يقول: نظر الأهلة إلى وجهه، يقوم مقام نائله، لأنها تقابل منه سعداً وتكتسب منه نورا، فنائله عم الأهلة وسائر الخلق، ولم يختص به البشر دون غيره.
ما الدّهر عندك إلا روضةٌ أنفٌ ... يا من شمائله في دهره زهر
الروضة الأنف: التي لم ترع، فيكون أحسن لها.
شبه الدهر بالروضة، وشمائله بالزهر الذي هو في الروضة لحسنها.
ما ينتهي لك في أيامه كرمٌ ... فلا انتهي لك في أعوامه عمر
الهاء في أيامه للدهر، وكذلك في أعوامه وقوله: فلا انتهى دعاء للمدوح.
يقول: ليس لكرمك نهاية في الدهر، وعمرك يزيد في أعوام الدهر.
فإنّ حظّك من تكرارها شرفٌ ... وحظّ غيرك منه الشّيب والكبر
الهاء في تكرارها للأيام أو للأعوام، وفي منه للدهر.
يقول: إنك لا تزال تزداد شرفاً على مرور الأيام وكرور الأعوام؛ لأنك تفعل في كل وقت فعلاً لك فيه ذكر وشرف، وغيرك يزداد شيباً وهرماً.
ومد قويق: وهو نهر بحلب، فأحاط بدار سيف الدولة، فخرج أبو الطيب من عنده، فبلغ الماء صدر فرسه. فقال:
حجّب ذا البحر بحارٌ دونه
يذمّها النّاس ويحمدونه
البحر: سيف الدولة، والبحار: مدود النهر.
يقول: حالت هذه السيول، والمدود، بيننا وبين بحر الجود، فالناس يذمون هذه البحار؛ لأنها منعتهم عن ذلك البحر ويحمدون سيف الدولة؛ لأنه لم يحجب نائله عنهم.
وقيل: يذمون البحار استحقاراً بالإضافة إليه، ويحمدونه تعظيماً له.
يا ماء هل حسدتنا معينه؟
أم اشتهيت أن ترى قرينه؟
المعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، مفعول من العين: أي تدركه.
يقول للماء: هل حسدتنا على كثرة جوده، الذي هو كالماء الجاري، فحلت بيننا وبينه؟ وقيل: معناه هل حسدتنا على مشاهدتنا لسيف الدولة فعقتنا عنه وعن الوصول إليه؟ أم أردت يا ماء أن ترى قرينه: أي تكاثر جوده، فتكون أنت قريناً له؟؟!
أم انتجعت للغنى يمينه؟
أم زرته مكثّراً قطينه؟
قطين الملك: خدمه المقيمون.
يقول للماء: أم قصدته يا ماء مستميحاً الغنى منه؟ أم أردت أن تكثر بنفسك خدمه وحشمه تشرفا بخدمته؟
أم جئته مخندقاً حصونه؟
إنّ الجياد والقنا يكفينه
يقول: لعلك جئته لتصير خندقاً حول حصونه، ثم إنه لا يحتاج إلى إحاطتك بحصنه، بل هو غني بخيله وسلاحه.
والضمائر من أول الأبيات إلى ها هنا للبحر.
يا ربّ لجّ جعلت سفينه
وعازب الرّوض توفّت عونه
اللج: جمع لجة. والهاء في سفينه عائدة إليها لفظاً. والسفين: جمع السفينة، والهاء في عونه للروض. والعون: جمع عانة، وهي القطعة من حمر الوحش. والتاء في جعلت وتوفت للجياد.
يقول: رب لجة جعلت الجياد سفيناً لها. يعني أنه اقتحم بها الأنهار العظيمة في غزواته، فصارت كالسفن. وقيل: أراد حومة القتال وغمرة الحرب. ورب روض بعيد قد وصلت إليه هذه الجياد، فاستوفت جميع ما فيها من عانات الحمر الوحشية وأهلكته.
وذي جنونٍ أذهبت جنونه
وشرب كأسٍ أكثرت رنينه
وأبدلت غناءه أنينه
وقوله: وذي جنون: كناية عن الشجاع، أو كناية عن الباغي. وقيل: أراد به ملكاً. كأنه من غيرة نفسه مجنون، والشرب: القوم المجتمعون على الشراب. والهاء في جنونه لذي جنون وفي رنينه وغناءه وأنينه للشرب، لفظاً لا معنىً، والرنين: صوت الباكي الحزين. والأنين: صوت الحزين المتوجع.
يقول: ورب ذي جنون قصدته هذه الخيل، وأذهبت ذلك الجنون من رأسه، ورب قوم شاربين للكأس، هجمت عليهم فقتلتهم وأكثرت رنينهم وأبدلت غناءهم وطربهم حزناً وبكاء!
وضيغمٍ أولجها عرينه
وملكٍ أوطأها جبينه
العرين: موضع الأسد في الأجمة. وفاعل أولجها ضمير البحر، الذي هو سيف الدولة، والهاء: ضمير الجياد، وكذلك في أوطأها أي ورب أشد أدخل سيف الدولة هذه الجياد في أجمته، وأغار على مملكته، ورب ملك قتله، ومشى بها على جبينه.
يقوده مسهّداً جفونه
مباشراً بنفسه شؤونه
مسهداً ومباشراً نصب على الحال، والضمائر كلها راجعة إلى سيف الدولة، وهو المعبر عنه بالبحر.
يقول: يقود سيف الدولة هذه الجياد إلى الحروب ليلاً، وقد منع أجفانه من النوم.(1/307)
وقيل: الهاء في جفونه تعود إلى الملك: أي يسهد جفون الملك بقصده بخيله. وهو يتولى أموره بنفسه، ولا يتكل فيها إلى كفاية غيره؛ لفضل قوته وبعد همته.
مشرّفاً بطعنه، طعينه
عفيف ما في ثوبه مأمونه
أبيض ما في تاجه ميمونه
المنصوبات كلها على الحال. إلا قوله: طعينه فإنه منصوب بمشرف.
يقول: إذا طعن إنساناً فإنه يتشرف بطعنه، لأنه يقال قد نازله وثبت له، وهو عفيف الفرج، أبيض الوجه، مبارك ميمون على من رآه.
بحرٌ يكون كلّ بحرٍ نونه
شمسٌ تمنّى الشّمس أن تكونه
قوله: أن تكونه الهاء فيه خبر كان وقد وصله، والأولى فيه الفصل، فيقال: أن تكون إياه. وذكر الضمير في أن تكونه وإن كان راجعاً إلى قوله: شمس لأنه أراد بها سيف الدولة.
يقول: هو بحر في الجود والهيبة، إذا قيست البحار إليه كانت بمنزلة السمكة في البحر، وهو شمس في إشراقه وعلو همته، ومنزلته وشهرة ذكره، والشمس الحقيقي تتمنى أن تكون مثله.
إن تدع يا سيف لتستعينه
يجبك قبل أن تتمّ سينه
الهاء في سينه تعود إلى سيف. يخاطب صاحباً له، أو نفسه، فيقول: إن دعوته وقلت يا سيف الدولة، تستعين به أجابك قبل أن تلفظ بالسين، من يا سيف.
وقيل: هو خطاب لسيف الدولة: أي إن دعوت سيفك لتستعين به أجابك قبل إتمام السين منه.
أدام من أعدائه تمكينه
من صان منهم نفسه ودينه
من فاعل أدام، وأراد به الله تعالى.
يقول: أدام الله تمكينه، كما صان منهم نفسه ودينه: أي حال بينهم وبينه من أن ينالوه بطعن في نفسه ودينه.
وقال في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة، يمدحه ويهنئه بعيد الأضحى، وأنشده إياها في ميدانه بحلب، تحت مجلسه، وهما على فرسيهما ويذكر أسره لابن الدمستق وفيها يفتخر بنفسه وشعره:
لكلّ امرئٍ من دهره ما تعوّدا ... وعادات سيف الدّولة الطّعن في العدا
يقول: كل إنسان يجري على ما تعود من دهره، وعادة سيف الدولة التي لا ينفصل عنها، أن يطعن أعداءه، فهو جار عليه.
وأن يكذب الإرجاف عنه بضدّه ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
الإرجاف: خوض العامة في الإخبار عن الملوك بالسيئ. وقيل: هو مقدمة الكون.
يقول: من عادته أيضاً أن يكذب إرجاف أعدائه عنه بضد ما أرجفوا، فإذا نووا على إيقاع شر به عاد ما تمنوه عليهم، فيصير هو أسعد من أعدائه. بما نووا عليه. وروى: بما تحوي وتنوي.
وربّ مريدٍ ضرّه، ضرّ نفسه ... وهادٍ إليه الجيش، أهدى وما هدى
الهاء في ضره لسيف الدولة، وفي نفسه للمريد، وهاد: من قولهم: هديته الطريق، والجيش: نصب بهاد وضره: بمريد. وأهدى: من الهدية.
يقول: رب إنسان أراد أن يضره، ضر نفسه! وعاد كيده إليه، وهذا من قوله تعالى: " وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأَهْلِهِ ". ومنه قول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريّاً ومن قعر الطّويّ رماني
أي عاد رميه إليه، مثل من يرمي حجراً من قعر بئر، فيعود على رأسه.
ورب قائد هدى إليه جيشاً، فكأنه بعث إليه هدية وغنيمة.
ومستكبرٍ لم يعرف الله ساعةً ... رأى سيفه في كفّه فتشهّدا
يقول: رب كافر مستكبر عن طاعة الله تعالى، لم يؤمن ساعة، لما رأى سيف الدولة وفي يده سيفه أسلم، وتشهد: أي أقر بشهادة التوحيد.
ويجوز أن يكون ساعةً متعلق بقوله: رأى السيف في يده، ساعةً، ووقتاً، فأسلم.
هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً ... على الدّرّ واحذره إذا كان مزبداً
يقول: هو بحر، فإذا كان ساكناً فغص فيه، واستخرج منه الدر، وإذا كان هائجاً مزبداً فاحذره ولا تقربه، فتغرق فيه. يعني: استمنح منه الرغائب في حال السلم، واحذر من أن تلقاه محارباً، فإنه يهلكك. وهو وقوله:
سل عن شجاعته وزره مسالماً
فإنّي رأيت البحر يعثر بالفتى ... وهذا الّذي يأتي الفتى متعمّداً
يقول: هو أشد من البحر بأساً؛ لأن البحر إنما يصيب الإنسان اتفاقاً، فربما سلم منه، وإن باعد منه لم يقصده، وهذا البحر يقصد إلى قرنه عن عمد، ويهلكه عن قصد، فيكون يعثر بمعنى يصيب.
وقيل: معناه البحر ليس هو مكنه على قصد مكان غير مكانه، وهذا البحر يقصد العدو ويهلكه، وهو قريب من الأول.(1/308)
وقيل: لما سوى بين البحر وبين سيف الدولة من حيث الغضب والسكون فضله على البحر فقال: ما يفعله سيف الدولة في حالتي الغضب والسكون، فهو عن قصد وإرادة، وما يفعله البحر لا يكون عن قصد وإرادة، وليس إغناء البحر من يقصده. بما فيه من الدر عن قصد، وكذلك إهلاكه في حال الاضطراب، فيكون قوله: يعثر بالفتى عبارة عن وقوع الفعل غفلة لا عن قصد وعمد.
تظلّ ملوك الأرض خاشعةً له ... تفارقه هلكى، وتلقاه سجّداً
يقول: إن الملوك تخشع له، فإذا لقيته سجدت له، وإذا خرجت من عنده ففي قلوبهم من الخوف والهيبة ما يقوم لهم مقام الهلاك.
وقيل: أراد به حقيقة الهلاك. يعني إذا فارقوه على سبيل العصيان أهلكهم.
وتحيي له المال الصّوارم والقنا ... ويقتل ما تحيي التّبسّم والجدا
الجدا، والجدوى: العطية.
يقول: يغنم الأموال بالسيوف والرماح، ثم يهبها بتبسمه وجدواه. وقوله: بالتبسم إشارة إلى أنه لا يمكن أن يؤخذ منه على وجه القهر. ومثله لأبي تمام:
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشرٍ ... أغارت عليهم فاحتوته الصّنائع
ذكيٌّ تظنّيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا
تظنيه: أصله تظننه، وهو تفعل من الظن، وتظنيه: مبتدأ: وطليعة عينه: خبره، والجملة: صفة لذكي.
يقول: هو ذكي يعرف الأمر قبل موقعه، فكأن ظنه طليعة لعينه، فهو يرى بقلبه اليوم ما تراه أيها الإنسان بعينك غدا.
وصولٌ إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشّمس ماءً لأوردا
روى: المستصعبات بالكسر، والفتح. والكسر: على أنه من الفعل اللازم، استصعب: أي صعب. والفتح: من قولك استصعبت الأمر: وجدته صعباً.
يقول: لا يتعذر عليه ما يريده، حتى لو كان قرن الشمس ماء لأورد خيله منه.
لذلك سمّى ابن الدّمستق يومه ... مماتاً، وسمّاه الدّمستق مولداً
الهاء في يومه لابن الدمستق، وفي سماه لليوم، وقوله: لذلك إشارة إلى البيت الذي قبله: أي أنه أسر ابن الدمستق، لأنه يصل إلى كل أمر صعب بخيلة، فسمى ابن الدمستق اليوم الذي أسر فيه مماتاً؛ لأنه دنا من الموت، وأيس من الحياة، وسماه أبوه: مولداً؛ لأنه قد نجا من القتل والموت، فكأنه ولد في ذلك اليوم، أو كأنه عاد إلى الدنيا، بعد أن خرج منها.
سرت إلى جيحان من أرض آمدٍ ... ثلاثاً؛ لقد أدناك ركضٌ وأبعدا
جيحان: نهر في بلاد آمد مسافته بعيدة.
يقول: سريت من آمد إلى جيحان في ثلاث ليال، مع بعد المسافة بينهما، قاله متعجباً. ثم قال: لقد أدناك الركض من جيحان؛ وأبعدك من آمد.
وعن ابن جني قال: أدناك من جيحان، وأبعد أولئك القوم من جيحان؛ مخافةً منك، فيكون مفعول أبعد محذوفاً.
فولّى وأعطاك ابنه وجيوشه ... جميعاً ولم يعط الجميع لتحمداً
يقول: ولى الدمستق لما رآك، وأسلم ابنه وجيشه إليك، ولم يعط جميع ما قلت لتحمده عليه؛ لأنه لم يعطك عن طيب نفس واختيار منه حتى تحمده، ولكن كان ذلك على رغم منه: قهراً وقسراً.
عرضت له دون الحياة وطرفه ... وأبصر سيف الله منك مجرّدا
يقول: لما رآك غلب على قلبه الخوف، وعلى عينه الحيرة، فلم تر عينه غيرك، وحلت بينه وبين حياته، فصار كالميت؛ لبطلان حواسه.
وجعله سيف الله؛ لأنه مجاهد في سبيله ودينه. وروى: وطرقه أي حلت بينه وبين طريقه إلى الحياة.
وما طلبت زرق الأسنّة غيره ... ولكنّ قسطنطين كان له الفدا
الفدا إذا فتح: يقصر، وإذا كسر: يمد.
يقول: لم تطلب الرماح إلا الدمستق ولكن نجا هو وصار ابنه فداءً له.
فأصبح يجتاب المسوح مخافةً ... وقد كان يجتاب الدّلاص المسرّدا
يجتاب: أي يلبس المسوح ويدخل فيها. والمسوح: جمع مسح. والدلاص: الدرع الصافية البارقة. والمسرد: المحكم النسج.
يقول: إن الدمستق لما نجا ترهب خوفاً من سيف الدولة، ولبس المسوح السود، وقد كان يلبس الدروع ويباشر الحروب فترك ذلك.
ويمشي به العكّاز في الدّير تائباً ... وما كان يرضى مشى أشقر أجردا
العكاز، والعكازة: العصا. والدير للرهبان، كالصوامع للعباد.(1/309)
يقول: لما عجز عن المقاتلة كانت تحمله العصا في الدير؛ لأنه قد ضعف ومرض خوفاً، وأظهر التوبة، وكان قبل ذلك لا يرضي أن يحمله الفرس الأشقر الأجرد، لأنه على ما يقال: يكون أصبر على السير.
وما تاب حتّى غادر الكرّ وجهه ... جريحاً وخلّى جفنه النّقع أرمدا
يقول: لم يتب اختياراً وزهداً في الدنيا، ولكن لما تركت وجهه جريحاً، وأسرت ابنه، وجعل الغبار عينه أرمد، خاف على نفسه فترهب.
فإن كان ينجي من عليٍّ ترهّبٌ ... ترهّبت الأملاك مثنى وموحدا
يقول: إن كان كل من يترهب ينجو من سيف الدولة، فإن جميع الملوك يترهبون اثنين اثنين، وواحداً واحداً ومثنى وموحد نصب على الحال.
وكلّ امرئٍ في الشّرق والغرب بعدها ... يعدّ له ثوباً من الشّعر أسودا
وكل امرئ بعدها: أي بعد حالة الدمستق. وقيل: بعد الوقعة والهاء في له لامرئ، أي يعد لنفسه.
يقول: إن كان ينجيه ترهبه، فكل أحد بعد هذا - في الشرق والغرب - يجعل لنفسه مسحاً أسوداً ليلبسه. يعني لا ينفعه ذلك.
هنيئاً لك العيد الّذي أنت عيده ... وعيدٌ لمن سمّى وضحّى وعيّدا
هنيئاً: نصب على الحال، والعيد: رفع بفعل مضمر يدل عليه هنيئاً: أي ثبت العيد لك هنيئاً.
يقول: هنأك هذا العيد الذي أنت عيد له، لأنه يتجمل بك ويسر بكونك فيه، كما يتجمل الناس في العيد، وأنت أيضاً عيد لكل مسلم يرى هذا اليوم عيداً، فيضحي ويذكر اسم الله تعالى في أيامه.
وقيل: أراد هذا العيد عيد لكل من سمى وضحى، وجعله عيداً: أي عيد لكل مسلم.
ولا زالت الأعياد لبسك بعده ... تسلّم مخروقاً وتعطي مجدّدا
يقول: لا زلت بعده تلقى أعياداً كثيرة وتلبسها، فإذا أبليت عيداً ملبوساً، لبست عيداً جديداً.
فذا اليوم في الأيّام مثلك في الورى ... كما كنت فيهم واحداً كان أوحدا
يقول: هذا اليوم في الأيام بمنزلتك من الأنام، فهو سيد الأيام وأوحدها، كما أنك أوحد الناس وسيدهم.
هو الجدّ حتّى تفضل العين أختها ... وحتّى يكون اليوم لليوم سيّدا
يقول: البخت يسعد كل شيء، حتى الأيام، فيصير اليوم سيدا لليوم، والعين قيل: أراد بها العين الحقيقية. يعني: أن البخت ربما يجعل إحدى العينين أفضل من الأخرى؛ لما يلحق الأخرى من الآفة والنقص فتصير دونها. وقيل: أراد بالعين قول القائل هذا عين الشيء.
أي قد يكون عينان من ثوبين أو درتين وغيرهما - وإن كانا من جنس واحد - تفضل إحداهما على الأخرى؛ لما لها من الحظ، فتكون أوقع في النفس وأعظم للحظ.
فواعجباً من دائلٍ أنت سيفه ... أما يتوقّى شفرتي ما تقلّدا
الدائل: صاحب الدولة.
يقول: ما أعجب أمر الخليفة؟! حيث جعلك سيفه، كيف لا يخافك فأنت أقوى منه سلطانا؟!
ومن يجعل الضّرغام للصّيد بازه ... تصيّده الضّرغام فيما تصيّدا
يقول أنت كالأسد، فإذا جعلك الخليفة بازه، كان قد وضع الشيء في غير موضعه! لأن الأسد لا يصيد لأحد، وإنما يصيد لنفسه، فمن جعله بازه كان آخر أمره أن يعطف عليه يوماً فيجعله من جملة صيده، فكذلك الخليفة، ربما عطفت عليه فأقمته عن ملكه وقعدت مكانه، فيصير صيداً لك.
ومن شرط ويجعل مجزوم به وكان يجب جزم قوله: تصيده لكن حمله على التقديم والتأخير: أي تصيد الضرغام فيما تصيد، من يجعل الضرغام للصيد بازه كقول الشاعر:
إنّك إن تصرع أخاك تصرع
أي إنك تصرع إن تصرع أخاك. وقال أبو الفتح بن جني: قلت له: لم جعلت من في قولك ومن يجعل شرطاً صريحاً؟ وهلا جعلته بمنزلة الذي، وضمنت الصلة معنى الشرط حتى لا تركب الضرورة، نحو قوله تعالى: " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ باللَّيْلَ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيةً فَلهُمْ أجْرُهُم ". فقال: هذا يرجع إلى معنى الشرط والجزاء وإنما جئت بلفظ الشرط صريحاً؛ لأنه أوكد وأبلغ، قال: وأردت الفاء في قوله تصيده وحذفتها وهذا جائز.
رأيتك محض الحلم في محض قدرةٍ ... ولو شئت كان الحلم منك المهنّدا
يجوز أن يكون متصلاً بما قاله: أي أنك مع قدرتك الظاهرة تعامل الخليفة بالحلم. ولو شئت جعلت مكان الحلم السيف، ويجوز ألا يكون متصلاً به. أي حلمك عن الجهال عن قدرة، ولو شئت جعلت مكانه سيفاً.(1/310)
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحرّ الّذي يحفظ اليدا؟!
يقول: إذا قدرت على حر فعفوت عنه، فكأنك قتلته؛ لأنه لا يقدر بعد ذلك على محاربتك، حياءً من إحسانك إليه؛ ولكن أين ذلك الحر الذي يحفظ النعمة ويشكرها؟! وقوله: ومن لك أي من يطلب لك الحر الذي يحفظ اليد.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا
يقول: إذا أكرمت الكريم وأحسنت إليه، فقد ملكته بإحسانك، وصار عبدك، وإذا أكرمت اللئيم كفر نعمتك، ولم يشكر إحسانك! وظن أنك أكرمته خوفاً منه، فتمرد عند الإحسان للؤم طبعه.
ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا ... مضرٌّ، كوضع السّيف في موضع النّدا
يقول: الإحسان إلى من يستحق السيف، مثل الإساءة إلى من يستحق الإحسان، في أن كل واحد منهما يقدح بالعلا ويضر بالملك وهذه الأبيات تعريض بالخليفة.
يقول: إذعانك له مع قدرتك عليه، حكم موضوع في غير موضعه، لأنه لا يعرف حق ذلك، ويعد ذلك يداً عليه. ومثله لآخر:
من لم يكن للوصال أهلاً ... فكلّ إحسانه ذنوب
ولكن تفوق النّاس رأياً وحكمةً ... كما فقتهم حالاً ونفساً ومحتدا
يقول: أنت أصوب الناس رأياً، وألطفهم حكمةً، كما أنك أحسنهم حالاً، وأشرفهم نفسا، وأكرمهم أصلاً.
ومعناه: أنك تفعل ما هو في الظاهر وضع الشيء في غير موضعه، ولكن لا اعتراض عليك؛ لأن رأيك أصوب الآراء، فلعلك رأيت فيه ما خفي على غيرك.
وقيل: إن معناه وضع الندى في موضع السيف يضر بالعلا، ولكنك لا تفعل شيئاً من ذلك، فلا تضع الندى إلا في موضعه، وكذلك السيف، لأن رأيك أصوب الآراء.
يدقّ على الأفكار ما أنت فاعلٌ ... فيترك ما يخفي ويؤخذ ما بدا
يقول: إن ما تفعله من المكارم والعجائب لا تحيط به أفكار الشعراء، فيذكرون ما ظهر لهم، ويتركون ما خفى عيهم.
أزل حسد الحسّاد عنّي بكبتهم ... فأنت الّذي صيّرتهم لي حسّدا
يقول: أزل عني حسد الحساد، بأن تكبتهم وتذلهم، بالازدياد في الإحسان إلي والرفع من منزلتي لديك، فإنك أنت الذي جعلتهم حساداً لي، إذ أعطيتني وقربت منزلتي عندك، حتى حسدوني على ذلك.
إذا شدّ زندي حسن رأيك في يدي ... ضربت بنصلٍ يقطع الهام مغمدا
يقول: إذا قربتني منك، وأعنتني بحسن رأيك، فلا أبالي بحسد الحساد، بل أقتلهم بأهون سعي، فعبر عن ذلك بالمغمد: الذي لا يعمل.
وما أنا إلاّ سمهريٌّ حملته ... فزيّن معروضاً وراع مسدّدا
المسدد: المشرع.
يقول: إنما أنا جمال مجلسك، وزين حضرتك، وأنا لك بمنزلة الرمح، تحمله يزينك، ويردع أعداءك في حربك، كذلك أنا أنشر مكارمك وأزين مجلسك وإذا حملتني إلى القتال قاتلت أعداءك.
وما الدّهر إلاّ من رواة قلائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدّهر منشدا
أراد بالقلائد: القصائد، وقد رويت أيضاً.
يقول: إن الدهر من جملة رواة قصائدي، فإذا قلت شعراً سار في الآفاق وبقى على الأيام، فصار كأن الدهر يرويه وينشده. وقيل: أراد به أهل الدهر. أي الناس كلهم يروون شعري وينشدونه.
فسار به من لا يسير مشمّراً ... وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا
يقول: يسير بشعري من ليس عادته السير، يهديه إلى غيره، وكذلك يغني به تطريباً وتغريداً من لم يكن شأنه الغناء، لحسنه وموافقته للطباع، فيحمل كل سامع على الاستماع، ويحمل كل أحد على الإنشاد.
أجزني إذا أنشدت مدحاً فإنّما ... بشعري أتاك المادحون مردّدا
مردداً: منصوب على الحال من قوله: بشعري.
يقول: إذا أنشدك الشاعرون المدائح فأعطني الجائزة، فإني أحق منهم بها، لأنهم أخذوا المعاني من شعري ورددوها فيك، فكأنهم أتوك بشعري ونسبوه إلى أنفسهم.
وروى أن شاعراً مدح الصاحب بقصيدة سرق فيها أبياتاً من شعره، فوقع على ظهرها هذه بضاعتنا ردت إلينا.
ودع كلّ صوتٍ بعد صوتي فإنّني ... أنا الصّائح المحكيّ والآخر الصّدي
وروى: أنا الشاعر المحكي بدل الصائح.
يقول: لا تلتفت إلى الشعراء غيري؛ لأنهم يسرقون أشعارهم من أشعاري، فأنا الصائح الذي يحكي صوته، وهم كالصدى.
وقيل: معناه لا تسمع إلى قول غير قولي، فإن ما عداه هذيان، كالصدى من الصياح.(1/311)
تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
يقول: أغنيتني بعطاياك، حتى قعدت عن السرى طلباً للغنى، وتركت السرى لمن هو قليل المال، وكثر لي الذهب حتى أنعلت به خيلي. وهذا كما قيل في المثل: من كثر ذهبه طلي به استه وقيل: إن سيف الدولة كان وهب له فرساً منعلاً بالذهب فذكره.
وقيّدت نفسي في ذراك محبّةً ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيّداً
محبةً: نصب لأنه مفعول له.
يقول: أحسنت إلي، فأقمت عندك، وصار إحسانك لي قيداً يمنعني عن الأسفار.
إذا سأل الإنسان أيّامه الغنى ... وكنت على بعدٍ جعلنك موعدا
يقول: إذا طلب أحد من الأيام أن تعينه، وكنت بعيداً عنه. قالت له الأيام: إذا بلغت سيف الدولة استغنيت. وقوله: وكنت على بعد إشارة إلى أن هذا الوعد من الأيام إنما يكون لمن بعد عنك، فأما القريب فقد أغنيته فلا يحتاج إلى السؤال.
وجرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فقال سيف الدولة ما تقول وتحكم في هذا يا أبا الطيب؟ فقال:
إن كنت عن خير الأنام سائلاً
فخيرهم أكثرهم فضائلا
يقول: إن كنت تسألني عن خير الناس، فإن خيرهم من كانت فضائله أكثر، ثم بين من بعد. وفضائلا نصب على التمييز.
من أنت منهم يا همام وائلا
الطّاعنين في الوغى أوائلا
لم يصرف وائل لأنه اسم القبيلة، فهي معرفة مؤنثة؛ والطاعنين، وما بعده خبر، لأنه صفة لوائل وهي في موضع جر. وقيل: نصب على المدح.
يقول: خير الناس العرب الذين أنت منهم يا سيد وائل، وهم الذين يطعنون في الحرب أوائل الخيل في المعركة، فهم الشجعان لأنه يسبق إلى الطعان إلا الشجاع. وقيل: أراد بالأوائل. الوجوه والصدور، أي أنهم يطعنون وجوه الأعداء وصدورهم، فيكون نصباً على المفعولية.
وقيل: معناه أنهم يطعنون الأبطال أولا. أي يتقدمون إلى الأقران. ونصبه حينئذ على الحال.
والعاذلين في النّدى العواذلا
قد فضّلوا بفضلك القبائلا
العاذلين: عطف على الطاعنين.
يقول: إذا عذلهم العواذل على السخاء عذلوهن على عذلهن، ثم بين أن قبيلته قد فضلوا سائر القبائل بسبب فضله ومآثره.
وجلس سيف الدولة لرسول ملك الروم في صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة فحضر أبو الطيب فوجد دونه زحمة شديدة، فثقل عليه الدخول فاستبطأه سيف الدولة فقال ارتجالاً:
ظلمٌ لذا اليوم وصفٌ قبل رؤيته ... لا يصدق الوصف حتّى يصدق النّظر
ظلم نكرة مفيدة، والوصف: خبره.
يقول: إن وصفت هذا اليوم قبل مشاهدة الحال فقد ظلمته، ولم أقدر على وصفه على الحقيقة إلا بعد المشاهدة، وإنما قال ذلك: تعظيماً لليوم، وأنه لا يحيط به العيان.
تزاحم الجيش حتّى لم يجد سبباً ... إلى بساطك لي سمعٌ ولا بصر
أي ازدحم الجيش عليك، حتى لم يبنك بصري من كثرة الناس في بساطك، وكثرت الأصوات حتى لم أسمع كلامك.
فكنت أشهد مختصٍّ وأغيبه ... معايناً، وعياني كلّه خبر
المعنى: كنت حاضراً، وكأني كنت غائباً؛ للازدحام، فلم يمكنني مشاهدة الحال، وكتب معايناً، وكان عياني خبراً؛ لشدة الزحمة وكثرة الناس.
اليوم يرفع ملك الرّوح ناظره ... لأنّ عفوك عنه عنده ظفر
يقول: إذا أجبته إلى الصلح أمن وزال منه الخوف، فيرفع طرفه؛ لأن عفوك عنه يقوم له مقام الظفر في هذه المرة.
وإن أجبت بشيءٍ عن رسالته ... فما يزال على الأملاك يفتخر
يقول: إن كتبت إليه جواب كتابه، افتخر بذلك على ملوك زمانه، وتشرف به على جميع أقرانه.
قد استراحت إلى وقتٍ رقابهم ... من السّيوف وباقي النّاس ينتظر
يقول: استراحت بهذا الصلح رقاب الروم عن السيوف، وانتظر سيوفك باقي الناس من الأعداء؛ لأنهم كانوا آمنين ما دمت مشتغلاً بغزو الروم، فالآن يخافونك أن تقاتلهم.
وقد تبدّلها بالقوم غيرهم ... لكي تجمّ رءوس القوم والقصر
الهاء في تبدلها للسيوف، والقوم. هم الروم. وغيرهم: نصب بتبدلها.
يقول: تبدل سيوفك وتنقلها من رقاب الروم إلى غيرهم، لتستريح رقابهم من ضرب السيوف، وهذا عادتك إذا أدمت القتل في قوم وأقللتهم تقلب سيوفك إلى قوم آخرين لتريحهم، فإذا كثروا واجتمعوا عاودتهم القتل وأبدتهم.(1/312)
تشبيه جودك بالأمطار غاديةً ... جودٌ لكفّك ثانٍ ناله المطر
يقول: إذا شبهنا جودك بالأمطار، وصار ذلك مدحاً للمطر، وكأن هذا، تشبيه جودك، ثانياً منك على المطر وغادية: نصب على الحال من الأمطار.
تكسّب الشّمس منك النّور طالعةً ... كما تكسّب منها نورها القمر
طالعةً: نصب على الحال.
يقول: الشمس تأخذ من نورك، كما أن القمر يأخذ من نور الشمس. أي أنك للشمس شمس، كالشمس للقمر.
وقال أيضاً يمدحه ويذكر مجيء الرسول من عند ملك الروم، ودخلوه عليه، في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة.
دروعٌ لملك الرّوم هذي الرّسائل ... يردّ بها عن نفسه ويشاغل
هذي الرسائل: مبتدأ، ودروع: خبره.
يقول: هذه الرسائل تقوم للملك مقام الدروع، يحفظ بها نفسه، ويرد الموت عنه، ويشاغلك عن قتاله، ويدفعك عن قصده، ريثما يرجع رسوله إليه.
هي الزّرد الضّافي عليه ولفظها ... عليك ثناءٌ سابغٌ وفضائل
الزرد: حلق الدروع، والضافي: السابغ التام.
يقول: هذه الرسائل دروع سابغة، يلبسها ملك الروم؛ يدفع بها عن نفسه. ولفظها ثناء عليك وفضائل لك، فكأنها دروع له من حيث الباطن، وثناء لك من حيث الظاهر.
وأنّى اهتدى هذا الرّسول بأرضه ... وما سكنت مذ سرت فيها القساطل
أنى: بمعنى كيف وأين، والقساطل: هو الغبار. والهاء في بأرضه للرسول وفي فيها لأرضه.
يقول: كيف اهتدى هذا الرسول في طرقه وهي مظلمة؟! بغبار الخيل وقتام الحرب، وما سكن بعد ذلك الغبار!
ومن أيّ ماءٍ كان يسقى جياده ... ولم تصف من مزج الدّماء المناهل؟!
المنهل: موضع الشرب من الوادي، وأصله النهل.
يقول: من أي ماء كان يسقى خيله، وكل ماء كان ممزوجاً بدما القتلى.
أتاك يكاد الرّأس يجحد عنقه ... وتنقدّ تحت الذّعر منه المفاصل
يقول: أتاك هذا الرسول، وقد امتلأ قلبه ذعراً، مما شاهد من إيقاعك بأصحابه، حتى يكاد رأسه يجحد عنقه: أي يفارقه، وتنقد مفاصله وتتقطع، من عظم خوفه منك؛ مما شاهده وتحقق من عاداتك في قتلهم.
يقوّم تقويم السّماطين مشيه ... إليك إذا ما عوّجته الأفاكل
السماطان: صفان من الرجال يمتدان بين يدي السلطان. والتقويم: رفع لأنه فاعل يقوم ومفعوله: مشيه، والأفاكل: جمع الأفكل، وهو الرعدة.
يقول: كان يرتعد عند مشيه إليك، فقوم مشيته تقويم السماطين.
فقاسمك العينين منه ولحظه ... سميّك والخلّ الّذي لا يزايل
منه: أي من الرسول، وكذلك لحظه: أي لحظ الرسول. وفاعل قاسمك: سميك، والمراد به: السيف.
يقول: قسم سيفك عيني الرسول بينك وبينه، فكان ينظر بإحدى عينيه إليك، وبالأخرى إلى سيفك، لأنه كان يخاف منك أن تأمر بقتله، ومن سيفك أن تقتله به.
أو كان ينظر إليك ويرى كرم أخلاقك فيطمع في عفوك، وإذا نظر إلى سميك خاف بأسه، فقسم عينيه بينكما، ءيرجو ويخاف، وهذا السمى: هو خليلك الذي لا يزايلك.
وأبصر منك الرّزق والرّزق مطمعٌ ... وأبصر منه الموت والموت هائل
يقول: إذا نظر إليك طمع في الحياة؛ بما يشاهد من مخايل جودك، وأمل عفوك، وإذا نظر إلى سيفك عاين فيه الموت، لما هاله من هيبتك. والواو في قوله والرزق مطمع والموت هائل للحال.
وقيل: معناه رأى أرزاق كثير من الناس تحت يديك، فأطمعه ذلك في أن يكون من جملة القوم، ورأى حتف كثير منهم بسيفك، فهاله ذلك.
وهذا البيت يدل على المعنى الثاني الذي ذكرناه في البيت الذي قبله.
وقبّل كمّاً قبّل الأرض قبله ... وكلّ كميٍّ واقفٌ متضائل
المتضائل: المخفي شخصه من الجبن والفزع، وقيل: هو المنقبض. والواو في قوله: وكل كمي للحال.
يقول: لما وصل الرسول إليك قبل أولاً الأرض بين يديك، ثم قبل كمك، والأبطال قيام بين يديك، قد تضاءلوا هيبة لك، وأخفوا أنفسهم إجلالاً لك.
وأسعد مشتاقٍ وأظفر طالبٍ ... همامٌ إلى تقبيل كمّك واصل
أسعد: مبتدأ. وأظفر: عطف عليه، وهمام: خبره.
يقول: ملك وصل إلى تقبيل كمك هو أسعد مشتاق وأظفر طالب لحاجة، ولا مزيد على ما ناله من الشرف.
مكانٌ تمنّاه الشّفاه ودونه ... صدور المذاكي والرّماح الذّوابل(1/313)
يقول: إن كمك وتقبيله، مكان تتمنى الشفاه الوصول إليه، وتريد الملوك تقبيله ولكنهم لا يصلون إليه.
فما بلّغته ما أراد كرامةٌ ... عليك، ولكن لم يخب لك سائل
كرامة: فاعل بلغته، والمفعول الأول الهاء والثاني ما.
يقول: لم يبلغ الرسول إلى ما بلغه من تقبيل كمك كرامته عليك؛ لأنه كافر وأنت تبغضه وتستخف به، ولكن لما سألك أن تمكنه من ذلك لم تخيبه، إذ عادتك ألا تخيب سائلك.
وأكبر منه همّةً بعثت به ... إليك العدى واستنظرته الجحافل
روى: أكبر بالرفع والنصب.
فالرفع: على أنه اسم المبالغة والمعنى: على أن همة الرسول وإن كانت كبيرة في قدومه عليك، فأكبر همة منه، العدى حيث بعثوا به إليك، وسألوه أن يؤخر عنهم القتال؛ لشغله إياك عنهم، والاستنظار: طلب النظر، وهو التأخير.
والنصب: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون اسماً كالأول ومعناه: رب رسول أكبر من هذا الرسول همة، وأعلى منه قدراً، جاءك رسولاً، واستنظرته الجحافل، كما استنظرت هذا الرسول، ثم رجع إليهم وهو يعذلهم على مخالفتهم أمرك. فعلى هذا يكون البيت الذي بعده من تمامه.
والمعنى الثاني: أن يكون أكبر فعلاً ماضياً، وفاعله العدى وهمة مفعوله. والمعنى: أن العدى أكبروا واستعظموا همةً بعثت هذا الرسول إليك، وأقدمته على الدنو منك، واستنظرت هذا الرسول الجحافل على ما بيناه
فأقبل من أصحابه وهو مرسلٌ ... وعاد إلى أصحابه وهو عاذل
يقول: هذا الرسول جاء من أصحابه رسولاً، ثم عاد إليهم يعذلهم على ترك طاعتك؛ لما رآه من عظم شأنك.
تحيّر في سيفٍ ربيعة أصله ... وطابعه الرّحمن والمجد صاقل
ربيعة: ابن نذار، وإليه ينسب سيف الدولة.
لما رآك تحير فيك؛ لأنه رأى سيفاً لا كالسيوف، إذ السيف أصله الحديد، وطابعه الحداد، وصاقله الصيقل، وأنت أصلك من ربيعة، والرحمن طابعك، والمجد صاقلك.
وما لونه ممّا تحصّل مقلةٌ ... ولا حدّه ممّا تجسّ الأنامل
يقول: لون هذا السيف لا يدركه النظر، ولا تحققه المقلة، ولا يمكن الناظرين أن يملئوا أعينهم منه، هيبةً له، وكذلك ليس حده مما يمكن أن يختبر باللمس كما يحس ويضبط سيف الحديد. فتحير هذا الرسول في سيف هذه صفته.
إذا عاينتك الرّسل هانت نفوسها ... عليها وما جاءت به والمراسل
المراسل: ملك الروم. والرسل: الرسل. وما جات به: الرسالة.
يقول: إذا رأتك الرسل استحقروا أنفسهم، واستحقروا ما جاءوا به من الرسالة، واستحقروا صاحبهم الذي أرسلهم إليك؛ لما يرون من هيبتك وعلو شأنك.
رجا الرّوم من ترجى النّوافل كلّها ... لديه وما ترجى لديه الطّوائل
النوافل: العطايا، واحدتها نافلة. ومن ترجى: هو سيف الدولة يرجى منه كل عطية وصلة، ويوصل إلى كل مراد، إلا إدراك الثأر، فإنه لا يوصل إليه منه.
فإن كان خوف القتل والأسر ساقهم ... فقد فعلوا ما القتل والأسر فاعل
يقول: إن كان الذي ساقهم إليك لطلب الصلح والأمان، هو الخوف من القتل والأسر، فقد فعلوا في مجيئهم إليك ما يفعله الأسر والقتل، من الذل والاستكانة؛ لأنهم إنما جاءوك خوفاً، فصاروا مقتلين مأسورين.
فخافوك حتّى ما لقتلٍ زيادةٌ ... وجاءوك حتّى ما تزاد السّلاسل
ما نفي في الموضعين.
يقول: خوفهم منك قام لهم مقام القتل، فليس للقتل زيادة على ما أصابهم، وكذلك جاءوك مستسلمين في أمرهم طائعين كالأسارى، حتى لا يحتاج معهم إلى السلاسل؛ لأن الأسير إنما يشد إذا خيف عليه الهر.
والمصراع الأول مثل:
وإلاّ فأعلمه بأنّك ساخطٌ ... ودعه فإنّ الخوف لا شكّ قاتله
أرى كلّ ذي ملكٍ إليك مصيره ... كأنّك بحرٌ والملوك جداول
يقول: كل ملك يصير إلى حضرتك، وينضاف ملكه إلى مملكتك، فكأنك بحر وهم جداول تنصب إلى البحر.
إذا مطرت منهم ومنك سحائبٌ ... فوابلهم طلٌّ وطلّك وابل
الوابل: أشد المطر. والطل: أضعفه.
يقول: إنك تزيد على الملوك في كل حال، فكثير عطاياهم إذا قيست إلى عطاياك قليل، بمنزلة الطل من الوابل، وقليلها منك إذا قيس إلى عطاياهم كثير، كالوابل من الطل.
كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ ... وقد لقحت حربٌ، فإنّك نازل
لقحت حرب: اشتدت.(1/314)
يقول: أنت كريم بحيث لو سألك سائل في شدة الحرب فرسك الذي أنت راكبه، لنزلت عنه ووهبته له!
أذا الجود أعط النّاس ما أنت مالكٌ ... ولا تعطينّ النّاس ما أنا قائل
أذا الجود: أي يا ذا الجود، والألف للندى.
يقول: الشعر الذي أقوله لا يشركني فيه أحد.
وقيل: أراد لا تقبل منهم.
يقول: يا ذا الجود أعط الناس ما أنت مالك من المال، ولا تعطهم ما اختص به. من القصد لمكان يسرقونه من شعري في مدائحك، ولا تعطهم عليه الجائزة، فإني أنا القائل لذلك في الحقيقة.
وقيل: أراد لا تمكن الناس من مكارمك التي أذكرها في شعري، بل كن أبداً متفرداً بها.
وقيل: معناه لا تحملني على مدح غيرك، فتكون قد تركت شعري للناس.
وقيل: أراد لا تمكن الناس من شعري فيسرقوا معانيه ويفسدوه.
وهذا لا معنى له، إذ لا معنى لسؤاله إياه ستر شعره، ومنعهم من سرقة معانيه؛ لأن ذلك يكون سؤالاً لكتمان فضله، وطلباً لإخفاء ذكره.
أفي كلّ يومٍ تحت ضبني شويعرٌ ... ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاول؟!
الضبن: الحضن، وهو ما تحت اليد من الجنب. ويقاويني: من القوة. ويطاول: من الطول.
يقول: لا أزال أرى كل يوم شويعراً هو ضعيف، ومع ذلك يفاخرني في القول، وهو قصير يطاولني بقصره، أي يباريني ولا يقاومني.
وقيل: هذا تعريض بالنامي، وقيل: بابن نباتة. وقيل: أراد غيرهما من شعراء سيف الدولة.
لساني بنطقي صامتٌ عنه عادلٌ ... وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازل
يقول: لساني مع كوني ناطقاً قادراً على الكلام صامت عن هذا الشويعر، وعادل عنه لقلته وقلة مبالاتي به. وقلبي ضاحك منه ومن جهله مع صمتي عن إجابته. يعني أضحك منه في نفسي وإن لم أنطق بالكلام.
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وروى: أيضاً من ناوأك من المناوأة وهي: المعاداة وناداك أولى لقوله: لا تجيبه ولقوله بعده من عاداك.
يقول: أشد الناس تعباً في ندائه من ناداك وأنت لا تجيبه، بل تجعل السكوت جوابه، وأشدهم غيظاً من عاداك وهو دونك في العمل، فيعجز عن مقاومتك.
وقيل: أراد إذا دعاك من هو دونك غاظك ذلك منه.
وما التّيه طبّى فيهم غير أنّني ... بغيضٌ إليّ الجاهل المتعاقل
التيه: الكبر. وطبى: أي عادتي. وعدمي.
يقول: ليس دائي الكبر، ولم يكن ترك جوابه كبراً وتيهاً، غير أني أبغض الجاهل المتكلف للعقل والفضل، وكرهت مجاوبته رفعاً لنفسي عن مقاومته.
وأكثر تيهي أنّني بك واثقٌ ... وأكثر مالي أنّني لك آمل
يقول: أكثر تيهي أني واثق بك؛ لأنك لا تقبل على قول حاسد، ولا يخفي عليك تمويه مموه، وأنك تعرف فضلي فتوفيني ما أستحقه من المنزلة. وأكثر مالي، هو أملي إياك ورجائي فيك، إذ لا تخيب آمليك.
لعلّ لسيف الدّولة القرم هبّةً ... يعيش بها حقٌّ ويهلك باطل
هبةً: أي نشاطاً واهتزازاً.
يقول: أرجو أن يكون منه هزة في أمري مع غيري من الشعراء الذين ينازعون فضلي، ليظهر الحق ويهلك الباطل، وهو التمويه والكلام المسروق، أو يقتل أعدائي، فأستريح منهم.
وقيل: أراد لعل له هزة وحركة يأخذ بها الروم كلها فيهلكها، فينصر فيها الحق، ويهلك الباطل: وهو الكفر.
رميت عداه بالقوافي وفضله ... وهنّ الغوازي السّالمات القواتل
يقول: رميت أعداءه بقصائدي في سيف الدولة، وفضله فيها، فقتلتهم بها حسداً وغيظاً، وهذه القوافي أسلم من الخلل والفساد من السيوف والرماح؛ لأنهم لم يجدوا في شعري مطعناً، ولا لفضائله مدفعاً.
وقد زعموا أنّ النّجوم خوالدٌ ... ولو حاربته ناح فيها الثّواكل
يقول: الناس يزعمون أن النجوم مخلدة لا يلحقها فناء، وليس كما زعموا، فإنها لو حاربته لقتلها وناح عليها من يثكلها.
وقيل: أراد لو قصدته بنحس لأبطل نحوستها وأفناها، فيبطل قول من قال: إنها خوالد.
وما كان أدناها له لو أرادها ... وألطفها لو أنّه المتناول
يقول: إن النجوم تقرب له إذا أرادها، غاية القرب، ولو أراد أن يتناولها لكانت أقرب الأشياء إليه.
قريبٌ عليه كلّ ناءٍ على الورى ... إذا لثّمته بالغبار القنابل
القنابل: جمع القنبلة وهي الجماعة من الخيل، قدر الخمسين فصاعد. ولثمته: أي شدت عليه اللثام.(1/315)
يقول: إذا رام مراماً بعيداً سهل عليه الوصول إليه إذا دخل الحرب والتثم بغبار خيله، وإن كان بعيدا على من سواه.
تدبّر شرق الأرض والغرب كفّه ... وليس لها وقتاً عن الجود شاغل
روى: وقتاً نصباً على الظرف. وروى: وقت فيكون اسم ليس وشاغل صفته.
يقول: إن كفه تدبر شرق الأرض وغربها، ولا يشغلها عن الجود شاغل وقتاً يعني أنه مع شغله بتدبر الأرض، لا يشتغل عن الجود ساعة واحدة، وعلى الرفع: أنه يملك الأرض، وليس وقت يشغله عن الجود.
يتّبغ هرّاب الرّجال مراده ... فمن فرّ حرباً عارضته الغوائل
الغوائل: الدواهي، وهي جمع غائلة، وفاعل يتبع: ضمير سيف الدولة. وحرباً: نصب لأنه مفعول له، وقيل: أصله من حرب فحذف من ونصبه.
يقول: إن سيف الدولة يجعل مراده طالباً لكل من هرب منه، فمن فر منه خوفاً من محاربته، عارضته في طريقه - من قبل سيف الدولة - الغوائل والبلايا فأهلكته.
ويجوز رفع مراده فيكون هو فاعل يتبع ومعناه: أن مراده يتبع هراب الرجال ويطلبهم حتى يدركهم، فيكون اتبع وتبع بمعنى.
ومن فرّ من إحسانه حسداً له ... تلقّاه منه، حيثما سار نائل
يقول: إن جوده عم الأرض، فمن حسده على إحسانه وهرب إلى موضع لا يرى فيه إحسانه ولا يسمع به، رأى منه في كل مكان نائلاً، وسمع حيثما كان بذكر جوده وعطاياه، فلا يمكنه الفرار منه أبداً.
فتى لا يرى إحسانه وهو كاملٌ ... له كاملاً حتّى يرى وهو شامل
الشامل: العام.
يقول: لا يرى إحسانه الكمل كاملاً، حتى يكون مع كماله عاماً شاملاً.
إذا العرب العرباء رازت نفوسها ... فأنت فتاها والمليك الحلاحل
العرباء والعاربة: القديمة. رازت: أي جربت، والحلاحل: السيد. وروى: فأنت قناها وروى فتاها يقول: إذا جربت العرب أنفسها، واختبرت أحوالها، علمت أنك سيدها وكريمها.
أطاعتك في أرواحها وتصرّفت ... بأمرك والتفّت عليك القبائل
يقول: إن العرب أطاعتك في أرواحها: أي لو أمرتها بقتل نفوسها لأطاعتك، وتصرفت العرب بأمرك، واجتمعت قبائلها عليك طاعة لك وانقياداً.
وقيل: أراد أن أنسابهم أحدقت بنسبك، وأنت الواسطة فيهم.
وكلّ أنابيب القنا مددٌ له ... وما تنكت الفرسان إلاّ العوامل
عامل الرمح: قدر ذراعين من أعلاه. وتنكت: أي تسقط، يقال: نكته عن فرسه: أي أسقطه على رأسه.
يقول: أنت من العرب كالسنان من الرمح، وهم كالأنابيب تحته. والأنابيب تكون مدداً للسنان وعونا للرمح والغرض يحصل بالسنان: وهو الذي يتقدم في الحرب، فكذلك تتولى الحرب وتتقدم إليها كالسنان.
قال ابن جني: أردت أن أقول: وما ينكت بالياء، فأبى أبو الطيب ذلك وقال: أريد وما تنكت الأنابيب فلذلك أنثت وهذه لغة يقال: ما قامت إلا هند، أي ما قامت امرأة إلا هند، فكذلك تقديره: ما تنكت أنبوبة الفرسان إلا العوامل، واللغة الجيدة في مثل هذا الموضع إضمار وتذكير الفعل، فيقال: ما قام أحد إلا هند. وإضمار المؤنث أيضاً لغة.
رأيتك لو لم يقتض الطّعن في الوغى ... إليك انقياداً، لاقتضته الشّمائل
يقول: لو لم يقد الناس إلى طاعتك الخوف من طعنك، لقادهم إليك كرم شمائلك.
ومن لم تعلّمه لك الذّلّ نفسه ... من النّاس طرّاً علّمته المناصل
يقول: من لم يتعلم لك الذل في الخضوع من ذلة نفسه، علمه السيف ذلك. يعني: من لم يذل لك طائعاً ذل قهراً وجبراً. ومثله الآخر.
فإن لّم تصل رحم ابن عمرو بن مرثدٍ ... يعلّمك وصل الرّحم عضبٌ مجرّب
وأنفذ سيف الدولة قول الشاعر، وهو أبو الأسود الدؤلي:
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت
وسأله إجازته فقال ورسوله واقف:
لنا ملكٌ ما يطعم النّوم، همّه ... مماتٌ لحيٍّ أو حياةٌ لميّت
تم الكلام عند قوله: ما يطعم النوم ثم ابتدأ فقال: همه معناه: أنه لهمته لا ينام، كما قال:
يؤرّقه فيما يشرفه الفكر
ثم قال: إن همه مقصور على إحياء الأولياء: يعني تخليصهم من الهلكة، وإماتة الأعداء.
ويكبر أن تقذى بشءٍ عيونه ... إذا ما رأته خلّةٌ بك فرّت(1/316)
يقول: هو أكبر من أن يرى شيئاً مكروهاً تقذى به عينيه، ولكنه إذا رأته خلة الإنسان: أي فقره وحاجته فرت الخلة منه وبعدت.
فكأنه أراد أن يزيد على ما في البيت؛ لأن الشاعر. قال: رآى خلتي فكانت في عينيه كالقذى حتى أزلها عني: أي لم يزل يتألم بها حتى أزالها، كما يتألم من تسقط في عينه القذاة.
وهو يقول: هو أكبر من أن يرى شيئاً يؤلم عينيه، فهو يزيل خلة قاصده قبل أن يراه ويقذى هو بها.
جزى الله عنّي سيف الدولة هاشمٍ ... فإنّ نداه الغمر سيفي ودولتي
يقول: قد أصبح جوده لي سيفاً أصول به على حوادث الدهر، ودولتي حسنت معها. فجزاه الله عني في إحسانه علي وإسدائه النعم إلي. والغمر: الكثير.
وأحدث بنو كلاب حدثاً بنواحي بالس فسار سيف الدولة خلفهم وأبو الطيب معه، فأدركهم بعد ليال بين ماءين يعرفان بالغبارات والخرارات من جبل النسر فأوقع بهم ليلاً فقتل منهم وملك الحريم، فأبقى وأحسن إلى الحرم فقال أبو الطيب بعد رجوعه في جمادي الآخرة من سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة:
بغيرك راعياً عبث الذّئاب ... وغيرك صارماً ثلم الضّراب
العبث: الولوع بالشيء من غير معنى. وراعياً: نصب على الحال من الضمير في قوله: بغيرك وقيل على التمييز: والراعي: الحافظ، وسمى الأمير راعياً، لحفظه الناس. وغيرك: مفعول مقدم، نصبه ثلم وصارماً نعت له، وقيل: المفعول صارما وغير نصب على الحال، فيكون التقدير: وثلم الضراب صارماً غيرك، فلما تقدم نعت النكرة عليها انتصب على الحال.
يقول: مثلك لا يعبث به أحد في ممالكه، وإنما يعبث بغيرك من الملوك، الذين لا يقدرون على ضبط رعيتهم وحفظ نواحيهم.
وجعل الذئاب والراعي مثلا، فشبه بني كلاب حين عدوا عليه بالذئاب إذا تعرضت للراعي وحاولت الاختلاس من غنمه، كذلك إذا كسر الضراب السيوف، فإنما يكسر ما عداك منها، ولا يعمل فيك مع كونك سيفاً: أي أنك لا تمل من الحروب ولا يؤثر فيك مداومة الضرب.
وقيل: أراد نوائب الدهر وكيد الأعداء لا يعمل فيك. فكأنه قسم الناس ثلاثة أقسام: راع، وهو سيف الدولة وسائر الملوك، وذئاب: وهم بنو كلاب وغيرهم من الصعاليك وأهل الفساد، وغنم: وهم عامة الناس.
وتملك أنفس الثّقلين طرّاً ... فكيف تحوز أنفسها كلاب؟!
كلاب: قبيلة يقول: كيف تقدر بنو كلاب أن يحوزوا أنفسهم ويحصنوها بالفرار منك؟ وأنت تملك أرواح الثقلين!
وما تركوك معصيةً ولكن ... يعاف الورد والموت الشّراب
يعاف: أي يكره: والورد: الورود.
يقول: لم يفارقك هؤلاء قصداً منهم إلى معصيتك، ولكن خافوا سطوتك وقتلك؛ لأن الشراب إذا كان الموت، كره الورود عليه، فلا لوم عليهم في ذلك.
طلبتهم على الأمواه حتّى ... تخوّف أن تفتّشه السّحاب
يقول: لم يبق ماء في المفازة إلا طلبتهم عليه، حتى ظن السحاب أنك ترقى إله وتطلبهم فيه! وإنما ذكر السحاب لأنه يحتمل الماء، فجعله من جملة الأماكن التي تضمن المياه، وهذا مبالغة عظيمة.
فبتّ ليالياً لا نوم فيها ... تخبّ بك المسوّمة العراب
تخب: من الخبب، وهو أرفع السير. والمسومة: الخيل المعلمة.
يقول: إنك لم تنم ليالي تسري في طلبهم، تسرع بكم خيل عراب.
يهزّ الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب
شبه سير الجيش عن يمينه ويساره واهتزازه، بجناحي عقاب في طيرانها. وقيل: العقاب: ملك الطير، فشبه سيف الدولة بالعقاب؛ لكونه ملكاً، إلا أنه شبهه به في حال ما يكون في قلب العسكر والعسكر حوله يضطرب ويتحرك يمنة ويسرة، وجعل أصحاب اليمين أحد جناحيه، وأصحاب الشمال جناحه الآخر، وجعله في الوسط، كالعقاب التي نفضت جناحيها.
وتسأل عنهم الفلوات حتّى ... أجابك بعضها وهم الجواب
يقول: ما زلت تبحث عنهم فلاة فلاة، حتى وجدتهم في بعض الفلوات، فكأنك كنت تسأل عنهم الفلوات التي كانوا فيها، فصاروا كالجواب، لأنك أصبتهم.
فقاتل عن حريمهم وفرّوا ... ندى كفّيك والنّسب القراب
حريم الشيء: حقوقه، وما يحرم إضاعته من الأهل والنساء. والقراب: أبلغ من القريب. والندى: فاعل قاتل. والنسب: معطوف عليه.(1/317)
يقول: إن ندى كفيك ونسبك القريب من هؤلاء، قام لهم مقام من يقاتل عن حريمهم حين فروا وإنما أثبت لهم قرب النسب؛ لأن سيف الدولة وهم، ينتسبون إلى أصل واحد، وهو معد بن عدنان وقد أشار إليه.
وحفظك فيهم سلفي معدّ ... وأنّهم العشائر والصّحاب
وروى: النساب وهو أصل النسب. الصحاب، جمع الصاحب، كقائم وقيام. وقيل: جمع صحب ككعب وكعاب. وقوله: سلفي معد أي إنهم من قبل آبائهم وأمهاتهم ينتسبون إلى معد بن عدنان.
يقول: قاتل عن حريمهم ندى كفيك والنسب القراب، وحفظك فيهم سلفهم في معد، وأنهم عشائرك وأصحابك.
تكفكف عنهم صمّ العوالي ... وقد شرقت بظعنهم الشّعاب
تكفكف: أي تكف وتصرف عنهم. وشرقت: أي امتلأت كما يشرق الإنسان بالماء. والظعن: النساء، الواحدة: ظعنية، وهي المرأة ما دامت في الهودج والشعاب: جمع شعب، وهو الطريق في الجبل.
يقول: رددت عنهم الرماح، وأمسكت عن قتلهم، لما فروا منك وظفرت بهم وقد امتلأت الشعاب من نسائهم وأموالهم.
وأسقطت الأجنّة في الولايا ... وأجهضت الحوائل والسّقاب
الولايا: جمع ولية، وهي شبيهة بالبرذعة، تطرح على ظهر البعير مما يلي سنامه. وأجهضت أرهقت وأتعبت حتى قامت، يقال، أجهضه: السير إذا أتعبه وأجهضت الناقة ولدها: أي اسقطت. والحوائل: جمع الحائل وهي التي لم تحمل في سنتها. وقيل الحائل الأنثى من ولد الناقة. والسقب: الذكر منها. وقيل السقب ولد الناقة ما دام صغيراً.
يقول: إنهم أمعنوا في الهرب خوفاً منك، وكانوا قد أردفوا نساءهم وراء الخيل وفيهم الحبالى، فأسقطن أولادهن في البراذع، على أعجاز الخيل، أو كن يركبن الإبل فأسقطن الأجنة على ظهور الإبل، وتعبت الإبل الحوائل والسقاب، فقامت ولم تقدر على السير، لما لحقها من الجهد والعياء.
وإذا قلنا إن الإجهاض: هو الإسقاط، فمعناه أن النوق أسقطت أولادها الإناث والذكور.
وعمروٌ في ميامنهم عمورٌ ... وكعبٌ في مياسرهم كعاب
بنو عمرو، وبنو كعب، بطنان من العرب، عمرو بن كلاب، وكعب بن ربيعة. والميمنة: جانبه الأيمن والميسرة: الأيسر.
يقول: اختلفت كلمة هذين البطنين خوفاً منك فقال قوم: نهرب عنه، وقوم: نتقدم فنأخذ الأمان، وقال آخرون: نتقدم ونحارب، وكانوا قبل ذلك يداً واحدة فاختلفوا حتى صارت عمرو عمورا، وكعب كعاباً، ومثله قول معاوية ابن مالك:
رأيت الصّدع من كعبٍ جميعاً ... وكان الصّدع لا يعد ارتئابا
فأمسى كعبها كعباً وكانت ... من الشّنآن قد دعيت كعابا
يعني: كانوا متفرقين متعادين فأصلحت بينهم، حتى عادوا إلى الألفة والاتفاق وصارت كلمتهم واحدة.
وقد خذلت أبو بكر بنيها ... وخاذلها قريطٌ والضّباب
أبو بكر: هنا قبيلة من بني كلاب؛ فلهذا أنث، وكذلك الضباب. والقريط: بطنان من بني كلاب. وروى قريظ بالظاء والطاء.
يقول: خذل بعض هؤلاء بعضاً وتفرقوا، لما أحسوا بطلبك إياهم، بعد أن كانوا مجتمعين على محاربتك.
إذا ما سرت في آثار قومٍ ... تخاذلت الجماجم والرّقاب
يقول: إذا سرت في أثر قوم خذلت رقابهم رءوسهم يعني: أنك تدركهم وتضرب أعناقهم، وتفرق رءوسهم من أجسادهم، إذا كان العنق يسلم رأسه والرأس يفارق جسمه خوفاً منك، فكيف لا تتفرق القبائل ويخذل بعضهم بعضا؟!
فعدن كما أخذن مكرّماتٍ ... عليهنّ القلائد والملاب
الملاب: ضرب من الطيب.
يقول: إنك لما أسرت نساءهم بما عليهن من الحلي والطيب، لم يتعرض أحد لهن، بل رجعن إلى أهلهن وعليهن ثيابهن وطيبهن.
وقيل: أراد أنهن كن بلا قلائد ولا عطر، فقلدهن سيف الدولة وطيبهن.
يثبنك بالّذي أوليت شكراً ... وأين من الّذي تولى الثّواب؟!
يثبنك: أي يجزينك ويعوضنك يقول: رجعن إلى أهلهن وهن يشكرنك على ما أوليتهن من الصفح الجميل، والإحسان الجزيل، ولكن أين الثواب وشكرهن جميل فعلك؟! أي أن الشكر لا يقابل إحسانك ولا يبلغ أن يكون جزاء له.
وليس مصيرهنّ إليك شيناً ... ولا في صونهنّ لديك عاب
روى شيناً وسبياً والأول أجود في مقابلة عاب يقول: ليس في حصولهن في يدك عار لهن، لأنك منهن وهن منك، فصونك لهن كصون بعولتهن في بيوتهن. والصون: الصيانة، وهي كناية عن الستر.(1/318)
ولا في فقدهنّ بني كلابٍ ... غذا أبصرن غرّتك اغتراب
يقول: إنهن إذا رأين غرتك وصرن عندك فلا يضرهن فقدانهن أهلهن، وليس اغتراب وبعد، لأنك منهن.
وكيف يتمّ بأسك في أناسٍ ... تصيبهم فيؤلمك المصاب؟
يقول: كيف تقدر على أن تعاقبهم وتوقع بهم؟ فإنك إذا أصبتهم تألمت بما يصيبهم من الضرر، لكونهم منك.
والمصاب: يجوز أن يكون مصدراً كالإصابة، وأن يكون مفعولا، وهذا البيت مثل قول الحارث بن وعلة الذهلي:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
ونحو قول الآخر:
وإنّي وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم ممّا عضّ أكبادهم كبدي
ترفّق أيّها المولى عليهم ... فإنّ الرّفق بالجاني عتاب
يقول: أنت سيدهم فتجاوز عنهم، ولا تعجل لهم في العقوبة، فإن رفقك بهم يردهم إلى طاعتك، ويقوم لهم مقام اللوم.
وإنّهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لحادثةٍ أجابوا
يقول: ترفق بهم وتجاوز عنهم، فإنهم عبيدك وقومك، متى دعوتهم إلى حرب ونازلة أجابوك.
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأوّل معشرٍ خطئوا فتابوا
يقول: هم حقيقة المخطئين في خروجهم عليك، غير أنهم تابوا وأذعنوا لك، كما أخطأ غيرهم ثم تاب، وليسوا بأول من فعل مثل ذلك.
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
يقول: إن حياتهم بك، لأنك تعطيهم ما تقوم به حياتهم من المال، فإذا غضبت عليهم زالت عنهم حياتهم، فكفاهم عقوبة أن تغضب عليهم، فإن ذلك كالموت لهم.
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربّما خفي الصّواب
الأيادي، النعم، واحدتها يد، والبوادي قيل: هي جمع بادية، وهم العرب الذين ينزلون البدو، فيكون في موضع الرفع، لأنها فاعلة جهلت والمعنى: أن أهل البدو، الذين هم بنو كلاب مقرون بإحسانك إليهم، غير جاهلين نعمك عليهم، ولكن خفي الصواب عليهم حين قاتلوك، وكان ذلك سهواً منهم من غير قصد.
وقيل: البوادي. الظاهرة من النعم أو المتقدمة منها، فهي صفة للأيادي في موضع النصب، وسكن الياء ضرورة، فيكون على هذا فاعل جهلت ضمير القبيلة التي هي بنو كلاب، يعني: أنهم لا ينكرون نعمك الظاهرة المتقدمة إليهم.
وكم ذنبٍ مولّده دلالٌ ... وكم بعدٍ مولّده اقتراب؟
يقول: كم ذنب يتولد من الدلال أي الإفراط وتجاوز الحد وكم بعد يتولد من قرب إذا لم يكن معه الأدب ورعاية الحرمة.
والمعنى: أنهم لم يخرجوا عليك إلا ثقة منهم بقرابتك وتدللا بانتسابهم إليك.
وجرمٍ جرّه سفهاء قومٍ ... وحلّ بغير جارمه العذاب
يقول: وكم ذنب يجنيه السفيه، فيعاقب به البريء، ومثله قول بعض العرب:
إنّ الفتى بابن عمّ السّوء مأخوذ
والأصل فيه قوله تعالى: " أًتهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهآءُ مِنَّا " وقوله تعالى " واتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ".
فإن هابوا بجرمهم عليّاً ... فقد يرجو عليّاً من يهاب
أراد: من يهابه، فحذف المفعول.
يقول: إن هابوه لكونه مهيباً، فإنهم يرجون عفوه، لكونه كريماً.
وإن يك سيف الدولة غير قيسٍ ... فمنه جلود قيسٍ والثّياب
قيس: هو عيلان، وإليه ينسب بنو كلاب مضر.
يقول: إن كان هو سيف دولة بني هاشم، لا سيف دولة قيس، فإن جلود قيس تربت من نعمه، وثيابهم من ماله ومن خلعه.
وتحت ربابه نبتوا وأثّوا ... وفي أيّامه كثروا وطابوا
الرباب: غيم متعلق بالغيم، يضرب إلى السواد، وقيل: هو السحاب الأبيض. وأثوا: تمكنوا وقووا من قولهم أث النبت.
يقول: إنهم نبتوا بفضله وإنعامه، كما نبت العشب بالمطر، وكثروا بدولة أيامه وطالوا.
شبههم بالنبات، وشبهه بالسحاب.
وتحت لوائه ضربوا الأعادي ... وذلّ لهم من العرب الصّعاب
يقول: إنهم بقوته وسلطانه قتلوا أعداءهم، وقهروا العرب، حتى ذلت لهم صعاب العرب وانقادت.
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
الضباب ما يرتفع من البخار، من غدوات الربيع كالسحاب.(1/319)
يقول: لو قصد بني كلاب غير سيف الدولة، لرده عن شموس بني كلاب ضبابهم. كني بالشموس عن النساء، وبالضباب عن الحرب التي كانت تحول بينهن وبين من يقصد الوصول إليهن، كما يحول الضباب دون الشمس.
وقيل: الضباب، كناية عن الغبار الذي يرتفع عن الخيل، حتى يصير كالضباب، فيصرف عن قصدهن، كما يمنع الضباب شعاع الأمس.
وقيل: عني بالشموس وجوه القوم التي هي كالشمس.
ولاقى دون ثايهم طعاناً ... يلاقى عنده الذّئب الغراب
الثاي: جمع ثاية، وهي الحجارة حول البيت، تبنى فيأوي إليها الراعي ليلاً كأنها الحظيرة، وفاعل لاقى ضمير غير في قوله: غير الأمير والهاء في عنده للطعان.
يقول: كان ينفي ذلك القاصد قبل أن يصل إلى ثايهم طعناً يكثر منه القتلى حتى يجتمع الذئب والغراب على أكل جيفهم وأجسامهم: يعني أنهم يدفعونه عن الوصول إلى حظائر الغنم، فكيف الوصول إلى النساء والحرم؟!
وخيلاً تغتذي ريح الموامي ... ويكفيها من الماء السّراب
تغتدي: من الغذاء والموامي: جمع موماة، وهي الفلاة.
يقول: لاقى دون ثايهم طعاناً وخيلا معودة للقتال، صابرة على الجوع والعطش، حتى تكتفي عن الزرع والعلف، بانتشاق النسيم، وعن الماء بالسراب.
ولكن ربّهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذّهاب
يقول: لكن غزاهم سيف الدولة الذي هو مولاهم وهم عبيده، فلم ينفع منه الوقوف ولا الهرب.
ولا ليلٌ أجنّ ولا نهار ... ولا خيلٌ حملن ولا ركاب
يقول: إنهم لما رأوه تحيروا في أمرهم، ولم يسترهم ليل بظلمته، ولا نهار بضيائه، ولم تحملهم خيلهم وإبلهم.
رميتهم ببحرٍ من حديدٍ ... له في البرّ خلفهم عباب
العباب: صوت الموج. وقيل: عباب كل شيء: أوله.
يقول: رميتهم بجيش كأنه بحر ارتفعت أمواجه لعظمه، ولما عليه من السلاح.
فمسّاهم وبسطهم حريرٌ ... وصبّحهم وبسطهم تراب
روى: فرشهم بدل بسطهم في الموضعين. وفاعل مساهم وصبحهم ضمير البحر الذي هو الجيش.
يقول. أتاهم ليلاً جيشك، وهم على فرش الديباج فأغار عليهم وسلب أموالهم، فأصبحوا جلوساً على التراب، فصار فراشاً لهم! وقيل: أراد أنهم انهزموا، فتبدلوا بعد بسط الحرير، الجلوس على التراب. وهذا قريب من الأول.
قال ابن جني: أراد أن جيشه مساهم فقتلهم فأصبحوا وقد تزملوا بالتراب، وصار بسطهم تراباً بعد ما كان حريراً.
ومن في كفّه منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب
يقول: مع شوكتهم، وصبرهم، واجتهادهم، وشجاعتهم، لما رأوك جبنوا وتحيروا، حتى صار الفارس الذي يحمل الرمح كالمرأة التي في يدها خضاب في قلة الغناء والدفع.
بنو قتلى أبيك بأرض نجدٍ ... ومن أبقى وأبقته الحراب
الحراب: جمع حربة وهي رمح قصير.
يقول: كان آباؤهم استعصوا على أبيك فقتلهم، وفعل بآبائهم ما فعلت بهم أنت الآن، وكان أبو سيف الدولة غزا القرامطة الذين هم في الأحساء وقتل منهم وكسر.
فيقول: هؤلاء بنو الذين قتلهم أبوك بنجد، وأبقاهم أبوك وأبقته رماحه. وبنو: خبر ابتداء محذوف: أي هم بنو قتلى أبيك.
عفا عنهم وأعتقهم صغاراً ... وفي أعناق أكثرهم سخاب
السخاب: كالثياب، يلبسه الصبيان، وجمعه سخب. وقيل السخاب: القلادة تنظمها الأعراب من القرنفل، أو حب الحنظل.
يقول: إن أباك كان عفا عن هؤلاء وأعتقهم بعد ما ملكهم، وهم صغار في أعناقهم السخب.
وكلكم أتى مأتى أبيه ... فكلّ فعال كلّكم عجاب
يقول: كل واحد منك ومنهم - أي مثل ما فعل أبوه، فأنت عفوت كما عفا أبوك عن آبائهم، وخضعوا خضوع آبائهم، فما حصل منك من الاقتداء بأبيك عجب! وما حصل منهم من الاقتداء بآبائهم من العصيان عجب! وقيل: وفعلت بهم مثل ما فعل أبوك بآبائهم، وأبوك فعل مثل ما فعل جدك بأجدادهم، وكل فعل منك عجب!
كذا فليسر من طلب الأعادي ... ومثل سراك فليكن الطّلاب
يقول: من طلب الأعادي والظفر بهم، فليسر إليهم كما سريت إليهم أنت، وكذا: إشارة إلى فعل سيف الدولة.(1/320)
وسار سيف الدولة نحو ثغر الحدث لبنائها وكان أهلها أسلموها بالأمان إلى الدمستق سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جماد الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة وبدأ في يومه فخط الأساس، وحفر أوله بيده، ابتغاء ما عند الله عز وجل، فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس: دمستق النصرانية، في نحو من خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب. والخزر وأصناف رجاله ووقعت المصافة يوم الاثنين انسلاخ جمادي الآخرة من أول النهار إلى وقت العصر، ثم إن سيف الدولة حمل عليه بنفسه ف نحو خمس مئة من غلمانه وأصناف رجاله، فقصد موكبه وهزمه، وأظفره الله تعالى به، وأسر تودس الأعور: بطريق سمندو، وهو صهر الدمستق وقتل نحو ثلاثة آلاف رجل من مقاتلته، وأسر خلقاً كثيراً من اسخلاريته وأراخنته فقتل أكثرهم واستبقى البعض وأقام على الحدث إلى أن بناها، ووضع بيده آخر شرافة منها يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رجب من السنة المذكورة فقال أبو الطيب في ذلك، وأنشده إياها بعد الوقعة بالحدث.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
العزائم جمع عزيمة، وهي إمضاء الأمور، وكذلك عزمت على كذا: أي أمضيته. والمكارم: جمع مكرمة، وهي كل فعل محمود.
يقول: عزيمة كل إنسان على قدر همته وشهامة قلبه، إن كان عظيم القدر والخطر، جد أمره ومضت عزائمه، وإن كان الرجل فشلاً اضمحلت وبطلت، وكذلك المكارم: تكون على حسب فاعليها، فهي من الشريف شريفة، ومن الوضيع وضيعة.
وتعظم في عين الصّغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
الضمير في صغارها للمكارم والعزائم.
يقول: الرجل الصغير النفس يستكبر الصغير، والعالي الهمة يصغر في عينه ما يفعله وإن كان عظيماً. ومثله لعبد الله بن طاهر:
إنّ الفتوح على قدر الملوك وهم ... ات الولاة وإقدام المقاديم
يكلّف سيف الدولة الجيش همّه ... وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
يقول: إن همته عظيمة، وهو يكلف جيشه أن تكون لهم مثل همته، والجيوش الكثيرة تعجز عنه. والهاء في عنه لهمته.
ويطلب عند النّاس ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدّعيه الضّراغم
يقول: يطلب عند الناس من الشجاعة والبأس ما عند نفسه، والأسود تعجز عن ادعاء ذلك، فكيف بالناس؟!
يفدّى أتمّ الطّير عمراً سلاحه ... نسور الملا أحداثها والقشاعم
النسور: جمع النسر. والأحداث جمع حدث، وهو الحديث السن، والقشاعم: المسنة الطويلة العمر. الواحد قشعم والملا: الأرض الواسعة.
يقول: إن سلاحه أكثر القتلى في البر قديماً وحديثاً، حتى شبع النسور منها، فلم تحتج إلى صيد، فقشاعمها: التي هي المعمرة، تضيف إلى الشكر القديم الشكر الحديث، وأحداثها تثنى عليه بالحديث من لحوم القتلى، فهما يفديان سلاحه ويقولان: نحن الفداء لك؛ لإنعامك علينا بكثرة القتل، إذ في ذلك استراحتها عن طلب الرزق.
وإنما قال: أتم الطير عمراً لأن النسر يعيش على زعم الناس خمس مئة سنة وإنما خص النسور؛ لأنها لا تصيد كما تصيد الجوارح، وإنما تأكل الجيف ولحوم القتلى. روى ابن جني تفدى بالتآء قال: أراد النسور فكأن قال: تفدى النسور سلاحه.
والأظهر في العربية يفدى بالياء لأنه فاعله أتم وهو مذكر وهذا حمل على الظاهر، والأول على المعنى. وعمراً نصب على التمييز وسلاحه نصب لأنه مفعول يفدي ويجوز في نسور الملا الرفع على خبر الابتداء: أي هي نسوء الملا. ويجوز أن تجعله بدلا من قوله: أتم الطير التقدير: تفدى نسور الملا سلاحه وأحداثها من نسور الملا، والقشاعهم معطوف عليه.
وما ضرّها خلقٌ بغير مخالبٍ ... وقد خلقت أسيافه والقوائم
القوائم: جمع قائم وهو قائم السيف.
يقول: لا يضر هذه النسور خلقها بغير مخالب، وألا تصيد كالبازي ونحوه، فإن سيوف سيف الدولة تغنيها عن المخالب وتقوم لها مقامها. وتم المعنى عند قوله: وقد خلقت أسيافه وقوله: والقوائم فضلة لا فائدة فيها إلا إتمام القافية.
وقيل: إنما قال ذلك؛ لأن السيوف لا ينتفع بها إلا بقوائمها، والمراد بنفي المخالب عنها ما ذكرناه أنها ليست مما يصيد كالبازي، تأكل الجيف.(1/321)
وقيل: لها مخالب. وإنما أراد الفرخ الحدث الذي لا يمكنه الانتفاع بمخالبه، والمسن الذي عجز عن طلب القوت، ودل عليه في قوله: أحداثها والقشاعم.
الثاني: أن معناه ما ضر لو كانت خلقت بغير مخالب مع قيام سيوفه مقامها. وقوله: ما ضرها خلق: فالخلق هو المصدر الحقيقي.
هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أيّ السّاقيين الغمائم
الحدث: قلعة، وقيل مدينة. وجعلها حمراء؛ لأن سيف الدولة أراق فيها دماء الروم، حتى سالت عليها كالمطر، ودام ذلك حتى نسي لونها الأول.
يقول: فهل تعرف الحدث لونها الأول أم نسيته من طول ما جرى الدماء عليها؟ وهل تفرق بين سيف الدولة الذي سقاها الدم، وبين الغمام الذي سقاها الماء؟ فتعلم أي ساقييها الغمائم.
وقيل: معناه هل تعرف لونها؟ إنها قد حسنت به حالها حين عمرها، وكنت قد خربت قبل ذلك. وقيل: أراد أنه بناها غير البناء الأول، إذا كان بناؤه لها إعادة لا ابتداء فكأنه بناها من الحجر الأحمر، وكانت قبل ذلك بخلافه.
سقتها الغمام الغرّ قبل نزوله ... فلمّا دنا منها سقتها الجماجم
الغمام: جمع غمامة، ولهذا وصفها بأنها غر وخص الغر، لأنها أغزر وأكثر ماءً.
يقول: كانت السحاب تسقيها الغيث، فلما جاءها سيف الدولة، وقتل فيها الروم فسالت دماؤهم كالمطر السائل من السحاب.
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
أي: فأعلاها، فحذف المفعول، والواو للحال في قوله: والقنا، وموج المنايا.
يقول: بنى الحدث حتى أتمها وأعلاها، في حالة المطاعنة، وتداخل الرماح بعضها في بعض، والتطام أمواج الموت فيها؛ لكثرة القتل.
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
يقول: إنها تروع كل وقت، كما يروع المجنون، وتهدم وقتاً بعد وقت، فكانت لا تستقر، فتشبه بالمجنون، فلما قتل أعداءها ومن كان يطلبها، سكنت كالمجنون إذا علقت عليه التمائم، فصارت جثت القتلى لها كالتمائم.
طريدة دهر ساقها فرددتها ... على الدّين بالخطّىّ والدّهر راغم
الطريد: ما أخذه العدو من المال وفاز به.
يقول: كانت هذه القلعة طريدة الدهر قد ساقها وذهب بها الدهر وجعلها للروم، فرددتها على المسلمين الذين كانت لهم من قبل، وأرغمت أنف الدهر وقهرته.
تفيت اللّيالي كلّ شيءٍ أخذته ... وهنّ لما يأخذن منك غوارم
التاء في تفيت للخطاب. والليالي: في موضع نصب بتفيت، ومعناه: كل شيء أخذته الليالي فإنك تفيتها. أي تأخذه منها، وهي إذا أخذت منك شيئاً غرمته لك، وغيرك لا يقدر على ذلك.
وقيل: التاء تاء التأنيث، والليالي: رفع لأنها فاعلة تفيت.
والمعنى: إن ما أخذته الليالي من كل أحد أفاتته ولا ترده عليه، وما تأخذه منك فإنك تغرمه لك.
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
الفعل المضارع يصلح للحال وللاستقبال، والمراد ها هنا: الفعل المستقبل خاصة.
يقول: إذا نويت فعل شيءٍ تم ومضى، وتعجل وقوعه قبل أن يعوقك معوق، فعبر عن المعوق بالجوازم، وعن نفيه بنفي الجوازم، وإنما قال ذلك؛ لأن حروف الجزم كلها تعويق: إما بنفي كلم، أو بنهي نحو، لا تفعل، أو تعلق بالشرط، ولام الأمر للغائب فيه معنى التراخي، ووصول الأمر إليه.
وقيل: أراد بالجوازم ها هنا التي للذي، وجمعه إرادةً للكثرة والتكرير.
والمعنى: أنك إذا نويت أمراً سبقت به نهى الناس، وعذل العذال، وتفعله قبل أن تقول لك الناس: لا تفعل، فيكون مثل قولهم: سبق السيف العذل.
وقيل: أراد به لام الأمر نحو قولك: ليخرج زيد، ومعناه: أنك إذا نويت أمراً تم قبل أن تأمر به، فتقول ليكن كذا فيكون، مثل قوله:
يجيبك قبل أن يتمّ سينه
أو يكون المراد به أنك إذا أمرت بفعل يسبق مضاؤه لحوق هذه اللام به.
وقيل وجه رابع: وهو أن الفعل المضارع إنما يصير ماضياً بدخول لم عليه، والمعنى: أنك إذا نويت أمراً مستقبلاً انقضى ومضى بنفسه، من غير أن يعارضه ما ينفيه من الموانع.
وكيف ترجّى الرّوم والرّوس هدمها ... وذا الطّعن أساسٌ لها ودعائم!
يقول: إن الروس والروم كيف يطمعون في هدمها؟ وأساسها ودعائمها دفاعك وطعانك! فإذا كان كذلك فلا سبيل لهم إلى هدمها.(1/322)
وقد حاكموها والمنايا حواكمٌ ... فما مات مظلومٌ ولا عاش ظالم
يقول: إن الروم والروس حاكموا هذه القلعة إلى المنايا، وجعلوها حاكمةً بينهم وبين القلعة، فكانت هذه مظلومة، والروم ظالمين، تغلبوا عليها وأخذوها من المسلمين ظلماً، فحكمت المنية بموت الظالم وحياة المظلوم، فقتل الروم، وهم ظالمون، وعاش المظلوم وهي القلعة؛ لأنها تخلصت من أيديهم.
وقيل: المظلوم هم المسلمون؛ لأن الروم ظلموهم بأخذها منهم. يعني أنك أخذتها منهم بالسيف والقتل، فكأنك حاكمتهم إلى السيوف فقضت لك بما فعلت.
أتوك يجرّون الحديد كأنّهم ... سروا بجيادٍ ما لهنّ قوائم
يقول: أتوك وعليهم الدروع، وعلى خيلهم التجافيف، كأنها لم تكن لها قوائم.
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم
البيض: السيوف. وثيابهم: الدروع والجواشن، والعمائم البيض. وقوله: من مثلها: أي الثياب والعمائم كانت مثل البيض؛ لأنها كانت من الحديد.
يقول: جاءوك في أسلحة تامة، فلم تفرق بين سيوفهم وبينهم، لأن ثيابهم وعمائمهم كانت من الحديد.
وقيل: أراد أن السيوف لم تتميز من لباسهم، لبريقها ولمعانها.
خميسٌ بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
الزحف: السير الهين. والزمازم: جمع زمزمة، وهي كل صوت لا يفهم، وأراد به صوتهم وصليل الحديد، وصهيل الفرس.
يصف كثرة الجيش وأنه ملأ الأرض شرقها وغربها وبلغت زمازمه إلى السماء، والجوزاء مصغية إليه تسمع أصواته. وخص الجوزاء لأنها على صورة إنسان وقد أمال عنقه، فجعلها تسمع إلى أصواته.
تجمّع فيه كلّ لسنٍ وأمّةٍ ... فما يفهم الحدّاث إلاّ التّراجم
اللسن: اللغة. والحداث: المتحدثون. والتراجم: جمع الترجمان.
يقول: إن جيش العدو الذي ملأ الأرض، كان قد تجمع فيه أمم مختلفة اللغات، فلا يفهم بعضهم كلام بعض إلا بالترجمان.
وقيل أراد به جيش سيف الدولة.
فلله وقتٌ ذوّب الغشّ ناره ... فلم يبق إلاّ صارمٌ أو ضبارم
قوله: فلله وقت في معنى التعجب، والضبارم: الأسد الشديد الغليظ.
يقول: إن وقت الحرب أذاب الغش ناره.
يعني: أن الحرب لما اشتدت فر منها كل جبان فشل عاجز، وتكسر كل سيف غير قاطع، فلم يبق إلا نخب الفرسان، فشبه الحرب بالنار، والجبن بالغش الذي تذيبه النار.
وقيل: أشار بهذا إلى أن خيل سيف الدولة لا تحارب على وجه المسارقة والختل، بل يجاهرون بالمحاربة فعبر عن الختل بالغش.
تقطّع ما لا يقطع الدّرع والقنا ... وفرّ من الفرسان من لا يصادم
يقول: لم يبق في ذلك الوقت من السيوف كل سيف لا يقطع الدروع ولا يمسها، وفر من الفرسان كل ضعيف، لا يصادم الأبطال: أي لا يحارب.
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
يقول: وقفت في مقام من قام فيه لا يشك أنه يقتل، وقد أحاط الموت من كل جانب، حتى كان الردى نائم عنك وأنت قائم في جفنه؛ لإحاطته بك.
شبه إحاطة الردى به بكونه في جفنه، وسلامته بكون الردى نائم عنه.
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
يقول: وقفت وكانت الأبطال تمر بك، وهي مجروحة منهزمة عابسة الوجوه، وأنت مشرق الوجه ضاحك السن، لم تداخلك حيرة لانهزام أصحابك، ومعرفتك بوجه الأمر في تلك الحالة.
وحكى أن سيف الدولة استنشد أبا الطيب هذه القصيدة وكان معجباً بها، فاندفع أبو الطيب ينشدها فلما بلغ إلى قوله: وقفت إلى آخر البيتين قال سيف الدولة: إن صدر البيتين لا يلائم عجزهما، وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
فقال أبو الطيب: لما ذكرت الموت أتبعته ذكر الردى لتجانسهما، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من العبوس، وعينه من البكاء قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم للمطابقة بينهما.
تجاوزت مقدار الشّجاعة والنّهى ... إلى قول قومٍ: أنت بالغيب عالم(1/323)
الغرض بالبيت: أن الشجاع يثبت ما دام يطمع في الظفر ويرجو النصر، وكذلك العاقل الحازم، يقف متى رأى مخايل النصر وأمارات الظفر، فإذا اشتد الأمر وأيقن كل واحد بالموت طلب النجاة بالفرار، وسيف الدولة تجاوز هذه المنزلة، فهو يقف في المواقف التي لا يشك الحازم والشجاع في الهلاك فيها، كأنه عالم بالغيب وعواقب الأمور.
وقوله: إلى قول قوم يعني: أن الناس لما رأوا مقامه وثباته في المواطن التي لا يشك أحد فيها بالقتل قالوا: إنه عالم بالغيب! ولولا ذلك لم يقف، وقد فر كل شجاع.
ضممت جناحيهم على القلب ضمّةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
يقول: حملت على الميمنة والميسرة فضممتهما على القلب ورددتهما إليه، حتى سقط بعضهم على بعض.
جعل الميمنة والميسرة جناحين وشبه الأبطال المقدمين بقوادم الجناح، والأتباع والحشو بالخوافي.
بضربٍ أتى الهامات والنّصر غائبٌ ... وصار إلى اللّبّات والنّصر قادم
الباء في بضرب متعلقة، قيل بقوله: تموت.
يقول: نازلت العدو وضربته بالسيف والنصر غائب، فلما بلغ الضرب إلى اللبات قدم النصر.
يصف بذلك سرعة الهزيمة ووقوع النصر بعدها، وأنه كان بين غيبته وقدومه، قدر نزول السيف من الهامة إلى اللبة، فكأنه يقول: لم يصل سيفك إلى نحورهم حتى نصرت عليهم.
وقال ابن جني: يقول. إذا ضربت عدوك، فحصل سيفك في هامته، فلا تعتد ذلك نصراً، حتى يصل السيف إلى اللبة، فحينئذ يكون ذلك نصراً، ولا ترضى بدونه.
حقرت الرّدينيّات حتّى طرحتها ... وحتّى كأنّ السّيف للرّمح شاتم
تركت الطعن بالرماح، ورجعت إلى الضرب بالسيوف، حتى كأنك حقرت الرماح وعدلت عنها إلى السيوف؛ لأنها أنكى في العدو، وكأن سيف رأى عجز الرماح وقلة غنائها فشتمها وعابها.
ومن طلب الفتح الجليل فإنّما ... مفاتيحه البيض الخفاف الصّوارم
البيض، الخفاف، الصوارم كلها صفات للسيوف.
يقول: من أراد الوصول إلى الفتوح العظيمة، فإنما يصل إليها بالسيوف، ولما جعل المطلوب فتحاً جعل السيوف مفاتيحه؛ لأن بها يوصل إلى ما وراء الباب من المقاصد.
نثرتهم فوق الأحيدب نثرةً ... كما نثرت فوق العروس الدّراهم
الأحيدب: موضع، وقيل: اسم الجبل الذي عليه مدينة الحدث.
يقول: إنك قتلتهم في كل موضع من هذا الجبل، ونثرتهم عليه كما تنثر الدراهم فوق العروس.
شبه الأحيدب بالعروس؛ لأنه قد اختضب بالدم، كالعروس في المصبوغات والمجاسد، وشبه القتلى بالدراهم؛ لبياض جثتهم حولها، ونثرهم: بنثرهم الدراهم فوق العروس.
تدوس بك الخيل الوكور على الذّرى ... وقد كثرت حول الوكور المطاعم
يقول: صعدت على رءوس الجبال إليهم فقتلتهم هناك، حتى كثرت المطاعم للطيور في رءوس الجبال، وكانت الخيل تطأ وكور الطير التي كانت في الجبال وحولها القتلى مطروحة. وقوله تدوس بك: أي تطأ وأنت عليها.
تظنّ فراخ الفتخ أنّك زرتها ... بأمّاتها وهي العتاق الصّلادم
الفتخ: العقبان، والواحد أفتخ، وفتخاء، وهي عتاق الطير كالبازي والعقاب؛ سميت بذلك للين أجنحتها وانعطافها، والأمات: جمع الأم، فيما لا يعقل، وفيمن يعقل أمهات والمراد بالعتاق: الخيل الكرام والصلادم: جمع صلدم، وهو الفرس الصلب الشديد.
يقول: لما صهلت الخيل ظنت فراخ النسور أنك زرتهن أمهاتهن؛ لاشتباه أصوات الخيل بها في بعض الأوقات، ولذلك قال الاخر:
إذا الخيل صاحت صياح النّسور
وقيل: شبه الخيل بالنسور من جهة السرعة والضمور.
إذا زلقت مشّيتها ببطونها ... كما تتمشّى في الصّعيد الأراقم
الصعيد: وجه الأرض. والأراقم: الحيات.
يقول: إذا زلقت الخيل من رءوس الجبال لملاستها وقلة استقرار قوائمها عليها، انسابت فيها على بطونها كما تنساب الحيات في الأرض والتراب.
أفي كلّ يوم ذا الدّمستق مقدمٌ ... قفاه على الإقدام للوجه لائم
وروى أيضاً: أفي كل يوم للدمستق مقدم، أي إقدام.
يقول: الدمستق كل يوم مقبل، فيقدم على لقائك ثم ينهزم من بين يديك، فيلوم قفاه وجهه فيقول: إلى كم تعرضني للجراحة ولا تكتفي بما تقدم من الانهزام؟!
أينكر ريح اللّيث حتّى يذوقه ... وقد عرفت ريح اللّيوث البهائم(1/324)
يقول: إن الدمستق لا يزال يتعرض لك حتى تقتله أو تأسره، ولو كان له عقل لكفاه ما رأى من شجاعتك وهزمك إياه، والبهائم أعقل منه، لأنها تعرف ريح الليث من بعيد فتتباعد عنه.
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصّهر حملات الأمير الغواشم
الغواشم: جمع غاشمة، وأصله الظلم، وهي ها هنا القهر والغلبة.
يقول: لو كان له تمييز أو عقل، لم يتعرض لك بعد ما رأى من فعلك بابنه، حيث أسرته وقتلت أيضاً صهره وابن صهره.
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظّبا ... لما شغلتها هامهم والمعاصم
المعاصم: جمع المعصم، وهو الذراع.
يقول: مضى الدمستق هارباً، وهو يشكر أصحابه حيث شغلوا المسلمين عنه؛ بأن مكنونهم من قتلهم، واستغنت السيوف برءوسهم ومعاصمهم، فكان سبب نجاته ذلك.
ويفهم صوت المشرفيّة فيهم ... على أنّ أصوات السّيوف أعاجم
فيهم: أي في الأصحاب.
يقول: كان الدمستق إذا سمع صليل السيوف في أصحابه عرف ما تفعله، وإن لم يكن لها ألسنة. وأخذ هذا المعنى المعري وشرحه فقال.
وقد تنطق الأسياف وهي صوامت ... وما كلّ نطق المخبرين كلام
ثم قال من عنده:
كفى بخطاب المشرفيّة مخبراً ... بأنّ رءوساً قد شققن وهام
يسرّ بما أعطاك لا من جهالةٍ ... ولكنّ مغنوماً نجا منك غانم
يقول: إن الدمستق يسر بما سلم إليك من أصحابه وأمواله؛ لسلامته منك، لأن المغنوم إذا نجا منك كان غانماً.
ولست مليكاً هازماً لنظيره ... ولكنّك التّوحيد للشّرك هازم
يقول: لست ملكاً كسائر الملوك في فعلك بالدمستق، حتى يقال: ملك هزم نظيره من الملوك، ولكن أنت موحد وهو مشرك، فكأن التوحيد هزم الشرك وقهره، لما ظفرت على الدمستق وقهرته.
تشرّف عدنانٌ به لا ربيعةٌ ... وتفتخر الدّنيا به لا العواصم
عدنان: أصل العرب. وربيعة: قبيلة سيف الدولة. والعواصم: حصون بالشام، وهي دار ممتلكته.
يقول: إن جميع العرب تتشرف به، لا قبيلته وحدهم، وكذلك الدنيا كلها تفتخر به، لا العواصم التي هي ممالكه.
لك الحمد في الدّرّ الّذي لي لفظه ... فإنّك معطيه وإنّي ناظم
يقول: الحمد لله. الذي أقوله في شعري ليس هو حمدي إياك، بل هي مكارمك ووصفتها في شعري، وحسن بها قولي، فكأنها در أعطيتنيه فنظمته، فلك المعنى ولي اللفظ، فالحمد لك.
وإنّي لتعدو بي عطاياك في الوغى ... فلا أنا مذمومٌ ولا أنت نادم
يقول: إنك أعطيتني في عطاياك الخيل، وهي تعدو بي في الحرب، وأقاتل بها بين يديك، فلست أنا مذموماً لتقصيري عن طاعتك وترك القتال بين يديك، ولا أنت نادم على عظم نعمتك علي بالخيل وغيرها من النعم.
وقيل: لست مذموماً بهذا الشكر وذكر عطاياك الكريمة، ولا أنت نادم على ما فعلت من اتصال شكري.
على كلّ طيّارٍ إليها برجله ... إذا وقعت في مسمعيه الغماغم
الغماغم: الأصوات في الحرب. والهاء في إليها يرجع إلى الوغى إذ الحرب مؤنثة.
يقول: تعدو بي عطاياك على كل طائر يطير برجله، خلاف سائر الطير، وأراد به الفرس إذا سمع صوت الحرب طار إليها ولا يقف.
ألا أيّها السّيف الّذي لست مغمداً ... ولا فيك مرتابٌ ولا منك عاصم
يقول: لست كسائر السيوف في أنها تغمد مرةً وتصلت أخرى، بل أنت مجرد أبداً، تنصر الدولة وتذب عنها وتحامي دونها، ولا يشك أحد في أنك بهذه الصفة، ومن طلبته لم يعصمه منك عاصم ولم يمنعه مانع. ومرتاب: يجوز أن يكون اسم الفاعل من ارتاب، ويجوز أن يكون مصدراً كالارتياب.
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنّك سالم
يقول: هنيئاً لهذه الأشياء سلامتك؛ لأن سلامتها بك، وبقاؤها ببقاؤك؛ لأنك تحامي دونها وتذب عنها.
ولم لا يقي الرّحمن حدّيك ما وقى ... وتفليقه هام العدا بك دائم؟
يقول: أنت سيف ماض، تنصر الإسلام ودين الله، وتضرب رءوس أعداء الله تعالى، فكيف لا يقيك الله تعالى كل مكروه؟ ولا يدفع عن حديك كل محذور. ولما جعله سيفاً جعل له حدين. وما في قوله: ما وقى ظرف.
وورد على سيف الدولة فرسان طرسوس وأذنة والمصيصة، ومعهم رسول ملك الروم، في طلب الهدنة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاث مئة.(1/325)
فقال أبو الطيب يمدحه وأنشدها بحضرتهم وقت دخولهم:
أراع كذا كلّ الأنام همام ... وسحّ له رسل الملوك غمام؟!
الهمزة في أراع للاستفهام، في معنى التعجب. وراع: أي أفزع. والمفعول: كل الأنام، والفاعل: همام. وكذا أي كما أرى، وهو في موضع نصب؛ لأنه صفة لمصدر محذوف: أي أراع روعاً كذا.
يقول: كيف راع الأنام كلهم رجل واحد؟ حتى تقاطرت إليه رسل الملوك يسألونه الصلح، كما يتقاطر المطر من الغمام. وقوله سح أي أسح؟ على الاستفهام.
ودانت له الدّنيا فأصبح جالساً ... وأيّامها فيما يريد قيام
يقول: انقادت له الدنيا، وأطاعه أهلها، وهو جالس، وأيام الدنيا تسعى في مراده، وتقوم له قيام الخدم للمخدوم.
إذا زار سيف الدّولة الرذوم غازياً ... كفاها لمامٌ لو كفاه لمام
اللمام: الزيارة القليلة.
يقول: إذا قصد بلاد الروم كفاهم قليل من إيقاعه بهم، ولكنه لا يرضى إلا بالسبي والقتل وأخذ الممالك.
فتىً تتبع الأزمان في النّاس حكمه ... لكلّ زمانٍ في يديه زمام
روى: خطوة وحكمه.
يقول: إن الزمان يتبع حكمه ويتصرف بإرادته، يذل من أذله ويعز من أعزه فكأن زمام الدهر في يده، يقوده كيف شاء. وقوله: فتى خبر ابتداء محذوف، أي: هو فتى.
تنام لديك الرّسل أمناً وغبطةً ... وأجفان ربّ الرّسل ليس تنام
يقول: إذا وصلت الرسل إليك سكنت نفوسها، ونامت عيونها لجوارك، وأجفان الذين يرسلونهم لا تنام خوفاً منك.
حذاراً لمعروري الجياد فجاءةً ... إلى الطّعن قبلاً ما لهنّ لجام
اعروريت الفرس: إذا ركبته عرياناً بلا سرج. وقبلاً: أي متقدماً إلى أعدائه. وقيل: هو جمع أقبل وقبلاء، وهو الذي أقبلت إحدى عينيه على الأخرى وهو محمود في الخيل؛ وإنما تفعل ذلك لعزة نفسها. وحذاراً: مفعول له. والمعروري: هو الفاعلي من اعروري. وفجاءة: نصب على الحال، وكذلك قبلاً.
يقول: إن أجفان رب الرسل لا تنام حذاراً من ملك يركب الفرس عرياناً لمفاجأته الغزو، ويصرفه بغير لجام.
تعطّف فيه والأعنّة شعرها ... وتضرب فيه والسّياط كلام
فيه أي في الطعن.
يقول: إن هذه الخيل مؤدبة معودةً للحرب، فتنعطف في الطعن ولا أعنة لها سوى شعر أعرافها ونواصيها؛ وكذلك تضرب في حال الطعن، لا بالسياط، بل بالكلام والزجر.
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
يقول: إن الخيل الكرام، لا تغنى حتى يكون فوقها كرام. ومثله للبحتري:
وما السّيف إلا مستعار لرينةٍ ... إذا لم يكن أمضى من السّيف حامله
إلى كم تردّ الرّسل عمّا أتوا به ... كأنّهم فيما وهبت ملام
يقول: إلى متى ترد الرسل عما يلتمسونه من الصلح؟ فكأن سؤالهم إياك عذل العاذل على جودك، فأنت تردهم عما راموه، كما ترد من يعذلك على جودك عن مرامه، ولا تصغي إلى ملامهم. وشبههم باللوم وشبه ردهم برد اللوم.
فإن كنت لا تعطى الذّمام طواعةً ... فعوذ الأعادي بالكرام ذمام
الذمام: العهد. والطواعة، والطواعية، والطوع: واحد.
يقول: إن كنت لا تعطيهم الأمان والذمة بطاعتهم لك، أو رغبة منك في ذلك. وقيل: معناه. متبرعاً، وقد عاذوا بك والتجأوا إليك، وعوذهم بك يوجب حفظهم.
وإنّ نفوساً أمّمتك منيعةٌ ... وإنّ دماءً أمّلتك حرام
يقول مؤكداً للمعنى الأول: قصدهم إليك، تحصين نفوسهم، ورجاؤهم لك، يصون دماءهم، فنفوسهم منيعة ودماؤهم حرام.
إذا خاف ملكٌ من مليكٍ أجرته ... وسيفك خافوا والجوار تسام
الواو في قوله: وسيفك للعطف. وتسام: أي تكلف، وتطلب منك.
يقول: من عادتك إجارة كل ملك خاف ملكاً آخر، وهؤلاء خافوا سيفك فاستجاروا بك، والتجأوا إليك، وكلفوك إجارتهم، فالأولى أن تجيرهم.
لهم عنك بالبيض الخفاف تفرّقٌ ... وحولك بالكتب اللّطاف زحام
يقول: إذا لقوك في الحرب تفرقوا عنك، خوفاً من السيوف الخفاف، ثم يجتمعون حولك ويزدحمون عليك طلباً للصلح، ويرسلون إليك كتباً لطافاً يسألونك فيها العفو. وإنما جعلها لطافاً، لأنها كتب مبعوثة على كتمان، فكل كبير وبطريق يتقرب إليه بكتاب لطيف، سراً عن صاحبه!
تغرّ حلاوات النّفوس قلوبها ... فتختار بعض العيش وهو حمام(1/326)
يقول: إن حلاوات النفوس تغر القلوب، حتى تختار قلوب بعض الناس العيش والذل، وهو مثل الموت.
وشر الحمامين الزّؤامين عيشةٌ ... يذلّ الذي يختارها ويضام
الزؤام: السريع.
يقول: العيش في الذل أحد الحمامين السريعين، وهو أشرهما.
فلو كان صلحاً لم يكن بشفاعةٍ ... ولكنّه ذلّ لهم وغرام
يقول: هذا الصلح ليس بصلح، وإنما هو ذل لهم وعقوبة وغرامة يحملونها لك؛ لأن الصلح لا يكون بالشفاعة وإنما يكون صلحاً إذا استوى فيه الفريقان وأراجه الخصمان.
ومنّ لفرسان الثّغور عليهم ... بتبليغهم ما لا يكاد يرام
الثغر: موضع المخافة.
يقول: هذا الصلح ذل لهم وغرام، وتفضل لفرسان الثغور من المسلمين عليهم، حيث ساروا معهم إليك، وبلغوهم إلى ما ما لا يكاد يطلب منك، فلولا أنهم صحبوا لهم، لم يقدروا على الوصول إليك.
كتائب جاءوا خاضعين وأقدموا ... ولو لم يكونوا خاضعين لخاموا
يقول: إنما أقدموا عليك لأنهم جاءوك خاضعين سائلين، ولو كانوا محابين لم يجسروا على الإقدام، فيكون المراد بالكتائب: رسل الروم.
وقيل: أراد به فرسان الثغور.
كتائب جاءوا إليك خاضعين متشفعين للروم، ولو لم يكن كذلك لجبنوا عن الحروب، وعن الوصول إليك.
وعزّت قديماً في ذراك خيولهم ... وعزّوا، وعامت في نداك وعاموا
يقول: لما وصلوا إليك أمنوا وعزوا، واستراحت خيلهم، وأفضلت عليهم حتى عاموا في نعمك وإحسانك، ولم تزل تفعل ذلك بهم في قديم من الزمان إذا صدروا إليك واستذموا بجوارك. والمراد به الرسل.
وعلى الثاني: أن أهل الثغور عزوا بك وعاموا في نداك قديماً وحديثاً؛ لأنك أهل ثغر المسلمين.
على وجهك الميمون في كل غارةٍ ... صلاةٌ توالي منهم وسلام
قوله: توالى أصله تتوالى، منهم. قيل: الضمير يرجع إلى الروم، ومعناه: قد عمهم فضلك وإحسانك وبهرهم إقدامك، وكلما أغرت عليهم ورأوا وجهك دعوا لك وأتبعوك بالسلام، لما يروا من جمالك وشجاعتك، مع إغارتك عليهم وقتلك إياهم، وهو مثل قوله:
ومن شرف الإقدام
وقيل: إن الضمير في منهم يعود إلى فرسان الثغور، أراد صلاتهم وسلامهم عليك يتصل في كل غارة تكون لك على الروم.
وكلّ أناسٍ يتبعون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام
يقول: كل أحد يقتدى بغيره في المكارم، وأنت إمام لأهلها، فكل كريم يقتدى بك في المكارم. ويشبه قوله أيضاً:
يمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
وربّ جوابٍ عن كتابٍ بعثته ... وعنوانه للنّاظرين قتام
القتام: الغبار وعنوان الكتاب: ما يكتب على ظهره.
يقول: ربما كتب إليك ملك الروم كتاباً قبل هذه المرة، فقصدته بجيشك، وجعلته جواب كتابه، فصار غباره يدل عليه، كما يدل العنوان على الكتاب: ممن هو؟ وإلى من هو؟
تضيق به البيداء من قبل نشره ... وما فضّ بالبيداء عنه ختام
يقول: هذا الجواب الذي بعثته هو الجيش تضيق به البيداء من قبل نشره عن كتائبه ولم يفض عنه ختمه يعني: أنه ما تفرق أو هو مجتمع غير منتشر.
حروف هجاء النّاس فيه ثلاثةٌ: ... جوادٌ، ورمحٌ ذابلٌ، وحسام
يقول: حروف هذا الكتاب ثلاثة: فرس جواد، ورمح ذابل، وسيف قاطع، لما جعل الجيش كتاباً جعل حروفه هذه الثلاثة.
أذا الحرب قد أتعبتها فاله ساعةً ... ليغمد نصلٌ أو يحلّ حزام
يقول: إنك قد أتعبت الحرب، يعني أهلها بكثرة إنهاضهم لها، فاتركها ساعة ليستريح الناس ويغمدوا سيوفهم ويحلو حزم خيلهم، ويحطوا سروجها.
وقوله: أذا الحرب قيل: الهمزة للنداء: أي يا ذا الحرب. وقيل: هو إذا يعني: إذا أتعبت الحرب.
وإن طال أعمار الرّماح بهدنةٍ ... فإنّ الّذي يعمرن عندك عام
الهدنة: الصلح وعمر الرجل يعمر: إذا طال عمره.
يقول: أطول أعمار الرماح بصلحك معهم عام واحد، ثم تعود إلى قتالهم فتقصر أعمار الرماح بالكسر والحطم، لأنك لا تصبر على قتالهم، فلا تعقد الهدنة إلا سنة واحدة.
وما زلت تفني السّمر وهي كثيرةٌ ... وتفني بهنّ الجيش وهو لهام
جيش لهام: أي كثير يلتهم كل شيء ويبتلعه.
يقول: لم تزل تكسر الرماح بالطعن وتفني بها الجيش، أي ذلك عادتك.(1/327)
متى عاود الجالون عاودت أرضهم ... وفيها رقابٌ للسّيوف وهام
الجالون: الذين تركوا بلادهم هرباً منه، الواحد: جال.
يقول: متى عاود الذين هربوا عن بلادهم من الروم إليها؛ عاودت أرضهم بالغارة والقتل، وتكون الرقاب التي ضربتها بسيوفك والهام التي فلقتها بعد، ساقطة لم تبل.
يصف قرب المدة التي يعاودهم فيها.
وقيل: معناه أنهم متى عاودوا أرضهم وحصلوا فيها، وعلمت أن هناك رقاباً تضربها، وهاما تفلقها، فإنك تعود إليهم؛ لأنك إنما تركت غزوك لجلائهم عنها.
وربّوا لك الأولاد حتّى تصيبها ... وقد كعبت بنتٌ وشبٌ غلام
كعبت الجارية: إذا نتأ ثديها وشب الغلام: ارتفع سنه، وأخرج من الصبي.
يقول: إن هؤلاء الروم يربون أولادهم لتسبيهم وتأخذهم في أحسن أحوالهم، وهو إذا كعبت الجارية، وارتفع سن الغلام، أي عاقبة أمرهم تعود إلى ذلك.
جرى معك الجارون حتّى إذا انتهوا ... إلى الغاية القصوى جريت وقاموا
يقول: إن الكرام جاروك في مضمار المجد، فلما انتهوا إلى أقصى الغاية وقفوا، وجريت أنت وحدك، لم يجارك أحد بعد.
وقيل: أراد أنهم جروا معك إلى المجد في المعركة، إلى أن اشتد القتال فقاموا، وجريت أنت.
فليس لشمسٍ مذ أنرت إنارةٌ ... وليس لبدرٍ مذ تممت تمام
يقول: أنت أنور من الشمس، وأكمل في الخصال من البدر، فخفي بنورك نور الشمس، وانتقص بكمالك كمال البدر.
وقيل: أراد بالشمس والقمر، ملوك عصره وكرام دهره، أي أنه أشرق عليهم وطمس معالم أفعالهم ومكارم خصالهم.
وتجمعت عامر بن صعصعة، وعقيل، وقشير، وعجلان وأولاد كعب ابن ربيعة بن عامر، بمروج سلمية، وكلاب بن ربيعة بن عامر ومن ضامهم بماء يقال له الزرقاء، بين خناصرة وسورية، ونمير بن عامر بدير دينار من الجزيرة وتشاركوا ما يلحقهم من سيف الدولة وتوافقوا على التذام فيما بينهم، وشغله من كل ناحية والتناصر إن قصد طائفة منهم، وبلغه ما عملوا عليه، وأقل الفكر فيهم، فأطغاهم كثرة عددهم وعددهم، وسولت لهم أنفسهم الأباطيل، واستوىل على تدبير كعب عقيلها، وحسن ذلك لهم قواد كانوا في عسكر سيف الدولة، فسار إليهم وظفر بهم فقال أبو الطيب يذكر ما جرى ويمدحه سنة أربع وأربعين وثلاث مئة.
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق
العذيب: اسم ماء لبني تميم. وبارق: اسم موضع. والمجر: يجوز أن يكون موضع الجر، وأن يكون مصدراً. والمجرى: بفتح الميم موضع الجر، ومصدر كالجري. وبالضم: موضع الأجراء ومصدر كالإجراء، وقد روى: مجرى السوابق بضم الميم وفتحها وما في قوله: ما بين العذيب قيل: اسم في موضع نصب بتذكرت، ومجر عوالينا: بدل عنه. ومجرى: عطف عليه، ويجوز أن يكون صفة له.
والمعنى: تذكرت الموضع الذي بين العذيب وبارق بعد مفارقتي له، وكان ذلك الموضع مجر رماحنا ومجرى خيلنا: إما لعباً أو حرباً. وقيل ما زائدة وبين ظرف ومجر بعده نصب بتذكرت: أي لما حصلت بين العذيب وبارق تذكرت هناك جر رماحنا وإجراء خيلنا.
وصحبة قومٍ يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسّروا في المفارق
يقول: تذكرت صحبة قوم أبطال، إذا قنصوا صيداً ذبحوه ببقايا سيوفهم التي كسروها في رءوس أعدائهم.
وليلاً توسّدنا الثّويّة تحته ... كأنّ ثراها عنبرٌ في المرافق
توسدنا الثوية: أي اتخذناها وسادة، والثوية: أرض بالكوفة. والثرى: التراب الرطب والهاء في ثراها للثوية وفي تحته لليل، وقيل: للثوية، إذ هو في معنى الرمل. وليلاً: عطف على ما قبله، وتوسدنا الثوية جملة من فعل وفاعل في موضع نصب صفة الليل، وقوله: كأن ثراها: في موضع النصب على الحال.
يقول: تذكرت ليلة كنا بالثوية وضعنا رءوسنا على ثراها، فكان ثراها الملتزق بمرافقنا عنبر لطيبه.
بلادٌ إذا زار الحسان بغيرها ... حصى تربها ثقّبنه للمخانق
الحسان: منصوب بزار، والهاء في بغيرها تعود إلى البلاد، وحصى: في موضع رفع لأنه فاعل زار. وأراد بالحصى: الفصوص الغروية التي تحمل من الغرى: وهو بناء عظيم بظهر الكوفة، وعنده مشهد علي أمير المؤمنين رضي الله عنه.
يقول: إن الثوية بلاد إذا حمل حصى هذه البلاد إلى النساء اللواتي هن بغير هذه البلاد، فإنهن يثقين هذا الحصى ويجعلنه في مخانقهن، لحسنه وصفائه.(1/328)
وقيل: إن هذه البلاد من بلاد الشام، والحصى: أراد به الفسيفساء تكون بتلك البلاد. والأول هو الأظهر.
سقتني بها القطربّليّ مليحةٌ ... على كاذبٍ من وعدها ضوء صادق
الكناية في بها للبلاد أو للثوية. وقطربل: قرية من قرى بغداد، والقطربلي: الخمر المنسوبة إلى قطربل.
يقول: سقتني في هذه البلدة امرأة مليحة، وكانت الساقية المليحة تعدني من وصلها مواعيد كاذبة، تشبه الصدق؛ لحسن لفظها وطيب كلامها.
وقيل: إنه أراد أنه رآها في النوم تسقيه الشراب، وتعده الوصال، وكان كاذباً وإن كان في صورة الحق.
سهادٌ لأجفانٍ وشمسٌ لناظرٍ ... وسقمٌ لأبدانٍ، ومسكٌ لناشق
نشق الطيب: إذا طلبت رائحته.
يقول: قد اجتمعت في هذه المليحة هذه الأوصاف، فهي سهاد لأجفان العشاق، لأنهم لا ينامون شوقاً إليها، وشمس للناظرين إليها؛ من جمالها وحسنها، وسقم لأبدان العشاق؛ لأنهم يذوبون من حبها وتبلي أجسامهم شوقاً إليها، ومسك لناشق، يعني أنها طيبة البدن، فمن شمها وجد فيها رائحة المسك.
وقيل: أراد بها الخمر؛ لأنه تسهد لشربها، وشمس؛ للونها وسقم عند شربها، ومسك؛ لطيب رائحتها.
وأغيد تهوى نفسه كلّ عاقلٍ ... عفيفٍ ويهوي جسمه كلّ فاسق
الأغيد: الناعم الجسم، الطويل العنق، مع لين ونعومة. وهو رفع عطف على قوله: مليحة. أو على قوله: سهاد. وذكر قوله أغيد؛ لأنه أراد به شخصاً أغيد.
يقول: هو حسن الخلق والخلق، فالعاقل العفيف يهواه؛ لحسن خلقه وكمال عقله. والفاسق يهوى جسمه لحسن خلقه وملاحة وجهه.
وقيل: معناه سقاني الخمر المليحة الجامعة للصفات الأربع في البيت قبله، غلام أغيد، صفته كذا وكذا.
أديبٌ إذا ما جسّ أوتار مزهرٍ ... بلا كلّ سمعٍ عن سواها بعائق
أديب: رفع لأنه نعت لأغيد، أو بدل عنه. والمزهر: العود الذي يستعمل في الغناء وجس: أي مس. وبلا: أي جرب وامتحن.
يقول: إذا جس أوتار العود، شغل كل سمع عن الإصغاء إلى غيره؛ لحسن ضربه وجودة غنائه وصوته.
يحدّث عمّا بين عادٍ وبينه ... وصدغاه في خدّي غلامٍ مراهق
يقول: هو أديب يحفظ أيام الناس وأشعارهم، ويخبر بالأخبار القديمة التي كانت بينه وبين أيام عاد، وهو بعد مراهق حديث السن.
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
يقول: حسن الوجه لا يكسب لصاحبه شرفاً؛ ما لم يكن معه حسن الفعل وكرم الأخلاق.
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
يقول: ليس بلد الإنسان إلا ما يوافقه، فلا تلتفت إلى وطنك إذا لم يوافقك، وحسنت في غيره حالك، وليس أهل الإنسان وأقاربه الأدنون إلا كل من يصادقه في المودة، فكل إنسان يصادقك فهو قريبك.
وجائزةٌ دعوى المحبّة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
جائزة: قيل نافذة، وقيل: ممكنة.
يقول: دعوى المحبة من غير معنىً ربما تجوز وتنفذ، وإن كان كلام المنافق لا يخفى عليك.
وكان جماعة من شيوخ بني كلاب جاءوا وطرحوا أنفسهم على سيف الدولة وتضرعوا إليه. لما قصد لهم فقال: هؤلاء يدعون حبك وهذه الدعوى تنفذ منهم وإن كانوا منافقين في ذلك.
وقيل: معناه أن الإنسان يمكنه أن يظهر المودة بلسانه، وقلبه على خلافه، ولكنه لا يقدر أن يخفي نفاقه.
برأي من انقادت عقيلٌ إلى الرّدى ... وإشمات مخلوقٍ، وإسخاط خالق؟
من استفهام، وهو في موضع الجر باضافة رأى إليه وعقيل: قبيلة. والشماتة: الفرح ببلية العدو.
يقول: بتدبير من أظهرت عقيل عصيان سيف الدولة؟ فإنه أوقعها في الهلاك، وأشمت بها أعداءها، وأسخط خالقها.
أرادوا عليّاً بالّذي يعجز الورى ... ويوسع قتل الجحفل المتضايق
يقول: قصدوا عليا بالأمر الذي يعجز الخلق عن إيقاعه به؛ لأنهم أرادوا قتله والخروج من طاعته، وذلك يعجز الناس ولا يقدر عليه أحد، ولو أراد الجيش العظيم المجتمع الذي تضيق به الأرض لكثرته، أن يفعلوا ذلك لقتلوا دونه، حتى تتسع الأرض، وأراد بالمتضايق: المجتمع.
فما بسطوا كفّاً إلى غير قاطع ... ولا حملوا رأساً إلى غير فالق
يقول: بسطوا أيديهم إلى من يقطعها! وحملوا رءوسهم إلى من يشقها.(1/329)
يعني: لما كان آخر أمرهم ذلك، كانوا كأنهم بسطوا أيديهم للقطع ورءوسهم للشق.
لقد أقدموا لو صادفوا غير آخذٍ ... وقد هربوا لو صادفوا غير لاحق
يقول: كان يتم إقدامهم لو صادفوا من هو مثلهم، فلما أقدموا عليك أسرتهم، فلولاك لكان يتم ما أرادوه، وكان يمكنهم الهرب لو هربوا منك، فلما لاحقهم لم يمكنهم الهرب منه
ولمّا كسا كعباً ثياباً طغوا بها ... رمى كلّ ثوبٍ من سنانٍ بخارق
كعب: اسم قبيلة يقول: لما كساهم سيف الدولة ثياب إنعامه، وكفروا إحسانه، خرق عنهم تلك الثياب بممزق من سنان، يعني أنهم لما جحدوا نعمه أزالها عنهم وقتلهم، وتلك نعمة عليهم.
ولمّا سقى الغيث الّذي كفروا به ... سقى غيره في غير تلك البوارق
البوارق: جمع بارقة، وهي السحابة التي فيها برق، وهذا مثل الذي قبله.
يقول: أنشأ عليهم سحائب إحسانه وسقاهم غيث امتنانه، فلما جحدوا فضله أمطر عليهم من سحائب غير تلك السحائب، يعني أتاهم من عسكره في مثل السحائب البارقة فصب عليهم صواعق الانتقام، وأزال عنهم غيث الإنعام
وما يوجع الحرمان من كفّ حازمٍ ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق
يقول: إن كان الحرمان ممن جرت عادته به لا يوجع المحروم، كما يوجع إذا كان ممن جرت عادته بالنعم والامتنان.
أتاهم بها حشو العجاجة والقنا ... سنابكها تحشو بطون الحمالق
حشو: نصب على الظرف أو الحال، والهاء في بها للخيل المضمرة التي يدل عليها ذكر الجيش، والحملاق: باطن الجفن، والحمالق: أصلها الحماليق فحذفت الياء ضرورة يقول: أتاهم سيف الدولة بالخيل وسط الغبار والرماح، وحوافرها تنثر الغبار فيدخل في عيونها وعيون فرسانها.
عوابس حلّي يابس الماء حزمها ... فهنّ على أوساطها كالمناطق
عوابس: نصب على الحال أي أتاهم عوابس. وحلي: من التحلية. والحزم: جمع الحزام، وأراد بيابس الماء: عرقها.
يقول: قصد إليهم بالخيل وقد عبست وجف عرقها على حزمها فابيض فصار كأنه حلي من فضة، وأشبهت الحزم على أوساطها المناطق المحلاة بالفضة.
وقيل أراد به الماء الحقيقي.
والمعنى: أنه قصدهم في الشتاء وخاض بها الأنهار فجرى الماء على حزمها مثل الحلي في المناطق.
فليت أبا الهيجاء يرى خلف تدمرٍ ... طوال العوالي في طوال السّمالق
أبو الهيجاء: والد سيف الدولة. وتدمر: مدينة على طرف السماوة من ناحية الشام. يقال: إنها من بناء سليمان عليه السلام. والسمالق: جمع السملق، وهي الأرض البعيدة الأطراف. وقيل: السمالق: الطرق البيض.
يقول: ليت والده رآه وقد هزم عقيلاً وطردها بالرماح في هذه النواحي؛ ليفرح وتقر به عينه.
وسوق عليٍّ من معدٍّ وغيرها ... قبائل لا تعطى القفىّ لسائق
القفى: جمع القفا. واللام في قوله: لسائق زائدة كقوله تعالى: " رَدِفَ لَكُمْ " وسوق: عطف على قوله: طوال العوالي يقول: وليته رأى سوق ابنه قبائل العرب من معد وغيرها، ممن كان لا ينهزم لأحد ولا يوليه قفاه.
قشيرٌ وبلعجلان فيها خفيّةٌ ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
هما قبيلتان، وبلعجلان: أراد بني العجلان، فحذف النون، كما قالوا في بني الحارث بلحارث. وأما إذا أرادوا إدغام النون في اللام فلا يمكنهم، لسكون اللام، فعدلوا إلى الحذف لتعذر الإدغام، والنون من بلعجلان مكسورة لأن الاسم مجرور بالإضافة.
وحكى ابن جني عنه أنه كان يضمه ذهاباً إلى أن الاسمين صارا اسماً واحداً.
والألثغ: الذي يميل بالراء إلى اللام، والمعنى: أن هاتين القبيلتين مع كثرتهما قد خفيتا في جملة القبائل كالراءين في لفظ الألثغ في خفائهما بغيرهما من الحروف.
تخلّيهم النّسوان غير فواركٍ ... وهم خلّوا النّسوان غير طوالق
الفوارك: جمع فارك، وهي التي تبغض. وغير في الموضعين نصب على الحال.
يقول: شتت سيف الدولة جمعهم، حتى خلت النساء أزواجهن، لا للبغض والطلاق!
يفرّق ما بين الكماة وبينها ... بطعنٍ يسلّي حرّه كلّ عاشق
الهاء في بينها للنسوان.
يقول: إن سيف الدولة كان يفرق بين الأبطال ونسوانهم بطعن، لو أصاب العاشق أنساه حره حرارة العشق الذي في قلبه، وسلاه عن العشق.
وقيل: معناه أنه كان يقتل بالطعن الذي إذا حل في العاشق أنساه عشقه.(1/330)
أتى الظّعن حتّى ما تطير رشاشةٌ ... من الخيل إلاّ في نحور العواتق
الظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة ما دامت في الهودج. وروى: أتى الطعن بالطاء. والرشاش: ما تطاير من الدم. الواحدة رشاشة: والعواتق: النساء الأبكار، الواحدة عاتق.
يقول: إن سيف الدولة ألجأهم إلى رحلهم والتواري في خدور العواتق، واقتحم عليهم بخيله وسط نسائهم، وكانت الخيل تطعنهم فيطير الدم في نحور العواتق.
وفي رواية الطاء: طاعن الأعداء وهم في بيوتهم، فهذا معنى إتيان الطعن حتى يطير رشاشه في نحور النساء.
بكلّ فلاةٍ تنكر الإنس أرضها ... ظعائن حمر الحلي حمر الأيانق
المعنى: أنهم فروا بنسائهم إلى كل فلاة لم يطأها الإنس قبلهم، وكانت فيها نساء حمر الحلي: أي أن حليهم ذهب، وأيانقهن حمر، يعني: أنهن نساء ملوك وأرباب نعمة.
وقيل: أراد بقوله. حمر الحلي أنهن مختضبات بالدماء التي ترششت عليهن من رجالهن في نحور العواتق.
وملمومةٌ سيفيّةٌ ربعيّةٌ ... تصيح الحصى فيها صياح اللّقالق
أي كتيبة ملمومة: وهي المجتمعة. وسيفية: منسوبة إلى سيف الدولة؛ لأنهم جنده وأصحابه. وقوله: ربعية: منسوبة إلى ربيعة: يعني هم من بني ربيعة ليس فيهم غيرهم وإنما هم قومه وبنو عمه. واللقالق: جمع لقلق وهو طائر معروف. وفاعل تصيح: هو الحصى. وروى: يصيح الحصى أي الملمومة تحمله على الصياح. والهاء في فيها للفلاة.
يقول: إن هذه الملمومة إذا سارت في الحصى حكى وقع حوافرها فيه، صوت اللقالق.
وقيل: معناه أنها قد لبست التجافيف والدروع، وإذا وقعت حصاة عليهم طنت في الحديد والدروع، فأشبهت صياح اللقالق. وملمومة عطف على قوله ظعائن يعني أنهم فروا بظعائنهم إلى الفلوات، وسار سيف الدولة في طلبهم بخيله، وكان في كل فلاة ظعائنهم وخيل سيف الدولة تطلبهم. وهذا التشبيه من قول الشاعر:
تصيح الرّدينيّات فيها وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحن جوّعاً
بعيدة أطراف القنا من أصوله ... قريبة بين البيض غبر اليلامق
هذا من صفة الملمومة.
يقول: هي بعيدة أطراف القنا من أصوله. يعني طويلة الرماح فأطرافها بعيدة من أصولها، وهي قريبة بين البيض: أي مجتمعة مزدحمة. والبيض: الذي على رءوسها يمس بعضها بعضاً بتزاحم الخيل. وهي غبر اليلامق: أي أن الغبار قد علاها. واليلامق: جمع يلمق، وهي جبة يكثر حشوها وتضرب وتلبس مثل الجوشن. وربما يجعل فيما بينها دروع.
وقيل: اليلمق: القباء، وإنما مدح بطول الرماح؛ لأن تمام الفروسية بحسن استعمالها.
وقوله: غبر اليلامق كان الوجه غبراء اليلامق كقوله قريبة وبعيدة، ولكنه حمله على المعنى؛ لأن الكتيبة جماعة، والأوليان محمولة على اللفظ. وقيل: رده إلى كل جزء من الكتيبة، كما يقال: امرأة واضحة اللباب.
نهاها وأغناها عن النّهب جوده ... فما تبتغي إلاّ حماة الحقائق
حماة الحقائق: هم الشجعان الذين يحمون ما يحق حمايته. والهاء في نهاها وأغناها للملمومة. وفاعل تبتغي ضميرها أيضاً.
يقول: إن سيف الدولة نهى الكتيبة عن الإغارة وأغناهم بجوده عن الاشتغال بالنهب، فهم لا يلتفتون إلى الأنهاب والأسلاب، وإنما قصدهم الأبطال والفرسان الحامون للحقائق.
توهّمها الأعراب سورة مترفٍ ... تذكّره البيداء ظلّ السّرادق
السورة: الوثبة. وقيل: هي الحرب ها هنا. والمترف: المتنعم. والسرادق: ما أحاط بالخيمة مثل السور. والهاء في توهمها ضمير الحرب، وقيل: ضمير السورة. وتذكره: تفسير لها.
يقول: ظن الأعراب أنك إذا سرت خلفهم تعبت، وأن سورتك مثل سورة كل متنعم، لا يصبر على الحر، فإذا حصل بالبيداء تذكر لين العيش، فتركهم وانصرف.
فذكّرتهم بالماء ساعة غبّرت ... سماوة كلبٍ في أنوف الحزائق
فذكرتهم بالماء: الباء فيه زائدة، أي ذكرتهم الماء. والسماوة: مفازة بين الشام والعراق، وأضافها إلى بني كلب لأنهم ينزلونها، وهي أصعب البرية. وغبرت: أي ركب عليها الغبار. والحزائق: الجماعات والواحد حزيق وحزيقة.
يقول: إنهم توهموا أنك لا تصبر على البادية فتنصرف سريعاً، كما يفعل كل مترف فكذبت ظنونهم وطردتهم، حتى إذا بلغوا السماوة، وثار غبارها فدخل في أنوف جماعتهم، عطشوا فتذكروا الماء من شدة ما لحقهم من العطش.(1/331)
وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق
يروعون: أي يفزعون. وبدوا: أي صاروا أهل البادية وسكنوها. والغلافق: جمع الغلفق وهو الطحلب، وقيل: هو ما نبت في الماء مثل الطحلب.
يقول: كانوا يخوفون الملوك بنزولهم في البادية، وبأن الملوك لا تصبر على الماء كما لا تصبر الغلافق.
فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتاً من أداحي النّقانق
الهاء في نجومه يعود إلى لفظ الفلا ويجوز نجومها فيكون راجعاً إلى المعنى؛ لأنها جمع الفلاة. وهاجوك: أي هيجوك. وموضع أهدى نصب على الحال. وأبدى بيوتاً: أي أدخل في البدو بيتاً من النعام، فأبدى: من البادية. وأداحي: جمع الأدحية، وهي موضع بيض النعام. والنقانق: جمع نقنق وهو ذكر النعام.
يقول: هيجوك للحرب، وأنت عالم بالفلوات وأكثر اهتداء من النجوم، وكنت أدخل في البادية بيتاً من النقانق.
وقيل: إن قوله أبدى بيوتاً: أي أظهر بيوتاً، ومعناه: كنت فيها أظهر بيوتاً من النقانق؛ لأن بيوتها تكون ظاهرة غير خفية.
وأصبر عن أمواهه من ضبابه ... وآلف منها مقلةً للودائق
الودائق: جمع الوديقة، وهي شدة الحر. ويجوز أمواهها وضبابها رداً إلى معنى الجمع. والهاء في منها للضباب. وأصبر وآلف نصب على الحال، عطفاً على قوله: أهدى في الفلا ومقلةً نصب على التمييز.
يقول: كنت أصبر في الفلوات عن الماء من الضباب؛ لأنها تتبلغ بالنسيم عن الماء، وكنت آلف للحر من الضباب، ومقلتك أكثر إلفاً للحر من مقلة الضباب.
وكان هديراً من فحولٍ تركتها ... مهلّبة الأذناب خرس الشّقاشق
الهدير: صوت الفحل الهائج. المهلبة: مجذوذة الأذناب، والهلب: شعر الذنب والشقاشق: جمع الشقشقة، وهي ما يخرجه الفحل من فمه شبه الرئة، والفحل إذا هاج شد ذنبه فيسكن عند ذلك ويذل، فالمهلبة: هي المشدودة الأذناب.
وقيل: إن الفحل الهائج إذا نتف ذنبه سكن. فالمهلبة: المنتوفة الأذناب على المعنيين اللذين ذكرناها، فسكتت وخرست شقاشقها: أي انقطع هديرها.
قال ابن جني: المعنى كأن فعلهم من طغيانهم كهدير من فحول هاجت، فانتدب لها فحل أصعب منها فهربت منه وولته أذنابها، فهلبها: أي أخذ شعر أذنابها فنتفها وسكن هديرها.
فما حرموا بالرّكض خيلك راحةً ... ولكن كفاها البرّ قطع الشّواهق
فما حرموا: أي ما منعوا خيلك. نصب لأنها المفعول الأول بحرموا. وراحةً: المفعول الثاني والهاء في كفاها للخيل وهو المفعول الأول. وقطع: المفعول الثاني. والبر: فاعل كفاها.
يقول: إنهم ما منعوا خيلك بالركض راحةً وما كلفوها مشقةً؛ لأنها أبداً لا تخلو من الحرب، فلولا أنها لم تسر إليهم لغزت بلاد الروم، وعلت الجبال الشواهق، والبر أسهل عليها من الجبال.
ولا شغلوا صمّ القنا بقلوبهم ... عن الرّكز لكن عن قلوب الدّماسق
الدماسق: جمع الدمستق.
يقول: لم تكن رماحك مركوزة في الأرض، فشغلوها عن الركز في الأرض بالطعن في قلوبهم، وإنما حولوها عن قلوب الدماسق إلى قلوبهم. يعني: لا راحة لخيلك ولا راحة لسلاحك.
ألم يحذروا مسخ الّذي يمسخ العدى ... ويجعل أيدي الأسد أيدي الخرانق
المسخ: تغير الصورة إلى غيرها. والخرانق: جمع الخرنق، وهو الأرنب الصغير.
يقول: أما خافوا سيف الدولة أن يمسخهم كما يمسخ أعداءه؟! ويرد أيدي الأسود منهم إلى أيدي الخرانق في القصر. والذلة والضعف، يعني: أن يجعل العزيز ذليلاً.
وقد عاينوه في سواهم وربّما ... أرى مارقاً في الحرب مصرع مارق
المارق: الخارج عن الطاعة. والهاء في عاينوه للمسخ، وفاعل أرى ضمير سيف الدولة.
يقول: أما خافوا مسخه؟! وقد شاهدوا سيف الدولة كيف مسخ أعاديه من غيرهم! فكان سبيلهم أن يرتدعوا بغيرهم، وسيف الدولة إذا مرق واحد من طاعته صرعه وقتله، وأرى مارقاً غيره مصرع الأول ليحذر منه ويتعظ به، ومثله قول أشجع:
شدّ الخطام بأنف كلّ مخالفٍ ... حتّى استقام له الّذي لم يخطم
تعوّد ألاّ تقضم الحبّ خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
العلائق: المخالي التي يجعل فيها الشعير، وتعلق على الدابة.(1/332)
قال ابن جني: سألت المتنبي عن معناه فقال: الفرس إذا علقت عليه المخلاة طلبت موضعاً مرتفعاً يضعها عليه، ثم يتناول منها، فخيل سيف الدولة أبداً إذا علقت عليها علائقها رفعته على هام الرجال الذين قتلتهم! لكثرة هاماتهم.
وقد قيل: إن هذا يؤدي إلى أن تكون الخيل هجنا قصار الأعناق؛ لأن الفرس العتيق لا يضع مخلاته على شيء لطول عنقه.
واعتذر عنه فقيل: إن رءوس القتلى قد كثرت حتى غطت وجه الأرض، فالفرس لا يضع مخلاته - إن وضعها - إلا على رءوس القتلى؛ وكثر ذلك حتى صار عادة لها، ولم يفعل ذلك لأنه كان يحتاج إليه لقصر عنقه.
ولا ترد الغدران إلاّ وماؤها ... من الدّم كالرّيحان تحت الشّقائق
الشقائق: يقال له الشقر، وهو اسمه الأصلي، وإنما سمي الشقر شقائق بمنبته، والشقائق: جمع شقيقة، وهي كل أرض مستطيلة تشق بين الرملين. وقيل لها: شقائق النعمان؛ لأن النعمان مر على شقائق فيها هذا النور فأعجبه فحماه، ولم يدع أحداً يرعى تلك الشقائق، فأضيفت إليه يقول: تعودت خيله ألا ترد لشرب الماء إلا الغدران الممزوجة بالدماء. شبه خضرة الماء تحت الدم بالريحان تحت الشقائق. وقيل: أراد بالريحان الطحلب ومعناه: أن حمرة الدم تعلو خضرة الطحلب. وأخذ هذا المعنى بعض المتأخرين ونقله إلى وصف سيف فقال:
ويلوح في ورق النّجيع فرنده ... كالماء تحت شقائق النّعمان
لوفد نميرٍ كان أرشد منهم ... وقد طردوا الأظعان طرد الوسائق
الوسائق: جمع الوسيقة، وهو ما يطرد من الوحش عند الصيد.
يقول: بنو نمير كانوا أرشد منهم رأياً حين فروا بنسائهم، وبعثوا وفودهم إليه يسألونه العفو، ولم يقفوا لك، كما فعلت عقيل.
أعدّوا رماحاً من خضوعٍ فطاعنوا ... بها الجيش حتّى ردّ غرب الفيالق
الغرب: الحد.
يقول: جعلوا خضوعهم إلى سيف الدولة رماحاً لهم، طعنوا بها الجيش، وردوا بها حدته عنهم.
فلم أر أرمى منه غير مخاتلٍ ... وأسرى إلى الأعداء غير مسارق
يقول: لم أر أرمى منك غير مخادع. يعني أنك لا تخادع أعداءك، ولا تسري إليهم سراً، بل تجاهر بالطلب وتواجه بالرمي.
تصيب المجانيق العظام بكفّه ... دقائق قد أعيت قسيّ البنادق
قسي البنادق: ما يستعمله أهل العراق في رمي الطيور ويسمونه: الجلاهق. والبنادق: جمع بندقة، تعمل من الطين بقدر البندقة، وترمي بها الطير. وقيل: حجارة مستديرة كهيئة البندقة يرمى بها.
يقول: إن المجانيق تعمل بكفك عمل الجلاهق، فيمكنك أن تصيب بالمنجنيق المواضع اللطيفة الدقيقة التي لا يصيبها غيرك بقوس البنادق.
يعني: أنه يتوصل بجيشه عند مجاهرة أعدائه إلى ما لا يقدر غيره على التمكن منه بالختل والمخادعة.
وقال أبو الطيب هذه القصيدة في هذه السرية يسترضيه على قبائل العرب المشار إليها إلا أنه لم يذكر المنازل ولا وصف الوقعة؛ لأنه لم يشهدها، فشرحها له سيف الدولة وسأله أن يصفها فقال.
طوال قناً تطاعنها قصار ... وقطرك في ندىً ووغىً بحار
الهاء في تطاعنها لطوال القنا، وأراد أصحابها.
يقول: إذا طاعنت أصحاب الرماح الطوال قصرت تلك الرماح في أيديهم؛ لأن أيديهم تضعف وترتعد عند لقائك، فلا تعمل رماحهم فيك، وكأنها مع طولها قصيرة، والقليل من عطائك كثير بالإضافة إلى عطايا غيرك، كالقطرة في البحر، وكذلك القليل من حربك كثير بالإضافة إلى حرب غيرك.
وفيك إذا جنى الجاني أناةٌ ... تظنّ كرامةً وهي احتقار
الأناة: الحلم والرفق. والتأني.
يقول: أنت حليم تتغافل عن المسيء، فيظن المسيء وغيره أن ذلك لكرامته عليك، وإنما هو لاحتقارك إياه.
وأخذٌ للحواضر والبوادي ... بضبطٍ لم تعّوده نزار
وأخذ: عطف على قوله: أناة.
يقول: فيك أخذ لأهل الحضر وأهل البدو، سياسةً وشدة لم تتعود العرب مثله. ونزار يجمع ربيعة ومضر ونحوهما أكثر العرب، فلذلك خصهم بالذكر.
تشمّمه شميم الوحش إنساً ... وتنكره فيعروها نفار
أراد: تتشممه، فحذف أحد التاءين، والضمير في تشممه يعود إلى الضبط. فيعروها: أي يظهر لها، والهاء في يعروها لنزار.
يقول: تتشمم نزار ضبطه وسياسته كما يتشمم الوحش الإنس فتهرب عند ذلك؛ لأنها لم تتعود هذه السياسة.(1/333)
وما انقادت لغيرك في زمانٍ ... فتدري ما المقادة والصّغار
المقادة: الانقياد. والصغار: الذل.
يقول: إن نزار لم تنقد لأحد قبلك، حتى تعرف ما الصغار والانقياد.
فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعّر خدّها هذا العذار
الذفران: الجيدان المكتنفان للنقره حول القفا، وقيل: هما العظمان الناشزان خلف الأذنين، وأراد بهما الذفاري، فذكر لما يكون للواحد؛ لأن لكل واحد ذفرين، فاكتفى بالواحد عن الجمع. وصعر خدها: أي أماله، وأراد بالخد أيضاً: الخدود. وبالعذار: العذر. وفاعل أقرحت: المقاود. والهاءات لنزار. والمقاود: جمع مقود، وهو الحبل تقاد به الدابة الصعبة الانقياد.
يقول: ما زلت تقودهم بالعذار والمقود الخشن، حتى تقرح ذفرياها وتصعر خدها من ذلك العذار.
وأطمع عامر البقيا عليها ... ونزّقها احتمالك والوقار
ولم يصرف عامر لأنه جعلها اسماً للقبيلة. والهاء في عليها تعود إلى عامر والبقيا: اسم من الإبقاء، وهي المسامحة.
يقول: لما أبقيت على بني عامر طمعت فيك، فدعاها ذلك إلى الخفة والطيش، حتى أقدمت على محاربتك.
وغيّرها التّراسل والتّشاكي ... وأعجبها التّلبّب والمغار
التلبب: التحزم للقتال ولبس الأسلحة. والمغار: هو الإغارة على العدو.
وقيل: من الإغارة التي هي إحكام الفتل فيقرب من التلبب.
يقول: غيرها عن الطاعة تراسل بعضهم بعضاً، وشكوى سيف الدولة، فكان يشكو بعضهم بعضاً ما يعاملهم به، وقيل: معناه غيرها عن الطاعة مراسلة سيف الدولة إياهم متلطفاً، وكذلك شكايته أفعالهم، ظنوا أن ذلك عن عجزه وأعجبها التحزم للحروب والغارات، وطمعوا في ذلك من سيف الدولة، لما رأوا احتماله.
وقيل: معناه اغتروا بتحزمهم ولبسهم الأسلحة وكثرة الإغارة على الأعداء.
جيادٌ تعجز الأرسان عنها ... وفرسانٌ تضيق بها الدّيار
جياد: عطف على قوله: التلبب والمغار، وقيل: هي مبتدأ والخبر محذوف، أي لهم جياد.
يقول: أعجبها خيل جياد تعجز عنها الأرسان؛ لكثرتها فلا يوجد لها أرسان تكفيها.
وقيل: تعجز الأرسان عن ضبطها؛ لصعوبتها، وكذلك أعجبها فرسان لا تسعهم الأرض لكثرتهم.
وكانت بالتّوقّف عن رداها ... نفوساً في رداها تستشار
نفوساً: خبر كانت. واسمه ضمير القبيلة التي هي بني عامر.
يقول: كانت هذه القبيلة بإقامتهم على عصيانهم سيف الدولة كالمشيرين عليه بقتلهم، وكان هو يتوقف عن قتلهم، فكأنه كان هو كالمستشير في قتله إياهم.
وكنت السّيف قائمه إليها ... وفي الأعداء حدّك والغرار
غرار السيف: ما بين حده إلى عيره الناشز في وسطه. وقيل: هو الحد، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.
يقول: كنت قبل أن يعصوك، سيفاً لهم قائمه في أيديهم، وحده في أعدائهم، فلما عصوك انقلب حده فيهم ومثله:
نقاسمهم أسيافنا شرّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
ومثله لجعفر الحارثي:
لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ ... ولي منه ما ضمّت عليه الأنامل
فأمست بالبديّة شفرتاه ... وأمسى خلف قائمه الحيار
البدية والحيار: ماءان. وقيل موضعان. فالحيار: قريبة من العمارة. والبدية: واغلة في البرية، وبينهما مسيرة ليلة. وكان سيف الدولة بالحيار، وبنو عامر بالبدية.
يقول: كنت سيفاً لهم، قائمة في إيديهم، فلما عصوك صار حده فيهم وقائمه خلف الحيار.
وقيل: معناه أن قائمه كان خلف الحيار وشفرتاه بالبدية: أي طال السيف إليهم حتى وصل من خلف الحيار إلى البدية، وإنما طال بطول باع حامله.
يصف بذلك سرعة وصوله إليهم.
وكان بنو كلابٍ حيث كعبٌ ... فخافوا أن يصيروا حيث صاروا
كعب: مرفوع بالابتداء وخبره محذوف. أي حيث كعب كائنة. وكان سيف الدولة بالحيار، فسار عنها يقصد البدية، فتلقاه مشيخة بني كلاب في الطريق، واستأمنوه، وقد كانوا مع كعب يداً واحدة، فخالفوهم وساروا مع سيف الدولة، إلى بني كعب.
فيقول: كان بنو كلاب مع كعب، فخافوا أن يحل بهم ما حل بكعب من القتل، فرجعوا إلى الطاعة.
تلقّوا عزّ مولاهم بذلٍّ ... وسار إلى بني كعبٍ وساروا
يقول: ذل بنو كلاب لعز مولاهم وهو سيف الدولة وانقادوا له فساروا معه إلى بني كعب.(1/334)
فأقبلها المروج مسوّماتٍ ... ضوامر لا هزال ولا شيار
الهاء في أقبلها للخيل، وأضمرها للعلم بها، وأقبلها: أي أجازها وحولها نحوها. والمسومات: أي معلمات. والمروج: مروج سلمية. والهزال: جمع هزيل. وشيار: جمع شير، وهو الفرس السمين الممتلئ من اللحم.
يقول: أقبل بخيله إلى المروج، وهي مضمرة ليست بهزيلة ولا سمينة، بل كانت خفيفة اللحم لا من الهزال.
تثير على سلمية مسبطرّاً ... تناكر تحته لولا الشّعار
تناكر: أي تتناكر. وسلمية: موضع. مسبطراً: أي غباراً ساطعاً ممتداً.
يقول: أثارت الخيل غباراً بسلمية حتى ستر الشمس وأظلم النهار لامتداد الغبار، فأنكر ما تحته؛ لشدة الظلمة، وإنما كانوا يتعارفون بالعلامات.
عجاجاً تعثر العقبان فيه ... كأنّ الجوّ وعثٌ أو خبار
عجاجاً: بدل من مسبطراً. والوعث: الأرض السهلة الكثيرة الرمل. والخبار: الأرض السهلة التي فيها حجارة.
يقول: صار الجو من كثرة الغبار وتكاثفه أرضاً ذات وعث وخبار، حتى إن العقبان تعثر فيها ولا يمكنها الطيران.
وظلّ الطّعن في الخيلين خلساً ... كأنّ الموت بينهما اختصار
الخيلان: خيل سيف الدولة وخيل العدو، وهم بنو كلاب. والخلس: الاختلاس. يصف الجيش بالحذق في الطعن.
يقول: لما التقى الخيلان تخالسوا الطعن واختصروا الطريق إلى الموت، يعني أنهم اقتصروا على الطعن والضرب، فكأنهم اختصروا الحرب، وحذفوا فضولها، وقربوا القتل على الأعداء، فهذا اختصار الموت.
وقيل: إن معناه أن الموت كان يقلل من عدد جيش العدو بسرعة، لأن الاختصار هو رد الكثير إلى القليل.
فلزّهم الطّراد إلى قتالٍ ... أحدّ سلاحهم فيه الفرار
لزهم: أي ألجأهم. والطراد: المطاردة.
والمعنى: ألجأهم القتال إلى الهرب. أحد سلاحهم فيه الفرار يدفعون به القتل عن أنفسهم، كما يدفع السلاح، لما لم يمكنهم القيام لسيف الدولة.
مضوا متسابقي الأعضاء فيه ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار
الهاء في فيه ضمير الفرار والطراد.
يقول: مضوا منهزمين فكانت أعضاؤهم يسبق بعضها بعضاً في الفرار، فالرأس يترك جسمه ويتقدم عليه ويتعثر بأرجل المنهزمين.
أو كانت الرءوس إذا أبينت تسقط على أرجل أصحابها فتعثر بها، خلاف المعهود، لأن المعهود أن تتعثر الأرجل لا الرءوس.
والمعنى: أنهم ولوا وتبعت خيل سيف الدولة أدبارهم تضرب أعناقهم وتسقط رءوسهم على أرجلهم، وهم ينهزمون، فجعل ذلك سابقاً من أعضائهم في الفرار.
يشلّهم بكلّ أقبّ نهدٍ ... لفارسه على الخيل الخيار
يشلهم: أي يطردهم. والأقب: الضامر البطن. والنهد. المشرف العالي.
يقول: يطردهم سيف الدولة بكل فرس ضامر مرتفع عالي، لفارسه خيار على الخيل: يعني يصرفها كيف شاء: إن شاء سبق، وإن شاء لحق؛ لجودة فروسيته.
وقيل: أراد بالخيار أنه يختار من يقتلهم، فكأنه يقتل القواد والكبار من أصاب الخيل دون الأرذال والحشو.
وكلّ أصمّ يعسل جانباه ... على الكعبين منه دمٌ ممار
وكل: عطف على قوله: بكل أقب. ويعسل: أي يضطرب. وجانباه: جانب الزج، وجانب السنان. وأراد بالكعبين: الكعبين اللذين في عامل الرمح. قيل: أراد به الكعاب للرمح فعبر عنهما بالتثنية. والممار: المجرى من أمرت الدم أي أجريته، فهو ممار، ومار، فهو مائر.
يقول: يطردهم بكل فرس ضامر، وكل رمح أصم لا تجويف فيه يهتز طرفاه، وقد سال الدم على كعوبه.
يغادر كلّ ملتفتٍ إليه ... ولبّته لثعلبه وجار
ثعلب الرمح: ما دخل منه في السنان. والوجار: بيت الثعلب بفتح الواو وكسرها. واللبة: المنحر.
يقول: هو يطردهم بكل رمح إذا التفت المنهزم لينظر هل وراءه أحد، طعنه في لبته حتى تصير لبته لثعلب الرمح بمنزلة الوجار للثعلب الذي هو الحيوان.
إذا صرف النّهار الضّوء عنهم ... دجا ليلان: ليلٌ والغبار
يقول: إذا زال عنهم ضوء النهار غطاهم ليلان: أحدهما الليل المعروف، والثاني ظلمة الغبار الموصوف.
وإن جنح الظّلام انجاب عنهم ... أضاء المشرفيّة والنّهار
جنح الليل وجنحه: جانبه، وقيل: سواده، وانجاب: انكشف.(1/335)
يقول: إذا انكشف الليل عنهم أضاء لهم نهاران: أحدهما النهار الحقيقي، والثاني ضوء لمع السيوف. وقد أتى النابغة بجميع ذلك في بيت واحد فقال:
تبدوا كواكبه والشّمس طالعةٌ ... نوراً بنورٍ وإظلاماً بإظلام
يبكّي خلفهم دثرٌ، بكاه ... رغاءٌ أو ثؤاجٌ أو يعار
الرغاء: صوت الإبل. والثؤاج: صوت الضأن. واليعار: صوت الماعز. والدثر: المال الكثير.
يقول: يصيح وراءهم مال عظيم من الإبل والضأن والماعز فكأنها تبكي.
غطا بالغنثر البيداء حتّى ... تخيّرت المتالي والعشار
غطا يغطو، وغطى يغطي بمعنىً. والغنثر: ماء. والمتالي: جمع متلية وهي التي يتلوها ولدها. والعشار: الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر والواحدة عشراء.
يقول: لما وصل سيف الدولة إلى هذا الماء أخذ أموال بني كعب لما هربوا، وغطى بها البيداء وملأها، حتى عجز الجيش عن سوقها، فكان أصحابه يختارون نفائسها وكرائمها وهي المتالي والعشار.
وقيل: إن فاعل غطا هو ضمير الدثر. والمعنى: أن المال غطى بكثرته البيداء على هذا الماء، حتى أخذ كرائمه.
ومرّوا بالجباة يضمّ فيها ... كلا الجيشين من نقعٍ إزار
الجباة: ماء، أو موضع. والنقع: الغبار.
يقول: انهزموا من سلمية، ومروا بالجباة، وخيل سيف الدولة خلفهم فأحاط الغبار بهم جميعاً، فكان العسكران كأنهما في إزار واحد، وصار الغبار كالإزار المحيط بهم. ومثله للخنساء تصف عيراً يطرد أتاناً:
يتعاوران من الغبار ملاءةً ... بيضاء ساطعةً هما نسجاها
وجاءوا الصّحصحان بلا سروجٍ ... وقد سقط العمامة والخمار
الصحصحان: صحراء هناك. وأراد بالعمامة: العمائم. وبالخمار: الخمر.
يقول: انهزموا من الجباة وجاءوا الصحصحان، وقد ألقوا سروجهم لتخف دوابهم، وسقطت عمائمهم عن رءوسهم وخمر نسائهم.
وأرهقت العذارى مردفاتٍ ... وأوطئت الأصيبية الصّغار
أرهقت: أي كلفت أمراً صعباً. والأصيبية: تصغير صبية، وهي جمع الصبي في القلة.
يقول: أردفوا العذارى خلفهم وأتعبوهن من شدة الركض، وأوطئوا إبلهم وخيلهم صبيانهم الصغار؛ لشدة هربهم.
وقد نزح العوير فلا عويرٌ ... ونهيا والبييضة والجفار
هذه كلها أسماء مياه.
يقول: نزحوا هذه المياه لما أصابهم من شدة العطش حين مروا بها.
وليس بغير تدمر مستغاثٌ ... وتدمر كاسمها لهم دمار
تدمر: مدينة على طرف السماوة. والمستغاث: الموضع الذي يلتجأ إليه. والدمار: الهلاك.
يقول: لما لم يجدوا في هذه المواضع ماء اجتمعوا في تدمر ليدبروا رأياً، ولم يكن لهم موضع سواها يلتجئون إليه، فلما نزلوا بها قصدهم سيف الدولة، فدمر عاليهم فيها، فصار اسمها موافقاً لهلاكهم ودمارهم.
أرادوا أن يديروا الرّأي فيها ... فصبّحهم برأيٍ لا يدار
يقول: اجتمعوا في تدمر؛ ليدبروا رأيهم، فصبحهم سيف الدولة برأي لا يتوقف فيه، لأنه لا يرى إلا ما يكون صواباً في أول وهلة، وقيل: أراد أنه يستبد برأيه، ولا يرجع فيه إلى أحد، ولا يعرض له ما يعوقه عنه.
وجيشٍ كلّما حاروا بأرضٍ ... وأقبل أقبلت فيه تحار
حار يحار حيرة: إذا تحير. والضمير في حاروا قيل: يعود إلى بني كعب. وفي فيه إلى الجيش.
يقول: صبحهم برأي وجيش عظيم يغطي الأرض كثرةً، فمتى تحير القوم المنهزمون بأرض تحيرت الأرض في هذا الجيش، لكثرته.
وقيل: حاروا للجيش وفيه لسيف الدولة، والمعنى: صبحهم بجيش كلما تحير هذا الجيش بأرض: إما لأنها تضيق بهم لكثرتهم، وإما لسعتها فلا يهتدون فيها، وإما لخشونتها، ثم إذا أقبل سيف الدولة وجاء إلى الجيش أقبلت الأرض تتحير في سيف الدولة؛ لعظم هيبته.
وقيل: حاروا فعل الجيش على المعنى. قيل: وفيه يعود إلى لفظ الجيش. يعني: أن الجيش إذا تحيروا في هذه الأرض أقبلت الأرض تتحير في هذا الجيش لكثرته وزيادته عليها.
يحفّ أغرّ لا قودٌ عليه ... ولا ديةٌ تساق ولا اعتذار(1/336)
يقول: إن هذا الجيش يحف أغر: أي يحيط به من جميع جهاته، وإذا قتل إنساناً لا يقتل به قوداً؛ لعزته ومنعته، أو لأنه لا يقتله إلا بحق، ولا يطالب أيضاً بديته، ولا يعتذر عما فعله؛ للوجهين اللذين ذكرناهما. وهو من قوله تعالى: " لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ".
تريق سيوفه مهج الأعادي ... وكلّ دمٍ أراقته جبار
المهجة: دم القلب، وهي النفس أيضاً. والدم الجبار: الباطل.
يقول: كل دم تريق سيوفه من دم الأعادي، ذهب هدراً لا يدرك له ثأر.
فكانوا الأسد ليس لها مصالٌ ... على طيرٍ وليس لها مطار
المصال: مصدر صال، والمطار: من طار.
يقول: إنهم كانوا أسوداً في أنفسهم بشجاعتهم وإقدامهم، وكانت خيلهم كالطيور سرعة، ولكن لما رأوك تحيروا وتحيرت أفراسهم هيبةً لك، فلم يكن لهم مصال مع كونهم أسود، ولا لخيلهم مطار مع كونها في السرعة كالطير.
وقيل: المعنى أنهم كانوا قبل ذلك مثل الأسود، والآن لما غضبت عليهم ليس لهم مصال على طير لضعفهم وقلتهم، وليس لهم أيضا مطار؛ لأنك قد أهلكتهم بالقتل والأسر. وأراد بالمصال على طيران الأفراس: كالطير لخفتها، فكأنه قال: ليس لها مصال على غيرهم من الفرسان لضعفهم، فشبه خيل المخالفين لهم بالطير.
إذا فاتوا الرّماح تناولتهم ... بأرماحٍ من العطش القفار
يقول: إن فاتوا رماحك ودخلوا البر هلكوا من العطش، وكأن العطش رماح القفار، قتلتهم بها.
يرون الموت قدّاماً وخلفاً ... فيختارون، والموت اضطرار
يقول: قد أحاط بهم الموت من قدامهم وخلفهم فقدامهم العطش، ووراهم الرماح، فكانوا بين موتين، فيختارون أحدهما، وإن هذا الموت ليس باختيار، بل هو اضطرار.
وقيل: معناه يختارون أحد الموتين، فأما الموت فهو نازل بهم لا محالة ولا محيص لهم عنه، وإنما يختارون أحد الموتين.
إذا سلك السّماوة غير هادٍ ... فقتلاهم لعينيه منار
الهادي: الدليل، وقيل: هو العارف بالطريق، وهو في معنى المهتدي. والمنار: العلامات التي تبنى على الطريق، ليهتدي بها، والواحدة: منارة.
يقول: إنهم دخلوا السماوة فراراً من سيف الدولة، وتبعهم فقتلهم في كل مكان، وبقيت جثثهم مطروحة على الطرق حتى لو سلك السماوة من لا يهتدي فيها، لكانت جثثهم تدله على الطريق، وتقوم له مقام المنار.
وقيل: أراد أنهم ماتوا عطشاً هناك وبقيت جثثهم دالة للمار بها.
ولو لم يبق لم تعش البقايا ... وفي الماضي لمن بقي اعتبار
يقول: لو لم يعف عنهم سيف الدولة لهلكوا عن آخرهم، ولم يعش الباقي منهم، ومن بقي منهم يعتبر حاله بحال من مضى.
والماضي: هو المقتول، والباقي: الذي بقي بعدهم.
إذا لم يرع سيّدهم عليهم ... فمن يرعى عليهم أو يغار؟!
أرعى فلان على فلان: إذا كف عنه ورق له.
يقول: إذا لم يرحمهم سيدهم فمن الذي يرحمهم ويغضب لهم؟!
تفرّقهم وإيّاه السّجايا ... ويجمعهم وإيّاه النّجار
هولاء من أصل واحد، لأنهم جميعاً من نزار، وسجاياهم متفرقة. والنجار. الأصل.
يقول: خليقة سيف الدولة وخلائقهم مختلفة؛ لأن خليقة سيف الدولة الكرم والعفو، وخلائقهم العصيان والنزق، فبينهما فرق من هذه الجهة.
ومال بها على أركٍ وعرضٍ ... وأهل الرّقّتين لها مزار
الهاء في بها للخيل. وأرك وعرض: موضعان. والرقتان: مدينتان من ديار بكر.
يقول: لما فرغ من بني كعب، عطف بخيله على أهل أرك وعرض، وقرب من أهل الرقتين، حتى لو شاء أن يزورهما بخيله، لم يبعد عليه.
وقيل: مال بالخيل على أرك وعرض، لطلب بني كعب.
وقيل: معناه عدل بجيشه على أهل أرك وعرض، مع بعدهما عن مقصده؛ لأنه كان قد توجه إلى الرقتين وأرك وعرض بعيدان عن الرقتين.
وأجفل بالفرات بنو نميرٍ ... وزأرهم الّذي زأروا خوار
أجفل: أسرع هارباً مذعوراً. والزأر والزئير: صوت الأسد. والخوار: صوت الثور.
يعني: أن بني نمير فروا من الفرات، خوفاً منه، وكانوا قبل ذلك يزأرون كالأسود، ويرعدون بالحرب، فلما رأوه ذلوا وصار زئيرهم خواراً: أي بعد أن كانوا أسوداً في الشدة صاروا مثل البقر في الذلة.
فهم حزقٌ على الخابور صرعى ... بهم من شرب غيرهم خمار(1/337)
الحزق: جمع حزقة، وهي الجماعة، والخابور: موضع بقرب الموصل.
يقول: إن بني نمير فروا من الفرات، ونزلوا الخابور صرعى من الخوف والكلال، فصاروا كالموتى خوفاً من أن يسري إليهم سيف الدولة، وهم صرعى كأنهم مخمورون، ورماحك كانت الشاربة، فكيف أصابهم الخمار دونها؟! وقيل: معناه أنهم بقوا هناك خائفين صرعى خوفاً من الممدوح، فيهم خمار: وهو الخوف والتقطع من الكلال من شرب غيرهم، وهو ما فعل ببني كعب من القتل، فخافوا أن يشربوا كأس الموت مثل ما شرب بنو كعب.
فلم يسرح لهم بالصّبح مالٌ ... ولم توقد لهم بالليل نار
يقول: هولاء كمنوا في الخابور وحبسوا مالهم، فلا يجسرون على تسريح مواشيهم بالنهار، خوفاً من الإغارة، ولا على إيقاد النار بالليل، خوفا من الدلالة وقيل: معناه ذهب مالهم، فلا مال يسرح لهم في الصبح، وتقوضت خيامهم فلا نار لهم توقد بالليل.
حذار فتىً إذا لم يرض عنهم ... فليس بنافعٍ لهم الحذار
حذار: نصب لأنه مفعول له.
يقول: فعلوا ذلك خوفاً من فتى، إن لم يرض عنهم لم ينفعهم الحذار.
تبيت وفودهم تسري إليه ... وجدواه الّذي سألوا اغتفار
يقول: وفود هولاء يأتون سيف الدولة، ولا يسألون من العطايا شيئاً إلا العفو عنهم والصفح عن إساءتهم.
فخلّفهم بردّ البيض عنهم ... وهامهم له معهم معار
معار: من العارية وهو مفعول عار.
يقول: لما رد سيوفه عنهم، ترك رءوسهم عارية عندهم؛ لأنها له متى شاء أخذها منهم، فكأنه لما عفى عنهم أعارهم رءوسهم.
هم ممّن أذمّ لهم عليه ... كريم العرق والحسب النّضار
أذم لهم: أي صيرهم في ذمامه والحسب: الشرف. والنضار: الخالص.
يقول: صيرهم في ذمامه كرم الأصل وصحة الحسب.
وأضحى بالعواصم مستقرّاً ... وليس لبحر نائله قرار
أي عاد إلى دار مملكته واستقر بها، ونائله لا يستقر بل يسير في الآفاق. وينتشر في البلاد.
وأضحى ذكره في كلّ أرضٍ ... تدار على الغناء به العقار
يقول: سار ذكره في الآفاق، يتحدث في كل مجلس بفضائله، ومتى أراد قوم شرب الخمر يغني لهم المغني بفضائله.
وقيل: معناه نظمت الأشعار بمدحه، فإذا أراد الناس شرب العقار غنى لهم المعني بهذه الأشعار.
تخرّ له القبائل ساجداتٍ ... وتحمده الأسنّة والشّفار
يقول: غنه ملك رقاب العرب، وتسجد له قبائلها، وإن الرماح وشفار السيوف تحمده؛ لأنه أعلى قيمتها بكثرة الاستعمال، ولأنها تكون باعثة على حمده؛ لأن من رأى طعنه وضربه بها حمده.
وقيل: عنى أصحاب السيوف والرماح.
كأنّ شعاع عين الشّمس فيه ... ففي أبصارنا عنه انكسار
الهاء في فيه لسيف الدولة، وفي عنه للشعاع، ويجوز أن يكون له أيضاً.
يقول: له من الهيبة والنور ما لا يمكننا أن ننظر معه إليه، كما لا نقدر أن ننظر إلى عين الشمس ومثله قوله عنترة:
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأنّ الشّمس من قبلي تدور
فمن طلب الطّعان فذا عليٌّ ... وخيل الله والأسل الحرار
الحرار: العطاش، واحدها: حرى: كغضبي وغضاب.
يقول: من أراد الحرب، ولا يجد محارباً فهذا علي فليأته، فقد رأيتموه وجربتموه، وهذه خيل الله؛ لأنه مجاهد بخيله، وهذه الرماح العطاش إلى الدماء.
يراه النّاس حيث رأته كعبٌ ... بأرضٍ ما لنازلها استتار
يقول: إنه يجاهر من يحاربه، ويبرز إليه في البيداء كما جاهر بني كعب، ولا يمتنع بسور.
وقيل: أراد أنه أبداً يقطع المفاوز إلى الأعادي ولا يمكن لأحد أن يستتر عنه. والمعنى: يراه الناس بالعين التي رأته بها كعب.
يوسّطه المفاوز كلّ يومٍ ... طلاب الطّالبين لا الانتظار
فاعل يوسط طلاب. تقديره: لا انتظاره.
يقول: كل يوم يتوسط المفاوز في طلب الهاربين إليها من أعدائه، والنازلين بها، لا أنه يهرب إليها ويتحصن بها، وينتظر من يقصده فيها.
وقيل: معناه أنه يتوسط الفلوات لطلب المغيرين على الناس من أهل الفساد، لا لانتظار صيد يقع أو فرصة تنتهز.
تصاهل خيله متجاوباتٍ ... وما من عادة الخيل السّرار
السرار: المسارة.(1/338)
يقول: يخرج بخيله إلى المفاوز جاهراً بها في طلب الأعداء، فهي تتجاوب بالصهيل، ولا يمنعها الصهيل بالضرب، إذ ليس من عادتها المسارة، فهو يتركها مع عادتها.
وقال ابن جني: معناه كأن بعض خيله يسر إلى بعض شكية لما يجشمها من الحروب وقطع المفاوز، فيجاوبها الآخر سراً.
قال: ويجوز أن يريد أن خيله مؤدبة معلمة فتصهل سراً هيبة وإجلالا.
بنو كعبٍ وما أثّرت فيهم ... يدٌ لم يدمها إلاّ السّوار
يقول: إن بني كعب يفتخرون بأنك أوقعت بهم، ويتجملون بقصدك إليهم، وإن أصابتهم الالآم والعقوبات، كيد يدميها السوار، فإن صاحبها لا يشكو الألم الذي ناله من السوار، لما كان السوار جمال يده وزينته.
بها من قطعه ألمٌ ونقصٌ ... وفيها من جلالته افتخار
الهاء في بها لليد، وكذلك في فيها وفي قطعه وجلالته للسوار. ومعناه هم مثل يد أدماها السوار، فهي تتألم من قطعه وتفتخر بجماله.
لهم حقٌّ بشركك في نزارٍ ... وأدنى الشّرك في أصلٍ جوار
يقول: لهم عليك حق لانتسابك معهم إلى نزار، وأقل القرابة تقوم مقام الجوار، فكما يجب صيانة حق الجار، فكذلك حق القريب.
لعلّ بنيهم لبنيك جندٌ ... فأوّل قرّح الخيل المهار
يقول: اعف عنهم، فلعل أبناءهم يكونون جنداً لبنيك، كما أنهم جندك، فكل كبير يكون صغيراً ويصير رجلا، وأول ما يكون الخيل: مهاراً ثم تكون قرحاً.
وأنت أبرّ من لو عقّ أفنى ... وأعفى من عقوبته البوار
يقول: أنت أبر كل من ملك، إذا عقهم من تجب عليهم طاعتهم، لم يرضوا في عقوبتهم بغير الإهلاك، وأكثرهم عفواً وصفحاً، إذا كان غيرك يهلك بشدة عقوبته.
يعني: أنك بررتهم وعفوت عنهم ولو أردت لأهلكتهم.
وأقدر من يهيّجه انتصارٌ ... وأحلم من يحلّمه اقتدار
يقول: أنت أقدر الملوك الذين يهيجون للانتصار من أعدائهم، أي متى هجت لتنتصر من أعدائك، كنت أقدر من كل ملك هذه صفته، وأنت أحلم من كل حليم يحلم عند قدرته.
وما في سطوة الأرباب عيبٌ ... ولا في ذلّةٍ العبدان عار
العبدان: جمع عبد.
يقول: إنك لربّهم وهم عبيدك، فلا عيب عليهم في سطوتك ولا عليهم في خضوعهم لك.
وقال أيضاً وقد ودعه إلى الإقطاع الذي أقطعه:
أيا رامياً يصمي فؤاد مرامه ... تربّى عداه ريشها لسهامه
يصمي: أي يقتل. يقال: رماه فأصماه، إذا قتله مكانه. والهاء في ريشها للعدى. وفاعل تربى: عداه والهاء في سهامه ومرامه وعداه: للرامي.
يقول لسيف الدولة: أيا راميا يصيب فؤاد مطلبه، بسهام ريشها من أعدائه فكأن أعداءه طير تربى أجنحتها حتى إذا بلغت أخذها لريش سهامه وأراد بالسهام: جيشه. وبريش السهام: سلاح أعدائه، الذي سلبه من الأعداء وكساه جيشه، يعني أنك تغير على الأعداء فتأخذ أسلحتهم وتقتلهم
أسير إلى إقطاعه، في ثيابه ... على طرفه، من داره بحسامه
يعني: أن جميع ما أملكه من عطاياه، فداري التي أسكنها وثيابي، وفرسي، من هباته، ومثله قول جحظه:
فكيف لا أشكر من لا أرى ... في منزلي إلاّ الّذي جاد به؟!
والأصل فيه قول النابغة:
وإنّ سلاحي إن نظرت وشكّتي ... ومهري وما ضمّت عليه الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنّها ... هجان المها تردى عليها الرّحائل
وقال أيضاً جميع ذلك في نصف بيت:
وما أغفلت شكرك فانتصحني ... فكيف ومن عطائك كلّ مالي؟
وما مطرتنيه من البيض والقنا ... وروم العبدّي هاطلات غمامه
العبدي والعبود: اسم الجمع بمعنى العبيد.
يقول: عبيدي وسلاحي من مطره الذي مطرته لي سحائبه الهاطلة، وعطاياه الشاملة.
ودل بذلك على أن جوده يعم العالم، ويشمل الأزمان، ويتناول الأقوام.
فتىً يهب الإقليم بالمال والقرى ... وما فيه من فرسانه وكرامه
يقول: هو يملك العباد والبلاد، ويهب الإقليم بما فيه من الأموال، ومن عليه من الفرسان والرجال.
ويجعل ما خوّلته من نواله ... جزاءً لما خوّلته من كلامه
خولته: أي ملكته.
يقول: إن أياديه علمتني الشكر، ولقنتني الثناء والذكر، فكلامي منه من هذا الوجه، فلما أثنيت عليه جازاني على ثنائي فخولت الإحسان جزاء على ما خولت من الكلام.(1/339)
وقيل: أراد، أستفيد منه حسن الكلام فإذا مدحته به جازاني بالنعم العظام.
فلا زالت الشّمس التي في سمائه ... مطالعة الشّمس الّتي في لثامه
أضاف السماء إليه في قوله: في سمائه توسعاً ليجانس قوله: في لثامه قلت: إنما أضافها إليه لأنه جعله مالكاً للسماء والأرض.
يقول داعياً له بدوام البقاء: لا زالت شمس السماء مقابلة لوجهك الذي هو كالشمس في حسن البهاء والسمو والعلا.
ولا زال تجتاز البدور بوجهه ... تعجّب من نقصانها وتمامه
يقول: لا زال أبدا يطلع البدر عليه، ويرى وجهه أحسن منه وأكمل بهاءً ومنظراً.
وقيل: أراد بذلك بدر السماء ينتقص في كل شهر، ووجه الممدوح أبداً غاية التمام، فيتعجب البدر من نقصانه كل شهر، وتمامه أبد الدهر.
وقال في يوم الأربعاء المنتصف من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلاث مئة معزياً لسيف الدولة في أخته الصغرى ومسلياً ببقاء الأخت الكبرى.
إن يكن صبر ذي الرّزيّة فضلاً ... تكن الأفضل الأعزّ الأجلاّ
الرزية: المصيبة، وأصلها من النقصان، يقال: رزى فلان في ماله وأهله، إذا أصيب. وذي: بمعنى الصاحب، والتاء في تكن للخطاب.
يقول: إن كان صبر صاحب الرزية فضلا له، فأنت أفضل من كل مصاب، لأنك أحسن صبراً على ما يصيبك من كل أحد، ولأن لك فضائل أخرى، مع فضل هذه المصيبة ولأن لك صبراً في هذه المصيبة وصبراً في أمور أخر.
أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الّذي يعزّيك عقلا
التعزية: أصلها من النسب، كأن المعزي يقول للمصاب: اذكر أباك وأجدادك، فإنهم قد هلكوا وبادوا، يسليه بهذا القول، فكأنه ينسبه إليهم. وفوق: الأول نصب، لأنه نداء مضاف. والثاني ظرف.
يقول: أنت أرفع قدراً من أن تحتاج إلى أن يعزيك أحد عن فقد الأحباب، فكل من يعزيك، فأنت أوفر عقلا منه، وأعرف بأحوال الدهر.
وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... زاك قال الّذي قلت قبلا
قبل: يبنى على الضم إذا أريد به الإضافة فقطع عنها، فإذا لم يرد الإضافة صرف، ويجعل نكرة، فلذلك نون ها هنا، ونصبه على الظرف. تقول: جئتيك قبلاً وبعداً.
يقول: إذا عزاك المعزي فإنما اهتدى إلى التعزية بتعليمك، فيقول لك عند التعزية: ما قلته له قبل ذلك، ويرد عليك ما حفظه من كلامك. أخذه من قوله تعالى: " بِضَاعتنا رُدَّتْ إلَيْنَا ".
قد بلوت الخطوب مرّاً وحلواً ... وسلكت الأيّام حزناً وسهلا
يقول: جربت أحوال الدهر، ودخلت في الأيام. صعبها وسهلها، فلم يشتبه عليك شيء في أحوال الدهر.
وقتلت الزّمان علماً فما يغ ... رب قولاً ولا يجدّد فعلا
يقال: قتلت الشيء علماً إذا تيقنته.
يقول: عرفت الزمان بحقيقته، فلا يأتي الزمان بقول غريب لم تعرفه، ولا يفعل جديداً لم تجربه.
أجد الحزن فيك حفظاً وعقلا ... وأراه في الخلق ذعراً وجهلا
يقول: وجدت الحزن فيك على من تفقد، حفظاً منك لحرمته ورعاية لصحبته وفي من سواك: خوفاً من ريب الدهر، وجهلا بالسبب الموجب للحزن.
وإنما ذكر العقل لأنه يدعو إلى الحفاظ، ومراعاة الحرمة. وأراد بالعقل: العلم بأحوال الدهر.
لك إلفٌ يجرّه وإذا ما ... كرم الأصل كان للإلف أصلا
الهاء في يجره للحزن.
يقول: لك إلف يجر هذا الحزن عليك، وكرم الأصل يعينه على ذلك، فكأنه أصلي للإلف الذي لك.
يعني: أنك إنما تحزن لفقد أحبتك لأنك ألوف كريم الأصل، وليس ذلك بجزع وخوف.
ووفاءٌ نبتّ فيه ولكن ... لم يزل للوفاء أهلك أهلاً
يقول: لو وفاء نبت فيه جره إليك. والوفاء عادة لك موروثة عن آبائك وأجدادك، فلم يزل أهلك أهلاً للوفاء.
إنّ خير الدّموع عيناً لدمعٌ ... بعثته رعايةٌ فاستهلاّ
استهل: أي جرى. وعيناً: نصب على التمييز.
يقول: أكرم الدموع ما أجرته رعاية الحقوق. وروى عوناً بدل قوله: عيناً.
أين ذي الرّقّة الّتي لك في الحر ... ب إذا استكره الحديد وصلاّ
استكره الحديد: أي ضرب على كره، وتكف من الدروع ما لا يقدر على قطعه، وصل الحديد: إذا سمعت له صوتاً.
يقول: أين هذه الرقة التي حصلت لك الآن عند كونك في الحرب، وذلك حين تجرد السيوف وتقتل بها الناس.(1/340)
والمعنى: أن هذه الرقة لو كانت لضعف قلبك للحقتك أيضاً في الحرب، ولكنه وفاء ورعاية، فأنت تستعمل كل واحد منهما في موضعه، حيث تحمده وتستحسنه العقول، ولا تضعه في غير موضعه.
أين خلّفتها غداة لقيت الرّ ... وم والهام بالصّوارم تفلى
تفلى: من فليت رأسه، إذا فتشته لتخرج منه القمل.
معناه: يضرب بالسيوف من كل جهة، كما أن الفالي يعم الرأس.
يقول: أين تركت هذه الرقة غداة محاربتك الروم فيما كنت تضرب رءوسهم بالسيوف الصوارم.
قاسمتك المنون شخصين جوراً ... جعل القسم نفسه فيه عدلاً
أنت المنون على معنى المنية. والهاء في فيه ترجع إلى الجور.
يقول: قاسمتك المنون على أختيك ظلماً وجوراً منها في هذه المقاسمة؛ لأنها ليس لها الحق في واحدة منهما، غير أن هذه القسمة جعلت نفسها في الجور الذي حصل من المنون عدلاً؛ لأنها أخذت الصغيرة وتركت الكبيرة.
وقال ابن جني: يجوز فيك: فيكون المعنى: أن المنون جارت في فعلها، إلا أنك إذا كنت البقية فجورها عدل.
أو يقال: إن هذه القسمة نفسها في حقك عدل، وإن كان قاسمها ظالما.
فإذا قست ما أخذن بما أغ ... درن سرّى عن الفؤادي وسلّى
أغدرن: أي تركن. وسرى: أي كشف. وسلى: من التسلية. وروى أغبرن مكان أغدرن والفاعل ضمير المنون، وأراد بها المنايا.
يقول: إذا قست ما أخذته المنية بما تركته، كشف بقاء الباقية منهما هذا الحزن عن قلبك.
وتيقّنت أنّ حظّك أوفى ... وتبيّنت أنّ جدّك أعلى
يقول: إذا قست سهمك بسهم المنية علمت أن حظك أكثر، وأن جدك أعلى؛ لأن الكبرى خير من الصغرى.
ولعمري لقد شغلت المنايا ... بالأعادي، فكيف تطلبن شغلا؟
يقول: شغلت المنايا بقبض أرواح الأعادي، فكيف تطلب المنايا شغلاً؟! لأن لها شغلاً بالأعداء، لا تتفرغ عنه إلى شغل آخر.
وكم انتشت بالسّيوف من الدّه ... ر أسيراً وبالنّوال مقلاّ
انتشت: أي دفعت، والانتياش: افتعال من النوش والمقل: الفقير.
يقول: كم أنقذت كثيراً من الأسرى من أسر الدهر بسيوفك، ومن الفقر بجودك، ونائلك، فأغنيتهم بعطاياك، ورفعتهم من الذل والصغار.
عدّها نصرةً عليه فلمّا ... صال ختلاً رآه أدرك تبلاً
الهاء في عدها ضمير الحالة: أي عد الدهر هذه الحالة التي هي إنقاذ الأسير من يده، ورآه: أي رأى نفسه ويجوز ذلك في الرؤية: بمعنى العلم: وسائر أفعال الشك، واليقين.
يقول: لما رآك الدهر تنقذ أساراه حقد عليك، وعد فعلك نصرةً لعيه لمن خاصمه فلما صال مخادعة، وأخذ أختك مسارقةً، حسب أنه أدرك ثأره.
كذبته ظنونه؛ أنت تبلي ... هـ وتبقى في نعمةٍ ليس تبلى
يقول: كذب الدهر ظنه أنه يقدر على أخذ ثأره عندك، فإنك تجعل الدهر بالياً! وتبقى أنت في نعمة لا تبلي.
وقيل: إن قوله أنت تبليه دعاء له بطول البقاء فكأنه يقول: أبقاك الله في نعمة دائمة حتى تبلي الدهر وتفنيه.
ولقد رامك العداة كما را ... م فلم يجرحوا لشخصك ظلاّ
يقول: طلب أعداؤك أن يدركوا ثأرهم عندك - كما طلب الدهر - فلم يقدروا أن يجرحوا ظل شخصك؛ لاتصاله بك.
ولقد رمت بالسّعادة بعضاً ... من نفوس العدا فأدركت كلاّ
قوله: بالسعادة متعلق بقوله: فأدركت كلا يعني: أنك رمت بعض أعدائك فأدركت الكل بسعادة جدك، وهو متصل بما قبله.
قارعت رمحك الرّماح ولكن ... ترك الرّامحين رمحك عزلا
الرامح: صاحب الرمح. والعزل: جمع أعزل، وهو الذي لا سلاح معه.
يقول: قد حاربك الأعداء فعجزوا، فصار الرمح منه أعزل.
لو يكون الّذي وردت من الفج ... عة طعناً أوردته الخيل قبلا
القبل: جمع أقبل: وهو مثل الأحول، والخيل تفعل ذلك لعزة أنفسها، وليس بخلقه.
يقول: لو لقيت مكان هذه المصيبة طعناً وكان مجيئها إليك محاربة؛ لأوردت خيلك، ودفعت عن نفسك بشجاعتك. والهاء في أوردته للطعن.
وقيل: معناه لو كنت تلقى بدل هذه المصيبة طعناً لأوردته الخيل ورددته بشجاعتك.
ولكشّفت ذا الحنين بضربٍ ... طالما كشّفت الكروب وجلّى
الحنين: رقة الحزن، وهو أيضاً الصوت الضعيف كالأنين، وقد يراد به الاشتياق. وجلى: أي كشف، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.(1/341)
يقول: لو لقيت مكانها حزناً لكنت تزيل الحزن عن قلبك بالسيف، كما كانت عادتك في الحرب أن تكشف الحروب عن نفسك بالضرب وتجليه بالطعن.
وقيل: أراد لو كان بدل هذا الحنين الذي حصل بموت الأخت، حنين الفرسان يوم الحرب، لكشفت ذلك بالضرب وخلصتهم من الغم بالسيف، ولكن قضاء الله تعالى لا مرد له.
خطبةٌ للحمام ليس لها ردٌّ ... وإن كانت المسمّاة ثكلا
ثكلا: نصب لأنه مفعول ثان للمسماة التقدير: وإن كانت الخطبة تسمى ثكلا، فالخطبة المضمرة: اسم كان. والمسماة: خبره. وفيه ضمير الخطبة وموضعه: رفع؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله وثكلا: مفعوله الثاني.
يقول: إن هذا الموت يجري مجرى الخطبة من الحمام للمرأة، وإن كانت الناس يسمونه ثكلا.
يعني: الحمام قد خطب أختك فلم تقدر على رده.
وإذا لم تجد من النّاس كفئاً ... ذات خدرٍ، أرادت الموت بعلا
يقول: إن المرأة المخدرة إذا لم تجد لنفسها كفئاً لها اختارت الموت على الأزواج الذين ليسوا بأكفاء.
ولذيذ الحياة أنفس في النّف ... س وأشهى من أن يملّ وأحلى
يقول: إن الحياة لذيذة للنفس، وإن كانت في ضر وبؤس، ولكنها لما عدمت الكفء صار ذلك سبباً في اختيار الموت وإن لم يكن لها ملال من الحياة ولذتها.
وإذا الشّيخ قال: أفٍّ فما مل ... ل حياةً وإنّما الضّعف ملاّ
يقول: إذا قال الشيخ الهرم: أف تضجراً فإنه لم يقل ذلك ملالاً من الحياة ولكنه يقول تضجراً من الضعف والمرض.
آلة العيش صحّةٌ وشبابٌ ... فإذا ولّيا عن المرء ولّي
المرء: الشاب.
يقول: لذة العيش مع الشباب وصحة الجسم، وإذا عدم المرء هذين، فليس له عيش، بل إذا وليا ولي المرء: أي يموت ويفارق المرء بفراقهما.
أبداً تستردّ ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلاً!
الدنيا: رفع بتهب، أو بتسترد، على حسب إعمال أحد الفعلين.
يقول: عادة الدنيا أنها تسترد ما تهب، فليت أنها لم تهب ولم تجد!
فكفت كون فرحةٍ تورث الغم ... م وخلٍّ يغادر الوجد خلاّ
يقول: ليت الدنيا كفت كون فرحة تورث الغم وتعقب ترحة! وليتها كفت كون خليل يترك الحزن خليلاً، ويجعله صاحباً للمرء بعد خليله الذي كانت الدنيا وهبته منه.
وهي معشوقةٌ على الغدر ولا تح ... فظ عهداً ولا تتمّم وصلاً
يقول: الدنيا معشوقة مع كونها غدارة لا تحفظ عهداً، وإن واصلت لا يدوم وصلها.
كلّ دمعٍ يسيل منها، عليها ... وبفكّ اليدين عنها تخلّى
يقول: كل دمع يسيل فإنه يكون من جملة الدنيا عليها ولا يتركها إلا أن تفك يداه قسراً فيؤخذ عنها بالقهر، وذلك يكون عند الموت.
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنّث اسمها النّاس أم لا؟
يقول: في هذه الدنيا أخلاق الغانيات. في قلة الوفاء، وسرعة التقلب، وكثرة الغدر، فلعل الناس أنثوها لشبهها بالغواني في الغدر والانقلاب! وهذا مثل قوله:
ولذا اسم أغطيه العيون جفونها
يا مليك الورى المفرّق محياً ... ومماتاً فيهم وعزّا وذلاّ
يقول: يا مليك الخلق الذي يقسم بينهم الأحوال، فمنه ضرهم ونفعهم، وموتهم وحياتهم، وعزهم وذلهم.
قلّد الله دولةً سيفها أن ... ت حساماً بالمكرمات محلّى
يقول: قلد الله حساماً محلى بالمكرمات دولة أنت سيفها.
لما جعله سيفاً جعل حليه المكارم.
فيه أغنت الموالي بذلاً ... وبه أفنت الأعادي قتلا
الموالي: يعني الأولياء ها هنا. والفعل للدولة، والهاء في به للسيف.
يقول: بهذا السيف أغنت الدولة أولياءها، وأفنت أعداءها.
أي أغنت أولياءها ببذل مالك، وأفنت أعداءها بقتالك.
وإذا اهتزّ للنّدى كان بحراً ... وإذا اهتزّ للوغى كان نصلا
يقول: هذا السيف إذا اهتز للجود كان غايةً فيه، وهو البحر، وفي الحرب كان نصلاً في مضائه ونفاذه.
وإذا الأرض أظلمت كان شمساً ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا
يقول: إذا أحدث أمراً تظلم له الأرض، كشفه وجلاه، كما تجلو الشمس الظلام، وإذا أصابها قحط، يقوم جوده مقام الغيث.
وهو الضّارب الكتيبة والطّع ... نة تغلوا والضّرب أعلى وأغلى(1/342)
هذه الأبيات الأربعة صفة لقوله: قلد الله دولةً سيفها أنت: أي قلدها الله منك حساماً هذه صفته.
يقول: هو يضرب الكتيبة بسيفه، حيث لا يقدر أحد منها أن يطعن برمحه. والضرب أعلى وأغلى: معناه إذا لم يقدر أحد على الدنو من العدو، وقيد الرمح بالدنو فيه، فقيد السيف أصعب وأشد.
ولا يعترض على هذا بأن يقال: الأمر بخلاف ذلك؛ لأنه ربما لا يمكن المطاعنة لطول الرماح، ويمكن المضاربة بالسيوف لقصرها، فلا يكون الضرب أعلى وأغلى؛ لأن المعنى ما بينا: أنه إذا لم يمكن الدنو مقدار رمح لشدة القتال، فالدنو مقدار سيف أشد تعذراً، أو لأنه إذا كانت الحال هذه فترتعش الأيدي، ولا تقل السيوف.
أيّها الباهر العقول فما يد ... رك وصفاً أتعبت فكري فمهلاً
يقول: حيرت العقول بفضلك، فلا تحيط الأوصاف كنه وصفك، وقد أردت وصفك في الشعر فأتعبت فكري بمحاسن أوصافك، فارفق ولا تكلفني من وصفك ما لا أطيق. ووصفاً: نصب على التمييز، ومهلاً: على المصدر.
من تعاطى تشبّهاً بك أعيا ... هـ ومن دلّ في طريقك ضلاّ
دل في طريقك: أي سلكها، يقال: دل فلان في طريق إذا عرف أعلامها، وتبع الناس أثره فيه.
يقول: من رام أن يشتبه بك أعجزه ما يرومه ولم يقدر عليه، ومن سلك طريق فعالك ضل وتحير ولم يقدر أن يقتفي آثار سعيك. وفاعل أعياه قيل: ضمير التشبه، وقيل: راجع إلى التعاطي: أي أعياه تعاطيه، ودل عليه: تعاطى.
فإذا ما اشتهى خلودك داعٍ ... قال: لا زلت أو ترى لك مثلا
يقول: لا نظير لك في الشرف، ولا يكون لك نظير فيما بعد، فمن أراد أن يدعو لك بالخلود قال: لا زلت حتى ترى لك نظيراً. وهذا مما لا يكون، فكأنه قال: لا مت أبداً.
وورد على سيف الدولة الخبر، آخر ساعة نهار يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاث مئة، بأن الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلت ثغر الحدث، في يوم الأحد، ونصبت مكايد الحصون عليه، وقدرت نيل فرصة، لما تداخلها من القلق والانزعاج والوصم في تمام بنائه على يد سيف الدولة، لأن ملكهم ألزمهم قصدها، وأنجدهم بأصناف الكفر من البلغر والروس والصقالبة وغيرهم وأنفذ معهم العدد فركب سيف الدولة لوقته نافراً، وانتقل إلى موضع غير الموضع الذي كان به، ونظر فيما يجب أن ينظر فيه في ليلته، وسار عن حلب غداة يوم الأربعاء لسبع خلون فنزل رعبان، وأخبار الحدث مستعجمة عليه لضبطهم الطرق، تقديره أن يخفى عليه خبرهم، فلما أسحر لبس سلاحه وأمر أصحابه بمثل ذلك، وسار زحفاً، فلما قرب من الحدث عادت إليه الطلائع، فأخبرته بأن عدو الله تعالى لما أشرفت عليه خيول سيف الدولة، على عقبة يقال لها: العبراني، رحل ولم تستقر به دار، وامتنع أهل الحدث من البدار بالخبر خوفاً من كمين يعترض الرسل، فنزل سيف الدولة بظاهرها، وذكر خليفته بها أنهم نازلوه وحاصروه فلم يخله الله تعالى من نصره عليهم، إلا في نقوب نقبوها في فصيل كان قديماً للمدينة وأتتهم طلائعهم بخبر سيف الدولة في إشرافه على ثغر رعبان، فوقعت الصيحة فيهم وظهر الاضطراب في جمعهم وولي كل فريق على وجهه، وخرج أهل الحدث فأوقعوا ببعضهم وأخذوا آلة حربهم فأعدوها في حصنهم. فقال أبو الطيب في ذلك، ويمدحه:
ذي المعالي فليعلون من تعالي ... هكذا هكذا، وإلاّ فلا، لا
ذي إشارة: إلى المعالي. وتعالي: بمعنى: علا. وهكذا: إشارة إلى المعالي أيضاً، وكرره تفخيماً لأمر سيف الدولة.
يقول: المعالي هذه التي يسعى إليها سيف الدولة، ومن أراد أن يعلو إلى المعالي ويسعى إلى المجد، فليفعل كما فعل، وإلا فليترك طلبها. وليدعها لمن هو أقدر منه، فإنه لا معالي دون ذلك.
شرفُ ينطح النّجوم بروقي ... هـ وعزٌّ يقلقل الأجبالا
روقاه: قرناه. والهاء فيه للشرف. ويقلقل: أي يحرك، هذا تفسير للمعالي.
يقول: للمعالي شرف ينطح النجوم بقرنيه، وعز يزعزع الجبال من أماكنها، مثل شرف سيف الدولة وعزه.
حال أعدائنا عظيمٌ وسيف الدّ ... ولة ابن السّيوف أعظم حالا
الحال: يذكر ويؤنث، ولهذا قال: عظيم.
يقول: إن كان حال الروم عظيما فسيف الدولة أعظم منهم حالاً.
كلّما أعجلوا النّذير مسيراً ... أعجلتهم جياده الإعجالا
أعجلت السير: استعجلته. والنذير: المنذر.(1/343)
يقول: كلما بعث الروم عينا يتعرف لهم خبر سيف الدولة وينذرهم، وأعجلوا رسولهم في مسيره إليهم بأخباره، أعجلهم سيف الدولة بخيله، وسار إليهم قبل عود الرسول إليهم، وقبل أن يصل نذيره إليهم.
فأتتهم خوارق الأرض ما تح ... مل إلاّ الحديد والأبطالا
خوارق: نصب على الحال.
يقول: أتتهم خيل سيف الدولة تشق الأرض بحوافرها؛ لشدة وطئها وقوة جريها، وليس عليها إلا الفرسان والسلاح.
خافيات الألوان قد نسج النّق ... ع عليها براقعاً وجلالا
يقول: أتتهم الخيل قد خفيت ألوانها لما علاها من الغبار، حتى صار لها مثل البراقع والجلال، وخافيات: نصب على الحال.
حالفته صدورها والعوالي ... ليخوضنّ لدونه الأهوالا
حالفته: أي حلفت له، والهاء لسيف الدولة، وكذلك في دونه وقوله: ليخوضن المروى عنه بضم الضاد، وأجراها مجرى العقلاء، فلذا أطلق عليها اسم المحالفة، كقوله تعالى: " رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجدِينَ " ولو قال لتخوضن بالتاء وفتح الضاد، لكان أظهر في الإعراب.
يقول: حلفت لسيف الدولة هذه الخيل، والرماح أنها تخوضن الأهوال دونه، وتقاتل الأبطال عنه.
ولتمضنّ حيث لا يجد الرّم ... ح مداراً ولا الحصان مجالا
القياس: وليمضن عطفاً على قوله: ليخوضن غير أنه رده إلى أصل التأنيث، فأورده بالتاء، ثم كان القيسا على هذا لتمضين كما يقال: لتقومن هند، إلا أن هذا لغة أيضاً.
يقول عطفاً على ما تقدم: إن خيله ورماحه حالفته أنها تمضي حيث لا يقدر الرمح أن يدور فيه لضيقه، ولا يتمكن الحصان من الجولان عليه. والمدار والمجال: يجوز أن يكونا مصدرين من. جال يجول مجالاً، ودار يدور مداراً. ويجوز أن يكونا اسمين لمكان الدوران والجولان.
لا ألوم ابن لاونٍ ملك الرّو ... م وإن كان ما تمنّى محالا
يقول: لا ألوم ملك الروم على قلقه. لما بنيت من هذه القلعة، وإن كان ما تمناه من هدمها محالاً.
أقلقته بنيّةٌ بين أذني ... هـ وبانٍ بغى السّماء فنالا
يقول: لا ألوم ملك الروم على قصده لهدم هذه البنية التي هي قلعة الحدث لأنها أقلقته، فكأنها مبنية على مؤخر رأسه بين أذنيه، فلا بد من أن تقلقه لثقلها عليه، وهذا الباني أيضاً قلعة وهو الذي طلب السماء فوصل إليها، فكأنه يقول: كيف يتعذر على سيف الدولة بناء الحدث وهو قد رام السماء فنالها بعلوه.
كلّما رام حطّها اتّسع البن ... ى فغطّى جبينه والقذالا
بنى يبني بنياً و، بناء.
يقول: كلما أراد ملك الروم هدم هذه القلعة، وسع سيف الدولة بناءها، وأحكم حائط سورها، حتى عم بها رأسه: مقدمه مؤخره، فيكون حطه سبباً لإحكامها، فيعظم أمرها عليه.
يجمع الرّوم والصّقالب والبل ... غر فيها وتجمع الآجالا
فيها: أي في ناحيتها، والآجال: جمع الأجل.
يقول: إن ملك الروم يجمع الأمم لهدم هذه القلعة، وأنت تجمع آجالهم ومناياهم فتوافيهم بها وتقتلهم.
وتوافيهم بها في القنا السّم ... ر كما وافت العطاش الصّلالا
الصلال: جمع صلة وهي الأرض التي أصابها المطر من بين الأرضين التي لم تمطر وقيل: هي بقايا المياه.
يقول: تجمع آجالهم وتوافيهم بها على أطراف الرماح، فآجالهم تتسابق إليهم، كما تتسابق العطاش إلى الأرض الممطورة.
والمعنى: أنهم كلما بعثوا إليها الجيش لهدمها قصد إليه سيف الدولة فأهلكه.
قصدوا هدم سورها فبنوه ... وأتوا كي يقصّروه فطالا
يقول: إنهم قصدوا إليها؛ ليهدموا سورها، فقتلهم سيف الدولة، وتمم بناء سورها، فكأن قصدهم لهدمها سبب بنائها.
وحكى ابن جني: إن سبب إتمام بناء الحدث. أن الروم لعنوا سيف الدولة، فاغتاظ من ذلك وأتمه، فلما كان لعنهم إياه سبباً لإتمامه، أجرى عليه لفظ البناء.
واستجرّوا مكايد الحرب حتّى ... تركوها لها عليهم وبالا
استجروا: أي جروا. ومكايد الحرب: آلاتها. والهاء في لها لقلعة الحدث، وأراد بها: أهلها.
يقول: إنهم جمعوا آلات الحرب، ومكايد الحصون، ثم انهزموا وتركوها، فأخذها أهل الحدث، واستعانوا بها عليهم، فصارت وبالاً عليهم.
وقيل: أراد بمكايد الحرب: تدبيرهم في الحدث فقال: إن تدبيرهم صار وبالاً عليهم، لأن أهل الحدث أوقعوا بهم.(1/344)
ربّ أمرٍ أتاك لا تحمد الفع ... عال فيه وتحمد الأفعال
يقول: إن هذا الفعل كان منهم محموداً في نفسه؛ لما فيه من نفع المسلمين، فحمدته لذلك، وإن كان لا تحمدهم على فعلهم ذلك.
وقسيّ رميت عنها فردّت ... في قلوب الرّماة عنك النّصالا
يقول: إنهم جاءوا بها، ثم انهزموا، فأخذ أصحابك قسيهم، فرموا بها من كان يرميهم، فردت نصالهم في نحورهم.
أخذوا الطّرق يقطعون بها الرّس ... ل فكان انقطاعها إرسالا
يقول: أخذوا الطرق من كل جهة؛ ليمنعوا الرسل الذين يرسلهم أهل الحدث إلى سيف الدولة، فلما انقطعت الرسل استراب، وعلم أن الروم حاصروهم، فركب إليهم، وكأن انقطاع الرسل عنه قائماً مقام الإرسال.
وقيل: أراد أنهم وإن اجتهدوا في قطع الرسل عنه، فلم يخف الخبر عليه؛ لأن الناس تطلعوا إلى إبطاء الخبر عنهم، وعادوا بالخبر إليه.
وهم البحر ذو الغوارب إلاّ ... أنّه صار عند بحرك آلا
كثروا فكانوا كالبحر، ذي الأمواج، فكانوا بالإضافة إليك كالسراب إلى البحر.
ما مضوا لم يقاتلوك ولكن ... ن القتال الّذي كفاك القتالا
ما: نفي، ولم يقاتلوك: في موضع الحال، أي ما مضوا غير مقاتلين لك، أي أنهم ما انهزموا من غير قتال، بل ثبتوا وقاتلوا، ولكن كان القتال الذي هزمهم هو قتالك معهم قبل ذلك، وكفاهم الآن قتالهم.
والمعنى: أنهم لما جربوك قبل هذا اليوم، وشاهدوا إيقاعك بهم، خافوا الآن من الإقدام، فانصرفوا منهزمين.
والّذي قطع الرّقاب من الضّر ... ب بكفّيك قطّع الآمالا
يقول: إن السيف الذي قطع رقابهم حين ضربتهم به قبل ذلك، قطع الآن آمالهم أن يقدموا عليك.
والثّبات الّذي أجادوا قديماً ... علّم الثّابتين ذا الإجفالا
يقول: إن الروم كانوا ثبتوا فيما مضى من الأيام، وجودوا الثبات لك، فأدى ثباتهم إلى قتلهم واستئصالهم، فعلم هؤلاء ثباتهم من قبل، هذا الهرب والانهزام، لأنهم علموا أنهم لو ثبتوا لهلكوا.
والإجفال: الانهزام.
نزلوا في مصارعٍ عرفوها ... يندبون الأعمام والأخوالا
يقول لما نزل هؤلاء حول الحدث؛ ورأوا مصارع أعمامهم وأخوالهم الذين قتلهم قبل هذا اليوم، وأقبلوا يندبونهم، ويبكون عليهم.
ثم انهزموا خوفاً من أن يحل بهم ما حل بمن تقدمهم من أقربائهم.
تحمل الرّيح بينهم شعر الها ... م وتذري عليهم الأوصالا
تذري: أي تسير. والأوصال: الأعضاء.
يقول: نزلوا في مصارع الذين قتلهم من الروم، وأوصالهم كانت موجودة بها بعد، فكانت الريح تذري عليهم رميم أوصالهم، وتحمل بينهم شعور هامهم.
تنذر الجسم أن يقيم لديها ... وتريه لكلّ عضوٍ مثالاً
فاعل تنذر ضمير المصارع، وإليها يرجع الضمير في قوله: لديها وقيل: إن فاعل تنذر: ضمير الريح. والأول أولى.
والمعنى: إن مصارع المقتولين من قبل تنذر أجسام هؤلاء المنهزمين أن يقيموا بها، وترى هذه المصارع أجسامهم لكل عضو منها مثالاً من أعضاء المقتولين، فإذا تأملوا تلك الأعضاء علموا أنهم إن أقاموا بها قتلوا، وصارت أعضاؤهم منقطعة.
أبصروا الطّعن في القلوب دراكاً ... قبل أن يبصروا الرّماح خيالا
دراكاً: تباعاً. متداركاً. وتقدير البيت: أبصروا الطعن في القلوب دراكاً خيالا قبل ان يبصروا الرماح.
يقول: إنهم تخيلوا الطعن في قلوبهم، لما رأوا مصارع قتلاهم، فانهزموا قبل أن يروا الرماح عياناً.
وإذا حاولت طعانك خيلٌ ... أبصرت أذرع القنا أميالا
الأميال: جمع ميل. وهو ثلث الفرسخ.
يقول: إن العدو إذا أراد مطاعنتك رأى رماحك طوالاً، حتى كأنه يرى كل ذراع منها في طول الميل، لما لحقه من الخوف والوهل، فكأنه مأخوذ من قول الله تعالى " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنْ ".
بسط الرّعب في اليمين يميناً ... فتولّوا وفي الشّمال شمالاً
قال ابن جني: هذا مثل قول الله تعالى: " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنْ " ولم يزد على هذا.
والمعنى: أن الرعب قد ملأ قلوبهم لما عاينوا جيشك، فصور لهم أنه قد اتصل بناحية يمين جيشه يمين أخرى، وكذلك في ناحية الشمال، فرأوه أكثر مما هو، فكأنهم رأوا الرجل رجلين، واليمين يمينين والشمال شمالين، فولوا أدبارهم منهزمين.(1/345)
وقيل: المعنى أن الخوف قد تسلط عليهم حتى أعجزهم عن القتال، فكأن الخوف بسط في يمين الجيش يمينه وفي شمال الجيش شماله. وهو جيش العدو.
ينفض الروع أيدياً ليس تدري ... أسيوفاً حملن أم أغلالا
يقول: إن الخوف ملأ قلوبهم، وكانت أيديهم ترتعد، وهي قابضة على السيوف فكأنها مغلولة.
ووجوهاً أخافها منك وجهٌ ... تركت حسنها له والجمالا
وجوهاً: نصب لأنها معطوفة على قوله: أيديا لفظاً، وهي منصوبة بفعل مضمر معنىً، دل عليه ينفض أي يغير وجوهاً.
يقول: خوفك يغير وجوهاً، ويردها من حال الحسن إلى حال القبح، ولا يلحقك خوف يتغير له وجهك، فكأن وجهك سلب وجوههم حسنها، وانتقل إلى وجهك جمال الوجوه.
والعيان الجليّ يحدث للظّنّ ... زوالاً، وللمراد انتقالا
يقول: جاءوا ليهدموا الحدث، ظناً منهم أنهم يقدرون على ذلك، فلما عاينوك بطل الظن، وانتقل المراد إلى غيره، ورضوا من الظفر بالهزيمة.
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ ... طلب الطّعن وحده والنّزالا
الهاء في وحده للجبان.
يقول: الجبان إذا خلا بنفسه أظهر الشجاعة، وإذا عاين الحرب انثنى عزمه.
أقسموا لا رأوك إلاّ بقلبٍ ... طالما غرّت العيون الرّجالا
يقول: حلفوا أنهم لا يرونك إلا بالقلب وإعمال الفكر، فإن يونهم قد غرتهم، وأرتهم منك خلاف ما جربوه.
أيّ عينٍ تأمّلتك فلاقتك ... وطرفٍ رنا إليك فالا؟
يقول: كل عين نظرت إليك تحيرت بجلالك وهيبتك، ولم يمكنها أن تلاقيك، والطرف إذا رنا إليك بقي شاخصاً لا يرجع من النظر إليك..
ما يشكّ اللّعين في أخذك الجي ... ش فهل يبعث الجيوش نوالا
يقول: إن ملك الروم لا يشك في أنك تأخذ جيشه وتأسره، ومع ذلك يبعث الجيوش إليك، أفتراه يبعثها إليك هدية وعطيةً؟؟! وحكى ابن جني: أن أبا الطيب كان يرفع اللعين وينصبه على: أعني اللعين.
ما لمن ينصب الحبائل في الأر ... ض ومرجاة أن يصيد الهلالا؟
ومرجاةً: نصب لأنه مفعول معه: أي ماله مع مرجاة. وهي مفعلةٌ من: رجا يرجو.
يقول: من ينصب حبائل في الأرض، كيف يطمع أن يصيد الهلالا؟! وهذا مثل والمعنى: كيف يطمع ملك الروم في قلعة الحدث؟! وهي في بعد المنال كالنجم والهلال.
إنّ دون الّتي على الدّرب والأح ... دب والنّهر مخلطاً مزيالا
الأحدب: اسم جبل وعليه قلعة الحدث. والمخلط من الرجال: من يخلط للقتال. والمزيال: الذي يفارقه. وقيل: المخلط والمزيال: الرجل الداهية، لا يعرف كيف يدخل في الأمر! وكيف يخرج منه! يقول: دون هذه القلعة رجل بصير بالأمور، يقابل وقت القتال، ويزايل وقت الزيال، فهو يحول بين القلعة وبين من يقصدها.
وقيل: المخلط: الذي يخلط بين الجيشين. والمزيال: الذي يميز بينهما، وهي صفة الرجل الشجاع، والمراد به سيف الدولة.
غصب الدّهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدّهر خالا
خالا: نصب على الحال.
يقول: إن سيف الدولة قد غصب هذه القلعة من الملوك ومن الدهر: أي خلصها من حوادثه، وبناها وحصنها، فهي تلوح في وجنة الدهر كالخال، فلا يقدر الدهر على أن يزيلها حتى يزول، فهي باقية ما بقي الدهر، لبقاء الخال ببقاء الخد.
وحماها بكلّ مطّرد الأك ... عب جور الزّمان والأوجالا
يقول: منعها من حوادث الزمان، ومن الخوف، بكل رمح مطرد الأكعب أي مستو ليس في كعوبه اختلاف واضطراب.
فهي تمشي مشي العروس اختيالا ... وتثنّي على الزّمان دلالا
يقول: هذه القلعة تختال في مشيها، كما تختال العروس، وتتثني دلالاً على الزمان؛ لأنها أمنت أحداثه. وأراد به أهل القلعة.
في خميسٍ من الأسود بئيسٍ ... يفترسن النّفوس والأموالا
بئيس: أي شديد.
يقول: تمشي مشي العروس، في جيش شديد مثل الأسود، فهي تفترس النفوس بالقتل، والأموال بالنهب.
وظباً تعرف الحرام من الحلّ ... فقد أفنت الدّماء حلالا
يقول: إن السيوف التي حولها، تعرف الحلال من الحرام، فهي لا تسفك إلا دماً يحل سفكه: يعني أنها لا تقتل إلا من حل دمه، وظباً: عطف على خميس.
إنّما أنفس الأنيس سباعٌ ... يتفارسن جهرةً واغتيالا
الأنيس: الإنس. والاغتيال: الخديعة.(1/346)
يقول: نفوس الناس مثل السباع يفرس بعضها بعضاً، إما مجاهرة، وإما مخادعة، كما تفعل السباع. وجهرة واغتيالاً: مصدران واقعان موقع الحال.
من أطاق التماس شيءٍ غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
الغلاب: المغالبة.
يقول: من قدر على مراده بالغصب، لم يطلبه بالسؤال.
كلّ غادٍ لحاجةٍ يتمنّى ... أن يكون الغضنفر الرّئبالا
يقول: من يطلب أمراً يتمنى أن يكون فيه كالأسد في الشجاعة والقهر. والرئبال والغضنفر: اسمان للأسد، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.
وقيل: إن الرئبال بدل من الغضنفر، وقيل صفة له.
وفزع الناس لخيل لقيت سرية سيف الدولة ببلد الروم، فركب وركب أبو الطيب معه فوجد السرية قد قتلت بعض الخيل، وأراه بعض العرب سيفه فنظر إلى الدم عليه وإلى فلول أصابته في ذلك الوقت فأنشد سيف الدولة متمثلاً قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب
تخيّرن من أزمان يوم حليمةٍ ... إلى اليوم قد جرّين كلّ التّجارب
فقال أبو الطيب مجيباً له في الوقت ارتجالاً.
رأيتك توسع الشعراء نيلاً ... حديثهم المولّد والقديما
القديم: من كان في الجاهلة. والمخضرم: الذي أدرك الجاهلية والإسلام. والإسلامي: من ولد في الإسلام إلى وقت بشار. والمولد: من كان في وقت بشار، وهم إلى يومنا، فبشار أبو المولدين وكذلك الحديث.
وقيل: القديم: البدوي. والمولد: الحضري.
يقول: قد عم إحسانك الشعراء السالف منهم والباقي، وحديثهم وما كان بعده بدل من الشعراء.
فتعطي من بقي مالاً جسيماً ... وتعطي من قضي شرفاً عظيماً
بقي: لغة طائية.
يقول: تعطي الباقي منهم الأموال الجسيمة، وتعطي الماضي الشرف العظيم وروى عميماً أي ثابتاً.
سمعتك منشداً بيتي زيادٍ ... نشيداً مثل منشده كريماً
النشيد: الإنشاد. وزياد: اسم النابغة، وأراد بمنشده: سيف الدولة.
يقول: سمعتك تنشد بيتي النابغة، وكان هذا الإنشاد كريماً مثلك.
فما أنكرت موضعه ولكن ... غبطت بذاك أعظمه الرّميما
الرميم: البالية، وإنما لم يؤنثه، وإن كان صفةً لأعظمه، لأن الرميم مصدر في الأصل. يقال: رم العظم يرم رماً ورميماً، فلما استعمله صفة لم يؤنثه، كقولهم: رجل صؤوم وامرأة صؤوم.
يقول: لم أنكر موضع النابغة في الشعراء ومحله في الفصحاء، ولكن غبطت عظامه البالية؛ حيث تشرف بإنشادك شعره، فتمنيت أن أكون مكانه.
وقال أيضاً يمدحه وكان قد اجتاز برأس عين سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد، وبني ضبة ورباح من بني تميم، ولم ينشدها إياه، فلما لقيه دخلت في جملة مدائحه وهي من قوله في صباه:
ذكر الصّبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي
ذكر: جمع ذكرى. وروى ذكر الصبا مصدر: ذكرت. والمرابع: جمع مربع، وهو المنزل في أيام الربيع، وقيل: المرعى. والآرام: جمع ريم، وهو الظبي الأبيض.
يقول: تذكرت منازلنا في الربيع، ومنازل مجاورةً، لنساء كالظباء البيض جلبن علي الموت قبل وقته.
وإنما تذكر العرب أيام الربيع؛ لأنهم يخرجون إلى المراعي فيجتمعون مع أحبابهم، فإذا جاء الصيف، رجع كل قوم إلى دارهم، وهاجت صبابة الاشتياق، وتجرعوا مرارة الافتراق.
دمنٌ تكاثرت الهموم عليّ في ... عرصاتها كتكاثر اللّوّام
دمن: خبر ابتداء محذوف، أي هذه المرابع دمن. والدمن: جمع الدمنة، وهي ما يرى من آثار الديار: من الأبوال والأبعار.
يقول: لما وقفت في هذه المرابع، تذكرت أحبابي فيها، فتكاثرت علي الهموم كتكاثر اللوم في وقوفي في تلك العرصات.
وكأنّ كلّ سحابةٍ وقفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام
عروة بن حزام: أحد العشاق، وصاحبته عفراء.
يقول: عفت آثار هذه المرابع بكثرة الأمطار حتى كأن كل سحابة كان لها بهذه الدمن حبيب، فهي إذا وقفت عليها بكت لتذكره، كما بكي عروة على عفراء، ومثله لأبي تمام:
كأنّ السّحاب الغرّ غيّبن تحتها ... حبيباً فما ترقى لهنّ مدامع
وقد شبه غزارة المطر بغزارة دمع عروة على عادته في قلب التشبيه
ولطالما أفنيت ريق كعابها ... فيها، وأفنت بالعتاب كلامي
الكعاب: التي كعب ثدياها.(1/347)
يقول: إن كانت هذه المرابع قد درست، فطالما خلوت فيها بجارية كاعب، أقبلها وأترشف ريقها، وهي تعاتبني حتى أفنيت ريقها بالترشف؛ وأفنت كلامي بالعتاب.
قد كنت تهزأ بالفراق مجانةً ... ويجرّ ذيلي شرّةٍ وعرام
وروى: قد كنت أهزأ وأجر والمجانة: المجون. والعرام، والعرامة: خلع العذار.
يخاطب نفسه ويقول: قد كنت تستصغر شأن الفراق، وتسخر منه في أيام الوصال وكنت تجر ذيل الشرة والنشاط، ولم تشكر ما أنت فيه من النعمة، حتى بليت بالفراق فعرفت مرارة الاشتياق.
ليس القباب على الرّكاب وإنّما ... هنّ الحياة ترحّلت بسلامٍ
يقول: هذه الهوادج التي على الجمال ليست هي القباب؛ وإنما هي حياتي رحلت عني، وكانت حياتي سالمة فذهبت بما فيها من السلامة.
ليت الّذي خلق النّوى جعل الحصى ... لخفافهنّ مفاصلي وعظامي
لخفافهن: أي لخفاف الركاب.
يقول: ليت الله تعالى لما خلق الفراق جعل مفاصلي، وعظامي تحت خفاف الإبل، حتى يمشين عليها؛ لكرامتهن علي، بسبب من عليها من الجواري.
وقيل: تمنى ذلك ليتلف بسببهن، كي يستريح من الاهتمام بفراقهن، وليتذذ بهذا الموت، بعد علمه بأن الفراق أشد من الموت.
وقيل: معناه ليت الله تعالى لما خلق الفراق أماتني قبل أن أبتلي به، وجعل عظامي حصى تدوسه إبلهم بأخفافها: أي ليتني مت قبل أن أرى الفراق.
متلاحظين نسحّ ماء شئوننا ... حذراً من الرّقباء في الأكمام
متلاحظين: نصب على الحال من فعل محذوف: أي وقفتا متلاحظين، يلحظ بعضنا بعضاً، وينظر إليه سراً. ونسح: أي نصب والشئون: مجاري الدموع من الناس. وحذراً: نصب على المفعول له وفي الأكمام: متعلق بقوله: نسح. أي نسح في الأكمام.
يقول: وقفنا متلاحظين حال التوديع: نصب دموعنا في أكمامنا خوفاً من الرقباء أن يقفوا على أحوالنا.
أرواحنا انهملت وعشنا بعدها ... من بعد ما قطرت على الأقدام
روى: انهملت وانهلت.
يقول: إن الدموع هي أرواحنا، سالت منا وقطرت على أقدامنا، فكيف عشنا بعد خروج الروح من أبداننا؟؟! وجعل الدموع أرواحاً لأن البكاء يمرض ويتلف.
وقيل: أراد أن دموعهم كانت دماً! والدم إذا كثر خروجه أتلف ومثله لآخر:
وليس الّذي يجري من العين ماؤها ... ولكنّها نفسٌ تذوب وتقطر
لو كنّ يوم جرين كنّ كصبرنا ... عند الرّحيل لكنّ غير سجام
السجام: الغزيرة، وهي جمع ساجم.
يقول: لو كانت دموعنا يوم الفراق على قدر صبرنا. لكانت قليلة كقلة صبرنا.
لم يتركوا لي صاحباً إلاّ الأسى ... وذميل ذعبلةٍ كفحل نعام
روى: الأسى والأذى والذميل: ضرب من السير. والذعلبة: الناقة الخفيفة، وروى بدلها عرمسة.
يقول: لم يترك الأحباب الراحلون صاحباً لي إلا لحزن، وناقةً خفيفةً أرحل عليها، وأقصد الممدوح، وهي في السرعة كفحل النعام.
وتعذّر الأحرار صيّر ظهرها ... إلاّ إليك، عليّ فرج حرام
يقول: قلة الأحرار وتعذرهم حرم علي أن أركب ظهر هذه الناقة إلا إليك، فلا أقصد عليها سواك، كما لا أركب فرجاً حراماً.
أنت الغريبة في زمانٍ أهله ... ولدت مكارمهم بغير تمام
أنت الغريبة: أي الخصلة الغريبة، أو الحالة الغريبة. وقيل: أدخل الهاء للمبالغة كقولهم: فلان كريمة قومه.
يقول: إن أهل هذا الزمان إذا فعلوا مكرمة لم يتموها، وأنت بينهم غريبة؛ لتمام مكارمك وكمال معالمك.
أكثرت من بذل النّوال ولم تزل ... علماً على الإفضال والإنعام
يقول: أكثرت بذل العطاء وبالغت في الجود والسخاء، حتى صرت في الجود علماً مشهوراً ومثالاً مضروباً، ولم تزل كذلك في قديم الأيام.
صغّرت كلّ كبيرةٍ وكبرت عن ... لكأنّه وعددت سنّ غلام
يقول: فعلت كبار الصنائع حتى صغرت كل صنيعة كبيرة! وجل قدرك عن أن يشبه شيء، فيقال: والله لكأنه بحر في جوده، وبدر في علوه، وبلغت هذا المبلغ وأنت في سن الغلام الحدث! واللام في قوله: لكأنه جواب القسم المحذوف لدلالة اللام عليه.
ورفلت في حلل الثّناء وإنّما ... عدم الثّناء نهاية الإعدام(1/348)
رفل الرجل: إذا تبختر في مشيه وجر ذيله؛ فشبه الثناء بالحلل؛ لما فيه من الزينة والجمال، وإنما عندك الإعدام هو عدم الثناء لا عدم المال، فلهذا أبيت الحلل واكتسيت من الثناء الحلل.
عيبٌ عليك ترى بسيفٍ في الوغى ... ما يصنع الصّمصام بالصّمصام
ترى: أي أن ترى بسيف، أي مع سيف.
يقول: أنت سيف فلا حاجة لك إلى حمل سيف في الحرب، وحمله عيب عليك لأنك أمضى منه.
إن كان مثلك كان أو هو كائنٌ ... فبرئت حينئذٍ من الإسلام!.
أقسم بالبراءة من الإسلام، إن كان له نظير في زمانه، أو سيكون في مستقبل أيامه!.
ملكٌ زهت بمكانه أيّامه ... حتّى افتخرن به على الأيّام
زهت: أي زهيت، فأبدل من الكسرة فتحة فصارت الياء ألفاً، ثم سقطت لسكونها وسكون التاء الساكنة بعدها، وهذه لغة طيئ.
يقول: أيامه افتخرت بمكانه فيها على سائر الأيام؛ لأنه كساها فخراً وزادها على الأيام شرفاً.
وتخاله سلب الورى من حلمه ... أحلامهم فهم بلا أحلام
من حلمه: أي بحلمه. والأحلام: العقول.
يقول: إذا رأيت عقله وعقل الناس، ظننت أنه سلبهم عقلهم ورأيهم فلا عقول لهم.
وإذا امتحنت تكشّفت عزماته ... عن أوحديّ النّقض والإبرام
الأوحدي: منسوب إلى الأوحد.
يقول: إذا جربت عزمه رأيته أوحداً في نقضه وإبرامه، لا نظير له في أفعاله.
وإذا سألت بنانه عن نيله ... لم يرض بالدّنيا قضاء ذمام
يقول: إذا استمحنت بنانه، استحقر الدنيا بأسرها في قضاء حقك وحرمة سؤالك.
مهلاً! ألا لله ما صنع القنا ... في عمرو حاب وضبّة الأغتام
ألا لله: تعجب. وما: بمعنى الذي، وقيل: استفهام، وأراد عمرو بن حابس، فرخم في غير النداء وهو جائز عند الكوفيين، ولا يجيزه البصريون، والأغتام: جمع الغتم وهو الجاهل الجافي.
يقول: اكفف عن هاتين القبيلتين فقد أوقعت بهم وقعة كبيرة.
لمّا تحكّمت الأسنّة فيهم ... جارت وهنّ يجرن في الأحكام
جارت: أي عليهم.
يقول: لما جعلت الرماح حكماً بينك وبينهم، جارت عليهم في حكمها، وعادتها أن تجور إذا حكمت؛ لأنها تقتل الناس.
فتركتهم خلل البيوت كأنّما ... غضبت رءوسهم على الأجسام
يقول: تركتهم وسط البيوت قتلى، أجساماً بلا رءوس، فكأن رءوسهم غضبت على جسومهم ففارقتها.
أحجار ناسٍ فوق أرضٍ من دمٍ ... ونجوم بيضٍ في سماء قتام
يعني: أن الأرض احمرت بما سال من دمائهم، وهم مصروعون على الدماء كالحجارة على الأرض، وكأن السيوف كانت تلمع في الغبار، كما تلمع النجوم في السماء.
لما جعل الأرض دماً جعل حجارتها القتلى، ولما جعل البيض نجوماً جعل القتام سماء.
ويجوز في أحجار الرفع على إضمار المبتدأ، والنصب على إضمار الفعل: أي أشبهوا أحجاراً، والرفع أجود.
وذراع كلّ أبي فلانٍ كنيةً ... حالت فصاحبها أبو الأيتام
وهذا معطوف على قوله: أحجار ناس.
يقول: إنك قتلتهم وفرقت أوصالهم! فهناك ذراع كل إنسان كل يكنى أبا فلان، كأبي زيد وأبي محمد وغيره، فحين قتلته حالت كنيته، فصار يكنى أبا الأيتام.
وكنيةً نصب على الحال من أبي فلان وقيل: على المصدر: أي يكنى كنية. وقدر انفصال كل أبي فلان لأن كل إذا أضيف إلى اسم واحد في معنى الجمع، لا يقع بعده إلا النكرة، فيقال: كل رجل في الدار، ولا يقال: كل زيد. غير أنه قدر الانفصال اضطراراً، فكأنه قال: كل أب لفلان، كما تقول: رب واحد أمه. أي رب واحد لأمه.
عهدي بمعركة الأمير وخيله ... في النّقع محجمةً عن الإحجام
يقول: عهدت ذلك اليوم خيل الأمير محجمة عن الإحجام: أي مقدمة في الغبار إلى الأعداء؛ لأنها إذا تركت الإحجام فعلت ضده، وهو الإقدام.
صلّى الإله عليك غير مودّعٍ ... وسقى ثرى أبويك صوب غمام
غير مودع: نصب على الحال، دعاء له بالصلاة والرحمة، ولثرى أبويه بالسقيا، ثم قال: لا جعل هذا الدعاء مني وداعاً لك.
وكساك ثوب مهابةٍ من عنده ... وأراك وجه شقيقك القمقام
الهاء في عنده يعود إلى اسم الله تعالى. القمقام: البحر، والقمقام: السيد.
يقول: ألبسك الله الهيبة، وجمع بينك وبين أخيك السيد البحر وهو ناصر الدولة وكان أميراً بالموصل.(1/349)
فلقد رمى بلد العدوّ بنفسه ... في روق أرعن كالغطمّ لهام
روق أرعن: أي مقدمة العسكر. والغطم: البحر.
يقول: إن أخاك قصد العدو بنفسه في جيش عظيم كالبحر، وهو في أول الخيل.
قومٌ تفرّست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام
أي أنتم قوم تفرست: أي تأملت، وكان الوجه فيهم ولهم غير أنه رده إلى المعنى؛ لأنه أبلغ.
يقول: نظرت المنايا فيكم فرأتكم صابرين على الحرب، وعاينت فيكم صبر الكرام، فعدلت عنكم إلى أعدائكم الذين لم يصبروا على الحرب.
تالله ما علم امرؤٌ لولاكم ... كيف السّخاء وكيف ضرب الهام؟!
تالله: قسم وتعجب، وإنما خصت التاء بهذا الاسم لتضمنها معنى التعجب، فمنع التصرف، كما منع فعل التعجب.
يقول: علمتم السخاوة والشجاعة، ولولا أنتم لما علم امرؤ طريق السخاء والشجاعة.
وغزا سيف الدولة من حلب وأبو الطيب معه، وقد أعدوا الآلات لعبور أرسناس فاجتاز بحصن الران وهو في يده، ثم اجتاز ببحيرة سمنين ثم بهنزيط، وعبرت الروم والأرمن أرسناس وهو نهر عظيم لا يكاد أحد يعبره سباحةً إلا جره وذهب به، لشدته وشدة جريه فسبحت الخيل حتى عبرته خلفهم إلى تل بطريق، وقتل من وجه بها، وأقام أياماً على أرسناس وعقد بها سماريات يعبر فيها.
ثم قفل، فاعترض البطريق في الدرب بالجيش، وارتفع في ذلك الوقت سحاب عظيم وجاء بمطر غزير وقع القتال تحت المطر، ومع البطريق نحو ثلاثة آلاف قوس، فابتلت أوتار القسي ولم تنفع، وانهزم أصحابه، ثم انهزم بعد أن قاتل وأبلى، وعلقت به الخيل، فعجل الهرب يحمي نفسه حتى سلم.
فقال أبو الطيب وأنشدها إياه بآمد، وكان دخوله إليها منصرفاً من بلاد الروم في آخر نهار يوم الأحد، لعشر خلون من صفر سنة خمس وأربعين وثلاث مئة.
الرّأي قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّلٌ وهي المحلّ الثّاني
يقول: إن الرأي والعقل أفضل من الشجاعة، لأن الشجعان يحتاجون أولاً إلى الرأي ثم إلى الشجاعة، فإذا لم تصدر الشجاعة عن الرأي فهي التنزي وربما أتت عليه. وروى بدل: الشجعان: الفرسان.
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرّةٍ ... بلغت من العلياء كلّ مكان
مرة: أي أبية. وروى: حرة.
يقول: إذا اجتمع الرأي والشجاعة لنفس واحدة كريمة أبية، بلغت كل مكان من المعالي.
ولربّما طعن الفتى أقرانه ... بالرّأي قبل تطاعن الأقران
يقول: إن الرأي ربما يغني عن الشجاعة، ويوصل صاحبه إلى الإيقاع بالأعداء والنكاية بهم قبل أن يقع حرب أو قتال.
لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
أدنى ضيغم: من الدناءة. وأدنى إلى شرف: من الدنو. والأول اسم كان، والثاني خبره.
يقول: لولا ما خص الله تعالى الناس من العقل، لكان أدنى أسد أقرب إلى الشرف من الإنسان؛ لما للأسد من فضل البأس والإقدام.
ولما تفاضلت النّفوس ودبّرت ... أيدي الكماة عوالي المرّان
قوله: ودبرت أي ولما دبرت.
يقول: لولا العقول لما كان لبعض الناس فضل على البعض، وما كانت الأيدي تصرف الرماح، بل تكون هي المدبرة للأيدي؛ لأن لها من المضاء ما ليس للأيدي. فبالعقل صار الإنسان مدبراً لها.
لولا سميّ سيوفه ومضاؤه ... لمّا سللن لكنّ كالأجفان
يقول: لولا سيف الدولة ومضاؤه، لم يكن للسيوف مضاء حين تسل من أغمادها، بل كانت كالأجفان في قلة الغناء.
خاض الحمام بهنّ حتّى ما درى ... أمن احتقارٍ ذاك أم نسيان
بهن: أي بالسيوف. حتى ما دري: أي ما دري الحمام. وروى: حتى ما دري على لغة طيئ.
يقول: خاض سيف الدولة الموت بسيوفه حتى ما دري الموت، هل ذاك احتقار منه، أم نسي كونه في الحرب؟!
وجرى فقصّر عن مداه في العلا ... أهل الزّمان وأهل كل زمان
وروى: وسعى أهل الزمان: أي أهل زمانه. وجرى إلى المعالي فعجز أهل زمانه عن بلوغ شأوه، كذلك كل أهل زمان قبله وبعده.
تخذوا المجالس في البيوت، وعنده ... أنّ السّروج مجالس الفتيان
تخذت واتخذت بمعنىً.
يقول: إنما قصروا عن بلوغ مداه؛ لأنهم اتخذوا بيوتهم مجالسهم، وهو يجعل مجالسه سروج الخيل، ومثله لعنترة:
وتبيت عبلة فوق ظهر حشيّةٍ ... وأبيت فوق سراة أدهم ملجم(1/350)
وتوهّموا اللّعب الوغى الهيجاء ... غير الطّعن في الميدان
يقول: حسب الناس لعبهم بالرماح في الميدان، أنه مثل الطعن في الحرب عند ملاقاة الأقران، وليس الأمر كما قدروا.
قاد الجياد إلى الطّعان ولم يقد ... إلاّ إلى العادات والأوطان
يقول: قاد الخيل إلى المطاعنة، ولم يكن قوده لها أول مرة، بل قد سبق له أمثالها، وتعودت خيله التردد إلى الروم، ومعارك الحرب، فكأنه يقودها إلى أوطانها التي تعودت الإقامة بها.
كلّ ابن سابقةٍ يغير بحسنه ... في قلب صاحبه على الأحزان
هذه الجياد، وكل ابن فرس سابقة حسن الخلق، إذا نظر صاحبه إليه أغار على ما في قلبه من الحزن بحسنه، وأزاله عن قلبه.
إن خلّيت ربطت بآداب الّوغى ... فدعاؤها يغني عن الأرسان
يقول: إن أرسلت هذه الخيل، فرابطها آداب الوغى.
يعني: أنها مؤدبة بآداب الحرب، فإذا أرسلت لم تشرد، فتحتاج إلى أن تشد برسن أو شكال، ولكنها متى دعاها صاحبها أقبلت إليه، فيغني دعاؤها عن أرسان تقاد بها.
في جحفلٍ ستر العيون غباره ... فكأنّما يبصرن بالآذان
الهاء في غباره للجحفل.
يقول: قاد جياده في جيش عظيم، قد ثار غباره حتى ستر العيون، وأطبق الجفون من تكاثفه، فكأن هذه الخيل تبصرن بالآذان؛ لأن الغبار لا يطبق الآذان، بل تكون أبداً منتصبة.
يرمى بها البلد البعيد مظفّرٌ ... كلّ البعيد له قريبٌ داني
يقول: يغير بهذه الخيل كل بلد ملك مظفر، كل مرام بعيد له قريب، وكل صعب على غيره، عليه سهل يسير.
فكأنّ أرجلها بتربة منبجٍ ... يطرحن أيديها بحصن الرّان
منبج: مدينة بالشام. والران من بلاد الأرمن وبينهما مسيرة خمس ليال.
يقول: كأن هذه الخيل لخفتها تكون أرجلها بمنبج وأيديها بحصن الران، فلا يتخلل من مسيرها من منبج إلى حصن الران، إلا مقدار الزمان الذي تتخلله الخطوة الواحدة.
وقيل: أراد بذلك سعة خطوها، فكأنه يقول: إنها تقطع ما بينهما بخطوة واحدة.
حتّى عبرن بأرسناس سوابحاً ... ينشرن فيه عمائم الفرسان
أرسناس: نهر عظيم في بلاد الروم.
يقول سار بها حتى عبرت هذا النهر سابحةً، وكانت تنشر عمائم الفرسان فوقهن؛ لسرعتهن في السباحة، فتضطرب العمامة لذلك.
وقيل: أراد أن ما يطفو من الماء من جنبي الفرس يعلو إلى أطراف العمائم المسدلة فينشرها. والأول هو الظاهر.
يقمصن في مثل المدى من باردٍ ... يذر الفحول وهنّ كالخصيان
يقمصن: أي يثبن. والمدى: جمع مدية وهي السكين: يقول: إن هذا النهر يعمل في البدن ما تعمل السكاكين من شدة برده! وتقلصت الخصى وبردت حتى صارت الفحول مثل الخصيان.
والماء بين عجاجتين مخلّصٌ ... تتفرّقان به وتلتقيان
يقول: إن الغبار قد ثار على جانبي هذا النهر، فكأن موج الماء يفرق بينهما، فمرة يفترقان ومرة يلتقيان فيتصلان من أحد الجانبين إلى الآخر.
وقيل لأبي الطيب: إنك وصفت برد الماء، وذلك يكون في الشتاء، ثم بالغت في وصف الغبار، والغبار لا يثور على الوجه المذكور في الشتاء، فبينهما تناقض، فقال: إنما وصفت ما عاينت. وفي رواية أخرى: إن ماء هذا النهر يكون في الصيف شديد البرد إلى الغاية.
وقيل: أراد بالعجاجتين: ما يثور من الماء على جانبي الفرس السابح، فإذا شق الماء افترق جانباه ثم تلاقيا من بعد.
ركض الأمير وكاللّجين حبابه ... وثنى الأعنّة وهو كالعقيان
اللجين: الفضة. والعقيان: الذهب. والحباب: طرائق الماء.
يقول: ركض، وكان الماء في الصفاء كالفضة البيضاء، وثنى عنانه راجعاً. وقد صار كالذهب؛ لما سال إليه من دماء القتلى، واحمر بما خالطه من دماء الروم.
فتل الحبال من الغدائر فوقه ... وبنى السّفين له من الصّلبان
الغدائر: الذوائب.
يقول: فتل من شعور من قتل من الروم الحبال الكثيرة، وكذلك بنى مما كسر من الصلبان سفناً يعبر بالسبي والأموال عليها.
وأراد: أنه لو أراد أن يفعل لأمكنه؛ من كثرة ما قتل منهم، وكسر من صلبانهم.
وحشاه عاديةً بغير قوائمٍ ... عقم البطون حوالك الألوان
العادية: الجارية.(1/351)
يقول: ملأ هذا النهر بخيل تعدو بلا قوائم، يعني: السفن فهي عقيمة لا تلد كسائر الخيول، وهي سود الألوان؛ لأنها مغبرة، فعبر عن السفن بالخيل، وأخرجه مخرج اللغز.
تأتي بما سبت الخيول كأنّها ... تحت الحسان مرابض الغزلان
يقول: هذه السفن كانت تحمل ما سبته الخيول من النساء والولدان، فكأنهن الغزلان والسفن تحتهن كأنها مرابض الغزلان.
بحرٌ تعوّد أن يذمّ لأهله ... من دهره وطوارق الحدثان
يقول: هذا النهر بحر يحفظ أهله، ويحصن من حوله من حوادث الدهر، فلم يقدر أحد على عبوره.
فتركته وإذا أذمّ من الورى ... راعاك واستثنى بني حمدان
يقول: جعلته بعد عبورك به، إذا ضمن لمعشر أن يمنعهم، استثناك وقومك، فيقول: إني أمنعكم من كل أحد، إلا من بني حمدان، فإني لا أمنعكم منهم.
وأراد أن الروم إذا تحصنوا به، لم يقدر أحد أن يصل إليهم إلا أنت وقومك.
المخفرين بكلّ أبيض صارمٍ ... ذمم الدّروع على ذوي التّيجان
يقال: أخفرته: إذا نقضت عهده، وهذا صفة بني حمدان.
يقول: إن دروع الملوك أعطتهم ذمةً أنها تمنعهم، فهم يخفرون بسيوفهم تلك العهود والذمم، ويهتكون بسيوفهم دروعهم. وذووا التيجان: هم الملوك.
متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشّان
الصعلوك: الفقير، والمتصعلك: من يتكلف ذلك.
يقول: هم يتخلقون بأخلاق الصعاليك، ويتطامنون مع ملكهم العظيم، وهم متواضعون مع علو قدرهم وعظم شأنهم.
يتقيّلون ظلال كلّ مطهّمٍ ... أجل الظّليم وربقة السّرحان
روى ابن جني: يتقيلون وحمله على معنى قولهم: فلان يتقيل أباه: أي يتشبه به. قال: ومعناه أن كل واحد منهم يتشبه بأب كريم، ويتبعه كما يتبع الفرس ظله، ويسبق إلى المجد والكرم، كالفرس المطهم الذي إذا رأى الظليم أهلكه، وإذا رأى الذئب شده.
قال: ويجوز أن يكون ويتقيلون من القائلة، يعني: يقيلون في ظل كل فرس مطهم، فوافق في المعنى رواية سائر الناس وروى غيره يتفيئون من الفيء. والمعنى أنهم يستظلون في الهواجر بظلال خيولهم كما يفعله الصعاليك، ولا يدخلون الخيام كما يفعله المتنعمون.
وقوله: أجل الظليم: صفه المطهم، أي أنه إذا عدا خلف الظليم أدركه أجله الذي لا خلاص له منه، وإذا عدا خلف سرحان لحقه، فكأنه قيده، وهذا من قول امرئ القيس.
بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل
وقيل: يمدحهم بالفروسية والثبات على الخيل فيقول: هم لا يفارقون ظهورها بل يلازمونها ملازمة الظلال ويتقيلون يميناً وشمالاً كما تنقلب الظلال.
خضعت لمنصلك المناصل عنوةً ... وأذلّ دينك سائر الأديان
العنوة: القهر.
يقول: سيفك قهر كل سيف، فانقادت له السيوف قهراً، ودينك ذل سائر الأديان وقهرها.
وعلى الدّروب وفي الرّجوع غضاضةٌ ... والسّير ممتنعٌ من الإمكان
الدروب: جبال الروم، وطرقها. والغضاضة: الذل والقهر. والتقدير وعلى الدروب غضاضة، وفي الرجوع غضاضة.
وقيل: على تعلق بالفعل الذي بعده وهو نظروا أي نظروا على الدروب إلى خليك.
يقول: قهرتهم في حالة صعبة على المسلمين، وذلك حيث لم يمكنهم المقام على الدروب، ولا الرجوع عنها، وكان السير ممتنعاً فدخلت عليك الغضاضة لذلك.
والطّرق ضيّقة المسالك بالقنا ... والكفر مجتمعٌ على الإيمان
يقول: إن الطرق كانت قد ضاقت برماح الروم، وكان الكفر مجتمعاً على الإيمان في تلك الحال، فأذللت الكفر ونصرت الإسلام.
نظروا إلى زبر الحديد كأنّما ... يصعدن بين مناكب العقبان
يقول: نظر الروم إلى قطع الحديد على الخيل، فكأن هذه القطع عليها، بين مناكب العقبان.
شبه الخيل بالعقبان في سرعتها، والدروع التي على الفرسان والبيض وغيرها كأنها علت العقبان وصعدت بين مناكبها.
وفوارسٍ يحي الحمام نفوسها ... فكأنّها ليست من الحيوان
يقول: نظروا إلى فوارس يعدون الموت في الحرب حياة؛ لبقاء الذكر، حتى كأنهم ليسوا من الحيوان، لأن الحيوان إذا مات ينسى.
ما زلت تضربهم دراكاً في الذّرى ... ضرباً كأنّ السّيف فيه اثنان
روى: في الذرى أي رءوس القوم، أو رءوس الجبال. وروى: في الوغى وهي الحرب. دراكاً: أي تباعاً.(1/352)
يقول: ما زلت تضربهم ضرباً في إثر ضرب، متوالياً من دون أن يتخللها، فكأنك تضربهم بسيفين.
وقيل: ما زلت تضربهم ضربةً تعمل عمل ضربتين. يعني: كأن السيف الواحد سيفان، والهاء في فيه راجع إلى الضرب.
خصّ الجماجم والوجوه كأنّما ... جاءت إليك جسومهم بأمان
خص السيف، أو الضرب رءوسهم ووجوههم دون أجسامهم، حتى كأنك أعطيت أجسامهم أمانك ألا تمسها بضرب.
فرموا بما يرمون عنه وأدبروا ... يطئون كلّ حنيّةٍ مرنان
روى يطئون من الوطء بالرجل، وروى: يطوون من طويته. والحنية: القوس. والمرنان: الكثير الرنة. وما يرمون عنه: هو القسي التي كانوا يرمون عنها.
يقول: رموا قسيهم وانهزموا يطئون قسيهم المطوية عند الرمي.
يغشاهم مطر السّحاب مفصّلاً ... بمهنّدٍ ومثقّفٍ وسنان
قيل: أراد بالمطر: المطر الحقيقي. والمعنى: أصابهم المطر النازل من السحاب، مفصلاً بالسيوف والرماح، كما يفصل العقد بالدر والذهب.
يعني: كما هزمهم السلاح هزمهم أيضاً المطر.
وقال ابن جني: أراد بالسحاب: جيش سيف الدولة. شبهه بالسحاب لكثافته، ولما جعله سحاباً جعل مطره الرماح والسيوف.
حرموا الّذي أملوا وأدرك منهم ... آماله من عاد بالحرمان
يقول: حرموا ما كانوا يؤملونه من الظفر بك، وانهزموا، فمن كان منهم محروماً من أمله الأول أدرك أمله الثاني، من العود إلى أهله، والسلامة من القتل والأسر، وهذا مثل قولهم: من نجا برأسه فقد ربح.
وإذا الرّماح شغلن مهجة ثائرٍ ... شغلته مهجته عن الإخوان
يقول: إنهم جاءوا يطلبون بثأر من قتلت منهم، فلما وقعت الرماح في قلوبهم اشتغلوا بأنفسهم ونسوا إخوانهم الذين يطلبون ثأرهم. وهذا من قول الله تعالى " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ".
هيهات! عاق عن العواد قواضبٌ ... كثر القتيل بها وقلّ العاني
العواد: الرجوع، وهو مصدر عاود يعاود معاودةً وعواداً وهي ها هنا من: عاود. وروى مكانه: الرجوع والعاني: الأسير.
المعنى كما قال: وأدرك منهم آماله من عاد بالحرمان فقال: ما أبعد عليهم الرجوع! وقد عاقهم عن ذلك سيوفك التي كثرت القتل فيهم، فكان من قتل منهم أكثر ممن أسر.
ومهذّبٌ أمر المنايا فيهم ... فأطعنه في طاعة الرّحمن
ومهذب: هو سيف الدولة، عطف على قواضب.
يقول: منعهم عن الرجوع إلى ديارهم رجل مهذب صفي من كل عيب، أمر الموت بقبض أرواحهم فأطاعه الموت في طاعة الله تعالى؛ لأن قتلهم طاعةً، وفيه رضى الله تعالى.
قد سوّدت شجر الجبال شعورهم ... فكأنّ فيه مسفّة الغربان
الهاء في فيه للشجر. والمسفة: الدانية من الأرض.
يقول: إن شعورهم سودت أشجار الجبال؛ لأنها متعلقة بها، فكأن عمومها الأشجار، غربان دانية من الأرض، واقفة على الأشجار.
وجرى على الورق النّجيع القاني ... فكأنّه النّارنج في الأغصان
يقول: جرى دمهم على الأوراق، فثمرت به، فأشبه الدم عليها، النارنج على الأغصان.
والمعنى: أن الشعور تعلقت بالشجرة فأشبهت الغربان على الأشجار، والدماء تطايرت فخضبت ورق الأغصان.
إنّ السّيوف مع الّذين قلوبهم ... كقلوبهنّ إذا التقى الجمعان
يقول: إن السيوف، إنما تعمل إذا كانت مع الشجعان الذين قلوبهم في المضاء كقلوب هذه السيوف عند اجتماع الجيشين.
تلقى الحسام على جراءة حدّه ... مثل الجبان بكفّ كلّ جبان
التاء: للخطاب، ومعناه: تلقى أيها السامع السيف القاطع مع جراءته في الحد، غير عامل، إذا كان في يدي الجبان، حتى كأنه جبان مثله.
وقيل: التاء ضمير السيوف.
يعني: أن السيوف التي في أيدي أصحاب سيف الدولة، الذين قلوبهم كقلوبها، تلقى سيوف الروم - مع جراءة حدها - غير قاطعة، فكأنها جبان مثل أصحابها الحاملين لها، وجبن السيوف: قلة المضاء.
رفعت بك العرب العماد وصيّرت ... قمم الملوك مواقد النّيران
العماد: عماد البيت، ويعبر به عن الشرف؛ لأن الرجل إذا كان شريفاً، كان عماد بيته رفيعاً. ومنه يقال في المدح: هو رفيع العماد، أي شريف، كثير الرماد. والقمم: جمع قمة، وهي وسط الرأس.
يقول: إن العرب تشرفت بك، وقتلت الملوك، فجعلوا هامهم أثافي لقدورهم.(1/353)
أنساب فخرهم إليك وإنّما ... أنساب أصلهم إلى عدنان
عدنان: أبو العرب كلها.
يقول: العرب تنتسب إليك من حيث الفخر، وتنتسب إلى عدنان من جهة النسب: فكما أن عدنان أصل نسبها، فإنك أصل فخرها وشرفها.
يا من يقتّل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان
يقول: أنت تعم الناس بالقتل، فتقتل الأعداء بسيفك، والأولياء بإحسانك؛ من حيث الاستعباد، وأنا من جملة قتلى إحسانك.
فإذا رأيتك حار دونك ناظري ... وإذا مدحتك حار فيك لساني
يقول: إذا رأيتك تحير ناظري دونك، فلا يمكنني أن أنظر إليك ملء عيني؛ لهيبتك، وكثرة مآثرك، وإذا أردت مدحك حار في وصفك لساني، وعجز عن استيفاء مدحك عبارتي وبياني.
وتحدث بحضرة سيف الدولة: أن البطريق أقسم عند ملكه أن يعارض سيف الدولة في الدرب، ويجتهد في لقائه، وسأله إنجاده ببطارقته وعدده، فخيب الله ظنه وأتعس جده.
فقال أبو الطيب وأنشده إياها بحلب سنة خمس وأربعين وثلاث مئة. وهي آخر قصيدة قالها عند سيف الدولة.
قال ابن جني: قلت لأبي الطيب وقت قراءة هذه القصيدة عليه: إنه ليس في جميع شعرك أعلى كلاماً من هذه القصيدة، فاعترف بذلك وقال: كانت وداعاً.
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم؟
يقول: عاقبة اليمين على عاقبة الحرب ندامة؛ لأنه إذا حلف على لقاء من لا يقاومه انهزم، وكان انهزامه أشنع، والملامة فيه أوقع، فيكون عاقبة اليمين الحنث واللوم، وعاقبة الحرب الانهزام، وهذا أشد من الانهزام بلا يمين، والقسم لا يزيد شجاعة الإنسان إذا لم يكن في نفسه شجاعة، يمكنه بها مقاومة خصمه. وعلى في قوله: على عقبى الوغى متعلق بلفظ اليمين.
وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم
يقول للبطريق: إن يمينك يدل على تهمتك في نفسك، فيما تعده من الإقدام، فلو كنت تصدق في وعدك لم تحتج إلى اليمين لرفع التهمة.
آلى الفتى ابن شمشقيقٍ فأحنثه ... فتىً من الضّرب ينسى عنده الكلم
الكلم: جمع كلمة.
يقول: حلف ابن شمشقيقٍ على الإقدام على سيف الدولة، فأحنثه سيف الدولة، وحال بينه وبين مراده، بضرب ينسى عنده الأيمان، فلما ضربه بسيفه نسى يمينه وفر من بين يديه.
وفاعلٌ ما اشتهى يغنيه عن حلفٍ ... على الفعال، حضور الفعل والكرم
وفاعل: عطف على فتى.
يقول: أحنثه فاعل يفعل كل ما اشتهاه، لا يحتاج فيه إلى اليمين، بل يغنيه عن اليمين حضور ذلك الفعل الذي أراده، ويغنيه عنها أيضاً كرمه ومضاء عزمه، فهو إذا هم بأمر أمضاه.
كلّ السّيوف إذا طال الضّراب بها ... يمسّها غير سيف الدّولة السّأم
السأم: الملال.
يقول: كل السيوف إذا طال عليها الضرب تكل وتعجز عن القطع، إلا سيف الدولة فإنه لا يمل.
لو كلّت الخيل حتّى لا تحمّله ... تحمّلته إلى أعدائه الهمم
قال ابن جني: اختار أبو الطيب في تحمله الرفع لأنه فعل الحال، والنصب جائز على معنى إلى أن لا تحمله.
يقول: لو كلت خيله وعجزت عن حمله إلى أعدائه لكانت هممه وصحة عزائمه تحمله إليهم ليحاربهم.
أين البطارق والحلف الّذي حلفوا ... بمفرق الملك والزّعم الّذي زعموا
البطارق، والبطاريق: جمع بطريق، وهو القائد للروم. والزعم: أكثر ما يستعمل في القول من غير علم.
يقول: أين يمين قواد الملك حين حلفوا برأسه، وزعموا أنهم يثبتون لسيف الدولة؟!
ولّى صوارمه إكذاب قولهم ... فهنّ ألسنةٌ أفواهها القمم
فاعل ولي ضمير سيف الدولة ومعناه: فوض إليه. وصوارمه: مفعوله الأول وإكذاب: المفعول الثاني.
يقول: فوض إلى سيفه تكذيب قول البطاريق، فالسيوف بمنزله الأفواه، فكأنها تكلمت في رءوسهم فقال لهم: كذبتم في يمينكم. ووجه التشبيه: أن السيوف تتقلقل فيها فيسمع عند وقعها في العظام ما يعلم منه كذبهم، فينوب ذلك عن قوله لهم: كذبتم.
نواطقٌ مخبراتٌ في جماجمهم ... عنه بما جهلوا منه وما علموا
يقول: هذه السيوف تنطق في جماجمهم، وتخبرهم عن سيف الدولة ما علموا من أحواله، وما جهلوا من أخباره.
الرّاجع الخيل محفاةً مقوّدةً ... من كلّ مثلٍ وبارٍ أهلها إرم(1/354)
المحفاة: التي أحفاها الركض، يقال: حفى الفرس: إذا رق حافره، وأحفاه فارسه. ووبار من مدائن قوم عاد، خربت، وهي بين اليمن وعمان، والعرب تزعم أنها من مساكن الجن. وإرم: قوم عاد.
يقول: إن سيف الدولة هو الذي يرجع الخيل من الغزو، وقد أحفاها طول السير، حتى نزل فارسها عنها، فقادها رفقاً بها، بعد ما خرب أرض العدو، وأهلك، أهلها فترك تلك الأرض خراباً مثل وبار، وأهلها هلكى مثل إرم
كتلّ بطريقٍ المغرور ساكنها ... بأنّ دارك قنّسرون والأجم
قنسرون: بفتح النون الأولى. قال ابن جني: وكان المتنبي يكسرها. والأجم: موضع. وتل بطريق: مدينة خربها سيف الدولة.
يقول: إنه يخرب أرض العدو ويهلك أهلها كما خرب تل بطريق التي اغتر أهلها ببعدك عنهم وأنك في قنسرين، فقد رأوا أنك لا تقدر على أن تصل إليهم، فقصدتهم وخربت بلادهم.
وظنّهم أنّك المصباح في حلبٍ ... إذا قصدت سواها عادها الظّلم
وظنهم: عطف على قوله: بأن دارك.
يقول: اغتروا أيضاً بظنهم أنك لا تقدر أن تفارق حلب؛ خوفاً من أن تضطرب وتستولي عليها الأعداء، فلا يمكنك العود إليها، فشبهه فيها بالمصباح لأنه ينفي عنها ظلم الفتنة، كما ينفي المصباح ظلمة الليل.
والشّمس يعنون إلا أنّهم جهلوا ... والموت يدعون إلا أنّهم وهموا
يقول: جهلوا حيث شبهوك بالمصباح، ولم يعلموا أنك كالشمس، يعم نورها الأرض وتضيء الدنيا وهي بعيدة، وكذلك أنت تسوس جميع ممالكك وتدبر أحوال الناس وإن كنت بعيداً عنهم، وكذلك أنت كالموت لا كالمصباح، فغلطوا في تشبيهك بالمصباح، ولم يعلموا أنك كالموت لا يمتنع منك أحد ولا يبعد عليك متناوله.
فلم تتمّ سروجٌ فتح ناظرها ... إلا وجيشك في جفنيه مزدحم
سروج: مدينة، والهاء في ناظرها تعود إلى سروج. وفي جفنيه للناظر.
يقول: كانوا يغترون ببعدك منه فجئت إليهم أسرع من فتح سروج عينها، حتى ازدحم جيشك في عينها.
وقيل: أراد بازدحام الجيش في جفني الناظر عبارة عن امتلائهما بالغبار المرتفع من أرجل الخيل.
وقيل: معناه لم تصبح سروج إلاّ وخيلك مزدحمة عليها، فجعل الصباح لها بمنزلة فتح الناظر من النوم.
والنّقع يأخذ حرّاناً وبقعتها ... والشّمس تسفر أحياناً وتلتئم
النقع: الغبار. وحران: مدينة بالشام. والبقعة: بضم الباء، أرض يخالف لونها لون ما حولها.
وذكر أبو العلا المعري: أنه بفتح الباء وهكذا يروي قال: وهو موضع يقال له بقعة حران، وهذا أحسن لأنه لو لم يرد مكاناً مخصوصاً لم يكن لذكرها فائدة، لأن النقع إذا أخذ حران فقد أخذ بقعتها وإن لم تذكر.
يقول: جئت إلى سروج وعم غبار خيلك حران وسترها، وكانت الشمس تارة تظهر، حين انحسر عنها الغبار، وتارةً تستتر، حين تكاثف الغبار.
سحبٌ تمرّ بحصن الرّان ممسكةً ... وما بها البخل لولا أنّها نقم
حصن الران: من أعمال سيف الدولة.
يقول: كانت خيلك تمر بحصن الران كالسحاب، لأنها كانت تمطر النقم والهلاك، غير أنها كانت ممسكة عن الأمطار، وليس الإمساك عن بخل، ولكن ما فيها كانت نقماً وعقوبات، فلم تصبها على حصن الران؛ لأنها لم ترد هلاكها وهلاك أهلها.
جيشٌ كأنّك في أرضٍ تطاوله ... فالأرض لا أممٌ والجيش لا أمم
الأمم: القصد، والقرب. وتطاوله: فعل الأرض، والهاء: للجيش.
يقول: إن الجيش جيش ممتد متباعد الأطراف، يسير في أرض كذلك، فالأرض تطاول الجيش وتباريه في الطول، فلا الأرض متقاربة الطول، ولا الجيش، بل كلاهما طويل ممتد.
إذا مضى علمٌ منها بدا علمٌ ... وإن مضى علمٌ منه بدا علم
منها يعود إلى الأرض. والعلمان: كل واحد منهما الجبل. والهاء في منه تعود إلى الجيش. والعلمان: كل واحد منهما العلم المعروف: الذي هو الراية.
يقول: إذا غاب جبل من هذه الأرض بدا جبل آخر، وإذا مضت راية من جيشك بدت راية أخرى.
وشزّبٌ أحمت الشّعري شكائمها ... ووسّمتها على آنافها الحكم
الشزب: جمع الشازب، وهو الفرس الضامر. وقوله: أحمت الشعري شكائمها إنما قال ذلك؛ لأن طلوع الشعري يكون في شدة الحر، فأضاف الفعل إليها. والشكيمة: رأس اللجام. وقوله: فوسمتها. من السمة التي هي الكي. والحكم: جمع حكمة وهي ما على أنف الدابة.(1/355)
يقول عطفاً على ما قبله: وظهرت خيل ضامرة وقد أحمت شدة الحر شكائمها، حتى صارت كالمكاوي، فوسمت أنوفها.
حتّى وردن بسمنينٍ بحيرتها ... تنشّ بالماء في أشداقها اللّجم
تنش: من النشيش، وهو صوت القلي، وصوت الحديد المحمي، إذا ألقى في الماء. وفاعل تنش: اللجم.
يقول: وردت خيلك بحيرة سمنين، وقد حميت شكائمها من شدة الحر، فلما شربت الماء، جعلت لجمها تنش في الماء نشيش الحديد المحمي إذا ألقي في الماء.
وأصبحت بقرى هنزيط جائلةً ... ترعى الظّبا في خصيبٍ نبته اللّمم
فاعل ترعى ضمير الخيل: أي أنهار راعية السيوف، مسببة لها في المرعى.
يقول: أصبحت الخيل جائلة في قرى هنزيط، تغير وتقتل، وأرسلت السيوف ترعى في منبت خصيب، وهي الرءوس: خصيبة بالشعور.
وقيل: إن فاعل ترعى الظبا أي كانت الظبا ترعى في رءوسهم الخصيبة من الشعور.
فما تركن بها خلداً له بصرٌ ... تحت التّراب ولا بازاً له قدم
الخلد: فأرةٌ عمياء فما تركن: أي الغارة والسيوف. وبها أي بقري هنزيط.
يقول: لم تترك الخيل والسيوف بقرى هنزيط شيخاً متوارياً من الأعداء منجحرا كالخلد في بطن الأرض إلا أنه ذو بصر، ولا شابا خفيفاً توغل في الجبال وتحصن بها كالباز، إلا أن طيرانه بقدم.
شبه المتوارين في البراري بخلد ذي بصر، والمتحصنين بالجبال بباز ذي قدم، إزاله للتوهم أنه خلد حقيقي، أو باز حقيقي، وبياناً أنه قصد به التشبيه والاستعارة.
ولا هزبراً له من درعه لبدٌ ... ولا مهاةً لها من شبهها حشم
اللبد: جمع لبدة الأسد، وهي ما تلبد على كتفه من وبره. والمهاة: البقرة الوحشية. والحشم: حاشية الرجل.
يقول: ما تركت بها شجاعاً أيضا مثل الأسد، عليه - مكان لبدته - درع، ولا امرأة كالمهاة ولها من أمثالها خدم.
ترمى على شفرات الباترات بهم ... مكامن الأرض والغيطان والأكم
الباء في بهم متعلق بترمى بهم: أي بالأعداء.
يقول: إن الأرض ترمى بالأعداء على شفار السيوف، وكل موضع استتروا فيه وهربوا إليه استخرجتهم الخيل وقتلتهم، فلم تكتمهم مكامن الأرض، ولا واراهم الغيطان، ولا حصنتهم الآكام.
وجاوزوا أرسناساً معصمين به ... وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم؟!
أرسناس: نهر عظيم. معصمين به: أي ممتنعين به.
يقول: لما عبروا أرسناس ظنوا أنه يحول بينك وبينهم، وكيف يعصمهم منك وهو لم يمكنه أن يعصم نفسه منك؟! لأنك عبرته بخيلك، فلم يقدر على الامتناع عليك.
وما يصدّك عن بحرٍ لهم سعةٌ ... وما يردّك عن طودٍ لهم شمم
الشمم: الارتفاع.
يقول: لا يمنعك عن بحر الأعداء سعته، ولا يردك عن جبلهم ارتفاعه.
ضربته بصدور الخيل حاملةً ... قوماً إذا تلفوا قدماً فقد سلموا
حاملةً: نصب على الحال. وقوماً: نصب بحاملة. أي يحمل قوماً صفتهم ما بعده.
يقول: ضربت أرسناس بصدور الخيل وكانت تحمل من أصحابك قوماً يعدون التلف في الحرب سلامة، فيسرون به كما يسرون بالسلامة.
تجفّل الموج عن لبّات خيلهم ... كما تجفّل تحت الغارة النّعم
تجفل: أي أسرع في الذهاب.
يقول: إن الموج كان يتفرق يميناً وشمالاً عن صدور الخيل بالسرعة، كما تتفرق الإبل عند الإغارة عليها.
عبرت تقدمهم فيه وفي بلدٍ ... سكّانه رممٌ، مسكونها حمم
يقول: عبرت هذا النهر، وأنت تتقدم الجيش، وتقدمتهم أيضاً في بلد أحرقته حتى صار كالفحم، وصار أهلها رميما.
وفي أكفّهم النّار الّتي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
يقول: عبرت هذا النهر بخيلك، وفي أيديهم السيوف المجردة، وشبهها بالنار لبريقها، ولما جعلها ناراً جعلها معبوداً من قبل المجوس الذين يعبدون النار.
يعني: أن المجوس دانوا لها وخضعوا لشعارها من أول الدهر إلى يومنا هذا.
وقبل: تم الكلام عند قوله: وفي أكفهم النار التي عبدت ثم قال: قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم.
يعني: أن السيوف مضطرمة متألقة قبل زمان المجوس إلى زماننا هذا. فكأنه يقول: إن السيوف كالنيران الحقيقية، وهي النيران المعبودة. ثم بين أن اضطرامها تقدم زمان المجوس، يعني: أن سيوفه عتيقة.
هنديّةٌ إن تصغّر معشراً صغروا ... بحدّها أو تعظّم معشراً عظموا(1/356)
يقول: هذه النارة هندية: أي سيوف مطبوعة بالهند، فهي تصغر المقتول وتعظم القتال، ويدرك بها العز والشرف.
قاسمتها تلّ بطريقٍ فكان لها ... أبطالها ولك الأطفال والحرم
يقول قسمت أهل هذه البلد بينك وبين سيوفك، فأعطيتها الأبطال، وأخذت لنفسك النساء والأطفال.
تلقى بهم زبد التّيّار مقربةٌ ... على جحافلها من نضحه رثمٌ
التيار: الموج. والمقربة: ها هنا، هي السفن. والرثم: بياض في شفة الفرس العليا. والضمير في بهم يعود إلى أصحاب الخيل وإلى السى.
يقول: سبيت الأطفال والحرم، وشحنت بهم السفن، وعبرت بهم النهر. وشبه السفن في النهر بالخيل المقربة، وشبه زبد الماء على مقاديم السفن بالرثم، وجحافل الخيل: أراد بها الخيل نفسها.
دهمٌ فوارسها ركّاب أبطنها ... مكدودةٌ وبقومٍ لا بها الألم
يقول: إن هذه الخيل دهم. يعني: أن السفن مطلية بالقار، وفوارسها يركبون بطونها، بخلاف الخيل التي يركب ظهورها، وهي مكدودة في السير، ولكن ليس بها ألم الكد، وإنما يلحق الكد والتعب قوماً آخرين، وهم الملاحون.
من الجياد الّتي كدت العدوّ بها ... ومالها خلقٌ منها ولا شيم
يقول: هذه السفن، هي بعض خيلك التي تكيد بها عدوك، ولكنها لا تشبهها في الخلقة ولا في الطبع.
نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ ... كلفظ حرفٍ وعاه سامعٌ فهم
يقول: هذه السفن كانت نتيجة رأيك لما أردت أن تعبر النهر بالسبي، أنشأتها في أسرع وقت، وكانت المدة في اتخاذها، في القصر كمدة فهم السامع كلمة نطق بها الناطق.
وقد تمنّوا غداة الدّرب في لجبٍ ... أن يبصروك فلمّا أبصروك عموا
في لجب: أي في اختلاط أصوات. وروى: في لجب: أي في جيش ذا لجب.
يقول: كانوا يتمنون لقاءك حين كانوا على الدرب، فلما عاينوك عموا: أي ماتوا، فزالت أبصارهم.
وقيل: تحيروا لما نظروا إليك فلم يملكوا أبصارهم.
وقيل: عموا عن الرأي؛ لما لحقهم من الخذلان.
صدمتهم بخميسٍ أنت غرّته ... وسمهريّته في وجهه غمم
وروى صبحتهم بدل صدمتهم والغمم: كثرة الشعر على الناصية والقفا، شبه الجيش بفرس، وشبه سيف الدولة بغرته، والرماح بشعر ناصيته، وإنما شبهه بالغرة لتقدمه على الجيش، أو لأنه كان يزين الجيش كما تزين الفرس غرته
فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم
يقول: كانت جسومهم أثبت شيء منهم؛ لأنها إذا سقطت عن الدواب ثبتت مكانها، والأرواح كانت تطير ولا تستقر.
والأعوجيّة ملء الطّرق خلفهم ... والمشرفيّة ملء اليوم فوقهم
الأعوجية: الخيل المنسوبة إلى أعوج، وهو فرس كريم كان لكندة، فأخذه بنو سليم في بعض أيامهم، فصار إلى بني هلال.
يقول: انهزموا وتبعتهم خيلك وكانت تملأ الطرق، لانبساطها على وجه الأرض. ولما كانت السيوف تعلوا في الجو، جعلها ملء النهار لأنه ما بين السماء والأرض ولأن النهار من الشمس والشمس تعلو.
إذا توافقت الضّربات صاعدةً ... توافقت قللٌ في الجوّ تصطدم
يقول: إذا اتفقت الضربات في الصعود إلى الرءوس: أي وقعت في وقت واحد، توافقت الرءوس في انحدارها، ويصطدم بعضها ببعض، وإنما قال: صاعدة لأن الحذاق يضربون السيوف من تحت إلى فوق وصاعدة نصب على الحال.
وأسلم ابن شمشقيقٍ أليّته ... ألاّ انثني فهو ينأى وهي تبتسم
يقول: انهزم وترك يمينه التي حلف، ألا انثني عنك، فكان يبعد هو في الهرب ويمينه تبسم من عمله بها.
لا يأمل النّفس الأقصى لمهجته ... فيسرق النّفس الأدنى ويغتنم
يقول: هو يتوقع القتل، ولا يطمع في أن يبقى، وهو النفس الأقصى، فيسرق النفس الأدنى: أي الأقرب منه ويعده غنيمة، ولا يأمل أن يتنفس نفساً بعده.
تردّ عنه قنا الفرسان سابغةٌ ... صوب الأسنّة في أثنائها ديم
السابغة: الدرع، وهي فاعلة ترد والهاء في عنه للبطريق.
يقول: إن الخيل كانت في إثره تطعن ظهره وهو منهزم، ولكن رد عنه رماح الفرسان درعه المحكمة، مع أن وقع الأسنة عليها في الكثرة كوقع المطر.
تخطّ فيها العوالي ليس تنفذها ... كأنّ كلّ سنانٍ فوقها قلم
فيها: أي في السابغة.(1/357)
يقول: إنها درع حصينة، فكانت الرماح تخط عليها خطاً ولا تنفذها، كما يخط القلم على الألواح ولا ينفذها.
فلا سقى الغيث ما واراه من شجرٍ ... لو زلّ عنه لوارى شخصه الرّخم
روى: لوارى ولوارت وجسمه وشخصه وروى الرجم أي القبر والحجارة. وما في موضع نصب، لأنه مفعول سقي.
يعني: أنه لولا دخوله فيما بين الأشجار. وتواريه، لكان يقتل، ولكانت الرخم تأكله وتوارى شخصه، أو يواريه قبره فلا سقى الله هذا الشجر.
ألهى الممالك عن فخرٍ قفلت به ... شرب المدامة والأوتار والنّغم
الممالك: أي أهل الممالك، فحذف المضاف.
يقول: شغل الملوك عن هذا العز الذي رجعت به، شربهم المدام، واشتغالهم بسماع اللهو، وأصوات أوتار البربط والعود والنغم، وهي الأصوات الطيبة.
مقلّداً فوق شكر الله ذا شطبٍ ... لا تستدام بأمضى منهما النّعم
مقلداً: نصب على الحال، أي قفلت مقلداً. وشطب السيف: طرائقه.
يقول: قفلت من الغزو، وأنت مقلداً سيفاً ذا شطب، فوق شكر الله تعالى على ما أولاك من الظفر وكساك من النصر، فجعلت الشكر دثاراً والسيف شعاراً.
ثم قال: إن النعم لا تستدام بشيء أمضى من شكر الله تعالى، ومن السيف القاطع؛ لأن الشكر يحرس النعم من الزوال ويحفظها من حوادث الأيام والانتقال والسيف يذب عنها كيد الحساد فتدوم النعم.
ألقت إليك دماء الرّوم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضربٍ أجاب دم
يقول: دماء الروم تطيعك، فلو دعوتها بلا سيف لاجابتك.
يعني: أنك قدرت على سفك دمائهم على أي وجه أردت.
يسابق القتل فيهم كلّ حادثةٍ ... فما يصيبهم موتٌ ولا هرم
يقول: القتل يسبق إلى الروم كل حادثة، فيميتهم القتل قبل أن يصيبهم شيب ولا هرم، ولا شيء من حوادث الأيام.
نفت رقاد عليٍّ عن محاجره ... نفسٌ يفرّح نفساً غيرها الحلم
يقول: نفي عن عينه النوم نفسه النفيسة، وهمته العالية، وكل نفس غيرها تسر بالأحلام الكاذبة.
القائم الملك الهادي الّذي ... شهدت قيامه وهداه العرب والعجم
يقول: هو قائم بشرائط الملك ومدبر لأمر رعيته، وهاد إلى معالم الدين، وقد حضرت ذلك منه، وعلمته سائر العرب والعجم.
ابن المعفّر في نجدٍ فوارسها ... بسيفه وله كوفان والحرم
يقول: هو ابن الذي قتل فرسان نجد، وعفرهم بالتراب، وهو قد ملك الكوفة والحجاز واستولى عليهما وكوفان: هي الكوفة ونواحيها. والحرم: مكة والمدينة. وأراد بما ذكر محاربة أبي الهيجاء والد سيف الدولة للقرامطة أصحاب الأحساء والبحرين.
وروى: وابن المعقر بالقاف وهو المقطع، من عقرت الدابة.
لا تطلبنّ كريماً بعد رؤيته ... إنّ الكرام بأسخاهم يداً ختموا
يخاطب نفسه أو صاحبه يقول: لا تطلب أحداً كريما بعد رؤيته فإن الكرام ختموا بأسخاهم، وهو سيف الدولة.
ولا تبال بشعرٍ بعد شاعره ... قد أفسد القول حتّى أحمد الصّمم
الهاء في شاعره لسيف الدولة، وأحمد الصمم أي وجد محموداً.
يقول: لا تفكر في شعر بعد شاعر سيف الدولة، وعنى به نفسه، فإن الشعراء قد ختموا به كما ختم الكرام بسيف الدولة، وهو خاتم الكرام وأنا خاتم الشعراء، وقد أفسد الشعر حتى صار الصمم محموداً، لأن الإنسان إذا سمع شعر أهل هذا العصر، تمنى أن يكون أصم لا يسمع لفساده واختلاله.
بذا آخر مدائحه في سيف الدولة، وما قاله فيه بحلب.
ثم مدحه بمصر بهذه الدالية.
فارقتكم فإذا ما كان عندكم ... قبل الفراق أذىً بعد الفراق يد
يقول معرضاً بسيف الدولة: كانت منكم أحوال أكرهها، فأعدها قبل الفراق أذى، فكنت أتأذى، فلما فارقتكم صارت تلك الإساة والأذى نعمة إلي وإحساناً، من حيث إني إذا تذكرتها أزالت عني الشوق: وقيل: إن معناه، شكرتكم قبل أن أجرب غيركم، فعلمت أن ما ظننته أذىً كان نعمة.
إذا تذكّرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشّوق الّذي أجد
يقول: كلما اشتد حزني على مفارقتكم، وغلب علي الاشتياق إليكم، تذكرت ما كنتم تعاملونني به من الإساءة، فأتسلى وتطيب نفسي لفراقكم، فيكون الأذى من هذه الجهة نعمة ويداً.
وعلى الثاني: إذا تذكرت ما بيننا من الأحوال زادني الشوق والحزن على الفراق.(1/358)
وتوفيت أخت سيف الدولة الكبرى، بميافارقين من ديار بكر لثلاث بقين من جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، وورد الخبر إلى العراق فقال أبو الطيب يرثيها في شعبان. وأملاها لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة:
يا أخت خير أخٍ، يا بنت خير أبٍ، ... كنايةً بهما عن أشرف النّسب
كنيت الشيء وكنيت عنه: إذا تركت التصريح به، وعبرت بلفظ آخر يؤدي معناه. ونصب كناية على المصدر.
المعنى: أراد أن يقول: يا أخت سيف الدولة، ويا بنت أبي الهيجاء، فكنى بذلك عن قوله: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب وأراد التصريح باسمها فعبر عنه بهذه العبارة، ثم قال: كناية بهما.
يعني: إذا قلت ذلك علم أن نسبها أشرف النسب، والغرض انتسابها إليهما لا يخص الأب وحده، وجعل كونها أختاً له: نسباً لها وهذا تعظيم شأن سيف الدولة.
أجلّ قدرك أن تسمى مؤبّنةً ... ومن يصفك فقد سمّاك للعرب
روى: أن تسمي وأن تدني وهما متقاربان. يقال: أسميته بكذا وسميته به، وقد جمع بينهما في البيت. والتأبين: مدح الميت. ومؤبنة: نصب على الحال.
يقول: أجل قدرك أن أذكر اسمك في مرثيتك، ولكني إذا وصفت ما فيك من المحاسن والمناقب، عرفتك العرب، لأن ذلك لا يوجد في غيرك.
وقيل اراد: أني أصفك بقولي يا أخت خير أخ، يا بنت خير أب، وهذه صفة يقع بها التمييز بينك وبين سائر النساء؛ لأن هذه الصفة ليست إلا لك خاصة. وإنما أعرض عن تسميتها؛ لأن تسمية النساء من قلة المروءة ما وجد إلى تعريفها - بغير التسمية - سبيلا، أو لأجل أن سيف الدولة ربما لحقته الغيرة إذا سمع التصريح باسمها، أو لأجل أنه أراد أن يعد محاسنها، والتعريف بالأوصاف المحمودة أجل من ذكر اللقب المحض الذي لا مدح تحته. ومثله لأبي نواس:
فهي إذا سمّيت فقد وصفت ... فيجمع الاسم معنيين معا
وأبو الطيب - رحمة الله - قلده.
لا يملك الطّرب المحزون منطقه ... ودمعه وهما في قبضة الطّرب
الطرب: خفة تصيب الإنسان من فرط الفرح، أو الجزع. والطرب: اسم فاعل منه.
يقول: الرجل الذي غلب الحزن على قلبه لا يملك منطقه ودمعه؛ لأنهما في قبضة الطرب، فهو مغلوب لا فعل له في ذلك.
غدرت يا موت كم أفنيت من عددٍ ... بمن أصبت وكم أسكتّ من لجب؟؟!
اللجب: الصوت في الحرب.
يقول: يا موت غدرت بهذه المتوفاة: بعد أن كنت تصل بها إلى إفناء الأعداء: الذين هم الكفار، وإلى إسكات لجبهم، لأنها تجهز الجيش، وتنفق في سبيل الله تعالى.
وقيل: إن المعنى أنك أفنيت بإفنائها كثيراً من الناس، وأسكت أصواتهم، لأنهم ماتوا بموتها، لأن حياتهم كانت بها. وهذا مثل قول الآخر:
ولكنّ الرّزيّة فقد حيٍّ ... يموت بموته بشرٌ كثير
ومثله قول الآخر:
فما كان قيسٌ هلكه هلك آدم ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّما
وكم صحبت أخاها في منازلةٍ ... وكم سألت فلم يبخل ولم تخب
يقول: يا موت كم صحبت أخاها في الحروب؟! وكم سألته أن يمكنك من تناول الأبطال فلم يبخل؟! هو بما سألت، ولم تعد خائباً في سؤالك عنه، ثم غدرته ونقضت ما كان بينكما من المواصلة.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
خبر: مرفوع بجاءني. وفي طوى ضمير على شريطة التفسير. وفي قول الكوفيين مرفوع بالفعل الأول وجاءني مسند إلى ضميره: أي حتى جاني هو. والجزيرة: مدينة معروفة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين.
يقول: جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي، فلما سمعته التجأت إلى التعلل بالآمال الكاذبة فقلت: لعله يكون كذباً، فلم ينفعني ذلك.
حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بي
يقول: فلما تحققت صدقه، ولم يبق فيه موضع أمل بكيت جزعاً، حتى سار دمعي وجرى في حلقي وشرقت، ثم زاد وفاض، حتى غمرني، فصرت في وسطه كالجرعة من الماء في الحلق.
تعثّرت به في الأفواه ألسنها ... والبرد في الطّرق والأقلام في الكتب
حذف الياء من به ضرورة، واكتفى بالكسرة عنها. وروى: تعثرت بك فيكون عدولا عن الغائبة إلى مخاطبة الخبر، والهاء في به تعود إلى الخبر.(1/359)
يقول: لعظم هذا الخبر تعثرت الألسن في الأفواه، فلم تقدر على أن تنطق به إذا أرادت الإخبار عنه، وكذلك البرد الذي تحملت هذا الخبر تعثرت في الطرق، وتعثرت الأقلام في الكتب، فلم تقدر أن تكتب هذا الخبر.
كأنّ فعلةً لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب
لما لم يصرح باسمها كنى عنه، وذكر وزنه من الفعل وكان اسمها خولة وديار بكر: ما بين الشام والعراق.
يقول: إنها ملأت ديار بكر بجيوشها، ووهبت الأموال، وخلعت، ثم زال ذلك كله بموتها، فكأنها لم تفعل شيئاً من ذلك.
ولم تردّ حياةً بعد توليةٍ ... ولم تغث داعياً بالويل والحربٍ
يقو: كأنها لم ترد حياةً على رجل بعد ما ولت عنه حياته. يعني: رجلاً أشرف على الهلاك، فأزالت عنه هلاكه، فكأنها ردت إليه حياته، وكأنها لم تغث ملهوفاً يقول: يا ويلاه ويا حرباه! يعني: أنها كانت تفعل ذلك، فبطل ذلك بموتها.
أرى العراق طويل اللّيل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب؟!
يقول: لما أخبرت بموتها طال علي الليل وأنا بالعراق لما دخل علي من الأسف، فكيف حال أخيها وهو في حلب؟! يعني: إذا انت هذه حالي في طول الليل فليله أطول.
يظنّ أنّ فؤادي غير ملتهبٍ ... وأنّ دمع جفوني غير منسكب
أي: ايظن سيف الدولة أن فؤادي غير محترق بالحزن، وأن دمعي غير سائل على فقدها؟!
بلى وحرمة من كانت مراعيةً ... لحرمة المجد والقصّاد والأدب
يقول: ليس الأمر كما يظن أني لم أتأسف على فقدها، بل تأسفت على فقدها ثم حلف بحرمتها فقال: وحرمة هذه المرأة التي كانت مراعية لحرمة المجد وحقوق القصاد، وحق الأدب، أن فؤادي ملتهب ودمعي منسكب لعموم هذه المصيبة القريب والبعيد.
ومن مضت غير موروثٍ خلائقها ... وإن مضت يدها موروثة النّشب
النشب: المال ومن في موضع الخبر، عطفاً على قوله: من كانت.
يقول: وحرمة من مضت، وخلائقها غير موروثة؛ لأنها لا توجد إلا فيها، وإن مضت هي موروثة المال، وأضاف النشب إلى اليد، لأن الكسب والتصرف في الغالب يقع بها. يعني إن لم تورث خلائقها فقد ورث مالها. وقد روى: مردودة النشب.
يعني: أن سماحتها التي ورثتها عن آبائها ردت عليها حياتها، حسن الذكر كما قال:
ردّت صنائعه إليه حياته
وغير موروثة نصب على الحال.
وهمّها في العلا والملك ناشئةٍ ... وهمّ أترابها في اللهو واللّعب
الأتراب: جمع ترب وهو اللدة وأكثر ما يكون للمؤنث.
يقول: كان همها اكتساب المعالي وهي ناشئة حديثة السن، وهم أمثالها ومن كانت في سنها: اللهو واللعب. يعني: وحرمة من كانت كذلك.
يعلمن حين تحيّا حسن مبسمها ... وليس يعلم إلاّ الله بالشّنب
المبسم: الثغر. والشنب: برد الريق، وقيل أراد بالشنب ها هنا: الكناية عن المال.
والمعنى: أن أترابها يعلمن حسن مبسمها حين يجئنه؛ لأنها كانت تستعمل البشر إذا حييت، وذلك عنوان العطية، فهن يعرفن هذا القدر والله يعلم ما يتبع التبسم من المال، فكنى عن ذلك بالشنب حيث ذكر المبسم.
وقيل: أراد بالشنب المعني الحقيقي. يعني: أنهن يعرفن حسن المبسم فقط، وأما طيب ريقها وبرده فلا يعلمه أحد إلا الله تعالى، ولا تعلمه النساء فضلا عن الرجال ومثله قول جميل:
لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفينا ولا هممت به ... ما ان إلاّ الحديث والنّظر
ومثله لبشار:
يا أطيب النّاس ريقاً غير مختبرٍ ... لا شهادة أطراف المساويك
ولغيره:
يخبّرني المسواك عن طيب ثغرها ... وليس بها إلا السّؤال بذي خبر
مسرّةٌ في قلوب الطّيب مفرقها ... وحسرةٌ في قلوب البيض واليلب
اليلب: ترسة تعمل من جلود الإبل، وقيل جلود تضفر ويضم بعضها إلى بعض وتلبس على الرأس مثل البيضة، وقيل: تلبس إذا لم يكن لهم درع وقيل تحت الجواشن، وقيل تحت البيض.
يقول: إن الطيب يسر بحصوله في مفرقها؛ لأنها كانت تستعمل الطيب، والبيض واليلب يتحسران عليها ويحسدان الطيب؛ لأنها لا تلبسهما لكونها امرأة.
إذا رأى ورآها رأس لابسه ... رأى المقانع أعلى منه في الرّتب(1/360)
التقدير والمعنى: إذا رأى البيض رأس من يلبس البيض، ورأى هذه المرأة، علم أن المقانع أعلى منزلة من البيض؛ لأنها على رأسها، وهي أشرف من الرجال الذين يلبسون البيض واليلب.
فإن تكن خلقت أنثى فقد خلقت ... كريمةً غير أنثى العقل والحسب
الحسب: ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: هو كرم الخلق.
يقول: إنها وإن كانت أنثى، فعقلها وحسبها مثل الذكور وحسبهم.
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنىً ليس في العنب
تغلب: قبيلة؛ فلهذا أنثها فوصفها بالغلباء وهي تأنيث الأغلب والعنصر: الأصل.
يقول: هي وإن كانت من تغلب، ففيها من معاني الكمال وأنواع الخصال ما ليس في تغلب، كما أن الخمر وإن كانت من العنب، ففيها معان ليست فيه: من التفريح، والتصحيح للأبدان وطيب الرائحة، وغير ذلك. ومثله قوله في سيف الدولة:
وإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
وكقوله في نفسه:
وما أنا منهم في العيش فيهم ... ولكن معدن الذّهب الرّغام
فليت طالعة الشّمسين غائبةٌ ... وليت غائبة الشّمسين لم تغب
يقول: كانت كالشمس فليتها بقيت ولم تغب، وليت الشمس التي تطلع كل يوم غابت وفقدت.
وليت عين الّتي آب النّهار بها ... فداء عين الّتي زالت ولم تؤب
العين الأولى: قرص الشمس، والثانية: عين المرأة المرثية.
وقيل: أراد بالعين نفس المرثية.
يقول: ليت عين الشمس التي تعود كل يوم بعد غروبها فداء عين هذه المرأة، أو فداء نفسها التي زالت بالموت ولم ترجع.
فما تقلّد بالياقوت مشبهها ... ولا تقلّد بالهنديّة القضب
يقول: ليس لها شبيه في النساء اللاتي يتقلدن بالحلي، ولا في الرجال الذين يتقلدون بالسيوف. والقضيب: السيف اللطيف الدقيق.
ولا ذكرت جميلاً من صنائعها ... إلاّ بكيت ولا ودٌّ بلا سبب
يقول: ولم أذكر جميل صنائعها إلا بكيت، وليس ودي لها بلا سبب، بل أودها لإحسانها إلي، وكل أحد إذا ود غيره فإنما يوده بسبب.
قد كان كلّ حجابٍ دون رؤيتها ... فما قنعت لها يا أرض بالحجب
يقول: كانت محجوبة لا تصل إليها العيون، فلم ترض بهذه الحجب، حتى حجبتها بنفسك.
ولا رأيت عيون الإنس تدركها ... فهل حسدت عليها أعين الشّهب؟!
يقول مخاطباً للأرض: ما رأيت أحداً من الإنس يراها، فهل حسدت الكواكب على رؤيتها حتى حجبتها بنفسك عن إدراك الكواكب لها؟!
وهل سمعت سلاماً لي ألمّ بها؟ ... فقد أطلت وما سلّمت من كثب
يقول للأرض: أطلت عليها السلام، وأنا بعيد منها، فهل سمعت سلامي وصل إليها وهي في بطنك؟
وكيف تبلغ موتانا الّتي دفنت ... وقد يقصّر عن أحيائنا الغيب؟
الغيب: جمع غائب.
يقول مستبعداً لوصول سلامه إليها: كيف يصل سلامي من المكان البعيد إلى من دفن في التراب؟ وهو يقصر عن الأحياء الغيب! فالميت أحرى ألا يصل إليه السلام. وقيل: أراد بالحي سيف الدولة.
يا أحسن الصّبر زر أولى القلوب بها ... وقل لصاحبه: يا أنفع السّحب
الهاء في بها للمرأة المرثية، وفي صاحبه تعود على: أولى القلوب.
يقول: يا أحسن الصبر زر قلب سيف الدولة، فإنه أولى القلوب بأخته، وأقربهم منها، وقل لصاحب ذلك القلب: يا أنفع السحب؛ لأن عطاياه مهنئة، بلا من ولا كدر، كالسحاب بلا صاعقة.
وأكرم النّاس لا مستثنياً أحداً ... من الكرام، سوى آبائك النّجب
النجب: جمع نجيب، وهو الكريم. ومستثنياً: نصب على الحال. أي قل غير مستثن.
يقول: وقل لصاحبه يا أكرم الناس كلهم، من غير أن تستثني أحداً من الكرام، سوى آبائه الكرام الذين هو ينسب إليهم.
قد كان قاسمك الشّخصين دهرهما ... وعاش درّهما المفدىّ بالذّهب
المعنى: يا أحسن الصبر زر أولى القلوب به وقل لصاحبه: قد كان قاسمك الدهر أختيك فأخذ لنفسه الصغرى وترك لك الكبرى، فكانت كالذهب فدى به الدر. شبه الصغيرة بالذهب، والكبيرة بالدر في النفاسة.
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنّا لنغفل والأيّام في الطّلب
يقول: قد ترك لك الدهر الكبرى منهما، فعاد تاركها في طلب المتروكة. وهذا مثل قول الآخر:(1/361)
وقاسمني دهري بنيّ بشطرهم ... فلمّا تقضّى شطره عاد في شطري
وقوله: إنا لنغفل مثل معناه: إنا غافلون عن حوادث الدهر، وهو في طلبنا، حتى يأتينا فجأة، ومثله للنمر بن تولب:
تدارك ما قبل الشّباب وبعده ... حوادث أيّام تمرّ وأغفل
ما كان أقصر وقتاً كان بينهما ... كأنّه الوقت بين الورد والقرب
تقرب الليلة، ترد الماء في صبيحتها.
المعنى: إن الوقت بينهما كان قريباً حتى كأن الصغيرة ماتت عشية، والكبرى ماتت في صبيحة تلك العشية، وكأن ما بينهما قدر ما بين القرب والورد من الوقت.
جزاك ربّك بالأحزان مغفرةً ... فحزن كلّ أخي حزنٍ أخو الغضب
يقول: جزاك الله تعالى مغفرة بهذا الحزن الذي أصابك، فهو نوع من الذنب. قال الله تعالى: " لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ " و: " لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ ما أصَابَكُمْ " والحزن: أخو الغضب؛ لأنهما من أصل واحد، وإنما يفترقان من جهة الرتبة: فالحزن: هو سخط فعل من هو فوقك، والغضب: سخط فعل من هو دونك؛ لأنه غضب لما نال منه الدهر.
وأنتم نفرٌ تسخو نفوسكم ... بما يهبن ولا يسخون بالسّلب
يقول بياناً لقوله: إن الحزن أخو الغضب: إن حزنك إنما هو غضب على الدهر وأنفة من أن الدهر قدر على غضبك على أختك، لأنك وقومك تسخون بالمال عند السؤال، ولا تعطون عند المقابلة والاستيلاء.
حللتم من ملوك النّاس كلّهم ... محلّ سمر القنا من سائر القصب
يقول فضلكم على سائر الملوك، فضل الرماح على ما سواها من القصب.
فلا تنلك اللّيالي إنّ أيديها ... إذا ضربن كسرن النّبع بالغرب
النبع: شجر صلب تتخذ منه القسي، ومنبته في رءوس الجبال، وما ينبت في سفح الجبال فهو: الشريان وما كان في الحضيض فهو: الشوحط وجميعها شجرتها واحدة واختلفت أسماؤها لاختلاف منابتها والغرب: شجر ضعيف يشبه شجر الخلاف.
يقول: لا أصابتك حوادث الدهر، فإن أحداً لا يقدر على دفعها، فمتى شاءت الليالي قهرت القوى بالضعيف، والعزيز بالذليل، والأصيل بالدخيل، وضرب النبع والغرب مثلا.
ولا يعنّ عدواً أنت قاهره ... فإنّهنّ يصدن الصّقر بالخرب
الخرب: ذكر الحباري وجمعه خربان.
يقول: لا أعانت الليالي عدواً لك مقهورا في يدك، ذليلا في جنبك؛ فإنها إن أعانته عليك قهرك، وإن كان أضعف منك شوكةً فإنها لو أرادت أن تصيد الصقر - مع قوته - بالخرب - مع ضعفه - لامكنها ذلك. وروى: ولا يعز عدو أي لا عز عدوك وروى: ولا يعز عدواً أي الليالي لا أعزت عدواً.
وإنه سررن بمحبوبٍ، فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب
يقول: إن الليالي تجمع بين المسرة والمصيبة، وهما ضدان وهذا من العجب: وقيل: العجب أنها سرتك بحياة المرثية مسرةً عظيمة، وفجعتك بموتها فجيعة عظيمة.
وقيل: إنها سرت من غير علة، وفجعت من غير علة.
وربّما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمرٍ غير محتسب
غايتها: أي غاية الليالي.
يقول: ربما حسب الإنسان لنفسه غاية أحداث الليالي، وأن يعيش دهراً طويلا فتفاجئه الليالي بما لم يكن في حسابه.
وما قضى أحدٌ منها لبانته ... ولا انتهى أربٌ إلاّ إلى أرب
اللبانة: الحاجة وكذلك الأرب الإربة. وقيل الأرب: الغرض.
يعني: أن الإنسان ما دام في الدنيا لا يقضي منها وطره، وإن عاش دهراً طويلا، لأن ورآء كل حاجة حاجة أخرى، وهو كقول الآخر:
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجةٌ ما بقي
تخالف النّاس حتّى لا اتّفاق لهم ... إلا على شجبٍ، والخلف في الشّجب
الشجب: الهلاك، وهو شجب وشاجب: أي هالك.
يقول: إن الناس اختلفوا في كل شيء، حتى لا يوجد منهم اتفاق إلا في الموت، فإنهم اتفقوا على كونه ومع ذلك اختلفوا فيه.
فقيل: تخلص نفس المرء سالمةً ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
هذا تفسير للخلاف في الموت.
يعني: أن الناس مع اتفاقهم على أنه كائن، اختلفوا فيه أيضاً، فقال قوم: إن الجسم يموت والنفس تبقى حية، وهو قول الفلاسفة. وقال آخرون: تموت النفس مع الجسم، وهذا قول أهل الحق. والله أعلم بالحق.
ومن تفكّر في الدّنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتّعب(1/362)
يقول: من تفكر في أحوال الدنيا وتقلبها بأهلها، وفي حال نفسه فيها، وأراد الوقوف على حقيقة الأمر، أتعب فكره وانقطع عاجزاً لم يحصل له علم بأحوالها ولم يقف على حقيقة أمرها.
وقال يمدح سيف الدولة، وقد أنفذ إلى أبي الطيب بعد مجيئه من مصر - وهو بالعراق - هدية مرةً بعد مرة، ومالاً، وذلك في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة:
ما لنا كلّنا جوىٍ يا رسول؟! ... أنا أهوى وقلبك المتبول
جو: أي حزين، والجوى: الحزن. والمتبول: المستهام في الهوى، كأنه أصيب بنبل، اتهم رسوله بمشاركته إياه في حبه.
يقول: يا رسول ما لكل واحد منا حزين بحب هذه الجارية؟ ولم أنا العاشق وقلبك المستهام المحزون!
كلّما عاد من بعثت إليها ... غار منّي وخان فيما يقول
يقول: كلما عاد رسولي من عندها وجدت فيه الحسد علي، والغيرة من مراسلتي ومواصلتي، وخان فيما يؤديه من المراسلة.
أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها، وخانت قلوبهنّ العقول
الكناية في قلوبهن للعقول وخان فعلها أيضاً، والتقدير: وخانت العقول قلوبهن، ونسب القلوب إلى العقول؛ لأنها محلها.
يقول: إن عينيها أفسدت ما بيننا من الأمانات، فكل من ينظر إلى عينيها عشقها وغلبه الهوى على حفظ الأمانات فخان فيما يؤديه من الرسالات، وخانت العقول قلوب أصحابها، من حيث لم تصور للقلوب وجوب حفظ الأمانة وحسنت للقلوب الغدر والخيانة.
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّو ... ق إليها والشّوق حيث النّحول
يقول: تشتكي المحبوبة من الشوق مثلما اشتكيت، ثم عرض بتكذيبها في شكواها فقال: والشوق حيث النحول: أي لو كانت تشتاق كما زعمت لنحلت كما نحلت؛ لأن النحول لا يفارق الاشتياق، فلما لم تنحل دل ذلك على خلاف ما تدعيه.
وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ ... فعليه لكلّ عينٍ دليل
يقول: إذا خالط الهوى قلب صب، ظهرت عليه أماراته، فكل عين رأته استدلت بهذه الأمارات على ما في قلبه من ألم الشوق.
زوّدينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حالٌ تحول
ما دام: أي ما ثبت. وتحول: أي تنتقل وتزول.
يقول: متعينا بالنظر إلى حسن وجهك، ما دام الحسن معك، فإنه يزول ولا يدوم.
وصلينا نصلك في هذه الدّن ... يا فإنّ المقام فيها قليل
يقول: صلينا ما دمنا في الدنيا؛ فإنها دار زوال، والمقام فيها قليل، ففي قريب تزول.
من رآها بعينها شاقه القطّا ... ن فيها كما تشوق الحمول
القطان: المقيمون والحمول: الأحمال.
يقول: من رأى الدنيا بعين الدنيا، كما هي عليه، تمنى المقام فيها، كما يتمنى العاشق المقام مع أحمال المعشوق.
وقيل: معناه أن الناس في الدنيا على سفر، فمن نظر إلى الدنيا ووقف على حقيقتها علم أن المقيم فيها كالراحل عنها، فكما يجزع لفراق أصحاب الحمول ويشتاق للمحتملين، كذلك أيضاً يجزع للمقيمين، ويشتاق إليهم، فإنهم عن قريب راحلون ومثله:
وفارقتهم والدّهر هام لفرقةٍ ... أواخره دار البلى وأوائله
إن تريني أدمت بعد بياضٍ ... فحميدٌ من القناة الذّبول
أدم يأدم: أي مال لونه إلى الأدمة. وهي حمرة تضرب إلى السواد.
يقول: إن كانت الأسفار لوحت وجهي، فليس ذلك بعيب، وإن كان عيباً في سواي، بل هو وصف محمود؛ لدلالته على طلبي لمعالي الأمور، كما أن الذبول محمود في القناة، وإن كان مذموماً في غيرها.
صحبتني على الفلاة فتاة ... عادة اللّون عندها التّبديل
أراد بالفتاة الشمس؛ لأن الدهر لا يؤثر فيها، فكأنها كل يوم جديد.
يقول: صحبتني في الفلاة الشمس التي عادتها أن تغير الألوان، فغيرت لوني وأورثتني الأدمة.
يعني: أن الذي غير لوني طول الأسفار وملازمة القفار.
سترتك الحجال عنها ولكن ... بك منها من اللّمي تقبيل
اللمي: سمرة تعلو الشفة.
يقول لمحبوبته: إن الشمس لم تغير لونك؛ لأن الحجال سترتك عنها وإن على شفتك سمرة تشبة لوني فكأن الشمس قبلت شفتك، فهذه السمرة فيها من تقبيل الشمس إياك.
مثلها أنت لوّحتي وأسقم ... ت وزادت أبهاكما العطبول
لوحت الشيء بالنار: إذا غيرته وسفعت وجهه والعطبول: الناعمة الجسم الطويلة العنق.(1/363)
يقول: أنت مثل الشمس حسناً وإساءة، فهي لوحتني وأنت أسقمتني، وكلاكما دلت بالبهاء، وأبهاكما زادت في الإساءة والتأثير، وهي العطبول. يعني: كما زادت عليها في البهاء والنعومة، زادت في الإساءة إلي والتحول.
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ ... أطويلٌ طريقنا أم يطول؟
أدرى: أفعل التفضيل من دريت.
يقول: نحن أعلم بطريقنا هل هو طويل على الحقيقة، أم يطوله الشوق إلى المقصود، أو العوائق من رغبتي إلى غير المقصود، من الملوك ومن المرض وغير ذلك، وإن كنا نسأل عن الطريق ونستخبر الركبان عن المسافة بيني وبينه.
وكثيرٌ من السّؤال اشتياقٌ ... وكثيرٌ من ردّه تعليل
يقول: أنا أسأل عن حال الطريق مع علمي بها؛ اشتياقاً إلى المقصود، وكثير من السؤال يكون من فرط الاشتياق، لا عن جهل وطلب معرفة. وقوله: وكثير من رده تعليل: أي ربما رد في جواب السائل ما ليس بالجواب، وإنما هو تعليل وتطييب لنفس السائل، كقولك لمن سألك عن مكان: قد بلغته ولم يبق إلا يسير. والهاء في رده للسؤال: أي وكثير من رد جوابه، ثم حذف المضاف.
لا أقمنا على مكانٍ وإن طا ... ب ولا يمكن المكان الرّحيل
لا أقمنا جواب قسم محذوف: أي والله لا أقمنا على مكان وإن طاب ذلك المكان. وإن المكان لا يمكنه الرحيل معنا إلى سيف الدولة.
يطمع سيف الدولة بالرجوع إليه.
يقول: والله لا أقمت ببلد وإن طاب لي، إلا أن يرحل معي إليك، فكما أنه لا يمكنه الرحيل كذلك لا أقيم عليه، والواو للحال، كأنه قال: لا أقمنا على مكان غير متمكن من الرحيل معنا.
وقيل: لا أقمنا: بمعنى الدعاء كقولك: لا يفضض الله فاك.
كلّما رحبّت بنا الرّوض قلنا: ... حلبٌ قصدنا وأنت السّبيل
يقول: كلما نزلنا روضة فرحبت بنا كي ننزل عليها، أي أظهرت لنا حسنها وخضرتها وطيب مكانها، فجعل ذلك بمنزلة البشر منها، والترحيب للمقام فنقول لها: حلب قصدنا، وأنت طريقنا إليها.
وقيل: أراد رحب بنا أهل الأرض.
فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والذّميل
الوجيف، والذميل: كلاهما سير سريع.
يقول: وقلنا للروض: وأنت طريقنا ومرعى خيلنا وإبلنا، ومسيرنا إلى حلب، وأنث الروض؛ لأنها جماعة الروضة.
والمسمّون بالأمير كثيرٌ ... والأمير الّذي بها المأمول
يقول: الأمراء من حيث الاسم في الدنيا كثير، والأمير الذي بها: أي بحلب، هو الذي يرجى فضله ويؤمل نائله.
الّذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي لا يزول
يقول: الأمير المأمول الذي بعدت عنه، وسافرت شرقاً وغرباً، وعاؤه مقابل لي حيثما كنت فهو لا يفارقني.
ومعي أينما سلكت كأنّي ... كلّ وجهٍ له بوجهي كفيل
أي كل ناحية وجهة من الأرض.
يقول: نداه معي أينما توجهت، حتى كأن كل مكان كفيل له بوجهي، حتى يوصلني إليه.
وإذا العذل في النّدى زاد سمعاً ... ففداه العذول والمعذول
يقول: إذا سمع العذل أحد في الجود، سمع عذله أو لم يسمعه، ففدى الله سيف الدولة كل عاذل، فإنه لا يصغي إلى عذل عاذل.
وموالٍ تحييهم من يديه ... نعمٌ غيرهم بها مقتول
وموال: عطف على قوله: ففداه العذول والمعذول: يعني جعل الله أصحابه وعبيده فداءً له، فإنهم إنما يعيشون بنعمه. وقوله: غيرهم بها مقتول: معناه أنه يهبهم المال والخيل، ويعطيهم الأسلحة فيقتلون بها أعداءهم.
وقيل: معناه يقتل أعداءه فيغنم أموالهم، ويهبها أولياءه فيحييهم بها.
فرسٌ سابق ورمحٌ طويلٌ ... ودلاصٌ زغفٌ وسيفٌ صقيل
الدلاص: الدرع البراقة. والزغف: اللينة اللمس، وهذا بدل من قوله: نعم التي تقدم ذكرها وتفسيرها.
كلّما صبّحت ديار عدوٍّ ... قال: تلك الغيوث، هذي السّيول
يقول: كلما صبحت نعمه التي هي: الخيل والسلاح والموالي والأصحاب ديار عدو قال العدو: هذه السيول من تلك الغيوث، وأراد بالغيوث: سيف الدولة وبالسيول: مواليه وسلاحه.
يعني: أنهم إنما قدروا على أعدائهم بسيف الدولة، كما أن السيف يكون من المطر.
وقيل: الغيوث: هي عطايا سيف الدولة. والسيول: ما وهبه لأبي الطيب. والمعنى: أنه وهبني هذه الأشياء فمتى قصدت بهذه الأجناس ديار العدو قال العدو: تلك العطايا التي هي كالأمطار تتولد منها هذه السيول.(1/364)
دهمته تطاير الزّرد المح ... كم عنه كما يطير النّسيل
النسيل: الوبر الساقط عن البعير. والهاء في دهمته للعدو.
يقول: دهمت العدو خيل سيف الدولة ومواليه فجأة، فكانت تضربه فتطاير حلق الدرع عنه، كما يسقط الوبر عن البعير، فلا تغنيه الدرع.
تقنص الخيل خيله قنص الوح ... ش ويستأسر الخميس الرّعيل
الرعيل: القطعة من الخيل المتقدمة.
يقول: خيله تصطاد خيول الأعداء اصطياد الوحش، والرعيل من خيله، يأسر الجيش العظيم من عسكر الأعداء.
وإذا الحرب أعرضت زعم الهو ... ل لعينيه أنّه تهويل
الهول: الخوف العظيم، وكل أمر عظيم، والتهويل: ما لا حقيقة له. وأعرضت: أي قربت وظهرت.
يقول: إذا عرضت لسيف الدولة الحرب لم يعبأ بهولها، بل يستحقرها، فكأن الهول يقول: ليس لي حقيقة، فلا تبالي بي؛ لأني تهويل ولست بهول.
فإذا صحّ فالزّمان صحيحٌ ... وإذا اعتلّ فالزّمان عليل
يقول: أحوال الزمان منوطة به، فاستقامة الزمان وصحته باستقامة أمره، وصحته وعلته، باعتلاله.
وإذا غاب وجهه عن مكانٍ ... فيه من نثاه وجهٌ جميل
النثاء: في الخير والشر والثناء: في الخير خاصة.
يقول: إذا غاب وجهه عن مكان، ناب عنه ذكره الجميل فيه مناب وجهه.
ليس إلاّك يا عليّ همامٌ ... سيفه دون عرضه مسلول
الأولى أن يقول: إلا إياك لكن هذا جائز.
يقول: ليس أحد من الملوك يذب عن عرضه بسيفه غيرك يا سيف الدولة.
كيف لا يأمن العراق ومصرٌ ... وسراياك دونها والخيول؟!
كيف لا يأمن من الملوك العراق ومصر؟! وأنت تذب عنهم بسراياك التي تبعثها إلى الروم، وقتالك لهم.
لو تخرّمت عن طريق الأعادي ... ربط السّدر خيلهم والنّخيل
السدر: رفع لأن فاعل ربط والنخيل معطوف عليه ومعناه أمسك السدر خيلهم إذا ربطت إليه وتخرمت بمعنى عدلت.
يقول: لو عدلت عن طريق الأعادي الذين هم الروم وخليت طريقهم، لدخلوا العراق ومصر، ولربطوا خيلهم في السدر والنخيل، وإنما خصهما لأنهما ليسا في ديار الروم.
ودرى من أعزّه الدّفع عنه ... فيهما أنّه الحقير الذّليل
فيهما أي في العراق ومصر.
يقول: لو انحرفت عن طريق الروم، لعلم من صار عزيزاً بالعراق ومصر بدفعك عنه أنه الحقير الذليل، وأن عزه بمدافعتك عنه وهذا تعريض بالخليفة، وكافور.
أنت طول الحياة للرّوم غاز ... فمتى الوعد أن يكون القفول؟
طول: نصب على الظرف.
يقول: أنت طول عمرك تغزو الروم، فمتى ترجع إلى قوم آخرين أو متى تستريح من التعب؟!
وسوى الرّوم خلف ظهرك رومٌ ... فعلى أيّ جانبيك تميل؟
يقول: سوى الروم روم أخر من البوادي والأعراب، فإنهم بمنزلة الروم، فعلى أيهما تميل، لأنك قد تمل من الحرب والقتال.
وقيل: إنما عنى بذلك عضد الدولة يحرضه على المجيء إلى العراق ومقاتلته إذ كان بينهما عداوة.
قعد النّاس كلّهم عن مساعي ... ك وقامت بها القنا والنّصول
يقول: عجز الناس أن يسعوا مثل سعيك، فقامت بمساعيك الرماح والسيوف فهي تعينك على مساعيك.
ما الّذي عنده تدار المنايا ... كالّذي عنده تدار الشّمول
ما للنفي.
يقول: ليس الملك الذي تدار عنده المنايا ويشتغل بالحروب والقتال، كالملك الذي تدار عنده الخمر ويشتغل باللهو واللعب والشرب، عن الاجتهاد في الحرب والقتال.
لست أرضى بأن تكون جواداً ... وزماني بأن أراك بخيل
يقول: لا أرضى بأن تبعث إلي الهدايا وأنا متأخر عنك، وزماني يبخل علي برؤيتك ويمنعني مشاهدتك.
نغّص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعى مخصبٌ وجسمي نحيل
يقول: كدر بعدي عنك ما تبعثه إلي من العطايا، فمربعي خصيب بعطاياك وجسمي نحيل للوعة الشوق إلى لقياك.
إن تبّوأت غير دنياي داراً ... وأتاني نيلٌ فأنت المنيل
تبوأت: أي سكنت.
يقول: عطاياك تصل إلي بكل مكان توجهت إليه فلو خرجت من الدنيا وسكنت داراً غيرها ثم وصل إلي البر والنيل لكنت أنت المعطي لذلك البر.
من عبيدي ... إن عشت لي ألف كافو رٍ ولي من نداك ريفٌ ونيل(1/365)
الريف: ما أحدق بسواد العراق وأشرف عليه من نجد، والريف أيضا رستاق مصر وقراها - وهو المراد ها هنا - وهو ما كان تحت النيل، وما كان فوقه الصعيد، والنيل: نهر مصر، وهو أيضاً نهر بالعراق جاء من الفرات، ويسقي سواد الكوفة.
يقول: إن عشت لي أعطيتني من المال ما أشتري به من المماليك، وأسمي ألفاً منهم كافوراً، وحصل لي من جهتك ريف ونيل: أي تملك مصر كلها وتهب لي ما على النيل من ريفه.
ما أبالي إذا اتّقتك المنايا ... من دهته حبولها والخبول
الحبول: الدواهي والخبول: الفساد.
يقول: إذا سلمت من المنايا فلا أبالي بمن أصابته المنايا، فإنك عوض عن كل هالك.
وورد المستنفرون من الثغور على سيف الدولة، يذكرون إحاطة الدمستق وجيوش النصرانية بطرسوس واستسلام أهلها إن لم يغاثوا، أو يبادروا، وكان في بقية علة عرضت له، فبرز للوقت وسار، وكان الدمستق قد شحن الدرب الذي يلي الثغور والشام بالرجال، فلما اتصل بالدمستق خبره أفرج عن منازلة طرسوس، وولي على عقبه قافلاً إلى بلده ولم يظفر بشيء، وبلغ الخبر أبا الطيب وكتب إليه سيف الدولة كتاباً يستدعيه فأجابه في شوال. سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة.
فهمت الكتاب أبرّ الكتب ... فسمعاً لأمر أمير العرب
سمعاً: نصب على المصدر، وكذلك في البيت الذي يليه، وهو قوله: طوعاً وابتهاجاً وأبر الكتب: أي أصدقها. وقيل: أبلغ الكتب وأصدقها في البر بالمكتوب إليه.
وطوعاً له وابتهاجاً به ... وإن قصّر الفعل عمّا وجب
الابتهاج: الفرح، والهاء في به وله للكتاب، ويجوز أن يكون ضمير الأمير: أي سميع مطيع لأمرك، وإن كنت مقصراً عن واجب حقك.
وقيل: معناه أنا مطيع لك، وإن كنت مقصراً في حقي.
وما عاقني غير خوف الوشاة ... وإنّ الوشايات طرق الكذب
ما عاقني: أي ما منعني.
يقول: ما منعني من خدمتك وقصدي إليك إلا ما سعى بي إليك السعاة من السعايات، وأنواع الوشايات، فكانوا يغرونك بي وبالإساءة إلي، والوشايات طرق الكذب يعني إنهم إذا وشوا كذبوا، وزادوا، فالوشايات لا بد لها من الكذب والزيادة.
وتكثير قومٍ وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
التقريب؛ ضرب من سير الفرس، والخبب: السير السريع، وعنى بها ها هنا السعاية.
يقول: إنما منعني من خدمتك قول الوشاة، وتكثيرهم قولهم مرة، وتقليلهم أخرى، وتقريبهم وتخببهم في الإفساد بيني وبينك. يعني: أنهم يستعملون كيدهم من كل وجه.
وقد كان ينصرهم سمعه ... وينصرني قلبه والحسب
يقول: إنه كان يسمع من الوشاة ما يقولون، وهذا ينصرهم، ولكن كان قلبه وكرمه معي، لأنه لم يصدقهم على قولهم، فهذا كان نصرة لي.
وما قلت للبدر أنت الّلجين ... ولا قلت للشّمس أنت الذّهب
يقول: لم أنقص من مدحك شيئاً، كما ينقص من البدر إذا شبه بالفضة، والشمس إذا شبهت بالذهب، حتى تغريهم بي وتغضب علي.
فيقلق منه البعيد الأناة ... ويغضب منه البطيء الغضب
يقول: ما قلت له ما يوجب نقصاً له حتى يقلق ويضطرب مع حلمه وأناته ومعنى قوله: البعيد الأناة هو تمام الحلم وغاية الرفق، كما يقال: بعيد الغور أي ما قلت شيئاً ينكره، حتى يغضب البطيء الغضب، وأراد بالبعيد الأناة والبطيء الغضب: سيف الدولة.
وما لاقني بلدٌ بعدكم ... ولا اعتضت من ربّ نعماي رب
ما لاقني: أي حبسني. يقال: دخلت المدينة فما لاقتني، أي: ما أعجبتني وما حبستني. ويقال: لاقني وألاقني، ومنه قولهم: لقت الدواة ولقتها بكسر اللام وضمها: إذا حركتها ليعلق بها المداد، ويقال للكرسفة الليقة. وقوله: من رب نعماي رب في موضع النصب، وكان من حقه أن يقول: رباً لأن المنصوب المنون إذا وقف عليه أبدل التنوين ألفاً، ولكنه أجراه مجرى المرفوع والمجرور في إسقاط التنوين في الوقف، ومثل هذا جائز في القافية، وخفف الباء أيضاً؛ لأن الحرف المشدد إذا وقع حرف الروى خفف.
يقول: ما حبسني بلد منذ فارقتكم، ولا وجدت من جميع الملوك عوضاً عنكم. وخاطبه بخطاب الجمع: تعظيماً له وتفخيماً لقدره.
ومن ركب الثّور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
غبب الثور وغبغبه: ما تدلى تحت حلقه.(1/366)
يعني: لو اعتضت منه ملكاً غيره، كنت مثل: من ترك الفرس الجواد وركب الثور، ومثله قول خداش بن زهير:
ولا أكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلّى صهوة الفرس
وما قست كلّ ملوك البلاد ... فدع ذكر بعضٍ، بمن في حلب
التقدير: ما قست كل ملوك البلاد بمن في حلب.
المعنى: أنا لا أقيس به جميع الملوك، فكيف أقيس به بعضهم؟!
ولو كنت سمّيتهم باسمه ... لكان الحديد وكانوا الخشب
الخشب: جمع خشبة.
يقول: كيف أقيس به غيره من الملوك؛ وهم إلى جنبه كالخشب من الحديد؟! ولو سميتهم باسم سيف الدولة، لكان هو سيفاً حديداً، وكانوا هم سيوف خشب.
أفي الرّأي يشبه، أم في السّخا ... ء أم في الشّجاعة، أم في الأدب؟
يقول: في أي شيء من مناقبه يشبهونه في رأيه؟ أم في سخائه؟ أم في شجاعته؟ أم في أدبه! يعني: أنه أفضل منهم في هذه الأوصاف.
مبارك الاسم، أغرّ اللّقب ... كريم الجرشّي، شريف النّسب
الجرشي: النفس.
يقول: هو مبارك الاسم، لأن اسمه علي والعلو محبوب مبارك. وقوله: أغر اللقب: أي مشهور اللقب، لأنه إذا قيل سيف الدولة عرف في الآفاق، وهو كريم النفس، شريف النسب؛ لأنه من العرب وآباؤه الأمراء.
أخو الحرب، يخدم ممّا سبى ... قناه، ويخلع ممّا سلب
يخدم: من قولك أخدمت الرجل، إذا أعطيته خادماً يخدمه. وفاعل سبي: قناه، وأسند الفعل إليه، لأنه يستعان به على السبي.
يقول: هو أخو الحرب أي عارف بها، كما يعرف الأخ أخاه، أو يحبها كما يحب الأخ أخاه، أو ملازم لها ونشأ معها كما ينشأ الأخ مع أخيه، وهو يسبي الجواري والغلمان، ثم يهبها لأصحابه، ويخلع عليهم مما سلب من أعدائه.
إذا حاز مالاً فقد حازه ... فتىً لا يسرّ بما لا يهب
يقول: إذا حاز المال وجمعه واستفاده، فإنما يحوز للهبة، وهو الفتى الذي لا يسر بما لا يهب.
وإنّي لأتبع تذكاره ... صلاة الإله وسقي السّحب
يقول: إذا ذكره عقب ذكره بالصلاة والدعا بالسقيا، فيقول: صلى الله عليه وسقى دياره وربوعه.
وأثني عليه بآلائه ... وأقرب منه نأى أو قرب
يقول: إنما أشكر نعمه إذا ذكرته، وأمدحه بمآثره وأقرب منه بالمحبة والموالاة سواء كان قريبا مني أو بعيداً.
وإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نصب
الهاء في غدرانها للأمطار.
يقول: إن بره وإن كان قد انقطع فبقيتها عندي لم تنفذ.
أيا سيف ربّك لا خلقه ... ويا ذا المكارم لا ذا الشّطب
يجوز: يا سيف ربه باختلاس كسرة الهاء، ويا سيف ربك.
يقول: أنت سيف الله لا سيف الخلق، وأن تسمي: ذا المكارم أولى من أن تسمي: ذا الشطب. وهي الطرائق التي في السيف.
وأبعد ذي همّةٍ همّةً ... وأعرف ذي رتبةٍ بالرّتب
أراد: يا أبعد ذوي الهمم وأعرف ذوي الرتب، وأقام الواحد مقام الجماعة. وهمةً: نصب على التمييز.
يقول: يا من همته أبعد من همة كل صاحب همة، ويا من هو أعلم بالرتب من كل من له رتبة ومنزلة.
وأطعن من مسّ خطّيّةً ... وأضرب من بحسامٍ ضرب
يقول: يا من هو أحذق الناس بالطعن والضرب.
والمعنى: أنت أعرف الحاملين للرمح بالطعن، وأضرب الضاربين بالسيوف وأقام الواحد مقام الجمع.
بذا اللّفظ ناداك أهل الثّغور ... فلبّيت والهام تحت القضب
يقول: ناداك أهل الثغور بهذا اللفظ، وهو ما تقدم من قوله: يا سيف ربك وما بعده. حين أتى الدمستق على ثغورهم، فلبيتهم وأجبتهم وخلصتهم بعد ما صارت رءوسهم تحت سيوف الروم.
وقد يئسوا من لذيذ الحياة ... فعينٌ تغور وقلبٌ يجب
غارت العين: إذا دخلت في الرأس. ووجب القلب: إذا خفق.
يقول: أعنتهم بعد أن انقطع رجاؤهم من الحياة وأشرفوا على الهلاك.
وغرّ الدّمستق قول الوشا ... ة: إنّ عليّاً ثقيلٌ وصب
الوصب: ناحل الجسم، وقيل: هو الذي يجد الألم.
يقو: اغتر الدمستق بخبر علتك، وقدر أنك لا تقدر على نصرة أهل الثغور وصيانتهم
وقد علمت خيله أنّه ... إذا همّ وهو عليلٌ ركب
الهاء في خيله قيل للدمستق.
والمعنى: أنها تعلم أن سيف الدولة مع علته، لو هم بالركوب لركب؛ لما شاهدت منه فيما مضى من الحروب.(1/367)
وقيل: أراد به أن خيل سيف الدولة علمت ذلك.
أتاهم بأوسع من أرضهم ... طوال السّبيب قصار العسب
السبيب: شعر العرف والذنب. والعسب: جمع العسيب، وهو العظم الذي ينبت عليه الذنب، ويستحب في الفرس طول شعر ذنبه، وقصر عسيبه.
يقول: أتى الدمستق أهل الثغور بخيل، موضعها من الأرض أوسع من أرضهم، ونصب طوال وقصار على الحال.
تغيب الشّواهق في جيشه ... وتبدو صغاراً إذا لم تغب
يقول: كانت الجبال الشواهق تغيب في جيش الدمستق لكثرته، فإن ظهرت الجبال ولم تغب تبدو صغاراً.
ولا تعبر الرّيح في جوّه ... إذا لم تخطّ القنا أو تثب
الهاء في جوه للجيش وإذا لم تخط القنا هو من تخطيت القوم: إذا جاوزتهم، وهو فعل الريح، وتثب عطف عليه والقنا في موضع النصب، لأنه مفعول قوله: إذا لم تخط.
يقول: لا تقدر الريح أن تنفذ في جو هذا الجيش إلا أن تخطت القنا وجاوزته، أو وثبت من فوقه، وإلا لم يمكنها أن تنفذ في جوه.
فغرّق مدنهم بالجيوش ... وأخفت أصواتهم باللّجب
يقول: إن الدمستق ملأ مدن الثغور بخيله، حتى غرقت في جيوشه، وأخفى أصوات أهل المدن بلجب جيوشه.
فأخبث به طالباً قتلهم ... وأخبث به تاركاً ما طلب
أي ما أخبثه في الحالين؟! يقول: ما أخبثه حين جاء يقاتل المسلمين، وما أخبثه حين هرب وانقاد للعار والضيم، فهو في كلا الحالين خبيث وطالبا وتاركاً نصب على الحال.
نأيت فقاتلهم باللّقاء ... وجئت فقاتلهم بالهرب
يقول: لما بعدت عن أهل الثغور، قصدهم الدمستق ولقيتهم، فلما جئت هرب وتركهم، فكان هذا قتاله.
وكانوا له الفخر لمّا أتى ... وكنت له العذر لمّا ذهب
وكانوا: أي أهل الثغور.
يقول: كان أهل الثغور فخراً للدمستق لما أتى لأنه كاد يقهرهم ولما ذهب كنت له العذر، لأن مثله لا يقاومك.
سبقت إليهم مناياهم ... ومنفعة الغوث قبل العطب
الغوث: مصدر أغاثه إذ أنقذه.
يقول: سبقت إليهم قبل وصول هلاكهم إليهم، فأغثتهم قبل أن يهلكوا. والغوث إنما ينفع قبل الهلاك، وأما بعده فلا فائدة فيه.
فخرّوا لخالقهم سجّدا ... ولو لم تغث سجدوا للصّلب
يقول: لما أغثت أهل الثغور سجدوا لله تعالى شكرا، وبقوا على الإسلام، ولو لم تنصرهم لألجأهم الكفار أن يسجدوا للصلب.
وكم ذدت عنهم ردىً بالرّدى ... وكشّفت من كربٍ بالكرب
يقول: كم مرة دفعت الهلاك عن أهل الإسلام؛ بإهلاك أعدائهم؟! وكشفت الغم عنهم بالغم الذي أوقعت فيه أعداءهم.
وقد زعموا أنّه إن يعد ... يعد معه الملك المعتصب
المعتصب: المتوج.
يقول: إن الناس زعموا أن الدمستق إذا عاد إلى الثغور عاد معه ملكهم الأعظم، صاحب التاج.
ومتى قيل: لم قال: يعد معه الملك المعتصب والعود إنما يكون بعد البدء، والملك لم يكن قصدهم قبل ذلك؟ قيل له: قد جاء العود في معنى الابتداء كما قال الله تعالى: " أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا ".
وقيل: إن هذا الاعتراض غير متوجه؛ لأن قوله: يعد معه فعل الدمستق، ومعه الملك المعتصب في موضع نصب على الحال: أي يعد ومعه الملك وهذه الواو، تحذف إذا كان في الحال ضمير يرجع إلى صاحبها والملك على هذا يرفع بالابتداء، وعلى الوجه الأول يرتفع لفعله.
وقلت: إن يعد في معنى الابتداء، وحسن ذكره ها هنا لتعلقه بالأول، فيكون قد أجرى عليه لفظاً يتعلق به، إذ لا شك أن العود الأول على حقيقته، فلما تعلق الثاني به أجرى مجراه، كقوله تعالى: " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيئَةٌ مِثْلُهَا ".
ويستنصران الّذي يعبدان ... وعندما أنّه قد صلب
يقول: زعموا أن الدمستق والملك يرجعان ويطلبان النصرة ممن يعبدانه، وهو المسيح عليه السلام، وفي اعتقادهما أنه قد صلب، فكيف يقدر أن يدفع عنهم القتل، وهو لم يقدر على أن يدفعه عن نفسه! يتعجب من عقول النصارى وفساد اعتقادهم.
ويدفع ما ناله عنهما ... فيا للرّجال لهذا العجب!
اللام الأولى مفتوحة؛ لأنها لام الاستغاثة للمدعو، والثانية مكسورة؛ لأنها لام المتعجب منه المدعو إليه.
والمعنى: أنه يتعجب من قول النصارى. أي كيف يدفع عنهما ما ناله من القتل في اعتقادهما! فلو قدر لدفع عن نفسه!(1/368)
أرى المسلمين مع المشركي ... ن إمّا لعجزٍ وإمّا رهب
كأنه كان قد انضم طائفة من المسلمين إلى الروم! فقال: أراهم معهم ولا أدري لأي علة؟! أعجزوا عن قتالهم؟ أو خافوا منهم! وقيل: المعنى أن المسلمين قد وافقوا النصارى وصدقوهم في زعمهم أن المسيح ينصرهم وذلك إما لعجز عنهم أو لخوف منهم.
وأنت مع الله في جانبٍ ... قليل الرّقاد كثير التّعب
يقول: أنت مع أمر الله وطاعته، قليل النوم، لحفظ الثغور كثير التعب، لإدامة الحرب.
وقيل: إن المسلمين قد وافقوا النصارى على قولهم وأنت متوكل على الله، مستنصر به، غير مائل إلى قول النصارى في استنصار المسيح عليه السلام.
كأنّك وحدك وحّدته ... ودان البريّة بابنٍ وأب
يقو: أنت تفردت بتحمل المشاق في مجاهدة الكفار، حتى كأنك متفرد بالتوحيد، وسائر الناس اعتقدوا النصرانية.
فليت سيوفك في حاسدٍ ... إذا ما ظهرت عليهم كئب
يقول: ليت سيوفك بعد ظهورك على الأعداء، تقتل كل حاسد حزين والتقدير على هذا البيت: سيوفك إذا ما ظهرت على الأعداء في حاسد كئب.
وقيل: معناه ليت سيوفك تقتل كل حاسد يحزن لظفرك بالأعداء.
وليت شكاتك في جسمه ... وليتك تجزي ببغضٍ وحب
يقول: ليت علتك هذه في جسم حاسدك، وليتك تجزي كل إنسان بحسب قدره في بغضه وحبه.
يعني: لو فعلت ذلك لكنت أحسن حالا من سائر الناس، ولو جزيت الأعداء ببغضك لما أبقيت أحداً.
فلو كنت تجزي به نلت من ... ك أضعف حظٍّ بأقوى سبب
يقول: لو كنت تجزي كل أحد ببغض وحب، لنلت ما أتمناه من قتل من كادني على محبتي لك.
وقال أيضا بمدح سيف الدولة:
سيف الإله على أعلى مقلّدة ... وموضع العزّ منه فوق مقعده
المصراع الثاني قيل: لم يتممه أبو الطيب! وقيل: بل تممه ولم يرو عنه إتمامه.
وقيل إن تمامه قوله: وموضع العز منه فوق مقعده.
وقيل: إن هذه اللفظة فوق مقعده لم يعترف بها المتنبي. وقيل: إنه قال: ألقيتها فلا تنسبوها إلي.
والمعنى: سيف الله على أرفع رجل قلد السيف. وموضع الشرف من هذا السيف هو السماء، لا موضع الذي يرى أنه مقعداً، أو الموضع الذي قعده.
ما اهتزّ منه على عضوٍ يسيّره ... إلاّ اتّقاه بترسٍ من مخلّده
المخلد: موضع الخلد، وهو القرط.
يقول ما تحرك السف على عضو عدو، يريد أن يرمي به إلا اتقاه ذلك الجسم بأكثر من مطلوبه، وهو أن يترس موضع القرط من موخر عنقه.
ذمّ الإله إليه من محبّته ... ما ذمّ في بدرٍ من حمد حامده
يقول: ذم الله تعالى إلى سيف الدولة من أحبابه، جزعهم وذلهم في هذه الحرب الذي صبر فيها سيف الدولة دونهم، مثل ما ذم جل جلاله من حمده النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه وأحبته في يوم بدر، لما ذلوا وفزعوا بقوله تعالى: " وَلَقَدْ نَصَرَكُم الله بِبَدْرٍ ".
شمسٌ، إذا الشّمس لاقته على فرسٍ ... تردّد النّور منها في تردّده
يقول: هو كالشمس فإذا قابلته الشمس وهو على فرس رد شعاعها إلى نفسها كثرة جولان هذا الفارس.
والمعنى: أنه إذا ركب بجيشه حجب بالغبار نور الشمس.
لم يقبح الحسن إلاّ عند طلعته ... كالعبد يقبح إلاّ عند سيّده
يقول: إن الحسن إذا رؤى بحضرته يفتضح بحسنه، ويقبح لكمال جماله كالعبد لا يقبح إلا عند سيده. وحذف لا من قوله: كالعبد يقبح
قالت عن السّير طب نفساً فقلت لها ... لا يصدر العبد إلاّ بعد مورده
أي قالت العاذلة أو المحبوبة أو غيرهما، ممن يشفق عليه: كفاك ما سرت من الدنيا فأقم، فقلت لها: إني ما سرت بعد إلى من هو المقصود، ولا وردت موردي، فكيف أصدر؟ لأن الصدر بعد الورود، يحسن ويكمل.
نفسٌ تصغّر نفس الدّهر من كبرٍ ... لها نهى كهله في سنّ أمرده
يقول: نفسه من كبرها وعظمها تصغر نفس الدهر، والضمير في الكهل يعود إلى النفس والضمير في الأمرد يعود إلى الدهر
لم أعرف الجود إلا مذ عرفت فتىً ... لم يولد الجود إلاّ عند مولده
يريد: منذ وقت مولده، فحذف للعلم به.
والمعنى: أن الجود يدور معه، ولم يكن قبل مولده جود فلما ولد هو وجد الجود.
وقال أيضاً فيه بديهاً:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائق والعباد سميّ(1/369)
إن عنى بذي الجلال، الله تعالى فهو في هذا الموضع قبيح، لأنه لا يقال: دولة الله تعالى.
وإن عنى به الخليفة فهو أشنع، لأن هذا الوصف لا يطلق على غير الله تعالى.
يقول: يا سيف الدولة من هو كذلك، يا سمي خير البرية وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
انظر إلى صفّين حين أتيتها ... فانصاع عنها الجحفل الغربيّ
انصاع: تفرق.
يقول: انكشف عنك العسكر من الغرب فانهزموا. فشبه المعركة بصفين.
فكأنّه جيش ابن حربٍ رعته ... حتّى كأنّك يا عليّ، عليّ
العسكر الغربي: جيش الإخشيد فهزمته حتى كأنك يا علي، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه.
الجزء الرابع
الكافوريات وهي المصريات
قيل: إن السبب الذي أوجب خروج أبي الطيب إلى مصر، ومدحه كافوراً الأسود: أن سيف الدولة كان يتلون عليه، ولا يثبت معه على حال واحدة، ويصغي إلى قوم كانوا يغرونه به ويقعون فيه حسداً له، فكثر الأذى عليه من جهته فأجمع رأيه على الرحيل من حلب، فلم يجد بلداً أدنى إليه من دمشق لأن حمص من عمل سيف الدولة، فسار إليها حتى نزلها، وبها يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك من قبل كافور، فالتمس منه المدح فثقل عليه، وغضب ابن ملك فكتب إلى كافور يخبره أن أبا الطيب عنده، وجعل كافور يكتب في إرسال أبي الطيب إليه، فكتب إليه ابن ملك أن أبا الطيب قال: ما أقصده فإنه عبد، وإذا دخلت مصر فإنما قصدي مولاه فأحفظته كتبه.
ونبت دمشق بأبي الطيب، فسار منها إلى الرملة، فحمل إليه أميرها الحسن بن عبيد الله بن طغج هدايا وخلع عليه، وحمله على فرس جواد بمركب ثقيل، وقلده سيفاً محلى، وسأله المدح فاعتذر إليه بالأبيات الرائية وهي قوله:
ترك مدحيك كالهجاء لنفسي
وقد تقدم ذكرها قبل هذا، واتصل به أن كافوراً يقول: أترونه يبلغ إلى الرملة، ولا يبلغ إلينا؟! وأنه واجد عليه، ثم كتب كافور من مصر إلى أبي الطيب يستدعيه إلى حضرته، فلم يمكنه إلا المسير إليه، يظن أنه لا يسومه سوم غيره، من منعه من التصرف في نفسه.
وكافور هذا عبد أسود خصى لابي مثقوب الشفة السفلى بطين، قبيح القدمين ثقيل اليدين، لا فرق بينه وبين الأمة، وقد سئل عنه بعض بني هلال بالصعيد، فقال: رأيت أمةً سوداء تأمر وتنهي.
ولقد كان رسول الروم بمصر، فلما قعد في مركب راجعاً إلى بلد الروم والمسلمون ينظرون إليه قال لهم: ما أعرف أمةً أخس منكم! أعوزكم أبيض تملكونه أنفسكم! وسار، وولي كافور هذا أمر بني طغج عليهم، وملك ما كان في أيديهم، واستملك العبيد، وأفسدهم على ساداتهم.
وكان هذا الأسود لقوم من أهل مصر، يعرفون ببني عياش، يحمل لهم الحوائج من الأسواق على رأسه، ويخدم الطباخ. مشتراه ثمانية عشر ديناراً وكان ابن عياش يربط في عنقه حبلا إذا أراد النوم، فإذا طلب منه حاجته جذبه لسقوطه! فإنه لم يكن ينتبه بالصياح فدخل إلى دار ابن طغج والناس يمدون أيديهم إلى رأسه! ويصفونه بصلابة القفا، فكان الغلمان كلما صفعوه ضحك! فقالوا: هذا الأسود خفيف الروم؛ وكلموا صاحبه في بيعه، فوهبه لهم، فأقاموه على الوضوء والخلاء، ورأى مخاريق ابن طغج وكثرة كذبه، وما يتم لربه، فتعلم ذلك حتى ما يصدق في حرف، وأخذ عنه وزاد عليه، حتى وضع الكذب في غير مواضعه فاشتهر به.
ومات ابن طغج بدمشق وولده صغير، والأسود يخدمه، فأخذ البيعة على الناس عند موته، والناس يظنون أنه قد أمره بأخذها، وسار غلمانه في الوقت إلى مصر، فاقتسموا الضياع، وكانوا ضعفاء فقراء، فاشتغلوا بما في أيديهم لا يصدقون أنه يبقى لهم.
وتفرد الأسود بخدمة الصبي ومالت إليه والدته! وهي أمة؛ لأنه عبد، وتمكن من الصبى والمرأة حتى قرب من شاء وأبعد من شاء، ونظر الناس إلى هذا مع صغر هممهم وخفة أنفسهم، فتسابقوا إلى التقرب إليه، وسعى بعضهم ببعض عنده، حتى أن الرجل لا يأمن مملوكه ولا ولده على سره! وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده، ولا تنبسط يد سيده عليه، ولا يستبعد أن يصل إلى أضعاف ما وصل إليه الخصى، حتى ملك الأمر على الصبي، وصار كل من معه عيناً عليه للأسود، فلا يقدر أحد أن يكلمه ويسلم عليه!(1/370)
وإذا رآه بعض غلمان أبيه أو غيرهم أسرع هاربا لئلا يقال: إنه كلمه! فمن كلمة أتلفه الأسود، فلما كبر الصبي وتبين ما هو فيه، وجعل يبوح بما في نفسه في بعض الأوقات على الشراب، وكل من معه عين عليه، فقدم الأسود فسقاه سماً فقتله، وخلت له مصر وهان عليه أخوه الأصغر وغيره.
فلما ورد كتاب الأسود على أبي الطيب بالرملة، لم يمكنه إلا المسير إليه، وظن أنه لا يسومه سوم غيره. من أخذ ماله، وإضعاف حاله، ومنعه من التصرف في نفسه. وهذه فعال الأسود بكل حر له محل، يحتال عليه بالمكاتبة والمواعيد الكاذبة، حتى يصير إليه، فإذا حصل عنده أخذ عبيده وخيله وأضعفه عن الحركة، ومنعه منها، وبقي مطرحا يشكو إليه ويبكي بين يديه ولا يعينه على المقام، ولا يأذن له في الرحيل، وإن رحل عن غير إذنه غرقه في النيل، ولا يصفو قلبه إلا لعبد، كأنه يطلب الأحرار بحقد.
فلما قدم عليه أبو الطيب اخلى له داراً ووكل به، وأظهر التهمة له، وطالبه بمدحه، وخلع عليه، وحمل إليه آلافاً من الدراهم وغيرها.
فقال أبو الطيب يمدحه لما وفد عليه في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاث مئة ويعرض بسيف الدولة
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
الباء في بك زائدة، والتقدير: كفاك داءً، وليست هذه الباء مثلها في قوله تعالى: " وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدا " " وكَفَى بنَا حَاسِبين " لأن، ها هنا زيدت الباء على المفعول، وفي الآية زيدت على الفاعل، والفاعل في البيت قوله: أن ترى وداءً نصب على التمييز. والأماني أصلها التثقيل، والتخفيف جائز.
يقول: كفاك من الداء وأذية الزمان، ما تستشفى منه بالموت! وما تتمنى معه الموت! إذ الموت غاية الشدائد، فإذا تمناه المرء فقد تمنى كل شدة.
تمنّيتها لمّا تمنّيت أن ترى ... صديقاً فأعيا، أو عدوّاً مداجيا
يقول: تمنيت الموت، لما تمنيت أن ترى صديقاً مخلصاً في صداقته، أو عدوا مساتراً للعداوة فأعيا عليك وجود ذلك، فلما لم تجد إلا صديقاً غير مخلص وجدت عدوا مظهراً للعداوة، تمنيت الموت.
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّةٍ ... فلا تستعدّنّ الحسام اليمانيا
استعد وأعد بمعنىً.
يقول: إذا رضيت بالذل، وصبرت على الضيم، فلا معنى لاستعداد السيف، لأن السيف يراد لدفع الضيم. ومثله لأبي العتاهية:
فصغ ما كنت حلّي ... ت به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسي ... ف إذا لم تك قتّالا؟
ومثله لعبد الرحمن بن دارة:
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا بغايا للخلوق وللكحل
وبيعوا الرّدينيّات بالخمر واقعدوا ... على الذّل وابتاعو المغازل بالنّبل
ولا تستطيلنّ الرّماح لغارةٍ ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا
لا تستطيلن: أي لا تطلب طولها، وكذلك لا تستجيدن: أي لا تطلب جودها.
يقول: إذا رضيت بالذل فلا تطلب الرمح الطويل، والخيل الجياد، فإنك لا تحتاج إليها بعد أن رضيت بالذل واحتمال الضيم.
فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى ... ولا تتّقي حتّى تكون ضواريا
يقول: إن الحياء لا ينفع الأسد من الجوع ولا يشبعه، ولا يخشى منه إلا إذا كان ضارياً جريئاً.
يعني: أن الإنسان إنما يبلغ مراده إذا اطرح قناع الحياء عن وجهه، واتكل على إقدامه.
حببتك قلبي قبل حبّك من نأى ... وقد كان غدّاراً فكن لي وافيا
حببته وأحببته: لغتان: وقلبيك منادى، أي يا قلبي، ومن في موضع نصب بالمصدر الذي هو حبك.
يقول: يا قلبي أحببتك قبل أن تحب الحبيب الذي نأى عنك وغدر بك، فأنكرت غدره فلا تصنع معي من الغدر مثل ما صنع بك حبيبك، فتكون قد فعلت ما كرهته من غيرك.
وجعل حنين قلبه إلى الحبيب غدراً منه، لأنه يؤلمه ويؤدي إلى تلفه، فتقع المفارقة بينه وبين قلبه! وهي التي ذاقها من حبيبه. وهذا تعريض منه بسيف الدولة.
وأعلم أنّ البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
يقول: يا قلبي، أعلم أن البين يحوجك إلى الشكوى، ويؤثر فيك، وإن فعلت ذلك تبرأت منك، ونفيت أن تكون قلبي، لأنك غدرت بي.
فإنّ دموع العين غدرٌ بربّها ... إذا كنّ إثر الغادرين جواريا
روى: غدراً فيكون مصدراً في معنى غادر فلا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، وروى غدر وهو جمع غدور.(1/371)
يقول: إن بكاءك على من غدر بك وفارقك غدر منك بي، وهذا إشارة إلى شكاية سيف الدولة.
إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً والمال باقيا
شبه لا بليس في نصب الخبر؛ فلهذا نصب مكسوباً وباقياً.
يقول: إذا لم يكون الجود خالصاً من الأذى، وما يكدره من المن والتكدير، فلم يكسب فاعله حمداً، وذهب ماله هدراً. وهذا تعريض بسيف الدولة.
وللنّفس أخلاقٌ تدلّ على الفتى ... أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا
يقول: لكل إنسان أخلاق يستدل بها على ما يأتيه من الجود، هل هو طبيعي أو تكلفي؟ فيعرف حاله.
أقلّ اشتياقاً أيّها القلب ربّما ... رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا
يجوز في أقل كسر اللام ونصبها.
يقول لقلبه: قلل الاشتياق إلى من لا يشتاق إليك، فإنك تخلص المودة لمن لا يجازيك على ذلك، ولا يودك مثل ما توده، وهذه الأبيات تعريض بسيف الدولة، وتطييب لنفسه على فراقه.
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصّبى ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
يقول جبلت على الإلف، حتى إنني لشدة إلفي، لو فارقت الشيب الذي هو مكروه عند كل أحد ورجعت إلى أيام الصبى؛ لبكيت جزعاً على الشيب، من فراق المألوف، فلهذا أحن إلى سيف الدولة وإن كان يقصدني بالأذى.
ولكنّ بالفسطاط بحراً أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
الفسطاط: مدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأما مصر القديمة فهي في الجانب الآخر من النيل، وليس بها اليوم إلا دور قليلة.
المعنى: أني فارقت سيف الدولة مع إلفي له وأسفي على فراقه؛ لأزور كافوراً الذي هو كالبحر: في الجود وسعة الصدر وبعد الغور. وقوله: أزرته حياتي أي زرته بها.
وجرداً مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافاً يتّبعن العواليا
وجرداً عطف على ما تقدم: أي قصدنا بخيل جرد ونصبنا رماحنا بين آذانها فكانت الخيل تتبعها في السير.
تماشى بأيدٍ كلّما وافت الصّفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا
تماشى: أي تتماشى.
يقول: هذه الخيل الجرد كانت تمشى بعضها إلى بعض، فإذا وطئت الصفا بأيديها وهي حواف أثرت فيه آثار نقش صدر الباز.
وروى: صدر البزاة وهي جمع صدار. وروى: صدر البزاة ويراد به الصدور.
وتنظر من سودٍ صوادق في الدّجى ... يرين بعيدات الشّخوص كما هيا
يقول: تنظر هذه الخيل من عيون سود، ترى هذه العيون - من حدة النظر - الشخص البعيد على هيئته وحاله، ولا يتغير عليها فيصغر أو يعظم، بل تراه على حقيقته. وقوله: يرين: يجوز أن يكون فعل سود ويجوز أن يكون: فعل الخيل.
؟ وتنصب للجرس الخفيّ سوامعاً يخلن مناجاة الضّمير تناديا الجرس: الصوت.
يقول: هذه الخيل حديدة السمع، فإذا أحست حساً خفيفاً وصوتاً خفياً، نصبت أذانها، فهي لحدة أذانها تحسب الصوت الخفي، أنه كلام ظاهر وصوت عال.
تجاذب فرسان الصّباح أعنّةً ... كأنّ على الأعناق منها أفاعيا
إنما قال: فرسان الصباح، لأن الغارات أكثر ما تكون في وقت السحر، وشبه الأعنة للينها ودقتها بالأفاعي.
يقول: إن الخيل لا تترك الأعنة تستقر في أيدي فرسانها، لما فيها من المرح والنشاط، فكأن الأعنة أفاع على أعناقها فهي تجاذبها الفوارس.
بعزمٍ يسير الجسم في السّرج راكباً ... به ويسير القلب في الجسم ماشيا
الباء: متعلق بقوله: أزرته يعني: زرته بعزم.
يقول: قصدته بعزم قوى، وجسمي يسير وأنا راكب، وقلبي يسبقني إلى المنازل؛ لقوة العزم وفرط الاشتياق إلى حضرته، وكنت كلما نزلت منزلاً، كانت همتي المنزل الآخر، لأقطعه.
قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا
قواصد: نصب على الحال. والعامل: أزرته أو تجاذب أو تماشى ويجوز الرفع: أي هي قواصد.
يقول: قصدت هذه الخيل كافوراً، وتركت من سواه من الملوك؛ لأنه أفضل منهم، وغيره من الملوك بالإضافة إليه كالجدول من البحر.
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضاً خلفها ومآقيا(1/372)
يقول: جاءت بنا هذه الخيل إلى من هو إنسان عين زمانه، أي كما أن أشرف ما في العيون سوادها، كذلك كافور أشرف الملوك، وهو ناظر الزمان، ومن سواه مثل البياض والمآقي؛ فلهذا قصدناه وتركنا غيره فانتظم معنيين: حسن التشبيه، لأنه شبه السواد بالسواد، والثاني التفضيل.
نجوز عليها المحسنين إلى الّذي ... نرى عندهم إحسانه والأياديا
عليها: أي على الخيل.
يقول: نتجاوز على هذه الخيل عند سيرنا عليها، المحسنين من الناس الذين يرغبون في المقام عندهم، إلى من كانت أياديه ونعمه عندهم، لأنا رأيناهم من قبل.
كأنه يذكر عبوره بابن طغج، وأنه رغب في فتركته وقصدت كافوراً.
فتىً ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلاّ نرجّي التّلاقيا
يقول: ما تنقلنا في ظهور أجدادنا السالفة، إلى زمان هذا الممدوح؛ إلا لنصادف زمانه ونسعد بأيامه.
وقيل: أراد بالجدود. جمع الجد، الذي هو الحظ.
ترفّع عن عون المكارم قدره ... فما يفعل الفعلات إلاّ عذاريا
العون: جمع عوان، وهو فوق البكر، ودون القارض المسنة. والعذارى: جمع عذراء.
يقول: يرفع نفسه عن أن يقتدى بغيره في المكارم، فلا يأتي من المكارم إلا ما لا يسبقه أحد فيه.
قال ابن جني: وهذا مما ينقلب هجاءً فكأنه قال: ترفع عن المكارم هزءاً. ثم قال: فما يفعل من المخازي إلا ما لا يسبق إليه؛ لعظمه.
يبيد عداوات البغاة بلطفه ... فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا
يقول: يتلطف في أمر الأعداء وإزالة الأحقاد من قلوبهم بإحسانه، فإن لم ينفع فيهم الرفق أهلكهم وأفناهم.
أبا المسك ذا الوجد الّذي كنت تائقاً ... إليه وذا الوقت الّذي كنت راجيا
يقول: كنت مشتاقاً إلى وجهك، راجياً لهذا الوقت، فقصدتك، فافعل أنت ما يليق بك.
وهذا بالهزء أولى، مع قبح كافور وسواد وجهه.
لقيت المروري والشّناخيب دونه ... وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
المروري: الفلوات، واحدها مروراة والشناخيب: جمع شنخوب، وشنخاب، وهي القطعة العالية من الجبل. والهجير: شدة الحر. والصادي: العطشان. والهاء في دونه للوجه.
يقول: لقيت الفلوات وشواهق الجبال، وقاسيت الحر الشديد والعطش المهلك، الذي يترك الماء عطشاناً مع أنه يكسر العطش، فكيف حال غيره؟؟!
أبا كلّ طيبٍ لا أبا المسك وحده ... وكلّ سحابٍ لا أخصّ الغواديا
كان كافور مكنيا بأبي المسك.
يقول: لست أنت أبا المسك وحده، بل أنت أبو كل طيب، إذ الطيب كله مجموع فيك، وكذلك أنت أبو كل سحاب، ولست بالسحاب التي تأتي كل غداة، بل كل السحاب.
يدلّ بمعنى واحدٍ كلّ فاخرٍ ... وقد جع الرّحمن فيك المعانيا
يدل: من الدلال.
يقول: كل شريف إنما يفتخر بمعنى واحد من الفضل، وأنت جمعت كل معاني الفخر.
وهذا أيضاً مما ينقلب هجاء فكأنه يقول: جمع الله فيك كل المقابح.
وعن ابن جني قال: لما وصلت إلى هذا البيت ضحكت فضحك أيضاً، وعرف غرضي. وهو أنه قصد به الهجاء.
إذا كسب النّاس المعالي بالنّدى ... فإنّك تعطي في نداك المعاليا
يقول: إذا بذل الناس الأموال؛ ليكتسبوا المعالي، وهبت أنت - في جملة هباتك - المعالي لقصادك.
يعني: أن من يقصدك يتشرف بهباتك، حتى يبني بها المعالي، أو تهب من يقصدك الولايات العظيمة، والدرجات المنيفة.
يعرض له بأن يوليه ناحيةً.
وغير كثير أن يزورك راجلٌ ... فيرجع ملكاً للعراقين واليا
العراقين: الكوفة والبصرة.
يقول: لا يستكثر منك أن تهب العراقين لرجل قصدك راجلاً فيعود والياً!.
فقد تهب الجيش الّذي جاء غازياً ... لسائلك الفرد الّذي جاء عافيا
يقول: إذا قفل جيشك من الغزو، وهبته لسائل واحد.
وقيل: أراد إذا غزاك جيش أخذته فوهبته لواحد من سؤالك، وطالبي نوالك.
وتحتقر الدّنيا احتقار مجرّبٍ ... يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا
يقول: رأيت جميع ما في الدنيا فانياً، فلهذا احتقرتها ورغبت في الذكر الجميل والثناء، ثم استثنى الممدوح بقوله: وحاشاك.
وما كنت ممّن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيامٍ أشبن النّواصيا(1/373)
يقول: لم تدرك الملك بالتمني والاتفاق، وإنما أدركته بمقاساة الأمور العظيمة، ومعاناة الخطوب الشديدة، ومباشرة الحروب التي تشيب بهولها رءوس الأطفال. وأراد بالأيام: الحروب، والخطوب العظمة.
عداك تراها في البلاد مساعياً ... وأنت تراها في السّماء مراقيا
الهاء في تراها قيل: للمعالي وقيل: للأيام.
يقول: أنت تعتقد في المعالي، أو الخطوب العظيمة، أضعاف ما يعتقده أعداؤك من الملوك، فهم يرونها مساعي في الأرض، وأنت تراها مراقي في السماء، فحرصك عليها أبلغ، ونيلك لها أمكن.
لبست لها كدر العجاج كأنّما ... ترى غير صافٍ أن ترى الجوّ صافيا
يقول: لبست للمعالي أو للأيام، لباس الغبار، وملازمة القتام، حتى كأنك إذا رأيت الجو صافياً من غبار الحروب، رأيت ذلك كراهةً، كما يكره غيرك الغبار، وصفاء الجو عندك، كدره بالغبار. ومثل هذا البيت في صفة السيف قوله:
يلاقيك بسّاماً ووجهك عابسٌ ... فتلقاه عبّاساً وثغرك باسم
وقدت إليها كلّ أجرد سابحٍ ... يؤدّيك غضباناً ويثنيك راضيا
إليها: أي إلى الأيام، التي هي الحروب. والأجرد: القصير الشعر السابق: الذي يتقدم الخيل متجردا عنها. والسابح: الشديد الجريء.
يقول: إنك تقود إلى الحروب كل فرس سابق، وهو يأتي بك إلى الحرب وأنت غضبان، ويرجع بك وأنت راض؛ لوصولك إلى مرادك من الأعداء.
ومخترطٍ ماضٍ يطيعك آمراً ... ويعصي إذا استثنيت أو كنت ناهيا
وهذا عطف على ما قبله بإضمار فعل: أي وقدت إليها كل أجرد سابح، واخترطت كل سيف مجرد.
يقول: سيفك يطيعك إذا أمرته بالضرب، فإن أردت التوقف عن الضرب عصاك، لأنه قد قطع فلا يمكن رده.
وأسمر ذي عشرين ترضاه وارداً ... ويرضاك في إيراده الخيل ساقيا
أي: وحملت كل أسمر ذي عشرين ذراعاً. وهذا على طريق المبالغة؛ لأن ذلك لا يكون، وأكثر ما يكون الرمح ثلاثة عشر ذراعاً. والمحمود ما يكون أحد عشر ذراعاً. وقوله: ترضاه وارداً: أي إذا طعنت به رضيت نفاذه في الطعن، وهو أيضاً يرضاك إذا أوردته في نحور الخيل لتسقيه.
يعني: هو يرضى منك جودة الطعن كما ترضى منه جودة النفاذ.
كتائب ما انفكّت تجوس عمائراً ... من الأرض قد جاست إليها فيافيا
تجوس: أي تدوس وتطأ. والعمائر: القبائل، الواحدة عمارة.
يقول: إن كتائبه لا تزال تدوس قبائل من أعدائه، قد سرت إليها من بعد، وقطعت فيافي من الأرض. يعني: أنه يقصد الأعداء في ديارهم.
وقيل: أراد بالعمائر الأرض العامرة؛ ليطابق الفيافي.
والمعنى: أنها سلكت المفاوز والفلوات، حتى وصلت إلى ديار الأعداء فوطئتها وأغارت عليها.
يصف بعض غزواته، وأنه يقصد أعداءه في الأماكن البعيدة.
غزوت بها دور الملوك فباشرت ... سنابكها هاماتهم والمغانيا
المغاني: المنازل. واحدها: مغنى.
يقول: غزوت بخيلك دور الملوك فقتلتهم، ووطئت بحوافرها رءوسهم وديارهم.
وأنت الّذي تغشى الأسنّة أوّلاً ... وتأنف أن تغشى الأسنّة ثانيا
يقول: أنت تطرح نفسك على رماح أعدائك قبل أصحابك، وتأنف أن يتقدمك أحد في الحرب وروى: تلقى الأسنة في المصراعين.
يعني: أنك تطاعن الخيل قدماً، وتأنف أن يتقدم عليك أحد.
إذا الهند سوّت بين سيفي كريهةٍ ... فسيفك في كفٍّ تزيل التّساويا
يقول: إذا عملت الهند سيفين متينين من حديد واحد، حتى لا فضل لأحدهما على الآخر، فإذا حصل أحدهما في يدك صار أمضى من الآخر، وزال التساوي بينهما.
وسيف كريهة: أي قاطع، إذا أكره في الحديد والعظام مضى فيها.
ومن قول سامٍ لو رآك لنسله: ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
سام: ابن نوح عليهما السلام، أبو العرب والروم والفرس، وحام: أبو السودان والبربر والهند، ويافث: أبو الترك. ويجوز فدى بكسر الفاء وابن أخي بالجر على الإضافة ويجوز: بفتح الفاء على أن تجعل فدى فعلاً فتنصب ابن أخي على أنه مفعول به.
والمعنى: أن ساماً لو رأى سياستك لقال لك: فداك نفسي ونسلي ومالي
مدىً بلّغ الأستاذ أقصاه ربّه ... ونفسٌ له لم ترض إلاّ التّناهيا
يقول: قد بلغ الله الأستاذ هذه المنزلة، وبلغته أيضاً نفسه التي لم ترض إلا بلوغ الغاية في المجد.(1/374)
دعته فلبّاها إلى المجد والعلا ... وقد خالف النّاس النّفوس الدّواعيا
يقول: دعته نفسه وهمته إلى طلب المجد والمعالي فأجابها، وغيره من الملوك قد خالفته النفوس الداعية.
فأصبح فوق العالمين يرونه ... وإن كان يدنيه التّكرّم نائيا
يقول: أصبح كافور، وقد علا الناس كلهم، فهم يرونه بعيد المراتب على المراقب، وإن كان يدنيه تواضعه من الناس.
ودخل عليه بعد إنشاد هذه القصيدة فابتسم إليه الأسود، ونهض فلبس نعلاً فرأى أبو الطيب شقوقاً برجليه وقبحها فقال يهجوه:
أريك الرّضا لو أخفت النّفس خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
يقول: أنا أظهر لك الرضا عنك، والسرور بقربك، ولكن ما في نفسي لا يخفى، فإني غير راض عنك، ولا عن نفسي.
أميناً وإخلاقاً وغدراً وخسّةً ... وجبناً؟ أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟!
مينا، وإخلافاً، وغدراً، وخسةً، وجبناً نصب على المصدر. وشخصاً نصب على الحال وكذلك مخازيا.
يقول: جمعت هذه المثالب، فإذا رأيتك لم أدر أنك إنسان، أم أنت مخاز؟!
تظنّ ابتساماتي رجاءً وغبطةً ... وما أنا إلاّ ضاحكٌ من رجائيا
يقول: إذا رأيتني ضاحكاً حسبت أني مسرور بقربك، راج لفضلك، وليس كذلك، بل ذاك سخرية بنفسي، أضحك منها، كيف رجت منالك مع لؤمك وخستك؟!
وتعجبني رجلاك في النّعل، إنّني ... رأيتك ذا نعلٍ إذا كنت حافيا
يقول: إذا رأيت رجليك في النعل تعجبت من لبسك النعل؛ لأني رأيتك ذا نعل، وإن كنت حافيا؛ لغلظ رجليك.
وقيل: المعنى إذا رأيتك وأنت لابس النعل تعجبت، وذكرت أيام كنت تمشي حافيا، ورجلاك كأنهما في النعل!
وأنّك لا تدري ألونك أسودٌ ... من الجهل أم قد صار أبيض صافيا؟!
يقول: من جهلك لا تعرف حقيقة لونك، وأنك أسود أم أبيض؟
ويذكرني تخييط كعبك شقّه ... ومشيك في ثوبٍ من الزّيت عاريا
يقول: إذا رأيت شقوق كعبك، تذكرت شقها حين كنت عبداً، والسودان تكثر الشقوق بأرجلهم.
وقوله: ومشيك في ثوب من الزيت عارياً: يعني: إني تذكرت أيام جئت من بلاد النوبة، وكنت تعرض على البيع وأنت عريان مطلى بالدهن، فكأنك لبست ثوب الزيت، وهذه عادة السودان إذا جلبوا أدهنوا بالزيت؛ ليصفو سوادهم. ونصب عاريا على الحال.
وقيل: معناه إنك أسود تضرب إلى الصفرة. والمولدون من أهل العراق يسمون من كان غير مشبع السواد زيتياً.
وقيل: معناه الوسخ الذي عليه من آثار دهن الزيت.
ولولا فضول النّاس جئتك مادحاً ... بما كنت في سرّى به لك هاجيا
يقول: إنك لا تعرف الهجو من المدح، فلولا أني أخاف من فضول الناس، لكنت أنشدك الهجو، وأريك أنه غاية المدح.
فأصبحت مسروراً بما أنا منشدٌ ... وإن كان بالإنشاد هجوك غاليا
يقول: كنت تسر بإنشادي هجوك! ظناً منك أنه مدح، وإن كان هجوك لا يتساوى بالإنشاد.
فإن كنت لا خيراً أفدت فإنّني ... أفدت بلحظى مشفريك الملاهيا
الملاهي: جمع ملهى، وهو كل ما يلهى به. ويجوز أن يكون مصدراً. ونصب مشفريك بلحظي أي أفدت الملاهي؛ بأن لحظت مشفريك.
يقول: لم أستفد منك خيراً، ولم أصل منك إلى مال، فإني استفدت اللهو برؤية مشفريك. وأفدت: بمعنى استفدت ها هنا.
ومثلك يؤتى من بلادٍ بعيدةٍ ... ليضحك ربّات الحداد البواكيا
الحداد: الثياب السود.
يقول: إن من رآك يضحك منك، حتى النساء اللابسات السواد في المصائب، إذا رأينك يضحكن منك، ويتسلين عن غمهن، وكل من عليه الحزن يقصدك من الأماكن البعيدة؛ ليلهو عن حزنه.
وبنى كافور داراً بإزاء الجامع الأعلى على البركة، وتحول إليها وهنأه الناس بها، وطالب أبا الطيب بذكرها فقال:
إنّما التّهنئات للأكفاء ... ولمن يدّنى من البعداء
يدنى: يفتعل من الدنو.
يقول: إنما تكون التهنئة بين الأكفاء، وأنا لست بكفء لك، وتكون لمن يكون بعيداً من الملوك ثم يدنوا منهم، وأنا لست بواحد من هذين، بل أنا عضو من أعضائك. على ما يبين فيما يليه.
وأنا منك لا يهنّئ عضوٌ ... بالمسرّات سائر الأعضاء
يقول: أنا عضو من اعضائك، وهل رأيت عضو إنسان يهنئ سائر أعضائه؟! فكما لا يهنئ الإنسان نفسه، كذلك لا يلزمني تهنئتك؛ لأني مشارك لك في الأحوال.(1/375)
مستقلٌّ لك الدّيار ولو كا ... ن نجوماً آجرٌّ هذا البناء
روى مستقل بفتح القاف. والديار رفع. وروى: مستقل لك الديار نصب.
يقول: أنا أستقل لك الديار والأبنية، ولو كان آجرها من النجوم.
ولو أنّ الّذي يخرّ من الأم ... واه فيها من فضّةٍ بيضاء
يخر: أي يصوت، من الخرير.
يقول: لو كان الذي يخر فيها من المياه من فضة بيضاء، لاستقللتها لك في جنب قدرك.
أنت أعلى محلّةً أن تهنّا ... بمكانٍ في الأرض أو في السّماء
أن تهنا: أصله أن تهنأ، فخفف الهمزة، فأبدلها ألفاً.
يقول: انت أجل قدراً وأعلى محلاً من أن تهنأ بدار في الأرض أو في السماء، والمحل والمحلة واحدة.
ولك النّاس والبلاد وما يس ... رح بين الغبراء والخضراء
وما يسرح: أي ما يذهب من الدواب والوحش.
يقول: أنت تملك البلاد ومن عليها وما عليها من الحيوانات. والغبرآء: الأرض. والخضراء: السماء.
وبساتينك الجياد وما ... تحمل من سمهريّةٍ سمراء
يقول: إنما بساتينك التي تتنزّه فيها، الجياد من الخيل، وثمارها الرماح، فأنت لا تتنزه إلا بهما، فكيف أهنئك بالدار والبساتين؟!
إنّما يفخر الكريم أبو المس ... ك بما يبتنى من العلياء
يقول هو: إنما يفتخر بما يبنى من المعالي وما يشيد من المكارم، لا بالقصور المبنية بالآجر، فإنها تنهدم عن قريب، والمعالي تبقى أبداً.
وبأيّامه الّتي انسلخت عن ... هـ وما داره سوى الهيجاء
يقول: إنما يفتخر بأيام حروبه وقائعه التي سبقت له فظهرت منه، ولا دار له سوى الحروب، ومعاركها.
وبما أثّرت صوارمه البي ... ض له في جماجم الأعداء
يقول: إنما يفتخر بتأثير سيوفه في رءوس الأعداء.
وبمسكٍ يكنى به ليس بالمس ... ك ولكنّه أريج الثّناء
أرج الطيب وأريجه: توهج ريحه.
يقول: يفتخر بالمسك المكنى به، ثم قال: وليس المسك المكنى به هو المسك المعروف، وإنما هو مسك الثناء وحسن الذكر.
لا بما تبتنى الحواضر في الرّي ... ف وما يطّبى قلوب النّساء
الحواضر: جمع الحاضرة. ويطبى: أي يستميل. والريف: المدن والماء يقول: لا يفتخر بما يبنيه أهل الحضر، وسكان المدن، من الدور الحسنة ولا بالمسك لأن ذلك إنما يستميل قلوب النساء، بل لا يفتخر إلا بالمعالي وحسن الثناء والمجد.
نزلت، إذ نزلتها، الدّار في أح ... سن منها من السّنا والسّناء
السنا المقصور: الضوء، والسناء الممدود: الشرف والعلا.
يقول: لما نزلت الدار تشرفت بك وتزينت بقربك، فكأن حسنها حيث نزلتها وتقديره: نزلت الدار في أحسن منها إذا نزلتها.
حلّ في منبت الرّياحين منها ... منبت المكرمات والآلاء
يقول: أنت منبت المكرمات والنعم، حللت من هذه الدار منبت الرياحين، فأنت منبت المكارم، وهي منبت الرياحين.
تفضح الشّمس كلّما ذرّت الشّم ... س بشمسٍ منيرةٍ سوداء
يقول: إذا طلعت الشمس تفضحها بشمس سوداء! وهذا في ظاهره مدح، وهو مضمر الهجو، إذ الشمس لا تكون سوداء.
إنّ في ثوبك الّذي المجد فيه ... لضياءٍ يزرى بكلّ ضياء
يقول: إن في ثوبك: أي في بدنك، الذي هو محل المجد ضياءً يقصر بكل ضياء. لما قال في البيت الذي قبله: شمس منيرة سوداء أورد هذا وما بعده ليزيل الإبهام.
إنّما الجلد ملبسٌ، وابيضاض النّ ... فس خيرٌ من ابيضاض القباء
يقول: سوادك لا يشينك، وإنما هو بمنزلة الثوب والقباء، وبياض النفس خير من بياض القباء، وليس الفخر بالبياض، وإنما هو بالأفعال. وهذا من قول عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبداً فنفسي حرّةٌ كرماً ... أو أسود اللّون إنّي أبيض الخلق
ومثله كثير.
كرمٌ في شجاعةٍ، وذكاءٌ ... في بهاءٍ، وقدرةٌ في وفاء
أي جمعت هذه الخلائق الشريفة، فلا يشينك سواد لونك.
من لبيض الملوك أن تبدل اللّو ... ن بلون الأستاذ والسّحناء
السحناء: الهيئة.
يقول: إن البيض يتمنون أن يستبدلو بألوانهم لونه، ويغيروا هيئتهم بهيئته، ولكن أين لهم ذلك؟؟!
فتراها بنو الحروب بأعيا ... نٍ تراه بها غداة اللّقاء
الهاء في تراها للملوك. والفعل: لبني الحروب. والهاء في تراه لكافور.(1/376)
يقول: إن الملوك البيض يتمنون أن يستبدلوا ألوانهم بلونه، ليراهم الأبطال الذين هم أهل الحروب بالعيون التي رأوا بها كافوراً في الحرب. والأعيان: جمع عين في القلة.
يا رجاء العيون في كلّ أرضٍ ... لم يكن غير أن أراك رجائي
يقول: كل أحد يرجو أن يراك؛ لتفيض عليه إنعامك، ولم يكن لي رجاء في قصدي مصر سوى أن أراك وأتشرف بمدحك.
ولقد أفنت المفاوز خيلي ... قبل أن نلتقي، وزادي ومائي
يقول: قطعت المسافة البعيدة، والمفاوز الصعبة: لرؤيتك، حتى أفنت المفاوز خيلي وزادي ومائي.
فارم بي ما أردت منّي فإنّي ... أسد القلب آدميّ الرّواء
الرواء: المنظر.
يقول: كلفني ما شئت من الأمور العظيمة، فإني وإن كنت في المنظر آدمياً فإن قلبي قلب الأسد.
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
يقول: إني وإن كنت شاعراً، فإن لي همة عاليةً، ونفسا شريفة، وقلبي قلب الملوك.
ولما أنشده أبو الطيب، حلف له كافور ليبلغنه جميع ما في نفسه، وإنه لأكذب ما يكون إذا حلف! فقال أبو الطيب وأنشده إياها في انسلاخ شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلاث مئة:
من الجآذر في زيّ الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب؟!
الجآذر: جمع جوذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والزي: اللباس والأعاريب: جمع الأعراب، والأعراب: جمع أعرابي. والحلي: جمع حلية. وهو بضم الحاء وكسرها. والجلابيب: جمع جلباب، وهي الملاحف والملابس. وقال أبو عبيدة: الجلابيب هي الخمر، والملاحف.
وقد روى: برفع الراء ونصبها، فالرفع على الاستئناف أي: هن حمر الحلي. والنصب على الحال. جعل كونهن جآذر حقيقة، وكونهن أعاريب مجازاً وتشبيها، وهذا على عادته في قلب التشبيه.
يقول: من هذه الجآذر التي في زي الأعراب؟! جعلهن جآذر؛ لسواد عينهن. وهن حمر الحلي؛ لأنها من الياقوت، وملابسهن حمر لأنهن غنيات شواب، يلبسن المعصفرات وثياب الملوك، ومطاياهن حمر؛ لأنها كرام الإبل عندهم، وهي من مراكب الملوك.
إن كنت تسأل شكّاً في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب؟!
أنكر على نفسه في هذا، السؤال! وقال: إن كنت تسأل عن هؤلاء النساء من حيث أنك شككت فيهن، حيث أشبهن الجآذر، فلا ينبغي لك أن تشك في معرفتهن، لأنهن اللاتي سهدن عينيك، وعذبن قلبك، ومن في قوله: فمن بلاك على هذا تكون خبراً، ويجوز أن تكون استفهاماً على معنى الإنكار.
والمعنى: إن لم تعرفهن فمن الذي بلاك بتسهيد وتعذيب؟!
لا تجزني بضنىً بي بعدها بقرٌ ... تجزي دموعي مسكوباً بمسكوب
الضنى: الألم، ولا تجزني: جزم، والهاء في بعدها قيل: ضمير البقر، أي: بعد فراقهن، وقيل: هو ضمير الحالة أو المرأة. أي: بعد هذه المرأة أو الحالة. وتقديره: لا تجزني بضني بي ضني نساءٍ يجزينني بالبكاء بكاء. على سبيل الدعا لهن: أي لا مرضن كما مرضت.
والمعنى: أنه دعاء لهن بألا يضنين بفراقه، كما ضنى بفراقهن.
وقوله: تجزي دموعي صفة البقر. يعني: هذه البقرة التي جازتني بالبكاء، فجرت دموعهن لفراقي، كما جرى دمعي.
وقيل: معناه قد أضناني حب هؤلاء، حتى تغيرت محاسني، وقرب شيبي، فلا تجزني بعدهن بفرقتي، لأني قد شبت وبليت، فلم يبق لي موضع لعشق النساء كما عشقتهن، فيجزينني ضني بضني، وتقابلن بكاء ببكاء، رحمة لي لا عشقاً. فيكون البقر غير التي جرى ذكرها.
سوائرٌ ربّما سارت هوادجها ... منيعةً بين مطعونٍ ومضروب
سوائر: صفة أخرى لبقر، وقيل: وهن سوائر. ومنيعةً: نصب على الحال. يعني: أنهن عزيزات في قوم أعزة، فإذا سارت هودجهن بهن، كان حولهن من يذب عنهن ويحميهن من كل من تعرض لهن، فلا مطمع لأحد فيهن.
وربّما وخدت أيدي المطّى بها ... على نجيعٍ من الفرسان مصبوب
الوخد والوخيد: ضرب من السير السريع.
يقول: ربما سارت هوادجهن فوق الدماء، فتقع أيدي المطى على دماء الفرسان المصبوبة، إن تعرضوا لهن.
وإنما ذكر الأيدي دون الأرجل؛ لأنها أول ما تقع على الأرض، فاكتفى بذكرها عن ذكر الأرجل.
كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذّيب(1/377)
أي: أدهى من زورة الذيب، وقد فصل بينهما بقوله: وقد رقدوا والذيب: يضرب به المثل في الخبث والدهاء.
يخاطب نفسه ويقول: كم مرة ذهبت إلى الأعراب حين رقدوا فزرت حبيبتك وهم لا يشعرون، وهجمت عليها هجوم الذئب، إذ اختطفتها من بينهم على وجه الاحتيال والاستخفاء، كما يفعل الذئب لما يختطف من الغنم، ويهجم عليها من حيث لا يشعر الراعي.
أزورهم وسواد اللّيل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصّبح يغري بي
يقول: إن الظلام يسترني عند زيارتي هؤلاء الأعراب، فكأنه يشفع لي إلى ما أريد. وعند الانصراف يشهرني الصبح ويحول بيني وبينها. ومثله لابن المعتز:
لا تلق إلا بليلٍ من تواصله ... فالشّمس نمّامةٌ واللّيل قوّاد
فذكر جميع ما في البيت في نصف بيت.
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالفوها بتقويضٍ وتطنيب
التقويض: ضد التطنيب.
يقول: هؤلاء الأعراب وافقوا الوحش في حلولهم مراتع الوحوش وسكناهم مساكنها وخالفوها بأنهم يحطون خيامهم مرة، ويقلعون أوتادهم مرة، ثم يطنبونها: أي ينصبونها، ويشدون حبالها.
جيرانها وهم شرّ الجوار لها ... وصحبها وهم شرّ الأصاحيب
الجوار: بضم الجيم وكسرها، هي المجاورة، ومعناه ها هنا: هم شر أهل الجوار.
يقول: جيران الوحش من حيث المسكن، إلا أنهم شر الجيران لها؛ لأنهم يصيدونها وهم أصحاب الوحوش؛ إلا أنهم أشر الأصحاب؛ لأنهم يأكلونها.
فؤاد كل محبّ في بيوتهم ... ومال كلّ أخيذ المال محروب
أخيذ المال: أي مأخوذ المال. والإضافة في تقدير الانفصال، ولهذا نكر الصفة في قوله: محروب والمحروب: الذي أخذ حريبه، وهو ماله.
يقول: إن رجالهم صعاليك يغيرون على الأعداء، ونساؤهم فواتن يسلبن قلوب العشاق، ففي بيوتهم قلوب الرجال وأموال الأبطال.
وقيل: إنهم أحنوا إلى الناس فملكوا قلوبهم بالإحسان، وملكوا أموال الأعداء بالقهر والإغارة.
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويّات الرّعابيب
الرعابيب: جمع رعبوبة، وهي البيضاء الممتلئة الجسم. والهاء في به للحضر، وهو خلاف البدو.
يقول: ليس أهل الحضر كأهل البدو.
حسن الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حسنٌ غير مجلوب
الحضارة: ملازمة الحضر، والبداوة: ملازمة البدو. والتقدير: حسن أهل الحضارة وأهل البداوة.
يقول: إن حسن الحضريات مصنوع بالتطرية، وحسن البدويات مطبوع، والمطبوع خير من المصنوع.
أين المعيز من الآرام ناظرةً ... وغير ناظرةٍ في الحسن والطّيب
المعيز والمعزى والمعز: واحد. وناظرةً: نصب على الحال. أقام الحضريات مقام المعز، لكون المعز حضريات، وأقام البدويات مقام الظباء؛ لكون الظباء في الفلوات.
يقول: أين المعز من الظباء في حسنها وطيبها! وفي حال كونها ناظرةً، وفي غير حال نظرها.
أي: كما أن الظباء أحسن من المعز في كل حال، فكذلك البدويات أحسن من الحضريات.
وقيل معنى قوله: ناظرة وغير ناظرة أي أن الظباء أحسن من المعز: حيةً وميتة، فهي أحسن منها منظراً حية، ولحماً ميتة.
أفدي ظباء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
الصبغ بالفتح: مصدر، وبالكسر: اسم. والحواجيب: أراد به الحواجب، فأشبع الكسرة؛ لتحدث الياء بعدها. والهاء في بها للفلاة.
يقول: إن البدويات مطبوعات على حسن الكلام، وحسن الحواجب، فلا يصبغن حواجبهن بالسواد، ولا يمضغن الكلام؛ لأن كلامهن فيه غنة فلا يحتجن إلى تكلفها.
وقيل: أراد بمضغ الكلام التفاصح.
ولا برزن من الحمّام مائلةً ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب
أوراكهن رفع بمائلةً وصقيلات نصب على الحال.
يعني: أنهن مخلوقات كذلك فلا يصبغن حواجبهن، ولا يكسرن في كلامهن، ولا تتمايل أوراكهن تصنعا، ولا يصقلن عراقيبهن كما تفعله النساء من أهل الحضر. فأفدى من هذه حالها.
ومن هوى كلّ من ليست ممّوهةً ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
المموه: المزور المغشوش.
يقول: لما كنت أحب كل مطبوعة، وأبغض كل مصنوعة، تركت لون شيي ظاهراً مطبوعاً، لم أموهه بالخضاب. وهذا ينظر إلى قول الشاعر:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم(1/378)
ومن هوى الصّدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعرٍ في الوجه مكذوب
الهاء في عادته للصدق.
يقول: من حبي للصدق واعتيادي له، زهدت عن شعر مخضوب في الوجه: وهو المكذوب.
ليت الحوادث باعتني الّذي أخذت ... منّي بحلمي الّذي أعطت وتجريبي
يقول: إن الحوادث أخذت مني الشباب، وأعطتني الحكمة والتجارب، فليتها ردت على ما أخذته من الصبي، وأخذت ما أعطت من الحلم والنهى.
فما الحداثة من حلمٍ بمانعةٍ ... قد يوجد الحلم في الشّبّان والشّيب
يقول: ليت الحوادث ردتني إلى أيام الصبى والحداثة، فإنها لا تمنع من الحلم، فيكون مع الحداثة ما يكفيني من الحلم والتجربة؛ فإن العقل يوجد في الأحداث كما يوجد في الشيوخ. والحداثة: لا توجد إلا مع الشبان.
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلاً ... قبل اكتهالٍ، أديباً قبل تأديب
ترعرع: أي شب، ولا يكون إلا حسن الشباب. والاكتهال: التمام في كل شيء. والكهل من الناس: من سنه ما بين أربع وثلاثين، إلى خمسين سنة. ونصب مكتهلاً وأديباً على الحال.
لما قال: إن الحداثة لا تمنع من الحلم، استدل بحال كافور فقال: الحلم يوجد في الأحداث، كما أن الأستاذ كافور ترعرع من الحلم والأدب، ولم يكن من الشيوخ. ولا الكهول.
يعني: أنه خلق مطبوعاً على الأدب، فلم يحتج إلى مؤدب، وكان ابتداء شبابه في الكمال، كاكتهال غيره.
مجرّباً فهماً من قبل تجربةٍ ... مهذّباً كرماً من قبل تهذيب
مهذباً ومجرباً نصب على الحال. وفهماً وكرماً نصب على المصدر أو على المفعول له.
يقول: ترعرع الملك على هذه الأحوال، فهو مجرب قبل تجربة؛ لما طبع عليه من الفهم، مهذب؛ لما جبل عليه من الكرم، فلا يحتاج إلى التهذيب والتجريب.
حتّى أصاب من الدّنيا نهايتها ... وهمّه في ابتداءاتٍ وتشبيب
التشبيب: الابتداء بالأمر.
يقول: قد أصاب الغاية من الدنيا، وهو مع ذلك في أول مطالبه وتشبيب همته، ولم تبلغ همته أقصى مرادها.
يدبّر الملك من مصرٍ إلى عدنٍ ... إلى العراق فأرض الروم فالنّوب
يعني: أن هذه النواحي كلها تحت يده، وهو يديرها.
إذا أتتها الرّياح النّكب من بلدٍ ... فما تهبّ بها إلا بترتيب
النكب: جمع النكباء، وهي كل ريح هبت بين مهبى ريحين. وقيل: هي ريح تهب من مهاب الرياح الأربع على غير استواء.
يقول: إن الريح النكباء مع اختلاف هبوبها، إذا أتت هذه النواحي، لا تهب فيها إلا بترتيب من حسن سياسته وترتيبه الأمور.
ولا تجاوزها شمسٌ إذا شرقت ... إلا ومنه لها إذنٌ بتغريب
روى: إذا شرقت وإذا طلعت والتغريب: أن تأخذ نحو المغرب.
يقول: إذا طلعت الشمس على هذه النواحي، فأرادت أن تتجاوزها، فلا تجسر على المجاوزة، إلا أن يأذن لها بالغروب، والها في منه: لكافور وفى لها للشمس.
يصرّف الأمر فيها طين خاتمه ... ولو تطلّس منه كلّ مكتوب
تطلس: أي انمحى وذهب أثره، وطلست الكتاب: محوته.
يقول: لا يمضي الأمر إلا بخاتمه، وإن انمحت كتابته متى عرفت رسومه أمضي أمره، رهبة له وإعظاماً.
يحطّ كلّ طويل الرّمح حامله ... من سرج كلّ طويل الباع يعبوب
فاعل يحط حامله: أي حامل خاتمه. والهاء للخاتم. واليعبوب: الفرس الكثير الجري. وقيل: هي الطويل، وطويل الباع: طويل القوائم.
يقول: حامل خاتمه يحط كل فارس طويل الرمح، عن سرج كل فرس طويل القوائم واسع الجري؛ لما يداخله من الهيبة، وانبساط أمره، فإذا كانت هذه حاله، فحال غيره في الانقياد أبلغ.
كأنّ كلّ سؤالٍ في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
يقول: يفرح بسؤال كل سائل، وكأنه في أذنه. مثل: قميص يوسف في عين يعقوب، فهو يستشفى بالسؤال، كما استشفى يعقوب بقميص يوسف.
إذا غزته أعاديه بمسألةٍ ... فقد غزته بجيشٍ غير مغلوب
يقول: إن أعداءه إذا قصدوه بالخضوع والسؤال، طلباً لما له أو طلباً للصلح منه، أجابهم لما يريدون، فكأنهم قصدوه بجيش لا يغلب.
أو حاربته فما تنجو بتقدمةٍ ... ممّا أراد، ولا تنجو بتجبيب
التجبيب: بباءين هو التأخر والهرب. وروى تخبيب من قولهم: خبب فلان نفسه إذا بعد.(1/379)
يقول: إن حاربه الأعداء فلا ينجون بالشجاعة والإقدام، وإن هربوا لحقهم بخيله، فلا ينجون بالهرب والانهزام.
أضرت شجاعته أقصى كتائبه ... على الحمام، فما موت بمرهوب
أضرت: أي أغرت، يقال: أضريته على كذا وضريته على كذا: إذا عودته. وأقصى كتائبه: أي جميع كتائبه؛ لأن أقصى هو الغاية.
يقول: قد عودت شجاعته جميع عسكره لقاء الحروب، فكأنه أضراهم على الموت، فلا يخافون من الموت والقتل، كالبازي إذا ضرى بالصيد، لا يخاف منه.
قالوا هجرت إليه الغيث! قلت لهم: ... إلى غيوث يديه والشّآبيب
الشآبيب: جمع شؤبوب، وهي الدفعة العظيمة من المطر.
والمعنى: أن أرض مصر لا تمطر، وكأن الناس قالوا: لم تركت ديار الخصب والغيث، وقصدت كافوراً؟! فقال لهم: إن غيث يديه وشآبيب جوده، أكثر من الغيث وأنفع.
إلى الّذي تهب الدّولات راحته ... ولا يمنّ على آثار موهوب
يقول: إن كنت تركت الغيث، فقد قصدت ملكاً يهب الولايات، ولا يتبع منه.
وفيه تعريضان: أحدهما تعريض لكافور أن يوليه ولاية، والآخر تعريض بسيف الدولة أنه كان يمن عليه بما يصل منه إليه.
ولا يروع بمغدورٍ به أحداً ... ولا يفزّع موفوراً بمنكوب
الموفور: الرجل الكثير المال.
يقول: لا يغدر بأحد، فيخاف آخر بأن يغدر به كما غدر بغيره، ولا ينكب صاحب مال، فيخاف منه صاحب مال أن ينكبه، كما نكب غيره.
بلى يروع بذي جيش يجدّله ... ذا مثله في أحمّ النّقع غربيب
يجدله. يصرعه على الجدالة، وهي الأرض، والأحم: الأسود، والنقع: الغبار، والغربيب: الأسود جاء به توكيداً.
يقول: لا يروع بمغدور به أحداً، ولكن يقصد إلى ملك صاحب جيش عظيم فيقتله ويروع به ملكاً آخر صاحب جيش مثل هذا المقتول، فإذا رأى ما صنع بالأول هابه.
يعني: أن همته ليست أخذ المال، بل همته طلب العز.
وجدت أنفع مالٍ كنت أذخره ... ما في السّوابق من جريٍ وتقريب
التقريب: أرفع المشي، وأدنى الجري.
يقول: كان أنفع مال وجدته وجمعته: ما في الخيل السوابق من الجري والتقريب.
جعل الجري والتقريب مالاً، لما وصل بهما إلى المال؛ لاتصاله بالممدوح.
لمّا رأين صروف الدّهر تغدر بي ... وفين لي ووفت صمّ الأنابيب
يقول: لما وصلت بهذه السوابق، وبهذه الرماح إلى جميع ما أردته، فكأنهن وفين لي، في وقت غدرت بي صروف الدهر، ولم توافني حوادث الأيام.
فهو يصف بذلك رحيله إلى مصر، ونجاته من أذية سيف الدولة.
فتن المهالك حتّى قال قائلها: ... ماذا لقينا من الجرد السّراحيب؟!
المهالك: جمع مهلكة، وهي المفازة. والسرحوب: الفرس الطويل، ولا يوصف بها الذكر.
يقول: سرعة هذه الخيل، شكت المفاوز حتى قال قائلها: أي بعض بقاعها: أي شيء لقينا من هذه الخيل؟! وقيل: أراد بالمهالك أسباب الهلاك. أي فأتت خيلي كل أمر فيه هلاك.
تهوى بمنجردٍ ليست مذاهبه ... للبس ثوبٍ ومأكولٍ ومشروب
تهوى: أي تسرع. والمنجرد: الماضي في أمره.
يقول: هذه السوابق تهوى في المفاوز برجل مجد في أمره، ليست همته المأكول والمشروب والملبوس، وإنما همته معالي الأمور.
يرى النّجوم بعيني من يحاولها ... كأنّها سلبٌ في عين مسلوب
يقول: ينظر هذا المنجرد إلى النجوم نظر من يريد تناولها، فكأنها سلب سلب منه، فهو ينظر إليها كما ينظر المسلوب إلى سلب في يد غيره.
يعني: أنه يستحق منازل النجوم، لكن الدهر حطه عن درجته، فهو ينظر إليها على هذا الوجه.
حتّى وصلت إلى نفس مححّبةٍ ... تلقى النّفوس بفضلٍ غير محجوب
يقول: قطعت المهالك حتى وصلت إلى نفس محبة من الناس؛ لعظم شأنه، ولكن فضلها غير محجوب.
وقيل: إن هذا تعريض بسواده. يعني: وصلت إلى نفس كريمة، محجوبة في جسم أسود، وفضلها غير محجوب: يعني: أن مخبره أحسن من منظره.
في جسم أروع صافي العقل تضحكه ... خلائق النّاس إضحاك الأعاجيب
يقول: هذه النفس في جسم رجل ذكي صافي العقل، وإن كان أسود اللون، فهو أبيض العقل، فلا يخالط عقله شيء من الكدورة، وهو يضحك من أخلاق الناس لنقصائهم في العقل! فكأنه رأى شيئاً عجيباً.
والأروع: الذكي القلب.(1/380)
فالحمد قبل له، والحمد بعد لها ... وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
له: أي لكافور. ولها: للخيل. والإدلاج: سير الليل. والتأويب: سير النهار كله.
يقول: الحمد أولاً لك، إذ كان كرمك هو الباعث على قصدك، ثم بعد ذلك لخيلي؛ لأني وصلت بها إليك، وكذلك لسيري ليلاً ونهاراً حتى وصلت إليك.
وكيف أجحد يا كافور نعمتها ... وقد بلغنك بي يا كلّ مطلوبي؟!
يقول: كيف أجحد نعم هذه الخيل السوابق! وهي التي بلغتني إليك، وأنت مأمولي وغاية كل مطلوبي.
يا أيّها الملك الغاني بتسميةٍ ... في الشّرق والغرب عن وصفٍ وتلقيب
الغاني: المستغني.
يقول: أنت مشهور في العالم باسمك المذكور، فإذا قيل: كافور، عرفت واستغنيت عن الوصف، واللقب.
أنت الحبيب ولكنّي أعوذ به ... من أن أكون محبّاً غير محبوب
به: يرجع. إلى الحبيب.
يقول: أنت حبيبي، ولكني أعوذ بك من أن أكون محباً لك، ولا أكون محبوباً عندك. ومثله لأبي تمام قوله:
كم من عدوٍّ قال لي متمثّلاً: ... كم من ودود ليس بالمودود!
وقال يمدحه في ذي الحجة من هذه السنة ويستنجزه وعده.
أودّ من الأيّام ما لا تودّه ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده
الهاء في توده ترجع إلى ما والفعل للأيام. والهاء في إليها تعود إلى الأيام. وفي جنده إلى البين.
يقول: أريد من الأيام ألا تفرق بيني وبين أحبائي، والأيام لا تريد ذلك. وأشكو إليها الفراق وهي جنده: أي هو الذي حكم بها، فإذا شكوت إليها لم تشكني.
يباعدني حبّاً يجتمعن ووصله ... فكيف بحبٍّ يجتمعن وصدّه؟!
الحب: المحبوب، وجعل الأيام تجتمع مع الوصل والصد؛ لأنهما في الأيام يكونان، والظرف يتضمن الفعل، فإذا تضمنه فقد لابسه وصار كأنه مجتمع معه، وعطف الوصل والصد على الضمير في يجتمعن من غير التوكيد بالفصل، وهذا جائز في ضرورة الشعر.
يقول: إن الأيام تباعد مني الحبيب المواصل، فكيف تقرب الحبيب المقاطع؟!
أبى خلق الدّنيا حبيباً تديمه ... فما طلبي منها حبيباً تردّه
يقول: كيف ترد عليك الأيام حبيبك الذي فارقك؟ وهي لا تترك عليك حبيبك الذي هو معك!
وأسرع مفعولٍ فعلت تغيّراً ... تكلّف شيءٍ في طباعك ضدّه
يقول: إن الدنيا مطبوعة على التغير والتنقل، وإذا ساعدت بقرب حبيب لم تلبث أن تفرق بيننا وبينه! وترجع إلى عادتها التي جبلت عليها، فأسرع شيء انتقالاً، وأقربه زوالاً هو: تكلف ما في طبعه خلافه.
رعى الله عيساً فارقتنا وفوقها ... مهاً كلّها يولى بجفنيه خدّه
المها: بقر الوحش، وعنى بها النساء ويولي: من الولي، وهو من المطر الثاني. والهاء في كلها للمها وفي جفنيه وخده يعود إلى لفظ كل.
يقول: حفظ الله عيساً فارقتنا وفوقهن نساء يبكين لفراقنا، فتجرى دموعهن على خدودهن مرةً بعد مرة، فكأن خد كل واحدة منهن يسقى ولياً بعد وسمى من سحابة جفنيها، تأسفاً على الفراق.
بوادٍ به ما بالقلوب كأنّه ... وقد رحلوا جيدٌ تناثر عقده
الهاء في به وكأنه للوادي، وفي عقده للجيد.
يعني: فارقتنا هذه العيس بوادٍ به من الوحشة لفراقهن مثل ما في قلوبنا من الوحشة، فهو لوحشته كالجيد الذي انقطع عقده وتناثر در قلائده. أي كن زينةً له، فلما رحلن عنه صار كالجيد نزع حليه.
إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده
الأحداج: جمع الحدوج، وهو مركب من مراكب النساء، والرند: الآس، وقيل: شجر طيب الريح، والعرب تسمى العود رنداً والهاء نباته ورنده للوادي.
يقول: اختلطت رائحة المسك من النساء برائحة الرند في هذا الوادي، فكان كل واحد منهما يباري الآخر بفوح الرائحة.
وحالٍ كإحداهنّ رمت بلوغها ... ومن دونها غول الطّريق وبعده
غول الطريق: بعده. يقول: هو الهلاك.
يقول: رب حال مثل إحدى هؤلاء الجواري في الحسن والكمال، أو في العزة والامتناع. وأنا أروم الوصل إليها، وبيني وبينها طريق بعيد يهلك من سلكه.
وأتعب خلق الله من زاد همّه ... وقصّر عمّا تشتهي النّفس وجده
الوجد والوجدة: هو الغنى.
يقول: أتعب الناس من أتعب همته، ولم يساعده ماله وإمكانه.(1/381)
فلا ينحلل في المجد مالك كلّه ... فينحلّ مجدٌ كان بالمال عقده
يقول: لا تتلف مالك كله في اكتساب المجد والثناء، فإن فعلت ذلك افتؤلت وضاع المجد الذي كنت تطلبه! إذ المجد لا يكون إلا مع المال.
ودبّره تدبير الّذي المجد كفّه ... إذا حارب الأعداء والمال زنده
يقول: دبر المال تدبير الرجل الذي المجد كفه، والمال زنده: يعني كما لا تقوم الكف إلا بالزند، فكذلك لا تقهر الأعداء إلا بالمال.
فلا مجد في الدّنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدّنيا لمن قلّ مجده
يعني: كما لا يقوم المجد من دون المال، كذلك المال لا ينفع إلا مع المجد، فمن له المال بلا مجد فهو بمنزلة الفقير الذي لا مال له.
وفي النّاس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثّواب جلده
يقول: في الناس من ليس له همة، فقد رضى بالدون من العيش، واقتصر على طعام بطنه، فلا يركب إلا رجله، ولا يلبس إلا جلده.
ولكنّ قلباً بين جنبيّ ما له ... مدىً ينتهي بي في مرادٍ أحدّه
لفظة ما في قوله: ما له نفي.
يقول: أنا لست هكذا، لكني بعيد الهمة، ليس لهمتي غاية تقف عندها. والهاء في أحده للمراد.
يرى جسمه يكسى شفوفاً تربّه ... فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه
الشفوف: جمع شف، وهو الثوب الرقيق. وتربه: تنعمه. وتهده: تهدمه.
يقول: هذا القلب يرى الجسم الذي فيه يلبس أثواباً رقاقاً، وهو لا يختار له ذلك، وإنما يختار الدروع مع خشونتها وغلظتها؛ لتهدم نعومة الحسم.
يكلّفني التّهجير في كلّ مهمهٍ ... عليقي مراعيه وزادي ربده
التهجير: السير في وقت الهاجرة. والعليق: ما تعلق به على الدابة، من شعير أو غيره. والربد: النعام، الواحد أربد، وربداء، سميت بذلك لسواد لونها.
يقول: قلبي يكلفني السير في وقت الهاجرة في كل مهمه بلا زاد ولا عليق، فخيلي تأكل من مراعيها، وزادي من نعامها.
وأمضى سلاحٍ قلّد المرء نفسه ... رجاء أبي المسك الكريم وقصده
يقول: أمضى سلاح المرء: قصد كافور ورجاؤه، فكما أن أبلغ ما يتوصل به المرء إلى مرامه هو السلاح، كذلك أبلغ ما يوصله إلى مراده قصده ورجاؤه.
هما ناصرا من خانه كلّ ناصر ... وأسرة من لم يكثر النّسل جدّه
يقول: رجاؤه وقصده معينان من ليس له معين. وعشيرة يتقوى بها، كما يتقوى الرجل بناصره وعشيرته.
أنا اليوم من غلمانه في عشيرةٍ ... لنا والدٌ منه يفدّيه ولده
الولد والولد: لغتان يقعان على الواحد والجمع. وقيل: الولد: جمع الولد.
يقول: أنا اليوم من جملة غلمانه، وهم لي بمنزلة الولد، ونحن أولاده نتمنى أن نفديه بأنفسنا.
فمن ماله مال الكبير ونفسه ... ومن ماله درّ الصّغير ومهده
يعني: أن نعمه عمت الكبير والصغير، فمال الكبير ونفسه من هباته، ولب الصغير ومهده من ماله.
يعني: أنه يملك نفوس الناس وأموالهم.
نجرّ القنا الخطّىّ حول قبابه ... وتردى بنا قبّ الرّباط وجرده
الهاء في جرده يرجع إلى لفظ الرباط لأنه اسم واحد موضوع للجمع مثل: القوم والنفر. وتردى: من الرديان، وهي سرعة السير. والقب: جمع أقب وقباء وهو الفرس الضامر، والرباط: اسم للخيل المربوطة، وقال أبو زيد: هي الخمس فما فوقها.
يقول: نجر القنا حول قباب الممدوح كل يوم، لأنا من غلمانه، ونجري الخيل في ميدانه؛ لأن عادة الغلمان أنهم يتلاعبون في ميادين الملوك.
ونمتحن النّشّاب في كلّ وابلٍ ... دوىّ القسيّ الفارسيّة رعده
الهاء في رعده يعود إلى وابل.
يقول: نرمي النشاب بين يديه، ونمتحنها، على عادة الغلمان من امتحان السهام. وشبه كثرة النشاب بالمطر الوابل، ودوي القسي وصوتها عند الرمي بالرعد. يصف كثرة غلمانه وجنده.
فإلاّ تكن مصر الشّري أو عرينه ... فإنّ الّذي فيها من النّاس أسده
الشري: موضع كثير الأسد، والعرين: الأجمة.
يقول: إن لم تكن مصر مقر الأسود، فإن الذي فيها أسود، فلا اعتبار بالموضع، وإنما الاعتبار بالأسد.
سبائك كافورٍ وعقيانه الّذي ... بصمّ القنا لا بالأصابع نقده
العقيان: الذهب.(1/382)
يقول: هؤلاء الغلمان، والرجال الذين هم الأسود سبائك لكافور ادخرهم بعد أن امتحنهم بالطعن بين يديه، وجربهم فجعلهم ذخائر، وأقامهم مقام ماله، الذي هو السبائك والذهب؛ لأنه يصل بهم إلى مطالبه كما يوصل بالمال.
ولما جعلهم مالا جعل نقدهم بالقنا والطعن لا بالأصابع، لأنه لم يرد حقيقة الدنانير التي تنقد بالأصابع.
وقيل: أراد أنه يكسب الذهب والفضة بصم القنا لا بالتجارة. والأول هو الظاهر الأليق.
قال أبو الطيب: لما أنشدت هذا البيت قال لي كافور: من يعرف العقيان. اليوم؟ فقلت: نعم هرباً من تفسيره إياه. فقال: الصيوف. يريد السيوف.
بلاها حواليه العدوّ وغيره ... وجرّبها هزل الطّراد وجدّه
بلاها: أي جربها. والهاء فيها قيل: تعود إلى الخيل، وقيل للسبائك والعقيان.
يقول: إن العدو قد جرب هذه الخيل والغلمان وغير العدو أيضا.
فالعدو في الحرب في حالة الجد وغير العدو في الميدان: في حالة الهزل.
أبو المسك لا يفنى بذنبك عفوه ... ولكنّه يفنى بعذرك حقده
يخاطب نفسه أو صاحبه يقول: إن عفوه لا يفنى بذنبك، ولم يغلبه ذنب المذنب، ولكنه يفنى حقده بعذرك: يعني إذا اعتذرت إليه زال عن قلبه حقده.
فيا أيّها المنصور بالجدّ سعيه ... ويا أيّها المنصور بالسّعي جدّه
سعيه وجده: رفع بالمنصور.
المعنى: أنك بلغت جدك بسعيك، ولم تبلغ ما بلغت بالجد وحده، ولكنه بالجد والسعي، فجدك ينصر سعيك في أمرك ويوفقه لك، وسعيك ينصر جدك، فقد اشتملتك السعادة والنصر.
تولّى الصّبا عنّي فأخلفت طيبه ... وما ضرّني لمّا رأيتك فقده
أخلفت: أي وجدت طيب كافور خلفاً من الصبا.
يقول: لما تولت عني أيام الصبا جعلت طيبك خلفاً عنها، فناب مناب أيام الصبا ولم يضرني فقد أيام الصبا لما رأيتك، فسروري بك مثل سروري بأيام الصبا.
لقد شبّ في هذا الزّمان كهوله ... لديك، وشابت عند غيرك مرده
يقول: شب كهول الزمان عندك؛ لسرورهم بإحسانك إليهم فكأنهم في أيام الصبا، والشباب عند غيرك شابت مرد هذا الزمان لإيذائه إياهم.
يريد سيف الدولة.
ألا ليت يوم السّير يخبر حرّه ... فتسأله، واللّيل يخبر برده
يقول: ليت حر الهواجر يخبرك بحاله؛ حتى تسأله عما فعل بي، وليت برد الليل مخبر أيضا؛ لتعرف منه ما قاسيت من البرد.
وليتك ترعاني وحيران معرضٌ ... فتعلم أنّي من حسامك حدّه
حيران: ماء بالشام، وقيل: جبل. كانت قد ظهرت له خيل وهو عليه.
يقول: ليتك تراني بهذا المكان، حين لاحت لي الخيل، لتعلم شجاعتي، وأني بمنزلة الحد في سيفك.
وقيل: شبه الجيش بحيران، الذي هو الجبل.
والمعنى: ليتك رأيتني يوم يبدو فيه الجيش، حتى تقف على شجاعتي، وتعلم أني حد حسامك.
وأنّى إذا باشرت أمراً أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشدّه
يقول: وتعلم أيضاً أني إذا رمت أمراً، قرب بعيده وهان شديده.
وما زال أهل الدّهر يشتبهون لي ... إليك فلمّا لحت لي لاح فرده
يقول: كنت أظن أن أهل الدهر مشتبهون في المراتب والمنزلة، متساويين في القدر، فلما رأيتك رأيت فرد الزمان الذي لا نظير له.
وقيل: إن أهل الدهر من الملوك كانوا يشتبهون بك عندي، فيوهمونني مساواتهم لك في الملك وسائر الخصال، فلما رأيتك، أوحد الدهر، علمت بطلان دعاويهم.
يقال إذا أبصرت جيشاً وربّه ... أمامك ربٌّ ربّ ذا الجيش عبده
يقول: كنت إذا رأيت جيشاً وأميره، قيل لي قدامك ملك - وهو كافور - وأمير هذا الجيش، عبد ذلك الملك.
وألقى الفم الضّحّاك أعلم أنّه ... قريبٌ بذي الكفّ المفدّاة عهده
الهاء في عهده للفم. وقوله: بذي الكف: أي بهذه الكف، وقيل بصاحب الكف.
يقول: كنت إذا رأيتك فماً كثير الضحك علمت أنه قريب العهد بتقبيل كفك - التي تفدي الأنفس - وذلك الضحك، لما لحقه من السرور حين وصل إلى تقبيل كفك، أو عرفت أنه قريب العهد بعطاء كفك المفداة، فذلك الضحك سرور بعطائك.
فزارك منّي من إليك اشتياقه ... وفي النّاس إلاّ فيك وحدك زهده
المعنى: زارك مني رجل مشتاق إليك، زاهد في جميع الناس إلا فيك وحدك وقوله: زارك مني أي أنا ذلك الذي إليك اشتياقه.(1/383)
يخلّف من لم يأت دارك غايةً ... ويأتي فيدري أنّ ذلك جهده
الجهد: الطاقة، والجهد: المشقة، وقيل: هما واحد.
يقول: من قصد غيرك من الملوك فقد خلف وراءه غاية، وإذا قصدك فقد بلغ غاية جهده وطاقته، فإنه ليس وراءك غاية يطلب الوصول إليها.
فإن نلت ما أمّلت منك فربّما ... شربت بماءٍ يعجز الطّير ورده
الورد: الورود، وهو فاعل يعجز والضمير في ورده للماء والباء في قوله: شربت بماء زائدة.
المعنى: إني بعيد الهمة، شريف المطلب، لا أطلب إلا غايةً بعيدة؛ فلهذا قصدتك، وقاسيت الأخطار دونك، وليس هذا بمنكر مني، فإني ربما وصلت إلى ما لا يقدر الطير على الوصول إليه! يعني: وصلت إلى مطالب يعجز عنها غيري.
ووعدك فعلٌ قبل وعدٍ لأنّه ... نظير فعال الصّادق القول وعده
يقول: وعد كل أحد يشبه فعله، وأنت صادق القول، فإذا وعدت فكأنك ابتدأت بالجود. قبل الوعد، فإن وعدك واقع لا محالة.
فكن في اصطناعي محسناً كمجربٍ ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه
التقريب: ضرب من سير الفرس دون الشد.
يقول: جربني في اصطناعك إياي وإحسانك إلي، ليتبين لك صغر حالي وكبرها.
شبه الصغر بالتقريب، والكبر بالشد.
إذا كنت في شكٍّ من السّيف فابله ... فإمّا تنفّيه وإمّا تعدّه
يقول: إن شككت في حالي فجربني، فإني مثل السيف يتبين حاله بالتجربة، فإن رضيتني جعلتني عدة لك، وإلا رميت بي.
وما الصّارم الهنديّ إلاّ كغيره ... إذا لم يفارقه النّجاد وغمده
نجاد السيف: حمائله.
يقول: لا فضل بيني وبين غيري إذا لم تجربني كما لا فضل بين السيف الهندي القاطع، وبين غيره من السيوف إذا لم يجرد من غمده. ومثله لأبي تمام:
لما انتضيتك للخطوب كفيتها ... والسّيف لا يكفيك حتّى ينتضى
وإنّك للمشكور في كلّ حالةٍ ... ولو لم يكن إلاّ البشاشة رفده
الهاء في رفده للمشكور.
يقول: أنا أشكر لك في كل حال، وإن لم يكن من عطائك إلا طلاقة وجهك لكفاني ذلك.
وكلّ نوالٍ كان أو هو كائن ... فلحظة طرفٍ منك عندي ندّه
يقول: كل عطاء كان منك فيما مضى أو سيكون، فنظرة منك إلي تقوم عندي مقامه. والند: المثل. والهاء في نده للنوال.
وإني لفي بحر من الخير أصله ... عطاياك أرجو مدّها وهي مدّه
يقول: أنا في بحر من الخير، وأصل هذا البحر من عطاياك، وأرجو مد عطاياك، فهي مد هذا البحر.
وما رغبتي في عسجدٍ أستفيده ... ولكنّها في مفخرٍ أستجدّه
العسجد: الذهب. وأستفيده وأستجده بمعنىً واحد.
يقول: ليست رغبتي في المال، ولكن رغبتي في استفادة الفخر واستجداد الشرف. وأراد به الولاية. ومثله لأبي تمام:
ومن خدم الاقوام يرجو نوالهم ... فإنّي لم أخدمك إلاّ لأخدما
يجود به من يفضح الجود جوده ... ويحمده من يفضح الحمد حمده
الهاء في به للمفخر.
يقول: يجود بهذا المفخر، من جوده يفضح كل جود. يعني كافورا. ويحمده على هذا الجود، من حمده يفضح كل حمد. يعني به نفسه.
يعني: أنت أجود الملوك وأنا أبلغ الشعراء وأفصحهم.
فإنّك مامّر النّحوس بكوكبٍ ... وقابلته إلاّ ووجهك سعده
يقول: لو أن كوكبا من الكواكب أصابه نحس، وقابلته أنت، سعد ذلك النجم بسعادتك، وخرج النحس من غير أن يؤثر فيه بنحوسته.
يعني: أن من أتاك سعد بقربك، وظهر عليه إقبالك، فيرجع غنيا مسرورا.
وشكا إليه ابن عياش طول قيامه في مجلس الأسود وكان دسه عليه، ليعلم ما في نفسه فقال أبو الطيب يمدح كافورا ارتجالا:
يقلّ له القيام على الرّءوس ... وبذل المكرمات من النفوس
يقول: الوقوف بين يديه يقل له، لأنه يستحق فوق ذلك، وكذلك يقل له بذل النفوس المكرمة في جنب ما يستحقه من التعظيم.
إذا خانته في يومٍ ضحوكٍ ... فكيف تكون في يومٍ عبوس؟
يقول: إذا خانته في حال الرفاهية والسلم والسرور فتقصر في الخدمة والقيام بين يديه فكيف تكون في حال الشدة والحرب؟! والغرض بضحك اليوم وعبوسه: حسنه وطلاقته. وقيل: أراد في يوم يضحك فيه ويعبس فيه كما يقال: ليل نائم أي ينام فيه(1/384)
ومات له في دار البركة التي انتقل إليها خمسون غلاما في أيام يسيرة، ففزع، وخرج إلى دار أخرى هارباً منها في الليل، حتى قال الناس إنه جاءه في الليل أسود فقال له: إن خرجت منها.. وإلا قتلتك! فخرج على وجهه، ونزل دار بعض غلمانه إلى أن أصلحت له دار كانت لحرم ابن طولون، فلما نزلها دخل عليه أبو الطيب فقال في المحرم سنة سبع وأربعين وثلاث مئة.
أحقّ دارٍ بأن تدعى مباركةً ... دارٌ مباركة الملك الّذي فيها
يقول: أحق الدور بأن تسمى مباركة، هي الدار التي الملك فيها، لما يشملها من نعمه وبره.
وأجدر الدّور أن تسقى بساكنها ... دارٌ عدا النّاس يستسقون أهليها
يقول: إذا كان البعيد يستسقى من جود يديك، فدارك التي تسكنها أولى بأن تسقيها بجودك وبركتك.
هذي منازلك الأخرى نهنّئها ... فمن يمرّ على الأولى يسلّيها
ويقول: نحن نهنئ دارك التي انتقلت إليها بنفسك، فمن يمر على الأولى التي انتقلت عنها يسليها: أي يصبرها. من بمعنى الذي.
إذا حللت مكاناً بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها
يقول: إذا نزلت مكاناً بعد ما رحلت عن مكان غيره، تاه المكان الذي نزلته على الذي ارتحلت عنه، تشرفاً بك.
لا تنكر العقل من دارٍ تكون بها ... فإنّ ريحك روحٌ في مغانيها
يقول: لا تنكر أن تكون الدار التي تحلها لها عقل! تعرف به شرفها بقربك، لأن ريحك في منازلها، لها روح تحيا به.
أتمّ سعدك من لقّاك أوّله ... ولا استردّ حياةً منك معطيها
يقول: أتم الله سعادتك، كما ابتدأك بها، ولا استرد منك ما أعطاك من الحياة.
ودخل يوما أبو الطيب على كافور الأسود، فلما نظر إليه وإلى قلته في نفسه ونقص عقله ولؤم كفه وقبح فعله، ثار الدم في وجهه حتى ظهر ذلك فيه، فخرج فركب فأتبعه الأسود بعض القواد، وهو يرى أن أبا الطيب لا يفطن فسايره وسأله عن حاله وقال له: أراك متغير اللون؟ فقال أبو الطيب: أصاب فرسي اليوم جرح خفته عليه، وقلبي مشغول به، وليس له خلف إن تلف، فبلغ معه إليه ثم عاد إلى الأسود فأخبره، فأنفذ إليه مهراً أدهم، فقال أبو الطيب يمدحه ويذكر أسف الحمدانيين عليه وأنشدها يوم الأحد لأربع عشرة ليلة من شهر ربيع الآخر من هذه السنة:
فراقٌ ومن فارقت غير مذمّم ... وأمٌّ ومن يمّمت خير ميمّم
يقول: هذا فراق ومن فارقته غير مذموم، وهو سيف الدولة، وهذا أم: أي قصد، ومن أممته خير مقصود، وهو كافور.
وما منزل اللّذّات عندي بمنزلٍ ... إذا لم أبجّل عنده وأكرّم
يقول: ليست اللذة بلذة الأماكن إلا إذا أكرمني أصحابها وعظموا قدري، فمتى كنت مهاناً فيها فلا أعدها لذة عندي.
سجيّة نفسٍ ما تزال مليحةً ... من الضّيم مرميّاً بها كلّ مخرم
مليحةً: أي مشفقة خائفةً. والمخرم: المفازة.
يقول: عادة نفسي أنها تأنف الذل، وتشفق من الضيم، فلهذا أتحمل المشقة وأقطع المفاوز.
رحلت فكم باكٍ بأجفان شادنٍ ... عليّ، وكم باكٍ بأجفان ضيغم
الشادن: ولدى الظبي إذا قوى. والضيغم: الأسد.
يقول: لما رحلت بكى لفراقي النساء اللواتي عيونهن كأعين الغزلان، والأبطال الذين هم كالأسود، وعنى به سيف الدولة وأصحابه.
يعني: بكى لفراقي حبيبي بأجفان الشادن، وبكى سيف الدولة بأجفان الضيغم.
وما ربّة القرط المليح مكانه ... بأجزع من ربّ الحسام المصمّم
هذا تفسير البيت الذي قبله. والهاء في مكانه للقرط، وهو الذي يعلق في شحمة الأذن.
يقول: لم تكن حبيبتي صاحبه القرط، بأشد جزعاً لفراقي، من حبيبي الذي هو صاحب السيف. وأراد به سيف الدولة.
فلو كان ما بي من حبيب مقنّع ... عذرت ولكن من حبيب معمّم
يقول: لو كان ما بي من الشوق إنما هو لحبيبي المقنع، لعذرت نفسي في فراقه، لأني فارقته لطلب المجد والعلا، ولكن أي عذر في مفارقة حبيبي المعمم؟؟! وما رجوته من قصد غيره، كان موجوداً عنده! يظهر الندم على فراق سيف الدولة.
وقيل: معناه لو كان سبب فراقي من قبل المحبوبة لعذرتها، لأن التغير والفراق من عاد النساء، ولكن ما بي من حبيب معمم، فالتغير لا يعذر فيه.
رمى واتّقى رميي ومن دون ما اتّقى ... هوىً كاسرٌ كفّى وقوسي وأسهمي(1/385)
يقول: ذلك الحبيب المعمم رماني بسهم، ثم خاف أن أرميه بما رماني به، وليس يدري أن هواه يكسر قوسي وكفي وسهمي.
يعني: إن سيف الدولة بدأ لي بالاساءة، ثم تغير لي، لأنه حسب أني تغيرت له، فقبل في كلام الأعداء وساء ظنه! وليس يدري أن محبتي له تمنعني من الإساءة إليه، ومقابلته على فعله. وهذا عتاب لطيف.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم
يقول: إذا أساء إنسان إلى إنسان، أساء ظنه به وصدق توهمه عليه، لأنه يظن أنه حقد عليه ففسدت نيته.
وعادى محبّيه بقول عداته ... وأصبح في ليلٍ من الشّكّ مظلم
يقول: إذا أساء الرجل إلى صديقه، ظن أنه قد تغير له، فيتنكر في مودته ويعاديه بقول أعدائه.
أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتّكلّم
يقول: أصدق الأرواح قبل الأشباح، وأعرف أحوال الأرواح في فعل المرء وكلامه: الذي هو صاحب النفس.
وأحلم عن خلّي وأعلم أنّه ... متى أجزه حلماً عن الجهل يندم
يقول: إذا جهل علي خليلي حلمت، وعلمت أني إذا قابلته بالحلم، ندم على ما بدر منه وعاد إلى الوصل.
وإن بذل الإنسان لي جود عابسٍ ... جزيت بجود التّارك المتبسّم
يقول: إذا شاب الإنسان جوده بالعبوس، جدت له بترك نواله، وتركته وقابلت عبوسه بالتبسم.
وأهوى من الفتيان كلّ سميدع ... نجيبٍ كصدر السّمهريّ المقوّم
السميدع: السيد.
يقول: أحب كل سيد كريم، ماض في أموره نافذاً فيها مثل الرمح المقوم.
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت ... به الخيل كبّات الخميس العرمرم
خطت: أي قطعت من خطوت. والكبات: الصدمات والحملات. وروى لبات الخميس والهاء في تحته وفى به للسميدع.
يقول: أهوى كل سيد كريم، قطع الفلوات وشاهد الواقعات، وقارع الأبطال والزمان.
ولا عفّةٌ في سيفه وسنانه ... ولكنّها في الكفّ والفرج والفم
يقول: أهوى من لا عفة له في سيفه وسنانه: أي لا يردهما عن عدوه في قتال، وهو مع ذلك عفيف اليد والفرج والفم.
وما كل هاوٍ للجميل بفاعلٍ ... ولا كلّ فعّالٍ له بمتمّم
يقول: ليس كل من يحب الفعل الجميل يفعله، ولا كل من يفعله يتممه ويربيه. كأنه يعرض بسيف الدولة: أنه لم يتمم إحسانه.
فدىً لأبي المسك الكرام فإنّها ... سوابق خيلٍ يهتدين بأدهم
شبه الكرام بالخيل السوابق، وجعل كافورا فرساً أدهم يتقدمها لسواد لونه. وفداه بجميع الكرام المقتدين به.
أغرّ بمجدٍ قد شخصن وراءه ... إلى خلقٍ رحبٍ وخلقٍ مطهّم
شخصن: أي رفعن أبصارهن.
يقول: هذا الأدهم أغر بالمجد، لا بالبياض، فالمجد يشرق في وجهه إشراق الغرة، والسوابق وراءه ينظرون سعة خلقه وكمال خلقه، شاخصة أبصارهن إليه.
إذا منعت منك السّياسة نفسها ... فقف وقفةً قدّامه تتعلّم
يقول: إذا صعب عليك أيها الإنسان أمر السياسة، فقف بين يديه وانظر إلى سياسته، تتعلم منه حسن السياسة
يضيق على من راءه العذر أن يرى ... ضعيف المساعي أو قليل التّكرّم
راء: مقلوب رأى.
يقول: من رأى كافوراً وصحبه، فلا عذر له في ضعف مساعيه وقلة تكرمه، لأنه يتعلم منه المساعي وكرم الأخلاق.
ومن مثل كافورٍ إذا الخيل أحجمت ... وكان قليلاً من يقول لها اقدمي
اقدمي: من قدم يقدم إذا تقدم.
يقول: من يكون مثله في حال شدة الحرب؟ حين تأخرت الخيل عن الإقدام، ولم يكن هناك من تقدم إلا القليل من الفرسان أي ليس لهمته في هذا الوقت نظير.
شديد ثبات الطّرف والنّقع واصلٌ ... إلى لهوات الفارس المتلثّم
يقول: لا يصرف بصره في المعركة مع تراكم الغبار ودخوله في لهوات الفارس المتلثم.
أبا المسك أرجو منك نصراً على العدا ... وآمل غرّاً يخضب البيض بالدّم
يقول: أرجو منك أن تنصرني على أعدائي، حتى أتمكن منهم، وأخضب من دمائهم سيوفي.
ويوماً يغيظ الحاسدين وحالةً ... أقيم الشّقا فيها مقام التّنعم(1/386)
يقول: أرجو يوماً تنعم علي فيه، فيغيظ ذلك اليوم حسادي، وأرجو منك أن تبلغني يوما أقتل فيه أعدائي وأغيظ فيه حسادي، وأرجو حالة أقيم الشقاء فيها مقام التنعم: يعني يكثر فيها تعب الحرب، ومشقة القتال، ويكون ذلك الشقاء عندي بمنزلة التنعم أسر به كما أسر بالنعم.
ولم أرج إلاّ أهل ذاك ومن يرد ... مواطر من غير السّحائب يظلم
يقول: إنما رجوتك لهذا الأمر؛ لأنك أهل له قادر أن تبلغني ما أريده ولو طلبت ذلك من غيرك لكنت قد ظلمته وكلفته ما لا يقدر عليه، ووضعت الشيء في غير موضعه، وأكون كمن طلب المطر من غير السحاب.
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيّم
يقول: قصدت مصر لألقاك، ولو لم تكن فيها لما سرت إليها بقلب المشتاق: الذي عنده الشوق.
ولا نبحت خيلي كلاب قبائل ... كأنّ بها في اللّيل حملات ديلم
الديلم: الأعداء، والديلم: هذا الجيل من العجم.
وعن ابن جني قال: سئل أبو الطيب فقال: أتريد الديلم الأعداء، أو هذا الجيل من العجم؟ فقال: بل كل.
يقول: لو لم تكن في مصر، لما صرت على قبائل الأعراب، حتى حملت كلابها علي، كما تحمل الديلم في حروبها مع الصياح.
ولا اتّبعت آثارنا عين قائفٍ ... فلم تر إلاّ حافراً فوق منسم
القائف: الذي يتبع الأثر والمنسم: طرف خف البعير.
والمعنى: أنه ركب الأبل وجنب الخيل، وكانت حوافرها تقع على آثار أخفاف الإبل، فمن تبع أثره رأى أثر حوافر الخيل على أثر أخفاق الإبل.
وسمنا بها البيداء حتّى تغمّرت ... من النّيل واستذرت بظلّ المقطّم
تغمرت: أي شربت شربا قليلا. واستذرت: أي استترت. والمقطم: جبل على جانب النيل.
يقول: سرنا بالخيل والإبل في البيداء، فصارت آثارها فيها كالسمة، حتى وصلنا إلى مصر، فشربت من النيل واستترت بظل المقطم.
وأبلج يعصي باختصاصي مشيره ... عصيت بقصديه مشيري ولوّمي
الأبلج: هو الجميل، وقيل: المنقطع ما بين الحاجبين.
يقول: قصدته وعصيت من لامني فيه، وأشار علي بترك لقائه، كما عصى هو من لامه في اختصاصي.
وأراد به وزير كافور ابن خنزابة لأن المتنبي لم يمدحه. وأراد بالأبلج: كافورا.
فساق إليّ العرف غير مكدّرٍ ... وسقت إليه الشّكر غير مجمجم
جمجم الرجل بكلامه إذا لم يفصح به ولم يبينه.
يقول: لما قصدته أنعم علي نعماً غير مكدرة بمن ولا أذى، ومدحته مدحاً لا عيب فيه، ولا إشارة فيه إلى ذم.
قد اخترتك الأملاك فاختر لهم بنا ... حديثاً وقد حكّمت رأيك فاحكم
أي: قد اخترتك من الأملاك، فحذف من وأوصل الفعل إلى ما بعده فنصبه.
يقول: قد اخترتك من بين الملوك، فاختر أنت حديثاً يتحدثون به عني وعنك، وقد جعلتك حاكماً، فافعل بي فعلاً إذا سمعوه كان مختاراً عندهم.
فأحسن وجهٍ في الورى وجه محسنٍ ... وأيمن كفٍّ فيهم كفّ منعمٍ
يقول: وجه المحسن أحسن الوجوه، وكفه أكثر بركةً من سائر الأكف. ومثله لآخر:
ولم أر كالمعروف: أمّا مذاقه ... فحلوٌ وأمّا وجهه فجميل
وأشرفهم من كان أشرف همّةً ... وأكثر إقداماً على كلّ معظم
يقول: أشرف الناس من كانت همته أشرف، وإقدامه على كل أمر عظيم أكثر.
لمن تطلب الدّنيا إذا لم ترد بها ... سرور محبٍّ أو مساءة مجرم
كأنه يخاطب نفسه أو صاحبه فيقول: إن المال إنما يراد به أن تسر الودود، وترغم أنف الحسود، فإذا لم ترد هذين فلماذا تطلب المال؟! وأي معنى في طلب الجاه وحسن الحال؟!
وقد وصل المهر الّذي فوق فخذه ... من اسمك ما في كلّ عنقٍ ومعصم
يقول: قد وصل إلي المهر الموسوم باسمك، الذي هو سمة في عنق كل حي ويده، فرساً كان أو غيره.
لك الحيوان الرّاكب الخيل كلّه ... وإن كان بالنّيران غير موسّم
يقول: أنت تملك الخيل وراكبيها، وكل حيوان موسوم باسمك فالخيل موسومة بالنيران، والناس موسومون بالنعم والإحسان.
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتها ... وصيّرت ثلثيها انتظارك فاعلم(1/387)
يقول: إنما أتقاضاك بالوعد؛ لأني لا أدري كم أعيش فأخاف حلول الموت قبل الوصول إلى الموعود، ولو كنت أعلم مقدار حياتي لأمضيت ثلثيها انتظاراً لوعدك واستطابة به، فلا أتهم وعدك وإنما أتهم الأجل.
ولكنّ ما يمضي من الدّهر فائتٌ ... فجد لي بحظّ البادر المتغنّم
يقول: ما فات من العمر لا أستدركه، فجد لي بحظ من يسبق الإحسان ويغتنمه.
رضيت بما ترضى به لي محبّةً ... وقدت إليك النّفس قود المسلّم
يقول: كل شيء ترضى به لي فإني راض به، ومؤثر هواك في كل شيء، وقدت نفسي إليك قود من سلمها لك.
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عنّي ولم أتكلّم
الوسيط: الواسطة بين الرجلين.
يقول: من كان مثلك في الكرم فقلبه يكون واسطة بيني وبينه، وينوب منابي في التشفع إليه والتقاضي له، فيتكلم عني في حاجتي ولا يحتاج أن أتكلم بها.
وخرج من عنده فقال يهجوه:
أنوك من عبدٍ ومن عرسه ... من حكّم العبد على نفسه
من مرفوعة بالابتداء وأنوك خبره وتقديره: من حكم العبد على نفسه أنوك من عبد. والهاء في عرسه قيل: تعود إلى من أي: الذي يرضى بحكم العبد، فهو أشد حمقاً من العبد، وأشد حمقاً من امرأة نفسه. وقيل: الهاء تعود إلى العبد أي يكون أحمق من العبد، ومن امرأة العبد.
وإنّما يظهر تحكيمه ... ليحكم الإفساد في حسّه
الحس: العقل.
يقول: الذي يجعله حاكماً، ويعتقد تحكيمه في الباطن، ويظهر رضاه أيضاً. أي: يرى أنه راض بتحكيمه في الظاهر، كما هو راض به في الباطن، فقد حقق الناس فساد عقله. والهاء في حسه تعود إلى من وفي تحكيمه إلى العبد وأراد به: ابن الإخشيد الذي كان في حجر كافور. ورضى بحكمه.
وروى نظهر ونحكم بالنون.
والمعنى: إنما نظهر للناس تحكيم كافور في أنفسنا؛ لتفسد حسه، لا أنا حكمناه في الحقيقة على أنفسنا، بل أظهرنا ذلك له ليزداد في حسه فساداً؛ إذ من شأن الأحمق أنه مهما حكم ازداد حمقاً. والهاء في حسه تعود إلى العبد.
ما من يرى أنّك في وعده ... كمن يرى أنّك في حبسه
يقول: ليس من يظن أنك في حبسه، كمن يظن أنك منتظر وعده. يعني: أنا في حبسه وهو يظن أني مقيم على انتظار وعده. والكاف: خطاب لنفسه. والهاء في وعده وحبسه تعود إلى من الأولى.
العبد لا تفضل أخلاقه ... عن فرجه المنتن أو ضرسه
يقول: إن العبد ليس له همة إلا في الأكل والجماع، ولا يتجاوز همه إلى مكرمة، فكيف أرجوه؟!
لا ينجز الميعاد في يومه ... ولا يعي ما قال في أمسه
الهاء في يومه قيل: للميعاد أي في يوم الميعاد وقيل: للعهد.
يقول: إذا وعد وعداً لم ينجزه، وإذا صار إلى يوم آخر، نسى وعده بالأمس؛ لجهله، فمن هذا حاله فكيف يرجى نواله!؟
وإنّما تحتال في جذبه ... كأنّك الملاّح في قلسه
القلس: حبل السفينة.
يقول: إذا وعد شيئاً تحتاج إلى الاحتيال في جذبه إلى ذلك الموعود، فإن أغفلت جره تأخر، كما أن الملاح يحتاج إلى جر السفينة في النهر مصعداً لها، فإن ألقى الحبل من يده، انجرت مع الماء.
فلا ترجّ الخير عند امرئٍ ... مرّت يد النّخّاس في رأسه
في رأسه: أي على رأسه.
يقول: لا ترج خيراً عند من كان عبداً، فمرت على رأسه يد النخاس بالصفع، فإنه لا خير عنده.
وإن عراك الشّكّ في نفسه ... بحاله فانظر إلى جنسه
يقول: إن عرض لك شك في أمره بحسن حاله، فلا تغتر بتلك، وانظر إلى جنسه من العبيد فإن خلقه كأخلاقهم، والشيء إذا التبس حاله بغيره، يرد إلى جنسه.
فقلّما يلؤم في ثوبه ... إلاّ الّذي يلؤم في غرسه
الغرس: جلدة رقيقة تخرج على رأس المولود.
يقول: قلما يلؤم في ثوبه إلا الذي يولد وهو لئيم، فكل شيء ينزع إلى أصله.
من وجد المذهب عن قدره ... لم يجد المذهب عن قنسه
القنس: الأصل.
يقول: من وجد طريقاً إلى أن يتجاوز قدر نفسه ويباين أشكاله، فإنه لا يجد طريقاً يتجاوز أصله وينحرف به عن لؤم نفسه.
واتصل قوم من الغلمان بالصبي مولى الأسود، فأنكر ذلك عليهم وطالبه بتسليمهم إليه، فجرت بينهما وحشة أياماً، ثم سلمهم إليه فقتلهم واصطلحا، فطولب أبو الطيب بأن يذكر الصلح فقال في ذلك:(1/388)
حسم الصّلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسّاد
وأذاعته: أي وما أذاعته.
يقول: قطع الصلح ما كانت تشتهيه الأعادي من الخلاف بينكما، وما أفشاه الحساد من الوحشة الواقعة بينكما.
وأرادته أنفسٌ حال تدبي ... رك ما بينها وبين المراد
أي: وما أرادته. والهاء راجعة إلى ما في قوله: ما اشتهته.
يقول: أراد قوم أن يوقعوا بينكما الخلاف، فحال تدبيرك بينهم وبين مرادهم.
صار ما أوضع المخبّون فيه ... من عتابٍ، زيادةً في الوداد
أوضع إيضاعاً: إذا أسرع المشي. والمخبون: الذين يحملون دوابهم على الخب، وهو السير السريع، وأراد ها هنا السعي بالنميمة.
يقول: صار فعل من يسعى بينكما بالنميمة والفساد، زيادة في إصلاح الوداد، فرجع الوشاة بالخيبة.
وكلام الوشاة ليس على الأحبا ... ب سلطانه على الأضداد
سلطانه: يروى بالرفع فيكون مبتدأ، وعلى الأضداد خبره، واسم ليس: ضمير الكلام، وعلى الأحباب خبره.
يقول: إن كلام الوشاة إنما يوقع الفساد إذا كان بين الأضداد، فأما بين الأحباب المتصافين فلا يوقع الفساد.
وروى: سلطانه بالنصب يعني ليس يتسلط على الأحباب، سلطانه على الأضداد.
إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
يقول: إن مقالة الوشاة، إنما تعمل في المرء إذا وافقت منه مراداً لها، وأصغى إليها. وهذا تأكيد للمعنى الأول.
ولعمري لقد هزرت بما قي ... ل فألفيت أوثق الأطواد
الأطواد: الجبال.
يقول: إن الوشاة بالغوا في السعاية بينكما، وحركوك بالوشاية فلم تسمع قولهم، فصادفوك في الحلم والوقار مثل الجبل.
وأشارت بما أبيت رجالٌ ... كنت أهدى منها إلى الإرشاد
يقول: أشار قوم عليك بالخصومة، فأبيت ما أشاروا به، فكنت أرشد منهم وأهدى إلى الصواب فيما فعلت من الصلح.
قد يصيب الفتى المشير ولم يج ... هد ويشوى الصّواب بعد اجتهاد
يشوى: أي يخطئ. يقال: رماه فأشواه: إذا أخطأ المقتل وأصاب الشوى، وهي الأطراف.
يقو: قد يصيب الإنسان الصواب وإن لم يجتهد، وقد يخطئ الصواب بعد الاجتهاد.
يعني: أنك أصبت الرأي في الصلح، وأخطأ من اجتهد في السعاية.
نلت ما لا ينال بالبيض والسّم ... ر وصنت الأرواح في الأجساد
يقول: أدركت بصواب رأيك من مرادك، ما لا ينال بالقتال، وحفظت الدماء حتى بقيت الأرواح في الأجساد، ولم يقتل أحد ولم يرق دم.
وقنا الخطّ في مراكزها حو ... لك والمرهفات في الأغماد
يقول: وصلت إلى مرادك من غير أن حركت الرماح من مراكزها، وأخرجت السيوف من أغمادها. والمرهفات: السيوف المحدودة.
ما دروا، إذ رأوا فؤادك فيهم ... ساكناً، أنّ رأيه في الطّراد
الطراد: المطاردة، وهي المحاربة. والهاء في رأيه للفؤاد.
يقول: لما رأوك ساكن القلب، توهموا بأن ذلك عن غفلةٍ وقلة فكر فيه، ولم يعلموا أنك معمل رأيك في فؤادك لاستنباط الصواب، فكان قلبك ساكناً، ورأيك في محاربة.
ففدى رأيك الّذي لم تفده ... كلّ رأيٍ معلّمٍ مستفاد
لم تفده: أي لم تستفده.
يقول: كل رأي مستفاد معلم مكتسب بالتعلم، فداء رأيك الذي طبعت عليه، ولم تستفده أنت من أحد.
وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلّم تقدّم الميلاد
يقول: إذا لم يكن الرجل مطبوعاً على الحلم، فمرور الأيام وتقدم الولادة، لا تجعله حليماً.
يعني: لا اعتبار بالسن، وإنما الاعتبار بالطبع.
فبهذا ومثله سدت يا كا ... فور واقتدت كلّ صعب القياد
يقول: بهذا الرأي الحصيف وبمثله من الآراء، صرت سيداً، وقدت كل صعب المقادة، حتى انقاد لك، ودخل في طاعتك.
وأطاع الّذي أطاعك والطّا ... عة ليست خلائق الآساد
يقول: بمثل هذا الرأي أطاعك رجال مثل الأسود التي لم تطع لأحد قبلك، إذ ليست الطاعة من عادة الأسود.
إنّما أنت والدٌ، والأب الّقا ... طع أحنى من واصل الأولاد
يقول: أنت له بمنزلة الوالد، والأب على كل حال أشفق على ولده من الولد الواصل.
قال ابن جني: معناه أنك يا كافور أقرب إلى ابن مولاك، وأحنى عليه من ولده الواصل له: أي لو كان له ولد لكنت أحنى عليه من ولده.(1/389)
لا عدا الشّرّ من بغى لكما الشّرّ ... وخصّ الفساد أهل الفساد
يقول: من طلب لكما الشر، فلا تجاوز عنه الشر ولا فارقه، وجعل الله أهل الفساد، مخصوصاً به دونكما.
أنتما ... ما اتّفقتما الجسم والرّو ح فلا احتجتما إلى العوّاد
يقول: أنتما - ما دام بينكما اتفاق وصلح - كالجسم والروح، فلا وقع بينكما اختلاف حتى تحتاجا إلى السفر في الصلح بينكما.
لما جعلهما الروح والجسم، جعل الاختلاف بينهنا مرضهما، وجعل سعي الناس في الصلح بينهما، عيادة لهما.
وإذا كان في الأنابيب خلفٌ ... وقع الطّيش في صدور الصّعاد
يقول: إذا وقع الخلف بين أهل المملكة، وهم الأمراء والجيوش والقواد، اضطرب ملكهم الذي هو صدرهم، كما أن أنابيب الرمح إذا اختلفت لم يعمل صدره وزل عن الطعن، واضطرب في يديه.
وقيل: أراد أنكما إذا اختلفتما اضطرب أمركما، كما أن الرمح إذا اختلفت أنابيبه طاشت أعاليه.
أشمت الخلف بالشّراة عداها ... وشفى ربّ فارسٍ من إياد
فاعل شفى ضمير الخلف والشراة: الخوارج، سموا أنفسهم شراة. يعني: شروا - بحزم - أنفسهم من الله تعالى: أي باعوها.
يقول: الاختلاف بين القوم يشمت الأعداء بهم، كما أن الخوارج لما اختلفت كلمتهم في خلافة أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، ظفر بهم أمير المؤمنين وأفناهم وأشمت بهم أعداءهم، وكذلك تمكن كسرى صاحب فارس من قبيلة إياد، شفى صدره، حين اختلفت كلمتهم.
وتولّى بني البريديّ في البص ... رة حتّى تمزّقوا في البلاد
يقول: إن الخلف أوقع ببني البريدي وهم ثلاثة إخوة كانوا قد ملكوا البصرة في أيام المقتدر فلم يقدر عليهم، حتى وقع الخلاف بينهم، ومات أحدهم، فتمكن منهم السلطان وشتت شملهم واستأصلهم.
وملوكاً كأمسٍ بالقرب منّا ... وكطسمٍ وأختها في البعاد
وملوكاً عطف على ما قبله. أي وتولى الخلف ملوكاً. وأختها: أي أخت طسم: وهي جديس.
يقول: أهلك الخلف ملوكاً قربوا منا، حتى أن مدة قربهم منا كمدة أمس إلى يومنا، وأهلك الاختلاف أيضاً ملوكاً في قديم الزمان: مثل طسم وجديس، وكانوا ملوك حمير.
بكما بتّ عائذاً فيكما من ... هـ ومن كلّ باغٍ وعاد
الباغي: من البغي. والعادي: من العدوان. والهاء في منه تعود إلى الخلف.
يقول: أعوذ بكما أن يقع الخلف بينكما، وأن يقع بينكما كيد البغاة والعداوة.
وبلبّيكما الأصيلين أن تف ... رق صمّ الرّماح بين الجياد
كان الوجه: ألبابكما. كقوله تعالى: " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا "، والتثنية أيضاً جائزة.
يقول: أعوذ به بعقلكما الثابت أن تتحاربا، فتفرق الرماح بين خيولكما، فيصير معك حزب ومعه حزب.
أو يكون الوليّ أشقى عدوٍّ ... بالّذي تذخرانه من عتاد
يقول: أعوذ بعقلكما من أن تقتلا الولي، وأن تجعلاه لسلاحكما - الذي هو عدتكما وذخيرتكما للأعداء - أشقى عدو، إذ السلاح يعد للأعداء لا للأولياء.
هل يسرّنّ باقياً بعد ماضٍ ... ما تقول العداة في كلّ ناد
النادي: المجلس.
يقول: إذا تقاتلتما، فيقتل أحدكما صاحبه، هل يسر الباقي منكما ما تقول الأعداء في المجالس: إنه قتل صاحبه وهتك حرمته؟!
منع الودّ والرّعاية والسّؤ ... دد أن تبلغا إلى الأحقاد
يقول: هذه الخصال التي فيكما منعتكما أن تبلغا إلى أن يحقد أحدكما على صاحبه؛ فلهذا عدلتما إلى الصلح، لتأكد هذه المعاني.
وحقوقٌ ترقّق القلب للقل ... ب ولو ضمّنت قلوب الجماد
يقول: ومنع أيضاً حقوق متأكدة، حتى لو كانت للجماد قلوب، فضمنت هذه الحقوق تلك القلوب، لرق بعضها لبعض.
فغدا الملك باهراً من رآه ... شاكراً ما أتيتما من سدادٍ
يقول: لما اصطلحتما أصبح الملك منيراً، أبهر من رآه، وغلبه بنوره، وشكر لكما على ما رأيتما من الصواب والسداد.
فيه أيدكما على الظّفر الحل ... ووأيدي قومٍ على الأكباد
الهاء في فيه للملك.
يقول: ظفرتما من الملك بما أردتما، وأصبح حسادكما واضعين أيديهم على أكبادهم؛ لما نالهم من الألم بالصلح الذي صار بينكما.
هذه دولة المكارم والرّأ ... فة والمجد والنّدى والأيادي(1/390)
يقول: دولتكما دولة هذه الأشياء، فإذا وقع في هذه الدولة خلل، اختلت هذه الأشياء، وإذا سلمت سلمت هذه الأمور.
كسفت ساعةً كما تكسف الشّم ... س وعادت ونورها في ازدياد
يقول: هذه الدولة كسفت ساعة لمخالفتكما، كما تكسف الشمس، ثم زال الكسوف عنها فعاد نورها، وزاد على ما كان من قبل.
يزحم الدّهر ركنها عن أذاها ... بفتىً ماردٍ على المرّاد
المراد: جمع مارد، وهو الشرير الخبيث.
يقول: ركن هذه الدولة يزحم الدهر عن أذاها. أي: إذا أراد الدهر أن يؤذي هذه الدولة، زاحمه ركنها ومانعه، بفتىً ماردٍ على المراد: أي عاد على المعتدين، ومقابل للخبثاء بخبثهم. وعنى به كافور الأسود.
متلفٍ، مخلفٍ، وفيٍّ، أبيٍّ، ... عالمٍ، حازمٍ، شجاعٍ، جواد
أي يتلف ماله في الجود، ويخلف من تلف ماله، ويعوضه على ما ذهب منه. وأراد: أن هذا الفتى جامع لهذه الأوصاف.
أجفل النّاس عن طريق أبي المس ... ك وذلّت له رقاب العباد
أجفل: أي تفرق.
يقول: خلى الناس له طريق المجد والعلا، وذلت له رقاب الناس، وانقادوا له.
كيف لا يترك الطّريق لسيلٍ ... ضيّقٍ عن أتيّه كلّ واد
الأتى: السيل الذي يأتي من بلد إلى بلد. والوادي: مجرى السيل، شبهه بالسيل في إقدامه وكثرة جيوشه، ومن حيث أن السيل يحمل كل شيء يأتي عليه.
يقول: كيف لا يترك الناس الطريق لسيل يضيق عنه كل واد؛ لكثرته وكل موضع أتى عليه غرقه.
وكان كافور يتقدم إلى أصحاب الأخبار، يرجفون بأنه ولاه موضعاً في الصعيد، وينفذ إليه قوماً يعرفونه ذلك، فلما كثر هذا وعلم أن أبا الطيب لا يثق بكلام يسمعه، حمل إليه ست مئة دينار ذهباً، فقال يمدحه وأنشدها يوم الخميس لليلتين خلتا من شوال، سنة سبع وأربعين وثلاث مئة:
أغالب فيك الشّوق والشّوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
يخاطب حبيبه يقول: أنا أحاول أن أغلب شوقي إليك، وهو يغلبني لا محالة، لأنه أغلب مني: أي أقدر على الغلبة، وأعجب من هجرك لي، ووصلك أولى بأن أعجب منه؛ لأن عادتك الهجر، فليس هو بعجيب، وإنما العجب من الوصل.
أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى ... بغيضاً تنائى، أو حبيباً تقرّب
يقول: من عادة الأيام أنها تقرب البغيض، وتبعد الحبيب، فلم لا تغلط مرةً فتقرب الحبيب وتبعد البغيض؟
ولله سيري ما أقلّ تئيّةً ... عشيّة شرقيّ الحدالى وغرّب
التئية: التثبت والتلبث. والحدالى: موضع بالشام: وغرب: جبل. ولله سيرى! تعجب. وتئيةً: نصب على التمييز.
يقول: لله سيرى! حين جعلت الحدالى وغرب عن يميني وقصدت مصر فما كان أسرعه، وأقل تمكني فيه! وقيل: أراد جعلت هذين المكانين في جانب المشرق، وسرت إلى جانب المغرب. وهو مصر.
عشيّة أحفى النّاس بي من جفوته ... وأهدى الطّريقين الّذي أتجنّب
أحفى الناس بي: أي أشدهم اهتماماً في البر بي. وعشية: بدل من العشية الأولى.
يقول: لله مسيري، عشية جفوت من هو ألطف الناس بي، وأشدهم اهتماماً بأمري: يعني سيف الدولة، يظهر الندم على فراقه، وأصوب الأمرين: الأمر الذي تركته لما قصدت كافوراً وجفوت سيف الدولة، مع اهتمامه بأمري.
وعن ابن جني: أنه كان ترك الجادة وتعسف، ليخفي أثره، خوفاً على نفسه، فترك أقصر الطريقين.
وكم لظلام اللّيل عندي من يدٍ ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب
المانوية: قوم من المجوس ينتسبون إلى رجل اسمه: ماني. وهم يقولون: إن النور مطبوع على الخير والصلاح، والظلمة مطبوعة على الشر والفساد. فهو يقول: إنهم كذبوا في قولهم، فكم من نعمة لليل عندي، تدل على كذبهم في أن الظلمة لا تفعل الخير.
وقاك ردي الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدّلال المحجّب
هذا تفسير للبيت الأول يقول: كم مرة سترني الليل عن الأعداء عند سيري فيما بينهم؟! وتمكني فيه من زيارتي الحبيب المحجوب! وهذا كله خير حصل لي من الظلمة.
ويومٍ كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشّمس أيّان تغرب
كمنته: أي كمنت فيه.
يقول رداً على المانوية في قولهم: إن النور لا يفعل الشر.(1/391)
رب يوم كمنت فيه خوفاً من أعدائي وطال علي، كما يطول الليل على العاشقين، وكنت أنتظر فيه الشمس حتى تغرب، ليظلم الليل فأسرى فيه وأنجو من أعدائي. وهذا شر حصل من النور، فبطل قولهم: إنه مطبوع على الخير، لا يقدر على الشر.
قال ابن جني: حدثني المتنبي قال: لما أنشدته قال: غيرك يستطيل الليل، فقبحاً له! كيف عرف معناه؟!
وعيني إلى أذني أغرّ كأنّه ... من اللّيل باقٍ بين عينيه كوكب
يقول: كنت أنظر إلى أذني الفرس الأغر، فإن توجس بهما علمت أنه أحس بشيء، فتأهبت في أمري فكأن أذني الفرس قائمان: مقام عيني، وقوله: كأنه من الليل باق: أي كأنه قطعة باقية من الليل.
شبه فرسه بقطعة من الليل؛ لأنه أدهم، وغرته بكوكب في ظلمة.
له فضلةٌ عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدرٍ رحيبٍ وتذهب
الرحيب: الواسع، ويستحب في الفرس سعة الصدر. وإهابه: جلده.
يقول: لهذا الفرس فضلة من جلده تضطرب على صدره الواسع، فتجيء وتذهب. ويستحب في الفرس أن يكون جلد صدره واسعاً فاضلاً عنه. وقيل: أراد بالفضلة ذكاءه، ثم قال: هذه الفضلة تجيء على صدره الواسع: يعني لا يسع هذا الذكاء إلا صدره؛ لسعته، ولا يسع إهابه.
شققت به الظّلماء أدنى عنانه ... فيطغى وأرخيه مراراً فيلعب
يقول: شققت بهذا الفرس ظلمة الليل، فسرت فيها، فكنت إذا جذبت عنانه طغى برأسه: أي رفعه، لطماحه وعزة نفسه، وإذا أرخيته: لعب برأسه، لنشاطه.
وأصرع أيّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
يقول: إذا تبعت به أي وحش كان، لحقته وصرعته، ونزلت عنه وهو على القوة التي ركبته عليها، لم يلحقه تعب وعياء.
وما الحيل إلاّ كالصّديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب
يقول: الخيل وإن كانت كثيرة في عين من لا يعرفها، فالعتيق منها قليل، فهي مثل الأصدقاء يكثرون في العدد ويقلون عند التجربة.
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب
الشية: العلامة كالغرة والتحجيل، وكل لون يخالف لون الجلد.
يقول: إن كنت لا تعرف حسن الخيل إلا في شياتها وأعضائها فالحسن غائب عنك.
لحا الله ذي الدّنيا مناخاً لراكبٍ ... فكلّ بعيد الهمّ فيها معذّب
مناخاً نصب على التمييز، وقيل: على الحال.
يقول: لعن الله هذه الدنيا التي لا ينال فيها المراد، فكل صاحب همة شريفة فيها معذب بإجدابها عليه.
ألا ليت شعري: هل أقول قصيدةً ... فلا أشتكي فيها ولا أتعتّب
ليت شعري: أي ليتني أشعر. وتقديره: ليت شعري كائن، فحذف خبر ليت.
يقول: هل أقول قصيدة وأنا راض عن الزمان؟ لا أشكو صروفه ولا أتعتب عليه!
وبي ما يذود الشّعر عنّي أقلّه ... ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب
قوله: يا ابنة القوم: كناية عن قوله: يا بنت أب جيد التصرف في الأمور.
يقول: بي من الهم ما يمنع أقله الشعر. كما يقال: حال الجريض دون القريض ولكن قلبي متقلب في الأمور. جلد صابر على ما ينويه، ويستخرج المعنى، مع ما فيه من الهموم.
وأخلاق كافورٍ، إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي عليّ وأكتب
يقول: إن كانت الهموم شغلتني عن الشعر، فإني إذا شئت مدح كافور، فإن أخلاقه تبعثني على مدحه، فأكتبه وإن لم أتفكر فيه.
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويمّم كافوراً فما يتغرّب
يقول: من حصل عنده فكأنه في أهله، لما يرى من بره ما يسره. ومثله لآخر:
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وإلطافهم حتّى حسبتهم أهلي
فتىً يملأ الأفعال رأياً وحكمةً ... وبادرةً أحيان يرضى ويغضب
البادرة: البديهة.
يقول: ليس له فعل إلا فيه حكمة ورأي وبادرة، فيملأ ذلك الفعل من هذه الثلاثة.
وبالغ في ذلك حيث جعل: البديهة كالروية من غيره، في امتلائه من الحكمة، ويفعل ذلك في حالتي الرضا والغضب، ولا يمنعه غضبه من الحكمة، ولا رضاه يلهيه عنها.
وقيل: البادرة: ما يبدر عند الغضب.
والمعنى: إذا رضى ملأ أفعاله رأياً وحكمة، وإذا غضب ملأها بادرة وسطوةً، فيبالغ في كلا الحالين.
إذا ضربت في الحرب بالسّيف كفّه ... تبيّنت أنّ السّيف بالكفّ يضرب(1/392)
يقول: إذا ضرب بالسيف، عمل في يده أكثر مما يعمل في يد غيره، فإذا رأيت ذلك علمت أن السيف عمل على قدر قوة الكف.
تزيد عطاياه على اللّبث كثرةً ... وتلبث أمواه السّحاب فتنضب
تنضب: أي تجف.
يقول: كلما بقيت عطاياه ازدادت ونمت؛ لأنه يهب فرساً فتنتج، أو ضيعةً فتغل، فعطاياه أبداً تزداد وتبقى، لا كعطاء السحاب، فإنه إذا أقام بمكان أياماً جف وذهب.
وقيل: معناه أنه إذا أمسك العطاء، فإنما يؤخره لتكثيره، والماء إذا منع من السيلان، غار ونضب.
وقيل: أراد أن عطاياه متصلة دائمة، فهي أكثر وأثبت من ماء السحاب، لأنها تجيء أحياناً وتقلع أخرى.
أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أناله؟ ... فإنيّ أغنّي منذ حينٍ وتشرب
يقول: أنا أغنيك بمدحك، وأطربك، وأنت تشرب كأس السرور بما أنظمه من أوصافك، فاسقني من فضلة هذا الكأس: أي اجعل لي في سرورك نصيبا بإنجاز ما وعدت.
وقيل: أراد أن مديحي يطرب، كما يطرب الغناء الشارب.
وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب
يقول: أنت إنما وهبت من المال على قدر همة الزمان، وأنا أطلب منك على قدر همتك ومبلغ جودك.
وحكى ابن جني عنه أنه قال: كنت إذا خلوت أنشدت.
وهبت على مقدار كفّيك عسجداً ... ونفسي على مقدار كفّيّ تطلب
إذا لم تنط بي ضيعةً أو ولايةً ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
يقول: إذا لم تقطعني ضيعةً، أو توليني ولايةً تفضل عن مؤنتي، فإنه وإن كساني جودك، فإن اشتغالك بتدبير الملك عنى، يسلبني ما يكسوني إياه جودك.
يضاحك في ذا العيد كلٌّ حبيبه ... حذائي وأبكى من أحبّ وأندب
يقول: كل أحد في هذا العيد يسر بأهله في وطنه، وأنا بعيد عمن أحب، أبكى على فراقه، وأشتاق إلى لقائه.
أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب؟
يقال: عنقاء مغرب وصفاً وإضافة. وهو جعله وصفاً. ومغرب: أي بعيد، يقال: أغرب في البلاد وغرب: إذا خرج منها.
يقول: أنا أشتاق إلى أهلي، وأشتهي لقاءهم، ولكن بيني وبينهم بعد العنقاء، فهل أصل إليهم؟! فاشتياقي إليهم كاشتياق المشتاق إلى عنقاء مغرب! فكما لا يصل إليه كذلك وصولي إلى أهلي.
وقيل: معناه أرى الناس يضربون المثل في البعد بالعنقاء، ولو عقلوا لضربوا بالمغرب عن الوصل؛ لأنه أبعد من العنقاء.
فإن لم يكن إلاّ أبو المسك أو هم ... فإنّك أحلى في فؤادي وأعذب
يقول: متى لم يكن لي إلا أنت، أو أهلي، فإن الذي أختاره، هو الكون عندك، والمقام في خدمتك، دون الأهل الذين أشتاقهم.
وكلّ امرئٍ يولي الجميل محبّبٌ ... وكلّ مكانٍ ينبت العزّ طيّب
يقول: أنت تفيض على نعمك، وأكتسب العز عندك، فقلبي يحبك، والمقام يطيب لي بقربك.
يريد بك الحسّاد ما الله دافعٌ ... وسمر العوالي والحديد المذرّب
المذرب: المحدد.
يقول: يريد بك الحساد السوء، والله تعالى يدفع عنك، وكذلك تدفعه رماحك وسيوفك الحداد.
ودون الّذي يبغون ما لو تخلّصوا ... إلى الشّيب منه عشت والطّفل أشيب
يقول: دون ما يرومون من كيدك حروب، لو سلموا من أهوالها إلى الشيب، لشيب رءوس أطفالهم، ولكنك متى أرادوا بك سوءاً، قصدتهم بمكر، أو ضرب، يأتي على أنفسهم ويفني حياتهم، وقوله: عشت دعاء للممدوح.
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكّموا ... وإن طلبوا الفضل الّذي فيك خيّبوا
يقول: إذا طلبوا عطاءك أعطيتهم وحكمتهم فيه، وإن طلبوا فضلك خيبتهم وحرمتهم.
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
يقول: من الأشياء ما لا يجوز هبته، وعلاك من جملة ذلك؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يحويها، فلست تمنعهم ذلك للبخل.
وأظلم أهل الظّلم من بات حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلّب
يقول: أظلم الظالمين، من يحسد الذي ينعم عليه، فهو يتقلب في نعم المحسود، فحسادك يتقلبون في نعمك، ومع ذلك يحسدونك!
وأنت الّذي ربّيت ذا الملك مرضعاً ... وليس له أمٌّ سواك ولا أب
يقول: ربيت هذا الملك وهو ضعيف حتى شددته وقهرت أعداءه، فليس له كافل سواك، وأنت أولى به ممن عجز عن تدبيره وسياسته.(1/393)
ويروى ذا الملك بفتح الميم. أي أنت الذي ربيت هذا الملك، وأراد به: ابن مولى كافور. أي أنك كفلته وهو طفل صغير، لا يعرف أباً ولا أماً، فليس له أب ولا أم غيرك.
وكنت له ليث العرين لشبله ... وما لك إلاّ الهندوانيّ مخلب
يقول: كنت كالأسد لشبله، تذب عنه كما يذب الأسد عن شبله، وسيفك لك كالمخلب للأسد. والهاء في له للملك أو للملك.
لقيت القنا عنه بنفسٍ كريمةٍ ... إلى الموت في الهيجا من العار تهرب
يقول: باشرت القتال عنه بنفسك الكريمة التي تهرب إلى الموت خوفاً من العار، ولا تهرب من الموت.
وقد يترك النّفس الّتي لا تهابه ... ويخترم النّفس الّتي تتهيّب
فاعل يترك ويخترم: ضمير الموت.
يقول: قد ينجو من الموت من لا يخاف منه، وقد يصيب الموت من يحذر منه، فيخترمه.
وما عدم اللاّقوك بأساً وشدّةً ... ولكنّ من لاقوا أشدّ وأنجب
يقول: الذين لقوك في الحرب لم يكونوا ضعافاً جبناء، ولكنهم لقوا من هو أشد منهم وأقدر على قهرهم.
ثناهم، وبرق البيض في البيض صادقٌ ... عليهم، وبرق البيض في البيض خلّب
سللت سيوفاً علّمت كلّ خاطبٍ ... على كلّ عودٍ كيف يدعو ويخطب
يقول: هزمهم لما لقيهم، وكانت سيوفه إذا برقت صدق برقها وعملت السيوف في البيض، وأوعدته أنها تقطعه وتقطع الرءوس التي فيه، وإذا برق البيض للسيوف كذب برقها أنها تمنع لابسها، فبرق سيوفك المسلولة علمت الخطباء في جميع البلاد: أن الواجب عليهم أن يخطبوا في جميع الناس، فخطبوا على كل منبر باسمك.
ويغنيك عمّا ينسب النّاس أنّه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
يقول: وإن لم يكن لك نسب في العرب فأنت أصل المكرمات وإليك نسبها، فأنت أكبر من أن تنسب إلى أب أو جد، وهذا كقول أبي طاهر:
خلائقه للمكرمات مناسبٌ ... إليها تناهى المكرمات وتنسب
وروى: إليها تناها كل مجد مؤثل.
وأيّ قبيلٍ يستحقّك قدره؟ ... معدّ بن عدنان فداك ويعرب
الهاء في قدره للقبيل، وقيل: تعود إلى أي.
يقول: أية قبيلة من العرب تستحق أن تنسب إليها، فأنت أفضل من معد بن عدنان، ويعرب بن قحطان اللذين هما أصل العرب. وهما يفديانك.
وقيل: هذا هجو يريد: إنك عبد لا يعرف لك أصل وحسب.
وما طربي لمّا رأيتك بدعةً ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
يقول: ليس سروري - الآن وقد رأيتك - ببدع، فإني كنت أرجو أن أراك فأطرب بمجرد الرجاء فكيف الآن؟! وقد رأيتك.
هذا وإن كان ظاهره مدحاً، فإن باطنه إلى الهزؤ أقرب ورفع فأطرب عطفاً على أرجو ولم يعطفه على أن أرى.
وتعذلني فيك القوافي وهمّتي ... كأنّي بمدحٍ قبل مدحك مذنب
يقول: لامتني القصائد على مدح غيرك، فقالت: لم وضعتني في غير موضعي؟ وكذلك لامتني همتي وقالت: لم اشتغلت بخدمة غيره؟ حتى كأن مدحي لغيرك ذنب أذنبته. وهو كقول أبي تمام:
وهل كنت إلاّ مذنباً يوم أنتحي ... سواك بآمالي فأصبحت تائباً
والمصراع الأول لو لم يضم إليه المصراع الثاني لكان هجواً ظاهراً.
ولكنّه حال الطّريق ولم أزل ... أفتّش عن هذا الكلام وينهب
يقول: إنما مدحت غيرك؛ لأن الطريق حال بيني وبينك، وكنت أتخير لك هذا الكلام لأتعلمه مدحاً لك، والملوك ينتهبونه مني.
وقيل: أراد بالطريق طريق المدح أي كان طريق مدحك بعيد التناول؛ لانتهاء أوصافك في المكارم، فكنت أتفكر في مدحك، وتنهبه الملوك مني، فكان ذلك سبب تأخري عنك.
فشرّق حتّى ليس للشّرق مشرقٌ ... وغرّب حتّى ليس للغرب مغرب
يقول: سار هذا الكلام أي الشعر في الآفاق، فشرق حتى ليس مشرق لأهل الشرق؛ لأن مشارق أهل الشرق كثيرة، فليس بعد الشرق شرق، ولا بعد الغرب غرب، ولو كان وراءهما موضع لسار إليه.
إذا قلته لم يمتنع من وصوله ... جدارٌ معلّى أو خباءٌ مطنّب
يعني: إذا قلت شعراً سار في البدو والحضر، ووصل إلى سكان المدر والوبر فالجدار المعلى لأهل الحضر، والخباء المطنب لأهل الوبر.
واتصل بأبي الطيب أن قوماً نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب، فقال في ذلك ولم ينشدها كافوراً الأسود:
بم التّعلّل؟ لا أهلٌ ولا وطن ... ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سكنه(1/394)
التعلل: تطيب النفس. والسكن: ما يسكن إليه.
يقول: بأي شيء أتعلل؟ وقد عدمت هذه الأشياء التي يتسلى الإنسان بها.
أريد من زمني ذا أن يبلّغني ... ما ليس يبلغه في نفسه الزّمن
يقول: أريد من الزمان أن يدوم على حال، فلا يسلب مني الشباب، ولا يكدر على السرور، وهذه حالة لو أرادها الزمان لنفسه لم يقدر عليها؛ لأنه لو اختار أن يكون نهاراً دائماً، أو ربيعاً أبداً لما أمكنه ذلك، فكيف يبلغني ما لا يقدر عليه لنفسه؟!
لا تلق دهرك إلاّ غير مكترثٍ ... ما دام يصحب فيه روحك البدن
يقول: ما دام روحك في الجسد، فلا تبال بحوادث الدهر، فإنها لا تدوم.
وقيل: أراد لا تبال بأهل الدهر ما دمت حياً.
فما يديم سرورٌ ما سررت به ... ولا يردّ عليك الفائت الحزن
فاعل يديم: سرور.
يقول: سرورك بمواتاة الدهر لا يديم ذلك لك، وإن حرصت على دوامه. وجزعك على ما يفوتك منه لا يرده عليك، فلا تفرح بلذة إن وصلت إليك، ولا تحزن عليها إن فاتتك.
ممّا أضرّ بأهل العشق أنّهم ... هووا وما عرفوا الدّنيا ولا فطنوا
يقول: إن أهل العشق اغتروا بظواهر الدنيا، فاغتروا بحسن الخلق، وأحبوا من هو حسن الوجه، ولم يعتبروا قبح أفعاله، ولم ينظروا إلى حوادث الزمان وأحوال الدهر، فأخر ذكرهم. وقد بين ذلك فيما يليه.
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم ... في إثر كلّ قبيحٍ وجهه حسن
دمعاً نصب على التمييز.
يقول: عشقوا بلا تجربة وروية؛ فعيونهم تذوب عبرةً، وأنفسهم تسيل حزناً على كل قبيح الفعل حسن الوجه.
تحمّلوا حملتكم كلّ ناجيةٍ ... فكلّ بينٍ عليّ اليوم مؤتمن
الناجية: الناقة السريعة. وتحملوا أمر، وحملتكم دعاء.
يقول لأحبابه: متى شئتم الرحيل فارحلوا، فلست أبالي بفراق من بان عني بعد أن عرفت قبح أفعالكم وخبث هذا الزمان، ولا أخاف الآن من الفراق، فكل فراق مأمون في حقي.
ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ ... إن متّ شوقاً ولا فيها لها ثمن
يقول: نفسي أحب إلي من النساء اللاتي في هوادجكم، فكيف أفنيها شوقاً إليهن ولا عوض لي فيهن؟! وليس في الهوادج ثمن لمهجتي.
يا من نعيت على بعدٍ بمجلسه ... كلٌّ بما زعم النّاعون مرتهن
يخاطب سيف الدولة يقول: كل منا مرهون بالموت فلا شماتة فيه لأحد ومثله للفرزدق قوله:
فقل للشّامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا
كم قد قتلت وكم قدمتّ عندكم؟ ... ثمّ انتفضت فزال القبر والكفن
يقول: كم مرة أخبرت بموتي وقتلي وأنا حي، فبطل ما تمناه المرجفون وزالت أراجيفهم.
قد كان شاهد دفني قبل قولهم ... جماعةٌ ثمّ ماتوا قبل من دفنوا
يقول: قد كان جماعة قبل من أخبرك الآن بموتي، زعموا أنهم شاهدوا دفني، ثم ماتوا وأنا حي، فكذلك يموت هؤلاء وأبقى أنا حياً.
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ... تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن
يقول: ليس كل ما يشتهيه الإنسان يصل إليه، فإن الأقدار لا تجري على وفق الإرادات، كما أن الرياح إنما تهب على طبعها لا على ما يختاره أصحاب السفن، وهذا تعريض بسيف الدولة.
يقول: إن الأمر ليس كما تحبه من موتي، فإني ربما عشت بعدك.
ويجوز في كل النصب بإضمار الفعل يفسره الظاهر، وهو يدركه أي: ما يدرك المرء كل ما يتمناه وهذا هو الاختيار لأجل النفي، كالاستفهام.
ويجوز في كل الرفع بالابتداء وما بعدها خبرها. هذا في لغة تميم، وفي لغة أهل الحجاز رفع لأنه اسم ما وما بعدها خبرها.
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللّبن
يقول: من جاوركم لا يصون عرضه عن الذل والأذى، وليس عندكم مرعىً خصيب يدر عليه اللبن.
يعني: لا خير عندكم نصبر لأجله على الأذى.
جزاء كلّ قريبٍ منكم مللٌ ... وحظّ كلّ محبٍّ منكم ضغن
يقول: من قرب منكم مللتموه، فجزاء قربه منكم الملل، ومن أحبكم جازيتموه بالحقد عليه.
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتّى يعاقبه التّنغيص والمنن
يقول: إذا أحسنتم إلى إنسان نغصتم إليه نعمكم حتى يصير التنغص والمنن عقوبةً عليه.
فغادر الهجر ما بين وبينكم ... بهماء تكذب فيها العين والأذن(1/395)
البهماء: الأرض البعيدة التي لا يهتدي فيها.
يقول: لما جربت أحوالكم هجرتكم وبعدت عنكم، وجعلت بيني وبينكم فلاةً بعيدةً تكذب فيها العين فترى خيالات لا حقيقة لها، وتسمع فيها الأذن أصواتاً لا حقيقة لها أيضاً.
تحبو الرّواسم من بعد الرّسيم بها ... وتسأل الأرض عن أخفافها الثّفن
الرواسم: النوق التي تسير الرسيم، وهو ضرب من السير، الواحدة راسمة والثفن: جمع ثفنة وهو ما غلظ من جلد البعير إذا لاقى الأرض من اليدين والركبتين.
يقول: إذا سارت الإبل في هذه البهماء حفيت أخفافها لشدة السير فيها، فتحبوا على ثفناتها وتجري عليها، حتى تسأل الثفنات الأرض فتقول: ما فعلت أخفاف هذه الإبل التي كانت تكفينا ملاقاتك؟!
إنّي أصاحب حلمي وهو بي كرمٌ ... ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن
يقول: أحلم ما دام الحلم منى منسوباً إلى الكرم، فأما إذا كان منسوباً إلى الذل والجبن لم أصبر عليه.
ولا أقيم على مالٍ أذلّ به ... ولا ألذّ بما عرضي به درن
يقول: لا أختار المال مع الذل، ولا أستلذ بما يورثني العيب ويؤدي إلى دناءة الطبع ولؤم العرض.
سهرت بعد رحيلي وحشةً لكم ... ثمّ استمّر مريري وارعوى الوسن
المرير جمع المريرة وهي القوة من الحبل. يقال: استمر فلان على مريره: أي جرى على عادته التي أمر عليها.
يقول: لما فارقتكم سهرت وحشةً لفراقكم، فلما طالت الأيام نسيتكم وتسليت عنكم وعاد النوم إلى عيني.
وإن بليت بودٍّ مثل ودّكم ... فإنّني بفراقٍ مثله قمن
يقول: إن عاملني كافور بمثل ما عاملتموني به، وجرى على عادتكم في الأذى، فارقته كما فارقتكم. ومثله:
وإذا نبا بك منزلٌ فتحوّل
أبلى الأجلّة مهري عند غيركم ... وبدّل العذر بالفسطاط والرّسن
الأجلة: جمع الجلال. والعذر جمع العذار.
يقول: طال مقامي عند غيركم لإكرامه إياي، حتى أبلى مهري الأجلة جلاً بعد جل، وبدل عليه عذار بعد عذار، فلم يملني كما مللتم أنتم مقامي عندكم.
عند الهمام أبى المسك الّذي غرقت ... في جوده مضر الحمراء واليمن
يقول: أقمت عند كافور الذي عم جوده جميع العرب مضريهم ويمنيهم. وإنما سميت مضر الحمراء؛ لأن نزار لما مات وتحاكم أولاده وهم: ربيعة، ومضر، وإياد، وأنمار، إلى جرهم في قسم ميراثه، فأعطى ربيعة الخيل؛ فسمى أولاده: ربيعة الفرس. وأعطى مضر الإبل الحمر، وقيل أعطاه الذهب؛ فسمى أولاده مضر الحمراء.
وإن تأخّر عنّي بعض موعده ... فما تأخّر آمالي ولا تهن
يقول: إن تأخر عني بعض ما وعدني به من الولاية وغيرها، فإن أملي فيه في غاية القوة. وهذا استبطاء وعتاب.
هو الوفيّ ولكنّي ذكرت له ... مودّةً فهو يبلوها ويمتحن
يقول: هو يفي بما وعدني، ولكني ذكرت إظهار المودة التي يختبر بها ويمتحن.
يعني: كنت أظهر له المودة فأذكرها، فهو يمتحن ما ذكرته من المودة فيؤخر موعدي تجربة لمودتي له.
ويروى: بدل ذكرت بذلت.
ومما قاله بمصر في الحكم ولم ينشده الأسود ولم يذكره فيه.
صحب النّاس قبلنا ذا الزّمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا
يقول: صحب الناس قبلنا هذا الزمان، وأهمهم من أمر هذا الزمان ما أهمنا منه.
وتولّوا بغصّةٍ كلّهم من ... هـ وإن سرّ بعضهم أحيانا
يقول: كل من مضى قبلنا، مضى وفي قلبه غصة من الزمان، وإن سر بعضاً في وقت. ومثله للآخر قوله:
كلٌّ يبيت من الدّنيا على غصص
ربّما تحسن الصّنيع ليالي ... هـ ولكن تكدّر الإحسانا
الهاء في لياليه نعود إلى الزمان. يعني: تحسن ليالي الزمان الصنيع.
يقول: إن الزمان يمزج الإحسان بالإساءة والتكدير.
يعني: أن الزمان إذا أحسن أولا كدر وأساء آخراً، هذه عادته، يعطي ثم يرجع وإذا أحسن لا يتم الإحسان
وكأنّا لم نرض فينا بريب الد ... دهر حتّى أعانه من أعانا
يقول: لم يكفنا ما نقاسيه من حوادث الزمان، حتى أعانه عليها حسادنا وأعداؤنا، فصاروا أعواناً للزمان على الإساءة إلينا.
كلّما أنبت الزّمان قناةً ... ركّب المرء في القناة سنانا
يقول: إذا أنبت الزمان قناةً: أي كيداً أو شراً يطلب به هلاكنا، ركب الإنسان في تلك القناة السنان فيصيرها رمحاً.(1/396)
يعني: أن الإنسان يتم أمر الدهر في الإيقاع بنا.
ومراد النّفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وأن نتفانى
يقول: ما يريد الإنسان من هذه الدنيا من المأكول والملبوس والنعم، أحقر من أن يقتل بعضنا بعضاً لأجله؛ لأنه لا يدوم لأحد.
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
كالحات أي عابسات، وقيل: شديدات، وهي نصب على الحال.
يقول: إن الدنيا لا قدر لها، ولكن احتمال الهوان أصعب من ملاقاة الموت.
ولو أنّ الحياة تبقى لحيٍّ ... لعددنا أضلّنا الشّجعانا
يقول: لو كانت الحياة تدوم، لكان الشجعان الذين يتعرضون للقتل أكثر الناس ضلالاً وأغبنهم رأياً.
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
يقول: فإذا كانت الحياة منقطعة بالموت، والموت لا محيص عنه بحال، والجبن لا ينجى منه، فاستعمال الجبن هو العجز والذل.
كلّ ما لم يكن من الصّعب في الأن ... فس سهلٌ فيها إذا هو كانا
ما لم يكن: أي ما لم يقع.
يقول: إن كل ما لم يقع مما يستصعب في النفوس، فهو سله إذا وقع.
وكان الأستاذ أبو المسك اصطنع شبيباً بن جرير العقيلي فقلده عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال، فعلت منزلته وزادت رتبته واشتدت شوكته وغزا العرب في منابتها، من السماوة وغيرها، واجتمعت العرب إليه وكثر من حوله وطمع في الأسود وأنف من طاعته، فسولت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف، وقاتله أهلها وسلطانها واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها، وغلقت أبوابها واستعصموا بالحجارة والنشاب، فترك بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلي ليشغلهم بهم، ودار هو حتى دخل على القوات، حتى انتهى إلى باب الجابية، وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها.
وكان يقدم أصحابه، فزعموا أن امرأة دلت على رأسه صخرة. واختلف الناس في أمره. فقال قوم: وقعت يد فرسه في قناة ولم تخلص يدها فسقط، وكان مكسور الكتف والترقوة بسقطة سقطها عن الفرس في الميدان بعمان قبل ذلك بقليل، وسار إلى دمشق قبل تمام الانجبار وذكروا أنه سار من سقطته فمشى خطوات، ثم غلب فجلس وضرب بيده ألماً إلى قائم سيفه وجعل يذب حوله، وكان شرب وقت ركوبه سويقاً، فزعم قوم أنه طرح له فيه شيء، فلما سار وحمى عليه الحديد وازدحم الناس حوله عمل فيه؛ غير أنه سقط ولم ير أثر شيء من السلاح ولا الحجارة التي أصابته، وكثر تعجب الناس منه ومن أمره، حتى قال قوم: كان يتعهده صرع فأصابه ذلك في تلك الساعة.
وانهزم أصحابه لما رأوا ذلك، وخالفوا الموضع الذي دخلوا منه، وأرادوا الخروج منه معه فقتل منهم أربع مئة فارس وبضعة عشر، وأخذ رأسه، ووردت الكتب إلى مصر بخبره يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة وطالب الأسود أبا الطيب بذكره فقال، وأنشدها يوم السبت لست خلون منه.
عدوّك مذمومٌ بكلّ لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
القمران: الشمس والقمر.
يقول: كل من عاداك فهو مذموم عند كل أحد، حتى أن الشمس والقمر لو عادياك لذمهما جميع الناس: يعني: أن الخلق أجمعوا على فضلك وإقبال دولتك، حتى أن من عاداك لم يوجد في وجميع الأمم من يحمده.
وقد صرف هذا المعنى إلى الذم كأنه قال: أنت رذل ساقط، ومن كان كذلك لا يعاديه إلا مثله، فإذا كان من يعاديك مثلك فهو مذموم بكل لسان، حتى لو عاداك القمران لكانا مذمومين بمساجلتهما إياك.
ولله سرٌّ في علاك وإنّما ... كلام العدى ضربٌ من الهذيان
يقول: لله تعالى سر بما أعلى قدرك، وإنما رفع قدرك لما علم من فضلك، فكلام العدى لا معنى له مع إرادة الله تعالى.
وقد صرف إلى الهجو.
وقيل: أراد أن الله تعالى إنما بلغك هذه المنزلة ليغيظ بك الأحرار، وليعلم الناس أن الدنيا لا قدر لها عند الله تعالى، إذ لو كان لها قدر لما مكنك منها مع حقارتك ومهانة قدرك.
أتلتمس الأعداء بعد الّذي رأت ... قيام دليلٍ أو وضوح بيان؟!
يقول: قد ظهر للأعداء دليل على ما قلت: إن لله تعالى سر في علاك بموت شبيب حين غدر بك، فهل يطلبون دليلاً أوضح من هذا؟!
رأت كلّ من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حياةٍ أو بغدر زمان(1/397)
يقول: رأت الأعداء كلّ من يغدر بك مغدوراً به، إما من جهة الحياة بالموت أو من جهة الزمان بالذل.
برغم شبيبٍ فارق السّيف كفّه ... وكانا على العلاّت يصطحبان
علات الدهر: حوادثه.
يقول: إن السيف فارق شبيباً على رغم منه، بعد أن كان لا يفارقه فقتل بسيفه على ما يقال.
كأنّ رقاب النّاس قالت لسيفه: ... رفيقك قيسيٌّ وأنت يماني
قيس: من عدنان. واليمن: من قحطان. وبينهما عداوة قديمة وتارات وكيدة وهذا الرجل كان من قيس عيلان، والسيوف الجيدة تنسب إلى اليمن.
يقول: كأن رقاب الناس لما تبرمت بقطع شبيب لها، أغرت بينه وبين سيفه ليقتله حتى تسلم الرقاب من شره فقالت له: لم تصحبه؟! وأنت يماني وهو قيسي، وبين قيس واليمن تلك الحروب والتارات، فبان من يده وضرب عنقه وأخذ منه ثأر اليمن عند قيس.
وأراد أن يذكر سبب قتله بسيفه فعبر عنه بأحسن عبارة.
فإن يك إنساناً مضى لسبيله ... فإنّ المنايا غاية الحيوان
اسم كان مضمر: أي إن كان شبيب إنساناً مات، فالموت غاية كل حي، فضلاً عن كل إنسان.
فهذا كالمرثية له.
وما كان إلاّ النّار في كلّ موضعٍ ... يثير غباراً في مكان دخان
يقول: كان في أيام حياته ناراً في المواقع، وكان يثير الغبار بدل الدخان. جعله ناراً وغبار المعركة دخاناً.
فنال حياةً يشتهيها عدوّه ... وموتاً يشهّي الموت كلّ جبان
يقول: عاش في حياة نكدة منغصة يشتهيها كل عدو له، ومات موتةً قبيحةً تمنى الجبان أن يموت قبل أن يصير إلى مثل حاله.
قيل: قنطر به فرسه. وقيل: إن امرأة رمته بجرة ملآنة عذرة.
وقيل: إن هذا البيت مرثية له.
يقول: إنه عاش في عز وعلاء يتمناه العدو لنفسه، ومات موتاً يشجع الجبان؛ لأنه إذا علم أن الموت لا محيص عنه، وأن تحرزه لا ينجيه منه، اشتهى الموت في القتال.
نفى وقع أطراف الرّماح برمحه ... ولم يخش وقع النّجم والدّبران
يقول: دفع رماح الأبطال عن نفسه برمحه، لما خشى أن يصل إليه من جهتهم قتل أو جرح، ولم يخش أن ينزل إليه الموت من السماء.
يعني: استبعد الموت من الجهة التي أتاه منها، كما يستبعد وقع النجوم من السماء. وذلك أن امرأة دلت على رأسه حجراً من سور دمشق، وقيل: سقطت به فرسه. يعني لم يكن يخشى ذلك.
ولم يدر أنّ الموت فوق شواته ... معار جناحي، محسن الطّيران
شواته: أي جلدة رأسه.
يقول: لم يعلم أن الموت نجم أعير جناحا طائر، وأنه يعلم الطيران فيهتدي إليه.
وقد قتل الأقران حتّى قتلته ... بأضعف قرنٍ، في أذلّ مكان
يقول: لم يزل يقتل الأبطال حتى قتلته الأقران بأضعف قرن في أخس مكان وأذله. يعني: المرأة التي دلت عليه الرحى.
أتته المنايا في طريقٍ خفيّةٍ ... على كل سمعٍ حوله وعيان
يقول: أتاه الموت من حيث لا يشعر به هو ولا أصحابه فكأنه جاء في طريق خفي على كل أحد ممن حوله.
ولو سلكت طرق السّلاح لردّها ... بطول يمينٍ واتّساع جنان
الجنان: القلب. والهاء في ردها للمنايا.
يقول: لو جاءته المنايا من طريق الحرب لردها عن نفسه بطول يمينه وسعة قلبه.
تقصّده المقدار بين صحابه ... على ثقةٍ من دهره وأمان
تقصده: قيل: قصده، وقيل: قتله.
يقول: قصد موته أو أجله القدر. وهو بين أصحابه، واثق من دهره آمن من صروفه.
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصورٍ وغير معان؟
التفافه: أي اجتماعه.
يقول: إذا لم يكن الإنسان منصوراً من جهة الله تعالى، فلا ينفعه كثرة جيشه واجتماعه.
ودى ما جنى قبل المبيت بنفسه ... ولم يده بالجامل العكنان
ودى: أي أعطى الدية. وفاعله: ضمير شبيب. وما جنى مفعوله. والجامل: اسم موضع لجماعة الجمال. مثل الباقر: لجماعة البقر. والعكنان: الكثير.
يقول: أعطى دية من قتله من الأقران قبل دخول الليل بنفسه ولم يعط ديتهم بالإبل الكثيرة.
أتمسك ما أوليته يد عاقلٍ ... وتمسك في كفرانه بعنان؟
يقول: كيف تمسك يد العاقل إحسانك ثم يكفره؟! وتمسك يده العنان لمحاربتك! يعني لا يفعل هذا عاقل، وإن رامه خذلته يده.
وعطف تمسك على تمسك ولو نصب الثاني لجاز. كقولك: أتأكل السمك وتشرب اللبن.(1/398)
ويركب ما أركبته من كرامةٍ ... ويركب للعصيان ظهر حصان!
طريقة الإعراب في يركب الثاني مثل ما ذكر في جواز الرفع والنصب.
يقول: كيف يجمع عاقل بين ركوب كرامتك وركوب فرسه لمحاربتك؟!
ثنى يده الإحسان حتّى كأنّها ... وقد قبضت كانت بغير بنان
يقول: إحسانك قبض يده عن معصيتك، فكأنها وقد قبضت السيف والعنان ليس لها أصابع وبنان.
وعند من اليوم الوفاء لصاحبٍ؟ ... شبيبٌ وأوفى من ترى أخوان
يقول: من يفي اليوم لصاحبه؟ فأوفى الناس مثل شبيب في غدره.
وهذا معنى قوله: شبيب وأوفى من ترى أخوان يعني أوفى الناس أخو شبيب: أي مثله، وأراد أنهما ميتان. وقيل: أخوان: أي متشابهان في العلة متشاكلان في الطبع كالأخوين.
قضى الله يا كافور أنّك أوّلٌ ... وليس بقاضٍ أن يرى لك ثاني
يقول: إن الله تعالى قد حكم بأنك الأول في الفضل والسابق إليه، ولم يحكم بأن يكون لك نظير في الفضل.
فمالك تختار القسيّ وإنّما ... عن السّعد يرمي دونك الثّقلان؟
يقول: لم تختار القسي وتستعدها، فأنت لا تحتاج إليها؛ لأن سعادة جدك ترمي الجن والإنس.
ومالك تعني بالأسنّة والقنا ... وجدّك طعّانٌ بغير سنان؟
تعني من العناية.
يقول: أي حاجة لك إلى الإعناء بالأسنة والقنا، وإقبال دولتك يطعن عنك أعداءك بغير سنان.
ولم تحمل السّيف الطّويل نجاده ... وأنت غنيٌّ عنه بالحدثان؟
يقول: لم تحمل السيف وحوادث الدهر قد أغنتك عنه؟ وقيل: أراد بالحدثان؛ قضاء الله تعالى وقدره.
أرد لي جميلاً: جدت أو لم تجد به ... فإنّك ما أحببت فيّ أتاني
يقول: أرد لي الجميل، فعلته أو لم تفعله، فإن الأيام تبلغني إليه؛ لأنها لا تفعل إلا ما تريده.
لو الفلك الدّوّار أبغضت سعيه ... لعّوقه شيءٌ عن الدّوران
يقول: لو كرهت دوران الفلك، لعرض له ما يمنعه من الدوران، وحبسه على وفق إرادتك.
وروى هذا البيت برفع الفلك والدوار: صفة له، فيكون مرفوعاً بفعل مضمر، وهذا الظاهر تفسير له. كأنه قال: لو خالفك الفلك لعوقه. وصار أبغضت تفسيراً له. ولا يجوز رفعه بالابتداء؛ لأن لولا يقع بعدها إلا الفعل.
ولو نصب الفلك لكان أظهر في الإعراب؛ لأنك كنت تضمر فعلاً، ويكون أبغضت تفسيراً له وتقديره: لو أبغضت سعي الفلك أبغضت سعيه فأضمرت الأول لدلالة الثاني عليه.
ونالت أبا الطيب بمصر حمى، كانت تغشاه إذا أقبل الليل، وتنصرف عنه إذا أقبل النهار بعرق، فقال يصف الحمى ويذم الأسود، ويعرض بالرحيل، فشغف الناس بها بمصر، وأنشدوها الأسود فساءته.
وذلك في يوم الاثنين لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة.
ملومكما يجلّ عن الملام ... ووقع فعاله فوق الكلام
الملوم: الرجل الذي يلام.
يقول لصاحبيه: الرجل الذي تلومانه يعني نفسه يجل عن لومكما فلا تؤذياه بملامكما. وكذلك وقع فعل هذا الرجل الملوم فوق الكلام الذي توجهانه إليه على سبيل الملام. يعني: أن فعله أجل أيضاً من أن يلام عليه.
وقيل: اراد فعل هذا الرجل أجل من أن يلحقه الوصف بالكلام، ويبلغه البيان بالعبارة والمقال.
وقيل: الهاء في فعاله تعود إلى الملام أي وقع فعل الملام وتأثيره فوق تأثير الكلام.
يعني: أن الملام يفعل في فعل السهام لا فعل الكلام. وعلى الأول الهاء تعود إلى الملام.
ذراني والفلاة بلا دليلٍ ... ووجهي والهجير بلا لثام
نصب الفلاة والهجير لأنهما مفعول والهجير: شدة الحر، واللثام: ما يشد على الفم من طرف العمامة.
يقول لصاحبيه: ذراني مع الفلاة أقطعها بلا دليل، فإني دليل لنفسي، وذرا وجهي مع الهجير بلا لثام، فإن جلدة وجهي تنوب لي مناب اللثام.
فإني أستريح بذا وهذا ... وأتعب بالإناخة والمقام
بذا إشارة إلى الفلاة، وذكره على معنى المكان وروى: بذي أي بهذه، وهو إشارة إلى الفلاة لفظا. وهذا: إشارة إلى الهجير.
يقول: أنا أستريح بقطع الفلوات وملاقات الحر وأتعب بإناخة المطية والإقامة.
عيون رواحلي إن حرت عيني ... وكلّ بغام رازحةٍ بغامي
البغام: صوت الناقة عند التعب. والرازحة: المعيبة التي كلت. وقامت. وله معنيان:(1/399)
أحدهما ما ذكره ابن جني عن أبي الطيب أنه قال: إن حارت عيني فعيون رواحلي عيني، وبغامهن بغامي، يعني به طريقة الدعاء، فكأنه قال: أنا بهيمة مثلهن إن تحيرت. كما إذا قال القائل: إن فعلت كذا فأنت حمار.
والثاني يقول: أنا أقتدي بعيون رواحلي إن حارت عيني، فعينها تقوم مقام عيني.
وقوله: كل بغام رازحة بغامي يعني: أني أهتدي بالبغام: الذي هو صوت الرازحة، وأستدل بصوتها على جادة الطريق، لأن الروازح لا تئن إلا على جواد الطريق، فيكون بغامهن بمنزلة بغامي الذي أهتدي به، ودليل على الطريق.
وقيل: معناه أن صوتها ينوب عن صوتي في شكوى التعب.
فقد أرد المياه بغير هادٍ ... سوى عدّى لها برق الغمام
قيل: إن العرب إذا عدت للسحاب مئة برقة، لم تشك أنها ماطرة فتنتجعها. وقيل سبعين برقة.
يقول: أنا أعد البرق وأنتجع مواقع غيثه فيكون عدى البرق دليلاً على الماء، فلا أحتاج أي دليل آخر من الناس يدلني إليه.
يذمّ لمهجتي ربّي وسيفي ... إذا احتاج الوحيد إلى الذّمام
يذم أي يجعلني في ذمته، والذمة هنا: الغرر.
يقول: إذا سرت فإنما أسير في ذمة الله تعالى. وذمة سيفي، ولا أحتاج إلى خفير يجيرني إذا احتاج إليه غيري.
وحكى أنه لما رجع من عند عضد الدولة وبلغ الأهواز أحضر خفير العرب وقاطعهم على الخفارة فوقع النزاع بينه وبينهم في نصف دينار، سألوه زيادة على ما بذل لهم فلم يجبهم إليه، وضرب فرسه وهو ينشد هذا البيت.
يذمّ لمهجتي ربّي وسيفي ... البيت
فقتل عند دير العاقول:
ولا أمسى لأهل البخل ضيفاً ... وليس قرىً سوى مخّ النّعام
يقول: لا أمسى ضيف البخيل، ولو لم أجد شيئاً البتة. وجعل مخ النعام كناية عن ذلك؛ إذ النعام لا مخ لها.
ولمّا صار ودّ النّاس خبّاً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسام
الخب: الخديعة.
يقول: لما نافقني الناس بالوداد، عاشرتهم كما عاشروني، وجازيتهم ابتساماً على ابتسامهم.
وصرت أشكّ فيمن أصطفيه ... لعلمي أنّه بعض الأنام
يقول: لما رأيت الناس مطبوعين على الغدر! صرت أشك فيمن أصطفيه وأثق به من أهل أو ولد، لمعرفني أنه بعض الناس، والغدر قد عمهم.
وقيل: أراد بمن أصطفيه نفسه، وهذا بعيد لأن الإنسان لا يشك في نفسه.
يحبّ العاقلون على التّصافي ... وحبّ الجاهلين على الوسام
الوسام، والوسامة، والميسم: حسن الوجه.
يقول: العاقل يحب من يصطفيه في الوداد. والجاهل يحب من حسن وجهه.
وآنف من أخي لأبي وأمّي ... إذا ما لم أجده من الكرام
يقول: إن أخي من الأم والأب إذا لم يكن كريماً لجانبته وأنفت أن يكون لي أخاً مع لؤمه.
يعني: لا أصحب إلا كرام الناس وخيارهم.
أرى الأجداد تغلبها كثيراً ... على الأولاد، أخلاق اللّئام
كثيراً: نصب على الظرف، أي كثيرا من الأزمنة، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف.
يقول: إذا كان الولد لئيماً حال لؤم الولد بين الولد والجد، فينسب إلى اللؤم، ويعرف به دون الجد، فيكون كأنه ولد من اللؤم لا من الأب.
ولست بقانعٍ من كلّ فضلٍ ... بأن أعزى إلى جدٍّ همام
يقول: لا أرضى من الفضل والشرف بمجرد كرم النسب، حتى أكسب لنفسي مفاخر أتشرف بذكرها.
عجبت لمن له قدٌّ وحدٌّ ... وينبو نبوة القضم الكهام
القد: القامة. والحد يجوز أن يريد به أن يكون قد بلغ حد الرجال، وأن يريد به الحدة في الأمر. والقضم: المتكسر. والكهام: الكليل.
يقول: عجبت ممن له صورة الرجل الكامل، وآلة تبلغه إلى معالي الأمور فلم يبلغ إليها، وينبو كالسيف الكليل.
ومن يجد الطّريق إلى المعالي ... فلا يذر المطيّ بلا سنام
من في موضع جر عطفاً على قوله: عجبت لمن له قد وقيل: استفهام.
يقول: عجبت ممن يجد الطريق إلى المعالي فلا يسير إليها حتى يهزل المطي بسيره ويذيب أسنمتها تحته، فتبقى بغير سنام،
ولم أر في عيوب النّاس عيباً ... كنقص القادرين على التّمام
يقول: ليس في الإنسان عيب أقبح من أن يكون ناقصاً مع قدرته على الكمال.
وقيل: معناه ليس عيب أقبح من الكسل.
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخبّ بي الرّكاب ولا أمامي(1/400)
يقول: بقيت بمصر متبرماً بها فلا أسير عنها متقدماً ولا متأخراً.
وملّني الفراش وكان جنبي ... يملّ لقاءه في كلّ عام
يقول: طال نومي على الفراش حتى مل الفراش مني، وكان جنبي إذا لقي الفراش في عام مرةً واحدة مل منه.
قليلٌ عائدي، سقمٌ فؤادي ... كثيرٌ حاسدي، صعبٌ مرامي
رفع هذا كله ليخبر أنه على هذه الأوصاف في الحال دون ما مضى، إذ لو أراد الماضي لنصب على الحال من يمل لقاءه.
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السّكر من غير المدام
المدام: الخمر. والسكر من غير مدام عبارة عن الشدة وعظم المحنة. وهذا من قوله تعالى: " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمَ بِسُكَارَى ".
وزائرتي كأنّ بها حياءً ... فليس تزور إلاّ في الظّلام
عنى بالزائرة: الحمى، كأنها تستحي من أن تزور بالنهار، فتأتيني في الظلام؛ لفرط حيائها.
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها، وباتت في عظامي
المطارف: أردية من الخز، معلمة الأطراف، الواحد مطرف، بضم الميم. والحشايا: جمع حشية.
يقول: فرشت لهذه الزائرة الفرش الحسنة فكرهت أن تبيت عليها، ولم تقنع بها، فوصلت إلى عظامي وباتت فيها.
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام
عنها: أي عن الزائرة.
يقول: جلدي يضيق عن احتمال نفسي واحتمال الحمى، فوسعت الحمى جلدي؛ بأن أذابته وأكلت لحمي ليتسع لها!
إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
يعني: أنه كان يعرق عرقاً شديداً إذا أقلعت عنه الحمى.
يقول: إن هذه الزائرة إذا فارقتني غسلتني بالعرق، فكأنا كنا مقيمين على حرام، فغسلت له.
وخص الحرام لأن الزائرة تكون أجنبية دون زوجته.
كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام
يقول: إذا جاء الصبح فارقتني هذه الزائرة، فكأن الصبح يطردها عني بعد ما ألفتني، فتدمع عينها جزعاً من ألم الفراق.
جعل عرقه دمعاً يسيل من أجفانها. وقوله: بأربعة سجام يعني: أن الدمع كان يجري من طرفي العين الذي يلي الأنف والأصداغ، وكذلك من العين الأخرى، فهذه أربعة مجار. وسجام: أي جارية.
أراقب وقتها من غير شوقٍ ... مراقبة المشوق المستهام
يقول: أنا أنتظر وقت زيارتها، كما ينتظر العاشق وقت زيارة حبيبه، وليس ذلك من شوق مني إليها.
ويصدق وعدها والصّدق شرٌّ ... إذا ألقاك في الكرب العظام
وروى: تصدق يعني: أن الزائرة تصدق وعدها. والأول أولى.
يقول: هي صادقة الوعد، وليتها تخلف وعدها فإن الصدق إذا كان يؤدي إلى المحن العظام فهو مذموم.
أبنت الدّهر عندي كلّ بنتٍ ... فكيف وصلت أنت من الزّحام؟!
بنت الدهر: هي الداهية.
يقول للحمي: يا بنت الدهر، كيف وصلت إلي مع ازدحام حوادث الدهر علي وتراكم الدواهي؟!
جرحت مجرّحاً لم يبق فيه ... مكانٌ للسّيوف ولا السّهام
يقول للحمي: جرحت مني بدناً مجرحاً، قد عمته الجراحات، فليس فيه موضع صحيح تجرحه السيوف والسهام.
ألا يا ليت شعر يدي أتمسى ... تصرّف في عنانٍ أو زمام
يقول: ليت يدي عرفت، هل تتمكن من التصرف في عنان فرسي، أو زمام ناقتي بعدها؟ عند رحيلي من مصر ومفارقتي الأسود.
وهل أرمي هواي براقصاتٍ ... محلاّة المقاود باللّغام
اللغام: الزبد الذي يخرج من فم البعير. والراقصات: الإبل السريعة.
يقول: ليتني علمت: هل أرتحل من مصر وأقصد إلى ما أهواه بإبل راقصات قد سال لعابها على مقاودها فصار عليها كالحلية.
فربّتما شفيت غليل صدري ... بسيرٍ أو قناةٍ أو حسام
يقول ربما شفيت نفسي ووصلت إلى مرادي إما بسير إليه وإما بسيف أو رمح.
وضاقت خطّةٌ فخلصت منها ... خلاص الخمر من نسج الفدام
نسج الفدام: خرقة من الإبريسم تشد على فم الإبريق لتصفي الشراب.
يقول: ربما ضاقت على حالة فتخلصت منها بألطف وجه، فزدت عند ذلك شرفاً، وزادت أخلاقي تهذيباً، وجوهري صفار ورونقاً، كما أن الخمر إذا خلصت من الفدام ازدادت صفاءً ورونقاً وقريب منه قول الآخر:
ما تعتريني من خطوب ملمّةٍ ... إلاّ تشرّفني وتعظم شاني
وفي ذكر الفدام قول المطرز البغدادي:(1/401)
وقبلةٌ هي الخم ... ر إلاّ أنّها بفدام
وفارقت الحبيب بلا وداعٍ ... وودّعت البلاد بلا سلام
يقول: ربما فارقت حبيبي من غير وداع، وربما خرجت من البلاد ولم أسلم على أهلها سلام الوداع. يعني: أنه هرب من أشياء كرهها وتخلص من أمور عافها مرات كثيرة، فكذلك مفارقته مصر لا يتعذر عليه.
يقول لي الطّبيب: أكلت شيئاً ... وداؤك في شرابك والطّعام
يقول: إذا رآني الطبيب متغير الحال قال: قد أكلت شيئاً ضرك، فاحتم فإن ذلك من الطعام والشراب.
وما في طبّه أنّى جوادٌ ... أضرّ بجسمه طول الجمام
الجمام: الراحة.
يقول: إن الطبيب لا يعلم أن مرضي من طول مقامي بمصر، وتركي لما هو عادتي من السفر، كما أن الفرس إذا تعود السير عليه، وتحمل الكد والنصب، ثم طال مقامه على الجمام، أضر به ذلك.
تعوّد أن يغبّر في السّرايا ... ويدخل من قتامٍ في قتام
يغبر: أي يثير الغبار.
يقول: مثلي مثل فرس يدخل من غبار إلى غبار.
فأمسك لا يطال له فيرعى ... ولا هو في العليق ولا اللّجام
العليق: ما يعلق على الفرس.
يقول: أنا مثل فرس جواد تعود القتال، ثم حبس في مكان فلا يرخي له الحبل حتى يرعى بنفسه، ولا يعلق عليه ما يأكله، ولا عليه لجام! فكذلك أنا عند كافور: لا يأذن لي في الرحيل، ولا يكفيني مؤنة المقام.
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حمّ اعتزامي
يقول: إن أمرض فصبري صحيح لم يمرض، وعزمي لم يتغير عما عهدته، فهذا المرض يزول، ويعود إلى الصحة جسمي.
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
يقول: إن سلمت الآن من مرضي فلا خلود في الدنيا، ولكن آخر أمري الموت، فكأني نجوت من موت معجل إلى موت مؤجل.
تمتّع من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأمل كرىً تحت الرّجام
الرجام: القبور، واحدها رجم.
يقول: تمتع في هذه الدنيا من النوم واليقظة، ولا تطمع في النوم ولذته إذا صرت إلى القبر.
فإنّ لثالث الحالين معنىً ... سوى معنى انتباهك والمنام
يقول: إن الموت حالة ثالثة سوى النوم والانتباه، وليس فيه شيء من اللذة التي ترجى في اليقظة والمنام، ولكنه الفناء والفساد، ولا ترجى فيه اللذة بحال من الأحوال.
وكان كافور يتطلع إلى مدحه، ويقتضيه إياه، ولم يكن له بد من مداراته فقال فيه، وأنشدها إياه في شوال سنة تسع وأربعين وثلاث مئة.
وهي آخر ما أنشده ولم يلقه بعدها:
منىً كنّ لي أنّ البياض خضاب ... فيخفي بتبييض القرون شباب
القرون: الذوائب. وقوله: أن البياض في موضع الرفع بدلا من منى.
يقول: كنت في حال شبابي أتمنى أن أخضب شبابي بالبياض، فيكون البياض خضابا للسواد، كما يخضب البياض بالسواد، فينظر إلي بعين الجلالة والوقار والحلم.
ليالي عند البيض فوداي فتنةٌ ... وفخرٌ وذاك الفخر عندي عاب
الفودان: جانبا الرأس وليالي نصب بفعل مضمر، يعني كنت أتمنى ذلك ليالي كان فوداي فتنة للنساء البيض لسواد شعري، فكن يفتن به ويعددنه فخراً، وأنا أعده عيباً لأنه يدل على الجهل والنزق.
فكيف أذمّ اليوم ما كنت أشتهي ... وأدعو بما أشكوه حين أجاب؟!
يقول: كنت أشتهي المشيب أيام الشباب، فكيف أذمه لما بلغت إليه؟! وكنت أدعو الله تعالى أن يهب لي المشيب، فلا يحسن بي الآن أن أشكوه حين أجابني إليه.
وقيل: قوله: أدعو بما أشكوه من قولك: دعوت بفلان إذا دعوته إليك.
والمعنى: كيف أدعو بشيء، إذا أجبت إليه شكوته؟! وهو المشيب، أي كنت أدعو المشيب إلى نفسي. فكيف أشكوه الآن.
جلا اللّون عن لونٍ هدى كلّ مسلكٍ ... كما انجاب عن ضوء النّهار ضباب
جلال: أي زال يقول: زال السواد عن لون هدى كل مسلك: يعني البياض لأنه حليف الهداية والمانع من الغواية. وشبه زوال السواد وطلوع البياض بانكشاف الضباب عن ضوء النهار والضباب: ما تراه على وجه الأرض في الربيع.
وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبه ... ولو أنّ ما في الوجه منه حراب
الحراب: جمع حربة.
يقول: إن كان جسمي أثر فيه الشيب، فإن نفسي التي في جسمي لم تضعف بضعفه ولو أن بدل كل شعرة بيضاء حربة في الوجه مغروزة.(1/402)
لها ظفرٌ إن كلّ ظفرٌ أعدّه ... ونابٌ إذا لم يبق في الفمّ ناب
يقول: لنفسي ظفر أجعله عدةً لي، إن كل ظفر الجسم: أي إن ذهبت قوته. فقوة النفس باقية، وكذلك إن لم يبق ناب في الجسم فللنفس ناب.
يغيّر منّي الدّهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
الكعاب: الجارية التي كعب ثديها.
يقول: إن الدهر يغير من جسمي كل شيء، ولا يقدر أن يغير نفسي، فإنها أبداً تبقى في قوتها، وإن بلغت أقصى العمر.
وإنّي لنجمٌ يهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النّجوم سحاب
الصحبة: الأصحاب.
يقول: إن صحبتي يهتدون برأيي ودلالتي، فإذا نالهم خطب رجعوا إلى رأيي، وإذا حال سحاب دون النجوم اهتدوا بدلالتي، لمعرفتي بالفلوات، وهدايتي في المفاوز، فكأنه نظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم.
غنيٌّ عن الأوطان؛ لا يستفزّني ... إلى بلدٍ سافرت عنه إياب
يستفزني: أي يستخفني وقد روى أيضا.
يقول: أنا مستغن عن الأوطان، فإذا سافرت عن بلد لا يستخفني الرجوع إليه.
وعن ذملان العيس إن سامحت به ... وإلاّ ففي أكوارهنّ عقاب
الذملان: ضرب من السير. وعنى بالعقاب: نفسه، فالهاء في به للذملان.
يقول: إني غني عن سير الإبل، فإن سمحت به سرت عليها، وإلا فما أبالي، فإن الذي في أكوارهن عقاب: أي كما أن العقاب لا يحتاج إلى سير الإبل، كذلك أنا أسير على قدم كما يطير العقاب.
وأصدي فلا أبدي إلى الماءٍ حاجةً ... وللشّمس فوق اليعملات لعاب
أصدى: أي أعطش. واليعملات: النوق التي يعمل عليها في السير، والواحدة يعملة، ولا يوصف بها الذكر. ولعاب الشمس: ما يتدلى منها مثل الخيوط إذا اشتد الحر.
يقول: أعطش في شدة الحر وأصبر عليه، ولا أظهر من نفسي الحاجة إلى الماء وأهل البادية يمتدحون بذلك.
وللسّرّ منّي موضعٌ لا يناله ... نديمٌ ولا يفضي إليه شراب
لا يفضي إليه أي لا يصل إليه.
يقول: أنا أودع السر من قلبي موضعاً لا يطلع عليه نديمي، ولا يصل إليه الشراب، وذلك أن الرجل إذا سكر أذاع ما في قلبه من السر. فيقول: أنا لا أسكر من الخمر على وجه يزول عقلي، حتى لا أبوح بما في قلبي من السر صيانةً لعقلي ومروءتي.
وقيل: أراد أن الخمر لا تصل إلى السر، مع أن الخمر تجري من الإنسان مجرى الدم فتصل إلى كل موضع.
وللخود منّي ساعةٌ ثمّ بيننا ... فلاةٌ إلى غير اللّقاء تجاب
الخود: المرأة الناعمة.
يقول: إن اجتماعي مع المحبوبة ساعةً واحدةً، ثم أفارقها وأقطع الفلوات إلى غير لقائها، ولا أبالي بها، وإنما همتي السعي في معالي الأمور.
وقيل: ذكر الفلاة مثلا. أي يكون بيننا فلوات ومفاوز. على معنى ما يقال: بيني وبين فلان مسافة بعيدة في امتناع الوصول إليه.
وما العشق إلاّ غرّةٌ وطماعةٌ ... يعرّض قلبٌ نفسه فتصاب
الغرة: الاغترار، والطماعة: الطمع.
يقول: إن العشق اغترار وطمع، وهما مذمومان، وقلب العاشق يعرض نفسه على الهلاك فتهلك.
وغير فؤادي للغواني رميّةٌ ... وغير بناني للزّجاج ركاب
يقول: كل قلب سوى قلبي فهو هدف للنساء يصبنه للعشق. وكل بنان سوى بناني ركاب للزجاج الذي فيه الخمر، فأما أنا فلا أشتغل باللذة واللهو، فلا أعرض قلبي للعشق ولا أشتغل بشرب الخمر.
وروى للرخاخ وهو الشطرنج. يعني لا أشتغل بالنساء واللعب بالشطرنج وسائر الملاهي، وما يذهب به العمر باطلاً.
تركنا لأطراف القنا كلّ شهوةٍ ... فليس لنا إلاّ بهنّ لعاب
اللعاب: الملاعبة.
يقول: تركنا كل شهوة، ولذة لعاب، إلا بالرماح والسيوف.
نصرّفه للطّعن فوق حواذرٍ ... قد انقصفت فيهنّ منه كعاب
الهاء في نصرفه راجع إلى لفظ القنا وقوله: فوق حواذر أي خيل حواذر من الطعن، لأنها قد تعودته وانقصفت: أي انكسرت.
يقول: نصرف القنا فوق خيل قد تعودت الطعان فهي تحذر منه، فانكسرت في الخيل كعوب الرماح مرة بعد أخرى.
أعزّ مكانٍ في الدّنى سرج سابحٍ ... وخير جليسٍ في الزّمان كتاب
الدنى: جمع الدنيا، جعل كل مكان فيها دنيا، ثم جمعه.(1/403)
يقول: أعز مكان في الدنيا سرج فرس سابح، لأن الشجاع إذا ركبه امتنع، وخير جليس في الزمان كتاب؛ لأنك لا تخشى غوائله ويؤدبك بآدابه، ويؤنسك عند الوحشة بحكمه.
وبحر أبو المسك الخضمّ الّذي له ... على كلّ بحرٍ زخرةٌ وعباب
الخضم: الكثير العطاء، الزخرة: تراكم الماء، والعباب: مثله. وروى: بحر جراً على العطف على ما قبله. أي: وخير جليس في الزمان كتاب، وخير بحر أبو المسك. والتقدير: وخير البحور ثم أقام الواحد مقام الجمع. وروى: وبحر أبي المسك على الإضافة.
يقول: هو كثير العطاء، له فضل على كل سخي، كالبحر الذي يزيد على البحار. شبهه بالبحر، ثم فضله على سائر البحار.
تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه ... بأحسن ما يثنى عليه يعاب
يقول: قد تجاوز غاية المدح وكل ما وصفته وأثنيت به عليه فهو دونه، وكأني إذا مدحته أعيبه وأنقصه عن قدره. وهو مأخوذ من قول البحتري:
جلّ عن مذهب المديح علا ... هـ فكأنّ المديح فيه هجاء
وغالبه الأعداء ثمّ عنوا له ... كما غالبت بيض السّيوف رقاب
يقول: إن أعداءه طلبوا مغالبته فقهرهم وأذلهم فخضعوا له. وكانوا له مثل رقاب غالبت السيوف فقطعتها.
وأكثر ما تلقى أبا المسك بذلةً ... إذا لم يصن إلاّ الحديد ثياب
التاء في تلقى خطاب لنفسه أو صاحبه. وأبا المسك مفعول تلقى وبذلةً نصب على التمييز.
والمعنى: أن أبا المسك في أكثر أوقاته تلقاه لابساً ثوب البذلة، في وقت لا يصون الأبطال الثياب، من الرماح والسيوف، وإنما يصونهم منها الحديد. فهو يباشر الحديد القتال في تلك الحال، لابساً ثوب البذلة حاسراً بلا درع ومغفر، وذلك لقوة قلبه وثقته بنفسه، وقلة مبالاته بعدوه. والحديد على هذا نصب مستثنى مقدم. ومفعول يصن محذوف كأنه قال: إذا لم يصن الأبطال والأبدان ثياب، ولكن الذي يصونها هو الحديد.
وقال ابن جني معناه: إذا لبست الأبطال الثياب فوق الحديد خشية واستظهاراً فهو في ذلك الوقت أشد ما يكون تبذلا بنفسه. والحديد: هو الدروع وهو منصوب لأنه مفعول يصن.
وأوسع ما تلقاه صدراً وخلفه ... رماءٌ وطعنٌ والأمام ضراب
الرماء مصدر راميته. والأمام نصب على الظرف، فكأنه قال: وأمامه، فجعل الألف واللام بدلاً من الإضافة.
يقول: أوسع ما يكون صدراً إذا كان في مضيق الحرب، وخلفه رمي وطعن من قبل الأعداء، وأمامه ضراب.
يعني: أنه يتقدم على أصحابه يضرب بالسيف وجوه الأعداء وأمامه ضرب وخلفه رمي، فيكون في تلك الحال ثابت النفس، لا يدخله روع وقلق.
وروى: وخلفه دماء والمعنى: أنه لا يضيق صدره عند مضيق الحرب، بل يقتل ويخلف دماءً سفكها، ويضرب أمامه بالسيوف.
وأنفذ ما تلقاه حكماً إذا قضى ... قضاءً ملوك الأرض منه غضاب
يقول: إذا أراد أمراً يغضب منه جميع ملوك الأرض، فذلك الأمر أنفذ ما يكون من أوامره، لأنهم لا يمكنهم أن يردوا عليه أمره.
يقود إليه طاعة النّاس فضله ... ولو لم يقدها نائلٌ وعقاب
يقول: لو لم يطعه الناس رغبةً في نائله ورهبة من عقابه، لأطاعوه لفضله. وهذا مثل قوله:
رأيتك لو لم تقتض الطّعن في الوغى
أيا أسداً في جسمه روح ضيغم ... وكم أسدٍ أرواحهنّ كلاب
يقول: أنت الأسد، وروحك روح الأسد، وغيرك من الملوك جسمه جسم الأسد، وروحه روح كلب.
شبههم بالأسود من حيث الجثة وبالكلاب من حيث الهمة. وقوله: أرواحهن كلاب: أي أرواحهن أرواح كلاب فحذف المضاف.
ويا آخذاً من دهره حقّ نفسه ... ومثلك يعطى حقه ويهاب
يقول: هذا الملك حق لك، أخذته من دهرك قهراً، ولم يقتدر أن يمتنع من ذلك، ومن كان مثلك في البأس والقوة: يخاف منه ويعطى حقه.
لنا عند هذا الدّهر حقٌّ يلطّه ... وقد قلّ إعتابٌ وطال عتاب
يلطه أي يمطله ويدفعه والإعتاب: الرجوع إلى أن تجيب من يعاتبك.
يقول: لنا عند الدهر حق يمطلنا به، قد طال عتابنا له وهو لا يرجع إلى ما أحبه.
وقيل: هذا تعريض بالممدوح، وأنه طال عتابه واستبطاؤه فيما كان يعده به من الولاية.
وقد تحدث الأيّام عندك شيمةً ... وتنعمر الأوقات وهي يباب
الشيمة: العادة. واليباب: الخراب، وقيل: هو إتباع لخراب.(1/404)
يقول: إن الأيام قد تترك عادتها عندك من قصد ذوي الفضل، لحصولهم في ذمتك وجوارك، وتعود أوقاتهم بك عامرة، بأن يدركوا مطلوبهم بعد أن كانت خراباً.
وقيل: معناه أن الأيام تغير كل إنسان وتبدل الأحوال، فلا آمن أن تصل إليك فتحدث في أخلاقك تغييرا، كما تفعل في نفسها ضد خلقها، من عمارة بعد خراب.
وقيل: أراد إن عادة الأيام عندنا دفع حقنا، وعندك إيصال حقك إليك، وأوقاتها عندنا خراب، وعندك عامرة.
ولا ملك إلاّ أنت والملك فضلةٌ ... كأنّك نصلٌ فيه وهو قراب
يقول: قوام الملك سياستك، فالملك إنما هو أنت وما سواك فضلة، كما أن العامل هو السيف والقراب فضله.
أرى لي بقربي منك عيناً قريرةً ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
يقول: إن قربي منك مشوب بالحجاب والبعد، فتارةً أحجب عنك وأخرى ينحجب الحجاب وأقرب، فمتى قربت منك قرت عيني بالقرب الذي يتفق، فكأن الحجاب لم يكن.
وقيل: أراد بالبعاد، الوحشة التي كانت بينه وبين كافور.
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الّذي أمّلت منك حجاب
يقول: أي نفع في رفع الحجاب؟! إذا كان ما أؤمل منك حجاب. يعني: أنت لا تبذل لي ما أملته منك من العطاء والوداد.
أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
نصب حب لأنه مفعول له وعنكم في موضع عليكم ويكون ها هنا فعل تام لا يحتاج إلى خبر.
يقول: أقل سلامي عليكم، طلباً للتخفيف عليك، وأسكت عن إذكارك بحاجتي؛ لئلا أكلفك الجواب، ولئلا يكون له جواب أكرهه.
وفي النّفس حاجاتٌ وفيك فطانةٌ ... سكوتي بيانٌ عندها وخطاب
الهاء في عندها يعود إلى لفظ الفطانة.
يقول: في نفسي حاجات ولك معرفة، فسكوتي عند معرفتك يغنيني عن بيانها وإظهارها بالخطاب. ومثله لأبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي
وما أنا بالباغي على الحبّ رشوةً ... ضعيفٌ هوىً يبغي عليه ثواب
يقول: من أحب إنساناً لمنفعته فحبه ضعيف، وأنا أحبك حباً خالصاً، لا أطلب عليه رشوة.
وما طلبت منك إلا طلب الإدلال لمن عذلني على قصدك. أني أصبت في مخالفتي قوله، فإذا رأى منزلتي عندك علم فساد قوله وصواب رأيي
وما شئت إلاّ أن أدلّ عواذلي ... على أنّ رأيي في هواك صواب
يقول: لم أرد ما أطلبه إلا كي أدل عواذلي اللاتي عذلنني في قصدك. أني كنت مصيبا في هواك، وأنك تحسن إلي وتقضي حق زيارتي.
وأعلم قوماً خالفوني فشرّقوا ... وغرّبت أنّي قد ظفرت وخابوا
يقول: أردت أن أعلم من خالفني، وقصد ملكاً غيرك، أنه قد خاب وأني ظفرت. ومثله للبحتري:
وأشهد أنّي في اختيارك دونهم ... مؤدّىً إلى حظّي ومتّبعٌ رشدي
جرى الخلف إلاّ فيك أنّك واحدٌ ... وأنّك ليثٌ والملوك ذئاب
يقول: قد وقع الخلاف في كل شيء إلا فيك، فإنهم اتفقوا على أنك واحد ولا نظير لك، وأنك أسد والملوك ذئاب بالنسبة إليك. فأنت أوحدهم، كما أن الأسد أوحد السباع ومثله لأبي تمام:
لو أنّ إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدّين لم يختلف في الأمة اثنان
وأنّك إن قويست صحّف قارئ ... ذئاباً ولم يخطئ فقال: ذباب
يقول: لو صحف إنسان قول: إنك ليث والملوك ذئاب فجعل مكانه ذباب لم يخطئ في تصحيفه؛ لأن الأمر كذلك على الحقيقة.
وإنّ مديح النّاس حقٌّ وباطلٌ ... ومدحك حقٌّ ليس فيه كذاب
وهذا معطوف على ما قبله: أي قد اتفقوا على أن مدح غيرك فيه حق وباطل، وأن مدحك حق لا كذب فيه.
إذا نلت منك الودّ فالمال هيّنٌ ... وكلّ الّذي فوق التّراب تراب
يقول: إذا حصل لي ودك فلا أبالي بعده بالمال؛ لأن المال لا قدر له، فهو تراب كأصله الذي تولد منه.
وما كنت لولا أنت إلاّ مهاجراً ... له كلّ يوم بلدةٌ وصحاب
يقول: لولا أنت وحبي قربك ما كنت بمصر، بل كنت كل يوم في بلد ومعي أصحاب.
ولكنّك الدّنيا إليّ حبيبةٌ ... فما عنك لي إلاّ إليك ذهاب
يقول: إنما أقمت عندك لأنك دنياي، فلا منصرف لي عنك، إذ الدنيا حبيبة إلى كل أحد، فأنت محبوب إلي فليس لي ذهاب إلا إليك.
وحبيبة خبر ابتداء محذوف: أي هي حبيبة إلي.
هذا آخر ما أنشده أبو الطيب في الأسود.(1/405)
فلما خرج من عنده قال يهجوه:
من أية الطّرق يأتي نحوك الكرم ... أين المحاجم يا كافور والجلم؟
الجلم المقص، وأكثر ما يستعمل في الذي يجز به الصوف من الغنم.
يقول: من أي طريق يصل إليك الكرم؟! وأنت لئيم الأصل تصلح لآلات الحجامين: من المحاجم والمقص.
وقيل: أراد أنك تصلح أن تكون حجاما أو راعياً يجز الصوف بالجلم. وإنما نسبه إلى الحجامة؛ لأن الحجامين بمصر لا يكونون إلا سوداناً، وكذلك رعاة الغنم أكثرها العبيد السود.
جاز الألى ملكت كفّاك قدرهم ... فعرّفوا بك إنّ الكلب فوقهم
قدرهم منصوب بجاز.
يقول: الذين ملكتهم من أهل مصر كانوا قد بغوا وجاوزوا قدرهم، فأذلهم الله تعالى بك، وأعلمهم أن الكلب خير منهم عنده.
وكأن هذا تفسير لقوله: ولله سر في علاك.
لا شيء أقبح من فحلٍ له ذكرٌ ... تقوده أمةٌ ليست لها رحم
جعله أمةً لأنه خصى، ثم حطه عن منزلة الأمة. فيقول: هو أمة بلا رحم! فالأمة مع تمام خلقها أحسن حالا منه. فالفحل إذا رضي بحكمه وانقاد لأمره فهو أذل من الكلب. وهذا تعريض بابن الإخشيد، وتضريب بينه وبين كافور
سادات كلّ أناسٍ من نفوسهم ... وسادة المسلمين الأعبد القزم
القزم: رذال الناس والمال.
يقول: سيد كل أمة منهم ومن أعزهم، إلا المسلمين فإنهم يرضون بسيادة العبيد
أغاية الدّين أن تحفوا شواربكم ... يا أمّةً ضحكت من جهلها الأمم؟؟!
من عادة أهل مصر إحفاء الشوارب.
يقول: اقتصرتم من الدين على ذلك، وعطلتم سائر أحكامه! ورضيتم بولاية كافور عليكم مع خسته، حتى ضحكت الأمم منكم واستهزءوا بكم وبقلة عقلكم.
ألا فتىً يورد الهنديّ هامته ... كيما تزول شكوك النّاس والتّهم؟
يقول: سيادتك تشكك الناس في حكمة الله تعالى فمن الذي يتعصب للدين؟! فيضرب رأسه بالسيف ويزيل هذا الشك عن قلوب الشاكين.
فإنّه حجّةٌ يؤذي القلوب بها ... من دينه الدّهر والتّعطيل والقدم
يقول: إن هؤلاء الكفار إذا رأوا ما ناله كافور مع خسته، جعلوا ذلك حجة لقولهم: إن العالم ليس له مدبر حكيم. وآذوا بها قلوب المسلمين، فمن الذي يقتله؟ حتى تزول هذه الأذية عن قلوب المسلمين.
ما أقدر الله أن يخزي خليقته ... ولا يصدّق قوماً في الّذي زعموا
يقول: إن الله تعالى قادر على أن يخزيه ويخزي المعطلين، بأن يبطل قولهم واحتجاجهم على نفي الصانع.
يعني: إن لم يقتله الناس. فإن الله تعالى يريح المسلمين، ويزيل الشبهة عن قلوب المؤمنين.
وقال أيضاً يهجوه:
أما في هذه الدّنيا كريم ... تزول به عن القلب الهموم؟
يقول: ليس في هذه الدنيا كريم يؤنس إليه، ويزيل الهموم عن قلوب من يجالسه.
أما في هذه الدّنيا مكانٌ ... يسرّ بأهله الجار المقيم؟!
أي ليس فيها مكان، يسر المقيم في ذلك المكان بأهله.
تشابهت البهائم والعبدّي ... علينا والموالي والصّميم
العبدي: العبيد. والصميم الصريح الخالص النسب يقول: الناس كلهم جهال بمنزلة البهائم، فأحرارهم وعبيدهم ومواليهم سواء في اللؤم.
وما أدري أذا داءٌ حديثٌ ... أصاب النّاس أم داءٌ قديم؟؟!
يقول: لست أدري هل كان في قديم الزمان على ما نشاهده الآن في استواء الناس أم حدثت هذه الحالة الآن؟
حصلت بأرض مصر على عبيدٍ ... كأنّ الحرّ بينهم يتيم
كأنّ الأسود اللاّبىّ فيهم ... غرابٌ حوله رخمٌ وبوم
يقال للأسود: لابي ولوبي ونوبي. منسوب إلى اللابة، وهي الحجارة السود شبهه بالغراب، لسواده، وشبه من حوله بالرخم والبوم، وكل هذه من شرار الطير.
أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حليم
يقول: لم أجد من مداراته بد، فلما أخذت بمدحه استهزأت به. وقلت له مع حمقه: إنك حليم، ومع لؤمه، إنك كريم!
ولمّا أن هجرت رأيت عيّاً ... مقالي لابن آوى يا لئيم
يقول: لما رأيت هجوه، لم أجد لمقالي مجالاً، فرأيت هجوي له عياً، فكنت بمنزلة من يقول لابن آوى: يا لئيم وهو أخس من أن يقال له ذلك.
فهل من عاذرٍ في ذا وهذا ... فمدفوعٌ إلى السّقم السّقيم(1/406)
يقول: هل في الناس من يعذرني في مدحي وهجوي إياه، فإني مضطر إليهما، كما أن المريض مضطر إلى المرض غير مختار له.
إذا أتت الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألم المسيء فمن ألوم؟!
يقول معتذراً لنفسه في هجوه: إن الإساءة إذا وصلت لي من جهة لئيم اضطررت إلى لومه، ولا معنى للوم غيره ولم يسئ إلي.
وقال أيضاً يهجوه ولم ينشدها أحداً:
لو كان ذا الآكل أزوادنا ... ضيفاً لأوسعناه إحسانا
يقول: هذا الذي أكل أزوادنا من غير أن يمدنا بنعمته، لو كان ضيفاً لنا لم نعامله مثل ما عاملنا به، بل كنا نوسعه إحساناً، خلاف ما يفعله بنا. وأراد بأكل الأزواد: أن مقامه عنده يفني نفقاته.
لكنّنا في العين أضيافه ... يوسعنا زوراً وبهتاناً
يقول: ولكنني في الظاهر ضيفه ونازل عليه، وقراي عنده هو أن يوسعني زوراً وبهتانا، ويعدني بالمواعيد الكاذبة.
فليته خلّى لنا طرقنا ... أعانه الله وإيّانا
يقول: ليته إذا لم يحسن إلي خلى سبيلي ولم يحبسني، فقد رضيت من صلته وبره بتخلية سبيلي. ومثله لامرئ القيس:
وقد طوّفت في الآفاق حتّى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وكتب إليه أبو الطيب يستأذنه في المسير إلى الرملة لتنجز مال له بها، وإنما أراد أن يعرف ما عنده في مسيره ولا يكاشفه.
فأجابه: لا والله - أطال الله بقاك - لا نكلفك المسير لتنجز مالك، ولكنا ننفد رسولاً قاصداً يقبضه ويأتيك به في أسرع وقت، ولا نؤخر ذلك إن شاء الله تعالى، فلما قرأ الجواب قال:
أتحلف لا تكلّفني مسيراً ... إلى بلدٍ أحاول فيه مالا
وأنت مكلفي أنبي مكاناً ... وأبعد شقّةً وأشدّ حالا
أنى مكاناً: من نبا بك المنزل، إذا لم يمكن المقام فيه، ويدفعك لارتفاعه. وروى: أنأى مكاناً: أي أبعد مكانا.
يقول: أنت تحلف أنك لا تكلفني تجشم الارتحال لاقتضاء الحال، وأردت التخفيف علي، وليس الأمر كذلك، فإنك كلفتني ما هو أشد وأبعد منه، وأراد حبسه إياه على وجه العمر.
وقيل: أراد ما عزم عليه من الهرب والخروج من مصر، والتقدير: أنبى منه مكانا وأبعد منه شقة وأشد منه حالاً، فحذف منه تخفيفاً، والمحذوف يرجع إلى المسير.
إذا سرنا عن الفسطاط يوماً ... فلقّني الفوارس والرّجالا
يقول: إذا سرت عن الفسطاط، وصار بيني وبينه مسيرة يوم، فأنفذ خلفي الخيل والرجال ويوماً نصب على الظرف، والعامل فيه سرنا أي قطعنا بالسير يوماً.
لتعلم قدر ما فارقت منّي ... وأنّك رمت من ضيمي محالاً
أي لقني الفوارس والرجال؛ لتعلم قدري في شجاعتي، ودفعي عن نفسي، وتعلم أنك طلبت أمراً محالا.
وقيل: إن اللام من لتعلم متعلقة بمحذوف أي رحلت من أعمالك لتعلم أنك لا تقدر على ضيمي.
وأقام أبو الطيب بعد أن أنشده قصيدته البائية سنةً لا يلقي الأسود، إلا أن يركب فيسير معه في الطريق لئلا يوحشه، وقد عمل على مراغمته والرحيل عنه، فأعد الإبل وخفف الرحل.
وقال يهجوه في يوم عرفة من سنة خمسين وثلاث مئة، وذلك قبل مسيره من مصر بيوم واحد:
عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
كأنه قال: هذا عيد ثم خاطب العيد فقال: يا عيد بأية حال عدت؟! هل عدت بما مضى من حالك، أم فيك تجديد لأمر آخر؟ وتجديد مبتدأ، ولأمر خبره، وفيك صفة لأمر. وقيل: تجديد مبتدأ وفيك خبره ولأمر مفعول له.
أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم ... فليت دونك بيداً دونها بيد
البيد: جمع البيداء والهاء في دونها للبيد قبلها.
يقول: بيني وبين أحبابي فلاة بعيدة فما أصنع بك مع البعد عنهم! لأن الإنسان إنما يسر بالعيد إذا كان معه أحبته، فأما مع بعدهم، فليت بيني وبينك فلوات دونها فلوات.
لولا العلا لم تجب بي ما أجوب بها ... وجناء حرفٌ ولا جرداء قيدود(1/407)
لم تجب أي تقطع. والوجناء الناقة العظيمة الوجنات، وقيل: هي العظيمة الخلق، وقيل: الصلبة. والحرف القوية، وهي مشبهة بحرف الجبل، وهي الضامرة وقيل: التي انحرفت من الهزال إلى السمن، وقيل: السريعة الحادة، مشبهة بحرف السيف. والجرداء من صفة الخيل، وهي القصيرة الشعر، وقيل: هي السابقة. والقيدود: هي الطويلة. ووجناء فاعل لم تجب بي وما في موضع نصب والهاء في بها ضمير الوجناء قبل الذكر.
يقول: لولا ما أطلبه من العلا لم تقطع بي فلوات ناقة وجناء ولا فرس جرداء.
ولو ساعده الوزن لقال: لولا العلا لم تجب بي الوجناء ما أجوب بها من الفلاة.
وكان أطيب من سيفي مضاجعةً ... أشباه رونقه الغيد الأماليد
الغيد: جمع أغيد وغيداء وهي الحسنة الجيد الناعمة. والأماليد: جمع الأملود، وهي اللينة الأعطاف الرخص الناعمة. والهاء في رونقه للسيف ومضاجعة نصب على التمييز.
يقول: لولا طلب العلا لكان أطيب من مضاجعتي سيفي مضاجعة النساء الحسان الغيد النواعم، اللواتي يشبهن رونق السيف في الصفاء والطلاوة.
ورونق السيف: ماؤه وجوهره.
لم يترك الدّهر من قلبي ولا كبدي ... شيئاً يتيّمه عينٌ ولا جيد
يتيمه: يتعبده بالحب.
يقول: إن الدهر قد ملأ قلبي من المحن والشدائد، ولم يترك بي موضعاً يشغله العشق، إلى حسن عنق أو عين.
يا ساقييّ أخمرٌ في كئوسكما ... أم في كئوسكما همٌّ وتسهيد؟
يقول: يا ساقيي إن ما في كئوسكما خمر، أو حزن، منع من النوم، فكلما شربت ازددت حزناً وسهراً بخلاف عادة سائر الخمور.
أصخرةٌ أنا؟ ما لي لا تغيّرني ... هذي المدام ولا هذي الأغاريد!
يقول: كأني صخرة لا يؤثر في الشراب والغناء! ولا يحدثان في السرور.
والأغاريد: الأغاني، وأصلها تغريد الطائر، إذا رجع صوته.
إذا أردت كميت اللون صافيةً ... وجدتها، وحبيب النّفس مفقود
يقول: إذا أردت الشراب واللهو، وجدت الخمر، ولكن الحبيب مفقود! وقيل: أراد بالحبيب: الشرف، أي إذا تشاغلت بالخمر فقدت العز والعلا.
ماذا لقيت منن الدّنيا؟ وأعجبها ... أنّي بما أنا باكٍ منه محسود!
يقول: ما أعجب ما ألقاه من هذه الدنيا! وأعجب ما لقيت: أني أحسد على ما أبكي منه! يريد كونه عند الأسود وقربه منه.
أمسيت أروح مثرٍ خازناً ويداً ... أنا الغنيّ وأموالي المواعيد
يقول: أمسيت ويدي في راحة، وكذلك أمسى خازني في راحة، لأنه لا شيء في يدي أحتاج إلى حفظه، ولا في يد خازني. وأنا الغني من المواعيد الكاذبة.
وأراد بالغني: غني النفس، وأراد: إني بغير مال كافور.
وخازنا ويداً نصبا على التمييز.
إنّي نزلت بكذّابين ضيفهم ... عن القرى وعن التّرحال محدود
يقول: إني نزلت على قوم كذابين، ضيفهم ممنوع من القرى الذي يعد للضيوف، وكذلك ممنوع عن الرحيل، فلا يضيفونه ولا يخلون سبيله.
جود الرّجال من الأيدي وجودهم ... من اللّسان فلا كانوا ولا الجود
يقول: عطاء الناس من الأيدي، وهو المال، وعطاؤهم من الألسنة، وهو الوعد، ثم دعا عليهم فقال: لا كانوا ولا كان جودهم.
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم ... إلاّ وفي يده من نتنها عود
يقول: إن الموت لا يباشر أنفسهم بيده عند قبضها، استقذارا لها، بل ينزعها من الجسد بعودٍ في يده توقياً من نتنها.
من كلّ رخو وكاء البطن منفتقٍ ... لا في الرّجال ولا النّسوان معدود
يصف هذه النفوس، وأن كل واحدة منها بهذه الصفة. وقوله: رخو وكاء البطن منفتق أي إنه رخو الشرج لا يحبس ما يخرج منه، وهكذا يكون الخصى. وإنما عنى به كافوراً وحده، وأخبر عنه بلفظ الجمع.
أكلّما اغتال عبد السّوء سيّده ... أو خانه فله في مصر تمهيد
يقول: كافور اغتال سيده أي قتله غيلة وجلس مكانه، وهكذا كل عبد في مصر إذا خان مولاه أو قتله ارتفع شأنه عند الأسود.
صار الخصىّ إمام الآبقين بها ... فالحرّ مستعبدٌ والعبد معبود
الهاء في بها لمصر.
يقول: لما ملك كافور مصر هرب كل عبد من مولاه وانضم إليه، فالحر ذليل كأنه عبد، والعبد مخدوم بها معظم.
نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها ... فقد بشمن وما تفنى العناقيد(1/408)
النواطير: جمع ناطور، وهو حافظ الزرع. ويجوز بالطاء والظاء.
يقول: غفل الملوك عن مصر وأهملوها فتمكن منها العبيد والأرذال، فجمعوا الأموال وأتخموا من كثرتها.
شبه مصر بالبستان. والملوك بالنواطير، والغواة بالثعالب.
العبد ليس لحرٍّ صالحٍ بأخٍ ... لو أنّه في ثياب الحرّ مولود
الهاء في أنه تعود إلى حر وأراد به ابن الإخشيد، لأنه كان يسمى كافورا أخاه. فيقول: إن الحر لا يصلح أن يكون العبد أخاه، لو كان حراً ولد في ثياب الأحرار. يعني: لو كنت ولدت في ثياب حر لما اتخذته أخاك.
وقيل: تعود إلى العبد والمعنى: أن العبد لو ولد في ثياب الحر لما كان يصلح أن يكون أخاً للحر، لأنه ينزع إلى أصله.
لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه ... إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيد
المناكيد: جمع منكاد، ومنكود، وهو قليل الخير.
يقول: العبد نجس نكد لا يستقيم إلا بالضرب.
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمنٍ ... يسيء بي فيه كلبٌ وهو محمود
الها في فيه للزمن.
يقول: ما ظننت أني أبقى إلى زمن يسيء بي في ذلك الزمان كلب، وهو محمود على إساءته لي. وأحتاج إلى مدحه مع ذلك.
ولا توهّمت أنّ النّاس قد فقدوا ... وأنّ مثل أبي البيضاء موجود
لقبه بضد اسمه كما يقال للأعمى: البصير.
يقول: ما ظننت أن الناس يفقدون وكافور يبقى بعدهم مع خسة نفسه ودناءة أصله.
وأنّ ذا الأسود المثقوب مشفره ... تطيعه ذي العضاريط الرّعاديد
العضاريط: الأتباع والخدم واحدها عضروط والرعاديد الجبناء واحدهم رعديد.
يقول: لم أتوهم أن هؤلاء السفلة الأرذال تطيع مثل هذا الأسود، حتى يجوز عليهم أمره، وأنه يحصل له مثل هذا الملك والتسلط عليهم.
جوعان يأكل من زادي ويمسكني ... لكي يقال عظيم القدر مقصود
يقول: قاسى في الجوع قلبه الذي قاساه في عبوديته؛ فلهذا لا تسمح نفسه بالعطاء، وهو مع ذلك يأكل من زادي: أي يطالبني بأن أمدحه بشعري.
وقيل: أراد يحبسني من غير عطاء فأحتاج إلى أن أنفق مالي، وإنما يمسكني عنده ليقال: إنه مقصود يمدحه مثلي من الشعراء.
إنّ امرأً أمةٌ حبلى تدبّره ... لمستضامٌ سخين العين مفئود
المفئود الذي أصيب فؤاده، أي عقله، وجعله أمة حبلى لخصاه وعظم بطنه. يعرض بابن مولاه، ابن الإخشيد.
يقول: من جعل أمره إلى أمة حبلى حتى تدبره، فهو مقهور ذليل سخين العين مصاب الفؤاد، زائل العقل.
ويلمّها خطّةً ويلمّ قابلها ... لمثلها خلق المهريّة القود
ويلمها تعجب، وأصلها: ويل لأمها، فلما كثر استعمال هذه الكلمة خففت وحذفت اللام والهمزة، وجعلت الكلمتان واحدة. وخطةً نصب على التمييز والها في ويلمها للخطة والمهرية إبل منسوبة إلى مهرة، قبيلة من اليمن. والقود: الطوال الأعناق.
يقول: ما أعجب هذه الخطة! وما أعجب من يرضى بها! وإنما خلقت المهرية لتركب أنفةً من هذه الحال.
وعندها لذّ طعم الموت شاربه ... إنّ المنيّة عند الذّلّ قنديد
القنديد: الخمر، وقيل: هي التي فيها الأفاوية، والهاء في عندها للخطة وهي الحالة والقضية، يقال: إن فلاناً يكلفني خطة من الخسف.
يقول: وعند هذه الخطة يستلذ الموت كما يستلذ الخمر المطيبة بالأفاوية. وهذا كقوله:
الموت أحلى عندنا من العسل
لا عار بالموت إذا الموت نزل
من علّم الأسود المخصىّ مكرمةً ... أقومه البيض أم آباؤه الصّيد؟!
يقول: من أين تعلم هذا الخصى الأسود المكارم؟! أتعلمها من قومه البيض الألوان! أو البيض الكرام! أو من آبائه الملوك! يعني: ليس له في الكرم أصل فكيف يهتدى إلى فعل المكارم وإتيان الجميل؟! يلوم نفسه لطلبه الغني عنده مع لؤم أصله.
أم أذنه في يد النّخّاس داميةً ... أم قدره وهو بالفلسين مردود
نصب دامية على الحال من أذنه.
يقول: أعلمته المكرمة إدماء النخاس أذنه عركاً، أم قدره وهو لا يساوي فلسين.
أولى اللّئام كويفيرٌ بمعذرةٍ ... في كلّ لؤمٍ وبعض العذر تفنيد
يقول: إن كافوراً أولى اللئام بأن يعذر في كل لؤم! وقوله: وبعض العذر تفنيد: أي عذري له تفنيد وتوبيخ ونهاية في اللوم، وهجو صريح؛ لأني إنما أعذره وأدع لومه لخسته.(1/409)
وذاك أنّ الفحول البيض عاجزةٌ ... عن الجميل فكيف الخصية السّود؟
الخصية: جمع خصى.
يقول: أنا أعذره؛ لأن الذكور الأحرار تعجز عن الجميل، فكيف. لا يعجز السود الخصيان؟ هذا آخر ما قاله في كافور وإنما أخرنا مدح فاتك لئلا يختلط بغيره، وسنأتي بمدحه بعد هذه القصيدة إن شاء الله تعالى.
خروج المتنبي من مصر إلى الكوفة
وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يمرون حذاء منزله يتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده، ويغدو كل يوم صاحب الخبر إلى بابه، حتى يقف على حاله وهو يعلم ذلك ولا يظهر لهم.
وكان يتسلى بفاتك وبالحديث معه، وتوفي فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل، وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق ولا يعلم به أحداً من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج فدفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عدة لعشر ليال، وتزود لعشرين وكتب إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف الخزاعي.
جزى عرباً أمست ببلبيس ربّها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
وروى: ببلبيس وهو مكان بأعلى الشام دون مصر على بحر القلزم، والمسعاة: واحدة المساعي.
يقول: جزى الله العرب الذين هم أهل هذا المكان بمساعيها جزاء حسناً تقر بذاك عيونهم. وربها فاعل جزى: أي جزاها ربها.
كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلا وجفونها
كراكر أي جماعات، وهي بدل من عرب.
يقول: جفون سيوفهم فقدت نصولها، وجفون عيونهم فقدت نومها؛ لأنهم يسهرون لطلب المعالي، شاهرين سيوفهم للذب عنهم. ولما ذكر سهر عيونهم، ذكر سهر جفون السيوف؛ لتجانس اللفظ.
وخصّ بها عبد العزيز بن يوسفٍ ... فما هو إلا غيثها ومعينها
روى: معينها ومعينها والهاء في بها يرجع إلى الأرض: التي هي بلبيس. وقيل: إلى الدعوة التي يدل عليها قوله: جزى الله والهاء في غيثها ومعينها يرجع إلى العرب: أي خص الله بهذه الدعوة هذا الرجل، فإنه سيد هذه العرب، يقوم جوده لها مقام الغيث.
والمعين: الماء الجاري من العيون.
فتىً زان في عينيّ أقصى قبيله ... وكم سيّدٍ في حلّةٍ لا يزينها
القبيل: الثلاثة فصاعداً من ولد أب واحد، أو من قوم شتى. والقبيلة: لا تقال إلا في ولد أب واحد، والحلة: جماعة بيوت الأعراب والجمع الحلل.
يقول: زين في عيني قبيله وصار قومه مفتخرين به وبشرفه، وكم سيد لا يتجاوز فخره إلى غيره.
وأخفى طريقه فلم يأخذوا له أثراً حتى قال بعض أهل البادية: هبه سار فهل محا أثره؟ وقال بعض المصريين: إنما أقام حتى عمل طريقاً تحت الأرض.
وتبعه البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عوالة الحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي. وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجه الطير إلى الرثنة حتى خرج إلى ماء يعرف بنخل، وتسميه العامة بحرا في التيه بعد أيام، فلقي عنده في الليل ركباً وخيلاً صادرةً عنه، فقاتلوه فأخذهم وتركهم، وسار حتى خرج من قرب النقاب، فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين، فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما، فذكرا له أن أهلها أرسلوهما رائدين، وواعدهما النزول ذلك اليوم بين يديه، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما، وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل. فضرب له ملاعب ابن أبي النجم خيمةً بيضاء وذبح له.
وغدا وسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عفيف المعنى غنماً وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه اثنان من جذيم يدلانه، فصعد في النقب المعروف بتربان، وفيه ماء يعرف بعرند فسار يوماً وبعض ليلة ونزل.
وأصبح فدخل حسمي وحسمي هذه أرض صلبة تودي إلى أثر النخلة من لينها، وتنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء، متناوحة ملس الجوانب إذا نظر الناظر إلى قلة أحدها فتل عنقه - حتى يراها - بشدة. ومنها ما لا يقدر أحد أن يصعده، ولا يكاد القتام يفارقه، ولهذا لما قال النابغة:
وأصبح عالقا بجبال حسمي ... دقاق التّرب مخترم القتام
اختلف الناس في تفسيره، ولم يعلموا ما أراده.(1/410)
يكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين، يعرفها من رآها من حيث رآها لأنها لا مثل لها في الدنيا، ومن جبالها جبل يعرف بإرم عظيم العلو، تزعم أهل البادية أن فيه كروماً وصنوبراً - فوجد بني فزارة بها شاتين، فنزل بقوم من عدي فزارة، فيهم أولاد لاحق بن مخلب، وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها، وكانت بنو فزارة قد أخذت غزياً غزتها فكانت الأسرى في القد بين البيوت، فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة فقال له: هي بموضع كذا وكذا وجدناها أمس وشربنا لبنها وتركناها لنعود فنأخذها. فقال مخلب: على شهادتكم يا معشر العرب، ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه فقال: الغزي ضيوفي فخلصهم من القد بعد اختلاف الناس وخوف الشر، فرد عليهم كل شيء أخذ لهم وقراهم وسيرهم وميرهم فقال مخلب:
فإن تك ناقتي منعت غزيّا ... تجرّ صرارها ترعى الرّحابا
فأيّ فتى أحقّ بذاك منّي ... وأجدر في العشيرة أن يهابا؟
وكانت بينه أي بين أبي الطيب وبين أمير فزارة: حسان بن حكمة مودة وصداقة. فنزل بجار للقوم ليواري عنهم، فلا يعلم ما بينه وبينهم، واسم الجار: وردان بن ربيعة من طيئ، ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيده وأفسدهم عليه، وأجلسهم مع امرأته، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله.
وطابت حسمي لأبي الطيب فأقام بها شهراً، وكتب كافور إلى من حوله من العرب ووعدهم، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفاً مستوراً فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل؛ لأنه كان على قائمه وفعله ذهب من مائة مثقال، وكان السيف لا ثمن له، فجعل الطائي يحتال على العبيد بامراته طمعا في السيف؛ لأن بعضهم أعطاه خبره، فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد ووقف على مكاتبة كافور لكل العرب التي حوله في أمره، أنفذ رسولاً إلى فتىً من بني فزارة، ثم من بني مازن من ولد هرم بن قطبة. بن سيار يقال له: فليتة بن محمد وفيهم يقول بعض البادية:
إذا ما كنت مغترباً فجاور ... بني هرم بن قطبة أو دثارا
إذا جاورت أدنى مازنيٍّ ... فقد ألزمت أقصاها الجوارا
وكان وافقه قبل ذلك على المراسلة فسار إليه. وترك أبو الطيب عبيده نياماً وتقدم إلى الجمال فشد على الإبل وحمل خوفاً أن يحتبس عنه عبيده في الليل، ولم يعلموا حتى نبهم وطرحهم على الإبل وجنب الخيل، وسار تحت الليل والقوم لا يعلمون برحيله، ولا يشكون أنه يريد البياض، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه وتوقف.
وأخذ أحد العبيد في الليل السيف فدفعه إلى عبد آخر ودفع إليه فرسه، وجاء ليأخذ فرس مولاه فانتبه أبو الطيب فقال الغلام: أخذ العبد فرسي أخذ العبد فرسي يغالط بهذا الكلام، وعدا نحو الفرس ليقعد على ظهره، والتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسل العبد السيف فضرب رسنه، فضرب أبو الطيب وجه العبد فقسمه، فخر على رتمة أنفه، وأمر الغلمان فقطعوه، وانتظر الصباح وكان هذا العبد أشد من معه وأفرسهم.
فلما أصبح أتبع العبد علياً الخفاجي وعلواناً المازني، فأخذا أثره، فأدركاه عصراً، وقد قصر الفرس الذي تحته، فسألهما عن مولاه فقالا جاءك من ثم، وأشارا إلى موضع، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر فقالا له: تقدم، فقال: ما أراه، فإن رأيته جئتكما وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف، فامتنع عنهما وعادا في غد، ووافقا عودة فليتة فقال فليتة: لقد كان فيما جرى خبرة، لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدث بعضكم بعضا، فقال أبو الطيب ارتجالا:
فإن تك طيئٌ كانت لئاما ... فألأمها ربيعة أو بنوه
يقول: إن كانت طيئ لئاماً فربيعة الذي هو أبو وردان وبنوه أكثرهم لؤما. وقوله: أوبنوه معناه: وبنوه أو في معنى الواو.
وإن تك طيّئٌ كانت كراما ... فوردانٌ لغيرهم أبوه
يقول: إن كانت طيّئ كراما، فأبو وردان ليس منهم، بل من غيرهم، لأنه لئيم وطيئ كرام. وكانت في البيتين زائدة، والتقدير: إن تك طيئ كراما، وإن تك طيئ لئاما.
مررنا منه في حسمي بعبدٍ ... يمجّ اللّوم منخره وفوه
حسمي: أرض بالسماوة. ويقال: منخر: بفتح الميم وكسرها.
يقول: نزلنا عليه بحسمي، فوجدناه عبداً لئيماً يمج اللؤم أنفه وفوه.(1/411)
أشذّ بعرسه عنّي عبيدي ... فأتلفهم ومالي أتلفوه
أشذ أي فرق. والباء للسبب أي بسبب عرسه.
يقول: فرق عني عبيدي وأفسدهم بامرأته وأتلفهم، وهم أتلفوا مالي.
فإن شقيت بأيديهم جيادي ... لقد شقيت بمنصلى الوجوه
يقول: إن كانت خيلي شقيت بأيدي عبيدي: أي سرقوها، فقد شقيت بسيفي وجوههم.
يصف ما كان من أخذ عبيده فرسه، وقتله للآخر.
وقال يهجو وردان بن ربيعة:
لحا الله ورداناً وأمّاً أتت به ... له كب خنزيرٍ وخرطوم ثعلب
يقول: لعن الله ورداناً وأمه التي أتت به فإنه قبيح الوجه لئيم الكسب، يقود على أهله ويكتسب بالقيادة.
وإنما خص كسب خنزير لأن كسبه لا يتضمن الشجاعة، بخلاف سائر السباع، وقيل: لأنه يفسد الزرع ونحوه مما لا يفسده سائر السباع، فلما كان هذا الرجل أفسد عبيده شبهه به. وقيل: لأنه يأكل العذرة والأقذار، فشبهه به لقبح كسبه من جهة القيادة، وجعل له خرطوم ثعلب: أي أنفه، وشبهه به؛ قباحةً ووحشةً.
فما كان منه الغدر إلاّ دلالةً ... على أنّه فيه من الأمّ بالأب
يقول: غدره بي: دلالة على أن أمه غدرت فيه بأبيه، فجاءت به لغير رشدة. وروى: من الأم والأب: أي أن أبويه كانا غادرين.
إذا كسب الإنسان من هن عرسه ... فيل لؤم إنسانٍ ويا لؤم مكسب!!
الهن: كناية عن الفرج.
يقول: ما ألأم إنساناً يقود على امرأته ويكس بهنها، وما ألأم كسبه ذلك!
أهذا اللّذيّا بنت وردان بنته ... هما الطّالبان الرّزق من شرّ مطلب
يقول: أهذا الذي تنسب إليه بنت وردان! نكد عاهرة، وأظهر التجاهل لوردان. ثم قال: هما يطلبان الرزق من أقبح وجوهه، هو يطلبه بالقيادة، وتلك تطلبه بالفجور والزنا.
لقد كنت أنفي الغدر عن توس طيئٍ ... فلا تعذلاني ربّ صدقٍ مكذّب
التوس والسوس: الأصل.
يقول: كنت أنفي الغدر عن أصل طيئ، فكان الأمر بخلاف ذلك، فلا تعذلاني يا صاحبي، فرب صدق مكذب.
وقال أيضاً يصف العبد الذي قتله وهو في طريقه من مصر إلى العراق
أعددت للغادرين أسيافا ... أجدع منهم بهنّ آنافا
لا يرحم الله أرؤساً لهم ... أطرن عن هامهنّ أقحافا
يقول: استعددت لكل غادر سيوفاً أقطع بها أنوفهم، وأطرن فعل ضمير الأسياف. والأقحاف: جمع قحف، وهو العظم الذي يكتنف الدماغ. وقيل: لا يقال له قحف حتى يبين عن الرأس.
يقول: لا رحم الله رءوساً أطارت أسيافي عن هامهن أقحافها. والضمير في هامهن للأرؤس.
ما ينقم السّيف غير قلّتهم ... وأن تكون المئون آلافا
قوله: وأن تكون المئون آلافا فيه محذوف. أي غير أن تكون. وقيل: ألا يكون فحذف لا.
يقول: لا ينكر السيف منهم إلا قلتهم؛ لأنه يتمنى كثرة الغادرين، وأن يكون بدل كل مئة ألفاً، فهو لا ينكر إلا قلتهم، وألا يكون المئون ألوفاً.
يا شرّ لحمٍ فجعته بدمٍ ... وزار للخامعات أجوافا
روى: زار وزاد وفاعله قيل: اللحم، وقيل: الدم. والخامعات الضباع.
يقول مخاطباً للحم عبده الذي قتله: أنت شر لحم فجعته بإراقة دمه، فشربت الضباع من دمه، وأكلت الضباع هذا اللحم، فصار في أجوافها، فكأنه زارها. وقوله: فجعته بدم أي فرقت بينه وبين دمه لما قتلته.
قد كنت أغنيت عن سؤالك بي ... من زجر الطّير لي ومن عافا
عفت الطير وزجرتها بمعنى تفاءلت بها ومن نصب بالمصدر الذي هو سؤالك.
يقول: كنت غنياً عن أن تسأل الكهان، والزاجرين للطير عن حالي في تعرضك لي، لأني كنت أعلم بحالي منهم.
وعدت ذا النّصل من تعرّضه ... وخفت لمّا اعترضت إخلافا
يقول: وعدت سيفي هذا أن أقتل به كل من تعرض له، فلما اعترضت له حين أردت أخذ فرسي، وخفت أن تفوته وأخلف سيفي ما وعدته، فقتلتك.
لا يذكر الخير إن ذكرت ولا ... تتبعك المقلتان توكافا
يقول: إذا ذكرت لا تذكر بخير، ولا ينسب الخير إليك ولا تبكيك عين تفقدك.
أخذه من قول الله تعالى: " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهمُ السَّمَاءُ وَاْلأَرْضُ ".
إذا امرؤٌ راعني بغدرته ... أوردته الغاية الّتي خافا
يقول: من خوفني بغدره قتلته، وأوردته الغاية التي يخافها وهي الموت.(1/412)
وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل، ولم يجد مع فليتة خبراً عن العرب التي طلبها فقال له: احرف بنا على بركة الله تعالى إلى دومة الجندل.
وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمي قد علمت أنه يريد البياض، فسار حتى ورد البويرة بعد ثلاث ليال، وأدركتهم لصوص فأخذت آثارهم وهم عليها، فلم يطمعوا فيهم، وسار معه منهم حمصي بن القلاب، فلما توسط البسيطة رأى بعض العبيد ثوراً يلوح فقال: هذه منارة الجامع. ونظر آخر نعامة في جانبه فقال: وهذه نخلة. فضحك أبو الطيب وضحكت البادية فقال يذكر ضلال غلمانه في حذر الأشباح التي لاحت لهم في البادية:
بسيطة مهلاً سقيت القطارا ... تركت عيون عبيدي حيارى
بسيطة: أرض بقرب الكوفة.
يقول: سقاك المطر يا بسيطة مهلاً، فإنك حيرت عيون عبيدي. فدعا لها بالسقيا. ولم يدع عليها لكي تكف عن التحير، فلو دعا عليها لزادت في التحيير، فتلطف لها بالدعاء بالسقيا.
فظنّوا النّعام عليك النّخيل ... وظنّوا الصّوار عليك المنارا
الصوار القطيع من البقر الوحشي.
يقول: حيرت عيونهم حتى ظنوا أن النعام نخيل، وأن الثور منار الجامع.
فأمسك صحبي بأكوارهم ... وقد قصد الضّحك فيهم وجارا
يقول: لما سمع صحابي ذلك ضحكوا حتى خافوا أن يسقطوا عن إبلهم، فتعلقوا برحالهم، وفيهم من ضحك ضحكاً معتدلاً، وفيهم من جاوز الحد في الضحك. وروى: قسط أي عدل الضحك في بعضهم وجار في بعضهم: وروى قصد وهو في معناه.
وورد العقدة بعد ليال، وسقي بالجراوي، واجتاز ببني جعفر بن كلاب وهو بالبرية والأضارع فبات فيهم، وسار إلى أعكش حتى نزل الرهيمة. ودخل الكوفة فقال يصف منازل طريقه ويفخر بمسيره في البادية ويهجو كافوراً في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة:
ألا كلّ ماشية الخيزلي ... فدى كلّ ماشية الهيدبي
الخيزلي والخوزلي: مشية النساء، وهي مشية فيها تثنى وتفكك، والهيدبي: مشية الإبل فيها سرعة.
يقول: جعل الله كل امرأة تتثنى في مشيتها فداءً لكل ناقة تسرع في سيرها.
والخيزلي والهيدبي نصب على صفة المصدر المحذوف: أي كل ماشية تمشي مشية الخيزلي والهيدبي.
وكلّ نجاةٍ بجاويّةٍ ... خنوفٍ وما بي حسن المشي
النجاة: السريعة. والبجاوية: منسوبة إلى بجاوة، وهي قبيلة من البربر، يطاردون عليها في الحرب، والخنوف: التي تميل يدها في سيرها.
يقول: جعل الله كل امرأة تمشي الخيزلي، فدى كل ناقة سريعة. ثم بين أنه لم يفدهن بالإبل لأن مشية الإبل أحسن من مشية النساء، ولكن لأجل النفع والبعد من الضيم. والمشي: جمع مشية.
ولكنّهنّ حبال الحياة ... وكيد العداة وميط الأذى
يقول: إنما فديتهن بها؛ لأن الإبل حبال الحياة: أي أسباب الحياة، ينجو بها الإنسان من المهالك، وبها يكيد الإنسان عدوه، ويدفع الأذى بها عن نفسه.
ضربت بها التّيه ضرب القما ... ر إمّا لهذا وإمّا لذا
التيه: برية على جانب مصر، وهي التي تاه فيها قوم موسى عليه السلام يقول: ضربه بها إما للنجاة، وإما للهلاك، كما يفعل المقامر.
إذا فزعت قدّمتها الجياد ... وبيض السّيوف وسمر القنا
فمرّت بنخلٍ وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
نخل: ماء معروف. وركبها: يعني نفسه وغلمانه. أي مرت هذه الإبل على هذا الماء، وأصحابها يغنون عن هذا الماء، لما لهم من العدة، وعن العالمين، لقوتهم وشجاعتهم.
وأمست تخيّرنا بالنّقا ... ب وادي المياه ووادي القرى
النقاب: موضع، يفترق منه طريقان: إلى وادي المياه، وإلى وادي القرى.
يقول: لما وصلنا إلى هذا المكان خيرتنا الإبل فقالت: خذ أي الطريقين شئت. وروى بالباء: أي خبرتنا. وقالت: هذا طريق وادي المياه، وهذا طريق وادي القرى.
وقلنا لها: أين أرض العراق؟ ... فقالت ونحن بتربان: ها
تربان: موضع وها حرف إشارة. والمراد: ها هي هذه، فحذف الجملة وترك الحرف الذي هو ها.
يقول: لما وصلنا إلى تربان سألناها عن أرض العراق فقالت عندما كنا بتربان: ها هي هذه بين أيديكم. يعني العراق. فعلى هذا يكون الواو للحال.
وقيل: معناه أنها قالت: نحن قد حصلنا بتربان، وهي قريبة من العراق فيكون ذلك من قول الإبل.(1/413)
وهبّت بحسمي هبوب الدّبو ... ر مستقبلاتٍ مهبّ الصّبا
هبت: أي أسرعت. والدبور: من قبل الغرب، ويستقبل المشرق، وهو مهب الصبا. وقيل: الصبا محلها من ناحية قبلة العراق، والدبور يقابلها.
يقول: إنها سارت بنا سيراً سريعاً كأنها الدبور استقبلت مهب الصبا.
روامي الكفاف وكبد الوهاد ... وجار البويرة وادي الغضى
روامي أي قواصد، موضعه نصب على الحال. والكفاف، وكبد الوهاد، وجار البويرة كلها مواضع. ووادي الغضى بدل من وجار البويرة.
يقول: إن هذه الإبل البجاوية قصدت هذه المواضع، وعبرت عليها.
وجابت بسيطة جوب الرّدا ... ء بين النّعام وبين المها
جابت: أي قطعت. وبسيطة: مفازة بقرب الكوفة.
يقول: قطعت الإبل بسيطة وشقتها كما يشق الرداء، ومسيرها بين النعام وبقر الوحش.
إلى عقدة الجوف حتّى شفت ... بماء الجراويّ بعض الصّدى
عقدة الجوف: موضع معروف، والجراوي: منهل معروف.
يعني: أنها سارت من بسيطة إلى عقدة الجوف، فشربت من الجراوي حتى شفت بعض عطشها، ولم تستوف الشرب عجلةً أو خوفاً، أو حرصاً على السير، أو خشية أن يثقلها كثرة الشرب.
ولاح لها صورٌ والصّباح ... ولاح الشّغور لها والضّحى
صور، والشغور: اسما موضعين بقرب العراق.
يقول: سارت طول ليلها فظهر لها صور عند الصبح وظهر لها الشغور مع وقت الضحا.
ومسّى الجميعيّ دئداؤها ... وغادى الأضارع ثم الدّنا
هذه أسماء المواضع، والدئداء: سير سريع.
يعني: أنها وصلت إلى الجميعي مساءً فأسرعت فيه السير، وجاءت إلى الأضارع. والدنا: وقت الغداة.
فيا لك ليلاً على أعكشٍ ... أحمّ البلاد خفيّ الصّوى
أعكش: مكان معروف. وأحم أسود. والصوى: أعلام وحجارة تنصب على الطريق، الواحدة: صوة. وقوله: فيا لك تعجب. وليلاً نصب على التمييز.
يقول: ما أعجب ليلاً في أعكش! وما أشد ظلامه وسواد البلاد! حتى خفيت الأعلام.
وردنا الرّهمية في جوزه ... وباقيه أكثر ممّا مضى
الرهيمة: قرية بقرب الكوفة. وعنى بالجوز ها هنا صدر الليل.
يقول: وردنا الرهيمة وما بقي من الليل أكثر مما مضى.
فلمّا أنخنا ركزنا الرّما ... ح فوق مكارمنا والعلا
يقول: لما نزلنا الكوفة أنخنا إبلنا وركزنا رماحنا فوق العز والمكارم.
يعني هذا المسير فخر لنا عالي المحل؛ لأنا أرغمنا به أنف كافور مع ملكه.
وبتنا نقبّل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
يقول: لما وصلنا إلى وطننا قبلنا أسيافنا شكراً لها، ومسحنا عنها دماء الأعداء الذين قتلناهم بها.
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم. أنّى الفتى
يقول: فعلنا هذا؛ ليعلم أهل مصر، وأهل العراق، وأهل العواصم: أي سيف الدولة. أنى الفتى الكامل في جميع الخصال.
وأنّى وفيت وأنّى أبيت ... وأنّى عتوت على من عتا
يقول: فعلت هذا؛ ليعلم من في مصر أني وفيت بما وعدت من سيرى حيث قلت:
وإن بليت بودٍّ مثل ودّكم
وأنى أبيت ضيم كافور، وأنى قهرت كل طاغ.
وما كلّ من قال قولا وفى ... ولا كلّ من سيم خسفاً أبى
سيم: أي كلف. والخسف: الذل.
يقول: ما كل أحد إذا قال قولاً، صدق قوله كمال فعله، وليس كل من حمل على ضيم أباه ودفعه عن نفسه.
ومن يك قلبٌ كقلبي له ... يشقّ إلى العزّ قلب التّوى
التوى: الهلاك، أي من كان له مثل قلبي، دخل قلب الهلاك، حتى يصل إلى العز والعلا.
ولا بدّ للقلب من آلةٍ ... ورأيٍ يصدّع صمّ الصّفا
يقول: إن الإنسان لا يكفيه جرأة قلبه، حتى يكون له رأي صائب، وآلة يتوصل بها إلى مرامه، وإلا أدته شجاعته إلى هلاكه.
وكلّ طريقٍ أتاه الفتى ... على قدر الرّجل فيه الخطا
يقول: كل فعل يفعله الرجل على قدر شجاعته وهدايته، وعلى حسب رأيه.
ولما جعل الفعل طريقاً استعار فيه ذكر الرجل والخطا.
ونام الخويدم عن ليلنا ... وقد نام قبل عمىً لا كرى
عنى بالخويدم: كافورا.
يقول: إنه قد نام عن الليل الذي سرنا فيه، وكان في حال يقظته أيضاً نائماً؛ لعمى قلبه لا من النوم الحقيقي.
وكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والعمى(1/414)
يقول: قد كان كافور على قرب ما بيننا في المسافة بجسمه، بعيداً منا؛ لجهله وعمى قلبه.
لقد كنت أحسب قبل الخصىّ ... أنّ الرّءوس مقرّ النّهى
النهى: العقول، واحدها نهية.
يقول: كنت قبل أن أرى كافورا أظن أن العقل يحل الرءوس، فكان الأمر لما رأيته بخلاف ذلك.
فلمّا نظرت إلى عقله ... رأيت النّهى كلّها في الخصى
أي ظننت أن العقل يحل الرأس، فلما رأيت كافوراً وقلة عقله، صح عندي أن محل العقل إنما هو الخصى؛ لأنه لما قطعت خصيته زال عقله.
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنّه ضحكٌ كالبكا
يقول: ماذا في مصر من أحوال عجيبة مضحكة! ولكنه ليس يضحك منها ضحك فرح، ولكنه يضحك تعجباً، وهذا الضحك كالبكاء.
بها نبطيٌّ من أهل السّواد ... يدرّس أنساب أهل الفلا
يقول: من جملة ما فيها من المضحكات نبطي بها، من أهل السواد، يقرأ عليه أنساب العرب، وهو يدرك هذه الأنساب، وهذا مما يضحك منه.
وكان اسم الرجل ابن خنزابة وكان أديباً بمصر.
وأسود مشفره نصفه ... يقال له: أنت بدر الدّجى
ويقول: ومنها أسود قبيح الوجه، تدلت شفته كأنها مقدار نصفه، مع ذلك يقال له: أنت بدر الدجى! وعنى به كافوراً.
وشعرٍ مدحت به الكركدن ... ن بين القريض وبين الرّقى
الكركدن: كلمة تقال لكل قبيح، وقيل: هو دابة بالهند.
يقول: ومنها شعري الذي مدحت به كافورا، كان في ظاهره شعراً، وفي باطنه رقيةً أرقيه بها من جنونه.
فما كان ذلك مدحاً له ... ولكنّه كان هجو الورى
يقول: ما قلت فيه من المدح ليس بمدح له، وإنما كان هجو للناس؛ لأنهم رغبوا عن الحمد وجميل الذكر، فأحوجوني إلى مدحه. فمدحي له يدل على سقوط الخلق وخستهم.
وقد ضلّ قومٌ بأصنامهم ... فأمّا بزقّ رياحٍ فلا
يقول: قد ضل قوم بالأصنام فعظموها لحسنها، وما سمعت أن أحداً عبد زقاً منفوخاً! فلولا جهل أهل مصر، لما رضوا بحكمه.
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
يقول: إذا لم يعلم الإنسان قدر نفسه، فإن الناس يعلمون من حاله ما خفي عليه.
يعني: أن كافور إن كان نسي ما كان فيه من الخسة ومهانة القدر، فالناس يعلمون ذلك من حاله.
وقال أيضاً يهجو كافوراً
وأسود أمّا القلب منه فضيّقٌ ... نخيبٌ وأمّا بطنه فرحيب
النخيب: الفارغ الخالي، ويقال للجبان: نخيب. ومنخوب الفؤاد: يعنون أن صدره فارغ لا قلب فيه. والرحيب: الواسع.
يقول: هذا أسود ضيق القلب بالعطاء، جبان ليس فيه فؤاد، وبطنه واسع عظيم، أو أنه شره ليس له همة إلا جوفه.
يموت به غيظاً على الدّهر أهله ... كما مات غيظاً فاتكٌ وشبيب
الهاء في به للأسود، وفي أهله للدهر، وغيظاً مفعول له.
يقول: إن الناس إذا رأوا حالة كافور ماتوا غيظاً على الدهر - حيث ألقى الدهر إليه أزمة الملك - كما مات شبيب العقيلي وفاتك المجنون غيظاً على الدهر.
أعدت على مخصاه ثمّ تركته ... يتبّع منّى الشّمس وهي تغيب
مخصاه: موضع خصيته.
يقول: أخزيته بهجائي له، فكأني خصيته ثانية، ثم رحلت عنه وتركته ينظر إلى الشمس وقت غروبها. أي لا يصل إلي، كما لا يصل إلى الشمس إذا غابت.
ومثله للمجنون:
فأصبحت من ليلي الغداة كناظرٍ ... مع الصّبح في أعقاب نجمٍ مغرّب
إذا ما عدمت الأصل والعقل والنّدى ... فما لحياةٍ في جنابك طيب
يعني: إذا عدمت جميع خصال الخير فلا يطيب لأحد الحياة في قربك.
وأنشده صديق له بمصر من كتاب الخيل لأبي عبيدة وهو نشوان:
تلوم عليّ أن أمنح الورد لقحةً ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
فأجابه أبو الطيب:
بلى تستوي والورد، والورد دونها ... إذا ما جرى فيك الرّحيق المشعشع
الورد اسم فرس كان لقائل البيت. فلامته امرأته على قيامه بتعهده وإيثاره على عياله، فرد عليها بأبيات منها هذا البيت، وبين أن هذا الفرس أنفع في حال الشدة منها.
فقال أبو الطيب: إن هذا غير مستمر، بل هي مثل الورد، بل الورد دونها في حال اللذة والشرب. والرحيق: الخمر، المشعشع: الممزوج.
هما مركبا أمنٍ وخوفٍ فصلهما ... لكلّ جوادٍ من مرادك موضع(1/415)
يقول: كل واحد منهما لحال، فالمرأة لحال الأمن، والفرس لحال الخوف، فكما يكرم أحدهما ليومه فكذلك الآخر.
خبره مع فاتك
كان أبو شجاع فاتك الكبير المعروف بالمجنون رومياً، أخذ صغيراً، وأخ وأخت له من بلاد الروم، قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلم الخط بفلسطين، وهو ممن أخذه ابن طغج من سيده وهو بالرملة كرهاً بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، فكان معهم حراً في عدة المماليك، كريم النفس حر الطبع، بعيد الهمة.
وكان في أيام كافور مقيماً بالفيوم من أعمال مصر وهو بلد كثير الأمراض، لا يصح به جسم، وإنما أقام به أنفةً من الأسود وحياءً من الناس أن يركب معه، وكان الأسود يخافه، ويكرمه، فزعاً، وفي نفسه ما في نفسه فاستحكمت العلة في بدن فاتك، وأحوجته إلى دخول مصر فدخلها، ولم يمكن أبا الطيب أن يعوده، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا في الصحراء، فحمل إلى منزله للوقت هدية قيمتها ألف دينار ذهباً، ثم أتبعها هدايا بعدها.
فقال أبو الطيب يمدحه في جمادى الآخر. سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة.
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال
يقول لنفسه: ليس عندك خيل ولا غيرها من الأموال تهديها إلى فاتك، مكافأة على إحسانه، فأنت قادر على مدحه، فساعده بالقول الجميل، إن لم يساعدك الحال على الأجر الجزيل. وهذا كقول الحطيئة.
إلاّ يكن مالٌ يثاب فإنّه ... سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل
ومثله للمهلبي:
إن يعجز الدّهر كفّى عن جزائكم ... فإنّني بالهوى والشّكر مجتهد
وأجز الأمير الّذي نعماه فاجئةٌ ... بغير قولٍ، ونعمى النّاس أقوال
فاجئة: اسم فاعل من الفجاءة.
يقول: كافئ الأمير الذي يفاجئ بإنعامه من غير وعد، وغيره يقول ولا يفعل: يعرض بكافور.
فرّبما جزت الإحسان موليه ... خريدةٌ من عذارى الحيّ مكسال
الخريدة: الجارية الناعمة، وقيل الكثيرة الحياء. والمكسال من النساء: الفاترة القليلة التصرف.
يقول: إذا كانت النساء مع ضعفهن، وعادتهن كفران النعم، ربما جازين من أحسن إليهن، فأنت أقدر على شكر من أحسن إليك.
وخص من النساء الخريدة المكسال؛ لضعفها وفتورها.
وإن تكن محكمات الشّكل تمنعني ... ظهور جريٍ فلي فيهنّ تصهال
الشكل: جمع الشكال.
يقول: إن كان ضيق حالي يمنعني من مكافأتك فعلا، فإني أكافئك قولاً يظهر ما في نفسي، كصهيل الجواد يظهر ما في نفسه من الشوق إلى الجري. شبه نفسه بالجواد المشكول، إذا لم يقدر على الجري صهل شوقاً إليه.
وقيل: معناه إذا لم أقدر على المكاشفة بنصرتك على كافور، فإني أمدحك، وإني في ذلك كالجواد المشكول عن الجري فإنه يصهل شوقاً إليه.
وما شكرت لأنّ المال فرّحني ... سيّان عندي إكثارٌ وإقلال
الإكثار: كثرة المال. والإقلال: قلته، وأراد الغنى والفقر.
يقول: لم أشكر؛ لفرحي بالمال الذي أسديته إلي، وسواء عندي الغنى والفقر.
لكن رأيت قبيحاً أن يجاد لنا ... وأنّنا بقضاء الحقّ بخّال
بخال: جمع باخل.
يقول: إنما شكرت لك لأني رأيت بخلي بقضاء الحق مع جودك علي قبيحاً.
قال ابن جني: لما وصلت في القراءة إلى هذا الموضع، قال المتنبي: هذا رجل حمل إلي ألف دينار في وقت واحد.
قال: وما رأيته أشكر لأحد منه لفاتك، وكان يترحم عليه كثيراً.
فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيثٌ بغير سباخ الأرض هطّال
يقول: نمت صنيعته عندي، وزادت كالأرض الطيبة إذا صابها المطر الكثير ولم يذهب باطلا، كالمطر في الأرض السبخة.
غيثٌ يبيّن للنّظّار موقعه ... أنّ الغيوث بما تأتيه جهّال
موقعه: فاعل يبين، ويجوز فيه النصب، فيكون فاعله ضمير الغيث.
يقول: إن فاتكاً غيث يولي بإنعامه من هو أهله، فإذا نظر الناس علموا أن الغيوث جاهلة بما تفعله: من سقى المكان السبخ والطيب. فموقع نعمه يبين هذا المعنى.
لا يدرك المجد إلا سيّدٌ فطنٌ ... لما يشقّ على السّادات فعّال
يقول: لا يصل إلى المجد إلا كل فطن يراعي أحوال القضاء، ويتحمل المشاق التي تشق على سائر السادات.
لا وارثٌ جهلت يمناه ما وهبت ... ولا كسوبٌ بغير السّيف سآل(1/416)
يقول: لم يرث هذا المال الذي وهبه من آبائه فيجهل قدره، حيث لم يلحقه عناء بجمعه، بل كبه بسيفه وقهر عليه أعداءه، ولم يجمعه بالسؤال، حتى لا يعرف خطره.
ولا في قوله: لا وراث بمعنى غير: أي غير وارث. وقيل: إنها اطفة كقولك: جاءني زيد لا عمرو: أي لا يدرك المجد إلا سيد فطن لا وراث جاهل بقدر ما يهب.
قال الزّمان له قولاً فأفهمه ... إنّ الزّمان على الإمساك عذّال
يعني: أن الزمان أيقظه بتصاريفه، حتى كأنه عذله على الإمساك، وأمره بأن يهب كيما يكسب المجد والشرف، فكأنه قال هذا القول:
تدري القناة إذا هتزّت براحته ... أنّ الشّقيّ بها خيلٌ وأبطال
يقول: إذا تحركت القناة في يده، علمت أنه يقتل بها الأبطال، والخيل. وهذه الأبيات من تمام قوله: لا يدرك المجد إلا سيد فطن.
كفاتكٍ. ودخول الكاف منقصةٌ ... كالشّمس قلت، وما للشّمس أمثال
يعني. لا يبلغ المجد إلا سيد كفاتك، ثم استدرك وقال: ودخول الكاف منقصة أي إذا قلت: كفاتك جعلت له نظيراً، ولا نظير له، ثم اعتذر فقال: إنما قلت: كفاتك مع علمي أنه لا نظير له، كما أشبه الأشياء بالشمس، وأعلم أنه لا مثل لها، ولم يوجب ذلك نقصا فيها كذلك هذا. ومثله لآخر:
لقد جلّ في أوصافه وخطابه ... عن الكاف إلا أن يقال كريم
القائد الأسد غذّتها براثنه ... بمثلها من عداه وهي أشبال
يقول: هو يقود غلماناً رباهم بأسلاب أعدائه، حتى صاروا كالأسود. وقوله: بمثلها أي غذتهم براثنه: أي سيوفه، بأسلاب أسود أمثالهم من أعدائهم، وهذه الأسود أشباله.
جعله أسداً، وغلمانه حوله كالأشبال.
القاتل السّيف في جسم القتيل به ... وللسّيوف كما للنّاس آجال
يقول: يضرب الفارس بسيفه فيقتله، وبكسر السيف في جسمه. وقوله: والسيوف كما للناس آجال أخده من قوله صلى الله عليه وسلم: لا تضربوا إماءكم بكسر إنائكم، فإن لها آجالاً كآجالكم والمصراع الأول مثل قوله:
قتلت نفوس العدي بالحدي ... د حتّى قتلت بهنّ الحديدا
تغير عنه على الغارات هيبته ... وما له بأقاصي الأرض أهمال
الأهمال: جمع الهمل والهمال، والهمل: جمع الهامل، وهو المال المهمل في المرعى بلا راع.
يقول: إن هيبته تغير عن الممدوح غارات اللصوص: أي تبعدهم عن التعرض لماله، فماله يرعى في المرعى مهمل بلا راع، فلا يتعرض إليه أحد من الهيبة.
له من الوحش ما اختارت أسنّته: ... عيرٌ وهيقٌ وخنساءٌ وذيّال
العير: حمار الوحش والهيق: ذكر النعام والأنثى هيقة، والخنساء: البقرة الوحشية، والذيال: الثور الوحشي.
يقول: إنه يقدر على اصطياد كل ما يختاره.
تمسي الضّيوف مشهّاةً بعقوته ... كأنّ أوقاتها في الطّيب آصال
عقوته سهله وما قرب منه. والمشهاة: من قولهم: شهيته: أي جعلته يشتهي، أو أنلته ما يشتهي. والآصال: جمع أصل، وأصل: جمع أصيل، وهو بعد العصر؛ وذلك الوقت يطيب خاصة في الصيف.
يقول: إنه يكرم أضيافه، ويمكنهم من كل ما يشتهونه، فأوقاتهم كلها عنده طيبة كالآصال.
لو اشتهت لحم قاريها لبادرها ... خراذلٌ منه في الشّيزى وأوصال
القاري: المضيف، وهو الممدوح، ولحم خراذل بالذال والدال: مقطع والواحد خرذلة. والشيزى: جفان سود يقال إنها من الشيز.
قال الأصمعي: الشيز لا يعمل منه الجفان، وإنما تعمل من الجون فتسود من الدسم فتشبه الشيز، والهاء في قاريها وبادرها للأضياف، وفي منه للحم ويجوز أن يكون للممدوح.
يقول: لو اشتهت الأضياف لحمه لنحر لهم نفسه، وحملت قطعاً إلى الضيوف في الجفان، وحملت إليهم أوصاله مقطعةً.
لا يعرف الّزء في مالٍ ولا ولدٍ ... إلا إذا حفز الضّيفان ترحال
الحفز: التحريك والإزعاج.
يقول: لا يغتم لشيء أصابه في ماله وولده، وإنما يحزن عندما يتأهب الضيف للرحيل.
يروى صدى الأرض من فضلات ما شربوا ... محض اللّقاح، وصافي اللّون سلسال
الصدى: العطش، وأراد ها هنا يبس الأرض. والمحض: اللبن الخالص. واللقاح: جمع لقحة، وهي الناقة التي تحلب. والسلسال: الشراب الصافي السهل المساغ، وأراد به الخمر.
يقول: إذا رحل أضيافه أراق ما يبقى من شرابهم من اللبن والخمر، ولم يدخره لغيرهم، لأنه يتلقى كل ضيف بقرىً جديد.(1/417)
تقرى صوارمه السّاعات عبط دمٍ ... كأنّما السّاع نزّالٌ وقفّال
العبط والعبيط: الدم الطري واللحم. والساع: جمع ساعة.
يقول: يريق كل ساعة دماً طرياً من أعدائه، ويذبح وينحر للأضياف، فكأنه يقري الساعات بما يريقه من الدماء، وكأنها قوم ينزلون، وقوم يقفلون عنه.
تجري النّفوس حواليه مخلّطةً ... منها عداةٌ وأغنامٌ وآبال
النفوس: الدماء وقد روى ذلك أيضاً.
يقول: إنه يقتل الأعداء وينحر الآبال ويذبح الأغنام، فتختلط الدماء بعضها ببعض.
والتقدير: منها دماء أعداء ومنها دماء أغنام. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
لا يحرم البعد أهل البعد نائله ... وغير عاجزةٍ عنه الأطيفال
الأطيفال: تصغير أطفال.
يقول: يصل نواله إلى القريب والبعيد، والقوي والضعيف، فلا يحرم البعيد نائله لأجل بعده، والصغير لا يعجز منه لصغر سنه.
أمضى الفريقين في أقرانه ظبةً ... والبيض هاديةٌ والسّمر ضلاّل
يقول: إذا التقى الجيشان، وسقطت الرماح السمر، وآل الأمر إلى السيوف البيض، فهو أمضى الفريقين سيفا في ذلك الوقت.
يريك مخبره أضعاف منظره ... بين الرّجال وفيها الماء والآل
الهاء في فيها للرجال.
يقول: إذا جربته في الحرب رأيت منه أضعاف منظره. وفي الرجال من له حقيقة كالماء، وفيهم من لا حقيقه له كالسراب.
وقد يلقّبه المجنون حاسده ... إذا اختلطن وبعض العقل عقّال
العقال: داء يأخذ الدابة في الرجلين، فيعقلهما عن التصرف. ويجوز تخفيفه. وقوله: إذا اختلطن قيل: أراد به الصفوف فأضمر، وقيل: أراد به خيله وخيل عدوه.
كان فاتك يلقب بالمجنون، فصرح بذكر لقبه ثم تخلص منه أحسن تخلص، حتى فضل الجنون على العقل.
فيقول: إنما جنونه عند اختلاط الصفوف، والعقل في ذلك الوقت عقال على صاحبه، فجنونه: شجاعة وإقدام، لا كما يزعمه الحاسد. فحسن لقبه!
يرمي بها الجيش لا بدٌّ له ولها ... من شقّه ولو أنّ الجيش أجبال
بها أي بالخيل، والهاء في له للمدوح.
يقول: يرمي بخيله جيش العدو، فلا بد له ولخيله من شق الجيش، وإن كان كالجبل شدة وثباتا.
إذا العدى نشبت فيهم مخالبه ... لم يجتمع لهم حلمٌ ورئبال
نشبت: ثبتت. والرئبال: الأسد.
يقول: هو في يوم الحرب أسد، فإذا نشبت مخالب الأسد في فريسة، فلم يكن حينئذ حلم، إذ الحلم لا يوجد مع الأسد.
وهذا تأكيد لتحسين لقبه، وتفضيله على العقل.
يروعهم منه دهرٌ صرفه أبداً ... مجاهرٌ وصروف الدّهر تغتال
يقول: هو على أعدائه كالدهر، يروعهم أبداً بحروبه وغاراته مجاهرة، بخلاف صروف الدهر فإنها تغتالهم ولا تجاهرهم. فضلة على الدهر.
أناله الشّرف الأعلى تقدّمه ... فما الّذي بتوقّي ما أتى نالوا
ما في قوله: فما الذي قيل: للاستفهام على جهة الإنكار، الذي في موضع نصب بنالوا والتوقي: مصدر توقي، وهو مضاف إلى ما الثانية وما في موضع الجر، وتقديره: فأي شيء نالوا بتوقيهم ما أتاه هو؟ يقول: أوصه إلى نيل الشرف الأعلى جرأته، فما الذي نال أعداؤه لما توقوا ما أتاه، وأشفقوا على أنفسهم؟ وقيل: ما الأولى نفي والثانية بمعنى الذي. ويتوقى فعل مضارع انتصب به ما والذي في موضع الذين.
والمعنى: أن تقدمه أناله الشرف الأعلى، فليس الذين يتوقون الشرف الذي أتاه هو، نالوا ما ناله من الشرف. أي إنهم لما جبنوا عن مباشرة الشدائد لم ينالوا ما ناله.
إذا الملوك تحلّت كان حليته ... مهنّدٌ وأصمّ الكعب عسّال
اسم كان مضمر، والجملة في موضع النصب على أنها خبر كان: أي كان هو، أو كان الأمر والشأن حليته مهند، ولو نصبت حليته على الخبر وجعلت مهنداً اسمها كان قبيحاً، لأن الخبر يكون معرفة والاسم نكرة، ومثل هذا قد جاء في الشعر.
يقول إذا تزين الملوك بالحلل وأنواع الحلي فهو يتزين بسيفه ورمحه.
والعسال: الرمح المضطرب.
أبو شجاعٍ أبو الشّجعان قاطبةً ... هولٌ نمته من الهيجاء أهوال
نمته ها هنا أي ولدته، وأصله من الانتماء، وهو الانتساب.
يقول: من حقه أن يكنى أبا الشجعان قاطبة، لا أبا شجاع واحد. وهو هول نمته أهوال من الهيجاء: أي ممارة الخطوب أعلت قدره وصارت نسباً له ينتمي إليه.(1/418)
أبو شجاع: مبتدأ. وأبو الشجعان: بدل منه. وقاطبةً: نصب على المصدر أو الحال. وهول خبر المبتدأ. وأهوال رفع بنمته ويجوز أن يكون أبو شجاع مبتدأ وأبو الشجعان خبره. وهول خبر ابتداء محذوف: أي هو هول، أو بدل من أبي الشجعان.
تملّك الحمد حتّى ما لمفتخر ... في الحمد حاءٌ ولا ميمٌ ولا دال
يقول: قد استولى على الحمد كله واستحقه بفضله، حتى لم يبق لأحد شيء من الحمد وأجزائه.
عليه منه سرابيلٌ مضاعفةٌ ... وقد كفاه من الماذيّ سربال
يقول: عليه من الحمد. سرابيل ظاهرة مضاعفة، وفي الحرب يكتفي بدرع واحد. يعني لا يرضى من الحمد إلا بالسرابيل المضاعفة ويكفيه في الحرب سربال واحد.
وقيل: عليه لباس الحمد المضاعف، وقد كفاه الدرع وإن لم يكن الحمد، فاجتمعا له جميعا، حتى يكون ذلك أشرف له.
وكيف أستر ما أوليت من حسنٍ ... وقد غمرت نوالاً أيّها النّال
رجل نال: أي كثير النوال.
يقول: كيف أستر أفضالك، وقد أكثرت علي نوالك وغمرتني به، حتى لا يمكنني ستره.
لطّفت رأيك في وصلي وتكرمتي ... إنّ الكريم على العلياء يحتال
يقول: لطفت رأيك واحتلتفي إحراز ثنائي ومدحي، وهذه عادة الكرام بتوصلون إلى اكتساب المعالي بكل حيلة.
حتّى غدوت وللأخيار تجوالٌ ... وللكواكب في كفّيك آمال
يقول: لما تلطفت في إكرامي ومدحتك فجال ذكرك بين الناس، وطمعت النجوم في نوالك.
وهذان البيتان مدح أبو الطيب بهما نفسه! يعني: أنا كالنجم من بعدي من عطاء مثلك! فلما احتلت في إيصال برك إلي رغبت النجوم أيضا في نوالك.
وقد أطال ثنائي طول لابسه ... إنّ الثّناء على التّنبال تنبال
التنبال: القصير، وعنى بطول لابسه طول السؤدد والكرم.
يقول: إذا مدح الانسان كريما كثير الفضائل طال حمده بطول كرمه، وجاد شعره، وإذا مدح لئيما قليل الكرم لؤم شعره وقل؛ لأن المادح لا يجد ما يمدح به.
إن كنت تكبر أن تختال في بشرٍ ... فإنّ قدرك في الأقدار يختال
يقول: إن كنت ترفع نفسك من أن تتكبر على الناس، فإن قدرك يختال على كل قدر ويتكبر على كل ذي فخر.
كأنّ نفسك لا ترضاك صاحبها ... إلا وأنت على المفضال مفضال
ولا تعدّك صوّاناً لمهجتها ... إلاّ وأنت لها في الرّوع بذّال
يقول: كأن نفسك. تفوق كل متفضل من الناس ولا ترضى أن تكون صاحبها حتى تفضل على كل ذي فضل، ولا تعد أنك تصونها إلا بذلتها في الحرب، فأنت تقتحم على كل غمرة، وتحمل نفسك على كل مهلكة.
لولا المشقّة ساد النّاس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال
يعني: أن السيادة لا تتم إلا ببذل المال ومخاطرة النفس، فالجود يؤدي إلى الفقر، والإقدام يفضي إلى العطب. ولولا مشقة هاتين الخلتين لكان الناس كلهم سادة.
وإنّما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كلّ ماشيةٍ بالرّحل شملال
الشملال: الناقة السريعة الخفيفة. يعني: كل أحد يسعى على قدر همته ومبلغ طاقته، وليس الناس سواء، كما أنه ليس كل ناقة شملال.
إنّا لفي زمنٍ ترك القبيح به ... من أكثر النّاس إحسانٌ وإجمال
فصرنا في زمان لا خير عند أهله، فمن كف أذاه عن الناس فهو يحسن عندهم.
ولطف في قوله: من أكثر الناس حتى لا يدخل الممدوح.
ذكر الفتى عمره الثّاني، وحاجته ... ماقاته وفضول العيش أشغال
يقول: ذكر الإنسان بعد موته يقوم له مقام العمر الثاني، فكأنه موجود وغير معدوم، وحاجته من الدنيا ما يقوته، وما فضل عنه يكون شغلاً له.
يمنعه عن جمع المال ويحثه على العلا. وروى: ما فاته أي هو محتاج أبداً إلى ما لم ينله، فأما ما ناله فلا حاجة به إليه.
قال ابن جني: قد جمع في هذا البيت ما يعجز كل من يدعي الشعر والحكمة والكلام الشريف، فينبغي أن يلحق بالأمثال السائرة. ومثله لسالم بن وابصة:
غني النّفس ما يكفيك من سلخ حاجةٍ ... وإن زاد شيئاً كان ذاك الغني فقراً
وهو قد استوفى جميع ذلك وزاد عليه بقوله: ذكر الفتى عمره الثاني.
وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد عشاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلاث مئة.
فقال أبو الطيب يرثيه عند موته ويهجو كافوراً وأنشدها بعد رحيله عن الفسطاط:(1/419)
الحزن يقلق والتّجمّل يردع ... والدّمع بينهما عصيٌّ طيّع
يقول: الحزن يحملني على الجزع، والتجمل يردعني عن الجزع، فدمعي متحير بين التجمل والقلق، يعصي التجمل ويطيع القلق.
يتنازعان دموع عين مسهّدٍ ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
يقول: إن الحزن والتجمل يتنازعان: دموع عين لا تنام. هذا يجيء بها، أي الحزن يجيء بالدموع. وهذا يرجع. أي التجمل يردها.
النّوم بعد أبي شجاعٍ نافرٌ ... واللّيل معيٍ والكواكب ظلّع
يقال: ظلع يظلع إذا عي من التعب فهو ظالع، والجمع ظلع.
يقول: قد زال عني النوم بعد موت أبي شجاع، وطال علي الليل حتى كأنه معي لا نهوض له، والكواكب أيضا لا تبرح مكانها حتى كأنها غامزة.
يصف طول ليله عليه، ودوام سهره.
إنّي لأجبن من فراق أحبّتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
يقول: ليس حزني هذا من ضعف قلبي، ولكنه إلف وعادة، فنفسي إذا أحست بالموت أقدمت عليه، وإذا أحست بفراق صديق جبنت عنه.
ويزيدني غضب الأعادي قسوةً ... ويلمّ بي عتب الصّديق فأجزع
يقول: إذا غضب العدو، لم أبال بغضبه، بل ازددت قسوة عليه، وإذا عتب علي صديق أدنى عتب، جزعت منه.
تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافلٍ ... عمّا مضى فيها وما يتوقّع
ولمن يغلط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
يقول: لا تصفو الحياة إلا لثلاث: إما جاهل بأحوال الدنيا، أو غافل عما مضى، وما ينتظره من الحياة، أو من يغالط نفسه في الحقائق، ويعللها بالأماني الكاذبة ويطمعها في الأمور المحالة.
أين الّذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه ما يومه ما المصرع!!
الهرمان: بناءان شاهقان في الهواء، وسمك كل واحد منهما أربع مئة ذراع في عرض مثلها، لا يعرف من بناهما! ويقال: بناهما عمرو المشلل.
ما قومه؟ لفظه استفهام، ومعناه التعظيم يعني: أن هذا الباني مع قومه وعزه سلطانه، قد انقطع خبره، فلا يعلم من هو ولا من أي أمة هو!!
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حيناً، ويدركها الفناء فتتبع
الهاء في أصحابها للآثار. يعني: ان الآثار تبقى بعد أربابها زمانا، ثم إن الفناء يبطل الآثار أيضاً، فتتبع في الفناء أصحابها.
لم يرض قلب أبي شجاعٍ مبلغٌ ... قبل الممات ولم يسعه موضع
يقول: كان بعيد الهمة، لم يرض من الدنيا منالا ناله، بل كان يطلب أكثر مما ناله، ولم يسعه موضع حتى مات، فكأنه كرهها فارتحل عنها.
كنّا نظنّ دياره مملوءةً ... ذهباً فمات وكلّ دارٍ بلقع
البلقع: الخالية، والجمع: بلا قع.
يقول: كنا نظن أن خزائنه مملوءة من الذهب؛ لكثرة ما كان يهبه من الأموال، فلما مات وجدنا دياره خالية من المال؛ لأنه وهب ماله في حال حياته، ولم يجمع إلا أربعة أشياء ذكرها فيما يليه:
وإذا المكارم والصّوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شيءٍ يجمع
بنات أعوج: هي الخيل، تنسب إلى فحل كريم في العرب يقال له: أعوج.
يقول: كل شيء جمعه في خزانته فهو هذه الأشياء، دون الذهب وسائر الأموال. ومثله لآخر:
ولم يك كنزه ذهباً ولكن ... سيوف الهند والحلق المذالا
المجد أخسر والمكارم صفقةً ... من أن يعيش لها الكريم الأروع
الأروع: الجميل الذي يروعك جماله.
يقول: إن المجد والمكارم قد خسرت صفقتها فلا يعيش لها كريم يعتني بأمرهما.
وتقدير البيت في الظاهر: المجد والمكارم أخسر صفقة. وإعرابه على غير هذا الوجه؛ لأنك إذا علقت صفقة بأخسر كنت قد فصلت بين الصلة والموصول بقولك: والمكارم ولكن تحمله على إضمار فعل ينصب به صفقة كأنك قلت: المجد أخسر والمكارم كذلك، وتم الكلام، ثم استأنفت صفقة وأضمرت فيه فعلا أي: خسر المجد صفقة.
والنّاس أنزل في زمانك منزلاً ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
يقول لفاتك: إن الناس أنزل درجةً من أن يستحقوا أن تعيش معهم، وأنت أرفع قدراً من أن تصاحبهم، فلما أنفت من ذلك اخترت الموت.
برّد حشاي إن استطعت بلفظةٍ ... فلقد تضرّ إذا تشاء وتنفع
يقول: إن قلبي فيه حرارة الحزن، فبرده بلفظة منك أنتفع بها؛ لأنك قد كنت قادراً على ضر من شئت ونفع من أردت، فذلك لم يتعذر عليك.(1/420)
ما كان منك إلى خليلٍ قبلها ... ما يستراب به ولا ما يوجع
قبلها: أي قبل هذه الحالة، أو هذه المصيبة، وما يستراب: أي ما يكره.
يقول: لم يكن منك قبل هذه الحالة ما يريب صديقك ويوجعه.
ولقد أراك وما تلمّ ملمّةٌ ... إلا نفاها عنك قلبٌ أصمع
قلب أصمع: أي ذكي.
يقول: إذا نالتك مصيبة، تدفعها عنك بقوة قلبك، وحدة ذكائك.
ويد كأنّ نوالها وقتالها ... فرضٌ يحقّ عليك وهو تبرّع
ويد عطف على قلب.
يقول: كنت أعرفك، إذا نزلت بك حادثة دفعتها عنك بذكاء قلبك وشدة ساعدك، فما بالك لم تدفعها الآن عنك؟؟! وقوله: كأن نوالها وقتالها أي أنك لم تبخل بقتال ولا بذل نوال، حتى كأنهما واجبان عليك، وهو تبرع وتفضل.
يا من يبدّل كلّ يومٍ حلّةً ... أنّى رضيت بحلّةٍ لا تنزع؟
أي: يا من كان يبدل، فحذف كان وكذلك فيما قبله، كقوله تعالى: " واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ " أي ما كانت تتلوا.
يقول: كنت تنزع كل يوم حلة للسؤال، وتلبس حلة جديدة، فكيف رضيت الآن بحلة لا تنزعها أبداً، ولا تبدلها بغيرها؟ يعني الكفن.
ما زلت تخلعها على من شاءها ... حتّى لبست اليوم ما لا تخلع
يقول: لم تزل تخلع حلتك على من طلبها حتى لبست الآن حلةً لا يشتهيها أحد، ولا يسألك أن تخلعها عليه. والهاء في تخلعها وشاءها للحلة.
ما زلت تدفع كلّ أمرٍ فادحٍ ... حتّى أتى الأمر الّذي لا يدفع
يقول: كنت تدفع كل حادثة عظيمة تنزل بك، حتى نزل بك الآن ما لا يمكن أحد دفعه يعني: الموت.
فظللت تنظر لارماحك شرّعٌ ... فيما عراك ولا سيوفك قطّع
عراك: أي أتاك.
يقول: لما نزل بك حادث الموت، لم تغن عنك رماحك وسيوفك، لكنك ظللت تنظر إلى أصحابك، ولا يقدر أحد على دفعه عنك.
بأبي الوحيد وجيشه متكاثرٌ ... يبكي ومن شرّ السّلاح الأدمع
يقول: أبي فداء المتوحد الذي جيشه كثير.
يعني: أن جيشه لا يقدر على دفع الموت عنه.
جعله وحيداً لا ناصر له، وكأن جيشه يبكي عليه، لأنهم لا يملكون له شيئاً سوى البكاء ثم قال: والدموع شر السلاح؛ لأنه لا يدفع بها حادثة.
وإذا حصلت من السّلاح على البكا ... فحشاك رعت به، وخدّك تقرع
يقول: إذا كان رأس سلاحك هو البكاء لم يصل ضرره إلا إليك، لأنك تؤلم به قلبك وتقرع به خدك.
وصلت إليك يدٌ سواءٌ عندها ال ... بازي لاشهب والغراب الأبقع
أراد يد الدهر، والمراد بالبازي لاشهب: الكريم. وبالغراب الأبقع: اللئيم. يعني: أن الموت إذا جاء لم يفرق بين الشريف والوضيع.
من للمحافل والجحافل والسّرى؟ ... فقدت بفقدك نيّراً لا يطلع
المحافل: المجالس، وقيل: هي جماعات الناس. والجحافل: الخيل. والسرى: جمع سراية. كأن قوام هذه الأشياء، نيرها الذي غاب عنها فلا يطلع أبدا.
ومن اتّخذت على الضّيوف خليفةً؟ ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيّع
من استفهام. يعني: كنت تتعاهد أمر أضيافك، فمن الذي تركت بعدك خليفة يقوم بأمورهم؟ فإنهم ضاعوا، ولم يكن من عادتك أن تضيع أحداً.
قبحاً لوجهك يا زمان! فإنّه ... وجهٌ له من كلّ قبحٍ برقع
يقول: قبح الله وجهك يا زمان! فإنه وجه مبرقع بكل لؤم: أي كل فعل مذموم مجتمع فيك!
أيموت مثل أبي شجاعٍ فاتكٍ ... ويعيش حاسده الخصيّ الأوكع؟!
الأوكع الذي تميل إبهام رجله على أصابعه حتى تخرج عن أصله، ويجوز أن يكون فاتك رفع بدلا من مثل وجر بدلا من من أبي شجاع.
أنكر على الزمان موت فاتك وحياة كافور بعده، وقال: تترك كافوراً مع لؤمه، وتهلك فاتكا مع شرفه وكرمه؟! وإنما تفعل ذلك للؤمك، فأنت تحامي من كان مثلك. وقوله: أيموت مثل أبي شجاع: أي يموت أبو شجاع، ومثل زائدة.
أيدٍ مقطّعةٌ حوالي رأسه ... وقفاً يصيح بها: ألا من يصفع؟
يقول: إن كافوراً للؤمه وخسته يبعث الناس على صفعه، فكأن قفاه يصيح: هل من أحد يصفعني؟ ولكن كأن أيدي من حوله مقطوعة لا يقدرون على صفعه وتناوله. وهذا على معنى الخبر، أن أيديهم كذلك. ويجوز أن يكون دعاء على أصحابها فكأنه يقول: قطع الله هذه الأيدي.
أبقيت أكذب كاذبٍ أبقيته ... وأخذت أصدق من يقول ويسمع
ويسمع: أي يجيب.(1/421)
يقول للزمان أو للموت: أبقيت كافوراً الذي هو أكذب الناس قولا، وأخذت فاتكاً الذي هو أصدقهم قولا ووعدا..
وتركت أنتن ريحةٍ مذمومةٍ ... وسلبت أطيب ريحةٍ تتضوّع
ريح وريحة ورائحة بمعنى. وتضوعت رائحة الطيب: إذا انتشرت. وهذا البيت كالذي قبله.
يعني: بأنتن ريحة كافوراً وبأطيب ريحة فاتكا.
فاليوم قرّ لكلّ وحشٍ نافرٍ ... دمه وكان كأنّه يتطلّع
يقول: إنه كان يديم قنص الوحش، فلما مات استقر دم كل وحش في جلده بعد أن كان الدم يتطلع: أي يهم بالخروج من غير أن يجريه خوفا منه.
وقيل: يتطلع الوحش: أي كان يهم بالخروج ولم يخرج خوفاً منه.
وتصالحت ثمر السّياط وخيله ... وأوت إليها سوقها والأذرع
ثمر السياط: أطرافها.
يقول: إنه كان يديم ضرب خيله بالسياط في الحروب والغارات والصيد وطرد الوحش، فلما مات تصالحت السياط مع خيله، حتى سكنت إليها سوق الخيل وأذرعها، وأمنت أذاها وألمها، إذ لا يضربها أحد بالسياط بعده.
وعفا الطّراد فلا سنانٌ راعفٌ ... فوق القناة ولا سنانٌ يلمع
الطراد: مطاردة الفرسان. وقيل: هو الرمح الصغير. وعفا: أي درس.
يقول: عفا بموته رسم الطعان والضراب، فلا يرى بعده سنان راعف: أي قد طعن به فهو يقطر دما، وكذلك لا يرى سيف يلمع ويبرق.
ولّى وكلّ مخالمٍ ومنادمٍ ... بعد اللّزوم مشيّعٌ ومودّع
المخالم: المصادق.
يقول: لما مات تفرقت ندماؤه وأصدقاؤه، فودع بعضهم بعضا وشيعه، بعد أن كانوا ملازمين لا يتفرقون. وقيل: أراد ودع فاتكاً كل منادم وصديق.
قد كان فيه لكلّ قومٍ ملجأ ... ولسيفه في كلّ قومٍ مرتع
يقول: قد كان فاتك ملجأ ينتمي إليه كل قوم عندما يقع لهم من الحوادث، وكذلك سيفه كان يقتل كل قوم، فكأنه يرتع في لحوم القتلى.
إن حلّ في فرسٍ ففيها ربّها ... كسرى تذلّ له الرّقاب وتخضع
الفرس: أهل فارس. والهاء في فيها ترجع إلى الفرس، وأراد به أرض فارس، أو القبيلة أو الجماعة.
أو حلّ في رومٍ ففيها قيصرٌ ... أو حلّ في عربٍ ففيها تبّع
يقول: إن فاتكا كان في الفرس كسرى، وفي الروم قيصرا، وفي العرب تبعا. والتبابعة: ملوك اليمن.
قد كان أسرع فارسٍ في طعنةٍ ... فرساً، ولكنّ المنيّة أسرع
فرسا: نصب على التمييز. والتقدير: كان أسرع فارس فرسا في طعنه.
يقول: كان أحذق بالطعن من كل فارس، وفرسه أسرع من كل فرس، ولكن لم ينفعه ذلك حين جاء الموت.
لا قلّبت أيدي الفوارس بعده ... رمحاً ولا حملت جواداً أربع
يعني: أنه كان حاذقاً بركوب الخيل والطعن بالرماح، فإذا قامت فلا حملت فرسا قوائمه الأربع، ولا حمل فارس رمحا بيده.
؟ العراقيات الأخيرة
ودخل صديق لأبي الطيب عليه بالكوفة وبيده تفاحة من ند، مما جاءه في هدايا فاتك، عليها اسمه فناوله إياها فقرأها..
فقال أبو الطيب يرثي فاتكا:
يذكّرني فاتكاً حلمه ... وشيءٌ من النّدّ فيه اسمه
يقول: إن حلم فاتك يذكرني فاتكاً، حتى لا أنساه، فكلماً رأيت حليما تذكرته، وكذلك يذكرني فاتكاً قطعةٌ من ند كتب عليها اسمه.
ولست بناسٍ ولكنّني ... يجدّد لي ريحه شمّه
التقدير: ولست بناس إياه، أو بناس عهده. والهاء في ريحه لفاتك وفي شمه لشيء من الند.
لما قال: إن اسمه وحلمه يذكراني إياه، كان ذلك دلالة على النسيان فاستدرك ذلك في البيت وقال: لست أنساه حتى أتذكره، ولكن شم هذا الند جدد لي ريحه، وطيب شمائله.
وأيّ فتىً سلبتني المنون؟ ... لم تدر ما ولدت أمّه!
أمه يجوز أن يرفع بالفعل الأول وهو لم تدر ويجوز أن يرفع بالفعل الثاني وهو: ولدته.
يقول: أي فتىً أخذته المنون عني، ثم عظم أمره وقال: إن أمه لم تدر ما ولدته، لأنها ولدت الموت في صورة المولود فحسبته ولدا! فإذا لم تعلمه أمه، فغيرها أولى ألا يعرفه.
ولا ما تضمّ إلى صدرها ... ولو علمت هالها ضمّه
الهاء في صدرها وهالها للأم وفي ضمه لفاتك. وهو رفع لأنه فاعل هالها.
يقول: لم تدر أم فاتك ماذا تضم إلى صدرها، ولو علمته لكان يهولها ضمه؛ لأنها ضمت الموت إلى صدرها.
بمصر ملوكٌ لهم ما له ... ولكنّهم ما لهم همّه(1/422)
يقول: قد كان في مصر من له مثل ما له، ولكنه قد قصر همه عن همه. ومثله لأشجع:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكنّ معروفه أوسع
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمّه
وأشرفه من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
يقول: موته خير من حياة ملوك مصر، وفقره أنفع من غناهم. وهذه الأبيات مبالغة في المدح.
وإنّ منيّته عنده ... لك الخمر سقيّه كرمه
يقول: إن كان أصل المنية، يسقى الناس كأسها، كما أن الكرم عنصر الخمر، فلما شرب كأس المنية صار كالخمر يسقى الكرم، فرد إليه ما خرج منه.
وقيل: معناه إن المنية كانت تطيب له؛ لشجاعته لا يكرهها، كما يطيب الكرم أن يسقى الخمر. والهاء في قوله سقيه وفي كرمه يعود إلى الخمرة، وذكره على معنى النبيذ، والنبيذ مذكر.
فذاك الّذي عبّه ماؤه ... وذاك الّذي ذاقه طعمه
عبه أي شربه: أي الخمر الذي ذاقه هو الموت.
يقول: هذا الموت، الذي شربه ماؤه، كما أن الخمر، ماء الكرم. وهذا الموت الذي ذاقه من طعم المنية، إنما كان طعمه.
وعلى الثاني: إذا سقى الكرم فالذي عبه هو ماؤه على الحقيقة من الذي ذاقه طعمه. أي هو موافق له غير مباين.
ومن ضاقت الأرض عن نفسه ... حرىً أن يضيق بها جسمه
يقول: ضاقت الأرض عن نفسه لبعد همته فلم تسعه، ومن كان كذلك في حال الحياة فهو حقيق بعد الموت أن تضيق بجسمه.
وقال أيضاً بعد خروجه من مدينة السلام إلى الكوفة وأنشدها بها، يذكر مسيره من مصر ويرثي فاتكاً، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة:
حتّام نحن نساري النّجم في الظّلم ... وما سراه على خفٍّ ولا قدم؟
حتام: أي إلى متى، والأصل: حتى ما فحذف الألف من ما وجعل مع حتى بمنزلة اسم واحد، لكثرة الاستعمال، وكذلك: بم وفيم وعم وعلام هذا في الاستفهام. وفي الخبر لا يحذف الألف.
ونساري نفاعل من السري: أي نسري معه، وأراد بالنجم: النجوم. وروي: على ساق ولا قدم.
يقول: إلى متى نعارض النجوم في سيرها؛ ونسري معها، ونتعب نحن وهي لا تتعب؛ لأنها لا تسري على ساق ولا قدم، كما نسري نحن وإنما سيرها طبعها.
ولا يحسّ بأجفانٍ يحسّ بها ... فقد الرّقاد غريبٌ بات لم ينم
ولا يحس يعني النجم وفقد نصب لأنه مفعول يحس وفاعل يحس بها غريب.
يقول: إن النجوم لا تتألم بجهة السفر، ولا يصيبها ألم السهر، كما نتألم نحن بذلك، فكيف نقدر على مباراتها؟! وأراد بالغريب الذي بات لم ينم: نفسه وكل من كان مثله.
تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم
العذر جمع عذار، وهو جانب اللحية.
يقول: الشمس تسود ألوان وجوهنا البيض، ولا تغير بياض الشعر سواداً، وهو شكاية لأن بياض الوجه مما يشتهي بقاؤه، فلا تبقيه، وبياض الشعر مما يكره بقاؤه فتبقيه ولا تغيره!
وكان حالهما في الحكم واحدةً ... لو احتكمنا من الدّنيا إلى حكم
يقول: كان الواجب في مقتضى القياس أن تسود الشمس الأبيض من شعورنا، كما سودت وجوهنا البيض؛ لأن كل واحد منهما استوى في البياض.
ونترك الماء لا ينفكّ من سفرٍ ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم
يقول: كما أدمنا السفر ولم ننفك منه، كذلك تركنا الماء غير منفك عن السفر؛ لأنا كنا نسافر في المفاوز المقفرة، فنحتاج إلى حمل الماء فنغترفه من أعقاب السحاب، فنجعله في الأداوي والمزاود، ونحمله مع أنفسنا، فلم يخل الماء أيضا من السفر؛ لأنه مرةً يسير في السحاب، ثم بعده يسير في المزاود.
وإنما نسب سير الماء الذي في السحاب إليهم في قوله: ونترك الماء لا ينفك من سفر وإن كان سيره فيه ليس من جهتهم؛ لأنه لما كان هذا السير، والسير في المزاود واحد، هما عقيب صاحبه وسببا عنه. جريا مجرى الفعل الواحد؛ لأن السبب الذي أدى إلى إدامة السير هو فعلهم: الذي هو صب الماء في المزاود، فلولا هذا لم يدم سير الماء.
لا أبغض العيس لكنّي وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السّقم
يقول: إتعابي العيس في السير ليس لأجل أني أبغضها، ولكني وقيت بالعيس قلبي من الحزن، وجسمي من المرض، حين كنت بمصر.
طردت من مصر أيديها بأرجلها ... حتّى مرقن بنا من جوش والعلم(1/423)
جوش والعلم: موضعان من حسمى على أربع مراحل.
يقول: سرت بها من مصر حتى خرجت من هذين الموضعين، خروج السهم من القوس أو من الرمية.
وطرد الأيدي بالأرجل: إتباعها من غير تراخ في عدو. وهو استعارة لطيفة؛ لأنه جعل أرجلها تطرد أيديها في السير، كما يطرد الصيد، وهو مأخوذ من قول بعض العرب:
كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها ... طريدان والرّجلان طالبتا وترا
إلا أن لفظ أبي الطيب ألطف وأحسن.
تبرى لهنّ نعام الدّوّ مسرجةً ... تعارض الجدل المرخاة باللّجم
تبرى لهن أي تعارض العيس، وفاعل تبرى نعام الدو: وأراد بها الخيل. شبهها بالنعام؛ لطول ساقها، وسرعة جريها. والدو: الفلاة المستوية. والجدل: جمع جديل، وهو زمام الناقة المضفور من السيور.
يقول: إن الخيل كانت تعارض في سيرها هذه العيس، وتقابل اللجم بأزمتها؛ لطول عنقها.
في غلمةٍ أخطروا أرواحهم ورضوا ... بما لقين رضا الأيسار بالزّلم
الأيسار: الذين ينحرون الجزور، ويتقارعون عليها بالسهام، واحدهم يسر. والزلم: السهم، وجمعه أزلام.
يقول: سرت بهذه الإيل في غلمة خاطروا معي بأنفسهم، ورضوا بما يلقون من خير وشر، كما يرضى بحكم القداح.
تبدوا لنا كلّما ألقوا عمائمهم ... عمائمٌ خلقت سوداً بلا لثم
يقول: إذا طرحوا عمائمهم عن رءوسهم، ظهرت عمائم خلقت: يعني شعورهم. وجعلها بلا لثم، لأنهم مرد لا شعور على وجوههم.
بيض العوارض طعّانون من لحقوا ... من الفوارس، شلاّلون للنّعم
العوارض: محط اللحية في الخد. والشل: الطرد.
يقول: هم مرد لا شعور على عوارضهم، وهم يطعنون كل من لحقوا من الفوارس، ويغيرون على النعم.
وروى ابن جني عنه: بالنصب.
أي بيض العوارض طعانين شلالين وهو نصب على الحال والمدح.
قد بلّغوا بقناهم فوق طاقته ... وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
يقول: بلغوا بقناهم فوق طاقة القنا من الطعن، ومع ذلك فإن القنا لا يبلغ حد هممهم، بل يقصر عنه.
في الجاهليّة إلا أنّ أنفسهم ... من طيبهنّ به في الأشهر الحرم
يقول: هم على عادة أهل الجاهلية في الغارة والحرب، ولكن أنفسهم لثقتها برماحها آمنة، فتسكن أنفسهم كما سكنت نفوس أهل الجاهلية في الأشهر الحرم.
وقيل: أراد أنهم لعفتهم كأنهم في الأشهر الحرم. فكنى بالطيب عن العفة.
ناشوا الرّماح وكانت غير ناطقةٍ ... فعلّموها صياح الطير في البهم
ناشوا: تناولوا. والبهم جمع بهمة، وهو الشجاع.
يقول: أخدوا الرماح وهي خرس فطعنوا بها الأبطال، حتى صاحت فيهم صياح الطير. وهو كقول المثلم:
تصيح الردينيّات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصحن جوّعا
تخذي الرّكاب بنا بيضاً مشافرها ... خضراً فراسنها في الرّغل والينم
تخذي: أي تسرع السير. والرغل والينم: نبتان حسنان. والفرسن: أسفل الخف. وقوله: بيضاً مشافرها لأنا لا ندعها ترعى.
معكومةً بسياط القوم نضربها ... عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
معكومة: أي مشدودة الأفواه.
يقول: ضربت بالسياط فكأن السياط شدت أفواهها. وقوله: نضربها عن منبت العشب: يعني نمنعها بضربها بالسياط عن رعي العشب، نطلب منبت الكرم لنرعى منه.
وأين منبته من بعد منبته ... أبي شجاعٍ قريع العرب والعجم؟
القريح: السيد الكريم، لما قال: نبغي لها منبت الكرم رجع عنه وقال: أين نطلب لها منبت الكرم؟! بعدما بطل منبته، وهو أبو شجاع فاتك، الذي هو سيد العرب والعجم أي: لا منبت للكرم بعد أبي شجاع. بدل من منبته.
لا فاتكٌ آخرٌ في مصر نقصده ... ولا له خلفٌ في النّاس كلّهم
أي: إنما كان منبت الكرم فاتكا وقد مضى هو، فليس في مصر من يشابهه.
من لا تشابهه الأحياء في شيمٍ ... أمسى تشابهه الأموات في الرّمم
الرمم: جمع رمة وهي العظم البالي.
يقول: لم تكن تشبهه الأحياء في أخلاقه الكريمة، وقد أمسى الآن تشبهه الأموات في عظامه الرميمة.
عدمته وكأنّي سرت أطلبه ... فما تزيدني الدّنيا على العدم
يقول: لما فقدته طلبت له مثلا في مكارمه وأخلاقه، فما ظفرت به في الدنيا، إذ ليس له نظير.
وقيل: أراد طال سيرى في طلب مثله، تمنياً للغاية وعطائه فلم تزدني الدنيا على العدم شيئاً.(1/424)
ما زلت أضحك إبلي كلّما نظرت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم
يقول: قصدت ملوكا وأدميت أخفاف إبلي بسيري إليهم، فلما وصلت إليهم وجدتهم لا خير فيهم، فكنت أضحك إبلي من حالي معهم! تعجبا وهزؤا.
أسيرها بين أصنامٍ أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفّة الصّنم
أسيرها: يجوز بفتح الهمزة ويجوز بضمها. يقال: سرت أنا وأسرت ناقتي.
يقول: كنت أسير إبلي بين قوم كأنهم أصنام لا خير عندهم ولا عقل، ولكن ليس فيهم ما في الصنم من العفة.
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسّيف ليس المجد للقلم
يقول: ما زلت أتوسل إليهم بالقلم والفضل والعلم، فلما لم أظفر بخير قالت لي الأقلام: اطلب الشرف بالسيف لا بالقلم.
اكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم
الكتاب: مصدر كالكتابة.
يقول: قالت الأقلام: اطلب أولا بالسيف، ثم بعد ذلك اكتب بنا. بعده، فإنا تبع له وخدم: أي مهد أمرك أولا بالسيف، ثم بعد ذلك اكتب بنا. ومثله للبحتري.
تعنو له وزراء الملك خاضعةً ... وعادة السّيف أن يستخدم القلما
أسمعتني ودوائي ما أشرت به ... فإن غفلت فدائي قلّة الفهم
يقول لأقلامه: قد أسمعتني ما قلت لي؛ ودوائي هذا الذي أمرتني به من إعمال السيف، فإن لم أفعل فدائي من قلة العلم والفضل.
من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته ... أجاب كلّ سؤال عن هلٍ بلم
فاعل أجاب ضمير من.
يقول: من طلب حاجته بغير السيف لم يظفر بها، فإذا سأله إنسان وقال له: هل أدركت حاجتك؟ قال له. لم أدركها.
وهل حرف استفهام ولم حرف نفي وجعلهما اسمين وجرهما.
توهّم القوم أنّ العجز قرّبنا ... وفي التّقرّب ما يدعو إلى التّهم
يقول: إن الملوك توهموا أن قربي منهم لعجز في، أو لأستميح رفدهم، لأن التقرب من الإنسان ربما يدعو إلى مثل هذا الوهم.
وقيل: معناه إن التوهم كما يكون للاستماحة قد يكون لتمكن الفرصة وانتهازها، وليس ينبغي لهم أن يتوهموا أن قصدي إياهم للعجز دون أن يكون لانتهاز الفرصة.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعةً ... بين الرّجال ولو كانوا ذوي رحم
يقول: إنهم لما لم ينصفوا في إنزالنا منازلنا ففارقناهم، لأن قلة الإنصاف تقطع بين الناس، وإن كانوا ذوي قربي.
فلا زيارة إلا أن تزورهم ... أيدٍ نشأن مع المصقولة الخذم
المصقولة الخذم: هي السيوف القواطع.
يعني: بعد هذه الكرة لا أزورهم إلا بأيد متعودة للضرب وحمل السيوف.
من كلّ قاضيةٍ بالموت شفرته ... ما بين منتقمٍ منه ومنتقم
المنتقم: الرجل القاتل. والمنتقم منه: المقتول: أي كل واحد من هذه المصقولة الخذم شفرته قاضية بالموت بين المقتول والقاتل أي كأن الفريقين يحتكمان إلى شفرته فيقضي بينهم بالموت.
صنّا قوائمها عنهم فما وقعت ... مواقع اللّؤم في الأيدي ولا الكزم
الكزم: القصر في أصابع اليد.
يقول: صنا هذه السيوف أن يسلبنا إياها أعداؤنا من الملوك وغيرهم، فتقع قوائمها في أيديهم، وهي مواقع اللؤم؛ لأن قوائم السيوف إنما تقع في بواطن الأيدي إذا سلبوها، فإذا لم يسلبوها فما يقع فيهم إلا مضاربها.
هوّن على بصرٍ ما شقّ منظره ... فإنّما يقظات العين كالحلم
ما شق منظرة: أي ما كره النظر إليه لقبحه.
يقول: هون على كل أمر مهول لا تقدر العين أن تنظر إليه، فإنه لا حقيقه لليقظة كما لا حقيقه للأحلام، كذلك أحوال الدنيا وشدائدها إلى الزوال عن قريب، كحلم مفزع يراه الإنسان في نومه، فإذا انتبه زال.
ولا تشكّ إلى خلقٍ فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم
يقول: لا تشك لأحد حالك فإنه يشمت بحلول المكروه بك. فصرت كالجريح يشكو ما به إلى الغربان والرخم، فإنها تتمنى موته لتأكل لحمه.
وكن على حذرٍ للنّاس تستره ... ولا يغرّك منهم ثغر مبتسم
الهاء في تستره للحذر.
يقول: احذر من الناس واستر حذرك منهم؛ لأنك إذا أظهرته جاهروك بالعداوة، ولا تغتر بابتسامهم في وجهك.
غاض الوفاء فما تلقاه في عدةٍ ... وأعوز الصّدق في الإخبار والقسم
يقول: ذهب الوفاء فلا تلقاه في وعد أحد من الناس، وتعذر وجود الصدق في أخبار الناس وأيمانهم.(1/425)
سبحان خالق نفسي كيف لذّتها ... فما النّفوس تراه غاية الألم؟؟؟!
يعني: أن لذة نفسي في الحروب، وورود المهالك، وذلك عند الناس غاية الألم، فسبحان الله الذي خلق نفسي على هذه الصفة.
الدّهر يعجب من حملي نوائبه ... وصبر نفسي على أحداثه الحطم
الحطم بالضم جمع حطوم.
يقول: إن الدهر مع غلبته لكل أحد يعجب من احتمالي شدائده، ومن صبري على أحداثه الكاسرة.
وقتٌ يضيع، وعمرٌ ليت مدّته ... في غير أمّته من سالف الأمم
يقول: إن وقتي ضائع فيما بين أهل هذا القرن الذي أنا فيهم وعمري يذهب هدرا فيما بينهم، فليتني كنت قبل هذا الوقت بين الأمم السالفة.
أتى الزّمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم
يقول: من تقدم من سالف الأمم أدركوا الزمان في أول أمره فنالوا خيره، وأتيناه نحن في آخره فلم نجد إلا التعب والعناء. كولد الرجل إذا جاءوا في أول شبيبته انتفعوا بأبيهم، وكسب لهم الأموال وسرهم وأحسن إليهم، وإذا جاءوا له بعد الكبر والعجز والفقر، لم ينل ولده منه إلا الغم والحزن، وربما يموت الوالد فيبقى الوالد يتيما. وهذا كقول الآخر:
ونحن في غفلةٍ إذ دهرنا جزعٌ ... فاليوم أمسى وقد أودى به الخرف
كان قوم من أهل العراق قتلوا يزيداً الضبي ونكحوا امرأته، ونشأ له منها ولد يسمى: ضبة يغدر بكل أحد نزل به، أو أكل معه، أو شرب، ويشتمه واجتاز أبو الطيب بالطف فنزل بأصدقاء له، وسارت خيلهم إلى هذا العبد واستركبوه، فلزمه المسير معهم. فدخل هذا العبد الحصن وامتنع به، وأقاموا عليه، فلبس سلاحه لهم، وأخذ يشتمهم من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمى أبا الطيب بشتمه، وأراد القوم أن يجيبه بمثل ألفظاه القبيحة وسألوه ذلك، فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضاً لم يفهم ولم يعمل فيه عمل التصريح، فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو.
فقال في جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة.
قال ابن جني ورأيته وقد قرئت عليه هذه القصيدة وهو ينكر إنشادها، وكان مثل أبي الطيب معه في هذه القصيدة كما روى عن ابن مهرويه عن ابن خلاد عن أبيه قال: قلت لبشار: يا أبا معاذ إنك لتأتي بالأمر المتفاوق فمرةً تثير بشعرك العجاج فتقول:
إذا ما ضربنا ضربة مضريّةً ... هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ ... ذرى منبرٍ صلّى علينا ورسلّما
ثم تقول:
ربابة ربّة البيت ... تصبّ الخلّ في الزّيت
لها سبع دجاجاتٍ ... وديكٌ حسن الصّوت
فقال: إنما أكلم كل إنسان على قدر معرفته، فأنت وعلية الناس يستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جاريتي تربي دجاجات وتجمع لي بيضهن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض وأطعمتنيه، وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كله، فإذا أنشدتها في النمط الأول لما فهمته ولا انتفعت بها.
فهذه صورة المتنبي في هذه القصيدة كما ترى:
ما أنصف القوم ضبّه ... وأمّه الطّرطبّه
رموا برأس أبيه ... وناكوا الأمّ غلبّه
الطرطبة: الطويلة الثديين، وإنما تطول ثدياها إذا صارت عجوزاً. وقد روى: باكوا بالباء وأصله مواقعة الحمار. والغلبه: الغلبة.
يقول: إن القوم لم ينصفوا ضبة ولا أمه العجوز، حيث قتلوا أباه وأتوا أمه إتيان الحمار.
فلا بمن مات فخرٌ ... ولا بمن نيك رغبه
يقول: ليس لهم بأبيه الذي قتلوه فخر، لأنه ساقط وضيع، ولا بأمه التي نيكت رغبة؛ لأنها عجوز لا يرغب أحد فيها.
وإنّما قلت ما قل ... ت رحمةً لا محبّه
وحيلةً لك حتّى ... عذرت لو كنت تنبه
تنبه: تشعر، وكسر التاء في مثلها على لغة بني تميم.
يقول: إنما قلت: ناكوا أمك غلبة وقهرا رحمة لك، حيث قتلوا أباك ونحكوا أمك. وقلت أيضا: حيلة لك، ليعذرك الناس على ما جرى، وأنه كان قهرا وغلبة، لا عن رضا منها بالفجور، ولو كنت تفطن لمرادي، ولكنك من جهلك لا تعلم ما أردت. وروى: غدرت: أي قلت هذا القول حيلة لك في الانصاف، حتى تغدر بي لو كنت تبالي بالغدر..
وما علكي من ألقت ... ل إنّما هي ضربه
وما عليك من الغد ... ر إنّما هي سبّه
وما عليك من العا ... ر أنّ أمّك قحبه
وما يشقّ على الكل ... ب أن يكون ابن كلبه(1/426)
القحبه الفاجرة، وأصلها من القحاب، وهو السعال، وكانت العاهرة إذا أحست بأحد سعلت، ليعلم مكانها فسميت بذلك.
يقول: أي عار عليك في قتل أبيك إنما هي ضربة بالسيف، والرجل قد يضرب الضربة والضربتين، ولا يلحقه في ذلك عار، وكذلك أي ضرر عليك بأن تنسب إلى الغدر، فليس هذا بأكثر من نسبة تنسب إليها، وأنت مخلوق من المخازي، وأي عار عليك في كون أمك فاجرة تنكح، فإن النساء لذلك خلقن أي للنكاح! هذا كله هزؤ به. وأنت كلب للؤمك وخستك، فلا ضرر على الكلب في أن يكون ابن كلبة. وما هذه نافية، وفيما قبلها استفهام.
ما ضرّها من أتاها ... وإنّما ضرّ صلبه
الهاء في صلبه لمن وما للنفي.
يقول: لم يضرها كثرة من وطئها؛ لأنها كانت تشتهي ذلك! ولكن الذي أتاها أوهن صلبه بإتيانها، على ما قيل في نكاح العجوز من زيادة الضرر.
ولم ينكها ولكن ... عجانها ناك زبّه
العجان: ما بين الدبر إلى أصل الخصية، والزب: قضيب الرجل.
يقول: واطؤها لم يواقعها تلذذاً بمواقعتها، بل كانت الرغبة من جهتها والتلذذ كان لها، وكان الفعل منسوباً إليها فكأنها هي الناكحة دون ناكحها.
يلوم ضبّة قومٌ ... ولا يلومون قلبه
وقلبه يشتهّي ... ويلزم الجسم ذنبه
يقول: الناس يلومون ضبة بأفعاله القبيحة، وإنما يجب أن يلوموا قلبه لأنه هو الذي يشتهي، فأي ذنب للجسم.
لو أبصر الجذع فعلاً ... أحبّ في الجذع صلبه
الفعل: كناية عن الأير. وروى مكانه شيئاً بهذا المعنى.
يعني: أنه من حبه للأير لو كان الجذع أيرا لاشتهى أن يصلب عليه.
يا أطيب الناس نفساً ... وألين النّاس ركبه
وأخبث النّاس أصلاً ... في أخبث الأرض تربه
وأرخص النّاس أمّاً ... تبيع ألفاً بحبّه
قوله: يا أطيب الناس نفسا: كناية عن سماحته بأهله، وقوله: وألين الناس ركبة كناية عن أبنته.
يقول: أصلك أخبث أصل، وبلدك أخبث بلد، وأنت تبيع ألف أم بحبة واحدة.
كل الفعول سهامٌ ... لمريم وهي جعبه
الفعول: كناية عن الأيور، شبهها بالسهام وشبه أمه بالجعبة وأن اسمها مريم على جهة السخرية، نسبها لمريم بنت عمران في حصانتها.
وما على من به الدّا ... ء من لقاء الأطبّه
يقول: ليس عليها لوم في فجورها، فإن ذلك لحكاك في رحمها، وصاحب الداء لا يلام على لقاء الأطبة، لتشفيه من دائه.
وليس بين هلوكٍ ... وحرّةٍ غير خطبه
الهلوك: الفاجرة من النساء.
يقول: هي وإن كانت زانية فلا عار عليها في ذلك، إذ ليس بين الزانية وبين الحرة فرق إلا هذا العقد، وأما من حيث الصورة فيستويان.
يا قاتلاً كلّ ضيفٍ ... غناه ضيحٌ وعلبه
وخوف كلّ رفيقٍ ... أباتك اللّيل جنبه
الضيح: اللبن الممزوج بالماء، والعلبة: قدح من جلد يكون مع الراعي.
يقول: إذا نزل بك ضيف فقير يغنيه شرب اللبن الممزوج بالماء، وقصعة يشرب بها اللبن، قتلته وأخذت ما معه. فكيف تفعل بالأغنياء! وأنت ممن يخافه كل رفيق، وصاحب ينزل به ويبيت عنده، ونصب جنبه لأنه مفعول ثان من أبات وقيل ظرف.
كذا خلقت ومن ذا ... الّذي يغالب ربّه!
يقول: أنت معذور على غدرك، فأنت طبعت عليه فمن يقدر أن يحولك على طبعك عليه.
ومن يبالي بذمٍّ ... إذا تعوّد كسبه؟
يقول: أنت تعودت هذا الغدر، ومن كسب مثل ذلك لا يأنف منه، كما لا يأنف الحجام من حجامته لما كان ذلك كسبه.
أما ترى الخيل في النّخ ... ل سربةً بعد سربه
على نسائك تجلوا ... أيورها منذ سنبه
وهنّ حولك ينظر ... ن والأخيراج رطبه
النخل: موضع يعنيه، وقبل: أراد به حقيقة النخل، والسربة: القطعة من الخيل، والسنبة: القطعة من الزمان. وتحلوا. تظهر. وروى أيورها وفعولها وهي كناية عنها.
يقول: أما ترى خيولنا كيف تعرض أيورها على نسائك؟! منذ زمان! ونساؤك حولك ينظرن إلى الأيور وأخراجهن رطبة لها.
وكلّ غرمول بغلٍ ... يرين يحسدن قنبه
الغرمول: للبغل والفرس. والقنب: وعاء الغرمول.
يقول: إذا نظرت نساؤك إلى أيور البغال حسدن قنب أيورهن، ويشتهين أن يكون أخراجهن وعاء لها: أي أرحامهن.
فسل فؤادك يا ضب ... ب أين خلّف عجبه؟(1/427)
اراد: يا ضبة فرخم.
يقول: أين ذلك العجب الذي كان فيك قبل نزولنا على حصنك؟! وذلك أنه هرب منهم ودخل حصنه ولم يجسر على لقائهم.
وإن يخنك لعمري ... لطالما خان صحبه
لعمري: قسم.
يقول: إن خانك قلبك الآن وأسلمك، فلعمري أن الخيانة له عادة، فطالما خان أصحابه قبل ذلك.
وكيف ترغب فيه ... وقد تبيّنت رعبه
يقول: كيف ترغب في قلبك بعدما علمت من خوفه وجبنه.
ما كنت إلاّ ذباباً ... نفتك عنه مذّبه
الهاء في عنه للقلب، وقيل: للعجب.
يقول: لما نزلنا عليك طار قلبك من الخوف، فكأنك كنت ذبابا طردت عن قلبك وعن عجبك بالمذبة.
وكنت تنخر تيهاً ... فصرت تضرط رهبه
روى: تفخر من الفخار، وتنخر من النخير، وهو الصوت من الأنف.
يقول: كنت تنخر قبل ذلك تكبراً، فلما نزلنا حول حصنك تركت ذلك التكبر خوفاً، وصرت تضرط رهبة وخوفاً.
وإن بعدنا قليلاً ... حملت رمحاً وحربه
وقلت ليت بكفّي ... عنان جرداء شطبه
الشطبة: الفرس الطويلة.
يقول: إن بعدنا عنك خرجت من حصنك، وحملت رمحك وسيفك وقلت: ليت في يدي عنان فرسي.
إن أوحشتك المعالي ... فإنّها دار غربه
أو آنستك المخازي ... فإنّها لك نسبه
يقول: إن كانت المعالي قد أوحشتك، فإنها دار غربة، لا يسكنها إلا غريب. وهذا مثل.
والمعنى: إن المعالي لا يحوزها إلا القليل من الناس، فإنها بمنزلة الغرباء وإن عجزت عنها فأنت معذور فإنها لا تليق بك، وإن تألف المخازي وتأنس بها. فغير منكر، لأنها نسبك وأصلك الذي تولدت منه فكيف لا تأنس بها؟!
وإن عرفت مرادي ... تكشّفت عنك كربه
وإن جهلت مرادي ... فإنّه بك أشبه
يقول: أنت الآن في كربة وشغل قلب من هذا الشعر؛ لأنك من جهلك لا تعرف: أمدح هو أم هجو؟! فلو عرفت أنه هجو لانكشفت عن قلبك كربته، لأنك لا تبالي بالهجو والذم، لسقوطك وحقارة أصلك، وإن جهلت مرادي فيما أقول فإنه أشبه بك؛ لأنك جاهل لا تعرف الشتم من المدح.
ونجم خارجي من بني كلاب بظهر الكوفة، وذكر له أن خلقاً من أهلها قد أجابوه وحلفوا له، فسارت إليها بنو كلاب معه، ليأخذها، ورفعت الرايات وخرج أبو الطيب على الصوت من ناحية قطوان فلقيته قطعة من الخيل في الظهر، فقاتلها ساعةً فانكشفت وجرح منها وقتل.
وسار في الظهر حتى دخل إلى جمع السلطان والرعية من درب البراجم. ووقعت المراسلة سائل اليوم، وعادوا من غد فاقتتلوا إلى آخر النهار، فلم يصنع الخارجي شيئاً، ورجع وقد اختلفت فيه بنو كلاب وتبرأ بعضهم من بعض، وعاد بعد أربعة أيام فاقتتل في الظهر فوقع بالسلطان والعامة جراح، وقتل من بني كلاب، وطعن فرس لأبي الطيب تحت غلام له في لبته فمات لوقته، فحمله محمد بن عمرو على فرس، وخرج له غلام آخر فقتل رجلاً، وعادوا من غد فالتقى الناس عند دار أسلم، وبينهم حائط فقتل من بني كلاب بالنشاب عدة، فانصرفوا ولم يقفوا للقتال.
ووقعت الأخبار إلى بغداد، فسار أبو الفوارس دلير بن لشكروز وجماعة من القواد، فورد الكوفة بعد رحيل بني كلاب عنها، فأنفذ إلى أبي الطيب ساعة نزل ثياباً نفيسةً من ديباج رومي ومن خز ودبيقي فقال يمدحه وأنشده إياها في الميدان وهما على فرسيهما، وكان تحت دلير فرس جواد أصغر، وعليه حلية ثقيلة مقلدة، فقاده إليه، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة:
كدعواك كلٌّ يدّعي صحّة العقل ... ومن ذا الّذي يدري بما فيه من جهل
يخاطب عاذلته ويقول: كل أحد يدعي صحة عقله كما تدعينه أنت، ولا يعلم أحد ما فيه من الجهل والحمق؛ لأن المرء لا يعرف عيب نفسه.
لهنّك أولى لائمٍ بملامةٍ ... وأحوج ممّن تعذلين إلى العذل
لهنك: كلمة تستعمل عند التوكيد وأصلها: لأنك فأبدلت الهمزة هاء كما قالوا: إياك وهياك، وهي إن، التي تنصب الاسم وترفع الخبر، وأدخلوا عليها اللام للتأكيد، وجمع بينهما، وإن كانت إن للتأكيد، لأن الهمزة لما أبدلت هاء زالت لفظة إن فصارت كأنها شيء آخر غير إن فجاز الجمع بينهما. وهذا جواب القسم المحذوف.
والمعنى: والله إنك أولى بالملامة وأحوج إلى العذل من هذا الذي تعذلينه، فإنك أجهل منه.
تقولين ما في النّاس مثلك عاشقٌ ... جدي مثل من أحببته تجدي مثلي(1/428)
مثلك نصب على الحال، لأنه صفة نكرة قدم عليها وجدي: أمر من الوجود وتجدي جوابه.
يقول لعاذلته: إنك تقولين له، إنه ليس لك في العشاق نظير، فقد صدقت، وإنما كنت كذلك لأن من أحبه لا نظير له، فأوجدي مثل من أحبه حتى تجدي عاشقاً مثلي.
وحبٌّ كنى بالبيض عن مرهفاته ... وبالحسن في أجسامهنّ عن الصّقل
فاعل كنى ضمير المحب، والهاء في مرهفاته تعود إليه.
يقول: أنا محب بخلاف سائر المحبين، فإذا رأيتني أذكر البيض فإنما أكنى بها عن السيوف، وإذا ذكرت الحسن فإنما أعني به صقل السيوف.
وبالسّمر عن سمر القنا غير أنّني ... جناها أحبّائي وأطرافها رسلي
يقول: إذا سمعتني أذكر السمر فإنما أعني بها الرماح. وجني الرماح أحبائي: أي ما تجنيه الرماح من القتل والسبي، فإنها أحبائي، وأطراف الرماح رسلي إلى أحبائي وهذا مثل قوله:
وما سكني سوى قتل الأعادي
وقوله:
وليس لنا إلاّ السّيوف رسائل
عدمت فؤاداً لم تبت فيه فضلةٌ ... لغير الثّنايا الغرّ والحدق النّجل
يدعو على قلبه ويقول: لا كان لي قلب ليس له همة إلا النساء، وليس فيه فضلة لطلب المعالي واقتناء المكارم.
فما حرمت حسناء بالهجر غبطةً ... ولا بلّغتها من شكا الهجر بالوصل
الغبطة: السرور، والهاء في بلغتها للغبطة، وهي أحد المفعولين، والثاني من.
يقول: لا تبالي بوصل النساء وهجرهن؛ فإن الحسناء إذا هجرتك لم تحرمك سروراً، وإذا وصلت لم تبلغك إليها. وهذا معنى قوله:
ولا بلّغتها من شكا الهجر بالوصل
ذريني أنل ما لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصّعب والسّهل في السّهل
يقول لعاذلته: دعيني أخاطر بنفسي حتى أنال من الأمور ما لا يناله غيري، فإن صعاب المعالي لا تنال إلا بصعاب الأمور.
تريدين لقيان المعالي رخيصةً ... ولا بدّ دون الشّهد من إبر النّحل
يقول: إنك تريدين أن أدرك المعالي بالهويني، وهذا مما لا يكون، فإن المرء لا يدرك حلاوة المعالي إلا بمقاساة مرارة الخطر، كما أنه لا يجتني الشهد حتى يصبر على لسع النحل.
حذرت علينا الموت والخيل تدّعي ... ولم تعلمي عن أيّ عاقبةٍ تجلي
الخيل تدعي: أي أصحاب الخيل يدعو بعضهم بعضاً. وقيل: تدعي أي تنتسب كل قبيلة إلى أبيها. وتجلي: أي تنجلي وتنكشف.
يقول لعاذلته: خفت على القتل ولم تعلمي عواقب الحرب، فربما انكشفت عن الظفر والعز.
ولست غبيناً لو شريت منيّتي ... بإكرام دلّير بن لشكروزٍّلي
يقول: لو اشتريت منيتي بهذا الإكرام من جهة دلير، لما كنت مغبوناً بل كنت مغبوطاً.
تمرّ الأنابيب الخواطر بيننا ... ونذكر إقبال الأمير فتحلولي
يقول: أمر الشيء يمر إمراراً فهو ممر، ومر يمر مرارةً فهو مر. والخواطر صفة الأنابيب أي الأنابيب المتحركة. ويقال: حلا الشيء يحلو، واحلولي يحلولي بمعنىً.
يقول: نرى طعم الرماح فيما بيننا مراً، حتى إذا ذكرنا إقبال الأمير عاد ما أمر منها نهايةً في الحلاوة، فأقدمنا غير كارهين له.
وفي قافية هذا البيت خلل؛ وذلك أنه جاء بها مردفة وليس في القصيدة بيت مردف غيره.
ومعنى المردف: أن يكون قبل حرف الروي ألفاً أو واواً أو ياءً، فيلزم جميع القصيدة نحو: مسعود وسعيد وسالم.
وما جاء به عيب عند العلماء بعلم القوافي، إلا أنه قد جاء في الشعر القديم مثله وهو:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فجاء بهذه القافية مردوفة بالواو المضموم ما قبلها ثم قال:
وإن باب أمرٍ عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه
وهذه غير مردفة.
ولو كنت أدري أنّها سببٌ له ... لزاد سروري بالزّيادة في القتل
الهاء في أنها قيل: راجعة إلى الطعنة التي أصابته في قتال الخارجي. وقيل: راجعة إلى الأنابيب، وقيل: راجعة إلى خيل الخارجي. والهاء في له للإكرام أو الإقبال.
يقول: لو علمت أن هذه الطعنة أو هذه الأنابيب أو هذه الخيل سبب لإكرام الأمير وإقباله لكنت أزداد فرحاً بزيادة القتل والإقدام ليكون الإكرام أكثر.
فلا عدمت أرض العراقين فتنةً ... دعتك إليها كاشف الخوف والمحل(1/429)
نصب كاشف على النداء المضاف، أو على الحال، أو على البدل من الكاف في دعتك والمحل: الجدب.
يقول: لا عدم أهل العراقين مثل هذه الفتنة التي كانت سبب مجيئك إلينا؛ لأنك كشفت عنا الخوف ببأسك، والمحل بجودك وفضلك.
ظللنا إذا أنبى الحديد نصولنا ... نجرّد ذكراً منك أمضى من النّصل
أنبى أي جعلها تنبو، يقال نبا النصل، وأنباه غيره.
يقول: كنا إذا ضربنا أعداءنا فرجعت نصولنا ونبت؛ لما عليهم من الحديد، ذكرنا لهم اسمك فكان يؤثر فيهم أكثر مما يؤثر السيف! أي كنا نذكر اسمك فنهزمهم بذكره.
ونرمي نواصيها من اسمك في الوغى ... بأنفذ من نشّابنا ومن النّبل
النشاب: سهام العجم، وهي أطول من النبل، والهاء في نواصيها للخيل.
يعني: كنا نرميها من اسمك بسهم أنفذ من كل سهم.
فإن تك من بعد القتال أتيتنا ... فقد هزم الأعداء ذكرك من قبل
جعل قبل نكرة فأعربه.
يقول: إن كنت جئت إلينا بعد أن هزمناهم، فإنما هزمناهم باسمك فقام ذكرك مقام حضورك.
وما زلت أطوي القلب قبل اجتماعنا ... على حاجةٍ بين السّنابك والسّبل
قوله: أطوي القلب كناية عن العزم.
يقول: ما زلت اضمر في نفسي المسير إليك، فكنى عن ذلك بالسنابك والطرق.
ولو لم تسر سرنا إليك بأنفسٍ ... غرائب يؤثرن الجياد على الأهل
يقول: لو لم تأتنا لأتيناك بأنفس غريبة، تختار الخيل على الأهل، وقوله: غرائب يجوز أن يكون المراد بها أنها غريبة فيما بين الأنفس، لأن سائر الأنفس لا تختار ذلك، ويجوز أن يريد أنها غريبة في هذا الزمان لعلو همتها.
وخيلٍ إذا مرّت بوحشٍ وروضةٍ ... أبت رعيها إلاّ ومرجلنا يغلي
أي: سرنا إليك بأنفس وخيل كريمة، قد تعودت الصيد، فإذا مرت على روضة فيها وحش، لم ترع حتى تصيد لنا، ثم ترعى بعد ذلك.
ولكن رأيت القصد في الفضل شركةً ... فكان لك الفضلان بالقصد والفضل
يقول: إنك رأيت قصدنا إليك مشاركةً في فضلك، فقصدتنا بنفسك حتى حويت الفضل الذي لك وفضل القصد فاجتمع الفضلان.
وليس الّذي يتّبّع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
يعني: أنك قصدتنا وأفضت علينا إنعامك، فهذا أهنى من عطاء كان بعد قصدنا إليك، كما أن الرجل إذا جاءه الغيث في داره، كان أهنى من أن يخرج في طلبه وارتياده. ومثله لآخر:
فكنت فيهم كممطورٍ ببلدته ... فسرّ أن جمع الأوطان والمطرا
وما أنا ممّن يدّعي الشّوق قلبه ... ويحتجّ في ترك الزّيارة بالشّغل
يقول: لست ممن يزعم أنه مشتاق صديقاً، ثم يحتج في ترك زيارته؛ لأن الأشغال تمنعه عنها، لأن من هذه حاله، فليس بصادق في الشوق، فلولا أنك قصدتنا لكنا نقصد إليك ولم نتأخر عن خدمتك.
وقيل: أراد أني لم أحتج بترك زيارتك بشغل ولكني أقول إن شاء الله تعالى. أراد أن يحصل لك فضل القصد مع غيره من الفضل.
أرادت كلابٌ أن تقوم بدولةٍ ... لمن تركت رعى الشّويهات والإبل
أنث كلاباً على معنى القبيلة. ومن استفهام على وجه الاستهزاء.
يقول: أرادت بنو كلاب القيام بدولة الملك، وهم رعاة الغنم والإبل، فإذا طلبوا الولاية فلمن يتركوا رعيها؟! أي رعى الغنم والإبل أولى لهم من الإمارة.
أبى ربّها أن يترك الوحش وحدها ... وأن يؤمن الضّبّ الخبيث من الأكل
الهاء في ربها لبني كلاب وقيل: للشويهات. وفي وحدها للوحش.
يعني: أنهم يسكنون مع الوحش، فلم يرد الله تعالى أن يؤتيهم الولاية فتنفرد الوحش عنهم، وعادتهم أكل الضباب فلم يرد الله تعالى لهم الولاية، فيأمن الضب من أكلهم لها.
وقاد لها دلّير كلّ طمرّةٍ ... تنيف بخدّيها سحوقٌ من النّخل
الطمرة: الفرس الوثابة، وقيل: المشرفة. والسحوق: النخلة الطويلة، وأراد بها ها هنا عنق هذه الطمرة، وهي فاعل تنيف والهاء في لها لبني كلاب.
يقول: قصد دلير بني كلاب بكل فرس كأن عنقها نخلة طويلة، ترفع خديها.
وكلّ جوادٍ تلطم الأرض كفّه ... بأغنى عن النّعل الحديد من النّعل
أي قصد إليها بكل فرس صلب الحوافر لا يحتاج إلى نعل، كما لا يحتاج النعل إلى النعل وأراد: تلطم الأرض بحافر أصلب من نعل الحديد.(1/430)
فولّت تريغ الغيث والغيث خلّفت ... وتطلب ما قد كان في اليد بالرّجل
يقول: ولت بنو كلاب لما قصدهم دلير، وذهبت بالوادي تطلب الغيث لإبلها، وخلفت الغيث: وهو طاعة السلطان.
يعني: أنها تركت ما كانت فيه من الأمن والخصب، لما خرجت من طاعة السلطان، ورجعت إلى البوادي تطلب مساقط الأمطار.
تحاذر هزل المال وهي ذليلةٌ ... وأشهد أنّ الذلّ شرٌّ من الهزل
وهي ذليلة: يعني بنو كلاب.
يقول: خافت أن تهزل أموالها، فخرجت تنتجع الأمطار والمراعي. وما لحقها من الذل شر من هزال المال.
وأهدت إلينا غير قاصدةٍ به ... كريم السّجايا يسبق القول بالفعل
غير قاصدة نصب على الحال، ونصب كريم لأنه مفعول أهدت وهو فعل بني كلاب، وبه يرجع إلى كريم السجايا وهو مقدم في المعنى.
يقول: كان سبب مجيء دلير إلينا، مجيء بني كلاب، فكأنها أهدته لنا وإن لم تقصد ذلك، وهو يبتدئ بالنوال قبل الوعد بالسؤال.
تتبّع آثار الرّزايا بجوده ... تتبّع آثار الأسنّة بالّفتل
الفتل جمع فتيلة.
يقول: جر بجوده كل مصيبة أصابتنا، في نفس أو مال. وأصلح حالنا، كما تصلح الجراح بالفتل عند المعالجة.
وروى بالقتل يعني: أتى على المصائب بعطاياه، كما يأتي بالقتل على آثار الأسنة: أي لا يحتاج مع القتل إلى معالجة آثار الأسنة.
شفى كلّ شاكٍ سيفه ونواله ... من الدّاء حتّى الثّاكلات من الثّكل
يقول: شفى كل إنسان مما كان يشكوه، فشفى الفقر بنواله، والجور بسيفه، وأخذ للثاكلات بثأرهن؛ فشفاهن من الثكل.
عفيفٌ تروق الشّمس صورة وجهه ... ولو نزلت شوقاً لحاد إلى الظّلّ
شوقاً مفعول له.
يقول: هو مع عفته قد عشقته الشمس، فلو نزلت من شوقها إليه، لعلد عنها إلى الظل لعفته.
شجاعٌ كأنّ الحرب عاشقةٌ له ... إذا زارها فدّته بالخيل والرّجل
يقول: تسلم إليه الحرب من شاء قتله أو سبيه، فكأنها عاشقة له، وتفديه بهم.
قال ابن جني: هذا من بدائع معانيه.
وريّان لا تصدى إلى الخمر نفسه ... وعطشان لا تروى يداه من البذل
يقول: لا يرغب في الشراب؛ لما فيه من الإثم، فهو ريان عنه، ولا يفتر عن البذل؛ لما فيه من الحمد، فهو عطشان إليه.
فتمليك دلّيرٍ وتعظيم قدره ... شهيدٌ بوحدانيّة الله والعدل
يقول: تمليك الله تعالى إياه، وتعظيمه لقدره، دليل على التوحيد والعدل؛ لأن توليته إياه حكمة وصواب، ووضع للحق في موضعه.
وما دام دلّيرٌ يهزّ حسامه ... فلا ناب في الدّنيا لليثٍ ولا شبل
يعني: أن أنياب الأسود لا تعمل عمل سيفه، فكأنها في جنب سيفه معدومة.
وما دام دلّيرٌ يقلّب كفّه ... فلا خلق من دعوى المكارم في حلّ
أي ما دام هو يقلب كفه بالعطاء وقتل الأعداء فليس لأحد ادعاء المكارم، لأنه قد ملك المكارم.
فتىً لا يرجّى أن تتمّ طهارةٌ ... لمن لم يطهّر راحتيه من البخل
يقول: هو فتىً يعتقد أن الطهارة من الأنجاس لا تتم إلا بتطهير الراحة من البخل، فكما أن الطهارة من الأنجاس واجبة، كذلك اجتناب البخل واجب.
وقيل: أراد بالطهارة: الختان، أي أن طهارة الختان لا تتم إلا بإزالة البخل.
فلا قطع الرّحمن أصلاً أتى به ... فإنّي رأيت الطّيّب الطّيّب الأصل
يقول: هو طيب وأصله الذي أتى به طيب إذ الطيب لا يأتي إلا من أصل طيب، فلا قطع الله تعالى أصلاً جاء بمثله.
العميديات
وقال يمدح أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد، حين ورد عليه بأرجان في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاث مئة:
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
باد أي ظاهر، وهواك: رفع بالابتداء وباد خبره مقدم عليه عند سيبويه.
وعند الأخفش: باد مبتدأ وهواك مرتفع به كما يرتفع الفاعل، وقد سد مسد المبتدأ.
وقوله: أو لم تصبرا في موضع جزم، وأصله: تصبرن بالنون الخفيفة للتأكيد، فأبدل عنها ألفاً في الوقف، كقوله تعالى: " لَنَسْفَعاً " وقول الأعشى:
ولا تعبد الشّيطان والله فاعبدا
هذا قول البصريين. وفي قول البغداديين: أنه خاطب الواحد الاثنين كقول الآخر:
فإن تزجراني بابن عفّان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنّعاً(1/431)
والمعنى: أن هواك ظاهر علاماته، سواء صبرت أو جزعت، وكذلك بكاؤك ظاهر، سواء جرى دمعك أو لم يجر.
وحكى أنه قيل للمتنبي: إنك خالفت بين المصراعين، فوضعت في الأول إيجاباً بعده نفي، وفي الثاني نفياً بعده إيجاب، وصنعة الشعر تقتضي الموافقة بين صدر البيت وعجزه. فقال: إن كنت خالفت بينهما لفظاً فقد وافقت بينهما معنىً، وذلك أن من صبر لم يجر دمعه، ومن لم يصبر جرى دمعه، ومراعاة المعنى أولى من مراعاة اللفظ.
وبكاك عطف على هواك ويجوز أن يكون عطفاً على الضمير في صبرت كأنه قال: صبرت وصبر بكاؤك فلم يجر دمعك أو لم تصبر فجرى دمعك.
كم غرّ صبرك وابتسامك صاحباً ... لمّا رآه وفي الحشى ما لا يرى
الوجه: لما رآهما. ولكنه أقام ضمير الواحد مقام الاثنين. وقيل: أراد، كم غر صبرك صاحباً لما رآه، وابتسامك لما رآه، فحذف أحد الضميرين لدلالة الآخر، كما قال بعضهم:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرّأي مختلف
أي نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض. ثم اكتفى بأحد الخبرين عن الآخر.
وقيل: إنه أضمر التجلد. والضمير في رآه إليه راجع؛ وذلك أن الصبر والابتسام واحد وهو التجلد.
والمعنى: أن كثيراً من أصحابك لما رأوا صبرك وضحكك غرهم ذلك منك، ولم يعلموا ما في قلبك من نار الهوى وألم العشق.
أمر الفؤاد لسانه وجفونه ... فكتمنه وكفى بجسمك مخبرا
الهاء في لسانه وجفونه: للفؤاد، وقيل: للعاشق؛ لأن في الكلام دلالة عليه، وفي كتمنه إلى ما لا يرى.
يقول: لسانك يكتم أمر الهوى فلا ينطق به، وجفونك تكتمه بترك البكاء، فكأن قلبك أمرهما بكتم الهوى، وهما إخوانه وأتباعه، ولكن نحول جسمك يخبر عما في قلبك، فكفى به مخبراً.
تعس المهارى غير مهريٍّ غدا ... بمصّورٍ لبس الحرير مصوّرا
المهارى: جمع مهري، وهي إبل تنسب إلى مهرة بن حيدان أبو حي من العرب جيد الإبل. وتعس: أي شقي جده، وقوله: بمصور أي بإنسان مصور صورة حسنة، لبس حريراً مصوراً بالصور والنقوش.
دعاء على الإبل؛ لأنها سبب الفراق، إلا هذا البعير الذي فوقه هذه المرأة التي هي كالصورة في حسنها، وعليها ثياب حرير عليها تصاوير. ومصوراً: نصب على الحال.
نافست فيه صورةً في ستره ... لو كنتها لخفيت حتّى يظهرا
الهاء في فيه للمصور وهو المحبوب، وقيل: هو الحرير. والهاء في ستره يرجع إلى المصور.
يقول: كان دون هذه المحبوبة ستر عليه صورة، نافست هذه الصورة وحسدتها على قربها من المحبوب، ولو كنت هذه الصورة لخفيت وغبت حتى يظهر المحبوب للرائيين، بخلاف هذا الستر الذي لا يغيب.
والفائدة في ظهوره إنما هو تنزه الأبصار برؤيته وتكون الفائدة فيه.
وصف نفسه بالنحول وأنه بصفة لا تستره عن الناظرين، أو يريد إقامة عذره للناس في حبه إياه.
لا تترب الأيدي المقيمة فوقه ... كسرى مقام الحاجبين وقيصرا
لا تترب: أي لا تفتقر المقيمة الفاعلة من الإقامة التي هي المتعدي من القيامة. وكسرى وقيصر نصب به، والهاء في فوقه للستر.
يقول: لا تترب يد من نقش على هذا الستر صورة كسرى وقيصر؛ حيث أقامهما على باب الستر كالحاجبين.
يقيان في أحد الهوادج مقلةً ... رحلت وكان لها فؤادي محجرا
المحجر: ما يبدو من النقاب من حوالي العين، جعل المحبوبة عين قلبه فقال: إن كسرى وقيصر يحفظان في واحد من الهوادج يعني هودج حبيبته مقلةً، فلما ارتحلت المقلة زال عن قلبي ضياؤه وعمي قلبي، فصار محجراً لا مقلة له.
قد كنت أحذر بينهم من قبله ... لو كان ينفع حائناً أن يحذرا
لهاء في قبله للبين، وقيل: أراد من قبل وقوعه، فحذف المضاف والحائن: الذي دنا حينه وهلاكه.
يقول: لو نفع الحذر الحائن لنفعني؛ لأني كنت أحذر فراقهم قبل وقوعه، فلم ينفعني الحذر، لما وقع بي ما حذرته.
ولو استطعت إذا غدت روّادهم ... لمنعت كلّ سحابةٍ أن تقطرا
الرواد: جمع رائد.
يقول: لو قدرت - حين تخرج روادهم لطلب الماء والكلأ - لمنعت السحاب من المطر، لكن لا قدرة لي على ذلك.
فإذا السّحاب أخو غراب فراقهم ... جعل الصّياح ببينهم أن يمطرا(1/432)
يقول: لو قدرت لمنعت كل سحابة من المطر؛ لأني تأملت الحال فرأيت السحاب سبباً للفراق؛ لأنه إذا مطر خرجوا لطلب المطر والكلأ، فهو مثل غراب البين؛ لأنه إذا صاح أذن بالفراق! ومطر السحاب كذلك، فالسحاب كالغراب ومطره في دلالته على الفراق كصياح غراب البين، فلو قدرت لمنعته من المطر حتى لا يؤدي إلى الفراق.
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنفٍ ... إلاّ شققن عليه ثوباً أخضرا
الحمائل: جمع الحمولة، وهي الإبل التي يحمل عليها. والنفنف: المهوى بين جبلين. ويخدن: يسرعن. شبه كثرة الكلأ على وجه الأرض بثوب أخضر، وشقها إياه: رعيها له حتى يصير كالثوب المشقوق لما رعت الوسط وتركت الحافات.
وقيل: شقها إياه: سيرها فيه.
يقول: وإذا إبلهم لا تسير في فلاة إلا شقت عليها ما لبست من الكلأ، برعيها ووطئها.
يحملن مثل الرّوض إلاّ أنّه ... أسبى مهاةً للقلوب وجؤذرا
شبه الهوادج بالروض؛ للنقوش التي عليها، وشبه النساء التي في الهوادج ببقر الوحش وأولادها.
يقول: تحمل هذه الإبل في هذا الروض هوادج مثل الروض وكذلك مثل الروض من ربات الهوادج، إلا أن هؤلاء النساء أسبى للقلوب من المها والجآذر.
ومهاةً وجؤذرا نصبا على التمييز.
فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفاً، وأنكر خاتماي الخنصرا
نكرت الشيء فأنكرته.
يقول: بسبب لحظ النساء ضعفت راحتي عن حمل قناتي، وقلق خاتمي في خنصري؛ لنحولي وضعفي.
أعطى الزّمان فما قبلت عطاءه ... وأراد لي فأردت أن أتخيّرا
يقول: أعطاني الزمان حظاً فلم أقبله منه، وأردت أن أكون أشرف منه، وأراد لي حالاً فأحببت أن يكون على اختياري، فلم أرض إلا بلقاء ابن العميد.
أرجان أيّتها الجياد فإنّه ... عزمي الّذي يذر الوشيج مكسّرا
أرجان: مدينة من فارس، أصله بتشديد الراء، ونصبه بفعل مضمر، أي اقصدي أرجان.
يقول لخيله: اقصدي أرجان فإني عزمت على لقاء ابن العميد عزماً صحيحاً، لو ردني عنه رمح لكسر الرمح عزمي.
والوشيج: الرماح. وأصله: أصول الرماح.
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله ... ما شقّ كوكبك العجاج الأكدرا
الفعال بفتح الفاء: ما يفعله الإنسان من كرم وجود وغيرهما، وكوكب الخيل: مجتمعها، والأكدر: الأسود.
يقول لخيله: لو فعلت ما نت تشتهينه ما جشمتك دخول الغبار الأسود وشقه؛ لأن مرادك ألا تتكلفي ذلك، غير أني لا أرضى إلا بما أجشمك من المشقة في قصدي إلى ابن العميد ورؤيتي إياه.
أمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأيمّمنّ أجلّ بحرٍ جوهراً
أمي: أي اقصدي، والمبر: المصدق، والآلية: اليمين. يعني: اقصدي أبا الفضل؛ فإنه الذي يبر يميني فيكون المبر خبراً لأمي.
يقول: اقصدي أبا الفضل، فإنه الذي يبر يميني حيث حلفت أني أقصد بحراً جوهره أجل من جوهر كل بحر، وليس أحد بهذه الصفة غيره، فهو الذي يبر يميني.
أفتى برؤيته الأنام وحاش لي ... من أن أكون مقصّراً أو مقصرا
يقال: قصرت عن الشيء: إذا تركته عاجزاً، وأقصرت: إذا تركته وأنت قادر عليه.
يقول: لما حلفت على أن ألقي أجل بحر جوهراً، أفتاني الناس كلهم بأن يميني لا تبر إلا برؤيته، لأنه المختص بهذه الصفة، وحاشى لي من أن أترك قصده قدرت أو لم أقدر عليه، فإن مثلي إذا حلف لا يحنث في يمينه، فلا بد لي من لقائه.
صغت السّوار لأيّ كفٍّ بشّرت ... بابن العميد، وأيّ عبدٍ كبّرا
يقول: صغت السوار، لأجعله في يد من يبشرني بابن العميد، وكذلك صغت لأي عبد كبر. يريد بذلك: ما جرى من عادة الناس إذا رأوا ما يتوقعون، أو شيئا يعجبهم كبروا عند رؤيته.
إن لم تغثني خيله وسلاحه ... فمتى أقود إلى الأعادي عسكرا؟!
يقول: إن لم يغثني ابن العميد بخيله وسلاحه، لم أقدر على تجهيز الخيل إلى قتل الأعداء.
بأبي وأمّي ناطقٌ في لفظه ... ثمنٌ تباع به القلوب وتشترى
يقول: أبي وأمي فداء لناطق يملك بحسن لفظه، قلوب الناس، فكأنه يجعل لفظه ثمناً للقلوب يشتريها به.
من لا تريه الحرب خلقاً مقبلاً ... فيها، ولا خلقٌ يراه مدبرا
من بدل من قوله: بأبي وأمي ناطق والهاء في فيها للحرب.(1/433)
يقول: بأبي من لا تريه الحرب أحداً من الناس مقبلا إليه، ولا يراه أحد مدبرا: أي لا يقدر على لقائه أحد، ولا يولي من بين يدي أحد أيضاً.
خنثى الفحول من الكماة بصبغه ... ما يلبسون من الحديد معصفرا
أي: جعل الفحول كالمخنثين الذين يلبسون المعصفرات: يعني خضب ثياب الكماة ودروعهم بدمائهم فصاروا كالمخنثين الذين يلبسون المعصفرات. وقيل: جعلهم كالمخنثين لجبنهم. وتقديره: بصبغه معصفرا ما يلبسون من الحديد.
يتكسّب القصب الضّعيف بخطّه ... شرفاً على صمّ الرّماح ومفخراً
أراد بالقصب الضعيف: القلم، وبالمفخر: الفخر.
يعني: إذا كتب بقلمه اكتسب قلمه بخطه شرفا على الرماح؛ لأنه يفعل بقلمه ما لا يفعله الفارس برمحه.
ويبين فيما مسّ منه بنانه ... تيه المدلّ فلو مشى لتبخترا
الهاء في منه للقصب.
يقول: يظهر في كل قصب مسه بنانه من التيه ما لو أمكنه المشي لتبختر في مشيه.
يا من إذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيّرا
يعني: إذا كتب لعدو كتاباً لم يحتج إلى إنفاذ الجيوش؛ لأنه يهزمهم بكتابه ويصيرهم متحيرين بوعده ووعيده.
وهذا المعنى ذكره ابن العميد لنفسه في قوله:
إذا ما حلّ أرض علاي خطبٌ ... كشفت الخطب عنها بالخطابه
وإن زحف الكتائب نحو أرضي ... قصمت عرى الكتائب بالكتابه
أنت الوحيد إذا ركبت طريقةً ... ومن الرّديف وقد ركبت غضنفرا
يقول: أنت في جميع أحوالك لا نظير لك، لا تركب إلا كل طريقة صعبة لا يطيقها أحد، ولا يتبعك فيها أحد؛ مخافة فضيحة، فكأنك ركبت الأسد، ومن ركب الأسد لا يمكن أحد من أن يصير رديفا له.
قطف الرّجال القول قبل نباته ... وقطفت أنت القول لمّا نوّرا
يقول: كلام الناس لم يدرك بعد، فهو كنور لم يتنور، وكلامك عذب فصيح كنور تنور وأدرك.
فهو المتبّع بالمسامع إن مضى ... وهو المضاعف حسنه إن كرّرا
فهو: أي القول.
يقول: كلامك كلما سمعه سامع استعاده وتتبعه بسمعه؛ لحسنه، وكلما كرر على المسامع ازداد حسنه.
وإذا سكتّ فإنّ أبلغ خاطبٍ ... قلمٌ لك اتخذ الأصابع منبراً
يقول: إذا سكت قام قلمك مقام خطابك، يخطب الناس ومنبره أصابعك شبه قلمه على أنامله بخطيب على منبر.
ورسائلٌ قطع العداة سحاءها ... فرأوا قناً وأسنّةً وسنّورا
السحاء ما يشد به القرطاس، سمي بذلك لأنه يسحي من ظهره أو يقشر، والسنور: ما لبس من جنس الحديد خاصة كالدروع والجواشن.
يقول: إذا فض أعداؤك كتبك رأوا من بلاغتك ما يملأ قلوبهم رعباً، فكأن الكتابة كتيبة فيها الرماح والأسلحة، تدفع بها الأعداء وتفل بها الجيوش.
وقيل: إنهم إذا رأوا فصاحتك ماتوا حسداً لك.
فدعاك حسّدك الرّئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرّئيس الأكبرا
كان ابن العميد يخاطب بالأستاذ الرئيس.
يقول: إن أعداءك خاطبوك بالرئيس، ولم يزيدوا عليه، والله تعالى قد سماك الرئيس الأكبر.
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخطّ يملأ مسمعي من أبصرا
الهاء في كلامه تعود إلى الخالق.
يعني: أن الله تعالى لم يدعك الرئيس الأكبر بصوت يسمع، وإنما جعل فيك صفات تقوم مقام كلامه، لأن صفاتك توجب لك هذه التسمية. فكأنها خط فيه حكاية قول الله تعالى: إنك الرئيس الأكبر. فكما أن الخط إذا نظر إليه فهم ما يدل عليه من المعاني، وإن لم يسمع، فكذلك يفهم في صفاتك هذا الاسم وإن لم يسمع.
أرأيت همّة ناقتي في ناقةٍ ... نقلت يداً سرحاً وخفّاً مجمرا؟!
اليد السرح: السهلة القبض والبسط، والخف المجمر: الصلب يقول: هل رأيت همة ناقتي فيما بين النوق، كيف علت سائر الهمم، حيث قصدتك، بنقل يد سرح وخف مجمر، وترك الملوك وراءها.
تركت دخان الرّمث في أوطانها ... طلباً لقومٍ يوقدون العنبراً
الرمث نبت يوقد به وإذا أكلته الإبل اشتكت بطونها.
يقول: تركت ناقتي أهل البادية الذين يوقدون الرمث، وقصدت ملكاً يوقد العنبر، فهمتها بخلاف همة سائر النوق. ومثله للبحتري:
نزلوا بأرض الزّعفران وجانبوا ... أرضاً تربّ الشّيح والقيصوما
وتكرّمت ركباتها عن مبركٍ ... تقعان فيه وليس مسكاً أذفرا(1/434)
إنما جمع الركبة مع أن للناقة ركبتين مجازاً، لأنه أراد الركبتين وما بينهما أو يكون قد سمى لكل جزء منه ركبة، ثم قال: تقعان فرجع إلى التثنية الحقيقية وترك المجاز، والأذفر: الذكي الرائحة.
يقول: إن ناقتي ترفعت وأنفت عن أن تقع ركبتاها على مبرك فيه التراب، وإنما أرادت أن تقع ركبتاها على المسك الأذفر، فلهذا قصدتك
فأتتك دامية الأظلّ كأنّما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
الأظل: باطن الخف الذي يلي الأرض، وحذيت أي جعل لها حذاءً وهو النعل.
يقول: جاءتك ناقتي والحجارة قد أدمت أخفافها، فكأنها حذيت بالعقيق الأحمر. شبه الدم الأحمر بالعقيق.
بدرت إليك يد الزّمان كأنّها ... وجدته مشغول اليدين مفكّرا
يقول: إن ناقتي سبقت إليك قبل أن يعلم الزمان فيعوقها عنك، فكأنها رأت الزمان مشغولا عنها فانتهزت الفرصة.
من مبلغ الأعراب أنّى بعدها ... لاقيت رسطاليس والإسكندرا
يقول: من مبلغ الأعراب الذين فارقتهم، أني رأيت ملكا كأنه أرسطاليس في حكمته وعلمه، والاسكندر في ملكه. كأنه يعرض بسيف الدولة.
ومللت نحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النّضار لمن قرى
العشار: النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر، والنضار: الذهب الخالص، وهو بدل من البدر ويجوز أن يكون صفة لها.
يقول: من يبلغ الأعراب أني مللت ذبح نوقها لي ضيافةً، فخرجت من عندها وقصدت من ينحر لي بدر الذهب: أي يملكني إياها ويصلني برغائب الأموال وأنواع الصلات.
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملّكاً متبدّياً متحضّرا
نصب دارس: على الحال من بطليموس ومتملكا على الحال من الممدوح. والهاء في كتبه للمدوح.
يقول: سمعت أن بطليموس مع كمال فضله، دارس لكتب ابن العميد ومستفيد منها، وهو قد جمع الملك وفصاحة البدو وظرف الحضر.
وقيل الهاء في كتبه لبطليموس. يعني: سمعته يدرس كتب بطليموس مع ما له من الملك والفصاحة والظرف.
ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا
يقول: إن فضل الفضلاء كلهم موجود فيه، فكأنه جمع جميع الفضلاء، وكأن الله تعالى رد أعصر الفاضلين ونفوسهم، فكأنهم حضور لم يموتوا. وهذا كقول أبي نواس:
وليس على الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد
نسقوا لنا نسق الحساب مقدّماً ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا
يقول: مضى هؤلاء الفضلاء واحداً بعد واحد، كالحساب الذي يذكر تفاصيله، ثم يقال في آخره: فذلك الجميع. أي لما جئت في آخرهم كنت كأنك جملة التفصيل الذي سلف لهم، لأنك جمعت فضائل الكل ومناقبهم.
يا ليت باكيةً شجاني دمعها ... نظرت إليك كما نظرت فتعذرا
شجاني: أحزنني، ودمعها فاعل شجاني فتعذرا نصب لأنه جواب التمني بالفاء.
يقول: ليت التي بكت عند مفارقتي إياها، حتى أحزنني دمعها، نظرت إليك كما نظرت لتعذرني في مفارقتها وقصدي إليك واختياري أكون عندك.
وترى الفضيلة لا تردّ فضيلةً ... الشّمس تشرق والسّحاب كنهورا
الكنهور: القطعة العظيمة من السحاب، وفاعل ترد ضمير الفضيلة ونصب فضيلة لأنها مفعول بها، ونصب الشمس بدل من الفضيلة، وكذلك السحاب وقيل: إن الشمس نصب بتشرق.
يقول: ترى فيك الفضائل المتضادة مجتمعة! لا يرد بعضها بعضاً، فكأنها رأت الشمس والسحاب العظيم في وقت واحد، ومن عادة السحاب أن يستر الشمس، والشمس تذهب السحاب، وأنت قد اجتمع فيك نور الشمس، ومطر السحاب بجودك! ولا يرد أحدهما الآخر، وفاعل ترى ضمير الباكية.
أنا من جميع النّاس أطيب منزلاً ... وأسرّ راحلةً وأربح متجرا
أي: لما قصدتك طاب منزلي، وسرت راحلتي وربحت صفقتي وفضلت جميع الناس في هذه الأحوال. والمنصوبات هي على التمييز.
زحلٌ على أنّ الكواكب قومه ... لو كان منك لكان أكرم معشرا
القوم: لا يقع إلا على المذكرين من العقلاء، لكن لما كانت الكواكب محيطة بزحل، وهو واحد منها، جعلها قومه.
يقول: إن زحل - مع أن الكواكب قومه - لو كان من جملتك ومنتسباً إليك، لكان أكرم معشراً من كونه من من جملة الكواكب.
وقال يمدحه ويهنئه بالنيروز وينعت سيفاً قلده إياه وخيلاً حمله عليها ويذكر انتقاده شعره:(1/435)
جاء نيروزنا وأنت مراده ... وورت بالذي أراد زناده
يقال: نيروز، ونوروز. وورت أي أضاءت.
يقول: إنما جاء النوروز ليسر برؤيتك فورت زناده: أي أدرك مراده.
هذه النّظرة الّتي نالها من ... ك إلى مثلها من الحول زاده
يقول: هذه النظرة التي نالها منك الآن، تكفيه للمسرة إلى عام قابل مثله والهاء في زاده للنيروز.
ينثني عنك آخر اليوم منه ... ناظرٌ أنت طرفه ورقاده
آخر اليوم: نصب على الظرف. والناظر: ناظر العين، وهو سواده الذي به يكون النظر. والهاء في منه وطرفه ورقاده للنيروز. وروى: ينقضي بدل ينثني.
يقول: ينصرف عنك النيروز وقد خلف عندك لحظه ورقاده، فبقي بلا لحظ ولا نوم، إلى أن يعود إليك.
شبه النيروز بمحب يسر بقرب حبيبة ويسهر لفراقه، فهو يشتاق إليه إلى أن يعود إليه.
نحن في أرض فارسٍ في سرورٍ ... ذا الصّباح الّذي يرى ميلاده
ذا الصباح: إشارة إلى صباح النيروز المذكور. والهاء في ميلاده للسرور.
يقول: نحن في سرور في هذا الصباح، الذي هو ميلاده السرور.
عظّمته ممالك الفرس حتّى ... كلّ أيّام عامه حسّاده
الهاء في عظمته وفي عامه وحساده للنيروز أو الصباح المذكور، وهما واحد، وأراد بالممالك: أهل ممالك الفرس، فحذف.
يعني: أن ملوك الفرس عظموه، حتى صارت سائر أيام السنة تحسده لذلك التعظيم.
ما لبسنا فيه الأكاليل حتّى ... لبستها تلاعه ووهاده
الأكاليل: جمع الإكليل وهو مثل التاج. والتلاع: جمع تلعة، وهي الأرض المرتفعة. والوهاد: جمع وهدة، وهي ما انهبط من الأرض. والهاءات للنيروز إلا في قوله: لبستها فإنه للإكليل.
يقول: لم تعقد على رءوسنا أكاليل الأنوار إلا بعد أن عمت الأنوار التلاع والوهاد وصارت عليها كالأكاليل، وهو مثل قول أبي تمام:
حتّى تعمّم صلع هامات الرّبا ... من نوره وتأزّر الأهضام
والعمائم: أي الأكالي، إلا أن بيت أبي تمام أجود، لأنه جعل ما كان على الربا كالعمائم لارتفاعها، وما كان في الأهضام وهي المطمئن من الأرض كالأزر.
والمتنبي جعل الأكاليل على التلاع والوهاد.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن معناه: لبستها تلاعه واتزرت بمثلها وهاده والتحفت، لأن لفظ اللبس مشتمل على العمائم والمآزر، فاكتفى بأحدهما كما قال:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّداً سيفاً ورمحا
عند من لا يقاس كسرى أبوسا ... سان ملكاً به ولا أولاده
يعني: نحن في أرض فارس، أو صرنا في هذا اليوم عند ملك أجل من كسرى أبي ساسان وأولاده وملكا نصب على التمييز ويجوز أن يكون تعلق البيت بالذي قبله.
يقول: ما لبسنا فيه الأكاليل عند ملك هذه حاله، حتى لبستها تلاعه ووهاده.
عربيٌّ لسانه فلسفيٌّ ... رأيه فارسيّةٌ أعياده
يعني: أنه فصيح اللسان فكأنه عربي، ورأيه رأى الفلاسفة في الحكمة، وأعياده أعياد العجم.
كلّما قال نائلٌ: أنا منه ... سرفٌ، قال آخرٌ: ذا اقتصاده
يعني: كلما أعطى عطاءً تستعظمه الناس! ويقولون: هذا سرف أتى بعده بعطاء آخر أعظم منه، حتى يرى الناس أن الأول كان اقتصادا، وهذه عادته أبداً، فليس لعطائه حد. فنسب القول إلى النائل مبالغة.
كيف يرتدّ منكبي عن سماءٍ ... والنّجاد الّذي عليه نجاده؟!
النجاد: حمائل السيف.
يقول: كيف لا يبلغ منكبي السماء، وعليه نجاد ابن العميد؟! أي كيف لا أبلغ السماء عزاً وشرفاً، وقد تقلدت بسيفه.
وقيل: أراد أن ابن العميد بلغ السماء طولا، فكيف لا أبلغ السماء وقد لبست نجاده؟ وقوله: كيف يرتد أي كيف يقصر منكبي عن بلوغ السماء؟ والهاء في عليه للمنكب وفي نجاده للممدوح.
قلّدتني يمينه بحسامٍ ... أعقبت منه واحداً أجداده
الهاء في منه للسيف وكذلك في أجداده.
يقول: قلدني سيفاً لا نظير له في السيوف وقوله: أعقبت منه معناه أن السيف ينسب إلى الهند، كما ينسب الرجل إلى أجداده، فكأن الهند أجداد هذا السيف، فلم يعقب رجال الهند منه إلا واحداً: أي لم يطبع له نظير.
وقيل: إن الهاء منه للممدوح وهو المراد بالحسام وشبهه به لمضائه فكأنه.
يقول: أعقبت أجداده منه واحداً لا ثاني له.
كلّما استلّ ضاحكته إياةٌ ... تزعم الشّمس أنّها أرآده(1/436)
الإياة: ضوء الشمس. والأرآد: جمع الرئد، وهو الترب. والهاء في أنها للشمس وفي أرآده للسيف.
والمعنى: كلما استل السيف قابلته الشمس بآياتها وزعمت أنها تشبه لونه في صفائه وبريقه.
شبه إياة الشمس، بالسيف وبريقه.
وقيل: الهاء في أنها للإياءة، وفي أرآده للشمس، وذكره لأن تأنيثها ليس بحقيقي ولا علامة فيه اضطرارا للقافية.
أي: تزعم الشمس: أن إياة الشمس وضوءها مثل ضوئه في المنظر.
مثّلوه في جفنه خشية الفق ... د ففي مثل أثره إغماده
أثر السيف وأثره: جوهره، وكان على جفن هذا السيف فضة منقوشة بالسواد.
يعني: أن الصاغة مثلوا هذا السيف في جفنه: أي جعلوا مثالا في غمده له، لئلا يغيب عن عينهم لحسنه، فهو مغمد في جفن يشبه رونقه وجوهره؛ لأن الفضة التي عليه إذا جليت وصقلت أشبهت رونق السيف، فكأنه مجرد وهو مغمد، وصاحبه ينظر إليه ولا يفقد حسنه ولا رونقه.
منعلٌ لا من الحفا ذهباً يح ... مل بحراً فرنده إزباده
نعل السيف: الحديدة التي في أسفل غمده. والفرند: جوهر السيف وخضرته.
يقول: غمد هذا السيف منعل ذهباً، ولم ينعل لأجل الحفاء، وهذا النعل يحمل سيفاً كالبحر في كثرة مائه، ولما جعله بحراً جعل جوهره عليه بمنزلة الزبد فوق البحر.
يقول: هو بحر ولكن زبده فرنده.
يقسم الفارس المدجّج لا يس ... لم من شفرتيه إلاّ بداده
البداد: بداد السرج وهو الذي عليه من الجانبين، وقيل: هو الفخذان. والمدجج: تام السلاح.
يقول: إذا ضرب فارساً قطعه نصفين مع فرسه، فلا يسلم منه إلا البداد؛ لانحرافه عن وسط السرج، وقوله: من شفرتيه يريد بأي شفرتيه ضرب.
جمع الدّهر حدّه ويديه ... وثنائي فاستجمعت آحاده
آحاده: أي غرائب الدهر التي لا نظير لها، والهاء في حده للسيف وفي يديه للممدوح وفي آحاده للدهر.
يقول: جمع الدهر بين حد هذا السيف في نفاذه، ويدي ابن العميد في سخائه وثنائي في فصاحته. وكل واحد غريب. ومعناه: لا نظير له، فاجتمعت آحاد الدهر وغرائبه.
وتقلّدت شامةً في نداه ... جلدها منفساته وعتاده
الهاء في نداه ومنفساته وعتاده للممدوح. والمنفسات: كل شيء شريف نفيس.
يعني: أن هذا السيف في جملة ما أعطانيه من منفساته وذخائره، مثل الشامة في الجسد. لما جعل السيف شامة جعل المنفسات جلداً لها؛ لأن الشامة لا تكون إلا على الجلد.
وقيل: عنى بالجلد، غمد السيف وحليته. جعل السيف كالشامة لوضوحه في جملة ما أعطاه، وأراد أن السيف قيمته دون قيمة جفنه، لما عليه من الحلية، فهو وإن كان نفيساً فحليته أنفس منه! والهاء في منفساته وعتاده عائدة إلى الندى. وقيل إن الهاء عائده إلى الشامة، وذكره لما أراد به السيف.
وقيل: أراد بالجلد، ما يلي هذا السيف من عطاياه المتقدمة والمتأخرة. جعلها كالجلد حول الشامة.
وقيل: أراد بالجلد ظاهره الذي عليه الفرند لأن أنفس ما في السيف فرنده.
فرّستنا سوابقٌ كنّ فيه ... فارقت لبده وفيها طراده
فرستنا: أي جعلتنا فوارس والهاء في فيه للندى وفي فيها للسوابق وكن فعل السوابق.
يعني: علمتنا الفروسية خيل سوابق كن في نداه وقوله: فارقت لبده أي انتقلت من سرج ابن العميد، وصارت تحت سرجي.
يعني: هي وإن خرجت من ملكه وفارقت سروجه، فإنها لم تفارق من تعب طراده؛ لأني أقاتل عليها بين يديه، وأسير عليها معه حيث سار. وقوله: فيها طراده: أي عليها طراده، والهاء في لبده وطراده لابن العميد.
وقيل: معناه أنها وإن كانت غير سائرة فذكرها سائر في الأرض، وقيل: أراد أن هذه الخيل تغيظ الحساد وتغير على الزمان، فكأنها في طراد، وإن كانت مستريحة.
ورجت راحةً بنا لا تراها ... وبلادٌ تسير فيها بلاده
يقول: إن الخيل لما انتقلت إلي، رجت أن تستريح من إتعابه إياها، وليست ترى ذلك ما دمت أنا أسير في بلاده، لأني ما دمت عنده فأنا متصرف بحكمه فكأنها لم تخرج عن ملكه.
وقيل: أراد أنا لا نزال نعدو معه في غزواته، ونطارد عليها معه، إذا ركب إلى الصيد، فلا تستريح ما دمنا في خدمته، فهي إذاً لا تستريح أبداً لأنا لا نفارق خدمته أبداً.
هل لعذري إلى الإمام أبي الفض ... ل قبولٌ سواد عيني مداده
الهاء في مداده للقبول. والجملة صفة له.(1/437)
يقول: هل يقبل عذري في قصوري عن خدمته، ولو قبل عذري لكتبت قبوله بسواد عيني وجعلته مداداً لكتبته، لعظم موقعه لدي.
وقيل: الهاء راجعة إلى الممدوح، يريد على وجه الدعاء كأن سواد عيني مداداً يكتب به هو
أنا من شدة الحياء عليلٌ ... مكرمات المعلّه عوّاده
الهاء في المعله وعواده للعليل.
يقول: أنا عليل من فرط حيائي. حيث قصرت في خدمته وقد أخجلني بانتقاده شعري وقد أعلني وجعل مكارمه عوادي.
وقيل: المعنى اعتللت من شدة الحياء، والذي أعلني هو ابن العميد، لأنه أكثر من مكرماته ومواهبه، حتى أدى ذلك إلى الفرح الغالب علي، وأدى ذلك إلى الحياء في تقصيري، ولولاه لما كنت ذا حياء، غير أنه جعل مكرماته متجددة عندي فجعلها بمنزلة عوادي.
ما كفاني تقصير ما قلت فيه ... عن علاه حتّى ثناه انتقاده
ثناه: أي جعله ثانياً. وروى ثناني: أي صرفني.
يقول: كنت قد خجلت من تقصيري في خدمته، فزادني خجلا حين انتقد علي عشري، فلم يكفني قصوري عن وصفه وتقصيري في خدمته، حتى انضم إليه انتقاده.
إنّني أصيد البزاة ولكن ... ن أجلّ النّجوم لا أصطادّ
يعني: أنا أبلغ الشعراء وأقدرهم على الوصف، ولكن معالي ابن العميد أعجزتني عن إدراكها، فلست أصل إلى وصفها، كالبازي لا يمكنه أن يصيد أجل النجوم وهو الشمس.
ربّ ما لا يعبّر اللّفظ عنه ... والّذي يضمر الفؤاد اعتقاده
يقول: رب معنى له قد استقر في قلبي، غير أن عبارتي تقصر عنه ولا تلحقه، وأنا أصفه بقلبي، وإن قصر اللفظ عنه.
ما تعوّدت أن أرى كأبي الفض ... ل وهذا الّذي أتاه اعتياده
يقول: لم أمدح مثل أبي الفضل، إذ لم أشاهد له مثالاً؛ فلذلك قصرت عن كنه وصفه، وهذا الذي أتى به من الكرم والجود هو عادة طبع عليها، لا تكلف فيها.
وقيل: معناه ما رأيت مثله ومثل انتقاده، وهو قد رأى مثلي، وما أتاه من انتقاد شعري عادته، وقد فعل قبل ذلك كثيراً.
وهذا يدل على تحرزه من ابن العميد والإقرار له بالفضل.
إنّ في الموج للغريق لعذراً ... واضحاً أن يفوته تعداده
يعني: قد غرقت في بحر جودك فاعذرني إن عجزت عن إحصائه؛ فإن الغريق معذور إذ لم يقدر على عد أمواج البحر.
وقيل: إن فضائله غرقت فكري، فلم أقدر على وصفها حق الوصف، فكأنها موج وكأنني غريق فيه، لا يمكنني تعداده.
للنّدى الغلب أنّه فاض والشّع ... ر عمادي وابن العميد عماده
الهاء في عماده للندى.
يقول: الغلب للندى حيث فاض علي وغشني بكثرته، لأن عماده ابن العميد، وعمادي الشعر، فمادة الندى أغزر من مادة الشعر.
نال ظنّي الأمور إلاّ كريماً ... ليس لي نطقه ولا فيّ آده
الآد والأيد: القوة، والظن ها هنا: العلم.
يقول: قد أحاط علمي بجميع الأمور، غير ابن العميد، فإن علمي لا يحيط بوصفه، ولا في قوة لاستنباط معانيه، ولا تقوم عبارتي بمدحه.
وقيل: أراد لم يجر في وهمي أني أرى إنساناً ليس لي مثل بلاغته وقوته. يعني: لم يكن في ظني أن في الدنيا أحداً أقصى مني، حتى رأيت ابن العميد. والهاء في نطقه وآده للكريم.
ظالم الجود كلّما حلّ ركبٌ ... سيم أن يحمل البحار مزاده
ظالم: نصب لأنه نعت لقوله: إلا كريماً.
يعني: أن جوده يظلم قصاده؛ لأنه يكلفهم أن يحملوا البحار وهي جوده في مزاودهم وهذا ظلم، لأن أحداً لا يقدر عليه.
غمرتني فوائدٌ شاء فيها ... أن يكون الكلام ممّا أفاده
يقول: أفادني فوائد، حتى جعل فيها كلامه: أي تعلمت منه حسن القول، فصار ذلك من جملة ما غمرني من فوائده.
ما سمعنا بمن أحبّ العطايا ... فاشتهي أن يكون فيها فؤاده
يعني: أن كلامه نتيجة عقله ومادة قلبه، فإذا أفاده إنساناً فكأنه أفاده قلبه، وما سمعنا بأحد يهب قلبه في مواهبه.
خلق الله أفصح النّاس طرّاً ... في مكانٍ أعرابه أكراده
يقول: خلق الله تعالى ابن العميد أفصح الناس، في بلاد ليس فيها إلا الأكراد، والأعراب فيها غير الأكراد. وهذا أبين لفضله لأنه مقرون بضده.
وأحقّ الغيوث نفساً بحمدٍ ... في زمانٍ كلّ النّفوس جراده
أحق نصب لأنه مفعول خلق الله يعني: خلق الله تعالى منه غيثاً في زمان كل الناس فيه جراده. والهاء للزمان.(1/438)
يعني: هو بمنزلة الغيث، والناس كالجراد يفسدون الزرع ويخربون البلاد، فهو أولى بالحمد من كل أحد؛ لأنه ينفع وغيره يضر. وهذا كقول أبي عينية يهجو يزيد بن خالد ويمدح أباه:
أبوك لنا غيثٌ نعيش بسيبه ... وأنت جرادٌ لست تبقى ولا تذر
مثلما أحدث النّبّوة في العا ... لم والبعث حين شاع فساده
الهاء في فساده للعالم.
يقول: أوجدك الله تعالى في هذا الزمان بعد ما شاع فيه البخل والفساد، كما بعث الله تعالى الأنبياء حين شاع في العالم الكفر والفساد، وهذا كقول الفرزدق:
جعلت لأهل الأرض عدلاً ورحمةً ... على فترةٍ والنّاس مثل البهائم
كما بعث الله النّبيّ محمّداً ... على فترةٍ والنّاس مثل البهائم
زانت اللّيل غرّة القمر الطّا ... لع فيه، ولم يشنها سواده
الهاء في سواده لليل. يعني: أنك زنت زمانك بمحاسنك، ولم يضرك لؤم أهله وفسادهم، كما أن البدر يزين الليل بضيائه، ولا يضره سواد الليل.
كثر الفكر كيف نهدي كما ... أهدت إلى ربّها الرّئيس عباده
يقول: كثر فكري فيما أهديه إلى ابن العميد في يوم النيروز، كما تهدي إليه عبيده.
لما جعله رباً جعل الناس عبيداً له، تفخيماً وتعظيماً.
والّذي عندنا من المال والخي ... ل فمنه هباته وقياده
يعني: فكرت فلم أجد شيئاً أهديه إليه؛ لأن جميع ما عندي من المال فمن مواهبه، وجميع خيلي مما قاده إلي، فلم أدر ما أهدى إليه.
فبعثنا بأربعين مهاراً ... كلّ مهرٍ ميدانه إنشاده
يقول: فلما لم أجد ما أبعثه إليه، بعثت بأربعين بيتاً، كأنها أربعون مهراً، وميدان كل بيت منها إنشاده، لأنه إذا أنشد عرف قدره، كما أن المهر إذا جرى عرق عتقه.
وقوله: بأربعين مهاراً ليس بحيد؛ لأن المفسر بعد مثل هذه العقود يكون بلفظ الواحد.
عددٌ عشته يرى الجسم فيه ... أرباً لا يراه فيما يزاده
يعني: إنما جعلت هذه القصيدة أربعين بيتاً، لأن الأربعين عدد سني الشباب، فإذا تجاوزها الإنسان تناقصت قواه، فالجسم يرى في الأربعين من استكمال القوة ما لا يراه فيما يزاد عليه.
يعني: لم أزد على الأربعين لتكون القصيدة بعيدة عن النقص، حاصلة على غاية الكمال.
فارتبطها فإنّ قلباً نماها ... مربطٌ تسبق الجياد جياده
نماها: أي نشأها وصنعها.
يقول: ارتبط هذه المهار، فإنها قيدت إليك، وقلبي الذي أنشأها وأحكمها مربط تسبق خيله سائر الخيل.
لما جعل الأبيات مهاراً، جعل قلبه مربطاً لها، لأنها صدرت عنه. واحتفظ بشعري فإنه يفوق كل شعر.
وأنفذت القصيدتان من أرجان إلى أبي الفتح ابن الأستاذ الرئيس بالري، فعاد الجواب يذكر سروره بأبي الطيب والشوق إليه، وأبياتاً نظمها في وصف ما سمع من قبله، وطعن فيها على بعض المتعرضين لقول الشعر، وأظهر فساد قولهم فقال أبو الطيب ارتجالاً والكتاب في يده لموصله:
بكتب الأنام كتابٌ ورد ... فدت يد كاتبه كلّ يد
يقول: ورد كتاب يقوم مقام الكتب كلها، ثم قال: جعل الله يد كل كاتب فداءً ليده.
وقيل: معنى المصراع الأول: مثل معنى المصراع الثاني. فقوله: بكتب الأنام كقوله: بنفسي أي جعل الله جميع كتب الأنام فداء لكتابه، وأيديهم فداءً ليده.
يعبّر عمّا له عندنا ... ويذكر من شوقه ما نجد
يقول: هذا الكتاب يعبر عما عندنا من المحبة، ويذكر من الشوق مثل ما أجده في قلبي إليه.
فأخرق رائيه ما رأى ... وأبرق ناقده ما انتقد
أخرق وأبرق: أي حير.
يقول: لما فض هذا الكتاب حير من رأى خطه، وأدهش من انتقد لفظه. وفاعل أخرق وأبرق ما.
إذا سمع النّاس ألفاظه ... خلقن له في القلوب الحسد
يقول: إن الناس إذا سمعوا ألفاظه أحدثت ألفاظه الحسد في قلب من حسده، فكل من قرأه حسده على فصاحته.
فقلت وقد فرس النّاطقين: ... كذا يفعل الأسد ابن الأسد
فرس الناطقين: أي غلبهم وقهرهم، كما يقهر الأسد فريسته، أي لما رأيته وقد حير كل ناطق، قلت: هكذا يكون من ورث البلاغة من آبائه وأجداده.
وأحضرت مجلس الأستاذ أبي الفضل مجمرة قد حشيت بنرجس وآس، حتى خفيت نارها، فكان الدخان يخرج من خلال ذلك، فأنشأ يقول:
أحبّ امرئٍ حبّت الأنفس ... وأطيب ما شمّه معطس(1/439)
المعطس: الأنف. وتقدير البيت: هذا أبو الفضل أحب امرئٍ أحبته الأنفس وهذا البخور أطيب شيء شمه المعطس.
ونشرٌ من النّدّ لكنّما ... مجامره الآس والنّرجس
أي: وأطيب ما شمه معطس: نشر من الند ولكنه في مجمرة من بخور. جعلها لذلك مجامر، وهي مجمرة واحدة.
ولسنا نرى لهباً هاجه ... فهل هاجه عزّك الأقعس؟؟!
الأقعس: الثابت الممتنع وهاء هاجه للند.
يقول: لسنا نرى ناراً تحرقه وتهيج رائحته، فلعل عزك هاجه، حتى انتشر ريحه.
وإنّ القيام الّتي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس
القيام: جمع قائم.
يقول: إن الغلمان والخدم القيام تشتهي رءوسها أن تباشر الأرض في الوقوف بين يديك تشرفاً بخدمتك، فتحسد الأرجل لذلك.
وقيل: أراد أن الرءوس تحسد الأرجل؛ لأنها تمنت أن تسعى في خدمتك كما تسعى الأرجل.
وقال أيضاً يمدحه ويودعه فيها، لما أراد الخروج إلى عضد الدولة في شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاث مئة:
نسيت وما أنسى عتاباً على الصّدّ ... ولا خفراً زادت به حمرة الخدّ
الخفر: الحياء، والصد: يجوز أن يكون من المتنبي، ويجوز أن يكون منها، وهو الأولى؛ ولهذا زادت حمرة وجهها عند عتابه إياها.
يقول: نسيت كل شيء مر علي ولم أنس عتابي لحبيبتي على صدها، أو عتابها إياي على صدي عنها، وكذلك لا أنسى حمرة وجهها التي زادت من الحياء.
وروى: نسيت على ما لم يسم فاعله. أي: نسى عهدي ولم أنس أنا عهدهم.
ولا ليلةً قصّرتها بقصورةٍ ... أطالت يدي في جيدها صحبة العقد
امرأة قصيرة وقصورة: ممنوعة من التصرف؛ صيانةً لها.
يقول: ولم أنس ليلةً جعلتها قصيرةً بامرأة مقصورة: أي صارت ليلتي تلك قصيرة لطيبها، فعانقتها وأطالت يدي صحبة عقدها في عنقها.
ومن لي بيومٍ مثل يومٍ كرهته ... قربت به عند الوداع من البعد
أي لما فيه من البعد، فصرت الآن أتمناه، لأحظى فيه بالنظر والتسليم، وقوله: ومن لي بيوم أي من يرد علي مثل ذلك اليوم.
وألاّ يخصّ الفقد شيئاً لأنّني ... فقدت فلم أفقد دموعي ولا وجدي
أي: ومن لي بألا يخص الفقد شيئاً دون شيء، وإنما تمنيت ذلك، لأني فقدت محبوبي، ولم أفقد دموعي عليه، ووجدي لفراقه، فهلا إذ فقدته فقدت دموعي ووجدي عليه.
تمنٍّ يلذّ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
الفتيل: الخيط الذي يكون في شق النواة.
يقول: قولي هذا تمن يتلذذ المستهام به، وإن كان لا يغني شيئاً. وجمع بين يجدي ويغني لاختلاف اللفظين.
وغيظٌ على الأيّام كالنّار في الحشا ... ولكنّه غيظ الأسير على القدّ
أي: وما أقوله غيظ مني على الأيام، وهذا الغيظ تأثيره في كتأثير النار في الحشا. ولكن غيظ لا يغني عن الأيام شيئاً فيغيظني عليها، مثل غيظ الأسير على القد.
وهذا مأخوذ من قول علي رضي الله عنه: غضب الخيل على اللجم.
فإمّا تريني لا أقيم ببلدةٍ ... فآفة غمدي في دلوقي من حدّي
الدلوق: مصدر دلق السيف من الغمد: إذا انسل من غير أن يسله أحد، وسيف دلوق ودالق: سريع الانسلال.
يقول: إن كنت لا أقيم ببلدة فليس ذلك لأن البلد غير طيب، ولكن آفة ذلك من نفسي؛ لأن بعد همتي لا ترضى بلداً ولا تدعني أستقر في مكان، فأنا كالسيف الذي يأكل غمده فيتسع عليه، فيقلق فيه، كما أن السيف سبب قلقه في جفنه، مضاء حده، كذلك أنا سبب انزعاجي من كل بلدة بعد همتي وشرف مطلبي.
يحلّ القنا يوم الطّعان بعقوتي ... فأحرمه عرضي وأطعمه جلدي
يقال: نزل بعقوته: إذا نزل بفنائه قريباً منه وعرض الرجل: موضع المدح والذم. وقيل: أراد ها هنا شرف آبائه.
يقول: إذا أحدق بي الطعن يوم القتال لا أفر منه، مخافة أن يعاب حسبي ولكني أصبر وأمكن الرماح من جلدي حماية لعرضي وحسبي.
تبدّل أيّامي وعيشي ومنزلي ... نجائب لا يفكّرن في النّحس والسّعد
فالع تبدل: نجائب.
يقول: إن الإبل النجائب تبدل هذه الثلاثة مني، فأكون في راحة وإقامة، ويوماً على خلافها، وتارةً أكون في عيش هنيء، وتارة في جهد، ويوماً في منزلي، ويوماً في آخر.(1/440)
يعني: أني لا أستقر في كان فإذا هممت بأمر ركبت نجائب، ولم أفكر في طالع نحس أو سعد، ولا يردني عن مرادي نحوسة ولا نحس ولا أبالي به.
وأوجه فتيانٍ حياءً تلثّموا ... عليهنّ لا خوفاً من الحرّ والبرد
وأوجه: عطف على نجائب: أي تبدل إياي نجائب وأوجه غلمان، قد تلثموا عليها حياءً لصباحتها وطلاقتها، والضمير في عليهن للأوجه. وقيل: حياءً ممن به يتعرضون له بالسبي والغارة، ولم يتلثموا عليها خوفاً من الحر والبرد.
يعني: أنا أبداً أسير على هذه النجائب مع هؤلاء الغلمان.
وليس حياء الوجه في الذّئب شيمةً ... ولكنّه من شيمة الأسد الورد
أسد ورد: إذا كان لونه يضرب إلى الحمرة، ولما وصف غلمانه بالحياء بين أن ذلك من وصف الأسد، فكما أن الحياء لا يمنعه من إقدامه، فكذلك حياء هؤلاء. إذ الوقاحة من صفة الذئب، لخسته، والحياء عادة الأسد.
إذا لم تجزهم دار قومٍ مودّةٌ ... أجاز القنا والخوف خيرٌ من الودّ
أجازه: أي أفضى به إلى الاجتياز.
يقول: إذا لم تمكن هؤلاء الغلمان المودة من الاجتياز بديار قوم، أمكنهم منه القنا: أي إذا عبروا بديار قوم ليس بينهم مودة ومسالمة، عبروا بها قهراً وغلبةً، والخوف خير من الود: أي: إن حصولك على مرامك قهراً أشرف من وصولك إليه مسالمةً ووداً، وهذا مثل قولهم: رهبوت خير من رغبوت.
يحيدون عن هزل الملوك إلى الّذي ... توفّر من بين الملوك على الجدّ
يعني: هؤلاء الفتيان يحيدون عن الملوك الذين هم أصحاب الهزل، ويقصدون الذي توفر: أي كثر فيه الجد، فرفضوا الهازل وأقبلوا على الجاد يعني ابن العميد.
ومن يصحب اسم ابن العميد محمّدٍ ... يسر بين أنياب الأساود والأسد
يقول: من سار بذكر اسم ابن العميد، أمكنه أن يمر بين أنياب الحيات، ومخالب الأسود. ولا تتعرض له، هيبةً لابن العميد. وجر محمد بدلاً من ابن العميد ويجوز نصبه على أن يكون بدلاً من اسم.
يمرّ من السّمّ الوحيّ بعاجزٍ ... ويعبر من أفواههنّ على درد
الوحي: السريع. والدرد: جمع الأدرد، وهو الذي تساقطت أسنانه.
يقول: من صحب اسمه يتخلص من السم الوحي، الذي يكون من الحيات: أي أن الأساود يعجز سمها عنه، فلم تضره، وأمسكت عنه أفواهها الأسود، فلم تعمل فيه، فكأنها ساقطة الأسنان.
كفانا الرّبيع العيس من بركاته ... فجاءته لم تسمع حداءً سوى الرّعد
يقول: قد صارت الدنيا كلها ربيعاً ببركاته فكفانا هذا الربيع أمر العيس، في طلب العلف والكلأ لها، فما سرنا من الأرض إلا صادفنا فيه الماء والمرعى، فجاءته هذه العيس من غير حداء حاد سوى الرعد.
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبتٍ في إناءٍ من الورد
استحين الماء: عداه بنفسه يقال: استحيته واستحيت منه. السبت: جلود تدبغ بالقرظ فتلين - شبه بها مشافر الإبل لرقتها. وكرعن: أي شربن.
يقول: إنا كنا نسير بين رياض زاهرة، ومياه جارية، فإذا عرض الماء نفسه على الإبل استحيت من كثرة عروضه، وكرعت فيه بمشافر كأنها السبت، في إناء كأنه من الورد، لكثرة الأزهار حوله.
كأنّا أرادت شكرنا الأرض عنده ... فلم يخلنا جوٌّ هبطناه من رفد
الجو: المتسع من الأرض.
يقول: كأن الأرض أرادت منا أن نشكرها عند الممدوح، فكل موضع نزلناه منها كان فيه رفدها.
لنا مذهب العبّاد في ترك غيره ... وإتيانه نبغي الرّغائب بالزّهد
يقول: تركنا غيره من الملوك وأتيناه، نبغي أضعاف رفد غيره، كما أن الزهاد تركوا متاع الدنيا ليصلوا إلى نعيم الأبد.
رجونا الّذي يرجونه في كلّ جنّةٍ ... بأرجان حتّى ما يئسنا من الخلد
يقول: رجونا أن ننال بأرجان جميع ما يرجوه الزهاد في الجنة من النعيم، حتى رجونا الخلود ولم نيئس منه.
تعرّض للزّوّار أعناق خيله ... تعرّض وحشٍ خائفاتٍ من الطّرد
الطرد: مصدر طردت الصيد، إذا طلبته.
يعني: أن خيله تنظر إلى زواره نظراً شزراً خوفاً من أن يهبها لهم، فكأنها وحش خافت من الطرد، فتمد أعناقها إلى الصائد. وقوله: تعرض للزوار: أي توليهم عرضها: أي جانبها.
وتلقي نواصيها المنايا مشيحةً ... ورود قطاً صمٍّ تشايحن في ورد
مشيحةً: أي مجدة، وتشايحن: أي أسرعن وجددن في الطيران.(1/441)
وقيل: مشيحةً: أي مزدحمة، وتشايحن: أي ازدحمن. والورد: الماء بعينه والورود إتيان الماء.
يقول: إن خيله تكره الانتقال عنه إلى زواره، وتسرع إلى الموت بين يديه، كما تسرع القطا إلى ورود الماء.
جعلها صماً لتكون أسرع في طيرانها واقتحامها على الماء؛ لأنها لا تسمع شيئاً يردها عنه. أي تختار لقاء الموت بين يديه على انتقالها من عنده إلى زواره.
وتنسب أفعال السّيوف نفوسها ... إليه، وينسبن السّيوف إلى الهند
الهاء في نفوسها للأفعال. يعني: أن السيوف إنما تعمل في يده، فأفعالها تنسب إليه فيقال: هذه ضربة عميدية، كما يقال: سيوف هندية.
إذا الشّرفاء البيض متّوا بقتوه ... أتى نسبٌ أعلى من الأب والجدّ
الشرفاء: جمع شريف، والبيض: الكرام السادة. متوا: أي توصلوا. بقتوه: أي خدمته.
يقول: إذا انتمى الكرام السادة إلى خدمته، كان ذلك لهم أشرف من انتمائهم إلى الآباء والأجداد الشرفاء. فقولهم: فلان خادم ابن العميد، خير له من النسب الشريف!
فتىً فاتت العدوى من النّاس عينه ... فما أرمدت أجفانه كثرة الرّمد
العدوى: أن يقرب البعير الجرب إلى الصحيح فيصير جرباً مثله.
يقول: كثرت العيوب في الناس وعمهم اللؤم! لكنه قد سار عن لؤمهم ولم تتعد إليه أخلاقهم، فكأن عينه أبت أن تقبل عدوى عيوب الناس إليها.
وضرب الرمد مثلاً لما ذكر العين.
وخالفهم خلقاً وخلقاً وموضعاً ... فقد جلّ أن يعدي بشيءٍ وأن يعدي
يعني: خالف الناس في خلقه وخلقه وموضعه من الشرف، فلا يلحقه فسادهم ولا يعدي إليه منهم شيء.
يغيّر ألوان اللّيالي على العدى ... بمنشورة الرّايات منصورة الجند
يغير: أي يجعل سواد الليل بياضاً، ويغيرها عليهم حتى يجعلها كالنهار، بجيوش قد نشروا راياتهم ونصرت جنودهم.
وتغييرهم الليالي: هو أن يقلب سوادها ببريق سيوفهم إلى ضوء النهار أو بالنيران التي ألقاها في ديار عدوهم.
إذا ارتقبوا صبحاً رأوا قبل ضوئه ... كتائب لا يردي الصّباح كما تردى
الرديان: ضرب من السير السريع.
يعني: أن الأعداء إذا نظروا الصبح، رأوا كتائبه تسبق الصبح، فهي تردى في السير أسرع ما يردى الصباح.
ومبثوثةً لا تتّقي بطليعةٍ ... ولا يحتمى منها بغورٍ ولا نجد
يعني: ورأوا خيلاً مبثوثة لا يقدر أن يعتصم منها بطليعة من الطلائع، ولا في مكان عال ولا منخفض.
يغضن إذا عدن في متفاقدٍ ... من الكثر غانٍ بالعبيد عن الحشد
يغضن: أي يختفين ويغللن. في متفاقد: أي يفقد بعضهم بعضاً لكثرتهم.
يعني: أن خيلك إذا عدن من حيث توجهن، غاضت في جيشك كما يغيض النهر في البحر.
وروى: يغرن أي يدخلن فيه. ومنه قولهم: غارت عينه: أي دخلت في الرأس، ثم بين أنه مستغن بكثرة عبيده الذين هم ملكه، عن الجند والحشد.
حثت كلّ أرضٍ تربةً في غباره ... فهنّ عليه كالطّرائق في البرد
يقول: هو كثير الغزوات، يغزو سائر الأرضين، فلكل أرض تربة في غباره مختلفة الألوان، فإذا مر عسكره بأرض سوداء أو حمراء أو غبراء علاه لون كل تربة من الأرضين، فهو عليه كالطرائق المخططة على البرد.
فإن يكن المهديّ من بان هديه ... فهذا، وإلاّ فالهدى ذا، فما المهدي؟!
يقول: إن كان المهدي الذي ينتظر، من بان هديه وانتشر عدله، فهذا هو ذلك المهدي؛ لظهور طريقته وعدله، وإن لم يكن كذلك، فسيرة هذا الممدوح هي الهدى فما معنى قولنا المهدي بعد هذا!.
يعلّلنا هذا الزّمان بذا الوعد ... ويخدع عمّا في يديه من النّقد
الهاء في يديه للزمان.
يقول: إن الزمان يعد بخروج المهدي بعد ابن العميد، فكأن الزمان يخدعنا عن هذا الحاصل ويمنينا بالغائب.
هل الخير شيءٌ ليس بالخير غائبٌ ... أم الرّشد شيءٌ غائبٌ ليس بالرّشد؟!
تقديره: هل الخير شيء غائب، ليس بالخير الحاضر، وكذلك في الرشد.
يقول: هل هنا خير ورشد غائبان، غير هذا الخير والرشد اللذين نشاهدهما الآن، حتى ندع هذا الحاضر للغائب الذي لا حقيقة له، فكذلك لا نترك المهدي الحاضر للغائب المنتظر.
أأحزم ذي لبٍّ وأكرم ذي يدٍ ... وأشجع ذي قلبٍ وأرحم ذي كبد(1/442)
الهمزة للنداء، وأكرم: تفخيماً أو تقريراً لمناقيه فكأنه قال: يا أحزم الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس، وأرحم الناس.
وأحسن معتمٍّ جلوساً وركبةً ... على المنبر العالي أو الفرس النّهد
الفرس النهد: المشرف.
يقول: يا أحسن من يلبس العمامة في حال ما يجلس على المنبر العالي عند الخطبة، على ما جرت به عادة الملوك في صدر الإسلام، وقيل: أراد بالمنبر: سرير الملك، ويا أحسن من يلبس العمامة في ركوبه على الفرس.
تفضّلت الأيّام بالجمع بيننا ... فلمّا حمدنا لم تدمنا على الحمد
يقول: يا أيها الموصوف بالخصال المذكورة، إن الأيام ابتدأتني بالإحسان، فجمعت بيننا، فلما حمدناها لم تدمنا على هذا الحمد، بل أذنت في انصرافي عنك! وجعل الحمد منهما جميعاً: أي كنت تحب الاجتماع معي، كما كنت أحبه، فلكل واحد منا حمد الأيام على اجتماعه مع صاحبه، وهذا تعظيم منه لأمر نفسه كما هو تعظيم للممدوح.
جعلن وداعي واحداً لثلاثةٍ: ... جمالك والعلم المبرّح والمجد
أي جعلن الأيام وداعي وداعاً واحداً، أودع به ثلاثة أشياء في وقت واحد: جمالك، وعلمك، ومجدك.
وقوله: والعلم المبرح أي الزائد على سائر العلوم.
وقد كنت أدركت المنى غير أنّني ... يعيّرني أهلي بإدراكها وحدي
أي: أدركت المنى بلقائك، غير أن أهلي يعيروني إذا لم أشاركهم فيما نلته، فأرجع إليهم لأشاركهم.
وكلّ شريكٍ في السّرور بمصبحي ... أرى بعده من لا يرى مثله بعدي
المصبح: الإصباح. والهاء في بعده راجعة إلى كل شريك. وفي مثله لابن العميد.
يقول: كل من شاركني من أهلي في السرور بمصبحي عندهم، فإني إذا فارقته رأيت بعده، ولا يرى مثله إذا فارقني، فإني أعتاض عن فراقه ملكاً يغنيني ولا يعتاض هو من فراقي أحداً، فلا أمنعه السرور بما أستفيده.
كأنه يشير إلى أنه يرجع إليه.
فجد لي بقلبٍ إن رحلت فإنّني ... أخلّف قلبي عند من فضله عندي
أي: هب لي قلباً أرتحل به عنك، فإني أترك قلبي عندك، من فضلك الذي عندي.
فلو فارقت نفسي إليك حياتها ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد
أي: لو فارقت نفسي الحياة وآثرتك عليها لصوبت رأيها في اختيارك وما ذممت عهدها في هذه المفارقة.
العضديات
وجه أبو شجاع عضد الدولة بن ركن الدولة في طلب المتنبي، ولم يمكن الأستاذ الرئيس مخالفته، فحمله مكرما فقال المتنبي يمدحه بشيراز، وهي أول ما قال فيه سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.
أوه بديلٌ من قولتي واها ... لمن نأت والبديل ذكراها
أوه تأوه، وهي كلمة تستعمل على وجه التوجع. واها: كلمة تستعمل للتعجب.
يقول: تألمي الآن بديل من تعجب كان لوصل من نأت عني، وصار ذكراها بدل منها، فأنا اليوم أتوجع من فراقها، بعد أن كنت أتلذذ بوصالها.
وتقدير البيت: قولي أوه بدل من قولي واها. فقولتي مبتدأ وأوه في موضع نصب بقولتي وبديل خبر المبتدأ، وواها في موضع نصب بقولتي وهذا كما نقول: ضربي زيداً بدل من ضربي عمراً.
أوه من ألاّ أرى محاسنها ... وأصل واهاً وأوه مرآها
يقول: أنا أتوجع من أجل أني أرى محاسنها بعد ما كنت أتعجب بوصالها، وأصل استحساني، لوصلها فيما تقدم، وتوجعي الآن على فقدها إنما هو مرآها: أي رؤيتها. يعني: فيما تقدم.
أي: لولا أني رأيتها لم أتعجب من حسنها، ولم أتلهف على فراقها.
شاميّةٌ طالما خلوت بها ... تبصر في ناظري محيّاها
المحيا: الوجه.
يقول: التي أتوجع من فراقها. هي شامية، وهي التي طالت الخلوة بيني وبينها، فكانت ترى في ناظر عيني وجهها لقربها مني.
فقبّلت ناظري تغالطني ... وإنّما قبّلت به فاها
به أي فيه: أي فقبلت من ناظري فاها. يعني: أن ناظر العين كالمرآة إذا قابله شيء انطبعت صورته فيه.
يقول: إنها رأت شكل فمها في ناظري، فغالطتني أنها تقبل عيني، وإنما قبلت شكل فمها، الذي رأته في ناظري.
فليتها لا تزال آويةٌ ... وليته لا يزال مأواها
الهاء في ليتها للمحبوبة وفي ليته للناظر.(1/443)
يقول: ليت هذه المحبوبة لم تزل حالةً في ناظري، وليت ناظري لم يزل محلا لها، وهذا التمني يرجع إلى معنى القرب؛ لأنها لا تحل في ناظره إلا عند القرب، فكأنه يقول: ليتها لم تفارقني ولم تزل قريبة مني، تنظر فمها في سواد عيني.
وروى: لا تزال آويه الهاء للناظر، وذكر الآوى وإن كان من حقه آويته ذهاباً إلى المعنى، كأنه قال: ليتها لم تزل إنساناً أو شخصاً آويه.
كلّ جريحٍ ترجى سلامته ... إلاّ فؤاداً دهته عيناها
دهته: أي أصابته بداهيةٍ.
يقول: كل مجروح ترجى سلامته واندماله من جرحه، إلا قلباً جرحته عينا هذه المرأة، فإن برأه لا يرجى أبداً.
تبلّ خدّيّ كلّما ابتسمت ... من مطرٍ برقه ثناياها
يقول: كلما ضحكت من شكواي إليها بكيت استعظاماً لها، فكأن ضحكها سبب جريان دمعي على خدي، ولما جعل دمعه مطراً، جعل لمع ثناياها برق ذلك المطر.
وقيل: أراد إذا ابتسمت فظهرت ثناياها، بكيت شوقاً إلى تقبيلها، فبلت دموعي خدي من مطر صفته ما ذكرنا.
وقيل: أراد إذا ابتسمت أبكتني بحسن مبسمها، تنغيصي بمفارقتها، إذ ذلك مما ينغص الوصل.
وقيل: أراد ابتسامها في حال الهجر الحاصل.
وقيل: أراد حقيقة ذلك، وهو ما يرشف من فيها، فريقها يبل خديه، وهو مطر برقه ثناياها.
وقيل: إنه أراد أنها كانت تقبله، فكلما قبلته بلت بريقها خده، وكثر حتى صار كالمطر.
وقيل: أراد أنها كانت تضحك من محبته فتبرق في وجهه.
ما نفضت في يدي غدائرها ... جعلته في المدام أفواها
ما بمعنى الذي. وهو مفعول نفضت وفاعله غدائرها.
يقول: جعلت ما نفضت غدائرها من بقايا طيبها في يدي أخلاطا من الطيب في الخمرة، وطيبت الخمرة به.
في بلدٍ تضرب الحجال به ... على حسانٍ ولسن أشباها
يقول: خلوت بها في بلد، أو هذه في بلد تستتر فيه النساء الحسان بالحجال، غير أن أولئك الحسان لسن يشبهنها في الحسن؛ لأنها تفوقهن في حسنها.
وقيل: أراد وصفهن بالحسن، وأن كل واحدة منهن متفردة بحسن لا يشاركها فيه غيرها.
وقيل: أراد أنهن لا يشبهن غيرهن من النساء في الحسن، بل هن أحسن من غيرهن من الحسان.
لقيننا والحمول سائرةٌ ... وهنّ درٌّ فذبن أمواها
الحمول بالفتح: الإبل التي عليها الهوادج.
يقول: هن في صفاء بشراتهن كالدر، فلما لقيننا يوم سارت الإبل، بكين جزعاً من الفراق، فذبن وجرين دموعاً، هي كبشراتهن في الصفاء، ونصب أمواها على التمييز وهي جمع ماء في القلة.
كلّ مهاةٍ كأنّ مقلتها ... تقول: إيّاكم وإيّاها
المهاة: البقرة الوحشية. والمهاة البلورة.
يقول: كل واحدة منهن كأنها مهاة في حسنها وفي عيونها، فكأن مقلتها تحذر الناس فتقول: احذروا صيدها إياكم.
فيهن منّ تقطر السّيوف دماً ... إذا لسان المحبّ سمّاها
يقول: في هؤلاء النساء امرأة تسفك سيوف قومها دم من يحبها، عند تسميته إياها لعزتهم وحميتهم، وأراد بها محبوبته.
وقيل: معناه أن في هؤلاء النساء امرأة تقتلك بجفونها التي هي السيوف، وتريق دمك بعيونها، متى ذكرت أنك تحبها.
أحبّ حمصاً إلى خناصرةٍ ... وكلّ نفسٍ تحبّ منشاها
يقول: أحب ما بين هذين الموضعين اللذين هما: حمص وخناصرة؛ لأن منشاي كان فيهما، وكل إنسان يحب وطنه الذي نشأ به.
حيث التقى خدّها وتفّاح لب ... نان وثغري على حميّاها
الحميا: الخمرة، وهي أيضاً سورتها. والهاء في خدها للمحبوبة وفي حمياها للناحية التي بين حمص وخناصرة.
يقول: إني أحب هذا المكان لأني جمعت فيه بين خد المحبوبة أقبلها، وبين تفاح لبنان أتنقل به وبين شرب الخمر أتلذذ بها، والكل متقارب طيباً وطعماً. ولبنان: جبل بالشم، يقال له: جبل لبنان.
وصفت فيها مصيف باديةٍ ... شتوت بالصّحصحان مشتاها
الصحصحان هنا: موضع بقرب دمشق. وهو في اللغة: المكان المتسع. والهاء في فيها للمواضع التي بين حمص وخناصرة، وفي مشتاها للبادية.
يقول: صفت في هذه المواضع مصيف بادية: أي على رسم العرب بالخروج إلى البادية وأقمت الشتاء بالصحصحان: التي هي مشتى أهل البادية.
إن أعشبت روضةٌ رعيناها ... أو ذكرت حلّةٌ غزوناها
الحلة: جماعة بيوت العرب، ينزلون في مكان واحد.(1/444)
يقول: صفت وشتوت على هذه الحال، وكنا أهل عز ومنعة، فكلما سمعنا بروضة كثيرة العشب قصدنا إليها، ورعينا إبلنا فيها، وإذا علمنا بحلة غزوناها وأغرنا عليها واغتنمنا أموالها.
أو عرضت عانةٌ مفزّعةٌ ... صدنا بأخرى الجياد أولاها
العانة: قطعة من حمر الوحش. ومفزعةً: أي مسرعة، لأنها إذا فزعت أسرعت في العدو.
يقول: كنا في تلك الناحية إذا عرضت عانة من الحمير صدنا بأخرى الجياد أي بأردئها: التي تكون متأخرةً عن صواحبها في الجودة، أولى حمير الوحش: وهي السوابق منها.
أو عبرت هجمةٌ بنا تركت ... تكوس بين الشّروب عقراها
الهجمة: القطعة العظيمة من الإبل. قال الأصمعي: ما بين الأربعين إلى المئة. وتكوس: أي تمشي على ثلاث قوائم عندما عقرناها. والشروب: جمع شرب والشرب: جمع شارب. والعقري: جمع عقير.
يقول: إذا عبرت بنا قطعة من الإبل عقرنا الأدبار، فتكوس بين الشاربين.
والخيل مطرودةٌ وطاردةٌ ... تجرّ طولى القنا وقصراها
قوله: والخيل مطرودة وطاردة: أي لم تنفك غارة، ومطاردة، فتارةً لنا وتارة علينا. والطولى: تأنيث الأطول: والقصرى: تأنيث الأقصر.
يعجبها قتلها الكماة ولا ... ينظرها الدّهر بعد قتلاها
ينظرها: يؤخرها.
يقول: يعجب الخيل قتلها الكماة، ثم لا تلبث أن تقتل بعدها طلباً للثأر.
وقيل: أراد بالخيل أصحابها.
والمعنى: أنها إذا قتلت أعداءها أعجبها ذلك، وهي بعد ذلك لا يمهلها الدهر بعد من قتلت. أي: أصحاب الخيل، لأن العاقبة إلى الفناء.
وقد رأيت الملوك قاطبةً ... وسرت حتّى رأيت مولاها
يقول: رأيت الملوك كلهم، والآن رأيت عضد الدولة الذي هو سيد الملوك.
قال ابن جني: بلغني أن سيف الدولة قال لما سمع هذا البيت: أترى نحن في الجملة؟!
ومن مناياهم براحته ... يأمرها فيهم وينهاها
يقول: إن الموت تحت يده وطاعته! فهو متى شاء يأمر ملك الموت في الملوك وينهاه عنهم! أي يملك أرواح الملوك إن شاء أهلكهم وإن شاء أمهلهم.
أبا شجاعٍ بفارسٍ عضد ال ... دولة فنّاخسرو شهنشاها
هذه الأوصاف، والكنية، والاسم، نصب بدلاً من مولاها ومن روى: أنه منادي قال: أبو شجاع كنيته، وشهنشاه لقبه، وفناخسرو اسمه، وفارس مقره. أي: لقيته بفارس.
أسامياً لم تزده معرفةً ... وإنّما لذّةً ذكرناها
نصب أسامياً بفعل مضمر. أي ذكرت أساميا.
يقول: لم أذكر هذه الأسامى لزيادة معرفة بها، إذ هو بذاته وصفاته مشهورة، وإنما ذكرناها التذاذاً بذكرها.
تقود مستحسن الكلام لنا ... كما تقود السّحاب عظماها
عظماها أي معظمها. والهاء للسحاب وتقود فاعله ضمير الأسامى.
يقول: إن أساميه المذكورة، ومساعيه المشهورة، تقود لنا مستحسن الكلام في مدحه، كما يقود السحاب بعضه بعضاً وينضم إلى معظمه. وهذا كقول الآخر:
إذا امتنع الكلام عليك فامدح ... أمير المؤمنين تجد مقالا
هو النّفيس الّذي مواهبه ... أنفس أمواله وأسناها
يقول: هو كريم شريف الخطر، فلا يهب إلا أنفس أمواله، وأكرم ذخائره. وروى عن عبد الصمد أحد خزان عضد الدولة أنه أمر لأبي الطيب بألف دينار عدداً، وزن سبع مئة، فلما أنشد هذا البيت تقدم إلي بأن أبدلها بألف وازنة.
لو فطنت خيله لنائله ... لم يرضها أن تراه يرضاها
يقول: إذا رضى فرساً، وهبه لقاصده، فلو فطنت خيله لهذا الرضا منه، لم يسرها أن تراه راضياً بها؛ لأنه إذا رضيها وهبها، وهي لا تحب الانتقال عنه.
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلّةً تلافاها
خلةً نصب بتجد.
يقول: إن الخمر لا تجد في أخلاقه الكريمة خللاً قبل السكر، حتى إذا شربها تلافته وأزالته.
تصاحب الرّاح أريحيّته ... فتسقط الرّاح دون أدناها
الأريحية: الاهتزاز للكرم.
يقول: إن أريحيته تهزه للكرم وتعينها الراح، غير أن أدنى تأثير أريحيته، يزيد على أثر فعل الراح فيه.
تسرّ طرباته كرائنه ... ثمّ يزيل السّرور عقباها
الكرائن: جمع كرينة، وهي الجارية العوادة، والهاء في عقباها للطربات.(1/445)
يقول: إذا غنت له الكرائن وأطربته، وهب لهن، فسررن بما وصل إليهن، ثم لا يلبثن أن يهبهن لبعض جلسائه، لأنهن مملوكات له، فيزيل سرورهن، فأول الطربات سرهن، وآخرها غمهن.
بكلّ موهوبةٍ مولولةٍ ... قاطعةٍ زيرها ومثناها
الزير والمثنى من أوتار العود، أي يزيل عقبي الطربات سرور قيانه بكل موهوبة باكية؛ لزوالها عن ملكه، قاطعةً أوتار عودها جزعاً.
تعوم عوم القذاة في زبدٍ ... من جود كفّ الأمير يغشاها
في زبد: أي في عطاء جم كالبحر المزبد.
يعني: أنه يهبها مع ذخائر أمواله وتغمرها عطاياه، فهي تتقلب فيها، كالقذاة في البحر. والهاء في يغشاها للموهوبة.
تشرق تيجانه بغرّته ... إشراق ألفاظه بمعناها
يقول: غرة وجهه تزين تيجانه كما تزين معاني كلامه ألفاظه. ينظر إلى قول الآخر:
ومازانها العقد الّذي فوق نحرها ... ولكن لها نحرٌ يزيّن بالعقد
دان له شرقها ومغربها ... ونفسه تستقلّ دنياها
الهاء في شرقها ومغربها للأرض وفي دنياها للنفس.
يقول: ملك الأرض شرقها وغربها، ونفسه تستقل له ذلك.
تجمّعت في فؤاده هممٌ ... ملء فؤاد الزّمان إحداها
يقول: قد اجتمعت في قلبه همم، واحدة منها تملأ الدهر! فضلاً عن سائر هممه. جعل للزمان فؤاداً ليجانس قوله: في فؤاده همم.
فإن أتى حظّها بأزمنةٍ ... أوسع من ذا الزّمان أبداها
الهاء في حظها وأبداها للهمم.
يقول: إن كان لتلك الهمم التي في قلبه حظ، فأتى بزمان آخر يسعها. أبداها: أي أظهرها.
يعني: في نفسه همم يضيق الزمان بواحدة منها، فلو وجد أزمنةً أوسع من هذا الزمان تسعها لأبداها.
وصارت الفيلقان واحدةً ... تعثر أحياؤها بموتاها
الفيلقان: الجيشان، وأنث على معنى الجماعة، وأراد بالفيلقين: أهل هذا الزمان وأهل الأزمنة المتقدمة. أي: الأحياء والأموات.
يقول: إن أتى حظ بأزمنة تسعها أبداها، وأعاد من سلف من الأمم والملوك، وأدخلهم في طاعته، وصار عسكر الأحياء والأموات واحداً في الانقياد له. وتعثر الأحياء بالأموات. وهذا تفسير للهمم التي تجمعت في فؤاده.
ودارت النّيّرات في فلكٍ ... تسجد أقماره لأبهاها
الهاء في أبهاها للأقمار، ويجوز أن تكون للنيرات. يعني: لو أظهر تلك الهمم لخضعت له ملوك الدنيا واجتمعت، كلهم في وقت واحد، فتسجد أقمار الفلك لأبهاها وهو الشمس. جعل سلطانه فلكاً يشتمل على الأرض وملوكها، كما يشتمل الفلك على العالم، وجعل الملوك أقماراً وهو شمساً.
الفارس المتّقي السّلاح به ال ... مثنى عليه الوغى وخيلاها
خيلاها أي عسكراها، وهي تثنية الخيل. والهاء للوغى؛ لأنه في معنى الحرب. وروى: المتقي بفتح القاف، أي يتقي به من أثر السلاح، وتثني عليه الحرب وعسكراها. أي: عسكره وعسكر العدو.
لو أنكرت من حيائها يده ... في الحرب آثارها عرفناها
الهاء في حيائها وآثارها لليد وفي عرفناها للآثار.
يقول: لو أنكرت يده من فرط حيائها آثارها في الحرب؛ لعلمنا أنه فعله، لأن أحداً لا يقدر أن يفعل مثل فعله.
وكيف تخفي الّتي زيادتها ... وناقع الموت بعض سيماها
زيادة اليد: اسم لما تحمله اليد، زائداً على ما جرت عادتها بحمله.
وقيل: الزيادة: السوط. التي ترجع للآثار. والهاء في زيادتها لليد وفي سيماها للزيادة. والموت الناقع: السريع. وقيل: الثابت.
يقول: كيف تخفي آثار يده؟؟! وما تفعله بزيادتها هو الموت الناقع، وهو علامة من علامات زيادة يده، فإذا ضربت بالسيف كيف يخفي آثارها؟!.
الواسع العذر أن يتيه على الدّ ... نيا وأبنائها وما تاها
ما للنفي وتاه فعل: أي لم يته.
يقول: لو تاه على الدنيا وأهلها، كان له في ذلك أوسع عذر، لأنه ملكها وأهلها، وهو مع ذلك لم يته تواضعاً منه.
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها
يقول: هو ينعم على الخلق عامةً، فلو جحد الخلق نعمه عليهم ما ترك عادته في الجود. وقوله: لما عدت: أي ما تجاوزت نفسه عادتها في الجود.
كالشّمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعةً عندهم ولا جاها(1/446)
يقول: هو في شمول نعمته كالشمس أي: لأنها تشرق بطبعها، ولا تريد من الناس شكراً ولا أجراً من منفعة أو جاه، فكما لا يتصورون فيها ذلك فكذلك حاله.
ولّ السّلاطين من تولاّها ... والجأ إليه تكن حديّاها
أي متحدياً للسلاطين، ونظيراً لها. والهاء ترجع إلى السلاطين.
يقول: دع السلاطين مع من تولاهم، وانضم إليه تصر من جملتهم، والهاء ترجع إلى عضد الدولة، تكن نظير السلاطين ومبارياً لهم ومتطاولاً عليهم. خاطب بهذا نفسه أو صاحبه.
ولا تغرّنّك الإمارة في ... غير أميرٍ وإن بها باهي
الهاء في بها للإمارة وباهي فاعل من البهاء.
يقول: دع السلاطين ولا تغتر بما تراه من مباهاتهم بالإمارة، فليس الأمير في الحقيقة إلا من هو بالصفة المذكورة.
فإنّما الملك ربّ مملكةٍ ... قد فغم الخافقين ريّاها
يقال: فغمتة رائحة الطيب، إذا ملأت منخره. والريا كل شيء رائحته طيبة. والهاء للمملكة.
يقول: ليس الأمير إلا من ملأت مملكته، رائحتها بين المغرب والمشرق.
مبتسمٌ والوجوه عابسةٌ ... سلم العدى عنده كهيجاها
يقول: الملك من يحتقر أعداءه ولا يحتفل بهم، فسلمهم وحربهم عنده سواء ويكون مبتسماً في الحرب عند عبوس الشجعان، لا يدخله قلق ولا حرج، وليس ذلك إلا عند عضد الدولة.
النّاس كالعابدين آلهةً ... وعبده كالموحّد الّلاها
يعني: أن الملك في الحقيقة هو الممدوح، فعبده على بصيرة وصواب، كمن يوحد الله تعالى، وعبد غيره من الملوك على باطل وضلالة كمن يعبد الأصنام، التي لا تنفع ولا تضر.
وقيل: معناه من رجا غيره كان ضالاً عن الصواب، بعيداً عن الرشد، كمن يعبد غير الله تعالى، ومن وقف رجاؤه عليه كان مظفراً منصوراً متبعاً للصواب والرشد، كمن يوحد الله تعالى ويتبع الحق. والمعنيان متقاربان.
وقال أيضاً يمدحه في هذا الشهر، ويمدح ابنيه: أبا الفوارس، وأبا دلف، ويذكر شعب بوان في طريقه:
مغاني الشّعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الرّبيع من الزّمان
المراد بالشعب: شعب بوان، وهو في أرض فارس، شعب بين جبلين طوله أربعة فراسخ، كله شجر وكرم، ولا تقع فيه الشمس على الأرض لالتفاف أشجاره وطيباً نصب على المفعول له، أو على التمييز.
يقول: فضل هذه المغاني في طيبها، كفضل الربيع على سائر الأزمان في الطيب.
ولكنّ الفتى العربيّ فيها ... غريب الوجه واليد واللّسان
أراد بالفتى العربي: نفسه.
يقول: أنا غريب الوجه فيها؛ لأنه لا يعرف. وغريب اللسان؛ لا يفهم كلامه. وغريب اليد: يعني أن سلاحه السيف والرمح، وسلاح من بالشعب الحربة ونحوها. ذكره ابن جني.
وقال غيره: إن خطه عربي مثل لسانه، فهو أيضاً غريب وقيل غريب النعمة: أي ليس للعجم سخاء العرب.
ملاعب جنّةٍ لو سار فيها ... سليمانٌ لسار بترجمان
يقول: هذه المغاني ملاعب الجن؛ لأنهم لا يظهرون؛ لالتفاف الأشجار والكروم، فتسمع أصواتهم ولا ترى أشخاصهم. فشبههم بالجن من هذا الوجه.
وقيل: شبههم بالجن؛ لغموض لغتهم. ثم قال: لو سار فيها سليمان، مع علمه بمنطق الطير وسائر الألسن، لاحتاج إلى الترجمان.
طبت فرساننا والخيل حتّى ... خشيت وإن كرمن من الحران
طبت: أي استمالت مغاني الشعب فرساننا وخيلنا لطيبها، فلم تبرح منها حتى خشيت عليها الحران، وإن كانت كريمة. والحران: عيب في الخيل، وهو أن تقف ولا تنبعث.
غدونا تنفض الأغصان فيها ... على أعرافها مثل الجمان
الجمان: اللؤلؤ الصغار.
يقول: سرنا من الشعب بكرةً، وكان الندى يسقط من أوراق الأشجار على أعراف الخيل، فينتظم عليها مثل الجمان.
وقيل: أراد ما يقع على أعراف الخيل عند نفض الأغصان في خللها من ضوء الشمس.
وقيل: أراد أن الأغصان كان عليها من الورد والياسمين، فشبهه عند تساقطه على أعراف الخيل باللؤلؤ.
فسرت وقد حجبن الحّر عنّي ... وجئن من الضّياء بما كفاني
يقول: حجبت الأغصان عني حر الشمس، وجاءت الأغصان من ضوئها في خلل الأوراق بما نحتاج إليه ونكتفي به.
وألقى الشّرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفرّ من البنان
الشرق: الشمس، والهاء في منها للأغصان.(1/447)
يقول: إن ضوء الشمس يقع على ثيابنا من خلا ل الأوراق قطعاً مدورة كالدنانير، غير أنها كانت تفر من البنان: يعني أن البنان إذا شاء أن يقبض عليها صارت على ظهر اليد، فكأنها فارة من البنان.
وحكى: أن الملك عضد الدولة لما أنشده هذا البيت قال: لأقرنها في يدك.
لها ثمرٌ تشير إليك منه ... بأشربةٍ وقفن بلا أواني
الأواني: جمع آنية، والآنية: جمع إناء.
يقول: لهذه الأغصان والأشجار ثمر من عنب وغيره، كأنه لرقته وصفائه يشير إليك بأشربة واقفة بغير أوان. شبهها في صفائها بالشراب.
وأمواهٌ يصلّ بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني
يقول: بهذا المكان مياه شديدة الجري، فكأن صليل حصاها، كصليل الحلي كالأسورة ونحوها في أيدي النساء الحسان. شبه الجداول بمعاصم الجواري الناعمة، وصوت جريانها على الحصا بصوت الحلي في معاصمهن.
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... لبيق الثّرد صينيّ الجفان
الثريد اللبيق والمليق: اللطيف المزين المحسن. والثرد: الثريد. ولبيق: فاعل ثنى واسم كان ضمير المغاني.
يقول: لو كانت دمشق في طيبها، لثنى عناني عنها وجذبني هذا الممدوح، الذي ثرده مليقة، وجفانه صينية.
يلنجوجيّ ما رفعت لضيفٍ ... به النّيران ندىّ الدّخان
يلنجوجي منسوب إلى اليلنجوج، وهو العود الذي يتبخر به والتاء في رفعت تعود إلى النيران، والهاء في به إلى ما يقول: إن النار التي يوقدوها للأضياف إنما توقد بالعود. والثرد المليقة تطبخ بهذه النار، ودخانها دخان الند.
يحلّ به على قلبٍ شجاعٍ ... ويرحل منه عن قلبٍ جبان
يعني: إذا حل به أضيافه سر بنزولهم، وقويت نفسه، فلقيهم بقلب شجاع، وإذا رحلوا عنه اغتم وضعف قلبه كقلب الجبان.
وقيل: أراد أن ضيفه ينزل به وهو شجاع يعني: الضيف، فإذا رأى داره ورآه في غاية الحسن واللطف، ازداد في العيش رغبة، فيجبن.
منازل لم يزل منها خيالٌ ... يشيّعني إلى النّوبندجان
النوبندجان بلدة.
يقول هذه المغاني: منازل لا يفارقني خيالها، لحسنها، بل يشيعني حتى وصلت إلى النوبندجان.
وقيل: معناه أن لدمشق منازل لم يزل خيالها يشيعني حتى وصلت إلى النوبندجان فسلوت عنها.
والنوبندجان: مدينة قريبة من شعب بوان في طريق شيراز إذا ارتحلت منها نزلت بالشعب.
إذا غنّى الحمام الورق فيها ... أجابته أغانيّ القيان
يعني: إذا تغنت الحمام في هذه المغاني على أشجارها، أجابتها القيان بغنائهن.
وفيها يجوز أن يرجع إلى مغاني الشعب، وأن يرجع إلى دمشق.
ومن بالشّعب أحوج من حمامٍ ... إذا غنّى وناح إلى البيان
يقول: أهل الشعب عجم الأعاجم فلا أفهم غناءهم كما لا أفهم غناء الحمام، فهما سواء بل غناؤهم أحوج إلى البيان من غناء الحمام.
وقد يتقارب الوصفان جدّاً ... وموصوفاهما متباعدان
يقول: أهل الشعب والحمام، وإن كانا متباعدين في الأشخاص، لاختصاصهم بالإنسانية دونها، إلا أن أوصافهما في الاستعجام متقاربة جداً.
يقول بشعب بوّانٍ حصاني: ... أعن هذا يسار إلى الطّعان؟!
يقول: لماً رحلت من شعب بوان عاتبني فرسي وقال: تترك مثل هذا المكان في طيبه وحسنه وتؤثر لقاء الأقران ومباشرة الطعان؟!
أبوكم آدمٌ سنّ المعاصي ... وعلّمكم مفارقة الجنان
قال لي فرسي: إن مفارقة الجنان صار موروثاً لكم عن أبيكم آدم، فإنه أول من ترك الجنة وخرج إلى الدنيا.
فقلت إذا رأيت أبا شجاعٍ: ... سلوت عن العباد وذا المكان
يعني قلت لفرسي: إذا لقيت عضد الدولة علمت صواب رأيي، ونسيت هذا المكان وسلوت عن جميع العباد، لما ترى من إحسانه وكرمه.
فإنّ النّاس والدّنيا طريقٌ ... إلى من ماله في النّاس ثان
يقول: إن الدنيا وجميع أهلها طريق إلى هذا الممدوح، يعبرهم حتى ينتهي إليه، فإنه الغاية التي ليس وراءها مطلب، وليس له ثان في الناس.
له علّمت نفسي القول فيهم ... كتعليم الطّراد بلا سنان
الكناية في فيهم للناس.
يقول: إنما مدحت الملوك وسائر الناس لأتمرن بالمدح، وأصلح لمدحه إذا وصلت إليه، كما يتعلم الفارس الطراد بالرمح الذي لا سنان عليه.
بعضد الدّولة امتنعت وعزّت ... وليس لغير ذي عضدٍ يدان(1/448)
يقول: الدولة إنما امتنعت على أعدائها وعز سلطانها، بعضدها: الذي هو أبو شجاع، ولو لم يكن لها عضد لم يكن لها يدان.
ولا قبضٌ على البيض المواضي ... ولا حظٌّ من السّمر اللّدان
اللدان: جمع لدن، وهو الرمح اللين. يعني: من لم يكن له عضد، لم يمكنه القبض على السيوف، والطعن بالرماح، لأن قوام الجميع بالعضد.
دعته بمفزع الأعضاء منها ... ليوم الحرب بكرٍ أو عوان
دعته: أي الدولة دعت عضدها. والهاء في منها للدولة، وقيل: لليد، ودعته: أي سمته.
يعني: أن الدولة سمت أبا شجاع عضدها، وهو مفزع الأعضاء وبه قوامها يعني: لما كانت الدولة تفزع إليه في حروبها كذلك تفزع اليد إلى عضدها، فلهذا سمته عضد الدولة.
فما يسمى كفنّا خسر مسمٍ ... ولا يكنى كفنّا خسر كان
يعني: أن ليس له نظير، ولا يدركه أحد في الدنيا باسم ولا كنية، ولا أحد يشبهه في ملكه وسلطانه ولا في عدله إلى الناس وإحسانه.
ولا تحصى فضائله بظنٍّ ... ولا الإخبار عنه ولا العيان
وروى فواضله أي عطاياه.
يقول: لا يحيط الظن مع سعته بأوصافه الجميلة، وعطاياه الجزيلة، وكذا الأخبار والمشاهدة لا يحيطان بها.
أروض النّاس من تربٍ وخوفٍ ... وأرض أبي شجاعٍ من أمان
أروض: جمع أرض قياسا، وليس بمسموع.
يقول: ممالك غيره من الملوك مضطربة غير آمنة فكأنها مخلوقة من الخوف، كما أنها مخلوقة من التراب، لما كان الخوف لا يفارقها وأرض الممدوح سالمة آمنة، لا يقدر أحد أن يعيث في بلاده، فكأنها مخلوقة من الأمان.
يذمّ على اللّصوص لكلّ تجرٍ ... ويضمن للصّوارم كلّ جاني
يذم: أي يجعلهم في ذمامه. وقيل: يحرمهم. أي: يعقد الذمة للتجار على اللصوص فيحرمهم بها عليهم، ويضمن لسيوفه أن يقتل بها كل جان.
إذا طلبت ودائعهم ثقاتٍ ... دفعن إلى المحاني والرّعاني
المحاني: جمع محنية، وهي منعطف الوادي. والرعان: جمع رعن، وهو أنف الجبل.
يقول: إذا أرادت ودائع التجار ثقات يحفظونها، فإن أصحابها يتركونها بهذه المواضع، ولم يتعرض أحد لها، هيبة من عضد الدولة.
فباتت فوقهنّ بلا صحابٍ ... تصيح بمن يمّر: أما تراني؟!
يقول: باتت أمتعة التجار فوق هذه المواضع مطروحة بلا صحاب تحرسها فكل أحد يمر بها، ولا يتعرض لها فتقول له: أما تراني؟!
رقاه كلّ أبيض مشرفيٍّ ... لكلّ أصمٍّ صلٍّ أفعوان
رقاه: أي رقى عضد الدولة، وهي جمع رقية، والأصم: الحية. والصل: ضرب من الحيات من الأصل، ويشبه به الداهية. والأفعوان: ذكر الأفاعي، وهي أخبث الحيات.
يعني: هو يقهر أهل الفساد بالسيوف، كما يقهر الحواء الحية بالرقية، فرقيته سيفه الذي به ترقى كل حية خبيثة أقام السيف مقام الرقية أي لا رقية له إلا السيف كما يقال: عتابك السيف.
وما يرقى لهاه من نداه ... ولا المال الكريم من الهوان
اللها: العطايا، واحدها لهوة.
يقول: هو يرقى كل مفسد بسيفة، ولا يرقى ماله من سخائه.
حمى أطراف فارس شمّريٌّ ... يحضّ على التّباقي في التّفاني
يقال: رجل شمري وشمري بكسر الشين وفتحها: إذا كان خفيفاً متشمراً لأموره.
يقول: حمى أطراف فارس رجل ملك مشمر جاد. وهو يحض على التباقي في التفاني: أي يحض أولياءه على إفناء أهل الفساد، ليكون ذلك سبب بقاء أهل الصلاح وهو من قوله تعالى: " وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاة ".
بضربٍ هاج أطراب المنايا ... سوى ضرب المثالث والمثاني
يعني: حمى أطراف فارس بضرب، وقيل: الباء متعلق بقوله: يحض أي يحض أصحابه على التباقي في التفاني بضرب لا بمجرد قول، بل بضرب أهاج طرب الموت حتى ثار من مظانه، وهو الضرب بالسيف، وليس هو ضرب للعيدان التي تهيج طرب أصحاب اللهو، والمثاني: جمع مثنى. والمثالث جمع مثلث، وهي الأوتار. أي: همه الحرب وضرب رءوس الأعداء، وليس كغيره من الملوك الذي همه في اللهو والغناء.
كأنّ دم الجماجم في العناصي ... كسا البلدان ريش الحيقطان
العناصي: جمع عنصوة، وهي الخصلة من شعر الرأس. والحيقطان: ذكر الدراج وريشه ملون.(1/449)
يقول: من كثرة من قتل من الأعداء قد تساقطت شعورهم من رءوسهم، وهي مخضبة بالدم، فهي حمر مثل ريش ذكر الدراج، فكأن الدم قد كسا الأرض ريش الدراج.
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان
الهاء في فيها لفارس.
يقول: حمى أطراف فارس من كل لص وداعر، وأمنها من كل خوف، لو طرحت القلوب الواقعة في أيدي أهل العشق فيها، لأمنت من الحدق الحسان، وهذا ضد قوله في بدر.
حدقٌ يذمّ من القواتل غيرها ... بدر بن عمّار بن إسماعيلا
ولم أر قبله شبلي هزبرٍ ... كشبليه ولا مهري رهان
يريد: لم أر قبل شبليه شبلي هزبر، فحذف المضاف.
يقول: لم أر ولدي أسد كولدي عضد الدولة، ولا مهرين يراهن عليهما كمهريه. جعله أسداً، وجعل ولديه شبليه، لتشابهما في الشجاعة، وجعل المهرين مثلا لهما، لتساويهما في السبق.
أشدّ تنازعاً لكريم أصلٍ ... وأشبه منظراً بأبٍ هجان
التنازع: التجاذب.
يقول: هما يتنازعان، أي كل واحد منهما يجاذبه الآخر: يعني. أنهما تساويا فيه. والهجان: الخالص الكريم. وتنازعا ومنظراً نصبا على التمييز.
يقول: لم أر ولدين أشد تشابهاً بأصلهما الكريم أصلاً ومنظراً من ولديه: يعني: أنهما تساويا في مشابهته.
وأكثر في مجالسه استماعاً ... فلانٌ دقّ رمحاً في فلان
يعني: أنه يكثر الأب في مجالسه ذكر الوقائع ومصارع الأبطال، وهما يسمعان ذلك فقد نشئا عليه، وتعوداه من الصغر.
وأوّل دايةٍ رأيا المعالي ... فقد علقا بها قبل الأوان
الداية: الظئر.
يقول: أول داية حضنتهما هي المعالي، فتعودا المعالي وربيا عليها.
وروى رأية بالراء وهي فعلة من رأى بمعنى علم.
وأوّل لفظةٍ فهما وقالا ... إغاثة صارخٍ أو فكّ عاني
يقول: أول ما تلفظا به وتعلماه من الكلام أنهما قالا لأصحابهما: أغيثوا الصارخ وفكوا العاني، أو قالا: نغيث نحن ونفك، أي نشأا على ذلك.
وكنت الشّمس تبهر كلّ عينٍ ... فكيف وقد بدت معها اثنتان؟!
يقول لعضد الدولة: كنت شمسا تبهر الأبصار بنورك، فكيف إذا انضم إليها شمسان منها؟ حتى صرن معها شموشا ثلاثة.
يعني: كنت تغلب الملوك بفضلك، فكيف وقد صار اثنان يعاونانك ويشدان معاليك؟ جعله مع ابنيه شموساً.
فعاشا عيشة القمرين يحيا ... بضوئهما ولا يتحاسدان
القمران: الشمس والقمر.
يقول دعاءً لهما: بقيا بقاء الشمس والقمر، يعمان الناس بفضلهما، من غير أن يحسد أحدهما الآخر، مثل الشمس والقمر، اللذين ينفعان الناس بالنور، ولا يحسد أحدهما الآخر.
ولا ملكا سوى ملك الأعادي ... ولا ورثا سوى من يقتلان
دعاء له أيضا معهما بالبقاء يقول: لا ملكا إلا ممالك الأعادي، ولا ورثا إلا أسلاب من قتلاه.
يعني: لا ملكا ملكك ولا ورثاك.
وكان ابنا عدوٍّ كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان
المعنى: أن أنيسيان، تصغير الإنسان، فإذا زدت عليه ياءين فقلت: أنيسيان، فزاد عدد حروفه، وصغر معناه.
فيقول: إن كان لهذا الممدوح عدو، له ابنان فكاثره بهما. فيكونا زائدين في عدده، ناقصين لسقوطهما وتخلفهما عن قدره، كما أن ياءي أنيسيان قد زادتا في عدد حروفه ونقصتا منه وصغرتاه. والهاء في كاثراه للممدح وفي له للعدو.
وقال أبو الفتح ابن جني: حدثني علي بن حمزة البصري قال: كنت حاضراً بشيراز وقت عرضه لهذه القصيدة، وقد سئل عن معنى هذا البيت: قال فالتفت إلي وقال: لو كان صديقنا أبو فلان حاضراً لفسره لهم. يعنيني بالكنية.
قال ابن جني: وقال لي يوما، أتظن أن عنايتي بهذا الشعر مصروفة إلى من أمدحه به؟! ليس الأمر كذلك، لو كان لهم لكفاهم منه البيت. قلت: فلمن هي؟ قال: هي لك ولأشباهك.
دعاءٌ كالثّناء بلا رياءٍ ... يؤدّيه الجنان إلى الجنان
يعني: هذا دعاء مني، وثناء عليك، ليس فيه رياء ولا خداع، لأنه صدر عن قلب خالص إلى قلبك الذي يشهد لي دعواي.
وقيل: أراد أن هذا المعنى يؤديه قلبي إلى قلبك، لأنه دقيق، وأنت تفهم بإشارتي إليك.
فقد أصبحت منه في فرندٍ ... وأصبح منك في عضبٍ يمان(1/450)
يقول: تكسبت من هذا الممدوح جوهراً نافذا، وفهماً ثاقباً، يغوص في المعنى، كالسيف الذي له الفرند، وتكسب ثنائي منك سيفاً قاطعاً، منه فرنده وماؤه في الأصل جوهر كريم.
وقيل: أراد حصل ثنائي عليك عند مستحقه، فهو عليك كالجوهر في السيف اليماني.
ولولا كونكم في النّاس كانوا ... هذاء كالكلام بلا معاني
وروى: هراء وهو اللغو الفاسد من الكلام، كما أن الكلام إنما يفيد بالمعنى، فإذا عرى عن المعنى صار لغوا، فأنتم في الناس كالمعنى في الكلام.
وقال يمدحه وقد ورد الخبر بانهزام وهسوذان ويذكر ذلك في جمادى الأولى، وكان ركن الدولة أنفذ إليه جيشاً من الري فهزمه وملك بلده:
إثلث فإنّا أيّها الطّلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
إثلث: أي كن ثالثا. والإرزام: الحنين.
يقول: أيها الطلل كن ثالثاً في البكاء والحنين على فراق الأحبة، فإنا نبكي وإبلنا ترزم، فابك أنت أيضاً تكن لنا ثالثاً.
أولا فلا عتبٌ على طللٍ ... إنّ الطّلول لمثلها فعل
الهاء في مثلها ضمير الحالة المضمرة: وإن لا تبك معنا فلا عتب عليك في تركك البكاء.
لو كنت تنطق قلت معتذراً ... بي غير ما بك أيّها الرّجل
يقول: لو كنت أيها الطلل ناطقاً لقلت معتذراً عن ترك البكاء: إن ما بي غير ما بك أيها الرجل، لأن الذي بي هو الموت، ولا بكاء معه وبك الحياة، فإذا كان تركي البكاء لأجل الموت الحال بي، كنت معذوراً فيه. وقوله: معتذرا نصب على الحال.
أبكاك أنّك بعض من شغفوا ... ولم أبك أنيّ بعض ما قتلوا
هذا تفسير لقول الطلل: بي غير ما بك.
يقول: لو كان الطلل ممن ينطق لقال لي: إنما بكيت لأنهم شغفوك حباً، ولم أبك لأنهم قتلوني بالرحيل، فلا قدرة لي على البكاء.
يعني: هذا الطلل ارتحل عنه أهله، فبادت رسومه، ودرست أعلامه، ونحن أحياء نشكو الشوق فإذا لم يبك معنا فهو معذور.
وإنما قال: بعض من شغفوا وبعض ما قتلوا لأن من لما يعقل وما لما لا يعقل.
إنّ الذين أقمت وارتحلوا ... أيّامهم لديارهم دول
هذا أيضا من كلام الطلل، وقيل: هو خطاب منه لنفسه.
يقول الطلل: إن الذين ارتحلوا وأقمت أنت بعدهم، أو يقول: إن الذين ارتحلوا عن هذا الطلل وأقمت بعدهم أيامهم دول لديارهم، إذا حلوها عمرت وإذا ارتحلوا عنها خربت وزالت دولتهم.
الحسن يرحل كلّما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
هذا تفسير لقوله: أيامهم لديارهم دول يعني: أن حسن الطلل بأهله، فكلما حلوا به حسن، وإذا ارتحلوا عنه ارتحل الحسن معهم فهو ينزل بنزولهم ويرحل برحيلهم.
في مقلتي رشإٍ تديرهما ... بدويةٌ فتنت بها الحلل
يقول: هذا الحسن الذي يرحل برحيلهم في مقلتي غزال بدوية قد فتنت الحلل بحسنها وملاحتها.
والحلل: جمع حلة، وهي بيوت الأعراب المجتمعة.
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدودها ومن الّذي تصل؟
يصفها بقلة تناول الطعام، وذلك مما يحمد في النساء.
يقول: هي تصد عن الطعام كما تصد عن العشاق. والطعام يشكو هجرها وصدها عنه، فإذا كانت عادتها الصدود عنه مع أن أحداً لا يهجر الطعام فمن الذي تصله هي من الناس؟! مع وجود هذه العادة فيها.
ما أسأرت في القعب من لبنٍ ... تركته وهو المسك والعسل
ما بمعنى الذي، وهو في موضع النصب بأسأرت والقعب: القدح.
يقول: إذا شربت لبناً فبقي بعد شربها شيء، فذاك يكتسب من فمها طيبها وحلاوتها، فيصير كالعسل والمسك.
قالت: ألا تصحو؟! فقلت لها: ... أعلمتني أنّ الهوى ثمل
الثمل: السكر، والثمل السكران.
يقول: قالت لي المحبوبة: ألا تصحو من هواك؟! فقلت لها: قد أعلمتني أن الهوى السكر، لأن الصحو إنما يكون عن السكر.
لو أنّ فنّا خسر صبّحكم ... وبرزت وحدك عاقه الغزل
يقول: إن عضد الدولة - مع اهتمامه بأمر الملك، وقله اشتغاله باللهو والغزل - لو قصد قومك وبرزت أنت وحدك لرددته عن قومك بحسنك وملاحتك.
وتفرّقت عنكم كتائبه ... إنّ الملاح خوادعٌ قتل
يقول: لو خرجت لعضد الدولة، لفتنته حتى تفرقت عنكم عساكره وكتائبه لاشتغاله بك عن الحرب؛ لأن الملاح خوادع قاتلات.
ما كنت فاعلةً وضيفكم ... ملك الملوك وشأنك البخل(1/451)
أتمنّعين قرىً فتفتضحي ... أم تبذلين له الّذي يسل؟
يقول: كيف تصنعين لو نزل بك عضد الدولة وهو ملك الملوك، مع ما أنت عليه من البخل، إن منعت قراه تفتضحين، وإن بذلت له ما يسأله منك، تركت عادتك في البخل، فأيهما تختارين؟
بل لا يحلّ بحيث حلّ به ... بخلٌ ولا جورٌ ولا وجل
يقول: لا يحل موضعا يحل به عضد الدولة، بخل ولا جور ولا خوف: أي حيثما يحل نفي هذه الأحوال عن أهلها بجوده، وأمنه، وعدله.
وقيل: أراد بالجود ما تستعمله هذه المرأة من المنع والخوف، خوف الرقباء.
ملك إذا ما الرّمح أدركه ... طنبٌ ذكرناه فيعتدل
الطنب: الاعوجاج.
يقول: إن الرمح إذا اعوج إما صورة أو قصورا عن الحمل فإذا ذكرنا اسمه عند ذلك، زالت عنه الآفة.
إن لم يكن من قبله عجزوا ... عمّا يسوس به فقد غفلوا
يقول: إن لم يكن لأحد من الملوك قبله مثل سياسته فإما أن يكونوا غفلوا عنها، أو لم يكونوا قادرين عليها، فعجزوا عن إدراكها.
حتّى أتى الدّنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السّهل والجبل
ابن بجدتها: أي العالم بها. والبجدة: دخيلة الأمر.
يقول: لم يكن لأحد قبله مثل سياسته. حتى أتى الدنيا العالم بحقائقها وبواطن أمور أهلها، فشكا إليه أهل السهل والجبل ما قاسوا قبله من الجور، فعمهم بعدله وأزال عنهم كل جور.
شكوى القليل إلى الكفيل له ... ألاّ يمرّ بجسمه العلل
يقول: شكا إليه أهل السهل والجبل ما قاسوا من الجور وغيره، كما يشكو المريض إلى من كفل له ألا يمر بجسمه الأمراض، وهو الطبيب الحاذف بجيمع أنواع الأسقام.
يعني: يزيل آثار الجور ويمحو رسومها، كما يفعل الطبيب الماهر بمداواة العليل.
قالت فلا كذبت شجاعته ... أقدم فنفسك ما لها أجل
فاعل قالت: شجاعته. وقوله: فلا كذبت دعاء له واعتراض بين القول والمقول له.
يقول: قالت شجاعته: أقدم فما لنفسك أجل ولا يدنو منك موت، ثم دعا له بالبقاء فقال: فلا كذبت شجاعته أبداً في قولها: إن نفسه ليس لها أجل.
يعني: إن جرى مثل في الجود والعلم والحلم وكل فضل فهو النهاية في ذلك المثل، وكذلك هو الغاية، إذا قيل: من البطل في الحروب.
عدد الوفود العامدين له ... دون السّلاح الشّكل والعقل
الشكل: جمع شكال، وهو للخيل. والعقل: للإبل، وهو جمع عقال.
يقول: إن عدة الزوار القاصدين إليه هي الشكل والعقل، دون السلاح.
يعني: أنهم إذا قصدوه استعدوا الشكل للخيل، والعقل للإبل، ثقة منهم بتحقيق آمالهم. وقوله: دون السلاح يعني أنه لا يلقاه إلا عاف يستميح، فأما المحارب فلا يجسر على لقائه.
فلشكلهم في خيله عملٌ ... ولعقلهم في بخته شغل
البخت: جمع بختة وهي الجمال الخرسانية.
يقول: إن شكلهم وعقلهم مشغولة بما قاده إليهم من الخيل والإبل، فلا يفضل لهم شكال ولا عقال.
تمشي على أيدي مواهبه ... هي أو بقيّتها أو البدل
روى تمشي وتمسي بالسين.
يقول: تمشي الخيل والإبل على أيدي مواهبه: أي مواهبه تتصرف في خيله وإبله وتلي أمرها. يعني: إن زاره قوم أعطاهم الخيل والإبل، فإن بقي منها بقية وهبها لقوم آخرين، وإن لم يبق منها شيء، وهب بدلها من سائر الأموال والنفائس.
يشتاق من يده إلى سبلٍ ... شوقاً إليه ينبت الأسل
السبل: المطر، يريد به هنا الحرب. والأسل: الرماح.
يشتاق هو إلى قتل أعدائه وإراقة دمائهم، والرماح إنما تنبت شوقاً إلى ذلك السبل؛ لأنه يعملها في حروبه، ويريق بها دماء أعدائه. وقيل: أراد بالسبل جود يده.
سبلٌ تطول المكرمات به ... والمجد لا الحوذان والنّفل
الحوذان والنفل: نبتان طيبان. يعني: هذا السبل ليس بمطر ينبت العشب، ولكنه حرب ينبت به المكارم والمجد.
وإلى حصى أرضٍ أقام بها ... بالنّاس من تقبيله يلل
اليلل: قصر الأسنان، وقيل انعطافها إلى داخل الفم.
يقول: من كثرة ما قبل الناس الحصى بين يديه، حصل لهم في أسنانهم قصر وانعطاف.
وقال ابن جني: أراد أن الناس لكثرة ما يقبلون الأرض بين يديه حدث بهم انحناء وانعطاف، كما تنعطف الأسنان إلى داخل الفم. قال: وهذا من اختراعات المتنبي.
إن لم تخالطه ضواحكهم ... فلمن تصان وتذخر القبل؟(1/452)
الهاء في تخالطه للحصى.
يقول: إن لم تخالط ضواحك الأسنان الحصى بين يدي عضد الدولة، فلمن يدخرون تقبيل الأرض أي ليس أحد يستحقها غيره.
في وجهه من نور خالقه ... قدرٌ هي الآيات والرّسل
يقول: ما في وجهه من النور والجمال، يقوم مقام المعجزات التي هي الآيات، وما يأتي به الرسل؛ لما فيه من ظهور قدرة الله تعالى وعظمته فيه.
فإذا الخميس أبى السّجود له ... سجدت له فيه القنا الذّبل
يقول: إذا امتنع الجيش عن طاعته والسجود له، سجدت له فيه الرماح.
يعني: أن الرماح تنحني لطعن الآبين للسجود، فيجري ذلك مقام سجود الرماح. أي: إن لم يخضع له طوعاً، خضع له كرهاً. والهاء في فيه للخميس.
وإذا القلوب أبت حكومته ... رضيت بحكم سيوفه القلل
القلل: جمع القلة، وهي أعلى الرأس.
يقول: من لم يرض بحكمه ضرب رأسه بالسيف، فكأنه راض بحكم السيف.
أرضيت وهسوذان ما حكمت ... أم تستزيد؟ لأمّك الهبل!!
يقول: هل رضيت يا وهسوذان بما حكمت السيوف فيك؟ أم تطلب زيادة عليه، ثم دعا عليه بالهلاك فقال: ثكلتك أمك.
وردت بلادك غير مغمدةٍ ... وكأنّها بين القنا شعل
يقول: إن السيوف وردت بلادك يا وهسوذان وهي مجردة من أغمادها، فكأنها بين الرماح، شعل النيران بين الحطب.
والقوم في أعيانهم خزرٌ ... والخيل في أعناقها قبل
الخزر: ضيق العينين. والقبل: إقبال إحدى العينين على الأخرى، والخيل تفعله لعزة أنفسها.
يقول: قصدك فرسان خزر العيون؛ لأنهم أتراك، أو فعلوا ذلك غضباً، على خيل عربية عزيزة الأنفس.
فأتوك ليس لمن أتوا قبلٌ ... بهم وليس بمن نأوا خلل
الأصل: لمن أتوه، ولا بمن نأوا عنه، فحذف الضمير.
يقول: أتاك جيش ركن الدولة ولم يكن لك به طاقة، ولم تقدر على مقاومتهم، ولم يكن بركن الدولة، لما نأى جيشه عنه لمحاربتك خلل. يصف كثرة جيش ركن الدولة.
لم يدر من بالرّيّ أنّهم ... فصلوا ولا يدري إذا قفلوا
فصلوا: أي ارتحلوا.
يقول: لما فصلوا عن الري لم يعلم بهم أحد، وكذلك إذا رجعوا لا يعلمون برجوعهم؛ لأنهم لا يظهرون في جملة العسكر. ومن بالري قيل: أراد به ركن الدولة. ويجوز أن يريد به أهل الري، إنهم لا يعلمون لهم خروجاً ولا قفولاً.
فأتيت معتزماً ولا أسدٌ ... ومضيت منهزماً ولا وعل
يقول: لما قصدوك أتيتهم أنت معتزماً، ولا أسد يقدم مثل إقدامك، ثم انهزمت ولا وعل ينهزم مثل انهزامك.
تعطى سلاحهم وراحهم ... ما لم تكن لتناله المقل
يقول لوهسوذان: تعطي سلاح عساكر ركن الدولة جيوشك فتقتلها، وتعطي راحات أكفهم من ذخائرك وغنائم القتلى وأسلابهم، ما لم تكن العيون تناله لعزته.
يعني: مكنت سلاحهم منكم، وراحهم من أموالكم وذخائركم، فكأنك أعطيتها هذه الأشياء.
قال ابن جني: قوله: وراحهم إشارة إلى الصفع، يعني لصفعوا قفاك وقتلوا خيلك.
أسخى الملوك بنقل مملكةٍ ... من كاد عنه الرّأس ينتقل
يقول أسخى الملوك من نقل مملكته إلى غيره عندما يخاف أن ينقل عنه رأسه.
يعني: نجوت برأسك وسمحت بمملكتك.
لولا الجهالة ما دلفت إلى ... قومٍ غرقت وإنّما تفلوا
دلفت: قربت، وقيل: الدلف: المشي الرويد والسريع.
يقول: لولا جهلك لم تقرب من قوم بصقوا عليك فغرقت في بصاقهم، أي انهزمت بيسير من عسكرهم.
لا أقبلوا سرّاً، ولا ظفروا ... غدراً، ولا نصرتهم الغيل
الغيل: جمع الغيلة، وهي الخديعة.
يقول: لم يقصدوا إليك خفيةً، بل جاءوك مجاهرة، ولا ظفروا بك على سبيل الغدر، لأن هذا مذموم يدل على ضعف الطالب، ولا نصرهم المكر عليك والخديعة.
لا تلق أفرس منك تعرفه ... إلاّ إذا ما ضاقت بك الحيل
يقول: لوهسوذان: من عرفت أنه أفرس منك فلا تقاتله، إذا ما كان لك حيلة في مسالمته، وإنما تحاربه إذا ضاقت الحيل.
لا يستحي أحدٌ يقال له: ... نضلوك آل بويه أو فضلوا
نضلوك: أي غلبوك، وأصله في الرمي. يقال: تناضل الرجلان ففضل أحدهما صاحبه. وأتى بعلامة الجمع مع تقدم الفعل على مذهب من قال: أكلوني البراغيث.
يقول: إن الناس قد انقادوا لآل بويه، فلا يستحي أحد إذا قيل له: إن آل بويه غلبوك ونضلوك، وذلك لا يخفي على أحد.(1/453)
قدروا عفوا، وعدوا وفوا، سئلوا ... أغنوا، علوا أعلوا، ولواعدلوا
علوا: من عليت في المكارم، مثل علوت في المكان.
يقول: إذا قدروا على أعدائهم عفوا عنهم عند القدرة، وإذا وعدوا وفوا وأنجزوا، وإذا سألهم سائل أعطوه وأغنوه. ولما ارتفعوا في المكارم شاركوا أولياءهم في معاليهم، ولما ولوا بثوا العدل في الرعية.
فوق السّماء وفوق ما طلبوا ... فمتى أرادوا غايةً نزلوا
فوق السماء: أي علوا فوق الغايات التي يضرب بها المثل، وعلوا الرتب فإذا أرادوا غاية نزلوا إليها من العلو.
قطعت مكارمهم صوارمهم ... فإذا تعذّر كاذبٌ قبلوا
تعذر: أي اعتذر كاذب.
يقول: إن كرمهم قد قطع سيوفهم: أي منعها من القتل بالعفو، فإذا اعتذر إليهم مذنب قبلوا عذره، وإن كان كاذباً. كرماً منهم.
لا يشهرون على مخالفهم ... سيفاً يقوم مقامه العذل
يقول: إذا قدروا على دفع مخالفهم باللوم، لم يشهروا عليه السيف، ولم يتعدوا إلى القتال. يصفهم بذلك لكرم أخلاقهم.
فأبو عليٍّ من به قهروا ... وأبو شجاعٍ من به كملوا
يقول: إن آل بويه إنما قهروا أعداءهم بأبي علي ركن الدولة، وكمل فضلهم وفخارهم بأبي شجاع عضد الدولة.
حلفت لذا بركات نعمة ذا ... في المهد: ألاّ فاتهم أمل
يقول: حلفت لأبي علي بركات أبي شجاع أنه يريك فيه جميع آماله: أي كانت مخايل سؤدده لائحة عليه وهو صغير في المهد، فذا الأول لأبي علي، والثاني لأبي شجاع، وقيل المعنى: حلفت لأبي شجاع بركات نعمة أبي علي ألا يتجاوزها المل، فذا الأول إشارة إلى أبي شجاع والثاني إلى أبي علي.
وقال أيضاً يعزى عضد الدولة بعمته وقد توفيت بمدينة السلام.
آخر ما الملك معزّىً به ... هذا الّذي أثّر في قلبه
هذا دعاء بلفظ الخبر يعني: جعل الله هذه المصيبة التي أثرت في قلبك آخر ما تعزى به. أي: لا أعادها الله بعد هذه.
لا جزعاً بل أنفاً شابه ... أن يقدر الدّهر على غصبه
يقول: لو لم يؤثر هذا المصاب في قلبه جزعاً، لكن تداخلته الحمية والأنفة حيث قدر الدهر على غصبه عمته.
لو درت الدّنيا بما عنده ... لاستحيت الأيّام من عتبه
يقول: لو علمت الدنيا بما عنده من الفضل والمجد، لاستحيت من عتبه عليها؛ لأنها إذا أساءت إليه عتب عليها، لأجل هذه الإساءة.
لعلّها تحسب أنّ الّذي ... ليس لديه من حزبه
يقول: لعل الأيام ظنت أن من غاب عن حضرته، ليس من حزبه فأقدمت على ذلك لما رأتها بعيدةً عن نصرته.
وأنّ من بغداد دارٌ له ... ليس مقيماً في ذرا عضبه
الذرا: الناحية.
يقول: لعل الأيام ظنت أن من داره بغداد ليس في حماية سيفه، فلهذا عرضت لعمته لما كانت مقيمة ببغداد.
وقيل: كان ابن معز الدولة مقيماً ببغداد وهو ابن عمه. يعني: أنه في حماية سيفه. والمقصد تفضيله عليه.
وأنّ جدّ المرء أوطانه ... من ليس منها ليس من صلبه
يقول: لعل الأيام ظنت ألا نسب بينك وبين عمتك لما بعدت عنك، ولم تكن مقيمةً في وطنك الذي من عادتك وعادة أجدادك أن يكونوا فيه، ولعلها ظنت أن القوم يتناسبون بأوطانهم، فمن فارق وطنه لم يكن بينه وبين أهله نسب؛ فلهذا أقدمت عليها لما فارقت وطنك. والهاء في أوطانه للمرء وفي صلبه للجد.
أخاف أن يفطن أعداؤه ... فيجفلوا خوفاً إلى قربه
يقول: أخشى أن يفطن أعداؤه إلى أن من قرب منه آمن حوادث الدهر، فيسرعون إلى قربه؛ ليحصلوا في ذمته.
لا بدّ للإنسان من ضجعةٍ ... لا تقلب المضجع عن جنبه
يقول: لا بد للإنسان من الموت، فعبر عنه بالضجعة، ثم قال: تلك الضجعة لا تقلب المضجع عن جنبه. يعني: لا بد للإنسان أن يرقد رقدة لا ينقلب فيها من جنب إلى جنب، ولا ينتبه منها أبداً. ويعني بها ضجعة القبر.
ينسى بها ما كان من عجبه ... وما أذاق الموت من كربه
الهاء في بها للضجعة.
يقول: صاحب هذه الضجعة ينسى بسببها تكبره، وينسى عندها أيضاً ما ذاقه من مرارة الموت؛ لأنه لا يحس شيئاً.
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بدّ من شربه؟!(1/454)
يقول: مات آباؤنا وأجدادنا ونحن نموت أيضاً، فكيف نكره ما لا بد لنا منه!! لأن الفرع يلتحق بأصله ويعود إليه. وقوله: نحن بنو الموتى مأخوذ من قول أبي نواس:
وما المرء إلاّ هالكٌ وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكين عريق
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمانٍ هي من كسبه
يقول: كيف نبخل على الزمان بأرواحنا، وهي له وكسبه على ما جرت به عادة العرب في نسبة الأمور إلى الدهر.
وقيل: أراد أن الإنسان، هذه أحواله إلى آخر تربيته في الزمان، واختلاف أحواله تترتب على اختلاف أحوال الزمان، على ما جرت العادة به، فلهذا نسب أرواحنا إلى الزمان.
فهذه الأرواح من جوّه ... وهذه الأجسام من تربه
يقول: أرواحنا من جو الزمان، وأجسامنا من تربه، فنحن مركبون منه؛ وذلك لأن الجسم كثيف والأرض كثيفة، والروح لطيف كالهواء والشيء منجذب إلى شبهه.
لو فكّر العاشق في منتهى ... حسن الّذي يسبيه لم يسبه
يقول: لو تفكر العاشق في عاقبة حسن حبيبه الذي يسبي قلبه، فيعلم أنه يصير إلى الدود والتراب، لنفرت نفسه، ولم يسب قلبه.
لم ير قرن الشّمس في شرقه ... فشكّت الأنفس في غربه
هذا مثل. والمعنى: إذا ولد المولود، علم أنه سيموت لا محالة كما أن الشمس إذا طلعت لا يشك أحد في غروبها.
يموت راعي الضّأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبّه
العرب تضرب المثل براعي الضأن فتقول: أجهل من راعي الضأن.
يقول: لا حيلة لأحد في الموت! يستوي فيه الأحمق الجاهل، والطبيب العالم فجهل هذا لا يقدم أجله، وعلم الآخر لا يؤخر موته.
وربّما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
السرب: النفس. والهاء في عمره وسربه ضمير جالينوس.
يقول: ربما عاش الجاهل المخلط أكثر من العالم المهتم وربما زاد أمر الجاهل في نفسه إلى وقت موته على أمر العالم بها.
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
يقول: عاقبة من بالغ في الاحتراز، وتجاوز الحد في المسالمة وترك الحرب، كعاقبة المبالغ في التغرير بنفسه، والتعرض للحرب. يعني: غاية كل واحد منهما الموت الذي لا محيص لأحد عنه، فما بالنا نجزع منه!
فلا قضى حاجته طالبٌ ... فؤاده يخفق من رعبه
يقول: إذا كانت الحال هذه، فلا عذر لمن يجزع من الموت، فمن طلب حاجة وخاف الإقدام عليها حتى يخفق فؤاده من خوفه منها، فلا قضيت حاجته ولا بلغها. والهاء للخائف.
أستغفر الله لشخصٍ مضى ... كان نداه منتهى ذنبه
يعني: لم يكن له ذنب إلا جوده وسخاؤه، فجوده هو نهاية ذنبه. أي: لا ذنب له ومع ذلك أسأل الله له الغفران.
وكان من حدّد إحسانه ... كأنّما أسرف في سبّه
حدد: إحسانه أي حصره. وقيل: معناه من حدد ذكر إحسانه فحذف المضاف. يعني: أنه كان يكره أن يذكر فضائله، كأنه عنده سبه وذكره بالسوء في وجهه.
يريد من حبّ العلا عيشه ... ولا يريد العيش من حبّه
الهاء في حبه للعيش.
يقول: كان يحب الحياة ليكتسب فيها المعالي، ولم يكن يريد الحياة لأجل حبها وطلب اللذة فيها.
يحسبه دافنه وحده ... ومجده في القبر من صحبه
الهاء في يحسبه المفعول الأول ليحسب. والمفعول الثاني وحده.
يقول: من دفنه يحسب أنه دفنه وحده، ولم يعلم أن المجد مدفون معه. أي: قد مات المجد بموته. وقوله: من صحبه يريد أن مجده واحد من أصحابه؛ لأن معه المجد والعفاف والكرم والبر وغير ذلك.
ويظهر التّكير في ذكره ... ويستر التّأنيث في حجبه
يقول: نكنى عنه بلفظ التذكير إعظاماً له فنظهر التذكير وإن كان في حجبه. أي: هي أنثى مستورة في الحجب.
أخت أبي خير أميرٍ دعا ... فقال جيشٌ للقنا لبّه
يعني: أن هذا الشخص عمة عضد الدولة، وهو خير أمير دعا جيشه فقال الجيش للقنا: أجبه ولبه. أي: قل له: لبيك.
يا عضد الدّولة من ركنها ... أبوه والقّلب أبو لبّه
يقول: أنت زين ركن الدولة وكماله، كما أن العقل زين للقلب، فضله على أبيه. يعني: أنت لبه، وهو وعاء لك، والهاء في لبه للقلب.
ومن بنوه زين آبائه ... كأنّها النّور على قضبه
القضب: جمع قضيب. والنور: الزهر.(1/455)
يقول: بنوك زين آبائك، يتزينون بهم وبسؤددهم وكرمهم، كما يتزين القضيب بالنور. ولم يجعل أبناءه زيناً له كما جعله زين أبيه، لأنه لم يرد تفضيل أولاده عليه كما فضله على أبيه؛ لما في ذلك من الحط من منزلته. فجعلهم زينا لجدودهم. يعني: أن آباءك يتزينون ببنيك كما تزينوا بك.
فخراً لدهرٍ بتّ من أهله ... ومنجبٍ أصبحت من عقبه
فخراً: نصب على المصدر، بإضمار فعل. أي: فليفخر الدهر فخراً، حيث صرت من أهله، وليفخر أبوك المنجب فخراً، حيث أصبحت من عقبه.
إنّ الأسى القرن فلا تحيه ... وسيفك الصّبر فلا تنبه
الهاء في تحيه للأسى، وهو الحزن. ونبا السيف ينبو: إذا لم يقطع، وأنباه صاحبه: إذا ضرب به فلم يقطع في يده.
يقول: إن الحزن قرن من أقرانك، فلا تحيه. أي: لا تمكنه من قلبك، إذ ليس عادتك أن يقاومك قرن، والصبر سيفك الذي تقتل به الأسى فاقتله به ولا تنبه عنه، فليس من عادتك أن ينبوا السيف في يدك.
ما كان عندي أنّ بدر الدّجى ... يوحشه المفقود من شهبه
الشهب: جمع شهاب، وهو الكوكب، والهاء للبدر، لما جعله بدراً جعل أهله كواكب فقال: إن البدر لا يستوحش من فقد كوكب، فليس ينبغي لك أن تستوحش لفقد واحد منهم.
حاشاك أن تضعف عن حمل ما ... تحمّل السّائر في كتبه
السائر: الذي حمل الخبر إليه، والهاء في كتبه للسائر.
يقول: كيف تضعف عن حمل هذا الخبر الذي حمله الفيج الذي سار به إليك وتضمنه كتاب! وقيل: أراد بالسائر: المثل السائر. والمعنى: أن الأمثال قد سارت والأخبار قد تظاهرت بفضل الصبر على المصائب وذكر قوم تحملوا غصصها، ففضلوا بذلك على غيرهم. فقال: حاشاك أن تضعف عما قوى عليه غيرك من الصبر ممن سارت بأخبارهم الصحف والكتب حيث ذكر فيها صبر من صبر.
وقد حملت الثّقل من قبله ... فأغنت الشّدّة عن سحبه
الشدة: القوة، والهاء في قلبه للمفقود.
يقول: حملت ثقل الشدائد من المصائب وغيرها من الأمور العظيمة، قبل المصيبة بهذا المفقود، فأغنت القوة التي بك عن سحب ما حملته من الشدائد؛ لأن الإنسان إذا ثقل عليه شيء جره وسحبه، فيعود الضمير في سحبه على الثقل.
وقيل: يرجع إلى ما ترجع إليه الهاء في قبله وهو المفقود.
يدخل صبر المرء في مدحه ... ويدخل الإشفاق في ثلبه
الإشفاق: الجزع.
يقول: المرء يمدح على الصبر، ويذم بالجزع، فإياك أن تجزع إذ ليس من عادتك أن تأتي أمراً تذم عليه.
مثلك يثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدّمع عن غربه
الصوب: الإصابة، وقيل: الصوب: الناحية والقصد. والغرب: مجرى الدمع من العين.
يقول: من كان مثلك رد الجزع عن طريقه وقصده، أو عما يريد إصابته، ويرد الدمع من عينه، ولا يسيل فيدل على جزعه.
إيما لإبقاءٍ على فضله ... إيما لتسليمٍ على ربّه
إيما: معناه إما. والإبقاء: الرعاية والمحافظة. والتسليم: الرضا بالقضاء.
يعني: مثلك يصبر: إما مراعاةً لفضله كي لا يذم بالجزع، وإما رضاءً بقضاء الله وحكمه.
ولم أقل مثلك أعنى به ... سواك يا فرداً بلا مشبه
لما قال: مثلك يثنى الحزن أثبت له مثلاً في الظاهر، فاعتذر عنه وقال: لم أرد بقولي: مثلك إنساناً سواك، وإنما أردت أنت الذي تفعل ذلك، ومثل صلة، وزيادة. وهذا مثل قوله:
كفاتكٍ. ودخول الكاف منقصة ... كالشّمس قلت، وما للشّمس أمثال
وقال أيضاً يمدحه، وقد جلس الأمير عضد الدولة ليشرب في مجلس متخذ له تدور غلمان بأعلاه وتنثر الورد على فرقه من جميع جوانبه، حتى يتورد المجلس ومن فيه، وحضر أبو الطيب فقال ارتجالاً سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.
قد صدق الورد في الّذي زعما ... أنّك صيّرت نثره ديما
الديم: جمع ديمة، وهي المطرة تدوم أياماً.
يقول: صدق الورد في زعمه أنك صيرت منثوره أمطاراً. شبه أوراق الورد في نزوله من أعلى السماء متفرقةً بقطر الأمطار.
كأنّما مائج الهواء به ... بحرٌ حوى مثل مائه عنما
العنم: نبت أحمر. وحوى: أي امتلأ. والهاء في به للورد.
يقول: كأنما الهواء الذي يموج بالورد بحر ملآن بالعنم، مثل مائه. شبه الصفة بالبحر، والورد بالعنم، وشبه الورد في الهواء، وموجه فيه، ببحر ماؤه عنم.(1/456)
ناثره ناثر السّيوف دماً ... وكلّ قولٍ يقوله حكما
دماً وحكماً نصب على التمييز، ونصب كل قول بفعل مضمر. أي: وينثر كل قول. وقيل: نصبه عطفاً على موضع السيوف معنىً كقوله تعالى: " وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً ". ويجوز جره عطفاً على لفظ السيوف، غير أنه لما عطف عليه البيت الذي يليه منصوب القافية منع فيه الجر.
يقول: ناثر هذا الورد هو الذي ينثر السيوف دماً. أي: يكسرها على رءوس أعدائه ويطرحها مختضبة بالدم، وإذا قال قولاً ينثر الحكم في كل قول يقوله.
والخيل قد فصّل الضّياع بها ... والنّعم السّابغات والنّقما
أي ينثر أيضا خيله ونعمه وضياعه. أي: يفرقها ويهبها. يعني: أنه ينثر الخيل منظومة مفصلةً بالنعم والنقم.
فليرنا الورد إن شكا يده ... أحسن منه من جوده سلما
يقول: إن الورد إن كان يشكو يده في نثرها له، فليرنا الورد أحسن منه، هل سلم من جوده؟؟! أي لا معنى لشكايته من يد عادتها تفريق ما هو أحسن منه من الذخائر النفيسة، والجواهر الجليلة، فأي قدر للورد عندها.
وقل له لست خير ما نثرت ... وإنّما عوّذت بك الكرما
أي: قل للورد، لست بخير من الأموال التي تنثرها يده، وإنما نثرك الآن تعويذاً لكرمه من أن يصاب بالعين.
خوفاً من العين أن يصاب بها ... أصاب عيناً بها يعان عمى
عين الرجل يعان: إذا أصيب بعين. وخوفاً نصب على المفعول له. أي: إنما نثرك الآن عوذه لكرمه أن يصاب بالعين، ثم دعا على العين التي تصيب كرمه فقال: أعمى الله عيناً عانته وهمت بإصابته.
وقال أيضاً يمدحه وقد ورد الخبر بهزيمة وهسوذان بعد الكرة الأولى وضربت الدبادب على باب الملك عضد الدولة. فقال أبو الطيب في جمادى الآخرة.
أزائرٌ يا خيال أم عائد؟ ... أم عند مولاك أنّني راقد؟
الزيارة: للصحيح، والعيادة: للمريض. ومولاك: أي صاحبك. يخاطب خيال المحبوبة ويقول: أجئتني زائراً أم عائداً؛ لما نالتني العلة من حب صاحبك؟! وما لحقتني من الغشية شوقاً إليه؟! أم ظن صاحبك أني نائم فبعثك إلي زائراً كما يزور الطيف في المنام، وليس الأمر كما ظن فإني لست براقد.
ليس كما ظنّ غشيةٌ لحقت ... فجئتني في خلالها قاصد
قاصد في موضع نصب على الحال، فجعله مقيداً لأجل القافية.
يقول للخيال: ليس كما ظن صاحبك أني نائم، وإنما نالتني غشية لشدة الشوق فجئتني في خلال هذه الغشية قاصداً، حيث حسبت أني نائم، ولأن العاشق لا ينام وإنما يغشى عليه. ومثله:
وإنّي لأستغشى وما بي غشيةٌ ... لعلّ خيالاً منك يلقى خياليا
عد وأعدها فحبّذا تلفٌ ... ألصق ثديي بثديها النّاهد
الهاء في أعدها للغشية.
يقول: عد يا خيال؛ وأعد الغشية التي كانت بي، فإني أحتملها من أجلك، فحبذا حال جمعت بيني وبينك، وإن كان فيها تلف النفس، فضلا عن الغشية والثدي الناهد: هو المشرف. والهاء في ثديها للمحبوبة.
وجدت فيها بما يشحّ به ... من الشّتيت المؤشّر البارد
الهاء في فيها للغشية. ويشح: أي يبخل. والشتيت: المتفرق من الثغر. والمؤشر: الذي في طرفه تحزيز وحدة، يكون ذلك في أطراف أسنان الأحداث.
والمعنى: وجدت أيها الخيال في حال الغشية بما يشح صاحبك به في حال اليقظة من الشتيت الموشر البارد: أي كنت تبخل بتقبيلي فمك، وارتشا في الثغر البارد الريق، فجدت في حال المنام.
إذا خيالاته أطفن بنا ... أضحكه أنّني لها حامد
خيالات: جمع خيالة، وقيل: جمع خيال، نحو جوابات وجواب، فكأن الخيال والخيالة لغتان مثل: مكان ومكانة، وجمعه وإن كان واحداً لأنه رآه دفعات كل دفعة خيالا، فصارت خيالات، والهاء في خيالاته وأضحكه يعود إلى مولاك، وفاعل أضحكه: أنني وصلته. ويقال: أطاف الخيال يطيف، وطاف يطوف.
يقول: إذا طاف بي خيال صاحب فحمدته، أضحك صاحبه حمدي إليه لخياله، من حيث أن الخيال لا حقيقة له، وليس بشيء يحمد فضحك لذلك.
وقال: إن كان قد قضى أرباً ... منا فما بال شوقه زائد؟
زائد: في موضع نصب على الحال.
يقول: قال مولى الخيال: إن كان قد قضى حاجته من خيالي، فلم شوقه إلي زائد؟ فهلا تسلي عني، وقنع بالطيف الذي يزوره؟ ومثله لآخر:(1/457)
رأتني وقد شبّهت بالورد خدّها ... فصدّت وقالت: قاس خدّي بالورد
إذا كان مثلي في البساتين عنده ... فماذا الّذي قد جاء يطلبه عندي
لا أجحد الفضل ربّما فعلت ... ما لم يكن فاعلاً ولا واعد
ولا واعد في موضع نصب عطفاً على قوله: فاعلا وهو خبر كان، وفاعل فعلت ضمير الخيالات.
يقول: مجيباً لحبيبه وراداً عليه في قوله: لا أنكر فض هذه الخيالات علي؛ لأنها فعلت ما لم يكن يفعله صاحبها من الوصل، ولا كان يعد به، ونظر التهامي إلى هذا المعنى فقال:
فكان أكرم فضلاً، إنّ لذّته ... تخلو من المنّ والتّنغيص والمنن
ما تعرف العين فرق بينهما ... كلٌّ خيالٌ وصاله نافد
يقول: لا فرق بين الخيال وبين صاحبه، فإن وصله ينقضي وينصرم، وكلاهما خيال لا حقيقة له ولا دوام، فليس لصاحب الخيال أن يزدري بالخيال ووصله، إذ هما في الانقضاء سواء. وقوله: فرق بينهما أراد كلا من المذكورين: الخيال ومولاه، لما قال: لا فرق بينهما في قصر وصلهما، قدر أن كل واحد منهما خيال، ثم قال: كل خيال وصاله نافد.
يا طفلة الكفّ عبلة السّاعد ... على البعير المقلّد الواخد
الطفلة: الرخصة الناعمة: العبلة الممتلئة. والبعير المقلد: الذي جعل في عنقه قلادة. والواخد: السريع السير.
يقول هذا كله لمحبوبته.
زيدي أذى مهجتي أزدك هوىً ... فأجهل النّاس عاشقٌ حاقد
يجوز أذىً مهجتي وفيه تقديران: أحدهما أن مهجتي منادى مضاف. أي يا مهجتي زيدي أذىً. والثاني أنه مفعول زيدي وتقديره: زيدي مهجتي أذى.
يقول: زيدي في أذاك لي وتعذيبك إياي.
يقول: إنك كلما زدتني أذىً ازددت لك هوى، ولا أحقد عليك؛ لأن أجهل الناس هو العاشق الحاقد.
حكيت يا ليل فرعها الوارد ... فاحك نواها لجفني السّاهد
الفرع: شعر الرأس. والوارد: الطويل المسترسل. يخاطب الليل ويعاتبه على طوله.
يقول: يا ليل أشبهت شعرها في طوله وسواده، فاحك أيضا بعدها، كما حكيت شعرها، وابعد عن عيني.
وقيل: تقدير البيت: حكيت يا ليل فرعها الوارد، لجفني الساهد فاحك نواها.
طال بكائي على تذكّرها ... وطلت حتّى كلاكما واحد
يقول مخاطبا لليل: إن بكائي قد طال على تذكر المحبوبة، وطلت أنت أيها الليل، فكأنك والبكاء واحد، من حيث الطول، لا فرق بينكما.
ما بال هذي النّجوم حائرةً ... كأنّها العمى مالها قائد؟؟!
يصف طول الليل ويقول: ما للنجوم من هذا الليل متحيرةً واقفةً لا تزل! فكأنها عميان لا قائد لهم، فيبقون متحيرين لا يهتدون إلى مذهب. وهذا البيت مأخوذ من قول ابن المعتز:
والنّجم في كبد السّماء كأنّه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد
أو عصبةٌ من ملوك ناحيةٍ ... أبو شجاعٍ عليهم واجد
العصبة: الجماعة، وهذا تشبيه آخر. شبه النجوم في تحيرها بملوك سخط عليهم الممدوح فبقوا حائرين لا يدرون ما يصنعون.
إن هربوا أدركوا وإن وقفوا ... خشوا ذهاب الطّريف والتّالد
هذا تفسير حيرة الملوك. يعني: لا يدرون ما يصنعون؛ لأنهم إن هربوا أدركهم، وإن وقفوا خافوا أن يغير على أموالهم.
فهم يرجّون عفو مقتدرٍ ... مبارك الوجه جائدٍ ماجد
الجائد: الجواد، وهو على أصل القياس، جاد فهو جائد، ولكنه مرفوض، واستغنوا عنه بقولهم جواد.
يعني: أنهم تحيروا فلا يدرون: أيهربون، أم يثبتون؟! فاستسلموا رجاء أنه إذا قدر عفا عنهم، وجرى على عادته في الجود والمجد.
أبلج لو عاذت الحمام به ... ما خشيت رامياً ولا صائد
صائد: في موضع النصب. وأبلج: في موضع جر بدلاً عن المجرورات المذكورة في البيت المتقدم. والأبلج: المفروق الحاجبين.
يقول: هو يحمي كل من يلجأ إليه، فلا يقدر على ضيم من استجار به، حتى لو لجأت إليه الحمام لأمنت ولم تخف صائدا ولا راميا.
أورعت الوحش وهي تذكره ... ما راعها حابلٌ ولا طارد
الوحش: اسم الجنس، وأراد ها هنا الجماعة فأنثه. والحابل: صاحب الحبالة، والطارد: الذي يطرد الوحش.
يعني: لا يجسر أحد على التعرض لمن يستجير به، حتى لو أن الوحش ذكرت اسمه في حال رعيها، أو خطر اسمه لها بالبال لأمنت بذكره، ولم يفزعها حابل بحبالته، ولا طارد يطردها. وهذا ذكره على وجه المثل.(1/458)
تهدي له كلّ ساعةٍ خبراً ... عن جحفلٍ تحت سيفه بائد
فاعل تهدى: كل ساعة. والجحفل: الجيش العظيم. والبائد: الهالك.
يقول: يرد عليه كل ساعة خبر من عسكر عدوة: أنه هلك تحت سيفه، وإنما ذلك لكثرة سراياه وانتشارها في الأرض، وإنما قال ذلك، لأن الخبر كان قد ورد عليه بهزيمة وهسوذان مرة أخرى.
وموضعاً في فتان ناجيةٍ ... يحمل في التّاج هامة العاقد
وموضعاً: أي مسرعاً، وهو نصب عطفاً على قوله: تهدى له كل ساعة خبراً، وموضعاً والناجية: الناقة السريعة. والفتان: غشاء من أدم يكون للرحل.
يعني: كل ساعة يرد عليه رسول ببشارة، وراكب يسرع، في رحل ناقة سريعة، تحمل تاج الملك الذي هلك تحت سيفه، ورأس من عقد ذلك التاج على رأسه، ويجوز أن يكون هو الذي قد عقد عليه.
يا عضداً ربّه به العاضد ... وسارياً يبعث القطا الهاجد
يبعث القطا: أي ينبه. والهاجد: النائم، وهو من وصف القطا. والساري: الذي يسير ليلا. والعاضد: المعين والمعني: يا عضد الدولة الذي ربه يعين به أولياءه.
وقيل: العاضد هو القاطع. يعني: يا عضداً يقطع الله تعالى به أصول أعدائه ويستأصلهم بفعله، ويا من سرى بالليل في فلوات يطلب الأعداء، فينتبه القطا النائم فيها.
وممطر الموت والحياة معاً ... وأنت لا بارقٌ ولا راعد
الراعد: السحاب الذي فيه الرعد. والبارق: الذي فيه البرق.
يقول: إنك تمطر الموت على أعدائك والحياء على أوليائك، فتحييهم بنعمك وتميت أعداءك بنقمك، ولست مع ذلك سحاباً حقيقياً لا ذي رعد ولا ذي برق. وقيل: أراد أنك تحسن بلا برق وتسيء بلا رعد، بخلاف السحاب يكون البرق فيه وعداً، والرعد وعيداً.
نلت وما نلت من مضرّة وهسو ... ذان ما نال رأيه الفاسد
أي: وما نلت من مضرته ما نال منها رأيه الفاسد. يعني: أن ما نال منه فساد رأيه أكثر مما نلت أنت منه. أي: جنى الشر على نفسه حين تعرض لقتال ركن الدولة.
يبدأ من كيده بغايته ... وإنّما الحرب غاية الكائد
الكائد: اسم فاعل من الكيد.
يقول: من جهله أنه بدأ بالمحاربة، وكان سبيله ألا يحارب إلا إذا اضطر إليه؛ إذ الحرب غاية الكائد.
ماذا على من أتى محاربكم ... فذمّ ما اختار لو أتى وافد
وافد: في موضع نصب على الحال.
يقول: من حاربكم فقتلتموه فيذم عاقبة ما اختاره، ولو جاءكم وافداً عليكم لنال كل ما أراد. يعني: لو أتى وافدا لأدرك مناه.
بلا سلاحٍ سوى رجائكم ... ففاز بالنّصر وانثنى راشد
راشد: حال، فترك نصبه لأجل التقفية. يعني: لو أتى محاربكم وافدا بلا سلاح إلا رجاءه إياكم لفاز بالنصر، وانثنى بالغنيمة والرشد، فمن علم ذلك من حالكم وحاله، فما الذي يضره لو فعل هذا، ولم يعرض نفسه للقتل، ونعمته للزوال والانتقال.
يقارع الدّهر من يقارعكم ... على مكان المسود والسّائد
يقارع: أي يقاتل. والمسود: الذي ساده غيره. والسائد: الذي ساد غيره. يعني: أن الدهر يحارب من حاربكم ونازعكم على الملك، وهو مكان المسود والسائد: يعني: أن الدهر خصم لعدوكم وعون لكم.
وقيل: أراد أن الدهر مسود، وأنتم ساده، فمن قارعكم قارعه الدهر لسيادتكم، فكأن الدهر جند لكم تسودونه، وتسوسونه.
وليت يومي فناء عسكره ... ولم تكن دانياً ولا شاهد
شاهد: في موضع النصب عطفا على قوله: دانيا والهاء في عسكره لوهسوذان.
يقول: إنك توليت القتال في اليومين اللذين فنى فيهما عسكر وهسوذان، وإن لم تكن حاضراً ذلك اليوم ولا قريباً؛ لأن جيش أبيك إنما فعلوا ذلك لتشجيعك إياهم.
ولم يغب غائبٌ خليفته ... جيش أبيه وجدّه الصّاعد
الهاء في خليفته وأبيه وجده للغائب. يعني: أنك وإن كنت غائبا كان خليفتك الذي يقوم مقامك جيش أبيك، وجدك الصاعد، فمن كان كذلك فكأنه لم يغب، فلهذا قلت: إنك توليت القتال وهزمه.
وكلّ خطيّةٍ مثقّفةٍ ... يهزّها ماردٌ على مارد
هذا عطف على ما تقدم، والمارد: الذي لا يطاق من خبثه.
يقول: ناب عنك جيش أبيك، كل فارس مارد على فرس مارد، يهز كل رمح خطى.
سوافكٌ ما يدعن فاصلةً ... بين طريّ الدّماء والجامد(1/459)
يقول: نابتك رماح خطية، تسفك دماء الأعداء دائماً، لا تدع بين الطري والجامد فصلا. أي: إذا أراقت دماً فجمد أتبعته بطري من غير فصل.
إذا المنايا بدت فدعوتها ... أبدل نوناً بداله الحائد
الحائد: إذا أبدل داله بالنون فهو الحائن أي الهالك. والحائد: الذي يميل عن الحرب. والهاء في دعوتها للمنايا. وقيل: للخيل. أي دعوة الخيل: أن تقول ما في البيت.
يقول: إذا ظهرت المنيه في الحرب، فدعوة المنايا هي أن تقول: أبدل الله تعالى الحائد نوناً بدال. يعني: أنها تدعو على من يحيد عن الحرب بهذا القول أي جعل الله الحائد حائناً. أي: هالكا، من الحين، وهو الهلاك.
إذا درى الحصن من رماه بها ... خرّلها في أساسه ساجد
ساجد: حال، والهاء في بها ولها للخيل المضمرة.
يقول: إذا علم الحصن أنك رميته بخيلك سجد لك على أساسه، تعظيما لك ومثله قوله:
تملّ الحصون الشّمّ طول نزالنا ... فتلقى إلينا أهلها وتزول
ما كانت الطّرم في عجاجتها ... إلا بعيراً أضلّه ناشد
الطرم: بلدة وهسوذان، أو قلعته، والهاء في عجاجتها للخيل. والعجاجة: الغبار.
يعني: أن الطرم قد خفيت في عجاجة خيلك ساعة ثم أثخنتها فكانت بمنزلة بعير ضل عن صاحبه ثم وجده.
وقيل: أراد من كثرة ما أثارت الخيل الغبار، اسودت الطرم، فخفيت القلعة حتى لا يكاد أحد يراها، ثم شبه الطرم بالبعير الضال الذي فقده صاحبه، لأن وهسوذان خرج عنها وسلمها، فكأنه بعير أضله صاحبه.
تسأل أهل القلاع عن ملكٍ ... قد مسخته نعامةً شارد
شارد: في موضع النصب صفة لنعامة، وإنما ذكره لأن النعامة تقع على الذكر والأنثى، وتسأل: فعل الخيل وكذلك مسخت والهاء فيه ضمير الملك.
يقول: تتبع خيلك وهسوذان وتسأل عنه القلاع، وقد مسخته هذه الخيل نعامة نافراً. أي: كان ملكا ففر من بين يديه كالنعامة الشارد، وسؤال الخيل عنه: تعرضها للقلاع وأهلها.
تستوحش الأرض أن تقرّبه ... فكلّها آنهٌ به جاحد
الهاء في آنه ترجع إلى لفظ كل.
يقول: تفزع الأرض أن تقر بوهسوذان، فكل مكان منها حاحد لا يقر بمكانه. والمعنى: أنه فر ولم يوجد له أثر، فكل مكان طلبته الخيل فيه لم تجده، والغرض باستيحاش الأرض من الإقرار به هو أنها تأنف من كونه عليها، وتريد ألا يكون حياً يمشي عليها، فلما كان الأمر بخلاف مرادها لم ترض أن تقر به أنفةً من أن يكون هو من أهلها.
فلا مشادٌ ولا مشيدٌ حمى ... ولا مشيدٌ أغنى ولا شائد
المشيد: الجص. يقال: شدت البناء أشيده شيداً: إذا بنيته بالشيد وأنا شائد وهو مشيد.
وأشدته أشيده إشادةً: إذا رفعته. فأنا مشيد وهو مشاد. يعني: أنه هرب ولم يمنعه حصنه الذي رفعه وطوله وبناه بالشيد ولا مبانيه التي شيدها وجصصها.
فاغتظ بقومٍ وهسوذ ما خلقوا ... إلا لغيظ العدوّ والحاسد
أراد: وهسوذان فرخمه، فحذف منه الألف والنون. كما تقول: في مروان يا مرو.
يقول: يا وهسوذان: اغتظ بآل بويه، فهم لم يخلقوا إلا غيظاً لكل عدو وحاسد. وقيل: أراد بالقوم: جيش ركن الدولة.
رأوك لمّا بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهله الرّائد
بلوك: أي جربوك. والنابتة: القطعة النابتة من الحشيش.
يقول: لما جربوك رأوك أمراً هيناً فرموك بطلائعهم، وأوائل خيلهم قبل حضورهم، فكنت في القلة كالقطعة من العشب يأكلها الرائد قبل حضور الحي.
وخلّ زيّاً لمن يحقّقه ... ما كلّ دام جبينه عابد
يقول: خل زي الملك لأهله الذين يستحقونه، فإنه لا يليق بك، فليس كل من تزيا بزي الملوك يستحق ذلك، كما أنه ليس كل من دمى جبينه فهو عابد.
إن كان لم يعمد الأمير لما ... لقيت منه فيمنه عامد
يقول: إن كان عضد الدولة لم يقصد إلى ما جرى عليك، ولم يشهده بنفسه، فإن يمنه تعمد ذلك فناب عنه.
يقلقه الصّبح لا يرى معه ... بشرى بفتحٍ كأنّه فاقد
يقول: إذا طلع الصبح، ولم يرد عليه من يبشره بفتح، قلق لذلك، حتى كأنه فقد شيئاً كان في يده. وقيل: الفاقد: المرأة التي فقدت ولدها بغير هاء كحائض وطاهر يعني: كأنه من قلقه امرأة فقدت ولدها.
والأمر لله ربّ مجتهدٍ ... ما خاب إلاّ لأنّه جاهد(1/460)
يقول لوهسوذان: اجتهدت في طلب الملك، فخاب سعيك، وقد رأينا من كان سبب خيبته، اجتهاده. وحرصه، وهذا كما قيل: الحريص محروم فكأنه قال: إن الإمارة والدولة بتوفيق الله تعالى، ومن مواهبه، لا تنال بالجد والاجتهاد.
ومتّقٍ والسّهام مرسلةٌ ... يحيص عن حابضٍ إلى صارد
يحيص: أي يعدل. وحابض: من قولهم حبض السهم يحبض حبضا فهو حابض، إذا وقع بين يدي الرامي لضعفه ولم يصل إلى الغرض. والصادر: من قولهم صرد السهم صردا، إذا نفذ من الرمية إلى ما وراءها.
يقول: رب متق من سهام مرسلة يعدل عنها من قرب، ويمر إلى الهدف حتى تصيبه يعني: ورب إنسان يحذر ما لا يصيب، ويفر إلى ما فيه هلاكه.
فلا يبل قاتلٌ أعاديه ... أقائماً نال ذاك أم قاعد
يعني: الغرض قتل العدو، فسواء قتلته بنفسك، أو قتله غيرك ممن هو منك، وأنت قاعداً - وقاعد في موضع نصب عطفاً على قائم وقوله: فلا يبل أصله فلا يبالي، فحذف الياء للجزم ثم حذف الألف أيضاً تخفيفاً.
ليت ثنائي الّذي أصوغ فدى ... من صيغ فيه، فإنّه خالد
الهاء في فإنه للثناء وفي فيه للممدوح.
يقول: إن ثنائي الذي أصوغه في عضد الدولة يبقى مخلداً، فليت أن الله جعله فداء من مدحته ليدوم ملكه خالداً كما دام هذا الثناء.
لويته دملجاً على عضدٍ ... لدولةٍ ركنها له والد
يقول: صغت مدحي دملجاً يزينه، كما يزين الدملج العضد، ولما كان الممدوح ملقباً بعضد الدولة جعل شعره دملجاً عليه؛ لما بين العضد والدملج من المناسبة؛ لأن الدملج زين العضد. ثم قال: ركنها له والد أي ركن هذه الدولة والد لعضد الدولة، أورد لقبه ولقب أبيه بلفظ وجيز، والهاء في لويته للثناء وفي له للعضد، والعضد: مؤنثة ولكنه رد الهاء إليها بلفظ التذكير، حملا على المعنى؛ لأنه أراد الممدوح، وهو مذكر، فرد الضمير إليه.
وخرج عضد الدولة يتصيد ومعه الكلاب والفهود والبزاة والشواهين وعدد الصيد، ما لم يرم مثله كثرةً، وكن يسير قدام الجيش يمنه ويسرةً فلا يطير شيء إلا وصاده، حتى وصل إلى دشت الأرزن، وهو موضع حسن على عشرة فراسخ من شيراز، كثير الصيد تحف به الجبال، والأرزن، فيه غاب وماء ومروج، وكانت الأيائل تصاد ويقتل بعضها، ويقبل بعضها يمشي والحبل في قرونها، وكانت الوعول تعتصم بالجبال، وتدور بها الرجال، وتأخذ عليها المضايق، فإذا أثخنها النشاب لجأت إلى مواضع لا تحملها، فهوت من رءوس الجبال إلى الدشت، فسقطت بين يديه، فمنها ما يطيح قرنه. ومنها ما يؤخذ ويذبح فتخرج نصول النشاب من كبده وقلبه، فأقام بها أياماً على عين حسنة وأبو الطيب معه، ثم قفل فقال أبو الطيب يمدحه في رجب سنة أربع وخمسين وثلاث مئة:
ما أجدر الأيّام واللّيالي
بأن تقول ماله وما لي؟
لا أن يكون هكذا مقالي
يقول: ما أخلق الأيام والليالي بأن تتظلم مني وتستغيث من يدي فتقول: ما لهذا الرجل ومالي؟! وقوله: لا أن يكون هكذا مقالي: يعني: ما أجدر ألا تكون الأيام هكذا. أي: تحتال الأيام والليالي من أجلي.
والمعنى: أنها أولى بأن تتظلم مني، وأن تقول هذا المقال، من أن أقوله أنا لها. أي: هي أحق بأن تستغيث مني، لا أنا، لأني أقوى منها وأقدر، فلا أحتاج إلى التظلم منها؛ لاعتصامي بعضد الدولة.
وتقديره: لا أن يكون هكذا مقالي لها، فحذف للاختصار والعلم به، ولا بد من ضمير يعود إليها، فلو لم يحمل على هذا التفسير لم يصح.
فتىً بنيران الحروب صالي
منها شرابي وبها اغتسالي
لا تخطر الفحشاء لي ببال
الضمير في منها وبها للحروب. والبال: القلب. وفتىً: خبر ابتداء محذوف أي: أنا فتى.
يقول: كيف لا تتظلم الأيام والليالي من يدي؟ وأنا فتى أصطلي بنار الحروب وألابسها وأخوض شدائدها. وهي نيرانها. وقوله: منها شرابي أي: أني ألفتها كما ألفت الماء الذي أشرب منه وأغتسل به، وقيل: أراد شرابي من دماء الأعداء التي أريقها في الحروب، وأتضمخ بها، فيكون ذلك اغتسالي، ثم قال: وأنا مع ذلك عفيف النفس، لا تخطر الفحشاء بقلبي فضلا عن فعلها.
لو جذب الزّرّاد من أذيالي
مخيّراً لي صنعتي سربال
ما سمته سرد سوى سروالي(1/461)
الزراد: الذي يعمل الدروع. والسربال: القميص والسروال. واحد السراويل. والسرد: عمل الدروع ونسجها.
يقول: لو جذب الزراد أذيالي، وخيرني أن يسرد لي قميصا أو سراويل. وهو قوله: مخيراً لي صنعتي سربال ما طلبت منه إلا أنه يصنع لي سراويل، أحصن بها عورتي، ثم لا أبالي بعد ذلك بانكشاف سائر جسدي، إذا صنت العورة وحصنتها. وهذا مبالغة منه في بيان العفة.
وقيل: إن المراد بذلك أن كل ما علي حديد: فثوبي من حديد، وعمامتي من حديد، وتجافيف فرسي حديد. فلم يبق إلا أن أصنع سراويل من حديد.
وكيف لا وإنّما إدلالي
بفارس المجروح والشّمال
أبي شجاعٍ قاتل الأبطال
المجروح، والشمال: فرسان لعضد الدولة. وأبي شجاع: بدل من فارس. أي: كيف لا أكون كذا، وإنما أدل وأعتمد بفارس هذين الفرسين، وهو أبو شجاع الذي يقتل الشجعان كلهم.
ساقي كئوس الموت والجربال
لما أصار القفص أمس الخالي
وقتّل الكرد عن القتال
حتّى اتّقت بالفرّ والإجفال
فهالكٌ وطائعٌ وجالي
الجربال: الخمر. يعني: يسقى أعداءه كئوس الموت وأولياءه كئوس الخمر. والقفص: قوم من الأكراد، في نواحي كرمان، كان أهلكهم. والخالي: الماضي. والفر: الفرار. والإجفال: الإسراع في الهرب. وقتل الكرد: أي منعهم. والقفص: المفعول الأول لأصار. وأمس: المفعول الثاني.
يقول: لما قتل القفص حتى جعلهم منقضياً كأمس الماضي، وقتل الكرد عن آخرهم فلم يبق منهم مقاتلاً، حتى التجئوا إلى الفرار وصاروا بين ثلاثة أقسام: هالك قتل، وطائع سلم، وهارب قد خلا عن وطنه.
واقتنص الفرسان بالعوالي
والعتق المحدثة الصّقال
يقول: اصطاد الفرسان بالرماح والسيوف. العتق: القديمة، الحديثة الصقال؛ لأنها كل وقت يجدد صقالها.
سار لصيد الوحش في الجبال
وفي رقاق الأرض والرّمال
على دماء الإنس والأوصال
الرقاق من الأرض: ما كان رقيقاً، ليس بذي رمل؛ لأنه أطيب التراب. وقوله: سار جواب لقوله: لما أصار والمعنى: أنه بدأ أولا بالجد والحرب، ثم أتبعه بالنزهة والصيد.
يقول: لما قتل الكرد، عاد إلى صيد الوحش في السهول والجبال، فكان سيره في هذه الأرضين على دماء الإنس وأوصالهم. وأراد بالإنس: الكرد الذين قتلهم وأجرى دماءهم وأبان أوصالهم: وهي كل عظم يتصل بالآخر.
منفرد المهر عن الرّعال
من عظم الهمّة لا الملال
وشدّة الضّنّ لا الأستبدال
الرعال: جمع رعلة، وهي القطعة من الخيل. ونصب منفرد على الحال. يعني: كان يسير وحده منفرداً عن جيشه، ولم يكن يفعل ذلك مللاً بجيشه، وإنما فعله لعظم همته أن يدنو منه أحد، وأن يختلط الجيش به، وليتأمل عسكره ويميزه ويتفقده؛ لظنه به، ولو اختلط بهم لم يستبن له قدره.
وقيل: إن عظم قدره وعلو همته حمله على الصيد بنفسه وقوله: لا الاستبدال يعني: أنه لم يرد الاستبدال بجيشه لتنزهه بهم، لكن لشدة ضنه بهم، أو بنفسه عن الاختلاط بهم.
ما يتحرّكن سوى انسلال
فهنّ يضربن على التّصهال
يعني: أن الرعال، وهي الخيل، لا تتحرك ولا تمشي إلا على وجه الانسلال: وهو اللين والرفق، هيبةً أو حذراً من تنفير الصيد، فإن صهل منها فرس ضرب على صهيلة هيبةً له، وحذراً من نفور الصيد.
كلّ عليلٍ فوقها مختال
يمسك فاه خشية السّعال
من مطلع الشّمس إلى الزّوال
يعني: كل قائد مختال فوق هذه الخيل، كأنه عليل؛ هيبةً منه، ولا يصول خشية نفور الصيد فهو يمسك فاه خشيةً من أن يسعل.
وقيل: أراد أن العليل إذا كان يمسك فاه إذا حضره السعال وهو مع الرئيس، فكيف يكون حال من دونه؟! وهم كذلك من مطلع الشمس إلى وقت الزوال. ومثله لأبي تمام:
فالمشي همسٌ والنّداء إشارةٌ ... خوف انتقامك والحديث سرار
فلم يئل ما طار غير آل
وما عدا فانغلّ في الأدغال
وما احتمى بالماء والدّحال
من الحرام اللّحم والحلال
إنّ النّفوس عدد الآجال
لم يئل: أي لم ينج. وغير آل: أي غير مقصر. وانغل: دخل والأدغال: جمع دغل، وهو الشجر الملتف. واحتمى: أي امتنع. والدحال: جمع دحل، وهو المطمئن من الأرض يجتمع فيها ماء السماء وينبت القصب.(1/462)
يقول: لم ينج من الطير ما طار غير مقصر في الطيران. يعني: لم ينج منها طائر مجد في الطيران، فكيف المقصر؟! ولم ينج أيضاً ما انغل فيما بين الأشجار الملتفة. ولم ينج أيضاً ما امتنع بالدحال من الصيد الحرام اللحم كالخنزير والسباع، والحلال اللحم كالظباء والأيائل. وقوله: إن النفوس عدد الآجال مثل منه. وروى عدد بضم العين. والمعنى: أن النفوس معدة للموت، والأجل يدركها متى شاء وروى بفتح العين. يعني: أن لكل نفس أجلاً، فآجالها مثل أعدادها.
سقياً لدشت الأرزن الطّوال
بين المروج الفيح والأغيال
روى: الطوال: وهو الطويل، والطوال، وهي جمع طويل، فكأنه جعل لكل موضع منها دشتاً طويلاً لسعته، والدشت: الصحراء، وهي فارسي معرب أبدل منه السين شيناً علامة للتعريب. والأرزن: هو الخشب، وأضاف الدشت إليه لأنه ينبت فيه، والمروج: جمع مرج، وهو كل موضع فيه ماء وعشب لا ينقطع. والفيح: جمع أفيح وفيحاء وهو الواسع. والأغيال: جمع غيل، وهو الشجر الملتف، وأراد به الأجمة هنا.
مجاور الخنزير للرّئبال
داني الخنانيص من الأشبال
مشترف الدّبّ على الغزال
مجتمع الأضداد والأشكال
مجاور وما بعده نصب على الحال من دشت الأرزن. أي سقاه الله تعالى من هذه الأحوال. والرئبال: الأسد. والخنانيص: جمع خنوص، وهو ولد الخنزير. والأشبال: جمع شبل، وهو ولد الأسد. والمشترف والمشرف بمعنى. وذلك لأن الدب جبلي والغزال سهلي. فيكون مشرفاً يعني به: أن هذا الدشت سهلي جبلي قد اجتمع فيه صيد السهل والجبل، وقد حصل فيه الأضداد والأشكال.
كأنّ فنّاخسر ذا الإفضال
خاف عليها عوز الكمال
فجاءها بالفيل والفيّال
عوز الشيء: فقدانه. والهاء في عليها وجاءها لدشت الأرزن ردها إلى معنى الصحراء والأرض والناحية.
يقول: هذه الصحراء قد اجتمع بها جميع الحيوان إلا الفيل، فلما خشى الأمير أن تقصر عن حد الكمال جاءها بالفيل والفيال حتى كملت.
فقيدت الأيّل في الحبال
طوع وهوق الخيل والرّجال
تسير سير النّعم الأرسال
معتمّةً بيبّس الأجذال
طوع: نصب على الحال. والأيل ها هنا جمع الأيل، والمعروف في جمعه الأيائل. والوهوق: جمع وهق: وهو الحبل. والرجال: جمع راجل.
يقول: قاد الأيل، وهو الثور الوحشي في الحبال، وأنها طوع حبال الخيل والرجال. يعني: أنها متمكنة لا يتعذر عليهم صيدها. والنعم الأرسال: القطع من الإبل، واحدها: رسل. والأجذال: جمع جذل، وهو أصل الشجرة إذا قطع أعلاه وأراد به ها هنا قرون الأيل، وجعلها معتمة بالقرون؛ لإحاطتها برءوسها، وتعطفها عليها. واليبس: جمع يابس.
يقول: أقبلت الأيائل تسير كأنها قطع الإبل المتصلة، من كثرتها، وشبه قرونها بأصول الأشجار اليابسة.
ولدن تحت أثقل الأحمال
قد منعتهنّ من التّفالي
لا تشرك الأجسام في الهزال
قوله: ولدن: أي الأيائل ولدت تحت أثقل الأحمال، وهي قرونها، جعلها أثقل الأحمال لطولها وكثرة شعبها.
وقيل: أراد بأثقل الأحمال الجبال؛ لأنه تولد في مغارات الجبال. وقول: قد منعتهن من التفالي: يعني: أن القرون قد منعتها من أن يدنو بعضها من بعض فيفلى بعضها رءوس بعض كسائر الحيوانات. ثم ذكر أن القرون لا تشارك الأجسام في الهزال، ولا تنقص كما تنقص الأجسام.
إذا تلفّتن إلى الأظلال
أرينهنّ أشنع الأمثال
يقول: إذا تلفتت الأيائل، ونظرت أظلالها، رأت منها أشنع منظر وأقبح مثال؛ لطول قرونها وكثرة شعبها.
كأنّما خلقن للإذلال
زيادةً في سبّة الجهّال
كأن هذه القرون خلقت للإذلال، زيادة في سبة الجهال. يعني بذلك قول الناس: لفلان قرنان. فإذا زاد في السب قال: له قرون الأيل.
والعضو ليس نافعاً في حال
لسائر الجسم من الخبال
الخبال: الفساد، وجعل القرن عضواً مجازاً لاتصاله بالأعضاء.
يقول: إن العضو وإن عظم لا يمنع صاحبه من الموت والفساد.
وأوفت الفدر من الأوعال
مرتدياتٍ بقسيّ الضّال(1/463)
أوفت: أي أشرفت، وقيل أقبلت. والفدر: جمع فدور، وهو المسن من الأوعال، وهي تيوس الجبل. والضال: السدر البري، والعرب تتخذ منها القسي شبه قرونهاً لطولها وانعطافها بالقسي، وجعلها مرتدية بها، لانعطافها من رءوسها إلى أكفالها.
نواخس الأطراف للأكفال
يكدن ينفذن من الآطال
النواخس: من نخست الدابة بعود: دفعتها به، والآطال: الخواصر، واحدها إطل.
يقول: طالت قرونها حتى نخست أكفالها، وأطراف هذه القرون تكاد تنفذ في الخواصر؛ لحدتها واعتراضها.
لها لحىً سودٌ بلا سبال
يصلحن للإضحاك لا الإجلال
يقول: لهذه الفدر: وهي التيوس، لحىً سود، ليس لها شوارب، ولحاها تصلح لأن يضحك منها ويسخر من صاحبها، ولا تصلح للإجلال، بخلاف سائر اللحى، وكان القياس أن يقول: بلا أسبلة، لكن أقام الواحد مقام الجمع.
كلّ أثيثٍ نبتها متفال
لم تغذ بالمسك ولا الغوالي
الأثيث: كثير النبت يقال شعر أثيث إذا كان صفيقاً كثيفاً. والمتفال: المنتنة الرائحة. والغوالي: جمع الغالية.
يقول: لكل منها لحية كثيفة ملتفة الشعر منتنة الريح لم تغذ بالمسك ولا الغالية.
ترضى من الأدهان بالأبوال
ومن ذكيّ المسك بالدّمال
الدمال: السرجين.
يقول: تستعمل البول بدل الدهن، والبعر بدل المسك. وقيل: إن الوعل يشرب بوله، فهو ينصب على لحيته.
لو سرّحت في عارضي محتال
لعدّها من شبكات المال
بين قضاة السّوء والأطفال
سرحت: أي مشطت، وعارضا الرجل: جانبا وجهه. يعني: أن لحيته كبيرة تصلح للعدول والقضاة، فلو كانت في وجه رجل صاحب حيلة لعدها من الشبكات التي يصطاد بها المال، بين قضاة السوء والأطفال. يعني: يأكل بها أموال الأيتام التي في حجر القضاة.
شبيهة الإدبار بالإقبال
لا تؤثر الوجه على القذال
القذال: مؤخر الرأس.
يقول: إن وجهها مثل أقفائها في كثرة الشعر، وإقبالها مثل إدبارها، ففي وجهها من شعر نواصيها ما يشبه أذنابها، فلا يتميز إقبالها من إدبارها ولا وجهها من قفاها.
وقيل: إنها رميت من كلا الجانبين، فهي ما بين النبال أقبلت أم أدبرت. ثم أخبر أنه لا يؤثر في الرمي بعض الأعضاء على البعض، بل هو مرمي من خلفه وقدامه.
فاختلفت في وابلي نبال
من أسفل الطّود ومن معال
يعني: اختلفت الأوعال في وابلين من السهام: من أسفل الطود، وهو الجبل، ومن فوقه. يعني: ان الرماة كانوا يرمونها من أعلى الجبل ومن تحته، وشبه كثرة السهام بالمطر الوابل. وقول: من معال. أي: من أعلى الجبل.
قد أودعتها عتل الرّجال
في كلّ كبدٍ كبدي نصال
العتل: القسي الفارسية الواحد عتلة، وهي القسي التي نشاهدها، وكبدي النصل: جانباه.
يقول: قد رمتها قسي الرجال، من فوق ومن تحت، فأثبتوا في كبد كل وعل سهمين. والهاء في أودعتها للوعول.
فهن يهوين من القلال
مقلوبة الأظلاف والإرقال
يهوين: أي يسقطن من القلال. أي: من رءوس الجبال. يعني: أنها كانت تسقط من أعالي الجبال معكوسة على رءوسها إلى أسفل، فأظلافها فوق جسومها، وكذلك عدوها معكوس مقلوب. والإرقال: ضرب من السير السريع.
يرقلن في الجوّ على المحال
في طرقٍ سريعة الإيصال
يرقلن: أي يسرعن. والمحال: جمع محالة، وهي فقار الظهر. أي كانت تهوي على ظهورها في طرق سريعة الإيصال لها إلى الأرض.
ينمن فيها نيمة الكسال
على القفيّ أعجل العجال
الهاء في فيها للطرق. والنيمة: الهيئة للنائم، كالجلسة والكسال: جمع كسلان. والعجال: جمع عجلان. والقفى: جمع قفا.
يقول: ينمن في الطرق التي يهوين فيها كما تنام الكسالى على أقفائها، تشبيهاً بنوم الكسلان الذي إذا نام لا يحب الحركة والعجلة ولا ينتبه بالتحريك.
لا يتشكّين من الكلال
ولا يحاذرن من الضّ؟ لال
يعني: لا تشكو كلالا؛ لأن هويتها حركة طبيعية، فلا مشقة عليها فيها ولا يحاذرن من الضلال. يعني أنها لا تخطئ الحضيض؛ لأن المرمى من شاهق لا ينفك من الهوى والسقوط.
فكان عنها سبب التّرحال
تشويق إكثارٍ إلى إقلال
الهاء في عنها للأيائل، والوعول.(1/464)
يقول: كان سبب رحيلنا عن صيد الوحش تشويق الإكثار منها إلى الإقلال. يعني: كثر الصيد حتى شوقنا الإكثار، بما أدخل علنيا من الملال إلى الإقلال منها، فكان ذلك سبب رحيلنا.
فوحش نجدٍ منه في بلبال
يخفن في سلمى وفي قتال
البلبال: الهم. وسلمى: أحد جبلي طيئ، والآخر أجأ. وقتال: جبل بالقرب من دومة الجندل. والهاء في منه لأبي شجاع.
يقول: الوحش التي في نجد، لما سمعت بما صنع الأمير هنا خافت واضطربت في جبالها.
نوافر الضّباب والأورال
والخاضبات الرّبد والرّئال
والظّبي والخنساء والذّيّال
الضباب: جمع ضب. والأورال: جمع ورل وهي دابة أكبر من الضب على خلقته. والخاضبات: النعام إذا أكلت الزهر احمرت أطراف جناحها. والربد: جمد أربد وربداء، وهو الذي يضرب لونه إلى لون الرماد. والرئال: جمع الرأل، وهو فرخ النعام. والخنساء: البقرة الوحشية. والذيال: الثور الوحشي. ونوافر نصب على الحال من الوحش. أي: يخفن منه على هذه الحال. يعني: هذه الحيوانات الوحشية نافرة في نجد خوفاً منه.
يسمعن من أخباره الأزوال
ما يبعث الخرس على السّؤال
الازوال: جمع زول، وهو العجب.
يقول: وحش نجد يسمعن من أخبار عضد الدولة أخباراً عجيبة تبعث الخرس على السؤال لعجبها.
وقيل: أراد بالخرس الوحوش؛ لأنها لما سمعت بأخباره أقبلت مع خرسها يسأل بعضها بعضاً على هذا الخبر العجب.
وقيل: إن الهاء في أخباره تعود إلى الصيد. أي: يسمعن من أخبار الصيد.
فحولها والعوذ والمتالي
تودّ لو يتحفها بوالي
يركبها بالخطم والرّحال
الفاء فاء الجواب، وقيل: الفاء أصل، وهي فحول بضم الفاء جمع فحل. والعوذ: جمع عائذة، وهي القريبة العهد بالنتاج. والمتالي: جمع متلية، وهي التي يتلوها ولدها. والخطم: جمع خطام
يؤمنها من هذه الأهوال
ويخمس العشب ولا يبالي
وماء كلّ مسيلٍ هطّال
يعني: أنها تتمنى أن يبعث والياً، حتى يركبها بالأزمة والرحال، ويؤمنها هذا الوالي من أن يقصدها لصيدها، ولا يروعها بأهوالها، ويأخذ منها خمس العشب الذي ترعاه وخمس الماء الذي تشربه.
يا أقدر السّفّار والقفّال
لو شئت صدت الأسد بالثّعال
أو شئت غرّقت العدى بالآل
السفار: جمع المسافر. والقفال: جمع قافل، وهو الراجع من سفره. والثعالي: الثعالب. وأبدل الياء من الباء.
يقول لعضد الدولة: يا أقدر مسافر وراجع لو شئت أن تصيد الأسود بالثعالب لأمكنك ذلك؛ لسعادة إقبالك. والآل: السراب. يعني: لو شئت أن تفرق أعداءك بالسراب لأمكنك.
ولو جعلت موضع الإلال
لآلئاً قتلت بالآلي
الإلال: الحراب، واحدتها آلة، والآلئ: جمع لؤلؤة.
يعني: لو جعلت بدل الحراب لآلئ، لأمكنك أن تفعل بها ما تفعل بالحراب؛ لسعادة جدك فلا يتعذر عليك شيء ترومه.
لم يبق إلاّ طرد السّعالي
في الظّلم الغائبة الهلال
على ظهور الإبل الأبّال
السعال: جمع سعلاة، وهي الغول. وقيل: السعلاة أخبث الجن. والإبل الأبال: التي قد اجتزأت بالعشب عن الماء، الواحد: الأبل. يقال: أبلت الإبل تأبل أبلاً.
يقول: لم يبق إلا أن تطرد السعالي في الظلمات التي لا يطلع فيها القمر، على الإبل التي تجزئ بالرطب عن الماء.
فقد بلغت غاية الآمال
فلم تدع منها سوى المحال
في لا مكانٍ عند لا منال
الهاء في منها للآمال.
يقول: قد بلغت جميع الآمال، ولم تترك منها إلا ما هو المحال، وهو ما لا يحويه مكان، ولا يصل إليه منال، وهو المحال؛ لأن كل شيء لا بد من أن يحويه مكان ويدركه منال، خلا الله تبارك وتعالى فإنه لا يحويه مكان، ولا يدركه منال ولا مثال، وهو موجود حي.
وقيل: أراد قد بلغت ما يصح بلوغه فلم يبق إلا وراء العالم الذي لا يحويه مكان ولا يناله منال.
يا عضد الدّولة والمعالي
النّسب الحلي وأنت الحالي
بالأب لا بالشّنف والخلخال
حلياً تحلّى منك بالجمال
الحالي: الذي يلبس الحلي وحلياً نصب على المصدر.(1/465)
يخاطب عضد الدولة ويقول: النسب زينة لك، كما أن الحلي زينة للابسه، فأنت حالي بمفاخر أبيك، لا بالحلي الذي هو الشنف والخلخان. وقوله: حلياً تحلى منك بالجمال يعني: أن كرم نسبك حلى عليك، وأنت أيضاً حلى بالنسب حليته الجمال فنسبك يزينك وأنت تزينه بجمالك.
وربّ قبحٍ وحلىً ثقال
أحسن منها الحسن في المعطال
المعطال: العاطل، التي لا حلي عليها. يعني: حسن الحلي بحسن لابسه، فإن الحسن على المرأة العاطل أحسن من الحلي الثقيل على المرأة القبيحة. وهذا كما قال في موضع آخر:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
فخر الفتى بالنّفس والأفعال
من قبله بالعمّ والأخوال
من قبله: أي من قبل فخره بعمه وخاله.
يقول: الفتى من يفخر بأفعاله ونفسه قبل افتخاره بأعمامه وأخواله. والباء في قوله بالعم متعلق بمحذوف. أي: لا يفخر أحد بعمه وخاله، ويترك نفسه وأفعاله. وقيل: إن الباء وما بعدها في موضع نصب على الحال من الهاء في قبله وتعلقها أيضاً بمحذوف. أي: من قبله كائناً بالعم والخال.
وقال أيضاً يمدحه ويودعه في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاث مئة. وهي آخر ما سار في شعره، وفي أثناء هذه القصيدة كلام جرى على لسانه كأنه ينعى نفسه، وإن لم يقصد ذلك.
فدىً لك من يقصّر عن مداكا ... فلا ملكٌ إذاً إلاّ فداكا
الفداء: بكسر الفاء يمد ويقصر، وإذا فتح يقصر لا غير والمدى: الغاية.
يقول: لعضد الدولة جعل الله فداءك من يقصر عن مداك في الفضل والجود، فإذا أجيبت لي هذه الدعوة، فداك كل ملك، فلم يبق في الدنيا ملك، إلا وهو فداك؛ لأنهم كلهم مقصرون عن معاليك، فكأني قلت: فداك سائر الملوك والخلائق.
ولو قلنا فدىً لك من يساوي ... دعونا بالبقاء لمن قلاكا
قلاك: أي أبغضك.
يقول: لو قلنا جعل الله فداك من يساويك، لكنا قد دعونا لمن يبغضك بالبقاء لقصوره عن محلك وانحطاطه عن مساواتك. يعني: إذا قلت فداك من يساويك. كأني قلت لا فداك من هو دونك. وهذا اقتضاء.
وآمنّا فداءك كلّ نفسٍ ... وإن كانت لمملكةٍ ملاكا
ملاك الشيء: قوامه الذي يقوم به. أي: لو قلنا فداك من يساويك، لكنا قد جعلنا كل نفس آمنة من أن تكون فداك، وإن كانت قواماً لممالك؛ لأن كل ملك مقصر عن علاك، فهو خارج عن هذه الدعوة لو دعوتها، فلهذا تركتها.
ومن يظّنّ نثر الحبّ جوداً ... وينصب تحت ما نثر الشّباكا
يظن: يفتعل من الظن، وأصله يظتن فقلبت التاء طاء لموافقة الطاء في الإطباق. ثم أبدلت الطاء ظاء لتدغم في الظاء بعدها، ثم أدغم فيها الظاء فصار اللفظ بالظاء يظن وموضع من نصب عطفاً على كل ويجوز أن يكون موضعه جراً عطفاً على كل نفس ويجوز أن يكون رفعاً على الاستئناف.
يقول: وكنا أيضاً آمنا. فداك من ينثر الحب وينصب تحته الشباك. وهذا مثل لمن يبذل الأموال وغرضه أن يجر بها نفعاً إلى نفسه، وهو يظن أن ذلك جود، وهو ليس بجواد في الحقيقة، لأنه كالتاجر يطلب ببذل الأموال الأرباح، وأما الجواد فمن يحسن ولا يطلب جزاء على ما فعله، ولا يجر نفعاً إلى نفسه. ولابن الرومي مثل ذلك:
رأيتك تعطي المال إعطاء واهبٍ ... إذا المرء أعطى المال إعطاء مشتري
ومن بلغ التّراب به كراه ... وقد بلغت به الحال السّكاكا
الكرى: النوم. والسكاك: الهواء.
يقول: آمنا. فداك كل من بلغه نومه وغفلته وخمول ذكره وجهله بالتراب، وإن بلغته حاله وغناؤه للسماء.
والكرى أيضاً: دقة الساقين، وهذا إشارة إلى ضعفه وخموله.
فلو كانت قلوبهم صديقاً ... لقد كانت خلائقهم عداكا
الصديق: يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وكذلك العدو، وقد أتى بلفظ الجمع في قوله: عداكا لأن القاقية أدته إلى ذلك، والأحسن أن يقول: عدوا ليطابق قوله صديقاً.
والمعنى: أن جميع من ذكرته لو كانوا يحبونك بقلوبهم فإن خلائقهم أعداؤك لكونهم أضداد لك، والضد يبغض ضده، فأخلاقهم تبغضك لقصور أصحابها عن شأوك.
لأنّك مبغضٌ حسباً نحيفاً ... إذا أبصرت دنياه ضناكا
الضناك: السمينة التي ضاق جلدها بشحمها. لما استعار لقلة الحسب النحافة، استعار لكثرة المال السمن والضخامة.
يقول: إن خلائقهم أعداؤك؛ لأنك تبغض من كثر ماله وقل حسبه ومجده.(1/466)
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبّك أن يحلّ به سواكا
يقول: أحسنت إلي إحساناً ملكت به، حتى صرت مضطراً إلى حبك، وشغلت به قلبي. كما في الخبر: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فأنا أروح عنك مختوماً على قلبي بحبك، فلا يشغل بحب ملك غيرك.
وقد حمّلتني شكراً طويلاً ... ثقيلاً لا أطيق به حراكا
الحراك: الحركة. يعني: أروح عنك وقد حملتني من شكرك ما لا أطيق له حملاً، ولا أقدر على القيام به، لكثرة ما أفضت علي من إحسانك، فكيف أتفرغ إلى حمل نعمة غيرك؟؟! إشارة بالعود إليه.
أحاذر أن يشقّ على المطايا ... فلا تمشي بنا إلاّ سواكا
روى: إلا سواكا ومساكا وهما المشي الضعيف المضطرب. يقال: سوكت الإبل، إذا تمايلت في مشيتها من الضعف والهزال.
يقول: أخاف أن أشكرك، فيثقل على المطايا فلا تقدر على المشي تحته، إلا مشياً ضعيفاً من كثرة ما حملناه من العطايا، ومن كثرة ما تقلدنا من الشكر ونحن عليها.
لعلّ الله يجعله رحيلاً ... يعين على الإقامة في ذراكا
الذرا: الناحية والكنف.
يقول: أرجو أن يجعل الله تعالى هذا الرحيل سبباً لإقامتي في ذراك. يعني: إنما أمضى لأصلح شأني وأحمل أهلي وأقيم في ظلك ساكن النفس رخي البال.
فلو أنّي استطعت حفضت طرفي ... فلم أبصر به حتّى أراكا
يقول: لو قدرت بعد رحيلي عنك لغمضت طرفي، فلم أنظر إلى أحد حتى أرجع إليك؛ لشدة شوقي إليك، واهتمامي بسرعة العود، ومثله لآخر:
غمضت عيني لا أرى أحداً ... حتّى أراهم آخر الدّهر
وكيف الصّبر عنك وقد كفاني ... نداك المستفيض وما كفاكا؟
المستفيض: من فاض الماء، إذا سال.
يقول: أصبر عنك وقد أفضت علي من نعمائك حتى كفاني ما أعطيتنيه، وأغناني؟ وأنت بعد لم يكفك البذل والإنعام!
أتتركني وعين الشّمس نعلي ... فتقطع مشيتي فيها الشّراكا؟!
يقول: قد بلغت بقصدي إليك المنزلة الرفيعة، حتى صارت عين الشمس أو نفسها نعلي! فإذا فارقتك زالت عني هذه المنزلة، وانحططت عن الدرجة التي أوصلتني إليها، فكأن مشيتي قطعت شراك نعلي، حتى سقطت عن رجلي، وهذا مثل: يعني: لا أحط نفسي وأنت ترفعني. أي: لا أبعد عنك وأنت تقربين. وقوله: أتتركني كأنه يقول: لا تتركني أضيع الشرف الذي وصلت إليه بقصدك، كأنه يعرض بالرغبة في المقام عنده.
أرى أسفي، وما سرنا، شديداً ... فكيف إذا غدا السّيرا بتراكا؟؟!
ابتراكا: أي شديداً. يقال: ابتركت الناقة في سيرها إذا سارت سيراً شديداً ومثله لسحيم:
أشوقاً ولمّا يمض بي غير ليلةٍ ... فكيف إذا حثّ المطيّ بنا شهرا؟!
إلا أن في قوله: وما سرنا زيادة حسنة. وقد جعل مكان الشوق الأسف لأنه قال: وما سرنا فإذا لم يسر فلا شوق هناك. ومثله قول قيس:
أشوقاً ولمّا يمض بي غير ليلةٍ ... رويد الهوى حتّى تعبّ لياليا
ومثله لبعضهم:
وقد كنت أبكي والنّوى مطمئنة ... بنا وبكم من علم ما البين صانع
وهذا الشّوق قبل البين سيفٌ ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا!
يقال: ضربه فما أحاك فيه السيف. أي: لم يقطع.
يقول: عمل في الشوق وأنا بعد لم أرحل عنه، فكأنه سيف قطع من بدني قبل أن أضرب به. شبه الشوق بالسيف، ونفسه بمن أثر فيه السيف، ثم تعجب بأن أثر فيه السيف قبل الضرب به.
إذا التّوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصّمت لا صاحبت فاكا
أعرض: أي قرب وظهر، ونصب الصمت بعليك لأنه إغراء: أي الزم الصمت.
يقول: كلما أردت أن ألفظ بالوداع قال لي قلبي: اسكت لا صحبت فاك: أي أهلكه الله تعالى وفرق بينك وبين فيك قبل أن تنطق بالوداع.
وقيل: المعنى أن القلب قال لي: اسكت بعد رحيلك عنه، ولا تمدح غيره، فلا صاحبت فاك.
ولولا أنّ أكثر ما تمنّى ... معاودةٌ لقلت: ولا مناكا!
أي: ما تتمنى، فحذف تاء المخاطبة. يعني: قال قلبي عندما أردت التوديع: اسكت فلا صحبت فاك إن نطقت بالوداع ومدحت بعده غيره. وقال أيضاً: لولا أنك تتمنى الرجوع إليه، لقلت لا صاحبت مناك أيضاً.
قد استشفيت من داءٍ بداءٍ ... وأقتل ما أعلّك ما شفاكا
أعلك: أي أمرضك.(1/467)
يقول: قال قلبي تداويت من شوقك إلى أهلك بفراق عضد الدولة، وكل واحد منهما سقم، غير أن أقتل ما أسقمك، ما استشفيت به. يعني: أن فراق أهلك أعلك، وفراق عضد الدولة الذي استشفيت به، فهو أقتل لك وأدحى في الإهلاك. من الذي أعلك.
وقيل: هذا من قول المتنبي إلى قلبه وهو قريب من قول القائل:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
فأستر منك نجوانا وأخفى ... هموماً قد أطلت لها العراكا
النجوى: السر. والعراك: الصراع.
يقول لعضد الدولة: أستر منك مناجاتي مع قلبي، وأخفي منك هموماً لا أزال أعاركها.
إذا عاصيتها كانت شداداً ... وإن طاوعتها كانت ركاكا
الركاك: جمع ركيك، وهو الضعيف. والهاء في عاصيتها وطاوعتها للهموم، وأراد بالهموم: ما يهمه من الشوق. أي: إن عاصيت الهموم، واخترتك على أهلي كانت قوية وإن طاوعتها كانت ركيكة؛ لأني أختار لقاء الأهل على جوارك والتشرف بك. وهذا رأي ضعيف.
وكم دون الثّويّة من حزينٍ ... يقول له قدومي ذا بذاكا
الثوية: مكان بالكوفة. وقوله: دون الثوية أي أقرب إلينا من الثوية.
يقول: كم لي بقرب الثوية من حزين على فراقي، إذا قدمت عليه سر بلقائي، فكأن قدومي قال له: هذا السرور الآن، بذلك الحزن الذي كان، ولولا كان ذلك الحزن، لم يكن هذا السرور.
قال ابن جني: ولم يقل بعد قوله يقول: إن شاء الله تعالى.
ومن عذب الرّضاب إذا أنخنا ... يقبّل رجل تروك والوراكا
الرضاب: قطع الريق. وتروك: اسم ناقة وهبها له عضد الدولة والوراك شبه مخدة يتخدها الراكب تحت وركه، يتورك عليها.
يقول: كم دون الثوية من حبيب حلو الريق إذا وصلت إليه يقبل الناقة ومخدتي التي هي على الناقة.
يحرّم أن يمسّ الطّيب بعدي ... وقد علق العبير به وصاكا
صاك به: أي لصق به.
يقول: هذا الحبيب قد حرم على نفسه أن يمس الطيب بعد غيبتي عنه، وهو مع ذلك طيب الجسم، كأن العبير لصق به، وهو من قول امرئ القيس:
وجدت بها طيباً وإن لم تطيّب
والمصراع الأول من قول الآخر:
فيا ليل إن الغسل ما دمت أيّما ... عليّ حرامٌ لا يمسّني الغسل
ويمنع ثغره من كلّ صبٍّ ... ويمنحه البشامة والأراكا
البشام: شجر يتخذ منه المساويك، وكذلك الأراك. والهاء في يمنحه للثغر.
يقول: هذا الحبيب يمنع ثغره من كل من يشتاق إليه، فلا يمكنه من تقبيله ورشفه، ومع ذلك يجود بثغره على مساويك البشام والأراك. يصفه بالعفة.
يحدّث مقلتيه النّوم عنّي ... فليت النّوم حدّث عن نداكا
يقول: إن الحبيب العذب الرضاب، إذا نام رآني في النوم، فليته رأى في النوم ما حبوتني به من المال والإكرام، فيعذرني في فراقي له.
وأنّ البخت لا يعرقن إلاّ ... وقد أنضى العذافرة اللّكاكا
البخت: جمع البختي، ويعرقن: من قولهم أعرق الرجل، إذا أتى العراق. والعذافرة: الناقة الشديدة. وقيل: الشحيمة. واللكاكا: جمع لكيك، وهو الكثير اللحم وروى بضم اللام، فيكون صفة لواحدة وفاعل أنضى ضمير الندى.
يقول: وليت النوم أخبره أن البخت لا تصل إلى العراق، إلا وقد أنضى نداه النياق بثقله وكثرته.
وما أرضى لمقلته بحلمٍ ... إذا انتهبت توهّمه ابتشاكا
الابتشاك: الكذب. وتوهمه: أي تتوهمه المقلة، فحذف تاء التأنيث، والهاء في مقلته لعذب الرضاب، وفي توهمه للحلم.
لما قال: ليت النوم حدث عن نداك رجع وقال: لا أرضى أن يرى في النوم ما أنا عليه من الشرف؛ لأنه إذا انتبه من نومه توهمه كذباً، وعده من أضغاث الأحلام والأماني الباطلة.
ولا إلاّ بأن يصغي وأحكي ... فليتك لا يتيّمه هواكا
أي لا أرضى بأن يرى ذلك في النوم، وإنما أرضى بأن أحكى له وهو يسمع، فليته لا يصير متيما بحبك فينصرف عني ولم يعشقك من وصفي مكارمك وإحسانك.
وكم طرب المسامع ليس يدري ... أيعجب من ثنائي أم علاكا؟!
يقول: كم من سامع يطربه ثنائي عليك، فلا يدري: أمدحي لك أحسن، أم علاك؟ إذ كل واحد منهما يطرب.
وذاك النّشر عرضك كان مسكاً ... وذاك الشّعر فهرى والمداكا
النشر: الرائحة الطيبة، والفهر: الحجر قدر ملء الكف. والمداك: حجر مبسوط يسحق عليه الطيب.(1/468)
ويجوز أن يريد بالنشر: نشر مكارمه بالشعر.
يقول: الذي أنشره من إحسانك وفضلك، إنما هو فعلك، فهو بمنزلة ريح المسك يفوح، ولكن عرضك كان المسك، وكان شعري الذي يتضمن ثناءك بمنزلة الفهر، والمداك يسيره وينشره، وليس يزيد فيه شيئاً، كما أن الفهر والمداك يشيعان نشر المسك ويظهران جوهره، ولا يزيدان فيه شيئاً، كذلك شعري يشيع معاليك من غير أن يزيد فيها شيئاً.
فلا تحمدهما واحمد هماماً ... إذا لم يسم حامده عناكا
أي: لا تحمد فهري ومداكي على ما يظهران من طيب عرضك. أي: لا تحمدني على شعري وحمدي لك، ولكن احمد هماماً. أي: نفسك التي أسدت الثناء وقوله: إذا لم يسم حامده عناكا أي: إذا قلت مدحاً ولم أسم فيه أحداً، فإنما عنيتك به وهذا مثل قول أبي نواس:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الّذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحه ... لغيرك إنساناً فأنت الّذي نعني
أغرّ له شمائل من أبيه ... غداً يلقي بنوك بها أباكا
أغر: صفة للهمام، والشمائل: الأخلاق. والهاء في بها للشمائل.
يقول: أحمد هماماً أغر، فيه شمائل من أبيه: أي مشابهة وأخلاق. وقوله: غداً يلقي بنوك بها أباكا أي بتلك الشمائل. يعني: أنهم إذا كبروا أشبهوا شمائل أبيك كما أشبهته أنت. أي كلكم يشبه فعله فعل أبيه، وينزع إلى كرم أصله.
وفي الأحباب مختصٌّ بوجدٍ ... وآخر يدّعي معه اشتراكا
يعني: في الناس من هو محب على الحقيقة، مختص بالوجد على فراق أحبته، وفيهم من يدعي الاشتراك معه في الوجد وهو كاذب في دعواه.
وقيل: أراد بالمختص نفسه لأجل فراقه، ومن تداني مختص بود ذلك الوجد، وذلك الوجد لفراقك، وليس عند غيري شعري، إلا مجرد الدعوى.
وقيل: أراد بالمختص بالوجد نفسه لأجل فراقه، ومن يدعي الاشتراك: زوجته، تدعى مشاركة والدته في الحزن لأجله.
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ ... تبيّن من بكى ممّن تباكا
يعني: أن الذي يبكي بوجد وحرقة قلب، يظهر ممن يتكلف البكاء رياءً، وإن اشتبهت دموعهما في جريانها على الخدود.
أذمّت مكرمات أبي شجاعٍ ... لعيني من نواي على أولاكا
أي: مكرمات أبي شجاع قد دخلت عيني في ذمتها ومنعتها من أن تكون من أولئك. أي: ممن يخادع ويظهر من الود خلاف ما يبطن.
يعني: مكارمك وإحسانك منعتني من دعوى المحبة بحضرتك وإظهار خلافها في غيبتك، فإن الإنسان مطبوع على حب من أحسن إليه، فإذا أبعدت أضمرت من مودتك مثل ما أظهر الآن بحضرتك.
فزل يا بعد عن أيدي ركابٍ ... لها وقع الأسنّة في حشاكا
يخاطب البعد يقول: يا بعد زل عن أيدي إبلي، فإنها تنفذ فيك وتفعل في حشاك فعل الأسنة. يشير إلى سرعة سيره وعوده.
وقيل: أراد بذلك أنها تطوي البعد وتنفذه، فكأنها أثرت فيه هذا التأثير.
وأيّا شئت يا طرقي فكوني ... أذاةً أو نجاةً أو هلاكا
يعني: إذا سرت وعضد الدولة راض عني، فلا أبالي أي شيء كان في طريقي: هلاكاً أو نجاة، فإن سعادة جده تدفع ما أحذره.
فلو سرنا وفي تشرين خمسٌ ... رأوني قبل أن يروا السّماكا
السماك: كوكب يطلع على أهل الكوفة لخمس خلون من تشرين الأول.
يقول: لو سرت إلى أهلي من شيراز في اليوم الذي يطلع في عشيته عليهم السماك، لوصلت إليهم قبل طلوع السماك. أي: كانت سعادته وإقباله يطويان لي البعد ويسهلان علي الطريق.
وقيل: لم يكن بين قول هذا وبين تشرين الأول دون عشرة أيام، وكان بشيراز، وبين شيراز وبغداد مئتا فرسخ.
يشرّد يمن فنّاخسر عنّي ... قنا الأعداء والطّعن الدّراكا
يشرد: يطرد ويبعد. والطعن الدراك: المتتابع.
يقول: إن يمن عضد الدولة إذا سرت وهو عني راض يبعد كل مكروه وينفي كل محذور. غير أنه لم ينفعه يمن فناخسر.
وألبس من رضاه في طريقي ... سلاحاً يذعر الأبطال شاكا
يقال: رجل شاكي السلاح، وأصله شائك، فحذف عين الفعل منه فصار شاكا. وقيل: شاكي السلاح وهذا مقلوب من شائك، وشاكا صفة للسلاح.
يقول: إذا سرت وهو عني راض قام رضاه لي مقام السلاح التام في دفع الأعداء وتخويف الأبطال. وهذا مثل قوله:
ومن يصحب اسم ابن العميد محمّدٍ ... يسر بين أنياب الأساود والأسد(1/469)
ومن أعتاض منك إذا افترقنا ... وكلّ النّاس زورٌ ما خلاكا
يقول: إذا فارقتك لم أجد منك عوضاً يقوم مقامك، فجميع الناس غيرك قول بلا فعل، ووعد بلا إنجاز، ودعوى بلا معنى. ومثله قول عمران بن حطان، في مرثية مرداس:
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما النّاس بعدك يا مرداس بالنّاس
وما أنا غير سهمٍ في هواءٍ ... يعود ولم يجد فيه امتساكا
يقول: إني وإن رحلت عنك، فإني لا ألبث حتى أعود راجعاً إليك كالسهم إذا رمي في الهواء لا يقف، بل ينعكس فيعود منخفضاً وهذا معنى حسن في سرعة السير والعود، والأصل فيه قول الآخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن قعر الطّوىّ رماني
حييّاً من إلهي أن يراني ... وقد فارقت دارك واصطفاكا
حيياً نصب على الحال. أي: أرجع وأنا أستحي من إلهي أن يراني فارقت دارك، وأنت صفوته. أي: إذا كان الله تعالى قد اصطفاك من بين خلقه استحييت منه أن أفارقك وأوثر عليك غيرك، وهو قد اختارك واصطفاك. أي: وهو فعل ماض.
وروى ابن جني رحمه الله اصطفاكا بكسر الطاء وهو مصدر اصطفى وأصله المد، غير أنه قصر ضرورة. والأول أولى وأحسن في المعنى. ويجوز حيي بالرفع. أي أنا حيي من الله تعالى أن أفارقك، وقد اصطفاك ووكل إليك أمر العباد وأحوال البلاد.
هذا آخر ما سار من شعر أبي الطيب المتنبي رحمه الله تعالى.
وخرج من عند عضد الدولة، حتى إذا قرب من بغداد وخرج من دير العاقول خرج عليه فرسان ورجال من أسد وشيبان فقتل بين الصافية ودير العاقول وذلك يوم الاثنين لست ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاث مئة وقتل معه عبده وقتل ابنه بعده.
زيادات من شعر المتنبي
نعني بالزيادات الأبيات والقطع التي لم تثبت في النسخ التي بين أيدينا لهذا الشرح ولكن اطمأنت نفوسنا من نسبتها إلى المتنبي.
ومما لا ريب فيه أن المتنبي أسقط من ديوانه بعض القطع التي قالها في صباه أو ارتجلها ولم يجدها، أو استحى مما فيها، كما أسقط أبياتاً من قصائده حين إعادة النظر في ديوانه، وكذلك سها النساخ عن قطعة أو بيت، فمن أجل هذا وقع الخلاف بين النسخ في أبيات قليلة، ولسبب من ذلك يجد الباحث في بعض القطع حذفاً وإثباتاً وتقديماً وتأخيراً، أشرنا إليه في دراستنا ونبهنا عليه في موضعه من النص.
وفي النسخة التي اعتمد عليها شارحنا، قطع وأبيات مثبتة في متن الديوان ومشروحة. اعتبرها غيره من الشراح من زيادات الديوان، وذلك مثل قول أبي الطيب:
فديت بماذا يسرّ الرسول ... وأنت الصحيح بذا لا العليل
عواقب هذا تسوء العدو ... وتثبت فيك وهذا يزول
فقد ذكر البيتان في زيادات الديوان الذي حققه الدكتور عبد الوهاب عزام ولم يذكرا في التبيان، وإن ذكرهما الواحدي في صلب الديوان واتفق مع شارحنا في ذلك.
وليرجع الباحث إلى القطعتين رقمي 241 و242 المثبتين في آخر السيفيات، ولينظر هوامشهما ليقف على مدى الخلاف في إثباتهما عند سائر الشراح.
ولقد أحببت أن أتتبع زيادات شعر المتنبي فأثبتها لحقاً لهذا الشرح، ولكن رأيت أن جمع الزيادات كلها يطول، ويدخلنا في نقد طويل، نزيف به بعض القصائد والقطع التي نسبت إلى الشاعر. وقد سبقنا العالم الثبت عبد العزيز الميمني الراجكوتي ونشرها في كتاب على حدة زيادات ديوان شعر المتنبي فكفانا مئونة هذا الجهد وسأكتقي بالزيادات التالية التي اطمأنت نفسي إليها مع ذكر مصادرها: أول شعر نظمه وهو صبي يتغزل:
بأبي من وددته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فاقترفنا جولاً فلمّا التقينا ... كان تسليمه عليّ وداعا
وقال يمدح محمد بن عبيد الله العلوي الكوفي:
يا ديار العباهر الأتراب ... أين أهل الخيام والأطناب؟
قذفت بالبدور عنك ظهور ... البدن قذف القسيّ بالنّشاب
غادة تجعل الخليّ شجيّا ... وتصيب المحبّ بالأوصاب
صدّها، يذهل العقول، بالوص ... ل تردّ العقول بعد ذهاب
يا شبابي ترفّقن بشبابي ... نمت عن ليتي وبتّ لما بي
تالفاً بين ميتة وحياةٍ ... واقفاً بين رحمةً وعذاب
خذ إلهي من الملاح لجسمٍ ... حلن ما بينه وبين الثّياب(1/470)
سوءةٌ للّتي شكوت فقالت: ... سوءةٌ للممخرق الكذّاب
أعتبت بالصدود بعد عتاب ... ورمت بالنّقاب بالعنّاب
بعناب تسودّت من حشائي ... بسواد ومن دمي بخضاب
وتمشّت من الفؤاد بنعلٍ ... حرّ وجهي له مكان التّراب
آه لم يدر ما العذاب فؤاد ... لم يذق طعم فرقة الأحباب
ابعدي فالسّلوّ أجمل عندي ... من حضور البكا على الغيّاب
ووقار الفتى بغير مشيب ... كصبوّ امرئ بغير شباب
سقّني ريقها وسقّ نديمي ... من سلاف ممزوجة برضاب
واسق أطلالها وإن هجرتنا ... يا إله السماء، نوء السحاب
مضلخمّ الرّوقين مثعنجر الود ... ق مسفّ الجهام، داني الرّباب
مسبلا مثل راحة ابن عبيد الله ... معطى الورى بغير حساب
يستقلّ الكثير معتذراً من أخ ... ذه طالباً إلى الطّلاّب
فنفوس الأموال غير رواض ... عنه، والسائلون غير عضاب
إنّ جود الوسمىّ بل زبد البح ... ر ترامى عبابه بحباب
دون جدوى أبي الحسين إذا ما اش ... تغل الشّعر بالعطايا الرّغاب
وقال يمدح ابن كيغلغ وهو في حبسه:
شغلي عن الرّبع أن أسائله ... وأن أطيل البكاء في خلقه
بالسّجن والقيد والحديد وما ... ينقض عند القيام من حلقه
في كل لصٍّ إذا خلوت به ... حدّث عن جحده وعن سرقه
لو خلقت رجله كهامته ... إذاً لباري البزاة في طلقه
بدّلت جيرانه وبليته ... في خطّ كفّ الأمير من ورقه
يا أيها السيد الهمام أبا العبّا ... س والمستعاذ من حنقه
أعنى الأمير الذي لهيبته ... يخفق قلب الرّضيع في خرقه
المظهر العدل في رعيّته ... والمعتدي حلمه على نزقه
لما تأمّلته رأيت له ... مجداً تضلّ الصّفات في طرقه
نظرت من طبعه إلى ملكٍ ... يغضى حماة الشام من خلقه
لو ما ترى سفكه بقدرته ... كان دم العالمين في عنقه
يا من إذا استنكر الإمام به ... مات جميع الأنام من فرقه
في كلّ يوم يسري إلى عملٍ ... في عسكر لا يرى سوى حدقه
تشتعل الأرض من بوارقه ... ناراً وتنبو السيوف عن درقه
قد أثّر القيظ في محاسنه ... وفاح ريح العبير من عرقه
كأنّ الشمس؛ لم تزر بلداً ... في الأرض إلاّ طلعت في أفقه
الله يا ذا الأمير في رجلٍ ... لم تبق من جسمه سوى رمقه
كم ضوء صبح رجاك في غده ... وجنح ليل دعاك في غسقه
ناداك من لجّة لتنقذه ... من بعد ما لا يشكّ في غرقه
وقال يمدح أحمد بن الحسن:
أتظعن يا قلب مع من ظعن ... حبيبين أندب نفسي إذن
ولم لا أصاب وحرب البسو ... س بين جفوني وبين الوسن
وهل أنا بعدكم عائشٌ ... وقد بنت عنّي وبان السّكن؟!
فدى ذلك الوجه بدر الدّجى ... وذاك التّثنّي تثنّى الغصن
فما للفراق وما للجميع؟ ... وما للرّياح وما للدّمن؟
كأن لم يكن بعد أن كان لي ... كما كان لي بعد أن لم يكن
ولم يسقني الرّاح ممزوجةً ... بماء اللّثى لا بماء المزن
لها لون خدّيه في كفّه ... وريحك يا أحمد بن الحسن
ألم يلفك الشّرف اليعربيّ ... وأنت غريبة أهل الزّمن
كأنّ المحاسن غارت عليك ... فسلّت لديك سيوف الفتن
لذكرك أطيب من نشرها ... ومدحك أحلى سماع الأذن
فلم يرك النّاس إلا غنوا ... برؤياك عن قول: هذا ابن من؟
ولو قصد الطّفل من طيّئ ... لشارك قاصده في اللّبن
فما البحر في البرّ إلا نداك ... وما النّاس في الباس إلا اليمن
وقال يعاتب:
إنّي لغير صنيعة لشكور ... كلا وإنّ سواءك المغرور
مالي أراني منك تحت سحابةٍ ... ظمآن أستسقي وأنت مطير
أنت الأمير، وغيرك المأمور ... وعظيم شغلٍ في جداك يسير
وقال يمدح أبا دلف:
ليس العليل الّذي حمّاه في الجسد ... بل العليل الّذي حمّاه في الكمد
أقسمت ما قبّل الحمّى سوى ملكٍ ... قبل الأمير، ولا اشتاقت إلى أحد
فلا تلمها رأت شيئاً فأعجبها ... فعاودتك ولو ملّتك لم تعد(1/471)
أليس من محن الدّنيا أبا دلفٍ ... ألا نزورك والرّوحان في بلد؟
وقال معاتبا:
أتاني عنك قولٌ فازدهاني ... ومثلك يتّقي أبداً ويرجى
ولولا ظنّةٌ خلعت فؤادي ... وجدت إليك طرقاً منك نهجا
فلمّا جئت أشرق منك بدرٌ ... وكان لتمّه الإسعاد برجا
وكتب إليه الضرير الضبي:
قد صحّ شعرك والنّبوّة لم تصح ... والقول بالصدق المبيّن يتّضح
فالزم مقال الشّعر تحظ برتبةٍ ... وعن النّبوّة لا أباً لك فانتزح
تربح دماً قد كنت توجب سفكه ... إنّ التمتّع بالحياة لمن ربح
فأجابه المتنبي:
نار الذراية من لساني تقتدح ... يغدو عليّ من النّهي ما لم يرح
بحرٌ لو اغترفت لطائم موجه ... بالأرض والسّبع الطّباق لما نزح
أمري إليّ، فإن سمحت بمهجةٍ ... كرمت عليّ، فإنّ مثلي من سمح
وقال أيضاً يفتخر بنفسه:
لي منصب العرب البيض المصاليت ... ومنطقٌ صيغ من درٍّ وياقوت
وهمّةٌ هي دون العرش منكبها ... وصار ما تحتها في لجّة الحوت
وقال يهجو حيدرة قاضي طرابلس:
هيناً فقدت من الرّجال بليدا ... من كان عند وجوده مفقودا
غلب التّبسّم يوم مات تفجّعي ... وغدا به رأي الحمام سديدا
يا صاحب الجدث الّذي شمل البري ... ية جوده لو كان لؤمك جودا
قد كنت أنتن منه يوم دخوله ... ريحاً وأكثر في الحياة صديدا
وأذلّ جمجمةً وأعيا منطقاً ... وأقلّ معروفاً وأذوى عودا
أسلمت لحيتك الطويلة للبلى ... وثويت لا أجراً ولا محمودا
وروى الأطبّة أنّ ما بك قاتل ... حمق شفاؤك كان منه بعيدا
وفساد عقلك نال جسمك معدياً ... وليفسدن ضريحه والدّودا
قسمت ستاه بنيه ميراث استه ... من بعده فغدت بغايا سودا
لو وصّلوا ما استدخلوا من فيشة ... في طولهم وصلوا السماء قعودا
أولاد حيدرة الأصاغر أنفساً ... ومناظراً ومخابراً وجدودا
سودٌ ولو بهر النّجوم بياضهم ... قلّ ولو كثروا التّراب عديدا
بليت بما يجدون كلّ بخيلةٍ ... حسناء كيلا تستطيع صدودا
شيءٌ كلا شيءٍ لو أنّك منهم ... في عسكر مجرٍ لكنت وحيدا
أسرف فإنّك صادقٌ في شتمهم ... في كلّ شيءٍ ما خلا التّحديدا
وقال أيضا يهجو آل حيدرة:
يا آل حيدرة المعفّر خدّهم ... عبد المسيح على اسم عبد مناف
تربا الكلاب بأن يكون أباً لها ... ويرين عاراً شدّة الإقراف
لا تجمعوا لغة النّبيط وتيهكم ... وأصولكم وأسامي الأشراف
وكتب إليه الضبي الشاعر الضرير وهو في الحبس:
أطللت يا أيّها الشّقيّ دمك ... لا رحم الله روح من رحمك
أقسمت لو أقسم الأمير على ... قتلك قبل العشاء ما ظلمك
فأجابه المتنبي:
إيهاً أتاك الحمام فاخترمك ... غير سفيهٍ عليك من شتمك
همّك في أمردٍ تقلّب في ... عين دواةٍ لصلبه قلمك
وهمّتي في انتضاء ذي شطبٍ ... أقدّ يوماً بحدّه أدمك
فاخسأ كليباً واقعد على ذنبٍ ... واطل بما بين إليتيك فمك
ومن شعر المتنبي مما ليس في ديوانه بل رواه الشيخ تاج الدين الكندي بسند صحيح متصل به بيتان وهما.
أبعين مفتقر إليك نظرتني ... فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم؛ لأنّني ... أنزلت آمالي بغير الخالق
وله في سيف الدولة، وكان قد أمر بخيمة فصنعت له، فلما فرغ منها نصبها لينظر إليها، وكان على الرحيل إلى العدو، فهبت ريح شديدة فسقطت، فتشاءم بذلك ودخل الدار واحتجب عن الناس، فدخل عليه المتنبي بعد ثلاثة أيام، فأنشده حيث قال:
يا سيف دولة دين الله دم أبدا ... وعش برغم الأعادي عيشةً وغدا
هل أذهل الناس إلا خيمةٌ سقطت ... من المكارم حتى ألقت العمدا
خرّت لوجهك نحو الأرض ساجدةً ... كما يخرّ لوجه الله من سجدا
وقيل للمتنبي: مالك لم تمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالبي رضي الله عنه فقال:
وتركت مدحي للوصيّ تعمّداً ... إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استقلّ الشّيء قام بذاته ... وكذا ضياء الشّمس يذهب باطلا(1/472)
وللمتنبي وليس في ديوانه أيضا: يتغزل:
وحبيب أخفوه منّي نهاراً ... فتخفّي وزارني في اكتئام
زارني في الظّلام يطلب ستراً ... فافتضحنا بنوره في الظّلام
قال عبد الله بن المحسن بن علي بن كوجك: قرأت قصيدة لأبي الطيب يرثي بها أبا بكر بن طغج الإخشيدي ويعزي ابنه أنوجور بمصر وليست في ديوانه أولها:
هو الزّمان مننت بالذي جمعا ... في كلّ يومٍ ترى من صرفه بدعا
إن شئت مت أسفاً أو فابق مضطربا ... قد حلّ ما كنت تخشاه وقد وقعا
لو كان ممتنعٌ تغنيه منعته ... لم يصنع الدّهر بالإخشيد ما صنعا
قال وهي طويلة لم يحضرني منها إلا هذه الأبيات وجاء في بدائع الزهور لابن إياس: وقد رثاه أي رثا محمد بن طفج أبو الطيب المتنبي بهذه الأبيات: وذكر الأبيات الثلاثة السابقة ثم زاد الأبيات التالية:
ذاق الحمام فلم تدفع عساكره ... عنه القضاء، ولا أغناه ما جمعا
لو يعلم اللّحد ما قد ضمّ من كرمٍ ... ومن فخارٍ ومن نعماء لا تسعا
بالحد طل إنّ فيك البحر محتساً ... والليث مهتصراً والجرد مجتمعا
يا يومه لم تخصّ الفجع فيه لقد ... كلّ الودى؛ برزءٍ الإخشيد قد فجعا
ولما خلص إلى العراق هجا كافور بقصائد كثيرة، وكان هجاه من قبل أيضا تلويحاً وتصريحاً منها ما هو مثبت في ديوانه ومنها ما لم يثبت فمن ذلك هذه القصيدة وهي توجد في بعض النسخ دون بعض:
قطعت بسيري كلّ يهماء مفزع ... وجبت بخيلي كلّ صرماء بلقع
وثلّمت سيفي في رءوسٍ وأذرعٍ ... وحطّمت رمحي في نحور وأضلع
وصيّرت رأيي بعد عزمي رائدي ... وخلّفت آراءً توالت بمسمعي
ولم أترك أمراً أخاف اغتياله ... ولا طمعت نفسي إلى غير مطمع
وفارقت مصراً والأسيود عينه ... حذار مسيري تستهلّ بأدمع
ألم تفهم الخنثى مقالي وأنّني ... أفارق من أقلى بقلبٍ مشيّع
ولا أرعوي إلاّ إلى من يودّني ... ولا يطّبيني منزلٌ غير ممرع
أبا النّتن كم قيّدتني بمواعدٍ ... مخافة نظمٍ للفؤاد مروّع
وقدّرت من فرط الجهالة أنّني ... أقيم على كذبٍ رصيفٍ مضيّع
أقيم على عبدٍ خصيٍّ منافق ... لئيم رديء الفعل للجود مدّعي
وأترك سيف الدّولة الملك الرّضي ... كريم المحيّا أروعاً وابن أروع
فتىً بحره عذبٌ، ومقصده غنىً ... ومرتع مرعى جوده خير مرتع
تظلّ إذا ما جئته الدّهر آمناً ... بخير مكانٍ بل بأشرف موضع
وقال يهجو كافوراً:
أفيقا خمار الهمّ نغّصني الخمرا ... وسكري من الأيّام جنّبني السّكرا
تسرّ خليليّ المدامة والّذي ... بقلبي يأبى أن أسرّ كما سرّا
لبست صروف الدّهر أخشن ملبسٍ ... فعرّقنني ناباً ومزّقنني ظفرا
وفي كلّ لحظٍ لي ومسمع نغمةٍ ... يلاحظني شزراً ويوسعني هجرا
سدكت بصرف الدّهر طفلاً ويافعاً ... فأفنيته عزماً ولم يفنني صبرا
أريد من الأيام ما لا يريده ... سواي ولا يجري بخاطره فكرا
وأسألها ما أستحقّ قضاءه ... وما أنا ممّن رام حاجته قسرا
ولي كبدٌ من رأي همّتها النّوى ... فتركبني من عزمها المركب الوعرا
تروق بني الدّنيا عجائبها ولي ... فؤادٌ ببيض الهند لا بيضها مغري
أخو هممٍ رحّالةٍ لا تزال بي ... نوىً تقطع البيداء أو أقطع العمرا
ومن كان عزمي بين جنبيه حثّه ... وخيّل طول الأرض في عينه شبرا
صحبت ملوك الأرض مغتبطاً بهم ... وفارقتهم ملآن من شنفٍ صدرا
ولمّا رأيت العبد للحرّ مالكاً ... أبيت إباء الحرّ مسترزقاً حرّا
ومصر لعمري أهل كلّ عجيبةٍ ... ولا مثل ذا المخصيّ أعجوبةً نكرا
يعدّ إذا عدّ العجائب أوّلاً ... كما يبتدي في العدّ بالإصبع الصّغرى
ومنها يذكر أم كافور:
فيا هرمل الدّنيا ويا عبرة الورى ... ويا أيّها المخصيّ من أمّك البظرا
نوبيّةٌ لم تدر أنّ بنيّها النّوي ... بيّ بعد الله يعبد في مصرا
ويستخدم البيض الكواعب كالدّمى ... وروم العبدّي والغطارفة الغرّا(1/473)
قضاءٌ من الله العليّ أراده ... ألا ربّما كانت إرادته شرّا
ولله آياتٌ وليست كهذه ... أظنّك يا كافور آيته الكبرى
لعمري ما دهرٌ به أنت طيّبٌ ... أيحسبني ذا الدّهر أحسبه دهرا
وأكفر يا كافور حين تلوح لي ... ففارقت مذ فارقتك الشّرك والكفرا
عثرت بسيري نحو مصر فلالعاً ... بها ولعاً بالسّير عنها ولا عثرا
وفارقت خير النّاس قاصد شرّهم ... وأكرمهم ظرّاً لأنذلهم طرّا
فعاقبني المخصيّ بالغدر جازياً ... لأنّ رحيلي كان عن حلبٍ غدرا
وما كنت إلا فائل الرّأي لم أعن ... بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرا
وقد أرى الخنزير أنّي مدحته ... ولو علموا قد كان يهجي بما يطرا
جسرت على دهياء مصر ففتّها ... ولم يكن الدّهياء إلا من استجرا
سأجلبها أشباه ما حملته من ... أسنّتها جرداً مقسطلةً غبرا
وأطلع بيضاً كالشّموس مطلّةً ... إذا طلعت بيضاً وإن غربت حمرا
فإن بلغت نفسي المنا فبعزمها ... وإلا فقد أبلغت في حرصها عذرا
وقال وقد كثرت الأمطار بآمد:
أآمد هل ألمّ بك النّهار ... قديماً أو أثير بك الغبار
إذا ما الأرض كانت فيك ماءً ... فأين بها لغرقاك القرار
تغضّبت الشّموس بها علينا ... وماجت فوق أرؤسنا البحار
حنين البخت ودّعها حجيجٌ ... كأن خيامنا لهم جمار
فلا حيّا الإله ديار بكرٍ ... ولا روّت مزارعها القطار
بلادٌ لا سمينٌ من رعاها ... ولا حسنٌ بأهليها اليسار
إذا لبس الدّروع ليوم بؤس ... فأحسن ما لبست بها الفرار
قال ابن عساكر: وقرأت في بعض الكتب أنه لما خرج المتنبي بأرض سلمية من عمل حمص في بني عدي الكلبيين، قبض عليها بن علي الهاشمي في ضيعة له يقال لها كوتكين وأمر النجار فجعل في رجله قرمة، وفي عنقه، من خشب الصفصاف.
زعم المقيم بكوتكين بأنّه ... من آل هاشم بن عبد مناف
فأجبته: مذ صرت من أبنائهم ... صارت قيودهم من الصّفصاف
ولما أن صار معتقلاً في الحبس كتب إلى الوالي:
بيديّ أيّها الأمير الأريب ... لا لشيءٍ إلاّ لأنّي غريب
أو لأمٍّ لها إذا ذكرتني ... دم قلبٍ بدمع عين سكوب
إن أكن قبل أن رأيتك أخطأ ... ت فإنّي على يديك أتوب
عائبٌ عابني لديك ومنه ... خلقت في ذوي العيوب العيوب
وحكى الصفدي في شرح لامية العجم أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي في مصر وروى عنه قوله يتغزل:
لا عبت بالخاتم إنسانةً ... كمثل بدر في الدّجى النّاجم
وكلّما حاولت أخذي له ... من البنان المترف النّاعم
ألقته في فيها فقلت انظروا ... قد أخفت الخاتم في الخاتم
وقال أبو بكر الشيباني: حضرت عند أبي الطيب وقد أنشده بعض الحاضرين:
فلو أنّ ذا شوقٍ يطير صبابةً ... إلى حيث يهواه لكنت أنا ذاكا
وسأله إجازته فقال:
من الشّوق والوجد المبّرح أنّني ... يمثّل لي من بعد لقياك لقياكا
سأسلو لذيذ العيش بعدك دائماً ... وأنسى حياة النّفس من قبل أنساكا
وله في عبد العزيز الخزاعي قبل رحيله من مصر:
لئن مرّ بالفسطاط عيشي فقد حلا ... بعبد العزيز الماجد الطّرفين
فتىً زان قيساً بل معدّاً فعاله ... وما كلّ سادات الشّعوب بزين
تناول ودّي من بعيدٍ فناله ... جرى سابقا في المجد ليس برين
وقال بهجو الضبي الشاعر:
أيّ شعري نظرت فيه لضبٍّ ... أوحدٍ ماله على الدّهر عون
كلّ بيتٍ يجيء يبرز فيه ... لك من جوهر الفصاحة لون
يالك الويل ليس يعجز موسى ... رجلٌ حشو جلده فرعون
أنا في عينك الظّلام كما أنّ ... بياض النّهار عندك جون
وله في بستان المنية بمصر قبل رحيله وقد وقعت حيطانه من السيل:
ذي الأرض عمّا أتاها الأمس غانيةً ... وغيرها كان محتاجاً إلى المطر
شقّ النّبات عن البستان ريّقه ... محيّياً جاره الميدان بالشّبحر
كأنّما مطرت فيه صوالجةٌ ... تطرّح السّدر فيه موضع الأكر
وله في معاذ الصيداني:
معاذٌ ملاذٌ لزوّاده ... ولا جار أكرم من جاره(1/474)
كأنّ الحطيم على بابه ... وزمزم والبيت في داره
وكم من حريق أتى مرّةً ... فلم يعمل الماء في ناره
وله فيه يعاتبه:
أفاعل بي فعال الموكس الزّاري ... ونحن نسأل فيما كان من عار
قل لي بحرمة من ضيّعت حرمته ... أكان قدرك ذا أم كان مقداري؟!
لا عشت إن رضيت نفسي ولا ركبت ... رجلٌ سعيت بها في مثل دينار
وليّك الله لم صيّرتني مثلاً ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
وكتب إلى علي بن أحمد الماذرائي في حاجة كانت له بالرملة قال:
إنّي سألتك بالّذي ... زان الإمامة بالوصيّ
وأبان في يوم الغدي ... ر لكلّ جبّار عويّ
فضل الإمام عليهمو ... بولاية الرّب العليّ
إلا قصدت لحاجتي ... وأعنت عبدك يا عليّ
وكان من نباهته أن تطلع الشعراء إلى شعره منذ صباه. وقد ادعى بعضهم قصيدته:
جللا كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح؟
فأخذ أبو الطيب الدواة وكتب لوقته قطعة لم يجز أن تروى عنه وأولها:
لم لا يغاث الشّعر وهو يصيح ... ويرى منار الحقّ وهو يلوح
يا عصبةً مخلوقةً من ظلمةٍ ... ضمّوا جوانبكم فإنّي يوح
قال ابن العديم: ونقلت من هذا المجموع مجموع صالح بن إبراهيم بن رشدين بخطه. ذكر لي أبو العباس بن الحوت الوراق - رحمه الله - أن أبا الطيب المتنبي أنشده لنفسه هذين البيتين:
تضاحك منّا دهرنا لعتابنا ... وعلّمنا التّمويه لو نتعلّم
شريفٌ زغاويٌّ، وزانٍ مذكّرٌ ... وأعمش كحّال، وأعمى منجّم
وقد وجد له مرويات أخر منها ما لا يستحسن إثباته هنا. ومنها ما ليس في ذكره إجداء. على أن الكثير من ذلك ليس من جيد شعره. ولمن طلب المزيد أن يرجع إلى كتاب الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي.
لأن الحي مولع بآثار من ذهب حريص على التنقيب عنها وتخليدها على تراخي الزمن.
اللهم إن أخطأت فالخير أردت، وإن أصبت فلك الحمد.(1/475)