الجزء الأول
العراقيات الأولى
قال أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الجعفي رحمه الله وهو أول شعر قاله في صباه
أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن
يقال بلى الثوب يبلى بلى وبلاء. وأبلاه غيره إبلاء. والأسف: شدة الحزن. يقال: أسف يأسف أسفاً فهو آسف وأسيف، ومعنى إبلاء الهوى البدن: إذهاب لحمة وقوته، بما يورد عليه من شدائد. وخص يوم النوى، لأن برح الهوى إنما يشتد عند الفراق، والهوى عذب مع الوصال سم مع الفراق كما قال السرى الرفاء:
وأرى الصبابة أريةً ما لم يشب ... يوماً حلاوتها الفراق بصابه
وانتصب أسفاً على المصدر، ودل على فعله ما تقدمه من قوله: أبلى الهوى لأن إبلاء الهوى بدنه يدل على أسفه، فكأنه قال: أسفت أسفاً، ومثله كثير في التنزيل؛ كقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء "، ويوم النوى: ظرف للإبلاء، ومعموله. ويجوز أن يكون معموله المصدر الذي هو أسفاً.
والمعنى يقول: أدى الهوى بدني إلى الأسف، والهزال، يوم الفراق، وبعد الهجر من الحبيب؛ بين جفني والنوم. أي: لم أجد بعده نوماً ولا راحة.
روحٌ تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
يقول: روح تردد: أي تجيء وتذهب، في بدنٍ مثل الخلال في النحول والدقة والهزال، بحيث إذا طيرت الريح عنه الثوب لم يظهر ذلك البدن لدقته. أي: إنما يرى لما عليه من الثوب، فإذا ذهب الثوب فهو لا يرى. ومثل الخلال صفة للموصوف المحذوف، تقديره: في بدنٍ مثل الخلال.
وأقرأني أبو الفضل العروضي: في مثل الخيال؛ وقال: أقرأني أبو بكر الشعراني خادم المتنبي: في مثل الخيال وقال: ولم أسمع الخلال، وما دونه من البيت يدل على صحة هذا، وإن الوأواء الدمشقي سمع هذا البيت فأخذه وقال:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت على النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
يقول: كفاني نحولاً كوني رجلاً، لو لم أتكلم لم يقع علي البصر، أي إنما يستدل علي بصوتي، كما قال أبو بكر الصنوبري:
ذبت حتى ما يستدل على أني حي ... ي إلا ببعض الكلام
وأصل هذا المعنى قول الأول:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
والباء في بجسمي زائدة، تزاد مع الكفاية عنها؛ في الفاعل كثيراً كقوله تعالى: " وكفى بالله شهيداً " " وكفى بك على هؤلاء شهيداً " " وكفى بربك هادياً ونصيراً " وتزاد مع المفعول أيضاً كقول بعض الأنصار
وكفى بنا فضلاً على من غيرنا ... حب النبي محمدٍ إيانا
معناه كفانا فضلاً، فزاد الباء وقد قال أبو الطيب
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
فزاد في المفعول في قوله: بجسمي لما ذكرنا وانتصب نحولاً، على التميير، لأن المعنى كفى جسمي من النحول.
وقال يمدح محمد بن عبيد الله العلوي:
أهلاً بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خردها
الأغيد: الناعم البدن، وجمعه غيدٌ وأراد هاهنا، جارية، وذكر اللفظ، لأنه عنى الشخص، والخرد جمع الخريدة وهي: البكر التي لم تمس. ويقال أيضاً: خرد بالتخفيف، وفي قوله: أبعد أوجهٌ ورواياتٌ، والذي عليه أكثر الناس الاستفهام، وفيه ضربان من الفساد: أحدهما في اللفظ والثاني في المعنى، والذي في اللفظ من الفساد هو: أن تمام الكلام يتعلق بالبيت الذي بعده، وذلك عيب عند الرواة يسمونه المضمن والمبتور، ومثله:
لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي
سيفي وما كنا بنجد وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق
والضرب الثاني من الفساد؛ في المعنى، وهو أنه إذا قال: أبعد فراقهم تهتم وتحزن؟ كان محالاً من الكلام، والرواية الصحيحة: أبعد ما بان بضم الدال.
يقول: أبعد شيء فارقك جواري هذه الدار. وروى قوم، أبعد ما بان بفتح الدال، على أنه حال من الأغيد والعامل في الحال سباك أي: سباك أغيدها أبعد ما بان عنك، وخردها بدل من الأغيد وهذا من العجب، أي أن السابي يسبي وهو بعيد.(1/1)
ومعناه أنه أسرك بحبه، وهو على البعد منك، وانتصب أهلاً بفعل مضمر تقديره: جعل الله تعالى أهلاً بتلك الدار؛ لتكون مأهولة؛ أي ذات أهلٍ؛ وإنما تكون مأهولة إذا سقيت الغيث فأنبتت الكلأ، فيعود إليها أهلها، وهو في الحقيقة دعاء لها بالسقيا.
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
يريد ظللت، فحذف أحد اللامين تخفيفاً كقوله تعالى: " فظلتم تفكهون ".
يقول: ظللت، بتلك الدار تنثني على كبدك واضعاً يدك فوق خلبها، والمحزون يفعل ذلك كثيراً لما يجد في قلبه من حرارة الوجد يخاف على كبده أن ينشق، وهذا كما قال غيره:
عشية أثنى البرد ثم ألوثه ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
وقال آخر:
لما رأوهم لم يحسوا مدركاً ... وضعوا أناملهم على الأكباد
والانطواء كالانثناء، والنضج لليد، ولكن جرى نعتاً للكبد في الإعراب لإضافة اليد إليها كقوله تعالى: " من هذه القرية الظلم أهلها " فإن الظلم للأهل، وجرى صفة للقرية.
والمعنى: التي ظلم أهلها، وهذا كما تقول مررت بامرأة كريمةٍ جاريتها، تصفها بكرم الجارية، وجعل اليد نضيجة لأنه أدام وضعها على الكبد فأنضجتها بما فيها من الحرارة، ولهذا جاز إضافتها إلى الكبد، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا طالت صحبته إياه كقولهم لفناء الدار: العذرة، وللمطمئن من الأرض: الغائط. وإذا جاز تسميته باسم ما يصحبه كانت الإضافة أهون ولطول وضع يده على الكبد أضافها إليه، كأنها للكبد لما لم تر إلا عليها، والخلب: غشاء للكبد رقيق لاصق بها، وارتفع يدها بنضيجة، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل كما تقول: مررت بامرأةٍ كريمةٍ جاريتها، ويجوز أن تكون النضيجة من صفة الكبد، فيتم الكلام ثم ذكر وضع اليد على الكبد، والأول أولى.
يا حاديي عيرها وأحسبني ... أوجد ميتاً قبيل أفقدها
روى: عيرها وعيسها وهي أحسنها لأن العير: هي التي تحمل النساء، والعيس: هي الإبل البيض التي تعلو بياضها شقرة: والهاء في عيرها للمحبوبة وأحسبني: أي أظنني، والفقد: العدم، وقوله: أفقدها، الأصل فيه النصب؛ لأنه أراد: قبيل أن أفقدها، إلا أنه حذف أن ورد الكلام إلى أصله وهو الرفع؛ لأن العامل فيه غير مظهر.
يخاطب حاديي العير التي كانت محبوبته في جملة ركبهما، ويسألهما أن يقفا عليه بالإبل ليستمتع بالنظر إليها، لما ذكره في قوله: قفا، ثم قال: وأحسبني. أي وإن التمست من الحاديين وقوفهما بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر، فإني أظن أني أوجد ميتاً قبل أن تغيب هذه المرأة، فلا يكون في النظر إليها طائل، وإنما صغر فقال: قبيل لينبه على أن موته إنما يحصل حال الفراق وقبله بوقت يسير، وهو الوقت الذي يتحقق الفراق فيه، وإن ما قبلهما هي حالة الوصال ولا يليق به الموت، وقوله يا حاديي أراد به السائق والقائد، والحادي: اسم السائق، لكنه سماهما باسم واحد للجمع بينهما تغليباً لأحدهما على الآخر، وفي ذلك إخبار عن عظم حال هذه المرأة الجليلة وأن لها قائداً يأخذ بزمام المطية، وسائقاً يسوقها، ويحتمل أن يكون حاديين على الحقيقة.
قفا قليلاً بها علي فلا ... أقل من نظرةٍ أزودها
قليلاً: منصوب؛ لأنه صفة لظرف محذوف. أراد: زماناً قليلاً، أو لأنه صفة لمصدر الفعل الذي هو قفا أراد: وقوفاً قليلاً. وقوله: فلا أقل ويروى بالنصب وهو الوجه؛ لأن لا يبنى الاسم بعده على الفتح إذا كان نكرة، وأقل نكرة، وقد روى بالرفع على معنى ليس وقوله: قفا يتعلق بقوله: يا حاديي عيرها والهاء في بها يحتمل أن تكون للإبل وأن تكون للمرأة.
يخاطب الحاديين فيقول: قفا بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر إليها، وإن كان ذلك الوقوف قليلاً، ثم قال إن لم آخذ منها الاستمتاع وطول الملازمة واستدامة الملاقاة فلا أقل من نظرة أزودها: أي إني أجعلها زادي. ويروى: أزودها أي بجعل تلك النظرة زادي بعد مفارقتي إياها ومثله للآخر:
ألما على الدار التي لو وجدتها بها ... أهلها ما كان وحشاً مقيلها
وإن لم يكن إلا معرج ساعةٍ ... قليلٌ، فإني نافع لي قليلها
وقال الآخر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له: قليل
ففي فؤاد المحب نار هوىً ... أحر نار الجحيم أبردها(1/2)
المحب أراد به نفسه، والكناية في أبردها لنار الهوى، وكأن هذا البيت علة في سؤاله الحاديين الوقوف بالمحبوبة.
يقول: إن في فؤادي ناراً من هواي إياها، والجحيم في جنبها أبردها، يعني أن أبرد نار الهوى مثل أحر نار الجحيم؛ وقصد بذلك تعظيم الهوى، وقد ورد الخبر بأن نار جهنم تزيد على نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كان أبرد هذه النار تزيد على أحر تلك، فلا مبالغة فوقه.
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
الفرق: موضع الفرق هاهنا، وفرق الرأس: وسطه، واللمة: ما ألم بالمنكب من الشعر، التي هي أفعل من كذا، وهو الأشد سواداً، وإنما أراد به الاسم أي مسودها، يعني اللمة.
يقول: شاب شعر رأسي من ألم الفراق! لا من الكبر في السن، حتى إن الشعر الأسود صار كالحرير الأبيض. وإنما خص موضع الفرق؛ لأن ذلك في قمدم الرأس، والعرب تزعم أن ابتداء الشيب إذا كان منه كان فيه دلالة الكرم، وإذا كان من جهة القفا كان فيه دلالة اللؤم، وهذا البيت مثل قول الآخر:
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع
والأصل فيه قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً ".
بانوا بخرعوبةٍ لها كفلٌ ... يكاد عند القيام يقعدها
الضمير في قوله: بانوا لأصحاب العير، أو الحداة، والخزعوبة: الجارية الناعمة الجسم، اللينة العصب، الطويلة.
يقول: بانوا بجارية خرعوبة عظيمة العجز، حتى إنها من كبر كفلها يقرب كفلها عند القيام من أن يقعدها ويلقيها. ومثله لأبي العتاهية قوله:
بدت بين حورٍ قصار الخطا ... تجاهد بالمشي أكفالها
ربحلةٌٍ أسمرٍ مقبلها ... سبحلةٌٍ أبيضٌٍ مجردها
الربحلة: الضخمة الحسنة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة. وقيل: السمينة اللحيمة. ومقبلها: أراد به شفتها، لأنها موضع القبلة في الغالب، ويستحسن فيها السمرة، وقيل: أراد وجهها وسوالفها، لأن ذلك مما يقصد بالقبلة كالشفة، ويكون وصف ذلك بالسمرة تنبيهاً على أنها عربية؛ لأنها الغالبة على العرب، وهي أحب ألوان النساء عندهم، والمجرد: قيل أراد به سائر بدنها، والمستحسن فيه البياض. وقيل: أراد به ما جرت العادة بتجريد في الغالب: كالوجه، والعنق واليد والرجل. فيكون قد وصف جملة البشرة بالبياض، والغرض وصف المرأة بأنواع الحسن، ليعذر في حبه لها وشغفه بها.
ويجوز في سبحلة وربحلة الجر عطفاً على خرعوبة والرفع على أنه خبر ابتداء محذوف فكأنه قال: هي ربحلةٌ وهي سبحلةٌ.
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها؟!
الفئة: الجماعة، وأراد بها العشاق. وقوله: أضلها الله: أغراها بالضلال، ووجدها ضالة، والظاهر أنه متعدى ضل والمعنى: أنها همت بالضلال فأضلها الله، والإرشاد: ضده.
يقول: دعهم عن العذل على العشق، فإن التمادي فيه ليس منهم، حتى ينفع عذلك فيهم، إنما هو من الله تعالى، أضلهم بالعشق عن سبيل السلوة، فكيف ترشدهم إليها؟! أو أوجدهم ضالين عن سبيل الرشاد والسلو.
ليس يحيك الملام في همم ... أقربها منك عنك أبعدها
يحيك بضم الياء أفصح، وجاء: حاك يحيك، والهمم: العقول والعزائم.
يقول: ليس يؤثر الملام في همم، وهي همم العشاق. أقربها في ظنك أيها العاذل من العمل، أبعدها عنك في الحقيقة، وعلى هذا الهمم: هي العزائم ويجوز أن يراد بها العقول.
فيقول: إن العشاق لا عقول لهم، والعذل إنما ينفع لمن له عقل، فلا وجه إلى ملامهم، وروى: ليس يحيك الكلام.
وسئل المتنبي عن قوله: أقربها منك عنك أبعدها فقال: أقربها منك سمعاً وأبعدها عنك طاعةً.
بئس الليالي سهدت من طربي ... شوقاً إلى من يبيت يرقدها
سهدت بالدال، لأنه لا يستعمل إلا في العشق. والسهر عام. والطرب: الخفة في فرح أو حزن، وأرادها هنا ما يكون من الحزن، ويرقدها: أي يرقد فيها، والهاء ترجع إلى الليالي.
يذم الليالي التي سهر فيها حزناً على المحبوبة؛ لأنها ليالي المحنة، لمفارقتها من وجهين: أحدهما من حيث الشخص، والثاني أنها لم تقابله في المحبة فتسهر كسهره في تلك الليالي، ولا ساعدته على سبيل المجاملة، وقوله شوقاً: نصب لأنه مفعول له، ويحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال.(1/3)
أحييتها والدموع تنجدني ... شئونها والظلام ينجدها
إحياء الليل: هو السهر، والشئون: مجاري الدموع، والإنجاد: الإمداد والإعانة، والهاء في أحييتها لليالي، وفي شئونها للدموع، وأضافها إليها لأنها مجاريها، والهاء في ينجدها قيل: ترجع إلى الليالي.
ومعناه: أحييت الليالي على حال تنجدني شئون الدموع فيها على ما كنت فيه من طول الليل الذي حصل بالغم والسهر؛ لأن من شأن الدموع أن تخفف على المحزون، وكأن الظلام يعين الليالي ويمدها ظلمةً أكثر من ظلمتها، ويزيدها طولاً إلى طولها، لانفراده به وعدم مشاهدته ما يتشاغل به عما هو فيه من الغم كما قال الشاعر:
بلى إن للعينين في الصبح راحةً ... لطرحهما طرفيهما على كل مطرح
وقيل: إن الهاء في ينجدها للدموع.
ومعناه: أن الدموع كانت تعينني لما فيها من الراحة، والظلام كان يعين الدموع، وكلما ازداد الليل ظلمةً ازداد الغم.
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
أجهدها: من جهدت الناقة إذا أشققت عليها في الحمل والركوب والرهان: المراهنة في مسابقة الخيل. وأراد بالناقة: النعل وأشار إلى أنه أحيا هذه الليالي وهو سائرٌ راجل، وجعله نعله ناقته من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المنتعل راكبٌ " ثم بين مخالفته حالها بحال الناقة من وجهين: أحدهما أنها لا تقبل الرديف ولا تسع غير رجله، الثاني أنها لا تجهد بالسوط يوم المراهنة؛ لأنه ليس لها فعل في السباق، ولا سرعة ولا إبطاء، ثم زاد في الدلالة على المخالفة فقال:
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها
الكور: الرحل، والمشفر: الشفة، والمقود: الحبل يقاد به الناقة، والزمام: السير المفتول.
شبه نعله بالناقة، وشراكها بالكور؛ لأنه يعلو ظهر الناقة، كالشراك يعلو النعل، وهو السير المعترض على القدم المشدود إلى جانبي النعلن والزمام: هو السير المشدود جانب منه إلى الشراك، وجانب إلى الشسع، والشسع: السير الذي يكون بين الأصبعين، فشبه كل آلة من النعل بشيءٍ من آلات الناقة.
أشد عصف الرياح يسبقه ... تحتي من خطوها تأيدها
عصف الرياح: شدة هبوبها. والهاء، في يسبقه: يرجع إلى العصف المضاف إلى الرياح، والتأيد: قوة الخطو، من الأيد وهو القوة.
يقول: قوة خطوها تحتي تسبق أشد عصف الرياح لأنها تبقى بعدها، وتفتر الرياح، وعنى بذلك قوة نفسه وسرعة مشيه.
وقيل: أراد بالتأيد: التثاقل والتثبت، كأنه جعل أهون سيره على النعل فوق أشد الهبوب للرياح مبالغة وكأنه قال: تثبت خطوها يسبق أشد الرياح فيصف قوته.
في مثل ظهر المجن متصلٍ ... بمثل بطن المجن قرددها
القردد: الأرض الصلبة. وقيل: ما انخفض من الأرض الناتئة.
يصف طريقه إلى الممدوح، وشبه ما ارتفع منه بظهر المجن، وما انخفض منه ببطن الترس، وبين أن بعض طريقه كان صعوداً وبعضه كان هبوطاً وذلك دلالة على فضل المشقة.
فيقول: تأيد خطوها، يسبق أشد هبوب الرياح، في طريقٍ مثل ظهر المجن ارتفاعاً، متصل بطريق مثل بطن المجن انخفاضاً، والأصل في هذا التشبيه قول الأعشى:
وبلدةٍ مثل ظهر الترس موحشةٍ ... للجن بالليل في حافاتها زجل
وقيل: إنه شبه ابتداء سفره إليه بظهر المجن، إشارة إلى أنه كان موحشاً، وانتهاءه ببطنه، لما أدى إلى لقاء الممدوح، إشارة إلى أنه كان مؤنساً؛ لأن ظهر المجن يلي العدو وبطنه يلي نفس من حمله، والأول أقوى. ويجوز في متصلٍ: الرفع على الابتداء أو خبره، والجر على أنه صفة لمثل، أو بدل له.
مرتمياتٌٍ بنا إلى ابن عبي ... د الله غيطانها وفدفدها
روى: في مرتمياتٍ: الرفع على أن يكون خبراً لغيطانها وفدفدها، وتكون هي مبتدأ، وروى بالكسر فتكون في موضع النصب، على أن تكون حالاً سادةً مسد خبر المبتدأ. والغيطان: جمع الغائط وهو المطمئن من الأرض، والفدفد: ما نشز منها.
يقول: رمت بنا هذه الغيطان والفدفد إلى ابن عبيد الله: الذي هو الممدوح، يذكر مشقته ليكون أقرب إلى الإكرام.
إلى فتىً يصدر الرماح وقد ... أنهلها في القلوب موردها(1/4)
إلى: يتصل بقوله: مرتمياتٍ والإيراد: أراد به إورادها وهو الإتيان بالمواشي إلى الماء، والإصدار: صرفها عنه بعد الري. وقوله: أنهلها: من النهل، وهو في اللغة: الشربة الأولى، وروى موردها وهو مصدر ورد، ويجوز أن يكون مكان الورود وهو جسم المطعون، وهو رفع على أنه فاعل أنهلها.
يقول: رمت بنا هذه المفاوز إلى فتىً يسقى رماحه من دم قلب عدوه، ويصدرها عنه وقد رويت من الدم. والهاء في أنهلها للرماح، وخص القلوب لأنها أولى المقاتل.
له أيادٍ إلي سابقةٌ ... أعد منها ولا أعددها
وروى: سابقةٌ وسابغةٌ أي تامة. والأيادي: النعم.
يقول: إن له علينا نعماً سابقة، لا أقدر أن أحصيها من كثرتها، غير أني أعد من تلك النعم، وأوجد منها، يشير إلى أنه خلصه من يد عدو له، أو أنه جنى عليه بما يستحق القتل، فوهب له نفسه، ومثله:
لا تنتفنى بعدما رشتني ... فإنني بعض أياديكا
وروى أعد منها يعني: أعد بعض هذه النعم، وأما جميعها فلا أقدر أن أحصيها لكثرتها، لأن من للتبعيض.
يعطى فلا مطله يكدرها ... بها ولا منه ينكدها
الهاء في بها وفي يكدرها وفي ينكدها: للأيادي. وتقدير البيت: يعطى فلا مطله به لأن المطل يتعدى بالباء، وينكدها.
يقول: يعطى من دون مطلٍ بما يعطيه، ولا مدافعة ينكد بها، ولا يمن به إذا أعطى، فكأنه قال: له أياد لا يكدرها مطلٌ ولا ينكدها منٌّ فكأنه أخذه من قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ومثله للحكمى:
فما في جوده منٌّ ... ولا في بذله خسرُ
خير قريشٍ أباً وأمجدها ... أكثرها نائلاً وأجودها
المجد: الشرف، والهاءات: للقبيلة، التي هي قريش؛ وأباً ونائلاً: منصوب للتمييز، وكان هذا الممدوح علوياً، وليس في قريش خير من بني هاشم خيرٌ من العلوية؛ فلهذا قال: خير قريش أباً، ففضله في نفسه، ثم في مجده، ثم في سخائه.
وقريش: اسم لمن ولده النضر بن كنانة، وقيل لمن ولده فهر بن مالك؛ والأصح هو الأول.
أطغنها بالقناة أضربها ... بالسيف، جحجاحها مسودها
الجحجاح: السيد الممتلىء كرماً، والمسود: هو الذي اتفق الناس على سيادته. فقيل: هو المخاطب بالسؤدد، وذلك عن أجداده، وهذا أبلغ في الجلالة، وإنما قيد الطعن بالقناة، والضرب بالسيف؛ إما تأكيداً كقولك: رأيت بعيني، وإما لأن الطعن قد يكون بغير القناة من اللسان وغيره، كذلك قد يكون بغير السيف، كالخشب ونحوه، وليس في ذلك مدح. فرفع الإشكال بالتقييد، والجحجاح والمسود يعني: السيد المسود.
أفرسها فارساً وأطولها ... باعاً ومغوارها وسيدها
فارساً: نصب على الحال.
يقول: إن هذا الممدوح أفرس قريش، في حال كونه راكباً للفرس، فدل به علىأنه إنما يركب الفرس في بعض الأحوال، إذ ركوبه في جميع الأحوال من عادات الرائضين، وقيل: إنه نصب على التمييز.
والمعنى أنه أفرس من سائر فرسان قريش، كقولك: هو أجود قريش جواداً، وقيل: إنه أراد به: أفرسها فروسيةً. أي فراسة، ويكون أيضاً نصب على التمييز، وقوله: أطولها باعاً. كناية عن مد يديه بالعطاء، أو يكون كناية عن نيله كل ما يريد بفضل قوته وقدرته، والمغوار: كثير الغارة
تاج لؤي بن غالبٍ وبه ... سما لها فرعها ومحتدها
لؤي بن غالب: اسم جد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو قريش، وأراد به: القبيلة، والمحتد: الأصل الكريم، وأراد بالمحتد هاهنا: السلف، وبالفرع: الخلف منهم.
يقول: إنه تاجهم وغرتهم، وإن علوهم به، خلفاً وسلفاً، لانتسابهم إليه.
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
الضحا: ارتفاع النهار، والتقاصير: جمع التقصار وهي القلادة القصيرة.(1/5)
بين أن قريشاً يستضيئون بنوره، وجعلوه لأنفسهم كالشمس والهلال، في نهارهم وليلهم، وأضاف الشمس إلى الضحا؛ لأنه اسمٌ لأوائل النهار، وأضاف الهلال إلى الليلة لأنه يسمى هلالاً في أوائل الشهر؛ ليدل على حداثة سن الممدوح، وأن فيه رجاء الزيادة والنماء، وأنه منظور إليه، يرمقه الناس ويصدرون عن أمره ونهيه، ويحكم فيهم بحكمه، وذلك مختص بالهلال، إذ لا ينظر إلى البدر كما ينظر إلى الهلال، ولا يتعلق بالبدر ما يتعلق بالهلال من الأحكام، ثم بين أن قريشاً بمنزلة القلادة زينة، أراد أن الناس يتزينون بهم، إذ هم رؤساؤهم، وأن الممدوح أجل أولئك السادة قدراً، وأعظمهم خطراً لأن أجل ما في القلادة الدر والزبرجد، فكأن الناس يتزينون بهم، وهم يتزينون به.
يا ليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له، محمدها
أتيح: أي قدر.
وتقدير البيت: يا ليت بي ضربةٌ أتيح لها محمدها كما أتيحت له؛ كان الممدوح أصابته ضربةٌ في وجهه في غزو الكفار، فتمنى هو أن تلك الضربة كانت به دون الممدوح، تفديةً له بنفسه أو تسلية حيث يسعد بها الممدوح، لأنه كثر بسببها عليه الثناء، وكتب له من أجلها الثواب؛ ولفظ الإتاحة؛ تنبيهاً على أنها كانت اتفاقاً وفجاءةً، لا عن فضل قوة الضارب على الممدوح، فدل بذلك على شجاعة الممدوح؛ أو يكون إتاحة الضرب له من حيث أنه نوه بذكرها وبذكر من سبب إليها، والحديدة التي وقعت بها، فكأنه كسب له الفخر، وكسبت هي له السعادة والثناء وجزيل الثواب.
وقد كان يستقيم المعنى من دون أن يذكر محمدها ويكون تقدير البيت: في ضربة أتيح لها، كما أتيحت له. لأنه صرح بذكره للحاجة إليه، وإن لم يكن في ذلك إحالة المعنى.
أثر فيها وفي الحديد وما ... أثر في وجهه مهندها
المهند: السيف المنسوب إلى الهند، والهاء في فيها، وفي مهندها لضربة، وتأثيره في الضربة على معنيين: أحدهما أن يكون سلاحه قد عطل وأبطل تأثيره بشجاعته فلم تؤثر ضربته فيه تأثير مثلها، فلما كان كذلك صار كأنه لم يكن للضرب، ولا للحديد تأثيرٌ فيه، فيكون غرضه أن الضربة لم تعمل في الممدوح، أو عملت عملاً قليلاً يخالف قصد الضارب، إذ أراد أن تعمل عملاً عظيماً.
والثاني أن يكون قد جعل الممدوح مؤثراً في الضربة والحديد، من حيث أن الضربة وقعت على الوجه فزانته، وما شانته، لأنها دلالة الشجاعة؛ فلما كان كذلك فكأن الضربة والحديد لم يؤثرا فيه؛ لأن تأثيرهما في الشين والإيلام، وإذا كان على ما ذكرنا؛ فكأنه لا ألم فيه ولا شين، والأظهر أن يكون تأثيره في الضربة والحديد من أنه نوه بذكر تلك الضربة وشرفها وشرف الحديد وقلله، فكأنه قال: أثر في الضربة بالتشريف وفي السيف بالتفليل، وأثر السيف فيه تأثير مثله من الوجه الذي بيناه وعلى هذا يدل البيت الذي يليه وهو قوله:
فاغتبطت إذ رأت تزينها ... بمثله والجراح تحسدها
الجراح: جمع جراحة، والهاء في تزينها، وتحسدها للضربة، ورأت من رؤية العين وهي استعارة ها هنا.
يقول: إن الضربة فرحت بحصولها في جسمه وحلولها ببعض أجزائه، وسائر الجراح تحسد هذه الضربة لأجل ذلك، وفي هذا تنبيه على أنه كان هناك جراحة، فكأنه يقول: إذ رأت تزين نفسها لأن الهاء فيها للضربة، وقوله: بمثله. فيه زيادة مبالغة؛ لأن تزين الضربة إذا حصل بوقوعه بمثل الممدوح، فلأن يحصل إذا وقع به أولى، وروى بوجهه أي بوجه الممدوح وهو أظهر الروايتين.
وأيقن الناس أن زارعها ... بالمكر في قلبه سيحصدها
الهاء في قلبه للزارع. يقول: إن زارع هذه الضربة في وجهه بالمكر، سيحصدها: أي أن عاقبة أمره تئول إلى أن ينتقم منه ويقتله، وذكر المكر يدل على أن هذا الضرب حصل اغتيالاً ومكراً لا مبارزة ومقاومة! وقوله: في قلبه: يحتمل أن يكون ظرفاً للمكر، يعني أنها حصلت بالمكر الذي كان في قلبه، دون أن يظهر ذلك له، إذ لو ظهر لعجز عنه، ويحتمل أنه سيحصد هذه الضربة في قلبه، يريد أنه سيقتله؛ لأن القلب مقتل، ويجوز أن تكون الهاء في قلبه للمدوح، كأنه قال: أيقن الناس أن زارع هذه الضربة في قلب الممدوح سيحصدها، فشبهها بالبذر وشبه الجزاء بالحصاد.
أصبح حساده وأنفسم ... يحدرها خوفه ويصعدها
يحدر بالفتح أفصح. يقال: حدرت السفينة أحدرها حدراً فانحدرت. وأحدرت لغةٌ ضعيفة.(1/6)
يقول: فزع الحساد منه فزعاً عظيماً بحيث لا قرار لهم من الخوف، حتى كأن ما بهم من الخوف يحدر أنفسهم مرةً ويصعدها أخرى، وهذا الفزع يجوز أن يكون من حيث أنهم خافوا أن يعظم محله بانتقامه منهم، أو خافوا نفس الانتقام.
تبكي على الأنصل الغمود إذا ... أنذرها أنه يجردها
لعلمها أنها تصير دماً ... وأنه في الرقاب يغمدها
الهاء في أنذرها، وفي يجردها، للأنصل. وفي علمها للغمود، وفي أنها للأنصل، وكذلك في يغمدها والضمير في أنه للمدوح وقوله: تصير دماً أي تختضب بالدماء.
يقول: تبكي الغمود على الأنصل إذا أعلمها الممدوح، وخوفها أنه يجردها ويخرجها من غمودها، وإنما تبكي الغمود لأنها تعلم أنها تصير دماً، وأنه يغمدها في رقاب أعدائه، فيجعل رقابهم أغماداً لها بعد إغماده إياها في أغمادها، ومثله لحسان قوله:
إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها
أطلقها فالعدو من جزعٍ ... يذمها والصديق يحمدها
الهاء في أطلقها وفيما بعده للأنصل، وإطلاقه لها لقتلهم بها. إطلاق يده بالضرب بها في الأعداء.
يقول: يذم العدو هذه السيوف التي أطلقها الممدوح، لعلمهم أنه يقتلهم بها، والصديق يثني عليها لأنها تكسبه العز لما تجلبه من الظفر للمدوح، وبين أن العدو يذمها جزعاً؛ ليدل على أنها غير مذمومة في الحقيقة، وحقق ذلك بقوله: والصديق يحمدها.
تنقدح النار من مضاربها ... وصب ماء الرقاب يخمدها
قدحت النار فانقدحت، والمضارب: جمع مضرب، وهو حد السيف الذي يضرب به.
يقول: تقطع هذه السيوف ما تحتها مما تصيبه حتى تصل إلى الأرض وتهوي فيها، ولا يردها إلا حجرٌ يقدحها، ويتبعها الدم من الموضع الذي أصابته فيخمدها.
وقيل: إن انقداح النار: حين قدت اللحم وقطعت العظام فتقدح منها النار من شدة الوقع، ثم انصب عليها الدم فأخمدها.
إذا أضل الهمام مهجته ... يوماً فأطرافهن تنشدها
أي أنها تطلب الهمام: وهو الملك العظيم الهمة، والذي إذا هم بالأمر أمضاه، وقد روى: أطرفهن بفتح الفاء وينشدها بالياء وفتحها، وكذلك بالتاء وفتحها، من نشدت الضالة: أي طلبتها، وروى فأطرافهن بضم الفاء وتنشدها بالتاء وضمها، من أنشدت الضالة: إذا عرفتها.
والمعنى على الأول: أن الهمام إذا اشتد عليه القتال حت أضل مهجته فيه، وهو أن يصادفها مجروحة أو مقتولة، فإنه يطلبها عند أطراف سيوف هذا الممدوح؛ لأن من شأنها إصابة مهج الملوك. ويكون نصب أطرافهن على الظرف، تقديره: أطرافهن تنشدها، أو يكون المراد بإضلالها: أن يذهل عنها فزعاً، فيكون كأنه أضلها، فعند ذلك يطلبها من أطراف سيوفه لاعتيادها لأرواح الملوك، فهي التي تدل كل ملك على مهجته إذا قتلت، أو جرحت فلم يهتد لها، ولم يقدر على ارتجاعها فإن أطراف سيوفه هي التي تدل عليها. وتقول: هي عندنا. إذ هي موكلة بمهج الملوك وسالبةٌ لها، ويحتمل أن يكون المراد به أن أطراف سيوفه تنشد للهمام مهجته عند إضلاله إياها وإشرافه لها على الهلاك، وتنقذها من الضلال فتكون هي الناشدة لها، وقد روى بدل: الهمام الشجاع.
قد أجمعت هذه الخليقة لي ... أنك يا ابن النبي أوحدها
وأنك بالأمس كنت محتلماً ... شيخ معدٍّ وأنت أمردها
الإجماع: اتفاق الكلمة على الشيء، والخليقة: البرية. والأوحد: الذي لا ثاني له، والهاء فيه للخليقة، وأراد بأنك: أنك وأجراها مع المضمر كالمظهر من قوله:
كأن ثدييه حقان
ومحتلماً: نصب على الحال، وشيخ معدٍّ: نصب بخبر كان، وروى: وأنت بالأمس مكان وأنك.
يقول: قد اتفقت البرية كلهم يا ابن رسول الله على أنك أوحد هذه البرية؛ وإنما قال ذلك؛ لأنه علوي، ولا خلاف في شرفهم، واتفقتْ أيضاً أنك كنت بالأمس في حال احتلامك شيخ هذه القبيلة المنتسبة إلى معد بن عدنان ورئيسهم، وأنت حينئذ أمرد، فكيف بك اليوم وقد علا سنك، وقد جربت الأمور، فإذا كنت قد سدتهم في أول أوان البلوغ فالآن أنت بالسيادة أولى.
فكم وكم نعمةٍ مجللةٍ ... ربيتها كان منك مولدها(1/7)
يجوز في نعمةٍ الفتح على الاستفهام، والجر على الخبر، وهو أجود؛ لأنها أدل على الكثرة، ومجللةٍ: بفتح اللام على معنى مبهمة ومعظمة، أو محكوم لها بالجلال، وبكسرها على معنى أنها تنسب إلى الجلال والتعظيم فهي مجللة.
يقول: وكم من نعمة عظيمة ابتدأت بها، ثم أتبعت مثلها، وجعل ابتداءها: ولادةً. وإدامتها: تربيةً.
وقد روى: ربيتها بضم التاء، والمعنى على هذا: أني شكرتها فاستوجب لها المزيد، فكنت كالمربي لها.
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إلي موعدها
الموعد: وقت الوعد، لإنجاز الحاجة.
يقول: كم حاجةٍ وبغيةٍ جاد الممدوح بها وقضاها لي، وكان موعدها في الإنجاز أقرب من نفسي إلى نفسي، يريد بذلك أنه يبتدىء بالعطاء من غير تقديم وعدٍ؛ لأن قربه على هذا الحد كناية عن فقد الوعد.
أو يريد طريقة الصوفية؛ كأنه فضل نفسه، أي أن وقت حضور موعده أقرب إلي من نفسي إلى نفسي، والأول أولى. وروى: أقرب شيء إلي موعدها وهو أظهر في المعنى والأول أبلغ وأفصح.
ومكرماتٍ مشت على قدم البر ... ر إلى منزلي ترددها
المكرمات: جمع مكرمة، وأراد بها الخلع، والهدايا، والمشي استعارة هاهنا. قد جعل للبر قدماً يمشي بها.
يقول: كم من مرة رددتها إلى منزلي ماشيةً على قدم برك وإحسانك. وقيل: دل بقوله: على قدم البر على أن الخاطئين كانوا له من جملة الهدايا، وفي خير العطايا، كأنهم كانوا غلماناً وجواري أهداهم إليه.
وروى: ترددها، وترددها فالأول خبر، والثاني مصدر، والمعنى واحد.
أقر جلدي بها علي فلا ... أقدر حتى الممات أجحدها
يقول: أقر جلدي بها علي لكثرتها وظهور أثرها على بشرتي ونضارة وجهي بها، وحسن حالي بسببها، فلست أقدر ما عشت أن أجحدها؛ لأني إذا جحدتها شهدت علي؛ وهو مأخوذ من قوله تعالى: " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " ومثله قول الشاعر:
إذا ما جحدنا جوده ظل شاهداً ... جوارحنا مهما أقمنا على الجحد
ويحتمل أنها كانت من جملة الملبوس؛ فلهذا خص الجلد بذكره ونزل أجحدها منزلة المصدر، وتقديره فلا أقدر على جحودها، ويجوز أن يكون الأصل أن أجحدها غير أنه حذف أن فوقع الفعل بعده كقوله فيما تقدم: قبيل أفقدها.
فعد بها لا عدمتها أبداً ... خير صلات الكريم أعودها
عد بها: أي أعدها لا عدمتها: دعاء، لإبقاء مكرماته، وهو حسنٌ مليح، وأعودها: أدومها عادة.
يقول: قد عودتني مكرماتك، فأعدها لا عدمتها مدى الدهر، فإن خير الجوائز ما تدام عادتها، وتعاد، وقوله: لا عدمتها أبداً: وإن كان دعاء للنعم بالبقاء، فهو يتضمن الدعاء للمدوح بدوام القدرة على الإحسان، وقوله: خير صلات الكريم أعودها. مثلٌ له.
وقيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة؟! فقال ارتجالاً:
لا تحسن الشعرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال
أراد بالشعرة هاهنا: جملة الشعر الذي كان على رأسه، ولم يرد الشعرة الواحدة. وروى مكانها الوفرة، والضفرين: الضفيرتان. وهما من ضفرت السير أي فتلته.
يقول: لا تحسن هذه الوفرة حتى تنشر يوم القتال؛ لأن من عادة العرب أنهم يكشفون عند الحرب رءوسهم وينشرون شعورهم، وهو يظهر من نفسه حب الحرب؛ تنبيهاً على شجاعته.
على فتى معتقل صعدةً ... يعلها من كل وافي السبال
الاعتقال: أن يضع الفارس رمحه بين ركابه وساقه، ويمسكه بفخذه. والصعدة: القناة المستوية، وقيل: هي ما صغر من الرمح، ويعلها: يسقيها من العلل وهي الشربة الثانية، والهاء في يعلها للصعدة.
يقول: لا تحسن شعرتي هذه حتى تراها منشورة يوم القتال، على فتىً، وهو يعني به نفسه. وقد اعتقل رمحه، يسقيه من دم وافي السبال.
فكأنه يقول: إنما تحسن الوفرة على من لا سبال له، وهو أمرد؛ يقاوم الملتحي عند المقاتلة، لأن السبال لا يكون وافياً إلا إذا كان تام اللحية. ينبه بذلك على فضل قوته وشجاعته.
وقيل: إن وافي السبال كناية عن الشجاع. لأن أهل الحرب كانوا لا يحفون شواربهم حتى يكون أهيب لهم عند القتال.
وقيل: إنه تعريض بالمتعجب من الشعرة. وكان من أصحاب اللحية الضخمة.
يقول: لا تحسن الشعرة حتى تكون علي وقد اعتقلت رمحي أسقيه من دم كل علج طويل اللحية، وافي السبال مثلك أيها المتعجب من وفرتي.(1/8)
هذه، وروى أنه قال: ربما أنشدت على فتىً في يد صعدة ويقال عل يعل ويعل بالكسر لغة قيس، والضم لغة تميم.
وقال أيضاً في صباه:
محبي قيامي ما لذلكم النصل ... برياً من الجرحى سليماً من القتل
تقديره: يا محبي قيامي. وهو نداء مضاف، خطاب للجماعة. ودل عليه قوله: ذلكم. والقيام بمعنى الإقامة والمقام، وقد روى أيضاً محبي مقامي. كأنه يخاطب أهله وعياله.
ويقول: يا من يحب إقامتي وتركي الأسفار والمطالب. كيف أفعل ما تحبون: من إقامتي معكم، ولم أجرح بنصلي أعدائي؟! وأورد ذلك مورد الإنكار على أهله حين أشاروا عليه بالقيام عندهم.
وقيل: إنهم استنصروه وسألوه الوقوف معهم فقال: يا من يحب مقاتلتي العدو معهم: ما لنصولكم متنحية عن هرج أعدائكم، غير منكسرة من كثرة القتل! فإن م حق المستنجد أن يتسم أولاً للحرب، ويبلى جهده، ثم يستنصر غيره: فأما أن ينتحي ويغري غيره على الحرب فليس من حقه! ويحتمل أن يكون القيام من قولهم: قام بالأمر إذا تولاه وسعى فيه.
والمعنى: يا من يحب قيامي بأموره وترك فراقه، ما لذلكم النصل لم أجرح به ولم أقتل؟ فكأنه يقول: لا أختار القيام بأمورك على حال أن ذلك النصل لم يؤثر في الأعداء جرحاً وقتلاً، يعني أن أعمال النصب أحب إلي من القيام عليك. ونصب برياً وسليماً على الحال من النصل.
أرى من فرندى قطعةً في فرنده ... وجودةُ ضرب الهمام في جودة الصقل
فرند السيف: جوهره. بالغ في وصف نفسه بالمضاء والشجاعة وفضل نفسه على السيف حيث جعل فرند السيف قطعة من فرنده وبعضاً منه! ثم قال: وجودة ضرب الهمام في جودة الصقل، وظاهر معناه: أن السيف إذا كان صقيلاً جيد الصقال كان ذلك سبباً لجودة ضرب الهمام؛ وهذا مما لا يستمر، لأن جودة الصقل قد توجد، ولا يكون متضمناً لجودة الضرب، وذلك إذا لم يكن للسيف جوهر كريم، غير أنه أثبت أولاً للسيف جوهراً كريماً ثم أخبر عن صقاله.
فكأنه يقول: كيف أترك النهوض وأقعد عن محاربة أعدائي؟! ولي جوهر في المضاء والشجاعة، وللحرب آلة موفورة، وهو السيف الذي فيه الجوهر الكريم والصقل الجيد.
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
أراد بالخضرة الأولى: الرفاهية: في العيش، فجعل للعيش ثوباً أخضر، كناية عن طيب العيش لأن الخضرة أشهى إلى النفوس، لميلها إليها دون سائر الألوان، وقال في بيت آخر:
والعيش أخضر والأطلال مشرقة
وأراد بالخضرة الثانية: لون السيف، وكأنه وضعها في موضع الزرقة للتجنيس. واحمرار الموت: كناية عن احمرار الدم على السيف عند الضرب، وقد كثر حتى وصف به الشدة، يقال: موت أحمر، ومدرج النمل: ممره، وأراد به ما يرى في متن السيف من جوهر كأنه ممر النمل.
يقول: أرى خصب العيش وطيبة النفس في السيف الكريم الجوهر، الجيد الصقل، وهو المعبر عنه بالخضرة التي أرتك شدة الموت في مدرج النمل، وقصد به المبالغة في تصويب رأيه فيما اختار من النهوض وقصد محاربة الأعداء وقتلهم وجرحهم.
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي
أمط: أي أبعد.
وقد أكثر الناس في هذا البيت: من حيث أن ما ليست من أدوات التشبيه.
فقال ابن جنى: إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول: تفسيره أنه كان كثيراً ما يشبه فيقال: كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضاً عن هذا القول: أمط عنك تشبيهي بما وكأن، فجاء بحرف التشبيه وهو كأن وبلفظ ما التي كانت سؤالاً فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل ما للتشبيه لأن جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعاً.
قال: وقد نقل أهل اللغة مثل هذا فقالوا: الهمزة والألف في حمراء هما علامتا التأنيث، وإنما العلامة في الحقيقة الهمزة.
وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني: إن المتنبي سئل فذكر: أن ما تأتي لتحقيق التشبيه كقول عبد الله الأسد: ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلاً قال: ما هو إلا كذا، وآخر قال: كأنه كذا، فقال أمط عنك تشبيهي بما وكأنه. وما في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى ما وكأن، إذا كان له هذا الأثر.(1/9)
وذرني وإياه وطرفي وذابلي ... نكن واحداً نلق الورى وانظرن فعلي
الهاء في إياه: للنصل. والطرف: الفرس الكريم.
يخاطب من يشبهه بشيء فيقول: دعني مع فرسي وسيفي المذكور، ورمحي، حتى نصير مثل الشيء الواحد في التعاون، نلقي الخلق طراً، ثم انظر فعلي عند ذلك حتى تعلم ما يمكنك أن تشبهني أم لا؟ وأشهر الروايتين يلقى حملاً على الواحد وروى: نلقى اتباعاً لقوله: نكن حملاً على المعنى.
وقال وهو في المكتب يمدح إنساناً وأراد أن يستكشفه عن مذهبه:
كفي أراني، ويك، لومك ألوما ... همٌّ أقام على فؤادٍ أنجما
الخطاب للعاذلة، وويك: قريبة من ويحك، وأنجم: أقلع.
وقال ابن جبي: تقدير البيت: كفي ويك، أراني هم أقام على فؤادٍ أنجما، لومك ألوم.
ويكون أراني على هذا منقولاً من رأيت بمعنى: علمت، فيتعدى إلى المفعولين، وإذا عديته بالهمزة تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والفاعل ها هنا هم والمفعول الأول الياء في أراني والثاني لومك والثالث ألوما.
ويكون المعنى: إن الهم الموصوف أعلمني أن لومك إياي أولى بأن يلام، فعلى هذا يكون المصراع الأول متعلقاً بالثاني.
وقال غيره: إن أراني مضارع رأيت بمعنى علمت، فيكون المراد: أرى نفسي، لأن أفعال اشك واليقين يجوز فيها مثل ذلك، ويكون لومك مفعول كفى وألوم المفعول الثاني، من أراني، والمفعول الأول هو الياء.
والمعنى: كفي ويك لومك فإني أراني ألوم منك، أي أكثر لوماً منك، وأحق بأن يلومك على لومك إياي؛ وعلى هذا، المصراع يكون مستقلاً بنفسه، ثم ابتدأ في المصراع الثاني يشكو داءه، وقوله: على فؤادٍ أنجما. أي خارج خلف الأحباب منقلع من أصله كإقلاع السحاب فيكون همٌّ مرفوعاً، لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: حالي همٌّ هذه صفته، أو يكون مبتدأ وخبره محذوف تقديره: همٌّ هذه صفته شكواي وألوم على المعنى الأول في معنى الملوم، أي أحق بأن يكون ملوماً فيكون في أفعل مبالغة في المفعول مثل أشغل من ذوات الحنين مبالغة في المشغول، وعلى الثاني بمعنى اللائم أي أقدر على أن يكون لائماً فيكون أفعل المبالغة في الفاعل، وروى: أثجما بالثاء أي أقام وهذا أولى، لأنه يفيد أن الفوائد لم يقلع بالملام عن الهوى.
وخيال جسمٍ لم يخل له الهوى ... لحماً فينحله السقام ولا دما
خيال عطف على هم شبه جسمه بالخيال الذي لا حقيقة له لدقته، وأخبر أن الهوى لم يترك له لحماً ولا دماً يكون للسقام فيه تأثير، وينحله: أي يعطيه من النحلة، وقيل: هذا أولى؛ لأن النحول لا يكون في الدم.
وحقوق قلبٍ لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما
وحقوق عطف على خيال وهو الضعف والاضطراب، ورأيت خطاب للمحبوبة دون العاذلة؛ بدلالة قوله: يا جنتي وهو حشوٌ حسنٌ؛ والغرض: المطابقة بين الجنة وجنهم.
يقول: لي اضطراب قلبٍ لو رأيت لهيبه يا جنتي لظننت فيه ألهاب جهنم؛ شبهها بالجنة لحسنها ومافيها من الراحة عند وصلها.
وإذا سحابة صد حبٍ أبرقت ... تركت حلاوة كل حبٍّ علقما
الحب: المحبوب والعلقم: شجر ذو ثمر مرٍّ.
يقول: إذا ظهرت دلائل هج الحبيب، تركت حلاوة كل حب مرارةً، فجعل علامة الصدود سحابة، لأنها علامة الهجر، كما أن السحابة علامة المطر.
يا وجه داهية الذي لولاك ما ... أكل الضنا جسدي ورض الأعظما
الضنا: طول المرض، وقيل: داهية، ولهذا لم ينونها كما لا ينون الأسماء الأعلام عند التأنيث كفاطمة، وقيل: إنها كناية عنها وليس باسم لها، وإنما لم ينونها لأنه أقامها مقام اسمها من ترك التنوين كما تقول: رأيت فلانة فلا تنون.
يقول: يا وجه الحبيبة التي هي كالداهية: وهي الأمر العظيم، لولاك ما أكل المرض جسمي وما كسر عظمي، يدل به على أن هواها قد أمرضه مرضاً أثر في جسمه وعظامه!
إن كان أغناها السلو فإنني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما
روى منها رداً إلى المحبوبة، ومنه رداً إلى السلو، وروى: معدما ومصرما.
يقول: إن كان أغنى هذه المرأة عني خلو قلبها عن محبتي، فإني أمسيت فقيراً منها ومن كبدي؛ لأنها قد صحبتها وفارقتني إليها فعدمتها، وعدمت الصبر الذي كان في قلبي وكبدي، ولأن الكبد تلفت في محبتها.
غصنٌ على نقوى فلاةٍ نابتٌ ... شمس النهار تقل ليلاً مظلماً(1/10)
يجوز في غصنٌ أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: حبيبتي، غصن هذه صفته، وهكذا التقدير في شمس النهار، وأراد بالغصن: قدها، والنقوى: تثنية النقا: وهو الكثيب من الرمل، وعني بهما ردفيها، وبشمس النهار: وجهها، وتقل: تحمل، والليل المظلم: شعرها.
لم تجمع الأضداد في متشابهٍ ... إلا لتجعلني لغرمي مغنما
أراد بالأضداد ما تقدم في البيت المتقدم من دقة وسطها، وثقل ردفيها، وبياض وجهها، وسواد شعرها، في متشابه أي بدن متشابه، أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن، وليس بعضها أحسن من بعض، والغرم: ضد الغنم وأصله اللزوم.
يقول: إنها لم تجمع هذه الأضداد في بدن متشابه في الحسن، إلا لتجعلني لغرمي: أي لعشقي إياها غنيمة، فتجمع علي هذين الضدين أيضاً، وهما: المغرم والمغنم، وروى: لم تجمع الأضداد لأنها لم تجعل ذلك، فبنى على ما لم يسم فاعله.
كصفات أوحدنا أبي الفضل التي ... بهرت فأنطق واصفيه وأفحما
أي صفات هذه المرأة في اشتمالها على هذه الأضداد، كصفات هذا الممدوح المشتملة على أمرين ضدين: أحدهما: أنها أنطقت الواصفين بذكرها.
والثاني: أنها أفحمت الواصفين دون إدراك غاياتها، وروى المتنبي: أنطقهم بجزيل العطاء، وأفحمهم بالقصور عن المدح والثناء. فعلى هذا نصب واصفيه، بأنطق، وقيل: تقديره كصفات أبي الفضل التي بهرت واصفيه. فأنطق: هو وأفحم.
يعطيك مبتدئاً فإن أعجلته ... أعطاك معتذراً كمن قد أجرما
يقول: يعطيك مبتدئاً بالعطاء قبل السؤال، فإن استعجلته العطاء، أعطاك معتذراً، كمن قد أذنب.
ويرى التعظم أن يرى متواضعاً ... ويرى التواضع أن يرى متعظما
المعنى: أنه يرى بلوغ عظمته في التواضع للناس، ويرى التذلل في حال رؤية الناس إياها متعظماً.
نصر الفعال على المطال كأنما ... خال السؤال على النوال محرما
الفعال بفتح الفاء: الفعل الجميل.
يقول: ينصر الفعل الجميل على المطال ويجعل له الغلبة، حتى كأنه ظن السؤال محرماً، وروى: على المقال وهو: إما السؤال، وإما وعد الممدوح بالعطاء، فكأنه يقول: يقدم العطاء على السؤال وعلى الوعد.
يا أيها الملك المصفى جوهراً ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
يقول: يا أيها الملك المصفى، يا أسمى، وأراد ذات الله تعالى: الذي هو ذو الملكوت، وهذا ظاهره يوهم الكفر ويقال: إن هذا الممدوح كان نصرانياً فأظهر الإسلام وهو متهم بالتنصر، فأراد أن يستكشفه عن مذهبه فأورد عبارات النصارى على وجه الانتحال، وغرضه استكشاف حاله ووصف منهجه، فعلى هذا لا يلزم الكفر، ويجوز أن يحمل على أن المراد بالذات: الصنع، فكأنه قال: يأيها الملك المصفى جوهراً من صنع ذي الملكوت، وأراد بذلك تعظيمه وتفضيله. وقوله: أسمى من سما يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، فكأنه يقول أنت أعلى من علا، ويجوز أن يكون في الجر صفة لذات ذي الملكوت، أو الذات أو الملكوت، أي أنه أعلى من كل علاً في الأرض.
وروى عنه أنه قال: نعوذ بالله تعالى من الكفر، إنما قلت جوهراً وبينهما تضمين يزيل الظن.
نورٌ تظاهر فيك لاهوتيةً ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
تظاهر: أي تولى. ولاهوتيةً: نصب على المصدر كما يقال: إلهية وروى لاهوتيه ويكون رفعاً لأنه فاعل تظاهر، وهذا، إذا حمل على ظاهره فلا يسلم من الكفر، فيحمل حينئذٍ على أنه أراد به أن النور الذي تفرد به هذا الممدوح نور إلهي. كما يقال: أمر سماوي وإلهي فيكاد يعلم ما لم يعلم من أجل هذا النور، فكأنه يقول: إنك مؤيد بنور، لأجله تقرب من أن تعلم ما لا يعلمه أحدٌ من الأمور.
ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً ... من كل عضو منك أن يتكلما
يقول: يهم كل عضو منك إذا تكلمت لفرط فصاحتك.
أنا مبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالإله فأحلما
يقول: أنا مبصرٌ بعيني وأظنني نائماً، من استعظام ما رأيت من هذا الرجل من العظائم والأمور العجائب!! ثم قال: من كان يحلم بالإله فأحلم أنا أيضاً! أي أنه لا يمكن أن يرى في المنام لأنه لا يشبهه شيء فشبه هذا الممدوح بما لا يجوز التشبيه به فقال: لا أدرك كنه وصفك، كما لا يدرك حقيقة ذات الباري تعالى. وهذا إفراط منكر قريب من الكفر.(1/11)
وقيل: إن في الكلام حذفاً، كأنه قال: من كان يحلم بصنع الله تعالى فأحلم أنا، فكأنه يقول: من كان يحلم بصنع الله تعالى وينسب نفسه إلى النوم دون اليقظة عند عظمته حتىأقول: أنا إنما أرى ذلك في المنام.
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
يقول: تأكيداً للبيت الأول قبله: كبرت المعاينة علي بخروجه عن العادة حتى صار اليقين المعاين متوهماً.
يا من لجود يديه في أمواله ... نقمٌ تعود على اليتامى أنعما
يقول: يا من يصب على أمواله نقماً بتفريقها والاستهانة بها، وتعود تلك النقم على اليتامى نعماً وافرة.
حتى يقول الناس: ماذا عاقلاً! ... ويقول بيت المال: ماذا مسلماً
يقول: يا من هو في السخاء يصفه بقول الناس: إنه ليس بعاقل؛ حيث يفقر نفسه، ويقول بيت المال: إنه ليس بمسلم؛ لأنه لا يرد إليه شيئاً من المال ويبقيه، وحكم الإسلام يقتضي حفظ بيت المال.
وروى عنه: ماذا غافلاً يعني عن كسب المكارم في الدنيا والثواب في الآخرة، ونصب غافلاً ومسلماً لأنهما خبر ما.
إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجماً
يقول: إذكار مثلك ترك الإذكار، لأنك عارف بما في قلبي، غير محتاج إلى التنبيه لعلمك به، وهذا مثل قول أبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
وقال في أيام الصبا في الحماسة:
إلى أي حينٍ أنت في زي محرم؟ ... وحتى متى في شقوة وإلى كم؟!
يخاطب نفسه ويلومها فيقول: إلى أي وقتٍ أنت في زي الإحرام؟، فكأنه يقول: إلى أي وقت تكون عارياً؟ قاعداً عن القتال؟ ومنازلة الرجال؟ وحتى متى تعيش في الشقاء؟ ولا تطلب العز والثناء؟ وروى في غفلة وروى في زي مجرم بالجيم. يعني: إلى متى تعيش ذليلاً كالمتهم المذنب. والمعنى جيد.
وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم
يقول: إن لم تمت تحت السيوف في الحرب مكرماً، تمت مقاسياً للمذلة ساقط الرتبة حتف أنفك، والأصل فيه قولهم: موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذل ويجوز تقاس بحذف الياء للجزم عطفاً على جواب الشرط، وهو قوله تمت ويجوز بالياء فيكون في موضع نصب على الحال: إن تمت مقاسياً للذل.
فثب واثقاً بالله وثبة ماجدٍ ... يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
الهيجا: بالمد والقصر: الحرب. وجنى النحل: العسل المجتنى من النحل، والماجد: الشريف.
يقول ثب إلى طلب المعالي واثقاً بالله تعالى، وثبة رجل ماجدٍ؛ يرى للموت في الحرب حلاوة كالعسل في الفم كما قال الآخر:
الموت أحلى عندنا من العسل
الشاميات
وقال في صباه يمدح سعيد بن عبد الله بن الحسين الكلابي:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
في أحيا تقديران: أحدهما، أنه أفعل تفضيل من الحياة، وتقديره إني أكثر حياة مع أن أيسر ما قاسيت، ما قتل غيري ومع أن البين أيضاً جار على ضعفي وما عدل. والثاني، أنه فعل مضارع من الحياة ثم فيه تقديران: أحدهما، الخبر، والآخر الاستفهام. فأما الخبر فتقديره كأن يقول على وجه التعجب: إني أحيا، وأيسر ما لقيته في محبة هذه المرأة ما قتل غيري! وقد أضيف إليه فراق الحبيب الذي جار علي مع ضعفي، ومع ذلك فإني مقيم باقٍ! وهذا موضع التعجب! ولعله كان به ضعف، وأما الاستفهام فتقديره أأحيا؟! وأيسر شيء قاسيته في حبها هو الذي يقتل!
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبداً ... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
يقول على وجه التعجب أيضاً: إني باقٍ! مع اجتماع هذه الأمور القاتلة، وهي: ازدياد الحزن بازدياد البعد، ونقصان الصبر، ونحوله، كما أن الجسم يضعف وينحل.
يصف ازداد البعد ونحول الجسم والصبر بعد البعد.
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
الهاء في لها: للمنايا، أو للمفارقة.
كأنه يقول: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت المنايا لأنفسها وللمفارقة طرقاً تصل إلى أرواحنا. وهو كقول أبي تمام الطائي:
لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا
بما بجفنيك من سحرٍ صل دنفاً ... يهوى الحياة، فأما إن صددت فلا
بما بجفنيك: قسم.(1/12)
يقول: بحق ما بجفنيك من سحرٍ، صلى من تناهى في المرض؛ حزناً على البعد منك؛ فإنه إنما يهوى الحياة إن واصلت، وإن لم تصلى فلا يهوى الحياة. فلا هنا جواب إن كقوله تعالى: " وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك " وروى: بما بجفنيك من سقمٍ وقوله: يهوى الحياة في موضع نصب صفة لدنف.
إلا يشب فلقد شابت له كبدٌ ... شيباً إذا خضبته سلوةٌ نصلا
قوله إلا يشب: فاعل يشب ضمير الدنف الذي ذكره في البيت قبله.
يقول: إلا يشب الشعر فقد شابت الكبد، شيباً أعظم من شيب الرأس؛ من حيث أن شيب الشعر يقبل الخضاب، وشيب الكبد لا يقبله فكلما خضبته السلوة نصل الخضاب في الحال، وشيب الكبد لا يقبله، كناية عن ضعفها. ومثله لأبي تمام قوله:
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأ ... س إلا من فضل شيب الفؤاد
وزاد المتنبي عليه بذكر الخضاب، والنصول، قيل إنها تصفر وقيل إنها تبيض عندما تصيبها الآفة كما قال الحكمي:
يا دعد قد أصبحت مبيضةً كبدي ... فاصبغي بياضاً بعصفر العنب
إلا أن لفظة المشيب لا تطلق على كل البياض.
يحن شوقاً فلولا أن رائحةً ... تزوره في رياح الشرق ما عقلا
يقول: إن هذا المحب يحن شوقاً إلى محبوبته، فلولا أن رائحةً من رياح الشرق تأتيه لما عقل؛ كأن المحبوبة كانت في جانب الشرق. وروى: زياد الشوق والأول أكثر. وروى: يجن أي يظهر الجنون؛ وهذا أولى بالمطابقة.
ها فانظري أو فظني بي ترى حرقاً ... من لم يذق طرفاً منها فقد وألا
ها: تنبيه المخاطب لما بعده.
يقول: لمحبوبته: انظري إلي لتدري ما بي من الحزن، فإن لم تريني أهلاً للنظر فظني بي ترى حرقاً من لم يذق بعضاً منها فقد وأل: أي نجا من البلاء، من وأل يئل إذا نجا.
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
عل: بمعنى لعل، يقول: لعل الأمير الذي هو الممدوح إذا رأى ذلي يتشفع لي، إلى المرأة التي تركتني في الهوى مثلاً مضروباً كسائر العشاق من العرب؛ ووجه تشفعه إليها أن يصل جناحه بما يصل به إلى المراد بها، ويحظى عندها لمكانه منها. وهذا مأخوذ من قول أبي نواس.
سأشكو إلى الفضل بن يحى بن خالد ... هناها لعل الفضل يجمع بيننا
أيقنت أن سعيداً طالبٌ بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا
يقول: لما رأيت الممدوح وهو سعيد معتقلا برمحه على هيئة المحاربين، تحققت أنه يطلب بدمي من هذه المرأة القاتلة لي، على سبيل القتل والقصاص منها، لأن قتل النساء نقص، ولكن من حيث أن عادته اغتنام الأموال في الحرب، لأن ذلك كسب الشجعان، وإن المال الذي يغتنمه يجعل له حظاً منه ليصل إلى مراده منها، وانتقل الرجاء الذي في البيت الأول إلى اليقين، من حيث أنه قد رآه تأهب للحرب، لأنه إذا حارب يظفر بالأعداء وينهب الأموال، وإذا نهبها فرقها، لأن خلاف ذلك من البخل.
وقد قيل: إن هذا البيت منقطع عما قبله كأنه يقول: لما رأيته كذلك أيقنت أنه ينتقم من أعدائي.
وأنني غير محص فضل والده ... ونائلٌ دون نيلي وصفه زحلا
قوله نائل: اسم فاعل، من نال الشيء يناله. ومفعوله: زحل ونيلي: مصدر مضاف إلى فاعله، وهو ضمير المتكلم، ومفعوله: وصفه.
يقول: إني لا أحصي فضل والده، فجمع بين مدحه ومدح والده. يقول: وإني نائل زحلاً قبل أن أنال وصف والده. وروى فضل نائله فيكون مدحاً له.
قيلٌ بمنبج مثواه ونائله ... في الأفق يسأل عمن غيره سألا
القيل: الملك من ملوك حمير. ومنبج: بلد بالشام.
يقول: إن الممدوح ملكٌ، مقامه بمنبج. وعطاؤه في أفق الدنيا؛ يستخبر عمن يطلب من غيره العطاء، حتى يدل عليه بالسؤال الأول، وهو الاستخبار، والثاني: الذي هو سأل السؤال الذي هو طلب العطاء وهو كقول أبي تمام:
فأضحت عطاياه نوازع شردا ... تسائل في الآفاق عن كل سائل
يلوح بدر الدجى في صحن غرته ... ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا
روى: الهيجاء بالمد فتكون حينئذ في الهيجاء إن حملا. وروى: مقصوراً، فعلى هذا يكون في الهيجا إذا حملا.
يقول: إن الممدوح موصوف بخصلتين: إحداهما: الحسن وهو قوله:
يلوح بدر الدجى في صحن غربته(1/13)
والثانية: الشجاعة وذلك قوله: ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا يعني أن الموت ناصره ومعه.
ترابه في كلابٍ كحل أعينها ... وسيفه في جنابٍ يسبق العذلا
كلابٌ، وجناب: قبيلتان. وقيل: إن بينه وبينهما معاداة.
والمعنى على هذا: إن الممدوح يهجم بخيله على بني كلاب ويوقع بهم، فغبار خيله في عيونهم بمنزلة الكحل، وكذلك سيفه في جناب، يسبق عذل العاذل. يعني: إذا ظفر بعدوه قتله، ولا يبالي بلوم اللائم. وقد نظمه من مثل سائر وهو سبق السيف العذل وأول من قاله ضبة بن أد إذ ظفر بقاتل ابنه في الشهر الحرام فقتله! فلما ليم عليه قال هذا القول.
وقيل: إن بني كلاب كانوا أولياءه. فيكون المعنى: إنهم لحبهم له يتخذون تراب قدمه كحلاً لأعينهم، ويتبركون به.
لنوره في سماء المجد مخترقٌ ... لو صاعد الفكر فيه الدهر ما نزلا
مخترق: يجوز أن يكون مصدراً، ويجوز أن يكون اسماً لموضع الاختراق.
يقول: إن للمدوح فخر إلى السماء وذلك مثلٌ لعلو فخره، وإن له نوراً، منفذه في سماء فخره، بحيث لو صاعده الفكر وغالبه في الصعود في ذلك المنفذ، لم يكن له نزول أبداً، من حيث أنه ليس له نهاية، حتى يبلغها، ثم ينزل عنها، وقد روى: محترق بالحاء المهملة، والأولى الأول.
هو الهمام الذي بادت تميم به ... قدماً وساق إليها حينها الأجلا
وروى: هو الأمير، ولم يصرف تميم للتعريف، والتأنيث للقبيلة.
يقول: هو الأمير الذي هلكت به تميم منذ قديم الزمان، وساق به إليها هلاكها الأجل، أي لما عادوه أوقع بهم وأهلكهم.
لما رأته وخيل النصر مقبلةٌ ... والحرب غير عوانٍ أسلموا الحللا
الحرب العوان: التي تكررت بخلاف البكر. والحللا: جمع الحلة، وهم القوم الذين ينزلون في مكان واحد.
يقول: إن تميماً لما رأت هذا الممدوح، وخيل النصر مقبلةٌ، أسلموا جماعتهم وبلدتهم، ثم بين أن ذلك في أول الحرب، قبل أن تتكرر، ليدل ذلك على فضل خوفهم منه وأنهم انهزموا في أول الأمر.
وضاقت الأرض حتى كأن هاربهم ... إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا
يقول: ضاقت الأرض عليهم لما هربوا منه، حتى أن هاربهم من شدة خوفه كان إذا رأى غير شيء لا يبالي به من صغره، ظنه رجلاً من أصحابه! وهذا المعنى، اشتقه من قول الله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " وهذا كقول جرير:
ما زلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
يقول: فبعد ذلك اليوم الذي قاتلتهم وهزمتهم، إلى هذا اليوم؛ لو ركضت تميم بخيولهم في لهوات الطفل وحنكه لما أثرت فيه تأثيراً يسعل الطفل منه؛ مع أنه يتأذى بأقل شيء، وذلك إشارة إلى قلتهم، وأنه لم يبق منهم بعد ذلك الحرب عناء، ولا قوم يمكنهم أن يضروا أدنى ضرر.
قال القارىء عليه قلت له: لم لا يسعل؟! قال: لحسن طاعته!
فقد تركت الألى لاقيتهم جزراً ... وقد قتلت الألى لم تلقهم وجلا
الألى: بمعنى الذين. وجزراً: أي مقطعين بالسيوف. وقوله: وجلا: مصدر واقع موقع الاسم. يعني: وجلين.
يقول: قد تركت الذين لقيتهم في الحرب قطعاً بالسيوف، وتركت الذين لم تلقهم وجلين خائفين منك.
كم مهمةٍ قذفٍ قلب الدليل به ... قلب المحب قضاني بعد ما مطلا
المهمة: الفلاة القذف: الواسع البعيد النواحي. والقضاء والمطل: نقيضان.
يقول: كم فلاةٍ بعيدة الأطراف، قلب الدليل فيها خافقٌ خوف الضلال، كخفقان قلب المحب؛ خوف الهجران؛ أدتني تلك الفلاة إلى أقصاها، بعد ما مطلتني مدة مديدة، وقضاؤها إياه: بلوغها به إلى أقصاها، ومطلها، مدة لبثه فيها.
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
الهاء في مفاوزه: للمهمه. وحر الوجه: الخد. والنجم، قيل: هو اسم للثريا خاصة؛ وقيل: اسم الجنس. وافل: فعل النجم.
يصف مواصلة سيره بالسرى ويقول: عقدت طرفي بالنجم ليلاً، وعقدت حر وجهي بحر الشمس، إذا غاب النجم؛ يمن بذلك عليه ليكون أعرف بحقه.
وروى عنه قال: عقدت بالنجم طرفي، خوف الضلال بالشمس لأني كنت مشرقاً.
أنكحت صم حصاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا(1/14)
اليعملة: الناقة العمولة في سرعة المشي أي أسرعت وتغشمرت: تعسفت وأخذت قصداً وغير قصدٍ، والإنكاح هو: الجمع.
يقول: جمعت بين خف ناقتي وبين الحصا الصم التي كانت في الفلاة المذكورة، وعسفت بي السهل والجبل؛ حتى أوصلتني إليك.
لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا
النمرق: الوسادة التي يعتمد عليها الراكب. والزجل: الصوت. وحشو قميصي: أي وسطه.
يقول: لو كنت أيها الممدوح مكاني فوق رحل هذه الناقة، لسمعت صوت الجن في غيطان هذه المفاوز!
حتى وصلت بنفسٍ مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا
يقول: كنت على الحال الموصوفة، حتى وصلت إليك بنفس مات أكثرها تعباً وخوفاً، ولم يبق منها إلا فضلٌ أخشى عليه، لأني وقيت ما مر بي ولا آمن أن يكون عاقبته الهلاك. وغرضه بهذه الأبيات الامتنان عليه بما ناله من ذلك.
أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
قوله: أرجو: أي راجياً، في موضع نصب لأنه في موضع الحال.
يقول: جبت هذه المفاوز إليك ثقة بك، إنك لا تمطل بوعدك، وإنك تجزل العطاء؛ لأنك إذا وهبت الدنيا تستقلها فكأنك قد بخلت.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
كم قتيلٍ كما قتلت شهيدٍ ... ببياض الطلى وورد الخدود
الطلى: الأعناق، واحدها طلية. وتقدير البيت: كم قتيلٍ شهيدٍ ببياض الطلى وورد الخدود؛ كما قتلت أنا؛ يعتذر في قتل الهوى إياه. ويقول: لست بأول قتيل الهوى فكم من قتيلٍ شهيد! قتل ببياض الأعناق وحمرة الخدود! وجعل القتل بسبب الهوى شهادة أخذه من الحديث من عشق وعف مات وهو شهيد.
وعيون المها ولا كعيونٍ ... فتكت بالمتيم المعمود
المها: بقر الوحش، واحدتها مهاة. والفتك: القتل غيلة. والمتيم: الذي استعبده الحب. والمعمود الذي أصيب عمود قلبه وهو وسطه بالحب. وجر عيوناً: عطفاً على ورد الخدود.
يقول: كم قتيلٍ ببياض الطلى، وورد الخدود. وعيون المها: وهي بقر الوحش من حسنها، وملاحتها ولا كعيون النساء التي أصابتني وقتلتني غيلة، بل هذه أحسن منها، فضل هذه العيون على عيون المها. وقيل: أراد بالمها: الحسان العيون من النساء. ثم فضل العيون التي قتلته على تلك العيون.
در در الصبا أيام تجري ... ر ذيولي بدار أثلة عودي
الدر في أصل اللغة: اللبن. ثم استعمل في كل خير.
كأنه يقول على وجه الدعاء: كثر خير الصبا. ثم نادى فقال: أأيام تجريري والهمزة الأولى حرف النداء، والرواية تجريري بدار أثلة موصلة الألف بالراء كقوله تعالى: عاداً الأولى، وروى بدار الأثلة عودي قيل: الأثلة. مكان بالكوفة، وقيل: بالشام. وقيل: إن أثلة بغير ألف ولام، وروى قتلة وهي اسم امرأة. وعودي: أمر من العود، وهو: خطاب للأيام.
يقول مخاطباً لأيامه التي مضت مستعيداً لها: يا أيام بطالتي حين كنت أسحب ذيلي بهذا المكان، عودي إلي وارجعي فإني مشتاق إليك.
عمرك الله هل رأيت بدوراً ... قبلها في براقعٍ وعقود
أصله: تعميرك الله، وهو مصدر من عمرك الله تعميراً، إلا أنه حذف ما كان زائداً، ورده إلى تركيب الكلمة. فقال: عمرك الله فكأنه قال: سألت الله تعميرك. أيها الصاحب، هل رأيت بدوراً مثل هؤلاء النساء اللواتي هن بدوراً في الحسن والبهاء في براقع وعقود؟! لأن البراقع والعقود من آلة النساء، ولم تعد في البدور.
رامياتٍ بأسهم ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
رامياتٍ: في موضع نصب صفة لبدور.
يقول لصاحبه: هل رأيت بدوراً ترمى بسهام؟! قدودها الهدب، وهي تشق القلوب قبل الجلود! بخلاف سائر السهام التي تصيب الجلود قبل القلوب. وعني بالسهام: العيون. وهو مأخوذ من قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الهدب لم يصب ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح
يترشفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيد(1/15)
يقول: إن هذه النسوة يمصصن من فمي مصات لميلهن إلي. هن: يعني الرشفات. في فمي أحلى من حلاوة التوحيد في قلب الموحد، وهو المقر بوحدانية الله تعالى! وهذا أحد ما نسب المتنبي لأجله إلى الكفر؛ حيث جعل الترشف أحلى من التوحيد! وروى: هن فيه حلاوة التوحيد يعني: للترشف في الفم حلاوة التوحيد. وهذا أخف من الأول. وقيل: إنه المعشوق بعاشقه، أي قوله: أنت واحدى؛ عند إقباله على وصاله، من دون أن يعرف غيره، فلهذا أحلى ما يكون للعاشق إذا كان معشوقه لا يعرف سواه، ولا يقول إلا به، وإذا فعل ذلك فقد وحده، فكأنه يقول: هن في الفم أحلى من هذا التوحيد.
كل خمصانةٍ أرق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
الخمصانة: الدقيقة الخاصرة. والجلمود: الصخر الصلب. روى: أرق في موضع الجر صفة لخمصانة، وبالرفع صفة لكل.
يقول: كل واحدة من هذه المترشفات وهي: كل ضامرة البطن أرق بشرةً من الخمر، بقلبٍ أشد قساوة وصلابة من الصخر. شبه رقة بشرتها بالخمر، وقساوة قلبها بالحجر، وجعله أقسى منه: أي أقسى من الحجر الصلب.
ذات فرع كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود
أي: كل خمصانة ذات فرع، كأنما خلط فيه العنبر بماء الورد والعود، طيباً ورائحة؛ وإنما كان ذلك خلقة، فلهذا قال: كأنما.
حالكٍ كالغداف جثل دجوجي ... ى أثيثٍ جعدٍ بلا تجعيد
الحالك: الشديد السواد. والغداف: الغراب الأسود. والجثل: الشعر الكثير. والدجوجى: الشديد السواد أيضاً. والأثيث: الكثيف الملتف.
والتجعيد: يجعل جعداً بتكلف.
يقول: هي ذات فرع أسود بهذه الصفة.
تحمل المسك عن غدائرها الري ... ح وتفتر عن شتيتٍ برود
الهاء في غدائرها للمرأة، وروى: من غدائره. أي: من غدائر الفرع والغدائر: هي الضفائر، واحدها غديرة، والريح: فاعلة تحمل والشتيت: صفة الأسنان، وهو المفلج، والبرود أيضاً.
يقول: إنها مع استغنائها عن الطيب، تستعمل الطيب الكثير، بحيث تحمل الريح عن غدائرها المسك. وتفتر: أي تضحك عن ثغر مفلج فيه ماء بارد، أو يبرد حرارة الكبد! وهو الريق المتحلب من بين الأسنان، وقيل: هو من البرد النازل من السماء، فوصف أسنانها بأنها مفلجة، وبأن ريقها بارد؛ لبياضه ونقائه وبرده إذا مص.
جمعت بين جسم أحمد والسقم ... وبين الجفون والتسهيد
أراد بأحمد: نفسه.
يقول: إن هذه المرأة جمعت بين جسمي، وبين السقم! وبين جفوني والتسهيد فبعدت عني الصحة والنوم.
هذه مهجتي لديك لحيني ... فانقصي من عذابها أو فزيدي
المهجة: النفس. والحين: الهلاك.
يقول: هذه نفسي عندك مسلمةً إليك للهلاك! فانقضى من عذابها، أو فزيدي في عذابها فحكمك نافذٌ فيها، وأخذه من قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
أهل ما بي من الضنى بطلٌ صي ... د بتصفيف طرةٍ وبجيد
الضنى: طول المرض والضعف وتصفيف الطرة: تسويتها من الصف وأهل: مرفوع لأنه خبر الابتداء، والابتداء: بطل. متأخر عن الخبر كأنه يقول: بطل صيد بتصفيف طرة أهل مابي.
ومعناه: إنني بطلٌ صيد؛ ومع ذلك أهلٌ لما بي، مستحق لطول المرض، وهذه الإشارات إلى شجاعة نفسه، وإنه مع ذلك قد صيد، بتصفيف طرة وبجيد. ويجوز أن يكون أهل مبتدأ، وبطلٌ خبره. ويجوز أن يكون أهل خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنا أهل ما بي من الضنى؛ ثم بين العلة فقال: لأني بطل صيد بتصفيف طرةٍ وبجيد.
كل شيءٍ من الدماء حرامٌ ... شربه ما خلا دم العنقود
يقول: جميع الدماء حرام شربها، ما خلا دم العنقود: الذي هو الخمر. ثم أخذ في ذكر الخمر استسقاءً لها فقال:
فاسقنيها فدىً لعينيك نفسي ... من غزالٍ وطارفي وتليدي
يقول: اسقني هذه الخمرة فدىً لعينيك نفسي، وما اكتسبته من مالٍ، وما ورثته من آبائي وجعل المخاطب غزالاً بقوله: من غزال. فكأنه قال: من بين الغزلان ومن: هنا للتخصيص.
شيب رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي
يقول: أربعة أشياء شاهدات لي على هواك. وهي: الشيب؛ لحلوله قبل أوانه، ونزوله في غير زمانه. وذلي في هواك، ونحول جسمي، وانسكاب دموعي، والله تعالى أمر في القضاء بالشاهدين ولي أربعة شهود وهذا مثل قول القائل:(1/16)
من ذا يكذب في شهودٍ أربعاً؟! ... وشهود كل قضيةٍ اثنان:
خفقان قلبي واضطراب مفاصلي ... ونحول جسمي واعتقال لساني
أي يومٍ سررتني بوصالٍ ... لم ترعني ثلاثةً بصدود
يقول: اذكر أيها الغزال أي يوم واصلتني فيه، فسررتني بوصلك ولم ترعني بصدود ثلاثة أيام!
ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
روى: نخلة. بالمعجمة، قيل: هي محله بالكوفة، وروى: بالحاء المهملة وهو الأصح. وهو: مكانٌ بالشام. وقيل: إنه على ثلاثة أميال من بعلبك.
يقول: ليس مقامي بين أهل هذا المكان وإيذائهم إياي واستخفافهم بي، إلا كمقام السيد المسيح بأرض اليهود؛ لكثرة عداوتهم له.
وروى: أنه لقب المتنبي بهذا البيت.
وقيل: بل بالبيت الذي يقول فيه:
أنا في أمةٍ، تداركها الله ... غريبٌ كصالح في ثمود
مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودةٌ من حديد
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود
الصهوة: مقعد الفارس من الفرس. والحصان: الفرس الكريم الذكر. يصف بهذا شدة حذره من القوم، وهم أهل نحلة.
يقول: مفرشي مقعد الفارس؛ لكوني عليه ليلاً ونهاراً، وقميصي ودرعي التي هي مسرودة من حديد؛ لمواظبتي على الحرب وشدة تحرزي من أعدائي.
ثم وصف درعه الحديد فقال: لأمةٌ: أي ملتئمة الصنعة، مجتمعة فاضةٌ: سابغة. أضاةٌ: أي صافية. وهي صفة الغدير شبهها به لصفائها وزرقتها كالماء الذي في الغدير. دلاصٌ: أي براقة. أحكمت نسجها: يدا داود: أي هي من عمل داوود عليه السلام، وهي أوثق ما تكون من الدروع؛ لأنها مسرودة غير مسمورة، وهذا غاية ما يمدح به الدرع.
أين فضلي إذا قنعت من الده ... ر بعيشٍ معجل التنكيد؟!
التنكيد: التقليل. يشكو سوء حاله مع فضله، وبعد محله.
فيقول: أين فضلي إذا رضيت من الدهر بعيش قليل الخير؟
ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي
ويروى: ضاق صدري.
يقول تأكيداً لما تقدم من البيت: ضاق صدري لما بي من ضيق الرزق، وطال قيامي في طلب رزقي، وقل قعودي عنه.
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوسٍ وهمتي في سعود
يقول: أنا أجوب البلاد أبداً، ولا أفتر عن السعي، لكن نجمي في نحوس فلا يساعفني وهمتي في سعود.
ولعلي مؤملٌ بعض ما أب ... لغ باللطف من عزيزٍ حميد
ويروى: ولعلي مبلغ بعض ما آمل؛ وهذا ظاهر؛ لأن التسلي لم يدخل في الأمل، وإنما يدخل في الوصول إلى المأمول، وعلى الرواية الظاهرة لابد أن يكون مقلوباً، فيكون راجعاً إلى ما ذكرناه في الرواية الأولى، ويجوز أن يحمل على ظاهره ويريد أنا راجٍ بعض ما أبلغ من العيش الهني، والمكان السني، بلطف الله العزيز الحميد.
لسريٍّ لباسه خشن القط ... ن ومروي مرو لبس القرود
السري: السيد ذو المروءة وقيل: أراد به الممدوح، وإن كان ممن يلبس الخشن للزهد والتواضع.
فيقول: إنه سري، لباسه خشن القطن، وليس فيه ما يوجب الضعة؛ وإن المروي: لبس القرود والسفلة من الناس، ولم يدل على رفعتهم.
وقيل: أراد بالسري: نفسه وأن لباسه خشن القطن، لما به من الفاقة، ثم بين أنه لا يقنع بالمروي، لأنه لباس السفلة من الناس، وإن همته ترتفع عن الاقتصار على ذلك، بل يريد ما هو فوقه من الثياب الثمينة النفيسة.
عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود
خفق البنود: اضطراب الرايات، وهي جمع: بند، وهو العلم. يحض نفسه أو صاحبه على طلب العز والعلا، وينهاه على النزول على الفاقة في الشقاء.
يقول: عش عزيزاً إن أمكنك، وإلا فمت كريماً، بين المطاعنة وخفق الرايات؛ فإن من مات بين هذه الأشياء مات عزيزاً، لبقاء الذكر الحسن بعد موته، وكل هذا للمنع من الذل، والحث على طلب العلو.
فرءوس الرماح أذهب للغي ... ظ وأشفى لغل صدر الحقود
بنى من أذهب: أفعل التفضيل وهو لا يأتي إلا من الأفعال الثلاثية المجردة عن الزيادة، فإن كان بناءه من ذهب فهو لازم فلابد من الباء للتعدية، وهو أن يقول: أذهب بالغيظ، ذلك رواية. فأما أذهب للغيظ فهو محمول على أنه حذف من أذهبت، ثم بنى بعد رده إلى ثلاثة أحرف أفعل، كقوله تعالى: " أي الحزبين أحصى " لأنه من أحصيت.(1/17)
يقول: إن لم يكن يمكنك أن تعيش عزيزاً، فمت بين طعن القنا، فإنه من الأشياء التي تشفي الصدور من الحقد، أو تقتل؛ فتستريح مما كنت فيه من الغيظ والحقد.
وروى أنه قال: أنا لم أبن أذهب من فعل متعدٍّ وإنما قلت: أذهب بالغيظ.
لا كما قد حييت غير حميدٍ ... وإذا مت مت غير فقيد
يقول: عش عزيزاً، أو مت كريماً. لا كما كنت تحيا غير محمود، وإذا مت في هذه الحالة مت غير فقيد: أي غير مفقود، لا يعتد بك، ويكون موتك وحياتك واحدة ولا يعرفك أحد فيفقدك، كأنه كان قد استعمل الكسل قبل هذه الحالة.
فاطلب العز في لظى وذر الذل ... ل ولو كان في جنان الخلود
لظى: إذا جعلتها نكرة صرفتها لأنها ليس فيها إلا التأنيث، وإن جعلتها اسماً لجهنم، وهو المراد ها هنا لم تصرفها: للتعريف والتأنيث.
يقول: اطلب العز ولو كان في جهنم، واترك الذل ولا تقبله ولو كان في جنان الخلد. من قولهم: النار ولا العار.
يقتل العاجز الجبان وقد يع ... جز عن قطعٍ بخنق المولود
ويوقى الفتى المخش وقد ... خوض في ماء لبة الصنديد
الخنق: خرقة يوقى بها رأس الطفل إذا دهن. والمخش: هو الدخال في الأمور. وروى: المحش بالحاء وهو: الذي يوقد الحرب كأنه آلة ذلك. وخوض: يجوز أن يكون بمعنى خاض؛ مبالغة فيه كطوف، ويجوز أن يكون متعدياً، ومفعوله محذوف، وتقديره قد خوض الرمح، وماء اللبة: الدم. والصنديد: السيد الكريم.
يقول: يقتل العاجز الجبان مع عجزه عن قطع البخنق، ولا ينفعه الحذر والإحجام عن القتال، ويصان الرجل الشجاع الدخال في الحرب، في حالٍ قد خاض ودخل أو أدخل سنان رمحه في دم الشجاع ومثله للأهتم:
وما كل من يغشى القتال بميت ... وما كل من يرجو الإياب بسالم
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا ... د وعوذ الجاني وغوث الطريد
يقول: إن شرفي بنفسي لا بقومي، بل هم شرفوا بي، فإذا فخرت فبنفسي لا بجدودي؛ لا لعدم فضلهم، ولكن لزيادة فضلي على فضلهم؛ وهذا كما قيل نفس عصامٍ سودت عصاما ومثله لعلي بن جبلة.
وما سودت عجلاً مآثر قومهم ... ولكن بهم سادت على غيرهم عجل
ثم بين أن لقومه فضلاً على سائر العرب؛ ومع ذلك فهو أفضل منهم، فقال: وبهم فخر كل من نطق الضاد: يعني أنه فخر كل العرب. لأن الضاد مختصة بلغة العرب، وقيل: المراد أن بهم فخر كل ذي فضل، والضاد هي التي في الفضل، وبين أن قومه وجوهٌ بهم عوذ الجاني: إنه يستعيذ بهم. وبهم غوث الطريد: أي بهم يستغيث المطرود.
إن أكن معجباً فعجب عجيبٍ ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
المعجب: المتكبر. والعجب: الاسم منه، والعجيب: الذي لا نظير له.
يقول: إن تكبرت بما لي من الشرف، فليس إلا لأني عجيبٌ، لا نظير لي في زماني، ولا لأحد مزيداً علي. وقيل: المعجب الذي لم يجد فوقه أحد.
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
يذكر فضائله، ومفاخره، فيقول: أنا قرين الندى والسخاء وقادر على الشعر، والقوافي، وسمٌّ قاتل لأعدائي وغيظ للحساد، لما لي من الرتبة العالية، والدرجة السامية، من الفضل والكمال.
أنا في أمةٍ تداركها الله ... غريبٌ كصالحٍ في ثمود
قوله: تداركها الله. كقولك: أصلحك الله. وقيل: تداركها الله بالعذاب، فالأولى دعاء لهم، والثانية دعاء عليهم.
يقول: أنا في أمة يصيبني منهم أذى، وطبعي مخالف لطبعهم، وهم لا يعلمون محلي، بل يعاودني فحالي بينهم، كحال صالح بين ثمود، وقد قيل: إنه لقب المتنبي بهذا البيت، حيث شبه نفسه بصالح.
وقال وقد مر في صباه برجلين قد قتلا جرذاً وأبرزاه يعجبان الناس من كبره فقال لهما:
لقد أصبح الجرذ المستغير ... أسير المنايا سريع العطب
الجرذ: فأر البيت الكبير. المستغير: طالب الغارة، أو طالب الغيرة وهي الميرة، وصريع وأسير: نصبا بخبر أصبح.
يقول: قد أصبح الجرذ الذي كان يغير في البيوت. أي ينقل الميرة حليف الهلاك، صريع الموت.
رماه الكناني والعامري ... وتلاه للوجه فعل العرب
تلاه: أي ألقياه على وجهه.
يقول: رماه الرجلان وتلاه على وجهه، كما تفعل العرب.
كلا الرجلين اتلى قتله ... فأيكما غل حر السلب(1/18)
كلا الرجلين: أي كل واحد منهما. واتلى: افتعل من الولاية، أي ولى كل واحد منهما قتله، وحر السلب: خالصه. وغل: أي خان في الغنيمة.
يسخر منها، ويقول: قتلتما هذا الشجاع فأيكما خان في سلبه، ففاز به دون صاحبه، فإني لا أرى سلبه ظاهراً.
وأيكما كان من خلفه ... فإن به عضةً في الذنب
يقول: أيكما كان من خلفه؟ فإن به عضة في ذنبه، فمن كان خلفه فهو الذي عضه! يسخر منهما بذلك.
وقال أيضاً في صباه ارتجالاً وقد أهدى إليه عبيد الله بن خراسان هدية فيها سمك من سكر، ولوز في عسل:
قد شغل الناس كثرة الأمل ... وأنت بالمكرمات في شغل
يقول: إن الناس شغلهم كثرة الأمل. وشغل الممدوح أبداً المكرمات وإسداء الإحسان.
تمثلوا حاتماً ولو عقلوا ... لكنت في الجود غاية المثل
يقول: جعل الناس المثل في الجود لحاتم الطائي، ولو كانوا عقلاء لجعلوك غاية المثل في الجود؛ نك أسخى منه ومن سائر الناس.
أهلاً وسهلاً بما بعثت به ... إيهاً أبا قاسمٍ وبالرسل
تقديره: أهلاً وسهلاً بما بعثت به، وبالرسل إيها أبا قاسم وإيهاً بمعنى كف.
يقول: كف عن ذلك فقد عجزتني عن القيام بشكرك وأثقلت ظهري بمبارك، واستغنيت بما سلف من عطاياك، فلا حاجة إلى المبالغة.
هديةٌ ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
يقول: هديةٌ ما رأيت مهديها، إلا رأيت فضائل الناس فيه مجموعة. فكأنه جميع الناس في المعنى، وهو مأخوذ من قول الحكمي:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واح
روى: العباد والأنام جميعاً.
أقل ما في أقلها سمكٌ ... يلعب في بركةٍ من العسل
أقل: مبتدأ وسمك: خبر. وما: بمعنى الذي، وروى: يلعب ويسبح.
يقول: أقل ما في أقل هذه الهدايا: سمك من اللوز والسكر، في حوضٍ من العسل؛ يشير إلى أن ذلك إذا كان أقل الأقل فكيف يكون ما هو أجل الأجل والأفضل؟!.
كيف أكافي على أجل يدٍ ... من لا يرى أنها يدٌ قبلي؟!
أكافي: أصله الهمز فخففه. وروي: أجازي. ولا همز فيه.
يقول: كيف أجازي على أجل نعمة له عندي، وهو يستصغر العظيم من أياديه، ولا يعتد بها، ولا يراها نعمة عندي، فلا يمكنني القيام بشكره.
وكتب إلى عبيد الله بن خراسان في الطيفورية وقد رد الجامة وكتب على جوانبها بالزعفران:
أقصر فلست بزائدي ودا ... بلغ المدى وتجاوز الحدا
أقصر: أي أمسك عن الإهداء، وفاعل بلغ المدى وتجاوز الحد: ضمير الود.
يقول: أقصر عن الإهداء فلست تزيدني وداً بزيادة الهدية، فإن ودك عندي قد بلغ المدى وتجاوز الحد، فلا مزيد عليه؛ والأصل فيه الحديث: " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ".
أرسلتها مملوءةً كرماً ... فرددتها مملوءةً حمداً
الهاء في أرسلتها ورددتها للجامة، التي فيها الحلواء، ونصب كرماً وحمداً على التمييز.
يقول: بعثت بالجامة مملوءة كرماً فرددتها مملوءة حمداً؛ وذلك أنه كان كتب بهذه الأبيات في جوانب الجامة وفيها حمد الممدوح.
جاءتك تطفح وهي فارغةٌ ... مثنى به وتظنها فردا
الطفح: الارتفاع، والامتلاء.
يقول: جاءتك هذه الجامة فارغة من الحلاوة، وهي مع ذلك ممتلئة من حمدك، فأنت تظن الجامة فرداً وهي قد انضم إليها هذه الأبيات فهي مثنى بها: أي الأبيات، وروى: مثنى به: أي بالحمد.
تأبى خلائقك التي شرفت ... ألا تحن وتذكر العهدا
يقول: إن أخلاقك الشريفة تمتنع وتكره أن لا تشتاق إلى مثل صنيعك في إنفاذ الهدية وألا تذكر العهد بإنفاذ الهدية، فكأنه يستعيد مثل هذه الهدية التي بعث بها إليه.
وقيل: ألا تحن إلى أصدقائك.
لو كنت عصراً منبتاً زهراً ... كنت الربيع وكانت الوردا
التاء في كانت: ضمير الهدية. وقيل: ضمير الخلائق.
يقول: لو كنت زمناً من الأزمان لكنت أطيبها وهو الربيع، وكانت هديتك التي بعثت بها، وخلائقك الشريفة كالورد، في فضله على سائر الأزهار، كفضل الربيع على سائر الأعصار.
وقال أيضاً يمدح عبيد الله بن خراسان وابنيه
أظبية الوحش لولا ظبية الأنس ... لما غدوت بجدٍّ في الهوى تعس
الأنس والإنس: واحد، وهو جمع أنسي وإنسي والألف: حرف النداء، والتعس: العثور:(1/19)
يقول مخاطباً للظبية الوحشية: لولا الظبية الأنسية لما غدوت إلى المنزل الذي كنت فيه، وارتحلت عنها، بجدٍّ عثورٍ في هواك.
وخاطب الوحشية لشبهها بالأنسية، أو لأن الموضع صار مألفاً للوحش، أو ليدل على أن الوحش يألفه بملازمة الفلوات.
ولا سقيت الثرى والمزن مخلفه ... دمعاً ينشفه من لوعةٍ نفسي
اللوعة: شدة الحزن. والمزن: السحاب الأبيض. والثرى: التراب. ومخلفة: من أخلف البرق، إذا لم يمطر.
يقول: لولا الظبية الأنسية لكنت لا أسقي ثرى ربعها دمعي، في حال تخلف السحاب فلا يسقيه، ثم بين حرارة نفسه بأنه لحرارته كان ينشف ما يبل الأرض من دموعه، وهو من قول الآخر:
لولا الدموع وفيضهن لأحرقت ... لأرض الوداع حرارة الأكباد
ولا وقفت بجسمٍ مسى ثالثةٍ ... ذي أرسمٍ درسٍ في الأرسم الدرس
تقديره: ولا وقفت مسى ثالثةٍ بجسم ذي أرسم درس.
يقول: لولا الظبية الأنسية، لكنت لا أقف في رسوم دار هذه المحبوبة الدارسة ثلاثة أيام ولياليها، حتى يصير آخر وقوفي وقت العشية من الليلة الثالثة، من أول وقوفي، بجسمٍ ذي أرسم دارسة: نحيلٌ شبيه بالأرسم الدارسة من منزل المحبوبة، ويكون المراد بمسى ثالثة تقديره أيام وقوفه عليها.
قال ابن جنى: ولا يجوز أن يريد به أنه وقف بعد ثلاثة أيام من غيبوبتها عن الدار، لأنها لا تصير دراسة بثلاثة أيام.
وقيل: إن ذلك أيضاً جائز، لأن ديار الأعراب لا تكاد تسلم من الدروس لأول ريح تهب فتسفي عليها التراب من جهة، وتطم آثارها، وإن وافقها مطرٌ كان دروسها أدعى.
صريع مقلتها سئال دمنتها ... قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس
صريع وسئال وقتيل: منصوبة على الحال، من وقفت، والدمنة: ما اسود من آثار الدار كالأثافي ونحوها، واللعس: حمرةٌ في الشفة تضرب إلى سواد، فوق اللمى.
يقول: ظبية الإنس لما وقفت صريع مقلتها سائلاً آثار دارها متعللاً بذلك، قتيل تفتير أجفانها وقتيل اللعس الذي في شفتيها.
خريدةٌ لو رأتها الشمس ما طلعت ... ولو رآها قضيب البان لم يمس
الخريدة: الجارية الناعمة. وقيل: الحيية. ولم يمس: أي لم يتبختر.
يقول: هي جارية ناعمة حيية حسنة معتدلة القامة، لو رأتها الشمس ما طلعت؛ خجلاً من وجهها، وإنها وإن طلعت فكأنها لم تطلع؛ من حيث لا يبين نورها لنور هذه الظبية الأنسية، ولو رآها غصن البان لما تبختر؛ خجلاً من اعتدال قامتها.
ما ضاق قبلك خلخالٌ على رشإٍ ... ولا سمعت بديباجٍ على كنس
الرشأ: الغزال، والكنس: بيت الظبي، وروى على كنس، وهو صفة الظبي، أي ذي كنس.
يقول: مارئى خلخال على غزال، ولو رئى لكان لا يضيق عليه؛ لأن رجله دقيقة، ولا سمعت بديباج فوق كناس، وهذه الظبية الأنسية ضاق عليها الخلخال، وغشي بيتها الذي هو الهودج بالديباج وهذا من قول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
إن ترمني نكبات الدهر عن كثبٍ ... ترم امرأً غير رعديدٍ ولا نكس
النكبات: جمع نكبة وهي المحنة، وعن كثب: أي عن قرب. والرعديد: الجبان. والنكس: الساقط الخامل.
يقول: إن ترمني محن الزمان من قرب. فقد رمت امرأً غير جبان، ولا ضعيف ساقط، يوهنه رميها.
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدي حافر الفرس
يقول: يا عبيد الله، حاسد بنيك صار فداءً لهم، على وجه الدعاء. ثم قال: بجبهة العير يفدي حافر الفرس: أراد به أنهم كرام وحسادهم لئام، فهم فداء لهم، كما يفدي حافر الفرس، وهو أحسن خلقةً بجبهة العير. وهي: أي الجبهة أعلى الأعضاء.
وقيل: جعل أبناء الممدوح منه، بمنزلة الحافر من الفرس، وجعل الممدوح بمنزلة أعلى الفرس، وجعل حساد أبنائه بمنزلة جبهة الحمار، من سائر الحساد الذين هم كالحمر، فجعل أعلى الأشياء من الحساد فداء لأدنى الأشياء من الممدوح، لأن الابن بإضافة الأب إليه بهذه المنزلة، وهما كما يقال للشيء الخسيس: فداء للشيء النفيس وكبار هؤلاء القوم، فداء لصغار قومك، وأشباه ذلك.
أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلباً غير مفترس
أبا الغطارفة: منصوب لأنه منادى مضاف، أو لأنه بدل من عبيد الله أو يكون نصباً على المدح، والغطارفة: جمع غطريف، وهو السيد، والمفترس، والصائل.(1/20)
يقول: يا أبا السادة الذين يحملون جارهم ويتركون الليث غير مفترس، مثل الكلب. والافتراس نعت الليث، ويجوز أن يريد: وتاركي الليث ككلب عاجز عن الصيد.
من كل أبيض وضاحٍ عمامته ... كأنما اشتملت نوراً على قبس
القبس: الشعلة من النار.
يقول: كل واحد من بنيه أبيض وضاح أي واضح الجبهة وتم الكلام هاهنا، ثم استأنف فقال: عمامته: أي عمامة كل واحد منهم، كأنها مشتملة على شعلة من النار، ونصب نوراً على التمييز.
دانٍ بعيدٍ محبٍ مبغض بهجٍ ... أغر حلوٍ ممرٍّ لينٍ شرس
دانٍ: أي قريب. أي هو دانٍ ممن يقصده لا يحتجب عنه، أو من أوليائه، أو من فعل الخير، أو أنه متواضع. بعيدٍ: ممن ينازعه الكرم، أو عن النقص، أو من حيث المحل، أو عن إتيان ما لا يحل. محب: أي يحب البذل، للأولياء وأهل الفضل، مبغض: أي للبخل، أو لأهل النقص واللؤم. بهجٍ: أي فرحٍ عند سؤال السائل إياه وأفضاله عليه أغر: أي لين الجانب لأوليائه، ومن يستعين به. شرس: أي سيىء الخلق مع من لا يطيعه.
ندٍ، أبيٍ، غرٍ، وافٍ، أخٍ، ثقةٍ، ... جعدٍ، سريٍ، نهٍ، ندبٍ، رضىً، ندس
ندٍ: أي سخى. أبيٍّ: أي ممتنع، من فعل الأمور الدنيئة، أو أبى الضيم. غرٍ: أي مولع باقتناء المكارم. يقال: غرى بكذا فهو غر. وافٍ: أي بالعهد. أخٍ: لمصافاته مع الأصدقاء يطلق عليه اسم الأخ ثقة: أي موثوق به وبإخائه ويروى أخي ثقةٍ فيكون على هذا مصدراً، أي صاحب ثقة جعد: أي ماضٍ في الأمور، خفيف النفس. ويقال: الجعد، إذا أطلق أريد به السخي، وإذا قيد فقيل: جعد اليدين، فهو البخيل. سرى: أي سيد رفيع المنزلة، من السرو وهو الارتفاع نهٍ: أي عاقل، من النهي. ندب: أي خفيف في الأمور، وقيل: سريع الاهتمام. رضىً: أي مرضى. ندس: أي بحاث عن الأمور عارفٌ بها.
لو كان فيض يديه ماء غاديةٍ ... عز القطا في الفيافي موضع اليبس
الغادية: السحابة التي تأتي في الغداة. وموضع اليبس: فاعل عز. والقطا: مفعوله. فيكون عز من قولهم: عزه يعزه إذا غلب.
يقول: لو كان ما يفيض من يديه ماء سحابة لعم الدنيا كلها؛ حتى لا يجد القطا موضعاً يابساً يلتقط منه الحب، أو ينام فيه وعز اليبس وغلبه، بامتناعه عليه، فهو يطلبه ولا يجده، وتحقيق المعنى: غلب القطا وجود موضع اليبس وهو من باب إضافة المنعوت إلى النعت.
أكارمٌ حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصرٍ عن طرابلس
أنث قصرت وإن كان فعل كل لأنه أراد جماعة الأمصار.
يقول: هؤلاء السادة الذين تقدم ذكرهم وهو قوله: أبا الغطارفة. وقوله: أكارم. جمع أكرم. حسدت السماء الأرض لكونهم عليها وصارت كل بلدة قاصرة عن طرابلس لكونهم فيها دون غيرها. وروى: وقصرت كل مصر بفتح اللام فيكون في تقديره وجهان: أحدهما: أن السماء قصرت البلدان عن هذه البلد، لمكانهم فيه.
والثاني: أنها راجعة إلى قوله: أكارم وهو جمع، وكأنهم قصروا كل مصر عن بلدتهم.
أي الملوك وهم قصدي، أحاذره ... وأي قرنٍ وهم سيفي وهم ترسي؟
قصدي: أي مقصودي.
يقول أي ملك أحاذره وهم مقصودي، وأي منازع لي أخشاه وهم سيفي، أمضيه فيه، وترسي الذي أحرس نفسي بهم، وهو من قول البحتري
وإني امرء أخشى الأعادي ودونه ... جناب ابن عمرو والرماح الذوائد
وقال أيضاً في صباه لصديق يودعه: وهو عبد الرزاق بن أبي الفرج:
أحببت برك إذ أردت رحيلا ... فوجدت أكثر ما وجدت قليلاً
يقول: أحببت أن أبرك بمبرة عند ارتحالي عنك، فوجدت كل جليلٍ قدرت عليه قليلاً عن قدرك، قاصراً عن محلك، وظاهره أنه مدح على ما ذكرنا. وقيل: إنه هجاء، وأراد: أحببت برك بي وإحسانك إلي فوجدت كثيره قليلاً. والأولى أنه مدح.
وعلمت أنك في المكارم راغبٌ ... صبٌّ إليها بكرةً وأصيلا
يقول: قد علمت أنك راغب في اقتناء المكارم، مشتاق إليها. بكرة وأصيلاً: أي ليلاً وناراً، فلم أر الامتناع عن الإهداء صواباً.
فجعلت ما تهدي إلي هديةً ... مني إليك وظرفها التأميلا(1/21)
يقول: فكرت فيما أهديه إليك، فلم أر شيئاً يقع عند قدرك، فجعلت هديتي إليك المدح الذي تعلمته منك، ومن صفاتك، فجعلته هديةً مني إليك، بعد ما كان هدية من ك إلي. ويمكن أن يكون المراد: بعثت إليك بعض ما أهديته إلي من الأموال فأهديته إليك. وقد أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي:
أي شيء أهد خى إليك وفي وج ... هك من كل ما تهوي القلوب ومعنى
منك يا جنة النعيم الهدايا ... أو أهدى إليك ما منك يجنى؟!
إلا أنه أخبر أنه أهدى، وابن الرومي قال: أو أهدى؟! ويحتمل أن يكون مراده: جعلت ما تريد إهداءه إلي عند ارتحالي عنك مني إليك، أي أسألك أن تمسك عنه، فتجعل إمساكك عنه بمنزلة إهدائي إليك. وقوله: وظرفها التأميلا: أي جعلت تأميلي إياك قبول هذه الهدية ظرفاً لهذه الهدية ظرفاً لهذه الهدية ومشتملاً عليه، فجعل الأمل كالظرف له. هذا ما ذكره ابن جنى.
وقال غيره: إنه لما أرد ارتحاله عنه واستقل كل هدية يبعثها إلى الممدوح جعل قبول الهدية، هدية منه إليه؛ لعلمه أن الممدوح ممن يسر بقبول المتنبي هديته، سرور من أهدي إليه الهدية، وقوله: وظرفها التأميلا: أراد به أن الأمل مشتمل على هذه الهدية ومحيط بها كإحاطة الظرف بالهدية.
برٌّ يخف على يديك قبوله ... ويكون محمله علي ثقيلا
معناه على تأويل الأول: أنه لا كلفة علي فيما أهديته إليك لأني لم أتكلف منه شيئاً، وإنما هو منك عاد إليك، ويكون تحمل شكرك على قبوله ثقيلاً علي: وعلى المعنى الآخر الذي ذكره ابن جنى: أنك إذا أمسكت عن إهداء ما عزمت عليه فلا نقص عليك؛ لأني على كل حالٍ لم أعطك شيئاً من عندي وإنما هو مالك تركته لك.
وقيل: إنما مدحي إليك برٌّ خفيف، على يديك قبوله لجلالتك، وقصوره عن محمله: علي ثقيلاً: لعظم شأن قبولك لمدحي وصغر شأنه بالنسبة إليك.
وقال أيضاً وقد حلف عليه صديقٌ ليشربن كأساً بيده فأخذه وقال:
وأخٌ لنا بعث الطلاق أليةً ... لأعللن بهذه الخرطوم
فجعلت ردى عرسه كفارةً ... عن شربها وشربت غير أثيم
الخرطوم: اسم الخمر.
يقول: لما حلف بالطلاق أن أشرب هذا الخمر شربت غير أثيم؛ وجعلت كفارة شربي لها، ردى عليه امرأته؛ كراهة أن يحنث في يمينه! وقال أيضاً في صباه ارتجالاً وقد أصابهم المطر والريح يهجو رجلاً يقال له سوار:
بقية قومٍ آذنوا ببوار ... وأنضاء أسفارٍ كشرب عقار
آذنوا: أي أعلموا. والأنضاء: جمع نضو. وهو البعير المهزول. وأضافها إلى الأسفار، ليعلم إنما أنحلها كثرة الأسفار. والشرب: جمع شارب. والعقار: الخمر.
يقول: نحن بقية قوم قد هلك أكثرهم وآذنوا بالهلاك، وبقينا نحن على شرف الهلاك ونحن أنضاء أسفار، كأنهم من تساقطهم جماعةٌ شربوا الخمر، فصاروا سكارى. ويجوز أن يكون الأنضاء صفة لدوابهم وإبلهم فيقول: ونحن على دوابٍّ قد أهزلها كثرة الأسفار، حتى صارت كذلك.
نزلنا على حكم الرياح بمسجدٍ ... علينا لها ثوبا حصىً وغبار
ثوبا: تثنية ثوب؛ لإضافته إلى الحصا والغبار.
ويروى: بمشهد: مكان بمسجد.
خليلي ما هذا مناخاً لمثلنا ... فشدا عليها وارحلا بنهار
الهاء في عليها: ترجع إلى أنضاء الأسفار؛ إذا جعلناها دواب.
فيقول مخاطباً لصاحبه: ليس هذا المسجد مناخاً لمثلنا، فشد على الدواب رحالها، وسروجها، وارحلا بنهار، قبل اجتنان الليل فيصعب الارتحال، ويحتمل أن يكون الكناية في عليها للرياح كأنه قال: شدا على الرياح أو على دواب كالرياح سرعة.
ولا تنكرا عصف الرياح فإنها ... قرى كل ضيفٍ بات عند سوار
يقول: لا تنكرا شدة هبوب الرياح في هذا المكان؛ لأنها طعام كل ضيفٍ بات عند هذا الرجل الذي اسمه سوار، فإن ذلك عادته لضيوفه فليس هذا بمستنكر منه. وقيل: سوار. أي سواري المسجد، أو سواري الأمطار. والأول أولى وأظهر.
وقال أيضاً في صباه يمدح أبا المنتصر: شجاع بن محمد بن الرضا الأزدي:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق ... وجوىً يزيد وعبرةٌ تترقرق
أرقٌ: مبتدأ، وخبره محذوف. وكذلك جوىً وعبرةٌ تقديره: بي أرق وعلى هنا بمعنى مع، وأراد به دوام الأرق: وهو السهاد.
يقول: بي أرق على أرقٍ. ومثلي جدير بالأرق، وبي جوىً: وهو الحزن. يزيد ولا ينقص. ولي دمعة تسيل أبدا.(1/22)
جهد الصبابة أن تكون كما أرى ... عينٌ مسهدةٌ وقلبٌ يخفق
وروى: كما يرى.
يقول جهد الصبابة هو الذي أراه من عينٍ مسهدةٍ، وقلبٍ خافق خوف الهجر.
ما لاح برقٌ أو ترنم طائرٌ ... إلا انثنيت ولي فؤادٌ شيق
وروى: ما لاح نجمٌ. والترنم: شبيه الغناء، وانثنيت: أي انعطفت.
يقول: لم يلمع برق أو نجم ولم يترنم طائر، يدعو إلفه إلا انعطفت ورجعت إلى نفسي، وأنا مشتاق، مهيج القلب لذكر المحبوبة. وتشويقه لمعان البرق على معنيين: أحدهما أنه يذكره ثغرها المضيء، والثاني أنه يلمع من جانب المحبوبة وناحيتها، فشوقه لهذا الوجه.
جربت من نار الهوى ما تنطفي ... نار الغضا وتكل عما تحرق
أي تحرق هذه النار. وتنطفي: لغة ضعيفة. لقولهم: طفيت النار وأطفيتها، وما بمعنى الذي. والغضا: شجر يوصف بقوة التوقد.
يقول: جربت من نار الهوى ناراً تطفأ عندها نار الغضا مع شدتها وتكل أيضاً نار الغضا عما تحرقه نار الهوى. وقيل: إن ما للنفي وقدر فيه تقديران: أحدهما: أن يكون تقديره: جربت من نار الهوى كنار الغضا ما تنطفي وما تكل، ومعناه: ما تنطفىء نار الهوى وما تكل عن الإحراق، بمرة فتريحني.
وقوله: نار الغضا تشبيه يعني كنار الغضا في شدة توقدها.
والثاني: أن يكون تكل فعل الغضا والواو زائدة أو منقولة إلى نار الغضا، ومعناه: جربت من نار الهوى ناراً ما تنطفىء، ونار الغضا تكل عما تحرقه هذه النار.
وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق؟!
يقول: كنت أعذل أهل العشق، لجهلي به، حتى دفعت إلى العشق، فلما ذقته عجبت كيف يموت من لا يدخل العشق قلبه؟! فكأنه يقول: إن أقوى أسباب الموت العشق، وإن من بعد عنه فهو بمعزل عن الموت.
وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني ... عيرتهم فلقيت فيه ما لقوا
الهاء في فيه للعشق. والضمير في لقوا لأهل العشق. وكذلك في عذرتهم وعيرتهم.
يقول: لما ذقته عذرت عنده العشاق وعرفت أني مذنب في عيبهم، فلما جربت عليهم في اللوم، لقيت من شدة العشق مثل ما لقوا. ومنه قول الآخر:
عذرت من عيرني في الهوى ... لأنه لم يدر ما شانه
لو ذاقه يوماً درى أنه ... أصعب حزن المرء أحزانه
أبنى أبينا نحن أهل منازلٍ ... أبداً غراب البين فينا ينعق
يحتمل أن يريد به: يا إخواننا وأهل نسبنا، ويحتمل أن يريد به: يا بني آدم. وغراب البين. قيل المراد به الموت. وينعق: أي يصيح. وهما مرويان.
يقول: يا بني أبينا. نحن أهل منازل يقضي علينا فيها بالموت والفراق، فإن كان اليوم وقع الفراق بيننا، فكذلك يقع في الدنيا بين أهلها؛ أورد ذلك مورد التسلية والوعظ للمخاطبين:
تبكي على الدنيا وما من معشرٍ ... جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
يقول: نبكي على هذه الدنيا وحياتها؛ لعلمنا بفنائها، وما من جمع إلا بددته الدنيا وفرقته؛ فالبكاء على هذا محال.
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا؟
الأكاسرة: جمع كسرى، وهو ملك العجم. وهو تعريب خسرو، الذي بالفارسية. والجبابرة: جمع الجبار. وهو المتسلط على الناس العاتي.
يقول: أين ملوك العجم وعظماء الدنيا؟ الذين كنزوا الكنوز، فما بقيت كنوزهم ولا بقوا هم.
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحدٌ ضيق
يقول: من كل ملك ضاق المكان الواسع بجيشه، حتى مات فتوارى، مقيماً في القبر، وضمه في قبره لحدٌ ضيق.
خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا ... أن الكلام لهم حلالٌ مطلق
يقول: هؤلاء الملوك ماتوا، وصاروا، كالخرس لا يجيبون إذا نودوا، فكأنهم لم يعلموا: أن الكلام لهم حلال مطلق. لو قدروا عليه.
فالموت آتٍ والنفوس نفائسٌ ... والمستغر بما لديه الأحمق
النفائس: جمع النفيسة، وهي التي يبخل بها لجلالتها والمستغر المحمول على الغرة المخدوع. أو هو طالب الغرور وروى: المستعز بالعين والزاي وهو المتعزز أو طالب العز.
يقول: الموت لا محالة آت والنفوس جليلة خليقة بأن يبخل بها، إلا أن المخدوع والمتعزز بما لديه، مما لا بقاء له هو الأحمق.
والمرء يأمل والحياة شهيةٌ ... والشيب أوقر والشبيبة أنزق
شهية: بمعنى المفعولة، والنزق: الخفة والطيش.(1/23)
يقول: إن المرء يؤمل الأمل الطويل، والحياة شهيةٌ، والشيب وقورٌ، والشباب نزقٌ، فيكون. أفعل بمعنى الفاعل، لا بمعنى المبالغة. وأراد صاحب الشيب وصاحب الشيبة؛ وقيل: أراد به أفعل للمبالغة.
فيقول: إن الشيب أوقر من الشبيبة، والشبيبة أنزق من الشيب؛ وذلك لأن الشيخ قد يستعمل الوقار في بعض الأحوال، غير أن الغالب منه النزق، فلهذا المعنى استعمل فيه لفظ أفعل.
ولقد بكيت على الشباب ولمتي ... مسودةٌ ولماء وجهي رونق
يقول: بكيت على فراق الشباب قبل نزول المشيب بي، وعند ما كان شعر رأسي أسود، ولماء وجهي رونق، وذلك لعلمي بزواله، وحذري من فراقه.
حذاراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
حذاراً عليه: أي على فراق الشباب. وروى: بدمع عيني أغرق. ونصب حذراً لأنه مفعول له.
يقول: بكيت على الشباب قبل زواله حذراً من فراقه، حتى كدت أشرق بماء جفني، أي أغص به. وأراد به الهلاك؛ ولهذا جعل بدله أغرق.
أما بنو أوس بن معن بن الرضا ... فأعز من تحدى إليه الأينق
يقول: هؤلاء الممدوحون هم أعز من تحدى إليهم الإبل، ويقصد إليهم؛ لطلب المال، والجاه، لسخائهم.
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
يقول: إن ديارهم ليست في نواحي المشرق، ولكنها في نواحي المغرب، فلما رأيت صورهم الحسان بمنزلة الشموس مع أن المعهود من الشمس أنها تطلع من جهة المشرق كبرت لتعجبي من ذلك؛ فإني رأيت الشمس في غير جهة المشرق!
وعجبت من أرض سحاب أكفهم ... من فوقها وصخورها لا تورق
يقول: عجبت من صخور هذه الأرض، التي هي مقرهم، كيف لا تورق؟ وفوقها تمطر سحائب أكفهم؛ يصفهم بالسخاء.
وتفوح من طيب الثناء روائحٌ ... لهم بكل مكانةٍ تستنشق
المكان: والمكانة واحد. والاستنشاق: طلب الرائحة بالشم.
يقول: إن هؤلاء القوم تفوح لهم من طيب ما يثني عليهم روائح طيبة! تصل إلى كل مكان، ويشمها كل إنسان، فيقصد الناس إليهم من كل جانب لطلب معروفهم وكرمهم.
مسكية النفحات إلا أنها ... وحشيةٌ بسواهم لا تعبق
النفحات: جمع نفحة. وهي أول هبوب الريح.
يقول: روائح ثنائهم مسكية النفحات، يفوح منها ما يفوح من المسك، إلا أنها نافرة من غيرهم ولا تعبق بسواهم؛ يصفهم باختصاص الثناء بهم وأنه لا يستحقه سواهم.
أمريد مثل محمدٍ في عصرنا ... لا تبلنا بطلاب ما لا يلحق
لا تبلنا: أي لا تجربنا. وروى: لا تبلنا: لا توقعنا في البلوى، لطلاب ما لا يلحق.
يقول: يا من يريد أن يكون مثل محمدٍ الممدوح لا تجربنا بطلب ما لا يلحق، ولا يوجد. يعني أنه لا نظير له، فطلب مثله أمر محال.
لم يخلق الرحمن مثل محمدٍ ... أحداً وظني أنه لا يخلق
يقول: لم يخلق الله تعالى مثله أحداً فيما مضى، ويقيني أنه لا يخلق في المستقبل؛ إذ الأمور الآتية معتبرة بالماضية. وهذا كذب ظاهر.
يا ذا الذي يهب الكثير وعنده ... أني عليه بأخذه أتصدق
وروى: يهب الجزيل. وأتصدق: أعطي الصدقة.
يقول: يا من هو يعطي العطاء الجزيل ويرى أني متصدق عليه بأخذي منه، وذلك لسروره بما يعطيه لي. ونظيره:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أمطر علي سحاب جودك ثرةً ... وانظر إلي برحمةٍ لا أغرق
يقول: أمطر على سحاب عطائك وسخائك غزيرة، ثم انظر إلي برحمتك، ولا تجاوز الحد على ما عهدت من حالك، لكي لا أغرق بنيلك.
وقيل: أراد بقوله: كي لا أغرق أي كي لا أعجز عن القيام بشكرك.
كذب ابن فاعلةٍ يقول بجهله: ... مات الكرام وأنت حيٌّ ترزق!
يقول: كذب ابن زانيةٍ، يقول بجهله: إن الكرام ماتوا، وأنت حي ترزق فيما بين الأحياء مع كونك سيد الكرام! وروى: ترزق أي أنت حي تجري على يديك أرزاق الناس، فكيف يصح قوله: إن الذين تجري على أيديهم أرزاق الناس قد ماتوا، وأنت حي ترزقهم! فنسب هذا القائل إلى الكذب، ونسب أمه إلى الزنا.
وقال أيضاً في صباه يمدح علي بن أحمد الخراساني
حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشبع؟(1/24)
يقول: إن الهوى ما أبقى من نفسه إلا بقية، وتلك البقية كانت قريبةً من الزوال، خوف الفراق، فلما فارقتني الأحبة، ودعتني تلك البقية وارتحلت بارتحالهم، فلم أدر أي الظاعنين أشيع: أحبتي أم بقية روحي؟ لأن أحدهما كصاحبه في الكرامة علي. وروى أي الظاعنين، بلفظ الجمع، فيكون قد جعل حشاشة النفس معدودة في جملة الأحبة؛ لأنها محبوبة كالأحبة.
أشاروا بتسليمٍ فجدنا بأنفسٍ ... تسيل من الآماق والسم أدمع
الآماق: واحدها، مأق، ومؤق. وهو طرف العين مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع في الغالب. والسم: الاسم أدمع. وأشاروا إلى الأحبة عند الوداع بتسليم. ونبه بقوله: أشاروا إلي أنهم لا يمكنهم إظهار السلام بالكلام؛ خشية الرقباء فجدنا نحن بأرواح، تسيل من أعيننا جواباً لهم، وأسفاً على فراقهم، وكانت التي تسيل أرواحاً في الحقيقة، وإن كان اسمها الدمع؛ لأنها كانت دماً، وخروج الدم فيه خروج الروح، وقد أوضح هذا المعنى في موضع آخر فقال:
ولم لم يكن ما انهل في الخد من دمي ... لما كان محمراً يسيل فأسقم
ويجوز أن يكون جعل الدمع، بمنزلة الروح؛ لأن نزول الدمع لا يكون إلا عند شدة الكرب، فلما اشتد عليه فراقهم كان الدمع الخارج عنده، مثل خروج الروح شدة!
حشاي على جمر ذكيٍّ من الهوى ... وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع
الجمر الذكي: الشديد التوقد.
يقول: إن قلبي يحترق بنارٍ شديدة من الهوى، وعيني من مشاهدة حسنها كأنها راتعة في روض الحسن، يعني: أن من نظر إلى مثل ما أنظر إليه من محاسن هذا الحبيب كان خليقاً أن يكون خليقاً.
ويجوز أن يكون أراد أن عند الوداع كان قلبي في احتراق؛ لما كاد يقع بيننا من الفراق، وعيني ترتع في روض من الحسن، في وجه الحبيب عند الوداع، وإنما لم يقل: ترتعان لأن فعل العينين واحد في الأغلب عند الرؤية. وروى: وعيني فعلي هذا لا يتوجه عليه السؤال.
ولو حملت صم الجبال الذب بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدع
أوشكت بمعنى: قربت.
يقول: لو حملت الجبال الشديدة الفرقة التي بنا، غداة افترقنا، لقربت أن تشقق.
بما بين جنبي التي خاض طيفها ... إلى الدياجي والخليون هجع
الدياجي: جمع ديجوج، وهو الظلمة، وأصله دياجيج، فأبدلت الجيم ياء ثم أدغمت الياء في الياء، ثم خففت. وما: بمعنى الذي. وبين الجنبين: أراد به القلب، والنفس.
وتقديره: أفدى بما بين جنبي. أي بنفسي، وقلبي، المرأة التي خاض طيفها الظلام إلي، في حال كانت عيون الخليين عن العشق نائمة، فالواو في قوله والخليون واو الحال.
أتت زائراً ما خامر الطيب ثوبها ... وكالمسك من أرادنها يتضوع
أتت: أي المرأة: وزائراً أي طيفها فقدر المرأة في أتت. وفي الزائر الطيف.
ويجوز أن يكون أجرى زائراً مجرى حائض، وحامل. على جهة النسب.
ويجوز أن يريد بذلك أنها أتتني وأنا سائرٌ إليها لزيارتها، فعلى هذا يكون زائراً مفعول به. فكأنه قال: أتت هي زائراً لها.
وفي الأول، نصب على الحال. يقول: أتت هذه المرأة يعني طيفها زائراً لي، أو كنت زائراً لها. ما خالط الطيب ثوبها ومع ذلك فإن رائحة المسك تفوح من كمها وأطرافها وثيابها.
فشرد إعظامي لها ما أتى بها ... من النوم والتاع الفؤاد المفجع
إعظامي: في موضع الرفع لأنه فاعل شرد. وما مفعول به، يعني الذي. وتعجبي من مجيئها، الشيء الذي أتى بها وهو النوم، واحتراق الفؤاد المفجوع.
فيا ليلةً ما كان أطول بتها ... وسم الأفاعي عذب ما أتجرع!
قوله: يا ليلةً. تعجب وإعظام، وليس بنداءٍ في الحقيقة، وقوله: ما كان أطول! أي ما كان أطول! أي ما كان أطول حزنها! فحذف.
يقول: لما شرد إعظامي لها النوم، واحتراق الفؤاد، طال علي الليل وتكدر. فيصف ذلك ويقول: يا ليلةً ما أطولها، وما أطول حزنها! وسم الأفاعي الذي هو من الأشياء أقتلها، كان عذباً بالإضافة إلى ما قاسيت فيها.
تذلل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشقٌ من لا يذل ويخضع
يقول: تذلل لها في حالة القرب والبعد؛ أما في القرب فلئلا تعرض عنك، وأما في البعد فلننظار القرب بعد البعد، فليس بعاشق من لا يذل للمعشوق، ولا يخضع، لأن التكبر والتعظم لا يليق بالعاشق مع المعشوق.(1/25)
ولا ثوب مجدٍ غير ثوب ابن أحمدٍ ... على أحدٍ إلا بلؤمٍ مرقع
روى: غير. نصباً على الاستثناء المقدم، وروى: مرفوعاً خبر لقوله لا ثوب مجد.
يقول: كما أن الذي لا يخضع للحب خارج عن حكم العشق كذلك ثوب المجد إذا لم يكن على هذا الممدوح لا يكن إلا مرقعاً.
وإن الذي حابى جديلة طيىءٍ ... به الله يعطي من يشاء ويمنع
جديلة طيىء: بطن من طيىء وحابى: بمعنى جبى.
يقول: وإن الذي أعطى هذه القبيلة، به الله يعطي من يشاء ويمنع، ذلك مبالغة في وصفه بسعة القدرة، ونفاذ الأمر، فيعطي من يشاء ويحرم من يشاء، وقيل: إن حابى هذه القبيلة بالعطاء وغالبهم به وهو الممدوح، به الله يعطي من يشاء ويمنع، إشارة إلى أنه كثير العطاء من حيث أن الله تعالى جعل له هذه السعة والقوة ما لا يحتمل الغيرة منهم، وقيل تقديره: إن الذي أعطى الله هذه القبيلة من شرف نسب هذا الممدوح منهم، يعطيه الله تعالى من يشاء من عباده فكذلك صنع الله تعالى به إذ وضعه حيث شاء فليس لأحد أن يطلع.
بذي كرمٍ ما مر يومٌ وشمسه ... على رأس أوفى منه تطلع
يقول على التقدير الأول: الله تعالى يعطي من يشاء ويمنع بذي كرم صفته ما في البيت. وعلى الثاني: حبى الله هذه القبيلة بذي كرم ما مر يومٌن وشمس ذلك اليوم طلعت على رأس أحد أوفى ذمةً منه وهي نصب على التمييز.
فأرحام شعر يتصلن لدنه ... وأرحام مالٍ ماتني تتقطع
وروى: يتصلن بجوده. وروى: لدنه الهاء في نه: للمدوح، وفي به: للكرم المذكور في البيت الذي قبله ماتني: أي ما تفتر.
يقول: إنه يجمع الشعر في مدحه بتفريق ماله، فعلائق الشعر به متصله وهي المعبر عنها بالأرحام، وعلائق المال منه منقطعة، ولا تزال على الانقطاع لتفريقه إياها في اكتساب الثناء والذكر.
فتىً ألف جزءٍ رأيه في زمانه ... أقل جزىءٍ بعضه الرأي أجمع
تقدير البيت: فتىً رأيه في زمانه ألف جزء، بعضه أقل جزء من رأيه، هو رأي الناس أجمع! وقسم رأي هذا الممدوح ألف جزء وجعل بعض أقل الجزء من ألف، مقابلاً لآراء جميع الناس! وكأنه أخذه من قول أبي بكر بن النطاح.
له هممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
إلا أنه قلب الهمم إلى الرأي.
غمامٌ علينا ممطرٌ ليس يقشع ... ولا البرق فيه خلباً حين يلمع
يقشع ويقلع: مرويان، وهما بمعنىً واحد، أي ليس يزول. وخلباً: نصب لأنه خبر ليس، وهو: البرق الذي لا مطر معه.
يقول: هو غمام يمطر علينا مواهب، وأيادي، ولا يفتر عنها. ثم فضله على الغمام من وجهين: أحدهما. أن عطاءه لا ينقطع بحال، كما تنقطع أمطار الغمام في أحوال. والثاني. أن وعده بالعطاء غير كاذب كالبرق الخلب. أي: كالغمام الذي يكون برقه خلباً لا يأتي بمطر. يصفه بإدامة الجود والوفاء بالوعود.
إذا عرضت حاجٌ إليه فنفسه ... إلى نفسه فيها شفيعٌ مشفع
الشفيع المشفع؛ هو المقبول الشفاعة.
يقول: إذا عرضت الحاجات وظهرت الناس إليه، فلا يحتاجون إلى الوسائل إليه في قضائها، بل يكون شفيعاً إلى نفسه مقبول الشفاعة؛ لأن فيه من الكرم ما يغني عن الوسائل.
خبت نار حربٍ لم تهجها بنانه ... وأسمر عريانٌ من القشر أصلع
أسمر عريان: أراد به القلم؛ لما في لونه من السمرة.
يقول: طفئت نار حرب، لم يهجها بنان هذا الممدوح، وقلمه الأسمر العريان من القشر، وأصلع: أي أملس كالرجل الذي لا شعر على رأسه وأراد به: أن الحرب التي لم تصدر عنه لم تدم.
نحيف الشوى يعدو على أم رأسه ... ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع
الشوى: أراد به رأس القلم، وأصله جلدة الرأس. ويحفى: أي يكل.
يقول: إنه نحيف دقيق الرأس يعدو على أم رأسه بخلاف سائر العادين، ويكل ويتعب من كثرة العدو، فإذ قطع رأسه يقوى على العدو.
يمج ظلاماً في نهارٍ لسانه ... ويفهم عمن قال ما ليس يسمع
يمج: أي يلفظ من فيه. وأراد بالظلام: المداد. وبالنهار: القرطاس وأراد بلسانه: جلفته. وهو فاعل يمج، وقوله: ويفهم عمن قال ما ليس يسمع يعني. أن القلم يفهم الناس بقراءة ما كتب ما ليس يسمعه هو.
ذباب حسامٍ منه أنجى ضريبةً ... وأعصى لمولاه وذا منه أطوع(1/26)
ذباب السيف: حده. والهاء في منه الأول للقلم وفي الثاني للحسام، والضريبة: المكان الذي تصيبه الضربة. فضل قلمه على السيف.
يقول: حد السيف أنجى في ضريبته من حد قلمه، وحد السيف أعصى لصاحبه، وهذا أطوع.
وذلك أن الضارب إذا ضرب بسيفه ثم نبا سيفه عن التأثير، وإن شاء أمسكه قبل الضرب.
والقلم لا يخون صاحبه في حالٍ، فإذا كتب به: اقتل فلاناً لم يمكنه بعده ألا يقتله، وقد حمل إليه الكتاب ونفذ أمره فيه.
بكف جوادٍ لو حكتها سحابةٌ ... لما فاتها في الشرق والغرب موضع
يقول: هذا القلم الموصوف، بكف جوادٍ. أي الممدوح. لو حاكتها السحابة لشملت العالم مطراً شرقاً وغرباً.
فصيحٍ متى ينطق تجد كل لفظةٍ ... أصول البراعات التي تتفرع
فصيحٍ: جر لأنه بدل من جوادٍ.
يقول: هو الفصيح؛ فكل لفظة من قوله أصول البراعات. فجعل كل لفظة أصولاً.
وليس كبحر الماء يشتق قعره ... إلى حيث يفنى الماء حوتٌ وضفدع
يشتق: بمعنى يشق.
يقول: ليس هذا الممدوح في سخائه كبحرٍ يقدر الحوت والضفدع على شقه إلى حيث يفنى الماء، بل هو أعمق وأنفع.
أبحرٌ يضر المعتفين وطعمه ... زعاقٌ كبحر لا يضر وينفع
الزعاق: المر الملح.
يقول مفضلاً له على البحر: إن البحر هو الذي يضر قاصديه، والطالبين المعروف منه، وماؤه ملحٌ مر، وهذا الممدوح ينفع معتفيه ولا يضرهم، وعطاؤه هنيٌّ وخلقه حلو شهيٌّ.
وقوله: لا يضر وينفع ليس المراد به أنه لا يضر أحداً لأنه حينئذٍ لا يضر أعداءه وإنما المراد به أنه ينفع المعتفين والأولياء ولا يضرهم.
يتيه الدقيق الفكر في بعد غوره ... ويغرق في تياره وهو مصقع
تياره: أي موجه. ومسقع ومصقع: رويا جميعاً، وهو البليغ الفصيح.
يقول مؤكداً لتفضيله على البحر: إن الرجل الدقيق الفكر يتحير في غوره ولا يدرك كنه وصفه، ويغرق في فضله الفصيح البليغ. شبهه بالموج.
ألا أيها القيل المقيم بمنبجٍ ... وهمته فوق السماكين توضع
توضع: أي تسرع في السير.
يقول: أيها الملك المقيم بمنبج، وهمته فوق السماكين تسرع في السير، وتجاوزهما لسرعتها.
أليس عجيباً أن وصفك معجزٌ ... وأن ظنوني في معاليك تظلع؟!
وروى: معجزي. ومعاليك تظلع: أي تقصر وتعجز.
يقول: أليس بعجب أن وصفك يعجزني عن بلوغه؟! مع قدرته على الشعر. وأن ظنوني في معاليك تكل وتعجز؟! مع إصابتها في الأمور.
وأنك في ثوبٍ وصدرك فيكما ... على أنه من ساحة الأرض أوسع
يقول: العجب من كونك في ثوب، وكون صدرك فيكما: أي فيك وفي ثوبك. مع أن صدرك أوسع من ساحة الأرض جميعاً.
وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه ما درت كيف ترجع
التاء في دخلت: ضمير الدنيا. وبنا: كناية عن نفسه، وجميع الناس.
يقول: قلبك في الدنيا، وهو في سعته بحيث لو دخلت الدنيا بالإنس والجن فيه لتحيروا ولم يدروا كيف يرجعون؛ لسعة صدرك وصغر الإنس والجن عن قدره.
ألا كل سمحٍ غيرك اليوم باطلٌ ... وكل مديحٍ في سواك مضيع
غيرك: نصب لأنه استثناء مقدم. وروى: بالجر صفة لسمح.
يقول: كل جواد ما خلاك، بالإضافة إليك باطل. وكل مديح يقال في غيرك فهو مضيع؛ لأنه لا يعرف حقه ولا يوجد فيه من المعاني ما وجد فيك.
وقال أيضاً يفتخر في صباه على لسان بعض التنوخيين وقد سأله ذلك:
قضاعة تعلم أني الفتى ال ... ذي ادخرت لصروف الزمان
قضاعة: بطن من تنوخ، وهم من بني قحطان.
يقول: تعلم هذه القبيلة، أني فتاها الذي أعدته لصروف الزمان، وأنهم يلتجئون إلي عند الشدائد، فأكشفها، وهذا ادخارهم له.
ومجدي يدل بني خندفٍ ... على أن كل كريمٍ يماني
خندف: أم العرب.
يقول: يدل شرفي العرب كلهم، على أن كل كريمٍ من أهل اليمن، لا من ربيعة ومضر، وسائر العرب. ويمانٍ: منسوب إلى اليمن، يعني: يمني. يقال: رجل يمانٍ وامرأة يمانية بالتخفيف.
أنا ابن اللقاء، أنا ابن السخاء، ... أنا ابن الضراب، أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي، أنا ابن القوافي، ... أنا ابن السروج، أنا ابن الرعان(1/27)
العرب يقولون: فلان ابن كذا وأبو كذا إذا كان من أهله، وملازماً له. واللقاء: المحاربة. والرعان: جمع الرعن، وهو مقدمة الجيش. أخذ من رعن الخيل وهو أنفه.
يقول: أنا صاحب هذه الأشياء، فأنا ابن اللقاء في الحروب، وابن الضراب، والطعان، وابن السخاء، والجود، وابن الفيافي، أقطعها، والقوافي، أبدعها وأنسبها، وابن السروج، أركبها، وابن الرعان، أقودها إلى العدو أحاربهم بها.
طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السنان
النجاد: حمالة السيف. يريد به. أنه طويل القامة، والعرب تمتدح بطول القامة، والعماد: عماد البيت. وكذلك كناية عن السؤدد. والقناة: الرمح. وأراد بطولها حذقه بالطعن بها. وكذلك طول السنان كناية. كما قال غيره:
إذا قصرت أسيا فنا كان وصلها ... خطانا إلى القوم الذين نضارب
فأما طول القناة، فلا مدح فيه.
حديد الحفاظ حديد اللحاظ ... حديد الحسام حديد الجنان
اللحاظ: جمع اللحظ والحفاظ: المحافظة على الحزم. أو سرعة الغضب فيما يجب حفظه. والجنان: القلب. أي ذكي القلب. والحسام: السيف القاطع.
يصف نفسه بحدة هذه الأشياء منه بحيث لا يلحقه فيها خلل.
يسابق سيفي منايا العباد ... إليهم كأنهما في رهان
سيفي: فاعل يسابق. ومنايا العباد: أي موتهم.
يقول: إن سيفي يسابق منايا العباد، ويغالبها في سبوقها إليهم، كأنهما في رهان لمسابقتهما، فسيفي يطلب موتهم قبل وقت الموت، والموت يميتهم في وقته، فيتسابقان في ذلك.
يرى حده غامضات القلوب ... إذا كنت في هبوةٍ لا أراني
الهبوة: الغبرة.
يقول: إن سيفي يقطع كل موضع يقع عليه، حتى يخلص إلى القلب، فكأنه يرى غوامض القلوب، مع كونها محتجبة عن العيون، في وقت لا أرى نفسي من كثرة الغبار، ولم أغفل عن نفسي من شدة الحرب، وكثرة الغبرة، وقيل معناه: إذا كنت في هبوة الحرب، لا أدري نفسي، أي لا أبالي بها ولا أنظر إلى ما يحل بها. وقيل: معنى البيت، أن سيفي يعلم ما في القلوب من الغش والحسد، فلا يقع إلا على حاسد، أو عدوٍّ جاحد، في الحالة التي أغفل عن نفسي فأكون كمن لا معرفة له بها.
سأجعله حكماً في النفوس ... ولو ناب عنه لساني كفاني
يقول: سأجعل سيفي حكماً في نفوس الأعداء؛ ليسلبها ويأخذها، ولو ناب لساني عنه، كفاني، لأن حدته كحدة اليف.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
قفا تريا ودقي فهاتا المخايل ... ولا تخشيا خلفاً لما أنا قائل
المخايل: جمع مخيلة: وهي البرق، ونحوه مما يستدل به على المطر، وهاتا: إشارة إلى المخايل.
وقفا: أمر من الوقوف، ويحتمل أن يراد به: إصراراً وعيشاً يقول لصاحبيه: قفا وعيشا، تريا من أمري وفعلي شأناً عظيماً، فهذه مخايله قد ظهرت، ولا تخشيا خلفاً لما أقوله، لأني صادق في جميع ما أقوله، ولست كالبرق الذي يصدق تارة ويكذب أخرى. ومثله للبحتري:
هذا أوائل برقٍ خلفه مطرٌ ... وأول الغيث قطرٌ ثم ينسكب
رماني خساس الناس من صائب استه ... وآخر قطنٌ من يديه الجنادل
وروى: خشاس اناس. يعني ضعيفهم، يقع على الواحد والجمع، وصائب: من صاب السهم الهدف، وأصابه، بمعنىً فهو صائب ومصيب.
يقول: رماني خساس الناس ورذالهم، دون كرامهم. ثم جعلهم ثلاثة أقسام، وذكر قسمين في هذا البيت والقسم الثالث في البيت الذي يليه. القسم الأول هو من يرميني من صائب استه: يعني أنه لا ضعيف لا يجاوز رميه إياي استه، أو يريد به: أن ما يريد أن يعيرني به لا يلحقني، لأن الإجماع واقع على فضلي، فما يقوله يدل به على نفسه دوني، وذكر استه: استهانةً واستخفافاً به. وقيل: أراد من داءٍ به، أن يصيب السلاح استه. أي يلي دبره عند الانهزام لفراره وجبنه. والقسم الثاني: أن الجندل من يده إذا رماني به كالقطن؛ في ضعف تأثيره في وقلة مبالاتي به، ومعناه: أن منهم من لا يجاوز رميه، ومنهم من يكون الجندل من يده كالقطن وإن جاوز.
ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل(1/28)
والقسم الثالث من خساس الناس: من يرميني من الناس. من هو جاهل قد اجتمع فيه ثلاثة أضرب من الجهل: جهله بقدري، وجهله بأنه جاهل بقدري، وجهله بأني عالم بجهله وبقدري، فمن اجتمع فيه هذه الضروب من الجهل كيف يعرف قدري؟!.
ويجهل أني مالك الأرض معسرٌ ... وأني على ظهر السماكين راجل
مالك: نصب على الحال، وكذلك على ظهر السماكين: في موضع نصب، لأنه حال، وخبر أن الأولى معسر، وخبر الثانية راجل.
يقول: إن الجاهل الذي ذكرته يجهل أني في حال ملكي الأرض معسر، لأن همتي أعلى من ذلك، وهذا قليل في جنب ما أستحقه، وأني في حال كوني على ظهر السماكين، راجلٌ عند نفسي وعظم محلي. يصف أن همته عالية، لا يسعها ملك الأرض.
تحقر عند همتي كل مطلبٍ ... ويقصر في عيني المدى المتطاول
يقول: إن لي همة تحقر عندي كل مطلب، وتقصر الغاية القصوى في عيني مع تطاولها. يعني لا أرضى لنفسي كل مرتبة أبلغها، بل أطلب فوقها.
وما زلت طوداً لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل
الطود: الجبل العظيم، ومناكبه: جوانبه.
يقول: كنت كالجبل لا يزول؛ لعظم حالي، فالآن قد اضطررت إلى قبول الضيم فحركني الذل والضيم، كما تحرك الزلازل الجبل، ومعناه: لم يؤثر في الضيم إلا قدر ما تؤثر الزلزلة في الجبل.
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل
القلاقل: جمع القلقل، وهي الناقة الخفيفة. والعيس: الإبل التي يعلو بياضها شقرة.
يقول: لما بدت في زلازل الضيم، حركت الذي حرك قلبي، الخفاف السراع من الإبل والعيس، كلهن سراع خفاف. وأراد به السفر.
إذا الليل وارانا أرتنا خفافها ... بقدح الحصى ما لا ترينا المشاعل
يصف شدة سير العيس فيقول: إذا الليل سترنا عند السرى، أرتنا أقدام هذه العيس، عند وقعها على الحصى، لشدة ضربها بالحصى، أو ضرب بعضها ببعض، ما لا ترينا المشاعل من الضوء! يعني أن ما ينقدح من النار عند سيرها، كانت تزيد على نار المشاعل وضوئها.
كأني من الوجناء في متن موجةٍ ... رمت بي بحاراً ما لهن سواحل
الوجناء: الناقة الغليظة العظيمة الوجنتين. وقيل: هي الغليظة البدن الصلبة. ورمت: فعل الموجة، شبه المفازة التي سار فيها، بالبحار، لسعتها، ولما فيها من السراب الجاري مجرى الماء.
يقول: كأني من هذه الناقة الوجناء في هذه الفلاة على متن موجة، رمت بي الموجة بحاراً ما لها سواحل؛ لبعد هذه المفازة وسعتها.
يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل
يقول: يصور لي أن البلدان التي أجول فيها مسامعي وأذناي، وأنا في هذه مثل عذل العواذل في أذني، فكما لا يستقر اللوم في أذني، كذلك لا أستقر أنا في بلد من البلاد، وشبه نفسه بالعذل، والبلاد شبهها بالمسامع.
ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى ... تساوى المحايى عنده والمقاتل
المحايى والمحايا: واحدها المحيا وهو الحياة.
يقول: من طلب ما أطلب من الشرف والارتفاع، تساوت عنده مواضع الحياة والموت، ولا يبالي بالقتل؛ لأن من طلب التعظيم خاطر بالعظيم.
ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم ... وليس لنا إلا السيوف وسائل
يقول مخاطباً لأعدائه من الملوك وغيرهم: إن ما أتحمله من الشدائد وما أقتحمه من المشاق، ليس إلا طلباً لهلاككم، فليست الحاجات إلا نفوسكم وأرواحكم، وليست لنا إلى سلب أرواحكم وسائل وأسباب، إلا السيوف.
فما وردت روح امرىءٍ روحه له ... ولا صدرت عن باخلٍ وهو باخل
يقول: إن هذه السيوف لا ترد روح امرىء إلا سلبتها، فلا تكون روحه له، ولا انصرفت عن رجل بخيل يبقى بخيلاً، يعني أنه إذا وردته أهلكته، فهو يجود بنفسه التي هي أعز الأشياء، والواو في قوله وهو باخل واو الحال.
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغثٍّ أن تغث المآكل
الغثاثة الهزال، من غث يغث ويغث.
يقول: إن نقصي في نقصان الكرامة لا في نقصان المأكولات، فلست أبالي بسوء المأكولات إذا كنت مبجلاً ذا كرامة، فكأنه يقول: إذا سمعت كرامتي فلا بأس بغثاثة المأكول.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلاً منه باللمم(1/29)
غير: يجوز بالرفع على أن يكون صفة لضيف، وبالنصب على الحال من ضمير الضيف، ومحتشم: أي منقبض مستحي. واللمم: جمع اللمة من الشعر.
يصف الشيب ويقول: إنه ضيفٌ نزل برأسي، وإن لم يكن نزوله نزول الضيف في الاحتشام والاستحياء، لأنه لم يستأذنني كاستئذان الضيف، ثم يقول: إن السيف أحسن فعلاً بالرأس، من الشيب باللمم. وهو من قول البحتري.
وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياض الشيب حل بمفرقي
ابعد بعدت بياضاً لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم
ابعد: أمر من بعد يبعد إذا هلك وذل. وبعدت: دعاء على الشيب. وبياضاً: نصب على التمييز. وقوله: لا بياض له: أي لا نور له، ولا بياض في الحقيقة، وإن كان من حيث الصورة بياضاً، ويجوز أن يكون أيضاً دعاء على الشيب، وكأنه أراد لا رزق خيراً، والأولى نوراً، وإنما قال: لا بياض له لأنه يورث ظلمة البصر، وتغير اللون، ويفرق بين الإنسان وبين الملاذ، وينذر بالزوال ويؤذن بالضعف والهزال، وقوله: لأنت أسود إن أراد أنه أنت أشد سواداً ففيه شذوذ، لأن الألوان لا يبنى منها أفعل التفضيل. بل يقال: أشد سواداً، فعلى هذا معناه أنت في عيني أشد سواداً من الظلمات، وإن لم يرد معنى المبالغة، فيكون تقديره لا أنت في عيني مع بياضك أسود من جملة الظلم السود. فكأنه يقول أنت في عيني كائن من الظلم، ومثله قول أبي تمام الطائي:
له منظر في العين أبيض ناصعٌ ... ولكنه في القلب أسود أسفع
بحب قاتلتي والشيب تعذيبي ... هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم
تعذيبي: مبتدأ وبحب قاتلتي خبر مقدم عليه وهواي مبتدأ وكذلك شيبي وطفلاً وبالغ نصب على الحال، وهي في موضع الخبر للابتداء، وقائم مقامه.
يقول: تعذيبي بشيبي حب قاتلتي والشيب. ثم بين وقت كل واحد منهما. فقال: هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم يعني: هويت وأنا طفلٌ، وشبت وأنا بالغ الحلم.
ولما بين أنه عشق طفلاً، وشاب وقت الحلم جعل الحب والشيب عذاباً، وغرضه بذلك حصولهما قبل وقتهما.
فما أمر برسمٍ لا أسائله ... ولا بذات خمارٍ لا تريق دمي
يقول: مررت بصيغة لا أمر. برسم: من رسوم ديار المحبوبة، إلا وأنا أسائله عنها، أو لا أمر برسم دارٍ إلا يذكرني رسم دارها فأسائله، ولا أمر بذات خمار من النساء إلا تذكرني محبوبتي، فيريق دمي بعيني. يعني إنها تبكيني فيجري من عيني الدم، فضلاً عن الدمع! أو يريد: إنها تقتلني وتريق دمي. على مجاز الشعراء. وقيل: إنه أراد بذلك أن قلبه يتقلب، ويتعلق بكل امرأة حتى لا يملك كفه ودفعه.
تنفست عن وفاءٍ غير منصدعٍ ... يوم الرحيل وشعبٍ غير ملتئم
وروى: تبسمت، والشعب: القلب.
يقول: إن هذه المرأة تنفست الصعداء أسفاً على فراقي، وكان تنفسها عن وفاءٍ غير مفترق وعن شعبٍ متفرق، غير ملتئم، يعني أنها كانت على الوفاء مع تفرق الشمل.
قبلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبلتني على خوفٍ فماً لفم
مزج: بمعنى المزاج. وفماً: نصب على الحال.
يقول قبلتها عند الوداع في حال عناقي لها، وكانت الدموع ممتزجة، وقبلتني هي أيضاً، خوفاً من الرقباء أو خوف الفراق، في حال تقبيله إياها في الفم، أي في حال التصاق الفم بالفم.
فذقت ماء حياةٍ من مقبلها ... لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم
أراد بماء الحياة: ريقها.
يقول: ذقت من مقبل هذه المرأة ماء الحياة، فحييت، وكنت قد مت قبل ذلك، ولا تعجب من حياتي به فإنه لو صاب سالف الأمم لأحياها فضلاً عن إحيائه إياي! ويجوز أن يكون صاب: من قولك صاب المطر إذا نزل، ويكون تقديره: لو صاب على ترب إلا أنه حذف على وأوصل الفعل إليه ومثله للمجنون.
لو أن رضاب ليلى صاب ميتاً ... لأحياه وعاش إلى القيامة
ترنو إلي بعين الظبي مجهشةً ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
ترنو: أي تنظر نظراً شديداً، والمجهشة: المتهيئة للبكاء. والعنم: قيل: إنه دودة حمراء تكون في الرمل، تشبه بها البنان، وقيل: نبت. وقيل: نوع من الثمار مخروط أشبه الأشياء بالبنان اللينة المخضبة، وقيل: شجر لين الأغصان. وقيل: شيء يخرج من الشجر كالثمار. وشبه أربعة أشياء: عينها: بعين الظبي، ودمعها: بالطل، وخدها: بالورد، وأصابعها: بالعنم، ونظيره قول الشاعر:(1/30)
قالت وقد راعها بيني أمرتحلٌ ... عنا؟ فقلت: غداً أولا فبعد غد
فأرست لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد
رويد حكمك فينا غير منصفةٍ ... بالناس كلهم أفديك من حكم
رويد: اسم بمعنى فعل الأمر. ونصب حكمك برويد، وغير منصوب على الحال، أو على النداء.
يقول: ارفقي وكفي عنا حكمك يا غير منصفة، يعني: يا ظالمة. أفديك من جميع الناس من حكم بين الحكام.
أبديت مثل الذي أبديت من جزعٍ ... ولم تجنى الذي أجننت من ألم
يقول: أظهرت من الجزع مثل ما أظهرت، ولكنك لم تضمري من حبي مثل ما أضمرت. ينسبها إلى النفاق في حبها له.
إذاً لبزك ثوب الحسن أصغره ... وصرت مثلي في ثوبين من سقم
بزك: أي سلبك. والهاء في أصغره: ترجع إلى الجزع، وإلى الذي في قوله: ولم تجنى الذي أجننت. وإلى قوله: من ألم.
يقول: لو كان بك ألمٌ مثل ما بي، يسلبك أصغره ثوب الحسن وصرت في ثوبين من السقم. فجعل للحسن والسقم ثوباً.
ووجه التثنية، وهي أنه قد يعبر عن الواحد بالتثنية وإن لم يرد به حقيقة التثنية، ويحتمل أن يريد بذلك أنه يورث بها ضعف ما به من السقم، فعبر عنه بالثوبين. ويجوز: أن يكون أراد بالتثنية أن أصغر ما به يورث لها سقمين: ظاهراً وباطناً، وقيل: إن غرضه بذلك أنك صرت مثلي في إزارٍ ورداءٍ من السقم؛ لأن لباس العرب إزار ورداء. بمعنى: أن الإزار والرداء تمام لباس البدن. فكذلك ما يحصل له من السقم بأصغر ما نال من الوجد تمام ألم البدن.
ليس التعلل بالآمال من أربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي
وروى: ولا القنوع بضنك العيش من شيمي. والقناعة أولى؛ لأن القنوع في السؤال الأكثر.
يقول: ليس التعلل بالأماني دون الوصول إلى البغية من حاجتي، وكذلك: ليس القناعة بالفقر وضنك العيش من عادتي، ولكني أطلب المعالي والمفاخر.
وما أظن بنات الدهر تتركني ... حتى تسد عليها طرقها هممي
بنات الدهر: حوادثه. وهممي فاعل تسد، وطرقها مفعوله.
يقول: لست أحسب أن حوادث الزمان تتركني حتى أبلغ ما أريد بلوغه، حتى تسد على تلك الحوادث طرقها هممي وتمنعها من الوصول إلي والوقوف بي.
لم الليالي التي أخنت على جدتي ... برقة الحال واعذرني ولا تلم
أخنت: أي أهلكت. على جدتي: أي على غناي. ورقة الحال: ضعف الحال.
يقول: يا من يلومني على ضعف حالي ورثاثة الهيئة، لم حوادث الليالي التي أهلكت غناي، واعذرني فلا لوم علي إذ لا ذنب لي.
وقيل: إن سائلاً تعرض لعطائه. فقال له: لم الليالي التي فعلت بي ذلك وأفقرتني، واقبل عذري في ردك ولا تلمني؛ لأن فقري واختلالي ليس من قبلي.
أرى أناساً ومحصولي على غنمٍ ... وذكر جودٍ ومحصولي على الكلم
محصولي: أي حصولي.
يقول: أرى أشباحاً في صور الناس، وهم في الحقيقة كالغنم؛ لبعدهم من المروءة، وأرى ذكر جودٍ فيما بين الناس الذين هم كالغنم، وحصولي من ذلك على كلمٍ. يعني: أن الذي حصل من جودهم الحكاية، دون حقيقة الجود.
ورب مالٍ فقيراً من مروءته ... لم يثر منها كما أثرى من العدم
يقول: وأرى صاحب مال، فقيراً من المروءة والإنسانية، لم يثر منه أي حظ من نفسه، ولم يستوف حظها من الإنسانية والمروءة، كما أثرى من العدم: أي الفقر. والهاء في منه: لرب المال، ورب فقير من المال، يستوفي حظ نفسه ويجود بقدر طاقته. وروى: ورب مال فقيرٍ من مروته. أي: ورب إنسان كثير المال. يقال: رجلٌ مالٌ، ومائل: إذا كان كثير المال، وفقير صفة له، والرواية الأولى أشهر من الثانية.
سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صمة الصمم
يقول على سبيل الإيعاد: إن السيف يستصحب من نفسه مثلي حده مضاء، وينكشف خبري عن شجاع الشجعان، أو أسد الأسود.
لقد تصبرت حتى لات مصطبرٍ ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لات: بمعنى لا، ويجوز في مصطبرٌ: الجر. لأن من العرب من يجر بلات. ويجوز: أن يرفع. كما يرفع بلا.
يقول: قد صبرت حتى لم يبق موضع صبر، أو لم يبق اصطبار، فلم ينفعني ذلك، فالآن أدخل نفسي في العظائم، حتى لا يبقى موضع اقتحام، أو حتى لا يبقى لي اقتحام.
لأتركن وجوه الخيل ساهمةً ... والحرب أقوم من ساقٍ على قدم(1/31)
ساهمة: أي متغيرة من غبار الحرب، لشدة التعب، وألم الجراحة والخوف، وغيرها.
يقول: لأتركن وجوه الخيل متغبرة في حالٍ يكون الحرب فيها أقوم من ساق على قدم، فعلى هذا يكون الحرب وأقوم مرفوعين. ويجوز: نصبهما عطفاً على وجوه الخيل ساهمة. أي ولأتركن الحرب أقوم من ساق على قدم.
والطعن يخرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضرباً من اللمم
الهاء في يخرقها ويقلقها وبها: للخيل. واللمم: الجنون.
يقول: ولأتركن وجوه الخيل ساهمةً في الحال التي لم يخرق الطعن الخيل، ويزعجها الزجر، حتى كأن بها ضرباً من الجنون. ويروى: يخرقها بضم الياء أي: يورثها خرقاً وطيشاً. وروى: يحرقها بالحاء أي: يهلكها من الحرق والأول أولى.
قد كلمتها العوالي فهي كالحةٌ ... كأنما الصاب معصورٌ على اللجم
الصاب: شجر مر وهذا تأكيداً لما مضى.
يقول: أترك هذه الخيل وقد جرحتها الرماح حتى عبست وجوهها، من شدة وقوع الأسنة بها، فيكون من شدة عبوسها؛ كأنها قد عصر الصاب الذي هو شجر مر على لجمها.
بكل منصلتٍ ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
يقول: ولأتركن وجوه الخيل ساهمة، بكل سيف مجرد، ما زلت أنتظره وينتظرني، حتى انتقمت له من الخدم الذين استولوا على الملك وسلبتهم الملك، وأعطيت دولة الخدم من يستحقه.
وقيل: أراد بهذا المنصلت: الرجل الماضي في الأمور، أي أفعل ذلك بكل رجل ماضٍ في الأمور ما زال ينتظرني، لمحاربة الأملاك، حتى أعطيته دولة الخدم الذين هم ملوكٌ اليوم، والأصح: أنه صفة للسيف.
شيخٍ يرى الصلوات الخمس نافلةً ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
شيخ: بدل من كل.
يقول: بكل سيف يرى الصلوات الخمس نافلة، ويستحل دم الحجاج في مكة، لأنه لا يخشى ولا يعقل ولا يعرف الشرع، وإنما وصفه بكونه شيخاً، إما لبياضه وإما لكونه قديماًن وذلك مدحٌ للسيف. وقيل: أراد بالشيخ: الرجل الماضي الذي يطلب الملك. يعني أنه لا يبالي بالحرام والحلال، ولا يرد التحرز الذي يوجبه الدين، وذلك أصلح للحرب والقتال.
وكلما نطحت تحت العجاج به ... أسد الكتائب رامته ولم يرم
أسد الكتائب: اسم ما لم يسم فاعله. وهو نطحت. ورامته: أي زالت عنه. ولم يرم: أي لم يزل هو، وأصله رامت عنه فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إليه، والهاء في به وفي رامته: للشيخ.
يقول: وكلما ضربت تحت الغبار في الحرب بذلك الشيخ، صرعت أسد الجيوش، وشجعان الحروب، زالت عن هذا الشيخ الأسد وانهزمت، ولم يزل هو عنها، بل ثبتت. وروى: وكلما بطحت بالباء أي صرعت. وروى: نقحت من المناقحة بالسيف. يقال: نقتحته بالسيف: إذا ضربته فيه في فجأة.
تنسي البلاد بروق الجو بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الديم
فاعل تنسي: بارقتي، والبلاد، مفعوله الأول، وبروق الجو. المفعول الثاني. والبارقة: السحابة ذات البرق. وأراد ها هنا السيف. والديم: جمع الديمة وهي المطر، يدوم أياماً.
يقول: إن سيفي ينسي أهل البلاد بروق السماء، وتكتفي البلاد أي أهلها بالدم الجاري من سيفي عن الأمطار، يعني أن ما أسقيها من الدماء ينوب عن ماء السماء.
ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
وقد روى: حياض الردى حوباء: أي يا حوباء وهي النفس.
يقول: يا نفس ردي حياض الهلاك واغشي غمرات الحروب واتركي حياض غير الهلاك للشاء والنعم. وأراد ها هنا الجبناء الضعفاء، لأنهم بمنزلة البهائم! وروى: حياض خوف الردى: أي اتركي الخوف من الردى. وروى: الحياض الذين هم بمنزلة الشاء والنعم.
إن لم أذرك على الأرماح سائلةً ... فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
يقول: إن لم أتركك يا نفس سائلة على الأرماح، مقتولة أو مجروحة، فلا نسبت إلى المجد والكرم. بالغ في وصف نفسه بالمجد والكرم.
أيملك الملك والأسياف ظامئةٌ ... والطير جائعةٌ لحمٌ على وضم
الوضم: الخشبة التي يقطع عليها اللحم. ولحمٌ: رفع لأنه فاعل يملك.
يقول: أيملك الملك هؤلاء الملوك، الذين هم لحم على وضم! مع أن الأسياف ظامئة إلى دمائهم والطير جائعة محتاجة إلى مثل هذه اللحوم.
من لو رآني ماءً مات من ظمإٍ ... ولو مثلت له في النوم لم ينم
مثلت: أي قمت وظهرت.(1/32)
يقول: أيملك الملك من هو في ضعفه لو رآني ماءً وهو ظمآن لم يمكنه أن يردني ومات عطشاً! ولو رآني في النوم لزال نومه، ولا يجسر أن ينام؛ خوفاً مني، ولا يستقر لعظم هيبتي في قلبه.
ميعاد كل رقق الشفرتين غداً ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم
ومن عصى: في موضع جر، عطفاً على كل.
يقول: ميعاد كل سيفٍ رقيق الشفرتين غداًن وميعاد كل من عصاني من ملوك العرب والعجم؛ أقتلهم به. وقيل: فيه إضمار تقديره هذا المذكور الذي هو لحم على وضم، ميعاد كل سيوفي ملوك العرب والعجم.
فإن أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولوا فما أرضي لها بهم
يقول: أقصدهم بسيوفي، فإن انقادوا إلي فما قصدي بهذه السيوف إليهم، وإن تولوا عني، فما أرضى لهذه السيوف بهم بل أقتل سواهم.
وقال أيضاً في صباه وقد عذله أبو سعيد المخيمري في تركه لقاء الملوك
أبا سعيدٍ ... جنب العتابا
فرب راءٍ ... خطأً صوابا
راء: فاعل، وهو العامل في خطأ، وفي صواب، لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل منه.
يقول: يا أبا سعيد بعد عني عتابك فأنت مخطىء فيه، فرب إنسانٍ يرى الخطأ صواباً، وروى فرب رائي خطإٍ صواباً على الإضافة وحذف التنوين، طلباً للخفة، والغرض إثباته لأن الإضافة غير حقيقية، ثم بين وجه الخطأ في عذل أبي سعيد فقال:
فإنهم قد ... أكثروا الحجابا
واستوقفوا ... لردنا البوابا
استوقفوا: أي طلبوا من البواب الوقوف.
يقول: إنما أترك قصدهم لأنهم أكثروا الحجاب ليمنعونا عنهم، وأقعدوا لردنا عنهم البواب على أبواب دورهم.
وإن حد ... الصارم القرضابا
والذابلات ... السمر والعرابا
ترفع فيما ... بيننا الحجابا
القرضاب: هو القاطع، وهو صفة لحد السيف. والذابلات السمر: هي الرماح. والعراب: الخيل العربية.
يقول: لا أقصدهم إلا محارباً بالصارم القاطع، والرماح الذبل، والخيل العراب؛ فإن هذه الأشياء التي ذكرتها ترفع الحجاب فيما بيننا وبينهم.
وقال في صباه ارتجالاً يصف ألم الشوق والفراق على لسان إنسان سأله ذلك:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني وأقام بين ضلوعي
يقول مخاطباً لحبيبه: شوقي إليك نفى نومي، ففارقتني أنت، وأقام ذلك الشوق بعدك بين ضلوعي.
أوما وجدتم في الصراة ملوحةً ... مما أرقرق في الفرات دموعي؟!
الصراة: نهر ببغداد، مشتق من الفرات.
يقول لحبيبة، وهو واحد؛ يخاطب الجماعة تعظيماً له: أوما وجدتم في هذا النهر ملوحةً؟ من كثرة ما صببت من دمعي في الفرات، الذي مادة هذا النهر منه؛ لأن الدمع مالح المذاق.
ما زلت أحذر من وداعك جاهداً ... حتى اغتدى أسفي على التوديع
يقول: مازلت أحذر من توديعك خوف الفراق، حتى وقع الفراق من دون الوداع، فصرت أأسف على ترك التوديع؛ إذ كان فيه بعض السلوة. أو يكون الفراق وقع مع الوداع. فيقول: أنا آسف على ما حصل لي من المسرة في لقائك عند الوداع، فأشتاقه وأتمنى عوده.
رحل العزاء برحلتي فكأنما ... أتبعته الأنفاس للتشييع
العزاء: الصبر.
يقول: رحل العزاء عند ارتحالي عنك، فكأنني أتبعته أنفاسي لتشيعه، أو للتشييع لك، ويحتمل أن يريد: أن الصبر فارقني لفراقي لك، وضعفت عن النفس، وانقطعت الأنفاس، فكأنما تبعتك مشيعةً ومثله لأبي تمام.
إن لم أودعهم فقد أتبعتهم ... بمشيعين: تنفسي ودموعي
وقال أيضاً في صباه ارتجالاً يفتخر:
أي محلٍّ أرتقي ... أي عظيمٍ أتقي؟
وكل ما خلق الله ... وما لم يخلق
محتقرٌ في همتي ... كشعرةٍ في مفرقي
يقول: أي محل أرتقي إليه؟ فلا مزيد فوق ما أنا عليه فأصبر إليه. وأي عظيم أخشى منه وأحذره؟ وكل شيء خلقه الله تعالى وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همتي، كشعرة في مفرق رأسي. وروى: كشعرتي في مفرق على الإضافة، ومفرق على النكرة أي مفرق من المفارق.
وقال أيضاً في صباه، مجيباً لإنسان قال له: سلمت عليك فلم ترد علي السلام:
أنا عاتبٌ لتعتبك ... متعجبٌ لتعجبك
إذ كنت حين لقيتني ... متوجعاً لتغيبك
فشغلت عن رد السلام ... فكان شغلي عنك بك(1/33)
يقول لصاحبه وقد عاتبه على تركه رد السلام: أنا متغضب لأجل غضبك، ومتعجب بسبب ما تعجبت! من تركي للجواب لك؛ لأني كنت حين رأيتني متوجعاً لغيبتك، التي كانت قبل رؤيتي إياك، فلما رأيتني كنت مدهوشاً، فشغلتني دهشتي وفكري فيك، عن رد السلام عليك، فكان شغلي عن رد السلام بك.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة:
إذا لم تجد ما يبتر الفقر قاعداً ... فقم واطلب الشيء الذي يبتر العمرا
يقول لنفسه، أو لرفيقه: إذا لم تجد الشيء الذي يقطع الفقر وأنت قاعد! وهو: إما القناعة، وإما المال. فقم واطلب الشيء الذي يقطع العمر، وهو السيف الذي يوصلك إلى مبتغاك فتنال ما تريد أو تقتل.
وقال أيضاً في صباه يستبطىء عطاء ممدوحه:
انصر بجودك ألفاظاً تركت بها ... في الشرق والغرب من عاداك مكبوتاً
فقد نظرتك حتى حان مرتحلٌ ... وذا الوداع فكن أهلاً لما شيتا
روى: أبياتاً بدل ألفاظاً. ومكبوتاً: أي مردوداً بغيظه. ونظرتك: أي انتظرتك. ومرتحل: أي ارتحالي، أو وقت ارتحالي. وانصر: من قولك نصر المطر الأرض إذ جاد عليها.
يقول: اسق بجودك ما قلت لك من الأشعار، التي قد مدحتك بها، فإني قد تركت بسببها من عاداك، مردوداً بغيظه في الشرق والغرب؛ لأن ما قلته يروى أبداً فيغيظ أعداءك، أو لأن أعداءك طلبوا مني مدحهم، فاخترتك عليهم ومدحتك دونهم فغظتهم بذلك، فأجزني على ذلك، فقد طال انتظاري لعطائك حتى حان الارتحال، وهذا الوداع قد حضر فكن أهلاً لما شئت إن أعطيتني شكرتك وإن أحرمتني شكوتك وهجوتك.
وقال أيضاً في صباح يمدح بعض أمراء حمص ولم ينشدها أحداً:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره ... وغيض الدمع فانهلت بوادره
حاشى: أي أظهر سره. وروى خاشا: أي توقا وتجنب وفاعله مضمر تقديره خاشا المحب الرقيب، وكذلك غيض المحب الدمع، والضمير: في ضمائره، وخانته يعود إلى الفاعل المضمر، وهو: المحب. وفي بوادره: إلى الدمع.
يقول: إن المحب باعد الرقيب وتوقاه كأنما سره فخانته ضمائره؛ حيث لم يمكنه ستره لغلبة الجزع. وغيض هذا المحب أيضاً دمعه وحبسه، فلم يمكنه ذلك، فانسكبت بوادره وسوابقه من شدة الجزع وفرط الهوى، فظهر للرقيب ما كان يكاتمه وانهتك له ستره.
وكاتم الحب يوم البين منهتكٌ ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
وروى: وكاتم الوجد. وصاحب الوجد. أيضاً.
هذا البيت تفسير للبيت الأول. يقول: كاتم الحب، يوم الفراق مفتضح، وصاحب الوجد، تظهر سرائره بدموعه.
لولا ظباء عديٍّ ما شقيت بهم ... ولا بربربهم لولا جآذره
الربرب: القطيع من بقر الوحش. والجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والمراد بالربرب والظباء: النساء. وبالجآذر: الصبايا والفتيات.
يقول: لولا نساء هذه القبيلة وجواريهم، ما شقيت بهم، ولا ابتليت بهواهم، فكأنه يقول: إني أحب رجال عديٍّ لحبي نساءهم وجواريهم، أو رأى من حيث الأدب أن ينسب شقاءه إلى قوم محبوبته، وإن كان مقصوده المحبوبة. وقال ابن فورجة: يقال شقي فلان بقوم: إذا أبغضوه؛ فكأنه يقول: لولا نساء عديٍّ وجواريهم، ما شقيت برجال هذه القبيلة؛ يعني أنهم إنما أبغضوني لذلك فلولاهن ما أبغضوني.
من كل أحور في أنيابه شنبٌ ... خمرٌ يخامرها مسكٌ تخامره
الأحور: الصافي بياض العين وسوادها، مع سعة العين. والشنب: برد ماء الأسنان، وعذوبته. وقيل: صفاء الأسنان. وقيل: حدتها. والمخامر: المخالط. وخمر: بدل من شنب، فكأنه يقول في أنيابه خمر. ويجوز أن يكون خمر وما بعدها، صفة لشنب. لأن النكرة توصف بالجملة، والهاء في مخامرها: للخمرة لأنها تأنث في الأغلب، وفي تخامره: للمسك. والتاء: للخمر.
يقول: كل واحد من الظباء، حسن العينين، في أسنانه بياض وصفاء، وماء بارد، خالطته خمر، وخالط تلك الخمرة مسك، يصف بذلك عذوبة فم الحبيب وشبهه بالخمر لما فيها من اللذة، ووصف طيب رائحته فشبهه بالمسك.
نعجٌ محاجره دعجٌ نواظره ... حمرٌ غفائره سودٌ غدائره(1/34)
النعج: البيض. والمحاجر: جمع محجر وهو ما حول العين. وقيل: ما يبدو من النقاب. والدعج: جمع أدعج ودعجاء: وهو الشديد السواد. والنواظر: الحدق. والغفائر: جمع غفارة، وهو ما يغفر الرأس من مقنعة، أو وقاية: يوقي بها الرأس من الدهن. والهاء في كل ذلك، ترجع إلى لفظ الأحور أو لفظ كل.
يقول: من كل أحور بيض محاجره، سود نواظره، حمر مقانعه سود ضفائره.
أعارني سقم جفنيه وحملني ... من الهوى ثقل ما تحوي مآزره
أعارني: ك واحد من الظباء. سقم عينيه: وهو الفتور الذي في العين. وجعله عاريةً في بدني، أي أسقمني بعينه السقيمة، وحملني ثقل ما اشتملت عليه مآزره وهو جمع المئزر ويعني به: الأرداف والكفل.
يا من تحكم في نفسي فعذبني ... ومن فؤادي على قتلي يضافره
المضافرة: المعاونة. ويروى: بالضاد، والظاء.
يقول: يا من تحكم في نفسي فعذبني في هواه، ويا من يعاونه قلبي على قتلي، فإن قلبي يميل إليك، ويحتمل كل ما وصل إليه منك. والهاء في يضافره: تعود إلى من وهو مذكر في اللفظ.
بعودة الدولة الغراء ثانيةً ... سلوت عنك ونام الليل ساهره
الهاء: تعود إلى الليل. وكان هذا الممدوح قد عزل عن ولايته بلده، ثم أعيد إليها، وقيل: كان قد أسر وفدي فعاد إلى بلده.
يقول لمحبوبته: قد سلوت عنك أيها المنادي، بعودة دولة هذا الأمير ثانية، وقد نمت في ليلى بعد ما كنت ساهراً، لحزني لغيبته.
من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأن أول يوم الحشر آخره
يقول: نمت في ليلي، من بعد ما كان ليلي علي طويلاً، بحيث لا صباح له، فكأن آخره أول يوم القيامة من الطول. يعني أنه بلا آخر، فكأنه متصل بيوم القيامة ومثله قول خالد الكاتب:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
غاب الأمير فغاب الخير عن بلدٍ ... كادت لفقد اسمه تبكي منابره
يقول: لما عزل هذا الأمير أو أسر فغاب الخير عن بلد، كادت منابره تبكي لافتقادها اسمه عليها أيام الجمعة. والهاء: في اسمه للأمير، وفي منابره: للبلد.
قد اشتكت وحشة الأحياء اربعه ... وخبرت عن أسى الموتى مقابره
الأربع: جمع القلة للربع وهو المنزل. والكثير الرباع، والربوع. والهاء: في أربعه ومقابره: للبلد.
يقول: شكت منازل البلد وحشة الأحياء بغيبة الأمير عن هذا البلد، وأخبرت المقابر عن حزن موتاها، لأنها كانت معمورة بالخيرات عند كونه فيها، أو لكونها كانت عليها من طلاوة هذا الممدوح، مثل ما يكون على من في قلبه مسره.
حتى إذا عقدت فيه القباب له ... أهل لله باديه وحاضره
يقول: ما زالت الأربع والمقابر كذلك، حتى ضربت له الخيام وعقدت له عند دخوله البلد القباب، فكبر لذلك أهل البدو وأهل الحضر؛ استبشاراً به، لأن من عادة المستبشر أن يكبر ويهلل، والهاء: في باديه وحاضره: للبلد. ويجوز أن يريد به: نفس البدو والحضر، ويكون ذلك مبالغة في الاستبشار، لأنهما إذا استبشرا مع كونهما جمادين، فما ظنك بأهلها مع صحة الاستبشار منهم.
وجددت فرحاً لا الغم يطرده ... ولا الصبابة في قلبٍ تجاوره
وجددت: يجوز أن يكون فعل العودة أو الدولة أو القباب المعقودة، أو فعل الأربع والجماعة المذكورة، والهاء في يطرده: للفرح، وفي تجاوره: للقلب. ويجوز أن يكون راجعاً إلى الفرح.
يقول: جددت هذه الأمور فرحاً لا يطرده غم؛ من قوته وتمكنه من القلب، ولا يجاوره شوق وصبابة، أي لا يصير جاراً له، وذلك لأن العشق لا يكاد يخلو توابعه من الغم، والفرح إذا كان غالباً لم يكن هناك عشق.
إذا خلت منك حمصٌ لا خلت أبداً ... فلا سقاها من الوسمي باكره
الهاء في سقاها: لحمص. وفي باكره: للوسمي. وقوله: لا خلت أبداً: دعاء للبلد أو لأهلها، وهو في الحقيقة دعاء للممدوح بالدوام والثبات فيها، وهو حشو مليح.
يقول: إذا خلت منك هذه البلدة لا خلاها الله منك فلا سقاها باكر الوسمي: وهو أوله أو ما يأتيه بكرة، وذلك دعاء على البلد عند خلوها منه.
دخلتها وشعاع الشمس متقدٌ ... ونور وجهك بين الخيل باهره
الهاء في باهره: ترجع إلى شعاع الشمس، أي غالبه.(1/35)
يقول: دخلت حمصاً والشمس طالعة وشعاعها متقد وكأن نور وجهك بين العساكر غالباً لشعاع الشمس، والغرض به تفضيله على الشمس في الحسن والبهاء.
في فيلقٍ من حديدٍ لو قذفت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
الفيلق: العسكر؛ لأنه يفلق كل شيء أتى عليه يقول: دخلتها بجيشٍ من حديد؛ لكثرة ما عليهم من الحديد، لو رميت به صرف الدهر مع أنه لا يطيقه أحدٌ لما دارت دوائر صرف الزمان، ولا نفذت أحكامه.
تمضي المواكب والأبصار شاخصةٌ ... منها إلى الملك الميمون طائره
المواكب: جمع المواكب، وهو الجماعة من الناس، والمراد ها هنا الجيش. والهاء في منها: للكواكب وفي طائره. للملك.
يقول: تسير الجماعات والأبصار شاخصة من بينها إلى الملك الميمون طائره دون غيره ممن معه من الجيش، وذلك لما له من الفضل والبهاء.
قد حرن في بشرٍ في تاجه قمرٌ ... في درعه أسدٌ تدمى أظافره
حزن: فعل الأبصار، والبشر: اسم يقع على الواحد وما فوقه من الناس، وأراد هاهنا الممدوح، والأظافر: جمع، وأصلها الأظافير فحذف الياء، وهو جمع أظفور بمعنى الظفر، أو جمع أظفار، فهي إذاً جمع الجمع لأن أظفاراً: جمع ظفر.
يقول: تحيرت الأبصار في بشرٍ في تاجه قمرٌ، وهو وجهه، وفي درعه أسد، أي أنه شجاع، كأنه أسد، تدمى أظافيره بدماء الصيد. شبه وجهه بالقمر، ونفسه بالأسد، ومثله قول مسلم.
كأن في سرجه بدراً وضرغاماً
حلوٍ حلائقه شوسٍ حقائقه ... تحصي الحصى قبل أن تحصي مآثره
الشوس: جمع أشوس. وشوساً، وهو الذي تصغر عينيه للنظر، ويضم أجفانه، وذلك فعل المبغض والعدو، والحقائق: جمع الحقيقة وهي ما يحق على الإنسان حفظه والذب عنه. والمآثر: جمع المأثرة، وهي ما يؤثر من فضل الإنسان.
يقول: تحيرت الأبصار في بشرٍ خلائقه عذبة، وحقائقه محفوظة مرعية، ومآثره غير متناهية كثرة، بحيث يمكن إحصاء الحصا كلها، ولا يمكن إحصاء مآثره وعد محاسنه ومكارم أخلاقه وأفعاله.
تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت ... كصدره لم تبن فيها عساكره
يقول: إن الدنيا مع سعتها تضيق عن جيش الممدوح لكثرته، ولو اتسعت الدنيا اتساع صدره، فكانت عساكره مع كثرتها لا تظهر فيها لسعة صدره، وهو كقول أبي تمام:
ورحب صدرٍ لو ان الأرض واسعةٌ ... كوسعه لم يضق عن أهله بلد
إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من مجده غرقت فيه خواطره
التغلغل: الدخول في المضيق. والهاء في مجده: للممدوح، وفي فيه: لطرف وفي خواطره: للمرء.
يقول: إذا دخل فكر المرء في طرف من مجده، غرقت جوامع خواطره فيه، لعظمه ووفور مجده وشرفه، فإذا كان طرف منه بهذه الصفة، فكيف يتصور إحاطة الفكر بجميع مجده وشرفه؟!
تحمى السيوف على أعدائه معه ... كأنهن بنوه أو عشائره
تحمى: من الحمية والغضب.
يقول: إن السيوف إذا كانت في يده وأيدي أوليائه، لفضل مضائه، كأنه تحمى وتغضب على أعدائه معه، حتى كأن السيوف بنوه أو أقاربه؛ لأنها تغضب لغضبه، ومثله لأبي تمام:
كأنها وهي في الأوداج والغةٌ ... وفي الكلى تجد الغيظ الذي تجد
إلا أن بيت المتنبي أبلغ؛ لذكره المناسبة والقرابة.
إذا انتضاها لحربٍ لم تدع جسداً ... إلا وباطنه للعين ظاهره
الهاء في باطنه وظاهره: للجسد.
يقول: إن الممدوح إذا انتضى تلك السيوف من أغمادها عند الحرب، لم يترك من أعدائه جسداً إلا جعله إرباً إرباً، حتى تبدوا بواطن أجسادهم، أو يشق بطنه فتظهر منه الآلات الباطنة، أو يريق دمه الذي في باطن الجسد، فيظهر عند ما يسيل، فيصير في هذه الحالات باطن الجسد للعين ظاهراً.
فقد تيقن أن الحق في يده ... وقد وثقن بأن الله ناصره
يقول: إن السيوف تيقن أن الحق في يده، لما ازدادت قوة يده، وأيدي أوليائه، وقد وثقن بأن الله ينصره على أعدائه؛ فلهذا صرن مثل بنيه وعشائره في الحمية. ومثل قول النابغة:
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
تركن هام بني عوفٍ وثعلبةٍ ... على رءوسٍ بلا ناسٍ مغافره
الهاء في مغافره: للهام.(1/36)
يقول: إن هذه السيوف تركن هام هؤلاء القوم لما قطعن رءوسهم، عليها المغافر على رءوس بلا أجساد، وكانت الرءوس ملقاة على الأرض وعلى هاماتها المغافر، وعبر عن الأشخاص بالناس.
فخاض بالسيف بحر الموت خلفهم ... وكان منه إلى الكعبين زاخره
زخر البحر: إذا ارتفع موجه.
يقول: خاض هذا الممدوح بسيفه خلف هؤلاء القوم، بحر الموت: يعني موضع القتال. واستحقر ذلك وإن كان عظيماً، حتى صار زاخر ذلك البحر ومتلاطمه من هذا الممدوح إلى الكعبين، يصف بذلك قلة مبالاته بالأمور العظام.
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت ... في الأرض من جيف القتلى حوافره
روى: انتهى، وانثنى.
يقول: من قتل منهم صار بحيث أن الفرس الجاري لم يضع وقت جريه حوافره إلا على جيف القتلى، ولا تقع حوافره على الأرض من كثرة القتلى.
كم من دمٍ رويت منه أسنته ... ومهجةٍ ولغت فيها بواتره
أصل الولغ: شرب السباع الماء بألسنتها، ثم كثر فصار اسماً للشرب مطلقاً.
يقول: كم من دمٍ رويت منه أسنة الممدوح، وكم من نفس دخلت فيها سيوفه القواطع، وشربت منها حتى رويت، يعني أنه سفك دماء أعدائه فلم يبق له عدواً إلا قتله.
وحائنٍ لعبت سمر الرماح به ... فالعيش هاجره والنسر زائره
الحائن: الهالك. والهاءات: راجعة إليه.
يقول: كم من هالك لعبت به الرماح السمر فأهلكته، حتى هجره العيش، فزاره النسر لأكل لحمه.
من قال: لست بخير الناس كلهم ... فجهله بك عند الناس عاذره
عاذره: أي قابل عذره.
يقول: من لم يقل: خير الناس أنت، فهو جاهل، والجاهل إذا قال محالاً لجهله، فإن جهله يعذره عند الناس أجمعين.
أوشك أنك فردٌ في زمانهم ... بلا نظيرٍ ففي روحي أخاطره
أخاطره: أراهنه.
يقول: من شك أنك فردٌ: لا نظير لك، فإني أراهنه وأشارطه بروحي وروحه، فحذف للدلالة، وإنما راهنه بروحه لفرط يقينه، أنه لا نظير له، فعلم أنه يفوز بالظفر، ويظفر بالخطر؛ لأن الروح أعز الأشياء
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
اعوذ، وألوذ: متقاربان في المعنى.
يقول: يا من ألتجىء إليه في آمالي، ويا من أعتصم به مما أخشاه وأحذره من المكاره.
ومن توهمت أن البحر راحته ... جوداً وأن عطاياه جواهره
الهاء في جواهره: للبحر.
يقول: يا من خلت أن راحته هي البحر وأن عطاياه هي جواهر البحر التي تخرج منه؛ لأن الجواهر لا تكون إلا من البحر.
ارحم شباب فتىً أودت بجدته ... يد البلى وذوي في السجن ناضره
الهاءات: كلها للفتى.
يقول: ارحم شباب فتىً أهلكت البلى جدته، فأخلقته، وذبل في السجن ما كان ناضراً منه
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
لا يهيضون: أي لا يكسرون ما تجبره أنت، ولا تجبر الناس ما تكسره أنت، يعني: أنهم لا يقدرون على رد أمرك ومثله قول الآخر:
لا يجبر الناس عظم ما كسروا ... ولا يهيضون عظم ما جبروا
وقال أيضاً يمدح شجاع بن محمد بن عبد العزيز بن الرضا المضاء الطائي المنبجي:
عزيزٌ أسى من داؤه الحدق النجل ... عياءٌ به مات المحبون من قبل
الأسى: جمع أسوة، وهي الصبر. والأسا: مصدر أسوت الجرح أسواً وأسياً.
يقول: عزيز: أي قليل الوجود صبر من داؤه، أو مداواة من داؤه الحدق الواسعة، وهو داء عياء. ثم قال: به أي بهذا الداء. مات المحبون من قبل. ويجوز أن يكون المراد بالأسى الحزن، وعزيز: أي شديد صعب، يخشى عليه. وعزيزٌ: مرفوع بالابتداء وأسى خبره، وجاز البتدا بالنكرة لأنه في تقدير فعل، كأنه يقول: عزيز أسى، وداء عياء خبر ابتداء محذوف كأنه قال: وهو داء عياء.
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري ... نذيرٌ إلى من ظن أن الهوى سهل
المنظر: موقع النظر عليه.
يقول: من أراد أن يجرب هذا الداء فلينظر إلي، ليبصر نحول جسمي فإن منظري، أو حالي نذير ومخوف لمن ظن أن العشق هين، وأن الحب يمكن الخروج منه، والمقصد تعظيم أمر الهوى وقلة المداوة منه.
وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظةٍ ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل(1/37)
هي: ضمير قبل الذكر، والمراد به الخصلة، أو اللحظة المذكورة من بعد، وروى: وما هو، وأراد الهوى المذكور في البيت الذي قبله. والهاء في قلبه: ترجع إلى من في قوله من داؤه.
يقول: لا يتولد الهوى إلا من نظرةٍ إثر نظرة، فإذا حلت تلك اللحظات المتكررة في القب، رحل العقل وزال بعد نزولها، فلا ينتفع بعد ذلك بالعقل.
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كل شغلٍ بها شغل
يقول: جرى حب هذه المرأة في جميع بدني، واستولى علي بجملتي وجرى مجرى الدم، أي أنه امتزج بجميع بدني كالدم الجاري فيه، فأصبح لي شغل بها، يشغلني عن كل شغلٍ هو سواه، وقيل معناه: أن هواها ذللني حتى عنها من شدة تأثيره في روحي وعقلي وبدني.
هذا وروى: فأصبح عن غير شغلي بها شغل.
ومن جسدي لم يترك السقم شعرةً ... فما فوقها إلا وفيها له فعل
فما فوقها: يجوز أن يكون في العظم وفي الشعر، والهاء في فيها: للشعرة وروى: فيه وأراد به: الجسم. وفي له للسقم.
يقول: لم يترك السقم من جسدي شعرة وما فوقها، في الصغر أو العظم، إلا وفيها للسقم تأثير وفعل، وتأثيره في الشعرة؛ لأن تحت كل شعرة منفذ إلى البدن، فيريد أن الحب وصل إلى كل مكان من جسده، وفعل السقم في الشعر: الشيب. وقيل: أراد بالشعرة: أقل شيء من جسده.
إذا عذلوا فيها أجبت بأنةٍ ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل
روى: بأنةٍ، ورنة: وهما واحد. وحبيتا: الألف فيه بدل من الياء، وأصله: حبيبتي على إضافة إلى الياء، إلا أنه أبدلها ألفاً، تخفيفاً. كقوله تعالى: " يا حسرتي على ما فرطت " والحبيبة تصغير الحبيبة. وأراد به: التخصيص لا التحقير. وقوله: قلبي أي: يا قلبي. وهو بدل من حبيبتا، وفؤادي بدل: من قلبي. وذلك نداء بعد نداء، وجميعها منصوب بالنداء المضاف. وهيا: حرف النداء. وجمل: اسم المرأة. وهو مبني على الضم بالنداء المفرد.
يقول: إذ لاموني في حبها، كان مكان جوابي لهم بأنةٍ حكايتها: يا حبيبتي يا قلبي، يا فؤادي، يا جمل، وفيه تنبيه على أن الحبيب ينزل منزلة القلب، فلهذا، بين جواب العذال: أنها والقلب واحد. وقيل: تقديره يا حبيبتا قلبي أدركيني، فإني أشتكي قلبي ولا أبالي بملامة من يلومني فيها، ولا ألتفت إليه.
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها عذل
الهاء في يدخلها: للمسامع، وهو جمع مسمع وهي الأذن.
يقول: كأنك قد وكلت بي رقيباً منك يراقبني، من أن ألتفت إلى اللوام، فكأنه سد أذني عن دخول العذل فيها، فلا أسمع ما يقولون من هجرانك، والتسلي عنك، ومثله قول الآخر:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني
ويجوز أن يريد: كأن الرقيب الذي يحفظك عني سد أذني عن سمع العذل فيك، حسداً منه على جريان ذكرك في سمعي؛ ذلك أني كنت بعد اللذة في سماع ذكره، كما قال أبو الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجرٍ لنا وصل
يقول: كان السهر بالليل يعشق عيني، فبين الأرق والعين وصلٌ عند كل هجر لنا، يعني: أن الأرق لا يجد الوصال إلا عند هجران الحبيب.
أحب التي في البدر منها مشابهٌ ... وأشكو إلى من لا يصاب له شكل
فضل المحبوبة على البدر، فقال: أحب التي في البدر منها مشابهٌ: وهو جمع شبه، على غير القياس. فجعل منها شبهٌ في البدر، ولم يشبهها البدر بكليته ثم فضل الممدوح على المحبوبة. فقال: وأشكو إلى من لا يصاب له شكل: أي مثل فجعل في البدر منها شبهها، وجعل الممدوح بلا شبه.
إلى واحد الدنيا إلى ابن محمدٍ ... شجاع الذي لله ثم له الفضل
حذف التنوين من شجاعٍ: طلباً للتخفيف بسكونه، وسكون اللام من الذي.
يقول: أشكو إلى من هو واحد أهل الدنيا الذي لله تعالى الفض ثم له.
إلى الثمر الحلو الذي طيىءٌ له ... فروعٌ وقحطان بن هودٍ لها أصل(1/38)
طيىء: قبيلة. وقحطان بن هود: أصل بعض العرب والهاء، في له: للثمر. وفي لها: لطيىء، والتأنيث لأجل القبيلة، ويجوز أن يكون التأنيث راجعاً إلى الفروع، وروى: له. والتذكير يرجع إلى اللفظ. لأن طيئاً لا تأنيث في لفظه، شبهه بالثمر الحلو، لأن في الثمار حامضاً ومراً، ثم جعل أباه غصناً من شجر طيب فروعه طيىء، وأصله قحطان بن هود.
إلى سيدٍ لو بشر الله أمةً ... بغير نبيٍّ بشرتنا به الرسل
يقول: وأشكو إلى سيد لو بشر الله أمةً بمن هو غير نبي، لبشرتنا رسل الله تعالى بهذا الممدوح، قبل وجوده، كما بشر الرسل عن الله تعالى بنبينا صلى الله عليه وسلم. إلا أن العادة لم تجر بالبشارة، بغير الأنبياء عليهم السلام.
إلى القابض الأرواح والضيغم الذي ... تحدث عن وقفاته الخيل والرجل
وروى القانص الأرواح: وهو الصائد، وروى: عن وقفاته ووقعاته.
يقول: إلى الذي يقبض الأرواح في الحروب، وإلى الأسد الذي يتحدث عن وقعاته في الحروب الخيل. أي: أصحابها، والرجل: جميع الراجل.
إلى رب مالٍ كلما شت شمله ... تجمع في تشتيته للعلي شمل
شت: أي تفرق، وتجمع: أي اجتمع.
يقول: أشكو إلى صاحب مالٍ كلما تفرق شمل المال يبذله، تجمع عنده للمعالي شمل، فيكون تفريقه له سبباً لاجتماع المعالي عنده، ومثله لأبي تمام:
وليس بيانٌ للعلي خلق امرىء ... وإن جل إلا وهو للمال هادم
همامٌ إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
يقول: هو كبير الهمة، يشبه السيف في مضائه وشدته، وبشاشة وجهه كصقالة السيف، فإذا فارق السيف غمده تشك فيهما حتى لا تعرف أيهما السيف وهو كقول أبي تمام:
يمددن بالبيض القواضب أيدياً ... فهن سواء والسيوف القواطع
رأيت ابن أم الموت لو أن بأسه ... فشابين أهل الأرض لانقطع النسل
أراد بابن أم الموت: أخاه، يعني: أخا الموت.
يقول: رأيت الممدوح أخا الموت، فلو أن بأسه وشدة قوته شاع بين أهل الأرض لانقطع النسل: أي نسل الخلق، لأنه يفنيهم ببأسه، ولأنهم يخافونه ولا يدنو ذكرٌ من أنثى فينقطع النسل.
على سابحٍ موج المنايا بنحره ... غداةً كأن النبل في صدره وبل
على فرسٍ سابحٍ موج المنايا بنحره: أي نحر الفرس في الغداة التي ترى فيها النبل متواتراً إلى صدره كأنه وبل: أي مطر. يعني: أن السهام لا تؤثر في صدر هذا الفرس، كما لا يؤثر فيه قطر الماء، وقيل: إن الهاء في صدره للممدوحن يعني: أن فرسه يلتقي موج الموت بنحره، وأن الممدوح يوم الحرية يلتقي السهام بنحره، فلا يبالي كأنها عنده قطر المطر.
وكم عين قرنٍ حدقت لنزاله ... فلم تغض إلا والسنان لها كحل
حدقت: أي أحدقت النظر إليه، والنزال: المنازلة، وهي المحاربة نازلاً.
يقول: وكم عين مقارنٍ له: محارب، أحدت النظر إليه للمنازلة، فلم تغض إلا وصار سنان الرمح كحلاً لها. يعني: أنه جعل السنان لها موضع الكحل.
إذا قيل: رفقاً! قال: للحلم موضعٌ ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل
رفقاً: نصب بفعل مضمر، أي ارفق رفقاً، أو استعمل رفقاً.
يقول: إذا قيل له في الحرب: ارفق! قال: للحلم موضع، وليس هذا موضعه. وحلم المرء في غير موضعه جهل. ومنه قول الآخر:
يناشدني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ولولا تولى نفسه حمل حلمه ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
حمل حلمه: مفتوح لأنه مصدر، والحمل في آخره بكسر الحاء لأنه اسم.
يقول: لولا الممدوح تولى حمل حلمه عن الأرض لانهدت الأرض من ثقل حلمه، وأثقلها الحمل، فجعل الحلم أعظم من الأرض؛ وهو مبالغة عظيمة.
تباعدت الآمال عن كل مقصدٍ ... وضاق بها، إلا إلى بابه السبل
الهاء في بها: للآمال، وفي بابه: للمدوح.
يقول: لم يبق في الدنيا جوادٌ يقصد بالأمل سوى هذا الممدوح، فبعدت الآمال عن كل مقصد، وضاق بالأمل السبل من جميع الجوانب، إلا بابه، فهو المقصود إليه في الحوائج والآمال.
ونادى الندى بالنائمين عن السرى ... فأسمعهم: هبوا فقد هلك البخل
الندى: رفع لأنه فاعل نادى، والسرى: سير الليل.
يقول: نادى العطاء بالذين ناموا عن السرى، لعدم الأسخياء الكرام، وغلبة البخلاء اللئام، ونبههم.(1/39)
بقوله: هبوا فقد هلك البخل، لوجود هذا الرجل، الذي أصاب بالجود مقتل البخل. ويجوز أن يكون وصل عطاؤه إلى الناس، ومن دون أن يسافروا لأجله، فكأنه ناداهم ونبههم لوصوله إليهم في أوطانهم.
وحالت عطايا كفه دون وعده ... فليس له إنجاز وعدٍ ولا مطل
يقول: إن عطاياه اعترضت دون وعده وسبقته، فلا يحتاج إلى إنجاز وعد، ولا مطل ولا مدافعة؛ لأن هذه الأشياء لا تكون إلا بعد الوعد.
فأقرب من تحديدها رد فائتٍ ... وأيسر من إحصائها القطر والرمل
الهاء في تحديدها، وإحصائها: للعطايا، وكان الوجه أن يقول: وأيسر من إحصائها إحصاء القطر، إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
يقول: رد فائتٍ أقرب من تحديد عطاياه، وتحديد منحه. وعد قطر المطر، وحبوب الرمل: أهون من إحصاء نعمه؛ فكما لا تقدر الناس على هذين، كذلك تحديد عطاياه، وتعديد مننه غير مقدور عليه، بل ذلك دخل في المقدور.
وما تنقم الأيام ممن وجوهها ... لأخمصه في كل نائبةٍ نعل
تنقم: تعيب، وما: للسؤال. ومن في قوله: ممن هو الممدوح: والهاء في وجوهها: للأيام. وفي أخمصه: للممدوح والأخمص؛ باطن القدم.
يقول: وما تنكر الأيام، وتعيب من رجل، وجوه الأياه نعلٌ لأخمصه في كل نائبة ومحنة، يعني أن الأيام تابعة له ومطيعة، وهو يعلوها حتى يطأ وجوهها، فتكون بمنزلة النعل لأخمصه. أي باطن قدمه.
وما عزه فيها مرادٌ أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل
عزه: أي غلبه.
يقول: لم يتعذر عليه مراد طلبه، وإن كان ذلك صعباً شديداً، إلا أن يريد أن يأتي بمثل له، فإنه يتعذر عليه وجوده لأنه لا مثل له.
كفى ثعلاً فخراً بأنك منهم ... ودهرٌ لأن أمسيت من أهله أهل
الرواية الصحيحة نصب دهراً عطفاً على ثعل وقوله: بأنك منهم رفع: لأنه فاعل كفى وأهل رفع: بخبر ابتداء محذوف. كأنه قال: هو أهلٌ لأن أمسيت من أهله، فارتفع أهلٌ وصفاً لدهر، وارتفع دهرٌ بفعل مضمر، تقديره: ليفخر دهرٌ أهلٌ، لأن أمسيت من أهله.
يقول: كونك منهم، كفاهم فخر كونك أهلاً له وهذا وما قبله إفراط في المدح.
وويلٌ لنفسٍ حاولت منك غرةً ... وطوبى لعينٍ ساعةً منك لا تخلو
طوبى له: أي خير له، وقيل: أصله من الياء. وهو من طيب.
يقول: ويلٌ لمن طلب منك غفلة؛ فإنه إذا طلب ذلك قتلته، وهو لا يظفر بك، وطوبى لعين منك لا تخلو ساعة، فإنها تكون في الراحة وترتع في روض محاسنك.
فما بفقيرٍ شام برقك فاقةً ... ولا في بلادٍ أنت صيبها محل
يقول: ليس لفقير أبصر برقك ونظر جودك فاقة، وليس في بلادٍ أنت قطرها قحطٌ ولا جدب.
وقال أيضاً يمدحه:
اليوم عهدكم فأين الموعد؟ ... هيهات! ليس ليوم عهدكم غد
وروى: اليوم وعدكم وكذلك في الثاني؛ لأنهما متقاربان في المعنى.
يقول: اليوم لقاؤكم، وهو آخر اليوم الذي اجتمعنا فيه، فعرفوني أين الموعد للقاء الثاني؟ ثم قال: هيهات: أي ما أبعد ما أطلب! ليس ليوم وعدكم غدٌ أبلغ إليه. وقيل معناه: اليوم ميعادكم الذي وعدتموني فأنجزوا لي وعدي، وهو وعد الملاقاة والوصل ثم قال: هيهات! ليس ليوم وعدكم غدٌ. أي أموت وقت فراقكم، فلا أعيش إلى غد ذلك اليوم. ومثله قول الشاعر:
قالت أسير غداً فقلت لها ... هدد ببينك من يعيش غداه
والأصل في البيت قول أبي تمام.
قالوا الرحيل غداً لا شك قلت لهم ... الآن أيقنت أن اسم الحمام غد
الموت أقرب مخلباً من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
روى مخلباً: وهو للسبع كالظفر للإنسان، ويروى مخلباً؛ وهو مصدر خلب يخلب: إذا أخدع، خلابةً ومخلباً، أو يكون مصدراً من خلب: إذا اختطف. وروى لا تبعدوا: من البعد في المسافة. ولا تبعدوا: من الهلاك.
يقول: الموت أقرب إلي من فراقكم، لأني أموت قبل أن تبينوا عني، خوفاً من فراقكم، ومهما فارقتموني كان العيش أبعد منكم، لأنه يعدم البتة، فهو أبعد منكم، لأنه لا يرجى عوده، وإذا بعدتم كنتم موجودين. ثم قال: لا تبعدوا. يعني لأن ببعدكم تبعد الحياة مني، وقيل: إنه دعاء للأحباب بألا يهلكوا، بل يبقوا سالمين، وبأن يقربوا منه. وهو تفسير البيت الأول.
إن التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أن دمي الذي تتقلد(1/40)
تتقلد: من قولك تقلد فلانٌ دم فلانٍ إذا باء بإثمه.
يقول: المرأة التي سفكت دمي بجفونها الحسنة، لم تعلم أن الذي تتقلده وتبوء به هو دمي. يعني: أنها قتلتني بجفونها الملاح، وأنها لم تعلم أني قتيلها بتلك الجفون.
قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ ... وتنهدت فأجبتها: المتنهد
من به: أي فعل به، أو من المطالب به. وتنهدت: أي تنفست. وقيل: تنهدت المرأة؛ إذا رفعت صدرها وثديها.
يقول: إن هذه المرأة لما رأت ما بي من الاصفرار قالت مستفهمة: من فعل به ذلك؟ من المطالب به؟ وتنفست عند ذلك ترحماً لي، لما شاهدت من حالي فأجبتها: المتنهد. أي قلت: الذي فعل بي ذلك هو المتنفس. وإنما لم يقل: المتنهدة؛ لأنه رده على معنى الإنسان أو الشخص، ومعناه أن الذي حصل بي منك دون غيرك، أي أنت فعلت ذلك.
فمضت وقد صبغ الحياء بياضها ... لوني كما صبغ اللجين العسجد
اللجين: الفضة، والعسجد: الذهب. هذا البيت يفسر على وجوه: أحدها: أنها مضت عني لما قلت لها في البيت الذي قبله، وقد صبغ الحياء والخجل بياضها، يعني أنها لما استحيت مما قلت لها احمر لونها ومضت، ثم عدل عن ذلك إلى وصف نفسه فقال: لوني كما صبغ الفضة الذهب. أي اصفر وجهي. وقال بعضهم: معناه أن الحياء صبغ لونها أحمر، ثم لحقها الخوف في الوقت من الرقباء أن يروها، فاصفر لونها لذلك الفزع بعد الخجل، فيكون تقديره: صبغ الحياء بياضها لوناً كلوني؛ لأن الحياء إذا كان مع الخوف يصفر الوجه. وقيل: أيضاً لأن الحياء يجلب اللونين معاً؛ لأن المستحي يحمر أولاً ثم إذا فكر فيما حصل منه الحياء، يصفر لونه، فيصير كصاحب الخوف، فكأنه ذكر الحالة الثانية فبين أنها خجلت واستمر بها الخجل والحياء حتى اصفر لونها، فصار كلوني الذي هو كلون الذهب الممتزج بالفضة.
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى ... متأوداً غصنٌ به يتأود
قرن الشمس: أول ما يبدو منها، وهو يضرب إلى الصفرة، وذلك يدل على استحالة لونهاأصفر، وأراد به الصبغ الذي حصل في وجه المرأة الذي هو كالقمر، وأراد: أن وجهها بمنزلة قرن الشمس، وقمر الدجى. وقصد تشبيهه بهما جميعاً، وقوله: متأوداً: أي متمايلاً يتأود به غصن: وهو قد المرأة والهاء في به: ترجع إلى قرن الشمس. فمعناه: رأيت متمأوداً يتأود به غصن.
عدويةٌ بدويةٌ من دونها ... سلب النفوس ونار حربٍ توقد
وهواجلٌ وصواهلٌ ومناصلٌ ... وذوابلٌ وتوعدٌ وتهدد
العدوية: منسوبة إلى بني عدي. والبدوية: منسوبةٌ إلى البدو. والسلب: الاختطاف.
والهواجل: جمع الهوجل، وهو الأرض المطمئنة، والصواهل: جمع الصاهل من صهيل الفرس، وهو صوته. والمناصل: جمع المنصل، وهو السيف، والذوابل، جمع الذابل وهو الرمح.
يقول: إن هذه المرأة من أبناء الكرام ومن دون الوصول إليها هذه الأشياء.
أبلت مودتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيد
يقول: أخلقت الليالي وتطاولها مودتها بعدي وبعدها، ومشى على ذلك الدهر فأفسدها بمشيه عليها وهو مقيد، وذلك لأنه إذا كان مقيداً كان أثقل وطئاً لاعتماده على الرجلين، وقصر خطوه، فيحطم الشيء إذا مشى عليه. وهي مبالغة مليحة وصنعة في الشعر حسنة.
أبرحت يا مرض الجفون بممرضٍ ... مرض الطبيب له وعيد العود
أبرحت: أي جاوزت الحد. يخاطب مرض الجفون، أو يكون المرض بمعنى المريض، فكأنه يقول: يا مرض الجفون الذي في عينيها، أو يا مريض الجفون، تجاوزت الحد، بممرض يعني: به نفسه، حتى مرض الطبيب له، ومرض عواده، فعادهم الناس، وإنما مرضوا رحمةً له واغتماماً لشدة حاله ورقةً عليه لما رأوا مابه من الهزال.
يقول: أمرض الأطباء حزنهم لقصورهم عن شفائه لعظم دائه.
فله بنو عبد العزيز بن الرضا ... ولكل ركبٍ عيسهم والفدفد
الهاء في فله: للممرض، وعنى به نفسه.
يقول: بنو عبد العزيز بن الرضا: الذين هم الممدوحين يكفوني لأني ألجأ إليهم في أحوالي وأجعلهم سبباً لإدراك آمالي، وكذلك أيضاً ركب هؤلاء، فمنهم عيسهم؛ لأن عطايا الأرض التي هي من ملكهم، يريد أنهم ملوك الدنيا، وأنه لا مقصود من الناس غيرهم.(1/41)
وقيل إن معناه: إن هؤلاء لي ولغيري، ممن لا يقصدهم، ليس إلا العيس التي يركبونها والمفاوز التي يقطعونها، إذ لا يحصلون بقصدهم غيره إلا على الطلب، وأنا قد ظفرت بالمطلوب بقصدي إياهم.
من في الأنام من الكرام ولا تقل ... من فيك شأمٌ سوى شجاعٍ يقصد؟
من: للاستفهام، والمراد: الإنكار، وقوله: شأم: أي يا شأم، ومعناه: من في الأنام من الكرام سوى شجاع، ولا تقل من فيك يا شأم. يعني: أنه المقصود في الدنيا للخلق، فهو واحد الناس في الناس، لا واحد الشأم وبعض من الدنيا.
أعطى فقلت: لجوده ما يقتنى ... وسطاً فقلت: لسيفه ما يولد
يقتنى: أي يدخر. وسطاً: من السطوة، وهي القهر، والغلبة، والحملة في الحرب وما بمعنى: الذي. يقول: بالغ الممدوح في الإعطاء حتى قلت: إن ما يقتنيه الناس من الأموال لجوده ليفرقها، وبالغ في سطواته حتى قلت: إن لسيفه كل ما يولد.
وتحيرت فيه الصفات لأنها ... ألفت طرائقه عليها تبعد
يقول: صارت صفات الواصفين متحيرة فيه لأنها يعني الصفات وجدت طرائق هذا الممدوح بعيدة عليها، ثم وصف بعض طرائقه فقال:
في كل معتركٍ كلىً مفريةٌ ... يذممن منه ما الأسنة تحمد
الكلى: جمع الكلية. والمفرية: المقطوعة. ويذممن: فعل الكلى وتحمد: فعل الأسنة.
يقول: إن من طرائق الممدوح أنه شجاع، وله في كل موضع حرب كلى مقطوعة للقتلى، تذم الكلى المفرية من فعله، ما تحمد أسنة الرماح. وذلك الشيء هو الكلى.
نقمٌ على نقم الزمان تصبها ... نعمٌ على النعم التي لا تجحد
نقم الزمان: نوائبه.
يقول: هذا الممدوح نقمة مصبوبة على نقم الزمان، وهي في الحقيقة نعم على النعم التي أنعم بها على الناس. يعني: إن الممدوح يدفع نوائب الزمان، فهو نعمة عليها وتلك نعمة على الناس، لأنهم يأمنون بها نوائب الدهر وهي نعمة متتابعة، مترادفة ولا يمكن أحد أن يجحدها لكثرتها وشهرتها.
في شأنه ولسانه وبنانه ... وجنانه عجبٌ لمن يتفقد
يقول: في كل واحد من هذه الأربعة من الممدوح عجب لمن تأمله! ففي شأنه: أعجب عظماً، وكبر همة، وفي لسانه: فصاحة، وفي بنانه: كتابة وسخاء، وضرباً وطعناً، وفي جنانه: قوة ونجدة وذكاء وشجاعة، وعلماً وفطنة وغير ذلك.
أسدٌ، دم الأسد الهزبر خضابه ... موتٌ، فريص الموت منه يرعد
الهزبر: من صفات الأسد، ويريد به المبالغة في الشدة. والفريص: بالفاء جمع فريصة، وهي لحمة تحت الكتف.
يقول: هو أسد عادته قتل الأسود، فدم الأسد القوي خضابه الذي يتخضب به عند قتله إياه، وهو أيضاً موت، لإفنائه الأعداء، وترعد منه: أي الموت يفزع منه.
ما منبجٌ مذ غبت إلا مقلةٌ ... سهدت ووجهك نومها والإثمد
الإثمد: ما يجعل في العين مما ينفع.
يقول: ما هذه البلدة بفراقك إلا كمقلة سهرت شوقاً إليك فغاب عنها نومها وكحلها، فلما عدت إليها نامت فرحاً بقدومك؛ فعاد إليها نومها وكحلها ووجدت روحاً وسكوناً.
فالليل حين قدمت فيها أبيضٌ ... والصبح منذ رحلت عنها أسود
يقول: إن الليل بقدومك هذه البلدة صار ضياء، كما كان ضوء النهار ظلاماً عند غيبتك عنها، وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي تمام:
وكانت وليس الصبح فيها بأبيضٍ ... فأمست وليس الليل فيها بأسود
ما زلت تدنو وهي تعلو عزةً ... حتى توارى في ثراها الفرقد
كل تاء تأنيث في البيت، وفيما قبله، وفيما بعده: كناية عن منبج، لأجل البقعة، والبلدة.
يقول: ما زلت تقرب منها وهي ترتفع تشرفاً بك، واعتزازاً بمكانك، حتى علت السماء فتوارى الفرقد في ترابها وبقعتها.
أرضٌ لها شرفٌ سواها مثلها ... لو كان مثلك في سواها يوجد
يريد أن علوها لمكان الممدوح فيها.
فقال: إن هذه الأرض بلدة شريفة. سواها من الأرضين مثلها، لو كان مثلك موجوداً فيها.
أبدى العداة بك السرور كأنهم ... فرحوا وعندهم المقيم المقعد
بك: أي بسببك.
يقول: إنهم أظهروا السرور بك، وبقدومك، وفي قلوبهم من كراهة ذلك من الخوف والغم ما أقامهم وأقعدهم، فأضمروا العداوة في الباطن، وإن كانوا على توددٍ في الظاهر وعندهم من الغم المقيم المقعد.
قطعتهم حسداً أراهم ما بهم ... فتقطعوا حسداً لمن لا يحسد(1/42)
قطعتهم: مبالغة في القطع.
يقول: جعلت العداة قطعاً؛ غيظاً وحسداً عليك، حتى أراهم حسدهم ما بهم من التقطع والذلة والنقص والمرض وتغير اللون، فتقطعوا حسداً لما فيك من الفضل، وأنت لا تحسد أحداً لأنك قد جمعت الفضائل الكلية، والحسد من دأب الناقصين، فأنت تحسد ولا تحسد أحداً.
حتى انثنوا ولو ان حر قلوبهم ... في قلب هاجرةٍ لذاب الجلمد
انثنوا: أي رجعوا. والجلمد: الحجر الصلب.
يقول: تقطعوا حسداً حتى رجعوا، وفي قلوبهم من الحر حسداً وكمداً؛ ما لو كان ذلك الحر في قلب هاجرة النهار، لذاب بحرارتها الحجر الصلب، وجعل للهاجرة قلباً لما ذكر قلوبهم لازدواج الكلام.
نظر العلوج فلم يروا من حولهم ... لما رأوك وقيل: هذا السيد
العلج: أصله حمار الوحش، وجمعه علوج. والمراد به: الكفار من أهل الروم.
يقول: لما رأوك الحساد دهشوا، وأظلمت الدنيا عليهم فزعاً منك، واستصغروا من حولهم من العساكر، استعظاماً لك من هيبتك، حتى أنهم لم يروا من حولهم من الخيل والحشم لاشتغالهم برؤيتك، ولأنك فقتهم حسناً وقيل لهم: هذا السيد.
بقيت جموعهم كأنك كلها ... وبقيت بينهم كأنك مفرد
يقول: لقيت جموع أولئك كأنك بوحدتك جملتهم، لموازنتك إياهم، وبقيت أنت بينهم مفرداً، لا نظير لك. وهذا تأكيد للمصراع الأول.
لهفان يستوبي بك الغضب الورى ... لو لم ينهنهك الحجا والسؤدد
لهفان: نصب على الحال من الغضب، وقيل بقيت لهفان، ويستوبى: من الوباء، وأصله الهمز فأبدله ضرورة، ومعناه: يفنى ويهلك، والغضب: فاعل يستوبى، والورى مفعوله ويجوز: أن يكون يستوبى: أي يوبى الغضب الذي بك. والباء في بك زائدة والورى: فاعله، والغضب مفعوله.
يقول: غضبك يكاد يهلك الناس، لو لم يكفك العقل والسؤدد، فبقيت لهفان بين الغضب المهلك، وبين العقل والسؤدد.
كن حيث شئت تسر إليك ركابنا ... فالأرض واحدةٌ وأنت الأوحد
أي كن في أي مكان شئت، فليس لنا، ولا لركابنا مسرى إلا إليك؛ لأن الأرض واحدة، وأنت مالكها. وإنك أنت أوحد، لا نظير لك ولا شبيه.
وصن الحسام ولا تذله فإنه ... يشكو يمينك والجماجم تشهد
لا تذله: أي لا تذله، فخفف.
يقول: صن سيفك واغمده ولا تذله فتفنيه من كثرة استعماله فإنه يفنى الحسام وتشكو يمينك، من كثرة ضرب الجماجم: وهي عظام الرءوس تشهد له بذلك، ومن حق السيف عليك أن تصونه ولا تهينه وهذا نظير قوله:
شم ما االتضيت فقد تركت ذبابة ... قطعاً وقد ترك العباد جذاذا
يبس النجيع عليه فهو مجردٌ ... من غمده فكأنما هو مغمد
النجيع: دم الجوف. وقيل: الدم الطري.
يقول: قد جف الدم على حسامك وهو مجرد عن غمده، لكنه من الدم اليابس عليه كأنه مغمد.
ريان لو قذف الذي أسقيته ... لجرى من المهجات بحرٌ مزبد
ريان: ضد عطشاً، وهو نصب على الحال. والمهجة: دم القلب.
يقول: هذا السيف ريان من الدماء؛ لكثرة ما أسقيته من دماء القتلى، فلو رمى ما أسقيته من الدماء لجرى منها بحرٌ، يعلوه الزبد لغزارته.
ما شاركته منيةٌ في مهجةٍ ... إلا وشفرته على يدها يد
التذكير الذي في البيت: للحسام، والتأنيث: للمنية. وشفرة السيف: حده.
يقول: ما شاركت المنية هذا السيف في نفس من الأنفس، إلا وحده على يد المنية يدٌ فتكون يده فوق يدها. ومثله لأبي تمام قوله:
مطلٌ على الآجال حتى كأنه ... لصرف المنايا في النفوس مشارك
غير أن المتنبي فضل السيف على المنية، وأبو تمام سوى بينهما.
وقيل: إنما شاركته المنية فزعاً منه؛ لأن السيف يدٌ على يدها، يمنعها ويعوقها.
إن الرزايا والعطايا والقنا ... حلفاء طيٍّ غوروا أو أنجدوا
حلفاء: جمع حليف، وهو الجار المحالف على الولاية، وطيٍّ: أراد طيئاً فخفف.
يقول: إن المصيبات، والعطيات، والرماح حلفاء طيىء، غير مفارقة عنهم، أينما حلوا نجداً أو غوراً، سهلاً أو جبلاً.
صح: يال جلهمة. تذرك، وإنما ... أشفار عينك ذابلٌ ومهند
جلهمة: قبيلة المدوح. والأشفار: يريد بها الأهداب هاهنا.
يقول: ناد أيها الممدوح وقل: يال جلهمة، تدرك، وقد أحاطوا بك برماحهم وسيوفهم، حتى كأن أشفار عينك سيف ورمح، لكثرة سيوفهم ورماحهم.(1/43)
وفيه معنى آخر: وهو أنك إذا صحت بهم جاءوك واجتمعوا عندك، وهابوك، حتى كأن أشفار عينك إذا نظرت إليهم، ذابلٌ ومهند؛ لهيبتك في قلوبهم ولطاعتهم لك.
من كل أكبر من جبال تهامةٍ ... قلباً ومن جود الغوادي أجود
الجود: المطر الشديد، والغوادي: جمع غادية، وهي السحابة التي تنشأ غداة.
يقول: إن كل رجل منهم أكبر من جبال تهامة وأسخى من السحاب التي تأتي غدوة. وهذا يمكن أن يكون متعلقاً بقوله: أشفار عينك ذابلٌ ومهند من كل رجلٍ أكبر من جبال تهامة. ويمكن أن يكون للقسمة والتبعيض، كما يقال: رأيت من الناس ذاهبٌ. أي من هو ذاهب.
يلقاك مرتدياً بأحمر من دمٍ ... ذهبت بخضرته الطلى والأكبد
أحمر: صفة لمحذوف، يعني: بسيف أحمر من دم.
يقول: الذي هو أكبر من جبال تهامة قلباً، يراك متقلداً بسيف أحمر، مما عليه من دماء الأعداء، صبغت خضرته وصقاله دماء الأعناق والأكباد، وسترها فيأتيك به.
حتى يشار إليك ذا مولاهم ... وهم الموالي والخليقة أعبد
يقول: حتى يطاعون لك منقادون لأمرك، ويشار إليك فيقال: ذا مولاهم أي سيدهم وهم مع ذلك سادات الناس كلهم، فأنت سيدهم، والخلق عبيدهم، فأنت سيد السادات.
أنى يكون أبا البرية آدمٌ ... وأبوك والثقلان أنت محمد
تقديره: كيف يكون آدم أبو البرية، وأبوك محمد، وأنت الثقلان.
يريد: إذا كنت أنت الثقلين، وأبوك محمد، فأبو البرية إذاً أبوك! لا آدم! والثقلان: الجن والإنس. ومثله قول الآخر:
وليس على الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟
أيحيط، استفهام: والمراد به الجحد. ويفنى وينفد بمعنى، فلذلك وضع أحدهما موضع الآخر.
يقول: يفنى كلام الشعراء في مدحكم فلا يحيط بفضلكم؛ لأن للكلام نهاية وليس لفضلكم نهاية، فكيف يحيط المتناهي بما لا يتناهى؟!.
وقال في أبي دلف وكان قد حبسه الوالي لشيء بلغه عنه، وأبو دلفٍ هذا سجانٌ حبس المتنبي عنده مدة سنتين وقد أهدى إليه هدية وهو في السجن:
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد يا أبا دلف
أهون: أي ما أهون طول الثواء، وهذا إن بناه من الإهانة فهو من الشاذ. كقولهم: ما أعطاه للمال. لأن ما زاد على الثلاثة لا يبنى منه فعل التعجب، إلا بلفظ ثلاثي، فكأنه يقول: ما أشد الإهانة بطول الثواء والتلف.
وإن كان من هان يهون فهو صحيح يدل عليه ما بعده من الأبيات، وكان قد حبس في السجن، وكان يتعهده رجلٌ يعرف بابن كنداج كنية أبي دلف، يأتيه بالطعام وغيره، فشغل عنه يوماً، فكتب إليه بهذه الأبيات يقول مخاطباً لأبي دلف: ماأيسر طول الثواء والهلاك علي، والسجن والقيد كل ذلك هين علي وهذا يدل على أنه كان محبوساً.
غير اختيارٍ قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يقول: قبلت برك بي عن غير اختيار بل بالاضطرار الواقع، كما أن الأسد إذا جاع، ولم يظفر بفريسةٍ، يأكل الجيف اضطراراً! كذلك حالي، في قبول برك.
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وظنت للموت نفس معترف
التوطين: جعل النفس وطناً.
يقول للسجن: كن كيف شئت علي، فإني قد وطنت نفسي للموت، توطين المعترف بالشيء، الراضي به، المقر بالموت، الذي سكن إليه. وقيل: المعترف الصابر. يعني: وطنت للموت نفسي نفس رجل صابرٍ على الشدائد.
لو كان سكناي فيك منقصةٌ ... لم تكن الدر ساكن الصدف
يقول: لو كان كوني في السجن توجب منقصة وذلاًّ لكان كون الدر مع جودته وعلو قدره في الصدف الذي هو أخس حيوان البحر يوجب له النقص. فكما لا تؤثر خسة الصدف في قدر الدر، كذلك حالي في السجن. وهذا تسلية لنفسه.
وكان قوم ي صباه قد وشوا به إلى السلطان وكذبوا عليه وقالوا: قد انقاد له خلقٌ من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه فاعتقله وضيق عليه، فكتب إليه يمدحه:
أيا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
أيا: يحتمل أن يكون حرف نداء، والمنادى محذوف، وتقديره: أيا قوم. ويحتمل أن يكون افتتاح الكلام. مثل أما وألا وخدد: أي شقق. وقد: أي قطع، وأصله القطع طولاً. والقدود: جمع القد، وهو القامة.
قال يدعو على ورد الخدود والقدود الحسنة، وفيه وجهان:(1/44)
أحدهما: أن يكون على عادة العرب، في أنهم إذا استحسنوا شيئاً وتعجبوا منه دعوا عليه! نحو قولهم: قاتل الله فلاناً ما أفصحه!.
والثاني: أن يحمل على حقيقة الدعاء عليها. فيقول: شقق الله ورد الخدود وقطع قدود الحسان قدوداً، فإني قد لقيت منها بلاءً وجهداً، وقاسيت منها مشقة، ويدل عليه قوله فهن أسلن دما مقلتي ومثله لجميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فهن أسلن دماً مقلتي ... وعذبن قلبي بطول الصدود
يقول: هن أسلن من مقلتي دماً؛ من بكائي عليهن، وعذبن قلبي بطول إعراضهن عني. وروى مهجتي أي قتلنني وسفكن دمي.
وكم للهوى من فتىً مدنفٍ ... وكم للنوى من قتيلٍ شهيد
المدنف: الذي طال مرضه. يعتذر من قوله فهن أسلن دماً.
فيقول: ما أنا بأول عاشقٍ قتل شهيداً، فكم للهوى من فتىً قد دنف وصار إلى شرف الموت، وكم للنوى من قتيلٍ شهيدٍ مثلي، قد قتله الحب، كما قتلني شهيداًز
فواحسرتا ما أمر الفراق ... وأعلق نيرانه بالكبود
يقول: واحسرتا على نفسي من مفارقة الأحباب، فما أمر الفراق وأشد مرارته! وما أشد علق نيران الفراق بالكبود! وجمع الكبود ذهاباً إلى العموم، فكأنه قال: ما أعلق نيرانه بكبود العشاق. وروى: وأحرق نيرانه بالكبود.
وأغرى الصبابة بالعاشقين ... وأقتلها للمحب العميد!
قوله وأغرى: تعجب من غرى بالشيء إذا ولع به. والصبابة: رقة الهوى. والعميد: المصاب عمود قلبه.
يقول: ما أولع الصبابة والشوق بالعشاق، وما أقتلها للمحب المصاب قلبه! يتعجب من ولع الهوى وقتله للعشاق.
وألهج نفسي لغير الخنا ... بحب ذوات اللمى والنهود
ألهج: أي أعرض، وأولع. واللمى: حمرة الشفة تضرب إلى السواد. والنهود: نتوء الثدي.
يقول: ما أولع نفسي بحب النساء، لمى الشفاة، نواهد الثدي، الموصوفات بالحسن والجمال، لا الخنا: الذي هو داعية الزنا، لكن لأجل النظر فقط.
فكانت وكن فداء الأمير ... ولا زال من نعمةٍ في مزيد
أي كانت نفسي المذكورة، وذات اللمى والنهود فداء الأمير الممدوح. على وجه الدعاء، ثم ذكر دعاءً آخر فقال: ولا زال الأمير من الله تعالى في زيادة تامة من النعمة.
لقد حال بالسيف دون الوعيد ... وحالت عطاياه دون الوعود
الوعود: جمع الوعد، وهو مصدر وعد. فيكون بمعنى: الوعد.
يقول: حال الأمير بسيفه دون الوعيد، فيقتل قبل أن يوعد، وحالت عطاياه دون الوعد؛ فيعطي قبل أن تعد. فالأول: يدل على فضل قوته، والثاني: على فضل سخائه وجوده.
فأنجم أمواله في النحوس ... وأنجم سؤاله في السعود
أنجم أمواله منحوسةٌ لتفريقه إياها، وأنجم سؤاله مسعودة لاستغنائهم بما يبذله لهم من الأموال ويفرقه بينهم.
ولو لم أخف غير أعدائه ... عليه لبشرته باللود
يقول: لو كان الخوف على الممدوح من أعدائه وحدهم، لكنت في أمنٍ دونهم، فبشرته بدوام الحياة غير إنما أخاف عليه من غير أعدائه، وهو الله تعالى، ذو القضاء المبرم في جميع الناس. والغرض هو الاستخفاف بأعدائه. وروى: عين أعدائه يعني: أن يصيبوه بعيونهم السيئة.
رمى حلباً بنواصي الخيول ... وسمر يرقن دماً في الصعيد
الصعيد: التراب الخالص. وقيل: هو ظاهر الأرض.
يقول: رمى حلباً بوجوه خيله، لما حاربها برماح له، تريق دماء أعدائه في الصعيد: أي التراب.
وبيضٍ مسافرةٍ ما يقم ... ن لا في الرقاب ولا في الغمود
يقول: رماها بسيوفٍ مسافرةٍ، غير مستقرة في رقاب الأعداء ولا في غمودها؛ لأنها تتقدم من رقاب إلى رقاب، ومن قتيل إلى قتيل، فليس لها قرار؛ لكثرة ما تستعمل في الضرب فكأنها مسافرة غير مقيمة في غمد أو عنق.
يقدن الفناء غداة اللقاء ... إلى كل جيشٍ كثير العديد
يقدن: فعل السيوف التي لا تقيم في غمد، أو عنق. يقول: يقدن أي يسقن الفناء غداة اللقاء للحرب، إلى كل جيش كثير العدد؛ فهذا فعلهن وسفرهن.
فولى بأشياعه الخرشني ... كشاءٍ أحس بزأر الأسود
الخرشني: هو والي حلب، وخرشنة. هو الحصن في بلاد الروم.
يقول: ولي الخرشني الذي حاربه الأمير بأصحابه وأشياعه، كانهزام الشاة عند ما تحس بصوت الأسد.(1/45)
يرون من الذعر صوت الرياح ... صهيل الجياد وخفق البنود
يقول: انهزموا عنه، وخافوه، حتى ظنوا صوت الرياح أنه صهيل خيوله وخفق أعلامه، وأنهم إذا رأوا شيئاً ظنوه رجلاً ومثله قول جرير:
ما زلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالا
والأصل في ذلك قوله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو ".
فمن كالأمير ابن بنت الأمي ... ر أم من كآبائه والجدود؟
من: استفهام. ومعناه النفي.
يقول: ليس أحد مثل الأمير وليس أحد كأبيه وأجداده، وهو أيضاً كريم من جهة الأمهات.
سعوا للمعالي وهم صبيةٌ ... وسادوا وجادوا وهم في المهود
يقول: إن الممدوح وأباءه وأجداده قد سعوا في طلب المعالي في حال صباهم، وسادوا غيرهم، وجادوا بأموالهم، وهم أطفال في المهود، والغرض المبالغة في سؤددهم وكرمهم. وروى: وشادوا أي بنوا المجد ورفعوه.
أمالك رقىً ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
الواو في قوله: ومن شأنه، واو الحال. ويجوز: أن يكون واو العطف، ومن في موضع النصب، وتقديره إذاً يكون: يا مالك رقىً ويا من شأنه هبات الفضة وإعتاق العبيد.
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
حبل الوريد: عرق في العنق، يتصل بالقلب.
يقول: دعوتك لما انقطع الرجاء من الحياة، وقرب الموت مني، كقرب حبل الوريد.
دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
براني: أي أنحلني، وقطعني، والبلى: مصدر بلى الشيء. وروى: لثقل الحديد.
يقول: دعوتك عند الشدة، وعظم أثر القيد برجلي!
وقد كان مشيهماً في النعال ... فقد صار مشيهماً في القيود
يقول: قد كان مشى رجلي قبل ذلك في النعال، وصار الآن مشيهما في القيود! فلا عهد لي بالقيود قبل هذه الحالة!
وكنت من الناس في محفلٍ ... فها أنا في محفلٍ من قرود
لصوصٌ أطاعوا أبا مرةٍ ... بترك الركوع وترك السجود
كأني قرنت بهم في الجح ... يم أرى كل يومٍ وجوه اليهود
يقول: كنت إلى الآن في محفل من كرام الناس، وأنا الآن في محفل من القرود! وأراد بهم الأوباش وأصحاب الأهواء ثم بين فقال: هم لصوص وأطاعوا إبليس بترك الصلاة. وأبو مرة: كنية إبليس.
تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود!
وروى تعجل: فيكون متعدياً، أصله تتعجل أيها الأمير، فعلى هذا وجوب يكون منصوباً، والأولى تعجل بفتح اللام على الفعل الماضي اللازم ويجوز رفع وجوب الصلاة علي وحدي. قال ابن جنى: إنه لم يكن صغيراً لكن صغر نفسه عند الأمير ألا ترى أن من كان صبياً لا يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف والظاهر بخلاف ذلك، وما بعده يدل على أنه كان صغيراً، ومثله لابن الرومي:
أم لذنبٍ ينوب عني فلم يأن ... اكتساب الذنوب للأطفال
وقيل عدوت على العالمين ... بين ولادي وبين القعود
عدوت: أي ظلمت يقول: قيل عدوت على العالمين بما نويت، وأنا بين أولادي وقعودي ومن كان طفلاً مثلي. فكيف يصح منه ما نسب إليه؟!
فما لك تقبل زور الكلام ... وقدر الشهادة قدر الشهود؟!
يقول: مالك تقبل على الكذب وهذه الشهادة كشاهديها في الحقارة، فكما لا قدر للشهود لحقارتهم فكذلك شهادتهم.
فلا تسمعن من الكاشحين ... ولا تعبأن بمحك اليهود
بمحك اليهود: أي العداوة وشدة الحاجة. وروى: بمحل اليهود: وهو السعاية.
يقول: لا تسمع من الكاذبين كذبهم علي، ولا تبال بعداوة اليهود وسعايتهم بي، فإن شهادة اليهود على المسلمين غير مقبولة؛ لما بينهم من العداوة، والظاهر أنهم كانوا يهوداً. وقال ابن جنى: إنهم لم يكونوا يهوداً ولكن كني عنهم باليهود لذلتهم وحقارتهم وقلتهم، وظاهر البيت يدل على خلاف ذلك.
وكن فارقاً بين دعوى: أردت ... ودعوى: فعلت بشأوٍ بعيد
يقول: إن القوم إنما شهدوا علي، بأني أردت أن أهجوك وأخرج عليك، ولم يشهدوا أني فعلت ذلك، ولا نستحق الحبس والحد على العزم والنية ما لم يفعل، فكن فارقاً بين الواقع والمستقبل بمفرق بعيد، فإن بين الأمرين بوناً بعيداً.
وفي جود كفيك ما جدت لي ... بنفسي ولو كنت أشقى ثمود(1/46)
يقول: لو كان ما زعموا! فإن في جود كفيك لي رجاءٌ أن تعفو عني، وتجود بنفسي وتترك قتلها، على عظم ذنبي، ولو كنت في ذنبٍ عظيم. أشقى ثمود: الذي عقر ناقة صالح عليه السلام. واسمه قدار بن سالف.
وقال إجابة لمعاذ الصيدواني وهو يعذله على تهوره:
أيا عبد الإله معاذ إني ... خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي
هو: أبو عبد الله معاذ الصيدواني، وضم معاذ على نكرة الندا كأنه يقول: أيا عبد الله. يا معاذ. وكان معاذ هذا يلومه على تعرضه للحروب في الأسفار. فقال له: إنه خفي عنك مقامي في الحروب واستقلالي بها، وارتقائي إلى معالي الأمور.
ذكرت جسيم ما طلبي وأنا ... نخاطر فيه بالمهج الجسام
يقول: ذكرت عظيم ما أطلبه من الأمور، وأنا نخاطر في جسيم ما تطلبه، بالمهج والأرواح العظام، ولم تعرف أنا لا نبال باللوم والملام.
أمثلي تأخذ النكبات منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام؟
يقول: أمثلي تتناول النكبات منه، وتؤثر فيه! وهل أجزع من ملاقاة الموت؟ حتى تعذلني على بذل نفسي.
ولو برز الزمان إلي شخصاً ... لخضب شعر مفرقه حسامي
يقول: لا أبالي بنكبات الزمان، فإنه لو برز إلي وكان شخصاً لضربته بسيفي، وخضبت شعر وسط رأسه بدمه. والمفرق: وسط الرأس.
وما بلغت مشيتها الليالي ... ولا سارت وفي يدها زمامي
اليد والزمام: استعارة.
يقول: ما بلغت أني أطيعها، ولا يمكنها أن تؤثر في.
إذا امتلأت عيون الخيل مني ... فويلٌ في التيقظ والمنام
يقول: إذا رأتني الخيل. يعني: أهلها. وأراد هاهنا محبها أي الفرسان ملء أعينها، فويلٌ لهم في حالتي التيقظ والمنام؛ لأنهم إذا رأوا خيالي في المنام، يذهب نومهم خوفاً مني، وإذا تعرضت لهم في اليقظة أقتلهم وأصله من قول الشاعر:
على عدوك يابن عم محمدٍ ... رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا هدى ... سلت عليه سيوفك الأحلام
وقال لرجل بلغه عن قوم كلاماً فيه:
أنا عين المسود الجحجاح ... هيجتني كلابكم بالنباح
يقال: هذا عين الشيء. أي نفسه، وخالصه. والمسود: هو المتفق على سيادته. والجحجاح: السيد. وروى: هيجتني: أي حركتني، وأغضبتني. وهجنتني: نسبتني إلى الهجنة والعار.
يقول: أنا عين المدعو سيداً، غير أن كلابكم: أي خساسكم من الشعراء وغيرهم نسبتني إلى الهجنة أو حركتني وأغضبتني بالنباح، أي بأشعارهم أو بكذبهم علي وتعيرهم لي فكأنه جعلهم كلاباً.
أيكون الهجان غير هجانٍ ... أم يكون الصراح غير صراح
الهجان: الكريم، الخالص. والهجين: ضده. والصراح: الخالص.
يقول: أنا هجانٌ كريم، والهجان هجانٌ أبداً، وإن دعي هجيناً، والخالص خالصٌ، وإن نسب إلى ضده، ويحتمل أن يكون غير الكريم في معنى الهجين، فيكون صفةً للطاعنين فيه. ومعناه: أن من يكون غير كريم فلا يكون كريماً وإن دعي كريماً. يعني: أعداءه، ومن يكون خالصاً فلا يكون غير خالص. وأراد به نفسه.
جهلوني وإن عمرت قليلاً ... نسبتني لهم رءوس الرماح
يقول: جهلوا قدري ونسبي، ولو عشت قليلاً عرفت إليهم نفسي حتى تنسبني إليهم رءوس الرماح فيعرفونني بطعني لهم بها.
وقال أيضاً ارتجالاً وقد سئل الشرب ففضل معاطاة الحراب على معاطاة الشراب:
ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكئوس
المدام: الخمر. سمي به لأنها أديم في الدن. والخندريس: هي الخمر العتيقة من أعوام.
معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميساً في خميس
الصفائح: جمع الصفيحة، وهي السيف العريض. والعوالي: رءوس الرماح. والخميس: العسكر.
يقول: ألذ من شرب الخمر العتيقة ومناولة الكئوس، مناولة السيوف والرماح، وسقى الدماء من الجراح، وإدخال جيش في جيش، كل ذلك ألذ وأحلى عندي من شرب الخمر العتيقة.
فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش في أرب النفوس
لما فضل الحرب على الشرب بين علة التفضيل.
فقال: موتي في الحرب عيش في الحقيقة لبقاء الذكر الجميل؛ لأني رأيت العيش وكماله في حاجات النفوس، وحاجتي حصول عيش الأبد، وذلك في الموت لبقاء الذكر الجميل بعدي.(1/47)
ويجوز أن يريد أن الحرب في سبيل الله حياة لي لكوني من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فكنت حياً بما أنا فيه من الثواب.
قال ابن جنى: قلت له كيف ذلك؟ فقال الآية: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ".
ولو سقيتها بيدي نديمٍ ... أسر به لكان أبا ضبيس
نصب أبا ضبيس؛ لأنه خبر كان، واسمه: ضمير النديم وهو صديقه الذي دعاه إلى الشرب. وقيل: إنه كان صاحب المجلس والدعوة.
يقول: لو سقيت الخمر بيدي نديم لي فيه سرور وأنس لكان ذلك النديم أبا ضبيس يعني لكنت لا أشرب إلا من يده.
وقال له بعض الكلابيين: أشرب هذا الكأس سروراً بك فأجابه ارتجالاً:
إذا ما شربت الخمر صرفاً مهنئاً ... شربنا الذي من مثله شرب الكرم
يقول: إذا شربت الخمر صرفاً أي غير ممزوج مهنأً بشربه. شربت أنا الماء الذي شرب الكرم من مثله.
وقيل: إن الكرم إذا غرس صب في مغرسه الدم فيقوى بذلك.
يقول: إذا شربت أنت الخمر شربت أنا الدم الذي شرب الكرم منه، ويدل عليه ما بعده وهو:
ألا حبذا قومٌ نداما هم القنا ... يسقونها رياً وساقيهم العزم
يقول حبذا قوم، نداماهم الرماح، يسقون رماحهم دماء أعدائهم ريا: أي قدر ما تروى به ويكون ساقيهم العزم.
طربه لصليل السيوف لا لقرع الكئوس.
وقال أيضاً ارتجالاً:
لأحبتي أن يملئوا ... بالصافيات الأكوبا
وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا ... ت المسمعات فأطربا
الأكواب: جمع الكوب، وهو الإبريق بلا عروة.
يقول: لأحبائي أن يملئوا كئوسهم خمراً، ويعرضوها علي، ولكن علي ألا أشربها حتى تصير السيوف القاطعات المغنيات في العظام، فإذا سمعت هذا الغناء فأشرب وأطرب عند ذلك! ويجوز في الباترات: الرفع، على أن تجعل يكون فعلاً حقيقياً، وإن جعلته ناقصاً يجب رفع الباترات، ونصب المسمعات خبراً لها.
وقال أيضاً يصف مجلساً لابن عبد الوهاب وقد جلس ابنه ليلاً إلى جانب المصباح:
أما ترى ما أراه أيها الملك ... كأننا في سماءٍ مالها حبك
أي ما أراه أيها الملك كائناً في مجلسك، في سماءٍ ليس لها طرائق، ولما شبه مجلسه بالسماء بين بعد ذلك وجه التشبيه فقال:
الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك
الهاء: في صاحبه للفرقد. وهما فرقدان.
يقول: ابنك أحد الفرقدين، والمصباح الفرقد الثاني، وأنت بدر الدجى؛ لما لك من الفضل، والمجلس هو الفلك الذي يجوز هذه الأشياء. شبه ابنه بأحد الفرقدين والمصباح بالثاني، والأب بالبدر، والمجلس بالفلك فجمع فيه أربع تشبيهات. ومثله للمخزومي:
كأن سعيداً وأبناءه ... نجومٌ وبدرٌ إذا ما اتسق
يفتخر بشعر على أبي بكر الطائي وكان قد نام ساعة إنشاده قال: ونام أبو بكر الطائي وأبو الطيب ينشده فأنبهه:
إن القوافي لم تنمك وإنما ... محقتك حتى صرت ما لا يوجد
أي أنها لم تنمك بل أهلكتك حتى صرت غير موجود! والغرض أنه لو كان من المميزين لم ينم من شعره.
فكأن أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنها مما سكرت المرقد
المرقد: الدواء المنوم، وقوله مما سكرت في معنى المصدر، كأنه قال: من سكرك.
يقول: كأن أذنك حين سمعت القوافي، فوك. وكأن ما أنشدته لك من الشعر، هو الدواء المرقد، فشربته وسكرت، لأن نومك من القوافي، لا من الخمرة وروى لما سكرت.
وقال يتغزل أيضاً:
كتمت حبك حتى منك تكرمةً ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
يقول: كتمت حبك حتى كتمته منك تكرمة لك، إذ في إظهاره فضيحة المحبوب، أو تكرمة لنفسه من الاستكانة للنساء، ثم أطلق كتمانه، فظهر بما دل عليه من الأمارات، كالبكاء والنحول وغير ذلك، فاستوى فيه إسراري وإعلاني؛ لأن السر في الظهور كالعلانية. ويجوز أن يكون المراد به أنهما استويا في الكتمان، والمقصد أنه لم يظهر قط، بل بقي كما كان من الإسرار.
كأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني
الهاء في كأنه: ضمير الكتمان، ودل عليه قوله: كتمت. ويجوز أن يكون راجعاً إلى الحب، أي زاد حبي حتى أسقم كتماني؛ فضعف عن حمل الكتمان. والكناية في به: ترجع إلى الحب.(1/48)
يقول على المعنى الأول: كأن الكتمان زاد في جسدي، حتى فاض عنه وظهر، فصار سقمي بسبب الحب الذي كان في جسمي كتمان. يعني: أن جسمي كان سقيماً، فلما ظهر الحب زال عني السقم إلى جسم الكتمان، فصار الكتمان سقيماً؛ لأن إفشاء السر سقم الكتمان.
وعلى الثاني: أن الكتمان زاد حتى فضل عن جسدي، فصار سقمي بسبب الحب، منكتماً في جسم كتمان.
كأنه يقول: كان الكتمان في جسمي، فصار الآن جسمي في الكتمان، فلكون جسمي في جسم الكتمان صار سقمي فيه، وكان الكتمان ظرفاً لي، بعد ما كنت ظرفاً له.
وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي:
هذي برزت لنا فهجت رسيساً ... ثم انصرفت وما شفيت نسيساً!
يجوز أن يريد يا هذي فحذف حرف النداء للضرورة، ويجوز أن يكون إشارة إلى المرة الواحدة من برزت، فتكون هذه موضوعة موضع المصدر، كأنه يقول: هذه البرزة برزت لنا. والرسيس حنين الحمى وهيجانها، والنسيس: العطش. وقيل: هو الاختلاج. وقيل: هو بقية المرض. وقيل: بقية النفس.
يقول للمحبوبة: يا هذه: برزت لنا هذه البرزة الحسنة فهيجت لنا الهوى وحرارة القلوب ثم انصرفت عنا ولم تشف بقية نفوسنا التي أبقيت لنا، وبقية مرضنا الذي هيجت لنا ببروزك وما شفيت اختلاج عيوننا ولا سكنت لنا عطشاً.
وجعلت حظي منك حظي في الكرى ... وتركتني للفرقدين جليسا
هذا تفسيره على وجوه: أحدها: جعلت حظي من رؤيتك وصلك في النوم، فكما لا حظ لي منك، لا حظ لي من النوم.
والثاني: جعلت حظي منك في النوم. يعني: لا أراك إلا في النوم.
والثالث: جعلت حظي منك بلا حقيقة ولا حاصل لي، كحظي من الأحلام التي أراها في النوم! ثم قال: وتركتني جليس الفرقدين، ولا أنام من طول الفكر.
قطعت ذياك الخمار بسكرةٍ ... وأدرت من خمر الفراق كئوسا
ذياك: تصغير ذاك. يقول: كنا في خمار مع قربك، بما كنا نقاسي من بخلك بالوصل، فالآن أزلت ذلك الخمار بسكرة الفراق، فكنا نستعظم ذلك الخمار، فصار ما كنا نستعظمه صغيراً في جنب سكرة الفراق! وصغر الخمار بقوله: ذياك لأنه صغير في مقابلة السكر، ولهذا قال: وأدرت من خمر الفراق كئوساً. فحدث عنها هذه السكرة. أو صغره ليبين أن مدة قربها قصرت بالإضافة إلى مدة الفراق، أو يكون أراد به التعظيم كقول لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهة تصفر منها الأنامل
إن كنت ظاعنةً فإن مدامعي ... تكفي مزادكم وتروي العيسا
المزاد: الوعاء الذي يجعل فيه الزاد، وأراد به ها هنا سقاء الماء، لأنه من الزاد.
يقول: إن كنت مرتحلة فلا تأخذي الماء فإن دموعي تكفي مزادكم وتروي إبلكم من كثرة ما أصب من دموعي. وقيل: إنه من كفأت الإناء: إذا قلبته. أي أن مدامعي تقلب مزادكم وتريق الماء، لأن دموعي تقوم مقام المزاد فلا تحتاجون إليه.
حاشى لمثلك أن تكون بخيلةً ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
ولمثل وصلك أن يكون ممنعاً ... ولمثل نيلك أن يكون خسيسا
كان الوجه أن يقول: حاشى لمثلك أن يكون بخيلاً؛ لأن لفظ مثل مذكر، إلا أنه حمل على المعنى.
يقول: معاذ الله أن تكوني بخيلة بالتقبيل عند الوداع، ولمثل وجهك أن يكون عابساً في تلك الحال، كأنه أراد بهذه العبارات اللطيفة، أن يقول: ودعيني وقبليني ولا تبعسي وجهك، وحاشاك أن تكوني مانعةً من الوصل، وأن يكون نيلك خسيساً حقيراً. وكني عن إكثار النيل وبذل الوصل من غير منع بأحسن عبارة.
خودٌ جنت بيني وبين عواذلي ... حرباً وغادرت الفؤاد وطيسا
الخود: الناعمة. والوطيس: معركة الحرب. وقيل: هو تنور من حديد.
يقول: هي ناعمة وقد أوقعت حرباً بيني وبين عواذلي في حبها؛ لأنهن يلمنني وأعصيهن، فحدثت مقاتلة فؤادي معركة الحرب بيني وبين عواذلي. وقيل: أراد أنها لما أوقعت بيننا القتال وتركت فؤادي موقداً بالنار بما فيه من حرارة التوقد والوجد والعشق فصار كالتنور.
بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيهاً ويمنعها الحياء تميساً
روى يمنعها التكلم فيكون التكلم منصوباً بيمنع. وروى تكلم فيكون فعل مضارع، والأصل: تتكلم. فحذف إحدى التاءين تخفيفاً. ومعناه: أن تتكلم، غير أنه حذف أن في اللفظ، وهو منوى في العنى. فنصب، وكذلك في تميس فلهذا نصب.(1/49)
يقول: إنها بيضاء ناعمة يمنعها دلها أن تتكلم من تيهها وتكبرها.
لما وجدت دواء دائي عندها ... هانت علي صفات جالينوسا
يقول: لما وجدت لدائي الذي هو الهوى الدواء عند المحبوبة وهو الوصل هانت عندي صفات جالينوس في طبه. ومثله للأخوص:
وكنت إذا سقمت بأرض سعدى ... شفائي من سقامي أن أراها
أبقى زريقٌ للثغور محمداً ... أبقى نفيسٌ للنفيس نفيساً
يقول: أبقى أبو زريق ابنه محمداً للثغور، أبقى نفيسٌ: وهو الثغر. نفيساً: وهو محمد.
إن حل فارقت الخزائن ماله ... أو سار فارقت الجسوم الروسا
روى الروسا: بالألف واللام غير مهموزة، وروى رءوساً من غير ألف ولام، فيكون مهموزاً، وهو الأصل، والأولى التخفيف.
يقول: إن حل هذا الممدوح بموضعٍ أو بمقر غرةً فارقت خزائنه: أي ماله. لتفريقه إياه على السؤال وغيرهم. وإذا سار فارقت جسوم أعدائه رءوسها؛ لقتله إياهم، فلا يسير إلا للمقاتلة. فوصفه بالسخاء والشجاعة.
ملكٌ إذا عاديت نفسك عاده ... ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا
يقول: هو ملك، إذا عاديت أيها الإنسان نفسك، تعاده! وكذلك إذا رضيت أن يكون أنيسك أوحش ما تكرهه، يعني: إن لم يقتلك ويقتصر على الحبس، كنت راضياً بذلك؛ والسجن أوحش ما كرهه الإنسان. وقيل: أراد به الموت؛ لأنه أوحش ما كرهه الإنسان.
الخائض الغمرات غير مدافعٍ ... والشمري المجعن الدعيسا
الخائض وما بعده: نصب على المدح. كأنه قال: أعني أو أذكر أو أمدح. والشمري: المشمر. وقيل: هو في هذا الموضع فارس شمر وهو فارس معروف. والدعيس: الطعان الذي يطعن في موضعٍ مرتين.
يقول: هو ملك يخوض الشدائد، ولا يدافع عنها، وهو الطعان الحاذق بالطعن والفارس المشمر الخفيف في الحرب.
كشفت جمهرة العباد فلم أجد ... إلا مسوداً جنبه مرءوسا
جمهرة العباد: جماعتهم. وقيل: أكثرهم. والمسود: الذي ساده غيره.
والمرءوس: الذي رأسه غيره. وقوله: جنبه. نصب على الظرف. يعني: في جنبه. وبالإضافة إليه.
يقول: فتشت جماعات العباد، فلم أجد بينهم بالإضافة إلى الممدوح إلا مسوداً أو مرءوساً، فكل رئيس في جنبه مرءوس، وكل سيد مسود؛ لأنه سيد السادات، ورئيس الرءوساء.
بشرٌ تصور غايةً في آيةٍ ... تنفي الظنون وتفسد التقييسا
يقول: إنه إنسان، بلغ الغاية من المكرمات، حتى صار فيها آيةً معجزة، بحيث تنفي تلك الآية والدلالة الظنون، فلا تحيط به الظنون وتفسد قياس من يقاس إليه من الناس، فلا يمكن قياس أحد إليه.
وقيل: إن الظنون من الظنة: وهي التهمة. والمعنى: أنه لما صار آية في المكرمات، تنكر الناس فيه، أنه بشر! لما رأوه بهذه الصفة، فنفى هذه التهمة عنهم، وهي أن يتهم بما لا يليق به، كما نسب إلى السيد المسيح، فهو ينفي ذلك عن نفسه ويفسده قياس الناس في ذلك.
وبه يضن على البرية لا بها ... وعليه منها لا عليها يوسى
التذكير: للمدوح. والتأنيث: للبرية. ويوسي: من آسيت على الشيء. أي حزنت عليه. وتقديره: وبه يضن بالبرية عليه، وعليه يوسي من البرية، ولا يوسي عليها منه.
يقول يضن: أي يبخل به على الخلق، ولا يبخل بالخلق عليه، أي يجعل الناس فداء له، ولا يجعل فداء لهم. ويقال: إنه خير من البرية كلهم، وهم دونه، والشيء يبخل به ولا يبذل بما دونه، أو يوحش البرية في رضاه، ولا يوحش هو لرضى البرية.
أو يقال: يتهم البرية به فلا يوثق بالبرية، ولا يتهم هو من البرية. وقوله: وعليه منها أي عليه يوسى أي يحزن، ومنها أي من البرية إذا هلك أو أصابه مكروه، لا عليها يحزن إذا هلكت. والمعنى: أنه يبخل به على البرية، ولا يبخل بهم عليه؛ لأنهم لا يسدون مسده. ويجوز أن يريد يحزن عليه لكونه من البرية، ولأنه أشرف منها، فإذا عد منها فقد يخرجه، فيحزن عليه لذلك، ولا يحزن على البرية لكونه منها، وإنه يرفعها ويشرفها، فكونه منها يضعه ويرفعها فيحزن عليه ولا يحزن عليها بسببه.
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركةٍ لأعيا عيسى(1/50)
يقول: لو استعمل ذو القرنين رأى هذا الممدوح، وكان له مثل الظلمات، لكانت بنور رأيه شموساً. وأضاءت له؛ لأن رأيه أضوأ من الشمس. وعازر: هو الذي أحياه الله تعالى على يد المسيح أو أصاب رأسه سيفه ومات، لأعيا عيسى أن يحييه ويشق عليه إحياءه بعد موته.
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
أي: لو كان لج البحر الذي انشق لموسى عليه السلام، مثل يمين هذا الممدوح، ما انشق حتى جاز فيه موسى بمن معه.
أو كان للنيران ضوء جبينه ... عبدت فكان العالمون مجوسا
يقول: لو كان للنار نور جبين هذا الممدوح، لعبدها أهل الدنيا كلهم! وصاروا بأجمعهم مجوساً! والغرض وصفه بالحسن والبهاء.
لما سمعت به سمعت بواحدٍِ ... ورأيته فرأيت منه خميسا
يقول: لما سمعت بذكره، سمعت بواحدٍ من الناس، فلما رأيته رأيت عسكراً عظيماً، وإن كان في نفسه واحد، لقيامه مقام الجماعة.
ولحظت أنمله فسلن مواهباً ... ولمست منصله فسال نفوسا
يقول: لما رأيت أنامله وجدتها تسيل منها المواهب، ولما لمست سيفه وجدته يسيل منه الدماء!
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبداً ونطرد باسمه إبليسا
المعنى: يا من نلجأ إلى ظله إذا جار علينا الزمان، وإذا تعرض لنا إبليس طردناه باسمه؛ لأن اسمه محمد، وبه يطرد إبليس. قيل: إنه أراد أنه في هيئة بمثابة أن يطرد به إبليس، مع كثرة ضرره بالناس، وقيل: أراد بإبليس، كل من تتأذى به الأنفس فهو إبليس.
صدق المخبر عنك دونك وصفه ... من بالعراق يراك في طرسوسا
يقول: صدق المخبر الذي أخبرني عنك. ثم وصفه بقوله: دونك، أي وصف ذلك المخبر دون ما أنت عليه وأنت فوق ما وصفه. ثم قال: من بالعراق يراك في طرسوسا التي أنت فيها فكأنهم في فضلك وشهرتك رأوك وشاهدوك، وأراد بذلك بعد صيته وذكره، لا يستقر بل تسير به الركبان، أو يكون كناية عن وصول عطاياه إلى البلدان. وقول الحكمي أبلغ وأحسن من هذا؛ وهو:
ملكٌ تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان
لأنه عم جميع الأماكن، والمتنبي اقتصر على العراق وطرسوس.
بلدٌ أقمت به وذكرك سائرٌ ... يشنا المقيل ويكره التعريسا
أصله: يشنأ بالهمز، فخفف، وأبدل منه الألف. والمقيل: من القيلولة، أو مكانها. والتعريس: يكون في وجه الصبح.
يقول: إن طرسوس بلدٌ أقمت به وذكرك سائرٌ ليلاً ونهاراً، لا مقيل له بالنهار، ولا تعريس له بالليل.
فإذا طلبت فريسةً فارقته ... وإذا خدرت تخذته عريسا
خدر الأسد: إذا غاب في الأجمة. والعريس والعريسة: مأوى الأسد.
يقول: إذا غزوت فارقت هذا البلد، كما يفارق الليث عريسه، وإذا عدت إلى البلد اتحذته مأواك؛ لما شبهه بالأسد جعل مأواه عريسا.
إني نثرت عليك دراً فانتقد ... كثر المدلس فاحذر التدليسا
يقول: إني نثرت عليك من شعري دراً، فانتقده وميزه من شعر غيري، واحذر من المدلس: الخائن. أن يدلس عليك بشعرس يقيمه مقام شعري، أو يحط هذا الشعر عندك من منزلته، فقد كثر المدلسون المتشاعرون.
حجبتها عن أهل أنطاكيةٍ ... وجلوتها لك فاجتليت عروسا
التأنيث في حجتها: للقصيدة، وإن لم يصرح بها فقد صرح بمفهومها، أو يكون راجعاً إلى قوله: عروساً؛ لأنه شبه القصيدة بالعروس.
يقول: منعتها عن أهل أنطاكية، وحملتها إليك مجلوة، حتى اجتليتها عروساً. يعني: إني مدحتك دونهم، لأنك خيرهم، وكلامي خير الكلام، فلا يليق إلا بك.
خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا
يقول: أنا خير الشعراء، فلا أمدح إلا خير الناس. وغيري من الشعراء يقصد غيرك، فأنا كالطائر الذي سكن القصور، وأولئك كالطيور التي تأوي الخراب، والنواويس. شبه الممدوح بالقصر، وملك أنطاكية بالخرابات والنواويس.
لو جادت الدنيا فدتك بأهلها ... أو جاهدت كتبت عليك حبيا
يقول: لو كانت الدنيا ممن يجود؛ لفدتك بأهلها. أو كانت ممن تجاهد، لكتبت أنها موقوفة عليك، حبيساً في سبيل الله تعالى؛ لتنصر الدين وتذل المشركين. وروى: كتبت عليك حبيسا، أي لو أمكنها أن تخلدك لخلدتك أبداً، ولكتبت ذلك عليك.
وقال يمدح محمد بن زريق أيضاً:(1/51)
محمد بن زريق ما نرى أحداً ... إذا فقدناك يعطي قبل أن يعدا
يقول: يا محمد بن زريق. ما نرى أحداً سواك يعطى قبل الوعد، دون المطل المكدر للعطايا. يعني أنه ليس أحد سواه.
وقد قصدتك والترحال مقتربٌ ... والدار شاسعةٌ والزاد قد نفدا
قصد بقوله: والترحال مقترب، استعجال العطاء وبقوله والدار شاسعة: الاستكثار منه؛ لأن القليل لا يكفيه، لبعد داره، وبقوله: والزاد قد نفد، أي أنه لا مادة للزاد إلا من جهة أخرى، والغرض منه الاستكثار، أو يكون قصد أن يبين أن الضرورة قد دعته إلى هذا السؤال ولولاها لكان لا يسأل.
فخل كفك تهمي واثن وابلها ... إذا اكتفيت وإلا أغرق البلدا
تهمى: في موضع الحال، وليس بجواب. يقول: خل يدك تصب وتهمي واصرف وابلها: أي مطرها الجود عني إذا اكتفيت وإن لم تصرفه أغرق الوابل البلد. وروى: إن اكتفيت يخاطب الممدوح يقول: هاتها واثن وابلها إن اكتفيت بها دون الوابل، ولما تعرض في البيت الأول للاستكثار، بين هاهنا أن القليل من عطاياه كثير وأن غرضه يحصل بالقليل من عطاياه.
وقال يمدح عبيد الله بن يحيى البحتري:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكا
المغاني: جمع المغنى، وهو المنزل، من قولهم: غني بالمكان.
يقول: قد بكيت يا منزل الأحباب حتى كدت أحملك على البكاء رقة لي، وجدت بي وبدمعي في منازلك، أي هلكت وجدت بروحي، كما أفنيت دمعي بعد مفارقة الراحلين عنك.
فعم صباحاً لقد هيجت لي شجناً ... واردد تحيتنا إنا محيوكا
صباحاً: نصب على الظرف، أي في صباح، وعم من قولهم: وعم يعم بمعنى نعم ينعم أي أنعم صباحاً.
يقول: أيها الربع أنعم صباحاً، على وجه الدعاء، كرامة لمن نزل به، فقد هيجت أحزاني، واردد علينا سلامنا، فإنا مسلمون عليك بقولنا: أنعم صباحاً.
بأي حكم زمانٍ صرت متخذاً ... رئم الفلا بدلاً من رئم أهليكا
يقول: بأي حكم زمانٍ استبدلت ظباء الفلا بدلاً من الجواري التي كن فيك، مثل ظباءٍ خالصة البياض وهذا على عادتهم في نسب الحوادث إلى الزمان. ومثله للبرقعي:
تبدل الربع من أسماء غزلانا ... وأقفرت من سليمى أرض حلوانا
أيام فيك شموسٌ ما انبعثن لنا ... إلا ابتعثن دماً باللحظ مسفوكا
أيام: نصب على الظرف، أو على إضمار فعل. كأنه يقول: أذكر أياماً.
يقول: أذكر تلك الأيام التي كانت فيك شموس من الحبايب، لم يظهرن لنا إلا أخرجن بلحظهن ونظرهن، أو بعيونهن، دماءً من العشاق. وقوله: مسفوكاً أي مصبوباً.
والعيش أخضر والأطلال مشرقة ... كأن نور عبيد الله يعلوكا
يقول: أذكر أياماً، هذا حالها، وهو أن العيش كان ناعماً لذيذاً، والأطلال مضيئة بالشموس، فكأن نور عبيد الله يعلوكا.
نجا امرؤٌ يا ابن يحيى كنت بغيته ... وخاب ركب ركابٍ لم يؤموكا
روى: جاز مكان خاب أي هلك، والركب: جمع الراكب، والركاب: الإبل. وروى: الرحال وهي الإبل واحدها راحلة.
يقول: آمن الفقر من كنت طلبته ومأموله، وخسر راكبوا إبل وهلكوا إذا لم يقصدوك. يعني: لو قصدوك لأغنيتهم عن طول الأسفار وكفيتهم مؤن المشقات.
أحييت للشعراء الشعر فامتدحوا ... جميع من مدحوه بالذي فيكا
يقول: أحييت شعر الشعراء بما أظهرت من المكارم والخصال، وبما أعطيتهم من الأموال، حتى هديتهم إلى الشعر، فمدحوا ممدوحهم بما فيك من المحاسن والخصال البديعة، فلما رأوا فيك هذه المعالي تعلموا المدح وقول الشعر.
وعلموا الناس منك المجد واقتدروا ... على دقيق المعاني من معانيكا
يقول بياناً لما قبله: إنهم لما مدحوا الناس بأوصافك تنبه الممدوحون لمثل صنائعك، فكأن الشعراء هم الذين علموهم منك المجد واقتدر الشعراء على دقيق المعاني من معانيك التي تخصصت بها دون غيرك. ومثله للآخر:
ما رأينا من فضل جود ابن يحيى ... صير الناس كلهم شعراء
علم المفحمينأن ينطقوا الأش ... عار فيه والباخلين السخاء
فكن كما أنت يا من لا شبيه له ... أو كيف شئت فما خلقٌ يدانيكا
يقول: كن كما أنت يا من لا نظير له، أو كن كيف شئت من النقصان عما أنت عليه، فما خلق يدانيك، بحال من الأحوال، ولا يشبهك بخصلة من الخصال، فكل فعالك حميدة.(1/52)
شكر العفاة لما أوليت أوجدني ... إلى نداك طريق العرف مسلوكا
أوجدني: أي هداني، وأرشدني. والمفعول الأول: الياء، والثاني طريق العرف.
يقول: شكر السؤال لما أعطيتهم من النوال أوجدلى سبيلاً مسلوكاً إلى معروفك فقصدتك. وروى: إلى يديك يعني أوجدلى شكرهم شكرهم، شكرهم، طريق المعروف مسلوكاً إلى يديك فسلكته.
وعظم قدرك في الآفاق أوهمني ... أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
يقول: علو محلك في العالم أوهمني أني بهذا القدر من المدح والثناء أهجوك! يعني: أنك تستحق فوق ما مدحتك به وأثنيت عليك، فكأني هجوتك.
كفى بأنك من قحطان في شرفٍ ... وإن فخرت فكلٌّ من مواليكا
يقول: كفى قحطان شرفاً أنك منهم. فتكون الرواية على هذا: كفى بأنك في قحطان من شرفٍ، ويحتمل كفاك شرفاً بكونك من قحطان، مع شرفٍ لك طارف أضفته إليه. والرواية على هذا: كفى بأنك من قحطان في شرف وإن فخرت، وجدت كل قحطان أوكل الناس من مواليك وخدمك؛ لأن إحسانك يعمهم ومنك يشملهم، فكلهم مواليك.
ولو نقصت كما قد زدت من كرمٍ ... على الورى لرأوني مثل شانيكا
يقول: لو تناهيت في النقصان، تناهيك في الرجحان، لفنيت وعدمت. فرآني الناس مثل عدوك، لأنه لم يبق من أعدائك أحد، فكنت مثلهم في الفناء، وقد أحسن في إضافة النقص إلى نفسه والزيادة إلى الممدوح. وقيل: لو نقصت من المدح، كما زدت على الناس من الكرم، لرأوني في ذلك مثل عدوك، الذي يحسن ذكرك. يعني وإن لم أبلغ الغاية في محاسنك لم أقصر عما دق عليه، كيلا أكون مثل شانيك.
لبى نداك لقد نادى فأسمعني ... يفديك من رجلٍ صحبي وأفديكا
لبى: من قولهم لبيك بمعنى: لزومٌ لك بعد لزوم، وإنما ثنوه على التوكيد، ونصبوه على المصدر، وأضافوه إلى كاف المواجهة، وأضافه هاهنا إلى النداء.
يقول: أجابةً لنداك بعد إجابة، فقد نادى إلى نداك، فأسمعني صوته، يفديك أصحابي ونفسي من رجل بين الرجال. يعني أن سخاءه دعاه إلى معروفه فأجابه وروى: لبى نداك والأول أولى.
ما زلت تتبع ما تولى يداً بيدٍ ... حتى ظننت حياتي من أياديكا
يقول: مازلت تنعم يداً بيدٍ أي: نعمة يد بيد، حتى ظننت حياتي من جملة نعمك علي، لكثرة ما أنعمت فلم أميز ما هو: أعطاء دهر، أم غيره؟!
فإن تقل ها فعاداتٌ عرفت بها ... أو لا فإنك لا يسخوا بلا فوكا
يقول: إن قلت خذ كان ذلك من عادتك التي عرفت بها، وإن أردت أن تقول لا فلم تجد فوك يسخو بها أبداً فلا يمكنك أن تقول ذلك.
وقال أيضاً يمدحه:
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بفي برودٌ وهو في كبدي جمر؟!
يقول: أهذا ريقك! أم ماء المطر؟ لعذوبته وصفائه، أم الخمرة؛ لمافيها من اللذة والتفريح، فقد جمع ريقك الحرارة والبرودة، فهو في فمي بارد وفي كبدي حار؛ من حيث ألتذ به عند لهوي، لكنه يهيج العشق في قلبي وكبدي فهو كالخمر، فمن حيث برودته شبهه بماء الغمام ومن حيث الحرارة شبهه بالجمر وأني بلفظ الاستفهام مبالغة في التشبيه.
أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنةٌ؟ ... وذيا الذي قبلته البرق أم ثغر؟!
يقول: أهذا قدك أم الغضن؟! وهذا كفلك أم الدعص؟ وهما حالان ثم بينةٌ من الرجل أم أنت فتنة كلفت بها كما جمعت هذه الأشياء المختلفة، وهذا الذي قبلته برقٌ لامع أم سنٌّ؟! وشبه الثغر بالبرق، من حيث: أن الشفة كالسحاب، فإذا ابتسمت يبدو البرق من السحاب. وروى: بل أنت فتنة، والتصغير في ذيا: إشارة إلى صغر أسنانها، وإما لأنه محبوب عندهم. كقولهم: يا بني. وهذا في التقسيم كقول الآخر:
أقطع الدجى أم شعرك الفاحم الجعد ... أبدر الدجى أم لاح من وجهك السعد؟!
رأت وجه من أهوى بليل عواذلي ... فقلن نرى شمساً وما طلع الفجر
يقول: رأت العواذل وجهها بليل، فبهتن وقلن: نرى شمساً طالعة قبل طلوع الفجر! فأقررن بحسنها، وكففن عن عذلي وعذرنني في حبها، بعدما كن يعذلنني، ولأن الحسن للمحبوبة شغل العواذل، عن العذل، وكأنه مشتق من قوله تعالى: " فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن " يعني: أنهن إذا رأين يوسف عليه السلام بهتن حتى تركن عذل امرأة العزيز. والواو في قوله: وما طلع واو الحال.
رأين التي للسحر في لحظاتها ... سيوفٌ ظباها من دمي أبداً حمر(1/53)
يقول: هؤلاء العواذل، رأين المرأة التي في لحظاتها للسحر سيوف، ظباها حمرٌ أبداً من دمي لأنها تقتلني بها.
تناهى سكون الحسن في حركاتها ... فليس لرائي وجهها لم يمت عذر
يقول: سكون الحسن تناهي في حركاتها يعني: أنها إذا تحركت سكن الحسن في حركاتها، فتكون حركاتها مسكناً للحسن، فلا يفارق الحسن حركاتها، فمن رآها في حسنها وجمالها ولم يمت، فليس له عذر في حكم العشق!
إليك ابن يحى ابن الوليد تجاوزت ... بي البيد عنسٌ لحمها والدم الشعر
العنس: الناقة الصلبة القوية.
يقول: تجاوزت بي إليك في المفاوز ناقةٌ قويةٌ، لحمها ودمها الشعر الذي مدحتك به فكنت أحييها بإنشادي لها مدحكم، صيانةً لها من الهزال، لما علمت أنها إذا وصلت إليك وصلت إلى مرادها.
نضحت بذكراكم حرارة قلبها ... فسارت وطول الأرض في عينها شبر
النضح: الرش.
يقول: رششت على الناقة فبردت بمدحكم والشعر فيكم حرارة قلبها، فنشطت وأسرعت في السير واستقصرت تلك المفاوز البعيدة، حتى كأن طول الأرض في عينها شبر؛ لاشتياقها إليك.
إلى ليث حربٍ يلحم الليث سيفه ... وبحر ندىً في موجه يغرق البحر
يقال: ألحمت فلاناً عرض فلانٍ، إذا جعلته يتناوله. وأراد هاهنا: تمكين السيف من لحم الليث.
يقول: سارت هذه الناقة إلى ليث حربٍ، يلحم سيفه الأسد، أي يمكن سيفه من لحم الأسد، وإلى بحر سخاء، يغرق البحر في موجه، ففضله بذلك على البحر.
وإن كان يبقى جوده من تليده ... شبيهاً بما يبقي من العاشق الهجر
يقول: إنه بحرٌ إن كان يبقي جوده من ماله شيء، يبقي مقدار ما يبقي من العاشق الهجر، لأنه لا يبقى منه إلا القليل، فكذلك هذا الممدوح لا يبقى من ماله إلا ذلاك القدر.
فتىً كل يوم يحتوي نفس ماله ... رماح المعالي لا الردينية السمر
الردينية: الرماح المنسوبة إلى ردينة، وهي امرأة كانت تعمل الرماح، وزوجها: السمهر، وكان هو كذلك يعمل الرماح وإليه تنسب السمهرية.
يقول: يسلب أمواله كل يوم رماح المعالي، لا الرماح الحقيقية: التي هي الردينية السمر. يعني: أنه فرقها على سؤاله وعفاته.
تباعد ما بين السحاب وبينه ... فنائلها قطرٌ ونائله غمر
التأنيث: للسحاب لأنه أراد به الجماعة.
يقول: بعيدٌ ما بين السحاب وبينه؛ لأن نائل السحاب قطرٌ، ونائله غمر كثير.
ولو تنزل الدنيا على حكم كفه ... لأصبحت الدنيا وأكثرها نزر
يقول: لو كان أمر الدنيا إليه، لوهبها، وصار أكثرها في جنب هباته قليلاً؛ لأن كفه لا نهاية لها، فكل كثير عندها قليل.
أراه صغيراً قدرها عظم قدره ... فما لعظيمٍ قدره عنده قدر
يعني: عظم قدره أراه صغيراً قدر الدنيا، فليس لشيءٍ عظيم القدر قدرٌ عنده لعظم قدره وعلو همته.
متى ما يشر نحو السماء بوجهه ... تخر له الشعرى وينكسف البدر
تخر: جزم لأنه جزاء الشرط، وهو: متى ما يشر وفتحه لاجتماع الساكنين، وينكسف نصب عطفاً عليه.
يقول: إن الممدوح متى نظر إلى السماء وأشار بوجهه إليها خرت له الشعرى وانكسف البدر: إما لهيبته، وإما خجلاً من نوره، وخص الشعرى لأن قوماً عبدوها، فبين أنها مع ذلك تسجد له، وخص البدر لكثرة ضوئه ولأنه كان معبوداً للقوم.
ترى القمر الأرضي والملك الذي ... له الملك بعد الله والمجد والذكر
ترى: يجوز أن يكون فعل الشعرى، وأراد: ترى أيها المخاطب القمر الأرضي، وهو الملك الذي له المجد والذكر بعد الله عز وجل.
كثير سهاد العين من غير علةٍ ... يؤرقه فيما يشرفه الفكر
يقول: هو كثير السهاد، ثم قال: من غير علة، لصنعته في الشعر. ولما بين في قوله: يؤرقه الفكر فيما يكسبه الشرف، فلهذا يسهد كثيراً.
له مننٌ تفنى الثناء كأنما ... به أقسمت ألا يؤدى لها شكر
الكناية في به: للمدوح.
يقول: له نعم تفنى الثناء للعجز عن الإحاطة بها، كأنما أقسمت المنن بهذا للمدوح ألا يؤدي لها الشكر.
أبا أحمدٍ ما الفخر إلا لأهله ... وما لامرىءٍ لم يمس من بحتر فخر
يقول: يا أبا أحمد، أنت أهل الفخر، فما الفخر إلا لأهله، وما لرجلٍ من غير قبيلتك فخر، وأنت منهم، فكأن الفخر جميعه لك.(1/54)
هم الناس إلا أنهم من مكارم ... يغنى بهم حضرٌ ويحدو بهم سفر
يقول: هم من الناس لأنهم مخلوقون مثلهم، ثم بين أنهم لبعد صيتهم يغنى بذكرهم الحاضرون، ويحدو به المسافرون.
بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر؟!
يقول: لا نظير لك، فمن يضرب المثل في شأنك؟ أم من نقيسه إليك؟ وأهل الدهر والدهر دونك! وقال يمدح أخاه أبا عبادة عبيد الله بن يحيى البحتري:
ما الشوق مقتنعاً مني بذا الكمد ... حتى أكون بلا قلبٍ ولا كبد
الكمد: الحزن.
يقول: إن الشوق لا يقنع مني بهذا الحزن الشديد، حتى يجعلني بلا قلبٍ ولا كبدٍ، فأموت.
ولا الديار التي كان الحبيب بها ... تشكو إلي ولا أشكو إلى أحد
هذا البيت يفسر على وجوه: أحدها: أن يكون عطفاً على قوله: ما الشوق ومعناه: أن الشوق كما لا يرضى مني بما أقاسي من الحزن، كذلك الدار التي كان الحبيب بها، لا ترضى مني بهذا الكمد. وتمم الكلام عند قوله: كان الحبيب بها. ثم ابتدأ وقال: تشكو إلي: أي هذه الديار تشكو إلي وحشة الفراق لجهلها، وأنا لا أشكو إلى أحد لجلادتي ولكتماني الأسرار، ولأني عاقل.
والثاني: أن الديار ما شكت لأنها قد درست فضعفت عن الشكوى، لانمحاء آثارها، كما ضعفت أنا عن الشكوى، لسقوط القوة، وإن الديار ما شكت إلي لأنها ليست بناطقه فتعرب عن شكايتها.
والثالث: أن دمعي حال دون تأملي آثار البلى في الديار؛ فلهذا لم تشك إلى أحد، ولو تأملتها تشكو إلي وحشتها، وسوء إثارة الزمان عليها، ثم لا أشكو إلى أحد. أي كانت الديار خالية، ليس فيها من أشكو إليه.
ما زال كل هزيم الودق ينحلها ... والسقم ينحلني حتى حكت جسدي
الهزيم: مطر الجود الذي له صوت. من الهزيمة وهو الصوت. وقيل هو: من الهزيمة. كأنه المطر الذي يلي بعضه بعضاً. والودق: المطر الشديد.
يقول ما زال كل مطر جود شديد القطر يصيب الديار، فيعفوا رسومها، فذلك نحولها، وما زال السقم ينحلني بإذهاب لحمي حتى حكت الديار جسدي. وهذا البيت يؤكد المعنى الثاني، الذي ذكرناه في البيت.
وكلما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأن ما سال من جفني من جلدي
يقول: كلما سال دمعي نقص اصطباري، وظهر جزعي، كأن الذي سال من الدمع من عيني سائل من جلدي. ومنه قول الآخر:
فليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنه نفسٌ تذوب فتقطر
فأين من زفراتي من كلفت به ... وأين منك ابن يحيى صولة الأسد
هذا له معنيان: أحدهما: أين من زفراتي وهي الأنفاس زفرات من كلفت به؟ أي أن زفراته لا تبلغ زفراتي! وقوله: أين منك؟ أي: من صولتك. يا ابن يحيى، صولة الأسد؟ أي: أن صولته دون صولتك.
والثاني: أين من كلفت به من زفراتي؟ أي: أنه غافلٌ عنها، خالٍ منها. وأين منك صولة الأسد؟ أي: لا يبلغ صولتك، ولا يؤثر فيك شيئاً.
لما وزنت بك الدنيا فملت بها ... وبالورى قل عندي كثرة العدد
يقول: لما وزنت الدنيا وأهلها بك، فملت بهم، أي كنت أرجح منهم، فقل عندي كثرة العدد؛ لأن الاعتبار في الوزن بالفضل والمعنى لا بالعدد والذوات. ومثله للبحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى الفضل حتى عد ألفٌ بواحد
ما دار في خلد الأيام لي فرحٌ ... أبا عبادة! حتى درت في خلدي
خلد الأيام: استعارة لطيفة، ولما ذكر الخلد: وهو القلب. قال: ما دار في قلب الأيام لي سرور حتى درت في قلبي. يعني: ما سررت منذ سمعت ذكرك في زماني هذا، حتى قصدتك فسررت برؤيتك.
ملكٌ إذا امتلأت مالاً خزائنه ... أذاقها طعم ثكل الأم للولد
يقول: هو ملكٌ إذا امتلأت خزائنه من المال، أذاقها بتفريق مالها، طعم ثكل الأم لولدها.
ماضي الجنان يريه الحزم قبل غدٍ ... بقلبه ما ترى عيناه بعد غدٍ
الجنان: القلب. ومضاؤه: ذكاؤه، وحدته، وشجاعته. والحزم: رفع على أنه فاعل يريه، وينصب على أنه مفعوله الثاني، والفاعل الجنان.
يقول: إنه يرى بقلبه الأشياء قبل ما تراه العين بعد غدٍ.
ماذا البهاء ولا ذا النور من بشرٍ ... ولا السماح الذي فيه سماح يد
يقول: ليس هذا البهاء والنور اللذين فيه، من بشر، بل هو من ملك، ولا السخاء الذي فيه سخاء يد أحدٍ. بل هو سخاء أيدٍ كثيرة.(1/55)
وقيل معناه: ولا السخاء الذي فيه سخاء يدٍ وإنما هو سحابٍ، أو سخاء بحر.
أي الأكف تبارى الغيث ما اتفقا ... حتى إذا افترقا عادت ولم يعد
يقول: أي كفٍّ من بين الأكف تعارض الغيث وتكاثره، ما داما متفقتين في الحال. الكف في الإعطاء والغيث في إحياء إدامة الإنداء، حتى إذا افترقا، عادت الكف إلى الإعطاء، ولم يعد الغيث إلى الإنداء، وليس هكذا كفٌّ إلا كف هذا الممدوح.
قد كنت أحسب أن المجد من مضر ... حتى تبحتر فهو اليوم من أدد
مضر: ابن نزار بن معد بن عدنان. وأدد: ابن طايحة بن إلياس بن يعرب ابن قحطان. وبحتر: الذي هو الممدوح من قحطان.
يقول: كنت أظن قبل هذا، أن الشرف كله من مضر، حتى رأيته ببحتر، فنسب نفسه إليها لكون الممدوح منها، فهو الآن من أدد الذي هو من قحطان. قيل: تبحتر أي: أقام ببحتر فلما أقام فيها علمت أنه من أدد.
قومٌ إذا مطرت موتاً سيوفهم ... حسبتها سحباً جادت على بلد
فاعل مطرت: سيوفهم، ومفعوله: موتاً والهاء في حسبتها: للسيوف، وفي جادت: للسحب.
يقول: هم قوم إذا قاتلوا، مطرت سيوفهم موتاً؛ لكثرة ما يقتلون بها، فيظن سيوفهم سحاباً مطرت مطراً جوداً على بلدٍ.
لم أجر غاية فكري منك في صفةٍ ... إلا وجدت مداها غاية الأبد
يقول: ما أجريت غاية فكري في صفةٍ منك، إلا وجدت غاية تلك الصفة غاية الأبد، وليس للأبد نهاية.
وقال يمدح محمد مساور بن محمد الرومي:
جللاً كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشإ الأغن الشيح
الجلل: الأمر العظيم هاهنا، وهو أيضاً الأمر الهين ونصب بخبر فليك. والتبريح: اسمه وهو الشدة. والرشأ: ولد الظبية، والأغن: الذي يخرج صوته من الخيشوم. والشيح: نبت معروف، وهو من نبات نجد، وهو ينعم المواشي إذا رعته وقوله: فليك أصله فليكن فحذف النون لسكونها وسكون التاء الأولى من التربيح، تشبهاً للنون بحروف اللين؛ لما فيه من الغنة.
يقول: ليكون التبريح والشدة عظيماً كما بي، فتم الكلام هاهنا، ثم استأنف في المصرع الثاني متعجباً من المشبه به فقال: أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح؟! أي فرط شبهه بالظبي شككت فيه: أنه ظبي في الحقيقة أم لا؟ وقد طعن في ذلك.
وقيل: إن أحد المصراعين ينافي الآخر ولا مطعن فيه لأن المصراعين بمنزلة البيتين، فكما يجوز أن يكون أحد البيتين منقطعاً عن الآخر، فكذلك المصراعان، وقد ورد مثال ذلك في الأشعار.
وقد قيل في وجه اتصال المصراعين وجهان: أحدهما: أنه بين في المصراع الأول حالة في شدة التبريح وبالغ فيه، ثم بين في المصراع الثاني: أن من فعل به تبريح الهوى هو الرشأ الأغن المنعم الذي ربى بالشيح.
والثاني: أن معناه: إن كان في الدنيا تبريحاً، فليكن عظيماً مثل ما بي. ثم قال: أتظنون أن من فعل بي هو الرشأ الذي غذاؤه الشيح؟ ما هو إلا الرشأ الذي غذاؤه قلوب العاشقين وأبدانهم، فيا له من رشأ أغن! وقد كان ما قاله المتنبي على زعم بعضهم:
جللا كما بي فليك التبريح ... أولا فتبريح الهوى ترويح
لله من رشأ أغن مهفهفٍ ... أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح
ومعناه على هذا: ليكن التبريح عظيماً كما بي، وإلا فإنه ترويحٌ إذا لم يكن مثل تبريحي، ثم قال: لله من رشأ، ومعناه عجباً من الرشأ الذي في صوته غنة! مهفهفٍ: أي دقيق الخصر. غداؤه الشيح: الذي ينعم به أمثاله. فكأنه قال: كل ما حصل بي من التبريح، فمن الرشأ الذي صفته هذه.
لعبت بمشيته الشمول وجردت ... صنماً من الأصنام لولا الروح
يقول: لعبت الخمر بمشية هذا الرشأ، حتى صار مثل شارب الخمر. وجردت: أي عرته عن ثيابه. وصنماً: نصب لوقوع جردت عليه، فكأنه يقول: جردت الشمول صنماً من الأصنام، لولا أن فيه الروح، لكان صنماً. وقيل: جردته في الحسن صنماً، فنصب على الحال. وإنما لم يقل: وثناً لأنه غير مصور بخلاف الصنم.
ما باله لاحظته فتضرجت ... وجناته وفؤادي المجروح؟!
تضرجت: أي احمرت.
يقول: ما بال هذا الرشأ لاحظته فاحمرت وجناته؟! وقلبي هو المجروم النظر إليه! فكان ينبغي أن يحمر قلبي.
ورمى، وما رمتا يداه فصابني ... سهمٌ يعذب والسهام تريح
رمت يداه: على لغة من يقول: أكلوني البراغيث. وما للنفي وسهم: رفع بصابني.(1/56)
يقول: رمى هذا الرشأ سهماً وهو النظر ولم ترم يداه فصابني، سهمٌ يعذب طول الأبد، بخلاف السهام المريحة القاتلة.
قرب المزار ولا مزار وإنما ... يغدو الجنان فنلتقي ويروح
المزار الأول: موضع الزيارة. والثاني: المصدر، ويحتمل أن يكونا مصدرين.
يقول: قرب المزار بيننا بالفكر والقلب، ولا زيارة في الحقيقة، وإنما يغدو القلب ويروح، إلى القلب فنلتقي نحن بالتقائهما، فالتقاؤنا بالأرواح لا بالأشباح.
وفشت سرائرنا إليك وشفنا ... تعريضنا فبدا لك التصريح
يقول: كنا قد عرضنا بحبك فشفنا أي أضعفنا تعريضنا به فضعفت أسرارنا لذلك التصريح، فأظهر هزالنا ونحولنا ما بنا، فصار التعريض تصريحاً.
وقيل: أراد لما شفنا التعريض وجهر بنا، فلم نطق كتمان الحب، أسررنا إلى التصريح فانهتك الستر.
لما تقطعت الحمول تقطعت ... نفسي أسىً وكأنهن طلوح
الحمول: بالفتح الإبل، وبالضم الأحمال. وأراد ها هنا الهوادج بما فيها.
يقول: لما تقطعت الحمول عن عيني تقطعت نفسي حزناً. ثم شبه الحمول بالطلوح وهي جمع الطلح شجر عظيم، لأنهم يشبهون الإبل، وأحمالها بالنخيل، وسائر الأشجار الرفيعة. ويجوز تشبهها بالطلح لنحولها ودقتها.
وجلا الوداع من الحبيب محاسناً ... حسن العزاء وقد جلبن قبيح
الضمير في جلبن: للمحاسن.
يقول: أظهر الوداع من الحبيب محاسن، وكان الحسن الصبر، وقد أظهرن قبيحاً؛ لظهور هذه المحاسن، أو لما تعقبه من الفراق. ومثله قول الشاعر:
والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد
قيدٌ مسلمةٌ وطرفٌ شاخصٌ ... وحشاً يذوب ومدمعٌ مسفوح
وقد روى أيضاً فيدٌ مسالمةٌ أي مصالحة؛ من حيث أنه أشار بها للوداع. والشاخص: هو الذاهب المتحير. والمسفوح: المصبوب وأراد به المدمع الحال فيه، لأن محله غير مسفوح، ويجوز أن يكون أراد ومدمع مسفوح منه: يصف حال الوداع فيقول: كان لكل واحدٍ منا، يد مسلمة للتوديع خوف الرقباء، وطرف طافحٌ متحير، وحشاً ذائب؛ أسفاً على الفراق، ودمع مسفوح.
يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى ... شجر الأراك مع الحمام ينوح
انبرى: أي انبعث وأخذ.
يقول: لو حزن الحمام مثل حزني لناح شجر الأراك الذي عليه، مع الحمام عند نوحها.
وأمق لو خدت الشمال براكبٍ ... في عرضه لأناخ وهي طليح
الأمق: الطويل. وأراد به هاهنا: المفازة الواسعة. والطليح: الناقة المعيبة. وخدت: أي حدت وجرت، وأناخ: فعل الراكب.
يقول: رب مهمةٍ طويل لو جرت في عرضه الريح الشمال براكب عليها، لأناخ الراكب، وهي: يعني الشمال معيبة فإذا كان المركوب ريحاً هذا حالها في العرض، فما ظنك بسائر المركوبات بالطول؟ لأن عرض كل شيء دون طوله. وروى: في عرضه. أي جانبه.
نازعته قلص الركاب وركبها ... خوف الهلاك حداهم التسبيح
الهاء في نازعته: للأمق، ومعناه: جاذبته؛ لأنه أراد أن يهلك الركاب، وأردت أن أنجو بها، وحداهم: ممدود إلا أنه قصر للضرورة.
يقول: نازعت هذا الأمق أبكار الإبل، في حالة كان حداء الراكبين فيها من خوف الهلاك والضلال التسبيح لله تعالى، وخوف الهلاك: نصب لأنه مفعولٌ له.
لولا الأمير مساور بن محمدٍ ... ما جشمت خطراً ورد نصيح
التاء في جشمت: لقلص الركاب.
يقول: لولا الممدوح ما جشمت قلص الركاب الأبكار، أمراً مهولاً، وما رد الناصح الذي ينهى عن ركوب، مثل هذه المهلكة.
ومتى ونت وأبو المظفر أمها ... فأتاح لي ولها الحمام متيح
يقول: متى فترت هذه القلص، ومقصودها الممدوح، فأتاح لي: أي قدر لي ولها، الحمام: أي الموت متيح: وهو الله تعالى.
شمنا وما حجب السماء بروقه ... وحرىً يجود وما مرته الريح
يقول: هو السحاب شمنا بروقه في حال ما لم يحجب السماء، بخلاف سائر السحب، إذ المعهود من البرق أن يحجب السماء بالغيم، وهو حقيق بأن يجود من غير أن تمر به الرياح، أي تحلبه كما تحلب السحاب وتقديره؛ شمنا بروقه وما حجب السماء.
مرجو منفعةٍ مخوف أذيةٍ ... مغبوق كأس محامدٍ مصبوح
يقول: هو مرجو محامدٍ يسيرها إلى أوليائه، ومخوف أذيه يحلها بأعدائه، وقد صبح كأس المحامد وغبق، فهو محمود أبداً.(1/57)
حنقٌ على بدر اللجين وما أتت ... بإساءةٍ وعن المسيء صفوح
يقول: إنه حنقٌ على بدر الفضة؛ لكثرة تفريقه إياها من غير ذنب وإساءة منها، وهو مع ذلك يعفو عن المسيء المذنب.
لو فرق الكرم المفرق ماله ... في الناس لم يك في الزمان شحيح
فاعل فرق ضمير الممدوح، والكرم مفعوله، والمفرق: صفة الكرم. وماله: نصب بالمفرق، الذي هو الفاعل من فرق. وروى: لو فرق الكرم المفرق ماله على ما لم يسم فاعله فيرفع ما بعده إلا ماله فإنه منصوب.
يقول: لو أنه فرق كرمه، الذي يفرق ماله على الناس لم يكن في الزمان بخيل. يعني: أنه يعم الناس بره حتى لا يبخل أحدٌ بشيء من المال.
ألغت مسامعه الملام وغادرت ... سمةً على أنف اللئام تلوح
ألغت: أي ألقت وقد روى ذلك أيضاً. وقيل معناه: جعلت الملام لغواً أي باطلاً. فمعناه: أبطلت.
يقول: إن مسامعه أبطلت ملام اللائمين له، على إعطائه وغادرت الملام سمة لائحة على أنوف اللئام. وروى على أنف اللئام. يعني أنه لوى به أنوفهم.
هذا الذي خلت القرون وذكره ... وحديثه في كتبها مشروح
التأنيث في كتبها: للقرون.
يقول: هذا الممدوح هو الذي ذكره في كتب القرون الماضية، مشروح منزلٌ منزلة الأنبياء؛ من تقدم البشارة بهم، وكان الوجه أن يقول: وذكره وحديثه مشروحان، ولكن لما كان معناهما واحد، اقتصر على واحد.
ألبابنا بجماله مبهورةٌ ... وسحابنا بنواله مفضوح
مبهورة: أي مغلوبةٌ مدهوشة.
يقول: عقولنا بجماله مغلوبة مدهوشة، والحاب بعطائه مفضوح لقصور نيله من نيله.
يغشى الطعان فلا يرد قناته ... مكسورةً ومن الكماة صحيح
الواو في قوله: ومن الكماة للحال.
يقول: إنه يرد للمطاعنة فلا يرد رمحه مكسوراً إلا بد ألا يبقى من الشجعان صحيح.
وعلى التراب من الدماء مجاسدٌ ... وعلى السماء من العجاج مسوح
المجاسد: جمع مجسدة، وهو الثوب الذي يلي الجسد، وهو أيضاً الثوب المصبوغ بالجساد: وهو الزعفران. يقول يغشى الطعان وتراب الأرض قد غشي بثيابٍ من الدماء، وعلى الجو من الغبار مسوح سود.
فشبه التراب المختلط بالدم: بالثياب المصبوغة بالزعفران. وشبه الغبار الكثيف: بالمسوح السود.
يخطو القتيل إلى القتيل أمامه ... رب الجواد وخلفه المبطوح
يقول رب الجواد: وهو الممدوح، يخطو من قتيل إلى قتيل آخر أمامه وخلفه مبطوح، حين طعنه فتخطاه.
فمقيل حب محبه فرحٌ به ... ومقيل غيظ عدوه مقروح
يقول: قلب محبه وهو مقيل الحب، فرد به غيظ عدوه، أي قلب عدوه بالغيظ الذي فيه مجروح.
يخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر تبوح
يخفي: فعل العدو.
يقول: يخفي عدوه العداوة عنه؛ لخوفه منه، وهي لا تخفى عليه لذكائه، وفطنته. وقوله: نظر العدو بما أسر تبوح يحتمل أن يريد به: نظر الدو إليه نظراً شزراً، يظهر ما أسره في قلبه من العداوة. فيكون المصدر مضافاً إلى فاعله.
ويحتمل أن يريد: أنه إن نظر إلى العدو يبوح بسره؛ لأنه إذا نظر إليه يعرف ما في قلبه، ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول.
يا ابن الذي ما ضم بردٌ كابنه ... شرفاً ولا كالجد ضم ضريح
يقول: يا ابن الذي لم يضم البرد شرفاً وحياءً، والابن: هو الممدوح، ولا ضم القبر كجده ميتاً.
نفديك من سيل إذا سئل الندى ... هولٍ إذا اختلطا دمٌ ومسيح
المسيح: العرق.
يقول نفديك: من رجلٍ يشبه السيل إذا سئل السخاء، وهو هول؛ إذا اختلطا دمٌ وعرقٌ في القتال. وفي قوله: اختلطا دم ومسيح: أورد الاثنين قبل الذكر، أورده مورد قولهم: أكلوني البراغيث.
لو كنت بحراً لم يكن لك ساحلٌ ... أو كنت غيثاً ضاق عنك اللوح
يقول: لو كنت بحراً كنت بلا شطٍّ ونهاية، أو كنت غيثاً ضاق عنك الهواء لكثرته. والأوجه أن يقول: لم يك له وضاق عنه ولكنه أسنده إلى كنت.
وخشيت منك على البلاد وأهلها ... ما كان أنذر قوم نوح نوح
عجزٌ بحرٍّ فاقةٌ ووراءه ... رزق الإله وبابك المفتوح
البيت الأول: معناه ظاهر.
يقول بعده: عجزٌ بالحر الذي به فقر مع أن قدامه رزق الله تعالى، وبابك المفتوح بالسخاء.
إن القريض شجٍ بعطفي عائذٌ ... من أن يكون سواءك الممدوح(1/58)
وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فتفوح
شجي يشجى فهو شج: إذا اغتص به. وعطف الشيء: جانبه.
يقول: إن الشعر يلتجىء إلي عائذٌ بعطفي وجانبي؛ مخافة أن أمدح به غيرك من الناس، لرغبته في محاسنك وزهدة فيمن سواك، لأنهم لا يستحقونه.
الذكي: الرائحة الشديدة.
يقول: إن شعري كره أن أمدح به غيرك لأنه قد رأى الرياض تشكر المطر. ففوحها طيب كلامها وثنائها على المطر فتشكر على قدر إمكانها، فأرادني أن أمدحك به فأؤدي شكرك.
جهد المقل فكيف بابن كريمةٍ ... توليه خيراً واللسان فصيح
يقول: إذا شكرت الرياض للمطر، بالريح الذكي، وذلك جهد المقل، فكيف ظنك بابن حرة توليه براً جزيلاً وإحساناً جميلاً، وله لسان فصيح، فاعذره إذا ترك الثناء عليك.
وقال أيضاً يمدحه:
أمساورٌ أم قرن شمسٍ هذا؟ ... أم ليث غابٍ يقدم الأستاذا؟
يقدم: أي يتقدم. والأستاذ: قيل هو الممدوح الذي هو مساور، أو قرن الشمس أيضاً اشتبه بقرن الشمس حتى إنه يحتاج إلى الاستفهام أنه هو، أم قرن الشمس؟ وقرن الشمس أول ما يبدو منها، ويكون ليث غاب على هذا: هيبته التي تسبق إلى قلوب الناس دون نفس مساور، لأن الشيء لا يتقدم نفسه فكأنه قال: إن هيبته التي تسبق ليث غاب، تقدم مساوراً وقيل: إن الأستاذ غير مساور، الذي هو الممدوح. وقيل: هو كافورٌ الإخشيدي وكان مساور في حجابه أو قواده. فيكون على هذا شبه الأستاذ بالشمس، وشبه مساوراً بقرنها، ثم جعله أيضاً ليث غاب يتقدم الأستاذ في سيره، أو في موكبه. وقيل: إن الأستاذ ليس هو رجلاً بعينه، وإنما المقصود: أن مساوراً في شجاعته يسبق أستاذه، ودون أستاذه يعجز عنه.
شم ما انتضيت فقد تركت ذبابه ... قطعاً وقد ترك العباد جذاذا
يقول: أغمد ما انتضيته يعني: السيف. فقد تركت حده قطعاً من كثرة ما ضربت به، وقد ترك السيف عباد الله قطعاً.
هبك بن يزدادٍ حطمت وصحبه ... أترى الورى أضحوا بني يزداذا
هب: أي اجعل.
يقول: هب أنك كسرت ابن يزداد وأصحابه، أترى أن الناس كلهم بنو يزداد، فتقتلهم وتحطمهم، كما قتلت خصمك! كأنه قد كان جاوز عن قتل أعدائه إلى قتل غيرهم.
غادرت أوجههم بحيث لقيتهم ... أقفاءهم وكبودهم أفلاذا
يقول: غادرت أي تركت وجوههم عندما لقيتهم أقفاءهم: أي طمست آثارها حتى لم تبين وجوهم من أقفائهم. وقيل: أراد أنك هزمتهم فقامت أقفاؤهم: أي طمست آثارها حتى لم تبين وجوههم من أقفاءهم: أي طمست آثارها حتى لم تبين وجوههم من أقفائهم. وقيل: أراد أنك هزمتهم فقامت أقفاؤهم في استقبالهم مقام وجوههم، وتركت أكبادهم متقطعة.
في موقفٍ وقف الحمام عليهم ... في ضنكه واستحوذ استحوذا
يقول: فعلت ذلك بهم، في موقفٍ وقف الموت عليهم في مضيق ذلك الموقف، أي في موقف صعب، وغلبت عليهم غلبة عظيمة.
جمدت نفوسهم فلما جئتها ... أجريتها وسقيتها الفولاذا
التأنيث: للنفوس. وجمدت نفوسهم: يجوز أن يريد جمدت دماؤهم فلما جئتها أجريتها وأذبتها، ثم أسقيتها الفولاذا لأنه كان ظامئاً إليها.
لما رأوك رأوا أباك محمداً ... في جوشن وأخا أبيك معاذا
يقول: لما رآك ابن يزداد وأصحابه، رأوا برؤيتك أباك وعمك، لأنك أشبهتهما فعلاً ونجدة، فكأنهما كانا في جوشن واحد، وقيل رأوهما في جوشنك، وذلك جامعٌ لمدحه ومدح أبيه وعمه، لأنه نسبهما إلى الشجاعة.
أعجلت ألسنهم بضرب رقابهم ... عن قولهم لا فارسٌ إلا ذا
يقول: لما رأوك أرادوا أن يقولوا: ليس في العالم فارسٌ إلا هذا، فأعجلتهم عن قول ذلك بضرب رقابهم قبلها.
غرٌّ طلعت عليه طلعة عارضٍ ... مطر المنايا وابلاً ورذاذا
مطر المنايا: يجوز أن يكون منصوباً بتقدير فعل، فكأنه يقول: وأمطرت عليهم مطر المنايا. والوجه عندي غير ذلك وهو: أن يكون مطر المنايا فعلاً ماضياً وفاعله ضمير عارض: تقديره طلعت عليهم طلعة عارض أمطر ذلك العارض عليهم المنايا.
يقول: إن ابن يزداد كأنه لم يجرب الأمور؛ فطلعت عليهم طلعة سحاب ماطر، غير أن مطره كان الموت. ووابلاً: أي عظيماً، ورذاذا: أي صغيراً، شبه الدم السائل من ضربة السيف بالوابل، ومن الطعن فيهم بالرذاذ.(1/59)
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدمٍ وبل ببوله الأفخاذا
يقول: غدا ابن يزداد، أسيراً جريحاً، قد بللت ثيابه من دمه، وبل هو أفخاذه ببوله، خوفاً منك وفزعاً.
سدت عليه المشرفية طرقه ... فانصاع لا حلباً ولا بغداذا
المشرفية: السيوف المنسوبة إلى اليمن وتعمل فيها. وانصاع: أي انصرف وانثنى. يقال: صعته فانصاع.
يقول: سدت عليه السيوف طرقه؛ لأنك أسرته فبقي حائراً لم يصل إلى حلب ولا إلى بغداد.
طلب الإمارة في الثغور ونشؤه ... ما بين كرخايا إلى كلواذا
هاتان قريتان من رستاق بغداد.
يقول: إنه طلب إمارة الثغور، ونشؤه بين هذين الموضعين، والسواد لا تصلح للإمارة.
فكأنه حسب الأسنة حلوةً ... أو ظنها البرني والأزاذا
البرني والأزاذ: نوعاً من التمر.
يقول: حسب من جهله أن الأسنة حلوة، أو ظنها هذين النوعين من التمر، ولم يعلم أن طعمها بالخلاف.
لم يلق قبلك من إذا اختلف القنا ... جعل الطعان من الطعان ملاذا
يقول: إن ابن يزداد لم يلق قبلك رجلاً إذا ترددت الرماح واختلفت، جعل المطاعنة ملاذاً من المطاعنة، ومعناه: أنه يتحصن بالمطاعنة من أذى خصمه. فكأنه هرب من الطعان إلى الطعان، في حال ما يلتجىء غيره إلى العساكر والحصون.
من لا توافقه الحياة وطيبها ... حتى يوافق عزمه الإنفاذا
يقول: لم يلق ابن يزداد قبلك أحداً لا توافقه الحياة وطيبها، أي لا تطيب له الحياة، حتى يمضي عزمه فيما يقصده.
متعوداً لبس الدروع يخالها ... في البرد خزاً والهواجر لاذا
اللاذ: ثوبٌ رقيق كالكتان، أو أرق منه.
يقول: لم يلق ابن يزداد قبلك متعوداً لبس الدروع في الصيف والشتاء حتى يخالها التذاذاً بها واعتياداً للبسها أنها في البرد: خز. وفي الصيف: كتان، أو ثوب رقيق.
أعجب بأخذكه وأعجب منكما ... ألا تكون لمثله أخاذا!
يقول: ما أعجب أخذك له، وأسرك إياه! وأعجب منك ومنه ألا تكون أخاذاً لمثله مع فضل قوتك! وقال يرثي محمد بن إسحاق التنوخي
إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
ورأيت كلاً ما يعلل نفسه ... بتعلة وإلى الفناء يصير
يقول: إني أعلم أن الحياة غرور، وإن حرصت عليها، وملت إليها، وإنما أعلم ذلك لأني عاقل، والعاقل يعلم ذلك لا محالة.
أمجاور الديماس رهن قرارةٍ ... فيها الضياء بوجهه والنور
الديماس: حفرة القبر، وقيل: هو اسم لحبس الحجاج، كان لا يدخله أحدٌ ويخرج منه! وقوله: رهن قرارةٍ: منصوب على الحال، أو على البدل من مجاور الديماس، والقرارة: أراد بها أرض القبر، والهاء في فيها ترجع إلى القرارة.
يقول: يا ساكن القبر قد أنار الأرض نور وجهك.
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال يسير
يقول: ما كنت أظن أن النجوم تغور في الثرى، أي تغيب، حتى رأيت تواريك في القبر، وما كنت أرجو قبل رؤيتك على النعش، أن الجبل يسير على أيدي الرجال.
خرجوا به ولكل باكٍ خلفه ... صعقات موسى يوم دك الطور
يقول: خرجوا به إلى القبر، والباكين كل له غشيانٌ كغشيان موسى عليه السلام، يوم دك الطور، أي أزيل وسوى به الأرض، وهو من قوله تعالى " وخر موسى صعقاً ".
والشمس في كبد السماء مريضةٌ ... والأرض واجفةٌ تكاد تمور
مرض الشمس: عبارة عن قلة ضوئها، وعن كسوفها، وكأن الشمس في تلك الحالة مرتجة في وسط السماء، والأرض مضطربة. تكاد الأرض تمور أي تزلزل وتدور، وإنما قال في وسط السماء؛ لأن الشمس في تلك الحالة تكون أضوأ ما تكون.
وحفيف أجنحة الملائك حوله ... وعيون أهل اللاذقية صور
صور: جمع أصور، وصور: أي مائلة.
يقول: حضرت الملائكة جنازته، فكأن حوله أصوات أجنحتهم عند سيرهم مع الجنازة، وعيون أهل هذه البلدة مائلة نحو جنازته تحسراً عليه وعلى مفارقته.
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في قلب كل موحدٍ محفور(1/60)
يقول: حتى أتو به قبراً، كأن ضريحه حفر في قلب كل موحدٍ، يعني أن موته صعب على الموحدين؛ فكأنهم حفروا قبره في قلوبهم؛ لعظم تأثيره فيهم. وقيل: أراد أنه ليس يغيب ذكره عن قلوب الموحدين فكأنه دون فيها، ويجوز أن يريد بتشبيه قبره بقلوب الموحدين: إشارة إلى حصول النور فيه لما دفنه فيه كالنور الذي يكون في قلب المؤمن الموحد.
بمزودٍ كفن البلى من ملكه ... مغفٍ وإثمد عينه الكافور
مزود: صفة لمحذوف، أي برجل مزود.
يقول: أتوا القبر برجل مزود عن جميع ما يملكه، كفناً يبلى وهو مغف: أي مغض عينيه. وإثمد عينيه: أي كحلهما. الكافور: أي إنه لم يحمل من ماله لنفسه إلا الكحل والكفن والحنوط.
فيه السماحة والفصاحة والتقى ... والبأس أجمع والحجا والخير
أي في الجدث. أو في المرثى، والخير هنا: الكرم. والحجا: العقل فكأنه يقول: إن هذه المعاني دفنت بدفنه.
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
انطوى: كناية عن موته. والمنشور: عن حياته.
يقول: كفل له الثناء أو الذكر برد حياته، فكأنه حي بعد الدفن والموت، يعني: أن ذكره الجميل باق بعده، فكأنه لم يمت؛ لقيام ذكره له مقام الحياة ومثله لآخر:
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
فكأنما عيسى بن مريم ذكره ... وكأن عازر شخصه المقبور
يقول: إن ذكره الباقي بعده، أحياه فكأن ذكره، المسيح عليه السلام، وكأن شخصه المقبور، عازر. وهو: الذي أحياه الله تعالى على يد السيد المسيح.
واستزاده بنو عم الميت فقال ارتجالاً:
غاضت أنامله وهن بحور ... وخبت مكايده وهن سعير
يقول: كانت أنامله في الجود كالبحور، فغار ماؤها، وكانت مكايده في الحرب سعيراً، فخبت وطفئت.
يبكى عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور
قراره: يرفع وينصب؛ الرفع باستقر، والنصب على الظرفية.
يقول: يبكى عليه، ومن الواجب ألا يبكى عليه؛ لأنه لم يستقر قراره حتى أتاه من الكرامة والثواب، وصافحته الحور، ويجوز أن يكون على الاستفهام والتوبيخ، أي نبكي وهو لم يستقر قراره حتى صافحته الحور.
صبراً بني إسحاق عنه تكرماً ... إن العظيم على العظيم صبور
نصب صبراً: على المصدر أي اصبروا صبراً، وتكرماً: نصب لأنه مفعول له.
يقول: اصبروا وترفقوا عن الجزع عن هذا الميت؛ لأن قدركم عظيم، والمفجوع به عظيم، والمصيبة بمثله عظيمة، والعظيم يصبر على العظيم، فاصبروا على عظماء.
فلكل مفجوعٍ سواكم مشبهٌ ... ولكل مفقود سواه نظير
يقول: لكل مصاب نظير غيركم فإنه لا نظير لكم، ولكل مفقود غير هذا الميت نظير، فإنه لا نظير له. أي ليس في الأحياء مثلكم ولا في الأموات مثله! وقيل: إن هذا أمر عام فلكم أمثال وله نظير؛ لأن المفجوعين والمفقودين كثير.
أيام قائم سيفه في كفه ال ... يمنى وباع الموت عنه قصير
أيام: نصب بقوله لكل مفقود سواه نظير أيام.
يقول: لكل مفقود نظير أيام. وقيل: تقديره اذكر، أو اذكروا أيام.
يقول: كانقائم سيفه أيام حياته في يمناه إشارة إلى شجاعته، وكان باع الموت مع طوله واقتداره، قصير عنه!
ولطالما انهملت بماءٍ أحمرٍ ... في شفرتيه جماجمٌ ونحور
فاعل انهملت: جماجم ونحور.
يقول: لطالما انهملت جماجمٌ ونحورٌ، بماءٍ أحمر، وهو الدم. في شفرتيه: أي شفرتي سيفه.
فأعيذ إخوته برب محمدٍ ... أن يحزنوا ومحمدٌ مسرور
يقول: أعيذ إخوة الميت، برب محمد، وهو الميت، أن يحزنوا عليه، وهو مسرورٌ: أي بما أتاه الله من الثواب والكرامة، وأسباب المسرة. ويجوز أن يكون محمد الأول النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني الميت.
أو يرغبوا بقصورهم عن حفرةٍ ... حياه فيها منكرٌ ونكير
يقول: وأعيذهم أن يرغبوا في قصور الدنيا عن دار الآخرة، وأن ينسوا ما يلزمهم من الأعمال الصالحة، فكنى عن الآخرة بحفرة هذا الميت، الذي حياه فيها منكر ونكير، فكأنه يحثهم على الاستعداد للموت. وقيل: أراد أعيذهم أن يتركوا زيارة قبر هذا الميت، الذي حياه فيه منكر ونكير، ويلزموا قصورهم المنيفة.
نفرٌ إذا غابت غمود سيوفهم ... عنها فآجال العداة حضور(1/61)
يقول: هم نفرٌ، إذا سلوا سيوفهم، ففارقت غمودها حضرت آجال العباد، وقتلوا من شاءوا.
وإذا لقوا جيشاً تيقن أنه ... من بطن طيرٍ تنوفةٍ محشور
الضمير في لقوا: يعود إلى النفر، والتنوفة: الفاختة. وتيقن فعل الجيش. والهاء في أنه للجيش، ووحد محشور لهذا المعنى.
يقول: إنهم إذا لقوا جيشاً في الحرب تيقن ذلك الجيش أنهم مقتولون فتأكلهم طيور الفاختة، فيحشرهم الله تعالى يوم القيامة من بطونها.
لم تثن في طلبٍ أعنة خيلهم ... إلا وعمر طريدها مبتور
يقول: إنهم لا يثنون أعنة خيلهم في طلب عدوهم، إلا أدركوه، وجعلوا عمره مبتوراً: أي مقطوعاً.
يممت شاسع دارهم عن نيةٍ ... إن المحب على البعاد يزور
عن نيةٍ: أي بعدٍ.
يقول: إني قصدت دارهم البعيدة، على بعد المسافة؛ لحبي لهم، وقد تبين ذلك. ويجوز أن يريد بقوله عن نيةٍ: أي عن قصدٍ مني إليهم، ونيةٍ مني على زيارتهم؛ لحبي إياهم، ولم يكن ذلك اتفاقاً، أو على سبيل الاجتياز بهم. ثم قال: إن المحب على البعاد يزور وهذا كقول القائل وهو:
من عالج الشوق لم يستبعد الدار
وقريب منه قول الآخر:
وما كنت زوراً ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لابد أن سيزور
ومثله قولهم:
إن المحب إذا لم يستزر زارا
وقنعت باللقيا وأول نظرةٍ ... إن القليل من الحبيب كثير
يقول: رضيت برؤيتهم، بل بأول نظرةٍ ولم أطل المقام للنظر؛ لأن القليل من المحب كثير فأنا محب لهم.
إن من قوله: غاضت أنامله إلى قوله: ولطالما انهملت بماء أحمر زيادة قالها ارتجالاً، بعد أن قال القصيدة فألحقت في هذا الموضع.
وسأله بنو عم الميت أن ينفي الشماتة عنهم فقال ارتجالاًك
ألآل إبراهيم بعد محمدٍ ... إلا حنينٌ دائمٌ وزفير
الهمزة: للاستفهام، ومعناه الجحد.
يقول: ما لآل إبراهيم وهم بنو عم الميت بعد موت هذا الرجل إلا الحنين الدائم، وهو الشوق إليه، وكذلك الزفير الدائم والبكاء أسفاً عليه، وإنما قال ذلك: لأن بعضهم قالوا: إنهم شمتوا به، فنفى عنهم ذلك.
ما شك خابر أمرهم من بعده ... أن العزاء عليهم محظور
يقول: ما شك من اختبر أمرهم وتأمله، من بعد المتوفى أن الصبر عليهم ممنوع حرام؛ لما هم فيه من الغم والجزع والقلق والهلع.
تدمي خدودهم الدموع وتنقضي ... ساعات ليلهم وهن دهور
فاعل تدمي: الدموع، ومفعوله: خدودهم، والواو في قوله وهن واو الحال.
يقول: إنهم من كثرة ما جرت دموعهم على خدودهم قرحت خدودهم حتى صارت تدمى، وإنهم من كثرة سهرهم بالليل، صارت ساعات الليل عندهم بمنزلة الدهور. وقيل: أراد، إنهم يبكون الدم مكان الدمع.
أبناء عمٍّ كل ذنبٍ لامرىءٍ ... إلا السعاية بينهم مغفور
يقول: هم أبناء عمٍّ واحد، فكل ذنب لديهم مغفور، إلا السعاية بينهم، فإن من حقهم ألا يغفروها، وأن يعاقبوا من سعى بينهم بالعداوة.
طار الوشاة على صفاء ودادهم ... وكذا الذباب على الطعام يطير
يقول: إن الوشاة تعرضوا ليفسدوا ما بينهم من صفاء الود، كما أن الذباب يطير على الطعام لإفساده، ولم تؤثر وشايتهم في ودادهم، إلا قدر ما أثر الذباب في إفساد الطعام، إذا طار عليه. وهذا إشارة إلى قلة الوشاة وحقارتهم، وقيل أراد بقوله: طار الوشاة، أي ذهبوا وهلكوا.
ولقد منحت أبا الحسين مودةً ... جودي بها لعدوه تبذير
أبو الحسين: أخ الميت. وقيل: هو المرثي.
يقول: إني منحته مودة عظيمة، ولو وجدت بها لعدوه لكان تبذيراً وكنت مبذراً مسرفاً؛ وذلك لنقصان عدوه فلا يستحق مودتي، أو لكثرة حقوقه وعظم مننه لدي، لو أحببت غيره كحبه، لكنت واضعاً للمودة في غير موضعها.
ملك تكون كيف شاء كأنما ... يجري بفضل قضائه المقدور
يقول: إنه ملك تكون على مشيئته، اختيارٌ كيف شاء، حتى كأن المقادير تجري على مراده، فلم يجر عليه شيئاً يكرهه.
وقال أيضاً في نفي الشماتة عنهم:
لأي صروف الدهر فيه نعاتب؟ ... وأي رزاياه بوترٍ نطالب؟
اللام في لأي: يجوز أن تجعل زائدة؛ لتقديم المفعول كقوله تعالى: " للرؤيا تعبرون " وإن كان لا يقال: عبرت للرؤيا، ويجوز أن تجعل: لام الغرض. فكأنه قال: لأي أفعال الدهر في هذا نعاتب الدهر.(1/62)
يقول: من كثرة نوائب الدهر لا ندري ما الذي نعاتب منها؛ لكثرة الرزايا فلا ندري أيها نطالب بالوتر فيه، ويجوز أن يريد في الدهر، ويجوز أن يريد فيه موتته أو في هذا الفعل.
مضى من فقدنا صبرنا عند فقده ... وقد كان يعطى الصبر والصبر عازب
يقول: مضى بالموت من فقدنا صبرنا بمصيبته، فقد كانت حياته لعظم صبره، يعطينا الصبر إذا بعد عنا الصبر. والمعنى أنه كان يشجعنا على الحرب ويعلمنا الثبات.
يزور الأعادي في سماء عجاجةٍ ... أسنته في جانبيها الكواكب
يقول: إنه كان يزور الأعداء في سماء العجاجة، وكانت أسنته في جانبي هذه السماء كواكب. شبه الغبار المتراكم بالسماء، وأسنة الممدوح التي تلمع من خلال ذلك الغبار، بالكواكب اللامعة من السماء ومثله للآخر:
نسجت حوافرها سماءً فوقها ... جعلت أسنتنا نجوم سمائها
فتسفر عنه والسيوف كأنما ... مضاربها مما انفللن ضرائب
فتسفر: فعل العجاجة، وعنه: أي عن المرثي. والواو في قوله: والسيوف للحال. والمضارب: جمع المضرب، وهو حد السيف. والضرائب: جمع الضريبة وهو الشيء المضروب بالسيف.
يقول: كانت تنجلي هذه العجاجة عن هذا المرثي، ومضارب السيوف كلها منكسرة؛ من كثرة ما قتل بها الأعداء، فكأنها لانفلالها مواضع الضرب.
طلعن شموساً والغمود مشارقٌ ... لهن وهامات الرجال مغارب
طلعن: فعل السيوف. وشموساً: نصب على التمييز. شبهها بالسيوف لما انتضيت من أغمادها.
يقول: مطالع هذه الشموس، الأغماد لظهورها منها، ومغاربها، هامات الرجال؛ لأنها تغيبت فيها فهن يطلعن من مطالعها، وهي الأغماد، ويغربن في مغاربها، وهي الهامات.
مصائب شتى جمعت في مصيبةٍ ... ولم يكفها حتى قضتها مصائب
يقول: ليست هذه مصيبةً واحدةً، بل هي مصائب متفرقة، جمعت في مصيبةٍ واحدة؛ لأنه كان يموت خلقاً كثيراً، فماتوا بموته، ولم يكفها ذلك حتى تبعتها مصائب أخر، وهي أقوال العداة: إنا شامتون بموته، فإن هذه مصيبة انضمت إليها.
رثى ابن أبينا غير ذي رحم له ... فباعدنا منه ونحن الأقارب
رثى: أي رحم، ورق. وغير: فاعله، ومفعوله: ابن أبينا.
يقول: رثى هذا الميت، الذي هو ابن أبينا، من هو غير ذي رحم لنا، بل هو بعيد عنه وعنا، وباعدنا هذا الراثي عن هذا المرثي، ونحن أقاربه وبنو عمه.
وعرض أنا شامتون بموته ... وإلا فزارت عارضيه القواضب
العارضان: جانبا اللحية: وهما العذاران.
يقول: عرض الراثي أنا شامتون بموته، إلا أنه كذب، وزارت السوف عارضيه.
أليس عجيباً أن بين بني أبٍ ... لنجلٍ يهوديٍّ تدب العقارب؟!
تدب العقارب: كناية عن النميمة.
يقول: أليس من العجائب أن تدب عقارب ولدٍ يهودي، بين بني أبٍ! ووصفه بأنه ابن يهودي لذلته وحقارته. وقيل: أراد بأن اليهود اشتهر عنهم مكاتمة عداوة المسلمين، والمشي بينهم بالسعايات.
ألا إنما كانت وفاة محمدٍ ... دليلاً على أن ليس لله غالب
يقول: كانت وفاة محمد، المرثي في عزته ومنعته ومجده، دليلاً على أن الله تعالى لا يغلبه أحد. ومثله لأبي تمام:
كفي فقتل محمدٍ لي شاهدٌ ... أن العزيز مع القضاء ذليل
وقال يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي
هو البين حتى ما تأنى الحزانق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
هو: إضمار للبين، ولم يجر له ذكر، وذلك لتعظيم الأمر ومثله قوله تعالى " قل هو الله أحدٌ " وتأنى أي تثبت، وأصله: تتأنى. والحزانق: جمع الحزنقة وهي الجماعة.
يقول: هو البين المتناهي الذي كنا نحاذره، حتى أن الجماعات لا تقف وتثبت، وحتى أنت يا قلبي من وجد ممن أفارقه في أحبابي. يعني: أن البين بلغ حداً إذ ارتحل القلب فارتحل مع ما ارتحل.
وقفنا ومما زاد بتاً وقوفنا ... فريقي هوىً منا مشوقٌ وشائق
وقوفنا: فاعل زاد. وقوله: فريقي هوىً: نصب على الحال من النون والألف في قوله وقوفنا. يقال: شاقني الشيء، والمشوق: هو العاشق الذي شاقه غيره، والشائق: هو المعشوق؛ لأنه الحامل على الاشتياق فهو شائق، وأنا مشوق.
يقول: وقفت أنا والحبيب للتوديع ومن جملة ما عمنا أنا وقفنا في حالٍ ما كنا عليه، ونحن فرقتان: أحدهما محب مشوق والآخر محبوب يشوق صاحبه، بعد فراقه.(1/63)
وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهاراً في الخدود الشقائق
البهار: جمع بهارة، وهي شيء أصفر، من الرياحين. والشقائق: هي التي تدعى شقايق النعمان، وهي حمر. وروى: قرحاً منوناً على الاسم، وقرحى غير منونةٍ، صفة الأجفان، والمعنى واحد.
يقول: قد صارت الأجفان قريحة من البكاء غداة التوديع لخوف الفراق، وصار بهاراً أصفر في الخدود الشقائق، ومثله لابن المعتز قوله:
لم تشن شيئاً ولكنها ... بدلت التفاح بالياسمين
على ذا مضى الناس: اجتماعٌ وفرقةٌ ... وميتٌ ومولودٌ، وقالٍ ووامق
وروى: مضى الدهر أي على هذا. وذلك، إشارة إلى ما تقدم ثم فسره فقال: اجتماعٌ وفرقةٌ. يعني: أن الناس يجتمعون تارةً ويتفرقون أخرى، وواحدٌ يموت وآخر يولد وواحدٌ مبغض وآخر عاشق، وقيل: أن معناه أن بني آدم على اجتماع بعد فرقة، وميت بعد مولود، ومبغض بعد عاشق، ومثله للأعشى.
شبابٌ وشيبٌ، وافتقارٌ وثروةٌ ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
تغير حالي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
تغير: فعل ماض. وروى: تغير: وهو فعل مضارع، وأصله تتغير، لأن الحال مؤنث فحذف أحد التاءين. والأول أولى. والغرانق: هو الشاب الناعم، وجمعه: غرانيق.
يقول: إن الليالي قد أثرت في وغيرتني، وهي بحالها، وشبت أنا والزمان لا يتغير عن حاله وجدته.
سل البيد: أين الجن منا بجوزها؟ ... وعن ذي المهاري: أين منها النقانق؟
البيد: جمع البيداء، والهاء في بجوزها: أي بواسطها. والمهاري: جمع المهرية. وهي الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيدان، وهي قبيلة. والنقانق: جمع النقنق، وهو ذكر النعام.
يقول: سل المفاوز: هل الجن تقطع وسطها كما نقطعها نحن! وسلها: أيضاً عن حال إبلنا في سرعة سيرها، هل تقطها النعام كما تقطها إبلنا؟ لأن النعام موصوفة بسرعة السير.
وليلٍ دجوجي كأنا جلت لنا ... محياك فيه فاهتدينا السمالق
السمالق: جمع السملق، وهي الأرض البعيدة الأطراف، وفاعل جلت: السمالق، وجلت: أي أظهرت.
يقول: وكم ليلة مظلمة؟ كأنما أظهرت لنا المفاوز وجهك المضيء حتى اهتدينا بضوئه.
فما زال لولا نور وجهك جنحه ... ولا جابها الركبان لولا الأيانق
جنحه: جوانبه، وهو فاعل زال، والهاء في جابها: للسمالق أو للبيد. والأيانق: جمع الأينق: وهو جمع الناقة.
يقول: لولا نور وجهك ما زال ظلام الليل، ولولا النوق؛ لما قطع الركبان تلك السمالق؛ لبعدها وصعوبتها.
وهزٌّ أطار النوم حتى كأنني ... من السكر في الغرزين ثوبٌ شبارق
الهز: تحريك الإبل ركبانها في السير. وهو عطف على الأيانق، وقيل: عطف على قوله: وليل دجوجي فكأنه قال: ورب هزٍّ والأول أولى.
والمعنى لولا الأيانق ولولا هزها الذي طير النوم عني، لما قطعنا هذه المفاوز، حتى كأنني من السكر: أي من النعاس في الغرزين: وهما؛ ركابان للبعير من الخشب. وثوب شارق: أي مقطع مخرق. تعباً وضعفاً واسترخاءً.
شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريها كيرانها والنمارق
شدوا: أي غنوا وأحدوا. والذفرى: العظم الناشز خلف الأذن. وقيل: الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير. وتقديره شدوا بالممدوح، ابن إسحاق، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه.
يقول: حدى الحداة باسم الممدوح، بصوتٍ كالغناء فسمعت الإبل حدوهم فعرفت، ورفعت رءوسها، حتى أدركت ذفاريها الرحال والوسائل.
بمن تقشعر الأرض خوفاً إذا مشى ... عليها وترتج الجبال الشواهق
تقشعر: أي تضطرب، وكذا، ترتج الجبال: يعني حدوا بمن إذا مشى على الأرض اضطربت خوفاً، وإذا علا الجبال الشاهقة اضطربت هيبةً منه.
فتىً كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الجون: الأسود. الحيا: المطر.
يقول: إن هذا الرجل هو كالسحاب الأسود الذي فيه المطر، فهو ترجى منه الأمطار، ويخشى منه الصواعق. أي أنه مرجو مخوف.
ولكنها تمضي وهذا مخيمٌ ... وتكذب أحياناً وذا الدهر صادق
يقول: إن السحاب قد تغيب، وهذا مقيمٌ أبداً، وقد تكذب السحاب فلا تمطر وهذا صادق الدهر فلا يخيب راجيه.
تخلى عن الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق(1/64)
يقول: اعتزل عن الدنيا استحقاراً لها، وتعفف فما ازداد إلا جلالة وعظماً فلم يخل من ذكره المشرق والمغرب.
غدا الهندوانيات بالهام والطلى ... فهن مداريها وهن المخانق
المدارى جمع: المدارى والمدارة وهي شيء يفرق به الشعر، وهو المشط وقد يكون من الذهب، والفضة والحديد والعاج والخشب.
يقول إذا السيوف الهندية بالهام والأعناق، فبعضها مدارى يعملها في الهام، وبعضها مخانق للزومها في الأعناق وقطعها إياها.
تشقق منهن الجيوب إذا غزا ... وتخضب منهن اللحى والمفارق
يقول: تشقق من هذه السيوف الجيوب، إذا غزا الممدوح أعداءه، وتخضب منها مفارق الرأس واللحى، إذا ضرب أعداءه بها.
يجنبها من حتفه عنه غافلٌ ... ويصلي بها من نفسه منه طالق
التأنيث: للسيوف، والتذكير: لمن.
يقول يجنب هذه السيوف من غفل هلاكه عنه، ويصلى بها من صارت نفسه طالقةً منه.
يحاجي به: ما ناطقٌ وهو ساكتٌ؟ ... يرى ساكتاً والسيف عن فيه ناطق
يحاجي: أي يغالط، والأحجية: المعماة.
معناه: يحاجي بهذا الرجل فيقال: ما ناطقٌ ساكتٌ؟ فجواب المجيب: هذا الرجل؛ لأنه يرى ساكتاً إذا أمسك عن الكلام. وفي الحرب، السيف ينطق عنه بقتل أعدائه، فيقوم فعل السيف مقام لفظه.
نكرتك حتى طال منك تعجبي ... ولا عجبٌ من حسن ما الله خالق
يقول: إنما نكرتك لما رأيت محاسناً خارجة عن المعتاد، حتى تعجبت منك، ثم عاودت نفسي فقلت: ولا عجب من صنع الله تعالى. ويجوز أن يريد: إني لما سمعت بوصفك نكرتك فلما عاينتك رأيت مصداق ما سمعت فزال التعجب عني.
كأنك في الإعطاء للمال مبغضٌ ... وفي كل حربٍ للمنية عاشق
يقول: كأنك مبغضٌ مالك؛ لكثرة تفريقه للناس، وكأنك عاشق للموت في كل حرب، لملازمتك دواعيها وأسبابها.
ألا قلما تبقى على ما بدا لها ... وحل بها منك القنا والسوابق
يبقى: فعل القنا، والسوابق. والهاء في بها ولها: ترجع إليها أيضاً. وتقديره ألا قل ما تبقى القنا والسوابق على ما بدا لها، وحل بها من جهتك، من مدافعة الطعن بالقنا، وإجراء الخيل السوابق.
وقيل: إن قوله: تبقى ترجع إلى الحرب يقول: ما تبقي الحرب على ما بدا لها منك؛ لأنك إذا حضرتها هزمت الأعداء فلا تبقى حرب. وقوله: وحل بها ... إلى آخره: حال. أي في تلك الحال.
خف الله واستر ذا الجمال ببرقعٍ ... فإن لحت ذابت في الخدور العواتق
العواتق: جمع العاتق، وهي المرأة الحسناء.
يقول: اتق الله واستر جمالك ببرقع، فإنك إن ظهرت لذوات الخدور من النساء، الجواري الأبكار، ذبن وجداً بك، وشوقاً إليك. وروى حاضت في موضع ذابت أي إذا رأينك حضن؛ لأنه يقال: إن الشهوة إذا غلبت على النساء حضن. ويجوز أن يريد بذلك: أن الحسان من النساء بالإضافة إلى جمالك، بمنزلة من حاضت، في باب سقوط درجتها عن صواحبها.
سيحيي بك السمار ما لاح كوكبٌ ... ويحدو بك السفار ما ذر شارقٌ
حذف مفعول سيحيي وهو الليل لدلالة الكلام عليه، وكذلك يحدو بك السفار: وهي الإبل.
يقول: إن المحدثين بالليل يحيون الليالي بذكرك وحديثك، والمسافرون يحدون إبلهم بك ما طلع نجم وما طلعت الشمس، والأولى أنهم يسمرون ويحدون بشعري الإبل فيك.
فما ترزق الأقدار من أنت حارمٌ ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
ولا تفتق الأيام ما أنت راتقٌ ... ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق
يقول: إن الأقدار موافقةٌ لك، فترزق من ترزق، وتحرم من تحرمه أنت، ولا تنقض الأيام ما تبرمه أنت، ولا تبرم ما نقضته أنت.
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
يقول: دام لك الخير، وهذا دعاء له، ثم عاد إلى ذكر نفسه وقال: غيري من الناس طلب الغنى من غيرك، والتحق بغير بلدتك، فأما أنا فلا أفضل سواك عليك.
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
يقول: إن اللاذقية هي الغرض الأبعد الذي لا غاية بعده، ومنيتي رؤيتك، والدنيا كلها منزلك، وإن كان مسكنك اللاذقية، وأنت جميع الخلق، بما فيك من فضائل الناس كلهم، وهذا كقوله أيضاً:
إلا رأيت العباد في رجل
وهجى الحسين بن إسحاق على لسان أبي الطيب، فكتب إليه يعاتبه فأجابه(1/65)
أتنكر يا ابن إسحاق إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي
يقول معاتباً له أتنكر؟!: أي تجحد مؤاخاتي لك، بعد ما عرفتها مني، وتحسب ماء غيري من إنائي، وهو مثل يعني: تحسب ما هجيت به من شعر غيري أنه من شعري فلا تميز بين شعري وشعر غيري؟!
أأنطق فيك هجراً بعد علمي ... بأنك خير من تحت السماء
الهجر: الكلام القبيح.
يقول: أقول فيك فحشاً، بعد ما علمت أنك خير من في الأرض وتحت السماء، وروى: أأنطق فيك هجواً.
وأكره من ذباب السيف طعماً ... وأمضي في الأمور من القضاء
وأكره: عطف على قوله: خير من تحت السماء.
يقول: أقول فيك فحشاً بعد علمي بأنك أكره من حد السيف طعماً وأمضى من القضاء في الأمور!!
وما أربت على العشرين سني ... فكيف مللت من طول البقاء؟!
يقول: ما زاد سني على عشرين سنة، فكيف مللت من طول حياتي حتى أهجوك فتقتلني؛ لأني إذا هجوتك لا آمن على نفسي من الهلاك.
وما استغرقت وصفك في مديحي ... فأنقص منه شيئاً بالهجاء
يقول: لم استوف مدحي فيك بعد، وما أدركت الغاية فكيف أنقص منه شيئاً بالهجاء؟
وهبني قلت: هذا الصبح ليلٌ ... أيعمى العالمون عن الضياء!
معناه: هب أني قلت: إن هذا النهار ليلٌ! أيعمى العالمونعن ضياء هذا النهار؟! وهذا مثلٌ ضربه في أنه هجاه، وذكره مغايرة ليتقبله الناس بمشاهدتهم فضله.
وقالوا: إنه كالنهار الذي لا يخفي ضوء الشمس فيه، ولقالوا: إني عابثٌ في ذلك.
تطيع الحاسدين وأنت مرءٌ ... جعلت فداءه وهم فدائي
أصله: أتطيع، فحذف ألف الاستفهام. وقوله: جعلت فداءه. أخرجه مخرج الدعاء. وهم: يحتمل أن يكون عطفاً على التاء من جعلت، الذي هو ضمير المرفوع، فيكون قد عطفه على ضمير المرفوع المتصل من غير توكيد بالمنفصل، وكان حقه أن يقول: جعلت أنا فداءه وهم فدائي. غير أن هاهنا حسن ذلك لوقوع فداءه بين المعطوف والمعطوف عليه، ويحتمل أن يكون: وهم فدائي جملة منفصلة عن الجملة الأولى، فيكون هم مبتدأ وفداء خبره فتكون الواو عطفت جملة على جملة، أو يكون للحال.
المعنى: أتطيع الحاسدين الذين كذبوا علي، وتسمع كلامهم في؟ وأنت الرجل! جعلت أنا فداءه والحساد فدائي. يعني: جعلت فداءه لأفضاله علي، فهم فدائي لفضلي عليهم.
ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: وأنت مرء يعني أنت رجل مستحق أن توصف بالرجولية فلا ينبغي أن تسمع كلام الحاسدين في، ثم ابتدأ بالدعاء له وعلى الحاسدين. ويجوز أن يكون بعضه متصلاً ببعض.
وهاجي نفسه من لم يميز ... كلامي من كلامهم الهراء
يعني: إنما الهاجي نفسه، من لم يميز كلامي من جزالته وحسن موقعه من كلام حسادي، الفاسد الساقط، الذي لا معنى له. لأن تركه الفرق بين كلامي، وكلامهم، ينبىء عن الجهل، والجهل ذم مذموم، فكأنه هجا نفسه.
وإن من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقل من الهباء
يقول: إن من العجائب أن تراني، وتعرف فضلي وعقلي، ثم تجعلني عديلاً إلى من هو أقل من الهباء. يعني: أنه لا وزن له ولا خطر.
وتنكر موتهم وأنا سهيلٌ ... طلعت بموت أولاد الزناء
يقول: أتنكر موت حسادي إذا رأوني؟! وأنا سهيل اليماني الذي بطلوعي تموت أولاد الزناء.
وذلك أن العرب تزعم أن ما نتج من أمهار الخيل، إذا ضرب الفحل أمه من دون إذن صاحبه فإنه يموت إذا طلع سهيل، فكذلك تموت الحساد بسببي.
وقال يمدحه أي الحسين بن إسحاق التنوخي:
ملام النوى في ظلمها غاية الظلم ... لعل بها مثل الذي بي من السقم
الهاء في ظلمها للنوى لأنها مؤنثة، ويجوز أن يكون للمرأة وإن لم يجر لها ذكر وفي بها: للنوى خاصة.
يقول: لومي البعد بتبعيد هذه المرأة عني، واختصاصه بها غاية الظلم له، فلعل به من السقم والعشق مثل ما بي فتعشق هذه المرأة الذي ذهب بها، كما أعشقها أنا. وبين ذلك بقوله:
فلو لم تغر لم تزو عني لقاءكم ... ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي
يقول: لو لم، تغر النوى علي لم تقتض علي رؤيتكم، ولو لم تكن مريدةً لكم؛ لم تكن النوى خصماً لي بسببكم.
أمنعمةٌ بالعودة الظبية التي ... بغير وليٍّ كان نائلها الوسمي؟
الوسمي: أول المطر، والولي: الذي يليه.(1/66)
يقول: أتنمعم علي هذه المحبوبة التي كالظبية بالعودة الثانية إلى الوصال، التي كان إعطاؤها مرة واحدة لا ثاني لها؟ فكان وصلها كالوسمي الذي لا يتبعها الولي. فجعل الوسمي مثلاً للأول، والولي مثلاً للعودة.
ترشفت فاها سحرةً فكأنني ... ترشفت حر الوجد من بارد الظلم
إنما خص السحرة، لأنه وقت تغير الأفواه ونكهاتها، والظلم: ماء الأسنان، وبريقها.
يقول: مصصت فاها وقت السحر، فكأنني مصصت حر الوجد من أسنان بوارد. يعني: لما استعذبت ازددت عشقاً، فازداد بذلك وجدي، وحصل حر الوجد في قلبي، والبرودة في فمي، كما قال في موضع آخر وهو:
بفي برودٌ وهو في كبدي جمر!
فتاةٌ تساوي عقدها وكلامها ... ومبسمها الدري في الحسن والنظم
يقول: تشابهت منها ثلاثة أشياء وهي: عقدها المنتظم من الدر، وكلامها الشبيه: الدر، وثغرها الذي تبسمت عنه كالدر فهي مشابهته في حسنها ونظامها وهو أبلغ من قول البحتري:
فمن لؤلؤٍ تبديه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
لأنه زاد عليه ذكر العقد.
ونكهتها والمندلي وقرقفٌ ... معتقةٌ صهباء في الريح والطعم
المندلي: أراد به العود. والقرقف: الخمر. والصهباء: البيضاء المشربة حمرة، وهي صفة الخمر.
يقول: هذه الثلاثة أيضاً متشابهة وهي الرائحة: فمنها العود الذي يبخر به، ومنها الخمرة الصافية فهي متشابهة في الريح والطعم فللعود نكهتها، وللخمر طعمها، ورائحة فمها.
جفتني كأني لست أنطق قومها ... وأطعنهم والشهب في صورة الدهم
الشهب: الخيل البيض. والدهم: السود.
يقول جفتني هذه المرأة كأني لست أنطق قومها نظماً ونثراً، وكأني لست أطعنهم إذاً إلا على خيل دهم وشهب، وعذار قد اسودت فكأنها دهم، فكأنه يقول: لست ذليلاً في قومها مذموماً جباناً حتى تجفوني.
يحاذرني حتفي كأني حتفه ... وتنكزني الأفعى، فيقتلها سمي
النكرة: الغرزة بشيء مثل الإبرة. يقال: نكزته الأفعى: إذا غرزته ولم تعضه يقول: يخاف من موتي كأني موتٌ للموت! وتنكزني الأفعى فتموت! فكأني قتلتها بسمي، حتى كأني دونها، وكل ذلك إشارة إلى قوته وشجاعته.
طوال الردينيات يقصفها دمي ... وبيض السريجيات يقطعها لحمي
الردينيات: الرماح والسريجيات: السيوف. ويقصفها: يكسرها.
يقول: إن الرماح والسيوف لا تؤثر في أبداً، ولحمي ودمي يؤثران فيها، ويكسرانها ويقطعانها. وقيل: أراد: أني عزيزٌ في قومي. فمن أراد قتلي كثر الضرب والطعن عليه، في طلب ثأري، حتى تكسر الرماح والسيوف عليه.
برتني السرى برى الدى فرددنني ... أخف على المركوب من نفسي جرمي
السرى: مؤنثة، وقد جعلها جمعاً للسرية؛ فلذلك قال: رددنني، والأولى في أخف الرفع؛ لأنه وما بعده جملة من مبتدأ وخبر، فهو وإن وقع موقع الحال فلا يتغير الإعراب من حيث الصورة، ويجوز فيه النصب على بعض الوجوه.
يقول: أنحفتني السرى حتى قطعتني كقطع السكاكين فتركتني خفيفاً غاية الخفة، حتى كأني على المركوب أخف جرماً من نفسي؛ لأنه من أخف الأشياء.
وأبصر من زرقاء جوٍّ لأنني ... إذا نظرت عيناي شاءهما علمي
زرقاء جوٍّ: هي زرقاء اليمامة، وكانت موصوفة بحدة البصر وقد روى شأواهما علمي: وهي تثنية الشأو، وهو الغاية. أي غايتهما علمي والتثنية للعينين أي سابقهما وهو فاعل من شاء إذا سبق وروى سأواهما علمي يقول ردني السرى خفيفاً بصيراً أبصر من هذه المرأة؛ لأنها أبصرت بعينها، وأنا أبصر بالقلب والعلم. علمي يسبق نظر عيني فقبل إبصار العينين تبصر عيني كما هو عليه.
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... كأني بني الإسكندر السد من عزمي
يقول: كأنني من خبرتي، ومعرفتي بالأرض، دحوت الأرض لكثرة تردادي بها، وكأن الإسكندر بنى سد يأجوج ومأجوج من عزمي؛ لقوته، ورفعته، ومضائه في الأمور.
لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه ... فأبدع حتى جل من دقة الفهم
أي كأن الإسكندر بنى السد من عزمي الذي صممته على قصد ابن إسحق وكأني دحوت الأرض من خبرتي بها لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه وعظم إبداعه حتى ارتفع أن يوصف بدقة الفهم. وهو المراد بقوله: حتى جل عن دقة الفهم. وقيل: برتني السرى بري المدى لألقى هذا الرجل.(1/67)
نوأسمع من ألفاظه اللغة التي ... يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي
يقول: لألقى ابن إسحاق، وأسمع من ألفاظه، وعباراته الشريفة، اللغة التي استلذها، وإن كانت متضمنة شتمي!.
يمين بني قحطان رأس قضاعةٍ ... وعرنينها بدر النجوم بنى فهم
العرنين: مقدم الأنف وأعلاه، وبنى فهم: بدل من النجوم.
يقول: إنه يمين بني قحطان كلهم، ورأس قضاعة: التي هي قبيلة من قحطان، وعرنين قضاعة أيضاً، وهو بدر بني فهم: الذين هم رهطه الأدنون فجعلهم نجوماً وجعله بدراً.
إذا بيت الأعداء كان استماعهم ... صرير العوالي قبل قعقعة اللجم
يقول: إذا جاء أعدؤه ليلاً سمعوا صرير الرماح في عظامهم قبل استماعهم إلى صلصلة اللجم، يعني: أنهم لا يشعرون حتى تصير الحال هذه. وقيل: إنه يبادر إلى أخذ الرمح، وإن لم يجد فسحة لإسراج فرسه وإلجامه ركب بغير سرج ولجام.
مذل الأعزاء المعز وإن يئن ... به يتمهم فالموتم الجابر اليتم
روى: وإن يئن وإن يحن ومعناه واحد. وتقديره: مذل الأعزاء معز الأولياء.
يقول: هو يذل أعاءه وإن كانوا أعزاء، ويعز أولياءه المستجيرين به وإن كانوا من أعدائه الذين أيتم أولادهم، فالذين يؤتمهم يجبر يتيمهم ويرضيهم، ويقوم لهم مقام الآباء في النفقة عليهم والإحسان إليهم.
وإن تمس داءً في القلوب قناته ... فممسكها منه الشفاء من العدم
وروى: فممسكها بكسر السين، وروى: بفتحها، فالأول يريد به الممدوح والثاني يده، لأنها الموضع الذي يمسكه به، ويجوز أن يريد به المصدر: أي إمساكها.
يقول: إن أمست قناته داءً في قلوبهم؛ لطعنه إياهم بها فالذي يمسك القناة عنهم هي يده، شفاؤهم من الفقر، إمساكه لها يشفي من الفقر.
مقلد طاغي الشفرتين محكمٌ ... على الهام إلا أنه جائر الحكم
يقول: إنه تقلد سيفاًن طغى جانباه، وقد جعل الحكم على رءوس الأعداء، غير أنه جائر الحكم من كثرة القتل.
تحرج عن حقن الدماء كأنه ... يرى قتل نفس ترك رأس على جسم
يقول: إن سيفه يتأثم عن حقن الدماء، فكأنه يرى القتل في الاحتساب والالتذاذ كترك الرءوس على الأماكن، وتحرجه عن حقن الدماء. إما لأن سيفه لا يقتل إلا الكفرة، الذين يكون الإثم في الكف عنهم، أو يريد بيان كونه جائر الحكم: لعدم التمييز منه، أو لأنه جماد لا يلزمه إثم في القتل، ثم نزه نفس الممدوح فقال:
وجدنا ابن إسحاق الحين كحده ... على كثرة القتلى برياً من الإثم
وروى: كجده بالجيم.
يقول: وجدنا هذا الرجل كحد السيف مضاء في براءته من الإثم كبراءة السيف من الإثم، مع كثرة القتلى منه، لأنه لا يقتل إلا المستحق.
مع الحزم حتى لو تعمد تركه ... لألحقه تضييعه الحزم بالحزم
يقول: إنه مع الحزم في جميع الأمور، حتى لو تعمد ترك الحزم لألحقه ذلك بالحزم! يعني: إذا أحزمه في بعض الأمور، كان ذلك الحزم: وهو الجود وتبذير المال، في طلب المجد؛ فكأن تركه الحزم حزماً منه لما فيه من اقتناء الحمد والمجد.
وفي الحرب حتى لو أراد تأخراً ... لأخره الطبع الكريم إلى القدم
يقول: إنه مع الحزم في اقتناء المعالي، لو أراد أن يتأخر عن الحرب لأخره طبعه إلى التقدم. يعني: إنه إذا نوى أن يتأخر عن المحاربة قدمه إليها طبعه الكريم.
له رحمةٌ تحيي العظام وغضبةٌ ... بها فضلةٌ للجرم عن صاحب الجرم
يقول: له رحمة واسعة بحيث تحيي العظام البالية، وله مع هذه الرحمة غضب متجاوز عن الحد، بحيث أنه يفضل غضبه على جرم المجرم فيهلكه ويفنيه، وقيل أراد أنه واسع الرحمة له مع ثورة الغضب فضلة تمسكه لغضبه فهو مالكٌ أمره.
ورقة وجهٍ لو ختمت بنظرةٍ ... على وجنتيه ما انمحى أثر الختم
يصفه بالحسن ويقول: له رقةٌ بوجهه حتى لو ختمت عليه بنظرة أو لو نظرت إليه لبقيت على وجهه حمرة؛ لفرط حيائه، ولأثر الختم فيه أثراً لا ينمحي أبداً.
أذاق الغواني حسنه ما أذقتني ... وعف فجازاهن عني على الصرم
يقول: حسنه أذاق الغواني من ألم العشقف ما أذاقتني الغواني منه، وصار عفيفاً فجاز الغواني عني بتنزهه عنهن على ما فعلن بي من الهجران.
فدىً من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجائد القرم(1/68)
يقول: يفدي هذا الشريف الجواد السيد، كل من على الأرض، أولهم أنا البادىء بالفداء له قبلهم. والغبراء: اسم الأرض.
لقد حال بين الجن والإنس سيفه ... فما الظن بعد الجن بالعرب والعجم
يقول: حجز سيفه بين الجن والإنس؛ فمنع الجن عن قصدهم الشر للإنس، فإذا كان تأثيره في الجن! فما الظن بالإنس؛ في دفع بعضهم عن بعض. وروى بين الجن والأمن سيفه. يعني أن سيفه أخاف الجن وأزال عنهم الأمن والسكون.
وأرهب حتى لو تأمل درعه ... جرت جزعاً من غير نارٍ ولا فحم
يقول: قد أخاف كل شيء حتى الجمادات! فلو أنه أحد النظر إلى درعه لذابت؛ خوفاً منه، من غير نار وفحم، وإن لم يكن لها تمييز وعقل.
وجاد فلولا جوده غير شاربٍ ... لقيل كريمٌ هيجته ابنة الكرم
يقول: لولا علمنا بأنه صاح مع كثرة جودٍ منه، لقلنا إنه لفرط جوده سكران، وإن الذي حمله على جوده هو سكره الذي حصل له من الخمر.
أطعناك طوع الدهر يا ابن ابن يوسفٍ ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم
الحاسدو لك: أراد بهم الحاسدون لك، غير أنه حذف النون. وروى: الحاسدون على الرغم: وهو عطف على الضمير في أطعناك الذي هو النون والألف، وحسن العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد المنفصل لطول الكلام.
يقول: أطعناك طاعة الدهر لك، وأطعناك أبد الدهر، بشهوةٍ ومحبة، والذين حسدوك أطاعوك على رغم منهم وذل.
وثقنا بأن تعطى فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من قوة الوهم
كان حقه أن ينصب الياء من تعطى بأن، غير أنه سكنه ضرورةً.
يقول: لقوة ظنوننا وثقنا بأنك تعطينا، حتى لو لم تعطنا لظننا أنك قد أعطيتنا من قوة الوهم ولما شاهدنا من دوام جودك وكثرة عطاياك.
دعيت بتقريظك في كل مجلسٍ ... وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي
روى: دعيت، أي سميت بمدحي لك، يعني صار اسمي: مدحي لك فقيل: هذا الذي مدح الأمير، وعلى الأول: صار اسمك مدحي إياك. وقيل: هذا الذي قيل فيه كذا. وظن الذي يدعوني ويسميني أن اسمي: الثناء عليك، فيدعوني به، فيقول: يا من أثنى على الأمير ويا مادح الأمير.
وأطمعتني في نيل ما لا أناله ... بما نلت حتى صرت أطمع في النجم
روى: أعلق بالنجم.
يقول: أطمعتني في نيل ما لا أكاد أصل إليه، حتى صرت أطمع في نيل النجم الذي يعجز عن نيله كل حي.
إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني ... فكل ذهباً لي مرةً منه بالكلم
يقول: أنت تضرب الطعنة الواسعة فإذا ضربت القرن ثم أردت أن تعطيني الجائزة فكل لي ملء الجراحة ذهباً، والهاء في منه راجعة إلى القرن.
أبت لك ذمي نخوةٌ يمنيةٌ ... ونفسٌ بها في مأزق أبداً ترمي
النخوة: الكبرياء.
يقول: ابت ذمي لك نخوتك اليمنية، وأراد به وجهين: أحدهما أن الممدوح كان يميناً والمتنبي أيضاً ينسب إلى كندة، وهم من اليمن. فيقول: كونك من اليمن تأبى نفسي أن تذمك مع ما كان بيننا من الرحم، أو يريد: أن نخوتك في نفسك وهمتك العالية يمنعاني عن ذمي لك وعن هجوك، وكذلك يأبى ذمي لك، نفسك التي ترمي بها في كل معركة. وقيل: إنما ذكر ذلك لأنه كان متهماً بهجو ذلك الممدوح، فأراد إزالة هذه التهمة عن نفسه بهذا القول.
فكم قائلٍ: لو كان ذا الشخص نفسه ... لكان قراه مكمن العسكر الدهم
القرى: الظهر. والدهم: الكثير.
يقول: كم من قائل يقول: لو كان نفس هذا الممدوح جسم! لكان ظهره مستقراً للعسكر الكثير. يصف سعة نفسه وعظمها، وأن بعضها يسع الكثير من العسكر.
وقائلةٍ والأرض أعني تعجباً ... علي امرؤٌ يمشي بوقري من الحلم
يقول: ورب قائلةٍ، وأعني بها الأرض على وجه التعجب: علي رجلٌ يمشي، عليه مثلي من الحلم!
عظمت فلما لم تكلم مهابةٌ ... تواضعت وهو العظم عظماً عن العظم
يقول: عظم قدرك، فمنعت هيبتك أن تكلم، فلما علمت أن الناس هابوك تواضعت فتعظمت بذلك التواضع عظماً عن العظم، وذلك التواضع هو عين العظم. يعني: التواضع رفع النفس عن التكبر.
ودخل على عليٍّ بن إبراهيم التنوخي فعرض عليه كأساً بيده، فيها شراب أسود فقال ارتجالاً:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني
لم تحل: أي لم تمنع، وهو فعل الكأس.(1/69)
يقول: إذا شرب غيري الكأس، وهي الخمر، فأرعشت يديه من السكر، صحوت أنا، فلم تحجز الخمر بيني وبين عقلي. فأجرى العقل مجرى النفس؛ لأن قيام النفس بالعقل. وقيل: أراد لم تحل بيني وبين جدي؛ لأن جدي لا يفارقني أبداً.
هجرت الخمر كالذهب المصفى ... فخمري ماء مزنٍ كاللجين
يقول: تركت الخمر التي تشبه الذهب المصفى في لونها، وعدلت إلى الماء الصافي، الذي يشبه لونه الفضة لصفائه.
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
روى: أغار من المدامة.
يقول: أحسد أقداح الخمر إذا جرت على شفته حيث تتشرف به فأتمنى ذلك الشرف لي دونها.
وقيل: إنما أغار عليها لكون الشراب كان أسواداً، فنزه شفته عنها والقصة تدل على ذلك.
كأن بياضها والراح فيها ... بياضٌ محدقٌ بسواد عين
شبه بياض الزجاجة ببياض العين، والشراب الأسود بسواد العين، وحقق التشبيه بإحداق البياض بسواد العين، كإحداق الزجاجة بسواد الشراب.
أتيناه نطالبه برفدٍ ... فطالب نفسه منه بدين
يقول: أتينا الممدوح نطلب منه العطاء، فطالب نفسه بدين لازم. يعني: إنه أوجب على نفسه العطاء؛ لجوده وسخائه.
وشربها فقال:
مرتك ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهنئتها من شاربٍ مسكر السكر
مرتك أصلها: مرأتك، فحذف الهمزة ضرورة. والثاني أنه كان ينبغي أن يقول: أمرأتك؛ لأن هذه اللفظة على الانفراد لا تستعمل إلا بالألف، فإذا أتبعت هناك جاز استعمالها من غير الألف. فهو شاذ من وجهين.
يقول: جعل الله لك هذه الخمرة هنيئة مريئة لك، يا من يسكر السكر. يعني: لا يغلبه السكر بشرب الخمر بل يغلب هو السكر.
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
الحميا: اسم من أسماء الخمر.
يقول: رأيت الخمر في الزجاج على يده، فشبهت الخمر؛ لصفائها ورقتها وضيائها بالشمس، وشبهت بالزجاج بالبدر؛ لبياضه ونقائه، وشبهت كفه بالبحر؛ لكثرة سخائه وعطاياه.
إاذ ما ذكرنا جوده كان حاضراً ... نأى أو دنى يسعى على قدم الخضر
اسم كان: ضمير الجود.
يقول: إن جوده في سرعته ووصوله إلى الناس كأنه يسعى على قدم الخضر، لأنه يقال: إنه لا يذكر في موضع إلا وكان حاضراً في ذلك الموضع.
يقول: سواء كان الممدوح نائياً أو دانياً فإن جوده يصل إلينا في أسرع ما نريد.
وقال أيضاً يمدحه:
أحادٌ أم سداسٌ في أحاج؟ ... لييلتنا المنوطة بالتناد
أراد الاستفهام كأنه قال: أأحاد، فحذف الهمزة لدالالة قوله: أم سداسٌ. وهذا البناء للتكرار، فإذا قال: جاءني القوم أحاد، أراد به واحداً واحداً، وكذلك ما زاد عليه، ولا يراد به حقيقة العدد، وإنما خص السداس دون ما فوقها من سباع وغيره؛ لأن العرب لا تستعمل هذا المثال فيما فوق سداس، هذا قول بعضهم، وليس بواضح. فقد ذكر أبو حاتم: في كتاب الإبل هذا المثال فيما زاد على سداس إلى عشار. فالأولى أن يقال: إنما خص هذه لأنها ليالي الأسبوع، ومدار أيام الدنيا على هذا العدد.
يقول: إن هذه الليالي جاءت واحدة واحدة أم ستة ستة جمعت في واحدة. وقيل: إنه أراد ها هنا واحدة هذه الليلة أم ستة ليال مجموعة في واحدة؟ فكأنه يقول هذه الليلة واحدة أو ليالي الأسبوع كلها، وهي في طولها كأنها متصلة بيوم القيامة. وقوله: لييلتنا تصغير ليلة؛ وإنما صغرها مع وصفه لها بالطول؛ إشارة إلى أنها في نفسها قصيرة وإن كانت هي عنده طويلة؛ لطول سهره فيها. أو يقال: إنما صغرها على سبيل التعظيم كقول بعضهم:
دويهية تصفر منها الأنامل
وقيل: أراد بيوم التنادي: يوم الرحيل إلى الأعداء للمحاربة، وتنادى بعضهم بعضاً، ويدل على هذا قوله:
أفكر في معاقرة المنايا
فكأنه طالت عليه هذه الليلة لسهرة تفكراً في قتل الأعداء فإذا وصل إلى مراده قصرت عليه وزال عنه السهر.
كأن بنات نعشٍ في دجاها ... خرائد سافراتٌ في حداد
سافرات: يجوز فيها الرفع صفة لخرائد، ويجوز نصبها على الحال، فتكون مكسورة. والحداد: هي الثياب السود.(1/70)
يقول: كأن هذه الكواكب في ظلمات هذه الليلة الطويلة نساء بيض الوجوه قد كشفن وجوههن، ولبسن ثياباً سوداً. فشبه الكواكب بوجوه الجواري السافرات، وشبه الليل في سواده بالثياب السود التي تلبسها الجواري.
أفكر في معاقرة المنايا ... وقود الخيل مشرفة الهوادي
معاقرة المنايا: أي ملازمتها. وقيل: معاقرتها: محاربتها، من العقر. والهوادي: جمع الهادية، وهي العنق. ومشرفة: نصب على الحال.
يقول: طال علي هذا الليل مما أفكر في ملازمة المنايا وممارستها في الحروب والإقدام على القتال، ولذلك أفكر في قودي الخيل إلى الحرب مشرفة الأعناق. وقيل: معناه لا أفكر في معاقرة المنايا.
زعيماً للقنا الخطي عزمي ... بسفك دم الحواضر والبوادي
زعيماً: نصب على الحال من أفكر، وذو الحال: عزمي، والعزم: هو الكفيل. والقنا: المكفول له. وسفك دماء الحواضر والبوادي: المكفول به. والمكفول عنه: هو أبو الطيب.
يقول: أفكر في حال كوني زعيماً للرماح بأن تسفك دماء الناس كلهم، أهل الحضر وأهل البدو. وعلى إضمار لا في قوله: أفكر معناه لا أفكر في معاقرة المنايا مع تكفل عزمي بسفك دم الأعداء.
إلى كم ذا التخلف والتواني؟ ... وكم هذا التمادي في التمادي؟
التمادي: هو الإفراط في الأمور، وهو من المد، أو أراد ها هنا الإفراط في تأخيرها.
يقول لنفسه: إلى كم هذا التخلف والتقصير في طلب العز، واقتناء المكارم، وإلى كم تستعمل التمادي في التقصير وتتمادى تمادياً بعد تمادٍ.
وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد
الشغل: بالفتح المصدر، وبالضم، الاسم. وها هنا بالفتح.
يقول: معاتباً لنفسه إلى كم تشغل نفسك عن طلب المعالي؛ بأن تبيع الشعر في سوق الكساد وتقتصر عليه دون ما هو أجل منه، فأنت تجيد الشعر ولا تصيب الصلة التي تستحقها بشعرك.
وما ماضي الشباب بمستردٍ ... ولا يومٌ يمر بمستعاد
يقول حاثاً لنفسه على لزوم الكائن قبل فوته: إن الشباب إذا مضى، وهو الزمان الذي لا يمكن تحمل المشاق في طلب المعالي لا يمكن رده، فكذلك اليوم الذي يمر لا يمكن إعادته! سواءٌ كان من أيام الشباب أو غيرها. وروى بمستفاد بالفاء أيضاً.
متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها ف يالسواد
عيني: رفع لأنه فاعل لحظت والهاء في وجدته: لبياض الشيب، وفي منها: للعين.
يقول: إذا رأت عيني بياض شعري، فكأنما وجدت ذلك البياض في كراهته عليها كأنه في سوادها؛ لأن البياض في سواد العين يكون عمي، وهو من أثقل الأشياء، فكذلك الشيب.
متى ازددت من بعد التناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازدياد
يقول: متى ازددت في السن، بعد تناهى الأشد وذلك أربعون سنة كانت تلك الزيادة نقصاناً، لأنه كلما ازداد السن بعد انتهاء الغاية، ازداد الجسم نقصاً، فتكون زيادتي حاصلة في نقصان سني.
أأرضى أن أعيش ولا أكافي ... على ما للأمير من الأيادي؟!
يقول: هل أرضى بملازمتي هذا التقصير والتخلف، ولا أجازي هذا الأمير على ما أسدى إلي من النعم بمدحي إياه؟!
جزى الله المسير إليه خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزاد
المزاد: جمع المزادة. يصف المشقة التي مرت عليه وعلى إبله في المسير إلى هذا الممدوح، ودل بالدعاء للمسير: على أنه لم يذكره على سبيل الشكاية، وإنما ذكره على سبيل الشكر، حيث أوصله إليه فاكتسب بسببه فخراً ومالاً وذخراً، وشبه الإبل. وهزالها بالمزاد: وهي القرب البالية، وهذا التشبيه جيد. وقيل: إنه أراد أن المسير ترك المطايا خالية من القوت واللحم، لطول سفرنا كمزادنا الخالية من الزاد، فتكون الألف واللام في المزاد دالة على الإضافة.
فلم تلق ابن إبراهيم عنسى ... وفيها قوت يومٍ للقراد
عنسى: رفع لأنها فاعلة تلق.
يقول: إن ناقتي لم تلق ابن إبراهيم، إلا بعد أن صارت من الهزال بحال لم يبق فيها من اللحم قدر ما يقتاته القراد يوماً واحداً!
ألم يك بيننا بلدٌ بعيدٌ ... فصير طوله عرض النجاد؟!
يقول: كان بيني وبين هذا الممدوح بلد بعيدٌ، فصير هذا المسير طوله الطويل، كعرض النجاد في القصر، وقربه غاية القرب. وفيه التطبيق للمبالغة في الجودة.(1/71)
وأبعد بعدنا بعد التداني ... وقرب قربنا قرب البعاد
بعدنا، وقربنا: مفعول بهما. وبعد التداني، وقرب البعاد: منصوبان على المصدر.
يقول: إن المسير أبعد بعدنا، فجعله كبعد التداني الذي كان بيننا، وكذلك قرب المسير قربنا، مثل قرب البعد الذي كان بيننا من قبل. يعني أبعد البعد وقرب القرب.
فلما جئته أعلى محلى ... وأجلسني على السبع الشداد
يقول: لما قصدته بعد هذا التعب، رفع منزلتي وأحسن جائزتي حتى إنه رفعني إلى السموات السبع وأجلسني فوقها.
تهلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ماله قبل الوساد
يقول: لقيني بطلاقة وجهه، وتبسمه، قبل أن أسلم عليه، وألقى إلي ماله قبل إلقاء الوسادة التي يجلسني فوقها.
نلومك يا علي لغير ذنبٍ ... لأنك قد زريت على العباد
يقول: يا علي، نلومك ولا ذنب لك، غير أنك قصرت وعبت على الناس بأفعالك وخصالك، فليس ذلك بذنب، وإنما هو فضلٌ منك وكرم.
وأنك لا تجود على جوادٍ ... هباتك أن يلقب بالجواد
هباتك: رفع لأنها فاعلة تجود. وتقديره: لا تجود هباتك على جواد أن يلقب كذلك بالجواد.
يقول: إن هباتك أبت أن يقلب أحدٌ بالجواد غيرك؛ لأنها فاقت هبات غيرك، حتى أخرجت جود الناس عن كونه جواداً، وهذا مثل قول بعض الشعراء:
رد معروفك الكثير قليلاً ... وأرى جودك الجواد بخيلاً
كأن سخاءك الإسلام؛ تخشى ... متى ما حلت عاقبة ارتداد
يقول: إنك من شدة مواظبتك على السخاء صار سخاؤك كالإسلام، لا تحول عنه، كما لا تحول عن الإسلام؛ خوفاً من عاقبة الارتداد؛ لأن عاقبته مذمومة، يجب على كل أحد التجنب منه؛ لأنه يلزمه في الدنيا: القتل، وفي الآخرة: العذاب الدائم. ومثله لأبي تمام.
مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهن شرائع
كأن الهام في الهيجا عيونٌ ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
يقول: كأن هام أعدائك عيونٌ، وسيوفك مضروبة من النوم، فلا يكون مسكنهاإلا في الهامات، كسكون النوم في العين.
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
روى صغت وصغت. وروى: يخطرن بالكسر أي الرماح وبالضم الهموم، يقال: خطر الرمح. ويخطر، وخطر الشيء بالقلب يخطر، كأنك قد ضربت أسنة رماحك من الهموم؛ لأن محلها القلوب، كما أن محل الهموم القلوب.
والمعنى: أن قلوب الأعداء لا تخلو من أسنة رماحك، كما لا تخلو من الأحزان والهموم.
ويوم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد
الكناية في جلبتها: للخيل ولم يجر لها ذكر، لدلالة الكلام عليه. ومعقدة السبائب: أي مضفورة الشعر للذنب.
يقول: في اليوم الذي حشرت الخيل وأتيت بها مشعثةً نواصيها معقدة أذنابها، لأنها كانت مهيأة للحرب.
وحام بها الهلاك على أناس ... لهم باللاذقية بغي عاد
الهاء في بها: للخيل، أي بسبب الخيل.
يقول: وطاف الهلاك بهذه الخيل على قوم كان لهم بغي عاد باللاذقية.
فكان الغرب بحراً من مياهٍ ... وكان الشرق بحراً من جياد
يقول: كان الأعداء بين البحرين، غريبها بحر الشام، وشرقيها بحر من جياد: وهو جيش الممدوح شبهه بالبحر لكثرته، ولبياض الحديد وبريقه فيهم وقيل: أراد بالبحر من المياه، دماء القتلى. فبين أنها لكثرتها كبحرالماء، والجانب الشرقي من عتاق الخيل.
وقد خفقت لك الرايات فيه ... فظل يموج بالبيض الحداد
الضمير في فيه: يرجع إلى البحر من جياد.
يقول: تحركت أعلامك في البحر من الجياد فكان يموج بالسيوف البيض المحددة شبه بياض السيوف بماء البحر.
لقوك بأكبد الإبل الأبايا ... فسقتهم وحد السيف حاد
الأبايا: جمع الأبية، وهي التي لا تنقاد، وتمنع أنفسها من الخطام.
يقول: إن أعداءك رأوك بأكباد غلاظ كأكباد الإبل الأبية، التي لا تنقاد لصعوبتها. فسقتهم مع غلظ أكبادهم ونحوتهم وحد سيفك حادٍ بهم وسائقهم.
وقد مزقت ثوب الغي عنهم ... وقد ألبستهم ثوب الرشاد
يقول: قاتلتهم حتى انقادوا، وكشفت عنهم ثوب الضلالة، وألبستهم ثوب الرشاد والحق، فصاروا راشدين بعد أن كانوا غاوين.
فما تركوا الإمارة لاختيارٍ ... ولا انتحلوا ودادك من وداد(1/72)
يقول: ما تركوا الإمارة اختياراً، بل غصبتهم عليها، وما ادعوا ودك من اعتقاد قلوبهم، بل نفاقاً في حبك.
ولا استفلوا لزهدٍ في التعالي ... ولا انقادوا سروراً بانقياد
يقول: ما انخفضوا لك لزهدهم في العلو، ولا انقادوا لك سروراً بالانقياد، لكنهم انقادوا خوفاً
ولكن هب خوفك في حشاهم ... هبوب الريح في رجل الجراد
يقول: هب خوفك في قلوبهم فطيرها، كما تهب الريح في قطعة من الجراد فتبددها.
وماتوا قبل موتهم فلما ... مننت أعدتهم قبل المعاد
يقول: وإنهم ماتوا خوفاً منك، ولما صاروا كالموتى، فكأنهم ماتوا قبل الموتة، حتى إذا مننت عليهم أعدتهم قبل يوم القيامة بعفوك عنهم.
غمدت صوارماً لو لم يتوبوا ... محوتهم بها محو المداد
يقول: كانوا قد ماتوا فأعدتهم قبل المعاد! بأن غمدت سيوفك عن قتلهم بها ولو لم يرجعوا عن معصيتك لمحوتهم كما ينمحي المداد من الألواح.
وما الغضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصفٍ من الكرم التلاد
يقول: إن غضبك المستحدث وإن كان قوياً فلا يؤثر في كرمك الأصلي القديم، فلا يمكنه أن يغلب كرمك المتين.
فلا تغررك ألسنةٌ موالٍ ... تقلبهن أفئدةٌ أعادي
الموالي: هم الأصدقاء، وقد راعى فيه المطابقة، وجمع التأنيث في تقلبهن للألسنة.
يقول: لا تغتر بإظهارهم لك المولاة بألسنتهم فإن ألسنتهم وأفئدتهم مضمرةٌ للعداوة، فتغلب ألسنتهم قلوبٌ مضمرة على العداوة، فلا تغتر بظاهر أحوالهم.
وكن كالموت لا يرثي لباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صادي
فاعل بكى: ضمير باكٍ.
يقول: كن كالموت لا يرحم، ولا يرق لباكٍ، يبكي من يده وفعله، ويروي الموت وهو عطشان بعد الري، فيزداد عطشاً.
فإن الجرح ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فساد
نفر الجرح: إذا تورم وظهر من أسفله فساد.
يقول حاثاً له على قتل الباقين منهم: أضمروا العداوة، ويتربصون بك الدوائر فلا تغتر بإظهارهم المودة، فإنهك كالجرح إذا كان اندماله على فساد، وغور فيه، فإنه يظهر غوره بعد حين، فكذلك حالهم معك.
وإن الماء يجري من جمادٍ ... وإن النار تخرج من زناد
أراد بالجماد: الحجر.
يقول: لا تأمن إظهار أحوالهم، فقد يجري الماء من الحجر الصلد، وكذلك النار التي تحرق كل شيء تخرج من الزناد الحديد.
وكيف يبيت مضطجعاً جبانٌ ... فرشت لجنبه شوك القتاد؟
يقول: كيف ينام عدوك وهو جبان، مضطجعاً على فراش من قتاد: يعني أن خوفك قد أثر تأثيراً به، حتى كأنه نائم على شوك القتاد، هيبةً منك، وقد يحصل من الجبان بعض أحوالٍ لا تحصل من الشجاع ضرورة خوفاً، ويجوز أن يكون توحيد الجبان لأنه أراد: أميرهم.
يرى في النوم رمحك في كلاه ... ويخشى أن يراه في السهاد
يقول: يرى هذا الجبان رمحك أصابت كلاه في نومه، فخاف أن يرى في اليقظة ما يراه في النوم، فلا يلذ له نوم أبداً، لذلك.
أشرت أبا الحسين بمدح قومٍ ... نزلت بهم فسرت بغير زاد
يقول: أشرت إلي أن أمدح قوماً نزلت بهم فما أكرموني وخرجت من عندهم بغير زاد، فهل ترى أن أمدح من هذا فعله؟!
وظنوني مدحتهم قديماً ... وأنت بما مدحتهم مرادي
كأنه قد كان قصدهم قبل قصده الممدوح، ومدحهم فلم يثيبوه شيئاً.
يقول: إنهم ظنوا أني مدحتهم، وما علموا أنك كنت أنت المقصود بذلك المدح.
وقيل: إنه مدحهم بعدما أمره به هذا الممدوح، فلم يعطوه، فقال للمدوح: أنت أمرتني بمدحهم فيجب عليك أن تخرج ثواب مدحي لهم، وكنت ضامناً وقد أخذ هذا المعنى من قول الحكمي:
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحه ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
وإني عنك بعد غدٍ لغادٍ ... وقلبي عن فنائك غير غاد
يقول: إني غادٍ عنك بعد غدٍ، وقلبي غير مرتحل عن فنائك. ومثله لأبي تمام:
مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد
محبك حيثما أتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
يقول: حيثما سرت ونزلت، فإني محبك، وحيثث كنت من البلاد فإني ضيفك، لأن عطاياك عظيمة وأياديك غير منقطعة ولا فانية. ومثله لأبي تمام قوله:
وما طوفت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي(1/73)
إلا أن بيت المتنبي أجود منه؛ لأنه دل على هذا المعنى في المصراع الأول بمعنىً آخر، وأنه لم يقتصر على الراحلة والزاد، لأن لفظ الضيف يتضمن سائر وجوه النعم والتعظيم، لأن من حكم الضيف أن يكون معظماً مكرماًن فبين أنه كذلك حيثما سار من البلاد.
وقال أيضاً يمدحه. أي يمدح علياً بن إبراهيم التنوخي:
ملث القطر! أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
الملث: الدائم القطر، والكناية في أعطشها: للربوع، وقدمها للدلالة، ونصب ربوعا على التمييز، كأنه قال: من ربوع.. والنقيع: المنقوع.
يخاطب المطر فيقول: يا دائم القطر، أعطش هذه الربوع من ربوع، ولا تسقها، وإن كنت لابد ساقيها، فاسقها السم النقيع! فإني شاكٍ منها؛ وقد بين العلة في ذلك في قوله.
أسائلها عن المتديريها ... فلا تدري ولا تذري دموعا
قوله: المتديريها: أي المقيمين بها والمتخيرين لها داراً، وكان الأصل المتدوريها، لأن الدار: أصلها دور، فهو من الواوي يقول أسائل هذه الربوع عن المقيمين فيها، فلا تدري سؤالي ولا تجيبني عنه ولا تبكي الدموع مساعدة عن بكاء الذين كانوا فيها، حزناً على خلوها منهم.
لحاها الله إلا ما ماضييها ... زمان اللهو والخود الشموعا
لحاها: أي لعنها، وأصله قشرها الله، والخود: الجارية الناعمة السهلة الخلق. والشموع: هي اللعوب المزاحة اللينة الكلام. وقيل: هي الصافية البياض.
يقول: لعن الله هذه الربوع إلا ماضيها، وهو استثناء منقطع، لكن شيئين منهما قد مضيا، فإني لا أدعو عليهما: أحدهما زمان اللهو، والثاني الخود الشموع وهي المحبوبة.
منعمةٌ، ممنعةٌ، رداحٌ ... يكلف لفظها الطير الوقوعا
الرداح: السمينة الكبيرة العجز. والوقوع: جلوس الطير.
يقول: إنها منعمة ممنوعة الوصول إليها، سمينة حسنة الصوت والمنطق، فلو سمع الطير لفظها في الهواء لسقط على الأرض، فكأن لفظها كلف الطير الوقوع على الأرض.
ترفع ثوبها الأرداف عنها ... فيبقى من وشاحيها شسوعاً
رفع الأرداف: لأنها فاعلةٌ لترفع ومفعوله الثوب. والوشاح: شيء تقلد به العروس كتقليد السيف، ويكون طرفاه مرسلين من جانبي البدن، والشسوع: مبالغة في الشاسع وشسوعا: نصب على الحال.
يقول: إن أردافها ترفع الثوب عن جسمها؛ لعظم أردافها، فيصير الثوب بعيداً عن وشاحيها وجسمها. وقد دل بذلك على دقة الخصر، لأنه لو لم يدق لم يبعد الثوب عنه، وروى: شسوعاً بالضم: وهو مصدر واقع موقع شاسع. كقولهم: صوم وعدل، وصفة الشيئين أولى؛ لأنه صفة صريحة وحقيقة، وهذا محمول عليها.
إذا ماست رأيت لها ارتجاجاً ... له، لولا سواعدها نزوعا
ماست: أي تبخترت. والارتجاج: الاضطراب. والهاء في لها: للأرداف، وفي له: للثوب. والنزوع: بمعنى النازع، وهو فاعل، من نزعت الشيء إذا جذبته عنه.
يقول: إذا تبخترت هذه المرأة في مشيها رأيت لأردافها من ثقلها اضطراباً، لولا سواعد هذه المرأة، لكان ذلك الارتجاج نازعاً لثوبها عنها، فلكون سواعدها في الكم، وإمساكها لثوبها، لم ينفصل الثوب عن البدن!!
تألم درزه والدرز لينٌ ... كما تتألم العضب الصنيعا
تألم: أصله تتألم، فحذف إحدى التاءين، وهو فعل المرأة. ولينٌ: أصله لينٌ، فخفف. والعضب: السيف القاطع. والصنيع: الذي جرد. وقيل: الذي فيه جودة الصنع.
يقول: تتألم هذه المرأة لنعومتها من درز هذا الثوب مع كون درزه ليناً، كما أنت تتألم أيها المخاطب من ضرب السيف. يعني: أن هذا القدر من الخشونة يؤثر فيها ويقع موقع ضربها بالسيف.
ذراعاها عدوا دملجيها ... يظن ضجيعها الزند الضجيعا
يقول: ذراعاها، أي ذراعا هذه المرأة لامتلائهما، كأنهما عدوا دملجيها، لأنهما يكادان أن يكسراهما؛ لامتلائهما، أو أنه لا يمكنهما أن يدورا على ذراعيها، فيكون ذراعاها قد أمسكاهما. والدملجان: قد غاصا بذراعيها، فيعادي كلٌّ منهما صاحبه. من هذا الوجه. وقيل: أراد أن دملجيها لا ينحطان عن عضديها، إلى ذراعيها، لامتلاء ذراعيها بهما ومنعهما من أن يخرجا من ذراعيها، فهما والذراعان لا يلتقيان أبداً، كالعدوين.
يقول: يظن مضاجعها أن زندها شخص واحد، قد ضاجعه لعظمه وامتلائه.(1/74)
وقيل: أراد أنها لدقة خصرها يظن المضاجع أنها زند: وهو الزند الذي يوري منه النار، والزند ينحف الخصر لكثرة القدح ووصول الحجر إليه من الجانبين، فكأنه شبهها في رقة خصرها بالزند.
كأن نقابها غيمٌ رقيقٌ ... يضيء بمنعه البدر الطلوعا
يقول: إن نقابها يشرق لإضاءة وجهها من تحته كما يشرق الغيم الرقيق من فوق القمر: الذي هو البدر. شبه نقابها بغيم رقيق، ووجها بالبدر ثم قال يضيء الغيم بسبب منعه البدر من الطلوع، ولو قال بدله الشمس لكان أبلغ.
أقول لها: اكشفي ضري. وقولي ... بأكثر من تدللها خضوعا
قوله: وقولي بأكثر، يعني بخضوع أكثر من تدللها، خضوعاً، فتكون الباء متعلقة بمحذوف، وتكون هذه الجملة خبراً لقولي، وخضوعاً نصب على الحال، تفسيرٌ للخضوع المقدر.
يقول: أقول لها في حال تضرعي وتواضعي لها: اكشفي ضري، وخضوعي في قولي هذا أكثر من تدللها علي على كثرته؛ وذلك أن الدلال يكون مع الخضوع، فكأنه يقول: إنها تتمنع وتتدلل وأنا أخضع لها وأتذلل حتى يزيد خضوعي على مالها من التدلل والتمنع، وإن كان تدللها غير متناهٍ كثيراً فخضوعي أكثر منه.
أخفت الله في إحياء نفس ... متى عصي الإله بأن أطيعا؟
يقول لها: أخفت لله تعالى في إحياء نفس على الوصال، فتكوني قد أحييته بعد الإماتة، أو يريد: إنك قد هممتي بإماتتي فكأنك خفت الله تعالى في تبقيتي على هذه الحال. وليس ذلك مما يخاف الله تعالى، بل إحياء نفس مما يتقرب به إلى الله تعالى، فكيف يعصي الإله بطاعته تعالى.
غدا بك كل خلو مستهاماً ... وأصبح كل مستور خليعا
وروى: كل خلق. والمستهام: من بلغ النهاية في الهوى. والخليع: هو المتظاهر بالهوى.
يقول: أصبح كل خلي من الهم والهاً بك متحيراً في هواك، وأصبح كل عفيف في حبك، خالعاً عذاره، ومثله:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميٌّ سافراً كان يبرق
أحبك أو يقولوا جر نملٌ ... ثبيراً وابن إبراهيم ريعا
أو ها هنا بمعنى: أن أو إلى أن أو إلا أن.
يقول لها: إني أحبك إلى أن يقولوا: جر نملٌ ثبيراً وهو الجبل. وهذا لا يكون أبدا، أو إلى أن يقال: إن ابن إبراهيم، خوف وأفزع. وهذا أيضاً غير جائز، فلا يزول حبك أبداً عني، لأن هذين أبداً لا يكونان.
بعيد الصيت منبث السرايا ... يشيب ذكره الطفل الرضيعا
يقول: إنه رفيع الشأن، متفرق العساكر في البلدان؛ لكون البلاد كلها من ممالكه، أو للإغارة على أعدائه، ويشيب ذكر شجاعته الطفل الرضيع؛ لخوفه منه، وخص الطفل؛ لبعده عن الشيب، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً ".
يغض الطرف عن مكرٍ ودهى ... كأن به وليس به خشوعا
الدهى: هو الدهاء. وخشوعاً: نصب لأنه اسم كأن. تقديره: كأن به خشوعاً، وليس أنه يغض طرفه عن مكرٍ ودهاءٍ، حتى كأنه لا يبصر شيئاً وهو مبصر، ولكن يتغافل بمكره، وهو يظن أنه خاشع البصر، وليس به خشوع لكنه يفعل مثل ذلك لدهائه.
إذا استعطيته مافي يديه ... فقدك، سألت عن سرٍّ مذيعا
فقدك: أي فحسبك، والمذيع: من عادته إفشاء السر، لأنه لا يكتمه. شبهه بمذيع السر، إذا سألوه المال. يعني: أن المذيع كما لا يكون له سر، كذلك هذا لا يثبت في يده غني.
قبولك منه منٌّ عليه ... وإلا يبتدىء يره فظيعا
منه: نصب لأنه مفعول قبولك، ومنٌّ عليه، خبر الابتداء وقبولك مبتدأ، وفظيع: أي أمر شديد منكر.
يقول: إذا قبلت بره وعطاءه فكأنك قد مننت عليه بقبولك ذلك، وإن لم يبتدىء بالنوال قبل السؤال، رأى ذلك قبيحاً منكراً. يعني: يسابقك إلى العطاء قبل الاستغناء.
لهون المال أفرشه أديماً ... وللتفريق يكره أن يضيعا
يقول: لهون المال عليه فرش تحته النطع من الأديم وصبه فوقه، لا لكرامته عليه، لأن النطع إنما يبسط لمن يضرب عنقه، ولو أراد إعزازه لجعله في الكيس، وإنما يكره أن يضيع المال، مخافة ألا يبلغ وقت تفريقه إياه، فيكره أن يضيع لأجل صرفه في مصارفه.
إذا ضرب الأمير رقاب قومٍ ... فما لكرامةٍ مد النطوعا
يقول: إن فرشه النطوع تحت المال، كما أنه إذا أراد أن يضرب رقاب قوم يلقى من تحتهم النطوع إهانةً لهم، لا إكراماً.(1/75)
فليس بواهبٍ إلا كثيراً ... وليس بقاتلٍ إلا قريعا
القريع: السيد الشريف.
يقول: إن الممدوح لا يهب إلا كثيراً، وإذا قتل، لا يقتل إلا سيداً شجاعاً كريماً مقارعاً.
وليس مؤدباً إلا بنصلٍ ... كفى الصمصامة التعب القطيعا
كفى: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما التعب، والثاني القطيع، وهو السوط. تقديره: كفى الصمصامة القطيع التعب.
يقول: إنه لا يؤدب إلا بسيف فيقيمه في التأديب مقام السوط، فيكفي السوط التعب والعناء.
عليٌّ ليس يمنع من مجيءٍ ... مبارزه ويمنعه الرجوعا
يقول: إنه لا يمنع مقاتله من المجيء إلى قتاله ونزاله، ولكنه إذا أراد أن ينصرف، منعه من الانصراف بقتله، فينتفي الرجوع.
عليٌّ قاتل البطل المفدى ... ومبدله من الزرد النجيعا
المفدى: الذي يفديه كل واحد من الناس، لشجاعته. والزرد: الدرع. والنجيع: الدم الطري. وقيل: دم الجوف.
يقول: إنه يقتل البطل الذي يفديه الناس لشجاعته، ويسلبه درعه ويلبسه بدل الدرع الدم الطري، الذي يخرج منه بالضرب والطعن.
إذا اعوج القنا في حامليه ... وجاز إلى ضلوعهم الضلوعا
في حامليه: يجوز أن يريد به، المطعونين. ومعناه: إذا صارت الرماح معوجة في المطعونين، ونفذ ذلك الرمح من ضلع إلى ضلع آخر، أي يخرج من جانب إلى جانب آخر، من هذا المطعون إلى مطعون آخر، وجواب هذا الكلام، بعد البيت الذي يليه. ويجوز أن يريد بحامليه: أعداء الحاملين للرمح. وإنما خص الرمح؛ لأن طعن الرمح أدل على الفروسية والشجاعة، لأنه يقابل مثل سلاحك.
ونالت ثأرها الأكباد منه ... فأولته اندقاقاً أو صدوعا
الهاء: في منه ترجع إلى لفظ القنا وكذلك أولته. وفي ثأرها للأكباد.
يقول: إذا اعوج القنا، وانصدع واندق في الأكباد، فكأن الأكباد نالت ثأرها من الرماح بهذا الاندقاق فأعطت الأكباد القنا اندقاقاً أو صدوعاً.
فحد في ملتقى الخيلين عنه ... وإن كنت الغضنفرة الشجيعا
إن استجرأت ترمقه بعيداً ... فأنت اسطعت شيئاً ما استطيعا
وروى: الخبعثنة فحد: أمر حاد يحيد، إذا تأخر عن المحاربة: والهاء في عنه: للممدوح، والغضنفرة: من صفات الأسد.
يقول: إذا اشتدت الحروب، واعوج القنا، ونالت الأكباد ثأرها من الرماح، فحد عنه، يا من يريد مبارزته عند التقاء الجيشين، وإن كنت أسداً شديداً شجاعاً، فإنه يقتلك لا محالة فتهلك.
وإن ماريتني فاركب حصاناً ... ومثله تخر له صريعا
أي: إن خاصمتني، أو شككت في قولي روى: حصاناً وجواداً وصريعاً نصب على الحال.
يقول: إن خاصمتني أو شككت في إخباري من حال هذا الممدوح، فاركب فرساً جواداً ومثله في قلبك نصب عينيك، وإن كان غائباً عنك فإنك تسقط من هيبته هالكا.
غمامٌ ربما مطر انتقاماً ... فأقحط ودقه البلد المريعا
البلد المريع، والممرع: هو الخصيب والمخصب وزناً ومعنى.
يقول: إنه غمام يمطر خيراً ونعمة إلا أنه ربما يمطر انتقاماً فيقحط قطره البلد الخصيب.
رآني بعد ما قطع المطايا ... تيممه وقطعت القطوعا
رأى: فعل الممدوح، وتيممه: فاعل قطع. والمطايا: مفعوله. وقطعت: فعل المطايا. والقطوع: مفعوله. وهو جمع القطع، وهو الطنفسة على ظهر البعير.
يقول: رآني الممدوح، بعد ما قطع المطايا، وأتبعها سيري إلى الممدوح وقصدي إياه، وقطعت المطايا الطنافس التي عليها؛ لطول ملازمتي لها؛ وكل ذلك لطول الطريق وبعد المسافة ومقاساة الشدائد. يذكر ذلك توصلاً إلى فضل عطاياه.
فصير سيله بلدي غديراً ... وصير خيره سنتي ربيعا
يقول: لما رآني أعطاني إعطاءً واسعاً، حتى جعل سيله بلدي غديرا: وهو مقر الماء. وصير خيره سنتي كلها ربيعاً؛ لأنه أفضل فصول السنة.
وجاودني بأن يعطي وأحوى ... فأغرق نيله أخذي سريعا
جاود: فاعل من الجود.
يقول: جاد علي بالعطاء وجدت عليه بالاحتواء والأخذ فجعل أخذه منه جوداً، لأنه كان يعد أخذه نعمة من جملة النعم عليه، فأغرق نيله وإعطاؤه أخذي بسرعة: أي لم يبلغ أخذي عطاؤه، فكأنه غرق أخذي.
أمنسي السكون وحضرموتاً ... ووالدتي وكندة والسبيعا(1/76)
يقول: يا من أنساني هذه الأماكن لجوده، وإن كانت منشأي ومألفي، ويا من أنساني والدتي فلا أشتاقها؛ لأن عطاءك شغلني عن جميع ذلك.
قد استقصيت في سلب الأعادي ... فرد لهم من السلب الهجوعا
السلب: يجوز أن يكون الشيء المسلوب، ويجوز أن يريد به: المصدر، فيجوز فيه فتح اللام وإسكانها.
يقول: قد سلبت أعداءك كل شيء حتى النوم، فرد عليهم من جملة هذا السلب النوم. يعني: أنهم من خوفهم منك أن تسلبهم نفوسهم، لا ينامون، فأمنهم ليناموا.
إذا ما لم تسر جيشاً إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
تسر: مضارع أسار يسير إسارة، وسار وهو يسير سيراً والهلوع: أسوأ الجزع.
يقول: إذ لم تسير جيشك إليهم، وتركت قتالهم فقد سيرت إلى قلوبهم الجزع والخوف، فكأنك قد سيرت إليهم الجيش؛ لأن خوفهم منك يقوم على حقهم مقام الجيش.
رضوا بك كالرضا بالشيب قسراً ... وقد وخط النواصي والفروعا
وخط: إذا ظهر واختلط البياض بالسواد، وأراد بالنواصي: شعرها. والفروع: الذوائب.
يقول: إنهم رضوا بك كارهين كرضاهم بالشيب إذا خالط شعر النواصي وسائر الفروع، فكما أن الشيب غير محبوب إلى كل أحد، فكذلك حالهم في رضاهم بك.
فلا عزلٌ وأنت بلا سلاحٍ ... لحاظك ما تكون به منيعا
العزل: هو فقد السلاح. من قولهم: رجل أعزل. وما؛ بمعنى الذي. كأنه قال: لحاظك الشيء الذي يكون به منيعاً. والهاء في به عائد إلى ما، والمنيع: الممنوع الجانب.
يقول: ليس فقدك السلاح بعزل؛ لأن لحاظك إذا نظرت إلى عدوك تغني عن السلاح، فصرت بالملاحظة منيعاً ذا سلاح.
لو استبدلت ذهنك من حسام ... قددت به المغافر والدروعا
الهاء في به: للذهن.
يقول: لو جعلت ذهنك بدلاً من سيفك، لقطعت به المغافر والدروع. يصفه بحدة الذهن وجودة الخاطر.
لو استفرغت جهدك في قتالٍ ... أتيت به على الدنيا جميعا
يقول: لو بذلت جهدك وقدرتك في القتال، لأتيت على جميع أهل الدنيا ولأفنيتهم، حتى لا تبقى الدنيا ولا أهلها.
سموت بهمةٍ تسمو فتسمو ... فما تلفي بمرتبةٍ قنوعا
التاء في تسمو الأول: للخطاب، والثاني: للهمة. أي تسمو أنت وتسمو همتك بسموك. ويجوز أن يكون: الأول للهمة، والثاني: للخطاب. أي تسمو همتك فتسمو أنت بسمو همتك. ويجوز أن يكونا للهمة أي تسمو همتك إلى درجة فما ترضى بها، فتسمو إلى ما فوقها. فما تلفى أنت أو همتك بمرتبة قنوعا، أي لا يرضى بمرتبة نالها بل يطلب فوقها.
وهبك سمحت حتى لا جوادٌ ... فكيف علوت حتى لا رفيعا؟!
الألف في رفيعا: ألف الإطلاق؛ لأن النكرة المنفية بلا تنصب بلا تنوين.
يقول: أحسب أنك بجودك علوت أقرانك حتى لا نظير لك فيه، فكيف قدرت على السمو والارتفاع حتى لا يبقى رفيع غيرك؟! وقال البخاري: يجوز أن يكون بلا من التنوين، لأن لا إذا تكررت يجوز فيها هذا الوجه نحو قولك: لا حول ولا قوة.
وقال أيضاً يمدحه أي علياً بن إبراهيم التنوخي، ويصف بحيرة طبرية:
أحق عافٍ بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهداً بها القدم
العافي: الدارس. والهمم: مبتدأ. وأحق: خبره.
يقول: إن أحق دارس بالبكاء عليه، همم الناس الدارسة، فهي أولى بالبكاء لدروسها، من الأطلال الدارسة. وقوله: أحدث شيء عهداً بها القدم: أي أنها قد تقادمت، فأحدث شيء بها القدم: أي صار أقربها عهداً قديماً. وقيل: أراد بالعافي: الطالب. والمعنى: أن الهمم أحق طالب بأن يبكى عليه. فكأنه يقول: أعرض عن البكاء على الأطلال، وابك على الهمم. وهو مأخوذ من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنه الكرم
وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عربٌ ملوكها عجم
يقول: إنما عز الناس، وهممهم بالملوك، فما تفلح العرب إذا كانت ملوكها عجم؛ لأنهم لا همم لهم، وهم إذا رضوا بذلك فقد دنوا، فلا يرجى لهم فلاح.
لا أدبٌ عندهم ولا حسبٌ ... ولا عهودٌ لهم ولا ذمم
بكل أرضٍ وطئتها أممٌ ... ترعى بعبدٍ كأنها غنم
الذمم: جمع الذمة، وهي الحرمة. يعني: أن العجم ليس لهم حرمة.(1/77)
يقول: وجدت في كل بلدٍ دخلتها أمماً أي جماعات، يلي عليهم عبد! فهم لا يأنفون عن الانقياد له، كأنهم غنم! وأراد بالعبد: العجم؛ لأنهم موالي العرب، وعبيدهم، وهم ينزلون من العرب منزلة العبيد، وفيه تعيير للعرب حيث رضوا بأن يلي عليهم العجم وانقادوا لهم.
يستخشن الخز حين يلمسه ... وكان يبري بظفره القلم
ويروى: حين يلبسه ويلمسه يصف بهذا العبد الذي صار والياً. ويقول: صار بحيث يستخشن الخز الذي هو في غاية اللين، حين يلمسه، بعد أن كان عبداً قد غلظت يداه من الكد، حتى لو أراد أن يبري بظفره القلم لبراه؛ لطول ظفره.
إني وإن لمت حاسدي فما ... أنكر أني عقوبةٌ لهم
يقول: إن كنت ألوم حسادي على حسدهم إياي، وعداوتهم لي، فإني أعلم أنهم معذورون على حسدهم لي، لأني عقوبة لهم، لما لي من الفضل والعلو، فأقتلهم غيظاً وحسداً. وقريب منه قول الآخر:
ولا خلوت الدهر من حاسدٍ ... وإنما الفاضل من يحسد
وكيف لا يحسد امرؤٌ علمٌ ... له على كل هامةٍ قدم؟!
العلم: الجبل.
يقول: كيف لا يحسد رجل مشهور بالفضل والكمال، عالي المحل، وله على كل هامة قدم، فهو أفضل من كل أحد.
يهابه أبسأ الرجال به ... وتتقي حد سيفه البهم
أبسأ الرجال: آنسهم. يقال: أبسأت به وأبهأت به إبساءً وإبهاء: إذا أنست به.
يقول: يخاف هذا الرجل آنس الرجال به، وأقربهم إليه. وتتقي: أي تحذر، من حد سيفه الشجعان.
تقديره: كيف لا يحسد امرؤ وهذه صفته؟!
كفاني الذم أنني رجلٌ ... أكرم مالٍ ملكته الكرم
فاعل كفاني: أنني، وما يتصل به. والمفعول الأول: الياء التي هي ضمير المتكلم. والمفعول الثاني: الذم.
يقول: منعني من أن أذم نفسي، فأكرم ما أملك وأدخره لنفسي، إنما هو الكرم فلا سبيل لأحد أن يذمني مع هذا الكرم.
يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم
يقول: يجلب الغنى على اللئيم، ما لا يجلب عليه الفقر؛ لأن اللئيم إذا صار غنياً يبخل فيذم، وإذا كان فقيراً لم يذمه أحد.
هم لأموالهم وليس لهم ... والعار يبقى والجرح يلتئم
يقول: إن اللئام خدم أموالهم، وعبيدهم، حتى أوقعوا أنفسهم في الهلاك بسببها، وليست الأموال لهم، لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يكتسبون بها حمداً ولا أجراً. ثم قال: والعار يبقى والجرح يلتئم: يعني أن غناءهم عارٌ عليهم، يبقى بعدهم. والجرح يلتئم: أي أن الجرح أهون من العار؛ لأن الجرح يندمل ويذهب أثره والعار يبقى على وجه الدهر.
من طلب المجد فليكن كعلي ... ىٍ يهب الألف وهو يبتسم
ويطعن الخيل كل نافذةٍ ... ليس لها من وحائها ألم
أي: كل طعنةٍ نافذةٍ، فحذفها والكناية في لها، وحائها: للطعنة والوحاء: السرعة، يمد ويقصر.
يقول: من طلب الشرف فليكن مثل هذا الممدوح، الذي يهب الألف لسائله وهو ضاحك، ويطعن أعداءه كل طعنة نافذةٍ من إحدى الجانبين إلى الجانب الآخر، ليس بهذه الطعنة ألم؛ لسرعتها وخفة يده بها. وقيل: أراد أنه يموت في الحال، فلا يحس بالألم بعد الموت.
ويعرف الأمر قبل موقعه ... فما له بعد فعله ندم
الهاء في فعله: للمدوح، أو للأمر. وروى: بعد فعلةٍ. وهي المرة الواحدة من الفعل.
يقول: إنه يعلم عواقب الأمور قبل فعلها ووقوعها، فإذا فعل أمراً لم يندم على فعله؛ لأنه لم يفعله إلا وهو عالم بعاقبته.
يمدحه بجودة الرأي وحدة الفطنة وشدة الذكاء.
والأمر والنهي والسلاهب وال ... بيض له والعبيد والحشم
السلاهب: جمع السلهب وهي الفرس الطويل. وقيل: هو الرمح الطويل. والحشم: حاشية الرجل، الذين يغضبون له، ويغضب لهم.
يقول: إن الممدوح له هذه الأشياء: من الأمر والنهي والخيل والسيف والعبيد والحواشي. وروى بدل الحشم: الخدم.
والسطوات التي سمعت بها ... تكاد منها الجبال تنقصم
يقول: للمدوح الحملات المشهورة، التي سمعت بها أيها المخاطب، كما سمع بها كل أحد، وهي التي تقرب الجبال من أن تتصدع وتتقطع، من شدتها وسطواتها.
يرعيك سمعاً فيه استماعٌ إلى الدا ... عي وفيه عن الخنا صمم(1/78)
يرعيك سمعاً أي يصغي إليك. يقال: أرعني سمعك أي استمع مني واجعل سمعك راعياً، أو مراعياً لقولي. وقيل معناه: اجعل سمعك مرعىً لكلامي ومكاناً له والداعي: أراد به الداعي حقيقة.
يقول: إنه يصغي إلى المستغيث سمعاً وعادته الإصغاء إلى كل من يدعوه، ولكنه عن الفحش والقبيح أصم: أي يعرض عنه، ولا يصغى إليه، فكأنه أصم لا يسمع ذلك.
يريك من خلقه غرائبه ... في مجده كيف يخلق النسم؟!
يريك: تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، أحدها. الكاف، والثاني غرائبه، والثالث كيف، وهو في موضع النصب، وهو في معنى يعلمك. والنسم: جمع نسمة، وهي النفس.
يقول: يريك هذا الممدوح إذا نظرت إليه وهو يخلق غرائب كرمه، ويبتدع محاسن شيمه، التي لم يسبق إليها، كيف يخلق الله الخلق على غير احتذاء ولا مثال. يعني: أنه يصطنع من أهلكه البؤس، حتى صار كالمعدوم فيحسن إليه وينعم عليه، حتى يحسن حاله؛ فكأنه أوجده بعد عدمه، فإذا رأيت ذلك، استدللت به على قدرة الله تعالى، على إيجاد الشيء بعد أن لم يكن.
ملت إلى من يكاد بينكما ... إن كنتما السائلين ينقسم
يخاطب صاحبه ويقول: عدلت إلى زيارة من لو جئتما يا صاحبي تسألانه نفسه يقسمها بينكما، فيكون نصفه مع أحدكما، ونصفه مع الآخر؛ ليبلغ كل واحد إلى أمله. وأصله قول أبي تمام:
لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
من بعد ما صيغ من مواهبه ... لمن أحب الشنوف والخدم
الشنف: ما يجعل في أعلى الأذن، والقرط: ما يجعل في أسفله. والخدم: جمع خدمة: وهي الخلخال.
يقول: لم أقصده إلا بعد أن سبقت إلي مواهبه، وأغناني بها، وصيغ لي منها لمن أحبه من امرأتي وجاريتي ومحبوبتي ومن يتصل إلى الشنوف والخلاخيل، وفي هذا إشارة إلى أنه قد أغناه بمواهبه قبل وصوله إليه؛ لأن الإنسان لا يصوغ أنواع الحلي إلا بعد الغنى والكفاف.
ما بذلت ما به يجود يدٌ ... ولا تهدي لما يقول فم
تقديره: ما بذلت يد ما به بجود، ولا يهتدي فمٌ لما يقول.
ما الأولى نافية، والثانية، والثالثة، بمعنى: الذي.
يقول منبهاً على فضله وعطاياه، وفصاحته: لم يبذل إنسيٌّ الذي يجود به هذا الممدوح، ولم يهتد فم أحد للقول الذي يقول هو، لما يختص به من زيادة الجود والفصاحة.
بنو العفرني محطة الأس ... د ولكن رماحها الأجم
العفرني: اسم من أسماء الأسد، والأنثى: عفرناة. ومحطة: جد الممدوح. وبنو: رفع بالابتداء، والعفرني: جر بالإضافة. ومحطة: بدل من العفرني، وهو في موضع الجر. والأسد: جر لأنه نعت لمحطة، وجميع ذلك كاسم واحد مبتدأ، والأسد خبر الابتداء، كما تقول: بنو أبي عبد الله حمزة الظريف، منطلقون.
يقول: إن محطة جدهم، هو الأسد، وبنوه الأسود، إذ أولاد الأسود تكون أسوداً، ثم فصل بينهم وبين الأسد الحقيقي، الذي هو من البهائم، وبين أن رماحهم قائمة لهم مقام الأجم للأسود.
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
يقول: هم قوم لا يعدون فيهم بالغاً، إلا إذا طعن من نحور الشجعان، فأما مجرد الاحتلام، في ملابسة الحروب فلا يعدونه بلوغاً. ومثله لبعض العرب:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... ولكن فتى الفتيان كل فتى بدا
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغرٌ عاذرٌ ولا هرم
يقول: إنهم عرفوا بالجود، فكأنهم ولدوا على تركة أحدهم منه، سواء كان طفلاً، أو شيخاً، فلا يعذرهم صغرهم ولا كبرهم.
إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعةً كتموا
يقول: إنهم عادوا أظهروا العداوة لقوتهم وجرأتهم، وإن أعطو أحداً، أخفوا ذلك؛ ليكون أدل على الكرم وأبعد من الامتنان.
تظن من فقدك اعتدادهم ... أنهم أنعموا وما علموا
يقول: تظن أيها المخاطب من قلة اعتدادهم بالنعم وامتنانهم بها، أنهم أنعموا غافلين، وما علموا بما أنعموا، ومثله لابن الرومي:
أيها السيد الذي لا تنفك ... ك أياديه عندنا موصولة
فهي معروفة لدينا وإن كا ... نت لديه مجحودة مجهولة
إن برقوا فالحتوف حاضرةٌ ... أو نطقوا فالصواب والحكم
برقوا: أي أوعدوا، أو برق: إذا لمع.(1/79)
يقول: إن أوعدوا أعداءهم فهلاكهم حاضر مقرون به، وإن نطقوا فجميع كلامهم صواب وحكم وقيل: أراد بقوله: برقوا، أنهم إن لمعوا في الدروع والبيض عند الحرب، قتلوا أعداءهم فيكون كقوله:
ويحمل الموت في الهيجاء إن حلو
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم: خاب سائلي القسم
اليمين الغموس: التي تغمس صاحبها في الإثم. وفي الحديث اليمين الغموس تدع الديار بلاقع ومثله للطائي:
وبلاقعاً حتى كأن قطينها ... حلفوا يميناً بالهلاك غموسا
يعني: كأن سكان الأطلال حلفوا يميناً غموساً، فعوقبوا، بكون ديارهم بلاقع.
وقولهم مبتدأ، وخاب سائلي في موضع النصب لأنهم مفعول وقع عليهم قولهم والقسم خبر الابتداء.
يقول: إنهم إذ حلفوا واجتهدوا في اليمين، فأعظم يمينهم أن يقول: خاب سائلي إن فعلت كذا. ومثله قول الآخر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
أو ركبوا الخيل غير مسرجةٍ ... فإن أفخاذهم لها حزم
يقول: إذا ركبوا الخيل غير مسرجةٍن شدوا أفخاذهم عليها فتجري أفخاذهم مجرى الحزم؛ لثباتهم في الفروسية واعتيادهم ركوب الخيل.
أو شهدوا الحرب لاقحاً أخذوا ... من مهج الدارعين ما احتكموا
اللاقح: الشديد.
يقول: إذا حضروا الحرب في حال شدتها، أخذوا من نفوس المعلمين ما احتكموا، أو أرادوا.
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
الأعراض: الأجسام وما يذكر به الرجل من مدح أو ذم.
يقول: أجسامهم ووجوههم مضيئة كشيم نفوسهم، فكأنها أخلاق أنفسهم في الإضاءة والخلوص من الشوائب. ومنه قول الآخر:
أضاءت لهم أجسامهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
لولاك لم أترك البحيرة وال ... غور دفىءٌ وماؤها شبم
البحيرة: تصغير البحر في الأصل، وإنما أنث لأنه أراد به: بحيرة الشام وطبرية، والهاء فيه لازمة له؛ لأنه اسم هذا الموضع وصار علماً كحمزة وطلحة. والغور موضع بالشام. وقيل معناه: لولاك لم أترك البحيرة ولم أترك ماءها البارد، وكذلك لم أفارق الغور؛ مع أنه مكان طيب دفىء، وإنما فارقت هذه المواضع؛ مع أنها طيبة لأجلك. وقيل: الغور موطن الممدوح فيقول: لولا قصدك لم أترك البحيرة، وهي طيبة، وماؤها عذب، ولم أقصد الغور، مع أنه دفىء خالٍ من الطيب، لكن فضلك وكرمك وحبي لك، حملني على ذلك.
والموج مثل الفحول مزبدةٌ ... تهدر فيها وما بها قطم
الموج: قد يكون واحداًن اسم للجنس، وقد يكون جمع موجة، ولهذا شبهه بالفحول، والمزبدة: التي حصل لها زبد، وهو الفقاعة التي تكون فيه، إذا ضربته الريح، وتهدر: أي تصوت، والهاء في ما بها: للموج. أنثها لتأنيث الجماعة، والقطم: شهوة الضراب. شبه موج البحيرة في اضطرابه، بالفحول إذا هاجت.
يقول: إن موجها مثل الفحول، مزبدة مصوتة، فكأنها فحول هائجة للضراب، غير أنها ليس لها شهوة الضراب.
والطير فوق الحباب تحسبها ... فرسان بلق تخونها اللجم
حباب: الماء طرائقه. وفرسان بلق: أراد به الخيل البلق، شبه بياضها ببياض الماء، وسوادها بالسواد الي يحصل من ظلمة اضطراب الموج، وشبه تصرف الموجة على غير مراد الطائر، بالخيل عند انقطاع لجمها.
يقول: إن الطير فوق حباب هذا الموج، في أنه يمضي بها يميناً وشمالاً على غير فقد منها، كأنها فرسان خيل بلق، قد خانتها اللجم بالانقطاع. شبه الزبد بالخيل البلق؛ لأنه أبيض يابس يضرب إلى الخضرة.
كأنها والرياح تضربها ... جيشا وغىً: هازمٌ ومنهزم
الهاء في كأنها: للبحيرة، أو للموج الذي هو جمع موجة، أو للطير. شبه أحد هذه الأشياء، إذا ضربتها الريح بجيشين: أحدهما هازم، والآخر منهزم.
كأنها في نهارها قمرٌ ... حف به من جنانها ظلم
شبه البحيرة وصفاء سمائها، بالقمر. وشبه الجنان، بشدة خضرتها. والمناسبة للسواد بظلم الليل. وقوله: في نهارها قمر: تشبيه بديع، وهو أن يجتمع الليل والقمر في النهار، والغرض وصف مائها بالصفاء، وبساتينها بالخضرة.
ناعمة الجسم لا عظام لها ... لها بناتٌ وما لها رحم(1/80)
يقول: هذه البحيرة ناعمة الجسم؛ لأنها ماء، ولا شيء ألين من الماء. وقوله: لها بنات. أراد به: السمك الذي فيها، وليس لها رحم، وقيل: أراد به السفن. والأول أليق.
يبقر عنهن بطنها أبداً ... وما تشكى ولا يسيل دم
يبقر: أي يشق، وعنهن: أي عن البنات. وتشكى: أصله تتشكى فحذف إحدى التاءين.
يقول: يشق بطن هذه البحيرة عن بناتها التي هي السمك، أي يصطاد منها السمك، ولا تشتكي من ذلك ولا تتألم ولا يسيل منها دم، وإن حملناها على السفن، فمعناه أي يشق بطنها عن هذه السفن، وعلى الأول قول ابن الرومي:
بنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
تغنت الطير في جوانبها ... وجادت الروض حولها الديم
جادت: مطرت عليها مطر الجود.
يقول: الطير تتغنى في جوانب هذه البحيرة، والرياض التي حولها مهتزة، والديم فاعل جادت مفعولها الروض.
فهي كماويةٍ مطوقةٍ ... جرد عنها غشاؤها الأدم
الماوية: المرآة. وغشاؤها: رفع لأنه اسم ما لم يسم فاعله. والأدم: بدل من الغشاء. شبه هذه البحيرة بالمرآة، ورياضها حولها بالطوق الذي يكون حول المرآة، وقيل شبهها في استدارتها بالمرآة، ورياضها حولها بالطوق الذي يكون حول المرآة، وقيل شبهها في استدارتها بالمرآة المطوقة. وقوله: جرد عنها غشاؤها الأدم. قيل: حشو لإتمام البيت، لا فائدة فيه. وقيل: أراد توكيد صفائها، فكأنه قال: كأنها مرآة مطوقة ساعة ما تجرد من غشائها. كما يقال: هذا ثوب حل من الورقة. وقوله الأدم: قيل مع هذا، إنه لا فائدة له. والأولى: أنه بدل.
يشينها جريها على بلدٍ ... يشينه الأدعياء والقزم
الكناية في يشينها: للبحيرة. وفي يشينه: للبلد. والقزم: سقاط الناس، ورذلهم.
يقول: ليس لهذه البحيرة عيب، غير أنها تجري في بلدٍ أهله سقاط.
فقد اشتمل البيت على مدح البحيرة ومدح البلد الذي تجري عليه، وذم أهله.
أبا الحسين استمع فمدحكم ... في الفعل قبل الكلام منتظم
يقول: إن أفعالكم تمدحكم وتثني عليكم، فمدحكم منتظم في أفعالكم، قبل مدح المادحين إياكم بالكلام والشعر. أي شيمكم تمدحكم.
وقد توالى العهاد منه لكم ... وجادت المطرة التي تسم
العهاد: مطر. جمع عهدة، والوسمى: هي المطرة في أول السنة. والهاء في منه: قيل للممدوح. وقيل للممدوح الذي جرى في البيت الذي قبله.
يقول: على الأول مخاطباً لقبيلة الممدوح، قد توالى من هذا الممدوح لكم الإحسان، وكساكم الثناء، فأحسن إليكم، وحسن حالكم به كما تحسن الأرض حين يسمها المطر بالنبات. وعلى الثاني يقول: قد توالى مدحكم كتوالي العهاد بعضها في إثر بعض، وجادت بمدحكم المطرة التي تسم الأرض بالنبات. شبه. مدحه لهم بالأمطار المتواترة.
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متهم
يقول: أعيذكم بالله من صروف الدهر، فإنكم كرام، وهو متهم بالإساءة إلى الكرام، ولا يؤمن على قصده إياكم بالمكاره.
وقال يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي:
دمعٌ جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى؟ ولا كربا
أنى: بمعنى كيف؟ أو من أين؟ وكرب: أي قارب.
يقول: دمعي جرى في ربع المحبوبة، فقضى لأهله ما وجب لهم من الحق، وشفاني من وجدي، ثم رجع عما أعطى فقال: أنى ولا كربا؟ أي كيف أنه قضى الواجب وشفى الوجد، وهو لم يفعل ذلك؟! لأنه قارب أن يفعل ما هو شفائي وقضاء بحقهم ومثله قول الآخر:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا ... من العقول وما رد الذي ذهبا
يقول: عطفنا على هذا الربع، وقد كان الفراق قد أبقى بعض عقولنا، طمعاً في أن يرده علينا فأذهب الربع هذه البقية، وما رد الذي أذهبه الفراق!
سقيته عبراتٍ ظنها مطراً ... سوائلاً من جفونٍ ظنها سحبا
فاعل ظنها في الموضعين: ضمير الربع. والهاء في الأولى: للعبرات. وفي الثانية: للجفون.
يقول: سقيت هذا الربع دموعاً سائلاتٍ من جفوني، حتى ظن الربع أن هذه العبرات مطراً، وأن جفوني سحبٌ ماطرة: وهي جمع سحاب.
دار الملم بها طيفٌ تهددني ... ليلاً فما صدقت عيني ولا كذبا
الإلمام: زيارة الطيف. والألف واللام في الملم بمعنى: التي.(1/81)
يقول: هذا الربع. دار المرأة التي ألم بها طيف خيالها، ألم بها ليلاً، ويهددني الطيف بالهجران، على ما جرت به عادة المرأة تعذب بالدلال، وتهدد بالهجران، فما صدقت عيني في الرؤيا؛ لأنها أرتني ما لا حقيقة له! ولا كذب الطيف بالتهدد؛ فإنه قال: لأهجرنك. فأصبحت والهجران واقع!
ناءيته فدنا، أدنيته فنأى ... جمشته فنبا قبلته فأبى
روى: نأيته، وأنأيتة. أي أبعدته، وروى: ناءيته: أي نأيت عنه فحذف الجر عنه والتجميش: المغازلة، فنبا: أي ارتفع وجفا.
يقول: كلما أردت من الطيف أمراً قابلني بضدة، فلما بعدت عنه، قرب مني، ولما قربته بعد، ولما غازلته ومازحته، قابلني بالجفاء، ولما قبلته، قابلني بالإباء؛ لأن خلقها لما كان لا يستمر على حال واحدة، كذلك الخيال يجري على هذا المثال. وهو كقول الشاعر:
صدت وعلمت الصدود خيالها
والأصل فيه قول الآخر:
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
هام الفؤاد بأعرابيةٍ سكنت ... بيتاً من القلب لم تمدد له طنبا
الطنب: الحبل الذي يشد به الخيمة. قوله: هام أي تحير وأصابه الجنون من العشق.
يقول: هام قلبي بأعرابية سكنت من القلب بيتاً ليس له أطناب وأوتاد، بخلاف بيوت أهل البادية. وقيل: إن معناه أنها ملكت فؤادي بلا مشقة، فكانت كمن سكن بيتاً لم يتعب في شد أطنابه.
مظلومة القد في تشبيهه غصناً ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
الضرب: العسل الثخين، وقيل: هو الشهد.
يقول: من شبه قدها بالغصن، فقد ظلمها؛ لأن قدها أحسن وأقوم، ومن شبه ريقها بالعسل، فقد ظلمها؛ لأنه أطيب وأحلى منه. وإنما قال ذلك: لأنه وضع التشبيه في غير موضعه.
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها ... وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا
ما تحت حلتها: يعني جسمها. وقوله: بيضاء إشارة إلى أنها مخدرة منعمة، لا تبرز للشمس، ولا تكد في العمل، وإشارة إلى نقائها من الدنس والريب، بل هي عفيفة ترد يد طالبها عنها.
يقول: هي تطمعك في نفسها بلين كلامها، فإذا طلبتها وجدتها أعز مطلوب. ومثله قول الآخر:
يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
كأنها الشمس، يعيى كف قابضه ... شعاعها ويراه الطرف مقتربا
يقول: كأنها من قربها وبعد منالها الشمس، فإنك ترى شعاعها قريباً منك، فإن أردت أن تقبض عليه، لم يمكنك! فكذلك هذه المرأة. ومثله قول أبو عينية:
فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ... قريب ولكن في تناولها بعد
ومثله للآخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
مرت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا؟
الشادن: الغزال إذا كبر.
يقول: مرت بنا هذه الجارية بين جاريتين متساويتين في السن حياءً من أن تمر بنا وحدها، فاستخفت بهما، فعرفتها لفضل حسنها فقلت لها: أنت غزال فكيف شابه الغزال العرب؟! أو كيف اجتمع الغزال مع العرب؟؛ لأنها غزال والتربان من العرب
فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجلٍ إذا انتسبا
فاستضحكت: أي ضحكت. والشرى: موضع ينسب إليه الأسود.
يقول: لما قلت لها، من أين جانس هذا الشادن العرب؟! ضحكت من قولي. وقالت: هذا ليس ببعيد؛ كما أن المغيث يرى كأنه ليث الشرى وهو مع ذلك من بني عجلٍ، فكذلك أنا.
جاءت بأشجع من يسمى وأسمح من ... أعطى وأبلغ من أملي ومن كتبا
التأنيث في جاءت: يرجع إلى عجل؛ لأنه قبيلة. والأولى أنه فعل الأعرابية.
يقول: جاءت هذه المرأة أو هذه القبيلة بأشجع من يدعى ويسمى من الناس وأسخاهم وأبلغهم في الإملاء والكتابة. يصفه بالشجاعة، والسخاء، والبلاغة، يداً ولساناً.
لو حل خاطره في مقعدٍ لمشى ... أو جاهلٍ لصحا أو أخرس خطبا
يقول: إن خاطره لو حل في زمن أزال عنه زمانته حتى يمشي، ولو حل في جاهل لصحا من جهله، ولو حل في أخرس لصار خطيباً بليغاً.
إذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا
يقول: إنه إذا ظهر للناس من الحجاب، حجبت عينيك هيبته فلا تقدر أن تنظر إليه لجلالته، فكأنه محتجب، وهو كما قال الفرزدق:(1/82)
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... يخضع الرقاب نواكس الأبصار
وقوله: ليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا احتجب يطلع على ما غاب من أحوال الناس فلا يخفى عنه شيء فكأنه غير محتجب.
والثاني: أنه إذا احتجب لا يمكنه ذلك، لأن نور وجهه ينم عليه ويخرق الحجاب إليه. وهي كقوله:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر
والثالث: أراد أنه ليس بشديد الاحتجاب، فمن أراد الدخول عليه لا يصعب عليه رؤيته، وإن كان محتجباً؛ لتواضعه.
بياض وجهٍ يريك الشمس حالكةً ... ودر لفظٍ يريك الدر مخشلبا
المخشلب الرديء من الدر، وقيل هو الخرز الأبيض الذي يشبه اللؤلؤ. ليس بعربي؛ لكنه. استعمله على ما جرت به عادة العامة في الاستعمال واسمه في اللغة الخضض.
يقول: لو قست الشمس إلى بياض وجهه، لرأيتها سوداء حالكة! ولو قست لفظه بالدر كان بالنسبة إليه كالرديء الذي لا قيمة له! ووصفه بغاية الحسن والفصاحة.
وسيف عزمٍ ترد السيف هبته ... رطب الغزار من التامور مختضبا
هبة السيف: حركته. وغرار السيف: ما بين حده إلى وسطه. والتامور: دم القلب.
قيل في معناه وجهان: أحدهما يقول: إن له سيف عزم متى تحرك كان أمضى من السيف، الذي هو رطب الغرار من دم القلب. والثاني: أراد أنه متى تحرك عزمه خضب سيفه من دم قلب عدوه، فكأن سيفه لا يقتل إلا عند إمضاء عزمه فيهم.
عمر العدو إذا لاقاه في رهجٍ ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
قوله: إذا وهب قال ابن جنى: يعني أنه إذا أراد أن يهب؛ لأنه إذا وهب الشيء فليس يملكه كقوله جل وعلا: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ". أي أردت قراءته.
يقول: إن عمر عدوه إذا لاقاه في الحرب، أقل من عمر ما يحويه من الال، إذا أراد هبته، فيكون عمره أقصر بقاءً من المال في يده. وقيل أراد بقوله: إذا وهب إزالة الهبة؛ لأن عمر ما يحويه لا ينقطع إلا بالهبة دون الإرادة.
توقه؛ فإذا ما شئت تبلوه ... فكن معاديه أو كن له نشبا
نصب تبلوه بإضمار أن وتقديره: أن تبلوه. فحذف أن وأبقى عملها.
يقول لصاحبه: احذر هذا الرجل؛ فإن لم تثق بقولي وأردت اختباره فكن عدوه، أو ماله، لترى ما يفعل بك من الإبادة والإفناء؛ لأن عادته إهلاك أعدائه وتفريق ماله.
تحلو مذاقته حتى إذا غضبا ... حالت فلو قطرت في الماء ما شربا
المذاقة: الذوق، ويجوز أن يكون طعم الشيء المذوق. وحالت: التأنيث للمذاقة وجعل المذاقة مما يقطر اتساعا، أي لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشرب.
يقول: هو في حال الرضى، حلو الأخلاق، فإذا تغيرت لغضبٍ عادت حلاوته مرارة، بحيث لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشربه أحد لمرارته.
وقد عيب هذا البيت من جهة التصريع لأنه لا يستعمل إلا في أول القصيدة لا في حشوها إلا عند الخروج من قصةٍ إلى قصة أخرى. وأجيب بأن هذا هو الأكثر وقد جاء مثل ذلك كما قال الآخر في أثناء التشبيب:
ألا نادٍ في آثارهن الغوانيا ... سقين سهااً ما لهن وماليا؟
وتغبط الأرض منها حيث حل به ... وتحسد الخيل منها أيها ركبا
أيها: منصوب بتحسد لا بركب لأنه صلة، والصلة لا تعمل إلا في الموصول.
يقول: إذا حل في مكان من الأرض غبطها سائر المواضع لكونه فيها؛ لما نالها من الشرف والفخر، فتتمنى سائر البقاع حصول هذا الشرف بحلوله فيها، وكذلك إذا ركب فرساً حسدته جميع الخيل لما يحصل لمركوبه من الشرف، فتتمنى أن يتحول هذا الفخر إليها بركوبه إياها. ومثله لأبي تمام:
مضى طاهر الأثواب لم تبق بقعةٌ ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
ولا يرد بفيه كف سائله ... عن نفسه ويرد الجحفل اللجبا
الجحفل: الجيش العظيم. واللجب: الشديد الصوت.
يقول: إذا جاءه السائل لا يرده بقوله ولا ينهره، وهو مع ذلك يرد الجيش العظيم بكلمة تهديد تخرج من فيه. وإنما قال: لا يرد بفية إشارة إلى أنه لا يرده خائباً بقوله: لا ولكن يرده بالعطاء. ومنه قول الآخر:
لنا جانبٌ منه دميثٌ إذا ... رامه الأعداء ممتنعٌ صعب
وكلما لقي الدينار صاحبه ... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا(1/83)
أراد: من قبل أن يصطحبا. فحذف أن وأعملها والهاء في صاحبه للدينار.
يقول: كلما لقي الدينار في ملكه ديناراً آخر مثلة وهو المراد بقوله صاحبه افترق الدينار من قبل إتمام صاحبه للصحبه بينهما: بأن يهب أحدهما لواحدٍ والآخر لآخر.
وقد عيب البيت من جهة المناقضة لأنه قال: لقي الدينار صاحبه فأثبت بينهما المصاحبة، ثم نفاها. بقوله: قبل أن يصطحبها. والجواب: أنه أراد بالاصطحاب: أي يفترقان قبل استدامة الصحبة بينهما. فلا مناقضة فيه. ومثله قول الآخر:
لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق
مالٌ كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل: هذا مجتدٍ، نعبا
نعب الغراب: إذا صاح ومد عنقه، فإن قدها قيل: نعق.
يقول: له مال كأن غراب البين ينتظره! فإذا رأى طالب المعروف نعب في ماله، فيفرق شمله، كما يفرق شمل الأحباب عند صياحه. وقيل: أراد أن الغراب لا يفتر من الصياح، فكذلك هو في العطاء.
بحرٌ عجائبه لم تبق في سمرٍ ... ولا عجائب بحرٍ بعدها عجبا
الهاء في بعدها: راجعة إلى العجائب الأولى.
يقول: هو بحر ذو عجائب، تزيد على عجائب البحر، وسائر العجائب التي تحكى في الأسمار، فلم تبق عجائبه في حديث الأسمار ولا عجائب البحار بعدها عجباً.
يعني: العجائب التي تذكر في الأسمار وعجائب البحار بالإضافة إليه كلاشيء.
لا يقنع لبن عليٍّ نيل منزلةٍ ... يشكو محاولها التقصير والتعبا
لا يقنع: أي لا يرضى، وابن عليٍّ مفعوله، والفاعل: نيل منزلة، والهاء في محاولها: للمنزلة.
يقول: إنه إذا وصل إلى منزلة صعبة يقصر عنها من يطلبها، فإنه لا يرضى بها وطلب منزلة أعلى منها، وإن كانت بحيث يشكو طالبها قصوره عنها وتعبه فيها.
هز اللواء بنو عجلٍ به فغدا ... رأساً لهم وغدا كلٌّ له ذنبا
هز: أي حرك.
يقول: إن بني عجل حركوا لواءهم بسببه ومكانه، فجعلوه أميراً لهم، فرفعوا لواءهم فوقه، فأصبح هو سيدهم، وصاروا أذناباً له وأتباعاً. وقيل: إنه أراد أنه صار الناس أذناب بني عجل بقوته، فهم سادة الناس وهو سيدهم.
التاركين من الأشياء أهونها ... والراكبين من الأشياء ما صعبا
نصب التاركين، والراكبين: على المدح كأنه قال: أمدح التاركين.
المعنى: أنهم يتركون من الأمور ما هو سهل، ويفعلون ما هو أصعب على غيرهم؛ لفضل قوتهم وشجاعتهم. وهذا من قول الآخر:
ولا يرعون أكناف الهوينى ... إذا حلوا ولا روض الهدون
مبرقعي خيلهم بالبيض متخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا
هذا أيضاً نصب على الحال، وحذف النون للإضافة. والعذبا: جمع عذبة، وهي الخرقة التي تشد على رأس الرمح.
يقول: إنهم قد برقعوا خيلهم بالسيوف؛ أي حفظوها بسيوفهم من الأعداء، فكأنهم غطوها بالسيوف، وجعلوها مكان البراقع. وقيل: أراد أنهم جعلوا برقعها سيوف الضرب بوجوهها فيقع موقع البراقع منها، وكذلك جعلوا رءوس أعدائهم الشجعان، على رماحهم، بدل الخرق التي تشد عليها. وقيل: أراد شعر الهام. ومثله قول مسلم:
تكسو السيوف نفوس الناكثين به ... وتجعل الهام تيجان القنا الذبل
إن المنية لو لاقتهم وقفت ... خرقاء تتهم الإقدام والهربا
خرقاء: أي متحيرة فزعة ولاقتهم: أي حاربتهم.
يقول: إن الموت لو لقيهم في الحرب لبقي متحيراً لا يدري القوم فلا يأمن في نفسه أحد الأمرين ومثله لأبي تمام:
شوسٌ إذا خفقت عقاب لوائهم ... ظلت قلوب الموت منهم تخفق
مراتبٌ صعدت والفكر يتبعها ... فجاز وهو على آثارها الشهبا
الشهب: الكواكب المضيئة. قوله: فجاز أي الممدوح. قيل أراد جاز هذا الممدوح على آثار هذه المراتب ولم يبلغها، وقيل الفكر على آثارها ولم يبلغها.
يقول: إن الممدوح له مراتب تصعد، والفكر من الناس يتبعها، ولم يلحقها بعد.
وقيل: أراد أن لهم مراتب تبعها الفكر ليبلغ إلى محلها، فجاز الفكر الشهب، وهو بعد في آثار تلك المراتب ولم يصل إليها!
محامدٌ نزفت شعري ليملأها ... فآل ما امتلأت منه ولا نضبا
نزفت: أي أنزفت. ونضب: أي فني من قولهم: نضب الماء. إذا جف. وقوله: ليملأها أي ليملأ شعري تلك المحامد.(1/84)
المعنى: لهذا الممدوح، أو لقومه محامدٌ ومفاخر، قد استفرغت شعري في وصفها ليملأها شعري، فآل عن أجزاء ما امتلأت المحامد منه، ولا فني شعري أيضاً فأنا أبداً أمدحهم، فلا شعري ينفد، ولا هو يبلغ كنه وصفهم.
مكارمٌ لك فت العالمين بها ... من يستطيع لأمرٍ فائتٍ طلبا
فت: أي سبقت.
يقول: لك مكارم سبقت جميع الخلق بها فلم يدركوا فيها شأوك، ولا يقدر أحد على رده ولا طلبه.
لما أقمت بأنطاكية اختلفت ... إلي بالخبر الركبان في حلبا
أنطاكية على مسيرة يومين من حلب.
يقول: لما أقمت بأنطاكية تزودت الركبان بالخبر من عندك، وأنا بحلب، فذكروا وصولهم إلى النعم الجزيلة والأيادي الجميلة.
فسرت نحوك لا ألوي على أحدٍ ... أحث راحلتي: الفقر والأدبا
نصب الفقر والأدب؛ لأنهما بدل من راحلتي.
يقول: لما عرفت الحال سرت نحوك غير ملتف إلى أحد من الناس دونك، وحثثت نحوك راحلتين: وهما الفقر والأدب، لتزيل عني الفقر وتشرفني بالإكرام لأجل الأدب.
أذاقني زمني بلوى شرقت بها ... لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
الانتحاب، والنحيب: تردد البكاء في الصدر، والهاء في بها وذاقها: للبلوى. وبكى، وعاش، وانتحب: فعل الزمن.
يقول شاكياً من زمانه: إنه أذاقني من بلاه ومحنه ما نشب في حلقي فشرقني، ولو ذاق الزمان ما أذاقني، لبكى وانتحب ما عاش!
وإن عمرت جعلت الحرب والدةً ... والسهمري أخاً والمشرفي أبا
يقول: إن طال عمري جعلت الحرب والدتي؛ فأعتني بأمرها كما يعتني الرجل بأمر والدته، والرمح أخاً والسيف أبا: يعني لازمت الحرب، والرمح والسيف، كما يقال: فلان ابن بجدة هذا الأمر، وفلان أخو فلوات، وأراد: في إدراك ثأري من الزمان وأهله.
بكل أشعث يلقى الموت مبتسما ... حتى كأن له في قتله أربا
الأرب: الحاجة. وبكل رجل أشعث: أي أغبر معاودٍ للحرب، يلقى الموت وهو ضاحك، حتى يظن أن له حاجةً في أن يقتل. والمراد بالموت: علاماته. ومثله لأبي تمام:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
قحٍّ يكاد صهيل الجرد يقذفه ... عن سرجه مرحاً بالعز أو طربا
القح: الخالص من كل شيء، والجرد: جمع أجرد، وجرداء: وهو القصير الشعر، وقيل: هو الذي يتجرد من الخيل ويسبقها.
يقول: بكل أشعث خالص في نسبه عربي يكاد يرميه صهيل الخيل عن سرجه مرحاً وشوقاً إلى الحرب، سروراً بالموت.
الموت أعذرلى، والصبر أجمل بي ... والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
يقول: إن الموت يعذرني إذا قتلت شوقاً إليه، والصبر أجمل بالحر من احتمال الضيم، والبر أوسع بمن يريد العز إن لم يكن في هذا الموضع يطلبه في موضع آخر، والدنيا لمن غلب. وجميع البيت مثل ضربه.
وقال أيضاً يمدحه ويذم الزمان:
فؤادٌ ما تسليه المدام ... وعمرٌ مثل ما يهب اللئام
فؤاد: خبر ابتداء محذوف، وتقديره: فؤادي فؤادٌ، وهذا فؤادٌ، وكذلاك في قوله: وعمرٌ. وما الأولى للنفي، والثانية: بمعنى الذي. واللئام: جمع لئيم، وهو من يجمع ثلاثة أحوال: البخل، ومهانة النفس، والدناءة في الأصل.
يصف بعد همته وعلو قدره وعزة مطلبه فيقول: إن فؤادي لا يغلبه شرب الخمر، ولا يسليه السكر عما يطلبه من الشرف والعلو، ولي عمرٌ منكدٌ منغص مثل هبة اللئيم التي تكون منغصة حقيرة؛ فلقصر عمر أخاف ألا أدرك مطلوبي وقيل غرضه في ذلك شكاية حاله، وضيق صدره، وقصر عمره، وتنغيص حياته، وإنه صار إلى حدٍّ لا يسليه الشراب. هذا مثل قصار الهمم، وإن كانوا طوال العمر.
ودهرٌ ناسه ناسٌ صغارٌ ... وإن كانت لهم جثثٌ ضخام
الجثث: جمع الجثة، وهي شخص الإنسان ما دام حياً جالساً أو نائماً، فإذا كان قائماً فهو قامة.
يذم أهل الدهر فيقول: إن الدهر دهرٌ، أو هذا دهرٌ، أهله صغار، ليس لهم همة مع عظم أجسامهم، التي هي مثل: جسم البغال وأحلام العصافير وهذا مثل.
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
الرغام والرغام: التراب.(1/85)
يقول: لست من هؤلاء الناس، وإن كنت أعيش فيما بينهم، بل جوهري يخالف جوهرهم وطباعي تنافي طباعهم، كما أن الذهب يتولد من التراب، ومع ذلك جوهره يخالف جوهر التراب. شبه نفسه بالذهب وسائر الناس بالتراب. ومثله قوله: فإن المسك بعض دم الغزال ومثله: فإن في الخمر معنىً ليس في العنب ومثله: فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
أرانب غير أنهم ملوكٌ ... مفتحةٌ عيونهم نيام
يقول: هؤلاء أرانب في الحقيقة، غير أنهم ملوك! فجعلهم أرانب، واستعار لهم اسم الملوك وهو عكس ما يقال: هم ملوكٌ في صورة الأرانب، وقد فتحوا عيونهم وهم مع ذلك كأنهم نيام لجهلهم. ومثل هذا قول الشاعر:
وخبرني البواب أنك نائم ... وأنك إذا استيقظت أيضاً فقائم
وإنما شبههم بالأرانب؛ لأنها إذا نامت لا تطبق أجفانها فشبههم بها لهذه العلة، وما لها من الضعف والخسة ودناءة الأصل والقدر، وقوله: غير أنهم ملوك أي رفع زمنهم قدرهم ودانت لهم الدنيا، والمراد به ذم الزمان وأهله.
بأجسامٍ يحر القتل فيها ... وما أقرانها إلا الطعام
يحر: من الحرارة، أي يسرع ويشتد؛ لخسة شجاعتهم.
يقول: إن هذا الدهر، أهله لشرههم بالطعام لا يموت أكثرهم إلا عن التخمة، فكأن الذين يقاتلونهم بالفراغ من الطعام لأنهم لا يموتون أكثرهم إلا بأكلها، فهي أقرانهم دون الرجال. وهذا مثل.
وخيلٍ ما يخر لها طعينٌ ... كأن قنا فوارسها ثمام
الثمام: نبتٌ ضعيف ورقه مثل خوص النخل.
يقول: إنهم لضعفهم إذا طعنوا فارساً، لا يسقط عن ظهر فرسه، فكأن رماحهم من شجر الثمام. شبهها به لضعفه وكون ورقة على شكل أسنة الرماح، فهو إشارة إلى ضعفهم وقلة شجاعتهم. وهذا مثل.
خليلك أنت لا من قلت خلى ... وإن كثر التجمل والكلام
الخليل والخل: هو الصديق. وسمي بذلك لمداخلة صديقه في جميع أموره وأحواله، ولأن حب كل واحد منهما يدخل في خلل صاحب قلبه، والتجمل: إظهار الجميل من القول وغيره.
يقول: ليس لك صديق في الحقيقة إلا نفسك، فأنت صديق نفسك، لا من تسميه خليلاً، وإن كثرت مجاملته، وأظهر لك الود بالكلام. ومثله للآخر.
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي
وهذا مثل.
ولو حيز الحفاظ بغير عقلٍ ... تجنب عنق صيقله الحسام
حيز: جمع. والحفاظ: مراعاة الحقوق والذمم. والحسام: رفع لأنه فاعل تجنب.
يقول: هؤلاء لا عقول لهم؛ فلذلك ليس لهم حفاظ بالعقل، فلو أمكن تحصيل الحفاظ من دون العقل، لتجنب السيف عنق الصيقل، الذي أرهف حده، وأظهر رونقه، وأبرز حسنه فكأنه إذا ضرب به لا يؤثر؛ لمحامات حرمته، ومراعات حقه.
وشبه الشيء منجذبٌ إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام
الطغام والطغامة: الذي ليس له معرفة.
المعنى: أن الدنيا تميل إلى الأراذل؛ لخساسة قدرها كما يميل الشبه إلى شبهه، فكما أنها رذلة خسيسة، فهي أيضاً تنجذب إلى الخساس والأراذل؛ للتجانس بينهما. وهذا أيضاً مثل.
ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحط القتام
القتام: الغبار.
يقول: لو لم يعل ولم يرتفع، إلا من له محل وقدر، لكان يجب ألا يعلو الغبار مع أنه من جنس التراب على الجيش؛ لفضلهم ومالهم من التمييز والعقل ومثله:
قالت: علا الناس إلا أنت! قلت لها: ... كذاك يسفل عند الوزن من رجحا
وهذا مثل.
ولو لم يرع إلا مستحقٌّ ... لرتبته أسامهم المسام
الرعى هنا: السياسة. والأسامة: رعى المال، يقال أسام ماله فهو مسيم والمال مسام.
يقول: لو لم يقم برعاية الناس إلا من هو مستحق له، لوجب أن تكون الرعية هي الراعي، والأمير هو المرعي؛ لأن في الرعية من هو أشرف من هؤلاء الرعاة وهذا مثل.
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياءٌ في بواطنه ظلام
خبر واختبر: بمعنى جرب. والهاء في بواطنه للضياء.
يقول: من جرب النساء وعرفهن، وعرف ظاهرهن فإنه وإن كان ضياءً فباطنه ظلام وضلال.
إذا كان الشباب السكر، والشي ... ب هماً، فالحياة هي الحمام(1/86)
يقول: إذا كان الإنسان شاباً فهو كالسكران، لكونه جاهلاً غافلاً. وفي حال المشيب في الحزن والهم والأسقام! فالحياة هي الموت في الحقيقة، إذ ليس له فيها راحة، فلا فرق بين حياته وموته، كأنه تنبيه وحث على ترك الغفلة، والنهوض لمعالي الأمور، في حال الشباب وهذا مثل أيضاً.
وما كلٌّ بمعذورٍ ببخلٍ ... وما كلٌّ على بخلٍ يلام
يعني: أن الكريم لا يعذر على بخله؛ لكرمه ولاتصال الآمال به. وإن بخل المعسر لا يلام، لأن فضله ومنزلته إنما هو بالمال. وهذا أيضاً مثل ضربه.
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
المقام: الإقامة.
يقول: لم أر من هو مثلي في الفضل، يقيم بين قوم لا يشاكلونه، لأنهم سفلة أخساء فمقامي فيما بينهم عجيب.
بأرضٍ ما اشتهيت رأيت فيها ... فليس يفوتها إلا الكرام
يقول: مقامي بأرضٍ مخصبة، فيها كل ما اشتهيت من أنواع النعم، وليس يفوت إلا الكرام تلك الأرض فإني لا أراهم فيها وإن كنت أشتهي ذلك.
فهلا كان نقص الأهل فيها ... وكان لأهلها منها التمام!
يقول: هلا كان هذا النقص الذي في أهل هذه الأرض في نفس الأرض، وكان التمام الذي فيها لأهلها، فيكون منها كرماً وفضلا.
بها الجبلان من فخرٍ وصخرٍ ... أنافا: ذا المغيث، وذا اللكام
يقول: هذه الأرض، فيها جبلان عاليان: أحدهما من فخر، وهو المغيث.
والثاني من صخر، وهو اللكام جعل الممدوح كالجبل قدراً.
وليست من مواطنه ولكن ... يمر بها كما مر الغمام
يقول: هذه الأرض ليست من مواطن المغيث؛ لخستها ودناءتها، مع شرفه وكرمه، ولكنه يمر بها ليحميها وينعم على أهلها، كما يمر الغمام بالأرض الجدبة فيحييها بالنبات. وقد استدرك ها هنا ما قال في قوله: فليس يفوتها إلا الكرام.
ثم قال: وبها الجبلان. فقال: وإن كان هذا الكريم فيها فليس هو من أهلها لأن أهلها لئام، وإنما يجتاز فيها كاجتياز السحاب.
سقى الله ابن منجبةٍ سقاني ... بدرٍّ ما لراضعه فطام
أنجبت المرأة: إذا ولدت نجيباً، فهي منجبة وابن منجبة هو الممدوح. والنجيب: الكريم السليم من العيوب.
يقول: سقى الله ابن منجبةٍ وهو الذي سقاني بدرٍّ وخير كثير، ما لراضعه فطام: أي لأن نعمته دائمة لا تنقطع، بل تتصل وتدوم.
ومن إحدى فوائده العطايا ... ومن إحدى عطاياه الدوام
روى: من وهي للممدوح وهو بدل من قوله: ابن منجبة. فتكون في موضع نصب. وروى: من فتكون للتبعيض.
يقول: له فائدة من فوائد العلا والجاه، فإذا أعطي عطية جعلها دائمة، والدوام بعض عطاياه المشكورة.
فقد خفي الزمان به علينا ... كسلك الدر يخفيه النظام
روى: به فيكون للممدوح. وروى: بها فيكون راجعاً إلى العطايا. وله معنيان: أحدهما: أن الزمان والشدائد صارت مغمورة مستورة بهذا الرجل وبعطاياه، لاشتمال هذا الرجل وعطاياه على الزمان وشدائده، فلا يظهر للزمان تأثير بالإضافة إليه وإلى عطاياه، كما أن الدر إذا نظم في السلك فإنه يخفي السلك ويستره لاشتماله عليه ولنفاسته.
والمعنى الثاني: أن قبح الزمان وخسة أهله صارت خافية بحسن كرمه وعطاياه.
يعني: أن كرمه صار جابراً لمعايب الدهر ومعايره. وهذا مثل.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
المروءة: مصدر مرؤ، كالإنسانية. والغرام: قيل هو العذاب وأصله من المشقة.
يقول: إن المروءة لذيذة له مع أنها تؤذي صاحبها؛ لما فيها من تفريق المال وتحمل المشاق، فهو يلتذ بها لعشقه لها، كما أن العاشق يتلذذ بالغرام، وما يجد من ألم الشوق وحرق الهوى. وهذا أيضاً مثل.
تعلقها هوى قيسٍ لليلى ... وواصلها فليس به سقام
يقول: عشق هذا الممدوح المروءة، كما عشق قيس بن الملوح، الملقب بالمجنون لليلى العامرية، ولكنه واصل المروءة المعشوقة، فليس لها سقام العشق. مثل ما كان لقيس في عشق ليلى؛ لأن السقام إنما يكون من الهجر وعدم الوصال، فهو لما واصلها لم يجد السقام. وهذا أيضاً مثل.
يروع ركانةً ويذوب ظرفا ... فما يدري: أشيخٌ أم غلام!(1/87)
ركانةً وظرفاً: نصب على التمييز. وقوله: أشيخ مبتدأ وخبره محذوف. وتقديره: أشيخ هو أم غلام؟ والجملة في موضع نصب بقوله: فما تدري، والركانة: الوقار والثبات.
يقول: إذا نظرت إليه راعك وقاراً وهيبة، وإذا راعيته راعك بظرفٍ وحسن خلق، فله ركانة الشيوخ وظرافة الأحداث.
وتملكه المسائل في نداه ... فأما في الجدال فما يرام
المسألة تستعمل في سؤال العطاء، وسؤال العلم، فلما أراد هاهنا سؤال العطاء، بين ما يزيل الشبهة فقال: تملكه مسائل السائلين، وإذا سألوه المال فلا يمكنه ردهم، فأما إذا سألوه مسائل العلم والجدال، فلا يرومه أحد. يمدحه بالسخاء والعلم.
وقبض نواله شرفٌ وعزٌّ ... وقبض نوال بعض القوم ذام
ويروى: وفيض نواله. وهو الأولى. والذام: العيب. يقول: أخذ نواله شرف لنا وعز، لكرمه وفضله وأخذ عطايا بعض القوم وهم سقاط: عيبٌ. ومثله:
عطاؤك زينٌ لامرىءٍ إن حبوته ... بخيرٍ وما كل العطاء يزين
أقامت في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواق والناس الحمام
الحمام: في أصل اللغة، عبارة عن كل طائر ذي طوق.
يقول: نعمه لازمة للناس، مثل الأطواق للحمام. فنعمه كالأطواق، والناس كالحمام وأخذ هذا بعض المتأخرين فقال.
ترك الناس حماما هتفاً ... بنداه تحت أطواق المنن
إذا عد الكرام فتلك عجلٌ ... كما الأنواء حين تعد عام
الأنواء: جمع نوء وهو سقوط نجم من منازل القمر في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله وذلك في كل ثلاثة عشر يوماً، وبانقضائها تنقضي السنة.
يقول: إذا عد الكرام فهم بنو عجلٍ دون غيرهم، فكأن الكرام اسم لهم خاص، كما أن الأنواء تكون عاماً، فلا عام إلا ذو أنواءٍ وما الأنواء إلا نفس العام، فكما أن الأنواء لا تنفصل عن العام، كذلك الكرم لا يزايلهم.
تقى جبهاتهم ما في ذراهم ... إذا بشفارها حمى اللطام
تقى: أي تحفظ، وتمنع. وذراهم: ناحيتهم. والشفار: جمع الشفرة، وهي حد السيف والهاء في فيها: ضمير السيوف وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: هو ضمير عجل. واللطام: كناية عن الضراب. وحمى: أي اشتد.
يقول: إن جباههم تصون وتدفع عن أموالهم وحريمهم، والحرم: المستجيرون في شدة المحاربة، وهو حين اشتداد حد السيوف للضراب.
ولو يممتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا
يقول: لو قصدتهم يوم القفيامة مجتدياً معروفهم، لأعطوك صلاتهم وصيامهم: أي ثوابها مع شدة الحاجة إلى الطاعة في ذلك اليوم واختاروا لأنفسهم النار؛ كراهة رد المستميح، إذ ليس هناك أموال. وهذا مأخوذ من قول الآخر.
ولو بذلت أمواله جود كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
ولو لم يجد في العمر قسماً لزائر ... لجاد له بالشطر من حسناته
فإن حلموا فإن الخيل فيهم ... خفافٌ والرماح بها عرام
العرام: الجهل والطيش.
يقول: إن كانوا حلموا حلم ذو رزانة وسكون، فخيلهم تخف ولا تحلم، وتسرع في العدو، وفي رماحه خفة ونزق، أي هم جهال في الحروب. ومثله للفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... ويزيد جاهلنا على الجهال
وعندهم الجفان مكللاتٌ ... وشذر الطعن والضرب التؤام
المكللات: التي أديرت عليها اللحم مثل الإكليل. وشزر الطعن: إذا كان عن يمين وشمال، وأراد بالتوام هنا: متابعة الضرب، مكان الواحد اثنان.
يقول: إنهم يقرون الضيف بالجفان المكللات باللحوم، ويطعنون أعداءهم شزراً في الحروب، ويضربونهم ضرباً متتابعاً، وهذا من قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
نصرعهم بأعيننا حياءً ... وتنبوا عن وجوههم السهام
يقول: إذا سألناهم استحيوا من نظرنا إليهم، فكأنا صرعناهم فنأخذ منهم ما نسأله، وهم في الحروب لا يؤثر السلاح في وجوههم. يصفهم بالحياء عند المسألة والوقاحة عند الحرب. وحياءٌ: نصب على التمييز. وقول ليلى الأخيلية أبلغ من هذا وهو:
فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييةٍ ... وأشجع من ليثٍ بخفان خادر
قبيلٌ يحملون من المعالي ... كما حملت من الجسد العظام(1/88)
يقول: هم جماعة يتعاونون على القيام بالمعالي، ويحملونها كما تعاونت العظام على حمل الجسد، فقوام المعالي ونظامها بهم، كما أن قوام الجسد وثباته بعظامه وهذا مثل.
قبيلٌ أنت أنت، وأنت منهم ... وجدك بشرٌ الملك الهمام
تقديره: قبيل أنت منهم، وأنت منهم، وأنت أنت.
يقول: إن بني عجل قبيلة أنت منهم، وأنت أنت: أي أنت المشهور، ولك المحل العظيم. وهذا تفخيم لشأنه، وجدك المسمى: بشرٌ، منهم، وهو الملك الهمام. أي كفاهم شرف كونك وجدك منهم.
لمن مالٌ تمزقه العطايا ... ويشرك في رغائبه الأنام؟
الرغيبة: وهي المال النفيس. والرغائب: جمع الذي يرغب فيه.
يقول: ليس مال تفرقة العطايا ويشرك جميع الخلق في رغائبه غير مالك، وهذا مفهوم من الكلام؛ لأن من يدل عليه: فعلى هذا يكون البيت مستقلاً بنفسه، ويجوز أن يكون معنى البيت الذي يليه متصلاً به، فيكون فيه معنى التضمين.
ولا ندعوك صاحبه فترضى ... لأن بصحبةٍ يجب الذمام
يقول: أنت لا ترضى بأن تدعى صاحب المال الذي وصفته، لأن الصحبة مما توجب مراعاة حقه، وذلك يمنع من تفريقه. والمعنى الثاني: لمن المال الذي تفرقه العطايا، ويشرك فيه الناس، لا يدعوك صاحبه فترضى أنت به؛ لأنك إذا أقررت بأنك صاحبه فيلزمك حفظه.
تحايده كأنك سامريٌّ ... تصافحه يدٌ فيها جذام
تحايده: أي تتجنبه وتميل عنه إلى جانب آخر. والهاء ضمير المال. وفي تصافحه: يجوز أن تكون للمال، ويجوز أن يكون للسامري. والسامري يجوز أن يكون اسم السامري المذكور في القرآن، ويجوز أن يكون منسوباً إليه. وكل اسم في آخره ياء مشددة، إذا نسب إليه حذفت الياء منه، وألحقت به ياء النسبة، كما لو نسبت إلى كرسي، قلت: رجل كرسي. والجذام: الأكلة التي تقع في اليد.
يقول: إنك تتجنب من مالك، فكأنك السامري، الذي اتخذ العجل والال بمنزلة اليد الجذماء، والسامري لا تمسه يد فكيف الجذماء! لأن الله تعالى قال في حقه " لا مساس " والأولى أن المراد به المنتسبون إليه بالشام. وهم قوم من ولده يستقذرون الناس ولا يخالطونهم تعززاً منهم، ويغسلون ثيابهم إذا أصابهم الناس فيقول: إنك تتجنب أن تمس مالك فكأنك منتسب إلى هؤلاء القوم لأن السامري إذا كان يتجنب أن تمسه اليد السليمة، كان من اليد الجذماء أشد اجتناباً. والغرض: أنه يفرق ماله.
إذا ما العالمون عروك قالوا ... أفدنا أيها الحبر الإمام
عروك: أي قصدوك، وأتوك. والحبر: العالم.
يقول: العلماء إذا سألوك عن العلم واستفادوا منك قالوا: أفدنا أيها الإمام في العلم.
إذا ما المعلمون رأوك قالوا ... بهذا يعلم الجيش اللهام
المعلم: من جعل لنفسه علامة ليعرف بها، وتلك علامة الشجعان. واللهام: هو الجيش العظيم.
يقول: إن الشجعان إذا رأوك قالوا: بهذا يعلم الجيش. أي أنه ليس فيهم أشهر منه فكأنه قال: هو علامة الجيش وزعيم الجيش وفارسه المشهور.
لقد حسنت بك الأوقات حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
وروى: في فم الزمن. يعني أن أوقات الزمان حسنت لكونك فيها، كما يحسن وجه الإنسان بالابتسام في الفم.
وأعطيت الذي لم يعط خلقٌ ... عليك صلاة ربك والسلام
يقول: إنك أعطيت ما لم يعط أحد من المخلوقين، فعليك صلاة الله تعالى، وهي الرحمة منه، وعليك سلامه، أي تحيته.
الجزء الثاني
وقال يمدح أبا الفرج أحمد بن الحسين القاضي المالكي:
لجنيةٍ أم غادةٍ رفع السجف! ... لوحشيةٍ؟ لا، ما لوحشيةٍ شنف
الشنف: ما يعلق في أعلى الأذن. والقرط ما يعلق على شحمة الأذن. والسجف: الستر، وهو جانب البيت. وقوله: لجنية أراد ألجنيةٍ؟ إلا أنه حذف ألف الاستفهام، لدلالة أم عليها يجوز أن تكون أم منقطعة، وتكون بمعنى بل وفي الكلام حذف تقديره: لجنية رفع السجف أم لغادة رفع السجف؟ فحذف من الجملة الأولى لدلالة الثانية.(1/89)
ومعنى البيت على الخبر كأنه يقول مخبراً: لجنية رفع السجف ثم أضرب وقال: بل لغادة رفع السجف. بل قال: لا يرفع هذا الستر لجنية ولا لغادة بل رفع لوحشية، ثم رد على نفسه ذلك فقال: ما رفع لوحشية إذ ليس للوحشية شنف، فكأنه نفى أن يكون تشبيهه للمحبوبة بسائر ما شبه به النساء. ومعناها على الاستفهام، أنه نظر إلى محبوبته وقد رفع عنها ستر قبتها، فحيره حسنها، فلم يدر أجنيةٌ هي؟! أم غادة ناعمة؟ فقال: هذا الستر المرفوع لجنية أو غادة أو وحشية ثم استدرك فقال لو كانت وحشية لم يكن لها شنف.
نفورٌ، عرتها نفرةٌ فتجاذبت ... سوالفها والحلى والخصر والردف
نفور: أي تنفر عن الريبة. عرتها: أي أصابتها، وغشيتها. والسالف: مقدمة صحفة العنق، وجمعها سوالف.
يقول: هذه الجارية نفور فلئن رمقن طرفاً إليها، نفرت منا، فتجاذبت هذه الأشياء، لأن سوالفها كانت ناعمة، وحليها كان ثقيلاً والخصر كان دقيقاً، والردف كان ثقيلاً وما أشبه ذلك.
وخيل منها مرطها، فكأنما ... تثنى لنا خوطٌ ولاحظنا خشف
خيل: من التخيل، وهو الاضطراب، والفساد فكأنه قال: وأفسد، وفاعله المرط: وهو كناية عن الذي تلبسه نساء العرب مكان الإزار.
يقول: لما نظرنا إليها نفرت منا فتعثرت في مرطها فاضطرب عليها ثوبها. ثم شبهها في تلك الحالة بالغصن الرطب، وبالخشف فقال: كأنما تمايل لنا مرط بانٍ؛ لاعتدالها وحسنها وكأنما لاحظنا خشفاً لحسن عينيها وروى: ولاح لنا خشف.
زيارة شيبٍ وهي نقص زيادتي ... وقوة عشق وهي من قوتي ضعف
تقديره: أمري زيادة شيب، وأمري قوة عشق. فيكون خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون تقديره: شكواي زيادة عشق. ويجوز نصبه على إضمار فعل محذوف. أي أشكو زيادة شيب، ويمكن أن يكون المضمر هي تقديره: هي زيادة شيب.
يقول: شيبني الهوى فكلما زاد شيبي زاد جسمي نقصاً، وكلما قوي عشقي، ضعفت قوتي، فالزيادة نقصان، والقوة ضعف.
هراقت دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حلف
الحف، والحليف: الصاحب المحالف الملازم.
يقول: سفكت دمي الجارية التي تحبني، مثلما أحبها، وبها من الوجد ما بي، والشوق لي ولها ملازم ومصاحب. والباء الأولى متعلقة بها، والثانية بالوجد.
ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثياباً غيرها الشعر الوحف
الشعر الوحف: هو الكثير الملتف الشديد السواد.
يقول: هراقت دمي من كلما عريتها من ثيابها، ألبسها الشعر الكثير ثياباً غير الثياب التي عريتها منها. ومثل هذا قول بكر بن النطاح.
بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم
وقابلني رمانتا غصن بانةٍ ... يميل به بدرٌ ويمسكه حقف
الحقف: الكثيب من الرمل المعرج. شبه ثدييها برمانتين وقدها بغصن البانة. وجعل الرمانتين على غصبن بانة، ليكون أعجب وأحسن؛ لأن البان لا يحمل الرمان. وشبه وجهها: بالبدر. وردفها: بالكثيب، وهذا من تمام قوله: هراقت دمي.
أكيداً لنا يا بين؟ واصلت وصلنا ... فلا دارنا تدنو ولا عيشنا يصفو
أكيداً؟ نصب على المصدر أي أتكيد كيداً.
يقول: يا بين، واصلت، وفرقت بيننا، فارتفع الوصل فكأنك كدتنا فتركتنا لا تدنو دارنا، ولا يصفو عيشنا، والكيد: اتصال الضرر بالغير من حيث لا يعلم.
أردد ويلي لو قضى الويل حاجةً ... وأكثر لهفي لو شفى غلةً لهف
روى: ويلي ولهفي على الإضافة إلى ياء المتكلم. وروى: ويلا ولهفا بالألف. وهي: إما بدل من الياء، وإما على الندبة.
ويل: دعاء للشر. واللهف: شدة الحزن. يقول: أردد هاتين الكلمتين على لساني، ومعناهما في قلبي، فلو نفع ذلك لنفعني، وقضى حاجتي، وشفى غلتي، فيكون على هذا جواب لو محذوفاً، ويجوز أن يجعل أردد فأكثر، فجواب لو تقديره: لو قضى الويل حاجةً، لكنت أردد الويل، ولو شفى اللهف غلة كنت أكثر ذكره.
ضنىً في الهوى كالسم في الشهد كامنٌ ... لذذت به جهلاً وفي اللذة الحتف
الشهد: العسل في الشمع. والضنى: الهزال والألم. والحتف: الهلاك.
يقول: الألم كامن في الهوى، كالسم إذا كمن في العسل، فيلتذ العاشق بالهوى، كالعسل الممزوج بالسم، يجد الإنسان حلاوته وفيه هلاكه.(1/90)
فأفنى، وما أفنته، نفسي كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهف
يجوز في قوله: وما أفنته نفسي. تقديران.
أحدهما: أن ينصب نفسي بالفعل الأول. تقديره. فأفنى الضنى نفسي وما أفنته، فيكون الضنى فاعله، ونفسي مفعوله.
والثاني: أن ترفع نفسي بالفعل الثاني ما أفنته وتكون التاء مخبرة لتأنيث الفعل، ليست بضمير، وتحذف المفعول من الفعل الأول وهو المختار عند البصريين، لأن إعمال الثاني أولى لقربه من الاسم.
يقول: إن الضنى أفنى نفسي وأهلكها ولم تفنه نفسي، حتى كأن هذا الممدوح كهف الضنى دون النفس، فيمنع نفسي من أن تصل إليه. والمراد: أنه كهف له، وملجأ لنفسي وكيف يقدر الهوى على إفناء نفسي؟!
قليل الكرى لو كانت البيض والقنا ... كآرائه ما أغنت البيض والزغف
البيض: الأولى السيوف، والبيض الثانية: جمع بيضة، وهي الترك. والزغف: الدروع اللينة. وقيل: هي الطويلة.
يقول: إنه قليل النوم، صلب الرأي، فلو كانت البيض والرماح مثل رأيه في المضاء لم ينفع معها المغافر والدروع. والعرب تمتدح بقلة النوم.
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف
التقطيب: تعبيس الوجه.
يقول: إنه شجاع، فصيح، فعبوس وجهه في الحرب يقوم مقام العسكر في هزم الأعداء. وحرف من لفظه، يستفاد منه ما يستفاد من اللفظ الكثير من غيره. فكأن حرفه يستغرق جميع الألفاظ!
وإن فقد الإعطاء حنت يمينه ... إليه حنين الإلف فارقه الإلف
يقول: إنه لا يفتر عن العطاء، وإذا لم يعط في حال، حنت يمينه، واشتاقت إلى الإعطاء، كما يشتاق الصديق إلى صديقه بعد فراقه.
أديبٌ رست للعلم في أرض صدره ... جبالٌ جبال الأرض في جنبها قف
فاعل رست: جبالٌ. والقف المرتفع من الأرض.
يقول: هو أديب رست في صدره جبال العلم، التي هي إذا قيست جبال الأرض إليها صغرت في جنبها، كالقف إلى جنب الجبال. شبه العلوم التي في صدره بالجبال ثم فضلها على جبال الأرض.
جوادٌ سمت في الخير والشر كفه ... سمواً أود الدهر أن اسمه كف
متعدٍّ من ود: معنا. حمل الدهر على أن يود ويتمنى، وفاعله ضمير السمو، ومفعوله الدهر، والهاء في اسمه: للدهر، وفي كفه: للممدوح.
يقول: كفه قد علت في فعل الخير والشر، والنفع والضر، سمواً يتمنى الدهر أن يكون اسمه كفاً ليشاركه في الاسم، وإن فارقه في المعنى.
وأضحى وبين الناس في كل سيدٍ ... من الناس، إلا في سيادته خلف
أي بين الناس في سيادة كل سيد خلاف، إلا في سيادته، فإن الناس اتفقوا على أنه سيد.
يفدونه حتى كأن دماءهم ... لجاري هواه في عروقهم تقفو
يقول: يفديه الناس بأنفسهم، لتمكن حبه في قلوبهم، فكأن هواه جرى في عروقهم قبل جريان الدم فيها، وكأن دماءهم تتبع ما جرى في عروقهم من المحبة قبل جريان الدماء فيها. واللام في قوله: لجاري هواه يجوز أن تكون معناه: من أجل جاري هواه في عروقهم كأنه دماء تقفو، ومفعول تقفو محذوف على هذا، وهو في وهذا لجاري، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: لجاري وهواه فيكون المفعول مقدماً على الفعل. والفعل معداً إليه باللام لتقدمه على الفعل، كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " فتقديره: تقفو الدماء جاري هواه في العروق.
وقوفين في وقفين: شكرٍ ونائلٍ ... فنائله وقفٌ، وشكرهم وقف
وقوفين قيل: نصب بإضمار فعل. أي أذكر وقوفين. وقيل: على الحال من يفدونه وقيل من قوله تقفوا وقيل من قوله: بين الناس إلا في سيادته خلف في هذا الحال. وتقديره: رأيتك راكبين، أي أنا راكب، وأنت راكب.
يقول: إن الممدوح والناس واقفين وقفاً فالممدوح واقفٌ نائله على الناس. والناس واقفون شكرهم عليه. فجعل الممدوح مقابل الناس. فنائله وقفٌ على الناس كلها، وشكرهم وقف عليه وحده.
ولما فقدنا مثله دام كشفنا ... عليه، فدام الفقد وانكشف الكشف
قال ابن جنى: عليه بمعنى: عنه والهاء فيه: تعود إلى مثله. ومعناه: إنا لما لم نجد مثله طلبناه لعلنا نجده فدام كشفنا مدةً عن مثله، ثم لما لم نجد مثله دام الفقد بعد ذلك، وانقطع الكشف، على ألا ننظر له. ويجوز أن يكون بمعنى: له. والهاء للمدوح. فكأنه يقول: دام كشفنا لمثله وباقي الكلام على وجهه.(1/91)
وما حارت الأوهام في عظم شأنه ... بأكثر مما حار في حسنه الطرف
يصفه بعظم شأنه وحسن وجهه.
يقول: ما تحيرت العقول في عظم حاله أكثر مما تحير البصر في حسن وجهه، فهما متساويان.
ولا نال من حساده الغيظ والأذى ... بأعظم مما نال من وفره العرف
الوفر: المال الكثير. والعرف: المعروف.
يقول: لم ينقص الغيظ والأذى من أبدان حساده، أكثر مما نقص الجود من ماله.
تفكره علم، ومنطقه حكمٌ ... وباطنه دين، وظاهره ظرف
الحكم: الحكمة. ومعناه ظاهر.
اعلم أن العروض الطويل إذا لم يكن مصرعاً لا يجيء إلا من مفاعلن مقبوضة فأما مفاعيلن على ما جاء في هذا، فإنما يؤتى به في المصرع فقط. والتصريع: هو إعادة القافية.
عذره من وجهين: أحدهما: أن هذا وإن كان هو الأكثر، فقد جاء في مثل هذا عن العرب، ألا ترى أن الكامل لا يكون عروضه مفعولن إلا في المصرع، وقد جاء عن العرب مفعولن في الكامل من ذلك قول ربيع بن زياد.
ومجنبات ما يذقن عدوفا ... يقذفن بالمهرات والأمهار
والثاني: أن مفاعيلن، أصل العروض الطويل، فيكون قد رجع هاهنا إلى الأصل لضرورة الشعر، لأنه إذا جاز الخروج عن أصل الكلمة للضرورة، فالرجوع إلى الأصل أولى.
وروى: ومنطقة حجا، وروى: تقى.. وهذا لا اعتراض عليه.
أمات رياح اللوم وهي عواصفٌ ... ومغنى العلا يودي ورسم الندى يعفو
المغنى: المنزل. ويودي: أي يهلك، ويدرس. والواوات للحال.
يقول: رياح اللؤم في حال عصوفها وشدتها، كاد منزل العلا يهلك بتلك الريح، ورسم الجود يعفو ويدرس بها، والمراد بها، والمراد أنه: أعاد المعالي والجود بعد ذهاب دولتها.
فلم نر قبل ابن الحسين أصابعاً ... إذا ما هطلن استحيت الديم الوطف
الديم: جمع ديمة، وهي مطر يدوم أياماً من غير ريح، ولا رعد، وأقله نصف يوم وأكثره خمسة أيام. والوطف جمع الوطفاء: وهي السحابة المتدلية الأطراف، الدانية من الأرض. وقوله: قبل ابن الحسين أراد قبل أصابع ابن الحسين، فحذف المضاف ويجوز أن يكون أخبر بالجملة عن البعض.
المعنى: أصابع هذا الرجل إذا ما هطلن بالعطايا، زادت على هطل السحاب الوطف، حتى نستحي من أصابعه.
ولا ساعياً في قلة المجد مدركاً ... بأفعاله ما ليس يدركه الوصف
يقول: ما رأينا ساعياً غاية المجد، فأدرك بفعله ما لا يدركه الوصف، إلا هذا الممدوح: فإنه أدرك من المجد ما لا يوصف.
ولم نر شيئاً يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف
العبء: الحمل الثقيل. والطرف: الفرس الكريم.
يقول: ما رأينا شخصاً يحمل المغارم، ومؤن العفاة والحلم والوقار مثل ما يحمله الممدوح. وهو مع ذلك يستصغر الدنيا لعظم همته، ومع ذلك يحمله طرف.
ولا جلس البحر المحيط لقاصدٍ ... ومن تحته فرشٌ ومن فوقه سقف
فرش: روى بالفتح وبالضم، فالفتح: مصدرٌ في معنى المفروش. والضم: جمع فراش. والبحر المحيط: هو البحر الأعظم الذي يحيط بجميع الأرض.
يقول: هو بحر؛ لكثرة جوده وما رأينا بحراً قط جالساً لقاصد، وتحته فرش وفوقه سقف.
فواعجباً مني أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيس والصحف
القرطاس: شيء يستعملونه بدل الكاغد. كان من قشورٍ بيض. والصحف: جمع صحيفة وهي الكتب.
يقول: أتعجب من نفسي حيث أطلب استيفاء وصفة في الشعر، والقراطيس، مع أن وصفه يستغرق جميع القراطيس والصحف!
ومن كثرة الأخبار عن مكرماته ... يمر له صنفٌ، ويأتي له صنف
روى: الأخبار بفتح الهمزة وكسرها، الفتح هو الجمع، والكسر مصدر أخبر.
يقول: من كثرة ذكر الممدوح في الآفاق يأتيه صنف من الناس، ويصدر عنه صنف آخر.
وتفتر منه عن خصالٍ كأنها ... ثنايا حبيبٍ لا يمل لها الرشف
تفتر فاعله ضمير الأخبار أي تنكشف من هذا الممدوح، عن خصال حميدة حلوة لا يمل ذكرها، فكأن تلك الخصال ثنايا الحبيب التي لا يمل ترشفها ومصها. يعني: أن خصاله مستطابة كاستطابة رشف المحبوب.
قصدتك والراجون قصدي إليهم ... كثيرٌ، ولكن ليس كالذنب الأنف
قصدي: في موضع نصب، لأنه مفعول، والراجون: فاعله. أي الذين يرجون قصدي إليهم كثير، ولكن أنت كالأنف، وغيرك كالذنب، وليسوا سواء. والراجون قصدي نصب على الحال.(1/92)
ولا الفضة البيضاء والتبر واحداً ... نفوعان للمكدى وبينهما صرف
واحداً نصب لأنه خبر ليس. ونفوعان: خبر ابتداء محذوف. أي هما نفوعان. والمكدى: المحروم. وهذا البيت من تمام البيت الذي قبله.
يقول: قصدتك ولو قصدت غيرك لوجدت عنده خيراً، ولكنك أكرم وأكثر عطاء من غيرك، فليس الذهب والفضة سواء وإن نفعا الطالب المحروم، ولكن أنت كالذهب وغيرك كالفضة.
ولست بدونٍ يرتجى الغيث دونه ... ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
بدونٍ: أي قليل صغير المقدار. وهو اسم يثنى ويجمع. ودونه: نصب على الظرف، وخلف. اسم غير ظرف.
يقول: لست بدون الناس فيبعد عنك العاني، ويرجو الغيث دونك أي سواك بل أنت أفضل من الغيث وأجود، ولأنت في الجود غاية ما خلفها غاية أخرى بل أنت النهاية التي ليست وراءها نهاية فكيف تقصد غيرك؟!
ولا واحداً في ذا الورى من جماعةٍ ... ولا البعض من كل ولكنك الضعف
يقول: ليس واحداً في هذا الخلق من جماعة، ولا بعضاً من جميع الناس، ولكنك مثليهم، لأن الضعف مثل الشيء مرتين.
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
ضعفه: رفع لأنه فاعل يتبع ومفعوله الضعف ويجوز على العكس من ذلك وقوله: ولا الضعف نصب لأنه معطوف على خبر ليس، ومثله: نصب لأنه صفة نكرة مقدمة عليها، فنصب على الحال، والنكرة ألف والهاء في مثله: ترجع إلى ضعف الضعف ومعناه أنه أكثر من الخلق ثناءً ألف مرة
أقاضينا! هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
يقول: إن الذي قلته أنت أهله، ثم قال: قد غلطت في ذلك، بل ما قلته ليس بثلثي ما تستحقه ولا نصفه بل هو أقل من ذلك.
وذنبي تقصيري وما جئت مادحاً ... بذنبي ولكن جئت أسأل أن تعفو
يعتذر من تأخيره الخدمة والمدح.
فيقول: ذنبي وتقصيري وما جئت مادحاً، ولكن جئت أسأل أن تعفو عن ذنبي في التقصير، وتقديره وما جئت مادحاً، بل جئت بذنبي أسأل أن تعفو ما تقدم. وقيل معناه: إني لم أقصدك مادحاً بذنبي، إني مقصر وكيف أمدحك بما يعد من ذنبي؟! وهو التقصير في مدحك، وإنما جئتك أسأل العفو عن تقصيري.
وقال يمدح علي بن منصور الحاجب ويصف جيشه
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
الشموس: رفع بالابتداء. وخبره قوله: بأبي ويدل عليه الباء. تقديره: الشموس مفدية بأبي. والجانحات: المائلات. وغواربا. نصب على الحال. والجلابب، أصلها جلابيب، فحذف الياء ضرورة. وهي جمع جلباب: وهي الملحفة. وقيل: ثوب أوسع من الخمار.
يقول: أفدي بأبي نساءً كالشموس مائلات إلى الغروب يعني أنهن تهيأن للغروب والخروج للغيبة في الهوادج، والخروج إلى المقاصد، وأنهن كن يلبسن الثياب، والملاحف من الحرير. يصف تنعمهن وغناءهن. وقيل: أراد بقوله: غوارب أنهن كن يلبسن المصبغات بالحمرة، فكن كالشمس في حمرة الشفق.
المنهبات عيوننا وقلوبنا ... وجناتهن الناهبات الناهبا
نهبت المال: أخذته وأغرت عليه. وأنهبته: أي أمكنته من نهبه وجعلته نهباً له. فنهبت: يتعدى إلى مفعول واحد. وأنهبت: إلى مفعولين، فأحد المفعولين للمنهبات. عيوننا وقلوبنا: عطف عليه. والمفعول الآخر: وجناتهن. والناهبات: صفة لوجناتهن. والناهب: مفعول الناهبات. وهذا الناهب: ينهب وجنات النساء.
يقول: إنهلن جعلن وجناتهن ناهبات لعيوننا وقلوبنا! فهذه الوجنات هي الناهبات الناهب، وهو الذي ينظر إليهن فينهبها بالنظر، والوجنات تنهب قلبه وعينه.
وقيل: أراد أنهن جعلن وجناتهن ناهبة لقلوبنا وعيوننا، فهذه الوجنات تنهب الناهب: أي الرجل الشجاع الذي يغير على الأعداء.
الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلال غرائبا
ناعمات: أي لينات المعاطف والقاتلات: أي بالهجر. والمحييات: أي بالوصل. المبديات: أي المظهرات من الدلال: وهو الغنج والتحكم. غرائبا: أي عجائب.
حاولن تفديتي وخفن مراقباً ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا
الترائب: جمع التريب، وهو موضع القلادة من الصدر.(1/93)
يقول: أردن أن يقلن: جعلنا الله فداك، فخفن من الرقيب فوضعن أيديهن على ترائبهن، فإن من أراد أن يفدي غيره وضع يده على صدره. وقيل معناه: إنهن لما منعن من التفدية، وضعن أيديهن فوق صدورهن من الحزن والوجع؛ تسكيناً لقلوبهن مما فيها من ألم الفراق.
وبسمن عن بردٍ خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
يقول: ضحكن عن ثغر مثل البرد، صفاءً ورونقاً، فخشيت أن أذيب هذا البرد من حر أنفاسي لما فيها من شدة الحزن، فكأنها النار، فكنت حينئذ أنا الذائب دون البرد، وبقي البرد عل حالة وذبت أنا.
يا حبذا المتحملون وحبذا ... وادٍ لثمت به الغزالة كاعبا
حبذا: كلمة تدل على حصول المحبة في قلب المتكلم، وهو اسم موضوع لذلك، وهو في موضع الرفع بالابتداء والمتحملون: خبره. والمنادى هو: حبذا أدخل فيه النداء تأكيداً وكأنه يقول: يا حبذا المتحملون. وقيل: المنادى محذوف. أي يا قوم حبذا المتحملون. والغزالة: اسم من أسماء الشمس. والوادي: مجرى السيل في البادية.
يقول: ما أحب إلي هؤلاء المتحملون! وما أحب إلي الوادي الذي قبلت فيه حبيبتي! فكأنني قبلت شمساً ناهدة الثديين، فلما استطاب هذا الوقت اشتاق إلى القوم الذين كانت هي فيما بينهم، وإلى الوادي الذي حصل فيه التقبيل، فكأنه يشير إلى أنه وإن منع من المحبة بخوف الرقيب اتفق له هذه الحالة المذكورة.
كيف الرجاء من الخطوب تخلصاً ... من بعد ما أنشبن في مخالبا!
تخلصاً: نصب بالرجاء لأنه مصدر، يعمل عمل الفعل، فكأنه يقول: كيف أرجو التخلص من حوادث الدهر وبلاياه، بعد أن تمكنت مني، وأدخلت في مخالبها! والتأنيث في أنشبن: للخطوب.
أوحدنني ووجدن حزناً واحدً ... متناهياً فجعلنه لي صاحبا
أوحدنني: يجوز أن يريد أن المحبوبات رحلن عني وتركنني وحيداً قريناً للحزن عليهن. ويجوز أن يكون ضمير الخطوب. أي خطوب الدهر فرقت بيني وبين أحبائي وافردتني منهم، ويجوز أن يريد: أوجدتني وحيداً، أو واحد أزماني.
يقول: إن خطوب الدهر أوجدتني على ما ذكرناه ووجدت حزناً وحيداً متناهياً في الشدة، فجعلنه لي صاحباً وقرنته بي! فأنا وحيد والحزن وحيد.
ونصبنني غرض الرماة يصيبني ... محنٌ أحد من السيوف مضاربا
يقول: إن الخطوب جعلتني هدفاً للشدائد، ورمتني بمحن تصيبني! وهي أحد من مضارب السيوف؛ لأن من أصابته السيوف ربما يبرأ، ومن أصابته المحن لا يبرأ.
أظمتني الدنيا، فلما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
أظمتني: أي أعطشتني. والأصل: أظمأتني بالهمزة. فقلبت الهمزة ألفاً، ثم حذفها لسكونا وسكون التاء بعدها.
يقول: أظمأتني الدنيا بما أصابتني من محنها، فلما سألتها أن تكشف عني بالراحة والرضا أزادتني بلاءً فأمطرت علي مصائباً.
وحبيت من خوص الركاب بأسودٍ ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
الخوص: جمع أخوص وخوصاء، وهو في البعير مثل الحول، إلا أنه أقل منه. وقيل: الخوصاء. الغائرة العين، وهو من أمارة الكرم. والدارش: ضرب من جلد الماعز، إذا كان مدبوغاً وتقديره: جئت بأسود من دارش ومن في قوله: من خوض الركاب. بمعنى: بدل. أي بدل ذلك.
يقول: أعطيت بدل الإبل، الخف والنعل الأسود، من جلد دارشٍ، فلبست ذلك، وغدوت أمشي راكباً: أي صرت راكباً عليه، وأنا ماشٍ في الحقيقة.
حالاً متى علم ابن منصورٍ بها ... جاء الزمان إلي منها تائباً
حالاً: نصب بفعل محذوف. أي أشكوا حالاً. أوأذكر حالاً. وقيل: نصب على الحال.
يقول: لي حالٌ لو علم ابن منصور بها لغيرها إلى ما هو أحسن منها. فيكون كأن الزمان ندم على إساءته إلي، وتاب منها. وقيل: أراد جاءني الزمان معتذراً مما جنى؛ لأنه يخاف أن ينتقم لي منه.
ملكٌ سنان قناته وبنانه ... يتباريان دماً وعرفاً ساكبا
يتباريان: يعارض كلٌّ منهما صاحبه. والساكب: الجاري.
يقول: إن دم أعدائه يجري من سنان قناته، مثلما يجري معروفه من بنانه، فكأن كل واحد منهما يباري صاحبه وينافسه، في أن أيهما أكثر انسكاباً. ونصب عرفاً ودماً: على التمييز.
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا(1/94)
يقول: إنه يستصغر ما يعطي القصاد من المال الكبير الخطر! حتى يظن أن دجلة مع كثرة فيضها، وغزارة مائها لا تكفي لشارب واحد.
كرماً فلو حدثته عن نفسه ... بعظيم ما صنعت لظنك كاذبا
نصب: كرماً على أنه مفعول لأجله أي يستصغره لأجل كرمه. وقيل: نصب على المصدر: أي كرم كرماً. عن ابن جنى.
يقول: إنه كريم يفعل أفعالاً عظيمة حتى لو حدثته عن أفعاله لظنك كاذباً، لعظم ما صنعت نفسه! ولا يعلم أنها صنعت ذلك؛ لاستعظامه إذا سمعه.
وهذا ليس بالمدح الجيد وهو إلى الجهل والغباوة أقرب.
سل عن شجاعته وزره مسالماً ... وحذار ثم حذار منه محاربا
حذار: أي احذر. وهو مبني على الكسر.
يقول: سل عن شجاعته لتعلم رجوليته والقه زائراً مسالماً؛ حتى تستفيد منه، واحذر أن تقصده وتجرب شجاعته مبارزاً، فإنه يهلكك ويقتلك للوقت، ولا تصل إلى مقصدك منه.
فالموت تعرف بالصفات طباعه ... لو لم تلق خلقاً ذاق موتاً آئباً
هذا تأكيد للبيت الذي قبله، ومعناه: أنه كما يموت من يحاوله، فتعرف أحوال شجاعته بالاستخبار، كما أن الموت تعرف صفاته وطباعه بالوصف لا بالتجربة، لأنك لا تلقى أحداً ذاقه ثم عاد، حتى تعرف حقيقته، فكذلك حاله والطباع: هي الطبع وهي مؤنثة. وقيل: هي جمع الطبع. وروى كالموت تعرف بالطباع صفاته أي يعرف الموت طبعاً ومشاهدة لا تجربة
إن تلقه لا تلق إلا جحفلاً ... أو قسطلاً أو طاعناً أو ضاربا
أو هارباً أو طالباً أو راغباً ... أو راهباً أو هالكاً أو نادبا
الجحفل: العسكر، وسمي به لكثرة الخيل فيه. والقسطل: الغبار. والنادب: المتفجع على أمر وقع فيه.
يقول: إذا لقيته لقيت عسكراً، أي يقوم مقام العسكر، أو يكون معه عسكر أو رأيت غباراً وطاعناً وضارباً؛ لأنه شجاع لا يكون إلا عند هذه الأمور. يجوز أن تكون هذه أحوال الممدوح أو هارباً: أي لا تلقاه إلا هارباً من قبيح، أو طالباً، لمكرمة أو راغباً إليه سفراً وحضراً، لا يفارقه السائل أو راهباً من بأسه، أو هالكاً بسيفه وسطوته، أو نادباً: أي متوجعاً ومتفجعاً؛ من إيقاعه به. وقيل نادباً: أي داعياً إلى القتال قائداً إليه من قولهم: ندبت فلاناً لهذا الأمر فانتدب.
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلاً وقواضبا
وإذا نظرت إلى السهول رأيتها ... تحت الجبال فوارساً وجنائبا
العواسل: الرماح المضطربة المهتزة. والجنائب: جمع جنيبة.
المعنى: أن عسكره ملأ السهل والجبل، فإذا نظرت إلى الجبال رأيتها فوق السهول كأنها رماح وسيوف، لكثرة ما عليها، وكأنها سترتها، فلا ترى سواها. وإذا نظرت إلى السهول قد امتلأت بفوارسه، وجنائبه، فكأنها صارت فوارس وجنائب.
وعجاجةً ترك الحديد سوادها ... زنجاً تبسم أو قذالاً شائبا
القذال: قذالان، وهما ما اكتنفنا القفا من يمين وشمال. يقول: رأيت عجاجةً. جعل سواد تلك العجاجة الحديد كأنها زنج أسود تبسم، أو قذالاً قد شاب. شبه لمعان السيوف في سواد الغبار، كتبم الزنجي حين يبدو بياض أسنانه من تحت سواده، أو بقذال قد شاب، فيلوح الشيب في وسط سواد الشعر وهو تشبيه عجيب.
فكأنما كسي النهار بها دجى ... ليلٍ وأطلعت الرماح كواكبا
روى: كسي أي ألبس. وروى: كسي أي لبس، فعلى هذا يقال: كسوته فكسي. والهاء في بها: للعجاجة.
يقول: كأن النهار بهذه العجاجة قد لبس ظلمة الليل، وكأن أسنة الرماح فيها بمنزلة الكواكب، فتكون الرماح قد أطلعت الكواكب، وهي أسنتها.
قد عسكرت معها الرزايا عسكراً ... وتكتبت فيها الرجال كتائبا
الهاء في معها وفيها: للعجاجة. وعكسرت: أي جمعت عسكراً وتكتبت: تجمعت.
يقول: قد جمعت المصائب جمع هذه العجاجة كعسكر لإهلاك أعدائه، وتجمعت في هذه العجاجة الرجال، فكانوا كتائب: أي قطعةً قطعة.
وإنما ذكر للرزايا عسكراً، وللرجال كتائب، لأن العساكر أكثر من الكتائب، فيدل على أن الرزايا أكثر على الأعداء من رجاله.
أسدٌ فرائسها الأسود يقودها ... أسدٌ يصير له الأسود ثعالبا(1/95)
يقول: هؤلاء الرجال الذين في العجاجة أسود فرائسها الأسود. شبه أعداءه بالأسود أيضاً، ثم قال: يقود هذا الأسود أسدٌ، وهو الممدوح. تصير له جميع الأسود من جيشه وجيش عدوه بمنزلة الثعالب، فلا يقومون قدامه.
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
حذف التنوين من علي وأصله: علياً الحاجب، وإنما حذفه ضرورة؛ لسكونها وسكون اللام من الحاجب وقد قرىء: " قل هو الله أحد " بحذف التنوين من أحد.
يقول: إنه من الشرف في رتبة منع الناس عن الوصول إليها، وحجبهم عن نيلها، ثم علا إلى ما هو أعلى منها؛ فسمي لذلك علياً الحاجب. فكأنه سمي علياً لعلوه، وحاجباً، لأنه حجب الناس عن رتبته.
ودعوه من فرط السخاء مبذراً ... ودعوه من غصب النفوس الغاصبا
المبذر: الذي يفسد ماله بالتفريق.
يقول: أفرط في السخاء؛ فدعي مبذراً، وأكثر من غصب نفوس الأعداء؛ فسمي غاصباً.
ومخيب العذال فيما أملوا ... منه وليس يرد كفاً خائبا
يقال خيبه: إذا قطع أمله. وذكر الكف في قوله خائباً ذهاباً بها إلى العضو. كما قال الأعشى:
يضم إلى كفيه كفاً مخضبا
والذي زاده حسناً: أن الخائب هو صاحب اليد، فالمعنى يرجع إليه.
يقول: إنه يخيب عذاله. إذا عذلوه في سخائه ولا يرد سائلاً خائباً من عطائه.
هذا الذي أفنى النضار مواهباً ... وعداه قتلاً والزمان تجاربا
النضار: بالضم الذهب، وبالكسر الجمع. وهو جمع نضر، وهو المذهب.
يقول: هذا الممدوح هو الذي أفنى جميع الذهب بالمواهب، حتى لا يوجد شيء منه إلا وهو من مواهبه، وأفنى أعداءه فلم يبق منهم أحد، ولذلك أفنى الزمان تجارباً حتى لا يوجد زمان إلا وله فيه تجربة.
هذا الذي أبصرت منه حاضراً ... مثل الذي أبصرت منه غائبا
روى: مثل رفعاً ونصباً؛ فالرفع تقديره: أن يكون هذا مبتدأ أول والذي مبتدأ ثان. ومثل خبر الذي والجملة خبر هذا. والضمير في منه: يعود إلى هذا. وتقدير النصب: أن يكون هذا مبتدأ والذي خبره ونصب مثل بأبصرت، ونصب حاضراً وغائباً على الحال من الكرم والشرف، مثل ما كنت أسمعه وأنا غائب لا كالذي يزيد.
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
يقول: هو كالبدر، فمتى التفت إليه رأيت نوراً مضيئاً منه. يعني أن عطاءه يصل إلى الحاضر والغائب، وكذلك بهاؤه واشتهاره لا يخفى على أحد.
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً ويبعث للبعيد سحائبا
يقول: هو كالبحر من حيث ينتفع به القريب والبعيد، فالقريب ينتفع بجواهره، والبعيد ينتفع بالسحائب التي تنشأ من البخار، فتحمله الريح إلى البلاد القاصية. شبهه بالبحر؛ لعموم عطاياه، وشمولها القريب والبعيد.
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كبد السماء: وسطها. يقول إن عطاياه، وبهاءه، وذكره، بلغ القاصي، والداني. كالشمس فإنها تكون في وسط السماء وشعاعها يعم الأرض شرقاً وغرباً.
أمهجن الكرماء والمزرى بهم ... وتروك كل كريم قومٍ عاتبا
هجنت الرجل: نسبته إلى الهجنة، والعيب. وأزريت: إذا قصرت. والمقصر يهم بما يظهر من كرمه وتقدمه في خصاله الحميدة، ويا من يترك كل كريم قوم عاتباً عليه، لأنهم عجزوا عن شأوك. والعتب: أول الغضب.
يقول: يا من هجن عليك، لكونك فوقهم، ويجوز أن يكونوا عاتبين على أنفسهم حيث لم يكونوا مثله.
شادوا مناقبهم وشدت مناقباً ... وجدت مناقبهم بهن مثالبا
شادوا: رفعوا. والمناقب: هي الأفعال الكريمة. والمثالب: الأفعال الذميمة.
يقول: إن مناقب الناس، إذا قيست إلى مناقبك، كانت تلك المناقب كالمخازي لهم.
لبيك غيظ الحاسدين الراتبا ... إنا لنخبر من يديك عجائبا
غيظ الحاسدين: نصب؛ لأنه منادى مضاف. ونصب الراتب؛ لأنه نعت له، والراتب: الثابت ونخبر أي نعلم، ونرى ونجرب فنعلم.
كأن الممدوح دعاه، لما انتهز بما شهر من إحسانه وفضله، أو دعاه حقيقة، فأجابه. فقال لبيك يا من تغيظ الحساد، فيبقى الغيظ في قلوبهم غير زائل عنها. إنا لنعلم ونرى عجائب من يديك ضرباً وطعناً وسجناً وكناية يعجز الناس عن بلوغه، وجعل البيت، مصرعاً؛ لأنه انتقل من المديح إلى الإجابة.(1/96)
تدبير ذي حنكٍ يفكر في غدٍ ... وهجوم غرٍّ لا يخاف عواقبا
الحنك: التجارب، ويجوز في تدبير، وهجوم: الرفع على خبر الابتداء المحذوف، كأن قائلاً قال: ما تلك العجائب؟ فقال: هي تدبير ذي حنك وهجوم غرٍّ، أو على الابتداء وحذف الخبر المقدم عليه، أي له تدبير ذي حنك. والنصب: بدلاً من عجائب. والغر: الذي لم يجرب الأمور.
يقول: له في السياسة تدبير ذي الرأي والتجربة، وفي الحروب إقدام الغر، الذي لم يجرب الأمور فلا يخشى العاقبة.
وعطاء مالٍ لو عداه طالبٌ ... أنفقته في أن تلاقي طالبا
روى: عطاء رفعاً ونصباً، على ما ذكرناه عداه: جاوزه من غير أن يأخذه.
يقول: له عطاء مال لو جاوزه طالب، لبذل ذلك المال في تحصيل من يطلبه ليأخذه.
خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا
قصر ثناي: وهي واجبه المد قصر للضرورة وما أسطيعه: أصله ما أستطيعه، فحذف استخفافاً.
يقول: خذ من ثنائي عليك ما أقدر عليه، ولا تلزمني في مدحك ما تستحقه ويجب لك فليس ذلك في وسعي ولا يجب أن يحيط به وهمي وخاطري.
فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
دهش الرجل: أي تحير، ودهشته وأدهشته: إذا حيرته.
يقول: خذ ما أقدر عليه وإلا تلزمني الواجب؛ لأني قد دهشت بما رأيت من صفاتك، وأقل ما أرى من فعلك يخير الملائكة الحفظة الكرام الكاتبين، مع قوتهم! فكيف أقدر أنا على الاستيفاء بالوصف! وكيف يحيط وصفي وعلمي بكنهك؟! وقال يمدح عمر بن سليمان الشرابي ويذكر حسن بلائه وهو يومئذ يتولى الفداء بين الروم والعرب
نرى عظماً بالصد والبين أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
الصد: الإعراض، مع قرب المسافة. والبين: البعد من حيث المسافة.
يقول: إنا نستعظم أمر الإعراض والهجر مع القرب، ولا نستعظم البين: الذي هو بعد المسافة، وهو أعظم منه، ونتهم الواشين في إظهار سرنا، والدمع من جملة الواشين؛ لأنه يفضحنا ويهتك أستارنا.
ومن لبه مع غيره كيف حاله؟ ... ومن سره في جفنه كيف يكتم؟!
يقول: من كان عقله مع غيره أي: مع المحبوبة. كيف حاله؟! لأنه إذا عدم عقله ولبه، لم يدر ما يقول ويسمع، ومن يكون سره في عينه كيف يكتمه! لأن العاشق لا يمكنه إمساك الدمع فيظهر سره بذلك.
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
الواو: في قوله: والنوى ورقيبنا: واو الحال، والجملة في موضع نصب.
يقول: لما اجتمعت أنا والمحبوبة في حال ما كان النوى والرقيب غافلين عنا، ظلت أنا أبكي وأشكو إليها ما بي من الشوق والوجد، وهي تضحك من شكواي وبكائي تعجباً من حالي، ومسرةً بما ابتليت.
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
شبهها بالبدر، وشبه نفسه بالميت. ثم ذكر متعجباً فقال: لم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها؛ لأن البدر لا يضحك، وهي بدر ضاحك، وكنت ميتاً، فلم أر قبل نفسي ميتاً يتكلم! لأني كنت أشكو إليها حالي وأتكلم به، وكنت ميتاً فالعجب من ذلك.
ظلومٌ كمتنيها لصبٍّ كخصرها ... ضعيف القوى من فعلها يتظلم
المتنان: لحمتان في الصلب، يكتنفان القفا. والخضر: معقد الإزار. والقوى: جمع القوة.
يقول: متنها قوي ممتلىء، وخصرها دقيق نحيف، فهي تظلم العشاق، كما يظلم متناها خصرها، لأنهما يكلفانها فوق طاقتها، وعاشقها ضعيف القوة كخصرها. وقوله: من فعلها يتظلم زيادة، ليس فيه كبير فائدة إلا إتمام البيت، ولو قال بدل المتن الردف لكان أولى؛ لأن المتن لا يوصف في الشعر بالعبارة والفخامة، وإنما يذكر بالاهتزاز والرشاقة، ويوصف الردف بالعظم. وهذا البيت مأخوذ من قول خالد الكاتب:
صباً كئيباً يتشكى الهوى ... كما اشتكى نصفك من نصفكا
بفرعٍ يعيد الليل والصبح نيرٌ ... ووجهٍ يعيد الصبح والليل مظلم
الباء في قوله: بفرع متعلقه بقوله ظلوم ويجوز أن يكون من الضمير الذي في ظلوم.
يقول: إنها ظلمتني حين فتنتني: بفرع أسود لو نشرته في النهار لصار ليلاً، وبوجه منير، لو أسفرت عنه ليلاً لصار نهاراً. والواو واو الحال في الموضعين.
فلو كان قلبي دارها كان خاليا ... ولكن جيش الشوق فيه عرمرم(1/97)
يقول: لو كان قلبه دارها، كان خالياً كخلوها، ولكن قلبي وإن كان جارياً مجرى دارها من حيث أنه محلها فإنه مملوء بالشوق بل جيش الشوق فيه كثير. وروى: ولو كان قلبي خالياً كان دارها، وقيل: هذا أولى. ومعناه: لو كان قلبي عامراً بالشوق لكان دارها؛ لأن جسمي ناحل مثل رسومها وفؤادي محترق كاحتراق أثافيها غير أن جيش الشوق فيه عرمرم.
أثافٍ بها ما بالفؤاد من الصلى ... ورسمٌ كجسمي ناحلٌ متهدم
الأثافي: تثقل وتخفف، وهي الأحجار التي تنصب تحت القدر. والصلى: الاحتراق.
تقدير البيت ومعناه: أثافٍ بها من الاحتراق، ما بالفؤاد من النار والشوق. ورسم تلك الدار ناحل متهدم كجسمي في نحوله.
بللت بها ردني والغيم مسعدي ... وعبرته صرفٌ وفي عبرتي دم
الردن: طرف الكم. والصرف: أي الخالص.
يقول: وقفت على آثار هذه الدار، فبكيت حتى بللت كمي من دموعي، وكان الغيم في تلك الحال يساعدني على البكاء، غير أن دمع الغيم كان صافياً لا يمازجه دم، وكان دمعي ممزوج بالدم.
ولو لم يكن ما انهل في الخد من دمي ... لما كان محمراً يسيل فأسقم
يقول: إن الذي ينصب من عيني دم؛ لأنه لو لم يكن دماً لما كان أحمر، ولم أسقم كلما سال من جفني؛ لأن الدم هو الذي يسقم إذا أفرط سيلانه، ومثله:
وليس الذي يجري من العين ماءها ... ولكنه نفسٌ تذوب فتقطر
بنفسي الخيال الزائري بعد هجعةٍ ... وقولته لي: بعدنا الغمض تطعم
يجوز في الخيال: الرفع على الابتداء، أي الخيال مفدى بنفسي. والنصب على إضمار فعل النسبة: أي أفدي الخيال. وهكذا في قوله. والألف واللام في الزائري: بمعنى الذي. أي الذي زارني بعد ما نمت نومة، وأفدي قوله معاتباً لي: بعدنا تطعم النوم، أي أن الخيال عاتبني فقال لي: كيف تنام بعد مفارقتي؟! فنفسي فداؤه لهذا القول.
سلامٌ فلولا الخوف والبخل عنده ... لقلت: أبو حفصٍ علينا المسلم
أي قال الخيال: سلام. فهو حكاية لقوله. ويجوز أن يكون أراد بالسلام: السلامة، فيكون التقدير بنفسي قوله: أتنام بعدنا؟ وأراد: أن الخيال لما رآه نائماً ولى عنه مغاضباً، فأخبر عن انصرافه بالسلام، لأن العادة أن يسلم الإنسان على صاحبه عند الانصراف، ثم استأنف وقال: فلولا الخوف والبخل عنده: أي لولا أن هذا الخيال فيه خوف وبخل، لكان يشبه الممدوح في حسنه وبهائه وطيب سلامه، فكنت أقول: إن هذا المسلم هو أبو حفص؛ وإنما قال ذلك، لأن الخوف والبخل محمودان في النساء، لأنها إذا خافت لم تقدم على ما لا يحل، وإذا بخلت حفظت ماء وجهها ومال زوجها.
محب الندى الصابي إلى بذل ماله ... صبواً كما يصبو المحب المتيم
الصابي: المائل. والمتيم: الذي استعبده الحب. والتيم: العبد.
يقول: إنه عاشق لبذل ماله، عشقاً متناهياً، كما يعشق المحب المستعبد حبيبته.
وأقسم لولا أن في كل شعرةٍ ... له ضيغماً قلنا له: أنت ضيغم
الضيغم: هو الأسد. من الضغم وهو العض يقول: لا يمكننا تشبيهه بالأسد؛ لأن كل شعرةٍ منه تقوم مقام الأسد، فلولا هذا، لقلت: إنه الأسد.
أتنقصه من حظه وهو زائدٌ! ... ونبخسه والبخس شيءٌ محرم؟!
هذا البيت تمام معنى البيت الذي قبله يقول: أتنقصه من حظة بأن تسميه أسداً، وهو زائد عليه فنكون قد بخسته حقه، والبخس أمر محرم.
يجل عن التشبيه، لا الكف لجةٌ ... ولا هو ضرغامٌ ولا الرأي مخذم
الضرغام: الأسد. والمخذم: السيف القاطع.
يقول: هو يرتفع عن التشبيه، فكفه أكثر من لجة البحر، وقلبه أجرأ من الأسد، ورأيه أمضي من السيف القاطع، والإنسان يشبه في سخائه بالبحر، وفي شجاعته بالأسد، وفي مضائه بالسيف.
ولا جرحه يوسى، ولا غوره يرى ... ولا حده ينبو، ولا يتثلم
يقول: لا يداوي جرحه، ولا يرى غوره: أي لا تعلم كنه صفاته وحقيقة أمره، ولا ينبو حده، فجعل له حداً لمضائه، وجعل ذلك الحد لا ينبو عن الضريبة، بخلاف حد السيف، فإنه قد ينبو ولا يعمل، وقد يتثلم وينكر، وهذا لا ينكر ولا يتثلم.
ولا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم(1/98)
أظهر التضعيف في حاللٌ ويحلل: للضرورة، والأصل في القياس الإدغام: يعني أنه إذا أحكم أمراً، لا يقدر أحد على حله، وإذا حل أمراً، لا يحكمه أحد.
ولا يرمح الأذيال من جبريةٍ ... ولا يخدم الدنيا، وإياه تخدم
لا يرمح الأذيال: أي لا يضربها برجله. وروى: ولا يسحب الأذيال.
يقول: إنه متواضع لا يسحب ذيله من التجبر والخيلاء، وأنه زاهد في الدنيا، تارك لها ولا يخدمها وهي تخدمه، مقبلة عليه جارية تحت أمره، منقادة إليه.
ولا يشتهي يبقى وتفنى هباته ... ولا يسلم الأعداء منه ويسلم
يقول: إنه لا يحب البقاء في الدنيا إلا للأفضال على الأولياء، وكذلك لا يحب أن يسلم أعداؤه ويسلم هو، بل يجب الانتقام منهم.
ألذ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسرٍ تلقاه معدم
الصهباء: الخمر البيضاء، المعصورة من العنب الأبيض.
يقول: ذكره؛ لتضمنه المحاسن، ألذ من الخمر الممزوج بالماء. وإنما قال ذلك؛ لأنها إذا مزجت بالماء كانت ألذ طعماً وأضعف سورة، وأحسن من الغنى بعد الفقر!
وأغرب من عنقاء في الطير شكله ... وأعوز من مسترفدٍ منه يحرم
العنقاء: اسم على غير مسمى، والعرب تزعم أنه طائر عظيم في عنقه بياض، وأنه بحيث لا يراه أحد، ولا يصل إليه. وقيل: إنه طائر ذهب فلم يبق في أيدي الناس غير اسمه. وإنما سمي عنقاء، لأن في عنقه بياض كالطوق. ويضرب المثل بالعنقاء في الشيء الذي لا يوصل إليه، فيقال: طارت به العنقاء وهو أعز وأغرب من العنقاء، ويقال له: عنقاء مغرب إضافة، وصفة، وإغرابها العادي: ذهابها في الطيران. والأعواز، والعوز: عدم الشيء.
يقول: مثل الممدوح في الناس أعز وجوداً، وأغرب من هذا الطائر الذي ليس له وجود، كذلك مثله أقل وجوداً من رجل يطلب عطاءه ورفده فيحرمه ويمنعه
وأكثر من بعد الأيادي أيادياً ... من القطر بعد القطر والوبل مثجم
مثجم: من أثجمت السماء، إذا دام مطرها. وأياديا: نصب على التمييز.
يقول: هو أكثر أيادياً بعد الأيادي من تتابع القطر في الوبل الدائم.
سني العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللوم آلى أنه لا تهوم
التهويم: اختلاس أدنى النوم.
يقول: إنه كريم جواد، فلو ظن أن نومة يدنيه من البخل، حلف عليه ألا ينام، مع أنه شيء لا يقدر عليه.
ولو قال: هاتوا درهماً لم أجد به ... على سائل أعيا على الناس درهم
يقول: إن جميع ما في أيدي الناس من هباته، فلو طلب درهماً واحداً ليس من عطاياه لأعيا على الناس ذلك، لأنه لم يوجد ما ليس من مواهبه.
ولو ضر مرءاً قلبه ما يسره ... لأثر فيه بأسه والتكرم
الهاء في قلبه: للممدوح، وفي يسره للمرء.
يقول: إنه يسر بما فيه من البأس والشجاعة، فلو كان إنسان يضره ما يسره، لكان هذا الممدوح يضره بأسه وكرمه.
يروي بكالفرصاد في كل غارةٍ ... يتامى من الأغماد بيضاً ويوتم
الفرصاد: التوت وقوله: بكالفرصاد: أراد بدمٍ كالفرصاد حمرةً. وأراد باليتامى: سيوفاً فارقت أغمادها فصارت كاليتامى، وقيل: إنما قال ذلك؛ لأن أجفانها كسرت وفللت كأنها اليتامى.
يقول: يروى سيوفه عند كل غارة بدم الأعداء، وإنه يؤتم أولاد من قتله بهذه اليتامى التي هي السيوف، وقد روى: من الأغماد تنضى: أي تجرد.
إلى اليوم ماحط الفداء سروجه ... مذ الغزو سارٍ مسرج الخيل ملجم
الغزو: رفع: بالابتداء وخبره محذوف أي هذا الغزو واقع وكائن، لم يحط الفداء، والسعي بين العرب والروم بالصلح سروجه، من وقت الغزو إلى اليوم، فهو يسعى في ذلك، مسرجٌ خيله وملجم لها. ونسب الفعل إلى الفداء لأنه كان بسببه.
يشق بلاد الروم والنقع أبلقٌ ... بأسيافه والجو بالنقع أدهم
النقع: الغبار، وصفه بأنه أبلق، لبرق الحديد في خلاله، فقد اجتمع فيه السواد والبياض.
المعنى: أنه يقطع بلاد الروم وقد اسود الجو من غبار خيله، وبياض السيوف يلمع من خلال الغبار، فالجو أدهم: أي اسود بالغبار، والغبار أبلق بالسيوف، فأعلى الجو أسود، وأسفله بالسيوف أبلق.
إلى الملك الطاغي فكم من كتيبةٍ ... تساير منه حتفها وهي تعلم(1/99)
إلى: يتعلق بقوله: يشق بلاد الروم إلى الملك الطاغي وهو ملك الروم، جعله طاغياً لكفره. والهاء في منه للممدوح، وفي حتفها للكتيبة.
يقول: هو يشق بلاد الروم إلى الملك الكافر، فكم من كتيبة لملك الروم تساير حول هذا الممدوح ومنه هلاكها، وهي تعلم ذلك لأنه كان يغير عليهم.
ومن عاتقٍ نصرانهٍ برزت له ... أسيلة خدٍّ عن قليلٍ ستلطم
العاتق: البكر. ونصرانة. أي نصرانية وروى عنه أنه قال: ربما أنشدت وعذراء نصرانية برزت له: أي لهذا الممدوح. للنظر إليه عند دخوله البلد، وقيل: بروزها هو خروجها مع الرجال إلى المعركة، وقيل: هو مفارقها.
يقول: كم من جاريةٍ عذراء نصرانية وضعت خوفاً من عسكره. وقوله: عن قليل ستلطم: يعني أنه يعاود الغزو فيقتل رجالها فتلطم وجهها، أو تسبى فتلطم عند السبي.
صفوفاً لليثٍ في ليوث حصونها ... متون المذاكي والوشيج المقوم
المذاكى: الخيل التي نمت أسنانها الواحد مذكى. والوشيج: الرماح، سمى به لتداخله. والمواشجة: المداخلة. وصفوفاً: نصب على الحال من عاتق وهي في معنى الجمع، لأن كم تدل على الكثرة. وقيل: هو حال من الكتيبة. أي أتت الكتائب حوله صفوفاً.
يقول: إن الكتيبة تساير هذا الممدوح صفوفاً، والعواتق وقفن صفوفاً، ينظرن إلى قائدٍ كأنه أسد في خيل كأنهم أسود، حصونها متون الأفراس، وأطراف الرماح، لا كالروم الذين يتحصنون بحصون المدر والأحجار. ومنه قول الآخر وهو:
أن الحصون الخيل لا مدر القرى
تغيب المنايا عنهم وهو غائبٌ ... وتقدم في ساحاتهم حين يقدم
ساحة الدار: أصلها، وأصله من الاتساع، والانبساط.
يقول: إذا غاب عنهم الممدوح غاب موتهم، فإذا عاد إلى ديارهم قدم عليهم موتهم فأهلكهم.
أجدك ما تنفك عانٍ تفكه ... عم ابن سليمانٍ ومالاً تقسم
أجدك: نصب على المصدر. أي أتجد جداً ومعناه: أيجد هذا الفعل. وقوله: عم ابن سليمانٍ: أي يا عمر بن سليمان، فرخمه. وهذا جائز على مذهب الكوفيين؛ إذا كان الاسم على ثلاثة أحرف، متحرك الأوسط، ولا يجوز عند البصريين إلا إذا زيد على ثلاثة أحرف، فيرد عليه الترخيم.
يقول: إنك أبداً في فكاك الأسرى وتفريق الأموال.
مكافيك من أوليت دين رسوله ... يداً لا تؤدي شكرها اليد والفم
أوليت فلاناً خيراً: أي فعلت به خيراً.
يقول: جزاك الذي أنعمت على دين رسوله، نعمة لأتقوم بشكرها اليد واللسان فلا يمكن لأحد مكافأته، ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
على مهلٍ إن كنت لست براحمٍ ... لنفسك من جودٍ فإنك ترحم
يقول: ارفق بنفسك ولا تتعبها في طلب المجد، وتحمل المؤن والكلف في الجود بالمال والنفس، فإنك تنفق مالك وتجود بنفسك، فإن كنت لا ترحم نفسك فإن الله يرحمك، وكذلك الناس لما أنت فيه من تكلف الجود بالنفس والمال.
محلك مقصودٌ وشانيك مفحمٌ ... ومثلك مفقودٌ ونيلك خضرم
الخضرم: الكثير.
يقول: محلك عامر بالقصاد، وعدوك مفحم لا يقدر على ذلك، ونظيرك مفقود، وعطاؤك كثير لا يكاد يحصى.
وزارك بي دون الملوك تحرجٌ ... إذا عن بحرٌ لم يجز لي التيمم
التحرج: ترك الحرج، وهو الإثم، وهو فاعل زارك.
يقول: حملني على زيارة تلك الملوك تحرز من الإثم، الذي يلزمني في تركي قصدك، وقصدي غيرك، لأن قصدك واجب لا يجوز العدول عنه إلى غيره، كما أنه إذا ظهر البحر، وأمكن الوصول إليه، لا يجوز العدول إلى التيمم. وهو مأخوذ من قوله تعالى: " فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً "
فعش لو فدى المملوك رباً بنفسه ... من الموت لم تفقد وفي الأرض مسلم
قوله: فعش دعاء.
يقول: لو فدى العبد مولاه بنفسه من الموت، لفداك المسلمون كلهم؛ لأنهم عبيدك، فكيف تفقد وفي الأرض مسلم؟! وقال يمدح عبد الواحد بن العباس بن أبي الأصبع الكاتب:
أركائب الأحباب إن الأدمعا ... تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطس: أي تكسر، وتهد وترض. واليرمع: الحجارة: يقول: يا إبل الأحباب، إن الدموع تؤثر في الخد إذا جرت، وترضه، كما تفعلن أنتن بالأحجار، فإنكن تكسرنها من شدة وطئكن عليها. واليرمع: الحجارة الرخوة كالمدر يفتت باليد.
فاعرفن من حملت عليكن النوى ... وامشين هوناً في الأزمة خضعا(1/100)
من حملت: مفعول فاعرفن وفاعله النوى والهون بالفتح: الرفق، وبالضم: الهوان.
يقول للركائب: اعرفن الذي حملته عليكن النوى: وهو البعد. واعرفن حقه وامشين له مشياً ليناً، لئلا تتعبنه. وذلك يدل على عظم حال من عليهن.
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... فاليوم يمنعه البكا أن يمنعا
البكا: يمد ويقصر.
يقول: قد كان في أول أمري يمنعني الحياء من البكاء لفقد الأحباء، فالآن تزايد الحب وغلب البكاء الحياء ومنعه من منعي عن البكاء، فصار الحياء ممنوعاً بعد أن كان مانعاً. ومثله قول بعض الأعراب:
قد كنت أعلو الحب حيناً فلم يزل ... بي النفض والإبرام حتى علانيا
حتى كأن لكل عظم رنةً ... في جلده ولكل عرقٍ مدمعا
حول الكلام عن الإخبار عن النفس إلى الغيبة.
فقال: وقد بلغ البكاء إلى حدٍّ حتى صار يبكي جميع جسد العاشق، فصار كل عرق منه يجري الجمع، وكل عظم أو عضو يرن رنيناً من ألم الفراق! وشدة الاشتياق! ويجوز أن يكون الهاء راجعاً إلى كل عضو.
وكفى بمن فضح الجداية فاضحاً ... لمحبه وبمصرعي ذا مصرعا
الجداية: الغزالة. ومن: في موضع الرفع، لأنه فاعل كفى ويجوز أن يكون فاضحاً تمييزاً أو حالاً، وذا في موضع الجر؛ لأنه بدل من مصرعي ومصرعاً نصب على التمييز. والمصرع: يجوز أن يكون اسماً، ومصدراً. وكلاهما محتمل في البيت.
يقول: كفى بمن فضح الغزالة بحسن جيده وعينه أن يكون فاضحاً لمحبه، وكفى بمصرعي هذا مصرعاً.
المعنى: أنه إذا فضح الغزالة، فليس بعجب أن يفضحني في حبه، وكفاني مصرعي يوم فراق من هذه حاله.
سفرت وبرقعها الفراق بصفرةٍ ... سترت محاجرها ولم تك برقعا
روى: الحياء والفراق.
يقول: هذه المرأة سفرت وجهها ومحاجرها، وقامت لها مقام البرقع، ولم تكن هذه صفرة برقعها.
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهبٌ بسمطي لؤلؤٍ قد رصعا
الهاء، في كأنها للصفرة وفي فوقها للمحاجر. ويجوز أن يكون في فوقها للصفرة أيضاً. والسمط: اسم لكل جانب من جوانب القلادة.
يقول: كأن صفرة وجهها والدمع فوقها، قلادة من ذهب رصع بلؤلؤ. وشبه الصفرة بالذهب والدمع باللؤلؤ لصفائه ورقته
كشفت ثلاث ذوائبٍ من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
وروى: نشرت يقول: كشفت ثلاث ظلم، فصارت الليالي أربعاً. شبه كل ذؤابة منها بليلة لسوادها، ولم يجعلها قطعة من الليل؛ دلالة على كثرة الشعر ووفور السواد.
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا
يقول: استقبلت القمر بوجهها، وهو قمر أيضاً، فأرتني قمرين معاً، أحدهما قمر السماء، والثاني وجهها. ومعاً: نصب على الحال، أي مصطحبين. وقيل: أراد بالقمرين الشمس والقمر. فكأنه يقول: أرتني الشمس والقمر معاً في وجه واحد وجعل وجهها شمساً للمبالغة.
ردي الوصال سقى طلولك عارضٌ ... لو كان وصلك مثله ما أقشعا
روى: ما أقشع وما أقلع فاعله ضمير وصلك والهاء في مثله للعارض وهو السحاب.
يقول: ارجعي إلى الوصال الذي كان بيننا، ثم دعا لها أن يسقى طلولها سحابٌ دائم لا انقطاع له، ولو كان وصلك مثله أي مثل هذا السحاب في الإدامة ما أقشع ذلك الوصل.
زجلٌ يريك الجو ناراً، والملا ... كالبحر والتلعات روضاً ممرعاً
زجل: صفة السحاب أي ذي صوت وهو الرعد. والملا: المكان الواسع، وأراد الأرض. والتلعات: جمع تلعة وهي المكان المرتفع. والممرع: الخصيب.
يقول: سقى طلولك سحابٌ ذو رعدٍ، يريك الجو ناراً؛ من كثرة بروقه، ويريك الأرض الواسعة كالبحر؛ من كثرة مائه، ويريك التلعات معشبةً ممرعة كأنها روضة مريضة مخصبة.
كبنان عبد الواحد الغدق الذي ... أروى، وآمن من يشاء، وأفزعا
الغدق: الكثير، وهو صفة البنان. وروى وأفزعا وأجزعا شبه بنان الممدوح بسحابٍ هذه صفته، ثم أخذ في وصف البنان بأنه غدق يروى كل أحد ويؤمن من يشاء ويخيف. وصفه بغاية السخاء وغاية الفتوة والعلا، وهذا تحقيق. التشبيه بالسحاب لأنه يروي البلاد والعباد ويأتي بالغيث الذي هو رحمة، وبالصاعقة التي هي نقمة.
ألف المروءة مذ نشا فكأنه ... سقي اللبان بها صبياً مرضعا
اللبان: اللبن وقيل: هو جمع اللبن، ونصب صبياً على الحال.(1/101)
يقول: إنه اعتاد المروءة من صغره؛ فكأنما سقى بها اللبن وهو يرضع، أي كأنه رضع المروءة من لبن أمه
نظمت مواهبه عليه تمائماً ... فاعتادها فإذا سقطن تفزعا
روى نظمت على ما لم يسم فاعله ومواهبه اسمه، والمفعول الأول القائم مقام الفاعل. وتمائما نصب على أنه المفعول الثاني. هذه رواية ابن جنى. قال: ومعناه أن اعتقاده أن مواهبه تقيه من الذم كاعتقاد التمائم أنها تقيه من الآفات، فإذا خلا من مواهبه يفزع كما يفزع ذو التمائم إذا سقطت تمائمه.
وروى نظمت على الفعل المسند إلى الفاعل. وفاعله المواهب، والتمائم المفعول. والمعنى: مواهبه حصلت له من الحمد والثناء وأدعيه السؤال، ما هو كالتمائم، فهو إذا خلا من ذلك أنكر ذلك، وفزع من سقط تميمته. وروى: عقدت مواهبه.
ترك الصنائع كالقواطع بارقا ... تٍ والمعالي كالعوالي شرعا
الصنائع: النعم. والعوالي: جمع عالية، وهي الرمح الأعلى. والشرع: الممدودة المقومة نحو الأعداء. وبارقات وشع: نصب على الحال. وقيل: لأنه مفعول ثانٍ لترك.
يقول: أظهر الصنائع حتى صارت كالسيوف اللامعات، ورفع المعالي حتى جعلها كالرماح الشرع إلى الأعداء.
متبسماً لعفاته عن واضحٍ ... تغشي لوامعه البروق اللمعا
روى تغشى بالغين: أي تستر وتعشى: أي تظلم وتورث العشي. ونصب مبتسماً على الحال من قوله: ترك الصنائع بارقات وهو مبتسم، ويجوز نصبه على المدح بفعل مضمر، أي أعني مبتسماً. وقوله: عن واضح أي عن ثغر واضح، والمفعول الثاني من تغشى محذوف، أي تغشى لوامعه البروق برقها.
يقول: إنه يلقى سائليه مبتسماً ضاحكاً عن ثغر واضح يغلب لمعانه لمعان البرق اللامع.
متكشفاً لعداته عن سطوةٍ ... لو حك منكبها السماء لزعزعا
متكشفاً: بدل من قوله: متبسماً ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير في متبسماً فيكون العامل متبسماً. وفاعل زعزع ضمير منكبها أي حركها، ومنكبها: جانبها أو بعضٌ منها.
يقول: إنه يلقى عفاته مبتسماً في حال ظهوره لأعدائه أي مكاشفتهم بالعداوة، وله سطوة لوحك بعض منها السماء لحركها.
وإن شئت قطعت الثاني عن الأول فيجوز فيه الرفع على إضمار المبتدأ وكذلك في متبسماً.
الحازم اليقظ الأغر العالم ال ... فطن الألد الأريحي الأروعا
الكاتب اللبق الخطيب الواهب ال ... ندس اللبيب الهبرزي المصقعا
الحازم: الجامع للأطراف، الذي أحواله كلها مجموعة. واليقظ: الكثير التيقظ في الأمور. والأغر: الأبيض. والفطن: العالم بدقائق الأمور. والألد: شديد الخصومة العالم بها. والأريحي: الذي يهتز للعطاء. والأروع: الذي يروعك بجماله.
والندس: الفطن المتجاسر على الأمور. والهبرزي: الخالص الكرم والأصل. وقيل: هو الذي يبرز البدائع من مجده. والمصقع: الفصيح. وهذه الصفات كلها نصب على المدح.
نفسٌ لها خلق الزمان لأنه ... مفني النفوس مفرقٌ ما جمعا
نفسٌ: خبر ابتداء محذوف، أي هي نفسٌ، أو ابتداء وخبره محذوف، أي له نفس.
يقول: إنه يفرق ما جمعه من المال ويفني بالقتل أعداءه فخلقه كخلق الزمان.
بيدٍ لها كرم الغمام لأنه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا
يقول: إنه يعم الخاص والعام بجوده، فيشبه الغمام الذي يسقي المكان العامر والخالي.
أبداً يصدع شعب وفرٍ وافرٍ ... ويلم شعب مكارمٍ متصدعا
الشعب الأول: هو الجمع. والثاني هو التفريق.
يقول: إنه يفرق ما اجتمع عنده من الأموال؛ ليجمع بتفريقه ماتفرق من المكارم، فهذا دأبه أبدا.
يهتز للجدوى اهتزاز مهندٍ ... يوم الرجاء هززته يوم الوعى
الوعى غير معجم بمعنى الوغى بالإعجام: وهو الحرب. وتقديره يهتز للجدوى يوم الرجاء اهتزاز مهند هززته يوم الوغى.
يقول: يهتز للعطاء كاهتزاز السيف للحرب.
يا مغنياً أمل الفقير لقاؤه ... ودعاؤه بعد الصلاة إذا دعا
يا مغنياً: نصب لأنه نداء نكرة، وأمل الفقير: مبتدأ. ولقاؤه: خبره.
والجملة في موضع نصب؛ لأنها صفة للنكرة المناداة.
يقول: يا من علا الناس بمواهبه، فكل فقير يرجو لقاءه ويدعو الله تعالى بعد صلاته، أن يجمع بينه وبينه؛ ليغنيه مثل غيره.
أقصره ولست بمقصرٍ، جزت المدى ... وبلغت حيث النجم تحتك فأربعا(1/102)
أقصر الرجل عن الأمر: إذا تركه. وقوله: فأربعا أراد فأربعن فأبدل النون ألفاً. ومعناه: أقم.
يقول: أقصر وأقم فقد تجاوزت الغاية من المجد، وبلغت مكاناً فوق النجم، فاترك سعيك فليس وراءه غاية. وقوله: فلست بمقصر. أي أقصر فإنك إذا قصرت بعد تجاوز الغاية فلست بمقصر في الحقيقة، إذ ليس بعد الغاية غاية. وقيل: أراد أقصر، أنا أعلم أنك لا تقصر، ولا تقبل مني ذلك.
وحللت من شرف الفعال مواضعاً ... لم يحلل الثقلان منها موضعا
وروى: من شرف المعالي.
يقول: قد نزلت من الشرف والكرم منازل كثيرة لا يقدر الثقلان أن ينزلوا واحداً منها.
وحويت فضلهما وما طمع امرؤٌ ... فيه، ولا طمع امرؤٌ أن يطمعا
يقول: قد جمعت فضائل الجن والإنس، وما طمع أحد في ذلك الفضل؛ لأنه لم يكن في أحد من الخصال مثل ما فيك، ولا خطر ببال أحد.
نفذ القضاء بما أردت كأنه ... لك، كلما أزمعت شيئاً أزمعا
وروى: بعد القضاء.
يقول: إن القضاء يتصرف بإرادتك، فكأنه لك أي كأنه قضاؤك، وأنت تملكه، فكلما عزمت على شيء يعزم هو أيضاً عليه، متابعة لك.
وأطاعك الدهر العصي كأنه ... عبدٌ إذا ناديت لبى مسرعا
وروى: أرادك الدهر.
يقول: إن الدهر الذي لا يطيع أحداً، أطاعك! حتى كأنه عبدك، إذ ناديت أجابك مسرعاً بالتلبية والإجابة.
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت ... عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
ظلع: أي عجز.
يقول: إن مفاخرك أبطلت مفاخر الخلق، فكأنها أكلتها ورجعت مطيات وصفي عن غايات تلك المفاخر، ظالعة معييةً بها.
وجرين جري الشمس في أفلاكها ... فقطعن مغربها وجزن المطلعا
الهاء في أفلاكها ومغربها للشمس.
يقول: إن مفاخرك في الدنيا كجري الشمس، فقطعت المغرب وجازت المشرق وبلغت حيث تبلغ الشمس. وإنما قال: في أفلاكها أراد إجرائه.
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلها ... لعممنها وخشين ألا تقنعا
نيطت: أي وصلت. كناية في عممنها للمفاخر. والثاني في ألا تقنعا. ويجوز أن يكون للخطاب، ويجوز أن يكون فعل المفاخر. وقوله: وخشين. يجوز أن يكون للمفاخر، ويجوز أن يكون فعل الدنيا الموصولة بدنيا أخرى وما فيها. فأورده على الجمع.
يقول: لو وصلت هذه الدنيا بأخرى مثلها لعمتها مفاخرك، وخشيت مفاخرك الدنيا وما فيها، ألا تقنع أنت ومفاخرك بها.
فمتى يكذب مدعٍ لك فوق ذا ... والله يشهد أن حقاً ما ادعى
روى: يكذب بالرفع على الاستفهام. والله بالواو وهو الأولى لأن ما بعده من البيت يدل عليه. وروى يكذب بالجزم على الجزاء. فالله بالفاء على الجواب. ومعناه على الاستفهام.
يقول: متى يمكن أن يكون من ادعى لك فوق الذي قلت مكذباً؟! لأن الله يشهد أن ما ادعاه لك حق.
وعلى الجزم، معناه: متى ادعى لك مدع فوق هذا وكذب هذا المدعي، فالله يشهد أن ما يدعيه حق وأنه صادق.
ومتى يودي شرح حالك ناطقٌ ... حفظ القليل النزر مما ضيعا
النزر، والقليل: بمعنىً واحد. وجمع بينهما لاختلاف لفظهما، أو للمبالغة.
يقول: متى يقدر ناطق على شرح حالك؟! فإن علمه لا يحيط بكنه صفاتك، ومتى ظن أنه استوفى حالك، كان قد حفظ اليسير مما ضيع، فإن ما ضيعه كثير وما حفظه يسير.
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا ... رجلاً فسم الناس طراً إصبعا
تقديره: إن كان لا يدعى الفتى رجلاً إلا كذا، فالفتى؛ اسم ما لم يسم فاعله، ورجلاً خبره، وطراً نصب على الحال. وقيل: على المصدر. أي: فسم الناس إذا طررتهم طراً: أي جمعتهم جمعاً.
يقول: إن كان لا يدعى الفتى رجلاً إلا إذا كان مثل هذا الممدوح، فيجب أن تسمى جميع الناس إصبعا؛ لأنهم بالإضافة إليه كالإصبع من الجسد، فإذا كان اسمه رجلاً، فاسمهم كلهم الأصبع.
أو كان لا يسعى لجودٍ ماجدٌ ... إلا كذا فالغيث أبخل من سعى
قوله: فالغيث أبخل من سعى ومن للعقلاء، والغيث ليس منهم؛ وإنما حسن ذلك لوجهين: أحدهما: لأن المعنى أبخل الساعين، وهذا يعم من يعقل ومن لا يعقل، فغلب من يعقل كقوله تعالى: " والله خلق كل دابةٍ من ماءٍ " إلى آخره.
والثاني: وهو أن السعي لما كان من صفات العقلاء وقد استعمل في الغيث، أطلق عليه لفظ العقلاء لقوله تعالى: " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ".(1/103)
يقول: إن كان السعي في طلب المجد والجود، لا يعد سعياً حتى يكون مثل سعيك، فالغيث المضروب به المثل في الجود، أبخل الساعين؛ لبعده عن بلوغ غايتك وكونك فقته.
قد خلف العباس غرتك ابنه ... مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا
يقول: يابن عباس. إن أباك قد خلف غرتك خلفاً منه وعوضاً عن رؤيته إلى يوم القيامة، فإذا رأيناك فكأنا رأيناه، وإذا سمعناك، فقد سمعناه.
واجتاز بمكان في بعض أسفاره بالليل، يعرف بالفراديس، فسمع زئير الأسد فقال يخاطبه:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم؟ ... فتسكن نفسي، أم مهانٌ فمسلم؟
فتسكن نفسي: نصب لأنه جواب الاستفهام فنصبه بالفاء.
يقول: يا أسد الفراديس وهو رستاقٌ بدمشق أجارك مكرم حتى تسكن نفسي إليكن؟ أم مهانٌ فمسلمٌ إلى أعدائه.
وحكى عنه أنه قال: ما كانت نفسي نافرة فتسكن، وإنما قلت: فأعلم حقاً.
ورائي وقدامي عداةٌ كثيرةٌ ... أحاذر من لصٍ ومنك ومنهم
يقول: قد أحاط بي من قدامي وورائي، أشياء محذورة، فأعداءٌ أحاذرهم، ولصٌّ أخاف قطعه طريقي، وأسودٌ أحاذرها وأسمع زئيرها.
فهل لك في حلفي على ما أريده ... فإني بأسباب المعيشة أعلم؟
الحلف: من المحالفة، وهي المعاهدة.
يقول للأسود: هل تتحالفين معي على ما أريد من طلب الولاية، فإني مثلك في الافتراس والشجاعة، ولي فضل عليك من جهة أني أعلم بأسباب المعيشة ووجوه المكاسب، منك.
إذاً لأتاك الرزق من كل وجهةٍ ... وأثريت مما تغنمين وأغنم
يقول: لو حالفتني لأتاك الرزق من كل ناحية، فكنت أنت تكسبين من جهةٍ، وأنا أكتسب من جهة، فيكثر ما لنا ويتسع رزقنا.
وقال يمدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي:
صلة الهجر لي وهجر الوصال ... نكساني في السقم نكس الهلال
النكس بالفتح أولى، وهو مصدر نكسته والنكس بالضم. أكثر ما يستعمل في عود المرض بعد زواله، وروى ذلك أيضاً في البيت.
والمعنى: أن مواصلة الهجر لي، وهجران الوصال، رداني إلى السقم والنحول، مثل الهلال ينكس إلى النحول بعد الكمال على التدريج، فكأنه يقول كنت صحيح الجسم كامل الخلق فصرت كالهلال.
فغدا الجسم ناقصاً والذي ين ... قص منه يزيد في بلبالي
البلبال: الهم والحزن. وقيل: الاضطراب والتحير.
يقول: قد نحل جسمي، ونقصت أجزاؤه! وما ينقص من الجسم يزيد في الحزن بقدر ما نقص منه!
قف على الدمنتين بالدو من ريا ... كخالٍ في وجنةٍ جنب خال
الدمنة: البعر الملبد، والرماد المتراكم بعضه على بعض. والدو: الصحراء المستوية سميت بذلك لدوي الرياح فيها. وريا: اسم محبوبته. وإنما سمى الدمنتين؛ لأن من عادات العرب ينزلون موضعاً فإذا نفذ ماؤه وتلونت أرضه، انتقلوا إلى موضع آخر.
يقول لنفسه، قف على ما بين الدمنتين في الدو، من دو ريا. فكأنهما خالان في وجنة المحبوبة، أحدهما في جنب الآخر. شبه سواد البعر والرماد في عرصة الدار، بخالٍ في وجنة المحبوبة. وقال في جنب خال. وأراد منه حبيبته، إنها تحسن في عينه كالخيال على الخد.
بطلولٍ كأنهن نجومٌ ... في عراصٍ كأنهن ليالي
الطلول: ما شخص من آثار الديار: كالوتد، والحوض. العرصة: ساحة الدار. والباء في بطلولٍ. في موضع الحال، من قوله: كخال في وجنة. والعامل فيه معنى التشبيه، ويجوز أن يكون بدلاً من الدمنتين، أي قف بطلول في موضع الحال. شبه الأطلال بالنجوم، لأنه اهتدى بها إلى دار حبيبته كما يهتدي بالنجوم، أو لأن الأمطار غسلتها فبيضتها فصارت كالنجوم، وشبه العراص بالليالي؛ لخلائها ووحشتها ولما فيها من الرماد المحترق، وأشار أنه لا خير فيها.
ونؤيٍّ كأنهن عليهن ... خدامٌ خرسٌ بسوقٍ خدال
النوي: جمع النوى، وهو حاجز يحفر حول الخيمة لمنع المطر أن يدخل إليها. والخدام: جمع الخدمة، وهي الخلخال. والسوق: جمع ساق. والخدال: جمع الخدلة، وهي الممتلئة. والهاء في كأنهن: للنؤي، وفي عليهن: للعراص. شبه النؤي بالخلخال؛ لاستدارته حول الخيمة، وشبه موضع البيت بالساق الخدله؛ لامتلائه من الطيف، يوم ارتحال أهله عنه، وجعل الخدام خرساً؛ لأنها لا صوت لها كما لا صوت للنؤي.
لا تلمني فإنني أعشق العشا ... ق فيها يا أعذل العذال
الهاء: ضمير العرصة، والطلول.(1/104)
يقول: لا تلمني على الوقوف بهذه الأطلال؛ فإني أعشق العشاق؛ وإن كنت أعذل العذال. وفيها: متعلق بقوله: لا تلمني وإن شئت بقوله لا تلمني بالعذال. أو بقوله: فإني أعشق العشاق فيها.
ما تريد النوى من الحية الذوا ... ق حر الفلا وبرد الظلال؟
يقول: أي شيء تريد النوى مني؟ وأنا كالحية الذواق، قد تعودت قطع الفلا، وقاسيت حرها وبرد ظلالها. يعني: أني لا أبالي بالنوى؛ لتعودي الأسفار.
فهو أمضى في الروع من ملك المو ... ت وأسرى في ظلمةٍ من خيال
يقول: هذه الحية الذواق يعني: نفسه أمضى في الحرب وأكثر إتلافاً للنفوس من ملك الموت، وأسرى في ظلمة الليل من الخيال، فلا ترده الظلمات.
ولحتفٍ في العز يدنو محبٌّ ... ولعمر يطول في الذل قال
تقديره: هو محب لحتفٍ يدنو في العز. وهو قالٍ لعمرٍ يطول في الذل.
يعني: أنه يحب العز؛ وإن كان مع الحتف، ويبغض العمر؛ وإن كان مع الذل.
نحن ركبٌ ملجن في زي ناسٍ ... فوق طيرٍ لها شخوص الجمال
قوله: ملجن أي من الجن. فحذف النون؛ لسكونها وسكون اللام من الجن.
يقول: نحن ركب نشبه الجن في أفعالها للزومنا المفاوز، وإن كنا في صورة الإنس، ورواحلنا تشبه الطير؛ لسرعة سيرها، وإن كانت في صورة الجمال.
من بنات الجديل تمشي بنا في البي ... د مشي الأيام في الآجال
الجديل: فحل كريم تنسب إليه كرائم الإبل. وهي تمشي بنا في الفلوات، وتفنيها شيئاً فشيئاً، كما تمشي الأيام في الآجال فتفنيها جزءًا فجزءًا.
كل هوجاء للدياميم فيها ... أثر النار في سليط الذبال
الهوجاء: في الأصل المجنونة، وهي ها هنا: الناقة التي ترمي بنفسها في المسير، من النشاط كأنها هوجاء، ولا يوصف الذكر بها. فلا يقال: بعير أهوج. والدياميم: جمع ديمومة وهي الفلاة. والسليط: قيل: هو السراج. وقيل: هو دهن الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة.
يقول: كل واحد من هذه الرواحل هوجاء، قد أثر المفاوز فيها وأهزلها وأخذ لحمها؛ كما تأخذ النار دهن الفتيلة وتفنيه.
عامداتٍ للبدر والبحر والضر ... غامة ابن المبارك المفضال
يجوز في عامداتٍ الجر: على البدل من هوجاء. والرفع: على إضمار المبتدأ. والنصب: على الحال. والعامل، ما في الجملة من قوله: للدياميم فيها. أي بمنزله الدياميم عامدات.
يقول: إن هذه الرواحل يقصدون ابن المبارك، الذي هو كالبدر جمالاًن وكالبحر سخاءً، وكالأسد شجاعة وإقداماً، وهو كثير الفضل غزير الإحسان.
من يزره يزر سليمان في المل ... لك جلالاً ويوسفاً في الجمال
وربيعاً يضاحك الغيث فيه ... زهر الشكر في رياض المعالي
جلالاً: نصب على التمييز. وربيعاً: عطف على قوله: يزر سليمان فكأنه قال: ويزر ربيعاً. وجعله ربيعاً؛ لانتفاع الناس فيه وبسببه وعطائه، ولما جعله ربيعاً، جعل رياضه المعالي، وزهرها الشكر والثناء، يعني أنه ربيع يسقي رياض المعالي، الغيث جوده، وزهر تلك الرياض الشكر. ويجوز أن يكون أراد شكر الناس. فشبه جوده بالغيث، وشكرهم بالزهر ومعاليه بالرياض.
نفحتنا منه الصبا بنسيم ... رد روحاً في ميت الآمال
نفحتنا: أي هبت علينا دفعة بعد دفعة. والنسيم: الريح اللينة في هبوبها.
يقول: كانت أمالنا منقطعة عن الناس لبخلهم، فهبت الصبا علينا، بنسيم هذا الربيع، ورد الروح في آمالنا الميتة وأحيتها بعد موتها. وأراد بالنسيم: إشاعة جوده واشتهار كرمه.
هم عبد الرحمن نفع الموالي ... وبوار الأعداء والأموال
يقول: همه مقصور على الإحسان إلى الأولياء، وإهلاك الأموال والأعداء في وجوه البر، واقتناء الحمد والمجد والذخر، ولا يشتغل بغير ذلك من اللهو وجمع الأموال.
أكبر العيب عنده البخل والطع ... ن عليه التشبيه بالرئبال
الرئبال: الأسد.
يقول: إن أكبر العيب عنده البخل، لفرط جوده، وهو شجاع، فإن شبهته بالأسد فقد طعنت فيه؛ لأنه أشجع من الأسد. ويجوز أن يريد: أن من أراد أن يطعن عليه، يمكنه ألا يشبهه بالأسد. وهذا ليس بطعن في الحقيقة.
والجراحات عنده نغماتٌ ... سبقت قبل سيبه بسؤال(1/105)
يقول: إن عادته في تقديم النوال على السؤال، فإذا سمع نغمات السائل قبل العطاء، تألم منها كما يتألم من الجراحات، وتؤثر تلك النغمات فيه تأثير الجراحات؛ تأسفاً على سبق السؤال على الإعطاء. وقيل: أراد أن يلتذ بالجراحات في الحروب التذاذه بنغمات السؤال. يمدحه بالسخاء والشجاعة.
ذا السراج المنير هذا النقي ال ... جيب هذا بقية الأبدال
الأبدال: زهاد الدنيا. ويقال: إن الأرض لا تخلو منهم. أربعون منهم في الشام، وثلاثون في سائر الأرض، وسمو أبدالاً؛ لأنهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر!! وقوله النقي الجيب: أي سليم القلب، من الغش والخيانة. يصفه بالاشتهار كالسراج المنير، وبسلامة القلب؛ وبأنه من أولياء الله تعالى، الذين بهم بقاء الدنيا وقوامها.
فخذا ماء رجله وانضحا في ال ... مدن تأمن بوائق الزلزال
البوائق: جمع البائقة، وهي الداهية، وروى: تأمن، وتؤمن.
يقول: إنه ولي الله تعالى، فلو رش الماء الذي غسل به رجله في المدن والبلدان، لأمنت من الزلزال. وقيل: أراد أن الأرض لا تستقل من طيه إياها، هيبةً منه، فلو أخذ الماء الذي غسل به رجله ورش عليها لسكنت من هيبته.
وامسحا ثوبه البقير على دا ... ئكما تشفيا من الإعلال
البقير: القميص الذي لا كم له. وقيل: هو الفرجي؛ لأنه يبقر مقدمه.
يقول: إن العليل إذا مسح ثوبه شفي من جميع الأدواء.
مالئاً من نواله الشرق والغر ... ب ومن خوفه قلوب الرجال
قابضاً كفه اليمين على الدن ... يا ولو شاء حازها بالشمال
مالئاً وقابضاً: نصبا على المدح. وقيل: على الحال من قوله: هذا بقية الأبدال أي يكون هذا على هذه الأحوال.
يقول: إنه قد ملأ الأرض كلها من عطاياه، واستولى عليها شرقاً وغرباً، وملأ من خوفه قلوب الناس. وقبض عن الدنيا كفه، زاهداً عنها، ولو شاء لنالها بأهون سعيٍ، فالرواية على هذا: عن الدنيا.
وقيل: أراد أنه استولى على الدنيا كلها بيمينه، ولو شاء لأخذها بأصغر الأخذ. وهو المراد بقوله بالشمال. والرواية على هذا: على الدنيا.
نفسه جيشه وتدبيره النص ... ر وألحاظه الظبا والعوالي
يقول: إنه وحده يقوم مقام الجيش، وتدبيره بنفسه يقوم مقام النصرة، ورأيه ولحظاته تقوم مقام السيوف والرماح.
وله في جماجم المال ضربٌ ... وقعه في جماجم الأبطال
الجمجمة: عظم الرأس.
يقول: إذا فرق ماله بالهبات، فإنه يقصد الأبطال ويضرب جماجمهم بالسيف، ويسلب أموالهم. فالضرب الواقع في جماجم الأموال، هو الواقع في رءوس الأبطال.
فهم لاتقائه الدهر في يو ... م نزالٍ وليس يوم نزال
فهم: راجع إلى الأبطال. يعني: أن الأبطال يخافون منه أبداً، فكأنهم طول الدهر في قتال؛ لخوفهم منه، وإن لم يكن قتال. والدهر نصب على الظرفية.
رجلق طينه من العنبر الور ... د وطين العباد من صلصال
العنبر الورد: الذي يضرب إلى الحمرة، ومنه العنبر الأشهب: الذي يضرب إلى البياض، وهما جيدان. والأسود رديء. والصلصال: طين يابس، وهو الذي له صوت.
يقول: إن طينه الذي خلق منه، عنبر الورد، وطين غيره من صلصال، فله فضل على الناس.
فبقيات طينه لاقت الما ... ء فصارت عذوبةً في الزلال
يقول: إنه لما خلق، بقيت من طينته بقية، فخالطت الماء، فصارت تلك البقية عذوبةً في الماء الزلال، ولولاها لكانت كماء البحر.
وبقايا وقاره عافت النا ... س فصارت ركانةً في الجبال
يقول: إن بقايا وقاره وسكونه وهيبته، كرهت الناس فلم ترض بهم؛ لعلمها أنهم لا يستحقونها، فتحولت إلى الجبال فصارت سكوناً فيها.
لست ممن يغره حبك السل ... م وألا ترى شهود القتال
روى: بفتح التاء في ترى. وشهود بضم الشين. وروى: بالضم والفتح.
يقول: لست ممن يغتر بأنك تحب السلم، أي الصلح وألا تختار شهود القتال. وعلى الرواية الأخرى وألا ترى شاهد القتال. فشهود. فعول: بمعنى فاعل.
ذاك شيءٌ كفاكه عيش شان ... يك ذليلاً وقلة الأشكال
يقول: ذاك الشيء، أي ترك القتال، كفاكه ذلة مبغضيك وقلة من يشابهك؛ لأن أعداءك ذلوا وقلوا وأمثاله فقدوا، فليس يوجد أحد يقاومك وكفيت أمر الحرب بهذا الوجه، فلا تحتاج إلى القتال.(1/106)
واغتفارٌ لو غير السخط منه ... جعلت هامهم نعال النعال
واغتفار: عطف على قوله: عيش شانيك.
يقول: كفاك الحرب اغتفارك ذنوب أعدائك، ولو غير السخط والغضب ذلك الاغتفار واستولى عليه، لجعل أعداءك نعالاً لنعال الأفراس، ولدستهم بخيلك.
لجيادٍ يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دمٍ في جلال
وروى: لجيادٍ وبجياد وهو من تمام البيت الذي قبله، أي تجعلهم نعالاً لنعال جياد، أو تطأهم بجياد تدخل في الحرب أعراء: أي عارية، فتكتسي بالدم فترجع والدم قد غطاها، فكأنها في جلال: أي لابسة جلالاً.
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
هذا البيت معطوف على قوله: جعلت هامهم. يعني: أن السيوف كانت تختضب بالدم، فتستعير لوناً غير لونها، وألقى لونها البياض على ذوائب الأطفال؛ لأنها كانت تشيبهم من الخوف، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " قال البخاري؟: معناه: أنه يقتل الآباء، ويؤتم الأولاد؛ فيشيبون من الحزن والخوف!
أنت طوراً أمر من ناقع السم ... وطوراً أحلى من السلسال
السم الناقع: هو القاتل لوقته. والسلسال: الماء العذب، السهل في الحلق.
يقول: أنت في حالٍ أمر من السم القاتل، وفي حالٍ أطيب من الماء العذب السائغ.
إنما الناس حيث أنت وما النا ... س بناسٍ في موضعٍ منك خال
يقول: أنت كل الناس، فإذا غبت عن موضع فقد غاب الناس كلهم. وقيل: إنما صار الناس ناساً، إذا كنت فيهم؛ لأنهم يأتمون بك، وكل موضع خلا منك، فأهله لا تعد من الناس.
وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد العزي الأوراجي الكاتب:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء
أمن: فعل ماضٍ، من الأمن، والازديار: افتعال من الزيارة. والدجى: جمع دجية، وهي الظلمة. وضياء: رفع بالابتداء وخبره مقدم عليه، وهو قوله: حيث كنت.
يقول: إن رقباءك أمنوا أن تزوري أحداً في الظلام؛ لأن كل موضع تكونين فيه، مضيءٌ بنور وجهك. ومثله قول الآخر:
طارقٌ نم عليه نوره ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا
قلق المليحة، وهي مسكٌ هتكها ... ومسيرها في الليل وهي ذكاء
القلق: الحركة، والاضطراب. وذكاء: اسم الشمس، وهي معرفة غير مصروفة. وقلق: مبتدأ. وهتكها: خبره. ومسيرها: عطف على قلق. وخبره: محذوف. تقديره: ومسيرها في الليل، وهي ذكاء هتك.
يقول: إنها كالمسك إذا حرك فاح فحركتها تهتكها وتنم عليها، وكذلك مسيرها بالليل وهي الشمس هتكٌ لها. فجعل نفسها مسكاً، ووجهها شمساً، فالمصراع الأول من قول امرىء القيس.
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ومثل المصراع الثاني:
أرادوا ليخفوا في الظلام مسيرهم ... فنم عليهم في الظلام التبسم
أسفي على أسفي الذي دلهتني ... عن علمه فبه علي خفاء
المدله: هو الذاهب العقل.
يقول: كان لي حزنٌ عليك، فحيرتني يوم الفراق عنه، حتى لم أحس به، وزال علمي به عني، فأسفي الآن على الحزن المتقدم، الذي حيرتني عن علمه، حتى صار خافياً علي. فكأنه اشتاق إلى حزنه الأول: الذي كان قبل حزن الفراق.
وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
الشكية، والشكاية، والشكوى: بمعنى واحد.
يقول: شكايتي الآن من عدم السقام، لا من السقام؛ لأن السقام إنما كان عندما كان لي أعضاء، فلما فقدت الأعضاء وصرت معدوماً لزوال السقام عني، فأنا أشتاق السقام؛ لأن بوجوده وجود الأعضاء أيضاً.
مثلت عينك في حشاي جراحةً ... فتشابها؛ كلتاهما نجلاء
عين نجلاء: أي واسعة، وكذلك طعنة نجلاء. وقوله: فتشابها ذكره وحقه: فتشابهتا؛ لأن أحديهما العين، والأخرى جراحة، وهما مؤنثان. غير أنه ذهب بهما إلى المعنى، فكأنه قال: فتشابه الشيئان المذكوران. وأراد بالعين: العضو. وبالجراحة: الجرح. كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
وأما قوله كلتاهما فأنثه رداً إلى لفظ العين، والجراحة. وأفرد قوله: نجلاء؛ لأن لفظة كلتا مفردة، وإنما تدل على التثنية لصيغته.(1/107)
يقول: جعلت بعينيك مثالاً في قلبي. أي جرحت قلبي جراحة واسعة مثل عينك الواسعة، فكل واحد من العين والجراحة واسع.
نفذت علي السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
السابري: قيل أراد به الثوب الرقيق. وقيل: هو الدرع. والصعدة: القناة القصيرة. ونفذت: فعل العين.
يقول: نفذت عينك السابري على أحد المعنيين ورقته، ووصلت إلى قلبي فجرحته جرحاً واسعاً، ثم قال: ربما تندق الرمح ويلتوي الصلب القوي في هذا السابري؛ إن أراد به الدرع، فالمعنى ظاهر: أي أن عينك نفذت هذا الدرع إلى قلبي، وربما كانت تنكسر عليه الرماح ولا تعمل فيه. وإن أراد به الثوب الرقيق فمعناه أن قميصه ربما كان لا تعمل فيه الرماح بل تندق دون الوصول إلي؛ هيبة مني، في قلب من يريد طعني، ومع ذلك فإن عينك نفذته! وقيل أراد: أن عينك وصلت إلى قلبي وجرحته ولم تخرق الدرع ولا القميص. كما قال:
رامياتٍ بأسهمٍ ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا نطقت فإنني الجوزاء
الصخرة: إذا كانت بالوادي كانت أصلب وأثبت.
يقول: أنا كصخرة الوادي في الصلابة والثبات، فإذا زاحمني أحدٌ في الفضل والكمال، أو في حال القتال لا يقدر على إزالتي عما أنا عليه من الحال، وما أختص به من الجلال.
وقوله: فإذا نطقت فإنني الجوزاء له معنيان.
أحدهما: أنه شبه نفسه بالجوزاء؛ لعلو محله عن كل ناظر. أي إذا نطقت لم يدرك غايتي أحد في البلاغة، كما لا يدرك أحد الجوزاء، وخصه بالذكر لأنه يشبه صورة الإنسان. والثاني: أنه أراد به ما يقول المنجمون من أن الجوزاء وصاحبه عطارد، يدلان على البلاغة والنطق. فيقول: أنا كالجوزاء: يستفاد من علمي ويقتبس من فوائدي، ويستمد من فصاحتي، كما أن الجوزاء يعطى من ولد فيه النطق والبراعة والبلاغة.
وإذا خفيت على الغبي فعاذرٌ ... ألا تراني مقلةٌ عمياء
يقول: إن خفي على الجاهل فضلي، فأنا أعذره، كما أعذر الأعمى إذ لم ير شخصي؛ لأن الجاهل أعمى القلب.
شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضي أم البيداء؟!
الشيم: جمع الشيمة، وهي العادة. وأفضي: أوسع، وهو اسم المبالغة، وأراد: أصدري أم البيداء أوسع؟! يقول: عادة الليالي لقصدها بمحنها وصروفها، أن تشكك ناقتي، فلا أدري أصدري أوسع بالأيام، وبأموالها، أم الفضاء أوسع.
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسادها في المهمة الإنضاء
الإسآد: قيل هو إسراع السير. وقيل: سير الليل كله. وقيل: هو إدامة السير ليلاً ونهاراً. والمهمة: الأرض الواسعة. والإنضاء: مصدر أنضاه. إذا هزله. وتبيت: فعل الناقة. وتقدير البيت: فتبيت تسئد مسئد الإنضاء في نيها إسآداً مثل إسآدها في المهمة.
وإعرابه: تبيت. من أخوات كان، واسمه ضمير الناقة، وتسئد: فعل. في موضع نصب، لأنه خبر تبيت. ومسئداً: نصب على الحال من الضمير الذي فيه تبيت، وهو اسم الفاعل، وفاعله الإنضاء: وهو مرفوع به؛ لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل. وإسآدها: نصب؛ لأنه وصف مصدر محذوف، كأنه قد أسأد مثل إسآدها، والضمير في إسآدها: راجع إلى الناقة، والناصب قوله: مسئد. ونظير التقدير الذي ذكرناه قول القائل:
تبيت هندٌ تصلي، مصلياً عمرو ... في دارها، صلاتها في المسجد
هذا كما تقول: مررت بهند واقفاً عندها عمرو فواقفاً: حال من مررت، وعمرو: مرفوع بواقف.
معناه: أن هذه الناقة تسرع في السير، والمهمة. والإنضاء يأخذ من الناقة وينقص منها، مقدار ما تنقص هي من المهمة.
ومثله لكشاجم في الشمعة قوله:
تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في الموقف
والمتنبي حول هذا المعنى إلى المفازة والناقة كما ترى.
أنساعها ممغوطةٌ، وخفافها ... منكوحةٌ، وطريقها عذراء
الأنساع: جمع نسع، وهو سير مضفور كهيئة العنان. والممغوطة: الممدودة. والخف: من البعير، بمنزلة القدم من الإنسان. ومنكوحة: أي دامية. فذكر بلفظ النكاح لذكره العذراء.
يقول: أنساع هذه الناقة ممتدة لهزالها فجالت عليها أنساع رحلها، وخفافها دامية من الحفا وطريقها مجهولٌ لم يسلكه أحد.
يتلون الخريت من خوف التوى ... فيها كما يتلون الحرباء(1/108)
الخريت: الدليل العالم بخفيات الطرق، كخفاء ثقب الإبرة. والتوى: الهلاك. والحرباء: دابة أكبر من العظاية، على خلقتها. ويقال: إنها ذكر أم حبين تستقبل الشمس دائماً كيف دارت. والهاء في فيها: للطريق، لأنها تؤنث. وقيل: ترجع إلى البيداء.
المعنى: أن هذه الطريق مجهولة فالدليل إذا سلكها يتقلب يميناً وشمالاً وخلفاً وقداماً، ومن ناحية إلى ناحية؛ وهذا هو التلون، كما تتقلب الحرباء في الشمس. ذكره ابن جنى.
وقيل: أراد أنه يصفر لونه مرة، ويسود تارة، ويحمر أخرى؛ خوف الهلاك ورجاء الاهتداء. فهذا هو التلون كحال الحرباء مع الشمس.
بيني وبين أبي عليٍّ مثله ... شم الجبال ومثلهن رجاء
الهاء في مثله: للممدوح. والشم: جمع أشم، رفع لأنه بدل من قوله: مثله ويجوز أن يكون الابتداء مضمر أي: هو شم الجبال. فيكون كالتفسير لمثله ومثلهن منصوب؛ لأنه وصف لنكرة وهو رجاء فلما تقدمت على الموصوف نصبت على الحال.
يقول: بيني وبين الممدوح جبالٌ، هي مثل الممدوح في العلو والثبات والرزانة والوقار. فشبه الجبال به، ولم يشبهه بالجبال.
وهذه عادته: أن يمكن التشبيه في الموصوف، ويجعل المعنى ثابتاً فيه. ثم قال: ومثلهن رجاء. أي لي رجاء عنده مثل هذه الجبال.
وعقاب لبنانٍ، وكيف بقطعها ... وهو الشتاء، وصيفهن شتاء؟
العقاب: جمع عقبة. ولبنان: جبل بالشام في ناحية دمشق. والباء في بقطعها زائدة. قوله: وهو الشتاء في موضع نصب على الحال.
يقول: بيني وبينه عقابٌ وهي شديدة البرد، وصيفها مثل شتاء غيرها، فكيف لي بقطعها في الشتاء وهي بهذه الصفة؟
لبس الثلوج بها علي مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء
لبس: أي عمى وغطى وأخفى، علي الطريق في هذه العقاب، فكأنها مع بياضها سوداء؛ حيث أن الطريق خفي فيها وهي بيضاء، كما يخفى في سواد الليل، إذ العادة أن الطريق لا يخفيه إلا سواد الليل وظلمة الغيم، فمتى خفي بالبياض صار بمنزلة السواد.
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء
النضار: هو الذهب. وقام الماء: أي جمد. وأراد بالكريم: الممدوح. يعني إنما جمد لتحيره في عطائه، وخجله من كثرة سخائه، وسال الذهب في هباته كما سال الماء.
جمد القطار فلو رأته كما رأى ... بهتت فلم تتبجس الأنواء
الأنواء: الأمطار بالقمر؛ وقد بيناه. وتتبجس: أي تتفجر. ورأى: فعل القطار، رده إلى اللفظ، وليس فيه علامة التأنيث. وروى: كما أرى أي لو رأته القطار كما أرى وأشاهد، لميزت كما ميزت، ولو رأته الأنواء والقطار على اختلاف التقدير. يعني: لو رأته الأنواء كما رأته القطار. ويجوز رفع الأنواء من ثلاثة أوجه: أحدها: بقوله: رأته.
والثاني: بقوله: بهتت الأنواء.
والثالث: فلم تتبجس وهو المختار عند البصريين، وباقي الأفعال فيه ضمير الأنواء.
يقول: إن المطر لما رأى جوده جمد وتحير فصار ثلجاً، ولو رأته الأنواء كما رآه المطر لتحيرت ولم تتفجر بالماء؛ خجلاً منه، وهذا على مذهب من يعتقد أن الأمطار من النجوم.
في خطه من كل قلبٍ شهوةٌ ... حتى كأن مداده الأهواء
يقول: كل أحد يهوى خطه لحسنه، فشهوة كل قلب حاصلة في خطه، فكأن مداد خطه من أهواء الناس ومحبتهم.
ولكل عينٍ قرةٌ في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
القرة: المسرة وأصله البرد. والمغيب: الغيبة. والأقذاء: جمع قذىً، وهو ما يسقط في العين. وروى الإقذاء مصدر من أقذيت عينه إذا طرحت فيها القذى.
يقول: كل أحد يسر من قربه ويحزن لفراقه، فكأن رؤيته قرة العين، وغيبته قذى يسقط فيها.
من يهتدي في الفعل ما لا يهتدي ... في القول حتى يفعل الشعراء
تقديره: من يهتدي في الفعل إلى ما لا يهتدي إليه الشعراء في القول حتى يفعله. فالشعراء: رفع بقوله: ما لا يهتدى وأما يهتدى. ففيه ضمير الممدوح، وكذلك في حتى يفعل وفي هذا البيت وجوه: أحدها: أن من يصلح أن يكون بمعنى الذي، موضعه رفع بخبر الابتداء المحذوف. أي هو الذي، وما بعده إلى آخر البيت صلة، والضمير العائد إليه مستتر في الفعل الذي يليه.
والثاني: يصلح أن يكون استفهاماً: أي من يفعل هذا غيره؟ وهو مرفوع بالابتدائ وما بعده خبر عنه.(1/109)
والثالث: أنه حذف حرف الجر من يهتدى وعداه إلى المفعول. والأصل: من يهتدى في الفعل إلى ما لا يهتدى. فحذف إلى وأوصل الفعل إلى المفعول.
والرابع: أن ما في قوله ما يهتدى يصلح أن يكون بمعنى الذي، وأن يكون نكرة موصوفة. أي يهتدى في الفعل إلى شيء لا يهتدى إليه الشعراء.
والخامس: أنه حذف الضمير الراجع إلى ما وهو قوله: إليه وهذا لا يجوز إلا في ضرورة؛ لأنه من صلة ما وإنما يجوز حذفه إذا كان متصلاً بالفعل كقولك: ما شربته ماء، وما شربت ماء. فأما إذا انفصل الضمير فلا يجوز حذفه.
المعنى: أنه يهتدى في الفعل إلى ما لا يهتدى إليه الشعراء بالقول، حتى يفعله هو، فإذا فعله اهتدوا إليه.
في كل يومٍ للقوافي جولةٌ ... في قلبه ولأذنه إصغاء
القوافي ها هنا: القصائد.
يقول: إن الممدوح في كل يوم يمدح بالقصائد وينشد، فللقوافي جولان في قلبه، ولها استماع في أذنه.
وإغارةٌ فيما احتواه كأنما ... في كل بيتٍ فيلقٌ شهباء
الفيلق: القطعة من الجيش. والشهباء: بيضاء من الحديد، وإنما تكون دالة إلى الكتيبة، لا إلى الفيلق، والبيت من الشعر.
يقول: إنه كل يوم يقصد ويمدح، ويهب ماله للشعراء، فكل بيت يمدح به، جيشٌ يغير على ماله؛ وذلك لتمكين الشعراء من ماله.
من يظلم اللؤماء في تكليفهم ... أن يصبحوا وهم له أكفاء
من: بمعنى الذي. أي: هو الذي يظلم اللؤماء. ويجوز أن يكون نكرة موصوفة. أي: هو رجلٌ يظلم اللؤماء. واللؤماء: جمع لئيم.
يقول: هو الذي يطلب من اللئام أن يفعلوا مثل فعله، وأن يكونوا نظراء له، فهو يظلمهم بذلك؛ لأنه يكلفهم ما ليس في طباعهم، فهم يظلمون بذلك.
ونذمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتبين الأشياء
نذمهم: أي نعيرهم.
يقول: نحن نعير اللئام ونذمهم ولا يجب أن نذمهم؛ إذ بهم عرفنا فضل الممدوح؛ لأنهم لو كانوا مثله لما عرفنا فضله، وإنما عرفنا فضله لقصورهم عنه؛ لأن الشيء إنما يتبين إذا قرن بضده. وروى: وبضدها تتبين الأشياء، على ما لم يسم فاعله.
من نفعه في أن يهاج وضره ... في تركه، لو تفطن الأعداء
يقول: إن الممدوح نفعه في أن يهيج للحرب؛ لأنه حينئذٍ يغير على أعدائه، ويغنم أموالهم وينتفع بها.
وضره في ترك هيجانه؛ لأنه إذا لم يحارب، صالح أعداءه. واستضراره بذلك: حيث يفرق ما جمعه في حال الحرب. ولو تفطن الأعداء بذلك قصدوا إلحاق الضرر به.
فالسلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء
السلم: يذكر ويؤنث. والهيجاء: الحرب. شبه المال بالطائر فاستعار له جناحين.
يقول: الصلح يكسر جناحي ماله، بنواله وتفرقته. أي أن الصلح يقل ماله، وما يكسره الصلح يجبره الحرب؛ لأنه يغنم أموال أعدائه فهو يتلف ويخلف.
يعطي فتعطى من لها يده اللها ... وترى برؤية رأيه الآراء
اللها: الدراهم والدنانير، واحدها لهوة. وأصلها القبضة التي تلقى في فم الرحاء. والآراء: جمع الرأي، وهو مقلوب مخفف من الأأراء.
يقول: إنه يعطي عطاء كثيراً، والمعطى إليه يعطي من عطاياه. يعني: أنه قد أغناه بعطائه، حتى أنه يجود على غيره، وإذا نظر غيره إلى آرائه، تعلم منه الرأي والتدبير، ويبصر به وجه الصواب، بسداد رأيه. وقيل: أراد أنه إذا نظر إلى رأيه فكأنه قد أبصر جميع آراء الناس.
متفرق الطعمين مجتمع القوى ... فكأنه السراء والضراء
يقول: إنه جمع اللين والشدة، والبأس والجود، والرأي لا يدخله خلل، فكأنه لاجتماع اللين والشدة والسراء والضراء. وقيل: أراد بقوله مجتمع القوى باجتماع هذين الخلقين فيه اجتمعت قواه وكملت صفاته.
وكأنه مالا تشاء عداته ... متمثلاً لوفوده ما شاءوا
متمثلاً: نصب على الحال. وما: بموضع رفع.
يقول: كأنه صور مما يكرهه أعداؤه، ومما يحبه أولياؤه في حال تمثله لوفوده وهم أولياؤه. وقيل: أراد أنه يسيء إلى أعدائه في حال إحسانه إلى أوليائه، فيجمع الأمرين في وقت واحد.
يا أيها المجدي عليه روحه ... إذ ليس يأتيه لها استجداء
يقول: يا أيها الرجل الموهوب له روحه، من حيث لم يأت أحد يستجديه. أي: يستوهبه. يعني: لو طلب طالبٌ روحك لوهبته منها، فمن لا يطلب ذلك فكأنه وهبه منها. ومثله:(1/110)
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... البيت
ومثله قوله:
لا خلق أسمح منك إلا عارفٌ ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
احمد عفاتك لا فجعت بفقدهم ... فلترك ما لم يأخذوا إعطاء
يقول: احمد سائليك؛ حيث لم يستوهبوك نفسك؛ لأنهم لو استوهبوها منك لأعطيتهم إياها! فتركهم لروحك بمنزلة الإعطاء منهم لك. وقوله: ولا فجعت بفقدهم حشوٌ لطيف. وفيه وجهان: أحدهما: أنه دعاء لهم، لما ذكر من أنه ينتفع بهم. والثاني: أنه دعاء له بدوام النعمة وبقاء الدولة. فكأنه قال: لا زلت مقصوداً.
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ ... إلا إذا شقيت بك الأحياء
لهذا البيت معنيان: أحدهما: أن الأموات لا تكثر إلا إذا غضبت على الأحياء فقتلتهم وأفنيتهم فشقوا. وقوله: كثرة قلة يعني أنها في الحقيقة قلة من حيث كانت فناءً وعدماً، أو لأن الأموات تبلى فتذروها الرياح وتأكلها الوحش والطير، فهي تقل وإن كثرت.
والثاني: أن الأموات لا تكثر إلا إذا مات هذا الممدوح، وشقي الأحياء بفقده، وأنهم يموتون كلهم بموته؛ فحينئذ تكثر الأموات كثرة في قلة؛ لأنه من حيث هو موت رجل واحد قليل، ومن حيث ينضم إليه موت الخلق كثير. ومثله قول الآخر:
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ... ولا شاةٌ تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت حيٍّ ... يموت بموته خلقٌ كثير
وقال أبو عمرو السلمي: عدت أبا علي الأوراجي في علته التي مات فيها بمصر فاستنشدني:
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ
فجعل يستعيده ويبكي، فخرجت ولحقت بمنزلي فقيل: إنه مات! وكان أبو علي يتصوف.
والقلب لا ينشق عما تحته ... حتى تحل به لك الشحناء
الشحناء: البغض، كأنها تشحن الصدر، أي تملؤه عداوة.
يقول: إن القلب لا ينشق عما دونه وما فيه، بالرماح والأسلحة، إلا إذا نزلت به عداوتك. وقيل: أراد أن القلب لا يحتمل عداوتك، فإذا حلت به عداوتك انشق القلب فمات فزعاً وخوفاً. فكأنه يقول: لا يهلك أحد إلا ببغضه.
لم تسم يا هارون إلا بعد ما اق ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء
يقول: لما ولدت تنافست الأسماء في الشرف بك حتى تقارعت بالقرعة عليك فخرج سهم هارون فسميت به، فلم تسم بهارون إلا بعد هذه الحالة.
فغدوت واسمك فيك غير مشاركٍ ... والناس فيما في يديك سواء
يقول: فصرت لا شريك لك في هذا الاسم، إذ لام يسم أحد بهذا الاسم مثلك في الفضل، فصرت منفرداً به والناس شركاء في أموالك، يتصرفون فيها كيف شاءوا.
لعممت حتى المدن منك ملاء ... ولفت حتى ذا الثناء لفاء
اللام في قوله: لعممت جواب القسم، أي والله لعممت، أي ملأت المدن. وملاء: جمع ملآن. واللفاء: الشيء القليل الذي لا قدر له.
يقول: قد عممت الأرض بجودك، حتى المدن ممتلئة به، وسبقت ثناءك، لما لك من القدر حتى صار هذا الثناء الذي أثني به عليك قليل، في جنب قدرك.
وقد صرع البيت في أثناء القصيدة من غير انتقال إلى قصةأخرى. وهذا جائز وإن قل.
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهي ومن السرور بكاء
المنتهي: هو الانتهاء.
يقول: جدت حتى بلغت الغاية في الجود وكدت تستحيل بخيلاً، لأن الشيء إذا بلغ غايته انعكس إلى ضده. ثم قال: ومن السرور بكاء! أي أن الإنسان إذا تناهى في السرور دمعت عيناه، فيصير السرور بكاء.
أبدأت شيئاً منك يعرف بدوه ... وأعدت حتى أنكر الإبداء
يقول: ابتدأت فابتدعت بنوع المكارم ما لم يعهد قبلك، فمنك مبدؤه ثم كررته وزدت على ما كنت ابتدأت به، حتى تنسى الأول لأجل الثاني. ومثله:
فإذا أتيت بجود يومك مفخراً ... عمت به أرواح جودك في غد
فالفخر عن تقصيره بك ناكبٌ ... والمجد من أن تستزاد براء
ناكب: أي عادل. وبراء: أي بريء.
يقول: إن الفخر لا يقصر بك وهو ناكب عن أن يقصر بك؛ لأنك قد بلغت الغاية. والمجد: وهو الشرف، بريء من أن تستزيده؛ لأنه ليس فيه رؤية لم تبلغها أنت فتسأل الزيادة حتى تبلغها.
فإذا سئلت فلا لأنك محوجٌ ... وإذا كتمت وشت بك الآلاء(1/111)
الآلاء: النعم واحدها أليٌّ وإلي أي متى طلب الناس منك شيئاً فليس لأنك أحوجتهم إلى السؤال، ولكن سألوك تشرفاً بسؤالك وتلذذاً به، وإذا كتمك كاتم، أو كتم محلك وذكرك، دلت عليه نعمك الظاهرة المنتشرة، فلا يمكنه ذلك. ومثله قول مسلم:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعةً ... للشاكرين على الإله ثناء
يقال: كسب المال وكسب الرجل المال.
يقول: إن مدحنا إياك، لا يكسبك رفعة؛ لأنك في نفسك رفيع، وإنما نمدحك شكراً لإحسانك، وتشرفاً بمدحك، وترفعاً بالثناء عليك. ثم ضرب مثلاً بأن من يثني عليك كالشاكرين لله تعالى؛ لأنهم يشكرون الله تعالى، لنفع يعود إليهم، لاإلى الله عز وجل. وأخذه من قول الأول
فلو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ ... لعزة ملكٍ أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال: اشكروا لي أيها الثقلان
وإذا مطرت فلا لأنك مجدبٌ ... يسقي الخصيب ويمطر الدأماء
أجدب القوم: إذا أجدبت أرضهم، أو وقعوا في مكان جدب. والدأماء: البحر.
يقول: إذا مطرت فلست تمطر لإجداب محلك وجدب بلدك، ولكن تمطر مع الاستغناء عنه، كما يمطر المكان الخصيب وكما يمطر البحر مع كثرة مائه.
لم تحك نائلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرخصاء
الصبيب بمعنى المصبوب، وهو المطر. والرخصاء: عرق الحمى. والهاء في به: للنائل. والتأنيث: للسحاب؛ لأنه بمعنى الجمع.
يقول: إن السحاب لم يعارضك في السخاء بمائه وإنما حسدك لزيادتك عليه فحم بسبب كثرة عطائك، فهذا الذي ينصب عنه، عرق الحمى التي أصابته.
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجهٍ ليس فيه حياء
يقول: لم تلق الشمس وجهك، إلا بوجه ليس فيه حياء؛ إذ لو كان في وجهها حياء لم تقابله؛ لقصور نورها وبهائها عن نوره وبهائه.
فبأيما قدمٍ سعيت إلى العلا ... أدم الهلال لأخمصيك حذاء
قوله: ما صلة وأي استفهام في معنى التعجب وأدم الهلال: جلده. والحذاء: النعل يقول: إنك بلغت من العلا محلاً لم يبلغه أحد فبأي قدمٍ سعيت إليها؟! ثم دعا له: بأن يكون أديم الهلال نعلاً لأخمصيه: أي لا زلت عالياً حتى يصير الهلال لك بمنزله النعل.
ولك الزمان من الزمان وقايةٌ ... ولك الحمام من الحمام فداء
دعا له فقال: وقاك الله من حواث الزمان بالزمان، وفداك بالموت من الموت. وقيل: أراد ليهلك الزمان دون هلاكك، وليمت الموت دون موتك. وقيل: أراد به أهل الزمان، وقاية لك من حوادث الزمان، وموت أهل الزمان فداء لموتك فيموتون عنك.
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
الورى: الخلق من بني آدم. واللذ: بحذف الياء: لغة في الذي.
يقول: لو لم تكن من بني آدم، الذين هم في الحقيقة منك؛ لأنك جمالهم وشرفهم، ولو لم تكن فيهم لعدوا في العدم، ولكانت حواء بولادة نسلها عقيماً، كأنها لم تلد أحداً.
ودخل أبو الطيب يوماً على أبي علي الأوراجي فقال له أبو علي: وددنا أنك كنت معنا يا أبا الطيب اليوم. فقال أبو الطيب: ولم؟ فقال: ركبنا ومعنا كلبٌ لابن مالك، فطردنا به وحده ظبياً، ولم يكن لنا صقرٌ. فاصطاده! فقال أبو الطيب: أنا قليل الرغبة في ذلك والنظر إلى مثل هذا. فقال أبو علي: إنما اشتهيت أن تراه حتى تستحسنه فتقول فيه شيئاً. فقال أبو الطيب: أنا أفعل. قال له: فأحب منك ذاك. وتحدث أبو علي ثم قال: أنا أحب أن تفعل ما وعدتني، فقال له أبو الطيب: قد أحفيت السؤال! أتحب أن يكون ذلك الساعة؟ فقال أبو علي: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكمتك في الوزن، وحرف الروي. فقال أبو علي: بل الأمر فيهما لك. فأخذ أبو الطيب درجاً وأخذ أبو علي درجا يكتب فيه كتاباً إلى إنسان، فقطع عليه أبو الطيب الذي يكتبه وأنشده يصف كلب صيد أرسل على غزال وليس معه صقر.
ومنزلٍ ليس لنا بمنزل
ولا لغير الغاديات الهطل
الغاديات: السحاب يأتي غدوة، واحدها غادية. والهطل: جمع هاطلة، وهي الكثيرة المطر. يقال: هطلت السماء تهطل هطلاً وهطلاناًح إذا صبت صباً دائماً شديداً.
يقول: رب منزل ليس بمنزل الإنس، وإنما هو منزل السحاب التي تصب الأمطار.
ندى الخزامى ذفر القرنفل(1/112)
محللٍ ملوحش لم يحلل
الخزامى، والقرنفل: نبتان طيبان. وقيل: الخزامى خيري البر، والندى: الرطب. من بلد الندى. والذفر: الحاد الرائحة الطيبة والخبيثة، وبالدال النتن خاصة. والمحلل: المكان الذي يكثر الحلول فيه. وأراد: من الوحش فحذف النون، وقد مضى مثله.
يقول: هذا المنزل فيه رائحة الخزامى والقرنفل، وإنه منزل الوحش وفيه تخلق دون الناس، فلا يحله أحدٌ من الناس. وقيل: أراد هذا المكان محلل الوحش، وإن أخذه سهل حلال؛ لكثرته وقرب تناوله، فكأن هذا المنزل قد أحل فيه تناول الوحش ما لم يحل اصطياده في غير ذلك الموضع.
عن لنا فيه مراعي مغزلٍ
محين النفس بعيد الموئل
عن: أي ظهر وعرض. فيه: أي في المنزل. والمراعي: اسم من راعى. والمغزل: الظبية التي معها ولدها. فالمراعي الظبى، والمغزل: الظبية. ومحين النفس: الذي دنا حين أجله. والموئل: الملجأ.
يقول: ظهر لنا في هذا المنزل ظبي يراعي ظبية ذات ولدٍ. أي يرعى معها. وهو محين النفس: أي أن الحين لاحق به، ودنا هلاكه، وهو بعيد الملجأ: أي لا ملجآ له؛ لأن الكلب صلاه فصار هالكاً.
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلى
وعادة العري عن التفضل
الحلي: الحلي، فخفف. والعري والتفضل: أن يلبس ثوباً يبتذل له في منزل الخدمة. والهاء في أإناه: لمراعي مغزل.
يقول: إن حسن جيده أغناه عن التزين بالحلي، واعتياده أن يكون عرياناً كفاه، لفضله عن لبس الحلي.
كأنه مضمخٌ بصندل
معترضاً بمثل قرن الأيل
يقول: كأنه مطلي بالصندل، لا من كونه يضرب إلى الصفرة كلون الصندل، وقرنه في الطول مثل قرن الأيل: وهو التيس الجبلي. وقيل: الثور الجبلي. ومعترضاً: حال من الهاء في كأنه. وهو من سرعة عدوه يسق لحظة الكلب فلا يقدر أن يتأمله.
يحول بين الكلب والتأمل
فحل كلابي وثاق الأحبل
عن أشدقٍ مسوجرٍ مسلسل
أقب ساطٍ شرسٍ شمردل
الكلاب: صاحب الكلب. والوثاق: الرباط. والأشدق: واسع الشدقين وهما شق الفم عن يمين وشمال أي عن كلب أشدق. ومسوجر: أي في عنقه ساجور. وهو الخشب الذي يكون في عنق الكلب. ومسلسل: أي في عنقه سلسلة. والأقب: الضامر البطن. والساطي: البعيد ما بين الرجلين، إذا مشى. والشرس: السيىء الخلق. والشمردل: الطويل. وقيل: الخفيف الكثير الحركة.
يقول: حل الكلابٌ رباط الحبال عن كلب هذه صفته.
منها، إذا يثغ له لا يغزل
موجد الفقرة رخو المفصل
منها: يرجع إلى الأحبل، والكلاب، وإن لم يجر للكلاب ذكر؛ لدلالة الكلام عليها. وإذا يثغ صوت الثغاء: أي صوت الغنم. واستعاره للغزال وجزم يثغ بإذا ولا يجوز إلا في الشعر. وقوله: لا يغزل من قولهم: غزل الكلب يغزل، إذا دنا وأدرك الغزال، فتحير ولم يمسكه وقوله موجد الفقرة: أي وثيق الفقرة: وهو عظم الظهر وأراد برخو المفصل: أنه سريع التعطف.
يقول: إن هذا الكلب إذا أدرك أيلاً وثغاله لم يدهش من ثغائه، ولم يمسك عنه لاعتياده الاصطياد، وإنه وثيق عظم الظهر ورخو المفصل: أي سريع التعطف
له إذا أدبر لحظ المقبل
كأنما ينظر من سجنجل
يعدو إذا أحزن عدو المسهل
إذا تلا جاء المدى وقد تلي
أحزن: أي وقع في الحزن، وهو ما غلظ من الأرض. والمسهل: الواقع في السهل. والسجنجل: المرآة.
يقول: من تيقظه يرى ما وراءه كما يرى ما قدامه. وإنه يعدو في الحزن من الأرض مثل ما يعدو في السهل.
يقول: كأن عينه المرآة؛ من حيث إنه يرى بها خلفه وأمامه، كما يبصر الإنسان وجهه في المرآة؛ عن عكس المقابلة في الصورة.
يقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربعٍ مجدولةٍ لم تجدل
الإقعاء: هو أن يجلس على إليتيه ويرفع ركبتيه. وأقعى الكلب: إذا وقع على ذنبه. وجلوس: نصب على المصدر. المجدولة: المحكمة.
يقول: إذا تبع الصيد وعدا خلفه، أدرك الغاية، وتقدم الصيد، فيتلوه الصيد: يعني أنه يصير متبوعاً بعد أن كان تابعاً. يعني يسبق الصيد ثم يعطف عليه فيصييده ثم قال: يجلس هذا الكلب مثل جلوس البدوي على النار: يعني أنه لعظم جثته يشبه البدوي، وجلوسه يشبه جلوسه عند الاصطلاء بالنار، وقوله: بأربع. أي يقعي بأربع قوائم مفتولة وهي في الحقيقة لم تفتل.
فتل الأيادي ربذات الأرجل(1/113)
آثارها أمثالها في الجندل
الفتل: جمع أفتل. يعني أنه مفتول اليدين، وقيل: إنه جمع فتلاء، وهي التي تباعد ذراعها عن جنبها. وهي محمودة في الكلب. والأيادي: جمع الأيدي. والأيدي: جمع اليد. وربذات: أي مسرعات.
يقول: إن هذا الكلب يده على هذه الصفة. وإن رجله خفيفة سريعة الانتقال. وقوله آثارها: أي آثار هذه القوائم إذا مشى على الصخر. يعني أنها تؤثر في الحجر، وتترك فيه آثارها.
يكاد في الوثب، من التفتل
يجمع بين متنه والكلكل
وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالولي
التفتل: الالتواء. والكلكل: الصدر. والحضار: العدو.
يعني: يلتوي في وثبه حتى يكاد أن يجمع بين صدره وظهره، ورأسه وقوائمه. فآخر عدوه كأوله، لا يلحقه فتور ولا تعب. يسرع أولاً ولا يبطىء آخرا
كأنه مضبرٌ من جرول
موثقٌ على رماح ذبل
ذي ذنبٍ أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل
مضبر: أي مجتمع الخلق. والجرول: الحجر. والذبل: جمع الذابل، وهو الذي أخذه الحفا، ولم يلبس. والأجرد: قصير الشعر. والأعزل: المائل في أحد شقي الجسد، وهو عيب في الخيل، والكلاب.
يقول: كأنه أحكم ونحت من الحجر، وهو موثق على قوائم طوال، مثل الرماح الذبل. ثم وصف ذنبه، بأنه قليل الشعر؛ ليكون أخف، وأنه غير أعزل؛ لأنه عيب. وقوله: يخط في الأرض قيل: إنه من فعل الذنب، أي ذنبه طويل يخط في الأرض دفعة بعد أخرى، فيمحوا في الثاني، ما يخط في الأول، كما يفعل بالحروف الحساب على التخت، وقيل: أراد أن الكلب يخط ذلك، ووجه التشبيه أن أكثر ما يخط من حروف الهند أحرف معدودة، مختلفة الصور، فشبه آثار يدي الكلب ورجيله، يمنة ويسرة، على ما فيها من الاختلاف بتلك الصور.
والجمل: أصله جمل فشدد للضرورة.
كأنه من جسمه بمعزل
لو كان يبلي السوط تحريكٌ بلي
نيل المنى، وحكم نفس المرسل
وعقلة الظبي، وحتف التتفل
تحريكٌ: مرفوع؛ لأنه فاعل يبلي والسوط مفعوله.
يقول: كان هذا الكلب؛ من سرعته بمعزل عن جسمه. أي يكاد يترك جسمه ويتميز منه لسرعته. وقيل إن الهاء عائدة إلى الذنب، أي أن ذنبه طويل، بعيدٌ من جسمه، فكأنه في ناحية منه.
يقول: لو كان السوط يبلي من كثرة تحريكه، لكان هذا الكلب يبلى من سرعة عدوه، فكما لا يؤثر التحريك في السوط فكذلك كثرة العدو لا تؤثر فيه. فشبه جسمه لدقته وصلابته بالسوط.
وقيل: شبه ذنبه لدقته بالسوط. يعني: لو كان السوط يبلي من كثرة التحريك لكان ذنبه يبلي من كثرة تحريكه إياه.
والتتفل: ولد الثعلب. وقوله: نيل المنى: أي أن صاحبه إذا أرسله على الصيد نال مناه، وحكم لنفسه بما أراد. وهذا الكلب عقلة الظبي: أي هو للظبي بمنزلة العقال، لأنه لا يمكنه من العدو، وأنه هلاك ولد الثعلب. أي لا يقدر أن يفلت منه. وهو من قول امرىء القيس:
.......... قيد الأوابد هيكل
فانبريا فذين تحت القسطل
قد ضمن الآخر قتل الأول
في هبوة كلاهما لم يذهل
لا يأتلي في ترك ألا تأتلي
مقتحماً على المكان الأهوال
يخال طول البحر عرض الجدول
انبريا: أي اندفعا واعترضا. قوله فذين: أي فردين ونصبه على الحال، وأراد به الظبي والكلب. والقسطل: الغبار. والهبوة: الغبرة. أي أقبلا وظهرا للناظر يعدوان في الغبار منفردين لا ثالث معهما، وقد ضمن الآخر وهو الكلب قتل الأول وهو الغزال، لأن الكلب عدا خلف الظبي، وكل واحد منهما في وسط الغبار لم يغفل عن عدوه، بل كان مجداً فيه. الظبي للهرب. والكلب في الطلب. أي كل منهما لم يعرض له بغته ولم يأخذه سهوة والله أعلم ولا في قوله: لا يأتلي زائدة أي لا يأتلي في ترك أن يأتلي. ونصب مقتحماً على الحال، والعامل فيه لا يأتلي. وإن شئت نصبته بما بعده. أي يخال طول البحر مقتحماً. وهذه الأبيات تصلح أن تكون للكلب ولكل من الكلب والظبي يقول: إنه لا يقصر في ترك التقصير وإنه يطرح نفسه لشدة عدوه على الأمر الأعظم الأخوف ولا يبالي، لقلة مبالاته يظن طول البحر عرض النهر الصغير فيطرح نفسه فيه.
حتى إذا قيل له نلت افعل
افتر عن مذروبةٍ كالأنصل
لا تعرف العهد بصقل الصيقل
مركباتٍ في العذاب المنزل(1/114)
افتر: أي كشر. ومذروبةٍ: أي محدودة. والأنصل: جمع نصل.
يقول: حتى إذا وصل إلى الغزال وقيل له: أصبته افعل به ما شئت. كشر عن أنياب محددةٍ مصقوله كأنها النصول في الحدة، وهذه الأنياب كانت مصقولة خلقةً لا بصنعة صيقل، وإنها مركبة في حنك شديد، كل من عضه حطمه، كأنه عذاب منزل على الغزال.
كأنها من سرعةٍ في الشمأل
كأنها من ثقلٍ في يذبل
كأنها من سعةٍ في هوجل
التأنيث: للمذروبة. ويذبل: جبل. والهوجل: ما اتسع من الأرض.
شبه حنكه؛ لسرعته بالشمال وشبه شدقه بيذبل الجبل المتسع. أي كأن هذه الأنياب مركبة في الشمال، وشبه شدة عض الحنك بالجبل. أي كأن الأنياب من ثقلها مركبه في يذبل.
كأنه من علمه بالمقتل
علم بقراط فصاد الأكحل
المقتل: يجوز أن يكون مصدراً أو اسماً للموضع الذي إذا أصيب قتل، فمعناه على المصدر: أي كأنه لعلمه بالمقتل وأراد به إراقة الدماء علم بقراط الحكيم فصد الأكحل. وعلى الاسم: أي كأنه من حذقه بالصيد واجتنابه عند العض مواضع القتل علم بقراط الحكيم فصد الأكحل. والأكحل: عرق باطن الزراع.
فحال ما للقفز للتجدل
وصار ما في جلده في المرجل
فلم يضرنا معه فقد الأجدل
التجدل: السقوط على الجدالة، وهي الأرض. والأجدل: الصقر.
يقول: فحال: أي استحال وانقلب ما للقفز: وهو الوثوب، وهي القوائم أي صارت قوائمه التي يقفز بها للسقوط، وصار ما في جلدها من اللحم في المرجل: أي ذبحناه وطبخناه بعد سلخ الجلد فلم يضرنا مع هذا الكلب فقد الصقر؛ لأنا صدنا بالكلب وحده، وذلك لأن الكلب لا يقدر على صيد الغزال إلا مع الصقر، إلا هذا الكلب.
إذا بقيت سالماً أبا علي
فالملك لله العزيز ثم لي
ختم بالدعاء له ومعناه ظاهر
قصائد بدر بن عمار
وقال يمدح بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وهو يومئذٍ على حرب طبرية من قبل أبي بكر محمد بن رائق:
أحلماً نرى أم زماناً جديدا ... أم الخلق في شخص حيٍّ أعيدا؟!
أحلماً: نصب بنرى. وأم زماناً: عطف عليه بأم. وجديدا: صفة لزمان. وقوله: أم الخلق: رفع لأن أم ها هنا منقطعة، والأولى متصلة.
يقول: إن ما أرى من صفات هذا الممدوح وأفعاله عجب أنراه في المنام لبعده عن العادة، أم هذا زمان جديد، غير ما كان من قبل؛ لأننا نرى فيه ما لم يعهد في زمانٍ قبله! أم الناس قد أعيدوا في شخصٍ واحد؟!
تجلى لنا فأضانا به ... كأنا نجومٌ لقينا سعودا
تجلى: أي ظهر. فأضانا به: أي صرنا مضيئين به. وهو فعل لازم وأضاء يلزم ويتعدى.
يقول: ظهر لنا هذا الممدوح، فعلا نوره وشرفه حتى أنرنا به، ولما ظهر كنا كأنا النجوم لقينا سعوداً فحسن بنوره وبركته.
رأينا ببدرٍ وآبائه ... لبدر ولوداً، وبدراً وليدا
أراد بالبدر الأول: الممدوح. والثاني: هو القمر. وبدراً ولوداً ووليداً: نصب برأينا. واللام في قوله لبدر: لام المفعول إذا قدم على الفعل كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " أي إن كنتم تعبرون للرؤيا.
يقول: لما رأينا بدراً وهو الممدوح وأباه، لأن أباه قد ولد بدراً، ورأينا بدراً قد ولد، وهذا غير معهود في العالم أن يكون البدر والد البدر. جعله بدراً في الحقيقة ثم تعجب من كونه مولوداً!
طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا، له فتركنا السجودا
يقول: رضينا أن نسجد له؛ إعظاماً، فكره هو ذلك وأنكر منا السجود له، ولم يرضه. وطلبنا رضاه بترك السجود؛ موافقة وإيثاراً لرضاه على رضانا.
أميرٌ أميرٌ عليه الندى ... جوادٌ، بخيلٌ بألا يجودا
هذا كقول أبي تمام:
ألا إن الندى أضحى أميراً ... على مال الأمير أبي الحسين
يقول: هو أمير على الناس، والسخاء أمير عليه؛ لأنه يطيع أمره، فهو أبداً جواد لا يعدل عنه. وهو بخيل بألا يجود: أي بخيل. بترك الجود وهذا غاية الجود.
يحدث عن فضله مكرهاً ... كأن له منه قلباً حسوداً
يقول: هو يكره أن يحدث عنه بما فيه من الفضل؛ تنزهاً عن الكبر، فمتى حدث عنه فضله حدث مكرهاً عليه من غير اختيار منه، حتى كأن نفسه تحسده فلا تحب أن تسمع ثناءه، كما لا يحب الحاسد ذلك.
ويقدم إلا على أن يفر ... ويقدر إلا على أن يزيدا(1/115)
أقدم على الأمر: إذا دخل فيه غير خائف منه.
يعني: أنه شجاع يقدم على كل أمر صعب إلا على زيادةٍ من مجده وعلو محله، فلا نهاية فوقه ولا يقدر عليه.
كأن نوالك بعض القضاء ... فما تعط منه نجده جدودا
يقول: إنك إذا أعطيت إنساناً صار له بنوالك جد في الناس، وحظ من السعادة، فكأن عطاءك بعض القضاء حيث أنه يسعد كما يسعد بالقضاء.
وربتما حملةٍ في الوغى ... رددت بها الذبل السمر سودا
رب وربما وربت وربتما: لغات كثم وثمت وما زائدة.
يقول: رب حملة لك في الحرب، فرجعت ورماحك السمر صاروا سوداً من الدم الذي جف عليها.
وهولٍ كشفت ونصلٍ قصفت ... ورمح تركت مباداً مبيدا
النصل: حديد السيف من غير قائم، وكذلك من الرمح والسهم والسكين.
يقول: ورب هول كشفته عن أوليائك في الحروب وغيرها، ورب سيف كسرته في أعدائك، ورب رمحٍ كسرته في طعنك العدو بعد أن قتلته فتركته مباداً مبيدا: أي مكسوراً وكاسراً لمن طعن به.
ومالٍ وهبت بلا موعدٍ ... وقرنٍ سبقت إليه الوعيدا
يقول: رب مال وهبت ابتداء من غير وعد يتقدمه، ورب قرن: أي عدو، سبقت الوعيد إليه: أي قتلته قبل أن أوعدته وتهددته.
بهجر سيوفك أغمادها ... تمني الطلى أن تكون الغمودا
الطلى: جمع طلية، وهي صفحة العنق. والباء في بهجر سيوفك أي بسبب هجر سيوفك.
يقول: إذا فارقت سيوفك الأغماد لا تعود إليها، وتنتقل من هامٍ إلى هام من رقاب أعدائك، فهي تتمنى أن تكون أغماداً لسيوفك حتى لا تسيئها ولا تضرها، وقيل: أراد أنها تتمنى أن تكون غموداً لسيوفك ومن جملة قتلاك؛ لعلمها أن أعداءك إذا ماتوا بسيوفك كان ذلك فخراً لهم.
إلى الهام تصدر عن مثله ... ترى صدراً عن ورود ورودا
الهاء في مثله للهام، فرده إلى اللفظ.
يقول: ترد هذه السيوف الهام بعد صدورها عن هام آخر، فيصير الصدور عن ورود الهام، فهي أبداً صادرة واردة. وقوله: ترى فعل السيوف ويجوز أن يكون للخطاب. والورود: الإتيان: والصدور: الرجوع.
قتلت نفوس العدى بالحدي ... د حتى قتلت بهن الحديدا
الكناية في بهن للنفوس. يقول: قتلت العدى بالسلاح حتى كسرت السلاح في الأعداء مثل قوله:
ورمح تركت مباداً مبيدا
وقوله:
القاتل السيف في جسم القتيل
ومثله لأبي تمام:
وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا
فأنفدت من عيشهن البقاء ... وأبقيت مما ملكت النفودا
طابق بين أنفدت وأبقيت.
يقول: أفنيت من نفوس العدا البقاء، حتى عدمت وفنيت، وأبقيت مما ملكت النفوذ. أي أفنيت أعداءك بالقتل ومالك بالبذل.
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
يقول: كأنك تبغي البقاء والخلود. بالموت في الحرب، والغنى بالفقر! يعني: أنت تحرص على إتلاف مالك في الجود. ونفسك في الحرب، فكأنك ترى غناك في الفقر، وخلودك في الموت.
خلائق، تهدي إلى ربها ... وآية مجدٍ أراها العبيدا
خلائق: خبر ابتداء محذوف، أي هذه الأفعال خلائق. وربها: قيل هو الممدوح وقيل: هو الله تعالى، وأراها وفعل الله تعالى أو الممدوح يقول: هذه الأفعال خلائق غريبة تدل على صاحبها. الذي هو الممدوح. علامة مجد، أراها الممدوح الذي هو ربها، أي أعلمها العبيد، أي الذين أنفسهم أنفس العبيد، وأراد سائر الناس. وعلى الوجه الآخر: أنها تدل على الله تعالى أنه مجد، أظهرها الله تعالى لعباده لتدل على قدرته.
مهذبةٌ حلوةٌ مرةٌ ... حقرنا البحار بها والأسودا
يقول: هذه خلائق مهذبة. أي مخلصة من كل عيب، وهي حلوة لأحبابه، ومرةٌ لأعدائه. وقيل. حلوة: أي كل أحد يستحلها ويستحسنها. ومرةً: أي لا يمكن الوصول إليها لصعوبتها، ولما فيها من بذل المال والمخاطرة بالنفس، حتى إذا قيست البحار إليها حقرت، وكذلك الأسود حقيرة؛ لما له من السخاء والشجاعة.
بعيدٌ على قربها وصفها ... تغول الظنون وتنضي القصيدا
تغول: يعني تهلك، يقال: غالته غول: أي أهلكته. وتنضي: أي تهزل.(1/116)
يقول: هذه الخلائق قريبة منا، نشاهدها ولكن وصفها بعيد؛ لأنا لا ندرك غورها، فظنوننا تهلك قبل الإحاطة بها، وأشعارنا تعجز عن استيفائها. وهو المراد بقوله: وتنضي القصيد أي تعجزها.
فأنت وحيد بني آدمٍ ... ولست لفقد نظيرٍ وحيدا
يقول: أنت أوحد بني آدم؛ لفضلك وقصور الناس عن محلك، لا لأنه كان لك نظير ففقدته لأنه مات وانقضى فبقيت وحيداً، بل أنت مع وجود الخلق كلهم بلا نظير، وضد ذلك قول الشاعر:
خلت الديار فسدت غير مدافع ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
وقال أيضاً فيه وقد فصده الطبيب من أجل علة فغرق المبضع فوق حقه فأضر به ذلك:
أبعد نأي المليحة البخل ... في البعد ما لا تكلف الإبل
وروى مكان المليحة البخيلة ومكان قوله: في البعد في البخل يقول: أبعد بعد المحبوبة البخل: أي أن بخلها على محبها أشد عليه من بعدها لأنه بعدٌ لا يحتاج معه إلى تكليف الإبل مشقة السير. ومثله قول أبو تمام:
لا أظلم البين قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النوى عندي نوىً قذفا
غير أن أبا الطيب ذكر هذا المعنى في المصراع الأول، وزاد مثلاً آخر في المصراع الثاني.
ملولةٌ ما يدوم ليس لها ... من مللٍ دائم بها ملل
الهاء في ملولة للمبالغة؛ إلحاقاً لها بالأسماء، كالمحمولة والمركوبة والمحلوبة، ولو جعله وصفاً لكان بغيرها؛ لأن فعولاً إذا كان صفةً لا يلحقها علامة التأنيث نحو: امرأة صبور وشكور. وما بمعنى الذي، موضعه نصب. أي تمل الذي يدوم. ويجوز أن تكون بمعنى شيء أي تمل كل شيء يدوم، ومللها دائم، فليس لها من مللها الدائم ملل. وكان القياس أن تمله كما تمل كل شيء يدوم.
وروى. بالتاء فما تكون للنفي ومعناه: أنها ملولة لا تدوم على حالة واحدة؛ فتكون تأكيداً لقوله ملولة ومثل هذا البيت قول بعض المتأخرين:
إن خلف الميعاد منك طبيعةٌ ... فعدينا إذا تفضلت هجرا
يعني: أن من عادتك إخلاف وعدك، فتفضلي وعدينا بالهجر؛ لتجري على طبيعتك فتخلفي وعدك فتصلينا خلافاً لوعدك.
كأنما قدها إذا انفتلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
انفتلت: أي تثنت، والتوت. وقيل: إذا التفتت.
يقول: كأن هذه المرأة حين تثني قدها سكران من خمر طرفها. وهذا يتضمن وصفها بالتبختر، ووصف عينيها بالملاحة.
يجذبها تحت خصرها عجزٌ ... كأنه من فراقها وجل
الهاء في كأنه للعجز. والوجل: الخائف. وتحت خصرها: نصب على الظرف. ويجوز أن يكون حالاً من النكرة. أي يجذبها عجز كائن تحت خصرها، فلما تقدم نصب على الحال.
يقول: خصرها دقيق، وعجزها غليظ، فإذا أرادت النهوض جذبها عجزها وأمسكها، كأنه يخاف انفصالها عنه فهو متعلق بها كما يتعلق الرجل بذيل صاحبه إذا خاف نهوضه كما قال الآخر:
فقعودها مثنى إذا قعدت ... وقيامها فرداً إذا نهضت
أي إنها إذا أرادت القيام جذبها ثقل ردفها مرة أخرى.
بي حر شوقٍ إلى ترشفها ... ينفصل الصبر حين يتصل
يتصل الفعل بحر الشوق.
يقول: بي حر شوق إلى مص ريق هذه المرأة، متى اتصل هذا الحر والشوق ينفصل عني الصبر. وقيل: إن يتصل فعل الترشف، كأنه يقول: متى اتصل الترشف ووجدت إليه سبيلاً انفصل صبري وزاد حر الشوق لاستطابة الريق والإشفاق من انقطاعه.
الثغر والنحر والمخلخل وال ... معصم دائي والفاحم الرجل
الثغر: السن ما دامت نابتة في الفم. والنحر: الصدر. والمخلخل: الساق وهو موضع الخلخال. والمعصم: الذراع. والفاحم: الشعر الأسود. والرجل: بين الجعد والسبط.
ومهمةٍ جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
المهمة: المفازة. جبته: أي قطعته. وعرامس: جمع عرمس، وهي الناقة القوية الصلبة. والذلول: ضد الصعبة.
يقول: رب فلاةٍ قطعتها على قدمي، وكانت بحيث يعجز عن قطعها الإبل القوية المعودة السير والركوب. يفضل نفسه عليها.
بصارمي مرتدٍ، بمخبرتي ... مجتزىءٌ بالظلام مشتمل(1/117)
مرتدٍ: أي متقلد. ومخبرتي: بخبرتي: مشتمل أي ملتحفٌ وروى متشحٌ أي متزين. وقوله: بالظلام مشتمل أي ملتحف. وقوله: بصارمي مرتد في موضع الحال ومجتزىء، أي قطعته وأنا كذلك، وكذلك ما بعده إلى آخر البيت، ولو نصبته على الحال لجاز، ولكنه أضمر المبتدأ وجعل قوله: مرتد خبره والجملة في موضوع النصب على الحال.
يقول واصفاً نفسه بجرأة القلب، والهداية لمعرفة المفاوز: ورب مهمة سرت فيها ليلاً وقطعتها وحدي راجلاً لا يصحبني أحد غير سيفي، ولا دليل يدلني إلا معرفتي وخبرتي، وقد اشتملت الظلام وأقمته مقام اللحاف.
إذا صديقٌ نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
نكرت وأنكرت بمعنىً واحد. وقوله: لم تعيني أي لم يتعذر علي. والحيل رفع لأنه فاعل لم تعيني.
يقول: إذا رأيت من صديقي ما كرهت لم يصعب علي الاحتيال في فراقه. أي أني أفارقه وأسير عنه. ومثله لجرير:
سريعٌ إذا لم أرض داري خياليا
في سعة الخافقين مضطربٌ ... وفي بلادٍ من أختها بدل
الخافقان: جانبا الأرض بين المشرق والمغرب؛ سميا بذلك لوجود الخلق بينهما، ذهابهم ومجيئهم والمضطرب: يجوز أن يكون بمعنى الاضطراب، وأن يكون اسماً لمكان الاضطراب.
يقول: إذا ضاق بي مكان رحلت عنه إلى غيره؛ لأن في سعة الأرض مكانٌ غيره، ويقوم بدل مكان البلد الأول والهاء في أختها للبلد وروى أمثاله من الأشعار كثيرة منها:
ولله أرضٌ ذات طوالٍ عريضةٌ ... إذا ذل منها جانبٌ عز جانب
ومثله قول البحتري:
شرق وغرب تجد من معرضٍ ... فالأرض من تربة والناس من رجل
ومثله:
وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " وأرض الله واسعة " وقوله: " ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها ".
وفي اعتماد الأمير بدر بن عما ... رٍ عن الشغل بالورى شغل
الاعتماد: يجوز أن يكون من قولك: اعتمدت فلاناً إذا استعنت به، كأنك جعلته عماداً لك. ويجوز: افتعالاً من عمدت الشيء، إذا قصدته.
يقول: إن اعتمادي بدراً أشغلني عن كل أحد، فلا أبالي بصديق إذا تغير عني وتقديره: في اعتماد الأمير بدر بن عمار شغلٌ لي شغلني عن الورى.
أصبح مالاً كماله لذوي ال ... حاجة لا يبتدي ولا يسل
يقول: أصبح مالا معداً لذوي الحاجة يتناولونه فهو للمحتاجين، كماله له، فكما أنه إذا أراد ماله لم يحتج إلى ابتداء من معط، ولا إلى مسألة، فكذلك المحتاجون يأخذون ويتصرفون فيه متى شاءوا فهو لا يبتدىء بهم بالعطاء، لأنه لا يحزن المال دونهم ولا يسأل، لأنه لا يحتاج إلى ذلك.
وقيل: أراد أنه أصبح مالاً كماله. على معنى: كما أن ماله لا يستأذن الواردون في أخذه، فلا يكون منه ابتداء بالدفع ولا سؤال من الوارد، فكذلك نفسه مبذولة لهم.
هان على قلبه الزمان فما ... يبين فيه غمٌّ ولا جذل
يكاد من طاعة الحمام له ... يقتل من ما دنا له أجل
هان: أي سهل، من قولهم: هذا أمر هين.
يقول: إنه يحتقر الزمان، فلا يحزن لإدباره، ولا يفرح بإقباله. بل غرضه فعل الجميل، لاقتناء الثناء الجزيل.
وقوله: طاعة الحمام له. الهاء في: له الأولى للمدوح، وفي له الثانية: ترجع إلى من.
يقول: إن الموت يطيعه حتى أنه لفرط طاعته يقرب أن يقتل من لم يحن أجله.
يكاد من صحة العزيمة، ما ... يفعل قبل الفعال ينفعل
يقول: إنه صحيح العزم، فمن صحة عزمه إذا هم بأمر قارب أن يكون ذلك الفعل، قبل أن يفعله.
تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل
يقول: إنك إذا نظرت إليه تعرف حقيقته المختصة به في عينه؛ لظهور أثرها عليه، فكأنه قد اكتحل بالذكاء والفطنة، وهذا من قوله تعالى: " سيماهم في وجوههم " وفي المثل: إن الجواد عينه فراره ويجوز أن تكون العين بمعنى النفس. ويجوز أن تكون العين بمعنى الرؤية.
أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل
الهاء في عليه: للممدوح وفي منها للفكرة.
يقول: أخاف من حدة فكرته، أن يشتعل من حرارتها، لأن الذكي والفطن يوصف بأنه متقد القلب.
أغر، أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكرثوا الذي فعلوا
روى استكبروا واستكثروا.(1/118)
أغر: أي أبيض الوجه، صيغته تتعدى إلى مفعولين. أو معروف مشهور كالغرة في الفرس. ثم ابتدأ فقال: أعداؤه إذا سلموا منه بالهرب، استعظموا ذلك من أنفسهم.
يقبلهم وجه كل سابحةٍ ... أربعها قبل طرفها تصل
يقبلهم: من قولهم: أقبلتهم وجه الخيل، فيتعدى إلى مفعولين، ومنه:
وأقبلت أفواه العرق المكاويا
وقيل: أراد يقبل عليهم بوجه، فحذف حرف الجر ضرورة. وأربعها: قوائمها الأربع، والتأنيث للسابحة.
يقول: إنه يستقبل أعداءه بوجه كل فرس سابحة، من سرعة عدوها تصل قوائمها إليهم قبل وصول طرفها إليهم، يعني أنها إذا نظرت إليهم وصلت قوائمها قبل طرفها.
جرداء ملء الحزام مجفرةٍ ... تكون مثلى عسيبها الخصل
جرداء: أي قصيرة شعر الحافر. وقيل: هي المتجردة من الخيل لتقدمها. ومجفرة: أي عظيمة البطن لملء حزامها. والعسيب: العظم الذي عليه شعر الذنب، ويستحب قصره. والخصل: جمع خصلة وهي القطعة من الشعر. يعني: إن عظم ذنبه قصير، وشعره طويل.
إن أدبرت قلت: لا تليل لها ... أو أقبلت قلت: ما لها كفل!
التليل: العنق.
يقول: إنها مشرفة العنق ممتلئة الكفل، فإذا أقبلت عليك حال عنقها بينها وبين كفلها حتى ظننت أنه لا كفل لها، وإذا أدبرت حال ردفها بينك وبين عنقها، حتى ظننت أنه لا عنق لها. وهذا محمود فيها.
والطعن شزرٌ والأرض واجفةٌ ... كأنما في فؤادها وهل
روى: واجفة، وراجفة، ومعناهما واحد: وهو الاضطراب. والوهل: الخوف. والواو في والطعن. للحال والهاء في فؤادها: للأرض.
يقول: إنه يقبل على أعدائه بخيل، والطعن شزرٌ والأرض مضطربة، حتى كأن في قلبها فزع لشدة الارتعاد.
قد صبغت خدها الدماء كما ... يصبغ خد الخريدة الخجل
الخريدة: الحبيبة. والخجل: فتور يصيب المرأة عند الاستحياء. والهاء في خدها: راجعة إلى السابحة، وقيل إلى الأرض. ومعناه على الأول: إن الدماء قد صبغت خد السابحة، ولا تفزع ولا تنفر، كما يصبغ خد الجارية الحبيبة. الخجل؛ لأنه يولد الحمرة في الوجه. وهذا من قول امرىء القيس:
كأن دماء الهاديات بنحرها ... عصارة حناءٍ بشيبٍ مرجل
وعلى الثاني: أراد أن الأرض قد احمرت بالدم، مثل احمرار خد الجارية بالخجل. وقوله: خد الأرض. استعارة.
والخيل تبكي جلودها عرقاً ... بأدمع ما تسحها مقل
ما تسحها: أي ما تصبها. والمقلة: شحمة العين التي تجمع البياض في السواد. أراد أن الخيل تسيل عرقها من شدة عدوها، وشبه العرق بالدمع، وشبه جلود الخيل بالعيون، وهذا التشبيه حسن؛ لأن الدمع والعرق لا يكونان إلا من الشدة.
سار ولا قفر من مواكبه ... كأنما كل سبسبٍ جبل
روى: سار. وتقديره: وهو سار. والقفر: المكان الخالي. والسبسب: الفضاء الواسع يقول: إنه إذا سار ملأ الدنيا خيلاً ورجالاً، فلا يكون موضعٌ خالٍ من مواكبه؛ لكثرة جيشه، فتصير المفاوز بمنزلة الجبل لكثرة جيشه وكثرة سلاحهم.
يمنعها أن يصيبها مطرٌ ... شدة ما قد تضايق الأسل
الهاء في يمنعها ويصيبها: للمواكب. والأسل: الرماح. وفاعل يمنعها: شدة. وفاعل يصيبها: المطر.
يقول: إن الرماح تضامت وتضايقت حتى حالت بين الخيل وبين المطر فمنعها تضايقها أن يصيبها المطر.
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
وروى: يا همام.
يقول: مع هذه الأوصاف المذكورة أنت رجل في الحقيقة. والشرى: موضع بعينه توصف أسوده بالجرأة.
إن البنان الذي تقلبه ... عندك في كل موضع مثل
قوله عندك لا فائدة فيه إلا تمام البيت.
يقول: إن البنان الذي تقلبه بالسخاء هو مثلٌ مضروب في كل موضع، أي: إن الناس يضربون المثل في الجود ببنانك.
إنك من معشرٍ إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
المعشر: مفعل من المعاشرة، وهو الاجتماع والمخالطة.
يقول: إنك من قوم كرام، لا يعدون الجود إلا بذل الأعمار، فإذا وهبوا ما دون الأعمار، فقد بخلوا عند أنفسهم.
قلوبهم في مضاءٍ ما امتشقوا ... قاماتهم في تمام ما اعتقلوا
الامتشاق: قيل هو استلال السيف. وقيل التقلد به.
يقول: إن قلوبهم في المضاء مثل سيوفهم المستلة، وقاماتهم في الطول مثل رماحهم المعتقلة.(1/119)
أنت نقيض اسمه إذا اختلفت ... قواضب الهند والقنا الذبل
أنت لعمري البدر المنير ولكنك ... في حومة الوغى زحل
القواضب: القواطع. وقوله: نقيض اسمه أي أنك بدر تضيء الدنيا، ولكنك في الحرب تستحيل زحلاً على أعدائك وتصير ظلمة عليهم ونحساً لهم مثل زحل.
كتيبةٌ لست ربها نفلٌ ... وبلدةٌ لست حليها عطل
النف: الغنيمة. والعطل: التي لا حلي عليها.
يقول: كل كتيبة لست صاحبها فهي غنيمة لأعدائها، وكل بلدة لست واليها، فهي عطل: أي لا عدل فيها. يعني: أن الجيوش لا تمنع إلا بك، والبلاد لا تتزين إلا بعدلك.
قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك الركاب والسبل
أي قصدت من شرق الأرض ومغربها، فأضمر الأرض وإن لم يجر لها ذكر لتقدم العلم بها كقوله تعالى: " ما ترك على ظهرها من دابة ".
يقول: كثر القصد إليك من نواحي الأرض شرقها وغربها، حتى اشتكتك الركاب والسبل؛ لكثرة سير القصاد عليها إليك، وركوبهم عليها. ومثله قول أبي العتاهية.
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
لم تبق إلا قليل عافيةٍ ... قد وفدت تجتديكها العلل
تجتديكها: أي تطلبها منك، والهاء: للعافية.
يقول: إنك وهبت جميع مالك، فلم يبق لك إلا قليل عافية في بدنك؛ وعلمت العلل بسخائك فقصدتك تسأل العافية منك؛ وإنما قال: قليل العافية، لأنه أراد أنه كثير التعب في طلب المكارم وحمل المغارم، فلم يبق من العافية إلا السلامة من المرض فقط.
عذر الملومين فيك أنهما ... آسٍ جبانٌ ومبضعٌ بطل
كان الطبيب فصده فغرق المبضع في ذراعه، فذكر أبو الطيب عذرهما، وأراد بالملومين: الطبيب والمبضع. فقال: إن عذرهما. أنه كان جباناً ومبضعه جريئاً؛ فلما أراد فصده دهش فلم يمكنه ضبط مبضعه فغاص في العرق فوق الواجب، وليس من واحد منهما ذنبٌ.
مددت في راحة الطبيب يداً ... وما درى كيف يقطع الأمل
يعتذر عن الطبيب ويقول: إن صناعة الطبيب فصد العروق، لا قطع الآمال، ويدك معدن الآمال، وقد أمرته بقطع الآمال، ولا عهد له بذلك، فاعذره على غلطه. ومثله لابن المعتز:
يا فاصداً ليدٍ جلت أياديها ... ونال منها الذي يرجوه راجيها
يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فإن أرزاق طلاب الندى فيها
إن يكن النفع ضر باطنها ... فربما ضر ظهرها القبل
النفع: أراد به الفصد؛ لأن العافية تعود إليه.
يقول: إن كان الفصد ضر باطن يدك فطالما ضر ظهرها تقبيل الناس. أراد أنها لدقتها ولطافتها يؤثر فيها التقبيل. ومثله لابن الرومي:
فامدد إلي يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
ومثله قول أبي تمام:
تقبل الركن ركن البيت نافلةً ... وظهر كفك موقوفٌ على القبل
يشق في عرقها الفصاد ولا ... يشق في عرق جودها العذل
الفصاد: مصدر كالفصد.
يقول: إن كان الفصد يشق عرق يدك ويؤثر فيه، فإن عرق جودها لا يؤثر فيه اللوم.
خامره إذ مددتها جزعٌ ... كأنه من حذاقةٍ عجل
الهاء في خامره: للطبيب، وقيل للمبضع. ومعناه. خالطه. العجل: المستعجل.
يقول: لما مددت يدك إلى الطبيب، أخذته هيبة فدهش، وأخذه الجزع فأداه حذقه إلى الاستعجال، فتجاوز الحد وأفرط فيه، فكأنه من حذاقته مستعجل.
جاز حدود اجتهاده فأتى ... غير اجتهادٍ لأمه الهبل
الهبل: الثكل: وهو موت الولد. أي جاوز الحد فغلط. ثم دعا عليه أنه يفقد.
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمق الزلل
النجاح: الظفر. والتعمق: التكلف وتناهي الحد.
يقول: إن الإنسان إنما يظفر بمراده إذا جرى على طبعه، فإذا تكلف أد إلى الغلط والزلل.
إرث لها إنها بما ملكت ... وبالذي قد أسلت تنهمل
يقول: ارحم يدك فإنها تنهمل بما تملكه من الأموال، وبالدم الذي قد أسلته منها، فلا تجمع عليها سلب الأموال وإسالة الدم فيضر ذلك بها.
مثلك يا بدر لا يكون، ولا ... تصلح إلا لمثلك الدول
يقول: مثلك غير موجود، ولا يوجد في المستقبل، ولا تصلح الدولة إلا لمثلك، فإن لم يكن أحد مثلك فالملك لا يستحقه أحد غيرك أبداً.
وقال أيضاً في بدر بن عمارٍ يمدحه:(1/120)
بقائي شاء ليس هم، ارتحالا ... وحسن الصبر زموالا الجمالا
ارتحالا: نصب بشآء، وفاعله: ضمير بقائي. وحسن الصبر: نصب بزموا. والجمال: عطف عليه، وليس: بمعنى: لا وأنه ليس له خبر.
وقيل. اسم ليس: مضمر. وهم: خبره. وقيل. اسمه: هم. غير أنه استعمل الضمير المنفصل في موضع المتصل. قوله. زموا: أي أمسكوا الجمال وحبسوها ليركبوها ويحملو عليها ومثله لأبي تمام:
قالوا الرحيل؛ فما شككت بأنه ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
تولوا بغتةً فكأن بيناً ... تهيبني ففاجأني اغتيالا
البغتة، والفجاءة، والاغتيال متقاربة برحيلهم قبل وقوعه، فكأن البين كان يخاف مني أن يجاهرني بالإقدام علي، فهجم علي وأنا غافلٌ عنه. فقوله: تهيبني من ألفاظ الفخر استعمله في الغزل.
فكان مسير عيسهم ذميلاً ... وسير الدمع إثرهم انهمالا
الذميل: ضرب من السير السريع. وروى: عيرهم.
قال ابن جنى: معناه أن مسير إبلهم كان ذميلاً. وهو السير المتوسط. وسير دمعي انهمالا يعني: أن دمعي سبق عيسهم، فكان سيره أسرع من سير عيسهم. وقيل: إن معناه أن دمعي كان يباري إبلهم فالإبل تسرع السير، والدمع يسرع. وهو الصحيح، لأن الذميل هو السير السريع. كذا ذكره ابن السكيت.
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخاةٍ فلما ثرن سالا
وروى: فلما سرن. مناخاةٍ: أي باركات. يقال: أنخته فبرك، ولا يقال: ناخ. وثار البعير يثور: إذا نهض من مبركه. وسالا: من سال سيلاً فاعله: ضمير الدمع.
يقول: كأن العيس سائرات، كانت فوق جفني مناخة، قد سدت مجاري الدمع وحبسته من السيلان، فلما نهضت عن جفنه عند سيرهن، سال الدمع المحبوس. وهذا من بدائع ما ذكره أبو الطيب.
وحجبت النوى الظبيات عني ... فساعدت البراقع والحجالا
الظبيات، بتحريك الباء، جمع ظبية، نحو جفنة وجفنات. ويجوز الإسكان. والتأنيث: للنوى؛ لأنها مؤنثة. والحجال: جمع حجلة.
يقول: لما ارتحلوا حجبت النوى هذه النساء اللواتي هن كالظبيات عني ورافقت هذه النوى البراقع والحجال، فكما كانت البراقع والهوادج تسترهن، فكذلك النوى، سترتهن عني، فاتفقا من هذا الوجه.
وقيل: إن مساعدتهما هو أن البراقع والهوادج إنما يحصل لهن عند إرادتهن الارتحال، وهو وقت النوى، فكأن النوى ساعدت البراقع والحجال حيث إنهما يكونان معاً.
لبسن الوشي لا متجملاتٍ ... ولكن كي يصن به الجمالا
نصب متجملات على الحال. والمتجمل: من يتكلف التجمل. المعنى: أنهن لبسن ثياب الوشي والديباج، لا لاجتلاب الحسن واكتساب الجمال؛ ولكن لبسنه ليسترن حسنهن ويصن جمالهن. وقيل: أراد أنهن يلبسن ذلك صيانةً لجمالهن من العيون.
وضفرن الغدائر لا لحسنٍ ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
الضفر: الفتل. والغدائر: جمع غديرة، وهي الذؤابة، وسميت غديرة؛ لأنها غودرت حتى طالت. والضلال: الضياع.
المعنى: أنهن لا يضفرن شعورهن ويضعن فيها؛ لطولها وكثافتها ووفورها.
وقيل: أراد أنهن خفن ضلال الناس في شعورهن.
وفيه وجهان: أحدهما: أن الدنيا تصير مظلمة من سواد شعورهن، فيضل الناس عن الطريق حضراً وسفراً، فإذا ضفرنها تظهر لهم وجوههن، فيغلب ضياء الوجوه سواد الشعور، فلا يضلون.
والثاني: أن الناس يضلون عن الدين؛ افتتاناً بهن وبحسن شعورهن، فإذا ضفرنها صار الأمر أهون؛ لأنه لا يكاد يتبين فيه الجعودة. التي هي غاية حسن الشعر.
بجسمي من برته فلو أصارت ... وشاحي ثقب لؤلؤةٍ لجالا
جال: فعل الجسم، والثقب. أنث قوله: من برته رداً إلى المعنى، لأن من يقع على المذكر والمؤنث. ولو قال: براه لجاز. والهاء فيه عائدة إلى الجسم. والوشاح ها هنا النطاق.
يقول: جسمي فداء المرأة التي برت جسمي وأنحلته، حتى لو جعلت ثقب لؤلؤة وشاحي: أي لو توشحت بلؤلؤة، لجال جسمي في ثقبها؛ لدقته ونحوله. وجال: فعل الجسم، وفعل الثقب.
ولولا أنني في غير نومٍ ... لبت أظنني مني خيالا
يقول: ذبت حتى صرت كالخيال، الذي لا حقيقة له، لا أنام بالليل؛ لما بي من الوجد، ولو كنت ممن أنام، ثم رأيت جسمي في النوم، لقدرته خيالاً لا حقيقة له، وقيل: معناه لولا أنني متيقظ لظننت نفسي الخيال، الذي يرى في النوم.(1/121)
بدت قمراً، ومالت خوط بانٍ، ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
رنت: نظرت. ونصب قمراً وما بعده: على الحال، لأنه أقام اسم الجنس مقام الصفة، فإذا جاز أن يكون صفة، جاز أن يكون حالاً.
ومعناه: بدت منيرةً كالقمر. أي وجهها. ومالت لينة الأعطاف كالغصن: وأراد به القامة. وفاحت زكية كالعنبر، ورنت كحلاء الجفون كالغزال. ومثل هذا قول بعض المتأخرين وهو قوله:
سفرن بدوراً، وانتقبن أهلةً ... وفحن عبيراً والتفتن جآذرا
كأن الحزن مشغوفٌ بقلبي ... فساعة هجرها تجد الوصالا
مشغوف: أي ممتلىء، من شغفه الحب إذا ملأه. والهاء في هجرها للمحبوبة.
يقول: إنها كلما هجرتني واصلني الحزن، فكأنه عاشقٌ لقلبي، كما أعشقها، فلا يجد الحزن سبيلاً إلى قلبي إلا عند هجرانها، فمتى هجرتني واصلني الحزن والكمد.
كذا الدنيا على من كان قبلي ... صروفٌ لم يدمن عليه حالا
روى: يدمن فيكون حالاً منصوباً به. وروى: يدمن. وحالاً: نصب على التمييز. أي لم تزل الدنيا على هذه الحال مذ كانت، لا تثبت صروفها على حالٍ واحد.
يقول: كما أنها لا تدوم لي على حالة واحدة، فكذلك كان حالها مع غيري من الناس الذين قبلي.
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
وروى: أشد الغم في الدنيا سرور. والهاء في عنه: للسرور. وكذلك في صاحبه.
يقول: لا أغتر لسرور الدنيا؛ لعلمي بزوالها، فكل سرور يتيقن صاحبه زواله عنه، فهو أشد الغم عندي؛ لأن العاقل لا يفرح بما تئول عاقبته إلى الحزن والزوال.
ألفت ترحلي وجعلت أرضي ... قتودي والغريري الجلالا
القتود: خشب الرحل. والغريري: فحلٌ منسوب إلى غرير والجلال: مبالغة في الجليل، وهو عظيم الجسم.
يقول: ألفت الرحيل، وجعلت أرضي ظهر البعير، وخشب الرحل، لا أنقلب عنه لكثرة أسفاري وشدة ملازمتي له.
فما حاولت في أرضٍ مقاماً ... ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا
أزمعت: أي عزمت.
يقول: ما أقمت في مكانٍ، لأني متنقل من أرض إلى أرض. ولا زلت عن أرض: أي عن ظهر البعير. الذي جعله كالأرض، يمسي ويصبح عليه، فإذا كان كذلك، فلم يقم عن الأرض الحقيقية، ولا زال عن الأرض المستعارة. وهي ظهر البعير.
وقيل: ليست هذه كناية عن إدامة السفر؛ لأنه إذا لم يقم في موضع، فلا يحتاج إلى الإزماع لزواله عنها ورحيله منها.
على قلقٍ كأن الريح تحتي ... أوجهها جنوباً أو شمالا
روى: على قلق: أي أنا على الاضطراب، والتحرك. وروى: على قلقٍ. أي على بعير قلقٍ سريع السير. وروى: يميناً أو شمالاً.
يقول: لم أزل أقلق في السير حتى كأني راكبٌ متن الريح، أصرفها كيف أشاء. مرة جنوباً ومرة شمالاً، والشمال تأتي من شمالك إذا استقبلت القبلة والجنوب تقابلها.
إلى بدر بن عمار الذي لم ... يكن في غرة الشهر الهلالا
وروى: إلى البدر. ومثله من الأسماء، حسنٌ. والحسن والعباس. وحذف التنوين من عمار؛ لسكونها وسكون اللام الأولى من الذي. ويجوز أن يكون جعله اسماً لقبيلةٍ فلم يصرفه.
يقول: لم أزل أتقلب في الأسفار حتى وصلت إلى بدر بن عمار، الذي لم يزل بدراً كاملاً، ولم يكن هلالاً قط، وليس كالبدر الذي يكون ناقصاً في غرة الشهر، ثم يزيد إلى أن يكمل.
ولو يعظم لنقصٍ كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا
يقول مؤكداً للمعنى الذي ذكره في البيت الأول: أي لم يزل عظيماً مذ كان، لا أنه كان ناقصاً ثم صار عظيماً، ولم يزل أميراً فيما مضى، ولا يزال أميراً في المستقبل، ويجوز أن يكون دعاء.
بلا مثلٍ وإن أبصرت فيه ... لكل مغيبٍ حسنٍ مثالا
بلا مثل متعلق بقوله ولن يزالا: أي لم يزل أميراً بلا مثل، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي هو بلا مثل. يعني: أنه جمع كل فضيلة، فكل شيء حسن غائب، يوجد فيه نظيره ومثله وإن كان لا مثل ولا نظير له يجمع ما جمعه من الفضائل، فهو شبه كل شيء حسن.
حسامٌ لابن رائقٍ المرجى ... حسام المتقي أيام صالا(1/122)
لابن رائق المرجى: في موضع الجر. ويجوز أن يكون صفة مستأنفة للممدوح في موضع الرفع، والأول أولى. وحسام المتقي: جر لأنه صفة لابن رائق وهو اسم جنس بمعنى صفة. وابن رائق: قائد كبير، كان للخليفة المتقي بالله، وكان ابن عمار من قبل ابن رائق.
والمعنى: أن ابن رائق سيف الخليفة، لما صال الخليفة على أعدائه وحارب بني اليزيد في البصرة، وكان بدر حساماً لابن رائق: أي كان يعتمد عليه في حروبه، وكان يقتل به أعداءه.
سنانٌ في قناة بني معدٍ ... بني أسدٍ إذا دعوا النزالا
بني أسد: يجوز أن يكون منصوباً بالنداء المضاف، ويجوز أن يكون بدلاً من قناة بني معد: أي في بني أسد الذين هم قناة بني معد. ويجوز أن يكون بدلاً من معد والتقدير: سنان في قناة بني أسد.
يقول: هو يقوم في الدفع عنهم مقام السنان في القناة يوم الحرب والمنازلة.
أعز مغالبٍ كفاً وسيفاً ... ومقدرةً ومحميةً وآلا
المغالب: الذي يغالبك وتغالبه. والمحمية والمقدرة: القبيلة والأتباع. وكفاً: نصب على التمييز، وعطف سيفاً عليه، وإن كان لا يقال: هو أعزهم سيفاً لأنه أضمر فيه قوله: وأمضاهم سيفاً. يعني: أنه أعز من كل من يغالبه فنفسه أعز، وسيفه أقطع، وحميته وقدرته أكثر وصفه بخمسة أوصاف.
وأشرف فاخرٍ نفساً وقوماً ... وأكرم منتمٍ عماً وخالا
الفاخر: صاحب الفخر، ويجوز أن يكون اسم الفاعل: من فخر يفخر. وروى: منتمٍ ومعتز ومعناهما واحد.
يقول: هو أشرف من فخر بنفسه وقومه، وأعمامه وأخواله أشرف من كل شريف. نفساً وما عده نصب على التمييز.
يكون أحق إثناءٍ عليه ... على الدنيا وأهليها محالا
يقول: إن أحق ما يستحقه من الثناء، محال أن يثنى به على الدنيا، وجميع من فيها؛ لأنه أفضل من جميع أهل الأرض، فثناؤه لا يستحقه أهل الدنيا.
ويبقى ضعف ما قد قيل فيه ... إذا لم يترك أحدٌ مقالا
يترك ويترك: بمعنى واحد، وهو افتعل من الترك. وضعف الشيء: مثله مرتين.
يقول: إذا أثنى عليه الناس، ولم يتركوا مقالاً؛ بقي من أوصافه، ضعف ما وصفوا به.
فيابن الطاعنين بكل لدنٍ ... مواضع يشتكي البطل السعالا
اللدن: الرمح اللين. ومواضع: قيل إنه نصب بالطاعنين، فهو مفعول به. وقيل: نصب على الظرف. وتقديره: مواضع يشتكي فيها البطل السعال.
المعنى على الأول يقول: يابن الطاعنين صدور الشجعان. وهي المواضع التي يخرج منها السعال، فهي مواضع شكاية السعال.
وعلى الثاني: أنهم يطعنون في المواضع التي لا يقد الشجاع أن يسعل فيها؛ من ضيقها وشدتها.
ويابن الضاربين بكل عضبٍ ... من العرب الأسافل والقلالا
يقول: يابن الذين يضربون بكل سيف قاطع، أسافل العرب وقلالها. أراد بالأسافل: الأرجل. وبالقلال: الرءوس: وقيل: أراد بالقلال. رؤساء العرب وبالأسافل. الأتباع. وقيل: القلال: العرب الذين يسكنون الجبال. والأسافل: سكان السهول.
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا؟!
المتشاعر: الذي يتكلف قول الشعر، وغرو: أي أولعوا. والداء العضال: الذي لا دواء له.
يعني: أرى المتشبهين بالشعراء وليسوا منهم قد أولعوا بذمي، وطعنوا في، وحسدوا منزلتي عندك، وأنا أعذرهم لأني الداء الذي لا دواء له، لأني أبداً أغيظهم، فلابد لهم من أن يذموني.
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ ... يجد مراً به الماء الزلالا
يقول: من يعيبني؛ إنما يعيبني للنقص الذي فيه، كما أن المريض يجد الماء العذب مراً؛ لأنه في فيه لاقى الماء، فكذلك ليس في شعري ولا في فضائلي مطعن، فمن طعن فلنقص فيه.
وقالوا: هل يبلغك الثريا؟ ... فقلت: نعم، إذا شئت استفالا
الثريا: من الأسماء التي لا تجيء إلا مصغرة، مثل الحميا والحديا والكميت. والاستفال: الانحطاط. وقالوا: الضمير يرجع إلى المتشاعرين، ويجوز أن يرجع إلى الناس، ويكون البيت مستأنفاً.
يقول: إنهم يقولون: أتطمع أن يبلغك الثريا؟ فقلت لهم: قد بلغني فوق الثريا، فإذا شئت أن يحطني عن المحل الذي أنا عليه، يبلغني الثريا في الانحطاط، لا في الارتفاع.
هو المفني المذاكي والأعادي ... وبيض الهند والسمر الطوالا(1/123)
المذاكى: جمع المذكى، وهو الفرس الذي أتي عليه بعد أن يقرح سنه. وسكن الياء من الأعادي وأصلها الفتح.
يقول: إنه يفنى الخيل بالركض في حروب الأعداء بالقتل، والسيوف والرماح بضرب وطعن. يصفه بغاية الشجاعة.
وقائدها مسومةً خفافاً ... على حيٍّ تصبحه ثقالا
قائدها: أي قائد المذاكى. والمسومة. المعلمة: من السمة. ومسومة وخفافاً وثقالاً: نصب على الحال. والتاء في تصبحه: للمذاكى.
يقول: هو يغير على أعدائه بخيل توافيهم صباحاً، وهي وإن كانت خفافاً في أنفسها سريعة السير فإنها ثقالاً على أعدائه؛ لأنها تهلكهم وتغير عليهم.
جوائل بالقنى مثقفاتٍ ... كأن على عواملهما الذبالا
الجوائل: جمع جائلة، ونصبها على الحال من المذاكى. والقنى: جمع القناة ومثقفات: نصب على الحال من القنى.
وعامل الرمح: قدر ذراعين من أعلاه. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة، شبه أسنة الرماح بقناديل وسرج مشعلة لصفائها وبريقها.
إذا وطئت بأيديها صخوراً ... بقين لوطء أرجلها، رمالا
يصف شدة وطء الخيل، وأنها إذا وطئت بأيديها الصخور الصلبة سحقتها، حتى تصير رملاً، فلا تصل أرجلها إلى موضع الأيدي، إلا وقد صارت رمالا.
جواب مسائلي: أله نظيرٌ؟ ... ولا لك في سؤالك لا، ألا، لا
يقول: من سألني قائلاً: هل لهذا الرجل نظير؟ فجوابي له: لا، ولا لك نظير في سؤالك هذا؛ لأن كل أحد يعلم أنه لا نظير له. ثم افتتح الكلام بقوله: ألا وكرر لا تأكيداً للرد. فكأنه قال: لا لا، كقولك وقد سألك إنسان هل زيد قائم؟ فتقول: لا لا. وفيه تقديم المعطوف على المعطوف عليه وذلك لا يجوز إلا عند الضرورة كقول القائل:
ألا يا نخلة من ذات عرقٍ ... عليك ورحمة الله السلام
لقد أمنت بك الإعدام نفسٌ ... تعد رجاءها إياك مالا
وقد وجلت قلوبٌ منك حتى ... غدت أوجالها فيها وجالا
يقول: كل نفسٍ جعلت مالها رجاءها إياك، فقد أمنت من الفقر؛ لأنك تحقق رجاءها، فكأنه مال له حاصل والأوجال: جمع وجل، وهو الخوف. والوجال: جمع الوجل، وهو الخائف. والهاء في أوجالها وفيها للقلوب.
يقول: قد خافت قلوب الأعداء منك، حتى صار الخوف الذي في قلوبهم خائفاً منك، فتعدى الخوف من قلوبهم إلى نفس الخوف! وقيل: الوجال: جمع الوجل الذي هو الخوف، وهو للتكثير. والأوجال للتقليل. يعني صار قليل وجلهم كثيراً.
سرورك أن تسر الناس طراً ... تعلمهم عليك به الدلالا
الدلال والدل: الشكل والغنج.
يقول: إنك لا تسر إلا بأن توصل السرور إلى الناس كلهم، لتعلمهم كيف يتدللون عليك؛ لأنهم إذا علموا أنك تسر بالإحسان إليهم تدللوا عليك بقبول هباتك وسألوك ما لا يستحقونه منك.
إذا سألوا شكرتهم عليه ... وإن سكتوا سألتهم السؤالا
يقول: إذا سألوك شكرتهم على سؤالهم إياك؛ لحبك العطاء. وإن سكتوا عن سؤال سألتهم أن يسألوك؛ لأنك تلتذ بنغمات سؤالهم، وتحب أن تشكرهم على سؤالهم، فتشتهي أن تكون أبداً شاكراً للسؤال.
وأسعد من رأينا مستميحٌ ... ينيل المستماح بأن ينالا
المستميح: طالب العطاء. والمستماح: المطلوب منه العطاء. والإنالة: الإعطاء. والنيل. الأخذ.
يقول: أسعد من رأينا من الناس، هو الطالب يعطي المطلوب منه؛ بأن يأخذ منه العطاء، وليس كذلك إلا سؤالك؛ لأنهم يأخذون من مالك ما يريدون، ويمنون عليك بما يأخذونه منك.
يفارق سهمك الرجل الملاقي ... فراق القوس ما لاقى الرجالا
يقول: إن سهمك إذا لقي رجلاً نفذ منه وفارقه، كما يخرج من القوس من شدة قوته، ولا يزال يمضي كذلك ما دام يلقى الرجال، واحداً بعد واحد. فقوله: مالاقى الرجالا في موضع النصب على الظرف: أي مدة ملاقاة الرجال وقيل: إن ما للنفي ومعناه. أن سهمه يفارق ما لاقاه فراقه القوس، كما لم يلق شيئاً، ولم يصب أحداً، فيكون أبلغ في القوة.
فما تقف السهام على قرارٍ ... كأن الريش يطلب النصالا
يقول: إن السهام تتجاوز المرمى إلى غيره، فلا تقف على قرار، فكأن الريش يطلب النصل ويطردها وهي تفر منه وهو يطلبها
سبقت السابقين فما تجاري ... وجاوزت العلو فما تعالي
المجاراة: المغالبة في الجري. والمعالاة: من العلو.(1/124)
يقول: سبقت بالفضل كل سابق، فما يجاريك أحد؛ لعلمه بالقصور عنك. وجاوزت في العلو والقدر غاية لا يمكن لأحد أن يباريك في العلو والارتفاع، ويغلبك فيه.
وأقسم لو صلحت يمين شيءٍ ... لما صلح العباد له شمالا
وروى: الأنام بدل العباد.
يقول: إنك تقوم مقام الخلق كلهم وتزيد عليهم، وهم لا يقدرون على الاستقلال بما تقدر عليه وحدك؛ فضرب اليمين مثلاً للقوة والأمر العظيم الذي يحتاج فيه إلى فضل القوة، وضرب الشمال مثلاً للضعف وما لا يحتاج فيه إلى فضل القوة.
أقلب منك طرفي في سماءٍ ... وإن طلعت كواكبها خصالا
خصالا: نصب على الحال. شبهه بالسماء، وخصاله بالكواكب.
يقول: أنا أنظر منك إلى سماء من المجد، ونجوم: الخصال الجميلة.
وأعجب منك كيف قدرت تنشا ... وقد أعطيت في المهد الكمالا!
يقول: أعجب منك! كيف قدرت على أن تزيد وتنشأ شيئاً بعد شيىء، وأنت قد حويت الكمال في المهد! وهو من قوله تعالى: " وآتيناه الحكم صبياً " " قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ".
وقال فيه ارتجالاً يمدحه. وهو على الشراب وقد صفت الفاكهة والنرجس.
إنما بدر ابن عمارٍ سحابٌ ... هطلٌ فيه ثوابٌ وعقاب
هطل: أي كثير المطر.
يقول: إن الممدوح كالسحاب الهطل، فيه شرٌّ لأعدائه وخير لأوليائه، كالسحاب الذي يرجي مطره وتخشى صواعقه.
إنما بدرٌ رزايا وعطايا ... ومنايا وطعانٌ وضراب
معناه: أنه ذو رزايا إلى آخره. وصفه بهذه الأشياء مبالغة، من حيث أن هذه الأوصاف لما كثرت منه كأنه خلق منها، كما تقول لمن كثر منه الأكل والشرب: أنت أكلٌ وشربٌ فلما كثر منه ما ذكر صار كأنه خلق منها.
ما يجيل الطرف إلا حمدته ... جهدها الأيدي وذمته الرقاب
نصب جهدها، لأنه مصدر أقيم مقام الحال: أي حمدته جاهدة جهدها. ويروى: الطرف بكسر الطاء: وهو الفرس الكريم. يعني: ما يجيل فرسه في الحرب إلا حمدته الأيدي أي أيدي جيشه ورجاله؛ لأنه يكفيها ألم الطعن والضرب والرمي، وتولى هو بنفسه ضراب أعدائه.
وقيل: أراد حمدته الأيدي في تلك الحال على بذله الأموال ونشره النوال. وتذمه الرقاب: أي تذمه رقاب أعدائه، لأنه يقطها. ومعناه أنه لا يتغير. وأراد بذلك: أن الحرب لا يشغله عن الجود. ومثله قوله:
فواهبٌ والرماح تشجره ... وطاعنٌ والهبات متصله
وقد يروى: ما يجيل الطرف بفتح الطاء: أي أنه في كل لمحة يجيل طرفه فينعم على قوم ويضرب رقاب قوم، فالأيدي تحمده على العطاء والرقاب تذمه على قطعها.
ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
يقول: إنه ليس يقتل أعداءه خوفاً منهم، وما به حاجة إلى قتلهم؛ لأنهم عجزوا عنه، ولكنه عود إنالة جوده وعطائه كل شيء، حتى الذئاب، فإن عز إطعام لحوم القتلى، فيكره إخلاف ما عوده؛ لألأ يخيب رجاء الذئاب ومثله قوله:
سفك الدماء بجوده لا بأسه ... كرماً لأن الطير بعض عياله
فله هيبة من لا يترجى ... وله جود مرجىً لا يهاب
لا يترجى: أي لا يرجى.
يقول: إنه عظيم الهيبة واسع الجود، فمن يهابه لا يرجو عفوه، لشدة سطوته وعظم هيبته، ومن يرجوه لا يخاف سطوته لسبق جوده وعظم كرمه؛ لأنه يضع كلاً موضعه، فالمسيء لا يرجو رضاه والمحسن لا يخاف سخطه.
طاعن الفرسان في الأحداق شزراً ... وعجاج الحرب للشمس نقاب
شزراً: أي يميناً وشمالاً، وقيل: هو الذي أريد به أعلى الصدر.
يقول: هو يطعن الفرسان في أحداقهم حين تشتد الحرب ويرتفع الغبار، وتصير الشمس من كثرة الغبار مستترة، فكأن الغبار نقاب للشمس.
وتخصيص الأحداق بالطعن؛ بيان لحذقه بالطعن، وثبات قلبه، وأنه يهتدي في مثل هذا الخوف والظلمة إلى الأحداق، أو إشارة إلى أن سائر الأبدان مغطاة بالسلاح، سوى الأحداق.
باعث النفس على الهول الذي ... ما لنفسٍ وقعت فيه إياب
الهاء في فيه: للهول.
يقول: إنه يطرح نفسه ويحملها على أمر مهول، بحيث أن من وقع فيه لم يسلم منه، ولا ترجع نفس وقعت في ل الأمر المهول. يصفه بالشجاعة والإقدام ومثله قوله:
وأورد نفسي والمهند في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد
بأبي ريحك لا نرجساً ذا ... وأحاديثك لا هذا الشراب(1/125)
يقول: أفدي بأبي ريحك، لا هذا النرجس، لأن ريحك أطيب من ريحه، وأفدي بأبي أحاديثك لا هذا الشراب؛ لأن حديثك ألذ من الشراب فهما أحب إلينا من هذا النرجس وهذا الشراب أيضاً.
ليس بالمنكر أن برزت سبقاً ... غير مدفوعٍ عن السبق العراب
أن برزت: في موضع الرفع؛ لأنه اسم ليس، ومعناه: أن سبقت. وقوله: سبقاً نصب على التمييز، ويجوز أن يكون نصباً على المصدر، ومعناه: أن سبقت سبقاً.
يقول: ليس من العجب أن تسبق الكرام وتبرز عليهم في مجدك، كما أنه ليس بمنكر أن تسبق الخيل العراب غيرها، وإنما لم يقل: غير مدفوعة مع تأنيث الخيل؛ لأنه في معنى يدفع، والفعل إذا قدم على جماعة المؤنث يجوز فيه التذكير والتأنيث، فهذا وإن كان اسماً فهو حمله على الفعل وشبهه به، وقيل: أراد بالعراب: الجنس كأنه قال: جنس غير مدفوع.
وهذه الأبيات من بحر الرمل وأصله فاعلاتن ست مرات، وهو قد جاء بها على الأصل، ولم يسمع من العرب إلا محذوف العروض: وهو أن يحذف من الجزء الثالث سبب وهو تن فيبقى فاعلاً ويحول إلى مثل وزنه فيصير فاعلن.
وعذره أنه صرع الأبيات من غير إعادة القافية، وأيضاً فإنه اعتبر الأصل، لأنه أصل دائرة الرمل، فأتى بها على الأصل؛ ليعلم أن أصلها ذلك. وأما البيت الأول فلا إشكال فيه لأنه مصرع مقفى.
يصف الأسد وقتال بدر إباه وخرج بدر بن عمارٍ إلى أسدٍ، فهرب الأسد منه! وكان خرج قبله إلى أسد آخر فهاجه عن بقرةٍ افترسها، بعد أن شبع وثقل، فوثب على كفل فرسه، فأعجله عن استلال سيفه، فضربه بسوطه، ودار الجيش به فقتل. فقال أبو الطيب:
في الخد أن عزم الخليط رحيلا ... مطرٌ تزيد به الخدود محولا
أن في قوله: أن عزم الخليط مفتوحة الألف، ويكون الفعل بعدها مصدراً. ومعناه: لأن عزم. أو لأجل أن عزم ومثله: " أن كان ذا مالٍ " ويجوز كسرها، فتكون شرطاً وجوابه محذوف. أو إن عزم الخليط رحيلا: أي عزم على الرحيل، فحذف الجار كقول عنترة.
ولقد أبيت على الطوى وأظله
أي أظل عليه. ومحولا: يجوز أن يكون مصدراً، ويجوز أن يكون جمع محل مثل كعب وكعوب. والخليط: المخالط، ويقع على الواحد والجمع.
والمعنى: إن في خدي من أجل فراق أحبائي، دمعاً متقاطراً كالمطر في التقاطر والسيلان، ولكنه يخالف المطر في الفعل؛ لأن المطر يخصب المحول وينبت البقول، ودمعي يجري على خدي الناضر، فيبطل نضرته ويغير حسنه ويزيد ذبوله. وهو المراد بالمحول.
يا نظرةً نفت الرقاد وغادرت ... في حد قلبي ما حييت فلولا
نصب نظرةً؛ لأنها منادى نكرة. ومعناه: التعجب كقوله تعالى: " يا حسرةً على العباد " وفلول: جمع فل، وهو الأثر في الحد، من السكين وغيره.
يقول: يا نظرة عند الوداع ما أعظمها! فإنها نفت الرقاد عني، وغادرت في قلبي أثراً لا يندمل ما دمت حيا.
كانت من الكحلاء سؤلي إنما ... أجلي تمثل في فؤادي سولا
كانت: راجعة إلى النظرة. والكحلاء: يجوز أن يكون من التكحل، ويجوز أن يكون من الكحل: الذي هو خلقة.
يقول: كانت تلك النظرة من هذه الجارية الكحلاء سؤلي وأمنيتي، فلما نظرت إليها كانت تلك النظرة أجلاً لي في الحقيقة لا سؤلا! وترك الهمزة من سولاً، لأن الواو ردف فلا يجوز غير ذلك.
أجد الجفاء على سواك مروءةً ... والصبر إلا في نواك جميلا
المصراع الأول له معنيان: أحدهما: أن من المروءة ترك جفائك، إلا على غيرك. فقد أمنت جفاءك لأنني لا أراه مروءة وليس ترك المروءة من عادتي، فلا أجفوك أبداً.
والثاني: أن جفاء الناس إياي، على سواك لا أحتمله لأن احتماله ليس من المروءة، فإذا كان احتماله من المروءة لأجلك، فاحتمال الصبر في كل حادثة جميل، إلا في بعدك وهجرك، فإنه قبيح.
فأول البيت مأخوذ من قول أبي عبادة البحتري:
ألام على هواك، وليس عدلاً ... إذا أحببت مثلك أن ألاما
وآخره من قول الآخر:
والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وأرى تدللك الكثر محبباً ... وأرى قليل تدلل مملولا
التدلل: الدلال والغنج.
يقول: إن الدلال الكثير منك محبب، وأنا أمل القليل من غيرك ومثله:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا(1/126)
تشكو روادفك المطية فوقها ... شكوى التي وجدت هواك دخيلا
الروادف: جمع ردف، وأقامه مقام الواحد، كأنه جعل ناحية من عجزها ردفاً؛ لأنه أراد المبالغة في الثقل، أو أراد: الردف والأفخاذ.
يقول: تشكو المطية التي ركبتها ثقل ردفها وعجزها عن حملها، كما تشكو النفس التي يدخلها عشقك. والتأنيث: للنفس المضمرة، ويجوز أن يكون أتبع التأنيث المطية.
ويغيرني جذب الذمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
يغيرني: أي يحملن على الغيرة. والهاء في قلبها وفمها: للمطية وروى: لعطفها. والقلب: مصدر قلبت. وفمها: نصب بالمصدر. قيل: بالجذب. وقيل: بالقلب.
يقول: متى جذبت هذه المطية زمامها وقلبت رأسها مع الزمام: حملني ذلك على الغيرة؛ لأنها تتصور بصورة من يطلب تقبيلك.
حدق الحسان من الغواني هجن لي ... يوم الفراق صبابةً وغليلا
يقول: لما نظرت يوم الفراق إلى الجواري الحسان، وتأملت حسن عيونهن هيجت لي أحداقهن رقة الشوق وحرارة القلب.
حدقٌ يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
يذم: أي يحفظ. كأنه يدخله في ذمته وجواره، وفاعله: بدر.
يقول: إن بدراً يمنع كل من استجار به من كل من يريد قتله، سوى من هذه الحدق، فإنه لا يقدر على منعها ومثله قوله:
وقي الأمير هوى العيون؛ فإنه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه
الفارج الكرب العظام بمثلها ... والتارك الملك العزيز ذليلا
يقول: هو يكشف الأمور العظام، ويدفعها بمثلها من الأمور العظام؛ لأنه لا يزيل الكربة عن الصديق إلا بإلحاق كربةٍ مثلها بعدوه، وكذلك يترك الملك العزيز ذليلاً، لا يمكنه دفع ذلك عن نفسه ومثله قوله:
وكم ذدت عنهم ردىً بالردى ... وكشفت من كربٍ بالكرب
محكٌ إذا مطل الغريم بدينه ... جعل الحسام بما أراد كفيلا
محكٌ: أي لجوج في الخصومة. وأراد بالغريم: قرنه وبالدين: روحه.
يقول: إنه لجوج، فإذا أنال قرناً، أو طالب بدم، أو طلب ما يريد طلبه، جعل سيفه ضامناً لها حتى يؤديه إليه. أي أنه لا يحتاج لأخذه إلى الكفيل، بل يأخذه بسيفه؛ لقدرته وتمكنه.
نطقٌ إذا حط الكلام لثامه ... أعطى بمنطقه القلوب عقولا
نطقٌ: أي جيد النطق. واللثام: ما يديره الرجل من طرف عمامته على الفم، فإذا رفعه إلى الأنف لئام. وقوله: إذا حط الكلام لثامه. أي حطه ليتكلم؛ فأسند الفعل إلى سببه.
يقول: هو فصيح بليغ، فإذا حدر لثامه ليتلكم، أفاد الناس عقولاً بما ينطق من الحكم والمواعظ والأمثال.
أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا
العدوى: تعدي الداء إلى ما يقاربه. والمعنى أن سخاءه أعدى إلى الزمان السخاء، فسخا به الزمان علي، وجمع بينه وبيني، وقد كان الزمان يبخل به علي فيما مضى، فلولا سخاؤه لكان لا يسخو الزمان به علي.
وقال ابن جنى: معناه أن الزمان تعلم من سخائه، فسخا بهذا الممدوح وأخرجه من القدم إلى الوجود، ولولا سخاؤه لبخل هذا الزمان به على الناس، فاستخلصه لنفسه، فهو إن كان في حال العدم لم يكن سخياً، حتى يعدى الناس سخاؤه على الزمان. ويجوز أن يوصف بذلك على معنى: أن الزمان لما علم ما يكون فيه من السخاء إذا وجد، استفاد منه ما تصور كونه بعد وجوده، ولولا علمه به لبقي بخيلاً. والشيء إذا تحقق كونه أجري عليه من أوصاف الموجود كقوله تعالى: " ونادى أصحاب الجنة ".
وكأن برقاً في متون غمامةٍ ... هنديه في كفه مسلولا
هندية: رفع لأنه خبر كأن. ومسلولاً: نصب على الحال. والهاء في هنديه: للممدوح. شبه سيفه بالبرق للمعه، وكفه بالغمامة لجودها وكرمها.
ومحل قائمه يسيل مواهباً ... لو كن سيلاً ما وجدن مسيلا
الهاء في قائمه: للهندي. ومحله: كفه. ومواهباً: نصب على التمييز. وكن: يرجع إلى المواهب.
يقول: إن المحل قائم سيفه. وهو كفه. تسيل مواهباً، ولو كانت تلك المواهب سيلاً لعمت الأرض فلم تجد مكاناً تسيل فيه، وجعل الكف تسيل بالمواهب لكونها آلة العطاء في الغالب.
رقت مضاربه فهن كأنما ... يبدين من عشق الرقاب نحولا
يقول: إن مضارب سيفه رقت، فكأنها عشقت الرقاب فنحل جسمها، ولهذا كان العشق يورث النحول. والمضارب: جمع المضرب، وهو حد السيف.(1/127)
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا
المعفر: من عفرته، إذا ألقيته على العفر: وهو التراب. والهزبر. من أسماء الأسد. فكأنه وصفه بشدة الصوت.
يقول: يا من يعفر الأسد بشديد صوته! لمن ادخرت سيفك المصقول! أي لا تدخره؛ فإنك لا تحتاج إليه، لأن السوط إذا كفاك معركة الأسد مع أنه لا يقاومه أحد واستغنيت عن السيف، فإنك لا تحتاج إليه، ولا إلى أحد، لأن كل شجاع دون الأسد.
وقعت على الأردن منه بليةٌ ... نضدت بها هام الرفاق تلولا
يروى: وقعت، ووقفت: والأردن: نهر بأرض الشام، وتنسب إليه تلك البلد. ونضدت: أي جعلت بعضها فوق بعض. والرفاق: جمع رفقة، وهم قوم يجتمعون للسفر. والكناية في نضدت: للبلية. والهاء في منه: لليث. وفي بها: للأردن، وأراد بها البقعة.
يقول: حصلت من هذا الأسد بلية من البلايا، نضدت في هذه البلدة هامات أهل الرفقة تلولا، من كثرة ما افترسم ن الناس.
وردٌ إذا ورد البحيرة شارباً ... ورد الفرات زئيره والنيلا
وردٌ: اسم للأسد، إذا كان يضرب لونه إلى الحمرة. والبحيرة: بحيرة طبرية، وهي من الأردن، وبينها وبين الفرات أكث من عشرة أيام، وكذلك بينها وبين النيل. وشارباً: نصب على الحال. والزئير: صوت الأسد. والفرات: نهر يجري من بلاد الروم، ويمر في حدود الشام من قبل المشرق.
يقول: إنه إذا ورد البحيرة ليشرب منها سمع زئيره من الفرات إلى النيل مع بعد المسافة.
متخضبٌ بدم الفوارس لابسٌ ... في غيله من لبدتيه غيلا
الغيل: الأجمة. ولبدة الأسد: ما تلبد على كتفه ومنكبيه من وبره.
يقول: إنه مختضب من دماء الفوارس، لكثرة ما افترسهم. وخصهم بالذكر؛ لأنهم أمنع من غيرهم، وأنه من كثرة وبره، كأنه كان لابس أجمةٍ، فهو من وبره في أجمة.
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ... تحت الدجى نار الفريق حلولا
الفريق: الجماعة من الناس. وحلولا: أي حالين، وهو نصب على الحال من الفريق، وإن شئت على القطع.
يقول: إذا قابل إنسانٌ عينه في الظلمة، ظن أنها نار قوم نازلين في مفازة، وهذه النار يكون ضوءها أضوأ وأظهر من السراج. شبه بريق عينه بهذه النار.
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
يقول: إن هذا الأسد منفرد في أجمة عن الناس، كالرهبان الذين ينفردون عن الناس، غير أنه لا يعرف التحريم والتحليل وهم يعرفون ذلك.
يطأ الثرى مترفقاً من تيهه ... فكأنه آسٍ يجس عليلا
الثرى، والبرى: مرويان، وهما التراب. والتيه: الكبر.
يقول: إنه يمشي على التراب، بالرفق لا بالكبر، فكأنه طبيب يجس عليلاً؛ لأنه إذا جس العليل ترفق.
ويرد عفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا
عفرة الأسد: الشعر المستدير على رقبته. واليافوخ: قحف الرأس. يعني: أنه ينفش وبره حتى يصير شعر رقبته على رأسه، مثل الإكليل؛ لكثرته واستدارته.
وتظنه مما يزمجر نفسه ... عنها بشدة غيظة مشغولا
الزمجرة: ترديد الصوت في الصدر. والهاء في عنها: للنفس. وتقديره مشغولاً عنها. وتظنه: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما: الهاء في تظنه، ونفسه بدل عنها. والثاني: مشغولا.
يقول: تظن هذا الأسد مشغولاً عن نفسه بشدة غيظه، من كثرة ما يزمجر. أي تدل كثرة زمجرته على اشتغاله عن نفسه بغيظه. وروى: تزمجر بالتاء. ونفسه: بالرفع، على أن تكون نفسه فاعلة تزمجر.
قصرت مخافته الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
قصرت: أي جعلت الخطى قصيرة. والفاعل: المخافة، والمفعول: الخطي. والكمي: الشجاع المتكمي بالسلاح. والمشكول: المشدود بالشكال.
يقول: لما خاف الكمي منه، ركب فرسه، فهو يهيجه للإقدام جرأة، والفرس يحجم عنه خوفاً منه، فكأنه ركب فرسه مشكولاً. فشبه تقارب خطوه بالقيد. وقيل: أراد من خوف هذا السبع، لا يجسر الفرس أن يجري، فكأن خوفه صار قيداً.
ألقى فريسته وبربر دونها ... وقربت قرباً خاله تطفيلا
البربرة: ترجيع الصوت. والتطفيل: الدخول على القوم وهم يأكلون من غير دعوة.
يقول: ظن الأسد حين علم أنك أسد مثله، أنك أردت التطفيل عليه في فريسته، فألقاها وبربر دونها، ذباً عنها، فوثب عليك.
فتشابه الخلقان في إقدامه ... وتخالفا في بذلك المأكولا(1/128)
يقول: تشابه الخلقان؛ منك ومن الأسد في الإقدام، واختلفا في بذل المطاعم، فإنك تبذل مأكولك، وهو يضن به ويذب عنه.
أسدٌ يرى عضويه فيك كليهما ... متناً أزل وساعداً مفتولا
المتن: الصلب. والأزل: الأرسخ الممسوح العجز. والمفتول: القوي المكلم.
يقول: رأى الأسد فيك متنه الأزل، وساعده المفتول، وذلك من علم الشجاع البطل.
في سرج ظامئة الفصوص طمرةٍ ... يأبى تفردها لها التمثيلا
الظامئة: قليلة اللحم. والفصوص: المفاصل، واحدها فص. والطمرة: الوثابة، وقيل: المرتفعة الشاخصة.
يقول: نظر إليك الأسد وأنت على فرس لطيفة الأوصال، يأبى تفرد هذا الفرس بالكمال، أن يكون له مثل، وقيل: أراد لا يحتاج صاحبه معه إلى فرس آخر.
نيالة الطلبات لولا أنها ... تعطي مكان لجامها ما نيلا
يقول: إنها تدرك كل ما تطلبه وهي طويلة العنق، فلولا أنها تمكن ملجمها من رأسها ما وصل إليها، وقيل: إنه وصف صعوبتها. أي لولا أنها تحط رأسها للجام، لما كان ينال رأسها أحد، لكنها مكنت من نفسها ملجمها فأمكن إلجامها لذلك.
تندى سوالفها إذا استحضرتها ... وتظن عقد عنانها محلولا
السوالف: صفحات العنق. وتندى: أي تبتل من العرق، وذلك من أمارات العنق. والاستحضار: طلب الحضر.
يقول: من ازدياد جريها؛ عرقت سوالفها. وقوله: وتظن عقد عنانها محلولا: أي أنها تدخل في العنان وتدني صدرها، فيتسع العنان في يد فارسها، فكأنه محلول.
ما زال يجمع نفسه في زوره ... حتى حسبت العرض منه الطولا
الزور: أعلى الصدر، عاد إلى وصف الأسد.
يقول: ما زال يجمع نفسه في صدره للوثبة، حتى حسبت عرضه، طولاً. وقيل: أراد أن الفرس إذا أراد الوثوب ضم نفسه إلى صدره.
ويدق بالصدر الحجار كأنه ... يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا
الحجار: كالحجارة، وأراد بالحضيض: هاهنا أسفل الأرض.
يقول: إن المذكور قبله ما زال يدق الحجارة بصدره عند وثوبه، حتى كأنه يريد أن يشقها ويغوص فيها.
وكأنه غرته عينٌ فادني ... لا يبصر الخطب الجليل جليلا
ادنى: افتعل من الدنو: أي دنا.
يقول: كأن الأسد غرته عينه حين رآك إنساناً كسائر الناس فدنا إليك، ولم يعلم أنك أسد، ولو علم بأسك لم يجرء عليك، فلما لم يعلم ذلك، رأى الإقدام عليك خطباً حقيراً.
أنف الكريم من الدنية تاركٌ ... في عينه العدد الكثير قليلا
الأنف والأنفة: بمعنىً. والدنية: النقيصة. وهذا مثل. وأراد: أن الأسد أنف من الفرار فأقدم عليك، كما أن الكريم يطرح نفسه على العدد الكثير ويرى ذلك الكثير قليلاً لعلو همته. فكذلك الأسد أقدم عليك مخافة الأنفة.
والعار مضاضٌ، وليس بخائفٍ ... من حتفه من خاف مما قيلا
مضاض: أي مؤلم، وهذا أيضاً مثل.
يقول: من أنف من العار لم يخف حتفه؛ لأنه يرى حتفه أسهل عليه من مقال الناس فيه.
سبق التقاءكه بوثبة هاجم ... لو لم تصادمه لجازك ميلا
عدى الالتقاء إلى الكاف وهو لا يتعدى إلا بالواو أو مع.
يقول: لما رآك تقرب منه سبقك بوثبة هاجم، فلولا أنك صادمته لجازك ميلاً؛ لشدة وثبه. فضله على الأسد.
خذلته قوته وقد كافحته ... فاستنصر التسليم والتجديلا
المكافحة: المواجهة. والتجديل. السقوط على الجدالة: وهي الأرض.
يقول: لولا قوته لما قتلته؛ لأنه لقوته أقدم عليك، فلما واجهته بقوتك خذلته وخذلت قوته، حتى استنصر التسليم، فانقاد لك واختار السقوط على الأرض.
قبضت منيته يديه وعنقه ... فكأنما صادفته مغلولا
يقول: إن أجله قبض يديه وعنقه لك، فكأنه كان مغلولاً قبل أن تلحقه، فصادفته مغلولاً لما لم يمكنه المدافعة.
سمع ابن عمته به وبحاله ... فنجا يهرول منك أمس مهولا
نجا: أسرع المشي. والهرولة: اضطراب العدو. والمهول: الذي قد هاله أمر.
يقول: إن ابن عمة هذا الأسد وهو أسدٌ مثله سمع بحال الأول، وقتلك إياه، فلما ركبت إليه فر منك مسرعاً، خوفاً أن تقتله كما قتلت الأول.
وأمر مما فر منه فراره ... وكقتله ألا يموت قتيلا
أمر: أي أشد مرارة.(1/129)
يقول: فراره أشد مرارة من القتل الذي فر منه. وسلامته من القتل بالهرب. يقوم له مقام القتل؛ لأنه يعيش ذليلاً مهيناً والموت في العز خيرٌ من العيش في الذل وقيل: أراد أن قتله للأسد أكرم له، فكأن الموت أولى له لأنه كان معززاً.
تلف الذي اتخذ الجراءة خلةً ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
الجرأة، والجراءة، والجسارة: الإقدام على الشيء. والخلة: الصداقة، وهو ها هنا يحتمل المصدر.
يقول: إن هلاك الأسد الذي اختار الجرأة والإقدام عليك، وعظ الأسد الآخر الذي فر منك، فخاف إن ثبت لك أن تقتله كما قتلت الأول. وقد روى: وعظ على المصدر، وهو خبر الابتداء.
لو كان علمك بالإله مقسماً ... في الناس ما بعث الإله رسولا
يقول: لو كانت معرفتك بالإله وصفاته وعدله مقسومة بين الناس، لكانوا كلهم عارفين بالله، وما احتاجوا إلى رسول يدعوهم إلى أمور دينهم.
لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... فرقان والتوراة والإنجيلا
يقول: إن كلامك كله حكمٌ ومواعظ، ومختص بغاية الفصاحة، فلو كان موجوداً من قبل ما أنزل الله الكتب المذكورة لقام كلامك مقامها.
لو كان ما تعطيهم من قبل أن ... تعطيهم لم يعرفوا التأميلا
أي لو كانت الأموال التي تعطيهم الآن، كانت لهم قبل عطائك لكانوا أغنياء لم يعرفوا التأميل ولم يوملوا أحداً. وقيل: أراد لولا عطاؤك لما عرف الناس التأميل، ولكن لما أعطيتهم أطمعتهم بعطاياك فعرفوا التأميل. والأول أولى.
فلقد عرفت وما عرفت حقيقةً ... ولقد جهلت، وما جهلت خمولا
يقول: كل أحد عرفك لشهرتك وشهرة ذكرك وبعد صيتك، ولكن لا يعرف حقيقة أمرك، فأنت معروف من حيث يعرفك كل أحد لشهرة ذكرك، وأنت مجهول لبعد غايتك، ولطف مكانك، لا لأنك خامل الذكر بين الناس.
نطقت بسوددك الحمام تغنياً ... وبما تجشمها الجياد صهيلا
تغنياً وصهيلا: مصدران، في موضع الحال. والحمام: رفع بنظفت، وكذلك الجياد لأن نطقت مكررة.
يقول: كل شيء يثني عليك حتى أن الحمام إذا غنت وصفت سؤددك، والخيل إذا صهلت وصفت ما تكلفها من المشقة والسير والحرب.
وقيل: أراد بالحمام. العجم من حيث كساهم من نعمه مثل أطواق الحمام قال ابن جنى: أشهد بالله أنه لو خرس بعد هذين البيتين لكان أشعر الناسز
وما كل من طلب المعالي نافذاً ... فيها، ولا كل الرجال فحولا
يقول: ليس كل من طلب المعالي يدرك منها ما أدركت، وينفذ فيها كما نفذت، ولا كل من هو على خلقة الرجال فحلا جامعاً لغايات الرجولية.
وورد كتابٌ من ابن رائق على بدرٍ بإضافة الساحل إلى عمله فقال يهنىء بدراً بذلك:
تهنى بصورٍ أم نهنئها بكا ... وقل الذي صورٌ وأنت له لكا
روى تهنى ونهنى: من التهنئة، والدعاء لصاحب النعمة بدوامها، وتسويغها، فأصلها هنأ الطعام. وصور: مدينة من ساحل الشام.
يقول: نهنئك بهذه المدينة، أم نهني هذه المدينة بك؛ حيث وليتها فإن هذه الولاية، ومن ولاك عليها، لو كانا لك لما استكثرنا لك ذلك؛ وهو معنى قوله: وقل الذي صور وأنت له لكا أي وقل لك الرجل الذي هذه المدينة وأنت له. أي أنك من جملة أصحابه في الظاهر، فكنت له كصور.
وما صغر الأردن والساحل الذي ... حبيت به إلا إلى جنب قدركا
الأردن: ديار فلسطين وما والاها. والساحل: ساحل الشام.
يقول: إن الأردن والساحل الذي أعطيته عظيم وملك جليل، وإنما صغر بالقياس إلى قدرك وعلو محلك، فهو ليس بصغير إلا إلى جنب مقدارك، فإنك تستحق أكثر من هذا.
تحاسدت البلدان حتى لوانها ... نفوسٌ لسار الشرق والغرب نحوكا
يقول: حسدت البلدان البلاد التي تليها، حتى أنها لو كانت من الأحياء لسار المشرق منها والمغرب إليك، ليكونا في ولايتك. ومثله قول أبي تمام:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
ومثله للبحتري:
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وأصبح مصرٌ لا تكون أميره ... ولو أنه ذو مقلةٍ وفم بكى
يقول: كل بلد لا تكون والياً عليه، لو كان له عينٌ وفمٌ لبكى من الحزن عليك، لكونك في غيره، واشتياقاً إلى توليتك عليه.(1/130)
ونظر أبو الطيب ثياباً مطويةً إلى جانبه فسأل عنها. فقيل له: هي خلع الولاية. وكان أبو الطيب ذلك اليوم عليلاً فقال ارتجالاً:
أرى حللاً مطواةً حساناً ... عداني أن أراك بها اعتلالي
الحلة: ثوبان، إزار ورادء، ومطواة: أي مطوية وعداني. أي صرفني، وفاعله: اعتلالي.
يقول: أرى حللاً على جنبك حسنة مطوية، وإنما منعني أن أراك وهي عليك مرضى.
وهبك طويتها وخرجت عنها ... أتطوي ما عليك من الجمال؟
يقول: إنك وإن نزعتها وطويتها، فإنك في حلل من جمالك وحسنك، لا تقدر أن تخرج منه ولا أن تطويه.
لقد ظلت أواخرها الأعالي ... مع الأولى بجسمك في قتال
الأواخر: جمع آخر. والأعالي: جمع أعلى.
جعل الأعالي منها أواخر، لأنها تلبس بعد الشعار، فهي متأخرة عنها في البشرة. والأولى ما ولي الجسم وقرب منه، وقيل: الأعالي. ما يكون أعلى محلاً؛ وأشرف الثياب. يلبس آخراً.
يقول: إن الحلل التي لبستها تقاتل أعاليها التي هي أواخرها، مع التي تلي جسدك، وحسدتها وطلبت كل واحدة منهما أن تكون هي التي تلي جسدك وتقرب مك.
تلاحظك العيون وأنت فيها ... كأن عليك أفئدة الرجال
يقول: إن الناس كانوا ينظرون إليك، وهي عليك نظر محبة واستحسان، حتى كأن التي عليك ولبستها قلوب الناس، لتعلق القلوب بها واستحسانهم إياها عليك، ومثله قوله:
كأن عليه من حدق نطاقا
ومثله الآخر
لمقلتيها عظم الملك في المقل
متى أحصيت فضلك في كلام ... فقد أحصيت حبات الرمال
روى في مديح وفي كلام يقول: لك فضائل عدد الرمل، فإن قدرت على عدها فقد أحصيت مديحك وهذا غير ممكن، فكذلك عد فضائلك.
وسار بعد ذلك إلى الساحل ولم يسر معه أبو الطيب فبلغه أن الأعور بن كروس كتب إلى بدر يقول له: إنما تخلف عنك أبو الطيب رغبةً عنك، ورفعاً لنفسه على المسير معك. ثم عاد بدرٌ إلى طبرية فضربت له قبابٌ عليها أمثلةٌ من تصاوير. فقال أبو الطيب في ذلك يمدحه ويعتذر عن تخلفه عنه.
الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا
ما يجوز أن تكون بمعنى الذي، ويجوز أن تكون للنفي. ومنع: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما الكلام، والثاني الألسن، وهي جمع اللسان. وروى: الألسنا: وهو الأفصح وما في قوله: ما أعلنا بمعنى الذي، وأصله ما أعلنه، فحذف الهاء.
يقول على الأول: الحب هو الذي يمنع الكلام من أن يعلن بالنطق ما في قلبه، وإذا لم يكن كذلك فليس بالحب الحقيقي. وتم الكلام ها هنا، وهذا مثل قول الآخر:
وما هو إلا أن أراها فجاءةً ... فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم قال: وألذ شكوى عاشق ما أعلنا أي ألذ الشكوى للعاشق ما باح بها لكل أحد كقول أبي نواس:
فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونهاستر
وقيل: إن أحد المصراعين متعلق بالآخر. ومعناه: الحب الحقيقي ما منع الألسن أن تبوح، في حالٍ يلتذ العاشق فيها بالشكوى، فيدرك الإبقاء على حبيبه والخوف من إغراء العذال به، فيدع ما يشتهيه، مراعاةً للحبيب كما قال الشاعر:
ولست بواصفٍ أبداً حبيباً ... أعرضه لأهواء الرجال
وقوله: وألذ شكوى، على هذا. في موضع الحال. ويجوز: أن يكون ما في قوله: ما أعلنا. بمعنى المصدر، فلا يحتاج إلى الهاء العائدة إليه، أي ألذ شكوى عاشق إعلانه.
وعلى الثاني: الحب لم يمنع الألسن من الكلام، كأنه يحسن عند نفسه الشكوى؛ لأن في ذلك راحته وقوله: وألذ شكوى. تأكيد للمعنى الأول، وتعليل له.
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى ... من غير جرم واصلي صلة الضنى
نصب هجر الكرى وصلة الضنى على المصدر. أي الذي هجرني مثل هجر الكرى.
يقول: ليت الحبيب الذي هجرني من غير ذنب مني، هجر النوم عينين بهجره، وواصلني مثل مواصلتي السقم، حتى واصلني النوم وهجرني السقم.
بنا: أي تباعدنا. وقوله: فلو حليتنا. أي وصفت واكتسيت حليتنا. امتقع لونه وابتقع وانتقع: إذا تغير.
يقول لصاحبه: إنا لما تفرقنا تغيرت ألواننا من خوف الفراق وحزن التباعد وطول الضنى، فلو أردت وصفنا لم تقدر عليه، ولم تدر بأي شيء تصفنا؛ لكثرة ما ننتقل من لون إلى لون. وقوله: تلونا، نصب على التمييز.(1/131)
وتوقدت أنفاسنا حتى لقد ... أشفقت تحترق العواذل بيننا
الإشفاق: الخوف مع الرحمة.
يقول: ألهبت أنفاسنا حرارة الشوق، حتى خفت أن تحترق العواذل اللائي كن بيننا. ووجه إشفاقه عليهن، مع أن العواذل يكن مبغضات للعشاق، لأن العاذل لا يكون في الأغلب إلا من يكون قريباً، أو ناصحاً شفيقاً. وقيل: إنه خاف أن تنم أنفاسه على حالهما، من حرارة الشوق. ويجوز أن يكون خوفه من احتراق نفسه واحتراق حبيبه، ثم يتعدى الاحتراق إلى العواذل، لأنهن لا يحترقن بحرارة أنفاسهما إلا بعد احتراقهما. ومثله قول بعض المتأخرين:
والبين يقدح من أنفاسنا شررا ... أشفقت تحرقنا يوم الوداع معا
أفدي المودعة التي أتبعتها ... نظراً فرادى بين زفراتٍ ثنا
سكن الفاء من زفرات ضرورة وأصلها الفتح. وثنا: أصله المد فقصره ضرورة أيضاً وفرادى: صفة لنظر؛ لأنه مصدر يقع على الواحد والجمع.
يقول: أفدى التي ودعتني وودعتها، فبقيت أنظر في أثرها لا أطرق ولا ألتفت إلى سواها، وكانت زفراتي تتصاعد اثنين اثنين؛ لشدة الجزع. يعني كلما نظر في أثرها مرةً زفر مرتين.
أنكرت طارقة الحوادث مرةً ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا
اعترفت بها: أي عرفتها وتعودتها. وقيل: معناه. صبرت لها حتى صارت لي عادة.
يقول: كنت في أمن من حوادث الدهر، فلما حدثت مرة أنكرتها وجزعت منها، ثم تكررت علي حتى صارت عادة لي، فلا أنكرها الآن. وهو من قول أبي العتاهية:
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
ومثله لآخر:
روعت حتى ما أراع من النوى ... وإن بان جيران علي كرام
ومثله لآخر:
روعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
وقطعت في الدنيا الفلا وركائبي ... فيها ووقتي: الضحى والموهنا
الفلا: نصب بقطعت. وركائبي، ووقتي: معطوفان عليها. والضحى، والموهنا بدا في وقتي. والوهن والموهن: قطعة من الليل، وقيل: صدر الليل قدر ساعتين منه؛ والضحى: صدر النهار.
يقول: استفدت لكثرة أسفاري في الفلوات، وأنضيت الركاب، وأفنيت ساعات نهاري وليلي. فعبر بالضحى، عن جملة النهار، وبالموهن: عن جميع الليل.
فوقفت منها حيث أوقفني الندى ... وبلغت من بدر بن عمار المنى
وقفته وأوقفته: أي حبسته، وبغير الألف أفصح. والهاء في قوله: منها راجعة إلى الدنيا.
يقول: لم أزل أطوف في الدنيا حتى وصلت إلى بدر، فحبسني جوده ونداه عنده، وبلغت عنده كل ما أتمناه: من نيل الغنى وإدراك العلا ومثله قوله من أخرى:
وقيدت نفسي في ذراك محبةً ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
لأبي الحسين جداً يضيق وعاؤه ... عنه ولو كان الوعاء الأزمنا
جداً: أي عطاء.
يقول: إن عطاءه قد بلغ إلى حدٍّ يضيق الوعاء عنه، حتى لو كان الزمان وعاءه، لضاق عنه.
وشجاعةٌ أغناه عنها ذكرها ... ونهى الجبان حديثها أن يجبنا
وشجاعةٌ: معطوفة على قوله جداً، وموضعه رفع بالابتداء.
يقول: إن شجاعته قد اشتهر ذكرها وشاع في الناس حديثها. فانقاد أعداؤه لحكمه، فاستغنى عن استعمال شجاعته لدخولهم في طاعته. وهو المراد بقوله: أغناه عنها ذكرها أي عن إظهارها واستعمالها، وقوي قلب الجبان من كثرة ذكرها، حتى اضطر إلى ترك جبنه.
نيطت حمائله بعاتق محربٍ ... ما كر قط وهل يكر وما انثنى؟!
نيطت حمائله: أي علقت، ونياط: عرق القلب معلق. والعاتق: رأس الكتف، وهو الكاهل أيضاً. وحمالة السيف: قلادته. والمحرب: كثير الجراءة والهاء في حمائله: للممدوح ومحرب: أراد به الممدوح أيضاً.
يقول: إن حمائل سيفه منوطة بعاتقه، وهو كثير الحرب، وإنه إذا حمل على عدوه لم ينثن عنه، فيحتاج إلى الرجوع إليها، لأن الكر يكون بعد الفر.
فكأنه والطعن من قدامه ... متخوفٌ من خلفه أن يطعنا
يقول: إنه يتقدم في المعركة، ويلقي الطعن قدامه ولا يتأخر، حتى كأنه يخاف أن يطعن من خلفه، فهو يتحرز بالتقدم كأنه يطعن من خلفه
نفت التوهم عنه حدة ذهنه ... فقضى على غيب الأمور تيقنا
فاعل نفت: هو حدة.(1/132)
يقول: إنه من حدة فطنته وشدة ذكائه، صار توهمه علماً، فيقضي على الأمور الغائبة باليقين، لا بالتوهم والظن. وقيل: أراد أن إقدامه في الحرب، لعلمه بعواقب أمره في أنه يتلقى السلامة.
يتفزع الجبار من بغتاته ... فيظل في خلواته متكفنا
يقول: إن كل جبار يفزع من أن يهجم عليه بغتةً فيقتله، ويظل لابساً أكفانه إذا خلا بنفسه.
أمضى إرادته فسوف له قدٌ ... واستقرب الأقصى فثم له هنا
سوف: للاستقبال، وقدٌ: للمضي وتقريب العهد، فلما جعله اسماً أعربه، وثم: للمكان البعيد. وهنا: إشارة إلى المكان القريب.
يقول: إن مراده طوع أمره فما يريد فعله في المستقبل، بمنزلة ماضي المفعول، والبعيد عنك بمنزلة القريب
يجد الحديد على بضاضة جلده ... ثوباً أخف من الحرير وألينا
روى جلده بدل جسمه. والبضاضة: الطراوة والنعومة.
يقول: إنه مع نعومة جسمه ولين جلده، يجد الحديد والسلاح على بدنه أخف من الحرير وألين، وإن كان الحرير هو النهاية في الخفة واللين؛ وذلك لتعوده لبس السلاح وألفه له.
وأمر من فقد الأحبة عنده ... فقد السيوف الفاقدات الأجفنا
يقول: فقد السيوف المجردة من الأغماد، أشد عليه وأمر عنده من فقد الأحبة وبعدهم عنه.
لا يستكنٌّ الرعب بين ضلوعه ... يوماً ولا الإحسان ألا يحسنا
الإحسان: قيل إنه بمعنى العلم، ومعناه أن الخوف لا يستكن بين ضلوعه: أي لا يدخل ولا يستقر في قلبه وكذلك لا يستقر في قلبه العلم بألا يحسن إلى الناس. أي أنه جواد لا يعلم ترك الإحسان.
وقيل الإحسان: هو ترك الإساءة، وهو الإنعام ومعناه: لا يثبت الإحسان حتى يحسن هو إلى الناس، إذ ليس في الدنيا من يحسن إلى الناس غيره.
مستنبطٌ من علمه ما في غدٍ ... فكأن ما سيكون فيه دونا
مستنبط في يومه ما في غده دون جمع والهاء في فيه يجوز أن تكون للممدوح، ويجوز أن تكون راجعة إلى علمه يقول: إنه عالم بعواقب الأمور يعرف في يومه ما يحدث في غدٍ، فكأن ما سيكون مكتوب عنده، مجموع الصورة لديه.
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
تنقاصر: خبر الأفهام. مثل: نصب؛ لأنه صفة لمصدر محذوف. أي تتقاصر مثل تقاصرها عن الإدراك. الذي هو علم الله تعالى. الذيي الأفلاك فيه. والدنا: جمع الدنيا. فعلى هذا جعل كل أفق منها دنيا، فجاء الجمع لهذا.
يقول: إن الأفهام تعجز عن إدراك حقيقته، ويقصر الإدراك عن علم معانيه، كما تعجز عن إدراك حقيقة ما وراء العالم. وهو المراد بقوله: الأفلاك فيه والدنا؛ لأن الناس اختلفوا فيما هو خارج العالم.
فقال: كلما لم يعرفوا حقيقته ما ظرف له كذلك لا يعرفون حقيقة صفاتك.
وعن ابن جنى: إن المراد بقوله: الأفلاك فيه والدنا، هو الله تبارك وتعالى.
من ليس من قتلاه من طلقائه ... من ليس ممن دان ممن حينا
الطلقاء: جمع الطلائق. ودان: أطاع. وحين: دنا حينه، أي هلاكه. ومن ليس مبتدأ، ومن طلقائه خبره. أي من ليس من قتلاه، فهو من طلقائه. وكذلك الثاني.
يقول: إنه أفنى العباد ببأسه وسطوته، وملكهم بعفوه، فمن لم يقتله فهو طليق عفوه، ومن لم يطعه فهو ممن دنا حتفه وهلاكه.
لما قفلت من السواحل نحونا ... قفلت إليه وحشةٌ من عندنا
يقول: إنك لما رحلت عنا استوحشنا لبعدك، فلما رجعت إلينا زالت عنا الوحشة، ورجعت إلى السواحل التي غبت عنها.
وكان بدر الممدوح قد خرج إلى الساحل الذي رد إليه عمله، فلما عاد مدحه بهذه القصيدة.
أرج الطريق فما مررت بموضع ... إلا أقام به الشذا مستوطنا
أرج: أي فاحت منه رائحة الطيب. والشذا: المسك، وقيل: هو حدة ريحه.
يقول: إن الطريق الذي سلكته عبق من طيب ريحك، فكل موضع مررت به أقام به الريح طيباً لا يفارقه، حتى كأنه وطنه. أخذه من قول النميري:
تضوع مسكاً بطن نعمان إن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات
إلا أن المتنبي زاد ذكر الاستيطان
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محييةً إليك الأغصنا
يقول: لو كانت الشجر التي مررت عليها عاقلة عارفة بمحلك، لكانت تمد أغصانها نحوك محييةً ومشيرة بالسلام عليك.
سلكت تماثيل القباب الجن من ... شوق بها، فأدرن فيك الأعينا(1/133)
وروى: من شغف بها. والجن، فاعل سلكت.
يقول: تداخلت الجن في التماثيل التي على القباب المضروبة لتنظر إليك؛ شوقاً لرؤيتك، فأدرن فيك أعينها.
طربت مراكبنا فخلنا أنها ... لولا حياءٌ عاقها رقصت بنا
يقول: مراكبنا التي ركبناها إلى الممدوح استخفها السرور بقدومك، والمسير إليك، فلولا أن الحياء منعها من الرقص، لكادت ترقص بنا رقصا.
أقبلت تبسم والجياد عوابسٌ ... يخببن بالحلق المضاعف والقنا
روى: يخببن من الخبب: وهو السير السريع، وروى يجنبن من الجنيبة وتبسم: في موضع نصب على الحال، وكذلك الجياد عوابس ويخببن: حال من الجياد، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً فيكون في موضع رفع.
يقول: أقبلت إلينا ضاحكاً مبتسماً وخيلك عابسة؛ لما لحقها من التعب فيسر عن المسير بالدروع المضاعف نسجها وبالرماح.
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقاً عليه أمكنا
العثير: الغبار. والعنق: ضرب من السير؛ ترفع فيه الدابة عنقها.
يقول: إن الغبار الساطع من حافرها قد يعقد، لكثافته حتى كأنه أرض صلبه، فلو أرادت الجياد أن تسير على هذا الغبار لأمكنها السير.
والأمر أمرك والقلوب خوافقٌ ... في موقفٍ بين المنية والمنى
قيل: الأمر هنا بمعنى الحال، أي أقبلت وحالك في طلاقة وجهك، مثل حالك إذا كنت في الحرب، حين تخفق القلوب من الرعب، فتكون القلوب واقفة بين الموت والبقاء.
يعني: أنه في الحرب ضاحك السن، مثل حاله القديمة. وقيل: أراد به أن أمرك نافذ في الأولياء والأعداء. وقلوب أعدائك خائفة واقفة بين الخوف من الموت وبين الرجاء.
فعجبت حتى ما عجبت من الظبى ... ورأيت حتى ما رأيت، من السنى
الظبى: جمع الظبية، وهي حد السيف. والسنى مقصور: هو الضوء. تقديره: فعجبت من الظبى حتى ما عجبت، ورأيت من السنى حتى ما رأيت.
يقول: رأيت السيوف حولك متجردة فعجبت من كثرتها، وزاد الأمر حتى زال تعجبي مما رأيت من لمعان السيوف وبريقها، فبقيت متحيراً كمن لا حس له، وغلب لمعانها على بصري حتى ما رأيت؛ لأن لمعانها غشى عيني.
وقيل: أراد فعجبت من انهزامهم، حتى زال تعجبي، من أجل السيوف التي لمعت بأيديهم، فقلت حق لهذه السيوف أن تعمل هذا، فأزال تعجبي؛ لأني لم أستكره أن يكون ذلك الانهزام فعل ما رأيت.
وقيل: أراد أني عجبت من السيوف لكثرتها ولمعانها حتى التهيت بالعجب! فزال تعجبي كما قال أبو تمام:
على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وكذلك بريق السيوف؛ لشدة بريقه ولمعانه كف ضوءها بصري.
إني أراك من المكارم عسكراً ... في عسكر، ومن المعالي معدنا
قيل: معناه إنك في نفسك عسكر، وحولك من مكارمك عسكر؛ فلهذا أراك عسكراً في عسكر من المكارم.
وقيل: معناه إني أراك عسكراً من المكارم، في عسكر من الخيل والرجال، وأنك معدن: أي أصل لكل خير وشرف. ومثل المصراع الأول لأبي تمام:
لو لم يقد جحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسه وحدها في جحفل لجب
فطن الفؤاد لما أتيت على النوى ... ولما تركت مخافةً أن تفطنا
يقول: أنت عالم بما فعلت بعدك من شكرك والثناء عليك وغير ذلك، وعالم بما لم أفعله مخافة أن تفطنه. يعني: إني لو لم أتركه إلا مخافة أن تقف عليه تركته.
وقيل: أراد أنك تدرك غرضي فيما فعلته، لما بعدت عنك. وهو الاستزادة، ثم تركت البعد خوفاً من أن تقف على قصدي ومرادي. وقيل: أراد فعلت ذلك لأتجدد بالنوى عندك.
أضحى فراقك لي عليه عقوبةً ... ليس الذي قاسيت منه هينا
الهاء في عليه: راجعة إلى ما في قوله: لما أتيت أي صار فراقك عقوبة لي على ما أتيته من التأخر عنك وقد قاسيت منه وحشة عظيمة وأسفاً شديداً.
فاغفر، فدىً لك، واحبني من بعدها ... لتخصني بعطيةٍ منها أنا
يقول: اغفر ذنبي بعفوك عن التخلف عنك، وعلى التقصير الذي كان مني في حال البعد عنك، ثم صلني بعد المغفرة بصلة، لأكون مخصوصاً بها، واحبني في جملة من تحبه.
وانه المشير عليك في بضلةٍ ... فالحر ممتحنٌ بأولاد الزنا(1/134)
يقول: ازجر من يشير عليك في بما لا يليق بكرمك، فإنه ضلة، وإن أطعته في ذلك تكون غير سالك طريق الرشد، فإنه ولد زنا والحر مبتلٍ بأمثاله: أي بأولاد الزنا.
وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً ... في مجلسٍ أخذ الكلام اللذ عنا
اللذ: بسكون الذال، لغةٌ في الذي.
يقول: إذا عرض الفتى بكلامه رجلاً، فإن المعنى يأخذ ما عرض به من الكلام.
ومكايد السفهاء واقعةٌ بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى
المقتنى: مصدر من اقتنيت الشيء، إذا اكتسبته، ويجوز أن يكون اسم المفعول.
يقول: إن السفيه لضعف رأيه إذا كان عدواً، رجع ضرر كيده عليه، ومن عادى شاعراً فقد اكتسب شراً طويلاً وهجواً كثيراً، وذلك بئس المدخر.
لعنت مقارنة اللئيم فإنها ... ضيفٌ يجر من الندامة ضيفنا
الضيفن: الذي يجيء مع الضيف من غير دعوة. روى: من الندامة ومن العداوة.
يقول: لعن الله صحبة اللئام؛ فإنها تعقب الندامة.
غضب الحسود إذا لقيتك راضيا ... زرءٌ أخف علي من أن يوزنا
الرزء: المصيبة.
يقول: إذا رضيت علي يحخف علي عضب من يحسدني. ومثله لأبي فراس:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
ومثله لآخر:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها
أمسى الذي أمسى بربك كافراً ... من غيرنا، معنا بفضلك مؤمنا
يقول: أمسى من يكفر بالله، مقراً بفضلك؛ لأنه يدرك بالأبصار، ومعرفة الله تعالى تستنبط بالنظر والاعتبار والمشاهدة.
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
الغزالة: الشمس في وقت الضحى. وقدم ضمير الغائب في قوله: فأعاضهاك. وأخر ضمير المخاطب، وذلك ليس بالاختيار إلا في ضرورة الشعر، والهاء: للبلاد. والكاف: للخطاب. وليلها: نصب على الظرف. وتحزن للبلاد.
يقول: لما غابت الشمس عن الأرض ليلاً، فخلت من الشمس جعلك الله لها عوضاً من الشمس؛ لئلا تحزن البلاد لفراقها. يعني: أنه يقوم للبلاد مقام الشمس.
ودخل عليه فوجده خالياً للشراب، وقد أمر الغلمان بحجاب الناس عنه. فارتجل:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر
تأمر: خبر أصبح.
يقول: أمرت بالحجاب لخلوةٍ بنفسك، وما أبعد ما أردت! لأنك لا تقدر على الاحتجاب؛ للعلة التي ذكرها وهي قوله:
من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
يقول: من كان نور وجهه ظاهراً، ونواله مبذولا، غير محجوبين، لم يحتجب هو عن عين، وإن أرخيت دونه الحجب.
فإذا احتجبت فأنت غير محجبٍ ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
يقول: إذا احتجبت فأنت غير محتجب في الحقيقة، وإذا استترت فأنت نفس الظاهر، وأنت الظاهر في الحقيقة.
وسقاه يوماً ولم يكن له رغبةٌ فقال يذكر وده لبدر:
لم نر من نادمت إلاكا ... لا لسوي ودك لي ذاكا
قال ابن جنى: من في قوله: من نادمت نكرة موصوفة بمنزلة رجل. وقوله: نادمت صفة له. لا صلة؛ كأنه قال: لم نر إنساناً نادمته غيرك. فحذف الهاء؛ وذلك لأنه استثنى منه الكاف، ومن إذا كانت نكرة تقع موقع الجماعة، فيصح الاستثناء منه.
وقد يجوز أن يكون بمعنى المعرفة، واقع موقع الجماعة. وقوله: إلاك قبيح لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، لأنه وصل الضمير في موضع الفصل.
يقول: لم نر أحداً نادمته سواك، وليس ذلك مني لسوى محبتك وودك لي. يعني: إني لا أحب الشراب وإنما نادمتك وشربته محبة مني إليك.
ولا لحبيها ولكنني ... أمسيت أرجوك وأخشاكا
الهاء في قوله: لحييها للخمر. ويجوز أن تكون للمنادمة.
يقول: ما شربت الخمر حباً لها؛ ولكن شربتها لأني رجوتك أن تقضي حاجتي، وخشيت إن لم أشربها ألا تقضي حاجتي.
وقال أيضاً يفخر بمنادمته الأمير ويمدحه:
عذلت منادمة الأمير عواذلي ... في شربها وكفت جواب السائل
يقول: إن منادمته شرفٌ لي ومجد، فمن عذلني عليها كان بالعذل أولى، ومن سألني عنها لم احتج إلى إجابته؛ لأن المنادمة جواب له بما فيها من الشرف. ومثله للطائي:
عذلت سواكب دمعه عذاله ... بمدامع فندن كل مفند
مطرت سحاب يديك ري جوانحي ... وحملت شكرك واصطناعك حاملي(1/135)
يقول: أمطرتني حتى رويت وشكرتك على ذلك، ونعمك بلغتني المنزلة الرفيعة.
فمتى أقوم بشكر ما أوليتني ... والقول فيك علو قدر القائل؟!
يقول: متى يمكنني أن أقوم بشكر ما أوليتني من النعم؟ فأنا إذا شكرتك ومدحتك، فإن مدحي فيك يرفع قدري ويشرفني، فيكون ذلك نعمة منك علي، يجب القيام بشكرها، وذلك الشكر نعمةٌ، فإذا كان الحال هذا، كيف يمكن القيام بشكرك؟ أخذه من قول محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف أداء الشكر إلا بعونه؟ ... وإن دنت الأيام واتصل العمر
وكان بدرٌ قد تاب من الشراب مرةً بعد أخرى، فرآه أبو الطيب يوماً يشرب فقال له:
يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في ملكه لا ملكه
يقول: إن ندماءه شركاؤه في ملكه أي ماله مبذول لندمائه، وأما ملكه ورئاسته فمختصة به، لا يشركه فيها غيره؛ لأن بذله غير جائز ومثله:
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
في كل يوم بيننا دم كرمةٍ ... لك توبةٌ من توبةٍ من سفكه
يقول: كل يوم بيننا خمر، وكل يوم توبةٌ من توبةٍ من سفكه. أي سفك هذا الدم أي أنك تتوب من التوبة التي هي توبة من سفكه.
والصدق من شيم الكرام فنبنا ... أمن الشراب تتوب أم من تركه؟
أصله: فنبئنا. فأبدل الهمزة ياء، ثم حذفها. وروى أيضاً: فنبئاً، وأصله: فنبئن وهي نون تأكيد ساكنة، فأبدلها ألفاً فقال: نبئاً.
يقول: أخبرنا أنك تائب من الشراب، أم من ترك الشراب؟ فقال بدر: بل من تركه يا أبا الطيب.
وقال فيه أيضاً يمدحه:
بدرٌ فتىً لو كان من سؤاله ... يوماً توفر حظه من ماله
يقول: إنك كثير العطاء. يعني من يأتيه فلو كان مثلاً يوماً واحداً من جملة سائليه، لكان له نصيب وافر من ماله.
تتحير الأفعال في أفعاله ... ويقل ما يأتيه في إقباله
روى: الأفعال في أفعاله. وروى: الأقوال في أقواله.
يقول: إنه يأتي بأفعال بديعة عظيمة، بحيث تتحير أفعال الناس فيها، وإن ما يأتيه من الأفعال العجيبة في جنب إقباله قليلة، وإقباله أعظم من أفعاله.
قمراً نرى وسحابتين بموضع ... من وجهه ويمينه وشماله
يقول: إن يديك كالسحابتين، تهطلان بالعطاء، وفي الحرب بالدماء، ووجهك كالقمر، ومن شأن السحاب أن يستر القمر وسحابتاه لا تستران ضياء نوره.
وقال ابن جنى: معناه أن يمينه تسح بالعطاء، وشماله تسح الدماء.
وهذا غير جيد، لأن أكثر الأعمال إنما تكون باليمين، وكذلك المحاربة. إلا إذا كان الرجل أعسر أيسر، أو يكون دون أعسر. والباء في قوله: بموضع بمعنى في: أي في موضع وإن شئت علقتها بالفعل، فيكون إذ ذاك فارغة لا ضمير لها، وإن شئت جعلتها صفةً لنكرة محذوفة: أي نرى قمراً وسحابتين كائنتين بموضع. وكذلك من إن شئت علقتها بالفعل، وإن شئت بمحذوف.
سفك الدماء بجوده لا بأسه ... كرماً لأن الطير بعض عياله
اللام في لأن بدل من اللام المقدرة في كرماً.
يقول: إنه تكفل بأرزاق الطير، وجعلها من جملة عياله، فهو يقتل أعداءه ليطعم الطير لحوم القتلى؛ لكرمه واعتياده إطعام الطير دائماً.
إن يفن ما يحوي فقد أبقى به ... ذكراً يزول الدهر قبل زواله
يقول: إن كان قد أفنى ماله بسخائه، فقد اكتسب ذكراً يبقى إلى آخر الزمان. وقوله: يزول الدهر إلى آخره. أي لا يزول ذكره أبداً، ما دام الدهر؛ لأنه أراد أنه يبقى بعد الدهر، وإنما قصد به تأكيد بقاء الذكر. وهو من قول الآخر:
تمر به الأيام تسحب ذيله ... وتبلى به الأيام وهو جديد
وسأله حاجةً فقضاها، فنهض وهو يقول شكراً له على قضاء حاجته:
قد أبت بالحاجة مقضيةً ... وعفت في الجلسة تطويلها
عفت الشيء: إذا كرهته.
وروى: في الجلسة بفتح الجيم وكسرها.
يقول: رجعت بقضاء حاجتي، وكرهت تطويل الجلوس بعد قضاء الحاجة.
أنت الذي طول بقاءٍ له ... خيرٌ لنفسي من بقائي لها
وروى: طول بقاء به.
يقول: بقاءك خيرٌ لي، من حياتي لنفسي؛ لأني منك في راحة، وأنا من نفسي في عناء فزاد الله في حياتك من حياتي: دعاء له.
فسأله بدرٌ الجلوس فقال يذكر علو منزلة الأمير بدرٍ لما سأله أن يجلس:(1/136)
يا بدر إنك، والحديث شجون ... من لم يكن لمثاله تكوين
شجون: أي ضروب. وهو مأخوذ من شجون الوادي: وهي شعبه. وهو مثلٌ قديم، وأصله: الحديث ذو شجون فحذف المضاف. والتكوين: الإيجاد. ومن بمعنى: الذي. وهو خبر إن، واسمها: الكاف. من إنك وقوله: والحديث شجون. اعتراض بين اسم إن وخبرها؛ وإنما جاز ذلك لأن فيه ضرباً من التوكيد. ويجوز أن يكون من نكرة موصوفة. أي إنك رجل ليس له نظير.
وتقدير البيت: يا بدر إنك من لم يكن لمثاله تكوين. أي لم يخلق له نظير.
لعظمت حتى لو تكون أمانةً ... ما كان مؤتمناً بها جبرين
اللام في لعظمت: جواب لقسم محذوف: أي والله لقد عظمت. ولا يجوز أن تكون لام الابتداء؛ لأنه مختص بالاسم. وجبرين لغة: أي جبريل. وقيل: إن النون بدل من اللام.
يقول: إنك عظيم القدر فلو كنت من جملة الأمانات لكان جبريل غير مؤتمن بها على الوحي، وهذا إفراط.
بعض البرية فوق بعض خاليا ... فإذا حضرت فكل فوق دون
خالياً: نصب على الحال.
يقول: إذا خلا الناس منك تفاضلوا في الشرف، فإذا حضرت استووا في التقصير، وصاروا كلهم دونك. أخذه من قول بشار:
وكانت نساء الحي ما دمت فيهم ... قباحاً، فلما غبت صرن ملاحا
غير أن المتنبي قلبه.
وقال يمدح بدر بن عمار:
فدتك الخيل وهي مسوماتٌ ... وبيض الهند وهي مجردات
مسومات: يجوز أن يكون أراد به معلمات. ويجوز أن يريد به مرسلات. والواو في قوله: وهي في الموضعين: واو الحال. المعنى يدعو له ويقول: الخيل المسومة والسيوف المجردة من الأغماد فداءٌ لك؛ وإنما فداه بها لأنها لو فقدته لم يعملها أحد إعماله.
وصفتك في قوافٍ سائراتٍ ... وقد بقيت وإن كثرت صفات
التاء في كثرت: ضمير القوافي: وصفات: رفع بقوله: بقيت.
يقول: قد وصفتك بقصائد يرويها كل واحد، وتسير بها الركبان، وقد بقيت صفات كثيرة، وإن كثرت القوافي.
أفاعيل الورى من قبل دهمٌ ... وفعلك في فعالهم شيات
أفاعيل: جمع أفعال. والدهم: السود. والشيات: جمع الشية في الفرس. وهو لون يخالف لون الجملة.
يقول: إن أفعالك مشهورة بين أفعال الخلق، فإن أفعالهم تشبه بعضها بعضاً، وأفعالك مباينة لها، مشهورة فيما بينها.
وقال أيضاً يذكر نعم بدرٍ عليه حين انصرافه من عنده ليلاً وقد سمر معه الليل كله:
مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
الرؤيا: هي ما يرى في النوم. واستعمل ها هنا بمعنى رؤية البصر.
يقول: إن الليل قد مضى، وفضلك باق، وخصالك المحمودة غير منقطعة ولا مبتذلة باختلاف الليل والنهار، ورؤيتك أحلى في العيون من النوم.
على أنني طوقت منك بنعمةٍ ... شهيدٌ بها بعضي لغيري على بعضي
بعضي: في موضع رفع؛ لأنه فاعل شهيد، وعلى: متعلق بفعل محذوف، أي أمدحك على ما طوقتنيه، أو أثني عليك أو نحوه من الأفعال.
يعني: أنك أنعمت علي نعماً نبت بها لحمي وحسن بها حالي، فظهر أثرها علي، فلو جحدها لساني أقر بها جلدي وحسن حالي.
سلام الذي فوق السماوات عرشه ... تخص به يا خير ماشٍ على الأرض
يستأذنه في الانصراف عن مجلسه إلى منزله.
يقول: سلام الله عليك، وصار مختصاً بك، يا خير من مشى على الأرض.
وأقبل يلعب بالشطرنج فقال له يمدحه قبل انصرافه من عنده والمطر يهطل:
ألم تر أيها الملك المرجى ... عجائب ما رأيت من السحاب؟
روى: مارأيت، وما رأيت. وهو أجود.
يقول: أيها الملك الذي يرجى خيره، هل ترى ما رأيت من عجائب هذا السحاب؟ وهي كثرة الأمطار المتواترة.
تشكي الأرض غيبته إليه ... وترشف ماءه رشف الرضاب
أراد: تتشكى، والهاء في غيبته وما بعده: للسحاب. وترشف: أصله تترشف. أي تمص. والرضاب: قطع الريق.
يقول: تظلمت الأرض إلى السحاب من غيبته عنها، فجاء المطر لتظلمها، فتمص الأرض شهوةً كما يمص العاشق ريق حبيبته. وقيل الهاء في إليه: للممدوح. أي تشكي الأرض إليه غيبته إلى السحاب.
وأوهم أن في الشطرنج همي ... وفيك تأملي ولك انتصابي
همي: أي قصدي. والانتصاب: التصدي للأمر، والقيام به.(1/137)
يقول: أنا أظهر لك أني أنظر إلى الشطرنج وليس كذلك، فإني أنا أتأمل فيك، وأتمتع برؤيتك، وأنظر في أفعالك، وقيامي بين يديك خدمةً لك؛ لتأمرني بشيء فأمتثل أمرك.
سأمضي والسلام عليك مني ... مغيبي ليلتي، وغداً إيابي
روى: وعدي إيابي. يستأذنه في الانصراف.
يقول أغيب ليلتي هذه لا غير، وغداً أعود إليك.
قال ابن جنى: أنا اتهم هذه القطعة، ولم أقرأها عليه وكلامه عندي أجود من هذا.
وأخذ الشراب من أبي الطيب، وأراد الانصراف، فلم يقدر على الكلام. فقال هذين البيتين وهو لا يدري أنه قالهما، فلما أصبح أنشده إياهما ابن الخراساني وهما قوله:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور
وذا انصرافي إلى محلي ... اآذنٌ لي أيها الأمير؟
تقديره: نال مني الذي نلت منه.
يقول: شربت الخمر من عقلي ما شربت أنا منها. وقوله: لله ما تصنع الخمور عجباً من صنيع الخمور بالنا.
ثم قال: إأذن لي أيها الأمير في الانصراف إلى منزلي، فإني رأيت الخمر تغلب الإنسان.
وعرض عليه من غده الصحبة فقال ارتجالاً يعتذر عن الصبوح من غدٍ:
وجدت المدامة غلابةً ... تهيج للمرء أشواقه
تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسن أخلاقه
قوله: تهيج للمرء أشواقه. أي تهيج ما سكن من أشواقه. وقوله: تسيء إلى آخره المراد به: من حيث تحمله على الجهل، وطرح الحشمة وإظهار الوقاحة، ولكن تحسن أخلاقه من حيث تورث الفرح وتحمل الإنسان على السخاء. ومع ذلك لا يفي خيرها بشرها.
وأنفس ما للفتى لبه ... وذو اللب يكره إنفاقه
روى: مال الفتى وما للفتى.
يقول: أعز شيء في الإنسان عقله، والخمر تفسده والعاقل يكره تضييع عقله وإنفاقه.
وقد مت أمس بها موتةً ... وما يشتهي الموت من ذاقه
يقول: لما شربتها أمس فقدت حسي وصرت إلى حال الموت! ومن ذاق الموت لا يشتهيه مرة أخرى.
ذكر هذه الأبيات استعفاءً من شرب الشراب.
وقال يصف لعبةً وكان لبدرٍ جليسٌ أعورٌ يعرف بابن كروس، يحسد أبا الطيب لما كان يشاهده من سرعة خاطره؛ لأنه لم يكن يجري في المجلس شيءٌ إلا ارتجل فيه شعراً، فقال لبدر: أظنه يعمل هذا قبل حضوره ويعده معه، ومثل هذا لا يجوز أن يكون، وأنا أمتحنه بشيءٍ أحضره للوقت، فلما كمل المجلس ودارت الكئوس استخرج لعبةً قد استعدها، لها شعرٌ في طولها، تدور على لولب، إحدى رجليها مرفوعةٌ، وفي يدها طاقةٌ ريحانٍ، تدار فإذا وقفت حذاء إنسانٍ شرب ووضعها من يده، ونقرها فدارت فقال المتنبي:
وجاريةٍ شعرها شطرها ... محكمةٍ نافدٍ أمرها
قوله: محكمة أي جعل الحكم لها. وشطر الشيء: نصفه.
يقول: إن شعرها على مقدار نصفها، وهي مقبولة الحكم، وأمرها نافذ؛ لأنها كانت إذا وقفت عند إنسان شرب قدحاً، فكأنها حكمت عليه بأن يشرب.
تدور وفي يدها طاقةٌ ... تضمنها مكرهاً شبرها
أراد بالشبر: اليد. يعني أن في يدها ريحان، وأن يدها تضمنته مكرهة؛ لأنها لا اختيار لها.
فإن أسكرتنا ففي جهلها ... بما فعلته بنا عذرها
تقديره: ففي جهلها عذرها بما فعلته بنا.
يقول: إن كانت حكمت علينا بالشرب حتى سكرنا، فإن جهلها بما فعلته بنا، عذرها لنا.
وأديرت فوقفت حذاء أبي الطيب فارتجل يصف اللعبة نفسها:
جاريةٌ ما لجسمها روح ... بالقلب من حبها تباريح
التباريح: جمع التبريح، وهو شدة الشوق. وجارية: رفع؛ لأنها خبر ابتداء محذوف. أي هذه جارية.
يقول: إنها وإن كانت غير ذات روح، فإن حبها قد برح بقلبي.
في يدها طاقةٌ تشير بها ... لكل طيبٍ من طيبها ريح
سأشرب الكأس من إشارتها ... ودمع عيني في الخد مسفوح
الواو في قوله: ودمع عيني واو الحال.
يقول: إن رائحة كل طيب مكتسبٌ من هذه الطاقة التي في يدها، ثم قال: أشرب الخمر بإشارتها، ودمع عيني في تلك الحال مصبوب؛ لأن كل من شرب الخمر تذكر حبيبه فيهيج له من ذلك الذكر الحزن، فيؤدي إلى البكاء.
وأدارها فوقفت حذاء بدرٍ فقال:
يا ذا المعالي ومعدن الأدب ... سيدنا وابن سيد العرب
أنت عليمٌ بكل معجزةٍ ... ولو سألنا سواك لم يجب
أهذه قابلتك راقصةً ... أم رفعت رجلها من التعب؟!(1/138)
قوله: سيدنا أراد يا سيدنا، فحذف حرف النداء. وراقصة: نصب على الحال.
يقول: أنت تعلم بكل شيء خفي يعجز الناس عن إدراكه، ولو سألنا غيرك لم يجب، فأخبرنا عن هذه الجارية، هل قابلتك وهي ترقص، أو تعبت فرفعت رجلها من التعب؟ لأنها كانت قائمة على رجل واحدة.
وأديرت فسقطت فقال في الحال:
ما نقلت في مشيئةٍ قدما ... ولا اشتكت من دوارها ألما
روى: مشيئة ومشيةٍ بالتصغير.
على الأول: ما نقلت قدماً بإرادة منها ولا اشتكت من دوارها، حين سقطت من الألم؛ لأنها ليست مما يحس.
وعلى الأخرى: ما نقلت قدماً في مشيةٍ، لأنها وإن كانت ماشية، فلم تنقل قدماً.
لم أر شخصاً من قبل رؤيتها ... يفعل أفعالها وما عزما
يقول: لم أر شخصاً سواها يفعل مثل أفعالها، من غير عزم وقصد.
فلا تلمها على تواقعها ... أطربها أن رأتك مبتسما
تواقعها: أي رقصها.
يقول: لا تلمها على رقصها، لأنها تداخلها الطرب، فرقصت سروراً لما رأتك مبتسماً.
وقيل: تواقعها: سقوطها. يعني. لا تلمها على سقوطها؛ لأنها لما رأتك ضاحكاً طربت فسقطت.
وقال أيضاً فيها أي اللعبة نفسها:
إن الأمير أدام الله دولته ... لفاخرٌ كسيت فخراً به مضر
مضر: اسم قبيلة، فلهذا أنثه، وتقديره: كسيت مضر به فخراً، يعني ذو فخرٍ متناهٍ، حتى أن مضراً اكتست من فخره. وقيل تقديره: لفاخرٌ مضر به كسيت فخراً، يعني: أن مضر تفتخر به بما كساها من الفخر والشرف الزائد.
في الشرب جاريةٌ من تحتها خشبٌ ... ما كان والدها جنٌّ ولا بشر
الشرب: جمع شارب، يعني: فيما بين الشرب، جارية هذه صفتها.
قامت على فرد رجلٍ من مهابته ... وليس تعقل ما تأتي وما تذ
يقول: إنها قامت على فرد رجل؛ هيبةً من الأمير وخدمةً، مع أنها لا تعقل ما تفعل وما تترك.
ووصفها بشعر كثير وهجاها بمثله لكنه لم يحفظ فخجل ابن كروس وأمر بدرٌ برفعها فرفعت فقال:
وذات غدائرٍ لا عيب فيها ... سوى أن ليس تصلح للعناق
إذا هجرت فعن غير اجتنابٍ ... وإن زارت فعن غير اشتياق
العناق: المعانقة والاجتناب: المباعدة.
يقول: إنه لا عيب فيها، إلا أنها من خشب لا تصلح للمعانقة، وقربها وبعدها عن غير قصد منها.
أمرت بأن تشال ففارقتنا ... وما ألمت لحادثة الفراق
يقول: إنك لما أمرت برفعها، فارقتنا ولم تتألم لفراقنا، كما يتألم المحب لفراق حبيبه.
ثم قال لبدر ما حملك على ما فعلت؟ فقال له بدرٌ: أردت نفي الظنة عن أدبك، فقال المتنبي معتزاً بأدبه:
زعمت أنك تنفي الظن عن أدبي ... وأنت أعظم أهل العصر مقدارا
إني أنا الذهب المعروف مخبره ... يزيد في السبك للدينار دينارا
السبك: الصوغ.
يقول: إن كنت أردت إزالة القهر عني فقد زدت أنا على التجربة، مثل الذهب الذي إذا سبك زاد للدينار ديناراً، وليس كل ذهبٍ كذلك.
قال له بدرٌ: والله للدينار قنطاراً! فقال المتنبي يمدح بدراً وقد أطرى أدبه:
برجاء جودك يطرد الفقر ... وبأن تعادي ينفد العمر
فخر الزجاج بأن شربت به ... وزرت على من عافها الخمر
يقول: من يرجوك يغنى، ومن يعاديك يفنى وإن الزجاج فخر على سائر الجواهر من الذهب والفضة، لما شربت به، وعابت الخمر من عافها ولم يشربها، حين تشربها أنت.
وسلمت منها وهي تسكرنا ... حتى كأنك هابك السكر
أي شربنا الخمر معك فأسكرتنا ولم تسكرك! فكأنها خافتك ولم تقدر عليك.
ما يرتجى أحدٌ لمكرمةٍ ... إلا الإله وأنت يا بدر
يقول: ليس أحد يرتجى خيره، إلا الله عز وجل، ثم أنت.
وخرج أبو الطيب إلى جبل جرش: وهي مدينةٌ عظيمةٌ نسب إليها الجبل. فنزل بعلي بن أحمد المري الخراساني وكانت بينهما مودة بطبرية فقال يمدحه:
لا افتخارٌ إلا لمن لا يضام ... مدركٍ أو محاربٍ لا ينام
روى: مدركٍ أو محاربٍ، جراً. فيكونان صفتين لمن. ومن تكون نكرة.
وروى. مدركٌ أو محاربٌ بالرفع، فيكونان خبرين لمبتدأ محذوف. أي هو مدرك. ومن تكون معرفة بمعنى الذي. ويجوز: أن يكون الجر فيهما على البدل من من ويكون بمعنى الذي.(1/139)
يقول: لا ينبغي أن يفتخر إلا من لم يلحقه ضيم وذل من قبل أحد، ولن يكون أحد بهذه الصفة إلا أنت، ومن يكون مدركاً لما رامه، لا ينام عن أعدائه ومحاربتهم.
ليس عزماً ما مرض المرء فيه ... ليس هماً ما عاق عنه الظلام
نصب عزماً وهماً، لأنهما خبرا ليس، واسمه ما وصلته مرض: أي فرط. والهم: الهمة ها هنا.
يقول: كل عزم يمرض فيه المرء ويفتر دون إمضائه، فليس بعزم على الحقيقة، وكل هم يمنع دون إمضائه ظلام الليل، فليس ذلك بهم على الحقيقة.
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاءٌ تضوي به الأجسام
وروى: تتوي به الأجسام. أي تهلك. وتضوي: أي تهزل.
يقول: إن تحمل الأذى ورؤية من يؤذيك ويجني عليك غذاء تبلى به الأجسام وتهزل.
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
وروى: ألذ منه الحمام.
يقول: من يغبط الذليل على عيشه فهو ذليل: ورب عيش يكون الموت خيراً منه، إذا لم تنل المنية، ومثله قول بشار بن برد:
وللموت خيرٌ من حياة على أذى ... يضيمك فيها صاحبٌ وتراقبه
كل حلمٍ أتى بغير اقتدار ... حجةٌ لاجىءٌ إليها اللئام
يقول: إنما يحسن الحلم مع القدرة. فمن لا يقدر على الانتصار إذا اعتصم بالحلم، فهو حجة يلتجىء إليها اللئام. ومثله قول الآخر:
إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرةٍ فضلٌ من الكرم
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميتٍ إيلام
يقول: من كان مهيناً في نفسه سهل عليه إهانة غيره ولا يؤلمه ما يطوى عليه من الذل، فهو كالميت الذي لا يتألم من الجراحة وغيرها.
ضاق ذرعاً بأن أضيق به ذر ... عاً زماني واستكرمتني الكرام
الذرع: القلب، وأصله من الذراع، وكان الفصيل إذا مشى مع الإبل وكل عن سيرها، قالوا: ضاق ذرعه أي قصر خطوه، ثم قيل لكل من عجز عن شيء: ضاق قلبه به ذرعاً، وهو نصب على التمييز. وضاق: فاعله زماني. واستكرمتني: أي وجدتني كريماً.
يقول: إن الزمان ضاق قلبه بسبب ضيق قلبي، وذلك إشارة إلى عظم حال نفسه. وقيل: أراد أن الزمان قصدني بأحداثه، فلما لم يمكنه أن يؤثر في، وأن يضيق قلبي بسبه، ضاق قلبه عند ذلك؛ لعجزه عن التأثير في، ووجدني الكرام كريماً في جميع أحوالي.
واقفاً تحت أخمصي قدر نفسي ... واقفاً تحت أخمصي الأنام
الأخمص: تحت باطن القدم. ويجوز في واقف الأول: الرفع على إضمار المبتدأ أي أنا واقف والنصب على الحال من الضمير في استكرمتني: أي وجدتني الكرام كريماً في تلك الحال. وأما الثاني: فبالنصب على الحال لا غير. أي أنا دون قدري في حال علوي عن الخلق.
يقول: أنا واقف دون قدر نفسي وما بلغت المنزلة التي أستحقها بفضلي، وإن كان الخلق كلهم تحت قدمي. وهذا مثل.
أقراراً ألذ فوق شرارٍ! ... ومراماً أبغى وظلمي يرام!
يقال: لذ الطعام يلذه. إذا استلذه. والشرار: جمع شرارة.
يقول: كيف أستلذ القرار في موضع أكون فيه معذباً؟! كالواقف فوق شرار النار! وكيف أطلب حاجة أصل إليها! مع أن الأعداء يرومون ظلمي، فلا أستقر حتى أدفع هذا الظلم عني بحبس ضيقته.
دون أن يشرق الحجاز ونجدٌ ... والعراقان بالقنا والشام
دون قيل إنها بمعنى: قبل، وقيل بمعنى: سوى. وتشرق: أي تغص وتمتلىء.
يقول: لا أستقر دون أن تمتلىء هذه النوحي بالرماح فأنتصف منهم.
شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام
روى: شرق الجو وهو فعل ماض. ومشرق الجو وهو اسم الفاعل. وشرق الجو وهو مصدر. فيكون تقديره دون أن يشرق العراقان شرقاً مثل شرق الجو بالغبار؛ إذا سار الممدوح لمحاربة أعدائه. والقمقام: السيد. شبه امتلاء المواضع المذكورة بالجيش، بامتلاء الجو بالغبار، عند مسير هذا الممدوح.
الأديب المهذب الأصيد الضر ... ب الذكي الجعد السري الهمام
الأصيد: قيل هو المتكبر، وهو من صفة الملوك. والضرب: الخفيف الجسم. والعرب تتمدح به. والجعد مطلقاً: السخي. وقيل: هو الذي لا يضام لعزه. والذكي: التام العقل. والمهذب: المصفى من العيوب. والسري: الرفيع القدرز والهمام: العظيم الهمة.
والذي ريب دهره من أسارا ... هـ ومن حاسدي يديه الغمام
ريب الدهر: صروفه، وحوادثه.(1/140)
يقول: إن صروف الدهر لا يمتنع أحد من ضيمه، والدهر قد صار من أساراه يصرفه كيف شاء، ويمنع ضرره عن الناس، ومن جملة حاسدي يديه: الغمام المضروب به المثل في السخاء، فيحسد يديه على جوده.
يتداوى من كثرةٍ المال بالإق ... لال جوداً كأن مالاً سقام
نصب جودا. لأنه مفعول له. وقيل: نصب على المصدر؛ لأن ما ظهر من الكلام يدل عليه: أي يجود جوداً.
يقول: كأن الغنى عنده مرض يريد إزالته، فيتداوى منه بالإقلال والإنفاق، وكأن الإقلال عافية، فهو يريد بجوده إزالة السقم عنه وطلب العافية.
حسنٌ في عيون أعدائه أق ... بح من ضيفه رأته السوام
السوام: المال الراعي. وحسنٌ: خبر ابتداء محذوف. وتم الكلام عند قوله. حسن.
يقول: إنه حسنٌ على الحقيقة، غير أنه عند أعدائه وفي عيونهم لعلمهم أنه يهلكهم ويقتلهم أقبح منظراً من ضيف في عيون سوائمه؛ لأنها إذا رأت الضيف علمت أنها منحورة مذبوحة، لما جرت به عادته بنحر الإبل للضيف.
قال ابن جنى: على هذا استقر الكلام بيني وبين المتنبي. ومثله لبعض الأعراب:
حبيبٌ إلى كلب الكريم مناخه ... بغيضٌ إلى الكوماء والكلب أبصر
وقيل: معناه حسن في عيون أعدائه؛ من حيث أن حسنه قد بهر؛ فيستحسنه عدوه وصديقه، وهو مع ذلك أقبح في السوام من ضيفه، واستغنى بذكره في صدر البيت عن أعدائه في آخره، وإنما استعجبوا لهيبتهم منه وخوفهم من سطوته فيحذرون إيقاعه بهم، كما تخاف الماشية النحر عند رؤية الأضياف.
لو حمى سيداً من الموت حامٍ ... لحماك الإجلال والإعظام
الإجلال والإعظام: هو التبجيل والتعظيم.
يقول: لو منع سيداً من الموت مانعٌ، لكان إجلال الناس وإعظامهم إياك يمنعاك الموت، ولكان الموت يهابك ويخشاك.
وعوار لوامعٌ دينها الح ... ل ولكن زيها الإحرام
قوله عوار: أي سيوف مجردة من الأغماد.
يقول: وحماه أيضاً السيوف العواري من أغمادها، التي تلمع وتبرق. ودينها الحل؛ لأنها لا تتحرج من الدماء. وزيها الإحرام: لأنها مجردة عن أغمادها، كالمحرم العاري عن ثيابه المتجرد منها.
كتبت في صحائف المجد: بسمٌ ... ثم قيسٌ وبعد قيس السلام
يجوز في قوله: بعد قيس الفتح على ترك الصرف، حملاً على القبيلة، ويجوز الجر بلا تنوين، فيكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقوله بسمٌ: أراد " بسم الله الرحمن الرحيم " فجعل الباء من نفس الكلمة ورفع، الرواية الصحيحة: كتبت أي السيوف العواري كتبت: " بسم الله الرحمن الرحيم " في صحائف المجد أي لما أرادت إثبات أسماء المجد كتبت بعده: قيسٌ. أي أن المجد لهم، ثم لما لم ير أحداً يستحق المجد، كتبت في آخر الصحيفة، ما يختم به الكلام: وهو السلام. أي أن المجد مقصور على قيس.
ورفع بسم وقيس على سبيل الحكاية كقولك: قرأت الحمد لله، وكقول ذي الرمة:
سمعت: الناس ينتجعون غيثاً
وروى: كتبت: على ما لم يسم فاعله. فيكون بسم وقيس مرفوعين، ويكون نائب الفاعل محمولاً على أنه أراد الكلمة بقوله: بسم.
إنما مرة بن عوف بن سعدٍ ... جمراتٌ لا تشتهيها النعام
أراد بالجمرات جمرات العرب وهم: قيس وضب ونمير. وسميت جمرات؛ لقوتها وكثرة حروبها، فشبهها بالجمرة في الإحراق. يعني: أنهم جمرات في الحرب والغارة، وليسوا كالجمرة التي تشتهيها النعام، لأن النعامة تبتلع الجمرة فتسيغها.
وقال ابن جنى: أراد أنهم جمرات النار؛ لشدتهم على أعدائهم، وإحراقهم إياهم، كالجمرات، وليسوا كالجمرات التي تأكلها النعام، بل هم أشد منها.
ليلها صبحها من النار والإص ... باح ليلٌ من الدخان تمام
تمام: صفة الليل، وهو أطول ليلة في السنة. والهاء في ليلها: القيس، أو لمرة بن عوف.
يقول: ليلهم كالصباح من كثرة اشتعال النيران؛ ليهتدي بها إليهم الأضياف والضلال، أو لإحراقهم دور أعدائهم. وصباحهم كالليل المظلم؛ من كثرة الدخان، لإحراقهم بيوت أعدائهم.
هممٌ بلغتكم رتباتٍ ... قصرت عن بلوغها الأوهام
يقول: لهم همم قد بلغتهم منازل من المجد، بحيث تقصر الأوهام عن بلوغ تلك المنازل. ولا تبلغها أوهام الناس.
ونفوسٌ إذا انبرت لقتالٍ ... نفدت قبل ينفد الإقدام(1/141)
روى نفدت قبل ينفد: أي فنيت. وروى فقدت قبل ينفذ الإقدام. ونفوس: رفع عطفاً على هممٌ، وانبرت: أي اندفعت وعرضت. أما بالذال: فمعناه إذا انبرت نفوسهم للقتال سبقت إلى الأعداء قبل سبق إقدام أعدائهم، وبالدال: معناه أن نفوسهم إذا انبرت لقتال فنيت بالقتال قبل أن يفنى الإقدام: أي يقتلون في الحال، وليس لهم إحجام.
وكفتك الصفائح الناس حتى ... قد كفتك الصفائح الأقلام
يقول: استغنيت بسيوفك عن نصرة الناس، ثم استغنيت بأقلامك عن سيوفك، بما حصل في قلوب الناس من هيبتك.
وقلوبٌ موطناتٌ على الرو ... ع كأن اقتحامها استسلام
الاقتحام: طرح النفس على الأمر من غير تأمل.
يقول: لهم قلوب قد وطنوها على الحرب، فكأن اقتحامهم استسلام. أي أنهم يسلمون أنفسهم للموت.
قائدو كل شطبةٍ وحصانٍ ... قد براها الإسراج والإلجام
الشطبة: الفرس الطويلة، وهي الأنثى. والحصان: الفرس الكريم. الذكر فقط، وقد أفرد الضمير في قوله: قد براها وحقه أن يقول: براهما اكتفاء بأحد الوصفين. وتقديره: قائدو كل شطبة قد براها، وكل حصان قد براه. الإسراج والإلجام. يعني أن هذه الأفراس قد أنحفها الإسراج والإلجام.
يتعثرن بالرءوس كما مر ... بتاآت نطقه التمتام
يتعثرن: أي الخيل، وموضعه النصب على الحال. والتمتام: الذي يتردد لسانه في التاء والفأفاء: الذي يتردد لسانه في الفاء والألثغ: الذي يبدل الحروف، وهو الأرت أيضاً. والألكن: الذي يصب كلامه في قوالب الفارسية. وقبل التمتام: هو الذي يعجل في الكلام ولا يكاد يفهمك.
يقول: إنهم يقطعون رءوس الأعداء في الحرب، فتعثر خيلهم بالرءوس كما يعثر لسان التمتام عند نطقه بالتاء.
طال غشيانك الكرائه حتى ... قال فيك الذي أقول الحسام
الغشيان: الملابسة. والكرائه: جمع كريهةٍ، وهي الحرب.
يقول: طال ملازمتك الحروب وملابساتها، حتى أن السيف يقول مثل ما أقوله: أي لو كان له نطق لقال كذلك.
وكفتك التجارب الفكر حتى ... قد كفاك التجارب الإلهام
الإلهام: حصول العلم في القلب من غير استدلال.
يقول: إن التجارب أغنتك عن الفكر، ثم استمررت على فعل الصواب، حتى أغناك الإلهام عن التجارب.
فارسٌ يشتري برازك للفخ ... ر بقتل معتل معجل لا يلام
أي من يبارزك، يختار القتل للفخر، فلا يلام عليه ولا يعزل؛ لما يحصل له من نشر الذكر.
نائلٌ منك نظرةٌ ساقه الفق ... ر عليه لفقره إنعام
يقول: من ساقه الفقر إليك حتى ينال منك نظرة واحدة، فإن لفقره إنعام عليه! لأنك تجبر فقره لامحالة؛ فيكون فقره سبباً إلى حسن حاله وانتظام أحواله.
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
يقول: إن الرءوس أفضل الأعضاء فينا؛ لما فيها من أنواع الحواس، غير أن الأقدام صارت أفضل منها؛ لقصدها إياك، وتقريب المسافة بيننا.
قد لعمري أقصرت عنك وللوف ... د ازدحامٌ وللعطايا ازدحام
خفت إن صرت ف يمينك أن تأ ... خذني في هباتك الأقوام
روى: ولعمري. يقول: أمسكت عن قصدك، والوفود مزدحمة؛ لأني خفت أن تهبني لبعضهم في جملة هباتك التي تهبها.
ومن الرشد لم أزرك على القر ... ب على البعد يعرف الإلمام
تم الكلام عند قوله: على القرب.
يقول: كان من الرشد ترك زيارتك على القرب؛ لأن الزيارة إذا كانت من بعدٍ كانت أوقع.
وعن ابن جنى قال: سألت المتنبي عن هذا؟ فقال. كنت بالقرب من الممدوح فلم أزره، فلما بعدت عنه زرته.
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
الجهام: السحاب الذي أراق ماءه.
يقول: إن تأخر عطاياك عني كان خيراً لي وأنفع؛ لأنه إذا تأخر كان أكثر، ولو كان سريعاً لكان قليلاً؛ لأن السحاب الجهام يكون أسرع سيراً، ومع ذلك لا خير فيه، وإنما يكون المطر فيما يتثاقل في السير.
قل فكم من جواهر بنظام ... ودها أنها بفيك كلام
الود والوداد: المحبة والإرادة.
يقول: تكلم وأسمعنا حسن كلامك، فكم جواهر منظومة منيتها أن تكون في فمك كلاماً.
هابك الليل والنهار، فلو تن ... هاهما لم تجز بك الأيام(1/142)
يقول: إن الأيام والليالي تخافك وتطيعك، فلو نهيتها عن المرور عليك والاجتياز بك، لما اجتازت بك، أي لو أمرت الدهر أن يقف لوقف!!
حسبك الله؛ ما تضل عن الح ... ق وما يهتدي إليك أثام
الأثام: هو الإثم. وقد يكون بمعنى العقوبة.
يقول: دعاء له. الله كافيك، فإنك لا تزول عن الحق، ولا يهتدي إليك الإثم.
لم لا تحذر العواقب في غي ... ر الدنايا؟ أو ما عليك حرام!
الدنايا: جمع دنية، وهي كل فعل مذموم. قوله: أو ما قيل: بمعنى الذي: يعني أنك لا تحذر عاقبة شيء إلا عاقبة الأفعال الدنية، وعاقبة الذي عليك حرام. فلم لا تحذر عواقب غير هذين من الجود والإقدام، كا تحذر عاقبة الدنية والحرام. وقيل: إن ما نفى ومعناه: ليس عليك شيء حرام في الدنيا ممنوع عنك، فإنك تقدر على كل شيء، إلا على الدنايا.
كم حبيبٍ لا عذر للوم فيه ... لك فيه من التقى لوام
يقول: كم حبيب لك، لو واصلته لما لامك أحد فيه، فلم يمنعك عن مواصلته إلا التقى. وقيل: معناه كم فعل محبوب، لو فعلته فلا سبيل للوم عليك فيه، لكونه مباحاً، غير أنك تجتنبه للتقى، فكأن لك من التقى لائم.
رفعت قدرك النزاهة عنه ... وثنت قلبك المساعي الجسام
يقول: رفعت النزاهة والعفة قدرك عن هذا الحبيب، وصرفت قلبك مساعيك العظام واشتغالك بها.
إن بعضاً من القريض هذاءٌ ... ليس شيئاً، وبعضه أحكام
روى هراء وهذاء.
يقول: إن الشعر بعضه هذيان، وكلام لا معنى له، وبعضه حكمة وصواب. وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكما " أي يحكم على الإنسان، ويسمه سمة الخير والشر منه.
منه ما يجلب البراعة، والفضل ... ومنه ما يجلب البرسام
البراعة: الفصاحة. والبرسام: بالسريانية، ورم الصدر؛ لأن البر: الصدر، والسام: الورم. وهو داء يكثر فيه الهذيان. وهذا تأكيد للمعنى الذي ذكر في البيت الأول. أي بعض الشعر يكون من الفصاحة وبعضه من البرسام.
فحمله على فرسٍ وسأله المقام عنده فقال يعتذر عن تعجله في الرحيل:
لا تنكرن رحيلي عنك في عجلٍ ... فإنني لرحيلي غير مختار
وربما فارق الإنسان مهجته ... يوم الوغى غير قالٍ خشية العار
يقول: لا تنكرن رحيلي عنك، فإنني غير مختار لذلك، ومفارقتي إياك بمنزلة مفارقة الإنسان نفسه يوم الحرب؛ فإنه لا يكون مبغضاً لنفسه، وإنما يفعل ذلك لخوف العار، كذلك مفارقتي إياك، ليس لبغضي لك، وإنما هو بمعنىً آخر.
وقد منيت بحسادٍ أحاربهم ... فاجعل نداك عليهم بعض أنصاري
منيت: أي بليت. وقد روى ذلك، وروى: أحاربهم وأحاذرهم أيضاً.
يقول: إني بليت بقوم حساد، أحاربهم وأنازعهم وأطلب قهرهم، فاجعل عطاءك بعض أنصاري عليهم. هذا عذر لمفارقته. وقيل: أراد أن لي حساد يحسدونني عليك، ويحاولون إفساد حالي عندك، فانصرني عليهم بجودك وإحسانك. ونظيره قوله:
أزل حسد الحاد عني بكبتهم ... فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
وقال يصف سيره في البوادي وما لقي في أسفاره، ويذم الأعور بن كروس بعد أن رجع من جبل جرش:
عذيري من عذاري من أمور ... سكن جوانحي بدل الخدور
العذير: الذي يقبل العذر، وهو أيضاً كل ما يعذر الرجل على فعله، ومعناه: من يعذرني. والعذارى: جمع عذراء، وهي البكر من النساء وأراد هنا بالعذارى الأمور العظام وجعل الأمور أبكاراً، لأنها لم تهجم على أحد قبله، ولم يحدث في مستقبل الأيام مثلها، ولم يطلبها أحد لصعوبتها. ولما جعلها أبكاراً جعل جوانح صدره لها خدوراً.
يقول: من يعذرني من أمور أبكارٍ هجمت علي وحلت قلبي بدل حلولها في الخدور، ولم تهجم على أحد قبلي؟!
ومبتسمات هيجاوات عصر ... عن الأسياف ليس عن الثغور
هيجاوات: جمع هيجاء، وهي الحرب. وأضاف مبتسمات إليها وهي إضافة الشيىء إلى نفسه.
يقول: من عذيري من حروب تبتسم عن أسياف مجردة مصقوله لا كالنساء اللاتي يتبسمن عن الثغور. شبه صفاء السيوف بصفاء الثغور.
ركبت مشمراً قدمي إليها ... وكل عذافر قلق الضفور(1/143)
العذافر: الجمل الشديد. والضفور: جمع الضفر، وهو حزام الرحل. ونصب مشمرا على الحال من التآء من ركبت والهاء في إليها للأمور، والهيجاوات. وأراد بالقلق الضفور: أي أن الحزام كان قد قلق للجهد، وطول السير. وقيل: يقال للجمل الصعب إنه قلق الضفور.
المعنى: طلبت هذه الصعبة الشديدة، مرة راجلاً، ومرة راكباً، لبعير قد جهده السفر حتى قلق ضفوره.
أواناً في بيوت البدو رحلي ... وآونةً على قتد البعير
آونة: جمع أوان.
يقول: أكون مره في بيوت البدو، ورحلي محطوط هناك. وأزمنة على قتد البعير. وجعل سيره أكثر من استقراره.
وقيل: معناه أن رحله يكون في بيوت البدو مرة أي يترك رحله فيها ويسير راجلاً، ومرة. يحمل على البعير. وهو مثل البيت الذي قبله وأراد بالرحل: آلة السفر. والقتد والقتب والقتب رويا. وهو خشب الرحل.
أعرض للرماح الصم نحري ... وأنصب حر وجهي للهجير
أعرض: أي ألقى الرماح بنحري. وحر كل شيء: خالصه. والهجير: الوقت الذي يشتد فيه الحر.
معناه: أحارب مرة فألقى الرماح بنحري، ومرة أسير مقابلاً شدة الحر بوجهي وقت الهاجرة؛ رجاء أن أدرك معالي الأمور.
وأول البيت من قول الآخر:
تعرض للطعان إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض في السباب
وأسرى في ظلام الليل وحدي ... كأني منه في قمرٍ منير
الهاء في منه للظلام. وقيل: للوجه في قوله: حر وجهي.
يقول: أنا أمضي في ظلمة الليل وحدي، لا أخاف أحداً فكأن سيري في ضوء القمر، وكأني من نور وجهي في ليلة قمراء.
فقل في حاجةٍ لم أقض منها ... على تعبي بها شروى نقير
روى تعبي وشغفي والشروى بمعنى: الشدائد التي قاسيتها لم أقض منها، حاجتي قدر نقير. وإذا كانت الحاجة في الشدة على ما وصفتها، فقل فيها ما شئت فإنك لا تبلغ وصف شدتها.
ونفسٍ لا تجيب إلى خسيسٍ ... وعينٍ لا تدار على نظير
وقل في نفسٍ لا تجيب إلى خسيس أي إذا دعيت إليه لم تجب، ولا تمدح من كان خسيساً. قوله: وعين لا تدار على نظير. أي إني وحيد في فضلي لا أرى في الناس مثلي! يعني: أن عيني لا ترى نظيراً لي وروى: لا تدور، ولا تدار جميعاً
وكفٍّ لا تنازع من أتاني ... ينازعني سوى شرفي وخيري
المنازعة: المجادلة.
يقول: إني لا أنازع من ينازعني في شيء من خيري، إلا من أتى ينازعني شرفي وكرمي، فأنا أنازعه
وقلة ناصرٍ؛ جوزيت عني ... بشرٍّ منك ياشر الدهور!
أي وقل في قلة ناصر ما شئت أن تقول فيها، إذ ليس أحد ينصرني. ثم صرف الخطاب إلى الدهر. فقال: جزاك عني على فعلك بي يا دهر شرٌّ منك. ويعاملك مثل ما عملت معي، فإنك شر الدهور، وكل ما ألاقي منك.
عدوي كل شيءٍ فيك حتى ... لحلت الأكم موغرة الصدور
الأكمة: الجبل الصغير، والجمع: آكام وأكم، والموغرة: هي المحماة من الغيظ.
يقول: إن كل شيء فيك يا دهر يعاديني!! حتى خيل لي أن الأرض تعاديني! وأن أكماتها تغلي صدورها بعداوتي! وإن كانت هي شخص بلا عقل. كما يقول الخائف: أخاف الجدار أن يذيع سري.
وذكر ابن جنى فيه وجهين: أحدهما: أن الأكم تنبو به ولا يستقر فيها، فكأن ذلك لعداوةٍ بينهما.
والثاني: أنه أراد بذلك شدة ما تقاسي منها من الحر، فكأنها موغرة الصدور من قوة حرارتها ويؤكد ذلك قوله أولاً: وأنصب حر وجهي للهجير.
فلو أني حسدت على نفيسٍ ... لجدت به لذي الجد العثور
روى: على نفيس وعلى خطير. ومعناه على شيء نفيس، وروى لذي الجد ولذا الجد، وعلى الجد وعلى الدهر.
يقول: لو حسدوني على شيء نفيس ومال خطير، لوهبته لمن له جد. أي بخت. عثور: أي منحوس. غير أني حسدت على حياتي.
ولكني حدست على حياتي ... وما خير الحياة بلا سرور؟
وما استفهام. يقول: ولكنهم حسدوني على حياتي وهي مشوبة بالحزن! وأي خير في حياة بلا سرور؟! فأنا لا أرضاها لنفسي، فكيف لغيري. وقيل: أراد أنهم يرومون قتلي. فهم يحسدوني على بقاء حياتي.
فيابن كروسٍ يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير
تعادينا لأنا غير لكنٍ ... وتبغضنا لأنا غير عور؟!
الكروس في اللغة: الكبير الرأس.(1/144)
يقول: إن هجيت كنت نصف أعمى، وإن مدحت كنت نصف بصير، فأنت ناقص في الحالين. وأنت تعاديني؛ لأني فصيح، ولست بألكن مثلك، وتبغضني؛ لأني بصير غير أعور. وروى وتمقتنا.
فلو كنت امرءًا يهجى هجونا ... ولكن ضاق فترٌ عن مسير
الهجاء لا مجال لك فيه، كما أن الإنسان لا يمكنه أن يسير في فتر من الأرض وقال يمدح أبا عبد الله محمد بن عبد الله الخصيبي، وهو حينئذٍ يتقلد القضاء بأنطاكية:
أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
أفاضل الناس: جمع أفضل. والأغراض: جمع الغرض، وهوا ما ينصب للرمي، كالهدف. والفطن: جمع فطنةٌ يقول: إن الفضلاء في هذا الزمان مقصودون بالشر والحوادث، كالأهداف، فمن هو أخلى من العقل والفطنة، فهو أخلاهم من الهم. ومثله لابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ ... شرٍّ على الحر من سقمٍ على بدن
الجيل: الأمة من الناس. وسواسية: جمع سواء على غير قياس. ولا يستعمل إلا في الشر.
يقول: نحن فيما بين أمة سواءٌ في الشر، ليس فيهم شريف ولا كريم، منهم أشرار، أضر على الحر من السقم على البدن.
حولي بكل مكانٍ منهم خلقٌ ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
روى: خلقٌ، وهي جمع خلقة، وهي الصورة، وروى: حلقٌ: وهي جمع حلقةٌ من الناس، وروى حزق: وهي جمع حزقة، وهي الجماعة.
يقول: حولي خلق منهم في صورة الناس، وهم من جهلهم أنعام، فمن استفهم عنهم بمن فقد أخطأ؛ لأنه للناس، وينبغي أن يقول ما
لا أقتري بلداً إلا على غرر ... ولا أمر بخلق غير مضطغن
اقتريت البلاد: إذا سريت فيها وتتبعتها بلداً بلداً. والغرر: الخطر، وهو ما لا يوثق منه بالسلامة. ومضطغن: أي ذو ضغينة.
يقول: لا أمر على بلد إلا وأنا مخاطرٌ بنفسي، ولا أمر بأحد إلا وهو محتقد علي وكل أحد عدوي؛ لفضلي.
ولا أعاشر من أملاكهم أحداً ... إلا أحق بضرب الرأس من وثن
الوثن: الصنم، وهو ما عبد من الحجارة. وليس بمصور. ونصب أحق بدلاً من أحد.
يقول: ما عاشرت ملكاً من ملوك الناس إلا وجدته لا خير عنده ولا شر، فكأنه وثن، بل هو أحق وأولى بضرب الرأس من الوثن.
إني لأعذرهم مما أعنفهم ... حتى أعنف نفسي فيهم وأني
العنف: أشد اللوم. وأني: أي أفتر.
يقول: إني لا أزال ألومهم على ما فيهم من اللوم، فلما وجدتهم جهلة لا يفهمون قبلت عذرهم وصرت أعنف نفسي في لومهم.
وأراد: الملوك الذين تقدم ذكرهم سابقاً.
فقر الجهول بلا قلبٍ إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأسٍ إلى رسن
يقول: إنهم جهال، مفتقرون إلى الأدب، وليس لهم عقول، فافتقارهم إلى الأدب بلا قلب وعقل، كافتقار الحمار من غير رأس إلى رسن يقاد به
ومدقعين بسبروتٍ صحبتهم ... عارين من حللٍ كاسين من درن
المدقع: الفقر اللاصق بالدقعاء، وهي التراب. والسبروت: الأرض التي لا نبات فيها. والدرن: الوسخ.
يقول: رب قوم صعاليك من أهالي البادية مدقعين، بفلاة قد صحبتهم، فكانوا عارين من الثياب قد علاهم الوسخ.
خراب باديةٍ غرثى بطونهم ... مكن الضباب لهم زادٌ بلا ثمن
الخراب: جمع خارب، وهو سارق الإبل خاصة، ومكن الضباب، بيضها قال الشاعر:
ومكن الضباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم
وهذه صفات أهل البادية، وقوله: لهم زادٌ بلا ثمن إشارة إلى كونهم لصوصاً. وقيل إشارة إلى أنهم ليس لهم زاد إلا بيض الضب؛ لأنه لا يحتاج إلى ثمن.
يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهمٌ من الظنن
طاش السهم: إذا لم يصب الغرض. والظنن: جمع الظنة، وهي التهمة.
يقول: كنت أستر عنهم أمري، وما كانوا يظنون بي، يطلعهم على حقيقة حالي كقول الآخر:
وخبرا عن صاحبٍ لويت ... وقلت لا أدري وقد دريت
وخلةٍ في جليسٍ أتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوهن
الخلة: الخصلة. والوهن: الضعف. أي ورب جليس أظهرت له مثل ما هو عليه من نفسي، لئلا يعلم هو من حالي، وليظن أني مثله في الضعف والجهل. ومثله لآخر:
وأنزلني ذل النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأً لا أشاكله(1/145)
أحامقه حتى يقال سجيةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكنت أعاقله
وكلمةٍ في طريقٍ خفت أعربها ... فيهتدي لي فلم أقدر على اللحن
اللحن بالسكون: العدول بالكلام عن ظاهره. كقوله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " أي بتعريضهم في القول. واللحن بالتحريك: الخطأ في الإعراب.
يقول: رب كلمة خفت في إظهارها، فلم أقدر على أن ألحن فيها؛ لأني مطبوع على الصواب في الإعراب.
قد هون الصبر عندي كل نازلةٍ ... ولين العزم حد المركب الخشن
يقول: قد جعل الصبر كل بلية تنزل بي خفيفة هنية، وأمضيت عزمي فيما أردت، فلين لي كل صعب خشن.
كم مخلص وعلاً في خوض مهلكةٍ ... وقتلةٍ قرنت بالذم في الجبن
القتلة بالفتح: المرة الواحدة. وبالكسر: اسم للحالة. والفتح الوجه الوجيه ها هنا.
يقول: كم شجاع خاض الهلاك فتخلص منه، واكتسب علاً وذكراً حسناً، وكم جبان في الحرب لم ينفعه حذره، فقتل واكتسب به مع قتله ذماً.
لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... فهل يروق دفيناً جودة الكفن
المضيم: الذي أصابه الضيم. والبزة: اللباس.
يقول: إن الذليل لا يعجبه حسن لباسه، مع كونه ذليلاً، فإنه بمنزلة الميت المكفن في ثياب جيدة، كما أنه لا ينفع الميت جودة الكفن وحسنه، فكذلك لا ينفعه حسن بزته.
لله! حالٌ أرجيها وتخلفني ... وأقتضي كونها دهري ويمطلني
رجوت الأمر ورجيته بمعنىً. ولله!: تعجب. ودهري: مفعول أقتضى.
يقول: ما أعجب حالاً لا أزال أرجوها، فلا أصل إليها، وهي تخلفني وأنا أقتضي أبداً بكونها، وأطالب بحصولها، والدهر يدافعني بها ويمنعني عنها.
مدحت قوماً وإن عشنا نظمت لهم ... قصائداً من إناث الخيل والحصن
الحصن: جمع حصان، وهو الكريم من الفرس الذكر. وروى: من حجور الخيل: وهي الفرس الأنثى الكريمة.
يقول: مدحت قوماً رجاءً في العطاء، فلو عشت نظمت لهم قصائد من الخيل. وأراد به جمع الجيوش، ولما جعلها قصائد قال: نظمت.
تحت العجاج قوافيها مضمرةٌ ... إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن
المضمرة: الخيل الخفيفة اللحم. وأراد بالقوافي: الخيل؛ فلذلك قال: مضمرة وبين أنها تخالف سائر القوافي، لأنها لا تدخل في الأذن.
فلا أحارب مدفوعاً إلى جدر ... ولا أصالح مغروراً على دخن
الدخن: الدخان، وأراد به الغش. ومدفوعاً ومغروراً: نصب على الحال من أحارب، وأصالح.
يقول: لا أحارب منهم، وأنا مدفوع إلى حصن، وملتجىء بدار، بل أحاربه في الفضاء، وإن صالحت أحداً منهم لا أصالحه إلا بعد الثقة، فلا أصالحه وأنا مغرور بظاهره حتى أعلم حقيقة أمره، وأن باطنه كظاهره.
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " هدنةٌ على دخن " وقيل: أراد لا أترك شيئاً في صدري ولا أقعد عن ثأري، ولا أبقى غاية من التشفي إلا بلغتها.
مخيم الجمع بالبيداء يصهره ... حر الهواجر في صمٍّ من الفتن
خيم بالمكان: إذا ضرب خيامه فيه. وصهرته الشمس وصهدته وصفرته: إذا أذابت دماغه. وقيل: إذا أحرقته. والهاجرة: عند انتصاف النهار في الصيف ومخيم: نصب على الحال. أي أفعل ذلك في هذه الحالة. والصم: جمع أصم، وهو الصلب، وأراد بالفتن: الحروب.
يقول: إني أحارب من أحارب في فضاء، وأضرب خيمي بها، وأقاسي حر الشمس، وأثير الفتن الشدائد. والضمير في يصهره: للجمع.
ألقى الكرام الأولى بادوا مكارمهم ... على الخصيبي عند الفرض والسنن
الأولى: بمعنى الذين.
يقول: إن الكرام الذين ماتوا تركوا مكارمهم على الممدوح، فمكارمهم موجودة فيه وهو يتصرف فيها كما يشاء.
فهن في الحجر منه كلما عرضت ... له اليتامى بدا بالمجد والمنن
يقول: إن المكارم صارت في حجره، لما مات عنها الكرام فتكفل هو بحفظها، فكلما عرضت له اليتامى، وهي التي في حجره لينظر فيها، بدأ بالمجد: وهو الكرم والمنن، فقدم النظر في مصالح اليتامى التي مات عنها الكرام، وألقوها عليه.
قاضٍ إذا التبس الأمران عن له ... رأيٌ يخلص بين الماء واللبن
قاضٍ: في موضع رفع، أي هو قاض. وعن: أي ظهر.
يقول: إذا التبس الأمر واختلط، ظهر له رأي نافذ، بحيث يمكن أن يفصل بين الماء واللبن.
غض الشباب بعيدٌ فجر ليلته ... مجانب العين للفحشاء والوسن(1/146)
يقول: هو شاب. وقوله: بعيدٌ فجر ليلته. قيل: إنه يسهر في ليله للصلاة والتفكر فيها؛ ليكسب الفخر والشرف، فيطول عليه ليله لذلك.
وقيل: معناه أن الشيب بعيد عنه، فضرب الفجر: مثلاً للشيب، والليل: مثلاً للشباب. وأنه لا ينظر إلى فاحشة، ولا ينام الليل.
شرابه النشح لا للري يطلبه ... وطعمه لقوام الجسم لا السمن
النشح بالحاء والجيم: القليل من الشراب دون الري.
يعني أنه لا ينال من دنياه إلا كدر نفسه.
القائل الصدق فيه ما يضر به ... والواحد الحالتين: السر والعلن
نصب الصدق بالقائل وما رفع بالابتداء وفيه خبره.
يقول: إنه يقول الحق وإن كان عليه، وسره مثل علانيته ولا يضمر رياءً ولا خيانة أبداً.
الفاصل الحكم عي الأولون به ... ومظهر الحق للساهي على الذهن
الذهن: الذكي الفطن. والذهن والذهن: الفهم يقول: إنه يفصل الأحكام التي عي بها المتقدمون من الحكام ويظهر الحق للأبله الغافل، على المخاصم الجيد الذهن، الكثير الفطنة.
وعلى الثاني: يظهر الحق الذي ذهب عن أذهان الناس وخفي عنهم.
أفعاله نسبٌ لو لم يقل معها ... جدي الخصيب، عرفنا العرق بالغصن
يقول: إن أفعاله تشبه أفعال جده، فلو لم ينتسب لعرفنا أنه من ولده، كما تعرف عرق الشجرة بغصنها، ويستدل به عليها.
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
العارض: السحاب. والهتن: الغزير الكثير الصب، وهو وصف للسحاب.
يقول: إن الممدوح وأجداده أسخياء كالعارض الهتن.
قد صيرت أول الدنيا أواخرها ... آباؤه من مغار العلم في قرن
يقال: حبل مغار: أي جيد الفتل، واستعاره ها هنا في إحكام العلم.
يقول: إن آباءه عالمون بالسير والأخبار وضابطون للأيام، فقد جمعوا بين ما مضى من أحوال الدنيا، وما يأتي من بعد في علمهم، كما يجمع البعران في مغار واحد: وهو الحبل الذي يشد به البعير إلى الآخر.
كأنهم ولدوا من قبل أن ولدوا ... أو كان فهمهم أيام لم يكن
روى: لم يكن بالياء رداً إلى الفهم، وبالتاء رداً إلى الدنيا.
يقول: كأنهم ولدوا في الزمن الأول وشاهدوا أحواله وأحوال أهله.
الخاطرين على أعدائهم أبداً ... من المحامد في أوقى من الجنن
الجنة ما يتقى به كالترس ونحوه.
يقول: إن محامدهم تقي أعراضهم فإذا خطروا على أعدائهم لم يقدروا على ذمهم، لكثرة من يمدحهم.
وقيل: إنه يصف شجاعتهم فيقول: إنهم إذا خطروا برماحهم على أعدائهم لا يظفرون بهم لقصورهم عنهم، وإن محامدهم وهي الخصال التي فيهم من الشجاعة وغيرها تقي أعراضهم، فكأنهم منها في سلاح أوقى من سائر الأسلحة.
للناظرين إلى إقباله فرحٌ ... يزيل ما بجباه القوم من غضن
الغضن: تكسر الجلد وتثنيه. القوم: الناظرين.
يقول: من نظر إليه فرح بلقائه. وبإقباله إليهم تنبسط وجوههم ويزول التكسر عن جباههم
كأن مال ابن عبد الله مغترفٌ ... من راحتيه بأرض الروم واليمن
يقول: إن معروفه يسافر فيصل إلى من نأى عنه، فكأنه يوصله إليهم من راحتيه. وإنما خص أرض الروم واليمن لأنها معروفة بسعة المال، فيشير إلى نهاية الجود، لأن أمواله إذا كانت مغترفةً إليها، دل على كثرة عطائه.
لم نفتقد بك من مزنٍ سوى لثقٍ ... ولا من البحر غير الريح والسفن
اللثق: الندى، والوحل.
يقول: أنت كالسحاب المغيث، إلا أن الوحل غير موجود فيك، لأنه أذى. وكذلك أنت البحر في السخاء: فلا يفقد فيك من البحر إلا ريحه وسفنه، التي لا تعلق لها بالجود، فأنت أفضل منهما بكثير.
ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
يقول: أنت أسد، لا يفقد فيك إلا قبح منظره، ولا يفقد فيك من سوى الأسد إلا ما هو قبيح غير مستحسن، فهو غير موجود فيك.
منذ احتبيت بأنطاكية اعتدلت ... حتى كأن ذوي الأوتار في هدن
الاحتباء: جلسة مخصوصة ويكنى بها عن السيادة.
يعني: منذ وليت وسدت بأنطاكية سكن أهلها وزالت أحقادهم فكأنهم مصالحون.
ومذ مررت على أطوادها قرعت ... من السجود فلا نبتٌ على القنن
الطود: الجبل. والقرع: ذهاب الشعر عن الرأس. والقنن: جمع قنة وهي أعلى الجبل.(1/147)
يقول: لما مررت على جبال أنطاكية سجدت لك، وأطالت السجود تعظيماً لك، فانحسر النبات عن رأسها، فصارت قرع.
وقيل: إنه من قولهم قرع الإناء عما كان فيه: أي خلا عنه. يعني: أنك لما مررت عليها وجاوزتها ولم تقم بها، خلت عن السجود بعد ما لم تكن خالية منه، لأنك وأصحابك شغلتها بالسجود حين نزلت فيها. وروى: قرعت: أي قرعت إلى السجود. إعظاماً لك، فانحسر عنها النبات.
أخلت مواهبك الأسواق من صنع ... أغنى نداك عن الأعمال والمهن
الصنع: الحاذق بالصناعة. والمهن: جمع المهنة، وهي الخدمة والتبذل.
يقول: إنك أغنيت جميع الناس حتى خلت الأسواق من الصناع، وأغنيت الناس عن الصنائع والخدمة، لأن إحسانك قد كفل حاجاتهم وسد خلاتهم.
ذا جود من ليس من دهرٍ على ثقةٍ ... وزهد من ليس من دنياه في وطن
يقول: جودك بالأموال، جود من يعلم أنها زائلة عنه، وزهدك في الدنيا. زهد من يعلم أنه راحل عنها، فليس يرى دنياه من جملة وطنه، فلا يغتر بها ولا يثق بكونه فيها!
وهذه هيبةٌ لم يؤتها بشرٌ ... وذا اقتدار لسانٍ ليس في المنن
يقول: لم يؤت أحدٌ من البشر مثل هيبتك، وقدرة اللسان التي لك ليست في قوة أحد، والمنة: القوة.
وقيل: أراد بالثاني نفسه.
يعني: أن مدحي إياك وإنشادك القصيدة، ليس في مقدور أحد مثل ذلك، ولا لأحد من القوة مثل قوتي في المدح.
فمر وأوم تطع قدست من جبلٍ ... تبارك الله مجري الروح في حضن
حضن: اسم جبل بنجد. وفي الأمثال: أنجد من رأى حضناً.
يقول: مر الناس إن شئت، وأوم: أي أشر من الإشارة إن شئت، فإنهم يطيعونك. قدست: أي طهرت من جبل. شبهة بالجبل لعظم هيبته وهمته وثبات عزه فتبارك الله الذي أجرى الروح في جبل.
وورد على أبي الطيب كتابٌ من جدته لأمه من الكوفة تستجفيه فيه! وتشكو شوقها إليه، وطول غيبته عنها، فتوجه نحو العراق ولم يمكنه دخول الكوفة على حاله تلك، فانحدر إلى بغدد، وقد كانت جدته يئست منه، فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه، فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به! وغلب الفرح على قلبها فقتلها! فقال يرثيها ويتحسر على وفاتها في غيبته ويفتخر بنفسه:
ألا لا أرى الأحداث حمداً ولا ذماً ... فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما
يقول: إني لا أظهر للحوادث ولا أريها حمداً ولا ذماً، لأنها لا تستحق ذلك، لأنها تأتي من غير قصد، وذلك فعل الله تعالى، فلا أحمدها إذا أمسكت ولا أذمها إذا أصابتني؛ لأن بطشها ليس بفعل منها فأعده جهلاً منها، ولا كفها حلماً، فلا معنى للمدح ولا للذم لها.
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكرى كما أرمى
أبدى: أصله بدأ. ويكرى: ينقص. وأرمى: زاد.
يقول: إن الإنسان إذا بلغ الغاية من عمره، أخذ في النقصان إلى أن يعود إلى ما كان عليه، ابتداء من العدم وإلى في قوله: إلى مثل متعلق بقوله: مرجع الفتى.
لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوقٍ غير ملحقها وصما
المفجوعة: المتألمة للمصيبة. وقوله: لك الله دعاء لها. أي كان الله لك حافظاً. وقيل: إنه تعظيم لحالها في شدة فجيعتها، والوصم: العيب، أي أنها ماتت شوقاً إليه!! وهذا الشوق الذي قتلها لا يلحق بها عاراً؛ لأنه شوق لولدها.
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوي لمثواها التراب وما ضما
الكأس: هو الموت. ومثواها: إقامتها.
يقول: أشتاق إلى الموت بعدها؛ لألحق بها، وأحب التراب، وما ضمها من القبر لأجل إقامتها فيه.
بكيت عليها خيفةً في حياتها ... وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
الثكل: موت الولد الحميم. وقدما: نصب على الظرف. أي في زمان وروى: خيفة وحقبة أي مدة من الدهر.
يقول: بكيت عليها قبل موتها خوفاً من ألا ألقاها، وذاق كل واحد منا ثكل صاحبه قديماً؛ بما كان بيننا من طول الفرقة وبعد المشقة.
ولو قتل الهجر المحبين كلهم ... مضى بلدٌ باق أجدت له صرما
أجدت: أي جددت. وفاعله: المرثية.
يقول: إن أهل بلدها كانوا يحبونها؛ لسترها ودينها، فلو كان الهجر يقتل جميع المحبين لما كان أهل بلدها والذين يحبونها باقين بعدها، بل كانوا يمضون بمضيها ولا يبقوا بعدها. وقد جددت هذه المرأة لهم قطيعة.(1/148)
منافعها ما ضر في نفع غيرها ... تغذى وتروي أن تجوع وأن تظما
تقدير البيت: منافعها ما ضرها في نفعها، غير محذوف العائد إلى ما وأضاف المصدر إلى المفعول. وحذف الفاعل كقوله تعالى: " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ". أي من دعائه الخير، وقوله: " بسؤال نعجتك ". أي سؤاله نعجتك.
يقول: إن منافع هذه المرأة فيما يضرها عند نفع غيرها. يعني: أنها كانت تضر بنفسها لتنفع غيرها، وإن ذكل كان نفعاً لها، لأنها كانت تؤثر غيرها على نفسها فتجوع وتظمأ، فكأن جوعها إذا أشبعت غيرها يقوم لها مقام غذائها، وكذلك عطشها إذا أروت غيرها يقوم مقام ارتوائها. والمصراع الثاني تفسير الأول.
وقال ابن جنى: إن الهاء في منافعها للأحداث أي منافع الأحداث فيما يضر غيرها وبأن تجوع وتظمأ، وهذا ضارٌّ لغيرها. يعني: أنها تريد أن تهلك الناس فتخلوا منهم الدنيا. كما قال:
كالموت ليس له ريٌّ ولا شبع
وقيل: إن في بمعنى اللام، أو بمعنى مع.
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
ما بمعنى المصدر: أي قبل صنعها بنا. وقيل: بمعنى الذي.
يقول: كنت عرفت الليالي وسوء صنيعها قبل وقوع ما أوقعت، فلما أوقعت ما أوقعت، وابتلتنا بموت الجدة، لم تصبني الليالي بشيء لم أعرفه من أحوالها، ولم تزدنا علماً بسوء تصرفها.
أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ ... فماتت سروراً بي، فمت بها غما
نصب سروراً وغماً على المفعول له.
يقول: إن كتابي أتاها بعد ما يئست مني، وحزنت على فراقي، فماتت سروراً بي ومت من الغم الذي حصل لي بموتها.
حرامٌ على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
يقول: إن السرور حرام على قلبي؛ لأن موتها كان بالسرور! وذلك عندي كالسم. لما كان سبب موتها هو السرور، ولا ينبغي لأحد أن يقرب السم من قلبه.
تعجب من خطي ولفظي كأنها ... ترى بحروف السطر أغربةً عصما
العصم: جمع أعصم، وهو الذي في أحد جناحيه ريشة بيضاء. وقيل: هو الذي إحدى رجليه بيضاء، وذلك لا يكاد يوجد.
يقول: إنها تعجبت من كتابي! وكانت تنظر إليه وتكرر النظر اشتياقاً إلي واستعجاباً؛ لأن عندها أني قد مت، فكأنها ترى غراباً أعصم؛ لفرط التعجب.
وتلثمه حتى أصار مداده ... محاجر عينيها وأنيابها سحما
السحم: السود. والمحاجر: ما حول العينين.
يعني: أنها لم تزل تقبله وتمسح به على وجهها وعينيها وهي تبكي، حتى اسودت أنيابها ومحاجرها.
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها ... وفارق حبي قلبها بعد ما أدمى
رقا: أي انقطع.
يعني: أنها كانت تبكي علي وتحزن بسببي، فأراحها الموت من البكاء علي والوجد بي، فجفت دموعها وفارق حبي قلبها بموتها بعد ما كان جرحه وأسال دمه.
ولم يسلها إلا المنايا، وإنما ... أشد من السقم الذي أذهب السقما
يقول: لم يصبرها عني إلا الموت، الذي هو أشد من السقم الذي كان بها؛ لأن السقم يزيل الصحة، والموت يزيل الحياة ويبطلها.
طلبت لها حظاً، ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت لها قسما
يقول: طلبت لها حظاً بالعود إلى العراق، واستدعائها إلي حيث كنت.
وقيل: طلبت لها بالمفارقة والغربة حظاً من الدنيا، فقد ماتت هي وفاتني ذلك الحظ المطلوب! الذي هو لقاؤها أو غيره. وقد كانت راضية من الدنيا كلها بمقامي عندها، لو كنت أرضى لها بذلك القسم، لكن لم أرض لها بما رضيت لنفسها.
وقد روى: لو رضيت بضم الراء: ومعناه أنها كانت راضية بي لو رضي الله تعالى بي لها، وأن أكون عندها، ولكنه لم يرض بذلك.
فأصبحت أستسقيي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
يقول: كنت قبل موتها أطلب لها الحظ بالقنا والحرب، وأدفع بالقتال والقوة والشجاعة، وكنت أدعو القنا لصب الدماء، فلما ماتت! عدت أدعو لقبرها وأستسقي الغمام له. على ما جرت به عادة العرب.
وكنت قبيل الموت أستعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى
يقول: كنت أستعظم النوى. أي فراقها، وهي سالمة، فالآن صار النوى الذي كنت أستعظمه صغرى، من حيث الموت.
هبيني أخذت الثأر فيك من العدى ... فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟(1/149)
يقول: لو كان موتك على يد عدو، لكنت آخذ الثأر منه، ولكنني لا أقدر على أخذ الثأر من الحمى التي قتلتك.
وما انسدت الدنيا علي لضيقها ... ولكن طرفاً لا أراك به أعمى
يقول: ما انسدت الدنيا علي لضيقها، ولكن بسبب فقدك، والعين التي لا أراك بها عمياء، فلذلك انسدت علي الدنيا وضاقت
فوا أسفاً ألا أكب مقبلاً ... لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما
أراد باللذي: اللذين، فحذف النون لطول الاسم. وهو مثل قول الأخطل:
أبني كليبٍ إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وأكب: إذا أقبل على الشيء.
يتأسف على فوته الانكباب على رأسها وصدرها مقبلاً ووصفها بأنها كانت ذات حزم ورأى، والحزم: جودة الرأي.
وألا ألاقي روحك الطيب الذي ... كأن ذكي المسك كان له جسما
أصله: أن لا ألاقي، فسكن ضرورة. والروح: يذكر في الأغلب وقد يؤنث. والذكي: الذي رائحته حادة.
يتأسف على فوته الملاقاة بها ليلقى روحها، ثم وصف الحب الذي هو قالب الروح بأنه كان من ذكي المسك.
وقيل: تأسف أنه لم يمت فيلقى روحها في الأرواح.
ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍِ ... لكان أباك الضخم كونك لي أما
الضخم: هو الشريف العظيم القدر.
يقول: لو لم يكن لك أبٌ شريفٌ، لكان كونك لي أماً يشرفك، ويغنيك عن شرف الآباء.
لئن لذ يوم الشامتين بموتها ... فقد ولدت مني لآنفهم رغما
يقول: لئن سرت الأعداء بموتها. أي يوم موتها فإن لقائي سيفهم، لأنها ولدت رجلاً يرغم أنفهم ويذلهم.
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
يذكر نفسه ويقول: إنه تغرب، لا يستعظم أحداً إلا نفسه!! ولا يرى أحداً فوقه! ولا يرضى بحكم أحد إلا بحكم الله تعالى.
ولا سالكاً إلا فؤاد عجاجةٍ ... ولا واجداً إلا لمكرمةٍ طعما
يقول: لم يزل في تغربه سالكاً، وسط غبار الحرب، ولا يلتذ بطعم شيء إلا طعم المكرمة، وليس تغريه لجمع المال مع الذي والهوان!!
يقولون لي: ما أنت؟ في كل بلدةٍ ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
ما الأولى: استفهام. أي: على أي صفة أنت؟ وكذلك الثانية. والثالثة: بمعنى الذي.
يقول: كل بلدة دخلتها فأهلها يستعظمون حالي، ويسألون عن مرامي، وأنا لا أخبرهم بحالي، فإنها أعظم من أن تسمى.
وقيل: أراد أنهم إذا سألوني: ما الذي تبتغي؟ فجوابي: ما أبتغيه جل أن يسمى! كأنه أراد: الملك، أو النبوة، أو الإمامة.
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوبٌ إليهم من معادنه اليتما
الكناية في بنيهم: للشامتين. والهاء في معادنه: لليتم، غير أنه قدمه في اللفظ، وهو مؤخر في المعنى.
يقول: إن أبناء أعدائي يفرون مني! فكأنهم يعلمون أني أجلب إليهم اليتم من معادنه، بأن أقتل أباءهم فأؤتمهم! وكثرة سؤالهم تدل على ذلك.
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
يقول: إن الجمع بين الماء والنار في موضع واحد، ليس بأصعب من الجمع بين البخت والعلم!! فهما منزلان في الاستحالة منزلة واحدة.
ولكنني مستنصرٌ بذبابه ... ومرتكبٌ في كل حالٍ به الغشما
أراد بالذباب: السيف، فأضمره، وذبابه: حده. والغشم: الظلم. يقول: إني وإن لم تساعدني الأيام، أطلب النصر بالسيف، وأرتكب الظلم، حتى أنال به ما أريد أخذه. من قول عمرو بن معد يكرب.
وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ ... تحية بينهم ضربٌ وجيع
وجاعله يوم اللقاء تحيتي ... وإلا فلست السيد البطل القرما
القرم: السيد الرئيس.
يقول: أعدائي يوم الحرب، ضربت وجوههم بالسيف، وأقمته مقام التحية وإن لم أفعل فلست بسيد شجاع، ولا كريم مطاع.
إذا فل عزمي عن مدىً خوف بعده ... فأبعد شيءٍ ممكنٌ لم يجد عزما
قوله: خوف: فاعل فل. وعزمي: فاعله.
يقول: إذا كسر عزمي؛ مخافة بعد المدى. يعني: كلما رمت أمراً بعيداً فأكسر عزمي خزفاً من بعده، فلم أظفر بمطلوب أبداً، فإنه إنما يدرك بصحة العزم، وأقرب الأشياء تناولاً إذا لم يكن عزم على تناوله فهو أبعد الأشياء.(1/150)
وقيل: أراد أني إذا تركت أمراً بعيداً خوفاً من بعده؛ لانفلال عزمي دونه، فإني أركب ما هو أبعد منه، حيث لم يتقدمه عزم، من تعريض نفسي للقتل وطلب الموت.
قلت: يجوز أن يكون مراده بذلك الدعاء على نفسه. يقول: إذا تركت الأمر لبعد تناوله وعسر مرامه، فأبعد الأشياء إمكاناً لم يجد عزمي. فكأنه يقول: ما وصلت أبداً إلى مرام أصعب، على جهة الدعاء.
وإني لمن قومٍ كأن نفوسنا ... بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
كان القياس أن يقول: كأن نفوسهم، غير أنه يختار رد الكناية إلى الإخبار عن النفس؛ لما فيها من مبالغة المدح.
يقول: إنا نختار الموت ونلتذه؛ فكأن نفوسنا تأنف أن تسكن العظم واللحم، فتحب مفارقتهما وتحرص على التخلص منهما.
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
يقول: كذا أنا. أي: هكذا مذهبي. وقيل: أراد أنا مثل قومي، لا أرغب في الدنيا، فمتى شئت أيها الدنيا فاذهبي، ويا نفسي ازدادي في كراهة الدنيا وشدائدها، فإني لا أبالي بالدنيا وحياتها، وخيالاتها.
فلا عبرت بي ساعةٌ لا تغرني ... ولا صحبتني مهجةٌ تقبل الظلما
روى: غبرت وعبرت. أي مضت. يعني إنما أريد الحياة للعز، فكل ساعة لا أكسب فيها عزاً أماتني الله قبلها، ولا صاحبت نفسي محتملةً للظلم، وفرق الله بيني وبينها.
وجعل قومٌ يستعظمون ما قال في آخر هذه القصيدة فقال
يستكثرون أبياتاً نأمت بها ... لا تحسدن على أن ينئم الأسدا
نأم ينأم: أي صوت. والنئيم: الصوت والأبيات: تصغير الأبيات. وأراد بتصغيرها أنها صغيرة إلى جنب فعله. ونصب الأسد بتحسدن أي لا تحسدون الأسد. وأن مع الفعل: بمعنى المصدر. أي على نئيمه.
يقول: إنهم استعظموا هذه الأبيات، وفعالي أعظم منها، فأنا الأسد، والأسد لا يحسد على زئيره؛ لأن فعله أعظم من صوته، فلا ينبغي أن تحسدوني على ذلك.
لو أن ثم قلوباً يعقلون بها ... أنساهم الذعر مما تحتها الحسدا
الهاء في تحتها: للأبيات، وفي بها: للقلوب.
يعني: لو كان لهم قلوب فيها عقول لأنساهم ما تضمنته أبياتي من الذعر والحسد الذي هم عليه.
وقال يمدح القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله بن الحسن الأنطاكي
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل
أواهل: جمع آهلة، أي عامرة.
يقول: يا منازل أحبائي، لك منازل في قلبي، أنت نازلة فيها. أي: إني أذكرك وأذكر أهلك، وقد أقفرت أنت عن أهلك النازلين بك. وقوله هن أي المنازل التي في قلبي عامرة بذكرك وذكر أهلك.
يعلمن ذاك وما علمت، وإنما ... أولاكما يبكي عليه العاقل
يعلمن: أي المنازل التي في القلب. والهاء في عليه للأولى.
يقول: منازلك في قلبي عالمةٌ بأنك قد أقفرت، وأنت لا تعلمين ذلك، فلما علمت أنك قد أقفرت، وتألمت، وحزنت، وهي عاقلة. فكانت هي أولى بأن يبكى عليه منك؛ لأنك غير عاقلة.
وقيل: أراد أنها تعلم ما يصيبها من ألم الشوق وأنواع الهم، وأنت الجاهلة بذلك فهي أولى بالبكاء.
وقيل: معناه أنها عالمة بنزولك فيها، وأنت جماد لا تعلمين من نزل فيك، فالعاقل منكما وهو قلبي أولى بأن يبكى عليه؛ لنزولك فيه.
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
يقول: طرفي جلب إلي هلاكي! فمن أطالب بدمي؟ والمقتول هو القاتل! لأن بعضي قتل بعضي. ومثله قول الآخر:
أذت ناراً بيدي أشعلتها في كبدي
وأحسن من ذلك قول ابن المعتز:
كنت صباحي قرير عيني ... فصرت أمسي صريع بيني
تخلو الديار من الظباء وعنده ... من كل تابعةٍ خيالٌ خاذل
التابعة: الغزالة التي تتبع أمها. والخاذل: المتأخرة عن القطيع في المرعى، والمختشية على خشفها. والهاء في قوله: وعنده راجع إلى الذي في قوله: وأنا الذي اجتلب وأراد نفسه.
يقول: تخلو الديار من أهلها الذين هم كالظباء وعند نفسي من كل كالغزالة التابعة للظبية، خيال متأخر عنهن، كالظبية الخاذل.
وقال ابن جنى: أراد بقوله: من كل تابع أي من كل جارية تابعة لأقاربها؛ لصغر سنها كما تتبع الغزال أمها.
اللائي أفتكها الجبان، بمهجتي ... وأحبها قرباً إلي الباخل(1/151)
اللائي جمع: التي. وأفتكها: أي أكثرها فتكاً، ورجل فاتك: أي شجاع. والباء: متعلق بفعل مضمر تقديره: اللائي أفتكها الجبان، فتكت بمهجتي. فلما دل عليه أفتكها حذفه.
والمعنى: أن تلك الظباء من كان منها أجبن. كان أقدر على قتلي وفتك مهجتي. وذلك إشارة إلى نفارها، ومن كان منهن أبخل، فهو أحب إلي قرباً؛ لأن الوصل من الممتنع ألذ. ومنه قول جرير
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
الراميات لنا وهن نوافرٌ ... والخاتلات لنا وهن غوافل
يقول: إنهن يرميننا بسهام عيونهن، وينفرن منا والعادة أن ينفر المرمي من الرامي. ويخدعننا بمواعيدهن وهن غريرات لا يعرفن مكراً ولا خديعة، والعادة أن الخادع يكون ذا مكر وخديعة.
وقيل: أراد أنهن يصطدننا بعيونهن من غير قصد منهن، ويفسدن قلوبنا من غير إرادتهن؛ لأننا ننظر إليهن وهن غوافل والمصراع الثاني تأكيد كذلك.
كافأننا عن شبههن من المها ... فلهن في غير التراب حبائل
المها: بقر الوحش. شبه النساء بهن لسواد أحداقهن والحبائل: جمع حباله، وهي شرك الصائد.
يقول: إن هذه النساء جازيننا عن بقر الوحش التي أشبهتها هذه النساء، فاصطدننا كما صدناهن بالحبائل، غير أن حبائلهن بخلاف الحبائل التي يصطاد بها الوحش؛ لأنها نبت في التراب، وهذه الحبائل هي: العيون، والقدود، والوجوه، وما أشبهها.
من طاعني ثغر الرجال جآذرٌ ... ومن الرماح دمالجٌ وخلاخل
الثغر: جمع ثغرة، وهي النقرة بين بين. والجآذر: أولاد بقر الوحش.
يقول: إن هذه الجآذر يطعن في صدور الرجال كما يطعن الفرسان، ورماحهن الدمالج والخلاخيل فهن لهن بمنزلة الرماح للرجال، لأنهن يعملن بالقلوب مثل عمل الرماح.
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
يقول: إنما سميت أغطية العيون. جفوناً؛ لأن ما فيها من الأحداق تعمل عمل السيوف، ولولا أنها سيف لما سميت أغطيتها جفوناً.
كم وقفةٍ سحرتك شوقاً بعد ما ... غرى الرقيب بنا ولج العاذل
روى: سحرتك بالحاء أي أدهشتك. وبالجيم: أي: أوقدت فيك ناراً. وروى: شجرتك: أي طلبتك. وقوله غرى: أي ولع يقول: كم وقفة للوداع، ملأت هذه العيون قلبك شوقاً أو ملأته ناراً، وألهبت في قلبك نار من الشوق، وقد لج العاذل في العذل، ولازمك الرقيب في الحفظ.
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصبٍ أدقهما وضم الشاكل
نصب ناحلين: على الحال، والعامل فيه: وقفة. ودون: نصب على الظرف، والعامل ما تقدم.
يقول: كم وقفة وقفنا للوداع، وكنا ناحلين، وبقينا دون المعانقة من خوف الرقيب، وكنا قريبين، كتقارب شكلتي نصبٍ دقيقتين قريبتين بعضها من بعض، أدقهما الشاكل، وضم إحديهما إلى الأخرى. أي قارب بينهما. وقد احترز في ذلك عن البناء لأن الشكلتين إذا اجتمعا في النصب كانتا تنويناً، والتنوين يختص بالنصب؛ لأن الفتح لا يكون تنويناً.
إنعم ولذ فللأمور أواخرٌ ... أبداً إذا كانت لهن أوائل
لذ: أمر من لذ يلذ.
يقول: اغتنم الشباب وتنعم وتلذذ فإن للشباب آخر، كماله أوله فإن الأوائل لها أواخر.
ما دمت من أرب الحسان فإنما ... روق الشباب عليك ظلٌّ زائل
روق الشباب: أوله. والأرب: الحاجة.
يقول: تنعم ما دمت على حالة متعلق حاجات الحسان البكر. وهي حالة الشباب؛ فإن الشباب لا يبقى عليك، كالظل الذي لا يبقى بل يزول. وهو من قول امرىء القيس:
تمتع من اللذات إنك فاني
ومثله ليزيد بن معاوية:
خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصرم
للهو آونةٌ تمر كأنها ... قبلٌ يزودها حبيبٌ راحل
آونة: جمع أوان. واللهو: السرور. وروى: يزودها ويزورها. فإن أردت بالحبيب. المحبوب، فالأجود كسر الواو وإن أردت به المحب فالفتح أولى.
يعني أن أوقات السرور سريعة المرور، كأنها قبل أحباءٍ في وقت الارتحال، في اللذة وسرعة الزوال.
جمح الزمان فما لذيذٌ خالصٌ ... مما يشوب ولا سرورٌ كامل
جمح: أي عصى.
يقول: إن الزمان جموح يكدر اللذات، فكل لذيذ مشوب بالتنغيص، وكل سرور فيه، ناقص غير كامل.
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهي المقام الهائل(1/152)
يقول: كل لذة منغصة، حتى رؤية أبي الفضل، فإنها منية كل نفس، ولكنها مشوبة بالهول والهيبة؛ فهي منغصة من هذا الوجه. وصفة بالهيبة.
قال ابن جنى: هذا مخلص إلى المدح غريب ظريف، لا أعرفه لغيره.
ممطورةٌ طرقي إليها دونها ... من جوده في كل فجٍّ وابل
الهاء في إليها ودونها: للرؤية. والفج: الطريق الواسع.
يقول: إن الطرق التي سلكها إلى رؤيته، كانت غير خالية من عطاياه، التي هي كالمطر الوابل، فكأن الطريق أصابه المطر.
محجوبةٌ بسرادقٍ من هيبةٍ ... تثنى الأزمة، والمطي ذوامل
السرادق: خيمة تضرب على أبواب الملوك لقعود الناس فيها إلى وقت الإذن.
وقيل: هو ما يحاط حول الخيمة مثل السور. وتثنى: أي تصرف. وفاعله: ضمير الهيبة. وذوامل: جمع ذاملة، وهي السريعة السير. ومحجوبة: قيل أراد بها الطرق، أي أن الطريق التي مررت بها إليه، كانت عليها سرادق من هيبته، تمنع الناس من العدول عنه إلى غيره، ومطايا الناس إليه سريعة.
وقيل: إن رؤيته محجوبة مهيبة، تصرف الأزمة، حتى لو أن المطايا ذوامل في سيرها، واعترضتها هذه الهيبة لصرفتها، وعدلت المطية عنها. خوفاً من الإقدام واستعظاماً لهيبته.
للشمس فيه وللرياح وللسحا ... ب وللبحار وللأسود شمائل
الشمائل: الأخلاق.
يقول: للشمس فيه إضاءتها ومنفعتها وشهرتها وارتفاع محلها، وشبه الريح بدوام عطائه وقوته وكثرة تقلبه في الحروب وشبه السحاب بجوده، والبحار بهوله وسعة صدره وغزارته في العلم، والأسد في إقدامه وشجاعته.
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملممات مناهل
أراد. من العقيان: الذهب. والمناهل: المشارب.
يقول: عند موارده هذه أرى أشياء. فالذهب لسائله، والأدب لطالبه، والحياة لأوليائه؛ بالعفو عن الجاني، والممات لأعدائه.
لو لم يهب لجب الوفود حواله ... لسرى إليه قطا الفلاة الناهل
لو لم يهب: أي لم يخف. واللجب: اختلاط الأصوات وحواله: أي حوله: والناهل: العطشان. وهو نعت للقطا وهو مرفوع.
فإن شئت رفعته بالفعل الأول: وهو لم يهب. وأسندت الفعل الثاني: وهو لسرى إلى ضمير القطا. أي لو لم يهب قطاة الفلاة الناهل لجب الوفود لسرى إليه. وهذا اختيار أهل الكوفة.
فإن شئت رفعته بالفعل الثاني، وأضمرت للفعل الأول الفاعل، وهو اختيار أهل البصرة.
يقول: لولا أن القطا تخاف أصوات الوفود على بابه وحوله، لكانت تسري إليه لتشرب من مناهله وتفد مع جملة الوفود إليه.
يدري بما بك قبل تظهره له ... من ذهنه ويجيب قبل تسائل
الهاء في تظهره لما وفي له، وذهنه وغيره من الضمائر: للممدوح.
يقول لنفسه أو لصاحبه: إنه إذا رآك علم ما في نفسك قبل إظهارك له وأجابك عن سؤالك.
وتراه معترضاً لها وموليا ... أحداقنا وتحار حين تقابل
أحداقنا: رفع لأنه فاعل تراه والهاء في لها للأحداق. ونصب موليا ومعترضا على الحال. والاعتراض: هو المفاجأة. وقيل: هو أن يلي جنبه.
يقول: إن أحداقنا إنما يمكن أن تراه إذا ولي عنا ظهره، أو يظهر مفاجأة أو مولياً جنبه، فإذا قابلته لوجهه تحيرت من هيبته ونور غرته، فلا يمكنك أن تنظر إليه.
كلماته قضبٌ، وهن فواصلٌ ... كل الضرائب تحتهن مفاصل
القضب: السيوف. وفواصل: أي قواطع، أي تفصل الأمور. والضرائب: جمع الضريبة، وهي محل الضرب.
يقول: إن كلماته قواضب كالسيوف تفصل بين الحق والباطل وكل الضرائب: أي المشكلات عند هذه الكلمات كالمفاصل.
هزمت مكارمه المكارم كلها ... حتى كأن المكرمات قبائل
وروى قنابل: وهي جماعات الخيل.
يقول: إن مكارمه هزمت جميع المكارم وأبطلتها، فكأنها العساكر تقابل بعضها بعضاً.
وقتلن دفراً والدهيم فما ترى ... أم الدهيم وأم دفرٍ هابل
دفر: اسم الدنيا. ودهيم: اسم الداهية. والهابل: الثاكل. وأفرد الضمير في ترى، وكان حقه أن يقول: تريان فاكتفى بالواحدة، كذلك في هابل. وعلى هذا أم زائدة.
وقيل: أم الدفر: اسم الدنيا. وأم الدهيم: اسم الداهية على وجه الكنية.
ومعناه: أن مكارمه قتلت بنت الدنيا وبنت الداهية، فالدنيا والداهية قد ثكلتا ابنيهما، يعني: أن مكارمه كفت الناس حوادث الدهر.(1/153)
علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي، ولكل لجٍّ ساحل
علامة: كثير العلم، والهاء: للمبالغة. وجعله علامة العلماء زيادة للمبالغة: يصفه بكثرة العلم. وشبهه بالبحر في علمه وجوده، وفضله على البحر.
لو طاب مولد كل حيٍّ مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل
يقول: لو طاب مولد كل حيٍّ، مثل طيب مولده، لما احتاج النساء إلى القوابل، حتى لا يشاهدن المستور من أحوالهن. كأنه نزه أمه عن وقوع بصر القوابل على عورتها عند الولادة.
وهذا ليس فيه فائدة؛ لأن طيب المولد: أي علاقة له بسهولة الولادة. وأي مدح في ذلك وفي الاستغناء عن القوابل؟! وإن أراد به سعة الرحم بانحلال الرباط، لكان السكوت عنه أولى.
لو بان بالكرم الجنين بيانه ... لدرت به ذكرٌ أم أنثى الحامل
يقول: لو تبين الجنين بالكرم الذي له، لكان بان هو في بطن أمه، وكانت الحوامل تعلم أنه ذكر أم أنثى. وهذا لا طائل فيه ولا فائدة.
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعاً ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
يقول: ليزدد هؤلاء الأشراف تواضعاً؛ لأنهم في الشرف مشهورون، فتواضعهم لا يضع قدرهم؛ لأن شرفهم لا ينكتم بالتواضع، كما لا ينكتم ضوء المشاعل في الظلام، بل الظلام يزيدها ضوءًا، كذلك تواضعهم.
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفى الرباب الهاطل؟!
السفاد للطير: كجماع الإنسان. والرباب: السحاب الأبيض، وقيل: هو الذي فوقه سحاب آخر. والهاطل: المتتابع القطر.
يقول: إنهم اجتهدوا في إخفاء عطائهم فظهر ولم ينكتم، بل انتشر كالمطر الهاطل من السحاب.
جخفت وهم لا يجخفون بها بهم ... شيمٌ على الحسب الأغر دلائل
جخف وجمخ: إذ افخر والشيم الأخلاق. وقيل: هي الدلائل. وفاعل جخفت: شيم تقديره. جخفت بهم شيم وهم لا يجخفون بها.
يقول: إن شيمهم تفتخر بهم؛ لحلولها فيهم، وهم لا يفتخرون بها؛ لأن أخطارهم أعظم. مع أن تلك الشيم هي أشرف الشيم، من حيث أنها دلائل على حسبهم الأغر الكريم.
متشابهي ورع النفوس: كبيرهم ... وصغيرهم عف الإزار حلاحل
متشابهي: نصب على الحال. عفٌّ وعفيف: واحد. والحلاحل: السيد.
يقول: كلهم متشابهون في الورع: صغيرهم وكبيرهم، وكلهم سادة كرام، عفف الإزار، لا يقربون الفاحشة ولا يسعون إلى زنا، ولا ريبة.
يا افخر فإن الناس فيك ثلاثةٌ: ... مستعظمٌ، أو حاسد، أو جاهل
أي: يا هذا افخر فحق لك الفخر، ويجوز أن يكون بمعنى: التنبيه.
يقول: إن الناس فيك ثلاثة أقسام: إما مستعظم لقدرك، وإما حاسد لفضلك، وإما جاهل بك لا يعرف حقيقة حالك. ومثله قول ذي الرمة:
وما زلت تعطي النفس حتى تجاوزت ... مناها فأعط الآن إن شئت أو دع
ولقد علوت فما تبالي بعدما ... عرفوا: أيحمد أم يذم القائل
يقول: أنت علوت حتى استقر عند كل أحدٍ علو قدرك، فما تبالي بعد ذلك بحمد حامد ولا بذم ذام، وصارا عندك سواء.
أثني عليك ولو تشاء لقلت لي ... قصرت فالإمساك عني نائل
يقول: أثني عليك وأنا مقصر في وصفك، فلو شئت لقلت لي: إنك قصرت، فإذا أمسكت عني وقبلت مدحي مع تقصيري، فكأنك قد أعطيتني سوى ما أعطيت.
وقيل: أراد إن لم تعطني على مدحي فقد أحسنت لما في مدحي من التقصير.
لا تجسر الفصحاء تنشد ها هنا ... بيتاً ولكني الهزبر الباسل
وروى: لا تحسن. الهزبر: الأسد. والباسل: الشجاع.
يقول: لا يقدر أحدٌ من الفصحاء أن ينشد في مجلسك بيتاً واحداً؛ هيبةً منك. لكني خالفت سائر الفصحاء جسارةً وقوة قلب، فأنا كالأسد الشجاع، فلهذا تجاسرت عليك.
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري، ولا سمعت بسحري بابل
أرض العراق كلها: بابل وهي على ما يقال: قرية من العراق، وخصصت بالسحر؛ من أجل هاروت وماروت يقول: إن أهل الجاهلية ما نالو مثل شعري، وكذلك أهل بابل ما سمعوا بمثل سحري؛ لرقة ما أستنبط من المعاني. وأراد: أن شعري أجود الأشعار وأرق من السحر؛ لأن البليغ يمكنه أن يذم الممدوح، ويمدح المذموم! ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا ".
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني فاضل(1/154)
يقول: إذا رأيت الجاهل والناقص يذمني، فذلك دليل على فضلي؛ لأنه إنما يذمني لأنه ضدي كما قيل:
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ومثله قول الشاعر:
وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
ومثله قول الطرماح
وإني شقيٌّ باللئام ولن ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل
من لي بفهم أهيل عصرٍ يدعي ... أن يحسب الهندي فيهم باقل
أهيل: تصغير أهل. وباقل: هو المضروب به المثل في العي، وهو من بني مازن، وقيل: من بني قيس بن ثعلبة.
يقول: كيف أفهم أهل زمانٍ يدعى عندهم باقل، أن يحسب حساب الهند، وقد كان من عيه ما ضرب به المثل.
قال ابن جنى: هذا غير جيد، لأن باقلاً، لم يؤت من الحساب، وإنما أتي من النطق. فلو قال: أن ينظم الأشعار فيهم باقل. أو قال: أن يفحم الخطباء فيهم باقل. لكان أشبه بالقصة.
والجواب: أنه أراد إيراد لفظ الحساب للعجز عنه.
وأما وحقك فهو غاية مقسمٍ ... للحق أنت وما سواك الباطل
المقسم: الحالف. وبالفتح: هو القسم، وهو الأولى.
يقول: أحلف بحقك، وهو نهاية القسم، أنك ذو الحق، وما سواك ذو الباطل. وقيل: أراد أنك السيد حقاً، وكل سيد سواك فهو الباطل، ولا حقيقة له. كقوله:
كأنك مستقيمٌ في محال
الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وروى: إذا اغتسلت الغاسل، تقديره: إذا أصابك الطيب، فأنت طيبة، والماء الغاسل أنت: إذا اغتسلت.
يجوز نصبه بفعل مضمر يدل عليه الغاسل: أي تغسل الماء إذا اغتسلت. ثم صار الغاسل بك لامنه ودالاً عليه.
ويجوز رفعه فيكون مبتدأ، والغاسل، صفته، وأنت خبره.
يقول: إن الطيب إذا أصابك يطيب بك! والماء إذا اغتسلت به، اكتسب منك الطهارة.
ما دار في الحنك اللسان وقلبت ... قلماً بأحسن من ثناك أنامل
الثنا: مقصور يستعمل في المدح والذم. والثناء: ممدود، في الحسن خاصة. والنثا: بتقديم النون، روى أيضاً.
يقول: ما دار في الفم اللسان، ولا قلبت الأنامل قلما بأحسن من ثناك: أي ما قيل، ولا كتب، أحسن من أخبارك، ومدحك.
وقيل: ما أنشد أحدٌ ولا كتب أحسن من شعري في مدحك وثنائي عليك.
وقال يمدح أخاه أبا سهل سعيد بن عبد الله الأنطاكي:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف في ذا القلب أحزانا
تقديره: قد علم البين أجفاناً منا البين، وتدمى الأجفان، وهي حال لها.
يقول: قد علم البين بيننا أجفاننا البين فلا تلتقي بكاءً وسهراً، وتدمى يدل عليها، لأن البكاء وطول السهر يؤديان إلى الإدمان، وكذلك جمع البين في قلبي هذا أحزاناً، فليس فيه سروراً، كما لا نوم في العين.
أملت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحي دون السير حيرانا
المعصم: موضع السوار من اليد.
يقول: رجوت وقت سير قومها أن تكشف هي معصمها ليقف قومها متحيرين عند رؤيته؛ لنوره وحسنه ويتعجبوا من ضوئه، فأتمتع أنا بالنظر إليها، والوقوف معها ساعة.
ولو بدت لأتاهتهم فحجبها ... صونٌ عقولهم من لحظها صانا
أتاهتهم: أي حيرتهم. وصون: رفع؛ لأنه فاعل حجبها. وعقولهم: نصب؛ لأنه مفعول صان، وفاعله: ضمير صون.
يقول: لو بدت هذه المرأة بأجمعها؛ لحيرتهم وأذهبت عقولهم؛ فحجبوها صيانة لعقولهم من لحظها. وتقديره: فحجبها صونٌ صان من لحظها.
بالواخدات وحاديها وبي قمرٌ ... يظل من وخدها في الخدر حشيانا
الواخدات: الإبل السراع. والحشيان: الذي علاه البهر من التعب، وروى: بالخاء من الخشية.
يقول: أفدي بالإبل وحاديها وبنفسي قمراً، صفتها أنها يأخذها. البهر عند إسراع الإبل في السير، لنعومتها.
وبالخاء: أنها تخشى عند شدة سيرها من شدة إقلاقها إياه. أراد: أن هذا القمر الكافل بالإبل وحاديها وبنفسي، وأمرنا إليه وسرورنا بوصاله، وحزننا لفراقه، فهو المتصرف فينا كما يشاء.
أما الثياب فتعرى من محاسنه ... إذا نضاها ويكسى الحسن عريانا
التذكير: للقمر. والتأنيث: للثياب. وعرياناً: نصب على الحال، المعنى: أن الثياب تحسن به، لا أنه يحسن بها، فإذا أخلاها عريت من محاسنه التي اكتسبتها منه. وإذا عري هو من الثياب اكتسى حسناً أكثر وأزيد من لبسه الثياب.(1/155)
يضمه المسك ضم المستهام به ... حتى يصير على الأعكان أعكانا
الأعكان: جمع العكن، وهو ما يتكسر في أسفل البطن من الشحم والسمن.
يقول: إن المسك يعبق بجسمها، ويضمه كأنه عاشق له، ويلصق به. كما ينضم العاشق إلى المعشوق، حتى يصير المسك أعكاناً فوق أعكانها.
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيزٍ بعدكم هانا
يقول: كنت قبل الفراق أمسك عن البكاء؛ خوفاً على بصري أن يصبه دمعي، فاليوم لما نأيتم طال بكائي وهان علي كل عزيز!
تهدي البوارق أخلاف المياه لكم ... وللمحب من التذكار نيرانا
البوارق: السحائب ذات البرق. وعنى بالمحب نفسه.
يقول: إن السحائب ذوت البروق، تهدي إليكم فروع المياه، وأهدت إلي نار الشوق، عند تذكري إياكم.
يعني: أني إذا رأيتها تذكرت عهدي معكم، فألهبت في أحشائي نار الشوق إليكم، فجعلت السحائب المطر لكم والبرق لي. والأخلاف: جمع خلف، وهو للناقة بمنزلة الثدي للمرأة.
إذا قدمت على الأهوال شيعني ... قلبٌ إذا شئت أن يسلاكم خانا
السلو، والسلوة، والسلوان: طيب النفس عن المفقود.
يقول: إذا أردت الإقدام على الأمور الهائلة، فإن قلبي يشيعني على كل هول، إلا الصبر عنكم، فإن قلبي لا يشيعني على ذلك، بل يخونني ويخالفني؛ لأن ذلك أعظم من كل هول.
أبدو فسيجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحاً وإهوانا
إهواناً: جاء به على الأصل في الصحيح للضرورة. والاستعمال في القياس: إهانة. ونصبه: صفحاً على المفعول له، وقيل: على المصدر، بفعل مضمر. أي: أصفح عنه صفحاً، وأهينه إهواناً، ولا أعاتبه. دليل على المحذوف.
يقول: إذا ظهرت فإن من يذكرني بسوءٍ في حال الغيبة يسجد لي هيبةً مني، ولا أعاتبه على ما يذكرني به من السوء صفحاً. وإهانة. ومثله لجميل:
إذا أبصروني طالعاً من ثنية ... يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس غريبٌ حيثما كانا
يقول: هكذا كنت بين أهلي ووطني، لم أخل من حاسد يحسدني على فضلي، ويذكرني بسوءٍ من ورائين، فإذا ما ظهرت له يسجد لي والشريف حيثما كان غريب، لا يخلو من حاسدٍ ولا عاتب، فكنت أبداً غريباً بهذا الوجه؛ لأني لم أجد من يشاكلني ويوافقني.
محسد الفضل، مكذوبٌ على أثري ... ألقى الكمي ويلقاني إذا حانا
يقول: لم أزل محسوداً ومكذوباً على أثري؛ لأنه لم يمكن لأحد أن يواجهني بالسوء، ولم أزل شجاعاً ويلقاني الشجاع، إذا دنا هلاكه.
لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعاً ... ولا أبيت على ما فات حسرانا
طمعاً: نصب على المفعول له، أو على المصدر، كما في قوله: صفحاً يقول: لا أمد عنقي فيما لا يصل إلي طمعاً فيه، وإن فاتني شيء لم أتحسر عليه، وكأنه أخذ هذا المعنى من قوله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ".
ولا أسر بما غيري الحميد به ... ولو حملت إلي الدهر ملآنا
أي لا أسر بما آخذه من عطاء الناس؛ لأن المعطي هو المحمود به، ولو حملت أيها الإنسان إلى الدهر ملآناً من العطاء، فإني لا أفرح به، بل إنما أسر بما أعطى غيري بما فيه من الثناء والحمد. يعني: أن رغبتي في الحمد منه في الصلة.
لا يجذبن ركابي نحوه أحدٌ ... ما دمت حياً وما قلقلن كيرانا
قلقلن: أي حركن. والكيران: الرحل. واحده كور، وهو الرحل بأداته. والهاء في نحوه لأحد. أي لا يجذبن أحد ركابي. وما في قوله: ما دمت وما قلقلن نصب على الظرف.
يقول: لا يجذب إبلي أحد من الملوك نحوه ما دمت حياً، ودامت الإبل تحرك رحالها. أي ما دامت تسير الإبل، أي لا أقصد أحداً أبداً. وروى: بعده أحد. أي لا أقصد بعد هذا الممدوح أحداً.
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
يقول: لو قدرت ركبت الناس كلهم، كما يركب البعير.
وقصدت عليهم هذا الممدوح، وأراد بذلك أكثر الناس؛ لأنه يقال: إن أمة من الناس يقتضي ركوبها، وقد بين أنه أراد البعض فيما يليه. والبعران: جمع بعير، ونصبه يجوز من أوجه: أحدها: المصدر الواقع موقع الحال، أي ركبتهم مثل البعران، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
والثاني: بإضمار فعل دل عليه ركبت، أي صيرتهم بعراناً.(1/156)
والثالث: على التمييز؛ لأن قوله: ركبت الناس احتمل الركوب والاستيلاء والقهر، ففسره بالمعنى المقصود، ونصبه على التمييز كقولهم: امتلأ الإناء ماءً.
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
تقديره: فالعيس أعقل من قوم رأيتهم عمياناً، عما يراه الممدوح من الإحسان، وما يأتيه من الكرم والشرف، وذلك مأخوذ من قوله تعالى: " إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً ".
ذاك الجواد وإن قل الجواد له ... ذاك الشجاع وإن لم يرض أقرانا
يقول: نحن نصفه بالجود، وذلك أقل أوصافه، ونصفه بالشجاعة، وهو لا يرضى قريناً ينازله؛ لأن الشجعان دونه ولا يستطيعونه.
ذاك المعد الذي تقنو يداه لنا ... فلو أصيب بشيءٍ منه عزانا
المعد: المدخر. أعد واستعد: بمعنى. وروى: المعد، وهو الذي أعد لريب الزمان. وقنوت الشيء أقنوه: إذا اكتسبته.
يقول: إنه يجمع الأموال ليفرقها علينا، فنحن أحق بها منه، فإذا أصيب بشيء من ماله عزانا عليه؛ لأنه لنا دونه، وإن كان في يده.
خف الزمان على أطراف أنمله ... حتى توهمن للأزمان أزمانا
يقول: هان الزمان على أنامله، فيصرفه كيف شاء، كما يصرف الزمان أهله، فكانت أنامله أزمنة للأزمنة. ومثله قول الآخر:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حالٍ إلى حال
يلقى الوغى والقنا والنازلات به ... والسيف والضيف رحب الباع جذلانا
النازلات: مصائب الدهر. ورحب الباع: واسع القلب. الجذلان: المسرور.
يعني: أنه لا يضيق صدره بحوادث الدهر النازلة.
تخاله من ذكاء القلب محتمياً ... ومن تكرمه والبشر نشوانا
قوله: محتمياً، من الاحتماء، وهو قلة الأكل ومعناه: من فرط ذكائه. كأنه محتم من الطعام؛ لأن قلة الأكل تحد الفهم، وتقوى الحواس، كما أن كثرة الأكل تعمي القلب. وقيل: ملتهباً أي من الحمى، والحرارة، ومعناه: أنه من حدة ذكائه كأنه متوقد، ومن كثرة كرمه وبشره وسهولة خلقه كأنه سكران.
وتسحب الحبر القينات رافلةً ... في جوده وتجر الخيل أرسانا
الحبر: جمع حبرة وهي ضرب من ثياب بدوية وقينات: جمع قينة وهي الجارية مقنية. ورافلة! متبخرة.
يقول: إنه يحب القينات يجليهن حللهن فهن يسحبن ذيولهن وآلاتهن والخيل يسحبن أرسانهن.
يعطي المبشر بالقصاد قبلهم ... كمن يبشره بالماء عطشانا
يقول: إنه يعطي من يبشره بالقاصدين، قبل إعطائه القاصدين، وقبل وصولهم إليه، وأنه يفرح بهذه البشارة كما يفرح العطشان إذا بشر بالماء. وتقديره: كمن يبشره المبشر بالماء وهو عطشان. وذلك حال.
جزت بني الحسن الحسنى فإنهم ... في قومهم مثلهم في العز عدنانا
فاعل جزت: الحسنى. وعدنان: في موضع جر بدل من العز. وقيل: العز صفة متقدمة بعدنان. وأراد: بني عدنان، وهو أبو العرب، من ولد إسماعيل. والضمير في إنهم لقومهم.
يقول: جزت الحسنى بني الحسن، فإنهم في قومهم في الشرف، مثل قومهم في عدنان. أي: هم أشراف قومهم، كما أن قومهم أشراف عدنان. وروى: في الغر عدنانا.
ما شيد الله من مجدٍ لسالفهم ... إلا ونحن نراه فيهم الآنا
يقول: ما رفع الله لآبائهم السابقة، من المجد والعز، إلا ونحن نرى مثله في هؤلاء الآن.
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
يقال: فلان فارس هذا الأمر. أي حاذق فيه.
يقول: إنهم متقدمون في هذه الأمور كلها، ولقوا: أي في مشهد حدثهم فرسانا.
كأنهم يردون الموت من ظمأ ... أو ينشقون من الخطى ريحانا
الخطى: الرماح المنسوبة إلى الخط، وهي قرية بساحل البحر يعمل فيها الرماح.
يقول: كأن الموت ماء وهم إليه ظماء فهم يردون الموت كما يرد الظمآن الماء، وكأن الرماح ريحانهم، فهم يتلذون بهم، كما يلتذ باستنشاق رائحة الريحان.
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
الخرصان: جمع خرص، وهو السنان. شبه مضاء أسنتهم في الطعن، بمضاء ألسنتهم في النطق. والناس يشبهون الألنة بالأسنة، وهو قد عكس ذلك وجعله مضاءً ثابتاً في اللسان، ثم شبه به السنان.
الكائنين لمن أبغي عداوته ... أعدى العدى، ولمن آخيت إخوانا(1/157)
الكائنين: نصب على الصفة لبني الحسن مجاز.
يقول: إنهم أعداء أعدائي، وأولياء أوليائي.
خلائقٌ لو حواها الزنج لانقلبوا ... ظمى الشفاه، جعاد الشعر غرانا
الظمى: جمع أظمى وظمياء، وهو اسم الشفة. وقيل: دقيق الشفة. ويروى: لمن الشفاه والغران: جمع أغر، وهو الأبيض.
يقول: لهم خلائق حسنة، لو كانت في الزنج لتحولوا عن سوادهم وصاروا بيض الوجوه، سمر الشفاه، جعاد الشعور.
وإنما قال ذلك لأن شفاهم بيض، وشعورهم قطط.
والجعد: هو الذي دون القطط. وفوق الرجل. والرجل: فوق السبط.
وأنفسٌ يلمعياتٌ تحبهم ... لها اضطراراً ولو أقصوك شنآنا
يقال: رجل يلمعي وألمعي: إذا كان ذكياً فطناً.
يقول: أنفس كريمة فطنة، تحبهم لأجلها اضطراراً، وإن أبغضوك وأبعدوك. وشنآنا: نصب على التمييز.
الواضحين أبواتٍ وأجبنةٍ ... ووالداتٍ وألباباً وأذهانا
الواضحين: نصب على التمييز. أو هو نعت لبني الحسن. وأجبنة: جمع الجبين. وروى: أخبية: وهي جمع خباء، ووضوحه؛ لغشيان القصاد. والأبوة: مصدر الأب.
يقول: إن غرتهم واضحة، أي صريحة، وكذلك جباههم واضحة، أي حسان المنظر، وهم أشراف من قبل الأمهات، وعقولهم وخواطرهم واضحة. يعني: يعرف ذلك كل أحد.
يا صائد الجحفل المرهوب جانبه ... إن الليوث تصيد الناس أحدانا
أحدان: جمع واحد والأصل وحدان، فأبدل. والمرهوب: إن جررته فهو صفة للحجفل. والهاء في جانبه تعود إليه. وجانبه: فهو صفة للصائد والهاء عائد إليه.
يقول: لك فضلٌ على الأسد؛ لأنك تصيد الجيش كله، والأسد يصيد الناس واحداً واحداً.
وواهياً كل وقتٍ وقت نائله ... وإنما يهب الوهاب أحيانا
واهباً: نصب؛ لأنه منادى نكرة، ونكره للتعظيم. وكل وقت: مبتدأ، ووقت نائله: خبره.
يقول: أنت تهب دائماً، والأجواد يهبون في وقت دون وقت.
أنت الذي سبك الأموال مكرمةً ... ثم اتخذت لها السؤال خزانا
سبك الذهب: إذا أذابه وجعله قطعة واحدة.
يقول: فكأنك سبكتها وجعلتها مكرمة، ثم جعلت السائلين خزاناً لها. قوله: سبك الأموال مكرمة. بمعنى صاغها كما يقول سبكت الذهب خلخالاً.
عليك منك إذا أخليت مرتقبٌ ... لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
أخليت: صادفت مكاناً خالياً.
يقول: إنك إذا خلوت، كان عليك رقيب من نفسك، فأنت لا تفعل سراً ما لا تفعله جهراً.
لا أستزيدك في ما فيك من كرمٍ ... أنا الذي نام إن نبهت يقظانا
واليقظان لا ينبه.
يقول: إنك قد بلغت الغاية في الكرم، فإن أردت منك زيادة، كنت كمن يجيء إلى اليقظان فينبهه، يحسب أنه نائم وتقديره: أنا النائم إن نبهت يقظانا.
فإن مثلك باهيت الكرام به ... ورد سخطاً على الأيام رضوانا
باهيت: أي فاخرت. والهاء في به للمثل، ويجوز أن يكون للكرم.
يقول: باهيت الكرام بمكانك، وعلمت أنك قد بلغت، فلا مزيد على ما أنت عليه من الكرم، وكنت ساخطاً على الزمان؛ لفقد الكرام فيه، فجعلت سخطي عليه رضاً؛ لأن كرمك أزال عن الزمان سخطي؛ حيث إني رضيت بك عنه.
وأنت أبعدهم ذكراً، وأكبرهم ... قدراً، وأرفعهم في المجد بنيانا
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
المنصوبات في البيت الأول: على التمييز. أي أنت أكرم الكرام، فذكرك أشهر وقدرك أشرف ومجدك أعلى وأرفع، وسواك: أي خلقك على استواءٍ. وفي القرآن: " خلقك فسواك " أي: أنت شرف الأرض، وزينة الناس. ومثله:
أرضٌ لها شرفٌ سواها مثلها ... لو كان مثلك في سواها يوجد
وإنسانا: نصب؛ لأنه مفعول ثان من سواك.
وقال يمدح أبا أيوب أحمد بن عمران ويذكر مرضاً ألم بأبي أيوب:
سربٌ محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها
السرب: جماعة النساء، ورفع؛ لأنه خبر ابتداء محذوف. أي: هذا سرب، أو: مرادي سرب. ومحاسنه: مبتدأ ثان، وقوله: حرمت ذواتها خبره. وقيل سرب رفع بالابتداء، ومحاسنه مبتدأ ثان، صفة له. وداني الصفات إن شئت جعلته: بدلاً من قوله: محاسنه وإن شئت جعلته: صفة له أخرى. وإن شئت جعلته خبر السرب.(1/158)
وجاز أن يكون سرب مبتدأ، وإن كان نكرة؛ لأنه لما وصفه قربه من المعرفة، والهاء في ذواتها لمحاسنه وفي محاسنه لسرب وذوات محاسن السرب هي: السرب بعينه. والهاء في موصوفاتها للصفات.
يقول: هذا سرب حرمت ذوات محاسنه. الحسان منه. وهذا السرب صفاته دانية قريبة هي مني؛ لأنها ألفاظ أنا قادر عليها، فمتى شئت وصفتها. فأما الموصوف بالحسن، فبعيد عني، وهن: النساء المعبر عنهن بالسرب.
وإضافة ذوات إلى المضمر في قوله: ذواتها غير جائزة عند البصريين. وأبو العباس المبرد: يجيز ذلك.
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي ... بشراً رأيت أرق من عبراتها
أوفى: أي أشرف، يعني السرب. والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. والهاء في عبراتها للمقلة.
يقول: إن هذا السرب لما أشرف علي وهي كناية عن علوهن في هوادجهن للمسير، رميت ببصري بشرات هذا السرب، فرأيت بشراته أرق وأصفى من عبرات عيني عند الارتحال. وإنما قال ذلك، لأن الدمع يضرب به المثل في الصفاء والرقة.
يستاق عيسهم أنيني خلفها ... تتوهم الزفرات زجر حداتها
يقول: كان أنيني على إثر الإبل التي كانت عليها الهوادج سابقاً، فكانت الإبل تظن زفراتي وراءها أنها زجر حداتها، فكانت تجد في السير. وروى: تشتاق عيسهم أنيني خلفها فلشدة شوقها إذا سمعت أنيني جدت في السير لزيادة أنيني.
وكأنها شجرٌ بدت لكنها ... شجرٌ جنيت الموت من تمراتها
روى: الموت والمر.
يقول: كأن هذه العيس، وعليها الهوادج شجرٌ، لعلوها وارتفاعها. إلا أني جنيت من هذه الشجر، الثمر الذي ليس بمعتاد! وهو الموت، أو المر، من الثمر.
لا سرت من إبل لواني فوقها ... لمحت حرارة مدمعي سماتها
السمة: العلامة التي تكون على الإبل بالنار، والمدمع: مجرى الدمع، وأراد به الدمع هاهنا، ووصفه بالحرارة؛ لأن ماء العين إذا كان من الحزن يكون حاراً، وإذا كان من السرور فهو بارد.
يدعو على الإبل فيقول لها: لا سرت أبداً، ولا قدرت على السير! ولو كنت فوق هذه الإبل راكباً. كانت دموعي تسيل عليها وتمحوا بحرارتها أثر سماتها، وتذهب شعرها كما تمحوه النار.
وحملت ما حملت من هذي المها ... وحملت ما حملت من حسراتها
المها: بقر الوحش.
يقول دعاء لنفسه، وعلى الإبل: ليتني حملت ما عليك من النساء، وحملت أنت ما حملت من حسرات فراقهن.
وقيل أراد: لو كنت فوقك لحملت ما عليك من هذه النساء وحملت أنت حسراتي التي أتحملها؛ لأني إذا حملتهن فرقت بينك وبينهن حسراتي لتبعدهن عنك.
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
الشغف: شدة الحب.
يقول: إني على شدة كلفي بما في خمر هذه النساء، وهي الوجوه. أكف نفسي عن مواقعتهن. ومثله: قول العباس بن الأحنف:
عف الضمير ولكن فاسق النظر
وترى المروة والفتوة والأبو ... ة في كل مليحةٍ ضراتها
كل مليحة: فاعل ترى والمروة وما يتبعها: مفعوله. وضراتها: المفعول الثاني. والهاء: للمليحة.
يقول: ترى التقاء الملاح. مروتي وفتوتي وأبوتي. مانعة لي عنهن، فكأن هذه الثلاثة ضرات للملاح؛ لما فيهن من المنع عنها.
هن الثلاث المانعاتي لذتي ... في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
يقول: هذه الثلاثة منعتني عن لذتي بالنساء في حال الخلوة؛ لأني لا أخاف تبعات ذلك: أي الخوف من الوشاة، أو عشائرهن أو غير ذلك؛ لأني كنت لا أخاف أحداً. وقيل: أراد خوف الألم والعقاب، لكن الأول أولى.
ومطالبٍ فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها
المطالب: جمع المطلب.
يقول: كم من مطالبٍ عظيمة الخطر، فيها الهلاك إذا أتيتها، فآتيتها وأوقعت نفسي فيها وقضيت منها حاجتي، وأنا ثابت القلب حتى كنت لثبات قلبي كأنني غير ملابس لها.
ومقانبٍ بمقانبٍ غادرتها ... أقوات وحش كن من أقواتها
المقانب: جمع المقنب، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل. وكن. للوحش.
يقول: رب جيش تركته بجيش آخر أقواتاً للوحوش، أي قتلته فأكلته الوحوش، بعد ما كانت الوحوش قوتاً له. يعني: أنهم صعاليك لا قوت لهم إلا ما يصيدون من الوحوش والسباع.
أقبلتها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها(1/159)
أقبلتها: أي صرفت وجوه الخيل إليها. ثم شبه غرر الجياد وما في جبهاتها من البياض، ببياض أيدي بني عمران: أي نعمهم. وهذا مما جرت عادته به في تمكين التشبيه؛ لأنه جعل حقيقة البياض أولاً للنعم، ثم شبه غرر الجياد بذلك البياض. والأيدي: استعمل ها هنا بمعنى النعم.
الثابتين فروسةً كجلودها ... في ظهرها والطعن في لباتها
الثابتين: في موضع جر، صفة لبني عمران.
يقول: هم أثبت في ظهور الخيل، من جلودها على ظهورها في أصعب الحالات. وهي تواتر الطعن في صدور الخيل. والواو في قوله: والطعن واو الحال.
العارفين بها كما عرفتهم ... والراكبين جدودهم أماتها
الأمات: جمع الأم. يقال: إن الهاء في الأمهات زائدة. وقيل: أمهات في الآدميين خاصة، والأمات مشتركة.
يقول: يعرفون الخيل وهي تعرفهم؛ لأنها نتجت عندهم، وتناسلت في بيوتهم، وأجدادهم كانوا يركبون أمهات هذه الخيل.
وقيل: أراد أنهم عارفون بالخيل لكثرة فراستهم لها، وكذلك آباؤهم وأجدادهم كانوا من الفرسان العارفين بالخيل والفروسية.
فكأنها نتجت قياماً تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها
صهوة الفرس: مقعد الفارس منه.
يقول: كأن الخيل ولدت وهي تحتهم، وكأنهم ولدوا على ظهور الخيل؛ لاعتيادهم ركوب الخيل مذ كانوا أطفالاًن وكانت خيلهم مهاراً.
وقيل: أراد كأنها خلقت لهم، وكأنهم خلقوا لها. وقيل: كأنه أعضاء لهم، وكأنهم أعضاء لها. وقيل: كأنهم خلقوا معاً.
إن الكرام بلا كرامٍ منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها
سويداء القلب وسوداؤه: الدم الذي في وسطه. وقيل: هو حبة فيه، مثل العنبة السوداء.
يقول: هم في الكرام كالسويداء في القلب، التي بها قوام القلب، فمتى ذهبت، بطل القلب، فكذلك الكرام، إذا خلوا منهم، بطل كرمهم واستووا مع غيرهم.
تلك النفوس الغالبات على العلا ... فالمجد يغلبها على شهواتها
المعنى: أنهم يغلبون الناس على المعالي، فيجوزونها دونهم، والمجد يغلبهم على شهواتهم، فيحول بينهم وبينها فلا يأتون ما يلحقهم فيه عار وشين؛ ويصرفون شهواتهم إلى اكتساب المجد والرفعة والعلا
سقيت منابتها التي سقت الورى ... بيدي أبى أيوب خير نباتها
يدعو لأبي الممدوح وأجداده بالسقيا. والياء في قوله: بيدي أبي أيوب، متعلقة بقوله: سقت.
فيقول: سقى الله منابت هذه النفوس. وهي آباؤها، بيد أبي أيوب: الذي هو الممدوح، وهو خير نبات تلك المنابت؛ لأن جوده أكثر من وبل السحاب. وخير نباتها: صفة لأبي أيوب. وجعله خير ما نبت على تلك الأصول. يعني: أنه خير قومه. قيل: الباء متعلقة بقوله: سقت الورى، وهو غير داخل في الدعاء، فكأنه يقول: إن منابتها سقت الورى بيديه.
ليس التعجب من مواهب ماله ... بل من سلامتها إلى أوقاتها
الهاء في سلامتها وأوقاتها: للمواهب.
المعنى: ليس التعجب من كثرة هباته، وإنما العجب من سلامة ماله إلى وقت الهبة؛ إذ ليس من عادته حبس المال.
عجباً له حفظ العنان بأنملٍ ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
عجباً: نصب على المصدر. وما حفظها الأشياء: في موضع الجر، لأنه صفة لأنمل. والأشياء: نصب بحفظها.
يقول: عجبت من كيفية حفظه للعنان! إذ ليس من عادته أن يحفظ شيئاً ويمسكه. ومثله لأبي تمام:
تعود بسط الكف حتى لوانه ... دعاها لقبضٍ لم تجبه أنامله
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها
روى: كتابه وكتابةٍ على الاسم، والمصدر.
يقول: لو ركض مهره في سطور كتاب له، لأمكنه أن يضع حافره على كل ميم في سطوره، ويعدها به، لفروسيته وحذقه. وخص الميمات؛ لأنها مدورة تشبه الحافر. وقيل: لأنها أصغر أشكال المعجم. وخص المهر؛ لأنه إذا قدر على أن يحصي ذلك بحافر المهر مع صعوبتها كان ذلك أمكن، وقد بالغ في قوله: لو مر يركض؛ لأنه إذا فعل ذلك وهو يركض كان في حال الترفق وعدم الركض أمكن عليه.
يضع السنان بحيث شاء مجاولاً ... حتى من الآذان في أخراتها
مجاولاً: أي في حال الجولان مع الأقران. والأخرات: جمع الخرت، وأراد هاهنا ثقب الأذن.(1/160)
يقول: وضع السنان في حال مجاولته الأقران حيث أراد، حتى لو أراد أن يضعه في خرت الأذن لأمكنه! وبالغ في وصفه بقوله: مجاولاً؛ لأنه إذا فعل ذلك بالفرسان في حال المجاولة في الحرب، ففي غير ذلك الحال أقدر، لأن الرجل قد يكون حاذقاً بالطعن في أوقات اللعب، فإذا حضر في الحرب تحير، ولهذا قال: في موضع الطعن في الهيجاء، لا الطعن في الميدان.
تكبو وراءك يا بن أحمد قرحٌ ... ليست قوائمهن من آلاتها
كبا الفرس يكبوا: إذا عثر، وفي المثل: لكل جوادٍ كبوة، ولكل صارمٍ نبوة، ولكل عالم هفوة والقرح: جمع قارح، وهو الفرس إذا دخل في السادسة، وطلعت قوارحه، وهي أنيابه.
وقال ابن جنى: الهاء في آلاتها تعود إلى وراءك؛ لأنها مؤنثة. أي ليست قوائم تجاريك. من آلات جرى خلفك شبه الممدوح بفرس سابق، وجعل من يباريه في المجد خيلاً قرحاً تجري وراءه.
يقول: من جاراك كبا خلفك، وخانته قوائمه؛ لأنها ليست من آلات الجري خلفك. أي من باراك في مجدك عجز عن سعيك؛ لأنه ليس له آلة كآلتك.
وقيل: إن الهاء في آلاتها ترجع إلى القرح. يعني: أن القرح إذا اتبعتك وطلبت لحاقك كبت، فكأن قوائمها ليست من آلاتها؛ لأنها تنصرف عن إرادتها، ولكنها آلة لتلك، من حيث دلت على سبقك، وأظهرت قصورها عن لحاقك، فكأنك استعنت بها على إظهار عجز من يسابقك.
رعد الفوارس منك في أبدانها ... أجرى من العسلان في قنواتها
الرعد: جمع رعدة. والعسلان: الاضطراب. والقنوات: جمع قناة.
يقول: إن الفرسان إذا رأوك أو سمعوا بذكرك اضطربوا وارتعدوا؛ خوفاً منك. فكأن ذلك أجرى في بدنهم من اضطراب رماحهم واهتزازها، ومعنى اللفظ: أجرى من التحرك في قنواتها.
لا خلق أسمح منك إلا عارفٌ ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
راء: مقلوب رأى.
يقول: ليس أحد أسمح منك إلا رجل يعلم حال جودك. فرأى نفسك ولم يستوهبها منك، فجوده في ترك ذلك يزيد على جودك.
غلت الذي حسب العشور بآيةٍ ... ترتيلك السورات من آياتها
غلت: في الحساب. وغلط: في الكلام. والعشور: جمع عشر وهي عشور القرآن. وحسن ترتيلك: آية من آيات القرآن. فمن عد العشور في القرآن آيات السور، ولم يعد تلاوتك منها فقد غلط.
يعني: أن تلاوتك معجزة لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها! كما لا يقدر أن يأتي بمثل آية من القرآن. والهاء في آياتها للسور أو للعشور.
كرمٌ تبين في كلامك ماثلاً ... ويبين عتق الخيل في أصواتها
ماثلاً: أي قائماً ظاهراً. والعتق: الكرم.
يقول: إن حسن صوتك وكلامك يدل على كرمك، كما أن صهيل الفرس يدل على كرمه.
أعيا زوالك عن محلٍّ نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها
الهالة: الدائرة التي حول القمر.
يقول: لا يقدر أحد أن يزيلك عن محلك وشرفك، كما لا يخرج القمر عن هالته.
لا تعذل المرض الذي بك، شائقٌ ... أنت الرجال وشائقٌ علاتها
وروى: لاتعذل. وشائق: اسم الفاعل، من شقته أشوقه شوقاً. إذا حملته على الاشتياق. وشائق: خبر مبتدأ. وأنت: مبتدأ. والرجال: نصب بشائق الأول. وعلاتها: بالتاء والهاء: للرجال.
يقول: لا تعذل المرض الذي بك، أو لا تلوم المرض الذي بك؛ لأنه قصدك زائراً، كما تزورك القصاد، وأنت تشوق الأمراض إلى زيارتك، كما تشوق الرجال.
فإذا نوت سفراً إليك سبقنها ... فأضفت قبل مضافها حالاتها
ومن روى: بالتاء، أي سبقتها قد صحف. ونوت: فعل الرجال. وسبقن: للعلات. والهاء: للرجال، وكذلك في مضافها وحالاتها والمضاف: مصدر، من قولك أضفت الرجل إضافةً ومضافاً: إذا قمت بضيافته.
يقول: إن الرجال إذا نوت سفراً إلى لقائك، سبقتها العلات إليك، فأنزلتها في جسمك وأضفتها قبل أن تضيف الرجال. وتقديره: فأضفت حالاتها. أي علات الرجال.
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا ... ما عذرها في تركها خيراتها؟
الهاء في عذرها للحمى وفي خيراتها للجسوم.
يقول: إن منازل الحمى الجسوم، فإذا وجدت خير الجسوم فما عذرها في تركها لها، وعدولها إلى ما هو دونها؟! فأنت لما كان جسمك خير الجسوم قصدته رغبة فيه من غيره، كما أن من له منازل كثيرة فإنه ينزل فيما كان منها خير وأحسن.
أعجبتها شرفاً فطال وقوفها ... لتأمل الأعضاء لا لأذاتها(1/161)
الأذاة، والأذى: بمعنىً. والهاء فيها: للأعضاء.
يقول: إنك أعجبتها لشرفك وفضلك؛ فطال وقوفها؛ لتأمل الأعضاء لا لتؤذيها.
وبذلت ما عشقته نفسك كله ... حتى بذلت لهذه صحاتها
الهاء في عشقته وكله: لما. والهاء في صحاتها: للنفس.
يقول: قد بذلت كل ما عشقته نفسك، حتى بذلك لحماك صحة نفسك!!
حق الكواكب أن تعودك من علو ... وتعودك الآساد من غاباتها
علو: لغة في علا وروى: تعودك وتزورك.
يقول: على الكواكب أن تعودك من السماء، ويجب على الأسود أن تعودك من أماكنها؛ لأنك تشبه الكواكب بضيائها. والأسود بشجاعتها. والجنس يميل إلى الجنس.
والجن من ستراتها، والوحش من ... فلواتها والطير من وكناتها
الوكنات: جمع وكنة، وهي مواقع الطير، حيثما وقعت. وروى: وكراتها.
المعنى: أنه يجب على كل ما في العالم أن يعودك.
ذكر الأنام لنا فكان قصيدةً ... كنت البديع الفرد من أبياتها
يقول: الناس بمنزلة القصيدة. والممدوح بمنزلة البيت البديع الفرد من أبيات تلك القصيدة.
قال أبو الفتح بن جنى: هذا البيت هو البديع الفرد من هذه القصيدة.
في الناس أمثلةٌ تكون حياتها ... كمماتها ومماتها كحياتها
روى: تدور حياتها. وأمثلة: أي أشباه.
يعني: أن أشباه الناس. وقيل: أراد أن الناس أمور لا خير عندها ولا شر، فموتها وحياتها سواء.
هبت النكاح حذار نسلٍ مثلها ... حتى وفرت على النساء بناتها
يقول: إن التزوج ربما ينتج ولداً لا خير فيه! مثل هذه الأمثلة، فتركت بنات النساء عليهن، لم أتزوج منهن واحدة.
فاليوم صرت إلى الذي لو أنه ... ملك البرية لاستقل هباتها
يقول: فاليوم رأيت أفضل الناس وأكرمهم، فلو ملك الخلق كلهم ثم وهبهم لسائل لاستقلهم.
مسترخصٌ نظرٌ إليه بما به ... نظرت وعثرة رجله بدياتها
نظرت: فعل البرية.
يقول: لو اشترت البرية نظرةً إليه، بعيونها التي تنظر بها، لكانت رخيصة! ولوفدت البرية عثرة رجله بداياتها: أي ديات البرية، لكانت رخيصة.
ونظرٌ وعثرةٌ مرفوعان بمسترخص والهاء في دياتها قيل: للبرية. وقيل: للرجل. والأول أولى.
وقال يمدح علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي وفيها يفتخر ويصف ما لاقاه في طريقه:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر ... وحيداً، وما قولي كذا ومعي الصبر!
يقول: أطاعن خيلاً، والدهر واحداً من فرسانها! وأنا وحيد ليس لي من يعينني، ثم رجع وقال: ليس قولي كذلك، بل معي صبري يعاونني على دفع هذه الخيل، التي هي الدهر، وحوادثه منها، وأراد أني أقاسي خطوب الدهر.
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
يقول: إن سلامتي أشجع مني؛ لأنها ثبتت على حالها في كل أمرٍ عظيم وهولٍ جسيم، وما ثبتت سلامتي في هذه الأخطار العظيمة، إلا وفي نفس السلامة أمر. يعني: أن بقاء سلامتي يدل على أمر عظيم يظهر مني.
تمرست بالآفات حتى تركتها ... تقول: أمات الموت أم ذعر الذعر؟!
تمرست: أي تعودت إلقاء نفسي في الآفات والشدائد، حتى تركت الآفاق متعجبة مني ومن سلامتي! يقول: لعل الموت قد مات، والخوف خاف أن يخالط قلبي!
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي ... سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
الأتي: السيل الذي يأتي من بلد إلى بلد فلم يصبك مطره.
يقول: إن إقدامي على الشدائد كإقدام السيل الذي لا يرد في شيء، فكأن لي نفساً غير نفسي هذه، حيث لا أبالي بهلاكها، وكأن لي عند نفسي ذخلاً، أريد أن أتلف نفسي لأجلها!.
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترقٌ جاران دارهما العمر
أراد بالنفس: الروح.
يقول: دع نفسك تأخذ من الدنيا ما قدرت عليه من العلو والشرف، قبل أن تفارق الجسد، فإنهما جاران فلابد من افتراقهما، والعمر دارهما، ولابد من نفاذ العمر فإذا نفذ افترقا.
ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
يقول: لا تشغل نفسك باللهو والشراب، فإنه ليس بمجدٍ، وإنما المجد يحصل بالسيف والإقدام على الحرب.
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
الهبوة: الغبار الكثير.(1/162)
يقول: ليس المجد إلا السيف، وليس البكر إلا الفتك بالأعداء، وقتل الملوك، وزعامة الجيش، فيرى لك الغبار: السواد. والهبوة: غبار العسكر العظيم، فتكون زعيماً لهم تقودهم حيث شئت. وفسر بهذين البيتين ما أراد بقوله: تأخذ وسعها.
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
أنمله العشر: فاعل تداول. والهاء: للمرء. وتداولها للسمع: أنها تذهب عليه وتجيء.
شبه الصوت الذي يكون في الحرب بصوت البحار الذي يسمعه الإنسان، إذا سد بأنامله أذنيه أراد أن المجد ما تقدم ذكره، وأن تترك في الدنيا أصوات العساكر على هذا الوصف.
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ ... على هبةٍ فالفضل فيمن له الشكر
يقول: إذا كان فضلك لا يرفعك عن قبول صلة ناقصٍ، حتى تحتاج إلى أن تشكره على هبته! فالفضل له لا لك؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى.
قال أبو الفتح: أراد بذلك أنه إذا اضطرتك شدة الزمان إلى شكر الناقص من الناس لأجل ما تتبلغ به إلى مكان الفرصة، فالفضل فيك ولك لا للممدوح المشكور.
وأراد الأول وهو الظاهر.
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقر
يقول: من يفن عمره في جمع المال؛ خوفاً من الفقر، فما يفعله هو الفقر!! لأنه أبداً في غم الفقر، ويشقى بما يجمع ولا ينتفع به.
علي لأهل الجور كل طمرةٍ ... عليها غلامٌ ملء حيزومه غمر
الطمرة: قيل إنها الفرس العالية المشرفة. والحيزوم: الصدر. والغمر: الحقد.
يقول: واجب علي أن أقصد كل ملك جائر بكل فرس طمرة، عليها كل غلام قد امتلأ صدره بالحقد ومحبة الحرب.
يدير بأطراف الرماح عليهم ... كئوس المنايا حيث لا يشتهى الخمر
يقول: كل غلام يدير على أهل الجور، بأطراف الرماح كئوس المنايا في مضايق الحرب، التي لا يشتهى فيها شرب الخمر.
وكم من جبالٍ جبت تشهد أنني ال ... جبال وبحرٍ شاهدٍ أنني البحر
يقول: كم من جبال قطعتها، فلو نطقت لشهدت أنني مثلها؛ لثباتي على الحالات، ولوقاري، وكم من بحر قطعته، لو نطق لشهد أنني بحر مثله؛ لسخائي وبعد غوري.
وقيل: أراد أن الجبال تشهد أني مثلها؛ من حيث أنها تندق تحت حوافر خيلي، فتصير أرضاً لها! والبحر يصير مغموراً بخيلي، فتكون به الخيل بحراً، والبحر قطراً.
وخرقٍ مكان العيس منه مكاننا ... من العيس فيه: واسط الكور والظهر
وخرق: عطف على جبال ومكان: ابتداء. ومكاننا: خبره. أي: مثل مكاننا، ثم حذف المضاف. وفيه: مع ما يتعلق به حال من العيس. أي من العيس الكائنة فيه. والضمير: لخرق. وواسط: بدل من مكاننا. ويجوز أن يكون تفسيراً له. والظهر: معطوف على واسط.
يقول: كم من أرض واسعة جئتها، وكانت الإبل تسير فيها أبداً، فكأنها واقفة في وسطها لا تبرح عن ظهورها.
والكور: الرحل. وواسط: وسط، الذي يركب فيه الراكب.
يخدن بنا في جوزه وكأننا ... على كرةٍ أو أرضه معنا سفر
الوخد: السير السريع. وجوزه: وسطه. والهاء في جوزه: للخرق. والسفر: المسافرون. وهذا البيت يتعلق بما قبله.
ومعناه: أن الإبل تسير بنا وسط هذا الخرق، ولا تبرح منه، حتى كأننا على كرةٍ؛ لأن من شأن الكرة أن تقطع الأرض سيراً، وليس لها حالة الاستقرار، حتى كأن الأرض مسافرة معنا. هذا بيان لقوله: كأننا على كرة.
قلت: ويحتمل أنه أراد كأننا على الفلك الذي يدوم سيره ولا ينقطع، وكأن الأرض مسافرة معنا، ولقد أخذ هذا المعنى السري الكندي فقال:
وخرقٍ طال فيه السير حتى ... حسبناه يسير مع الركاب
ويومٍ وصلناه بليلٍ كأنما ... على أفقه من برقه حللٌ حمر
الهاء في أفقه وبرقه: لليوم.
يقول: وكم من يوم وصلنا سيره بسير الليل، فكأن برق ذلك اليوم المطير، على أفق هذا اليوم حلل حمر.
وليلٍ وصلناه بيومٍ كأنما ... على متنه من دجنه حللٌ خضر
الدجن: السحاب الدائم المنن، وأراد بالخضر: السود.
يقول: رب ليل وصلنا سراه بسير النهار، فكأنما على متن هذا الليل من العتمة، حلل خضر: أي سود. وروى: من صحوه، فيكون أراد بالخضرة: لون السماء.
وغيثٍ ظننا تحته أن عامراً ... علا لم يمت، أو في السحاب له قبر
عامر: جد الممدوح.(1/163)
يصف في هذه الأبيات أنه كان يواصل سيره بسراه، في المطر والغيم والبرق، حتى وصل إلى الممدوح، ثم شبه كثرة الغيث، بجود عامر.
فيقول: من كثرة الغيث ظننت أنه رفع إلى السماء، أو قبره في السحاب، فهو يجود به فينهمل هذا المطر من جوده. وهو من قول أبي تمام:
كأن السحاب الغر غيبن تحته ... حبيباً فلا يرقا لهن مدامع
أو ابن ابنه الباقي علي بن أحمدٍ ... يجود به لو لم أجز ويدي صفر
الأولى في ابن ابنه: النصب؛ عطفاً على عامر. ويجوز رفعه على الابتداء.
يقول: لولا أني مررت بهذا الغيث، ويدي خالية منه، لظننت أنه من جهة الممدوح.
وإن سحاباً جوده مثل جوده ... سحابٌ على كل السحاب له فخر
يقول: كل سحابٍ يكون مطره في الغزارة مثل جود الممدوح، فله على كل السحائب فخر. كما للممدوح على جميع الأسخياء من الناس، الفخر التام.
فتىً لا يضم القلب همات قلبه ... ولو ضمها قلبٌ لما ضمها صدر
الهاء في قلبه: للممدوح. وفي ضمها: للقلب. وفي ضمها الثانية: للهمات.
يقول: إن همته عظيمة لا يسعها قلب أحد، ولو ضمه همة قلب أحد، لكان شيء من الصدور لا يضم ذلك القلب؛ لأن ذلك القلب لعظمه لا يسعه صدر، بل ينشق.
وقيل: أراد أن همته لا يسعها قلبه؛ للطافته. وإن كان منه منشؤها.
ولا ينفع الإمكان لولا سخاؤه ... وهل نافعٌ لولا الأكف القنا السمر
الإمكان: الغنى.
يقول: لا ينفعك ماله، الذي يمكنه أن يصلك به، لولا سماحته التي توصله إليك.
وقيل: أراد لولا سخاء نفسه وجوده، لكان لا ينفعك كثرة ماله، كما أن القناة لا تنفع للطعن، لولا الأكف.
قرانٌ تلاقي الصلت فيه وعامرٌ ... كما يتلاقى الهندواني والنصر
الصلت: جد الممدوح لأمه وعامر: جده لأبيه. وفيه حذف: أي أتى به قران.
يقول: لما اقترن في نسبه هذا، الشريفان. اللذان كل منهما سيداً شريفاً. فكان في ذلك كالمشتري وزحل. إذا اقترنا؛ فإنه يدل على ملكٍ عظيم. ثم شبه اقترانهما باجتماع السيف والنصر.
فجاءا به صلت الجبين معظماً ... ترى الناس قلاً حوله وهم كثر
صلت الجبين: أي واضحة.
يقول: إن جديه أتيا به وولداه، وهو صلت الجبين، شريف كبير، ويرى الناس حوله قليلين في المعنى، وإن كانوا كثيرين في العدد.
مفدى بآباء الرجال سميدعاً ... هو الكرم المد الذي ماله جزر
السميدع: السيد. والمد: الزيادة. والجزر: النقصان.
يقول: إن الناس يفدونه بآبائهم؛ لجلالته وكثرة نفعه لهم، وهذا هو الكرم الذي يزيد ولا ينقص، فهو مدٌّ بلا جز. بخلاف الأنهار، فإنه لا مد لها ولا جزر، وأما كرمه فمد بلا جزر.
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كل ركبٍ له ذكر
يقول: ما زلت يسايرني ذكره، حتى قادني الشوق نحوه. أي ما زلت أسمع بخبره وكرمه، حتى اشتقت إلى لقائه فقصدته.
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
الخبر: الإخبار بالشيء. والخبر: الاختبار.
يقول: كنت أستعظم ما أسمعه من ذكره، فلما رأيته، زاد الاختبار على الخبر.
إليك طعناً في مدى كل صفصفٍ ... بكل وآةٍ كل ما لقيت نحر
المدى: الغاية في البعد. والصفصف: الأرض الملساء الواسعة. والوآة: الناقة الصلبة. وأراد بقوله: طعنا: أي قطعنا. وكل ما لقيت: مبتدأ، وأراد: كل ما لقيته. ونحر: خبره.
يقول: قطعنا إليك بعد كل أرض ملساء، بكل ناقة صلبة، فكل موضع لقيته هذه الناقة، هو نحرٌ يلاقيه الطعن، وقيل: أراد به مصدر نحرت: أي الناقة لمشقة السير، كأنها لقيت نحرها.
إذا ورمت من لسعةٍ مرحت لها ... كأن نوالاً صر في جلدها النبر
النبر: دويبة تلسع الإبل فيرم موضع لسعته.
يقول: إذا لسعها النبر ورم جلدها، فرقصت واضطربت لشدة لسعته، فكأن النبر صر في جلدها نوالا: أي عطية، فهي ترقص فرحاً؛ لأجله. فشبه ورم اللسعة بصرة.
فجئناك دون الشمس والبدر في النوى ... ودونك في أحوالك الشمس والبدر
يقول: أنت دون الشم والبدر في البعد، وهما دونك في أفعالك؛ لشرفك وعلوك، وأنت أنفع في المخاوف منهما.
كأنك برد الماء لا عيش دونه ... ولو كنت برد الماء لم يكن العشر
العشر: أبعد أظماء الإبل.(1/164)
يقول: إن كل أحد يحتاج إليك، ولا عيش له مع فقدك، كما لا عيش له مع فقد الماء، بل الحاجة إليك أشد؛ لأن الماء قد يصبر عنه عشرة أيام، إلا أنت فلا يمكن الصبر عنك ساعة.
وقيل: أراد لو كان برد الماء مثلك، لكانت الإبل تتجاوز العشر؛ لاستقائها بعذوبتك وبرد قطرك.
وقيل: أراد أن جودك كثير، فلو كنت برد الماء لكنت موجوداً في كل موضع. فكان لا يحتاج الإبل إلى طول الظمأ وإلى الصبر على العطش عشرة أيام.
دعاني إليك العلم والحلم والحجا ... وهذا الكلام النظم والنائل النثر
يقول: دعاني إليك ما فيك من العلم والحلم والعقل. وقد روى: والنهى والمعنى واحد. ونائلك الذي نثره بين يدي سؤالك، وتفرقه على الناس. وهذا الكلام، والنظم للشعر الذي تقوله. لأنه روى: أن الممدوح كان شاعراً حسن الشعر. وقيل: أراد به كلامه الذي نظمه في مدحه، وذكر أوصافه.
وما قلت من شعرٍ تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
روى: قلت على الخطاب. وقلت على الإخبار عن النفس. وهو أولى.
يقول: دعاني إليك شعري الذي يكاد نوره يبيض الحبر المكتوب به.
كأن المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقك الزهر
وروى: خلائفك يقول: كأن معاني هذا الشعر، في فصاحة لفظها وجودة نظمها، نجوم الثريا، وكأنها في حسنها، أخلاقك الحسنة الطاهرة.
وخص الثريا؛ لأنها ظاهرة يعرفها كل أحد، ولأنها منظومة مجتمعة، والشعر كذلك.
وجنبني قرب السلاطين مقتها ... وما يقتضي من جماجمها النسر
يقول: أبعدني من قرب السلاطين، بغضي لهم وحقدي عليهم، وكذلك أبعدني عنهم مقاضاة النسر بجماجمهم.
وإني رأيت الضر أحسن منظراً ... وأهون من مرأى صغيرٍ به كبر
يقول: إنما باعدتهم؛ لأني رأيت احتمال الضر أحسن وأسهل من رؤية رجل صغير الهمة متكبر، وروى: من مرءٍ صغيرٍ على أن يكون صغير صفة للمرء. وروى: من مرأى صغير على الإضافة. وهو مصدر رأيت. وروى: من لقيا صغير.
لساني وعيني والفؤاد وهمتي ... أود اللواتي ذا اسمها منك والشطر
أود: جمع ود. ويقال: رجل ود، وودود، ووديد. وأراد بالفؤاد: فؤادي.
يقول: هذه الأعضاء التي سميتها مني تود الأعضاء منك مثلها، فلساني: وديد لسانك، وعيني: تود عينك، وفؤادي: وديد فؤادك، وهمتي: تود همتك، والشطر: عطف على هذه الأعضاء. أي وهي الشطر منك.
يعني: أن الجسم جسمٌ واحد، فنصفه أنت ونصفه أنا. وغرضه بذلك شدة محبته له.
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
يقول: ما تفردت أنا بقول الشعر، ولكنه شعري أعانني على قوله.
يعني: لما أردت نظمه فيك كان يعين على مدحك فينظم نفسه افتخاراً بك، وقيل: أراد أن حسن شعري يقوم مقام شعرٍ آخر، فكأن ذلك الحسن شعرٌ في شعري فيك.
وماذا الذي فيه من الحسن رونقاً ... ولكن بدا في وجهه نحوك البشر
يقول: الذي فيه من الحسن، ليس برونق له، ولكنه لما رآك وصار منتظماً فيك، ظهر له سرور وبشر في وجهه.
وإني ولو نلت السماء لعالمٌ ... بأنك ما نلت الذي يوجب القدر
يقول: إني أعلم أنك وإن نلت السماء، فذلك دون ما يوجبه قدرك؛ لأن قدرك أعلى محلاً، أجل من السماء!
أزالت بك الأيام عتبي كأنما ... بنوها لها ذنبٌ، وأنت لها عذر
يقول: كنت أعاتب الأيام، فلما جئت رضيت عنها، فكأنها أذنبت بلوم أبنائها، فاعتذرت أنت إلي بكرمك، فكنت عذراً لذنبها، وأبناؤها ذنبٌ لها.
وقال يمدح علي بن محمدٍ بن سيار بن مكرم التميمي وكان يحب الرمي ويتعاطاه، وله وكيلٌ يتعرض للشعر، فمدح أبا الطيب فأنفذه إليه فصار إليه أبو الطيب فتلقاه وأجلسه في مرتبته وجلس بين يديه، فأنشده أبو الطيب:
ضروب الناس عشاقٌ ضروبا ... فأعذرهم أشفهم حبيبا
الضروب: هي الأنواع. وأشفهم: أي أفضلهم. وضروبا: نصب بعشاق. وحبيباً نصب: على التمييز.
يقول: أنواع الناس على اختلافهم يعشقون أنواعاً من المعشوقات، ولكن أحقهم بالعذر من بينهم، من يكون حبيبه أفضل وأعدل وأنبل.
وما سكنى سوى قتل الأعادي ... فهل من زورةٍ تشفي القلوبا
السكن: من تسكن إليه، من أهل أو حبيب.(1/165)
يقول: إن الذي أعشقه ويسكن قلبي إليه. قتل الأعادي، فهل لي سبيل إلى يارة حبيبي: الذي هو قتلهم؟ لأنه يشفي قلبي وقلب أحبائي.
وأراد به: هل أمكن من قتل الأعادي فأشفى به؟
تظل الطير منها في حديثٍ ... ترد به الصراصر والنعيبا
الصرصرة: صوت النسر والبازي. والنعيب: صوت الغراب. وتظل: في موضع الجر، صفة لترد.
يقول: هل من سبيل إلى وقعة بأعدائي يكثر فيها القتلى؛ فيجتمع عليها الطير، فينعب الغراب وتصرصر النسور والبازي، كأنهما في حديث.
وإنما ذكر البازي بصرصرة؛ لأنه لا يأكل الجيف.
لأنه لم يقل: إن هذه الطيور تأكل الجيف.
فكأنه قال: تجتمع على هذه القتلى ما تأكل الجيف. فمنها ما تأكل ومنها ما لا تأكل، فتساعد أكالة الجيف بالأصوات فتنشط بنشاطها، وإن كانت لا تأكل؛ لأن الطير جنس واحد، والجنس يفرح بفرح الجنس ويغم بغمه.
وقد لبست دماؤهم عليهم ... حداداً لم تشق لها جيوبا
يروى: دماؤهم بالرفع؛ فتكون لبست فعلها. ومعناه: أن دماءهم لما يبست اسودت، فكأنها لبست الحداد؛ حزناً على القتلى، ولكنها لم تشق جيوبها، كما يفعله المصاب. وروى: دماءهم فلبست على هذا. فعل الطير. أي قد لبست الطيور دماء هؤلاء القتلى حداداً؛ لأنها اختصت بها، فجفت عليها واسودت، غير أنها لم تشق بها جيوباً، أي للقتلى، وقيل للحداد.
أدمنا طعنهم والقتل حتى ... خلطنا في عظامهم الكعوبا
أدمنا: من الإدامة. وقيل: من الجمع والخلط من قولهم للمتزوجين في الدعاء: أدام الله بينهما. والكعوب: جمع كعب، وهو عقب الرمح.
يقول: ما زلنا نطعنهم حتى كسرنا الرماح فيهم، وخلطنا كعوبها في عظامهم؛ لكثرة طعنهم بها. وخص الكعوب؛ لأنها إذا انكسرت أشبهت العظام المتكسرة.
وقيل: أراد بالكعوب: كعب الإنسان. أي قطعنا الأرجل والأذرع والأسوق حتى صارت الكعوب مختلطة بكسير العظام المكسرة.
كأن خيولنا كانت قديماً ... تسقى في قحوفهم الحليبا
القحوف: جمع قحف، وهو عظم الرأس الذي على الدماغ. والحليب: اللبن المحلوب من ساعته. وقديماً: نصب على الظرف.
يقول: إن خيلنا تمر بنا على القتلى فتطأ رءوسهم وصدورهم، غير نافرة منهم، حتى كأنها كانت قد شربت اللبن فيما مضى من الأيام في عظام رءوسهم.
فمرت غير نافرةٍ، عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا
الجماجم: العظم الذي فيها الدماغ. والتريب: جمع التريبة وهي مجال القلادة.
يقول: هذه الخيل مرت بنا على جماجم الأعداء وترائبهم، ولم تكن نافرة عنهم؛ وذلك لإلفها هذه الأشياء وأمثالها.
يقدمها وقد خضبت شواها ... فتىً ترمي الحروب به الحروبا
يقدمها: أي يتقدم عليها، وهو في موضع النصب على الحال من قوله: فمرت والشوى: الأطراف والقوائم يقول: مرت الخيل بنا وقد خضبت قوائمها بالدم، يتقدمها فتىً متعود الحرب متى يخرج من الحرب يدخل في حرب أخرى. وهو المراد بقوله: فتى ترمي الحروب به الحروبا. وأراد بالفتى نفسه.
شديد الخنزوانة لا يبالي ... أصاب إذا تنمر أم أصيبا
وروى: إذا تيمم أي قصد الحرب. والخنزوانة: الكبرياء وأصاب: يجوز أن يكون الألف للاستفهام؛ لأن أم يدل على الاستفهام فتكون أصاب: بمعنى صاب. ويجوز أن يكون ألف الاستفهام محذوفاً لدلالة أم عليها؛ لأن صاب وأصاب بمعنىً. وتنمر: أي غضب. وشديد الخنزاونة: صفة للفتى.
يقول: هو شديد الكبرياء؛ لفضله وشجاعته، فإذا غضب في الحرب لا يبالي أيقتل أعداءه أم يقتلونه.
أعزمي، طال هذا الليل فانظر ... أمنك الصبح يفرق أن يئوبا؟
الهمزة في أعزمي للنداء.
يقول: يا عزمي، طال هذا الليل حتى كأن الصبح قد علم ما عزمت عليه من القتل والحرب، فهو يخاف منك يا عزمي أن يعود.
كأن الفجر حبٌّ مستزارٌ ... يراعى في دجنته رقيبا
الحب: الحبيب. والدجنة: الظلمة.
يقول: كأن الفجر طلب أن يزوره فجاءه لزيارته، ولكنه يراعي الرقيب حتى يغفل عنه، ويزوره حينئذ. فشبه الفجر بالحبيب. والظلام بالرقيب. حتى إذا زال الظلام، طلع الفجر، وإذا غاب الرقيب، وصل الحبيب.
كأن نجومه حليٌ عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا(1/166)
الجبوب. وجه الأرض. وحذيت: أي جعلت له حذاء، وهو النعل. والكناية في نجومه وقوائمه وعليه لليل فكأنه أراد أن يشبه الليل بفرس أدهم مثل ما بين السماء والأرض، فجعل النجوم عليه مركبة، والأرض نعلاً لرجله.
فيقول: كأن نجوم هذا الليل حلى عليه، وكأن الليل قد جعل أنعال قوائمه الأرض؛ لطول امتلائه بين السماء والأرض. وقد سرق قوله: كأن نجومه حلىٌ عليه من قوله تعالى: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " والبيت من قول امرىء القيس حيث يقول:
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتانٍ إلى صم جندل
كأن الجو قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا
الهاء في سواده لليل. وفي فيه للجو.
يقول: كأن الهوى لقي من العناء ما لقيته أنا في الحرب والأسفار، فتغير لونه كما تغير لوني، فهذا السواد تغيرٌ في لونه.
كأن دجاه يجذبها سهادي ... فليس تغيب إلا أن يغيبا
الهاء في دجاه لليل، أو للجو، وفي يجذبها: للدجى، وهي الظلم.
يقول: كأن ظلم هذا الليل يجذبها سهري، فهي متعلقة بسهري، فليست تغيب هذه الظلمة إلا إذا غاب السهر، وكما أن سهادي لا يغيب، كذلك دجى الليل، لا يزول ولا يغيب.
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد بها على الدهر الذنوبا
الهاء في فيه: للجو، أو لليل. وفي بها: للأجفان.
يقول: إني أقلب أجفاني في هذا الليل والجو، يميناً وشمالاً، وأكثر من تقليبها، فكأني أعد بأجفاني عيوب الدهر، يعني: كما أن ذنوب الدهر كثيرة، لا تعداد لها، كذلك أجفاني لا انقطاع لتقليبها، ولا نوم لي هناك.
وما ليلٌ بأطول من نهارٍ ... يظل بلحظ حسادي مشوبا
أراد: بلحظي حسادي. فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول.
يقول: هذا الليل مع تناهيه في الطول، وسهري فيه، ليس بأطول من نهارٍ ألاحظ فيه أعدائي، فيكون النهار مشوباً برؤيتي حسادي. فيشكو الليل والنهار جميعاً.
وما موتٌ بأبغض من حياةٍ ... أرى لهم معي فيها نصيبا
أبغض: الوجه فيه أن يقول: اشد إبغاضاً، لكنه جاء به على حذف الزوائد.
يقول: كما أكره الموت أكره الحياة التي شاركني فيها الحساد، فليست الحياة أحب من الموت، ولا الموت أكره من الحياة، إذا كان لحسادي نصيب في تلك الحياة.
يعني: أني أحب الحياة إذا أفنيت حسادي.
عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا
النوائب: حوادث الدهر. والنقيب: العارف بالأشياء.
يقول: إني عرفت حوادث الدهر، حتى لو كانت الحوادث من الأحياء المنتسبين إلى الآباء لكنت العارف بها وبأنسابها، ومن أين تولد، وإلى من تنسب، كما يعرف النقيب الأنساب.
ولماقلت الإبل امتطينا ... إلى ابن أبي سليمان الخطوبا
امتطينا: ركبنا مطاها وظهورها. والخطوب: شدائد الأمور.
يقول: لما لم نجد الإبل وقل ما نركبه، ركبنا إليه ما أصابنا من الشدائد، فجعلناها مطايانا، لا سبب قصدنا إياه وهو الشدائد.
وقيل: لما حقرت الإبل في جنب قدره مشينا إليه بأقدامنا إعظاماً له وإجلالا.
مطايا لا تذل لمن عليها ... ولا يبغي لها أحدٌ ركوبا
يقول: إن الخطوب مطايا لا تطاوع راكبها؛ لشدتها وصعوبتها، ولا تنقاد لأحد، ولا يطلب أحد ركوبها؛ لصعوبتها لأنها غير ذلول.
وترتع دون نبت الأرض فينا ... فما فارقتها إلا جديبا
الجديب: المجدب. لما جعل الخطوب مطايا، جعلها ترعى في نفسه، فيقول: إنها تأكل من أبدانا، بدلاً من رعي الأرض، فما فارقت هذه المطايا جديباً، من السقم والهزال كالأرض الجدبة.
إلى ذي شيمةٍ شغفت فؤادي ... فلولاه لقلت بها النسيبا
الشيمة: الخلق. وشغفت: أي ملأت فؤادي حباً. والنسيب ذكر محاسن المرأة في الشعر.
يقول: امتطيت الخطوب، حتى وصلت إلى ذي شيمة كريمة، فلولا مراقبته وجلالة قدره، لنسبت بهذه الشيمة، كما ينسب الشاعر بالمرأة المحاسن.
تنازعني هواها كل نفسٍ ... وإن لم تشبه الرشأ الربيبا
الرشأ: الذكر من أولاد الظباء. والربيب: المربى في البيوت. والهاء في هواها: للشيمة.
يقول: ليس أحد يعشق هذه الشيمة كعشقي لها، وإن لم تشبه هذه الشيمة الغزال المربى في البيوت. أي الجواري الحسان، وإنما هي خلق وطبع، لا شخص وجسم.(1/167)
عجيبٌ في الزمان وما عجيبٌ ... أتى من آل سيارٍ عجيبا
عجيباً: نصيب، لأنه خبر ما.
يقول: هو عجيب في زمانه، لعدم نظيره، ولكن كونه عجيباً ليس بعجب إذا كان من آل سيار؛ لأنهم معادن المجد والكرم.
وشيخٌ في الشباب وليس شيخاً ... يسمى كل من بلغ المشيبا
شيخاً: نصب؛ لأنه خبر. مفعول يسمى، وكل اسمه.
يقول: هو شيخ في شبابه؛ لحلمه وحكمته، وليس يسمى الشيخ كل من شاب، إذ من الشيب من لا يستحق اسم الشيخ.
قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا
رق: أي لان. وقد روى: ولان.
يقول: إنه قاسي القلب في الحروب على أعدائه، بحيث تخشى الأسود منه ومن صولته، ورق طبعه لأوليائه، بحيث نخاف نحن لرقته ولطافته أن يذوب، وروى: فالأسد تفزع من قواه وهي جمع القوة.
أشد من الرياح الهوج بطشاً ... وأسرع في الندى منها هبوبا
الهوج: أي الشديدة، التي لا تستقيم على سنن واحد. والبطش: الأخذ بالقوة.
يقول: هو أشد من الرياح الهوج بطشاً، فكل من يبطش به أهلكه وهو أسرع من هذه الرياح في العطاء: أي لا يرد سائلاً. وبطشاً وهبوباً: نصبا على التمييز.
وقالو: ذاك أرمى من رأينا ... فقلت: رأيتم الغرض القريبا
يقول: عجب الناس من إصابة رميه، قلت: إنما رأيتموه يرمي الهدف القريب ولم تروه يرمي الهدف البعيد، فأخفى عليكم من رميه أكثر.
وقيل معناه: أنكم رأيتم منه الغرض القريب، وأنا رأيت منه الغرض البعيد، فإنه يظن الظنون ويرى الآراء، فيكون كما رآه وظنه.
وهل يخطي بأسهمه الرمايا ... وما يخطي بما ظن الغيوبا
الأصل: يخطىء، بالهمزة فأبدلها ياء.
يقول: كيف تعجبون من إصابته الغرض يرميه؟! وهو يرمي الغيب بظنه فيصيبه! فإذا كان يصيب بظنه الغيب الذي لا يصيبه أحد، فكيف لا يصيب المرمى المشاهد!
إذا نكبت كنانته استبنا ... بأنصلها لأنصلها ندوبا
نكبت: أي قلبت على رءوسها. ويروى نكتت بالتاءين. وهو في معنى الأول. والكنانة: الجعبة. واستبنا: أي تبينا وعلمنا. والندوب: جمع ندب، وهو أثر الجرح والهاء في بأنصلها: للأسهم.
يقول: إذا قلبت كنانته يوم الرمي رأينا في أنصلها الآثار الحاصلة من أنصلها؛ لأن أنصلها تقاتلت في الكنانة، لما أبطأت الرمي إلى الأعداء، لتعودها القتال والرمي، فجرح بعضها بعضا.
وقيل: معناه أن سهامه تنفذ في سمة واحدة فيصيب النصل النصل ويؤثر فيه.
يصيب ببعضها أفواق بعضٍ ... فلولا الكسر لاتصلت قضيبا
الأفواق: جمع فوق، وهو الحز الذي يجرى في وتر القوس.
يقول: إذا رمى سهماً، ثم رمى سهماً آخر، أصاب به فوق الأول، فلولا انكسار الأول لاتصل الأول بالثاني، وبالثاني الثالث فصار من ذلك قضيباً.
بكل مقومٍ لم يعص أمراً ... له حتى ظنناه لبيباً
يقول: يصيب بكل سهم مقوم حتى استقام له، فلا يعصي له أمراً، حتى كأنه عاقل يمتثل أمره.
يريك النزع بين القوس منه ... وبين رميه الهدف اللهيبا
روى: رمية الهدف على الإضافة. وروى رمية الهدف فيكون الهدف بدلاً من رميه.
يقول: يريك جذبه السهم بين القوس وبين المرمى، وهو الهدف اللهيب. وقيل: أراد وصفه بالسرعة، فشبهه بلهيب النار.
وقيل: أراد به حقيقة اللهيب للنار ويكون المراد به النار التي تتولد منه عند القدح.
ألست ابن الألى سعدوا وسادوا ... ولم يلدوا امرأً إلا نجيبا!
ألست: تقديره ليس للنفي. والألى: بمعنى الذين. فكأنه قال: أنت ابن الآباء الكرام، ذوي السعادة والمجد والسيادة، وهم لا يلدون إلا من هو نجيب مثلك
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هوناً ... وصاد الوحش نملهم دبيبا
هونا: في موضع الحال. ودبيبا: حال من نملهم.
يقول: إن آباءك نالوا ما تمنوا من المجد والعلا بأهون سعي؛ بفرط حزمهم ونملهم يصيد الوحش.
ومعناه: أنهم ينالون الأمور الصعبة بأهون سعي منهم.
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الترب طيبا
الريح: الرائحة. والهاء في لها وكساها: عبث؟ يقول: إن الرائحة التي تشم من الرياض ليست للرياض! ولكن كسا هذه الرياض دفن آبائه في التراب طيباً وعطراً، فما يفوح إنما هو ريحهم وأراد به الثناء وحسن الذكر الجميل.(1/168)
أيا من عاد روح المجد فيه ... وعاد زمانه البالي قشيبا
القشيب: الجديد والهاء في فيه تعود إلى من وفي زمانه إلى المجد وقيل: إلى من.
يعني: أن المجد مات منذ قديم وذهب زمانه، ثم انتقلت رفعته فيك، فعاد حياً وصار زمانه جديداً بعد البلى.
وقيل: أراد أن روح المجد بعد آبائه وأجداده انتقلت أيضاً إليه فصار هو المجد. على طريقة المبالغة، وعاد زمانه الذي هو فيه كثير الخير والخصب بعد ما كان قد بلي وأجدب بموته آبائه.
تيممني وكيلك مادحاً لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا
فآجرك الإله على عليلٍ ... بعثت إلى المسيح به طبيبا
تيممني: يعني قصدني. والباقي ظاهر. وطبيباً: حال من ضمير عليل، أو من المسيح. ومثله:
فإنك واستبضاعك الشعر نحونا ... كمستبضعٍ تمراً إلى أهل خيبرا
يعني أن مثلك في إرساله إلي بمدحي؛ مثل من أرسل عليلاً ليداوي السيد المسيح. الذي كان يحيي الموتى ويصنع المعجزات
ولست بمنكرٍ منك الهدايا ... ولكن زدتني فيها أديبا
يقول: لا أنكر منك الهدايا، ولكنك زدتني في جملتها أديباً يمدحني وحكى أن الوكيل افتخر بذلك وقال: قد شهد لي بالأدب.
فلا زالت ديارك مشرقاتٍ ... ولا دانيت يا شمس الغروبا
يقول: لا زالت ديارك تشبه الشمس، وجعله شمساً لعلو محله وشهرة ذكره، وكنى بالغروب عن الموت، وذلك دعاء له بالبقاء.
لأصبح آمناً فيك الرزايا ... كما أنا آمنٌ فيك العيوبا
اللام في لأصبح متعلق بقوله: ولا دانيت أي إنما دعوت لك بالسلامة والبقاء لتأمن نفسي أن تنالك مصيبة كما آمنت أن يلحقك عيب.
وقال أيضاً يمدحه ويذكر مهارته في الرماية وفيها يفتخر ويذم الزمان:
أقل فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جد
بله: أي دع، وقيل: كف، هو وضع لذلك. مثل: صه اسم فعل كقولك اسكت. وصهٍ: بمعنى كف. وفي أكثره: يجوز النصب، والجر، والرفع، أما النصب: فلأن بله اسم للفعل فينصب به كما ينصب بالفعل: ومعناه: دع أكثره.
والجر: فلأنه مصدر أضيف إلى مابعده.
وأما الرفع: فإن قطرباً أجازه على معنى: كيف أكثره؟ أو على معنى: بل أكثره. والجد: الاجتهاد والجد: الحظ. وأقل فعالي: مبتدأ. ومجد: خبره.
وتقدير البيت: أقل فعالي مجد وذا الجد فيه جد. أم لم أنل، والهاء في فيه: للمجد.
يقول: إن قليل فعالي مجد. أي لكنني مجداً وشرفاً حتى أكلي وشربي واضطجاعي وجلوسي، كل ذلك منسوب إلى المجد، لأن غرضي في جميع أفعالي اكتساب المجد.
فدع عنك أكثر أفعالي من المساعي الجسام، والأخطار بالنفس والمال. وقوله: ذا الجد أي هذا جدي في الأمور، واجتهادي فيها حظ وبخت سواء نلت أو لم أنل لأن الجد معدود في السعادة، كما أن التواني معدود في الشقاء؛ لأنه إذا ينل حظه كان قد أبلى عذره.
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
يقول: سأطلب ملكي الذي هو حقي برماح وبمشايخ كأنهم مرد لكثرة التثامهم.
يعني: أنهم عرب معودون التلثم حتى سقطت شعور عوارضهم فصاروا كالمرد.
وخص المشايخ لتجربتهم وثبات بصائرهم كما قيل في المثل: زاحم بعودٍ أو دع. العود: الجمل المسن. وهذا من قول البحتري:
حص التريك رءوسهم فأصابها ... في مثل لألاء التريك المذهب
والأصل فيه قول ابن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي ... فما أطعم يوماً غير هجاع
ومعناه: أنها من طول ما استعملت تساقط ريشه الذي به قوة التهام. والأول أولى.
ثقالٍ إذا لاقوا خفافٍ إذا دعوا ... كثيرٍ إذا شدوا قليلٍ إذا عدوا
يقول: هؤلاء المشايخ إذا لقوا أعداءهم ثبتوا ولم يتزعزعوا، وإذا دعاهم صارخ أسرعوا إليه، ولم يتباطئوا، وإذا حملوا في الحرب قاموا مقام الجيش الكثير وإذا عدوا كانوا قليل العدد. يعني فيهم قلة من العدد وكثرة من حيث الجلد.
وطعنٍ كأن الطعن لا طعن عنده ... وضربٍ كأن النار من حره برد
هذا عطف على ما تقدم. أي سأطلب حقي بالقنا وبمشايخ صفتهم ما تقدم.
يقول: وطعن كأن طعن الناس إذا قيس إليه ليس بطعن، أو بضرب بالسيف، كأن النار إذا قيست إليه فحرها برد، والهاء في عنده للطعن الأول والطعن: اسم كأن، والجملة بعده خبر، والعائد عليه محذوف.(1/169)
إذا شئت حفت بي على كل سابحٍ ... رجالٌ كأن الموت في فمها شهد
حفت: أي أحدقت بي، وفاعله: رجال. والهاء في فمها للرجال والشهد: العسل مع ما فيه من الشمع.
يقول: متى شئت أحدقت بي رجال راكبون على فرس سابحٍ، وكانوا أبطالاً يجدون الموت في الحرب حلواً كالعسل. وروى حفت بي أي: أسرعت.
أذم إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغد
صغر أهل الزمان على جهة التحقير. والفدم: هو الغبي. والوغد: العبد، وقيل من لا خير عنده.
يقول: أذم إلى أهل الزمان أهله؛ فأعلم هذا الزمان جاهل غبي، وأكثرهم حزماً ضعيف وحقير، لا خير عنده ولا غناء له.
وأكرمهم كلبٌ وأبصرهم عمٍ ... وأسهدهم فهدٌ وأشجعهم قرد
العمى: الذي عمي قلبه. ويضرب المثل في الكلب بالخسة، وفي كثرة النوم بالفهد وفي الجبن بالقرد لأنه لا ينام بالليل خوفاً على نفسه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
يقول: من محن الدنيا على الحر، أن يرى عدواً له، ويظهر من صداقته، بحيث لا يكون من إظهارها بد.
والأصل ما من إظهار صداقته بد، غير أنه حذف المضاف؛ لأن العدو لا يكون صديقاً.
وروى أن يرى بضم الياء، على ما لم يسم فاعله. أي يرى الدنيا. ومعناه: من لوم الدنيا أن الحر مجبول على حبها، وهي عدوٌ ولا يقدر أن يعرض عنها. وهذا من قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت ... له عن عدوٍّ في ثياب صديق
بقلبي وإن لم أرو منها ملالةٌ ... وبي عن غوانيها، وإن وصلت صد
الهاء في منها وغوانيها: للدنيا.
يقول: إني وإن لم أرو من الدنيا، ولم أقض منها وطري، فإني قد مللت منها، لما عرفت من تقلب أحوالها، ولذلك أعرضت عن غواني هذه الدنيا؛ لما عرفت من غدرهن وقلة وفائهن، وإن واصلتني فلا أبالي لوصالي.
خليلاي دون الناس: حزنٌ وعبرةٌ ... على فقد من أحببت ما لهما فقد
ما لهما: أي للحزن، والعبرة.
يقول: لما فقدت حبيبي أعرضت عن الناس وانفردت بالبكاء والحزن، فهما خليلاي، وليس لهما فقد.
تلج دموعي بالجفون كأنما ... جفوني لعيني كل باكيةٍ خد
يقول: لا تخلو جفوني من الدموع، فكأن جفوني خد لعيني كل باكية في الدنيا، وكأن كل دمع يجري من كل عين يجري على جفوني.
وإني لتغنيني من الماء نغبةٌ ... وأصبر عنه مثل ما يصبر الربد
النغبة: الجرعة، الربد: النعام، وهو جمع أربد، ورابد. والأربد: الذي يعلو سواده غبرة.
يقول: يكفيني من الماء جرعة، فإذا نلتها أصبر عن الماء، كما صبر النعام. والنعامة لا ترد الماء وتكتفي بالهواء، وكذلك الضب والحية.
وروى: وإني لتغنيني عن الماء نعته: أي وصفه، وهو أبلغ: يعني إذا وصف الماء أو نعت ارتويت بوصفه.
وأمضي كما يمضي السنان لطيتي ... وأطوي كما تطوي المجلحة العقد
الطية: النية. وروى: أطوي. أي أجوع. والمجلحة: الحادة في طلبها، المصممة على أطوادها. وأراد بها الذئاب، وهي أدوم السباع كلها، وأحرصها على الصيد. والعقد: جمع أعقد، وهو الذي في ذنبه عقد، وهي أخبث الذئاب.
يقول: إذا عزمت على شيء مضيت فيه مضاء السنان، وإذا عدمت الزاد صبرت عنه، كما تصبر الذئاب. وهي توصف بالطوى، ويقال: أجوع من ذئب.
وأكبر نفسي عن جزاءٍ بغيبةٍ ... وكل اغتيابٍ جهد من ماله جهد
الجهد والجهد: الطاقة.
يقول: أجهد نفسي ألا أجازي أحداً بغيبة إذا اغتابني؛ وإنما يفعل ذلك من لا يقدر على المكافأة بالفعل.
وأرحم أقواماً من العي والغبا ... وأعذر في بغضي لأنهم ضد
العي: العجز عن الكلام. والغباء: الجهل.
يقول: أرحم من فيه الجهل والعي، وأعذرهم إذا بغضوني؛ لأنهم ضدي؛ إذ ليس في مثل ما فيهم من العي والجهل.
ويمنعني ممن سوى ابن محمدٍ ... أيادٍ له عندي يضيق بها عند
جعل عند اسماً، وإن كان لا يستعمل إلا ظرفا؛ لأنه حمله على المعنى. كأنه قال: يضيق بها المكان، ولأن أصل الأسماء يجريها بوجوده الإعراب، فإذا اضطر الشاعر ردها إلى الأصل.
يقول: إن نعم ابن محمد كثيرة عندي، بحيث يضيق بها المكان من كثرتها، فلما أردت أن أمدح غيره منعتني تلك النعم أن أمدح أحداً سواه؛ حياءً منه.(1/170)
توالى بلا وعدٍ ولكن قبلها ... شمائله، من غير وعدٍ بها وعد
أصله: تتوالى، فحذف إحدى التاءين. والشمائل: الأخلاق.
يقول: أياديه تتابعث علي من غير وعد تقدمها، غير أن شمائله الكريمة وطلاقة وجهه تقوم مقام الوعد، وإن لم يكن هناك وعد على الحقيقة.
سرى السيف مما تطبع الهند صاحبي! ... إلى السيف مما يطبع الله لا الهند
صاحبي: بدل من السيف.
يقول: سريت بسيفي الذي طبعته الهند إلى السيف الذي طبعه الله تعالى. وهو الممدوح، شبهه بالسيف لمضائه.
فلما رآني مقبلاً هز نفسه ... إلي حسامٌ كل صفحٍ له حد
حسام: رفع؛ لأنه فاعل رأى. ويجوز أن يكون مرفوعاً بهز.
يقول: إنه لما رآني مقبلاً نحوه اهتز إلي وقام إلي، واستعمل فيه هز لأنه جعله سيفاً، ثم قال: كل صفح له حد أي كل جانب له، وكل جزء منه حد، بخلاف السيف فإنه كله صفحة، وهو وجهه. لا يكون له غيره.
فلم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلاً قامت تعانقه الأسد
يقول: لم أر رجلاً قبلي مشى إليه البحر، وعانقته الأسد، شبهه بالبحر، لسخائه، وبالأسد؛ لشجاعته. وأراد بالرجل: نفسه.
كأن القسي العاصيات تطيعه ... هوىً أو بها في غير أنمله زهد
أراد بالعاصيات: الصعبة الشديدة.
يقول: إن القسي الصعبة تطيعه عند توتيرها ونزعها. إما حباً له أو قلة رغبة في غير أصابعه، فلا تجذب لأحد دونه.
يكاد يصيب الشيء من قبل رميه ... وتمكنه في سهمه المرسل الرد
يقول: إذا رمى شيئاً أصابه قبل أن يرميه، وإذا أرسل سهماً أمكنه رده قبل وصوله إلى الغرض، وقصد المبالغة.
وينفذه في العقد وهو مضيقٌ ... من الشعرة السوداء والليل مسود
يقول: لو عقد عاقدٌ عقداً ضيقاً، على شعرة سوداء، وتركه في ليلة مظلمة، لأمكنه أن ينفذ سهمه فيه، في ظلمة الليل.
بنفسي الذي لا يزدهي بخديعةٍ ... وإن كثرت فيها الذرائع والقصد
لا يزدهي: أي لا يستخف به مخادعة، والهاء في فيها للخديعة.
يقول: أفدي بنفسي الفصيح الفطن، الذي لا يستخفه أحد بالخديعة والمكر، وإن كثرت الوسائل في الخديعة، والقصد إليها، لأنه يقف عليها ويفطن لها سريعاً، فلا يمكن أحد خديعته.
ومن بعده فقرٌ، ومن قربه غنىً ... ومن عرضه حرٌّ، ومن ماله عبد
يقول: إن الغنى في يديه فمن بعد عنه حرمه، ومن قرب منه أغناه، وإن عرضه: أي نفسه وحسبه، حرٌّ: أي مصون صيانة الحر، وماله: مهان إهانة العبد. وطابق في هذا البيت. البعد: بالقرب. والفقر: بالغنى. والحر: بالعبد. والعرض: بالمال.
ويصطنع المعروف مبتدئاً به ... ويمنعه من كل من ذمه حمد
يقول: إنه يصطنع معروفه في مستحقه، فإذا رأى دنيا كفوراً للنعمة حرمه؛ لأن ذمه حمد، فلا يبالي بذمه، من حيث إنه يتضمن حمده؛ لأن الجاهل إذا ذم العالم، واللئيم إذا ذم الكريم فقد مدحه، ودل بذمه على أنه ضد له، فصار ذمه حمداً له من هذه الجملة.
وقيل: أراد أن حمده مثل ذمه، لأنه لخسته لا يكون لحمده أثر، فلا يبالي بحمده وذمه.
ويحتقر الحساد عن ذكره لهم ... كأنهم في الخلق ما خلقوا بعد
يقول: إنه يحتقر حساده، فلا يذكرهم حتى لا يشتهروا بذكره إياهم، فكأنهم لعدم ذكره لهم واحتقارهم. في العدم، ولم يخلقوا بعد، وليس لهم وجود.
ويأمنه الأعداء من غير ذلةٍ ... ولكن على قدر الذي يذنب الحقد
يقول: إن أعداءه آمنوا بالله تعالى من غير ذلة له. ولكن الحقد يكون على قدر المذنب. وأعداؤه صغار القدر، فهو لا يبالي بهم؛ لأنهم أقل من أن يحقد عليهم، فأمنوا لذلك.
وقيل: أراد أنه لا يجازي أحداً إلا بما يستحقه؛ لاتصافه بذلك، فلا يخافه أحد إلا على قدر ذنبه.
فإن يك سيار بن مكرمٍ انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
يقول: إن كان جدك قد انقضى ومات، فإنك تنوب عنه، كما أن ماء الورد ينوب عن الورد ويقوم مقامه إذا فقد الورد.
وفيه إشارة إلى تفضيله على جده، لأن ماء الورد أطيب من الورد وألطف وأكثر بقاء ونفعاً.
مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألفٌ إذا ما جمعت واحدٌ فرد
ذكر بنوه في مضى من غير توكيده بالمنفصل، وكان الوجه أن يقول: مضى هو وبنوه وذلك أيضاً جائز.(1/171)
يقول: مضى سيار بن مكرم ومضى بنوه، وهم أبوه وأعمامه، وانفردت أنت بفضلهم، أي جمعت فضائلهم، فكأنك جميعهم، كما أن الألف واحد؛ من حيث اللفظ وإن كان ألفاً في المعنى، وأعداد كثيرة ومنتهى الأعداد، فهي تجمع الأعداد مع أنه واحد.
لهم أوجهٌ غرٌّ، وأيدٍ كريمةٍ ... ومعرفةٌ عدٌّ، وألسنةٌ لد
لهم: أي لأجداده، أوجه بيض وأيد كريمة: أي سخية. وقيل: نعم خالصة من المن، ومعرفة عد: كثيرة، وألسنة لد: فصيحة شديدة الخصومة ماهرة بالجدال.
وأرديةٌ خضرٌ، وملكٌ مطاعةٌ ... ومركوزةٌ سمرٌ، ومقربةٌ جرد
وأردية خضر قيل: أراد نعمٌ سابغة وعطاي هنيةٌ. كما قال:
غمز الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... البيت.
وقيل: أراد به الرداء، وخص الخضر؛ لأنها من ثياب الملوك في ديار العرب. وقيل: أراد بالخضر السود، أي اسودت موضع حمائلهم لكثرة تقلدهم بالسيوف. قوله: وملك مطاعة أنث الملك على معنى السلطان، وهو مؤنث ذهاباً بها إلى القدرة. وقيل: أراد بالتأنيث المملكة ومركوزة سمر: أي الرماح ركزت. أي غرزت في بيوتهم. وذلك عادة. ومقربة جرد: أراد به الخيل المقربة من البيوت، فهي لا ترسل لكرمها وخوفهم عليها وحبهم لها فتربط قريباً من البيوت. والجرد: جمع أجرد، وهي القصار الشعور.
وما عشت ما ماتوا ولا أبواهم ... تميم بن مرٍّ وابن طابخةٍ أد
ما الأولى للوقت، والثانية للنفي.
يقول: ما دمت تعيش، فما مات أحد من آبائك، ولا مات تميم بن مر، وابن طابخة، الذين أنت وآباؤك من نسلها؛ لأن فضائلهم موجودة فيك. وأد: اسم ابن طابخة.
وقوله: تميم بن مر. بدل من قوله: ولا أبواهم. وابن طابخة معطوف عليه، وإن شئت جعلته عطف على سيار، وأبدل من ابن طابخة، أو عطف بيان، ويجوز أن يكون تميم بن مر: خبر ابتداء محذوف أي هما تميم بن مر وابن طابخةٍ أد، كأن قائلاً قال: من هما؟ قال: تميم بن مرو وابن طابخة، فيكون تفسيراً لقوله: ولا أبواهم.
فبعض الذي يبدو الذي أنا ذاكرٌ ... وبعض الذي يخفى علي الذي يبدو
يقول: ما أذكر من أوصافك ومناقبك، بعض ما يظهر لي منها، والذي ظهر لي منها بعض ما خفي علي، فالذي خفي أكثر مما ظهر، وما ظهر لي أكثر مما ذكرت، لأن لفظي يقصر عنها.
وتقديره: وبعض الذي يبدو، مثل بعض الذي يخفى. فحذف المضاف.
ألوم به من لامني في وداده ... وحق لخير الخلق من خيره الود
الهاء في به للذكر، أو الوصف لفضله.
يقول من لامني في حبي إياه، ألومه بما وصفته من مفاخره، وأرد عليه بذكر محاسنه؛ لأن الممدوح خير الخلق، وأنا أيضاً كذلك، فحق لي أن أوده لأن الجنس يصبو إلى جنسه.
كذا فتنحوا عن عليٍِّ وطرقه ... بني اللوم حتى يعبر الملك الجعد
الجعد: السخي. وقيل: معناه أنه أبى الظلم منقبض عن الضيم، هذا إذا أطلق، فإذا قرن باليدين كان ما يعنون أنه بخيل وبني اللؤم نداء مضاف، وقيل نصب على الذم.
يقول: تنحوا أيها اللائمون طرق المكارم، حتى يعبرها الملك السخي الأبي الضيم من غير مشقة. ومثله لبشار:
سمعت بمكرمه ابن العلا ... ء فأنشأت تطلبها لست تم
فما في سجاياكم منازعة العلا ... ولا في طباع التربة المسك والند
يقول: ليس في طباعكم منافسة الكرام على المكارم، كما أن التراب ليس في طبعه أن يولد المسك والد وأراد أن يسافر فودعه صديقٌ له فارتجل وقال:
أما الفراق فإنه ما أعهد ... هو توأمي لو أن بيناً يولد
التوأم: الذي ولد معه آخر. وما بمعنى: الذي. أي الذي أعهد.
يقول: إني تعاهدت الفراق، وهو الذي أعهده منذ ولدت، ولو كان البين يولد لكنت أنا وهو توأمين. ومثله قول الآخر:
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب
ولقد علمنا أننا سنطيعه ... لما علمنا أننا لا ينلخد
يقول: لما علمنا أن الموت كتب علينا، وأننا لابد لنا من الفراق! علمنا أننا في طاعته والانقياد له.
وإذا الجياد أبا البهي نقلننا ... عنكم فأردأ ما يكون الأجود
وروى: فأردأ ما ركبت الأجود.
يقول: يا أبا البهي، إذا كانت الخيل سبباً لفراقنا، فأجودها وأسبقها أردؤها؛ لأن أجودها أسرع في إبعادنا، فلذكل صار ذماً لها.(1/172)
من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد
يقول: إن كان الناس يذمون الفراق خاصة، فأنا أذم جميع الدهر، ولا أرى في الدهر شيئاً يستحق الحمد والمدح.
وقال يمدح أبا بكر علي بن صالحٍ الروذباري الكاتب بدمشق:
كفرندي فرند سيفي الجراز ... لذة العين عدةٌ للبراز
الفرند، والإفرند: جوهر السيف، وهو خضرته التي تردد فيه والجراز: القاطع. والبراز: المبازة.
يقول: إن جوهر سيفي مثل مضاء حده، ومثل مضاء عزمي، وهو لذة العين حين تنظر إليه، وعدتي ليوم القتال، والحرب.
تحسب الماء خط في لهب النا ... ر أدق الخطوط في الأحراز
أدق: نصب على المصدر. وأراد: تحسب الماء في سيفي، فحذف للعلم به. والأحراز: جمع حرز، وهو التعويذة. شبه السيف بالنار، وفرنده بالماء.
يقول: إذا نظرت إليه حسبت أن الماء خط في لهيب النار! فهذا عجيب لأنهما لا يجتمعان، وإن ذلك الخط في الدقة أدق من خطوط الأحراز.
كلما رمت لونه منع النا ... ظر موجٌ كأنه منك هازي
أصله هازىء بالهمزة فقلبها ياء فصار مثل هازي.
يقول: إن ما يموج في صفحته، مرة تراه أصفر، وأخرى أخضر، وأخرى أزرق، ويجيء مرة ويذهب أخرى، فإذا نظرته لا يعطيك حقيقة لونه، فكأنه يهزأ منك.
ودقيقٌ قدى الهباء أنيقٌ ... متوالٍ في مستوٍ هزهاز
قوله: ودقيق أراد به: الغبرة التي تعلو متن السيف. وقيل أراد: جوهره الدقيق. والهباء: ما تراه في الشمس إذا دخلت البيت، من كوة. وقدى الهباء: بالفتاح والكسر أي مقداره. والأنيق: المعجب. والهزهاز: كثير الاهتزاز. وقيل هو الذي يجيء ماؤه ويذهب. قوله: في مستوٍ: أي متن مستوٍ. ومتوالٍ: أي غبار متوال.
يقول. عطفاً على ما تقدم: إن الناظر يمنعه غبار دقيق، أو جوهر دقيق كأنه الهباء وهو أنيق متتابع غير منقطع، في متنٍ مستوٍ يجيء ماؤه ويذهب لكثرة اهتزازه وجود صقاله.
ورد الماء فالجوانب قدراً ... شربت والتي تليها جوازي
جوازي: أصله بالهمزة.
يقول: ورد الجوازىء، أي الإبل التي تجتزىء بالرطب عن ماء هذا السيف، فشربت شفرتاه منه قدر الحاجة، واجترىء متنه وصفحته بما فيها من الرونق والصفاء، ولم يشرب الماء كله؛ ليكون أثبت له فلا ينكسر.
حملته حمائل الدهر حتى ... هي محتاجةٌ إلى خراز
حمائل السيف، وحمالته، ونجاده، ومحله: بمعنى.
يقول: كانت حمائله الدهور، فأخلقها وأبلاها فهي محتاجة إلى خراز: يرمم مارث. يعني: أنه قديم عتيق قد أبلى الأعوام، ومرت عليه الدهور؛ والسيف إذا كان أعتق، كان أجود وأقطع.
وهو لا تلحق الدماء غراري ... هـ ولا عرض منتضيه المخازي
غراري السيف: حداه. والمخازي: جمع مخزاة، وهي المذلة. والمنتضى: المخرج له من الغمد.
يقول: لا تلحق الدماء غراريه؛ لسرعة مضائه، فيسبق الدم ويخرج الدم بعده! وقيل: أراد أنه جيد الصقل، ولا يقبل الدم لصقالته، وكما لا يلحق غراريه الدم، كذلك لا يلحق حامله الذي ينتضيه في الحرب؛ لفضله وشجاعته.
يا مزيل الظلام عني، وروضي ... يوم شربي ومعقلي في البراز
المعقل: الحصن. والبراز: الصحراء.
يقول مخاطباً لسيفه: أنت تزيل عني ظلم الخطوب والشدائد، وأنت روضي يوم أشرب: أي نظري إليك، وإلى جوهرك، يقوم لي مقام الروض. وأنت معقلي: ألجأ إليك إذا التجأ غيري إلى الحصون.
وقيل: أراد به أن رونقه وصقاله يضيء له الظلام. وكذلك أراد أنه في خضرته يشبه الروض.
واليماني الذي لو اسطعت كانت ... مقلتي غمده م الإعزاز
اليماني: صفة للسيف، أي أنه منسوب إلى اليمن.
يقول: لو استطعت أن أجعل مقلتي غمدك لفعلت؛ صيانة لك وإعزازاً.
إن برقي إذا برقت فعالي ... وصليلي إذا صللت ارتجازي
الصليل: صوت وقع الحديد بعضه على بعض. والارتجاز: من الرجز.
يقول: إذا لمعت في الحرب بروقك برقت أنا بفعلي وظهرت به كما ظهرت بلمعك، وإذا صللت عند الضراب ارتجزت أنا بشعري، فرجزي يقوم مقام صليك.
ولم أحملك معلماً هكذا إلا ... لضرب الرقاب والأجواز
المعلم: الذي يجعل من نفسه إشارة إلى الحال، وهو نصب على الحال.
يقول: لم أحملك يا سيف في حال ما أنا معلم، وهي حال الحروب، إلا لضرب رقاب الناس، وأوساطهم.(1/173)
ولقطعي بك الحديد عليها ... فكلانا لجنسه اليو غاز
الهاء في عليها للرقاب والأجواز. الذي على الرقاب والأجواز، فتقطع أنت الحديد، وأقطع أنا الأبدان، فكل واحد منا يغزو جنسه. وموضع عليها نصب على الحال: أي لقطعي بك الحديد كائناً عليها، والهاء في جنسه عائد إلى الضمير في كلانا.
سله الركض بعد وهنٍ بنجدٍ ... فتصدى للغيث أهل الحجاز
الركض: ضرب الراكب الدابة حثاً لها على السير. قيل: أراد به أهل الركض. وقيل: بل الركض نفسه. والوهن: قطعة من الليل.
يقول: سل هذا السيف أهل الركض بعد مضي صدرٍ من الليل.
وعلى الثاني: إن شدة الركض سلة: أي اندلق من الغمد لشدة الركض، فظهر عند السل لمعانه، فرآه أهل الحجاز فظنوا أنه برق، وتوقعوا الغيث. والتصدي: التطاول إليه عند لقائه.
حكى المتنبي قال: إنما خصصتهم؛ لأن فيهم طمعاً ليس لغيرهم! قال أبو الفتح: ولم أسمع هذا منه فإن لم يكن الأمر كذلك، فالذي أداه إلى ذلك هو القافية.
وقيل: إنما خصصهم لأن الغيث يقل فيهم، والقحط يكثر في أرضهم، فتصديهم له أكثر.
وتمنيت مثله فكأني ... طالبٌ لابن صالحٍ من يوازي
يقول: لا مثل لهذا السيف في السيوف، كما أن ابن صالح لا مثل له في الأنام!
ليس كل السراة بالروذبا ... ري ولا كل ما يطير بباز
السراة: جمع سرى أي شريف.
يقول: ليس كل رئيس له سؤدد، كما أن ليس كل طائر بازٍ، وإن شاركه في الطيران.
فارسيٌّ له من المجد تاجٌ ... كان من جوهرٍ على أبرواز
يقول: إنه من أهل بيت ملك قديم وشرف عظيم في الفرس.
وقيل: معناه إن التاج لأبرواز كان من جوهر، وتاجه من المجد والسؤدد، فهو أفضل منه.
نفسه فوق كل أصل شريفٍ ... ولواني له إلى الشمس عاز
يقول: هو أفضل من أصله الذي انتسب إليه، وإن كان ذلك الأصل شريفاً، ولو نسبته إلى الشمس لكان أعلا محلاً منها.
شغلت قلبه حسان المعالي ... عن حسان الوجوه والأعجاز
يقول: إن المعالي الحسان شغلت قلبه باكتسابها عن طلب النساء الحسان الوجوه والأعجاز.
وكأن الفريد والدر واليا ... قوت من لفظه، وسام الركاز
نصب سام لأنه معطوف على ما تقدم. والسام: عروق الذهب. والركاز: معادن سائر الكنوز. والفريد: الدر الكبير الذي لا يكون معه في الصدفة غيره.
يقول: كأن هذه الأشياء حصلت من لفظ الممدوح؛ لحسنه ورونقه وعذوبته.
تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز
يقول: إن أعداءه يقضمون على الجمر والحديد حنقاً وغيظاً دون بلوغ مرتبته! فكأنهم يقضمون سكر الأهواز؛ لأن الإنسان يحب الإكثار من ذلك.
بلغته البلاغة الجهد بالعف ... وونال الإسهاب بالإيجاز
يقول: إن البلاغة قد بلغته بالسهولة اجتهاد غيره، أي أن عفوه يزيد على اجتهاد غيره، وأدرك بالإيجاز إسهاب غيره: وهو الإطالة.
حامل الحرب والديات عن القو ... م وثقل الديون والأعواز
أي: وثقل الأعواز. وروى الإعواز، وهو المصدر، من أعوزني الشيء: إذا لم تجده. وروى: الأعواز: وهو جمع العوز، وهو الاسم.
يقول: إذا خاف الناس حرباًُ دفعها عنهم، وإن أثقلتهم ديات وديون أداها من ماله، وإن قل مالهم أغناهم.
كيف لا يشتكي وكيف تشكوا؟ ... به لا بمن شكاها المرازي!
المرازي: المصائب، وأصله الهمز.
يقول: إن الناس يشكون إليه ما لزمهم من الأثقال والمؤن فيحملها عنهم، وهم يشكون المصائب والأثقال! مع أنه يحملها عنهم بالمرازي، فهي واقعة به في الحقيقة لا بهم، فكيف لا يشكوها؟ وهم يشكون! وهو أولى بأن يشكو.
أيها الواسع الفناء وما في ... هـ مبيتٌ لمالك المجتاز
الكاف في مالك للخطاب. وأضاف المال إلى الناس.
يقول: إن فناءك واسع ومع ذلك لا مبيت فيه لمالك؛ لأنك تفرقه في الوقت، فكأنه ليس له مبيت عندك.
بك أضحى شبا الأسنة عندي ... كشبا أسوق الجراد النوازي
شبا كل شيء: حده. والأسوق: جمع ساق، والنوازي: جمع النازية، من نزا ينزو، إذا وثب.
يقول: بك تعلمت الشجاعة، حتى حد الأسنة ونوائب الدهر لا تؤثر في! فكأنها أسوق الجراد النازية؛ في أنها لا تأثير لها في.
وانثنى عني الرديني حتى ... دار دور الحروف في هواز(1/174)
يقول: إن الرمح إذا طعنت به انعطف عني مثل حروف هوز! وخص هذه الحروف؛ لأنها كلها: الهاء والواو والزاي. مستديرة منقطعة، والألف ليست فيها ولكنها زائدة. كما قالوا: أبو جاد وهواز وكلمون. وهي أبجد وهوز وكلمن.
وقيل أراد بذكر هواز جميع حروف المعجم، ومعناه أن الرماح لا تؤثر في ولا تخدشني كما لا تخدش هذه الحروف الأقلام ولا تؤثر فيها.
وبآبائك الكرام التأسي ... والتسلي عمن مضى والتعازي
يقول: إن آباءك الماضين الكرام، صاروا لنا أسوة عن كل هالكةٍ، فنحن نتسلى بهم عن مصائبنا؛ إذ لو بقي أحد لبقي آباؤك.
تركوا الأرض بعد ما ذللوها ... ومشت تحتهم بلا مهماز
المهماز: الحديدة يجعلها الفارس في نعله، يهمز بها الدابة.
يقول: إنهم مضوا بعد ما ملكوا الأرض، وذللوها وانقادت لهم أي أهلها، وأطاعوهم طوعاً، لحبهم إياهم من غير كراهة ولا إكراه.
وأطاعتهم الجيوش وهيبوا ... فكلام الورى لهم كالنحاز
النحاز: سعال يأخذ الإبل والغنم.
يقول: انقادت لهم العساكر وهابتهم! فكل من أراد أن يتكلم بين أيديهم تنحنح وسعل؛ كما يفعله الحصير إذا عيي بالكلام.
وقيل: أراد كأن لم يسمع من الناس إلا همساً شبيهاً بالنحاز؛ لهيبتهم.
وقيل: أراد أنهم لم يبالوا بكلام أحد لهيبتهم ولانقياد الناس إليهم، ولم يفكروا، كما لا يفكر الإنسان في سعالٍ يأخذ الغنم والإبل.
وهجانٍ على هجانٍ تأتي ... ك عديد الحبوب في الأقواز
الهجان الأول: الكرام من الناس. والثاني: الكرام من الإبل. تأتيك: أي تقصدك. وروى تأتتك: أي قصدتك. والأقواز: جمع القوز، وهي القطعة المستديرة من الرمل. وعديد: نصب على الحال من الضمير في تأتيك، والإضافة في تقدير الانفصال.
يقول: رب قوم كرام قصدوك على إبل كرام في عدد حبات الرمل؛ لأنك كريم والكريم إذا مسه الضر، ماله إلا الكريم.
صفها السير في العراء فكانت ... فوق مثل الملاء مثل الطراز
العراء: الأرض الخالية. والهاء في صفها للإبل. شبه استواء الإبل في العراء بطراز على ملاءة! وذلك أن الإبل الكرام لا تتقدم إحداها على الأخرى بل تصف على استواءٍ واحد في المكان الواسع.
وحكى في اللحوم فعلك في الوف ... ر فأودى بالعنتريس الكناز
حكى: أي السير حكى في اللحوم فعلك. في الوفر: وهو المال الكثير. والعنتريس: الناقة القوية. والكناز: المكتنزة اللحم.
يقول: إن السير أذهب لحوم الإبل وأفناها، فأشبه فعله بها فعلك في مالك الذي تفرقه. وأودى: فاعله السير أي أهلكه.
كلما جادت الظنون بوعدٍ ... عنك جادت يداك بالإنجاز
يقول: كلما ظننا في أنفسنا عنك بوعد، وقدرنا أنك تعطينا بوعد، وعدنا ظنوننا كأن ذلك على قدرنا، فتنجز ما قدرنا وتحقق ما أملنا.
ملكٌ منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز
يقول: إنه عالم بالشعر جيد الفكر فيه، فمنشد الشعر كأنه وضع ثوباً في يدي بزاز؛ لأن البزار يكون عارفاً بالثوب.
ولنا القول وهو أدرى بفحوا ... هـ وأهدى فيه إلى الإعجاز
فحوى الكلام: معانيه، ومعاريضه.
يقول: إنه يقول الشعر، وهو أعلم بدقائق معانيه، ويقدر أن يقول ما يعجز عنه كل شاعرٍ فصيح.
ومن الناس من تجوز عليه ... شعراءٌ كأنها الخازباز
الخازباز: صوت الذباب، ونفس الذباب.
يقول: إنه عالم بجيد الشعر ورديئه وغيره يجوز عليه شعر شعراء كان شعرهم مثل طنين الذباب الذي لا معنى له.
ويرى أنه البصير بهذا ... وهو في العمى ضائع العكاز
يقول: إن من يجوز عليه مثل ذلك، هو يظن أنه عالم بالشعر، وهو كالأعمى بين العميان، إذا ضاع عكازه وعصاته التي يتوكأ عليها! قيل: إنه أراد بهذا رجلاً بعينه ضدٌّ للممدوح.
كل شعرٍ نظير قابله منك ... وعقل المجيز مثل المجاز
الكاف في منك للشاعر. والمجيز: المعطي، ويجوز أن يكون بمعنى المجوز القائل.
يقول: أيها الشاعر إن كل شعر يشبه من يقبله منك، فالرديء يجوز على الجاهل به، والجيد يعرفه العالم به، وعقل الممدوح الذي يعطي الجائزة على المدح ويقبل المديح ويجيزه، مثل عقل المادح المعطي، والذي قبله منه. فالأحمق يجيز الأحمق ويقبل منه. والعاقل يجيز العالم، وهو يقبل منه لأنه يرضى بشعره.(1/175)
وقد قيل: نظير قائله ومعناه. موقع كل شعر منك أيها الممدوح كموقع قائله، فإن كان فاضلاً مقدماً فشعره مثله، وإن كان رذلاً فشعره كذلك، وكذلك عقل من يجيز عليه أو يقبله مثل عقل الشاعر الذي يقبل الجائزة عليه.
وقال أيضاً: يهجو علوياً عباسياً:
أماتكم من قبل موتكم الجهل ... وجركم من خفةٍ بكم النمل
يقول: إنكم من غلبة الجهل عليكم أموات وإن كنتم أحياء! ومن خفة أقداركم ومهانتكم يقدر أن يجركم النمل إلى حيث شاء.
وليد أبي الطيب الكلب مالكم ... فطنتم إلى الدعوى وما لكم عقل
وليد: تصغير ولد، ونصب على أنه منادى مضاف.
يقول: ليس لكم عقل، فكيف علمتم لؤم أصلكم، فرغبتم عنه وادعيتم إلى غير أبيكم!
ولو ضربتكم منجنيقي وأصلكم ... قوي لهدتكم فكيف ولا أصل؟!
المنجنيق: يذكر ويؤنث وقد أنث. والهد: الكسر.
يقول: لو كان لكم أصل قوي وتعرضت له لأفسدته وهديته، فكيف تثبتون لي وليس لكم أصل؟!
ولو كنتم ممن يدبر أمره ... لما كنتم نسل الذي ماله نسل
يقول: لو كان الأمر فيكم إلى أبيكم لم يرض أن تكونوا نسله؛ لأن من يكون نسله مثلكم فلا نسل له! غير أن الإنسان لا اختيار له في ولده.
وقيل: معناه لو كنتم ممن يحسن التدبير لما انتسبتم إلى من لا عقب له، بل كنتم تنتسبون إلى من كان له عقب.
وقال يمدح الحسين بن علي الهمذاني:
لقد حازني وجدٌ بمن حازه بعد ... فياليتني بعدٌ ويا ليته وجد
حازني: أي جمعني.
يقول: قد ملكني الوجد والحزن، بمن استولى عليه البعد، فيا ليتني البعد؛ لأكون معه، ويا ليته الوجد ليكون معي أبداً.
أسر بتجديد الهوى ذكر ما مضى ... وإن كان لا يبقى له الحجر الصلد
ذكر نصب بتجديد الهوى وهو مصدر جدد، والصلد: الصلب اليابس.
يقول: أنا أسر إذا جدد لي الشوق ذكر الشدائد التي سرت على في الهوى، وإن كان مما لا يطيق الحجر الصلد احتماله.
نسب ذكر ما مضى إلى تجديد الهوى؛ إذ لولا الهوى. ما تجدد.
سهادٌ أتانا منك في العين عندنا ... رقادٌ، وقلامٌ رعى سربكم ورد
القلام: نبت خبيث الرائحة. والسرب: الإبل.
يقول: إني أستلذ الألم فيما ينالني من أجلك! وأستحسن القبيح في حبك، فالسهر في عيني ألذ من النوم، والقلام إذا رعت إبلكم أطيب عندي من الورد! ومثله:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
ممثلةٌ حتى كأن لم تفارقي ... وحتى كأن اليأس من وصلك الوعد
يقول: أنت مصورة في قلبي، حتى كأنك لم تفارقيني، وإن بعدت عني حتى كأن يأسي منك وعدٌ بلقائك.
وحتى تكادي تمسحين مدامعي ... ويعبق في ثوبي من ريحك الند
يقول: من قوة تمثلك في قلبي، أظن أنك عندي تمسحين مدامعي وتعانقيني فأجد في ثوبي رائحة الند من ريح ثوبك.
إذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... ومن عهدها ألا يدوم لها عهد
يقول: إن الحسناء تفي بعهدها، وعهده ألا يكون لها عهد! أي لا يكون لها لقاء، فغدرها إذاً يكون وفاء بعهدها! وقيل: معناه إن الحسناء إذا غدرت، وفت هي بعهدها؛ لأنها مخالفة لسائر النساء.
وقيل: أراد أن المرأة إنما عهدت على الغدر وبه جرت عادتها، فقد فعلت هي إذا غدرت بما جرت به عادتها، فإذا أوفت بعهدها، غدرت ووفت بعهدها؛ لأن عهدها ألا يدوم لها عهد ولا ود.
ومثله لأبي تمام:
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانيةٍ هند
وإن عشقت كانت أشد صبابةً ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصد
القصد: الاقتصاد.
يقول: إن المرأة إذا عشقت، أو أبغضت أفرطت في الحالين فعشقها بمن يعشقها أشد، وبغضها إذا أبغضت أشد، لا اقتصاد لها في ذلك. وقوله: فاذهب إشارة إلى أنه ليس يجب أن يعتمد عليهن في حال من الأحوال.
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضاً ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
وهذا تأكيد لما مضى من نفي الاقتصاد أيضاً.
كذلك أخلاق النساء وربما ... يضل بها الهادي ويخفى بها الرشد
الهاء في بها وبها للنساء.
يقول: إن أخلاق النساء على ما وصفته لك، ولكن العاقل ربما ضل عقله بحبهن، وخفي عليه رشده، فيغلب هواهن رأيه.
ولكن حباً خامر القلب في الصبا ... يزيد على مر الزمان ويشتد(1/176)
يقول: إن الحب إذا خالط القلب في الصبا، لا يزال يزيد على مرور الأيام ويشتد. ومثله قول الآخر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي فارغاً فتمكنا
سقى ابن عليٍّ كل مزنٍ سقتكم ... مكافأةً يغدو إليها كما تغدو
التأنيث لكل مزن؛ لأنه أراد جماعة المزن، ويغدو: فعل الممدوح.
يقول: دعاء للسحاب التي سقت ديار أحبائه، بأن يسقي الممدوح التي سقتكم أيها الأحباب؛ حتى يكون مجازاة السحاب على سقياها فيغدو هو إلى السحاب، كما يغدو السحاب إلى ديارهم.
لتروى كما تروى بلاداً سكنتها ... وينبت فيها فوقك الفخر والمجد
سكنتها، وفوقك: خطاب للمحبوبة.
المعنى: لتروي السحاب من صوب كرمه، كما أروت بلاداً سكنتها أيتها المحبوبة، وينبت السحاب فوقك الفخر والمجد، كما ينبت في ديار المحبوبة النور والعشب.
يعني أن سقياه للسحاب ليس مما ينبت العشب، وإنما سقيا كرم ينبت الفخر والمجد.
بمن تشخص الأبصار يوم ركوبه ... ويخرق من زحمٍ، على الرجل البرد
الباء: متعلقة بقوله: لتروى أي لتروى بمن تشخص الأبصار. وقيل: بالفخر. أي يثبت الفخر بمن تشخص الأبصار.
يقول: إذا ركب تتحير وتشخص إليه أبصار الناس، ويزدحم عليه الناس ينظرون إليه لحسنه، حتى يخرق بعضهم ثياب بعض من كثرة الازدحام!
وتلقى، وما تدري البنان سلاحها ... لكثرة إيماءٍ إليه إذا يبدو
البنان: فاعل تلقى وتدرى، والمفعول السلاح.
يقول: إذا بدا للناس بهرهم حسنه فيشير بعضهم إلى بعض بأصابعهم وقد سقط سلاحه من يده، وهو لا يعلم لحيرته. ومثله للمعري في النعاس:
حيث اليسار عن العنان ضعيفةٌ ... فالسوط تسقط من يمين الفارس
ضروبٌ لهام الضاربي الهام في الوغى ... خفيفٌ إذا ما أثقل الفرس اللبد
يقول: إنه يضرب في الحرب الشجعان الذين يضربون الرءوس، وإنه فارس خفيف على ظهر فرسه، إذا أثقله لبده. الذي تحت السرج.
بصيرٌ بأخذ الحمد من كل موضعٍ ... ولو خبأته بين أنيابها الأسد
يقول: إنه عالم بطريق المجد، وكيفية أخذه، فهو يتحمل فيه الموت حتى لو كان في أفواه الأسد لاستخرجه!
بتأميله يغنى الفتى قبل نيله ... وبالذعر من قبل المهند ينقد
التأميل: الأمل، وينقد: ينقطع.
يقول: كل من أمله حصل له الغنى بمجرد أمله، قبل أن يصل إليه نائله! ومن قصده محارباً مات من خوفه قبل أن يقتله بسيفه!
وسيفي لأنت السيف لا ما تسله ... لضربٍ ومما السيف منه لك الغمد
وسيفي: قسم. ولأنت السيف: جوابه.
يقول: وحق سيفي، إنك السيف على الحقيقة. لا ما تسله: أي الذي تسله للضرب؛ لأنك أمضى منه، ولأنه لا يعمل إلا إذا ضربت به؛ فالقطع في الحقيقة لك لا له! وقوله: ومما السيف أي أن غمدك من الحديد الذي يطبع منه السيف. وهو الدروع والجواشن. وإذا لبستها كانت كالغمد لك. أي أت أفضل من السيف جوهراً، وغمدك أفضل من غمده؛ لأن غمدك من الحديد الذي يعمل منه السيف.
وقيل معناه: إن من جنس الحديد غمدك؛ لأنك تدفع ضرباً بالسيف عن نفسك؛ فقد صار الحديد غمداً يقيك كما يقي السيف غمده.
ورمحي، لأنت الرمح لا ما تبله ... نجيعاً، ولولا القدح لم يثقب الزند
يقول: وحق رمحي إنك أنت الرمح على الحقيقة، لا رمحك الذي تبله بالدم؛ لأن الرمح إنما يعمل إذا طعنت به، كما أن الزند لو لم يقدح لم تخرج منه النار.
من القاسمين الشكر بيني وبينهم ... لأنهم يسدى إليهم بأن يسدوا
يقول: هو من قوم قسموا الشكر بيني وبينهم، فأنا أشكرهم على إنعامهم، وهم يشكرونني على قبولي منهم برهم. وهذا معنى قوله: لأنهم يسدى إليهم بأن يسدوا أي أنهم يعدون نعمهم على غيرهم نعمة على أنفسهم، فيشكرون من قبل نعمهم ويثنون عليهم وهذا من قول التهامي:
ودعا لسائله وأعلن شكره ... حتى حسبنا السائل المسئولا
فشكري لهم شكران: شكرٌ على الندى ... وشكرٌ على الشكر الذي وهبوا بعد
يقول: إني أشكرهم من وجهين. أحدهما على نعمهم علي، والثاني على شكرهم لي في قبول نعمهم، وهذه نعمة مجددة.
وهذا البيت من بدائعه التي لم يسبق إليه.
صيامٌ بأبواب القباب جيادهم ... وأشخاصها في قلب خائفهم تعدوا
وروى: قيام.(1/177)
يقول: إن خيلهم قيام على أبواب بيوتهم، وأعداءهم يخافون طلوعها عليهم فكأنها تعدوا في قلوبهم من خوفهم.
وأنفسهم مبذولةٌ لوفودهم ... وأموالهم في دار من لم يفد وفد
يقول: من قصدهم بذلوا له أنفسهم، ومن لم يقصدهم أنفذوا إليه صلاتهم وأنعموا عليه بأموالهم، فكأن أموالهم وفد.
ومثله لأبي تمام قوله:
فإن لم يفد يوماً إليهن طالبٌ ... وفدن إلى كل امرىءٍ غير وافد
كأن عطيات الحسين عساكرٌ ... ففيها العبدي والمطهمة الجرد
المطهمة: الخيل التامة الخلق، الكاملة الحسن.
يقول: إنه يهب العبيد والخيل والسلاح، فكأن ما يهبه عسكراً لكثرته.
أرى القمر ابن الشمس قد لبس العلا ... رويدك حتى يلبس الشعر الخد
شبهه بالقمر، وآباءه بالشمس؛ لشرفهما وعلوهما، إشارة إلى أنه اكتسب شرفه من أبيه كما يكتسب القمر نوره من الشمس، ثم قال: رويدك أي أمهل حتى تبلغ مبلغ الرجال. وهذا قلب ما ذكره الحكمي في قوله:
وترى السادات مائلةً ... لسليل الشمس من قمره
وغال فضول الدرع من جنباتها ... على بدنٍ قد القناة له قد
غال الشيء: إذا أهلكه. والهاء في جنباتها للدروع.
يقول: إن الممدوح أذهب بالدروع وفضولها أي استوفاها بقده، فكأن طوله قد القناة؛ لاعتداله.
وباشر أبكار المكارم أمرداً ... وكان كذا آباؤه وهم مرد
أبكار المكارم: هي المبتدئات منها التي سبق الممدوح إليها.
يعني: أنه سئل وهو أمرد، وكذلك كان آباؤه، فهو يجري على عادتهم أيضاً وسننهم.
مدحت أباه قبله فشفى يدي ... من العدم من تشفي به الأعين الرمد
يقول: مدحت أباه قبل مدحه، فشفاني من الفقر وأغناني، من إذا نظرت إليه الأعين الرمد، شفاها! ومثله لابن الرومي:
يا أرمد العين قم قبالته ... فداو باللحظ نحوه رمدك
حباني بأثمان السوابق دونها ... مخافة سيري، إنها للنوى جند
مخافة: نصب لأنه مفعول له.
يقول: أعطاني أبوك الدراهم والدنانير دون الخيل؛ خوفاً من أن أخرج عليها من حضرته؛ لأن الخيل معينةٌ على البعد، وجند له..
وشهوة عودٍ، إن جود يمينه ... ثناءٌ ثناءٌ، والجواد بها فرد
شهوة: نصب عطفاً على مخافة، والهاء في بها للأثمان. والألف واللام في الجواد بمعنى الذي. أي الذي يجود.
يقول: أعطاني أثمانها دونها مخافة سيري بها، وشهوةً منه أن يعود إلى العطاء؛ لأن جوده لا يقتصر على مرة واحدة، بل هو مثنى مثنى، أي إن عادته أن يجود مرتين مرتين. والذي يجود به فرد: أي الممدوح فرد لا ثاني له في شرفه، كما لا نظير له في زمانه وأقرانه.
فلا زلت ألقى الحاسدين بمثلها ... وفي يدهم غيظٌ وفي يدي الرفد
بمثلها: أي بمثل العطايا. وهي الأثمان.
يقول: دام لي عطاؤه ورفده حتى أغيظ بهما حسادي، فيكون معهم غيظ ومعي عطاء! وهذا دعاء لنفسه وعلى الحاسدين له.
وعندي قباطي الهمام وماله ... وعندهم مما ظفرت به الجحد
القباطي: جمع القبيطة، وهي ثياب مصر. والقبيطة منسوب إلى القباط وهم نصارى. كالذين يسكنون ريف مصر ورساتيقها، بمنزلة سواد العرب.
يقول عطفاً على دعائه الأول: لا زلت أبداً آخذ خلعه وأمواله وحسادي يجحدون ما ظفرت به لغيظهم فيقولون: لم يعطه شيئاً! ليطيبوا بذلك أنفسهم. وقيل: أراد أنهم يجحدون نعمه ويقولون: لم يعطه شيئاً، حتى يكون جحودهم سبباً لانقطاع صلاته عنهم.
يرومون شأوى في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيما خلا المنطق، القرد
يقول: إن الحساد يحاولون بلوغ غايتي في الفصاحة والبيان، وهم قرود! والقرد يحاكي الإنسان في أفعاله، إلا في النطق فكيف يقدرون على ذلك؟!
فهم في جموعٍ لا يراها ابن دأيةٍ ... وهم في ضجيجٍ لا يحس به الخلد
ابن دأية: الغراب. ويوصف بحدة البصر والخلد: الفأرة العمياء، وتوصف بحدة السمع، وصدق الحس.
يقول: إنهم من قلتهم وخستهم لا يراهم الغراب مع حدة بصره، وإن كانوا كثيرين في العدد ولهم أصوات وضجيج، ومع ذلك فالخلد لا يحس بها مع صحة السمع.
ومني استفاد الناس كل غريبةٍ ... فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمد
كل غريبة: أي كل لفظ غريب، أو معانٍ غريبة، أو خصلة.
وفي جازوا قولان:(1/178)
أحدهما: ما قاله ابن جنى. أنه من قولهم: هذه الدراهم جائزة. أي تجوز على خبث.
كأنه يقول: إن الناس استفادوا مني الأخلاق الغريبة والمعاني البديعة. فتكلموا ما ليس في طباعهم فجازوا ونفقوا بترك الناس ذمهم، وإن لم يحمدوهم.
والثاني: أن جازوا أمر من المجازاة. وعدل عن معاتبه إلى الخطاب فيقول: أيها الناس إذا استفدتم مني هذه المعاني فجازوني بترك الذم إن لم تحمدوني.
وجدت علياً وابنه خير قومه ... وهم خير قومٍ واستوى الحر والعبد
يقول: وجدت علياً وابنه أفضل قومه، وقومه خير الناس. من بعدهم متساوي في الفضل، لا فضل في ذلك بين الحر والعبد.
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
روى: في عنق الحسناء. أي عنق المرأة الحسناء وروي: وفي العنق الحسناء؛ على أن يكون الحسناء صفة للعنق. والكناية في منهما للممدوح وأبيه، وفي مكانه للشعر.
يقول: أصبح شعري فيهما حين مدحتهما به في مكانه. أي في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، فزاد حسنه، كما أن العقد إذا كان في عنق الحسناء، أو في العنق الموصوف بالحسن كان أزيد حسناً؛ لما كان ذلك مكانه.
قصائد ابن طغج
وكثرت على أبي الطيب مراسلة الأمير أبي محمدٍ الحسن بن عبيد الله ابن طغج من الرملة فسار إليه فلما حل به حمل إليه وأكرمه.
وحدث أبو عمر عبد العزيز بن الحسن السلمي بحضرة أبي الطيب قال: حدثني محمد بن القاسم المعروف بالصوفي قال: أرسلني الأمير أبو محمدٍ إلى أبي الطيب ومعي مركوبٌ يركبه فصعدت إليه، إلى دارٍ كان نزلها فسلمت عليه وعرفته رسالة الأمير، وأنه منتظرٌ له، فامتنع علي وقال: أعلم أنه يطلب شعراً، وما قلت شيئاً. فقلت له: ما تفترق! فقال لي: فاقعد إذاً، ثم دخل إلى بيت في الحجرة ورد الباب عليه فلبث فيه مقدار كتب القصيدة ثم خرج إلي وهي في يده مكتوبةٌ لم تجف بعد. فقلت له: أنشدنيها فامتنع وقال: الساعة تسمعها. ثم ركب وسرنا فدخل على الأمير أبي محمد وعيني الأمير إلى الباب ممدودة منتظراً إلى وروده فسأل عن خبر الإبطاء فأخبرته الخبر فسلم عليه ورفعه أرفع مجلسٍ.
وأنشد أبو الطيب:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم
وقت نصب على الظرف. واللوائم جمع اللائمة. والمعالم جمع، وهي أثر العلامة. وقوله: أنا لائمي كالقسم، أو كالدعاء على نفسه بأن يكون من جملة لوامه، لأنه أبغض الناس عنده.
فيقول: لمت نفسي إن كنت وقت لامتني اللوائم، ما لحقتني عند وقوفي على آثار المحبوبة يعني: جعلني الله من لوامه إن كنت علمت ذلك.
وقيل: معناه الخبر، أي لو كنت علمت ما أصابني عند ذلك، لكنت أنا ألوم نفسي على ما ظهر من الجزع ولكني تحيرت حتى ذهب عقلي.
ولكنني مما ذهلت متيمٌ ... كسالٍ وقلبي بائحٌ مثل كاتم
ذهلت: أي غفلت والمتيم: الذي عبده الحب.
يقول: ولكنني تحيرت فبقيت ذاهل اللب عن الشكوى فأنا متيم ولكني كأني سالٍ صابر؛ لما لحقني من التحير وذهاب العقل، وكأن قلبي يحب ويخفق فيبوح بما كنت أكتمه من الشوق! فهو بائح بما يجده وكأنه كاتم؛ لأني لا أظهر الشكوى بلسان.
وقيل: إن قلبي بائح من حيث أنه يتوجع فتبكي العين، فيظهر ما في قلبي بالدمع واللسان، فسكت عن إظهاره بالشكوى.
وقفنا كأنا كل وجد قلوبنا ... تمكن من أذوادنا في القوائم
الأذواد الإبل، ما بين الثلاثة إلى العشرة.
يقول: لما وقفنا بتلك المعالم أطلنا الوقوف، ولم تبرح إبلنا، فكأن ما في قلوبنا من الوجد في قوائم الإبل فهي لا تبرح!
ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم
المنسم: طرف خف البعير. والهاء في ترابها للمعالم.
يقول: وطئنا تراب المعالم بأخفاف إبلنا، فما زلت أشفي غليلي بتقبيل مناسم الإبل.
ديار اللواتي دارهن عزيزةٌ ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
روى: ديار بالنصب بدلاً من قوله: ترابها. وروى: بالرفع على أنه خبر ابتداء محذوف: أي هي ديار.
يقول: هذه الديار ديار نساء عزيزات منيعات، لا يقدر أحد على الوصول إليهن، وإنما يحفظن بالرماح لا بالتمائم؛ إشارة إلى حسنهن وإلى صغرهن؛ لأن التمائم تعلق على من كان كذلك.(1/179)
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم
الهاء في مثله للوشي.
يقول: إنهن إذا تثنين فيؤثر ما عليهن من الوشي في أبدانهن، لنعومتها! فينقش عليها آثاراً مثل آثار الوشي، كما ترى نقش الخاتم في الشمع إذا وضع عليه.
ويبسمن عن درٍّ تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
المباسم: جمع مبسم وهو الثغر، ووشحت: أي قلدت. والهاء في مثله للدر.
يقول: إنهن إذا ضحكن أبدين ثغوراً مثل الدر الذي في قلائدهن فكأن الذي توشحن بها هي أسنانهن التي كالدر.
فما لي وللدنيا: طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم
روى: نجومها أي يكون منصوباً بالمصدر الذي هو طلابي. وروى: بالرفع على أن يكون خبر طلابي. وأراد بالنجوم: معالي الأمور، والأراقم: الحيات.
يقول: ما لي أطلب من الدنيا معالي الأمور! فأتحمل المشاق والأخطار وأقتحم المهالك. وهو من قول العتابي:
فإن جسيمات الأمور منوطةٌ ... بمستودعاتٍ في بطون الأساود
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
يقول: من الحلم، استعمال الجهل في بعض الأوقات وذلك إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم، أي إذا كان حلمك داعياً إلى ظلمك وإقدام السفيه عليك، فالجهل ها هنا هو الحلم. وهذا من قول أبي الأسود:
فإنك لم تعطف عن الحق جاهلاً ... بمثل خصيم عالمٍ يتجاهل
وأن ترد الماء الذي شطره دمٌ ... فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم
يقول: من الحلم أن ترد الماء الذي قتل عليه الوارد، حتى امتزج بدم القتلى وتسقي إبلك إذا لم يمكن الضعيف أن يسقيها، وأن تزاحم الناس.
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
يقول: من عرف أحوال الأنام، وطباع الأيام، كما عرفت وجربت من لؤمهم لم يترك واحداً من أحيائهم. وروى رمحه من دمائهم!
فليس بمرحومٍ إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
قوله: فليس بمرحوم، إشارة إلى من في البيت المتقدم، وكذلك الهاء في به.
يقول: إنما قلت ذلك لأنهم إذا ظفروا به لا يرحمونه، فكذلك هو إذا قتلهم لا يأثم به.
إذا صلت لم أترك مصالاً لفاتكٍ ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم
يقول: إذا صلت في الحرب لم أترك فيه غاية لشجاع، وإذا قلت شعراً لم يقدر أحد أن يأتي بمثله.
وإلا فخانتني القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
يقول: إن لم أكن كما قلت ووصفت من الشجاعة والعلم، خانتني الأشعار وهذا دعاء منه على نفسه وكذلك صرفني عن هذا الممدوح ضعف العزائم إن لم أكن كذلك.
عن المقتنى بذل التلاد تلاده ... ومجتنب البخل اجتناب المحارم
يقول: إن أكن كما وصفت وعاقني ضعف عزائمي عن الذي يكتسب المال مكان المال، فيقتني بذلك الثناء الحسن والذكر الجميل ويجتنب البخل كما يجتنب المحارم.
تمنى أعاديه محل عفاته ... وتحسد كفيه ثقال الغمائم
تمنى: أي تتمنى، فحذف التاء لدلاتها.
يقول: إن أعداءه يتمنون أن يكون لهم من هذا الممدوح محل قصاده؛ لأن قصاده، ينفذ حكمهم في ماله، ويملكون ويغيرون عليه! ومع ذلك لهم محل رفيع عند الممدوح! وغاية ما يتمنى العدو من عدوه، أن يحصل في عدوه مثل ذلك. وتحسده أيضاً الغمائم المطيرة، لأنه زاد عليها في الجود والعطاء.
ولا يتلقى الحرب إلا بمهجةٍ ... معظمةٍ مذخورةٍ للعظائم
معظمة: أي رفيعة مصونة عن الدنايا، وهي معدة لدفع الأمور العظائم.
يقول: إنه لا يباشر الحرب والشدائد الجسام إلا بنفسه.
وذي لجبٍ، لا ذو الجناح أمامه ... بناجٍ ولا الوحش المثار بسالم
اللجب: الصوت في الحرب. وتقديره: وجيش ذي لجب.
يقول: إنه لا يتلقى الحرب إلا بمهجة نفيسة، وجيش له أصوات كثيرة، فإذا عبر عليهم طير صادوه، وإن ثار وحش قصدوه. فلا يسلم منه وحش ولا طير.
تمر عليه الشمس وهي ضعيفةٌ ... تطالعه من بين ريش القشاعم
القشاعم: جمع قشعم، وهو النسر، وقيل: هو طائر يشبهه، والهاء في عليه وتطالعه تعود إلى ذي لجب.
يقول: إن النسور كانت تطير فوقه والغبار ساطع حوله، حتى حال بينه وبين الشمس، وهي تمر عليه ضعيفة، فيظهر الضوء من بين ريش النسور.(1/180)
إذا ضوءها لاقى من الطير فرجةً ... تدور فوق البيض مثل الدراهم
يقول: إن الشمس إذا صادف ضوءها فرجة من أجنحة الطير، وقع على البيض مدوراً مثل الدراهم.
ويخفى عليك البرق والرعد فوقه ... من اللمع في حافاته والهماهم
الهماهم: جمع همهمة، وهي صوتٌ لا يفهم.
يقول: يخفى عليك البرق من لمعان السلاح، والرعد بصوت الجيش.
أرى دون ما بين الفرات وبرقةٍ ... ضراباً يمشي الخيل فوق الجماجم
برقة: مدينة قريبة من الاسكندرية إلى المغرب.
يقول: أرى بين هذين الموضعين ضروباً يكثر فيها القتلى حتى تمشي الخيل عليها.
وطعن غطاريفٍ كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل المعاصم
الغطاريف: السادة. والمعاصم: موضع الأسورة من اليد.
يقول: وأرى في هذه المواضع طعن قوم سادة، تعودوا حمل الرماح من صغرهم، حتى كأن أيديهم وصلت بالرماح قبل أن توصل بمعاصمهم.
حمته على الأعداء من كل جانبٍ ... سيوف بني طغجٍ بن جف القماقم
القمقام: السيد، والقماقم: صفة لبني طغج.
يقول: إن قومه يحمون جيوشه بسيوفهم. والهاء في حمته للجيش وهذا من قوله:
بالجيش تمتنع السادات كلهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع
هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منه كرهم في المكارم
يقول: هم يحسنون، أي يعرفون، أو يأتون ما يستحسن من الكر في وسط الحرب، وكذلك يفعلون في المكارم، وذلك أحسن من كرهم في الحرب والطعن والضرب.
وهم يحسنون العفو عن كل مذنبٍ ... ويحتملون الغرم عن كل غارم
يعني بقوله: يحسنون أحد المعنيين، وأراد أنهم يعفون عن كل مجرم، ويحملون على أموالهم كل مغرم.
حييون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياءً من شفار الصوارم
يقول: من عادتهم الحياء في مواضع الحياء لكنهم في الحرب وقاح ولا يرتدون بشيء كحد السيف الذي لا يرتد من أحد.
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودةٌ في البهائم
يقول: لولا أنهم يحتقرون، لشيهت الأسود بهم، ولكنها من جملة البهائم التي لا تمييز لها. فلهذا لا أشبهها بهم.
سرى النوم عني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كل نائم
يقول: ذهب النوم عني في سراي إلى هذا الممدوح، الذي تسري مواهبه ليلاً لكل نائم على فراشه! لم يتعبه في طلبها.
إلى مطلق الأسرى، ومخترم العدى ... ومشكى ذوي الشكوى ورغم المراغم
المخترم: المهلك، والمراغم: الذي يحاول أن يذلك وتحول أن تذله. المشكي: المزيل. الشكوى.
يقول: إنه يمن على الأسارى بهلك الأعداء، ويزيل الشكاية، ويرغم أعاديه.
كريمٌ نفضت الناس لما بلغته ... كأنهم ما جف من زاد قادم
جف وخف رويا، وروى حف بالحاء.
يقول: لما ملت إليه طرحت الناس كلهم، كما يطرح القادم ما جف من زاده.
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
يقول: سررت بلقائه، وندمت على تركي قصده في متقدم عمري، حتى كأن ندامتي على تركه أكثر من سروري بلقائه وحضرته.
وفارقت شر الأرض أهلاً وتربةً ... بها علويٌّ جده غير هاشم
أهلاً وتربة: نصباً على التمييز.
قيل: أراد بهذا العلوي الذي قال فيه:
أتاني وعيد الأدعياء ... البيت
وسئل عنه فقال: أردت بهذا طبرية لأن فيها أعداء الممدوح.
بلا الله حساد الأمير بحلمه ... وأجلسه منهم مكان العمائم
يقول: ابتلاهم الله بحلمه، ليروا من سعادته ما يديم حزنهم، وجعله في العز والشرف، وأذلهم له، حتى يكون منهم مكان العمائم: وهي الرءوس.
فإن لهم في سرعة الموت راحةً ... وإن لهم في العيش حز الغلاصم
الغلاصم: جمع الغلصمة، وهي قصبة الحلق. وهذا علة دعائه لهم بالحلم. يعني أن بقاءهم أشد لهم وعليهم من الفناء والهلاك.
كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك لا قاتلت من لم تقاوم
يقول: كل من جاودته زدت عليه وكل من قاتلته غلبته، وكأنك اخترت منهما من تعلم أنك تغلبه لا محالة، ولم تفعل ذلك قصداً، ولكن لما كان الظاهر من حالك الغلبة عليهم في الجود والشجاعة كنت كأنك فعلت ذلك.
وسأله الشرب معه فامتنع. فقال له: بحقي عليك إلا شربت. فقال:(1/181)
سقاني الخمر قولك لي بحقي ... وودٌّ لم تشبه لي بمذق
يقول: حملني على شرب الخمر قولك لي: بحقي. فيلزمني رعايته. والثاني مودتك الخالصة لي التي لا يشوبها خلاف ولا مذق. والمذق: ضد الخالص.
يميناً لو حلفت وأنت ناءٍ ... على قتلي بها لضربت عنقي
يميناً: نصب على المصدر.
يقول: لو حلفت بمثل هذه اليمين، وألزمتني بقتل نفسي وأنت بعيد عني لفعلت! فكيف لا أشرب؟ وهو دون ذلك، وأنت قريب مني! ثم أخذ الكأس وقال:
حييت من قسمٍ وأفدي المقسما ... أمسى الأنام له مجلاً معظما
الأنام: اسم الجمع للناس، وليس بجمع؛ ولهذا وحد فقال: مجلاً معظما، ولو جمعه رداً على المعنى لكان جيداً.
يخاطب القسم ويقول: حياك الله من قسمٍ وأنا أفدي المقسم! وهو الممدوح؛ لأن الخلق أصبحوا كلهم مجلين له، ومعظمين قدره كما أعظمه وأجله أنا!
وإذا طلبت رضى الأمير بشربها ... وأخذتها فلقد تركت الأحرما
يقول: إن شرب الخمر، وإن كان حراماً، فعصيانه أحرم، فإذا شربتها لرضاه، فقد تركت ما هو أشد حرمة! والهاء في شربها ووأخذتها للخمرة.
وغنى المغني فقال له:
ماذا يقول الذي يغني؟ ... يا خير من تحت ذي السماء
شغلت قلبي بلحظ عيني ... إليك عن حسن ذا الغناء
يقول: يا خير من تحت ذي السماء، إني شغلت بالنظر إلى حسن وجهك، وتأمل شمائلك من استماع الغناء، فأخبرني: ماذا يقول هذا المغنى؟ وعرض عليه سيفاً فأشار به إلى بعض من حضر، وقال:
أرى مرهفاً مدهش الصيقلين ... وبابة كل غلامٍ عتا
أتأذن لي ولك السابقات ... أجربه لك في ذا الفتى؟
المرهف الذي رققت شفرتاه والبابة: الغاية.
يقول: أرى سيفاً محدوداً يدهش الصيقلين بحسن جوهره ورونقه، وقوله: عتا أي عدا عن الحق. فهل تأذن لي أن أجربه في هذا الفتى؟ قوله: ولك السابقات حشو مليح أي لك النعم السابقة علي.
وهذان البيتان يجوز أن يكون رويهما التاء فتكون الألف وصلاً، وأن يكون رويهما الألف. لأن الألف فيهما من نفس الكلمة.
وأراد الانصراف فقال يذكر تعلقه بالأمير.
يقاتلني عليك الليل جداً ... ومنصرفي له أمضى السلاح
يقول: إن الليل يغار من نظري إليك، فهو يدافعني ويقاتلني عليك غيرةً، فإذا انصرفت عنك يقوم مقام السلاح ويقتلني.
لأني كلما فارقت طرفي ... بعيدٌ بين جفني والصباح
بين: فاعل بعيد، وهو اسم غير ظرف، ومفعول فارقت: مضمر. أي كلما فارقت الممدوح. وطرفي مبتدأ، والجملة خبره.
وقيل: إنه أقام الممدوح مقام طرفه، على هذا مفعول فارقت. أي فارقت طرفي. بفراقي إياه، ويكون بعيد مبتدأ وبين جفني خبره، والجملة خبر أن.
يقول: إني إذا لم أرك، طال علي الليل شوقاً إلى لقائك، وبعد عني الصباح، وأسقم جسمي السهر، فكأن فراقك سيف لليل يقتلني.
وسايره وهو لا يدري أين يريد به؟ فلما دخلا كفر زنس قال يصفها:
وزيارةٍ عن غير موعد ... كالغمض في الجفن المسهد
يقول: رب زيارة من غير تقدم وعد بها، وهي في قلبي أحلى وألذ من النوم في الجفن الذي طال سهاده، وبعد عنه رقاده.
معجت بنا فيا الجيا ... د مع الأمير أبي محمد
المعج: ضرب من السير سهل لين من سير الإبل، واستعمله في الخيل ها هنا للزيارة.
يقول: سارت بنا الخيل في هذه الزيارة مع الأمير أبي محمد. وهو الممدوح.
حتى دخلنا جنةً ... لو أن ساكنها مخلد!
أي لو كان ساكنها مخلداً كانت الجنة بعينها!
خضراء حمراء الترا ... ب كأنها في خد أغيد
الأغيد: الطويل العنق. وقيل الناعم البدن، شبه خضرتها بخضرة الشعر، وهو العذار على الخد الأحمر.
وإنما وصف تربتها بالحمرة، لأن الطين الذي فيها يضرب لونه إلى الحمرة.
أحببت تشبيهاً لها ... فوجدتها ما ليس يوجد
الهاء في وجدتها مفعوله الأول وما المفعول الثاني لأنه بمعنى علمت.
يقول: طلبت لها نظيراً أشبهها به فلم أجد؛ لأنه لا نظير لها في الحسن.
وإذا رجعت إلى الحقا ... ئق فهي واحدةٌ لأوحد
أي إذا حققت وصفها فهي واحدة لا نظير لها في الحسن، لأوحدٍ: لا نظير له في المجد.
وقال أيضاً يمدحه وقد شرب معه:(1/182)
ووقتٍ وفى بالدهر لي عند واحدٍ ... وفى لي بأهليه وزاد كثيرا
يقول: رب وقت اجتمع لي فيه من اللذات والسرور مثل ما في جميع الدهر عند فردٍ في عصره، وهذا الواحد اجتمع له من الفضائل مثل ما في جميع الخلق بل أزيد كثيراً.
شربت على استحسان ضوء جبينه ... وزهرٍ ترى للماء فيه خريرا
يقول: شربت مستحسناً ضوء جبينه، في بستانٍ ذي زهر. وماءٍ ترى له خريراً. والهاء في فيه للزهر.
غد الناس مثليهم به، لا عدمته ... وأصبح دهري في ذراه دهورا
مثليهم: نصب على الحال، ويجوز أن يكون خبر غدا من أخوات كان.
يقول: فيه من الفضائل مثل ما في جميع الناس، فهو قائم مقامهم فصار الناس مثليهم، واجتنيت أنا عنده من اللذات ما يجتنيه أهل الدهور، فقام دهري مقام دهور كثيرة.
يصف مجلسين للأمير وذكر أبو محمد انزواء أحد المجلسين عن الآخر ليرى من كل واحد منهما ما لا يرى من صاحبه فقال له:
المجلسان على التمييز بينهما ... مقابلان ولكن أحسنا الأدبا
كان المجلسان كل واحد منهما في الجهة التي تقابل الآخر، منحرفاً عنه. فهو يقول: إنهما متقابلان في الحقيقة، ومن حيث الحسن والبهاء، وإن كانا قد ميز بينهما. وإنما انحراف أحدهما عن الآخر؛ لحسن الأدب! لأن عادة الغلام أن يقف ناحيةً، حيث لا يراه السيد إلا عند الحاجة إليه.
وقيل: إن ما يجري في أحدهما لا يعرفه أهل المجلس الآخر.
إذا صعدت إلى ذا، مال ذا رهباً ... وإن صعدت إلى ذا، مال ذا رغبا
وروى في المصراعين رهبا.
يقول: إذا صعدت إلى أحد المجلسين انحرف الآخر عن مقابلة الآخر من مقابلة وجهك، هيبةً لك وخوفاً من سلطانك! وروى في الثاني: رعباً، ورغباً بالغين المعجمة، فالمعنى على هذا: إن أحدهما كان للسطوة والنكال، والآخر للرغبة والنوال، فإذا صعد إلى أحدهما خشي أن يميل إليه بسطواته، فإذا صعد إلى الآخر مال إليه رغبة فيما عوده به من نواله وهباته.
فلم يهابك ما لا حس يردعه؟ ... إني لأبصر من فعليهما عجبا
يردعه: أي يزجره.
يقول: كيف يخاف منك من ما لا حس له يزجره؟! وذلك عجب منهما، فإذا كان ذلك حالهما. فالعقلاء أولى أن يخافوا منك.
وأقبل الليل وهما في بستان فقال يمدحه:
زال النهار ونورٌ منك يوهمنا ... أن لم يزل ولجنح الليل إجنان
جنح الليل: قطعة من أوله، وقيل: نصفه الأخير. كأنه جنح إلى الذهاب وإجنان الليل: تغطية الأرض بالظلمة.
يقول: إن النهار قد زال، ونور وجهك في إشراقه يوهمنا أن النهار باقٍ بعد والليل قد أظلم بقطعه.
فإن يكن طلب البستان يمسكنا ... فرح فكل مكانٍ منك بستان
يقول: إن كانت إقامتك بالبستان هذا رغبة منه فارجع إلى منزلك فإن كل مكان تحله فهو بستان؛ لما فيك من المحاسن والألطاف.
فلما استقل في القبة نظر إلى السحاب فقال يمدحه:
تعرض لي السحاب وقد قفلنا ... فقلت: إليك إن معي السحابا
يقول: لما انصرفنا من البستان إلى المنزل تعرض لنا السحاب، وهم بالمطر علينا. فقلت: أمسك عن مطرك، فإن معي السحاب، وهو الممدوح.
وقوله: إليك. أي أمسك عني.
فشم في القبة الملك الرجى ... فأمسك بعد ما عزم انسكابا
شم: أي انظر، من قولك شمت البرق أشيمه شيماً: إذا نظرت إليه.
يقول: قلت للسحاب انظر إلى الملك المرجى في القبة، إن شككت في قولي، فإنه أكرم منك! فلما نظر إليه السحاب علم صدق قولي فأمسك بعد أن عزم على أن يسكب خجلاً واستحياءً.
وكره الشرب فلما كثر البخور وارتفعت رائحة الند قال يصف مجلس الشراب عند الأمير:
أنشر الكباء ووجه الأمير ... وحسن الغناء وصافي الخمور!
الكباء: العود الذي يتبخر به. ونشره: رائحته المنتشرة منه.
يقول لنفسه: هذه الأشياء مجتمعة في هذا المجلس ولا أشرب؟!
فداو خماري بشربي لها ... فإني سكرت بشرب السرور
يقول: شربت خمر السرور فسكرت، فهات الخمر لأداوي بها خماري! وهو من قول الأعشى:
وكأسٍ شربت على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بها
وأشار إليه بعض الطالبين بمسك فقال، وكان أبو محمدٍ حاضراً:
الطيب مما غنيت عنه ... كفى بقرب الأمير طيبا
يبني به ربنا المعالي ... كما بكم يغفر الذنوبا(1/183)
يقول: قد استغنيت عن الطيب؛ لأن قرب الأمير طيب لي! وإن يبني الله بهذا الأمير المعالي، كما بكم أيها الأشراف يغفر الذنوب. أي لحب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجعل الأمير يضرب بكمه البخور ويقول: سوقاً إلى الطيب فقال يمدحه:
يا أكرم الناس في الفعال ... وأفصح الناس في المقال
إن قلت في ذا البخور: سوقاً ... فهكذا قلت في النوال
يقول: يا أكرم الناس خصالاً وأفعالاً، وأنصحهم كلاماً ومقالاً، إن سقت إلي البخور فقد سقت قبله النوال. وسوقاً نصب لأنه حكاية قوله. وقيل: نصب على المصدر.
وتحدث أبو محمد عن مسيرهم في الليل لكبس باديةٍ وأن المطر أصابهم فقال أبو الطيب في شجاعة الأمير:
غير مستنكرٍ لك الإقدام ... فلمن ذا الحديث والإعلام؟
قد علمنا من قبل أنك من لا ... يمنع الليل همه والغمام
يقول: غير مستعجب إقدامك على الأمور العظام! فلمن تحدث بهذا الحديث؟ وقد علمنا أن الليل والمطر لا يمنعانك عما هممت به، فلمن هذا الحديث والإعلام؟ ثم قال أيضاً لابن طغج وهو عند طاهر العلوي:
قد بلغت الذي أردت من البر ... ومن حق ذا الشريف عليكا
وإذا لم تسر إلى الدار في وق ... تك ذا خفت أن تسير إليكا
يقول: قد قضيت ما عليك من حق هذا الشريف وبره، فارجع إلى دارك، فإني أخاف أنها تسير شوقاً وتشرفاً بحلولك فيها، فقد أوحشتها بغيبتك.
وهم بالنهوض فأقعده أبو محمد فقال له:
يا من رأيت الحليم وغداً ... به، وحر الملوك عبدا
مال علي الشراب جداً ... وأنت للمكرمات أهدى
يقول: يا من رأيت الحليم بالإضافة إليه وغداً، ورأيت الحر من الملوك عند هيبته عبدا.
وجداً: نصب على المصدر، أي أجد جداً.
ويقول: إن السكر قد غلب علي وأنت للمكرمات أهدى من كل أحد فأذن لي فإنه من مكرماتك.
فإن تفضلت بانصرافي ... عددته من لدنك رفدا
الانصراف، صلة من عندك والرفد: العطاء.
يقول: إن أذنت لي في الانصراف حسبته صلة من عندك.
وذكر أبو محمد بن طغج أن أباه استخفى مرة، فعرفه يهوديٌّ فقال مجيباً له:
لا تلومن اليهودي على ... أن يرى الشمس فلا ينكرها
يقول: لا تلومن اليهودي في أن يعرفه، لأنه في اشتهاره كالشمس، فتنكره لا يصير كافياً. وأراد بقوله: لا ينكرها أن يعرفها.
إنما اللوم على حاسبها ... ظلمةً من بعد ما يبصرها
يقول: لا لوم على اليهودي في معرفة أبيك، وإنما اللوم على من يحسب الشمس ظلمة وهو يبصرها! وليس ذلك إلا من يعرف أباك.
وسئل عما ارتجل من الشعر بديها فأعاده، فتعجب قومٌ من حفظه إياه! فقال:
إنما أحفظ المديح بعيني؛ لما أرى في الأمير من خصال حميدة؛ إذا نظرت إليها نظمت إلي تلك الخصال غرائب المعاني المنثورة. فكأن أقرءها من كتاب!
وجرى الحديث في وقعة ابن أبي الساج مع أبي طاهر القرمطي، فاستعظم بعض الجلساء ذلك وجزع له، فقال أبو الطيب لأبي محمد منشداً.
أباعث كل مكرمةٍ طموح ... وفارس كل سلهبةٍ سبوح
المكرمة الطموح: بعيدة الصيت. والسلهبة: الفرس الطويل. والسبوح: الذي يجري جري السابح في الماء. وهي صفة يمدح بها الخيل.
يقول: يا من يفعل كل مكرمة بعيدة الصيت لا ينالها غيره، ويا فارس كل فرس كريمة عتيقة.
وطاعن كل نجلاءٍ غموس ... وعاصي كل عذالٍ نصيح
النجلاء: الواسعة. والغموس: العميقة القعر.
يقول: يا من يطعن كل طعنة واسعة عميقة، ويا من يعصي في القتال، والسخاء كل عذالٍ نصيحٍ في عذله! وروى: كل عذال فصيح.
سقاني الله قبل الموت يوماً ... دم الأعداء من جوف الجروح
يقول: سقاني الله دم الأعداء من جروحهم، وشفى قلبي من الغيظ. بقتلهم. وهذا دعاء بلفظ الخبر.
وأطلق أبو محمد الباشق على سماناتٍ: فأخذها فقال:
أمن كل شيءٍ بلغت المرادا ... وفي كل شأوٍ العبادا؟
فماذا تركت لمن لم يسد ... وماذا تركت لمن كان سادا؟
الألف: للتقرير والإثبات.
يقول: قد نلت مرادك من كل ما طلبت، وسبقت الخلايق في كل غاية أردت، فلم يبق شيء من الفضائل إلا حزته، ولم تترك لمن طلب السيادة فعلاً يسود به، ولم تبق لمن يسد فعلاً يتوصل به إلى السيادة!(1/184)
كأن السماني إذا ما رأتك ... تصيدها، تشتهي أن تصادا
أي قد صدتها في أسرع وقت، فكأنها كانت تشتهي أن تصيدها، فمكنت الباشق من نفسها محبة لك.
واجتاز أبو محمد ببعض الجبال فأثار بعض الغلمان خشفاً فالتقفته الكلاب فقال يصف صيد كلاب ابن طغج:! وشامخٍ من الجبال أقود
فردٍ كيافوخ البعير الأصيد
شامخ: أي مرتفع. والأقود: قيل الطويل، وجمع بينهما في الوصف بالعلو. وقيل الأقود: الممتد على وجه الأرض، شبهه بيافوخ البعير الأصيد، لا عوجاجه وعلوه، ليكون متضمناً مع الارتفاع الاعوجاج.
يسار من مضيقه والجلمد
في مثل متن المسد المعقد
شبه ضيقه وخشونته؛ لما فيه من الحجارة بحبل من ليف، عليه عقد كثيرة؛ وذلك لما فيه من الالتواء والخشونة
زرناه للأمر الذي لم يعهد
للصيد والنزهة والتمرد
النزهة: الخروج إلى الخضرة والبساتين للراحة. والتمرد: اللعب والطرب ها هنا. روى: لم يعهد أي هذا الشامخ لم يعهد.
يقول: زرنا هذا الجبل الذي لم يعهد جبل مثله، لأنه لم يصد فيه أحد؛ لعلوه، إلا هذا الأمير، وذلك الأمر هو الصيد والنزهة واللهو، وليس هذا موضعاً لهذه الأمور، فلهذا قال: لم يعهد.
وروى أبو الفتح: أي أن الأمير لم يعهد على ذلك، لأن عادته الاشتغال بالجد والتشمر دون اللهو واللعب والطرب.
بكل مسقي الدماء أسود
معاودٍ مقودٍ مقلد
يقول: زرنا هذا الجبل بكل كلب أسود، قد سقى الدماء من الصيد، وهو معود للصيد ضار، وفي عنقه مقود: أي عليه قلادة.
بكل نابٍ ذربٍ محدد
على حفافي حنكٍ كالمبرد
الذرب: المحدود. والحفافان: الجانبان يقول: له ناب حاد، وهذا الناب على جانبي حنك صلب خشن كأنه مبرد.
كطالب الثأر وإن لم يحقد
يقتل ما يقتله ولا يدري
يقول: إنه لحرصه على الصيد كأن له عنده ثأراً، وإن لم يكن له حقد، وإنه إذا قتل صيداً لم يخف أن يطالب بديته فلا تجب عليه ولا يبالي لذلك.
ينشد من ذا الخشف ما لم يفقد
فثار من أخضر ممطورٍ ندي
يقول: الكلب يطلب هذا الخشف كأنه قد فقده، وليس الأمر كذلك. فثار: أي ظهر الخشف لما رأى الكلب يطلبه من بين روضٍ أخضر قد أصابه المطر فهو ندي من المطر والروائج الطيبة.
كأنه بدء عذار الأمرد
فلم يكد إلا لحتفٍ يهتدي
يقول: كأن هذا الروض الأخضر ابتداء عذار الأمرد حين خروجه. ثم يقول: إن الخشف لم يكد يهتدي إلا لما فيه هلاكه؛ لأن ثورانه كان سبباً لهلاكه.
ولم يقع إلا على بطن يد
ولم يدع للشاعر المجود
وصفاً له عند الأمير الأمجد
الملك القرم أبي محمد
يقول: لم يقع هذا الخشف إلا على بطن يد. وقيل: أراد أنه لم يقع على الأرض إلا اختطفوه في الحال، فلم يقع إلا على أيديهم.
ولم يدع هذا الغزال للشاعر الجيد الشعر وصفاً له! إنه صار عاجزاً من بين الغزلان. وقيل: إن الكلب بالغ في صيده حتى فاق الوصف، وأعجز كل شاعر عن وصفه عند الأمير.
والهاء في له للغزال وللكلب. وقيل: للشاعر.
القانص الأبطال بالمهند
ذي النعم الغر البوادي العود
يقول: هو الملك السيد الذي يصيد الشجعان بالسيف المهند، وهو ذو النعم الظاهرة المشهورة، يبتدىء بها ويعيد، فهي متتابعة.
إذا أردت عدها لم أعدد
وإن ذكرت فضله لم ينفد
يقول: إذا أردت إحصاء نعمه لم أجد لها عدداً لكثرتها، وإن أردت وصف فضله لم ينفذ ولم ينقطع.
وقال وقد استحسن عين بازٍ في مجلسه فقال يصفها:
أياما أحيسنها مقلةً ... ولولا الملاحة لم أعجب
الأصل: ما أحسنها مقلةً! فصغر فعل التعجب لنا للتعظيم أو للتلطف.
وإنما جاز تصغيره مع أنه فعل، لأنه أشبه الأسماء فلا ينصرف فأعطى بعض الأحكام.
يقول: ما أحسن هذه المقلة! ولولا ملاحتها ما عجبت منها. ولكن ملاحتها حملتني على التعجب.
خلوقيةٌ في خلوقيها ... سويداء من عنب الثعلب
خلوقية: خبر ابتداء محذوف، أي هي خلوقية. وهو ضرب من الطيب أحمر يميل إلى الصفرة.
يقول: إن عينها الموصوفة بالحسن خلوقية أي تشبه لون الخلوق. لونها: حبة سوداء كأنها من عنب الثعلب. وأراد بها الحدقة.
إذا نظر الباز في عطفه ... كسته شعاعاً على المنكب(1/185)
يقول: هذا البازي إذا نظر إلى جانبه كسته مقلته الخلوقية شعاعاً على منكبه يعني: أن عينه من صفائها وصقالها، يقع شعاعها على منكب البازي، كما يقع شعاع المرآة على الحائط.
ولما نزل أبوالطيب الرملة سنة ستٍّ وأربعين وثلاث مئة يريد مصر، دعاه أبو محمد فأكل معه وشرب، وخلع عليه وحمله على فرس جوادٍ بسرج ولجام، محليين حلية ثقيلة وقلده سيفاً محلي، وعاتبه على تركه مدحه فقال:
ترك مدحيك كالهجاء لنفسي ... وقليلٌ لك المديح الكثير
يقول: تركي مدحك هجاء لنفسي! لأني كنت قد كفرت نعمك وكفران النعم من أعظم الهجاء، والمديح الكثير قليل لك بالنسبة إلى قدرك.
غير أني تركت مقتضب الشع ... ر لأمرس مثلي به معذور
اقتضاب الشعر: ارتجاله بديهة.
يقول: إني تركت ارتجال الشعر لا روي فيه؛ لأني على ظهر السفر، وهذا عذر بين، ويجوز أن يكون ذلك لأنه لا يمكنه استيعاب مدائحه على حد الارتجال، وقيل: كان عذره واضحاً عنده، فاكتفى بما عنده من ذلك.
وسجاياك مادحاتك لا لفظي ... وجودٌ على كلامي يغير
روى: لا شعري، ولا لفظي.
يقول: ما فيك من خلائقك الكريمة يقوم مقام شعري، لأن جودك يغير على كلامي، فليس يمكنني أن أحيط بجودك، فكلما قلت شيئاً غلب عليه جودك فأغار عليه.
فسقى الله من أحب بكفي ... ك وأسقاك أيهذا الأمير
يقول: سقى الله من أحبه على يديك، فنوالهما أنفع من مطر السحاب! وسقاك الله أيها الأمير.
فلما أراد أن يرحل قال يودع الأمير ابن طغج:
ماذا الوداع وداع الوامق الكمد ... هذا الوداع وداع الروح للجسد
الكمد: المغموم. والكمد: الغم.
يقول: وداعي لهذا الأمير ليس يشبه وداع عاشق لحبيبه ولكنه وداع الروح للجسد. أي هو موته.
إذا السحاب زفته الريح مرتفعاً ... فلا عدا الرملة البيضاء من بلد
زفته: ساقته. والرملة: مدينة بالشام بقرب بيت المقدس.
يقول: إذا ساقت الريح السحاب، فلا تجاوز هذه البلدة. دعاء لها بالسقيا؛ لأن الممدوح كان فيها.
ويا فراق الأمير الرحب منزله ... إن أنت فارقتنا يوماً فلا تعد
أي: إن جمع الله بيننا بعد هذا الفراق، فلا فراق بعده.
قال يمدح طاهر بن الحسين العلوي وحدث أبو عمر عبد العزيز بن الحسن السلمي قال: سألت محمد بن القاسم المعروف بالصوفي: كيف كان سبب امتداح أبي الطيب لأبي القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي؟ فحدثني أن الأمير أبا محمد لم يزل يسأل أبا الطيب في كل ليلة من شهر رمضان، إذا اجتمعنا عنده للإفطار، أن يخص أبا القاسم طاهر من شعره بقصيدة يمدحه فيها. ويذكر أنه اشتهى ذلك. ولم يزل أبو الطيب يمتنع ويقول: ما قصدت غير الأمير ولا أمتدح سواه، فقال له الأمير: قد كنت عزمت على أن أسألك في قصيدة أخرى تعملها، فاجعلها في أبي القاسم. وضمن عنه مئات دنانير، فأجابه إلى ذلك.
قال محمد بن القاسم: فمضيت أنا والمطلبي برسالة طاهر لوعد أبي الطيب، حتى دخلنا إلى بيته، فركب معنا ودخلنا على طاهر وعنده جماعة من أهل بيته، وأشراف، وكتاب فلما أقبل أبو الطيب نزل أبو القاسم طاهر عن سريره وتلقاه بعيداً من مكانه مسلماً عليه، ثم أخذ بيده فأجلسه في المرتبة التي كان فيها قاعداً، وجلس بين يديه، فتحدث معه طويلاً ثم أنشده، فخلع عليه للوقت خلعة نفيسة.
قال عبد العزيز: وحدثني أبو علي بن القاسم الكاتب. قال: كنت حاضراً لهذا المجلس، وهو كما حدثك به أبو بكر الصوفي.
ثم قال لي: اعلم أني ما رأيت ولا سمعت في خبر أن شاعراً أجلس الممدوح بين يديه مستمعاً لمدحه غير أبي الطيب، فإني رأيت طاهراً تلقاه، وفعل كما ذكرنا فأنشده المتنبي:
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب
يقول: للذين ساروا بالجواري: أعيدوا علي الصبح، فقد ارتحل عني برحيلكم، أي أظلمت الدنيا علي لبعدكم! فردوا إلي النوم، فقد أخذتموه معكم. ومعناه: أعيدوا الكواعب ليرجع إلي صباحي، لأن الدنيا أظلمت على بعدهن! فهن صباحي الذي تزول به هذه الظلمة، وردوا أحبائي ليرجع إلي نومي؛ لأنه ارتحل برحيلهن.
وقيل: أراد طال ليلي فلو أعدتم إلي الكواعب والحبائب لقصر وعاد صبحي.
وقوله: لحظ الحبائب معناه: رقادي رؤية أحبائي ومشاهدتهن.(1/186)
فإن نهاري ليلةٌ مدلهمةٌ ... على مقلةٍ من فقدكم في غياهب
مدلهمة: أي مظلمة. والغيهب: الظلمة.
يقول: إن نهاري أظلم من غيهب، منذ فقدتكم، فكأن مقلتي في ظلمات الليل.
وقيل: أراد أني قد بكيت لشدة الحزن حتى عميت عيني! فلا أبصر شيئاً، فصار نهاري، ليلاً وضيائي ظلاماً، لفقدكم وفراقكم.
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدبس بحاجب
بعيدة: جر لأنه صفة لمقلة وقيل: بدل عنها.
يقول: تباعد ما بين أجفان عيني فلا يلتقي الجفنان، فكأن أعالي أهداب الجفون معقود بشعور الحاجب فلا ينطبق. ومثله لبشار قوله:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
ومثله للتهامي:
قصرت جفوني، أم تباعد بينها؟ ... أم صورت عيني بلا أشفار؟
وأحسب أني لو هويت فراقكم ... لفارقته والدهر أخبث صاحب
أي: من عادة الدهر مخالفة هواي! فلو كنت أهوى أني أفارقكم لفارقت الفراق وواصلتموني. ثم ذم الدهر وقال: الدهر أخبث صاحبٍ للإنسان؛ لأن كل صاحب خالفك فهو خبيث. والهاء في فارقته للفراق.
فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب
يقول: ليت ما بيننا من البعد الحاصل، كان بيني وبين المصائب.
يعني: ليت الأحبة قريبة مني والمصائب قد بعدت.
أراك ظننت السلك جسمي فعقته ... عليك بدرٍّ عن لقاء الترائب
السلك: الخيط وعقته: منعته.
يقول: أظن أنك حسبت جسمي خيط العقد الذي عليك؛ لأنه يشبهه في الدقة، فحجبته بالدر الذي نظمته فيه عن ملاقاة نحرك كما حجبتني عنك، أبعدتني عن قربك.
ولو قلمٌ ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
يقول: صرت من الدقة بحيث لو وقعت في شق قلم كاتبٍ لم يغير شيئاً من خطه!! وهذا من مبالغات أبي الطيب المتنبي.
تخوفني دون الذي أمرت به ... ولم تدر أن العار شر العواقب
يقول: أمرتني المحبوبة بترك المخاطرة بالنفس والمال، وخوفتني عواقب المخاطرة، ولم تعلم أن العار الذي يحصل بتحمل الضيم شرٌّ في عاقبته من الخوض في المهالك.
وقيل: معناه أنها أمرتني ألا أزورها شفقة علي وخوفاً من أن أقتل، ولم تدر أن تركي زيارتها هو العار، لأنه يؤدي إلى الجبن والجبن عار العار، وشر العواقب.
ولا بد من يومٍ أغر محجلٍ ... يطول استماعي بعده للنوادب
يقال: أغر محجل إذا كان مشهوراً كشهرة الفرس الأغر المحجل.
يقول: لابد من أن أوقع بيني وبين أعدائي يوماً مشهوراً أقتل فيه الملوك والسادة فأسمع بعد مدة طويلة صياح النساء النوادب يندبن عليهم.
يهون على مثلي إذا رام حاجةً ... وقوع العوالي دونها والقواضب
الهاء في دونها للحاجة.
يقول: إذا طلب مثلي حاجة يسهل عليه الحروب، ولا يبالي بحلول الرماح به، ووقوع السوف عليه حتى يصل إلى مراده؛ لأن الوصول إلى الأمر العظيم يكون بالمخاطرة بالنفس العظيمة.
كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشه مثل ذاهب
يقول: غاية الإنسان الموت، طالت حياته أم قصرت، وعيشه الباقي إلى نفادٍ، مثل عيشه الماضي، فلم أخاف الموت وأحمل الضيم والذل؟
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
يقول للعاذلة: إليك عني، أي كفي لومك، فلست ممن إذا اتقى عظيمةً صبر على مذلة وهوان. فشبه عظيمة بالأفاعي وشبه الذل بالعقارب.
يعني: إن نام فوق العقارب يؤده لسعها إلى الموت، كما لو نهشت الأفاعي، فكذلك العار يؤدي الإنسان إلى الهلاك، بل هو أشد منه؛ فإن ذلك يتكرر، والهلاك دفعة واحدة فهو أسهل، كما أن الهلاك بنهش الأفعى أطيب من تكرار لدغ العقرب.
وقيل: معناه إني لا أهرب من مكروه القتل والموت إلى مكروه العار وقبول الضيم، وإن كان أيسر من الموت، كما أن ضرب العقارب أسهل من ضرب الأفاعي، ومع ذلك فإن أحداً لا يختار ذلك إلا أنا وحدي.
أتاني وعيد الأدعياء وأنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب
كفر عاقب: قرية بالشام أو مدينة. وكل قرية يقال لها: كفر. والسودان: قيل أراد به جمع أسود سالح، وهو الحية السوداء.
يقول: إنهم أوعدوني وإنهم أعدوا لي في هذه القرية السودان: أي الدواهي. وقيل: أراد قوماً من الزنج أرصدهم هؤلاء لقتله.(1/187)
ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم ... فهل في وحدي قولهم غير كاذب؟!
يقول: لو كانوا صادقين في انتسابهم إلى جدهم، لكنت أحذرهم لمكان وعيدهم، وأعلم أنهم كذبوا في وعيدهم، وأعلم أنهم يقدرون على ما توعدوا لي به، من إلحاق المكروه بي؛ لأن تلك عادة الأشراف، ولكنهم أدعياء، فأعلم أنهم كذبوا في وعيدهم إياي، كما كذبوا في نسبهم.
وقيل: أراد أنهم يكذبون علي في سعايتهم كما يكذبون في انتسابهم إلى غير أبيهم، فلا أخاف مهم، لأن كل أحد يعلم أن سعايتهم في زور وبهتان كنسبهم.
إلي لعمري قصد كل عجيبةٍ ... كأني عجيبٌ في عيون العجائب
يقول: كل عجيبة من حوادث الدهر تقصدني، وكأني عجيب في عيونها، فتقصدني لترى في عجباً!
بأي بلادٍ لم أجر ذوائبي ... وأي مكانٍ لم تطأه ركائبي
يقول: أي مكان لم أسحب فيه ذوائبي عرصاته؟! ولم أجر فيه ذيول الصبا والعز، وأي موضع لم تطأه إبلي؟ إما غزواً للأعداء، أو مدحاً للملوك. ومثله للنميري:
وفي كل أرضٍ للنميري منزلٌ ... وفي كل أرضٍ للنميري صاحب
كأن رحيلي كان من كف طاهرٍ ... فأثبت كوري في ظهور المواهب
يقول: لم يبق في الدنيا موضع إلا قصدته، حتى كأن خروجي من ظهر كف طاهر، وكأن رحلي مشدودة في ظهور مواهبه! فهي تسيرني شرقاً وغرباً.
يعني: أن مواهبه تصل إلى كل أحد، كما بلغت أنا كل موضع، فكأني راكب على ظهر مواهبه، ملتمساً من كفه.
فلم يبق خلقٌ لم يردن فناءه ... وهن له شربٌ ورود المشارب
الشرب: النصيب من الماء. والمشارب: موارد الماء. والكناية في يردن: للمواهب. وفي له: للخلق. وتقديره: فلم يبق خلق لم يردن فناءه ورود المشارب، وهن له شرب.
يقول: لم يبق أحد من الناس إلا والمواهب وردت فناءه، كما يرد الناس المشارب، وهذه المواهب شرب للخلق، ومع ذلك ترد أفنيته الناس، والعادة أن الناس يردون المشارب فيسقون، ولكن مواهبه شربٌ لكل أحد يرد عليه، لا يحوجه إلى أن يقصده المستسقي، وقيل: الهاء في له: للممدوح. يعني: أن المواهب شرب له ينتفع به، كما ينتفع بالماء وارده. وانتفاعه به وهو الدعاء له والثناء عليه.
فتى علمته نفسه وجدوده ... قراع الأعادي وابتذال الرغائب
الرغائب: جمع رغيبة وهو المال المرغوب فيه.
يقول: إن نفسه علمته مضاربة الأعداء والأبطال، وابتذال الأموال، وعلمه هاتين الخصلتين أيضاً آباؤه الكرام، وأجداده العظام وإن مجده وشرفه وسخاءه وشجاعته، ليست بطارئة عليه بل موروثة له.
فقد غيب الشهاد عن كل موطنٍ ... ورداً إلى أوطانه كل غائب
يقول: إن سخاءه انتشر في الناس، فدعا المقيم في وطنه إلى تركه وقصده، وأغنا كل وارد إليه، فرده إلى وطنه برفده. وقابل الشهاد، وهو جمع الشاهد، وأراد به الحاضرين. بقوله: كل غائب وهو واحد، لأنه في معنى الجمع وأراد به الغائبين.
كذا الفاطميون الندى في بناتهم ... أعز امحاءً من خطوط الرواجب
الرواجب: بطون مفاصل الأصابع. الواحد رجبة. وقيل: هي عصبة الأصابع. وروى: أشد امحاءً وأعز امحاءً أي أشد امتناعاً.
يقول: كل من كان من ولد فاطمة مجبول على الجود فلا ينمحي عز أصابعهم، كما تنمحي الرواجب عن الأصابع، بل هي أشد وأمنع.
أناسٌ إذا لاقوا عدىً فكأنما ... سلاح الذي لاقوا غبار السلاهب
يقول: هم أناس إذا لاقوا أعداءهم في الحرب، كان سلاح أعدائهم ودرعهم غبار خيلهم التي ركبوها، فسلاحهم ودروعهم لا ترد عنهم ولا تمنعهم، كما لا يمنعهم الغبار.
وقيل: معناه إنهم إذا لقوا أعداءهم كان أمضى سلاحهم، إثارة الغبار في الهزيمة والهرب يعني أنهم إذا هربوا منعوا أنفسهم من الهلاك كما يمنعوها بالسلاح.
رموا بنواصيها القسي فجئنها ... دوامي الهوادي سالمات الجوانب
الهوادي: الأعناق. والهاء في نواصيها: للسلاهب. وفي جئنها: للقسي.
يقول: رموا بنواصي خيلهم القسي فوصلن إلى القسي داميات الأعناق بالسهام التي وقعت عليها قبل وصلوهن إلى القسي، وأصحابها لم يستدبرن، ولم يعرضن بل مضين قدماً إليهم، وسلمت جوانبهن وأعطافهن. وروى: سائلات الجوانب أي بالعرق.
أولئك أحلى من حياةٍ معادةٍ ... وأكثر ذكراً من دهور الشبائب(1/188)
يقول: إنهم في قلوب الناس أحلى من الحياة التي عادت بعد ذهابها، وإن ذكرهم عند الناس، أكثر من ذكرهم لأيام الشباب.
نصرت علياً يا ابنه ببواترٍ ... من الفعل لا فلٌّ لها في مضارب
يقول: قد فعلت من المكارم ما دل على كرم أبيك، فكأن ذلك كالنصرة له، وهذه السيوف البواتر من الفعل ليس في مضاربها فل. وقيل: أراد بذلك أنك ملت إليه بشبهك له. يقال: نصرت له بني فلان أي أتيتها وقصدتها.
وأبهر آيات التهامى أنه ... أبوك وإحدى مالكم من مناقب
يقول: أعظم آيات التهامى كونه أباك، ولكم مناقب كثيرة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم جدك وأباك إحدى تلك المناقب.
وهذا في الظاهر يوجب تفضيله على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن جنى أن أبا الطيب: كان يتعسف في الاحتجاج له والاعتذار بما لست أراه مقنعاً، وأعرضت عن ذكره.
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي يغني كرام المناصب؟
النسيب: ذو النسب الكريم. والمناصب جمع منصب والمنصب: الأصل.
يقول: إذا لم يكن الرجل كريماً في نفسه وفعله، لم ينفعه كرم أصله.
وما قربت أشباه قومٍ أباعدٍ ... ولا بعدت أشباه قومٍ أقارب
يقول: لا يغني تشابه الخلق إذا تباعدت الأفعال، ولا يضر فقد التشابه في الخلق، إذا وجد التشابه في الأفعال الشريفة الكاملة.
إذا علويٌّ لم يكن مثل طاهرٍ ... فما هو إلا حجةٌ للنواصب
النواصب: معادون لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
يقول: كل علويٍّ لا يشبهه من أولاده، فهو حجة للنواصب؛ لأنهم يتمسكون به.
يقولون: تأثير الكواكب في الورى ... فما باله تأثيره في الكواكب
يقول: إن الناس يزعمون أن الكواكب تؤثر في الخلق، فتسعد قوماً وتنحس آخرين! وهذا الممدوح يؤثر في الكواكب ويصرفها على مراده، ولا تقدر الكواكب على منعه منه، ولأنه علاها فجعلها معلوة بعد أن كانت عالية على كل شيء.
وقيل: إن تأثيره في الكواكب هو إثارة الغبار بخيله في غزواته حتى لا تظهر النجوم ويزول ضوء الشمس فتطلع الكواكب بالنهار.
علا كتد الدنيا إلى كل غايةٍ ... تسير به سير الذلول براكب
الكتد والكتد: أعلى الكتف. وقيل: العنق.
يقول: علا كتد الدنيا فهي تسير به إلى كل غاية، كما يسير الجمل الذلول، والفرس.
وحق له أن يسبق الناس جالساً ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب
جالساً: حال من الضمير في يسبق. غير: حال من الضمير في يدرك.
يقول: حق للممدوح أن يسبق الناس جالساً، بما قد اجتمع فيه من الفضائل والمناقب، وأن يدرك من غير سعي ما لا يدركه أحد.
ويحذى عرانين الملوك وإنها ... لمن قدميه في أجل المراتب عرانين نصب لأنه مفعول ثان ليحذى. والمفعول الأول ضمير الممدوح.
يقول: حق له أن يجعل أنوف الملوك نعلاً لقدميه! وكأن ذلك أجل مرتبة لها، وأعز مكاناً؛ لأنها تتشرف بشرفه.
يدٌ للزمان: الجمع بيني وبينه ... لتفريقه بيني وبين النوائب
الجمع: مبتدأ، ويدٌ خبره. وهي النعمة.
يقول: جمع الزمان بيني وبينه أي الممدوح، فهذه نعمة للزمان علي، لأنه فرق بيني وبين نوائب الدهر.
هو ابن رسول الله وابن وصيه ... وشبههما شبهت بعد التجارب
يقول: هو يشبه رسول الله، وعلياً، فعلاً وفضلاً، ولم أقل ذلك من جهل، ولكن عن تجربة وعلم.
يرى أن ما ما بان منك لضاربٍ ... بأقتل مما بان منك لعائب
ما: الأولى نافية. والثانية: بمعنى الذي، واسم أن: محذوف. والتقدير: أنه ليس الذي بان منك لضارب، بأقتل مما بان منك لعائب.
يقول: هو يرى أنه ليس ما ظهر منه لحد السيف، بأقرب إلى القتل مما ظهر منه للعائب أن يعيبه. أي أن القتل أسهل عنده من العيب! والعيب أشد من القتل ومثله:
فتىً يتقي أن يخدش الذم عرضه ... ولا يتقي حد السيوف البواتر
ألا أيها المال الذي قد أباده ... تعز فهذا فعله في الكتائب
روى: أباره وأباده: أي أهلكه.
يقول لماله الذي قد فرقه في العطاء: تعز على إهلاكه إياك؛ فهكذا يفعل في الكتائب ويبرزها.
لعلك في وقتٍ شغلت فؤاده ... عن الجود أو كثرت جيش محارب(1/189)
يقول: إنما أبادك يا مال؛ لأنك ربما حسنت عنده الإمساك، وشغلته بالعدو عن الجود، وأكثرت جيش عدوه بالاستعانة بك.
حملت إليه من لساني حديقةً ... سقاها الحجي سقى الرياض السحائب
شبه قصيدته بالحديقة، لأنها تجمع بديع المعاني، وغرائب الألفاظ، كما تجمع الحديقة من الأثمار والأنوار.
وتقدير البيت: سقى السحائب الرياض حر السحائب، بإضافة السقي إليها، وفصل بين المضاف والمضاف إليه.
يقول: حملت إليه حديقةً من المدح، سقاها العقل، كما يسقي السحاب الروض؛ وذلك لأنه بالعقل يرتب مثل هذا الترتيب وبه يستخرج مثل هذه المعاني.
فحييت خير ابنٍ لخير أبٍ بها ... لأشرف بيتٍ من لؤي بن غالب
خير: نصب على المنادى المضاف، أو على الحال، وروى: فحييت أي حييت أنا خير ابن. فنصبه على المفعول به. والضمير في بها: قيل: للحديقة التي هي القصيدة، أي حييت بهذه القصيدة خير ابن، وقيل: الضمير للأرض، وإن لم يجر لها ذكر: أي خير ابن لخير أب بهذه الأرض.
يقول: حييت بهذه القصيدة خير ابنٍ، أبوه خير أبٍ، وبيته لي لؤي بن غالبٍ، أشرف بيت؛ لأنه من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد أفضل منه، فكأنه قال: هو أشرف الناس.
وكانت لأبي الطيب حجرة تسمى الحمامة، ولها مهر يسمى الطخرور. فأقام الثلج على الأرض بأنطاكية، وتعذر الرعي على المهر فقال يصف تأخر الكلأ عنه:
ما للمروج الخضر والحدائق
يشكو خلاها كثرة العوائق
المروج: جمع مرج، وهو كل موضع لا ينقطع عنه العشب والماء. والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان ذو الحائط. والخلا: النبات الرطب، وهو فاعل يشكو ومفعوله كثرة. والعوائق: جمع عائق وهي الموانع.
يقول: أي شيء للمراعي والبساتين؟! فإن نباتها يشكو الموانع.
أقام فيها الثلج كالمرافق
يعقد فوق السن ريق الباصق
يقول: قد لازم هذه المروج والحدائق الثلج ملازمة المرافق لرفيقه، فاشتد البرد وعقد الثلج ببرودته ريق الباصق فوق سنه يجمده. يعني: لو أراد الإنسان أن يبصق ما أمكنه! بل وجد بصاقه معقوداً فوق سنه.
ثم مضى لا عاد من مفارق
بقائدس من ذوبه وسائق
يقول: أقام الثلج فيها مدة ثم مضى، فلا رده الله من مفارق، وجعل لذوبانه قائداً وسائقاً. على سبيل الاستعارة.
يعني: من سرعة ذهابه بعد إقامته مدة كأن قائداً يقوده وسائقاً يسوقه؛ لأن السائق والقائد إذا اجتمعا كان أبلغ في ذهابه، وجعل ابتداء الذوب قائداً وانتهاءه سائقاً وقيل القائد المطر، والسائق الريح.
كأنما الطخرور باغي آبق
يأكل من نبتٍ قصيرٍ لاصق
الطخرور: اسم مهر لأبي الطيب، كان ينتقل من مكان إلى مكان في طلب العشب، فهو يأكل من نبت قصير لاصق بالأرض.
كقشرك الحبر من المهارق
أروده منه بكالسوذانق
المهارق: جمع المهرق، وهو الصحيفة المصقولة، وهو فارسي معرب. أصله: مهرة كردة. والسوذانق: الشاهين. وقيل: الصقر. وقوله أروده: أي أطلبه. وقيل: أراد أرود فيه: أي أذهب وأجيء في طلبه، والهاء: للنبت وفي منه للمهر. والكاف: اسم. أي بمثل السوذانق يقول: كأن المهر حين يرعى يقشر حبراً من قرطاس، وأنا أطلب هذا النبت من هذا المهر بمهر يشبه السوذانق في حدته وذكائه وفطنته ومضائه.
بمطلق اليمنى طويل الفائق
عبل الشوى مقارب المرافق
مطلق اليمنى: أي ليس في يده اليمنى بياض. وقيل: يمناه بيضاء. والفائق: موصل الرأس والعنق، وإذا طال ذلك الموضع طالت عنقه. والعبل: الضخم. والشوى: القوائم. وقوله: مقارب المرافق: أي مرافقة متقاربة. وقيل: إحدى المرفقين تداني الأخرى. وقيل تشبه إحداهما الأخرى.
رخو اللبان نائه الطرائق
ذي منخرٍ رحبٍ وإطلٍ لاحق
اللبان: الصدر.
يقول: إن جلد صدره قد استرخى على صدره، وهو محمود في الخيل. ونائه: روى بالهمزة وهو العالي، من ناه نوها، ونوهته أنا: أي رفعته. وروى بالباء: وهو الشريف من قولهم: نبيه. والطرائق: الأخلاق. ويستحب في المنخر السعة؛ لئلا يحتبس النفس. والإطل: الخاصرة. ولاحق: أي ضامر.
محجلٍ نهدٍ كميتٍ زاهقٍ
شادخةٍ غرته كالشارق(1/190)
محجل: أي في قوائمه بياض. ونهد: أي عالٍ مرتفع الشخص. كميت: أي أحمر اللون أسود القوائم والفرق. زاهق: أي سمين، وقيل هو المتوسط بين السمين والهزيل. والغرة الشادخة: التي تغشى الوجه من الناصية إلى الأنف. والشارق: الشمس. شبه بياض وجهه بالشمس حسناً وضياء.
كأنها من لون في بارق
باقٍ على البوغاء والشقائق
وروى: كأنه إلى المهر، وكأنها إلى الغرة. والبارق: السحاب ذو البرق.
شبه غرته بالشمس، ثم شبه لون المهر بالسحاب الذي فيه ضوء البرق وهو يكون مائلاً إلى الكميت. والبوغاء: التراب الدقيق. والشقائق: جمع شقيقة وهي أرض تنشق بين الرمال، تنبت الشجر والعشب. وقيل: أرض فيها حصاً ورمل. يعني أن لونه باقٍ سواء سرت في السهل أو في الجبل، وفي الحر أو في البرد. وقيل: معناه أنه صبور على الشدائد؛ لأنه معود مدرب.
والأبردين والهجير الماحق
للفارس الراكض منه الواثق
الأبردين: الغداة والعشي. والهجير: الحر الشديد، عند انتصاف النهار. والماحق: الذي يمحق كل شيء؛ لشدة الحر. أي يذيبه ويهلكه.
يعني: أنه صبور على الكد، لا يتعبه السير في الجبل والسهل، ولا يضره معاقبة الحر والبرد. ثم بين أن الفارس الواثق بنفسه في الفروسية، إذا ركضه خاف منه.
خوف الجبان في فؤاد العاشق
كأنه في ريد طودٍ شاهق
ثم إن الفارس الواثق بفروسيته، إذا ركبه وركض به، يحصل له خوف العاشق؛ وذلك لأن العاشق قلبه مضطرب، فإذا حله خوف الجبان مع اضطرابه يكون خوفاً على خوف.
وقيل: معناه أنه يخاف منه وهو يعشقه ويشتهي ركوبه. ريد الجبل: حرفه الثاني منه. والطود: الجبل. الشاهق: العالي.
يشأى إلى المسمع صوت الناطق
لو سابق الشمس من المشارق
يشأى: أي يسبق، والمسمع: الأذن وفي في قوله: في ريد طود بمعنى: على.
يقول: كأن الفارس على حرف جبل عالٍ؛ لخوفه منه.
شبه المهر بالجبل، ثم قال: إنه لو سابق صوت ناطق لوصل إلى أذن السامع قبل وصول صوت الناطق إليه. وقيل: أراد: أن الناطق إذا دعا هذا المهر أسرع كالصدى، حتى كأنه يسبق نطق الناطق في جبل عالٍ.
وقيل: معناه أنه يسبق إلى أذن الصيد صوت الفارس الذي ينطق على ظهره أي يلحقه قبل بلوغه هذا الصوت، ثم قال: لو سابق هذا المهر الشمس من شرقها لسبقها إلى الغرب.
جاء إلى الغرب مجيء السابق
يترك في حجارة الأبارق
آثار قلع الحلى في المناطق
مشياً وإن يعد فكالخنادق
الأبارق: جمع أبرق، وهو أرض يخالطها حجارة، وقيل: أكمة فيها طين وحجارة، وقيل: جبل فيه حجارة سود وبيض.
شبه آثار حوافره في الأرض الصلبة إذا مشى بآثار قلع الحلى من المنطقة؛ لأنه يكون مدوراً، شبه حافر المهر به لتدويره، وبين أنه إنما يؤثر في الأرض مثل هذه الآثار إذا كان ماشياً، فأما إذا عدا عدواً فإنه يشقها شقاً كالخنادق! وقوله مشياً مصدر واقع موقع الحال أي ماشياً.
لو أوردت غب سحابٍ صادق
لأحسبت خوامس الأيانق
قوله: غب سحاب. أي بعد سحاب صادق بالمطر. وقوله: أحسبت أي كفت. وخوامس الأيانق: هي الإبل العطاش التي لم ترد الماء خمسة أيام.
يقول: لو أوردت هذه الخنادق التي حصلت من حوافره، بعد سحاب صادق بالمطر لكفت هذه الخنادق الإبل التي لم تشرب الماء خمسة أيام. أي أن الماء الذي يحصل في هذه الخنادق يرويها على عطشها!.
إذا اللجام جاءه لطارق
شحا له شحو الغراب الناعق
قوله لطارق: أي لأمر طارق، أي جاء ليلاً.
يقول: إذا جئته باللجام ليلاً لأمر حادث من إغرة أو إغاثة، فتح فمه كما يفتح الغراب فمه حين ينعق.
كأنما الجلد لعرى الناهق
منحدرٌ على سيتي جلاهق
لكل ذي حافر ناهقان: وهما عظمان أو عرقان يكتنفان قصبة الأنف ويستحب ألا يكون عليه لحم. والجلاهق: قوس البنادق. والناهق: قيل هو العظم الشاخص في حنك الفرس عند مجرى الشدق.
شبه جلده على ناهقه، وقد عري من اللحم بمتن قوس البندق لصلابته وزوال رخاوته.
بذ المذاكي وهو في العقائق
وزاد في الساق على النقانق
بذ: أي غلب، وسبق الخيل القرح، التي تمت أسنانها. والعميقة: الشعر للمولود، الذي ولد وهو عليه. والنقانق: جمع نقنق وهو الظليم(1/191)
يقول: إنه سبق الخيل القرح! وهو بعد في شعره الذي ولد فيه، وهو في العقيقة: في بطن أمه لم ينفصل بعد وهذا كقول الشاعر:
قد سبق الأبلق وهو رابض
فكيف لا يسبق وهو راكض؟!
ثم قال: إنه زاد في طول الساق على الظليم. وهو محمود في الخيل وتوصف به.
وزاد في الوقع على الصواعق
وزاد في الحذر على العقاعق
يقول: إن الصوت من وقع حوافره يزيد على وقع الصاعقة النازلة عند صوت الرعد! وقيل: أراد أن صوت وقع حوافره أشد من صوت الرعد، وإن زاد في الحذر على العقعق الذي ليس في الطير أحذر منه!
وزاد في الأذن على الخرانق
يميز الهزل من الحقائق
الخرانق: جمع خرنق، وهو الأنثى من ولد الأرنب. ولا شيء أسمع منها، وقيل إن أذنه زائد الطول.
ثم بين أنه يميز الهزل من الجد بحدة سمعه وذكاء فؤاده إذا ركبه.
وينذر الركب بكل سارق
يريك خرقاً وهو عين الحاذق
يريد: أنه لا ينام الليل، فمتى جاء السارق أصحابه صهل حتى ينبههم! كأنه حارس، ويريك من نشاطه وعدوه ما يوهم أنه أخرق وهو حاذق.
يحك أنى شاء حك الباشق
قوبل من آفقةٍ وآفق
الباشق: يكسر ويفتح، وها هنا لا يجوز إلا بالكسر.
يقول: إنه للين مفاصله وطول عنقه، يحك من جسده أي موضع شاء، كالباشق. والآفق: الفاصل الشريف من كل شيء. والآفقة: مؤنثة.
يعني أنه كريم من قبل أبيه وأمه وهو كريم الطرفين، قد قابلت أباؤه أمهاته في الكرم.
بين عتاق الخيل والعتائق
فعنقه يربي على البواسق
العتاق: جمع عتيق. والعتائق: جمع العتيقة. يعني: أنه كريم الآباء والأمهات.
ثم يقول: إن عنقه يزيد على النخل الطوال.
وحلقه يمكن فتر الخانق
أعده للطعن في الفيالق
يقول: إن حلقه لرقته يمكن فتر الخانق منه، فيمكنه أن يقبض عليه بفتره، ثم قال: هو عده لي، للطعن في الفيلق: وهو العسكر العظيم.
والضرب في الأوجه والمفارق
والسير في ظل اللواء الخافق
يقول: هو عدة لي أقاتل عليه أعدائي، وأسير عليه تحت اللواء الخافق: وهو المتحرك المضطرب.
يحملني والنصل ذو السفاسق
يقطر في كمي إلى البنائق
السفاسق: الطرائق في متن السيف كالسراب، وبنائق القميص: الخرق التي تلف البدن من جانبيه، وهي الدخرصة.
يقول: يحملني هذا المهر والسيف يقطر من دماء أعدائي فيختضب كمي وبنائقي.
وقيل: أراد أنه يحملني وأنا متقلد بسيفي، فهو يتحرك بين كمي وبنائقي
لا ألحظ الدنيا بعيني وامق
ولا أبالي قلة المرافق
يقول: يحملني وأنا على هذه الحالة، إذا ركبته في الحرب لم أرغب في الحياة، فأطرح نفسي على الموت ولا أبالي بقلة الأرفاق.
وقيل: هذا منقطع. أي لا أبالي بالدنيا! لعلمي أنها غدارة، ولا أبالي بقلة الأصحاب لعلمي بنفاقهم.
أي كبت كل حاسدٍ منافقٍ
أنت لنا وكلنا للخالق
يقول: يا مهري الذي يكبت كل حاسد كمداً، أنا أملكك والله يملك جميع الخلق.
وقيل: أراد الممدوح أي أنت ملجأنا وكلنا نفتقر إلى الله تعالى.
وكبست أنطاكية، فقتل المهر والحجرة فقال يندب مهره وفرسه:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ ... فلا تقنع بما دون النجوم
غامرت: أي طرحت نفسك في غمرة الحرب.
يقول: إذا غررت بنفسك في شرف طالباً له، فلا تطلب إلا أعظمه، وحدث نفسك بأنك تنال النجوم بعزمك.
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموت في أمرٍ عظيم
يقول: إن طعم الموت في الحالين لا يختلف، فاختر لنفسك أشرف الأمور وأحسنها.
ستبكي شجوها فرسي ومهري ... صفائح دمعها ماء الجسوم
شجوها: نصب على المصدر، ويكون من الشجو، وقيل: نصب على المفعول له. كأنه جعل الشجو علة للبكاء، وفاعل تبكي: الصفائح ومفعوله فرسي.
يقول: سأشفي نفسي بقتل من قتلهما، فتجري دماء سيوفي كأنها دمع باكٍ على فرسي ومهري.
قربن النار ثم نشأن فيها ... كما نشأ العذارى في النعيم
يقول: إن هذه السيوف قد جعلت النار غذاء لها، وأراد أنها نشأت في النار واكتسبت منها جوهراً وصفاءً، كالعذارى إذا ربين في النعيم.
وفارقن الصياقل مخلصاتٍ ... وأيديها كثيرات الكلوم(1/192)
يقول: إن الصياقل قد أخلصوها صقالاً، وإنها بحدة شفارها قطعت أيدي صياقلها عند صقلها، وتجربة حدها، فكيف يكون حالها مع غيرهم؟!
يرى الجبناء أن العجز عقلٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
يقول: إن الجبان يخدعه لؤم طبعه، ويصور له أن الاحتراز من الحرب رأي وعقل، وليس كما ظن، وإنما خدعه لؤم طبعه عما في الشجاعة من العز بالفخر بها.
وكل شجاعةٍ في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
يقول: الشجاعة محمودة، وتغني صاحبها وتنفعه، خاصة إذا كان صاحبها حكيماً عاقلاً مدبراً؛ لأنه يستعملها في وقتها ومحلها.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
يقول: إن الشجاعة من الأخلاق الكريمة، وإنما يعيبها الجبان؛ لضعف قلبه، كما أن كثيراً من الناس يعيب الأشياء التي لا يلحقها عيب، لجهله بها. وقيل: إنه منقطع، أي كم إنسانٍ يعيب قولاً صحيحاً لا آفة فيه، وإنما يكون من فهم سقيم، حيث لا يتصور جودة الكلام وصحته.
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم
يقول: إن الآذان تدرك الكلام فيعلمه الإنسان، ويأخذ منه بقدر خاطره وعلمه، ويتصوره على حسب قريحته.
وقال يهجو ابن كيغلغ وسار أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية سنة ستٍّ وثلاثين وثلاث مئة، فنزل بطرابلس، وبها إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان رجلاً جاهلاً، وكان يجالسه ثلاثة من بني حيدرة، وكان بين أبي الطيب وبين أبيهم عداوة قديمة. فقالوا له: ما يجب أن يتجاوزك ولم يمتدحك، وإنما يترك مدحك استصغاراً لك، وجعلوا يغرونه به، فراسله إسحاق وسأله أن يمدحه، فاحتج أبو الطيب بيمينٍ عليه: أنه لا يمتدح أحداً إلى مدة حدها، فعاقه عن سفره. ينتظر انقضاء تلك المدة، وأخذ عليه الطرق وصبطها، ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه به في مدة أربعين يوماًن فقال أبو الطيب يهجوه وهو بطرابلس.
قال: ولو فارقته قبل قولها لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها قال: وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج وخف عن لبنان، خرج كأنه يسير فرسه، وسار إلى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلاً ورجلاً، فأعجزهم وظهرت القصيدة واشتهرت وهي:
لهوى القلوب سريرةٌ لا تعلم ... عرضاً نظرت وخلت أني أسلم
قوله: عرضاً أي من غير قصد. يقول: للهوى سر لا يعرف لطفه ودقته، فلا يوقف عليه إلا بعد ابتلاء به. ونظرت من غير قصد وما ظننت أن الظن يوقعني في حبائل الهوى، بل قدرت أني أسلم ولا أهلك فخاب الظن الذي ظننته.
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثم أرق منك وأرحم
هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه شبب بامرأة، ومدح أخاها بالشجاعة. إشارة إلى أنها ممتنعة لا يقدر على الوصول إليها. يقول: يا أخت الأخ الذي يخالط الأقران في الحرب بشجاعته، إن أخاك في الحرب إذا لقي عدواً أرحم منك وأرق على قربه منك علي، فأنت قد فعلت بالمحب بقلة رحمتك له، ما لا يفعله أخوك في الحرب حرب الأقران.
والوجه الثاني: أنه يهجو أخا المرأة المشبب بها وفيه قولان: أحدهما: أنه يتهمه بإتيان أخته! ومعناه: أن أخاك أرق منك، ثم إن عند خلوته بك، أرحم منك على العاشق.
والقول الثاني: أنه يرمي أخاها بالجبن وضعف القلب؛ لأنه مع وصفه بأنه معتنق الفوارس في الوغى، فإنه أرق قلباً من هذه المرأة مع رقة قلوب النساء، فمن زادت رقته على رقة قلوبهن فهو في نهاية الضعف وقوله: ثم إشارة إلى موضع الحرب، أي أنه أرق قلباً من النساء في الضعف.
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم
يقول: إن أاك ينظر إليك مع العفاف لأنه يرى رأي المجوس! وهذا قول ابن جنى.
وقوله: مع العفاف يمنع من ذلك، فإنه ذكر ما لا يصح، ويمكن أن يقال: إنه صحيح ومعناه: أنه على رأي المجوس، لأن المجوسي يرى إتيان أخته من العفاف، لأنه يستبيحه! فهو صحيح من هذا الوجه هذا على الوجه الثاني.
وأما على الوجه الأول: فمعناه أنك قد فتنت أخاك بحسنك فهو ينظر إليك ويتمنى أن يكون دينه دين المجوس، وأنك محللة له، فكأنه يرى رأى المجوس في نكاح الأخوات ومثله لأبي تمام:
بأبي من إذا رآها أبوها ... شغفاً قال: ليت أنا مجوس
راعتك رائعة البياض بعارضي ... ولو أنها الأولى لراع الأسحم(1/193)
راعتك: أي أفزعتك وروى: راعية الشيب، وجمعها رواعٍ. وروى: رائعة، وهي الفاعل من راعت. وقيل: هي منتشرة كانتشار الغنم في المرعى. والأسحم: الأسود.
يقول: راعتك الشعرات البيض التي انتشرت في عارضي، ولوكان الشعر يبدو أبيض ثم يسود، لخفت من السواد خوفك من البياض، والذي راعك إنما هو علو سني، لا البياض.
لو كان يمكنني سفرت عن الصبا ... فالشيب من قبل الأوان تلثم
يقول: لو قدرت لكشفت البياض عن شعري، حتى أريك صباي، وتعلمين أنت أني شبت قبل الأوان، والشيب قبل أوانه بمنزلة أن يتلثم الإنسان بعمامة بيضاء؛ لأنه لا يورث ضعفاً ولا يوهن قوة، فإنه يكره الشيب لهذا المعنى.
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
يقول: جربت حوادث الدهر، فرأيت سواد الشعر لا يمنع من الموت، وبياضه لا يقرب منه، وقد يموت الشاب ويعيش الشيخ.
والهم يحترم الجسيم نحافةً ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
يقول: إن الهم يذيب الجسم، وينقصه حتى يموت الجسم نحافة، وتبيض ناصية الصبي، ويهرم قواه ومعناه: أن الشيب حصل لي من الهم.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
يقول: العاقل وإن كان في النعيم، فإنه لا يتهنأ به؛ لعلمه بزواله، والجاهل وإن كان في الشقاوة، فهو يتلذذ؛ لجهله بعواقبه.
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلقٌ ... ينسى الذي يولي وعافٍ يندم
يولي: أي يعطي.
يقول: إن الناس تنكر مراعاة الحقوق والذمم، فالمنعم عليه بإطلاقٍ من الأسر، ينسى يد المنعم عليه فلا يشكر نعمه، والعافي من الإساءة والمنعم على الغير، يندم على ما فعله من النعم.
لا تخدعنك من عدوٍّ دمعةٌ ... وارحم شبابك من عدوٍّ ترحم
أراد: ترحمه، فحذف الهاء.
يقول: إذا قدرت على عدوك فاقتله ولا يخدعنك بكاؤه: وارحم شبابك بذل عدوٍّ ترحمه!
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
يقول: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تحميه بالسيف.
قال ابن جنى أشهد بالله لو لم يقل إلا هذا البيت لوجب تقدمه:
يؤذي القليل من اللئام بطبعه ... من لا يقل كما يقل ويلؤم
من في موضع النصب؛ لأنه مفعول يؤذي.
يقول: إن القليل الحقير اللئيم يؤذي بطبعه، من لا يقل كقلته ولا يلؤم كلؤمه.
والظم في خلق النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
روى: في خلق، وهي جمع خلقة، ويريد الطبيعة. وروى في خلق، وهو واحد الأخلاق.
يقول: إن الإنسان طبع على الظلم ومن لا يظلم فلعلةٍ تمنعه من ذلك: إما عجز أو خوف، فلو خلي وطبعه لاستعلى على من هو دونه.
يحمى ابن كيغلغ الطريق وعرسه ... ما بين رجليها الطريق الأعظم
أقم المسالح فوق شفر سكينةٍ ... إن المنى بحلقتيها خضرم
الخضرم معناه ظاهر. والمسالح: أصحابه الذين يحفظون الطريق.
يقول: أقم المراصدين فوق امرأتك التي سار الناس للفجور بها، حتى اجتمع هناك من المنى بحر غزير.
وارفق بنفسك إن خلقك ناقصٌ ... واستر أباك فإن أصلك مظلم
يقول: لا تتعرض لمناوأتي فإنك ناقص الخلق، ولا تظهر أباك، فإنك مدخول النسب لا يوقف عليه.
واحذر مناوأة الرجال فإنما ... تقوى على كمر العبيد وتقدم
يقول: احذر معاداة الرجال، فإنما تقوى على استدخال كمر العبيد والإقدام عليها، وهذا رمى له بالأبنة.
وغناك مسألةٌ، وطيشك نفخةٌ ... ورضاك فيشلةٌ، وربك درهم
يقول: إن مالك مكتسب بالسؤال، وإن طيشك: أي خفتك. نفخة: أي لو نفخ عليه لطار، لضعف قلبه.
وقيل: أراد أن خفتك في المورد فلا تأثير له، وأنه إذا غضب ينكح فيرضى وأنه بخيل يعبد الدرهم ويعظمه كأنه ربه.
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم
يقول: من البلية عذل من لا ينصرف عن الجهل، ومخاطبة الجاهل الذي لا يفهم ما يفهم.
في ذكر أمك للزناة دلالةٌ ... فأحب من ذكر ابنها من يشتم
يقول: إن ذكرت أمك استدل الزناة بذكرها عليها، وأحب الناس إليها من يشتم ابنها ويقول: يابن الزانية؛ ليدل الزناة عليها.
يمشي بأربعةٍ على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراءٍ يلجم(1/194)
العلج: القوي البنية المعالج للتعب. وقوله: بأربعة أراد العضو. وينبغي أن يقول: إنه يمشي تحت العلوج إلى خلفه؛ حرصاً على استيفاء ما يدخل فيه! ولكن لجامه في خلفه: أي في إسته.
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفةٌ أو فت فيها حصرم
مطروفة من قولهم: طرفته، أي ضربت طرفه.
يقول: إن جفونه لا تستقر، فكأنه أصيب بشيء من رمد ونحوه، أو عصر فيها حصرمٌ أشار بهذا إلى أن في عينه آفة.
وقيل: أراد أنه يحرك أجفانه لاستدعاء العلوج للمعنى الذي رماه به أولاً.
وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قردٌ يقهقه أو عجوزٌ تلطم
يقول: إذا نطق ازداد حقارة، فكأنه قرد حين يضحك، أو عجوز لطمت في مناحة وبكت. ولا يضحك شيء من الحيوانات إلا الإنسان والقرد.
يقلي مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يدٍ يتعمم
قوله: يقلى. أي يبغض، وفاعله: قذاله. ومفارقة الأكف: مفعوله.
يقول: إنه تعود أن يصفع، فقذاله: يكره مفارقة الأكف، حتى كأن الأيدي عمائم، لإحاطتها به.
وقيل: معناه لا يميل إلى مفارقتها. والقذال: مؤخر الرأس.
وتراه أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم
يقول: هو حقير المنطق، فإذا تكلم زاد حقارة لعيه، ولكنه أكثر ما يكون كذلك في قوله: إذا وكد كلامه بقسم وأيمان.
والذل يظهر في الذليل مودةً ... وأود منه لمن يود الأرقم
الأرقم: ضرب من الحيات.
يقول: إن الذليل يظهر المودة لمن أذله؛ ليتقي شره، ولكن الأرقم أشد حباً منه لمن يحبه، إذا قدر عليه.
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
يقول: إن عداوة الساقط تدل على مباينة طبعه لطبعك فينفعك ومودته تدل على المناسبة فيضرك! وقيل: أراد أن عداوة العاقل خير من صداقة الجاهل، فتلك العداوة ربما تتضمن منفعة وهذه الصداقة ربما تتضمن مضرة وشراً.
أرسلت تسألني المديح سفاهةً ... صفراء أضيق منك، ماذا أزعم؟!
صفراء: اسم أم المهجو، أو اسم امرأته. يعني: إنك تسألني المديح وما عسى أن أقول لك؟ وأنت أوسع منها!
أترى القيادة في سواك تكسبا ... يابن الأعير وهي فيك تكرم؟!
الأعير: تصغير الأعور.
يقول: إن غيرك يتكسب بالقيادة، وأنت تقود على أهلك وتعده تكرما! ومثله قول الآخر:
تراه من جوده ومن كرمه ... يحمل أضيافه إلى حرمه
فلشد ما جاوزت قدرك صاعداً ... ولشد ما قربت عليك الأنجم
شدما كقولك: نعما، وبئسما.
يقول: ما اشد ما جاوزت قدرك حتى سألتني أن أمدحك، وهو أبعد من النجوم، صاعداً نصب على الحال.
وأرغت ما لأبي العشائر خالصاً ... إن الثناء لمن يزار فينعم
قوله: أرغت. أي طلبت، وقيل: أملت إلى نفسك، وخالصاً نصب على الحال.
يقول: طلبت المديح الذي هو لأبي العشائر خالصاً، لأنه لا يستحقه إلا من ينعم على زائره، وهو أبو العشائر.
ولمن أقمت على الهوان ببابه ... تدنو فيوجأ أخدعاك وتنهم
الأخدعان: عرقان في العنق معروفان. وتنهم: أي تزجر.
يقول: إن الثناء لمن تقيم على بابه مهينا، كلما دنوت منه تزجر وتصفع، فكيف أمدحك وهذه حالك؟!
ولمن يهين المال وهو مكرمٌ ... ولمن يجر الجيش وهو عرمرم
العرمرم: الجيش الكثير. يمدح أبا العشائر. يعني: أنه يكرم نفسه بإهانة المال وهو يقود الجيش الكثير، يصفه بالكرم والشجاعة.
ولمن إذا التقت الكماة بمأزقٍ ... فنصيبه منها الكمي المعلم
المأزق: مضيق الحرب.
يقول: إن المدح يكون لمن يكون في مضيق الحرب، ويقتل كل شجاع معلم: أي له علامة.
ولربما أطر القناة بفارسٍ ... وثنى فقومها بآخر منهم
يقول: ربما طعن فارساً، فانعطفت قناته، فطعن بها آخر فقومها فيه كما تقوم الثقاف.
والوجه أزهر، والفؤاد مشيعٌ ... والرمح أسمر والحسام مصمم
يقول: يفعل ذلك بوجه أزهر وله رمح أسمر، وسيف مصمم قاطع يمضي في العظام.
أفعال من تلد الكرام كريمةٌ ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم
يقول: فعل كل أحدٍ على قدر أصله، وهو من قوله تعالى: " قل كلٌّ يعمل على شاكلته ".
ولقي أبا الطيب بعض الغزاة بدمشق، فعرفه أن ابن كيغلغ لم يزل يذكره في بلد الروم، فقال أبو الطيب يهجو ابن كيغلغ:(1/195)
أتاني كلام الجاهل ابن كيغلغٍ ... يجوب حزوناً بيننا وسهولا
يقول: أتاني كلام هذا الجاهل، وتهدده لي من مكان بعيد، يقطع الجبال والمفاوز الذي بينه وبيني.
وقيل معناه: إن كلامه قد أتاني، وهو حينما تكلم كان يجوب حزون أرض الروم وسهولها. ويجوب: أي يقطع.
ولو لم يكن بين ابن صفراء حائلٌ ... وبيني سوى رمحي لكان طويلاً
صفراء: اسم أمه، ومعناه: يهددني ابن صفراء بوعيده! وأنا منه على بعد، فلو لقيته ولم يحل بيني وبينه إلا رمحي وحده، الذي أعتمد عليه وأدفعه به، لطال عليه الوصول إلي. فكيف وقد انضم إليه سائر أسباب القوة.
وقيل: معناه لو كان بيني وبينه من البعد مقدار رمحي لكان طويلاً عليه، فلا يمكنه أن ينالني. وقيل: إن صفراء كناية عن الأست والعرب تقول: ولد من أسته. فعلى هذا يكون رمياً له بالأبنة.
وإسحاق مأمونٌ على من أهانه ... ولكن تسلي بالبكاء قليلا
يقول: إن من أهانه وأساء إليه لم يخف غائلته؛ لأنه لا يقدر على شيء من النكير عند بلوغه إساءة من أساء إليه سوى التسلي بالبكاء.
وقد ذكره بالقبيح وكنى عنه بالبكاء وهذا غاية الحسن ومثله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامةٍ يا مربع
ولولا الذي في وجهه من سماجةٍ ... لنمت عليه بكرةً وأصيلا
وليس جميلاً عرضه فيصونه ... وليس جميلاً أن يكون جميلا
ويكذب، ما أذللته بهجائه ... لقد كان من قبل الهجاء ذليلا
يقول: نفسه لا جمال لها فيصونه عن الهجاء، ولا يستحق أن يكون جميلا، ثم يقول: زعم هذا الجاهل أني أذللته بهجائي فقد كذب في دعواه؛ لأني لم أنقص شيئاً من قدره بالهجاء، فإنه ذليل خامل لا قدر له.
وورد الخبر إلى مصر بأن غلمان ابن كيغلغ قتلوه بجبلة من ساحل الشام، فقال أبو الطيب يشمت به ويهجوه:
قالوا لنا: مات إسحاق. فقلت لهم: ... هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
يقول: بلغني موته، فقلت: قد أصاب دواء حمقه؛ فإن الأحمق ليس له دواء إلا الموت.
إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف ... أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خلق
يقول: إن حياته وموته سواء، فإن مات لا يحزن عليه أحد، ولم يشعر بموته لخموله، وإن عاش فلا نفع فيه، لأنه دميم الخلق سيىء الخلق، فليس له رواءٌ يملأ العيون، ولا خلقٌ يعطف عليه القلوب.
منه تعلم عبدٌ شق هامته ... خون الصديق ودس الغدر في الملق
قوله: دس الغدر في الملق أي يستر غدره في كلامه باللطف؛ ليتوصل به إلى الإيقاع بالغير.
يقول: إن عبده الذي قتله، منه تعلم الخيانة والغدر بالصديق، فحين رآه يخون أصدقاءه ويغدر بهم، اقتدى، به فقتله غدراً.
وحلف ألف يمينٍ غير صادقةٍ ... مطرودةٍ ككعوب الرمح في نسق
حلف: نصب عطفاً على قوله: دس الغدر وهو منصوب بتعلم ومطردة: أي متتابعة.
يقول: تعلم منه ألف يمين متتابعة، مثل كعوب الرمح على طريقة واحدة، فكان ذلك باعثاً له على قتله، فقتله ودفع عن نفسه قتله بالأيمان الكاذبة كما كان هو يفعل.
ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنبٍ ... صفراً من البأس مملوءًا من النزق
النزق: الخفة والطيش.
يقول: في كونه قرداً ناقصاً؛ ليكون أعجب، وإنه مملوء من الخفة، وصفراً من الحلم والعقل والأدب.
كريشةٍ بمهب اليح ساقطةٍ ... ما تستقر على حالٍ من القلق
شبهه في خفته وقلقه بريشة ساقطة تهب عليها الريح.
تستغرق الكف فوديه ومنكبه ... وتكتسى منه ريح الجورب العرق
الفودان: جانبا الرأس.
يقول: إنه يكثر الصفع على جوانب رأسه ومنكبه، ويد من يصفعه تكتسب منه ريحاً منتناً مثل ريحة الجورب العرق! وفيه أنواع من الهجاء منها: قبح الخلقة، وصغر الجثة، وخبث الريح، ونتن الجسد، ومهانة النفس؛ حتى يصفعه كل أحد.
فسائلوا قاتليه: كيف مات لهم ... موتاً من الضرب أم موتاً من الفرق؟
وأين موقع حد السيف من شبحٍ ... بغير رأسٍ ولا جسمٍ ولا عنق؟!
موتاً نصب على المصدر.(1/196)
يقول: سائلوا قاتليه. هل مات من ضربهم، أو خوفاً من الضرب؟! والشبح: الشخص. يقول: سائلوا الناس أي موضع أصاب السيف منه؟ فإنه ليس له جسم، لقصره وصغره، ولا رأس له، ولا عنق، حتى لا يجد السيف شخصه، ولكن الخوف قتله قبل أن يضرب منه السيف موضعاً!
لولا اللئام وشيءٌ من مشابهةٍ ... لكان ألأم طفلٍ لف في خرق
يقول: لولا أن في الناس المشابهة في اللؤم والخسة، لكان ألأم طفل لف في قماطٍ؛ لعجزه وصغر قامته.
والمشابهة: جمع الشبه على غير قياس.
كلام أكثر من تلقى ومنظره ... مما يشق على الآذان والحدق
يقول: إن أكثر الناس كلامه تمجه الآذان لثقله. وكذلك رؤيته مما تنكرها العين ويشق عليها. فله نظائر في الناس.
واجتاز ببعلبك فنزل على علي بن عسكر، وهو يومئذٍ صاحب حربها، فخلع عليه وحمل إليه وأمسكه عنده، اغتناماً لمشاهدته. وأراد أبو الطيب الخروج إلى أنطاكية فقال يعتذر من مفارقته:
روينا يا ابن عسكرٍ الهماما ... ولم يترك نداك بنا هياما
يقول: روينا أيها الممدوح بسحائب جودك، ولم يترك بنا هياماً: أي عطشاً.
وصار أحب ما تهدى إلينا ... لغير قلىً وداعك والسلاما
يقول: قد أفضت علي من برك ما كفاني، فليس شيء أحب إلي إلا الارتحال وتوديعك والسلام، وليس ذلك عن بغض ولا كراهة فيك، ولكن عن عذر اقتضى ذلك.
ولم نملل تفقدك الموالي ... ولم نذمم أياديك الجساما
التفقد: التعهد. والموالي: المتتابع.
يقول: ولا أني أمللت إكرامك وتعهدك لأحوالي، ولا ذممت أياديك العظام، ولكن لعذر آخر أوجب طلب الإجازة.
ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافرٍ كره الغماما
يقول: إني في سؤال الإذن منك، كالمسافر الذي يكره المطر، وإن كانت فيه حياة البلاد والعباد، فلهذا كرهت المقام عندك.
قصائد أبي العشائر الحمداني
وقال يمدح أبا العشائر: الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي التغلبي وهي أول شعر في بني حمدان:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقةً في المآقي
المآقي: طرف العين مما يلي الأنف.
يقول لصاحبه: أحسبت هذه المرأة أنها لكثرة ما ترى من الدموع في عيون عشاقها أنه خلقة في عيونهم؟ فلهذا لا ترحمهم!
كيف ترثي التي ترى كل جفنٍ ... راءها غير جفنها غير راق
راءها: مقلوب رآها. وغير: الأولى نصب على الاستثناء، والثانية: على تفسير البيت الأول.
يقول: كيف ترحم هذه المرأة للباكين بسببها، لأنها ترى كل عين باكية غير راقية الدمع عنها، فهي تحسب أن ذلك خلقة، لأنها لم تر إلا باكياً سائل الدمع، واستثنى جفنها، فبين أن كل عين كذلك إلا عينها؛ لأنها لم تعشق أحداً فلا تجزع للفراق! وقال ابن جنى: إنها لا تبكي، لأنها لم تهجر نفسها.
وهذا البيت من بدائع أبي الطيب المتنبي.
أنت منا فتنت نفسك لكن ... ك عوفيت من ضنىً واشتياق
يقول: أنت منا أي من جملة العشاق، لكنك قد فتنت نفسك كما فتنا بحسنك! أي أنت عاشقة لنفسك كما نعشقك؛ لأن كل أحد يحب نفسك، غير أنك سلمت من ألم الوجد وطول المرض والاشتياق؛ لأن الإنسان لا يشتاق إلى نفسه فلا يتألم من حبها
حلت دون المزار، فاليوم لو زر ... ت لحال النحول دون العناق
حلت: أي منعت. والمزار: الزيارة.
يقول: منعتنا من الزيارة فنحلنا لذلك! وذابت أجسامنا، فلو أردت الآن وصلنا منع النحول من معانقتك.
إن لحظاً أدمته وأدمنا ... كان عمداً لنا وحتف اتفاق
يقول: نظر كل واحد منا إلى صاحبه عن تعمد منا، فاتفق في ذلك حتفي من غير قصد! وهذا من قولهم: رب حتفٍ في لحظة طرفٍ.
لو عدا عنك غير هجرك بعدٌ ... لأرار الرسيم مخ المناقي
عدا عنك: أي صرف. وبعدٌ: فاعله. وقوله أرار أي أذاب. والرسيم: هو سير شديد من سير الإبل. والمناق: جمع منقية: وهي السمينة التي في عظامها مخ.
يقول: إنما صرفنا عنك هجرك، ولو حال بيننا بعدٌ سوى الهجر لواصلنا السير إليك وهزلنا النوق بالسير، حتى يذوب بالسير مخ عظامها.
وقوله: لأرار الرسيم: أي لأذاب السير الشديد مخ المناق.
ولسرنا ولو وصلنا عليها ... مثل أنفاسنا على الأرماق
الأرماق: جمع الرمق، وهو بقية الحياة.(1/197)
يقول: لو كان بيننا بعدٌ غير الهجر، لسرنا إليك ولواصلنا السير حتى تذوب أبداننا وتهزل رواحلنا فتكون في الخفة كأنفاسنا وتصير إبلنا مهزولةً وهذا من قول أبي الشيص.
أكل الوجيف لحومهم ولحومنا ... فأتوك أنقاضاً على أنقاض
ومثله قول الآخر
أنضاء شوق على أنضاء أسفارٍ
ما بنا من هوى العيون اللواتي ... لون أشفارهن لون الحداق؟
ما بمعنى التعظيم، أي: أي شيء؟ بنا من هذه العيون التي لون أشفارها في السواد، مثل لون أحداقها.
وهذا نهاية في الحسن كما ترى.
قصرت مدة الليالي المواضي ... فأطالت بها الليالي البواقي
قصرت: فعل المحبوبة. وقيل: فعل العين.
يقول: قصرت هذه المرأة علي مدة الليالي المواضي بالوصال الذي كان منها، وأطالت الآن لما هجرتني، الليالي البواقي.
وقوله: أطالت بها: أي قابلت قصر الليالي المواضي بطول الليالي البواقي فحصل طول هذه مكافأةً على قصر تلك.
وقيل: أراد طالت الليالي البواقي بسبب قصرها في المواضي، أي أن قصرها صار سبباً لطولها.
كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق
الإيراق: هو الإسهار. يقال: أرقه يؤرقه إيراقاً. مثل: أرقه يؤرقه توريقاً.
يقول: هذه المرأة تكاثر نائل الأمير؛ في إعطائها لنا السهر فتناهت في ذلك، كما أنه تناهي في إعطاء المال.
وقيل الإيراق: مصدر أورق الصائد إذا خاب. ومعناه: أنها تكاثرت في المنع، فمنعها مثل جوده.
ليس إلا أبا العشائر خلقٌ ... ساد هذا الأنام باستحقاق
طاعن الطعنة التي تطعن الفي ... لق بالذعر والدم المهراق
يقول: إنه يطعن الطعنة فتملأ هذه الطعنة قلوب الجيش، خوفاً ورعباً فكأنه طعن الفيلق وأرقا دمآءهم.
وقوله: ليس في البيت الأول مبتدأ وأبا العشائر خبره.
ذات فرغٍ كأنها في حشا المخ ... بر عنها من شدة الإطراق
ذات فرغ: جر لأنه بدل من الطعنة. وقد روي بالنصب: على الحال. والمخبر: بفتح الباء الذي أخبرته بخبر. وفرغ الدلو: مصب الماء منه. شبه الطعنة بالدلو لسعتها، أي أن الدم يسيل منها كما يسيل الماء من فرغ الدلو، ثم قال: لو أخبر مخبر إنساناً بصفتها لملأ قلبه ذعراً، حتى أطرق رأسه استعظاماً لها، حتى كأن الطعنة في حشا السامع بها.
ضارب الهام في الغبار وما ير ... هب أن يشرب الذي هو ساق
ما للنفي. يقول: إذا هاجت الحرب وارتفع الغبار يضرب رءوس الشجعان، ولا يخاف أن يشرب كأس الموت الذي يسقيه الشجعان.
فوق شقاء للأشق مجالٌ ... بين أرساغها وبين الصفاق
الشقاء: الفرس الطويلة القوائم، والذكر: أشق والأرساغ: جمع الرسغ، وهو موصل الكف في الذراع، والقدم في الساق. والصفاق: الجلد الرقيق تحت الجلد الظاهر من البطن في الإنسان والدابة.
واختلفوا في الأشق هاهنا.
ومعناه: أن يضرب الهام راكباً فرساً شقاء يجول تحت بطنها كما يجول المهر تحت بطن أمه. وقيل. أراد بالأشق: والد هذه الشقاء. ومعناه: أنه فوق فرس شقاء، لوالدها مشابة بها، وهو معنى المجال في أرساغها وصفاقها، أي قوية الأرساغ وسائر الأعضاء، كما كان والدها كذلك.
وقيل: أراد بالأشق الرمح، أي أنه فوق هذه الفرس، وللرمح مجال ومضطربٌ بين جلد بطنها وأرساغها. وقيل. الأشق من المشقة: والمراد به المصروع من الشجعان الذي يكون على أشق الحال، ومعناه أنه على هذه الفرس يطأ الشجعان بقوائمها، فيكون لهم مجال بين أرساغها وصفاقها.
وقيل: أراد أشق الممدوح. إما لأنه طويل القامة، أو أنه أشق الناس على أعدائه من المشقة، فيكون له مجال فوقها بالامتداد والانثناء لحذقه بالطعن.
همه في ذوي الأسنةلافي ... ها وأطرافها له كالنطاق
يقول: لا يبالي بالأسنة التي تحيط به من جوانبه كالنطاق، ولا يكون له بها همة ولا يحذر منها، بل يكون همه مصروفاً إلى أرباب الأسنة ليطعنهم ويأسرهم ومثله لأبي تمام:
إن الليوث ليوث الغاب شأنهم ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ما رآها مكذب الرسل إلا ... صدق القول في صفات البراق
هذا البيت زائد.
يقول: ما رأى هذه الفرس الشقاء، من يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله إلا صدق ما يذكر في أمر البراق، من السرعة في السير.(1/198)
ثاقب العقل ثابت الحلم لا يق ... در أمرٌ له على إقلاق
ثاقب: قيل معناه: عقله صادق من الجهل منير، يرى به الأمور على حقائقها.
وقيل: بين العقل. وقيل: نافذ العقل ثابت الحلم أي أنه متمكن من حلمه لا يطيش ولا يزعجه شيء ولا يقلقه أمر، لثبات عقله وزيادة حلمه.
يا بني الحارث بن لقمان لا تع ... دمكم في الوغى متون العتاق
يقول لقومهم: لا عدمتكم ظهور الخيل في الحرب. وخص ذلك في حال الحرب؛ دلالة على شجاعتهم. لأن ملازمة ركوب الدواب عادة الرائضين.
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
يقول: ملئوا قلوب أعاديهم من الخوف، فانهزموا منهم قبل ملاقاتهم وقتالهم، فكان القتال والحرب قبل الالتقاء.
وتكاد الظبي لما عودوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق
الظبي: جمع ظبية وهي حد السيف. والتأنيث عائد إليها.
يقول: إنهم عودوا سيوفهم إخراجها من الأغماد، وضرب أعناق الأعداء بها، فهي تكاد تخرج نفسها من أغمادها، وتتوصل إلى الأعناق قبل أن يسلوها منها ويضربوا بها.
وإذا أشفق الفوارس من وق ... ع القنا أشفقوا من الإشفاق
يقول: إذا اشتدت الحرب وخاف الفرسان من الطعن، خاف هؤلاء من الخوف، فلا يقدمون في الحرب.
كل ذمرٍ يزيد في الموت حسناً ... كبدور تمامها في المحاق
الذمر: الشجعان يقتحمون المعركة. وقوله: تمامها في المحاق إن أراد بذلك استكمال ضوئها، ففي الظاهر تناقض.
وتأويله: أن كل واحد منهم إذا مات زاد حسنه، لأنه لا يموت إلا قتلاً. فكأنه يقول: هم في الحسن بدور، وإذا قتلوا زاد حسنهم بما يظهر من صبرهم وإقدامهم فكأنهم بدور، تمامها في المحاق على سبيل التقدير: أي لو وجدت بدور إتمامها في محاقها لكانوا مشبهين بها.
وذلك من تعليق الجائز بالمحال.
وقيل: أراد بالتمام غاية ما يفضى إليه أمر البدور وهو المحاق. ومعناه: أن هؤلاء تمام أمرهم في قتلهم. كبدور يفضي أمرها بالمحاق فكذلك يفضي أمر هؤلاء إلى القتل، ولا يموت أحد منهم إلا حتف أنفه.
جاعلٍ درعه منيته إن ... لم يكن دونها من العار واق
الهاء في دونها للمنية.
يقول: كل واحد منهم إذا لم يمكن دفع العار عن نفسه إلا بتدرع الموت، يجعل المنية درعه حتى يقي بها عن نفسه.
كرمٌ خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
يقول: فيه كرم يحمله على خشونة جوانبه على الأعداء، ففيه لين من حيث الكرم، وخشونة من حيث البأس والامتناع من الأنفة، فهو كالسيف إذا سقي صلبت شفرته وألبسها خشونة مع ما فيه من الرقة والصفاء.
وهذا من بدائع المتنبي.
ومعالٍ إذا ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق
يقول: لهم معالٍ مشهورة لا يمكن لأحد أن يدعيها لنفسه، فإن ادعى مدع ذلك لزمه ما يلزم السارق من قطع اليد.
يابن من كلما بدوت بدا لي ... غائب الشخص حاضر الأخلاق
نصب غائب وحاضر على الحال. وبدا فعل من وأراد به الأب.
يقول: إذا رأيناك كأنا رأينا أباك، لأن أخلاقه موجودة فيك فلم تفتقد منه إلا شخصه.
لو تنكرت في المكر لقومٍ ... حلفوا أنك ابنه بالطلاق
يقول: إنك تشبه أباك في إقدامه وشجاعته، فلو تنكرت: أي أخفيت نفسك. في المكر: أي في الحرب. لحلفوا بالطلاق أنك ابنه. وخص المكر: إشارة إلى أنه في الإقدام والشجاعة لا يشبه إلا أباه، إذ مثل ذلك لا يوجد إلا منه، أو من أبيه، أو لأن هذا الموقف أشرف المواقف وأفخرها والشبه هنا أقوى الأشياء وأنفسها.
كيف يقوى بكفك الزند والآ ... فاق فيها كالكف في الآفاق
الهاء في فيها للكف.
يقول: كيف يطيق زندك حمل كفك؟ مع أن كفك قد أحاطت بنواحي الأرض! حتى صارت الآفاق في كفك بمنزلة كف الإنسان في الآفاق قلة وحضارة. وأراد بذلك سعة عطائه، وأنه يريد منافع العالم.
وقيل: معناه كيف يوري الزند النار ولا ينكسر من قوتك؟! وكفك يحيط بالآفاق إحاطة الآفاق بكف غيرك.
قل نفع الحديد فيك فما يل ... قاك إلا من سيفه من نفاق
يقول: الحديد لا يعمل فيك، فعجز أعداؤك عن المجاهرة بعداوتك وأعادوا السيوف والرماح واختاروا مواراتك والنفاق في حبك، فأظهروا الحب والانقياد. ولطوا على العماوة والشقاق.(1/199)
وقيل على الثاني: استعمال الحديد معك لا ينفع ولا حاجة إلى الزند، مع أنك توري، ولذلك لا يلقاك أحد إلا من جعل سيفه من نفاق، وتصنع الاستماح منك دون المجاهرة بعداوتك.
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
يقول: هؤلاء الذين يداجونك بالعداوة، ألفوا هذه الدنيا وتنسم هذا الهواء، ومن ألف الدنيا واستطاب حياتها، فهو يختار ما يؤدي إلى القيام بأمرها، فإلفهم لها أوقع في أنفسهم: أن الموت مر المذاق.
والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراق
يؤكد المعنى الذي ذكره. يقول: الجزع من الموت قبل حلوله عجز وجبن، فلا معنى له والروح بعد لم تفارق، فإذا فارقت الروح بطل الجسم وزالت حياته وبطل حسه، فإذا ليس للجزع من الموت وجه.
كم ثراءٍ فرجت بالرمح عنه ... كان من بخل أهله في وثاق
الثراء والثروة: المال. والوثاق: بالفتح ما يوثق به. يقول: كم مالٍ كان في بيت بخيل قتلته واحتويت عليه وفرقته إلى أهله، وكان عندهم في وثاق البخل، ففرجت عنه وفككته من وثاقه.
والغنى في يد اللئيم قبيحٌ ... قدر قبح الكريم في الإملاق
الإملاق: الفقر.
يقول: الغنى لا يحسن في يد البخيل إذ لا يفرح أحد به ولا يظهر عليه، فهو في القبح في اللئيم، كالفقر بالكريم.
ليس قولي في شمس فعلك كالشم ... س ولكن في الشمس كالإشراق
يقول: ليس ثنائي عليك. وضع لشمس فعلك كالشمس، لكنه دليل على فعلك، وإذاعة له وتسيير له في البلاد، كالإشراق للشمس إذ لولاه ما كانت الشمس تشمل العالم بضوئها، فكذلك لولا ثنائي لكاد لا ينشر ذكره.
وقيل: معناه إن قولي ليس نظيراً لفعلك، ولكنه صادر عنه، كانتشار الضوء عن الشمس، ففعلك شمس وثنائي إشراقها.
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
الخدن: الصديق، واراد به نفسه. وجعله خدناً تخصصاً به وتحققاً بمودته. وفيه ضرب من الكير وتطاول العنق! يقول: هو شاعر المجد يبدي فيه البدائع والغرائب، وأنا شاعر اللفظ، فكل واحد منا بديع في فنه، ويغرب في شعره، ويأتي بدقائق المعاني التي يعجز عنها غيره، فالملوك عجزوا عن مجده، والشعراء عجزوا عن شعري وهذا من قول البحتري:
غربت خلائقه وأغرب شاعرٌ ... فيه فأبدع مغربٌ في مغرب
لم تزل تسمع المديح ولكن ... صهال الجياد غير النهاق
يقول: كنت أبداً تسمع المديح، ولكن لم يمدحك أحد مثلي، فشعري كصهيل الفرس الجواد، وشعر غيري كنهيق الحمار!
ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد ... هر أو رزقه من الأرزاق
أي: ليت حظي من السعادة مثل حظ هذا الدهر الذي أنت فيه في الأدهر، وليتني رزقت مثل ما رزق هذا الدهر.
أنت فيه وكان كل زمانٍ ... يشتهي بعض ذا على الخلاق
معناه: أنت في هذا الزمان، فكل زمان مضى قبله يشتهي أن يكون حصل له بعض ما حصل لهذا الزمان، لكونك فيه ومثله لمسلم:
الدهر يغبط أولاه أواخره ... إذا لم يكن كان في أعصاره الأول
ودخل عليه يوماً وهو على الشراب وبيده بطيخة من ند في غشاء من خيرزان، على رأسها قلادة لؤلؤ، فحياه بها وقال: أي شيء تشبه هذه فقال:
وبنيةٍ من خيزرانٍ ضمنت ... بطيخةً نبتت بنارٍ في يد
كل ما يبني: فهو بنية وبناء.
يقول: هذه بنية من خيزران، جعلت فيها بطيخة نبتت من نار في يد صانعها فنباتها من النار يخالف سائر البطيخ.
نظم الأمير لها قلادة لؤلؤٍ ... كفعاله وكلامه في المشهد
يقول: نظم الأمير في هذه البطيخة قلادة من لؤلؤ، وتشبه هذه القلادة فعله وكلامه في المجلس.
كالكأس باشرها المزاج فأبرزت ... زبداً يدور على شرابٍ أسود
شبه هذه البطيخة بكأس فيه شراب أسود، والقلادة التي عليها بالزبد. الذي يعلو الشراب إذا مزج.
وقال فيها أيضاً ارتجالاً يصف البطيخة:
وسوداء منظومٌ عليها لآلىٌ ... لها صورة البطيخ وهي من الند
كأن بقايا عنبرٍ فوق رأسها ... طلوع رواعي الشيب في الشعر الجعد
الواو بمعنى رب. يقول: إنها في صورة البطيخ، لكنها من الند! وقوله: رواعي: جمع راعية، وهي أول شعرة تبيض وقيل: ما انتشر منه في الرأس. وقيل: مقلوبة من رائعة، لأنها تروع.(1/200)
شبه العنبر الذي كان فوق رأسها ببياض الشعر، في الشعر الجعد، لأن البطيخة كانت سوداء والعنبر ما ضرب إلى الشيبة، وخص الجعد؛ لأنه مع السواد في الأغلب. وقيل أتى به لأجل القافية.
وقال أيضاً يصف هذه البطيخة
ما أنا والخمر وبطيخةٌ ... سوداء في قشرٍ من الخيزران؟!
رفع الخمر وبطيخة عطفاً على ما. أي: ما أنا والخمر، وما بطيخة. ويجوز نصبه على معنى الفعل، وتكون الواو بمعنى مع.
يقول: أي شيء أنا، أي ما لي وملابسة الخمر وهذه البطيخة السوداء التي قشرها من الخيزران، عن الشغل بالحرب في طلب الذكر والصيت.
يشغلني عنها وعن غيرها ... توطئتي النفس ليوم الطعان
روى: توطئتي من وطأت الشيء: أي لينته. وروى: توطيني بها النفس من وطنت النفس على الشيء. والمعنى واحد.
يقول: يشغلني عن هذه البطيخة وغيرها من الطيب، استماع قصر نفسي على الحروب والمطاعنة فيها.
وكل نجلاء لها صائكٌ ... يخضب ما بين يدي والسنان
وكل عطف على توطئتي النفس. وهو رفع، ويجوز جره عطفاً على قوله: ليوم الطعان. وقوله: صائك أي دم يابس يلصق بالرمح.
يقول: يشغلني عما ذكرت، كل طعنة واسعة يخرج منها دم كثير حتى يخضب به الرمح واليد.
فقال أبو العشائر لجلسائه: لو أراد أن يقول فيها ألف بيت لفعل.
وكبس أنطاكية جيش السلطان وقصد دار أبي العشائر، وهو يومئذ يلي حربها، وكان قد بكر إلى الميدان، فلما رجع وقد تفرق الناس عنه، لقي أوائل الخيل فهزمها من السوق إلى باب فارس، فأصابه سهم في خده فأضربه. وضرب رجلاً منهم على رأسه فقتله، وكثر الناس عليه، فرجع حتى خرج من باب مسلمه وما تبعه أحد، ومضى إلى حلب، وعاد بعد ذلك إلى أنطاكية، واتصل خبر عودته بأبي الطيب وهو بالرملة، فسار إلى طرابلس فعاقه ابن كيغلغ على ما تقدم ذكره ثم سار إلى أنطاكية فقال يمدح أبا العشائر:
مبيتي من دمشق على فراش ... حشاه لي بحر حشاي حاش
حشاه: فعل ماض. وفاعله: حاش، وحشاي اسم. والجمع: أحشاء.
يقول: كأنني من شدة الحزن وبعد النوم عني، على فراش قد حشي بما أجده من حرارة الشوق، فكأن حرارة حشاي نقلت إلى فراشي، وحشي بحرارتها.
شبه حرارة الفراش بحرارة أحشائه.
لقى ليلٍ كعين الظبي لوناً ... وهم كالحميا في المشاش
اللقى: الملقى. والحميا: الخمرة. وقيل: سورة الخمر. والمشاش: جمع مشاشة، وهي عظم رخو يمكن أكلها، ولوناً: نصب على التمييز.
يقول: أنا مطروح أو كالمطروح على فراشي، في ليل كأن سواده عين ظبي وأنا مطروح وهو يدب في عظامي كما يدب الخمر.
وشوقٍ كالتوقد في فؤادٍ ... كجمرٍ، في جوانح كالمحاش
المحاش والمحاش: لغتان، وهو ما أحرقته النار وقيل: هي خشبة يحرك بها التنور من خشب النار لتقد، فأصله الإدغام، غير أنه خفف.
يقول: إنا لفي شوق، كأنه في التوقد، في فؤاد هو كالجمر، وذلك الفؤاد في جوانح وهي الأضلاع كأنها المحاش: وهو ما أحرقته النار.0 شبه الشوق بالتوقد، والفؤاد بالجمر، والجوانح بشيء أحرقته النار.
سقى الدم كل نصلٍ غير نابٍ ... وروى كل رمحس غير راش
النابي: الكليل. يقال نبا السيف ينبو نبواً: إذا ضربت به فلم يقطع، ورمح راشٍ: أي غير ضعيف.
يدعو للرمح والسيف وبالسقيا فيقول: سقى الدم الذي هو كالماء كل سيف حاد غير نابي الضربة، وروى الدم أيضاً كل رمح غير ضعيف. فكأنه قال لا زالت السيوف والرماح تقتل الأعداء.
فإن الفارس المنعوت خفت ... لمنصله الفوارس كالرياش
المنعوت: أي الموصوف بالشجاعة المعروفة.
روى المبغوت وهي رواية ابن جنى أي الذي يؤتى على بغتة ولم يعلم هو والرياش: جمع ريش. والريش جمع ريشة.
يقول: إنما دعوت للسيف، لأن الممدوح لما فاجأته الخيل فرقها بسيفه، فصارت الفوارس لسيفه في الخفة بمنزلة الرايش.
فقد أضحى أبا الغمرات يكنى ... كأن أبا العشائر غير فاش
الغمرات: الشدائد. واسم أضحى ضمير الفارس المنعوت، ويكنى موضع الخبر، وأبا الغمرات: المفعول الثاني من يكنى، والأول ضمير الفارس، وهو في موضع الرفع. يقال: كنيت الرجل: أبا عبد الله. فإذا أسند إلى المفعول قيل: كنى الرجل أبا عبد الله، ويعدى بحرف الجر أيضاً فيقال: كنيت الرجل بأبي عبد الله. وكنو الرجل لغة.(1/201)
يقول: إن أبا العشائر لكثرة ملابسته الحروب والشدائد صارت كنيته أبا الغمرات حتى كأن كنيته المعروفة التي هي أبو العشائر غير ظاهرة ولا معلومة.
وقد نسي الحسين بما يسمى ... ردى الأبطال أو غيث العطاش
يقول: إنه كثر منه البأس والجود. فكل أحد يسميه. إما: ردى الأبطال. وإما: غيث العطاش. ونسي اسمه الذي سماه به أبواه المعروف المشهور.
لقوه حاسراً في درع ضربٍ ... دقيق النسج ملتهب الحواشي
كأن على الجماجم منه ناراً ... وأيدي القوم أجنحة الفراش
الفراش: جمع فراشة وهي دويبة تدور حول السراج فتسقط فيه، والهاء في منه للممدوح أو القرب، وقيل: للسيف. فأضمره وإن لم يجر له ذكر.
يقول: من شدة ضربة الجماجم صار كأن عليها ناراً، وكأن أيدي القوم المتطايرة بالسيف عند ضربه إياها كالفراشات التي تطير حول النار، فإن كانت الهاء للسيف فمعناه: كأن السيف على رءوسهم مثل النار وأيدي القوم حول هذه، كأجنحة الفراش حول النار، فكأن هذه الأيدي تجيء لتأخذ السيف فيقطعها، ومثله لحارث ابن أبي شمر:
والبيض تختلس النفوس كأنما ... يوقدن في حلقٍ المفاوز نارا
كأن جواري المهجات ماءٌ ... يعاودها المهند من عطاش
أراد بالمهجات ها هنا: الدماء. والعطاش: داء يأخذ الإبل فلا تروى من الماء. وقيل هو لفظ العطش. والهاء في يعاودها للمهجات ويروى: يعاوده فيكون للماء.
يقول: كأن الدماء الجارية في قلوب الأعداء وجسومهم ماء، وكأن السيف به عطاش فهو يعاوده ولا يروى منه.
فولوا بين ذي روحٍ مفاتٍ ... وذي رمقٍ، وذي عقلٍ مطاش
مفات: جر لأنه نعت لروح، ومطاش: جر لأنه نعت لعقل. يقال: طاش السهم أو طاشه غيره.
يقول: أدبروا من بين يديه، وهم ثلاثة أقسام.
منهم قتيل قد فارق روحه، ومنهم من لم يبق له إلا بقية رمقه، ومنهم من طاش عقله وزال من شدة الخوف. واستوفى الأقسام في بيت واحد.
ومنعفرٍ، لنصف السيف فيه ... تواري الضب، خاف من احتراش
المنعفر: الساقط على العفر، وهو التراب. والاحتراش: الاصطياد، يقال احترشت الضب وحرشته، وذلك أن يأتي الرجل باب جحر الضب فيمر بيده عليه فيظن الضب أنه حية، فيخرج ذنبه ليضربها به، فيأخذه الرجل. وروى لنصل السيف. ومنعفر قيل: عطف على الأقسام المتقدمة أي وذي منعفر.
وقيل: معناه ورب عدوٍّ منعفر قد غاب نصف السيف فيه أو نصله مثل ما يغيب الضب في الجحر إذا خاف الاحتراش به، أي الاصطياد.
يدمي بعض أيدي الخيل بعضاً ... وما بعجايةٍ أثر ارتهاش
العجاية: عصب فوق الحافر. والارتهاش: أن يصطك عرقوباه فتقرح رواهشه وهو باطن الذراع.
المعنى: أن الخيل انهزمت من بين يديه وازدحمت في الهزيمة، وقصت حوافر بعضها بعضاً، حتى دميت أيديها، ولم يكن ارتهاش.
ورائعها وحيدٌ لم يرعه ... تباعد جيشه والمستجاش
رائعها: أي مفزعها. والمستجاش: من يطلب منه الجيش، وأراد به سيف الدولة، وقيل أراد العسكر: أي المستجاش فيه.
يقول: إن مخوف هذه الخيل كان وحيداً ليس معه أحد من جيشه، ولم يفزعه بعد جيشه بعد من يستمد منه الجيش.
كأن تلوي النشاب فيه ... تلوي الخوص في سعف العشاش
الخوص: ورق النخل. والسعف: الجريد الذي عليه الخوص، والعشاش: جمع عشة، وهي النخلة التي عطشت، فيقصر سعفها ويضعف.
يصف النشابة التي أصابته في خده، فشبهه بنخلة، وشبه النشابة بخوص سعفها قد تلوى على السعفة، وذلك لضعف الخوص ويبسه؛ لأنه إذا كان رطباً قوياً لا يتلوى على السعف، فكأنه لقلة مبالاته بها شبهها بتلوي الخوص على سعفه.
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
القماش: الأثاث المجموع من كل صنف.
يقول: إن أهل المجد والهمة العالية همتهم استيلاب النفوس وقتل الأبطال، دون الاشتغال بسلب القماش والغنائم ومثله لأبي تمام:
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
تشارك في الندام إذا نزلنا ... بطانٌ لاتشارك في الجحاش
الندام: المنادمة. والبطان: جمع بطين والجحاش: المجاحشة، وهي المقاتلة والمدافعة.(1/202)
يعرض بقوم خذلوه ذلك الوقت فيقول: إذا كان يوم شرب ومنادمة شاركوه في الأكل والشرب ولا يشاركونه في القتال والدفاع! ومثله قول الآخر:
يفر عن الكتيبة حين يلقى ... ويثبت عند قائمة الخوان
ومن قبل النطاح وقبل يأتي ... تبين لك النعاج من الكباش
روى: يأنى أي يحين من قولهم: أنى يأنى، وروى يأتى أي يجيء. والنطاح. أصله ضرب الكباش بالقرون، ثم استعمل في كل محاربة.
المعنى: أن الشجاع يعرف من الجبان قبل المحاربة وقبل وقتها فجعل الكباش مثلاً للشجعان والنعاج مثلاً للأراذل والجبناء.
فيا بحر البحور ولا أوري ... ويا ملك الملوك ولا أحاشي
لا أوري: أي لا استر قولي لك يا بحر البحور، هذا ولا أحاشى أي لا أستنثي أحد من قولي لك يا ملك الملوك.
قال ابن جنى: وربما كان ينشد المتنبي ويا بدر البدور مكان قوله يا ملك الملوك.
كأنك ناظرٌ في كل قلبٍ ... فما يخفى عليك محل غاش
الغاشي: القاصد، يقال: غشيه يغشاه إذا قصده.
يقول: أنت عارف بمن يقصدك، ولا يخفى عليك محله، فتنزل كلاً منزلته الذي يستحقها، فكأنك مطلع على أسرار القلوب.
وقيل: أراد بالغاشي من الغش فخفف. والأول أولى أي من نزل بك فلا يخفى عليك محله.
أأصبر عنك لم تبخل بشيءٍ ... ولم تقبل علي كلام واش؟
كان قد وشى بالمتنبي بعض من يعاديه إلى أبي العشائر، فلم يسمع منه وأنفذ عقيب هذه الوشاية إليه مالاً فهذا هو المراد بالبيت.
وكيف وأنت في الرؤساء عندي ... عتيق الطير ما بين الخشاش
عتاق الطير: كرامها. والخشاش: صغارها.
يقول: كيف أصبر عنك وأنت بين الرؤساء في الفضل، كالبازي بين صغار الطير.
فما خاشيك للتكذيب راجٍ ... ولا راجيك للتخييب خاش
يقول: إن من يخافك حل به بأسك ووقع به سخطك، فلا يرجو تكذيباً لما يخافه، ومن يرجوك لا يخاف أن يكذب رجاؤه، فأنت تصدق ظن من يخافك ويرجوك.
وقيل معناه: ليس يرجو من يخشاك أن يلقى من يكذبه ويخطئه في خوفه، لأن الناس كلهم يخافون منك
تطاعن كل خيلٍ سرت فيها ... ولو كانوا النبيط على الجحاش
النبيط: أهل السواد بالعراق. وقيل أراد به: العجم.
يقول: كل خيل سرت فيها وبينها كانت الغلبة لهم، ولو كانوا نبطاً على حميرهم؛ لأنهم يشجعون بك ويصيرون أفرس الناس وأطعنهم. والجحاش: جمع جحش وهو ولد الحمار.
أرى الناس الظلام وأنت نورٌ ... وإني فيهم لإليك عاش
العاشي: القاصد ليلاً.
يقول: الناس كالظلام في الليل، وأنت فيما بينهم كالنور، وأنا ناظر بين الناس إليك، وقاصد نحوك مستضيء بنورك. والأصل فيه قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار
بليت بهم بلاء الورد يلقى ... أنوفاً هن أولى بالخشاش
الخشاش: الخشبة التي تكون في أنف البعير، فإن كانت من شعر قيل له: خزام، وإن كانت من ضفرٍ فهو: برة. والضمير في بهم للناس.
يقول: تأذيت بهؤلاء الناس الذين لا يشاكلونني، كما يتأذى الورد من شمه، بأنوف الذين هم بمنزلة البهائم! وقيل معناه: إني أتأذى بهم كما يتأذى الورد بأنوف الإبل، وروى بالحشاش وهي الكنف.
عليك إذا هزلت مع الليالي ... وحولك حين تسمن في هراش
الهراش والتهاريش: هو مخاصمة الكلاب.
يقول: هؤلاء الناس عليك مع الليالي، أي صاروا لأعدائك مع الزمان وحوادثه، إذا هزلت: أي أصابتك نوائب الدهر. ويصيرون حولك ومعك حين تسمن. أي إذا ساعدك الزمان كانوا معك يهارش بعضهم بعضاً في طلب النفع منك. ومثله لإبراهيم بن العباس:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما انثنى صرت حرباً عوانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
والمقصود وصفهم بدناءة الأصل.
أتى خبر الأمير فقيل كروا ... فقلت نعم ولو لحقوا بشاش
وروى: أجل والشاش: بلدة بالترك. وروى: كروا بفتح الكاف وهي رواية ابن جنى.
والمعنى: بلغنا خبر الأمير وهزيمة الخيل منه. وقيل لنا: كروا عليهم. أي عطف الأمير وأصحابه على الخيل فقلت: نعم ولو أنهم لحقوا في الهزيمة بشاش، لوثقت بعودته وكره عليهم.(1/203)
وروى كروا على الأمير. والمعنى: أتى خبر الأمير بظفره بالعدو فقيل لنا يا معاشر أصحابه اللائذين به كروا فقلت نعم ولو كانوا بشاش. أي لو كان البعد بيننا وبين الأمير مثل ذلك للحقنا به، وقوله بعد ذلك وأسرجت الكميت يدل عليه.
يقودهم إلى الهيجا لجوجٌ ... يسن قتاله والكر ناش
اللجوج: المتمادي في الشيء، الذي لا ينثني عنه، ويبالغ فيه. ويسن: أي يبالغ فيه، حتى يعظم ويكبر من المسن والمسنة. وناش: أي ناشىء، أي في أوله: يقول: يقود العسكر إلى الحرب. لجوج: أي مبالغ في الحرب، ليسن قتاله: أي يصير إلى آخر القتال، ومع ذلك فإن كره لا يصير إلى آخره، بل ينشأ شيئاً فشيئاً يعني أن قتاله قد بلغ الغاية، وكر في أول حاله كالغلام الناشىء.
وأسرجت الكميت فناقتل بي ... على إعقاقها وعلى غشاش
الكميت: يستعمل في الذكر والأنثى، وناقلت بي: أي أسرعت. وقيل: أدامت السير. وقيل المناقلة: أي تضع رجلها مكان يدها، وإنما تفعل ذلك في الأرض الكثيرة الأحجار. والإعقاق: مصدر أعقت الدابة. إذا عظم بطنها من الحمل. وقيل: إذا نبت شعر الجنين الذي في بطنها. والغشاش: العجلة.
يقول: لما أتاني خبره، أسرجت فرسي وركبتها على سرعة، وهي عقوق ولم أشفق عليها.
من المتمردات أذب عنها ... برمحي كل طائرة الرشاش
يعني: أن الكميت من الخيل المتمردات التي لا تبالي بشيء، ولا يقدر على الوصول إليها لسرعتها وخبثها وذلك من قوله تعالى: " شيطانٍ مارد ".
يقول: إنها من الخيل المتمردات، وإني أدفع عنها برمحي، كل دم رشاش. أي أني أذب عنه بنفسي ورماحي كل من يريد عقرها، وأدفع عنها كل طائرة الرشاش: أي كل دم ينط عند الطعن ويرش وينتضح.
ولو عقرت لبلغني إليه ... حديثٌ عنه يحمل كل ماش
يقول: لو عقرت هذه الفرس تحتي، لبلغني إليه حسن الحديث الذي أسمعه عنه، وهذا الحديث يحملني إليه لأنه يحمل كل ماش وإن لم يكن له فرس.
إذا ذكرت مواقفه لحافٍ ... وشيك فما ينكس لانتقاش
شيك: أي إذا دخل في رجله شوك والتنكس: هو تنكيس الرأس. لإخراج الشوك من الرجل، والانتقاش: إخراج الشوك. ومنه: المنقاش ومعناه: إذا ذكرت مواقفه في الحروب للحافي: الذي لا حذاء له، وشيك في رجله، فإنه لا ينكس رأسه لإخراج الشوكة من رجله، لما داخله من الخوف والتحير، إذا سمع ذلك تاق ورغب في صحبته فأسرع إليه ولم يلو على شيء، كما فعلت.
وقيل: إذا ذكرت مواقفه في السخاء للإنسان وكان حاف، ودخل الشوك في رجله فإنه لا ينكس رأسه إلى أسفل لاستخراج الشوكة من رجله بل يسرع إليه، لما تقو الدواعي في الاحتياج إليه. هذا تفسير أبي الفتح.
وقيل: إن أحاديثه الحسنة تؤدي سامعها أنه إذا أصابت رجلهشوكة لم يشعر بها فلا يقطع الحديث لحسنه، ولا ينكس رأسه لإخراجها.
يزيل مخافة المصبور عنه ... ويلهي ذا الفياش عن الفياش
الفياش: المفاخرة، وأكثره في الباطل. روى ابن جنى قال: تلهى بمعنى تزيل على الخطاب للمدوح. وقيل: إن التاء راجع إلى المواقف، أي إن المواقف تزيل وتلهى.
يقول على الخطاب: إنك تزيل مخافة المحبوس بأن تخلصه من الأسر والحبس، وتنسي صاحب الفخر فخره؛ لأنه إذا نظر في أوصافك علم بقصوره عنك فيمتنع عن الفخار.
وعلى الخبر عن المواقف يقول: إذا سمع مواقفه: من جنس القتل وغيره، أنساه ذكرها وحسنها ما هو فيه من الخوف، فإذا سمع مفاخرة أنساه ذكر مفاخرته.
وما وجد اشتياقٌ كاشتياقي ... ولا عرف انكماشٌ كانكماشي
يقول: كل أحد يشتاق إلى لقائك، وينكمش نحوك. ولكن ليس لأحد شوق مثل شوقي إلى لقائك ولا اجتهاد لأحد، مثل اجتهادي في المسير إليك.
فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش
يقول: إنما قصدتك لأبلغ المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وقصدك غيري لطلب المعاش، واقتناء الرياش، فلهذا صار شوقي أكثر وانكماشي أقدر.
وخرج أبو العشائر يوماً يتصيد، وخرج أبو الطيب معه، فأرسل بازياً على حجلة فأخذها فقال أبو الطيب يصف ذلك:
وطائرةٍ تتبعها المنايا ... على آثارها زجل الجناح
تتبعها: أي تتبعها، فحذف إحدى التاءين. والزجل: الصوت.
يقول: رب قبجةٍ رائشها يطير، وخلفها بازٍ يريد صيدها، فكأن المنايا تطلبها.(1/204)
كأن الريش منه في سهامٍ ... على جسدٍ تجسم من رياح
الهاء في منه لزجل الجناح. وهو البازي، شبه ريشه بريش السهام؛ للسرعة، فيكون ريشه في نفس السهام، والسهام ظرف له.
ومعناه: كأن ريشه سهام على جسم يكون من ريح، لأن الريش سبب لقتل الطائر، كما أن السهام سبب للقتل.
وقيل في بمعنى على أي كأن ريشه على سهام كانت بهذه الصفة.
كأن رءوس أقلامٍ غلاظاً ... مسخن بريش جوجئه الصحاح
غلاظاً: نصب لأنه صفة لرءوس والصحاح: بمعنى الصحيح. وروى بالكسر: وهو جمع الريش. وقد يكون واحداً وجمعاً. والصحاح: نعت للريش. شبه السواد الذي في صدر الباز بآثار مسح رءوس الأقلام الغلاظ، وهو تشبيه مصيب. ويجوز أن يكون الصحاح بالفتح: صفة الجؤجؤ.
فأقعصها بحجنٍ تحت صفرٍ ... لها فعل الأسنة والرماح
يقال: طعنه فأقعصه. إذا قتله مكانه، بحجنٍ: أي بمخالب معقفة، وهو جمع أحجن. وتحت صفر: وهي أصابعه ورجله.
يقول: قتلها البازي بمخالبه أي أظفاره التي تحت أصابعه، وهذه المخالب لها فعل الأسنة والرماح. وهو القتل؛ لحدتها.
فقلت: لكل حيٍّ يوم سوءٍ ... وإن حرص النفوس على الفلاح
الفلاح: البقاء. وقيل الفلاح: الظفر بالخير.
يقول: كل حيٍّ لابد له من يوم سوء، يوافيه أجله فيه وإن حرص الناس على البقاء، فلا سبيل لهم إليه.
فقال له أبو العشائر أفي هذه الساعة قلت هذا؟! فقال مجيباً له على تعجب أبي العشائر لسرعة بديهته:
أتنكر ما نطقت به بديهاً ... وليس بمنكرٍ سبق الجواد؟!
بديهاً: مصدر في موضع الحال. يقول: لا تنكر بديهتي ولا تستبعد ارتجالي الأشعار، وأنا في ذلك بمنزلة الجواد، فإنه لا يستنكر منه سبق سائر الخيل.
أراكض معوصات القول قسراً ... فأقتلها وغيري في الطراد
أراكض: أي أسابق، وأجاري. والمعوص والعواص: الصعب.
يقول: إذا حاولت معنىً عويصاً من الشعر فرغت منه، وغيري بعد في التفكير.
ودخل عليه وعنده إنسان ينشده شعراً وصف به بركةً في داره فقال يمدح أبا العشائر:
لئن كان أحسن في وصفها ... لقد ترك الحسن في الوصف لك
يقول: إن كان قد أحسن في وصف هذه البركة، فقد ترك الحسن في وصفك وهو أولى من وصف البركة وأجمل.
لأنك بحرٌ وإن البحار ... لتأنف من حال هذي البرك
يقول: أنت بحر، والبحار تأنف من ماء هذه البركة. وهذا الوصف الذي وصفه، وهذه الأوصاف، دون الأوصاف التي أنت عليها.
كأنك سيفك لا ما ملك ... ت يبقى لديك ولا ما ملك
يقول: أنت مثل سيفك، إذا ملكت مالاً فرقته وأفنيته، والسيف إذا ملك مهجة أسالها وأفناها، فتبذل أنت ما ملكت، وتقتل بسيفك من وصل إليه.
فأكثر من جريها ما وهبت ... وأكثر من مائها ما سفك
الهاء في جريها ومائها للبرك. يقول: هباتك أكثر من مائها الجاري والدماء التي يسفكها سيفك أكثر مما فيها من الماء.
أسأت وأحسنت عن قدرةٍ ... ودرت على الناس دور الفلك
يقول: أسأت إلى أعدائك، وأحسنت إلى أوليائك، باختيار منك وقدرة، وأنت الدائر على الناس بالخير والشر، والإساءة والإحسان، والسعد والنحس، دور الفلك الدوار، إلا أنه لا اختيار له ولا قدرة، وأنت تفعل ما تفعله عن قدرة واختيار، فأنت الفلك الدائر في الحقيقة، وأنت أفضل منه للوجه المذكور.
وقال يمدحه ويذم قوماً من المتكسبة بالشعر:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله ... أول حيٍّ فراقكم قتله
الربع: المنزل، وجعل العمارة حياة له فسماه حياً، لأن أضاف أول إليه، وجعل التفصيل مضافاً إليه ما هو بعض منه. وجعله قتلاً له على المجاز.
يقول لأحبابه لما فارقهم: ليس هذا الربع بأول هالك بسبب فراقكم، بل قد تلف منزلكم وعفا رسمه، ودرس أثره، فكأن فراقكم قتله، وهذا الربع ليس بأول حي قتله فراقكم. وقد بين ذلك فيما بعده بقوله:
قد تلفت قبله النفوس بكم ... وأكثرت في هواكم العذله
الهاء في قبله للربع. يقول: ليس هذا الربع بأول كثير العذل بسبب فراقكم، وقد أكثر العذل في حبكم، فلم يكف أحد من العشاق عن هواكم، لأجل عذل العذال. والعذلة: جمع عاذل.
خلا وفيه أهلٌ وأوحشنا ... وفيه صرمٌ مروحٌ إبله(1/205)
الصرم: جماعة من البيوت بمن فيها أهله والمروح: الذي يرد إبله عن المرعى في الرواح، والهاء في فيه في الموضعين للربع وفي إبله للصرم.
يقول: لما ارتحل عنه من كنت أحبه، رأيته وإن كان عامراً بأهله موحشاً، وإن كان فيه بيوت وجماعة من الناس، ويروحون إبلهم إليه.
لو سار ذاك الحبيب عن فلكٍ ... ما رضي الشمس برجه بدله
برجه: فاعل رضي. ومفعوله: الشمس وهو أولى.
يقول: لو كان هذا الحبيب في فلك فسار عنه وحلت الشمس موضعه، لما رضي بها برجه الذي كان يحله، بدلاً منه.
أحبه والهوى وأدوره ... وكل حبٍ صبابةٌ ووله
الصبابة: شدة الشوق. والوله: ذهاب العقل.
يقول: أحب هذا الحبيب، وأحب أن أحبه! وأحب منازله لأجله، وكل حب فيه صبابة وشدة شوق وجنون وتحير.
وقيل: الواو في قوله: والهوى واو القسم. أي وحق الهوى، فيكون مجروراً.
ينصرها الغيث وهي ظامئةٌ ... إلى سواه وسحبها هطله
الهاء في ينصرها للأدؤر. أي: يكسوها العشب. يقال: أرض منصورة. إذا سقيت.
يقول: الغيث يسقيها وهي عطشى. إلى سوى الغيث، وهو الحبيب الذي ارتحل عنها، وسحب هذه الديار هاطلة بالمطر ولا تحتاج إليه.
وقيل معناه: إن هذه الأدؤر يصيبها المطر فيكسوها العشب فتستدعي معاودة من رحل عنها، وهو الحبيب. يقال: دار بني فلان منصورة. أي عادها من كان رحل عنها، ولهذا دعت العرب لديار أحبابها بالسقيا، ليعودوا إليها.
واحرباً منك يا جدايتها ... مقيمةً فاعلمي ومرتحله!
روى واحرباً، واحزناً لجداية أي وا أسفاً، واهلاكاً.
كأنه يقول: يا ظبية هذه الدار، ويلي منك! سواء كنت مقيمة أو مرتحلة؛ لأنك إن اقمت فممنوعة، وإن ارتحلت، حال البعد بيننا.
لو خلط المسك والعبير بها ... ولست فيها لخلتها تفله
العبير: الزعفران، عن أبي عبيدة. وقيل: أخلاط من الطيب فيه الزعفران، عن الأصمعي. والتفلة: المتغيرة الريح.
يقول: لو خلط المسلك والزعفران بتراب هذه الأدؤر، ولم تكوني فيها لظننت أنها متغيرة الريح لأن طيبها بك أنت!
أنا ابن من بعضه يفوق أبا ال ... باحث والنجل بعض من نجله
النجل: الولد والهاء في بعضه لمن الأولى وفي نجله لمن الثانية. ويريد بالباحث: إنساناً كان يبحث عن أصله، ويطعن في نسبه.
يقول: أنا ابن الرجل: الذي بعض ذلك الرجل: أي نفسه. يفوق والد الباحث، الذي يبحث عن فضل أبي، فإذا كنت أفضل من أبيه فالرجل الذي أنا بعضه لاشك في انه أفضل منه بكثير؛ لأن الولد بعض من ولده.
وإنما يذكر الجدود لهم ... من نفروه وأنفدوا حيله
نفروه: أي غلبوه بالنفر. يقال: نافرته. أي فاخرته بكثرة النفر فغلبته. يقول: أنا غني بفضلي عن الافتخار بجدودي، وإنما يفخر بالجدود من ليس يفضل في نفسه. فغلبه المفاخرون وأنفدوا حيله، فحينئذ يفتخر بآبائه وفضلهم.
فخراً لعضبٍ أروح مشتمله ... وسمهريٍّ أروح معتقله
مشتملة: أي مقلدة. يقول: لأفخر بالسيف فخر، حيث أتقلد به. والرمح حيث أمسكه بيدي؛ لأني إذا استعملتها كفاني فخراً وشرفاً.
وليفخر الفخر إذا غدوت به ... مرتدياً خيره ومنتعله
الهاء في خيره وفي به للفخر وفي منتعله لخير.
يقول: كل شيء يفتخر بي، حتى الفخر يفتخر بأن ألبسه، فأرتدي به وأنتعله؛ لأني أعلى من الفخر.
أنا الذي بين الإله به الأق ... دار والمرء حيثما جعله
يقول: أنا الذي جعلني الله تعالى من الفضل والكمال، فقدر كل إنسان يتبين إذا قدر بفضلي، وفيس محله إلى محلي.
وقيل معناه: إن أقدار الناس تتبين بمدحي أو بهجوي، فمن مدحته رفعت قدره، ومن هجوته وضعت قدره وأخملت ذكره، والهاء في جعله قيل: ترجع إلى اسم الله تعالى، وقيل: إلى المرء. أي حيثما جعل نفسه. قلت: ويجوز أن يكون راجعاً إلى الضمير الذي في أنا الذي بين الإله به أي المرء حيثما جعله هذا الرجل الذي بين الله به الأقدار.
جوهرةٌ تفرح الشراف بها ... وغصةٌ لا تسيغها السفله
يقول: أنا جوهرة تفرح الكرام بها. يعني: إذا مدحت شريفاً يفرح بي؛ لأني أناسبه، وكل لئيم يحسدني ويراني غصة له في صدره، لقصوره عني ولازدرائي به، فنظير الأول قول الشاعر:
وكل امرىءٍ يصبوا إلى من يجانس
ونظير المصراع الثاني قول الشاعر:(1/206)
والجاهلون لأهل العلم أعداء
إن الكذاب الذي أكاد به ... أهون عندي من الذي نقله
الكذاب: مصدر كذب، أو كاذبني. وروى أكايده من الكيد.
يقول: إن الكذب الذي يكيدني به حسادي، لا أبالي به، وهذا الكذب أهون وأقل وزناً من الكاذب الذي نقل هذا الكذب، ولا قدر له.
فلا مبالٍ، ولا مداجٍ، ولا ... وانٍ، ولا عاجزٌ ولا تكله
المدجي: الساتر للعداوة، أي لا أدري هذا الحاسد، ولا أساتره ولا أواني. أي لست بضعيف عاجز مقصر في أمري. وروى ولا فان من قولهم: شيخ فان: أي ضعيف، ميتاً في الضعف. والتكلة: الضعيف الذي يكل أمره إلى غيره.
يقول: لا أبالي بهم لقلتهم ولا أؤاخيهم لخستهم، ولا أعجز عن مكافأتهم، ولا أستعين بأحد على نكايتهم.
ودارعٍ سفته فخر لقىً ... في الملتقى والعجاج والعجله
العجلة: السرعة. وقيل: أراد به الطين. وفي القرآن: " خلق الإنسان من عجل ". وسفته: ضربته بسيفي.
يقول: كم دارع. أي ورب دارع ضربته بالسيف عند الملتقى في الحرب فصرعته لوجهه على الغبار في الطين بسرعة.
وسامعٍ رعته بقافيةٍ ... يحار فيها المنقح القوله
المنقح: المهذب. وقوله: القولة أي الكثير القول. وقيل الجيد القول.
يقول: رب سامع خوفته بقصيدة حسنةٍ يتحير فيها الشاعر الفصيح المهذب لقوله وبجيد شعره.
يصف نفسه بالفصاحة وجودة الشعر.
وربما أشهد الطعام معي ... من لا يساوي الخبز الذي أكله
أشهد: فعل ما لم يسم فاعله، والطعام: مفعوله الثاني. واسمه من. كأنه يعرض بأبي العشائر بأنه لم يميزه عمن دونه.
ومعناه: أني مع فضلي ربما أواكل من لا يساوي ما يأكله من الطعام، وروى: يشهد وهو مضارع أشهد واسمه الضمير المستكن والطعام مفعوله الثاني.
ومعناه على هذا: وربما يشهد الطعام معي من لا يساوي الخبز الذي يأكله ومثله لابن بابك:
لا غرو إن جمعتنا دار مفضيةٍ ... فالصيد يجمع بين الكلب والبازي
ويظهر الجهل بي وأعرفه ... والدر درٌّ برغم من جهله
فيه وجوه: أحدها: أن الذي أواكله يظهر أنه جاهل بي! وأنا أعرفه على خموله ومعناه كيف يجوز ألا يعرفني وأنا في الظهور كالشمس وهو خامل مغمور؟! والثاني: أني عارف بفعله إنه يظهر الجهل بي مع أنه يعرفني.
والثالث: أنا أعرف جهله بي. ثم قال: والدر در برغم من جهله وهذا مثلٌ. أي لا يضرني جهل من لا يعرف فضلي، كما أن الدر لا يحط قيمته جهل من لا يعرف قدره وقيمته.
مستحيياً من أبي العشائر أن ... أسحب في غير أرضه حلله
يقول: إني إنما أحتمل معاشرة الأردياء، وأكون مع من لا يرى فضلي مستحياً منه أن أرتحل من بابه وأسحب حلله في غير أرضه ومحله.
أسحبها عنده لدى ملكٍ ... ثيابه من جليسه وجله
قول: لدى ملك بدل من عنده. يقول: أسحب هذه الحلل عند ملك ثيابه خائفة من جليسه؛ لأنه أبداً يخلع ثيابه على من يجالسه فهي تخاف أن ينزعها ويلبسها لجليسه، لأنها لا تتشهي مفارقته تشرفاً بكونها عليه.
وبيض غلمانه كنائله ... أول محمود سيبه الحمله
البيض: جمع أبيض، أي غلمانه البيض من جملة نائله: أي عطائه.
يعني: أنه يهب البدور والخلع والغلمان الذين يحملونها، فالحملة لنائله أول محمول إلى المعطى له.
مالي لا أمدح الحين ولا ... أبذل مثل الود الذي بذله
معناه: كيف لا أمدحه ولا أوده مثل ما يودني وأحبه مثل ما يحبني!؟ وجعل الممدوح ممن يحبه تعظيماً لنفسه ورفعاً لقدره.
أأخفت العين عنده خبراً؟ ... أم بلغ الكيذبان ما أمله!
الكيذبان: الكثير الكذب.
يقول: مالي لا أمدحه؟! ثم يقول: هل الكذاب الساعي بالنميمة بلغه أحوالي، كأنها خافية عنه. وهو معنى قوله: أأخفت العين أي أخفت عينه عنده خبري في المحبة له، أم بلغ ما كان يتمناه من فساد الحال بيني وبينه.
وقيل معناه: أخفت عيني عن قلبي خبر هذا الرجل في الإحسان إلي. وقيل أراد بالعين: الرقيب، وأنثه تشبيهاً بالعين التي هي الجارحة. أي أخفى الرقيب عنده خبري في الموالاة، فأخبره بخلاف ما أنا عليه، حتى يفسد ما بيني وبينه من الموالاة والمحبة.
أم ليس ضراب كل جمجمةٍ ... منخوةٍ ساعة الوغى زعله(1/207)
المنخوة: المملوءة. من النخوة، وهي الكبر. وزعلة: أي مرحة بطرة.
يقول: لم أمدحه كأنه غير شجاع يضرب في الحرب رءوس الأبطال المتكبرين الذين في رءوسهم النخوة وفي قلوبهم المرح والبطر. وقوله: ساعة الوغى ظرف لنخوه: أي منخوة حالة الحرب، ولو جعله ظرفاً لضراب لجاز أن يضرب ساعة الوغى زعلة.
وصاحب الجود ما يفارقه ... لو كان للجود منطقٌ عذله
صاحب: نصب عطفاً على قوله: ضراب كل جمجمةٍ؛ لأنه خبر ليس. يعني أنه قد بلغ في السخاء حداً لو كان له لسان لعذله.
وراكب الهول ما يفتره ... لو كان للهول محزمٌ هزله
المحزم: موضع الحزام. والهاء في ما يفتره للهول الأول، وفي هزله للهول الثاني، وقيل للمحزم.
يقول: هو يركب الهول ولا يفتره أي لا ينزل عنه ساعة، فلو كان الهول مركوباً يشد عليه الحزم لهزله وأذاب لحمه، من كثرة ركوبه إياه.
وفارس الأحمر المكلل في ... طيىءٍ المشرع القنا قبله
الأحمر: فرسه الذي ركبه يوم وقعته بأنطاكية، والمكلل: بكسر اللام الأولى هو الحاد الماضي، فإن جررته فهو صفة للفرس وإن نصبته فهو صفة للممدوح وإن فتحت اللام الأولى وجررته فهو صفة للفارس. أي الملك المتوج، وإن نصبته فهو صفة للفرس وهو الذي على رأسه شبه الإكليل. والقنا، وإن كان جمعاً قد ذكر حيث قال: المشرع القنا لأنه أراد به الجنس. وروى المشرع فعلى هذا يكون صفة لطيىءٍ إنه كان فارس هذا الفرس في وقت إشراع الرماح قبله.
لما رأت وجهه خيولهم ... أقسم بالله لا رأت كفله
الهاء في كفله للممدوح. وقيل: إنه راجع للأحمر المكلل وهو الفرس..
يقول: لما رأت خيول الأعداء وجهه أقسم هو بالله ألا يولي ولا ينهزم، فلا يروا له قفاً.
فأكبروا فعله وأصغره ... أكبر من فعله الذي فعله
روى: أصغر بفتح الراء على الفعل الماضي، وفاعله أبو العشائر. وأكبر على هذا خبر ابتداء محذوف. أي: هو أكبر. وقيل: إنه مبتدأ والذي خبره. والمعنى: أنهم استعظموا فعله واستصغره هو، ثم قال: هو أكبر من فعله. أي هو أعظم من فعله وإن كان عظيماً وكل فعل عظيم ففاعله أعظم منه كما قال أبو تمام:
أعاذلتي ما أحسن الليل مركباً ... وأحسن منه في الملمات راكبه
أي أصغره على المبالغة فيكون أصغر مبتدأ وما بعده خبر له. ومعناه أنهم استكبروا فعله، وأصغره ما يفعله هو أكبر من فعله الذي فعله عندهم فاستكبروه.
القاتل الواصل الكميل فلا ... بعض جميلٍ عن بعضه شغله
الكميل: المبالغة في الكامل.
يقول: هو يقتل أعداءه، ويصل أولياءه، وإنه كامل الفضل فيهما، فبعض فعله في الجميل لا يشغله عن بعض، بل يحسن في حال القتال وغيره.
فواهبٌ والرماح تشجره ... وطاعنٌ والهبات متصله
تشجره: أي تدخله. يعني أنه هو يهب أمواله، ويطاعن أعداءه في وقت واحد، فلا الحرب تشغله عن الجود ولا الجود يشغله عن الحرب.
وهذا تفسير للبيت الذي قبله.
وكلما آمن البلاد سرى ... وكلما خيف منزلٌ نزله
آمن: أي وجدها آمنة. وقيل معناه: كلما وافى بلداً أمن من الحرب، وسار من هناك إلى بلد آخر يفتحه، وكلما خيف منزل: إما من الدعار، أو من الأعداء نزله فأزال الخوف عنه.
وكلما جاهر العدو ضحىً ... أمكن حتى كأنه ختله
الختل: الخديعة. أي إذا قصد عدوه مجاهرة أمكن منه، حتى كأنه أتاه غفلة منه، فمجاهرته تقوم مقام ختل غيره.
يحتقر البيض واللدان إذا ... شن عليه الدلاص أو نثله
اللدان: الرماح اللينة. الواحد لدن. وشن الدرع: إذا صبها على بدنه. والدلاص: الدرع الصافية البراقة. ونثل الدرع، وشنها، وأفرغها، وصبها: إذا لبسها. وذكر الضمير في قوله: نثله وإن عاد للدرع؛ لأن الذرع يذكر ويؤنث يقول: إذا لبس درعه لا يبالي السيوف والرماح وغيرها.
قد هذبت فهمه الفقاهة لي ... وهذبت شعري الفصاحة له
الفقاهة: الفطنة والعلم بغوامض الأمور.
يقول: فقاهتي في الشعر وعلمي بغوامض المعاني هذبت فهم الممدوح، وبصرته جودة الشعر من رداءته، حتى لا يستحسن شعراً هو دون شعري، وكذلك فصاحته هذبت شعري، وحملتني على التحفظ فيه، وتنقيحة حتى جاء مهذباً من كل عيب ومثله لأبي تمام:
ولذاك شعري فيك قد سمعوا به ... سحرٌ وأشعاري لهم أشعار(1/208)
فصرت كالسيف حامداً يده ... ما يحمد السيف كل من حمله
يقول: لما علمت بفصاحته، تأنقت في شعري، وهذبت ألفاظه، فصارت فصاحته سبباً إلى تجويد شعري، كما كان جودة ضربه وقوة ساعده سبباً لإظهار حد سيفه، فصار سيفه حامداً له حيث أظهر جودته، ثم قال: ما يحمد السيف كل من حمله يعني: أن السيف إذا كان في يد من لا يحسن الضرب نبا إن كان ماضياً، وإنما يعمل في يد الحاذق بتصريفه فلا يحمد السيف دون من لا يحسن الضرب به.
وجلس معه ليلة على الشراب فنهض لينصرف وقت انصرافه، فسأله الجلوس فجلس، فخلع عليه ثياباً نفيسة، ثم نهض لينصرف فسأله الجلوس فجلس، فأمر له بثمن جارية فحمل إليه، ونهض لينصرف، فسأله الجلوس بقود مهرة إليه، فقال له ابن الطوسي الكاتب: لا تبرحن الليلة يا أبا الطيب فأجابه:
أعن إذني تهب الريح رهواً ... ويسري كلما شئت الغمام؟!
ولكن الغمام له طباعٌ ... تبجسه بها وكذا الكرام
يقول جواباً لذلك: لا أنصرف استزادةً مني لهباته، ليس عن أمري ولا كان طلبي من الرجل، إن ما ترى من جود الأمير ورجوليته، كرم طبعه يدعو إليه. كما أن الغمام ليسح ماؤه لطبعه، دون أن يبعثه عليه باعث، ولا يقدر أحد أن يحبس مطره، فكذلك هذا الرجل لا يمكنه أن يمتنع عن العطاء، لأن الله تعالى فطره على ذلك وروى: تبجسه بها ولها والهاء: للطباع وفي تبجسه للغمام.
وأراد أبو العشائر سفراً فقال أبو الطيب يودعه:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظٌ وأنت معناه
المصراع الأول له معنيان أحدهما: أن الناس إذا لم تكن فيهم متساوون ليس لواحد منهم فضل على صاحبه، فإذا حضرتهم فضلتهم فتفاوتوا بك، فصاروا المفضولين وأنت الأفضل. والثاني: أن الناس ما لم يروك فهم سواء، فإذا رأوك تفاضلوا في أقدارهم، فكل من رآك أكثر فهو أشرف، وكل من قربت منزلته منك فهو أفضل.
يريد: أن الناس إذا رأوه تعلموا أسباب الرياسة منه، واهتدوا بأفعاله إلى المكارم، فمن صحبه أكثر كان إلى السيادة أقرب.
وأما المصراع الثاني فمعناه: أن الأفعال التي تنسب إلى الدهر من إعزاز وإذلال، وإحسان وإساءة، إنما هي عبارة عنه وإنها تنسب إليه بالقول، وإلا في الحقيقة فأنت فاعلها والمعني بها، لأنك تفعل ذلك دون الدهر.
والجود عينٌ وأنت ناظرها ... والبأس باعٌ وفيك يمناه
يقول: قوام الجود بك، كما أن العين بناظرها. والبأس: وهي الشجاعة، قوامها بك، ووجودها بسببك، كما أن الباع بطشه وفضله في اليد اليمنى.
أفدي الذي كل مأزقٍ حرجٍ ... أغبر فرسانه تحاماه
أعلى قناة الحسين أوسطها ... فيه وأعلى الكمي رجلاه
الحرج: الضيق. المأزق: المضيق في الحرب. والأغبر: المظلم الذي عليه غبرة. وتحاماه: تجنبه. والهاء في فيه ترجع إلى المأزق. وقيل: إلى الذي وقوله: كل مأزق مبتدأ، وأغبر في موضع جر، صفة لمأزق، وإن شئت رفعته فيكون صفة لكل، وفرسان مبتدأ آخر، وتحاماه خبره، وهذه الجملة صفة لمأزق، ولكل. والهاء في فرسانه تعود إلى المأزق وكذلك في فيه.
يقول: أفدي الفارس الذي إذا حصل في مضيقٍ أغبره. يحذر منه الفرسان ويتركونه، ويكون أعلى رمحه في ذلك المأزق أوسطه؛ لأنه يكثره بكثرة الطعن حتى يصير وسطه أعلاه، أو يثنيه إذا طعن فارساً فيصير أعلاه أسفله وكذلك ينكس الفارس الشجاع عن فرسه، فيكون رجلاه فوقه وأعلاه، أو ينتفخ بعد قتله إياه وترتفع رجلاه فوقه. وما بعد قوله: الذي إلى آخره، داخل في صفة الذي وموضعه نصب بأفدي، أي أفدي الذي هذه صفته.
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسنٍ ما لهن أفواه
يقول: إن أثوابنا تنشد مدائحه، من حي إن الناس إذا رأوها علينا علموا أنها من خلعه، حتى لو لم نشكر له لأعلنت هذه الثياب بمدحه.
والثاني: هو أن لأثوابنا التي خلعها علينا صوتاً لجدتها، فهذا الصوت كإنشادها مدائحه. ذكره ابن جنى.
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
هذا يؤكد المعنى الذي بدأنا بذكره. يعني أن هذه الثياب إذا مررنا بها على الأصم، فمتى رآها علم أنها من خلعه، فأغنته عيناه عن أذنيه.
سبحان من خار للكواكب بال ... بعد ولو نلن كن جدواه
نلن: أي أدركن وهو فعل ما لم يسم فاعله.(1/209)
وحكى ابن جنى عن المتنبي: أنه كان يشير إلى الضمة رفعاً للالتباس بين فعلن وفعلن وقوله خار: أي جعل لها الخيرة.
يقول: لو نيلت هذه النجوم، لكانت يده تصل إليها وتجعلها من جملة عطاياه، ولكن الله تعالى بعدها منه خيرةً لها.
لو كان ضوء الشموس في يده ... لضاعه جوده وأفناه
ضاعه: أي فرقه.
يقول: لو كان ضوء الشمس في يده لفرقته هباته. وروى: أضاعه جوده أي ضيعه من الضياع.
يا راحلاً كل من يودعه ... مودعٌ دينه ودنياه
يقول: إن الدين والدنيا معك، فإذا فارقناك فارقنا ديننا ودنيانا بفراقك.
إن كان فيما نراه من كرمٍ ... فيك مزيدٌ فزادك الله
روى: من كرم ومن حسن.
يقول: لا مزيد على ما نلت من كرم في عقولنا، فإن كان في الكرم مزيد خفي علينا، فبلغك الله إليه، وأنا لك مرادك منه.
فقال قوم لأبي العشائر إنه ما كناك وإنما تعرف بكنيتك فقال:
قالوا ألم تكنه؟! فقلت لهم ... ذلك عيٌّ إذا وصفناه
أي قالوا: لم لا تذكر كنيته؟ فقلت لهم: إذا وصفته فذكر الكنية عي؛ لأن أوصافه تغني عن ذكرها، إذ لا يوجد في غيره ما فيه من الأوصاف. وهذا مثل قوله في مرثية أخت سيف الدولة:
ومن يصفك فقد سماك للعرب
لا يتوقى أبو العشائر من ... ليس معاني الورى بمعناه
وروى: من لبس فيكون نكرة. يعني: لا يتوقى رجلاً لبس معناه بمعاني الخلق، فيشاركه في هذا الوصف فيحتاج إلى تكنية، ليفصل بينهما. وروى: من ليس ومعنى البيت: أن الرجل إنما يذكر باسمه وكنيته لتميزه عن غيره، ومعاني أبي العشائر مخالفة لمعاني الناس فإذا وصف تميز عن غيره ولم يخف أن يلبس به غيره، لأنه لا يشاركه أحد في أوصافه فيحتاج إلى تمييز عنه بالكنية.
أفرس من تسبح الجياد به ... وليس إلا الحديد أمواه
يجوز نصب الحديد للضرورة؛ لأنها معرفه واسمه: أمواه، وهي نكرة. ويجوز أن تجعل خبر ليس محذوفاً، فتنصب الحديد على الاستثناء. المقدم. كأنه قال: وليس في الأرض أمواه إلا الحديد، فلما قدمه نصبه.
يقول: هو أفرس رجل تسبح به الجياد، ولما جعلها تسبح، جعل الماء الذي تسبح فيه الحديد، وهو الدروع والسلاح.
وأخرج إليه جوشناً حسناً أراه إياه بميا فارقين فقال يمدحه:
به وبمثله شق الصفوف ... وزلت عن مباشرها الحتوف
زلت: أي زلقت. والهاء في مباشرها للصفوف، ويجوز أن يكون للحتوف أي زلت الحتوف عن مباشرها.
يقول: بهذا الجوشن وبأمثاله تشق الصفوف في الحرب، ويندفع الموت عنه عند مصادقة الأقران والشجعان.
فدعه لقىً فإنك من كرامٍ ... جواشنها الأسنة والسيوف
يقول: دع هذا الجوشن مطروحاً، فإنك من قوم كرام ليس لهم جواشن إلا السيوف والرماح.
وضرب لأبي العشائر مضرب بميافارقين على الطريق، فكثر غاشيه وسائله، فقال له إنسان: جعلت مضربك على الطريق؟ فقال أبو العشائر أحب يا أبا الطيب أن تذكر هذا، فأنشد أبو الطيب قائلاً:
لام أناسٌ أبا العشائر في ... جود يديه بالعين والورق
أي: قد لام بعض الناس أبا العشائر في بذله الدراهم والدنانير على الناس.
وإنما قيل: لم خلقت كذا؟! ... وخالق الخلق خالق الخلق
يقول: من لامه على جوده بمنزلة من قال: لم خلقت كذا؟! لأنه طبع عليه ولا يمكنه الانفكاك منه، والله تعالى كما خلق الإنسان خلق له خلقاً، وما كان من فعل الله تعالى فلا سؤال فيه على العبد، ولا لوم عليه إذ لا فعل له فيه.
قالوا: ألم تكفه سماحته ... حتى بنى بيته على الطرق؟!
أي لاموه على جوده وقالوا: ألم يكفه ما فيه من الجود والسماحة حتى ضرب بيته على الطريق ليقصده كل وارد؟! فأجاب عن ذلك بقوله:
فقلت: إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق
أي فقلت لهم: إن الفتى الشجاع يرى الشح كالفرق: وهو الجبن، فيجتنبه كما يجتنب الجبن؛ لأن البخيل إنما يبخل بماله خوف الفقر، فهو يقوم عليه كما يقوم على أمر مخوف، فكأنه يقول: إن السخي لتيقنه بالعوض، يسمح بما عنده فيرى البخل من الجبن.
بضرب هام الكماة تم له ... كسب الذي يكسبون بالملق
يقول: إن ما يكسبه أعداؤه بالملق والخديعة، يأخذه هو بسيفه؛ لأنه يضرب رءوسهم ويغير على أموالهم.(1/210)
معناه: أن ما يأخذونه بالسؤال والملق حصل له بتقبيل الأيادي؛ لأن شجاعته معه، وفي أعدائه كثرة، فإن ذهب ما في يده رجع إلى أعدائه وغار عليهم واكتسب أموالهم.
وقيل: هو ملك يضرب هام الشجعان، وماله قليل، مثل مال من يكسب في الملق، لتسلط الجود عليه وتركه لادخار الأموال.
كن لجةً أيها السماح فقد ... آمنه سيفه من الغرق
يخاطب السماح ويقول له: كن أعظم ماشئت، فإن الممدوح لا يخشى أن يفرق ماله، لأن سيفه قد أمنه من ذلك، لأنه كلما نفذ ماله أخلف عليه سيفه مثله وأكثر منه، من مال أعدائه. والهاء في منه وسيفه للممدوح.
وانتسب له أي لأبي العشائر بعض من رماه أي المتنبي على باب سيف الدولة في الليلة التي نشرحها بعد قوله:
وأحر قلباه ممن قلبه شيم
وانتسب إلى أبي العشائر وذكر أنه هو الذي أمرهم بذلك فقال أبو الطيب:
ومنتسبٍ عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف
حفيف النبل: صوته.
يقول: رب رام قصدني سهامه، وانتسب إلى من أحبه وقت رميه، وأنا أسمع حولي حفيف نبله.
فهيج من شوقي وما من مذلةٍ ... حننت ولكن الكريم ألوف
يقول: لما ذكر لي أبا العشائر هيج شوقي إليه، ولم يكن حنيني إليه من ذل أو حزن، ولكني ألوفٌ، والكريم يألف إلى من أحسن إليه.
وكل ودادٍ لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
يقول: كل وداد لا يكون دائماً على الأذى ممن يؤذيه، كما دام ودادي لأبي العشائر، فهو ود ضعيف.
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
يقول: إن ساءني فعله مرة، فالذي سرني من أفعاله المواضي وأياديه السوالف، ألوف.
ونفسي له نفسي الفداء لنفسه ... ولكن بعض المالكين عنيف
العنيف: ضد الرفيق. يقول: نفسي له. أي أنا عبده فليصنع بي ما أحب! ثم قال: نفسي فداء له. ثم عرض به فقال: ولكن بعض المالكين عنيف أي أنه لما ملك عنف عليها، وأراد إتلافها وكان حقه أن يرفق بها.
تمت الشاميات
الجزء الثالث
السيفيات
وقال أبو الطيب يمدح سيف الدولة: أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ابن حمدون بن الحارث العدوي. عند نزوله أنطاكية ومنصرفه من الظفر يحصن برزويه، في جمادى الآخر سنة 337 وكان جالساً تحت شراع ديباج:
وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدّمع أشفاه ساجمه
خاطب صاحبيه، وقد لاماه على البكاء على الربع فقال: وفاؤكما بإسعادي كالربع أشجاه دارسه. والطاسم والطامس بمعنى الدارس. وأشجاه: أشده شجوا، والشجو: الحزن. أي: لا أبكي الربع وصرت أبكي وفاءكما معه! وقال الشيخ أبو الفتح ابن جني: وهذا لفظه أملاه إملاء. وطسم يطسم طسما فهو طاسم إذا درس والخمحت آثاره وكذلك طمس يطمس فهو طامس طامس، وسجم الدمع فهو ساجم: إذا سال. وقوله: وفاؤكما خطاب للاثنين، وإنما كثر ذلك في كلام العرب لأن أقل رفقه عندهم ثلاثة، فلهذا قالوا الواحد شيطان والاثنان شيطانان، والثلاثة رفقه. وربما يخاطب الواحد بخطاب الاثنين والجماعة: تفخيماً له. أو إذا أراد تكرير الخطاب وتفصيل ما حكاه ابن جني عن المتنبي في معناه: أن صاحبيه واعداه بالمساعدة في البكاء على ربع حبيبه، والوقوف معه على أطلاله، ثم لم يفيا بما واعداه، فقال: وفاؤكما بالمساعدة دارس كهذا الربع الدارس. وقوله: أشجاه طاسمه أي كل ما كان منه طامساً كان أشجى بقلبي، كذلك وفاؤكما كلما رأيته دارساً زاد في شجوي وحزني.(1/211)
وذكر صاحب الجليل؟ في تلخيص هذا المعنى. ما هو في العموم مثل كلام أبي الطيب فقال معناه: يا خليلي وفاؤكما بأن تسعداني، كهذا الربع كلما أبصرته أشجاني، وفي قوله: والدمع أشفاه ساجمه إشارة إلى أن صاحبيه غدرا معه في البكاء. فقال: إنما يشفي الدمع من الصبابة إذا كان ساجما، وكلما كان أجرى كان الشوق أشفى، والباء في قوله: بأن تسعدا متعلقة بمحذوف ولا يجوز تعلقها بقوله: وفاؤكما لأنك حينئذ فرقت بين الموصول والصلة، لأنك إذا قدرت البيت على قوله: وفاؤكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمه كانت الباء وما بعدها صلة وفاؤكما، وقد فرق بينهما بقوله: كالربع فيجب أن يضمر بعد المصدر. وهو قوله: وفاؤكما ما يتعلق به ويجعل بأن تسعدا تفسيراً له. وتقديره: وفاؤكما بأن تسعدا، ثم يحذف هذا، ويجعل الثاني تفسيراً له ومثل هذا كثير في صناعة الإعراب.
وما أنا إلاّ عاشقٌ كلّ عاشقٍ ... أعقّ خليليه الصّفيّين لائمه
الصفيين: الذي يصفى لك المودة من الغش، فيكون بمعنى المصفى. فقيل بمعنى مفعل.
يقول: أنا عاشق. فقال: كل عاشق أعق خليليه الصفيين: من يلومه، فمن لا منى منكما كأنه قد عقني، وروى: وما أنا إلا عاشق كل بنصب اللام. ومعناه: أنا عاشق كل عاشق، بعد لوم خليليه له عقوقا منهما إليه وهذا أبلغ من الأول، ومثل هذا:؟ وإني لأعشق من عشقكم نحولي وكلّ امرئٍ ناحل وقد سئل أبو الطيب عن هذا فقال: إن الخليل الصفي لا يكون عاقا، وأفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه.
وقيل: معناه: إذا لام لم يكن خليلا مصافياً عند العاشق؛ لأنه قصد إساءته فكأنه قال وكل عاشق إذا لامه خليله، كان أعق له من عدوه.
وقد يتزيّا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
يتزيا: يتكلف يتفعل من الزي، وهو الهيئة، أي يجعل الهوى زيا له.
يقول: ربما يظهر الإنسان من نفسه أنه عاشق، وليس هو بعاشق حقيقة، كما أن الإنسان قد يصحب من لا يوافقه.
يعني: أنا عاشق على الحقيقة ولست في دعواي متكلفاً.
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيحٍ ضاع في التّرب خاتمه
يدعو على نفسه بالهلاك إن لم يطل الوقوف على أطلال دار المحبوبة.
وقد عيب عليه هذا البيت. وقيل: هذا يدل على تحمله مع دناءة همته، وعظم خطر الخاتم في عينه.
وإلى كم يكون وقوف الشحيح على خاتمه ولو كان ألأم الناس، حتى يجعل ذلك غاية الوقوف على أطلال دار الحبيب؟.
وأحسن ما يمكن أن يقال إنما أراد: أنا أقف بها وقوفاً زائداً على عادة من وقف قبلي على أطلال حبيبة، كما أن وقوف الشحيح إذا ضاع خاتمه يكون زائداً على وقوف غيره، وطلبه له أشد.
قيل: إنما خص الخاتم لأنه ربما كان فضة كثيرة القيمة حليل الخطر وهذه صفته. فالوقوف على طلبه يدوم، والبحث عنه يطول من كل واحد، وهو من الشحيح أكثر، ومنه أطول.
كئيباً توقّاني العواذل في الهوى ... كما يتوقّى ريّ؟ ض الخيل حازمه
نصب كئيباً على الحال. والكئيب: هو الحزين. والريض: الصعب الذي لم يرض. والحازم: الذي يشد الحزام. والهاء فيه تعود إلى الريض.
يقول: إن لم أقف وأنا كئيب والعواذل يريدون عذلي ويحذرون مني كما يحذر الرجل من الفرس الصعب، إذا أراد شد الحزام عليه، فهو يداريه حذراً أن يرمحه، فكذلك العواذل يحذرون صولته.
قفي تغرم الأولى من اللّحظ مهجتي ... بثانيةٍ والمتلف الشّيء غارمه
الأولى في موضع الرفع لأنها فاعلة تغرم.
يقول: إنك لحظتني لحظة فأتلفت بها نفسي، فاغرميها بلحظة ثانية؛ تحييني بها، كما أتلفت مهجتي بلحظتك الأولى؛ فإن من أتلف شيئاً غرمه.
سقاك وحيّانا بك الله إنّما ... على العيس نورٌ والخدور كمائمه
الهاء: للنور، والنور: الأبيض من الزهر. والكمائم: جمع كمامة وهو وعاء الزهر قبل أن يتفتح.
شبه النساء بالنور، والهوادج بالكمائم، ولما جعلها نوراً دعا لها بالسقيا، وجعله تحية لها، كما يحيي الصديق صديقه بالورد والريحان.
ومعناه: رزقنا الله وصلك والتلذذ بطيبك. ومثل آخر هذا البيت قول الآخر وهو:
ولم أر كالأظعان يوم رحيلهم ... وأحداجهم تحكي الكمائم في الورد
وقريب من بيت أبي الطيب قول السري بن أحمد الرفاء.
حيّا به الله عاشقيه فقد ... أصبح ريحانةً لمن عشقا(1/212)
وما حاجة الأظعان حولك في الدّجى ... إلى قمر؟ ما واجدٌ لك عادمه
الأظعان: الراحلون، والهاء في عادمه للقمر.
يقول: الراحلون معك في ظلمة الليل، لا يحتاجون إلى ضوء القمر؛ لأن من وجدك فقد وجد القمر.
إذا ظفرت منك العيون بنظرةٍ ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه
ثاب وأثاب: بمعنى. أي أرجع. والمعيي: الرازم، وجمعهما لاختلاف اللفظتين. وقيل الرازم: الذي قد قام من الإعياء.
يقول: إن الإبل المعيية إذا نظرت إليك عادت إليها نفسها، فكيف نحن مع شدة شوقنا إليك! فهو أولى بنا.
حبيبٌ كأنّ الحسن كان يحبّه ... فآثره أوجار في الحسن قاسمه
روى في الحكم وفي الحسن والهاء في يحبه للحبيب، وكذلك في آثره وفي قاسمه للحسن.
يقول: كان الحسن يحب هذا الحبيب، فآثره على غيره وخصه بزيادة الحسن وبدائعه، أو جار من قسم الحسن في قسمته، فأعطى هذا الحبيب أكثر مما أعطى غيره.
تحول رماح الخطّ دون سبائه ... وتسبى له من كلّ حيّ كرائمه
الهاء في كرائمه تعود إلى حي وهو جمع كريمة.
يقول: إن الرماح تحول بين هذا الحبيب وبين من أراد سباءه؛ لعزة قومه وتسبى الرماح له من كل حي كرائمه.
ويضحى غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمة
الكباء: العود والبخور، والنشر: الرائحة الطيبة، والهاء في ستوره للحبيب وفي آخرها للستور وفي ملازمه لآخرها.
يقول: عليه ستور كثيره، فأدناها إلينا غبار الخيل التي تركض حوله، وآخرها داخلها يلازمه ريح العود ودخانه.
وما استغربت عيني فراقاً رأيته ... ولا علّمتني غير ما القلب عالمه
يعني: ليس هذا بأول فراق رأيته فأستغربه، بل رأيت مثله كثيراً، والهاء في عالمه راجعة إلى ما.
فلا يتّهمني الكاشحون فإنّني ... رعيت الرّدى حتّى حلت لي علاقمه
العلقم: شجر مر، وأراد به ها هنا الشدائد.
يقول: لا يتهمني الأعداء على الردي، أني أضعف عن احتماله، فإني قد تعودته وقاسيت أمثاله، حتى حلا في فمي كل مر، وهان علي كل صعب.
مشبّ الّذي يبكي الشّباب مشيبه ... فكيف توقّيه وبانيه هادمه؟!
المشب: الذي يشب ويأتي بالشباب. والمشيب: الذي يأتي بالمشيب، والضمائر كلها تعود إلى الذي ويجوز أن يكون في مشيبه يعود إليه فقط، وفي توقيه وبانيه وهادمه يعود إلى الشباب.
يقول: إن الذي يبكي الشباب لا ينفعه، فإن الشيب الذي صيره شاباً، هو الذي أفضى به إلى المشيب، وهو الحياة، فإنه تنقله من حال إلى حال، فكيف نقدر على الاحتراز منه؟! وهو الشيء الذي به بقاؤه وبه فناؤه. وقيل: هو الله تعالى الذي يأتي بالشباب والشيب. وقيل أراد به: الدهر على ما جرت عادته في نسبة الحوادث إليه.
وتكملة العيش الصّبا وعقيبه ... وغائب لون العارضين وقادمه
له معنيان: أحدهما: أن كمال العيش إنما هو في الصبا وفيما يعقب الصبا، فأما أيام الشيب فلا تعد من العيش، لأنها مشوبة بالأحزان والأسقام.
وقوله: وغائب لون العارضين وقادمه يعني أن هذا تكملة العيش، وأراد به حال نقاء العارض من الشعر، ثم غاب ذلك وقدم عليه بياض الشيب والشعر. وهذا أحسن.
والثاني: أن المراد به أن جميع العمر ما ذكر من هذا البيت وهو: أيام الصبي، ثم عقيبة الشباب، وبعده بياض الشعر بعد سواده، وهو أيام الشيب. والهاء في قادمه تعود إلى اللون.
قال ابن جني: سألته وقت القراءة عليه: أيقال تكملة العيش لجميعه؟ قال: هو جائز لأنه بالجميع يكمل.
وما خضّب النّاس البياض لأنّه ... قبيحٌ، ولكن أحسن الشّعر فاحمه
الفاحم: الشديد السواد. يقول: إن الناس لا يخضبون البياض لأنه قبيح، بل هو حسن، ولكن الشعر الأسود أحسن في مرأى العين؛ لدلالته على فتى السن، والبياض يدل على الهرم.
وأحسن من ماء الشّبيبة كلّه ... حيا بارقٍ في فازةٍ أنا شائمه
الحيا: المطر، والبارق: السحاب الذي فيه برق. والفازة: الخيمة. وشمت البرق: إذا نظرت مخايله. والهاء في شائمه تعود إلى الحيا.
يقول: مطر سحابة في خيمة، وأنا أنظر إليه، أحسن من ماء الشباب، لأني أنال به من السرور واللذات، ما لا أناله بالشباب.
عليها رياضٌ لم تحكها سحابةٌ ... وأغصان دوحٍ لم تغنّ حمائمه(1/213)
عليها: أي على الفازة. شبه النقوش التي عليها بالرياض المنورة، وقوله: لم تحكها أي ليست هذه الرياض من صنعة الغيث والسحاب، ولكنها من صنعة البشر، وعليها صور أغصان أشجار عليها حمائم، لكنها صامتة لا تتغنى ولا تتغرد. والهاء في حمائمه للدوح.
وفوق حواشي كلّ ثوبٍ موجّهٍ ... من الدّرّ سمطٌ لم يثقّبه ناظمه
الهاء في ناظمه للسمط.
يقول: على حواشي كل ثوب ذي وجهين عقد منظوم من الدر، غير أن ناظمه لم يثقبه؛ لأنه ليس بدر على الحقيقة، بل نقش على صورة خلقة الدر.
ترى حيوان البرّ مصطلحاً بها ... يحارب ضدّ ضدّه ويسالمه
يعني: عليها تصاوير الحيوان من كل جنس. كالسباع والوحوش والفرسان، فمرة يصالح الضد ضده، ومرة يحاربه، لأنه ربما يتصل تارة وينفصل أخرى عند ضرب الريح إياها.
وقيل: أراد أن عليها صور سباع تفترس وحوشا، فهي في صور المحارب ولكنها مسالمة، لا يقدر بعضها على بعض، فهي محاربة ومسالمة في وقت واحد.
إذا ضربته الرّيح ماج كأنّه ... تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
تدأى: أي تختل، وقيل: تسرع. والهاء في ضربته وفيما بعده: تعود إلى قوله: كل ثوب موجه وقيل: تعود إلى الحيوان.
يقول: إن الريح إذا ضربت هذا الثوب ماج: أي اضطرب، فحسبته خيلا تجول، وسباعاً تصول، وهو المراد بقوله: تدأى ضراغمه أي الأسود المصورة عليه.
وفي صورة الرّوميّ ذي التّاج ذلّةٍ ... لأبلج لاتيجان إلاّ عمائمه
أراد بالرومي: ملك الروم، وكان على الفازة صورته.
يقول: في صورة ملك الروم صاحب التاج ذلة: أي خضوع للملك الأبلج، وهو سيف الدولة. والأبلج: المنقطع ما بين الحاجبين. ثم قال: لا تيجان للعرب إلا العمائم والتاج لملوك العجم.
تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه
البراجم: المفاصل التي تحت الأنامل، والواحد برجمة، وهي عبارة عن اليد.
يعني: أن الملوك إذا رأته قبلت بساطه؛ لأنها لم تكن أهلا لتقبيل يده ولا كمه.
قياماً لمن يشفى من الدّاء كليّه ... ومن بين أذنى كلّ قرمٍ مواسمه
قياماً: نصب بإضمار فعل. أي: تراهم قياما. وقيل: نصب على الحال. وقوله: يشفى من الداء كيه مثل. ومن؛ بمعنى الذي. المتقدم. والهاء في كيه تعود إلى من الأولى، وفي مواسمه إلى من الثانية. والقرم: الرئيس.
يقول: إنه يشفى من الداء كيه ويروض كل صعب. وكل قرم لقيه ولى عنه فآثار سيفه في قفاه وبين أذنيه. تلوح كالسمة.
وقيل: معناه: إنه يقهر كل قرم ويسمه سمة ذل وعجز. والمواسم: جمع ميسم وموسم.
قبائعها تحت المرافق هيبةً ... وأنفذ ممّا في الجفون عزائمه
قبيعة السيف: الفضة التي على قائمة مثل الكرة. والهاء في قبائعها للملوك وفي عزائمه للمدوح.
يقول: إنهم قيام بين يديه، وسيوفهم نحن مرافقهم وهم متكئون عليها، ثم قال: عزائم سيف الدولة في الأمور أنفذ من السيوف التي في الجفون.
له عسكرا خيلٍ وطيرٍ إذا رمى ... بها عسكرا لم تبق إلاّ جماجمه
الوجه أن يقال: إذا رمى بها، ردا للضمير إلى أحد العسكرين.
معناه: له عسكر من الخيل، فإذا قصد إلى عسكر عدوه، قتلته الخيل وأكلته الطير، فلم يبق إلا عظام الرءوس. والهاء في جماجمه تعود إلى قوله عسكرا.
أجلّتها من كلّ طاغٍ ثيابه ... وموطئها من كلّ باغٍ ملاغمه
الملاغم: ما حول الفم. واحدها ملغم.
يقول: جلال خيله: ثياب كل طاغ قتله، وموطئها: ملاغم كل باغ. والتأنيث: للخيل: والتذكير: للطاغي والباغي.
فقد ملّ ضوء الصّبح ممّ تغيره ... وملّ سواد اللّيل ممّا تزاحمه
التاء في تغيره وتزاحمه للخيل. وأراد: مما تغير فيه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إليه.
يقول: إن الصبح قد مل من كثرة إغارة الممدوح فيه، وسواد الليل قد مل من كثرة سيره فيه، ومزاحمته إياه.
وملّ القنا ممّا تدقّ صدوره ... وملّ حديد الهند مما تلاطمه
تدق صدوره: أي تكسره. وتلاطمه: أي تضاربه.
يقول: إن الرماح والسيوف قد ملت؛ من كثرة ما تطعن بالرماح وتكسرها، وتضرب بالسيوف.
سحابٌ من العقبان يزحف تحتها ... سحابٌ إذا استسقت سقتها صوارمه(1/214)
السحاب: يذكر على اللفظ، ويؤنث على معنى الجمع، فأنث السحاب الأول على المعنى، وذكر الثاني على اللفظ وإقامة القافية.
شبه الجيش، والعقبان فوقه، بسحاب يسير تحت سحاب آخر، ثم جعل الأسفل يسقي الأعلى، فجعل الغمام مستقياً، مع أنه يكون ساقياً.
سلكت صروف الدّهر حتّى لقيته ... على ظهر عزمٍ مؤيداتٍ قوائمه
مؤيدات: محكمات، لما جعل عزمه مركوباً، جعل له ظهراً وقوائما.
يقول: ركبت عزمي وسلكت إليه المؤيدات، مفاوز شديدة، كأنها صروف الدهر. يعني: أني قويت عزمي على قصده، فتكلفت الأسفار حتى لقيته.
مهالك لم تصحب بها الذّئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه
مهالك: بدل من صروف الدهر. والقوادم: ريش الجناح المقدمة، وفاعل تصحب: نفسه، ومفعوله: ذئب. وفاعل حملت: قوادمه، والغراب: مفعوله. والضمير: الغراب.
يعني: أن هذه المفاوز مهالك وحشة لا يقدر الذئب على قطعها، ولا الغراب على سلوكها؛ لشدتها. ومثله قول الآخر:
مهامة لا يسرى بها النّجم وحده ... ولا الطّيف إلاّ خائفاً يترقّب
فأبصرت بدراً لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحراً لا يرى العبر عائمه
عبر الوادي: شطه.
يقول: لما وصلت إليه رأيت بدراً لا يرى البدر الحقيقي مثله، وخاطبت بحراً ليس له عبر ولا نهاية
غضبت له لمّا رأيت صفاته ... بلا واصفٍ والشّعر تهذى طماطمه
الطماطم: جمع طمطمة، وهي ما لا يفهم من الكلام.
يقول: لما رأيت صفاته بلا واصف يصفها بحقائقها، غضبت لهذا الممدوح، فبصرت ببدائع شعري، وصار شعر غيري كالهذيان الذي لا معنى له.
فكنت إذا يمّمت أرضاً بعيدةً ... سريت فكنت السّرّ واللّيل كاتمه
الهاء في كاتمه للسر.
يقول: كنت أسير ليلاً مخفياً سيري، فكنت كأني سر في ضمي الليل، وهو يكتمني عن كل أحد.
وهذا البيت من بدائع هذه القصيدة وسيدها، وواسطة قلادتها.
لقد سلّ سيف الدّولة المجد معلماً ... فلا المجد مخفيه ولا الضّرب ثالمه
يقول: هو سيف سله المجد، ليضرب به رقاب البخل، فالمجد لا يخفيه والضرب لا يثلم حده.
على عاتق الملك الأغرّ نجاده ... وفي يد جبّار السّماوات قائمه
أي على عاتق الخليفة، لأنه من جملة أوليائه وأنصار دعوته. وقوله: وفي يد جبار السماوات قائمه أي أنه سيف الله يضرب به رءوس من كفر به وعبد إله غيره.
تحاربه الأعداء وهي عباده ... وتدّخر الأموال وهي غنائمه!
يقول: إن أعداءه يحاربونه، وهم عباده، يعلمون أنه يأسرهم ويستعبدهم ويجمعون الأموال وهم يعلمون أنه يغنمها!
ويستكبرون الدّهر والدّهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه
يقول: إن الناس يستكبرون أمر الدهر في تصرفه، وهو أكبر منه قوة! ويستعظمون الموت وهو خادمه! يهلك من يأمره بقتله.
وإنّ الّذي سمّى عليّا لمنصفٌ ... وإنّ الّذي سمّاه سيفاً لظالمه
يقول: من سماه عليا فقد أنصفه؛ لأنه على المنزلة، رفيع المحل، ومن سماه سيفا فقد ظلمه؛ لأنه أمضى من السيف وأعظم تأثيراً منه.
وما كلّ سيفٍ يقطع الهام حدّه ... وتقطع لزبات الزّمان مكارمه
لزبات: أصله تحريك الزاي، ولكنه خففه وسكنه ضرورة: وهي الشدائد. يقول: من سماه سيفاً إنما ظلمه؛ لأن السيف عمله القطع فقط، وربما ينبو فلا يقطع رقاب الأعداء، والممدوح يكشف شدائد الزمان بمكارمه وبجوده فتسميته بالسيف ظلم؛ لأنه أعم منه نفعاً.
وقال أيضاً يمدحه وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية:
أين أزمعت أيّهذا الهمام؟ ... نحن نبت الرّبا وأنت الغمام
الربا: جمع ربوة، وهي ما ارتفع من الأرض.
يقول: أي موضع عزمت أن ترحل إليه أيها السيد العظيم الهمة؟ فنحن محتاجون إلى مقامك احتياج نبت الربا إلى مطر الغمام، وخص نبت الربا؛ لأنه أحوج إلى سقيا الغمام، ولأن الروضة إذا كانت على ربوة كانت أحسن وأنضر وأخضر.
نحن من ضايق الزّمان له في ... ك وخانته قربك الأيّام(1/215)
حكى ابن جني عنه قال: أردت أن أقول: ضايقة الزمان، فزدت اللام فقلت: ضايق الزمان له. قال ابن جني: ومثله قوله تعالى: عسى أن يكون ردف لكم أي ردفكم؛ وخان: تعدى إلى مفعولين: أحدهما الهاء في خانته والثاني قربك وفاعله: الأيام. والهاء في له وخانته راجعة إلى من.
يقول: إن الزمان ضايقنا فيك، وحسدنا على قربك، فخانتنا الأيام في قربك، وفرقت بيننا وبينك.
في سبيل العلا قتالك والسّل ... م وهذا المقام والإجذام
الإجذام: سرعة السير، وأصفه قطع الأرض بالأسفار.
يقول: كل ما تفعله من قتال وسلم، وإقامة وترحال، يشيد مجدك ويرفع قدرك، فتنال معال مع معاليك.
ليت أنّا إذا ارتحلت لك الخيل ... وأنّا إذا نزلت الخيام
الخيمة في الأصل: بيت يتخذ في الصيف من الخشب، وأغصان الشجر، ثم استعمل في المضارب وبيوت الشعر مجازاً.
يقول: ليتنا كنا خيلك عند ارتحالك، وخيامك عند نزولك، حتى لا نفارقك. وقيل: أراد ليتنا نقيك الأذى من فوق: من الحر والبرد، ومن أسفل: من الخشونة والتعب.
كلّ يومٍ لك احتمالٌ جديدٌ ... ومسيرٌ للمجد فيه مقام
الاحتمال: الرحيل.
يقول: كل يوم تسافر، فالمسير لك مقام المجد والعز. يعني: أنك دائم السعي فيما فيه مجدك.
وإذا كانت النّفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
أراد بالنفوس: الأرواح والهمم.
يقول: إذا كان الإنسان كبير النفس عالي الهمة طلبت همته الأمور العالية، فأتعبت أجسامها في مرادها.
وكذا تطلع البدور علينا ... وكذا تفلق البحور العظام
يقول: كل رفيع القدر عالي الهمة، لا تدعه همته أن يستقر، كما أن البدر يطلع ولا يفتر عن المسير، وكذلك البحار العظام، لا يسكن موجها وعباؤها.
ولنا عادة الجميل من الصّب ... ر لوانّا سوى نواك نسام
نسام: أن نكلف.
يقول: من عادتنا الصبر الجميل على جور الزمان، ولكنا لا نقدر أن نصبر على فراقك والبعد عنك
كلّ عيشٍ ما لم تطبه حمامٌ ... كلّ شمسٍ ما لم تكنها ظلام
يقول: إذا لم يطب العيش بقربك، فهو من جملة الموت، وكل شمس سواك فهي ظلام، فطيب عيشنا بقربك، ونور أبصارنا برؤيتك.
أزل الوحشة الّتي عندنا يا ... من به يأنس الخميس اللهام
الوحشة: انزعاج النفس من الوحدة. والخميس: العسكر الكثير. واللهام: العظيم الذي يلهم كل شيء فيبتلعه ويهلكه.
يقول: أزل عنا الوحشة التي نجدها لفراقك، بالمقام علينا. يا من يأنس به الخميس العظيم ويجتمع عيه، وإذا غاب وجد على نفسه.
والّذي يشهد الوغى ساكن القل ... ب كأنّ القتال فيها ذمام
الوغى: الحرب. والهاء في فيها ضمير لقوله: الوغى لأنه في معنى الحرب وهي مؤنثة.
يقول: أزل عنا الوحشة يا أيها الرجل الذي يحضر الحرب، وهو ساكن القلب، حتى كأن القتال - الذي يكون في الحرب - عهد وأمان.
والّذي يضرب الكتائب حتّى ... تتلاقى الفهاق والأقدام
الفهاق: جمع فهقة، وهي موصل الرأس في العنق، وقيل: هي عظم عند حالق الرأس، مشرف على اللهاة.
يقول: إنك تقطع رقاب الفرسان حتى تقع رءوسهم على أقدامهم. وقيل: إنه يقطع الأعضاء حتى يصير الأسفل أعلى والأعلى أسفل. حتى يلتقي طرفا الجسم على ما بعد بينهما.
وإذا حلّ ساعةً بمكانٍ ... فأذاه على الزّمان حرام
الهاء في أذاه تعود إلى المكان.
يقول: إذا نزلت بمكان فلا يؤذى الزمان ذلك المكان، فكأن أذاه على الزمان حرام.
والّذي تنبت البلاد سرورٌ ... والّذي يمطر السّحاب، مدام
يقول: إن الممدوح إذا حل بمكان، فالذي تنبته أرضها إنما هو السرور، والذي يمطر سحابها إنما هو الخمر. يعني: أنه إذا نزل بمكان أحسن إلى أهله، وبسط العدل فيهم، فاتصل سرورهم، وأمنت نفوسهم.
ولما جعل نبات أرضهم سروراً، جعل مطر سحابهم مداماً؛ لأن المدام تولد السرور، كما أن الغيث يولد العشب، والذي مبتدأ وسرور خبره وتنبت صلته، وفاعله: البلاد. وكذلك الكلام في المصراع الثاني.
كلّما قيل قد تناهى أرانا ... كرماً ما اهتدت إليه الكرام
يقول: كرمه لا نهاية له، فكلما قيل إنه قد بلغ الغاية في الكرم ابتدع كرماً ثانياً، لا يهتدى الكرام إليه، ولا يبلغ خاطرهم إلى بعضه(1/216)
وكفاحاً تكعّ عنه الأعادي ... وارتياحاً يحار فيه الأنام
الكفاح: مباشرة الحرب. يقال لقيته كفاحاً: أي مواجهة. تكع: أي تجبن وتتأخر. وكفاحاً: نصب عطفاً على قوله: أرانا أي أرانا كرما وكفاحاً وارتياحاً.
يقول: أرانا شجاعة تعجز عنها أعداؤه، وجوداً يتحير الخلق فيه.
إنّما هيبة المؤمّل سيف الدّو ... لة الملك في القلوب، حسام
يقول: يهابونه وليس هو سيفا! بل هيبته في القلوب سيف قاطع، حتى لا أحد يعدل عن طاعته.
فكثيرٌ من الشّجاع التوقّي ... وكثيرٌ من البليغ السّلام
يقول: إن هيبته قد همت الناس، والشجاع الفاتك إذا تحرز منه، فذاك غاية الشجاعة. والخطيب المصقع يستكثر أن يسلم عليه، فضلاً عن أن يبسط في الكلام معه. ومثله للفرزدق:
يغضى حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلاّ حين يبتسم
وقال أيضاً عند مسيره عنها وقد نزل المطر في ذلك اليوم.
رويدك أيّها الملك الجليل ... تأىّ وعدّه ممّا تنيل
رويدك: أي أمهل، وهو اسم للفعل، ولا موضع للكاف.
الإعراب: تأىّ أي توقف وهو بدل من رويدك وإن شئت جعلته توكيداً، كأنه قال: رويدك رويدك فكرر المعنى، وخالف بين اللفظين، وروى: تأن أي توقف وتثبت. والهاء في عده ضمير للمصدر، وجل عليه قوله: تأي.
يقول: أمهل أيها الملك الجليل، وتوقف وعد وقوفك علينا من بعض صلاتك ونعمك.
وجودك بالمقام ولو قليلا ... فما فيما تجود به قليل
وجودك: نصب على تقدير: جد جودك، فهو مصدر في موضع الأمر كقوله تعالى: فضرب الرقاب وكذلك قليلا أي ولو فعلته وجدته، فهو صفة لموصوف محذوف. ويجوز نصبه على الحال. ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف. أي ولو زماناً قليلا.
يقول: جد علينا بالمقام ولو زماناً قليلا، ثم احترز وقال: كل ما تجود به ليس بقليل؛ لأن لنا فيه نفعاً كثيراً.
لأكبت حاسداً وأرى عدوّا ... كأنّهما وداعك والرّحيل
الكبت: القهر، والإذلال. وأرى: من الورى، وهو داء الجوف. وقيل: معناه أضرب رئته من قولهم: وريته أريه. كما تقول: رأيته.
يقول: جد علينا بالمقام؛ لأكبت بذلك حاسدي، وأمرض عدوي؛ لأنهما بغيضان عندي، مثل وداعك وارتحالك.
ويهدأ ذا السّحاب فقد شككنا ... أتغلب أم حياه لكم قبيل؟
ويهدأ عطف على ما تقدم: أي يسكن. وتغلب رفع بالابتداء، وقبيل خبره. وقيل تغلب خبر ابتداء محذوف.
يقول: أقم علينا حتى يسكن مطر هذا السحاب، فإنا قد تشككنا في أمر هذا المطر، فلا ندري أنه مطر، أم قبيلك؟ التي هي بنو تغلب. يعني: أن جود هذا المطر يشبه جود بني تغلب، أي كثرة هذا المطر يشبه كثرتهم. والحيا: مقصور، المطر العام.
وكنت أعيب عذلاً في سماح ... فها أنا في السّماح له عذول
له قيل: تعود الهاء إلى المطر. ومعناه: أني كنت أعيب كل من يعذل على السماح، فلما كثر هذا المطر صرت أعذله على كثرة سماحه. وقيل: إن الهاء تعود إلى سيف الدولة يعني: أني أعذل سيف الدولة على كثرة سخائه بعد ما كنت أعيب من يعذل السخي على سخائه.
وما أخشى نبوّك عن طريقٍ ... وسيف الدّولة الماضي الصّقيل
سيف الدولة مبتدأ. والماضي خبره. وهذه الجملة في موضع نصب على الحال. والكاف في قوله نبوك قيل: خطاب لسيف الدولة.
ومعناه: لم أقل لك أقم، حتى يهدأ هذا السحاب، لأنه يعوقك عن طريقك، لأني لا أخشى نبوك: أي كلالك وتقاعدك عن طريق تريد أن تسير فيه، وأنت سيف الدولة، وسيف الدولة لا يكون إلا ماضياً صقيلاً، لا ينبو عن شيء.
وقيل: إنه خطاب للسحاب. ومعناه: لا أخشى انقطاعك عنا أيها السحاب وفقدنا إياك في طريق نسلكه، إذا كان سيف الدولة ماضياً صقيلاً، لأنه ينوب عنك ويزيد عليك.
وكلّ شواة غطريفٍ تمنّى ... لسيرك أنّ مفرقها السّبيل
الشواة: جلدة الرأس. والغطريف: السيد. ومفرق الرأس: حيث يتفرق الشعر. وتمنى: الأصل فيه تتمنى، فحذف إحدى التاءين.
يقول: إذا ارتحلت فكل سيد يتمنى رأسه: أي مفرقه، طريقاً لك ليشرف بك وينال بسببك رفعة.
ومثل العمق مملوءاً دماءً ... مشت بك في مجاريه الخيول(1/217)
العمق: الفج، وهو الطريق الواسع في الجبل. وقيل: موضع بالشام أوقع سيف الدولة فيها بالأعداء وقعة عظيمة. ويقال: هو موضع كثير الوحل. مملوءاً: قيل نصب على التمييز، وقيل: على الحال. وروى بالرفع فيكون خبراً عن مثل وروى بالجر فيكون بدلا من العمق.
يقول: كم من مواضع في الحرب قد امتلأت بالدم فخاضت بك خيلك، ومشت بك في مجاريه، فكيف بالوحل والمطر؟! والهاء في مجاريه للعمق.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول
فأهون: مبتدأ. وما يمر به: صلة وما بمعنى الذي. ويجوز أن تكون نكرة موصوفة. يعني: فأهون شيء يمر به، وفاعل يمر ضميره. والوحول خبر أهون.
يقول: من تعود خوض المنايا والحروب، فخوض الوحل أهون شيء عليه.
ومن أمر الحصون فما عصته ... أطاعته الحزونة والسّهول
الحزون، والحزونة: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض وارتفع. وقيل: إن الحزونة مصدر مثل السهولة.
يقول: من رام القلاع الحصينة والحصون المنيعة فلم يصعب عليه فتحها وأخذها حتى كأنها مأمورة له، فكيف يصعب عليه السير في حزن الأرض وسهلها؟!
أتحفر كلّ من رمت اللّيالي ... وتنشر كلّ من دفن الخمول؟!
خفرت الرجل خفارة: إذا أجرته وحفظته، وأراد من رمته الليالي ومن دفنته الخمول فحذف الضمير. وتنشر: أي تحيي، والخمول: خفاء الذكر والألف في أتخفر للاستفهام، والمراد به التقدير.
يقول: كل من رمته الليالي بشدائدها فإنك تحفظه، وكل من كان خامل الذكر فإنك ترفعه.
وندعوك الحسام وهل حسامٌ ... يعيش به من الموت القتيل؟!
يقول: كيف يجوز أن ندعوك الحسام وأنت أعظم منه فعلا؟! وليس حسام يعيش به القتيل بعد الموت! وأنت تحي من قتله الفقر، وترفع من خفضه الخمول.
وما للسّيف إلاّ القطع فعلٌ ... وأنت القاطع البرّ الوصول
إلا القطع: نصب لأنه استثناء مقدم. أي ليس للسيف فعل، وأنت تقطع رقاب الأعداء، وتبر قصادك وتصل أولياءك وعشيرتك.
وأنت الفارس القوّال: صبراً ... وقد فني التّكلّم والصّهيل
أي أنك تقول: صبراً صبراً ونصب صبرا على الحكاية، فحكى ذلك اللفظ على إعرابه. وقيل: نصب بقوال.
يقول: أنت الفارس الذي يصبر أصحابه إذا اشتدت الحرب، ولم يقدر الشجاع على الكلام، ولا الفرس على الصهيل، من التعب والخوف.
يحيد الرّمح عنك وفيه قصدٌ ... ويقصر أن ينال وفيه طول
يقول: هيبتك ملأت قلوب الناس، فمن بارزك تخذله يده وأقدامه، فيحيد الرمح عنك ويقصر، فلا يصل إليك، وإن كان طويلا. وقوله: وفيه قصد وفيه طول في موضع نصب على الحال.
فلو قدر السّنان على لسانٍ ... لقال لك السّنان كما أقول
يقول: إن ما أقوله لو علمه من لا ينطق لقال لك مثل ما أقول، وأثنى عليك مثل ثنائي.
ولو جاز الخلود خلدت فرداً ... ولكن ليس للدّنيا خليل
يقول: لو جاز أن يخلد أحد دائماً في هذه الدنيا، لخلدت أنت وحدك؛ إذ لا نظير لك، ولكن الدنيا ليست بخليل تدوم.
وقال يرثى والدة سيف الدولة، وقد ورد خبرها إلى أنطاكية في جمادي الآخرة سنة 337:
تعدّ المشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
نعد: أي نجعل عدة. والمنون: الموت، وأنثه ذهاباً به إلى المنية.
يقول: نحن نعد للمنون السيوف والرماح للقتال، والموت يقتلنا قبل القتال، فليس فيما نعده فائدة عند دنو الآجال كأنه من قوله تعالى: " أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْمُ الْمَوْتُ ".
ونرتبط السّوابق مقرباتٍ ... وما ينجين من خبب اللّيالي
نرتبط: أي نشد. والسوابق: الخيل. ومقربات: أي مدنيات من البيوت والخبب: السير السريع.
يقول: نحن نرتبط السوابق لنهرب عليها، إن جاءنا حادث، ولكن لا تنجينا من سير الليالي، فإنها تدركنا لا محالة.
ومن لم يعشق الدّنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى وصال
يقول: إن الإنسان يعشق الدنيا من قديم الدهر. يعني: أن كل أحد يعشق الدنيا ويحب البقاء فيها والخلوص من شوائبها، ولكن لا سبيل إلى ما يحب.
نصيبك في حياتك من حبيبٍ ... نصيبك في منامك من خيال
نصيبك: الأول مبتدأ، ونصيبك الثاني خبره.(1/218)
يقول: إن ما تناله من اللذة والسرور بقرب حبيبك لا حقيقة له، وإنه لزائل، كما لا حقيقة لما تراه في المنام من خيال الحبيب، فنصيبك منه عياناً كنصيبك من خياله الذي ليس هو بشيء حقيقة.
رماني الدّهر بالأرزاء حتّى ... فؤادي في غشاءٍ من نبال
يقول: إن الدهر رماني بسهام مصيبة، حتى عمت فؤادي وصار قلبي كأنه في غطاء أو غشاء من سهام.
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسّرت النّصال على النّصال
يقول: إن سهام الدهر لم تدع في قلبي موضعاً إلا وفيه سهم، حتى كأنه إذا رماني بسهامه وقع سهم على سهم آخر، ولم يجد في فؤادي مكاناً خالياً، فتكسرت السهام على السهام.
وهان فما أبالي بالرّزايا ... لأنّي ما انتفعت بأن أبالي
معناه: وهان على الدهر وحوادثه. وقيل: هان علي ما ألقاه، فأضمر الفاعل. وهان: أي خف.
يقول: خف علي أمور المصائب، فلا أبالي بها ولا أجزع عند نزولها. أي لأني ما انتفعت بما بليت قبل ذلك، فكذلك لا أنتفع بالمبالاة في المستقبل أيضا.
وهذا أوّل النّاعين طرّا ... لأوّل ميتةٍ في ذا الجلال
الناعي: المخبر بالموت. وطرا: نصب على المصدر، وهو توكيد. وميتة: تخفيف ميتة، وروى ميتة. والجلال كالجلة. وذا: بمعنى هذا. والجلال: هو ملك سيف الدولة.
يقول: هذا أول مخبر خبر بأول مصيبة في هذه الدولة! يعني: أنه لم ير في ملكه شيئاً يكرهه قبل هذه. وقيل معناه: لأول ميتة في هذا الجلال والعظمة.
كأنّ الموت لم يفجع بنفسٍ ... ولم يخطر لمخلوقٍ ببال
تقديره: لم يفجع أحداً بنفس، فحذف المفعول.
يقول: كأن هذه المصيبة لعظمها، أنست كل مصيبة كانت قبلها، حتى كأن الموت لم يفجع أحداً بموت أحد، ولم يخطر على قلب أحد، لعظم هذه المصيبة، أو لأنه لم يمت له أحد قبلها. ومثله قول الآخر:
كأن لم يمت حيّ سواك ولم يقم ... على أحدٍ إلاّ عليك النّوائح
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال
يقول داعياً لها: إن صلاة الله عليك حتى تقوم مقام الحنوط للميت. وخص الوجه المكفن بالجمال: تشريفاً للوجه وهو عبارة عن جميع الشخص.
على المدفون قبل التّرب صوناً ... وقبل اللّحد في كرم الخلال
على المدفون: بدل من قوله: على الوجه. ونصب صوناً: على التمييز.
يقول: إن رحمة الله على الميت كان مدفوناً في الصيانة والعفة قبل أن يدفن في التراب، كذلك مدفوناً في الخصال الكريمة قبل الدفن في اللحد. وروى: قبل الموت بدل الترب
فإنّ له ببطن الأرض شخصاً ... جديداً ذكرناه وهو بالي
أي للمدفون وذكرناه أي ذكرنا له. وجديداً: نصب صفة لشخص.
يقول: إن هذا الشخص ذكرنا له جديد، وإن بلي في التراب ومضى.
أطاب النّفس أنّك متّ موتاً ... تمنّته البواقي والخوالي
فاعل أطاب: أنك، وهو في موضع رفع.
يقول: طيب نفسي، ونفوس أوليائك، موتك في العز والإكرام. ومثل هذا الموت، في مثل هذا العز مما يتمناه كل أحد من الأموات والأحياء.
وزلت ولم ترى يوماً كريهاً ... تسرّ الرّوح فيه بالزّوال
يقول: طيب نفسي أنك زلت ومت من الدنيا مسرورة ولم تر فيها يوماً مكروهاً يتمنى فيه الموت.
رواق العزّ فوقك مسبطرّ ... وملك عليّ ابنك في كمال
مسبطر. أي ممتد طويل، وروى مستطيل.
يقول: لم تموني حتى رأيت رواق عز ابنك ممتداً وملكه كاملاً.
وذكر ابن جني وكثير ممن فسروا هذا الديوان: أن قوله: مسبطر لفظه مستقبحة خصوصاً في النساء، ولعلهم قالوا ذلك لما وقفوا على بيت لأني الشمقمق وهو قوله:
مررت بإير بغل مسبطر ... فويق الباع كالوتر المطوق
وليس كذلك، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في غير هذا المعنى. فقد وصف أمر السير بها وقال: ومن سيرها العنق المسبطرة وذكرها ذو الرمة في الكواكب فقال:
............. ... من اللّيل جوز واسبطرت كواكبه
سقى مشواك غادٍ في الغوادي ... نظير نوال كفّك في النّوال
يقول: سقى القبر الذي ثويت فيه سحاب غاد أي: مطر مدرار يشبه نوال كفك في كثرته وغزارته، فكما أن نوال كفك أغر من نوال غيرك، فكذلك هذا السحاب أغر من كل سحاب.
لساحيه على الأجداث حفشٌ ... كأيد الخيل أبصرت المخالى(1/219)
الساحي: القاشر. والهاء في لساحية تعود على قوله غاد والحفش: الأثر. وقيل: هو مصدر السيل حفشاً: إذا جمع الماء من كل جانب. وقوله: كأيدي الخيل: أي كحفش أيدي الحيل، فحذف المضاف. والمخالي. جمع مخلاة، وهي وعاء يجعل فيه العلف.
يصف شدة وقع المطر الذي دعا لقبرها بسقياه فيقول: سقى قبرك غاد: مطر يقشر عنه ويترك على القبر أثراً مثل آثار أيدي الخيل إذا أبصرت المخالي ومثله. قول حميد:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمةٌ تهمى
وروى تنم. وقيل: هو من قولهم: حفش المطر الأرض: إذا أظهر نباتها. كأنه يقول: سقى قبرك غاد. مطر ينبت النبات. ثم شبهه بفعل أيدي الخيل في حالة مخصوصة، إشارة إلى معنى المبالغة في إنبات ما يدعو الناس إلى الإقامة بها والحلول فيها؛ لأنه كلما كان أشد كان أحسن لنباته. وقال ابن الأعرابي: حفشت السماء. إذا جاءت بمطر قليل، وهذا مما يزيد الطعن.
أسائل عنك بعدك كلّ مجدٍ ... وما عهدي بمجدٍ منك خالي
يقول: لما فقدتك جعلت أساءل عنك كل مجد؛ لأن المجد كان قرينك، وما رأيت مجداً خالياً منك، وكان هو الأولى بأن يسأل.
يمرّ بقبرك العافي فيبكي ... ويشغله البكاء عن السّؤال
يقول: إذا مر بقبرك من كان يقصدك، بكى أسفا لفقدك، فاشتغل ببكائه عن أن يسألك، كما كانت عادته في حياتك.
وما أهداك للجدوى عليه! ... لو أنّك تقدرين على فعال
الهاء في عليه للعافي.
يقول: ما أرشدك إلى الإجداء عليه، والإنعام لديه! لو قدرت على الفعل، ولكنك لا تقدرين على ذلك، لأنك ميته.
بعيشك هل سلوت؟ فإنّ قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي
بعيشك: قسم على المتوفاة.
يقول: بعيشك، ألا أخبرتيني: هل سلوت عني وطابت نفسك بعدي؟! فإني وإن كنت بعيداً عن أرضك غير صابر عنك.
وهذا قد ذكره على لسان سيف الدولة، ولو لم يرد هذا المعنى لكان سوء أدب! ويحكى عن أبي الطيب أنه أنكر هذا البيت وقال: إنه زيد في القصيدة ليفسد به حالي عند سيف الدولة.
نزلت على الكراهة في مكانٍ ... بعدت عن النّعامى والشّمال
النعامى: الجنوب، وقيل: كل ريح، وقوله بعدت: أي بعدت فيه فحذف للعلم بذلك.
يقول: إنك قد نزلت على كراهة منك. وقيل: على كره منا، في مكان منعت فيه عن اللذات، وفقد الحياة، وتنسم رياح الجنوب والشمال!
تحجّب عنك رائحة الخزامى ... وتمنع منك أنداء الطّلال
الخزامى: نبت طيب الرائحة. وروى: الظلال والطلال بالظاء والطاء. ومعناه: إنك فقدت لذات الدنيا لفقدك الحياة.
بدار كلّ ساكنها غريبٌ ... طويل الهجر منبتّ الحبال
يقول: نزلت بدار كل ساكنها غريب، لأنه لم يكن به أحد قط، ولأنه منفرد لا يزوره أحد، وكل ساكنها طويل الهجر، لا يرجع إلى يوم الحشر، وهو منقطع الأسباب، إذ لا وصل بين الأحياء والأموات.
وقيل: أراد بقوله: منبت الحبال انبتات المودة كما قال أبو نواس:
وجاورت قوماً لا تزاور بينهم ... ولا وصل إلاّ أن يكون نشور
حصانٌ مثل ماء المزن فيه ... كتوم السّرّ صادقة المقال
حصان بفتح الحاء: أي عفيفة. والهاء في فيه ترجع إلى المكان في قوله: نزلت على الكراهة في مكان. وقيل: ترجع إلى المزن يعني مثل ماء المزن في المزن قبل مفارقتها إياه.
يمدحها بالعفة والطهارة وكتمان السر وصدق القول. وشبهها في طهارة أخلاقها بالماء ما دام في السحاب لا يلحقه دنس ولا كدر. وقيل في قوله: صادقة المقال لأنها لا تقارب ريبة فتحتاج إلى العذر.
يعلّلها نطاسيّ الشّكايا ... وواحدها نطاسيّ المعالي
يعللها: أي يداويها. وعللت المريض: إذا أقمت عليه في علته. النطاسي: الطبيب الفطن. والشكايا: جمع شكية وهي ما يشكوه من مرض وغيره وأراد بواحدها: سيف الدولة والهاء: للمتوفاة.
يقول: إن طبيب الأمراض كان يداويها، وكذلك واحدها: أي ابنها الذي هو طبيب المعالي. أي أنه إذا وقع الخلل في المعالي سده برأيه.
إذا وصفوا له داءً بثغرٍ ... سقاه أسنّة الأسل الطّوال
يقول: إن طبيب المعالي، فإذا وصف له داء بثغر من ثغور المسلمين، سقاه الأسنة وداواه بها حتى يشفيه كما يشفي الطبيب من الأمراض بالعقاقير والأدوية ومثله لأبي تمام:(1/220)
وقد نكس الثّغر فابعث له ... صدور القنا لابتغاء الشّفاء
وليست كالإناث ولا اللّواتي ... تعدّ لها القبور من الحجال
يقول: ليست من النساء اللواتي تكون القبور سترا لهن، ويعد موتهن كرامة، لأنها كاملة الخصال، شريفة الخلال، ليس لها نقص النساء الذي يحتاج إلى الستر بالقبر. وهذا كأنه من الخبر، دفن البنات من المكرمات.
ولا من في جنازتها تجارٌ ... يطون وداعها نفض النعال
يقول: ليست هي من نساء العامة التي يحضر جنازتها التجار فإذا دفنوها وودعوها نفضوا نعالهم وانصرفوا عنها.
مشى الأمراء حوليها حفاةً ... كأنّ المرو من زفّ الرّئال
المرو: جمع مروة، وهي حجر أبيض. والزفة: الريش تحت الجناح للطائر وهو ألين ما يكون من الأشياء. والرئال: جمع الرأل وهو فرخ النعام.
يقول: مشت الأمراء والملوك حول نعشها حفاة فلم يشعروا بخشونة الأحجار على أقدامهم الناعمة حزناً بها، حتى كأن الحجارة كانت عندهم في اللين كزف أفراخ النعام.
وقيل: إنهم لكثرتهم وشدة وطئهم على الحجارة وقلة مبالاتهم بها، صارت الأحجار مسحوقة لينة كريش النعام.
وأبرزت الخدور مخبّآتٍ ... يضعن النّقس أمكنة الغوالي
أبرزت: أي أظهرت. والخدور: الستور، وهي الفاعلة. ومخبآت: أي مخدرات، وهي المفعولة، والمراد بالنقس المداد، وهو السواد. والغالية: هي المسك والعنبر معجونان.
يقول: إن النساء المخبآت في الخدور برزن من خدورهن ووضعن المداد على خدودهن وشعورهن، ومواضع كن يضعن فيها الغوالي.
أتتهنّ المصيبة غافلاتٍ ... فدمع الحزن في دمع الدّلال
وروى: المصائب. يقول: إن هذه المصيبة أتت هؤلاء المخبآت وهو غافلات في السرور والدلال، بحيث كانت عيونهن تدمع من السرور، لحياة هذه المتوفاة ولوجوه أخر من المسرات، فأتتهن المصيبة فجأة فأخرجت من عيونهن دمع الحزن واختلط بدمع الفرح.
ولو كان النّساء كمن فقدنا ... لفضّلت النّساء على الرّجال
معناه ظاهر، وكونها كانت أفضل من الرجال، لما لها من زيادة العقل والرأي الكامل، والخصال الفاضلة. وروى: لفضلت النساء وذلك يلائم قوله: فقدنا فيكون كل واحد إخبار عن النفس. ويحكى عن سيد المؤيد؟ قدس الله روحه. قال: كنت أقرأ هذه القصيدة على المتنبي فقرأت لفضلت على ما لم يسم فاعله فرد علي فقال: أما أنا فلم أقل إلا فضلت على أن يكون الفعل لي. وهذا يؤيد ما ذكرناه من الرواية.
وما التّأنيث لاسم الشّمس عيبٌ ... ولا التّذكير فخرٌ للهلال
يقول: لا اعتبار بالتذكير والتانيث، وإنما الاعتبار بالفضل والنقص، فالهلال مذكر، والشمس مؤنث، ومع ذلك الشمس أفضل من الهلال.
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
يقول: أعظم من فجائع المفقودين فجيعة من وجدناه قبل الموت وحيداً لا نظير له يخلفه.
يدفّن بعضنا بعضاً ويمشي ... أواخرنا على هام الأوالي
الأوالي: مقلوب من الأوائل، فقدم اللام وأخر الهمز، ثم أبدلها ياء، فصارت كالقاضي.
يقول: الحي يدفن الميت، والآخر يمشي على هام الأول.
وكم عينٍ مقبّلة النّواحي ... كحيلٍ بالجنادل والرّمال
الجندل: الصخر. يقول: كم عين كانت مقبلة النواحي، أضحت مكحلة بالرمل تحت التراب.
ومغضٍ كان لا يغضى لخطبٍ ... وبالٍ كان يفكر في الهزال
يقول: كم رجل مغض: خاشع الطرف لأجل الموت. وقد كان لا يغضى لخطب من خطوب الدهر؛ لعزته ومنعته، وكم رجل قد بلي تحت التراب وتمزقت أوصاله، وقد كان يتفكر في هزال نفسه، ويطلب صلاح جسمه.
أسيف الدّولة استنجد بصبرٍ ... وأين بمثل صبرك للجبال؟!
يقول: يا سيف الدولة، استعن بصبرك الذي هو كالجبال الثوابت، على هذه المصيبة العظيمة. ومن أين للجبال مثل صبرك؟!
وأنت تعلّم النّاس التّعزّي ... وخوض الموت في الحرب السّجال
الحرب السجال: مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء مأخوذ من المساجلة: وهو المغالبة في جذب الدلو، والسجل: الدلو العظيم.
يقول: لا تحتاج أن نعزيك على مصائبك؛ لأنك تعلم الناس التصبر وتعلمهم خوض المنايا في الحروب العظيمة.
وحالات الزّمان عليك شتّى ... وحالك واحدٌ في كلّ حال(1/221)
ذكر الحال في قوله: وحالك واحد في كل حال لأنه يذكر ويؤنث.
يقول: أحوال الزمان عيك متفرقة ومختلفة، ولا يزعجك منها شيء، ولا يغيرك عن حالك من الصبر والثبات والحلم والوقار في جميع الأوقات.
فلا غيضت بحارك يا جموماً ... على علل الغرائب والدّخال
غيضت: أي نقصت. والجموم: الكثير. والعلل: الشربة الثانية. والغرائب: جمع غريبة، وهي الناقة تدخل في الإبل وليست منها. والدخال: جمع دخل، وهو أن يدخل بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا يساعدهما على الشرب.
يقول: لا نقص الله من جمام بحارك، على كثرة ما يرد عليها من غرائب المصائب، وتكرير الحوادث، وهذا مثل. والمراد: لا نقص الله صبرك بكثرة ما يصيبك من حوادث الأيام. فشبه سيف الدولة بالبحر الكثير الماء، وحوادث الأيام بإبل ترد عليه مرة بعد أخرى.
وقيل معناه: لا نقص جودك على كثرة من يرده ممن لا يستحقه، كما أن الغرائب والدخال لا يستحق ورود الحوض، إذ الغرائب ليست من إبل هذا الحوض، والدخال قد شربت مرة. وقيل معناه: أنك كثير العطاء لمن هو مقيم عندك وهو المراد بالدخال، ولمن يرد عليك من مكان آخر وهو المراد بالغرائب، وهذا أبلغ من قول الكميت:
أناسٌ إذا وردت بحرهم ... صوادى الغرائب لم تقرب
رأيتك في الذين أرى ملوكاً ... كأنّك مستقيمٌ في محال
يقول: أراك بين الملوك كالمعنى المستقيم، والكلام المستقيم، والأمر المستقيم، الظاهر إلى جنب المستحيل الفاسد، أي أنك الملك على الحقيقة وغيرك من الملوك اسم بلا جسم.
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
المسك للظبي: بمنزلة الحيض للنساء. وقيل: لا يكون إلا في إناثها.
يقول: إن فضلت الأنام وعلوتهم وأنت من جملتهم فليس ذلك بعجب فإن المسك دم، ولكن يخالف سائر الدماء ريحاً وطبعاً.
وهذا من اختراعات أبي الطيب وفرائده. وقوله فإن تفق شرط وأنت منهم حال. فإن المسك جواب الشرط.
وقال يمدحه ويذكر استنقاذه أبا وائل: تغلب بن داود بن حمدان لما أسره الخارجي الناجم من كلب. ويصف قتل الخارجي.
وكان أبو وائل قد ضمن لهم، وهو في الأسر خيلا طلبوا منها: العروس ومالا اشترطوه عليه وأقاموا ينتظرون وصول ذلك فصبحهم سيف الدولة بالجيش فأبادهم، وقتل الخارجي في شهر شعبان سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
إلام طماعية العاذل ... ولا رأى في الحبّ للعاقل؟
إلى من حروف الجر دخلت على ما الاستفهامية، ثم حذف منها الألف وجعلت مع إلى بمنزلة اسم. ومعناه: إلى أي شيء. وقيل إلى متى والطماعية مصدر كالطمع وهي مخففة إليه.
يقول: إلى متى يطمع العاذل في رجوعي عن الهوى، والعاقل إذا ابتلى في الهوى فقد فقد رأيه وزال عقله.
يراد من القلب نسيناكم ... وتأبى الطّباع على النّاقل
يقول: إني مطبوع على حبكم، ومجبول على هواكم، والعاذل يريد مني أن أنساكم، وهذا محال، لأن الطبع لا يقدر أحد أن ينقه إلى غره، ويغيره عما هو عليه، ومثله قول الآخر:
لا تحسبوني عنكم مقصّرا ... إنّي على حبّكم مطبوع
وإنّي لأعشق من عشقكم ... نحولي وكلّ امرئٍ ناحل
أعشق: يجوز أن يكون فعلا مضارعاً، من عشقت ويكون كل منصوبا عطفاً على نحولي وهو في موضع النصب.
ومعناه: أني من فرط عشقي لكم أعشق نحولي، وأعشق كل عاشق مثلي ناحل مثل نحولي، للمشاكلة التي بيننا. ويجوز أن يكون أعشق أفعل تفضيل وكل يكون مجروراً عطف على الياء في نحولي. ومعناه: أني أعشق لكم. أي أشد عشقاً لكم من عشقكم نحولي ونحول كل فتى ناحل. يعني: أنكم تعشقون نحولي ونحول كل عاشق، وعشقي لكم أشد من عشقكم نحولي ونحول كل فتى هذه صفته.
ولو زلتم ثمّ لم أبككم ... بكيت على حبّى الزّائل
يقول: لو فارقتموني وفراقكم دال على زوال حبي ثم لم أبك لفراقكم، لبكيت على حبي الزائل؛ لأني أحب حبي لكم، فإذا زال ساءني زواله فأبكي له، وإن لم أبك لفراقكم، ويجوز أن يكون بكيت دعاء على نفسه. أي: إن لم أبك لكم، جعل الله حبكم زائلا عني حتى أبكي عليه.
أينكر خدّي دموعي وقد ... جرت منه في مسلكٍ سابل؟
قيل: سابل بمعنى مسبول: أي مسلوك للمارة. وقيل: سابل: أي عامر بالمارة والهاء في منه للخد.(1/222)
يقول: إن خدي لا ينكر دموعي السابلة عليه؛ لأنها لم تزل تسيل على الخد حتى صار فيه طريق سابل، فهذا الذي يجري الآن يجري في ذلك الطريق المسلوك.
وروى: في مسلك سائل يقال: هذا المكان سائل الماء. أي يسيل عليه الماء
أأوّل دمعٍ جرى فوقه؟ ... وأوّل حزنٍ على راحل؟
يقول: ليس هذا بأول دمع جرى، لأني كثيراً ما ابتليت بذلك، وليس الحزن الآن بأول حزن على حبيب راحل، لأني قد تجرعت من غمومه غير مرة.
وقيل معناه: لست أول عاشق بكى من الفراق وحزن من ألم الشوق، وقد كان قبلي عشاق يبكون ويحزنون على فراق الأحبة.
وهبت السّلوّ لمن لامني ... وبتّ من الشّوق في شاغل
يقول: تركت السلو على من لامني، ويأمرني بالسلو، ويعذلني عليه، واشتغلت بما أنا فيه من الوجد والشوق والمحبة.
كأنّ الجفون على مقلتي ... ثيابٌ شققن على ثاكل
يقول: كأن جفوني على مقلتي - لتباعد ما بين الجفون من شدة السهر - ثياب شققن على ثاكل؛ لأنها إذا شقت تباعد ما بين جانبي المشقق.
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
يقول: لو كنت أسيراً كسائر الأسارى. الذين يكونون في أيدي الأعادي لضمنت لهم من المال ما ضمنه أبو وائل، واستعنت بسيف الدولة ليخلصني من الأسر، ولكني أسير الهوى، فلا أقدر على الخلاص منه، ولا أقهره بشدة ولا قوة.
فدى نفسه بضمان النّضار ... وأعطى صدور القنا الذّابل
يقول: فدى نفسه أبو وائل من الخارجي بأن ضمن لهم الذهب، وأعطاهم صدور القنا التي جاء بها سيف الدولة حين استنقذه من يديه.
ومنّاهم الخيل مجنوبةً ... فجئن بكلّ فتىّ باسل
مجنوبة: أي مقودة جنب الفارس.
يقول: مناهم أبو وائل الخيل مقودة ليفدى بها نفسه فجاءتهم الخيل بكل فارس شجاع يضرب رءوسهم ويهلكهم.
كأنّ خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
شبه أسره وخلاصه بالقمر إذا غاب ثم طلع. يعني عاد كالقمر، وهو في نوره كما كان.
دعا فسمعت وكم ساكتٍ ... على البعد عندك كالقائل
يقول لسيف الدولة: إن أبا وائل دعاك لتخلصه، فسمعت دعاءه ثم قال: فكم ساكب أي أنك تراعي أمر القريب منك وأمر البعيد الذي لا يسألك مراعاته، فكأنه في سكوته استجارك كالناطق؛ لأن معونتك تعم الخاص والعام.
فلبيّته بك في جحفلٍ ... له ضامنٍ وبه كافل
ضامن وكافل: نعت لجحفل.
يقول: لما دعاك لبيته بنفسك في عسكر ضامن لأبي وائل، وكافل به، فخلصته من يد الخارجي، ولم يكن هناك دعاء ولا إجابة، ولكنه جعل وقوعه في يد الخارجي دعاء منه، وخروج سيف الدولة إجابة منه إياه.
خرجن من النّقع في عارضٍ ... ومن عرق الرّكض في وابل
خرجن: أي الخيل. والركض: الضرب بالرجل جنب الدابة.
يقول: إن الخيل لما ركضت، ثار الغبار مثل السحاب، وسال عرقها مثل المطر الوابل.
فلمّا نشفن لقين السّياط ... بمثل صفا البلد الماحل
نشفن: أي جف العرق عنهن. والصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة البيضاء. والبلد الماحل: المجدب، فحجره أصلب.
يقول: إنها لما عرقت الخيل علاها الغبار، وتلبد التراب عليها، فلما جف عرقها أشبهت جلودها الصلاء؛ لصلابتها، فوقعت السياط على جلود هذه صفتها، وإنما خص البلد الماحل قيل: لأن أحجارها أصلب من غيرها. وقيل: هذا لا معنى له وأنها لا تتغير، وإنما خصها لأنها أكثر غباراً من البلد الكثيرة الري، فشبه تراكم الغبار على جلودها في صلابتها بصفاء البلد الكثيرة التراب.
شفنّ لخمسٍ إلى من طلب ... ن قبل الشّفون إلى نازل
شفن: أي نظرن. والشفون: النظر.
يقول: إن الخيل سارت خمس ليال لم ينزل عنها فارس، فنظرت هذه الخيل إلى من طلبته من العدو، بعد خمس ليال، قبل نظرها إلى نازل عن ظهرها؛ وذلك لأن فرسانها واصلوا سيرها حتى أدركوا مقصودهم ولم ينزلوا عنها حتى لحقوا الخارجي.
فدانت مرافقهنّ البرى ... على ثقةٍ بالدّم الغاسل
روى: البرى والثرى.
يقول: قاربت مرافقهن التراب وخالطته عند العدو، ووثقت أن دم العدو يغسل هذه المرافق من التراب الذي عليها. ويجوز أن يكون دانت بمعنى أطاعت مرافقهن التراب، لأنها وثقت أن الدم يغسلها.
وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل(1/223)
الكاذة: لحم الفخذ.
يقول: إن الفرس التي تطلب الغارة قد اتسع ما بين فخذيه، من شدة العدو، مثل ما بينهما إذا أراد أن يبول.
وقيل: أراد بالمستغير. الخارجي؛ لأنه كالطالب لهذه الغارة من خيل سيف الدولة.
فيقول: الدم الذي يترشش بين لحمتي فخذ الخارجي أو فخذ فرسه كان كالبول: أي يترشش على هذه المواضع عند البول.
فلقّين كلّ وردينيّةٍ ... ومصبوحةٍ لبن الشّائل
المصبوحة: التي سقيت اللبن وقت الصبح. والشائل: التي لا لبن لها، والشائلة: التي حملت وقل لبنها.
قال ابن جني؛ قلت للمتنبي: إن الشائل هي التي لا لبن لها، وأنت تريد ما لها لبن، والتي لها لبن قليل يقول لها: الشائلة. فقال أردت الهاء فحذفتها كقول الشاعر:
إنّا بنو عمكم لا أن نباعدكم ... ولا نحاربكم إلاّ على ناجي
فإنه أراد: ناجية. فسألته عن غرضه. في ذلك، فقال: إن الناقة إذا قل لبنها، ونجع في شاربه، فلا يسقونها الإكرام خيولهم.
فكأنه يقول: إن خيول سيف الدولة لقين أي لقيت خيله في جيش الخارجي كل رمح رديني، وكل فرس مصبوح لبن الشائل. التي جف لبنها. وقيل أراد بالشائل: التي لا لبن لها أصلاً. ومعناه: أنها لا تطعم فتلزم الطوى توفيراً لها على العدو.
وجيش إمام على ناقةٍ ... صحيح الإمامة في الباطل
أي: ولقين خيل سيف الدولة، جيش إمام في الباطل دون الحق. وكان الخارجي يدعى الإمامة.
فأقبلن ينحزن قدّامه ... نوافر كالنّحل والعاسل
ينحزن: أي يجتمعن، من قولك انحاز القوم إلى ناحية. إذا التجئوا إليها.
وقيل: يتفرقن يميناً وشمالاً، تذهب كل فرقة إلى حيزة.
وقيل: هو من نحزت الناقلة برجلي: إذا ركلتها. أي أنهن يركلن بأرجلهن، قدامه: أي قدام الخارجي، والعاسل الذي يخرج العسل.
يقول: إن خيل الخارجي رأوا جماعات لها ضجيج ونفر، فشبههم بالنحل. وشبه الخارجي بالعاسل. والنحل عند معالجة العاسل، يكون لها ضجيج ونفر في وجه العاسل.
وقيل معناه: أقبلت خيل الخارجي - لما رأت جيش سيف الدولة - تتفرق عنه وتسلمه إلى سيف الدولة، كما يسلم النحل ويتفرق عنه، إذا دخل عليه العاسل.
فعلى هذا: العاسل: سيف الدولة، والنحل: جيش الخارجي.
فلمّا بدوت لأصحابه ... رأت أسدها آكل الآكل
يقول لسيف الدولة: لما ظهرت لأصحاب الخارجي، وكانوا كالأسود رأوا منك أسداً يأكل كل أسدٍ آكلة لهم يأكلهم ويفنيهم.
بضربٍ يعمّهم جائرٍ ... له فيهم قسمة العادل
له أي للضرب. والباء متعلق بقوله: آكل الآكل. أي يأكلهم بضربٍ. جعل الضرب مجاوزاً للحد، خارجاً عن المعتاد. وقوله: قسمة العادل. فيه وجوه: أحدها: قيل معناه: أنه عدل، لأنه قربة إلى الله تعالى، لأنهم خوارج على إمامهم.
والثاني: أنه كان عدلا لخصوصة بالشجعان.
والثالث: أنه مقسوم بينهم على سواء، له في كل واحد منه حصة مثل حصة الآخر، ولم يفت منه أحد، فهو عدل من هذا الوجه.
والرابع: أنه كان عدلاً من حيث أنه جعل كل واحد منهم بنصفين على سواء، فكانت صورة القسمة النصفة.
وطعنٍ يجمّع شذّانهم ... كما اجتمعت درّة الحافل
روى: شذاذهم بذالين، وشذانهم بذال ونون، أي المتفرقون.
يقول: إن سيف الدولة كان يطعنهم طعناً يجتمع عليه المتفرقون، ويتعجبون من سعتها، كما يجتمع الدر في الضرع الحافل، ووجه التشبيه أنهم يجتمعون عليه واحداً واحداً وينضم واحد إلى آخر، كما تجتمع الدرة شيئاً فشيئاً. وقيل: أراد أن خيل الخارجي من شدة الطعن تجمعوا ليتقوا كما يجتمع الدرة في الضرع الحافل.
إذا ما نظرت إلى فارسٍ ... تحيّر عن مذهب الرّاجل
أي عن مذهب مثل الراجل.
يقول: إذا نظرت إلى فارس منهم خذلته نفسه، وبقي متحيراً لا يقدر على أن يسير مثل سير الراجل، ولا أن يذهب مثل مذهبه.
فظلّ يخضّب منها اللّحى ... فتى لا يعيد على النّاصل
الناصل: المضروب بالنصل، وهو فاعل بمعنى مفعول، والهاء في منها للأسد، وهي خيل الخارجي. وفاعل ظل فتى وهو سيف الدولة.
يقول: إن سيف الدولة إذا ضرب منهم إنساناً ضربة قتله، فلا يحتاج إلى أن يعيد الضرب مرة أخرى.
وقيل: الناصل. من نصل الخضاب يعني: إذا ضرب فخضب المضروب بالدم، فإن خضابه لا ينصل عنه حتى يحتاج إلى إعادته.(1/224)
ولا يستغيث إلى ناصرٍ ... ولا يتضعضع من خاذل
تضعضع البناء: إذا انهدت أركانه أي لا يتذلل هذا الفتى، ولا يستعين بناصر ينصره، ولا يضعف إن خذله أصحابه، لأنه مستقل بنفسه لا يحتاج إلى أحد.
ولا يزع الطرف عن مقدمٍ ... ولا يرجع الطّرف عن هائل
يزع: أي يكف. ومقدم: أي الإقدام.
يعني: أنه لا يرد فرسه عن الإقدام، ولا يرد طرفه أي عينه عن أمر مخوف ومنظر هائل.
إذا طلب النّبل لم يشأه ... وإن كان ديناً على ماطل
النبل: الحقد. يقول: إذا طلب ثأراً أدركه، فلم يفته وإن كان ثأره عند من لا يدرك لديه ثأر. فشبه هذا الثأر بدين على ماطل.
خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإنّ الغنيمة في العاجل
يقول للخارجي وجماعته الذين كانوا ينتظرون الفداء هزءاً بهم: خذوا ما أتاكم به سيف الدولة من الفداء، واعذروه في هذه الغنيمة المعجلة، فاغتنموا ذلك فإن الغنيمة في العاجل.
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص في القابل
يقول: لئن كان أعجبكم ما ملكتم في هذا العام من الخير، فعودوا في العام القابل إلى حمص، حتى تروا ما يزيد على ذلك فترضوا به.
فإنّ الحسام الخضيب الّذي ... قتلتم به في يد القاتل
يقول: السيف المخضب بدمائكم في يد القاتل، وهو سيف الدولة، فمتى شئتم فتعالوا إليه.
وقال ابن جني: أراد بالسيف. سيف الدولة. والخضيب: هو الخاضب اللحي بالدماء. والقاتل: هو الخليفة الذي ينصر سيف الدولة ويقاتل عنه.
يجود بمثل الّذي رمتم ... فلم تدركوه على السّائل
أي يجود على السائل بمثل المال الذي رمتم، فلم تدركوه على السائل: يعني أنه يعطي سائله مثل ما طلبتموه، وإنما لم يعطكم أنفة، من أن تأخذوه قهراً.
أمام الكتيبة تزهى به ... مكان السّنان من العامل
أمام: نصب على الظرف. وتزهى به: أي تفتخر به. والتاء: ضمير الكتيبة والهاء: ضمير سيف الدولة. وعامل الرمح: قدر ذراعين من أعلى الرمح.
أي أن سيف الدولة يكون أبداً أمام الكتيبة، كما يتقدم السنان على الرمح وأن الكتيبة تفتخر به، إذ لا غناء لهم عنه كما لا غناء للرمح عن السنان.
وإنّي لأعجب من آملٍ ... قتالاً بكمّ على بازل
البازل: البعير الذي دخل في السنة التاسعة. وكان الخارجي حينئذ على ناقة يومئ بكمه على أصحابه؛ يحرضهم على قتال سيف الدولة.
يقول: إني أعجب من ضعف رأي من يقاتل بكم على ناقة بازل.
أقال له الله: لا تلقهم ... بماضٍ على فرسٍ حائل؟
الهاء في له للخارجي وفي لا تلقهم لأصحاب سيف الدولة. بماض: أي بسيف ماض. والحائل: خلاف الحامل، وخض الحائل لأنها تكون أشد على العمل، وأصبر على الشدة، وهم لا يركبون يوم القتال إلا الفرس الأنثى الحائل.
يقول: كأن الله تعالى قال له. لا تلق جيش سيف الدولة بسيف ماض على فرس حائل! فلهذا ركب الناقة وأشار بكمه بدل السيف!
إذا ما ضربت به هامةً ... براها وغنّاك في الكاهل
الكاهل: أعلى الكتف بين المنكب والعنق. والهاء في به للسيف الماضي. أي كأن الله تعالى قال: لا تلقهم بسيف ماض، إذا ضربت به رأساً قطعه ووصل إلى العنق، وهامة قطعها، وسمعت له صليلا كالغناء.
وقيل: معناه: قال الله لهذا الخارجي. لا تحارب بسيف ماض مثل سيفك الماضي يا سيف الدولة، الذي إذا ضربت به رأساً تجاوزها وغنى لك في الكاهل.
وليس بأوّل ذي همّةٍ ... دعته لما ليس بالنّائل
يقول: إن الخارجي ليس بأول من لم يدرك مراده، وما دعته إليه همته، وقد خرج قبله كثير من الخوراج وطلبوا مثل ما طلب فقتلوا كما قتل.
يشمّر للّجّ عن ساقه ... ويغمره الموج في السّاحل
يقول: إن الخارجي كان يشمرّ عن ساقه؛ ليخوض لجة البحر، وقد علاه الموج في ساحل هذه اللجة.
أي قد تأهب لجيش سيف الدولة الذي هو كالبحر العظيم، والموج يغرقه في الساحل! أي أنه لقي مقدم عسكر سيف الدولة فهزموه، فكيف إذا لقي معظم عسكره؟! وقال ابن جني: إنه يصف تمويه الخارجي على الأعراب وادعاءه النبوة فيهم فكان يحسر عن ساقه عند الماء ليرى الناس أنه يخوضه تمويها ومخرقة، ومع ذلك قد غمره الموج وهو على الساحل.
أما للخلافة من مشفقٍ ... على سيف دولتها الفاصل؟!(1/225)
الفاصل: القاطع. يقول: هو أبداً على سيف الدولة. هذا الخليفة، لأن بقاء هذه الخلافة وبقاء دولتها بسيف الدولة، فهل أحد يشفق على هذا السيف القاطع؛ لتبقى هذه الخلافة.
يقدّ عداها بلا ضاربٍ ... ويسري إليهم بلا حاملٍ
يقد: أي يقطع. والهاء في عداها للخلافة وفي إليهم للعدا.
يقول: هذا السيف بخلاف سيف الحديد، فهو يقطع أعداء الخلافة بلا ضارب، ويسير إلى الأعداء بلا حامل.
وقيل: أراد أنه يذب عن الخلافة وحده، وليس من أوليائها معين ينصره.
تركت جماجمهم في النّقا ... وما يتحصّلن للنّاخل
النقا: الكثيب من الرمل.
يقول: رضضت جماجمهم فيما بين الرمل فصارت كالهباء، واختلطت بالرمل، فلو نخل الرمل أحد بمنخل لم يحصل له شيء.
وروى: وما يتخلصن أي ما يتميزن: أي أن جماجمهم، لا تتميز عن الرمل للناخل.
وأنبتّ منهم ربيع السّباع ... فأثنت بإحسانك الشّامل
يقول: طرحت هؤلاء السباع حتى أكلت، وأخضبت كما تخصب السوائم في الربيع، فصارت لحومهم للسباع كالربيع، فأثنت عليك السباع لذلك.
وعدت إلى حلبٍ ظافراً ... كعود الحلىّ إلى العاطل
العاطل: التي لا حلى عليها. يعني: أن حلب عريت عن زينتها لما فارقتها! فلما عدت إليها ظافراً، عادت زينتها، كالحلي إذا عاد للعاطل.
ومثل الّذي دسته حافياً ... يؤثّر فِي قدم النّاعل
يعني: هذا الذي وصلت إليه من الفتح العظيم بالهويني، لا يدركه غيرك بمشقة وتعب، أي وصلت إليه من غير آلة وعدة.
وكم لك من خبرٍ شائعٍ ... له شية الأبلق الجائل
يقول: ذكرك وخبر وقائعك مشهورة، كشهرة الفرس الأبلق فيما بين سائر الأفراس؛ إذا كان الأبلق جائلا من مكان إلى مكان كان أشهر وأظهر.
ويومٍ شراب بينه الرّدى ... بغيض الحضور إلى الواغل
وكم لك من يوم. وأيام العرب: حروبها. والواغل: الداخل في القوم؛ يشرب من غير دعوة. والهاء في بنيه لليوم.
يقول: كم لك من يوم حرب سقيت فيه أعداءك الموت، حتى كأن الواغل يبغض حضوره، وكان من عادته ألا يبغض ذلك؛ لأنه ليس بيوم شراب في الحقيقة.
تفكّ العناة وتغنى العفاة ... وتغفر للمذنب الجاهل
يقول: تطلق الأسرى، وتغني العفاة: أي السؤال، بما تعطيهم من الأموال، ومن أذنب إليك بجهل عفوت عنه.
فهنّأك النّصر معطيكه ... وأرضاه سعيك في الآجل
فاعل هناك معطيكه وفاعل أرضاه سعيك والهاء فيه ترجع إلى المعطى وهو الله تعالى والهاء في معطيكه للنصر.
يقول: هناك الله النصر الذي أعطاك، وأرضى الله سعيك في الآخرة، فأما هذه الدنيا فليس لها قدر يكون ثواباً لك! وهذا دعاء له.
فذى الدّار أخون من مومسٍ ... وأخدع من كفّة الحابل
ذي الدار: إشارة إلى الدنيا. والمومس: الفاجرة. والكفة: شرك الصائد. والحابل: صاحب الحبالة.
يقول: هذه الدنيا خبيثة كالمرأة الفاجرة، غدارة لا تدوم لأحد، فهي في الغدر كشرك الصائد الذي يظن الصيد فيه خيراً، فإذا فيه هلاكه!
تفانى الرّجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل
يقول: إن الرجال تفانوا جميعاً - بقتل بعضهم بعضاً - في حب هذه الدار الغدارة، ثم يتركونها ولا يحصلون منها على فائدة وخير. والطائل: هو الخير.
وقال عند مسيره نحو أخيه ناصر الدولة لنصرته لما قصده معز الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي إلى الموصل في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطّعن عند محبيّهنّ كالقبل
يقول: أشرف الممالك قدراً، ما ملك عنوة، وفتح بأطراف الأسنة، وكان الطعن عند من أحب هذه الممالك، أحلى من قبل الأحباب.
وما تقرّ سيوفٌ في ممالكها ... حتّى تقلقل دهراً قبل في القلل
أي ما تستقر مملكة سيف الدولة، ولا تستقر سيوف في مملكته، حتى يقلقل أعداءه، وتتحرك سيوفه دهراً في رءوس الأعداء. ومثله لأبي تمام:
سأجهد عزمي والمطايا فإنّني ... أرى العفو لا يمتاح إلاّ من الجهد
مثل الأمير بغى أمراً فقرّبه ... طول الرّماح وأيدي الخيل والإبل(1/226)
معناه: من مثل الأمير؟ وقيل معناه: لا تستقر المملكة حتى يفعل مثل ما فعله سيف الدولة. فإنه يطلب أمراً بعيداً فيقرب هذا الأمر عليه: طول الرماح وخيله وإبله، أي يقصد إليه برماحه وإبله.
وعزمةٌ بعثتها همّةٌ زحلٌ ... من تحتها بمكان التّرب من زحل
زحل: مبتدأ. والمكان: خبره. والهاء في تحتها: للهمة. وفي بعثتها للعزمة.
يقول: قرب عليه مرامه عزمة بعثتها همة عالية، بحيث زحل نحت هذه الهمة بمكان التراب من زحل! أي أن ما بينها وبين زحل من البعد مثل ما بين زحل والتراب.
على الفرات أعاصيرٌ وفي حلبٍ ... توحّشٌ لملقّى النّصر مقتبل
الأعاصير: جمع إعصار، وهو غبار الحرب، ورهج الخيل.
يقول: على الفرات غبار الخيل من كثرة الحروب والنزول عليها، وفي حلب توحش بمفارقتها سيف الدولة، وهو ملقى النصر، ملقاه حيث توجه. مقتبل: أي هو في أول شبابه. وقيل: معناه أنه حسن تقبله العيون، وتحبه القلوب.
تتلوا أسنّته الكتب الّتي نفذت ... ويجعل الخيل أبدالاً من الرّسل
فيه وجهان: أحدهما: أن أسنته تتلوا الكتب الواردة إليه من أخيه ناصر الدولة، فجعل جواب كتبه خروجه إليه بنفسه، وجعل خيله بدل رسله. وهذا مثل قوله: فليته في محفل.
والثاني: أنه إذا كتب إلى الأعداء فأسنته تتبعها، وإنما يكتب إلى أعدائه ليعرفهم أنه متوجه إليهم، حتى لا يكون خروجه اغتيالاً؛ لأن هذا داخل في الشجاعة من أن يقصدهم مفاجأة، لأنه يدل على الجبن والاغتيال، وهذه فائدة كتبه إلى أعدائه.
يلقى الملوك فلا يلقى سوى جزر ... وما أعدّوا فلا يلقى سوى نفل
جزر: بمعنى مجزور، أي مقطوع. وقيل: هي جمع جزور. أي كأنهم جزر يساقون إليه لينحرهم.
يقول: إنه كلما لقى ملكاً في حرب قتله وغنم أمواله، فهي جزر لسيوفه، وما له غنيمة له ولعسكره.
صان الخليفة بالأبطال مهجته ... صيانة الذّكر الهنديّ بالخلل
الخلل: جمع الخلة، وهي غاشية جفن السيف. وقيل: هي واحد، وجمعه أخلة. والذكر الهندي: هو السيف. والهاء في مهجته قيل لسيف الدولة ومعناه: أن الخليفة صان مهجة سيف الدولة بما ضم إليه من الجند والفرسان، كما يصان السيف بالخلل.
لما كان للدولة سيفاً جعل الخليفة والأبطال جفناً، وفيه إشارة إلى أن الاعتماد في الحرب عليه والجند فضلة، كما أن العمل للنصل دون الجفن.
وقيل: الهاء في مهجته للخليفة أي أنه صان نفسه بالأبطال الذين مع سيف الدولة، صيانة السيف بالخلل؛ لأنهم يقاتلون عنه أعداءه مع سيف الدولة فيصونه عن الأعداء.
الفاعل الفعل لم يفعل لشدّته ... والقائل القول لم يترك ولم يقل
يقول: إنه يفعل أفعالاً تعجز الناس عنها فيتركونها، أو أنهم لم يعرفوا ما يفعله من الأفعال ولم يهتدوا إليها، ويقول أقوالا حاول البلغاء أن يقولوا مثلها فلم يقدروا على ذلك، ولم يأتوا بها على وجهها ولم يتركوها؛ لأنهم تعرضوا لها ولم يستوفوا ما فيها من أنواع الفصاحة، فهي غير مقولة ولا متروكة. ومثله قوله من قصيدة أخرى:
فأنطق واصفيه وأفحما
وقيل معناه: أنه يقول أقوالا لم تعرف فلم تقل، ولم تترك لأنها إذا لم تعرف لا يمكن تركها، لأنه ما لا يعرف، كما لا يفعل، لا يترك.
والباعث الجيش قد غالت عجاجته ... ضوء النّهار فصار الظّهر كالطّفل
غالت: أي أهلكت. وفاعله العجاجة ومفعوله ضوء النهار والهاء في عجاجته للجيش لفظاً، والطفل: آخر النهار.
يقول: هو الذي يبعث الجيش العظيم الذي يستر غباره الشمس حتى يصير وقت الظهر مثل آخر النهار: وقت المغرب.
الجوّ أضيق ما لاقاه ساطعها ... ومقلة الشّمس فيه أحير المقل
أضيق قيل: في معنى ضيق. أي أن الجو يضيق بما لاقاه من الغبار. وقيل: هي على أصلها. أي أشد ضيقاً. والهاء في ساطعها للعجاجة وفي لاقاه للجو وفي فيه لساطعها.
يقول: إن أضيق الأشياء - بما يسطع عن غبار هذا الجيش - هو الهواء: الذي هو أوسع الأشياء، وإذا كان الهواء كذلك فما ظنك بغيره؟! وهذا الغبار أيضاً يغطي نور الشمس وقرصها حتى صارت عين الشمس أحير العيون في هذا الغبار، فكيف أحوال سائر العيون؟!
ينال أبعد منها وهي ناظرةٌ ... فما تقابله إلاّ على وجل
ينال: فعل السيف. والهاء في منها: للشمس، أو لمقلتها.(1/227)
يقول: إنه ينال ما هو أبعد منها. أي أبعد من الشمس. وهي ترى ذلك وتنظر إليه، فما تقابل هذه الشمس سيف الدولة عند طلوعها وفي سائر الأوقات، إلا وهي خائفة من أن يغير عليها.
قد عرّض السّيف دون النّازلات به ... وظاهر الحزم بين النّفس والغيل
قيل: أراد بالسيف نفسه، والهاء في به: ترجع إلى سيف الدولة.
يقول: جعل سيفه عارضاً بينه وبين النوائب وقد لبس الحزم مظاهراً. حاجزاً بين نفسه وبين اغتيال عدوه، فحزمه سلاح له كالسيف.
ووكّل الظنّ بالأسرار فانكشفت ... له ضمائر أهل السّهل والجبل
الهاء في له ترجع إلى سيف الدولة، وقيل: إلى الظن.
يقول: وكل ظنه بضمائر الناس، فظهرت له ضمائر أهل السهل والجبل.
هو الشّجاع يعدّ البخل من جبنٍ ... وهو الجواد يعدّ الجبن من بخل
يقول: إنه يتجنب من البخل، كما يتجنب الشجاع من الجبن، ويتجنب من الجبن، كما يتجنب الجواد من البخل، فأجرى البخل مجرى الجبن. فشجاعته تريه أن البخل من جملة الجبن؛ لأن البخيل يبخل بماله خوف الفقر، فهو جبن. وجوده يريه أن الجبن بخل بالنفس فشجاعته تمنعه من البخل، وجوده يمنعه من الجبن.
يعود من كلّ فتحٍ غير مفتخرٍ ... وقد أغذّ إليه غير محتفل
أغذ إليه: أي أسرع إليه في السير. والاحتفال: التأهب.
يقول: إنه يفتح البلاد ويعود، ولا يفتخر بما فعل ولا يعتد به؛ لأنه يستصغر ما يفعله، ويسير إلى الأعداء مسرعاً غير مبال بهم ولا مستعد لهم فيهزمهم.
ولا يجير عليه الدّهر بغيته ... ولا يحصّن درعٌ مهجة البطل
البغية: الطلبة، وهي المطلوب، ولا يجير: أي لا يعيب.
يقول: إنه الدهر لا يمنعه مراده، والدرع لا يحفظ منه مهجة الشجاع إذا أراد قتله.
إذا خلعت على عرضٍ له حللاً ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
أراد بالحلل: القصائد.
يقول: كسوته مدائح من شعري، لأجمله بحسن ذكره في الآفاق، فاكتسبت منه مدائحي جمالاً، ولبست من عرضه حللاً وكمالا، فصار هو الذي ينشر شعري. ومثل هذا قول كثير:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه ... كان للدّرّ حسن وجهك زينا
بذى الغباوة من إنشادها ضررٌ ... كما تضرّ رياح الورد بالجعل
يقول: إن الجاهل عن إدراكه وإدراك معناه، لا يعيب في شعري، بل هو على أبلغ وجوه الإحكام والجودة، وكما أن الجعل إذا شم ريح الورد غشى عليه وليس ذلك لنقص الورد، بل هو لخبث نفس الجعل ولؤم طبعه. ووجه ضررها بالغبي أنها تهتك ستر جهله، وتدل على بلادة فهمه، كما يظهر الورد لؤم طبع الجعل والهاء في إنشادها للحلل.
لقد رأت كلّ عينٍ منك مالئها ... وجرّبت خير سيفٍ خيرة الدّول
الهاء في مالئها للعين. والخيرة وإن كانت أفعل التفضيل، وهو لا يدخله الهاء، فإنها إنما حذفت منه الألف لحقت بغيرها فيقال: زيد خير الناس وهند خيرة النساء.
يقول: كل عين نظرت إليك ملأها حسنك وهيبتك، ولما كنت سيفاً كان مجربه: الذي هو الدولة. خيرة الدول.
فما تكشّفك الأعداء عن مللٍ ... من الحروب ولا الآراء عن زلل
يقول: إن الأعداء جرّبوك، فوجدوك لا تمل حروبهم، وكذلك لا تكشفك الآراء عن زلل؛ لأن رأيك لا يكون خطأ أبداً.
وكم رجالٍ بلا أرضٍ لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل
يقول: كم رجال من الأعداء ضاقت الأرض بهم لكثرتهم، فأفنيتهم، حتى صارت ديارهم خالية ليس فيها رجل.
ما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتّى مشى بك مشي الشّارب الثّمل
يقول: قد أجريت دماءهم، وأكثرت من قتلهم، حتى كأن فرسك يتعثر فيهم؛ لكثرة جيفهم، ويتمايل بك كما يتمايل السكران الثمل.
يا من يسير وحكم النّاظرين له ... فيما يراه وحكم القلب في الجذل
الجذل: السرور.
يقول: إن الأرض كلها له، فحيثما سار يرى سروراً، وهو مأخوذ من قوله تعالى: " وَفِيهَا مَا تَشْتَهيِه الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ ".
إنّ السّعادة فيما أنت فاعله ... وفقت مرتحلاً أو غير مرتحل
يقول: كل ما فعلته مقرون بالسعادة والتوفيق، سواء ارتحلت أو أقمت. وقيل: إنه دعاء له بالتوفيق على كل حال.
أجر الجياد على ما كنت مجريها ... وخذ بنفسك في أخلاقك الأول(1/228)
عن ابن جني قال: سألت المتنبي عن هذا فقال: كان سيف الدولة ترك الركوب مدة لعلة أصابته، فحركته بهذا، فعلى هذا: البيت الأول بيت لهذا المعنى.
يعني أنك موفق الرأي فيما تفعله، ولكن الرأي أن ترجع إلى أمرك الأول من الغزو والقتال.
ينظرن من مقلٍ أدمى أحجّتها ... قرع الفوارس بالعسّالة الذّبل
الأحجة: جمع الحجاج، وهو العظم الذي فوق العين، وفاعل أدمى: قرع الفوارس. ومفعوله: أحجتها. وقرع: قيل مضاف إلى المفعول، ومعناه: قرعك الفوارس. أي أن خيلك ينظرن من عيون قد أدماها قرعك الفوارس بالعسالة: بالرماح اللينة الكثيرة الاضطراب؛ لأنها إذا شرعت للطعن يكون مرها على قرب الحجاج من الفرس. يعني أنها معودة للقتال. وقيل: إنه مضاف إلى الفاعل. أي أن خيلك قد أدمى عيونها طعن الفرسان إياها؛ لأنها تكون مقدمة لا تولى، فالطعن إنما يقع على وجهها.
فلا هجمت بها إلاّ على ظفرٍ ... ولا وصلت بها إلاّ إلى أمل
دعاء له بالظفر. يقول: كلما ركبت خيلك وصلت إلى ما ترجوه، وظفرت بما تطلبه والهاء في بها للخيل.
وقال يمدحه ويعتذر عن المسير معه وقد سأله السير معه في الطريق، لما سار لنصرة أخيه ناصر الدولي سنة 337:
سر حلّ حيث تحلّه النّوّار ... وأراد فيك مرادك المقدار
النور والنوار واحد. ويجوز أن يكون النوار: جمع نور. وحل: قيل: دعاء بلفظ الخبر، ومعناه: سر، حل النوار حيث تحله.
والمقصود: سقاك الله الغيث حيث حللت حتى يحل هناك النوار.
وقيل: إنه خبر على الحقيقة، ومعناه: أنه جعل سقياً. فيقول له: أنت السحاب فإذا حللت ببلد يحصل منك السقى، فيحصل بك النور والزهر.
وأما الصراع الثاني فأولى فيه حمله على الدعاء: معناه أن الأقدار ساعدتك على مرادك، وأرادت كما تريد أنت.
ويجوز حمل المصراع الثاني على الخبر: أي أن الأقدار، لا تريد إلا ما تريد أنت. وفاعل حل: النوار. وفاعل أراد: المقدار.
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامةٌ ... حيث اتّجهت وديمةٌ مدرار
توجهت: بمعنى اتجهت. والديمة. مطر يدوم أياماً في سكون ريح ورعد. ومدرار: قيل متصل المطر. وشيعتك: دعاء، ومعناه حيث قصدت صاحبتك السلامة، وديمة غزيرة تسقي محلك، وتخضب منزلك.
وصدرت أغنم صادرٍ عن موردٍ ... مرفوعةً لقدومك الأبصار
وهذا البيت أيضاً دعاء. وقوله: مرفوعة لقدومك الأبصار: إشارة إلى ما يحصل من السرور، لأن الأبصار إنما ترفع عند ذلك.
يقول: إذا رجعت من مقصدك رجعت غانماً قد شخصت الأبصار إليك وقوله: أغنم ومرفوعة: نصب على الحال.
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتّى كأن صروفه أنصار
يقول داعياً له: أراك دهرك من أعدائك ما تريده منهم، حتى تكون صروف الدهر أنصاراً لك، ومن جملة أوليائك.
أنت الذي بجح الزّمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار
بجح: أي افتخر. يقول: إن الزمان يفتخر بذكرك؛ لأن له فضلاً على سائر الأزمنة المتقدمة.
وقيل: أراد بالزمان أهله، والأسمار إذا تضمنت حديثك وحديث وقائعك تزينت، إذ فيها من العجائب أكثر مما في الأحاديث الموضوعة.
وإذا تنكّر فالفناء عقابه ... وإذا عفا فعطاؤه الأعمار
وله وإن وهب الملوك مواهبٌ ... درّ الملوك لدرّها أغبار
الدر: أول ما ينزل من اللبن الكثير. والأغبار: جمع الغبر، وهو البقية بعد الحلب. والهاء في لدرها للمواهب.
يقول: إن عطايا الملوك في جنب إعطائك كالأغبار. يعني أن أقل مواهبك أعظم من مواهب سائر الملوك.
وقيل معناه: أن عطايا الملوك هي بقايا عطاياه، ومعناه أنه أفضل منهم وهم دونه ومحتاجون إليه، وإن صلاتهم من صلاته.
لله قلبك! ما تخاف من الرّدى ... وتخاف أن يدنوا إليك العار
لله قلبك: أي ما أعجب أمرك! وأعظم أمر قلبك! لما فيه من القوة والشجاعة والهمة التي لا تخاف معها الهلاك! ومع ذلك فأنت تخاف من أن يدنوا إليك العار.
وقيل: ألف الاستفهام محذوفة في الموضعين ومعناه: أما تخاف من الردى؟! وأتخاف من العار؟! وهو دون الردى في الصورة.
وتحيد عن طبع الخلائق كلّه ... ويحيد عنك الجحفل الجرّار
الطبع: قيل هو الدرن. والخلائق الأخلاق ومعناه أنك تميل عن دنس الأخلاق ودنس الطباع.(1/229)
وقيل الطبع: الخلق. والخلائق: البشر. أي أنك تميل وتكره أخلاق جميع الناس. والجحفل: العسكر. الجرار: الذي يجر نفسه أي بعضه بعضاً، وقيل: الذي يجر الرماح.
يقول: إنك تتجنب أخلاق الناس، أو دنىء الأخلاق، مع أن العسكر العظيم إذا أتبعته مال عنك.
يا من يعزّ على الأعزّة جاره ... ويذلّ في سطواته الجبّار
الأعزة: قيل هي أولاده وسائر من يعز عليه. ومعناه أن جاره المستجير به يكون أفضل في جواره من أعزته. وقيل أراد بالأعزة الملوك أي أن جاره عزيز، له فضل على سائر الملوك، والأعزة، فلا يمكن لأحد من الملوك ضيمه، ويذل الملك الجبار بسطوته. وعدوه. ذليل لفضل قوته.
كن حيث شئت فما تحول تنوفةٌ ... دون اللّقاء ولا يشطّ مزار
التنوفة: المفازة البعيدة الأطراف. وتحول: أي تمنع. ولا يشط: أي لا يبعد. والمزار: يجوز أن يكون كالزيارة، ويجوز أن يكون اسماً لمكان الزيارة.
يقول: كن في أي موضع شئت فما يحول بيني وبين قصدك، وبين من يقصدك لمعروفك مفازة بعيدة، ولا يبعد على من يقصدك مستميحاً ومثله:
من عالج الشّوق لم يستبعد الدّار
وله:
كن كيف شئت تسر إليك ركابنا
وبدون ما أنا من ودادك مضمرٌ ... ينضى المطيّ ويقرب المستار
المستار: بمعنى المسير، وهو مفتعل منه، ويجوز أن يكون اسماً لمكان السير.
يقول: ما أضمره لك من المودة والحرص على اللحاق بك - ومن ود إنساناً بعض ما أودك - فإنه يهز المطيّ في اللحوق بك، ويقرب عليه المسير والمسافة البعيدة.
إنّ الّذي خلّفت خلفي ضائعٌ ... ما لي علي قلقي إليه خيار
يقول: لولا أهلي الذين خلفتهم ورائي، لصحبتك، ولكنهم إن رغبت عنهم ضاعوا، فقلقي إليهم شغل قلبي بهم، فمنعني من اختياري وإيثار صحبتك عليهم.
وقيل أراد بالقلق الاضطرار أي أني مضطر إلى الرجوع إلى أهلي ومالي مع هذا اختيار.
وإذا صحبت فكلّ ماءٍ مشربٌ ... لولا العيال وكلّ أرضٍ دار
يقول: لولا العيال، لما كان شيء عندي أطيب من مصاحبتك؛ لأني إذا صحبتك فكل ماء مشرب. أي طيب زلال، وكل بلد يكون داراً لي؛ لأن كل راحة معك وكل عيش يتهيأ بك وبصحبتك. ومثله قول الآخر:
إذن الأمير بأن أعود إليهم ... صلةٌ تسير بشكرها الأشعار
وماهي إلا بلدة مثل بلدة ... وخيرهما ما كان عوناً على الزمن
يقول: إن أذن الأمير بالعودة إلى أهلي عددت ذلك صلة من صلاته، أشكره عليها، وأسير الأشعار بذكرها. وفيه تنبيه على أن الوقت وقت الصلة وعلى التحقيق أن سيف الدولة قدر رضى بالإذن من غير اقتران صلة.
وقال يرثى عبد الله بن سيف الدولة بحلب وقد توفى بميافارقين سنة 338 قال:
بنا منك، فوق الرّمل، ما بك في الرّمل ... وهذا الّذي يضني كذاك الّذي يبلي
الرمل ها هنا: الأرض والتراب. والضنا: طول المرض، والاضناء: الإمراض. وقوله منك أراد من الغم عليك، فحذف المضاف.
يقول: تحت التراب تبلى ونحن فوقه نضنى، فبنا من الغم عليك فوق الأرض من طول الضنا، مثل ما بك تحتها من طول البلى، فهذا الحزن الذي بنا يضنينا ويهزلنا، مثل الموت الذي يبلى جسدك ويفرق أوصالك، فنحن أموات في صورة الأحياء.
كأنّك أبصرت الّذي بي وخفته ... إذا عشت فاخترت الحمام على الثّكل
الثكل: فقد المحبوب! يخاطب الولد على لسان سيف الدولة فيقول: كأنك أبصرت قبل موتك ما بي الآن من الحزن عليك، فرأيته أشد من الموت! وخفت أنك إن عشت تبتلى بثكل ولد كما ابتليت أنا بثكلك! ويصيبك من ألم الحزن مثل ما أصابني، فاخترت الموت على الثكل.
تركت خدود الغانيات وفوقها ... دموعٌ تذيب الحسن في الأعين النّجل
يقول: تركت النساء الغانيات يبكين عليك، حتى قرحت أجفانهن وذهب حسن عيونهن، وإنما اختار لفظ الإذابة، لأن حسن العيون لما كان كأنه يذهب بالبكاء على تدرج الأيام، ولم يذهب دفعة واحدة كان لفظ الإذابة أبلغ من قوله تزيل الحسن أو تذهب الحسن.
وقيل: إنما قال تذيب؛ لأن الذوب في معنى السيلان، والدمع سائل، فكما أن الحسن سال مع الكحل، فيزول حسن الكحل ويبقى حسن الكحل، وكأن الحسن قد ذاب ونقص.
تبلّ الثّرى سوداً من المسك وحده ... وقد قطرت حمراً على الشّعر الجثل(1/230)
تبل أي من الدموع. والشعر الجثل: الكثير المجتمع. والهاء في وحده يرجع إلى المسك.
معناه: أن دموعهن كانت تقطر من أجفانهن حمراً؛ لامتزاجها بالدم، فإذا سقطت على شعورهن الكثيرة المنتشرة، لأجل المصيبة، المسترسلة على خدودهن، خالطها ما في شعورهن من المسك، فاسودت، فوصلت إلى الترب سوداء من المسك.
وقوله: من المسك وحده فيه وجوه.
قيل: معناه أن سواد دموعهن ليس لأجل الكحل، لأنهن مستغنيات عن التكحل بالكحل، فليس ذلك السواد إلا لأجل المسك فقط.
والثاني: أنهن يستعملن الكحل لأجل المصيبة، فاسودت دموعهن بالمسك الذي استعملته قبل المصيبة وكان قد بقيت رائحتها وأجزاؤها على شعورهن.
والثالث: أنه إشارة إلى أنهن من بنات الملوك، فلم يستعملن من الطيب إلا المسك الخالص، دون ما يخلط به من أنواع الطيب.
فإن تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطّفل
يقول: إن مت، ودفنت في القبر، فقلوبنا معمورة بذكرك، وأحشاؤنا محترقة بحزنك! فكأنك حال في قلوبنا، وإن كنت طفلا، فإن حزننا عظيم عليك!
ومثلك لا يبكي على قدر سنّه ... ولكن على قدر المخيلة والأصل
المخيلة: الفراسة، وقيل: العلامة، وأصله في السحاب الذي يطمع منه المطر.
يقول: ليس نبكي عليك على مقدار سنك، ولكن على مقدار أصلك، وكرم منصبك وعلى ما يتفرس منك من الخصال الحميدة، وما كنا نتوقعه منك من الملك.
ألست من القوم الألى من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل؟
ألست: استفهام، ومعناه التقرير. والألى: بمعنى الذين. وروى: من القوم الذي. ورده إلى لفظ القوم. وقيل: أراد الذين، فحذف النون.
قيل: في هذا البيت معنيان: أحدهما: ما قال ابن جني ومعناه: ألست من القوم الذين يقتلون البخل بنداهم؟ فكأن نداهم من جملة رماحهم، يطعنون به في مهجة البخل. وعلى هذا روى من رماحهم نداهم.
والثاني: أن سخاءهم؛ لأنهم يغيرون برماحهم على أعدائهم، ويغنمون أموالهم ويهبون منها المواهب. ثم استأنف معنى وقال: البخل من جملة قتلاهم. يعني: أنهم يهبون المواهب العظيمة حتى يكون البخلاء أسخياء، فلا يكون في الدنيا بخيل ولا بخيلة.
بمولودهم صمت اللّسان كغيره ... ولكنّ في أعطافه منطق الفضل
روى: منطق الفضل، والفصل. بالضاد والصاد: وهو الكلام الفاصل بين الحق والباطل.
يقول: مولودهم لا يتكلم في المهد، كسائر الأطفال، ولكن دلائل الفضل ناطقة من أعطافه! ومخايل النجابة موجودة في شمائله، فكأنها مقام النطق.
تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثّناء عن الشّغل
يقول: إذا أصابتهم مصيبة فإن علياءهم وسلامتها، تسليهم عن المصيبة، ويشغلهم اكتساب الثناء عن كل شغل سواه.
أقلّ بلاءً بالرّزايا من القنا ... وأقدم بين الجحفلين من النّبل
أقل بلاء: أي أقل مبالاة، وأقدم: من قدم يقدم إذا سبق، وفي القرآن: يقدم قومه وإن كان من أقدم فعلى حذف الزوايد.
يقول: إنهم أقل مبالاة بالمصائب من الرماح التي لا يتصور فيها المبالاة، ولا تخشى من الكسر، وإنهم أشد تقدما بين الجيشين من السهام التي هي أسبق الأسلحة.
عزاءك سيف الدّولة المقتدى به ... فإنّك نصلٌ والشّدائد للنّصل
عزاءك: نصب على الإغراء أي الزم عزاءك، والمقتدى به: نعت لسيف الدولة يعني يا سيف الدولة الذي يقتدى به. وقيل: نعت للعزاء المقتدى به.
يقول: أنت قدوة لنا في صبر أو جزع، فالزم صبرك، فإن سيف الدولة من شأنه ملاقاة الشدائد، وقلة المبالاة بالضرب والثلم، وترك الجزع عند لقاء الكرائه.
مقيمٌ من الهيجاء في كلّ منزلٍ ... كأنّك من كلّ الصّوارم في أهل
المقيم: ضد المسافر.
يقول: إنك مقيم في حروب، في كل منزل، فكل حرب كأنها منزلك! وكأنها عشائرك وأهلك؛ لأنك سيف والسيوف منازلها الحروب، وعشائرها السيوف، فأنت أبداً في دارك، وبين قومك. وقيل: معناه أنك من قلة مبالاتك بالحروب كأنها منزلك، وكأن السيوف أهلك، حيث تسكن إليها سكون الرجل إلى أهله؛ لأنها تحيد عنك ولا تعمل فيك بل تعمل في أعدائك.
ولم أر أعصى منك للحزن عبرةً ... وأثبت عقلاً والقلوب بلا عقل(1/231)
يقول: ما رأيت إنساناً أصبر على المصائب منك! وأعصى عند الحزن عبرة منك، ولا أثبت عقلا عند شدة؛ لأنه أبداً ثابت لا يعتريه الطيش والخفة.
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرّجل
السليل: الولد.
يقول: إن المنية عاهدته على أن تنصره في الحروب، ثم تخون عهده في ولده، فكيف تجمع بين الإحسان والإساءة؟! لولا تقلب أحواله!!
ويبقى على مرّ الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصّقل
الفرند: ماء السيف، وجوهره.
يقول: إن الحوادث تظهر صبره، وكرم أصله، كما يظهر الصقل جوهر السيف ورونقه.
ومن كان ذا نفسٍ كنفسك حرةٍ ... ففيه لها مغنٍ وفيها له مسلى
حرة: صفة لنفس، والتذكير: لمن والتأنيث: للنفس.
يقول: من كانت له نفس حرة مثل نفسك، ففيه ما يغنى نفسه عن تعزية غيره عليه، وعن كل شيء، وفي نفسه ما يسليه عما يجده من الهموم والمصائب.
وما الموت إلا سارقٌ دقّ شخصه ... يصول بلا كفٍ ويسعى بلا رجل
يقول: لا عيب لك، فالموت. كالسارق الذي دق شخصه دقة، ليس له يد ولا رجل، ولو كان أراد أن يجاهرك وظهر شخصه لم يقدر على غضبك، وقيل: معناه أن السارق يستحق القطع، والموت ليس له محل القطع من اليد والرجل.
يردّ أبو الشّبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنّمل
أبو الشبل: الأسد، والشبل ولده. ويقال: إن ولد الأسد يجتمع عليه النمل - ما لم ينبت عليه الشعر - فيقتله، ولهذا لا تلد الأسدة إلا في ثجة؛ هرباً من ذلك.
فيقول: مثلك ومثل الموت، كمثل الأسد والنمل، فإنه يدفع الجيش عن ولده، ولا يقدر أن يمنعه من النمل، وليس ذلك لعجز الأسد، ولكن لقلة قدر النمل ودقة شخصه، وكذلك أنت، لو ظهر لك الموت لمنعته، ولكنه يأتي من حيث لا يراه أحد، ولا يدل ذلك على عدم شجاعتك.
بنفسي وليدٌ عاد من بعد حمله ... إلى بطن أم لا تطرّق بالحمل
طرقت المرأة بالولد: إذا نشب فيها، ثم يتسع فيقال: طرقت: أي ولدت.
يقول: نفسي فداء لهذا المولود الذي انفصل عن بطن أمه إلى بطن أم ليست كالأمهات في الولادة، أي أنا ليست بأم على الحقيقة. وقيل: معناه عاد إلى بطن أم لا تلد أبداً، يعني أنه لا يخرج منها، فكأنه يقول: لقصر أيامه كأنه انتقل من بطن أمه إلى القبر.
بدا وله وعد السّحابة بالرّوى ... وصدّ وفينا غلّة البلد المحل
الروى بالفتحة على المصدر من روى يروي روى، وبالكسر هو الماء الكثير.
يقول: كانت مخايله تعدنا بجوده وأفضاله، كما تعدنا السحابة بالغيث، فمضى عنا وخيب آمالنا. شبهه بسحابة نشأت على بلد خرب ثم أقلعت! من غير شيء.
وقد مدّت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الرّكاب من النّعل
يقول: كانت الخيل تنتظر كبره، لتتشرف بركوبه إياها، وبتنقله رجله إلى الركاب.
وريع له جيش العدوّ وما مشى ... وجاشت له الحرب الضّروس وما تغلى
ريع: أفزع. وروى: جاش العدو: أي قلبه، وجيش العدو، وجاش: أي هاج وارتفع. والضروس: الشديد.
يقول: إن أعداء أبيه خافوا منه وهو بعد في المهد لم يمش! وهاجت له الحروب الشديدة وارتفعت قبل غليانها، وروى وما يقلى من قليت بالقلة أقلى بها، وقلوت أقلو يعني أنهم خافوه قبل أن يبلغ إلى أن يقلى بالقلة.
أيفطمه التّوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
التوراب: لغة في التراب. قال الأصمعي: التراب والتوراب، والتيرب والتورب، والترباء كل ذلك بمعنى.
يقول: فطمه التراب قبل أوان فطامه! وأكله التراب قبل وقت أكله! يقول ذلك على معنى الإنكار والتأسف.
وقبل يرى من جوده ما رأيته ... ويسمع فيه ما سمع من العذل
قبل: مضاف إلى يرى. وإنما جاز إضافة الظرف إلى الفعل لقلة تمكنها. وفي القرآن: " يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُل "، " يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ ". وقيل: إن فيه إضمار أن وتقديره: وقبل أن يرى. فيكون في معنى المصدر: أي وقبل رؤيته، فتجرى الإضافة على بابها. فعلى هذا يجوز. في يسمع الرفع، والنصب.
يقول: كيف جآءت قبل أن يرى من جوده ما رأيته من جودك؟! من قصد العفاة، وعذل العذال، فيه ما رأيت وسمعت.(1/232)
ويلقى كما تلقى من السلم والوغى ... ويمسى كما تمسى مليكاً بلا مثل
معناه: أكله التراب قبل أن يلقى من الصلح والوغى مثل ما نلقى، وكذلك قبل أن يسمى مليكاً بلا مثل، كما أنت تسمى كذلك الآن.
تولّيه أوساط البلاد رماحه ... وتمنعه أطرافهنّ من العزل
فاعل توليه: رماحه، ومفعوله الأول الهاء من توليه، والثاني أوساط البلاد.
يقول: مات قبل أن توليه أطراف الرماح أوساط البلاد والممالك، وتمنعه أطراف الرماح من العزل. طابق بين أوساط البلاد، وأطراف الرماح، وبين الولاية، والعزل.
نبكّى لموتانا على غر رغبةٍ ... تفوت من الدّنيا ولا موهبٍ جزل
يقول: نبكي على من مات منا، ولم يفته من هذه الدنيا حظ له خطر يوجب الأسف على مفارقته.
إذا ما تأمّلت الزّمان وصرفه ... تيقّنت أنّ الموت ضربٌ من القتل
يقول: إذا تأملت أحوال الزمان، رأيت أنه عدو للإنسان، فلذا يحاربه، فإذا مات الإنسان فكأن الزمان قتله وظفر به.
وقيل: معناه أن الموت كله قتل! وأسبابه مختلفة، فلاختلاف الأسباب اختلفت تسميته، فبعضه يسمى قتلاً، وبعضه موتاً: وهو ما كان على الفراش.
هل الولد المحبوب إلاّ تعلّة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل؟
التعلة: ما يعلل به الإنسان.
يقول: السرور بالولد ليس شيئاً يدوم، وإنما هو شيء يعلل به المرء نفسه ثم ينقطع! فإن الخلة بالمرأة الحسناء ليس إلا أذى البعل، من حيث يؤدي إلى أذى شديد؛ لأن غم موت الولد أكثر من السرور بهذه اللذة، فسمى تلك الخلوة بأسرها أذى لما يؤدي إليها.
وقيل: معناه أن الذى فيها أكثر من حيث المؤن والكلف والغيرة عليها، والاشتغال بذلك يمنع من اكتساب المجد والأجر، فإذا كان هاتان اللذتان لا حقيقة لهما، فما سواهما أولى بذلك.
وقد ذقت حلواء البنين على الصّبا ... فلا تحسبنّي قلت ما قلت عن جهل
الحلواء: الحلاوة.
يقول: قد ولدت في حداثة سني، وجربت حلاوة الأولاد فلا تظنن أني قلت ذلك عن جهل.
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... وما تحسن الأيّام تكتب ما أملي
يقول: علمي بالدهر أكثر من أحواله، فأزمانه لا تسع علمي بما أعلمه منه، ولو أمليت ما أعلم من أحوالها لم تحسن أن تكتبه.
وما الدّهر أهلٌ أن يؤمّل عنده ... حياةٌ وأن يشتاق فيه إلى النّسل
يقول: الدهر ليس بأهل أن يؤمل عنده حياة؛ لقلة وفائه! وليس بأهل أن يشتاق فيه إلى الولد.
وقال يمدحه ارتجالا، وقد سئل عن وصف فرس يهديه إليه.
موقع الخيل من نداك طفيف ... ولو أنّ الجياد فيها ألوف
الطفيف: اليسير الحقير.
يقول: الخيل عند جودك لا قدر لها، ولو وهبت منها ألوفا لاستقللتها، ولم تعتد بها.
ومن اللفظ لقطةٌ تجمع الوص ... ف وذاك المطهّم المعروف
الفرس المطهم: هو الحسن التام الخلق، الذي كل عضو منه حسن على انفراده.
يقول: من الألفاظ لفظ يجمع جميع الأوصاف، وهو المطهم المعروف. أتى بوصفه على وجه الإجمال، فجمع الوصف في أقل الألفاظ وأوجزها، ولم يذكر الوصف على سبيل التفصيل.
ما لنا في النّدى عليك اختيارٌ ... كلّ ما يمنح الشّريف شريف
يقول: ما لنا في الندى اختيار: أي ليس الاختيار في ذلك إلينا فأنت كريم، وكل ما تمنحه شريف مثلك.
وقال يمدحه وقد خيره بين فرسين: دهماء وكميت:
اخترت دهماء تين يا مطر ... ومن له في الفضائل الخير
دهماء: مضاف إلى تين أي: دهماء هاتين.
يقول: اخترت الدهماء من هاتين الفرسين، وسماه مطرا على المبالغة في الجود. أي يا من له في الفضائل الاختيار. والخير: جمع خيرة.
وربّما فالت العيون وقد ... يصدق فيها ويكذب النّظر
فالت: أي أخطأت وضعفت، والهاء في فيها للدهماء المختار، أو لجملة الخيل.
يقول: أنا اخترت منها هذه الدهماء؛ لأنها أحسن في عيني، وربما لم تكن كذلك بل غيرها خير منها؛ فإن العين ربما كذبت في النظر، وربما صدقت، وقد قلت ما رأيت.
أنت الّذي لو يعاب في ملإٍ ... ما عيب إلاّ بأنّه بشر
الملأ: جماعة الأشراف، والسادة.
يقول: لو عابك عائب فيما بين الملأ، لم يجد لك عيباً إلا كونك من البشر، ومعناه لا عيب فيك؛ لأن هذا ليس بعيب.(1/233)
وأنّ إعطاءه الصّوارم والخي ... ل وسمر الرّماح والعكر
العكر: جمع عكرة: وهي ما بين الخمسين إلى المئة من الإبل.
يقول: لو عابك عائب ما وجد فيك عيبا! إلا كونك من البشر، وأنك تعطى السيوف، والخيل، والرماح، والإبل الكثيرة. وهذا ليس مما يعاب. ومثله قول الآخر:
ولا عيب في أخلاقه غير أنّه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا
فاضح أعدائه كأنّهم ... له يقلّون كلّما كثروا
يقول: يفضح أعداءه بالقهر، وإظهار عجزهم، وكلما اجتمعوا عليه كان على كسرهم أقدر، فكأنهم عند كثرتهم يقلون له، وكأن كثرتهم سبب قلتهم.
وقيل: معناه أنهم كلما كثروا وازدادوا فضلاً، إذا قيسوا به صاروا إلى الإضافة إليه في حد القلة، وصار فاضحاً لهم.
أعاذك الله من سهامهم ... ومخطئٌ من رميّه القمر
وقال يشكره وقد أمر سيف الدولة بإنفاد خلع إليه:
فعلت بنا فعل السّماء بأرضه ... خلع الأمير وحقّه لم نقضه
الهاء في أرضه للسماء، ذكره لأنه أراد السقف، وقيل: أراد به المطر.
وقيل: إنه كناية الأمير، فأضمره قبل الذكر، كقوله تعالى: " فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَار ".
يقول: إن خلع الأمير قد زينتنا وكستنا بأنواع الوشى، كما يكسو المطر، الأرض، ويزينها بأنواع الأنوار، وألوان الأزهار، ونحن لم نقض حق الأمير من الخدمة، ولم أقدر على أن أمدحه بما يليق بأوصافه، لقصور المدائح عن أوصافه.
فكأنّ صحّة نسجها من لفظه ... وكأنّ حسن نقائها من عرضه
شبه صحة نسج هذه الخلع بصحة معاني الممدوح في لفظه، وشبه نقاءها من الدنس بعرضه. والعرض: يمدح به الرجل، أو يذم.
وإذا وكلت إلى كريمٍ رأيه ... في الجود بان مذيقه من محضه
المذيق: المشوب. والمحض: الخالص.
يقول: إذا جعلت إلى كريم رأيه، وفوضته إليه، في الجود والكرم، ظهر لك الخالص من المشوب، والطبيعي من التكلفي.
وقال يمدح سيف الدولة:
لا الحلم جاد به ولا بمثاله ... لولا ادكار وداعه وزياله
الزيال: المزايلة: وهي المفارقة. وقيل: هو الزوال. يقال: زال زوالا وزيالاً. والكناية في به ومثاله ووداعه وزياله للخيال. وقيل: إن الكنايات ترجع إلى الحبيب. والمثال: مثال الحبيب.
يقول: إن النوم لم يسمح لي برؤية هذا الحبيب، ولا أهدي النوم إلي مثاله: أي خياله، لولا أني أطلت الفكرة بذكر وداعه ومفارقته، فرأيت في النوم ما كان هاجساً في خاطري، من ذكره وذكر وداعه.
فإن كان الضمير للكناية، فمعناه لولا تذكري لوداعه ليلاً ونهاراً، لكان النوم لا يسمح لي بهذا الخيال، لا مثال الخيال! يشبه قول الطائي:
زار الخيال لها بل أزاركه ... فكرٌ إذا نام فكر القوم لم ينم
ومثله لآخر:
وما زال حتّى سهّل الشّوق طرقه ... وقاد إليه ناظر العين مركبا
إنّ المعيد لنا المنام خياله ... كانت إعادته خيال خياله
له معان: أحدها: أن ما أرانا المنام من خيال الحبيب - عوداً على بدء - ليس خياله، بل كان خيال خياله؛ لأن النوم أرانا أولا: خياله بعد الفراق؛ فأنبهنا، وفي نفوسنا طيب ذلك الخيال، فلما أردنا النوم ثانياً: كان خيال الخيال الذي أراناه قبل ذلك، فالأول خيال الحبيب والثاني خيال ذلك الخيال.
والثاني: أنا كنا تذكرناه بعد فراقه، وأدناه في عيوننا، فكأنه لم يغب عنا، فما رأيناه في النوم خيال ذلك الخيال الذي كنا نراه بالفكر والوهم.
والثالث: أن لقاء الحبيب صار خيالا لبعد العهد، وتطاول الأيام على هجره، فلما رأيته في المنام فكأني رأيت خيال خياله؛ لأن صورته كانت لنا كالخيال؛ لزوال الانتفاع، كما لا ينتفع بالخيال.
بتنا يناولنا المدام بكفّه ... من ليس يخطر أن نراه بباله
الهاء في نراه وبباله لمن وهو الخيال.
يقول: رأيت في النوم كأني أشرب المدام من كف حبيب، ليس يخطر على باله أن نراه؛ لبعده عني وقلة تفكره في، وخلو قلبه عن ذكرى، فضلا من أن يسقيني المدام بكفه.
نجني الكواكب من قلائد جيده ... وننال عين الشّمس من خلخاله
أراد بالكواكب: الدر الذي في العقود. وشبهه بالكواكب في الحسن والصفاء، وشبه الخلخال بعين الشمس؛ لما عليه من الحمرة والاستدارة.(1/234)
وقيل: أراد بذلك بعد التناول، فكنت إذا أجلت يدي بين قلائده فكأني نلت الكواكب! وإذا لمست موضع خلخاله فكأني لمست عين الشمس؛ لتعذر الوصول.
بنتم عن العين القريحة فيكم ... وسكنتم طيّ الفؤاد الواله
الهاء في الواله أصلية، وقد استعملها وصلا، وهو جائز. وقد جاء مثله في الشعر. الواله: المتحير الذاهب العقل.
يقول: بعدتم عن عيني القريحة بالبكاء عليكم، ونزلتم وسط القلب المتحير لفراقكم، فإن لم أركم بعيني رأيتكم بقلبي وخاطري.
فدنوتم ودنوّكم من عنده ... وسمحتم وسماحكم من ماله
الها في عنده وماله للفؤاد، كأن الدنو من قلبي؛ لأنه هو الذي أدناكم مني، وسمحتم علي بالوصال والزيارة، وكأن هذا السماح من مال قلبي؛ إذ لولا تفكره لما زرتموني، وذكر المال لما ذكر السماحة.
إنّي لأبغض طيف من أحببته ... إذ كان يهجرنا زمان وصاله
يهجرنا: فعل الطيف، والهاء في وصاله لمن وهو الحبيب.
يقول: إني أبغض خيال حبيبي في النوم؛ لأني إنما أرى خياله أيام هجر الحبيب، فوصال الخيال إنما يكون عند بعد الحبيب؛ لأن الإنسان إنما يرى خيال المحبوب عند فراقه واشتغال قلبه بذكره.
مثل الصّبابة والكآبة والأسى ... فارقته فحدثن من ترحاله
يقول: إني أبغض طيف الحبيب؛ لأن رؤيته تكون بعد الفراق، كما أبغض هذه الأشياء؛ لأنها حدثت بعد فراقه، فالطيف لما كانت رؤيته بعد فراق الحبيب كانت هذه الأمور. والصبابة: الشوق، والكآبة: الحزن والاستكانة والأسى: الحزن أيضاً.
وقد استقدت من الهوى وأذقته ... من عفّتي ما ذقت من بلباله
الهاء في بلباله للهوى.
يقول: لما حيرني وقتلني شوقه أخذت القود منه؛ من حيث أني لما ظفرت بمن أهواه، عففت عنه، فأذقت الهوى من مرارة الصبر عن الحبيب، مثل ما أذاقني من الشوق والحيرة.
ولقد ذخرت لكلّ أرضٍ ساعةً ... تستجفل الضّرغام عن أشباله
تستجفل الضرغام: تهربه وتستعجله في الهرب عن أشباله: أي أولاده.
يقول: خبأت لكل أرض ساعة صعبة من الحرب، بحيث تزعج الأسد وتستعجله عن أولاده، وتحوجه إلى الهرب خوفاً على نفسه، ولا يبالي بولده!.
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها ... ضربٌ يجول الموت في أجواله
الأجوال: جمع الجول، وهو مصدر جال يجول جولا وجولانا. وقيل: أجواله: نواحيه. والهاء في بها قيل: للساعة، وقيل للأرض. وفي بينها للوجوه وفي أجواله للضرب.
يقول: ذخرت لكل أرض ساعة تلتقي فيها الفرسان، ويضرب بعضهم وجوه بعض ضرباً، يدور الموت في نواحي هذا الضرب.
ولقد خبأت من الكلام سلافةً ... وسقيت من نادمت من جرياله
السلافة والسلاف: أرق الخمر وألطفها، وهو ما يجري من العصير قبل أن يعصر، وهو يضرب إلى الصفرة، والجريال: ما كان أحمر، وهو دون الأصفر. وقيل: الجريال: نفس الخمرة. وقيل: لونها.
يقول: خبأت لسيف الدولة أحسن الكلام وأبدعه، ومدحت غيره بما هو دونه، الذي لم أتعب فيه فكراً، ولم أبدع فيه معنى.
وإذا تعثّرت الجياد بسهله ... برّزت غير معثّرٍ بجباله
الهاء في قوله بجباله وسهله للكلام. وبرزت: أي سبقت.
يقول: إذا تعثر غيري من الخطباء في السهل من الكلام، برزت عليهم، ولم أتعثر في الصعب البعيد المرام. وجعل الكلام سهلا وجبلا مجازاً، وقيل: وصف في ذلك فروسيته. وشجاعته، وأن غيره لا يقاومه.
وحكمت في البلد العراء بناعجٍ ... معتاده مجتابه مغتاله
أي: تحكمت وصرت فيها كما اخترت والبلد العراء: الخالي الذي لا نبت فيه. والناعج: الخالص البياض من الإبل. وقيل: سريع السير، ومعتاده؛ أي قد تعود السير، والهاء: عائد إلى البلد، وكذلك فيما بعده، مجتابه: أي قاطعه بسيره، مغتاله: أي تغوله وتهلكه وتفنيه بسيره.
يمشي إذا عدت المطيّ وراءه ... ويزيد وقت جمامها وكلاله
يمشي: فعل الناعج والهاء في وراءه وكلاله: للناعج. وفي جمامها للمطي. والجمام: الراحة. والكلال: الإعياء.
يقول: إذا مشى هذا الناعج كان مشيه مثل عدو المطي خلفه، ويكون أزيد من ذلك أيضاً، وذلك في وقت راحة المطي وكلال هذا الناعج، فكيف يكون سيره وقت الجمام؟!!
وتراع غير معقّلاتٍ حوله ... فيفوتها متجفّلاً بعقاله(1/235)
وتراع: أي تخوف المطي. متجفلا: أي سريعاً.
يقول: إن هذا الناعج إذا كان معقولا بعقاله فإنه يسبق سائر المطي، وهن غير معقولات.
وفائدة قوله: وتراع. قيل: إن هذا الناعج يفزعها ويثيرها وهو معقول ويسبقها.
وقيل: أراد أنها تفزع وتخوف بقطع المفاوز، ولا يفزع هذا الناعج بل يسبقها إلى حيث يريد صاحبه.
وقيل: معناه أنها تفزع من شيء أفزعها، وهي غير معقوله، ويفرق هو معقولا، فإنه يسبقها في العدو.
فغدا النّجاح وراح في أخفافه ... وغدا المراح وراح في إرقاله
الإرقال: ضرب من السير السريع. وراح فعل النجاح. والمراح: النشاط وراح، الثاني فعل المراح.
يقول: إن النجاح غدا وراح في أخفاف هذا الناعج. أي أن من ركبه ظفر بما طلب وأدرك ما أراد، وكذلك النشاط غدا وراح في سيره: أي لا يلحقه كلال! فهو أبدا مرح نشيط. أي أنه مبارك حيثما توجه أدرك ما حوله، فنشط ومرح.
وشركت دولة هاشمٍ في سيفها ... وشققت خيس الملك عن رئباله
الرئبال: الأسد. والخيس: الأجمة. والهاء في سيفها للدولة وفي رئباله للخيس أو للملك.
يقول: صرت شريكاً مع دولة هاشم في سيف الدولة: أي كان لي حظ فيه كما للدولة فيه حظ، وشققت أجمة الملك حتى وصلت إلى أسده، فجعله أسداً والملك خيساً له.
عن ذا الّذي حرم اللّيوث كماله ... ينسى الفريسة خوفه بجماله
عن ذا الذي الذي بدل عن المبدل. وينسى: يتعدى إلى مفعولين، فنصب الفريسة على أنه مفعوله الأول وخوفه المفعول الثاني.
يقول: شققت أجمة الملك عن أسد منع الليوث كما له: أي ليس لها كما له؛ لأنه يفضلها بخلائق كثيرة، وليس لليوث إلا الإقدام، وهذا فيه كل خصلة جميلة، ثم قال: إن هذا الأسد إذا افترس فريسة أنسى هذه الفريسة خوفه بجماله! أي أنها إذا رأت جماله يشغلها جماله عما يلحقها من الخوف عن افتراسه، والليوث تكون قبيحة المنظر.
وتواضع الأمراء حول سريره ... وترى لمحبّة وهي من آكاله
الآكال: جمع أكل، وهو الذي يؤكل، وهي ضمير: الأمراء.
يقول: إن الأمراء يتواضعون حول سرير سيف الدولة ويظهرون المودة له، وهم من قتلاه وفرائسه. يعني أنهم يظهرون المودة خوفاً لا حباً. وقيل: هي ضمير المحبة أي أن الأمراء يحبونه حباً مفرطاً، فلفرط حبهم لا يلتمسون منه العطاء ويرون من جملة أرزاقه إياهم المحبة؛ لأنهم يرون محبته فخراً وذخراً.
ويميت قبل قتاله، ويبشّ قب ... ل نواله، وينيل قبل سؤاله
وروى: ويعيش فيكون قد طابق بين: يعيش، ويميت. يعني أنه يقتل أعداءه بالخوف قبل القتال، ويظهر السرور بالعطاء، ويعطى قبل السؤال.
إنّ الرّياح إذا عمدن لناظرٍ ... أغناه مقبلها عن استعجاله
عمدن: أي قصدن. والناظر: هو ناظر العين، وقيل: اسم الفاعل من نظر والهاء في أغناه واستعجاله للناظر وفي مقبلها للرياح.
يقول: إنه لا يحتاج في إعطائه إلى السؤال والاستعجال، كما أن الرياح إذا قصدت لناظر لا يحتاج الناظر في حال إقبالها إلى الاستعجال بل تصل إلى كل أحد وإن لم يستعجلها، فكذلك هو يعطى قبل السؤال.
أعطى ومنّ على الملوك بعفوه ... حتّى تساوى النّاس في إفضاله
يقول: نعمه قد عمت الناس كلهم، فأعطى العفاة من ماله، وعفا عن الملوك؛ بأن أسرهم ثم أطلقهم وعفا عنهم، أو ترك قتلهم والتعرض لهم، فكلهم تساووا في فضله.
وإذا غنوا بعطائه عن هزّه ... والى فأغنى أن يقولوا: واله
والى: أي تابع، وواله: أمر منه. والهاء في منه للعطاء.
يقول: إذا استغنى الناس بعطائه عن تحريكه وسؤاله، تابع العطاء وأغنى في المتابعة عن الاستمداد والسؤال.
وكأنّما جدواه من إكثاره ... حسدٌ لسائله على إقلاله
الهاء في إكثاره للممدوح. وقيل: للجدوى. وذكر على معنى النوال، والعطاء، وفي إقلاله للسائل. والإقلال: الفقر. جعل جدواه حسداً، وجعل الممدوح حاسداً، والإقلال محسوداً عليه.
يقولك إذا رأى فقيراً أكثر له العطاء، فكأنه يحسده على إقلاله: أي فقره. فهو يحب إزالته، كما يحب الحاسد زوال نعمة المحسود.
غرب النّجوم فغرن دون همومه ... وطلعن حين طلعن دون مناله
غرب: أي غبن. والهموم: جمع الهم: الذي هو الهمة.
وقيل: أراد بهمومه مقاصده.(1/236)
يقول: إن همم الممدوح فوق الكواكب، وهو قد نال ما هو أبعد منها، فتغيب الكواكب دون همته، وتطلع دون مناله، فهو أعلى منالاً منها في كل حال.
والله يسعد كلّ يومٍ جدّه ... ويزيد من أعدائه في آله
يقول: إن الله تعالى يخصه كل يوم بسعادة، ويظفره بأعدائه، فينعم عليهم ويعفو عنهم، فيعودون أولياءه بعد أن كانوا أعداءه، وعلى هذا معناه: الخبر.
وقيل: إنه دعاء أن الله تعالى يوفقه للسعادة ويزيد الله من أعدائه في أوليائه.
لو لم تكن تجري على أسيافه ... مهجاتهم لجرت على إقباله
الهاء في إقباله لجده: أي على إقبال جده. وقيل: إنه راجع إلى الممدوح.
يقول: لو لم يقتل أعداءه بسيوفه، لقتلهم إقباله وسعادة جده، وبلغته الأقدار مراده.
فلمثله جمع العرمرم نفسه ... وبمثله انقصمت عرى أقتاله
العرمرم: الكثير. والأقتال: جمع القتل، وهو النظير في الحرب. ويقال أيضاً للعدو: قتل.
يقول: لمثل هذا الممدوح يجمع الجيش الكثير: يعني أن من كان مثله في الإقدام يفنى الجيش العظيم، ويفرق جمعه، ويقتل أبطاله.
وقيل: جمع العرمرم نفسه: معناه الفزع. يقال: جمع فلان نفسه: إذا فزع. يعني: أن العسكر العظيم من مثله يفزع، وبمثله يقتل.
لم يتركوا أثراً عليه من الوغى ... إلا دماءهم على سرباله
يقول: إن أعداءه في الحرب لم يقدروا له على شيء، سوى أنهم خصبوا ثوبه بدمائهم؛ من جرحه إياهم، وانتضاح دمائهم إليه.
يا أيّها القمر المباهى وجهه ... لا تكذبنّ فلست من أشكاله
يقول للقمر: لا تكذبن. أي لا تغتر بما سولت نفسك من الكذب، ولا تباهى، ولا تفاخر وجهه في الحسن والبهاء، ولا تغتر بما حدثتك نفسك: بأنك مثله في الحسن والعلاء، فإنها كذبتك فسلت من أمثاله.
وإذا طما البحر المحيط فقل له ... دع ذا فإنّك عاجزٌ عن حاله
وهب الّذي ورث الجدود وما رأى ... أفعالهم لابنٍ بلا أفعاله
يقول: وهب ما ورث عن آبائه من الأموال، لأنه لم ير ما بنوه من المجد وشيدوه من الفخر فخراً ما لم يفعل هو لنفسه فوق ما ورث لنفسه ما هو فخر له. كما قال بعضهم:
إنّا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ومثله لابن الرومي.
وما الحسب الموروث لادر دره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا لم يكن وإن كان شعبه ... من المثمرات اعتده الناس من خطب
حتى إذا فنى التراث سوى العلا ... قصد العداة من القنا بطواله
يقول: لما أفنى بهباته ما ورث من آبائه، فلم يبق منه شيء، إلا معالي آبائه، فإنه شحيح بها، قصد الأعداء وأغار عليهم، فاحتوى على أموالهم ووهبها.
وبأرعنٍ لبس العجاج إليهم ... فوق الحديد وجرّ من أذياله
الأرعن: الجيش العظيم، والهاء في أذياله للأرعن.
يقول: قصد الأعداء بجيش عظيم، قد لبس الغبار فوق الدرع، يعني أن الغبار قد علا الفرسان، حتى صار لها كالدرع السابغة وجر من أذياله يعني به التجافيف، وأنه يسحبها لطولها.
فكأنّما قذى النّهار بنقعه ... أو غضّ عنه الطّرف من إجلاله
يقول: إن غبار الجيش قد غير ضوء النهار، وكأن الشمس قد قذيت بهذا الغبار، أو غض عينه؛ من الإعظام للممدوح؛ فالهاء: للممدوح، وقيل للجيش، وقيل للغبار.
الجيش جيشك غير أنّك جيشه ... في قلبه ويمينه وشماله
يقول: الجيش لك، وأنت عليه أمير؛ لأنك تحميه بنفسك وتذب عنه بسيفك، فكأنك جيش الجيش. والكنايات للجيش.
ترد الطّعان المرّ عن فرسانه ... وتنازل الأبطال عن أبطاله
هذا تفسير البيت الأول.
يقول: إنك تباشر الطعان الصعب عن فرسان جيشك، وتقاتل شجعان العدو عن شجعان جيشك.
كلّ يريد رجاله لحياته ... يا من يريد حياته لرجاله
يقول: كل الملوك إنما يريدون الجنود لحياة نفوسهم، حتى يدفعوا عنها الأعداء، وهو يريد الحياة؛ ليدفع عن جيشه ويصونهم.
دون الحلاوة في الزّمان مرارةٌ ... لا تحتظى إلاّ على أهواله
الهاء في أهواله للزمان.(1/237)
يقول: كلا حلاوة الدنيا دونها مرارة! فلا تنال حلاوة الزمان إلا بتجرع مرارته وأهواله! يعني أن معالي الأمور لا تدرك إلا باقتحام القتال والحروب ومباشرة الأمور العظام، وتحمل المؤن والمغارم.
فلذاك جاوزها عليّ وحده ... وسعى بمنصله إلى آماله
يقول: فلهذا احتوى سيف الدولة على معالي الأمور دون غيره، وأدرك بسيفه ما أمل من المعالي، مالا يأمل غيره.
وقال أيضاً يمدحه:
أنا منك بين فضائلٍ ومكارم ... ومن ارتياحك في غمامٍ دائم
الفضائل: جمع فضيلة، وهي كل خلق شريف. والمكارم: جمع مكرمة، وهي كل فعل كريم. والارتياح: السخاء، والاهتزاز.
يقول: حصلت أنا منك بين شرف أخلاقك، وكرم أفعالك، وحللت من جودك في مطر دائم، من غمام سخائك وغزارة عطائك.
ومن احتقارك كلّ ما تحبو به ... فيما ألاحظه بعيني حالم
يقول: أنت تعطى العطايا الجليلة وتحتقرها مع عظمها! وإني وأنا أتعجب من عظم هذا الشان، فأقدر - فيما أشاهده من فعلك - أني نائم وأن ما أراه حلم!
إنّ الخليفة لم يسمّك سيفها ... حتّى بلاك فكنت عين الصّارم
بلاك: أي جربك. فكنت عين الصارم: أي حقيقته.
يقول: إن الخليفة لم يلقبك بسيف الدولة إلا بعد أن جربك، فوجدك أمضى من السيف الصارم.
فإذا تتوّج كنت درّة تاجه ... وإذا تختّم كنت فصّ الخاتم
يقول: أنت زينة ملكه، وقوام دولته فموقعك من الخليفة موقع الدرّة من التاج، إذ هي زينته، والفص من الخاتم؛ لأن قدر الخاتم بالفص.
وإذا انتضاك على العدى في معركٍ ... هلكوا وضاقت كفّه بالقائم
يقول: إذا جردك الخليفة على أعدائه أهلكتهم، وملأ يده قائمك. يعني أنت أعظم منه قدراً، وأنفذ أمراً، وإن كنت له مطيعاً.
أبداً سخاؤك عجز كلّ مشمرٍ ... في وصفه وأضاق ذرع الكاتم
الذرع: القلب ها هنا.
يقول: من اجتهد في وصف سخائك ظهر عجزه عن بلوغ كنهه، ومن أراد أن يكتمه ضاف صدره؛؟ لأنه لا ينكتم.
وقال أيضاً يمدحه بحلب وقد أر له بفرس وجارية:
أيدري الرّبع أيّ دم أراقا ... وأيّ قلوب هذا الرّكب شاقا؟!
الألف: للاستفهام. ومعناه: النفي. أي لا يدري الربع. وشاقه الحبيب: أي هيج شوقه إليه.
سأل أصحابه وقوفهم ساعة على ربع حبيبه. هل يدري الربع من قتل منا لوجوده؟! وقلب من هيه لشوقه؟ أراد به دم نفسه وقلبه، تغظيماً لهما.
لنا ولأهله أبداً قلوبٌ ... تلاقى في جسومٍ ما تلاقى
الهاء في لأهله للربع. وتلاقى: أصله تتلاقى في الموضعين. وما: النفي. يقول: لنا ولأهل الربع قلوب تتلاقى بالذكر، وإن كانت الجسوم متباينة في العين.
وما عفت الرّياح له محلاً ... عفاه من حدا بهم وساقا
عفا المنزل، وعفتها الرياح: يلزم ويتعدى.
يقول: إن الرياح لم تعف محلاً بهذا الربع، فقد كانت تهب الرياح عليه، وهم حلول به، فلا تمحو له رسماً، ولا تعفو له أثراً، فلما حدى بهم حادي الرحيل، وساق إبلهم سائقه، عفت منازله ودرست أطلاله، فليس للرياح فيه صنع، وإنما ذلك من صنيع من حدى إبلهم وساقها.
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمّل كلّ قلبٍ ما أطاقا
يعني أن الحب قد جار على فحملين فوق ما أطيقه من الشوق، فليت الهوى كان بالتسوية والنصفة بين العشاق. فيكون حظ كل عاشق منه قدر ما يطيقه.
نظرت إليهم والعين سكرى ... فصارت كلّها للدّمع ماقا
سكرى: أي مملوءة من الدمع. والماق: طرف العين مما يلي الأنف، وهو مصب الدمع.
يقول: نظرت للتوديع عند ارتحال الحبيب وعيني مملؤة من لدمع، فلما رحلوا فاض الدمع من كل جانب، فصارت الجوانب كلها والمآق سواء في انصباب الدمع منه.
وقد أخذ التّمام البدر فيهم ... وأعطاني من السّقم المحاقا
يقول: إن البدر فيما بين أهل هذا الربع، قد أخذ التمام والكمال، وأعطاني من السقم الذي في المحاق. يعني: أنا والحبيب بمنزله القمرين، فاختص التمام به، والمحاق بي.
وبين الفر والقدمين نورٌ ... يقود بلا أزمّتها النّياقا
النور: قيل: أراد به جسمها، وقيل: أراد به الوجه، وفاعل يقود ضمير النور.(1/238)
يقول: بين أعلى هذه المرأة، وبين قدميها جسم، أو وجه، له نور. مضىء بحيث يقود الإبل بلا زمام؛ لأن الإبل - لحسنها - تنقاد لها، والهاء في أزمتها للنياق، فهو مؤخر في الرتبة وإن كان مقدما في اللفظ.
وطرفٌ إن سقى العشّاق كأساً ... بها نقصٌ سقانيها دهاقا
وطرف عطف على قوله: نور يعني لها طرف إذا سقى عشاقة كأساً من الهوى ناقصة، سقانيها مملوءة. أي حبه لطرفها أكثر من حب كل عاشق له.
وخصرٌ تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدثٍ نطاقا
وخصر أيضاً عطف على ما تقدم من البيت، والكنايات للخصر يقول: إن خصرها إذا بدا نظرت إليه العيون من كل جانب، وثبتت فيه شاخصة متحيرة، لا يمكن للناظر أن يصرف عينه، فيصير طرف الناس بإحاطته به كالنطاق المحيط بالخصر، وأخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
أحاطت عيون العالمين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق
وقال ابن جني: معناه أن الأبصار تؤثر فيه لنعومته، ورقة بشرته! فيصير ذلك الأثر الحاصل عن الأبصار حوالي خصره كالنطاق. والأول أولى.
سلي عن سيرتي فرسي ورمحي ... وسيفي والهملّعة الدّفاقا
الهملعة: الناقة الخفيفة. والدفاقا. بكسر الدال وفتحها: الكثيرة السير فكأنها تتدفق كما يتدفق الماء، إذا جرى بشدة. والسيرة: الطريقة، والعادة.
يقول لعاذلته؛ سلى عن شجاعتي: فرسي ورمحي، وعن السير: ناقتي، فإنها تخبرك بأفعالي، فلا أصغو إلى عذلك.
تركنا من وراء العيس نجداً ... ونكّبنا السّماوة والعراقا
نكبنا: أي بعدنا، وعدلنا عنه. والسماوة: مفازة بين الشام والعراق.
يقول: وتركنا نجداً وراء ظهورنا، وعدلنا عن السماوة والعراق، وقصدنا سيف الدولة، بحلب.
فما زالت ترى والليل داجٍ ... لسيف الدّولة الملك ائتلاقا
الائتلاق: اللمعان.
يقول: ما زالت العيس ترى لمعان غرة سيف الدولة في ظلمة الليل، فتهتدي بضوء غرته في طريقها إليه.
وقيل: أراد أن مقصودنا لما كان سيف الدولة، كان الليل لنا بمنزلة النهار عند قصدنا إياه، من الفرح.
وقيل: أراد أنه قد بلغ من كرمه أن يوقد النار للضيوف في كل موضع، فترى العيس ذلك وتستأنس به. والأول هو الظاهر.
أدلّتها رياح المسك منه ... إذا فتحت مناخرها انتشاقا
الانتشاق: طلب الرائحة بالأنف، والهاء في منه للممدوح.
يقول: العيس كانت تستدل على مكانه بما تنتشق من رائحته، فكانت رياح المسك أدلة لها إليه إذا فتحت العيس مناخرها للانتشاق، فكأنه عبر عن كرمه بالمسك، وعن صيته بالرياح.
أباح الوحش ... يا وحش الأعادي فلم تتعرّضين له الرّفاقا؟
تقدير البيت: يا وحش أباح سيف الدولة. الوحش الأعادي. فالوحش أحد المفعولين، والأعادي المفعول الآخر. وروى: أباحك أيها الوحش الأعادي والرفاق: هم قوم يجتمعون في السفرة. وكان الأسد افترس له ناقة في قصد مسيره إلى سيف الدولة. فيقول للوحش: يا وحش أباح لك سيف الدولة الأعادي؛ فإنه يقتلهم ويطرحهم لك، فلم تتعرضين الرفاق القاصدين إليه؟ لأنك مستغنية عن ذلك بما مكنك من لحوم قتلاه.
ولو تبّعت ما طرحت قناه ... لكفّك عن رذايانا وعاقا
ما طرحت: في موضع نصب، لأنه مفعول تبعت أي لو تبعت مطروح قناته. والرذايا: جمع رذية، وهي البعير الذي قام من الإعياء، ولم يقدر على السير.
يقول للوحش: لو تبعت ما طرحت رماح سيف الدولة من القتلى لمنعك عن أكل الإبل المعيبة، لأن لك بقتلاه مندوحة عن إبلنا.
ولو سرنا إليه في طريق ... من النّيران لم نخف احتراقا
يقول للوحش: كيف تعرضت لنا ونحن نقصده؟ ولم تخافي صولته وهيبته، فإن لو سرنا في طريق يلتهب ناراً، وعلمت النار أنا قاصدوه لم تضرنا! ولم تقدر على إحراقنا، يعني أن كل شي من الوحش والعاتين في الأرض يخافه، حتى لو تصور في الجمادات أن تخافه لخافته.
إمامٌ للأئمّة من قريشٍ ... إلى من يتّقون له شقاقا
الهاء في له قيل: راجع إلى إمام، ويجوز أن يكون راجعاً إلى ضمير من تقديره: إلى من يتقون شقاقه. فلما قدمه أدخل فيه اللام كقوله تعالى: " لِلّرؤْيَا تَعْبُرُون " والشقاق: العصيان والمخالفة.(1/239)
يقول: هو إمام للأئمة من قريش: أي الخلفاء من ولد العباس. يعني أن الأئمة إذا ساروا إلى عاص عليهم، خارج عن طاعتهم، كان سيف الدولة إمامهم في مقدمة جيوشهم، فهو لهم إمام في كل حرب يتبعون خطوه، ويرجعون إلى رأيه ومثله للبحتري:
ولو جمع الأئمّة في مكانٍ ... تكون به لكنت لهم إماما
يكون لهم إذا غضبوا حساماً ... وللهيجاء حين تقوم ساقا
يقول تأكيداً لما تقدم: إن الأئمة إذا غضبوا على مخالف، كان لهم سيفاً يقتلون به، ويكون ساقاً للحرب حين تقوم الحرب، فقوام الحرب به كما يقوم الإنسان على ساق.
فلا تستكثرنّ له ابتساما ... إذا فهق المكرّ دماً وضاقا
فهق: امتلأ.
يقول: لا تستعظم منه الابتسام، وإشراق الوجه عندما امتلأ مكان الحرب بالدماء، وصار كالسيول.
فقد ضمنت له المهج العوالي ... وحمّل همّه الخيل العتاقا
فاعل..ضمنت: العوالي. ومفعوله: المهج.
يقول: إنما يبتسم في حال شدة الحرب؛ لأن الرماح قد ضمنت له نفوس الأعداء، فوثق بها، وحمل خيله العتاق همته، فكما أنه لا يولى عن العدو، كذلك خيله؛ لتحملها همته.
إذا أنعلن في آثار قومٍ ... وإن بعدوا، جعلنهم طراقا
الطراق: نعل يطرح تحت النعل يؤكد بها.
يقول: إذا أنعلت لطلب قوم أدركتهم، وجعلتهم نعلاً ثانية، لأنها تطؤهم وتدوسهم، وتجعلهم بين حوافرها، فتلحق بهم وإن كانوا على مسافة بعيدة وعليها نعلها الأولى فيصيروا نعلا ثانية.
وإن نقع الصّريخ إلى مكانٍ ... نصبن له مولّلةً دقاقا
نقع: ارتفع. وروى: وقع الصريخ والصريخ، والصراخ: الصوت. والمؤللة: المدققة المحددة، وهي الآذان ها هنا.
يعني: أن خيله قد تعودت إجابة الصارخ، واستغاثة المستغيث، فإذا ارتفع صوت مستغيث من مكان ووصل إليها. نصبت له آذانا محددة دقاقا. لاعتيادها إجابة الصارخ.
فكان الطّعن بينهما دراكاً ... وكان اللّيث بينهما فواقا
الفواق: الوقت الذي بين الحلبتين. ودراكا: أي متتابعة.
يقول: بين دعاء المستغيث، وبين إجابة سيف الدولة، لا يكون الليث إلا قدر ما بين الحلبتين، حتى يلحق به، ويداركه الطعن في عدوه: أي يتابع. ويروى بينهما جواباً أي يكون هناك الطعن بدل الكلام.
ملاقيةً نواصيها المنايا ... معاودةً فوارسها العناقا
نصب ملاقية ومعاودة على الحال أي لحقن الصريخ على هذا الحال.
يقول: إن الخيل تلاقي الموت بنواصيها، وتعانق فرسانها الأبطال:
تبيت رماحه فوق الهوادي ... وقد ضرب العجاج لها رواقا
الرواق: مقدم البيت. وقيل: سقف البيت المقدم، والهاء في رماحه للممدوح وفي لها للخيل والهوادي.
يقول: تبيت رماح سيف الدولة فوق أعناق الخيل في حال قد ضرب العجاج للخيل، ولهواديها، رواقا؛ لكثرته وتكاتفه عليها.
تميل كأنّ في الأبطال خمراً ... عللن به اصحباحاً واغتباقا
روى يميل وتميل يذكر ويؤنث، ولأنه أراد به الدم.
يقول: تميل هذه الرماح عند طعنه بها في أجسام الأعداء، فكأنها قد اصطحبت واغتبقت في الأبطال من الخمرة فصارت من شربها سكارى.
تعجّبت المدام وقد حساها ... فلم يسكر وجاد فما أفاقا
تعجبت الخمر حين شربها سيف الدولة ولم يسكر؛ لأنه شرب المسكر لا الجود! وقيل: يمدحه بالإسراف في الجود والقوة على الشرب فهو سكران من الجود، وصاح من الشراب الذي شربه.
أقام الشّعر ينتظر العطايا ... فلمّا فاقت الأمطار فاقا
يقول: قام شعري ينتظر عطاياك، حتى يكون على قدرها، فلما فاقت عطاياك الأمطار، فاق شعري الأشعار.
وزنّا قيمة الدّهماء منه ... ووفّينا القيان به الصّداقا
الهاء في منه وفي به للشعر.
يقول: جازيتك على ما أعطيتني بمدحي إياك، فوزنت لك ثمن الفرس، ومهر الجارية.
وقيل: معناه أن عطاياك لما فاقت العطايا صار شعري الذي يفوق سائر الأشعار وفاء لها.
وحاشا لارتياحك أن يبارى ... وللكرم الّذي لك أن يباقى
المباراة: المعارضة بالفعل. أي يفعل مثل فعله. ويباقي: يغالب في البقاء. واعتذر بهذا عن قوله: وزنا قيمة الدهماء وقيل: هو اعتذار من قوله: فلما فاقت الأمطار فاقا يعني: حاشا لجودك وكرمك أن يعارض بحمد، فجودك أكثر، ومدى كرمك أطول.(1/240)
ولكنّا نداعب منك قرماً ... تراجعت القروم له حقاقا
المداعبة: الممازحة، والدعابة: المزاح. والقوم، الفحل الكريم من الإبل. والحقاق: جمع الحق، وهو الذي دخل في السنة الرابعة، والأنثى حقة.
يقول: جودك لا يقاومه شكر، وإنما قلت هذا مزحاً، وأنت سيد تفضل جميع السادة، فكل سيد قيس إليك وقوبل بك يعود ذليلا كالحقة إذا قيست إلى القرم، فكما أنه يفضلها كذلك أنت تفضل كل سيد كريم.
فتىّ لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا
الوثاق: بالكسر والفتح ما يشد به الأسير.
يقول: هو لا يسلب قتيله أبداً ويفك الغل من الأسارى بالعفو والإحسان.
ولم تأت الجميل إليّ سهواً ... ولم أظفر به منك استراقا
يقول: لم يكن إحسانك إلي عن غلط منك، ولا عن خديعة واستراق مني له، ولكني نلته باستحقاق، وأحسنت إلي بعد الامتحان. والهاء في به يعود إلى الجميل.
فأبلغ حاسديّ عليك أنّى ... كبا برقٌ يحاول بي لحاقا
كبا الفرس يكبو: إذا عثر.
يقول: أبلغ من يحسدني على محلي عندك، ويحاول لحاق غايتي في مدحك: أن البرق إذا أراد اللحاق بي فإنه يكبو خلفي، فكيف يدركني؟! ويحاول إدراك محلي.
وقيل: هذا أمر للممدوح ويقتضي أن يكون دون الأمر، وذلك قبيح، ولكنه لما قال: حاسدي عليك أخرجه عن حد القبيح بأن بين: أن الحسد كان لاختصاصه.
وهل تغني الرّسائل في عدوّ ... إذا ما لم يكنّ ظبي رقاقا
رجع عن قول: حاسدي وقال: الرسالة لا تشفيني منهم، إلا أن يكون بدلها السيف، فأقتلهم وأستريح منهم، والكناية في قوله: إذا ما لم يكن للرسائل.
إذا ما النّاس جرّبهم لبيبٌ ... فإنّي قد أكلتهم وذاقا
تقديره: إذا ما الناس جربهم لبيب وذاق، فإني قد أكلتهم.
يقول: إني أعرف بأحوال الناس من كل عاقل، فأنا بمنزلة الآكل وغيري كالذائق.
فلم أر ودّهم إلاّ خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقا
يقول: جربت الناس فوجدت باطنهم بخلاف ظاهرهم في الصداقة، ووجدتهم منافقين في دينهم! قال علي بن عيسى الربعي: إن أبا الطيب كان يردد مع نفسه هذين البيتين كل يوم أكثر من خمسين مرة.
يقصّر عن يمينك كلّ بحرٍ ... وعمّا لم تلقه ما ألاقا
ألاق يليق إلاقة، ولاق يليق: إذا أمسك وحبس.
يقول: كل بحر يقصر عن جود يمينك، وما أمسكه البحر من جواهره، ومن بابه الذي هو فيه، يقصر عما لم تمسكه من العطاء، فيكون ما من عطائك أكثر من جواهر البحر ومائه.
ولولا قدرة الخلاّق قلنا ... أعمداً كان خلقك أم وفاقا؟
يقول: لولا علمنا بقدرة الله عز وجل، على ما يعجز عنه كل قادر، ويخرج عن العادة، لشككنا في خلقك! أوقع عن قصد واتفاق من غير مانع!؟
فلا حطّت لك الهيجاء سرجاً ... ولا ذاقت لك الدّنيا فراقا
يقول: لا زالت خيالك مسرجةً أبداً في الحرب، ولا ذاقت الدنيا مرارة فراقك.
وقال يمدحه ويرثي ابن عمه أبا وائل تغلب بن داود، في جمادي الأولى سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة:
ما سدكت علةٌ بمورود ... أكرم من تغلب بن داود
ما سدكت: أي ما علقت. يقال: سدك به، لصق به، إذا لازمه ولم يفارقه. والمورود: المحموم الذي تتردد عليه الحمى كل يوم.
يقول: ما دامت علة على مريض، أكرم من تغلب بن داود. يعني أنه أكرم من كل مريض طال عليه مرضه.
يأنف من ميتة الفراش وقد ... حلّ به أصدق المواعيد
الميتة: الهيئة. الجلسة.
يقول: كان يأنف من أن يموت على فراشه؛ بشجاعته في حال قد نزل به - وهو - الموت الذي هو أصدق المواعيد.
ومثله أنكر الممات على ... غير سروج السّوابح القود
السابح: الفرس السهل، الذي يمد ذراعيه في عدوه، كأنه يسبح. والقود: جمع أقود، وهو الطويل العنق.
يقول: من كان مثله في الشجاعة أنكر هذه الموتة، يعني أنه لا يرضى الموت إلا على سروج الخيل السوابح الطوال الأعناق.
بعد عثار القنا بلبّته ... وضربه أرؤس الصّناديد
العثار: السقوط على الوجه، وأراد ها هنا سقوط الرماح عليه. واللبة: النحر. والصناديد: السادات، وقيل: الشجعان.
يقول: إن مثله في شجاعته ينكر موته على فراشه، بعد مباشرته الحروب، وكثرة وقع الرماح بصدره، وضرب رءوس كثير من الشجعان الكرام.(1/241)
وخوضه غمر كلّ مهلكةٍ ... للذّمر فيها فؤاد رعديد
الغمر: الماء الكثير، وجعل المهلكة غمراً اتساعاً، وأراد به معظمها، وقيل: أراد وسطها، والذمر: الشجاع، والرعديد: الجبان، الذي يرتعد من شدة الخوف، وقوله: للذمر إلى آخره. صفة للمهلكة.
يقول: إنه ينكر الموت على الفراش بعد خوض المهالك التي يصير قلب الشجاع فيها كقلب الجبان المرتعد من شدة الخوف، ومن كان هذه حاله، يستنكر موته على فراشه.
فإن صبرنا فإنّنا صبرٌ ... وإن بكينا فغير مردود
الصبر: جمع صابر، وقيل: جمع صبور.
يقول: إن صبرنا على هذه المصيبة، فكذلك عادتنا، وإن بكينا عليه، فغير مستنكر لعظم المصيبة.
وإن جزعنا له فلا عجب؛ ... ذا الجزر في البحر غير معهود
الجزر: نقصان الماء. والمد: زيادته.
يقول: إن جزعنا عليه فليس بعجب، لأن هذا الجزر في البحر غير معهود. يعني أن مثل هذا المصاب لم نعهده لنصب عليه، وعبر عن الرجل بالبحر، وعن المصيبة بالجزر، يعني: إنا وإن رأينا المصائب قبل هذا. فلم نر مثل هذه المصيبة، فهي جزر غير معهود على هذا الوجه.
وقيل: معناه أنه كالجزر لم يعهد في البحار، وإنما يكون في الأنهار، فهذا أمر هائل عجب، فجزعنا له غير عجب.
وقيل: أراد بالبحر سيف الدولة، ومعناه أن موت هذا الرجل كالجزر العظيم في البحر، الذي ليس بحر أعظم منه، وهو غير معهود. أي لم يمت لسيف الدولة أحد أجل منه.
أين الهبات الّتي يفرّقها ... على الزّرافات والمواحيد؟؟
الزرافات: الجماعات. والمواحيد: جمع الموحد.
يقول: أين المواهب التي كان يفرقها على الجماعات والآحاد من قصاده.
سالم أهل الوداد بعدهم ... يسلم للحزن لا لتخليد
يقول: مات بموته أهل وده، فمن سلم منهم، فإنما يسلم لتجرع الحزن لا لأن يخلد في الدنيا ويدوم له البقاء، لن كلا يموت.
فما ترجّى النّفوس من زمنٍ ... أحمد حاليه غير محمود؟!
يقول: أي رجاء يكون للإنسان في الدنيا، ويكون أحمد حاليه وهو البقاء غير محمود! لأنه مشوب بأنواع من الحزن والمكاره، وغايته الموت.
إنّ نيوب الزّمان تعرقني ... أنا الّذي طال عجمها عودي
نيوب: جمع ناب في الكثرة، وتعرقني: أي ما علي من اللحم. والعراق: فجربني حتى عرفني؛ لكثرة تقلي لصروفه.
وفىّ ما قارع الخطوب وما ... آنسنى بالمصائب السّود
المقارعة: المضاربة. والخطوب: الأمور العظيمة. والمصائب السود: هي الشديدة التي يسود بها البصر. وقيل: وصفها بالسود للبس الحداد فيها، لشدتها.
يقول: فيّ من الصبر ما يقاوم الخطوب، ويؤنسني بالمصائب الشديدة.
ما كنت عنه إذا استغاثك يا ... سيف بني هاشم بمغمود
غمدت السيف وأغمدته: إذا أدخلته في الغمد، وهو قرابه.
يقول: استغاث بك وهو في أسر الخارجي، فلم تك بمغمود عنه، ومغيب عن نصرته وإغاثته، فلو قدرت الآن على تخليصه من الموت لخلصته، لكن لا يقدر أحد على دفع الموت.
يا أكرم الأكرمين يا ملك الأم ... لاك طرّاً يا أصيد الصّيد
الأصيد: المتكبر المائل العنق من الكبر، وجمعه صيد. والأملاك جمع في القلة وفي الكثرة: الملوك.
قد مات من قبلها فأنشره ... وقع قنا الخطّ في اللّغاديد
أنشر الله الموتى فنشروا هم: أي أحياهم الله فحيوا. واللغاديد: جمع لغدوج، وهي لحم باطن اللهوات، وهي أيضاً اللغنون. والنغنغ.
يقول: كان قد مات من قبل هذه المرة، أو هذه الحالة حين أسره الخارجي، فأحياه وقع الرماح الخطية، في اللغاديد. يعني: أن سيف الدولة أوقع بالخارجي واستنقذه منه، بعد ما قتل منه خلقاً كثيراً.
ورميك اللّيل بالجنود وقد ... رميت أجفانهم بتسهيد
رميك: عطف على قوله: وقع الرماح.
أي أنشره بعد موته، قصدك الخارجي بجنودك، وسيرك إليه ليلاً، حتى طلعت عليهم مع الصبح.
فصبّحته رعالها شزباً ... بين ثباتٍ إلى عباديد
الهاء في صبحته للمرثى ورعال الخيل: أوائلها، الواحد رعيل ورعلة، والهاء في رعالها للجنود. والشزب: الضوامر. والثبات: الجماعات. والعباديد: المتفرقون يميناً وشمالاً.
يقول: جاءت هذا الرجل أوائل خيلك يا سيف الدولة، وقت الصبح، جماعة ومتفرقين، حتى خلصته من أيدي بني كلاب.(1/242)
تحمل أغمادها الفداء لهم ... فانتقدوا الضّرب كالأخاديد
الهاء في أغمادها للسيوف، وذكر الجنود يدل عليها، ويرجع إلى الجنود إذ لا بد من كون أغماد السيوف معهم؛ لكون السيوف فيها. والأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض، وشبه الضربة العظيمة بها.
يقول: كانوا ينتظرون الفداء فجئتهم بخيلك، وفي أغماد سيوفهم الفداء، وهي السيوف ونقدوهم ضرباً فانتقدوا وكل شربة كأنها أخدود.
موقعه في فراش هامهم ... وريحه في مناخر السّيد
الفراش: عظام الرأس. والسيد: الذئب، وجمعه السيدان. والهاء موقعه راجعة إلى الضرب. والموقع: مصدر، وموضع الوقوع.
يقول: موضع هذا الضرب في رءوس - بني كلاب، ولكن ريحه في مناخر الذئاب؛ لأنها أكلتهم بعد ما صاروا جيفاً، فوصلت روائحهم إلى مناخرهم.
وقيل: معناه أنه إذا وقع بهم هذا الضرب، تطاير عنه الدم، وانتشرت رائحته إلى مناخر الذئب، واستدل به على القتلى، فأتى إليها وأكلها.
أفنى الحياة الّتي وهبت له ... في شرفٍ شاكراً وتسويد
شاكراً: نصب على الحال. وروى: في شامخ، وباذخ أي عال. والتسويد: السيادة.
يقول: أفنى أبو وائل الحياة التي وهبتها له حين استنقذته من يد الخارجي في شرف وزيادة، وهو لك شاكراً ولإحسانك إليه ناشراً.
سقيم جسيم، صحيح مكرمةٍ ... منجود كربٍ، غياث منجود
سقيم وما بعده نصب على الحال. والمنجود: المكروب.
يقول: أفنى الحياة التي وهبتها له وهو سقيم الجسم، ولكن مكارمه صحيحة، وهو منجود كرب: أي مجهود كرب العلة، وهو مع ذلك غياث كل مكروب. وهذا يدل على أنه لم يزل مريضاً منذ تخلص إلى أن مات.
ثمّ غدا قدّه الحمام، وما ... تخلص منه يمين مصفود
القد: السير. المقدود. والمصفود: المقيد المشدود.
يقول: كان أسيراً في يد الخارجي، فخلصته من أسره، ثم مات أسيراً للموت الذي لا يقدر أحد على الخلاص منه! فمن صار مقيداً مغلولاً للموت، لم يخلصه أحد من قيده.
لا ينقص الهالكون من عددٍ ... منه عليّ مضيّق البيد
النقص ها هنا متعد والهاء في منه راجعة إلى العدد.
يقول: لا ينقص من هلك من عدد يكون من ذلك العدد سيف الدولة الذي يضيق المفاوز بجيوشه، ففيه خلق من كل هالك، وبدل من كل ناقص.
تهبّ في ظهرها كتائبه ... هبوب أرواحها المراويد
الهاء في ظهرها راجع إلى البيد وكذلك في أرواحها والمراويد: واحدها مرواد، وهي التي تجىء وتذهب. وقيل: هي الريح اللينة السهلة.
يقول: أن جيوشه تجري في المفاوز مجرى الرياح، غير مسترخية ولا ضعيفة، وخص المراويد؛ لأنه أراد أن عساكره جرارة لا تسير إلا بالهويني؛ من كثرتها.
أوّل حرفٍ من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد
شبه آثار سنابك الخيل على الأحجار الصلبة بأول حرف من اسم سيف الدولة وهو العين من علي وهو يشبه أثر السنابك.
مهما يعزّ الفتى الأمير به ... فلا بإقدامه ولا الجود
الأمير رفع لأنه اسمه، والهاء في به تعود إلى مهما لأنه اسم موضوع للشرط، ومعناه مهما عزى الفتى: الذي هو الأمير سيف الدولة فلا يعزى بشجاعته وجوده، لأنهما لا يفارقانه أبداً، ويجوز أن يكون دعاء ومعناه: فلا عزى بهاتين الخصلتين؛ لأنهما متى سملا له فما سواهما حلل، وروى: مهام يعز، فيكون الفتى فاعله، والأمر ينصب لأنه مفعوله، ومعناه: مهما يعزيه بإقدامه وجوده.
ومن منانا بقاؤه أبداً ... حتّى يعزّى بكلّ مولود
يجوز من بالفتح بمعنى: الذي، فيكون عطفاً على قوله: فلا بإقدامه ولا الجود أي فلا يعزى بإقدامه وجوده، ونفسه التي نتمنى أن تبقى هنا أبداً، ويهلك كل مولود، حتى نعزيه بهم. والمراد: أنه لا يعزى بمصبة في نفسه. ويجوز من بالكسر فيكون مستأنفاً، والمعنى أن مرادنا أن يبقى. هو إلى أن يعزى بكل مولود ولد.
وقال أيضاً يمدحه وقد ركب سيف الدولة يشيع عبده يماك لما أنفذه في المقدمة إلى الرقة فهاجت ريح شديدة. فقال:
لا عدم المشيّع المشيّع
ليت الرّياح صنّعٌ ما تصنع(1/243)
روى الأول بالكسر، والثاني بالفتح. وقد روى بالكسر، من ذلك يقول داعياً له: لا عدم يماك المشيع، سيف الدولة المشيع أو لا عدم سف الدولة غلامه المشيع، وهذا أيضاً يتضمن الدعاء لسيف الدولة. ثم قال: ليت الرياح كانت تفعل مثل فعله، لأن أفعاله تزيد على فعل الرياح.
بكون ضرّاً وبكرت تنفع
وسجسجٌ أنت وهنّ زعزع
وواحدٌ أنت وهنّ أربع
وأنت نبعٌ والملوك خروع
يقول مفضلاً له على الرياح: إنها تضر، وتنفع أنت. وقيل: إنه اتفق هبوب الريح الشديدة فذكر ذلك.
والسجسج: اللينة. والزعزع: الشديدة. يعني: هي شديدة صعبة، وأنت نفع خالص كالريح السجسج.
والرياح أربع: جنوب، وشمال، وصبا، ودبور، وأنت واحد تقوم مقامها أجمع. وقيل: أراد لا نظير له والريح له نظير.
والنبع: شجر صلب يتخذ منه القسى، والخروع: شجر ضعيف. شبه شجر التين. يعني أنت أفضل من الملوك، كالنبع أفضل من الخروع.
وقال أيضاً يمدحه وهو سائر يريد الرقة، وقد اشتد المطر بموضع يعرف بالثديين.
لعيني كلّ يومٍ منك حظّ ... تحيّر منه في أمر عجاب
العجاب: أبلغ من العجيب. والهاء في منه للحظ.
يقول: إن لعيني منك كل يوم حظاً! يتحير من ذلك الحظ، ويتعجب منه.
حمالة ذا الحسام على حسامٍ ... وموقع ذا السّحاب على سحاب
حمالة: أي ذلك العجاب هو حمالة. هذا هو العجاب.
يقول: أرى أمراً عجيباً وهو حمالة السيف، وقعت على السيف، الذي هو سيف الدولة، لأنه سيف تقلد سيفاً، وكذلك وقوع السحاب الذي هو المطر، على سيف الدولة، الذي هو كالسحاب جوداً.
وزاد المطر فقال فيه أيضاً
تجفّ الأرض من هذا الرّباب ... ويخلق ما كساها من ثياب
الرباب: السحاب الأبيض، وأراد تجف الأرض من مطر هذا الرباب فحذف المضاف.
يقول: تجف الأرض من هذا المطر، وكذلك يخلق ما كسى هذا المطر الأرض من أثواب الربيع وأنواع الأزهار، وألوان الأنوار.
وما يتفكّ منك الدّهر رطباً ... ولا يتفكّ غيثك في انسكاب
يقول: إن الأرض تجف من هذا المطر، ولا يزال الدهر من سحاب جودك رطباً ولا يزال جودك متصلاً، فيبقى أثره على الدهر.
تسايرك السّواري والغوادي ... مسايرة الأحبّاء الطّراب
تسايرك: أي تسير معك. والطراب: جمع طرب، وهو الذي استخفه الشوق.
يقول: إن السحب التي تأتي ليلا والتي تأتي غدوة تسير معك حيث سرت، كما يسير الحبيب مع حبيبه، إذا طرب إليه واستخفه الشوق نحوه.
تفيد الجود منك فتحتذيه ... وتعجز عن خلائقك العذاب
تفيد: أي تستفيد، والتاء للسواري والغوادي. يقال: أفاد واستفاد والاحتذاء: أن تفعل مثل ما فعل صاحبك. ويروى فتحتديه: أي تطلب حدى جودك.
يقول: إن السحاب تسايرك حتى تستفيد الجود منك، وتحذو على حذوك من الجود، فهي وإن استفادت عنك الجود احتذاء، تعجز عن أخلاقك العذبة.
وأجمل سيف الدولة ذكره وهو يسايره في طريق آمد فقال.
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي النّدى ويذاع عنك فتكره
يقول: أنا إذا ذكرت جودك، وأثنيت عليك بإحسانك كنت بمنزلة من ينم عليك، ويفشي أسرارك؛ لأنك تفضل على الناس، وتستره، وتكره أن يظهر ذلك منك، فأنا إذا أظهرته كنت في حيز الواشين بك.
وإذا رأيتك دون عرضٍ عارضاً ... أيقنت أنّ الله يبغي نصره
يقول: إذا رأيتك عارضاً دون عرض إنسان، وذاباً عنه تيقنت أن الله تعالى ينصره على أعدائه.
وإنما قال ذلك؛ لأن سيف الدولة أحسن ذكره.
فقال: إذا أثنيت علي، لم أبال بمن عابني؛ وعلمت أن الله تعالى ينصرني على من يطعن علي ذنباً من عرضي.
وفي قافية البيتين اضطراب لأنا إن جعلناها رائية، فالهاء تكون وصلاً، وهذا لا يجوز؛ لأن الهاء أصل في البيت الأول، وهو قوله: فتكره وفي الثاني ضمير وهو نصره فالبيت الأول هائي والثاني رائي، وإن جعلناها هائية فالثانية تكون رائية لما بينا: أن الهاء أصل في الأول، ووصل في الثاني. والكلام في هذا المعنى يطول، وموضعه كتاب القوافي، وقيل القافية رائية وقد جاء مثل هذا في الشعر القديم، وقد تركت ذكره لئلا يطول.
وزاد سيف الدولة في وصفه فقال له.
ربّ نجيعٍ بسيف الدّولة انسفكا ... وربّ قافيةٍ غاظت به ملكا(1/244)
النجيع: الدم الطوى، وقيل: اليابس، وقيل: الخالص.
يقول: رب دم أجراه سيف الدولة، ورب قصيدة نظمت في مدحه، أو نظمها الشعراء في مدحه، فغاظ الملوك حسنها، وحسدوه حيث قصروا عن صفاته وخصاله.
من يعرف الشّمس لا ينكر مطالعها ... أو يبصر الخيل لا يستكرم الرّمكا
يقول: مثلك مثل الشمس، من عرفها لا ينكر مطالعها؛ لشهرتها، وفضلها، فكذلك أنت لا ينكر فضلك، وعلو محلك؛ فلهذا قصدتك دون سائر الملوك. وكذلك مثلك مع الملوك. مثل الخيل الجياد مع الرمك: وهي الإناث من البراذين.
تسرّ بالمال بعض المال تملكه ... إنّ البلاد وإنّ البلاد وإنّ العالمين لكا
يقول: نحن من جميع مالك، فأنت إذا وهبت لنا مالك فقد سررت بمالك بعض مالك الذي تملكه، لأنك تملكت البلاد والعباد، فكأنك وهبت مالك، من مماليكك، فالكل عائد إليك.
وقال يخاطب سيف الدولة وقد سار يريد آمد وتوسط جبالاً:
يؤمّم ذا السّيف آماله ... ولا يفعل السّيف أفعاله
وروى: يؤمل.
يقول: هذا السيف يقصد إلى آماله ويدركها بسعيه، ولا يفعل سيف الحديد مثل فعله، ولا يمضي مضاءه.
إذا سار في مهمةٍ عمّه ... وإن سار في جبلٍ طاله
طاله: أي علاه. يعني إذا سار في البر ملأه بخيله، أو بخيره وبركته أو هيبته، وإذا سار في الجبل: علاه وغطاه بجيشه. وقيل: علاه من حيث القدر والجاه، فهو أعلى منه وأعظم. وقيل: علاه بكثرة الخير والبركات.
وأنت بما نلتنا مالكٌ ... يثمّر من ماله ماله
نلتنا: أي أعطيتنا.
يقول: أنت بما أعطيتنا من العطايا، كالمالك الذي يكثر ماله بماله ويصلحه به، لأنا عبيدك، والدنيا كلها لك، وهذا كقوله: تسر بالمال.
كأنّك ما بيننا ضيغمٌ ... يرشّح للفرس أشباله
الضيغم: الأسد، وهو فعيل من الضغم: وهو العض والترشيح: التعليم والتدريب. ويروى: يحرض والفرس: الاصطياد، وأصله دق العنق.
يقول: أنت تعلمنا الحرب والشجاعة، كالأسد يعلم أولاده الاصطياد.
ونزل سيف الدولة آمد، وكثر المطر بها، ودعا أبا الطيب، فدخل وهو يشرب، فقال له: قال بعض الناس، في قولك:
ليت أنّا ارتحلت لك الخي ... ل وأنّا إذا نزلت الخيام
جعل الخيام فوقك، وعرض بجليس له. فأجابه أبو الطيب، وأراد بهذا قطع الكلام.
لقد نسبوا الخيام إلى علاءٍ ... أبيت قبوله كلّ الإباء
يقول: نسبوا الخيام إلى العلاء، فأبيت أنا قبوله، وامتنعت منه كل الامتناع، لأني لا أسلم أن تكون السماء فوقك، فكيف الخيام؟!
وما سلّمت فوقك للثّريا ... ولا سلّمت فوقك للسماء
وقد أوحشت أرض حتّى ... سلبت ربوعها ثوب البهاء
يقول: إني لم أسلم أن السماء والثريا فوقك؛ لأن اعتقادي أنها دونك، وأنت فوقها! وكيف أسلم أن الخيام فوقك مع أنها دونك؟!
تنفّس والعواصم منك عشرٌ ... فتعرف طيب ذلك في الهواء
تنفس: أي تتنفس، فحذف تاء الخطاب. والعواصم: بلدان كانت من أعمال سيف الدولة، فتعرف: أي العواصم.
يقول: إذا تنفست وبينك وبين العواصم مسرة عشرة ليال، عرفت العواصم طيب نفسك في الهواء!! وأراد أهلها، وبالطيب: العدل والإحسان.
وذكر سيف الدواة لأبي العشائر جده وأباه، وفي نسخة ذكر سيف الدولة جد أبي العشائر فقال أبو الطيب:
أغلب الحيّزين ما كنت فيه ... وولىّ النّماء من تنميد
الحيز: الجانب، وقيل: الفريق، والجيش. ويجوز تنميه بفتح التاء: أي تنتمي إليه، ويجوز بضم التاء: أي تزيد فيه، من أنميت المال، ونمى هو.
يقول: هو أغلب الجانبين أو الفريقين أو العسكرين، الذي أنت فيه، والأولى بالكثرة من كنت منتسباً إليه، أو من كنت تزيد فيه.
ذا الّذي أنت جدّه وأبوه ... دنيةً دون جدّه وأبيه
دنية: أي قرباً، وهو مصدر في موضع الحال، لما قال: القبيل الذي أنت فيه أولى بالزيارة، استدرك ها هنا فقال: إنما يغلب الذي أنت جده وأبوه الأدنى، لا أبوه الذي ولده جده. فكأنه قال: إنما انتسبت هذه القبيلة إليك في الحقيقة.
وأذن المؤذن فوضع سيف الدولة القدح من يده، فقال أبو الطيب رحمه الله تعالى:
ألا أذّن فما أذكرت ناسي ... ولا ليّنت قلباً وهو قاسي
ولا شغل الأمير عن المعالي ... ولا عن حقّ خالقه بكاس(1/245)
كان الوجه أن يقول: ناسياً، لكنه حذفه للضرورة، فجاء به على قول من قال: رأيت قاض.
يقول للمؤذن: أذن فإن أذانك لم ينبه سيف الدولة من غفلته، وليس قلبه قاسياً فتلينه بأذانك ولم يشغله الكأس عن حق الله تعالى، ولا عن المعالي.
وذكر سيف الدولة بيتاً أحب إجازته وهو:
خرجت غداة النّحر أعترض الدّمى ... فلم أر أحلى منك في العين والقلب
الإجازة في البيت: إضافة بيت، أو أبيات إلى بيت آخر يتم به معناه، أو إضافة مصراع إلى مصراع يوافقهن ويتم معناه كقول بعضهم وقد شرب ماء:
عذب الماء وطابا
فقال أبو العتاهية:
حبّذا الماء شرابا
فما ذكره أبو العتاهية هو الإجازة ومعنى البيت: خرجت يوم الأضحى أنظر إلى وجوه الحسان وصورهم، فما رأيت فيه أحسن منك في عيني وقلبي. والدمى: جمع جمية وهي الصورة.
فقال أبو الطيب مجيزاً.
فديناك أهدى النّاس سهماً إلى قلبي ... وأقتلهم للدّارعين بلا حرب
أهدى الناس: أي أكثرهم هداية وأقصد، وسهماً نصب على التمييز، وأراد به العين. وقوله: أهدى يعني يا أهدى الناس، ويجوز أن يكون صفة لكاف الخطاب.
يقول: فديناك من معشوق يهدي سهمه إلى القلوب، ويقتل الرجال الشجعان اللابسين الدروع، وقيل أراد به سيف الدولة، يعني أنك تقتل أعداءك ولا تقيهم الدروع فعلى هذا يكون القلب بلا ياء. والأول أولى.
تفرّد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب
يقول: حكم الهوى يخالف سائر الأحكام، فالكذب فيه حسن! وخلف الوعد فيه جميل! وإن كان قبيحاً من سائر الناس.
وإنّي لممنوع المقاتل في الوغى ... وإن كنت مبذول المقاتل في الحبّ
المقتل: الموضع الذي إذا أصيب من الجسد مات صاحبه.
يقول: مقاتلي ممنوعة في الحرب بشجاعتي، وإن كنت مبذول المقاتل في الحب، فيصيب الهوى مقتلي بأهون سعي! وهذا أيضاً من أحكام الهوى المخالفة لسائر الأحكام.
ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السّهل في المرتقي الصّعب
يقول: مقاتلي مبذولة في الحب، وإن كانت ممنوعة في الحرب، لأن من كان له عينان مثل عينيك، سهل عليه المرام الصعب، وأدركه بأهون سعي.
وقيل: أراد من كانت عيناك نصب جفونه، صار طوعاً لهما، فلا يملك الامتناع من سهامها.
وهذه الأبيات ليست بجيدة في الإجازة؛ لأنها لا تتضمن معنى البيت الذي أجازه، غير أنها على وزنه ورويه، وهذا القدر لا يكفي في الإجازة، بل لا بد أن يكون له تعلق بالعنى الذي في البيت الأول.
وقال يمدحه بميّا فارقين، وقد نزلها سيف الدولة في شوال سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة وقد أمر الغلمان والجيش بالركوب بالتجافيف والسلاح:
إذا كان مدحٌ فالنّسيب المقدّم ... أكلّ فصيحٍ قال شعراً متيّم؟!
كان ها هنا بمعنى: وقع، لا يحتاج إلى خبر.
يقول: من عادة الشعراء أن يقدموا النسيب على المديح، حتى كأن كل شاعر عاشق؟! ليس الأمر كذلك بل يجوز أن يكون فيهم من يمدح ولا ينسب، إذ لا يجب أن يكون كل شاعر عاشقاً.
لحبّ ابن عبد الله أولى فإنه ... به يبدأ الذّكر الجميل ويختم
يقول: إذا كان ذكر النّسيب لا يدل على كون الشاعر عاشقاً، فذكر محاسن سيف الدولة، والتشبب بأوصافه أولى؛ فإن الذكر الجميل يبدأ به ويختم، إذ هو في جميع أوصافه.
أطعت الغواني قبل مطمح ناظري ... إلى منظر يصغرن عنه ويعظم
طمح بنظره: إذا رفعه. وقيل: هو أن ينظر إلى مكان بعيد. وناظر العين: سوادها.
يقول: أطعت الغواني قبل أن أنظر إلى معالي الأمور، فلما نظرت إليها صغر في عيني أمر الغواني. وقوله: يصغرن أي الغواني ويعظم أي المنظر.
وقيل معناه أطعتهن قبل أن أرى سيف الدولة، فلما رأيته عظم في عيني شأنه وصغر أمرهن عندي.
تعرّض سيف الدّولة الدّهر كلّه ... يطبّق في أوصاله ويصمّم
تعرض: أي أتاه من عرضه: أي من جانبه. والتطبيق في القطع: أي يقطع المفصل فيكون أسهل، والتصميم: أن يمضي في العظم فلا ينبو عنه.
يقول: إن سيف الدولة قصد إلى الدهر فقطع أوصاله، وأمضى على أحكامه تارة بالعنف: وهو التصميم. وتارة بالرفق: وهو التطبيق، ولما جعله سيفاً: جعل مضيّ أمره على الدهر قطعاً لأوصاله.(1/246)
فجازله حتّى على الشّمس حكمه ... وبان له حتّى على البدر ميسم
ميسم، قيل: هو الحسن. وقيل: هو من العلامة، وحكمه رفع بجاز أي جاز له حكمه على الشمس وميسم رفع ببان.
والميسم: من قوله وسمه يسمه، ومعناه على الأول أنه ملك الدهر حتى جاز حكمه على الشمس، ونفذ فيه مراده، وبان على البدر، وحسنه ظهر عليه وغلبه، وقيل: إن جواز أمره على الشمس هو أنه متى شاء غير لونها بغبار خيله، وأخفى ضياءها بلمع سيوفه، والأولى أن يحمل على مجرد الدعوى، مبالغة في المدح.
وإن أريد بالميسم العلامة فمعناه: أنه قد ظهر وسمه وأثره على كل شيء من الدهر، حتى على البدر، يعني أنه يذهب بضوء البدر.
وقيل: إنه أراد به الكلف الذي نراه في القمر، وأنه من تأثير سيف الدولة فيه، وقد وسمه، كما يسم الرجل دوابه وإبله.
كأن العدا في أرضهم خلفاؤه ... فإن شاء حازوها وإن شاء سلّموات
يقول: كأنّ أعداءه في بلادهم عماله وخلفاءه، فإن شاء حاز بلادهم بالقهر، وإن شاء سلموها وتسلمها منهم.
ولا كتب إلاّ المشرفيّة عنده ... ولا رسلٌ إلاّ الخميس العرمرم
العرمرم: الجيش الكثير المضطرب.
يقول: ليس له إلى أعدائه كتب إلا السيوف، ولا يرسل إليهم رسلا سوى الجيش.
فلم يخل من نصرٍ له من له يدٌ ... ولم يخل من شكرٍ له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبرٍ ... ولم يخل دينارٌ ولم يخل درهم
يقول: إنه ملك البلاد، وعم بإحسانه العباد، وليس أحد من الناس إلا ناصره، ولا ناطق إلا شاكره، وما من منبر في البلاد إلا وخطيبه يدعو له، ويذكر اسمه، ولا دينار ولا درهم إلا وهو مضروب باسمه.
ضروبٌ وما بين الحسامين ضيقٌ ... بصيرٌ وما بين الشّجاعين مظلم
يقول: إذا تدانت الأقران في الحرب، وضاق ما بين الحسامين فلم يتمكن الشجاع من الضرب وجد هو لسيفه مجالاً، وإذا اشتد الأمر، وعلا الرهج حتى يظلم بين الشجاعين، كان هو بصيراً في الحلة، ولا يخفى عليه وجوه الصواب.
تبارى نجوم القذف في كلّ ليلةٍ ... نجومٌ له منهنّ وردٌ وأدهم
تبارى: أي تعارض. ونجوم القذف: النجوم المنقضة لرجم الشياطين. والورد: الأشقر. والأدهم: الأسود.
يقول: خيله تعارض النجوم المنقضة في السرعة وفي رمي الأعداء، فكما أن النجوم لا يرمى بها إلا الشياطين وتحرقها، فكذلك خيله التي منها الورد والأدهم، تسري إلى الأعداء فتحرقها كالنجوم المنقضة على الشياطين.
يطأن من الأبطال من لا حملنه ... ومن قصد المرّان مالا يقوّم
القصد: ما تكسر من الرماح، الواحدة: قصدة. والمران: الرماح اللينة والضمير في يطأن: للخيل، والهاء في حملنه لمن.
يقول: تطأ خيله من الشجعان ما لا تحمله الخيل: يعني القتلى. وتطأ الرماح المتكسرة التي لا تقوم. وقوله: من لا حملنه. معناه من لم يحملنه. أقام لا، مقام لم ويجوز أن يكون وحملنه: بمعنى يحملنه. وتقديره يطأن من الأبطال من لا يحملنه، فيكون موافقاً لقوله: ما لا يقوم. وقيل: إنه دعاء. ومعناه من لا أظفره الله على الممدوح وجيشه، ومعناه من يستحق أن يقال: لا حملنه. أي من يستحق هذا الدعاء عليه. وهذا كقوله: فداءه: أي يستحق أن أقول له: جعلت فداءه.
فهنّ مع السّيدان في البرّ عسّلٌ ... وهنّ مع النّينان في الماء عوّم
وهنّ مع الغزلان في الواد كمّنٌ ... وهنّ مع العقبان في النّيق حوّم
السيدان: جمع السيد. وهو الذئب. والعسل: جمع عاسل، وهو المضطرب في عدوه. والنينان: جمع نون، وهو الحوت العظيم. والواد: أصله والوادي فاكتفى بكسر الدال. والنيق: رأس الجبل. والعقبان: جمع عقاب.
يقول: إن خيله قد ملأت البر والبحر والسهل والجبل، ففي البر كالذئاب، وفي البحر كالحيتان، وتكمن مع الغزلان في كل واد، وتحوم مع العقبان في كل نيق فلا موضع يخلو منها.
إذا جلب النّاس الوشيج فإنّه ... بهنّ وفي لبّاتهنّ يحطّم
جلب: حمل. والوشيج: أصول الرماح، وأراد به الرماح ها هنا. يعني أن خيله قد تعودت القتال، فإذا جلب الناس الرماح من معادنها، فإنها لا تتكسر إلا في صدورهن، أو بأيدي فرسانه؛ لأنه لا يكون حرب إلا معه.
بغرّته في الحرب والسّلم والحجا ... وبذل اللها والحمد والمجد معلم
اللها: الدراهم.(1/247)
يقول: سيف الدولة معلم بغرته، مشهور بوجهه في هذه المواضع، لا يحتاج إلى علامة غيرها؛ لشهرتها. وروى: معلم أي قد أعلم لذلك، أو عليه موضع علامة.
يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسّعد من لا ينجّم
يقول: قد ظهر فضله في الناس، حتى تساوي في الإقرار به الأولياء والأعداء، وثبتت له السعادة، واستمرت له السلامة، حتى تشارك المنجم وغيره بالقضاء له بالسعادة؛ استشهاراً بظاهر الحال فيعتبر به المآل.
أجار على الأيّ؟ ام حتّى ظننته ... تطالبه بالرّد عادٌ وجرهم
أجار على الأيام: أي منع جورها عن الناس. وعاد وجرهم: أمتان هلكتا في قديم الزمان.
يقول: إنه أجار جميع النام من حوادث الأيام، حتى ظننت أن عاداً وجرهماً. تجيئان إليه، وتطالبانه بردهما إلى الدنيا، والانتقام لهما من الأيام.
ضلالاً لهذي الريح! ماذا تريده!؟ ... وهدياً لهذا السّيل! ماذا يؤمّم
ضلالاً، وهديا: نصب على المصدر بفعل مضمر.
كان سيف الدولة زار قبر أمه فأصابه في طريقه ريح فيه مطر فقال للريح: ضلالاً: أي أضلها الله ضلالاً؛ لأنها تزعم أنها عارضته، وأرادت أن تثنيه عن طريقه. ودعا للسيل بالهدى؛ لأنه زعم أنه جاء مع سيف الدولة يزور قبر أمه، ويسقى تربتها.
وقيل: الدعاء على الريح؛ لأنها تضر في الغالب، ودعاء للمطر لأنه ينفع في الأكثر.
ألم يسأل الوبل الّذي رام ثنينا ... فيخبره عنك الحديد المثلّم؟
يقول: هلاّ يسأل هذا المطر الذي أراد صرفنا عن مقصدنا، حتى يخبره عنك الحديد المثلم، بأنك إذا رمت مراماً لم يصدك عنه سيف حسام، فكيف يثنيك المطر والغمام. وأراد بالحديد سلاح الأعداء.
ولمّا تلقّاك السّحاب بصوبه ... تلقّاه أعلى منه كعباً وأكرم
الصوب: المطر. وأعلى منه كعباً: أي منزلة.
يقول: لما تلقاك السحاب بمطره في طريقك، تلقاه من هو أعلى منه محلاً وأجل منه قدراً.
فباشر وجهاً طالما باشر القنا ... وبلّ ثياباً طالما بلّها الدّم
يقول: باشر السحاب وجهاً أكثر منه مباشرة للرماح، وبل ثياباً بلها الدم قبل ذلك، فالمطر أهون شيء عنده.
تلاك ... وبعض الغيث يتبع بعضه من الشّام يتلو الحاذق المتعلّم
يعني يتبعك هذا المطر لأنك غيث مثله، والغيث يتبع بعضه بعضاً كما يتبع المتعلم الأستاذ.
فزار الّتي زارت بك الخيل قبرها ... وجشّمه الشّوق الّذي تتجشّم
فاعل زار: الغيث، ومفعوله التي والذي في موضع نصب؛ لأنه مفعول جشمه، والهاء للغيث.
يقول: زار هذا الغيث قبر والدتك، وكلفه الشوق من السير مثل ما تكلفت أنت، أي هو يشتاق قبرها كما تشتاقه أنت.
ولمّا عرضت الجيش كان بهاؤه ... على الفارس المرخى الذّؤابة منهم
يقول: لما عرضت الجيش، كان بهاء هذا الجيش وجماله بالفارس الذي أرخى ذؤابته. سيف الدولة الممدوح.
حواليه بحرٌ للتّجافيف مائجٌ ... يسير به طودٌ من الخيل أيهم
الطود: الجبل. والأيهم: الصعب الذي لا يهتدي إلى موضع صعوده. والمائج: الفاعل من ماج يموج إذا اضطرب. شبه تجافيف الخيل ببحر يموج لكثرتها وصفائها، وشبه الخيل في اجتماعها بجبل صعب المرتقى، فجعل التجافيف بحراً مائجاً على جبل شاهق.
تساوت به الأقطار حتّى كأنّه ... يجمّع أشتات الجبال وينظم
الأقطار: نواحي الأرض، والواحد قطر وقتر والهاء في به للجيش، أو للبحر أو للقطر.
والمعنى: أن هذا الجيش قد ملأ بين الجبال حتى تساوت به جميع نواحي الأرض، وصارت الأرض جبالاً؛ فكأنه جمع الجبال المتفرقة. وروى: أشتات البلاد.
وكلّ فتىً للحرب فوق جبينه ... من الضّرب سطرٌ بالأسنّة معجم
يقول: كل واحد من هذا الجيش فوق جبينه أثر الضرب والطعن؛ لشجاعته وتعوده الحرب. فشبه أثر الضرب بالسطر لا ستطالتها كالسطر وأثر الطعن بالمعجم؛ لاستدارته كالنقط، وهو أحسن من قول أبي تمام:
كتبت أوجههم مشقاً ونمنمةً ... ضرباً وطعناً يقدّ الهام والصّلفا
كتابة لآتنى مقروءةً أبداً ... وما كتبت بها لاما ولا ألفا
يمدّ يديه في المفاضة ضيغمٌ ... وعينيه من تحت التّريكة أرقم(1/248)
المفاضة: الدرع الواسعة. والتريكة: البيضة. والأرقم: ضرب من الحيات منقط كأنه مرقوم، بما عليه من النقط. والهاء في يديه يعود إلى الفتى، وقيل: إلى الضيغم. وفي عينيه إلى الأرقم؛ لأنه المقدم في المعنى، وإن تأخر في اللفظ. وعينيه عطفاً على يديه شبه ساعدي الفتى في الدرع، بساعدي الأسد، وعينيه تحت البيضة، بعيني الحية.
كأجناسها راياتها وشعارها ... وما لبسته والسّلاح المسمّ؟ م.
الشعار: العلامة التي يتعارف بها أهل الحرب. والمسمم: المسقى السم. وروى: المسه وهي التأنيث كله للخيل. وقيل في معنى البيت وجوه.
أحدها: أن هذا الجيش كثير مختلف، اجتمع فيه كل أمة من الجند، وكما اختلفت هذه الأجناد، كذلك اختلفت شعارها وأعلامها وسلاحها. فكل طائفة على هيئة مخالفة لغيرها من الطوائف. كقوله:
في موضع تجمع فيه كل إنس وأمة
هذا ما ذكره المخزومي.
وثانيها: أنه كلما اختلفت ألوان الخيل وأجناسها وأنواع الرجال وأجنادها، كذلك الرايات والسلاح والشعار فإنهم في هيئات الأسود والعقبان، فالأسود من جنس الرجال، والعقبان من جنس الأفراس، وشعارها مختلفة الألوان كألوان هذه الخيل، وما لبسته من الحديد، ففي الخيل والرجال صلابة مثله:
وهم في النفاد واله ... لاك كالسلاح المسمم
وثالثها: معناه أن جنسها كالحديد في صبره على التعب والقتال، ونداؤهم باسم الحديد لأنهم يتنادون بشعار سيف الدولة المنصور، والسيف: حديد، وما لبسته من التجافيف والجواشن، وهي أيضاً حديد، والسلاح حديد، وعلى الرايات اسم سيف الدولة وهو حديد، ولأنه جعل الرماح رايات.
وقال ابن جني: معناه أن عسكره كله عربي. خيله وشعاره وملبوسه وسلاحه.
وأدّبها طول القتال فطرفه ... يشير إليها من بعيدٍ فتفهم
الهاء في أدبها وإليها للخيل. وتفهم فعل الخيل، والهاء في طرفه لك فتى.
يقول: إن خيله تأدبت بآداب القتال، فإذا أشار صاحبها إليها من بعيد فهمت مراده، فجاءت إليه مسرعة. وروى: طول القياد وطول الطراد.
تجاوبه فعلاً وما تسمع الوحى ... ويسمعها لحظاً وما يتكلّم
الوحى: الصوت. يقول: إن صاحبها إذا دعاها بلحظه وإشارته، أجابت بالفعل والمجيء، وإن لم تسمع صوته.
تجانف عن ذات اليمين كأنّها ... ترقّ لميّا فارقين وترحم
تجانف: أي تتجانف، فحذف التاء، أي تميل.
يقول: إن الخيل عدلت عن ميا فارقين وأخذت في جانب فكأنها ترحمها، وكانت ميا فارقين عن يمين هذه الخيل وهي من جملة ممالكه فلم يتعرض لها لأن القصد كان إلى ديار الروم.
ولو زحمتها بالمناكب زحمةً ... درت أيّ سورينا الضّعيف المهدّم
يقول: لو زحمت الخيل ميا فارقين بمناكبها، لكانت تدري أي السورين أضعف سورها أم سور الخيل؟ يعني جعل الخيل سوراً؛ لثباتها وبعد انزعاجها عن موضعها بإزعاج مزعج، والتصاقها للحرب، ومعناه: لو لم تعدل عنها، ونزلت عليها؛ لهدمت سورها.
قال ابن حني: وحكى أن المتنبي أنشده هذه القصيدة عصراً، فسقط سور ميا فارقين ليلاً، وكان السور جاهلياً.
على كلّ طاوٍ تحت طاوٍ كأنّه ... من الدّم يسقى أو من اللّحم يطعم
الطاوي: الضامر، واللطيف البطن، وقوله: كأنه يرجع إلى الطاوي الأول، وهي الفرس.
يقول: على كل فرس ضامر، فارسٌ مثله في الضمور. فكأن هذا الفرس سقى من الدم، وأطعم من اللحم.
قيل فيه وجوه: منها: كأنه ذئب يأكل اللحم ويشرب الدم، فهو يهجم بفارسه على الحرب كما يهجم الذئب على الصيد.
وثانيها: كأنه يأكل لحم نفسه، ويشرب دم نفسه. مبالغة في وصفة بالضمور، والهزال؛ لاعتياده القتال.
والثالث: أراد أنه أطعم لحوم الأعداء وسقى دماؤهم، فهو مجد في طلبهم اقتداء بما مضى من العادة.
لها في الوغى زيّ الفوارس فوقها ... فكلّ حصانٍ دارعٌ متلثّم
يقول: زي هذه الخيل مثل زي فوارسها؛ لأن كل فارس عليه درع ومغفر ولثام، وفرسه مغطى بالتجافيف، والبرقع.
وما ذاك بخلاً بالنّفوس على القنا ... ولكنّ صدم الشّرّ بالشّرّ أحزم
بخلاً: نصب لأنه خبر ما واسمه ذاك وهو في موضع الرفع.
يقول: تغطيتهم أنفسهم وخيلهم ليس لجبنهم وبخلهم بالحياة، ولكنه مقابلة الشر بالشر، ودفع الشر بمثله، هو الحزم وجودة الرأي.(1/249)
والصدم: ضرب الشيء بمثله. وهذا قريب من قولهم: الحديد بالحديد يفلح.
أتحسب بيض الهند أصلك أصلها ... وأنّك منها؟ ساء ما تتوهّم!
يقول لسيف الدولة: إن السيوف الهند كأنها تظن أصلها أصلك، وأنك سيف مثلها؛ لما سميت باسمها وقد ساء ما توهمت، لأنك أشرف منها جوهراً، وأمضى منها في الأمور، وإنما أشركتها في الاسم لا في الجوهر والخصال، فأنت من العرب أصلاً، وهي من الهند، وليس فيها خصالك.
إذا نحن سميّناك خلنا سيوفنا ... من التّيه في أغمادها تتبسّم
يقول: إذا سميناك تبسمت سيوفنا في غمودها عجباً بأنك سميها، فكأنها حسبت أنك منها أصلاً ومنظراً، وليس الأمر كذلك.
ولم نر ملكاً قطّ يدعى بدونه ... فيرضى! ولكن يجهلون وتحلم
بدونه: أي بدون قدره.
يقول: ما رأيت ملكاً يسمى بدون قدره ويرضى بذلك غيرك! فإنك لقبت بسيف الدولة فرضيت به لحلمك، وهو لا يرضون لجهلهم.
أخذت على الأرواح كلّ ثنيّةٍ ... من العيش تعطى من تشاء وتحرم
الثنية: العقبة.
يقول: حكمت بين الأرواح وبين العيش، فكأنك قعدت على طريق الحياة، فمن شئت خليت سبيل حياته، ومن شئت صرفتها عنه. يعني أنك قد استوليت على أرواح العباد، فمن أغثته يبقى، ومن لم تغثه يهلك..
فلا موت من سنانك يتّقى ... ولا رزق إلاّ من يمينك يقسم
يقول: إن آجال الخلق في سنانك، وأرزاقهم في يدك، فلا موت يتقى إلا من سنانك، ولا رزق يقسم إلا من يمينك.
وضربت خيمة كبيرة لسيف الدولة بميا فارقين، وأشاع الناس أن المقام يتصل، فهبت ريح شديدة فسقطت الخيمة فأرجف بذلك وتطير وتحدث الناس فيه، وتكلموا عند سقوطها فقال أبو الطيب رحمه الله تعالى. يمدحه ويذكر الخيمة:
أينفع في الخيمة العذّل؟ ... وتشمل من دهرها يشمل
العذل: جمع العاذل.
يقول: عذل الخيمة على سقوطها غير نافع، لأنها لا تقدر أن تشمل سيف الدولة مع اشتماله على الدهر، وإحاطته به ودهرها نصب بيشمل ومن كناية سيف الدولة، وهو بمعنى الذي وهو نصب بيشمل.
وتعلوا الّذي زحلٌ تحته ... محالٌ لعمرك ما تسأل
وتعلو: فعل الخيمة: والذي: في موضع نصب، لأنه مفعول تعلو.
يقول: كيف تعلو الخيمة سيف الدولة؟ مع كون زحل تحته! وما تسأل الخيمة من العلو عليه أمر محال.
فلم لا تلوم الّذي لامها؟ ... وما فصّ خاتمه يذبل
التاء في تلوم للخيمة. وقيل: للخطاب. وما في قوله: وما فص خاتمه. للنفي بمعنى وليس. ويذبل: جبل.
يقول: من لامها على سقوطها فقد سامها أمراً محالاً، فلها أن تقابله بما هو محال مثله. فتقول: لم لم تجعل فص خاتمه يذبلا؟ الذي هو الجبل، فكما أن هذا محال، فكذلك استقرارها فوق سيف الدولة محال، والهاء في خاتمه تعود إلى الذي.
تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض في الواحد الجحفل
الأرجاء: النواحي، الواحد رجاً.
يقول: جوانب الخيمة، ونواحيها تضيق عن شخصك؛ والواحد من الجوانب - لسعته - لو ركض فيه جيش عظيم لما ضاق عنه. يعني أنها على سعتها تضيق عنك! وقيل: أراد بالواحد: الواحد من الخيام: يعني أن الواحد من الخيام يركض فيه العسكر الكثير، لعظمه وسعته، إلا أنه تضيق عن شخصك نواحيها.
وتقصر ما كنت في جوفها ... وتركز فيها القنا الذّبّل
يقول: إنها وإن كانت عالية السمك بحيث يمكن أن يركز فيها الرمح، ولكنها تقصر عنك، في الوقت الذي تكون فيها؛ لأنك أعلى من النجم، وأرفع من السماء.
وكيف تقوم على راحةٍ؟ ... كأن البحار لها أنمل!
يقول: كيف تستقر الخيمة على راحتك؟ فكل أنملة منها مثل البحر، فلا يستقر البناء على الماء. وإن قل، فضلاً عن البحار.
فليت وقارك فرّقته ... وحمّلت أرضك ما تحمل
الوقار: السكون. والتاء في تحمل قيل: للأرض: ومعناه ليتك قسمت وقارك على جميع الخلق، وحملت الأرض من الوقار ما يمكنها أن تحمله؛ لأنها لا تستطيع أن تحمل جميع وقارك.
وقيل: التاء للخطاب ومعناه: ليتك حملت الأرض ما تحمل أنت من الوقار. ولو فرقت وقارك على جميع الخلق لوصل إلى هذه الخيمة جزء منه وأمكنها بذلك القدر من الوقار السكون والاستقرار.
فصار الأنام به سادةً ... وسدتهم بالّذي يفضل(1/250)
يعني: لو فرقت وقارك وحلمك بين الناس، لوسعهم وصاروا به سادة حلماً وكنت تفوقهم بالذي يفضل عنك من الوقار والحلم.
رأت لون نورك في لونها ... كلون الغزالة لا يغسل
الغزالة: الشمس وقت طلوعها، وكذلك المشرق.
يقول: رأت الخيمة نورك قد عادها، وأضاءت الخيمة به، كما تضيء الأرض بالشمس، فلا يمكن إزالته عنها كما لا يزال ضوء الشمس. وروى: كلون الغزالة لا ينصل من نصول الخضاب.
وأنّ لها شرفاً باذخاً ... وأنّ الخيام بها تخجل
باذخاً: أي عالياً. والعامل في أن مفتوحة رأت.
يقول: رأت هذه الخيمة لنفسها شرفاً عالياً على سائر الخيام، ورأت أن الخيام تخجل من شرفها.
وقيل: أراد أصحاب الخيام.
فلا تنكرنّ لها صرعةً؛ ... فمن فرح النّفس ما يقتل
يقول: لا تنكر سقوطها، فإنها لما رأت نورك فيها، وتشرفها بك، غلبها الفرح فسقطت؛ بما داخلها من الطرب والسرور. ومن الفرح ما يقتل صاحبه!! وهذا مثل قوله ومن السرور بكاء.
ولو بلّغ النّاس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل
يقول: لو بلغ الناس ما بلغته هذه الخيمة، لخانتهم أرجلهم من هيبتك، ولسقطوا كما سقطت.
ولمّا أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنّك لا ترحل
التطنيب: من الأطناب، وهي الحبال تشد إلى أوتاد الخيمة.
يقول: إنك لما أمرت بضرب الخيمة، أشيع فيما بين الناس بأنك لا ترحل، بل تقيم.
فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
التقويض: هو قلع الخيام، ونقض البناء من غير الهدم. وأشار: من الإشارة إلى الشيء. وهو بمعنى الدلالة، لا بمعنى المشورة. واعتمد وأعمد: أي ما قصد الله إسقاط هذه الخيمة، ولكن أراد أن يعلم الناس أنك راحل، ودل بذلك على بطلان اعتقادهم باتصال المقام، وترك الارتحال.
وعرّف أنّك من همّه ... وأنّك في نصره ترفل
من همه: أي من إرادته. وقيل: من عنايته ونصره، والهاء في همه ونصره ترجع إلى اسم الله تعالى. وترفل: أي تسحب في أذيال النصر.
يقول: إن الله تعالى عرف الناس أن سيرك من مراده، وأنك في عنايته، وأنك مؤيد بنصره، وعليك من نصره حلل ترفل فيها؛ فلهذا أسقطت الخيمة.
فما العاندون؟ وما أثلوا ... وما الحاسدون؟ وما قوّلوا
العاندون: الأعداء. والواحد عاند، وأصله من المغالبة عند الجرح، إذا غلب دمه ولم ينقطع سيلانه، وأثلوا: أصلوا من التطير لسقوط الخيمة وما في قوله: فما العاندون وما الحاسدون للاستفهام، ومعناه الإنكار والاستحقار. وما في قوله: فما أثلوا ما قولوا بمعنى الذي.
يقول: ما قدر الأعداء وما أصلوه من الأراجيف والأقوال، وما قدر الحاسدون، وما تقولوا من الأكاذيب.
هم يطلبون فمن أدركوا؟ ... وهم يكذبون، فمن يقبل؟
يقول: هم يطلبون غايتك، أو يطلبون أعداءهم، فمن أدركوا منهم؟! أي لا يدركون ما يؤملون، وهم يكذبون عليك فمن يقبل قولهم؟! أي لا يقبل منهم ما يقولون.
وهم يتمنّون ما يشتهون ... ومن دونه جدّك المقبل
الهاء في من دونه تعود إلى ما أي أن أعداءك يتمنون ما تشتهيه أنفسهم، ولكن سعادة جدك، وإقبال دولتك، يحول بينهم وبين مرادهم.
وملمومةٌ زردٌ ثوبها ... ولكنّه بالقنا مخمل
ملمومة: أي كتيبة مجموعة. والزرد: حلق الدرع. وقوله زرد ثوبها في موضع الصفة لملمومة ولما جعل الدرع ثوبا: جعل الرماح خملها؛ طلبا للمشاكلة.
يقول: من دونه جدك المقبلن وكتيبته مجموعة، أثوابها الدروع، وعلى هذه الأثواب خمل من الرماح: فهي مخملة بالرماح
يفاجئ جيشاً بها حينه ... وينذر جيشاً بها القسطل
الحين: الهلاك. والقسطل: الغبار. وحينه رفع لأنه فاعل يفاجئ والقسطل فاعل ينذر ويجوز أن يكونا مرفوعين بالابتداء وبها في موضع رفع خبر الابتداء. ويفاجئ وينذر: فعل سيف الدولة. والأول أظهر. وبها يعود إلى الملمومة.
يقول: إن سيف الدولة تارة يسرى إلى العدو ليلا، فيفاجئه هلاكه ولم يشعر به، وتارة يسير نهاراً بهذه الكتيبة، فينذر جيشاً بغبارها فيهرب منه. وقيل: أراد أنه يسير مرة في الحزن من الأرض ولا يثير الغبار فيفاجئ جيش العدو، ومرة في السهل فيثير الغبار فيهربون.
جعلتك بالقلب لي عدّةً ... لأنّك باليد لا تجعل(1/251)
يقول: أنت أجل من أن تنالك الأيدي فتدخرك، كما تدخر سائر السيوف والأموال، ولكن صيرتك في اعتقادي عدة لي لكل شدة، وذخراً لكل نائبة.
لقد رفع الله من دولةٍ ... لها منك يا سيفها، منصل
يقول: رفع الله دولة أنت سيفها، وأبان على جميع الدول فضلها، والهاء في لها وسيفها للدولة. والكاف في منك خطاب لسيف الدولة.
فإن طبعت قبلك المرهفات ... فإنّك من قبلها المقصل
المرهفات: السيوف المرققة الحد، والمقصل: القاطع.
يقول: إن كانت السيوف سبقتك بالطبع، فأنت سبقتها في جودة الجوهر والقطع، فأنت أول سيف قاطع.
وإن جاد بقلك قومٌ مضوا ... فإنّك في الكرم الأوّل
يقول: إن تقدمك الأجواد في الجود، فأنت سبقتهم في الفعال، وتقدمتهم في كرم الخلال، فأنت وإن تأخرت عنهم وجوداً، تقدمتهم كرماً وجوداً.
وكيف تقصّر عن غايةٍ ... وأمّك من ليثها مشبل
المشبل: التي معها أشبال، وأراد بالليث: أباه. والهاء في ليثها للأم فجعلهما أسدين، وجعله شبلهما.
يقول: فكيف تقصر عن غاية ترويها، وأنت ليث ابن ليث ابن لبؤة.
وقد ولدتك فقال الورى ... ألم تكن الشّمس لا تنجل؟!
تنجل: أي تلد.
يقول: إنها في شرفها شمس، فلما ولدتك تعجب الناس وقالوا: أليس الشمس لا تلد؟ فكيف ولدت الآن! فجعله شمساً مولوداً من شمس.
فتبّاّ لدين عبيد النّجو ... م ومن يدّعي أنّها تعقل
تباّ: نصب على المصدر وعلى الذم بفعل مضمر، ومعناه: ضلالاً وخسرانا لدين من يعبد النجوم، ومن يدعي أنها تعقل وتختار وتميز. بين العلة في الذم.
وقد عرفتك فما بالها ... تراك تراها فلا تنزل؟!
يعني: لو كانت النجوم تعقل، لكانت إذا رأتك تراها، وتنظر إليها نزلت إليك وخضعت لك، لأنك أعلى منها محلا، فلما لم تفعل علم أنها غير عاقلة.
ولو بتّما عند قدريكما ... لبتّ وأعلاكما الأسفل
يقول: لو حل كل واحد منكما المحل الذي يستحقه، لعلوت عليها وصرت في الفلك، وسفلت هي عنك، فصار أعلاكما الآن وهو النجم: الأسفل.
أنلت عبادك ما أمّلت ... أنا لك ربّك ما تأمل
التاء في أملت، تعود إلى العباد.
يقول: أنلت عبادك وهم الخلق ما أملوه منك، فبلغك الله آمالك في دنياك وآخرتك. وقيل: الضمير في قوله: ما أملت راجع إلى النجوم: أي أن ما فعلته من تبليغ الناس مناهم، كانت النجوم تأمله، فلا تقدر عليه فأملت ما أملته النجوم.
قال ابن جني: ولما أطلق على الناس لفظ العبودية له، بين في آخر البيت أنه من جملة العباد وأنه محتاج كسائر الناس فقال:
أنا لك ربّك ما تأمل
فجعله مثل سائر الناس في الحاجة. صنعة وحذاقة.
وقال وقد ركب سيف الدولة في بلد الروم، من منزل يعرف بالسنبوس في جمادي الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة فأصبح وقد صف الجيش يريد سمندو. وكان أبو الطيب متقدماً، فالتفت فرأى سيف الدولة خارجاً من الصفوف يدير رمحاً، فعرفه فرد الفرس إليه. فسايره وأنشده:
لهذا اليوم بعد غدٍ أريج ... ونارٌ في العدوّ لها أجيج
الأريج، والأرج: الرائحة الطيبة. والأجيج: من تأجج النار وهو التهابها.
يقول: سيكون لهذا اليوم الذي ركبت فيه، بعد غد أريج: أي ذكرى حسن يسر المسلمين، ويسوء المشركين، ويكون في العدو نار لها توقد والتهاب: أي حروب ووقائع تلتهب مثل النار.
تبيت به الحواصن آمناتٍ ... وتسلم في مسالكها الحجيج
الحواصن: جمع الحاصن وهي العفيفة من النساء. وقيل: المتزوجة.
وروى: الحواضر: جمع الحاضرة بخلاف البادية. وروى: الحواضن: جمع الحاضنة لأولادها.
يقول: يأمن بركوبك هذا بعد غد: من في الثغور من النساء، ويأمن أهل الحضر والبدو من الغارات، ويسلم الحجاج والمسافرون في أسفارهم وطرقهم من اللصوص وقطاع الطرق.
فلا زالت عداتك حيث كانت ... فرائس أيّها الأسد المهيج
المهيج: هو الهائج: تقول هيجته أهيجه هيجا، وهاج هو بنفسه.
يقول: جعل الله أعداءك حيث كانوا، فرائسك أيّها الأسد.
عرفتك والصّفوف معبّآتٌ ... وأنت بغير سيرك لا تعيج
لا تعيج: أي لا تبالي. تقول: ما عجت بكلامه أي ما باليت به. وعبأت الجيش وعبيته: إذا زينته وسويت صفوفه.(1/252)
يقول: عرفتك في حال تعبئة الجيش، وتسوية الصفوف؛ لأنك كنت معروفا فيما بينهم ببأسك وإقدامك، ومن حيث أنك لا تبالي بغير سيرك، فكان الوقت جامعاً للأمرين: لتعبئة الجيوش، وللحالة الثانية وهي أنك لا تعيج بغير سيرك، وكان من عادته أنه كان لا يعيج بسير غيره، وإنما كان يعتمد سير نفسه، ولا يعتمد على أن تسير الجيوش إلى الأعداء، بل كان يتولاها بنفسه.
ووجه البحر يعرف من بعيدٍ ... إذا يسجو فكيف إذا يموج
يسجو: يسكن.
يقول: أنت البحر! يعرف من المكان البعيد، وهو ساكن، فكيف إذا ماج واضطرب؟! شبهه بالبحر المائج، لبأسه وهيبته.
بأرضٍ تهلك الأشواط فيها ... إذا ملئت من الرّكض الفروج
الأشواط: عدو الفرس. يقال: عدا شوطاً، أي طلقا. والفروج: جمع فرج، وهو ما بين القوائم.
يقول: رأيتك في أرض واسعة بعيدة الأطراف. تهلك: أي تفنى. الأشواط فيها: أي عدو الفرس فيها، لسعتها ولا تقطعها إذا جرت أشد الجري، وهو في معنى قوله:
إذا ملئت من الرّكض الفروج
تحاول نفس ملك الرّوم فيها ... فتفديه رعيّته العلوج
العلوج: جمع علج، وهو الشديد الخلق، القوى على معالجة العمل. والهاء في فيها تعود إلى الروم ويجوز أن تعود إلى الأرض.
يقول: تطلب نفس ملك الروم، وتقصده دون غيره، ولكن تفديه رعيته وأصحابه وجنوده فتقتلهم بين يديه.
أبا لغمرات توعدنا النّصارى ... ونحن نجومها وهي البروج!؟
الغمرات: الشدائد، وأراد بها الحروب.
يقول: تهددنا النصارى بالحروب والشدائد والخوض في المهالك ونحن لا ننفك عنها، وليس لنا منزل سواها فكأنا نجوم، والغمرات بروج تلك النجوم، فكما لا تزايل النجوم بروجها فكذلك نحن لا نزايل الغمرات.
وفينا السّيف حملته صدوقٌ ... إذا لاقى وغارته لجوج
يقول: كيف توعدنا النّصارى؟ وفينا سيف الدولة! الذي إذا حمل صدقت حملته: أي لا يرجع حتى يقتل المحمول عليه، وإذا أغار لج على الإغارة وأدامها.
تعوّذة من الأعيان بأساً ... ويكثر بالدّعاء له الضّجيج
بأساً: قيل نصب على التمييز، وقيل: على أنه مصدر، وقيل: على أنه مفعول له. أي نعوذه لأجل بأسه وإقدامه.
يقول: إذا رأينا بأسه وإقدامه. خفنا عليه من العيون، فنعوذه من شر العيون أن تصيبه، ورفعنا أصواتنا بالدعاء له، حتى ينصرف الله عنه العين.
رضينا والدّمستق غير راضٍ ... بما حكم القواضب والوشيج
الدمستق عند الروم: قائد الجيش مثل اسفهسالار عند الفرس والقواضب: السيوف والوشيج: في الأصل. أصول الرماح، وعروقها التي تنبت عليها الرماح، ثم سميت الرماح بمنبتها.
يقول: نحن رضينا بما حكمت السيوف والرماح، والدمستق غير راض بذلك، لأنها حكمت لنا بالظفر والنصر، وعلى الدمستق بالقتل والهزيمة.
فإن يقدم فقد زرنا سمندو ... وإن يحجم فموعده الخليج
سمندو: مدينة في بلاد الروم، وأراد بالخليج: خليج قسطنطينيه: وهي دار مملكة الروم.
يقول: إن أقدم فنحن توسطنا بلاده، حتى نزلنا على سمندو، وإن أحجم عنا فالموعد بيننا وبينه أن ننزل على الخليج ونحاصره في دار مملكته.(1/253)
ومر سيف الدولة بسمندو وعبر آلس وهو نهر عظيم فنزل على صارخة وأحرق ربضها وكنائسها وربض الخرشنه وما حولها وأكثر القتل، وأقام بمكانه يوماً ثم رحل حتى عبر آلس راجعاً، فلما أمسى ترك السواد وأكثر الجيش وسرى حتى جاز خرشنة، وانتهى إلى بطن اللقان في غد ظهراً، ولقى الدمستق في الألوف من الخيل، فلما نظر الدمستق إلى أوائل الخيل، ظنها سرية، فثبت لها وقاتل أول الناس حتى هزمهم، وأشرف عليه سيف الدولة فانهزم. قيل: وقتل من فرسانه خلق كثير، وأسر من بطارقته وزراورته ووجوه رجاله خلق كثير نيف على ثمانين، وأفلت الدمستق، وعاد سيف الدولة إلى عسكره وسواده، وقفل غانما فلما وصل إلى عقبة تعرف بمقطعة الأثفار فصادفه العدو على رأسها، فأخذ ساقة الناس يحميهم، فلما انحدر بعد عبور الناس ركبه العدو فخرج من الفرسان جماعة، فنزل سيف الدولة على بردى وهو نهر عظيم وضبط العدو، وعقبة السير صعبة طويلة، فلم يقدر على صعودها لضيقها وكثرة العدو بها، فعدل متيا سراً في طريق وصفه له بعض أدلته، وأخذ ساقة الناس يحميهم، وكانت الإبل كثيرة مثقلة وجاءه العدو آخر النهار من خلفه، وقاتله إلى العشاء وأظلم الليل، فتسلل أصحاب سيف الدولة يطلبون سوادهم، فلما خف عنه أصحابه سار حتى لحق بالسواد تحت عقبة قريبة من بحية الحدث، فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانبين، فجعل سيف الدولة يستنفر الناس فلا ينفر أحد فمن نجا من العقبة نهاراً لم يرجع، ومن بقي تحتها لم تكن فيه نصرة! وتخاذل الناس وكانوا قد ملوا السفر، فأمر سيف الدولة بقتل البطارقة والزراورة ولك من كان في السلاسل - وكان فيها مئات - وانصرف سيف الدولة.
فاجتاز أبو الطيب آخر الليل بجماعة من المسلمين، بعضهم نيام بين القتلى - من التعب - وبعضهم يحركونهم فيجهزون على من تحرك، فلذلك قال:
وجدتموهم نياماً في دمائكم ... كأن قتلاكم إيّاهم فجعوا
فقال أبو الطيب: يصف الحال بعد القفول في جماد الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة. ويقال: إنه قد قتل في هذه الغزاة من المسلمين زهاء مئة ألف فارس ولم ينج سيف الدولة إلا في شرذمة يسيرة.
غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا
قوله: هذا الناس إنما وجه فيه الإشارة، أنه حمله على لفظ الناس ثم قال: إن قاتلوا إلى آخره، فرد الكناية إلى المعنى، وروى: هذا الخلق: وهذا ظاهر.
يقول: غيري ينخدع بأكثر هؤلاء الناس، ويغتر بأقوالهم، فأما أنا، لا أنخدع بهم، ولا أغتر بقولهم، لأني جربتهم فوجدتهم لا خير فيهم، يقولون ما لا يفعلون! فهم في ألسنتهم شجعان، وفي القتال جبناء لا خير عندهم، ولا غناء.
أهل الحفيظة إلاّ أن تجرّبهم ... وفي التّجارب بعد الغيّ ما يزع
الحفيظة: الشجاعة وأصلها: الغضب؛ لأن الشجاع يغضب عند الحروب، فيحمى عن قومه. وقيل: الحفيظة: الحمية والأنفة، والتجارب: جمع التجربة. ويزع: أي يكف يقول: هم أهل الشجاعة والحمية في الظاهر، وإذا جربتهم ظهر لك ما يزع عن الاغترار بهم، والانخداع بظاهر أحوالهم.
وما الحياة ونفسي بعدما علمت ... أنّ الحياة كما لا تشتهي طبع؟
الطبع: الدنس، ثم سمى العار والعيب طبعاً وما استفهام في قوله: وما الحياة وموضعها رفع بالابتداء، والحياة: خبره، ونفسي: معطوفة على الحياة. يعني: وما الحياة، وما نفسي.
يقول: ما لنفسي وطلب الحياة، وكيف ترغب نفسي في حياة هي عار عليها، وغير موافقة لها! وقد علمت نفسي أن الحياة إذا كانت تنغص بما لا تشتهيه: مرة فقر، ومرة تعب، فهي طبع وعار.
ليس الجمال لوجهٍ صحّ مارنه ... أنف العزيز بقطع العزّ يجتدع
المارن: مالان من طرف الأنف. يجتدع: أي ينقطع.
يقول: ليس جمال الرجل في صحة وجهه ومارنه، ولكن جماله في عزته ومنعته، فإن العزيز إذا ذهب عزه ذهب جماله، وكان في الحقيقة مثل من جدع أنفه، لأن السماجة فيه أكثر من قطع الأنف.
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه؟ ... وأترك ألغيث في غمدي وأنتجع؟!
يقول: المجد وحسن الحال إنما يكسبان بالسيف. فأطرح هذا المجد عن كتفي ثم أطلبه! وأترك سيفي في غمدي، وأنتجع المعروف من وجه آخر! فإذا فعلت ذلك فكأني قد طلبت الأمر من غير وجهه.(1/254)
وقيل: إنه إشارة إلى سيف الدولة. أي كيف أتركه وأطلب الخير والمجد من غيره؟!
والمشرفيّة، لا زالت مشرّفةً ... دواء كلّ كريمٍ أو هي الوجع
يقول داعياً للسيوف: إنها لا تزال شريفة، فإن العز بها يدرك؛ لان الإنسان إما أن ينال بغيته بها، أو يقتل بها، فهي داء ودواء.
ومثله قول بعضهم:
من عاش بالسّيف لاقى عيشه عجباً ... موتاً على عجل، أو عاش منتصفاً
وفارس الخيل من خفّت فوقرها ... في الدّرب والدّم في أعطافها دفع
خفت: أي الخيل. والدرب: مضايق الروم. وقيل: الضرب. وهو المضيق في الجبل مثل الباب. والأعطاف: الجوانب. ودفع: أي دفعة بعد دفعة. رجع إلى ذكر سيف الدولة.
يقول: الفارس الشجاع من ثبت خيله وسكنها في الدرب، والدم يجري في أعطافها دفعة بعد دفعة.
وأوحدته وما في قلبه قلقٌ ... وأغضبته وما في لفظه قذع
وأوحدته: أي جعلته الخيل وحيداً فريداً وانفرد عنها، ولم يداخله قلق لوحدته، وكذلك لما أغضبته الخيل، بتقاعدهم عنه، لم يتلفظ بالخنا والفحش.
وروى: وأوجدته: أي أغضبته. من الموجدة وهي الغضب. يعني أن أصحابه لما انهزموا غضب لذلك، ولكن لم يعلق لهذا الغضب ولم يتلفظ بالقبيح.
بالجيش تمتنع السّادات كلّهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع
يقول: كل سيد وأمير يمنعه جيشه من الأعداء، ويدفع عنه شرهم، إلا سيف الدولة، فإنه يمنع جيشه بنفسه، ويذب عنه بسيفه.
قاد المقانب أقصى شربها نهلٌ ... على الشكيم وأدنى سيرها سرع
المقنب: الجماعة من الخيل. والنهل: الشرب الأول، والشكيم: جمع الشكيمة، وهي الحديدة المعترضة في فم الدابة. وسرع: في معنى سريع. وقيل: مصدر سرع سرعاً مثل ضخم ضخما.
يقول: قاد الجيش إلى بلاد الروم، وكان غاية شرب خيله النهل، ومع ذلك كانت لجمها في أفواهها لا تنزع، وكان أقل سيرها سريعاً. فكيف أعلاه؟!
لا يعتقى بلدٌ مسراه عن بلدٍ ... كالموت ليس له ريّ ولا شبع
لا يعتقى: أي لا يمنع، يقال: عاقه واعتاقه، مقلوب من عقاه واعتقاه ومسراه: مصدر سرى يسري، وهو مفعول لا يعتقى.
يقول: لا يثبت في بلد من بلاد الروم، ولا يعوقه بلد عن آخر، فإذا فتح بلداً تحاوزه إلى آخر فيفتحه، فكأنه الموت لا يشبع، ولا يروى من هلاك الأنام، وسلب لنفوس. وشبهه بالموت، وشبه البلاد بالنفوس.
حتّى أقام على أرباض خرشنةٍ ... تشقى به الرّوم والصّلبان والبيع
الأرباض: جمع الربض، وهي نواحي المدينة، وما يبنى حول سورها من خارج. والصلبان: جمع صليب، تزعم النصارى أنه صورة الخشبة التي صلب عليها المسيج. وخرشنة: بلد أو حصن.
يقول: لم يزل يسير في بلاد الروم حتى انتهى إلى خرشنة، ونزل على أرباضها، يغير على نواحيها ويكسر صلبانها ويهدم بيعها
للسّبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنّهب ما جمعوا، والنّار ما زرعوا
إنما قال: ما نكحوا وما ولدوا لأحد ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه أجراهم مجرى ما لا يعقل من البهائم، فاستعمل لهم لفظ ما لأنها لما لا يعقل.
والثاني: أن ذلك لغة حكاها أبو زيد عن أهل الحجاز. قال، يقولون: سبحان ما يسبح الرعد بحمده.
والثالث: أنه في معنى المصدر، تقديره: للسبي نكاحهم، وللقتل ولادتهم.
يقول: إنه كان يسبي نساءهم، ويقتل أولادهم، وينهب أموالهم ويحرق زرعهم.
مخلىً له المرج منصوباً بصارخةٍ ... له المنابر، مشهوداً بها الجمع
مخلى: في موضع نصب على الحال. وكذلك منصوباً ومشهوداً والهاء في بها تعود إلى صارخة. والمرج وصارخة: موضعان من نواحي خرشنة، وهي من أوسط ممالك الروم.
يقول: أخلى له هذان الموضعان. ونصب له بصارخة المنابر، وبني فيها المساجد، وأقام الجمعة، فشهد الناس الجمع بها.
يطمّع الطير فيهم طول أكلهم ... حتّى تكاد على أحيائهم تقع
الطير: مفعول يطمع. وطول: فاعله.
يقول: إن الطير قد تعودت أكل لحوم القتلى منهم، فتكاد تقع على أحيائهم، فضلا عن موتاهم.
ولو رآه حواريّوهم لبنوا ... على محبّته الشّرع الّذي شرعوا
يقول: إنه مع نكايته فيهم، محبوب إلى قلوبهم لشجاعته وسخاوته، فلو رآه حواريّ النصارى لبنوا شريعيتهم على محبته.(1/255)
ذمّ الدّمستق عينيه وقد طلعت ... سود الغمام فظنّوا أنّها قزع
القزع: السحاب المتفرق.
يقول: إن عيني الدّمستق كذّبتاه، حتى ظنّ جيشك العظيم، الذي هو بمنزلة الغمام الأسود، أنه قليل، بمنزلة القطع المتفرقة من السحاب، فلما علم ذلك ذم عينيه، وإنما خص الغمام الأسود، لأنه أهول منظراً وأكثر في السماء إجراء وتراكماً، فهو إشارة إلى الكثرة، ولأن فيها تكون الصواعق أكثر من غيرها، فهي بمنزلة الجيوش.
فيها الكماة الّتي مفطومها رجلٌ ... على الجياد الّتي حوليّها جذع
الكمى: الشجاع المتكمي في السلاح أي المستتر. وقيل: إنما سمى كمياً؛ لأن مواضع مقاتله كمى على قرنه. والحولي: الذي أتى عليه حول. والجذع: الذي تم له حولان.
يقول: في هذه الغمام السود، الشجعان الذي كل طفل منهم كأنه رجل؛ لشدته، أو كأنه أرجل من غيرهم، وكل مهر حولي من خيلهم كأنه جذع لقوته أو كأنه جذع من أفراس غيرهم.
يذرى اللّقان غباراً في مناخرها ... وفي حناجرها من آلس جرع
اللقان: جبل في بلاد الروم. وقيل موضع. وآلس: نهر. وقيل بينهما مسيرة يومين. ويذرى: أي يثير ويفرق. وفيه معنيان.
أحدهما: أنه يريد سرعة السير أي أن الخيل شربت الماء من آلس وسارت منه ووصلت إلى اللقان، والماء بعد في حلوقها لم تسغه فاختلط غبار اللقان في مناخرها، بماء آلس في حناجرها.
والثاني: أنه يريد كثرة الجيش حتى أن أوله يثير الغبار باللقان، وآخره على آلس يشرب من مائه كما قال غيره:
بيثرب أخراه وبالشّام قادمه
كأنّها تتلقّاهم لتسلكهم ... فالطّعن يفتح في الأجواف ما يسع
يقول: كأنه خيله تتلقى الروم لتسلكهم وتنفذ فيهم، كما ينفذ السهم، فالطعن يفتح لهم في أجواف أعدائهم ما تسع الفارس وفرسه. يعني أن كل طعن كأنه درب يسع الفارس، فلو أراد السلوك فيها أمكنه..
تهدى نواظرها والحرب مظلمةٌ ... من الأسنّة نارٌ والقنا شمع
نار: فاعل تهدى ومفعوله. نواظرها. والهاء للخيل. والقنا: في موضع الجر عطفاً على الأسنة، ويجوز أن يكون في موضع الرفع على الابتداء، وشمع: خبره، والجملة في موضع النصب على الحال.
يقول: إذا أظلمت الحرب بالغبار، وتحيرت فيها عيون الفرسان، هداها لمع الأسنة في الرماح.
شبه القنا بالشمع، والأسنة بالنار التي في رءوسها، وهذا تشبيه بديع.
دون السّهام ودون الفرّ طافحةٌ ... على نفوسهم المقوّرة المزع
الفر: الفرار، وطافحة: أي مرتفعة، من طفحت القدر إذا جاشت وعلا زبدها. والمقورة: الخيل الضامرة. والمزع: السراع.
يعني أن هذه الخيل الضامرة السراع، واثبة على نفوس الأعداء عالية عليهم، وحائلة بينهم وبين الرمي بالسهام، والفرار بالانهزام، بل تسبق إليهم الخيل دون ذلك.
وروى: دون السهام ودون القر والمراد بالسهام: السموم، وهي الحر والقر: البرد والمزع بكسر الميم وفتح الزاي، والمقورة: الدرع، والمزع: صفتها، وهي الخلقة.
يعني أن خيله لا يلبسها من الحر والبرد والثياب المعتاد، ولكن دروع أخلقتها كثرة اللبس، والمداومة عليها.
إذا دعا علجاً حال بينهما ... أظمى تفارق منه أختها الضّلع
أراد بالعلج: الرومي. وبالأظمى: الرمح الأسمر.
يقول: إذا دعا الرومي رومياً آخر لينصره حال بين الداعي والمدعو. رمح أظمى، فيفرق بينهما، كما يفرق أحد الأضلاع من الآخر. والهاء في منه تعود إلى الأظمى وفي أختها إلى الضلع وهي المقدمة في المعنى، ورفعها لأنها فاعلة: تفارق.
أجلّ من ولد الفقّاس منكتفٌ ... إذ فاتهنّ، وأمضى منه منصرع
ولد الفقاس: هو الدمسق والمنكتف: المشدود إليه إلى خلف. والكناية في فانهن تعود إلى خيل سيف الدولة، وهي المعبر عنها بسود الغمام.
يقول: إن كان الدمستق قد نجا بنفسه، وفات خيلك، فقد أسر من أصحابه من هو أجل منه، وصرع منهم من هو أشجع منه.
وما نجا من شفار البيض منفلتٌ ... نجا ومنهنّ في أحشائه فزع
الشفار: جمع الشفرة، وهي حد السيف. وأراد بالبيض: السيوف، والأصل فيه الصفة، ثم صار اسماً لها، والكناية في منهن تعود إلى الشفار. ومنفلت ليس بالفصيح. والجيد المفلت والأول أيضاً لغة.(1/256)
يقول: إن كان الدمستق قد نجا من سيوفك، فلم يفلت إلا وقلبه مملوء من الفزع، فقد حل في قلبه من الخوف ما يقوم مقام قتله. ومثله لأبي تمام:
إن ينج منك أبو نصر فعن قدرٍ ... ينجو الرجال ولكن سله كيف نجا؟!
يباشر الأمن دهراً وهو مختبلٌ ... ويشرب الخمر حولاً وهو ممتقع
المختبل: الفاسد العقل. والممتقع: المتغير اللون.
يقول: قد دخل قلب الدمستق من الخوف، ما يباشر معه الأمن دهرا طويلا، وعقله زائل ويشرب الخمر حولا كاملا ولونه حائل، لشدة الفزع الذي حصل له، مع أن شرب الخمر يظهر في اللون حمرة.
كم من حشاشة بطريقٍ تضمّنها ... للباترات أمينٌ ما له ورع
الحشاشة: بقية النفس. والبطريق: عند الروم القائد. وتضمنها: أي تكفل بها. والمراد بالأمين: القيد.
يقول: كم من روح قائد من قواد الروم تكفل بها للسيوف القواطع القيد، وهو أمين، حتى يرد عليها، وإن لم يكن له ورع يكفه عن الخيانة.
وقيل: أراد بالأمين سيف الدولة، وتركه للتورع هو أنه يقتلهم لأنهم كفار، ويعرض عن عفوهم، إذ التورع يقتضي ذلك. والأول أولى.
يقاتل الخطو عنه حين يطلبه ... ويطرد النّوم عنه حين يضطّجع
يقاتل الخطو عنه: الضمير في عنه للبطريق.
يقول: إذ طلبه خطوه لينجيه، دفع القيد عنه فجعل ذلك مقاتلة بين الخطو وبين القيد، وإذا أراد أن ينام طرد عنه النوم هذا القيد. وهذا أحسن المعاني في وصف القيد. وقد قال أبو نواس مثله أو قريباً منه:
إذا قام أعيته على السّاق حلقةٌ ... بها خطوه عند القيام قصير
تغدو المنايا فلا تنفكّ واقفةً ... حتّى يقول لها: عودي، فتندفع
تندفع: أي تسير سيراً سريعاً.
يقول: إن الموت تحت طاعته، فيغدوا كل يوم، فيقف بين يديه، انتظاراً لأمره، فإذا أمره بالوقوع بالأعداء يقول له: اعد إليهم، اندفع إليهم في السير، وأسرع في إجابته وطاعته، فأتى على أرواحهم.
قل للدمستق: إن المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا
يقول: إن المسلمين بفتح اللام: أي الذين أسلمهم سيف الدولة إلى أعدائهم ولم يذب عنهم، إنما فعل ذلك لأنهم خانوه، وخالفوا أمره، فتركهم حتى ظفر بهم العدو، وجعل ذلك جزاء مخالفتهم لأمره، ومعناه: أنهم لما خالفوه لم يظفروا بعدوهم.
وجدتموهم نياماً في دمائكم ... كأنّ قتلاكم إيّاهم فجعوا
لما انهزم أصحاب سيف الدولة، التجأ من لا يمكنه الفرار منهم إلى قتلى الكفار، وطرح نفسه بين القتلى، وتخضب بدمائهم؛ ليحسب أنه قتيل فلا يتعرض له.
فيقول: إنما أسرتم كل عاجز لم يكن له حيلة سوى أن يطرح نفسه بين القتلى، ويخضب بدمائهم، فكأنه هو الفجيع بقتلاكم، يلقى نفسه عليهم أسفاً، ويتخضب بدمائهم جزعاً
ضعفي تعفّ الأعادي عن مثالهم ... من الأعادي وإن همّوا بهم نزعوا
يقول: الذين أسرتموهم، وقتلتموهم كانوا ضعفى، بحيث إذا ظفر العدو بعدوه على حالة مثلها أمسك عنه، وإن هم بقتله نزع عنه: أي كف عنه، لأن حاله شر من القتلى.
وروى: وإن هموا وإن نزعوا أي لا يقتلهم العدو وإن هموا بقتلهم، ومالوا إليه.
لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق ... فليس يأكل إلاّ الميّت الضّبع
يقول: لا تظنوا أن من أسرتم كان حياً، بل لم تأسروا إلا كل ميت لم يبق فيه رمق، لأنكم كالضبع، والضبع لا يأكل إلا الميت فلو كانوا أحياء لما أمكنكم أسرهم.
هلاّ على عقب الوادي وقد صعدت ... أسدٌ تمرّ فرادى ليس تجتمع؟
العقب: جمع عقبة. وروى على عقب الوادي: وهو أسفله وآخره. وقيل: هو موضع بعينه.
يقول: فهلا أسرتم، أو هلا وقفتم أو حاربتم حين عبرنا الوادي وصعدنا عقبه، وكانت خيلنا كالأسود، تمر فرادى للحرب لا يتوقف بعضها لبعض.
تشقكم بفتاها كلّ سلهبةٍ ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
روى: بقناها: أي برماحها. وروى: بفتاها، والمراد به سيف الدولة. والسلهبة: الفرس الطويلة، وقيل: الضامرة الخفيفة.
يقول: هلا تعرضتم لنا حين كانت الخيل السلاهب تشقكم برماحها، أو بفتاها: أي تحمل إليكم رجلا يقتلكم، أو رماحاً تطعنون بها. وقوله: الضرب يأخذ منكم فوق ما يدع أي أن من قتل منكم وجرح أكثر ممن سلم وتخلص من القتل والجرح.(1/257)
وإنّما عرّض الله الجنود بكم ... لكي يكونوا بلا فسلٍ إذا رجعوا
يقال: عرضته للسيف: أي أمكنت السيف من عرضه، أي جانبه. والفسل: الضعيف الردىء من الرجال.
يقول: إنما مكنكم الله تعالى من جيش سيف الدولة ليتطهروا من الأوباش، فلا يبقى فيهم إلا كل شجاع فاتك فيعاودكم جيشة ليس فيه إلا الحماة والكماة.
فكلّ غزوٍ إليكم بعد ذا فله ... وكلّ غازٍ لسيف الدّولة التّبع
يقول: قد صفا جيشه من كل فسل، فكل غزو بعد هذا الغزو هو لسيف الدولة، والظفر له دونكم، وكل غاز تابع له، وداخل في جملته.
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
يقول: كل كريم يتبع في كرمه من تقدمه من الكرام، وأنت تحدث من الكرم ما لا يسبقك إليه أحد، وتبتدع ابتداعاً، ليس لأحد مثله!
وهل يشينك وقتٌ كنت فارسه ... وكان غيرك فيه العاجز الضّرع
يشينك: أي يعيبك. والضّرع: الضعيف. والهاء في فارسه للوقت وكذلك في فيه وكان أصله: فارساً فيه. إلا أنه أضافه إليه.
يقول: أي عيل لك، إذا ثبت وانهزم أصحابك! ليس فيه عيب، بل فيه فخر، لأنه أظهر شجاعتك وعجز غيرك.
وقيل: معناه ما شانك وقت من الأوقات في الحروب لأنك لم تنهزم قط، في وقت انهزم غيرك فيه، بل كنت الغالب وغيرك العاجز.
من كان فوق محلّ الشّمس موضعه ... فليس يرفعه شيءٌ ولا يضع
يقول: أنت أعلى من أن تضع الهزيمة من قدرك، أو يرفع الظفر محلك؛ لأنك فوق الشمس ومن كان كذلك لا يضع منه شيء ولا يرفعه؛ لأنه لا نهاية فوقه.
لم يسلم الكرّ في الأعقاب مهجته ... إن كان أسلمها الأصحاب والشّيع
يقول: إن أصحابه أسلموه فإن كره في أعقاب عدوه لم يخذله، فلم يضره خدلان أصحابه وأشياعه إياه. والهاء في أسلمها للمهجة.
ليت الملوك على الأقدار معطيةٌ ... فلم يكن لدنيٍّ عندها طمع
يقول: لو أن الملوك يعطون الناس على أقدارهم، لم يطمع الدنيء في الاتصال بهم والقرب منهم. كأنه يعرض بسيف الدولة، أنه لو كان ينفي الأراذل من جنده لم تتنفق هذه الهزيمة عليه. ويعرض بشعرائه، لأنهم لا يستحقون ما يستحقه من العطاء.
رضيت منهم بأن زرت الوغى فرأوا ... وأن قرعت حبيك البيض فاستمعوا
حبيك البيض: طرائقه.
يقول: كنت رضيت من جندك أن يكونوا نظارة، وإن ضربت الأعداء سمعوا صوت وقع السيف على رءوس الأعداء وبيضهم.
وقيل: إنه تعريض لبعض شعرائه. ومعناه: وقد رضيت منهم أن يحضروا القتلا، وأن يروا ضربك الأعداء، ويستمعوا وقع الصوت على بيضهم، ومن الواجب ألا ترضى منهم بذلك، بل كان يجب أن يضربوا بين يديك، كما أضرب أنا. والأول أظهر.
لقد أباحك غشاً في معاملةٍ ... من كنت منه بغير الصّدق تنتفع
يقول: قد أوسع في الغش معك، في معاملة، من كذبك من نفسه، وأظهر لك غير ما في ضميره، ونافقك في موالاته.
الدّهر معتذرٌ والسّيف منتظرٌ ... وأرضهم لك مصطافٌ ومرتبع
المصطاف: موضع الإقامة في الصيف والمرتبع: في الربيع.
يقول: هذه الهزيمة كانت زلة من الدهر، فهو يعتذر منها إليك، وسيفك ينتظر معاودتك غزوهم، ليتلافى ما فرط، وأرضهم لك تنزلها أيام الصيف والربيع، ولا يقدرون على ردك عنهم، ودفعك عن ديارهم.
وما الجبال لنصرانٍ بحاميةٍ ... ولو تنصّر فيها الأعصم الصّدع
الأعصم: الوعل الذي في إحدى يديه بياض. والصدع: الوعل بين السمين والهزيل. وقيل: الوعل اللطيف الجثة.
يقول: لو التجأت النصارى إلى الجبال لم تمنعهم منك، حتى لو تنصرت الأوعال التي في الجبال لكنت تصطادها بقوتك وتمضي فيها مرادك.
وما حمدتك في هولٍ ثبتّ له ... حتى بولتك والأبطال تمتصع
تمتصع: أي تقتتل يقول: لم أمدحك في شعري إلا بعد أن جربتك وشاهدتك ثباتك في الأهوال، ومضاربتك فيما بين الأبطال.
فقد يظنّ شجاعاً من به خرقٌ ... وقد يعدّ جباناً من به زمع
الخرق: الطيش. والزمع: الروية والعزم، وقيل: هو الثبات، وقيل: رعدة تصيب الرجل عند الغضب.
يقول: لم أمدحك إلا بعد التجربة فقد يحسب الأخرق المتهور في الحروب من غير تدير شجاعا، ويحسب الشجاع إذا قدم بالتدبير والعزم والثبات على الحروب جباناً أو إذا رؤى زمعه وارتعاده من الغضب يظن أنه جبان.(1/258)
إنّ السّلاح جميع النّاس تحمله ... وليس كلّ ذوات المخلب السّبع
كل ذوات المخلب السبع: مبتدأ وخبر. في موضع نصب بخبر ليس، والاسم: مضمر وهو ضمير الأمر والشأن. وقيل: إن ليس ها هنا بمنزلة ما في لغة بني تميم لا ينصب خبرها.
يقول: ليس كل من يحمل السلاح شجاعاً، كما أن ليس كل ذي مخلب أسد، فقد يحمل الجبان السلاح كما يحمله الشجاع، وقد يكون لغير الأسد مخلب، كالكلب والذئب والضبع، كما يكون للأسد.
وتوقف سيف الدولة في الغزاة الصائفة في جمادي الآخرة سنة أربعين وثلاث مئة ببقعة عربسوس على افتراق القرى ثم أصبح صافا يريد سمندو، وقد اتصل به أن العدو بها جامعاً معد في أربعين ألفا، فتهيب جيش سيف الدولة الإقدام عليها، وأحب سيف الدولة المسير إليها، فاعترضه أبو الطيب وأنشده ارتجالا فلما بلغ إلى قوله:
وإن كنت سيف الدّولة العضب فيهم
قال سيف الدولة: قل لهؤلاء وأومأ بيده إلى من حوله من العرب والعجم - يقولوا كما تقول حتى لا ينثني الجيش، فما تجمل أحد منهم بكلمة.
نزور دياراً ما نحبّ لها مغنى ... ونسأل فيها غير سكّانها الإذنا
المغنى: المنزل. والضمير في لها وسكانها للديار.
يقول: نحن نزور دياراً لا نحب مغانيها، لأنها ديار الأعداء، لا ديار الأحباب، وإن كانت هذه ليست بزيارة، غير أن الصورة صورة الزيارة، لأنا لا نريد المقام بها كما يفعل الزائر، ونحن نسأل لدخول هذه الديار الإذن من غير سكانها الذين هم الروم، فنستأذن سيف الدولة، وندخلها بإذنه.
نقود إليها الآخذات لنا المدى ... عليها الكماة المحسنون بها ظنّا
الكناية في إليها ولها للديار، وفي عليها بها للآخذات، والمدى: الغاية. يقال: أخذ هذا الفرس المدى: إذا سبق.
يقول: نقود إلى ديار الروم خيلاً سوابق، عليها شجعان، يحسنون الظن لأنهم جربوها فعرفوها بالجودة.
ونصفي الّذي يكنى أبا الحسن الهوى ... ونرضى الّذي يسمى الإله ولا يكنى
يقول: نصفي الحب للّذي كنيته: أبو الحسن، وهو سيف الدولة، ونرضي الله تعالى، وذلك اسمه، ولا يجوز أن يكنى.
وقد علم الرّوم الشّقيّون أنّنا ... إذا ما تركنا أرضهم خلفنا عدنا
يقول: قد علم الروم الأشقياء أنا إذا ارتحلنا عن ديارهم، عدنا إليها مرة أخرى، ولا نزال نعاودهم حتى نستأصلهم.
وإنّا إذا ما الموت صرّح في الوغى ... لبسنا إلى حاجاتنا الضّرب والطّعنا
صرح: ظهر، وانكشف.
يقول: قد علموا أنا نخوض الضرب والطعن، حتى نصل إلى مرادنا ولا يردنا عنه الموت الصريح.
قصدنا له قصد الحبيب لقاؤه ... إلينا، وقلنا للسّيوف هلمّنّا
الضمير في له يعود إلى الموت. وفي قوله لقاؤه إلى الحبيب.
يقول: إذا ظهر الموت في الحرب قصدنا إليه مسرعين. كما نقصد جيباً نشتهي لقاءه وأشهدنا علينا السيوف، وقلنا لها تعال إلينا. وهلم: اسم للفعل ومعناه: تعال، وهو مركب من فعل وحرف أصلها لم فها تنبه ولم أمر من لم. إذا أتاه والأمر: لم يا رجل. وألم يلم والأمر منه ألمم. ثم جعلا اسماً واحداً. وقيل: هلم فيه لغتان: إحداهما: التسوية بين المذكر والمؤنث والتثنية والجمع.
والثانية: التمييز فتقول: هلما: يا رجلان وهلموا يا رجال، وهلمي يا امرأة. وما في البيت على هذه اللغة، لأنه خطاب للسيوف وأصله هلمي يا سيوف ثم أدخلوا عليه النون الثقيلة فحذفت الياء لسكونها وسكون النون الأولى بعدها فبقي: هلمن فعلى هذا يكون بكسر الميم كما تقول: اضربن يا امرأة. وحكى عن المتنبي أنه كان ينشده بضم الميم، فعلى هذا يكون أجرى السيوف مجرى المذكرين ممن يعقل. كقوله تعالى: " كلّ في فلكٍ يسبحون " ورأيتهم لي ساجدين. وكان أصله هلموا فلما أدخل عليه النون للتأكيد الثقيلة حذفوا الواو؛ لسكونها وسكون النون الأولى، لأن النون الثقيلة كالتنوين.
وخيلٍ حشوناها الأسنّة بعدما ... تكدّسن من هنّا علينا ومن هنّا
حشوناها الأسنّة: أي طعنّاها، وأدخلنا الأسنّة في جلودها، أي رب خيل ملأنا جلودها بالأسنة، بعدما اجتمعن علينا من ها هنا وها هنا، أي من كل جانب. أو من اليمين والشمال، حتى تفرقت عنا مدبرة بين أيدينا.
ضربن إلينا بالسّياط جهالةً ... فلمّا تعارفنا ضربن بها عنّا(1/259)
وروى: فلما تلاقينا وتقارعنا وجهالة: نصب على أنا المفعول له.
يقول: لما رأونا ضربوا خيولهم إلينا؛ لجهلهم بنا، فلما عرفوا أمرنا ولوا عنا، يضربون خيولهم بالسياط للهرب عنا، كما كانوا يضربونها للإقبال علينا.
وقيل: معناه أنهم ظنونا عسكر الروم فأقبلوا نحونا، فلما تحققوا الأمر ولوا عنا هاربين مستحثين خيولهم.
تعدّ القرى والمس بنا الجيش لمسةً ... نبار إلى ما تشتهي يدك اليمنى
تعد: أي تجاوز. والمس بنا: أي اقصد بنا. نبار: أي نسابق أو نسبق. والتاء في تشتهي: للخطاب لسيف الدولة، فيكون يدك منصوباً. وقيل: راجع إلى اليد، فيكون مرفوعاً.
ومعناه: تجاوز قرى الروم، وأعرض عن الإعادة، واقصد بنا جيش الروم، لكي نسبق في طاعتك، وما تشتهيه يدك اليمنى، فنكون أطوع لك منها.
وقيل: معناه أنا نكون كالرماح نسبق السيف في يدك.
فقد بردت فوق اللّقان دماؤهم ... ونحن أناسٌ نتبع البارد السّخنا
بردت: جمدت. واللقان: موضع.
يقول: إذا أردت دماء الذين قتلناهم، فاقصد بنا إليهم، لتجري دماؤهم الآن، لأنا قوم نتبع البارد. الحار.
وإن كنت سيف الدولة العضب فيهم ... فدعنا نكن قبل الضّراب القنا اللّدنا
يقول: إن كنت سيفاً قاطعاً ماضياً في الروم، فاجعلنا أرماحاً لينة، لنسبق ضربك، أي قدمنا أولاً إلى الحرب، فنكون مثل الرماح، يبدأ بها في القتال فإذا كسرت وآل أمرها إلى الضراب، رجعت النوبة إليك؛ لأنك سيف قاطع، ومثله:
فلمّا أن توافينا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا
فلمّا لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا
فنحن الألى لا نأتلي لك نصرةً ... وأنت الّذي لو أنّه وحده أغنى
الألى: بمعنى الذين. لا نأتلي: أي لا نقصر. ونصرة: نصب على التمييز. وقيل: أصله في نصرة ثم حذف حرف الجر، وأوصله إلى ما بعده فنصبه.
يقول: نحن لا نقصر في نصرتك، مع أنك لا تحتاج إلى نصرة أحد، بل في غنائك ما يكفي كل الأعداء.
يقيك الرّدى من يبتغي عندك العلا ... ومن قال: لا أرضى من العيش بالأدنى
يقول: من طلب عندك العلا صار وقاية لك، وجعله الله فداء لك، وكذلك من لا يرضى بالأدنى من العيش، وطلب أقصاه، يقيك الهلاك بنفسه، فإنه لا يدرك منا إلا بك في حياتك.
يعني: إذا كنا نطلب عندك العلو وصفو العيش، فلا بد أن نتقدمك في الحرب، ونجعل نفوسنا وقاية لك، وإن كنت تغتني عنا بنفسك.
فلولاك لم تجر الدّماء ولا اللها ... ولم يك للدّنيا ولا أهلها معنى
القياس: فلولا أنت. كقوله تعالى: " لَوْلاَ أَنْتُم لَكُنَّا مًؤْمِنين " لأن الاسم بعد لولا مبتدأ، فإذا وقع الضمير بعدها، يجب أن يكون ضمير رفع منفصل، ولكنه أقام ضمير المجرور مقام المرفوع، واللها: الدراهم والدنانير.
يقول: الدماء كلها تجري بسيفك، والعطايا تجري على يديك، وأنت معنى الدنيا وزينة أهلها، فلولا أنت لم يكن للدنيا ولا لأهلها معنى، ولم يكن شجاعة ولا جود.
وما الخوف إلا ما تخوّفه الفتى ... ولا الأمن إلاّ ما رآه الفتى أمنا
تخوفه: أي يخافه.
يقول: الخوف والأمن، ما تصوره الإنسان في نفسه، فإذا تصور في الشيء أنه مخوف خافة، وإن لم يكن مخوفاً وإذا تصور في نفسه أن الشيء مأمون أمن منه، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة، وفيه حث على قتال الروم، ومنع من الخوف منهم.
وقال أيضاً يمدحه ويذكر هذه الغزاة وأنه لم يتم له قصد خرشنة؛ بسبب الثلوج وهجوم الشتاء.
عواذل ذات الخال فيّ حواسد ... وإنّ ضجيع الخود منّي لماجد
الخال: قيل هو الخيلاء، أي ذات الخيلاء. وقيل أراد به: الخال الذي يكون في الخد، مثل الشامة وجمعة خيلان. والخود: الناعمة الحسنة الخلق. والماجد: الكثير الشرف، وكنى به عن العفيف.
يقول: إن النساء اللواتي يعذلن هذه الجارية ذات الخال في وصلها إياي لسن بعواذل في الحقيقة، وإنما هن الحواسد، يحسدونها علي، بحبي إياها. ثم استأنف وقال: إن ضجيع الخود مني لماجد أي إذا ضاجعتها عففت عنها، ولم ينلها من جهتي عار. وأراد بالضجيع نفسه وهمته ولهذا قال منى أي أن الذي يضاجعها منى ماجد عفيف.
يردّ بداً عن ثوبها وهو قادرٌ ... ويعصى الهوى في طيفها وهو راقد(1/260)
فاعل يرد ضمير الضجيع، وكذلك جميع الكنايات تعود إليه.
يقول: إذا خلوت معها رددت يدي عنها وأمسكتها عن ثوبها، ولو أردت لقدرت منها على ما اشتهيت، وإذا رأيت طيفها في النوم عصيت الهوى فيه، وعففت عنه، فحالي في النوم مع الطيف كحالي في اليقظة معها.
ومعناه: أن الفاحشة لا تخطر ببالي لاستعمال العفة في اليقظة، لأن الإنسان إنما يرى في المنام ما حدثته به نفسه في حال اليقظة، وأخذ منه التهامي هذا المعنى فقال:
إذا ما أراد الطّيف تقبيل ثغره ... ثنى وجهه عن لثمه بلثامه
فكيف يرجّى منه حال انتباهه ... حنوّاً، فهذا فعله في منامه
متى يشتفي من لاعج الشّوق في الحشى ... محبّ لها في قربه متباعد
لاعج الشوق محرقه، وفاعل يشتفي محب.
يقول: متى يشتفي العاشق من شوقه المحرق له، إذا كان في حال قربه من الحبيب متباعد منه. يعني أن العاشق إنما يداوي شوقه بلقاء حبيبه، فإذا باعده أيام قربه لم يشتف منه.
إذا كنت تخشى العار في كلّ خلوةٍ ... فلم تتصبّاك الحسان الخرائد؟!
تتصباك تستميل قلبك. وقيل: تحملك على الصبي. وتعرضك له، والخريدة: الجارية الناعمة.
يخاطب نفسه ويقول: إذا كنت تختار العفاف في كل خلوة وتعد القرب من الحسان عاراً، فلماذا تعشقك النساء الحسان؟! ومالك والتعرض للهوى! وقريب منه:
من راقب النّاس مات غمّاً ... وفاز باللّذة الجسور
ألحّ عليّ السّقم حتّى ألفته ... وملّ طبيبي جانبي والعوائد
ألح دام والعوائد جمع العائد؛ وخص النساء لأنهن أعطف قلوباً، وأدوم على العيادة، فإذا ملت النساء من العيادة فالرجال أكثر ملالاً.
يقول: إن السقم قد لازمني حتى ألفته واستأنست به، وحتى ملني الطبيب والعوائد وأسلموني لما بي.
مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي، وهل تشجو الجياد المعاهد؟!
تشجو أي تحزن والجياد مفعوله والمعاهد الفاعل. وهي المنازل، والواحد معهد.
يقول: مررت بدار الحبيب فعرفت جوادي، فحمحمت لما تذكرت أيامها حين، كنت أزور الحبيب عليها. ثم تعجب وقال: كأن الجياد أيضاً تشتاق إلى الديار! وتشجوها المنازل ومفارقة الأحباب! ثم رجع عن التعجب في البيت الذي بعده.
وما تنكر الدّهماء من رسم منزلٍ ... سقتها ضريب الشّول فيها الولائد؟
الدهماء الفرس السوداء، وهي الجواد المذكورة قبل، والضريب: اللبن الخاثر والشول: جما شائل وهي الناقة التي قل لبنها، وذلك أحمد اللبن، وألطفه، والهاء في فيه للمنزل. والوليدة: الأمة والخادمة.
يقول: كيف تنكر فرسي أثر الموضع التي كانت الولائد تسقيها اللبن فيه من الشول حتى اعتادت ذلك؟ أي كان من الواجب عليها أن تعرف ذلك، وتحزن لفراق هذا المنزل.
أهمّ بشيٍ واللّيالي كأنّها ... تطاردني عن كونه وأطارد
أهم بشيء: أي عزم عليه وأريده. والمطاردة: المحاربة. وقوله: أطارد فيه محذوف، أي وأطاردها عن كونه، وأخبر عما يهم به بالنكرة، ليكون أعظم في النفوس.
يقول: إني أحاول أمراً عظيماً وأريد أن أحصل مرادي فيه، والأيام تدافع عنه وتحاربني عليه. ومثله لآخر:
يطردني دهري وأحداثه ... عن كون ما أبغي وما أطلب
وما ينال المرء مأموله ... ودهره عنه به يهرب
وحيداً من الخلاّن في كلّ بلدةٍ ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
نصب وحيداً على الحال في الضمير الذي في أطارد أي أطارد الليالي وحيداً. وروى: مرفوعاً، فيكون خبر ابتداء محذوف. أي أنا وحيد.
يقول: أحاول أمراً عظيماً وأنا وحيد فالليالي تدافعني عنه، ولا أجد خليلاً يساعدني عليه، والمطلوب إذا كان عظيماً قل من أن يساعد طالبه.
وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ لها منها عليها شواهد
وروى: تساعدني، وهو معنى تسعدني والشواهد: الدلائل والهاء في لها وعليها ومنها للسبوح.(1/261)
يقول: يساعدني فيما أطلبه فرسي السبوح، وتقتحم معي الغمرات والشدائد، مرة بعد مرة، ثم وصف فرسه فقال: لها منها عليها شواهد أي لها من خلقها شواهد على عتقها. يعني إذا نظرت إلى حسن أعضائها استدللت على كرمها. وقيل: إن الضمير في لها للسبوح وفي منها وعليها للغمرة. يعني بهذه الفرس شواهد من هذه الغمرة التي خاضتها، وهذه الشواهد التي لها، تشهد على الغمرة بأنها قد خاضتها، وهي آثار الطعن.
وعيب عليه في الجمع بين حروف الجر، والكنايات المتناسبة ولا مطعن عليه. ومثله: في القرآن العظيم قوله تعالى: " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا "، " وَلِيَ فِيهَا مآرِبُ أَخْرَى " وفي الشعر قول الكميت:
إنّ ابن حزم عمرو من ذوى كرمٍ ... لي فيه منه علاماتٌ وآثار
تثنّى على قدر الطّعان كأنّما ... مفاصلها تحت الرّماح مراود
المراود جمع مرود، وهو الحلقة التي في رسن الدابة، يكون فيها مسمار يدور عليها ذلك، فذلك المسمار هو المرود.
يقول: إنها تتمايل وتتصرف بفارسها عند المطاعنه، على حسب ما يحتاج إليه الفارس، فكأن مفاصلها تحت الرماح: المرود الذي يدور في الحلقة، أو تدور الحلقة حيثما أديرت.
وقيل: المرود: هو الذي يكحل به، وهو الميل. فيكون من باب المقلوب ومعناه: كأن الرماح تحت مفاصلها المراود.
والمقصد في الوجهين وصفها بلين المفاصل، وجودة الانعطاف عند الجولان والطعان.
وأورد نفسي والمهنّد في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد
والمهند السيف المطبوع، على مثال سيوف الهند. من لا يجالد أي من لا يحارب، ولا يجيد الضرب بالسيف.
يقول: إني أورد نفسي - وسيفي في يدي - موارد الحرب التي لا يسلم منها إلا كل شجاع فاتك مجيد الضرب.
ولكن إذا لم يجمل القلب كفّه ... على حالةٍ لم يحمل الكفّ ساعد
الهاء في كفه يعود إلى من في قوله: من لا يجالد.
يقول: الرجل إذا لم يكن له قلب يحمل كفه لم يحملها ساعده، لأن القوة والشجاعة من القلب.
خليليّ إنّي لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدّعوى منّى القصائد؟
يقول: كلمن أرى يدعي أنه شاعر، ولكنما بلهم اقتصروا على مجرد الدعوى، ولم يشاركوني في المعنى كما يشاركوني في الاسم.
فلا تعجبا؛ إنّ السّيوف كثيرةٌ ... ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد
يقول: لا تعجبا من حالنا، فأنا واحد في الشعر، وغيري مدع، كما أن السيوف كثيرة، وليس شيء، منها كسيف الدولة، فهو واحد بين السيوف. يعني أنه في الشعر كسيف الدولة في الأمراء، وقوله: اليوم زائدة.
له من كريم الطّبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصّفح غامد
يقول: الكرم يبعثه على المحاماة في الحرب والذب، فينتضى من غمده على الأعادي، وله عادة الإحسان والصفح عن المذنب. وذلك يحثه على العفو.
ولمّا رأيت النّاس دون محلّه ... تيقّنت أنّ الدّهر للنّاس ناقد
يقول: لما رأيت سيف الدولة أعلى الناس محلا، ورأيتهم دونه، علمت أن الدهر ناقد، ينزل كل أحد منزلته.
أحقّهم بالسّيف من ضرب الطّلى ... وبالأمر من هانت عله الشّدائد
يقول: أحق الناس بأن يسمى سيفا: من يضرب رقاب الأعداء، فيعمل عمل السيف، وأولاهم بالأمر والنهي: من تسهل عليه شدائد الزمان، وليس كذلك إلا سيف الدولة، فلهذا اختص بهذا الاسم، وتفرد بالأمر والنهي.
وقيل: معناه أحقهم بأن يكون صاحب السيف، من يضرب رقاب الأعداء ومن يتحمل شدائد الدهر، أولى بالأمر. وروى: بالأمن بالنون.
وأشقى بلاد الله ما الّروم أهلها ... بهذا وما فيها لمجدك جاحد
ما الأولى: بمعنى الذي أي الروم أهلها. وما الثانية: للنفي. والضمير في أهلها وفيها يعود إلى معنى ما الأولى، لأنه بمعنى البلدة والأرض. ولمجدك جاحد هذا مثل قوله تعالى: " حَتَّى إذا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْن بِهم " ومثل قول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام
استفهم أولا عن الغائب، ثم عدل إلى الخطاب.
وفي إعراب البيت خلل، لأنه إن حمل على أنه فصل بين أفعل، وما هو من تمامه، بخبر الابتداء، وهو قبيح، لأنه قال: أشقى بلاد الله ما الروم أهلها بهذا.
وتأويله: أن قوله: بهذا متعلق بمحذوف يدل عليه أشقى، أي شقوا بهذا.(1/262)
المعنى: أشقى البلاد بك بلاد الروم، وأهلها أشقى الناس بك، لأنها أبداً بك تخرب بلادهم، وتغير عليهم وتسبي نساءهم، وأهليهم، وهممع ذلك يقرون بفضلك، وشرفك حتى ليس فيهم أحد ينكر ذلك.
شننت بها الغارات حتّى تركتها ... وجفن الّذي خلف الفرنجة ساهد
شننت أي فرقت بها أي بالروم. والغارات هي التي تغير عليها. والفرنجة ناحية بأقصى بلاد الروم، تجاور الأندلس. وقيل: خلف الفرنجة أراد به قسطنطينية، وهي وراء الفرنجة. وأراد بالذي ملك الروم أو ملك الفرنجة. يعني أغرت على بلاد الروم وعممتها بخيلك وسراياك، حتى صاحب الفرنجة، أو ملك الروم، لا تنام عينه خوفاً منك.
مخضّبة والقوم صرعى كأنّها ... وإن لم يكونوا ساجدين، مساجد
مخضبة نصب على الحال. أي شنت بها الغارات، وسفكت فيها الدماء، حتى خضبت الأرض بدماء القتلى، فكأن الأرض مساجد مخلقه، والقوم الصرعى فيها، كأنهم ساجدون، وإن لم يكونوا سجوداً في الحقيقة.
شبه الدم بالخلوق الذي يكون في المساجد.
تنكّسهم والسّابقات جبالهم ... وتطعن فيهم والرّماح المكايد
قال الليث: طعنه بالرمح يطعنه طعناً، وطعنه بالقول يطعنه طعاناً، ففرق بينهما في المصدر، وأما في المستقبل فمضموم العين. وقيل: يجوز طعاناً في الرمح أيضاً. وعن الليث عن بعضهم: يطعن بالرمح ويطعن بالقول. قال: وكلاهما يطعن. ومثله للكسائي بالضم فيهما. قال الفراء: سمعت يطعن بالرمح. ونكست الفارس عن فرسه: إذا طرحته عنه، على رأسه.
يقول: تحصنوا بالجبال فراراً منك، فطاعنتهم برماح كيدك، حتى نكستهم عن رءوس الجبال، التي هي كالخيور لهم.
وقيل: أراد بالسابقات الخيل نفسها، أي تقلب بالقتل عن أفراسهم التي هي كالجبال الحصينة، ويصل طعنك إليهم، والذي يوصله إليهم هو رماح المكايد والتدابير. والأول هو الوجه.
وروى والسابقات حبالهم بالحاء. أي حبالك التي تصطادهم بها: خيلك. ومكايدك: رماحك تطعنهم بها.
وتضربهم هبراً وقد سكنوا الكدى ... كما سكنت بطن التّراب الأساود
الهبر: أن يقطع اللحم ويبينه عن الجسم يقال: يضرب هبراً. أي يقطع. وقيل: هو تجاوز الضريبه والكدى جمع الكدية، وهي الأرض الصلبة. والأساود جمع الأسود وهي الحية السوداء.
يقول: فروا منك إلى المغارات والمطامير ودخلوا تحت الأرض كالحية السوداء، فأخرجتهم منها وقتلتهم.
وقيل: معناه ضربتهم هبراً حتى دخلوا الكدى، خوفا منك، فاستتروا بالمطامير، كالحيات تحت التراب.
وقيل: إن سيف الدولة أسرهم وأدخلهم المطامير.
وقيل: أراد بالكدى القلاع والحصون.
وتضحى الحصون المشمخّرات في الذّرى ... وخيلك في أعناقهن قلائد
الذرى: رءوس الجبال، الواحد: ذروة. يعني أن خيلك تصعد رءوس الجبال، فتحيط بحصونهم إحاطة القلائد بالأعناق.
عصفن بهم يوم اللّقان وسقتهم ... بهنزيط حتّى أبيضّ بالسّبي آمد
عصفن بهم أي هلكنهم، والكناية للخيل. وفي بهم للروم، وكذلك ناحية الأرض، من وراء آمد، لأنه ذهب به مذهب البلد أو الموضع، ولأن التأنيث إذا كان غير حقيقي يجوز تذكيره.
يقول: إن خيلك أهلكتهم يوم اللقان، ثم قدت خيلك إلى هنزيط حتى أغرن عليها وسببن ذراريهم ونساءهم، ثم عدت إلى آمد. حتى ابيضت من كثرة السبي الذي ملأها، لأن أهل الروم بيض الألوان وآمد سورها مبني بالحجارة السود، وكذلك دورها كلها سود.
وألحقن بالصّفصاف سابور فانهوى ... وذاق الرّدى أهلاهما والجلامد
الصفصاف وسابور حصنان. وانهوى أي سقط، والجلامد: الصخور.
يقول: ألحقت خيلك سابور بالصفصاف، لأنها هدمت الصفصاف أولا، ثم ألحقت سابور بها في الهدم والإخراب، وذاق أهلاهما، وصخورهما الهلاك.
وغلّس في الوادي بهنّ مشيّعٌ ... مبارك ما تحت اللّثامين عابد(1/263)
الضمير في بهن للخيل. وفاعل غلس: مشيع أي جرى، شجاع يشيعه قلبه، ومبارك. بدل من المشيع، وما تحت اللثامين الوجه. أي مبارك الوجه، ميمون النقية. واللثامان: أحدهما، لثام الفم، والآخر لثام الأنف وقيل: أراد بهما الشيب، واللثام المعهود. وقيل: الغبار واللثام. وقيل: تلثم بلثامين. وقيل، أحدهما لثام الفم، الذي هو طرف العمامة، والآخر لثام البيضة. أي سار بخيله بالغلس في الوادي، وهو شجاع مبارك الوجه، عابد متورع، أو لأنه جهاد وغزو، فجميع ما يفعله طاعة وعبادة.
فتىً يشتهي طول البلاد ووقته ... تضيق به أوقاته والمقاصد
ووقته جر عطفاً على البلاد وفتى بدل من مشيع وما بعده صفة له.
يقول: هو يتمنى طول البلاد التي يقتحمها، أو يتمنى طولها، لتسع جيشه، ويتمنى طول وقته: أي طول عمره، ليدرك غاية همه، فأوقاته تضيق به، لأنه يطلب غاية لا تتسع لها الأوقات، وجيشه عظيم ضاقت عليه البلاد، وقوله: تضيق به يجوز أن يكون حالاً من يشتهى أي يشتهي به ضائقاً به أوقاته، ويجوز أن يكون خبراً آخر كما كان يشتهي خبراً وجميعه صفة للفتى، وهو في موضع رفع، وهذا أولى.
أخو غزواتٍ ما تغبّ سيوفه ... رقابهم إلاّ وسيحان جامد
أخو غزات نعت لفتى وقيل: خبر ابتداء محذوف: أي هو أخو غزوات. ما تغب أي ما تقصر وما تتأخر وسيحان نهر في بلاد الروم. وقيل بحر.
يقول: هو أبداً يغزوهم ويسفك دماءهم ولا يرجع عن بلادهم، إلا عند شدة البرد وجمد الماء، وإن حملته على البحر كان معناه: أن سيوفه لا تغب رقابهم أبداً، لأن البحر لا يجمد، فعلق ذلك بأمر محال.
فلم يبق إلاّ من حماها من الظّبي ... لمى شفتيها والثّديّ النّواهد
الضمير في حماها راجع إلى معنى من إذ المراد به المرأة المسبيه.
يقول: لم يبق من الروم إلا نساؤهم الحسان الوجوه اللمى الشفاة، حماها من السيوف حسنهن وملاحتهن، ونهود ثديهن، فسبين ولم يقتلن.
يبكّى عليهنّ البطاريق في الدّجى ... وهنّ لدينا ملقياتٌ كواسد
يقول: إن النساء اللاتي سبيناهن، بنات الكبار من الروم ونساؤهم؛ فهم يبكون عليهن، عندما يخلون بأنفسهم في ظلمة الليل، لأنهن أقاربهم، وهو مع ذلك عندنا مهانات ملقيات كواسد، لا يلتفت إليهن لكثرتهن.
بذا قضت الأيام ما بين أهلها: ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد
بذا إشارة إلى ما وصفه فيما تقدم، وقيل: إشارة إلى الحال، وهو يذكر ويؤنث.
يقول: هكذا حكم الأيام فيما بين الناس. أن يجعل مصيبة قوم فائدة لقوم؛ لأن هذه السبايا لنا فوائد، وعلى أهلها مصائب.
ومن شرف الإقدام أنّك فيهم ... على القتل موموقٌ كأنّك شاكر
الموموق المحبوب، من ومقته. والشاكد المعطى.
يقول: شرف الشجاعة أنك تقتلهم، وهم يحبونك! كأنك تعطيهم وتحسن إليهم.
وأنّ دماً أجريته بك فاخرٌ ... وأنّ فؤاداً رعته لك حامد
وأن بالفتح عطفا على قوله: أنك فيهم يقول: من شرف الإقدام أن كل دم تجريه يفتخر بك، وكل إنسان قتلته أكسبته شرفاً، وكل فؤاد خوفته وملأته خوفاً يحمدك ويثنى عليك؛ لما يرى من شجاعتك وإقدامك ومثله لآخر:
فإن أك مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
وكلّ يرى طرق الشّجاعة والنّدى ... ولكنّ طبع النّفس للنّفس قائد
يقول: كل أحد يعرف فضل الشجاعة والسخاء ويعرف الطريق إليهما، ولكن طبع اللئيم يقوده إلى الجبن والبخل، وطبع الكريم يحثه على الشجاعة والبذل، فطبع كل إنسان يقوده إلى ما يميل إليه، إذ الإنسان طوع الطبع.
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدّنيا بأنّك خالد
يقول نهبت من أعمار الأعداء ما لو جمعته وملكته، وزيد في عمرك، لبقيت في الدنيا خالداً دائماً.
وفيه إشارة إلى أن الدنيا مسرورة بكونه فيها، فلو رزق هذه الأعمار، لدام سرورها، وفيه مدح من وجهين: أحدهما: وصفه بالشجاعة المؤدية إلى قتل جماعة الأعداء.
والثاني: أن سرور الدنيا ببقائه، إذ هو زينتها. وقيل: معناه لهنئ أهل الدنيا. حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " واسْألِ القَرْية " أي أهل القرية.
فأنت حسام الملك والله ضاربٌ ... وأنت لواء الدّين والله عاقد(1/264)
يقول: أنت سيف الملك، وهو ملك بني العباس، لكن الله تعالى يضرب بك أي ينصرك ويسلطك على الأعداء، وأنت لواء الدين: يعني أنت تظهر شعاره، وتدعو الناس إليه، والله يعقد هذا اللواء؛ لأن ما يعقده الله لا يقدر أحد على حله.
وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه ... تشابه مولودٌ كريمٌ ووالد
أبو الهيجاء: أبو سيف الدولة.
يقول: أنت أبوك. أي تشبهه في أفعاله وأخلاقه، يا ابنه نداء لسيف الدولة، معناه: يا ابن أبي الهيجاء أشبهته وأشبهك، فالمولود الكريم، ووالده متشابهان، في الأخلاق والأفعال.
وحمدان حمدونٌ، وحمدون حارثٌ ... وحارث لقمانٌ، ولقمان راشد
حمدان جد سيف الدولة. وحمدون جد أبيه، وكذلك ما بعده.
يعني: أنك أشبهت أباك، وأبوك أشبه جدك، وجدك أشبه أباه، فكل واحد منكم يشب أباه إلى الجد الأكبر، في الكرم والخصال.
وطعن الصاحب لإيراده لقطة حمدان وحمدون. وليس فيه مطعن لأنه لم يمكنه أن يغير اسم آبائه وأجداده، وأن يجعل مكانة لفظة حسنة يخترعها.
أولئك أنياب الخلافة كلّها ... وسائر أملاك البلاد الزّوائد
الأنياب جمع الناب. والزوائد ما زاد على الأسنان المعروفة في الفم، وقيل: إنما جعلهم أنياب الخلافة، لأن ذوات الأنياب يسطون بها، وكان الخلفاء يسطون بهم على أعدائهم، وجعل غيرهم من الملوك كالزوائد، لا يحتاج إليها، بل يتأذى بها، فكأنه قال: أنت وآباؤك الأمراء حقاً، وأنتم للخلافة كأنياب يذبون عنها، وغيركم التي لا خير فيها.
أحبّك يا شمس الزّمان وبدره ... وإن لامني فيك السّها والفراقد
جعله كالشمس وكالبدر. يعني أن الشمس تضيء النهار، والبدر يضيء الليل، وأنت قد جمعت معنيين فاستحققت الاسمين، وجعل غيره من الملوك إلى جنبه كالسها والفرقدين لأن السها: نجم حفي لا يكاد يراه إلا حاد البصر، والفرقدان: نجمان خفيان أيضاً، من بنات نعش الصغرى، وأتى بلفظ الفرقدين، وما حولهما من الكواكب، وقيل: أقام لفظ الجمع مكان لفظ التثنية.
وذاك لأنّ الفضل عندك باهرٌ ... وليس لأنّ العيش عندك بارد
باهر: أي ظاهر غالب، وبارد: أي طيب.
يقول: أحبك لفضلك، لا لما أناله من طيب العيش عندك، لأن ذلك يحصل في كل موضع.
فإنّ قليل الحبّ بالعقل صالحٌ ... وإن كثير الحبّ بالجهل فاسد
يقول مؤكداً لقوله: أحبك يا شمس الزمان، وإن القليل من المحبة مع العقل ينتفع بها، فأنا أحبك بالعقل، فإن قدرت أن محبتي لك قليلة، ولكنها لما كانت مع العقل كانت أنفع من محبة الجاهل إياك؛ لأن العاقل إنما يجب الإنسان لما يرى من فضله، فمحبته دائمة لذي الفضل، وأن الكثير من المحبة مع الجهل، فاسد لا أصل له، لأن الجاهل إنما يحب الإنسان للطمع، فإذا انقطع انقطعت المحبة، فغيري من الشعراء وإن كان يظهر لك من نفسه حباً كثيراً؛ فحبه لما كان مع الجهل ليس فيه طائل ومنه قوله:
يحبّ العاقلون على التّصافي ... وحبّ الجاهلين على الوسام
وقيل: أراد أنت تحبني محبة قليلة، وغيرك من الملوك يحبونني كثيراً، غير أن محبتك مع العقل، فإنك تعرف فضلي ومحبتهم مشوبة بالجهل بفضلي، والقليل من الحب إذا كان مع العقل، أصلح من الحب الكثير إذا كان مع الجهل.
وقال يمدحه ويعزيه بغلامه التركي يماك، وقد توفي في سحر يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر رمضان سنة أربعين وثلاث مئة.
لا يحزن الله الأمير فإنّني ... لآخذ من حالاته بنصيب
لا حزن الأمير، فإني أشاركه في أحواله. إذا حزن حزنت لأجل حزنه، وإذا سر شاركته في السرور، وهذا معنى قوله: لآخذ من حالاته بنصيب. فكأنه دعاء لنفسه. كما تقول: حرس الله على نعمه ببقائك. وهذا إشارة إلى خلوص الدعاء له وصفاء النية في حبه.
ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسىً ... بكى بعيونٍ سرّها وقلوب
أسى في موضع نصب، لأنه مفعول له. وقيل: تمييز. والهاء في سرها للعيون وقلوب سرها، فحذف لدلالة الأول عليه.
يقول: من سر الناس كلهم بإحسانه إليهم، ثم بكى لحزن أصابه، ساء بكاؤه الذين سرهم، فكأنه يبكي بعيونهم ويحزن بقلوبهم، ومثله لآخر:
عمّت فواضله فعمّ مصابه ... فالنّاس فيه كلّهم مأجور(1/265)
وقيل: معناه أن من سر أهل الأرض، إذا بكى لزم كل من سره أن يشاركه على بكائه، حتى تتحقق المحبة التي يقتضيها سرورهم بفعله، وهذا قريب من الأول ومعناه: أنهم شاركوه في حزنه، كما شاركوه في سروره. ومثله ليزيد بن محمد:
أشركتمونا جميعاً في سروركم ... فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف
وإنّي وإن كان الدّفين حبيبه ... حبيبٌ إلى قلبي حبيب حبيبي
يقول: أنا أحب سيف الدولة، وهذا المدفون حبيبه، فهو إذاً حبيب حبيبي فمن كان حبيب حبيبي فهو حبيب إلى قلبي، فكيف لا أحزن عليه؟!.
وقد فارق النّاس الأحبّة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كلّ طبيب
أعيا: أي أعجز.
يقول: قد فارق الناس قبلك أحبتهم، وذاقوا ألم الفراق، فليس هذا بأول حبيب فارق حبيبه.
سبقنا إلى الدّنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئةٍ وذهوب
يقول: لو عاش من كان قبلنا في الدنيا، لضاقت الدنيا علينا، ومنعنا لكثرة أهلها عن المجيء والذهاب، والتصرف فيها.
تملّكها الآتي تملّك سالبٍ ... وفارقها الماضي فراق سليب
السالب: الآخذ مال غيره قهراً والسليب: المسلوب.
يقول: إن هذه الدنيا كانت في يد السابق، ثم تنتقل إلى من يأتي بعده، فكأن الآتي سلبها من الماضي، فجعل الوارث الآتي سالباً، والميت الماضي مسلوباً والإرث سلباً.
ولا فضل فيها للشّجاعة والنّدى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
شعوب: اسم الموت، معرفة لا يدخلها التعريف؛ لأنه اسم علم للمنية، فقد اجتمع فيه التأنيث والتعريف.
يقول: لولا خوف الموت، لكان لا يظهر فضل الشجاعة والسخاء والصبر؛ لأن الإنسان إنما جبن خوفاً من القتل، وإذا علم أنه لا يموت ارتفع الجبن، كذلك البخيل، إنما يبخل لأنه يخاف أن تبلغ به الحاجة إلى الموت، فإذا أيقن بالخلود، فقد سمحت نفسه بما في يده، لأنه آمن من الهلاك، ويرجو أن يكتسب فيما يأتي من الزمان، وكذلك من جرح فإنما يجزع خوفاً من الموت، فإذا علم أنه لا يموت، لا فضل لصبره، وفي الموت هذه الحكمة والصلاح.
وأوفى حياة الغابرين لصاحبٍ ... حياة امرئٍ خانته بعد مشيب
أوفى: أفعل من الوفاء.
يقول: الحياة لا بد لها من النفاد، وآخر غاياتها المشيب، فإذا دام الإنسان حتى يبلغ المشيب، فقد بلغ غاية الحياة، ثم تخونه هذه الحياة في الوفاء له، فأوفى الحياة، هي الحياة التي تخون صاحبها عند المشيب.
لأبقى يماكٌ في حشاي صبابةً ... إلى كلّ تركيّ النّجار جليب
اللام في قوله: لأبقى في جواب قسم مضمر، أي والله لأبقى. وقيل: اللام للتأكيد. والنجار: الأصل، وهو اللون أيضاً. وجليب: أي مجلوب، وروى في حشاي جراحة.
يقول: إني رأيت من نجابة يماك، وحسن أخلاقه وطاعته لمولاه، ما ترك في قلبي محبة لكل تركي مجلوب من بلاد الترك.
وما كل وجهٍ أبيضٍ بمباركٍ ... ولا كلّ جفنٍ ضيّق بنجيب
يقول: إني كنت أشتاق إلى تركي، وأعلم أنه لا يشبهه في نجابته وكرامته، إذ ليس كل وجه أبيض مباركاً، وكل جفن ضيق نجيباً.
وقيل: إنه رجع عما قبله من الاشتياق إلى كل تركي، إذ ليس لكل أحد من الخصال ما فيه.
لئن ظهرت فينا عليه كآبةٌ ... لقد ظهرت في حدّ كلّ قضيب
الكآبة: الحزن، والقضيب: ها هنا هو السيف.
يقول: إن ظهر علينا الحزن لموته، فقد ظهر أيضاً في السيوف، لفقدها من يضرب بها وطول لبثها في غمودها بعد موته.
وفي كلّ قوسٍ كلّ يومٍ تناضلٌ ... وفي كلّ طرفٍ كلّ يوم ركوب
التناضل: الترامي بالسهام. والطرف: الفرس الكريم.
يقول: ظهرت الكآبة أيضاً في القوس والفرس.
يعزّ عليه أن يخلّ بعادةٍ ... وتدعو لأمرٍ وهو غير مجيب
روى بعادة أي بعادة من عادات خدمتك. وروى بغارة يقول: يشتد على هذا الميت أن يخل بعادة من عادات خدمتك، أو يخل بغارة من غاراتك، وأن تدعوه لأمر وهو لا يجيبك، لكن به ما منعه عن ذلك.
وكنت إذا أبصرته لك قائماً ... نظرت إلى ذي لبدتين أديب
لبدة الأسد: ما تلبد من الشعر على عاتقه.
يقول: كنت إذا رأيته قائماً بين يديك في الخدمة، رأيت أسداً له عقل وأدب. يعني أن الأسد شجاع لا عقل له ولا أدب. وهذا قد جمع الشجاعة والعقل والأدب، فهو أفضل من الأسد.(1/266)
فإن يكن العلق النّفيس فقدته ... فمن كفّ متلافٍ أغرّ وهوب
العلق خبر يكن والنفيس نعت له، واسمه مضمر. أي إن يك يماك العلق النفيس. يعني إن كان هذا العبد علقاً نفسياً فقدته، فلا تأسف عليه، لأنك مالك، ومن عادتك إتلاف الأموال وهبة الأعلاق.
كأنّ الرّدى غادٍ على كلّ ماجدٍ ... لم يعوّذ مجده بعيوب
روى عاد أي ظالم. وروى من الغداة.
يقول: كأن الهلاك يتسلط على ماجد، إلى لم يجعل لمجده عوذة من العيب، تقيه عين الحساد، ومثله الكشاجم:
شخص الأنام لحسن وجهك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيبٍ واحد
ولولا أيادي الدّهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب
يقول: إن كان الدهر قد أساء في التفريق بين الأحبة، فقد تقدم إحسانه في الجمع بينهم، فلولا ما سبق من إحسانه في الجمع بيننا وبين الأحبة، لما شعرنا بذنوبه في تفريقه شملنا، ولم نعد ذلك عليه ذنبا.
وللتّرك للإحسان خيرٌ لمحسنٍ ... إذا جعل الإحسان غير ربيب
ربيب: بمعنى مربوب، وربى الإحسان إذا رباه.
يقول: الدهر أحسن أولاً ثم أفسد إحسانه آخراً، وترك الإحسان ابتداء، خير من أن يبتدئ به ثم لا يربيه بالمداومة عليه.
ورجع في هذا البيت إلى ذم الدهر.
وإنّ الذي أمست نزارٌ عبيده ... غنيّ عن استعباده لغريب
يقول: إنك ملكت نزاراً كلها بإحسانك، واستعبدتهم بفضلك، وهم قومك وعشيرتك، فلا حاجة بك إلى استعباد عبد غريب.
كفى بصفاء الودّ رقّاً لمثله ... وبالقرب منه مفخراً للبيب
بين كيفية استعباده لنزار: أي هم عبيدك بالطاعة وصفاء المودة، وكفى بصفاء المودة منهم رقاً لك، فلا تريد منهم إلا أن تصفوا لك المودة، وكفى بالقرب منك فخر لمن كان لبيباً.
فعوّض سيف الدّولة الأجر إنّه ... أجلّ مثابٍ من أجلّ مثيب
الهاء في إنه يعود إلى سيف الدولة، والمثاب: هو سيف الدولة أيضاً.
يقول: عوض سيف الدولة الأجر، على جهة الدعاء أي عوض الله ذلك أجل من أثيب الأجر، والله أجل مثيب.
وقيل: إن الهاء للأجر، أي إن الأجر أجل مثاب، أي أجل ثواب من أجل مثيب، وهو الله تعالى، والمثاب على هذا: مصدر كالإثابة.
فتى الخيل قد بلّ النّجيع نحورها ... يطاعن في ضنك المقام عصيب
النجيع: قيل: هو الدم الطري على الإطلاق، وقيل: دم الجوف والضنك: الضيق. والعصيب: الشديد الصعب. وروى يطاعن: أي فتى الخيل يطاعن وروى: تطاعن أي تتطاعن.
يقول: هو الفتى المشهور في الشجاعة، الذي يطعن في ضنك المقام عند اشتداد القتال، وابتلال نحور الخيل بالدم.
يعاف خيام الرّيط في غزواته ... فما خيمه إلاّ غبار حروب
يعاف: يكره. والرّيط: الملاء البيض.
يقول: يكره المبيت والتنعم في الخيام، وإنما يحب القتال، فليس له خيمة إلا غبار الحروب.
وقيل: معناه أنه لا يستظل في غزواته بخيمة، كما يفعله الملوك، وإنما يستظل بغبار الحروب.
علينا لك الإسعاد، إن كان نافعاً، ... بشقّ قلوبٍ لا بشقّ جيوب
الإسعاد: المساعدة. يعني لو كان شق الجيوب والبكاء يردان ميتاً. لأسعدناك بشق القلوب، عن شق الجيوب.
فربّ كئيبٍ ليس تندى جفونه ... وربّ كثير الدّمع غير كئيب
يقول: إن الدمع ليس دلالة الوجد، فكثير من الناس ينحرق قلبه ولا يجري منه دمع! وكثير منهم يجري دمعه ولا حزن في قلبه!
تسلّ بفكرٍ في أبيك فإنّما ... بكيتفكان الضّحك بعد قريب
يروى: أبيك بفتح الباء. وهو جمع قولهم أباً. مثل: عصا، وكان في الأصل أبين فانقلبت الياء ألفاً، وبعدها ياء جمع، فحذفت لالتقاء الساكنين، فبقي أبين ثم أضافه إلى كاف الخطاب، فحذف النون للإضافة فصار أبيك، وفي حال الرفع: أبون والأبا لغة في الأب. فعلى هذا تقول: هذا أباك ورأيت أباك ومررت بأباك. ويجوز أن يكون تثنية بمعنى أبويك. وروى: أبيك فيجوز أن يكون واحداً وجمعاً.
يقول: تفكر في آبائك فإنك بكيت عند موتهم، ثم سليت عن قريب وصبرت، فاعتبر حالك اليوم بحالهم حين فقدت أباك.
إذا استقبلت نفس الكريم مصابها ... بخبثٍ ثنت فاستدبرته بطيب(1/267)
المصاب: المصيبة. وقوله ثنت أي ثنت النفس المصاب. وأراد بالخبث: الجزع، وبالطيب: الصبر. ومعناه: إذا جزع الكريم عند أول المصيبة، راجع أمره في آخرها، فعاد إلى الصبر، والرضا والتسليم.
وقيل: أراد بالخبث: الصبر، لأن النفس تنفر عنه، لما فيه من المشقة، والطيب: عاقبة الصبر، وهو ما يجد الصابر من المدح على صبره والثواب في الآخرة. لأن ذلك يطيب النفس.
ومعناه: أن الكريم وإن خبثت نفسه في الابتداء لصبره على المصيبة في الأول قبل وقوعها صعب عليه الصبر عند وقوعها.
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاءٍ أو سكون لغوب
الواجد: الحزين يقول: كل جازع على مصيبة، فآخر أمره السلوة والسكون: إما صبراً واحتساباً، وإما تعباً وملالاً. ومثله لمحمود الوراق:
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبةً ... سلوت على الأيّام مثل البهائم
ومثله لأبي تمام:
أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً ... فتؤجر أو تسلو سلوّ البهائم
وكم لك جدّاً لم تر العين وجهه ... فلم تجر في آثاره بغروب
الغروب: مجاري الدموع في العيون. ونصب جداً على التمييز، وكم يحتمل الاستفهام، والخبر: فإن كان استفهاماً، كان الواجب نصب جداً لأنها في الاستفهام تنصب تمييزها، وإن كانت خبراً، فالاختيار هو النصب ها هنا، لأنك إذا فصلت بينها وبين ما يضاف إليها بفاصل، كان الواجب النصب.
يقول: إن ما مضى وغاب عنك، كشيء لم تره، فكما أنك لم تبك على أجدادك الماضين، الذي لم ترهم، فكذلك ينبغي أن تسلو عمن فقدته الآن، لغيبته عن عينك.
فدتك نفوس الحاسدين فإنّها ... معذّبة في حضرةٍ ومغيب
يقول: نفوس حسادك معذبة بحسد معاليك، حضروا أم غابوا، فجعلهم الله فداك، ووقاك بهم صروف الزمان، ليستريحوا من هذا العذاب الذي ينالهم، وهذا مثل قوله:
فإن لهم في سرعة الموت راحةً
وفي تعبٍ من يحسد الشّمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
الضريب هو النظير والشبيه. شبهه بالشمس، وخصاله بنورها وقال: من حسد الشمس على نورها فهو في تعب، لأن نورها لا يزايلها، ومن جهد أن يأتي بنظيرها لم يقدر عليه؛ لأنه لا نظير لها، كذلك أنت لا نظير لك في علو محلك وخصالك الجميلة وخلائقك الحسنة.
وقال أيضاً يمدحه. ويذكر بناءه مرعش، وإصابته المطر عند دخوله، ومحاربته الدمستق وهزمه، في سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة.
فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا ... فإنّك كنت الشّرق للشّمس والغربا
قوله: فديناك، من ربع: أي فديناك ربعاً ومن زائدة وربعاً: بدل من الكاف في فديناك.
خاطب ربع حبيبته فقال: نحن نفديك بأنفسنا، وإن كنت تزيد في غمنا؛ لخلوك من المحبوبة، ثم قال: إنما قد فديناك، لأنك كنت مألف محبوبتي، التي هي كالشمس، فكنت مطلعاً لها حين تخرج وتبرز بروز الشمس من مطلعها الذي هو المشرق، وإذا احتجبت وغابت فيك كنت لها مغرباً، لما جعلها الشمس جعل الربع مطلعاً لها ومغرباً.
وكيف عرفنا رسم من لم تدع لنا ... فؤاداً لعرفان الرّسوم ولا لبّا؟!
العرفان: مصدر عرفت وتدع: تعود إلى معنى من وأنث على معنى المرأة، ويجوز من يدع رداً إلى لفظ من.
يتعجب من رسم دار المحبوبة التي هي الشمس فيقول: كيف عرفنا رسم دارها، مع أنها لم تدع لنا قلباً ولا عقلاً؟!
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا
الأكوار: جمع كور، وهو الرحل، وكرامة نصب لأنه مفعول له وركباً: على الحال: أي نلم به راكبين، وأصله عن أن نلم به، فحذف عن ويجوز أن يكون معناه كراهة أن نلم به، أو ألا نلم به، فحذف والهاء في عنه وبه للربع.
يقول: لما أتينا الربع نزلنا عن رواحلنا كرامةً لأهله، ورفعاً لقدره، عن أن نلم به فحذف راكبين.
يا ساكن النّوب انهض طالباً حلباً ... نهوض معنى لحسم الدّاء ملتمس
واخلع حذاءك إن حاذيتها ورعاً ... كفعل موسى كليم الله في القدس
ندمّ السّحاب الغرّ في فعلها به ... ونعرض عنها كلّما طلعت عتبا
السحاب: بمعنى الجمع، ولذلك وصفها بالغر وهو جمع أغر، ونصب عتبا على أنه مصدر واقع موقع الحال أي عاتبين. وقيل: إنه مفعول له، والعتب: أدنى الغضب.(1/268)
يقول: نحن نذم السحاب البيض في فعلها بهذا الربع، لأنها درست آثاره، وإذا طلعت وظهرت في السماء أعرضنا عنها، وصرفنا وجوهنا، كما يفعل العاتب إذا رأى من عتب عليه.
ومن صحب الدّنيا طويلاً تقلّبت ... على عينه حتّى يرى صدقتها كذبا
يقول: إن الربع قد تغير وحال عن الحسن الذي كان له بكون الحبيب فيه، وكذا عادة الزمان، فمن صحب الدنيا علم أن ما يعانيه من أحوالها زائل، فكأن ما يراه حقيقة وصدقاً، فهو محال وكذب.
وقيل: معناه من عمر تبدل به الحال، فصار العمر الذي يسره يسوءه، لقربه من الفناء، فكأن كل شيء في الدنيا وإن كان سروراً فإنه غم، فصاحب الدنيا يرى صدقها كذباً، وحياتها موتاً، لما كان عاقبتها إلى الفناء وغاية أمرها إلى الزوال.
وكيف التذاذي بالأصائل والضّحى ... إذا لم يعد ذاك النّسيم الّذي هبّا؟!
الأصائل: واحدها أصيل، وهو آخر النهار والنسيم: الريح الطيبة التي يلتذ بها، وأراد به قرب الحبيب.
يقول: كيف ألتذ بأوقاتي: الغدوات والعشيات، مع أني بعيد عمن أهواه، إذا لم تعد إلى أوقاتي في الأصائل والضحى؛ لأنها أطيب الأوقات، لا حر فيها يؤدي، ولا برد شديد، وخص الأصائل والضحى ليعلم أنه إذا لم يلتذ بأطيب الأوقات فكيف يلتذ بغيرها؟
ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به ... وعيشاً كأنّي كنت أقطعه وثبا
الباء: بمعنى في أي في الربع، وهو متعلق بذكرت أي ذكرت في الربع، كقول النابغة: وما بالربع من أحد.
وقيل: إن الباء متعلق بقوله: وصلاً وعيشا أي ذكرت وصلاً وعيشاً كان لي به أي فيه. والهاء في قوله: لم أفز به للوصل وفي أقطعه للعيش.
يقول: لما وقفت بهذا الربع تذكرت عيشاً مر لي فيه، كأني لم أظفر به من قصر، كأنه لم يكن، كما قال عبد الصمد بن المعذل:
شبابٌ كأن لم يكن ... وشيبٌ كأن لم يزل
وتذكرت عيشاً كان من قصره وقصر أوقاته وكل نعمة فيه، كأنه قصر وقت الوثب، فكل زيارة من الحبيب وثبة، ولك ساعة من اللقاء والاجتماع وثبة، والوثب في معنى قصر الوقت وقصر العيش. وفيه معنى بديع ومبالغة حسنة.
وفتّانة العينين قتّالة الهوى ... إذا نفحت شيخاً روائحها شبّا
وفتانة: عطفاً على قوله: ذكرت وصلاً وعيشاً أي ذكرت جارية تفتن الناس بحسن عينيها، وتقتلهم بهواها، ولو اتصلت روائحها بالشيخ، لعاد إليه شبابه، وهذا كقولي الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
لها بشر الدّرّ الّذي قلّدت به ... ولم أر بدراً قبلها قلّد الشّهبا
البشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. والشهب: قيل: إنه جمع شهاب وهو النجم. وقيل جمع أشهب، وهو أيضاً النجم، والتأنيث كله للفتانة والهاء في به للدر.
يقول: هي في نعومة بشرتها كالدر الذي قلدت به، وهي في الحسن كالبدر. والدر الذي عليها كالنجوم، وما رأيت بدراً متقلداً بالدر حتى رأيتها. والأول أليق بذكر البدر.
فيا شوق ما أبقى! ويالي من النّوى ... ويا دمع ما أجرى! ويا قلب ما أصبى!
وأصله: يا شوقي ما أبقاك! ويا دمعي ما أجراك! ويا قلبي ما أصباك! فحذف الياء من المنادى كما تقول: يا غلام وحذف ضمير المفعول الذي هو المتعجب منه ويجوز الرفع في قوله: يا شوق ويا دمع ويا قلب على أن يكون نداء مفرداً وقوله: ويالي من النوى توجع منه لنفسه فيما لقي من ألم النوى، ومعناه يا شوقي ما أدومك، ويا دمعي ما أجراك، ويا قلبي ما أشد صبوتك.
لقد لعب المشتّ بها وبي ... وزوّدني في السّير ما زوّد الضّبّا(1/269)
المشت: المفرق، من أشت جمعهم، وشت القوم: تفرقوا. وفاعل ما زود ضمير البين وهو السفر، ومعناه زودني البين في سيري، ما زود البين الضب في سيره وما في موضع النصب. قوله: لعب البين بها وبي أي فرق بيننا. وقوله: زودني إلى آخره معناه: لم يزودني البين من حبيبتي شيئاً أتعلل به بعد فراقنا: كالقبلة والعناق، وغير ذلك. إلا التفرق. وخص الضب لأنه يتبلغ بالنسيم، ولا يرد الماء، ولا يشرب بل يكتفي بنسيم الرياح عند العطش، فكأنه قال لم يزودني البين من حبيبتي شيئاً إلا النسيم والتعلل به كما يتعلل الضب به. وقال أبو علي بن فورجة. معناه أن الضب إذا فارق حجره ضل وتحير، لأنه لا يهتدي للرجوع إليه، على ما ضرب به المثل فقيل: أضل من ضب، وأتيه من ضب، وأحير من ضب. فكأنه قال زودني البين في رحيلي حيرة الضب إذا فارق حجره. أي سرت متحيراً واله العقل.
ومن تكن الأسد الضّواري جدوده ... يكن ليله صبحاً ومطعمه غصبا
ومن تكن: عنى به نفسه أي من كان شجاعاً كالأسد، لم يثنه الليل عن مرام ولا يحول بينه وبين مراده ظلامه ليل، فهو مثل الصبح يسعى فيه لطلب مآربه، وإذا حاول أمراً أو طلب مالاً، تناوله غصباً وقسراً. ومعناه أن الممدوح أسد ومن كان أسداً كان جده أسداً لا محالة، وليس المراد به من كان له أب أو جد شجاع، لأنه قد يكون أبوه شجاعاً وهو جبان.
ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا
يقول: إذا نلت الشرف ومعالي الأمور، فلا أبالي بأن يكون ذلك موروثاً، أو مكتسباً. ومثله:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وصيّرته ملكاً هماما
فربّ غلام علّم المجد نفسه ... كتعليم سيف الدّولة الدّولة الضّربا
يقول: رب إنسان علم نفسه المجد من غير أن يعلمه أحد، لأن طبعه وجوهره يحمله عليه، ولأنه إذا نظر في أفعال المجد يحمل نفسه عليها، حتى يبلغ إلى منازلهم، كما أن أهل الدولة إذا نظروا إلى مواقف سيف الدولة في الحروب، وشجاعته فيها تعلموا منه الضرب، واقتدوا به في أفعاله، فكأنه هو الذي علم الدولة الضرب أي أهل الدولة، فحذف أهل.
إذا الدّولة استكفت به في ملمّةٍ ... كفاها فكان السّيف والكفّ والقلبا
الملمة: المصيبة، والشدة. يعني: إذا نزلت بالدولة ملمة، فاستعانت به. أراد سيف الدولة وهو الخليفة كفى الدولة تلك الحادثة، فكان لها سيفاً وكفاً وقلباً: لأن السيف لا يعمل إلا بالكف، ولا يضرب به الكف حتى يشيعه القلب، وسيف الدولة يستغني عن ذلك، فهو السيف والقلب والكف، فيكفي الدولة ما ينوبها، ولا يحتاج إلى ناصر ومعين.
تهاب سيوف الهند وهي حدائدٌ ... فكيف إذا كانت نزاريّةً عربا؟!
الحدائد: جمع حديدة، وهي نصل السيف. يقال: سيف جيد الحديدة، أي جيد النصل.
يقول: إذا كانت سيوف الهند يحذر منها ويهاب بأسها، وهي حدائد لا تعمل حتى تجد ضارباً بها، فسيف الدولة الذي هو عربي يضرب بنفسه رءوس الفرسان، وكذلك قومه، الذين هم من نزار، أولى بأن يخاف منهم، ولهذا قال: إذا كانت نزاريةً عربا.
ويرهب نناب اللّيث واللّيث وحده ... فكيف إذا كان اللّيوث له صحبا؟!
يقول: إذا كان الليث يتقي نابه، ويخاف افتراسه وهو وحده، فلأن يتقي سيف الدولة وحوله الليوث أولى وأجدر.
ويخشى عباب البحر وهو مكانه ... فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبّا؟!
عباب البحر: تراكم أمواجه. يقال: عب البحر إذا ماج. وقيل: عبابه: صوت أمواجه. ومكانه: نصب على الظرف.
يقول: يخاف موج البحر إذا اضطرب، وهو مستقر مكانه، فكيف لا يخاف البحر الذي يملأ البلاد بخيله ورجله؟!
عليم بأسرار الدّيانات واللّغى ... له خطراتٌ تفضح النّاس والكتبا
اللغى: جمع لغة، والخطرات: جمع خطرة، وأراد به الخواطر يقول: هو عالم بأحوال الناس وديانتهم، ومذاهبهم، واختلاف ألسنتهم، ولغاتهم، وله خواطر يستنبط بها ما ليس في الكتب وما لا يدركه الناس ولا يجري على قلب أحد.
فبوركت من غيثٍ كأنّ جلودنا ... به تنبت الدّيباج والوشى والعصبا
العصب: ضرب من برود اليمن.(1/270)
يقول: بارك الله فيك أيها الغيث، فإن الغيث يكسو الأرض أنواع الأزهار وأصناف النبات والأنوار، وأنت تكسونا الخلع النفسيه من ضروب الوشى والديباج، فكأن جلودنا أنبتت هذه الثياب، كما أنبتت الأرض النبات بالغيث. شبه الجلود بالأرض، والخلع بالنبات، وسيف الدولة بالغيث.
ومن واهب جزلاً ومن زاجر هلاً ... ومن هاتك درعاً، ومن ناثرٍ قصبا
وهذا معطوف على قوله: فبوركت من غيث، ومن واهب، وهلا: زجر للخيل، ينون على النكرة ولا ينون على معنى المعرفة، وذلك كناية عن كونه فارساً مقتدراً، على أن يصرف فرسه كيف شاء والقصب: الأمعاء وروى: باتر قصبا أي قاطع أمعاء.
يقول: بوركت من واهب كثيراً، وزاجر فرسه في المعركة، وهاتك درع عدوه عليه بسيفه، وناثر أمعاءه: إذا أصاب جوفه ونثر أمعاءه على الأرض.
هنيئاً لأهل الثّغر رأيك فيهم ... وأنّك حزب الله صرت لهم حزبا
نصب هنيئاً على المصدر، وقيل: على الحال لفعل مضمر، أي ثبت رأيك هنيئاً وحزب الله نصب لأنه منادى مضاف، والثغر: مدينة مرعش.
يقول: هنأ الله أهل الثغر بحسن رأيك فيهم واهتمامك بأمرهم، وهنأهم الله، يا حزب الله، أنك صرت لهم حزباً وجيشاً وناصراً، تعاونهم وتذب عنهم.
وأنّك رعت الدّهر فيها وريبه ... فإن شكّ فليحدث بساحتها خطبا
الكناية في فيها وساحتها راجعة للثغر، وأنثه على معنى المدينة، أو البلدة، أو الأرض، وفاعل فليحدث ضمير الدهر، وخطبا مفعوله، وفاعل شك ضمير الدهر أيضاً.
يقول: وهنيئاً لهم انك خوفت الدهر في هذه المدينة، وخوفت حوادثه، فإن شك الدهر في ذلك، فليحدث بساحة هذه المدينة خطبا، ولينزل بها حادثة.
فيوماً بخيلٍ تطرد الرّوم عنهم ... ويوماً بجودٍ تطرد الفقر والجدبا
يقول: لا تزال تذب عنهم، وتحامي عليهم، فإن قصدهم الروم طردتهم بخيلك، وإن نازلهم فقر وجدب كشفته عنهم بجودك وأفضالك.
سراياك تترى والدّمستق هاربٌ ... وأصحابه قتلى وأمواله نهبى
يقول: سراياك متصلة إلى الروم، والدمستق لا يثبت لها بحال، أي من قتلك أصحابه، وأمواله نهبة للمسلمين.
أتى مرعشاً يستقرب البعد مقبلاً ... وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا
مرعش: مدينة كان سيف الدولة جدد بناءها.
يقول: أتى الدمستق مدينة مرعش وهو مسرور، لطمعة فيها، فكأن الأرض تطوى له، والبعيد يقرب عليه، فلما قصدته ولى مدبراً، وهو شديد الغم، وطال عليه الطريق فصار قريبه بعيداً ومثله:
أرى الطّريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
ومثله لتوبة:
وكنت إذا ما زرت ليلى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
كذا يترك الأعداء من يكره القنا ... ويقفل من كانت غنيمته رعبا
أراد بالأعداء: سيف الدولة، وجيشه.
يقول: من يكره أن يقتله أعداؤه، هكذا ينهزم ويرجع، ولم يغنم في قتاله إلا الخوف.
وهل ردّ عنه باللّقان وقوفه ... صدور العوالي والمطهّمة القبّا
يقول: قد فر بين يديك، لعلمه أنه لا يقاومك؛ لأنه لما ثبت لك حين لقيته على اللقان، قتلت أصحابه، وغنمت أمواله، ولم يرد عنه وقوفه الرماح، فلهذا لم يقف لك الآن، والقب: جمع أقب، وهو الضامر من الخيل.
مضى بعد ما التفّ الرّماحان ساعةً ... كما يتلقّى الهدب في الرّقدة الهدبا
أراد بالرماحين: رماح العسكرين، فثنى الجمع، كأنه قال: رماح هؤلاء ورماح أولئك. والهدب: شعر الجفن، شبه التفاف الرماح واشتباكها، عند الطعن باشتباك الأجفان عند النوم.
يقول: ثبت لك على اللقان ساعة، فلما اشتبكت رماح العسكرين، ولى منهزماً، وكأن اشتباك الرماح كالتقاء الهدبين إذا نام الإنسان.
ولكنّه ولّى وللطّعن سورةٌ ... إذ ذكرتها نفسه لمس الجنبا
السورة: الحدة، والشدة، وقوله: إذا ذكرتها نفسه إلى آخر البيت: صفة لسورة.
لما اشتد الطعان ولى، وقد امتلأ قلبه خوفاً، وكلما ذكر سورة الطعن، لم يصدق أنه سلم منها فيلمس جنبه، هل هو صحيح أم مطعون؟ ومثله لأبي نواس:
إذا تفكّرت في هواي له ... لمست رأسي: هل طار عن جسدي؟
وقيل: معناه يلمس جنبه وينثني عليه خوفاً من أن تنشق مرارته من الخوف كما قال آخر:(1/271)
وأذكر أيّام الحمى ثمّ أنثنى ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا
وقيل: إنه يلمس الجانب الذي فيه قلبه، هل يخفق قلبه خوفاً أم لا؟!
وخلّى العذارى والبطاريق والقرى ... وشعث النّصارى والقرابين والصّلبا
العذارى: جمع عذراء، وهي البكر، وشعث النصارى: الرهابين جمع أشعث، والقرابين: خاصة الملك. والصلب: جمع صليب.
المعنى: أنه ترك هذه الأشياء وترك عسكره وبلاده وجميع ما فيها، ونجا بنفسه خوفاً منك.
أرى كلّنا الحياة بسعيه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبّا
المستهام، والصب: بمعنى. روى بسعيه وبجهده والمستهام: العاشق.
يقول: كل أحد يحب نفسه وحياتها، ويسعى ليدفع عن نفسه الضرر والهلاك.
فحبّ الجبان النّفس أورده التّقى ... وحبّ الشّجاع النّفس أورده الحربا
ويختلف الرّزقان والفعل واحدٌ ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
النفس: منصوبة بحب في الموضعين؛ لأنه مصدر، فيعمل عمل الفعل وأورده: فعل، فاعله ضمير الحب.
يقول: كل أحد يطلب لنفسه البقاء، فالجبان يحذر لقاء الأقران، ويستعمل الخوف إبقاء على نفسه وطلباً لنجاته، والشجاع، يطرح نفسه في المهالك ويباشر القتال طلباً لاستبقاء النفس، بدفع الشر والأعداء عن نفسه، وإبقاء للذكر الجميل بعده، والقصد منهما واحد: وهو طلب الحياة، والسعي مختلف.
يقول: إن الجبان والشجاع قد اتفق فعلاهما في طلب الحياة، واختلف رزقاهما؛ لأن رزق أحدهما المدح، ورزق الآخر الذم.
وقيلك معناه أن الشجاع أعطى الحياة التي طلبها، والجبان حرم ذلك، لأنه في حال حياته ميت فكيف بعد الممات؟! وقيل: إن الشجاع رزق موتاً هو كحياة، لبقاء الذكر له، ورزق الجبان حياة هي كممات لحصول الذم له.
وقيل: رزق الشجاع رفاهية ورغدا، والجبان شقاء وتعباً.
وقوله: إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا معناه: أن الشجاع إذا تعرض للقتل حتى يقتل، كان ذلك عنده إحساناً إلى نفسه، وذلك عند الجبان أكبر ذنب لإلقائ بنفسه إلى التهلكة، والجبان إذا أحسن إلى نفسه بترك الحرب وطالب الصلح، يراه الشجاع ذنباً.
وقيل: معناه أن الجبان إذا علم - مثلا - أنه لا ينتقم من اللاطم لجبنه، كان هذا إحساناً إلى اللاطم، لنه عفو في الظاهر، وهو ذنب عظيم عند الشجاع. وفي جميع هذه الوجوه يكون البيت متصلا بما قبله.
وقد قيل: إنه منقطع عما قبله ومعناه: أن الرجلين ربما طلبا أمراً من وجه واحد فيرزق هذا، ويحرم الآخر، فيكون ذلك الفعل إحساناً لأحدهما يرزق به، وذنباً للآخر يحرم لأجله. ومثله الآخر:
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث آخر يحرم
فأضحت كأنّ السّور من فوق بدؤه ... إلى الأرض قد شقّ الكواكب والتّربا
فأضحت: أي مدينة مرعش، وفوق: مضموم كقبل وبعد.
يقول: كأن سورها ابتدئ ببنائه من فوق، حتى انتهى إلى الأرض، فأصله شق الكواكب، وطرفه شق الترب: أي الأرض، وقيل: أراد بالترب: الغبار الذي ارتفع إلى السور من الحرب حواليه، أي أنه شق الغبار المرتفعة وجاوزها، وشق الكواكب أيضاً.
وقيل: أراد أن سورها لاتساعه على وجه الأرض كأنه شق الترب لطوله، وكأنه قد شق الكواكب وهو كعكس قول السموءل:
رسا أصله تحت الثّرى، وسما به ... إلى النّجم فرعٌ لا ينال طويل
تصدّ الرّياح الهوج عنها مخافةً ... وتفزع فيها الطّير أن تلقط الحبّا
الرياح الهوج: الشديدة الهبوب، التي لا تثبت على سمت واحد.
يقول إن الرياح لا تجسر أن تمر بها، وتخاف الطير أن تلقط منها الحب؛ لأنها إذا لقطت الحب نقصت من حبوبها، وذلك إضرار بها، وأنت قد أحميتها من كل ضرر.
والمصراع الثاني ضعيف؛ لأن الطير في كل موضع، تفزع أن تلقط الحب، فلا وجه لعطفه على الرياح.
وقيل في المصراع الأول: إن الرياح تعدل عنها؛ لطول السور الذي رفعتها في الجو والأولى أنه يريد أنها تعدل للهيبة.
وتردى الجياد الجرد فوق جبالها ... وقد ندف الصّنّبر في طرقها العطبا
وتردى: من الرديان، وهو ضرب من العدو، وأراد بالصنبر: ها هنا السحاب البارد، وقيل: أراد البرد والعطب: القطن.
شبه الثلج على الجبال بقطن مندوف.(1/272)
يقول: إن خيلك تطوف فوق جبال مرعش وحولها وتحرسها، والثلج على جبالها كأنه قطن مندوف، والضمير في جبالها لمرعش، وفي طرقها للجبال.
كفى عجباً أن يعجب النّاس أنّه ... بنى مرعشاً تبّاً لآرائهم تبّاً!
التب الخسران، وأراد به الدعاء على آرائهم، كقولك: قبحاً له. وفاعل كفى أن يعجب، لأن أن مع صلتها كاسم مفرد وعجباً نصب على التمييز وتباً على الذم أو على المصدر.
يقول: ليس من العجب بناؤه مرعش، ولكن العجب استعظام الناس وتعجبهم من بنائها.
وما الفرق ما بين الأنام وبينه ... إذا حذر المحذور واستصعب الصّعبا؟!
إذا كان يحذر من الأمر المحذور، ويصعب عليه الأمور الصعبة، مثل سائر الناس، فأي فرق بينه وبين سائر الناس.
لأمر أعدّته الخلافة للعدى ... وسمّته دون العالم الصّارم العضبا
يقول: لولا اختصاصه من بين سائر الأنام بمعان، لم تجعله الخلافة من بينهم، عدة لها، ولما سمته سيفاً قاطعاً وأراد بالخلافة: الخليفة أي ذوي الخلافة.
ولم تفترق عنه الأسنّة رحمةً ... ولم تترك الشّام الأعادي له حبّا
يقول: لولا شجاعته، لم تفترق الأسنة عنه في حروبه، ولم تترك الأعادي له الشام، لولا خوفهم منه.
ولكن نفاها عنه غير كريمةٍ ... كريم النّثا ما سبّ قطّ ولا سبّا
الضمير في نفاها للأعادي، وغير كريمة حال من الأعادي، والعامل فيها نفاها والهاء في عنه لسيف الدولة، وقيل: يرجع إلى الشام والنثا بالنون قيل: مقصور، هو الذكر في الحمد، والذم.
يقول: لم يترك العادي له الشام محبة منهم له، ولكنه طردهم قهراً، مهانين غير مكرمين، وهو ملك كريم الذكر ما سب قط: أي لم يشتمه أحد؛ لأنه لم يفعل ما يشتم عليه، ولا شتم أيضاً هو أحداً؛ لأن الشتم سلاح من لا قلب له على المحاربة؛ ولأن الناس بعضهم مطيع له فلا يشتمه، وبعضهم خائف أن يشتمه.
وجيشٌ يثنّى كلّ طودٍ كأنّه ... خريق رياحٍ واجهت غصناً رطبا
يثنى: أي يعطف، ويجعل اثنين. والطود: الجبل. والخريق: الريح الشديدة التي تخرق كل شيء تجري عليه.
يقول: نفي أعداءه عن الشام كريم النثا، وجيش عظيم يثنى كل جبل: أي يعطفه ويهده، ويزعزه، عن موضعه، وأراد به أن يجعل الجبل اثنين: أحدهما الجبل، والثاني نفس الجيش، ثم شبه الجيش بريح شديدة قابلت غصناً رطبا: يعني أنه يكسر الجبل ويعطفه كريح هذه صفتها، وإن هذا الجيش وإن كانوا كالجبل، فالجبل الذي تحتهم كالغصن الرطب عند الريح الشديدة الهبوب.
كأنّ نجوم اللّيل خافتت مغاره ... فمدّت عليها من عجاجته حجبا
مغاره: إغارته والهاء فيها، وفي عجاجته: للجيش.
يقول: كأن النجوم قد خافت أن يغير عليها هذا الجيش، فمدت على نفسها من غبار هذا الجيش حجباً، حتى لا يراها. يعني أن غباره وصل إلى النجوم.
فمن كان يرضى اللّؤم والكفر ملكه ... فهذا الّذي يرضى المكارم والرّبّا
هذا في قوله: فهذا إشارة إلى سيف الدولة.
يقول: هو أبداً في الجهاد، يرضى الرب بفعله، ويبذل الأموال، يرضى بها مكارمه، وغيره من الملوك: إما مشرك برضى الكفر، وإما بخيل برضى البخل، واللؤم.
وأهدى سيف الدولة إلى أبي الطيب هدية فيها ثياب ديباج رومية، ورمح وفرس معها مهرها وكان المهر أحسن من الفرس فقال يمدحه:
ثياب كريمٍ ما يصون حسانها ... إذا نشرت كان الهبات صوانها
الصوان: ما يلف به الثوب ويصان به: ثياب: رفع لأنه خبر ابتداء محذوف: أي هذه ثياب كريم، أو هي مبتدأ وخبره محذوف: أي عندي ثياب كريم، ليس يصون حسان الثياب، ولكن إذا نشرها فرقها على جلسائه، وجعل صوانها أن يهبها لأصحابه.
ترينا صناع الرّوم فيها ملوكها ... وتجلو علينا نفسها وقيانها
امرأة صناع: حاذقة دقيقة اليد في صنعتها وجمعها صنع، ورجل صنع وجمعها صناع. وروى: صناع الروم وهي جمع صنعة، والكناية في فيها للثياب، وفي نفسها للصناع، وفي ملوكها وقيانها للروم، ويجوز أن تكون راجعة إلى صناع الروم. والقيان: جمع قينة، وهي الجارية المغنية.
يقول: إن المرأة الصانعة من الروم ترينا في هذه الثياب الملوك، وتظهر علينا نفسها أي نفس هذه الصانعة من الروم، وصور القيان. يعني: أن هذه الثياب صورة ملوك الروم، وصورة الناقشة، وصورة القيان.(1/273)
ولم يكفها تصويرها الخيل وحدها ... فصوّرت الأشياء إلاّ زمانها
الهاء في يكفها راجعة إلى صناع الروم، وكذلك في تصويرها وفي وحدها إلى الخيل، وفي زمانها إلى الأشياء.
يقول: لم يكفها أنها صوّرت على الثياب صور الخيل، حتى صورت معها كل شيء من طائر وسبع وغيرهما من الزمان، إلا الزمان فإنها لا تقدر على تصويره.
وما ادّخرتها قدرةً في مصوّرٍ ... سوى أنّها ما أنطقت حيوانها
تاء التأنيث الساكنة في ادخرتها راجعة إلى صناع، والهاء، إلى الثياب، وأصلها: ادخرت عنها، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إلى الضمير: أي ما خبأت هذه المرأة عن هذا الثياب قدرةً عليها في مصور إلا صورت على هذه الثياب، غير أنها لا تقدر على إنطاق الحيوان المصور عليها، إذا لو قدرت على ذلك لفعلت، والهاء في حيوانها راجعة إلى الثياب.
وسمراء يستغوى الفوارس قدّها ... ويذكرها كرّاتها وطعانها
وسمراء: عطف على قوله: ثياب كريم. والضمير في قدها للسمراء وفي يذكرها وكراتها وطعانها للفوارس ويستغوي: أي يستميل، ويحمله على الغي، وسمراء: صفة لمحذوف: أي وهذه فتاة سمراء، يحمل قدها واستواؤها الفوارس على ملاقات الأقران، ويسوقهم إلى الطعان. وذكر الفوارس موافق للقتال.
ردينةٌ تمّت وكان نباتها ... يركّب فيها زجّها وسنانها
الزج: الحديدة التي في أول الرمح، يعني أنها مستقيمة نبتت كذلك، لم تحتج إلى تثقيف مثقف، فلم يبق إلا أن يركب فيها الزج، والسنان.
وأمّ عتيقٍ خاله دون عمًه ... رأى خلقها من أعجبته فعانها
وهذا أيضاً عطف على ما تقدم، وأراد بالعتيق: المهر، وقوله: خاله دون عمه أي أبوه أكرم من أمه؛ لأنه إذا كان خاله دون عمه، كانت أمه دون أبيه.
يقول: هذه أم مهر كريم، أمه دون أبيه في الكرم، وكانت هي حسنة الخلق فرأى خلقها من أعجبته فعانها، أي أصابها بالعين، فصار ولدها أحسن منها وأكرم.
إذا سايرته باينته وبانها ... وشانته في عين البصير، وزانها
يقول: إذا سارت الأم معه بانت منه، وبان منها. أي لم يشبهها في الحسن والجمال، كما يشبه المهر أمه، وشانته في عين البصير: أي أن البصير بالخيل لم ير فيه عيباً إلا كونه من هذه الأم التي هي دونه، فهو له عيب وشين، وهذا المهر زان الأم، لأنها ولدت مهراً كريماً، فهو يزينها، وهي تشينه.
فأين الّتي لا تأمن الخيل شرّها ... وشرّى، ولا تعطي سواي أمانها؟
يقول: هلا وهبت لي فرساً أكرم منها؟ وهي التي لا تأمن الخيل شرها يعين أنها سابقة إذا سابقت سائر الخيل، لم تأمن شرها ولا تأمن الفرسان شري، ولا تعطى سوى أمانها: أي لا يقدر على ركوبها إلا مثلي من الفرسان الحذاق بالركوب.
وأين الّتي لا ترجع الرّمح خائباً ... إذا خفضت يسرى يديّ عنانها
يقول: هلا وهبت لي الفرس التي إذا رخيت عنانها بيدي اليسرى وجلت عليها لا أرجع خائباً، ولا ترد رمحي من دون قتل العدو.
ومالي ثناءٌ لا أراك مكانه ... فهل لك نعمى لا تراني مكانها؟
يقول: ليس عندي ثناء لا أراك مستحقاً له، فهل عندك نعمة لا تراني أهلاً لها؟ يعني: كما لا أدخر عنك ثناء، فلا تدخي عني نعمة.
وكان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحه شق عليه، وأكثر أذاه وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، فكان أبو الطيب لا يجب أحداً عن شيء، فيزيد ذلك في إنكاء سيف الدولة، ويتمادى أبو الطيب في ترك قول الشعر، ويلح سيف الدولة فيما يستعمله من هذا القبيح وأكثر عليه مرة بعد أخرى فقال أبو الطيب هذه القصيدة وأنشده إياها في محفل من العرب والعجم.
واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وأحر قلباه: ندبة وهذه الهاء لا تدخل عند أهل البصرة إلا في الوقف، فإذا وصلت حذفت.
وأجاز الفراء دخولها في حال الوصل، وأنشد فيه أبياتاً، وإذا كان كذلك، فما ذكره لا مطعن عليه، إذ جاءت عن العرب، والرواة الثقات.
وحكى أبو الفتح بن جني: أن المتنبي كان ينشده بكسر الهاء وضمها، قال: والوجه إذا جاز إثبات الهاء، كسرها لالتقاء الساكنين قال: ولا أرى للضم وجهاً. قال: ولو فتحت الهاء لالتقاء الساكنين ومجاورة الألف كان قياساً.(1/274)
وطعن فيه من وجوه أخر: وهو حذف الياء من قلباه، وكان الوجه: قلبياه، لأن هذه الياء إنما تحذف قياساً على التنوين، فحيث يحذف التنوين في المنادي، جاز سقوط الياء وثباتها كقولك. يا زيد، فتحذف منه التنوين، ثم تقول: وازيداه، لتحذف الياء، وحيث ثبت التنوين لم يجز حذف الياء، كقولك: واغلام زيد فتنون زيد، فإذا قلت: واغلامياه، أثبتت الياء.
والحاصل: أن الياء إنما تحذف من المنادى، لا من المضاف إليها المنادى، وقد أجاز بعض النحويين إسقاط الياء في هذا الموضع وإن كان ضعيفاً، فيجوز في الشعر لأنه موضع الضرورة. والشيم: البارد.
يقول: أشكو حرارة قلبين وشدة وجدي ممن قلبه خالي مما أنا مبتلى به، وممن حالي عنده ضعيفة سقيمة مثل جسمي. يعني أني سقيم بحبه، وليس لي عنده حال ولا منزلة.
مالي أكتّم حبّا قد برى جسدي ... وتدّعي حبّ سيف الدّولة الأمم
وروى: أكاتم: يقول: كل أحد من الأمم، يدعي حبه! فلم لا أقتدي بهم، وأظهر حبه مثل ما يظهرون؟ ومعناه: أنهم يظهرون حبه، وأنا أحتاج إلى أن أكتمه، كأنه يشير إلى أنه يتأذى بإظهار حبه فيكتمه! فيؤدي كتمانه إلى سقمه ونحول جسمه، وقيل: كتمانه الحب من حيث أنه يتجنب التملق بحبه، لما فيه من التكلف، وأن غيره يتملقون إليه بحبه ويتكلفون ذلك.
إن كان يجمعنا حبّ لغرّته ... فليت أنّا بقدر الحبّ نقتسم
يقول: إن كان يجمعني والأمم حب سيف الدولة، فليت حظنا منه على قدر حبنا، فأكون أخصهم منه قرباً، كما أني أكثرهم له حباً، أو أكون مثلهم في قوة أجسامهم، وحسن أحوالهم، وهو مثلي في مرضي ورثاثة حالي.
قد زرته وسيوف الهند مغمدةٌ ... وقد نظرت إليه والسّيوف دم
يقول: نظرت إليه في حالتي السلم والحرب. وصحبته في حالتي الخوف والحب، كأنه عليه بطول الخدمة، ثم يصف قيامه بجميع الأمور.
فكان أحسن خلق الله كلّهم ... وكان أحسن ما في الأحسن الشّيم
الشيم: جمع الشيمة، وهي الخليقة، وأحسن الأول: نصب لأنه خبر كان واسمه ضمير سيف الدولة، وأحسن الثاني، خبر كان الثاني، والشيم: اسمه، وأراد بالأحسن الممدوح.
يقول: نظرت إليه فكان أحسن خلق الله، وأحسن ما في هذا الأحسن الذي نظرت إليه أخلاقه، فكأنه يقول: هو أحسن الناس، وخلقه أحسن من حسن وجهه.
فوت العدوّ الّذي يمّمته ظفرٌ ... في طيّه أسفٌ في طيّه نعم
الهاء في طيه الأول للظفر، والثاني للأسف.
يقول: هرب عدوك الذي قصدته، منك ظفر، ذلك، غير أن في طي هذا الظفر أسفاً، لأنك كنت تشتهي أن تقتله، أو تأسره، وفي طي هذا الأسف نعم لأنه هرب منك خوفاً.
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة ما لا تصنع البهم
البهم: جمع بهمة، وهو الشجاع.
يقول قد حصل لك في قلوبهم من الخوف والهيبة، ما يزيد على فعل الشجعان فيهم.
ألزمت نفسك شيئاً ليس يلزمها ... ألاّ تواريهم أرضٌ ولا علم
تواريهم: أي تسترهم. والعلم: الجبل.
يقول: كلفت نفسك في طلب أعدائك، تهزمهم وتكسر جموعهم، بل تريد ألا تسترهم أرض ولا جبل، بأن تخرجهم من مكان من الأرض، وتحطهم من رءوس الجبال.
وقيل: معناه لا ترضي أن تسترهم أرض ولا جبل، وإنما ترضى أن يواريهم بطون الطير، والوحوش.
أكلّما رمت جيشاً فانثنى هرباً ... تصرّفت بك في آثاره الهمم؟
أكلما: استفهام، ومعناه التقرير، وانثنى: أي انصرف. تصرفت بك: أي صرفتك.
يقول: كلما قصدت جيشاً وهرب من بين يديك حملتك همتك العلية على طلبه، واتباع أثره.
وقيل: معناه حملتك همتك على الجزع في فوتهم منك.
عليك هزمهم في كلّ معترك ... وما عليك بهم عارٌ إذا انهزموا
الجمع: راجع إلى معنى الجيش.
يقول: إنما عليك أن تهمزمهم، فإذا انهزموا فليس عليك عار في انهزامهم بل ذلك يدل على قوتك.
أما ترى ظفراً حلواً سوى ظفرٍ ... تصافحت فيه بيض الهند واللّمم؟
اللمم: جمع اللمة، وهي الشعر. الملم بالمنكب، وأراد بالتصافح: التلاقي.
يقول: لا تعد الظفر ظفراً إلا بعد القتل والقتال، وضرب السيوف على رءوس الأبطال. وعبر عن ذلك بتصافح السيوف واللمم؛ لأن القتل يحصل عند ذلك.
يا أعدل النّاس إلاّ في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!(1/275)
يقول: أنت أعدل الناس إلا بيني وبينك، فأنت لا تنصفني ولا تعينني قدر ما أستحقه عندك من المنزلة. فيك الخصام: أي الخصومة بيني وبين أعدائي وقعت فيك، وأنت الخصم: لأنك ملت إليهم، ولأني أخاصمك على منزلتي عندك، وأنت الحاكم: فاحكم على نفسك، فوفني ما أستحقه من المنزلة! وقيل: معناه مع ذلك كيف أطمع في الانتصاف منك!
أعيّها نظراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم
نظران نصب على التمييز. قال أبو الفتح: قلت له: الهاء في أعيذها لأي شيء تعود؟ فقال: إلى النظران. أجاز الأخفش مثله في قوله تعالى: " فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ " وقال أبو الفتح: وإنما جاز إضمارها قبل الذكر، لأنها كانت مشاهدة في الحال، فاكتفى بمشاهدتها من تقدم ذكرها.
يقول: أعيذ نظراتك الصادقة، أن تغلط، فترى الشيء على خلاف الحقيقة، فتحسب الشحم ورماً فجعل الشحم مثلا لنفسه، والورم لسائر الشعراء.
وما انتفاع أخي الدّنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
بناظره: أي ببصره.
يقول: إن الإنسان إذا لم يفرق بين النور والظلمة، فاستويا في عينه، فلا ينتفع بناظرهن بل هو بمنزلة الأعمى.
يعني أن حاله تخالف غيره من الشعراء والفضلاء، وأنت إذا لم تميز بيننا كنت كالأعمى.
أنّا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
من في موضع نصب، لأنه مفعول أسمعت وفاعله كلماتي وأراد بها القصائد.
يقول: إذا نظر الأعمى إلى أدبي يعرفه ويراه، فكيف البصير؟! والأصم يسمع شعري، فكيف السميع؟! معناه أن أدبي وشعري قد اشتهرا، حتى استوى في معرفتها العالم والجاهل، فضرب الأعمى والأصم مثلا للجاهل الذي لا يتفكر فيعرف.
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
جراها: من أجلها، والهاء في شواردها للكلمات، وهي جمع شاردة: أي سائرة تروى بكل مكان.
وقيل: معناه أنها تشرد، وتصعب على صاحبها.
يقول: أنا أقول القصائد الشوارد عفواً، من غير إتعاب فكر، وأنام عنها ملء جفوني، والخلق كلهم يسهرون من أجلها، ويتنازعون في دقيق معانيها، وجودة مبانيها.
وقيل: معنى قوله: أنام أي أموت. والأول أظهر.
وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتّى أتته يدٌ فرّاسةٌ وفم
فراسة: من الفرس، وهو دق العنق.
يقول: رضي الله عنه جاهل غره ضحكي في وجهه، فتمادى في جهله، حتى سطوت عليه وقصدته مني يد فراسة، وفم: أي أهلكته بيدي ضرباً وقتلا، وأهلكته بفمي من طريق الهجو، والذم.
إذا رأيت نيوب اللّيث بارزةً ... فلا تظنّنّ أنّ اللّيث مبتسم
يقول: لما رآني أكشر الأسنان، حسب أني مسرور بفعله، ولم يعلم - من جهله - أني كالليث، إنما يكشر عن أنيابه وأسنانه، إذا اشتد غضبه.
والأصل فيه قول عنترة:
لا رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسّم
ومهجةٍ مهجتي من همّ صاحبها ... أدركتها بجوادٍ ظهره حرم
الهاء في صاحبها وأدركتها للمهجة الأولى.
يقول: رب نفس كانت همتها إتلاف نفسي، فأدركتها بفرس جواد، ظهره حرم: يعني من ركبه أمن، لأنه إذا طلب فات، فلا يخاف أحداً، كما لا يخاف سكان الحرم.
رجلاه في الرّكض رجلٌ واليدان يدٌ ... وفعله ما تريد الكفّ والقدم
الركض: في الأصل ضرب الدابة بالرجل لتعدون، ثم ذكر ذلك حتى قيل لنفس العدو ركض فيقال: ركض الفرس: أي عدا.
يقول: إن رجليه تقعان معاً على الأرض وكأنهما رجل واحدة، وكذلك يداه وأنه لجودة جريه يغني راكبه عن تحريك يده بالسوط، وتحريك رجليه للركض، بل هو يعطيه من العدو ما يطلبه منه، بيده وقدمه، ذكره ابن جني.
وقال غيره: معناه أن فرسه مؤدب مطيع لفارسه، متصرف على اختياره، فكأن رجليه رجل راكبه، فيضع قوائمه حيث شاء صاحبه، ويتصرف راكبه فيهما، كما يتصرف في جوارح نفسه.
ولا يقال: إن هذا المعنى الذي ذكرتموه هو معنى المصراع الثاني، فيكون المصراعان واحداً، فليس فيه إلا التكرير بلا فائدة.(1/276)
لأنا نقول: إن الأول يفيد أن رجليه رجلاً راكبه، ويديه يداه في حال ركضه فقط، والمصراع الثاني يدل على أن فعل هذا الفرس، ما يريده صاحبه في جميع الأحوال، من ركض أو غيره، وأنه مطيع لصاحبه في جميع جوارحه، فكأنه قال: أفعال الفرس من أحواله كلها وجوارحه جميعاً موافقة لاختيار صاحبه، وتصريف كف راكبه وقدمه، وهذه فائدة جديدة.
ومرهفٍ سرت بين الموجتين به ... حتّى ضربت وموج الموت يلتطم
وروى: الجحفلين أي العسكرين. والموجتين: هما صفتا العسكرين وأراد بالموج. الأمواج، فهو واحد في معنى الجمع، ولهذا قال: يلتطم، والالتطام لا يكون من واحد، ويجوز أن يكون الموج: جمع موجة.
يقول: رب سيف محدد شققت به الصفين، وضربت به الأعداء في حال اشتداد الحرب، والتطام موج الموت. وأراد به مقدمات الموت، من الضرب والطعن.
وقيل: أراد بالموجتين: جملة كل واحد من الصفين على الآخر كالتطام الأمواج.
فالخيل واللّيل والبيداء تعرفني ... والحرب والضّرب والقرطاس والقلم
يقول: أنا لجامع بين آداب السيف والقلم: فالخيل تعرفني بالفروسية لإدماني ركوبها، والليل يعرفني لدوام سيري في ظلامه، والبيداء تعرفني لإدمان قطعي إياها، ودوام سكناي فيها، والحرب يعرفني لكثرة مباشرتي له، والقرطاس والقلم يعرفاني لأني كاتب أديب.
وقيل: أراد به أهل الخيل، وأهل البيداء إلخ يعرفوني.
قال ابن جني: قد سبق بجميع هذه الأمور في بيت واحد، ولم يجتمع مثله في بيت مما أعلمه، الأقرب إليه قول البحتري:
اطلبا ثالثاً سواي فإنّي ... رابع العيس والدّجى والبيد
وحكى أن سيف الدولة قال لما أنشد هذا البيت: والله لو قال هذا البيت في لشاطرته في ملكي.
صحبت في الفلوات الوحش منفرداً ... حتّى تعجّب منّي القور والأكم
القور: جمع قارة، وهي صرة من الأرض، فيها حجارة سود، وقيل: جبل صغير أسود كأنه مطلي بالقار، والأكمة: الجبل الصغير، وجمعها الأكم، والآكام، وقيل: هي ما ارتفع من الأرض.
يقول: إني لا أزال أقطع المفاوز وحدي، من غير أن يدلني أحد. وأراد بذلك وصف شجاعته، وقيل: أراد بذلك أنه بدوي، تربيته مع الوحش، بين الأكم والقور.
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم
يعز: أي يشتد، يعرض برحيله عن سيف الدولة، يقول: يا من يشتد علينا مفارقتهم، كل شيء نجده بعد فراقكم فهو عندنا عدم، أي وجوده كعدمه ومثله:
ومن اعتاض عنك إذا افترقنا ... وكلّ النّاس زورٌ ما خلاكا
ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ ... لو أنّ أمركم من أمرنا أمم
يقول: ما أخلقه بهذا الأمر! وما أجدوه! وما أولاه! والأمم: القصد والقرب يقول: ما أولانا منكم بأن تكرمونا! لو أن أمركم قريب من أمرنا، وجواب لو محذوف أي لو كنتم تحبوننا، كما نحبكم، لكنتم تكرموننا.
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
يقول: إن كان سركم قول الحساد وسعايتهم بي، فإني أصبر على ذلك، وكل جرح يصيبني فلا أتألم به، إذا كان فيه رضاكم.
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفةٌ ... إنّ المعارف في أهل النّهي ذمم
قوله: معرفة مبتدأ وبيننا خبرها مقدم عليها، وذكرها ذهابا بها إلى العرفان أو الحق، وتقديره: بيننا معرفة لو رعيتم ذاك: أي لو رعيتم حق المعرفة، وجواب لو محذوف أي لو رعيتم لرفعتم منزلتي، وكافأتموني عليه.
يقول: قد تقدمت بيننا معرفة، وحرمة يجب عليك رعاية حقها؛ لأن المعارف ذمم بين أهل العقول: يعني يمتنع كل أحد من المتعارفين أن يسيء إلى صاحبه إذا كان عاقلاً، فكأن هذه المعرفة ذمة وعهد بينهما.
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم؟ ... ويكره الله ما تأتون والكرم
يقول: لا تزالون تطلبون عيباً فيّ، فيعجزكم عيبي: أي لا تقدرون عليه، وهذا الفعل لا يرضى الله به، ولا يليق بالكرم.
ما أبعد العيب والنّقصان من شرفي ... أنا الثّريّا وذان الشّيب والهرم
ذان: إشارة إلى العيب، والنقصان.
يقول: كما أن الثريا لا تشيب، ولا تهرم، كذلك شرفي لا يلحقه عيب ولا نقصان.
ليت الغمام الّذي عندي صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم(1/277)
الضمير في صواعقه: للغمام، ويزيلهن فعله، والكناية التي هي هن تعود إلى الصواعق كني بالغمام عني سيف الدولة وصواعقه عن إيذائه إياه وبالديم عن عطائه عند غيره.
فيقول: ديم هذا الغمام عند غيري، وصواعقه عندي، فليت صواعقه عند من ديمه عنده، يعني ليته إن ليم يخصني بكرامة لا يقصدني بأذاه، بل يصرف امتنانه إلى من عنده عطاياه، ومثله لآخر:
فلو شاء هذا الدّهر أقصر سوءه ... كما أقصرت عنّا لهاه ونائله
ومثله للبحتري:
سحابٌ خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني قطره وهو مفعم
وبيت ابن الرومي أقرب إلى أبي الطيب:
أعندي تنقضّ الصّواعق منكما ... وعند ذوي الكفر الحيا والثّرى الجعد
والأصل في ذلك قول الحسين بن علي رضي الله عنهما: نال حارها من تولي قارها.
أرى النّوى تقتضيني كلّ مرحلةٍ ... لا تستقلّ بها الوخّادة الرّسم
تقتضيني: أي تتقاضاني، وتطالبني، والوخادة الإبل التي تسير الوخد، وهو ضرب سريع من السير، والرسم: جمع رسوم، وهي التي تسير الرسيم، وهو أيضاً ضرب من السير، والهاء في بها للمرحلة: أي لا ينهض بها.
يقول: أرى البعد يطالبني بكل مرحلة لا تقطعها الإبل السريعة السير، من طولها، فأظهر لسيف الدولة السير عنه والرحيل. وبينه أيضاً فيما يليه.
لئن تركن ضميراً عن ميامننا ... ليحدثنّ لمن ودّعنهم ندم
ضمير: اسم ماء في السماوة وقيل: جبل عن يمين طالب مصر، إذا خرج من الشام قاصداً مصر، والكناية في تركن وميامنها وودعن إلى الوخادة الرسم.
يقول: لئن تركت الإبل الوخادة الرسم ضميراً عن ميامنها، وأخذت بنا طيق مصر، ليحدثن لمن أفارقه ندم. واللام في قوله: ليحدثن جواب قسم محذوف: أي والله ليحدثن. واللام في لئن تركن زائدة دخلت توطئة للام الثانية، وحل جواب القسم محل جواب الشرط.
إذا ترحّلت عن قومٍ وقد قدروا ... ألاّ تفارقهم فالرّاحلون هم
الراحل: المرتحل.
يقول مخاطبا لنفسه: إذا قدر قوم على ألا يضطروك إلى مفارقتهم والرحيل عنهم، ثم اضطروك إلى ذلك، فهم مخلون بحقك، فيكونون بمنزلة المرتحلين عنك، لرغبتهم عنك، فلا فرق بين رحيلهم عنك، وإلجائهم إياك إلى فراقهم.
شرّ البلاد بلادٌ لا صديق بها ... وشرّ ما يكسب الإنسان ما يصم
ما يصم أي ما يصمه، ومعناه: ما يلحقه الوصم، وهو العيب.
يقول: شر البلاد بلاد لا صديق بها تسكن إليه، ويعينك على ما تريده، ويدفع ما يضرك، وشر كسب يكسبه الإنسان، ما يعاب به، وبذل عرضه بسببه.
وشرّ ما قنصته راحتي قنصٌ ... شهب البزاة سواءٌ فيه والرّخم
البزاة: الشهب البيض، وهي كرامها، والرخم: جمع رخمة، وهي طائر يشبه النسر، تأكل الجيف ولا تصيد، وهي من لئام الطير وقيل: الرخمة: الأنثى من النسور. وروى: اقتنصته وقنصته.
يقول: أنا كالبازي، وشعراؤك كالرخم، فلم سويت في المنزلة بيننا في الجائزة فيبطل فضل البازي فيم يعد لذلك العطاء عندي قدر. ومثله لأبي تمام:
كلابٌ أغارت في فريسة ضيغم ... طروقاً وهامٌ أطمعت صيداً أجدلا
بأيّ لفظٍ يقول الشّعر زعنفةٌ ... تجوز عندك لا عربٌ ولا عجم؟!
الزعانف: سقاط الناس، واحدها زعنفة، وأصله من زعنفة الأديم: وهو ما سقط منهن إذا قطع فلا ينتفع به، فشبه به رذال الناس، وقيل: الزعانف: أجنحة السمك، ثم يقال للدعي الملحق بالقوم زعنفة.
يقول: إن شعراءك الذين تسوي بيني وبينهم أدعياء في الشعراء، وإنهم من جملة رذال الناس، ليسوا بأهل للإقبال عليهم؛ لأنهم دخلاء في الشعر، ليسوا من العرب ولا من العجم، فتقبل منهم شعرهم، ويجوز عليك تمويههم.
وقال ابن جني: معناه ليست لهم فصاحة العرب، ولا تسليم العجم، والفصاحة للعرب، فهم فضول رذال.
وقيل: إنه عرض في هذا بالنامي، وكان أخص شعراء سيف الدولة وأنشد أبو الطيب يوما قول النامي:
ومن العجائب أنّ بيض سيوفه ... تلد المنايا السّود وهي ذكور
فاستحسنه.
هذا عتابك إلاّ أنّه مقةٌ ... قد ضمّن الدّرّ إلاّ أنّه كلم
العتاب: أدنى الملامة والمقة: المحبة.(1/278)
يقول: هذا عتابك في الظاهر، ولكنه محبة لك، يعني لم أعاتبك إلا من محبتي إياك، فكلامه كالدر في الحسن والرونق والصفاء، وإن كان في الصورة كلاماً، وهو كقول أبي تمام:
تخال به مبرداً عليك محبرّا ... وتحسبه عقداً عليك مفصّلا
والمصراع الأول من قول القائل:
ويبقى الودّ ما بقي العتاب
ومثل لآخر:
نعاتبكم يا أمّ عمرو لحبّكم ... ألا إنّما المقلىّ من لا يعاتب
فلما أنشد هذه القصيدة وانصرف، اضطرب المجلس، وقال له نبطي كان في المجلس: اتركني أسعى في ذمه، فرخص له في ذلك، والنبطي هو السامري، وفيه يقول أبو الطيب:
أسامريّ ضحكة كلّ رائي ... فطنت وأنت أغبى الأغبياء
صغرت عن المديح فقلت أهجى ... كأنّك ما صغرت عن الهجاء
وما فكّرت قبلك في محالٍ ... ولا جرّبت سيفي في هباء
فانصرف المتنبي فوقف له رجاله سيف الدولة في طريقه ليغتالوه، فلما رآهم أبو الطيب؛ وتبين السلاح تحت ثيابهم أمكن يده من قائم سيفه، وجاءها حتى خرقها، فلم تقدم عليه، ثم أنفذت الطير إلى أبي العشاير في أمره، فأنفذ عشرة من خاصته، فوقفوا بباب سيف الدولة أول الليل، وجاءه الرسول على لسان سيف الدولة، فسار إليه، فلما قرب منهم ضرب راجل منهم - بين أيديهم - إلى عنان فرسه، وسل أبو الطيب السيف، فوثب الراجل وتقدمت فرسه به الجيل، فعبر قنطرة كانت بين أيدهم واجترهم إلى الصحراء، فأصاب أحدهم نحرة فرسه بسهم فأنفذه، فانتزع أبو الطيب السهم، ورمى به. واستقلت الفرس وتباعد بهم ليقطعهم عن مدد - إن كان لهم - ثم رد عليهم بعد أن فنى النشاب، فضرب أحدهم فقطع الوتر وبعض القوس، وأسرع السيف في ذراعه ووقفوا على المضروب، فسار وتركهم. فلما يئسو منه، قال له أحدهم في آخر الوقت: نحن غلمان أبي العشائر، فلذلك قال: ومنتسب عندي إلى من أحبه وللنبل حولي من يديه حفيف الأبيات........ .
وعاد أبو الطيب إلى المدينة في الليلة الثانية مستخفياً فأقام عند صديق له، والمراسلة بينه وبين سيف الدولة متصلة، وسيف الدولة ينكر أن يكون فعل ذلك، أو أسر به فعند ذلك قال أبو الطيب:
ألا ما لسيف الدّولة اليوم عاتبا ... فداه الورى أمضى السّيوف مضاربا
ألا تنبيه وما للاستفهام على جهة الإنكار، وعاتبا نصب على الحال ومضاربا نصب على التمييز، والعتب: أدنى الغضب.
يقول: ما باله اليوم قد عتب علي، جعل الله الورى فداء له، وقوله: أمضى السيوف مضاربا: هذه الجملة في موضع نصب على الحال، أي فداه الورى في هذه، أي في حال كونه أمضى السيوف.
وما لي إذا ما اشتقت أبصرت دونه ... تنائف لا أشتاقها وسباسبا!
التنائف: جمع تنوفة، وهي الأرض الواسعة البعيدة الأطراف. والسباسب: جمع سبسب وهو الفضاء الواسع.
يقول: ما لي إذا ما اشتقت إلى لقائه حال بيني وبينه إعراضه. أقام عتب سيف الدولة مقام المفاوز التي يحتاج أن يقطعها، حتى يصل إلى مراده، كما أن المفاوز مانعة لمن أراد الحاجة، فكذلك عتبه مانع من مراده.
وقيل: ضرب التنائف والسباسب: مثلا للصد والمباعدة.
وقد كان يدني مجلسي من سمائه ... أحادث فيها بدرها والكواكبا
أي ماله أبعدني عن مجلسه؛ بعد أن كان يقربني منه، ويجعلني من جلسائه؟! لما جعله بدراً جعل مجلسه سماء وجعل خصاله وأفعاله كواكب، وكذلك جعل ندماءه كواكب سمائه، والهاء في فيها وفي بدرها تعود إلى السماء.
حنانيك مسئولاً، ولبّيك داعيا ... وحسبي موهوباً وحسبك واهباً
حنانيك: أي تحنناً بعد تحنن، ومعناه الرحمة، معناه أسألك رحمة بعد رحمة وأرجو أن تضاعف على النعمة، ولبيك: أي إجابة بعد إجابة إذا دعوتني وحسبي موهوباً: أي حسبي من جميع هباتك، أن تهب لي نفسي، وقيل: يكفني ما وهبت من المال، وحسبك واهباً: أي كملت في هذه الصفة، فالكفاية واقعة في كونك واهباً، لا يزاد معك إنسان آخر يكون واهباً، وقيل: حسبك من جميع المناقب أن تكون واهباً نفسي مني، ونصب حنانيك ولبيك على المصدر. أو بفعل مضمر، ونصب مسئولا وداعياً وموهوباً وواهبا على الحال.
أهذا جزاء الصّدق إن كنت صادقاً؟ ... أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا؟(1/279)
يقول: إن كنت صادقا في مدحك، فليس جزائي منك الإبعاد والعتب، وإن كنت كاذباً في مدحك فقد تكلفت لك المجاملة في القول، فكان من الواجب أن تعاملني بمثل ذلك، فعلى الحالين أستوجب منك خلاف ما فعلته بي.
وقيل: معناه إن كنت صدقت فيما عاتبتك عليه فما جزاء الصدق أن تأمر بقتلي! وإن كذبت، فالواجب على كرمك أن تعفو عني.
وإن كان ذنبي كلّ ذنبٍ فإنّه ... محا الذّنب كلّ المحو من جاء تائبا
الهاء في إنه ضمير الشأن، أي فإن الشأن محا الذنب من جائ تائبا.
يقول: إن كان ذنبي يوازي ذنوب الناس كلهم، فإن توبتي تمحوه، فإن من جائ تائباً استوجب العفو، وإن كان ذنبه بمنزلة جميع الذنوب، أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له ومثل البيت قول الآخر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امرئٍ لا يقبل العذر مذنب
قال: ودخل على سيف الدولة، بعد تسع عشرة ليلة، فتلقاه الغلمان، وأدخلوه إلى خزانة الكسوة فخلع عليه وطيب، ثم دخل على سيف الدولة فسأله سيف الدولة عن حاله وهو مستح منه، فقال له أبو الطيب: رأيت الموت عندك أحب إلي من الحياة دونك، فقال له سيف الدولة: بل يطيل الله بقاءك ودعا له.
ثم ركب أبو الطيب وسار معه خلق كثير إلى منزله، وأتبعه سيف الدولة طيباً كثيراً وهدية، فقال أبو الطيب يمدحه وأنشدها إياه في شعبان سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة.
أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل ... دعا فلبّاه قبل الرّكب والإبل
يقول: لما وقفت على الطلل، بكيت قبل أصحابي، وقبل بكاء الإبل، فكأن الطلل دعا دمعي فأجابه قبل أصحابي.
ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظلّ يسفح بين العذر والعذل
الأصيحاب: تصغير الأصحاب، وأكفكفه: أي أحبسه، وأردده والها: للدمع. وظل: أي الدمع. يسفح: أي يجري.
يقول: ظللت عند إجابة الدمع أكف دمعي عن السيلان، وأمنعه من الهملان، وظل الدمع يسيل ولا ينقطع، وأمنعه ولا يمتنع، فكان يجري بين عاذل من أصحابي على البكاء، وبين عاذر منهم، لما يرى من شدة صبابتي.
أشكو النّوى ولهم من عبرتي عجبٌ ... كذاك كانت وما أشكو سوى الكلل
الكلل: جمع الكلة، وهي الحجلة والتاء في كانت: للعبرة.
يقول: كنت أشكو النوى إليهم، وهم يتعجبون من دمعي، وليس ذلك بموضع تعجب؛ لأن الدمع كان هكذا، حين كانت المحبوبة قريبة منين لا يغيبها عن عيني سوى كلل. فالآن وقد بعدت وحالت بيننا المفاوز والبلاد، أجدر أن أبكي، وقوله: كذا كانت خطاب للأصحاب، أي قلت لهم: لا تعجبوا فإني كنت هكذا أبكي وهي قريبة مني.
وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللّقاء كمشتاق بلا أمل
أي كصبابة مشتاق بلا أمل، فحذف المضاف.
يقول: إذا كنت أبكي وهي بالقرب، وكان البعد بيننا كله، فالآن - مع هذا البعد - أولى بالبكاء، لأن الاشتياق، إذا كان مع الأمل من اللقاء، لا يكون في الشدة كالاشتياق إذا كان من غير الأمل! ومثله لأبي تمام:
يصدّون عمّن لو تيقّن أنّه ... صدود انقطاعٍ لانثنى فتقطّعا
متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل
يقول: إذا زرت قوم حبيبك الذي تهواه: جعلوا تحفتك السيوف والرماح، يعني أنهم وإن قصدوني عن زيارتي إياها بالرماح والسيوف، طلباً لقتلي، فإني لا أمتنع عن زيارتها، وقد بين ذلك بقوله.
والهجر أقتل لي ممّا أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل؟!
يقول: إن هجرت زيارتها خوفاً من القتل، فالهجر أشد قتلاً لي، وما أراقب من قومها، ربما قارنته السلامة، وخوفي من قومها كالبلل.
ما بال كلّ فؤادٍ في عشيرتها ... به الّذي بي وما بي غير منتقل؟
يقول: ما بال كل قلب من قلوب عشيرتها يحبها! فبهم مثل ما بي من حبها، وكلنا ثابت الحب لها، غير منتقل الهوى عنها؛ لأنه إذا أخبر أن لكل فؤاد ما بفؤاده ثابت، فقد تضمن ذلك الإخبار عما في قلوبهم من الحب، أنه غير منتقل.
وقيل - وهو الأولى - معناه: أن كل أحد من عشيرتها يحبها مثلما أحبها لا تفاوت بيننا في حبها، فكأننا نحبها بحب واحد، وهذا الحب في قلوبنا أجمع، فكيف يكون وجدي وشوقي في قلب غيري وهو غير منتقل عني، والشيء الواحد لا يحل مكانين في زمان واحد؟!(1/280)
مطاعة اللّحظ في الألحاظ مالكةٌ ... لمقلتيها عظيم الملك في المقل
اللحظ: العين ها هنا.
يقول: إنها ملكت عيون الناس بحسن عينيها، وغنج ألحاظها، فلم تدع عينا أن تتخطاها إلى غيرها، فهي إذاً مطاعة العين فيما بين العيون كلها، وهي مالكة لمقلتيها الملك العظيم فيما بين المقل.
تشبّه الخفرات الآنسات بها ... في مشيها فينلن الحسن بالحيل
الخفرة: الحيية، والآنسة: التي تأنس محدثها ويأنس هو بها.
يقول: إن النساء الحسان يتشبهن بها في مشيها فيمسن كما تميس هي، فينلن حسن مشيها بالحيل والسرقة، وكأنهن يحاكينها في المشي فقط.
قد ذقت شدّة أيّامي ولذّتها ... فما حصلت على صابٍ ولا عسل
الصاب: شجر مر.
يقول: جربت أحوال الدهر، وذقت حلاوته ومرارته، فما وجدت لشيء منها حقيقة، لأنه لا يدوم ولا يبقى.
وقد أراني الشّباب الرّوح في بدني ... وقد أراني المشيب الرّوح في بدلي
فاعل أراني: الشباب، والمشيب والروح مفعوله الثاني، والكناية في أراني مفعوله الأول. والبدل قيل: أراد به غيره من الشبان ومعناه: أني ما دمت شاباً رأيت روحي في بدني، والآن لما شبت أرى الحياة في غير من الشبان، فكأن الروح التي كانت في انتقلت مني إلى غيري.
وقيل: معناه أيقنت عند طلوع الشيب أني قد ندبت إلى فراق الدنيا ليعمرها غيري.
وقيل: أراد بالبدل ولده، أي ما كنت أراه في نفسي من اللذة والروح في الحياة، انتقل مني إلى ولدي، فصرت أرى في بدلي وهو ولدي الذي يخرج مني، بعد ما كانت في بدني، وكأني قد انتقلت من الدنيا، وقام ولدي مقامي.
وقد طرقت فتاة الحيّ مرتدياً ... بصاحبٍ غير عزهاةٍ ولا غزل
طرقتها: أتيتها ليلاً والعزهاة: الجافي الذي لا يصبو إلى النساء ولا يرغب فيهم والغزل: ضده.
يقول: ربما زرت حبيبتي ليلا، وأنا متقلد بسيفي، وجعله صاحبه، ثم قال: إن صاحبي لا يكره النساء ولا يميل إليهن، فهو لا عزهاة ولا غزل.
فبات بين تراقينا ندفّعه ... وليس يعلم بالشّكوى ولا القبل
يقول: ضاجعتها، وعلي سيفي، فبات بيني وبينها، وكنا ندفعه إلى جانب عند المباشرة، وهو لا يعلم ما يجري بيننا من القبل والشكوى.
ثمّ اغتدى وبه من ردعها أثرٌ ... على ذؤابته والجفن والخلل
الردع: أثر الزعفران وأثر الطيب، وذؤابة السيف: السير الذي في طرف قائمه. والجفن: الغمد. والخلل: الغاشية التي يغشى بها السيف.
يقول: اغتدى السيف وقد علق به من طيها أثر، وكذلك علق بذؤابته وغمده.
لا أكسب الذّكر إلاّ من مضاربه ... أو من سنان أصمّ الكعب معتدل
يقول: لا أكسب الذكر الجميل، والثناء الحسن، إلا بحد السيف وسنان الرحم الأصم الكعب، فلهذا لا أفارقه.
جاد الأمير به لي في مواهبه ... فزانها وكساني الدّرع في الحلل
به: أي بالسيف فزانها: أي زان المواهب.
يقول: هذا السيف الذي لا أكسب الذكر إلا من مضاربه، وهبه لي الأمير في جملة مواهبة، فزان هذا السيف.
وقيل: زان سيف الدولة المواهب، وكذلك كساني الدرع في جملة ما كساني من الحلل.
ومن عليّ بن عبد الله معرفتي ... بحمله، من كعبد الله أو كعلي؟!
معرفتي: ابتداء. ومن علي بن عبد الله خبره.
يقول: إنما تعلمت حمل السيف من سيف الدولة، ومن يشبه سيف الدولة أو والده في الجود والكرم؟!
معطى الكواعب والجرد السّلاهب وال ... بيض القواضب والعسّالة الذّبل
السلاهب: الطوال من الخيل والعسالة: الرماح المضطربة.
يقول: سيف الدولة هو يهب هذه الأشياء كلها.
ضاق الزّمان ووجه الأرض عن ملكٍ ... ملء الزّمان وملء السّهل والجبل
عن ملك: يعني ملأ الزمان بأفعاله ومناقبه وذكره، وملأ الأرض بخيله ورجله، حتى ضاقت عنه.
فنحن في جذلٍ، والرّوم في وجلٍ ... والبرّ في شغلٍ، والبحر في خجل
يعني: نحن في سرور من إحسانه إلينا، والروم في خوف من غزوه إليهم، والبر في شغل بخيله وجوده، والبحر في خجل من كثرة عطائه.
من تغلب الغالبين النّاس منصبه ... ومن عديّ أعادي الجبن والبخل
هو من تغلب، وتغلب من عدي، وروى: العنصر والمنصب، وهما الأصل.(1/281)
يقول: أصله من تغلب الذين هم يغلبون الناس، ومن عدي أيضاً وهم أعادي البخل والجبن.
أي إنهم في طباعهم الجود والشجاعة.
والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ... بالجاهليّة عين العيّ والخطل
تنجده: أي تعينه، والخطل: الكلام الفاسد.
يقول: إذا استعنت في مدحه بذكر أيام آبائه، الذين كانوا في الجاهلية وإعانة مدحه بوصفهم عين العي والخطل، لأنك تجد في مناقبه ما لا يحتاج معه إلى ذكر آبائه.
قال ابن جنيك سألته عن هذا، قال: بعض الشعراء قد مدح سيف الدولة بذكر آبائه وأجداده ويعني به: النامي الشاعر.
وقيل: يجوز ألا يراعي السبب في ذلكن غير أنه لما قال فيما قبله من تغلب البيت. عاد إلى مدحه في نفسه، وبين أنه لم يذكر آباءه لاحتياجه إلى ذلك.
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليبٌ وأهل الأعصر الأول؟!
يقول لذلك الشاعر. أو لنفسه: ليت أن الشعر يستوفي فضائله ومآثره، أي أن ما فيه من المناقب لا تحيط به المدائح، فما كليب وغيره من المتقدمين في الأزمنة الخالية بالإضافة إليه، حتى تذكر مناقبهم في مدحه!
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشّمس ما يغنيك عن زحل
يقول: خذ ما قرب منك، ودع ذكر من غاب عنك، ولا سيما القريب منك الذي تشاهده، أكثر مناقب من البعيد الذي سمعت بذكره، وضرب المثل وشبهه بالشمس وأباه بزحل، فإن الشمس أقرب إلينا من زحل، وأبين منه نوراً، وأكثر منه فضلا.
يعني: عليك بمدح سيف الدولة الذي هو كالنور. وهذا البيت من محاسن الشعر.
وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل
يقول: قد وجدت لمدحك مجالاً، ولمكانك في الوصف مقالاً، فإن كان لك لسان يساعدك، وبيان يطاوعك فامدح. ومثله للنميري:
إذا امتنع المقال عليك فامدح ... أمير المؤمنين تجد مقالا
إنّ الهمام الّذي فخر الأنام به ... خير السّيوف بكفّي خيرة الدّول
خير السيوف: خبر إن.
يقول: إن الملك الهمام الذي يفتخر به الأنام هو خير السيوف بكفي خيرة الدول، وهي دولة الإسلام، لأنه سيفها.
تمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيءٍ: ليت ذلك لي
يقول: إنه بلغ فوق ما يتمناه، فلا يرى شيئاً لم يصل إليه، فيتمنى أن يكون له! بل إذا تمنى شيئاً وصل إليه، وإلى ما هو خير منه.
ومعنى قوله: تمسي الأماني صرعى دون مبلغه معنى بديعي، لأبلغ مبلغاً، كل أمنية ساقطة دونه، فلا يحتاج أن يتمناها مع تجاوزه عنها، وهو في هذا ينظر إلى قول عنترة العبسي.
ألا قاتل الله الطّلول البواليا ... وقاتل ذكراك السّنين الخواليا
وقيلك للشّيء الّذي لا تناله ... إذا ما حلافي العين: يا ليت ذاليا!
انظر إذا اجتمع السّيفان في رهجٍ ... إلى اختلافهما في الخلق والعمل
الرهج: الغبار.
يقول: إذا ارتفع غبار الحرب، فانظر إلى سيف الدولة، وإلى السيف الذي في يده؛ لتعرف فضل ما بينهما خلقاً وعملا، يعني أنه وإن شارك السيف في الاسم، فهو مخالف له في الخلق والعمل والمضاء، والعزم والفناء.
هذا المعدّ الدّهر منصلتاً ... أعدّ هذا الرّأس الفارس البطل
أعد: فاعله المعد لريت الدهر. والمنصلت: المتجرد من الغمد، ومنصلتاً نصب على الحال.
يقول: إن سيف الدولة سيف جعله الخليفة عدته لحوادث الدهر، وهذا السيف قد اتخذ سيف الحديد عدة للحرب، ليضرب رءوس الأبطال، فهذا الأول إشارة إلى سيف الدولة والثاني إشارة إلى سيف الحديد.
فالعرب منه مع الكدريّ طائرةٌ ... والرّوم طائرةٌ منه مع الحجل
الكدري: ضرب من القطا، تضرب ألوانها إلى الكدرة والحجل: القبج.
يقول: إن الروم والعرب هربت منك، والتجأت إلى البوادي والجبال، فالعرب هاربة إلى البوادي مع القطا، والروم إلى الجبال مع القبج.
وخص العرب بالقط؛ لأنها تكون في بلاد العرب دون الروم، وخص الروم بالحجل، لأنها تكون في بلاد الروم وجبالها.
وما الفرار إلى الأجبال من أسدٍ ... تمشي النّعام به في معقل الوعل
الضمير في به للأسد، وأراد به: سيف الدولة، وأراد بالنعام ها هنا الخيل خيل سيف الدولة العراب.
يقول: كيف يمنع الروم فرارها إلى الأجبال من أسد تمشي به الخيل في الجبل التي هي معقل الوعل.(1/282)
شبه الخيل بالنعام لسرعتها. وفيه إشارة إلى أنه لا يمتنع عليه أمر رامه؛ لأنه إذا أمكنه أن يبلغ بالنعا وهي سهلية إلى رءوس الجبال، فكيف يقدرون على التحرز منه في معقل الأوعال.
وقيل: معناه أن سيف الدولة لو ركب النعام مشت به في معاقل الأوعال، مع أنها من طير السهل، لأنه قد سهل له كل صعب.
وقيل: أراد بالنعام حقيقتها. ومعناه: أنه قد أحوج النعام التي هي من طيور السهل إلى الفرار منه ومن جيشه إلى رءوس الجبال.
جاز الدّروب إلى ما خلف خرشنةٍ ... وزال عنها وذاك الرّوع لم يزل
الدروب: مضايق الروم. وقيل: هي دروب الروم. وقيل: موضع بعينه. وخرشنة: بلد في الروم.
يقول: دخل بلاد الروم حتى جاوز الدروب والمضايق، وخلف خرشنة وراء ظهره، ثم عاد منها بعد الإغارة والسبي وخوفه بعد في قلوبهم لم يزل عنهم.
فكلّما حلمت عذراء عندهم ... فإنّما حلمت بالسّبي والجمل
يقول: قد تمكن رعبك في قلوبهم، فالبكر منهم ترى في نومها أنها تسبى؛ لتمكن ذلك في نفسها في حال اليقظة، فهي تراه في المنام، أو ترى الجمل؛ لأنه لا يكون في بلاد الروم، فالنفس له أنكر والطباع منه أنفر.
وقيل: خص الجمل؛ لأنها إذا سبيت تحمل على الإبل.
وقيل: معناه أنهن يسبين صغاراً فيحملن على الجمال إلى عند أصحاب سيف الدولة؛ لأنها أصحاب جمالز ومثله لعلي بن جبلة:
وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمّدٍ ... رصدان: ضوء الصّبح والإظلام
ومثل ذلك لأبي الطيب:
يرى في النّوم رمحك في كلاه ... ويفرق أن يراه في السّهاد
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزي بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول!؟
الجزي: جمع جزية يقول: إن كنت ترضى منهم بالجزية، أعطوك منها ما تطلب، فهم يتمنون ذلك، كما يتمنى الأعور الحول، لأن الجزية خير لهم وأحب في أنفسهم من السبي والقتل، كما أن الحول خير من العور.
ناديت مجدك في شعري وقد صدرا ... يا غير منتحلٍ في غير منتحل
صدرا: راجع إلى مجد سيف الدولة وشعر المتنبي، وفيه إشارة إلى أنهما ليسا بمستحدثين، ولو قال: وردا لأوهم ذلك، والانتحال: ادعاء الشيء كذباً.
يقول: ناديت مجدك فيما أقوله في مدائحك، فقلت في ندائي: يا مجداً غير منتحل في شعر غير منتحل. يعني: أن مجدك حقيقة لك لم تنتحله، كما أن شعري كذلك غير منتحل.
وقوله: قد صدرا أي صدر الشعر مني والمجد منك ويجوز أن يريج صدر الشعر، والمجد من فعلك، إذ لولا عطاؤك لما كان مني مدح.
بالشّرق والغرب أقوامٌ نحبّهم ... فطالعاهم وكونا أبلغ الرّسل
يقول، قلت لمجدك وشعري لما سارا في البلاد: إن في الشرق والغرب لي أحبة، فأبلغا أحبتي عند سيف الدولة.
وذلك إشارة إلى اشتهار المجد والشعر، إلا أنه لما كان مشتملا على ذكره مجده، كان المجد أيضاً سائراً بسيره ومشتهراً باشتهاره. وقد بين تتمة الرسالة فيما يليه فقال:
وعرّفاهم بأنّي في مكارمه ... أقلّب الطّرف بين الخيل والخول
الخول: جمع الخائل، وهو الخادم.
يقول للمجد والشعر: عرفا أحبتي ما أنا فيه من الكرامة، وما أعطاني الأمير من الخيل والعبيد.
يا أيّها المحسن المشكور من جهتي ... والشّكر من قبل الإحسان لا قبلي
يقول: أحسنت إلي وشكرت على إحسانك إلي، فالشكر من جهة إحسانك لا من جهتي، فكأنه هو الشاكر دوني.
ما كان نومي إلاّ معرفتي ... بأنّ رأيك لا يؤتى من الزّلل
أقام النوم مقام الغلفة والسهو، يعتذر مما بدر منه في القصيدة الميمية.
يقول: ما نمت عما وجب من صيانة مدحك، عن خلطه بالعتاب المؤلم، إلا بعد ثقتي باحتمالك وحلمك، وأنك لا تعجل علي بعقوبتك. وفوق ها هنا ظرف كما تقول: نمت فوق السرير. وقيل: إنه صفة لمصدر محذوف، أي لما وثقت بحلمك وعلمت أنك لا تزل في رأيك، تسحبت في العتاب تسحباً فوق ما عرفته من ثبات رأيك.
وقيل: معناه يا أيها الملك الذي أحسن إلي وشكرته على إحسانه، ما لحقني السهو والتفريط إلا بعد سكون نفسي إلى فضلك، وأنك لا تزل في رأيك.
أقل، أنل، أقطع، أحمل، علّ، سلّ، أعد ... زد، هشّ، بشّ، تفضّل، أدن، سرّ، صل(1/283)
أقل: من الإقالة من العثرة، والعفو عن الزلل. أنل: من الإنالة، وهو إسداء العطية. أقطع من الإقطاع. أحمل: من حملته على فرسي، ومنه قوله تعالى: " ولا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلهُمً ". عل: من إعلاء المحل. يقال: عليت منزلته، وأعليتها. سل: من تسلية الهموم أعد: من الإعادة إلى العادة الأولى. زد: من الزيادة. وهش بش من الهشاشة، والبشاشة، وهما: التهلل، واللقاء بالبشر، والطلاقة. تفضل: من تفضل فلان على صاحبه. أدن: من الإدناء وهو التقريب. وسر: من سررته أسره. صل: من الصلة وهي العطية، أو من المواصلة وهي المقاربة.
ومعنى هذه الكلمات: إما دعاء لسيف الدولة. أي لا زلت أبداً تقيل عثرة من يبغي من أصحابك وتنيل أولياءك وتقطعهم ضياعك، وتحملهم على خيلك إلى آخر البيت.
وإما للسؤال والطلب، فالمعنى: أقلني من عثرتي، وأنلني من فضلك، وأقطعني ضيعة من ضياعك، واحملني على فرس من خيلك، وعل منزلتي عندك، وسل ما حصل في قلبك من غش، أو سل ما في قلبي من الهم بإعراضك عني، وأعدني ما كنت عليه من المنزلة، وسرني إلى الإجابة إلى ما سألتك وقيل سر قلبي برضاء عني، وصلني بصلة من صلاتك، أو صل ما بيني وبينك.
ويحكى أن سيف الدولة وقع بخطه تحت أقل أقلناك. وتحت أنل يحمل إليه كذا وكذا ألف درهم، وتحت أقطع أقطعناك الضيعة الفلانية بباب حلب، وتحت أحمل يقاد إليه فرس مركب وتحت عل قد فعلنا وتحت سل قد فعلنا فاسأل، وتحت أعد أعدناك إلى حالك من حسن رأينان وتحد زد يزاد كذا وكذا، وتحت تفضل قد فعلنا، وتحت أدن قد أدنيناك وتحت سر قد سررناك.
فقال أبو الطيب: إنما قلت هب سرّية لي فأمر بجارية له، وتحت سل قد فعلنا.
ويحكى أن المعقلي وكان شيخاً ظريفاً قال لسيف الدولة: قد فعلت به كل شيء سألك، فهلا قلت: لما قال: هش بش هئ هئ: يحكى الضحك، فضحك سيف الدولة وقال: اذهب يا ملعون.
لعلّ عتبك محمودٌ عواقبه ... فربّما صحّت الأجسام بالعلل
يقول: لعلي أتأدب بعد عتبك علي، ثم بعد عفوك عني هذه الكرة، فيكون عتبك علي تهذيباً لأدبي، ويؤدي إلى العاقبة المحمودة، كما أن بعض العلل يكون محمود العاقبة، لما يؤمن معه من الأمراض، كالزكام، فإنه يؤمن معه من أدواء كثيرة من أدواء الرأس، ويعقبه الصحة. كالفتور الذي ينال شارب الدواء ثم يتعقبه صحة كثيرة وكضرب المؤدب للغلام.
قال ابن جني: وهذا من الكلام الذي يقضي بفضله كل من فهمه.
وما سمعت ... ولا غيري بمقتدر أذبّ منك لزور القول عن رجل
عن رجل: عني به نفسه، كأنه كان قد كذب عليه بعض حاسديه عند سيف الدولة، ولم يقبل قوله، ولكنه عاتبه على ذلك من غير علم هذا الحاسد. فقال: لم أسمع أنا ولا غيري بملك يقتدر على الانتقام. أذب منك لزور القول عن رجل سعى إليك بزور القول.
لأن حلمك حلمٌ لا تكلّفه ... ليس التحكّل في العينين كالكحل
الكحل: أن تكون أشفار العين سوداً خلقةً. والتكحل: استعمال الكحل.
يقول: إنما توقف على أمر من يسعى عندك، لن حلمك في طباعك غير متكلف، فلا يتغير بسعاية ساع، كما يتغير الحكم التكلفي. فحلمك ثابت لا يزول، كما أن الحكل في العين إذا كان خلقة لا يزول ولا يحول، وحلم غيرك من الملوك متكلف سريع الانتقال، كما أن التكحل لا دوام له.
وما ثناك كلام النّاس عن كرمٍ ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟!
ما ثناك: ما صرفك. والهطل: المتتابع، وروى: ومن يرد ومن يسد شبه كرمه بالعارض الهطل فقال: فكما أن أحداً لا يمكنه سد طريق العارض الهطل، كذلك لا يمكن أحد أن يمنعك من استعمال الكرم.
أنت الجواد بلا منٍّ ولا كدرٍ ... ولا مطالٍ وى وعدٍ ولا مذل
المذل: الضجر من الشيء.
يقول: أنت الجواد الذي لا يمن بعطائه، ولا يكدر معروفه بالمن وغيره، وليس في عطائه مطل ولا مدافعة ولا وعد، بل يعطى العطية ابتداء، ولا يضجر من جوده ولا يندم.
وقيل: معناه أن يجود بالتثبت والسكون، لا بالطيش والخفة.
أنت الشّجاع إذا ما لم يطأ فارسٌ ... غير السّنّوز والأشلاء والقلل
السنور: قيل: جميع السلاح، وقيل: ما يلبس من السلاح، كالدروع ونحوها، والأشلاء: جمع شلو، وهو جسد المقتول. والقلل: الرءوس(1/284)
يقول: أنت الشجاع المشهور، في حال لا يقع حافر فرسه إلا على أجساد القتلى، ورءوسهم وسلاحهم.
وردّ بعض القنا بعضاً مقارعةً ... كأنّه من نفوس القوم في جدل
يقول: أنت الشجاع إذا ضاق المجال، وقرع القنا بعضه بعضاً، فصار الرمح يرد الآخر عن الطعن، كما يرد الخصم حجة خصمه.
شبه النفوس بالمعاني، والرماح بالحجج، والاعتراضات التي تدور بين الخصمين والحرب بالجدال. وهذا البيت متصل بالذي قبله.
والمعنى: يعني أنه الفارس الشجاع في جميع الأحوال.
لا زلت تضرب من عاداك عن عرضٍ ... بعاجل النّصر في مستأخر الأجل
عن عرض: أي عن يمنة ويسرة، وهو متعلق بقوله تضرب.
يقول: لا زلت تضرب أعداءك معترضاً لهم بسيفك، والله يؤيدك بنصر قد عجله لك، وأجل قد أخره الله عنك، فكأنه أخر الله أجلك، وعجل نصرك.
فاستحسن سيف الدولة ومن حضره القصيدة هذه وأطنبوا في وصفها، فقال ارتجالا:
إنّ هذا الشّعر في الشّعر ملك ... سار فهو الشّمس والدّنيا فلك
يقول: شعري ملك الشعر، كما أنك ملكت الخلق، وهو شمس يسير في الدنيا، كما تسير الشمس في الفلك.
عدل الرّحمن فيه بيننا ... فقضى اللّفظ لي والحمد لك
يقول: عدل الله تعالى في قسمه هذا الشعر بيني وبينك، فأعطاني لفظه، وأعطاك معناه. وهو الحمد والثناء.
فإذا مرّ بأذني حاسدٍ ... صر ممّن كان حيّا فهلك
يقول: إذا سمعه من يحسدك على مجدك، ومن يحسدني على فضلي، غلب على قلبه الحسد، فأهلكه، فيهلك بسببه.
ولم أنشده: أقل أنل رأى قوماً يعدون ألفاظه فزاد فيه وأنشده.
أقل، أنل، أن، صن، احمل، علّ، سلّ، أعد ... زد، هش بشّ، هب، اغفر، أدن، سرّ، صل
أن: أمر من الأون، وهو الرفق. وصن أمر من الصيانة، والمراد به حفظ الجاه.
فرآهم يستكثرون الحروف فقال. يظهر مقدرته على جمع كلمات كثيرة في بيت واحد.
عش، ابق، اسم، سد، قد، جد، مر، انه، ره، فه، اسر، نل ... غظ، ارم، صب، احم، اغز، اسب، رع، زع، ده، له، اثن، بل
عش: من العيش، وابق: من البقاء، واسم: من السمو. وسد: من السيادة، وقد: من قاد الجيش، وجد: من الجود، ومر: من الأمر بالشيء، وانه: من النهي، أي لا زلت آمراً ناهياً. وره: من وريته أريه، وهو داء في الجوف، أي أصب اعدو بهذه الآفة. وفه: من الوفاء بالعهد، واسر: من السرية، أي جهز الجيش إلى الأعداء.
وقيل: معناه الدعاء، أي لا زلت أبداً تسري إلى أعدائك. ونل: من النيل، وهو الإدراك، أي لا زلت تدرك من أعدائك إرادتك، ويجوز نل بضم النون من نلته: أي أعطيته. وغظ: أي غظ حسادك بما يرون من إقبال دولتك وارم: من يكيدك. وصب: من صاب السهم الهدف، أي أصابه، أي لا زلت ترمي أعداءك فتصيب مقاتلهم. واحم: من حميت الرجل إذا منعته، أي احفظ حوزتك. واغز: من الغزو. واسب: من السبي أي لا زلت أبداً تغزو الأعداء، وتسبي زراريهم. ورع: أي أفزع أعداءك، أي لا زلت كذلك. زع: أي كف شر أعدائك. ده: من وديت القتيل، إذا أعطيت ديته، أي لا زلت تحمل الدية عن القاتل لكرمك. له، من الولاية، أي لا زلت تلي الولايات. واثن: أي اصرف أضدادك عن الوصول إليك: وقيل اثن من ثنيت الفعل إذا فعل مرة بعد مرة. أي لا زلت كلما وليت ولاية ثنيتها بأخرى، وشفعتها بما هو خير منها، وبل: من الوبل. وهو المطر إذا اشتد، أي لا زلت تعطي عطاء كالوابل.
وهذا البيت لم يسبقه أحد إلى مثله. ولا لحقه أحد فيه، وهو مركب من أربع وعشرين كلمة، وهي مع ذلك فصيحة، وقد قال قبله عدة من الشعراء فلم يزيدوا على عشر كلمات كقول أبو العميثل:
اصدق، وعفّ، وبر، واصبر، واحتمل ... واحلم، ودار، وكاف، وانصر، واسمع
والأصل قول امرئ القيس:
أفاد، وجاد، وساد، وحاد وقاد، وباد، وعاد، وأفضل
فقال سيف الدولة: أيمكن أكثر من هذا؟! فقال: نعم ولكن يغيظ جداً
وهذا دعاء لو سكتّ كفيته ... لأني سألت الله فيك وقد فعل
أي هذا الدعاء أمر زائد، لأن كلما سألت الله فيك، قد فعله الله فيك، فلو سكت كنت كفيته.(1/285)
وقال أيضاً وقد حضر مجلس سيف الدولة في شوال سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة، وبين يديه طلع ونارنج، وهو يمتحن الفرسان فقال لابن جش وهو شيخ المصيصة وكان عالماً: لا يتوهم أن هذا للشرب. فقال أبو الطيب ارتجالا:
شديد البعد من شرب الشّمول ... ترنج الهند أو طلع النّخيل
الشمول: الخمرة. وسميت بذلك لأنها تشمل عقل شاربها، وقيل: لأنها تجتمع شمل الندامى عليها. والترنج: جمع ترنجة، وهي لغة. والأصح: الأترج، والأتجة. والطلع: الثمر: أول ما يخرج وهو في كمة، وكان الذي بين يدي سيف الدولة هو نارنج فسماه أترجاً، لأنه نوع من أنواعه.
يقول: هذا الطلع والأرتج بعيد من الشرب عليه، لم يحضر لذلك. قوله: ترنج الهند مبتدأ، وشديد البعد خبره مقدم عليه.
وقال ابن جني: في الكلام حذف. فقوله شديد البعد خبر ابتداء محذوف، أي أنت شديد البعد. وقوله: ترنج الهند: مبتدأ، وخبره محذوف: أي عندك، أو في مجلسك، أو بين يديك ترند الهند. وعلى الوجه الأول لا حذف فيه، وهو أولى وأو في قوله: أو طلعب النخيل بمعنى الواو، كما قيل في قوله تعالى: " أَوْيزيدونَ ".
ولكن كلّ شيءٍ فيه طيبٌ ... لديك من الدّقيق إلى الجليل
يعني: أنك لم تحضر هذا لأجل الشرب، ولكن لأجل طيبه، وكل شيء فيه طيب دق أو جل، فهو عندك وبين يديك.
وميدان الفصاحة والقوافي ... وممتحن الفوارس والخيول
ممتحن: يجوز أن يكون موضع الامتحان، ويجوز أن يكون مصدراً كالامتحان.
يقول: عندك أيضاً مجال الفصاحة، والأشعار، لمعرفتك بهما، وعندك موضع امتحان الفوارس والخيل، لأنك أعرف الناس بهذه الأشياء كلها.
فلم يتبين معنى البيت الأول لقوم حضروا فقال يرد على من أنك عليه استعمال لفظ: الترنج:
أتيت بمنطق العرب الأصيل ... وكان بقدر ما عانيت قيلي
الأصيل: هنا القوى المكين الذي له أصل.
يقول: إنما نطقت بكلام العرب الفصيح، وكان وصفي بقدر ما شاهدته ورأيته في الحال.
فعارضه كلامٌ كان منه ... بمنزلة النّساء من البعول
أي تعرض له وناقضه، والهاء في منه تعود إلى منطق العرب وكذلك في قوله: فعارضه.
يقول: عارض قولي الفصيح قول ركيك ضعيف لكان كلامي ذكر، وكلام من عارضني أنثى. وهذا كقول الراجز:
إنّى وكلّ شاعرٍ من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وهذا الدّرّ مأمون التّشظّي ... وأنت السّيف مأمون الفلول
التشظي: التكسر، والتشقق يقول: كلامي در مخالف للدر الحقيقي؛ لأن الدر غير مأمون التشظي، وكلامي لا يقع فيه خلل. كما أنك سيف لا يخاف عليك الفلول فهو سالم عن كل عيب بخلاف سائر السيوف.
وليس يصحّ في الأفهام شيءٌ ... إذا احتاج النّهار إلى دليل
يعني: إنما يقام الدليل على الشيء الخفي، فأما الظاهر الجلي، فهو بمنزلة النهار الذي لا يحتاج إلى الدليل، لأن كل من رآه عرفه، ومن خفي عليه ضوء النهار، فلا فائدة لإقامة الدلالة في حقه، إذ المعاينه أقوى، والمشاهدة أولى، وهذا كقول البحتري:
عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر
وقال أيضاً وقد جلس سيف الدولة لرسول ملك الروم، وقد ورد يلتمس الفداء، وركب الغلمان بالتجافيف، وأحضروا لبؤة مقتوله، ومعها ثلاثة أشبال أحياء، وألقوها بين يديه، فقال ارتجالا لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة:
لقيت العفاة بآمالها ... وزرت العداة بآجالها
العفاة: طلاب المعروف.
يقول داعيا: لا زلت تلقى العفاة بآمالها، يعني إذا لقيتهم أعطيتهم وأغنيتهم، ولا زلت تقصد أعداءك وتفنيهم.
وأقبلت الرّوم تمشي إلي ... ك بين اللّيوث وأشبالها
أطلق لفظ الروم جملة على رسولهم، لما كان منهم.
يقول: إن الروم قصدت إليك تمشي بين الليوث المقتولة، وأولادها. وجعل الليوث: لبؤة.
إذا رأت الأسد مسبيّةً ... فأين تفرّ بأطفالها؟
يقول: إذ رأتك الروم وأنت تقتل الليوث وتسبي أولادها، علمت أنها لا تقدر على الفرار بأولادها الصغار، وإنما قال: مسبيه لأنها كانت أحياء.
وقال أيضاً يذكر الفداء الذي التمسه الرسول، وكتاب ملك الروم الوارد معه.
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحبّ ما لم يبق منّي وما بقي(1/286)
ما يلقى: مبتدأ بمعنى الذي. ولعنيك: خبر مقدم عليه، وكذل المصراع الثاني يقول: كل شيء لقي قلبي من ألم الشوق فيما مضى، وفيما يلقاه من بعد فهو بسبب عينيك، ولأجل حسنها.
وقيل: يعني حلال لعينيك ما لقيته وما ألقاه، والمراد جعلت قلبي لعينيك، فكل ما يمر عليه معفو عنه.
وقيل: أراد، ظاهر لعينيك ما يلقاه فؤادي وما لقيته، وكذلك في المصراع الثاني. إني ما لقيت من نحول جسمي، وهزال بدني، وما بقي منه، فهو لأجل حبك، أو هو حلال، أو ظاهر للحب.
وقيل: أراد كأن الحب ملكه يتصرف فيه تصرف الملاك في الأملاك، فأذهب بعض جسمه بالهزال، وأبقى بعضه وقيل: أذهب قوتي وأبقى جسمي.
وقيل: أراد عمري الذي مضى وبقي. وقيل: أراد بما بقي روحه وبما لم يبق جسمه.
وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه ... ولكنّ من يبصر جفونك يعشق
يقول: لم أكن ممن يميل به أسباب الهوى، ولكني لما أبصرت جفونك، وغنج عينيك صرت عاشقاً لك.
وبين الرّضا والسّخط والقرب والنّوى ... مجالٌ لدمع المقه المترقرق
يقول: لا أزال أبكي في حال رضي الحبيب، خوفاً من سخطه، وفي حال سخطه، لحصوله، وفي حال القرب، خوفا من النوى، وفي حال النوى لحصولها، فبين كل شيء من هذه الأحوال مجال لدمع السائل. ومثله لآخر.
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر، فهو الدّهر يرجو ويتّقي
أحلى الهوى: ما يشوبه الخوف والرجاء، حتى يكون العاشق مرة خائفاً ومرة راجياً، فلا يشفى بالوصل، فيزدري ذلك بحلاوته، ويؤدي إلى الملال، ولا ييئس من الوصل رأسا، فيؤدي ذلك إلى شدة الحزن الذي يؤدي إلى الهلاك فحالة الشك والتردد في الهجر والوصل، والوقوف بين حالتي الخوف والرجاء، ألذ أحوال الهوى.
وغضبي من الإدلال سكرى من الصّبا ... شفعت إليها من شبابي بريّق
ريق كل شيء: أوله.
يقول: رب جارية غضبي، غضب الدلال لا غضب الهجران، فكانت من الإدلال غضبي ومن الشباب سكرى، توسلت إليها بريق شبابي، فوصلت منها إلى ما أحب، أي نظرت إلي فعشقتني، لأجل شبابي، وساعدتني على مرادي، فكأن الشباب كان شفيعاً عندها.
وأشنب معسول الثّنيّات واضحٍ ... سترت فمي عنه فقبّل مفرقي
الأشنب الثّغر: الذي له شنب، وهو برد الأسنان. وقيل: إنه حدة الأسنان، وقد جعله صفة لشخص: أي ورب حبيب ذي ثغر أشنب. والمعسول: الحلو، كأنه جعل فيه العسل. والواضح: الأبيض المضيء.
يقول: ما زلت أطلب العفاف، حتى في حال الخلوة مع الحبيب، ورب حبيب ثناياه باردة عذبة، حلوة الترشف، عففت عنه حين خلوت به، وأراد أن يقبل فمي، فسترت فمي عنه، لأنه موضع التلذذ بالقبلة، فقبل مفرقي ليدل إلي فلم أستر المفرق، لأن ذلك للعظمة لا للذة.
وأجياد غزلانٍ كجيدك زرنني ... فلم أتبيّن عاطلاً من مطوّق
العاطل: الذي لا حلى عليه. والمطوق: اللابس للطوق يقول: رب نساء مثلك كأن أجيادهن أجياد الغزلان، جئن لزيارتي، فلم أنظر إليهن وإلى أجيادهن، لعفتي، حتى لم أتبين العاطل منهن من المطوق. والمقصد وصف نفسه بالعفة.
وما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا ... عفافي ويرضى الحبّ والخيل تلتقي
إني إذا خلوت عففت، وكذلك أنا أرضى حبيبي في حال التقاء الخيل، لشجاعتي، لأن. المرأة من العرب يعجبها أن يكون خليلها شجاعاً مقداماً. وقيل: أراد بإرضائه الحبيب في حالة الحرب: الدفع عنه. والذب دونه، كقول عمرو بن كلثوم:
يقتن جيادنا ويقلن لستم ... بعولتنا إذا لم تمنعونا
إذا لم تمنعنّ فلا بقينا ... لشيءٍ بعدهنّ ولا حيينا
وقال المخزومي في معنى البيت: هو أن يقول أعف كرماً وأكتم هواي، فإني أرعى الهوى وأحافظ عليه في ملتقى الخيل، والمراد بإرضاء الحبيب رعاية الهوى، وفي ذلك خصلتان: إحداهما: الدلالة على أن الهوى عند ذوي الوفاء لا يشغل عند الشدائد كقول أبو عطاء:
ذكرتك والخطّى يخطر بيننا ... وقد نهلت منّا المثقّفة السّمر
وكقول الآخر:
ولقد ذكرتك والسّياط تنوشني ... عند الإمام وساعدي مغلول
ولقد ذكرتك والّذي أنا عبده ... والسّيف عند ذؤابتي مسلول(1/287)
والثانية: الدلالة على كونه رابط الجأش عند التحام القتال، حتى لم يشتغل خاطره عن الهوى في ذلك الحال.
سقى الله أيّام الصّبا ما يسرّها ... ويفعل فعل البابليّ المعتّق
البابلي: منسوب إلى بابل، وهي أرض العراق، وأراد به الشراب، والمعتق: القديم، ويفعل: أي وما يفعل. وقوله: ما يسرها يحتمل معنين: أحدهما: سقى الله من الغيث قدر ما يبلغ مرادها من الري، حتى لا يكون قاصراً عن إرادتها، ولا زائداً عن حاجتها فيكون مثل قول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الرّبيع وديمةٌ تهمى
الثاني: أهدى إليها السرور، كما سررنا بها، وذلك أنه رأى أن دعاءه للصبا بالسقيا لا معنى له، لأنها أوقات وزمان، فقال: سقاها الله شيئاً يهدي إليها السرور والارتياح، يفعل بها فعل الشراب، فكأنه قال: سقاها الله خمراً يسرها.
إذا ما لبست الدّهر مستمتعاً به ... تخرّقت والملبوس لم يتخرّق
يقول: إذا كنت لابساً للدهر، وتستمتع به وتعيش فيه، تخرقت أنت، والملبوس الذي هو الدهر، لم يتخرق، بل يكون أبداً جديداً، بخلاف سائر الملابس، فأنت تبليها وتخرقها، وهو يبلي الأبدان، ويفنيها وهذا مثل قوله:
تغيّر حالي والليالي بحالها
ونحو قول ابن دريد:
إنّ الجديدين إذا ما استوليا ... على جديد أدنياه للبلى
وقول الآخر:
وأفناني ولا بقيا نهاراً ... وليل كلّما يمضي يعود
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم ... بعصن بكلّ القتل من كلّ مشفق
المشفق: قيل من الشفقة، التي ترجع إلى معنى المحبة.
يعني: كنت إذا نظرت إليهن ونظرن إلي قتلنني وقتلتهن من خوف الفراق، وما منا إلا مشفق على صاحبه، فلم أر أعجب من الألحاظ، كيف اجتمع فيها القتل والشفقة!؟ فكأنه من قول الشاعر:
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنّا لا نبالي
وقيل: المشفق: الخائف، ومعناه بعثت الألحاظ من كل خائف من ألم الفراق، كل أنواع القتل لأنها أبكتهم فسفكت دماءهم وأماتتهم.
أدرن عيوناً حائراتٍ كأنّها ... مركّبةٌ أحداقها فوق زئبق
الضمير في أدرن للألحاظ، وروى: أدرنا.
يقول: كنا نقلب عيوناً حائرات عند وداعنا، لا تبصر شيئاً مما دهانا من ألم الفراق، فكأنها من كثرة حركاتها وقلة استقرارها مركبة على الزئبق، لأن طبعه الحركة. وقيل: الحيرة ليست لامتناع الرؤية، وإنما هي لاجتماع ظهور الدمع في العين وغلبته.
وقيل: معنى البيت كنا نقلب عيوننا في النظر تارة إلى العذال وتارة إلى الأحباب، فكانت لا تستقر، كأنها ركبت فوق زئبق.
عشيّة يعدونا عن النّظر البكى ... وعن لذّة التّوديع خوف التّفرّق
يعدونا: أي يصرفنا.
يقول: كانت هذه الحالة وقت العشية حين كان البكاء يمنعنا من النظر، وخوف الفراق يمنعنا من التلذذ بالوداع والعناق.
نودّعهم والين فينا كأنّه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
الفيلق: العسكر، قلب، أي وسط.
يقول: كنا نودع الأحباب، في الحال التي كان البين يفعل في قلوبنا من التفريق مثل ما تفعل رماح سيف الدولة في قلب عساكر الأعداء من التفريق والقتل.
قواضٍ مواضٍ نسج داود عندها ... إذا وقعت فيه كنسج الخدرنق
أي هذه القنا قواض: يعني تقضي بالموت وتمضي في الأعداء، أي لا يردها شيء إذا وقعت في الدروع المنسوبة إلى داود، وتمضي فيها، كما تنفذ في نسج العنكبوت والخدرنق: العنكبوت، والتأنيث في البيت للقنا والهاء في فيه لنسج داود، وموضع قواض رفع لأنه خبر ابتداء محذوف: أي هذه القنا قواض مواض، كما تقول: هذا حلو حامض.
وقيل: هو ابتداء الكلام. والمراد أداء السيوف، والأول أظهر.
هوادٍ لأملاك الجيوش كأنّها ... تخيّر أرواح الكماة وتنتقي
هواد: جمع هادية، وقيل: هو من هديت فلاناً إذا أرشدته، ومعناه أن هذه الرماح ترشد الموت، أي تهديه إلى الملوك وقواد الجيش، فكأنها تتخير أرواح الكماة، وتنتقي نفوس الأملاك دون من عداهم.
وقيل: من هدى بمعنى اهتدى، فإن هدى واهتدى بمعنى، أي إن هذه القنا تهتدي إلى الملوك فتقتلهم.
تفكّ عليهم كلّ درعٍ وجوشنٍ ... وتفري إليهم كلّ سورٍ وخندق
روى تفك أي تحل، وتقد: أي تقطع. وتفري: أي تقطع.(1/288)
يقول: هذه الرماح تقطع على الكماة والملوك دروعهم وجواشنهم، وتخرق إليهم الحصون والأسوار والخنادق حتى تصل إليهم، وتفتح بلادهم.
يغير بها بين اللّقان وواسطٍ ... ويركزها بين الفرات وجلّق،
اللقان: موضع ببلد الروم، وقيل: جبل. وواسط: مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف والفرات: معروف يجيء من بلاد الروم، ويمر على أطراف الشام، حتى ينتهي إلى العراق، ويلتقي مع دجلة أسفل بغداد فيصيران نهراً واحداً، ويمران على البصرة ثم إلى البحر. وجلق: موضع بدمشق.
يعني لا يزال أبداً يغير برماحه مرة في بلاد الروم، ومرة على البوادي التي في العراق، ويركزها بين الفرات وجلق، لأنها دار مملكته ومعدن ولايته.
ويرجعها حمراً كأنّ صحيحها ... يبكّي دماً من رحمة المتدقّق
المتدقق: المتكسر، يقال: اندق الرمح، إذا انكسر، ولا يستعمل الأندقاق إلا فيما كان فيه طول، مثل الرمح ونحوه، ويقال: سقط فلان فاندقت عنقه.
يقول: يرجع هو رماحه من الغارات وقد احمرت بالدم، وبعضها قد تكسر في بدن الأعداء، فكأن الصحيح منها يبكي دماً على ما تكسر منها، حزناً عليها، لأنه من جنسه، ودماً نصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً به عن فعل مضمر، دل عليه. يبكي أي يبكي فيجري دماً.
فلا تبلغاه ما أقول فإنّه ... شجاعٌ متى يذكر له الطّعن يشتق
يقول: لا تبلغا يا صاحبي سيف الدولة ما أقول، فإنه شجاع، إذا سمع وصف الشجاعة اشتاق إليها.
وهذا بيت كثير نقله من النسيب إلى الشجاعة، وهو:
فلا تذكراه الحاجبية يشتق
وهذه السرقة قبيحة، لأنه أخذ المعنى واللفظ والوزن والقافية.
ضروبٌ بأطراف السّيوف بنانه ... لعوبٌ بأطراف الكلام المشقّق
روى بصير ولعوب والمشقق: الكلام الذي له خط في كل شق. ويقال: فلان يشقق في كلامه. إذا تصرف في معانيه. وقيل: هو المشق من المشة، أي يشق على غير الفصيح التكلم به. يصفه بالشجاعة والفصاحة.
كسائله من يسأل الغيث قطرةً ... كعاذله من قال للفلك: ارفق
يقول: هو يجود بالطبع، فمن يسأله كمن يسأل الغيث قطرة.
وقيل: معناه كما أن القطرة لا تؤثر في الغيث، كذلك سائله لا يؤثر في جوده وماله، وكذلك من يعذله على كرمه، لكونه مطبوعاً عليه، كمن يعذل الفلك على دوره. وقال له: ارفق في الحركة.
وقيل: إن من يسأل الغيث قطرة، فقد تكلف ما قد استغنى عنه، وأتى غيثاً، إذ قطراته مبذولة، فكذلك سائل سيف الدولة يتكلف ما لا يحتاج إليه، لأنه يعطى قبل السؤال، فنائله مبذول كقطر الغيث.
لقد جدت حتّى جدت في كلّ ملّةٍ ... وحتى أتاك الحمد من كلّ منطق
أي: من كل ذي منطق.
يقول: عممت بجودك أهل الإسلام، وأهل الشرك، فحصل لك الشكر من كل ذي منطق.
جعل إجابته إلى الصلح، فضلاً منه على الروم.
رأى ملك الرّوم ارتياحك للنّدى ... فقام مقام المجتدي المتملّق
الارتياح: الاهتزاز للعطية، والمجتدي: طالب المعروف. والمتملق: المتلطف في الكلام.
يقول: علم ملك الروم جودك، فبعث إليك رسوله، واستوهب منك أسراء الروم، فقام لك مقام السائل المتلطف في سؤاله، لعلمه أنك لا تخيب سائلك.
وخلّى الرّماح السّمهريّة صاغراً ... لأدرب منه بالطّعان وأحذق
صاغراً نصب على الحال. والدربة في معنى العادة والتجربة. والحذق: إحكام الصنعة.
يقول: إن ملك الروم ترك الرماح على رغم منه، وذل لمن هو أعود للطعان وأحذق به. وأراد به سيف الدولة، يعني أنه ترك قتالك وعدل إلى استعطافك.
وكاتب من أرضٍ بعيدٍ مرامها ... قريبٍ على خيلٍ حواليك سبّق
يقول: كاتبك في الصلح من أرض بعيدة المرام، ولكنها مع بعدها قريبة عليك، وعلى خيلك السوابق التي هي حواليك.
وقد سار في مسراك منها رسوله ... فما سار إلاّ فوق هامٍ مفلّق
المسرى: اسم المكان السري، والهاء في منها للأرض.
يعني: أن رسول ملك الروم سار في الطريق التي سرت فيها إلى بلاد الروم، فلم يسر إلا فوق هام مشققة بسيوفك.
فلمّا دنى أخفى عيه مكانه ... شعاع الحديد البارق المتألّق
البارق المتألق: هو اللامع، وإنما أتبع أحدهما الآخر، لاختلاف اللفظين. والهاء في مكانه للرسول.(1/289)
يقول: وصل الرسول إليك، فأخفى عليه مكانه، بريق السيوف ولمعان الأسنة، فلم يمكنه أن يبصر موضعه.
وأقبل يمشي في البساط فما درى ... إلى البحر يمشي أم إلى البدر يرتقي؟!
يقول: لم يدر أيمشي إلى بحر أو إلى بدر، لأنك تشبه البحر في السخا، وتشبه البدر في النور والبهاء.
ولم يثنك الأعداء عن مهاجتهم ... بمثل خضوعٍ في كلامٍ منمّق
المنمق: المحسن.
يقول: لا يقدر أعداؤك أن يردوك عن مهجاتهم، أي أنفسهم، إلا بالخضوع، والتملق بالثناء والتعظيم.
وكنت إذا كاتبته قبل هذه ... كتبت إليه في قذال الدّمستق
القذال: مؤخر الرأس: والضمير في كاتبته وإليه لملك الروم.
يقول: كنت متى أردت أن تكتب إلى ملك الروم كتبت إليه في قفا الدمستق، وذلك كناية عن هزيمته، والجراحة تقوم لك مقام الكتابة.
فإن تعطه بعض الأمان فسائلٌ ... وإن تعطه حدّ الحسام فأخلق
يقول: إن أعطيته بعض المراد فأمنته، فهو سائل، ومن عادتك ألا تخيب سائلك، وإن أعطيته السيوف، فهو أجدر بذلك.
وهل ترك البيض الصّوارم منهم ... حبيساً لفادٍ، أو رقيقاً لمعتق
يقول: إن سيوفك لم تترك منهم أسيراً محبوساً من الأسرى، يفدونه بما يحمل إليك، ولا رقيقاً يسألونك أن تعتقه.
وقيل: معناه لم تترك سيوفك عبداً عندهم يعتقه معتق.
لقد وردوا ورد القطا شفراتها ... ومرّوا عليها زردقاً بعد زردق
الهاء في شفراتها للبيض الصوارم. وهي منصوبة بوردوا أي وردوا شفرات الصوارم، كما ترد القطا المناهل. والزردق فارسي معرب.
يقول: وقعوا على شفرات سيوفك كما تقع القطا على الماء، ووفدوا عليها صفا بعد صف.
يعني أنك تقتلهم فوجاً بعد فوج.
بلغت بسيف الدّولة النّور رتبةً ... أنرت بها ما بين غربٍ ومشرق
روى: اليوم بدل النور.
يقول: نلت عنده منزلة ألقت علي ضياء نوره حتى أنرت بها الدنيا. وأراد به اشتهار ذكره في العالم.
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمقٍ ... أراه غباري، ثمّ قال له: الحق
كان سيف الدولة يغرى به الشعراء، ويبعثهم على مباراته، لأنه كان يغتاظ من عجبه بنفسه.
فيقول: إن سيف الدولة لا يخفى عليه فضلي على من حوله من الشعراء، ولكنه إذا شاء أن يتلهى بشاعر أراه من فضلي أدنى شيء، ثم قال: الحق به، وهات مثله، وإنما وصفه بالحمق، لأن من طمع في إدراك غايته، فهو عنده أحمق! فلا جرم يريد سيف الدولة أن يسخر من قلة عقله. وقوله: أراه غبارى: كناية عن اليسير من فضله.
وما كمد الحسّاد شيئاً قصدته ... ولكنّه من يزحم البحر يغرق
الكمد: الحزن.
يقول: ليس لمن يحسدني أن يلومني، لأني لم أقصد أن أغم الحساد، ولكني بحر في الفضل، فمن زاحمني من الجهال غرق في فضلي، كما أن من تعرض للبحر وطرح نفسه فيه غرق، فاللوم عليه لا على البحر.
ويمتحن النّاس الأمير برأيه ... ويغضى على علمٍ بكلّ ممخرق
الممخرق: الكذاب والمدلس وهي اللغة الجيدة، والباء فيه، متعلق بقوله: على علم.
يقول: هو يمتحن الناس، ويجرب أحوالهم، ثم يغضى ويتغافل، مع علمه بالفاضل منهم، والمدلس الممخرق، ويتجاوز عن الجهال بحلمه.
وإطراق طرف العين ليس بنافعٍ ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
يقول: متى علم صاحبك بتمويهك، لم ينفعك إعراضه وإطراق طرفه. فعبر عن معرفته بترك إطراق طرف قلبه.
فيا أيّها المطلوب جاوره تمتنع ... ويا أيّها المحروم يمّمه نرزق
يقول: يا أيها الخائف، جاور سيف الدولة تمتنع على من يظلمك، ويا أيها الفقير اقصده تصل إلى الغنى.
ويا أجبن الفرسان صاحبه تجترئ ... ويا أشجع الشّجعان فارقه تفرق
يقول: يا أيها الجبان، صاحبه تصر شجاعاً، اقتداء به ويا أيها الشجاع، فارقه تصر جباناً، لأن الشجاعة به.
إذا سعت الأعداء في كيد مجده ... سعى مجده في جده سعى محنق
المحنق: المغضب. والجد: البخت والإقبال.
يقول: متى قصد أعداؤه إلى هدم مجده غضب لذلك إقباله وجده، ورد كيد العدو إليه.
وما ينصر الفضل المبين على العدا ... إذا لم يكن فضل السّعيد الموفّق
يقول: الفضل الظاهر لا ينصر صاحبه على أعدائه، حتى يوافقه على ذلك سعادة جده وتوفيق ربه.(1/290)
ودخل على سيف الدولة ليلاً وقد رفع سلاح كان بين يديه، وهو في ذكره ووصفه، فقال ارتجالاً:
وصفت لنا ولم نره سلاحاً ... كأنّك واصفٌ وقت النّزال
نصب سلاحاً بوصفت وتقديره: وصفت لنا سلاحاً ولم نره.
يقول: وصفت لنا هذا السلاح، حتى كأنك صورت لنا وقع الحرب، فكأنك واصف وقت النزال، فشوقتنا إلى القتال، بوصفك للسلاح.
وأنّ البيض صفّ على دروعٍ ... فشوّق من رآه إلى القتال
البيض: المغافر، والفعل في شوق للبيض، ورده إلى اللفظ، وكذلك جميع التذكير راجع إليه.
يعني أنك ذكرت أن كل درع جعل عليها بيضتها، وكل من في نفسه شجاعة، إذا رأى آلة القتال اشتاق إلى الطعان.
فلو أطفأت نارك تالديه ... قرأت الخطّ في سود اللّيالي
تا بمعنى: هذه، وهي إشارة إلى السراج يقول: لو أطفات سراجك، لأمكنك أن تقرأ الخط في الليل المظلم، لبريق السلاح ولمعه.
ولو لحظ الدمستق حافتيه ... لقلّب رأيه حالا لحال
حافتيه: أي جانبيه، والهاء في رأيه للدمستق. أي لقلب رأيه في محاربتك، إلى الانقياد لك، والفرار منك.
إن استحسنت وهو على بساطٍ ... فأحسن ما يكون على الرّجال
أراد: إن استحسنته، فحذف الهاء.
يقول: إن استحسنت هذا السلاح، وهو على بساطك، فأحسن ما يكون، إذا كان على الرجال، يوم القتال.
وإنّ بها وإنّ به لنقصاً ... وأنت لها، النّهاية في الكمال
إن الثانية زائدة أي: وإن به وبها لنقصاً، وقيل: اسم إن الأولى محذوف. أي: إن بها لنقصا، وإن به لنقصا. فاسم الثانية دل على المحذوف. وبه: أي بالسلاح وبها: أي بالرجال. وقيل: به: للبيض، وبها: للدروع.
يقول: إن جمال السلاح، وكمال الدروع والرجال بك، فما لم تكن لابسها، أو لم تكن فيها بين الرجال، لم يكن لهم غناء، فأنت غاية الكمال ونهاية الجمال.
وقال وقد عرضت على سيف الدولة سيوف، فوجد فيها سيفاً غير مذهب فأمر بإذهابه فقال ارتجالا:
أحسن ما يخضب الحديد به ... وخاضبيه النّجيع والغضب
أحسن: مبتدأ. وما بمعنى: الذي، وهو في موضع الجر بإضافة أحسن إليه. والنجيع: خبر الابتداء، والغضب: عطف عليه. وخاضبية: جر عطفاً على ما أي وأحسن خاضبيه. والهاء في به لما وفي خاضبيه للحديد.
يقول: أحسن شيء يخضب الحديد به: الدم: وأحسن خاضبيه: الغضب. وقيل: أراد به صاحب الغضب. والنجيع: الدم الطري.
وقيل: خاضبيه: جر على القسم، ومعناه: أحسن ما يخضب به الحديد، النجيع والغضب. وجعل الغضب خضابا له توسعا، إذا كان سبباً لخضابه. وروى مكان الغضب القضب وهو جمع قضيب، وهو السيف: أي أحسن الخاصبين السيوف التي تخضب الأشياء بالدم.
فلا تشيننه بالنّضار فما ... يجتمع الماء فيه والذّهب
يقول: رونق هذا الحديد وماؤه، أحسن فيه من ماء الذهب، فإذا أذهبته ذهبت بمائه ورونقه وصار ما قصدت من زينة شيناً له.
وأنفذ إلى سيف الدولة أحد أهل بغداد أبياتاً، يذكر أنه رآها في النوم، يشكو إليه الفقر فقال أبو الطيب:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرةً في المنام
البدرة: عشرة آلاف درهم. وسميت بدرة؛ لأنها تمام العدد. والبدرة أيضاً: جلد السخلة، إذا رعت وفطمت. ويجوز أن تكون البدرة من هذه؛ لأن العادة جرت أن تجعل الدراهم في جلد السخلة.
يقول: سمعنا أيها المتعرض لنائلنا، ما قلت من الشعر في الأحلام، فأعطيناك - على وجه المقابلة والمكافأة - بدرة في المنام.
وانتبهنا كما انتبهت بلا شي ... ءٍ فكان النّوال قدر الكلام
يقول: مدحتنا في النوم، فأجزناك في النوم، فكان العطاء على قدر المدح، فلما لم يكن لنوالنا حقيقة، كذلك لم يكن لمديحك إيانا.
كنت فيما كتبته نائم العي ... ن فهل كنت نائم الأقلام؟
يقول: إن كنت حين قلت هذا الشعر نائم العين، فإنك حين كتبته كنت مستيقظاً، يجب عليك حفظ الأدب والتحرز من الكلام الركيك، ويمكن أن يكون قرنت إلى الأبيات رسالة أخرى في معنى الاعتذار.
فيقول: إن كنت في الأبيات نائماً، فلم تكن في الرسالة نائماً.
أيّها المشتكي إذا رقد، الإع ... دام، لا رقدةٌ مع الإعدام(1/291)
يقول: زعمت أنك رأيتها في النوم، وشكوت فيها عدمك، فإن كنت معدماً على الحال التي وصفتها، فكيف يأخذك النوم؟!
افتح الجفن واترك القول في النّو ... م وميّز خطاب سيف الأنام
يقول: دع عنك الخطاب في النوم، وافتح الجفن، وميز خطاب سيف الدولة، وهو سيف الخلق كلهم، والذاب عنهم، ولم يمكنه أن يقول: سيف الدولة، لأجل القافية فرده إلى الأنام وروى: سيف الإمام أي الخليفة.
الّذي ليس عنه مغنٍ ولا من ... هـ بديلٌ، ولا لما رام حام
يقول: سيف الدولة، هو الذي لا أحد من الناس يقوم مقامه في الكرم والخصال الحميدة.
وقيل: معناه كل الناس يقتدون به؛ ولا يغنيهم عنه ملك غيره، ولا يجدون له بدلاً يسد مسده، وإن رام أمراً لم يمنعه منه مانع.
كل آخائه كرام بنى الدّن ... يا ولكنّه كريم الكرام
الآخاء: جمع أخ، وقد ذكره سيبويه في كتابه. وروى: كل آبائه. يقول: جميع إخوته أكرم الناس، ولكنه أكرم من إخوته، فهو أكرم الكرام.
وقال وقد أمره سيف الدولة بإجازة الأبيات التي لأبي ذر: سهل بن محمد الكاتب أولها:
بالائمى كفّ الملام عن الذي ... أضناه طول سقامه وشقائه
على هذا الوزن، والروى فقال:
عذل العواذل حول قلبي التّائه ... وهوى الأحبّة منه في سودائه
التائه: المتحير، وقيل: هو المتكبر، وها هنا: الذي لا ينقاد للعاذل. وسوداء القلب، وسويداؤه: الحبة السوداء فيه، وقيل الدم الذي في جوفه.
يقول: هوى أحبتي قد حل وسط فؤادي، وعذل العواذل يحول حوله، وليس يدخله البتة، فلا يبالي القلب به، فكيف يقدر العذول أن يصرفني عنه؟!
يشكو الملام إلى اللّوائم حرّه ... ويصدّ حين يلمن عن برحائه
الهاء في حره للقلب، وكذلك في برحائه والبرحاء: الشدة.
يقول: إن اللوم إ ذا دنا من قلبي أحرقه بحره، فأعرض عنه وعاد إلى اللوائم، يشكو إليهن ما لقي من شدة حرارته، فكأن حر قلبي يصرف اللوم عني، والضمير في يلمن للعواذل.
وبمهجتي يا عاذلي الملك الّذي ... أسخطت أعذل منك في إرضائه
يقول لعاذله: تعذلني على حبه والانقطاع إليه؟! وقد لامني من هو أشد منك عذلا، فلم أقبل منه، بل أسخطته واتبعت رضاء سيف الدولة، ولم ألتفت إلى غيره من الملوك، والهاء في إرضائه للملك.
إن كان قد ملك القلوب فإنّه ... ملك الزّمان بأرضه وسمائه
يقول: إن كان سيف الدولة قد ملك القلوب. بموداتها وثبات حبه فيها، حتى لا تميل إلى غيره، فليس بعجاب؛ فإنه ملك الزمان وجميع ما فيه، فالقلوب بعض ما في الزمان ومن جملة ما ملكه.
وقيل: اسم كان محذوف مضمر: أي إن كان الحبيب الذي يعشق قد ملك قلوب عاشقيه، فإن هذا الحبيب ليس كسائر الأحبة، لأنه إنما يحب لجلالة قدره، وسمو أمره، وإنه إن كان الحبيب المعشوق قد ملك القلوب، فإن هذا الملك قد ملك الزمان بما فيه، فضلا عن القلوب.
الشّمس من حسّاده والنّصر من ... قرنائه، والسّيف من أسمائه
أي: الشمس تحسده على إشراق غرته، وعلو منزلته، والنصر قرينه حيثما توجه نصر على أعدائه، والسيف بعض أسمائه، أي هو مسمى بسيف الدولة.
أين الثّلاثة من ثلاث خلاله ... من حسنه وإبائه ومضائه؟!
الخلال: الخصال.
يقول: أين حسن الشمس من حسن وجهه؟ بل حسنها يعجز عن حسنه! وأين النصر من عزة نفسه وإبائه؟ أي أن النصر يعجز عن نصرة من يريد خذلانه، وأين السيف من مضائه؟ أي هو أمضى وأكثر غناءً منه!
مضت الدّهور وما أتين بمثله ... ولقد أتى فعجزن عن نظرائه
أتى: أي سيف الدولة.
يقول: مضت الدهور قبله، ولم يكن فيها أحد مثله في فضائله! وأتى هو الآن فعجزت الدهور عن الاتيان بأمثاله في زمانه أيضا، فليس له نظير فيما مضى من الزمان ولا في زمانه.
فاستزاده سيف الدولة فقال يمدحه
القلب أعلم يا عذول بدائه ... وأحقّ منك بجفنه وبمائه
الضمائر في قوله: بدائه، وبجفنه، وبمائه، راجعة إلى القلب، وقيل: إنه في قوله بمائه راجع إلى الجفن فقط.
يخاطب عاذله فيقول: القلب أعلم بما يلاقيه من ألم الشوق، والقلب أيضا أولى منك بجفنه ودموعه؛ لأنه المالك للعيون فيصرفها كيف شاء، ويجريها على من يحب، فمالك أيها العاذل والاعتراض عليه؟!(1/292)
فو من أحبّ لأعصينّك في الهوى ... قسماً به وبحسنه، وبهائه
الفاء في قوله: فو من للعطف. والواو حرف القسم، والمقسم به المحبوب، والجواب لأعصينك، والكاف، خطاب للعاذل، وقسماً: نصب على المصدر.
يقول: وحق من أحب، وحق حسنه، لا أطيعك فيما تأمرني، ولا أصغي إلى ملامك فيه.
أأحبّه وأحبّ فيه ملامةً؟ ... إنّ الملامة فيه من أعدائه
يقول: لا أحب الملامة في جيي، ولا أصغي إليها، فكأنه ناقض أبا الشيص في قوله.
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حبّاً لذكرك، فليلمني اللّوّم
عجب الوشاة من اللّحاة وقولهم: ... دع ما نراك ضعفت عن إخفائه
الوشاة: جمع الواشي. واللحاة: جمع: اللاحي، وهو الذي يزجر ويغلظ القول في الملامة. وما في قوله: ما نراك بمعنى الذي، وهو في موضع نصب بدع ونراك صلة ما وضعفت في موضع المفعول الثاني، والأول هو الكاف.
يقول: إن اللحاة قالوا لي: دع الذي نراك ضعيفاً عن إخفائه. أي دع هذا الهوى، فعجب الوشاة من تكليف اللحاة إياي ما لا أطيق، فإني إذا ضعفت عن إخفائه، كنت على تركه والإفاقة من سكره أضعف.
ما الخلّ إلاّ من أودّ بقلبه ... وأرى بطرفٍ لا يرى بسوائه
يقول: ليس في هؤلاء اللحاة صديق شفيق، ولا خليل نصيح، فأصغ إلى ملامه، فإن الصديق من يساعد صديقه، فيحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه، حتى كأنهما يحبان بقلب واحد، وينظران بعين واحدة.
فكأنه يقول: ليس صديقي إلا من يوافقني، فإذا أحببت شيئاً فكأني أحبه بقلبه! وإذا رأيت شيئاً فكأني رأيته بعينه! وهذا البيت يوافق بعض الأبيات التي أجازها وهي.
إن كنت ناصحه فداو سقامه ... وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتّى يقال بأنّك الخلّ الّذي ... يرجى لشدّة دهره ورخائه
ومثله:
إن كنت تصدق في ادّعاء وداده ... فافككه من أسر الهوى أو فاده
ومعنى البيت: أنه ليس لك خليل إلا نفسك، فلا تغتر بقول من يقول: إني خليلك. وأراد بقوله: من أود بقلبه: نفسه؛ لأن المرء إنما يود الشيء بقلب نفسه، وكذلك قوله: وأرى بطرف لا يرى بسوائه أراد طرف نفسه، وهو مثل قوله:
خليلك أنت لا من قلت خلّى ... وإن كثر التّجمل والكلام
إن المعين على الصّبابة والأسى ... أولى برحمه ربّها وإخائه
الضمير في ربها يعود إلى الصبابة. وفي إخائه إلى ربها. والأسى: الحزن والمعين على الصبابة: هو الزائد في الصبابة.
يقول: إن الذي يعين على صبابتي ويزيد بلومه في حزني، كان الأولى أن يرحمني ويلتمس شفائي.
وقيل: على بمعنى مع أي مع الصبابة وهذا مثل قول من أجاز أبياته:
أولا فدعه، فما به يكفيه من ... طول الملام فلست من نصحائه
وروى: بالأسى والمراد بها الصبر، فمعناه إن الذي يعيني في اعتقاده على صبابتي، ويريد إزالة بلائها عني، بأن يصبرني، ليس ما يفعله بإعانة في الحقيقة، وكان الأولى في باب الشفقة أن يرحمني ويساعدني على ما أنا فيه من البلوى.
والأول أولى وهو أن المراد بالمعين العاذل الذي يزيد في حزنه بالعذل.
مهلاً فإنّ العذل من أسقامه ... وترفّقاً فالسّمع من أعضائه
مهلاً وترفقاً نصب بفعل مضمر: أي أمهل مهلاً، وترفق ترفقاً. والضمير في أسقامه وأعضائه يعود إلى ربها في قوله: برحمة ربها.
يقول لعاذله: ارفق بصاحب هذه الصبابة، فإنه سقيم وعذلك يزيد في سقمه، وما زاد في السقم فهو سقم، وارفق أيضا بسمعه فإنه من جملة أعضائه، كما أن سائر الأعضاء سقمت، كذلك السمع، وسقمه: هو الصمم وقيل معناه: إن السمع إذا سمع العذل يفنى كما فنيت سائر الأعضاء، فيؤدي إلى فوات غرض العاذل، إذ لا يبقى سمع يعي العذل.
وهب الملامة في اللّذاذة كالكرى ... مطرودةً بسهاده وبكائه
هب: أي اجعل. يقال: وهبني الله فداك. واللذاذة: متعلقة بالملامة: أي لذة الملامة. معناه: دع عنك ملامتك إياي، وإن كان لك فيها لذة، لما تراه من بكائي وسهادي، واعمل على أن بكائي صرف عنك لذتك في الملامة، كما صرف عني الملام، فكما أني فقدت لذة الكرى، كذلك أنت لا بأس عليك أن تفقد لذتك في ملامتي.(1/293)
وقيل: إن اللذاذة هي لذة الهوى، ومعناه: اجعل ملامتك إياي في لذتي مطرودة عني، كالنوم المطرود بالسهاد والبكاء ومعناه: اصرف ملامتك عني من جميع الوجوه. والهاء في قوله بسهاده وبكائه راجع إلى قوله ربها.
لا تعذر المشتاق في أشواقه ... حتّى يكون حشاك في أحشائه
يقول: أيها اللائم أنت لا تقبل عذر العاشق! حتى تبتلي بمثل ما ابتلي به من الصبابة والاشتياق، فيكون في قلبك من لوعة الشوق مثل ما في قلب المشتاق.
ومثله للبحتري:
إذا شئت ألاّ تعذل الدّهر عاشقاً ... على كمدٍ من لوعة البين فاعشق
ومثله لآخر:
وإنّما يعرف العشّاق من عشقا
إن القتيل مضرّجاً بدموعه ... مثل القتيل مضرّجاً بدمائه
مضرج: أي مخضب. وقد نصب على الحال في الموضعين.
يقول: إذا دام عذلك علي هلكت أنا، فتكون أنت قد قتلتني! فإنه إذا جرت دموعي حتى أموت، كنت مثل القتيل الذي يسيل دمه، فالمقتول بالعذل هو كالمقتول بالسيف، فهذا يسيل دموعه، وذاك يسيل دمه.
والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلي وينال من حوبائه
الحوباء: النفس.
يقول: العشق محبوب للعاشق، كما أن المعشوق محبوب إليه، فيتلذذ العاشق بقرب المعشوق وإن كان يذيب جسمه ويؤلم قلبه.
لو قلت للدّنف الحزين: فديته ... ممّا به لأغرته بفدائه
الدنف: الذي أدنفه الحب، وأغرته: أي حملته على الغيرة.
يقول: إن العاشق يشتهي العشق، ويلتذ بغرامه وطول سقامه، حتى لو قلت له: قد جعلني الله فداك مما بك، وأنزل بي سقمك لحملته على الغيرة.
وقيل. معناه لو قلت له: دعني حتى أتحمل عنك مؤن العشق وتكاليفه، لغار عليك. فالأول على الدعاء والثاني على الأمر. وقوله: بفدائه: أي بفدائك إياه، وأضاف المصدر إلى المفعول، وحذف الفاعل.
وقى الأمير هوى العيون، فإنّه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه
هوى: في موضع النصب، على أنه خبر ما لم يسم فاعله، واسمه الأمير يخاطب سيف الدولة.
يقول: وقاك الله هوى العيون، فإنه أمر لا يمكنك إزالته عن نفسك، بسخائك وشجاعتك. وقوله: هوى العيون: مصدر مضاف إلى المفعول: أي وقى الأمير هواه للعيون.
يستأسر البطل الكميّ بنظرةٍ ... ويحول بين فؤاده وعزائه
يستأسر: أي يأسر، وهو في الأصل بمعنى الاستسلام للأسر، وروى: يستأصل.
يقول: إن الرجل الشجاع لا يقدر على دفع الهوى عن نفسه، بل يأسره هذا الهوى بنظرة واحدة من نظرات العين! ويحول بين قلبه وصبره، فوقى الله تعالى الأمير ذلك.
إنّي دعوتك للنّوائب دعوةً ... لم يدع سامعها إلى أكفانه
الضمير في سامعها للدعوة، وفي أكفائه لسامعها. وأراد بالسامع سيف الدولة.
يقول: إني دعوتك لتنصرني على نوائب الدهر، كل نائبة - وإن خلت - تقصر عن أن تدعى لها، لأنا لا نجد ما يكون كفواً لك منها، فندعوك إليه، لكن لما لم أجد أحداً أستعين به عليها غيرك، دعوتك لها لتزيلها عني، وإن لم تكن النوائب من أكفائك.
فأتيت من فوق الزّمان وتحته ... متصلصلاً وأمامه وورائه
متصلصلاً: أي له صلصلة، وهي صوت الحديد عند السرعة.
يقول: لما دعوتك للنوائب أجبتني في أسرع وقت، وأحطت بالزمان من جميع جهاته، وكأنك أتيت ولأسلحتك صلصلة لسرعتك.
وقيل: معناه: أنك لما كنت سيفاً دعوتك للنوائب لتقطعها عني، فأتيت مسرعاً في الإجابة، ولك صلصلة، وهي صوت السيف والحديد.
من للسّيوف بأن تكون سميّها ... في أصله، وفرنده، ووفائه
التاء في تكون قيل: ضمير للسيوف، وقيل: خطاب لسيف الدولة وكذلك إذا روى: بالياء.
يقول: من للسيوف بأن تكون هي مثل سميها الذي هو سيف الدولة، أو أن تكون أنت سمي السيوف، بل له عليها مزية، في أصله وجوهره ووفائه.
طبع الحديد فكان من أجناسه ... وعليٌّ المطبوع من آبائه
يقول: إن كل واحد من سيف الدولة وسيف الحديد، رجع إلى أصله وجنسه، وإن اتفق الاشتراك في الاسم، فالسيوف ترجع إلى جنسها الذي طبعت منه وهو الحديد، فليس لها فعل سوى القطع وسيف الدولة يرجع إلى آبائه في الخصال الحميدة، من الوفاء والسخاء، ويشاركها في القطع والمضاء. ومراده تفضيله على السيف الحقيقي.(1/294)
والأبيات التي أجازها أبو الطيب لأبي ذر: سهل بن محمد البصري الكاتب مؤدب سيف الدولة. وهي:
يا لائمي كفّ الملام عن الذي ... أضناه طول سقامه وشقائه
إن كنت ناصحه فداو سقامه ... وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتّى يقال بأنّك الخلّ الّذي ... يرجى لشدّة دهره ورخائه
أولا فدعه فما به يكفيه من ... طول الملام فلست من نصحائه
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلاً ... في حبّه لم أخش من رقبائه
فالشّمس تطلع من أسرّة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه
وجاء رسول سيف الدولة مستعجلا، ومعه رقعة فيها بيتان للعباس بن الأحنف في كتمان السر، يسأله إجازتهما وهما:
امتّي تخاف انتشار الحديث ... وحظّي في ستره أوفر
فإن لم أصنع لبقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
فقال أبو الطيب:
رضاك رضاي الّذي أوثر ... وسرّك سرّى فما أظهر
يقول: الذي ترضى به فهو رضائي الذي أوثره، وسرك مثل سري أكتمه كما أكتم سري، ولا أظهره لأحد.
كفتك المروءة ما تتّقى ... وآمنك الودّ ما تحذر
الكاف في كفتك المفعول الأول لكفي. وما يتقى: المفعول الثاني، وكذلك الكاف في آمنك، وما تحذر.
يقول: إن مودتي لك ومروءتي آمناك ما تخاف من إفشاء السر، فلا تحذر على سرك من جانبي.
وسرّكم في الحشا ميّتٌ ... إذا أنشر السّرّ لا ينشر
يقال: أنشر الله الموتى فنشروا. وروى: إذا نشر من النشر الذي هو ضد الطي، وهو أيضاً في معنى أنشر الله الميت.
يقول: سرك في قلبي كالميت في قبره، وإذا أحيي الموتى يوم القيامة لا يحيي هذا الميت.
يعني: إني لا أظهره إذا أظهر غيري سره.
كأنّي عصت مقلتي فيكم ... وكاتمت القلب ما تبصر
يقول: إن عيني إذا شاهدت شيئاً من أحوالكم لم ترو إلى القلب ما رأته، فكأنها تكاتم القلب ما تبصره.
يعني: أن سركم يصير في قلبي منسياً.
وإفشاء ما أنا مستودعٌ ... من الغدر والحرّ لا يغدر
يقول: السر أمانة وعهد، وإظهاره خيانة، والحر لا يغدر بعهده، فلو أبديت سرك صرت غادراً ولم أكن حراً.
إذا ما قدرت على نطقةٍ ... فإنّي على تركها أقدر
النطقة: المرة الواحدة من النطق. وهي بمنزلة الكلمة، واللفظة يقول: إذا قدرت على أن أنطق بالسر، كنت على السكوت عنه أقدر؛ لأنه أهون من النطق وأيسر.
أصرّف نفسي كما أشتهي ... وأملكها والنقا أحمر
يقول: أنا أملك نفسي، أصرفها كما أريد، وأقهرها على هواها، وأملكها في حال شدة القتال، فمتى أرادت الإحجام قهرتها على الإقدام، فلذلك إذا دعتني نفسي إلى أن أبدي السر قهرتها على كتمانه.
دواليك يا سيفها دولةً ... وأمرك يا خير من يأمر
الدوال كالدولة. ودواليك: نصب على المصدر، وثنى على التكرير: أي أدالك الله دولةً بعد دولة. والهاء في سيفها للدولة. ودولة: تفسير للدولة المضمرة، وهي نصب على التمييز، وقيل: على المصدر، وأمرك: أيضاً نصب بفعل مضمر أي مر أمرك.
يقول: أدام الله دولتك. مرني بأمرك، وخصني بأوامرك ونواهيك، حتى أتشرف به.
أتاني رسولك مستعجلاً ... فلبّاه شعري الّذي أذخر
أراد أذخره، فحذف الضمير.
يقول: جاءني رسولك مستعجلا، يأمرني بإجازة البيتين، فلبيته بشعري الذي أدخره وأعده.
ولو كان يوم وغىً قاتماً ... للبّاه سيفي والأشقر
قاتماً: نصب صفة ليوم. والقاتم: المظلم من شدة الغبار، وروى: أيضا قائماً من قولهم: قامت الحرب. ويوم: نصب لأنه خبر كان، واسمه مضمر: أي لو كان أمرك أو إتيان رسولك إلي يوم وغى.
يقول: لو كان دعاؤك إياي إلى يوم حرب لأجبتك بسيفي وفرسي.
فلا غفل الدّهر عن أهله ... فإنّك عينٌ بها ينظر
فاعل ينظر: ضمير الدهر.
يقول: إنك عين الدهر الذي ينظر بها إلى أهله، فمن أكرمه كان كريماً، ومن أهانه كان مهانا، فكأنه قال: لا زلت أبداً تراعي أهل زمانك إذ الدهر غافل لولا أنك فيه. والغرض: الدعاء بالبقاء ودوام السلامة.(1/295)
وقد كان سيف الدولة استبطأ مدحه، وعاتبه مدةً، ثم لقيه في الميدان، فأنكر أبو الطيب تقصيره فيما كان عوده من الإقبال إليه والتسلم عليه، فعاد إلى منزله وكتب بهذه الأبيات إليه لوقته: يعتذر عن إبطاء مدحه ويعاتبه ويشيد بمدائحه فيه.
أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السّلام اختصارا
الازورار: الإعراض.
يقول: قربي منك صار بعداً وإعراضاً، وطول سلامي صار اختصارا وتقصيرا.
تركتني اليوم في خجلةٍ ... أموت مراراً، وأحيا مراراً
يقول: لما عرضت عني فيما بين الناس تركتني خجلا أموت جزعاً؛ لإعراضك عني، وأحيا طوراً رجاء كرمك وعفوك.
أسارقك اللّحظ مستحيياً ... وأزجر في الخيل مهري سرارا
يقول: كنت أنظر إليك سرقة وخجلا وحياءً، وإذا زجرت مهري أخفيت صوتي لئلا تسمع صوتي حياءً منك وإخفاء لشخصي، أو كنت أسر زجره مخافةً أن يرى حالي من يحبني من الفرسان، فيعرف سقوط منزلتي عندك، استدلالاً بما بي من الاغتمام، أو كنت أخفي صوتي لما لحقني من الغم، إذ المغموم لا يكاد يرتفع صوته.
وأعلم أنّي إذا ما اعتذرت ... إليك أراد اعتذاري اعتذارا
يقول: لو أردت أن أعتذر إليك، كان عندي أيضا ذنباً ثانياً يجب الاعتذار منه إذ الاعتذار من غير ذنب كذب، والكذب مما يعتذر منه والغرض ادعا براءة الساحة.
وقيل: معناه إني إذا اعتذرت إليك، مع علمي بسعة عفوك الذي لا يحتاج معه إلى الاعتذار، كنت قد أذنبت في اعتذاري ذنباً آخر، لأن ذلك يوهم خلاف ما أنت عليه من عادة الصفح وسعة العفو.
وقيل: معناه إن اعتذاري متى اعتذرت يكون كذبا فيلزمني الاعتذار عنه، لأنك جفوتني، فألجأتني إلى التقصير في خدمتك، فمتى كنت كاذباً في الاعتذار، يلزمني الاعتذار منه أيضا.
كفرت مكارمك الباهرا ... ت إن كان ذلك منّي اختيارا
يقول مقسماً: إن كان تأخير مدحك عن اختيار مني كذلك، فجحدت مكارمك الظاهرات، ولكن كان اعتذاري على ما بينته.
ولكن حمى الشّعر إلاّ القلي ... ل همٌّ حمى النّوم إلا غرارا
الغرار: النوم القليل.
يقول: منعني من قول الشعر هم منع نومي إلا القليل منه.
وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا
الهاء في به للهم.
يقول: هذا الهم الذي أسقم جسمي بألمه، لم يكن عن قصد مني، وكذلك إضرام نار الهم في قلبي، لم يكن من فعلي، فإذا لم يكن هذا الهم عن قصدي، فلا ذنب لي فيه، أستوجب به عتبك، ولكن الذنب للزمان.
فلا تلزمنّي ذنوب الزّمان ... إليّ أساء وإيّاي ضارا
ضار يضير، وضره يضره بمعنىً.
يقول: لا تعتب علي في تأخير مدحك، فليس لي فيه ذنب، وإنما الذنب للزمان الذي قصدني بهمومه، وشغل قلبي عن الشعر، فلا تلزمني ذنوبة، واعلم أن الزمان إنما قصدني بالإساءة، وألحق الضر بي دونك، لأن مدحي إياك يزيد في شرفي ومنزلتي عندك، وتأخره جر على عتبك وإعراضك عني، فالضرر في تأخيره راجع إلي، والإساءة واقعة بي لا بك.
وعندي لك الشّرّد السّائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
يقول: سأمدحك من بعد، بقصائد سائرات، لا تستقر في مكان، بل تعم الشرق والغرب، والسهل والجبل.
فإنّي إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا
المقول: اللسان. يعني إذا قلت قصيدة سارت في البر والبحر. وقوله: وثبن الجبال: عداه بنفسه على معنى: جزن الجبال ومثله لعلي بن الجهم في وصف شعره:
فسار مسير الشّمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّ هبوب الرّيح في البرّ والبحر
ولي فيك ما لم يقل قائلٌ ... وما لم يسر قمرٌ حيث سارا
يقول: قد مدحتك قبل هذه بقصائد التي لم يقل أحد مثلها، وقصر القمر عن شأوها، فوصلت إلى الآفاق واشتهرت في العالم.
فلو خلق النّاس من دهرهم ... لكانوا الظّلام وكنت النّهارا
يقول: لو كان الناس خلقوا من الدهر لكانوا الليل، وكنت النهارا: يعني إن لك فضلا عليهم، كفضل النور على الظلام.
أشدّهم في النّدى هزّةً ... وأبعدهم في عدوٍّ مغارا
يقول: أنت أشد الناس اهتزازاً في الجود، وأبعدهم غارة في العدو، وهزة، ومغارا نصب على التمييز.
سما بك همّي فوق الهموم ... فلست أعدّ يساراً يسارا(1/296)
يقول: ارتفعت همتي على كل همة بسببك، وصغر في عيني المال، فلا أعتد باليسار، ولا أقصر على ما أناله من المال، فإنما أطلب معالي الأمور، وارتفاع المحل والمنزلة.
ومن كنت بحراً له يا عليّ ... لم يقبل الدّرّ إلاّ كبارا
هذا مثل: يعني من كنت مقصوده فلا يرضي بالقليل، ويستصغر الخطب الجليل، وإنما يرضي منك بشرف القدر وجلالة المنزلة.
ورحل سيف الدولة من حلب إلى ديار مضر، لاضطراب البادية بها فنزل حران وأخذ رهائن بني عقيل وقشير والعجلان. وحدث له بها رأي في الغزو، فعبر الفرات إلى دولوك وإلى قنطرة صنجة إلى درب القلة، فشن الغارة على أرض عرقة وملطية وعاد ليعبر من درب موزار فوجد العدو قد ضبطه عليه، فرجع وتبعه العدو، فعطف عليه فقتل كثيراً من الأرمن، ورجع إلى ملطيه، وعبر قباقب وهو نهر حتى ورد المخاض على الفرات: وهو نهر، تحت حصن يعرف بالمنشار، فعبر إلى بطن هنزيط وسمنين ونزل بحصن الران ورحل إلى سميساط فورد عليه بها من أخبره أن عدوه في بلد المسلمين، فأسرع إلى دلوك فعبرها، فأدركه راجعاً على جيحان فهزمه وأسر قسطنطين بن الدمستق، وجرح الدمستق في وجهه. فقال أبو الطيب يصف ما كان في جمادي الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة.
لياليّ بعد الظّاعينين شكول ... طوالٌ وليل العاشقين طويل
شكول: جمع شكل في الكثير وهو المثل، واختار الجمع الكثير في الطول لليالي، ليكون أبلغ في الشكوى، وأدل على عظم الشوق والبلوى وليالي: مبتدأ، وشكول: خبره. وطوال: بدل من شكول، فكأنه قال: ليالي طوالٌ، وإن شئت جعلت طوالا تفسيراً لشكول، وأضمرت فيه مبتدأ يرفعه: أي هي طوال وتم المعنى عند قوله طوال. ثم ابتدأ فقال: وليل العاشقين طويل.
المعنى: ليالي بعد الأحباء الظاعنين عني كلها مشاكلة في الطول، لا تختلف كليالي سائر الناس؛ لأنها تقصر مرة وتطول أخرى، ثم قال: إن ليل العشاق كذا يكون، وكل عاشق يطول ليله؛ لسهره فيه، وعظم حزنه شوقاً إلى حبيبه. وقيل: أراد أنها مشاكلة في السهر وبعد النوم وفقد الروح والراحة، شوقاً إلى الظاعنين، فهي طوال، لبعد العهد باللقاء وطول المدة، ولا يسلى عني ما بي من الشوق، فهي مشاكلة يشبه أولها آخرها في الشوق إلى الظاعنين.
يبنّ لي البدر الّذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل
بين: أي يظهرن، والنون فيه، وفي يخفين: لليالي.
يقول: هذه الليالي يظهرن لي بدراً لا أريده، وهو بدر السماء ولا أشتهيه، ولا أختار النظر إليه، ويسترن عني بدراً لا سبيل لي في الوصول إليه، وأراد به حبيبه.
وإنما قال ذلك؛ لأنه يراه بالنهار، والغيبة كانت تحصل بالليل، وإنما لا يريد البدر الحقيقي، لأنه ينم إذا سار إلى حبيبه، فلا يتمكن من الوصول إليه في ضوئه. قال ابن المعتز:
ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
وقال بعض الأعراب:
أشكو إليها ثلاثاً لا تلائمني ... منها: العجوز ومنها الكلب والقمر
وما عشت من بعد الأحبّة سلوةً ... ولكنّني للنّائبات حمول
سلوة: نصب على أنه مفعول له، وقيل: على التمييز.
يقول: لا تظن أن بقائي بعد رحيل حبيبي عني هو للسلوة عنه، ولكن هان علي حوادث الدهر وتحمل الشدائد. وقريب منه قول الآخر:
فلو كان قلبي ساعة البين زيرةً ... جرى جزعاً أو صخرةً لتفطّرا
ولكنّه من جوهر لا تحيله ... حوادث صرف الدّهر كيف تنكّرا
ولكن قلبي أشد من الحديد، وأقسى من الصخر؛ فلهذا لم يذب من لوعة الهجر. ومثله لأبي خراش:
فلا تحسبنّي أنّي تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
؟ وإنّ رحيلاً واحداً حال بيننا وفي الموت من بعد الرّحيل رحيل يقول: معتذراً لبقائه بعد فراق الأحبة. إن رحيلهم الواقع، قد حال بيني وبينهم، وبقي رحيل آخر وهو الموت، وسيحصل هذا الرحيل أيضاً أسفاً على فراقهم، فيزيد البعد بيني وبينهم، وتنقطع الأسباب عنا بالكلية.
إذا كان شمّ الرّوح أدنى إليكم ... فلا برحتني روضةٌ وقبول(1/297)
الروح في اللغة: الريح، وأكثر ما يستعمل في الريح المستلدة، وقد يستعمل في معنى الراحة، وقيل: أراد بشم الروح: الحياة. والقبول: الريح تأتي من جهة القبلة، وخصها لأنها كانت تجيء من ناحية حبيبه. وأدنى: فعل متعد من دنيت.
والمعنى: إذا كانت الحياة وشم الروح يقربني إليكم، فلا فارقتني حياة ولا برحت مكاني روضة وقبول؛ لأنها تكون سبباً إلى انتشاق روائحكم. وهذا توكيد لعذره في الحياة بعدهم؛ لأنه يجد في الحياة أسباباً تقربه منهم: من نسيم محبوبته، وامتزاج أنفاسه بأنفاسها، ووصول القبول من جهته، وغير ذلك.
وقيل: إن أدنى: اسم بمعنى أقرب: يعني أن شم الروح إذا كانت أقرب إليكم، قرب المسافة، وأدنى إلى جهتكم، فلا فارقني الذي هو قريب منكم.
وقيل: أراد بالقرب. قرب المحبة دون المسافة.
ومعناه: إذا كان شم الروح أقرب إلى قلوبكم وأشبه بإيثار محبتكم، فلا فارقتني الروضة والقبول، حتى لا أكون مفارقاً ما تهدون وتؤثرون.
وقيل: معناه إذا لم يكن من فراقكم إلا التعلل بالنسيم، شهة لما كان ينالني من الفرح بقربكم، فلا فارقتني روضة وقبول يهيج ذلك النسيم لي. لأشمه. ومعناه: إني أرضى بقليل الراحة من الشوق، إذا لم أصل إلى الحبيب.
والأولى في برحتني أن يكون فعلاً تاماً، كفارقتني، فيكون روضة رفعاً به ولا يحتاج إلى الخبر، كقوله تعالى: " فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ " وعن ابن جني أنه من باب كان وروضة اسمه وهي نكرة، وخبره: ضمير لشم الروح، ونكر اسمه لأجل القافية ضرورة.
وما شرقي بالماء إلا تذكّراً ... لماءٍ به أهل الحبيب نزول
نصب تذكرا على الحال، أي متذكرا، ويجوز أن يكون مفعولا له.
يقول: إذا أردت شرب الماء تذكرت الماء الذي نزل عليه أهل من أحبه فشرقت بهذا الماء، لما خنقني من العبرة، أو لأجل أني كنت أشتهي أن يكون شربي من الماء الذي نزلوا عليه، لمجاورته إياهم.
وحكى أن الصاحب أنشد هذا البيت فقال: ليس والله هذا هوى وصبابة، ولكنه وفاء ورعاية.
يحرّمه لمع الأسنّة فوقه ... فليس لظمآنٍ إليه وصول
يقول: إن هذا الماء ممنوع الوصول إليه مما فوقه من الرماح، وما حوله من الأبطال، فلا يصل إليه أحد؛ لعزة قومه.
أما في النّجوم السّائرات وغيرها ... لعيني على ضوء الصّباح دليل؟
يقول مستفهماً، ومستطيلا لليل: أما في نجوم هذا الليل السيارة منها، والثابتة - على ما يقوله المنجمون - نجم يدل على ضوء الصباح، وزوال الظلام؟ لأن كثيراً من النجوم يختص طلوعها بأواخر الليالي، فيجب أن يعرفه، ليدل على قرب الصباح. وروى: أما في النجوم الساريات وغيرها: معناه ليس في هذه النجوم التي تسري بالليل ولا في غير النجوم: من صوت طائر وغيره، ما يدل على طلوع الفجر وذهاب الليل.
ألم ير هذا اللّيل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقّةٌ ونحول؟
روى: رقة ودقة يقول: ألم ير هذا الليل الطويل عينيك يا حبيبتي مثلما رأيتهما؟! حتى يذوب ويزول، فيصيرنا حلاً دقيقاً مثلي.
وقيل: معناه يا رؤيتي. يعني. ألم ير الليل عينيك يا رؤيتي؟! ولم يرد معهما ونحولهما فيرحمني، ويرق لي، ويظهر فيه النحول والقصر رقة علي، فيزول الليل ويقصر.
لقيت بدرب القلّة الفجر لقيةً ... شفت كمدى واللّيل فيه قتيل
تخلص إلى مدح سيف الدولة وقال: لقيت الفجر في هذا الموضع. الذي فيه درب القلة، لقية واحدة، وهذه اللقية شفت حزني وأذهبت كمدى، وصار الليل قتيلاً؛ لانقطاعه وذهابه. وقيل: إنما يجعل الليل قتيلا، لأنه أراد أن الحمرة التي تظهر عند الفجر كانت كالدم على بدن القتيل.
وقيل: لم يرد حقيقة الفجر، وإنما أراد نيراناً أوقدها سيف الدولة بدرب القلة، وكان ضياؤها مختلطاً بالدخان، فشبه اختلاط الضياء بالدخان، بالفجر الذي يختلط فيه الظلام بالضياء. والهاء في فيه تعود إلى الدرب. وقيل: تعود إلى القلة، وذكره على تأويل الموضع والمكان، ودرب القلة: موضع ببلاد الروم.
وعن ابن جني قال: سألته وقت القراءة عليه عن معنى هذا فقال: كنا نساير سيف الدولة فلقينا القلة وقت السحر مع الفجر، فكأني لقيت الفجر بها، ثم سرنا صبيحة ذلك اليوم إلى العصر وشننا الغارات، وغنمنا.
ويوماً كأنّ الحسن فيه، علامةٌ ... بعثت بها والشّمس منك رسول(1/298)
يوماً: نصب عطفاً على قوله: لقيت بدرب القلة الفجر لقية ويوماً.
وجعل حسن اليوم الذي ظفر فيه الممدوح بالروم، كأنه علامة من محبوبته، وجعل الشمس كأنها رسولها، وذلك لسروره في هذا اليوم، وسروره بطلوع الشمس فيه.
وقيل: إنه إنما استحسن هذا اليوم، وطلوع الشمس فيه؛ لزوال الليل واستراحته بالنهار من السهر والحزن.
وقيل: معنى البيت أن الحسن في ذلك كان خفياً لشدة الحرب، وإظلام الجو باقتام، وأن الشمس كانت تبدو مرة وتختفي أخرى لتكاثف الغبار، فشبهه برسول يأتي من عند حبيبته، فهو إذا رأى رقيباً توارى، وإذا صادف خلوة بدا، وشبه حسن ذلك اليوم: وهو النصر والظفر بالاعداء في حقائقه - بعلامة تكون بين المحب وحبيبه، لا يعلمها أحد سوهما، وفيه إشارة إلى أن الحرب كانت قد اشتدت في ذلك، حتى خفيت علامة النصر، إلا على سيف الدولة، فإنه كان عالماً بالظفر، كما يعلم المحب العلامة التي بينه وبين حبيبته وهذا من لطائف أبي الطيب.
وما قبل سيف الدّولة اثّار عاشقٌ ... ولا طلبت عند الظّلام ذحول
اثار: افتعل من الثأر. أي أدرك ثأره، يقال: اثار وثار بمعنى. والذحول: جمع ذحل وهو الحقد في القلب. فذكر أن الليل صار قتيلاً، ثم قال: إن القاتل هو سيف الدولة.
وقال: لولا سيف الدولة لم يقدر عاشق على أخذ الثأر من الليل، وما أدرك عاشق ثاره قبل حصول سيف الدولة بدرب القلة، ولم يطلب أحد عند الليل ذحلاً وثأراً قبله وهذا ضد قوله في بدر:
حدقٌ يذمّ من القواتل غيرها ... بدر بن عمّار بن إسماعيلا
ولكنّه يأتي بكلّ غريبةٍ ... تروق، على استغرابها، وتهول
تروق: تعجب بحسنها، وتهول: تخوف.
يقول: إن قتله الليل وإدراك ثأره منه أمر عجيب! وشيء عجيب! لكن سيف الدولة لا يزال يأتي بكل فعل غريب! كل من رآه راقه حسنه، ويهول القلوب لعظمه، فليس هذا منه ببديع.
رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أنّ السّهام خيول
الدرب: ها هنا، موضع معروف من بلاد الروم. يقول: رمى درب الروم، كما يرمي لغرض بالسهام، ولم يعلم الروم أن الخيل في السرعة تقوم مقام السهام. شبه خيله بالسهام في إقدامها وسرعتها.
شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرحٌ من تحته وصهيل
الشوائل: جمع شائلة، وعداها إلى القنا بالباء. والتشوال: مصدر شول. والمرح: النشاط. والشوائل: نصب على الحال. وقوله: لها مرح إلى آخره نصب على الحال. والهاء في تحته للقنا، راجع إلى اللفظ.
يقول: رمى الدرب بالخيل رافعة رماحها، كما رفعت العقارب أذنابها، وكان لهذه الخيل مرح تحت القنا وصهيل، يعني بأن الركض لم يذهب مرحها. وهذا قول بشار:
والخيل شائلةٌ تشقّ غبارها ... كعقاربٍ قد رفعت أذنابها
غير أنه زاد عليه في التشبيه، فبشار شبه الخيل الرافعة لأذنابها بالعقارب، رافعة أذنابها، فالتشبيه واقع على وجه واحد، وهو أوقع التشبيه من وجهين: أحدهما: أنه جعل الخيل شائلة بالقنا، كما تشول العقارب بأذنابها.
والثاني: أنه شبه أطراف الرماح بأذناب العقارب، وأن لها من الطعن مثل ما للعقارب من اللسع، فأخذ معنى بشار، وضم إليه هذه الزيادة، فكان هو أولى به من بشار.
وما هي إلا خطرةٌ عرضت له ... بحرّان لبّتها قناً ونصول
وما هي: أي الغزاة. وحران: مدينة بالشام، والضمير في له للمدوح، وفي لبتها للخطرة، والتاء: للقنا، والنصول: للسيوف، وعرضت: أي ظهرت.
يقول: لم تكن هذه الغزاة عن تأهب واستعداد، ولكن خطر بقلبه وهو بحران أن يقصد بلاد الروم، فأجابته الرماح والسيوف، فسار إليهم غير محتفل.
همامٌ إذا ما همّ أمضى همومه ... بأرعن، وطء الموت فيه ثقيل
الهموم: بمعنى الهمم. والأرعن: الجيش العظيم.
يقول: هو عظيم الهمة إذا هم بشيء وعزم على أمر أمضاه. بجيش عظيم، كأنه لا يمر على ناحية إلا أنكى فيها وأكثر القتل فيها، وهو في معنى قوله: وطء الموت: وقعه، يعظم ويكثر من هذا الجيش، أو يشتد وطء هذا الجيش ويعز عليه.
وخيل براها الرّكض في كلّ بلدةٍ ... إذا عرّست فيها فليس تقيل
وخيل: عطف على أرعن. والتعريس: النزول آخر الليل.(1/299)
المعنى: إذا هم بأمر أمضاه بجيش أرعن، وبخيل قد أنحلها اتصال السير بالسرى، فإذا عرست في بلدة من بلاد العدو، رحلت عنها ولم تقم إلى وقت القائلة.
فلمّا تجلّى من دلوك وصنجةٍ ... علت كلّ طودٍ رايةٌ ورعيل
تجلى: أسي بان عنها وفصل، وأصله الظهور، ودلوك وصنجة: موضعان من بلاد الأرمن، والطود: الجبل. والرعيل: قطعة من الخيل تتقدم الجيش.
يقول: لما انفصل عن هذين الموضعين وانتشرت خيله على رءوس الجبال، فكان على كل جبل راية وخيل.
على طرقٍ فيها على الطّرق رفقةٌ ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول
الهاء في فيها للطرق. وقيل راجعة إلى كل طود وهو في معنى الجمع، ومعناه أنه سار إليهم بين الجبال، في الطرق المجهولة فكانت فيها رفعة على سائر الطرق؛ لأنها كانت على رءوس الجبال.
وقيل: معناه أنها كانت رفيعة القدر من حيث كانت موصلة إلى المطالب الجليلة، والمغانم الجزيلة. ثم قال: في ذكر هذه الطرق عند الناس خمول؛ لأنها غير مسلوكة ولا يهتدي إليها أحد، فطابق بين الرفعة والخمول.
فما شعروا حتّى رأوها مغيرةً ... قباحاً، وأمّا خلقها فجميل
فما شعروا: يعني الروم، أضمرهم لدلالة الحال، وتقدم العلم.
يقول: ما علم الروم بخيل سيف الدولة، حتى شاهدوها تغير عليهم، فكانت قباحاً في أعينهم؛ لسوء أفعالها بهم، وإن كانت جميلة الخلق حسنة المنظر. ومغيرة: نصب على الحال، وليس مفعولاً لرأوها: لأن الرؤية بمعنى المشاهدة لا تتعدى إلى مفعولين. وقباحاً: بدل من مغيرة ويجوز أن تكون حالاً ثانية، كقولك: جاء زيد راكباً مسرعاً. ويجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب فيكون المفعول الأول الهاء، ومغيرة حالاً. أي رأوها في حال غارتها قباحاً.
سحائب يمطرن الحديد عليهم ... وكلّ مكانٍ بالدّماء غسيل
سحائب: نصب بدلاً من قباح، يجوز فيها الرفع على إضمار المبتدأ: أي هذه الخيل سحائب.
يقول: هذه الخيل سحائب ولكن مطرها الحديد، ثم قال: وكل مكان حلت به مغسول بدماء الأعداء لكثرة القتله به، وإسالة الدماء فيه.
وأمسى السّبايا ينتحبن بعرقةٍ ... كأنّ جيوب الثّاكلات ذيول
ينتحبن: أي يرفعن أصواتهن بالبكاء. وعرقة: مدينة بالشام، وقيل: من الروم.
يقول: حصلت السبايا بعرقة، فأقمن بها يبكين على من قتل من أولادهن وأقاربهن، وقد شققن جيوبهن حتى صارت في السعة كالذيول.
وقيل: أراد بالسبايا الأولاد، وبالثاكلات: الأمهات في الروم: يعني لما سبى الأولاد، بكت أمهاتهن في الروم عليها.
وعادت فظنّوها بموزار قفّلاً ... وليس لها إلاّ الدّخول قفول
موزار: اسم بلد.
يقول: إن خيله أغارت عليهم، وحملت السبايا إلى عرقة، وعادت لتعبر من درب موزار، ثم عادت راجعة إلى بلادهم مرة أخرى، فلما رأوها بموزار ظنوها راجعة إلى بلاد الإسلام، ولم يعلموا أنها عادت لتدخل بلادهم مرة أخرى، فصار دخولها قفولا.
وكان سيف الدولة أراد بعد الإغارة أن يعبر من درب موزار، فوجد العدو هناك، قد أخد عليه الدرب، فرجع داخلاً إلى بلاد الروم، وتبعه العدو فعطف عليه وقتل كثيراُ من الأرمن. وهذا معنى قوله: وليس لها إلا الدّخول قفول.
فخاضت نجيع الجمع خوضاً كأنّه ... بكلّ نجيع لم تخضه كفيل
الضمير في خاضت: لخيل سيف الدولة. والهاء في كأنه للنجيع، وهو الدم.
يقول: إنها عادت إلى بلاد الروم، وقتلت الأبطال، وخاضت في دمائهم المصبوبة، فكأن هذه الوقعة ضمنت لها سفك كل دم بعدها؛ لأنها قتلت فؤاد الجيوش، فسهل بعد ذلك عليها مرامها، وصار من لم يقتل تحت قدرتها متى شاءت قتلته، وخاضت في دمه.
تسايرها النّيران في كل مسلكٍ ... به القوم صرعى والدّيار طلول
يقول: إن النيران تسايرها وترافقها في كل موضع تسلكه من بلاد الروم، لأنها كانت تنزل فيه، وتوقد النيران فيه، وهو خراب وأهله صرعى، ولم يبق لديارهم إلا الآثار.
وقيل: معناه أنها قتلت أهل كل منزل نزلته، وأحرقت مساكنهم.
وكرّت فمرّت في دماء ملطيةٍ ... ملطية أمّ للبنين ثكول
ملطية: مدينة من بلاد الروم.
يقول: إن الخيل كرت على أهل ملطية فخاضت في دمائها، فصارت ملطية مثل أم ثكلت أولادها.
وأضعفن ما خلّصنه من قباقبٍ ... فأضحى كأنّ الماء فيه عليل(1/300)
ما خلصنه: أي خلصن من الماء، من بين القوائم. وروى: ما كلفنه أي الموضع الذي كلفت الخيل قطعه من هذا النهر. وقباقب: اسم نهر.
يقول: إن الخيل لما عبرت هذا النهر سكرته بقوائمها، وكسرت شدة جري الماء، وأضعفت قوته، فصار الماء يضعف جريه، كأنه عليل.
شبه جريه بين قوائمها بمشي العليل في فتور وضعف.
ورعن بنا قلب الفرات كأنّما ... تخرّ عليه بالرّجال سيول
ورعن بنا قلب الفرات: يعني أن الخيل خوفن بنا قلب الفرات. أي عبرته بنا الخيل، وخاضت دماءه.
وشبه انحدار الخيل فيه بتدافع السيل، وشبه الخيل بالسيول، والرجال بما تحمله السيول.
فيقول: كأنه مثل السيول تقع من موضع إلى موضع من الوادي.
يطارد فيه موجه كلّ سابحٍ ... سواءٌ عليه غمرةٌ ومسيل
الضمير في فيه وموجه للفرات. وفي عليه للسابح والغمرة معظم الماء، وأردا به ها هنا معظم الحرب. والمسيل: حيث يسيل الماء.
يقول: إن الخيل لما عبرته كان يدافعها موجه، فكأنه تطارده: أي تحاربه. وسواء على كل فرس منها خوض الماء، وغمرة الحرب، وكلاهما سهل عليها.
تراه كأنّ الماء مرّ بجسمه ... وأقبل رأسٌ وحده وتليل
تشبيه بديع؛ لأن التليل: العنق.
يقول: كأن الماء حمى جسده وأبان عن رأسه وعنقه. فهذا الفرس إذا سبح لم يظهر منه إلا رأسه وعنقه.
وفي بطن هنزيطٍ وسمنين للظّبي ... وصمّ القنا ممّن أبدن بديل
أبدن: أهلكن، والضمير للخيل، وللظّبي. وصم القنا، وهنزيط وسمنين: بلدان من الروم.
يقول: إن أصحاب السيوف والرماح قد أهلكوا أهل عرفة وملطية، ولم يصلوا إلى بطن هنزيط وسمنين، فكأن أولئك الهالكين بدل في هاتين البلدتين للسيوف والرماح ولأصحاب الخيول، يهلكونهم متى شاءوا، ويقتلونهم متى قفلوا.
طلعن عليهم طلعةً يعرفونها ... لها غررٌ ما تنقضي وحجول
طلعن: أي الخيل. عليهم: أي على أهل هنزيط وسمنين.
المعنى: أن خيل سيف الدولة لما فرغت من أهل ملطية، عطفت عليهم وطلعت على ديارهم، وهذه الطلعة معروفة مشهورة؛ لأنها لم تكن أول مرة، بل تقدم لها أخوات مشهورة كشهرة الغرر والحجول، في الخيل الغر المحجلة. والعرب تصف الشهرة بالغرة والحجول، كما قال الآخر:
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن يومٌ أغرّ محجّل
وقوله: لها عزر مأخوذ من قول السموءل:
وأيّامنا مشهورةٌ في عدوّنا ... لها غررٌ معلومةٌ وحجول
فهو وإن وافقه في المعنى والوزن والقافية وبعض الألفاظ، إلا أن هذا لما كان من العام المنتشر لا يقال فيه: إنه مسروق.
تملّ الحصون الشّمّ طول نزالنا ... فتلقى إلينا أهلها وتزول
يقول: إن الحصون الطوال المرتفعة، ملت من طول منازلتنا إياها، فتلقى إلينا أهلها، وتزول الحصون عن أماكنها، حتى لا يبقى منها شيء.
وبتن بحصن الرّان رزحي من الوجى ... وكلّ عزيزٍ للأمير ذليل
رزحي: تعبة معيية، والواحد رازح، والوجى: وجع بحافر الفرس؛ من الحفا، وكثرة المشي.
وقيل: أراد به كثرة الضرب والطعن، من قولهم: وجأته بالسكين.
يقول: إن الخيل عادت إلى حصن الران، وقد تعبت وكلت بعد أن قتلت كل بطل، وأذلت كل عزيز، وموضعه نصب على الحال. أي بتن على هذه الحال.
وقيل: معناه أنها لم تصر كذلك للضعف، ولكنه كلفها من همته أصعبها فضعفت.
وفي كلّ نفس ما خلاه ملالةٌ ... وفي كلّ سيف ما خلاه فلول
الضمير في ما سواه وما خلاه للأمير.
يقول: كل أحد قد مل من طول الحرب، وكل سيف انثلم من كثرة الضرب، سوى سيف الدولة.
ودون سميساط المطامير والملا ... وأوديةٌ مجهولةٌ وهجول
سميساط: مدينة، والمطامير: الآبار، تحفر فلا تبلغ بها إلى الماء، والواحدة: مطمورة. والملا: الأرض الواسعة. والهجول: جمع هجل، وهو المطمئن من الأرض، وقيل: هو الأرض البعيدة الأطراف. يعني: بيننا وبينها هذه الطرق المجهولة، والأراضي الواسعة.
لبسن الدّجى فيها إلى أرض مرعشٍ ... وللرّوم خطبٌ في البلاد جليل
مرعش: مدينة والضمير في فيها للمطامير والأودية، وقيل: يرجع إلى سميساط.(1/301)
يقول: لبست خيل سيف الدولة ظلمة الليل بين هذه المطامير والودية، من سيساط حتى أتى مرعش، وقوله: وللروم خطب: في موضع الحال، أي كانت هذه المسيرة والحال هذه، وهي أن خطبهم قد عظم واشتد أمرهم.
فلمّا رأوه وحده قبل جيشه ... دروا أنّ كلّ العالمين فضول
يقول: لما رآه الروم وحده متقدماً على جيشه، علموا أنه كاف عن كل أحد، وأن من عداه زيادة لا يحتاج إليها.
وأنّ رماح الخطّ عنه قصيرةٌ ... وأنّ حديد الهند عنه كليل
يقول: وعلموا أن الرماح تقصر عنه ولا تناله، والسيوف تكل ولا تعمل فيه، أي لا يقدر أحد على طعنه وضربه.
فأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتىً بأسه مثل العطاء جزيل
يجوز في سيفه النصب عطفاً على صدر الحصان.
يقول: جعل سيف الدولة صدر سيفه وفرسه مورد الأعداء. يعني أنه قتلهم بسيفه، واقتحمهم بفرسه. وهو فتى شجاعته مثل عطائه، وكل واحد منهما جزيل.
جوادٌ على العلاّ بالمال كلّه ... ولكنّه بالدّارعين بخيل
العلات: جمع العلة، وأرد ها هنا كل حدث شاغل، وقيل: قلة المال وتعذر الحال.
يقول: هو جواد بماله كله في جميع الأحوال، لا تشغله الحروب والشدائد عن الجود.
وقيل: معناه أنه يجود حين يعتل عليه ماله ويقل، ولكنه مع هذا الجود، بخيل بالرجال، لا تسمح نفسه أن يسلمهم للقتل، بل يذب عنهم بنفسه. والدارعين: أصحاب الدروع.
فودّع قتلاهم وشيّع فلّهم ... بضرب حزون البيض فيه سهول
البيض: جمع بيضة، وهي الترك. وروى: حزون الموت والفل: القوم المنهزمون. والضمير في قتلاهم وفلهم للروم.
يقول: قتل قوماً وهزم الباقين، ثم ترك القتلى مكانهم فودعهم، وشيع المنهزمين، وفعل هذا التوديع والتشييع بضرب حزون البيض فيه سهول: أي شدة البيض وصعوبته سهل على هذا الضرب، لم تمنعه الدروع والبيض.
وقيل: إنه جعل ضربه إياهم توديعاً لمن قتل منهم، وتشييعاً لمن انهزم كما قال:
تحيّة بينهم ضربٌ وجيع
على قلب قسطنطين منه تعجّبٌ ... وإن كان في السّاقين منه كبول
قسطنطين: ابن الدمستق، والكبول: القيود.
يقول: هو متعجب مما شاهد من سيف الدولة من الشجاعة والإقدام! لم يشغله عن التعجب ما هو فيه من الأسر والقيود.
لعلّك يوماً يا دمستق عائدٌ ... فكم هاربٍ ممّا إليه يئول
يقول: إن كنت قد هربت وسلمت. فلعلك ترجع يوماً آخر، فتؤسر وتقتل، وكثير من الناس هرب من أمر، ثم رجع إليه.
نجوت بإحدى مهجتيك جريحةً ... وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل
يقول: نجوت بواحدة من مهجتيك مجروحة: يعني نفسه، وخلفت مهجتك الأخرى: يعني ولده؛ لأنه في حكم نفسه. تسيل: أي تذوب في القيد؛ وهذا لأنه جعل ابنه إحدى روحيه. كما روى في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: فطمة بضعة منّى.
أتسلم للخطّيّة ابنك هارباً ... ويسكن في الدّنيا إليك خليل!!؟
يقول: أنت إذا سلمت ابنك، الذي هو نفسك، للرماح وهربت عنه! فكيف يسكن إليك صديقك! وكيف يثق بالوفاء منك خليلك؟!
بوجهك ما أنساكه من مرشّةٍ ... نصيرك منها رنّةٌ وعويل
الهاء في أنساكه للابن. والمرشة: الضربة التي ترش الدم، أي تطايره.
يقول: هربت وفي وجهك ضربة أنستك ابنك وشغلتك بنفسك، فنصيبك من هذه الضربة الأنين والبكاء، أي لا تقدر إلا على البكاء والعويل.
أغرّكم طول الجيوش وعرضها؟! ... عليّ شروبٌ للجيوش أكول
يقول: غركم كثرة جيوشكم، فلم تعلموا أنه يأكلها ويشربها! يعني أنها غنيمة له يأكلها، فكلما كثرت، كان أجود له.
إذا لم تكن للّيث إلا فريسةً ... غذاه ولم ينفعك أنّك فيل
يقول: إذا كنت فريسة لليث، لم ينفعك عظم جسمك، ولو كنت مثل الفيل، بل سمنك وعظم جسمك يغذوه، وموضع أنك فيل رفع بغذاه: أي غذاه كونك ذلك، فأعمل الفاعل الأول فيه وأضمر الفاعل الثاني. وقيل: أضمر الفاعل في غذاه لدلالة الثاني عليه، وتقديره: وغذاه الفيل، ولم ينفعك أنك كذلك.
إذا الطّعن لم تدخلك فيه شجاعةٌ ... هي الطّعن لم يدخلك فيه عذول
يقول: إذا لم يكن فيك شجاعة، تدخلك في الطعان، وتحملك على مقارعة الأقران، لم يحملك عليه عذل العاذل.
فإن تكن الأيّام أبصرن صولةً ... فقد علّم الأيّام كيف تصول(1/302)
يقول: إن أبصرت الأيام صولته هذه على الروم، فقد علمها أيضاً قبل هذه الصولة كيف تصول؟ يعني أن الأيام نظرت إلى صولته بالأعداء فتعلمت منه كيف تقصد أهلها بصروفها، وقيل. أراد بالأيام: أهلها.
فدتك ملوكٌ لم تسمّ مواضياً ... فإنّك ماضي الشّفرتين صقيل
يقول: فداك كل ملك لم يسم باسمك، وليس له مضاء مثل مضائك، فإنك ماض فيما بينهم، فأنت كالسيف وهم كالبوقات والطبول.
إذا كان بعض النّاس سيفاً لدولةٍ ... ففي النّاس بوقاتٌ لها وطبول
يقول: أنت كالسيف وغيرك كالطبول والبوقات؛ لأنه إذا جاز أن يكون سيفاً للدولة؛ جاز أن يكون لها طبول، لأن غيرك من الملوك ليس لهم مضاء في الأمور، وليس عنده إلا القول الخالي من الفغل، كالبوقات.
أنا السّابق الهادي إلى ما أقوله ... إذ القول قبل القائلين مقول
يقول: أنا السابق إلى ما أقوله من الشعر، والمبدع لمعانيه، وغيري من الشعراء يسرق ما يقوله ممن تقدمه من الشعراء.
وما لكلام النّاس فيما يريبني ... أصولٌ، ولا للقائليه أصول
يقول: كلام الناس في غيبتي، والطعن فيّ لا أصل له، غذ لا عيب فيّ، وكذلك لا أصل لمن يعيبني ويطعن عليّ وأصلة من الحديث: الساعي لغير رشده.
أعادي على ما يوجب الحبّ للفتى ... وأهدأ والأفكار فيّ تجول
حسدوني لفضلي وعادوني، وكان يجب أن يحبوني؛ لأن الفضل يوجب المحبة، وأهدأ: أي أسكن، ولا أحسد أحداً، بل أنام خالي البال، وأفكار الحساد تجول فيّ. ومثله للبحتري:
إذا محاسني اللاّتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي، فقل لي: كيف أعتذر؟
سوى وجع الحسّاد فإنّه ... إذا حلّ في قلبٍ فليس يحول
يقول: داو كل داء من الأمراض والفقر وغيرهما، فإنه يزول بمداواتك، ولا تشتغل أنت بمداواة وجع الحساد؛ لأنه لا يزول أبداً.
ولا تطمعن من حاسدٍ في مودّةٍ ... وإن كنت تبديها له وتنيل
يقول: لا تطمع في مودة حاسدك، فإنك وإن كنت تظهر له المودة، وتعطيه المحبة فإن ما في قلبه من الحسد يمنعه من مودته لك.
وإنّا لنلقي الحادثات بأنفسٍ ... كثير الرّزايا عندهنّ قليل
يقول: إن لنا نفوساً كريمة، وقلوباً صابرة على حوادث الدهر، وكثرة الرزايا والشدائد عندها قليل، لكثرتها وصبرها.
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراضٌ لنا وعقول
الأعراض: جمع العرض، وهو موضع الحمد والذم.
يقول: إذا سلمت الأعراض والعقول، فلا حظ للأجسام عندنا، بل يهون علينا ما يحدث فيها من الجراحات والأسقام. ومثله:
إذا أبقت الدّنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فتيهاً وفخراً تغلب ابنة وائل ... فأنت لخير الفاخرين قبيل
يقول: يا تغلب ابنة وائل تيهي تيهاً، وافخري فخراً، فإنك قبيلة سيف الدولة، وهو خير الفاخرين، وأنت تغلب. ذهاباً بها إلى القبيلة أو العشيرة، ونصب تيهاً وفخراً على المصدر أي تيهي تيهاً، وافخري فخراً.
يغمّ عليّاً أن يموت عدوّه ... إذا لم تغله بالأسنة غول
إذا لم تغله: إذا لم تهلكه. والغول: الداهية. وقيل: المنية.
يقول: إن سيف الدولة إذا مات عدو يغتم بموته، وإنما يريد أن يقتله.
شريك المنايا، والنّفوس غنيمةٌ ... فكل مماتٍ لم يمته غلول
الغلول: الخيانة في الغنيمة.
يقول: إن سيف الدولة شارك المنية في الإغارة على نفوس الأعداء، والنفوس غنيمة لها يشتركان فيها، فإذا استبدت المنية في نفس واحد لم يقتلها هو فقد خانته وغلت تلك النفس منه.
فإن تكن الدّولات قسماً فإنّها ... لمن ورد الموت الزّؤام تدول
الزؤام: السريع. وتدول أي صارت له، ورجعت إليه.
يقول: إن كانت الدولة مقسومة بقدر السعي فالأولى بها من يقتحم على الأهوال ويباشر القتال وأسباب الموت. فأطلق لفظ الموت على أسبابه.
لمن هوّن الدّنيا على النّفس ساعةً ... وللبيض في هام الكماة صليل
لمن هون: بدل من قوله: لمن ورد.
يقول: إن الدولة لمن هون الدنيا على نفسه ساعة، في موضع الضرب والطعن، وضرب على شدائدها في تلك الحال؛ لأنه متى صبر فاز بالظفر والغلبة.
وتأخر مدحه عنه فعتب عليه، فقال يعتذر:(1/303)
بأدنى ابتسامٍ منك تحيا القرائح ... وتقوى من الجسم الضّعيف الجوارح
القرائح: جمع القريحة، وهي خالص طبيعة الإنسان، وأصلها من قريحة البئر، وهو أول ما يخرج من مائها إذا حفرت.
يقول: إذا ابتسمت ورضيت عنا تحيي ما مات من خواطرنا وتقوي ما ضعف من جوارحنا.
ومن ذا الّذي يقضي حقوقك كلّها؟ ... ومن ذا الّذي يرضى سوى من تسامح؟
يقول: لا يقدر واحد على قضاء حقوقك، وعلى إرضائك في قضائها، إلا أن تسامحه، ولا تكلفه فوق طاقته.
وقد تقبل العذر الخفيّ تكرّماً ... فما بال عذري واقفاً وهو واضح؟
تكرماً نصب على المفعول، وواقفاً على الحال، ومعناه: غير مقبول.
يقول: أنت تقبل العذر الخفي لكرمك، فكيف صار عذري غي مقبول في تأخيري مدحك مع وضوحه وظهوره؟!
وإنّ محالاً ... إذبك العيش أن أرى وجسمك معتلّ وجسمي صالح
يقول: إن كان قوام عيشي بك فمن المحال سلامة جسمي مع اعتلال جسمك، بل الواجب مشاركتنا. إياك في لاعتلال.
وما كان ترك الشّعر إلاّ لأنّه ... تقصّر عن وصف الأمير المدائح
جعل تقصير المدائح عن وصفه عذراً في تأخير المدح، فقال: لم أترك مدحك تغافلاً عن قضاء حقك، ولكن رأيت المدائح قاصرة عن وصفك، غير ناهضة بآداء شكرك.
وقال وقد تشكى سيف الدولة من دمل في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة.
أيدري ما رأيك من يريب؟ ... وهل ترقى إلى الفلك الخطوب!؟
فاعل يدري: ما أريك، وهو الدمل ومن في موضع نصب؛ لأنه المفعول، وهو سيف الدولة على جهة التعجب والتعظيم للأمر.
يقول: أيدري هذا الدمل من يريب؟ وعلى من أقدم؟ أي لو علم علو مكانك لما تجاسر على الحلول بك، فإنك الفلك في العلو والارتفاع عن الآفات، والخطوب لا ترقى إلى الفلك، فكيف رقى إليك الدمل؟!
وجسمك فوق همّة كلّ داءٍ ... فقرب أقلّها منه عجيب
الهاء في أقلها للأدواء التي تدل عليه قوله: كل داء إذ هو في معنى الجمع.
يقول: إن جسمك أعلى محلاً من أن يصيبه أعظم الأدواء، وأن تبلغ همته إليه، فكيف وصل إليك الدمل الذي هو أقل الأدواء وأحقرها؟
يجشّمك الزّمان هوىً وحبّاً ... وقد يؤذي من المقة الحبيب
يقول: إن الزمان يحبك حباً شديداً فآلمك بهذا القدر من الألم؛ لأن الحبيب يؤذيه الحبيب إذا غلبه الحب، تذللاً. والمقة: الحب، وقد روى: يجمشك والتجميش: مداعبة الحبيب والممازحة معه.
يقول: إن الزمان يداعبك، ويتعرض لك؛ لحبه إياك، وهذا الدمل الذي أصابك تجميش منه، فآذاك وآلمك، فإن المحب ربما آذى حبيبه بالعض وغيره، محبة منه. وقوله هوى وحباً نصب على المفعول له.
وكيف تعلّك الدّنيا بشيءٍ ... وأنت بعلّة الدّنيا طبيب؟
يقول: كيف أصابتك الدنيا بعلة وأنت طبيبها؟ الذي تداوي علتها، وتذهب سقمها، وتصلحها من الفساد.
وكيف تنوبك الشّكوى بداءٍ ... وأنت المستغاث لما ينوب؟
تنوبك أي تصيبك والشكوى: المرض.
يقول: كيف تصيبك ما تشكو منه؟ ومن نابته الشكوى استغاث بك فأجرته.
مللت مقام يومٍ ليس فيه ... طعانٌ صادقٌ ودمٌ صبيب
المقام: الإقامة، والصبيب: المصبوب.
يقول: قد تعودت الحرب، وتركت الإقامة، فمتى فقدت ذلك يوماً واحداً ألمت من ذلك، ومللت من طول الإقامة، فألمك هو الجلوس في الدعة، وترك الحرب، لا من الدمل، إذ هو أقل من أن تبالي به. وقوله: طعان صادق يعني أنه لا يخطئ بل يصيب.
وأنت الملك تمرضه الحشايا ... لهمّته، وتشفيه الحروب
الحشايا: جمع الحشية.
يقول: أنت ملك عظيم الهمة لا تلتذ بالتنعم والراحة، فالنوم على الحشايا يمرضك، والحروب تشفيك وتوافقك. إذ ترك العادة يمرض الإنسان.
وما بك غير حبّك أن تراها ... وعثيرها لأرجلها جنيب
العثير: الغبار، والضمير في تراها وعثيرها وأرجلها للخيل، فأضمرها وإن لم يجر لها ذكر: للعلم بها. إذ الحروب لا تعرى من الخيل. والجنيب: التابع كالجنيبة التي تقاد إلى جنب الفرس.
يقول: هذا الألم الذي ألم بك، ليس هو من المرض، ولكنه لشوقك إلى أن ترى الخيل، وقد أثارت الغبار في الحروب، وصار غبارها تابعاً لأرجلها، كما يتبع الفرس قائده.(1/304)
مجلّحةً لها أرض الأعادي ... وللسّمر المناحر والجنوب
مجلحةً: مصممة جادة في شأنها، ونصب على الحال. والمناحر: موضع النحر، والجنوب: جمع الجنب، وأراد به: جنوب الأعادي ونحورهم.
يقول: ليس بك إلا ألم حبك أن ترى خيلك مجلحة محدة في الحروب، وقد ملكت أرض الأعادي، وملكت الرماح نحور الأعادي وجسومها.
وقيل أراد: نحور الخيل وجنوبها، يعني: أنها تتلقى الرماح بنحورها، وجنوبها، ولا تولي عنها.
فقرّطها الأعنّة راجعاتٍ ... فإنّ بعيد ما طلبت قريب
تقريط الأعنة: هو أن يرخي الفارس عنان الفرس، حتى يمس أذنه، فيصير بمنزلة القرط له. وقيل: هو طرح اللجاح في رأس الفرس.
يقول: إذا كان مرضك هذا، فشفاؤك في يدك، فارجع بخيلك إلى أرض الروم، وارخ لها الأعنة، حتى تبلغ مرادك، ويشفيك من ألمك، فإن ما طلبته هذه الخيل، وإن كان بعيداً، فهو عليها قريب.
إذا داءٌ هفا بقراط عنه ... فلم يعرف لصاحبه ضريب
هفا: أي غفل وزل. ولم يعرف: أي ليس يوجد، وأقام لم مقام ليس والضريب: المثل والنظير، فالهاء في لصاحبه للداء.
والبيت يفسر على وجوه.
أحدها: أن بقراط قد ذكر جميع الأدواء، ولم يذكر فيها حب الحروب، ولم يعلم بقراط أحداً، يكون فقد الحرب مرضاً له، فمن أصابه هذا الداء الذي هفا عنه بقراط، لم يكن له في الناس نظير، فكأنه يقول: ليس لك نظير في هذه الهمة، فإنا ما سمعنا بمن يمرضه حب الحرب، وتؤلمه الراحة والدعة. وجواب إذا قوله: لم يعرف.
والثاني: أنه جعله بمنزلة بقراط. فيقول: أنت مع علمك وكونك في مثل علم بقراط، عجزت عن دفع هذا الداء عنك، وكل داء هفا بقراط عنه، فإن صاحب ذلك الداء ليس له نظير، إذ هو خارج عن الطبائع البشرية؛ لأن بقراط لا يشكل عليه طبايع البشر، فلما كنت بقراط فعجزت عن مداواة هذا الداء، علمنا أنك تفارق جميع الناس، ولا يشبهك أحد منهم، وجواب إذا أيضاً فلم يعرف.
والثالث: أن المراد بالداء: الحروب ونيوب الدهر، وهو متعلق بقوله: فإن بعيد ما طلبت قريب إذا داء هفا بقراط عنه، فلم يوجد عليل، به تلك العلة، ففي تلك الحال بعيد ما تطلبه قريب الغرض به.
يعني: أنه إذا اختل أمر الثغور كان عود خيلك إليها قريباً، فتكون أنت مداوياً لها. والفاء على هذا تكون عاطفة لجملة على جملة، وهذا كقول ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجّاج أرضاً مريضةً ... تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الدّاء العضاء الّذي بها ... غلامٌ إذا هزّ القناة سقاها
بسيف الدّولة الوضّاء تمسى ... جفوني تحت شمسٍ ما تغيب
الوضاء: مبالغة الوضيء.
يقول: إذا أبصرته أبصرت شمساً لا تغيب، كما تغيب الشمس، وقوله: جفوني تحت شمس: أن ناظرة إلى وجهه.
فأغزو من غزا، وبه اقتداري ... وأرمى من رمى وبه أصيب
يقول: إذا غزا سيف الدولة غزواً غزوته معه، ولكن اقتداري به، وقوتي ونكاتي في غزوه بتأييده.
وقيل: معناه أني لا أغزوهم إلا بنفقته وخيله وسلاحه الذي وهب لي، فكأن اقتداري بعطيته، وإذا رميت الاعداء أصبتهم بدولته.
وللحسّاد عذرٌ أن يشحّوا ... على نظري إليه وأن يذوبوا
يقول: إن حسدوني على نظري إليه، ونافسوني فيه، وذابوا كمداً وحزناً، بمنزلتي عنده، فلهم في ذلك عذر.
فإنّي قد وصلت إلى مكانٍ ... عليه تحسد الحدق القلوب
يقول: من يحسدني على منزلتي عنده، ونظري إليه فهو معذور؛ لأني قد جعلت في مكان يحسد قلبي فيه عيني، لما تدركه من اللذة بالنظر إليه، ورؤيتها لمكارمه ومحاسنه، والقلب لا يصل إليها مباشرة، وإنما يصل إليها بالعلم. وهو قريب من قول الآخر:
إذا زرت حفصاً تستضيء برأيه ... فقلبك مغبونٌ وطرفك رابح
وروى: تستضيء بشمسه.
وقال سيف الدولة، وعنده رسول ملك الروم: الساعة يسر الرسول بهذه العلة، فأجابه أبو الطيب:
فديت، بماذا يسرّ الرّسول؟ ... وأنت الصّحيح بذا لا العليل
يقول: جعلنا الله تعالى فداءك، بأي شيء يسر الرسول؟ وأنت الصحيح بهذا الدمل لا المريض؛ لأن بهذا يزول أدواء كثيرة، وهذا علامة الصحة.
عواقب هذا تسوء العدوّ ... وتثبت فيك وهذا يزول(1/305)
يقول عاقبة هذا الدمل، وهو الصحة تسوء أعداءك، وتثبت فيك الصحة دائماً، وهذا الذي أصابك يزول في أسرع وقت.
وقال أيضا في علة سيف الدولة، يمدحه:
إذا اعتلّ سيف الدّولة اعتلّت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض
يقول: إذا أصاب سيف الدولة علة، عمت الأرض ومن عليها، واعتل بها أيضا الشجاعة والكرم؛ لأن قوام الكل به. والبأس: الشجاعة. ومثله لعلي بن الجهم:
وإذا رابكم من الدّهر ريبٌ ... عمّ ما خصّكم جميع الأنام
وكيف انتفاعي بالرّقاد وإنّما ... بعلّته يعتلّ في الأعين الغمض؟
يقول: إذا اعتل هو، لم أنتفع بالنوم، ولم أجد له لذة؛ لأنه إذا اعتل اعتل النوم في عيني جزعاً عليه.
شفاك الّذي يشفي بجودك خلقه ... فإنّك بحرٌ كلّ بحرٍ له بعض
يقول: شفاك الله تعالى، كما يشفي خلقه بجودك، فإنك في الجود بحر، إذا قيست البحار إليه كانت بعضاً منه وجزءا له.
وقال أيضاً في شهر رمضان وقد عوفي سيف الدولة من الدمل:
المجد عوفي إذا عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
يقول: إن المجد والكرم اعتلا بعلتك؟! فلما عوفيت عوفيا بعافيتك، وزال ألمك الذي بك إلى أعدائك؛ لأنهم اغتموا بعافيتك، وتألموا بصحتك، فكأن ألمك انتقل إليهم.
وقيل: إن هذا دعاء: أي رد الله تعالى ألمك إلى أعدائك.
والأولى أنه خبر، وليس بدعاء؛ لأنه أخبر في صدر البيت أنه عوفي، فلا يتصور معه الدعاء عليهم بداء له وقد زال.
صحّت بصحّتك الغارات وابتهجت ... بها المكارم وانهلّت بها الدّيم
ابتهجت: أي فرحت. وانهلت: أي انصبت.
يقول: لما راجعتك الصحة صحت الغارات بصحتك؛ لأنها كانت سقيمة بسقمك، وسرت المكارم بها؛ لأنها كانت سقيمة، وجرى بها عطاياك المتصلة، كأنها ديم منهلة.
وراجع الشّمس نورٌ كان فارقها ... كأنّما فقده في جسمها سقم
يقول: كانت الشمس فارقها نورها لمرضك، فعاد إليها الآن لأجل صحتك، وكأن فقد هذا النور سقما في جسم الشمس، فزال عنها مرضها لأجل صحتك.
ولاح برقك لي من عارضي ملكٍ ... ما يسقط الغيث إلاّ حين يبتسم
العارض: أول ما يلي الناب من الثنايا، ويقال: هو الناب.
شبه نقاء عارضيه بالبرق، ثم قال: ما يسقط الغيث إلا حين يبتسم هذا الملك، يعني إذا ابتسم أعطى، فعبر عن العطايا بالغيث.
وقيل: أراد بالبرق علامات جوده ومخايل إحسانه.
يسمى الحسام وليست من مشابهةٍ ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم؟!
يقول: يسمى الممدوح باسم السيف، وهذا لا يشابهه في الخصال والمعاني، وكيف يشبهه وهو خادمه يتصرف على إرادته؟!
تفرّد العرب في الدّنيا بمحتده ... وشارك العرب في إحسانه العجم
المحتد: الأصل، والضمير فيه وفي إحسانه للممدوح.
يقول: تفرد العرب بأصله؛ لأنه والعرب من أصل واحد، والعجم تشارك العرب في إحسانه ونعمه.
يعني أن فضله عم العجم عمومه للعرب، وشاع في الناس كافة.
وأخلص الله للإسلام نصرته ... وإن تقلّب في آلائه الأمم
الآلاء: النعم. واحدها إلى وألي.
يقول: جعل الله تعالى نصرته للإسلام خالصة؛ لأنه أبداً يجاهد الكفار؛ ويذب عن الإسلام، فنصره مقصور على الإسلام، ونعمه تعم الخلق: مؤمنهم وكافرهم.
وما أخصّك في برءٍ بتهنئةٍ ... إذا سلمت فكلّ النّاس قد سلموا
يقول: لا أخصك بهذه التهنئة على برئك من المرض، بل أهنئ جميع الناس، فإنهم كانوا مرضى لمرضك، فإذا سلمت منه سلم جميع الناس، فاستووا معك في استحقاق التهنئة.
وقال في انسلاخ شهر رمضان يمدح ويهنئه بعيد الفطر:
الصّوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرةٌ بك حتّى الشّمس والقمر
الشمس: مرفوعة، لأنها معطوفة بحتى على ما قبلها.
يقول: هذه الأشياء نورها وبهجتها بك، حتى أن الشمس والقمر اللذين هما الأصل في الإنارة، منيران بك مضيئان بدولتك؛ لأنهما يشهدان النور من أنوارك، كالقمر يشهد النور من الشمس.
ترى الأهلّة وجهاً عمّ نائله ... فما يخصّ به من دونها البشر
التذكير: للوجه، وفي به للنائل، والتأنيث: للأهلة.(1/306)