلام الوشاة ليس على الأح ... بابِ سلطانهُ على الأضدادِ
يقول كلام الوشاة إنما يؤثر إذا كان بين الأضداد فإذا كان بين الأحباب سقط ولم يؤثر لأنه إنما يتسلط على الأضداد
إنما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوى في الفؤادِ
إي إنما يبلغ القول النجاح إذا سمعه من يوافق هواه ذلك القول وهذا تبرئة لابن مولاه من موافقة قلبه كلام الوشاة
ولعمري لقد هززت بما قي ... ل فألفيت أوثق الأطوادِ
يقول حركت بما قيل لك ونقل إليك فكنت كالجبل الذي لا يتحرك أي لم يؤثر فيك قول الواشين والساعين بالنميمة
وأشارت بما أبيت رجالٌ ... كنت أهدي منها إلى الإرشادِ
أي أشار عليك قوم بالشقاق والخلاف فأبيت ذلك وكنت أرشد منهم في ذلك ومعنى الإرشاد أي إلى إرشاد الناس فيه حين أرشدتهم إلى الصلاح لا إلى الخلاف
قد يصيب الفتى المشير ولم يج ... هد ويشوى الصواب بعد اجتهادِ
يقول المشير الذي لم يجتهد قد يصيب بإشارته والمجتهد قد يخطىء بعد الاجتهاد يعني أن الذين اعلموا الراي اخطؤوا حين أمروك بإظهار الخلاف وأنت أصبت الراي عفواً حين ملت إلى الصلح
نلت ما لا ينال بالبيض والسم ... رِ وصنت الأرواح في الأجسادِ
يقول أدركت بالصلح ما لا يدرك بالسيوف والرماح من غير أراقة دمٍ ولا قتل نفسٍ وذلك أنه صالحه على أن يدفع إليه المضرين والساعين ففعل ذلك وقتلهم الأسود
ما دروا إذ رأوا فؤادك فيهم ... ساكنا أن رأيه في الطرادِ
يقول لم يعلم الناس حين رأوك ساكن القلب إنك تطارد رأيك وتجتهد في طلب الصواب
ففدى رأيك الذي لم تفده ... كل رأيٍ معلمٍ مستفادِ
يقول يفدي رأيك الذي هو تلاد غير مستفاد بتجربة وتعليم كل رأيٍ معلمٍ مستفاد
وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلم تقدمُ الميلادِ
يقول إذا لم يطبع المرء على الحلم الغريزي لم يفده علو سنه وتقدم ولادته حلما وليس الشيخ أولى بصحة الرأي من الشاب
فبهذا ومثله سدت يا كا ... فور واقتدت كل صعبِ القيادِ(1/326)
يقول بهذا الرأي الذي رأيت في هذه الحادثة ومثله في سائر الحوادث سدت الناس وانقاد لك ما لا ينقاد لغيرك
وأطاع الذي أطاعك والطا ... عة ليست خلائق الآسادِ
أي وبمثل هذا الراي أطاعك الناس والرجال الذين كانوا أسود مع أن الأسود ليس من خلقها الدخولِ تحت الطاعة
إنما أنت والدق والأب القا ... طع أحنى من واصلٍ الأولادِ
يقول أنت في تربيتك إياه كالوالد والوالد القاطع أبر بالولد من الولد بالوالد وإن كان يصله
لا عدا الشر من بغي لكما الش ... ر وخص الفساد أهل الفسادِ
هذا على طريق الدعاء يقول لا تجاوز الشر من يطلب لكما الشر أي لا زال في الشر من أراد أن يوقع بينكما الشر ولا تعدى الفساد أهل الفساد حتى يكون مخصوصا بهم أي الذي طلب فساد أمركما لا برحه الفساد
أنتما ما اتفقتما الجسم والرو ... ح فلا احتجتما إلى العوادِ
يقول مثلكما في اتفاقكما كالروح والجسد إذا اتفقا صلح البدن واستغنى عن الطبيب والعائد وإذا تنافرا فسد البدن ومعنى قوله فلا احتجتما إلى العواد أي لا وقع بينكما خلاف وشر
وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعادِ
جعل الأنابيب مثلا للاتباع والصدور مثلا للرؤساء يقول اختلاف الخدم يؤدي السادة إلى التجاذب والتنازع كالرماح إذا اختلفت أنابيبها لم تستقم صدورها
أشمت الخلف بالشراة عداها ... وشفى رب فارسٍ من إيادِ
الشراة الخوارج وهم سموا أنفسهم بهذا الإسم يعنون أنهم شروا أنفسهم من الله بالقتال في دينه يذكر أن الخلاف الواقع بين الأقوام فيما سبق من الدهر أداهم إلى شماتة اعدائهم بهم حين اختلفوا فتمكن منهم عدوهم بسبب اختلافهم فيما بينهما كالخوارخ ظفر بهم المهلب بن أبي صفرة لما اختلفوا وذلك أنهم كانوا مجتمعين متضافرين ولم يكن يقوى بهم المهلب واحتال على نصالٍ لهم كان يتخذ لهم نصالا مسمومةً فكتب إليه وصل ما بعثت من الناصل المختومة للآجال فحمدنا فعلك وشكرنا فضلك وسنرفع ذكرك ونعلي قدرك إن شاء الله تعالى على يد من اعثرهم عليه فقط قطري بن الفجاة علاوته واختلفوا فصوبته فرقة وخطأته أخرى وتقاتلوا حتى قل عددهم وأما إياد فاختلوا وتفرقوا في البلاد فتمكن منهم سابور ذو الأكتاف وهو رب فارس
وتولى بني البريدي في البصرة حتى تمزقوا في البلادِ
بنو البريدي أبو عبد الله وأبو يوسف وأبو الحسين قصدوا البصرة وأخرجوا ابن رائق وكان عامل الخليفة واستولوا عليها ثم اختلفوا فخوى نجمهم وذهب ملكهم ومعنى تولى بني البريدي أي تولاهم الخلف بأن اختلفوا
وملوكا كأمس في القرب منا ... وكطسمٍ وأختها في البعادِ
يقول تولى الخلف ملوكا قرب عهدهم منا وأخرين بعده كطسم وجديس
فيكما بت عائذا فيكما من ... هـ ومن كيد كل باغٍ وعادِ
أي أعذكما بالله من الخلاف ومن كيد البغاة والعداة العادين ومعنى لفظه أعوذ فيكما لأجلكما من الخلاف
وبلبيكما الاصيلين أن تف ... رق صم الرماحِ بين الجيادِ
أعوذ بما لكما من اللب الأصيل أن تختلفا فتصيرا طائفتين تقتتلان
أي وأعوذ أن يقتل بعضكم بعضا بما تدخرون من السلاح ويصير من شقى به عدوا لأنه إنما يعد السلاح للعدو لا للولي فإذا قتل به بعضكم بعضا فقد صرتم أعداء
هل يسرن باقيا بعد ماضٍ ... ما يقول العداةُ في كل نادِ
يقول الذي يبقى منكما بعد الماضي هل يسره ما يقوله الأعداء في المجالس ويحدثون عنه بغدره وتركه حرمة صاحبه وهذا استفهام إنكار
منع الود والرعايةُ والسو ... ددأن تبلغا إلى الأحقاِد
أي منعكما أن يحقد أحدكما على صاحبه ما بينكما من الود ورعاية الحقوق وما فيكما من السيادة
وحقوق ترقق القلب للقل ... ب ولو ضمنت قلوبَ الجمادِ
يعني حقوق التربية والقيام بأمره وهو طفل صغير وتلك الحقوق لو كانت بين الجماد لرق بعضه لبعض
فغدا الملك باهرا من رآه ... شاكرا ما أتيتما من سدادِ
فيه أيديكما على الظفر الح ... لو وأيدي قومٍ على الأكباد
أي تألمت أكباد الحساد بما فعلتما من الصلح فوضعوا الأيدي على الإكباد
هذه دولة المكارمِ والرأ ... فةِ والمجد والندى والأيادي
يريد أن دولتكم دولة ما ذكرته فلا تعرضوها للخلاف(1/327)
كسفت ساعة ما تكسف الشم ... س وعادت ونورها في إزديادِ
يريد ما كان بينكما من الوحشة ثم زالت كالشمس تكسف ثم يزول كسوفها
يزحم الدهر ركنها عن أذاها ... بفتًى ماردٍ على المرادِ
يعني بالركن قوتها وسعادتها يقول ركن هذه الدولة يدفع الدهر عن أذاها بفتى مارد وهو كافور على المراد يعني أنه لا ينقاد لمن مرد عليه وعصي
متلفٍ مخلفٍ وفيٍّ أبيٍّ ... عالمٍ حازمٍ شجاعٍ جوادِ
متلف للمال بالعطاء مخلف كسوب للمال إذا أتلفه فيأتي له بخلف
أجفل الناس عن طريق أبي المس ... ك وذلت له رقابُ العبادِ
أي أسرعوا ذاهبين عن طريقه فتركوه له ولم يعارضوه لقصورهم عنه وذلت له رقاب الناس فملكهم
كيف لا يترك الطريق لسيلٍ ... ضيقٍ عن أتيهِ كل وادِ
الأتى السيل الذي يأتي من موضعٍ إلى موضعٍ يقول كيف لا يترك الطريق لسيلٍ يضيق عن مائه الوادي وإذا كان الماء غالبا وضاق عنه بطن الوادي فكل موضع أتى عليه صار طريقا له وهذا مثل لكافور وأنه يغلب غلبة السيل والسيل لا يرد عن وجهه كذلك هو لا يعارضه أحد وقال يمدحه في شوال سنة 347 وقد حمل إليه ستمائة دينار
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
يقول بيني وبين الشوق مغالبة لأجلك والغلبة للشوق لأنه يغلب صبري ويجوز أن يكون الأغلب معناه الغليظ الرقبة كالأسد الذي لا يطاق ولا يغالب وكأنه قال والشوق صعب شديد ممتنع وأعجب من ذا الهجر لتماديه وطوله والوصل لو وافقنا كان أعجب منه لأن عادة الأيام التفريق
أما تغلط الأيام في بأن أرى ... بغيضا تنأى أو حبيبا تقرب
يقول أما يقع للأيام الغلط مرة واحدة بتقريب الحبيب أو إبعاد البغيض وتنإي تفعل من النأي يقال أنأيت الرجل ونأيته أي بعدته وناءيته مثل باعدته يريد أن الدهر مولع بادناء من يبغضه وإبعاد من يحبه يقول أفلا تغلط مرة فتبعد البغيض وتقرب الحبيب وجعل ذلك غلط من الدهر لأنه خلاف ما يأتي به الدهر كما قال الآخر في بخيل، يا عجبا من خالد كيف لا، يغلط فينا مرة بالصواب، وأصل هذا المعنى من قول مضرس، لعمرك إني بالخليل الذي له، علي دلال واجب لمفجع، وإني بالمولى الذي ليس نافعي، ولا ضائري فقدانه لممتنع، ومثله للطرماح، يفرق منا من نحب اجتماعه، ويجمع منا الدهر بين الضغائن، وقال الآخر، عجبت لتطويح النوى من أحبه، وإدناء من لا يستلذ له قرب، وقد قال المحدث، ومن أهواه يبغضني عنادا، ومن أشناه شص في لهاتي،
ولله سيري ما اقل تئية ... عشية شرقيي الدالي وغرب
التئية التلبث والتمكث ومنه قول الشاعر، قف بالديار وقوف زائر، وتأي إنك غير صاغر، والحدالي موضع بالشام وغرب جبل هناك معروف يتعجب من سرعة سيره ويقول ما كان أسرع سيري وأقل لبثه عشية كان هذان المكانان على جانبي الشرقي
عشية أحفى الناس بي من جفوته ... وأهدي الطريقين الذي أتجنب
يعني بأحفى الناس سيف الدولة يقول كان هو ألطف الناس بي فجفوته بتركه إلى غيره وكان أهدى الطريقين إن أعود إليه إلا إني هجرته وأخذت الطريق إلى مصر وقال أبن جنى كان يترك القصد ويتعسف خوفا على نفسه
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
المانوية أصحاب ماني وهو يقول بالنور والظلمة يقول الخير كله في النور وهو الذي يأتي بالخير والشر كله في الظلمة ورد عليه المتنبي في هذا البيت فقال كم نعمة للظلمة تبين أن هؤلاء الذين نسبوا الشر إليها كاذبون ليس الأمر على ما قالوا ثم بين تلك النعمة فقال
قال أبن جنى وقاك ظلام الليل العدو وأنت تسرى عليهم وفيما بينهم فلا يبصرونك وزارك فيه طيف من تحبه قال أبن فورجة الطيف قد يزور نهارا وأيضا الطيف غير محجب وهلا جعل ذا الدلال المحجب نفس المحبوب فيكون كقول أبن المعتز، لا تلق غلا بليل من تواصله، فالشمس نمامة والليل قواد، ثم ذكر شر النور فقال
ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
يقول رب يوم طال على طول ليل العاشقين تسترت فيه خوفا من الأعداء على نفسي أراقب غروب الشمس لأخرج عن المكمن
وعيني إلى أذني أغر كأنهُ ... من الليلِ باقٍ بين عينيهِ كوكبُ(1/328)
يريد أنه كان ينظر إلى أذني فرسه يحفظ نفسه بهما وذلك إن الفرس أبصر شيء فإذا أحس بشخص من بعيد نصب أذنيه نحوه فيعلم الفارس أنه ابصر شيئا ثم وصف فرسه فقال كأنه في لونه وسواده قطعةٌ من الليل وكأن الغرة في وجهه كوكبٌ من كواكب الليل قد بقي بين عينيه وهذا من قول أبي داود، ولها قرحة تلألأ كالشعري أضاءت وغم عنها النجومُ،
له فضلةٌ عن جسمهِ في إهابهِ ... تجيء على صدرٍ رحيبٍ وتذهب
يصف فرسه بسعة الأهاب ومهما كان الإهاب أوسع كان العدو أشد لأن سعةَ خطوة على قدر سعة إهابه ولهذا ليس للحمار عدو لضيق أهابه عن مد يديه يقول ففي أهابه فضلة عن حسمه تلك الفضلة على صدره الرحيب تجيء وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانهُ ... فيطغى وأرخيه مرارا فيلعبُ
يقول شققت ظلام الليل بهذا الفرس إذا أدنيت عنانه إلى نفسي بجذبه وثب وطغى مرحا ونشاطا وإذا أرخيت عنانه لعب برأسه
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عه مثله حين أركبُ
يقول إذا طردت وحشا به لحقه وصرعه وقفيته تلوته وتبعته وإذا نزلت عنه بعد الطرد والصيد كان مثله حين أركبه يعني لم يدركه العناء ولم ينقص من سيره شيء كما قال ابن المعتز، تخال آخره في الشد أوله، وفيه عدو ورآء السبق مذخور،
وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجربُ
يقول منزلة الخيل من الإنسان كمنزلة الصديق قليلةٌ وإن كثرت في العدد عند من لم يجربها يعني أنها بالتجربة تعرف فتبين الكوادن من السوابق التي لها جوهر في السبق والعدو كما أن الصديق يعرف بالتجربة ما عنده من صدق الوداد أو مذقه ولهذا يقال لا يعرف الأخ إلا عند الحاجة
إذا لم تشاهد غير حسنِ شياتها ... وأعضائها فالحسنُ عنك مغيبُ
إذا لم تر من حسن الخيل غير حسن الألوان والأعضاء فأنك لم تر حسنها يعني أن حسنها جريها وعدوها
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكبٍ ... فكل بعيد الهم فيها معذبُ
قولهم لحا الله فلانا دعاء عليه وذم له وأصله من لحوت العود إذا قشرته ونصب مناخا على التمييز أي من مناخ او على الحال يذم الدنيا ويقول بئس المنزل هي فإن من كان أعلى همةً كان أشد عناءً فيها
ألا ليست شعري هل أقول قصدةً ... فلا أشتكي فيها ولا أتعتبُ
يقول ليتني أعلم هل تخلو لي قصيدةٌ من شكاية الدهر وعتابه بأن يبلغني المراد وأنال منه ما أطلب فأدع الشكاية
وبي ما يذود الشعر عني أقلهُ ... ولكن قلبي يابنة القومِ قلبُ
يقول بي من هموم الدهر وما جمعه عليّ من نوائب صروفه ما يمنع الشعر لشغل الخاطر عنه ولكن قلبي كثير التقلب لا يموت خاطره وإن أزدحمت عليه الهموم والأشغال وقوله يا بنةَ القوم وهو من عادة العرب فإن عادتهم قد جرت بمشابة النساء ومخاطبتها وإنما قال يا ابنة القوم إشارةً إلى كثرة أهلها وقال ابن جنى هو كنايةٌ عن قولهم يا بنة الكرام والقول الظاهر هو الأول لا ما قاله
وأخلاقُ كافورٍ إذا شئتُ مدحهُ ... وإن لم أشأ تملي عليّ وأكتبُ
يريد أن مدحه يسهل عليه بما فيه من محاسن الأخلاف كأنها تملى عليه المدائح فلا يحتاج إلى جلب معنى وجذب منقبة إليه
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويمم كافورا فما يتغربُ
يقول إذا اغترب الإنسان عن أهله وقصده آنسه بعطاياه وتفقده إياه حتى كأنه في أهله ولم يتغرب عنهم وهذا من قول الطائي، هم رهط من أمسى بعيدا رهطه، وبنو أبي رجلٍ بغيرِ بني أبي، وأصل هذا المعنى من قول الأول، نزلت على آلٍ المهلبِ شاتيا، غريبا عن الأوطان في زمن المحل، فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم، وإلطافهم حتى حسبتهم أهلي،
فتًى يملأ الأفعال رأياً وحكمةً ... ونادرةً أحيان يرضى ويغضبُ
يقول أفعاله مملوؤة عقلا وحكمةً فمن نظر إلى أفعاله استدل بها على ما عنده من العقل والاصابة في كلتى حاليه من الغضب والرضا وقوله ونادرة أي فعلة غريبة لا توجد إلا منه وروى ابن جنى بارة بالباء أي بديهةً والنون أجود
إذا ضربت في الحرب بالسيف كفهُ ... تبينت أن السيف بالكف يضرب(1/329)
يقول إذا نظرت إلى أثر سيفه عند ضربه علمت أن سيفه بكفه يعمل لا كفه بسيفه يعني أن الضربة الشديدة إنما تحصل بقوة الكف لا بجودة السيف وإن السيف الماضي في يد الضعيف لا يعمل شيئا كما قال البحتري، فلا تغلين بالسيف كل غلايةٍ، ليمضي فإن الكف لا السيف يقطع،
تريد عطاياه على التبث كثرةً ... وتلبث أمواه السحاب فتنضب
يقول إذا تأخرت عطاياه فإنها تزاد كثرةً يعني أنه يعطي الجزيل وإن أبطأ والماء إذا طال مكثه نضب على خلاف عطاياه
أبا المسك هل في الكاس فضل أنالهُ ... فإني أغنى منذ حين ونشربُ
هذا تعريض بالاستبطاء وجعل مدحه إياه غناء يقول أنا كالمغنى في اطرابي إياك بالمدائح وأنت كالشارب تلتذ سماع مدحي وتحرمني الشراب فهل في الكاس فضل اشربه يعني هل تعطيني شيئا
وهبت على مقدار كفى زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلبُ
يقول وهبت على ما يليق بالزمان وأنا أطلب ما توجبه همتك ويقتضيه كرمك
إذا لم تنط بي ضيعةً أو ولايةً ... فجودك يكسوني وشغلك يسلبُ
يضاحك في ذا العيد كل حبيبهُ ... حذائي وأبكي من أحب وأندبُ
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغربُ
يقال عنقاء مغربٌ وعنقاء مغربٍ على الوصف والاضافة ومعناه من قولهم اغرب في البلاد وغرب إذا بعد وذهب وهذا الطائر يوصف بالمغرب لبعده من الناس وذهابه حتى لا يرى قط قال الكميت، محاسن من دينٍ ودنيا كأنما، بها حلقت بالأمس عنقاء مغربُ، وقيل مغرب ولم يقولوا بالهاء لأن العنقاء اسم للذكر والأنثى كالدابة والحية ومن أضاف إلى مغرب كان من باب الإضافة إلى النعت كقولهم مسجد الجامع وكتاب الكاملِ يقول أشتاق إلى أهلي ولكنهم على البعد منى واشتياقي إليهم كمن اشتاق إلى العنقاء
فإن لم يكن إلا أبو المسكن أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذبُ
يقول أن لم يجتمع لي لقاؤك ولقاؤهم فإنك أحلى عندي يعني أوثر لقاءك على لقائهم
وكل أمرىءٍ يولي الجميلَ محببٌ ... وكان مكانٍ ينبتُ العز طيبُ
يريد أ، هـ يوليه الجميل فهو يحبه وأنه يعزه وطاب مكانه عنده كما قال البحتري، وأحب آفاق البلاد إلى الفتى، أرض ينال بها كريم المطلب،
يريد بك الحساد ما الله دافعٌ ... وسمر العوالي والحديد المذربُ
يقول حسادك لا ينالون منك ما يطلبونه فإن الله يدفع ما يريدونه والرماحُ والسيوفُ
ودون الذي يبغون ما لو تخلصوا ... إلى الشيب منه عشت والطفلُ أشيبُ
يقول دون الذي يطلب الحساد من زوال ملكك وفساد أمرك الموت وهو قوله ما لو تخلصوا منه أي الموت أي أنهم يموتون قبل أن يروا فيك ما يطلبون ولو لم يموتوا عشت أنت وشاب طفلهم لشدة ما يرون وصعوبة ما يلحقهم من الحسد لك أو لما يقاسون منك ما توقعهم به
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكموا ... وإن طلبوا الفضل الذي فيك خيبوا
أي أن طلبوا عطاءك اعطيتهم ما حكموا به وإن طلبوا ما فيك من الفضل لم يدركوه قال ابن جنى وإن راموا فضلك منعتهم منه قال ابن فورجة كيف يقدر الإنسان أن يمنع آخر من أن يكون في مثل فضله وإنما الله يقدر على ذلك وقد أتى به المتنبي على لفظ ما لم يسم فاعله فأحسن
ولو جاز أن يجوو علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهبُ
يقول لست تؤتى من بخل فلو كانت العلى موهوبةً لوهبتها وهذا من قول الطائي، فانفح لنا من طيب خيمك نفحةً، إن كانت الأخلاق مما توهب، وأصله من قول جابر ببن حباب، وإن تقتسم ما لي بني ونسوتي، فلن يقسموا خلقي الكريم ولا فضلي،
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلبُ
يقول أشد الظلم وأفحشه حسد المنعم عليك فمن بات متقلبا في نعمة إنسانٍ ثم بات حاسدا له فهو أظلم الظالمين والمعنى أن هؤلاء الذين يحسدونك أنت ولي نعمتهم
وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعاً ... وليس له أم سواك ولا أبُ
إنما قال هذا لأن صاحب بمصرَ مولى كافور مات وخلف ولده صغيرا فرباه كاوفر وقام دونه يحفظ الملك عليه
وكنت له ليث العرين لشبلهِ ... وما لك إلا الهندواتي مخلبُ
أي كنت للملك كالليث للشبل ولما جعله ليثا جعل سيفه مخلبا له(1/330)
لقيت القنا عنه بنفسٍ كريمةٍ ... إلى الموت في الهيجا من العار تهربُ
يعني حاميت على الملك ودافعت عنه بنفسك هاربا من العار إلى الموت أي تختار الموت على العار
وقد يترك النفس التي لا تهابهُ ... ويخترم النفس التي تتهيبُ
قد يترك الموت من لا يهابه فيوقع نفسه في المهالك وقد يصيب الموت من يحذره ويخافه
وما عدم اللاقوك بأسا وشدةً ... ولكن من لاقوا أشد وأنجبُ
يقول لم يعدم هؤلاء الذين لقوك محاربين شجاعةً وشدةَ إقدامٍ أي كانوا شجعاء أشداء ولكن أصحابك كانوا أشد منهم وأنجب وهذا كقول زفر بن الحارث، سقيناهم كأسا سقونا بمثلها، ولكنهم كانوا على الموت أصبرا،
ثناهم وبرق البيضِ في البيضِ صادق ... عليهم وبرق البيض في البيضِ خلبُ
يقول هزمهم فصرفهم عن وجههم وبرق السيوف صادق لأنه يتبعه سيلان الدم وبرق البيض خلب لأنه تبرق ولا تسيل الدم
سللت سيوفا علمت كل خاطبِ ... على كل عودٍ كيف يدعو ويخطبُ
يقول سيوفك تعلم الخطباء الخطبة بإسمك في الدعاء لك لأنك أخذت البلاد بنفسك فصار خطيب كل بلد يخطب على إسمك
ويغنيك عما ينسبُ الناس أنه ... إليك تناهي المكرمات وتنسبُ
يقول يغنيك عن نسبة الناس إلى قبائلهم وعشائرهم إن المكرمات انتهت إليك ونسبت إليك أي لم يكن لك نسب في العرب فإنك أصل في المكارم وهذا من قول ابن أبي طاهر، خلائقهُ للمكرمات مناسبٌ، تناهى إليها كل مجدٍ مؤثلِ،
وأي قبيلٍ يستحقك قدرهُ ... معد بن عدنانٍ فداك ويعربُ
يقول أي أسرة تستحق أن تنسب إليها فأنك فوق كل أحد
وما طربي لما رأيتك بدعةً ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطربُ
هذا البيت يشبه الاستهزاء به لأنه يقول طربت على رؤيتك كما يطرب الإنسان على رؤية القرد وما يستملحه ويضحك منه قال ابن جنى لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له اجعلت الرجل أبا زنة فضحك لذلك
وتعذلني فيك القوافي وهمتي ... كأني بمدحٍ قبل مدحك مذنبُ
المصراع الأول هجاء صريح لولا الثاني يقول كأني قد أتيت ذنبا بمدح غيرك والقوافي تعذلني تقول لمَ لم تقصر شعرك عليه وكذلك همتي تلومني في مدح غيرك وهذا من قول الطائي، وهل كنت إلا مذنبا يوم أنتحي، سواك بآمالي فجئتك تائبا،
ولكن طال الطريق ولم أزل ... أفتشُ عن هذا الكلام وينهبُ
يعتذر إليه من مدح غيره يقول بعد الطريق بيننا ولم أزل يطلب مني الشعر وأكلف المديح وينهب كلامي
فشرق حتى ليس للشرقِ مشرقٌ ... وغرب حتى ليس للغرب مغربُ
فبلغ كلامي الشرق حتى انتهى إلى حيث لا مشرق أمامه يعني بلغ أقصاه وكذلك من جانب المغرب وهذا من قول الطائي، فغربت حتى لم أجد ذكر مشرقٍ، وشرقت حتى قد نسيت المغاربا،
إذا قلتهُ لم يمتنع من وصولهِ ... جدارٌ معلى أو خباءٌ مطنبُ
يقول إذا قلت شعرا لم يمتنع من وصوله إليه مدر ولا وبر فالجدار المعلى لأهل الحضر والخباء المطنب لأهل الوبر يذكر أن شعره قد عم الأرض كما قال، قوافٍ إذا سرن من مقولي، وثبن الجبال وخضن البحارا وبلغ أبا الطيب أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب فقال سنة 348
بم التعلل لا أهل ولا وطنُ ... ولا نديمٌ ولا كأس ولا سكنُ
يشكو الزمان يقول بأي شيء أعلل نفسي وأنا بعيد عن أهلي ووطني وليس لي مما أعلل النفس به مما ذكره
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ
يقول اطلب من الزمان استقامة الأحوال والزمان لا يبلغ هذا من نفسه لأنه ربيع وصيف وشتاء وخريف ويجوز أن المعنى أن همته أعلى من أن يكون في وسع الزمان البلوغ إليها وهو يتمنى على الزمان أن يبلغه ما في همته ويجوز أن يريد أنه يطالب الزمان بأن يخليه من الاضداد والزمان ليس يبلغ هذا من نفسه فإن الليل والنهار كالمتضادين ويجوز أن يريد أني أقترح على الزمان الاستبقاء وهو لم ينل في نفسه البقاء فيكون قد ألم بقول البحتري، تناب النائبات إذا تناهت، ويدمر في تصرفه الدمارُ،
لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ ... ما دام يصحب فيه روحك البدنُ
أي ما دمت حيا فلا تبال بالزمان وصروفه ونوائبه فإنها تزول ولا تبقى والذي لا عوض منه إذا فات هو الروح فقط(1/331)
فما يدوم سرور ما سررت به ... ولا يريد عليك الفائت الحزنُ
هذا تأكيد للذي قبله يقول لا تبال بما يحدثه لك الدهر فإن المفروح به لا يدوم فرح لأنه لا يجوم والحزن على الغائب لا يرده عليك
مما أضر بأهل العشق أنهمُ ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
يعني بأهل العشق الذين يعشقون الدنيا يقول أنهم لم يعرفوا أن الدنيا لا توافقهم ولا تساعدهم ولا تبقى عليهم فجهلهم بها أضر بهم حتى تعبوا في جمع ما لا يبقى
تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم ... في إثر كل قبيحٍ وجههُ حسنُ
يعني يبكون حتى تفنى عيونهم بالبكاء وأنفسهم بالحزن على كل مستحسنٍ في الظاهر قبيحٍ عند التفحص وهو الدنيا ومتاعها
تحملوا حملتكم كل ناجيةٍ ... فكل بين عليَّ اليومَ مؤتمنٌ
الناجية الناقة المسرعة قال ابن جنى هذا تشبيب من يضمر في نفسه عتبا وموجدةً يريد أنه قد أظهر على قوله ما أضمره في نفسه يقول ارتحلوا عني حملتكم كل مسرعة على طريق الدعاء فالفراق مؤتمن عليّ أي أرضى بحكمه ولا تضرني غائلته والمعنى لا أحزن لفراقكم
ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ ... ن مت شوقا ولا فيها لها ثمنُ
يقول لستم أهلا لأن تبذل فيكم الأرواح شوقا إليكم ومحبةً لكم فلست بدلا لي عن الروح إن فاتتني
يا من نعيت على بعد بمجلسه ... كل بما زعم الناعون مرتهنُ
أي كل أحد مرتهن بالموت لا بد منه
كم قد قتلت وكم قد متُّ عندكمُ ... ثم انتفضت فزال القبرُ والكفنُ
أي قد أخبرتم بموتي وتحقق ذلك عندكم ثم بان الأمر بخلاف ذلك فكأني كنت ميتا ثم خرجت من القبر
قد كان شاهد دفني قولهم ... جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
قبل قولهم يريد قول الناعين يعني قوما نعوه قبل هؤلاء واخبروا أنهم شاهدوا دفنه ثم ماتوا قبل المتنبي
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ
يجوز نصب كل على لغة تميم لأن ما عندهم غير عاملة فتنصب كل بفعل مضمر يفسره قوله يدركه كأنه قال ما يدركه كلَّ ما يتمنى المرء وعلى لغة الحجاز ترفع كل بما لأنها عاملةٌ عندهم والمعنى أن أعدائي لا يدركون ما يتمنون فإن الرياح لا تجري كلها على ما تريده السفن يعني أهلها
رأيتكم لا يصون العرض جاركمُ ... ولا يدر على مرعاكم اللبنُ
يقول أنتم تذلون الجار وتشتمون عرضه فمن جاوركم لم يقدر على صون عرضه منكم والنعم إذا رعى أرضكم لم يدر اللبن على ذلك المرعي لوخامته وهذا من أوجع الهجاء
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمننُ
أي لا يخلوا عطاؤكم من المنن والأذى حتى يصير آخذه معاقبا بتنغيص ما أخذه بالمنة وهذا كله تعريض لسيف الدولة
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العينُ والأذنُ
اليهماء الأرض التي لا يهتدي فيها يقال بر أيهم وفلاةٌ يهماء يدعو بالبعد بينهم وبينه بأرضٍ ترى فيها العين ما لا حقيقة له وتسمع فيها الأذن ما لا حقيقة له وسالك المفاوز والقفار يتخايل لعينه الأشياء ولسمعه الأصوات ومن هذا قول ذي الرمة، إذا قال حادينا ليسمع نبأةً، صهٍ لم يكن إلا دويَّ المسامعِ،
تحبو الرواسم من بعدِ الرسيم بها ... وتسأل الأرض عن أخفافها الثفنُ
الرواسم الإبل التي سيرها الرسيم وهو ضرب من السير يقول تسقط أخفاف الإبل بها لطول سيرها فيها فتحبو بعد أن كانت تسير الرسيم على ثفناتها وهي الواضع التي تبرك عليها وتقول الثفنات للأرض أين ذهبت الخفاف وكيف سقطت حتى انتقل السير إلى الحبو عليها وهذا مثلٌ لطول السير أي لو قدرت على السؤال لسألت
أني أصاحبُ حلمي وهو بي كرمٌ ... ولا أصاحبُ حلمي وهو بي جبنُ
يقول أحلم عمن يؤذيني ما دام حلمي كرما فإذا كان حلمي جبنا لم أحلم كما قال الفند، وبعض الحلم عند الجهل للذلةٍ إذعانُ،
ولا أقيم على مالٍ أذل به ... ولا ألذ بما عرضي به درنُ
أي لا آخذ المال بالذل وكل مال يحصل لي بذل تركته ولا استطيب شيئا يلطخ عرضي بأخذه والدرن الوسخ
سهرت بعد رحيلي وحشةً لكم ... ثم استمر مريري وارعوي الوسنُ(1/332)
يقول لما فارقتكم استوحشت لفراقكم حتى امتنع رقادي أي لإلفي إياكم على جفائكم ثم قويت فتصبرت وعاد إليّ النوم والمرير ما فتل من قويِّ الحبل يقال استمر مريره إذا قوي عزمه
وإن بليت بودٍ مثل ودكمُ ... فإنني بفراقٍ مثلهِ قمنُ
يقول إن كنت في قوم آخرين فعاملوني معاملتكم فارقتهم كما فارقتكم وهذا تعريض بالأسود يعني أنه إن جرى على رسمكم الحقته بكم في الفراق ومثل هذه الأبيات ما أنشده المبرد، لا تطلب الرزق بإمتهان، ولا ترد عرف ذي امتنان، واسترزق الله فاستعنه، فإنه خير مستعان، أشد من فاقةٍ وجوعٍ، إغضاء حر على هوان، وإن نبا منزل بقومٍ، فمن مكانٍ إلى مكانِ،
أبلى الأجلة مهري عند غيركم ... وبدل العذر بالفسطاط والرسنُ
يقال جل وجلالٌ وأجلة والعذر جمع عذار الفرس والفسطاط اسم لمصر وفيه ست لغات معروفة يقول طال بمصر مقامي لإكرام مثواي هناك حتى بليت جلالُ الفرس وعذره ورسنه فأبدلت بغيرها وعبر عن طول المقام ببلي هذه الأشياء
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت ... في جوده مضر الحمراء واليمنُ
مضر الحمراء هو مضر بن نزار ولما مات نزار تحاكم أولاده ربيعة ومضر وإياد وأنمار إلى جرهم في قسم ميراثه فأعطى ربيعةُ الخيل فسمي ربيعةَ الفرس وأعطى إياد الإبل فسمي إيادَ النعم وأعطى مضر الذهب فسمي مضر الحمراء وما فضل من سلاحٍ وأثاث أعطى إنمارا فسمي إنمار الفضل واليمن ليسوا من أولاد مضر فلذلك افردهم بالذكر
وإن تأخر عني بعض موعدهِ ... فما تأخر آمالي ولا تهنُ
يعني أن عداتهِ زائدةٌ على آماله يقول هو ينفذ آمالي وليس يتأخر عني ما آمله ولا يضعف رجائي عنده وإن تأخر بعض موعده ثم ذكر عذر تأخره بقوله
هو الوفيُّ ولكني ذكرتُ له ... مودةً فهو يبلوها ويمتحنُ
يقول هو يفي بما وعد غير أنه يمتحن ما ذكرت له من المودة والمحبة في الإنقطاع إليه ومما قال بمصر ولم ينشدها الأسود ولم يذكره فيها
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصةٍ كلهم من ... هـ وإن سر بعضهم أحيانا
يعني لم ينل أحد مراده من الدنيا ولم يبلغ أمله ومات بغصته وإن سر في بعض الأحايين
ربما تحسن الصنيع ليالي ... هـ ولكن تكدر الإحسانا
عادة الدهر هكذا يعطي ثم يرجع فيما يعطى ويحسن ولا يتمم الإحسان كما قال، الدهرُ أخذُ ما أعطى مكدر ما، أصفا ومفسدُ ما أهوى له بيدِ،
وكأنا لم يرض فينا بريب ال ... دهر حتى أعانه من أعانا
يقول هذا الذي أعان عليَّ الدهر كأنه لم يرض بما يصيبني من محنه حتى أعانه عليّ كما قال الآخر، أعانَ عليَّ الدهرَ إذ حك بركهُ، كفى الدهرُ لو وكلتهُ بي كافيا،
كلما أنبت الزمان قناةً ... ركب المرء في القناة سنانا
يقول إذا ابتدر الزمان للاساءة بما جبل عليه صارت عداوة المعادي مددا لقصده فجعل القناة مثلا لما في طبع الزمان وجعل السنان مثلا للعداوة
ومراد النفوس أضغر من أن ... نتعادى فيه وأنا نتفانا
هذا نهي عن المعاداة والتحاسد لأجل مراد النفس فإنه أقل من أن تتكلف لأجله معاداة الرجل
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
يعني أن الحر أحب إليه الموت من أن يلقى ذلا وهوانا
ولو أن الحيوة تبقى لحيٍّ ... لعددنا أضلنا الشجعانا
يقول لو كانت الحياة باقيةً لكان الشجاع الذي يتعرض للقتل بحضور القتال أضل الناس يعني أن الحيوة لا تبقى وإن جبن الإنسان ولزم بيته وحرص على البقاء ثم أكد هذا بقوله
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهلٌ فيها إذا هو كانا
يقول إنما يصعب الأمر على النفس قبل وقوعه فإذا وقع سهل كما قال البحتري، لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه، وأبرح مما حل ما يتوقع وقال يذكر خروج شبيب العقيلي سنة 348
عدوك مذموم بكل لسانِ ... ولو كان من أعدائك القمرانِ
يقول من عاداك دل على جهالته وسقطت منزلته عند الناس حتى ذمه كل احد ولو كان القمران من أعدائك لصارا مذمومين مع عموم نفعهما وإرتفاع منزلتهما
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدي ضرب من الهذيانِ(1/333)
يقول لله تعالى سر فيما أعطاك من العلو والبسطة لا يطلع الناس على ذلك السر ولا يعلمون ما هو وما يخوض الأعداء فيه من الكلام فيك نوع من الهذيان بعد أن أراد الله فيك ما أراد وهذا إلى الهجاء أقرب لأنه نسب علوه على الناس إلى قدرٍ جرى به من غير استحقاق والقدر قد يوافق بعض الناس فيعلو ويرتفع على الأقران وإن كان ساقطا باتفاقٍ من القضاء
أتلتمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليلس أو وضوح بيانِ
يقول هل يطلبون دليلا على سيادتك وعلى أن الله يريد أن يرفع محلك على من يعاديك بعد ما رأوا ثم ذكر ما رأوا فقال
رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حيوةٍ أو بغدر زمانِ
أي رأت الأعداء كل من ينطوي لك على غدرٍ أو يضمر لك خلافا غدرت به حياته فهلك بآفةٍ تصيبه
برغم شبيبٍ فارق السيف كفُه ... وكانا على العلاتِ يصطحبانِ
يعني هلك ففارق كفه سيفه بهلاكه وكانا مصطحبين على كل حال
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني
قيس من عدنان واليمن من قحطان وبينهما تنازع واختلاف يقول الرقاب نادت سيفه لكثرة قطعه إياها وكأنها قالت إغراء بينه وبين سيفه ليفترقا شبيب الذي يصاحبك قسي وأنت يمني والنصل الجيد يكون يمنيا ففارقه سيفه لما علم أنه مخالف له في الأصل
فإن يك إنسانا مضى لسبيلهِ ... فإن المنايا غاية الحيوانِ
أي أن يك شبيب قد هلك ومات فإن غاية الحيوان الموت فلا عار عليه من ذلك
وما كان إلا النار في كل موضعٍ ... تثير غبارا في مكان دخانِ
أي كان سبب الشر والفتنة وكان نارا على اعدائه غير أن دخانه الغبار
فنال حيوة يشتهيها عدوهُ ... وموتا يشهي الموت كل جبانِ
يقول نال اطيب حياةٍ عدوه يشتهي مثل تلك الحياة يعني عاش في عز ومنعة ثم مات موتا يشهي ذلك الموت إلى الجبناء الموت لأنه كان موتا في عافيةٍ من غير تقدم ألمٍ ولا مرض ويذكره كيف كان والتشهية لا يتعدى إلى مفعولين إلا بحرف جر وقد حذفه وهو يريده كأنه قال يشهى الموت إلى كل جبان
نفى وقع أطرافه الرماح برمحهِ ... ولم يخش وقع النجم والدبرانِ
يقول نفى عن نفسه الرماح برمحه يعني أنه كان شجاعا يقي نفسه برمحه ولكنه لم يكن مناحس النجوم في حسابه والدبران من النحوس في حكم المنجين وزعمهم والمعنى أنه دفع نحوس الأرض عن نفسه ولم يقدر على دفع نحوس السماء
ولم يدر أن الموت فوق شواتهِ ... معار جناحٍ محسنِ الطيرانِ
ويروي معار جناح محسن الطير أي لم يدر أن الموت قد أعير جناحا فهو يرفرف فوق رأسه ليقع عليه من علو وذلك فيما يقال أن امرأة أدلت على رأسه رحى من سور دمشق
وقد قتل الأقران حتى قتلتهُ ... بأضعف قرنٍ في أذل مكانِ
ذكر في قصته أنه كان يحارب أهل دمشق ويريد الغلبة عليها فسقط على الأرض وثار من سقطته فمشى خطواتٍ فلما سار سقط ميتا ولم يصبه شيء وكثر تعجب الناس من أمره حتى قال قوم أنه كان مصروعا فأصابه الصرع في تلك الساعة فانهزم أصحابه وقتل وزعم قوم أنه شرب وقت ركوبه سويقا مسموما فلما حمى عليه الحديد عمل فيه السم فهو قوله حتى قتلته بأضعف قرن يعني السم في أذل مكانٍ يعني في غير الحرب ومعركة القتال
أتته المنايا في طريق خفيةٍ ... على كل سمعٍ حولهُ وعيانِ
يعني أنه مات فجاءة من غير أن استدل احد على موته بمرئي أو مسموع كما قال يزيد المهلبي، جاءت منيته والعين هاجعةٌ، هلا أتته المنايا والقنا قصد،
ولو سلكت طرق السلاح لردها ... بطول يمينٍ واتساع جنانِ
أي لو أتته منيته من طريق السلاح لدفعها عن نفسه بطول يده وسعة صدره أي ما كان يقدر على قتله لو أراد ذلك اعداؤه
تقصده المقدار بين صحابهِ ... على ثقةٍ من دهره وأمانِ
يقال تقصده وأقصده إذا قتله والمقدار وهو القضاء يقول أهلكه القضاء وهو بين اصحابه واثق بالحيوة آمن من الموت
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصورٍ وغير معانِ
يريد أن الجيش الكثير لا ينفع من لم يكن منصورا من قبل الله تعالى معانا كما لم ينفع شبيبا كثرة أصحابه والالتفاف الاجتماع يقال التف عليه الناس إذا ازدحموا حوله(1/334)
ودي ما جنى قبل المبيت بنفسهِ ... ولم يده بالجمال العكنانِ
الجامل اسم للجمال الكثيرة كالباقر اسم لجماعة البقر والعكنان الإبل الكثيرة أي أدى دية من قتل من الناس بنفسه قبل إن دخل عليه الليل ولم يؤد الدية بالإبل يريد أنه هلك فصار كأنه أقتص منه
أتمسك ما أوليته يد عاقلٍ ... وتمسكُ في كفرانهِ بعنانِ
هذا استفهام معناه الإنكار أي العاقل لا يجمع بين إمساك ما اعطيته من النعم وإمساك العنان في الكفران لأن من كان عاقلا لم يكفر نعمة المنعم عليه وهذا إشارة إلى أن شبيبا كفر نعمتك فصرعه شؤم الكفران حتى هلك قال ابن جنى يقول إذا كفر نعمتك من تحسن إليه لم تنقبض يده على عنانه تخاذلا
ويركب ما أركبته من كرامةٍ ... ويركب للعصيان ظهر حصانِ
هذا عطف على ما قبله من الإنكار أي لا يجتمع لأحد أكرامك ومعصيتك
ثنى يده الإحسان حتى كأنها ... وقد قبضت كانت بغير بنانِ
يقول إحسانك إليه رد يده عما امتدت فيه حتى كأنها وهي مقبوضة لم تنبسط فيما أراد كانت بغير بنان لأن القبض يحصل بالبنان فإذا كانت اليد بغير بنانٍ لم يحصل القبض وكأنها مقبوضة حين لا تقدر على القبض والإنبساط ومن روى قبضت على إسناد الفعل إلى اليد كان المعنى أن يده وإن كانت قابضةً لما صرفت عما قصدت له صارت كأنها بغير بنان وغير قابضة
وعند من اليوم الوفاء لصاحبٍ ... شبيب وأوفى من ترى أخوانِ
يقول من الذي يفي لصاحبه يومنا هذا وأوفى الناس غادر كشبيبٍ وهما أخوان في الغدر
قضى الله يا كافور أنك أولٌ ... وليس بقاضِ أن يرى لك ثاني
هذا من اجود ما مدح به ملك يقول قضى الله أنك أول في المكارم والمعالي ولم يسبقك أحد إلى ما سبقت إليه ولم يقض أن يلحقك أحد أو يكون لك مثل فيصير ثانيك
فما لك تختار القسيَّ وإنما ... عن السعد يرمي دونك الثقلانِ
أنكر عليه اختيار القسي لرمي الأعداء وهم يرمون من كانوا من الجن والإنس عن قوس سعادته يعني أن قضاء سعادتك يرميهم عنك فلا تحتاج إلى ما تستجيده من القسي
وما لك تعني بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنانِ
يقول ولم تعتني بإدخار الأسنة والرماح وبختك يطعن أعداءك فيقتلهم بغير سنان
ولم تحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غنيٌّ عنه بالحدثانِ
يقول أنت مستغنٍ بحوادث الدهر عن استعمال السيف في قتل اعدائك فكل هذا إشارة إلى مصرع شبيب في الخروج عليه من غير أن حصل هلاكه بنوع سلاح
أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني
يريد أن القضاء موافق لارادته فإذا أراد به خيرا أتاه ذلك وإن لم يجد به عليه
لو الفلك الدوار أبغضت سعيهُ ... لعوقه شيء عن الدورانِ
يقول لو أبغضت دوران الفلك لحدث شيء يمنعه عن الدوران وهذه أبياتٌ ليس في معناها مثل لها وقال بمصر يذكر حمى كانت تناله في ذي الحجة سنة 348
ملومكما يجل عن الملامِ ... ووقع فعالهِ فوق الكلامِ
يقول لصاحبيه اللذين يلومانه على الأخطار بنفسه وتجشم الأسفار في طلب المعالي ملومكما يعني نفسه أجل من أن يلام لأن فعله جاز طوق القول فلا يدرك فعله بالوصف والقول لأنه لا مطمع للائمٍ فيه بان يطيعه أو يخدعه هو بلومه
ذراني والفلاة بل دليلٍ ... ووجهي والهجير بلا لثامِ
الفلاة والهجير ينتصبان لأنهما مفعولٌ معهما يقول ذراني مع الفلاة فإني أسلكها بغير دليل لأهتدائي فيها وذراني مع الهجير أسير فيه بغير لثام على وجهي لاعتيادي ذلك
فإني أستريح بذي وهذا ... وأتعب بالإناخة والمقامِ
يعني بالفلاة والهجير يقول راحتي فيهما وتعبي في النزول والإقامة
عيون رواحلي إن حرت عيني ... وكل بغام رازحةٍ بغامي
قال ابن جنى معناه إن حارت عيني فأنا بهيمةٌ مثلهن وعيني عينها وصوتي صوتها كما تقول إن فعلت كذا فأنت حمار وأنت بلا حاسة وزاد ابن فورجة لهذا بيانا فقال يريد أنه بدوي عارف بدلالات النجوم بالليل فيقول إن تحيرت في المفازة فعيني البصيرة عين راحلتي ومنطقي الفصيح بغامها وقال غيرهما عيون رواحلي تنوب عن عيني إذا ضللت فأهتدي بها وصوتها إذا احتجت إلى أن أصوت ليسمع الحي ليقوم مقام صوتي وإنما قال بغامي على الإستعارة(1/335)
فقد أرد المياه بغير هادٍ ... سوى عدي لها برق الغمامِ
يقول لا احتاج في ورود الماء إلى دليل يدلني سوى أن أعد برق الغمام فأتبعه قال يعقوب العرب إذا عدت للسحابة مائة برقةٍ لم تشكك في أنها ماطرة فتتبعها على الثقة بالمطر
يذم لمهجتي ربي وسيفي ... إذا احتاج إلى الذمامِ
يقول من احتاج في سفره إلى جوارْ وعهدٍ ليأمن بذلك فأنا في جوار الله وجوار سيفي لا استصحب أحداً في سفري لآمن بصحبته
ولا أمسي لأهل البخل ضيفا ... وليس قرى سورى مخ النعامِ
يقول لا أكون ضيفا للبخيل وإن لم يكن لي طعام البتة لأنه لا مخ للنعام ويجوز أن يريد بهذا إن البخيل لا قرى عنده ويروي مح بالحاء والمعنى لو لم يكن لي قرى سوى بيض النعام شربته ولم آت بخيلا
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسامٍ بابتسامِ
يقول لما فسد ود الناس عاملتهم بمثل ما يعاملونني به أي يكاشرونني واكاشرهم
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمي أنه بعض الأنامِ
يقول لعموم الفساد في الخلق كلهم إذا اخترت أحدا للمودة لم أكن على ثقةٍ من مودته لعلمي أنه من جملة الخلق
يحب العاقلون على التصافي ... وحب الجاهلين على الوسامِ
يقول العاقل إنما يحب من يحبه على صفاء الود فمن اصفى له الود أحبه والجاهل يحب على كمال الصورة وجمالها وذلك حب الجهال لأنه ليس كل جميل المنظر يستحق المحبة كخضراء الدمن رائق اللون وبي المذاق
وأنف من أخي لبي وأمي ... إذا ما لم أجده من الكرامِ
أرى الأجداد تغلبها كثيرا ... على الأولاد أخلاق اللئامِ
يقول خلق اللئيم قد يغلب الأصل الطيب حتى يكون صاحبه لئيما وإن كان من أصل كريم كما قال آخر، أبوك أب حر وأمك حرة، وقد يلد الحران غير نجيبِ، وقال آخر، لئن فخرت بآباء لهم شرف، لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا،
ولست بقانعٍ من كل فضلٍ ... بأن أعزي إلى جد همامِ
يقول لا أقنع من الفضل بأن أنسب إلى جد فاضل يعني إذا لم أكن فاضلا بنفسي لم يغن عني فضل جدي
عجبت لمن له قد وحد ... وينبو القضم الكهامِ
القضم السيف الذي فيه فلول والكهام الذي لا يقطع يقول عجبت لمن له قد الرجال وحد النصال ثم لا ينفذ في الأمور ولا يكون ماضيا
ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنامِ
وعجبت لمن وجد الطريق إلى معالي الأمور فلا يقطع إليها الطريق ولايتعب مطاياه في ذلك الطريق حتى تذهب أسنمتها
ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام
ولا عيب أبلغ من عيب من قدر أن يكون كاملا في الفضل فلم يكمل أي لا عذر له في ترك الكمال إذا قدر على ذلك ثم تركه والعيب الزم له من الناقص الذي لا يقدر على الكمال
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب بي الركاب ولا أمامي
وملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاءة في كل عامِ
يقول إن مرضه قد طال حتى مله الفراش وكان هو يمل الفراش وإن لاقاه جنبه في العام مرة واحدة لأنه أبدا كان يكون في السفر
قليل عائدي سقم فؤادي ... كثير حاسدي صعبٌ مرامي
أي أني بها غريب فليس يعودني بها إلا القليل من الناس وفؤادي سقيم لتراكم الأحزان عليه وحسادي كثير لوفور فضلي ومرامي صعب لأني أطلب الملك
عليل الجسم ممتنع القيامِ ... شديد السكر من غير المدامِ
وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلامِ
يريد حمى كانت تأتيه ليلا يقول كأنها حيية إذ كانت لا تزورني إلا في ظلام الليل
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
يقول هذه الزائرة يعني الحمى لا تبيت في الفراش وإنما تبيت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقامِ
يقول جلدي لا يسعها ولا يسع أنفاسي الصعداء والحمى تذهب لحمى وتوسع جلدي بما تورده عليّ من أنواع السقام
إذا ما فارقتني غسلتني ... كانا عاكفان على حرامِ
يريد أنه يعرق عند فراقها فكأنها تغسله لعكوفهما على ما يوجب الغسل وإنما خص الحرام لحاجته إلى القافية وإلا فالإجتماع على الحلال كالاجتماع على الحرام في وجوب الغسل
كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجامِ(1/336)
يعني أنها تفارقه عند الصبح فكأن الصبح يطردها وكأنها تكره فراقه فتبكي بأربعة آماق يريد كثرة الرحضاء والدمع يجري من المؤقين فإذا غلب وكثر جرى من اللحاظ أيضا فأراد بالأربعة لحاظين ومؤقين للعينين ولم يعرف ابن جنى هذا فقال أراد الغروب وهي مجاري الدمع والغروب لا تنحصر بأربعة سجام فحذف المضاف
أراقب وقتها من غير شوقٍ ... مراقبة المشوق المستهامِ
وذلك أن المريض يجزع لورود الحمى فهو يراقب وقتها خوفا لا شوقا
ويصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظامِ
يريد أنها صادقة الوعد في الورود وذلك الصدق شر من الكذب لأنه صدق يضر ولا ينفع كمن أوعد ثم صدق في وعيده
أبنت الدهر عندي كل بنتٍ ... فكيف وصلت أنت من الزحامِ
يريد ببنت الدهر الحمى وبنات الدهر شدائده يقول يا حماي عندي كل شديدة فكيف وصلت إليّ وقد تزاحمت عليّ الشدائد ألم يمنعك زحامها من الوصول إليّ وهذا من قول الآخر، أتيت فؤادها أشكو إليه، فلم أخلص إليه من الزحام،
جرحت مجرحاً لم يبق فيه ... مكان للسيوف وللسهامِ
ألا يا ليت شعر يدي أتمسى ... تصرف في عنانٍ أو زمامِ
يقول ليت يدي علمت هل تتصرف بعد هذا في عنان الفرس أو زمام الناقة والمعنى ليتني علمت هل أصح فأسافر على الخيل والإبل
وهي أرمي هوايَ براقصاتٍ ... محلاة المقاود باللغامِ
يريد بالراقصات أبلا تسير للرقص وهو ضرب من الخبب يقول وهل أقصد ما أهواه من مطالبي ومقاصدي بإبلٍ تسير الرقص وقد حليت مقاودها وأزمنتها كما قال منصور النمري، من كل سمح الخطا وكل يعملةٍ، خرطومها باللغام الجعدِ ملتفعِ،
فربتما شفيت غليل صدري ... بسيرٍ أو قناةٍ أو حسامِ
يريد حين كان صحيحا يسافر ويقاتل فيشفي غليله بالسير إلى ما يهواه وبالسيف والرمح
وضاقت خطة فخلصت منها ... خلاص الخمر من نسج الفدامِ
يقول ربما ضاق أمر عليَّ فكان خلاصي منه خلاص الخمر من النسج الذي تفدم به أفواه الأباريق لتصفية الخمر
وفارقت الحبيب بلا وداعٍ ... وودعت بالبلاد بلا سلامِ
أي وربما فارقت الحبيب بلا وداع يريد أنه قد هرب من أشياء كرهها دفعاتٍ فلم يقدر على توديع الحبيب ولا على أن يسلم على أهل ذلك البلد الذي هرب منه
يقول لي الطبيب أكلت شيئا ... ودائك في شرابك والطعامِ
أي الطبيب يظن أن سبب دائي الأكل والشرب فيقول كلت كذا وكذا مما يضر
وما في طبهِ أني جوادٌ ... أضر بجسمهِ طول الجمامِ
ليس في طب الطبيب أن الذي أضر بجسمي طول لبث وقعودي عن السفر كالفرس الجواد يضر بجسمه طول قيامه على الآري فيصير به جاماً والجمام ضد التعب
تعود أن يغبر في السرايا ... ويدخل من قتامٍ في قتامِ
هذامن صفة الجواد يقول عادته أن يثير الغبار في العساكر ويدخل من هذه الحرب في أخرى والقتام الغبار وأراد بدخول القتام حضور الحرب
فأمسك لا يطال له فيرعى ... ولا هو في العليق ولا اللجامِ
أي أمسك هذا الجواد لا يرخى له الطول فيرعى فيه ولا هو في السفر فيعتلف من المخلاة التي تعلق على رأسه وليس وفي اللجام وهذا مثل ضربه لنفسه وأنه حليف للفراش ممنوع عن الحركة
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حم اعتزامي
أي أن مرضت في بدني فإن صبري وعزمي على ما كانا عليه من الصحة
وإن اسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمامِ
وأن أسلم من مرضي لم أبق خالدا ولكن سلمت من الموت بهذا المرض إلى الموت بمرضٍ وسببٍ آخر وهذا يقرب من قول طرفة، لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى، لكالطول المرخى وثنياه باليد، ومن قول الاخر، إذا بل من داء به خال أنه، نجا وبه الداء الذي هو قاتله،
تمتع من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأمل كرى تحت الرجامِ
الرجام القبور المبنية من حجارة واحدها رجم يقول ما دمت حيا فتمتع من حالتي السهاد والنوم فلا ترج النوم في القبر
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنامِ
يريد بثالث الحالين الموت يقول الموت غير اليقظة والرقاد فلا تظنن الموت نوما وقال يمدح كافورا الإخشيدي وأنشده إياها في شوال سنة 347 ولم يلقه بعدها(1/337)
منى كنَّ لي أن البياضَ خضابُ ... فيخفى بتبييضِ القرون شبابُ
أي مشيبي هذا وإن يكون البياض خضابا لي يخفى به سواد شعري مني كانت لي قديما وسمى البياض بالشيب خضابا لخفاء السواد به كما أن السواد الذي يخفى به البياضُ يسمى خضابا والقرون الذوائب
ليالي عند البيض فوادي فتنةٌ ... وفخرٌ وذاك الفخر عندي عابُ
أي تمنيت ذاك ليالي كان رأسي فتنةً عند النساء لحسن شعري وسواده وكن يفتخرن بوصلي وذاك الفخر عندي عيب لأني أعف عنهن وأزهد في وصالهن وإنما تمنى الشيب لأن للشباب باردةً وللمشيب أناةً كما قال، والشيبُ اوقر والشبيبة أنزق،
فكيف أذم اليوم ما كنت أشتهي ... وأدعو بما أشكوه حين أجابُ
يقول كيف أذم الشيب وكنت أتمناه وأهواه وكيف أدعو بما إذا أجبت إليه شكوته يعني لا أشكو الشيب انتهاء وقد دعوته ابتداء ويجوز أن يكون المعنى كيف أدعو الشبيبة بشكاية الشيب وأنا لو أجبت إليها لشكوتها فإني كنت أتمنى زوالها وقد أحتذي في هذه الأبيات على قول ابن الرومي، هي الأعين النجلُ التي كنت تشتكي، مواقعها في القلب والرأس أسود، فما لك تأسى الآن لما رأيتها، وقد جعلت مرمى سواك تعمدُ، فنقل نظر الأعين إلى ذكر المشيب والشباب
جلا اللون عن لونٍ هدى كل مسلكٍ ... كما انجاب عن ضوء النهار ضبابُ
يقول كان الشيب كامنا في الشباب فلما انتقل عنده بدا وجلا معناه زال وانكشف من قولهم جلا القوم عن منازلهم إذا خرجوا يقول زال لون السواد عن لونٍ هدي كل مسلك يعني لون الشيب فإنه يهدي صاحبه إلى كل طريق من الرشد والخير وشبه زوال سواد الشباب عن بياض المشيب بإنقطاع الضباب عن ضوء النهار
جلا اللون عن لون هدي كل مسلكٍ ... كما انجاب عن ضوء النهار ضبابُ
يقول كان الشيب كامنا في الشباب فلما انتقل عنه بدا وجلا معناه زال وانكشف من قولهم جلا القوم عن منازلهم إذا خرجوا يقول زال لون السواد عن لونٍ هدي كل مسلك يعني لون الشيب فإنه يهدي صاحبه إلى كل طريق من الرشد والخير وشبه زوال سوادِ الشباب عن بياض المشيب بإنقطاع الضباب عن ضوء النهار
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبهِ ... ولو أو أن ما الوجه منه حرابُ
لما ذكر أ، هـ كان يتمنى الشيب وهو سبب العجز والضعف ذكر أن همته وعزيمته وما فيه من معاني الكرم لا تشيب ولا يدركها العجز والضعف بشيب جسمه ولو أن الشعرات البيض في وجهه كانت حرابا
لها ظفر إن كل ظفر أعدهُ ... وناب إذا لم يبق في الفم نابُ
يقول إن كل ظفري ولم يبق في فمي نابٌ من الكبر لم يكن ظفر همتي كليلا
يغير مني الدهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعابُ
أي نفسي شابةٌ أبدا لا يغيرها الدهر وإن تغير جسمي
وإني لنجمٌ يهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النجومِ سحابُ
إذا خفيت النجوم بالسحاب فلم يهتد للطريق أهتدى بي أصحابي وكنت لهم كالنجم الذي يهتدي به يريد أنه دليل في الفلوات
غنيٌّ عن الأوطانِ لا يستفزني ... إلى بلدٍ سافرتُ عنه إيابُ
يريد أنه لا يعشق الإوطان وإن جميع البلاد عنده سواء فإذا سافر عن وطن لم يشوقه الإياب إلى ذلك الوطن لأنه مستغنٍ بالسفر عن الوطن
وعن ذملانِ العيس إن سامحت به ... وإلا ففي أكوارهن عقابُ
يقول وإنا غنى عن سير الإبل إن سنحت بالسير سرت عليها وإلا فإنا كالعقاب الذي لا حاجة به إلى أن يحمل وجواب أن محذوف للعلم به
وأصدى فلا أبدى إلى الماء حاجةً ... وللشمس فوق اليعملات لعابُ
يقول أعطش فلا أبدى حاجتي إلى الماء تصبرا وحزما حين يشتد حميُ الشمس حتى كان الشمس سال لها لعاب فوق الإبل والمسافرون في الفلوات إذا اشتد الهجير يرون كأن الشمس قد دنت من رؤوسهم وتدلت منها خيوط فوقهم ومنه قول الراجز، وذاب للشمس لعاب فنزل، وقال الكميت الفقعسي، يصافحن حر الشمس كل ظهيرةٍ، إذا الشمس فوق البيد ذاب لعابها، ومعنى البيت من قول أبي تمام، جدير أن يكر الطرف شررا، إلى بعض الموارد وهو صادي
وللسر مني موضع لا ينالهُ ... نديم لا يفضي إليه شرابُ(1/338)
يريد أنه كتوم للأسرار يضع السر حيث يطلع عليه النديم ولا يصل إليه الشراب مع تغلغله في البدن كما قال الآخر، يظلون شتى في البلاد وسرهم، إلى صخرةٍ أعيا الرجال انصداعها، وقد نظر أبو الطيب في هذا البيت إلى قول الآخر، تغلغل حيث لم يبلغ شراب، ولا حزن ولم يبلغ سرور،
وللخود مني ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجابُ
يقول إنما أصحب المرأة قدرا يسير ثم أسافر عنها فيكون بيننا فلاة تقطع عنها لا إليها فهي تقطع إلى غير لقاء الخود
وما العشق إلا غرة وطماعةٌ ... يعرض قلبٌ نفسه فتصابُ
يقول عشق النساء اغترار وانخداع وطمع في وصلهن وذلك من تعريض القلب نفس صاحبه لعشقهن فإذا عرض القلب النفس أصيبت النفس بالعشق يعني أن القلب يشتهي أولا ويدعو النفس فتتبعه هذا إذا جعلت النفس غير القلب وإن أردت بالنفس نفس القلب وعينه وذاته قلت فيصاب بالياء ومعناه أن القلب يوقع نفسه في العشق بتعرضه لذلك
وغير فؤادي للغواني رميةٌ ... وغير بناني للزجاج ركابُ
الرمية الطريدة التي ترمي يقول قلبي لا تصيبه النسوان بسهام الحاظهن لأني لا أميل إليهن فأني لست غزلا زيراً بل أنا عزهاة عزوف النفس عنهن ولا أحب الخمر ومعاقرتها فبناني لا تصير مركبا للزجاج أي لا أحمل كأس الخمر بيدي وروى ابن جنى للرخاخ بالخاء المعجمة وقال أني لست ممن يصبو إلى الغواني واللهو بالشطرنج وقال ابن فورجة البنان ركاب للقدح وأما الرخ فالبنان راكبة له في حال حمله وأيضا فأنه كلمة أعجمية لم يستعملها العرب القدماء ولا الفصحاء وأيضا فإن التنزه عن شرب الخمر اليق بالتنزه عن الغزل من التنزه عن لعب الشطرنج
تركنا لأطراف القنا كل شهوةٍ ... فليس لنا إلا بهن لعابُ
لعاب ملاعبة يقول تركنا ما تشتهيه النفوس من الملاهي فلهونا الطعان بالرماح يريد أنه فطم نفسه عن الملاهي وقصرها على الجد في طعان الأعداء
نصرفهُ للطعن فوق حوادرِ ... قد انقصفت فيهن منه كعابُ
أي نصرف القنا فوق خيل غلاظ سمان قد انكسرت فيها كعاب من القنا وروى عليّ بن حمزة خوادر أي كأنها اصابها الخدر لما لحقها من التعب والجراحات وروى ابن جنى حواذر معجمة وقال يعني خيلا تحذر الطعن لأنها معودة وهذه الرواية ضعيفة لأنه قال في باقي البيت قد انقصفت فيهن منه كعاب فكيف يصفها بالحذر وقد أخبر بانكسار الرماح فيها والبيت من قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي، وكنت إذا ما الخيلُ شمسها القنا، لبيقا بتصريف القناة بنانيا،
أعز مكانٍ في الدنى سرج سابحٍ ... وخير جليسٍ في الزمان كتابُ
جعل السرج أعز مكان لنه يسافر عليه فيطلب المعالي أو يهرب من الضيم واحتمال الذل أو يحارب عدوا يدفع عن نفسه شره وجعل الكتاب خير جليس لأنه يأمن شره ولا يحتاج في مجالسته إلى مؤونة والكتاب يقص عليه انباء الماضين فهو خير جليس كما قال القاضي حسن ابن عبد العزيز، ما تطعمت لذة العيش حتى، صرت في وحدتي لكتبي جليسا،
وبحرٌ أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحرٍ زخرةٌ وعبابُ
بحر خبر مقدم على المبتدأ لأن التقدير وأبو المسك الخضم بحر وروى ابن جنى بحرٍ بالجر عطفا على جليس كأنه قال وخير بحر أبو المسك والخضم الكثير الماء ومنه قول بشار، دعاني إلى عمرٍ جوده، وقول العشيرة بحر خضم، والزخرة الأمتلاء بالماء وكثرته
تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثني عليه يعابُ
يقول هو أجل من كل مدح يثني عليه به فإذا بالغت في حسن الثناء عليه استحق قدره فوق ذلك فيصير ذلك الثناء الحسن كأنه عيب لقصوره عن استحقاقه كما قال البحتري، جل عن مذهب المديح فقد كاد يكون المديح فيه هجاءا، وكرره أبو الطيب فقال، وعظم قدرك في الآفاق أوهمني، أني بقلةِ ما أثنيت أهجوكا،
وغالبه الأعداء ثم عنوا له ... كما غالبت بيض السيوف رقابُ
أي لم يجدوا طريقا إلى غلبته فخضعوا له وانقادوا كالرقاب إذا غالبت السيوف صارت مغلوبة
وأكثر ما تلقى أبا المسك بذلةً ... إذا لم يصن إلا الحديد ثيابُ(1/339)
قال ابن جنى يقول إذا تكفرت الأبطال ولبست الثياب فوق الحديد خشيةً واستظهارا فذاك الوقت أشد ما يكون تبذلا للضرب والطعن شجاعة وإقداما هذا كلامه وقد جعل الثياب تصون الحديد قال أبو الفضل العروضي أحسب أبا الفتح أن يقول قبل أن يتفكر ويرسل قلمه قبل أن يتدبر والمتنبي جعل الصون للحديد لا للثياب بقوله إذا لم يصن ثياب إلا الحديد يعنى الدرع وليس يريد صيانة الحديد وإنما يريد صيانة الرجل نفسه واستظهاره بلبس الحديد ونصب الحديد مع النفي لأنه تقدم على المستثنى منه فصار كما قال الكميت، فما ل إلا آل أحمد شيعةٌ، وما لي إلا مشعب الحق مشعبُ، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بسط القول فيه وقال ابن فورجة ليس المصون الحديد على ما توهمه بل مفعول يصن محذوف على تقدير إلا مشعب الحق مشعبُ، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بسط القول فيه وقال ابن فورجة ليس المصون الحديد على ما توهمه بل مفعول يصن محذوف على تقدير إذا لم يصن الأبدان ثياب إلا الحديد فلما قدم المستثنى نصبه انتهى كلامه ومعنى البيت أكثر ما تلقاه في الحرب تلقاه باذلا نفسه لم يحصنها بالدروع إذا لم ين الأبطال إلا الحديد يريد أنه لشجاعته لايتوقى الحرب بالدرع والحديد كما قال الأعشى، وإذا تكون كتيبةٌ ملمومةٌ، شهباء يخشى الذائدون نهالها، كنت المقدم غير لابس جنةٍ، بالسيف تضرب معلما أبطالها،
وأوسع ما تلقاه صدرا وخلفه ... رماء وطعن والأمام ضرابُ
قال ابن جنى يقول أوسع ما يكون صدرا إذا تقدم في أول الكتيبة يضرب بالسيف وأصحابه من ورائه ما بين طاعن إلى رامٍ قال ابن فورجة جعل ابن جنى الرماء والطعن من أصحاب الممدوح ولا يكون في هذا كثير مدح لأن كل واحد إذا كان خلفه من يرمي ويطعن من أصحابه فصدره واسع وقلبه مطمئن وإنما أراد وخلفه رماء وأمامه طعن من أعدائه فالمعنى فإذا كان في مضيق من الحرب قد أحاط به العدو من كل جانب لم يضجر ولم يعد ذلك لضيق صدره
وأنفذ ما تلقاه حكما إذا قضى ... قضاءً ملوك الأرض منه غضابُ
يقول إذا حكم حكما على خلاف جميع الملوك نفذ حكمه لطاعتهم له والمعنى أنه سيدهم فلا يمنع حكمه من النفاذ غضبهم وهم لا يقدرون على إظهار خلافه فأنفذ حكمهِ ما خالف به الملوك وغاضبهم
يقول إليه طاعة الناس فضلهُ ... ولو لم يقدها نائلٌ وعقابُ
يقول لو لم يطعه الناس رغبةً ولا رهبةً لأطاعوه محبةً لما فيه من الفضل والمعنى أن الناس يطيعونه لاستحقاقه طاعتهم بفضله لا لرجاء جوده ولا لخوف عقوبته
أيا أسدا في جسمه روح ضيغمٍ ... وكم أسد أرواحهن كلابُ
يقول أنت أسد وهمتك أيضا همة الأسود والأسد يوصف بعلو الهمة لأنه لا يأكل من فريسة غيره كما قال الشاعر، وكانوا كأنف الليث لا شم مرغماً، ولا نال قط الصيد حتى يعفرا، يعني أنه يطعم مما صاده بنفسه وقد قال الطائي، إن الأسود أسود الغاب همتها، يوم الكريهة في المسلوب لا السلب، يقول كما من أسد خبيث النفس دنى الهمة وأنت أسد من كل الوجوه لأنك شجاع رفيع الهمة طيب النفس وهذا مثل ضربه لسائر الملوك وأراد أرواحهن أرواح كلاب فحذف المضاف
ويا آخذاً من دهره حق نفسهِ ... ومثلك يعطى حقهُ ويهابُ
يعني أن الأيام لا تق ر على أ، تنقصه حقه لأنه يغلبها ويحكم عليها ومثله يهاب ويعطى حقه
لنا عند هذا الدهر حق يلطهُ ... وقد قل إعتاب وطال عتابُ
يلطه يدفعه ويمطل به وكل شيء سترت دونه فقد لططته يقول لنا عند الزمان حق يدافعه ولا يقضيه وطال العتاب معه فلم يعتب ولم يرضنا بقضاء الحق
وقد تحدث الأيام عندك شيمةً ... وتنغمر الأوقات وهي يبابُ
يقول الأيام تغير عادتها عندك فترضى المعاتب وتصالح ذوي الفضل فلا تقصد مساءتهم لحصولهم في ذمتك وجوارك والأوقات تصير عامرةً لهم بأن يدركوا مطلوبهم والمعنى أن أظفرتني الأيام بمطلوبي عندك فلا عجب لها فإنها تحدث شيمةً غير شيمتها خوفا منك وهيبةً لك واليباب الخراب الذي لا أحد به أنشد أبو زيد، قد أصبحت وحوضها يبابُ، كأنها ليست لها أربابُ،
ولا ملك إلا أنت والملك فضلةٌ ... كأنك سيف فيه وهو قرابُ(1/340)
يقول أنت الملك فحيث ما كنت كنت ملكا لأن نفسك بما فيه من الهمم تقتضي تملكك والملك زيادة وفضلة بعد ذكرنا أياك ثم شبهه بالنصل وجعل الملك كالقراب والمعنى في النصل والقراب غشاء كذلك معنى الملك نفسك وما يقال من لفظ الملك بمنزلة القراب
أرى لي بقربي منك عينا قريرةً ... وإن كان قربا بالبعاد يشابُ
يقول عيني قريرةٌ بالقرب منك لحصول مرادي وإن كان هذا القرب مشوبا بالبعاد عن الوطن والأحبة
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجابُ
يقول لا ينفعني إليك وأن يكون ما اؤمله منك محجوبا عني
أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جوابُ
حب مفعول له كأنه قال لحب ما خف عنكم يقول لإيثاري التخفيف أقل التسليم عليكم وأسكت كيما لا تحتاجوا إلى الجواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانةٌ ... سكوتي بيان عندها وخطابُ
يقول تتردد في نفسي حاجات لا أذكرها لأنك فطن تقف عليها بفطانتك وسكوتي عن إظهارها يقوم مقام البيان عنها كما قال أمية بن أبي الصلت، أأذكر حاجتي أم قد كفاني، حياؤك أن شيمتك الحياء، إذا أثنى عليك المرؤ يوما، كفاه من تعرضه الثناء، وكما قال أبو بكر الخوارزمي، وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةً، فلقاؤه يكفيك والتسليم، فإذا رآك مسلما عرف الذي، حملته وكأنه ملزومُ،
وما أنا بالباغي على الحب رشوةً ... ضعيف هوًى يبغي عليه ثوابُ
استدرك على نفسه هذا العتاب فقال لا أطلب ما اطلبه منك رشوةً على الحب لأن الحب الذي يطلب عليه ثوابه ضعيف ثم ذكر سبب طلبه في البيت الذي بعده
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صوابُ
يقول لم أرد ما أطلبه إلا لكي أدل اللاتي عذلنني في قصدك أني كنت مصيبا في هواك وأنك تحسن إليّ وتقضي حق زيارتي
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا
هذا من قول البحتري، وأشهد أني في اختيارك دونهم، مؤدي إلى حظي ومتبعٌ رشدي،
جرى الخلف إلا فيك أنك واحد ... وأنك ليث والملوك ذئابُ
يقول الخلاف جارٍ في كل شيء إلا في وحدتك وأنفرادك عن الأشكال وأنك أسدٌ والملوك بالقياس إليك ذئاب وهذا من قول الطائي، ولو أن إجماعنا في وصف سودده، في الدين لم يختلف في الأمة إثنان، وقال البحتري، وأرى الخلق مجمعين على فضلك من بين سيدٍ ومسودِ،
وأنك إن قويست صحف قارىء ... ذئابا ولم يخطىء فقال ذبابُ
يقول جرى الخلف إلا في وحدتك وفي أنك أن قويست بغيرك من الملوك فصحف القارىء ما وصفت به الملوك وهو أنهم عندك كالذئاب عند الأسد فقال ذبابٌ لم يخطىء في هذا التحصيف لأن الأمر كذلك والقارىء ذبابٌ صحف ولم يخطىء لأنه أتى بالمعنى
وأن مديح الناس حق وباطلٌ ... ومدحك حق ليس فيه كذابُ
يقول الناس يمدحون بما هو حق وباطل لأن بعضه يكون كذبا وأنت تمدح بما هو حق كما قال أبو تمام، لما كرمت نطقت فيك بمنطقٍ، حقٍّ فلم آثم ولم أتحوب، ولو أمتدحت سواك كنت متى يضق، عني له صدق المقالةِ أكذبِ،
إذا نلت منك الود فالمال هينٌ ... وكل الذي فوق التراب ترابُ
وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا ... له كل يوم بلدةٌ وصحابُ
يقول لولا أنت لكان كل بلدٍ بلدي وكل أهلٍ أهلي والمهاجر الذي هجر أهله وخرج من بين عشيرته والمعنى لولا أنت لم أقم بمصر فإن جميع البلاد والناس في حقي سواء
ولكنك الدنيا إليّ حبيبةٌ ... فما عنك لي إلا إليك ذهابُ
ولكنك جميع الدنيا فإن ذهبت عنك عدت إليك فإن الحيّ لا بد له من الدنيا والدنيا أنت يعني أنه السلطان والسلطان هو الدنيا وقال يهجو كافورا
من أيةِ الطرقِ يأتي نحوك الكرمُ ... أين المحاجمُ يا كافور والجلمُ
يقول لا طريق إليك للكرم فإنك لست منه في شيء إنما أنت أهلٌ لأن تكون حجاما مزينا فأين آلة الحجامة حتى تشتغل بها
جاز الألي ملكت كفاك قدرهم ... فعرفوا بك أن الكلب فوقهمُ
يقول هؤلاء الذين تملكهم تجاوزوا قدرهم بالبطر والطغيان فملكت عليهم تحقيرا لهم ووضعا من قدرهم حين ملكهم كلب
لا شيء أقبح من فحلٍ له ذكرٌ ... تقوده أمةٌ ليست لها رحمُ(1/341)
عني بالفحل ذي الذكر رجال عسكره وبالأمة التي لا رحم لها الأسود يوبخهم بانقيادهم له يقول لا شيء أقبح في الدنيا من رجلٍ ينقاد لأمة حتى تقوده إلى ما تريد قال ابن فورجة يريد ان ابن طغج فحلٌ له ذكر وكافور خصيّ فهو كالأمة من حيث أنه خصيٌّ لكنه قد خالفها بكونه لا رحمَ له فكأنه من أمةٍ فهذا أغرابه يقول لم تملكهُ أمرك وأنت فحل وهو أمةٌ في العجز ودناءة القدر
سادات كل أناس من نفوسهم ... وسادة المسلمين الأعبد القزمُ
هذا اغراء لأهل مملكته به يقول كل جيل وأمة يملكهم من هو من جنسهم فكيف ساد بالمسلمين عبيد رذال لئام والقزم رذال الناس لا واحد له من لفظه وروى ابن جنى القزم
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ... يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ
يقول لأهل مصر لا شيء عندكم من الدين إلا احفاء الشوارب حتى ضحكت منكم الأمم وهذا إنكارٌ عليهم طاعة الأسود وتقريره في المملكة ثم حرض على قتله
ألا فتًى يورد الهندي هامته ... كيما تزول شكوك الناس والتهمُ
يقول ألا رجل منكم يقتله حتى يزول عن العاقل الشك والتهمة وذلك أن تمليك مثله يشكك الناس في حكمة الباري حتى يؤديه إلى أن يظن أن الناس معطلون عن صانعٍ يدبرهم
فإنه حجةٌ يوذي القلوب بها ... من دينه الدهرُ والتعطيلُ والقدمُ
يعني أن الدهري يقول لو كان للأشياء مدبر أو كانت الأمور جاريةً على تدبير حكيمٍ لما ملك هذا
ما أقدر الله أن يخزي خليفته ... ولا يصدق قوما في الذي زعموا
يقول الله تعالى قادر على اخزاء الخليفة بإن يملك عليهم لئيما ساقطا من غير أن يصدق الملاحدة الذين يقولون بقدم الدهر يشير إلى أن تأمير مثله إخزاء للناس والله تعالى فعل ذلك عقوبةً لهم وليس كما يقول الملحدة وقال أيضا يهجوه
أما في هذه الدنيا كريم ... تزول به عن القلب الهمومُ
يشكو خلو الدنيا عن الكرام يقول أما كريم يأنس به فاضل فيزول همه به
أما في هذه الدنيا مكانٌ ... يسر بأهلهِ الجار المقيمُ
يعني أن جميع الأمكنة قد عمها اللؤم والجور فليس في الدنيا مكان أهله يحفظون الجار فيسر بجوارهم
تشابهت البهائم والعبدي ... علينا والموالي والصميمُ
العبدي العبيد يقول عم الجهل الناس كلهم الذين هم عبيد الله حتى اشبهوا البهائم في الجهل وملك المملوكين فالتبس الصميم وهو الصريح النسب الخالص يعني إشتبه الأحرار بالموالي وهم الذين كانوا عبيدا أرقآء وذلك أن نفاذ الأمر يترجم عن علو القدر والإمارة إذا صارت إلى اللئام التبسوا على هذا الأصل بالكرام يعني أن التملك إنما يستحقه الكرام فإذا صار إلى اللئام ظنوا كراما
وما أدري إذا داء حديث ... أصاب الناس أم داء قديمٌ
يقول هذا الذي أصاب الناس من تملك العبيد واللئام عليهم حدث الان أن هو قديم كان قبلنا فيما تقدم
حصلت بأرض مصر على عبيدٍ ... كأن الحر بينهم يتيمُ
كأن الأسود اللابي فيهم ... غراب حولهُ رخمٌ وبومُ
شبهه بالغراب وهو طير خسيس كثير العيوب وشبه أصحابه بخساس الطير حول الغراب واللابيّ منسوب إلى اللابة وهي أرض ذات حجارة سود والسوادن ينسبون إليها لأن أرضهم فيها حجارة ولهذا يقولون أسود لأبيّ
أخذت بمدحه فرأيت لهوا ... مقالي للأحيمقِ يا حليمُ
أي أكرهت على مدحه فرأيتني لاهيا أن أصف الأحمق بالحلم وإن أمدحه بما ليس فيه
ولما أن هجوت رأيت عيا ... مقالي لابن آوى يا لئيمُ
ولما هجوته وهو ظاهر اللوم كان نسبتي إياه إلى اللؤم عيا لأن التكلم بما لا يحتاج فيه إلى بيان عيٌّ ومن قال لابن آوى وهو من أخس السباع يا لئيم كان متكلفا
فهل من عاذرٍ في ذا وفي ذا ... فمدفوعٌ إلى السقمِ السقيمُ
يقول فهل من عاذر لي يقوم بعذري في مدحه وهجائه فإني كنت مضطرا لم يكن لي فيهما أختيار كالسقم يطرأ على السقيم من غير اختياره ثم ذكر عذره في الهجاء
إذا أنت الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألم المسيء فيمن ألومُ
أي إذا كان اللئيم يسيء إليّ لم يتوجه اللوم على غيره وهذا من قول الطائي، إذا أنا لم ألم عثرات دهرٍ، أصبت به الغداة فمن ألومُ ونظر إلى الأسود يوما فقال(1/342)
لو كان ذا الآكل أزوادنا ... ضيفاً لأوسعناه إحسانا
يقول هذا الذي يأكل زادي لو كان ضيفا لي لأكثرت إليه الإحسان أي لو أتاني وقصدني ضيفا لأحسنت إليه وهذا كما قال أيضا، جوعان يأكل من زادي ويمسكني، ولأكله زاده وجهان أحدهما أن المتنبي أتاه بهدايا وألطافٍ ولم يكافه عنها والآخر أن المتنبي يأكل من خاص ماله عنده وينفق على نفسه مما حمله وهو يمنعه من الإرتحال فكأنه يأكل زاده حين لم يبعث إليه شيئا ومنعه من الطلب
لكننا في العين أضيافهُ ... يوسعنا زورا وبهتانا
يقول نحن أضيافه في الظاهر لأنا أتيناه وليس يعطينا قرى غير الزور والبهتان والمواعيد الكاذبة
فليته خلى لنا طرقنا ... أعانه الله وإيانا
أراد أعانه الله على التخلية وأعاننا على الذهاب وكتب إليه أبو الطيب في المسير إلى الرملة لتتجز مالٍ له بها وإنما أراد أن يعرف ما عند الأسود في مسيره فأجابه ل والله لا نكلفك المسير ولكنا نبعث من يقبضه لك
أتحلفُ لا تكلفني مسيرا ... إلى بلدٍ أحاول منه مالا
يعني حكاية قوله لا والله لا نكلفك المسير
وأنت مكلفي أنبي مكانا ... وأبعد شقةً وأشد حالا
أي تكلفني الإقامة عندك وذلك أنبا بي وأشد عليَّ من السفر البعيد
إذا سرنا عن الفسطاط يوما ... فلقني الفوارسَ والرجالا
أراد بلقني قابلني أو أرني الفوارس والرجال بان تبعثهم خلفي ليردوني إليك أي إذا سرت عنك لم تقدر على ردي إليك
لتعلم قدر ما فارقت مني ... وأنك رمت من ضيمي محالا
يريد أنه شجاعٌ بطل لا يقبل الضيم وإن فوارسه ورجالاته لا يقدرون على رده إليه وقال يوم عرفة وقد خرج من مصر سنة خمسين وثلثمائة
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ ... بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ
كأنه قال هذا عيد أي هذا اليوم الذي أنا فيه عيد ثم أقبل يخاطبه فقال يا عيد بأية حال عدت والباء في بأية يجوز أ، تكون للتعدية فيكون المعنى أية حالٍ أعدته ويجوز أن تكون للمصاحبة فتكون بمعنى مع والمعنى مع أية حال عدت يا عيد ثم فسر الحال فقال بما مضى أم بأمر مجدد يقول للعيد هل تجدد لي حالةً سوى ما مضت أم عدت والحال على ما كانت من قبلُ
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... فليت دونك بيداً دونها بيدُ
يتأسف على بعد أحبته عنه يقول أما هم فعلى البعد مني فليتك يا عيد كنت بعيدا وكان بيني وبينك من البعد ضعف ما بيني وبين الأحبة والمعنى أنه لا يسر بعود العيد مع بعد الأحبة كما قال الآخر، من سره العيد الجديد فما لقيت به السرورا، كان السرور يتم لي، لو كان أحبابي حضورا،
لولا العلي لم تجب بي ما أجوب بها ... وجناء حرف ولا جرداء قيدودُ
يريد بالوجناء الحرف الناقة الضامرة وبالجرداء الفرس القصيرة الشعر والقيدود الطويلة يقول لولا طلب العلي لم تقطع بي الفلاة ناقةٌ ولا فرس وجعلها تجوب به لأنها تسير به وهو أيضا يجوب بها الفلاة لأنه يسيرها فيها وما كناية عن الرواحل ثم فسرها بالمصراع الثاني وقال ابن فورجة ما أجوب بمعنى الذي وموضعها نصب أي لم تجب بي الفلاة التي أجوبها بها والوجناء فاعلة لم تجب وعلى هذا ما كناية عن الفلاة والهاء في بهاء ضمير قبل الذكر وهي الوجناء والجرداء والقول الأول أظهر
وكان أطيب من سيفي مضاجعةً ... أشباه رونقهِ الغيدُ الأماليدُ
يقول لولا طلب العلي كانت الجواري الغيد اللاتي يشبهن بياض السيف في نقاء ابشارهن أطيب مضاجعةً من السيف أي إنما أضاجع السيف وأترك الجواري لطلب العلي والأملود الغصن الناعم وتشبه به الجاري الشابة
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي ... شيئا تتيمه عين ولا جيدُ
يريد أن الدهر بإحداثه ونوائبه قد سل عن قلبه هوى العيون والأجياد فلا يميل إليها لأنه ترك اللهو والغزل وافضى إلى الجد والتشمير
يا ساقييَّ أخمر في كؤوسكما ... أم في كؤسكما هم وتسهيدُ
يقول لساقييه أخمر ما تسقيانيه أم هم وسهاد يعني لا يزيدني ما اشربه إلا الهم والسهاد لا يسلى همي وذلك لأنه بعيد عن الأحبة فهو لا يطرب على الشراب أو لان الخمر لا تؤثر فيه لمتانة عقله
أصخرة أنا ما لي لا تحركني ... هذي المدامُ ولا هذي الأغاريد(1/343)
يتعجب من حاله وإن المدام والأغاني لا تطربه ولا تؤثر فيه حتى كأنه صخرة يابسة لا يؤثر فيه السماع والشراب
إذا أردت كميت اللون صافيةً ... وجدتها وحبيب النفس مفقودُ
قال ابن جنى حبيب النفس عنده المجد وإذا تشاغل بشرب الخمر فقد المعالي هذا كلامه وليس كما قال لأنه ليس في لفظ البيت ما ذكر والمتنبي قال وجدتها ولم يقل شربتها والمعنى يقول إذا طلبت الخمر وجدتها وإذا طلبت حبيبي لم أجده يتشوق بهذا إلى أهله وأحبته يعني أن شرب الخمر لا يطيب إلا مع الحبيب وحبيبي بعيد عني فليس يسوغ لي الشرب
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أنى بما أنا باكٍ منه محسودُ
يشكو ما لقيه من تصاريف الدهر وعجائب الدنيا ثم قال وأعجبها أني محسود بما أشكوه وأبكي منه وهو قصد كافور وخمدته يقول الشعراء يحسدونني عليه وأنا باكٍ منه
أمسيت أروح مثرٍ خازناً ويداً ... أنا الغني وأموالي المواعيدُ
يقول أنا مثرٍ وخازني ويدي في راحةٍ من تعب حفظ المال لأن أموالي مواعيدُ كافور وعدني أن يعطيني وهذا مال لا أحتاج إلى حفظه بيدي ولا بخازني
ني نزلت بكذابين ضيفهم ... عن القرى وعن الترحال محدودُ
المحدود الممنوع يريد أنهم لا يقرونه ولا يدعونه يرحل عنهم
جود الرجال من الأيدي وجودهم ... من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
يقولا هؤلاء يجودون بالمواعيد ولا يجودون بالمال ثم دعا عليهم فقال لا كانوا ولا كان جودهم وهذا من قول الطائي، ملقى الرجاء وملقى الرحل في نفر، الجود عندهم قول بلا عمل، وقوله أيضا، واقل الأشياء محصول نفعٍ، صحة القول والفعال مريضُ، وكرره أبو الطيب فقال، أوجز الأمير الذي نعماه فاجئة، بغير قولٍ ونعمى الناس أقوالُ،
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم ... إلا وفي يده من نتنها عودُ
يقول لا يباشر الموت بيده قبض روحهم تقززا واستقذارا لهم وهذا مثل ضربه
من كل رخو وكاء البطن منفتقٍ ... لا في الرجال ولا النسوان معدودُ
يريد الخصيان الذين كانوا مع الأسود ويريد برخو وكاء البطن أنه ضراط فساء لا يوكي على ما في بطنه من الريح والمنفتق المتوسع جلده لكثرة لحمه كأنه انفتق وانشق وهو غير معدود في الرجال ولا في النساء
أكلما اغتال بعد السوء سيدهُ ... أو خانه فله في مصر تمهيدُ
يقول أكلما أهلك بعد سوء سيده مهد امره في مصر وملك على الناس يعني أن الأسود قتل سيده ثم تملك على أهل مصر فقبلوه وانقاردوا له وهذا استفهام إنكار أي لا يجب أن يكون الأمر على هذا
صار الخصيُّ إمام الآبقين بها ... فالحر مستبعدٌ والعبد معبودُ
يريد أن كل عبد آبق إليه أمسكه عنده وأحسن إليه فهو أمام الآبقين
نامت نواطير مصر عن ثعالبها ... فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ
يريد بالنواطير الكبار والسادة وبالثعالب العبيد والاراذل يقول السادة غفلوا عن الأراذل وقد أكلوا فوق الشبق وعاثوا في أموال الناس وجعل العناقيد مثلا للاموال
العبد ليس لحر صالح بأخٍ ... لو أنه في ثياب الحر مولودُ
يقول العبد لا يواخي الحر لما بينهما من التباعد في الأخلاق وإن ولد العبد في ملك الحر وهذا إغراء لأبن سيده يعني أن الأسود وإن أظهر له الود فليس له بمصافٍ مخلص
لا تشتر العبد إلا والعصا معهُ ... إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
يريد سوء أخلاق العبد وأنه لا يصلح إلا على الضرب والهوان كما قال بشار، الحر يلحى والعصا للعبد، وكما قال الحكم بن عبدل، والعبدُ لا يطلب العلاء ولا، يرضيك شيئا إلا إذا رهبا، مثل الحمارِ الموقع السوء لا، يحسن مشياً إلا إذا ضربا، والمناكيد جمع المنكود وهو الذي فيه نكدٌ وقلة خير
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمنٍ ... يسيء بي فهو كلبُ وهو محمودُ
يقال أساء به وأساء إليه قال كثير، أسيئي بنا أو أحسنى لا ملومةً، يقول ما كنت أظنني يؤخرني الأجل إلى زمانٍ يسيء إليّ فيه شر الخليقة وأنا أحتاج إلى أن أمدحه وأحمده لا يمكنني أن أظهر الشكوى
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا ... وأن مثل أبي البيضاء موجودُ
يقول لم أتوهم إن الكرام فقدوا حتى لايوجد منهم أحد وإن مثل هذا موجود بعد فقدهم وتكنيته بأبي البيضاء سخرية منه(1/344)
وأن ذا الأسود المثقوب مشفرهُ ... تطيعهُ ذي العضاريط الرعاديد
يقول ولا توهمت أن الأسود العظيم المشافر يستغوي هؤلاء اللئام الذين حوله يطيعونه ويصدرون عن رأيه وجعله مثقوب المشفر تشبيها في عظم مشافره بالبعير الذي يثقب مشفره للزمام والعضروط التابع الذي يخدم الناس بطعام بطنه والرعديد الجبان
جوعان يأكل من زادي ويمسكني ... لكي يقال عظيم القدرِ مقصودُ
وصفه بالجوع على معنى أنه للؤمه وبخله لا يشبع من الطعام وذكرنا وجه أكل زاده عند قوله، لو كان ذا الآكل أزوادنا، يقول هو يمسكني عنده لكي يتجمل بقصدي إياه فيقول الناس أنه عظيم القدر إذ قصده المتنبي مادحا
إن امرأً أمةٌ حبلى تدبرهُ ... لمستضام سخين العين مفؤودُ
جعل الأسود أمةً لعدمه آله الرجال وجعله حبلى لعظم بطنه وكذا خلقة الخصيان وهذا تعريض بابن سيده يقول الذي صار تدبيره إلى من هذه صفته فهو مضيم مصاب القلب لا عقل له
ويلمها خطةً ويلم قابلها ... لمثلها خلق المهرية القودُ
ويلمها يقال عند التعجب من الشيء يقول ما أعجب هذه القصة وما أعجب من يقبلها وإنما خلقت الإبل للفرار من مثلها والمهرية إبل منسوبةٌ إلى مهرة قبيلة من العرب والقود الطوال جمع قوداء
وعندها لذ طعم الموت شاربهُ ... إن المنية عند الذل قنديدُ
يقول عند طاعة الخصي والصبر تحت أمره يستلذ طعم الموت من ذاقه لأن الموت أيسر من ذلك الذل والقنديد القند وقيل هو الخمر
من علم الأسود والمخصي مكرمةً ... أقومه البيض أم آباؤك الصيدُ
يريد أنه لا يعرف المكرمة ما هي لأنه عبد أسود لم يرث أباءه مجدا ولا مكرمةً
أم أذنه في يد النخاسِ داميةً ... أم قدره وهو بالفلسين مردودُ
هذا وضع منه وتحقير لشأنه بأنه مملوك اشترى بثمن أن زيد عليه فلسين لم يشتر لنخسته
أولى اللئام كويفير بمعذرةٍ ... في كل لؤمٍ وبعضُ العذرِ تنفيدُ
يقول أولى من عذر في لؤمه كافور لخبث أصله وخسة قدره ثم قال وبعض العذر تفنيد أي عذري لفي لؤمه له وهجاء على الحقيقة ثم صرح بعذره فقال
وذاك أن الفحول البيض عاجوةٌ ... عن الجميل فكيف الخصية السودُ
عرض بغيره من الملوك في هذا البيت وقال بمصر وكتب بها إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعيّ
جزى عربا أمست ببلبيس ربها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
بلبيس موضع بأعلى الشام دون مصر يقول جزى رب العرب العرب التي أمست بهذه البقعة بمسعاتها جزاء تقر عينها بذاك الجزاء والمسعاة واحدة المساعي وهي الأمور التي تسعى لها الكرام
كراكر من قيس بن عيلان ساهرا ... جفون ظبائها للعلي وجفونها
هذا تفسير العرب التي ببلبيس يقول هم جماعات من قيس لا تزال جفونهم ساهرةً لأجل العلي وجفون سيوفهم خاليةٌ لها واستعار لفظ السهر لجفون السيوف لما ذكر معها جفون العيون لتجانس القول وعنى بسهرها خلوها من النصول كما يسمى خلو جفون العين عن النوم سهرا والمّ بهذا بعض المحدثين فقال، وطالما غاب عن جفني لزورتها، وجفنِ سيفي غرارُ السيفِ والوسنِ، ولا واحد لكراكر من لفظها
وخص به عبد العزيز بن يوسفٍ ... فما هو إلا غيثها ومعينها
وخص بذلك الجزاء هذا الرجل الذي هو أفضلهم كالماء المعين الذي لا عيش دونه فيما بينهم
فتًى زان في عيني أقصى قبيلةٍ ... وكم سيدٍ في حلةٍ لا يزينها
يقول هو زين عشيرته ورهطه وإن تباعدوا عنه في النسب وغيره من السادة لا يكون بهذه الصفة وقال يهجو وردان بن ربيعة من طيىء الذي نزل به في طريقه إلى مصر
وإن تك طيىء كانت لئاما ... فألأمها ربيعةُ أو بنوهُ
وإن تكن طيىء كانت كراما ... فوردانٌ لغيرهم أبوهُ
يقول إن كانوا لئاما فهو ألأمهم وإن كانوا كراما فأبو وردان لم يكن منهم
مررنا منه في حسمي بعبدٍ ... يمج اللؤم منخرهُ وفوهُ
يقول مررنا في هذا المكان من وردان بعبد أنفاسه لؤم أي لا يتكلم إلا بما يدل على لؤمه
أشد بعرسهِ عني عبيدي ... فأتلفهم ومالي أتلفوهُ
يقول فرق بسبب امرأته عني عبيدي يعني دعاهم إلى الفجور بها فاتلفهم لأنه حملهم على الفجور وهم اتلفوا مالي لأنهم اتلفوه على امرأته(1/345)
فإن شقيت بأيديهم جيادي ... لقد شقيت بمنصلي الوجوه
وذلك أن عبدا له أخذ فرسا له تحت الليل ليذهب به فانتبه أبو الطيب وضرب وجهه بسيفه وأمر الغلمان فقطعوه وقال أيضا يهجوه
لحى الله وردانا وأما أتت به ... له كسب خنزيرٍ وخرطوم ثعلبِ
الخنزير يأكل العذرة وكذلك بنات وردان تأكل العذرة في الحشوش ولإنفاق الأسمين جعله كالخنزير في أكل العذرة ويريد بقوله خرطوم ثعلب أنه ناتىء الوجه فوجهه كخرطوم الثعلب وهو أنفه وفمه
فما كان منه الغدر إلا دلالةً ... على أنه فيه من الأم والأبِ
أي غدره بي دلالة على أنه ورث الغدر من أمه وأبيه يعني أنهما كانا غدارين فالغدر موروث له لا عن كلالة وروى ابن جنى بالأب أي غدره بي دلالةٌ على أن أمه غدرت فيه بأبيه فجاءت به لغير رشدة
إذا كسب الإنسان من هن عرسهِ ... فيا لؤم إنسان ويا لؤم مكسبِ
ينسبه إلى أنه ديوث يقود إلى امرأته ويجعل ذلك كسبا له
أهذا اللذيا بنت وردان بنتهُ ... هما الطالبان الرزق من شر مطلبِ
يقول تجاهلا وهزؤا أهذا هو الذي تنسب إليه بنت وردان هذه الحشرة الذميمة ثم قال هو وهي يطلبان الرزق من شر المطلب لأنها تطلبه من الحشوش وأماكن الخبث وهو يطلبه من هن عرسه
لقد كنت أنفي الغدر عن توس طيءٍ ... فلا تعذلاني رب صدقٍ مكذبِ
التوس والسوس الأصل يقول كنت أقول أن طيئا لا تغدر ولم تكن آباؤهم غدارين فلا تعذلاني إن قلت غدر هذا لأنه ليس من الأصل الذي يدعي ن طيىءٍ وقوله رب صدق مكذب أي رب صدق يكذبه الناس يعني كنت صادقا في نفي الغدر عن طيىء وإن كذبني الناس لأجل وردان بادعائه أنه من طيىء يريد أنه صادق ووردان ليس من طيىء ولم يعرف ابن جنى هذا فقال رجع عن نفي الغدر عنهم وليس في البيت ما يدل على رجوعه عن نفي الغدر وقال أيضا في العبد الذي أخذ سيفه وفرسه
أعددت للغادرين أسيافا ... أجدع منهم بهن آنافا
يعني بالغادرين عبيده الذين أرادوا أن يسرقوا خيله يقول أعددت لهم سيوفا أجدع بها أنوفهم يقال آنف وآناف وأنوف
لا يرحم الله أرؤساً لهمُ ... أطرنَ عن هامهنَّ أقحافاً
يقول لا يرحم الله رؤسهم التي أطارت السيوفُ اقحافها عن هامها
ما ينقم السيفُ غير قلتهمْ ... وأن تكون المئونَ آلافا
يقول لا يكره السيف إلا قلة عددهم أي يريد السيفُ أن يكونوا أكثر ليقتلهم جميعا ويريد أن تكون المئون منهم آلافا ليقتل كل غادر وكلّ عبد سوء في الدنيا وأراد إن لا تكون فحذف لا وهو يريده
يا شر لحمٍ فجعته بدمٍ ... وزار للخامعات أجوافا
يقول للمقتولين منهم يا شر لحم أسلت دمه حتى فجعته بدمه وتركته ملقًى للضباع حتى أكلته فدخل أجوفاها والخامعات الضباع لأنها تخمع في مشيها وذلك أن في مشيها شبه عرج ولذلك قيل لها العرجاء
قد كنت أغنيت عن سؤالك بي ... من زجر الطير لي ومن عافا
يقول للعبد الذي قتله كنت في غنى عن أعمال الزجر والعيافة في إقدامك عليّ وتعرضك للغدر بي وكان هذا العبد سأل عائفا عن حال المتنبي فذكر له من حاله ما زين له الغدر به وهو قوله من زجر الطير لي يعني العائف وقوله سؤالك بي أي عني
وعدت ذا النصل من تعرضهُ ... وخفت لما اعترضتَ إخلافا
يقول وعدت سيفي أن أضرب به من تعرض له وأحوج إلى ضربه ولما اعترضت لسيفي بالغدر بي وأخذ فرسي خفت أن تركت قتلك أخلاف ما وعدت السيف
لايذكر الخير أن ذكرت ولا ... تتبعك المقلتان توكافا
يقول لم يكن فيك خير تذكر به ولا تبكي العين عليك والتوكاف تفعال من الوكيف وهو قطران الماء
إذا امرؤ راعني بغدرتهِ ... أوردته الغاية التي خافا
يقول إذا راعني امرؤ بغدرته كافأته بالقتل وهو غاية ما يخافه المرء وقال أيضا
بسيطة مهلا سقيتِ القطارا ... تركتِ عيونَ عبيدي حيارى
فظنوا النعام عليك النخيل ... فظنوا الصوار عليك المنارا
بسيطة موضع بقرب الكوفة لما بلغها المتنبي رأي بعض عبيده ثورا يلوح فقال هذه منارة الجامع ونظر أخر إلى نعامة فقال وهذه نخلة فضحك أبو الطيب وضحك من معه وذلك قوله
فأمسك صحبي بأكوراهم ... وقد قصد الضحك فيهم وجارا(1/346)
أي تمسكوا بالأكوار لأنهم لم يملكوا أنفسهم من فرط الضحك والضحك قد سلك فيهم القصد وسلك الجور أي أفرط بعضهم في الضحك وأقتصد بعضهم وقال لما دخل الكوفة يصف طريقه من مصر إليها ويهجو كافورا في شهر ربيع الأول سنة 351
ألا كل ماشيةِ الخيزلي ... فدى كل ماشيةِ الهيدبا
الخيزلي مشيةٌ فيها استرخاء من مشية النساء ومنه قول الفرزدق، قطوف الخطا تمشيء الضحى مرجحنةً، وتمشي العشى الخيزلي رخوة اليدِ، والهيدبا مشية فيها سرعة من مشية الإبل وأصله من قولهم أهدب الظليم إذا أسرع يقول فدت كل إمرأة تمشي الهيدبا يريد أنه لا يميل إلى مشية النساء وليس من أهل الغزل والعشق وإنما هو من أهل السفر يحب مشي الجمال كما قال أبو تمام، يرى بالكعاب الرود طلعة ثائرٍ، وبالعرمس الوجناء غرة آئبِ، وفدى إذا كسر جاز فيه المد والقصر وإذا فتح لم يجز إلا القصر
وكل نجاةٍ بجاويةٍ ... خنوفٍ وما بي حسن المشا
النجاة الناقة السريعة والبجاوية منسوبة إلى بجاوة وهي قبيلة من بربر توصف نوقها بالسرعة حكى ابن جنى عن أبي الطيب قال يرمي الرجل منهم بالحربة فإذا وقعت في الرمية طار الجمل إليها حتى يأخذها صاحبها والخنوف من قولهم خنف البعير بيده في السير خنافا إذا أمالها إلى وحشيه والمشا جمع المشية يقول لا أحب حسن مشية النساء وما بي إلى ذلك ميل وإنما أحب كل ناقة خفيفة المشي
ولكنهن حبال الحيوة ... وكيدُ العداة وميط الأذا
يقول النوق الخفيفة حبال الحيوة بها يتوصل إلى الحيوة لأنها تخرجك من المهالك وبها تكاد الأعداء وبها يدفع الأذى والميط الدفع
ضربت بها التيه ضرب القما ... رِ إما لهذا وإما لذا
يقول أوقعتها في التيه مخاطرا بنفسي كالمقامر يضرب بالقمار أما للغرم وأما للغنم كذلك نا أما أفوز فانجو وأما أهلك فاستريح والإشارة إلى الفوز والهلاك
إذا فزعت قدمتها الجيادُ ... وبيضُ السيوفِ وسمرُ القنا
يقول إذا رأت فزعاً تقدمتها الخيل والسيوف والرماح أي للدفع عنها وقدمتها بمعنى تقدمتها
فمرت بنخلٍ وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
نخل ماء معروف يقول مرت هذه الإبل بهذا المكان وفي ركبانها يعني نفسه وأصحابه غنًى عن هذا الماء وعن كل من في الدنيا لأنهم أكتفوا بما عندهم من الجلد والحزامة
وأمست تخيرنا بالنقا ... بِ وأدى المياه ووادي القرى
النقاب موضع يتشعب منه طريقان طريقٌ إلى وادي المياه وطريق إلى وادي القرى يقول لما بلغنا هذا المكان قدرنا السير أما إلى وادي المياه وإما إلى وادي القرى فجعل هذا التقدير منهم كالتخيير من الإبل كأن الإبل خيرتهم فقالت إن شئتم سلكتم هذا الطريق وإن شئتم سلكتم الطريق الآخر وهذا على المجاز والإتساع كما قال الآخر، يشكو إليَّ جملي طولَ السرى، لم يرد حقيقة الشكوى إنما أراد أنه صار إلى حالٍ يشتكي من مثلها وسكن الياء من وادي المياه ضرورةً كما قال الآخر، ألا لا أرى وادي المياه يثيب، ومثله كثير
وقلنا لها أين أرض العراقِ ... فقالت ونحن بتربان ها
قلنا للإبل أين أرض العراق لأنا كنا نريد تلك الناحية فقالت ونحن بهذه البقعة المسماة بتربان وهي من أرض العراق ها هي ذه وهذا كله مجاز كالبيت الذي قبله
وهبت بخسمي هبوب الدبو ... ر مستقبلاتٍ مهبَّ الصبا
هبت الإبل من الهباب وهو نشاطها في السير يريد أنه وجهها في السير من المغرب إلى المشرق لأن الدبور تهب من جانب المغرب والصبا من جانب المشرق
روامي الكفافِ وكبدِ الوهادِ ... وجار البويرةِ وادي الغضا
هذه كلها اسماء مواضع وأراد روامي بالنصب حالا منهن أي قواصد لهذه المواضع فأسكن الياء ضرورةً واراد أن وادي الغضا جار البويرة فهو بقربها
وجابت بسيطة جوب الردا ... ء بين النعام وبين المها
يريد قطعت الإبل هذا المكان كما يقطع الرداء ويريد أن بسيطة بعيدة من الأنس لاجتماع الوحوش بها
إلى عقدة الجوف حتى شفت ... بماء الجراوي بعض الصدى
عقدة الجوف مكان معروف والجراوي منهل وهو الذي ذكره الشاعر في قوله، ألا لا أرى ماء الجراوي شافيا، صداي وإن روى غليل الركائب، يقول جابت بسيطة إلى عقدة الجوف حتى شفت عطشها بماء هذا المنهل(1/347)
ولاح لها صور والصباح ... ولا الشغور لها والضحى
صور أسم ماء والصحيح أنه صوري ذكر ذلك أبو عمر الجرمي والشغور من أرض العراق تقول العربُ إذا وردتَ الشغورَ فقد اعرقت يريد أن هذا الماء ظهر لها مع وقع الصباح وظهر لها هذا المكان مع وقت الضحى
ومسى الجميعي دئداؤها ... وعادى الأضارع ثم الدنا
الدئداء والدأدأة أرفع من الخبب ومسى أتى مساء يقول لما كان وقت المساء بلغ سيرها الجميعي ثم أتى بالغداة الأضارع والدنا وهي أماكنُ
فيا لك ليلا على أعكشٍ ... أحم البلاد خفي الصوى
يتعجب من ليل شديد الظلمة على هذا المكان حتى أسودت البلاد وخفيت الأعلام والاحم الأسود والصوى أعلام تبني في الطريق ليهتدي بها
وردنا الرهيمة في جوزهِ ... وباقيه أكثر مما مضى
الرهيمة بقرب الكوفة قال ابن جنى أراد بالجوز ههنا صدر الليل وإنما قال ابن جنى هذا لقوله وباقيه أكثر مما مضى وإذا كان الباقي أكثر ن الماضي كان الجوز صدر الليل وصدر الليل لا يسمى جوز الليل وقال القاضي أبو الحسن بن عبد العزيز أخطأ أبو الطيب لما قال في جوزه ثم قال وباقيه أكثر مما مضى كيف يكون باقيه أكثر وقد قال في جوزه وقال ابن فورجة هذا تجنٍّ من القاضي والهاء في جوزه لأعكش وهو مكان واسع والرهيمة ماء وسط أعكشٍ والكلام صحيح هذا كلامه والمعنى وردنا هذا الماء وسط هذا المكان وما بقي من الليل أكثر مما مضى
فلما أنخنا ركزنا الرما ... ح فوق مكارمنا والعليّ
يقول لما نزلنا الكوفة وانخنا ركابنا وركزنا الرماح كعادة من يترك السفر كانت رماحنا مركوزة فوق مكارمنا وعلانا لما فعلنا من فراق الأسود وقتال من قاتلنا في الطريق وظفرنا بمن عادانا وكل ذا ما يدل على المكارم والعلي وظهرت مكارمنا بما فعلنا وكأنا نزلنا على المكارم والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
نقبلها لأنها اخرجتنا من بين الأعداء ونجتنا من المهالك
لتعلم مصرُ ومن العراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
المعنى لتعلم أهل مصر فحذف المضاف
وأني وفيت وأني أبيتُ ... وأني عتوتُ على من عتا
وفيت لسيف الدولة إذا رجعت إليه وأبيت ضيم كافور ولم أذل لمن عصاني
وما كل من قال قولا وفى ... وما كلُّ من سيم خسفاً أبي
أي ليس كل قائل وافيا بما قال وليس كل من كلف ضيما يأبى من كلف
ومن يكن قلب كقلبي له ... يشق إلى العز قلب التوى
أي من كان قلبه في الشجاعة وصحة العزيمة كقلبي شق قلب الهلاك فخاض شدائده حتى يصل إلى العز والتوى الهلاك واستعار له قلبا لما ذكر قلب نفسه
ولا بد للقلب من آلةٍ ... ورأيٍ يصدعُ صم الصفا
يقول آلة القلب العقلُ والرأي وما فيه من السجايا الكريمة وقوله يصدع صم الصفا أي يشق الحجارة الصلبة وينفذ فيها
وكل طريقٍ أتاهُ الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطا
يقول كل أحد يخطو في الطريق الذي يأتيه على قدر رجله فمن طالت رجله اتسعت خطاه وهذا مثل يريد أن كل أحد يعمل على قدر وسعه وطاقته كما قال، على قدرِ أهل العزم يأتي العزائمُ،
ونام الخويدم عن ليلنا ... وقد نام قبل عمى لا كرى
يقول غفل عن ليلنا الذي خرجنا فيه من عنده وكان قبل ذلك نائما غفلةً وعمى وإن لم يكن نائما كرى كما قال الآخر، وخبرني البواب أنك نائمٌ، وأنت إذا استيقظت أيضا فنائمُ،
وكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والغبي
يقول وحين كنا قريبا كان بيننا بعد من جهله لن الجاهل لايزداد علما بالشيء وإن قرب منه
لقد كنت أحسب قبل الخص ... ي أن الرؤوس مقرُّ النهي
ولما نظرت إلى عقلهِ ... رأيت النهي كلها في الخصي
كنت أحسب قبل رؤية كافور أن مقر العقل الدماغ فلما رأيت قلة عقله قلتُ العقل في الخصية لأنه لما خصيَ ذهب عقله
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
يتعجب مما رأى بمصر مما يضحك الناس والعقلا ثم قال لكن ذلك الضحك كالبكاء لأنه في الفضيحة ثم ذكر ما بها فقال
بها نبطيٌّ من أهلِ السوادِ ... يدرس أنساب أهلِ الفلا(1/348)
يريد بالنبطي السوادي وهو أبو الفضل بن حنزابة وقيل أبو بكر المادرائي النسابة وإنما يتعجب لأنه ليس من العرب وهو يعلم الناس أنساب العرب
وأسود مشفرهُ نصفهُ ... يقال أنه أنت بدر الدجى
وبها أسود عظيم الشفة يثنون عليه بالكذب وهو أنهم يقولون له أنت بدر الدجى والبدر مشتمل على النور والجمال والأسود القبيح لخلقه العظيم الشفة متى يشبه البدر
وشعرٍ مدحت به الكركد ... ن بين القريضِ وبين الرقى
الكركدن يقال هو الحمار الهندي وهو بالفارسية كرك وهو طائر عظيم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي الكركدن دابة عظيمة الخلق يقال أنها تحمل الفيل على قرنها وأراد بها الأسود فشبهه بالكركدن لعظم جثته وقلة معناه يقول شعرٌ مدحته به هو شعر من وجهٍ ورقيةٌ من وجهٍ لأني كنت أرقيه به لأخذ ماله يريد أنه كان يستخرج منه ماله بنوع رقية وحيلة
فما كان ذلك مدحاً له ... ولكنه كان هجو الورى
يقول لم يكن لك الشعر مدحا له ولكنه في الحقيقة كان هجاء للخلق كلهم حيث أحوجني إلى مثله وقال ابن جنى أي إذا كانت طباعه تنافي طباع الناس كلهم سفالا ثم مدح فذلك هجو لهم لأن فيه إرغاما لهم ومدحا لمن ينافي طباعهم
وقد ضل قوم بأصنامهم ... وأما بزقِّ رياحٍ فلا
يقول الكفار قد ضلوا بأصنامهم وأحبوها فعبدوها من دون الله سفها وضلةً فأما أن يضل أحد بخلقٍ يشبه زق ريح فلم أر ذلك يعني أنه بانتفاح خلقته كزق ريح وليس فيه ما يوجب الضلال به حتى يطاع ويملك وإنما هذا تعجب ممن يطيعه وينقاد له
وتلك صموتٌ وذا ناطقٌ ... إذا حركوه فسا أو هذى
ومن جهلت نفسه قدرهُ ... رأى غيره منه ما لا يرى
يقول من أعجب بنفسه ولم يعرف قدر نفسه أعجابا وذهابا في شأنه خفيت عليه عيوبه فاستحسن من نفسه ما يستقبحه غيره وعمي عما يراه غيره من عيوبه وقال يهجو الأسود
وأسود أما القلب منه فضيق ... نخيب وأما بطنه فرحيبُ
يقال للجبان نخيب ومنخوب ونخب وأصله أنه الذي أصيبت نخبة قلبه وهو سويداؤه فهو منخوب القلب أي مصاب بخالص قلبه
يموت به غيظا على الدهر أهلهُ ... كما مات غيظاً فاتك وشبيبُ
يقول أهل الدهر غضاب على الدهر برفعه وتمليكه عليهم فهم يموتون غيظا على الزمان كما مات هذان
أعدت على مخصاه ثم تركتهُ ... يتبعُ مني الشمس وهي تغيبُ
يريد أعدت الخصاء على مخصاه أي خصيته بالهجاء ثانيا ثم انفلت منه فلم يدركني ولم يقدر عليّ كمن يتبع الشمس وهي تغيب فلا يدركها وقد نظر في هذا إلى قول الآخر، وأصبحت من ليلى الغداة كناظرٍ، مع الصبحِ في أعجازِ نجمس مغربِ،
إذا ما عدمت الأصل والعقل والندى ... فما لحيوةٍ في جنابك طيبُ
يقول إذا لم يكن للمرء أصل ولا عقل ولا جود لم تطب لاحد حيوة عنده أو في حيوته والمعنى أن حيوتي إنما لم تطب عند الأسود لأنه عادمٌ لهذه الأشياء ويروي في حيوتك وقال يمدح أبا شجاع فاتك الملقب باالمجنون في سنة 348
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحالُ
يخاطب نفسه يقول ليس عندك من الخيل والمال ما تهديه إلى الممدوح جزاء له على إحسانه إليك فليسعدك النطق أي فإمدحه وجازه بالثناء عليه إن لم تعنك الحال أي على مجازاته بالمال وهذا من قول يزيد المهلبي، إن يعجز الدهر كفى جزائكمُ، فإنني بالهوى والشكر مجتهدُ، وقول الحطيئة، وإن لم يكن مالٌ يثابُ فإنه، سيأتي ثنائي زيداً ابن مهلهلِ،
وأجز الأمير الذي نعماه فاجئةٌ ... بغير قولٍ ونعمى الناسِ أقوالُ
أي واجزه بالمدح والثناء عليه والشكر له فإن انعامه يأتي فجاءةً من غير تقدم سؤال وانتظار وغيره من الناس اقتصروا على القول دون الفعل وهذا من قول المهلبي، وكم لك نائلا لم أحتسبه، كما يلقى مفاجأة حبيبُ،
وربما جزت الإحسان موليه ... خريدةٌ من عذارى الحيِّ مكسالُ
المكسال من النساء الفاترة القليلة التصرف يقول ربما جازت بالإحسان من أولى الإحسن امرأة عاجزة من كل شيء والمعنى أن لم تعرض المكافاة فعلا فهي معرضةٌ قولا كالمكافاة من هذه المكسال يحث نفسه على الجزاء وترك التقصير فيما يمكن ثم ضرب لهذا مثلا فقال
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني ... ظهور جريٍ فلي فيهن تصهالُ(1/349)
ضرب لنفسه المثل في عجزه عن المكافاة بالفعل بفرسٍ أحكم شكاله فعجز عن الجري لكنه يصهل يقول إن لم يكن عندي الفعل فعندي مكافاةٌ بالقول والمعنى أن لم أقدر على المكاشفة بنصرتك على كافور فإن أمدحك إلى أوانٍ ذلك كما أن الجواد إذا شكل عن الحركة صهل شوقا إليها وكان فاتك هذا يسر خلافا للأسود وينطوي على بغضه ومعاداته وكان أبو الطيب يحبه ويميل إليه ولكن ليس يمكنه إظهار ذلك خوفا من الأسود
وما شكرت لأن المال فرحني ... سيان عندي إكثارٌ وإقلال
يقول ليس شكريك عن فرح بما أهديته إليّ لأن القل والكثر عندي سواء لقلة مبالاتي بالدنيا قال ابن جنى وما رأيته أشكر لأحد منه لفاتك وكان يقول حمل إليّ ما قيمته الف دينار في وقت واحد
لكن رأيت قبيحاً أني جاد لنا ... وأننا بقضاء الحق بخالُ
بخال جمع باخل يقول إنما أشكر لأني استقبح البخل بقضاء الحق والسكوت عن شكر من يجود لي بالبر والنعمة
فكنت منبتَ روضِ الحزن باكرهُ ... غيث بغير سباخ الأرضِ هطالُ
يقول لما وصل إليّ بره كنت كمنبتِ روض الحزن جاد عليها بالبكرة غيث هطال بارضٍ منبتة طيبة يعني أن مطر بره لم يصادف مني سبخةً وخص روض الحزن لنها أنضر لبعدها عن الغبار
غيث يبين للنظار موقعه ... أن الغيوث بما تأتيه جهالُ
يقول موقع إحسانه مني يبين للمحسنين أنهم يخطئون مواقع الصنائع ومن نصب موقعه فمعناه أنه غيث يبين موقعه للناظرين لأنه أتى على مكان أثر فيه أحسن تأثير ثم قال مبتديا إن الغيوث بما تأتيه جهال لنها تأتي على الأرض العراة والسبخة
لا يدرك المجد إلا سيدٌ فطنٌ ... لما يشق على الساداتِ فعالُ
لا وارث جهلت يمناه ما وهبت ... ولا كسوبٌ بغير السيف سأالُ
يقول لا يدرك المجد إلا سيد لا وارثٌ أي لم يرث أباه شيئا لأنه كان جوادا فلم يخلف مالا ويمناه جهلت ما وهبت لكثرته وليس هو سأالا كسوبا بغير السيف يعني لا يطلب حاجته إلا بالسيف
قال الزمان له قولا فأفهمهُ ... إن الزمان على الإمساك عذالُ
يقول عرفه الزمان أن المال لا يبقى ففهم ذلك عن الزمان ففرق ماله فيما يورث المجد ولم يكن هناك قول ولكنه بتصاريف الزمان
تدري القناة إذا اهتزت براحتهِ ... أن الشقيَّ بها خيل وأبطالُ
كفاتكٍ ودخول الكاف منقصةٌ ... كالشمس قلت وما للشمس أمثالُ
يقول لا يدرك المجد إلا سيدٌ كفاتك ولم يعرف ابن جنى وجه دخول الكاف في كفاتك فقال الكاف هاهنا زائدة وإنما معناه وتقديره فاتك أي هذا الممدوح فاتك هذا كلامه وجمعي البيت مبني على هذه الكاف فكيف يمكن أن يقال أنها زائدة ألا ترى أنه قال ودخول الكاف منقصة أي أنها توهم أن له شبيها وليس كذلك لأنه يقول كالشمس ولا مثل للشمس
القائد الأسد غذتها براثنهُ ... بمثلها من عداه وهي أشبالُ
أي الذي يقود إلى الحرب رجالا هم أسود تغذوها براثن فاتك بأمثالهم من الأعداء يعني أنه يغنمهم الأبطال وجعلهم كالأشبال له حيث قام بتغذيتهم
القاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجالُ
أي لجودة ضربته يقتل المقتول وما يقتله به وهو السيف أي يكسره فجعل ذلك قتلا للسيف
تغير عنه على الغارات هيبتهُ ... ومالهُ بأقاصي الأرض أهمالُ
يقول هيبته تمنع الإغارة على ماله وكأنها تغير على الغارة وماله مهمل لا راعي له باقاصي البر لا يغار عليه هيبةً منه والأهمال جمع همل والهمل جمع هامل وهو البعير الذي لا راعي له ويجوز أن يكون المعنى أن القوم يغيرون على الأموال فيحملونها إليه هيبةً لهم فكان هيبته تغير على غارة غيره ثم قال وماله أهمال لا يغار عليه والأول قول ابن جنى لأنه قال يهابه أهل الغارات أن يتعرضوا له فكان هيبته تغير على غاراتهم
له من الوحش ما اختارت أسنتهُ ... عير وهيق وخنساءٌ وذيالُ
يقول ما اخترا من الوحش قدر على صيده والهيق الظليم والخنساء البقرة الوحشية سميت بذلك لخنس أنفها أي تأخره والذيال الثور الوحشي لأنه يجر ذنبه كالذيل
تمسى الضيوفُ مشهاةً بعقوتهِ ... كأن أوقاتها في الطيب آصالُ(1/350)
أي يعطي أضيافه ما يشتهون إذا نزلوا بداره فتطيب أوقاتهم عنده كأنها عشيات والعشايا تطيب عند العرب لهبوب الرياح وغروب الشمس وإنقطاع الحر
لو أشتهت لحم قاريها لبادرها ... خراذلٌ منه في الشيزي وأوصالُ
لو اشتهت أضيافه لحم المضيف لما بخل به عليهم ولأتاهم على العجلة قطع من لحمه ويقال لحم خراذل بالذال والدال جميعا أي مقطع والشيزي خشب يعمل منه الجفان ومنه قول زياد، ترى الجفان من الشيزي مكللةً، والأوصال جمع وصل وهو العضو
لا يعرف الرزء في مالٍ ولا ولدٍ ... إلا إذا حفز الأضياف ترحالُ
يقول المصيبة عنده في المال والولد ارتحال الأضياف من داره أي يناله من ذلك ما ينال من يرزأ ماله وولده ومعنى حفز دفع
يروي صدى الأرض من فضلات ما شربوا ... محض اللقاحِ وصافي اللونِ سلسالُ
الصدى العطش والوجه أن يقول فضلات بفتح الضاد ويجوز تسكينه في الشعر للضرورة والمحض الخالص من اللبن واللقاح جمع اللقحة وهي الناقة الحلوب ومعنى محض لبن اللقاح يقول يسقيهم اللبن والخمر فيكر لهم منهما حتى يروي صدى الأرض ما فضل عنهم من سؤرهم يعني ما فضل في الاقداح وقال ابن جنى إذا انصرف أضيافه أراق بقايا ما شربوه ولم يدخره لغيرهم لأنه يتلقى كل وارد عليه بقرى يستحدثه ويريد بصافي اللون الخمر
تقرى صوارمهُ الساعات عبط دمٍ ... كأنما الساع قفال ونزالُ
العبط والعبيط الطري من الدم والساع جمع ساعة يقول كل ساعة تأتي عليه يجدد فيها ذبحا كان الساعات نزال ينزلون وقفال قفلوا من سفر يعني أنه لا يطعم أضيافه الغاب بل يجدد الذبح والنحر كل ساعة فيجري دما عبيطا وقال ابن جنى يقول هو كل ساعة يريق دما طريا من اعدائه فكأنه يقرى الساعات وكأنها قومٌ ينزلون عليه فجعل ابن جنى عبط دم من الأعداء
تجري النفوسُ حواليهِ مخلطةً ... منها عداةٌ وأغنامٌ وآبالُ
يعني بالنفوس الدماء يقول تجري عنده الدماء مختلطةً دم الأعداء ودم ذبائحه للاضياف وهذا من قول البحتري، ما أنفك منتضيا سيفي وغًى وقرًى، على الكواهلِ تدمي والعراقيبِ،
لا يحرم البعد أهل البعد نائلهُ ... وغيرُ عاجزةٍ عنه الأطيفالُ
يصف عموم بره ون القريب والبعيد فيه سواء حتى الطفل الذي لا يقدر على النهوض إليه والتعرض لمعروفه
أمضى الفريقين في اقرانه ظبةً ... والبيض هادية والسمر ضلالُ
يقول هو أمضى الجيشين سيفا إذا كانت السيوف هاديةً لأنها تمضي قدما على استواء والأرماح ضلال لأنها تذهب يمينا وشمالا ف يالطعن وهو الطعن الشزر
يريك مخبره أضعاف منظرهِ ... بين الرجال وفيها الماء والآلُ
يقول إذا أختبرته رأيته يربي اضعاف على ما أراك منظره ثم قال وفي الرجال الماء والآل يعني الذي يشبه الرجال بصورته وليس عنده ما عندهم من المعاني كالآل يشبه الماء وليس ماء
وقد يلقبه المجنون حاسدهُ ... إذا اختلطن وبعض العقل عقالُ
يقول إذا اختلطت الرماح والسيوف عند الحرب لقبه حاسده مجنونا والعقل في ذلك الوقت عقال لأنه يمنع من الأقدام والعقال داء يأخذ الدواب في الرجلين وهذا الممدوح كان يلقب بالمجنون فهو يقول إنما يلقبه بهذا اللقب حاسده حسدا له على فرط شجاعته التي تشبه الجنون وقد نظر في لفظ البيت إلى قول أبي تمام، وإن يبن حيطانا عليه فإنما، أولئك عقالاته لا معاقله، وإلى قول الكلابي في معناه، ألا أيها المغتاب عرضي يعيبني، يسميني المجنون في الجد واللعب، أنا الرجل المجنون والرجل الذي، به يتقي يوم الوغى عرة الحرب،
يرمي بها الجيش لا بدٌّ له ولها ... من شقهِ ولو أن الجيش أجبالُ
يقول يرمي بخيله الجيش ولا بد لهما من شق ذلك الجيش ولو كانوا أجبالا في القوة والثبات
إذا العدى نشبت فيهم مخالبهُ ... لم يجتمع لهم حلمٌ ورئبالُ
هذا كأنه عذر للذي يلقبه بالمجنون من اعدائه لأنهم يرونه كالأسد في الشجاعة والأسد لا يوصف بالحلم كذلك هذا الرجل يبعد عنه الحلم إذا قاتل الأعداء
يروعهم منه دهر صرفه أبدا ... مجاهر وصروف الدهر تغتالُ
أي يروع الأعداء من هذا الممدوح دهر يجاهر الناس بحوادثه وصروف الزمان تأتي اغتيالا لا مجاهرة جعل الممدوح كالدهر تعظيما لشأنه(1/351)
أناله الشرف الأعلى تقدمهُ ... فما الذي بتوقي ما أتى نالوا
تقدمه في الحرب اعطاه أعلى الشرف فما الذي نال اعداؤه باحجامهم وتوقيهم ما يأتيه من المخاوف والأهوال
إذا الملوك تحلت كان حليته ... مهندٌ وأصم الكعب عسالُ
يقول إذا تزينت الملوك بالتاج والسوارين تزين هو بالسيف والرمح الشديد المهتز
أبو شجاع أبو الشجعان قاطبةً ... هولٌ نمتهُ من الهيجاء أهوالُ
يقول هو أبو شجاع كنيةً وهو أبو الشجعان كلهم حقيقةً لنهم كلهم دونه وهو سيدهم وهو هول عند الحرب في أعين الأعداء ونمته غذته وربته أهوال الحرب لأنه نشأ فيها فصارت له كالغذاء
تملك الحمد حتى ما لمفتخرٍ ... في الحمد حاء ولا ميم ولا دالُ
أي الحمد كله له بأسره وليس لغيره منه جزء يعني أنه المحمود في أفعاله وأقواله وليس يحمد دونه أحد
عليه منه سرابيل مضاعفةٌ ... وقد كفاه من الماذي سربالُ
الماذي الدرع اللينة يقول يكفيه في الحرب سربال واحد من الدرع وعليه من الحمد سرابيل كثيرة أي أنه يتوقى الذم بأكثر مما يتوقى الحربَ
وكيف أستر ما أوليت من حسنٍ ... وقد غمرت نوالا أيها النالُ
النال الرجل الكثير النوال وهذا كما يقال كبش صاف أي كثير الصوف ويوم طان أي كثير الطين يقول لا أقدر أن استر إنعامك وإحسانك وقد غرقتني فيهما أي هو أشهر من أن يستتر
لطفت رأيك في بري وتكرمتي ... أن الكريم على العلياء يحتال
يقول توصلت إلى إكرامي بالبر والصلة بلطف وتدبير ورأى وكذلك الكريم يحتال ليحصل لنفسه العلو وذلك أن فاتكا كان يراسل أبا الطيب ولا يجاهر ببره وإكرامه خوفا من الأسود فاتفق التقاؤهما في سفر وبره وأحسن إليه
حتى غدوت وللأخبار تجوال ... وللكواكب في كفيك آمالُ
يقول غدوت والأخبار تجول في الآفاق بحسن ذكرك والثناء عليها ولكل احد أمل في كفيك حتى للكواكب
وقد أطال ثنائي طول لابسهِ ... إن الثناء على التنبال تنبالُ
التنبال القصير وجمعه تنابل وتنابلة يقول مدح الشريف يشرف الشعر ومدح اللئيم يؤدي إلى لؤم الشعر والمعنى أن شعري قد شرف بشرف هذا الممدوح
إن كنت تكبر أن تختال في بشرٍ ... فإن قدرك في الأقدار يختالُ
يقول إن كنت تتعظم عن الاختيال فيما بين الناس فإن قدرك يختال في أقدار الناس لأنك أعظم قدرا من كل أحد
كأن نفسك لا ترضاك صاحبها ... إلا وأنت على المفضال مفضالُ
المفضال الكثير الفضل ويريد بالنفس الهمة والمناقب الشريفة التي فيه يقول لا ترضي نفسك بك صاحبا لها إلا إذا زدت فضلا على من هو كثير الفضل
ولا تعدك صوانا لمهجتها ... إلا وأنت لها في الروع بذالُ
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ... ألجود يفقر والإقدام قتالُ
أي لولا أن في السيادة مشقة لصار الناس كلهم سادةً ثم ذكر مشقتها فقال من جاد افتقر ومن أقدم في الحرب قتل ولا سيادة دون الجود والشجاعة وهذا من قول منصور النمري، الجود أخشن مسًّا يا بني مطرٍ، من أن تبزكموه كفُّ مستلبٍ، ما أعلم الناس أن الجود مكسبةٌ، للمجد لكنه يأتي على النشبِ،
وإنما يبلغ الإنسان طاقتهُ ... ما كل ماشيةٍ بالرحلِ شملالُ
يقول كلٌّ يجري في السيادة على قدر طاقته وليس كل من مشى كان شملالا وهي الناقة الخفيفة المشي
إنا لفي زمنٍ ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسانٌ وأجمالُ
يقول من لم يعاملك بالقبيح في هذا الزمن فقد أحسن إليك لكثرة من يعاملك بالقبيح وهذا المعنى أراد أبو نواس في قوله، وصرنا نرى أن المتارك محسن، وإن خليلا لا يضر وصول،
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجتهُ ... ما قاته وفضول العيش أشغالُ
أي إذا ذكر الإنسان بعد موته كان ذلك حيوةً ثانية له وما يحتاج إليه في دنياه قدر القوت وما فضل من القوت فهو شغل كما قال سالم بن وابصة، غنى النفس ما يكفيك من سد حاجةٍ، وإن زاد شيئا عاد ذاك الغني فقرا وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد لأحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة 350 فقال يرثيه
الحزن يقلق والتجمل يردعُ ... والدمع بينهما عصي طيعُ
يقول الحزن لأجل المصيبة يقلقني وتكلف الصبر يمنعني عن التهالك والجزع والدمع بين الحالين عاصٍ للتجمل مطيع للقلق(1/352)
يتنازعان دموع عين مسهدٍ ... لهذا يجيء بها ولهذا يرجعُ
عني بالمسهد نفسه يقول الحزن والصبر يتنازعان دموع عيني تم ذكر التنازع فقال الحزن يجيء بها أي يجريها والصبر يردها
النوم بعد أبي شجاعٍ نافرٌ ... والليل معي والكواكب طلع
يقول النوم بعده لا يألف العين أي لا تنام العيون بعده حزنا عليه والليل يطول فلا ينقضي كأنه قد أعيا عن المشي فانقطع والكواكب كأنها طالعة لا تقدر أن تقطع الفلك فتغرب يريد طول الليل لاستيلاء الحزن والهم على قلبه
إني لأجبن عن فارقِ أحبتي ... وتحس نفسي بالحمامِ فأشجعُ
جبن عنه احسن من جبن منه يقول أنا جبان عند فراق الأحباب أخافه خوف الجبناء وأشجع عند الموت فلا أخافه أن الفراق أعظم خطبا عنده من الموت كما قال الطائي، جليدٌ على عتب الخطوب إذا عرت ولست على عتب الأخلاء بالجلدِ،
ويزيدني غضبٌ الأعادي قسوةً ... ويلم بي عتب الصديق فأجزعُ
يريد أنه لا يعتب اعداءه ولا يلين لهم بل يزداد عليهم قسوة إذا غضبوا ويجزع عند عتب الصديق فلا يطيق احتماله كما قال أشجع، يعطي زمام الطوعِ إخوانه، ويلتوي بالملك القادرِ،
تصفو الحيوة لجاهلٍ أو غافلٍ ... عما مضى فيها وما يتوقعُ
يقول الحيوة إنما تصفو للجاهل الغافل عما مضى من حيوته وما يتوقع في العواقب من انقضائها
ولمن يغالط في الحقائق نفسهُ ... ويسومها طلب المحال فتطمع
يعني بالحقائق ما لا شك فيه للعاقل وهي أن الدنيا دار مخاوف واخطار والإنسان فيها على خطر عظيم وإن الحيوة غير باقية فمن غالط في هذا نفسه ومناها السلامة والبقاء صفا له العيش في الوقت حين ألقى عن نفسه الفكرة في العواقب وكلف نفسه طلب المحال من البقاء في السلامة مع نيل المراد فطمعت في ذلك ثم دل على أنه لا بقاء فيها لأحد
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومهُ ما يومُهُ ما المصرعُ
الهرمان بناءان بمصر ارتفاع كل واحدٍ منهما في السماء أربعمائة ذراع في عرض مثلها لا يدري من بناهما وكيف بنيا يقال بناهما عمرو بن المشلل ويقال أن أحدهما قبر شداد بن عاد والثاني قبر أرم ذات العماد يقول أين من بناهما وأين قومه ومتى كان يوم موته وكيف كان مصرعه ينبه بهذا على أن الفناء حتم وأن لا سبيل إلى البقاء
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبعُ
يقول الآثار تبقى بعد أصحابها زمانا من الدهر ثم تفنى وتتبع أصحابها في الفناء
لم يرض قلب أبي شجاع مبلغٌ ... قبل الممات ولم يسعه موضعُ
يريد علو همته وإنه ما كان يرضى بمبلغ يبلغه في العلى حتى يطلب منه ما فوقه ولم يسعه موضع لكثرة جيشه أو لأنه لا يرضى ذلك المكان
كنا نظن دياره مملوؤةً ... ذهبا فمات وكل دارٍ بلقعُ
يقول كنا نظنه صاحب ذخائر من الأموال فلما مات لم يخلف ملا لأنه كان جوادا ثم ذكر ما خلفه فقال
وإذا المكارمُ والصوارمُ والقنا ... وبنات أعوج كل شيء يجمعُ
يقول إنما يجمع في حياته المكارم والأسلحة والخيل لا الذهب والفضة وأعوج فحلٌ معروفٌ من فحول العرب إليه تنسب الخيل الأعوجية وإنما سمي أعوج لأن ليلا وقعت فيه غارة على أصحاب هذا الفحل وكان مهرا ولضنهم به حملوه في وعاء على الإبل حين هربوا من الغارة فأعوج ظهره وبقي فيه العوج فلقب بالأعوج وقال الأصمعي سئل ابن الهلالية فارسُ أعوج عن أعوج فقال ضللت في بعض مفاوز تميمٍ فرأيت قطاةً تطير فقلت في نفسي والله ما تريد إلا الماء فاتبعتها ولم أزل أغض من عنان اعوج حتى وردت والقطاة وهذا البيت من قول حاتم، متى ما يجيء يوماً إلى المال وأرثي، الأبيات وقول عروة بن الورد، وذي أملٍ يرجو تراثي، الأبيات ومن قول امرأةٍ، مضى وورثناه دريس مفاضةٍ، وكلها في الحماسة وقد قال مروان بن أبي حفصة في معنِ بن زائدة يرثيه، ولم يكن كنزه ذهبا ولكن، حديد الهند والحلق المذالا،
المجد أخسر والمكارم صفقةً ... من أن يعيش لها الكريم الأروعُ
يقول صفقة المكارم والمجد أخسر وحظها انقص من أن يعيش لها هذا المرثي يعني أن المكارم كانت تحيا به فلنحسرانها كانت ميتةً
والناس أنزل في زمانك منزلا ... من أن تعايشهم وقدرك أرفعُ(1/353)
يقول الناس في زمانك أكل قدرا من أن تكون فيما بينهم فتخالطهم وتعاشرهم وقدرك أجل من أن تعايش أهل هذا الزمان
برد حشاي إن استطعت بلفظةٍ ... فلقد تضر إذا تشاء وتنفعُ
يقول كلمني بكلمة وأسمعني منك لفظةً إن قدرت عليها لتسكن ما في قلبي من حرارة الوجد فلقد كنت في حياتك تضر إذا تشاء أعداءك وتنفع أولياءك أي فانفعني بكلامك
ما كان منك إلى خليلٍ قبلها ... ما يستراب به ولا ما يوجعُ
يقول لم يكن منك إلى خليلٍ قبل المنية ما يريبه منك أو يوجعه وذلك أشد لتوجعه عليك إذ لم تربه في حياتك
ولقد أراك وما تلم ملمةٌ ... إلا نفاها عنك قلبٌ أصمعُ
الأصمع الحاد الذكي يقال ثريدة مصمعة إذا كان وسطها ناتيا والصومعة فوعلة منه لأنه بناء ناتٍ على مكان مرتفع يقول كنت أراك في حال حيوتك وما تنزل بكل نازلةٌ إلا دفعها عنك قلبٌ ذكي
ويدٌ كأن نوالها وقتالها ... فرضٌ يحق عليك وهو تبرعُ
يقول ونفاها عنك يد معطية للاولياء قتالة للاعداء كان النوال والقتال وأجبان عليها وهما تبرع لا وجوبٌ وهو من قول الطائي، ترى ماله نصب المعالي وأوجبت، عليه زكوة الجودِ ما ليس وواجبا،
يا من يبدلُ كل وقتٍ حلةً ... أني رضيت بحلةٍ لا تنزعُ
هذا على الحكاية لما كان يفعله في حال حيوته كقول الآخر، جاريةٌ في رمضان الماضي، تقطع الحديث بالإيماض، حكى حالها في الوقت والمعنى أنه كان يلبس كل يوم لباسا آخر وقد لبس الآن ثوبا لا يخلعه يعني الكفن
ما زلت تخلعها على من شاءها ... حتى لبست اليوم ما لا تخلعُ
ما زلت تدفع كل أمرٍ فادحٍ ... حتى أتى الأمرُ الذي لا يدفعُ
هذا من قول يحيى بن زياد الحارثي، دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت، تريدك لم نسطعْ لها عنك مدفعا،
فظللت تنظر لا رماحك شرعٌ ... فيما عراك ولا سيوفكَ قطعُ
عراك أصابك ونزل بك يقول لم تعمل رماحك وسيوفك في دفع ما نزل بك يعني الموت لنه لا مدفع له
بأبي الوحيدُ وجيشهُ متكاثرٌ ... يبكي ومن شر السلاحِ الأدمعُ
يقول فدى بأبي الوحيد المنفرد بما أصابه على كثرة ما له من الجيش يعني أن المنية سلبته وحده فلم تغنِ عنه كثرة جيشه يبكي لما نزل به من الأمر ولا يندفع بالبكاء شيء والدمع من شر الأسلحة
ومنيت إليك يد سواء عندها ... البازُ الأشهبُ والغرابُ الأبقعُ
يعني يد المنية وهي قابضة للصغير والكبير والشريف والوضيع فالبازي مثل للشريف والغراب مثل للوضيع ويروي الباز الأشهب مقطوع الألف لأنه أول المصراع الثاني فكأنه أخذ في بيت ثان كما قال، لتسمعن وشيكاً في دياركم، الله أكبر يا فارت عثمانا، وقال الآخر، حتى أتين فتًى تأبط خائفا، السيف فهو أخو لقاء أروع،
من للمحافلِ والجحافلِ والسريَ ... فقدت بفقدك نيرا لا يطلعُ
ومن اتخذت على الضيوف خليفةً ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيعُ
قبحاً لوجهك يا زمان فإنهُ ... وجهُ له من كل قبحٍ برقعُ
يقول قبح الله وجهك يا زمان فإن وجهك وجه اجتمعت فيه القبائح فكأنه اتخذ القبائح برقعا والقبح مصدر قبحته أقبحه قبحا والقبح ضد الحسن
أيموت مثل أبي شجاعٍ فاتكٍ ... ويعيش حاسدهُ الخصيُّ الأوكعُ
هذا استفهام تعجب حين مات هو في جوده وفضله وعاش حاسده يعني كافورا والأوكع الجافي الصلب من قولهم سقاء وكيع إذا اشتد وصلب
أيد مقطعة حوالي رأسه ... وقفا يصيح بها ألا من يصفع
يقول الأيدي التي حول الخصى هي مقطعة لأن قفاه يصبح ألا من يصفع فلو لم تكن تلك الأيدي مقطعة لصفعوه والمعنى أنه لسقوطه يدعو إلى إذلاله ولكن ليس عنده من فيه خير يهجو من حوله من أصحابه لتأخرهم عن الإيقاع به
أبقيت أكذب كاذب أبقيته ... وأخذت أصدق من يقول ويسمع
يقول للزمان أبقيت أكذب الكاذبين الذين أبقيتهم أي هو أكذب من بقي من الكاذبين يعني الخصي وأخذت أصدق القائلين والسامعين يعني أصدق الناس وهو المرثي
وتركت أنتن ريحة مذمومة ... وسلبت أطيب ريحة تتضوع
فليوم قر لكل وحش نافر ... دمه وكان كأنه يتطلع
يقول قرت دماء الوحوش وكانت كأنها تتطلع للخروج من أبدانها خوفا منه وجزعا يعني أنه كان صاحب طرد وصيد(1/354)
وتصاحت ثمر السياط وخيله ... وأوت إليها سوقها والأذرع
يعني بثمر السياط العقد التي تكون في عذباتها يقول رقع بموته الصلح بين الخيل والسياط لأنه أبدا كان يضربها بسياطه لركض في قصد عدو أو طرد وهي في شدة عدوها كأن سوقها وهي جمع ساق وأذرعها ليست منها لأنها كانت ترميها عن أنفسها والآن لما ترك ركضها صارت أيديها وأرجلها كأنها عادت إليها
وعفا الطراد فلا سنان راعف ... فوق القناة ولا حسام يلمع
يريد بالطراد مطاردة الفرسان في الحرب يقول ذهب ذلك واندرس بموته والراعف الذي يسيل منه دم كالرعاف من الأنف
ولى وكل مخالم ومنادم ... بعد اللزوم مشيع ومودع
من كان فيه لكل قوم ملجأ ... ولسيفه في كل قوم مرتع
من فاعل ولى يقول ولى وذهب من كان ملجأ أوليائه وكان لسيفه مرتع في كل قوم من أعدائه
إن حل في فرس ففيها ربها ... كسرى تذل له الرقاب وتخضع
أو حل في روم ففيها قيصر ... أو حل في عرب ففيها تبع
يعني أنه كان عظيما أينما كان حتى لو كان في العجم لكان ملكهم وكذلك في كل قوم
لا قلبت أيدي الفوارس بعده ... رمحا ولا حملت جوادا أربع
أي أنهم لا يحسنون الركض ولا الطعان إحسانه فلا حملوا رمحا يقوله على طريق الدعاء ولا حملت الخيل قوائمها وقال وقد دخل عليه بالكوفة صديق له وبيده تفاحة من ند عليها اسم فاتك فناوله إياها فقرأه فقال
يذكرني فاتكا حمله ... وشيء من الند فيه اسمه
ولست بناس ولكنني ... يجدد لي ريحه شمه
وأي فتى سلبتني المنو ... ن لم تدر ما حملت أمه
ولا ما تضم إلى صدرها ... ولو علمت هالها ضمه
أي لو علمت والدته التي كانت تضمه إلى صدرها في صغره إنه شجاع قتال فاتك لفزعت منه ولهالها ضم ذلك الولد إلى نفسها
بمصر ملوك لهم ما له ... ولكنهم ما لهم همه
هذا من قول أشجع السلمي، وليس بأوسعهم في الغنى، ولكن معروفة أوسع، وأصله من قول الآخر، ولم يك أكثر الفتيان مالا، ولكن كان أرحبهم ذراعا،
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمه
أي إذا بخل كان أجود منهم وإذا ذم كان أحمد منهم
وأشرف من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
أي إنه ميت أشرف منهم وهم أحياء وهو عادم أنفع منهم وهم واجدون لأنه كان يجود بما يجد وهو يبخلون مع الوجد وهو الغني
وإن منيته عنده ... لكالخمر سقيه كرمه
يعني منه كانت تنبت المنية في الناس ثم عادت عليه فاهلكته فكانت كالخمر التي أصلها الكرم ومنه خرجت ثم عادت فسقيها الكرم وردت إليه
فذاك الذي عبه ماؤه ... وذاك الذي ذاقه طعمه
قال أبن جنى يعنيأن الزمان أتى من موته بما فيه نقص العادة وذلك أن الماء مشروب لا شارب والطعم مذوق مع كونه مذوقا وقال أبن فورجة عند أبي الفتح أن الضمير في عبه ضمير فاتك وكذلك الهاء في ذاقه على ما ذكر في تفسيره وليس كذلك فإنه قد قال في البيت الذي قبله أن الموت الذي أصابه هو بمنزلة الخمر سقيها الكرم أي كانت المنية مما يسقيه الناس فصار بسقيه شاربا له ثم قال فذلك الذي عبه يعني الخمر هو ماء الكرم فعبه وذاك الذي ذاقه هو الموت وهو طعم نفسه الذي كان يموت به الخلق انتهى كلامه وهو على ما قاله لكنه لم يبينه بيانا شافيا والمعنى أن هذا مثل وهو أن الكرم إذا سقى الخمر فشربه فقد شرب ماء نفسه والذي ذاقه من طعم الخمر هو طعم الكرم كذلك موت فاتك لما أهلكه فشرب شراب الموت وذاق طعمه فكأنه شرب شراب نفسه وذاق طعم نفسه
ومن ضاقت الأرض عن نفسه ... حري أن يضيق بها جسمه
يقول من ضاقت الأرض عن همته لخليق أن يضيق جسمه بهمته فلا يسعها وإذا لم يسعها ولم يطق احتمالها هلك فيها لعظم ما يطلبه كما قال الآخر، على النفوس جنايات من الهمم وقال أبو الطيب بعد خروجه من مدينة السلام يذكر مسيره من مصر ويرثي فاتكا وانشأها يوم الثلثاء لتسع خلون من شعبان سنة 352
حتام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على خف ولا قدم
يقول حتى متى نسرى مع النجوم في ظلم الليل وليست تسري هي على خف ولا قدم يعني أن النجوم لا يصيبها الكلال من السري كما يصيب الإبل والإنسان(1/355)
ولا يحس بأجفان يحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لم ينم
يم يؤثر في النجوم عدم النوم كما يؤثر في بعيد عن أهله بات يسري ساهرا يعني نفسه
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
يقول الشمس تغير ألواننا في وجوهنا البيض بالسواد ولا تؤثر مثل ذلك التأثير في شعورنا البيض وهذا من قول الطائي، ترى قسماتنا تسود فيها، وما أخلاقنا فيها بسود،
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
الحكم بمعنى الحاكم يقول لو احتكمنا إلى حاكم من الدنيا لحكم بأن ما يسود الوجه يسود الشعر ولكن الله قضى بأن الشمس تسود الوجه ولا تسود الشعر
وتنرك الماء لا ينفك من سفر ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم
يقول نجعل الماء لا يزال مسافرا إما في الغيم وإما في مزاودنا من الأدم لأنا نغترفه من السحاب فنوعيه في الأداوي
لا أبغض العيس لكني وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
يقول ليست الإبل ببغيضة إلى أي ليس إتعابي إياها في السفر بغضا لها مني لكني أسافر عليها لأقي قلبي من الحزن أو جسمي من السقم وذلك أن السقم إذا غير الهواء والماء وسافر صح جسمه وكذلك المحزون يتنسم بروح الهواء أو يصير إلى مكان يسر فيه بالإكرام
طردت من مصر أيديها بأرجلها ... حتى مرقن بنا من جوش والعلم
قال أبن جنى جوش والعلم مكانان يقول حثثتها على السير واعجلتها حتى كأن الرجل طاردة لليد كما قال بعض العرب، كأن يديها حين جد نجاؤها، طريدان والرجلان طالبتا وتر، وذلك أن اليد أمام الرجل كالمطرود يكون أما الطارد شبه خروجها من هذين المكانين بخروج الهم من الرمية لسرعة سيرها لذلك قال مرقن وسكن الياء من أيديها ضرورة
تبرى لهن نعام الدو مسرجة ... تعارض الجدل المرخاة باللجم
تبرى تعارض يقال برى له وانبرى له إذا عارضه ومنه قول أبي النجم، يبرى لها من أيمن وأشمل، أي يعارضها من جانبيها ويريد بنعام الدو الخيل جعلها كالنعام في سرعة عدوها وظهر بقوله مسرجة إنها الخيل يقول تنبري الخيل للعيس وتعارض أزمتها بلجمها واعنتها أي تباريها في السير وقال أبن جنى يقول الخيل لعلو أعناقها وإشرافها تباري أعناق الإبل فيكون اللجم في أعناقها كالجدل وهي الأزمة في أعناق الإبل
في غلمة أخطروا ارواحهم ورضوا ... بما لقين رضى الأيسار بالزلم
يقول سريت من مصر في غلمة حملوا ارواحهم على الخطر لبعد المسافة وصعوبة الطريق ورضوا بما يستقبلهم من ملك أو هلك كما يرضى المقامرون بما تخرج لهم القداح والأيسار المقامرون واحدهم يسر والزلم السهم
تبدو لنا كلما ألقوا عمائمهم ... عمائم خلقت سودا بلا لثم
يقول كلما ألقوا عمائمهم من رؤسهم ظهرت من شعورهم على رؤسهم عمائم سود ليست لها لثم وذلك أن العرب تجعل العمائم بعضها لثما على الوجوه وبعضها على الرأس يقول فشعورهم على رؤسهم كالعمائم وليس منها شيء على وجوههم يعني أنهم مرد ولم يتصل شعر العوارض والوجوه بشعر رؤسهم ألا ترى أنه قال
بيض العوارض طعانون من لحقوا ... من الفوارس شلالون للنعم
يريد أنم مرد صعاليك قتالون للفوارس طرادون للنعم يغيرون عليها أينما وجدوها
قد بلغوا بقناهم فوق طاقته ... وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
أي قد استفرغوا وسع القنا طعنا ولم يبلغ القنا مع ذلك غاية هممهم
في الجاهلية ألا أن أنفسهم ... من طيبهن به في الأشهر الحرم
يقول هم أبدا في القتال والغارة كفعل أهل الجاهلية إلا أن أنفسهم طابت بالقتال وسكنت إليهم وكأنهم في الأشهر الحرم أمنا وسكونا وكان أهل الجاهلية يأمنون في الأشهر الحرم لأن القتال يترك فيها
ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة ... فعلموها صياح الطير في البهم
يقول تناولوا الرماح وكانت جمادا لا تنطق فاسمعوا الناس صريرها في طعان الشجعان وصارت كأنها طير تصيح وهذا من قول الآخر، تصيح الردينيات فينا وفيهم، صياح بنات الماء أصبحن جوعا، ومثله قول بعض العرب، رزق تصايحن في المنون كما، هاج دجاج المدينة السحر،
تخدي الركاب بنا بيضا مشافرها ... خضرا فراسنها في الرغل والينم(1/356)
تسير الإبل بنا وهي بيض المشافر باللغام وقال أبن جنى لأنها لا تترك ترعى لشدة السير خضر الفراسن لأنها تسير في هذين النبتين والفرسن لحم خف البعير
مكعومة بسياط القوم نضربها ... عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
يقول السياط تمنعها المرعى فكأنها قد شدت أفواهها وهو من قول ذي الرمة، يهماء خابطها بالخوف مكعوم، أي لا يتكلم فيها خوفا فكان الخوف قد كعم فمه والبيت من قول الأسدي، إليك أمير المؤمنين رحلتها، من الطلح تبغى منبت الزرجون،
وأين منبته من بعد منبته ... أبي شجاع قريع العرب والعجم
يقول أين منبت الكرم بعد موت هذا الرجل الذي كان منبت الكرم وكان سيد العرب والعجم
لا فاتك آخر في مصر نقصده ... ولا له خلف في الناس كلهم
يقول ليس لنا رجل آخر في وجوده فنقصده لأنه لم يخلف بعده مثله
من لا تشابهه الأحياء في شيم ... أمسى تشابهه الأموات في الرمم
أي من لم يكن له شبيه من الأحياء في شيمه وأخلاقه صار الأموات يشابهونه في العظام البالية أي مات فاشبه الأموات واشتبهوه
عدمته وكأني سرت أطلبه ... فما تريدني الدنيا على العدم
أي لكثرة أسفاري وترددي في الدنيا كأني أطلب له نظيرا ولا أحصل إلا على العدم
مازلت أضحك إبلي كلما نظرت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم
يقول مازلت اسافر عليها إلى من لا يستحق القصد إليه فلو كانت الإبل مما يضحك لضحكت إذا نظرت إلى من قصدته استخفافا به وفي الكلام محذوف به يتم المعنى إلى من أختضبت أخفافها بدم في قصده أو في المسير إليه
أسيرها بين أصنام أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفة الصنم
يقال أسار دابته إذا سيرها ومن روى أسيرها أراد أسير عليها فحذف حرف الصلة وعنى بالأصنام قوما يطاعون ويعظمون وهم كالجماد والموت لا اهتزاز فيهم للكرم ولا أريحية للجود ثم فضل الصنم عليهم فقال ليست لهم عفة الصنم لأن الصنم وإن لم ينفع فهو غير موصوف بالفضائح والقبائح وهؤلاء لا يعفون عن محرم ولا عن قبيح
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
أي حتى عدت إلى وطني وقد علمت أن المجد يدرك بالسيف لا بالقلم لأن العالم غير معظم ولا مهيب هيبة صاحب السيف ولا يدرك من أمور المجد والشرف ما يدركه ولهذا قيل لا مجد أسرع من مجد السيف
أكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
هذا من حكاية قول القلم أي قالت لي الأقلام أخرج على الناس بالسيف واقتلهم ثم اكتب بنا الفتوح وما تقول من الشعر فيهم فإن القلم كالخادم للسيف وهذا من قول البحتري، تعنو له وزراء الملك خاضعة، وعادة السيف أن يستخدم القلما، وجعل الضرب بالسيف كالكتاب به وهو مصدر كالكتابة
أسمعتني ودوائي ما أشرت به ... فإن غفلت فدائي قلة الفهم
هذا جواب للأقلام يقول لما أسمعتني قولك ودوائي إشارتك علي بالصواب فإن تركت إشارتك ولم أفهمها صار ذلك دائي ثم أكد ما أشارت به عليه الأقلام من استعمال السيف فقال
من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
يقول من طلب حاجته بغير السيف أجاب سائله عن قوله هل أدركت حاجتك لم أدرك قال القاضي أبو الحسن أبن عبد العزيز كان الواجب أن يقول عن هل بلا لأن الطالب بغير السيف يقول هل تتبرع لي بهذا المال فيقول المؤول لا فأقام لم مقام لا لأنهما حرفان للنفي وهذا ظلم منه للمتنبي وقلة فهم من القاضي ول أراد ذلك الذي ظنه لقال أجيب عن كل سؤال بهل بلا لأنه المقتضي فيجاب وليس هو المجيب والذي أراد أبو الطيب أن الناس سألونه هل أدركت هل وصلت إلى بغيتك فيجيب ويقول في الجواب لم أدرك ولم أبلغ لم أظفر ولم أصل
توهم القوم أن العجز قربنا ... وفي التقرب ما يدعو إلى التهم
يقول القوم الذين قصدناهم بالمديح توهموا أن العجز عن طلب الرزق قربنا ثم قال وقد يدعو إلى التهمة التقرب لأنك إذا تقربت إلى إنسان توهمك عاجزا محتاجا إليه
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
ترك الإنصاف داعية للقطيعة بين الناس وإن كانوا أقارب وهذا من قول الآخر، إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته، على طرف الهجران إن كان يعقل(1/357)
فلا زيارة إلا أن تزورهم ... أيد نشأن مع المصقولة الخذم
يقول إذا لم ينصفونا فلا أزورهم إلا بالسيوف القواطع
من كل قاضية بالموت شفرته ... ما بين منتقم منه ومنتقم
من كل سيف تقضي شفرته بالموت بين الفريقين الظالم والمظلوم
صنا قوائمها عنهم وما وقعت ... مواقع اللؤم في الأيدي ولا الكزم
يقول صنا قوائم السيوف فما وقعت إلا في أيدينا التي لا لؤم فيها ولا كزم وهو قصر اليد يعني أنهم لا يحسنون العمل بالسيف ونحن أربابها نشأت أيدينا معها والمعنى أنهم لم يسلبونا سيوفنا فتقع في أيديهم التي هي مواقع اللؤم والقصر عن بلوغ الحاجة
هون على بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
ما شق منظره أي ما صعبت رؤيته مما كرهته ومن روى منظره بالفتح فلأن المرأى يشق البصر ويفتحه باقتضائه النظر إليه والكناية على هذا للبصر وفي الرواية الأولى الكناية لما ومعنى شق من قولهم يشق علي هذا الأمر يقول هون على العين ما شق عليها النظر إليه مما تراه من المكاره وهب أنك تراه في الحلم لأن ما تراه في اليقظة شبيه بما تراه في المنام لأنهما يبقيان قليلا ثم يزولان ألا ترى إلى قول أبي تمام، ثم انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنها وكأنهم أحلام، ولم يعرف أبن جنى شيئا من هذا فقال يقال شق بصر الميت شقوقا الفعل للبصر قال ومعنى البيت هون على بصرك شقوقه ومقاساة النزع وهذا كلام كما تراه في الفساد والبعد عن الصواب
ولا تشك إلى خلق فتشتمه ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
يقول لا تشك إلى أحد ما ينزل بك من ضر وشدة فتشتمه بشكواك والشكوى إلى الناس يكون كشكوى المجروح إلى الطير التي ترقب أن يموت فتأكله
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
يقول احذر الناس واستر حذرك منهم ولا تغتر بابتسامتهم إليك فإن خدعهم في صدورهم
غاض الوفاء فما تلقاه عدة ... وأعوز الصدق في الأخبار والقسم
سبحان خالق نفسي كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم
يتعجب من أن الله تعالى جعل لذته في ورود المهالك وقطع المفاوز وذلك غاية ألم النفوس
الدهر يعجب من حلمي نوائبه ... وصبر جسمي على أحداثه الحطم
الحطم جمع حطوم وبفتح الطاء جمع الحطمة
وقت يضيع وعمر ليت مدته ... في غير أمته من سالف الأمم
يقول لي وقت يضيع في مخالطة أهل الدهر ومصاحبتهم لأنهم سفل أنذال يضيع الوقت بصحبتهم وليت مدة عمري كانت في أمة أخرى من الأمم السالفة وهذا شكاية من أهل الدهر
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
يقول أبناء الزمان من الأمم السالفة كانوا في حدثان الدهر وجدته فسرهم وأتاهم ما يفرحون به ونحن أتينا الزمان وقد صار خرفا فلم نجد عنده ما يسرنا وقد أخذ أبو الفتح البستي هذا المعنى وجنس اللفظ فقال، لا غزو إن لم نجد في الدهر مخترفا، فقد أتيناه بعد الشيب والخرف، والمتنبي نظر في بيته إلى قول من قال، ونحن في عدم إذ دهرنا جذع، فالآن أمسى وقد أودى به الخرف وقال يهجو ضبة بن يزيد العيني وصرح بشتمه في هذه القصيدة لأنه لم يكن له فهم يعرف به التعريض وكان المتنبي إذا قرئت عليه هذه القصيدة ينكر إنشاده وأنا أيضا والله أكره كتابتها وتفسيرها ولست أرويها إنما أحكيها على ما هي عليه واستغفر الله تعالى من خط ما لا يزلف لديه فقال في جمادى الآخرة سنة353
ما أنصف القوم ... ضبه وأمه الطرطبة
رموا برأس أبيه ... وناكوا الأم غلبه(1/358)
هذا الوزن من الشعر يسمة المجتث وهو مستفعلن فاعلاتن ثم يجوز في زحافه مفاعلن فعلاتن والطرطبة القصيرة الضخمة وقيل هي المسترخية الثديين وكان من قصة هذا الرجل أن قوما من أهل العراق قتلوا أباه يزيد ونكحوا امرأته أم ضبة وكان ضبة غدارا بكل من نزل به واجتاز به أبو الطيب فامتنع من بحصن له واقبل يجاهر شتمه وشتم من معه وأرادوا أن يجيبوه بمثل ألفاظه القبيحة وسألوا ذلك أبا الطيب فتكلفه لهم على كراهة والمعنى يقول لم ينصفوه إذ فعلوا بأبيه وأمه ما فعلوا وروى أبن جنى وباكوا بالباء من بوك الحمار الأتان قال لأنه جعلهم كالحمير في غشيانهم بفحش والغلبة المغالبة ومنه قول الراعي، أخذوا المخاض من القلاص غلبة، كرها وتكتب للأمير أفيلا،
فلا بمن مات فخر ... ولا بمن نيك رغبه
وإنما قلت ما قل ... ت رحمة لا ومحبة
يقول لا فخر له بأبيه ولا يرغب بأمه أيضا عما فعل بها من قولهم أنا أرغب عن هذا وإنما قلت ما انصفوه رحمة لك بما فعل لا محبة
وحيلة لك حتى ... عذرت لو كنت تيبه
أي احتيالا لك حتى تعذر فيما أصابك لو كنت تشعر وتيبه من قولهم ما وبهت له أي ما باليته وما شعرت به على لغة من يقول ييجل وييجع وروى الخوارزمي تنبه أي تستيقظ
وما عليك من القت ... ل إنما هي ضربه
وما عليك من الغ ... در إنما هي سبه
وما عليك من العا ... ر أن أمك قحبه
هذا استهزاء به واستجهال له يقول لا يلزمك من قتل أبيك عار إنما ذلك ضربة وقعت بأبيك فمات منها والغدر سبة تسب به فما عليك منه ولا عار عليك من فجور أمك والقحبة من القحاب وهي السعال وذلك أن الرجل يسعل بها فتجيب
وما يشق على الك ... لب أن يكون ابن كلبهْ
ما ضرها من أتاها ... وإنما ضر صلبهْ
ولم ينكها ولكنْ ... عجانُها ناكَ زُبَّهْ
العجان ما بين القبل والدبر يريد أنها مهزولة تصيب بعجانها متاعَ من أتاها فتصكه
يلوم ضبة قومٌ ... ولا يلومون قلبهْ
وقلبه يتشهى ... ويلزم الجسم ذنبهْ
لو أبصر الجذع فعلاً ... أحب في الجذع صلبهْ
فعلا كنايةٌ عن الأير وروى ابن جنى شيئا وأراد الكناية أيضا أي لحبه ذلك يحب أن يكون مصلوبا في ذلك الجذع
يا أطيب الناس نفساً ... وألين الناس ركبهْ
يريد أنه سمح القياد يلين لمن راوده وقد انملست ركبته لكثرة البروك عليها
وأخبث الناس أصلا ... في أخبثِ الأرضِ تربهْ
وأرخص الناس أما ... تبيع الفا بحبهْ
كل الفعول سهامٌ ... لمريمٍ وهي جعبهْ
وما على من به الدا ... ء من لقاء الأطبهْ
وليس بين هلوكٍ ... وحرةٍ غيرُ خطبهْ
يعني أن الذين يأتونه كالآطبة له ومن به داء فعالجه بدوائه لم يعب به يهون عليه ما يسبه به من الأمر القبيح استجهالا له وكذلك قوله وليس بين هلوك البيت أي الفاجرة كالحرة المخطوبة إلى أهلها لا فرق بينهما إلا الاستحلال بالخطبة
يا قاتلاً كل ضيفٍ ... غناهُ ضيحٌ وعلبهْ
الضيح اللبن الممزوج بالماء والعلبة اناء من جلود يشرب فيه اللبن قال ابن جنى يقول إذا نزل بك ضيف ضعيف قتلته وأخذت ما معه فكيف تفعل بالإغنياء قال ابن فورجة ليس في البيت ما يدل على أنه يأخذ ما معه ولو كان المراد أخذ ما معه لسلبه دون أن يقتله والمعنى أنه بخيل يقتل الضيف القليل المؤنة لئلا يحتاج إلى قراه وهذا على ما قاله ابن فورجة لأنه يصفه بالغدر يريد أنه يقتل ضيفا شعبه قليل ضيحٍ في علبة لئلا يحتاج إلى سقيه ذلك القدر
وخوف كل رفيقٍ ... أباتك الليل جنبه
كذا خلقت ومن ذا ال ... ذي يغالبُ ربهْ
ومن يبالي بذم ... إذا تعود كسبهْ
أما ترى الخيل في النخ ... ل سربةً بعد سربهْ
على نسائك تجلو ... أيورها منذ سنبهْ
وهن حولك ينظر ... نَ والأحيراح رطبهْ
وكل غرمولِ بغلٍ ... يرين يحسدن قنبهْ
فسل فؤادك يا ض ... ب أين خلف عجبهْ
السربة الجماعة من الخيل والسنبة القطعة من الزمان والقنب وعاء القضيب يقول لضبة سل قلبك أين ترك ما كان فيه من العجب والأعجاب يعني حين أنجحر عنه وعن أصحابه وتحصن وهم يواجهونه بالشتم والقبيح من القول(1/359)
وإن يخنك فعمري ... لطالما خان صحبهْ
يقول أن خانك العجب فكثيرٌ من المعجبين بأنفسهم لم يبق معهم العجب واذلهم الزمان وروى ابن جنى وإن يجبك من الإجابة وكان أيضا خطأ في الرواية فإن العجب واحد والصحب جماعة أي كل يجب أن يقول على روايته لطالما كان صاحبه
وكيف ترغبُ فيه ... وقد تبينت رعبهْ
ما كنت إلا ذبابا ... نفتك عنه مذبهْ
أي كيف تريد العجب وقد علمت شؤمه وكنت كالذباب نفتك المذبة عن العجب وقال ابن جنى أي بقيت بلا قلب قال ابن فورجة ظن إن الهاء راجعة إلى القلب وذلك باطل والهاء راجعة إلى العجب
وكنت تنخر تيها ... فصرت تضرط رهبهْ
يعني حين لجأ منهم إلى الحن هرباً منه ومن اصحابه
وإن بعدنا قليلا ... حملت رمحا وحربه
وقلت ليت بكفي ... عنانَ جرداء شطبهْ
أي إذا رحلنا عنك عاودك العجب وحملت السلاح لقولهم كلُّ مجرٍ في الخلاء يسرّ
إن أوحشتك المعالي ... فإنها دار غربهْ
أو آنستكَ المخازي ... فإنها لك نسبهْ
وإن عرفت مرادي ... تكشفت عنك كربهْ
قال ابن جنى يقول أنت مع ما أوضحته من هجائك غير عارف به لجهلك فإذا عرفت أنه هجاء زالت عنك كربةٌ لمعرفتك إياه وهذا كلام من لم يعرف معنى البيت وليس المراد ما ذكر ولكنه يقول مرادي أن أذكر ما فيك من البخل والغدر بالضيف فإن عرفت مرادي سررت بما قلته لأنه لا يقصدك آخر بعد ما بينت من صفاتك بسؤالٍ ولا طلبِ قرى
وإن جهلت مرادي ... فإنه بك أشبهْ
وقال يمدح دلار بن كشكروز وكان قد أتى الكوفة لقتال الخارجي الذي نجم بها من بني كلاب وانصرف الخارجي قبل وصول دلار إلى الكوفة
كدعواك كل يدعى صحة العقلِ ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهلِ
يقول للعاذلة كل واحد يدعى صحة عقله كدعواك يعني أنك بلومك إياي تدعين أنك أصح عقلا مني وليس يعلم أحد جهل نفسه لأنه لو علم جهل نفسه لم يكن جاهلا
لهنك أولى لائمٍ بملامةٍ ... وأحوج ممن تعذلين إلى العذل
لهنك فيه قولان قال سيبويه أصله لله إنك وقال أبوزيل لإنك فأبدلت الهمزة هاء لئلا يجتمع حرفان للتوكيد اللام وإن بينهما في هذا كلام واحتجاج ذكرته في الأعراب يقول أنت أولى بالملامة وأنت أحوج إلى العذل مني لان من أحببته لا يلام على حبه
تقولين ما في الناس مثلك عاشقٌ ... جدي مثل من أحببته تجدي مثلي
نصب مثلك على الحال من عاشق لأن وصف النكرة إذا قدم عليها نصب على الحال منها يقول لها إن وجدت لمحبوبي مثلا في الحسن وجدت لي مثلا في العشق يعني كما أنه بغير مثل كذلك أنا
محب كنى بالبيض عن مرهفاتهِ ... وبالحسن في أجسامهن عن الصقلِ
يقول أنا محب إذا ذكرت البيض أردت بها السيوف وإذا ذكرت حسنها كنيت به عن صقل السيوف
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني ... جناها أحبائي وأطرافها رُسلي
أي وأكنى أيضا بالسمر عن الرماح السمر ويعني بجناها ما يجتني منها من المعالي التي يرتقي إليها بالعوالي يقول فالمعالي هي احبائي ورسلي التي تتردد بيني وبينها الأسنة يريد أني أخطب المعالي بالرماح
عدمت فؤادا لم تبت فيه فضلةٌ ... لغير الثنايا الغر والحدق النجلِ
دعا على قلبٍ يميل إلى الحسان بالعدم يقول لا كان لي قلبٌ لا فضل فيه لغير حب ثنايا الحسان واحداقهن
فما حرمت حسناء بالهجرِ غبطةً ... ولا بلغتها من شكا الهجر بالوصلِ
يقول المرأة الحسناء إذا هجرت لم تحرم المهجور غبطةً لأنها لو واصلته ما بلغته الغبطة أيضا ومن شكا الهجر هو العاشق وهو مفعولٌ ثان لبلغت أي وإن وصلته لم تبلغه غبطةً
ذريني أنل ما لا ينال من العلي ... فصعبُ العليَ في الصعبِ والسهلِ في السهلِ
يقول للعاذلة دعيني من لومك أنل من العلي ما لم ينل قبلي فإن العلي الصعبة وهي التي لم يبلغها أحد في الأمر الصعب الذي لم يركبه أحد وما سهل وجوده سهل الوصول إليه
تريدين لقيان المعالي رخيصةً ... ولا بد دون الشهد من إبرِ النحلِ(1/360)
قرىء على المتنبي لقيان بضم اللام وكذلك أملاه وهو خطأ والصواب كسره ذكر سيبويه وقال هو مثل العرفان والغشيان والريمان والحرمان والوجدان والإتيان ونحو ذلك ذكره الفراء في كتاب المصادر يقول للعاذلة تريدين أن أملك المعاليَ رخيصةً ومن اجتنى الشهد قاسى لسع النحل ولا يبلغ حلاوة العسل إلا بمقاساة مرارة اللسع وهذا كما قال العتابي، وإن جسيمات الأمور مشوبةٌ، بمستودعاتٍ في بطونِ الأساودِ،
حذرت علينا الموت والخيل تدعى ... ولم تعلمي على أي عاقبةٍ تجلى
يقول تخافين الموت علينا عند التقاء الخيول ولم تعلمي أن الدبرة تكون علينا أو عليهم ومعنى تجلى تنكشف يقال أجلت المعركة عن كذا قتيلا
ولست غبينا لو شريت منيتي ... بإكرامِ دلارِ بن كشكروزٍّ لي
دلار وكشكروز أسمان عجميان من أسماء الديلم وهما الشجاع والمسعود بالعربية يقول لم أغبن بأن حصلتُ لنفسي أكرام الممدوح لو بمنيتي
تمر الأنابيب الخواطرُ بيننا ... ونذكرُ إقبالَ الأميرِ فتحلولي
يقول الرماح الخاطرة بيننا وبين أعدائنا تصير مرا علينا يريد أن الحرب شديد الحرارة فإذا ذكرنا إقبال الأمير صارت حلوا لنا لأنا نظفر على الأعداء بدولته وإقباله وعند بعض الناس لا يجوز هذه الواو في هذه القافية وقال خطأ أن يجمع بين تجلى وتحلولي في القافية وليس كذلك لأن الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما جرتا مجرى الصحيح مثل القول والمين وكذلك إذا انفتحتا وسكن ما قبلهما مثل أسود وأبيض وهذا مثل قول الكسعي، يا ربٍّ وفقني لنحتِ قوسي، فإنها من أربي لنفسي، وانفع بقوسي ولدي وعرسي، وقد قال البحتري، إن سير الخليط حين استقلا، ثم قال في هذه القصيدة، كنت من بين البرايا به أحق وأولى، وقال ابن جنى هذه قافية فيها فساد وذلك أن الواو في تحلولي ردفٌ لأنها ساكنة قبل حرف الرويّ وليس في هذه القصيدة قافية مردفة غير هذه وهذا عيبٌ عندهم إلا أنه جاء في الشعر القديم، إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً، فأرسل حكيما ولا توصهِ، وإن باب أمرٍ عليك التوى، فشاور لبيباً ولا تعصهِ،
ولو كنتُ أدري أنها سببٌ له ... لزادَ سروري بالزيادةِ في القتلِ
ولو كنت أعلم أن الحادثة والفتنة سببٌ لمجيئه إلينا لزاد سروري بزيادة الفتنة
فلا عدمت أرض العراقينِ فتنةً ... دعتك إليها كاشف الخوف والمحلِ
يقول لا خلت أرض العراق من فتنةٍ تكون سببا لورودك وداعيةً إياك كاشفا لما فيها من الخوف والجدب
ظللنا إذا انبى الحديدُ نصولنا ... نجردُ ذكرا منك أمضى من النصلِ
يقول إذا لم تنفذ نصولنا على أسلحة الأعداء ذكرناك فنفذت عليهم بدولتك وكان ذكرك أمضى من النصل وأنبى أي جعله نابيا
ونرمي نواصيها من أسمك في الوغى ... بأنفذ من نشابنا ومن النبلِ
فإن تكُ من بعدِ القتالِ أتيتنا ... فقد هزم الأعداء ذكرك من قبلِ
جعل قبلا نكرةً فأعربها وكسرها كما قال الآخر، وساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلا، أكاد أغصُّ بالماء الحميمِ،
وما زلت أطوي الأرض قبل اجتماعنا ... على حاجةٍ بين السنابكِ والسبلِ
يقول ما زلت أضمر زيارتك وقصدك قبل هذا الإجتماع وكان ذلك حاجةً لا تحصل إلا بقطع المسافة فهي حاجة بين سنابك الخيل والسبل
ولو لم تسر سرنا إليك بأنفسٍ ... غرائبَ يؤثرن الجيادَ على الأهل
يقول لو لم تسر إلينا لسرنا إليك بأنفسٍ هي غريبة بين الناس بما فيها من الأخلاق التي لا توجد في غيرها ثم ذكر من صفاتها أنها تؤثر السفر على الحضر والتعب على الدعة تحصيلا للذكر والشرف
وخيلٍ إذا مرت بوحشٍ وروضةٍ ... أبت رعيها إلا ومرجلنا يغلي
أي وبخيل سابقة طاردة للوحوش لا ترعى الرياض قبل صيد وحشها فإذا مررنا بروضة صدنا بها الوحش ونصبنا المرجل ثم رعت خيلنا والمعنى أن الكلال لم يصبها فيمنعها عن صيد الوحش بعد قطع المرحلة وهذا من قول امرىء القيس، إذا ما ركبنا قال ولدانُ أهلنا، تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطبِ،
ولكن رأيت القصدَ في الفضل شركة ... فكان لك الفضلان بالقصدِ والفضلِ
يقول رأيت أن بقصدنا شركةً في الفضل فحصل لك فضلان فضل تتفرد به دون الناس وفضلٌ كسبته بقصدنا
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في دارهِ رائدُ الوبلِ(1/361)
يتبع اصله يتتبع فأكسن التاء الأولى وادغمها في الثانية ومثله أطير وأثاقل ورائد الوبل مقدمته يقول ليس من يطلب الوبل كمن مطر وهو في داره يريد أنهم بسبب اتيانه إليهم صاروا كالممطور ببلدته لا يتعنى بالريادة وطلب الموضع الممطور والمعنى ليس من يقصد الخير كمن يأتيه الخير عفوا بلا قصد ولا تعب
وما أن ممن يدعي الشوق قلبهُ ... ويحتج في ترك الزيارة بالشغلِ
يقول لست كمن يدعي الشوق ثم لا يزور ويحتج بالعائق عن الزيارة يعني أن المدعي للشوق إذا كان بهذه الصفة كان كاذبا في دعواه لأن من عالج الشوق زار ولم يستبعد الدار
أرادت كلابٌ أن تفوز بدولةٍ ... لمن تركت رعى الشويهات والإبلِ
يقول طلبوا الإمارة وهم رعاة الإبل والغنم فغذا طلبوا الإمارة فمن لها يعني أنهم ليسوا بأهلٍ لما طلبوه
أبى ربها أن يترك الوحش وحدها ... وأن يؤمن الضبَّ الخبيثَ من الأكلِ
يقول أبى الله أن يعطيهم الإمارة ويأمن الوحش من الصيد والضب من الأكل أي أنهم أهل البوادي وشأنهم طلب الوحوش وصيد الضباب الخبيثة المطعم ويأبى الله لهم إلا هذا
وقاد لها دلار كل طمرةٍ ... تنيف بخديها سحوقٌ من النخلِ
يقول قاد لقتال كلاب كل فرس وثابة طويلة العنق كأنما ترفع خدها من طول عنقها نخلةٌ سحوق وهي الطويلة وهذا من قول الآخر، وهاديها كأن جذع سحوق،
وكل جوادٍ تلطم الأرض كفهُ ... بأغنى عن النعل الحديد من النعلِ
وكل فرس جواد يضرب الأرض بحافر مستغنٍ عن النعل بصلابة خلقته كما يستغني النعل عن النعل وسمى حافره الكف استعارةً من الإنسان كما يستعار للإنسان الحافر أيضا من الفرس في قول من قال، فما رقد الولدان حتى رأيته، على البكر يرميه بساقٍ وحافرِ،
فولت تريغ الغيث والغيث خلفت ... وتطلب ما قد كان في اليد بالرجلِ
تريغ تطلب قال ابن جنى أي لو ظفرت بالكوفة وما قصدت له لوصلت إلى تناول الغيث باليد عن قريب قال أبو الفضل العروضي فيما أملاه عليّ هذا تفسير من لم يخطر البيت بباله لأنه ظاهر على المتدبر إنما يقول قد كانوا في أمن ونعمة وشبه ما كانوا فيه بالغيث فاستزادوا طلب الملك وجاؤوا محاربين فهزموا فلما تولوا هاربين قصدوا بأرجلهم ما كان في أيديهم من مواطنهم ونعمتهم فذلك قوله وتطلب ما قد كان في اليد بالرجل وقال ابن فورجة يعني أنها كانت في غيث من إقطاع السلطان وإنعامه فلما عصوا وحاربوا ثم انهزموا وولوا هاربين يطلبون مأمنا وحصنا وقد خلفت أمنا كان حاصلا لها وتطلب بأرجلها ما كان في أيديها أي تطلب بهربها وأغذاذها على أرجلها ما كان حاصلا في أيديها
تحاذر هزل المال وهي ذليلةٌ ... وأشهد أن الذل شرٌّ من الهزلِ
يقول يحاذرون الهزل على نعمهم وهم قد ذلوا بالقتل والهزيمة وما لحقهم من الذل شرُّ مما يحاذرون على أموالهم من الهزال
وأهدت إلينا غير قاصدةٍ به ... كريم السجايا يسبق القول بالفعلِ
أي لما كانوا سببا في إتيان هذا الممدوح جعلهم مهدين إياه إليهم وإن لم يقصدوا ذلك وعني بالكريم السجايا الممدوح
تتبع آثار الرزايا بجوده ... تتبع آثار الآسنة بالفتلِ
يعني أنه جبر أحوال الناس وأصلح ما لحقهم من الرزايا والخسران بسبب غارة بني كلاب وأسى جرحهم كما يؤسى جرح الأسنة بالفتائل
شفى كل شاكٍ سيفهُ ونوالهُ ... من الداء حتى الثاكلات من الثكلِ
يقول أدرك ثار الناس وشفاهم من الحقد بسيفه حتى شفى الوالدات اللاتي قتل اولادهن من ثكلهن
عفيف تروق الشمس صورة وجههِ ... ولو نزلت شوقا لحادَ إلى الظلِ
يقول الشمس تستحسن صورة وجهه فلو نزلت إليه الشمس شوقا إليه المال عنها وعف يريد أنه عفيف عن كل أنثى حتى عن الشمس لو نزلت إليه لحقت معنى العفة
شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل
يقول هو شجاع وكان الحرب تعشقه وتحبه فإذا أتى الحرب استبقته وأفنت من سواه من الفرسان والرجال فكأنها جعلتهم فداء له وهذا بدائع أبي الطيب ومما لم يسبق إليه
وريان لا تصدي إلى الخمر نفسه ... وعطشانُ لا تروي يداه من البذل(1/362)
يريد أنه لا يشرب الخمر كأنه مرتو منها لا يعطش إليها ولا يفتر عن البذل فكأنه عطشانُ لا يروى من الخبر عن يداه خبر عنه فإذا لم يرو جوده من البذل لم يرو هو
وتمليك دلار وتعظيم قدره ... دليل بوحدانية الله والعدلِ
يقول ملكه وعظم قدره يشهد بوحدانية الله تعالى ورأفته بخلقه حين ملك عليهم من هو عفيف محسن إلى الخلق
وما دام دلار يهز حسامَهُ ... فلا ناب في الدنيا لليثٍ ولا شبلِ
قال ابن جنى أي لا تعمل انياب الأسد ما يعمل سيفه في كفه فكأنها ليست موجودة وليس المعنى ما ذكره إنما يقول ما دام قائم سيفه في كفه لم يتسلط أسد على فريسة لأنه يصده بسيفه عن أن يعدو على الناس
وما دام دلار يقلب كفهُ ... فلا خلق من دعوى المكارمِ في حلِّ
وما دام هو يحرك يده في البذل لم يحل لأحد دعوى المكارم لأنه لا يجود احد جوده
فتى لا يرجى أن تتم طهارةٌ ... لمن لم يطهر راحتيه من البخل
فلا قطع الرحمنُ أصلا أتى به ... فإني رأيت الطيب الطيب الأصلِ
وقال يمدح أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميدي وورد عليه بأرجان
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك عن لم يجر دمعك أو جرى
أراد تصبرن بالنون الخفيفة فوقف عليها بالألف نحو، ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا، ومثله كثير يقول يظهر حبك للناس صبرت عليه أو لم تصبر لأنه لا يطيق أحد كتمان الحب ويظهر بكاؤك جرى دمعك أو لم يجر فإن قيل كيف يظهر البكاء إذا لم يجر الدمع قيل عني ما يبدو في صوته من نغمة الحزن والزفير والشهيق والتهيؤ للبكاء ويجوز أن يكون البكاء عطفا على الضمير في صبرت كأنه يقول صبرت وصبر بكاؤك فلم يجر دمعك أو لم تصبر فجرى دمعك وحكى ابن فورجة أن أبا الطيب قيل له خالفت في هذا البيت بين سبك المصراعين فوضعت في المصراع الأول ايجابا بعده نفيٌ وفي الثاني نفيا بعده ايجاب فقال لئن كنت خالفت بينهما من حيث اللفظ فقد وفقت بينهما من حيث المعنى وذلك أن من صبر لم يجر دمعه ومن لم يصبر حرى دمعه يعني أنه أراد صبرت فلم يجر دمعك أو لم تصبر فجرى
كم غر صبرك وابتسامك صاحباً ... لما رآك وفي الحشا ما لا يرى
يخاطب نفسه يقول ابتسامك الظاهر يغر الناظر إليك لأنه يرى ضحكا ظاهرا ولا يرى ما في الباطن من الاحتراق والوجد
أمر الفؤاد لسانه وجفونه ... فكتمنه وكفى بجسمك مخبرا
القؤاد في الجدس بمنزلة الملك فلهذا جعله آمرا للسان والجفن يول أمر القلب اللسان بالكتمان والجفن بإمساك الدمع فأطعنه في الكتمان غير أن جسمك بالنحول دل على ما في قلب وهذا من قول الآخر، خبري خذيه عن الضني وعن الأسى، ليس اللسان وإن تلفت بمخبرِ، والهاء في كتمنه عائد على ما لا يرى
تعس المهارى غير مهريٍّ غدا ... بمصورٍ لبس الحرير مصورا
دعا بالتعس على ركائب الأظعان غير واحد منها غدا بحبيب كأ، هـ في حسنه صورة وعليه ثوب منقش بالصور
نافستُ فيه صورةً في سترهِ ... لو كنتها لخفيت حتى يظهرا
يقول حسدت لأجل الحبيب المصور صورةً في ستر هودجه لقربها منه ولو كنت تلك الصورى لخفيت حتى يظهر ذلك الإنسان لرأي العين وذلك أنّ كل أحد يحب أن يراه ودونه ستر يقول لو كنت ذلك الستر لأنكشفت حتى يظهر فأراه ويزول الحجاب وذكر بعض الناس بهذا تفسيرا متكلفا فقال المعنى أنه يقول لو كنت ذلك الستر لكنت سترا من عدم فكان يظهر المصور يصف قلته ونحوله
لا تتربِ الأيدي المقيمة فوقهُ ... كسرى مقامَ الحاجبين وقيصرا
لا تترب أي لا تفتقر يقال ترب إذا افتقر وصار إلى التراب فقرا وكسرى لقب ملوك العجم يقوله الكوفيون بكسر الكاف والبصريون بفتح الكاف وكانت صورة هذين على الستر كأنهما أقيما مقام الحاجبين يحجبان هذا المصور ودعا للايدي التي نسجت ذلك الستر وصورت الملكين عليه بأن لا تترب
يقيان في أحد الهوادج مقلةً ... رحلت وكان له فؤادي محجرا
يقول كلاهما يدفعان ويصرفان السوء من الغبار وحر الهواء وحر الشمس عن مقلة في أحد الهوادج يعني هودج الحبيب وكنى عنه بالمقلة لعزته وجعل فؤاده محجرا لتلك المقلة والمعنى أنها كانت ضياء قلبي بمنزلة عين القلب فلما ارتحلت عني عمي قلبي والتبس عليّ أمري وفقدت ذهني كمقلةٍ ذهبت وبقي المحجر(1/363)
قد كنت أحذر بينهم من قبلهِ ... لو كان ينفع حائنا أن يحذرا
ولو استطعت إذا اغتدت روادهمْ ... لمنعتُ كل سحابةٍ أن تقطرا
يقول لما بعثوا الرواد لطلب الكلاء والماء لو قدرت لمنعت السحاب أني مطر لئلا يجدوا ماء وكلاء يرتحلون إليهما للانتجاع
فإذا السحاب أخو غرابِ فراقهمْ ... جعل الصياح ببينهم أن يمطروا
هذا كلام فيه حذف لا يتم المعنى دون تقديره كأنه قال لمنعت كل سحابة أن تمطر لأني تأملت الحال فإذا السحاب الذي هو أخو الغراب في التفريق بعدم عنا جعل السحاب أخا الغراب لأنه سبب الافتراق عند الانتجاع وتتبع تساقط الغيث في الربيع كعادة أهل العير السيارة ولما جعله أخا الغراب جعل المطر كصياح الغراب كما أن صياح الغراب سبب للافتراق على زعمهم كذلك سقوط الغيث من السحاب سبب للارتحال في تتبع الغيث والسحاب في قوله فإذا السحاب مبتدأ وأخو غراب فراقهم نعت له والخبر في قوله جعل الصياح
وإذا الجمائل ما يخدن بنفنفٍ ... إلا شققن عليه ثوبا أخضرا
الجمائل جمع جمالة وهي الجمال الكثيرة وروى ابن جنى الحمائل بالحاء جمع حمولة وهي الإبل يخمل عليها والنفنف الأرض الواسعة يقول إذا سارت الركاب في أرض وهي مخضرة بالكلاء بدت عليها آثار سيرها فكأنها شقت ثوبا أخضر والمعنى أنهم فارقونا أيام الربيع عند خضرة النبات
يحملن مثل الروض إلا أنها ... أسبى مهاةً للقلوب وجوذرا
يقول هذه الركاب تحمل من الهوادج ومراكب النساء التي زينت بالأنماط مثل الروض في تلون أزهارها إلا أن ما تحمله الركاب من مهاها وجؤذرها أسبى لقلوب الرجل من مها الرياض وجآذرها وروى ابن جنى إلا أنه كنايةً عن المثل والناس يروون أنها لان مثل الروض روٌ
فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفاً وأنكر خاتماي الخنصرا
بلحظها أي بنظري إليها أضاف المصدر إلى المفعول يقول بسبب نظري إليها صرت ضاويا مهزولا حتى أنكرت قناتي يدي وخاتمي خنصري ضعفا وقلة لحم
أعطى الزمان فما قبلت عطاءه ... وأراد لي فأردت أن أتخيرا
يقول لم أقبل عطاء الزمان ترفعا وبعد همة أي أردت عطاءك دون عطاء الزمان وأراد الزمان لي أن أقصد سواك فأردت اختيارك والمعنى أن الزمان أراد أن يسترقني بإحسانه فأبيت ذلك واخترتك على الزمان فأنك إذا ملكتني ملكتُ الزمان بما فيه
أرجان أيتها الجيادُ فإنهُ ... عزمي الذي يذرُ الوشيج مكسرا
هو أرجان مشددة الراء اسم بلد بفارس إلا أنه خفف لأنه اسم عجمي يقول لخيله اقصدي هذه البلدة فأني عزمت على قصدها بعزم قوي يكسر الرماح بقوته والمعنى أن الرماح لا تعوقني عن هذه العزيمة
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعالهُ ... ما شق كوكبك العجاج الأكدرا
يقول لخيله لو فعلت ما تريدين ما ركضتك في الغبار المظلم يعني أن الخيل تريد الجمام والراحة وهو يتبعها في الأسفار وكوكب الخيل جماعتها المجتمعة
أمي أبا الفضلِ المبر أليتي ... لأيممن أجل بحرٍ جوهرا
أي أقصدي هذا الممدوح الذي يبر قسمي إذا أقسمت أن اقصد أجل البحار جوهرا أي إذا قصدته برت يميني
أفتى برؤيته الأنام وحاش لي ... من أن أكون مقصرا أو مقصرا
يقول افتاني الناس كلهم في إبرار هذه اليمين برؤيته وقصده وأعوذ بالله أن أقصر في إبرار هذا القسم أو أقصر عنه فإني إذا فعلت ذلك كنت شاقا لعصا الإجماع لن الإجماع على أن قسمي لا تبر إلا برؤيته يقال قصر عن الشيء إذا تركه عجزا وأقصر عنه إذا تركه قادرا عليه
صغت السوار لأي كفٍّ بشرتْ ... بابنِ العميد واي عبدٍ كبرا
يقول أي كف أشارت إلى ابن العميد فبشرتني به فلها عندي السوار وكذلك أي عبد من عبيدي كبر عند وقوع بصره على بلده وعلى داره سرورا ببر قسمي
إن لم تغثني خيله ورماحهُ ... فمتى أقود إلى الأعادي عسكرا
هذه إشارة إلى أنه يمده بالمال والعبيد فيقدر بذلك على محاربة الأعداء وعادة المتنبي طلب الولايات ممن يمدحه لا طلب الصلات
بأبي وأمي ناطق في لفظهِ ... ثمن تباع به القلوب وتشترى(1/364)
يقول لفظه لحلاوته ثمن للقلوب يعني أنه يملك القلوب بحالاوة لفظه فيتصرف فيها كما يريد بصفة البلاغة وإن شئت قلت أن الفاظه عزيزة تجعل القلوب أثمانا لها لم توجد بغيرها وقوله تباع وتشترى أي الناس يبيعون وهو يشتريها فيصير مالكا لها وإن شئت جعلت الشراء بيعا فيكون مكررا بلفظين معناهما واحدٌ
من لا تريه الحرب خلقاً مقبلا ... فيها ولا خلقٌ يراه مدبرا
أي لا يقبل إليه أحد في الحرب تهيبا له ولا يدبر هو عن قرنِ
خنثى الفحول من الكماة بصبغهِ ... ما يلبسون من الحديد معصفرا
خنثى الفحول جعلهم كالمخنثين يقال خنثى يخنثى خنثاةً وهذا رواية ابن جنى وابن فورجة وروى غيرهما خنث الفحول أي انكسروا عند اعماله الضرب فيهم والأولى أجود لأنه ذكر صبغة لباسهم والثوب المعصفر المصبوغ من ثياب النساء وذوي التخنيث
يتكسب القصب الضعيف بكفهِ ... شرفاً على صم الرماحِ ومفخرا
روى ابن جنى بخطه يقول قلمه أشرف من الرماح لأن كفه تباشره عند الخط فيحصل له الشرف والفخر على الرماح التي لم يباشرها بكفه
ويبين فيما مس منه بنانهُ ... تيه المدل فلو مشى لتبخترا
يقول كل شيء مسه ببنانه ظهر فيه الكبر حتى لو مشى ذلك الشيء لتبختر تشرفا بمسه إياه
أمن إذا ورد البلاد كتابهُ ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيرا
يقول كتابه يعمل عمل الجيش فإن من ورد عليهم كتابه يتحيرون في حسن لفظه وبدائع معاني كلامه فيستعظمونه فينصرفون أو أنه يسحرهم ببيانه فينصرفون عنه حين عمل فيهم كلامه عمل السحر
أنت الوحيد إذا ارتكبت طريقةً ... ومن الرديف وقد ركبت غضنفرا
يقول أنت فرد الطريقة في كل أمر تقصده لا يقدر أحد أن يقتدي بك في طريقتك كراكب الأسد لا يقدر أحدٌ أن يكون رديفا له وعلى هذا القول الغضنفر مركوب ويجوز أن يكون حالا للممدوح يقول لا يقدر أحد أن يكون رديفا لك فإنك غضنفر
قطف الرجال القول قبل نباتهِ ... وقطفت أنت القول لما نورا
يقول أقوال الناس كالثمر تقطف قبل ينعها وإدراكها وقولك كالنبات المتناهي في نبته يعني أنه تام بالغ في فيه عذب الكلام والنبات إذا نور فهو غاية تمامه ومعنى قوله قبل تمام نباته فحذف المضاف ويروي وقت نباته
فهو المشيع بالمسامعِ إن مضى ... وهو المضاعف حسنهُ إن كررا
يقول الأسماع تتبع قولك إذا مضى حبا له وشغفا به وإذا كرر إزداد حسنه وإنما قال هذا لأن الكلام إذا أعيد سمج وإذا تكرر تكرد وكلام الممدوح يتضاعف حسنه عند التكريم وهذا منقول من أبي نواس يزيدك وجهه حسنا، إذا ما زدته نظراً،
وإذا سكت فإن أبلغ خاطبٍ ... قلمٌ لك اتخذ الأصابعَ منبراً
أي أن قلمه إذا ركب أصابعه في كتابه كان أبلغ خاطب عند سكوت الممدوح
ورسائل قطع العداة سحاءها ... فرأوا قناً وأسنةً وسنورا
هذا البيت كالتفسير لقوله ثنى الجيوش تحيرا يقول الأعداء إذا قطعوا سحاء كتبك ورسائلك رأوا من بلاغتك وجزالة ألفاظك ما يقتلهم غيظا وحسدا وييأسون معه من الإقتدار عليك فيقوم لذلك مقام السلاح في دفع الأعداء ومثل هذا ما يحكي أن الرشيد كتب في جواب كتاب ملك الروم قرأت كتابك والجواب ما تراه لا ما تقرأه فأنظر إلى هذا اللفظ الوجيز كيف يملأ الأحشاء نارا، ويدع القلوب أعشارا، ويشعر النفوس حذارا، ويعقب إقدام ذوي الأقدام نكوصا وفرارا، والسنور الحديد والدروع
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامهُ ... كالخطِ يملأ مسمعي من أبصرا
يقول الصفات الشريفة التي خصك الله بها تخلف كلام الله تعالى في الدلالة على أنك أفضل الناس فصار كأنه دعاك الأكبر قولا من حيث دعاك فعلا كالخط فإن من كاتب كمن شافه وخاطب ومن علم أنك مستحق عند الله لأن تسمى الرئيس الأكبر
أرأيت همةَ ناقتي في ناقةٍ ... نقلت يداً سرحاً وخفا مجمراً(1/365)
السرح السهلة السير المجمر من صفة الخف الصلب انشد الكسائي، أنعتها إني من نعاتها، مدراةُ الأخفاف مجمراتها، ويقال أيضا مجمر أي خفيف سريع من قولهم أجمرت الناقة إذا أسرعت قال الأستاذ أبو بكر الخوارزمي في قوله خفا مجمرا أراد خفا خفيفا فلم يوافقه اللفظ ولو وافقه لكان تجنيسا ظاهرا وإذا لم يوافقه فهو تجنيسٌ معمي كقول الشماخ، وما أروي وإن كرمت علينا، بأدني من موقفةٍ حرون، أراد أن يقول بادني من أروى فلم يساعده اللفظ فعدل عن الفظ الأروى إلى صفتها وهو يديدها ومعنى البيت أنه أخبر عن علو همة ناقته حين قصدته وهو اخبار عن علو همة نفسه لأنه يحمل ناقته على السير ثم ذكر علو همتها
تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلباً لقومٍ يوقدون العنبرا
الرمث نبت يوقد به أي تركت الأعراب ووقودهم وأتت قوما وقودهم العنبر وهذا من قول البحتري، نزلوا بأرض الزعفران وجانبوا، أرضا ترب الشيح والقيصوما،
وتكرمت ركباتها عن مبركٍ ... تقعان فيه وليس مسكاً أذفرا
يقول تكرمت ناقتي عن أن تبرك إلا على المسك الأذفر وهو الشديد الرائحة يردي أن العنبر بحضرة الممدوح يوقد به والمسك ممتهن عنده بحيث يبرك عليه البعير والركبات جمع ركبة وهذا جمع أريد به الإثنان كقوله تعالى فقد صغت قلوبكما وكقول الشاعر، ظهراهما مثل ظهور الترسن، وهو كثير وذلك أن أول الجمع إثنان فجاز أن يعبر عنهما بلفظ الجمع لما كانا جمعا فيدل على أنه أراد بلفظ الجمع الاثنين أنه لما أخبر كما يخبر عن الأثنين بقوله تقعان
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الحمرا
الأظل باطن خف البعير وحذيت جعل لها حذاء وهو النعل يقول أتتك الناقة وقد دميت خفافها لطول السير وحزونة الطريق حتى كأنها أحتذت العقيق الأحمر كما قال الآخر، كان أيديهن بالموماة، أيدي جوارٍ بتنَ ناعماتِ، أي تخضبت بالدم خضاب هؤلاء الجواري
بدرت إليك يد الزمانِ كأنها ... وجدته مشغول اليدين مفكرا
يقول سبقت إليك العوائق وصروف الزمان فكأنها وجدت الزمان مشغولا عنها فانتهزت الفرصة في قصدك فإن الزمان موكلٌ صروفه بدفع الخيرات
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطليس والإسكندرا
يقول من الذي يبلغ الأعراب أني بعد أن فارقتهم رأيت عالما هو في علمه وحكمته مثل أرسطاليس وملكا هو ي سعة ملكه كالأسكندر ورسطاليس أسم رومي لما أراد استعماله حذف بعضه فإن العرب تجترىء على استعمال الاعجمية فإن أمكن نقلها إلى أوزانهم نقلوها وإن لم يمكن نقلها حذفوا بعضها ومثل هذا الأسم في كثرة حروفه لا يوجد في كلام العرب
ومللت نحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النضار لمن قرى
يقول مللت في صحبة الأعراب نحو الإبل ولحومها فأضافني من يجعل قراه بدر الذهب وهذا من قول البحتري، ملك بعالية العراق قبابهُ، يقرى البدور بها ونحن ضيوفهُ، وإنما استعمل النحر في البدر لذكره نحر العشار ومعنى نحر البدر فتحها لأعطاء ما فيها من الذهب
وسمعت بطليموس دارسَ كتبهِ ... متملكا متبديا متحضرا
بطليموس حكيم من حكماء الروم صنف كتاب في الطب والحكم وابن العميد كان أيضا حكيما عالما قد جمع بين أفعال الملوك وفصاحة البدو وظرافة الحضر يقول سمعت من ابن العميد وهو يدرك كتب نفسه في حال جمعه بين الملوكية والبدوية والحضرية وبطليموس هو ابن العميد سماه بهذا للمشابهة بينه وبين هذا الحكيم ونصب دارس كتبه على الحال وكذلك ما بعده ويجوز أن يريد أنه سمع من ابن العميد ما عفا ودرس من كتب بطليموس لأنه أحياه بذكاء فطنته وجودة قريحته ويكون التقدير سمعت دارس كتب بطليموس ولكنه قدم ذكره ثم كنى عنه ويجوز أن يكون دارس كتبه مفعولا ثانيا كما تقول سمعت زيدا هذا الحديث
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
يقول عصر وأعصرٌ وعصورٌ يقول لقيت بلقائه كل من كان له فضل علم فكأن الله تعالى أحياهم ورد زمانهم حتى لقيت كلهم والمعنى أن فيه من الفضل ما كان في جميع الفضلاء
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا(1/366)
يقول جمع لنا الفضلاء في الزمان ومضوا متتابعين متقدمين عليك في الوجود فلما أتيت بعدهم كان فيك من الفضائل ما كان فيهم مثل الحساب يذكر تفاصيله أولا ثم يجمل على تلك التفاصيل فيكتب في مؤخر الحساب فذلك كذا وكذا فيجمع في الجملة ما ذكر في التفصيل كذلك أنت جمعت فيك من الفضل ما يفرق فيهم وهذا البيت ينظر إلى قول من قال، وفي الناس مما خصصتم به، تفاريق لكن لكم مجتمعْ،
يا ليت باكيةً شجاني دمعها ... نظرت إليك كما نظرت فتعذرا
يقول الباكية التي بكت على فراقي وأحزنني بكاؤها ليتها رأتك كما رأيت فتعذرني في فراقها وركوب الأهوال والاخطار في السفر إليك
فترى الفضيلة لا ترد فضيلةً ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا
روى ابن جنى لا ترد وقال معناه وترى الفضيلة فيك مشرقة غير مشكوك فيها كما ترى الشمس إذا أشرقت والسحاب إذا كان عظيما متكاثفا وتقديره وترى الفضيلة فضيلةً لا ترد فيكون نصب فضيلةً على الحال ثم نصب الشمس بفعلٍ مضمر يدل عليه ما قبله كأنه قال ترى هي برؤيتها فضائلك الشمس في حال إشراقها والمزن في حال تراكمها ومعنى لاترد أي هي مقبولة غير مردودة قال ابن فورجة صحف البيت ثم تمحل له تفسيرا وهو يرويه لا ترد ولا ريب أنه إذا صحف واخطأ المراد احتاج إلى تمحل وجهٍ والذي قاله أبو الطيب لا ترد فضيلة وفاعله الضمير من الفضيلة ونصب فضيلةً ثانية لأنها مفعول بها والمعنى أنها ترى الفضيلة لا ترد ضدها من الفضائل على ما عهدنا في المتضادين ثم فسر ذلك فقال يوجدك الشمس مشرقةً والسحاب كنهوراً أي في حالة واحدة يوجدك هذا الممدوح هذين المتضادين إذا كانت الشمس يسترها السحاب كنهورا فوجهه كالشمس اضآءةً ونائله كالسحاب الكنهور فيضاً وهما لا يتنافيان في وقتٍ واحد ولو كانا في الحقيقة الشمس والسحاب لستر السحابُ الشمس فتنافيا وقد كاد يوضح هذا المعنى محمد بن عليذ بن بسام على رذالة شعره بقوله، الشمس غرته والغيث راحتهُ، فهل سمعتم بغيثٍ جاء من شمس، وأوضح ابن الرومي هذا المعنى حيث يقول، يلقى مغيماً مشمساً في حالةٍ، هطل الإغامةِ نيرَ الإشماس، وقد قال أيضا في هذا المعنى، لكل جليسٍ من يديه ووجهه، مدى الدهر يومٌ غائمُ الجو شامسُ، وتبعه البحتري فقال، وأبيض وضاح إذا ما تغيمت، يداه تجلى وجهه فتقشعا، ولم يوضح أحد هذا المعنى كما أوضحه الرضى الموسوي، أمطروا الجود مضيئاً بشرهم، فرأيناهم شموساً وغماما، وذكر المتنبي هذا المعنى وقال، قمراً ترى وسحابتين بموضعٍ، من وجهه ويمينه وشمالهِ، وقال أيضا، شمنا وما حجب السماء بروقه، وحرى يجود وما مرته الريحُ،
أنا من جميع الناس أطيبُ منزلاً ... وأسر راحلةً وأربحُ متجرا
يقول طاب مكاني ومنزلي بقصده وسرتني راحلتي حين أدتني إليه فاسر مبالغة من السار ويجوز أن يكون مبالغةً من المسرور والمراد بسرورها سرور راكبها وتجارتي أربح من تجارة غيري حين اشتري شعري بأوفر الأثمان
زحل على أن الكواكب قومهُ ... لو كان منك لكان أكرمَ معشرا
جعل الكواكب المحيطة بزحل كالقوم له حين كان يسمى شيخ النجوم يقول زحل لو كان من عشيرتك لكان أكرم معشرا منه الآن والنجوم قومه يعني أن قوم الممدوح ورهطه أشرف من النجوم وأحضر مجلس ابن العميد مجمرة محشوة آسا ونرجساً أخفيت نارها والدخان يخرج من خلال ذلك فقال أبو الطيب
أحب امرىءٍ حبتِ الأنفسُ ... وأطيبُ ما شمه معطسُ
يقول أنت أحب امرىء احبته النفوس وهذا الند اطيب رائحةٍ شمها الأنف وحذف المبتدأ من الجملتين لأن المخاطبة والحال دلتا عليه وحبت غير مستعمل وإن استعمال المحبوب وإنما يستعمل ذلك شاذا
ونشر الندى لكنما ... مجامره الآس والنرجسُ
ولسنا نرى لهباً هاجهُ ... فهل هاجهُ عزك الأقعسُ
يقول لا نرى نارا هيجت ريح هذا الند فهل هاجته نار عزك يقال عز أقعس وعزة قعساء وهي الثابتة وقيل أنه العالي المرتفع الذي لا يوضع ظهره على الأرض كالأقعس الذي لا ينال ظهره الأرض
فإن القيام التي حولها ... لتحسدُ أقدامها الأروسُ(1/367)
يقول هؤلاء القائمون عنده للخدمة تحسد ارؤسهم أقدامهم لأنهم وقفوا على أقدامهم ورؤوسهم تتمنى أنها القائمى في خدمته كما قال، خير أعضائنا الرؤوس البيت والضمير في إقدامها عائدة على الأرؤس كأنه قال لتحسد أرؤسهم أقدامها وقال يمدحه ويهنئه بالنيروز
جاء نوروزنا وأنت مرادهْ ... وورت بالذي أراد زنادهْ
يقال لهذا اليوم نوروز على العجمية ونيروز تقريب من التعريب ومثله من العربية تيقور وديجور وتيهور وهذا أولى بالأستعمال لأنه على أوزان كلامهم يقول جاء هذا اليوم وأنت مراده وقصده بالمجيء وقد حصل مراده إذ زارك ورآك الزناد كناية عن حصول المراد تقول العرب ورت بفلان زنادي أي أدركت به مرادي
هذه النظرة التي نالها من ... ك إلى مثلها من الحول زادهْ
ينثني عنك آخر اليوم منه ... ناظرٌ أنتَ طرفهُ ورقادهْ
قال ابن جنى أي إذا إنصرف عنك هذا اليوم خلف طرفه عندك ورقاده فبقي بلا لحظ ولا نوم إلى أن يعود إليك قال العروضي هذا هجاء قبيحٌ للممدوح أن أخذنا بقول ابي الفتح لأنه يراه وينصرف عنه أعمى عديم النوم ومعناه أنه يقول لما رآك استفاد منه النظر والرقاد وهما اللذان يستطيبهما العين والمعنى أفدته أطيب شيء والحق ما قاله ابن جنى لأنه يذهب عنه النوم حتى يرجع إليه
نحن في أرض فارسٍ في سرورٍ ... ذا الصباح الذي نرى ميلادهْ
روى ابن جنى الذي يرى بضم الياء وقال أي نحن كل يومٍ في سرورٍ لأن الصباح كل يومٍ يرى يريد إتصال سرورهم قال أبو الفضل العروضي ليس كما ذهب إليه وإما يريد أن يخص صباح نيروز بالفضل فقال ميلاد السرور إلى مثله من السنة هو هذا الصباح والرواية الصحيحة نرى بفتح النون وقال ابن فورجة يريد أبو الطيب أنا نحن في سرورٍ ميلاده في هذا الصباح يعني صباح نيروز لأن السرور يولد في صباحه لفرح الناس الشائع في النيروز
عظمته ممالك الفرس حتى ... كل أيام عامهِ حسادهْ
يجوز أن يريد بالممالك جمع ملك مثل المشايخ في جمع شيخ والمحاسن في جمع حسن كما قال في موضع آخر، أبهى الممالك البيت ويجوز أن يكون من باب حذف المضاف وهو قول أبي الفتح ويكون المعنى عظمه أهل ممالك الفرس حتى حسدته جميع الأيام لتعظيمهم إياه
ما لبسنا في الأكاليل حتى ... لبستها تلاعهُ ووهادهْ
قال أبو الفتح يريد أن الصحراء قد تكامل زهرها فجعله كالاكاليل عليه قال العروضي كيف يصح ما قال وأبو الطيب يقول ما لبسنا فيه الاكاليل ولم يقل ما لبست الصحراء أو ما يشبه هذا مما يكون دليلا على ما قاله أبو الفتح ولكن كان من عادى الفرس إذا جلسوا في مجلس اللهو والشرب يوم النيروز أني تخذوا أكاليل من النبات والأزهار فيضعوها على رؤوسهم وهذا ظاهر في قول الفارسي يصف مجلس لهو، بدل خود وترك بر كيريم، أز كلٌ ومشكُ وندُّ ولاله كلاه، فقال أبو الطيب ما لبسنا الأكاليل حتى لبستها التلاع وهي ها هنا ما ارتفع من الأرض ومنه قول الراعي، كدخان مرتحلٍ بأعلى تلعةٍ، ويريد بلبس التلاع ما ظهر عليها من النبات والوهاد ضد التلاع وهي جمع وهدة وهي المنخفض من الأرض وجعل ما على الوهاد أكاليل ولا يحسن ذلك والبيت مأخوذ من قول أبي تمام، حتى تعمم صلعُ هاماتِ الربا، من نبتهِ وتأزر الأهضامُ، وهذا البيت سليمٌ لنه جعل ما على الربا بمنزلة العمامة وما على الأهضام جمع هضم وهو المطمئن من الأرض بمنزلة الإزار ووجهُ قول المتنبي أنه أراد حتى لبستها تلاعه والتحفت بها وهاده فيكون من باب علفتها تبنا ومآءً باردا ومعنى البيت أن النبات قد عم الأرض مرتفعها ومنخفضها في هذا النيروز
عند من لا يقاس كسرى أبو سا ... سان ملكاً به ولا أولادهْ
أبو ساسان واحدٌ من الأكاسرة ولهذا يقال لملوك العجم بنو ساسان وذكرنا أن الإختيار في كسرى فتح الكاف وينشد قول الفرزدق، إذا ما رأوه طالعا سجدوا له، كما سجدت يوما لكسرى مرازبهْ، بفتح الكاف جعل الممدوح أعظم ملكا من ملوك العجم
عربيٌّ لسانهُ فلسفيٌّ ... رأيه فارسيةٌ أعيادهْ
البيت مركب من ثلث جمل كلها مبتدأ وخبر وقدمت فيها الأخبار على الابتداءات والمعنى أنه يتكلم بلسان العرب ورأيه رأي الفلاسفة لأنه حكيم وأعياده فارسية كالنيروز والمهرجان(1/368)
كلما قال نائل أنا منه ... سرف قال آخر ذا اقتصاده
يريد أنه كلما ازداد إعطاء زاد عظما فإذا أسرف في عطاء فقال ذلك العطاء أنا منه سرف قال ما يتبعه من العطاء الزائد على الأول هذا منه قصد أي أنا أكثر منه وهذا مثل والنائل لا يقول شيئا ولكن يستدل بحاله فكأنه قائل وتلخيص المعنى إذا استكثر منه عطاء قل ذلك في جنب ما يتبعه
كيف يرتد منكبي عن سماء ... والنجاد الذي عليه نجاده
قال أبو الفتح يريد طول حمائل سيفه لطوله قال العروضي لم يرد في هذا البيت طول النجاد ولا قصره وإنما أراد تعظيم شأن الواهب فقال كيف يقصر عن السماء منكبي والنجاد من هبته فأين الطول والقصر في هذا وقال أبن فورجة ليس طول نجاد أبن العميد إذا أهدى سيفه للمتنبي مما يوجب أن يطيل منكبه على أن المتنبي ما تعرض لطول النجاد ولا قصره وإنما ضرب مثلا لشرف منكبه إذ ردى بنجاده يقول كيف أنكل عن مفاخره ذي فخر وكيف يقصر منكبي دون سماء ونجاده عليه وقد بلغه أفضل الشرف
قلدتني يمينه بحسام ... أعقبت منه واحدا أجداده
يقول قلدني سيفا لا مثل له في السيوف وكان واحدا عديم النظير كمن لم يعقب أجداده مثله في جملة إخوانه وأترابه وأراد بأجداد الحسام الجبال والأحجار والمعادن التي يستخرج منها جوهر الحديد فهو يقول لم يطبع مثله فلا نظير له
كلما استل ضاحكته إياه ... تزعم الشمس أنها أراده
إياه الشمس ضوءها ومنه قول طرفه، سقته إياة الشمس إلا لثاته، وإذا فتح أوله مد ومنه قول ذي الرمة، لأياء الشمس منه تحذرا، والأراد يجوز أن يكون جمع رأد وهو الضوء يقال رأد النهار ورأد الضحى ويجوز أن يكون جمع رئد وهو الترب يقول كلما سل هذا الحسام ضاحكته إياة من الشمس تزعم الشمس أن تلك الإياة مثل ضوء هذا السيف أشار إلى أن شعاع هذا السيف يحكى شعاع الشمس وأن الشمس تقر بأن ضوءها كضوئه والكناية في أنها للإياة وإنما جمع الأرآد مع توحيد الإياة حملا على المعنى عند كل سلة مضاحكة بينه وبين إياة الشمس
مثلوه في جفنه خشية الفق ... د ففي مثل أثره إغماده
يقول مثلوا هذا السيف في غمده يعني جعلوا غمده على مثاله وصورته وهو أنهم غشوه فضة محرمة فاشبهت تلك الآثار هذا السيف وما عليه من آثار الفرند فهو قوله ففي مثل أثره إغماده أي أنه يغمد في جفن عليه آثار كأثره وقوله خشية الفقد الناس يقولون أراد أن هذا السيف عزيز فلعزه وخوف فقده غشوا جفنه الفضة وقال أبن جنى صونا للجفن من الفقد لئلا يأكل جفنه وقال ابن فورجة يعني أن ما نسج من الفضة على جفنه تصوير لما على متنه من الفرند فعل ذلك به إرادة أن لا تفقده العين بكونه في غمده بل يكون كأنها ناظرة إليه ولم يرد بقوله خشية الفقد ذهابه وضياعه بل أراد أنه لحسنه لا يشتهي مالكه أن يفقد منظره بإغماده فقد مثله في جفنه
منعل لا من الحفا ذهبا يح ... مل بحرا فرنده إزباده
يقول هذا الجفن جعل له نعل من الذهب وليس ذلك للحفا وهو يحمل من هذا السيف بحرا يعني كثرة مائه وفرنده زبده يعني أن الفرند لهذا السيف بمنزلة الزبد للبحر
يقسم الفارس المدجج لا يس ... لم من شفرتيه إلا بداده
المدجج المغطى في السلاح والبدادان جانبا السرج يقول إذا ضرب به الفارس المقنع في سلاحه قسمه بنصفين والسرج أيضا فلا يسلم منه إلا جانبا السرج لانحرافهما عن الوسط وقوله من شفرتيه والسيف إنما يقطع بشفرة واحدة لأنه أراد بأي شفرتيه ضرب عمل هذا العمل الذي ذكره
جمع الدهر حده ويديه ... وثنائي فاستجمعت آحاده
أي اجتمعت آحاد الدهر لما جمع الدهر حد هذا السيف ويدي الممدوح في الضرب وشعري في وصفه فلا سيف كهذا السيف ولا يد في الضرب به كيد الممدوح ولا ثناء كثنائي وهذه الأشياء أفراد غرائب لا نظير لها
وتقلدت شامةً في نداهُ ... جلدها منفساته وعتادهْ(1/369)
حكى أبو علي ابن فورجة عن أبي العلاء المعري في هذا البيت يعني أن الغمد بما عليه من الحليّ والذهب أنفسُ من السيف كأنه كان محلى بكثير من الذهب فجعل الغمد جلدا إذ جعل السيف شامةً قال أبو علي والذي عندي أنه أراد بجلده ظاهره الذي عليه الفرند لأن أنفس ما في السيف فرنده وبه يغالي سومه ويستدل على جودته وقالابن جنى يعني أنه يلوح فيما أعطاه كما تلوح الشامة في الجسد لحسنه ونفاسته وقوله جلدها منفساته وعتاده أي ما يلي هذا السيف مما تقدمه وتأخر عنه من بره كالجلد حول الشامة وقال أبو الفضل العروضي منكرا على أبي الفتح ألم يجد أبو الفتح مما يحسن في الجلد شيئا فوق الشامةِ كالعين الحسناء ولكنه أراد أن هذا السيف على حسنه وكثرة قيمته كالنقطة فيما أعطاه ألا تراه يقول جلدها منفساته أي قدر هذا السيف وهو عظيم القيمة في عطاياه كقدر الشامة في الجلد وهؤلاء الذين حكينا كلامهم كانوا أئمة عصرهم ولم يكشفوا عن معنى البيت ولا بينوه بيانا يقف عليه المتأمل ويقضي بالصواب ومعنى البيت أ، هـ جعل ذلك السيف شامةً والشامةُ تكون في الجلد ولما سماه شامةً سمى ما كان معه من الهدايا التي كان السيف في جملتها جلدا والمنفسات الأشياء النفيسى والكناية في المنفسات والعتاد تعود إلى الممدوح وذلك أنه أهدى إليه شياءَ نفيسة من الخيل والثياب والأسلحة فهو يقول هذا السيف في جملتها شامةٌ في جلدٍ وذلك الجلد هو منفساتُ الممدوح وعتاده الذي كان له فاهداه إليّ وقول المعري أيضا قريبٌ من الصواب على رد الكناية في المنفسات والعتاد إلى الحسام وهو أنه يصغر السيف في قيمة غمده وما عليه من الذهب والحلي مما جعل عتادا للسيف وقول ابن فورجة هوسٌ ليس بشيء
فرستنا سوابق كن فيه ... فارقت لبده وفيها طرادهْ
أي جعلتنا فرسانا خيل سوابق كن في نداه أي كانت في جملة ما أعطانا خيلٌ سوابقُ فارقت لبده أي انتقلت إلى سرجي وفارقت سرج ابن العميد وفيها طراده قال ابن جنى أي قد صرت معه كأحد من في جملته فإذا سار إلى موضع سرت معه وطاردت بين يديه فكأنه هو المطارد عليها قال العروضي هذا كلام من لم ينتبه بعد من نوم الغفلة إنما يقول فارقت هذه الخيل لبده وفيها تأديبه وتقويمه وهذا على ما قال وما ذكره ابن جنى هوس وسوداء ملومٍ ليس في البيت منه شيء يقول أبو الطيب الخيل السوابق التي كانت في نداه وجملة ما أعطاناه فرستنا أي علمتنا الفروسية لأنها فارقت لبده حين أعطاناه وفيها ما علمه بطراده وتأديبه إياها وليس يريد بقوله فرستنا حملتنا حتى صرنا فرسانا عن الرجلة وقوله وفيها طراده يريد تأديب طراده وأدب طراده على حذف المضاف
ورجت راحةً بنا لا تراها ... وبلادٌ تسير فيها بلادهْ
قال ابن جنى لما انتقلت خيله إليّ رجت أن تستريح من طول كده إياها وليست ترى ذلك من جهتي ما دمت أسير في بلاده والعمل الذي يتولاه لسعةِ بلده وامتداد الناحية التي تحت يده هذا كلامه وليس لسعة البلد وامتداد الناحية هاهنا معنى إنما يقول لا ترى هذه الخيل ما ترجوه لأنا لا نزال نغزو معه بغزواته ونطارد عليها معه إذا ركب إلى الصيد وإنما تستريح إذا فارقنا خدمته ونحن لا نفارق خدمته وبلاده
هل لعذري إلى الهمام أبي الفض ... لِ قبولٌ سواد عيني مدادهْ
قال ابن جنى أي رضيت أن يجعل المداد الذي يكتب به قبول عذري سوادَ عيني حبا له وتقربا منه هذا كلامه وليس كما قال لأن المراد قبول العذر لا أن يكتب الممدوح ذلك والمعنى أنه يقول هل يقبل عذري وهل عنده قبولٌ لعذري ثم قال سواد عيني مداده على طريق الدعاء كأنه قال جعل الله مداده سواد عيني يعني أنه أن استمد من سواد عيني لم أبخل عليه وإنما قال هذا لأنه كاتبٌ وحاسبٌ يحتاج إلى المداد والكناية في مداده تعود إلى أبي الفضل وعلى ما قال ابن جنى تعود إلى العذر وليس بشيء
أن من شدة الحياء عليلٌ ... مكرماتُ المعلهِ عوادهْ
يقول أنا لغلبة الحياء عليّ كالعليل وبرُّ الذي أعلني وهداياه تأتيني كل يوم كأنها عوادق تعودني وإنما استحيا لأن ابن العميد عارضه في بيتٍ من شعره أو ناظره في شيء منه ولهذا جعله معلا له وقد شرح أبو الطيب هذه القصة فيما بعد هذا البيت فقال
ما كفاني تقصير ما قلتُ فيه ... عن علاهُ حتى ثناهُ انتقادهْ(1/370)
يقول لم يكفني تقصير قولي عن علاه وعجزي عن وصفه حتى صار انتقاده شعري ثانيا لتقصيري وهذا هو الموجب للحياء وهو التقصير والانتقاد
إنني أصيد البزاة ولك ... نَّ أجل النجومِ لا أصطادهْ
يقول أنا في الشعراء كالبازي الأصيد في البزاة ولكن النجم الأعلى من يقدر على بلوغه يريد زحل وهو أجل النجوم جعله مثلا للممدوح ولم يعرف ابن جنى هذا لأنه قال لو استوى له أن يقول ولكن أعلى النجوم لكان أليق والمعنى أني وإن كنت حاذقا في الشعر فإن كلامي لا يبلغ أن أصف ابن العميد وأمدحه
رب ما لا يعبر اللفظ عنه ... والذي يضمرُ الفؤادْ اعتقادهْ
أي ربَّ شيء من مدحك لا يبلغه لفظي بالعبارة عنه وما يضمره قلبي هو اعتقاده فيك وفي استحقاقك ذلك المدح وهذا اعتذارٌ عن قصوره في وصفه ومدحه
ما تعودت أن أرى كأبي الفض ... ل وهذا الذي أتاه اعتيادهْ
يقول لم أتعود أن أمدح مثله فإن قصرت عن كنهِ وصفه كنت معذورا لأن عادتي لم تجرِ بمدح مثله والذي أتاه من الشعراء اعتياده لأنه أبدا يمدح فهو أعلم الناس بالشعر وهذا يدل على تحرز أبي الطيب منه وتواضعه له ولم يتواضع لأحد في شعره ما تواضع له ويجوز أن يكون قوله وهذا الذي أتاه أي هذا الذي فعله من النقد عادته لعلمه بالشعر وقال ابن جنى وهذا الذي أتاه من الكرم عادة له لم يتخلق لي به وليس بشيء لأنه ليس في وصف كرمه إنما يعتذر من تقصيره
إن في الموجِ للغريقِ لعذرا ... واضحا أن يفوته تعدادهْ
يقول إن فاتني عد بعض أوصافك حتى لم آتِ على جميعها كان عذري واضحا فإني غرقت فيها لكثرة صفات مدحك فالغريق في البحر إن فاته عد الأمواج كان عذره واضحا والمعنى أن فكري غرق في فضائلك فلم أجد سبيلا إلى وصفها حق الوصف
للندى الغلب أنه فاض والش ... عر عمادي وابن العميد عمادهْ
يقول الغلبة لعطائه فإنه غلبني لأنه إلى ابن العميد يستند وأنا أستند إلى الشعر وليس يمكنني أن أكاثر عطاءه بشعري
نال ظني الأمور إلا كريماً ... ليس لي نطقهُ ولا في آدهْ
الظن ههنا معناه العلم ويروي طبي بالطاء وهو بمعنى العلم أيضا يقول أنا عالم بالأمور قد أحطت بها علما غير أني قاصر عن مدح كريم ليس لي فصاحته في الكلام ولا قوته في علم الشعر
ظالمُ الجودِ كلما حل ركبٌ ... سيم أن يحملَ البحار مزادهْ
الظلم من صفة الجود ولكنه أجراه على الممدوح وصفا كما يقال هو حسن الغلام يوصف بما هو وصفٌ لسببه ومعنى ظلم جوده ما ذكره في البيت فقال كلما قصده ركبٌ كلفهم من حمل نداه ما لا يطيقونه وهو أن يكلفهم حمل البحر في المزاد وهذا ظلم لأنه ليس مما يمكن وكني عن الركب كما يكنى عن لواحد لأنه على لفظ الواحد
غمرتني فوائدٌ شاء فيها ... أن يكون الكلام مما أفادهْ
يقول غلبتني من جهته فوائد كان من جملتها حسن القول أي تعلمت منه حسن القول وصحة الكلام في جملة ما استفدت منه يريد أنه نبهه بانتقاده شعره على ما كان غافلا عنه
ما سمعنا بمن أحب العطايا ... فاشتهى أن يكون فيها فؤادهْ
يقول لم نسمع قبله بجوادٍ يحب الإعطاء ويتمنى أن يكون قلبه من جملة ما يعطي يعني أن ما أفاده من العمل هو من نتيجة عقله وقلبه وبنات فكره وعبر عن العلم بالفؤاد لأن محله الفؤاد كما قال الله تعالى أن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أي عقل فسمي العقل قلبا ولم يعرف ابن جنى هذا فقال الكلام الحسن الذي عنده إذا افاده إنسانا فقد وهب له عقلا ولبا وفؤادا وهذا إنما يحسن لو قال فاشتهي أن يكون فيها فؤاد منكراً وإذ أضافه إلى الممدوح فليس يجوز ما قال
خلق الله أفصح الناس طرا ... في مكانٍ أعرابهُ أكرادهْ
يعني بافضل الناس وأفصحهم الممدوح والصحيح رواية من روى أفصح الناس والمعنى أن الفصاحة للعرب ولأهل البدو وافصح الناس في مكانٍ بدل الأعراب به أكرادٌ يعني أهل فارس ولم يعرف ابن جنى هذا وروى أفضل الناس
وأحق الغيوث نفسا بحمدٍ ... في زمانٍ كل النفوس جرادهْ(1/371)
أي وخلق أحق الغيوث بالحمد يعني الممدوح جعله غيثا وجعل الناس كلهم لاحتياجهم إليه جرادا فإن الجراد حياته في الغيث والكلأ وهذا قول ابن جنى وأحسن من هذا واصح أنه جعل الممدوح غيثا لعموم صلاحه وجعل الناس كلهم كالجراد لشيوع فسادهم ولأنهم سبب الفساد يدل على صحة هذا قوله
مثل ما أحدث النبوة في الع ... الم والبعث حين شاع فسادهْ
يقول لما شاع الفساد في العالم بالناس الذين جعلهم كالجراد خلق ابن العميد ليستدرك به ذلك الفساد كما أنه لما عم الكفر والشرك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وهذا من قول الفرزدق، بعثت لأهل الدين عدلا ورحمةً، وبرءاً لآثار الجروح الكوالم، كما بعث الله النبي محمداً، على فترةٍ والناس مثل البهائمِ،
زانت الليل غرة القمر الطا ... لعِ فيه لم يشنها سوادهْ
لما ذكر عمومَ الفساد في الناس والزمان ذكر أن ذلك الفساد لا يتعدى إليه وأنه سبب لأصلاحه كالقمر يطلع فيجلو سواد الليل ولا يشينه ذلك السواد
كثر الفكر كيف نهدي كما أه ... دت إلى ربها الرئيسٍ عبادهْ
والذي عندنا من المال والخي ... لِ فمنه هباتهُ وقيادهْ
يقول أكثرت الفكر فيك كيف أهدي إليك شيئا كما يهدي العبيد إلى ربها وكل ما كان عندنا من المال والخيل فمن عندك وهبته وقدته إليّ وهذا من قول ابن الرومي، منك يا جنة النعيم الهدايا، أفنهدي إليك ما منك يهدى،
فبعثنا بأربعين مهاراً ... كل مهرٍ ميدانه إنشادهْ
المهار جمع مهر يقال مهر ومهار وأمهار والكثير مهار يعني أربعين بيتا من الشعر ميدانُ كلِّ بيت إنشاده إي إذا أنشد عرف قدره كما أن المهر إذا أجري في الميدان عرف جريه
عدد عشته يرى الجسم فيه ... أربا لا يراهُ فيما يزادهُ
أي الأربعين عدد عشته دعاء له بأن يعيش هذا العدد من السنين على ما عاشه وكان ابن العميد قد جاوز السبعين وناهز الثمانين في هذا الوقت والمعنى زاد الله في عمرك هذا العدد ثم قال والجسم لا يرى من أرب العيش فيما زاد على الأربعين ما كان يراه فيما دونه أي فلهذا اخترت هذا العدد فجعلت القصيدة أربعين بيتا
فارتبطها فإن قلبا نماها ... مربط تسبق الجياد جيادهْ
لما عبر عن الأبيات بالمهار عبر عن حفظها وإمساكها بالارتباط ليتجانس الكلام وقوله أن قلبا نماها يعني قلب نفسه يقول إن قلبا أنشأ هذه الأبيات وصنعها جياده تسبق جياد كل مربط وعني بالجياد الأبيات أيضا وورد على أبي الطيب كتاب أبي الفتح بن العميد يذكر سروره وشوقه إليه فقال إرتجالا
بكتب الأنام كتاب وردْ ... فدت يد كاتبهِ كل يدْ
يعبر عما له عندنا ... ويذكر من شوقهِ ما نجدْ
أي ذلك الكتاب يعبر عن شوقٍ نجدهُ إليه أي إنا نشتاق إليه كما يشتاق هو إلينا ويذكر من شوقه إلينا ما نجده من الشوق إليه وروى ابن جنى لنا عنده
فأخرق رائيه ما رأى ... وأبرق ناقده ما انتقدْ
يقال خرق الظبي إذا فزع وتحير وكذلك خرق الرجل وأخرقه وبرق إذا تحير فشخص بصره وأبرقه غيره يقول الذي رأى هذا الكتاب حيره من رآه من حسن الخط والذي انتقد لفظه أبرقه ما انتقده من حسنه
إذا سمع الناس ألفاظه ... خلقن له في القلوب الحسدْ
أي ألفاظه تحدث له الحسد في القلوب فتحسده قلوبُ السامعين على حسن لفظه
فقلت وقد فرس الناطقين ... كذا يفعل الأسدُ ابن الأسدْ
جعل أحرازه خصل الفصاحة دون غيره من الناس كالفرس أي أنه وصل من الاستيلاء عليهم إلى مثل ما يصل إليه الأسد إذا فرس فريسته ولما وصفه بالفرس جعله أسدا في باقي البيت لأن الفرس من أفعال الأسد ولو خرس المتنبي ولم يصف كتاب أبي الفتح بن العميد بما وصف لكان خيرا له وكأنه لم يسمع قط وصف كلامس وأي موضعٍ للأخراق والأبراق والفرس في وصف الألفاظ والكتب هلا احتذى على مثل قول البحتري في قوله يصف كلام ابن الزيات، في نظام من البلاغة ما شك امرؤ أنه نظام فريد، وكلام كأنه الزهر الضاحك في رونق الربيع الجديد، مشرق في جوانب السمع ما يخلفه عوده على المستعيدِ، ومعانٍ لو فصلتها القوافي، هجنت شعر جرولٍ ولبيد، حزن مستعمل الكلام اختياراً، وتجنبن ظلمة التعقيد، أو هلا ربع على ظلعه فلم يكن معورا تبدو مقاتلهُ(1/372)
وقال أيضا يودع ابن العميد عند مسيره إلى بلد فارس سنة 354
نسيت وما أنسى عتاباً على الصد ... ولا خفراً زادت به حمرةُ الخد
يقول نسيت كل شيء ولا أنسى ما جرى بيني وبينه من العتاب على الصدود ولا أنسى الذي غشيه عند العتاب من الحياء الذي ازدادت به حمرة وجهه وهم كثيرا ما يذكرون ما جرى بينهم وبين الحبيب عند التوديع كما قال الآخر، ولست بناسٍ قولها يوم ودعت، وقد رحلت أجمالنا وهي وقف، أأنت على العهد الذي كان بيننا، فلسنا وحق الله عن ذاك نصدف، فقلت لها حفظي لعهدك متلفي، ولولا حفاظ العهد ما كنت أتلف، ومثله كثير ومن روى نسيت بضم النون كان معناه نسيني الحبيب ولا أنسى ما جرى بيني وبينه من العتاب ونتائجه
ولا ليلة قصرتها بقصورةٍ ... أطالت يدي في جيدها صحبة العقدِ
المرأة القصيرة والقصور المحبوسة في خدرها الممنوعة من التصرف من القصر وهو الحبس وقد بين كثير تفسير القصيرة في قوله، وأنتِ التي حببتِ كل قصيرةٍ، إليَّ وما تدري بذاك القصائرُ، عنيت قصيراتِ الحجالِ ولم أرد، قصار الخطا شر النساء البحاترُ، يقول لا أنسى ليلةً قصرت عليّ لطيب صحبتي مع هذه القصيرة ومعانقتي إياها حتى طالت صحبة اليد للعقد في جيدها
ومن لي بيومٍ مثل يوم كرهتهُ ... قربت به عند الوداعِ من البعدِ
يقول من يكفل لي بأن يكون لي يومٌ كيوم الوداع الذي كرهته وإنما تمنى مثل ذلك اليوم لأنه قرب بعد بعده للتوديع وهم أبدا يتمنون مثل يوم التوديع لأن المودع يحظى بالنظر والتسليم كما قال آخر، من يكن يكره الوداع فإني، أشتهيه لعلةِ التسليم، إن فيه اغتناقةً لوداعٍ، وانتظار اعتناقةٍ لقدومِ، ويكأن قبلةٌ وغيبةث شهر، هي أجدى من امتناع مقيم، وقال أبو الطيب، ما زلت أحذر من وداعك جاهدا، البيت
وأن لا يخص الفقد شيئا فإنني ... فقدت ولم أفقد دموعي ولا وجدي
يقول ومن لي بأن لايكون الفقد مخصوصا فإنني فقدت الحبيب ولم أفقد البكاء ولا الوجد بتمنى أن يكون الفقد عموما لا خصوصا حتى إذا فقد الحبيب فقد الدموع والوجد أيضا
تمن يلد المستهام بمثلهِ ... وإن كان لا يغنى فتيلا ولا يجدي
يقول ما ذكرته هو تمن لا حقيقة له غير أن المستهام يلتذ بالتمني وإن كان ذلك لا ينفعه ولا يغني عنه شيئا كما قال الآخر، منى إن تكن حقًّا تكن أحسن المنى، وإلا فقدْ عشنا بها زمناً رغدا، وقال البحتري، تمنيت ليلى بعد فوتٍ وإنما، تمنيتُ منها خطةً لا أنالها، وقال آخر، وأعلم أن وصلك ليس يرجى، ولكن لا أقل من التمني، ويلذ بمعنى يلتذّ ويقال لذّ لي كذا أي طاب ولذذت كذا الذه لذا ولذاذةً التذذته التذه وهو لذ ولذيذ وملتذ والفتيل ما يكون في شق النواة يضرب مثلا للشيء الحقير
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القدِّ
يقول ولي غيظ على الأيام يلتهب في الحشا التهاب النار ولكنه غيظ على ما لا يبالي بغيظي لأن الأيام لا تعينني ولا ترجع إلى مرادي وهو كغيظ الأسير على ما شد به من القدّ
فإما تريني لا أقيمُ ببلدةٍ ... فآفةُ غمدي في دلوقي وفي حدي
الدلوق سرعة أنسلال السيف وخروجه من الغمد يقال سيف دالق ودلقِ قال ابن جنى يقول إن الذي ترينه من شحوبي وتغيري إنما هو لمواصلتي السير والتطواف في البلاد لبعد همتي وتنائي مطلبي كالسيف الحاد إذا أكثر سله وأغماده أكل جفنه وليس مما ذكره شيء في البيت كل ذلك مما هجس له في خاطره فتكلم به وليس يكون الدلوق بمعنى السل والإخراج ولا للشحوب والتغير وبعد الهمة ذكر في البيت ولكنه يقول إن رأيتني منزعجا لا أقيم فإن ذلك لمضائي كالسيف الذي حدة حده تخرجه من غمده ونحو هذا قال ابن فورجة قال يعتذر من قلة مقامه في البلدان يقول وهذا من فعلي سببه أني كالسيف الحاد آكل جفني وأدلق منه
يحل القنا يوم الطعان بعقوتي ... فأحرمهُ عرضي وأطعمه جلدي
يقول إذا كان يوم الطعان أطعمت الرماح جلدي وجعلته وقايةً لعرضي يريد أنه إذا اصيب جلده بالطعن كان أهون عليه من أن يعاب عرضه بالهدرب وهذا من قول جهم بن شبل الكلابي، أخو الحرب أما جلدهُ فمجرحٌ، كليمٌ وأما عرضه فسليمُ،
تبدل أيامي وعيشي ومنزلي ... نجائبُ لا يفكرن في النحس والسعدِ(1/373)
يقول هذه النوق النجائب يمضين بين مصمماتٍ لا يلتفتن إلى نحس وسعد فلي بسيرها كل يوم منزل وعيش مبدل غير الذي كان بالأمس وكذلك المسافر له كل يوم منزل وأصحاب
وأوجه فتيانٍ حياءً تلثموا ... عليهن لا خوفا من الحر والبردِ
يريد بالفتيان غلمانه والحياء مما يوصف به الكرام يقول لشدة حيائهم ستروا وجوههم باللثام لا من الحر والبرد والمعنى وتبدل أيامي أوجه الفتيان أي أنا أبدا اسير على هذه الإبل في هؤلاء الغلمان
وليس حياء الوجه في الذئب شيمةً ... ولكنه من شيمة الأسد الوردْ
هذا مدح للحياء يقول الذئب الموصوف بالمعايب والخبث ليس الحياء من شيمته وإنما يوصف بالقحة فيقال أوقح ن ذئب ولكن الحياء من شيم الأسد وذلك أنه في طبعه كرما وحياء فيقال إن من واجهه واحد النظر في وجهه استحيا منه الأسد أن يفترسه والمعنى أن حياءهم ليس بمزرٍ بهم كما أنه لا يعيب الأسد حياؤه يصفهم بشدة الأقدام مع فرع الحياء
إذا لم تجزهم دار قومٍ مودةٌ ... أجاز القنا والخوفُ خير من الودِّ
قال ابن جنى يقول خافوا من عدو اعتصموا منه بالقنا قال ابن فورجة أين ذكر خوفهم العدو وأين لفظ الاعتصام وإنما يقول إذا لم يمكنهم أن يجتازوا على ديار بالمودة حاربوا فيها وجازوها هذا كلامه وهو على ما قال والمعنى أنهم إذا بلغوا في أسفارهم منازل قوم لم يكن بينهم وبين سكانها مودة اجازتهم رماحهم فلم يخافوا أهل تلك الناحية ثم قال وأن تخاف خير من أن تحب لأن من أطاعك خوفا منك فهو ابلغ طاعة ممن يطيعك بالمودة كما تقول العرب رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم
يحيدون عن هزل الملوك إلى الذي ... توفر من بين الملوك على الجد
يقول هؤلاء الفتيان يجتنبون عن الهازل من الملوك يعني الذي يشتغل باللهو من الطراد وشرب الخمور ويأتون من توفر على الجد وترك الهزل يعني ابن العميد
ومن يصحب اسم ابن العميد محمد ... يسر بين أنياب الأساود والأساد
أي من أجرى ذكره على لسانه أمكنه السير بين أنياب الحيات والأسود لبركة اسمه
يمر من السم الوحي بعاجز ... ويعبر من أفواههن على درد
الوحي السريع والدرد جمع أدرد وهو الذي ذهبت أسنانه يعني أن السم السريع القتل لا يعمل فيمن يذكر اسمه ولا أنياب الأسود حتى كأنها درد
كفانا الربيع العيس من بركاته ... فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد
يقول كفانا حداء العيس لأن الرعد قام لها مقام صوت الحادي فصار كأنه يحدو الإبل وهذا من بركة الممدوح
إذا ما استجبن الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في إناء من الورد(1/374)
روى ابن جنى إذا ما استحين الماء فرواه كرعن بسبت وفسر أن الإبل استحيت الماء لكثرة عرض نفسه عليها ثم قال والسبت مشافرها للينها ونقائها قال يقول إذا مرت هذه الإبل بالمياه التي غادرتها السيول فلكثرتها صارت كأنها تعرض أنفسها على الإبل فتشرب منها كأنها مستحيية منها لكثرة عرضها نفوسها عليها وإن كان لا عرض هناك ولا استحياء في الحقيقة ولكنه جرى مثلا وكرعن شربن واصله من ادخال أكارع الشاربة في الماء للشرب وجعل الموضع المتضمن للماء لكثرة الزهر فيه كأنه إناء من ورد هذا كلامه ومعنى البيت على روايته وتفسيره أنه يصف كثرة مياه الأمطار في طريقه وأنه أينما ذهب رأى الماء فكأنه يعرض نفسه على الإبل والإبل تستحي من ود الماء إذا كثر عرضه نفسه عليها فتكرع فيه بمشافر كأنها السبت والأرض قد انبتت الأزهار والأنوار فكأنها إناء لذلك الماء من الورد قال أبو الفضل العروضي ما أصنع برجل ادعى أنه قرأ هذا الديوان على المتنبي ثم يروي هذه الرواية ويفسر هذا التفسير وقد صحت روايتنا عن جماعة منهم محمد بن العباس الخوارزمي وأبو محمد بن أبي القاسم الحرضي وأبو الحسن الرخجي وأبو بكر الشعراني وعدة يطول ذكرهم رووا، إذا ما استجبن الماء يعرض نفسه، كرعن بشيب أن تترشف الإبل الماء وحكاية صوت مافرها عند شرب الماء شيب شيب ومنه قول ذي الرمة، تداعين باسم الشيب البيت هذا كلامه وليس ما قاله ابن جنى ببعيد عن الصواب والكرع في الماء بالسبت أحسن لأن مشفر الإبل يشبه في صحته ولينه بالسبت وهو جلود تدبغ بالقرظ ومنه قول طرفة، وخد كقرطاس الشآمي ومشفر، كسبت اليماني قده لم يحرد، يقول فتكرع فيه بمشافرها التي هي كالسبت وشيب صحيح في حكاية صوت المشافر عند الشرب ولكن لا يقال كرعت الإبل في الماء بشيب إذا شربته والسبت هاهنا أولى
كأنا أرادت شكرنا الأرض عنده ... فلم يخلنا جو هبطناه من رفد
أراد بالجو المتسع من الأرض والرفد العطاء يقول كل موضع نزلناه في طريقنا إليه أصبنا به ماء وكلأ وكأن الأرض أرادت أن نشكرها عنده تقربا إليه
لنا مذهب العباد في ترك غيره ... وإتيانه نبغي الرغائب بالزهد
يقول لنا في ترك غيره من الملوك وإتيانه مذهب الزهاد الذين يزهدون في الدنيا لينالوا أكثر مما تركوا وأبقى في الآخرة كذلك نحن إنما تركناهم وأتيناهم وأتيناه لعلمنا إنا نصيب منه أكثر مما نصيب من سواه فنحن نطلب الرغائب بزهدنا في غيره
رجونا الذي يرجون في كل جنة ... بأرجان حتى ما يئسنا من الخلد
أي رجونا عنده من النعم ما يرجو العباد في الجنة أي أنه محقق رجاء من يرجوه فلثقتنا برجائنا نرجوا ببلده ما يرجوه العباد في الدنان حتى ما يئسنا من الخلود وإنما قال هذا لانه جعل بلدته أرجان كالجنة والجنة موعودٌ فيها الخلود ولما كانت بلدته كالجنة رجونا فيها الخلود
تعرض للزوار أعناقُ خيلهِ ... تعرض وحشٍ خائفاتٍ من الطردِ
يعني أ، خيله تهاب زواره لأنه يهبُها لهم فهي كوحش خافت طردا من الصائد تتعرض لهم على خوفٍ ونفارٍ
وتلقى نواصيها المنايا مشيحةً ... ورود قطاً صمٍّ تشايحن في وردِ
يقول وتلقى المنايا خيله مجدةً مسرعةً كما ترد القطا الماء إذا أسرعت في الورود وجعلها صما كيلا تسمع شيئا تتشاغل به عن الطيران فيكون أسرع لها ومنه قول ذي الرمة، ردي ردي ورد قطاةٍ صمآ، كدريةٍ أعجبها وردُ الما، والمشيحة المجدة ومنه قول القائل، وإقدامي على الغمراتِ نفسي، وضربي هامةَ البطلِ المشيحِ،
وتنسبُ أفعالُ السيوفِ نفوسها ... إليه وينسبن السيوفُ إلى الهندِ(1/375)
يقول ابن جنى وذلك أن أفعال السيوف أشرف من السيوف فأفعال السيوف تتشبه بأفعاله في مضائه وحدته وينسبن السيوفُ إلى الهند ألا ترى أنه يقال سيف هندي وسيف يمانٍ وفعل السيف أشرف منه كذلك أنت أشرف من الهند قال ابن فورجة قد غلط حتى لا أدري أي أطراف كلامه أقرب إلى المحال ولم يجرِ ذكر للتشبيه وإنما يقول إنها تنسب أفعالها إيه أي تقول هذه الضربة العظيمة من فعله لا من فعلنا وهذا كقوله، إذا ضربت بالسيف في الحرب كفه، البيت والمعنى أنها نسبت الفعل إلى كفه ونسبت السيوف إلى الهند وهذا معنى لطيف يقول أن ضربة السيف العظيمة تنسب نفسها إليه لأنها حصلت بقوته وتنسب السيف أيضا إلى الهند لأنها دلت على جودة عمله فالضربة قد دلت على قوة الضارب ودلت على جودة السيف وليس في هذا أ، هـ أشرف من الهند وكل ما قاله أبو الفتح في تفسير هذا البيت هذر محالٌ انتهى كلامه وقد أحسن في هذا التفسير غير أنه لم يبين كيفية هذا النسب والمعنى أن الضربة بجودتها تدل على أنها حصلت بكف الممدوح فالدلالة هي نسبة نفسها إليه ودلت أيضا على أنها حصلت بسيف هنديّ أي قد اجتمع فيها قوة اليد وجودة النصل
إذا الشرفاء البيض متوا بقتوهِ ... أتى نسبٌ أعلى من الأب والجدِّ
الشرفاء جمع شريف والبيض السادة الكرام ومتوا تقربا يقال فلان يمت إلى فلان بحرمة وقرابة والقتو الخدمة يقال قتا يقتو قتوا ومقتًى وينسب إليه فيقال مقتوى والجماعة مقتويون ويجوز حذف التشديد فيقال مقتوون ومنه قول عمرو، متى كنا لأمك مقتوينا، وهذا كقوله تعالى على بعض الأعجمين يقول إذا تقرب الكرام إليه بخدمته حصل لهم نسبٌ أعلى من نسب الأب والجد أي صاروا بخدمته أعز منهم بأبيهم وأمهم
فتًى فاتتِ العدوى من الناسٍ عينهُ ... فما أرمدت أجفانهُ كثرةُ الرمدِ
أي سبقت عينه العدوى فلم يعدها الرمد وهذا مثلٌ يقول لم يتعد إلى عينه عمى الناس عن دقائق الكرم يقول الناس عميٌ وأنت فيما بينهم بصيرٌ فلا يعديك عماهم يريد أن عيوب الناس لم يتعد إليه وقد بين هذا فقال
وخالقهم خلقا وموضعا ... فقد جل أن يعدي بشيء وأن يعدي
أي هو أجل من أن يعدي بشيء مما في الناس وأن يعدي هو أيضاً لأن الناس لا يغلبون مرتبة من الفضل فلا يقدرون على أخذ أخلاقه فهو إذاً لا يعدي أحد ما فيه من الأخلاق والشريعة ولذلك خالفهم فيها.
يغير ألوان الليالي على العدى ... بمنشورةٍ الراياتِ منصورةِ الجندِ
يغير على أعدائه الوان الليالي وهي مظلمةٌ فيصيرها مشرقةً ببريق سلاح عساكره التي هي منشورة الرايات منصورة الجند
إذا أرتقبوا صبحاً رأوا قبل ضوئهِ ... كتائب لا يردي الصباحُ كما تردى
الرديان ضرب من العدو والمعنى أن عساكره يأتون أعداءهم قبل الصبح ويسرعون إليهم إسراعا لايسرعه الصبح
ومبثوثةً لاتتقي بطليعةٍ ... ولايحتمي منها بغورٍ ولا نجدِ
ورأوا كتائب متفرقةً في كل ناحية لا يمكنهم أن يتقوها بالطلائع ولا أن يحترزوا منها بمنخفضٍ من الأرض أو عالٍ منها
يغصن إذا ما عدن في متفاقدٍ ... من الكثر غانٍ بالعبيدِ عن الحشدِ
روى ابن جنى يغضن أي يدخلن من غاض الماء في الأرض هذا تفسيره والأولى على هذه الرواية أن يفسر يغضن بالنقصان فيقال ينقصن وغاض الماء معناه نقص وإن لم يكن نقصانه بالدخول في الأرض وروى غيره يغصن من الغوص وهو الدخول في الشيء والمتفاقد الذي يفقده بعضه بعضا لكثرتهم والتفافهم كما قال الآخر، بجمعٍ تضل البلق في حجراته، وغانٍ بمعنى مستغنٍ والحشد الجمع يقول سراياه إذا عادت إلى معظم جيشه الذي يفقد فيه الشيء فلا يوجد والمستغني بعبيد الممدوح عن أن يجمع الرجال الغرباء إليه نقصت وقلت كثرتها أي بالقياس إلى المعظم والإضافة إليه يريد أن هذا الجيش الكثير كلهم عبيد الممدوح ليس أوباشا اخلاطا
حثت كل أرضٍ تربةً في غباره ... فهن عليه كالطرائق في البردِ
يقول جيشه لبعد من يسافر ويغزو يمر بأمكنةٍ مختلفٍ ترابها فيثير نقع كل مكان فتختلف الوان غباره حتى تصير تلك الالوان كطرائق البرد منها أسود ومنها أحمر ومنها أبيض ومنها أصفر
فإن يكن المهدي من بان هديهُ ... فهذا وإلا فالهدي ذا فما المهدي(1/376)
يقول إن كان المهدي في الناس من ظهر سمته وصلاحه وهذاه فهذا الذي نراه هو المهدي الموعود يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وإن لم يكن هذا هو الموعود فما نراه نحن من طريقته وسيرته هدًى كله فما معنى المهدي بعد هذا
يعللنا هذا الزمان بذا الوعد ... ويخدع عما في يديه من النقدِ
يقول الزمان يعدنا خروج المهدي فيعللنا بوعدٍ طويلٍ ويخدعنا عما عنده من النقد بالوعد يعني أن الممدوح هو المهدي نقدا حاضرا وما ينتظر خروجه وعدٌ وتعليلٌ وخداعٌ ثم أكد هذا الكلام فقال
هل الخير شيء ليس بالخيرِ غائبٌ ... أم الرشد شيء غائبٌ ليس بالرشدِ
يقول لا ينبغي أن يعتقد في الخير والرشد الحاضرين أنهما ليسا بخير ولا رشدٍ كذلك لا ينبغي لك أن يقال ليس ابن العميد المهديَّ والمهدي غيره وهذا استفهام معناه الإنكار
أأحزم ذي لبٍّ وأكرم ذي يدٍ ... وأشجع ذي قلبٍ وأرحمَ ذي كبدِ
أراد يا أحزم لبٍّ وحقه أن يقول ذوي اللب إلا أنه أجرى قوله مجرى من أي يا أحزم من له لبٌّ ومن لفظه لفظ الواحد
وأحسن معتمٍّ جلوساً وركبةً ... على المنبرِ العالي أو الفرسِ النهدِ
أراد وأحسن معتم جلوسا على المنبر وركبةً على الفرس النهد وهو العالي قال ابن جنى شبه إرتفاع مجلسه بالمنبر لا أنه كان ذا منبر خطيبا في الحقيقة قال ابن فورجة ظن أبو الفتح أن الخطبة عيبٌ بالممدوح وإزراءق به وما ضر ابن العميد أن يدعى له المتنبي أنه يصعد المنبر فيخطب قومه كما يفعل الخليفة والإمامِ
تفضلت الأيامُ بالجمعِ بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمدِ
يقول لما حمدنا الأيام بالإجتماع معك لم تدم لنا ذلك الحمد لأنها أحوجت إلى الرحيل والإنصراف عنك
جعلن وداعي واحداً لثلاثةٍ ... جمالك والعلمِ المبرحِ والمجد
العلم المبرح التام العزيز وقال أبو الفتح هو الذي يكشف عن الحقائق من قولهم برح الخفاء أي أنكشف الأمر هذا قوله ولم يصف أحدٌ العلم بالتبريح غير أبي الطيب إنما يقال وجد مبرح ويستعمل فيما يشتد على الإنسان والمعنى أنه يودع بوداع الممدوح هذه الأشياء
وقد كنتُ أدركتُ المنى غير أنني ... يعيرني أهلي بإدراكها وحدي
أي أدركت من الغنى ونيل المراد من الدنيا ما كنت أتمناه وإذا أنفردت به دون أهلي ولم أرجع إليهم عيروني بالإنفراد بذلك
وكل شريكٍ في السرور بمصبحي ... أرى بعدهُ من لا يرى مثله بعدي
روى ابن جنى بمصبحي وهو بمعنى الإصباح يقول كل من شاركني في السرور بمصبحي عنده إذا اعتدت إليه من أهلي وغيرهم ورأى ما أوتيته أرى بعده منك يا ابن العبيد إنسانا لا يرى هو مثله بعد مفارقتي إياه لأنه لا نظير لك في الدنيا
فجد لي بقلبٍ أن رحلتُ فإنني ... أخلف قلبي عند من فضلهُ عندي
يريد أنه يرتحل عنه ويخلف قلبه عنده لحبه إياه بكثرة إنعامه عليه
ولو فارقت جسمي إليك حيوتهُ ... لقلتُ أصابت غير مذمومةِ العهدِ
يقول لو أن نفسي فارقت حيوتها وآثرتك على الحيوة لم أنسبها إلى سوء العهد قال يمدح أبا شجاع عضد الدولة فانخسرو
أوهِ بديلٌ من قولتي واها ... لمن نأت والبديلُ ذكراها
أوه كلمة التوجع قال، فأوهِ لذكراها إذا ما ذكرتها، ومن بعد أرضٍ بيننا وسماء، وواها كلمةُ التعجب والاستطابة ومن قول أبي النجم، واهاً لريا ثم واهاً واها، يقول كنت أتعجب من طيب وصالها فصرت أتوجع الآن لفراقها وصار التأوه بدلا من التعجب وقوله لمن نأت أي لأجلها صار هذا بديلا من ذلك وقوله والبديل ذكراها يقول ذكرى إياها صار بدلا لي منها بعد أن فارقتني ويجوز أن يكون المعنى أن هذا البدل الذي هو التوجع ذكرى لها أي كلما ذكرتها توجعت وقلت أوهِ
أوه من لا أرى محاسنها ... وأصل واها وأوهِ مرآها
يقول أتوجع لفقد النظر إلى محاسنها ولو لم أرها ما كنت أتعجب منها ولا كنت أتوجع لها أي إنما أتاني هذان بسبب رؤيتها
شاميةٌ طالما خلوت بها ... تبصرُ في ناظري محياها
هذا يحتمل معنيين أحدهما أنه يريد فرط قربها منه حتى أنها منه بحيث ترى وجهها في ناظره وهذا عبارةٌ عن غاية القرب والآخر أنه أراد حبها إياه فهي تنظر إلى وجهه وتدنو منه لحبه حتى ترى وجهها في ناظره(1/377)
فقبلت ناظري تغالطني ... وإنما قبلت به فاها
يقول قبلت مرآة عيني وغالطتني بذلك التقبيل لأنها أرتني أنها تقبلني وهي كانت تقبل فاها لأنها كانت ترى فمها في ناظري
فليتها لا تزال آويةً ... وليتهُ لا يزال مأواها
يقول ليت ناظري مأواها أبدا وليتها لا تزال تأوى إلى ناظري وهذا يحتمل وجيهن أحدهما أنه تمنى القرب الذي ذكر والآخر أنه يرضى بأن يكون بصره مأواها من حبه إياها يقول لو أوت إلى ناظري فاتخذته مأوًى لها كان ذلك مناي وروى ابن جنى آويةُ ثم احتج للتذكير واحتال والرواية على التأنيث
كل جريحٍ ترجى سلامتهُ ... إلا فؤادا دهته عيناها
دهته اصابته يقول من أصابته بعينها فتيمته لم ترج سلامته
تبل خدي كلما ابتسمت ... من مطرٍ برقهُ ثناياها
قال ابن جنى دل بهذا على أنها كانت مكبةً عليه وعلى غاية القرب منه قال ابن فورجة أيظنها وقعت عليه تبكي حتى سال دمعها عليه ومعنى البيت أن دموعي كالمطر تبل خدي أي كلما ابتسمت بكيت فكان دمعي مطرٌ برقه بريق ثناياها إذ كان بكائي في حال ابتسامها كقوله أيضا، ظلت أبي وتبسمُ وكقول غيره، أبكي ويضحك من بكاي ولن ترى، عجبا كحاضر ضحكه وبكائي، ونحو هذا قول الخوارزمي، عذيري من ضحكٍ غدا سبب البكا، ومن جنةٍ قد أوقعت في جهنمِ،
ما نفضت في يدي غدائرها ... جعلتهُ في المدام أفواها
أفواه الطيب أخلاطه واحدها فهو يريد أن غدائرها لكثرة ما استعملت فيها الطيب ينتفض منها الطيب يقول ما نفضته غدائرها في يدي طيبت به المدام
في بلد تضرب الحجال به ... على حسان لسن أشباها
يقول هي في بلد الحسان المحبوسات في الحجال كثيرة بذلك البلد ولسن أشباها لهذه لأنها تفضلهن في الحسن والجمال ويجوز أن يكون المعنى أن كل واحدة منهن منفردة من الحسن بما لا يشاركها فيه غيرها فلا يشبه بعضهن بعضا
لقيننا والحمول سائرة ... وهن در فذبن أمواها
يقول هؤلاء الحسان لقيننا وقد سارت الركاب وهن لرقتهن وضيائهن در فصرن سرابا لما بعدن عنا وقال ابن جنى أي أجرين دموعا أسفا علينا وقال غيره سرن في البوادي سائرة ويجوز أن يكون المعنى غبن عنا فإن الدر جامد والذوب يسيله
كل مهاة كأن مقلتها ... تقول إياكم وإياها
كل امرأة مهاة في الحسن وكأن مقلتها تقول للناظرين إليها احذروا أن تصيدكم وتسبيكم والمعنى أنها مهاة صائدة لا مصيدة
فيهن من تقطر السيوف دما ... إذا لسان المحب سماها
يقول فيهن من هي منيعة لا يقدر العاشق على أن يذكرها ولو ذكرها لقطرت السيوف دما لكثرة من يمنعها بسيف
أحب حمصا إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها
يقول أحب ما بين هذين المكانين فكل تحب مكان حيوتها وحيث نشأت به
حيث التقى خدها وتفاح لب ... نان وثغري على حمياها
أي حيث اجتمعت لي هذه الطيبات خد الحبيب وتفاح الشأم وشرب المدام على هذين
وصفت فيها مصيف بادية ... شتوت بالصحصحان مشتاها
يقول أقمت بها صيفا كصيف البدويين وأقمت بالصحصحان شتاء كشتاء أهل البادية أي على رسم أهل البدو في الصيد وما ذكر بعده
إن أعشبت روضة رعيناها ... أو ذكرت حلة غزوناها
هذا البيت تفسير للذي قبله يقول إذا أعشبت مكان رعينا ذلك المكان كعادة أهل البادية في تتبع مساقط الغيث وإذا ذكر لنا قوم حلوا بمكان غزوناهم وأغرنا عليهم والحلة أسم لأبيات وجماعة نزلوا بمكان حي حلال وهي جمع حلة
أو عرضت عانة مقزعة ... صدنا بأخرى الجياد أولاها
العانة القطيع من الحمر والمقزعة المفرقة التي كالقزع وهي قطع السحاب يقول إذا ظهر لنا قطيع من حمر الوحش صدنا بآخر خيلنا أولاها يريد أن خيلهم سريعة تلحق آخرها أول القطيع والمقزعة رواية ابن جنى وقال ابن فورجة الذي رواه الناس مفزعة بالفاء يعني إنها قد فزعت فهو أخف لها وأشد على قابضها
أو عبرت هجمة بنا تركت ... تكوس بين الشروب عقراها
الهجمة من الإبل ما بين السبعين إلى ما دونها والكوس المشي على ثلث قوائم يقول إذا مر بنا قطيع من الإبل عرقبناها للنحر فتركناها تمشي بين الشاربين معرقبة
والخيل مطرودة وطاردة ... تجر طولي القنا وقصراها(1/378)
يعني أنها في مطاردة الفرسان بعضها مطرود وبعضها طارد وفي لعبهم بالرماح تجر الطويلة منها والقصيرة والطولى تأنيث الأطول والقصرى تأنيث الأقصر
يعجبها قتلها الكماة ولا ... ينظرها الدهر بعد قتلاها
أخبر عن الخيل وأضاف القتل إليها وهو يريد أصحابها والمعنى يعجب فرسان الخيل قتلهم الكماة ولا يلبثون أن يقتلوا بعدهم لكثرة المغاورة وفشو الحرب وطلب الثار قال ابن فورجة يقول لو كان قتل الأعداء بعده بقاء لكان من النعم المغبوطة لكن الدهر لا ينظر القاتل بعد القتيل وأجاز ابن جنى أن يكون المعنى على الأخبار عن الخيل على معنى يعجب خيلنا قتل الكماة قال والخيل تعرف كثيرا من أغراض صاحبها لأنها مؤدبة معلمة فجاز أن توصف بهذا وقوله ولا ينظرها الدهر بعد قتلاها قال لأنه إذا قتل الفارس عقرت الخيل بعده وهذا ليس بشيء لأنه يريد بقتلاها من قتلته وقتله أصحابها فهو يريد خيل القاتلين لا خيل المقتولين والمعنى أن أصحابها يميتونها بالتعب ويهلكونها بكثرة الركض بعد الذين قتلوهم فلا بقاء لها بعدهم
وقد رأيت الملوك قاطبةً ... وسرت حتى رأيت مولاها
ومن مناياهم براحته ... يأمرها فيهم وينهاها
يقول رأيت الملوك كلهم بأجمعهم وسرت في الأرض وسافرت حتى رأيت أعظمهم الذي يحيى من شاء منهم ويميت من شاء ومناياهم بكفه يصرفها فيهم كيف شاء
أبا شجاع بفارسٍ عضد ال ... دولة فناخسرو شهنشاها
أسامياً لم تزده معرفةً ... وإنما لذةً ذكرناها
نصب أساميا بفعل مضمر كأنه قال ذكرت أساميا يعني ما ذكر قبل هذا البيت قال ابن جنى وهذا كلام النحويين في أحد ضربي الوصف تناوله منثورا فنظمه وذلك أنهم يقولون إنما يذكر الوصف للاسم أما للايضاح كي يتميز عن غيره أو للاطناب والثناء كولك زيدٌ الظريف تخصيص له من غيره وتمييز وقولنا بسم الله الرحمن الرحيم ثناء واطناب ولم نذكره للتمييز كذلك قوله أساميا قال إنما ذكرته استلذاذا للثناء عليه لا لأميزه بها عن غيره
تقود مستحسن الكلام لنا ... كما تقود السحاب عظماها
يقول هذه الأسامي محمولة على المعاني فهي ترجمتها تقود إذا ذكرت ما وضعت له فيحسن الكلام بها ويجوز أن يريد بقودها مستحسن الكلام أنها سبقت إلى الذكر فهي مقدمة معانٍ أذكرها بعد وأصفه بها كما يقود معظم السحاب الباقي
هو النفيس الذي مواهبهُ ... أنفس أمواله وأسناها
لو فطنت خيله لنائلهِ ... لم يرضها أن تراه يرضاها
لو علمت خيله جوده لم ترض بأن يرضاها الممدوح لأنه إذا رضيها وهبها لزائريه فتفارق مربطه
لا تجد الخمر في مكارمهِ ... إذا انتشى خلةً تلافاها
يقول هو قبل الشرب متكرم بالبذل والعطاء فلا يزيد تكرمه بشرب الخمر وليست في مكارمه خلة تتلافاها الخمر وأول هذا المعنى لعنترة حيث يقول، وإذا صحوت فما أقصر عن ندى، وكما علمت شمائلي وتكرمي، وقريب من هذا قول زهير، أخو ثقةٍ لا تهلك الخمر ماله، ولكنهُ قد يهلك المال نائلهْ، وقول أبي نواس، فتًى لا تلوك الخمر شحمة مالهِ، ولكن أيادٍ عودٌ وبوادي، وقول البحتري، تكرمت من قبل الكؤوس عليهم، فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما، وألم الصابي بقول المتنبي فقال في بعض محاوراته ولقد آتاه الله في اقتبال العمر جوامع الفضل وسوغه في عنفوان الشباب محامد الإستكمال فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدى وثلمةً تسدها بمزايا الحنكة.
تصاحب الراح أريحيته ... فتسقط الراح دون أدناها
الأريحية النشاط للكرم والجود يقول إذا اجتمعت الراح مع نشاطه للجود فأدنى أريحيته تجلب من السخاء ما لا تجلبه الراح أراد أن فعل أريحيته فوق فعل الراح فلا تطيق الراح أن تسامي أريحيته فإذا سامتها سقطت دونها
تسر طرباته كرائنه ... ثم تزيل السرور عقباها
أي إذا طرب عند الشرب سر طربه جواريه المغنية ثم عاقبة طربه تزيل سرورهن وذلك أنه يهبهن المال ثم لا تزال به أريحية الجود حتى تهب الجواري أيضا ويزول ملكه عنهن وذلك زوال سرورهن والكرينة الجارية المغنية وجمعها الكرائن
بكل موهوبة مولوية ... قاطعة زيرها ومثناها
يزيل سرورهن بكل جارية قد وهبها وهي تولول حزنا على فراقه وتقطع أوتار العود غضبا لزوال ملكه عنها(1/379)
تعوم عوم القذاة في زبد ... من جود كف الأمير يغشاها
هذه الموهوبة في جملة ما يهب كالقذاة في بحر مزبد يعلوها ويغلبها سائر ما وهب كما يعلو القذاة الزبد وتعوم فيه وروى ابن جنى زبد وهو الكثير الزبد لكثرة مائه جعل هذه الجارية في جملة ما يهب كالقذاة في بحر مزبد
دان له شرقها ومعربها ... ونفسه تستقل دنياها
يعني شرق الدنيا ومغربها يقول إطاعة أهل الشرق والغرب ونفسه تستقل جميع الدنيا وكذا كان يقول عضد الدولة سيفان في غمد محال يعني أن الدنيا يكفي فيها ملك واحد وكان يقصد أن يستولي على جميع الأرض
تشرق تيجانه بغرته ... إشراق ألفاظه بمعناها
يقول إذا وضع التاج على رأسه أشرق تاجه بإشراق وجهه كما تشرق ألفاظه بمعانيها
تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
استعار للزمان فؤادا لما ذكر فؤاد الممدوح والزمان أوسع شيء يقول إحدى هممه تملأ الزمان فإذا امتلأ الزمان بإحداها لم يظهر باقي هممه إلا أن يقع اتفاق كما ذكر في قوله
فإن أتى حظها بأزمنة ... أوسع من ذا الزمان أبداها
يوق إن أتى بخت هممه بزمان أوسع مما ترى أبدى تلك الهمم وهذا كقوله، ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك،
وصارت الفيلقان واحدة ... تعثر أحياؤها بموتاها
قال أبو الفتح أي شن الغارة في جميع الأرض فخلط الجيش بالجيش حتى تصير لاختلاطهما كالجيش الواحد قال أبو علي ليس أبو الطيب في ذكر الغارة وشنها وإنما يقول قبله بيتين في قلبه همم إحداها أعظم من فؤاد الزمان فهو لا يبديها لأنه لا يجد زمانا يسعها فإن قضى لها وجاء حظها وبختها بأزمنة أوسع من هذا الزمان حينئذ أظهر تلك الهمم واجتمع أهل هذا الزمان وأهل تلك الأزمنة فصارا شيئا واحدا وضاقت الأرض بهم حتى عثر حيها بميتها للزحمة وكثرة الناس ومثل هذا في ذكر الزحمة قوله أيضا، سبقنا إلى الدنيا البيت وأنث الفيلق على إرادة الكتيبة والجماعة
ودارت النيرات في فلك ... تسجد أقماره لأبهاها
لم يأت ابن جنى ولا ابن فورجة في هذا البيت بشيء يفهم أو يتحصل والمعنى أنه يريد بالنيرات والأقمار ملوك الدنيا إذا عادوا واجتمعوا في زمان واحد كما ذكر فيما قبل وأراد بأبهاها عضد الدولة ومعنى سجود الأقمار خضوع الملوك له فحينئذ يبدي هممه
الفارس المتقي السلاح به ال ... مثني عليه الوغا وخيلاها
يقول هو الفارس الذي يتقي جيشه به سلاح الأعداء أي يقدمونه إليهم كما يروى في الحديث عن علي بن أبي طالب رضه قال كنا إذا احمر الباس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أقربنا إلى العدو
لو أنكرت من حيائها يده ... في الحرب آثارها عرفناها
يقول لو أن يده أنكرت جراحاتها لعرفنا إنها من آثار يده لأن غيره لا يقدر على مثلها وهذا إخبار عن اليد والمراد به صاحب اليد لا توصف بالإنكار ولا الحياء
وكيف تخفى التي زيادتها ... وناقع الموت بعض سيماها
المراد بالزيادة هاهنا السوط وهو مأخوذ من قول المرار، ولم يلقوا وسائد غير أيدٍ، زيادتهن سوط أو جديل، يقول كيف تخفى اليد التي سوطها يقتل به فكيف سيفها والناقع الثابت ويقال سم ناقع إذا كان ثابتا في نفس شاربه حتى يقتله والمعنى كيف تخفي آثار يدٍ سوطها والموت به من علاماتها يعني أنه من ضربه بسوطه قتله
الواسع العذر أن يتيه على ال ... دنيا وأبنائها وماتاها
يقول لو تاه على الدنيا وتكبر على أهلها لكان له العذر لبيان مزيته عليه ولكنه لم يفعل ذلك كما قال الآخر، وما تزدهينا الكبرياء عليهم، إذا كلمونا أن نكلمهم نزرا،
لو كفر العاملون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها
يقول لو لمتشكر نعمته وقوبل إنعامه بالكفران لم يدع الجود ولا تركت نفسه سجيته لأنه مطبوع عليها وليس يعطي للشكر حتى إذا لم يشكر قطع العطاء كما قال بشار، ليس يعطيك للرجاء ولا الخوف، ولكن يلذ طعم العطاء،
كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منعفةً عندهم ولا جاها
ضرب له المثل بالشمس فإن أكثر منافع الدنيا منها تحصل ثم هي لا تبتغي بصنعها منفعة عند الناس ولا جاها وذلك أنها مسخرة لتلك المنافع كذلك هو مطبوع على الجود والكرم
ولِّ السلاطين من تولاها ... والجأ إليه تكن حدياها(1/380)
حديا الشيء ما يكون متحديا له معارضا مباريا يقول هو حديا الناس أي معارضٌ لهم ومنه قول عمرو، حديا الناس كلهم جميعا، مقارعةً بينهم عن بنينا، يقول كل أمر الملوك إلى من يتولاهم أي لا تخدمهم ودعهم ومن يتولاهم ويخدمهم ويواليهم والجأ إلى الممدوح تكن مثل السلاطين والملوك وهذا مأخوذ من قول بعض الواعظين يا عبد الله صانع وجها واحدا تقبل عليك الوجوه كلها وروى حذياها بالذال على تصغير قولهم هو حذاء فلان إذا كان بإزائه والمعنى تكن بإزآء السلاطين أي مثلهم
ولا تغرنك الإمارة في ... غير أمير وإن بها باها
يقول لا تعتقد الإمارة في غير وإن كان يباهي بها
فإنما الملك رب مملكةٍ ... قد فغم الخافقين رياها
يقال قد فغمته الرائحة إذا ملأت خياشيمه يعني أن ذكر مملكته قد ملأ الدنيا شرقا وغربا فهو الملك على الحقيقة
مبتسمٌ والوجوه عابسةٌ ... سلمُ العدى عنده كهيجاها
يعني أنه لا يبالي بعدوه احتقارا له وثقةً بقوته وشجاعته فإذا كان الوجوه عابسةً لشدة الحال وضيقِ الأمر كان هو مبتسما والحرب والصلح من الأعداء عنده سواء
الناس كالعابدين آلهةً ... وعبدهُ كالموحد اللاها
يعني بعبده نفسه يقول خدمتي مقصورةٌ عليه فإنا في خدمته كمن يعبد الله لا يشرك به ولا يرجو غيره ومن خدم سواه لم تنفعه تلك الخدمة كالذين يعبدون الهةً من دون الله تعالى وقال يمدحه ويذكر في طريقه إليه شعبَ بوانَ
مغاني الشعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
يريد شعب بوان وهو موضعٌ كثير الشجر والمياه يعدّ من جنان الدنيا كنهر الأبلة وسعد سمرقند وغوطة دمشق يقول منازل هذا المكان في المنازل كالربيع في الأزمنة يعني أنها تفضل سائر الأمكنة طيبا كما يفضل الربيع سائر الأزمنة
ولكن الفتى العربيَّ فيها ... غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ
يعني بالفتى العربي نفسه يقول أني بها غريب الوجه لا أعرف وغريب اليد لأن سلاحي الرمح ويدي تستعمل الرمح وأسلحة أهلها الرايات والمزاريق فهم يستعملون هذه الأسلحة وغريب اللسان لأن لغتي العربية وهم عجم لا يفصحون ويجوز أن يريد بغربة الوجه أنه أسمر اللون وغالب الوان العرب السمرة وأهل الشعب شقر الوجوه وغريب اليد لأنه يكتب بالعربية وهم يكتبون بالفارسية
ملاعب جنةٍ لو سار فيها ... سليمانٌ لسار بترجمان
جعل الشعب لطيبه وطرب أهله ملاعب وجعل أهله جنةً لشجاعتهم في الحرب والعرب إذا بالغت في مدح شيء نسبته إلى الجن كقول الشاعر، بخيلٍ عليها جنةٌ عبقريةٌ، وأخبر أن لغتهم بعيدة عن الإفهام حتى لو أن سليمان أتاهم لاحتاج إلى من يترجم له عن لغتهم مع عمله باللغات وفهمه قول الحكل
طبت فرساننا والخيل حتى ... خشيت وإن كرمن من الحرانِ
يقال طباه يطبيه ويطبوه طيبا وطبوا وأطباه إذا دعاه ومنه قول كثير، له نعل لا يطبى الكلب ريحها، والحران في الدواب أن تقف ولا تبرح المكان يقول هذه المغاني استمالت فلوبنا وقلوب خيلنا بخصبها وطيبها حتى خشيت عليها الحران وإن تقف بها فلا تبرح عنها ميلا إليها وإن كانت خيلنا كريمةً لا يعتريها هذا الداء
غدونا تنفض الأغصان فيها ... على أعرافها مثل الجمانِ
الجمان خرز من فضة يشبه اللآلىء يريد أنه إذا سار في شجر هذا المكان وقع من خلل الأغصان على أعراف خيله مثل الجمان من ضوء الشمس فكأن الأغصان تنفضه على أعرافها
فسرت وقد حجبن الشمس عني ... وجبن من الضياء بما كفاني
يريد أنه كان يسير في ظل الأغصان وإنها تحجب عنه حر الشمس وتلقى عليه من الضياء ما يكفيه
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرا تفر من البنانِ
قال أحمد بن يحيى الشرق الشمس يقال طلع الشرق ولا غاب الشرق شبه ما يتساقط عليه من ضوء الشمس بدنانير لا يمكن مسها باليد
لها ثمرٌ تشير إليك منها ... بأشربةٍ وقفن بلا أواني
يريد أن ثمارها رقيقة القشر فهي تشير إلى الناظر بأشربةٍ واقفةٍ بلا إناء لان ماءها يرى من وراء قشرها وهذا منقول من قول أبي تمام، يخفى الزجاجة لونها فكأنها، في الكف قائمةٌ بغير إناء
وأمواه تصل بها حصاها ... صليلَ الحلي في أيدي الغواني(1/381)
بها أي بتلك الأمواه يعني بجريتها وروى ابن جنى لها أي لأجلها يعني لأجل جريتها
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... لبيق الثرد صيني الجفانِ
يقول لو كانت هذه المغاني الطيبة دمشق لثنى عناني إليه رجلٌ ثريده ملبق وجفانُه صينية يعني لاضافني هناك رجل ذو مروة يحسن إلى الضيفان لأنها من بلاد العرب وشعب بوان من بلاد العجم وحمل ابن جنى قوله لبيق الثرد على الممدوح قال يقول لو كانت هذه المغاني كغوطة دمشق لرغبت عنها وملت إلى الممدوح وليس الأمر على ما قال فإن البيت ليس بمخلص ولم يذكر الممدوح بعد والمعنى أنه يبين فضل دمشق وأهلها وأحسانهم إلى الضيفان وخص دمشق من سائر البلاد لأن شعب بوان مضاهٍ لغوطى دمشق في الطيب وكثرة النبات والأشجار ويقول شيء لبيق ولبق والثرد جمع ثريد وروى ابن جنى بفتح الثاء على المصدر وقال يريد به الثريد
يلنجوجي ما رفعت لضيفٍ ... به النيران ندى الدخانِ
يريد أنهم يوقدون النار للأضياف باليلنجوج وهو العود الذي يتبخر به ودخانها ندىٌّ يشم منه رائحة الند أي هو يلنجوجي الذي ترفع به النار كما قال صيني الجفانِ
تحل به على قلبٍ شجاعٍ ... وترحلُ منه عن قلبٍ جبانِ
قال أبو الفتح يقول يسر بأضيافه فتقوى نفسه بالسرور فإذا رحلوا عنه اغتم قال أبو عليّ بن فورجة كأنه يظن انهما قلبا عضد الدولة ولو أراد ما قال لقال تحل به على قلبٍ مسرورٍ وترحل منه عن قلبٍ مغمومٍ فإما الشجاعة والجبن فلهما معنىً غير ما ذهب إليه وإنما يريد أنك إذا حللت به كنت ضيفا له وفي ذمامه فإنت شجاعُ القلب لا تبالي بأحد وتفارقه ولا ذمام لك فأنت جبان تخشى منا لقيك ومثله له، ون نفوسا أممتك منيعةٌ، البيت فالقلبان في البيت قلبا من يحل به ويرحل عنه هذا كلامه ويجوز أن يكون القلبان للمضيف على غير ما ذكره ابن جنى يقول تحل به أنت أيها الرجل على قلب شجاع جرى على الأطعام والقرى غير بخيل لأن البخل جبن وهو خوف الفقر وترحل منه عن قلبٍ جبانٍ خائفٍ فراقك وراتحالك وظاهر اللفظ يدل على أن القلبين للمضيف لأنه قال تحل به على قلبٍ وترحل عن قلبٍ فإذا جعلت القلبين للضيف فقد عدلت عن ظاهر اللفظ وحكى لنا أبو الفضل العروضي عن الاستاذ أبي بكر الخوارزمي أنه كان يقول يحل به الضيف وهو واثق بكرمه وإنزاله ويرحل عنه وهو يخاف أن لا يجد مثله قال وليس لجبن المضيف هاهنا معنًى فإنه لم يقل مغموم والجبن غير الغم
منازل لم يزل منها خيالٌ ... يشيعني إلى النوبندجان
نوبندجان بلدٌ بفارس يريد أنه يرى دمشق في النوم فهو بفارس وخيال منازل دمشق يتبعه والمعنى أنه يحبها ويكثر ذكرها ويحلم بها ويجوز أن يريد خيال حبيبٍ له بدمشق ونواحيها يأتيه في منامه
إذا غنى الحمامُ الورق فيها ... أجابته أغاني القيانِ
يريد طيبها واجتماع أصوات القيان والحمام بها فإذا غنت الحمام أجابتها القيان بغنائها
ومن بالشعب أحوج من حمامٍ ... إذا غنى وناحَ إلى البيان
يقول أهل الشعب أحوج إلى البيان من حمامها في غنائها ونوحها لأنه لا بيان لهم ولا فصاحة فلا يفهم العربي كلامهم وأخبر عن الحمام بالغناء والنوح لأن العرب تشبه صوت الحمام مرة بالغناء لنه يطرب ومرة بالنوح لأنه يشجي ونوحها وغناؤها مذكوران في أشعارهم
وقد يتقارب الوصفانِ جدا ... وموصوفاهما متابعدان
يقول العجمة تجمع الحمام وأهل الشعب والموصوف بها مختلف لأن الإنسان غير الحمام فأهل الشعب بعدوا بالإنسانية عن الحمام ووصفهما في الإستعجام متقاربٌ
يقول بشعب بوانٍ حصاني ... أعن هذا يسارُ إلى الطعانِ
أي فرسي يقول لي بهذا المكان منكرا عليّ السير منه إلى الحرب أعن هذا المكان يسار إلى المطاعنة ومعنى الإستفهام هاهنا الإنكار
أبوكم آدمٌ سن المعاصي ... وعلمكم مفارقةَ الجنانِ
يقول السنة في الإرتحال عن الأماكن الطيبة وفي معصية الله تعالى سنها لكم أبوكم آدم حين عصى فأخرج من الجنة وإنما ذكر هذا لكي يتخلص إلى ذكر الممدوح فيقول هذا المكان وإن طاب فإني لم أعرج به لما كان سبيلي إليه كما قال أيضا، لا أقمنا على مكانٍ وإن طاب البيت
فقلت إذا رأيت أبا شجاعٍ ... سلوت عن العباد وذا المكانِ(1/382)
فإن الناس والدنيا طريقٌ ... إلى من ما له في الخلق ثاني
يعني أنهم كلهم يتركون في القصد إليه وكذلك جميع الدنيا
لقد علمت نفسي القول فيهم ... كتعليم الطراد بلا سنانِ
يقول علمت نفسي القول في الناس بالشعر في مدائحهم كما يتعلم الطعان أولا بغير سنان ليصير المتعلم ماهرا بالطعان والسنان كذلك أنا تعلمت الشعر في مدح الناس لأتدرج إلى مدحه وخدمته ويروي له علمت أي لأجله وهو أظهر في المعنى
بعضد الدولة امتنعت وعزت ... وليس لغير ذي عضدٍ يدانِ
يقول الدولة امتنعت بعضدها وعزت ولا يد لمن لا عضد له ولا يدفع عن نفسه من لا يد له والمعنى أنه للدولة يد وعضد به تدفع عن نفسها
ولا قبض على البيض المواضي ... ولاحظ من السمر اللدانِ
يقول من لا يدان له لم يقبض على السيوف ولم يطعن بالرماح لأنه لا يتأتى ذلك منه والمعنى أن غيره لا يقوم مقامه في الدفع عن الدولة لأنه عضدها ومن لا عضد له لا يد له ومن لا يد له لم يضارب ولم يطاعن وقوله ولاحظ من السمر أراد ولاحظ من الطعان بها ويروي بالطاء غير معجمة وهو خفض الرماح للطعن
دعته بمفزع الأعضاء منها ... ليوم الحرب بكرٍ أو عوانِ
وروى ابن جنى بموضع الأعضاء وقال أي دعته السيوف بمقابضها والرماح بأعقابها لأنها مواضع الأعضاء منها وحيث يمسك الضارب والطاعن قال ويحتمل أن يريد دعته الدولة بمواضع الأعضاء من السيوف والرماح أي اجتذبته واستمالته قال ابن فورجة هذا مسخ للشعر لا شرح ولا قال الشاعر إلا بمفزع الأعضاء يعني دعته الدولة عضدا والعضد مفزع الأعضاء كأنه شرح قوله بعضد الدولة امتنعت وعزت انتهى كلامه وهو على ما قال يريد أن الدولة سمته عضدها وهي مفزع الأعضاء لأن الأعضاء عند الحرب تفزع إلى العضد والعضد هي الدافعة عنها المحامية لسائر الأعضاء وقوله بكر هو صفة لموصوف محذوف كأنه قال ليوم حربس حربِ بكر أو عوان
فما يسمى كفناخسر مسمٍ ... ولا يكنى كفناخسر كاني
أسمى وسمى بمعنًى أراد أنه لا نظير له فما يدعى أحد باسمٍ ولا بكنيةٍ هو مثله وأراد بالمسمى والكاني الداعي بالأسم والكنية
ولا تحصى فضائلهُ بظنٍّ ... ولا الإخبارِ عنه ولا العيانِ
يريد أن الظن على سعته وكذلك الأخبار لا يحيطان بوصفه وكان حقه أن يقول عنها لكنه علقه به لأقامة الوزن أراد ولا الإخبار عنه بها
أروض الناس من تربٍ وخوفٍ ... وأرضُ أبي شجاع من أمانِ
أروض في جمع أرض قياسٌ لا سماعُ ونص سيبويه على أن العرب لا تجمع الأرض جمع تكسير قال واستغنوا عن تكسيرها بأرضات وأرضين على أن أبا زيد قد حكى في جمع أرض أروض وأراد بالناس هاهنا الملوك يقول أرض الملوك مخلوقة من التراب والخوف جميعا لأن الخوف ملازم لها وغير مفارقها فكأنها خلقت منه كما خلقت من التراب كقوله تعالى خلق الإنسان من عجلٍ لما كان في أكثر أحواله عجلا صار كأنه مخلوق من عجلة وأرض الممدوح كأنها مخلوقة من الأمان للزوم الأمن لها والمعنى أن أحدا لا يعيث في نواحي مملكته هيبةً له وخوفا منه
يذم على اللصوص لكل تجرٍ ... ويضمن للصوارمِ كل جاني
تجر جمع تاجر مثل شرب جمع شارب لكن المتنبي أجرى التجر مجرى الواحد ذهابا إلى أنه واحد التجار يقول يجير التاجرين على اللصوص أي يحفظهم منهم فلا يخافون اللصوص ويضمن لسيوفه كل من جنى جنايةً أي يقتله
إذا طلبت ودائعهم ثقاتٍ ... دفعنَ إلى المحاني والرعانِ
يقول ودائع التجار محفوظة في محاني الأودية ورعان الجبال فكأنها عند ثقاتٍ أمناء أي إذا تركوها هناك أمنوا ولم يخافوا
فباتت فوقهن بلا صحابٍ ... تصيح بمن يمر أما تراتي
يقول باتت بضائع التجار فوق المحاني والرعان ظاهرةً للناظرين وكأنها تقول لمن مر بها أما تراني يعني لا حرز دونها إنما يحفظها هيبتهُ
رقاه كل أبيض مشرفيٍّ ... لكلٍّ أصمَّ صلٍّ أفعوانِ
الصل ضرب من الحيات والأفعوان الذكر منها جعل اللصوص كالأفاعي وجعل سيوفه رقًى لتلك الأفاعي فكما أن الحية تدفع بالرقية كذلك هو يدفع اللصوص بسيوفه
وما يرقي لهاهُ من نداهُ ... ولا المال الكريم من الهوانِ
حمى أطراف فارس شمريٌّ ... يحض على التباقي بالتفاني(1/383)
قال ابن جنى شمري منسوب إلى شمر وهو موضع قال والمعنى أنه يقول لأصحابه افنوا أنفسكم ليبقى ذكركم قال العروضي هذا التفسير في هذا الموضع ظاهر الإستحالة ولكنه يقول حمى فارس يقتل الخراب واللصوص فاعتبر غيرهم فلم يؤذوا الناس ولم يستحقوا القتل فبقوا يعني أنه إذا صل أهل الفساد كان في ذلك زجر لغيرهم فيصير ذلك حثا لهم على اغتنام التباقي وهو من قوله تعالى ولكم من القصاص حيوةٌ والشمري الكثير التشمر والإنكماش ولم يكن عضد الدولة من مكان يقال له شمر ولا سمعنا به ولا مدح له في أن يكون من شمر أو غيره وأراد بالتباقي والتفاني البقاء والفناء والذي ذكره ابن جنى غير بعيد يجوز أن يكون المعنى على ما قال لأن ما بعد البيت يدل على ذلك وهو قوله
بضربٍ هاج أطرابَ المنايا ... سوى ضرب المثالث والمثاني
يقول حمى أطراف فارس بضربٍ يطرب المنايا فيحركها لكثرة من يقتلهم وذلك الضرب سوى ضرب اوتار العود يريد أنه يضرب بالسيوف ولا يميل إلى ضرب العود
كأن دم الجماجم في العناصي ... كسا البلدان ريش الحيقطانِ
العناصي جمع عنصوة وهي الشعر في نواحي الرأي ومنه قول أبي النجم، أن يمس رأسي أشمط العناصي، والحيقطان ذكر الدراج وريشه ألونُ أي من كثرة من قتلهم من الناس وتفرقت شعورهم المتلطخة بدمائهم كان البلاد كساها بريش الدراج ذلك الدم في تلك الشعور
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسانِ
أراد قلوب أهل العشق والمعنى أن الأمن قد عم بلاد فارس حتى لو كانت قلوب العشاق فيها لما خافت سهام احداق الحسان
ولم أر قبله شبلي هزبرٍ ... كشبليه ولا مهري رهانِ
يريد بالشبلين ولديه وجعلهما كشبلي أسد في الشجاعة ومهري رهان في المسابقة إلى غاية الكرم
أشد تنازعا لكريم أصلٍ ... وأشبه منظراً بأبٍ هجانِ
يقول لم أر قبلهما ولدين أشد تجاذبا لأصل كريم يعني أن كل واحد منهما يجاذب صاحبه كرم الأصل فيريد أن يكون أكرم من صاحبه بأن يكون حظه أوفر من كرم أصله ولم أر ولدين أشبه منهما بأبٍ كريم خالص النسب
وأكثر في مجالسهِ استماعا ... فلانُ دق رمحا في فلانِ
الضمير في مجالسه يعود إلى أب أي لم أر ولدين اكثر استماعا في مجالس الأب دق فلان رمحا في فلان منهما يعني لا يجري في مجلس ابيهما غير ذكر المطاعنة فهما لا يسمعان غير ذلك
وأول رأيةٍ رأيا المعالي ... فقد علقا بها قبل الأوانِ
رأيةٌ فعلهُ من الرأي يقول أول شيء رأياه المعالي فقد عشقاها قبل أوان العشق وروى ابن جنى وأول داية وهي الظئر والمعنى أن المعالي تولت تربيتهما فهما يميلان إليها وحبانها حب الصبي لمن رباه
وأول لفظةٍ سمعا وقالا ... إغاثةُ صارخٍ أو فك عاني
وكنت الشمس تبهر كل عينٍ ... فكيف وقد بدت معها اثنتانِ
أي شمان يعني ولديه يقول كنت شمساً تغلب كل عين ببهائك وجمالك فكف الآن وقد ظهرت من ولديك شمسان أخريان
فعاشا عيشةَ القمرينِ يحيى ... بضوئهما ولا يتحاسدانِ
أي كانا كالشمٍ والقمر يحيا الناسُ بضوئهما ولا يكون بينهما تحاسد واختلاف
ولا ملكا سوى ملك الأعادي ... ولا ورثا سوى من يقتلانِ
هذا دعاء لأبيهما بالحياة يقول لا ملكا ملكك ولا ملكا إلا ملك الأعادي ولا ورثاك إما ورثا من يقتلانه من الأعداء
وكان ابنا عدوٍّ كاثراه ... له يا أي حروفِ أنيسيانِ
إنسان خمسة أحرف وهو مكبر فإذا صغرته قلت أنيسيان فزاد عدد حروفه وصغر معناه يقول عدوك الذي له ابنان فيكاثرك بهما كان زائدين في عدده ناقصين من حسبه وفخره بان يكونا ساقطين خسيسين كياأي أنيسيان يزيدان في عدد الحروف وينقصان من معناه
دعاء كالثناء بلا رياء ... يؤديه الجنان إلى الجنانِ
يقول هذا الذي ذكرته دعاء وهو ثناء من وجد ولا رياء في هذا الدعاء لأنه اخلاص من القلب إلى القلب يخرج من قلبي فتفهمه بقلبك وتعلم أنه اخلاص لا رياء فيه
فقد أصبحت منه في فرند ... وأصبح منك في عضبٍ يماني
شبه الممدوح بسيف يمانٍ وشبه شعره بفرند ذلك السيف وذلك يدل على جودته كذلك شعري يدل على كرمك وجودك
ولولا كونكم في الناس كانوا ... هراء كالكلامِ بلا معاني(1/384)
أي بكم صار للناس معنى يريد أن المعاني توجد فيهم وغيرهم كاللغو من الكلام الذي لا معنى له وهذا كقوله والجهر لفظ وأنت معناه وقال يمدحه ويذكر الورد
قد صدق الورد في الذي زعما ... أنك صيرت نثره ديما
كان قد نثر الورد والورد لم يزعم شيئاً وإنما استدل بحاله على أنه لو زعم لقال هذا وأنه نثره كما ينثر المطرُ
كأنما مازج الهواء به ... بحر حوى مثل مائهِ عنما
كأن الهواء مازجه بذلك الورد المفرق فيه بحر من العنم يريد كثرة الورد في الهوء شبهه ببحرٍ جمع من العنم مثل مائه في الكثرة ويروي مائج
ناثره ناثر السيوف دماً ... وكل قولٍ يقولهُ حكما
يقول الذي نثر هذا الورد ينثر السيوف أي يفرقها في أعدائه وهي دم أي متلطخة به فكأنها دم وجعل الدم في موضع الحال كأنه قال ناثرٌ السيوف متلخطة بالدم وناثر كل ما يقوله بالحكم أي إذا قال قولا قال حكمةً ومن نصب كل قال ابن جنى نصبه لأنه عطفه على المعنى كما تقول هذا ضارب زيدٍ وعمرا ومنه قوله تعالى وجاعل الليل سكنا والشمس على معنى وجعل الشمس
والخيل قد فصل الضياع بها ... والنعم السابغات النقما
يقال فصل العقد إذا نظم فيه أنواع الخرز فجعل كل نوع مع نوع ثم فصل بين الأنواع بذهب أو شيء آخر هذا هو الأصل في تفصيل العقود ثم يسمى نظم العقد تفصيلا فيقال عقد مفصل إذا كان منظوما ومنه قول امرء القيس، تعرض أثناء الوشاح المفصلِ، والمعنى أنه جمع هذا الأشياء بالخيل أي تمكن من جمعها بالخيل وجعل جمعها تفصيلا لأنها أنواع فجعل ذلك كتفصيل العقد والمعنى أنه ينثر الخيل أي يفرقها في الغارة ثم ذكر أنه جمع بها هذه الأشياء التي ذكرها من النعم لأوليائه والنقم لاعدائه
فليرنا الورد إن شكا يدهُ ... أحسن منه من جودها سلما
هذه رواية ابن جنى وغيره يرويه أحسن من جودها إذا سلما أي فليرنا أحسن من الورد إذا سلم من وجودها يعني أنه ينثر الدراهم والدنانير ولا تسلم من جود يده وهي أحسن من الورد
وقل له لست خير ما نثرت ... وإنما عوذت بك الكرما
أي قل للورد لست خير ما نثرت يده وإنما جعلتك عوذةً للكرم
خوفا من العين أن تصاب بها ... أصاب عينا بها تصاب عمى
روى ابن جنى بها يعان من قولهم عين الرجل فهو معينٌ ومعيون إذا أصابته العين يقول أعمى الله عينا يعان بها وهذه قطعة في نثر الورد غير مليحةٍ وليس المتنبي من أهل الأوصاف وهي كالقطعة التي وصف فيها كلام أبي الفتح بن العميد وقال أيضا يمدحه وقد ورد عليه الخبر بإنهزام وهسوذان الكردي
أثلث فإنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبلُ
أثلث أي كن ثالثا من قولهم ثلثت الرجلين أثلثهما إذا صرت ثالثهما والأرزام حنين الناقة يقول للطلل كن ثالثنا في البكاء على فقد الأحبة فإنا نبكي والإبل ترزم بحنين كالبكاء ومن هذا قول التهامي، بكيت فحنت ناقتي فأجابها، صهيل جوادي حين لاحت ديارها،
أولا فلا عتب على طلل ... إن الطلول لمثلها فعل
أو ل تبك فلا عتب عليك في ترك البكاء فإن الطلول فاعلة لمثل هذه الفعلة من ترك المساعدة على البكاء لأنه ليس من عادتها البكاء
لو كنت تنطق قلت معتذرا ... بي غير ما بك أيها الرجل
يقول للطلل لو كنت ذا نطق لاعتذرت في ترك البكاء بما ذكر في قوله
أبكاك أنك بعض من شغفوا ... لم أبك أني بعض من قتلوا
أي لقلت لي الذي بي أكثر مما بك لأنهم شغفوك حبا فأذهبوا قلبك وقتلوني بارتحالهم عني والقتيل لا يقدر على البكاء
إن الذين أقمت وارتحلوا ... أيامهم لديارهم دول
هذا من كلام الطلل أيضا يقول إن الذين ارتحلوا وأقمت بعدهم أو أقمت على خطاب المتنبي ديارهم تعمر بنزولهم أيام مقامهم وتخرب بارتحالهم هذا معنى قوله أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
يقول الحسن في مقلتين مستعارتين من رشأ تديرهما امرأة بدوية صارت الحلل وهم القوم الذين حلوا معها مفتونين بها لحسنها
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدودها ومن الذي تصل(1/385)
يريد أنها قتين قليلة الطعم وذلك يحمد في النساء فالمطاعم وهي الأطعمة تشكو أنها هجرتها ثم قال ومن تواصله هذه أي أن هجرت الطعام فإنها لا تواصل أحدا والهجر من عادتها
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
الذي أبقته من شرابها في القدح من اللبن تركته مسكا وعسلا يريد عذوبة ريقها وطيب نكهتها وإن سورها كالمسك والعسل وما مبتدأ وتركته الخبر كما تقول زيد ضربه عمرو
قالت ألا تصحو فقلت لها ... أعلمتني أن الهوى ثملُ
أي قالت لي عاذلةً على العشق ألا تصحو من بطالتك فقلت لها أخبرتني في فحوى كلامك حين أمرتني بالصحو أن الهوى سكر لأن الصحو لا يكون من غير السكر وهذا إشارة إلى أنه كان غافلا عن حال نفسه لشدة هيمانه وإنها نبهته على أنه سكران من الهوى
لو أن فناخسر صبحكم ... وبرزت وحدك عاقهُ الغزلُ
صبحكم أتاكم صباحا للغارة قال ابن جنى ما أحسن ما كنى عن الإنهزام بقوله عاقه الغزل قال ابن فورجة لو كانت هذه إحدى السعالي لما هزمت أحدا فكيف عضد الدولة وما وجه الهزيمة عمن توصف بالحسن وقال فيها بدوية فتنت بها الحلل وإنما هذا وصف لعضد الدولة بالرغبة عن النساء والتوفر على الجد ثم لما بالغ في الوصف هذا وأراد الخلوص من الغزل إلى المدح أتى بالغاية في ذكر حسنها حتى لو أن عضد الدولة مع جده وتوفره على تدبير الملك تعرضت له هذه المرأة لقدحت في قلبه غزلا عاقه عن الرجوع عنها ألا تراه يقول بعده ما كنت فاعلةً وضيفكم البيت فكيف يضاف المنهزم وإنما غلط لما سمع قوله وتفرقت عنكم كتائبه وإنما تتفرق حينئذٍ عنهم لتوفرها على الغزل واللهو ولذة الظفر بالحبيب
وتفرقت عنكم كتائبهُ ... إن الملاح خوادعٌ قتلُ
ما كنت فاعلةً وضيفكمُ ... ملكُ الملوكِ وشأنك البخلُ
يقول ما كنت تفعلين وقد أتاكم ملك الملوك ضيفا وأنت بخيلة يعني بالطعام والقرى والبخل والجبن من خير أخلاق النساء وهما من شر أخلاق الرجال
أتمنعين قرًى فتفتضحي ... أم تبذلين له الذي يسلُ
بل لا يحل بحيث حل به ... بخلٌ ولا خوفٌ ولا وجلُ
ملكٌ إذا ما الرمحُ أدركهُ ... طنبٌ ذكرناه فيعتدلُ
الطنب الأعوجاج أي لاستقامته واعتداله في الأمور إذا ذكر اسمه اعتدل الرمح المعوجُّ
إن لم يكن من قبلهُ عجزوا ... عما يسوس به فقد غفلوا
أي الملوك الذين كانوا قبله أن لم يكونوا عاجزين عما يسوس به الناس من العدل والإنصاف وكف الظالم فقد غفلوا عن ذلك حين لم يسيروا سيرته
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبلُ
يقال فلان ابن بحدةِ هذا الأمر إذا كان عالما به يقول حتى ملك الدنيا عضد الدولة وهو عالم بها وبضبط أمورها وسياسة أهلها فشكا إليه سهل الدنيا وجبلها
شكوى العليلِ إلى الكفيل له ... ألا تمر بجسمهِ العللُ
أي كما يشكو العليل إلى الطبيب الذي يضمن له أن يشفيه من كل داءٍ وعلة حتى لا تعاوده علة والمعنى أن الدنيا بما كان فيها من الإضطراب والفساد كأنها كانت شاكيةً إلى عضد الدولة وهو بقصده تسكين الفتنة وحسن السياسة كأنه ضامنُ أن لا يعاود الدنيا ما شكته وأصل هذا من قول الآخيلية، إذا هبط الحجاجُ أرضا مريضةً،
قالت فلا كذبت شجاعتهُ ... أقدمْ فنفسكَ ما لها أجلُ
أي قالت له شجاعته أقدم وقوله فلا كذبت دعاء اعترض به بين الفعل والفاعل أي لا كانت كاذبةً فيما قالت والمعنى أن شجاعته زينت له الأقدام وصورت له أن أحداً لا يقدم عليه فهو باقٍ بوقاية شجاعته
فهو النهايةُ إن جرى مثلُ ... أو قيل يوم وغًى من البطلُ
يقول هو النهاية في الشجاعة عند ضرب المثل وعند الدعاء إلى البراز
عدد الوفود العامدين له ... دون السلاح الشكلُ والعقلُ
يقول الوفود الذين يأتونه لا يأتونه بسلاحٍ لأنه لا مطمع فيه بالسلاح ولكن عددهم التي يحتاجون إليها شكل الخيل وعقل الإبل وهي جمع شكال وعقال
فلشكلهم في خيلهِ عملُ ... ولعقلهم في بختهِ شغلُ
أي أنه يعطيهم الجياد حتى يشكلوها بشكلهم والجمال حتى يعقلوها بعقلهم
تمسي على أيدي مواهبهِ ... هي أو بقيتها أو البدلُ(1/386)
يقول تملك مواهبه ما له من الخيل والنعم فهي تمسي على أيدي مواهبه أي تلى أمرها وتتصرف فيها أو بقيتها يعني ما فضل منها من قوم آخرين أو بدلها من العين والورق يريد أن جميع ماله في تصرف مواهبه
يشتاق من يدهِ إلى سبلٍ ... شوقا إليه ينبتُ الأسلُ
السبل المطر ويريد به العطاء هاهنا يقول الناس يشتاقون إلى عطاء يده والرماح تنبت شوقا إلى أن تباشر يده أي ليطعن بها ويستعملها في الحرب وتقدير اللفظ ينبت الأسلُ شوقا إليه إي الممدوح ولكنه قدم وأخر والبيت مختل النظم
سبل تطول المكرماتُ به ... والمجدُ لا الحوذانُ والنفلُ
لما سمى عطاءه سبلا قال هو سبل ينبت المكرمات والمجد لا النبات وأجناسه مما ذكر
وإلى حصى أرضٍ أقامَ بها ... بالناسِ من تقبيلهِ يللُ
اليلل قصر الأسنان يقال رجل أيل وأكس وهو ضد الأروق ومنه قول لبيد، يكلح الأروق منهم والأيل، يقول ويشتاق إلى حصى أرض أقام بها ولكثرة ما قبل الناس تلك الحصى حدث بهم اليلل وقصرت اسنانهم واخطأ ابن جنى في تفسير اليلل وفي معنى البيت وإذا رجعت إلى كتابه وقفت على خطأٍ فيهما
إن لم تخالطهُ ضواحكهمْ ... فلمن تصان وتذخر القبلُ
يقول إن لم تخالط الأسنان حصى أرضه عند التقبيل فلمن تصان القبل يعني أنها تستحق التقبيل
في وجهه من نور خالقهِ ... قدرٌ هي الآيات والرسلُ
يقول على وجهه نورٌ من الله تعالى ذلك النور قدر من الله يعني أنه يدل على قدرته وتلك القدر تقوم مقام الآيات والرسل بما فيها من الإعجاز وظهور الصنع
وإذا الخميس أبى السجود له ... سجدت له فيه القنا الذبلُ
أي إذا عصاه جيشٌ فلم يخضعوا له خفض رماحه لطعنهم بها وذلك سجود القنا
وإذا القلوب أبت حكومته ... رضيت بحكم سيوفه القللُ
وإذا لم تقبل القلوب ما يحكم به ضرب رؤوس اولائك الذين يأبون حكمه فكأنها رضيت بحكم سيوفه
أرضيت وهسوذان ما حكمت ... أم تستزيد لأمك الهبلُ
يعني ما صنعت سيوفهُ والهبل الثكل
وردت بلادك غير مغمدةٍ ... وكأنها بين القنا شعلُ
شبه السيوف المصلتة بشعل النار
والقومُ في أعيانهم خزرٌ ... والخيلُ في أعيانها قبلُ
الخرز ضيق العين والقبل في الخيل أن تقبل إحدى عينيه على الأخرى وإنما تفعل ذلك الخيل لعزة أنفسها ومنه قول الخنساء، ولما أن رأيت الخيل قبلا، قال ابن جنى يقول القوم ترك وخيلهم عزيزة الأنفس أي أتوك عليها قال ابن فورجة كيف خص الترك بالذكر ولم يذكر سائر اجناس العسكر سيما وأكثرهم ديلمٌ والممدوح ديلمي وذهب عليه أن الغضبان يتخازر وقد سمع من ذكر خزر الغضبان ما لا يحصى كقوله، خزرٌ عيونهم إلى أعدائهم، وقول آخر، وفلأنظرن إلى الجمال وأهلها، وإلى مثابرها بطرفٍ أخزرِ،
فأتوك ليس بمن أتوا قبلُ ... بهم وليس بمن نأوا خللُ
يقول أتاك قومه وليس لك بهم طاقة وليس بالقوم الذين بعدوا عنهم وانفصلوا من جملتهم خللٌ بخروجهم من بينهم يريد كثرة عسكر عضد الدولة
لم يدرِ من بالريِّ أنهمُ ... فصلوا ولا يدري إذا قفلوا
أي لكثرة جيوشه بالري لم يعلموا خروج هؤلاء ولا رجوعهم إليه حين رجعوا
فأتيت معتزماً ولا أسدٌ ... ومضيت منهزما ولا وعلُ
يقول أقبلت إلى الحرب ولا أسد يقدم اقدامك ومضيت منهزما ولا وعل ينهزم إنهزامك فحذف الخبرين للعلم بهما
تعطى سلاحهمُ وراحهمُ ... ما لم يكن لتنالهُ المقلُ
يقول تعطي سلاحهم أرواح عسكرك وأكفهم الأموال والأثاث والكراع والسلب التي لا تنالها الأعين لكثرتها قال ابن جنى قوله وراحهم جفاء في اللفظ على المخاطب ونيل منه قال ابن فورجة أي جفاء في هذا رحم الله من عرفنا ذلك على أن بعضهم قال أراد صفعهم أياه باكفهم وبوده وطوبى له لو رضوا بذلك منه ويقال نال منه أي شتمه
أسخى الملوك بنقل مملكةٍ ... من كاد عنه الرأس ينتقلُ
يقول أجود الملوك بترك مملكته ونقلها إلى من يغصبها منه من خاف انتقال الرأس عنه والمعنى أنك خفت أن يقطع رأسك فسخوت بمملكتك لئلا ينتقل الرأس عنك قال ابن جنى لو قال بترك مملكة كان أوجه إلا أنه اخترا النقل لقوله آخرا ينتقل
لولا الجهالة ما دفلت إلى ... قوم غرقت وإنما تفلوا(1/387)
يقول لولا جهلك لما غزوت قوما تنهزم عنهم بأدنى حرب منهم فرب لهذا مثلا بالغرق والتفل والمعنى أنهم لكثرتهم لو بزقوا عليك لغرقوك ويقال دلف إليه إذا دنى منه
لا أقبلوا سرا ولاظفروا ... غدراً ولا نصرتهم الغيلُ
يعني أن جيشه لا يأتون أحدا في خفيةٍ ليظفروا غدوا وليغتالوا عدوهم وأنهم لا يحتاجون في قتل اعدائهم وقهرهم إلى الغدر والإغتيال
لا تلق أفرس منك تعرفهُ ... إلا إذا ما ضاقت الحيلُ
يقول العقل أن لا تعارض من هو أقوى منك إلا إذا اضطررت إلى ذلك والمعنى أنه يلومه في اختياره الحرب في ابتداء الأمر وهو يعلم أنهم أقوى منه
لا يستحي أحدٌ يقال له ... نضلوك آل بويه أو فضلوا
يقال استحى يستحي بمعنى استحيا يستحيي ونضلوك غلبوك في النضال يقال تناضل الرجلان فنضل أحدهما صاحبه إذا غلبه وكان أكثر إصابةً منه وأتى بعلامة الجمع في نضلوك والفعل مقدم على الفاعل على لغة من يقول أكلوني البراغيث يقول من كان مغلوبا بآل بويه لا يستحيي من ذلك لانهم يغلبون كل أحد
قدروا عفوا وعدوا وفوا سئلوا ... أغنوا علوا أعلوا ولوا عدلوا
يقول لما قدروا عفوا فهم يعفون عن قدرةٍ ولما وعدوا وفوا بذلك الذي وعدوا ولما سئلوا أغنوا من سألهم ولما علوا اعلوا أولياؤهم ولما ولوا الناس عدلوا فيما بينهم
فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فمتى أرادوا غايةً نزلوا
يقول هم فوق كل درجة ورتبة وفوق كل طلبة وحاجة وإ ذا أرادوا غايةَ أمرٍ نزلوا إليها من علو يعني ما كان غايةً عند الناس وإلا فهم وراء كل غاية
قطعت مكارمهمْ صوارمهمْ ... فإذا تعذر كاذبٌ قبلوا
تعذر بمعنى تكلف العذر ومنه قول امرء القيس، ويوما على ظهرِ الكثيبِ تعذرت، يقول كرمهم غلب غضبهم وكفهم عن استعمال السيوف وإذا اعتذر إليهم كاذب قبلوا عذره تكرما
لايشهرون على مخالفهم ... سيفا يقوم مقامهُ العذلُ
يقول إذا انكف المخالف بالعذل لم يستعملوا معه السيف يعني لا يعجلون إلى الحرب إنما يقدمون الوعيد واللوم يصفهم بالحلم
فأبو عليٍّ من بهِ قهروا ... وأبو شجاعٍ من بهِ كملوا
أبو عليّ هو ركن الدولة أبو عضد الدولة أي به قهروا الملوك
حلفت لذا بركات غرةِ ذا ... في المهد أن لا فاتهم أملُ
يقول لما ولد عضد الدولة علم أبوه أن الآمال انحازت إليهم وحصلت لهم فكأن وجهه وهو في المهد كفيل لهم بجميع الآمال وروى ابن جنى بركات نعمةِ ذا والمعنى أن بركات النعمة بأبي شجاع حلفت لأبي عليّ أن الآمال لا يفوته شيء منها ويجوز أن يريد بالنعمة نعمة أبيه أبي عليّ أي ما يملكه من العدة والعتاد تكفل لأبي شجاعٍ بإدراك الآمال ويروي نغمة ذا والمعنى أن أباه عرف بنغمته لما ولد أنه يدرك به الآمال كلها وقال يعزى أبا شجاع عضد الدولة بعمته
آخر ما الملك معزى به ... هذا الذي أثر في قلبهِ
هذا على لفظ الخبر ومعناه الدعاء أي كان هذا آخر ما يعزى به الملك وكان قافية الخطوب حتى لا يكون مصابا بعد هذا
لا جزعاً بل أنفا شابهُ ... أن يقدر الدهر على غصبهِ
أي لم يؤثر المصابُ في قلبه جزعا منه ولكن أخذته الحمية والآنفة حين قدر الزمان على اغتصابه وتطرقه حماه واستباحه حريمه
لو درت الدنيا بما عنده ... لاستحيت الأيام من عتبهِ
أي لو كانت الدنيا عالمةً بما عنده من الفضل والنفاسة لأخذها الحياء من عتبه عليها ولكفت عنه إذاها
لعلها تحسب أن الذي ... ليس لديه ليس من حزنهِ
هذه المتوفاة توفيت على البعد منه يقول فلعل الأيام ظنت أنها لما لم تكن عنده لم تكن من عشيرته وقومه فلذلك أخذتها
وأن من بغدادُ دارٌ له ... ليس مقيما في ذرى عضبهِ
يقول لعل الأيام ظنت أنها لما كانت ببغداد ولم تكن بحضرته لم تكن في كنف سيفه وممن يحميه سيفه فلذلك تعرضت لها
وأن جد المرء أوطانهُ ... من ليس منها ليس من صلبهِ(1/388)
يقول ولعلها ظنت أنها لما لم تكن مستوطنةً معه في بلده لم تكن من صلب جده فلهذا اجترأت عليها ومعنى قوله وإن جد المرء أوطانه أي ظنت أن أقاربه الذين يساكنونه في الوطن هم عشائره وإن البعيد عنه وطنا ولا يكون من عشيرته ويروي وإن حد المرء بالحاء على معنى أن حريمه وطنه فمن لم يكن مستوطنا معه لم يكن في حريمه وعلى هذا الضمير في صلبه عائد على المرء
أخاف أن تفطن أعداؤه ... فيجفلوا خوفاً إلى قربهِ
يقول أخاف أن يعلم اعداؤه هذا وهو أن الأيام لا ترزأ من تحرم بجواره وقربه فيسرعوا إلى حضرته خوفا من الأيام وطلبا للسلامة بحصولهم في ذمته واشتمالهم بعزه
لا بد للإنسان من ضجعةٍ ... لا تقلب المضجع عن جنبهِ
يقول لا بد للإنسان من اضطجاع في القبر لا يقلبه ذلك الاضطجاع عن جنبه يعني يبقى كما اضطجع ولو قال لن بدل لا كان احسن لان لن تدل على التأبيد
ينسى بها ما كان من عجبه ... وما أذاق الموتُ من كربهِ
يقول يترك بتلك الضجعة اعجابه بنفسه وبما إذاقه الموت من كربه يعني أنه إذا ذاق كرب الموت وأضجع في القبر نسي العجب والإعجاب وما معطوف على الضمير في بها ويجوز أن يكون عطفا على ما كان فيك في محل النصب وذلك إن من مات واضجع في قبره نسي ما مر به من شدائد الموت وكربه
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعافُ ما لا بد من شربهِ
يقول نحن أبناء للأموات ولا بد لنا منه أي فكما مات من تقدمنا من آبائنا فكذلك نحن على أثرهم وهذا من قول أبي النواس، ألا يا أبن الذين فنوا وبادوا، أما والله ما بادوا لتبقى، وأصله قول متمم بن نويرة، فعددت آبائي إلى عرق الثرى، فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا، ولقد علمت ولا محالة أنني، للحادثات فهل تراني أجزع، وهذا كما روى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عمرو بن عبيدة يعزيه عن أبيه أما بعد فإنا أناس من أهل الآخرة أسكنا في الدنيا أمواتا آباء وأبناء أموات فالعجب لميت يكتب يعزيه عن ميت والسلام
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
يقول تمسكنا بأرواحنا بخلا بها على الزمان والأرواح مما كسبه الزمان فقد فسر هذا فيما بعد فقال
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه
إنما قال هذا لأن الإنسان مركب من جوهر لطيف وهو الروح وجوهر كثيف وهو البدن فجعل اللطيف من الهواء والكثيف من التراب
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
يقول لو تفكر العاشق لعلم أن منتهى حسن المعشوق إلى الزوال فلم يعشقه ولم يملك المعشوق قلبه
لم ير قرن الشمس في شرقه ... فكشت الأنفس في غربه
هذا مثل ومعناه أنه لابد لكل حادث من الفناء كالشمس من رآها طالعة عرفها غاربة كذلك الحوادث منتهاها إلى الزوال لأن الحدوث سبب الهلاك
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
يعني أن الموت حتم على كل أحد جاهلا كان أو عالما فالراعي الجاهل يموت كما يموت الطبيب الحاذق
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
وربما يزيد عمر راعي الضأن على عمر جالينوس الطبيب وكان آمن سربا منه أي نفسا وولدا ومن روى سربه بفتح السين فالسرب المال الراعي ولا معنى له ههنا
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
أي الذي افرط في السلم والمودة كالذي افرط في الحرب والمعاداة لأن كلا منهما إلى نفاد وفناء
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه
أي إذا الهلاك متيقنا فلم يخاف الإنسان من الموت ويجزع رعبا منه ولهذا دعا عليه فقال لا أدرك حاجته من خاف من الموت ويجوز أن يكون الهاء في رعبه للفؤاد
أستغفر الله لشخص مضى ... كان نداه منتهى ذنبه
يقول كان غاية ذنبه إسرافه في العطاء والإسراف اقتراف وورد النص في النهي عن الإسراف
وكان من جدد إحسانه ... كأنه أسرف في سبه
يقول من جدد ذكر إحسانه كان عنده كالمسرف في سبه لأنه كان يكره أن تحصى فواضله
يريد من حب العلى عيشه ... ولا يريد العيش من حبه
أي إنما كان يهوى البقاء لكسب العلى لا لحب الحيوة
يحسبه دافنه وحده ... ومجده في القبر من صحبه(1/389)
الذي يدفنه يظن أنه يدفن شخصا واحدا وقد دفن معه المجد والعفاف والبر والمجد أحد من صحبه ودفن معه
ويظهر التذكير في ذكره ... ويستر التأنيث في حجبه
أي كانت ذكرا من طريق المعنى لأنها كانت تفعل فعل الرجال من الصنائع الجميلة وإيثار المعروف فيغلب المعنى في ذكرها على الظاهر ويذكر بلفظ التذكير لفظ التأنيث
أخت أبي خير أمير دعا ... فقال جيش للقنا لبه
أي هي أخت عضد الدولة وهو خير أمير دعا إلى نفسه فقال الجيش للرماح أجيبيه يعني أنهم أجابوه بعدتهم لما دعاهم ويجوز أن يكون المعنى دعا جيش فقال عضد الدولة للقنا لب الجيش يعني أنه يجيب الصارخ ويغيث المستغيث
يا عضد الدولة من ركنها ... أبوه والقلب أبو لبه
يفضله على أبيه ويضرب لهما المثل بالقلب والعقل جعل اللب مثلا له والقلب مثلا لأبيه واللب أشرف من القلب كذلك هو أشرف من أبيه
ومن بنوه زين آبائه ... كأنها النور على قضبه
جعل ابناء عضد الدولة زينا لآبائه واعرض عن ذكره ذهابا إلى استغنائه بمزية علائه عن أ، يتزين بأبنائه والمعنى أنهم يزينون أباك كما يزين النور القضيب
فخرا لدهر أنت من أهله ... ومنجب أصبحت من عقبه
أي جعل الله فخرا لدهر من أهل ذلك الدهر يعني أن الدهر يفتخر بكونه من أهله وأبوه الذي ولده نجيبا يفتخر به والمنجب الذي يلد النجيب وعقب الرجل أولاده الذين يأتون بعده
إن الأسى القرن فلا تحيه ... وسيفك الصبر فلا تنبه
يعني الحزن كالقرن المغالب لك فلا تحيه بإعانته على نفسك وصبرك الذي تغالب به الأسى بمنزلة السيف فلا تجعله نابيا كليلا
ما كان عندي أن بدر الدجى ... يوحشه المفقود من شهبهِ
جعله كالبدر وأهله وعشائر كالنجوم حول البدر أي يجب أن لا يغتم لفقد احدهم والشهب جمع شهاب وهو الكوكب
حاشاك أن تضعف عن حمل ما ... تحمل السائر في كتبهِ
أراد بالسائر الفيج الذي يسير بالكتاب يقول يجب أن لا تضعف عن تحمل ما يحمله الفيج مكتوبا إليك في الكتاب أي إذا كان الفيج يطيق حمل ذكر وفاتها فأنت يجب أن تكون أشد اطاقةً له وهذا في الحقيقة مغالطة وإنما اراد تسكينه فتوصل إليه من كل وجه
وقد حملت الثقل من قبلهِ ... فأغنتِ الشدةُ عن سحبهِ
يقول قد حملت الأمر الثقيل قبل هذا الحادث فأغنتك قوتك عن جر ذلك الثقل وذلك أن حامل الثقل إذا عجز عن حمله جره على الأرض كما قال عتاب بن ورقاء، وجره إذ كل عن محملهِ، ونفسه من حتفهِ على شفا، والمعنى أنك حمول صبور على تحمل الشدائد فلا تجزع عن حمل هذه الرزيئة
يدخل صبر المرء في مدحهِ ... ويدخل الإشفاق في ثلبهِ
الإشفاق الخوف والجزع يحسن عنده الصبر ليرغب فيه ويقبح الجزع ليحذره والثلب العيب
مثلك يثني الحزن عن صوبهِ ... ويسترد الدمع عن غربهِ
الصوب القصد والصوب النزول والغرب مجرى الدمع يقول أنت تقدر على صرف الحزن وغلبته بالنصر إذا قصدك وترد الدمع إلى قراره عن مجراه فتخلي مجراه عنه بأن تسترده عن المجرى
أيما لإبقاء على فضلهِ ... أيما لتسليمٍ إلى ربهِ
أيما معناه أما أنشد ثعلب، يا ليتما أمناً شالت نعامتها، أيما إلى جنةٍ أيما إلى نارٍ، يقول يفعل ما ذكرت أما ليبقى على فضله فلا يهلك بالجزع وأما لتسليم الأمر إلى الله فإن له القضاء بما شاء في عباده
ولم أقل مثلك أعنى به ... سواك يا فرداً بلاد مشبهِ
يقول لم أعنِ بقولي مثلك يثني الحزن غيرك لأنك الفرد الذي لا مثل له ولكن المثل يذكر في الكلام صلة ولا يراد به النظير كقوله عز وجل ليس كمثله شيء وهو كثير وقد تقدم لها نظائر والمعنى أني أردت نفسك لا غيرك وقال أيضا يمدحه ويذكر هزيمة وهسوذان
أزائر يا خيالُ أم عائدْ ... أم عند مولاك أنني راقدْ
يقول للخيال اتيتني زائرا أم عائدا أي أني مريض ن الحب فأنا حقيق منك بالعيادة أم ظن مولاك أي صاحبك الذي أرسلك إليّ أني راقد
ليس كما ظن غشيةٌ لحقتْ ... فجئتني في خلالها قاصد(1/390)
يقول ليس الأمر على ما ظن من القود بل لحقتني غشية وهي همدة لا رقدة فجئتني في خلال تلك الغشية والمراد أنه لم ينم وإنما يزور الخيال النائم وكان من حقه أن يقول قاصدا لأنه حال ضمير الفاعل في جئتني إلا أن مثل هذا يجوز في الوقف لضرورة الشعر كما قال، وآخذُ من كلِّ حيٍّ عصمْ،
عد وأعدها فحبذا تلفٌ ... ألصق ثديي بثديها الناهدْ
يقول للخيال عد وأعد الغشية التي لقحتني وإن كان فيها تلفي فحبذا تلف كان سببا لقربك ومعانقتك وكان ن حقه أن يقول للغشية عودي وأعيدي الخيال لأن الغشية كانت سبب زيارة الخيال لا الخيال سبب لحاق الغشية ولكنه قلب الكلام في غير موضع القلب
وجدت فيه بما يشح به ... من الشتيت المؤشر الباردْ
وجدت أيها الخيال في ذلك التلف بما يبخل به مولاك من تقبيل الثغر المتفرق الذي فيه أشر وتحزيز يريد أنه قبل الطيف وارتشف ريقه
إذا خيالاته أطفن بنا ... أضحكهُ أنني لها حامدْ
يقول إذا طافت خيالات الحبيب بين وحمدت زيارتها أضحك الحبيب ذلك الحمد لأن الخيال في الحقيقة ليس بشيء ألا تراه قال
وقال إن كان قد قضى أرباً ... منا فما بال شوقهِ زائدْ
وقال الحبيب أن إدرك حاجته منا بزيارة الخيال فلم زاد شوقه إلينا
لا أجحد الفضل ربما فعلت ... ما لم يكن فاعلا ولا واعدْ
يقول وعلى هذا لا أجحد الخيالات لأنها فعلت من الزيارة ما لم يفعل الحبيب ولم يعده
ما تعرف العين فرق بينهما ... كل خيالٌ وصاله نافدْ
قال ابن جنى أي لا فرق بينهما وبين طيفها وكلاهما خيالٌ لأن كل شيء إلى نفاد وفناء ما خلا الله عز وجل قال ابن فورجة هذه موعظة وتذكر ولم يقل أبو الطيب كل شيء نافد ما خلا الله تعالى وإما يقول هذه المرأة لو واصلت لم تدم الوصال كما أن خيالها إذا واصل كان ذلك لحظةً فأما قوله كل خيال فهو الذي غلط ابن جنى وكلفه إيراد ما أورد وإنما عني بكل كلا منهما يعني من المذكورين وليس من العموم ويمنع من ذلك أنه في تشبيبٍ وغزل وأقبح الغزل ما وعض فيه وذكر بالموت في أثنائه وهذا كقولك خرج زيد وعمرو وكل راكب والكل يستعمل في الإثنين كما يستعمل في الجماعة ولما قال ما تعرف العين فرق بينهما علم أنه يشير بالكل إليهما لا إلى جماعة غيرهما
يا طفلة الكف عبلة الساعدْ ... على البعير المقلدِ الواخدْ
يخاطب الحبيبة والطفلة الناعمة الرخصة والعبلة الساعد الممتلئة وأراد بالمقلد أن بعيرها زين بالقلائد من العهون والواخد المسرع وروى ابن جنى غيلة الساعد الممتلئة الساعد
زيدي أذى مهجتي أزدك هوى ... فأجهل الناس عاشقٌ حاقدْ
يقول لها أذاك مستحلى لأن المحبوب يستحلي منه كل شيء ولهذا قال أزدك هوى أي أنك متى زدتني أذى زدتك هوًى لن العاشق لا يحقد على محبوبه فإن حقد عليه شيئا كان ذلك منه جهلا
حكيت يا ليل فرعها الواردْ ... فاحك نواها لجفني الساهدْ
الوارد من الشعر الويل المسترل يقول لليل أشهبت شعرها في السواد فأشبه بعدها عني أي أبعد عني بُعدها
طال بكائي على تذكرها ... وطلت حتى كلاكما واحدْ
يقول طال البكاء لأجلها وطلت أيها الليل حتى كلاكما واحد في الطول وروى ابن جنى تذكره
ما بال هذي النجوم حائرةً ... كأنها العميُ ما لها قائدْ
يقول لم وقفت النجوم فلا تسري لتغيب كأنها عميان ليس لهم من يقودهم ويريد بها طول الليل وإن النجوم كأنها واقفة وهذا من قول ابن الأحنف والنجم في كبد السماء كأنه، اعمى تحير ما لديه قائدُ،
أو عصبةٌ من ملوكِ ناحيةٍ ... أبو شجاع عليهمِ واجدْ
يريد أن اعداءه من الملوك حيارى رهبةً له وفرقا منه
إن هربوا أدركوا وإن وقفوا ... خشوا ذهاب الطريف والتالدْ
ذكر في هذا البيت سبب تحيرهم وهو أنهم لا يجدون منه ملجأ لا بالهروب ولا بالإقامة
فهم يرجون عفو مقتدرٍ ... مباركِ الوجهِ جائدٍ ماجدْ
أبلج لو عاذت الحمام به ... ما خشيت راميا ولا صائدْ
أو رعت الوحش وهي تذكره ... ما راعها حابل ولا طاردْ
الحابل صاحب الحبالة يريد أن من لاذ به واستأمن إليه أمن حتى الطير والوحوش لو لاذت إليه واستأمنت بذكره امنت(1/391)
تهدي له كل ساعةٍ خبراً ... عن جحفلٍ تحت سيفهِ بائدْ
يقول لا تمضي ساعة إلا وهي تورد عليه خبرا عن عسكرٍهلك تحت سيفه يعني تتابع أخبار فتوحهِ لكثرة سراياه إلى النواحي
وموضعا في فتانِ ناجيةٍ ... يحملُ في التاج هامةَ العاقدْ
الموضع المسرع في سيره والفتان غشاء للرحل من أدم والناجية الناقة السريعة يقول وتهدي له موضعا في رحل ناقةٍ تحمل إليه رأسا في تاج من عقده على رأسه
يا عضداً ربه به العاضدْ ... وسارياً يبعث القطا الهاجدْ
العاضد المعين يقال عضده إذا أعانه ويجوز أن يريد به الدولة يعني أن الدولة تعضد به الخلافة ويجوز أن يريد الله تعالى أي أنه يعضد به الإسلام وجعله ساريا بالليل لكثرة غاراته وطلبه الأعداء وإذا سرى ليلا في الفلوات بنه القطا وأثارها عن أفاحيصها كما قيل في المثل لو ترك القطا ليلا لنام
وممطر الموت والحيوةِ معاً ... وأنت لا بارقٌ ولا راعدْ
يقال برقت السماء ورعدت وأبرقت وأرعدت وأبي الاصمعي أبرق وأرعد يقول أنت تمطر الموت على أعدائك بالقتل وتحيى أولياءك بالبذل والإحسان فكأنك سحابٌ للموت والحيوة غير أنه لا برق لك ولا رعد
نلت وما نلت من مضرة وه ... سوذان ما نال رأيه الفاسدْ
وهسوذان ملك الديلم بالطرم يضعف رأيه بأنه جنى على نفسه الشر بمحاربة ركن الدولة يقول نلت منه ما أردت ولم تنل من مضرته ما نال رأيه الفاسد وهذا من قول الأول، لن يبلغ الأعداء من جاهلٍ، وما يبلغ الجاهل من نفسه، ثم ذكر فساد رأيه فقال
يبدأ من كيده بغايتهِ ... وإنما الحرب غايةُ الكائدْ
يقول يبدأ من الكيد بما هو من الغاية ثم فسر غاية الكيد بالحرب يعني أنه يبتدىء بما لا يصار إليه إلا في الإنتهاء أي كان سبيله أن لا يحاربكم حتى يضطر إلى ذلك
ماذا على من أتى محاربكم ... فذم ما اختار لو أتى وافدْ
يقول الذي يأتيكم يحاربكم ثم يذم اختياره في عاقبة امره لأنه لا يظفر بما يريد ماذا عليه لو وفد عليكم سائلا
بلا سلاح سوى رجائكم ... ففاز بالنصرِ وانثنى راشدْ
يقارع الدهر من يقارعكم ... على مكانِ المسودِ والسائدْ
يقول من قارعكم قارعه الزمان على مقداره رئيسا كان أو مرؤوسا
وليت يومي فناء عسكرهِ ... ولم تكن دانيا ولا شاهدْ
أي وليت اليومين اللذين هزم فيهما وهسوذان ولم تحضر الوقعتين ولكن من هزمه جيش أبيك فكأنك هزمته وهو قوله
ولم يغب غائب خليفته ... جيش أبيه وجده الصاعدْ
أي كانت لك خليفتان إن غبت ببدنك جيش أبيك وجدك العالي
وكل خطيةْ مثقفةٍ ... يهزها ماردٌ على ماردْ
المارد الذي لا يطاق خبثا يقول يهز المثقفة كل رجل مارد على فرس مارد وهذا تفصيل بعد الإجمال لأن هؤلاء كانوا من جيش أبيه وقد ذكرهم
سوافكٌ ما يدعن فاصلةً ... بين طريِّ الدماء والجاسدْ
سوافك من نعت قوله وكل خطية وقوله ما يدعن فاصلة قال ابن جنى كانه قال ما يدعن بضعة أو مفصلا إلا أسلنه دماء قال ابن فورجة اين ما زعم في هذا البيت وإنما يعني أنها إذا أراقت دما فجسد أي لزق اتبعته طريا من غير فاصلة وكأنه ظن أنه عنى بالفاصلة المفصل وإنما الفاصلة حال يفصل بين امرين كما يقول ضربني فلان وأعطاني من غير فاصلة أي من غير أن فصل بينهما بحالٍ
إذا المنايا بدت فدعوتها ... أبدل نونا بدالهِ الحائدْ
اخبر عن المنايا وهو يريد أهلها لأن المنايا لا تقول شيئا والمعنى أن أهل الحرب يعني جيش عضد الدولة يقولون عند الحرب جعل الله الحائد منا حائنا أي من حاد منا صار هالك
إذا درى الحصن من رماه بها ... خر لها في أساسهِ ساجدْ
كنى عن الخيل وإن لم يدر لها ذكر للعلم بذلك يقول إذا علم الحصن أن عضد الدولة رماه بالخيل سقط ساجدا له ولخيله يعني تسقط حيطانه هيبةً له
ما كانت الطرم في عجاجتها ... إلا بعيراً أضلهُ ناشدْ
الطرم ناحية وهسوذان والناشد الطالب يقول خفى في عجاجة الخيل واحاط به العجاج فكأنه بعير أضله من يطلبه
تسأل أهل القلاعِ عن ملكٍ ... قد مستخه نعامةً شاردْ(1/392)
أي تسأل الطرم والخيل أهل القلاع عن وهسوذان وهو قد مسخ في سرعة هربه نعامةً نفورا هذا هو المعنى وقوله مسخته نعامةٌ أي صارت النعامة وهسوذان أي كان نعامةً مسخت فجعلت وهسوذان وهذه رواية الأستاذ أبي بكر قال يقول هو نعامةٌ في صورة إنسان أي غيرت صورة نعامة إلى صورة إنسان والآن تبينا أنه كان نعامةً وروى ابن جنى مسخته نعامةً قال معناه وقد مسخته خيلك نعامةً شاردا وهذا أظهر من الأولى والنعامة يقع على الذكر والأنثى كالبقرة والبطة والحمامة
تستوجشُ الأرض أن تقر به ... فكلها منكرٌ له جاحدْ
يقول تخاف الأرض أن تقر به حيث هو هناك فجميع الأرض منكرةٌ تجحده
فلا مشاد ولا مشيد حمى ... ولا مشيدٌ أغنى ولا شائدْ
المشاد البناء المطول والمشيد المعلى للبناء والحمي اسم للمكان المحمي والمشيد يجوز أن يكون المشيد المطلى بالشيد وهو الكلس وقيل هو الجص أيضا يقال شاد بناءه إذا طلاه بالجص والشائد فاعلٌ منه والمعنى لم يكن البناء ولا الباني حمى على عضد الدولة أي لم تغن عنه قلعته ولا جنده
فاغتظ بقوم وهسوذ ما خلقوا ... إلا لغيظ العدو والحاسدْ
وهسوذ ترحيم وهسوذان يقول كن أبدا مغتاظا بقوم لم يخلقوا إلا غيظا للاعداء والحساد يعني قوم عضد الدولة
رأوك لما بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهلهِ الرائدْ
يقول هؤلاء القوم رأوك في الضعف والقلة كنباتٍ يأكله الرائد قبل أن يأتي جماعة الخيل والضمير في أهله للرائد
وخل زيا لمن يحققه ... ما كل دامٍ جبينه عابدْ
يقول زي الملوكية لا يليق بك فدعه لمن هو أحق به منك فليس كل ما تزيا بزي الملوك ملكا كما ليس من دمي جبينه يكون ذلك من كثرة العبادة والسجود
إن كان لم يعمد الأمير لما ... لقيت منه فيمنهُ عامدْ
يقول إن لم يقصدك الأمير فإن يمنه قصدك أي فأنت قتيل إقباله إن لم تكن قتيل سلاحه
يقلقه الصبح لا يرى معهُ ... بشرى بفتحٍ كأنهُ فاقدْ
قال ابن جنى أي إذا أصبح ولم يرد عليه من يبشره بفتحٍ قلقَ كأنه امرأة فقدت ولدها قال ابن فورجة لم يجد في تفسير التشبيه ومثل عضد الدولة لا يشبه بامرأة في حال من الأحوال وإنما أراد كأنه رجل فاقدٌ شيئا من الأشياء وليس إذا كانت المرأة الثكلى يقال لها فاقد يمتنع الرجل أني سمى فاقدا
والأمر لله ربَّ مجتهدٍ ... ما خاب إلا لأنه جاهدْ
يقول ليس من شرط الإجتهاد نيل المراد وقد يخيب الجاهد وينال مراده القاعد والمعنى ما أهلكك إلا اجتهادك في طلب الملك بتعرضك لهؤلاء القوم فصار اجتهادك سبب خيبتك لأن الأمر لله لا للمجتهد وهذا كما يروى عن ابن المعتز في حكمه حيث قال تذل الأشياء للتقدير، حتى يصير الهلاك في التدبير،
ومتقٍ والسهامُ مرسلةٌ ... يحيدُ عن حابضٍ إلى صاردْ
الحابض السهم الذي يقع بين يدي الرامي لضعفه والصارد النافذ في الرمية يقول رب متق خائف على نفسه إذا رميت السهامُ يهرب من سهمٍ لا ينفذ إلى سهمٍ ينفذ فيه فيقتله
فلا يبل قاتلٌ أعاديهُ ... أقائما نال ذاك أم قاعدْ
كان حقه أن يقول لا يبال بحذف الياء الأخيرة للجزم ولكنه قاس على قولهم لا تبل بمعنى لا تبال وإنما جاز ذلك لكثرة الإستعمال ولم يكثر استعمالهم لا يبل فيجز فيه ما جاز في غيره يقول من قتل عدوه فلا مبالاة له أقتله قائما أو قاعدا يعني أن المراد قتل العدو فإن كفيته بغيرك وأنت قاعد فلا تبال به
ليت ثنائي الذي أصوغ فدى ... من صيغ فيه فإنه خالدْ
يقول هذا الشعر الذي أصوغه في الثناء عليه يخلد ويبقى أبدا فليته فدى الممدوح حتى لا يهلك ويبقى أبدا
لويته دملجاً على عضدٍ ... لدولةٍ ركنها له والدْ
يقول زينته بهذا الشعر كما يزين العضد بالدملج وهو عضد لدولةٍ ركن تلك الدولة والدٌ له وسمّي شعره دملجا لذكر العضد وقال يمدح عضد الدولة ويذكر تصيده بموضع يعرف بدشت الأرزن
ما أجدر الأيام والليال ... بأن تقول ما له وما لي
يقول الأيام جديرة بأن تتظلم مني وتقول ما للمتنبي وما لي أي لأني كلفتها من همتي ما ليس في وسعها وكان من حقه أن يقول وما لنا لأنه ذكر الأيام والليالي وهما جمعان لكنه ذهب بالجمعين إلى الدهر كأنه قال ما أجدر الدهر(1/393)
لا أن يكون هكذا مقالي ... فتًى بنيرانِ الحروبِ صالي
اراد لا أن يكون هكذا مقالي لها بأن اتظلم منها فحذف لها للعلم به والاختصار كام تقول ما أجدر زيدا بأن يقوم إليك لا أن تقوم تريد إليه فتحذفه ثم أخبر عن نفسه فقال فتى أي أنا فتى أصلي بنار الحرب أي أقاسي شدائدها
منها شرابي وبها اغتسالي ... لا تخطر الفحشاء لي يببالي
يريد من ماء الحرب أشرب وبمائها اغتسل يعني مخالطته إياها وانغماسه فيها ويريد بالفحشاء الزنا يقول لا تخطر ببالي هذه الفعلة القبيحة ولا أحدث بها نفسي
لو جذب الزراد من أذيالي ... مخيراً لي صنعتي سربالِ
ما سمته زرداً سوى سروالِ ... وكيف لا وإنما إدلالي
يقول لو أخبرني الزراد فكنى بجذب الذيل عن الأخبار لأنه ربما يجذب ثوب الإنسان إذا أريد إخباره بشيء أي لو خيرني بين صنعتي سربال أي درع من السابغة والبدن لم اختر احدهما وإنما اختار السروال يشير إلى أن سيفه درعه وهو يحمي به بدنه وإنما حاجته أن يحصن عورته وهذه طريقة المتنبي يترفع عن معاشرة النساء كبرا وتعففا ثم قال كيف لا أرغب عن ضنعتي الدرع وأنا متحصن بالممدوح والسروال عند بعضهم واحد والسراويل جمعٌ وأما سيبويه فقد قال هما شيء واحد اعجمي عربَ إلا أن السراويل أشبه الجمع الذي لا ينصرف فلم يصرف والإدلال الفخر والتيه يقال فلان مدل بكذا
بفارس المجروح والشمالِ ... أبي شجاعٍ قاتلِ الأبطالِ
المجروح والشمال أسمان لفرسين كانا لعضد الدولة
ساقي كؤوس الموت والجريال ... لما أصاب القفص أمس الخالي
الجريال ههنا الخمر يريد أنه يسقي اعداءه كؤوس الموت واولياءه كؤوس الخمر والقفص جيل من الناس يقول لما أفناهم فصيرهم في الهلاك كامس الدابر
وقتل الكرد عن القتالِ ... حتى اتقت بالفرٍّ والإجفالِ
قتلهم ذللهم ومنه قول امرىء القيس، في أعشار قلبٍ مقتلِ، أي مذلل ويقال أيضا شراب مقتل إذا سكنت سورته بالماء والمعنى منعهم عن ان يقاتلوا حتى اتقوا بالفرار منه والاسراع بين يديه هربا
فهالك وطائع وجالِ ... فاقتنص الفرسانَ بالعوالي
أراد فمنهم هالك ومنهم من اطاعه فنجا ومنهم من خرج عن داره خوفا منه وصاد فرسان الأعداء بالرماح
والعتق المحدثة الصقالِ ... سار لصيد الوحشِ في الجبالِ
يريد السيوف القديمة الصنعة الجديدة الصقل يقول لما فعل هذا وفرغ منه قصد الطرد الذي هو باب من الهزل واللعب وسار جواب قولهلما أصاب يقول سار للصيد وهو يطأ الدم إينما ذهب لكثرة ما قتل
وفي رقاق الأرض والرمالِ ... على دماء الإنسِ والأوصالِ
رقاق الأرض جمع رقيق اللينة والأوصال الأعضاء
منفردَ المهرِ عن الرعالِ ... من عظمِ الهمةِ لا الملالِ
الرعال جمع رعلة وهي القطعة من الخيل يقول سار منفردا عن جيشه لا يريد أن يسايره أحد وإنما كان يفعله لعظم همته لا للملالة عنهم
وشدة الضن لا الاستبدال ... لم يتحركن سوى انسلالِ
أي وضنا بنفسه عن صحبتهم يفعل ذلك لا أنه يريد أن يستبدل بهم غيرهم وإذا وقفت الخيل بين يديه لم تتحرك هيبةً له والإنسلال مصدر قولك انسل أي خرج من بين أصحابه في خفية ومثله التسلل ومنه قوله تعالى يتسللون منكم لواذاً
فهن يضربن على التصهالِ ... كل عليلٍ فوقها مختالِ
يقول والخيل تضرب على الصهل تأديبا لها وفوقها كل رجلٍ عليل في سكونه وتصاغره هيبةً لعضد الدولة وهو في نفسه وهمته مختال
يمسك فاه خشية السعالِ ... من مطلعِ الشمس إلى الزوالِ
يقول وليس يسعل هيبةً وقد طال مقامه من الغداة إلى الزال يصف عسكره بالوقار اجلالا له
فلم يئل ما طار غير آلِ ... وما عدا فانغل في الأدغالِ
يقول لم ينج من الطير ما طار ولم يقصر من طيرانه فكيف ينجو من قصر ولم ينج أيضا ما عدا من الوحش فدخل واستتر بالأدغال وهي الأشجار الملتفة
وما احتمى بالماء والدحالِ ... من الحرامِ اللحمِ والحلالِ
يقول لم ينج أيضا ما تحصن بالماء وشوق الأودية مما يحل أكله ومما لا يحل والحدل كالهوة في الأرض
إن النفوس عدد الآجالِ ... سقياً لدشت الأرزنِ الطوالِ(1/394)
يقول النفوس معدة للآجال حتى تأخذها وتذهب بها ثم دعا لدشت الأرزن بالسقيا والطوال مبالغةٌ من الطويل
بين المروج الفيح والأغيالِ ... مجاور الخنزيرِ للريبالِ
الفيح جمع فيحاء وهو الواسعة من الأرض والأغيال جمع غيل وهو الأجمة يقول هذا الدشت بين المروج والآجام وفيه كل نوع من الصيد والحيوان فخنزيره مجاور للاسود ومجاور بالرفع خبر ابتداء محذوف كأنه قال هو مجاور وبالكسر نعت وبالنصب حالٌ
داني الخنانيص من الأشبالِ ... مشترف الدبٍّ على الغزالِ
يقول أولاد الخنازير فيه قريبة من أولاد الأسد والدب فيه مشرف على الغزال لأن الدب جبلي والغزال سهلي والمشترف بمعنى المشرف يقال أشرف واشترف ومنه قول جرير، من كل مشترفٍ وإن بعد المدى، يريد من كل فرس مشرف مرتفع
مجتمع الأضداد والأشكال
يقول الأضداد والأشكال موجودة في هذا المكان كالثعالب والأرانب والظباء هذه اشكال بعضها لبعض وهي أضداد للسباع المفترسة والسباع أشكال
كأن فناخسر ذا الإفضال ... خاف عليها عوز الكمالِ فجاءها بالفيل والفيالِ
يقول كان الممدوح خاف على هذه البقعة أن لا تكون كاملةً فجاءها بما لم يكن فيها وهو الفيل ليكمل أمرها باجتماع الحيوانات فيها
فقيدت الأيل في الحبالِ ... طوع وهوق الخيل والرجالِ
الأيل جمعه أيايل وهي الشاةُ الجبلية والأيل بضم الهمزة جمع لبنٍ آيلٍ أي خاثر يقول صيدت الأيائل بالحبال والأوهاق حتى صارت طوعا لها تقاربها
تسير سير النعم الأرسال ... معتمةً بيبس الأجذالِ
يقول تسير الأيائل في الحبال كما تسير الإبل لينة السير بعد أن صيدت وكانت شديدة العدو قبل ذلك وجعلها وهي ذات قرون كبارٍ ملتفةٍ كأنها قد اعتمت بأعواد يابسة والإرسال جمع الرسل وهو القطيع من الإبل والأجذال جمع جذل وهو الشجرة
ولدن تحت أثقل الأحمالِ ... قد منعتهن من التفالي
قال ابن جنى يعني بأثقل الأحمال الجبال قال ابن فورجة إلا يكفي من الحمل الثقيل القرون ذوات الشعب التي تقطع فيحمل الواحد منها حمارٌ أو رجل فأثقل الأحمالِ على قول ابن فورجة القرون وقول ابن جنى اظهر لأنها ولدت ولا قرون لها ومن البعيد أن يراد قرون أبويها ثم ذكر أن القرون قد منعتها من أن تفلي الرأس لأنها معوجة
لا تشرك الأجسام في الهزالِ ... إذا تلفتن إلى الأظلالِ
أرينهن أشنع الأمثالِ ... كأنما خلقن للإذلالِ
يقول القرون لا تشارك الجسم في الهزال وإذا التفتن إلى أظلال قرونهن أرينهن اقبح الصور وكأنما خلقت القرون للإذلال لأنها تذل من نسب إليها وهو أن الجاهل يقال له قرنان وهو قوله
زيادةً في سبة الجهالِ ... والعضو ليس نافعاً في حالِ لسائر الجسم من الخبالِ
يريد بالعضو القرن ولا يسمى القرن عضوا وليس القرن من جملة الأعضاء ولعله أطلق عليه هذا الأسم لمجاورته العضو يقول إذا كان في الجسم فساد فإن عظم القرن لا ينفع والخبال الفساد يقول هذا عضو لا ينفع باقي الجسم من الفساد
وأوفت الفدرُ من الأوعال ... مرتدياتٍ بقسيٍّ الضالِ
أوفت اشرفت من فوق الجبال والفدر المسنة من الأوعال واحده فادر وفدور ومنه قول الراعي، وكأنما انتطحت على اثباجها، فدر تشابه قد تممن وعولا، وجعلها وهن ذوات قرون كأنها قد أرتدت بالقسي والضال السدر البري وربما تعمل منه القسي شبه انعطاف قرونها بقسي الضال
نواخس الأطراف للأكفال ... يكدن ينفذن من الآطالِ
يقول أطراف هذه القرون تنخس اعجازها أي تصيبها وتضربها وتكاد لطولها تنفذ من خواصرها
لها لحى سودٌ بلا سبالِ ... يصلحن للإضحاك لا الإجلالِ
يقول لها شعور قد تدلت من اعناقها كأنها لحى لا تتصل بالسبال لأن الأعناق اختصت بها وتلك اللحى إنما تصلح لان تضحك لا لأن تبجل وتعظم
كل أثيثٍ نبتها متفالِ ... لم تغذ بالمسك ولا الغوالي
ترضى من الأدهان بالأبوال ... ومن ذكي الطيب بالدمالِ
أثبت كثير النبات والمتفال المنتنة الريح من التفل وهو النتن والدمال السرجين
لو سرحت في عارضي محتالِ ... لعدها من شبكات المالِ(1/395)
يقول هذه اللحى لو سرحت فكانت في عارضي ذي حيلة لكانت له شبكة للمال لأن ذا اللحية الطويلة يعظم ويضن به الخير ويؤتمن وإذا كان محتالا خان الأمانة وفاز بها وتسريح الشعر تخليص بعضه من بعض
بين قضاة السوء والأطفال ... شبيهةُ الإدبار بالإقبالِ لا تؤثر الوجهَ على القذالِ
يقول تكون شبكة للمال بين قضاة السوء والأطفال لأن القاضي السوء يجر إلى نفسه مال الطفل بطول لحيته ثم قال إذا استدبرت هذه اللحى رأيتها كما تستقبلها وهي عريضة تعم الوجه والقذال
فاختلفت في وابلي نبالِ ... من أسفلِ الطودِ ومن معالِ
يقول رشقت هذه الإيائل بالنبال من أعلى الجبل وأسفله فهي تجيء وتذهب منها في نبال كالمطر يأتيها من كل جانبٍ
قد أودعتها عتل الرجالِ ... في كل كبدٍ كبديْ نصالِ
العتل القسي الفاسية واحدتها عتلة والرجال جمع راجل يقول قسي الرجل قد أودعت اكبادها كبد النصل وهو ما بين العبرين
فهن يهوين من القلالِ ... مقلوبة الأظلافِ الإرقالِ
يقول فهن يسقطن من أعالي الجبال منحدرةً على ظهورها فاظلافها صارت مقلوبةً وإرقالها كان على أظلافها فصار على ظهرها والأرقال ضرب من العدو ويقال أرقلت الناقة إذا سارت على السرعة
يرقلن في الجو على المحالِ ... في طرقٍ سريعةِ الإيصالِ
المحال فقار الظهر واحدتها محلة يقول هي تعدو في الجور نازلةً على ظهرها في طرقٍ تسرع إيصالها إلى الأرض
ينمن فيها نيمة المكسالِ ... على القفي أعجل العجالِ
يقول ينمن في تلك الطرق كما ينام الكسلان لما كانت على اقفائها جعلهن كالنائم المستلقي ولكنهن في ذلك اعجل العجال لسرعة هويهن وروى ابن جنى الكسال جمع الكسلان وعجال جمع عجل وعجلان
لا يتشكين من الكلالِ ... ولا يحاذرن من الضلالِ
أي لا يصيبهن كلال في تلك الطرق ولا يحذرن ضلالا لأنها تؤديها إلى الأرض بغير شك
فكان عنها سبب الترحال ... تشويق إكثارٍ إلى إقلالِ
يقول لما شوقه إكثاره من الصيد إلى الإقلال منه صار ذلك التشويق سبب ارتحاله عن الوحوش يريد أنه مل الإصطياد لكثرة ما صاد فصار ذلك سبب ارتحاله عنها وتقدير كلامه فكان تشويق إكثار إلى إقلال سبب الترحال عنها
فوحش نجدٍ منه في بلبالِ ... يخفن في سلمى وفي قبالِ
سلمى أحد جبلي طيء وقبال جبل عالٍ بقرب دومة الجندل كذا قال ابن جنى ورواه القاضي أبو الحسن فيال قال وهو جبل في أرض بني عامر يقول وحش نجد في حزن من خوف عضد الدولة فهن يخفن في جبالها
نوافر الضباب والأروالِ ... والخاضبات الربد والريالِ
نوافر حال من الوحش والورل شيء شبه الضب والخاضبات الربد النعام لأنها ربد الألوان فإذا أكلت الربيع انخضبت سوقها فيسمى الظليم خاضبا ومنه قول أبي داود، لها ساقا ظليماٍ خاضبٍ، فوجىء بالرعبِ والرئالُ فراخُ النعام واحدها رأل يقول نفرت وحوش سائر النواحي خوفا منه
والظبي والخنساء الذيال ... يسمعن من أخباره الأزوالِ
ما يبعث الخرس على السؤالِ
الخنساء المها لخنس انفها والذيال الطويل الذنب والأزوال جمع زول وهو الظريف العجب من كل شيء يقول الوحوش تسمع من أعاجيب أخبار عضد الدولة ما يبعث الخرس على السؤال عنها مع عجزهم عن السؤال
فحولها والعوذ والمتالي ... تود لو يتحفها بوالِ
الحول جمع حائل وهو ضد الحامل والعوذ الحديثات النتائج جمع عائذ والمتالي جمع المتلية وهي الناقة التي يتلوها ولدها يقول أنواع الوحوش تود لو بعث إليها من يلي عليها فيذللها وروى ابن جنى فحولها على جمع الفحل
يركبها بالخطم والرحالِ ... يؤمنها من هذه الأهوالِ
يقول ذلك الوالي يركب الوحش ويزمها حتى تنقاد في الأزمة والرحال وتصير آمنة من هول الطرد وما يصيبها من خوف الصيد
ويخمس العشب ولا تبالي ... وماء كل مسبلٍ هطالِ
ويأخذ ذلك الوالي خمس ما ترعاه الوحش من العشب وخمس ما السحاب وترضى بذلك ولا تبالي
يا أقدر السفار والقفال ... لو شئت صدت الأسد بالثعالي(1/396)
يريد بالسفار المسافرين وهم السفر وواحد في القياس سافر مثل صاحب وصحب إلا أنه لم ينطق بسافر والقفال جمع قافل وهو الراجع من سفره كأنه قال يا أقدر الناس جميعا ذاهبا كنت أم راجعا والثعالي يريد الثعالب كما قال الآخر، لها أشارير من لحمٍ تثمرهُ، من الثعالي ووحرٌ من أرانيها، أبدل الباء من كلا الأسمين ياءً لما احتاج إلى تسكينها للشعر أبدلها ياء ليمكنه تسكينها يقول لو شئت غلبت الضعيف على القوي حتى تصيد الأسود بالثعالب
أو شئت غرقت العدى بالآلِ ... ولو جعلت موضعَ الإلالِ
لآلئا قتلتَ باللآلي
الآل السراب وهو شبه الماء يقول لو شئت غرقت اعداءك بما ليس ماء ولو طعنتهم باللآلي بدل الآلال وهي الحراب قامت اللآلي في اهلاكهم مقام الحراب لأنك مظفر منصور
لم يبق إلا طرد السعالي ... في الظلم الغائبة الهلالِ
يقول لم يبق إلا أن تصيد الغيلان في المهامه والسعالي جمع سعلاة وهي الول والظلم الليالي التي في آخر الشهر لايطلع فيها القمر والمعنى أنك ملكت الوحوش والأنس كففت شر كل ذي غائلة فلم يبق إلا أن تخلى المفاوز من السعالي حتى لا تؤذي السائرين في الليالي المظلمة
على ظهور الإبل الأبالِ ... فقد بلغت غاية الآمالِ
الأبال جمع آبل وهو الذي قد اجتزأ بالرطب عن الماء ومنه قول لبيد، وإذا حركت غرزي أجمرت، أو قرا بي عدو جونٍ قد أبل، وإنما خص الإبل لأن الخيل لا تعمل في المفاوز وجعلها مكتفية عن الماء بالرطب لئلا تحتاج إلى الماء
فلم تدع منها سوى المحالِ ... في لا مكانٍ عند لا منالِ
يقول بلغت غاية آمالك في طلب أعدائك وملكت كل شيء يوصف بالوجود ويدرك مكانه ولم تدع إلا المعدوم الذي لا يوصف بالمكان والوجود
يا عضد الدولة والمعالي ... النسب الحلي وأنت الحالي
بالأب لا الشنف ولا الخلخال ... حلياً تجلى منك بالجمالِ
يقول نسبك حلي عليك يزينك وأنت الحالي بأبيك أي صاحب الحلي لا بما تتزين به النساء من حليهن وذلك الحلي الذي هو نسبك تزين منك بالجمال والمعنى أن أباك يزينك وأنت جماله تزينه أيضا
ورب قبحٍ وحلى ثقالِ ... أحسن منها الحسن في المعطالِ
يقول رب قبيح يتحلى بحلي ثقال كان حسن المعطال أحسن منها يعني أن الحلي لا تنفع مع القبح والمعطال التي لا حلى عليها والمعنى أن غيرك ممن ليس له جوهر لا ينفعه النسبُ الشريف كالقبيح إذا تحلى ثم اكد هذا الكلام فقال
فخر الفتى بالنفس والأفعالِ ... من قبله بالعمِ والأخوالِ
يقول إنما يفخر الفتى بشرف نفسه وحسن أفعال من قبل ان يفتخر بعمه وخاله والكناية في من قبله يعود إلى الفخر وقال يودع عضد الدولة وهي آخر ما قاله وتطير على نفسه في مواضع منها
فدى لك من يقصر عن مداكا ... فلا ملكٌ إذا إلا فداكا
يقال فدى لك مفتوح مقصور وفداؤك مكسور ممدود ويجوز قصر هذا الممدود للضرورة وقوله إلا فداكا لا يجوز فيه إلا فتح الفاء لأنه فعل ماض يقول يفديك كل من لم يبلغ غايتك وإن استجيب هذا الدعاء فداك جميع الملوك لأنه لم يبلغ ملك غايتك وكلهم دونك وأخذ الصابي هذا المعنى فقال، أيهذا الوزير لا زال يفديك من الناس كل من هو دونكي، وإذا كان ذاك اوجب قولي، أن يكونوا باسرهم يفدونك
فلو قلنا فدى لك ن يساوي ... دعونا بالبقاء لمن قلاد
أي لو قلنا يفديك من يساويك وتساويه دعونا بالبقاء لأعداءك لأنهم كلهم دونك ولا يساوونك
وآمنا فداءك كل نفسٍ ... وإن كانت لمملكةٍ ملاد
وآمنا عطف على قوله دعونا يقول ونأمن أن يكون فداك كل نفس وإن كان ملكا كبير الشان قواما للمملكة إذا كان يفديك من يساويك
ومن يظن نثر الحب جوداً ... وينصب تحت ما نثر الشباد
ومن عطف على قوله كل نفس ويظن يفتعل من الظن اصله يظتن فقلبت التاء طاء ليوافق الظاء قبلها بالأطباق والجهر وأبدلت الطاء ظار لتدغم في التي بعدها ثم أدغمت فيها فصار يظن وهذا تعريض لسائر الملوك يشير إلى أنهم يجودون لطلب العوض كمن نثر حبا نحت شبكةٍ لم يعد ذل جودا بالحب لأنه إنما نثر لأخذ الصيد الذي هو خير من الحب
ومن بلغ التراب به كراه ... وقد بلغت به الحال السكاكا(1/397)
يقول وآمنا فداك من الصقه عماه وغفلته بالتراب وإن علت رتبته وحاله من حيث المال حنى بلغ أعلى الجو
فلو كانت قلوبهم صديقا ... لقد كانت خلائقهم عداكا
يقول إن والتك قلوبهم فقد عادتك أخلاقهم لأنها مضادة لأخلاقك يريد أن الملوك وإن كانوا يوادونك فإن بينك وبينهم بونا بعيدا لأنهم لم يبلغوا كرم اخلاقك ولا شرف نفسك وقد بين هذا في قوله
لأنك مبغضٌ حسباً نحيفاً ... إذا أبصرت دنياه ضناكا
الضناك المرأة السمينة الممتلئة باللحم أخذ من الضنك الذي هو الضيق وذلك لضيق جلدها بكثرة لحمها يقول أنت تبغض الشرف النحيف إذا كان صاحبه مثريا كثير المال يعني إذا كان بخيلا لا يكسب بماله الشرف وما يعد من المناقب والمفاخر
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
يقول أروح عنك وقد سددت عليَّ طريق محبة غيرك بأن جعلت حبك ختما على قلبي حتى لا ينزل فيه غيرك
وقد حملتني شكرا طويلا ... ثقيلا لا أطيق به حراكا
يقول أنا مثقل الحمل بشكرك كالبعير المثقل لا يستطيع التحرك والحراك اسم يقام مقام المصدر يقال حرك تحريكا وحراكا ثم يستعمل بمعنى الحركة
أحاذر أن يشق على المطايا ... فلا تمشي بنا إلا سواكا
يقول احاذر على دوابي العطب لثقل ما اصحبتني فلا تمشي بنا إلا ضعيفة يقال الدواب تتساوك سواكا إذا مشت هزلى ضعيفة ومنه قول الشاعر، إلى لاله نشكو ما نرى من جيادنا، تساوك هزلى منحهن قليلُ،
لعل الله يجعله رحيلاً ... يعين على الإقامة في ذراكا
الذرا الكنف والناحية يقول أرجو من الله أن يجعل هذا الفراق سببا لاقامتي عندك بان أصلح اموري وأعود إليك أو بأن أحمل أهلي إلى حضرتك فأقيم عندك فارغ البال وهذا من قول عروة بن الورد، تقول سليمى لو أقمت بأرضنا، ولم تدر أني للمقام أطوفُ،
فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
يقول لو قدرت لغمضت عيني ولم أرفع بصري إلى أحد بالنظر إليه حتى أعود إليك
وكيف الصبر عنك وقد كفاني ... نداك المستفيض وما كفاكا
يقول كيف اصبر عنك وقد اكتفيت بما جدت عليّ ولم يكفك ذلك أي تريد أن تعطيني فوق ما أعطيتني وأنا غير مستزيد وإذا كانت الحال هذه لم أصبر عنك وأسرع وأسرع العود إليك
أتتركني وعين الشمس نعلي ... فتقطع مشيتي فيها الشراكا
يقول إذا كنت بحضرتك كنت من الرفعة كمن انتعل عين الشمس وإذا ارتحلت عنك قطع مشيتي شراك تلك النعل فيزول عني سبب الرفعة وقوله أتتركني معناه أأتركك وهو استفهام إنكار أي لا أتركك ولكن من تركته فقد ترك فقلب الكلام كما قال الآخر، كأنما أسلمت وحشيةٌ وهقا، والوهق يسلم الوحشية ومثله كثير
أرى أسفي وما سرنا شديدا ... فكيف إذا غدى السير ابتراكا
الأبتراك سرعى السير يقول أنا شديد الأسد ولم أسر بعد فكيف يكون أسفي إذا اسرعنا في السير وهذا من قول اشجع السلميّ، فها أنت تبكي وهم جيرةٌ، فكيف يكون إذا ودعوا، لقد صنعوا بك ما لا يحل، ولو راقبوا الله لام يصنعوا، أتطمع في العيش بعد الفراق، محالٌ لعمرك ما تطمع، ومثله قول آخر، لقد كنت أبكي خيفةً لفراقهِ، فكيف إذا بان الحبيب فودعا،
وهذا الشوق قبل البين سيف ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا
يقول الشوق عليّ كالسيف أي يعمل عمله وقد أثر فيّ وما ضربت به بعد ويروي ومما أنا إذ ضربت
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا
يقول إذا ظهر التوديع قال لي قلبي أسكت ولا تتكلم بالوداع ويجوز أن يكون المعنى لا تمدح غيره ومعنى لا صاحبت فاكا أي لا نطقت
ولولا أن أكثر ما تمنى ... معاودةٌ لقلت ولا مناكا
أي ولولا أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاود حضرتك لقلت له ولا بلغت أنت أيضا مناك في الإرتحال حتى لا أفارقه ولكنه يتمنى الإرتحال للعود إلى الممدوح
وقد استشفيت من داءٍ بداءٍ ... وأقتل ما أعلك ما شفاكا
يقول لقلبه استشفيت من داء النزاع إلى الأهل والوطن بداء الفراق من الممدوح وما شفاك من داء النزاع هو أقتل مما اعلك أي تداويت من فراقه بما هو اقتل لك من نزعك إلى أهلك
فأستر منك نجوانا وأخفي ... هموما قد أطلت لها العراكا(1/398)
يقول استر عنك يا عضد الدولة ما يجيري بيني وبين القلب ن المناجاة واخفي عنك هموم فراقك التي قد اطلت مزاحمتها ومغالبتها
إذا عاصيتها كانت شدادا ... وإن طاوعتها كانت ركاكا
أي إذا عاصيت هذه الهموم في فراق الممدوح اشتدت عليّ وإن طاوعتها في الإقامة عنده سهلت شدتها وصارت ركيكةً ويمكن أن يحمل على هموم الأهل والولد فيقول إذا عصيت هذه الهموم وأقمت عندك اشتدت عليّ وإن اطعتها في الإرتحال سهلت ولأنت
وكم دون الثوية من حزينٍ ... يقول له قدومي ذا بذاكا
الثوية مكان بالكوفة يقول كما دونها من إنسان حزين لفراقي إذا قدمت سر بقدومي فيقول له القدوم هذا السرور بذلك الغم الذي لقيته بغيبته كما قال الطائي، وليست فرحة الأوباتِ إلا، لموقوفٍ على ترحِ الوداعِ،
ومن عذب الرضاب إذا أنخنا ... يقبل رحل تروك والوراكا
تروك اسم ناقة حمله عليها عضد الدولة والوراك شيء يتخذه الراكب كالمخدة تحت وركه وجمعه وركٌ ومنه قول زهير، إلا القطوع على الأجواز والورك، يقول كما هناك من شخص عذب الرضاب إذا أنخت إليها ناقتي قبل رحلها لأنها أدنتني منه
يحرم أن يمس الطيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا
صاك الشيء بالشيء إذا لصق به يقول لم يمس بعدي طيبا حزنا على فراقي ومع ذلك تشمُ منه روائح الطيب حتى كان العبير قد لصق به
ويمنع ثغره من كان صب ... ويمنحه البشامة والأراكا
أي لا يصل إلى ثغر عاشق لعفته وتصونه ويمنح ثغره السواك المتخذ من هذين الشجرين والشامة يستاك بفرعها ومنه قول جرير، أتنسى إذ تودعنا سليمى، بفرع بشامةٍ سقي البشامُ، وكذلك الأراك وذكره كثير في الأشعار
يحدث مقلتيه النوم عني ... فليت النوم حدث عن نداكا
يقول إذا نام رأى خيالي في النوم فليت نومه حدثه عن إحسانك إليّ ليعذرني في المقام عندك
وأن البدن لا يعرقن إلا ... وقد أنضى العذافرة اللكاكا
يعرقن يأتين العراق والعذافرة الناقة الشديدة ومنه قول العبدي، عذافرة كمطرقة القيون، واللكاكا المكتنزة اللحم يقول ليت النوم حدثه أن ركابنا لا تبلغ العراق إلا وقد اهزلها ثقل ما حملت من نداك وانضى فعل نداك
وما أرضى لمقلته بحلمٍ ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
أي وإن حدثه النوم فلست أرضى له بحلم يتوهمه كذاب عند الإنتباه والبشك ولابتشاك الكذب
ولا إلا بأن يصغى وأحكى ... فليتك لا يتيمه هواكا
روى ابن جنى فليته وهو على حذف الأشباع كما أنشده سيبويه، وما له من مجد تليد وذكرنا مثل هذا في قوله، تعثرت به في الأفواه السنها، يقول ولا أرضى بشيء إلا بأن يستمع إليّ واحكي له فليته لا يصير متيما بحبك إذا حكيت له إحسانك وإنعامك لأن الإحسان يستبعد الإنسان
وكم طربِ المسامعِ ليس يدري ... أيعجب من ثنائي أم علاكا
يقول وكم من إنسان تطربُ مسامعه إذا سمع شعري فيك ولا يدري أيتعجب من حسن ثنائي عليك أم من علوك يعني أن كلاهما عجب
وذاك النشر عرضك كان مسكاً ... وهذا الشعر فهري والمداكا
النشر الرائحة الطيبة ويريد به الثناء يقول ذاك الثناء الطيب الرائحة هو عرضك كان بمنزلة المسك وكان الشعر بمنزلة الفهر وهو الحجر الذي يستحق به الطيب والمداك وهو الصلابة التي يستحق عليها الطيب وطيب المسك إنما يظهر منهما كذلك رائحة الثناء إنما تفوح بالشعر وهذا من قول ابن الرومي، وما ازداد فضل فيك بالمدح شهرةً، بلى كان مثل المسك صادف مخوضا، والمخوض الذي يحرك به الطيب وذاك لا يزيد الطيب فضلا بل يظهر رائحته كذلك هذا الشعر يظهر فضائل الممدوح للناس ولايزيده فضلا
فلا تحمدهما وأحمد هماماً ... إذا لم يسم حامدهُ عناكا
يقول لا تحمد الفهر والمداك اللذين جعلتهما مثلا لشعري وأحمد نفسك فإنك تستحق الحمد بخصالك الحميدة وقوله إذا لم يسم حامده عني نفسه يقول إذا لم أسم الممدوح في شعري كنت أنت المعنيّ به
أغر له شمائلُ من أبيهِ ... غداً يلقى بنوك بها أباكا
يقول أنت ورثت شمائل أبيك وكما ورثتها أباك ورثها ابناءك فهم يلقون أباك بتلك الخلائق التي ورثوها منك وحقه أن يقول أباهم لكنه قال أباك إشارةً إلى أنهم لم يبلغوا بعد رتبتك حتى يشبهوك بل يشبهون أباك(1/399)
وفي الأحباب مختصٌ بوجدٍ ... وآخر يدعى معه اشتراكا
أي يشتبه حال الأحباب ففيهم من يكون حزينا مخصوصا بوجدٍ وقد يكون فيهم من يدعي الاشتراك في الوجد ولا يكون لدعواه حقيقةٌ وإنما يعني أنه غير مدخول المحبة بل هو صحيح الموالاة ليس كمن يدعي الأشتراك من غير حقيقةٍ
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ ... تبين من بكى ممن تباكا
أذمت مكرماتُ ابي شجاعٍ ... لعيني من نواي على أولاكا
روى ابن جنى وابن فورجة نواي بالنون قال ابن جنى أي منعت مكرماته عيني أن تجري منها دموع كاذبةٌ وأختار البعد عنه والمقام دونه وقال ابن فورجة يريد أن مكرمات ابي شجاع تذم لعيني على أهلي الذين اقصدهم من نواي عنك أي أشتهي ابدا ملازمتك والبعد عن اولئك فيكون الذمام إذن على اهله لعينه وهم الخائفون من نوى أبي الطيب وهذا كما تقول أذم لهند على عاشقها من الوصول إليها لزومها البصرة أي لها ذمام من الوصول إليها ما دامت بالبصرة على عاشقها فعاشقها لا يصل إليها ما دامت هناك هذا الذي حكيت كلامهما ولم يظهر معنى البيت ببيانهما ومعنى أذم له على فلان إذا منعه منه واجاره عليه كما قال، هم ممن اذم لهم عليه، كريم العرقِ والنسبُ النضارُ، أي منعهم منه يقول مكرماته منعت عيني وعقدت لها عقدا على أهلي من فراق عضد الدولة ويكون على من صلة أذمت وروى من ثواي مقصور الثواء بمعنى المقام والمعنى مكرماته اذمت لعيني من المقام عليهم أي عقدت لعيني عقدا يؤمنها من النظر إلى اؤلئك يريد أنها قصرتها على عضد الدولة فلا تنظر إلى غيره وعلى يكون من صلة الثواء
فزل يا بعد عن أيدي ركابٍ ... لها وقع الأسنة في حشاكا
يقول للبعد تنح عن أيدي هذه المطايا فإنها تقطعك كما تقطع الأسنة الحشا
وأيا شئت يا طرقي فكوني ... أذاةً أو نجاةً أو هلاكا
هذا كلام ضجر يقول لطريقه كوني كيف شئت فإني لا أبالي وإن كان الهلاك في سلوكك
فلو سرنا وفي تشرين خمسٌ ... رأوني قبل أن يروا السماكا
هذا كلام فيه حذف وتقديم وتأخير وتقديره فلو سرنا في تشرين وقد مضت منه خمس ليال وإذا أخل الحذف بالكلام ولم يظهر المعنى لم يجز والسماك يطلع لخمسٍ خلون من تشرين الأول وهذا مبالغة في ذكر سرعة السير والرجوع إلى أهله يقول لو أخذت في السير وأخذ السماك في الطلوع لسبقته بالطلوع عليهم وهم بالكوفة كأنه قال اسبق النجم بسرعة السير
يشرد يمن فناخسر عني ... قنا الأعداء والطعن الدراكا
وألبس من رضاه في طريقي ... سلاحاً يذعر الأبطال شاكا
يقول رضاه لي بمنزلة السلاح الذي يخوف الأبطال ويقال سلاح شاك بمعنى شائك أي ذو شوك وهذا كما يقال كبش صاف ويوم طان على حذف العين ومنه قول مرحب اليهودي، شاك السلاح بطلٌ مجربُ،
ومن أعتاض منك إذا افترقنا ... وكل الناس زور ما خلاكا
هذا كقول عمران ابن حطان، أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه، ما الناس بعدك يا مرداسُ بالناس، ومثله لأبي الطيب، إنما الناس حيث أنت البيت
وما أنا غير سهم في هواء ... يعود ولم يجد فيه امتساكا
يقول أنا في الخروج من عندك وقلة اللبث في أهلي كالسهم يرمي به الهواء فيذهب وينقلب إلى الرمي سريعا قال ابن جنى لم يقل في سرعة الأوبة وتقليل اللبث هكذا في المبالغة هذا كلامه والبيت مدخول ولم يعرف ابن جنى وجه فساده وهو أن كل سهم رمى به فهو في هواء ولا يعود إلى ما عولي منه ولم يذكر في البيت ما يدل على أنه أراد الهواء العالي
حين من إلهى أن يراني ... وقد فارقت دارك واصطفاها(1/400)
روى ابن جنى واصطفاك بكسر الطاء قال الاصطفاء ممدود فقصره واحتج عليه باحد عشر بيتا كله مستغنى عنه لأن قصر الممدود في الشعر اشهر من أن يحتاج فيه إلى ذكر الشواهد وانكر ابن فورجة هذه الرواية ورواه مفتوح الطاء على الفعل وقال لم يستحيي من الله تعالى إذا فارق داره واخيتاره إياه أعني اختيار الممدوح للمتنبي بل لا وجه حيائه في فعله ذاك إذ ليس لك من فارقه وزهر في اختياره إياه ارتكب حوبا وإنما يستحيي من الله تعالى إذا فارق دار الممدوح والله تعالى قد اصطفاه واختاره على خلقه فكل من فارقه يجب أن يستحيي من خالقه هذا لعمري موضع حياء على مذهب الشعراء وللشعراء في تعظيم الممدوح وإظهار الرغبة فيه مذهب مشهور لا ينكر وقال أيضا لا معنى لحياء المتنبي من الله تعالى إذا فارق دار عضد الدولة واصطفاءه بل يجب أن يتقرب إلى الله تعالى بتلك المفارقة والزهد في داره وإنما يقول أنا حييٌّ من الهي أن أفارقك وقد اصطفاك الله تعالى إذ ذكر اصطفاءه له ولو لم يذكره لكان لا تخلص له من الحياء من الله تعلا بمفارقة دار عضد الدولة هذا كلامه على هذا البيت في كتابيه التجني والفتح وهو صحيح والمعنى على ما قاله والرواية الصحيحة فتح الطاء
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(1/401)