مَا رَأْيكُمْ فِي صفعه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: ثَنَا عبد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، قَالَ: حَدَّثَنِي الْفضل بْن مُحَمَّد اليزيدي، قَالَ: كنتُ أختلف إِلَى مُحَمَّد بْن نصر وَيقْرَأ عَليّ وَأَوْلَاده الْأَشْعَار، وَكَذَلِكَ إِلَى وَلَدِ عَبْد اللَّه بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ مُحَمَّد بْن نصر وَعبد اللَّه بْن إِسْحَاق صِفْرَيْن من الْأَدَب، على جلالة مروءتهما وشرفهما وسَرْوِهما، فاجتمعا يَوْمًا فِي مجْلِس يشبه مجَالِس الْخُلَفَاء، وأُحضر طَعَام كطعامهم ثمَّ ضُرِبت ستارةٌ وجلسا وبَيْنَ أَيْدِيهِمَا أولادهما، فغنَّت السِّتارةُ بِشعر جرير:
أَلا حَيِّ الدِّيارَ بِسُعْدَ إنِّي ... أُحِبُّ لحبِّ فَاطِمَة الدِّيَارَا
فَقَالَ: عَبْد اللَّه بْن إِسْحَاق لمُحَمد بْن نصر: يَا أَخِي! لَوْلَا حُمْق الْعَرَب وجهلها مَا ذكر السُّعْدُ هَاهُنَا، فَقَالَ مُحَمَّد بْن نصر: لَا تفعل يَا أَخِي فَإِن فِيهِ مَنَافِع، يَشُدُّ اللَّثة ويُطيِّبُ النكهة ويُصلح الْمعدة، فَالْتَفت عَلِيّ بْن مُحَمَّد إِلَى أخوته وَإِلَى وُلِد عَبْد اللَّه فَقَالَ: أما أَنَا فقد أطلقت عَلَى هَذَا الْعلم أَن يُصْفَع أَبِي، فَمَا رَأْيكُمْ أَنْتُم؟ فَقَالُوا: مثل رَأْيك، وامتلأ الْمجْلس ضحكًا.
الْمَأْمُون وكلب الجَنَّة
حَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنِي بعضُ الهاشمين، قَالَ: خرج الْمَأْمُون يَوْمًا من الرُّصَافة يريدُ الشَّمَاسِيَّة فَدَنَوْنَا من ركابه فسلمنا عَلَيْه وَقَبلنَا يَده، قَالَ: وَكَانَ أَمَامِي رجلٌ من الطالبيين يُلَقَّب بكلب الجَنَّة، وَكَانَ طيبا ظريفًا، فَلَمَّا دنا من الْمَأْمُون قبَّل يَده، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون كالمسرِّ إِلَيْهِ: كَيفَ أَنْت يَا كلب الْجنَّة؟ قَالَ: أما الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم والزِّينة فلعمرو بن مسْعدَة وَأبي عباد، وَأما الطنز والتجمهر فلبني هَاشم، فَرد الْمَأْمُون كمه على فِيهِ، وقَالَ: وَيلك كُفّ لَا تَفْضَحَنِي، قَالَ: لَا وَالله أوتضمن لي شَيْئا تُعجِّلُه لي، قَالَ: العشية يَأْتِيك رَسُولي، فَأَتَاهُ عَمْرو بْن مِسْعِدَة بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.
وَيخرج بأسلحته لنصرة الْمَأْمُون
وَحَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنِي هَذَا الْهَاشِمِي، قَالَ: ركب الْمَأْمُون يَوْمًا إِلَى المَطْبَق وَبلغ الْقُواد ركُوبه فتبعوه، قَالَ: فَكَانَ كَلبُ الجَنَّة مِمَّنْ ركب تِلْكَ العَشِيَّة، قَالَ: فَبَصُر بِهِ الْمَأْمُون وَفِي يَده خشبةٌ من حَطَب الوَقُود، وَفِي الْيَد الْأُخْرَى لِحَافه، فَقَالَ: يَا كلب الجَنَّة؟ قَالَ: نعم كَلْبُ الجَنَّة بلغه ركوبك فجَاء لنُصْرتك، واللَّه مَا وجدتُ سِلَاحا إِلا هَذِهِ المشقَّقة من حَطَب البَقَّال، وَلا تُرسًا إِلا لِحَافِي هَذَا، وعياشُ بْن الْقَاسِم فِي بَيته ألف ترس وَألف درع وَألف سيف قَائِم غَيْر مكترث فوصله بِثَلَاثِينَ ألفا وَجَاء عَيَّاش يرْكض، فشتمه الْمَأْمُون وناله بمكروه.(1/381)
أوّلُ مكسٍ وضع فِي الأَرْض
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه الترفقي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يُوسُف القربان، عَنْ سُفْيَان، عَنْ أَبِي إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَام بْن الْحَارِث يَقُولُ: أوّلُ مكسٍ وُضع عَلَى وَجه الأَرْض، خرجت عجوزٌ على عهد سُلَيْمَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهَا دقيقٌ لَهَا فسكبتْهُ الرِّيحُ فَذَرّتْه، فأتَت سُلَيْمَان تَسْتَعدِي عَلَى الرّيح، فَقَالَ: انْظُرُوا من طابتْ لَهُ الرِّيحُ الْيَوْم فِي الْبَحْر فأغرموه دقيقها.
قَالَ: القَاضِي رحِمَه اللَّه: الَّذِي أَتَتْ بِهِ شَرِيعَة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا أَن لَا عِوَض مِمَّا تَذْرُوه الرّيح عَلَى من طابَتْ لَهُ وعَلى من لَمْ تَطِبْ لَهُ وشريعةُ نبيِّنا هِيَ المأخوذُ بهَا إِلَى يوْم الْقِيَامَة وَمَا خَالف شَيْئا مِنْهَا فِي الصُّورَةِ من شرائع الْأُمَم الخالية والقرون الْمَاضِيَة فَهُوَ مَنْسُوخ بِمَا أَتَتْ، وَهَذَا الْخَبَر لَمْ يَأْتِ من طَرِيق يَنْقَطِع الْعُذْر بِهِ وَيقطع عَلَى مغيّبة، وَلا عُزِي إِلَى من تجب الْحُجَّةُ بقوله، وَإِن ثَبت أَن نَبِيَّ اللَّه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قضى هَذِه الْقَضِيَّة، فَإِنَّهَا كَانَتْ هَكَذَا فِي شَرِيعَته إِذْ هُوَ نبيُّ معصومٌ وَلا يقْضِي بِغَيْر الْحق، وَلا يحكُم بِخِلَاف الْعدْل، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ ذكره: " لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أمةٌ وَاحِدَةً وَلَكِنْ ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم "، وقَالَ: جلّ ثَنَاؤُهُ: " تِلْكَ أمةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ ".
قَالَ القَاضِي: وَلَم يَكُنْ من الصَّواب عِنْدِي أَن يُعَبَّر فِيمَا أَتَى بِهِ هَذَا الْخَبَر بالمكس، إِذْ المكسُ مَا يأخُذُ الظَّالِمُونَ من العَشَّارِين وَغَيْرُهُمْ من الْمُسْلِمِين قسراً بِغَيْر وَجه حق وَقَدْ رُوي عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض الزُّنَاةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: " لقَدْ تَابَ هَذَا تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مكسٍ لَغُفِرَ لَهُ "، وَفِي بعض الْمُحَرَّمات: " مَنْ فعل هَذَا كَانَ عَلَيْه من الْإِثْم مثل مَا عَلَيْه صَاحب مَكْس "، وكل هَذَا ينبىء عَنْ عَظِيمِ إِثْمِ الْمَكْسِ، وَفِي المكس قَول الشَّاعِر:
وَفِي كُلّ أسْوَاقِ الْعرَاق إتاوةٌ ... وَفِي كُلّ مَا بَاعَ امْرُؤ مَكْسُ دِرْهَم
المجلِسُ الثَّانِي والخمسُونْ
مُكَافَأَةٌ قَيِّمَةٌ على تَصْحِيح كَلِمَةٍ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ أَبِي الْأَزْهَر الخراعي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ بِمَرْوَ، وَعَلَيَّ أطمارٌ مُتَرَعْبِلَةٌ، فَقَالَ: لِي: يَا نَضْرُ أَتَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الثِّيَابِ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ حَرَّ مَرْوَ لَا يُدْفَعُ إِلا بِمِثْلِ هَذِهِ الأَخْلاقِ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّكَ تَتَقَشَّفُ، قَالَ: فَتَجَاذَبْنَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: حَدَّثَنِي هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا كَانَ فِيهَا سدادٌ مِنْ عَوَزٍ ". قُلْتُ: صَدَقَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هُشَيْمٍ، حَدَّثَنِي عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنِ(1/382)
الْحَسَنِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا كَانَ فِيهَا سدادٌ مِنْ عَوَزٍ " فَكَانَ الْمَأْمُون متكأً فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: السَّدَادُ لحنٌ يَا نضر؟ قلت: نعم هَاهُنَا، وَإِنَّمَا لَحَنَ هُشَيْمٌ وَكَانَ لَحَّانًا، فَقَالَ: مالفرق بَيْنَهُمَا، قُلْتُ: السَّدَادُ: الْقَصْدُ فِي السَّبِيلِ، وَالسِّدَادُ: الْبُلْغَةُ وَكُلُّ مَا سَدَدْتَ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ سِدَادٌ، قَالَ: أَفَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، هَذَا الْعَرْجِيُّ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ:
أَضَاعُونِي وأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمٍ كريهةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
فَأَطْرَقَ الْمَأْمُونُ مَلِيًّا ثُمَّ، قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ لَا أَدَبَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشِدْنِي يَا نَضْرُ أَخْلَبَ بَيْتٍ لِلْعَرَبِ، قُلْتُ: قَوْلُ ابْنُ بيضٍ فِي الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ:
تَقُولُ لِي وَالْعُيُونُ هاجعةٌ ... أَقِمْ عَلَيْنَا يَوْمًا فَلَمْ أَقُمْ
أَيُّ الْوُجُوهِ انْتَجَعْتَ قُلْتُ لَهَا: ... لأَيِّ وَجْهٍ إِلا إِلَى الْحَكَمِ
مَتَى يَقُلْ حَاجِبَا سُرَادِقِهِ ... هَذَا ابْنُ بيضٍ بِالْبَابِ، يَبْتَسِمِ
قَدْ كُنْتُ أَسْلَمْتُ قَبْلُ مُقْتَبِلا ... هَيْهَاتَ أَدْخُلُ أَعْطِنِي سَلَمِي
قَالَ القَاضِي: قَوْله: أسلمت مقتبلا، مَعْنَاهُ أسلفت وَأخذت قبل قبيلا يَعْنِي كَفِيلا، وَمن السَّلف من كَرِه الرَّهن والقبيل فِي السَّلَم، وَمِنْهُم من أجَازه، وقَالَ: استوثَقَ من حقّه، فَقَالَ الْمَأْمُون: للَّه دَرُّك! فَكَأَنَّمَا شُقَّ لَك عَنْ قلبِي، أَنْشدني أنصف بَيت قالته الْعَرَب، قُلْتُ: قَول ابْن أَبِي عَرُوبَةَ المَدِينيّ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين:
إِنِّي وَإِن كَانَ ابنُ عمي عاتبًا ... لَمُزَاحِم من خَلْفه وورَائِهِ
ومُفِيدُهُ نَصْرِي وَإِن كَانَ امْرَأً ... مترجْرِجًا فِي أرضه وسمائِه
وأكون وَالِي سِره وأصونُهُ ... حَتَّى يحيز إليَّ وَقت أدائِه
وَإِذَا الْحَوَادِث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحنا إِلَى جُرَبَائِهِ
وَإِذَا أَتَى من وَجهه بطريفةٍ ... لَمْ أطَّلِعْ فِيمَا وَرَاء خبائِهِ
وَإِذَا ارتدى ثوبا جميلاً لم أقل ... ياليت أنَّ عليَّ حُسْن رُوَائِهِ
فَقَالَ: أَحْسَنت يَا نَضْر، أَنْشدني الْآن أقنع بيتٍ للْعَرَب، فَأَنْشَدته قَول ابْن عبدل:
إِنِّي امرؤٌ لَمْ أَزَلْ وَذَاك من اللَّهِ أديبًا أُعَلِّم الأَدَبا
أقُيمُ بالدَّارِ مَا اطمأنت بِي الد ... ار وَإِن كنتُ نَازحًا طَربا
لَا أجْتَوِي خَلَّةَ الصَّديق وَلا ... أُتْبعُ نفسِي شَيْئا إِذا ذَهَبا
أطلبُ مَا يطْلب الْكَرِيم من الر ... زق بنَفْسِي وأجملُ الطلبا(1/383)
وأحْلِبُ الثَّرَّةَ الصَّفِيَّ وَلا ... أُجْهِدُ أخْلافَ غريبٍ حَلَبَا
قَالَ ابْن أَبِي الْأَزْهَر: ويروي الضَّفِيّ، قَالَ أَبُو بَكْر: وسمعتُ بُنْدارًا الكَرْخِيّ، يَقُولُ: لَا أحبّ الضَّفيَّ بالضاد فِيمَا يرويهِ النّاس، لِأَن الضَّفِيَّ يَكُون للمَلِكِ دون السُّوقَة، والصَّفِيُّ بالصَّاد أبلغ فِي الْمَعْنى لِأَنَّهَا الغزيرة اللَّبن، قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: وَالَّذِي حُكِيَ فِي هَذَا عَنْ بُندار قريب، وجائزٌ أَن يَكُون الصَّفِيُّ بِمَعْنى الشَّيْء الَّذِي يُخْتار ويُصطَفى، وَإِن كَانَ مُصطفيه غَيْر ملكٍ، لِأَن صَفِيَّ المَال إِنَّمَا وُسِمَ بِهَذِهِ السِّمة لِأَن الْملك اصطفاه لنَفسِهِ، وجائزٌ أَن يصطفيه الْملك ثُمّ يصير لبَعض السوقة، وَجَائِز أَن يُقَالُ للشَّيْء الْكَرِيم صَفِيٌّ بِمَعْنى أَنَّهُ لنفاسته مِمَّا يصطفيه الْمُلُوك وَيصْلح أَن يصطفوه، فيعبَّر عَنْهُ بِذَلِك قبل أَن يُصْطَفى، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: " وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا " فسَمَّاهم شُهَدَاء قبل أَن يشْهدُوا، وَكَقَوْلِه: " إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا " وَكَانَت الملوكُ قبل الإِسْلام تَصْطفي من الغَنِيمة عِلْقًا مِنْهَا كَرِيمًا أَوْ غُرَّة مشتراة لأنفسها فَيَأْخذهُ دون الْجَيْش، وَفِي ذَلِك يَقُولُ الشَّاعِر:
لَك الْمِرْباعُ مِنْها والصَّفَايَا ... وحكمك والنشيطة والفضول
يَعْنِي بالمرباع: رُبْع الْغَنِيمَة، والصَّفايا: جمع صفِيَّة، وَهِي مَا ذكرنَا، وَقَوله: وحكمك أَيْ مَا تتحكُّم فِيهِ وتحكُم بِهِ، والنَّشِيطَةُ مَا تنشطه من الْمغنم فتأخذُه، والفضول مَا فضل عَنِ الْقِسْمَة أَوْ كَانَ القَسْمُ لَا يَحْتَمله، ثُمّ جعل اللَّه تبَارك وَتَعَالَى لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا غنمه الْمُسلمُونَ من الْمُشْركين الْخُمْس ولذوي الْقُربى من رَهْطِه وَمن سَمَّى مَعَهم، فحط مَا جعل لَهُ عَنْ قَدْر مَا كَانَت الْمُلُوك تَأْخُذهُ قبله، تَطْيِيبًا لنفوس أَصْحَابه، وتوكيدًا لما نَزَّهَهُ عَنْ أَخذ الْأجر عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " مَا لي فِي هَذَا الْمَالِ إِلا الْخُمْسُ، وَهُوَ مردودٌ فِيكُمْ "، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذ مِنْهُ حَاجته لمؤونته وَمُؤْونَةِ أَهْلِهِ، وَيصرف مَا بَقِيَ مِمَّا خلص لَهُ وَهُوَ خُمْس الْخُمسِ فِي الْكِراع والسِّلاح وَمَا كَانَ تأييدًا للدّين وعَتَادًا لنوائب الْمُسْلِمِين، وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفِيُّ أَيْضا، فَكَانَ يَأْخُذهُ من أصل الْغَنِيمَة، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغار عَلَى بني المصطلق وهم غَارونَ، فَقتل مقاتلهم وسبى زراريهم، وَاصْطفى مِنْهُم جُويرية ابْنة الْحَارِث.
رَجعْنَا إِلَى تَمام الشّعْر، شعر ابْن عبدل وَبَقِيَّة الْخَبَر المتضمن لَهُ:
إِنِّي رأيتُ الْفَتى الْكَرِيم إِذا ... رغَّبتَهُ فِي صنيعةٍ رَغِبَا
والعَبْدُ لَا يطلُبُ الْعلَا وَلا ... يُعطيك شَيْئا إِلا إِذا ضُربا
وَلَم أجد عُرْوَة الْخَلَائق إِلا الد ... ين لمَّا اخْتَبرْتُ والحَسَبَا
قَدْ يُرْزَقُ الخافِضُ الْمُقِيم وَمَا ... شَدَّ بعنسٍ رَحْلا وَلا قَتَبَا
ويُحْرمُ الرِّزْقَ ذُو المطية والر ... حل وَمن لَا يَزَالُ مُغْتَرِبَا(1/384)
قَالَ: أحْسَنْتَ يَا نضر، أفعندك ضِدُّ هَذَا؟ قُلْتُ: نعم، أحسنُ مِنْهُ، قَالَ: هاته، فَأَنْشَدته:
يدُ الْمَعْرُوف غنمٌ حيثُ كَانَتْ ... تَحَمَّلَها كفورٌ أَوْ شَكُور
فَقَالَ: أحسنتَ يَا نضر، وَأخذ الْقِرطاسَ فَكتب شَيْئا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، ثُمّ قَالَ: كَيفَ تَقُولُ: أَفْعِلْ من التُّرَاب؟ قُلْتُ: أتْرِب، قَالَ: الطِّين؟ قُلْتُ: طِنْ، قَالَ: فالكتابُ مَاذَا؟ قُلْتُ: متربٌ مَطِين، قَالَ: هَذِهِ أحسن من الأولى، قَالَ: فَكتب لي بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، ثُمّ أَمر الْخَادِم أَن يوصِّله إِلَى الْفضل بن سهل ج فمضيتُ مَعَه، فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب قَالَ: يَا نَضْر! لَحَّنْتَ أَمِير الْمُؤْمِنِين؟ قُلْتُ: كلا، وَلَكِن هُشَيمًا لحانة، فَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألفا، فَخرجت إِلَى منزلي بِثَمَانِينَ ألفا وقَالَ لي الْفَضْل: يَا نَضْرُ! حَدِّثْنِي عَنِ الْخَلِيل بْن أَحْمَد، قُلْتُ: حَدَّثَنِي الخليلُ بْن أَحْمَد، قَالَ: أتيتُ أَبَا رَبِيعَة الْأَعرَابِي وَكَانَ من أَعْلَم مَا رأيتُ، وَكَانَ عَلَى سطح أَوْ سُطَيح، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ أَشَرنَا إِلَيْهِ بالسَّلام، فَقَالَ: اسْتَوُوا، فَلَمَّا نَدْرِ مَا قَالَ، فَقَالَ لنا شيخٌ عِنْده: يَقُولُ لَكُمْ: ارْتَفِعُوا، فَقَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: هَذَا من قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دخانٌ "، ثُمّ ارْتَفع ثُمّ قَالَ: هَلْ لَكُمْ فِي خبزٍ فطيرٍ ولبنٍ هجيرٍ وماءٍ نمير، فَلَمَّا فارقناه، قَالَ: سَلاما، قُلْنَا: فسِّرْ قَوْلك هَذَا، فَقَالَ: مُتَارَكَة لَا خير وَلا شَرّ، فَقَالَ الْخَلِيل: هَذَا مثل قَول اللَّه جلّ وَعز " وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا " أَيّ مُتَاركةً.
قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: قَوْله فِي الْخَبَر أطمارٌ مُتَرعْبِلَة، يُرِيد ثيابًا متقطعة، يُقَالُ: رَعْبَلْتُ الثوبَ وغيرَهُ إِذا قَطَّعْتُه، قَالَ الشَّاعِر:
يَا من رَأَى ضَرْبًا يُرِعْبِلَ بعضُهُ ... بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ الأبَاء الْمُحْرَقِ
الْآبَاء: الْقصب، قَالَ القَاضِي: خبر النَّضْرِ بْن شُمَيْل هَذَا قَدْ كتبناه من طرقٍ شَتى مُتَقَارِبَة الْأَلْفَاظ والمعاني، وَفِيه زِيَادَة لَيست فِي غَيره، والأشعار الَّتِي أنشدها النَّضْر المأمونَ فِيهِ لما استنشده غَيْر مَا فِي سَائِر مَا كتبناه من قِبَل الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة، وَهِي بليغة حَسَنَة، فَرَأَيْت إِحْضَار هَذِهِ الرِّوَايَة ليتكامل للنَّاظِر الْفَائِدَة فِي كتَابنَا، وَإِن تكَرر بعض أَلْفَاظ مَتْنِ الْخَبَر.
الرِّوَايَة الْأُخْرَى
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: أَحْمَدُ بْن عُبَيْد بْن نَاصح، قَالَ: أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَأْمُونِ، وَعَلَيَّ أطمارٌ أخلاقٌ غسيلٌ، فَقَالَ لِي: يَا نَضْرُ! تَدْخُلُ عَلَيَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَخْلاقِ؟ ثُمَّ قَالَ: نَحْمِلُ مِنْكَ هَذَا عَلَى التَّقَشُّفِ، ثُمَّ تَجَاذَبْنَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: الْمَأْمُونُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا وَكَمَالِهَا كَانَ فِيهِ سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ(1/385)
الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا وَكَمَالِهَا كَانَ فِيهِ سِدَادٌ مِنْ عَوَزٍ " وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ وَاسْتَوَى، وَقَالَ: يَا نَضْرُ! السَّدَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لحنٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينِ، وَإِنَّمَا لَحَنَ هُشَيْمٌ، فَقَالَ لي: ماالفرق بَيْنَ السَّدَادِ وَالسِّدَادِ، قُلْتُ: السَّدَادُ: الْقَصْدُ فِي الدِّينِ وَالسَّبِيلِ، وَالسِّدَادُ: الْبُلْغَةُ فِي الشَّيْءِ أَسُدُّ بِهِ الشَّيْءَ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، هَذَا الْعَرْجِيُّ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، يَقُولُ:
أَضَاعُونِي وأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كريهةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ فِيهِمْ وَسِيطًا ... وَلَمْ تَكُ نِسْبَتِي فِي آلِ عَمْرٍو
فَأَطْرَقَ طَوِيلا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ لَا أَدَبَ لَهُ، ثُمَّ تَجَاذَبَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ اللَّحْنَ، قُلْتُ: مَا لَحَنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا لَحَنَ هُشَيْمٌ، وَكَانَ هُشَيْمٌ لَحَّانَةً، فَتَبِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلْفَاظَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ رِوَايَتُكَ الشِّعْرَ، قُلْتُ: قَدْ رَوَيْتُ الْكَثِيرَ مِنْهُ، قَالَ: فَأَنْشِدْنِي فِي أَحْسَنِ مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْحِكَمِ، فَأَنْشَدْتُهُ:
إِذَا كَانَ دُونِي مَنْ بُلِيتُ بِجَهْلِهِ ... أَبَيْتُ لِنَفْسِي أَنْ أُقَابِلَ بِالْجَهْلِ
وَإِنْ كَانَ مِثْلِي فِي مَحَلِّي مِنَ الْعُلا ... هَوَيْتُ إِذًا حِلْمًا وَصَفْحًا عَنِ الْمَثْلِ
وَإِنْ كُنْتُ أَدْنَى مِنْهُ فِي الْفَضْلِ وَالْحِجَا ... فَإِنَّ لَهُ حَقَّ التَّقَدُّمِ وَالْفَضْلِ
قَالَ: مَا أحسن مَا قَالَ! فَأَنْشِدْنِي أَحْسَنَ مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْحَزْمِ، فَأَنْشَدْتُهُ:
عَلَى كُلِّ حالٍ فَاجْعَلِ الْحَزْمَ عُدَّةً ... لِمَا أَنْتَ بَاغِيهِ وَعَوْنًا عَلَى الدَّهْرِ
فَإِنْ نِلْتَ أَمْرًا نِلْتَهُ عَنْ عزيمةٍ ... وَإِنْ قَصَّرَتْ عَنْهُ الْحُقُوقُ فَفِي عُذْرِ
فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ! فَأَنْشِدْنِي مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي إِصْلاحِ الْعَدُوِّ، حَتَّى يَكُونَ صَدِيقًا فَأَنْشَدْتُهُ:
وَذِي غَيْلَةٍ سَالَمْتُهُ فَقَهَرْتُهُ ... فَأَوْقَرْتُهُ مِنِّي بِعِبْءِ التَّجَمُّلِ
وَمَنْ لَا يُدَافِعُ سَيِّئَاتِ عَدُوِّهِ ... بِإِحْسَانَهِ لَمْ يَأْخُذِ الطُّولِ مِنْ عَلِ
وَلَمْ أَرَ فِي الأَشْيَاءِ أَسْرَعَ مَهْلَكًا ... لضغنٍ قديمٍ من وادٍ مُعَجَّلِ
قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ! فَأَنْشِدْنِي أَحْسَنَ مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي السُّكُوتِ، فَأَنْشَدْتُهُ:
إِنِّي لَيَهْجُرُنِي الصَّدِيقُ تَجَنُّبًا ... فَأُرِيهِ أَنَّ لِهَجْرِهِ أَسْبَابَا
وَأَرَاهُ إِنْ عَاقَبْتُهُ أَغْرَيْتُهُ ... فَيَكُونَ تَرْكِي لِلْعِتَابِ عِتَابَا
وَإِذَا بُلِيتُ بجاهلٍ مُتَحَكِّمٍ ... يَجِدُ الْمُحَالَ مِنَ الأُمُورِ صَوَابَا
أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا ... كَانَ السُّكُوتُ عَنِ الْجَوَابِ جَوَابَا
ثُمَّ قَالَ: مَا مَالُكَ؟ قُلْتُ: أريضةٌ بِمَرْوِ الرُّوذِ أَتَمَزَّزُهَا، قَالَ: أَفَلا نُفِيدُكَ مَالا؟ قُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَدَعَا بدواةٍ وقرطاسٍ وَكَتَبَ، وَلا أَدْرِي مَا كَتَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُتْرِبَ الْكِتَابَ كَيْفَ تَأْمُرُ، قُلْتُ: يَا غُلام أَتْرِبِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ:(1/386)
متربٌ، قَالَ: فَمِنَ السَّحَاةِ، قُلْتُ: يَا غُلامُ اسْحِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ: كِتَابٌ مُسْحًى، قَالَ: الطِّينُ، قُلْتُ: يَا غُلامُ طِنِ الْكِتَابَ، وَأَطِنِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ: مطينٌ وَمُطَانٌ، قَالَ: يَا غُلام أَتْرِبْ وَاسْحِ وَطن الْكتاب، ثُمَّ قَالَ امْضِ إِلَى الفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَمَضَيْتُ فَأَوْصَلْتُهُ، فَقَالَ: بِمَ اسْتَأْهَلْتَ أَنْ يَأْمُرَ لَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؟ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ عَلَى جِهَتِهِ، فَقَالَ: لَحَّنْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْتُ: مَا لُحِّنَ، وَإِنَّمَا لَحَّنَ هُشَيْمٌ، فَتَبِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلْفَاظَهُ، فَأَمَرَ لِي بِأَرْبَعِينَ ألفٍ أُخْرَى مِنْ عِنْدِهِ، وَانْصَرَفْتُ بِكَلِمَةٍ أَفَادُوهَا بِتِسْعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
تعقيب للمؤلف بشرح حَال الْعلمَاء فِي زَمَنه
قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: قَدْ كَانَ من مضى من الْعلمَاء وَأهل الْفَضْل من الأدباء، تَمَسُّهم الْفَاقَة، وتنالهم الْعسرَة وَالْإِضَافَة، ثُمّ يصلونَ من الْخُلَفَاء، والسادة الرؤساء، بِيَسِير مَا عِنْدهم من الْعلم وَالْحكمَة، وَالْأَدب والمعرفة، إِلَى الحَظِّ الخطير، والوفر الْكَبِير، والنَّضْرُ بْن شُمَيْل مِمَّن اتّفق لَهُ ذَلِكَ بعد شدَّة عَظِيمَة لحقته، وفاقة مُجْحِفة لَزِمته، وَكَانَ أحد الْأَعْلَام مِمَّنْ أَخَذَ عَنِ الْخَلِيل علم الْعَرَبيَّة، وَلَهُ من رِوَايَة السُّنَنِ والْآثَار، وَالْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار، مَنْزِلَته وَلما أضَرَّ بِهِ إيطان البَصْرَةِ، ونَبَتْ بهَا عَنْهُ الْمَعيشَة، شرع فِي الظَّعْن عَنْهَا، فَذكر فِيمَا رُوِيَ لنا عَنْهُ من طَرِيق لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت، ولعلِّي أوردهُ إِذا عثرتُ عَلَيْهِ بعد، أَنَّهُ تَبِعَهُ سبع مائَة رَجُل أَو نحوهم من أَصْحَابه يشيعونه، وَجعلُوا يَبْكُونَ توجعًا لمفارقته إيَّاهُم، وَأظْهر لَهُم نَحْو هَذَا من استيحاشه وكراهته النأي عَلَيْهَا عَنْهُمْ، وقَالَ: لَو كَانَ لي فِي كُلّ يومٍ رُبْعٌ من الباقِلَّى أَتَقَوتُه لما ظَعَنْتُ، قَالَ الرَّاوِي: فعجبتُ من أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْجمع الْكثير من المتفجِّعين لفقده من يَكْفِيهِ هَذَا الْقدر، وَيقوم لَهُ بِهِ، ثُمّ إنَّه أَتَى خُرَاسَان فاستغنى وأثرى بِمَا أسدَى إِلَيْهِ الْمَأْمُون لما وصل إِلَيْهِ وسَمِع كَلَامه، ووقف عَلَى أدبه، وَلَقَد ظهر من الْمَأْمُون فِي هَذَا الْخَبَر من النُّبْل والإنصاف لأهل الْعلم والتواضع لمن تَجِيء لَهُ من قبله فَائِدَة، وَظهر لَهُ مِنْهُ علم وَمَعْرِفَة، مَا شكر اللَّه تَعَالَى لما أَرَادَهُ بِهِ، أَلا ترَوْنَ إِلَى مَا اقترحه من الْأَشْعَار فِي الْمعَانِي الَّتِي ذكر، وَإِلَى نَقده إِيَّاهَا، وَإِلَى نقد استحسانه لَهَا، وَلَقَد كَانَ فِي الشُّعَرَاء إِذا أنْشدهُ النقاد، وَالشعرَاء إِذا أنشدوه كَانَ من الأجواد، وَلَقَد رُوي لنا عَنْهُ من نقد الشّعْر وتبريزه فِي التَّمْيِيز بَيْنَ جيده ورديئه، وإبرازه عَلَى أَهْل هَذِهِ الصِّنَاعَة فِيهِ، وعُلُوُّهِ بالْحُجَّةِ عَلَيْهِم عِنْد مخالفتهم إِيَّاه مَا يطول ذكره، وسنأتي بِمَا يحضرنا مِنْهُ فِي مُسْتَأْنف مجالسنا هَذِهِ.
صناعَة نقد الشّعْر
وَنقد الشّعْر وَالتَّحْقِيق فِي مَعَانِيه من الصناعات الَّتِي أَكثر المضطلعين لَهَا قَدْ عُدِمُوا وَقَدْ قَلُّوا، وَقَدْ كَانَ بعض من يخْتَلف إليّ للأخذ عني، وَالْقِرَاءَة عليَّ من أَهْل بعض الْأَطْرَاف،(1/387)
قَدْ قَرَأَ عليَّ شَيْئا مِمَّا صنفه ابنُ السِّكِّيت فِي هَذَا الْمَعْنى وَابْن قُتَيْبَة، وَمَا أَلفه أَبُو الْفرج قُدَامَةُ الْكَاتِب فِي نقد الشّعْر وَالْكتاب الْمَنْسُوب إِلَى أَبِي عُثْمَان الأُشْنَانْدَانِيّ عَلَّق عني صَدرا صَالحا من الزِّيَادَة فِي ذَلِكَ، وَشرح مستغلقه وإيضاح شكله، وَتَفْسِير مجمله، وتلخيص مُهْمله، وتَخْطئَةِ من أَخطَأ فِي تَأْوِيله، ثُمّ غَابَ عني فَانْقَطَعت عَنِ التفرغ لتتبع مَا بَقِيّ مِنْهُ، وَقَدْ وَقع إِلَيْنَا فِي هَذَا الْبَاب فقرٌ حَسَنَة عَنْ شَيْخَيْ هَذِهِ الصناعةِ فِي زمانهما وهما أَبُو الْعَبَّاس النحويان أَحْمَد بْن يَحْيَى، ومُحَمَّد بْن يَزِيد، وَكَانَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي يتَكَلَّم كثيرا فِي هَذَا النَّوْع، ويَدَّعِي فِيهِ دَعَاوَى يَدْفعُهُ عَنِ التقدُّم فِيهَا، ظهورُ تَأَخره عَنْهَا، وتَفَاحُشُ خطئِهِ فِيمَا يُورِدهُ مِنْهَا، وَقَد أخرج قومٌ من هَذَا الْقَبِيل إعجابهم بِأَنْفسِهِم، وَفَسَاد تَخَيُّلهم، إِلَى تخطئَةِ الفحول من الشُّعَرَاء الجاهليين، ومَنْ بعدهمْ من المخضرمين، وَمن بَينهم من الإسلاميّين الَّذِين قَوْلهم حُجَّة عَلَى مَنْ بَعدهم، وَمن تَأَخّر عَنْهُمْ، فأحسنُ حَالاتِه فِي هَذَا الْبَاب أَن يَكُون تبعا لَهُم، فَمنْ ذَلِكَ أَن لُغْدَةَ الْأَصْبَهَانِيّ أقدم عَلَى تخطئة الطَّبَقَة الأولى، كامرىء الْقَيْس وَزُهَيْر والنابغة والأعشى وَمن يجْرِي مجراهم، فخطَّأَهم فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ فتفاقم خَطَؤُه، وتعاظم خَطَله، وَقَدْ كُنْت أمللْتُ عَلَى بعض مَنْ حَضَرني مَا يتبيَّن فِيهِ قُصُور مَعْرفَته، وضَعْف بصيرته، ثُمّ رَأَيْت أَبَا حنيفَة أَحْمَد بْن دَاوُد الدِّينَوَرِيّ قَدْ صَمِد لكتاب لغدة هَذَا فنقضه، وَأورد أَشْيَاء صَحِيحَة تنبيء على إغفاله وَضعف تَأمله، وَمَعَ هَذَا فلسنا ننكر أَن يخطىء الرئيس فِي عمله، وَالسَّابِق فِي فهمه، فَلَا يضع ذَلِكَ من قدره، وَلا يحطُّه عَنْ مرتبته، إِذْ فَوق كُلّ ذِي علم عليم حَتَّى يَنْتَهِي الْعلم إِلَى رَبنَا عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيز الْحَكِيم.
وَقَدْ كَانَ للمتوكل خَادِم يُعرف " بعرق الْمَوْت " قَدْ شدا أَشْيَاء من الْأَدَب، وَحفظ صَدرا من الشّعْر إِلا أَنَّهُ حَل بِقَلْبِه من النَّقْص نَحْو مَا حل بجسمه، فَظن أَنَّهُ قَد اضطلع بأفانين الْأَدَب، واطلع عَلَى بلاغات الْعَرَب، وَأخذ فِي نَحْو مَا كَانَ لُغْدة أَخَذَ فِيهِ، وَنسب امْرأ الْقَيْس إِلَى ذَهَابه فِي بعض شعره عَنْ صِحَة تَرْتِيب نظمه، ووَصْل الشَّكل بشكْله، وإلْحَاقِ الْمِثْل بِمِثْلِهِ، وحَمْلِ الفَرْع عَلَى أَصله، وتَوَهَّم عَلَيْه هَذَا الْبَاب من الْعَيْب، ونَعَاه عَلَيْه، وتكلف بإغفاله إِصْلَاحه عِنْد نَفسه، بخطأ أَتَى بِهِ من عِنْده، وذُكِر هَذَا فِي بَيْتَيْنِ من كلمة امرىء الْقَيْس الَّتِي أَولهَا:
أَلا أنْعَمْ صَبَاحًا أيُّها الطَلَلُ البَالي ... وَهل يَعمنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُر الخَالِي
والبيتان:
كأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوَادًا للذةٍ ... وَلَم أتبطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَم أسْبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَم أقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفَالِ
فَظن أَن امْرأ الْقَيْس قلبَ وَجْهَ التَّرْتِيب، وعَدَل عَنْ مَحَجَّةِ التَّأْلِيف، وأتى بِذكر الْجواد(1/388)
فِي صدر الْبَيْت وَقرن بِه تبطُّن الكاعب، ثُمّ صدر الْبَيْت الثَّانِي بسبئهِ الْخمر وَجَعَل عَجزه فِي حَثِّه الْخَيل عَلَى الْكر، وتوهم أَن هَذَا متنافرٌ غَيْر متشاكل، ومتخالف غَيْر متماثل، وَأَن الْوَجْه فِي هَذَا لَو تنبّه عَلَيْه هُوَ أَن يَقُولُ:
كَأَنِّي لَمْ أركب جوادًا وَلَم أقلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفَالِ
وَلَم أسبأ الزِّق الرَّوِيَّ للذةٍ ... وَلَم أتبطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ
قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: وَلَو ثاب إِلَى هَذَا الْخَادِم عَازِبُ لُبِّه، وفُتح لَهُ الْقُفْل الضَّاغط عَلَيْه، لتيقظ للوقوف عَلَى فَسَاد تَوهُّمِه، ولتجلَّى لَهُ الْخلَل فِيمَا آثره وَقدمه، وَتعلم أَن تَرْتِيب امرىء الْقَيْس فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من أصح التَّرْتِيب وَأحسنه، وأوضح التَّأْلِيف وأبينه، وَأَنه متسقٌ مسْتَتِبّ، ومتفقٌ متلئب، وَلَا ستفاد علما جما لما يتبينُهُ من اطِّرادِهِ وتلاومه، وائتلافه وتقاومه، وَأَنه من أحسن الشُّعَرَاء، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن من الشِّعْر حِكْمَة " وَأَنا مُبين هَذَا بَيَانا كَافِيا، وملخِّصه تلخيصًا مُفِيدا شافيًا إِن شَاءَ اللَّه وَبِه التَّوْفِيق.
إِن الْجواد يُركب لأغراضٍ شَتَّى، مِنْهَا الْمُحَاربَة وشّنُّ الْغَارة وإدْراك الْعَدو والهارب، وفوت الثائر الطَّالِب، وَطلب الأوتار وَأخذ الثأر، والتماس الْمَعيشَة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران، والسبق والنِّضال، والتدرب بالفروسية والقتال، والركض والرياضة، والإسراع والمواشكة فِي الْحَاجة، فِي لواحق هَذِهِ الْأُمُور وتوابعها، أَو مَا يقاربها ويضارعها، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة، وَكَانُوا إِذا كَانَ لَهُم ذحلٌ يُحرِّمون الْخمر عَلَى أنفسهم حَتَّى يثأروا فحينئذٍ يَسْتحلُّونها، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
حَلَّتْ لِيَ الخَمْرُ وَكنت امْرأً ... عَنْ شُرْبِها فِي شُغُل شاغِلِ
فاليوم أسْقَى غَيْر مستحقبٍ ... إِثْمًا من اللَّهِ وَلا وَاغِلِ
وَمِنْهَا القصدُ لضروب اللَّهْو والْمُتعة، والنشاط والرَّتَعة، والالتذاذُ باخْتيَالِ الْجواد وقطعه الجدد، قالركوب الَّذِي قصد امْرُؤ الْقَيْس بقوله: كَأَنِّي لَمْ أركب جوادًا، إِنَّمَا عَنَى بِهِ بَعْضَ مَا فِيهِ التذاذ ومُتعة، وَلَهو ورَتَعَة، وَقَدْ أبان ذَلِكَ بقوله: للذة، فَكَانَ من أليق مَا يَلِيهِ، ويقرن بِهِ مَا جانسه فِي التَّمَتُّع وَاللَّهْو، إِذْ لَمْ يَكُنْ ركُوبه للغارة والغزو فَلذَلِك قَالَ: وَلَم أتبطَّنْ كاعبًا ذاتَ خلخال، وَلَو قَالَ بعد قَوْله: كأنِّي لَمْ أركب جوادًا للذة، حسب مَا اقترحه وقَالَ الْخَادِم وَأَشَارَ بِهِ، لَكَانَ قَد أَتَى بمجمع من القَوْل غَيْر متسق، ومضربٍ من التَّأْلِيف غَيْر مُتَّفق، وَلَم يُقْدم هَذَا الْخَادِم عَلَى هَذَا الرَّأْي الفَائِل، والتوهُّم الْبَاطِل، إِلا بعد حذفه من قَول امرىء الْقَيْس مَا ينْكَشف الْمَعْنى بإثباته، ويزداد وضوحه بإحضاره، وَذَلِكَ قَوْله: للذةٍ، وَلَو لَمْ يذكر اللَّذَّة لَمْ يُؤمن عَلَى مثل هَذَا اراد الشُّبْهَة وَإِن كَانَتْ من المتأمل النَّاظر، والنِّحْرير الماهر، مأمورٌ بِهِ لوُجُوب حسن الظَّن بامرىء الْقَيْس فِي نظمه، ونسبته إِلَى وصل بعض كَلَامه بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ، وَكَيف وَقَد أوضح الْمَعْنى وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، وأفصح(1/389)
بِه وَنَصّ عَلَيْه، وأمّا قَوْله: " وَلَم أسبأ الرزق الروي فَإِنَّهُ قد يسبأ رزق الْخمر للنادم واللذَّة، والارتياح والنشوة، وَقَدْ يُسْبأ للْبيع وَالتِّجَارَة ولإِهدائه إِلَى ذِي الْمُرُوءَة لتحريك الطبائع بشُرْبه عَلَى تذكر الأضغان والغَمْر، وتهيج الْحِقْد وَطلب الْوتر، وَالْجد فِي الْقيام بالثأر، وتجرئة الجبان، وتنشيط الْجنان، والسماحة فِي إِدْرَاك الشّرف بالنفوس، وبذْل كُلّ عِلْقِ مضنةٍ نفيسٍ، وَأَرَادَ امْرُؤ الْقَيْس بِمَا سبأه من الْخمر هَذِهِ الْمعَانِي أَوْ مَا أَرَادَ مِنْهَا، فَكَانَ اللَّائِق بقوله: وَلَم أسبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ أَن يَكُون عجز بَيته هَذَا مَا وَصفه فِي قَوْله: وَلَم أقل لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجفال فاغفل هَذَا الْخَادِم المقصوص، والأَتّي المنقوص، هَذَا الْمَعْنى، وَأخذ من الْبَيْت الأول قَوْله للذة فألحقها بِالْبَيْتِ الثَّانِي، فَلم يتم لَهُ بِمَا غَيره مَا قدره، وَذهب عَنْهُ فهم مَا رتَّبه امْرُؤ الْقَيْس وقرّره، وَمَا ذكرنَا من تقسُّم الْمعَانِي الَّتِي وَصفنَا بهَا سَبَايَا الْخمر أشهر فِي عرف النّاس وَكَلَام الْعَرَب من أَن يحْتَاج إِلَى الاستشهاد عَلَيْه، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ وَعز " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كبيرٌ ومنافعٌ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ من نفعهما " وَهَذَا معنى بَيْنَ الصِّحَّة غَيْر مشكلٍ عَلَى ذِي بَصِيرَة، قَالَ: حَسَّان بْن ثَابِت:
نُوَلِّيها الملامةَ إنْ أَلِمْنَا ... إِذا مَا كَانَ مغثٌ أَوْ لِحاءُ
ونشربُها فتتركنا ملوكًا ... وأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ
وقَالَ الْأَعْشَى:
لعمرك إِن الرّاحَ إِن كُنْت سَائِلًا ... لمختلف عَشيُها وغَدَاتُها
لنا من صَحَاهَا خُبْثُ نفسٍ وكأبةٌ ... وذكرُ همومٍ مَا تَغِبُّ أذاتُها
وَعند العَشِي طيبُ نفسٍ ولذةٌ ... وَمَال كثير غُدْوَةً نشواتُها
وقَالَ المتنخِّل:
وَلَقَد شربت من المدا ... مة بالكبير وبالصَّغير
فَإِذا انتشيْتُ فإنني ... ربُّ الخَوَرْنقِ والسَّدِير
وَإِذَا صحوتُ فإنني ... ربُّ الشويْهةِ وَالْبَعِير
وَهَذَا كثير جدا، وَقَول امرىء الْقَيْس: لَمْ أقل لخيلي كُرِّي، أَرَادَ لفرسان خيلي، كَمَا قَالَت الْعَرَب: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي بِالْجنَّةِ، أَيّ: يَا فرسَان خيل اللَّه، وقَالَ: اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ، وَقَوله أصدق القَوْل وَأحسنه " واسأل الْقرْيَة " يَعْنِي أَهلهَا، وقَالَ: تَعَالَى ذكره:
" فأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل " أَيّ حُبَّ الْعجل فِي قَوْلِ مُعظم أَهْل التَّأْوِيل، وذُكِر بَعضهم أَنَّهُ سُحِلَ وأُلْقِي فِي اليمِّ فشربوه، وَالْقَوْل الأول أولى بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي مَا شُرب ولُحِسَ من المَاء وَغَيره قَدْ أُشْرِبْتُه فِي قلبِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أُشْرِبَ فُلان حُبّ فُلان فِي قلبه أَوْ عداوته وبغضه، وذكرتُ أبياتًا غَزِلَة لبَعض الْمُحدثين فأوردتها هَا هُنَا لِأَنِّي استحسنتُها(1/390)
هَاهُنَا وَفِي بَيت مِنْهَا نَحْو هَذَا الْمَعْنى، وَهِي:
وَقَدْ كُنْت أَرْجُو فِي مغيبك سلوةً ... وَلَم أدْرِ أَن الطيف إِن غبت طالبي
وَوَاللَّه لَا ينكَى مُحبٌّ بِمِثْلِهَا ... وَإِن كَانَ مَكْرُوها فِرَاق الحبايب
وأُشْرِبَ قلبِي حُبَّها وَمَشى بِهِ ... تَمَشِّي حميَّا الكأس فِي رَأس شَارِب
يدبُّ هَواهَا فِي عِظَامي ولَحْمِها ... كَمَا دبَّ فِي الملْسُوعِ سمُّ العَقَارِبِ
الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ
من قَالَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ..
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْمُنَادِي، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ قَيْسٍ السُّكَّرِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الأَثَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا رَعِيَّةُ الإِبِلِ يَوْمًا، فَكَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَرْعَى فِيهِ، فَبَصُرْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حلقةٍ يُحَدِّثُهُمْ، فَسَعَيْتُ إِلَيْهِ فَأَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُرِيدُ فِيهِمَا إِلا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ قَبْلَهُمَا مِنْ ذَنْبٍ، فَكَبَّرْتُ فَإِذَا رَجُلٌ يَضْرِبُ عَلَى كَتِفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الَّتِي قَبْلَهَا يَا ابْن عَامِرٍ أَفْضَلُ مِنْهَا، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه يُصَدِّقُ لِسَانَهُ قَلْبُهُ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ".
رِوَايَة أُخْرَى للْحَدِيث
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنَادِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ النَّسَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا ونفرٌ مِنْ جُهَيْنَةَ فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ رَعْيَ الإِبِلِ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمٌ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَعَيْتُهَا ثُمَّ رَوَّحْتُ نَفْسِي فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وهويخطب، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَدْرَكْتُ مِنْ كَلامِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى مُصَلاهُ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهَا، إِلَّا انقل كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا "، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ قُلْتُ: بخٍ بخٍ، فَقَالَ: عُمَر - وَهُوَ إِلَى جَنْبِي قاعدٌ - قَالَ: أَجْوَدَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ فَقَالَ: قَالَ: " مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلا فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ.(1/391)
معنى بَخْ بَخْ واللغات فِيهَا
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله بَخْ بَخْ، هَذِهِ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد الشَّيْء تفضله وتمدحه وتعجب بِهِ، وفيهَا لُغَتَانِ: التسْكين وَالْكَسْر والتنوين، فَمنْ سكن فعلى الأَصْل فِيمَا يُبْنى وَلا يُعرب، وَالْكَسْر عَلَى الْبَاب فِي السَّاكِن إِذا حُرِّك، والتنوين فِي قَول مُحققي نُحاة الْبَصرِيين يُؤْذِن بالتنكير، وحذفُه يدُلّ عَلَى التَّعْرِيف، وَأكْثر مَا تسْتَعْمل هَذِهِ الْكَلِمَة بالتكرير وَلها نَظَائِر فِيمَا وَصفنَا من حكمهَا، قَالَ الشَّاعِر:
بَيْنَ الأَشِجِّ وَبَيْنَ قيسٍ باذخٌ ... بخ بخ بوالده وبالمولود
وَمثل هَذَا صهٍ صهٍ ومهٍ مهٍ.
وَفِي الْقِصَّة الَّتِي رويناها بِهَذَيْنِ السَّنّدَيْن مَا يُرغب فِي الْعَمَل بِمَا أنبأت بفضله، وَيدل عَلَى سَعَة إِحْسَان اللَّه تَعَالَى وتفضله، وَقد روى لَنَا هَذَا الْخَبَر من وجهٍ فِيهِ عللٌ عارضته فِي سَنَده، وَأَنا ذاكره ليحصُل لمن وقف عَلَيْه الْفَائِدَة مِنْهُ إِن شَاءَ اللَّه.
الْعِلَل الَّتِي فِي سَنَد الْحَدِيث
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ غَالِبٍ الْعَطَّارُ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ نَصْرَ بْنَ حَمَّادٍ، قَالَ: كُنَّا عَلَى بَابِ شُعْبَةَ نَتَذَاكَرُ، فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رَعِيَّةَ الإِبِلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ "، قُلْتُ: بَخٍ بَخٍ، فَحَدَّثَنِي رجلٌ مِنْ خَلْفِي فَإِذَا عُمَرُ، فَقَالَ: الَّذِي قَالَ قبل أحسن، قلت: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله قِيلَ لَهُ ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتَ "، قَالَ: فَخَرَجَ شُعْبَةُ فَلَطَمَنِي ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: مَا لَهُ بَعْدُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ: إِنَّكَ أَسَأْتَ إِلَيْهِ، قَالَ شُعْبَةُ: انْظُرْ مَا يُحَدِّثُ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ لأَبِي إِسْحَاقَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ، فَغَضِبَ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ حَاضِرٌ، فَقَالَ مِسْعَرٌ: أَغَضِبَ الشَّيْخ؟ قلت: يصححن هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ لأَرْمِيَنَّ بِحَدِيثِهِ، فَقَالَ لِي مِسْعَرٌ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ بِمَكَّةَ. قَالَ شُعْبَةُ: فَرَحَلْتُ إِلَى مَكَّةَ لَمْ أُرِدِ الْحَجَّ أَرَدْتُ الْحَدِيثَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَطَاءٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدِّثْنِي، قَالَ شُعْبَة: فَلَقِيت مَالِكًا، قَالَ: سعدٌ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ، قَالَ شُعْبَةُ: فَرَحَلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: الْحَدِيثُ مِنْ عِنْدِكُمْ زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، قُلْتُ: إِيشِ هَذَا الْحَدِيثُ؟ بَيْنَمَا هُوَ كُوفِيٌّ إِذْ صَارَ مَكِّيًّا، إِذْ صَارَ مَدَنِيًّا، إِذْ صَارَ بَصْرِيًّا، قَالَ شُعْبَةُ: فَرَحَلْتُ(1/392)
إِلَى الْبَصْرَةِ فَلَقِيتُ زِيَادَ بْنَ مِخْرَاق فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَبْغِي، قُلْتُ: حَدِّثْنِي بِهِ، قَالَ: لَا تَرُدْهُ، قُلْتُ: حَدِّثْنِي، فَقَالَ: حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي رَيَّحَانَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا ذَكَرَ شَهْرًا، قُلْتُ: دَمِّرْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَوْ صَحَّ لِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَاقَ الْقِصَّةَ عَلَى اخْتِلافِ أَلْفَاظِهَا مَعَ تَقَارُبِ مَعَانِيهَا وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَعَنِّي حَدِيثَ أَبِي، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ - قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُغنِي بْنُ مُعَاذٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ لَهُ: عِنْدَكُمْ أَصْلٌ، قَالَ: نَعَمْ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بن الْمفضل، عَن شُعْبَة، كهذه الْقِصَّةُ، وَزَادَ فِيهَا حَرْفًا هُوَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: لَمْ أَحْفَظْهُ.
التَّدْلِيس فِي الْحَدِيث
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: والتدليس فِي الْحَدِيث كثير، والمدلِّسُون من أَهله كثير، وَكَذَلِكَ الْإِرْسَال وَكَانَ شعبةُ يُنكر التَّدْلِيس، وَيَقُولُ فِيهِ مَا يتَجَاوَز الْحَد مَعَ كَثْرَة رِوَايَته عَنِ المدلِّسين، وشاهدت من كَانَ مدلِّسًا من أعْلام أَهْل الْعلم الْمُحدثين كالأعمشِ وسُفْيَان الثَّوْرِي وسُفْيَان بْن عُيَيْنة وهُشَيْم بْن بَشِير وَغَيْرُهُمْ، والمدلِّس من هَؤُلاءِ لَيْسَ بِكَذَّابٍ فِي رِوَايَته، وَلا مَجْرُوح فِي عَدَالَته، وَلا مغموصٍ فِي أَمَانَته، وأعلام الْفُقَهَاء يحتجون فِي الدّين بنقله، وَكَانَ الشّافعيّ لَا يرى مَا يرويهِ المدلِّسُ حُجَّة، إِلا أَن يَقُولُ فِي رِوَايَته: حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ لشعبة مَعَ سوء قَوْله فِي التَّدْلِيس فِي عدَّة أَحَادِيث رَوَاهَا، وجمعنا ذَلِكَ فِي مَوضِع هُوَ أوْلَى بِهِ، قَالَ القَاضِي: وَفِي ظَاهر هَذِهِ الْحِكَايَة عَنْ شُعْبَة أَنَّهُ قَد انتهك من حُرْمة هَذَا الرَّجُل مَا هُوَ حِمًى مَحْظور، وَإِلَى اللَّه تصير الْأُمُور، وَفِي مَا يصلح إثباتُ مثله فِي هَذَا الْكتاب، من الْأَخْبَار المدلسة وأحوال المدلِّسين مَا يَتَّسِع، فلعنا نأتي مِنْهُ بجملة فِيمَا نستقبل إِن شَاءَ اللَّه.
أحكم مَا قالته الْعَرَب وأوجزه
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ: أَبُو عُثْمَان الأُشْنَانْدَانِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعُتْبِي، قَالَ: دخل الشَّعْبِيّ عَلَى عَبْد الْملك، فَقَالَ: يَا شَعْبِي! أَنْشدني أحكم مَا قَالَت الْعَرَب وأوْجَزَه، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَول امرىء الْقَيْس:
صُبَّتْ عَلَيْه وَمَا تنصبُّ من أممٍ ... إِن الشَّقَاء عَلَى الأشْقِين مَصْبُوبُ
وَقَول زُهَيْر:
وَمن يَجْعَل المعروفَ من دون عرضه ... يَفِرْهُ وَمن لَا يتقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وَقَول النَّابِغَة:
ولَسْتَ بمستبقٍ أَخا لَا تلمُّهُ ... عَلَى شعثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ(1/393)
وَقَول عَدِيّ بْن زَيْد:
عَنِ الْمَرْء لَا تسْأَل وَأبْصر قرينه ... إِن القرين بالمقارن يَقْتَدِي
وَقَول طرفَة:
سَتُبْدي لَك الأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلا ... ويأتيك بالأخبار من لَمْ تُزَوِّدِ
وَقَول عُبَيْد بْن الأبْرَص:
وكلُّ ذِي غيبةٍ يَؤُوبُ ... وغائبُ الموتِ لَا يَؤُوبُ
وَقَول لَبِيد:
إِذَا المرءُ أسْرَى لَيْلَة ظنَّ أنَّهُ ... قضى أملا والمرءُ مَا عَاشَ عَاملُ
وَقَول الْأَعْشَى:
وَمن يَغْتربْ عَنْ قومه لَا يزل يرى ... مصَارِع مظلومٍ مجرًا ومَسْحَبَا
وَقَول الْحُطَيْئة:
من يفعل الْخَيْر لَا يَعْدِمْ جَوَازِيَهُ ... لَا يذهبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّه والنَّاسِ
وَقَول الْحَارِث بْن عَمْرو:
فَمنْ يَلْقَ خيرا يُحْمِد النّاس أمره ... وَمن يَغْوَ لَا يَعْدم عَلَى الغيِّ لائِمَا
وَقَول الشماخ:
وكلُّ خليلٍ غيرِ هَاضِمِ نَفسِهِ ... لوصْلِ خليلٍ، صارمٌ أَوْ مُعَارِزُ
فَقَالَ عَبْد الْملك: حَجَجْتُكَ يَا شَعْبِي بقول طُفَيْل الغَنَوي:
وَلا أُخَالِسُ جَاري فِي حليلته ... وَلا ابنَ عَمِّيَ غَالَتْنِي إِذا غُولُ
حَتَّى يُقالَ إِذا دُلِّيتُ فِي جدثٍ ... أيْن ابنُ عوفٍ أَبُو قَرَّانَ مَجْعُولُ
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: بَيْتا طُفَيل اللَّذَان أنشدهما عَبْد الْملك وفَضَّلهما وزَعمَ أَنَّهُ حج الشَّعْبِيّ من أشعار الشُّعَرَاء غَيْر مقصِّر عَنْهُمَا، وَمن تَأمل مَا وَصفنَا وجَدّه عَلَى مَا ذكرنَا، من غَيْر أَن يحْتَاج إِلَى تكلّف تَفْسِير ذَلِكَ، وإطناب فِي الِاحْتِجَاج لَهُ، فَأَما بَيت الشماخ فَإِن معنى قَوْله: غَيْر هاضم نَفسه، أَيّ حَامِل عَلَيْهَا لخليله والهَضْم: النَّقْص، يُقَالُ: هضم فلانٌ فلَانا حَقه أَيّ نَقصه، قَالَ اللَّه جلّ جلالُه: " وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مؤمنٌ فَلا يخَاف ظلما وَلَا هضماً " وَأما قَوْله: أَوْ مُعَارِز، فالْمُعارز المتقبِّض، يُقَالُ: استعْرَزَ عليَّ فُلان إِذا انقبض، وألقيت الْبُضْعة عَلَى النَّار فَعَرزَتْ، وَكَأن الشماخ سلك سَبِيل النَّابِغَة فِي بَيته الَّذِي أنْشدهُ الشَّعْبِيّ فِي هَذَا الْخَبَر، وأصل الْغَرَض فِي هَذِهِ الْجُمْلَة، عَلَى مَا بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ مِمَّا لأَحَدهمَا من الشَّفِّ من تَنْقِيح أَلْفَاظ الشِّعْر، وَفضل اسْتغْنَاء أَجزَاء أحد الْبَيْتَيْنِ عَلَى أَجزَاء الآخر، وَأَنا قائلٌ فِي هَذَا قولا يُبين صِحَّته ويُوضح حَقِيقَته إِن شَاءَ اللَّه، وَأَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: إِن جملَة الْأَلْفَاظ للبيتين الَّتِي تجمعهما عَلَى معنى وَاحِد، هُوَ أَن الَّذِي(1/394)
يحفظ الْأُخوة بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، ويحرس الْخلَّة بَيْنَ الخليلين أَن يَلمّ أَحَدهمَا صَاحبه عَلَى شَعَثِهِ ويَهْضِمَ لَهُ نَفسه، وَمَتى لَمْ يفعل هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَة من استبقائه وَكَانَ بِعرْض مُصارمته، وانقباضه عَنْهُ ومعارزته، وَبَيت النَّابِغَة فِي هَذَا الْبَاب أفحل وأوفى، وأجزل وأشفى، وَقَدْ كشف عَنِ الْعلَّة فِيمَا أَتَى بِهِ بقوله: أَيّ الرِّجَال المهذّب، فَأحْسن الْعبارَة عَنْ هَذَا الْمَعْنى: " مَنْ تَكُ يَوْمًا بأخيك كُلِّه "، وَقَدْ نَوَّه بَيت النَّابِغَة هَذَا رُواةُ الشّعْر ونَقَلَتِه، ونُقَّاده وجهابذته، واستحسنوا تكافُؤَ أَجْزَائِهِ، واستقلال أَرْكَانه، واشتماله عَلَى فِقَر قَائِمَة بأنفسها، كَافِيَة كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا، وَهَذَا من النَّوْع الْمُسْتَفْصح، والفن المستعذب، من أَعلَى طَبَقَات البلاغة، وَقَدْ أَتَى الْقُرْآن مِنْهُ بالكثير الَّذِي يقل مَا أَتَى مِنْهُ فِي الشّعْر إِذا قَيْس إِلَيْهِ، فَتبين للمميزين كثير فضل مَا فِي الْقُرْآن عَلَيْه، فَمنْ ذَلِكَ قولُ اللَّهِ جلّ وعَزّ: " فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كتابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب رِسَالَة أبَنَّا فِيهَا رُجحان مَا فِي الْقُرْآن من هَذَا الْجِنْس عَلَى كثرته، عَلَى مَا أَتَى مِنْهُ فِي الشّعْر عَلَى قلته، فَلم نُطِلْ كتَابنَا هَذَا بإعادته، وَقَدْ ضممنا مَعَه شطرًا صَالحا كتَابنَا الْمُسَمَّى " الْبَيَان الْمُوجَزُ فِي عُلُوم الْقُرْآن المعجز " وَمن نظر فِيهِ أرشف عَلَى مَا يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بِتَوْفِيق اللَّه تَعَالَى وهدايته.
ثُمَامَة وَهُوَ سَكرَان ومحاورته لِلْمَأْمُونِ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدثنَا القربي، قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِح بْن سَعِيد الضبعيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
قَالَ الْوَلِيد بْن عَيَّاش بْن زُفر، خرج ثُمَامَة من منزل مُحَمَّد بن نوح العمكري مَعَ الْمغرب وَهُوَ سَكرَان، وَإِذَا هُوَ بالمأمون قَدْ ركب فِي نَفَر، فَلَمَّا رَآهُ ثُمامةُ عدل عَنْ طَرِيقه، وبَصُر بِهِ الْمَأْمُون فَضرب كفَلَ دَابَّته وحاذاه، فَوقف ثُمَامَة فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: ثُمَامَة؟ قَالَ: إِي واللَّه، قَالَ: سَكرَان؟ قَالَ: لَا واللَّه، قَالَ: أفتعْرِفُني؟ قَالَ: إِي واللَّه، قَالَ: من أَنَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي واللَّه، فَضَحِك الْمَأْمُون حَتَّى تثنى عَلَيْهِ عَنْ دَابَّته، ثُمّ قَالَ: عَلَيْك لعائنُ اللَّه، قَالَ: تَتْرى يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: فَعَاد فِي الضحك، وَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم.
مَتَى حلت لَهُ الْخمر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي مَزْيَد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاك بْن عُثْمَان، قَالَ: أَتَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان بفتًى من قُرَيْش قَدْ شرب نبيذًا، فَقَالَ: لَهُ أَيْنَ شربت؟ فَقَالَ:
شربتُ مَعَ الجوزاءِ كَأْسًا ريوةً ... وَأُخْرَى مَعَ الشِّعْرى إِذا مَا اسْتَقلَّتِ
مُعَتَّقَةً كَانَتْ قريشٌ تصونُها ... فَلَمَّا استحلُّوا قتلَ عُثْمَان حَلّتِ(1/395)
قَالَ: فَخَلاه، وَأَعْطَاهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم.
فِي أقل من هَذَا مَا يُحفظ لَك
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنِ الْحِرْمَازِيِّ، قَالَ: أَتَى رجلٌ من الْأَنْصَار عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر التَّيْمِيّ بِفَارِس فتعرَّض لَهُ فَلم يُصِبْ مِنْهُ طائلا، فَانْصَرف وَهُوَ يَقُولُ:
رَأَيْت أَبَا حَفْص تَجهَّمَ مَقْدَمِي ... فَلَطَّ بقولٍ عدره أَوْ مُوَاربَا
فَلَا تحسبنّي إِن تجهمتَ مَقْدمي ... أرى ذَاك عارًا أَوْ أرى الْخَيْر ذاهبَا
ومثلي إِذا مَا بَلْدَة لَمْ تُواتهِ ... تنكب عَنْهَا واسترم العَوَاقِبا
قَالَ: فبلغت الأبياتُ عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه، فَقَالَ: عَليّ بِالرجلِ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّه! مَا أخرج هَذَا مِنْك؟ أبيني وَبَيْنك قرَابَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَلَك عِنْدِي يدٌ أسْدَيْتها، قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا دعَاك إِلَى هَذَا؟ قَالَ: أفضل الْأَشْيَاء، كُنْت أدخلُ مَسْجِد المدينةَ أحْفَلُ مَا يَكُون فأتجاوزُ من الحَلَقِ إِلَى حَلَقَتِك فأجلس فِيهَا وأوُثرك، فَقَالَ: فِي أقل من هَذَا واللَّه مَا يُحفظ لَك، كم أَقمت؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَة، فَأمر لَهُ بِأَرْبَعِينَ ألفا وجهزه إِلَى أَهله.
بيتان يلغيان قرارًا للأمير
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن خالويه النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي اليزيدي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى، عَنْ دَمَاذ، عَنِ الأَصْمَعِيّ، قَالَ: حَرَّم خالِدُ بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي الْغناء فَأَتَاهُ حُنَيْنُ بْن بَلْوَع مَعَ أَصْحَاب الْمَظَالِم ملتحفًا عَلَى عُود، فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير شيخ كَبِير ذُو عِيَال، كَانَتْ لَهُ صناعَة حِلْتَ بَينه وَبَينهَا، قَالَ: وَمَا ذَاك؟ فَأخْرج عُودَه وغَنّى:
أَيهَا الشامت الْمُعير بالشي ... ب أَقِلَنَّ بالشَّبابِ افْتِخَارَا
قَدْ لبستُ الشبابَ قبلك حينا ... فوجدتُ الشَّبَاب ثوبا مُعَارَا
فَبكى خَالِد، وقَالَ: صدق واللَّه، إِن الشَّبَاب لثوبٌ معار، عد إِلَى مَا كنت عَلَيْهِ، وَلَا تجَالس شَابًّا وَلَا معربدا.
قل إِن شَاءَ اللَّه
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن زَكَرِيّا الْبَصْرِيّ، قَالَ: الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن رَاشد، قَالَ: سَمِعْتُ القَاضِي شريك بْن عَبْد اللَّه، يَقُولُ: كنتُ ذَات لَيْلَة أُصَلِّي فِي السَّطْح وَإِلَى جنب سطحي امْرَأَة تُطْلَق وَقَدْ عَسُر عَلَيْهَا ولادها، فَكَادَتْ تَمُوت فَشَغَلَتْ قلبِي، وزوجُها فِي نَاحيَة السَّطْح يسمع صراخها، فسمعتُه يَقُولُ: واللَّه يَا هَذِهِ لِئن خَلَّصكِ اللَّه تَعَالَى لَا أَعُود أُضَاجِعُك أبدا، فَقَالَت لَهُ مسرعة: قُل إِن شَاءَ اللَّه يَا مَشُوم، فأضحكني قَوْلهَا، وَمَا ذكرتها وَأَنا فِي الصَّلاة إِلا وضحكتُ من قَوْلهَا.(1/396)
مَعْلُومَات أَبِي حنيفَة فِي التَّارِيخ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن خُزَيْمة بنَيْسابور، عَنِ الْمُزَني، عَنِ الشّافعيّ، قَالَ: مضى أَبُو يُوسُف القَاضِي ليسمع الْمَغَازِي من أَبِي إِسْحَاق أَوْ من غَيره فأخَلَّ مجْلِس أَبِي حنيفَة أَيَّامًا فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ لَهُ أَبُو حنيفَة: يَا أَبَا يُوسُف من كَانَ صَاحب راية طالوت؟ قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُف: إِنَّك إِمَام وَإِن لَمْ تُمْسِكْ عَنْ هَذَا سَأَلتك واللَّه عَلَى رُؤُوس الْمَلأ أَيّمَا كَانَتْ أولى بَدْرًا أَوْ أُحدًا، فَإنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ قبل، فَأمْسك عَنْهُ.
بعض مَا رثى بِهِ البرامكة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بَكَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: لما قُتِل جَعْفَر بْن يَحْيَى وصُلِبَ بِبَاب الْحَسَن رأسُه فِي نَاحيَة وَجَسَده فِي نَاحيَة، مرت بِهِ امْرَأَة عَلَى حمارٍ فارهٍ فوقفت عَلَيْه، ثُمّ نظرت إِلَى الرَّأْس، فَقَالَت بِلِسَان فصيح: واللَّه لَئِن صرتَ الْيَوْم آيَة لقَدْ كُنْت فِي المكارم غَايَة، ثُمّ أنشأت تَقُولُ:
بكيتُ عَلَى يَحْيَى وأيقنتُ أَنما ... قُصَارَى الفَتَى يَومًا مُفَارَقَةُ الدُّنْيَا
وَلما رَأَيْتُ السَّيف خَالَطَ جعفرًا ... ونادى مُنَادِي للخليفةِ فِي يَحْيَى
وَمَا هِيَ إِلا دولةٌ بعد دولةٍ ... تُخوِّلُ ذَا نُعْمى وتعقُبُ ذَا بَلْوَى
إِذا أنزلتْ هَذَا منازلَ رِفْعةً ... من الْملك حَطّت ذَا إِلَى غَايَة سُفْلَى
ثُمّ حركتِ الحمارَ فكَأَنَّها كانتْ رِيحًا لَمْ تُعرف.
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَدْ رَوَى لنا فِيمَا رُثي بِهِ البرمكيُّ بعض من وقف عَلَى خشبته غَيْر حِكَايَة، وَسَتَأْتِي بعد إِن شَاءَ اللَّه.
أضمر الْملك لنا شرا
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن كَامِل، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن حَمَّاد القَيْسيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي السرى، قَالَ هِشَام بْن مُحَمَّد بْن السّائب الْكَلْبِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خرج كسْرَى فِي بعض أَيَّامه للصَّيْد وَمَعَهُ أَصْحَابه، فَعَن لَهُ صيدٌ فَتَبِعَهُ حَتَّى انْقَطع عَنْ أَصْحَابه وأظلته سَحَابَة فأمطرت مَطَرا حَال بَين أَصْحَابه وَبَين اللحوق بِهِ فَمضى لَا يدْرِي أَيْنَ يقْصد، فرُفع لَهُ كوخٌ فقصده فَإِذا عجوزٌ بِبَاب الكوخ وَأدْخل فرسه وَأَقْبل اللَّيْل فَإِذا ابنةُ الْعَجُوز قَدْ جَاءَت مَعهَا بقرة قَدْ رعتها بِالنَّهَارِ، فأدخلتها الكوخ وكسرى ينظر، فَقَامَتْ الْعَجُوز إِلَى الْبَقَرَة وَمَعَهَا آنِية فاحتلبت الْبَقَرَة لَبَنًا صَالحا وكسرى ينظر، قَالَ: فَقَالَ فِي نَفسه: يَنْبَغِي أَن يَجْعَل عَلَى كُلِّ بقرة إتاوة، فَهَذَا حلابٌ كثيرٌ وَأقَام بمكانه، فَلَمَّا مضى أَكثر اللَّيْل، قَالَت الْعَجُوز: يَا فُلَانَة! قومِي إِلَى فُلَانَة فاحتلبيها، فَقَامَتْ إِلَى الْبَقَرَة فَوَجَدتهَا حَائِلا لَا لبن فِيهَا، فنادت أُمَّها: يَا أُمَّتاه قَدْ واللَّه أضمر لنا المَلِكُ شَرًّا، قَالَتْ: وَمَا ذَاك؟ قَالَتْ: هَذِهِ فُلَانَة حائلٌ مَا تُبِسُّ بقَطْرة، قَالَ: فَقَالَت لَهَا أمهَا: امكُثي عيها قَلِيلا، قَالَ: فَقَالَ(1/397)
كسْرَى فِي نَفسه: من أَيْنَ عَلِمَتْ مَا أضْمرتُ فِي نَفسِي؟ أما إِنِّي لَا أفعل ذَلِكَ، قَالَ: فَمَكثت ثُمّ نادتها، يَا بُنّية! قُومي إِلَى فُلَانَة، قَالَ: فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَوَجَدتهَا جَافلا، فنادت أُمَّها: يَا أُمَّتاه! قَدْ واللَّه ذهب مَا كَانَ فِي نفس الْملك من الشَّرِّ هَذِهِ فُلَانَة جافل فاحتلبتُها، وَأَقْبل الصُّبْح وتتبَّع الرِّجَال إِثْر كِسْرى حَتَّى أَتَوْهُ، فَركب وَأمر بِحمْل الْعَجُوز وابنتها إِلَيْهِ فحملتا، فَأحْسن إِلَيْهِمَا، وقَالَ: كَيفَ علمت أَن الْملك قَدْ أضمر شَرًّا، وَأَن الشَّرّ الَّذِي أضمره قَدْ عَدَل عَنْهُ، قَالَت الْعَجُوز: أَنَا بِهَذَا الْمَكَان من كَذَا وَكَذَا مَا عُمل فِينَا بعدلٍ إِلا خَصْبَ بلدُنا واتسع عيشُنا، وَمَا عمل فِينَا بجورٍ إِلا ضَاقَ عيشُنا وانقطعت موادُّ النَّفْع عنّا.
قَالَ القَاضِي: قَول الْمَرْأَة فِي هَذَا الْخَبَر فُلَانَة يَعْنِي الْبَقَرَة، قَالَ كثير من أَهْل اللُّغَة: إِنَّمَا يُقَالُ فُلَانَة فِي الْمَرْأَة، فَأَما مَا عَداهَا من الْبَهَائِم وَغَيرهَا فَوجْهُ الْكَلَام أَن يُقَالُ: الفلانة، وَالْوَجْه الآخر عِنْدِي غير مستنكرٍ، إِذْ قَدْ كَانُوا يخصُّون كلَّ واحدٍ مِنْهُ التلقيب والتَّسْمية.
المجلِسُ الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ
من أدب المؤاكلة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ الصَّيْدَانِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلْيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَلِيهِ، وَلا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَلِي جَلِيسَهُ، وَلا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الْقَصْعَةِ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَأْتِيهَا مِنْ أَعْلاهَا، وَلا يَرْفَعِ الرَّجُلُ يَدَهُ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَاجَة ".
تَعْلِيق للمؤلف
قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر من أدب الطَّعَام وَحسن الْأكل والمؤاكلة، مَا يحِق عَلَى كُلّ ذِي لُبٍّ وحِجًى الْأَخْذ بِهِ، وَالله تَعَالَى يجازي نَبينَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعْلِيمه إيانا أَوْلَى الْأُمُور فِي دِيننا ودُنيانا، أفضلَ مَا جَزَى نَبيا عَنْ أمته.
سَوف يبْحَث عَنْهُ سنة كَامِلَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَن بْن الخَضِر، قَالَ: أَبُو بَكْر - أَظن عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كتب الْحَسَن بْن سهل إِلَى مُحَمَّد بْن سَمَّاعَة القَاضِي: أما بعد فَإِنِّي قَد احْتجتُ فِي أموري إِلَى رجلٍ جامعٍ لخصال الْخَيْر، ذِي عفةٍ ونزاهةٍ طُعمة، قَدْ هذبته الْآدَاب، وأحكمتْه التجارب، لَيْسَ بظنين فِي رَأْيه، وَلا بمطعون فِي حَسبه، إِن أُؤْتمِن عَلَى الْأَسْرَار قَامَ بهَا، وَإِن قُلِّد مُهِمًّا من الْأُمُور أدّى قبولَهُ، لَهُ سِنٌّ مَعَ أدبٍ ولسانٍ، تُقْعده الرَّزانة، ويسكته الْحلم، قَدْ فُرَّ عَنْ ذكاء وفطنة، وعض عَن قارحةٍ من الْكَمَال، تكفيه اللحظة، وتُرشده السَّكْتة، قَدْ أبْصر خدمَة الْمُلُوك وأحكمها، وَقَامَ بأمورهم فحذقها، لَهُ(1/398)
أَنَاة الوزراء، وصولة الْأُمَرَاء، وتواضع الْعلمَاء، وَفهم الْفُقَهَاء، وَجَوَاب الْحُكَمَاء، لَا يبيعُ نصيب يَوْمه بحرمان غده، يكَاد يسترق قلوبَ الرِّجَال بحلاوة لِسَانه، وَحسن لَفظه، دَلَائِل الْفَضْل عَلَيْه لائحة، وأمارات الْعلم لَهُ شاهدة، مُضطلع بِمَا استُنْهض، مُسْتَقِلا بِمَا حُمّل، وَقَدْ آثرتُك بِطَلَبِهِ وحبوتك بارتياده، ثِقَة بِفضل اختيارك، وَمَعْرِفَة بِحسن تَأَتِّيك، فَكتب إِلَيْهِ: إِنِّي عازم عَلَى أَن أَرغب إِلَى اللَّه حَوْلا كَامِلا فِي ارتياد هَذِهِ الصّفة، وأفرِّق الرُّسُلَ الثقاتِ إِلَى الْآفَاق لالتماسه، وَأَرْجُو أَن يَمُنَّ اللَّه تَعَالَى بالإجابة، وأفوز لديك بِقَضَاء حَاجَتك إِن شَاءَ اللَّه.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَوْله: فِي هَذَا الْخَبَر: ونزاهة طِعمة بِكَسْر الطَّاء الطاعم وَهُوَ هَيْئَة عَلَى فِعلة للتَّطعم مثل الرِّكبة والْجِلسة، والطُّعمةُ بِالضَّمِّ الشيءُ المطعوم وَمَا جُعل للْإنْسَان من ضد الطعمة، قَالَ الشَّاعِر:
وَمَا أَن طبنا جبنٌولكنمنايانا وطُعْمَةُ آخرينا
ويُقَالُ: قَدْ جُعِلتْ هَذِهِ الأَرْض لفُلَان طُعمة أَيّ جعلهَا لطُعْمه، والطَّعْمة بِالْفَتْح الْمرة فِي الْقيَاس من طَعِمْتُ طَعْمَةً وَاحِدَة مثل الرَّكبة والجَلْسَة.
لَا آمن أَن يَكُون مَعَه حَدِيدَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيّا يَحْيَى بْن الْحَسَن بْن عَبْد الْخَالِق، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْقَاسِم.
قَالَ: دخل الرَّبِيع عَلَى الْمهْدي وأَبُو عُبَيْد اللَّه جالسٌ يَعْرض كُتُبًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْد اللَّه: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين يتَنَحَّى هَذَا، يَعْنِي الرَّبِيع، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: تَنَح، قَالَ: لَا أفعل، قَالَ: كَأَنَّك تراني بِالْعينِ الأولى، قَالَ: بل أَرَاك بِالْعينِ الَّتِي أَنْت بهَا، قَالَ: فَلم لَا تتنحى إِذْ أَمرتك؟ قَالَ: لَا آمن أَن يَكُون مَعَه حَدِيدَة ينالُك بهَا وَأَنت سعرة الْمُسْلِمِين وَقَدْ قَتَلْتَ ابْنه، فَقَامَ الْمهْدي مذعُورًا وَأمر بتفتيشه، فوجدوا بَيْنَ جَوْربه وخُفِّه سِكِّينًا، فَرُدَّت الأشياءُ إِلَى الرَّبِيع، فَجعل كَاتبه يَعْقُوب بْن دَاوُد مَكَانَهُ، فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِر:
أدخلته فعلا عَليّ ... ك كَذَاك شُؤْمُ النَّاصِيَهْ
يَعْقُوبُ يحكمُ فِي الأمو ... ر وَأَنت تنظرُ ناحيَهْ
مُحَمَّد البيدق ينْتَقم من النَّمرِيّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد البيدَق - وَكَانَ أحسن الشُّعَرَاء إنشادًا كَانَ إنشاده أحسن من الْغناء - قَالَ: دَعَاني هَارُون الرشيد فِي عشي يوْم وبَيْنَ يَدَيْهِ طبقٌ وَهُوَ يَأْكُل مِمَّا فِيهِ وَمَعَهُ الْفَضْل بْن الرَّبِيع، فَقَالَ لي الْفَضْل: يَا مُحَمَّد! أنْشد أَمِير الْمُؤْمِنِين مَا يُسْتَحْسَنُ من مديحه، فَأَنْشَدته للنمري، فَلَمَّا بلغت إِلَى هَذَا الْموضع.
أَي امرىءٍ بَات من هَارُون فِي سخطٍ ... فَلَيْس بالصَّلَواتِ الخَمْس ينتفعُ(1/399)
إِن المكارمَ وَالْمَعْرُوف أوديةٌ ... أحَلَّكَ اللَّه مِنْهَا حَيْثُ تَجْتَمِع
إِذا رفعْت امْرأً فاللَّهُ رافِعُه ... وَمن وضَعْتَ من الأقوام مُتَّضِعُ
نَفسِي فداؤك والأبطال معلمةٌ ... يوْم الوغي والمنايا بَينهم قُرَعُ
قَالَ: فَأمر بِرَفْع الطَّعَام، وقَالَ: هَذَا واللَّه أطيب من كل الطَّعَام وَمن كُلّ شَيْء، وَأَجَازَ النَّمرِيّ بجائزة سنية، قَالَ مُحَمَّد البيدق: فأتيتُ النَّمرِيّ فعرفتُه أنِّي كنتُ سببَ الْجَائِزَة فَلم يُعْطِنِي شَيْئا، وشخص إِلَى رَأس عين فأحفظني وأغاظني، ثُمّ دَعَاني الرشيد يَوْمًا آخر، فَقَالَ: أنْشِدْني يَا مُحَمَّد، فَأَنْشَدته:
شاءٌ من الناسِ راتعٌ هامِلْ ... يُعَلِّلُون النفوسِ بالبَاطِلْ
فَلَمَّا بلغتُ إِلَى قَوْله:
إِلا مَساعِيرُ يَغْضَبُون لَهَا ... بِسَلَّةِ الْبِيضِ والقَنَا الذَّابِلْ
قَالَ: أرَاهُ يُحرِّض عليَّ، ابْعَثُوا إِلَيْهِ من يجيئني بِرَأْسِهِ، فَتكلم الْفَضْل بْن الرَّبِيع فَلم يُغْنِ كَلَامه شَيْئا، فَوجه الرَّسُول إِلَيْهِ فوافاه فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَدْ دُفن، فَأَرَادَ نبشه وصَلْبه فكُلِّم فِي ذَلِكَ فَأمْسك عَنْهُ.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: النَّمرِيّ مَنْسُوب إِلَى النَّمِرِ بْن قاسط وَالْمِيم من النمر مَكْسُورَة إِلَّا أَنَّهَا فتحت فِي الغضافة استثقالاً للكسرتين واليائين، وَقَدْ أَتَى ذَلِكَ عَنِ الْعَرَب مستفيضًا مطردًا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، قَالُوا: النمري والشقري فِي النّسَب إِلَى شقرة بن تَمِيم، والسلمي فِي النّسَب إِلَى بني سَلَمَة من الْأَنْصَار، وَقد يَأْتِي النّسَب كثيرا على غير الْقيَاس، وَقد قَالُوا الدُّهَرِيِّ فِي النّسَب إِلَى الدَّهْر إِذا وصفوا الرَّجُل بطول الْعُمر، وَهُوَ كثير جدا وعِلله وشواهده مَذْكُورَة فِي موَاضعهَا.
من الْمُفَاخَرَة بَيْنَ المدن
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد، حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ بْن بَحر بْن كثير السَّقَّا، مَوْلَى باهلة أَبُو حَفْص، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَاد المهلبي، عَنْ أَبِي بَكْر الْهُذلي، قَالَ: كتب بِبَاب أَبِي الْعَبَّاس حِين وُلّي الْخلَافَة فَخرج آذِنُه فَأدْخل من كَانَ بِالْبَابِ من أَهْل الْكُوفَة، فَدخل عَلَيْه مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى، والحَجَّاج بن أَرْطَأَة، وَالْحسن ابْن زِيَاد، وَأدْخل من كَانَ من أهل الْبَصْرَة، فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى: نَحْنُ أكثرُ من أَهْل الْبَصْرَة خَراجًا وأوسعُ مِنْهُم أَنهَارًا، فَقَالَ لي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قَالَ: قُلْتُ: مَعَاذ اللَّه من ذَلِكَ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَكَيف يكونُونَ كَذَلِك وَلنَا كِرْمان ومُكْرَان وَفَارِس والأهواز والسِّنْد والهند والقَرْصُ والْقُرْص، افتتحناها بالبيض القواضب، حَتَّى ربطنا أعنه الْخَيل بأُصول القنا بِأَرْض الْفُلفل، قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن: نَحْنُ أَكثر مِنْكُم علما وفقهًا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قَالَ: قُلْتُ: بل هُمْ(1/400)
أعظم كبرياء وَأَقل أتقياءً وَأكْثر أَنْبيَاء كَانَ مِنْهُم الْمُغِيرَة الْخَبيث السريرة، وَبَيَان وأَبُو بَيَان، واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، مَا رَأَيْتُ شَيْئا قطّ أَكثر بدنًا مصلوبًا وَلا رَأْسا مَنْصُوبًا من أهل الْكُوفَة، وَمَا لنا إِلا نَبِيّ وَاحِد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ أَبُو الْعَبَّاس، فَقَالَ الْحَسَن بْن زِيَاد: أتشتم أَصْحَاب عَليّ؟ وَقَدْ سِرتُم إِلَيْهِ لتقتلوه، فَإِن قُلْتُ: نَحْنُ واللَّه أَصْحَاب عَليّ سرنا إِلَيْهِ لنقتله فَكف اللَّه تَعَالَى شوكتنا وَسِلَاحنَا عَنْهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ من بَيْنَ أظهرنَا، فَقتله أَهْل الْكُوفَة من بَيْنَ أظْهركُم فأينا أعظم ذَنبا، فَقَالَ الحَجَّاج بْن أرْطَاة: بَلغنِي أَن أَهْل الْبَصْرَة كَانُوا يومئذٍ ثَلَاثِينَ ألفا وَأهل الْكُوفَة تِسْعَة آلَاف فَلَمَّا التقتْ حَلَقَنا الْبِطان، وتناهد النَّهدان، وَأخذت الرِّجَال أقرانها، مَا كَانُوا إِلا كرمادٍ اشْتدَّتْ بِهِ الريحُ فِي يوْم عاصف، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قُلْتُ: مَعَاذ اللَّه تَعَالَى من ذَلِكَ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَمن أَيْنَ كُنَّا ثَلَاثِينَ ألفا وَقَدْ خرجت رَبِيعَة تعين علينا، وَخرج الأحنفُ بْن قيسٍ فِي سعدٍ والرَّباب وهم الشَّام الْأَعْظَم وَالْجُمْهُور الْأَكْبَر، وَلَكِنْ سَلْهُم كم كَانَ عددُنا يوْم اسْتَغَاثُوا بِنَا؟ فَلَمَّا الْتفت حلقتا الْبِطان، وتناهد النَّهدان، وَأخذت الرِّجَال أقرانها، شدخ مِنْهُم فِي صعيدٍ وَاحِد تِسْعَة آلَاف وذُبحوا ذَبْح الْحُمْلان، قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين نَحْنُ أَكثر مِنْهُم أشرافًا، وَأكْرم مِنْهُم أسلافًا، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قُلْتُ: مَعَاذ اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، هَلْ كَانَ فِي تَمِيم الْكُوفَة مثل الْأَحْنَف بْن قَيْس الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِر:
إِذا الأبصارُ أَبْصرت ابنَ قيسٍ ... ظَلَلْنَ مهابة مِنْهُ خُشُوعَا
وَهل كَانَ فِي قَيْس عَيْلان الْكُوفَة مثل قُتَيْبَة بْن مُسْلِم الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر:
كُلّ يومٍ يَحْوِي قُتَيْبَة نَهْبًا ... ويزيدُ الْأَمْوَال مَالا جَدِيدا
بَاهِليُّ قَدْ عَصَبَ التَّاج حَتَّى ... شَاب مِنْهُ مفارقٌ كن سَواد
ويُروَى: كُلّ يوْم يُجْرِي قُتَيْبَة نهبًا، وَهل كَانَ فِي بَكْر بن وَائِل الْكُوفَة مثل مَالك بْن مِسْمع الَّذِي يَقُولُ لَهُ الشَّاعِر
إِذا مَا خَشِينَا من أميرٍ ظُلامةً ... دَعَوْنا أَبَا الْأَيْتَام يَوْمًا فعَسْكرا
وَهل كَانَ فِي أزْد الْكُوفَة مثل الْمُهَلّب بْن أَبِي صُفْرة الَّذِي يَقُولُ لَهُ الشَّاعِر:
إِذا كَانَ الْمُهَلَّبُ من ورائي ... هدا لَيْلِي وَقَرَّ لَهُ فؤادِي
وَلَم أخشَ الدَّنِيَّة من أناسٍ ... وَلَو صَالُوا بقوةِ قومِ عادِ
وَهل كَانَ فِي عَبْد قَيْس الْكُوفَة مثل الْحَكَم بْن الْمُنْذر بْن الْجَارُود، الَّذِي يَقُولُ لَهُ الشَّاعِر:
يَا حَكَمَ بنَ الْمُنْذِرِ بْن الجارودُ ... أَنْت الجوادُ ابنُ الْجواد المحمودْ
سُرَادِقُ المجدِ عَلَيْك مَمْدُودْ
حكم نذر الْكِتَابِيّ إِذا أسلم
قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مَا رَأَيْتُ مثل هَذِهِ الْغَلَبَة.(1/401)
قَالَ: وقَالَ أَبُو حَفْصٍ: حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْر الْهُذلي، قَالَ: سَأَلْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ عَنْ يهوديةٍ مَرِضَتْ فَنَذَرَتْ فِي مَرَضِهَا إِنِ اللَّهُ سَلَّمَهَا لتسرحن فِي كنيسةٍ مِنْ كَنَائِسِ الْيَهُودِ، وَلَتُطْعِمَنَّ مَسَاكِينَ مِنْ مَسَاكِينِهِمْ، فَقَامَتْ مِنْ مَرَضِهَا وَقَدْ أَسْلَمَتْ، قَالَ: فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلْتُ عَنْهَا الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ، فَقَالَ: تُسْرِجُ فِي مَسْجِدِ مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَتُطْعِمُ مَسَاكِينَ مِنْ مَسَاكِينِهِمْ، وَسَأَلْتُ قَتَادَةَ وَهُوَ إِلَى جَانِبِهِ، فَقَالَ لِي: مِثْلَ مَقَالَةِ الْحَسَنِ، فَلَقِيتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، هَدَمَ الإِسْلامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، فَلَقِيتُ الشَّعْبِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، فَقَالَ لِي: فَأَيْنَ أَنْتَ عَنِ الأَصَمِّ ابْنِ سِيرِينَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ هَدَمَ الإِسْلامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ الأَصَمُّ وَأَخْطَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ: يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قَالَ: كُنْتُ أَتَغَدَّى مَعَ الْمُتَوَكِّلِ فَسَأَلْتُ عَنْ نَصْرَانِيٍّ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَنَذَرَ نَذْرًا ثمَّ أسلم، هِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتَ بِعَدَدِ أُولاءِ، وَجَمَعَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ، عَلَى أَنْ لَا آتِيكَ وَلا آتِيَ دِينَكَ، فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلامَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةِ يَمِينِهِ.
قَالَ القَاضِي أَبُو الفر: قَد اخْتلف أهل الْعلم فِي الْكَافِر يُنذرُ نذرا فِي هَذِهِ أَو يخلف يَمِينا ثُمّ يسلم، فأسقط عَنْهُ الكفارةَ والإتيانَ بِمَا نَذَره كثيرٌ من فُقهاءِ الحجازِ وَالْعراق، وَأوجب ذَلِكَ عَلَيْه عددٌ مِنْهُم، واحتجُّوا بِأَن الإِسْلام يَجُبُّ مَا قبله، وَأَن الْكَافِر فِي كفره لَا تصحُّ مِنْهُ قُربة إِلَى ربه قبل إِسْلَامه، وَأَن الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى وجوب أَسبَاب الطَّاعَات تجْرِي مجْرى مَوَاقِيت الْفُروض والنوافل فِي خُصُوصِيَّة الْمُسْلِمِين بهَا، ومفارقة أَهْل الْكفْر لَهُم فِيهَا، واعتل فِي ذَلِكَ بَعضهم بقول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف " وَاحْتج مخالفوهم بِأَن الْعِبَادَات الَّتِي أَتَتْ شريعةُ الإِسْلام بهَا لَازِمَة لكل ذِي مرةٍ سَوِيٍّ فِعلها وَالرُّجُوع إِلَيْهَا وَالْأَخْذ بهَا، وَمَا أسقط اللَّه عَنْهُمْ بعد الإِسْلام أداءه وقصاءه سقط دون غَيره مِمَّا لَمْ يَنْصِبْ دلَالَة عَلَى إسْقاطه، إِذْ الْوَاجِب إِقْرَاره عَلَى أَصله، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: نذرت أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا أسلمتُ سألتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أوفِ بِنَذْرِك "، ورأيتُ شَيخنَا أَبَا جَعْفَر ذكر فِي الْكَافِر يحلفُ فِي حَال كُفرة ثُمّ يَحْنَث فِيهَا بعد إِسْلَامه أَنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْه، واعْتَلَّ بِأَن الْكَافِر يحلف بإلاهه الَّذِي يعبُده، وَمن مذْهبه أَنَّهُ من حلف بِغَيْر اللَّه تَعَالَى ثُمّ حنث فَلَا كَفَّارَة عَلَيْه، فَكَأَنَّهُ أسقط الْكَفَّارَة عَمَّن حلف بِغَيْر اللَّه من الْكفَّار، وقَالَ فِي حَدِيث عمر، لما رَوَاهُ. أَنَّهُ يدلُّ عَلَى وجوب النَّذْر فِيمَا وَرَدَ خبرُ عُمَر فِيهِ، وَقَدْ شرحتُ مذْهبه فِي هَذَا وأتيت بِمَا حضرني فِيهِ فِيمَا صنفتُه من كتب الْفِقْه، وكرهتُ الإطالة فِي هَذَا الْموضع(1/402)
بإعادته، وأمّا مَا أفتى فِيهِ الْحَسَن وقَتَادَة من الإسراج فِي مَسْجِد من مَسَاجِد الْمُسْلِمِين مَكَان نذر الناذرة فِي كفرها أَن تُسْرِج فِي كَنِيسَة من كنائس الْيَهُود فَإِن إبِْطَال نَذْرها فِي الْكَنِيسَة صَوَاب إِذْ هُوَ مَعْصِيّة، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِي اللَّهَ فَلا يَعْصِهِ "، وَقَالَ: " وَلا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَالْكَفَّارَةُ فِي هَذَا عندنَا غير وَاجِبَةٍ، وَقَدْ ضعف شَيخنَا سَنَد هَذَا الْخَبَر الْآتِي بهَا وَجُمْهُور فُقَهَاء الْكُوفِيّين يوجبونها ويوجبون مَعهَا كَفَّارَة يَمِين، إِذا كَانَ النَّاذِرُ يمينَا والإسراج فِي مَسْجِد من مَسَاجِد الْمُسْلِمِين غَيْر وَاجِب عندنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة إِذْ لَمْ يَكُنْ نَذْرُه وَلا أَتَتْ حجةٌ بِوُجُوبِهِ وَمن أوجبه فَقَوله: مضَارِعُ لمن أوجب عَلَى النَّاذِر أَن ينحرَ وَلَده ذبح شاةٍ من الْغنم أَوْ نَحْر شيءٍ من الْإِبِل، وَأما مَا أفْتيا بِهِ من إطعامِ مساكينَ من الْمُسْلِمِين مَكَان من منذرت إطعامه من مَسَاكِين الْيَهُود فَإِن إطْعَام مَسَاكِين الْيَهُود يجزىء فِي النّذر إِذا جُعِل لَهُم، وَفِيه قربةٌ إِلَى اللَّه جلّ وَعز، وَقَدْ أجَاز كثيرٌ من فُقَهَاء الْمُسْلِمِين صرف صَدَقَة الْفطر وَكَفَّارَة الأَيْمَان وَالْجهَاد إِلَى أَهْل الذِّمَّة، وَمن أجَاز إطْعَام مَسَاكِين الْمُسْلِمِين مَا نَذَرَ إطعامه مَسَاكِين أَهْل الذِّمَّة، فَشاهِدُه من الْقيَاس جوازُ صَلَاة الْقَادِر أَن يُصَلِّي فِي مَسْجِد سَمَّاهُ وعينه إِذا صلّى فِي مسجدٍ غَيره هُوَ مثله أَوْ أفضلُ مِنْهُ، فَأَما إبِْطَال نَذرِ إطْعَام مَسَاكِين أَهْل الذِّمة وَإِيجَاب نَقله إِلَى مَسَاكِين أَهْل الْمُسْلِمِين فَلَا وَجه لَهُ فِي الصِّحَّة، وأمّا فُتْيا الشَّعْبِيّ وَابْن سِيرِينَ فَهِيَ جاريةٌ عَلَى أصل مَذْهَب من قدمنَا حِكَايَة مذْهبه، مِمَّنْ يبطل أصل نذر الْكَافِر فِي أصل كفره، وَأما الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَر بْن عَبْد الْوَاحِد للمتوكل فَلَا حجَّة لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَن جد بهزر بْن حَكِيم الْقُشَيْريّ وَهُوَ مُعَاوِيَة بن حيدة للنَّبِي صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُ حلف، وقَالَ لَهُ: حلفتُ وَلَم يذكر الَّذِي حلف بِهِ، وَجَائِز أَن يَكُون حلف بِغَيْر اللَّه تَعَالَى فَلَا كَفَّارة عَلَيْه عندنَا بعد حِنْثه، وَأَيْضًا فَإنَّهُ قَالَ: حلفْتُ، وَمن قَالَ حلفتُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، أَوْ لَا أفعل كَذَا فَلَيْس عَلَيْه عندنَا مَا عَلَى الْقَائِل: أَحْلف بِاللَّه من الْكَفَّارَة إِذا حنث، حَتَّى يَقُولُ: أَحْلف بِاللَّه وَأقسم بِاللَّه أَوْ أولِي بِاللَّه أَوْ أَشْهَدُ بِاللَّه، وَإِن كَانَ من أَهْل الْعلم من يَجْعَل قَول الْقَائِل: أشهد وأحلفُ وأولي وَأقسم يَمِينا، ويسوِّي بَيْنَ هَذَا وبَيْنَ مَا وَصله باسم اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّه وأحلف بِاللَّه وأُولي بِاللَّه وَأقسم بِاللَّه.
هَلْ يتلازم الْجُود والشجاعة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ حَدَّثَنَا الْبَرْبَرِي، قَالَ: من كَلَام أَحْمَد بْن أَبِي خَالِد: لَا يُعَدَّنَّ شجاعًا من لَمْ يَكُنْ جَوادًا، فَإِن من لَمْ يقدرْ عَلَى نَفسه بالبذل لَمْ يقدر عَلَى عدوِّه بِالْقَتْلِ.
قَالَ القَاضِي: ذكر عَنْ بعض أَهْل الْعلم أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النّاس يَقُولُونَ إِن الشجاع لَا يَكُون بَخِيلًا، وَإِن الشجَاعَة وَالْبخل لَا يَجْتَمِعَانِ، وَذَلِكَ أَن من جاد بِنَفسِهِ كَانَ بِمَالِه أَجود، حَتَّى(1/403)
نَشأ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير فَكَانَ من الشجَاعَة بِحَيْثُ لَا يدانيه كبيرُ أحد، وَكَانَ من الْبُخْل عَلَى مثل هَذَا الْحَد، وَنَحْو قَول من استنكر اجْتِمَاع الشجَاعَة وَالْبخل، قَول الشَّاعِر:
يَجَودُ بالنَّفْس إذْ ضَنَّ الجوادُ بهَا ... والجودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غَايَة الْجُودِ
خَليفَة يَأْمر ابْنه بِكِتَابَة بَيْتَيْنِ
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن عَبْد اللَّه الإِخباري، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُهْتَدِي يَقُولُ: كُنْت أَمْشِي خلف أَبيّ الواثق عَلَى ميدان من الْبُسْتَان فِي الهارُونِي فَالْتَفت إليّ، فَقَالَ: اكْتُبْ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ واحفظهما:
تَنَح عَنِ الْقَبِيح وَلا تُرِدْهُ ... وَمن أوليتَهُ حَسَنًا فَزِدْهُ
ستلقى من عدوِّك كُلّ كيدٍ ... إِذا كادَ العدوُّ وَلَم تَكدْهُ
لَا يفرح إِلا بِمَا تَحت يَده
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الْجراح، قَالَ: الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الْهَاشِمِي مَوْلَى لَهُم، قَالَ: عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي البَخْتَرِيّ الدَّلال الْكُوفِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْن آدم يَقُولُ لأبي بَكْر بْن عَيَّاش: يَا أَبَا بَكْر! مَا أصبحتَ تفرحُ بشيءٍ من الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: مَا أفرح إِلا بدرهمٍ فِي كميٍّ مَصْرُور، وقدرٍ قَدْ جعلتْها الجاريةُ فِي التَّنُّور.
رب نصح خير من مَال
حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِم الْحِمصِي، عَنْ عَبْد الغافر بْن سَلامَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُمَيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حبوة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُتْبَة، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سبأ عُتْبَة بْن تَمِيم التّنُوخيّ، عَنْ أَبِي عُمَير الصُّورِي، قَالَ: كلمةٌ لَك فِي أَخِيك خيرٌ لَك من مالٍ يُعْطيك، لِأَن كَلمته تُحيِيك، وَالْمَال يُطغيك.
من نَوَادِر المعلمين
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي شَيْبَة، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَعْلَى الْمَعْرُوف بالبربري، قَالَ: جَاءَنِي رجلٌ، فَقَالَ أشغلني فِي موضعٍ أؤدب فِيهِ، قُلْتُ: مَا تحسن حَتَّى أطلب لَك عَلَى قدر ذَلِكَ؟ قَالَ: أحْفَظُ الْقُرْآن ولَيْسَ عِنْدِي من الْعَرَبيَّة شيءٌ، فشغَّلْتُه عِنْد رَجُل فأنشده:
من يَذُقِ الحرْبَ يجدْ طَعْمَها ... مُرًّا وتَتركْهُ بِجَعْجَاعِ
فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ الْآيَة فِي أَيّ سُورةٍ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ فِي: " حم عسق ".
المجلِسُ الخامِس وَالخمسُونْ
من جَوَامِع الْكَلم
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاقِدُ، بِسُرَّ مَنْ رأى، سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلاءِ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا مُطْعَمُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ نُصَيْحٍ الْقَيْسِيِّ،(1/404)
عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ ".
رِوَايَة أُخْرَى للْحَدِيث
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْدَوَيْهِ الدَّهَّانُ الْمَرْوَزِيُّ، بِالنَّهْرَوَانِ، قَدِمَ لِلْحَجِّ سنة تسع عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَلْمَانَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثُمَيْلَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَهْقَهَةً عِنْدَ الْقُبُورِ، فَقَالَ: مَا يُؤْمِنُ هَذَا بِيَوْمِ الْحِسَابِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ نُشَيِّعُ مِنَ الْمَوْتَى يَعْنِي فِي نفرٍ وَهُمْ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ، وَكَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وخالط أهل الْفِقْه وَالْحكمَة، طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَطَابَ كَسبه، وصلحت سبريرته، وَحَسُنَتْ عَلانِيَتُهُ، وَاعْتَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرُّهُ، طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ، وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَتَعَدَّهَا إِلَى بِدْعَةٍ.
قَالَ: القَاضِي: لقَدْ أبلغ رسولُ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الموعظة، وضمَّنها أصولا من الْحِكْمَة، وأرشد فِيهَا إِلَى مَا يكْسب النجَاة والْعِصمة، ويأمنَ العاملُ بِهِ المتقبِّلُ لَهُ العطبَ والهَلَكة.
وَقَدْ رُوي أَن عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود سَمِع رَجُلا ضحك فِي الْمقْبرَة، فَقَالَ لَهُ: لَا أكلِّمك أبدا.
وحُكِيَ لنا عَن بشر بْن الْحَارِث مثلُه، ولَعَمْري إِن الْمقْبرَة لمحلَّةٌ يدعُو حضورُها ذَا اللُّبِّ وسلامة الصَّدْر وَالْقلب، إِلَى الرَّهبة وَالدُّعَاء، والتذكر والبكاء، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذن ربَّه فِي زِيَارَة قبر أُمّه، فَأذن لَهُ وَأَنه زارها فِي ألف مُقَنَّع، فَلم يُرَ باكٍ وَلا باكية أَكثر من يَوْمئِذٍ.
مجاهدٌ تلفظه الأَرْض
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا العكلي، قَالَ: أَخْبَرَنِي رجلٌ من أهل الْبَصْرَة، قَالَ: رَأَيْت رَجُلا لَهُ هَيْئَة وسمتٌ وَعَلِيهِ الصُّوف، فَسَأَلته عَنِ اسْمه، فَقَالَ: اسْمِي عليُّ بْن مُحَمَّد فَجَلَست إِلَيْهِ فَحَدَّثته فخبرني أَنَّهُ مضى إِلَى المصِّيصة غازيًا، فَرَأى فِي مَسْجِدهَا شَيخا جميلا هَيِّبًا، وَحَوله قومٌ يسمعُونَ من حَدِيثه، قَالَ: فجلستُ إِلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْ حالتي، فَقلت: رجلٌ من أَهْل الْعرَاق قدِمتُ أريدُ وجْهَ اللَّه تَعَالَى والدَّار الْآخِرَة، فَقَالَ: رَزَقَك اللَّهُ حَيَاة طيِّبة ومنقلبًا كَرِيمًا، ثُمّ قَالَ لي: إِن لي إِلَيْك حَاجَة لَا تردَّني عَنْهَا، قُلْتُ: نعم، قَالَ: تتحول إليّ وتنزل عَليّ فَمَا كَانَ إِلا سَاعَة، ثُمّ نزلتُ برجلٍ قَدْ وَهْب اللَّه لَهُ قُوَّة(1/405)
عَلَى الصيِّام وَالْقِيَام وَطلب الْخَيْر، فأقمتُ عِنْده حَتَّى تهَيَّأ لصَاحب الثغر الغَزْوُ، وخَفّ مَعَه عشرَة آلَاف من الْمُطَوِّعَة، فَقدم ابْنه وَكَانَ حَدَثًا، وَكَانَ ربُّ منزلي فِيمَن خرج فخرجتُ بِخُرُوجِهِ، فَلَمَّا أوغلنا فِي بِلَاد الْعَدو دَلَف إِلَيْنَا جمعٌ عظيمٌ فوقفنا لَهُم وَأَقْبل الْفَتى يحرِّض الناسَ ثُمّ برز الشَّيْخ فَتكلم، وقَالَ: هَذِهِ أَبْوَاب الجَنَّة فافتحوها بسيوفكم، فَحمل الْفَتى فأصيب، وَحمل الشيخُ ربُّ منزلي فأصيب رحمهمَا اللَّه، ثُمّ إِن اللَّه تَعَالَى منحنا أكتاف العَدُوِّ فَقَتَلْنَا وأسرنا ورجعنا إِلَى مواضعنا، فخفرنا لمن أكْرمهم اللَّه بِالشَّهَادَةِ فدفناهم، ودفنا الشَّيْخ، وسوينا عَلَيْه لحده، فارْتَجَّت الأرضُ ورجَفَتْ بِنَا، ثُمّ لَفَظَت الشَّيْخ فَوَقع عَلَى عشرَة أَذْرع من قَبره، فَقُلْنَا: رَجْفَة أَوْ زَلْزَلة، فَحَفَرْنَا لَهُ قبرًا آخر وسَوَيَّنا عَلَيْه، فسمعنا مَا هُوَ أهول وأفظع، ولَفَظَتْ بِهِ الأَرْض أبعد من ذَلِكَ الْموضع، فَحَفَرْنَا لَهُ قبرًا ثَالِثا ودفناه، فجاءتُ هدةٌ طاشت مِنْهَا عقولنا ولفظته الأَرْض، وَسَمعنَا هاتفًا يَقُولُ: أيتها الْعِصَابَة! إِن هَذَا الرَّجُل لَمْ يزل يَدْعُو اللَّه أَن يَجْعَل مَحْشَرَهُ مِن بُطون السِّباع وحواصل الطير، فدعُوه إِن اللَّه جلّ جَلَاله قَدْ سَمِع نداه، فتركناه وانصرفنا.
ابْن صَفْوَان ينصح السفاح بالاستمتاع بِالنسَاء
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم بْن جَعْفَر الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ: إِسْحَاق يَعْنِي ابْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيّ، قَالَ شبيبُ بْن شَيْبَة:
دخل خَالِد بْن صَفْوَان التَّميْميّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاس وَلَيْسَ عِنْده أحد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِنِّي واللَّه مَا زلتُ منذُ قلَّدك اللَّه تَعَالَى خلَافَة الْمُسْلِمِين إِلا وَأَنا أحبّ أَن أصير إِلَى مثل هَذَا الْموقف فِي الْخلْوَة، فَإِن رَأَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْمر بإمساك الْبَاب حَتَّى أفرغ فعل، قَالَ: فَأمر الحاجبَ بِذَلِك، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِنِّي فَكرت فِي أَمرك، وأَجَلْتُ الْفِكر فِيك فَلم أر أحدا لَهُ مثل قَدْرِك، وَلا أقل استمتاعًا فِي الِاسْتِمْتَاع بِالنسَاء مِنْك، وَلا أضيق فِيهِنَّ عَيْشًا، إِنَّك ملكتَ نَفسك امْرَأَة من نسَاء الْعَالمين واقتصرت عَلَيْهَا، فَإِن مَرضَتْ مَرِضْتَ، وَإِن غابتْ غبت، وَإِن عَرَكَتْ عَرَكْتَ، وحَرَمْتَ نَفسك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين التلذُّذ باستطراف الجَوَارِي وبمعرفة اخْتِلاف أحوالهن، والتلذُّذ بِمَا يُشتهى مِنْهُنَّ؟ إِن مِنْهُنَّ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الطَّوِيلَة الَّتِي تشْتَهى لجسمها، والبيضاء الَّتِي تحب لروعتها، والسَّمْراء اللَّعْسَاء، والصَّفراءُ العجزاءُ، ومولدات الْمَدِينَة والطائف واليمامة ذَوَات الألسن العذبة وَالْجَوَاب الْحَاضِر، وَبَنَات سَائِر الْمُلُوك، وَمَا يشتهى من نظافتهن وَحسن هندامهن، وتخلل بِلِسَانِهِ فأطنب فِي صِفَات ضُروب الجَوَارِي وشَوَّقَهُ إلَيْهِنَّ، فَلَمَّا فرغ خَالِد، قَالَ: وَيحك! مَا سلك مسامعي واللَّه كلامٌ قطّ أحسنَ من هَذَا، فأعدْ عليَّ كلامك فقد وَقع مني موقعًا، فَأَعَادَ عَلَيْه خَالِد كَلَامه بِأَحْسَن مِمَّا ابتدأه، ثُمّ قَالَ: انْصَرف، وَبَقِي أَبُو الْعَبَّاس مُفكِّرًا فِيمَا سَمِع من خَالِد يُقَسّم أمره، فَبينا هُوَ يفكِّر إِذْ دخلت عَلَيْه أم سَلَمَة، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاس(1/406)
حَلَفَ أَن لَا يتَّخذ عَلَيْهَا ووَفَّى لَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ مفكرًا مُتغيِّرًا، قَالَتْ لَهُ: إِنِّي لأنكرك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَهَل حدَّث أَمر تكرههُ أَوْ أَتَاك خبرٌ ارْتَعْتَ لَهُ؟ فَقَالَ: لَا، وَالْحَمْد للَّه، ثُمّ لَمْ تزل تستخبره حَتَّى أخْبرهَا بمقالة خَالِد، قَالَتْ: فَمَا قُلْتُ لابْن الفاعلة؟ فَقَالَ: ينصحني وتشتمينه! فَخرجت إليّ مواليها من البخارية فَأَمَرتهمْ بِضَرْب خَالِد، قَالَ خَالِد: فخرجتُ إِلَى الدَّار مَسْرُورا بِمَا ألقيتُ إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَلَم أَشك فِي الصِّلَة، فَبينا أَنا مَعَ الصَّحَابَة وَاقِفًا إِذْ أَقبلت البخارية تسْأَل عني، فحققتُ الْجَائِزَة والصلة، فَقلت لَهُم: هأنذا، فاسْتَبَقَ إِلَى أحدُهم بخشبةٍ فَلَمَّا أَهْوى إليّ غمزتُ بِرْذَوني ولحقني فَضرب كفله، وتنادى إليّ الْبَاقُونَ وغمزتُ البرذون فأسرع، ثُمّ راكضتهم فَفُتُّهم، واختفيتُ فِي منزلي أَيَّامًا - قَالَ القَاضِي: الصَّوَاب: اسْتخفيتُ - وَوَقع فِي قلبِي أَنِّي أُتِيت من قِبَل أم سَلَمَة، فطلبني أَبُو الْعَبَّاس فَلم يجدني، فَلم أشعر إِلا بِقوم قَدْ هجموا عَليّ، فَقَالُوا: اجب أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَسبق إِلَى قلبِي أَنَّهُ الْمَوْت، فَقلت: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، لَمْ أَرَ دَمَ شيخٍ أضْيع، فركبتُ إِلَى دَار أَمِير الْمُؤْمِنِين، ثُمّ لَمْ ألبث أَن أَذن لي فَأَصَبْته خَالِيا فَرجع إليّ عَقْلِي، ونظرتُ فِي الْمجْلس ببيتٍ عَلَيْه ستورٌ رِقاق، فَقَالَ: يَا خَالِد لم أرك! قُلْتُ: كنتُ عليلا، قَالَ: وَيحك! إِنَّك وَصَفْتِ لأمير الْمُؤْمِنِين فِي آخر دخلةٍ دَخَلتهَا عليَّ من أُمُور النّساء والجواري صفة لَمْ يخرق مسامعي قطّ كَلَام أحسن مِنْهُ، فأعِدْهُ عَليّ، قَالَ: وسَمِعْتُ حِسًّا خلف السِّتْر - فَقَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، أعلمتك أَن الْعَرَب إِنَّمَا اشْتَقَّت اسْم الضُّرَّتين من الضُّر، وَأَن أحدا لَمْ يَكُنْ عِنْده من النّساء أَكثر من وَاحِدَة إِلا كَانَ فِي ضُرٍّ وتنغيص، قَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَدِيث، قَالَ: بلَى واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: فأُنْسيت إِذا، فأَتمم الْحَدِيث، قَالَ: وأخبرتُك أَن الثَّلَاث من النِّسَاء كأثا فِي الْقِدْرِ يُغْلى عَلَيْهِنَّ، قَالَ: برئتُ من قَرَابَتي من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ كُنْت سَمِعْتُ هَذَا مِنْك وَلا مرَّ فِي حَدِيثك، قَالَ: وأخبرتك أَن الْأَرْبَع من النّساء شَرٌّ مَجْمُوع لصاحبهن يُشَيِّبْنَهُ ويهْرِمْنه ويحقرنه ويقسمنه، قَالَ: لَا وَالله مَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْك وَلا من غَيْرك، قُلْتُ: بلَى وَالله، قَالَ: أفتكذِّبُني؟ قُلْتُ: أفَتَقْتُلُني! نعم واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين وأخبرتك أَن أبكار الْإِمَاء رجال إِلا أَنَّهُنَّ لَيست لَهُنَّ خُصًى، قَالَ خَالِد: فَسمِعت ضحِكًا من خلف السِّتر، ثمَّ قلت: نعم، وأخبرتك أَن عنْدك رَيْحَانَة قُرَيْش، وَأَنَّك تطمح بِعَيْنَيْك إِلَى النّساء والجواري، قَالَ: فَقِيل لي من وَرَاء السّتْر: صَدَقْتَ واللَّه يَا عمّاه، بِهَذَا حدثته وَلكنه غَيْر حَدِيثك ونطق عَنْ لسَانك، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَالك قَاتلك اللَّه، وَفعل بك وَفعل؟ قَالَ: وانسللت، قَالَ: فَبعثت إِلَى أم سَلَمَة بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وبرذون وتَختْ.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: السَّمراء اللَّعْساء الَّتِي فِي شفتها سُمرة وَسَوَاد، وَمن ذَلِكَ قَول ذِي الرُّمَّة:(1/407)
لمياءُ فِي شَفَتَيْها حوةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللَّثَاتِ وَفِي أنْيابِها شَنَبُ
اللَّما مَقْصُور: سَمُرَة الشّفة، والحوة: الْحمرَة إِلَى السوَاد شَبيه بِهِ، واللعس مثل ذَلِكَ، والشنب برد وعذوبة فِي الأسفان، ويُقَالُ: امْرَأَة لمياء وَرجل ألمى، وذُكِر عَنِ الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: اللَّعس السَّواد الْخَالِص، ويُقَالُ: ليل ألعس، وَلا أَدْرِي يُقَالُ: لعسٌ أم لَا؟ ويُقَالُ: حَوِي يَحْوَى وَقِيَاسه فِي اللَّمالَمِيَ يَلْمي، وَقَوله: ينصحني وتشتمينه الْكَلَام الفصيح السائر: وَينْصَح لي، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أنصح لكم " ويُقَالُ: فنصحت لَكُمْ، ونصحتُ فلَانا: لُغة قَدْ حُكِيَت، وَهِي دون هَذِهِ فِي الفصاحة من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
نصحتُ بني عَوْف فَلم يتقبلوا ... لديهم رسَائِلي
وأصل النصح: الْإِخْلَاص والمناصحة المخالصة ويُقَالُ: هَذَا شيءٌ نَاصح أَيّ خَالص، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
تركْتَ بِنَا لَوْحًا وَلَو شئتَ جادنا ... بعيدُ الْكرَى ثلجٌ بكِرْمان نَاصِحُ
أأزرع أَنا ويحصد يُوشَع
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي سَعْد، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَصْبَغ، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَة، عَنِ ابْن عَطَاء، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أوحى اللَّه إِلَى مُوسَى بْن عمرَان أَن يُوشَع هُوَ الْقَائِم على النَّاس بعْدك، فَقَالَ: يارب أأزرعُ أَنَا ويحصد يُوشَع أأرعى أَنَا الْغنم حَتَّى إِذا صلحت واستوت صَارَت إِلَى يُوشَع، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: إِن أَيَّام يُوشَع مخرجتك من الدُّنْيَا، فَقَالَ: يارب فَأَنا أكون من قبل يُوشَع، فَقِيل لَهُ: فَاصْنَعْ بِهِ كَمَا كَانَ يصنعُ بك، فَقَالَ: نعم، وَكَانَ من رسْمِ يُوشَع إِن يُنَبِّه مُوسَى للصَّلاةِ، فجَاء مُوسَى إِلَى بَاب يُوشع، فَقَالَ: يَا يُوشَع! فَضرب اللَّه عَلَى أُذُنه فَلم يَنْتبِه، وَجَعَل بَنو إِسْرَائِيل يمرُّون على مُوسَى، فَقَالَ: يارب مائةُ موتةٍ أَهْون من ذُلِّ سَاعَة، وانتبه يُوشع فَلَمَّا رَأَى مُوسَى فَزِع، وقَالَ: يَا نَبِيّ الله أَنْت واقفٌ هَاهُنَا، وَمضى مُوسَى إِلَى الجَبَل واتَّبعه يُوشَع فَجعل مُوسَى يُوصيه: اصْنع ببني إِسْرَائِيل كَذَا وَافْعل كَذَا، ثُمّ قَالَ لَهُ: ارْجع فَأبى فَخلع مُوسَى نَعْلَيْه وَرمى بهما، وقَالَ: جئني بنعلي، فَذهب ليجيء بهما فَأرْسل اللَّه نورا حَال بَيْنَ يُوشَع ومُوسَى فَلم يصل إِلَيْهِ فَرجع يُوشَع إِلَى بني إِسْرَائِيل فَأخْبرهُم فَجَاءُوا إِلَى الْموضع من الجَبَل فَإِذا مُوسَى قَدْ قُبض، ورصفت الْحِجَارَة عَلَيْه.
قَدْ قاربتك جهدي
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درسْتوَيْه النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد، عَنِ الْمَازِنِيّ، قَالَ: اجْتمعت مَعَ يَعْقُوب بْن السّكيت، عَن مُحَمَّد بْن عبد الْملك الزَّيَّات، فَقَالَ لي مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك: سَلْ أَبَا يُوسُف عَنْ مَسْأَلَة، فكرهتُ ذَلِكَ وجعلتُ أتبطأ وأدافع، مخافةَ أَن أُوحشه لِأَنَّهُ كَانَ لي صديقا، فألحَّ عليَّ مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك، فَقَالَ لي: لَمْ(1/408)
لَا تسأله؟ فاجتهدتُ فِي اخْتِيَار مسألةٍ سهلة لأقارب يَعْقُوب، فَقلت لَهُ: مَا وزن " نكتل " من الْفِعْل من قَول اللَّه تَعَالَى: " فَأرْسل مَعنا أخانا نكتل " فَقَالَ لي: نَفْعل، فَقلت: يَنْبَغِي أَن يَكُون ماضيه كتل، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا وَزنه إِنَّمَا هُوَ نفتعل، فَقلت لَهُ: نفتعل كم هُوَ حرفٌ؟ قَالَ: خَمْسَة أحرف، فَقلت لَهُ: فنكتل كم حرفٌ هُوَ؟ قَالَ: أَرْبَعَة أحرف، فَقلت: لَهُ أَيكُون أَرْبَعَة أحرف بِوَزْن خَمْسَة أحرف، فَانْقَطع وخجل وَسكت، فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك: فَإِنَّمَا تَأْخُذ كُلّ شهر ألفي دِرْهَم عَلَى أنَّكَ لَا تحسن مَا وزن نكتل؟ فَلَمَّا خَرَجْنَا، قَالَ لي يَعْقُوب: يَا أَبَا عُثْمَان! هَلْ تَدْرِي مَا صنعت؟ فَقلت لَهُ: واللَّه لقَدْ قاربتُك جهدي، وَمَا لي فِي هَذَا ذنبٌ
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: نكتل فِي هَذَا الْموضع هُوَ فِي أوَّليته وابتدائيته فِي ماضيه ومستقبله: كال يَكِيل عَلَى فَعَلَ يَفعِل، مثل مَال يمِيل وَقِيَاسه فِي أصل تَقْدِيره كيل يَكْيِلُ، نَظِيره من الصَّحِيح ضَرَب يَضْرِبُ، إِلا أَن الْيَاء فِي كيل انقلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَالْألف لَا تكون إِلا سَاكِنة إِلا أَنَّهَا فِي نِيَّة حَرَكَة ونقلت كسرة الْيَاء فِي الْمُضَارع ونقلتْ كسرتُها إِلَى الْكَاف وَكَانَت سَاكِنة، فَكسرت إِذْ لَمْ يستقم التقاءُ الساكنين فَصَارَ نكتل، وَقيل فِي الْجمع: كِلْنا نكتل، ثُمّ لما زيدت التَّاء دلَالَة عَلَى الافتعال قِيلَ: اكتال نكتال وَأَصله اكتيل يكتيل، نَحْو افتعل يفتعل نَظِيره من الصَّحِيح: اكتتب يكتتب واكترث يكترث واستبق يستبقُ ثُمّ قلبت الْيَاء من اكتيل ألفا لتحركها وانفتاح مَا قيلها، فَصَارَ اكتال ومضارعه يكتال، وَأَصله يكتيل، وَفِي الْجمع نكتيل وَزنه نفتعل، فَلَمَّا قِيلَ نكتل فأعرب بِالْجَزْمِ إِذْ هُوَ جوابُ الْأَمر اقْتضى الْجَزْم سُكُون اللَّام، فَالتقى ساكنان اللَّام وَالْألف المنقلبة من الْيَاء فَأسْقطت الْألف لذَلِك فَبَقيَ نكتل، ووزنه فِي الأَصْل نفتعل ثُمّ لما حُذفت الْألف المنقلبة من الْيَاء وَهِي عين الْفِعْل صَار نكتل فوزنه نفتل، عَلَى طَريقَة التَّحْرِير وتمييز الزَّوَائِد من الْأُصُول بالعبارة عَنِ الأصليات بِالْفَاءِ وَالْعين وَاللَّام وَتَسْمِيَة الزَّوَائِد بأنفسها، أَلا ترى أَنَا نقُول فِي وزن جهور أَنَّهُ فعول فيعبر عَنِ الْجِيم وَالْهَاء وَالرَّاء الأصليّات بِالْفَاءِ وَالْعين وَاللَّام، وَتَأْتِي باسمها الْوَاو فَهِيَ الزِّيَادَة إِذْ لَيست من الْفِعْل فَاء وَلا عينا وَلا لامًا، وَيَعْقُوب لما رَأَى نكتل مُوَافقا لوزن نَفْعل تسرع إِلَى مَا أجَاب بِهِ مَعَ ذُعْر المحنة وإزعاج البديهة وهيبة الحاثِّ لسائله عَلَى شراسة خلقه وإشفاقه من تَشَعُّثِ مَنْزِلَته عِنْده، وَقطع مَادَّة الْمَعيشَة من جِهَته.
وَوزن أَلْفَاظ الْكَلم تَأتي عَلَى جِهَات مُخْتَلفَة بِحَسب أغراض الوازنين، وعَلى قدر تَرْتِيب الصِّنَاعَة من المقابلين، والنحويون يزنون الْحُرُوف عَلَى أخْصَر من وزن العروضيِّن، لأَنهم يقابلون فِي الزِّنَة الْحَرَكَة بجِنْسها من التحريك الَّذِي هُوَ خلاف السّكُون ونوعها إِن ضَمًّا وَإِن فَتْحًا وَإِن كَسْرًا، عَلَى اخْتِصَاص كُلّ وَاحِد من هَذِه الأنحاء دون صَاحبه، والعناية بِذَات الْحَرْف دون الإِعراب والتنوين وَمَا يُزَاد ويحذف خَطًّا ولفظًا، والعروضيُّون(1/409)
يراعون ذَلِكَ كُلَّه ويَسُوقُونه ويبنون وزنَهُم عَلَى اللَّفْظ، ويُجْرون وزنهم عَلَى مُقَابلَة الْحَرَكَة جِنْسا لَا نوعا، فيسوون فِيهَا بَيْنَ الضَّمِّ وَالْفَتْح وَالْكَسْر، وَلما تَسَاوِي نكتال واكتال فِي عدد الْحُرُوف وسبيل حرف المضارعة أَن تجْرِي بِهِ الزِّيَادَة عَلَى حُرُوف الْمَاضِي، فَلِأَن همزَة اكتال زَائِدَة للوصل تذْهب إِذا تحركت فَاء الْفِعْل وَلَيْسَت بلازمة للكلمة، وَقَد اخْتلف فِيمَا زَاد من الْأَسْمَاء من الثلاثي الَّذِي هُوَ فاءٌ وعينٌ وَلَام فَأتى رباعيًّا أَوْ خماسيًّا من غَيْر أَن يَكُون فِيهِ شيءٌ من حُرُوف الزِّيَادَة كَقَوْلِك جَعْفَر وفرزدق، فَحكم بعضُهم عَلَى هَذَا بِأَن الْحَرْف والحرفين مِنْهُ مِمَّا أَتَى بعد الْفَاء وَالْعين وَاللَّام مَجْهُول، وَقضى بِأَن الطّرف أوْلَى مِنْهُ بِبَاب الزِّيَادَة، وَذهب آخَرُونَ إِلَى مثل هَذَا فِي الْعين، وميزوا بَيْنَ تجانس الحرفين فِي آخِره، وَذَلِكَ كفَعْلَل الَّذِي هُوَ وزن قَرْدَد، وبَيْنَ مَا اخْتلفَا فِيهِ نَحْو جَعْفَر، وَهَذَا بَاب لَا يحْتَمل كتَابنَا هَذَا الاتساع فِيهِ، وَلَهُ مَوضِع هُوَ أوْلى بِهِ.
وَمِمَّا اتّفق فِي هَذِهِ الْقِصَّة مَعَ مَا ذكرنَا من الْأَحْوَال الْعَارِضَة أَن يَعْقُوب كَانَ فِي صناعَة النَّحْو ذَا بضَاعَة مزجاةٍ نَزِرة، وَقَدْ صنف مَعَ هَذَا فِي النَّحْو كتابا مُخْتَصرا لم يعد فِيهِ القَدْرَ الَّذِي تناله يدُه، وَإِن كَانَ إِمَامًا علما فِي اللُّغَة، وقدوة سَابِقًا مُبرزًا فِي اخْتِلاف أَهلهَا من البصريِّين والكوفيّين، وَلَهُ فِيهَا كتبٌ مؤلفة حَسَنَة، وأنواع مصنفة مفيدة، وأَبُو عُثْمَان الْمَازِنِيّ وَإِن كَانَ قَدْ قصد الْجَمِيل من مقاربته وتسهيل مناظرته فَإِنَّمَا أَتَى بِمَا هُوَ متيسر لَهُ دونه، وَقَدْ كَانَ الأَوْلى بِمَا قَصده تنكُّب مَا فِيهِ اعتلالٌ وقلب، والْعُدول بِهِ عَنِ التصريف الكادِّ للقلب الشاق عَلَى اللُّب، وَقَدْ رد الْمَازِنِيّ عَلَى سِيبوَيْه مسَائِل فِي بَعْضهَا حججٌ وَفِي بَعْضهَا شبهٌ، وَسَأَلَ الأخْفَش عَنْ مسَائِل نسبه إِلَى التَّقْصِير والانقطاع فِي بَعْضهَا، وَحكي أَن الْأَخْفَش رَجَعَ عِنْد أول تَوْقِيف مِنْهُ عَلَيْهَا فِي الْبَعْض مِنْهَا، وَقَدْ ذكرنَا من هَذَا طرفا فِي مَوْضِعه.
بَنو الْأَحْرَار تهجي وتمدح
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّبِّيّ، قَالَ: سَمِعَ أَعْرَابِي رجلا يَقُول: " الْأَعْرَاب كفرا ونفاقاً " ثُمّ سَمعه يَقُولُ: " وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " الْآيَة، فَقَالَ: هجا ومدح، لَا بَأْس، ثُمّ أنْشد:
هجوتُ بُحَيْرًا ثُمّ إِنِّي مدحتُهُ ... كَذَاك بَنو الأحْرار تَهْجُو وتمدحُ
كَيفَ يفعل مَعَ هَذَا الْأنف؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود، قَالَ: رَأَيْت قَاضِي الْقُضَاة يَحْيَى بْن أَكْثَم بِمَكَّة وَقَدْ وقف يُلَاحظ حجّامًا عَلَيْه أنف كأَنَّه أزجٌ، فَقلت لَهُ: أَيهَا القَاضِي! مَا هَذَا الْوُقُوف، فَقَالَ لي: ذَرْني فَإِنِّي أُرِيد أنظر إِلَى هَذَا كَيفَ يَسْتَوِي لَهُ مَصُّ المحجمة مَعَ هَذَا الْأنف؟ وَقَدْ كَانَ رجلٌ جالسٌ بَيْنَ يَدي الْحجام فَفطن بِهِ الْحجام، فَقَالَ لَهُ: مَالك قَائِم تنظر إليّ؟ لَيْسَ ونورِ اللَّهِ أضْرب فِي قفا هَذَا بمعولي وَأَنت وَاقِف،(1/410)
فتوارينا عَنْهُ فَإِذا هُوَ يعْطف أَنفه بِيَدِهِ الْيُسْرَى ويمسك المحجمة بِيَدِهِ الْيُمْنَى ويَمُصُّ بِفِيهِ، فَقَالَ يَحْيَى: أما هَكَذَا فَنعم، قَالَ عَبْد اللَّه: وَكَانَ يَحْيَى بْن أَكْثَم أَعور.
شعر مَكْتُوب عَلَى حَائِط
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي أَبُو بَكْر، حَدَّثَنَا أَبُو عَليّ العَنَزِي الْحَسَن بْن عليل، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحُسَيْن الدِّرْهمي، قَالَ: كُنَّا عِنْد مُحَمَّد بْن عُبَيْد الطَّنافسيّ، فَقَالَ: قَرَأت عَلَى حائطٍ بالْحِيرة مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة:
إِن البلية أَن تحبَّ ... وَلا يحبُّك من تُحبُّهْ
فَيَصُدَّ عَنْك بِوَجْهِهِ ... وتلح أَنْت فَلَا تغبه
أقلل زيارتك الصدي ... ق يراك كَالثَّوْبِ اسْتَجدَّه
إِن الصِّدِّيق يُمله ... أَلا يزَال يراك عندَه
قَالَ أَبُو بَكْر: هَذَا مِمَّا لَا يُعاب فِيهِ الشَّاعِر.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: فِي هَذَا الشّعْر موضعان فيهمَا قَوْله " يراك "، وَذَاكَ أَن وَجه الْكَلَام يَرَكْ بِالْجَزْمِ، لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَهُوَ قَوْله: أَقْلِل، وَلَو أنْشد يَرَاك عَلَى من يَقُولُ هُوَ يراني كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلانَا عالمٌ بالتُّرَّهات
لَكَانَ جيدا وزحَافه جَائِزا، وَمَا " يزَال " فَإنَّهُ لَمْ يَحْذِف فِيهِ الْألف، عَلَى ردِّه إِلَى الأَصْل فِي التَّقْدِير، وَلَهُ نَظَائِر فِي الْكَلَام وَقَدْ قَرَأَ بعضُ الْقُرّاء فِي غَيْر مَوضِع من الْقُرْآن عَلَى هَذِهِ اللُّغَة، وَقَدْ ذكرنَا فِي بعض مجَالِس كتَابنَا من هَذَا الْبَاب، وَمَا أَتَى فِيهِ من شَوَاهِد الشّعْر مَا لَا طائل فِي إِعَادَته، وروينا هَذَا لأبياتٍ عَمَّن ذكر أَن الشّافعيّ تمثل بهَا، وأمّا الْوَجْه الآخر فَإِن مِنْهُ مَا قَدْ جَاءَ مثله، وَهُوَ من عُيُوب الشّعْر الْمَعْرُوفَة وَمِنْه مَا لَا يجوز الْبَتَّةَ.
1 12 - /الْمَجْلِسُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ
فَضْلُ رَسُولِ الله وَبَنِي هَاشِمٍ
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد بن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي حَدَّثَنَا أَبُو بكرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ الرِّيَاحِيُّ حَدَّثَنَا بُهْلُولُ بْنُ الْمُوَرِّقِ أَبُو غَسَّانَ الشَّامي حَدثنَا مُوسَى بن عبيد ة حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: قلبتُ الأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلا أَفْضَلَ مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَلَّبْتُ الأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي فَضَّلَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ، وَفَضَّلَ بَنِي أَبِيهِ عَلَى سَائِرِ بَنِي الآبَاءِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أمةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(1/411)
وَهَدَانَا لِتَصْدِيقِهِ وَالإِيمَانِ بِهِ، وَوَفَّقَنَا لاتِّبَاعِهِ، وَأَبَانَنَا مِمَّنْ عَانَدَهُ وَجَحَدَهُ، وَبَغَى عَلَيْهِ وَحَسَدَهُ، وَعَصَمَنَا مِنْ أَنْ نَنْفُسَ عَلَى رَهْطِهِ وَأُسْرَتِهِ وَأَقْرَبِيهِ وَعِتْرَتِهِ، بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَحَبَاهُمْ بِهِ مِنْ شَرِيفِ نِعْمَتِهِ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ توفيقه وَجَمِيل عصمته، وفضلناب عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَنْسِبَائِهِ الرَّاصِدِينَ لِمُحَارَبَتِهِ، وَالْجَادِّينَ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَقَدْ هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمُشَاقَّتِهِ؛ أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي لَهَبٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَإِلَى قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنَ الْعَجَمِ الأَجْنَبِيِّينَ إِذْ قَالَ: سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ " آل عمرَان:86 ".
نجا إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه بحيلة عَجِيبَة
حَدثنَا أَحْمَد بْن أَبِي الْعَلَاء الْأَضَاحِي الْمَعْرُوف بحرمي قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه يَعْنِي ابْن شبيب قَالَ أَخْبرنِي جَعْفَر بْن مُحَمَّد قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن ريَاح قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن حَيَّان أَبُو عَبد اللَّه الْحَرَّانِي قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه بْن حسن بْن حسن قد صَار إِلَى مَدِينَة الْموصل فِي تواريه، وَصَحَّ ذَلِك عِنْد أَبِي جَعْفَر فَكتب إِلَى الْوَالِي هُنَاكَ يُعلمهُ أَنه قد صَحَّ عِنْده أبن إِبْرَاهِيم فِي مَدِينَة الْموصل، ويأمره إِذا ورد عَلَيْهِ كِتَابه أَن يتحفظ فِي بَقِيَّة يَوْمه فَإِذا هُوَ أَمْسَى غلقت أَبْوَاب الْمَدِينَة فَلم يخرج مِنْهَا أحد وَلم يدْخل، ثُمَّ اسْتقْبل التفتيش لغد فَإنَّك ستجده. وَكَانَ مَعَ إِبْرَاهِيم يَوْمئِذٍ من أهل الجزيرة وَمن الزيدية قوم لَهُم بصائر وأموال وغناء عناية بِهِ، وَكَانَت لَهُم عُيُون قد أذكوها على السُّلْطَان، فَبَلغهُمْ خبر الْكتاب وَمَا عزم عَلَيْهِ الْوَالِي فاشتروا بغلين وحذفوهما كَمَا يعْمل ببغال الْبَرِيد، عملت لَهما لجم وأداة على حسب مَا يعْمل بدواب الْبَرِيد، وَخرج أحدهم إِلَى بعض الْقرى الَّتِي تقرب من الْموصل، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء الْآخِرَة وأغلقت الْأَبْوَاب ركب إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه أحد البغلين، وَركب الآخر رجل بتشبه با لفرانق، وَخرج الرجل على الْبَغْل يَصِيح كَمَا يَصِيح الفرانق، وَمَعَهُ خريطة، وَاتبعهُ إِبْرَاهِيم حَتَّى إِذا صَار إِلَى الْبَاب صَاح فَفتح لَهُ الْبَاب على أَنه من قبل الْوَالِي ثُمَّ مضيًا فَانْتَهَيَا إِلَى الرجل ومضيا. وَصَحَّ الْخَبَر على هَذِه الْحِكَايَة عِنْد الْمَنْصُور فَكثر مِنْهُ تعجبه وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ تأسفه.
وَصِيَّة حَكِيم لِابْنِهِ
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الأَصْمَعِيّ قَالَ، قَالَ بعض الْحُكَمَاء لِابْنِهِ: يَا بني أقبل عهدي ووصيتي: إِن سرعَة ائتلاف قُلُوب الْأَبْرَار حِين يلتقون كسرعة اخْتِلَاط قطر الْمَطَر بِمَاء الْأَنْهَار، وَبعد الْفجار من الائتلاف وَإِن طَال تعاشرهم كبعد الْبَهَائِم من التعاطف وَإِن طَال اعتلافها على آري وَاحِد. كن يَا بني بِصَالح الوزراء أعنى مِنْك بِكَثْرَة عَددهمْ، فَإِن اللؤلؤة خَفِيف محملها كثير ثمنهَا، وَالْحجر فادح حمله قَلِيل غناؤه عَنْك.(1/412)
عَليّ يُرْسل إِلَى مُعَاوِيَة فِي أَمر الْبيعَة
حجثنا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى قَالَ حَدَّثَنِي عمرَان عبد الْعَزِيز بْن عُمَر بْن عبد الرَّحْمَن بن عون قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ قَالَ: بَعَثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُبَايِعَ هُوَ وَمَنْ قَبْلَهُ؛ قَالَ: فَخَرَجْتُ لَا أَرَى أَحَدًا سَبَقَنِي إِلَيْهِ، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا هُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُمْ حَوْلَهُ يَبْكُونَ حَوْلَ قَمِيصِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُعَلَّقٌ فِي رُمْحٍ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ عَلِيٍّ، وَمَثَلَ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي كَانَ يَسِيرُ بِمَسِيرِي وَيُقِيمُ بِمُقَامِي لَا أَشْعُرُ بِهِ، فَقَالَ لِمُعَاوِيَةَ:
إِنَّ بَنِي عَمِّكَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ... هُمْ قَتَلُوا شَيْخَكُمْ غَيْرَ كَذِبْ
وَأَنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْوَثْبِ فَثِبْ ... وَاغْضَبْ مُعَاوِيَ لِلإِلَهِ وَارْتَقِبْ
بَادِرْ بِخَيْلِ الأُمَّةِ الْغَابِ النَّشِبْ ... بِجَمْعِ أَهْلِ الشَّامِ تَرْشُدُ وَتَصِبْ
وَسِرْ مَسِيرَ الْمُحْزَئِلِّ الْمُتْلَئِبْ ... وَهَزْهِزِ الصَّعْدَةَ لِلشَّأْسِ الشَّغِبْ
قَالَ: ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَخِي عُثْمَانَ لأُمِّهِ، فَإِذَا فِيهِ:
معاويَ إِنَّ الْمُلْكَ قَدْ جُبَّ غاربُهْ ... وَأَنْتَ بِمَا فِي كفَّكّ اليومَ صاحبُهْ
أَتَاكَ كتابٌ مِنْ علّيٍ بِخَصْلةٍ ... هِيَ الفصلُ فاخترْ سَلْمَهُ أَو تحاربُهُ
وَإِن كنتَ تَنْوِي أَنْ تجيبَ كتابهُ ... فقبحَ ممليهِ وقبحَ كاتبهْ
وَإِنْ كُنْتَ تَنْوِي تَرْكَ رَجْعِ جَوَابِهِ ... فَأَنْتَ بأمرٍ لَا مَحَالَةَ راكبهْ
فألق إِلَى الْحَيّ اليمانين كَلِمَةً ... تنالُ بِهَا الأَمْرَ الَّذِي أَنْتَ طالبهْ
تقولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَصَابَهُ ... عَدُوٌّ وَمَالا هُمْ عَلَيْهِ أَقَارِبُهُ
وَكُنْتَ أَمِيرًا قبلُ بِالشَّامِ فيكمُ ... وَحَسْبِي مِنَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ اجبهْ
يُجِيبُوا وَمَنْ أُرْسِي ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... تُدَافِعُ بِحَرٍّ لَا تُرَدُّ غَوَارِبُهُ
فَأَكْثِرْ أَوْ أَقْلِلْ مَالَهَا الدَّهْرُ صَاحِبٌ ... سِوَاكَ فَصَرِّحْ لَسْتَ مِمَّنْ تُوَارِبُهُ
قَالَ، فَقَالَ: أَقِمْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ نَفَرُوا عَنْهُ لِمَقْتَلِ عُثْمَانَ حَتَّى يَسْكُنُوا؛ قَالَ: فأقمتُ أَرْبَعَةَ أشهرٍ، ثُمَّ جَاءَهُ كتابٌ آخَرُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِيهِ:
أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَإِنَّكَ مِنْ أَخِي ثقةٍ مُليمُ
قطعتَ الدهرَ كالسَّدِمِ المعَّنى ... تُهَدَّرُ فِي دمشقَ وَمَا تَريم
فَإِنَّكَ والكتابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كدابغةٍ وَقَدْ حَلَمَ الأديمُ(1/413)
فَلَوْ كنتَ القتيلَ وَكَانَ حَيًّا ... لَشَمَّرَ لَا أَلفُّ وَلَا سؤومُ
فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُهُ وَصَلَ مَا بَيْنَ طُومَارَيْنِ ثمَّ طَوَاهُمَا أَبْيَضَيْنِ وَكَتَبَ عُنْوَانَهُمَا: مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَدَفَعَهُمَا إليَّ وَبَعَثَ مَعِي رَجُلا مِنْ عبسٍ وَلا أَدْرِي مَا مَعَ الْعَبْسِيِّ؛ قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْكُوفَةَ، فَاجْتَمَعَ الناسُ إِلَى عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ وَلا يَشُكُّونَ أَنَّهَا بيعةُ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا فُتِحَ الْكِتَابُ لَمْ يُوجد فِيهِ بِشَيْء، وَقَامَ الْعَبْسِي فَقَالَ: من هَاهُنَا مِنْ أَفْنَاءِ قَيْسٍ؟ إِنِّي أَخُصُّ مِنْ قيسٍ غَطَفَانَ وَأَخُصُّ مِنْ غَطَفَانَ عَبْسًا، وَإِنِّي أحلفُ بِاللَّهِ لَقَدْ تركتُ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ شَيْخٍ خَاضِبِينَ لِحَاهُمْ بِدُمُوعِ أَعْيُنِهِمْ، مُتَعَاقِدِينَ مُتَحَالِفِينَ لَيَقْتُلُنَّ قَتَلَتَهُ، وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَقْتَحِمَنَّهَا عَلَيْكُمُ ابنُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلافٍ مِنْ خِصْيَانِ الْخَيْلِ فَمَا ظَنُّكُمْ بَعْدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفُحُولِ؟ فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سعدٍ: يَا أَخَا عبسٍ لَا نُبَالِي بِخِصْيَانِ خَيْلِكَ وَلا بِبُكَاءِ كُهُولِكَ، وَلا يَكُونُ بُكَاؤُهُمْ بُكَاءَ يَعْقُوبَ عَلَى يُوسُفَ. ثُمَّ دَفَعَ الْعَبْسِيُّ كِتَابًا مِنْ مُعَاوِيَةَ فِيهِ:
أَتَانِي أَمْرٌ فِيهِ للنَّاس غمَّة ... وفيهب اجْتِدَاعٌ للأنوفٍ أَصِيلُ
مُصَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَدَّةٌ ... تكادُ لَهَا صمُّ الجبالٍ تزولُ
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مثلَ هالكٍ ... أُصيبَ بِلا ذنبٍ وَذَاكَ جليلُ
دعاهم فَضَمُّوا عَنْهُ عِنْدَ دُعَائِهِ ... وَذَاكَ عَلَى مَا فِي النفوسِ دَلِيلُ
ندمتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَبَع الْهَوَى ... وحسبيَ مِنْهُ حسرةُ وعويلُ
سأنعَى أَبا عمروٍ بكلَّ مهنَّدٍ ... وبيضٍ لَهَا فِي الدَّارعين صليلُ
فأَمَّا الَّتِي فِيهَا المودةُ بَيْنَنَا ... فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حييتُ سبيلُ
سأُلْقحُها حَرْبًا عَواناً مُلِحَّةً ... وَإِنِّي بِهَا مِنْ عَامِهَا لكفيلُ
قَالَ: فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ يُجِيبَهُ عَنْ كِتَابِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ قَيْسٌ:
مُعَاوِيَ لَا تعجلْ عَلَيْنَا مُعَاوِيَا ... فَقَدْ هجتَ بِالرَّأْيِ السفيهِ الأَفَاعِيَا
وحرّكتَ مِنَّا كلَّ شيءٍ كَرِهْتَهُ ... وأبقيتَ حَزَّاتِ النفوسِ كَمَا هِيَا
بعثتَ بِقِرْطَاسَيْنِ صفْرين ضَلَّةَ ... إِلَى خَيْرِ مَنْ يَمْشِي بنعلٍ وَحَافيَا
مَضَى أَبُو بَقى بَعْدَ النَّبِيِّ محمدٍ ... عَلَيْهِ سلامُ اللَّهِ عَوْداً وَبَادِيًا
أَلا لَيْتَ شِعْرِي والأمانُّي ضلَّةٌ ... عَلَى أيِّ مَا تَنْوِي أردتَ الأَمَانِيَا
أَلا لَيْتَ شِعْرِي والأمانُّي ضلَّةٌ ... عَلَى أيِّ مَا تَنْوِي أردتَ الأَمَانِيَا
عَلَى أَنَّ فِينَا لِلْمَوَارِبِ مَطْمَعًا ... وَإِنَّكَ متروكٌ بِشَامِكَ عَاصِيَا
أَبَى اللَّهُ إِلا أَنَّ ذَا غَيْرُ كَائِنٍ ... فَدَعْ عَنْكَ مَا مَنَّتْك نفسُكَ خَالِيَا(1/414)
وأكثرْ وأقللُ إِنَّ شامَكَ شحمةٌ ... تَعَجَّلها طاهٍ يبادِرُ شَاوِيَا
مِنَ الْعَامِ أَوْ مِنْ قابلٍ كلُ كائنٍ ... قريبٌ، وأبْعدْ بِالَّذْيِ لَيْسَ جَائِيَا
شُرُوح وتعليقات قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج قَوْله: الغابُ النشب؛ الغابُ جمع غابةٍ وَهِي الغيضة، والنشب المشتبك الَّذِي قد انتشب، يُقَال: قد نشبت الخصومةُ بَين فلانٍ وفلانٍ، ويروى الأشب، وَأرَاهُ أصح فِي الرِّوَايَة، وَهُوَ الِاخْتِلَاط، والأشابة: الأخلاط؛ قَالَ الشَّاعِر:
أُولَئِكَ قومِي لم يَكُونُوا أشابة ... وَهل يعظ الضليلَ إِلَّا أولئكا
وَقَوله: المحزئل المتلئب: المحزئل: المنحاز الناهض الْمُجْتَمع، قَالَ الشَّاعِر:
واستطربت ظعنهم لما احزأل بهم ... مَعَ الضُّحَى ناشط من داعيات
والمتلئب: الْمُسْتَقيم المستتب، وَقَوله: وهزهز الصعدة يَعْنِي هز الْقَنَاة، واستثقل الْإِدْغَام فأظهر التَّضْعِيف وَكرر كَمَا قَالُوا قد كركر كَلَامه وكمكم قَالَ الله تَعَالَى: " فَكُبْكِبُوا فِيهَا " الشُّعَرَاء: 94 أَي كبوا. وَهَذَا كثيرٌ فِي الْعَرَبيَّة جدا. والشأس: الشديدُ المستصعب الشرس. وَقَول قيس بْن سعدٍ فِي شعره مضى أَو بقى يُقَال: إِن بقى وَلَقي بِمَعْنى بَقِي وَلَقي لُغَة طَيء، قَالَ الشَّاعِر:
لعمرك مَا أخْشَى التصعلك مَا بقى ... على الأَرْض قيسي يسوقُ الأباعرا
وَقَالَ آخر:
حَتَّى لقى الله على بغيه ... وَالله من ذِي الْبَغي قد ينصف
وَقد ذكر عَن الْحسن أَنه قَرَأَ: " وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ " يُونُس: 16 بِمَعْنى أدريتكم، فَحَمله بَعضهم على هَذِه اللُّغَة. وطيء تنحو هَذَا النحوَ فِي الْأَسْمَاء فَتَقول فِي جَارِيَة: جاراة، وَيَقُولُونَ فِي نَاصِيَة: ناصاة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَلا أَذِنت أهل الْيَمَامَة طَيء ... بحربٍ كناصاة الْأَغَر المشقر
وَقد زعم بعضُ الْمُحَقِّقين فِي علل النَّحْو واللغة فِي قَوْلهم أَبِي يَأْبَى من هَذِه اللُّغَة، وَذَاكَ أَنه أنكر أَن يكون فِي الْعَرَبيَّة فعل يفعل مِمَّا لَيست عينه وَلَا لامه من حُرُوف الْحلق، وَأَن سِيبَوَيْهٍ لم يحك غير هَذِه الْكَلِمَة، وَإِن كَانَ غَيره قد حكى فِي هَذَا الْبَاب حروفًا عدَّة. وَزعم من حكينا قَوْله أَن أصل يابى يَأْبَى ثُمَّ اسْتعْمل على هَذِه اللُّغَة، وَمن الفاشي فِي رِوَايَة الْكُوفِيّين قلى يقلى وَقد حكى قلي يقلي والأفصح قلى يقلي.
أَبُو الْأسود يعوذ من جماله
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَم الغنوي قَالَ حَدَّثَنَا الرياشي عَنِ الأَصْمَعِيّ عَنْ أَبِي مهدية قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عفير الدؤَلِي وَكَانَ شَاعِرًا قَالَ: كنت عِنْد عبد الْملك بْن مَرْوَان إِذْ دخل أَبُو الْأسود الدؤَلِي وَكَانَ أَحول دميمًا قَبِيح(1/415)
المنظر، فَقَالَ لَهُ عبد الْملك يمازحه: يَا أَبَا الْأسود لَو علقت عَلَيْك عوذة تدفع عَنْك الْعين، فَقَالَ: إِن لَك جَوَابا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأنْشد:
أفنى الْجَدِيد الَّذِي فارقتُ جدتهُ ... كرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلق
لم يتركا ليَ فِي طولِ اخْتِلَافهمَا ... شَيْئا يخافُ عَلَيْهِ لذعةُ الحدق
أما وَالله لَئِن كَانَت أبلتني السنون، وأسرعتْ إِلَيّ الْمنون، لما أبلت ذَلِك إِلَّا فِي مَوْضِعه، ولرب يَوْم كنتُ فِيهِ إِلَى الآنسات الْبيض أشهى مِنْك إلَيْهِنَّ فِي يَوْمك هَذَا على عجبك بِنَفْسِك، وَإِنِّي الْيَوْم لَكمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
أراهن لَا يحببن من قل مَاله ... وَلَا من رأين الشيب فِيهِ وقوسًا
وَلَقَد كنت كَمَا قَالَ أَيْضا:
يرعن إِلَى صوتي إِذا مَا سمعنه ... كَمَا ترعوي عيط إِلَى صَوت أعيسا
قَالَ لَهُ عبد الْملك: قَاتلك الله من شيخٍ مَا أعظم همتك.
شرح قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: العيط: جمع عيطاء، وَهِي النَّاقة الطَّوِيلَة الْعُنُق والأعيس: فَحل أَبيض تعلوه شقرة؛ وَمن العيط قَول ذِي الرمة:
وعيطٍ كأسراب الحدوج تشوفت ... معاصيرها والعاتقات العوانس
يحرض على بيعَة الْقَاسِم بْن الرشيد
حَدثنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سعد قَالَ حَدَّثَنِي عمر بْن مُحَمَّد بْن حَمْزَة الْكُوفِي قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن سعد قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بْن صَالح بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه، وَكَانَ انْقِطَاعه إِلَى الرشيد، قَالَ: دخلتُ على الرشيد وَقد عهد إِلَى مُحَمَّد والمأمون فِي من يهنئه من ولد صَالح بْن عَليّ، فأنشأت أَقُول:
يَا أَيهَا الْملك الَّذِي ... لَو كَانَ نجمًا كَانَ سَعْدا
اعقد لقاسم بيعَة ... واقدح لَهُ فِي الْملك زندا
الله فَرد وَاحِد ... فَاجْعَلْ وُلَاة الْعَهْد فَردا
قَالَ: فاستضحك هَارُون، وَبعثت إِلَى أم جَعْفَر: كَيفَ تحبنا وَأَنت شام؟ وَبعثت إِلَى أم الْمَأْمُون: كَيفَ تحبنا وَأَنت أَخُو عبد الْملك بْن صَالح؟ وَبعثت إِلَى أم الْقَاسِم بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فاشتريت بهَا ضيعتي بأرتاح.
يحيى بْن أَكْثَم وقاعة فِي النَّاس
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي عَليّ بْن يحيى قَالَ: كَانَ يحيى بْن أَكْثَم وقاعة فِي النَّاس وَكَانَ شريرًا، وَكَانَ يغري الْمَأْمُون بِالنَّاسِ وَيَقَع فيهم عِنْده، وَكَانَ يثني على عَمْرو بْن مسْعدَة ويقرظه عِنْده، وَلَا يزَال يذكر(1/416)
فراهته ونصيحته وَحسن صناعته؛ فَبلغ ذَلِك عمرا فَدخل على الْمَأْمُون فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بَلغنِي أَن يحيى بْن أَكْثَم يثني عَليّ عنْدك، وَأَنا أَسأَلك بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تريه أَنَّك قبلت شَيْئا من قَوْله فِي، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قدم الثَّنَاء عَليّ لوقيعةٍ يُرِيد أَن يوقعها بِي لديك لتصدقه فِيمَا يَقُول، قَالَ: فَضَحِك الْمَأْمُون مِنْهُ وَقَالَ: قد أمنت من ذَلِك فَلَا تخفه مني.
كَيفَ يُسَمِّي يحيى بْن أَكْثَم الثُّقَلَاء
حَدثنَا مُحَمَّد بن السحن بْن زِيَاد الْمقري قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَالِيَة الشَّامي مؤدب ولد الْمَأْمُون قَالَ، قَالَ الْمَأْمُون ذَات يَوْم ليحيى بْن أَكْثَم القَاضِي: أُرِيد مِنْك أَن تسمى لي ثقلاء أهل عسكري وحاشيتي، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اعفني فَإِنِّي لست أذكر أحدا مِنْهُم وهم لي على مَا تعلم، فَكيف إِن جرى مثل هَذَا؟ قَالَ لَهُ: فَإِن كنت لَا تفعل فاضطجع حَتَّى أفتل لَك مخراقًا دبيقيًا وأضربك بِهِ وأسمى مَعَ كل ضَرْبَة رجلا، فَإِن كَانَ ثقيلا تأوهت، وَإِن يَك غير ذَلِك سكت، فَأَكُون أَنا على معرفَة مِنْهُم ويقين من ثقلائهم. فاضطجع لَهُ يحيى وَقَالَ: أَرَأَيْت قَاضِي قُضَاة وأميراً ووزيرًا يعْمل بِهِ مثل ذَا؟ فلف لَهُ مخراقاً دبيقياً وضربه بِهِ ضربه وَذكر لَهُ رجلا ثقيلا فصاح يحيى: آه أه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي المخراق آجرة، فَضَحِك الْمَأْمُون مِنْهُ حَتَّى كَاد يغشى عَلَيْهِ وأعفاه من البَاقِينَ.
من أكْرم النَّاس أَبَا وَأما وجده
وحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عليّ بْن الْمَرْزُبَان النَّحْويّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ النَّحْوِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيَّ يَقُولُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَافِ: من أكْرم النَّاس أَبَا وَأما وجدا وَجدّة وخالاً وَخَالَة وعماص وعمةً؟ فَقَامَ النُّعْمَان بن العجلان الزُّرَقِيُّ فَأَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: هَذَا، أَبُوهُ عَلِيٌّ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ، وَجَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَعَمُّهُ جَعْفَرٌ، وَعَمَّتُهُ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طالبٍ، وَخَالُهُ الْقَاسِمُ، وَخَالَتُهُ زَيْنَبُ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فَحُبُّ بَنِي هاشمٍ دَعَاكَ إِلَى مَا عَمِلْتَ؟ فَقَالَ ابْن العجلان: يَا ابْن الْعَاصِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَنِ التمس رضى مخلوقٍ بِسَخَطِ الْخَالِقِ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُمْنِيَّتَهُ وَخَتَمَ لَهُ بِالشَّقَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ؟ بَنُو هَاشِمٍ أَنْضَرُ قريشٍ عُودًا، وَأَقْعَدُهَا سَلَفًا، وَأَفْضَلُ أَحْلامًا.
يشْتم عمر بْن ذَر
حَدثنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن هَارُون العسكري قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه ابْن عبد الحميد قَالَ حَدَّثَنِي رجل قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى عمر بْن ذرٍ وَهُوَ فِي مَجْلِسه فشتمه، فَلَمَّا سكت أقبل عمر على أَصْحَابه فَقَالَ: مَا علم الله فَستر، أكثرُ مِمَّا قَالَ هَذَا وَأظْهر.
حِين عَفا الْمَنْصُور عَن أهل الشَّام
حَدثنَا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن خلف السكرِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو(1/417)
يعلي زَكَرِيَّاء بْن يحيى بْن خَلاد الْمنْقري الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي عَمَّن أخبرهُ أَن أَبَا جَعْفَر المَنْصُور حِين عَفَا عَنْ أَهْل الشَّام قَالَ لَهُ رجلٌ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، الانتقامُ عَدْلٌ، والتجاوزُ فَضْل، والْمُتفضِّلُ قَدْ جَاوز حَدَّ الْمُنْصِف، فَنحْن نُعِيذُ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِاللَّه من أَن يرضى لنَفسِهِ بأوكس النَّصِيبَيْنِ وَأَن لَا يرْتَفع إِلَى أَعلَى الدرجتين.
ابْن الرُّومِي يجود بِنَفسِهِ
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الْأَزْدِيّ قَالَ: رَأَيْت عَليّ بْن الْعَبَّاس بْن جريج الرُّومِي يجود بِنَفسِهِ فَقلت لَهُ: مَا حالك؟ فَأَنْشد:
غلطَ الطبيبُ عليَّ مُوردٍ ... عجزتْ مواردُهُ عَن الإصدارِ
والناسُ يَلْحَوْنَ الطبيبَ وَإِنَّمَا ... غَلَطُ الطبيبِ إصابةُ المقدارِ
فِي من صرف عَن عمله
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: جرت بيني وَبَين بعضُ إِخْوَاننَا من أَهْل الْأَدَب مذاكرة جرى فِيهَا قِطْعَة مِمَّا مدح بِهِ من صرف عَن عمل كَانَ يَتَوَلَّاهُ، وَمَا رُوِيَ عَن بعض أهل الْأَدَب أَنه قَالَ: شيعوا الْمَعْزُول واستقبلوا الْوَالِي؛ وذكرتُ مَا فِي هَذَا من الْحِكْمَة وإرهاص الْمنزلَة والاحتراس من الظنة وإيثار حسن المحالفة وتمكين الْمَوَدَّة، فأنشدني هَذَا الْأَخ أبياتًا ذكر أَنَّهَا لجعيفران فِي إِبْرَاهِيم بْن الْمُدبر وَقد عزل عَن الْبَصْرَة، ثُمَّ أَخْبرنِي صديقنا أَبُو الْحسن بْن حوزان أَنه وجدهَا فِي شعر سوار بْن أَبِي شراعة وَأَن الْأَخْفَش أنْشدهُ إِيَّاهَا لسوار أَيْضا وَهِي هَذِه:
يَا أَبَا إسحاقَ سِرْ فِي دعةٍ ... وامضِ مصحوبًا فَمَا منكَ خَلَفْ
لَيْت شعري أيَّ أرضٍ أجدبت ... فأغيثتْ بك من هَذَا العجفْ
نزل الرحمُ من الله لَهُم ... وَحُرمْناكَ لذنبٍ قد سلف
إِنَّمَا أَنْت ربيعٌ باكرٌ ... حَيْثُ مَا صرَّفَهُ الله انْصَرف
الْأَحْنَف يتستر على مُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زيدٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ شَبَّةَ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قيسٍ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ، فَغَنَّتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِي مُعَاوِيَةَ فِي جَانِبِ الدَّارِ، فَأَقْبَلَ عَلَى الأَحْنَفِ فَقَالَ: يَا أَبَا بحرٍ لَا تَرُمْ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ، إِنِّي لأَطْلُبُ خَلْوَةَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَلا أَكَادُ أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فِي أَثَرِهَا فَكَأَنَّمَا كَانَتْ لابْنَةِ قَرَظَةَ امْرَأَةِ مُعَاوِيَةَ عَيْنٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَقْبَلَتْ بِهِ فلبيته، فَقُلْتُ لَهَا: أَكْرِمِي أَسْرَاكُمْ فَقَالَتْ: اسْكُتْ يَا قَوَّادُ.
وَصِيَّة الْمُهلب لِابْنِهِ يزِيد
حَدثنَا عَبد اللَّه بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن النَّحْوِيّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن(1/418)
الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ وحَدثني مُحَمَّد بْن الْحسن الْأَحول قَالَ حَدثنَا الْمَدَائِنِي قَالَ: أوصى الْمُهلب ابْنه يزِيد فَقَالَ: إياك يَا بني والسرعة عِنْد مسألةٍ بنعم، فَإِن أَولهَا سهل وَآخِرهَا ثقيل فِي فعلهَا، واعمل أَن لَا وَإِن قبحت فَرُبمَا روحت، فَإِن كنت من أمرٍ تسأله على ثِقَة فأطمع وَلَا توجب، ثُمَّ افْعَل، وَإِن علمت أَن لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَاعْتَذر، فَإِنَّهُ من لَا يعْتَذر بالعذر فنفسه ظلم.
مَا بَين نعم وَلَا
قَالَ أَبُو عَبد اللَّه وأنشدنا ثَعْلَب قَالَ، أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي:
لَا تتبعن نعم لَا طَائِعا أبدا ... فَإِن لَا أفسدت من بعْدهَا نعم
إِن قلت يَوْمًا نعم بدءًا فتم بهَا ... فَإِن إمضاءها صنف من الْكَرم
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قد أنشدنا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ جمَاعَة من شُيُوخنَا عَن ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي، قَالَ وأنشدنا أَبُو الْحسن عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش لرجل من طيءٍ هَذِه الأبيات:
وَالله وَالله لَوْلَا أنني فرق ... من الْأَمِير لعاتبت ابْن نبراس
فِي موعدٍ قَالَه لي ثمَّ أخلفني ... غَدا غَدا ضرب أَخْمَاس لأسداس
حَتَّى إِذا نَحن ألجأنا مواعده ... إِلَى الطبيعة فِي حفز وإبساس
أجلت مخيلته عَن لَا فَقلت لَهُ ... لَو مَا بدأت بهَا مَا كَانَ من باس
وَلَيْسَ يرجع فِي لَا بَعْدَمَا سلفت ... مِنْهُ نعم طَائِعا حر من النَّاس
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: وَقد روينَا فِي جِهَات نعم وَلَا أَشْيَاء كَثِيرَة من ملح الْأَخْبَار ولطيف الْأَشْعَار وَمن فنون الْآدَاب الغريبة وفوائد الْعلم النبيهة مِمَّا يطول وَلَا يَتَّسِع مجْلِس من مجَالِس كتَابنَا لَهُ، وَلَكنَّا نذْكر فِيمَا هَاهُنَا طرفا مِنْهُ وَفِيمَا نستأنفه من مجالسنا هَذِه مَا نعثر أَولا أَولا عَلَيْهِ.
وحضرني فِي بَاب نعم وَلَا شَيْء كنت نظمته وَهُوَ:
لَا فِي مُقَدّمَة اللأواء مؤذنة ... بالجحد وَالنَّفْي والحرمان والعدم
وَقد رَأينَا نعم فِي أصل بنيتها ... صيغت مُنَاسبَة النعماء وَالنعَم
وَمِمَّا أنشدوناه فِي ذمّ لَا قَول الَّذِي قَالَ:
قبحت لَا فَإِنَّهَا ... خلقت خلقَة الجلم
تذْهب الْعرف والجمي؟ ... ل وَتَأْتِي على الْكَرم
اللُّغَات فِي نعم وَفِي نعم لُغَتَانِ مشهورتان ولغة شَاذَّة، فأشهر المشهورتين مِنْهُمَا نعَم بِفَتْح الْعين، وَعَلَيْهَا قِرَاءَة الْجُمْهُور من أهل الحجار وَالشَّام والعراقيين؛ وَقَرَأَ باللغة الثَّانِيَة عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ وَهِي نعِم، بِكَسْر الْعين، وَهِي قِرَاءَة أَبِي وَائِل(1/419)
شَقِيق بْن سَلمَة، واختارها الْكسَائي فَقَرَأَ بهَا فِي الْقُرْآن كُله كَقَوْلِه " قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " الْأَعْرَاف: 114و " قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذن لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " الشُّعَرَاء:42 واللغة الشاذة نعام وبالقراءة الأولى نَقْرَأ لاستفاضتها فِي الْخَاصَّة والعامة لُغَة وتلاوة. وَقد ذكر عَن أَبِي وَائِل أَنه كَانَ إِذا سمع قَارِئًا يقْرَأ نعم بِالْفَتْح قَالَ لَهُ: نعم وَشاء، يَعْنِي إبِلا وَغنما؛ كَمَا قَالَ زُهَيْر.
فَيوم مِنْك خيرٌ من أنَاس ... كثيرٍ حَولهمْ نعم وَشاء
وَيُقَال لِلْإِبِلِ وَالْبَقر وَالْغنم نعم وأنعام. وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة يُقَال لِلْإِبِلِ على انفرادها نعم، وَلَا يُقَال ذَلِك للبقر وَالْغنم إِلَّا إِذْ كَانَت مَعَ الْإِبِل.
وَأما الْأَنْعَام فيستوي كل نوع من ذَلِك فِي التَّسْمِيَة بِهِ نعم، قَالَ ذَلِك الْأَصْمَعِي. وَقَالَ بَعضهم أَنا عيم لجَماعَة الْإِبِل، يُقَال: نعم ثُمَّ أنعام ثمَّ أَنا عيم قَالَ ذُو الرمة:
داني لَهُ القيدُ فِي ديمومةٍ قذفٍ ... قينيه وانحسرتْ عَنْهُ الأناعيمُ
نعم وَلَا فِيمَا يتَّصل بالفقه
وَمِمَّا فِي نعم وَلَا مِمَّا يتَّصل بِعلم الْفِقْه قَول الرجل للأخر: اعطني سرج بغلي هَذَا أَو لجام دَابَّتي هَذِه فَقَالَ: نعم أَولا، وَلم يصله بأعطيكه، فَإِن شَيخنَا أَبَا جَعْفَر ذهب إِلَى أَن هَذَا إِقْرَار مِنْهُ بالسرج واللجام. وَحكى هَذَا عَن أَبِي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَاحْتج بِأَن قَوْله نعم إنعام بِالْفِعْلِ، لَا إباء لَهُ، وَهَذَا عِنْدِي كَمَا قَالَ. وَحكى عَن أَبِي ثَوْر أَنه قَالَ: قَوْله نعم إِقْرَار وَقَوله لَا لَيْسَ بِإِقْرَار، وَبَين فَسَاد قَوْله بِنَحْوِ مَا قدما بَيَانه.
الْمجْلس السَّابِع وَالْخَمْسُونَ
رَسُول الله يعرض نَفسه على الْقَبَائِل
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوفُ بِحَرَمِيٍّ الأَضَاحِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن شبيبٍ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نصرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنِي عليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بكرٍ، فَدَفَعَنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلا نَسَّابَةً فَسَلَّمَ فَرَدُّوا السَّلامَ فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: مِنْ هَامَتِهَا أَوْ مِنْ لَهَازِمِهَا، قَالُوا: بَلْ مِنْ هَامَتِهَا الْعُظْمَى قَالَ: وَأَيُّ هَامَتِهَا الْعُظْمَى؟ قَالُوا: ذُهَلُ الأَكْبَرُ، قَالَ: فَمِنْكُمْ عَوْفٌ الَّذِي كَانَ يُقَالُ: لَا حُرَّ بِوَادِي عوفٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ بِسْطَامُ أَبُو اللِّوَاءِ وَمُنْتَهَى الأَحْيَاءِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ حَسَّانُ بْنُ رَبِيعَةَ حَامِي الذِّمَارِ وَمَانِعُ الْجَارِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمُ الْحَوْفَزَانُ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا أَنْفُسَهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمُ الْمُزْدَلِفُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الْفَرْدَةِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ:(1/420)
فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأَنْتُمْ أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لخمٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَلَسْتُمْ أَنْتُمْ ذُهَلُ الأَكْبَرُ أَنْتُمْ ذُهَلُ الأَصْغَرُ. فَقَامَ إِلَيْهِ غُلامٌ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ يُقَالُ لَهُ دعفل حِينَ بَقَلَ وَجْهُهُ، فَقَالَ:
إِنَّ عَلَى سَائِلِنَا أَنْ نَسْأَلَهْ ... وَالْعِبْءُ لَا تَعْرِفُهُ أَوْ تَحْمِلُهْ
يَا هَذَا إِنَّكَ قَدْ سَأَلْتَنَا فَلَمْ نَكْتُمْكَ شَيْئًا، فَمِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: بخٍ بخٍ أَهْلُ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ، فَمِنْ أَيِّ قريشٍ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ صَفَا الثَّغْرَةِ، فَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلابٍ الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ بِهِ الْقَبَائِلَ مِنْ فهرٍ فَكَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ هَاشِمٌ الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ شَيْبَةُ الْحَمْدِ مُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يُضِيءُ لَيْلَةَ الظَّلامِ الدَّاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَمِنَ الْمُفِيضِينَ بِالنَّاسِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ النَّدْوَةِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فاجتذب أبنو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زِمَامَ نَاقَتِهِ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ دَغْفَلٌ:
صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ دَرْءًا يَدْفَعُهُ ... يَهْضِبُهُ يَرْفَعُهُ أَوْ يَصْدَعُهُ
وَايْم الله لَو بثت لأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمَعَاتِ قُرَيْشٍ أَوْ مَا أَنَا بِدَغْفَلٍ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بكرٍ وَقَعْتَ مِنَ الأَعْرَابِيِّ عَلَى باقعةٍ، قَالَ: أَجَلْ. إِنَّ فَوْقَ كُلِّ ذِي طامةٍ طَامَّةٌ وَالْبَلاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ. قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: ثُمَّ دَفَعَنَا إِلَى مجلسٍ آخَرَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلَّمَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلامَ، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلاءِ عِزٌّ فِي قومٍ. وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ وَالنُّعْمَانُ بْنُ يَزِيدَ. وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عمروٍ قَدْ عَلاهُمْ جَمَالا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى تَرِيبَتِهِ، وَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ؟ قَالَ: إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى ألفٍ وَلَنْ نُغْلَبَ عَنْ قِلَّةٍ، قَالَ: فَكَيْفَ الْمَنْعَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ حَدٌّ، قَالَ: فَكَيْفَ الحربُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ؟ قَالَ: إِنَّا أَشَدُّ مَا نَكُونُ غَضَبًا حِينَ نَلْقَى وَأَشَدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا نُؤْثِرُ جِيَادَنَا عَلَى أَوْلادِنَا، وَالسِّلاحَ على اللقَاح، النَّصْر مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُدِيلُنَا لَنَا وَعَلَيْنَا، لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ أَنَّهُ رَسُول الله فها هوذا فِي الرَّحْلِ، قَالَ: قَدْ بَلَغَنَا أَنه يَقُول ذَلِك. قَالُوا: فَإلَى مَا تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُؤْوُونِي وَتَنْصُرُونِي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَاسْتَغْنَوْا بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ الْغَنِيّ الحميد، قَالَ فَإلَى مَا تَدْعُو أَيْضًا؟ قَالَ: (فَتَلا عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحساناً " إِلَى قَوْله: " ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ " " الْأَنْعَام:151 " قَالُوا: وَإِلَى مَا تَدْعُو أيضاص؟ قَالَ: فَتَلا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكر وَالْبَغي " النَّحْل: 90 الْآيَة. فَقَالَ مَفْرُوقُ بْنُ عمروٍ: دَعَوْتَ وَاللَّهِ إِلَى مَحَاسِنِ الأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ ظَاهَرُوا عَلَيْكَ وَكَذَّبُوكَ. وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي الْكَلامِ هَانِئَ بْنَ قَبِيصَةَ فَقَالَ وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قبيضة، وَهُوَ شَيخنَا وَصَاحب حبنا، فَتَكَلَّمَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ فَقَالَ: يَا أَخَا قُرَيْشٍ قَدْ سمعتُ مَقَالَتك، وَإِن لَنَرَى تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا دِينَكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ مِنَّا لَمْ نَنْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَلَمْ نَتَثَبَّتْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَلَهًا فِي الرَّأْيِ وَإِعْجَالا فِي النَّظَرِ، وَالْوَلَهُ يَكُونُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَمِنْ وَرَائِنَا قوم نكره أَن تعقد عَلَيْهِمْ عَقْدًا، وَلَكِنْ نَرْجِعُ وَتَرْجِعُ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُ. وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي الْكَلامِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ فَقَالَ: وَهَذَا شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا، فَتَكَلَّمَ الْمُثَنَّى فَقَالَ: يَا أَخَا قُرَيْشٍ قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ، فَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَأَمَّا أَنْ نُؤْوِيَكَ وَنَنْصُرَكَ فَإِنَّا نَزَلْنَا بَيْنَ صيرين: الْيَمَامَة السمامة. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا هَذَانِ الصِّيرَانِ؟ فَقَالَ: مِيَاهُ الْعَرَبِ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَا يَلِي أَنْهَارَ كِسْرَى فَذَنْبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَلَسْنَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الأَمْرُ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُ الْمُلُوكُ، فَإِن أَحْبَبْت أَن تؤويك مِمَّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ آوَيْنَاكَ وَنَصَرْنَاكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، وَلَيْسَ يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلا قَلِيلا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْوَالهم ويفرشكم نِسَاءَهُمْ يورثكم دِيَارَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَتُقَدِّسُونَهُ؟ فَقَالَ النُّعْمَانُ: هَذَا لَكَ، فَتَلا(1/421)
عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " الْبَقَرَة: 119 " وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " الْأَحْزَاب: 46 وَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَقَالَ: يَا عَلِيُّ، أَيُّ أحلامٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِهَا يَكُفُّ اللَّهُ بَأْسَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟!
تعليقات على الْخَبَر
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول أَبِي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من لهازمها، اللهازم: نواحي الْعُنُق وجوانبه، قَالَ الراجز:
يَا خاز باز أرسل اللهازما
وَقَوله: من صفا الثغرة: الصَّفَا الْحجر الأملس وَمِنْه " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ " الْبَقَرَة: 158 قَالَ جرير:(1/422)
هَبّتْ شَمَالا فذِكْرَى مَا ذَكَرْتُكُمُ ... إِلَى الصَّفَاةِ الَّتِي شَرْقِيَّ حَوْرَانَا
وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْب:
حَتَّى كَأَنِّي للحوادث صَخْرَة ... بصفا المشقر كل يومٍ تقرع
ويروى بقفا المشقر، ويروى الْمشرق؛ وَذكرت أبياتًا عَن لي فِي بَعْضهَا ذكر الصَّفَا وقرعها وَهِي:
حَلَفت يَمِينا برة وشفعتها ... فَهَل أَنْت مني باليمينين قَانِع
فَمَا نازعت نَفسِي إِلَى مَا كرهته ... وَلَا خلتها يَوْمًا إِلَيْهِ تنَازع
وَلَا حل من قلبِي هَوَاك محلّة ... من النَّاس مِمَّن أصطفي وأشايع
لقد قرع الواشي بِأَهْوَن سَعْيه ... صفاة قَدِيما أخطأتها القوارع
فأزعجني فِي ضعفه وَهُوَ سَاكن ... وشرد عَن عَيْني الْكرَى وَهُوَ هاجع
وَأما الثغرة فَهِيَ اللبة، قَالَ عنترة:
مَا زلتُ أرْميهم بثُغْرةِ نَحْره ... ولِبَانِهِ حَتَّى تسربل بِالدَّمِ
وَرُوِيَ ثغرة وَجهه. وَقَالَ ثَابت: الثغرة: الهزمة الَّتِي بَين الترقوتين. وَقَوله: الهضبة: الدفعة من الْمَطَر تجمع هضبًا، قَالَ ذُو الرمة:
فَبَاتَ يشئزه ثأد ويسهره ... تذوب الرّيح والوسواس والهضب
وَأما قَول هاني بْن قبيصَة: وَله فِي الرَّأْي الوله: الْحيرَة القلق، وَلَعَلَّه قَالَ: وَهل، فَمن هَا هُنَا اشْتبهَ. والوهل: الْخَطَأ والغلط والزلل.
وَأما قَول الْمثنى بْن حَارِثَة: فَإنَّا نزلنَا بَين صيرين فَإِن الصير: الْجَانِب والناحية وَالْحَد. قَالَ زُهَيْر:
وَقد كنتُ من سلمى سنينَ ثَمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ مَا يمر وَلَا يحلو
شاهك يَا أَبَا مُسلم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كنت أطلب الْعلم فر آتِي مَوْضِعًا إِلا وَجَدْتُ أَبَا مسلمٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَأَلِفَنِي فَدَعَانِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَدَعَا بِمَا حَضَرَ فَأَكَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ لَعِبُكَ بِالشِّطْرَنْجِ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي لاعِبٌ بِهَا، فَدَعَا بِشِطْرَنْجِهِ، فَتَنَاوَلْتُ السَّوَادَ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَتَنَاوَلَهَا مِنْ بَين يَدي وَأَعْطَانِي الْبيَاض، فأشفت شَاهُهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَدَاخَلَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَاغْتَمَمْتُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: الْعَبْ فَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ، فَخَلَّصَ شَاهَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ:
ذَرُونِي ذَرُونِي مَا قَدَرْتُ فَإِنَّنِي ... مَتَّى مَا أُهِجْ حَرْبًا تَضِقْ بِكُمْ أَرْضِي
وَأَبْعَثُ فِي سُودِ الْحَدِيدِ إِلَيْكُمْ ... كَتَائِبَ سُودًا طَالَمَا انْتَظَرَتْ نَهْضِي
قَالَ: فَكُنْتُ أُلاعِبُهُ وَيَلْهُو بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ حَتَّى بَلَغَنِي خُرُوجَهُ.(1/423)
وُجُوه الْإِعْرَاب فِي وأبعث
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج وأبعث فِيهِ من جِهَة الْأَعْرَاب ثَلَاثَة أوجه: الْجَزْم على الْعَطف إِلَّا أَنه لَا يسْتَعْمل فِي هَذَا الْموضع لإِقَامَة وزن الْبَيْت، وَالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف، وَالنّصب بإضمار أَن وَالتَّقْدِير: يكون مني هيج فأبعث، فَلَا يعْطف أبْعث على هيج لِأَن هيج مصدر وأبعث فعل فتقدر أَن إِذْ هِيَ وَالْفِعْل مصدر، فَيصح حِينَئِذٍ عطف الثَّانِي على الأول لِأَنَّهُ عطف اسمٍ على اسمٍ، ويسمي الْكُوفِيُّونَ هَذَا الْوَجْه الصّرْف لِأَنَّهُ صرف عَن الْجَزْم؛ وَقد جَاءَ هَذَا كثيرا فِي الْقُرْآن وَالشعر؛ قَالَ الله تَعَالَى: " إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " مُحَمَّد: 7 فَجزم الثَّانِي على الْعَطف. قَالَ تَعَالَى: " وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ من يَشَاء " الْبَقَرَة: 284 فقرىء فَيغْفر ويعذب جزما ورفعًا ونصبًا، وَقَرَأَ القرأة: " أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ " الشورى: 34، 35 بِالرَّفْع وَالنّصب فِي يعلم. وقرىء: " وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " آل عمرَان:142 على النصب والجزم. وَقَوْلهمْ لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن بِالنّصب إِذْ أُرِيد بِهِ النَّهْي عَن الْجمع بَينهمَا دون الْإِفْرَاد، وَإِن أُرِيد النَّهْي عَن كل واحدٍ مِنْهُمَا فالجزم هُوَ الْكَلَام. وَقد أَتَى كثير من هَذَا فِي الشّعْر، قَالَ الشَّاعِر:
فَإِن لم أصدق ظنكم بتيقن ... فَلَا سقت الأوصال مني الرواعد
وَيعلم أكفائي من النَّاس أنني ... أَنا الْحَافِظ الحامي الذمار المداود
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَمن يَغْتربْ عَنْ قومه لَا يزلْ يرى ... مصَارِع مظلومٍ مجرًا ومسحبًا
وتدفن مِنْهُ الصَّالِحَات وَإِن يسئ ... يكن مَا أَسَاءَ النَّار فِي رَأس كبكبا
وَقَالَ النَّابِغَة:
فَإِن يهْلك أَبُو قَابُوس يهْلك ... ربيع النَّاس والبلد الْحَرَام
ونمسك بعده بذناب عَيْش ... أجب الظّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام
ويروى بذناب دهر. الْجَزْم فِي نمسك وَالرَّفْع وَالنّصب وُجُوه جَائِزَة، وَجَاز فِي هَذَا الْبَيْت الْجَزْم الَّذِي لَا يجوز فِيمَا أنشدناه، قيل لعلةٍ أَنا ذاكرها إِن شَاءَ الله.
وَأَقُول مستعينًا بِاللَّه: إِن بَيت النَّابِغَة من النَّوْع الَّذِي يُسَمِّيه العروضيون الوافر وَهُوَ أول أَنْوَاعه عِنْد جمهورهم، وَإِذا رُوِيَ بِالرَّفْع وَالنّصب فَلَا زحاف فِيهِ، وَيُسمى سالما لسلامته من الزحاف، وَإِذا رُوِيَ بِالْجَزْمِ سكنت لَام مفاعلتن فَصَارَ مفاعلتن فنقلت إِلَى مفاعيلن وَيُسمى معصوبًا. وَبَيت النَّابِغَة يرْوى على وَجْهَيْن: أجب الظّهْر بِالْإِضَافَة، وَيصرف أجب فيكسر لِإِضَافَتِهِ، ويروى أجب الظّهْر فَيفتح وَهُوَ فِي مَوضِع جرٍ إِذْ هُوَ صفة لعيشٍ أَو دهر لِأَنَّهُ لَا ينْصَرف والتنوين مُقَدّر فِي أَصله. وَمن هَذَا الْبَاب زيد حسن(1/424)
الْوَجْه. قَالَ زُهَيْر:
أَهْوى لَهَا أسفع الْخَدين مطرق ... ريش القوادم لم ينصب لَهُ الشّرك
فالنصب فِي ريش القوادم كالنصب فِي زيد الْحسن الْوَجْه، وَالْحسن الْوَجْه أقوى عِنْد الْبَصرِيين من حسن الْوَجْه وهما عِنْد الْكُوفِيّين سَوَاء. قَالَ الْحَارِث بْن ظَالِم:
فَمَا قومِي بِثَعْلَبَة بْن سعدٍ ... وَلَا بفزارة الشّعْر الرقابا
وَقَالَ عدي بْن زيدٍ:
من وليٍ أَو أخي ثقةٍ ... والبعيد الشاحط الدارا
وَهَذَا بَاب من النَّحْو لَهُ شعب وفروع وَلَا ستقصائه مَوضِع هُوَ أولى بِهِ.
بَين عريب وعلويه حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا الْفضل بْن الْعَبَّاس أَبُو الْفضل الربعِي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى الْهَاشِمِي قَالَ، قَالَ علوِيَّة: أَمرنِي الْمَأْمُون وأصحابي أَن نغدو عَلَيْهِ لنصطبح، فَغَدَوْت فلقيني عَبد اللَّه بْن إِسْمَاعِيل صَاحب المراكب فَقَالَ: يَا أَيهَا الرجل الظَّالِم المعتدي، أما ترحم وَلَا ترق وَلَا تَسْتَحي من عريب، هِيَ هائمة بك وتحتلم عَلَيْك فِي كل لَيْلَة ثَلَاث مَرَّات؟ قَالَ علوِيَّة: وَكَانَت عريب أحسن النَّاس وَجها وأظرف النَّاس وأفكه، وَأحسن غناء مني وَمن صَاحِبي مُخَارق؛ فَقلت لَهُ: مر حَتَّى أجيء مَعَك. فحين دخلت قلت لَهُ: استوثق من الْأَبْوَاب فَإِنِّي أعرف النَّاس بِفُضُول الْحجاب. فَأمر بالأبواب فأغلقت، وَدخلت فَإِذا عريب جالسة على كرْسِي بَين يَديهَا ثَلَاث قدور زجاج، فَلَمَّا رأتني قَامَت إِلَى فعانقتني وقبلتني وأدخلت لسانها فِي فمي، ثُمَّ قَالَت: مَا تشْتَهي تَأْكُل؟ قلت: قدرا من هَذِه الْقُدُور، فأفرغت قدرا مِنْهَا بيني وَبَينهَا فأكلنا ثُمَّ دعت بالنبيذ فصبت رطلا فَشَرِبت نصفه وسقتني نصفه، فَمَا زلنا نشر حَتَّى سكرنا. ثُمَّ قَالَت يَا أَبَا الْحسن، أخرجت البارحة شعر أَبِي الْعَتَاهِيَة فاخترت مِنْهُ شعرًا، وَقلت: مَا هُوَ؟ قَالَت:؟
وَإِنِّي لمشتاق إِلَى ظلّ صَاحب ... يروق ويصفو إِن كدرت عَلَيْهِ
عذيري من الْإِنْسَان لَا إِن جفوته ... صفا لي وَلَا إِن كنت طوع يَدَيْهِ
فصيرناه مَجْلِسنَا، فَقَالَت: بَقِي عَليّ فِيهِ شَيْء فأصلحه، قلت: مَا فِيهِ شَيْء، قَالَت: بلَى فِي مَوضِع كَذَا، فَقلت: أَنْت أعلم، فصححناه جَمِيعًا. ثُمَّ جَاءَ الْحجاب فكسروا الْبَاب واستخرجت فأدخلت على الْمَأْمُون، فَأَقْبَلت أرقص من أقْصَى الصحن وأصفق بيَدي وَأغْنِي الصَّوْت، فَسمع وسمعوا مالم يعرفوه فاستظرفوه. فَقَالَ الْمَأْمُون: أدن يَا عُلْوِيَّهُ، فدنوت فَقَالَ: رد الصَّوْت، فرددته سبع مَرَّات، فَقَالَ: أَنْت الَّذِي تشتاق إِلَى ظلّ صَاحب يروق ويصفوا إِن كدرت عَلَيْهِ؟ فَقلت: نعم، فَقَالَ: خُذ مني الْخلَافَة وَأَعْطِنِي هَذَا الصاحب بدلهَا. وسألني عَن خَبره فَأَخْبَرته فَقَالَ: قاتلها الله فَهِيَ أجل أبزارٍ من أَبَا زير الدُّنْيَا.(1/425)
من الحكم السياسية
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الأزْهَرِ الْبُوشَنْجِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ الطَّبَريّ قَالَ: سَمِعت أَبَا عُبَيْد اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: الْخَلِيفَة لَا يصلحه إِلَّا التَّقْوَى، وَالسُّلْطَان لَا يصلحه إِلَّا الطَّاعَة، والرعية لَا يصلحها إِلَّا الْعدْل، وَأولى النَّاس بِالْعَفو أقدرهم على الْعقُوبَة، وأنقص النَّاس عقلا من ظلم من هُوَ دونه.
فِي وصف الأحمق
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عبيد قَالَ، قَالَ الْهَيْثَم بْن عدي قَالَ وهب بْن مُنَبّه: الأحمق إِذا تكلم فضحه حمقه، وَإِذا سكت فضحه عيه، وَإِذا عمل أفسد وَإِذا ترك أضاع. لَا علمه يُغْنِيه، وَلَا علم غَيره يَنْفَعهُ، تود أمه لَو أَنَّهَا ثكلته، وتود امْرَأَته لَو أَنَّهَا عدمته، ويتمنى جَاره مِنْهُ الْوحدَة، وَتَأْخُذ جليسه مِنْهُ الوحشة؛ وَأنْشد لمسكين الدَّارمِيّ فِي ذَلِك:
اتَّقِ الأحمق أَن تصحبه ... إِنَّمَا الأحمق كَالثَّوْبِ الْخلق
كلما رقعت مِنْهُ جانبًا ... حركته الرّيح وَهنا فانخرق
أَو كصدع فِي زجاج فَاحش ... هَل ترى صدع زجاج يتَّفق
وَإِذا جالسته فِي مجْلِس ... أفسد الْمجْلس مِنْهُ بالخرق
وَإِذا نهنهته كي يرعوي ... زَاد جهلا وَتَمَادَى فِي الْحمق
من جاد بِمَالِه وبنفسه فقد جاد بنفسيه
قَالَ الْمُعَافَى: وحَدثني أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي طَاهِر قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو تَمام حبيب بْن أَوْس الطَّائِي قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن خَالِد الشَّيْبَانِيّ قَالَ، قَالَ يزِيد بن أبي يزِيد الغساني: من جاد بِنَفسِهِ عِنْد اللِّقَاء، وبماله عِنْد الْعَطاء، فقد جاد بنفسيه كليهمَا.
طوق بْن مَالك يستزير العتابي
حَدثنَا عَبد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أَبِي طَاهِر قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دعامة الشَّاعِر قَالَ: كتب طوق بْن مَالك إِلَى العتابي يستزيره ويدعوه إِلَى أَن يصل الْقَرَابَة بَينه وَبَينه، فَرد عَلَيْهِ: إِن قريبك من قرب مِنْك خَيره، وَإِن عمك من عمك نَفعه، وَإِن عشيرتك من أحسن عشرتك، وَإِن أحب النَّاس إِلَيْك أجداهم بِالْمَنْفَعَةِ عَلَيْك، وَلذَلِك أَقُول:
وَلَقَد بلوت النَّاس ثُمَّ سبرتهم ... وخبرت مَا وصلوا من الْأَسْبَاب
فَإِذا الْقَرَابَة لَا تقرب قَاطعا ... وَإِذا الْمَوَدَّة أقرب الْأَنْسَاب
ويدوى أكبر(1/426)
الْمجْلس الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ
خطْبَة لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْن زَكَرِيّا قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي دَاوُدَ عَبدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتَّ عشرَة وَثَمَانمِائَة إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ بِتَلْقِينِ ابْنِهِ أَبِي مَعْمَرٍ إِيَّاهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن سيعدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِذْ يُنَبِّئُنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَخْبَارِكُمْ، أَلا فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُكُمْ بِمَا نَقُولُ لَكُمْ: مَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ. أَسْرَارُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أَرَى أَحَدًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ إِلا مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ أُنَاسًا يقرأون الْقُرْآنَ يُرِيدُونَ بِهِ مَا عِنْدَ النَّاسِ، أَلا فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِقِرَاءَتِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ أَلا وَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْ عَلَيْكُمْ عُمَّالا لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلا ليأكلوا أَمْوَالكُم. وَلَكِن بعثتم لِيَحْجُزُوا بَيْنَكُمْ وَيَقْسِمُوا فِيكُمْ فَيْئَكُمْ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَ أحدٍ مِنْهُمْ مَظْلَمَةٌ فَلْيَقُمْ. فَمَا قَامَ أَحَدٌ غَيْرُ رَجُلٍ واحدٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ عَامِلَكَ ضَرَبَنِي مِائَةَ سوطٍ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ لِمَ ضَرَبَهُ فَاعْتَلَّ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُمْ فَاسْتَقِدْ مِنْهُ، فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْ هَذَا عَلَى عُمَّالِكَ كَبُرَ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ سُنَّةً يَأْخُذُ بِهَا من بعْدك، فَقَالَ عمر: أَن رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ، قُمْ فَاسْتَقْدِ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَوْ فَدَعْنَا إِذَنْ فَلْنُرْضِهِ، قَالَ: دُونَكُمْ فَأَرْضَوْهُ. فافتدوا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ قُلْنَا لعطاء يعين ابْنَ عَجْلانَ: وَكَيْفَ أَقَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ؟ قَالَ: أَقْبَلَ مِنْ مِنًى يَزُورُ الْبَيْتَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَرَضَ لَهُ إِنْسَانٌ، فَكَرِهَ أَنْ يُوطِئَهُ فَضَرَبَهُ بِمِخْصَرَتِهِ، فَلَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ وَصلى قَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ إِنِّي أَقْبَلْتُ مِنْ مِنًى فَعَرَضَ لِي إِنْسَانٌ فَضَرْبُتُه بِمِخْصَرَتِي، فَإِنْ كَانَ فِي النَّاسِ فَلْيَقُمْ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: أَنَا، فَقَالَ لَهُ رَسُول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَقِدْ فَقَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا رَسُولَ اللَّهِ.
تَعْلِيق الْمُؤلف على خطْبَة عمر
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد ضمن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خطبَته هَذِه من الحكم الَّتِي تتقبلها الْعُقُول وَيشْهد بِصِحَّتِهَا الْمَعْقُول مَا فِيهِ أَكثر النَّفْع لمن اسْتمع إِلَيْهِ، وأجرى أمره فِي دينه عَلَيْهِ، وَذكر أَنه يحمل النَّاس فِي مُوَالَاتهمْ ومعاداتهم على مَا أبدوه ويكلهم إِلَى رَبهم عز وَجل فِيمَا أخفوه، ونصح النَّاس
فِي مَا أَمرهم بِهِ من أَن يُرِيدُوا الله تَعَالَى بِتِلَاوَة كِتَابه كَمَا كَانَ السّلف الَّذين نزل الْوَحْي بَينهم، وَأخْبر أَنه سَيَأْتِي من يُرِيد بتلاوته النَّاس وحطام الدُّنْيَا، وَيَأْتِي بالتلاوة للسمعة والرياء، وَذكر مَا لم يكن عِنْد أحد مِمَّن سَمعه رد لَهُ وَلَا مرية(1/427)
فِيهِ من إِنْفَاذه عماله على النَّاس للعدل فيهم وَأَدَاء حُقُوقهم إِلَيْهِم، وَأَنه حكم بِالْقصاصِ مِمَّن جنى مِنْهُم، وبإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وَهَا نَحن فِي زمانٍ الْجور فِيهِ ظَاهر غامر، والظالم قاهر، والمظلوم حائر؛ وَأما تِلَاوَة الْقُرْآن فِي زَمَاننَا فَإِن من يتلوه فِيهِ تقربًا إِلَى ربه واعتبارًا بِهِ، وتفكرًا فِي حكمه، وتدبرًا فِي آيَاته، وتفقهًا فِي دينه، فَإِنَّهُ فِي قلته ومهانته وذلته على حد عَظِيم فِي مَنْزِلَته، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الكبريت الْحمر فِي عزته، وبمنزلة الشامة الْبَيْضَاء فِي الثور الْأسود، إِذا نظر فِي أمره فِي عدد أَهله، ومعظم من يتلوه فِي وقتنا إِمَّا مباهٍ لأمثاله مفاخر، أَو مبارٍ لأشكاله مُكَاثِر، أَو مستميحًا للحطام والسحت الْحَرَام من ذَوي الْبَغي والضلالة، وَاللَّهْو والبطالة، بالتغني لَهُم بِهِ على الْوَجْه الَّذِي زجر الله تَعَالَى عَنْهُ وَرَسُوله من ألحان اللاهين وترجيع اللعابين، قد جعل ذَلِك لَهُ طعمه واتخذه لنَفسِهِ معيشة، وَدرت عَلَيْهِ الهبات، والعطايا والصلات، من المغرورين، المسحورين مِنْهُم والمفتونين، المطبوع على قُلُوبهم، وتعلقوا عِنْد الْعَامَّة بادعاء التَّأْوِيل فِي الْخَبَر الْوَارِد عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ، وَبِقَوْلِهِ: لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، فَحَمَلُوهُ على غير وَجهه ووجهوه إِلَى خلاف مَا قصد لَهُ بِهِ، فَكَانُوا فِي تلاوتهم لِلْقُرْآنِ من الَّذين ذكر النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهم يتعجلونه وَلَا يتأجلونه، وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل فِي مَا يتأولونه.
وَقد أَتَيْنَا من الْكَلَام فِي هَذَا الْمَعْنى بِمَا ينْتَفع بِهِ النَّاظر فِيهِ، إِذا وقف على مَعَانِيه، ناصحًا لنَفسِهِ، مشفقًا من خشيَة ربه، فِي كتَابنَا الْمُسَمّى: التَّذْكِير والتحذير وَفِي بعض مَا مضى من مجَالِس كتَابنَا هَذَا وَفِي غَيرهمَا.
تعال فاستقد
وَمِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْقَصَاصِ الَّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ فِي خُطْبَتِهِ مَا حَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبي حبيب بن بُكَيْرِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ مُسَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ شَيْئًا إِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَطَعَنَهُ بِعُرْجُونٍ كَانَ فِي يَدِهِ، فَصَاحَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاسْتَقِدْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ، وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَانِ السُّوءِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفَرُّ وَالْمَلْجَأُ، وَغَوْثُهُ الْمَأْمُولُ الْمُرْتَجَى، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
اضْرِب ضربا تقوى عَلَيْهِ
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد الْأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ: ضرب رجل من ذَوي السُّلْطَان رجلا فأوجعه فَقَالَ لَهُ: أصلحك الله اضربني ضربا تقوى عَلَيْهِ فَإِن الْقصاص أمامك.(1/428)
الأشتر وجيداء
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن مُوسَى الْقرشِي ابْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن صَالح الحسني قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن نمير بْن قحيف الْهِلَالِي قَالَ: كَانَ فِي بني هِلَال فَتى يُقَال لَهُ بشر وَيعرف بالأشتر، وَكَانَ سيدًا حسن الْوَجْه شَدِيد الْقلب سخي النَّفس، وَكَانَ معجبًا بِجَارِيَة من قومه تسمى جيداء، وَكَانَت الْجَارِيَة بارعة الْجمال، فاشتهر أمره وأمرها، وَوَقع الشَّرّ بَينه وَبَين أَهلهَا حَتَّى قتلت بَينهم الْقَتْلَى وَكَثُرت الْجِرَاحَات، ثُمَّ افْتَرَقُوا واصطلحوا على أَلا ينزل أحد مِنْهُم بِقرب الآخر، قَالَ نمير بْن قحيف: فَلَمَّا طَال على الأشتر الْبلَاء والهجر جَاءَنِي فِي ذَات يَوْم فَقَالَ: يَا نمير، هَل فِيك من خير؟ قلت: عِنْدِي كل مَا أَحْبَبْت، قَالَ: أسعدني على زِيَارَة جيداء، فقد ذهب الشوق إِلَيْهَا بروحي وتنغصت عَليّ حَياتِي، قلت: بالحب والكرامة، فانهض إِذا شِئْت؛ فَركب وركبتُ مَعَه. فسرنا يَوْمنَا وليلتنا والغد، حَتَّى إِذا أَن قريب من مغرب الشَّمْس نَظرنَا إِلَى مَنَازِلهمْ ودخلنا شعبًا خفِيا فأنخنا راحلتينا وجلين، فَجَلَسَ عِنْد الراحلتين وَقَالَ: يَا نمير اذْهَبْ بِأبي أَنْت وَأمي فَأدْخل الْحَيّ، وَاذْكُر لمن لقيك أَنَّك طَالب ضالةٍ، وَلَا تعرضن بذكري بينب شفةٍ ولسان، فَإِن لقِيت جاريتها فُلَانَة الراعية فأقرها مني السَّلَام، وسلها عَن الْخَبَر وأعلمها بمكاني. فَخرجت لَا أعذر فِي أَمْرِي حَتَّى لقِيت الْجَارِيَة فأبلغتها الرسَالَة وأعلمتها بمكانه وسألتها عَن الْخَبَر، فَقَالَت: هِيَ وَالله مشدد عَلَيْهَا متحفظ مِنْهَا، وعَلى ذَلِك فموعد كَمَا اللَّيْلَة عِنْد تِلْكَ الشجرات اللواتي عِنْد أعقاب الْبيُوت، فَانْصَرَفت إِلَى صَاحِبي فَأَخْبَرته الْخَبَر، ثُمَّ نهضنا نقود راحلتينا حَتَّى جِئْنَا الْموعد، فَلم نَلْبَث إِلَّا قَلِيلا إِذا جيداء قد جَاءَت تمشي حَتَّى دنت منا، فَوَثَبَ إِلَيْهَا الأشتر فصافحها وَسلم عَلَيْهَا وَقمت موليا عَنْهُمَا، فَقَالَا: إِنَّا نقسم عَلَيْك إِلَّا مَا رجعت، فو الله مَا بَيْننَا رِيبَة وَلَا قَبِيح نخلو بِهِ دُونك، فَانْصَرَفت رَاجعا إِلَيْهِمَا حَتَّى جَلَست مَعَهُمَا، فتحدثا سَاعَة، ثُمَّ أَرَادَت الِانْصِرَاف فَقَالَ لَهَا الأشتر: أما فِيك حِيلَة يَا جيداء، فنتحدث ليلتنا ويشكو بَعْضنَا إِلَى بعض؟ قَالَت: وَالله مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل إِلَّا أَن نعود إِلَى الشَّرّ الَّذِي تعلم، قَالَ لَهَا الأشتر: لَا بُد من ذَلِك وَلَو وَقعت السَّمَاء على الأَرْض، قَالَت: هَل فِي صديقك هَذَا من خير أَو مَعَه مساعدة لنا؟ قَالَ: الْخَيْر كُله، قَالَت: يَا فَتى هَل فِيك من خير؟ قلت: سَلِي مَا بدا لَك فَإِنِّي منتهٍ إِلَى رَأْيك وَلَو كَانَ فِي ذَلِك ذهَاب روحي، فَقَامَتْ فنزعت ثِيَابهَا فجعلتها على فلبستها، ثُمَّ قَالَت: انْزعْ ثِيَابك، فخلعتها فلبستها ثُمَّ قَالَت: اذْهَبْ إِلَى بَيْتِي فَادْخُلْ إِلَى خبائي فَإِن زَوجي سيأتيك بعد سَاعَة أَو ساعتين فيطلب إِلَى بَيْتِي فَادْخُلْ إِلَى خبائي فَإِن زَوجي سيأتيك بعد سَاعَة أَو ساعتين فيطلب مِنْك الْقدح ليحلب فِيهِ الْإِبِل فَلَا تعطه إِيَّاه حَتَّى يُطِيل طلبه ثُمَّ ارمه بِهِ رميًا وَلَا تعطه إِيَّاه من يدك فَإِنِّي كَذَلِك كنت أفعل بِهِ، فَيذْهب فيحلب، ثُمَّ يَأْتِيك عِنْد فَرَاغه من الْحَلب والقدح ملآن لَبَنًا فَيَقُول: هاك غبوقك، فَلَا تَأْخُذ(1/429)
مِنْهُ حَتَّى يُطِيل، نكدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ خُذْهُ أَو دَعه حَتَّى يَضَعهُ، ثُمَّ لست ترَاهُ حَتَّى يصبح إِن شَاءَ الله، قَالَ: فَذَهَبت فَفعلت مَا أَمرتنِي بِهِ حَتَّى إِذا جَاءَ بالقدح الَّذِي فِيهِ اللَّبن أَمرنِي أَن آخذه فَلم آخذه حَتَّى طَال نكدي عَلَيْهِ، ثُمَّ أهويت لأَخذه وأهوى ليضعه وَاخْتلفت يَدي وَيَده، فانكفأ الْقدح واندفق مَا فِيهِ، فَقَالَ: إِن هَذَا طماح مفرط، وَضرب بِيَدِهِ إِلَى مقدم الْبَيْت فاستخرج مِنْهُ سَوْطًا مفتولا كمتن الثعبان المطوق ثُمَّ دخل عَليّ فهتك السّتْر عني وَقبض بشعري ثُمَّ أتبع ذَلِك السَّوْط متني، فضربني تَمام ثَلَاثِينَ، ثُمَّ جَاءَت أمه وأخوته وَأُخْت لَهُ فانتزعوني من يَده، وَلَا وَالله مَا أقلع حَتَّى زايلني روحي وهممت أَن أوجرة السكين وَإِن كَانَ فِيهِ الْمَوْت فَلَمَّا. خَرجُوا عني وَهُوَ مَعَهم شددت ستري وَقَعَدت كَمَا كنت، فَلم ألبث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى إِذا أم جيداء قد دخلت عَليّ تكلمني، فكلمتني وَهِي تحسبني ابْنَتهَا، فأتقيها بالسكات والبكاء، وتغطيت بثوبي دونهَا، فَقَالَت: يَا بنية اتقِي الله رَبك وَلَا تعرضي لمكروه زَوجك، فَذَاك أولى بك، فَأَما الأشتر فَلَا أشتر لَك آخر الدَّهْر. ثُمَّ خرجت من عِنْدِي وَقَالَت: سأرسل إِلَيْك أختك تونسك وتبيت عنْدك اللَّيْلَة، فَلَبثت غير مَا كثير، فَإِذا الْجَارِيَة قد جَاءَت فَجعلت بتكي وَتَدْعُو على من ضَرَبَنِي، وَجعلت لَا أكلمها، ثُمَّ اضطجعت إِلَى جَانِبي، فَلَمَّا اسْتَمْكَنت مِنْهَا شددت بيَدي على فمها وَقلت: يَا هَذِه تِلْكَ أختك مَعَ الأشتر، وَقد قطع ظَهْري اللَّيْلَة فِي سَببهَا، وَأَنت أولى بالستر عَلَيْهَا، فاختاري لنَفسك وَلها، فو الله لَئِن تَكَلَّمت
بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شَامِلَة. ثُمَّ رفعت يَدي عَنْهَا فاهتزت الْجَارِيَة كَمَا تهتز القصبة من الزَّرْع، ثُمَّ بَات معي مِنْهَا أَمْلَح رَفِيق رافقته وأعفه وَأحسنه حَدِيثا فَلم تزل تَتَحَدَّث وتضحك مني وَمِمَّا بليت بِهِ من الضَّرْب حَتَّى برق النُّور وَإِذا جيداء قد دخلت علينا من آخر الْبَيْت، فَلَمَّا رأتنا ارتاعت وفزعت وَقَالَت: وَيلك من هَذَا عنْدك؟ قلت: أختك، قَالَت: وَمَا السَّبَب؟ قلت: هِيَ تخبرك، ولعمر الله إِنَّهَا لعالمة بِمَا نزل بِي، وَأخذت ثِيَابِي مِنْهَا ومضيت إِلَى صَاحِبي فَرَكبْنَا وَنحن خائفان فَلَمَّا أطمأننا حدثته بِمَا أصابني وكشفت عَن ظَهْري فَإِذا فِيهِ مَا غرس الله من ضربةٍ إِلَى جَانب أُخْرَى، كل ضَرْبَة تخرج الدَّم وَحدهَا، فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: لقد عظمت صنيعتك وَوَجَب شكرك إِذْ خاطرت بِنَفْسِك فبلغني الله مكافأتك. بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شَامِلَة. ثُمَّ رفعت يَدي عَنْهَا فاهتزت الْجَارِيَة كَمَا تهتز القصبة من الزَّرْع، ثُمَّ بَات معي مِنْهَا أَمْلَح رَفِيق رافقته وأعفه وَأحسنه حَدِيثا فَلم تزل تَتَحَدَّث وتضحك مني وَمِمَّا بليت بِهِ من الضَّرْب حَتَّى برق النُّور وَإِذا جيداء قد دخلت علينا من آخر الْبَيْت، فَلَمَّا رأتنا ارتاعت وفزعت وَقَالَت: وَيلك من هَذَا عنْدك؟ قلت: أختك، قَالَت: وَمَا السَّبَب؟ قلت: هِيَ تخبرك، ولعمر الله إِنَّهَا لعالمة بِمَا نزل بِي، وَأخذت ثِيَابِي مِنْهَا ومضيت إِلَى صَاحِبي فَرَكبْنَا وَنحن خائفان فَلَمَّا أطمأننا حدثته بِمَا أصابني وكشفت عَن ظَهْري فَإِذا فِيهِ مَا غرس الله من ضربةٍ إِلَى جَانب أُخْرَى، كل ضَرْبَة تخرج الدَّم وَحدهَا، فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: لقد عظمت صنيعتك وَوَجَب شكرك إِذْ خاطرت بِنَفْسِك فبلغني الله مكافأتك.
قَالَ الكوكبي وحَدثني أَحْمَد بْن جَعْفَر الْمُسْتَمْلِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يُونُس مُحَمَّد بْن نعيم الْوراق حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن صَالح مثله سَوَاء.
هَذَا فزدي أَنه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْحَارِث قَالَ، قَالَ أَبُو عبد الله ابْن الْأَعرَابِي: كَانَ حَاتِم الطَّائِي أَسِيرًا فِي عنزة فَقَالَت لَهُ امْرَأَة مِنْهُم يَوْمًا: قُم فافصد لنا هَذِه النَّاقة، وَكَانَ الفصد عِنْدهم أَن يقطع عرق من عروق النَّاقة ثُمَّ يجمع الدَّم(1/430)
فيشوى، فَقَامَ حَاتِم إِلَى النَّاقة فنحرها فلطمته الْمَرْأَة، فَقَالَ حَاتِم: لَو غير ذَات سوارٍ لطمتني. فَذهب قَوْله مثلا. وَقَالَت لَهُ النسْوَة: إِنَّمَا قُلْنَا لَهُ افصدها، فَقَالَ: هَكَذَا فصدي أَنه. قَالَ أَبُو بكر: يُرِيد أَنا وَهِي لُغَة طَيء.
اللُّغَات فِي أَنا
قَالَ أَبُو بكر وَبِغير هَذَا الْإِسْنَاد: فِي أَنا أَربع لُغَات: أَنا قَائِم بِإِثْبَات الْألف فِي الْوَصْل، وَأَنا قَائِم بِإِسْقَاط الْألف فِي الْوَصْل، وَأَنا قَائِم بِإِثْبَات الآلن فِي الْوَصْل. وَأَنه بِإِدْخَال هَاء السكت، وَالرَّابِعَة أَخْبَرَنَا بهَا أَبُو الْعَبَّاس عَن بعض النَّحْوِيين عَن الْعَرَب أَن قَائِم بِإِسْكَان النُّون، يُرَاد بهَا أَنا قَائِم، قَالَ الشَّاعِر:
أنَا شَيْخ العَشِيرةِ فاعْرِفُونِي ... حميدا قد تذريت السناما
فنصب حميدا على الْمَدْح؛ وتذريت مَعْنَاهُ ارْتَفَعت إِلَى ذرْوَة الْحسب، وَذكر السنام مثلا.
تعليقات وتوضيحات
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة فِيمَا ذكر يشوون الدَّم مخلوطًا بالوبر ويأكلونه ويسمونه العلهز. وَلما قَالَ حَاتِم: لَو غير ذَات سوارٍ لطمتني فأرسلها مثلا صَارَت كلمة يَقُولهَا الْقَائِل عِنْد عَدو الدَّقِيق الْحسب على من هُوَ فَوْقه، وَحين يهتضم الرفيع ذَا الْقدر من هُوَ دونه. ويروى أَن حاتمًا قَالَ فِي هَذَا الْخَبَر: هَكَذَا فزدي أَنه، وإشمام الصَّاد الساكنة الزَّاي إِذا ولتيها الدَّال لُغَة للْعَرَب مَعْرُوفَة جَيِّدَة قد قَرَأَ بهَا فِي الْقُرْآن عدد من القرأة كَقَوْلِه: يصدفون، ويصدر النَّاس، ويصدر الرعاء. وَالَّذِي رَوَاهُ لنا أَبُو بكر ابْن الْأَنْبَارِي من اللُّغَات فِي أَنا كَمَا رُوِيَ، وَقد قَرَأَهُ بِإِثْبَات الْألف فِي الْوَصْل وَالْوَقْف بعض قرأة الْمَدِينَة فِي مَوَاضِع عدَّة. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا نَافِع بْن عبد الرَّحْمَن.
خَالِد بْن صَفْوَان يرد على مفاخر اليمنية
حَدثنَا أبحمد بنب الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سعدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جعفرٍ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن يَعْقُوب بْن دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بْن عديٍ قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس يُعجبهُ السمر ومنازعة الرِّجَال، فحضره ذَات ليلةٍ فِي سمره إِبْرَاهِيم بْن مخرمَة الْكِنْدِيّ وناس من بني الْحَارِث بْن كَعْب، وهم أَخْوَاله، وخَالِد بْن صَفْوَان بْن إِبْرَاهِيم التَّمِيمِي فخاضوا فِي الحَدِيث وتذاكروا مُضر واليمن، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْيمن هم الْعَرَب الَّذين دَانَتْ لَهُم الدُّنْيَا، وَكَانَت لَهُم الْقرى، وَلم يزَالُوا ملوكًا أَرْبَابًا، ورثوا ذَلِك كَابِرًا عَن كابرٍ وأولا عَن آخر، مِنْهُم النعمانيات والمنذريات والقابوسيات والتبابعة، وَمِنْهُم من حمت لَحْمه الدبر، وَمِنْهُم غسيل الْمَلَائِكَة، وَمِنْهُم من اهتز لمَوْته الْعَرْش، وَمِنْهُم مُكَلم الذِّئْب، وَمِنْهُم الَّذِي كَانَ يَأْخُذ كل سفينة غصبا، وَلَيْسَ شَيْء لَهُ خطر إِلَّا وإليهم ينْسب: من فرس رائع، أَو سيفٍ قَاطع، أَو درعٍ حصينةٍ، أَو حلةٍ مصونةٍ، أَو درةٍ مكنونةٍ،(1/431)
إِن سئلوا أعْطوا، وَإِن سيموا أَبَوا، وَإِن نزل بهم ضيف قروا، لَا يبلغهم مُكَاثِر، وَلَا ينالهم مفاخر، هم الْعَرَب العاربة وَغَيرهم المتعربة. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَا أَظن التَّمِيمِي يرضى بِقَوْلِك، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقول يَا خَالِد؟ قَالَ: إِن أَنْت أَذِنت لي فِي الْكَلَام وأمنتني من الموجدة تَكَلَّمت، قَالَ: قد أَذِنت لَك فَتكلم وَلَا تهب أحدا، فَقَالَ: أَخطَأ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ المتقحم بِغَيْر علمٍ، ونطق بِغَيْر صَوَاب، فَكيف يكون مَا قَالَ؟ الْقَوْم لَيست لَهُم ألسن فصيحة، وَلَا لُغَة صَحِيحَة، وَلَا حجَّة نزل بهَا كتاب، وَلَا جَاءَت بهَا سنة، وهم منا على منزلتين: إِن جاروا عَن قصدنا أكلُوا، وَإِن جازوا حكمنَا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات والمنذريات وَغير ذَلِك مِمَّا سنأتي عَلَيْهِ، ونفخر عَلَيْهِم بِخَير الْأَنَام، وَأكْرم الْكِرَام، مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام، وَللَّه عز جلّ علينا الْمِنَّة بِهِ وَعَلَيْهِم، لقد كَانُوا أَتْبَاعه فبه عزوا وَله أكْرمُوا، فمنا النَّبِي المصطفي، وَمنا الْخَلِيفَة المرتضى، وَلنَا الْبَيْت الْمَعْمُور والمسعى وزمزم وَالْمقَام والمنبر والركن والحطيم والمشاعر والحجابة والبطحاء، مَعَ مَالا يخفى من المآثر، وَلَا يدْرك من المفاخر، وَلَيْسَ يعدل بِنَا عَادل، وَلَا يبلغ فضلنَا قَول قَائِل. وَمنا الصّديق والفاروق وَالْوَصِيّ وَأسد الله سيد الشُّهَدَاء، وَذُو الجناحين وَسيف الله، عرفُوا الدَّين وأتاهم الْيَقِين، فتمن زاحمنا زحمناه، وَمن عَادَانَا اصطلمناه. ثُمَّ الْتفت فَقَالَ: أعالم أَنْت بلغَة قَوْمك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَمَا اسْم الْعين؟ قَالَ: الجحمة قَالَ: فَمَا اسْم السن؟ قَالَ: الميزم. قَالَ: فَمَا اسْم الْأذن؟ قَالَ: الصنارة، قَالَ: فَمَا اسْم الْأَصَابِع؟ قَالَ الشناتر، قَالَ: فَمَا اسْم الْأذن؟ قَالَ: الزب، قَالَ: فَمَا اسْم الذِّئْب؟ قَالَ: الكتع، قَالَ فَقَالَ لَهُ: أفمؤمن أَنْت بِكِتَاب الله تَعَالَى؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " يُوسُف: 2 وَقَالَ: " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " الشُّعَرَاء:195 وَقَالَ: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ " إِبْرَاهِيم:4 فَنحْن الْعَرَب وَالْقُرْآن بلساننا نزل؛ ألم تَرَ أَن الله عز وَجل قَالَ: " وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ " الْمَائِدَة:45 وَلم يقل: الجحمة بالجحمة. وَقَالَ: " وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ " الْمَائِدَة: 45 وَلم يقلك الميزم بالميزم وَقَالَ جلّ اسْمه " وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ " الْمَائِدَة:45 وَلم يقل الصنارة بالصنارة. وَقَالَ: " يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ " الْبَقَرَة:19 وَلم يقل شناترهم فِي صناراتهم وَقَالَ تَعَالَى: " لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي " طه: 94 وَلم يقل لَا تَأْخُذ بزبي. وَقَالَ: " فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ " يُوسُف: 17 وَلم يقل فَأَكله الكتع. ثُمَّ قَالَ: أَسأَلك عَن أَربع إِن أَنْت أَقرَرت بِهن قهرت وَإِن جحدتهن كفرت. قَالَ: وَمَا هن؟ قَالَ: الرَّسُول منا أَو مِنْكُم؟ قَالَ: مِنْكُم، قَالَ: وَالْقُرْآن نزل علينا أَو عَلَيْكُم؟ قَالَ: عَلَيْكُم، قَالَ: فالبيت الْحَرَام لنا أَبُو لكم؟ قَالَ: لكم، قَالَ: فالخلافة فِينَا أَو فِيكُم؟ قَالَ فِيكُم. قَالَ خَالِد فَمَا كَانَ بعد هَذِه الْأَرْبَع فلكم.(1/432)
الْمجْلس التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ
رَائِحَة عتبَة بْن فرقد
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى الْحُلْوَانِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبَّادٍ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَاصِمٍ امْرَأَةُ عُتْبَةَ بْنِ فرقدٍ قَالَتْ: كُنَّا عِنْدَ عُتْبَةَ نِسْوَةً نَتَطَيَّبُ فَيَخْرُجُ وَهُوَ أَطْيَبُنَا رِيحًا، مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَدَّهِنَ، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: أَخَذَنِي الشَّرَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَلْبَسَ عَلَيَّ ثَوْبًا، قَالَ: يَعْنِي يُغَطِّي فَرْجَهُ، ثُمَّ تَفَلَ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرِي وَبَطْنِي.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَهَذَا مِمَّا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ فَضَائِلِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَآيَاتِهِ وَخَصَائِصِهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو إِذْ هَدَانَا إِلَى الإِيمَانِ بِهِ أَنْ نَصِلَ إِلَى شَرِيفِ الْمَنْزِلَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ بِبَرَكَتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ.
بَين مُعَاوِيَة وَابْن الزبير
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ حبيبٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: آدِنِي عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَدْ تَزَايَدَ خَطَلُهُ، وَذَهَبَ بِهِ جَهْلُهُ إِلَى غايةٍ تَقْصُرُ عَنْهَا الأَنْوُقُ، وَدُونَ قَرَارِهَا الْعَيُّوقُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَأْتِينِي يَغْلِي جَوْفُهُ غَلْيَ الْمِرْجَلِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَاكَ عَنْ فرارٍ مِنْهُ وَلا جبنٍ عَنْهُ، وَلَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي لَسْتُ بِالْفَهِّ الْكَهَامِ وَلا بِالْهِلْبَاجَةِ النَّثِرِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِنَّكَ لَتُهَدِّدُنِي وَقَدْ عَجَزْتَ عَنْ غلامٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يُبِرْ فِي سباقٍ وَلا ضَرَبَ فِي سِيَاقٍ، وَإِنْ شِئْتَ خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا مِثْلِي يُهَارَشُ بِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَكَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ وَمِنْ سَاكِنِي الْحَجُونِ وَالآطَامِ مَنْ إِنْ سَأَلْتَ حَمَلَكَ عَلَى محجةٍ أَبْيَنَ مِنْ ظَهْرِ الْجَفِيرِ، قَالَ: وَمَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: هَذَا، يَعْنِي أَبَا الْجَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمْ يَا أَبَا الْجَهْمِ. فَقَالَ: أَعْفِنِي، قَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَقُولَنَّ، قَالَ: نِعْمَ أُمُّكَ هِنْدٌ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بكرٍ، وَأَسْمَاءُ خَيْرٌ مِنْ هِنْدٍ، وَأَبُوكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ أَبُو سُفْيَانَ مِثْلَ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَكَ وَأَمَّا الآخِرَةُ فَلَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
شرح النَّص السَّابِق
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول ابْن الزُّبَيْر لمعاوية: آدني على الْوَلِيد مَعْنَاهُ أعدني، وَزعم بَعضهم أَن فلَانا يستأدي على فلَان أفْصح من يَسْتَعْدِي، وهما عِنْدِي سَوَاء. وَقد رُوِيَ أَن رجلا قَالَ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعدني على رجل من أَصْحَابك، وَقَوله: يقصر عَنْهَا الأنوق، يَعْنِي الرخم وَهُوَ يرتاد لبيضه شوامخ الْجبَال وَحَيْثُ يبعد متناوله وَيخْفى مَكَانَهُ، فَلَا يكَاد إِنْسَان يجده أَو يصل إِلَيْهِ، وَالْعرب تضرب الْمثل فِي من طلب مَا يعز وجوده ويتعذر إِدْرَاكه ونيله فَيَقُولُونَ:(1/433)
إِنَّه يطْلب بيض الأنوق. وَقد رُوِيَ لنا أَن رجلا سَأَلَ مُعَاوِيَة حَاجَة معتاصة مستثقلة فَرده عَنْهَا، فَسَأَلَهُ حَاجَة هِيَ أيسر مِنْهَا إِلَّا أَن فِيهَا استصعابًا، فَقَالَ مُعَاوِيَة:
طلب الأبلق العقوق فَلَمَّا ... لم ينله أَرَادَ بيض الأنوق
والأبلق: الْفرس، والعقوق: ذَات الْحمل، وَذَلِكَ فِي الذّكر مُسْتَحِيل. وبيض الأنوق مَا فسرنا؛ فَلَمَّا طلب هَذَا الرجل أمرا مستبعدًا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، ثُمَّ طلب مَا ينَال على صعوبةٍ لما منع مَا لَا مطمع لَهُ فِيهِ، ضرب مُعَاوِيَة هَذَا الْبَيْت مثلا لَهُ. وَهَذَا من الْمِثَال الْقَرِيب والتشبيه الْمُصِيب. وَأما العيوق فنجم عالٍ مَعْرُوف. وَأما قَوْله: لست بالفه: فَمَعْنَى الفهاهة فِي الْكَلَام مَا يَأْتِي على غير استقامةٍ، وَيُقَال: أَتَى فلَان فِي قَوْله بفهةٍ، أَي بقولٍ ساقطٍ فِي لَفظه وَمَعْنَاهُ. وَأما الكهام فالكليل، يُقَال: سيف كهام إِذا كَانَ نابيًا كليلا. وَأما الهلباجة فالأحمق. وَأما النثر فذو الرَّأْي السخيف واللب الضَّعِيف. كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذولب نثر
وَأما قَول مُعَاوِيَة: لم يبر فِي سباق: أَي لم يسْبق مجاريًا فيفضله وَيظْهر غلبته إِيَّاه، يُقَال: أبر فلَان على فلانٍ إِذا غَلبه وَزَاد فِي الْفضل عَلَيْهِ، يبر إبرارًا فَهُوَ مبر، كَمَا قَالَ ذُو الرمة يمدح بِلَال بْن أَبِي بردة:
أبر على الْخُصُوم فَلَيْسَ خصم ... وَلَا خصمان يغلبه جدالا
وَلبس بَين أقوامٍ فَكل ... أعد لَهُ الشغازب والمحالا
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: الشغازب: جمع شغزبةٍ وَأَصله أَن يدْخل الرجل رجله بَين رجْلي الرجل فيصرعه، يُقَال: صرعه شغزبية. والمحال الكيد وَالْمَكْر، من قَول الله تَعَالَى: " وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ " الرَّعْد:13 وَأما قَوْله: وَلَا ضرب فِي سِيَاق فَمَعْنَاه أَنه لم يرض فيحتنك وَلم يُؤْخَذ بالتثقيف ولذع التَّأْدِيب فتستحكم عزيمته وتستحصد مرته. وَأما قَول ابْن الزُّبَيْر: " من سَاكِني الْحجُون والآطام ": فَإِن الْحجُون مَوضِع بِمَكَّة مَعْرُوف وإياه عني الشَّاعِر بقوله:
كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصَّفَا ... أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر
وَقَالَ آخر:
هيجتني إِلَى الْحجُون شجون ... ليته قد بدا لعَيْنِي الْحجُون
وَأما الْآطَام فَإِنَّهَا جمع أَطَم، وَالْعرب تسمي مَا كَانَ من الْبيُوت مربعًا كَعبه، وَمَا كَانَ مدورًا أطمًا. وَأما الجفير فَإِنَّهُ الكنانة، وَجمعه جفر، قَالَ الشماخ:
وَخفت نَوَاهَا من جنوبٍ عنيزةٍ ... كَمَا خف من نبل المرامي جفيرها
وَحكى أَبُو عُبَيْدَة عَن أَبِي عَمْرو: الكنانة جعبة السِّهَام، والكنانة هِيَ الوفضة وَجَمعهَا وفاض؛ الْكسَائي مثله؛ الْأَحْمَر: الجفير والجشير جَمِيعًا الوفضة أَيْضا.(1/434)
ابْن أبي دواد يخرج عينا على المعتصم
حَدثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات قَالَ: كُنَّا لَيْلَة فِي دَار أَبِي الصَّقْر إِسْمَاعِيل بْن بلبل فَوَافى يَعْقُوب بْن إِسْحَاق الصَّائِغ برسالةٍ من أَبِي الْقَاسِم عُبَيْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان فِي حاجةٍ لَهُ، فَجَلَسَ مَعنا إِلَى أَن يُؤذن لَهُ على أَبِي الصَّقْر، فَجرى ذكر أَحْمَد بن أبي دوادٍ فَكل حدث عَنْهُ وَعَن أَيَّامه بِشَيْء. فحدثنا يَعْقُوب بْن الصَّائِغ قَالَ: لما وَجه الْمَأْمُون بِأبي إِسْحَاق المعتصم إِلَى مصر وَعقد لَهُ من بَاب الأنبار إِلَى أقْصَى الْمغرب قَالَ ليحيى بْن أَكْثَم: يَنْبَغِي أَن ترتاد لي رجلا حصيفًا لبيبًا لَهُ علم وَأَمَانَة وثقة أنفذه مَعَ أَبِي إِسْحَاق، وأوليه الْمَظَالِم فِي أَعماله، وأتقدم إِلَيْهِ سرا بمكاتبتي سرا بأخباره وَمَا تجْرِي عَلَيْهِ أُمُوره، وَبِمَا يظْهر ويبطن، وَمَا يرى من أَمر قواده وخاصته، وَكَيف تَدْبيره فِي الْأَمْوَال وَغَيرهَا، فَإِنِّي لست أَثِق بأحدٍ مِمَّن يتَوَلَّى الْبَرِيد، وَمَا أحب أَن أجشمه بتقليد صَاحب الْبَرِيد عَلَيْهِ فَيكون معتمدي عَلَيْهِ وَتَكون كتبه سَرِيَّة إِلَيْك لتقرئني إِيَّاهَا إِذا وَردت، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْدِي رجل من أَصْحَابِي أَثِق بعقله وَدينه ورأيه وأمانته وَصدقه ونزاهته. فَقَالَ: جئني بِهِ فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا، فَصَارَ يحيى بْن أَكْثَم بأَحْمَد بْن أبي دوادٍ إِلَى الْمَأْمُون فِي الْيَوْم الَّذِي حَده لَهُ.
فَكَلمهُ الْمَأْمُون فَوَجَدَهُ فهما راحجاً، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيد إنفاذك مَعَ أخي أَبِي إِسْحَاق، وَأُرِيد أَن تكْتب بأخباره سرا، وتتفقد أَحْوَاله ومجاري أُمُوره وتدبيراته وَخبر خاصته وخلواته، وتنفذ كتبك بذلك إِلَى يحيى بْن أَكْثَم مَعَ ثقاتك وَمن تأمنه على دمك، فَإِنِّي أشهر أَمرك بتقليد الْمَظَالِم فِي عسكره، وأتقدم إِلَيْهِ بمشورتك والأنس بك. فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: أبلغ لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك فَوق مَا قدرته عِنْدِي وَبِي، وأنتهي إِلَى مَا يُرْضِي أَمِير الْمُؤمنِينَ ويزلف عِنْده. فَجمع الْمَأْمُون بَين أَحْمَد بْن أبي دوادٍ وَبَين المعتصم وَقَالَ لَهُ: إِنَّك تشخص فِي هَذَا الْعَسْكَر وَفِيه أوباش النَّاس وجند وعجم وأخلاط من الرّعية، وَلَا بُد لعسكرك من صَاحب مظالم يكون فِيهِ لينْظر فِي أُمُور النَّاس، وَقد اخْتَرْت لَك هَذَا الرجل فضمه إِلَيْك وَأحسن صحبته وعشرته؛ فَأَخذه المعتصم مَعَه، فَلَمَّا بلغُوا الأنبار وافت كتب أَصْحَاب الْبَرِيد بموافاة المعتصم الأنبار، فَقَالَ الْمَأْمُون ليحيى: ترى مَا كَانَ من بَغْدَاد إِلَى الأنبار خبر يكْتب بِهِ صَاحبك إِلَيْك؟ قَالَ فَقَالَ يحيى: لَعَلَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يحدث خبر تحسن الْمُكَاتبَة بِهِ؛ وَكتب يحيى إِلَى أَحْمد يعنفه ويستبطئه ويخبره أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أنكر تَأَخّر كِتَابه. فَلَمَّا ورد الْكتاب على أَحْمَد ووقف على مَا فِيهِ احتفظ بِهِ وَلم يجب عَنْهُ؛ وشخص المعتصم حَتَّى وافي الرحبة وَلم يكْتب أَحْمَد بِحرف واحدٍ من أَخْبَار المعتصم الَّتِي تقدم إِلَيْهِ فِيهَا. وَكتب أَصْحَاب الْبَرِيد بموافاة المعتصم الرحبة وأخبار عسكره، فَدَعَا الْمَأْمُون يحيى بْن أَكْثَم فَقَالَ: يَا أسخن الله عَيْنك، عجبت أَن تخْتَار إِلَّا من(1/435)
هَذِه سَبيله، تخْتَار لي وَيحك رجلا تصفه بِكُل الصِّفَات فأتقدم إِلَيْهِ بِمَا كنت حاضره، فَلَا يكْتب من بَغْدَاد إِلَى أَن يوافى الرحبة إِلَيْك كتابا فِي معنى مَا أعْتَمد عَلَيْهِ فِيهِ:؟! قَالَ: فَكتب يحيى إِلَى أَحْمَد كتابا أغْلظ لَهُ المخاطبة وأسمعه فِيهِ الْمَكْرُوه وَيَقُول لَهُ: إِنَّمَا أشخصناك لما تقدمنا بِهِ إِلَيْك، وَأَنا إِنَّمَا أظهرنَا تقليدك الْمَظَالِم ليتيسر مَا أمرت بِهِ، فَمَا هَذِه الْغَفْلَة وَمَا هَذَا الْجَهْل بِمَا يُرَاد مِنْك؟ فورد الْكتاب على أَحْمَد فقرأه واحتفظ بِهِ، وَسَار المعتصم من الرحبة حَتَّى وافى الرقة، فَدَعَا الْمَأْمُون بِيَحْيَى فَقَالَ لَهُ: يَا سخين الْعين، هَذَا مِقْدَار رَأْيك وعقلك؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون غررتني مُعْتَمدًا، وأوطأتني العشوة قصدا أَولا فتجيئني بِرَجُل تعلم موقعه عنْدك وتطلعني على الْوُقُوف عَلَيْهِ فتصفه وتقرظه حَتَّى أودعته سرا من أسراري وأمرًا أقدمه على كل أموري، فَمضى من مَدِينَة السَّلَام إِلَى ديار مصر فَلم يكْتب يحرفٍ مِمَّا أَمر بِالْكتاب بِهِ؟! فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من يعْمل بِغَيْر مَا يُؤَدِّي إِلَى محبتك ويقود إِلَى إرادتك فأذاقه الله بأسك، وَألبسهُ نكالك، وصب عَلَيْهِ عذابك.
وَكتب إِلَى أَحْمَد كتابا يشْتَمل على كل إيعاد وإرهابٍ وتخويف وتحذير، وخاطبه بأوحش مخاطبةٍ وأنكلها، فورد الْكتاب على أَحْمَد فقرأه واحتفظ بِهِ.
وَأمر الْمَأْمُون عَمْرو بْن مسْعدَة أَن يكْتب إِلَى أَبِي إِسْحَاق المعتصم كتابا يَأْمُرهُ فِيهِ بالبعثه بأَحْمَد بْن أبي دواد مشدودة يَده إِلَى عُنُقه، مُثقلًا بالحديد، مَحْمُولا على غير وطاء. فورد الْكتاب على المعتصم، وَدخل أَحْمد بن أبي دواد إِلَيْهِ وَهُوَ بالرقة مَا جاوزها، فَرَأى المعتصم كئيبًا مغمومًا، فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير أَرَاك متغيرًا وَأرى لونك حَائِلا، فَقَالَ: نعم لكتابٍ ورد عَليّ من أَجلك، ونبذ إِلَيْهِ بِالْكتاب فقرأه أَحْمَد، فَقَالَ لَهُ المعتصم: تعرف لَك ذَنبا يُوجب مَا كتب بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: مَا اجترمت ذَنبا، إِلَّا أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يسْتَحل هَذَا مني إِلَّا بحجةٍ، فَمَا الَّذِي عِنْد الْأَمِير فِيمَا كتب بِهِ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يُخَالف لكني أعفيك من الغل وَالْحَدِيد، أحملك إِلَيْهِ على حَال لَا توهنك وَلَا تؤلمك وأوجه بك مَعَ غلامٍ من غلماني أتقدم إِلَيْهِ فِي ترفيهك وَأَن لَا يعسفك، فَقَالَ: جَزَاك الله أَيهَا الْأَمِير أفضل مَا جازى منعمًا، فَإِن رأى الْأَمِير أَن يَأْذَن لي فِي الْمصير إِلَى منزلي وَمَعِي من يراعيني إِلَى أَن يردني إِلَى مجْلِس الْأَمِير فيأمر بأَمْره فعل، فَقَالَ لَهُ: امْضِ؛ وَوجه مَعَه خَادِمًا من خدمه، فَصَارَ أَحْمَد إِلَى منزله واستخرج الْكتب الثَّلَاثَة الَّتِي كَاتبه بهَا يحيى بْن أَكْثَم وهم بالأنبار، وَالْكتاب الَّذِي ورد وهم بالرحبة، وَالْكتاب الَّذِي ورد وهم بالرقة، وَرجع إِلَى المعتصم فَأَقْرَأهُ الْكتاب الأول ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِث وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بعثت لأكتب بأخبارك وأتفقد أحوالك وأكاتب يحيى بذلك ليقرأه على أَمِير الْمُؤمنِينَ فخالفت ذَلِك لما رجوته من الحظوة عنْدك وَلما أملته فِي غدك. فاستشاط المعتصم غَضبا وَكَاد يخرج من ثِيَابه غيظاً وَتكلم فِي يحيى بِكُل مَكْرُوه وتوعده بِكُل بلاءٍ وَقَالَ: ويلي على(1/436)
البقار البليد السَّرَاوِيل، وَقَالَ لأَحْمَد: يَا هَذَا لقد رعيت لنا رِعَايَة لم يتقدمها إحساننا إِلَيْك وحفظت علينا مَا نرجو أَن نَتَّسِع، لمكافأتك عَلَيْهِ ومعاذ الله أَن أسلمك أَو أفرج عَنْك أَو تنالك يَد ولي قدرَة على منعهَا مِنْك، أَو أوثر خَاصَّة وحميمًا عَلَيْك مَا أمتد بِي عمر أَو تراخي بِي أجل، فَكُن معي فأمرك نَافِذ فِي كل مَا ينفذ فِيهِ أَمْرِي؛ وَلم يجب الْمَأْمُون على كِتَابه، فَلم يزل مَعَه إِلَى أَن ولي الْخلَافَة وَإِلَى أَن ولي الواثق وَإِلَى أَيَّام المتَوَكل، فأوقع بِهِ.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول الْمَأْمُون ليحيى: أوطأتني العشوة يُقَال فِيهَا: العشوة والعشوة. وَقَالَ بعض عُلَمَاء اللُّغَة: الضَّم فِيهَا أفْصح اللُّغَات.
لَا ينقص الْكَامِل نفع عِيَاله
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: رأى رجل مُحَمَّد بْن كناسَة يحمل بِيَدِهِ بطن شاه فَقَالَ لَهُ: أَنا أحملهُ لَك فَقَالَ:
لَا نقص الْكَامِل من كَمَاله ... مَا جر من نفع إِلَى عِيَاله
شعر لعريب
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو العيناء قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن حَامِد قَالَ: لما توفّي عمي مُحَمَّد بْن حَامِد وَهُوَ الَّذِي كَانَت عريب تحبه صَار أَبِي إِلَى منزله لينْظر إِلَى تركته فَأخْرج إِلَيْهِ سفط مختوم، فَإِذا فِيهِ رقاع عريب، فَجعل يتصفحها ويضحك، فَأخذت مِنْهَا رقْعَة فَإِذا فِيهَا شعر لَهَا:
ويلي عَلَيْك ومنكا ... أوقعت فِي الْقلب شكا
زعمت أَنِّي خؤون ... جورا عَليّ وإفكا
وَلم يكن ذَاك مني ... إِلَّا مجونًا وفتكا
إِن كَانَ مَا قلت حَقًا ... أَو كنت حاولت تركا
فأبدل الله قلبِي ... بفتكة الْحبّ نسكا
الرشيد وَلحم الْجَزُور
حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن زِيَاد والمقري قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَة الشَّامي عَن إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي أَنه كَانَ يتغدى مَعَ الرشيد فِي يَوْم شاتٍ، وَأَن الرشيد سَأَلَ صَاحب المطبخ: هَل عِنْده برمة من لحم الْجَزُور؟ فَأعلمهُ أَن عِنْده عدَّة ألوان مِنْهُ، فَأمر بإحضار مَا عِنْده مِنْهُ، فَقدمت إِلَيْهِ صَحْفَة وَمد يَده إِلَى لقْمَة مِنْهَا فَأدْخلهَا فِي فِيهِ، فَلَمَّا حرك لحييْهِ عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ ضحك جَعْفَر بْن يحيى، فَسَأَلَهُ الرشيد عَن سَبَب ضحكه، وَأمْسك عَن المضغ، فَقَالَ: ذكرت كلَاما دَار بيني وَبَين جاريتي البارحة فَضَحكت مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الرشيد: هَذَا محَال، فَأَخْبرنِي عَن السَّبَب بحقي عَلَيْك، فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: إِذا ابتلع أَمِير الْمُؤمنِينَ لقمته حدثته السَّبَب، فَأخْرج لقمته من فِيهِ وَأَلْقَاهَا تَحت(1/437)
الْمَائِدَة، فَلَمَّا فعل ذَلِك قَالَ لَهُ جَعْفَر بكم يتَوَهَّم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَلْقَاهَا تَحت الْمَائِدَة، فَلَمَّا فعل ذَلِك قَالَ لَهُ جَعْفَر: بكم يتَوَهَّم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن هَذَا اللَّوْن يقوم عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ الرشيد: أتوهمه يقوم عَليّ بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: وَالله إِن هَذَا اللَّوْن ليقوم عَلَيْك بِأَرْبَع مائَة ألف دِرْهَم، فَقَالَ: وَكَيف وَيحك؟ فَقَالَ جَعْفَر: سَأَلَ أَمِير الْمُؤمنِينَ صَاحب المطبخ مُنْذُ أَكثر من أَربع سِنِين عَن برمةٍ من لحم الْجَزُور فَأخْبرهُ أَنه لم يتخذها، فَأنْكر ذَلِك على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقَالَ: لَا يفت مطبخي لون يتَّخذ من لحم الْجَزُور فِي كل يَوْم، فَأَنا مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم أنحر جزورًا فِي كل يومٍ لِأَن الْخُلَفَاء لَا يبْتَاع لَهُم لحم الْجَزُور من السُّوق، وَلم يدع أَمِير الْمُؤمنِينَ بشيءٍ من لَحمهَا إِلَى يَوْمه هَذَا. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانَ الرشيد فِي أول طَعَامه وَلم يكن أكل إِلَّا ملهوجة وَاحِدَة، وَكَانَ أَشد خلق الله تقززاً، فَصعِقَ حِين قَالَ لَهُ جَعْفَر مَا قَالَ، وَضرب بِيَدِهِ الْيُمْنَى وفيهَا الْغمر وَجهه وَمد بهَا لحيته ثُمَّ قَالَ: هَلَكت وَيلك يَا هَارُون، واندفع يبكي، وَأمر بِرَفْع الْمَائِدَة وطفق يبكي حَتَّى أُذُنه المؤذنون بِصَلَاة الظّهْر، ألف ألف دِرْهَم وَأَن يفرق فِي كل جَانب من جانبٍ من جَانِبي بَغْدَاد خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم وَأَن يفرق فِي كل مدينةٍ من الْكُوفَة وَالْبَصْرَة خَمْسمِائَة ألف درهمٍ، وَقَالَ: لَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يغْفر لي هَذَا الذَّنب. وَقَامَ يُصَلِّي الظّهْر، ثُمَّ عَاد فِي مَكَانَهُ فَلم يزل باكيًا حَتَّى أُذُنه المؤذنون بِصَلَاة الْعَصْر وَقَامَ فصلى: وَعَاد لمكانه إِلَى أَن قرب مَا بَين صَلَاة الْعَصْر وَالْمغْرب، فَأخْبرهُ الْقَاسِم بن الرّبيع مَوْلَاهُ أَن أَبَاهُ يُوسُف القَاضِي بِالْبَابِ فَأمره بإدخاله، فَدخل وَسلم فَلم يرد عَلَيْهِ وَأَقْبل يَقُول: يَا يَعْقُوب هلك هَارُون، فَسَأَلَهُ يَعْقُوب عَن الْقِصَّة فَقَالَ: يُخْبِرك جَعْفَر بهان وَعَاد لبكائه. وَحضر جَعْفَر فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُف عَن الْقِصَّة فَقَالَ: يُخْبِرك جَعْفَر بهَا، وَعَاد لبكائه. وَحضر جَعْفَر فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُف عَن الْقِصَّة وَالسَّبَب الْمخْرج للرشيد إِلَيّ مَا خرج إِلَيْهِ، فحدثه جَعْفَر عَن الْجَزُور الَّتِي كَانَت تنحر فِي كل يَوْم طول تِلْكَ الْمدَّة ومبلغ مَا أنْفق فِي أثمانها من الْأَمْوَال، فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُف: أَخْبرنِي عَن هَذِه الْإِبِل الَّتِي كَانَت تبْتَاع بِهَذِهِ الدَّرَاهِم هَل كَانَت تتْرك إِذا نحرت حَتَّى تفْسد، وَلَا تُؤْكَل لحومها حَتَّى تنتن فَيرمى بهَا؟ قَالَ جَعْفَر: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ أَبُو يُوسُف: فَكَانَ يصنع بهَا مَاذَا؟ قَالَ: يأكلها الحشم والموالي وعيال أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: الله أكبر الله أكبر، أبشر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بالثواب الجزيل من الله عز وَجل على نَفَقَتك، وأبشر بِثَوَاب الله تَعَالَى على مَا فتح لَك من الصَّدَقَة فِي يَوْمك هَذَا، وَمن الْبكاء للتقية من رَبك، فَإِنِّي لأرجو يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا يُرْضِي الله تَعَالَى من ثَوَابه على مَا قد داخلك من الْخَوْف من سخطه عَلَيْك إِلَّا الْجنَّة، فَإِنَّهُ يَقُول تَعَالَى: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ " الرَّحْمَن: 46 وَأَنا أشهد بِاللَّه تَعَالَى أَنَّك خفت مقَام رَبك، فَسرِّي عَن الرشيد وَطَابَتْ نَفسه وَوصل أَبَا يُوسُف بأربعمائة ألف دِرْهَم، ثُمَّ صلى الْمغرب ودعا بطعامه فَأكل، فَكَانَ غداؤه فِي الْيَوْم عشاءه.(1/438)
الْمجْلس السِّتُّونَ
بَايعنَا الرَّسُول على السّمع وَالطَّاعَة
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْبَزَّازُ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي مذعورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَجْلانَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عُبَادَةُ أَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَالْمُبَايَعَةِ عَلَيْهِ، فَأَدَّاهُ عَنْ رَبِّهِ وَقَامَ للَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِحَقِّهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا وَيُعِينَنَا عَلَيْهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الزَّيْغِ عَنْهُ وَالتَّفْرِيطِ فِيهِ، ونرجوا إِجَابَتَهُ دُعَاءَنَا إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
بَين الْعَبَّاس بْن مرداس وخفاف
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذَكَرَتْ بَنو سليم أَن الْعَبَّاس يعين ابْنَ مِرْدَاسٍ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي خفافٍ، قَالَ فَقَالَ فِي مجمعٍ مِنْ قَوْمِهِ: جَزَى اللَّهُ خُفَافًا وَالرَّحِمَ عَنِّي شراٍ، كُنْتُ أَخَفَّ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ دِمَائِهِمْ ظَهْرًا، وَأَخْمَصَهُمْ مِنْ أَذَاهَا بَطْنًا، فَأَصْبَحْتُ ثَقِيلَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَائِهَا، مُنْفَضِجَ الْبَطْنِ مِنْ أَذَاهَا وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبُ تُعَيِّرُنِي بِمَا كَانَ مِنِّي، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَصَمَّ عَنْ هِجَائِهِ، أَخْرَسَ عَنْ جَوَابِهِ وَلَمْ أَبْلُغْ مِنْ قَوْمِي مَا بَلَغْتُ، ثُمَّ قَالَ:
أَلَمْ تَرَ أَنِّي كَرِهْتُ الْحُرُوبَ ... وَأَنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا مَضَى
نَدَامَةَ زارٍ عَلَى نَفْسِهِ ... وَتِلْكَ الَّتِي عَارُهَا يُتَّقَى
وَأَيْقَنْتُ أَنِّي بِمَا جِئْتُهُ ... مِنَ الأَمْرِ لابس ثوبي خَزًّا
حَيَاءً وَمِثْلِي حَقِيقٌ بِهِ ... وَلَمْ يَلْبَسِ النَّاسُ مِثْلَ الْحَيَا
وَكَانَتْ سُلَيْمٌ إِذَا قَدَّمَتْ ... فَتًى لِلْحَوَادِثِ كُنْتُ الْفَتى
وَكُنْتُ أَفِيءُ عَلَيْهَا النِّهَابَ ... وَأُبْلِي عَلَيْهَا وَأَحْمِي الْحِمَى
وَلَمْ أُوقِدِ الْحَرْبَ حَتَّى رَمَى ... خُفَافٌ بِأَسْهُمِهِ مَنْ رَمَى
فَأَلْهَبْتُ حَرْبًا بِأَصْبَارِهَا ... وَلَمْ أَكُ فِيهَا ضَعِيفَ الْقُوَى
قَالَ الْقَاضِي: الأَصْبَارُ: النَّوَاحِي.
فَإِنْ تَعْطِفِ الْيَوْمَ أَحْلامُهَا ... وَيَرْجِعْ مِنْ وُدِّهَا مَا نَأَى
فَلَسْتُ فَقِيرًا إِلَى حَرْبِهَا ... وَلا بِي عَنْ سَلْمِهَا مِنْ غَنَى(1/439)
فَلَمَّا بَلَغَتْ خُفَافًا قَالَ: عَرَفَ وَاللَّهِ الْعَبَّاسُ خَطَأَ مَا رَكِبَ، الآنَ لَمَّا فَدَحَتْهُ الْحَرْبُ وَاحْتَمَلَ ثِقَلَ الدِّمَاءِ أَنْشَأَ يُظْهِرُ النَّدَامَةَ، لَا وَاللَّهِ مَا اخْتَلَفَتِ الدُّرَّةُ وَالْجَرَّةُ حَتَّى يَبُوءَ بعذرٍ أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبَ ذلٍ، وَقَالَ:
أَعَبَّاسُ إِمَّا كَرِهْتَ الْحُرُوبَ ... فَقَدْ ذُقْتَ مِنْ حَرِّهَا مَا كَفَى
وَأَلْقَحْتَ حَرْبًا لَهَا دُرَّةً ... زبَوُنًا تَسَعُّرُهَا بِاللَّظَى
وَلَمَّا تَرَقَّيْتَ فِي غَيِّهَا ... دُحِضْتَ وَزَلَّ بِكَ الْمُرْتَقى
وَأَصْبَحْتَ تَبْكِي عَلَى زلةٍ ... وَمَاذَا يَرُدُّ عَلَيْكَ الْبُكَا
فَإِنْ كُنْتَ أَخْطَأْتَ فِي حَرْبِنَا ... فَلَسْنَا مُقِيلِيكَ ذَاكَ الْخَطَا
وَإِنْ كُنْتَ تَطْمَعُ فِي صُلْحِنَا ... فَحَاوِلْ ثَبِيرًا وَرُكْنَيْ حِرَا
شرح النَّص
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول الْعَبَّاس بْن مرداس: وأخمصهم من أذاها بَطنا: من المخمصة، وَهِي المجاعة، وخمص الْبَطن اضطماره، يُقَال: بطن خميص، قَالَ الله تَعَالَى: " فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مخمصةٍ " الْمَائِدَة:3 وَمن الخمص قَول أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة:
تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ ... وجاراتكم غبر يبتن خمائصا
ويروى غرثى أَي جياعًا. وَيُقَال: امْرَأَة خمصانة إِذا دق خصرها. وَقَالَ الشَّاعِر:
خمصانة قلق موشحها ... رَود الشَّبَاب غلابها عظم
وَقَوله: منفضج الْبَطن أَرَادَ خلوه من أذاها. وَقَوله: أفيء عَلَيْهَا النهاب أَي أرده وَيتَّجه فِي مدحه نَفسه برده النهاب على قومه وَجْهَان: أَحدهمَا أَن يستعيد مَا انتهب من أَمْوَالهم فَيردهُ عَلَيْهِم، وَالْآخر أَنه يعف عَن غنائمهم وَلَا يستأثر بهَا فيحويها لنَفسِهِ دونهم، كَمَا قَالَ عنترة:
يُخْبِرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغي وأعف عِنْد الْمغنم
وَيُقَال: فَاء الشَّيْء إِذا رَجَعَ. وأفاء الرجل الشَّيْء على غَيره أَي رده عَلَيْهِ، قَالَ الله تَعَالَى: " مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى " الْحَشْر: 7 أَي مَا رده؛ وَمن الْفَيْء قَول امْرِئ الْقَيْس:
تيممت الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظل عرمضها طامي
والفيئة الرّجْعَة. وَقَوله: وَيرجع من ودها مَا نأى، قد عطفه على قَوْله: فَإِن تعطف الْيَوْم، وَوجه الْإِعْرَاب فِيهِ الْجَزْم، إِذْ هُوَ مَعْطُوف على المجزوم على مَا يجب فِي بَاب الْجَزَاء إِلَّا أَنه لما لم يجد بدا من الْحَرَكَة لتَمام وزن الْبَيْت نوى النُّون الْخَفِيفَة كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
اضْرِب عَنْك الهموم طارقهاضربك بِالسَّيْفِ
قونس الْفرس(1/440)
وَقد يحمل على إِرَادَة أَن وَبِمَعْنى الْجمع " وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " آل عمرَان:142 على مَا بَيناهُ فِي مَا مضى من الْمجَالِس. وَأما قَول خفاف: الْآن لما فدحته الْحَرْب مَعْنَاهُ أثقلته، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
إِذا لم تزل يَوْمًا تُؤدِّي أَمَانَة ... وَتحمل أُخْرَى أفدحتك المغارم
وَجَاء فِي الْأَثر: لَا يتْرك فِي الْإِسْلَام مفدح، فَقيل: مَعْنَاهُ الَّذِي قد فدحه الدَّين وأثقله. وَقَالَ بَعضهم فِي الرِّوَايَة لَا يتْرك مفدج بِالْجِيم وَقيل فِي تَفْسِيره قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه لَا أحد يُؤَدِّي عَنْهُ من أَهله، وَالْآخر أَنه الْجَانِي الَّذِي لَا عشيرة لَهُ وَلَا عَاقِلَة تعقله وَتُؤَدِّي عَنْهُ عقل جِنَايَته وَأرش جريرته.
والدرة مَا يحتلب، والجرة مَا يجتر. وَقَوله: ألقحت حَربًا لَهَا درة أَنَّهَا تدر وتتصل وَيتبع بعض مكروهها بَعْضًا. وَقَوله: " زبونًا " أَي تدفع ببأسها من أَصَابَته، يُقَال: حَرْب زبون، والزبن: الدّفع، وَيُقَال زبنه أَي دَفعه، وَمِنْه الزَّبَانِيَة، سموا بذلك لأَنهم يزبنون أَي يدْفَعُونَ أهل النَّار فِيهَا. قَالَ الله تَعَالَى: " يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا " الطّور:13 أَي يدْفَعُونَ فِيهَا دفعا.
وَيُقَال: نَاقَة زبون أَي تدفع الْجمال، قَالَ الشَّاعِر:
ومستعجب مِمَّا يرى من أناتنا ... وَلَو زبنته الْحَرْب لم يترمرم
وَنهي النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْمُزَابَنَة من هَذَا، وَهُوَ بيع الرطب فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَكَذَلِكَ بيع الْعِنَب بالزبيب، هُوَ من دفع كل وَاحِد من المتزابنين مَا يَبِيعهُ إِلَى صَاحبه.
كَيفَ بدأت نقمة الْمَأْمُون على يحيى بْن أَكْثَم
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا عَليّ بْن يحيى المنجم أَن الْمَأْمُون كَانَ احتظى يحيى بْن أَكْثَم وَرفع مَنْزِلَته وَخص بِهِ خَاصَّة باطنة، فَدخل عَلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ يتغدى وَعبد الْوَهَّاب بْن عَليّ إِلَى جَانب الْمَأْمُون، فَسلم فَرد عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ يَا أَبَا مُحَمَّد؛ يَا غُلَام وضئه، قَالَ: فَخرج يحيى والطويلة على رَأسه يتَوَضَّأ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أوسع لأبي محمدٍ، فأوسع لَهُ عبد الْوَهَّاب بَينه وَبَين الْمَأْمُون فَغسل يَده وَدخل فَوضع طويلته من غير إِذْنه، فَقَالَ الْمَأْمُون لعبد الْوَهَّاب: عد إِلَى مَكَانك، وأقعد يحيى بَين يَدَيْهِ، وَكَانَ ذَلِك بَدْء مَا نقمه عَلَيْهِ.
لماذا كَانَ عمر بْن عبد الْعَزِيز كَذَلِك
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس، قَالَ حَدَّثَنَا عمر أبن شبة قَالَ حَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة، قَالَ سَمِعت أَبِي يَقُول: قيل ليحيى بْن الحكم بْن أَبِي الْعَاصِ: مَا بَال عمر بْن عبد الْعَزِيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جَاءَ على مَا قد رَأَيْت؟ فَقَالَ: إِن أَبَاهُ أرْسلهُ إِلَى الْحجاز سوقة فَكَانَ يغْضب النَّاس ويغضبونه، ويمخضهم ويمخضونه، وَلَقَد كَانَ(1/441)
الْحجَّاج بْن يُوسُف لَا يعرف عَرَبِيّ أحسن مِنْهُ أدبًا فطالت ولَايَته، فَكَانَ لَا يسمع إِلَّا مَا يحب، فَمَاتَ وَإنَّهُ لأحمق وسيئ الْأَدَب.
حول أَبِي الْعَتَاهِيَة وَهُوَ ينشد
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاك قَالَ: رَأَيْت النَّاس فِي النَّفر وَقد اجْتَمعُوا على رجلٍ وَهُوَ ينشد، فدنوت فَقلت: من هَذَا؟ فَقيل: أَبُو الْعَتَاهِيَة، وَكَانَ ينشد:
أجَاب الله داعيك ... وعادى من يعاديك
كَأَن الشَّمْس والبدر ... جَمِيعًا فِي تراقيك
وَفِي فِيك جنى النَّحْل ... وَمَا أحلاه من فِيك
وَقد شاع بِأَن الخ؟ ... ز يُؤْذِيك ويدميك
وَمَا يدْريك من ذل؟ ... ك أَسمَاء جواريك
وَلَا فَاخِتَة النّخل ... من الطاووس والديك
تَعَالَى الله مَا أحس؟ ... ن مَا براك باريك
فَقَالَ لَهُ رجل: يَا شيخ أَفِي مثل هَذَا الْموضع؟ قَالَ: وَمَا على من قضى حجه أَن يشكو بثه ويصف من هويه.
حسد إِسْحَاق الْموصِلِي للأصمعي
حَدثنَا أَحْمَد بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سعدٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَليّ بْن أَبِي نعيم قَالَ: كَانَ الرشيد يحب الْوحدَة، فَكَانَ إِذا ركب حِمَاره عادله الْفضل بْن الرّبيع، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يسير قَرِيبا مِنْهُ بِحَيْثُ يحادثه، وَإِسْحَاق الْموصِلِي على دابةٍ يسير قَرِيبا من الْفضل. فَأقبل الْأَصْمَعِي لَا يحدث الرشيد شَيْئا إِلَّا سر بِهِ وَضحك مِنْهُ، فحسده إِسْحَاق.
وَكَانَ فِيمَا حَدثهُ الْأَصْمَعِي قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَرَرْت على رجلٍ زانكي جَالس على بَابه قَالَ: وَيحك فَمَا الزانكي؟ فوصفه لَهُ قَالَ العسكري: هُوَ الشارط قَالَ: فَقلت لَهُ: يَا فَتى أَيَسُرُّك أَنَّك أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لَا، قلت: وَلم؟ قَالَ: لَا يدعوني أذهب حَيْثُ شِئْت، قَالَ فَقَالَ الرشيد: صدق وَالله مَا يَدْعُونَا نَذْهَب حَيْثُ شِئْنَا. قَالَ: فاستضحك الرشيد. قَالَ فَقَالَ إسحالق للفضل: مَا يَقُول كذب، فَقَالَ الرشيد: أَي شَيْء قَالَ؟ فَأخْبرهُ فَغَضب فَقَالَ: وَالله إِن كَانَ مَا يَقُول كذبا إِنَّه لأظرف النَّاس، وَإِن كَانَ حَقًا إِنَّه لأعْلم النَّاس فَمَكثَ بَينهمَا شَرّ دهراً من الدَّهْر، فَقَالَ إِسْحَاق:(1/442)
أُصيمع باهلي يستطيل النخار وَمُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّهِ اليزيدي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حبيبٍ عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: دخل النخار العذري النسابة على مُعَاوِيَة وَعَلِيهِ عباءة فَكَلمهُ فَأَعْرض عَنْهُ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَة إِن العباءة لَا تكلمك، إِنَّمَا يكلمك من فِيهَا، فَأقبل عَلَيْهِ.
رؤبة والنسابة الْبكْرِيّ
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفضل بْن مُحَمَّد اليزيدي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِني بكر بْن محمدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي عَن الْعَلَاء بْن أسلم قَالَ: سَمِعت رؤبة بْن العجاج يَقُول: أتيت النسابة الْبكْرِيّ فَقَالَ لي: من أَنْت؟ قلت: رؤبة بْن العجاج، فَقَالَ لي: قصرت وَعرفت، لَعَلَّك من قوم عِنْدِي إِن سكت عَنْهُم لم يَسْأَلُونِي وَإِن حدثتهم لم يعوا عني، قَالَ قلت: أَرْجُو أَن لَا أكون كَذَلِك، قَالَ: فَمَا أَعدَاء الْمَرْء؟ قَالَ قلت: لَا أَدْرِي فَأَخْبرنِي، قَالَ بَنو عَم السوء إِن رَأَوْا قبيحًا أذاعوه وَإِن رَأَوْا حسنا دفنوه. ثُمَّ قَالَ لي: إِن للْعلم آفَة ونكدًا وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الْكَذِب فِيهِ، وهجنته نشره عِنْد غير أَهله.
عَافِيَة بْن يزِيد القَاضِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن زيادٍ الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ وَسِيمٍ الْبُوشَنْجِيُّ بِبُوشَنْجَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمِّهِ عَبْدُ الْملك بْن قُرَيْب الْأَصْمَعِي أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ يَوْمًا فَرُفِعَ إِلَيْهِ فِي قاضٍ كَانَ اسْتَقْضَاهُ هُوَ يُقَالُ لَهُ عَافِيَةُ، فَكَثُرَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَأُحْضِرَ، وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَجَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطِبُهُ وَيُوقِفُهُ عَلَى مَا رُفِعَ فِيهِ، وَطَالَ الْمَجْلِسُ، ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ مَنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ مِنْ قُرْبٍ مِنْهُ سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُشَمِّتْهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: مَا بَالُكَ لَمْ تُشَمِّتْنِي كَمَا فَعَل الْقَوْمُ، فَقَالَ لَهُ عَافِيةُ لأَنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلِذَلِكَ لَمْ أُشَمِّتْكَ هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُكَ شَمَّتَّ ذَاكَ وَلم تشمتني؟ فَقَالَ: إِن هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمَّتْنَاهُ، وَأَنْتَ فَلَمْ تَحْمَدْهُ فَلَمْ أُشَمِّتْكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: ارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ، أَنْتَ لَمْ تُسَامِحْ فِي عطسةٍ، تُسَامِحُ فِي غَيْرِهَا؟ وَصَرَفَهُ مُنْصَرَفًا جَمِيلا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا عَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ الأَوْدِيُّ قَلَّدَهُ الْمَهْدِيُّ الْقَضَاءَ وَأَشْرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثَةَ الْكِلابِيِّ، قَالَ أَبُو بكرٍ فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَعَافِيَةَ بْنِ يَزِيدَ وَقَدْ أَشْرَكَ الْمَهْدِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ يَقْضِيَانِ جَمِيعًا.
التشميت والتسميت قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: يُقَال لما يدعى بِهِ للعاطس سمت وشمت، وَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة(1/443)
أفْصح فِي اللُّغَة وَأشهر فِي الرِّوَايَة، وَقيل إِنَّه مَأْخُوذ من قَوْلهم: استأشمت الْمَاشِيَة فِي الرَّعْي بِمَعْنى أَنَّهَا انبسطت فِيهِ. وَأما التسميت بِالسِّين الْمُهْملَة فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرِّفْق والتسكين. وَأخذ من السمت وَمن الْقَصْد وَمثله: رفوت فلَانا إِذا رفقت بِهِ ولاينته كَمَا قَالَ الْهُذلِيّ:
رفوني وَقَالُوا يَا خويلد لَا ترع ... فَقلت وَأنْكرت الْوُجُوه هم هم
وَقَالَ بَعضهم: التشميت مبادرة الْعَاطِس بِالدُّعَاءِ لَهُ، والمبادرة إِلَى تشميته كسرعة الشامت بالشماتة إِلَى من يشمت بِهِ. وَقد ذكر أَن بعض جلساء الرشيد شمت الرشيد وَقد عطس، فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين: لَا يَنْبَغِي أَن تفعل مثل هَذَا، وَلَا تخاطب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا يَقْتَضِي مِنْهُ تكلّف الرَّد، وَإِن بَعضهم قَالَ: أصَاب المشمت السّنة وَأصَاب الْمُعْتَرض عَلَيْهِ أدب المجالسة للسُّلْطَان.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد أصَاب المشمت فِي هَذِه الْقِصَّة إِصَابَة مُطلقَة لَا خطأ فِيهَا وَلَا شريطة، وَأَخْطَأ الرَّاد عَلَيْهِ والمعتذر لمن نَهَاهُ والموبخ لَهُ، وَلَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكره لَكَانَ يَنْبَغِي للنَّاس ترك السَّلَام على أئمتهم إِذا دخلُوا عَلَيْهِم والكف عَن تعزيتهم وتهنئتهم، وأحق من شمت ودعي فِي مَوَاطِن الدُّعَاء لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأولى من سارع إِلَى تَحِيَّة الْمُسلم بِأَحْسَن مِنْهُ تحيته أَو مثلهَا كَمَا أَمر الله عز وَجل وبادر بتأدية الْفَرْض فِيهِ وَفِي مَا جرى مجْرَاه من التشميت وَغَيره أَئِمَّة الدَّين. وَقد كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرد على من شمته من أمته وَأهل ذمَّته ويشمت من عطس من الْمُسلمين بِحَضْرَتِهِ، وَرُوِيَ أَن الْيَهُود كَانُوا يتعاطسون عِنْده رَجَاء أَن يَدْعُو لَهُم. وعَلى نَحْو مَا وَصفنَا مَضَت الْأَئِمَّة الراشدون وَالسَّلَف الصالحون وَالْخُلَفَاء المهديون. وَذكر أَن الْحجَّاج بْن يُوسُف قَالَ للنَّاس يَوْمًا: بَلغنِي أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْملك عطس فشمته من حوله فَرد عَلَيْهِم، فيا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزاً عَظِيما. وروى بَعضهم أَنه كتب بِهَذَا القَوْل والأمنية إِلَى عبد الْملك. وَأكْثر من يُشِير فِي هَذِه الْأُمُور بِغَيْر الْحق من لَا رَأْي لَهُ وَلَا أَمَانَة وَلَا للأئمة عِنْده مُوالَاة وَلَا نصيحة. وَقد تجاوزوا هَذَا الْحَد إِلَى السَّعْي فِيمَا يقْدَح فِي المملكة ويشعث أَسبَاب الْخلَافَة، وَلَكِن مَا الْحِيلَة إِذا كَانَ الرَّأْي فِي يَد من يملكهُ ويتمكن من تصريفه على هَوَاهُ فِيهِ دون من يعرفهُ ويضطلع فِي ترتيبه مرتبته وإنزاله مَنْزِلَته ويؤثر الْحق على نَفسه وأقربيه وَلَا يخَاف لومة لاثم.
قَالَ القَاضِي: وَمَا أَتَى فِي سنة العطاس وَمَا ندب فِيهِ الْعَاطِس وأرشد إِلَيْهِ وَصفَة التشميت وَالرَّدّ على المشمت من الْآثَار وَالرِّوَايَة وَالْأَخْبَار ومنظوم الْأَشْعَار أَكثر من أَن يُحِيط امْرُؤ بِهِ فِي مثل هَذَا الْموضع.
الْمجْلس الْحَادِي وَالسِّتُّونَ
حَدِيث فِي أَشْرَاط السَّاعَة
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْحَسَنِ(1/444)
التِّرْمِذِيُّ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أبي شُعَيْبٍ الْخَوَاتِيمِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمٍ الْخَشَّابِ مَوْلًى لِبَنِي شَيْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حَجَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَخَذَ بِحَلْقَتَيْ بَابِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاس فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَتْكَ آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتُنَا، ثُمَّ بَكَى حَتَّى عَلا انْتِحَابُهُ فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِأَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ، إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ إِمَاتَةَ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَيْلَ مَعَ الْهَوَى وَتَعْظِيمَ رَبِّ الْمَالِ، قَالَ فَوَثَبَ سَلْمَانُ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ مِمَّا يَرَى، وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ ليمشي بَينهم يؤمئذٍ بِالْمَخَافَةِ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَكُونُ الْمَطَرُ قَيْظًا وَالْوَلَدُ غَيْظًا، تفيض اللئام فيضاً، يغيض الْكِرَامُ غَيْضًا، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلْمُؤْمِنُ يومئذٍ أَذَلُّ مِنَ الأَمَةِ، فَعِنْدَهَا يَكُونُ الْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا وَالْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ الأَمِينُ، وَيُصَدَّقُ الْكَذَّابُ، وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَكُونُ أُمَرَاءُ جَوَرَةً، وَوُزَرَاءُ فَسَقَةً، وَأُمَنَاءُ خَوَنَةً، وَإِمَارَةُ النِّسَاءِ وَمُشَاوَرَةُ الإِمَاءِ، وَصُعُودُ الصِّبْيَانِ الْمَنَابِرَ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، عِنْدَهَا يليهم أَقْوَامٌ إِنْ تَكَلَّمُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ سكتوا استباحوهم، ويستأثرون بفيئهم يطأون حَرِيمَهُمْ وَيُجَارُ فِي حُكْمِهِمْ يَلِيهِمْ أَقوام جثاهم جثا النّاس، قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: هُوَ هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَالصَّوَابُ جثثهم جُثَثُ النَّاسِ وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ لَا يُوَقِّرُونَ كَبِيرًا وَلا يَرْحَمُونَ صَغِيرًا قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، يَا سلما، عِنْدَهَا تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ، وَتُحَلَّى الْمَصَاحِفُ، وَيُطِيلُونَ الْمَنَابِرَ، وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ، قُلُوبُهُمْ مُتَبَاغِضَةٌ وأهواؤهم جَمَّةٌ وَأَلْسِنَتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَأْتِي سَبْيٌ مِنَ الْمَشْرِقِ يَلُونَ أُمَّتِي فَوَيْلٌ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ، وَوَيْلٌ لَهْمُ مِنَ اللَّهِ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَكُونُ الْكَذِبُ ظُرْفًا وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَتَظْهَرُ الرُّشَا، وَيَكْثُرُ الرِّبَا، وَيَتَعَامَلُونَ بِالْعِينَةِ، وَيَتَّخِذُونَ الْمَسَاجِدَ طُرُقًا، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، عِنْدَهَا تُتَّخَذُ جُلُودُ النُّمُورِ صِفَاقًا، وَتَتَحَلَّى ذُكُورُ أُمَّتِي بِالذَّهَبِ وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ، وَيَتَهَاوَنُونَ بِالدِّمَاءِ، وَتَظْهَرُ الْخُمُورُ وَالْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ،(1/445)
وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، عِنْدَهَا يَطْلُعُ كَوْكَبُ الذَّنَبِ وَتَكْثُرُ السِّيجَانُ وَيَتَكَلَّمُ الرُّوَيْبِضَةُ، قَالَ سَلْمَانُ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ يَتَكَلَّمُ فِي الْعَامَّةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ، وَيَحْتَضِنُ الرَّجُلُ للسُّمْنَةِ، وَيُتَغَنَّى بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُتَّخَذُ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ، وَتُبَاعُ الْحكمُ وَتَكْثُرُ الشُّرَطُ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَحُجُّ أُمَرَاءُ النَّاسِ لَهْوًا وَتَنَزُّهًا، وَأَوْسَاطُ النَّاسِ لِلتِّجَارَةِ، وَفُقَرَاءُ النَّاسِ لِلْمَسْأَلَةِ، وَقُرَّاءُ النَّاسِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يُغَارُ عَلَى الْغُلامِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، وَيُخْطَبُ الْغُلامُ كَمَا تُخْطَبُ الْمَرْأَةُ، وَيُهَيَّأُ كَمَا تُهَيَّأُ الْمَرْأَةُ، وَتَتَشَبَّهُ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ وَتَتَشَبَّهُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَيَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَتَرْكَبُ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ فَعَلَيْهِنِّ مِنْ أُمَّتِي لَعْنَةُ اللَّهِ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَظْهَرُ قُرَّاءٌ عِبَادَتُهُمُ التَّلاوُمُ بَيْنَهُمْ، أُولَئِكَ يُسَمَّوْنَ فِي ملكوت السَّمَاء الأنجاس والأرجاس؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، تَتَشَبَّبُ الْمَشْيَخَةُ، قَالَ
قُلْتُ: وَمَا تَشَبُّبُ الْمَشْيَخَةِ؟ قَالَ: أَحْسبهُ ذهب من كِتَابِي إِنَّ الْحُمْرَةَ هَذَا الْحَرْفُ وَحْدَهُ خِضَابُ الإِسْلامِ وَالصُّفْرَةُ خِضَابُ الإِيمَانِ وَالسَّوَادُ خِضَابُ الشَّيْطَانِ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يُوضَعُ الدِّينُ وَتُرْفَعُ الدُّنْيَا وَيُشَيَّدُ الْبِنَاءُ وَتُعَطَّلُ الْحُدُودُ وَيُمِيتُونَ سُنَّتِي، فَعِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ لَا تَرَى إِلا ذَامًّا وَلا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ كَيفَ لَا ينْصرُونَ؟ قَالَ: يَا سَلْمَانُ إِنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ النكر، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَذُمُّونَ اللَّهَ تَعَالَى وَمَذَمَّتُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَشْكُوهُ وَذَلِكَ عِنْدَ تَقَارُبِ الأَسْوَاقِ، قَالَ: وَمَا تَقَارُبُ الأَسْوَاقِ؟ قَالَ عِنْدَ كَسَادِهَا كُلٌّ يَقُولُ: مَا أَبِيعُ وَلا أَشْتَرِي وَلا أَرْبَحُ، وَلا رَازِقَ إِلا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَعُقُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ وَيَجْفُو صَدِيقَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ وَيَتَحَالَفُونَ بِالطَّلاقِ، يَا سَلْمَانُ لَا يَحْلِفُ بِهَا إِلا فَاسِقٌ، وَيَفْشُو الْمَوْتُ مَوْتُ الْفُجَاءَةَ وَيُحَدِّثُ الرَّجُلَ سَوْطُهُ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا تَخْرُجُ الدَّابَّةُ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ وَرِيحٌ حَمْرَاءُ، وَيَكُونُ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ، وَتَمُورُ الأَرْضُ، وَإِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ رُؤِيَ. ت: وَمَا تَشَبُّبُ الْمَشْيَخَةِ؟ قَالَ: أَحْسَبُهُ ذهب من كِتَابِي إِنَّ الْحُمْرَةَ هَذَا الْحَرْفُ وَحْدَهُ خِضَابُ الإِسْلامِ وَالصُّفْرَةُ خِضَابُ الإِيمَانِ وَالسَّوَادُ خِضَابُ الشَّيْطَانِ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يُوضَعُ الدِّينُ وَتُرْفَعُ الدُّنْيَا وَيُشَيَّدُ الْبِنَاءُ وَتُعَطَّلُ الْحُدُودُ وَيُمِيتُونَ سُنَّتِي، فَعِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ لَا تَرَى إِلا ذَامًّا وَلا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ كَيفَ لَا ينْصرُونَ؟ قَالَ: يَا سَلْمَانُ إِنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ النكر، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَذُمُّونَ اللَّهَ تَعَالَى وَمَذَمَّتُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَشْكُوهُ وَذَلِكَ عِنْدَ تَقَارُبِ الأَسْوَاقِ، قَالَ: وَمَا تَقَارُبُ الأَسْوَاقِ؟ قَالَ عِنْدَ كَسَادِهَا كُلٌّ يَقُولُ: مَا أَبِيعُ وَلا أَشْتَرِي وَلا أَرْبَحُ، وَلا رَازِقَ إِلا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَعُقُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ وَيَجْفُو صَدِيقَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ وَيَتَحَالَفُونَ بِالطَّلاقِ، يَا سَلْمَانُ لَا يَحْلِفُ بِهَا إِلا فَاسِقٌ، وَيَفْشُو الْمَوْتُ مَوْتُ الْفُجَاءَةَ وَيُحَدِّثُ الرَّجُلَ سَوْطُهُ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا تَخْرُجُ الدَّابَّةُ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ وَرِيحٌ حَمْرَاءُ، وَيَكُونُ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ، وَتَمُورُ الأَرْضُ، وَإِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ رُؤِيَ.
ابْن عَبَّاس يتَوَقَّع أَشْرَاط السَّاعَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا(1/446)
هَوْذَة بْن خَليفَة قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نِمْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ، قَالَ قُلْتُ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: قَالُوا طَلَعَ الْكَوْكَبُ ذُو الذَّنَبِ، خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الدَّجَّالُ قَدْ طَرَقَ، فَوَاللَّهِ مَا نِمْتُ حَتَّى أَصبَحت.
مَادَّة ش ر ط
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله: أَشْرَاط الْقِيَامَة يَعْنِي أعلامها وأماراتها قَالَ الله تَعَالَى: " فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا " مُحَمَّد:18 يَعْنِي علاماتها، يُقَال أشرط الرجل نَفسه أَي وسمها بسيما وَجعل لَهَا عَلامَة تعرف بهَا، قَالَ أَوْس بْن حجر
فأشرط فِيهَا نَفسه وَهُوَ معلم ... وَألقى بأسبابٍ لَهُ وتوكلا
وَالْوَاحد من الأشراط، وَشرط المَال رذاله، قَالَ الشَّاعِر:
وَفِي شَرط المعزى لَهُنَّ مُهُور
وَقَوله: يكثر السيجان وَهِي الطيالسة وَاحِدهَا سَاج، وَمثله تَاج وتيجان ونار ونيران وجار وجيران، وَقَالَ بعض اللغويين: هِيَ الْخضر مِنْهَا خَاصَّة.
الْمُؤلف يرى كثيرا من أَشْرَاط السَّاعَة
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: وَقد رَأينَا كثيرا من أَشْرَاط الْقِيَامَة وأدركنا مِنْهَا مَا فِيهِ عظة وكأنا بباقيها قد ردف مَا فرط من مَا ضيها، وحقيق على كل ذِي مرّة سوى وَأخي دين رَضِي أَن يُبَادر مَا قد أظلهُ بِالتَّوْبَةِ وَبِحسن الإقلاع والإنابة، ويتأهب لما هُوَ لاقيه لَا محَالة، وَلَا يضيع مَا أنعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ من المهلة، وَلَا يغتر بالأماني الكاذبة، فَإِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر، والغار نَفسه بالتسويف بعد الزّجر والتخويف لَا يعْذر، وفقنا الله وَإِيَّاكُم للْجدّ فِيمَا يرضيه، وعصمنا من ركُوب مَعَاصيه، وأعاننا على عدوه القاصد بكيده لضلالتنا، والحريص على غوايتنا واستزلالنا، برأفته.
خطْبَة عتبَة فِي حجَّته
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دُرَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنِ الْعُتْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدٍ الْقَصِيرِ قَالَ: حَجَّ عُتْبَةُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَالنَّاسُ قَرِيبٌ عَهْدُهُمْ بِالْفِتْنَةِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ وُلِّينَا هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي يُضَاعَفُ لِلْمُحْسِنِ فِيهِ الأَجْرُ وَعَلَى الْمُسِيءِ فِيهِ الْوِزْرُ، وَنَحْنُ عَلَى طَرِيقِ مَا قَصَدْنَا، فَلا تَمُدُّوا الأَعْنَاقَ إِلَى غَيْرِنَا فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ دُونَنَا، وَرُبَّ مُتَمَنٍّ حَتْفُهُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَاقْبَلُوا الْعَافِيَةَ مَا قَبِلْنَاهَا فِيكُمْ وَقَبِلْنَاهَا مِنْكُمْ. وَإِيَّاكُمْ وَلَوْ فَإِنَّهَا أَتْعَبَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَلَنْ تُرِيحَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِينَ كُلا عَلَى كُلٍّ؛ قَالَ فَصَاحَ بِهِ أَعْرَابِيٌّ: أَيُّهَا الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ وَلَمْ تُبْعِدْ، فَقَالَ: يَا أَخَاهُ، فَقَالَ: قد أَسْمَعْتَ فَقُلْ، فَقَالَ: تَاللَّهِ إِنْ تُحْسِنُوا وَقَدْ أَسَأْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُسِيئُوا وَقَدْ أَحْسَنَّا، فَإِنْ كَانَ الإِحْسَانُ لَكُمْ دُونَنَا فَمَا أَحَقَّكُمْ(1/447)
بِاسْتِتْمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَّا فَمَا أَوْلاكُمْ بِمُكَافَأَتِنَا، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَلْقَاكُمْ بِالْعُمُومَةِ، وَيقرب إِلَيْكُم بالخؤولة، قَدْ كَثَّرَهُ الْعِيَالُ وَوَطِئَهُ الزَّمَانُ، وَبِهِ فَقْرٌ وَعِنْدَهُ شُكْرٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْكُمْ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَيْكُمْ، قَدْ أُمِرْتُ لَكَ بِغِنَاكَ فَلَيْتَ إِسْرَاعَنَا إِلَيْكَ يَقُومُ بِإِبْطَائِنَا عَنْكَ.
قد بلغ السَّيْل الزبى
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ الطَّعْنُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَنَحَّى عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مَالِهِ بِيَنْبُعَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى وَجَاوَزَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ وَبَلَغَ الأَمْرُ فَوْقَ قَدْرِهِ، وَطَمِعَ فِيَّ مَنْ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ.
فَإِنْ كنت مَأْكُولا فَكُن خيرا آكلٍ ... وَإِلا فَأَدْرَكْنِي وَلَمَّا أُمَزِّقُ
قَالَ ابْنُ مَزْيَدٍ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ الْخَزَّازُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيِّ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ظلم آل عَليّ أحب إِلَى الزبير
حَدَّثَنَا ابْنُ مَزْيَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: كَانَ الزُّبَيْرُ إِذَا جَاءَهُ مِنْ نَاحِيَةِ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَذًى وَجَاءَهُ مِنْ نَاحِيَةِ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُ قَالَ: وَاللَّهِ لأَنْ يَظْلِمَنِي آلُ عَلِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ وَيُنْشِدُ:
وَإِنْ كُنْتُ مَقْتُولا فَكُنْ أَنْتَ قَاتِلِي ... فَبَعْضُ مَنَايَا الْقَوْمِ أَكْرَمُ مِنْ بَعْضِ
تَفْسِير مَا تقدم
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَوْله: بلغ السَّيْل الزبى فَإِنَّهَا زبى الْأسد الَّتِي تحفر لَهُ، وَإِنَّمَا جعلت مثلا فِي بُلُوغ السَّيْل إِلَيْهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا تجْعَل فِي الروابي من الأَرْض، وَلَا تكون فِي المنحدر، وَلَيْسَ يبلغهَا إِلَّا سيل عَظِيم.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج رَحمَه الله: وَقَوله: وَجَاوَزَ الحزام الطبيين يَعْنِي قد اضْطربَ من شدَّة السّير حَتَّى خلف الطبيين من اضطرابه، يضْرب هَذَا الْمثل لِلْأَمْرِ الفظيع الفادح الْجَلِيل: وَأما قَوْله:
فَإِن كنت مَأْكُولا فَكُنْ خَيْرَ آكلٍ ... وَإِلا فأدركني وَلما أمزق
فَإِن هَذَا بَيت تمثل بِهِ لشاعر من عبد الْقَيْس جاهلي يُقَال لَهُ الممزق، وَإِنَّمَا سمي ممزقًا لبيته هَذَا، وَقَالَ الْفراء الممزق.
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: وَمن الزبية الَّتِي هِيَ مصيدة الْأسد قَول الطرماح بن حَكِيم:
يَا طَيء السهل والأجبال مَوْعدكُمْ ... كبمتغي الصَّيْد أَعلَى زبية الْأسد
وَقَالَ الراجز:(1/448)
قد كنت فِي الْأَمر الَّذِي قد كيدا ... كاللذ تزبى زبية فاصطيدا
اللذ: لُغَة فِي الَّذِي. وَمن الْعَرَب من يَقُول اللذ بِكَسْر الذَّال من غير إِثْبَات يَاء كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
واللذ لَو يكنى لكَانَتْ برا ... أوجبلاً أَشمّ مشمخرا
وَيُقَال من هَذِه اللُّغَة يَعْنِي الذ مسكنة الذَّال، فِي الْمُؤَنَّث اللت، قَالَ الشَّاعِر:
فَقل للت تلومك إِن نَفسِي ... أَرَاهَا لَا تعلل بالنمير
والزبية على مَا بَينا لَا تتَّخذ إِلَّا فِي قلَّة رابيةٍ أَو رَأس قلعةٍ أَو هضبة، قَالَ العجاج: وَقد علا السَّيْل الزبى فَلَا غير أَي جلّ الْأَمر عَن التلافي والإصلاح للتغيير، وَقيل إِن الْغَيْر هَاهُنَا الدِّيات، وَالْمعْنَى لِكَثْرَة الْقَتْل. وَمن الْغَيْر بِمَعْنى الدِّيات قَول هدبة بن الخشرم:
لنجد عَن أنوفاً من أنوفكم ... بني أُميَّة أنْ لَا تقبلُوا الغيرا
وَالْعرب تَقول فِي شدَّة الْأَمر تفاقمه واستشراء الشَّرّ وتعاظمه: قد علا المَاء الزبى، وانقد فِي الْبَطن السلى، وبرح الخفا، وحلت الحبا، وَبلغ السكين الْعَظِيم، والتقت حلقتان البطان، وَهُوَ مضارع لقَولهم: بلغ الحزام الطبيين، قَالَ أَوْس بْن حجر:
وازدحمت حلقتا البطان بأق؟ ... وام وطارت نُفُوسهم جزعًا
وَمن أفْصح مَا أَتَى فِي هَذَا الْمَعْنى مَا جَاءَ الْقُرْآن بِهِ وَذَلِكَ قَوْله عز وَجل: " وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ " الْقِيَامَة:29 وَقَالَ الشَّاعِر:
وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق
والطبيان تَثْنِيَة طبي وَجمعه أطباء، وَيَقُولُونَ: الْتَقت حلقتا البطان والحقب، وَمِنْه:
اشْدُد بمثنى حقبٍ حقواها
وَيُقَال حقب الْبَعِير إِذا صَار الحزام فِي الحقب، قَالَ الشَّاعِر:
إِذا مَا حقب جال ... شددناه بتصدير
والأطباء مَوضِع الثدي من السبَاع، وَيُقَال لذَلِك الْموضع من ذَوَات الْخُف والظلف أخلاف وَالْوَاحد خلف، قَالَ ابْن عبدل:
وأحلب الثرة الصفي وَلَا ... أجهد أخلاف غَيرهَا حَلبًا
عتاب بَين عَليّ وَعُثْمَان
وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد الأَزْدِيُّ قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ قَنْبَرٍ مَوْلَى عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ فَأَحَبَّا الْخَلْوَةَ فَأَوْمَى إِلَيَّ عَلِيٌّ بِالتَّنَحِّي فَتَنَحَّيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَعَلَ عُثْمَانُ يُعَاتِبُ عَلِيًّا وَعَلِيٌّ مُطْرِقٌ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عُثْمَان فَقَالَ: مَالك لَا تَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ قُلْتُ لَمْ أَقُلْ إِلا مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إِلا مَا تُحِبُّ؛ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنِّي إِنْ تَكَلَّمْتُ اعْتَدَدْتُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَدْتَ(1/449)
بِهِ عَلَيَّ فَلَذَّعَكَ عِتَابِي، وَعَقْدِي أَنْ لَا أَفْعَلَ وَإِنْ كُنْتُ عَاتِبًا إِلا مَا تُحِبُّ.
تَأْوِيل الْمُؤلف لِمَعْنى العتاب
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَه أَبُو الْعَبَّاس وَجه مَفْهُوم، وَفِي هَذَا القَوْل تَأْوِيل آخر، وَهُوَ أَن يكون أَرَادَ أَنه إِن شرع فِي مخاطبته بِمَا استدعي أَن يخاطبه فِيهِ ذكر لَهُ أَنه أَتَى بِخِلَاف الأصوب عِنْده، وَترك مَا كَانَ الأولى بِهِ أَن يَفْعَله، إِلَّا أَنه لإشفاقه عَلَيْهِ مَعَ إيثاره النَّصِيحَة لَهُ آثر محبته وَكره إِظْهَار مَا فِيهِ تَثْرِيب عَلَيْهِ أَو لائمة لَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيل عِنْدِي أصح من تَأْوِيل أَبِي الْعَبَّاس، وَقد ورد فِي مَعْنَاهُ مَا يشْهد لما وصفناه فِي الْقِصَّة الَّتِي ذكرنَا.
عُثْمَان يشكو عليا إِلَى ابْن عَبَّاس حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَحْصُورٌ عِنْدَهُ مَرْوَانُ بْنُ الحكم، فَقَالَ عُثْمَان: يَا ابْن عَبَّاسٍ أَمَا تَرَى إِلَى ابْنِ عَمه عَمِّكَ كَانَ الأَمْرُ فِي بَنِي يتم وَعَدِيٍّ فَرَضِيَ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا صَارَ الأَمْرُ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ بَغَاهُ الْغَوَائِلُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ عَمِّي مَا زَالَ عَنِ الْحَقِّ وَلا يَزُولُ، وَلَوْ أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا بَغَيَا فِي دِينِ اللَّهِ الْغَوَائِلَ لَجَاهَدَهُمَا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَوْ كُنْتَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَكَانَ لَكَ كَمَا كَانَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَلْ كَانَ لَكَ أَفْضَلُ لِقَرَابَتِكَ وَرَحِمِكَ وَسِنِّكَ، وَلَكِنَّك ركبت المر وَهَابَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاعْتَرَضَنِي مَرْوَانُ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ تَخْطِئَتِكَ يَا ابْن عَبَّاسٍ فَأَنْتَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَوْتُكَ لِلْعِتَابِ وَلَسْتُ أَدْرِي ... أَمِنْ خَلْفِي الْمَنِيَّةُ أَمْ أَمَامِي
فَشَقَقْتُ الْكَلامَ رَخِيَّ بالٍ ... وَقَدْ جَلَّ الْفِعَالُ عَنِ الْكَلامِ
إِنْ يَكُنْ عنْدك لهَذَا الرَّجُلِ غِيَاثٌ فَأَغِثْهُ، وَإِلا فَمَا أَشْغَلَهُ عَنِ التَّفَهُّمِ لِكَلامِكَ وَالْفِكْرِ فِي جَوَابِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: هُوَ وَاللَّهِ كَانَ عَنْكَ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِكَ أَشْغَلُ إِذْ أَوْرَدْتُمُوهُ وَلَمْ تُصْدِرُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ:
جَعَلْتَ شِعَارَ جَلَدِكَ قَوْمَ سوءٍ ... وَقَدْ يُجْزَى الْمُقَارَنُ بِالْقَرِينِ
فَمَا نَظَرُوا لِدُنْيَا أَنْتَ فِيهَا ... بإصلاحٍ وَمَا نَظَرُوا لِدِينِ
ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ وَاللَّهِ غَيْرُ قَابِلِينَ إِلا قَتْلَكَ أَوْ خَلْعَكَ، فَإِنْ قُتِلْتَ عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَعَمِلْتَ، وَإِنْ تُرِكْتَ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّ أَصَحَّ التَّأْوِيلَيْنِ فِي مَا قَالَهُ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ هُوَ مَا وَصَفْنَا.
حق الْعَالم على غَيره
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ وَسَهْلُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، قَالَ عَلِيُّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام: مِنْ حَقِّ الْعَالِمِ أَنْ لَا(1/450)
تُكْثِرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَلا تُعْنِتَهُ فِي الْجَوَابِ، وَلا تُلِحَّ عَلَيْهِ إِذَا كَسِلَ، وَلا تَأْخُذَ بِثَوْبِهِ إِذا نَهَضَ، وَلَا نفشي لَهُ سِرًّا، وَلا تَغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَأَنْ تَجْلِسَ أَمَامَهُ، وَإِذَا أَتَيْتَهُ خَصَصْتَهُ بِالتَّحِيَّةِ وَسَلَّمْتَ عَلَى الْقَوْمِ كَافَّةً، وَأَنْ تَحْفَظَ سِرَّهُ وَمَغِيبَهُ مَا حَفِظَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّمَا الْعَالِمُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلَةِ تَنْتَظِرُ مَتَى يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ شَيَّعَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مُقَرَّبِي السَّمَاءِ وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ انْثَلَمَ بِمَوْتِهِ فِي الإِسْلامِ ثَلْمَةٌ لَا تُسَدُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
لَيْلَة قر
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سعيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ عَن أَبِيه قَالَ: أدخلت إِلَى الرشيد يَوْمًا فَقَالَ لي: أَنْشدني فِي شدَّة الْبرد فَأَنْشَدته لِابْنِ محكان السَّعْدِيّ:
فِي لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أنديةٍ ... لَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها الطنبا
مَا ينبح الْكَلْب فِيهَا غير واحدةٍ ... حَتَّى يلف على خرطومه الذنبا
قَالَ القَاضِي: وَقد رُوِيَ على خيشومه.
فَقَالَ هَات غير هَذَا، فَأَنْشَدته:
وَلَيْلَة قرٍ يصطلي الْقوس رَبهَا ... وأقدحه اللائي بهَا يتنبل
فَقَالَ لي مَا بعد هَذَا شَيْء. قَالَ الصولي وأنشدني عَبد اللَّه بْن المعتز لنَفسِهِ:
وليلٍ يود المصطلون بناره ... لَو أَنهم حَتَّى الصَّباح وقودها
رفعت لَهَا نَارِي لمن يَبْتَغِي الْقرى ... على شرفٍ حَتَّى أتتها وفودها
شرح وتوضيح قَالَ القَاضِي: قَول انب محكان ذَات أندية: ذكر جُمْهُور أهل الْعلم أَن جمع الندى، أنداء على أَفعَال وَأَنه الْبَاب فِي هَذَا النَّوْع من الْمَقْصُور، وَأَن الْبَاب فِي الْمَمْدُود من جنسه على أَفعلهُ وَمِنْه حَشا وأحشاء وطلا وأطلاء وَأما الْمَمْدُود فَمِنْهُ عَطاء وأعطية وخلاء وأخلية وقباء وأقبية، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ هوى فِي هوى النَّفس مَقْصُور ويجمعونه أهواء، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ " مُحَمَّد: 14، 16 وَقَالُوا فِي جمع هَوَاء الجو الْمَمْدُود أهوية، وَأَن أندية فِي بَيت ابْن محكان شَذَّ عَن الْقيَاس. وَزعم بَعضهم أَن أندية فِي هَذَا الْبَيْت جمع نادٍ وَهُوَ الْمجْلس، وَأَن الْمَعْنى أَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي النادي يصطلون عِنْد شدَّة الْبرد، وَأَن ذَلِك بِمَنْزِلَة قَوْلهم وادٍ وأودية، وَقيل إِنَّه جمع ندي وَهُوَ مثل النادي، وَأنكر هَؤُلَاءِ جمع الندى الَّذِي هُوَ فِي معنى الطل أندية. وَقد زعم الْفراء فِي قَول الله تَعَالَى: " وَأَحْسَنُ نَدِيًّا " مَرْيَم: 73 أَن الندي تجمع أندية والنادي نوادي الْقَوْم، وَقَالَ: وَلَو جمعت الندى نوادي والنادي أندية كَانَ صَوَابا لِأَن مَعْنَاهُمَا وَاحِد.(1/451)
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: يتَّجه صرف الأندية فِي بَيت ابْن محكان إِلَى وَجه يطرد فِي الْقيَاس جمعه على أَفعلهُ لَكِن الْمَعْنى الظَّاهِر أَنه عني بِهِ يبطل أَو يتشعث، وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا أَنهم جمعُوا الندى بِمَعْنى الطل أنداء على أَصله وَقِيَاسه ذُو أندية على الشذوذ وإدخاله فِي غير بَابه، كَمَا قَالُوا فِي جمع رحي أرحاء على الْقيَاس وأرحية على الشذوذ، وَالْبَاب فِي الْجمع أحد الْأَبْوَاب الَّتِي أخرج على الْقيَاس وأرحية على الشذوذ، وَالْبَاب فِي الْجمع أحد الْأَبْوَاب الَّتِي أخرج كثير مِنْهَا عَن أصل قِيَاسه وَالْحق بِغَيْر بَابه. وَمن الأندية بِمَعْنى الْمجَالِس قَول الشَّاعِر:
يَوْمَانِ يَوْم مقامات وأنديةٍ ... وَيَوْم سيرٍ إِلَى الْأَعْدَاء تأويب
التأويب: سير النَّهَار، والسرى: سير اللَّيْل، والإساد: سير اللَّيْل وَالنَّهَار، هَذَا قَول محققي أهل اللُّغَة فِي هَذِه الْفُصُول الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي هَذَا الْبَاب من الْجمع. وَقد استقصينا القَوْل فِيهَا وَفِيمَا يضارعها وَفِي الْبَيْت الَّذِي أنشدناه فِي بَيت ابْن محكان فِي مَوضِع غير هَذَا، وأتينا فيهمَا بِمَا لم نر لإعادته فِي هَذَا الْموضع وَجها، وَقد روينَا خَبرا فِي هَذِه الْقِصَّة وفيهَا أَبْيَات لِابْنِ محكان عدَّة وَفِي أَولهَا:
يَا ربة الْبَيْت قومِي غير صاغرةٍ ... ضمي إِلَيْك رجال الْقَوْم والقربا
ولعلنا أَن نورد هَذِه الرِّوَايَة فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الْمجْلس الثَّانِي وَالسِّتُّونَ
يَا عبَادي كلكُمْ مذنب إِلَّا من عافيت
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحلْوانِي سنة سبع عشرَة وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْكُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ قَالَ: إِنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا عِبَادِي كلكُمْ مذنب إِلَّا من عافيت، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي بِقُدْرَتِي غَفَرْتُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَكُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُ فَسَلُونِي أَهْدِكُمْ، وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلا مَنْ أَغْنَيْتُ فَسَلُونِي أَرْزُقْكُمْ، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى إِشْقَاءِ قَلْبِ عبدٍ مِنْ عِبَادِي لم ينقص مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ أَنَّ حَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَأَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فَسَأَلَ كُلُّ سَائِلٍ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مَا سَأَلَ لَمْ يَنْقُصْ مُلْكِي إِلا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ عَلَى شَفَةِ الْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ انْتَزَعَهَا، وَذَلِكَ بِأَنِّي جواد وَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، عَطَائِي كَلامٌ، وَعَذَابِي كَلامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
تَعْلِيق على الحَدِيث
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْخَبَر مَا يبْعَث على التفكر فِي عَظمَة الله ورأفته(1/452)
وَرَحمته وسعة ملكه وجوده وَكَرمه، وَيَدْعُو إِلَى تَوْجِيه كل رَاغِب إِلَيْهِ رغبته ومسألته ومغفرته وإنزاله كل حَاجَة بِهِ ثِقَة بتفضله وإيمانًا بِأَنَّهُ الْملك الْأَعَز الأكرم وَحده الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء، وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ، وَأَنه لَا ملْجأ وَلَا منجى مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَن الْفضل كُله بِيَدِهِ، اللَّهُمَّ فَاغْفِر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وطهر قُلُوبنَا فقد فرطنا فِي أمورنا وظلمنا أَنْفُسنَا، وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللَّهُمَّ وأجرنا من سخطك واعصمنا من معصيتك ووفقنا لطاعتك وأعنا على عبادتك وأوزعنا شكر نِعْمَتك وألهمنا ذكرك، وَيسر لنا الْحَلَال الطّيب من رزقك وألبسنا عافيتك وَافْتَحْ لنا أَبْوَاب فضلك وأحينا متقلبين فِي نعمك منعمين بخيرك وَاخْتِمْ لنا خير خَاتِمَة وَأَكْرمنَا بِحسن المنقلب، وَاجعَل قبضك إيانا رَاحَة لنا من فتن الدُّنْيَا ومهالكها ومفضيًا بِنَا إِلَى روح الْجنَّة وممالكها، إِنَّك جواد كريم رؤوف رَحِيم.
وَصِيَّة عبد الْملك لأبنائه
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الْعُتْبِي قَالَ: لما حضرت عبد الْملك بْن مَرْوَان الْوَفَاة جمع وَلَده وَفِيهِمْ مسلمة وَكَانَ سيدهم فَقَالَ: أوصيكم بتقوى الله تَعَالَى فَإِنَّهَا عصمَة بَاقِيَة وجنة واقية، وَهِي أحصن كهفٍ وأزين حلية، وليعطف الْكَبِير مِنْكُم على الصَّغِير، وليعرف الصَّغِير مِنْكُم حق الْكَبِير، مَعَ سَلامَة الصُّدُور، وَالْأَخْذ بجميل الْأُمُور، وَإِيَّاكُم الْفرْقَة وَالْخلاف فبهما هلك الْأَولونَ، وذل ذَوُو الْعِزَّة المعظمون. انْظُرُوا مسلمة فاصدروا عَن رَأْيه فَإِنَّهُ نابكم الَّذِي عَنْهُ تفترون ومجنكم الَّذِي بِهِ تستجنون، وأكرموا الْحجَّاج فَإِنَّهُ وطأ لكم المنابر وَأثبت لكم الْملك، وَكُونُوا بني أم بَرزَة وَإِلَّا دبت بَيْنكُم العقارب، كونُوا فِي الْحَرْب أحرارًا وللمعروف منارًا، واحلولوا فِي مرارةٍ، ولينوا فِي شدَّة، وضعُوا الذَّخَائِر عِنْد ذَوي الْحساب والألباب، فَإِنَّهُ أصون لأحسابهم وأشكر لما يسدى إِلَيْهِم. ثُمَّ أقبل على ابْنه الْوَلِيد فَقَالَ: لَا ألفينك إِذا مت تجْلِس تعصر عَيْنَيْك وتحن حنين الْأمة، وَلَكِن شمر وائتزر والبس جلدَة نمر ودلني فِي حفرتي وخلني وشأني وَعَلَيْك وشأنك، ثُمَّ ادْع النَّاس إِلَى الْبيعَة فَمن قَالَ هَكَذَا فَقل بِالسَّيْفِ هَكَذَا. ثُمَّ أرسل إِلَى عَبد اللَّه ابْن يزِيد بْن مُعَاوِيَة وخَالِد بْن أسيد فَقَالَ: هَل تدريان لم بعثت إلَيْكُمَا؟ قَالَا: نعم لترينا أثر عَافِيَة الله تَعَالَى إياك، قَالَ: لَا، وَلَكِن قد حضر من الْأَمر مَا تريان، فَهَل فِي أنفسكما من بيعَة الْوَلِيد شَيْء؛ فَقَالَا: لَا، وَالله مَا نرى أحدا أَحَق بهَا مِنْهُ بعْدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ: أولى لَكمَا، أما وَالله وَلَو غير ذَلِك قلتما لضَرَبْت الَّذِي فِيهِ أعينكما، ثُمَّ رفع فرَاشه فَإِذا السَّيْف مَشْهُور، وَلم يزل بَين مقالتين حَتَّى فاظ، مقَالَته الأولى:
فَهَل من خالدٍ إِمَّا هلكنا ... وَهل بِالْمَوْتِ يَا للنَّاس عَار
ومقالته الثَّانِيَة: الْحَمد لله الَّذِي لَا يُبَالِي من أَخذ من خلقه أَو ترك، صَغِيرا أَو كَبِيرا،(1/453)
حتي مَاتَ، فسجاه الْوَلِيد، وَكَانَ هِشَام أَصْغَر وَلَده فَقَالَ:
وَمَا كَانَ قيس هلكه هلك واحدٍ ... وَلكنه بُنيان قومٍ تهدما
فَلَطَمَهُ الْوَلِيد ثُمَّ قَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا ابْن إِلَّا شجعية فَإنَّك أَحول أكشف، تنطق بِلِسَان شَيْطَان، أَلا قلت:
إِذا مقرم منا ذرى حد نابه ... تخمط منا نَاب آخر مقرم
فَقَالَ مسلمة: إيَّاكُمْ والضجاج فَإِنَّكُم إِن صلحتم صلح النَّاس، وَإِن فسدتم كَانَ الْفساد أسْرع، ثُمَّ قَالَ:
لقد أفسد الْمَوْت الْحَيَاة وَقد أَتَى ... على شخصه يَوْم عَليّ عصيب
فَإِن تكن الْأَيَّام أحسن مرّة ... إِلَى فقد عَادَتْ لَهُنَّ ذنُوب
أَتَى دون حُلْو الْعَيْش حَتَّى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
فَقَالَ سُلَيْمَان: مَاتَ وَالله أَمِير الْمُؤمنِينَ وَصَارَ فِي منزلَة هُوَ فِيهَا والذليل الضَّعِيف سَوَاء. ثُمَّ صعد الْمِنْبَر الْوَلِيد فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَصلى على النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون يَا لَهَا مُصِيبَة مَا أعظمها وأفظعها، وأخصها وأعمها وأوجعها، موت أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَيَا لَهَا نعْمَة مَا أعظمها وأجسمها وَأوجب الشُّكْر عَليّ لله فِيهَا: خِلَافَته الَّتِي سربلنيها. فَكَانَ أول من عزى نَفسه وهنأها بالخلافة. ثُمَّ قَالَ: انهضوا رحمكم الله فَبَايعُوا على بركَة الله. فَلَمَّا بَايعه النَّاس جلس مجْلِس عبد الْملك وَجمع أهل بَيته ثُمَّ قَالَ:
القوا الضغائن والتحاسد بَيْنكُم ... عِنْد المغيب وَفِي الْحُضُور الشهد
بصلاح ذَات الْبَين طول بقائكم ... إِن مد فِي عمري وَإِن لم يمدد
فلمثل ريب الدَّهْر ألف بَيْنكُم ... بتواصلٍ وتراحمٍ وتودد
وانفوا الضغائن والتخاذل عَنْكُم ... بتكرمٍ وتوازرٍ وتغمد
حَتَّى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسودٍ مِنْكُم وَغير مسود
إِن القداح إِذا اجْتَمعْنَ فرامها ... بِالْكَسْرِ ذُو حنقٍ وبطش أيد
عزت فَلم تكسر وَإِن هِيَ بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
شُرُوح وتعليقات
قَالَ القَاضِي: قَوْله: تحن حنين الْأمة، الحنين: الْبكاء، وَقيل صَوت الْبكاء، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَلَا تبكوا عَليّ وَلَا تحنوا ... بقول الْإِثْم إِن الْإِثْم حوب
وَأما تمثل هِشَام بِالْبَيْتِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِنَّهُ لعبدة بْن الطَّبِيب قَالَه فِي قيس ابْن عَاصِم يرثيه فِي شعرٍ لَهُ وَهُوَ:
عَلَيْك سَلام الله قيس بْن عاصمٍ ... وَرَحمته مَا شَاءَ أَن يترحما(1/454)
تَحِيَّة من أسديته مِنْك نعْمَة ... إِذا زار عَن شحط بلادك سلما
فَمَا كَانَ قيس هلكه هلك واحدٍ ... وَلكنه بُنيان قومٍ تهدما
ويروى: هلك واحدٍ، رفعا ونصبًا، فَمن نصب فعلى أَنه خبر كَانَ، وَجعل قَوْله هلكه بَدَلا من قيس، الْبَدَل الْمَعْرُوف بالاشتمال لاشْتِمَاله على الْمَعْنى، كَقَوْلِك أعجبني عَبد اللَّه علمه؛ الْمَعْنى: أعجبني علم عَبد اللَّه.
قَالَ الله تَعَالَى: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قتالٍ فِيهِ " الْبَقَرَة: 217 الْمَعْنى: يَسْأَلُونَك عَن قتال فِي الشَّهْر الْحَرَام. وَمن هَذَا النَّوْع قَول الْأَعْشَى بهجو الْحَارِث بْن وَعلة:
لعمرك مَا أشبهت وَعلة فِي الندى ... شمائله وَلَا أَبَاهُ المجالدا
الْمَعْنى: شمائل وَعلة؛ وَالْبدل فِي الْكَلَام لَهُ أَقسَام وفروع وَأَحْكَام، والكوفيون يعبرون عَن هَذَا الْبَاب بالتكرير والترجمة والإتباع، ولبسطه وَشَرحه مَوضِع هُوَ أولى بِهِ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي غير مَوضِع من كتبنَا وضمنا طرفا مِنْهُ فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الشافي فِي طَهَارَة الرجلَيْن.
حوار بَين ابْن الزُّبَيْر وَابْن عَبَّاس
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عِكْرِمَةَ الضَّبِّيُّ عَامِرُ بْنُ عِمْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ إِلَى الْكُوفَةِ اجْتَمَعَ ابْنُ عباسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَضَرَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى جَنْبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَتَمَثَّلَ:
يَا لَكِ مِنْ قبرةٍ بِمَعْمَرٍ ... خَلا لَكَ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفُرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
خلا وَالله يَا ابْن الزُّبَيْرِ الْحِجَازُ وَصَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْعِرَاقِ؛ قَالَ فَقَالَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ لابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا تَرَوْنَ إِلا أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا يَرَى مَنْ كَانَ فِي شكٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَمِنْ ذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ، وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَنْ نَفْسِكَ: لِمَ زَعَمْتَ أَنَّكَ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ؟ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لِشَرَفِي عَلَيْهِمْ قَدِيمًا لَا يُنْكِرُونَهُ، قَالَ: فَأَيُّمَا أَشْرَفُ أَنْتَ أَمْ مَنْ شَرُفْتَ بِهِ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي شَرُفْتُ بِهِ زَادَنِي شَرَفًا. قَالَ: وَعَلَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَقَالَ ابْنُ أَخٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْن عَبَّاس دَعْنَا من قَوْلك فو الله لَا تُحِبُّونَا يَا بَنِي هَاشِمٍ أَبَدًا، قَالَ: فَخَفَقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِالنَّعْلِ وَقَالَ: أَتَتَكَلَّمُ وَأَنَا حَاضِرٌ؟، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ ضَرَبْتَ الْغُلامَ وَمَا اسْتَحَقَّ الضَّرْبَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ من مرق ومذق؟ قَالَ: يَا ابْن عَبَّاسٍ أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَعْفُوَ عَنْ كَلِمَةٍ وأحدةٍ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَعْفُو عَنْ مَنْ أَقَرَّ فَأَمَّا مَنْ هَرَّ فَلا؛ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَيْنَ الْفَضْلُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لَا نَضَعُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَنَنْدَمَ، وَلا نَزْوِيهِ عَنْ أَهْلِهِ فَنَظْلِمَ، قَالَ: أَوَلَسْتُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلَى إِنْ نَبَذْتَ الْحَسَدَ وَلَزِمْتَ الْجَدَدَ؛ قَالَ: فَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَسْكَتُوهُمَا.(1/455)
قصَّة جحدر اللص وَالْحجاج والأسد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ أَخْبرنِي أَحْمَد بْن عبيدٍ عَنْ أبي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَعرَابِي قَالَ: بَلغنِي أَنه كَانَ رجل من بني حنيفَة يُقَال لَهُ جحدر بْن مَالك فتاكًا شجاعًا قد أغار على أهل حجرٍ وناحيتها، فَبلغ ذَلِك الْحجَّاج بْن يُوسُف، فَكتب إِلَى عَامله بِالْيَمَامَةِ يوبخه بتلاعب جحدر بِهِ، ويأمره بالإجداد فِي طلبه والتجرد فِي أمره؛ فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَيْهِ أرسل إِلَى فتيةٍ من بني يَرْبُوع من بني حَنْظَلَة فَجعل لَهُم جعلا عَظِيما إِن هم قتلوا جحدرًا أَو أَتَوا بِهِ أَسِيرًا، فَانْطَلق الْفتية حَتَّى إِذا كَانُوا قَرِيبا مِنْهُ أرْسلُوا إِلَيْهِ أَنهم يُرِيدُونَ الِانْقِطَاع إِلَيْهِ والتحرز بِهِ، فاطمأن إِلَيْهِم ووثق بهم، فَلَمَّا أَصَابُوا مِنْهُ غرَّة شدوه كتافًا وَقدمُوا بِهِ على الْعَامِل، فَوجه بِهِ مَعَهم إِلَى الْحجَّاج وَكتب يثني عَلَيْهِم خيرا، فَلَمَّا أَدخل على الْحجَّاج قَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا جحدر بْن مَالك، قَالَ: مَا حملك على مَا كَانَ مِنْك؟ قَالَ: جرْأَة الْجنان، وجفاء السُّلْطَان، وكلب الزَّمَان، فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: وَمَا الَّذِي بلغ مِنْك فيجترى جنانك ويجفوك سلطانك ويكلب زَمَانك؟ قَالَ: لَو بلاني الْأَمِير أكْرمه الله لوجدني من صَالح الأعوان وبهم والفرسان، ولوجدني من أنصح رَعيته، وَذَلِكَ أَنِّي مالقيت فَارِسًا قطّ إِلَّا كنت عَلَيْهِ فِي نَفسِي مقتدرًا، قَالَ لَهُ الْحجَّاج: إِنَّا قاذفون بك فِي حائرٍ فِيهِ أَسد عَاقِر ضارٍ فَإِن هُوَ قَتلك كفانا مؤونتك، وَإِن أَنْت قتلته خلينا سَبِيلك؛ قَالَ: أصلح الله الْأَمِير، عظمت الْمِنَّة، وَأعْطيت الْمنية، وقويت المحنة، فَقَالَ الْحجَّاج: فَإنَّا لسنا بتاركيك لتقاتله إِلَّا وَأَنت مكبل بالحديد، فَأمر بِهِ الْحجَّاج فغلت يَمِينه إِلَى عُنُقه وَأرْسل بِهِ إِلَى السجْن. فَقَالَ جحدر لبَعض من يخرج إِلَى الْيَمَامَة: تحمل عني شعرًا، وَأَنْشَأَ يَقُول:
أَلا قد هاجني فازددت شوقًا ... بكاء حَمَامَتَيْنِ تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غُصْنَيْنِ من غربٍ وَبَان
فَقلت لصاحبي وَكنت أحزو ... بِبَعْض الطير مَاذَا تحزوان
فَقَالَا الدَّار جَامِعَة قريب ... فَقلت بل أَنْتُمَا متمنيان
فَكَانَ البان أَن بَانَتْ سليمي ... وَفِي الغرب اغتراب غير داني
أَلَيْسَ اللَّيْل يجمع أم عَمْرو ... وإيانا فَذَاك بِنَا تداني
بلَى وَترى الْهلَال كَمَا نرَاهُ ... ويعلوها النَّهَار إِذا علاني
إِذا جاوزتما نخلات حجرٍ ... وأودية الْيَمَامَة فانعياني
وقولا جحدر أَمْسَى رهينًا ... يحاذر وَقع مصقول يماني(1/456)
قَالَ: وَكتب الْحجَّاج إِلَى عَامله بكسكر أَن يُوَجه إِلَيْهِ بأسدٍ ضارٍ عاتٍ ويجر على عجل؛ فَلَمَّا ورد كِتَابه على الْعَامِل امتثل أمره، فَلَمَّا ورد الْأسد على الْحجَّاج أَمر بِهِ فَجعل فِي حائرٍ وأجيع ثَلَاثَة أَيَّام، وَأرْسل إِلَى جحدر فَأتي بِهِ من السجْن وَيَده الْيُمْنَى مغلولة إِلَى عُنُقه، وَأعْطِي سَيْفا وَالْحجاج وجلساؤه فِي منظرةٍ لَهُم، فَلَمَّا نظر جحدر إِلَى الْأسد أنشأ يَقُول:
لَيْث وَلَيْث فِي محلٍ ضنك ... كِلَاهُمَا ذُو أنفٍ ومحك
وشدةٍ فِي نَفسه وفتك ... إِن يكْشف الله قناع الشَّك
أَو ظفر بحاجتي ودركي ... فَهُوَ أَحَق منزل بترك
فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ الْأسد زأر زأرة شَدِيدَة وتمطى وَأَقْبل نَحوه، فَلَمَّا صَار مِنْهُ على قدر رمح وثب وثبة شَدِيدَة، فَتَلقاهُ جحدر بِالسَّيْفِ فَضَربهُ ضَرْبَة حَتَّى خالط ذُبَاب السَّيْف لهواته، فَخر الْأسد كَأَنَّهُ خيمة قد صرعتها الرّيح، وَسقط جحدر على ظَهره من شدَّة وثبة الْأسد وَمَوْضِع الكبول، فَكبر الْحجَّاج وَالنَّاس جَمِيعًا، وَأَنْشَأَ جحدر يَقُول:
يَا جمل إِنَّك لَو رَأَيْت كريهتي ... فِي يَوْم هولٍ مسدف وعجاج
وتقدمي لليث أرسف موثقًا ... كَيْمَا أثاوره على الإحراج
شثن براثنه كَأَن نيوبه ... زرق المعاول أَو شباة زجاج
يسمو بناظرتين تحسب فيهمَا ... لما أَحدهمَا شُعَاع سراج
وكأنما خيطت عَلَيْهِ عباءة ... برقاء أَو خرق من الديباج
لعَلِمت أَنِّي ذُو حفاظٍ ماجد ... من نسل أَقوام ذَوي أبراج
ثمَّ الْتفت إِلَى الْحجَّاج فَقَالَ:
وَلَئِن قصدت بِي الْمنية عَامِدًا ... إِنِّي بخيرك بعد ذَاك لراجي
ويروى: إِنِّي لخيرك يَا ابْن يُوسُف راج.
علم النِّسَاء بأنني لَا أنثني ... إِذْ لَا يثقن بغيرة الْأزْوَاج
وَعلمت أَنِّي إِن كرهت نزاله ... أَنِّي من الْحجَّاج لست بناج
فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: إِن شِئْت أسنينا عطيتك، وَإِن شِئْت خلينا سَبِيلك، قَالَ: لَا، بل اخْتَار مجاورة الْأَمِير، أكْرمه الله. فَفرض لَهُ وَلأَهل بَيته وَأحسن جائزته.
قَالَ القَاضِي: مسدف: مظلم من السدفة، والرسف: مشي الْمُقَيد، والبرائن: مخالب الْأسد. والشبا والشباة: حد الأسنة، قَالَ أَبُو بكرٍ: البرقاء الَّتِي فِيهَا سَواد وَبَيَاض.
الْمَأْمُون يترحم على ابْن أَبِي خَالِد
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ: سَمِعت جرير بن أَحْمد بن أبي دواد يَحْكِي عَن أَبِيه أَن أَحْمَد بن أبي خالدٍ وَزِير الْمَأْمُون توفّي فِي آخر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَأَن الْمَأْمُون صلى(1/457)
عَلَيْهِ ووقف على قَبره فَلَمَّا دُلي فِي قَبره قَالَ: رَحِمك الله، أَنْت وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَخُو الْجد إِن جد الرِّجَال وشمروا ... وَذُو باطلٍ إِن كَانَ فِي الْقَوْم بَاطِل
سَعَة علم الْمَأْمُون
حَدثنَا عبد الْبَاقِي بْن قانعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن عمرَان العجيفي عَن مُحَمَّد بْن سعدٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حَفْص الْأنمَاطِي قَالَ: تغدينا مَعَ الْمَأْمُون فِي يَوْم عيدٍ، قَالَ: وَأَظنهُ وضع على مائدته أَكثر من ثَلَاثمِائَة لونٍ، قَالَ: فَكلما وضع لون نظر الْمَأْمُون إِلَيْهِ فَقَالَ: هَذَا نَافِع لكذا ضار لكذا، فَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب بلغم فليجتنب هَذَا، وَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب بلغم فليجتنب هَذَا، وَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب صفراء فَليَأْكُل من هَذَا، وَمن غلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء فَلَا يعرض لهَذَا، وَمن قصد قلَّة الْغذَاء فليقتصر على هَذَا. قَالَ: فو الله إِن زَالَت تِلْكَ حَاله فِي كل لونٍ يقدم إِلَيْهِ حَتَّى رفعت الموائد، فَقَالَ لَهُ يحيى بْن أَكْثَم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن خضنا فِي الطِّبّ كنت جالينوس فِي مَعْرفَته، أَو فِي النُّجُوم كنت هرمس فِي حسابه، أَو فِي الْفِقْه كنت عَليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام فِي علمه، أَو ذكر السخاء كنت حَاتِم طَيء فِي صفته، أَو صدق الحَدِيث فَأَنت أَبُو ذرٍ فِي لهجته، أَو الْكَرم فَأَنت كَعْب بْن مامة فِي فعاله، أَو الْوَفَاء فَأَنت السموأل ابْن عاديا فِي وفائه. فسر بِهَذَا الْكَلَام وَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد إِن الْإِنْسَان إِنَّمَا فضل بعقله، وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن لحم أطيب من لحمٍ وَلَا دم أطيب من دمٍ.
ميل الْمَأْمُون إِلَى التَّوَاضُع
قَالَ: وَنظر يَوْمًا إِلَى رُؤُوس آنيته محشوة بقطنٍ وَكَانَت قبل ذَلِك بأطباق فضةٍ، فَقَالَ لصَاحب الشَّرَاب: أَحْسَنت يَا بني إِنَّمَا يباهي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة من قلا عِنْده، وَأما نَحن فَيَنْبَغِي أَن نباهي بالأفعال الجميلة والأخلاق الْكَرِيمَة، فإياك أَن تحشو رُؤُوس أوانيك إِلَّا بالقطن فَذَاك بالملوك أهيأ وأبهى.
ولد لأبي دلامة ابْنة
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سعدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بن خَليفَة بن الجهم الدَّارِمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَفْص المعجلي قَالَ: ولد لأبي دلامة ابْنة فغدا على أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه ولد لي اللَّيْلَة ابْنة، قَالَ: فَمَا سميتها؟ قَالَ: أم دلامٍ. قَالَ: وَأي شَيْء تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيد أَن يُعِيننِي عَلَيْهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ أنْشدهُ:
لَو كَانَ يقْعد فَوق الشَّمْس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يَا آل عَبَّاس
ثمَّ ارْتَقَوْا فِي شُعَاع الشَّمْس كلكُمْ ... إِلَى السَّمَاء فَأنْتم أكْرم النَّاس
قَالَ: فَهَل قلت فِيهَا شَيْئا؟ قَالَ: نعم، قلت:
فَمَا وَلدتك مَرْيَم أم عِيسَى ... وَلم يكفلك لُقْمَان الْحَكِيم
وَلَكِن قد تضمك أم سوءٍ ... إِلَى لباتها وَأب لئيم(1/458)
قَالَ: فَضَحِك أَبُو جَعْفَر، ثُمَّ أخرج أَبُو دلامة خريطة من خرق فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أجعَل فِيهَا مَا تحبوني بِهِ، فَقَالَ: املؤوها لَهُ دَرَاهِم فوسعت ألفي دِرْهَم.
إِيَاس دخل الشَّام وَهُوَ غُلَام
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زيادٍ الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا مسبح بْن حَاتِم بِالْبَصْرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن عَائِشَة عَن أَبِيه قَالَ: دخل إِيَاس بْن مُعَاوِيَة الشَّام وَهُوَ غُلَام، فَقدم خصما لَهُ إِلَى قَاض لعبد الْملك بْن مَرْوَان، وَكَانَ خَصمه شَيخا صديقا للْقَاضِي، فَقَالَ لَهُ القَاضِي: يَا غُلَام أما تَسْتَحي أَن تقدم شَيخا كَبِيرا؟! قَالَ إِيَاس: الْحق أكبر مِنْهُ، قَالَ لَهُ: أسكت، قَالَ لَهُ: فَمن ينْطق بحجتي إِذا سكت؟ قَالَ: مَا أحسبك تَقول حَقًا حَتَّى تقوم، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا الله، قَالَ: مَا أَظُنك إِلَّا ظَالِما، قَالَ: مَا على ظن القَاضِي خرجت من منزلي. فَدخل القَاضِي على عبد الْملك فاخبره الْخَبَر فَقَالَ لَهُ: اقْضِ حَاجته واصرفه عَن الشَّام لَا يفْسد النَّاس علينا.
كرم إِبْرَاهِيم بْن عَاصِم الْعقيلِيّ
حَدثنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَليّ الإسكافي حَدَّثَنِي جدي قَالَ وحَدثني أَبُو محلم قَالَ: كَانَ هِشَام بْن عبد الْملك ولى سجستان إِبْرَاهِيم بْن عَاصِم الْعقيلِيّ، وَكَانَ من كرماء النَّاس، فَقَالَ فِيهِ علكم بْن مهير الْعقيلِيّ:
أما قبيحات النِّسَاء فإننا ... أَبينَا، وَأما منجبات الكرائم
فيمنعني مِنْهُنَّ أَن لَيْسَ عندنَا ... لَهُنَّ مُهُور أَو يزار ابْن عَاصِم
قَالَ: فَحمل إِلَيْهِ من سجستان قبل أَن ينْزع إِلَيْهِ مائَة ألف درهمٍ.
أَنْوَاع المفاتيح
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحسن النقاش قَالَ حَدَّثَنَا السراج قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن رشيد قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مسلمٍ قَالَ حَدَّثَنِي خُلَيْد بْن دعْلج عَن قَتَادَة قَالَ: مَفَاتِيح الْبَحْر السفن، ومفاتيح الأَرْض الطّرق، ومفاتيح السَّمَاء الدُّعَاء.
ضوال الْكَلَام وضوال الْإِبِل
حَدثنَا عَلِيّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد قَالَ، قَالَ بعض الْحُكَمَاء: ضوال الْكَلَام أحب إِلَيّ من ضوال الْإِبِل، قيل لَهُ: نَحْو مَاذَا؟ قَالَ: نَحْو قَول الشَّاعِر:
وَإِنِّي لأرجو الله حَتَّى كَأَنَّمَا ... أرى بجميل الظَّن مَا الله صانع
وصف دَعْوَة مظلوم
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ أنشدنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن الْمُدبر قَالَ أَنْشدني مُحَمَّد بْن عمر الْجِرْجَانِيّ قَالَ أَنْشدني إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، قَالَ الصولي: وأنشدنا(1/459)
أَحْمَد بْن يحيى وَلكنه قَالَ: أنْشد إِسْحَاق لأعرابي يصف دَعْوَة دَعَا بهَا مظلوم:
وساريةٍ لم تسر فِي الأَرْض تبتغي محلا ... وَلم يقطع بهَا الْبعد قَاطع
سرت حَيْثُ لم تحد الركاب وَلم تنخ ... لوردٍ وَلم يقصر لَهَا الْقَيْد مَانع
تمر مُرُور اللَّيْل وَاللَّيْل ضَارب ... بجثمانه فِيهِ سمير وهاجع
إِذا وَردت لم يردد الله وفدها ... على أَهلهَا وَالله رَاء وسامع
تفتح أَبْوَاب السَّمَوَات دونهَا ... إِذا قرع الْأَبْوَاب مِنْهُنَّ قارع
وَإِنِّي لأرجو الله حَتَّى كَأَنَّمَا ... أرى بجميل الظَّن مَا الله صانع
المؤتمن يتَعَلَّم النَّحْو
حَدثنَا الْعَبَّاس بْن الْعَبَّاس بْن الْمُغيرَة أَبُو الْحُسَيْن الْجَوْهَرِي حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى الوَاسِطِيّ الفراقي قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: الفراقي هَذَا كَانَ نَظِير ثَعْلَب، قَالَ حَدَّثَنِي سَلمَة أَو الطوَال شكّ أَبُو الْحُسَيْن قَالَ حَدَّثَنِي الْفراء أَنه دخل على المؤتمن وَكَانَ قُرَيْش مؤدبة فَقَالَ لَهُ الْفراء: أَيْن بلغ الْأَمِير؟ يَعْنِي من الْعَرَبيَّة فَقَالَ: سَله، فَقَالَ لَهُ الْفراء: كَيفَ تَقول: إِن مَا ضربت زيد؟ فَقَالَ لَهُ المؤتمن: إِنَّمَا ضربت زيد، فَقَالَ الْفراء: يجمل بالأمير النّظر فِيهَا، وَلم يقل لَهُ أَخْطَأت، فَقَالَ: قد أصبت، فَقَالَ لَهُ الْفراء: وَأَيْنَ تُوجد مَا فِي معنى الَّذِي؟ قَالَ: فِي كتاب الله تَعَالَى، قَالَ: أَيْن؟ قَالَ: قَول الله تَعَالَى: " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " النِّسَاء:3 مَعْنَاهُ الَّذِي ملكت أَيْمَانكُم، قَالَ الْفراء: فَقُمْت وَقد حممت.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وَكَانَ الْكسَائي يُؤَدب المؤتمن، فَظهر بِهِ فِي كَفه بَيَاض، فَبلغ ذَلِك أمه فَخَشِيت أَن يُؤْذِيه الْكسَائي وَجِيء بقريشٍ يؤدبه.
مَا وَمن
قَالَ القَاضِي: قد ذهب قوم إِلَى أَن مَا تَأتي بِمَعْنى الَّذِي وَمن، وَالْأَصْل الظَّاهِر اخْتِصَاص من يعلم وَمن يعقل ب؟ من وَأَن مَا لما لَا يعقل ولجنس مَا يعقل، وان الَّذِي لَهما جَمِيعًا، وَمن أَحْكَام مَا أَنَّهَا قد تكون هِيَ وصلتها بِمَعْنى الْمصدر، وَقد حكى عَن بعض الْعَرَب: سُبْحَانَ مَا سبحت لَهُ، يعنون الرَّعْد، فَذهب بِهِ بَعضهم إِلَى معنى من وَكَذَلِكَ قَوْله: " وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا " الشَّمْس:5 7 وَقَالَ منكروه من محققي النُّحَاة: هَذَا كُله بِمَعْنى الْمصدر وَالْمعْنَى وبنائها وطحوها وتسويتها، وَقَالُوا: معنى " وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " النِّسَاء: 36 وَأَيْمَانهمْ أَي ملك أَيْمَانكُم وَأَيْمَانهمْ كَقَوْلِك: أعجبني مَا صنعت أَي صنيعك. وَقيل فِي قَوْله: " وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى " اللَّيْل:3 أَنه بِمَعْنى: وخلقه الذّكر وَالْأُنْثَى، وَقيل غير ذَلِك. وَيُقَال: مَا زيد؟ فَيُقَال: إِنْسَان فَهَذَا صَحِيح فِي جنس مَا يعقل.
وَالْعجب من استخذاء الْفراء عِنْدَمَا احْتج عَلَيْهِ المؤتمن بِهِ وَكَيف لم يُورد شَيْئا مِمَّا(1/460)
تعلق بِهِ الموافقون لَهُ فِي مذْهبه، وَقد كَانَت رتبته تجل عَن أَن يذهب هَذَا الْمَعْنى عَلَيْهِ، وَأَن يَنْفَكّ عَن نصْرَة قَوْله وَالْقِيَام بِهِ، وَلَكِن رُبمَا ارتبك النحرير والبليغ المزير عِنْد شَيْء يفجؤه أَو عَارض يفدحه.
كتاب من عَمْرو بْن مسْعدَة إِلَى ابْن الزيات حَدثنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالب الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي عَبد اللَّه ابْن هَارُون قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن مُوسَى البيمار ستاني، قَالَ أَبُو طَالب: أَحْسبهُ سَمعه من أبي عبد الله البيمار ستاني، هُوَ البرطني، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَفْص الْكرْمَانِي، وَكَانَ من كتاب عَمْرو بْن مسْعدَة، أَنه كتب إِلَى مُحَمَّد بْن عبد الْملك الزيات: أما بعد فَإنَّك مِمَّن إِذا غرس سقى وَإِذا أسس بنى، ليستتم بِنَاء أسه، يجتني ثَمَر غرسه، وبناؤك فِي ودي قد وهى وشارف الدُّرُوس، وغرسك عِنْدِي قد عَطش وأشفى على اليبوس. فتدارك بِنَاء مَا أسست، وغرس مَا زرعت. قَالَ أَبُو عبد الله البيمار ستاني: فَحدثت بذلك أَبَا عبد الرَّحْمَن العطوي فَقَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى أبياتًا يمدح بهَا مُحَمَّد بْن عمرَان بْن مُوسَى بْن يحيى بْن خَالِد بْن برمك:
إِن البرامكة الْكِرَام تعلمُوا ... فعل الْكِرَام فعلموه الناسا
كَانُوا إِذا غرسوا سقوا وَإِذا بنوا ... لم يهدموا لبنائهم أساسًا
وَإِذا هم صَنَعُوا الصَّنَائِع فِي الورى ... جعلُوا لَهَا طول الْبَقَاء لباسا
فعلا تسقيني وَأَنت سقيتني ... كأس الْمَوَدَّة من جفاتك كاسا
آنستني متفضلا أَفلا ترى ... أَن القطيغة توحش الإيناسا
منامان حَدثنَا عَبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن الْفرج الوَاسِطِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن عَبد اللَّه الْمقدمِي قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَليّ يحدث عَن هَارُون بْن رَحِيم قَالَ: رَأَيْت الْحسن بْن حبيب بْن ندبة فِي النّوم فَقلت: مَا صنع بك رَبك؟ قَالَ: مَا ترَاهُ صنع بِي؟ رحمني وأكرمني وَغفر لي وطيبني وَقَالَ: هَكَذَا أفعل بأبناء ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
حَدثنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَليّ الديباجي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يُونُس، قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: رأى رجل فِي الْمَنَام جرير بْن الخطفى فَقَالَ: مَا فعل بك رَبك؟ قَالَ: غفر لي، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بتكبيرةٍ كَبرت الله تَعَالَى فِي الْمقر قَالَ الْأَصْمَعِي: مَاء بالبادية قلت: فَمَا فعل أَخُوك الفرزدق؟ قَالَ: هَيْهَات أهلكه قذف الْمُحْصنَات، قَالَ الْأَصْمَعِي: لم يَدعه فِي الْحَيَاة وَلَا فِي الْمَمَات.
الْمجْلس الثَّالِث وَالسِّتُّونَ
عَليّ بْن الجهم وَحَدِيث الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو محمدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ(1/461)
عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ الشَّافِعِيِّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ الشِّيَرازِيُّ قَالَ: نَزَلَ عَلَيَّ بْنُ الْجَهْمِ بِشِيرَازَ فَقَالَ لِي: أَخُصُّكَ بِحَدِيثٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: افْعَلْ، فَقَالَ: قَالَ لِيَ الْمُتَوَكِّلُ يَوْمًا: يَا عَلِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشَرَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْجَنَّةِ، أَيُّ حَدِيثٍ هُوَ؟ قَالَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَصَحُّ حديثٍ، قَالَ: فَمَنْ رَوَاهُ؟ قَالَ قُلْتُ: رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ منصورٍ عَنْ هِلالِ بْنِ يسافٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَالِمٍ عَنْ سعيدٍ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشَرَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ فَقَالَ لِي: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ!! قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ حَضَرَنِي شَيْءٌ فَأَقُولُهُ؟ قَالَ: قل، قُلْتُ:
مُحَمَّدٌ خَيْرُ بَنِي النَّضْرِ ... حَكَاهُ بِالْعَدْلِ أَبُو بَكْرِ
صَدِيقُ خَيْرِ الْخَلْقِ لَا وَانِيَ ... يَنْصُرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
وَثَالِثُ الْقَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ ... يَخْلُفُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
ذَاكَ أَبُو حَفْصٍ فَمَا مِثْلُهُ ... يَكُونُ حَتَّى آخِرِ الدَّهْرِ
سُبْحَانَ مَنْ أَكْرَمَهُمْ بِالتُّقَى ... وَصَيَّرَ الأَبْرَارَ فِي قَبْرِ
هَذَا هُوَ الْفَخْرُ فَلا غَيْرُهُ ... مَا بَعْدَ ذَاكَ الرَّمْسِ مِنْ فَخْرِ
وَرَابِعُ الْقَوْمِ إِمَامُ الْهُدَى ... عُثْمَانُ ذُو النُّورِ أَبُو عَمْرِو
كَفَى رَسُولُ اللَّهِ مَا هَمَّهُ ... وَجَهَّزَ الْجَيْشَ لَدَى الْعُسْرِ
يَخْمِسُهُمُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ... إِمَامُ عدلٍ ظَاهِرُ النَّصْرِ
صَاحِبُ صِفِّينَ فَمَا قَبْلَهَا ... إِلَى حُنَيْنٍ وَإِلَى بَدْرِ
وَطَلْحَةُ الْخَيْرِ لَهُمْ سَادِسٌ ... أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْكفْر
وَسبع الْقَوْمِ الزُّبَيْرُ الَّذِي ... كَانَ حَلِيفَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
هَذَا وَسَعْدٌ لَهُمْ ثَامِنٌ ... وَابْنُ عوفٍ طَيِّبُ النَّشْرِ
وَحَمْزَةُ السَّيِّدُ فِي قَوْمِهِ ... عَلَى وُجُوهِ الْقَوْمِ كَالْبَدْرِ
وَعَمُّ خَيْرِ الْخَلْقِ لَا يُمْتَرَى ... أَبُو الْمُلُوكِ السَّادَةُ الزَّهْرِ
فَالْمُلْكُ فِيهِمْ أَبَدًا ثَابِتٌ ... مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ إِلَى الْحَشْرِ
قَالَ: فَضَحِكَ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَالا عَظِيمًا وَقَسَّمَهُ عَلَى بني هَاشم وقريشٍ وَالْأَنْصَار وَبَين الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْطَانِي مِنْهُ صَدْرًا صَالِحًا.
تَعْلِيق الْجريرِي
قَالَ القَاضِي: الْخَبَر الْوَارِد عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَتِهِ للعشرة من أَصْحَابه بِالْجنَّةِ خبر(1/462)
صَحِيح، وَقد أَتَت الرِّوَايَة بِهِ من طرقٍ عدَّة، وَفِي بَعْضهَا أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر نَفسه وَتِسْعَة مَعَه، وَفِي بَعْضهَا أَنه ذكر من صحابته عشرَة، وَالْأَخْبَار بِكُل واحدٍ من الْوَجْهَيْنِ ثَابِتَة. وَقَول عَليّ بْن الجهم فِي شعره لَا واني أَتَى بِهِ على الأَصْل، وَهَذَا مِمَّا يسوغ للشاعر لإِقَامَة الْوَزْن، قَالَ الشَّاعِر:
كمشتريٍ بِالْحَمْد أحمرة تترى
وَقَالَ آخر:
لَا بَارك الله فِي الغواني هَل ... يصبحن إِلَّا لَهُنَّ مطلب
وَقَوله: كَفَى رَسُولُ اللَّهِ مَا هَمَّهُ الْعَرَب تَقول: همك مَا أهمك أَي أذابك مَا يعذبك، وَيُقَال: هَمَمْت الشَّحْم أَي أذبته، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كرثه ولذعه بمضضه، وَقَوله: يخمسهم ابْن أَبِي طَالب يُقَال: خمست الْقَوْم أخمسهم إِذا صرت خَامِسًا لَهُم، وَمثله ثلثتهم أثلثهم وسدستهم أسدسهم، وَمثله ثمنتهم وعشرتهم، فَإِذا قلت أخمسهم بِالضَّمِّ فمعنا أخذت خمس أَمْوَالهم، وَمثله أثلثهم وأسدسهم وأثمنهم وأعشرهم إِذا أخذت هَذِه الْأَجْزَاء مِنْهُم، فَإِذا قلت: ربعتهم وسبعتهم وتسعتهم قلت فِي الْوَجْهَيْنِ أربعهم وأتسعهم، ففتحت عين الْفِعْل من أجل حرف الْحلق. وَقَوله: ابْن أَبِي طالبٍ وابْن عوفٍ بِالْقطعِ وَالْألف فِيهِ للوصل لضَرُورَة الشّعْر وَتَصْحِيح الْوَزْن، وَقد أَتَى مثل هَذَا كثيرا فِي أشعار الْعَرَب، وَذكرنَا مِنْهُ فِيمَا مضى من كتَابنَا هَذَا أبياتًا عدَّة، من ذَلِك قَول الشَّاعِر:
إلّا لَا أرى إثنين أكرمَ شِيمَةً ... عَلَى حِدْثان الدَّهْر مِنِّي وَمن جمل
وَقَالَ آخر:
فَأَي امْرِئ ألشامُ بيني وَبَينه ... أَتَتْنِي ببشرى برده ورسائله
ولاستقصاء القَوْل فِي هَذَا بَين يَدي هِشَام
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالَ: صعد رجل إِلَى هِشَام بْن عبد الْملك فِي خضراء مُعَاوِيَة، فَمثل بَين يَدَيْهِ لَا يتَكَلَّم، فَقَالَ لَهُ هِشَام: مَالك لَا تَتَكَلَّم؟ قَالَ: هَيْبَة الْملك وبهر الدرج؛ فَلَمَّا رجعت نَفسه إِلَيْهِ قَالَ لَهُ هِشَام: تكلم وَإِيَّاك ومدحنا، فَقَالَ: لست أحمدك إِنَّمَا أَحْمَد الله تَعَالَى فِيك. ثُمَّ قَالَ: إِن الدُّنْيَا ذمت بأعمال الْعباد إِذا أساءوا، وَلم تحمد بأعمالهم فِيهَا إِذا أَحْسنُوا، وَإِن الدُّنْيَا لم تكْتم بِمَا فِيهَا فتذم وَلَكِن إِنَّمَا جهرت بِهِ، فَأَخذهَا من أَخذهَا بذلك وَهِي عَلَيْهِ، وَتركهَا من تَركهَا لذَلِك وَهِي لَهُ. وَإِن الدُّنْيَا نادت أَهلهَا بِأَنَّهَا تاركة من أَخذهَا، ومفارقة من صحبها، ومخربة عمرَان من عمرها، فَمن زرع فِيهَا شرورًا حصد حزنا، وَمن أبر فِيهَا هوى اجتنى ندامة، وَإِنَّمَا هِيَ لمن زهد فِيهَا الْيَوْم وَأعْرض عَنْهَا وآثر الْحق عَلَيْهَا؛ وَأَخذهَا من أَخذهَا بعد الْبَيَان مِنْهَا والإخبار عَن نَفسهَا، فغر نَفسه وسماها غرارة، وَكذب نَفسه وسماها كذابة، وزهد فِيهَا(1/463)
آخَرُونَ فصدقوا مقالتها، وَرَأَوا آثارها فِي فعلهَا فَأخذُوا مِنْهَا قَلِيلا، وَقدمُوا فِيهَا كثيرا، وسلموا من الْبَاطِل، وَصَارَت لَهُم عونًا على الْحق فِي غَيرهَا، فَلم تحمد بِإِحْسَان من أحسن فِيهَا وَهِي لَهُ، وذمت بإساءة من أَسَاءَ فِيهَا وَهِي عَلَيْهِ، فَأَنت أَحَق بإساءتك فِيهَا إِذْ كَانَ الْإِحْسَان لَك دونهَا. فَأَطْرَقَ هِشَام يفكر فِي كَلَامه وأملس الرجل فَلم يره.
شرح غَرِيب النَّص
قَالَ القَاضِي: وَمن أبر فِيهَا هوى أَي لقح يُقَال: أبرت النّخل وأبرته إِذا ألقحته، وَمِنْه قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بَاعَ نخلا مؤبرًا، وَقَوله: سكَّة مأبورة، وَقَالَ الشَّاعِر:
لَا تأمنن قوما وترتهم ... وبدأتهم بالغشم وَالظُّلم
أَن يأبروا نخلا لغَيرهم ... وَالشَّيْء تحقره وَقد ينمي
وَقَوله: فأملس مَعْنَاهُ زَالَ عَن مَوْضِعه بسهولةٍ، وَهُوَ مَأْخُوذ من الملاسة، يُقَال: أملس من كَذَا وتملس أَي زَالَ بسرعةٍ لملاسة مَوْضِعه وَأَنه لَيْسَ فِيهِ أَجزَاء لَهَا نتوء ونبو وتضريس. وَيُقَال فِي هَذَا الْمَعْنى املص وتملص فَكَأَنَّهُ من الدحض والزلق، وَيُقَال إِن هَذَا الْوَجْه أفْصح الْكَلَامَيْنِ، وَمِنْه أملصت الْمَرْأَة فأزلقت إِذا أسقطت جَنِينهَا، وَمِنْه الْخَبَر الْوَارِد أَن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فِي إملاص امْرَأَة بغرةٍ: عبدٍ أَو أمةٍ وَذَلِكَ إِذا ضربت فَأسْقطت جَنِينا مَيتا.
وَهَذَا الْخَبَر مِمَّا يُنَبه على الحذر من غرور الدُّنْيَا، وَقَالَ الله تَعَالَى ذكره: " يَا أَيهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ " فاطر:5.
شعوانة تبْكي وتبكي
حَدثنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يحيى قَالَ: كَانَت شعوانة تردد هَذَا الْبَيْت فتبكي وتبكي النِّسَاء مَعهَا:
لقد أَمن الْمَغْرُور دَار إقامةٍ ... ويوشك يَوْمًا أَن يخَاف كَمَا أَمن
مَا أنْفق يَوْم تحذيق المعتز
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن الْفُرَات قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَجَمَاعَة من شُيُوخنَا قَالَ: لما حذق المعتز الْقُرْآن دَعَا المتَوَكل شَفِيعًا الْخَادِم بِحَضْرَة الْفَتْح بْن خاقَان فَقَالَ: إِنِّي عزمت على تحذيق أَبِي عَبد اللَّه فِي يَوْم كَذَا وَتَكون خطبَته عَليّ وحذاقة ببركوارا، فَأخْرج من خزانَة الْجَوْهَر جوهرًا بِقِيمَة مائَة ألف دينارٍ فِي عشر صواني فضَّة للنثار على من يقرب من القواد مثل مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه ووصيف وبغا وجعفر الْخياط ورجاء الحصاري وَنَحْو هَؤُلَاءِ من قادة الْعَسْكَر، وَأخرج مائَة ألف دينارٍ عددا للنثار على القواد الَّذين دون هَؤُلَاءِ فِي الرواق بَين يَدي الْأَبْوَاب، وَأخرج ألف ألف درهمٍ بيضًا صحاحًا للنثار على من فِي الصحن من خلفاء القواد والنقباء.(1/464)
قَالَ شَفِيع: فوجهت إِلَى أَحْمَد بْن حباب الْجَوْهَرِي فَأَقَامَ مَعنا حَتَّى صنفنا فِي عشر صواني من الْجَوْهَر الْأَبْيَض والأحمر والأزرق والأخضر بِقِيمَة مائَة ألف دينارٍ وَوزن كل صينية ثَلَاثَة أُلَّاف دِرْهَم؛ وَقَالَ شَفِيع لِابْنِ حباب: اجْعَل فِي صينيةٍ من هَذِه الصواني جوهرًا يكون قِيمَته خَمْسَة آلَاف دِينَار وانتقصه من بَاقِي الصواني حَتَّى يكون فِي كل وَاحِدَة تِسْعَة آلَاف دِينَار وانتقصه من بَاقِي الصواني حَتَّى يكون فِي كل وَاحِدَة تِسْعَة آلَاف وَخَمْسمِائة دِينَار فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي أَن أدفَع هَذِه الصينية إِلَى مُحَمَّد بْن عمرَان مؤدب الْأَمِير أَبِي عَبد اللَّه إِذا فرغ من خطبَته، فَفعل ذَلِك، وشدوا كل صينية فِي منديلٍ، وختمت بِخَاتم شَفِيع، وَتقدم شَفِيع إِلَى من كَانَ مَعَه من الخدم أَن ينثروا الْعين فِي الرواق، وَالْوَرق فِي الصحن، وأوعز إِلَى النَّاس من الأكابر ووجوه الموَالِي والشاكرية بِحُضُور بركوارا فِي يومٍ سمي لَهُم ليشهدوا خطْبَة الْأَمِير المعتز، وَكتب إِلَى مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه وَهُوَ بِمَدِينَة السَّلَام بالقدوم إِلَى سر من رأى لحضور الحذاق. قَالَ: فتوافي النَّاس إِلَى بركوارا قبل ذَلِك بِثَلَاثَة أَيَّام، وَضربت الْمضَارب، وَانْحَدَرَ المتَوَكل غَدَاة ذَلِك الْيَوْم وَمَعَهُ قبيحة وَمن اخْتصّت من حرم المتَوَكل وَمن حشمها إِلَى بركوارا، وَجلسَ المتَوَكل فِي الإيوان على منصته وَأخرج مِنْبَر أبنوس مضببٍ بِالذَّهَب مرصعٍ بالجوهر مقابضة عاج، وَقَالَ بَعضهم: عود هندي، فنصب تجاه المنصة وسط الإيوان، ثُمَّ أَمر بِإِدْخَال مُحَمَّد بْن عمرَان الْمُؤَدب، فَدخل فَسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ بالخلافة ودعا لَهُ، فَجعل أَمِير الْمُؤمنِينَ يستدنيه حَتَّى جلس بَين يَدي الْمِنْبَر، وَخرج المعتز من بابٍ فِي جنبة الإيوان حَتَّى صعد الْمِنْبَر، فَسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ وعَلى من حضر، ثُمَّ خطب، فَلَمَّا فرغ من خطبَته دفعت الصينية إِلَى مُحَمَّد بْن عمرَان، ونثر شَفِيع صواني الْجَوْهَر على من فِي الإيوان، ونثر الخدم الَّذين كَانُوا فِي الرواق والصحن مَا كَانَ مَعَهم من الْعين وَالْوَرق، وَأقَام المتَوَكل ببركوار أَيَّامًا فِي يومٍ مِنْهَا دَعَتْهُ قبيحة، فَيُقَال إِنَّه يَوْم لم ير مثله سُرُورًا وحسنا وَكَثْرَة نفقةٍ، وَإِن الشمع كُله كَانَ عنبرًا إِلَّا الشمعة الَّتِي فِي الصحن فَإِنَّهُ كَانَ وَزنهَا ألف من فَكَادَتْ تحرق الْقصر، وَوجد حرهَا من كَانَ فِي الْجَانِب الغربي من دجلة. وَقد كَانَ أَمر المتَوَكل أَن يصاغ لَهُ سريران: أَحدهمَا ذهب وَالْآخر فضَّة، ويفرش السرير الْفضة ببساط حبٍ وبرذعة حبٍ ووسادي حب ومخدتي حبٍ ومسند حبٍ منظوم على ديباج أسود، وَكَانَ طول السرير تِسْعَة أذرعٍ، قَالَ: فَأخْرج من خزانَة الْجَوْهَر حب عمل لَهُ ذَلِك فَكَانَ أرفع قيمَة الْحبَّة دِينَارا، وَأَقل الْقيمَة درهما، فأتخذ لَهُ ذَلِك وَأمر بفرش السرير الذَّهَب بِمثل فرش السرير الْفضة مَنْقُوشًا بأنواع الْجَوْهَر الْأَحْمَر والأخضر والأصفر والأنواع، ففرشا فَقعدَ عَلَيْهِمَا هُوَ وقبيحة ثُمَّ وهبهما لَهَا.
دَافع عَن أَبِي هُرَيْرَة فِي مجْلِس الرشيد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِي قَالَ حَدَّثَنَا(1/465)
يزِيد بْن مرّة الدّباغ قَالَ حَدَّثَنَا عمر بْن حبيب قَالَ: كُنَّا عِنْد هَارُون أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَبَين يَدَيْهِ قوم تيناظرون، فَذكرُوا حَدِيثا فَقَالُوا: رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكذب أَبُو هُرَيْرَة، وَارْتَفَعت أَصْوَاتهم بتكذيب أَبِي هُرَيْرَة، فَرَأَيْت هَارُون قد نحا نحوهم وَمَال إِلَى قَوْلهم، فَقلت أَنا: صدق أَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو هُرَيْرَة الصَّادِق فِي رِوَايَته عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقمت فَانْصَرَفت.
فَلَمَّا دخلت منزلي وافيى بريد فأدخلته فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ إِجَابَة مقتول لِأَنَّك لَا ترجع، فَقلت فِي نَفسِي: الله يعلم إِنِّي قُمْت بحقٍ، ونصرت صَاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومضيت إِلَى هَارُون فَدخلت عَلَيْهِ وَهُوَ جَالس على كرْسِي من ذهب حاسرًا عَن ذِرَاعَيْهِ، بِيَدِهِ سيف، فَقَالَ: يَا عمر بْن حبيب، تقبل عَليّ بِالرَّدِّ بِمَا أَقبلت بِهِ؟! فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، الَّذِي قلته إزراء على رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَّابين فَأمر الْإِسْلَام كُله بَاطِل، وَالصَّلَاة الصَّوْم وَالطَّلَاق وَالْحُدُود. قَالَ: صدقت يَا عمر بْن حبيب، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله.
قَالَ القَاضِي: الفصيح زريت على الرجل زراية وأزريت بِهِ إزراء.
تقبل السوَاد فِي أَيَّام الْمَأْمُون فربح كثيرا
حَدثنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِم ابْن أَحْمَد الْكَاتِب، قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مدبرٍ، قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم بْن مصعبٍ قَالَ: تَضَمَّنت السوَاد من الْمَأْمُون لسنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ بأربعمائة ألف كرّ شَعِيرًا مصرفًا بالفالج حَاصِلا، وَثَمَانِية آلَاف ألف درهمٍ سوى مُؤَن الْعَمَل وأرزاق الْعمَّال وَغير ذَلِك، فارتفع لي فِيهِ من الْفضل بعد الْمُؤَن والأرزاق الْجَارِيَة عشرُون ألف ألف دِرْهَم، قَالَ: فَأتيت الْمَأْمُون، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي قد استفضلت فِي ضَمَان السوَاد عشْرين ألف ألف دِرْهَم، قَالَ: قد سررتني وَقد سوغتها، وَلَكِن اكْتُبْ إِلَى عَبد اللَّه بْن طاهرٍ فَعرفهُ أَنِّي إِنَّمَا ضمنتك السوَاد لَهُ وسوغتك هَذَا الْفضل لمكانه وَمحله مني، فَفعلت، قَالَ: فَكتب إِلَى عَبد اللَّه بْن طَاهِر: قد سرني مَا كتبت بِهِ من ربحك عشْرين ألف ألف دِرْهَم وتسويغ أَمِير الْمُؤمنِينَ إياك ذَلِك، وأمير الْمُؤمنِينَ أجل قدرا وَأعظم خطرًا من أَن يستكثر هَذَا من فعله، إِذْ كَانَ أَهلا لما هُوَ أَكثر مِنْهُ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن نقنع لَك بِهَذَا دون أَن أضيف إِلَيْهِ شَيْئا آخر من مَالِي فاقبض من غلَّة ضياعي مائَة ألف ألف دِرْهَم.
بَين بني هَاشم وَبني أُميَّة
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَائِشَة عَن جوَيْرِية قَالَ، قَالَ عمر بْن عبد الْعَزِيز: مَا زلنا نَحن وَبَنُو عمنَا من بني هَاشم مرّة لنا وَمرَّة علينا، نلجأ إِلَيْهِم ويلجأون إِلَيْنَا حَتَّى طلعت شمس الرسَالَة فأكسدت كل(1/466)
نَافق وأخرست كل نَاطِق.
جرير يحكم بتفوق الأخطل
حَدثنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى قَالَ حَدَّثَنَا ابْن الْأَعرَابِي قَالَ، قيل لجرير: أَيّمَا أشعر أَنْت فِي قَوْلك.
حَيّ الْغَدَاة برامة الأطلال ... رسما تحمل أَهله فأحالا
أم الأخطل فِي جوابها:
كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسط ... غلس الظلام من الربَاب خيالا
قَالَ: هُوَ أشعر مني، إِلَّا أَنِّي قد قلت فِي قصيدتي بَيْتا لَو أَن الأفاعي نهشتهم فِي أستاههم مَا حكوها حَيْثُ أَقُول:
والتغلبي إِذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
تعليقات للمعافى بْن زَكَرِيَّا قَالَ القَاضِي: من فضل جرير تفضيله الأخطل فِي الشّعْر واعترافه بِأَن شعره يفضل شعر نَفسه، على مَا بَينهمَا من الْعَدَاوَة والملاحاة والمقارعة والمهاجاة والمفاخرة والمباراة، مَعَ أَن جَرِيرًا قد أَتَى فِي قصيدته هَذِه بِمَا لَيْسَ فِي قصيدة الأخطل وَلَا غَيرهَا من شعره مَا يدانيه وَيُقَارب مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ قَوْله:
مَا زلت تحسب كل شَيْء بعدهمْ ... خيلاص تكر عَلَيْكُم ورجالا
وَهَذَا من أخصر كَلَام وأفصحه، وأبلغ نظامٍ وأروضحه. وَقد رُوِيَ أَن الأخطل لما أنْشد هَذَا الْبَيْت بهت عِنْده وَكثر تعجبه مِنْهُ وَقَالَ: من أَيْن لِابْنِ المراغة هَذَا؟ فَقيل لَهُ: إِن هَذَا الْمَعْنى فِي الْقُرْآن وتلي عَلَيْهِ قَول الله جلّ وَعز: " يَحْسَبُونَ كُلَّ صيحةٍ عَلَيْهِم هم الْعَدو " والمنافقون: 4 فَقَالَ الأخطل: أَنا من أَيْن لي مثل كتاب محمدٍ آخذ مِنْهُ وأستعين بِهِ؟! وَالَّذِي أَتَى الْقُرْآن بِهِ فِي هَذَا مبر على مَا قَالَه الشُّعَرَاء فِيهِ لأمرٍ متفاوت فِي قلَّة عدد حُرُوفه وَقرب مأخذه ووضوح مَعْنَاهُ. وَمِمَّا يشبه قَول جرير فِي هَذَا الْمَعْنى قَول الَّذِي قَالَ:
وَلَو أَنَّهَا عصفورة لحسبتها ... مسومة تَدْعُو عبيدا وأزنما
وَنَحْو هَذَا قَول الآخر
كَأَن بِلَاد الله وَهِي عريضة ... على الْخَائِف الْمَطْلُوب كفة حابل
تُؤدِّي إِلَيْهِ أَن كل ثنيةٍ ... تطلعها ترمي إِلَيْهِ بِقَاتِل
ويروى تسنمها.
قَالَ القَاضِي: قَوْله: كَفه حابل يَعْنِي حبالة الصَّائِد، وَقَالَ اللغويون: الكفة مَا كَانَ مستديرًا ككفة الْمِيزَان، والكفة بِالضَّمِّ مَا كَانَ مستطيلا ككفة الثَّوْب، والوجهان يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ الْكَفّ والحصر وَالْحَبْس وإحاطة النهايات بالحواشي المتوسطات؛(1/467)
وَمِنْه حَاجَة لَهَا كفة، وحاجات لَهَا كفف أَي نِهَايَة تجمعها وتحيط بهَا وتكفها عَن التشذب والانتشار. وَمن ذَلِك قَول الْأَعْشَى مَيْمُون بن قيسٍ:
كَانَت وصاة وحاجات لَهَا كفف ... وَأَن صحبك إِن ناديتهم وقفُوا
هفوة من سوارح الْعقل الْبَاطِن
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعْدَان قَالَ حَدَّثَنَا ا؟ لأصمعي عَن عَبد اللَّه بْن صَالح قَالَ، قَالَ لي رجل من حَارِثَة بْن لَام: أضافني رجل من بني تغلب فَأحْسن ضيافتي فَأَفلَت من لساني هَذَا الْبَيْت:
والتغلبي إِذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
فَلَمَّا قلته خجلت وَسقط فِي يَدي، فَقَالَ لي: يَا عَبد اللَّه انبسط، فَإِنَّمَا قلت كلمة مقولة.
أحلى قولٍ للمستملي
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زيادٍ الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود بمرو قَالَ، سَمِعت يحيى بْن أَكْثَم يَقُول: كنت قَاضِيا وأميراً ووزيرا وقاضيا عَليّ الْقُضَاة مَا ولج سَمْعِي أحلى من قَول الْمُسْتَمْلِي: من ذكرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْك؟
مَجْمُوعَة حكم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه السليطي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُنْذر الْهَرَوِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن شكر، قَالَ حَدَّثَنِي حطَّان بْن عبد الرَّحْمَن الجندي، قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن سُلَيْمَان الجندي قَالَ، قَالُوا: دعامة الْعقل الْحلم وَجَمَاعَة الصَّبْر. وَأعلم أَن هَذِه الدُّنْيَا دوَل، فَمَا كَانَ مِنْهَا للْإنْسَان أَتَاهُ على ضعفه، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْهِ لم يَدْفَعهُ بقوته. وَقَالُوا: الشَّرّ مخوف من كل وجهٍ، والنفع مرجو من كل ناحيةٍ، وَمَا أَكثر مَا يَأْتِي الْخَيْر من وُجُوه الْخَوْف وَيَأْتِي الشَّرّ من نَاحيَة الرَّجَاء.
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَليّ القَاضِي النَّيْسَابُورِي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمسيب الأرغياني، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خبيق، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَبد اللَّه الْحلَبِي، قَالَ سَمِعت أَبَا إِسْحَاق الْفَزارِيّ يَقُول: إِن للحوئج فُرْسَانًا كفرسان الْحَرْب. وَقَالَ لي أَبُو إسحاقك إِن الرجل ليسألني عَن حَالي وَلَو أخْبرته لشمت بِي.
عَمْرو بْن عبيد يعظ الْمَنْصُور
حَدثنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة، قَالَ حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِي، قَالَ: دخل عَمْرو بْن عبيد على الْمَنْصُور فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى أَعْطَاك الدُّنْيَا بأسرها، فاشتر نَفسك مِنْهُ بِبَعْضِهَا، وَاحْذَرْ لَيْلَة تمخض عَن يومٍ لَا لَيْلَة بعده. قَالَ: فَبكى أَبُو جَعْفَر، قَالَ عَمْرو: انبذ عَنْك الْبكاء واترك مَا تنكر إِلَى مَا تعرف، وَاعْلَم أَن رَبك لبالمرصارد، وَالسَّلَام.(1/468)
شعر إِسْحَاق الْموصِلِي
حِين أبل صباح بْن خاقَان
حَدثنَا مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الشَّافِعِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عمار قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْقَاسِم بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان بْن عَليّ قَالَ حَدَّثَنَا صباح بْن خاقَان قَالَ: اعتللت عِلّة أشفيت مِنْهَا، فَبلغ ذَلِك إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي فَاغْتَمَّ مِنْهَا، ثُمَّ ورد عَلَيْهِ الْخَبَر بإفاقتي فَكتب إِلَيّ:
حمدت الله إِذْ عافى صباحا ... وأعقبه السَّلامَة والصلاحا
وَكُنَّا خَائِفين على صباح ... من الْخَبَر الَّذِي قد كَانَ باحا
وخوفني من الْحدثَان أَنِّي ... رَأَيْت الْمَوْت إِن لم يغد رَاحا
الأخطل يسرق معنى للأعشى
حَدثنَا المظفر بْن يحيى بْن أَحْمَد الشرابي، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المرثدي، قَالَ أَخْبرنِي طَلْحَة بن عبد الله الطلحي، قَالَ أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بْن سَعْدَان، قَالَ حَدَّثَنَا ابْن بشير الْمَدِينِيّ قَالَ: وفدت إِلَى بعض مُلُوك بني أُميَّة فمررت بقريةٍ فَإِذا رجل مرنح من الشَّرَاب قَائِم يَبُول، فَسَأَلته عَن الطَّرِيق فَقَالَ: أمامك، ثُمَّ لَحِقَنِي فَقَالَ: أنزل، فَنزلت، فَقَالَ: ادن دُونك وَعَلَيْك الحانة، فَدخلت، فأحضر سفرة واستل سلة فَأخْرج مِنْهَا رغفًا ووذرًا من لحمٍ فَقَالَ: أصب، ثُمَّ سقاني خمرًا، فَإِذا أَبُو مَالك. ثُمَّ قَالَ لي: كَيفَ علمك بالشعر؟ قلت: قد رويت، فأنشدني قصيدته:
صرمت حبالك زَيْنَب ورعوم
فَلَمَّا انْتهى حبالك زَيْنَب ورعوم فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَوْله:
حَتَّى إِذا أَخذ الزّجاج أكفنا ... نفحت فَأدْرك رِيحهَا المزكوم
قَالَ: أَلَسْت تزْعم أَنَّك تبصر الشّعْر؟ قلت: بلَى، قَالَ: فَكيف لم تشقق بَطْنك فضلا عَن ثَوْبك عِنْد هَذَا الْبَيْت؟! قَالَ: قلت: قد فعلت عِنْد الْبَيْت الَّذِي سرقت هَذَا مِنْهُ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قلت: بَيت الْأَعْشَى:
من خمر عانة قد أَتَى لختامها ... حول، تفض غمامة المزكوم
قَالَ: أَنْت تبصر الشّعْر، فَلَمَّا صرتُ إِلَى سُلَيْمَان سمرت مَعَه بِهَذَا أول بدأتي.
تَعْلِيق الْجريرِي قَالَ القَاضِي: للأعشى فِي هَذَا الْمَعْنى بَيت هُوَ أبلغ من هَذَا الْبَيْت فِي كلمةٍ لَهُ أُخْرَى وَهُوَ.
من اللَّاتِي حملن على الروايا ... كريح الْمسك تستل الزكاما
واستلال الزُّكَام أبلغ من فضه لِأَن استلاله نَزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره كفض الْخَاتم، وَفِي فضه مَعَ هَذَا إِزَالَته وتنحيته كَمَا يَزُول الْخَاتم عِنْد فضه وَيُفَارق(1/469)
مَا كَانَ حَالا فِيهِ ولازمًا لَهُ. وَفِي قَول الأخطل: فَأدْرك رِيحهَا المزكوم من البلاغة أَنه إِنَّمَا يفوتهُ إِدْرَاك المشمول لحلول الزُّكَام بِهِ وغلبته إِيَّاه، فَإِذا أدْرك ريح الْخمر الَّتِي كَانَ الزُّكَام حَائِلا بَينه وَبَينهَا عندنفحتها فَإِنَّمَا ذَلِك لزوَال الزُّكَام وَزَوَال بعضه وَإِن لم يزل بكليته، فَمن هَاهُنَا كَانَ الفض والاستلال أبلغ وَأبين فِي الْمَعْنى.
مَا يَقُوله الْحسن إِذا أصبح وَإِذا أَمْسَى
حَدثنَا طَلْحَة بْن مُحَمَّد بْن إِسْرَائِيل الْجَوْهَرِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن أَحْمَد ابْن عَبْد الرَّحْمَن الجوهريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حُصَيْن الْأَسدي قَالَ: كَانَ الْحسن إِذا أصبح قَالَ:
يسر الْفَتى مَا كَانَ قدم من تقى ... إِذا عرف الدَّاء الَّذِي هُوَ قَاتله
وَإِذا أَمْسَى قَالَ:
فَمَا الدُّنْيَا بباقيةٍ لحي ... وَلَا حَيّ على الدُّنْيَا بَاقٍ
من أول من قَالَ شعرًا يَعْقُوب أم آدم
حَدثنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد الْمُنَادِي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن يُونُس أَبُو إِسْمَاعِيل إملاء، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالح سهل بْن خاقَان، وَكَانَ من خِيَار النَّاس، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْمُوَرِّع يَقُول: أول من قَالَ بَيت شعر يَعْقُوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جَاءُوهُ فأخبروه عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بِالَّذِي أَخْبرُوهُ بِهِ فَقَالَ:
فَصَبر جميل بِالَّذِي جئْتُمْ بِهِ ... وحسبي إلهي فِي الْمُهِمَّات كَافِيا
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد أَتَت هَذِه الرِّوَايَة بِمَا وصفناه، وَقد رُوِيَ لنا أَن أول من قَالَ الشّعْر آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما قتل قابيل أَخَاهُ هابيل، وَأَن إِبْلِيس لَعنه الله أجَاب آدم عَلَيْهِ السَّلَام عَن شعره ذَلِك، وَهِي رِوَايَة مَعْرُوفَة، ولعلنا نأتي بهَا فِيمَا بعد إِذا خرجت لنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
مُعَاوِيَة يغري ابْن عمر بِالْمَالِ ليبايع ليزِيد
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ مِنْ كِتَابِ أَبِيهِ يُلَقَّنُ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ لِيَزِيدَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ بِمِائَةِ ألفٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ بَايِعْ لِيَزِيدَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ ذَاكَ لِذَلِكَ إِنَّ دِينِي عِنْدِي إِذَنْ لَرَخِيصٌ.
لماذا يخْتَلف إِلَى النَّاس
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ الدِّينَوَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نُعَيْمٍ الدِّينَوَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الْوَاسِطِيُّ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فِي سَنَةِ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ بَهْرَامَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَا يُؤْتَى الرَّجُلُ إِلا لخصلةٍ مِنْ أَرْبَعِ خصالٍ: لشرفٍ، أَوْ(1/470)
لِشُكْرِ معروفٍ سَلَفَ، أَوْ لأمرٍ يُؤْتَنَفُ، أَوْ لِحَدِيثٍ يُطَّرَفُ.
حَدثنَا مُحَمَّد بْن زيادٍ الْمقري قَالَ سَمِعت أَحْمَد بْن صَالح النَّحْوِيّ السَّرخسِيّ قَالَ، سَمِعت المَسْعُودِيّ يَقُول، قَالَ الْمَأْمُون: يخْتَلف إِلَى النَّاس لأربعة أَشْيَاء: لصِحَّة شرفٍ، أَو لعلمٍ مطرف، أَو لأمرٍ مؤتنفٍ، أَو لمعروفٍ قد سلف.
مَا فِي جيب ابْن الجهم حِين قتل
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن أستاذ الْهَرَوِيّ، قَالَ سَمِعت عَبد اللَّه بْن عُرْوَة يَقُول، سَمِعت أَبَا عشانة يَقُول: لما قتل عَليّ بْن الجهم وجد فِي جيبه رقْعَة فِيهَا:
يَا وحشتا للغريب فِي الْبَلَد لنا ... زح مَاذَا بِنَفسِهِ صنعا
فَارق أحبابه فَمَا انتفعوا ... بالعيش من بعده وَلَا انتفعا
أُفٍّ للدنيا وتف
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن محمدٍ الْبَزَّاز قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوق الْعَتكِي عَن عبد الْوَاحِد بْن غياث أَو آخر غَيره ذهب عني اسْمه الْعَتكِي يَقُول هَذَا قَالَ: قد دخلت دَار المورياني لَيْلًا فَسمِعت قَائِلا يَقُول:
أُفٍّ للدنيا وتف ... كل من فِيهَا يلف
فَأَجَابَهُ آخر:
لم تقل وَالله شَيْئا ... إِن فِيهَا من يعف
مِنْهُم القَاضِي وَيحيى ... والهجيمي المخف
توضيح
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: القَاضِي معَاذ بْن معَاذ، وَيحيى بْن سعيد الْقطَّان، وخَالِد بْن الْحَارِث الهُجَيْمِي.
قَالَ القَاضِي: أُفٍّ عِنْد جُمْهُور أهل الْعلم كلمة يَقُولهَا الْمَرْء عِنْد الشَّيْء يضجره أَو يتبرم مِنْهُ ويتقذره، وتف بمعناها، وَقيل إِنَّهَا إتباع لأفٍ مثل حسن بسن وعطشان نطشان. وَقيل هِيَ بِمَعْنى النتن، وَقيل التف الشَّيْء الحقير نَحْو الشظية تُؤْخَذ من الأَرْض. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين فِي علم الْعَرَبيَّة الأف وسخ الظفر، والتف وسخ الْأذن. وَقَالَ الله تَعَالَى: " فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفٍ " الْإِسْرَاء:23 وَأَتَتْ هَذِه اللَّفْظَة فِي مَوَاضِع عدةٍ من الْقُرْآن وفيا لُغَات عدَّة وقراءات مُخْتَلفَة، وَقد ذكرنَا هَذَا مستقصى فِي مَوَاضِع من كتبنَا.
الْمجْلس الرَّابِع وَالسِّتُّونَ
كَيفَ تولى عمر بْن حبيب الْقَضَاء
حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ يَحْيَى إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ سَنَةَ تِسْعِينَ وثلاثمائةٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُدَيْمِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا(1/471)
عُمَرُ بْنُ حبيبٍ الْعَدَوِيُّ الْقَاضِي قَالَ: قَدِمْتُ مَعَ وفدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ، فَجَلَسْنَا وَكُنْتُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَطَلَبَ قَاضِيًا يُوَلَّى عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ جِيءَ بِرَجُلٍ مقيدٍ بِالْحَدِيدِ مفولةٍ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَحُلَّتْ يَدُهُ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ جِيءَ بنطعٍ فَوُضِعَ فِي وَسَطِهِ وَمُدَّتْ عُنُقُهُ، وَقَامَ السَّيَّافُ شَاهِرًا السَّيْفَ، فَاسْتَأْذَنَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَرْبِ عُنُقِهِ فَأَذِنَ لَهُ، فَرَأَيْتُ أَمْرًا فَظِيعًا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ لأَتَكَلَّمَنَّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْجُوَ، فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَعْ مَقَالَتِي. فَقَالَ لِي: قُلْ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّكَ عَنِ ابْنِ عباسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُنَادِي منادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ لِيَقُمْ مَنْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَجْرُهُ، فَلا يَقُومُ إِلا مَنْ عَفَا عَنْ ذَنْبِ أَخِيهِ. فَاعْفُ عَنْهُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لِي: أَللَّهِ إِنَّ أَبِي حَدَّثَكَ عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عباسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا، يَا غُلامُ أَطْلِقْ سَبِيلَهُ، فَأَطْلَقَ سَبِيلَهُ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ أُولَّى الْقَضَاءَ ثُمَّ قَالَ لِي: عَنْ مَنْ كَتَبْتَ؟ قُلْتُ: أَقْدَمُ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هندٍ، قَالَ: فَحَدِّثْ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: بَلَى فَحَدِّثْ، فَإِنَّ نَفْسِي مَا طَلَبَتْ مِنِّي شَيْئًا إِلا وَقَدْ نَالَتْهُ مَا خَلا هَذَا الْحَدِيثَ فَإِنِّي كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَقْعُدَ عَلَى كُرْسِيٍّ وَيُقَالَ لِي مَنْ حَدَّثَكَ.؟ فَأَقُولَ: حَدَّثَنِي فُلانٌ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِمَ لَا تُحَدِّثُ؟ قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْمُلْكُ وَالْخِلافَةُ مَعَ الْحَدِيثِ لِلنَّاسِ.
مدح حسن الْعَفو
قَالَ القَاضِي: مَا قَرَّرَهُ الله عز وَجل فِي الْعُقُول من حسن الْعَفو وتفضيل أَهله وَمَا أنزلهُ فِيهِ وأحكمه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُول الله أَكثر من أَن نأتي على ذكر جَمِيعه وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " الشورى:40 وَقَالَ جلّ ذكره: " وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ " الْبَقَرَة: 237 وكل هَذَا مُؤَكد لما مكنه الله جلّ وَعلا فِي الْعُقُول وَشَاهد لما تَوَاتر من الْأَخْبَار عَن الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العائف اللهبي
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عمّه عَن يُونُس عَن شيخ من عنزة قَالَ: خرج رجل من لَهب، وهم حَيّ من الأزد، وهم أعيف الْعَرَب، وَمَعَهُ سقاء لبن، فَسَار صدر يَوْمه ثُمَّ عَطش فَأَنَاخَ ليشْرب فَإِذا غراب ينعب، فأثار رَاحِلَته وَمضى؛ فَلَمَّا أجهده الْعَطش أَنَاخَ ليشْرب فنعب الْغُرَاب، فأثار رَاحِلَته وَمضى؛ فَلَمَّا أجهده الْعَطش أَنَاخَ ليشْرب فنعب الْغُرَاب، فأثار رَاحِلَته فَمضى، ثُمَّ أَنَاخَ ليشْرب فنعب الْغُرَاب وتمرغ فِي التُّرَاب، فَضرب الرجل السقاء بِسَيْفِهِ فَإِذا فِيهِ أسود سالخ. ثُمَّ مضى لوجهه فَإِذا غراب وَاقع على سدرةٍ، فصاح بِهِ فَوَقع على سلمةٍ، فصاح بِهِ فَوَقع على صخرةٍ، فَإِذا تَحت الصَّخْرَة كنز ذهبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَبِيه قَالَ لَهُ: مَا صنعت؟ قَالَ: سرت صدر يومي، ثُمَّ أنخت لأشرب فنعب غراب، فَقَالَ:(1/472)
أَثَره وَإِلَّا لست بِابْني، قَالَ: فأثرته ثُمَّ أنخت لأشرب فنعب غراب قَالَ: أَثَره وَإِلَّا لست بِابْني، قَالَ: أثرته، ثُمَّ أنخت الثَّالِثَة لأشرب فنعب غراب وتمرغ فِي التُّرَاب فَقَالَ: اضْرِب السقاء بِالسَّيْفِ وَإِلَّا لست بِابْني، قَالَ: فضربته فَإِذا فِيهِ أسود سالخ.
قَالَ: ثُمَّ مَه، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْت غرابًا وَاقعا على سدرةٍ قَالَ: أطره وَإِلَّا فلست بِابْني، قَالَ: أطرته فَوَقع على صخرةٍ، قَالَ: أحذني يَا بني، قَالَ: فأحذاه.
معنى أحذى
قَالَ القَاضِي: قَوْله أحذني أَي أَعْطِنِي فَأعْطَاهُ، يُقَال: أحذى فلَان فلَانا شَيْئا من مَاله إِذا رضخ لَهُ؛ قَالَ رجل من بني سعدٍ لرؤبة بْن العجاج: أحذ أَبَا الجحاف إِذْ حبينا
أعرابية ترثي قوما هَلَكُوا
حَدثنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم الْكَاتِب أَبُو طَالب، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْن الْحسن بْن عَمْرو السبيعِي، قَالَ حَدَّثَنِي رجل من الْأَعْرَاب وَفد إِلَى ابْن البعيث، قَالَ حَدَّثَنِي عَم لي قَالَ: نزلت مَاء لبني فَزَارَة ثُمَّ ارتحلت عَنْهُ وأتيته فِي الْعَام الْمقبل فَإِذا لَيْسَ من الْحَيّ أحد خلا عَجُوز فِي سفح جبلٍ تبْكي، فَقلت: مَا يبكيك يَا عَجُوز؟ قَالَت: على أثر الْحَيّ، قلت لَهَا: أعسى حييًا نزلت بِهِ عَام أول؟ قَالَت: أقلت حييًا؟ وَالله لقد كَانَ حَيّ ربحل، إِذا ارتحلوا على ألف فَحل، لقد كَانَ فيهم مليل، وَمَا مليل؟ سَحَاب ذيلٍ على ذيلٍ عطاؤه سيل، وغضبه ويل، لم تحمل مثله إبل وَلَا خيل، وَلَقَد كَانَ فيهم مَالك وَمَا مَالك؟ خير من هُنَالك. وَلَقَد كَانَ فيهم مهجعة وَمَا مهجعة؟ فَارس كأربعة، يكر وَالْخَيْل مَعَه، وَلَقَد كَانَ فيهم عمار وَمَا عمار؟ يَوْم الْفَخر فخار، وَيَوْم الْجَرّ جرار، لم تخمد لَهُ نَار طلاب بأوتار، وَلَقَد كَانَ فيهم هجين لَهُم يُقَال لَهُ حممة، وَمَا حممة؟ لَهُ ألف نَاقَة مسنمة، وَألف مهرَة مسومة، وَألف نعجةٍ مزنمةٍ، وَألف عبد وَأمة، قعد ذَات يومٍ قعدة لَهُ حَسَنَة فأنهبها كلهَا فِي ساعةٍ لم يقْض نهمه، قَالَ: فَكَأَنَّمَا ألقمتني عَنْهَا وَعَن قَومهَا حجرا.
شرح الْغَرِيب فِي حَدِيث الأعرابية
قَالَ القَاضِي: قَوْلهَا حَيّ ربحل أَي حَيّ قيلٍ كريم نبيه، وَاسع عطاؤه، رحبٍ فناؤه، وَمِنْه قَول الْقَائِل: مرْحَبًا وَأهلا، وناقة ورحلا، وملكًا ربحلا، يُعْطي عَطاء جزالاً. وَأما قَوْلهَا: وَلَقَد كَانَ فيهم هجين لَهُم فالهجين الَّذِي أمه أمة، وَمِنْه قَول عنترة قبل أَن يحرره أَبوهُ:
أَنا الهجين عنترة
وَجمع الهجين هجناء مثل أَمِين وأمناء، وقرين وقرناء، وكمين وكمناء. وَمن الهجين قَول الشَّاعِر:
أَلا ضربت تِلْكَ الفتاة هجينها ... الا قضب الرَّحْمَن رَبِّي يَمِينهَا
وَقَول الشماخ:(1/473)
إِذا بَركت على نشزٍ وَأَلْقَتْ ... عسيب جِرَانهَا كعصا الهجين
والمسنمة من الْإِبِل: الْعَظِيمَة الأسنمة؛ والمسومة من الْخَيل: المحسنة المهيأة. وَقيل فِي قَول اللَّه عز وَجل: " واتلخيل المسومة " آل عمرا:14 هِيَ المطهمة، أَي الَّتِي يَعْنِي بهَا ويقام عَلَيْهَا، وَالْغنم المزنمة: ذَوَات الزنمات الَّتِي تَحت ألحيها الزنمات. وعسيب الجران: الْحُلْقُوم، والجران: بَاطِن الْعُنُق.
رُؤْيا الْمَأْمُون وَمَا قَالَ أرسطاطاليس
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سعدٍ قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن يحيى بْن خَالِد بْن يزِيد بْن مثنى الْمروزِي، قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُور بْن طَلْحَة بْن طاهرٍ بْن الْحُسَيْن، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر قَالَ: عجبني أَمِير الْمُؤمنِينَ من رُؤْيا رَآهَا، فَسَأَلته عَنْهَا فَذكر أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَن رجلا جلس مجْلِس الْحُكَمَاء فَقلت لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا أرسطاطاليس الْحَكِيم، فَقلت لَهُ: أَيهَا الحك مَا أحسن الْكَلَام؟ قَالَ: مَا يَسْتَقِيم فِي الرَّأْي قلت: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: مَا يستحسنه سامعه، قلت: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: مَا لَا تخشى عاقبته، قلت: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ لَا ثُمَّ. قَالَ الْمَأْمُون: لَو كَانَ حَيا مَا كَانَ يتَكَلَّم بِأَكْثَرَ مِمَّا تكلم بِهِ.
الْكِنْدِيّ رَأْي جالينوس فِي الْمَنَام
وَحدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحسن الْأَشَج قَالَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوب الْكِنْدِيّ قَالَ: رَأَيْت جالينوس فِيمَا يرى النَّائِم فَقلت بِأبي أَنْت، رجل من الْمُلُوك اعتل لَا يُبرئهُ إِلَّا فتح الباسليق وَلَيْسَ يُوجد لَهُ فَمَا ترى؟ قَالَ: افْتَحْ لَهُ عرقًا بَين الْخِنْصر والبنصر يُقَال لَهُ الأسيلم، قَالَ الْكِنْدِيّ: فَأَنا أول من فصد الأسيلم.
أَعْرَابِي يسْأَل
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا أحم بْن عبيدٍ عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: قدم أَعْرَابِي من الْبَادِيَة فَوقف على النَّاس فَقَالَ: أَنا عكاب بْن عدينة أبوت عشرَة وأخوت عشرَة، وَكنت مفزعًا للجمة، مقنعا للهمة، أهنأ الْفَقِير، وأفك الْأَسير، وأذيل العسير، فانباق عَليّ الدَّهْر متخوفًا لإخوتي وبنيه يوديهم وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى اخترم ظهرتي، وأفنى عمارتي، وأساف ماليه، وأباد رجاليه، وَكنت أورد إبلي سحرًا، وأصدرها طفْلا، عكرًا دثرًا، ومالا وفرًا، قَليلَة الْفرش والإفال، حَسَنَة الْحِلْية والفحال، فانتسفها الزَّمَان، واجتملها الْحدثَان، حبجًا وغدة، فقرع مراحي، وفنت أوضاحي، فَهَل من راحمٍ أَخا جهدٍ ولأواء وشصاصاء، شملكم الله بإسباغ الرزق.
تَفْسِير حَدِيث الْأَعرَابِي قَالَ أَبُو بكر ابْن الْأَنْبَارِي قَوْلهم: أبوت وأخوت مَعْنَاهُ كنت أَبَا لعشرة وأخا لعشرة. وَقَوله: أهنأ الْفَقِير: أصلح شَأْنه؛ قَالَ القَاضِي: وَأَصله من الهناء الَّذِي تطلى بِهِ الْإِبِل من(1/474)
الجرب، قَالَ زُهَيْر:
فأبرى موضحات الرَّأْس مِنْهُ ... وَقد يشفي من الجرب الهناء
وَمِنْه قَول الآخر:
مَا إِن رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِهِ ... كَالْيَوْمِ طالي أينقٍ جرب
متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مَوَاضِع النقب
ثمَّ استعير هَذَا فِي كل من رفد غَيره لسد فقرٍ أَو إصْلَاح أَمر، وَهُوَ من حسن التَّشْبِيه وقريبه؛ قَالَ أَبُو بكرٍ: وأذيل العسيرة مَعْنَاهُ: أَلين النَّاقة الصعبة لأحمل عَلَيْهَا الضَّعِيف والمجتدي. وَقَوله: فانباق عَليّ الدَّهْر مَعْنَاهُ: قصدني ببائقةٍ، وَهِي البلية والداهية، ومتخوفا: متنقصا قَالَ الله عز وَجل: " أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تخوفٍ " النَّحْل: 47 قَالَ القَاضِي: يُقَال تخوفه إِذا انتقصه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
تخوف السّير مِنْهَا تامكًا قردًا ... كَمَا تخوف عود النبعة السفن
يَعْنِي نَاقَة تنقص سَيرهَا من سنامها بعد تمكنه واكتنازه. والنبع شجر مَعْرُوف وَقَالَ الْأَعْشَى:
ونَحْنُ أُنَاسٌ عُودُنا عود نبعةٍ ... إِذا افتحر اليحان بكر وتغلب
والسفن: الفأس، وَهُوَ يتنقص الْعود وينحته حَتَّى يصنع مِنْهُ سفينة، وَمِنْه سميت سفينة بِمَعْنى مسفونة أَي منحوتة منجورة منتقصة الأعواد بالسفن. وَقد قرئَ على تخوف بِمَعْنى الانتقاص من الحافات والجوانب. قَالَ أَبُو بكرٍ: والجمة: الْقَوْم يسْأَلُون فِي الدِّيَة وَيُقَال أَيْضا للدية جمة. قَالَ الشَّاعِر:
وجمةٍ تسالني أَعْطَيْت ... وَسَائِل عَن خبري لويت
فَقلت لَا أَدْرِي وَقد دَريت
وَقَوله: حَتَّى اخترم ظهرتي فِي الظهرة قَولَانِ: الظهرة قَولَانِ: الظهرة عشيرة الرجل. وَقَالَ لي أَبِي قَالَ أَحْمَد بْن عبيد: الظهرة والأهرة مَتَاع الْبَيْت وَمَا يصونه الرجل مِمَّا يودعه منزله من الْآنِية وأفنى عمارتي الْعِمَارَة: الْقَبِيلَة. وأساف ماليه مَعْنَاهُ أَو قع السواف فِي إبلي. وأصدرها طفْلا مَعْنَاهُ عِنْد غيبوبة الشَّمْس، يُقَال ظفلت الشَّمْس إِذا تهيأت للغروب. وَفِي السواف لُغَتَانِ: السواف والسواف بِضَم السِّين وَفتحهَا وَهُوَ دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فيقتلها. قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: السواف من أدواء الْإِبِل بِالْفَتْح، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: السواف مضموم من الأدواء بِمَنْزِلَة الكباد والسعال والنخار. عكرًا دثرًا العكر جمع عكرة وَهِي سَبْعُونَ من الْإِبِل إِلَى الْمِائَة، والدثر هُوَ المَال الْكثير وَجمعه دثور.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
لعمري لقوم قد نرى فِي دِيَارهمْ ... مرابط للأمهار والعكر الدثر(1/475)
يُرِيد العكر الدثر، فَكسر الثَّاء لكسرة الرَّاء على لُغَة من يَقُول قَامَ بكر ومررت ببكرٍ. وَقَالَ أَبُو ذرٍ: يَا رَسُول اللَّهِ ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ، يَعْنِي أَصْحَاب الْأَمْوَال الْكَثِيرَة.
قَالَ القَاضِي: وَالْوَقْف فِي بكر على حَرَكَة إِعْرَاب طرفه لُغَة مَعْرُوفَة للْعَرَب، وَقد روى عَنْ أبي عَمْرو أَنَّهُ قَرَأَ: " وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " الْبَلَد: 17 فِي بِالْوَقْفِ بِكَسْر الْبَاء، وَمن هَذِه اللُّغَة قَول الشَّاعِر:
علمنَا إِخْوَاننَا بَنو عجل ... شرب النَّبِيذ واعتقالا بِالرجلِ
وَقد شرحنا عِلّة هَذِه اللُّغَة فِي موضعهَا. وَالْعرب أَيْضا تَقول مَال دثر وأموال دثر. قَالَ أَبُو بكر: قَليلَة الْفرش والإفال الْفرش: الصغار من الْإِبِل الَّتِي لَا تطِيق أَن يحمل عَلَيْهَا، والإفال: الصغار من الْإِبِل وَاحِدهَا أفيل. قَالَ القَاضِي: قد قيل إِن الْفرش الْغنم، والحمولة الْإِبِل وَالْبَقر وَالْبِغَال وَالْحمير، فَأَما الإفال فَهِيَ الصغار عِنْد اللغويين، قَالَ الفرزدق:
وَجَاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وَجَاءَت خَلفه وَهِي زفف
ويروى يرف، وَهِي رفف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَهُوَ الْمَشْي السَّرِيع. قَالَ الله عز ذكره: " فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ " الصافات: 94 وَمن القرأة من يقْرَأ يرفون. قَالَ أَبُو بكرٍ واجتملها الْحدثَان ذهب بجملتها وَلم يبْق مِنْهَا شَيْئا.
حبجًا وغدة الغدة: من أدواء الْإِبِل، الحبج: أَن تَأْكُل الْإِبِل النَّبَات فتنتفخ بطونها حَتَّى تَمُوت. وَقَالَ الزُّبَيْر بْن بَكَّار: لما ورد نعي مُصعب بْن الزُّبَيْر على أهل مَكَّة صعد عَبد اللَّه بْن الزُّبَيْر الْمِنْبَر فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي لَهُ الْخلق وَالْأَمر يُؤْتِي الْملك من يَشَاء وَينْزع الْملك مِمَّن يَشَاء، ويعز من يَشَاء ويذل من يَشَاء؛ أَلا وَإنَّهُ لم يذلل الله تَعَالَى من كَانَ الْحق مَعَه وَلَو كَانَ فَردا، وَلم يعزز من كَانَ الشَّيْطَان وليه وَحزبه وَلَو كَانَ الْأَنَام كلهم مَعَه، أَلا وَإنَّهُ أَتَانَا خبر من الْعرَاق أحزنا وأفرحنا، أَتَانَا قتل المصعب بْن الزُّبَيْر رَحمَه الله، فَأَما الَّذِي أحزننا فَإِن لفراق الْحَمِيم لذعة يجدهَا حميمه عِنْد الْمُصِيبَة ثُمَّ يرعوي من بعْدهَا ذَوُو الْعَزْم إِلَى جميل الصَّبْر وكرم العزاء، وَأما الَّذِي أفرحنا فَإِن الْقَتْل كَانَ لَهُ شَهَادَة، وَإِن الله عز وَجل جعل ذَلِك لنا وَله خيرة. أَلا وَإِن أهل الْعرَاق أهل الْغدر والنفاق أسلموه وباعوه بِأَقَلّ الثّمن، فَإِن يقتل فَإنَّا وَالله مَا نموت حبجًا كَمَا يَمُوت بَنو أَبِي الْعَاصِ، وَمَا نموت إِلَّا قتلا قعصًا بِالرِّمَاحِ وموتًا تَحت ظلال السيوف، أَلا وَإِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِية من الْملك الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُول ملكه وَلَا يبيد، فَإِن تقبل على الدُّنْيَا لَا آخذها أَخذ الأشر البطر، وَإِن تدبر عني لَا أبك عَلَيْهَا كالخرف المهتر.
قَالَ أبوب بكر: فقرع مراحي المراح: مَوضِع الْإِبِل الَّذِي تراح إِلَيْهِ، يَعْنِي أَن إبِله مَاتَت وَتَلفت وَبَقِي مراحها أَقرع، وَالْعرب تَقول قد قرع مراح الرجل إِذا ذهب مَاله، قَالَ الشَّاعِر:
إِذا آداك مَالك فانتهبه ... لجاديه وَإِن قرع المراح(1/476)
فَإِن أعيا عَلَيْك فَلم تَجدهُ ... فنبت الأَرْض وَالْمَاء القراح
فَإِن الْفقر إلْف فنَاء قوم ... وَإِن أسوك وَالْمَوْت الرواح
وفنت وضاحي مَعْنَاهُ: فنيت دراهمي، فنت بلغَة طَيء، يَقُولُونَ فِي فني فنى وَفِي رَضِي رضى وَفِي بَقِي بقى، قَالَ الشَّاعِر:
لعمرك مَا أخْشَى التصعلك مَا بقى ... على الأَرْض قيسي يَسُوق الأباعرا
واللأواء والشصاصاء: الشدَّة وكلب الزَّمَان.
قَالَ القَاضِي: الَّذِي ذكره أَبُو بكرٍ فِي نفى ورضى وبقى أَنه لُغَة طَيء هُوَ على مَا ذكر، وَقد ذكرنَا من هَذِه اللُّغَة وحكايتها صَدرا فِي مَا مضى من مجَالِس كتَابنَا هَذَا، وَقد تتداخل لُغَات الْعَرَب وَيَأْخُذ بَعضهم من لُغَة بعض، قَالَ زُهَيْر:
تربع صارةً حَتَّى إِذا إِذا ... فنى الدحلان عَنْهُ والأضاء
يُرِيد فني..
إِسْمَاعِيل بْن صَالح يُغني الرشيد حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد الطَّالقَانِي قَالَ حَدَّثَنِي فضل اليزيدي عَن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن صبيحٍ قَالَ: قَالَ الرشيد للفضل بن يحيى وَهُوَ بالقرقة: قد قدم إِسْمَاعِيل بْن صَالح بْن عَليّ وَهُوَ صديقك، وَأُرِيد أَن أرَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إِن أَخَاهُ عبد الْملك فِي حَبسك، وَقد نَهَاهُ أَن يجيئك، قَالَ الرشيد: فَإِنِّي أتعلل حَتَّى يجيئني عَائِدًا، فتعلل، فَقَالَ الْفضل لإسماعيل: أَلا تعود أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: بلَى، فَجَاءَهُ عَائِدًا، فأجلسه ثُمَّ دَعَا بالغداء فَأكل، وَأكل إِسْمَاعِيل بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الرشيد: كَأَنِّي قد نشطت برؤيتك إِلَى شرب قدح، فَشرب وسقاه، ثُمَّ أَمر فَأخْرج جوارٍ يغنين وَضربت ستارة وَأمر بسقيه، فَلَمَّا شرب أَخذ الرشيد الْعود من يَد جاريةٍ وَوَضعه فِي حجر إِسْمَاعِيل، وَجعل فِي عنق الْعود سبْحَة فِيهَا عشر درات اشْتَرَاهَا بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَقَالَ: غنني يَا إِسْمَاعِيل وَكفر عَن يَمِينك بِثمن هَذِه السبحة فَانْدفع يُغني بِشعر الْوَلِيد بن يزِيد فِي غلية أُخْت عمر بْن عبد الْعَزِيز وَكَانَت تَحْتَهُ، وَهِي الَّتِي ينْسب إِلَيْهَا سوق غَالِيَة بِدِمَشْق:
فأقسم مَا أدنيت كفي لريبةٍ ... وَلَا حَملتنِي نَحْو فاحشةٍ رجْلي
وَلَا قادني سَمْعِي وَلَا بَصرِي لَهَا ... وَلَا دلَّنِي رَأْيِي عَلَيْهَا وَلَا عَقْلِي
أعلم أَنِّي لم تصبني مُصِيبَة ... من الدَّهْر إِلَّا قد أَصَابَت فَتى قبلي
فَسمع الرشيد أحسن غناءٍ من أحسن صوتٍ، فَقَالَ: الرمْح يَا غُلَام، فجيء بِالرُّمْحِ، فعقد لَهُ لِوَاء على إِمَارَة مصر، قَالَ إِسْمَاعِيل: فَوليتهَا سِتّ سِنِين، أَو سعتهم عدلا وانصرفت بِخَمْسِمِائَة ألف دينارٍ، قَالَ: بلغت عبد الْملك أَخَاهُ ولَايَته فَقَالَ: غنى وَالله الْخَبيث لَهُم، لَيْسَ هُوَ لصالح بابنٍ.(1/477)
إِذا قصر من يؤاكل الْمَأْمُون
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن أَكْثَم قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون إِذا قصر بعض من يَأْكُل مَعَه أَمر بإقامته عَن الْمَائِدَة وَلَقَد رَأَيْته يَوْمًا وَقد أَمر أَن يُقَام بِابْنِهِ الْعَبَّاس عَن الْمَائِدَة لتقصيرٍ كَانَ مِنْهُ، وَقَالَ: إِذا قصرت احتشم غَيْرك لتقصيرك، فَقَالَ الْعَبَّاس: لم أقصر وَلَكِنِّي وجدت عِلّة، قَالَ: هلا ذكرتها قبل جلوسك على الطَّعَام، فإمَّا احتملناك على التَّقْصِير وَإِمَّا أعفيناك من الْأكل مَعنا.
أعرابية تمثل نموذجًا للصبر
حَدثنَا عبد الْبَاقِي بن قانعٍ قَالَ تحدثنا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاء قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن عَمْرو بنب حبيب قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: خرجت أَنا وصديق لي إِلَى الْبَادِيَة فضللنا الطَّرِيق، فَإِذا نَحن بخيمةٍ عَن يَمِين الطَّرِيق، فقصدنا نَحْوهَا فسلمنا، فَإِذا امْرَأَة ترد علينا السَّلَام، ثُمّ قَالَت: مَا أَنْتُم؟ فَقُلْنَا: قوم ضالون رأيناكم فأنسنا بكم، فَقَالَت: يَا هَؤُلَاءِ ولوا وُجُوهكُم عين حَتَّى أَقْْضِي من حقكم مَا أَنْتُم لَهُ أهل، فَفَعَلْنَا، فَأَلْقَت لنا مسحًا فَقَالَت: اجلسوا عَلَيْهِ إِلَى أَن يَأْتِي ابْني، ثُمَّ جعلت ترفع طرف الْخَيْمَة وتردها إِلَى أَن رفعتها فَقَالَت: أسأَل الله بركَة الْمقبل، أما الْبَعِير فبعير ابْني وَأما الرَّاكِب فَلَيْسَ بِابْني، فَوقف الرَّاكِب عَلَيْهَا فَقَالَ: يَا أم عقيل، عظم الله أجرك فِي عقيل، قَالَت: وَيحك مَاتَ ابْني "؟ قَالَ نعم، قَالَت: وَمَا سَبَب مَوته؟ قَالَ: ازدحمت عَلَيْهِ الْإِبِل فرمت بِهِ فِي الْبِئْر، فَقَالَت: انْزِلْ فَاقْض ذمام الْقَوْم، وَدفعت إِلَيْهِ كَبْشًا فذبحه وَأَصْلحهُ وَقرب إِلَيْنَا الطَّعَام، فَجعلنَا نَأْكُل ونتعجب من صبرها، فَلَمَّا فَرغْنَا خرجت إِلَيْنَا وَقد تكورت فَقَالَت: يَا هَؤُلَاءِ، هَل فِيكُم أحد يحسن من كتاب الله تَعَالَى شَيْئا؟ قلت: نعم أَنا، قَالَت: اقْرَأ على آياتٍ من كتاب الله عز جلّ أتعزى بهَا، قلت: يَقُول الله تَعَالَى وَجل جَلَاله: " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ " الْبَقَرَة: 155 157 قَالَت: الله إِنَّهَا لفي كتاب الله عز وَجل هَكَذَا؟ فَقلت: آللَّهُ لفي كتاب الله تَعَالَى هَكَذَا. قَالَت: السَّلَام عَلَيْكُم، ثُمَّ صفت قدميها وصلت رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَت: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَعند الله تَعَالَى أحتسب عقيلا، تَقول ذَلِك ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ إِنِّي فعلت مَا أَمرتنِي فأنجز لي مَا وَعَدتنِي.
لأي عِلّة خلق الله الذُّبَاب
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْص الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُون قَالَ حَدَّثَنِي وزيرة بْن مُحَمَّد بِمصْر قَالَ حَدَّثَنِي معمر بْن شبيب بْن شيبَة قَالَ: سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول لمُحَمد بْن إِدْرِيس: يَا مُحَمَّد لأي علةٍ خلق الله تَعَالَى الذُّبَاب؟ فَسكت ثُمَّ قَالَ: مذلة للملوك، فَضَحِك الْمَأْمُون ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد رَأَيْت الذبابة وَقد سَقَطت على خدي؟(1/478)
قَالَ: نعم وَلَقَد سَأَلت عَنْهَا وَمَا عِنْدِي فِيهَا جَوَاب، فأخذني من ذَلِك الزمع، فَلَمَّا رَأَيْت الذبابة قد سَقَطت مِنْك بِموضع لَا يَنَالهُ من مَعَه عشرَة آلَاف سيف وَعشرَة آلَاف رمح انْفَتح لي فِيهَا الْجَواب، فَقَالَ: لله دَرك يَا مُحَمَّد.
ذُبَاب وذبان
قَالَ القَاضِي: قيل فِي هَذَا الْخَبَر الذبابة على لغةٍ حكيت ضَعِيفَة، يُقَال فِيهَا ذُبَابَة فِي التَّوْحِيد وذباب فِي الْجمع، مثل رقاقة ورقاق، وثمامة وثمام، وجزارة وجزار فَمَا أشبه هَذَا مِمَّا سبق جمعه واحده وَكَانَت الْهَاء فارقة بَين واحده وَجمعه، فَأَما اللُّغَة الفصيحة فِي الْعَرَبيَّة الفاشية عِنْد أهل اللُّغَة فَهُوَ أَن الذُّبَاب وَاحِد. قَالَ الله عز وَجل: " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ " الْحَج:73 وَيجمع الذُّبَاب فِي القة أذبة، وَفِي الْكَثْرَة ذبان، مثل غراب وأغربة وغربان.
الْمَأْمُون يمْتَحن مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس
حَدثنَا ابْن مخلد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحسن، قَالَ حَدَّثَنَا وزيرة، قَالَ حَدَّثَنَا معمر بْن شبيب، قَالَ سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول: قد امتحنت مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس فِي كل شَيْء فَوَجَدته كَامِلا، وَقد بقيت خصْلَة وَهُوَ أَن أسقيه من النَّبِيذ مَا يغلب على الرجل الْجيد الشّرْب، قَالَ فَحَدثني ثَابت الْخَادِم وَقد دَعَا بِهِ فَأعْطَاهُ رطلا فَقَالَ: اشرب يَا مُحَمَّد، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا شربت قطّ، قَالَ: عزمت عَلَيْك لتشربن، فشربه، ثُمَّ والى عَلَيْهِ بالأرطال حَتَّى سقَاهُ عشْرين رطلا، فَمَا تغير وَلَا زَالَ عَن حجَّة.
قولة طبع ووثاقة بنية
قَالَ القَاضِي: وَهَذَا مِمَّن لم يعْتد شربه وَلم يأنس بِهِ مزاجه وطباعه أبلغ فِي الأعجوبة وأدل على اعْتِدَال التَّرْكِيب وَقُوَّة الطَّبْع ووثاقة البنية، وَالله أعلم بِصِحَّة هَذِه الْحِكَايَة وثبوتها من جِهَة الرِّوَايَة.
مُحَمَّد بْن الْحسن وَالشَّافِعِيّ
حَدثنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْحَسَن الصَّواف قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أَبِي الصَّلْت الْحمانِي قَالَ، سَمِعت أَبَا عبيدٍ يَقُول: رَأَيْت الشَّافِعِي عِنْد مُحَمَّد بْن الْحسن وَقد دفع إِلَيْهِ خمسين دِينَارا، وَقد كَانَ دفع إِلَيْهِ قبل هَذَا خمسين درهما وَقَالَ: إِن اشْتهيت الْعلم فَالْزَمْ، ثُمَّ دفع إِلَيْهِ هَذِه الدَّنَانِير وَلَزِمَه الشَّافِعِي؛ قَالَ أَبُو عبيد: فَسمِعت الشَّافِعِي يَقُول: كتبت عَن مُحَمَّد بْن الْحسن وقر بعير؛ وسمعته يَقُول لمُحَمد بْن الْحسن وَقد دفع إِلَيْهِ الدَّنَانِير بعد الْخمسين درهما وَقَالَ لَهُ: لَا تحتشم، فَقَالَ: مَا أَنْت عِنْدِي فِي مَوضِع أحتشمك. وَجرى ذكر الشَّرَاب فَقَالَ الشَّافِعِي: الْحَمد الله لَو علمت أَن المَاء الْبَارِد يضر مرؤءتي فِي ديني لما شربت إِلَّا المَاء الْحَار ألْقى الله تَعَالَى، وَلَو كنت عِنْدِي مِمَّن أحتشمك مَا قبلت برك.(1/479)
الْمجْلس الْخَامِس وَالسِّتُّونَ
معنى النعم الظَّاهِرَة والباطنة
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْن محمدٍ بْن مَيْمُون، قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً " لُقْمَان: 20 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ مِمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ظَهَرَ فَالإِسْلامُ وَمَا سَوَّاهُ مِنْ خَلْقِكَ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ، وَأَمَّا مَا بَطَنَ فَمَا سَتَرَ عَلَيْكَ مِنْ مَسَاوِئِ عَمَلِكَ، يَا ابْن عَبَّاس إِبْنِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ثَلاثٌ جَعَلْتُهُنَّ لِلْمُؤْمِنِ: صَلاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَجَعَلْتُ لَهُ ثُلُثَ مَالِهِ يُكَفِّرُ عَنْهُ مِنْ خَطَايَاهُ، وَسَتَرْتُ مَسَاوِئَ عَمَلِهِ أَنْ أَفْضَحَهُ بشيءٍ مِنْهَا وَلَوْ أُبْدِيهَا لَنَبَذَهُ أَهْلُهُ فَمَنْ سِوَاهُمْ.
آراء فِي تَفْسِير الْآيَة
قَالَ القَاضِي: جَاءَ هَذَا الْخَبَر بِتِلَاوَة هَذِه الْآيَة وتأويلها ووردت بتلاوتها فِيهِ على قِرَاءَة من قَرَأَ: " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُم نعْمَة " بِلَفْظ التَّوْحِيد وَهِي قِرَاءَة كثيرٍ من المكيين والكوفيي، وَقد قَرَأَهَا كثير من الْمَدَنِيين والشاميين والبصريين " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ " على لفظ الْجمع وهما قراءتان مشهورتان قد استفاض نقلهما، وقرأت الْأَئِمَّة بهما وراثة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومعناهما يرجع إِلَى معنى واحدٍ لِأَن قَائِلا لَو قَالَ: مَا يتقلب فِيهِ فلَان من المَال وَالْولد وَالصِّحَّة والأمن وأنواع الْخَيْر وَجَمِيل السّتْر نعْمَة أسداها الله تَعَالَى إِلَيْهِ، أَو قَالَ هَذِه نعم من الله تَعَالَى تفضل بهَا عَلَيْهِ، لَكَانَ الْقَوْلَانِ صَحِيحَيْنِ، وَكَذَلِكَ تقَارب الْمَعْنى فِي قِرَاءَة من قَرَأَ: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ " الرّوم: 50 وَمن قَرَأَ: أثر رَحْمَة الله " وَقِرَاءَة من قَرَأَ: " بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيئته " الْبَقَرَة: 81 وخطيئاته وَقد قيل إِن معنى قَوْله خطيئته فِي هَذَا الْموضع الشّرك، وَقيل بل كَبَائِر ذنُوبه الَّتِي مَاتَ وَلم يتب مِنْهَا. وَرُوِيَ عَن عَبد اللَّه بْن كثير أَنه قَالَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: وأسبغ عَلَيْكُم نعْمَة " هِيَ شَهَادَة أَن لَا إِلَيْهِ إِلَّا الله فِي مَا زَعَمُوا، وَقيل بل هُوَ عَام شَامِل للنعم؛ وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير. وَقيل إِن هَذَا مِمَّا يُنبئ الْوَاحِد مِنْهُ عَن جملَة جنسه، كَقَوْلِهِم: هَلَكت الشَّاة وَالْبَعِير، وَكثر الدِّرْهَم الدِّينَار فِي أَيدي النَّاس، وَقَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خسرٍ " الْعَصْر: 1، 2 أَرَادَ الْجِنْس دون اخْتِصَاص إِنْسَان واحدٍ، أَلا ترى أَنه اسْتثْنى مِنْهُ جمعا فَقَالَ: " إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " الْعَصْر: 3 وَهَذَا بَاب مستقصى فِي مَا رسمناه من عُلُوم الْقُرْآن.(1/480)
وَصِيَّة أَبِي بكر ليزِيد بْن أَبِي سُفْيَان
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ، قَالَ أَبُو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى الشَّامِ:
ابْدَأْ بِالصَّلاةِ إِذَا حَلَّ لَكَ وَقْتُهَا وَلا تَشَاغَلْ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَإِنَّ الإِمَامَ تَقْتَدِي بِهِ رَعِيَّتُهُ وَتَعْمَلُ بِعَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا وَعَظْتَ فَأَوْجِزْ، وَلا تُكْثِرِ الْكَلامَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ تُنْسِي بَعْضَهُ بَعْضًا، وَإِنَّمَا يُغْنِي مِنْهُ مَا وُعِيَ عَنْكَ. وَإِذَا اسْتَشَرْتَ فَاصْدُقِ الْحَدِيثَ تُصْدَقِ الْمَشُورَةَ، وَلا تَدَّخِرَنَّ عَنِ الْمُشِيرِ شَيْئًا فَتَكُونَ إِنَّمَا تُؤْتِي مِنْ نَفْسِكَ، وَلا تَلَجَّنْ فِي عقوبةٍ فَإِن أَدْنَاهَا وَجِيعٌ، وَلا تُسْرِعَنَّ إِلَيْهَا وَأَنْتَ مكتفٍ بِغَيْرِهَا، وَلا تَكْشِفِ النَّاسَ عَنْ أَسْرَارِهِمْ، وَاسْتَغْنِ بِعَلانِيَّتِهِمْ وَلا تَجَسَّسْ فِي عَسْكَرِكَ فَتَفْضَحَهُ، وَلا تُغْفِلْهُ فَتُفْسِدَهُ، وَلا تُقَاتِلَنَّ بِمَجْرُوحٍ فَإِنَّ بَعْضَهُ لَيْسَ مَعَهُ، واستشل النَّاس بالدينا فَإِنَّ ذَا النِّيَّةِ تَكْفِيكَ نِيَّتُهُ، وَمَنْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا بشيءٍ فَفِ لَهُ، وَلا تَتَّخِذَنَّ حَشَمًا تَضَعُ عَنْهُمْ مَا تَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يُضْغِنُ النَّاسُ عَلَيْكَ وَيَسْتَحِلُّونَ بِهِ مَعْصِيَتَكَ.
قَالَ القَاضِي: رَضِيَ اللَّهُ عَن أَبِي بكر فقد أبلغ فِي وَصيته، وَبَالغ فِي نصيحته، وَمن حفظ عَنْهُ مَا علمه، احتذى مَا أَشَارَ بِهِ ورسمه، كَانَ سالكًا محجة الرشاد، فِي الْمَعيشَة والمعاد، ونسأل الله التَّوْفِيق للسداد وَحسن الاستعداد.
عَمْرو بْن معدي كرب الأكول
الشجاج يغلبه ربيعَة بْن مكدم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بكرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: دَخَلَ عَمْرو بن معد يكرب الزُّبَيْدِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زيادٍ وَشَرِيكُ بْنُ الأَعْوَرِ الْحَارِثِيَّانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَخَلْتُ عَلَى خَالِكَ أَبِي سُلَيْمَانَ يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَأَتَى بثورٍ وقوسٍ وكعبٍ فَأَطْعَمَنِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَشُبْعَةً، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمنِينَ لَك أولي؟ قَالَ: بَلْ لِي وَلَكَ، قَالَ كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي آكل الأَزْهَرِ: التِّبْنُ هُوَ الْقَدَحُ الْعَظِيمُ، وَالثَّوْرُ: الأَقْطُ، وَالْكَعْبُ الْقِطْعَةُ مِنَ التَّمْر رثيئةً وصريفاً.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ فِي كِتَابِي عَنِ ابْنِ أَبِي الأزْهَرِ، تَفْسِيرُ الْقَوْسِ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ السَّمْنِ، وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ الثَّلاثَةَ هِيَ القية الفضلة مِنَ الأَنْوَاعِ الَّتِي وَصَفْنَا.
قَالَ: فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ كَالْمُتَعَجِّبِ مِنْ قَوْلِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَكَذَلِكَ، وَإِنَّ الْخَيْلَ لَتُتَّقَى ذُرَاهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَانْتَعَلَتِ الْخَيْلُ الدِّمَاءَ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الإِلَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الأَزْهَرِ: الإِلُّ هُوَ الْعَهْدُ وَقطع أَو صرنا قَالَ ابْنُ أَبِي الأَزْهَرِ: الأَوَاصِرُ الأُصُولُ قَالَ عَمْرٌو: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَاوَرْتُ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي(1/481)
الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَشَوْا إِلَى الضَّرَاءِ وَدَبُّوا إِلَى الْخَمَرِ.
قَالَ الْقَاضِي: الضَّرَاءُ: مَا وَارَاكَ مِنْ شجرةٍ، وَالْخَمَرُ: مَا وَرَاك مِنْ شيءٍ، قَالَ زُهَيْرٌ
فَمَهْلا آلَ عَبْدِ اللَّهِ عُدُّوا ... مَخَازِيَ لَا يُدَبُّ لَهَا الضَّرَاءُ
وَقَالَ آخَرُ:
أَلا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرا ... فقد جَاوَزْتُما خَمْر الطّرِيقِ
فَلَمَّا بَدَتْ لِي ضِبَابُ صُدُورِهِمْ وحسك قُلُوبهم أَو جرتهم أَمَرَّ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ. فَقَالَ شَرِيكُ بْنُ الأَعْوَرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا مَا أَعَجْزَنَا لِمَا أَخَذَتْهُ أَنْيَابُنَا وَكَلَمَتْهُ أَظْفَارُنَا، فَقَالَ عَمْرو: إِلَيْك يَا ابْن الأَعْوَرِ فَإِنِّي لَا أُغْمَزُ غَمْزَ التِّينِ وَلا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ؛ فَلَمَّا خَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَتَفَاقَمَ الأَمْرُ بَيْنَهُمْ وَيَخْرُجُوا إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا قَالَ: إِيهًا عَنْكُمُ الآنَ، وَأَقْبَلَ عَلَى عمروٍ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَوْرٍ لَقَدْ حَدَّثْتَ عَنْ نَفْسِكَ بمأكلٍ ومشرب، وَلَقَد لَقِيتَ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ فَأَخْبِرْنِي هَلْ صَدَفْتَ عَنْ فَارِسٍ قَطُّ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ الْكَذِبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ فَكَيْفَ إِذْ هَدَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى لِلإِسْلامِ؟ لَقَدْ قُلْتُ ذَاتَ يومٍ لِخَيْلٍ مِنْ بَنِي ذُهْلٍ: هَلْ لَكُمْ فِي الْغَارَةِ؟ قَالُوا: عَلَى مَنْ؟ قُلْتُ: عَلَى بَنِي الْبَكَّاءِ، قَالُوا: مَغَارٌ بَعِيدٌ عَلَى شِدَّةِ كَلْبٍ وَقِلَّةِ سَلْبٍ، قُلْتُ: فَعَلَى مَنْ؟ قَالُوا: عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ كِنَانَةَ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ رِجَالَهُمْ خُلُوفٌ. فَخَرَجْتُ فِي خَيْلٍ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى وادٍ مِنْ أَوْدِيَتِهِمْ فَدَفَعْتُ إِلَى قومٍ سراةٍ؛ قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهُمْ سَرَاةٌ؟ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى قبابٍ عظيمةٍ من أَدَم، وقدورٍ متأقةٍ وإبلٍ وَغَنَمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا لعمري عَلامَة السرُور، قَالَ عَمْرٌو: فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَعْظَمِهَا قُبَّةً فَأَكْشِفُهَا عَنْ جاريةٍ مِثْلِ الْمَهَاةِ، فَلَمَّا رَأَتْنِي ضَرَبَتْ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا وَبَكَتْ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: مَا أَبْكِي عَلَى نَفْسِي وَلا عَلَى الْمَالِ، فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شيءٍ تَبْكِينَ؟ قَالَتْ: عَلَى جوارٍ أترابٍ لِي قَدْ أَلِفْتُهُنَّ وَهُنَّ فِي هَذَا الْوَادِي، قَالَ: فَهَبَطْتُ الْوَادِي عَلَى فَرَسِي فَإِذَا أَنَا برجلٍ قاعدٍ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَإِلَى جَانِبِهِ سَيْفٌ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْجَارِيَةَ قد خدعتني وَمَا كرتني، فَلَمَّا رَآنِي الرَّجُلُ قَامَ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ، ثُمَّ عَلا رَابِيَةً، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قِبَابِ قَوْمِهِ مَطْرُوحَةٍ حَمَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمْتُ إِذْ مَنَحَتْنِي فَاهَا ... وَلَحَفَتْنِي بَكْرَةَ رِدَاهَا
أَنِّي سَأَحْمِي الْيَوْمَ مَنْ حَمَاهَا ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي دَهَاهَا
فَقُلْتُ مُجِيبًا لَهُ:
عَمْرٌو عَلَى طُولِ السُّرَى دَهَاهَا ... بِالْخَيْلِ يُزْجِيهَا عَلَى وَجَاهَا
حَتَّى إِذا جلّ بِهَا احْتَوَاهَا
ثُمَّ حَمَلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا أَقُولُ:
أَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَحْمُودُ الشِّيَمِ ... مُؤْتَمَنُ الْغَيْبِ وَفِيٌّ بِالذِّمَمِ(1/482)
مِنْ خَيْرِ مَنْ يَمْشِي بساقٍ وَقَدَمِ
قَالَ: فَحَمَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ ذِي الأَقْيَالِ أَقْيَالِ الْبُهَمْ ... مَنْ يَلْقَنِي يُودَ كَمَا أُودَتْ إِرَمْ
أَتْرُكْهُ لَحْمًا عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ
قَالَ: وَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَأَضْرِبُهُ أَحْذَرَ مِنَ الْعَقْعَقِ، وَيَضْرِبُنِي أَثْقَفَ مِنَ الْهِرِّ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِي قَرَبُوسِ سَرْجِي فَقَطَعَهُ، وَعَضَّ كَاثِبَةَ الْفَرَسِ، فَوَثَبْتُ عَلَى رِجْلِي قَائِمًا وَقُلْتُ: يَا هَذَا مَا كَانَ يَلْقَانِي مِنَ الْعَرَبِ إِلا ثَلاثَةٌ: الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ لِسِنِّهِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لِلشَّرَفِ وَالنَّجْدَةِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ مُكَدَّمٍ لِلْحَيَاءِ وَالْبَأْسِ، فَمَنْ أَنْتَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ قَالَ: بَلْ مَنْ أَنْتَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ قُلْتُ: أَنَا عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: وَأَنَا رَبِيعَةُ بْنُ مُكَدَّمٍ، قُلْتُ: اخْتَرْ مِنِّي إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ نَتَضَارَبَ بِسَيْفَيْنَا حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَزُ؛ وَإِمَّا أَنْ نَصْطَرِعَ فَأَيُّنَا صَرَعَ صَاحِبَهُ قَتَلَهُ، وَإِمَّا الْمُسَالَمَةَ، قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكَ فَاخْتَرْ، قُلْتُ: إِنَّ بِقَوْمِكَ إِلَيْكَ حَاجَةً وَبِقَوْمِي إِلَيَّ حَاجَةً، وَالْمُسَالَمَةُ أَوْلَى وَخَيْرٌ لِلْجَمِيعِ. ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي وَقُلْتُ لَهُمْ: خَلُّوا مَا بِأَيْدِيكُمْ قَالُوا: يَا أَبَا ثَوْرٍ غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ بِأَيْدِينَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَتْرُكَهَا؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَخَلَّيْتُمْ وَزِدْتُمْ، خَلُّوا وَسَلُونِي عَنْ فَرَسِي مَا فَعَلَ؛ قَالَ: فَتَرَكْنَا مَا بِأَيْدِينَا وَانْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ.
معنى الْغَنِيمَة الْبَارِدَة
قَالَ القَاضِي: فِي قَوْله: غنيمَة بَارِدَة وَجْهَان: أَحدهمَا أَنَّهَا الْغَنِيمَة الَّتِي لم ينل غانمها حر السِّلَاح وحازوها سَالِمين ظَاهِرين موفورين غير مكلومين، وَقد يكون الْبرد فِي هَذَا القَوْل بِمَعْنى الطُّمَأْنِينَة والراحة كَمَا يُقَال: اللَّهُمَّ أذقنا برد عفوك، وَمِنْه برد الْيَقِين بِمَعْنى الطُّمَأْنِينَة والسكون، وَيَقُولُونَ برد الْمَيِّت أَي سكن. وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْغَنِيمَة الْبَارِدَة هِيَ المستقرة الْحَاصِلَة والمحوزة الثَّابِتَة من قَوْلهم: مَا برد بيَدي من هَذَا شَيْء، أَي مَا حصل وَلَا ثَبت، كَمَا قَالَ الراجز:
الْيَوْم يَوْم بَارِد سمومه ... من عجز الْيَوْم فَلَا تلومه
أَي ثَابت سمومه. وَقد أنشدنا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي:
عافت الشّرْب فِي الشتَاء فَقُلْنَا ... برديه تصادفيه سخينا
على وَجْهَيْن: برديه أَي أحبسيه وأقريه لينكسر برده، وَالْآخر بل رديه من الْورْد، فأدغم اللَّام فِي الرَّاء، وَهَذَا كثير فِي كَلَام الْعَرَب، والإظهار هَاهُنَا قَلِيل فِي السماع ضَعِيف فِي الْقيَاس، وَإِن كَانَ بَعضهم قد أظهر، وَقد رُوِيَ عَن حَفْص بْن سُلَيْمَان الْأَسدي عَن عَاصِم بْن أَبِي النجُود " بَلْ رَانَ " المطففين: 14 بالإظهار.(1/483)
نصيحة وصيف وَتردد ابْن بلبل
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن بنان الْمنْقري قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات، وَقد جرى ذكر إِسْمَاعِيل بْن بلبل وأيامه، فَقَالَ: كنت يَوْمًا بَين يَدَيْهِ وَقد ورد عَلَيْهِ خبر النَّاصِر ودخوله قرماسنين، فرأيته قد أَطَالَ الْفِكر ثُمَّ قَالَ لِأَحْمَد الْحَاجِب: وَجه إِلَى أبي عَليّ وصيف إِلَى مُوسَى ابْن أُخْت مُفْلِح، فَلم نَلْبَث أَن حضرا ثُمَّ قَالَ: وَجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح، فَقَالَ لَهُ وصيف: أُرِيد أَن أَقُول شَيْئا قبل أَن توجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح، فَقَالَ لَهُ وصيف: أُرِيد أَن أَقُول شَيْئا قبل أَن توجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح، فَقَالَ: قل، فَكَأَنَّهُ كره أَن يَقُول بِسَبَب من حضر الْمجْلس، فَقَالَ أَبُو الصَّقْر: نحتاج أَن نخلو، وَلم يكن بالحضرة إِلَّا أَرْبَعَة أَنا خاسمهم: أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن خَالِد أَخُو أَبِي صَخْرَة، وَمَا شَاءَ الله الَّذِي كَانَ يكْتب للطائي وَإِسْمَاعِيل بْن ثَابت الزغل، وَابْن فراس وَقد كَانَ اسْتَكْتَبَهُ للعبدي، فقمنا، فَقَالَ: مَكَانك يَا أَحْمَد، فَجَلَست نَاحيَة وَبَين يَدي أَعمال أنظر فِيهَا، وَقَالَ لوصيف: قل، فَقَالَ لَهُ: إِن كنت توجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح تشاوره فِي أمرٍ ورد عَلَيْك وتظن أَنه لَك مثل من حضر فَلَا تظن ذَاك، فَإِن عَبد اللَّه كَانَ بِمصْر يَقُول: لَيْسَ لي صَلَاة مَا دمت مَعَ ابْن طولون لِأَن النَّاصِر لَيْسَ براض عَنْهُ، وَهُوَ الْآن إِنَّمَا هُوَ مَعَك على أَن النَّاصِر يستنصحك ويرضى بك فِيمَا ولاك من أمره، فَإِن وقف على تدبيرٍ تدتبره على غير مَا يُوَافق النَّاصِر رأى أَن دمك حَلَال، فأفكر أَبُو الصَّقْر سَاعَة وَقَامُوا مَعَه فَدَخَلُوا مَجْلِسا وأسبلت الستور دونهم، وَمَعَهُمْ خَادِم لأبي الصَّقْر أسود يُقَال لَهُ صندل حسن الْفِكر؛ فَلَمَّا قدم النَّاصِر ونكب إِسْمَاعِيل وتخلصنا من النكبة واستخلفني أَبُو الْقَاسِم عُبَيْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان كَانَ الْخَادِم يجيئني كثيرا، فَسَأَلته عماجرى فِي تِلْكَ الْخلْوَة فَقَالَ لي: لَا تَلد النِّسَاء مثل وصيف الْخَادِم، وَلَا يرى فِي الدول مثله، قَالَ مولَايَ لَهما يعين يوصيفاً ومُوسَى: قد قرب هَذَا الرجل وَلم يبْق فِي بيُوت الْأَمْوَال شَيْء وَلَا وَالله مَا ورائي مَا أرضيه بِهِ، وَنحن فِي عدةٍ عظيمةٍ قد أنفقت الْأَمْوَال عَلَيْهَا لأدفع بهَا عَن نَفسِي، وَقد أفكرت فِي أَن أوجه وأقطع جسر النهروان وأوجه بِأَكْثَرَ الْجَيْش إِلَيْهِ مَعَ أَحْمَد بْن الْحسن المادرائي، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: الرَّأْي لسيدنا وَنحن بَين يَدَيْهِ فِي كل مَا نهضنا إِلَيْهِ، فَقَالَ لوصيفٍ: مَا تَقول يَا أَبَا عَليّ؟ فَقَالَ: أرى لَك رَأيا لَا يخلص لَك غَيره، أرى أَن تَأْخُذ ابْنه وَتَأْخُذ مَعَك من الْجَيْش من تعلم أَنه لَك نَاصح، وتقيد من تتهمه، وَتخرج فِي الْجُمْلَة الَّتِي تثق بهَا حَتَّى توافي الْمَدَائِن، فتأخذ الْمُعْتَمد وَأَوْلَاده وتخلفني بواسط وَتصير أَنْت إِلَى الصرة، والخليفة وَأَوْلَاده مَعَك، وَيكون أَبُو الْعَبَّاس وَمن قد قيدته مَعَك، فَإِن أهل الْبَصْرَة إِذا رَأَوْا الْخَلِيفَة حَارب دُونك رِجَالهمْ وخولهم وصبيانهم وَنِسَاؤُهُمْ، وَيكون مَا ل الأهواز وواسط وَالْبَصْرَة فِي يَديك، وتحدر مَعَك الشذاءات والحراقات والزلالات والطيارات، وتكاتب عَمْرو بْن اللَّيْث فَإِنَّهُ عدوه، فَإِن كفيت أمره بِهَذِهِ الْعلَّة الَّتِي يُقَال إِنَّه فِيهَا رجعت إِلَى بَغْدَاد(1/484)
وَأَنت أعز النَّاس، وَإِن عَاشَ كنت مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِمَام الْمُسلمين لم تخلع وَلم تحدث فِي أمره حَادِثَة تزيل إِمَامَته، ومعك ولي عهدٍ مقدم على أَخِيه وَلم تخرج من طاعةٍ، فَالنَّاس كلهم مَعَك، وقاتلناه أَشد قتال، ولعنته على المنابرن وَكَانَ ابْنه فِي يَديك وَأَنت مستظهر بِهِ وبابنه الآخر، وأولادك وحاشيتك مَعَك.
وَإِذا نظر الْأَوْلِيَاء إِلَى جودك وبخله واستنقاذك خَليفَة مَظْلُوما وقيامك بنصرته ناصحوك وبذلوا مجهودهم لَك، وَإِن خَالَفت هَذَا فَأَنت وَالله مَأْخُوذ مقتول، وَأَنت أعلم. فَقَالَ لَهُ: القَوْل مَا قلت، وَهَذَا هُوَ التَّدْبِير، وَأَنا آخذ فِي هَذَا وأعمل بِهِ، وخرجا من عِنْده. فَبلغ وصيفًا أَن مولَايَ عرض دوابه وبغاله لاستقبال النَّاصِر، وَأَنه أنفذ كتابا إِلَى أَبِي بكر ابْن أُخْته، وَكَانَ مَعَ النَّاصِر، ليعرضه على النَّاصِر ليجد لَهُ موضعا فِي استقباله، وَورد الْكتاب بِدُخُول النَّاصِر حلوان، فَجَاءَهُ وصيف فَقَالَ: مَا عزم سيدنَا الْوَزير؟ قد كَاد مَا جرى أَن يفوت، فَقَالَ: اللَّيْلَة أنظر فِي هَذَا، فَقَالَ: فَإلَى أَن تنظر أتقدم أَنا إِلَى وَاسِط لأَكُون هُنَاكَ إِلَى أَن توافي، فَقَالَ: وَيحك، الرجل قد كتب إِلَى ابْن أُخْتِي أَنه لم يبْق فِيهِ من الرّوح مَا يدْخل بَغْدَاد، فَمَا معنى الانزعاج وتنبيه الْأَوْلِيَاء على الْمُطَالبَة بالشخوص؟ فَقَالَ: وَالله إِن دخل النَّاصِر بَغْدَاد فِي تابوتٍ ليخرجن الْمَحْبُوس من غير أَمرك، ليجتمعن النَّاس كلهم لَهُ، ولينقلبن عَنْك كل من اصطنعته، فَإِن كنت لَا تطيعني فِيمَا أَشرت بِهِ فَدَعْنِي حَتَّى أكبس الحسني كَأَنِّي قد عاصيتك، وَأخذ الْمَحْبُوس معي، وَأخذ الْمَحْبُوس معي، وآخذ الْخَلِيفَة من الْمَدَائِن معي كَأَنَّهُ عَن غير أَمرك، فَإِنَّهُ يتهيأ لَك إِن وَقعت على شيءٍ يُخَالف محبتك أَن تتخلص حَتَّى تلْحق بِي أَو تستتر إِلَى أَن تَجِد الفرصة بالتخلص، فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَن يقفل ذَاك من حلوان رُبمَا ينجلي المر، فَقَالَ لَهُ: أما أَنا فَمَا أقيم سَاعَة أخرج من عنْدك وَأَنا بواسطٍ إِلَى أَن يأتيني أَمرك إِن بَقِي لَك أَمر، وودعه وَخرج، فَخَلا بِهِ المادرائي وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمثل هَذَا فَلم يَفْعَله، وَدخل النَّاصِر، وَكَانَت الكائنة والجلاء الَّذِي لم ير مثله.
رَأْي مُعَاوِيَة فِي مَا يستحسن من الشّعْر
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ: أَرَاكَ تُعْجَبُ بِالشِّعْرِ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِيَّاكَ وَالنَّسِيبَ بِالنِّسَاءِ فَإِنَّكَ تَعُرُّ بِهِ الشَّرِيفَةَ وَتَرْمِي بِهِ الْعَفِيفَةَ وَتُقِرُّ عَلَى نَفْسِكَ بِالْفَضِيحَةِ، وَإِيَّاكَ وَالْهِجَاءَ فَإِنَّكَ تُحْنِقُ بِهِ كَرِيمًا وَتَسْتَثِيرُ بِهِ لَئِيمًا، وَإِيَّاكَ وَالْمَدْحَ فَإِنَّهُ كَسْبُ الْوَقَاحِ وَطُعْمَةُ السُّؤَالِ، وَلِكِنِ افْخَرْ بِمَفَاخِرِ قَوْمِكَ، وَقُلْ مِنَ الأَمْثَالِ مَا تُزِيِّنُ بِهِ نَفْسَكَ وَشِعْرَكَ وَتَوَدَّدُ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ.
وَيُقَالُ الشِّعْرُ أَدْنَى مُرُوءَةِ السَّرِيِّ وَأَفْضَلُ مُرُوءَةِ الدَّنِيِّ.(1/485)
نصيب الشَّاعِر ورأيه فِي شعراء عصره
أخبرنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد عَن مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه عَن معاذٍ صَاحب الْهَرَوِيّ قَالَ: دخلت مَسْجِد الْكُوفَة فَرَأَيْت رجلا لم أر قطّ أنقى ثيابًا مِنْهُ ولَا أَشد سوادًا، فَقلت لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا نصيب، فَقلت: أَخْبرنِي عَنْك وَعَن أَصْحَابك، فَقَالَ: جميل إمامنا، وَعمر أوصفنا لربات الحجال، وَكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وَقد قلت مَا سَمِعت، قلت: فَإِن النَّاس يَزْعمُونَ أَنَّك لَا تحسن أَن تهجو، قَالَ: فأقروا لي أَنِّي أحسن المديح؟ قلت: نعم، قَالَ: أفترى لَا أحسن أَن أجعَل مَكَان عافك الله أخزاك الله؟ قلت: بلَى، قَالَ: وَلَكِنِّي رَأَيْت النَّاس رجلَيْنِ: رجلا لم أسأله فَلَا يَنْبَغِي أَن أهجوه فأظلمه، ورجلا سَأَلته فَمَنَعَنِي فَكَانَت نَفسِي أَحَق بالهجاء إِذْ سَوَّلت لي أَن أطلب مِنْهُ.
شَاعِر يسترفد مكديًا
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ: قدم أَحْمَد أَو إِبْرَاهِيم بْن الْحسن بْن سهل الْبَصْرَة وَقد ولي شَيْئا من أَعمالهَا فَنزل طاحية، فَمضى إِلَيْهِ بعض شعراء الْبَصْرَة فامتدحه، فَوَقع إِلَيْهِ:
شَاعِر يطْلب رفدًا ... من أخي شعرٍ مكدي
إِن ذَا أعجب أمرٍ ... خَاضَ فِيهِ النَّاس بعدِي
أَنا فِي أَخذ ثِيَاب الن؟ ... اس مذ كنت أسدي
جلب الرّيح إلري؟ ... ح الَّذِي يطْلب رفدي
قَالَ: فَأَرَدْت هجاءه فَلم أفعل، فلقيني يَوْمًا فَقَالَ لي: يَا هَذَا مازحناك فجددت فِي هجرنا، ثُمَّ قَالَ لغلامه: لَا تُفَارِقهُ، فَمضى بِي مَعَه فأقمت عِنْده يومي ووهب لي خَمْسمِائَة درهمٍ وَقَالَ: لَا تقطعني، فَكنت أمضي إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج من الْبَصْرَة أَمر لي بِجَمِيعِ مَا بقاه فِي الدَّار مِمَّا لم يحملهُ مَعَه، فَبِعْته بِمِائَة دِينَار، قَالَ أَبُو عبد لله: لَا أَدْرِي من حَدَّثَنِي بِهَذَا الجماز أَو الحمدوي أوغيرهما.
ضروب من الْقبْح
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زيادٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَة، قَالَ سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول: مَا أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح وَالله من ذَلِك الضجر من الْقُضَاة قبل التفهم، وأقبح مِنْهُ سخافة الْفُقَهَاء بِالدّينِ، وأقبح مِنْهُ الْبُخْل بالأغنياء والمزاح بالشيوخ والكسل بالشباب والجبن بالمقاتل.
لَا تغرق فِي شَتمنَا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن شَاكر قَالَ حَدَّثَنَا ابْن إِسْحَاق بْن(1/486)
إِسْمَاعِيل الطَّالقَانِي قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة قَالَ: كَانَ بَين عمر بْن ذَر وَبَين رجلٍ يُقَال لَهُ ابْن عَيَّاش شَحْنَاء، وَكَانَ يبلغ عمر بْن ذرٍ أَن ابْن عياشٍ يتَكَلَّم فِيهِ، قَالَ: فَخرج عمر ذَات يَوْم فلقي ابْن عَيَّاش فَوقف مَعَه، فَقَالَ لَهُ: لَا تغرق فِي شَتمنَا ودع للصلح موضعا فَإنَّا لَا نكافئ أحدا عصى الله تَعَالَى فِينَا بِأَكْثَرَ من أَن نطيع الله تَعَالَى فِيهِ.
لَا تدع على أَخِيك
حَدَّثَنَا ابْن الْمُنَادِي قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر الصَّائِغ أَيْضا قَالَ حَدَّثَنَا الْحسن بْن بشر، قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَن عبد الْعَزِيز بِهن عُبَيْد اللَّهِ قَالَ: سمع مُسلم بْن يسَار رجلا يَدْعُو على أخٍ لَهُ من أجل أَنه ظلمه، فَقَالَ لَهُ مُسلم: يَا أخي لَا تدع على أَخِيك وَلَا تقطع رَحمَه، وَكله إِلَى الله فَإِن خطيئته أَشد لَهُ طلبا من أعدى عَدو لَهُ.
كَبْش من افريقية
حَدثنَا عَبدِي اللَّهِ بْن مُسلم الْعَبْدي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن حبيب القَاضِي الْغلابِي قَالَ: رَأَيْت فِي دَار مُحَمَّد بْن زبيدة كَبْشًا قدم بِهِ من إفريقية أسود فِيهِ حلق مَكْتُوب ببياض: لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي الشق الآخر مُحَمَّد رَسُول الله.
انْتقل من جوَار ابْن طَاهِر
حَدثنَا أَحْمَد بْن أَبِي سهلٍ بْن عَاصِم الْحلْوانِي، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن عَليّ بْن هَارُون بْن عَليّ بْن يحيى بْن أَبِي مَنْصُور قَالَ: كَانَ أَبِي نازلا فِي جوَار عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر فانتقل عَنْهُ إِلَى دارٍ ابتاعها بنهر الْمهْدي وَهِي دَار إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، فَكتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ مستوحشًا:
يَا من تحول عَنَّا وَهُوَ يألفنا ... بَعدت جدا فلأيا صرت تلقانا
فَاعْلَم بأنك إِذْ بدلت جيرتنا ... بدلت دَارا وَمَا بدلت إخْوَانًا
فَأَجَابَهُ هَارُون بْن عَليّ:
بَعدت عَنْكُم بداري دون خالصتي ... ومحض ودي وعهدي كَالَّذي كَانَا
وَمَا تبدلت مذ فَارَقت قربكم ... إِلَّا همومًا أعانيها وأحزانا
وَهل يسر بسكنى دَاره أحد ... وَلَيْسَ أحبابه للدَّار جيرانا
غزل لهارون الرشيد
حَدثنَا عمر بْن أَحْمَد بْن عَليّ الْمروزِي الْجَوْهَرِي إملاء من حفظه سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد النَّيْسَابُورِي أَن هَذِه الأبيات كتبهَا هَارُون الرشيد إِلَى جاريةٍ لَهُ كَانَ يُحِبهَا وَكَانَت تبْغضهُ:
إِن الَّتِي عذبت نَفسِي بِمَا قدرت ... كل الْعَذَاب فَمَا أبقت وَلَا تركت
مازحتها فَبَكَتْ واستعبرت جزعًا ... عني فَلَمَّا رأتني باكيًا ضحِكت
فعدت أضْحك مَسْرُورا بضحكتها ... حَتَّى إِذا مَا رأتني ضَاحِكا فَبَكَتْ
تبغي خلافي كَمَا خبت براكبها ... يَوْمًا قلُوص فَلَمَّا حثها بَركت
أَو لَعَلَّه لِابْنِ إِيَاس
حَدثنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير الخَوّاص، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن مَسْرُوق، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَحْمَد أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي، قَالَ حَدَّثَنِي عَبد اللَّه بْن يحيى بْن فرقد مولى الْمهْدي قَالَ: اشْترى مُحَمَّد بْن إِيَاس جَارِيَة مغنية فهويها وَكَانَ مستهترًا بحبها وعشقها فَأَعْرَضت بوجهها عَنْهُ يَوْمًا، فلقيني وَهُوَ كئيب حَزِين، فَقلت: مَا شَأْنك؟ فَأَنْشَأَ يَقُول:
أَلَيْسَ من عجب بل زادني عجبا ... مَمْلُوكَة ملكت من بعد مَا ملكت
هِيَ الَّتِي عذبتني فِي مودتها ... كل الْعَذَاب فَمَا أبقت وَلَا تركت
أَو لشاعر آخر
أنشدنا بعقوب بْن مُحَمَّد بْن صَالح الكريزي قَالَ أنشدنا عبد الْجَلِيل بْن الْحسن لذؤيب:
هِيَ الَّتِي عذبتني فِي مودتها ... كل الْعَذَاب فَمَا أبقت وَلَا تركت
عاتبتها فَبَكَتْ واستعبرت أسفا ... عني فَلَمَّا رأتني باكيًا ضحِكت(1/487)
فظلت أضْحك مَسْرُورا لضحكها ... فاستعبرت إِذْ رأتني ضَاحِكا فَبَكَتْ
تبغي خلافي كَمَا خبت براكبها ... يَوْمًا قلُوص فَلَمَّا حثها بَركت
كَأَنَّهَا درة قد كنت أذخرها ... ليَوْم عسرٍ فَلَمَّا رمتها هَلَكت
الْمجْلس السَّادِس وَالسِّتُّونَ
يذهب إِلَى دمشق ليسمع حَدِيثا من أَبِي الدَّرْدَاء
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قِرَاءَةً عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أبي بالدرداء وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا جِئْتَ لحاجةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: مَا قَدِمْتَ لتجارةٍ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعت رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا إِرْضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا أروثوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وافرٍ.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا خَبَرٌ قَدْ كَتَبْنَاهُ عَنْ عددٍ مِنَ الشُّيُوخِ، وَرُوِّينَا فِي مَعْنَاهُ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَاسْتِقْصَاءِ الْقَوْلِ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ، وَارْتِفَاعِ(1/488)
مَنْزِلَتِهِ، وَعُلُوِّ شَأْنِ اقْتِبَاسِهِ وَحَمْلِهِ، وَجَلالَةِ الْقَائِمِينَ بِرِوَايَتِهِ وَنَقْلِهِ، مِمَّا يُصْعِبُ وَيُبْعِدُ وَيُتْعِبُ الْمُتَعَاطِي لَهُ وَلا يَتَيَسَّرُ، وَنَحْنُ نَأْتِي بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَيَسْهُلُ مَوْرِدُهُ، وَيَعْظُمُ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ الانْتِفَاعُ بِهِ، وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ فَإِنَّهُ خَيْرُ مُعِينٍ.
الْخَلِيل يرى أَن الرِّجَال أَرْبَعَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَر عَنْ أَبِيه قَالَ حَدَّثَنَا النَّضر بْن شُمَيْل قَالَ، سمعتُ الْخَلِيل بْن أَحْمَد يَقُول: الرِّجَال أَرْبَعَة: رجل يدْرِي وَلَا يدْرِي أَنه يدْرِي فَذَاك غافل فنبهوه، وَرجل لَا يدْرِي ويدري أَنه لَا يدْرِي فَذَاك جَاهِل فعلموه، وَرجل يدْرِي ويدري أَنه يدْرِي فَذَاك عَاقل فَاتَّبعُوهُ، وَرجل لَا يدْرِي أَنه لَا يدْرِي فَذَاك مائق فَاحْذَرُوهُ. وأنشدت فِي بعض مَا يشْتَمل بعض الْحِكَايَة عَلَيْهِ:
مَا زلت فِي تيه الظلام أجري ... حَتَّى دَريت أنني لَا أَدْرِي
بَين الطاهري وَبَعض أهل الْأَدَب
حَدثنَا الحسني بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن عَليّ بْن عصمَة الْأَوَانِي الشهراباني الشَّاعِر قَالَ حَدَّثَنِي بعض الْمَشَايِخ من أهل الْأَدَب قَالَ: كنت مُقيما بِالريِّ فدعاني ذَات يَوْم مُحَمَّد بْن عَليّ الطاهري، فَلَمَّا اسْتَوَى مجلسي عِنْده قَالَ لي: قد خطرت ببالي أَشْيَاء أَنا سَائِلك عَنْهَا فَقل فِيهَا بِمَا حضرك، قلت: يسْأَل الْأَمِير وأسمع، قَالَ: مَا أطيب الطَّعَام؟ قلت: طَعَام لَقِي جوعا ومطعم وَافق شَهْوَة، قَالَ: فَمَا ألذ الشَّرَاب؟ قلت: شربة ماءٍ باردٍ تبرد غليلك أَو كأس رَاح تعاطيها خَلِيلك، قَالَ: فَمَا أمتع الْغناء؟ قلت: أوتار أَرْبَعَة، وَجَارِيَة متربعة، غنَاؤُهَا مُصِيب، وضربها عَجِيب، قَالَ: فَمَا أذكى الطّيب؟ قلت: ريح بدن تحبه، أَو ولدٍ تربه، قَالَ: فَمَا أشهى النِّسَاء؟ قلت الَّتِي تخرج من عِنْدهَا كَارِهًا، وَترجع إِلَيْهَا والهًا، قَالَ: فَمَا أفره الْخَيل؟ قلت: الأسوق الْأَعْنَق الَّذِي إِذا طلب لم يسْبق، وَإِذا طلب لم يلْحق، إِذا صَهل أطربك، وَإِذا رَأَيْته أعْجبك، قَالَ: أَحْسَنت يَا غُلَام أعْطه مائَة دِينَار قلت: أعز الله الْأَمِير وَأَيْنَ تقع مني مائَة دِينَار؟ فَقَالَ لقد زِدْت نَفسك مائَة دِينَار قلت: أولست كَذَا؟ قَالَ الْأَمِير قَالَ: لَا، وَلَا كني أحقق ظَنك، يَا غُلَام أعْطه مِائَتي دِينَار.
إهانة الْحجَّاج لأنس وَمَا نجم عَنْهَا
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عبيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّد بْن السّائب الْكَلْبِيّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ إِيهًا يَا أُنَيْسُ، يَوْمٌ لَكَ مَعَ عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ الشَّأْفَةُ، وَلأَقْلَعَنَّكَ كَمَا تُقْلَعُ الصَّمْغَةُ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِيَّايَ يَعْنِي الأَمِيرُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِيَّاكَ سَكَّ اللَّهُ سَمْعَكَ، قَالَ أَنَسٌ: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَاللَّهِ لَوْلا الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا(1/489)
بَالَيْتُ أَيَّ قتلةٍ قُتِلْتُ وَلا أَيَّ ميتةٍ مِتُّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابَ أَنَسٍ اسْتَشَاطَ غَضَبًا وَصَفَّقَ عَجَبًا، وَتَعَاظَمَهُ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ كِتَابُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هَجْرًا، وَأَسْمَعَنِي نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لِذَلِكَ أَهْلا، فَخُذْ لِي عَلَى يَدَيْهِ فَإِنِّي أَمُتُّ بِخِدْمَتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَكَانَ مُصَادِقًا لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ: دُونَكَ كِتَابِي هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَابْدَأْ بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادْفَعْ كِتَابَهُ إِلَيْهِ وَأَبْلِغْهُ مِنِّي السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَجَّاجِ الْمَلْعُونِ كِتَابًا إِذَا قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ. وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَكَاتِكَ لِلْحَجَّاجِ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ وَلا أَمَرْتُهُ بِالإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ أُنْزِلْ بِهِ عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتِي، وَالسَّلامُ، فَلَمَّا قَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كِتَابَهُ وَأُخْبِرَ بِرِسَالَتِهِ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا وَعَافَاهُ وَكَافَأَهُ عَنِّي بِالْجَنَّةِ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِهِ وَالرَّجَاءَ مِنْهُ. فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ الْحَجَّاجَ عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ بِكَ عَنْهُ غِنًى وَلا بِأَهْلِ بَيْتِكَ، وَلَوْ جُعِلَ لَكَ فِي جامعةٍ ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْكَ لِقَدَرٍ أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ، فَقَارِبْهُ وَدَارَهُ، فَقَالَ أَنَسٌ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا رَآهُ الْحَجَّاجُ قَالَ: مَرْحَبًا برجلٍ أُحِبُّهُ وَكُنْتُ أحبلقاءه، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: وَأَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ فِي غَيْرِ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: فَارَقْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكَ غَضَبًا وَمِنْكَ بُعْدًا، قَالَ: فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا مَرْعُوبًا فَرَمَى إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بِالطُّومَارِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَنْظُرُ فِيهِ مَرَّةً وَيَعْرِقُ وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فَلَمَّا نَفَضَهُ قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَنَتَرَضَّاهُ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: لَا تَعْجَلْ، قَالَ: كَيْفَ لَا أَعْجَلُ وَقَدْ أَتَيْتَنِي بآبدةٍ؟ وَكَانَ فِي الطُّومَارِ: إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ طَمَتْ بِكَ الأُمُورُ فَسَمَوْتَ فِيهَا وَعَدَوْتَ طَوْرَكَ، وَجَاوَزْتَ قَدْرَكَ، وَرَكِبْتَ دَاهِيَةً إِدًّا، وَأَرَدْتَ أَنْ تَبُورَنِي، فَإِنْ سَوَّغْتَكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِن لم أسوغها رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى، فَلَعَنَكَ اللَّهُ عَبْدًا أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ مَنْقُوصَ الْجَاعِرَتَيْنِ، أَنَسِيتَ كاسب آبَائِكَ بِالطَّائِفِ وَحَفْرَهُمُ الآبَارِ وَنَقْلَهُمُ الصُّخُورِ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ يَا ابْن المستفرمة بعجم الزَّبِيب؟! وَاللَّهِ لأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَ اللَّيْثِ الثَّعْلَبِ وَالصَّقْرِ الأَرْنَبِ، وَثَبْتَ عَلَى(1/490)
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ إِحْسَانَهُ وَلم تجَاوز لَهُ إساءته، جرْأَة مِنْكَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى رَأَتْ رَجُلا خَدَمَ عُزَيْرِ بْنِ عَزْرَةَ وَعِيسَى بن مَرْيَمَ لَعَظَّمَتْهُ وَشَرَّفَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، فَكَيْفَ وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدَمَهُ ثَمَانِي سِنِينَ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا أَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَكُنْ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ خُفِّهِ وَنَعْلِهِ، وَإِلا أَتَاكَ مِنِّي سَهْمٌ مُثْكِلٌ بحتفٍ قاضٍ وَ " لِكُلِّ نبأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تعلمُونَ " الْأَنْعَام:67.
تَفْسِير بعض المفرادات
قَالَ القَاضِي: قَول الْحجَّاج: سك الله سَمعك يُقَال: استكت الأذنان واصطكت الركبتان. وَقَوله للحجاج: يَا ابْن المستفرمة بعجم الزَّبِيب كَانَت الْمَرْأَة تسْتَعْمل عجم الزَّبِيب لتضيق قبلهَا فِي مَا ذكر بعض أهل الْعلم وَهُوَ حبه، والنوى كُله يُقَال لَهُ عجم واحدته عجمة، قَالَ الْأَعْشَى:
مقادك بِالْخَيْلِ أَرض الْعَدو ... وجذعانها كلقيط الْعَجم
قيل: صَارَت من صلابتها مثل النَّوَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عجم عجمًا أَي ليك لِأَنَّهُ نوى الْفَم فَهُوَ أَصْلَب لَيْسَ بنوى خل وَلَا نبيذٍ فَهُوَ أَصْلَب وأملس، وَإِنَّمَا أرارد صلابتها وضمرها، ولقيط أَرَادَ ملقوط مثل جريح ومجروح، ويروى كلفيظ الْعَجم أَي ملفوظ ملقى.
بَين دعبل وَالْمطلب الْخُزَاعِيّ
حَدثنَا مُحَمَّد بن الصولي قَالَ حَدَّثَنِي عون بْن مُحَمَّد قَالَ لما هجا دعبل الْمطلب بْن عَبْد اللَّه بْن مَالك الْخُزَاعِيّ فَقَالَ:
اضْرِب ندى طَلْحَة الطلحات متئدا ... ببخل مطلبٍ فِينَا وَكن حكما
تخرج خُزَاعَة من لؤمٍ وَمن كرمٍ ... فَلَا تعد لَهَا لؤمًا وَلَا كرما
ويروى تسلم خُزَاعَة. فَدَعَاهُ بعد ذَلِك الْمطلب، فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ قَالَ: وَالله لأَقْتُلَنك لهجائك لي، فَقَالَ: لَهُ فأشبعني إِذن وَلَا تقتلني جائعًا، فَقَالَ: قبحك الله هَذَا أهجى من الأول، ثُمَّ وَصله فَحلف أَنه يمدحه مَا عَاشَ، فَقَالَ فِيهِ:
سَالَتْ الندى لَا عدمت الندى ... وَقد كَانَ منا زَمَانا غرب
فَقلت لَهُ طَال عهد اللِّقَاء ... فَهَل غبت بِاللَّه أم لم تغب
فَقَالَ بلَى لم أزل غَائِبا ... وَلَكِن قدمت مَعَ الْمطلب
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا دلّ على دهاء دعبل ولطف حيلته وأنبأ عَن ذكاء الْمطلب ودقة فطنته. وَقد روى مثل هَذَا عَن معن بْن زَائِدَة وَأتي بجماعةٍ قد عاثوا فِي عمله فَأمر بِقَتْلِهِم، فَقَالَ لَهُ أحدهم: أُعِيذك بِاللَّه أَن تَقْتُلنَا عطاشا فَأمر بإحضار ماءٍ يسقونهم، فأحضر، فَلَمَّا شربوا قَالَ: أَيهَا الْأَمِير لَا تقتل أضيافك، فَقَالَ: أولى لَك، وَأمر بتخليتهم.(1/491)
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا عون قَالَ: أَنْشدني دعبل لنَفسِهِ يرثي الْمطلب:
مَاتَ الثَّلَاثَة لما مَاتَ مطلب ... مَاتَ الْحيَاء وَمَات الرغب والرهب
لله أَرْبَعَة قد ضمهَا كفن ... أضحى يعزى بهَا الْإِسْلَام وَالْعرب
يَا يَوْم مطلب أصحبت أَعيننَا ... دمعًا يَدُوم لَهَا مَا دَامَت الحقب
هذي خدود بني قحطان قد لصقت ... بالترب مُنْذُ اسْتَوَى من فَوْقك الترب
جمع فعلة
قَالَ القَاضِي: قَول دعبل فِي شعره فِي الْخَبَر الْمُتَقَدّم: اضْرِب ندى طَلْحَة الطلحات أسكن اللَّام فِي قَوْله الطلحات للضَّرُورَة وحقها التحريك، وَالْعرب تَقول طَلْحَة الطلحات، وَحَمْزَة وحمزات، وَتَمْرَة وتمرات، وجمرة وجمرات، وَمثله الرَّكْعَات والسجدات بِفَتْح عين الْفِعْل من فعلات فِي الْأَسْمَاء من هَذَا الْبَاب، مالم تكن الْعين واوا أَو يَاء أَو ألفا. وَقد أسكن الراجز الْعين من الِاسْم فِي الْبَاب الَّذِي وصفت فَقَالَ:
عل صروف الدَّهْر أَو دولاتها ... تديلنا اللمة من لماتها
فتستريح النَّفس من زفراتها
هَكَذَا رُوِيَ عل صروف بِالْجَرِّ وَله عِلّة مُخْتَلف فِيهَا، فَمن النَّاس من زعم أَن إِحْدَى لامي عل الَّتِي فِي معنى لَعَلَّ حذفت وَأَن اللَّام الَّتِي فِي الظّرْف هِيَ اللَّام الخافضة فَفَتحهَا لُغَة، وَأكْثر أهل الْعلم يُنكرُونَ هَذَا التَّأْوِيل ويذهبون إِلَى أَن خفض مَا يَلِي لَعَلَّ لُغَة من لُغَات الْعَرَب.
وَمَا كَانَ من الْأَسْمَاء فِي هَذَا الْبَاب عينه مدغمةً فِي لامه لتجانسهما مثل حبةٍ وحبات وعمة وعمات فَإِنَّهُ سَاكن، وَكَذَلِكَ الْألف مثل دارةٍ ودارات، وَتارَة وتاراتٍ، وبابةٍ وباباتٍ، لِأَن الْألف لَا تكون إِلَّا سَاكِنة، وَمَتى مَا ريم تحريكها انقلبت عَن جِنْسهَا إِلَى الْهمزَة. فَأَما الْوَاو وَالْيَاء كجوزةٍ ولوزةٍ وعورةًٍ وغيبةٍ وبيضةٍ وربطةٍ، فالمستفيض من لُغَة الْعَرَب فِيهِ الإسكان للتَّخْفِيف وَلِئَلَّا يلْزم الْقلب فِيهِ الْوَاو ولاياء لتحركهما وانفتاح مَا قبلهمَا وَيَقَع الالتباس، فَتكون عارة فِي عَورَة بِمَنْزِلَة دارةٍ، وهذيل بْن مدركة يحركون فَيَقُولُونَ عورات وبيضات. قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " ثَلاثُ عوراتٍ لَكُمْ " النُّور: 58 فَهَذِهِ الْقِرَاءَة السائرة بِنَقْل الْعَامَّة والخاصة، وَقد قَرَأَ بَعضهم عورات بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذِه قِرَاءَة شَاذَّة. وَأما فعلات إِذا كَانَت نعتًا فبابها التسكين تَخْفِيفًا مثل: ضخمةٍ وضخمات، وعبلةٍ وعبلاتٍ، وكما شَذَّ فِي الْأَسْمَاء قَول الراجز زفراتها على مَا قدمنَا ذكره، فقد شَذَّ فِي الْقيَاس واطرد فِي الِاسْتِعْمَال قَوْلهم: ربعات فِي جمع رجل ربعَة وَامْرَأَة ربعةٍ. وَقد زعم جمَاعَة من النُّحَاة أَن مِمَّا شَذَّ أَيْضا فِي هَذَا الْموضع قَوْلهم شَاة لجبة وشياه لجبات، وَهِي(1/492)
القليلة اللَّبن. وَأرى أَنه قيل على التفاؤل بالغزر كَمَا قيل للعطشان ناهل، وللضرير بَصِير، وللديغ سليم، فِي قَول كثير مِنْهُم. أَلا ترى إِلَى قَول الشَّاعِر:
فِي جحفل لجب
وَقد حُكيَ شَاة لجبة بِالْفَتْح، وَحكى الْكسَائي عَن الْعَرَب فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ لجبة ولجبة، فعلى هذَيْن الْوَجْهَيْنِ يكون لجبات جَارِيا على أَصله وَقِيَاسه وَغير خَارج عَن بَابه. وَأما قَوْلهم لقبيلة من قُرَيْش العبلات فَإِنَّهُ تقرر فِي أَصله اسْما وَخرج أَن يكون صفة ونعتًا. قَالَ الشَّاعِر فِي لُغَة هُذَيْل الَّتِي قدمنَا ذكرهَا:
أَبُو بيضاتٍ رائح متأوب ... رَفِيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سبوح
وَقد اخْتلف أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي عِلّة تَحْرِيك عين فعلات بِحَيْثُ وَصفنَا وفعلة مِنْهُ سَاكِنة الْعين، فَقَالَ أَكْثَرهم: فعل هَذَا ليفرق بَين الْأَسْمَاء فِي هَذَا الْبَاب وَبَين النعوت، وَكَانَت الْأَسْمَاء لخفتها أحمل للحركة والنعوت أولى بالتسكين لثقلها وَأَنَّهَا تَأتي ثَانِيَة بعد الْأَسْمَاء. وَقَالَ بَعضهم: فعلات فِي هَذ1 الْبَاب فِيهَا تاءان فِي الأَصْل وَالتَّقْدِير، وإحداهما هَاء تنْقَلب فِي الْوَقْف تَاء كَقَوْلِك جَفْنَة وَكَانَ التَّقْدِير فِي جمعهَا جفنتات لِأَن التَّاء الأولى لَازِمَة فِي الْوَاحِدَة وَالتَّاء الثَّانِيَة أَتَت للْجمع، فاكتفي بِإِحْدَاهُمَا جعلت حَرَكَة الْعين عوضا مِمَّا حذف، وَكَانَت الْأَسْمَاء أَحَق بِهَذَا لسعتها وخفتها، وَلم يُؤْت بهَا فِي النعب للتَّخْفِيف. وَقد حكى امْرَأَة صعدة، كَأَنَّهَا صعدة تُوصَف بالطول تَشْبِيها بالقناة، يُقَال فِي يَد فلانٍ صعدة يَمَانِية، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فِي كَفه صعدةً يَمَانِية ... فيا سِنَان كشعلة القبس
يَعْنِي وهجًا وَمثله:
صعدة قد ثبتَتْ فِي حائرٍ ... أَيْنَمَا الرّيح تميلها تمل
فأسكن هَاهُنَا المشبة والمشبه بِهِ وَهُوَ النَّعْت وَالِاسْم فِي الْوَاحِد، وَقَالُوا: نسْوَة صعدات فاسكنوا لِأَنَّهُ نعت، وكأنهن صعدات فحركوا لِأَنَّهُ اسْم.
قَالَ القَاضِي: وَهَذَا بَاب تتصل بِهِ أَبْوَاب تشاركه فِي أُصُوله وَلها أَحْكَام وَعلل، وفيهَا لُغَات تتشعب وتتفرع، وَهِي مرسومة على حُدُودهَا مقرونة بعللها فِي أَو إِلَى الْمَوَاضِع بهَا.
حِكْمَة لِلْحسنِ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع أَبُو إِسْحَاق، قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن جَعْفَر بْن عَبد اللَّه بْن أَبِي طَالب، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الشَّامي، قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مُسلم وضمرة بْن ربيعَة عَن أَحْمَد بْن أَبِي حميدٍ عَن الْحسن قَالَ: مَا عرف الْخَيْر من لم يتبعهُ، وَلَا عرف الشَّرّ من لم يجتنبه، وَمَا أَيقَن عبد بِالْجنَّةِ وَالنَّار حق يقينهما إِلَّا رُؤِيَ ذَلِك فِي عمله، فَانْظُر مَا تجب أَن يكون مَعَك غَدا فقدمه الْيَوْم.(1/493)
خسف بدركلتي وَنَجَا أَبُو زبيبة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَسد الْهَرَوِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سعد الْوراق قَالَ: كَانَ رجل يُقَال لَهُ أَبُو زبيبة متعبدًا يَجِيء إِلَى مَدِينَة من مَدَائِن الْيمن يُقَال لَهَا دركلتى قَالَ: فيقف عَلَيْهِم فينشد هَذِه الأبيات:
غر جهولا أمله ... يَمُوت من جا أَجله
فَمَا بَقَاء آخرٍ ... قد مَاتَ عَنْهُ أَوله
قَالَ فَكَانَ هَذَا دأبه، وَكَانَ أهل الْقرْيَة ملحين فِي الْمعاصِي فَخسفَ بهم، فَمر بهَا رجل فَلَقِيَهُ آخر فَقَالَ: مَا فعلت دركلتى؟ قَالَ: خسف بهَا، قَالَ: فَأَبُو زبيبة؟ قَالَ: سلم.
الْمَشْي إِلَى الصين أَهْون من تِلْكَ الخطوة
حَدثنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم، قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: نظر الْأَحْنَف إِلَى سيفٍ مَعَ رجلٍ من بني تَمِيم فَقَالَ لَهُ: إِن فِيهِ لقصرًا وَإنَّهُ لجيد، فَقَالَ صَاحب السَّيْف: يَا أَبَا بَحر إِنَّهَا تطيله خطْوَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
نصل السيوف إِذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إِذا لم تلْحق
قَالَ الْأَحْنَف: يَا ابْن أخي، الْمَشْي وَالله إِلَى الصين أَهْون من تِلْكَ الخطوة.
لَا بُد من إنصاف الشُّعَرَاء
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا عسل بْن ذكْوَان، قَالَ حَدَّثَنَا الزيَادي قَالَ: كَانَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد صديقا لجَعْفَر بْن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، فجَاء يَوْمًا ليدْخل عَلَيْهِ فَوجدَ على بَابه شعراء قد أنشدوه وَقبلت أشعارهم وتأخرت جوائزهم، فشكوا ذَلِك إِلَيْهِ وسألوه إذكاره، فَدخل إِلَيْهِ فأنشده:
لَا تقبلن اشعر ثُمَّ تعقه ... فتنام وَالشعرَاء غير نيام
وَاعْلَم بِأَنَّهُم إِذا لم ينصفوا ... حكمُوا لأَنْفُسِهِمْ على الْحُكَّام
وَجِنَايَة الْجَانِي عَلَيْهِم تَنْقَضِي ... وعقابهم يبْقى على الْأَيَّام
قَالَ القَاضِي: وَقد روينَا هَذِه الأبيات منسوبة إِلَى ابْن الرُّومِي فِي مَا رُوِيَ لنا من شعره، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر فِي ذَلِك.
بَين الْحسن بْن عَليّ وَزِيَاد
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْكَلْبِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاءَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ سرحٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ شِيعَةً لعي بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام، فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ وَالِيًا عَلَيْهَا أَخَافَهُ وَطَلَبَهُ زِيَادٌ، فَأَتَى الْحسن بِهن عَلِيٍّ، فَوَثَبَ زِيَادٌ عَلَى أَخِيهِ وَوَلَدِهِ وَامْرَأَتِهِ فَأَخَذَهُمْ وَحَبَسَهُمْ وَأَخَذَ مَالَهُ وَهَدَمَ دَارَهُ، فَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى زِيَادٍ: مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى زِيَادٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ(1/494)
عَمَدْتَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَالهم وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ فَهَدَمْتَ دَارَهُ وَأَخَذْتَ مَالَهُ وَعِيَالَهُ فَحَبَسْتَهُمْ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَابْنِ لَهُ دَارَهُ وَارْدُدْ عَلَيْهِ عِيَالَهُ وَمَالَهُ، فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: مِنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى الْحَسَنِ بن فَاطِمَةَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَبْدَأُ فِيهِ بِنَفْسِكَ قَبْلِي، وَأَنْتَ طَالِبُ حاجةٍ، وَأَنَا سُلْطَانٌ وَأَنت سوقة، كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي فاسقٍ لَا يُؤْوِيهِ إِلا مِثْلُهُ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ تُوَلِّيهِ أَبَاكَ وَإِيَّاكَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ أَوَيْتَهُ إِقَامَةً مِنْكَ عَلَى سُوءِ الرَّأْيِ وَرِضًى مِنْكَ بِذَلِكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَسْبِقُنِي بِهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ جِلْدِكَ وَلَحْمِكَ وَإِنْ نِلْتَ بَعْضَكَ غَيْرَ رفيقٍ بِكَ وَلا مرعٍ عَلَيْكَ، فَإِنَّ أَحَبَّ لحمٍ إِلَيَّ آكُلُهُ لَلَحْمُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُ، فَأَسْلِمْهُ بِجَرِيرَتِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ، فَإِنْ عَفَوْتُ عَنْهُ لَمْ أَكُنْ شَفَّعْتُكَ فِيهِ، وَإِنْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَقْتُلْهُ إِلا لِحُبِّهِ إِيَّاكَ.
فَلمَّا قَرَأَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلامُ الْكِتَابَ تَبَسَّمَ وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَذْكُرُ لَهُ حَالَ ابْنِ سَرْحٍ وَكِتَابَهُ إِلَى زِيَادٍ فِيهِ وَإِجَابَةَ زيادٍ إِيَّاهُ، وَلَفَّ كِتَابَهُ فِي كِتَابِهِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى زِيَاد: من الْحسن بن فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ إِلَى زِيَادِ بن سميَّة: الْوَلَد للْفراش واللعاهر الْحَجَرُ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الْحَسَنِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْكِتَابَ ضَاقَتْ بِهِ الشَّامُ، وَكَتَبَ إِلَى زيادٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ بَعَثَ بِكِتَابِكَ إِلَى جَوَابِ كِتَابِهِ إِلَيْكَ فِي ابْنِ سَرْحٍ، فَأَكْثَرْتُ التَّعَجُّبَ مِنْكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّ لَكَ رَأْيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالآخَرُ مِنْ سُمَيَّةَ، فَأَمَّا الَّذِي مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فَحِلْمٌ وَحَزْمٌ. وَأَمَّا رَأْيُكَ مِنْ سُمَيَّةَ فَمَا يَكُونُ رَأْيُ مِثْلِهَا؟ وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُكَ إِلَى الْحَسَنِ تَشْتُمُ أَبَاهُ وَتُعَرِّضُ لَهُ بِالْفِسْقِ، وَلَعَمْرِي لأَنْتَ أَوْلَى بِالْفِسْقِ مِنَ الْحَسَنِ، وَلأَبُوكَ إِذْ كُنْتَ تُنْسَبُ إِلَى عبيدٍ أَوْلَى بِالْفِسْقِ مِنْ أَبِيهِ، وَإِنَّ الْحَسَنَ بَدَأَ بِنَفْسِهِ ارْتِفَاعًا عَلَيْكَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَضَعْكَ.
وَأَمَّا تَرْكُكَ تَشْفِيعِهِ فِيمَا شَفَعَ فِيهِ إِلَيْكَ فَحَظٌّ دَفَعْتَهُ عَن نَفسك إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ كِتَابِي هَذَا فَخَلِّ مَا فِي يَدَيْكَ لِسَعِيدِ بْنِ سَرْحٍ، وَابْنِ لَهُ دَارَهُ، وَلا تَعَرَّضْ لَهُ، وَارْدُدْ عَلَيْهِ مَالَهُ، فَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَسَنِ أَنْ يُخَيِّرَ صَاحِبَهُ إِنْ شَاءَ أَقَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَيْسَ لَكَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ بيدٍ وَلا لسانٍ. وَأَمَّا كِتَابُكَ إِلَى الْحَسَنِ بِاسْمِهِ وَلا تَنْسُبُهُ إِلَى أَبِيهِ فَإِنَّ الْحَسَنَ وَيْلَكَ مِمَّنْ لَا يُرْمَى بِهِ الرَّجَوَانِ، أَفَإِلَى أُمِّهِ وَكَلْتَهُ لَا أُمَّ لَكَ، هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَفْخَرُ لَهُ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ؛ وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ:
تَدَارَكْ مَا ضَيَّعْتَ مِنْ بَعْدِ جرأةٍ ... وَأَنْتَ أَرِيبٌ بِالأُمُورِ خَبِيرُ
أَمَا حَسَنٌ بِابْنِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ... إِذَا سَارَ سَارَ الْمَوْتُ حَيْثُ يسير
وَهل يلد الرِّئْبَالُ إِلا نَظِيرَهُ ... فَذَا حَسَنٌ شِبْهٌ لَهُ وَنَظِيرُ
قَالَ الْقَاضِي: الرِّئْبَالُ وَلَدُ الأَسَدِ.
وَلَكِنَّهُ لَوْ يُوزن الْحلم الحجى ... بِرَأْيٍ لَقَالُوا فَاعْلَمَنَّ ثَبِيرُ(1/495)
قَالَ الْغَلابِيُّ: قَرَأْتُ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى ابْنِ عَائِشَةَ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ حِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الشِّعْرَ وَالْكَلامَ بَعْدَهُ.
تعليقات لغوية ونحوية
قَالَ القَاضِي: قَول مُعَاوِيَة: من لَا يرْمى بِهِ الرجوان يَعْنِي تَثْنِيَة الرجا وَهُوَ الْجَانِب والناحية جمعه أرجاء، قَالَ الله عز وَجل: " وَالْملك على أرجائها " الحلاقة:17 وَالْعرب تَقول: فلَان لَا يرْمى بِهِ الرجوان أَي لَا يستهان بِهِ وتستضعف مَنْزِلَته فيطرح بِهِ ويرمى بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَلَا يرْمى بِي الرجوان أَنِّي ... أقل الْقَوْم من يُغني مَكَاني
وَأما قَوْله: تدارك مَا ضيعت فَإِنَّهُ حرك الْكَاف فِي الْأَمر لِأَنَّهُ أَرَادَ النُّون الْخَفِيفَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
اضْرِب عَنْك الهموم طارقها ... ضربك بِالسَّيْفِ قونس الْفرس
أَرَادَ: اضربن؛ وَالله تَعَالَى الْمُوفق للصَّوَاب.
الْمجْلس السَّابِع وَالسِّتُّونَ
معالجة محَارب بْن دثار لشهود الزُّور
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ بيزَوَيْهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر سنة تسع عشرَة وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ شَاذَانُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ الْجَهْمِ أَبُو الْجَهْمِ الْقُرَشِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ الْقِبْطِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دَثَّارٍ الذُّهْلِيِّ وَهُوَ فِي قَضَائِهِ حَتَّى تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلانِ، فَادَّعَى أَحدهمَا قبل الآخر حَقًا فأنتكره، فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فلَان. فَقَالَ لَهُ الرحل الْمُدَّعِي قَبْلَهُ: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ لَئِنْ شَهِدَ عَلَيَّ لَيَشْهَدَنَّ بزورٍ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي عَنْهُ لأُزَكِّيَنَّهُ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّاهِدُ قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دَثَّارٍ: حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الطَّيْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَتَضْرِبُ بِمَنَاقِيرِهَا وَتَقْذِفُ مَا فِي حَوَاصِلِهَا وَتُحَرِّكُ أَذْنَابَهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يُكَلَّمُ شَاهِدُ الزُّورِ وَلا تَقَارُّ قَدَمَاهُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى يُقْذَفَ بِهِ فِي النَّارِ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ كُنْتُ شَهِدْتُ عَلَى شهادةٍ وَقَدْ نَسِيتُهَا، أَرْجِعُ فَأَتَذَكَّرَهَا، فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ شَاذَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الْكِنْدِيُّ قَالَ: شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رجلٍ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دَثَّارٍ، وَكَانَ مُحَارِبٌ مُتَّكِئًا، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: وَاللَّهِ الَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ مَا شَهِدَ عَلَيَّ إِلا بزورٍ، وَمَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا إِلا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيَّ، فَاسْتَوَى مُحَارِبٌ جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: يَا هَذَا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ(1/496)
يَوْمٌ تَشِيبُ فِيهِ الْوِلْدَانُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَتَضَعُ الطَّيْرُ مَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَتَضْرِبُ بِأَذْنَابِهَا وَلا ذَنْبَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كُنْتَ شَهِدْتَ عَلَى حقٍ فَأَقِمْ عَلَى شَهَادَتِكَ، وَإِنْ كُنْتَ شَهِدْتَ عَلَى بَاطِلٍ فَاتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى وَغَطِّ رَأْسَكَ، وَاخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَغَطَّى الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْبَابِ.
فظاعة شَهَادَة الزُّور
قَالَ القَاضِي: الْأَمر فِي عَظِيم جرم شَاهد الزُّور وجسيم إثمه وفظيع مَا تحمله وقبيح مَا ارْتَكَبهُ واقتحمه واحتقبه وأقدم عَلَيْهِ، وَمَا ورد من توعد الله جلّ جَلَاله إِيَّاه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطول شَرحه ويتعب جمعه، وَمن بليغ مَا ورد فِيهِ هَذَا الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ؛ وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: شَاهد الزُّور لَا تَزُول قدماه حَتَّى يُؤمر بِهِ إِلَى لنار. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضا أَنه قَالَ: عدلت شَهَادَة الزُّور الشّرك.
وَقَالَ الله جلّ وَعز: " فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ " الْحَج:30 وَقَالَ تَعَالَى جده: " إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ " النَّحْل:105 وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي قَوْله جلّ ذكره: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " الْأَعْرَاف: 152 هِيَ وَالله لكل مفترٍ كذبا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِيمَا يَنْبَغِي أَن يعْمل بِشَاهِد الزُّور: فَذهب بَعضهم إِلَى تعزيره وتأديبه، وَرَأى آخَرُونَ إِظْهَار أمره والنداء عَلَيْهِ والتنكيل بِهِ وشهره وتحذير النَّاس مِنْهُ وَإِسْقَاط شَهَادَته إِلَى أَن يَتُوب وَتظهر تَوْبَته وتحسن إنابته أَو تَأتي عَلَيْهِ منيته، ونسال الله توفيقه وعصمته، وَأَن يجعلنا مِمَّن يُؤثر دينه على دُنْيَاهُ، ورضى ربه على هَوَاهُ، وَأَن لَا يجعلنا مِمَّن يَبِيع حَظه من ولَايَة الله تَعَالَى بشيءٍ من حطام الدُّنْيَا وَزينتهَا، وَلَا يشري صَالح مَا بَينه وَبَين ربه بمنازل الدُّنْيَا ومراتبها، إِنَّه سميع الدُّعَاء لطيف لما يَشَاء.
اضربني ضربا تقوى عَلَيْهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ ضرب رجل من خدم السُّلْطَان رجلا فأوجعه، فَقَالَ لَهُ: أصلحك الله، اضربني ضربا تقوى عَلَيْهِ فَإِن الْقصاص أمامك.
كَيفَ تمّ اسْتِخْلَاف عمر بْن عبد الْعَزِيز
حَدثنَا أَحْمَد بْن يحيى بْن الْمولى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن أَبِي خَيْثَمَة قَالَ حَدَّثَنَا عبد الْوَهَّاب بْن نجدة الحوطي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُبَارك الصُّورِي قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بْن مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بْن حسان الْكِنَانِي قَالَ: لما مرض سُلَيْمَان بْن عبد الْملك الْمَرَض الَّذِي توفّي فِيهِ، وَكَانَ مَرضه بدابق، وَمَعَهُ رَجَاء بْن حَيْوَة، فَقَالَ لرجاء بْن حَيْوَة: يَا رَجَاء من لهَذَا الْأَمر من بعدِي؟ أستخلف ابْني؟ قَالَ: ابْنك غَائِب، قَالَ: فالآخر؟ قَالَ: ذَاك صَغِير، قَالَ: فَمن ترى، قَالَ: أرى أَن تسْتَخْلف عمر بْن عبد الْعَزِيز. قَالَ: أَتَخَوَّف بني عبد الْملك، أَن لَا يرْضوا، قَالَ: فول عمر بْن عبدب الْعَزِيز وَمن بعده يزِيد بْن عبد الْملك، وتكتب كتابا وتختم عَلَيْهِ وَتَدْعُوهُمْ إِلَى بيعَته مَخْتُومًا عَلَيْهَا، قَالَ: لقد رَأَيْت، إيتني بقرطاس، قَالَ: فَدَعَا(1/497)
بقرطاسٍ فَكتب فِيهِ الْعَهْد لعمر بن عبد الْعَزِيز وَمن عَبده يزِيد بْن عبد الْملك ثُمَّ خَتمه وَدفعه إِلَى رَجَاء، قَالَ: اخْرُج إِلَى النَّاس فمرهم فليبايعوا على مَا فِي هَذَا الْكتاب مَخْتُومًا، قَالَ: فَخرج إِلَيْهِم رَجَاء فَجَمعهُمْ وَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُركُمْ أَن تبايعوا لمن فِي هَذَا الْكتاب من بعده، قَالُوا: وَمن فِيهِ؟ قَالَ: مختوم لَا تخبرون بِمن فِيهِ حَتَّى يَمُوت، قَالُوا: لَا نُبَايِع حَتَّى نعلم من فِيهِ، قَالَ: فَرجع رَجَاء إِلَى سُلَيْمَان، قَالَ: انْطلق إِلَى أَصْحَاب الشَّرْط والحرس وناد الصَّلَاة جَامِعَة، وَمر النَّاس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على مَا فِي هَذَا الْكتاب، فَمن أَبِي أَن يُبَايع مِنْهُم فَاضْرب عُنُقه، قَالَ: فَفعل، فَبَايعُوا على مَا فِيهِ، قَالَ رحاء: فَلَمَّا خَرجُوا خرجت إِلَى منزلي فَبينا أَنا أَسِير فِي الطَّرِيق إِذْ مسعت جلبة موكبٍ، فَالْتَفت فَإِذا هِشَام، فَقَالَ لي: يَا رَجَاء قد علمت موقعك منا وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد صنع شيئاًِ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَأَنا أَتَخَوَّف أَن يكون قد أزالها عني، فَإِن يكن عدلها عني فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمِير نفس حَتَّى أنظر فِي هَذَا الْأَمر قبل أَن يَمُوت، قَالَ قلت: سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا أطلعك عَلَيْهِ؟ لَا يكون ذَلِك أبدا، فأدارني وَألا صني فأبيت عَلَيْهِ، قَالَ: فَانْصَرف. فَبينا أَنا أَسِير إِذْ سَمِعت جلبة خَلْفي، فَإِذا عمر بْن عبد الْعَزِيز فَقَالَ لي: يَا رَجَاء إِنَّه قد وَقع فِي نَفسِي أَمر كَبِير من هَذَا الرجل، أَتَخَوَّف أَن يكون قد جعلهَا إِلَيّ، وَلست أقوم بِهَذَا الشَّأْن فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمِير نفس لعَلي أتخلص مِنْهُ مَا دَامَ حَيا، قلت: سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمِيرا أطلعك عَلَيْهِ؟، فأدراني وَألا صني فأبيت عَلَيْهِ، قَالَ رَجَاء وَثقل سُلَيْمَان، وحجب النَّاس عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ أجلسته وأسندته وهيأته وَخرجت إِلَى النَّاس فَقَالُوا: كَيفَ أصبح أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقلت: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أصبح سَاكِنا، وَقد أحب أَن تسلموا عَلَيْهِ وتبايعوا على مَا فِي هَذَا الْكتاب، وَالْكتاب بَين يَدَيْهِ، قَالَ: فَأَذنت للنَّاس فَدَخَلُوا وَأَنا قَائِم عِنْده، فَلَمَّا دنوا قلت: إِن أميركم يَأْمُركُمْ بِالْوُقُوفِ، ثُمَّ أخذت الْكتاب من عِنْده، ثُمَّ تقدّمت إِلَيْهِم فَقلت: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُركُمْ أَن تبايعوا على مَا فِي الْكتاب أَجْمَعِينَ وفرغت من بيعتهم قلت: لَهُم: آجركم الله فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالُوا: فَمن فافتح الْكتاب، فَإِذا فِيهِ الْعَهْد لعمر بْن عبد الْعَزِيز، فَلَمَّا نظرت بَنو عبد الْملك تَغَيَّرت وُجُوههم، فَلَمَّا قرأوا من بعده يزِيد بْن عبد الْملك كَأَنَّهُمْ تراجعوا، فَقَالُوا: أَيْن عمر بْن عبد الْعَزِيز؟ فطلبوه فَلم يُوجد فِي الْقَوْم، قَالَ: فنظروا فَإِذا هُوَ فِي مُؤخر الْمَسْجِد، قَالَ: فَأتوهُ فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة فعقر فَلم يسْتَطع النهوض حَتَّى أخذُوا بضبعيه فرقوا بِهِ الْمِنْبَر، فَلم يقدر على الصعُود حَتَّى أصعدوه، فَجَلَسَ طَويلا لَا يتَكَلَّم، فَلَمَّا رَآهُمْ رَجَاء جُلُوسًا قَالَ: أَلا تقومون إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فتبايعوه؟ قَالَ: فَنَهَضَ الْقَوْم إِلَيْهِ فَبَايعُوهُ رجلا رجلا، قَالَ فَمد يَده إِلَيْهِم، قَالَ: فَصَعدَ إِلَيْهِ هِشَام فَلَمَّا مد يَده إِلَيْهِ قَالَ يَقُول هِشَام إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، فَقَالَ عمر: نعم إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون حِين صَار(1/498)
يَلِي هَذَا الْأَمر أَنا وَأَنت. قَالَ: ثُمَّ قَامَ عمر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِنِّي لست بقاضٍ وَلَكِنِّي منفذ، وَلست بِمُبْتَدعٍ وَلَكِنِّي مُتبع، وَإِن حَوْلكُمْ من الْأَمْصَار والمدن فَإِن هم أطاعوا كَمَا أطعتم فَأَنا وَلِيكُم، وَإِن هم نقموا فلست لكم بوالٍ. ثُمَّ نزل يمشي فَأَتَاهُ صَاحب المراكب فَقَالَ: مَا هَذَا؟ أقالك: مركب الْخَلِيفَة، قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، إيتوني بدابتي، فَأتوهُ بدابته فركبها ثُمَّ خرج يسير وَخَرجُوا مَعَه، فمالوا إِلَى طَرِيق، قَالَ: إِلَى أَيْن؟ قَالُوا: إِلَى الْبَيْت الَّذِي يهيأ للخليفة، قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، انْطَلقُوا بِي إِلَى منزلي، قَالَ رَجَاء:
فَأتى منزله فَنزل عَن دَابَّته، ثمَّ دَعَا بدواةٍ وقرطاسٍ وَجعل يكْتب بِيَدِهِ إِلَى الْعمَّال فِي الْأَمْصَار ويمل على نَفسه، قَالَ رَجَاء: فَلَقَد كنت أَظن أَن سيضعف فَلَمَّا رَأَيْت صَنِيعه فِي الْكتاب علمت أَنه سيقوى بِهَذَا وَنَحْوه. فَأتى منزله فَنزل عَن دَابَّته، ثمَّ دَعَا بدواةٍ وقرطاسٍ وَجعل يكْتب بِيَدِهِ إِلَى الْعمَّال فِي الْأَمْصَار ويمل على نَفسه، قَالَ رَجَاء: فَلَقَد كنت أَظن أَن سيضعف فَلَمَّا رَأَيْت صَنِيعه فِي الْكتاب علمت أَنه سيقوى بِهَذَا وَنَحْوه.
هَل تجوز الشَّهَادَة على الْكتاب الْمَخْتُوم
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قد اخْتلف أهل الْعلم فِي الشَّهَادَة على الْكتاب الْمَخْتُوم كَالَّذي جرى فِي هَذِه الْقِصَّة، وكالرجل يكْتب وَصيته فِي صحيفَة وَيخْتم عَلَيْهَا وَيشْهد قوما على نَفسه أَنَّهَا وَصيته من غير أَن يقرأوها عَلَيْهِ أَو يَقْرَأها عَلَيْهِم ويعاينوا كتبه إِيَّاهَا، وَمَا أشبه هَذَا مِمَّا يشْهد الْمَرْء فِيهِ على نَفسه وَإِن لم يقرأه الشَّاهِد أَو لم يقْرَأ عَلَيْهِ، فَأجَاز ذَلِك وأمضاه وأنفذ الحكم فِيهِ جُمْهُور أهل الْحجاز، وَرُوِيَ عَن سَالم بْن عَبد اللَّه، وَذهب إِلَى هَذَا مَالك بْن أنس وَمُحَمّد بْن سَلمَة المَخْزُومِي، وَأَجَازَ ذَلِك مَكْحُول ونمير بْن أَوْس وزرعة بن إِبْرَاهِيم وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز فِي من وافقهم من فُقَهَاء أهل الشَّام، وَحكى نَحْو ذَلِك خَالِد بْن يزِيد بْن أَبِي مَالك عَن أَبِيه وقضاة جنده، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد فِي من وَافقه من فُقَهَاء أهل مصر وَالْمغْرب، وَهُوَ قَول فُقَهَاء أهل الْبَصْرَة وقضاتهم، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة وَعَن سوار بْن عَبد اللَّه وَعبيد الله بْن الْحسن ومعاذ بْن معَاذ العنبريين فِي من سلك سبيلهم، وَأخذ بِهَذَا عدد من متأخري أَصْحَاب الحَدِيث مِنْهُم أَبُو عبيد وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْه.
وَأبي ذَلِك جمَاعَة من فُقَهَاء أهل الْعرَاق مِنْهُم إِبْرَاهِيم وَحَمَّاد الْحسن، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَهُوَ قَول شَيخنَا أَبِي جَعْفَر رَحمَه الله عَلَيْهِ، وَكَانَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي بالعراق يذهب إِلَى القَوْل الأول لعلل ذكر أَنه حَاج بعض مخالفيه فِيهَا.
قَالَ القَاضِي: وَإِلَى القَوْل الَّذِي قدمت حكايته عَن أهل الْحجاز وَالشَّام ومصر وَالْمغْرب وَالْبَصْرَة أذهب، وَلكُل ذِي قولٍ من هذهين الْقَوْلَيْنِ علل يعتل بهَا لقَوْله، ويحتج بهَا على خَصمه، وَلَيْسَ هَذَا الْموضع مِمَّا يحْتَمل إحضارها، وَهِي مشروحة مستقصاة فِي مَا رسمناه من كلامنا فِي كتب الْفِقْه ومسائله. وَقَوله: " أَلا صني " قريب من معنى قَوْله أدارني وَهُوَ ليه وفتله.(1/499)
أشرف من حَرْب بْن أُميَّة من أكفأ عَلَيْهِ إناءه
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغَسَّانِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ يَزِيدُ ابْنُهُ، فَجَعَلَ يَزِيدُ يُعَرِّضُ بِعَبْدِ اللَّهِ فِي كَلامِهِ وَيَنْسُبُهُ إِلَى الإِسْرَافِ فِي غَيْرِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِيَزِيدَ: إِنِّي لأَرْفَعُ نَفْسِي عَنْ جَوَابِكَ، وَلَوْ صَاحِبُ السَّرِيرِ يُكَلِّمُنِي لأَجَبْتُهُ؛ قَالَ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ تَظُنُّ أَنَّكَ أَشْرَفُ مِنْهُ قَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَمِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ وَجَدِّكَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَصْرِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلَى وَاللَّهِ يَا مُعَاوِيَةَ، إِنَّ أشرف من حَرْب بْن أُميَّة مَنْ أَكْفَأَ عَلَيْهِ إِنَاءَهُ وَأَجَارَهُ بِرِدَائَهِ، قَالَ: صَدَقْتَ يَا أَبَا جَعْفَر، سل حَاجَتك فقتضى حَوَائِجَهُ وَخَرَجَ.
قَالَ الشّعبِيّ: وَمعنى قَول عَبد اللَّه لمعاوية إِن أشرف من حَرْب من أكفأ عَلَيْهِ إناءه وَأَجَارَهُ بردائه، لِأَن حَرْب بْن أُميَّة كَانَ إِذا كَانَ فِي سفرٍ فعرضت لَهُ ثنية أَو عقبَة تنحنح فَلم يجترئ أحد أَن يرقاها حَتَّى يجوز حَرْب بْن أُميَّة، وَكَانَ فِي سفرٍ فعرضت لَهُ ثنية فتنحنح، فَوقف النَّاس ليجوز، فجَاء غُلَام من بني تميمٍ فَقَالَ: وَمن حَرْب؟ ثُمَّ تقدمه، فَنظر إِلَيْهِ حَرْب وتهدده وَقَالَ سيمكنني الله تَعَالَى مِنْك إِذا دخلت مَكَّة. فَضرب الدَّهْر من ضربه، ثُمَّ إِن التَّمِيمِي بَدَت لَهُ حَاجَة بِمَكَّة فَسَأَلَ عَن أعز أهل مَكَّة فَقيل لَهُ عبد الْمطلب بْن هَاشم، فَقَالَ: أردْت دون عبد الْمطلب، فقرع عَلَيْهِ بَابه، فَخرج إِلَيْهِ الزُّبَيْر فَقَالَ مَا أَنْت؟ إِن كنت مستجيرًا أجرناك، وَإِن كنت طَالب قرى قريناك، فَأَنْشَأَ التَّمِيمِي يَقُول:
لاقيت حَربًا بالثنية مُقبلا ... وَالصُّبْح أَبْلَج ضوءه للساري
قف لَا تصاعد واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوة معلن وشعار
فتركته خَلْفي وسرت أَمَامه ... وكذاك كنت أكون فِي الْأَسْفَار
فَمضى يهددني الْوَعيد ببلدةٍ ... فِيهَا الزُّبَيْر كَمثل ليثٍ ضار
فتركته كَالْكَلْبِ ينبح وَحده ... وأتيت قرم مكارمٍ وفخارٍ
قوما هزبراً يستجار بِقُرْبِهِ ... رحب المباءة مكرمًا للْجَار
وَحلفت بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وركنه ... وبزمزمٍ وَالْحجر ذِي الأستار
إِن لَا لزبير لمانعي بمهندٍ ... عضب المهزة صارمٍ بتار
فَقَالَ لَهُ الزُّبَيْر: قد أجرتك، وَأَنا ابْن عبد الْمطلب، فسر أَمَامِي فَإنَّا معشر بني عبد الْمطلب إِذا أحرنا رجلا لم نتقدمه، فَمضى بَين يَدَيْهِ وَالزُّبَيْر فِي أَثَره، فَلَقِيَهُ حَرْب فَقَالَ: الميممي وَرب الْكَعْبَة، ثُمَّ شدّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أخترط سَيْفه الزُّبَيْر ونادى فِي إخْوَته، وَمضى حَرْب يشْتَد وَالزُّبَيْر فِي أَثَره حَتَّى صَار إِلَى دَار عبد الْمطلب، فَلَقِيَهُ عبد الْمطلب خَارِجا من الدَّار(1/500)
فَقَالَ: مَهيم يَا حَرْب، قَالَ: ابْنك، قَالَ: ادخل الدَّار، فَدخل فأكفأ عَلَيْهِ جَفْنَة هاشمٍ الَّتِي كَانَ يهشم فِيهَا الثَّرِيد، وتلاحق بَنو عبد الْمطلب بَعضهم على أثر بعض فَلم يجترئوا أَن يدخلُوا دَار أَبِيهِم، فاحتبوا بحمائل سيوفهم وجلسوا على الْبَاب، فَخرج إِلَيْهِم عبد الْمطلب، فَلَمَّا نظر إِلَيْهِم سره مَا رأى مِنْهُم، فَقَالَ: يَا بني أَصْبَحْتُم أسود الْعَرَب. ثُمَّ دخل إِلَى حَرْب فَقَالَ لَهُ: قُم فَأخْرج، فَقَالَ: يَا بني أَصْبَحْتُم أسود الْعَرَب. ثُمَّ دخل إِلَى حَرْب فَقَالَ لَهُ: قُم فَأخْرج، فَقَالَ يَا بني أَصْبَحْتُم أسود الْعَرَب. ثُمَّ دخل إِلَى حَرْب فَقَالَ لَهُ: قُم فَأخْرج، فَقَالَ يَا أَبَا الْحَارِث هربت من واحدٍ وَأخرج إِلَى عشرَة؟ فَقَالَ: خُذ رِدَائي هَذَا فالبسه فَإِنَّهُم إِذا رَأَوْا رِدَائي عَلَيْك لم يهيجوك. فَلبس رِدَاءَهُ وَخرج فَرفعُوا رؤوسهم فَلَمَّا نظرُوا إِلَى الرِّدَاء عَلَيْهِ نكسوا رؤوسهم، وَمضى حَرْب، فَهُوَ قَوْله إِن أشرف من حَرْب، من أكفأ عَلَيْهِ إناءة وَأَجَارَهُ بردائه.
حذف القَوْل وإضماره
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَول التَّمِيمِي جَار الزُّبَيْر فِي أول بَيته الثَّانِي من كَلمته قف لَا تصاعد بعد قَوْله فِي آخر بَيته الأول: وَالصُّبْح أَبْلَج ضوءه للساري مَعْنَاهُ: فَقَالَ قف، فاضمر القَوْل. وَحذف القَوْل وإضماره كثير فِي كَلَام الْعَرَب، قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ " الرَّعْد:23، 24 الْمَعْنى يَقُولُونَ: سَلام عَلَيْكُم؛ وَقَالَ الله تَعَالَى: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " الزمر: 3 وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَسَائِر الْعَرَبيَّة وَمن ذَلِك قَول الشَّاعِر:
مَا للجفان تخطاني كَأَنَّهُمْ ... لم يلف حول ذرى بَيْتِي مَسَاكِين
أَرَادَ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ، وَقَالَ آخر:
وقائلةٍ مَا بَال لونك شاحبًا ... كَأَنَّك يحميك الطَّعَام طَبِيب
تتَابع أحداثٍ تخرمن منتي ... وأبلين جسمي فالفؤاد كئيب
فأضمر القَوْل. وَفِي هَذَا الْخَبَر: " أكفأ عَلَيْهِ الْإِنَاء " أَي الْجَفْنَة والفصيح السائر فِي كَلَام الْعَرَب: كفأت الْإِنَاء، فَأَما أكفأت فَإِنَّمَا يُقَال فِي بعض عُيُوب الشّعْر، يُقَال: أكفأ الشَّاعِر يكفئ إكفاء. وَبَين أهل الْعلم بالقوافي خلاف فِي ماهيته، وَهُوَ مُبين فِي مَوْضِعه.
حلف الفضول
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بكر الْعَدوي، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْعَدَوِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عُثْمَان ابْن الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ يَقُولُ: انْصَرَفَتْ قُرَيْشٌ مِنَ الْفِجَارِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ الْفِجَارُ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حلفٍ كَانَ قَطُّ وَأَعْظَمَهُ شَرَفًا، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ وَدَعَا إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ(1/501)
الْمُطَّلِبِ، وَذَاكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَجَمِ، مِمَّنْ كَانَ يَقْدَمُ مَكَّةَ بِتِجَارَتِهِ رُبَّمَا ظَلَمُوا ثَمَنَهَا، وَكَانَ آخِرَ مَنْ ظُلِمَ رَجُلٌ مِنْ زُبَيْدٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَقَدِمَ بسلعةٍ لَهُ فَبَاعَهَا مِنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ شَرِيفًا عَظِيمَ الْقَدْرِ فَظَلَمَهُ ثَمَنَهَا، فَنَاشَدَهُ الزُّبَيْدِيُّ فِي حَقِّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَتَى الزُّبَيْدِيُّ الأَحْلافَ: عَبْدَ الدَّارِ وَمَخْزُومًا وَجُمَحَ وَسَهْمًا وَعَدِيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَزَبَرُوهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الزُّبَيْدِيُّ أَوْفَى عَلَى أَبِي قبيسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
يَا آلَ فِهْرٍ لمظلومٍ بِضَاعَتَهُ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِيَ الدَّارِ وَالنَّفَرِ
ومحرمٍ أشعثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ ... يَا لِلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
هَلْ مُخْفَرٌ مِنْ بَنِي سهمٍ بِخَفْرَتِهِ ... فَعَادِلٌ أَمْ ضَلالٌ مَا لِمُعْتَمِرِ
إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ حَرَامَتُهُ ... وَلا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ
فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: مَا لِهَذَا مَتْرَكٌ؛ فَاجْتَمَعَتْ هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَتَحَالَفُوا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فِي شهرٍ حَرَامٍ، وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا بِاللَّهِ الْقَائِمِ لَيَكُونُنَّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيْهِ حَقُّهُ، مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً، وَمَا رَسَا ثَبِيرٌ وَحِرَاءٌ مَكَانَهُمَا. فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَقَالُوا: لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلاءِ فِي فَضْلٍ مِنَ الأَمْرِ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَانْتَزَعُوا سِلْعَةَ الزُّبَيْدِيِّ مِنْهُ فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ؛ قَالَ ابْنُ مَخْلَدٍ: بَعْضُ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ أَفْهَمْهُ مِنَ ابْنِ شَبِيبٍ وَثَبَّتْنِي فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا.
يَا للكهول وللشبان
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَوْله فِي الْبَيْت الثَّانِي يَا للرِّجَال بِفَتْح اللَّام وَهِي التييسميها النحويون لَام الاستغاثة، يُقَال يَا للْقَوْم للْمَاء فتفتح لَام الْمَدْعُو وتكسر اللَّام فِي المَاء لِأَنَّهُ الْمَدْعُو إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يَا للرِّجَال ليَوْم الْأَرْبَعَاء أما ... يَنْفَكّ يحدث لي بعد النَّهْي طَربا
وَإِذا قَالُوا: يَا للْعَرَب وللموالي فتحت اللَّام الأولى وَكسرت الثَّانِيَة لِأَن الأولى فتحت لتفيد معنى الاستغاثة ثُمَّ كسرت الثَّانِيَة لما علم أَنَّهَا معطوفة عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يبكيك ناءٍ بعيد الدَّار مغترب ... يَا للكهول وللشبان للعجب
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الأَصْل فِي يَا لبكرٍ وَيَا لتميم: يَا آل بكر وَيَا آل تَمِيم، وَترك الْهَمْز فِيهِ تَخْفِيفًا، وَمِمَّنْ كَانَ يرى هَذَا الرياشي، وَأول أَبْيَات التَّمِيمِي فِي هَذَا الْخَبَر مِمَّا للرياشي فِيهِ مُتَعَلق، وَذَلِكَ قَوْله يَا آل فهر وللبصريين والكوفيين من النَّحْوِيين فِي الِاحْتِجَاج لقَولهم والمحاجة لمن خَالف مَا عَلَيْهِ جمهورهم كَلَام واستشهاد بِالْقِيَاسِ، وأتى فِيهِ من الشّعْر مَا تطول حكايته، وَله مَوضِع هُوَ أولى بِهِ.(1/502)
الرَّسُول يشْهد حلف الفضول
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَمَا سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَعَنْ حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَعْلَمْتُهُ أَنَّ الْمَسْحَ جَائِزٌ، وَأَنَّ هَاشِمًا وَزُهْرَةَ وَتَيْمًا كَانُوا أَصْحَابَ حِلْفِ الْفُضُولِ، وَأَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: شَهِدْتُ حِلْفًا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بَيْنَ هَاشِمٍ وَزُهْرَةَ وَتَيْمٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ لأَجَبْتُ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَخِيسُ بِهِ وَلِي حُمْرُ النَّعَمِ، وَكَانَ تَحَالُفُهُمْ عَلَى الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ لَا يَدَعُوا لأحدٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَضْلا إِلا أَخَذُوهُ وَبِذَلِكَ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ هَذَا الْحِلْفُ حِلْفَ الْفُضُولِ، فَفِي الأَوَّلِ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا لِقَوْلِهِمْ لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلاءِ فِي فَضْلٍ مِنَ الأَمْرِ، وَفِي الْخَبَرِ الثَّانِي لَمَّا قَالُوا فِي حِلْفِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يَدَعُونَ لأحدٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَضْلا إِلا أَخَذُوهُ.
رمي بسهام السحر
حَدثنَا أَحْمَد بْن أَبِي سهل بْن عَاصِم أَبُو بكر الْحلْوانِي قَالَ أَبُو بكر ختن الْمبرد قَالَ: لَقِيَنِي الأسباطي على الجسر وَقد أَخذ إِسْمَاعِيل بْن بلبل دور أهل الْخلد فَقَالَ لي:
بغى وللبغي سِهَام تنْتَظر ... أنفذ فِي الأكباد من وخز الإبر
سِهَام أَيدي القانتين فِي السحر
قَالَ فَمَا مَضَت الْأَيَّام حَتَّى كَانَ من أَمر إِسْمَاعِيل مَا كَانَ.
أَصْحَاب الحَدِيث يُؤْذونَ ابْن عَيَّاش
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن خلف قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاء وَلَيْسَ بالغلابي قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن مُحَمَّد بْن عبد الرَّحْمَن الْعَرْزَمِي قَالَ: كنت عِنْد أَبِي بكر بْن عَيَّاش فَجَاءَهُ أَصْحَاب الحَدِيث فآذوه، فَبعث إِلَى صَاحب الرّبع فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: حَاجَتك يَا أَبَا بكر، قَالَ: أقِم هَؤُلَاءِ عني قَالَ: وَمَا حَالهم؟ قَالَ: أَصْحَاب يَا أَبَا بكر، قَالَ: أقِم هَؤُلَاءِ عني قَالَ: وَمَا حَالهم؟ قَالَ: أَصْحَاب الحَدِيث، قد آذوني وأضجروني، قَالَ: أرْفق بهم يَا أَبَا بكر فقد قصدوك وَلَهُم حق، فَغَضب وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَيّ هَذَا البتيارك!! ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا البتيارك؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: كَانَت امْرَأَة بِالْكُوفَةِ لَهَا زوج قد عسر عَلَيْهِ المعاش، فَقَالَت لَهُ: لَو خرجت فَضربت فِي الْبِلَاد وَطلبت من فضل الله تَعَالَى، فَخرج إِلَى الشَّام فكسب ثَلَاثمِائَة دِرْهَم، فَاشْترى بهَا نَاقَة سَمِينَة فارهة، فركبها وَسَار عَلَيْهَا، فأضجرته فَحلف بِطَلَاق امْرَأَته ليبيعنها يَوْم يقدم الْكُوفَة بدرهم، فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: مَا جِئْت بِهِ؟ قَالَ: أصبت ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فاشتريت هَذِه النَّاقة فأضجرتني، فَحَلَفت بطلاقك ثَلَاثًا أَن أبيعها أول يومٍ أقدم الْكُوفَة بدرهم، فَقَالَت: أَنا أحتال لَك فعلقت فِي عنث النَّاقة سنورًا وَقَالَت: أدخلها السُّوق فَنَادِ من يَشْتَرِي السنور(1/503)
بثلاثمائة دِرْهَم والناقة بدرهم، وَلَا أفرق بَينهمَا، قَالَ: فَفعل، فجَاء أَعْرَابِي فَجعل يَدُور حول النَّاقة وَيَقُول: مَا أسمنك مَا أفرهك مَا أرخصك لَوْلَا هَذَا البتيارك.
زلَّة الْعَاقِل وزلة الْجَاهِل
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْقَزاز قَالَ حَدثنَا نصر بْن أَحْمَد قَالَ قَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: زلَّة الْعَاقِل يضْرب بهَا الطبل، وزلة الْجَاهِل تخفي فِي الْجَهْل.
ابْن المنجم يستدين من بختيشوع فيعاتبه المتَوَكل
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد يحيى بْن عَليّ بْن يحيى المنجم، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خرجنَا مَعَ المتَوَكل إِلَى دمشق فلحقتنا ضيقَة بِسَبَب الْمُؤَن والنفقات الَّتِي كَانَت تلزمنا، قَالَ: فَبعثت إِلَى بختيشوع وَكَانَ لي صديقا أسأله أَن يقرضني عشْرين ألف دِرْهَم، قَالَ: فأقرضنيها، فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ دخلت مَعَ الجلساء إِلَى المتَوَكل، فَلَمَّا فأقرضنيها، فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ دخلت مَعَ الجلساء إِلَى المتَوَكل، فَلَمَّا جلسنا بَين يَدَيْهِ قَالَ: يَا عَليّ لَك عِنْدِي ذَنْب وَهُوَ عَظِيم، قلت: يَا سَيِّدي فَمَا هُوَ، فَإِنِّي لَا أعرف لي ذَنبا وَلَا جِنَايَة؟ قَالَ: بلَى، أضقت فاستقرضت من بختيشوع عشْرين ألف دِرْهَم، أَفلا أعلمتني؟ قَالَ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ صلات أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْدِي متواترة وأنزاله على دَاره، وَاسْتَحْيَيْت مَعَ مَا قد أنعم الله علينا بِهِ من هَذَا التفضل أَن أسأله شَيْئا، قَالَ: وَلم؟ إياك أَن تستحيي من مَسْأَلَتي والطلب مني وَأَن تعاود مثل مَا كَانَ مِنْك، ثُمَّ قَالَ: مائَة ألف دِرْهَم بِغَيْر صروف، فأحضرت عشر بدر فَقَالَ: خُذْهَا واتسع بهَا.
تحول أَبِي الْعَتَاهِيَة من الْغَزل إِلَى الزّهْد
حَدثنَا المظفرين يحيى بْن أَحْمَد الشرابي قَالَ حَدَّثَنَا حسن بْن عليل الغنوي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَالك اليمامي مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن يحيى بْن يزِيد النجار، قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْن يحيى بْن عِيسَى بْن النجار بْن زِيَاد بْن النجار، قَالَ: صَحِبت أَبَا الْعَتَاهِيَة فِي طَرِيق مَكَّة فترافقنا فَأَنْشَدته يَوْمًا بَيْتا فَضَحِك، وَالشعر:
اخلع عذارك فِيمَا تستلذ بِهِ ... واجسر فَإِن أَخا اللَّذَّات من جِسْرًا
واحفظ خَلِيلك لَا تغدر بِهِ أبدا ... لَا بَارك الله فِي من خَان أَو غدرا
وَالشعر لأبي الْعَتَاهِيَة، فَقَالَ لي: يَا دَاوُد هَل مَعَك من شعري فِي عتبَة شَيْء؟ قلت: نعم، قَالَ: أرنيه، قَالَ: فَأَخْرَجته فَنظر إِلَيْهِ فَجعل يلوي رَأسه، فَلَمَّا مر هَذَا الْبَيْت:
فالليل أطول من يَوْم الْحساب على ... عين الشجي إِذا مَا نَومه نَفرا
قَالَ: فَجعل يُحَرك رَأسه وَيَقُول: يَا أَبَا الْعَتَاهِيَة لَيْسَ لَك وَالله علم بِيَوْم الْحساب، قَالَ ثُمَّ قَالَ: عَليّ بنارٍ، فَأخذ الْكتب فأحرقها وَقَالَ لي: عَلَيْك بِمَا هُوَ خير من هَذَا، فَأخْرج كتابا فِيهِ مَكْتُوب:
أَلا هَل منيب إِلَى ربه ... فيستغفر الله من ذَنبه(1/504)
على أَن فِي بعض أَحْوَاله ... حوادث يخبرن عَن قلبه
فَلم أر كالميت فِي أَهله ... يحب ويهرب من قربه
يحب محبوه إبعاده ... وهم مجمعون على حبه
وَقَالَ لي: اكْتُبْ فَكتبت، وأملي عَليّ:
لَا تكذبن فإنني ... لَك نَاصح لَا تكذبنه
واعمل لنَفسك مَا استطع؟ ... ت فَإِنَّهَا نَار وجنه
وَاعْلَم بأنك فِي زما ... ن مشبهاتٍ هن هنه
صَار التَّوَاضُع بِدعَة ... فِيهِ وَصَارَ الْكبر سنه
الْمجْلس الثَّامِن وَالسِّتُّونَ
طُوبَى لمن رَآنِي وآمن بِي
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأَدَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا فَضْلٌ يَعْنِي ابْنَ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ قَالَ حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن دراجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ، فَقَالَ طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا طُوبَى؟ قَالَ: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ سنةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا.
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ وَرَدَتِ الأَخْبَارُ مِنْ طرقٍ شَتَّى بِأَنَّ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجنَّة، وَقَالَ أهل العربيةب طُوبَى فُعْلَى مِنَ الطِّيبِ وَأَصْلُهَا طِيبَى بِالْيَاءِ فَقُلِبَتْ وَاوًا لانْضِمَامِ الطَّاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الْكُوسَى مِنَ الْكَيْسِ.
هَذَا وَأَبِيك الشّرف
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الْعُتْبِي عَن أَبِيه قَالَ: ابتنى مُعَاوِيَة بِالْأَبْطح مَجْلِسا فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ ابْنة قرظة، فَإِذا هُوَ بِجَمَاعَة على رحالٍ لَهُم، وَإِذا شَاب مِنْهُم قد رفع عقيرته يُغني:
من يساجلني يساجل ماجدا ... أَخْضَر الْجلْدَة فِي بَيت الْعَرَب
قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَبد اللَّه بْن جَعْفَر، قَالَ: خلوا لَهُ الطَّرِيق فليذهب. ثُمَّ إِذا هُوَ بِجَمَاعَة فيهم غُلَام يُغني:
بَيْنَمَا يذكرنني أبصرنني ... عِنْد قيد الْميل يسْعَى بِي الْأَغَر
قُلْنَ تعرفن الْفَتى قُلْنَ نعم ... قد عَرفْنَاهُ وَهل يخفى الْقَمَر
قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عمر بْن أَبِي ربيعَة، قَالَ: خلوا لَهُ الطَّرِيق فليذهب. قَالَ: ثُمَّ إِذا هُوَ بِجَمَاعَة وَإِذا رجل مِنْهُم يسْأَل فَقَالَ: رميت قبل أَن أحلق، وحلقت قبل أَن أرمي، لِأَشْيَاء أشكلت عَلَيْهِم من مَنَاسِك الْحَج، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَبد اللَّه بْن عمر، فَالْتَفت(1/505)
إِلَى بنت قرظة فَقَالَ: هَذَا وَأَبِيك الشّرف، هَذَا وَالله شرف الدُّنْيَا وَشرف الْآخِرَة.
تعليقات وفوائد قَالَ القَاضِي: وَقد رُوِيَ من طَرِيق آخر أَنه قَالَ هَذَا وَالله الشّرف لَا مَا نَحن فِيهِ، وَرُوِيَ أَنه قَالَ: كَاد الْعلمَاء يكونُونَ أَرْبَابًا. وَالشعر الْمُتَقَدّم فِي هَذَا الْخَبَر: الْمَشْهُور مِنْهُ أَنه للفضل بْن الْعَبَّاس بْن عتبَة بْن أَبِي لهبٍ وَرِوَايَته الْمَعْرُوفَة:
وَأَنا الْأَخْضَر من يعرفنِي ... أَخْضَر الْجلْدَة فِي بَيت الْعَرَب
من يساجلني يساجل ماجدا ... يمْلَأ الدَّلْو إِلَى عقد الكرب
وَقد ذكر أَن الفرزدق قالن لما أنْشد هَذَا الْبَيْت: مَا يساجلك إِلَّا من عض بِهن أمه. وَأما تَعْظِيم مُعَاوِيَة شَأْن عَبد اللَّه بْن عمر من أجل الْعلم فقد أحسن القَوْل فِيهِ وأنصف، ومنزلة الْعلمَاء فِي الْمُسلمين وفقههم فِي الدَّين أَعلَى وَأظْهر وَأبين وَأشهر من أَن يحْتَاج فِيهَا إِلَى إطناب وإطالةٍ وإسهاب.
شعر لمَجْنُون بني جعدة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ أنشدنا هَارُون بْن محمدٍ قَالَ أنشدنا الزُّبَيْر لمَجْنُون بني جعدة:
يَا حبذا رَاكب كُنَّا نسر بِهِ ... يهدي لنا من أَرَاك الْمَوْسِم القضبا
قَالَت لجارتها يَوْمًا تساجلها ... لما تعرت وَأَلْقَتْ عِنْدهَا السلبا
ناشدتك الله أَلا قلت صَادِقَة ... أصادفت صفة الْمَجْنُون أم كذبا
قَالَ فَقلت: ترَاهُ سَرقه من قَول عمر بْن أَبِي ربيعَة المَخْزُومِي؟:
وَلَقَد قَالَت لجاراتٍ لَهَا ... وتعرت ذَات يَوْم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لَا يقتصد
فتضاحكن وَقد قُلْنَ لَهَا ... حسن فِي كل عين من تود
حسدا مِنْهُنَّ قد حملنه ... وقديمًا كَانَ فِي النَّاس الْحَسَد
أَبُو الْعَتَاهِيَة يسرق معنى لبشار
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّان رفيع بْن سَلمَة قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحجَّاج قَالَ قَالَ بشار لأبي الْعَتَاهِيَة أَنْشدني، فأنشده:
كم من صديقٍ لي أسا ... رقّه الْبكاء من الْحيَاء
فَإِذا تفطن لامني ... فَأَقُول مَا بِي من بكاء
لَكِن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عَيْني بالرداء
قَالَ بشار: مَا أشعرك وَيحك، لَوْلَا أَنَّك سرقتني، قَالَ: وَمَا قلت يَا أَبَا معَاذ؟ قَالَ قلت:(1/506)
وَقَالُوا قد بَكَيْت فَقلت كلا ... وَقد يبكي من الْجزع الجليد
وَلَكِن قد أصَاب سَواد عَيْني ... عُوَيْد قذى لَهُ طرف حَدِيد
فَقَالُوا مَا لدمعهما سَوَاء ... أكلتا مقلتيك أصَاب عود
معنى الطَّرب
قَالَ القَاضِي: بَين هَذِه الأبيات فِي الْخَبَرَيْنِ من التناسب والتقارب فِي معانيهما مَا يُمكن أَن يكون بعض من أنشأهما أَخذ من صَاحبه، وَجَائِز أَن يكون الِاتِّفَاق فيهمَا وَقع من غير شعورٍ، من كل ناظمٍ من الشاعرين بِمَا نظمه غَيره. وَقد رُوِيَ لنا بَيت بشارٍ الْمُتَقَدّم فِي أبياته هَذِه من طَرِيق آخر وعجزه وَهل يبكي من الطَّرب الجليد والطرب هُوَ استطارة تلْحق الرجل عِنْد غَلَبَة السرُور أَو الْحزن عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا تغلط فِيهِ الْعَامَّة وَتذهب فِيهِ عَن وَجه الصَّوَاب، فيظنون أَنه يُقَال فِي الْفَرح خَاصَّة دون الْغم، وَالْأَمر فِيهِ بِخِلَاف مَا يتوهمون، وَقد زعم بعض أَصْحَاب اللُّغَة أَنه من الأضداد، وَأنكر ذَلِك كثير مِنْهُم، فَقَالَ لنا ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ عِنْدِي خفَّة تلْحق الرجل عِنْد الشَّيْء يسره أَو يحزنهُ، وَقد قَالَ الْأَعْشَى:
فهاجت شوق محزونٍ طروبٍ ... فاسبل دمعه فِيهَا سجاما
وَقَالَ لبيد:
وَأرَانِي طَربا فِي إثرهم ... طرب الواله أَو كالمختبل
وَمِمَّا يدل على مَا وَصفنَا فِي الطَّرب قَول الْكُمَيْت بْن زيدٍ:
طربت وَمَا شوقا إِلَى الْبيض أطرب ... وَلَا لعبًا مني وَذُو الشيب يلْعَب
ثمَّ قَالَ فِي هَذِه الْكَلِمَة:
وَلَكِن إِلَى أهل الْفَضَائِل وَالنَّهْي ... وَخير بني حَوَّاء وَالْخَيْر يطْلب
بني هَاشم آل النَّبِي ورهطه ... بهم وَلَهُم ارضي مرَارًا وأغضب
وَمَعْلُوم أَن الطَّرب إِلَى بني هَاشم الَّذِي عناه الْكُمَيْت إِنَّمَا هُوَ ارتياحه إِلَيْهِم وَمَا يستفزه ويزدهيه ويستخفه من غَلَبَة الْمُوَالَاة لَهُم وَالْإِخْلَاص فِي مَوَدَّتهمْ، وتوخي الْقرْبَة إِلَى الله تَعَالَى بمسالمة من سالمهم ومحاربة من حاربهم، وَهَذَا هُوَ الْحق الْوَاجِب فِي الدَّين وَاللَّازِم للْمُسلمين.
الْفضل وَصَلَاح الإِمَام
حَدثنَا أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا إِدْرِيس بْن عبد الْكَرِيم قَالَ سَمِعت مزدويه يَقُول، سَمِعت لافضيل يَقُول: لَو أَن لي دَعْوَة مستجابة لجعلتها للْإِمَام، فَإِن صَلَاحه صَلَاح الْعباد والبلاد. فَقَامَ إِلَيْهِ ابْن الْمُبَارك فَقبل وَجهه وَقَالَ: يَا معلم الْخَيْر من يحسن هَذَا غَيْرك؟ قَالَ القَاضِي: ولعمري إِن فِي صَلَاح الإِمَام أعظم صلاحٍ للْمُسلمين فِي دينهم ودنياهم، وَإِن دعاءهم لَهُ بذلك من أحسن مَا يأتونه، وَلَهُم فِيهِ من وفور الْحَظ فِي اتساق مَعَايشهمْ(1/507)
واستقامة متصرفاتهم مَا لَا يخيل على من كَانَ لَهُ قلب ذكي ولب رَضِي. وَقد أصَاب الفضيل فِي قَوْله، وَأحسن ابْن الْمُبَارك فِي فعله، وَنحن نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرزقنا معدلة أَئِمَّتنَا وإحسانهم، ويعطف علينا قُلُوبهم، ويمدهم بأيده، ويشد سلطانهم بكيده، ويوفقنا لطاعتهم وتأدية حُقُوقهم، وإخلاص النَّصِيحَة لَهُم، ومظاهرة أَوْلِيَائِهِمْ، وَجِهَاد أعدائهم.
عقبَة بْن سلم وَالشعرَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أبي طَاهِر قَالَ، قَالَ أَحْمَد بْن بدر، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: مدح بشار عقبَة بن سلمٍ فَأعْطَاهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، ومدحه مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة بالقصيدة الَّتِي يَقُول فِيهَا:
يَا وَاحِد الْعَرَب الَّذِي ... مَا فِي الْأَنَام لَهُ نَظِير
لَو كَانَ مثلك وَاحِد ... مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَقير
وَدخل أَبُو الشمقمق يَوْمًا على عقبَة بْن سلمٍ، وَهُوَ جَالس بَين بشار ومروان، فاستأذنه فِي الإنشاد فَأذن لَهُ فأنشده:
يَا عقب يَا عقب وقيت الردى ... يَا قَاتل الْبُخْل ومحيي الندى
إِن أَبَا عمْرَة قد زارني ... فشق سربالي وَقد الردا
فالطمه يَا عقب لنا لطمة ... إِذا رَآنِي فِي طَرِيق عدا
قَالَ: بِمَ ألطمه؟ قَالَ: بِخَمْسِمِائَة درهمٍ قَالَ: أَنا أَبُو الملد، ربحت عَلَيْك أَرْبَعَة آلَاف وَخَمْسمِائة دِرْهَم، ثمَّ قَالَ: أعْطوا شميمقاً خَمْسمِائَة دِرْهَم واحملوه على بقرة. قَالَ الْأَصْمَعِي: عقبَة بْن سلم يكني أَبَا الملد، وَهُوَ الَّذِي يَقُول لَهُ بشار: اسمل وحييت أَبَا الملد
توجيهات نحوية
قَالَ القَاضِي: قَول مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة: لَو كَانَ مثلك وَاحِد بجوز فِيهِ مثلك وَمثلك بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ على الْحَال لِأَن صفة النكرَة إِذا قدمت عَلَيْهَا نصبت على الْحَال كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
لخولة موحشًا طلل ... يلوح كَأَنَّهُ خلل
وَقَالَ آخر:
وَالشَّر منتشرًا يَأْتِيك عَن عرض ... والصالحات عَلَيْهَا مغلقًا بَاب
الْعلَّة فِي نصب النكرَة إِذا قدمت أَن النَّعْت لَا يكون قبل المنعوت وَالْحَال مفعول فِيهَا، وَتقدم الْمَفْعُول وتأخره سائغان، وَقد يكون النصب بِأَن يَجْعَل خَبرا لَكَانَ.
صور شعرية محورها الْبَرْق
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا عونُ بْن مُحَمَّد الْكِنْدِيّ قَالَ: وَعَدَني سُلَيْمَان بْن وهب وَهُوَ يزر للمهدي أَن يُوقع لي بإيعاز ضَيْعَة أَبِي فَأَبْطَأَ فِي ذَلِك، فَقلت لَهُ:(1/508)
قد تَأَخَّرت حَاجَتي، فَأَنت وَالله كَمَا قَالَ ابْن الْمولى:
وَإِذا تبَاع كرمية أَو تشتري ... فسواك بَائِعهَا وَأَنت المُشْتَرِي
وَإِذا تخيل من سحابك لامع ... سبقت مخايله يَد المستمطر
فجذب الدواة وَقَالَ: مَا أخلب برقك وَلَا كذبت مخيلتك، وَوَقع لي بِمَا أردْت.
قَالَ الصولي: أنشدت الْمبرد يَوْمًا قَول بشار:
أبرقت لي حَتَّى إِذا قلت جَادَتْ ... أقشعت عَن سحائب تشفتر
تَرَكتنِي وَمَا أومل مِنْهَا ... كالمرجي حلوبة مَا تدر
فأنشدني:
كَأَنَّك مزنة برقتْ بلَيْل ... لحيران يضيء لَهُ سناها
فَلم تمطر عَلَيْهِ وجاوزته ... وَقد أرسى المنى لما رَآهَا
فَسَأَلته عَن أرسى فَقَالَ: أَثْبَتَت المنى فِي قلبه، أما قَرَأت " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا " النازعات:32.
قَالَ القَاضِي: قَول بشار: أبرقت لي لُغَة قد أثبتها قوم وَمِنْهَا قَول الْكُمَيْت:
أرعد وأبرق يَا يزي؟؟ ... د فَمَا وعيدك لي بضائر
وَكَانَ الْأَصْمَعِي يُنكر هَذَا وَيَردهُ وَلَا يعرف إِلَّا رعد وبرق.
يعوض على معاونيه بسخاء بَالغ
حَدثنِي أَبُو النَّصْر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ، قَالَ لي أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات، حَدَّثَنِي كَاتب إبراهمي بْن سِيمَا قَالَ: لما صرنا إِلَى الْبَصْرَة لمحاربة الناجم بهَا وَقعت النَّار فِي عسكرنا فأحرقت كل مَا كَانَ لإِبْرَاهِيم من مضرب وَغَيره، قَالَ: فانصرفنا إِلَى سر من رأى وعملنا حِسَاب نفقات عسكرنا، ففضل فِي أَيْدِينَا من المَال الَّذِي تسبب لنا أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألف دِينَار، قَالَ فَقَالَ لي إِبْرَاهِيم: صر إِلَى أَبِي الْقَاسِم عُبَيْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان وأعلمه مَا نالنا فِي مضاربنا وآلتنا، وسله أَن يهب لنا من هَذَا المَال الَّذِي فضل قبلنَا مَا نرم بِهِ حَالنَا، فَلَعَلَّهُ يصفح لنا عَن خَمْسَة آلَاف دِينَار نصرفها فِي نفقتنا، قَالَ: فصرت إِلَيْهِ فَوَجَدته مستخليًا مُسْتَلْقِيا على مُصَلَّاهُ، فَسَأَلَنِي عَن إبراهم وحَدثني سَاعَة، ثُمَّ قَالَ لي: مَا جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت؟ إِلَيْهِ مَا قَالَ إِبْرَاهِيم فَقَالَ: وَكم بَقِي قبلك من المَال؟ قلت: أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألف دِينَار، قَالَ: فَأدْخلهَا فِي حسابكم، وَقل لَهُ يَأْخُذهَا بَارك الله لَهُ فِيهَا قَالَ: فَفعلت ذَلِك وأخذنا المَال كُله، وَإِنَّمَا كَانَ تقديرنا أَن يتْرك لنا مِنْهُ خَمْسَة آلَاف دِينَار.
الرَّسُول كَانَ يحب أَن يرى عنترة
حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يزْدَاد الْمَرْوَزِيُّ الْكَاتِبُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِتِينَةَ، قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ عَائِشَةَ يَقُولُ: أَنْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَنْتَرَةَ:(1/509)
وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ ... حَتَّى أُصِيبَ بِهِ كَرِيمَ الْمَأْكَلِ
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَدٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مَا خَلا عَنْتَرَةَ.
عبسي شَدِيد التعصب لعنترة
حَدثنَا يزْدَاد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى، قَالَ حَدَّثَنَا القحذمي عَن عَمه عَن ابْن دأب قَالَ: جَاءَنِي أَعْرَابِي منعبس مَا رَأَيْت قطّ أَشد عصيبةً مِنْهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيد مَا شَيْء بَلغنِي عَنْك؟ قَالَ قلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَلغنِي أَنَّك تَقول إِن عنترة فقئت عينه قبل أَن يَمُوت، قَالَ قلت: نعم، قَالَ: وَمن فقأها؟ قَالَ قلت: غُلَام من بني قبال، قَالَ: عنْدك فِي ذَلِك شَاهد؟ قلت: نعم، قَالَ: فأنشدنيه، فَأَنْشَدته:
غزا ثُمَّ آب العَبْد خائب جده ... إِلَى ضخمة الْأُذُنَيْنِ والكف شهبره
فَبَاتَ إِلَيْهَا كاسرا شقّ عينه ... فَقَالَت لَهُ من عَار عَيْنك عنترة
فَقَالَ لَهَا لَا ضير إِن ملمة ... ألمت وَإِن الدَّهْر يقلب أعصره
وَإِن غُلَاما من قبالٍ أَصَابَهُم ... وَمَا كَانَ عَن كف القبالي أهدره
قَالَ فَقَالَ لي: أَمَعَك غير هَذَا؟ قَالَ قلت: نعم.
أما بَنو عبس فَإِن دعيهم ... ولت فوارسه وأفلت أعورا
سمع التذامر والتواصي بَينهم ... لَا يَفْلِتَنَّ العَبْد عنتر عنترا
قَالَ فَقَالَ لي: يَا أَبَا الْوَلِيد قد صَحَّ هَذَا عنْدك؟ قَالَ قلت: قد حدثتك الحَدِيث وأنشدتك الشّعْر، قَالَ: وَالله ماتفقت عينه فِي قَبره، كَيفَ تزْعم أَنَّهَا تفقت قبل مَوته؟!
تَعْلِيق على مَا جَاءَ فِي الْخَبَرَيْنِ السَّابِقين
قَالَ القَاضِي: قد روينَا عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غير هَذَا الطَّرِيق فِي ذكر عنترة محبته رُؤْيَة عنترة وَأَنه قَالَ: لَو أَدْرَكته نفعته؛ وَقَول الشَّاعِر إِلَى ضخمة الْأُذُنَيْنِ والكف شهبرة الشهبرة: الْعَجُوز المولية، وَيُقَال شهورة وينشد فِي هَذَا:
أم الْحُلَيْس لعجوز شهوره
وَجَاء فِي بعض الْأَخْبَار أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لزيد بْن حارثه لَا تتَزَوَّج خمْسا، فَذكر فِيهِنَّ الشهبرة. وَيُقَال أَيْضا عَجُوز شهربة وأنشدوا فِي هَذَا:
أم الْحُلَيْس لعجوز شهربه ... ترْضى من اللَّحْم بِعظم الرَّقَبَة
وَقَوله: وَمَا كَانَ عَن كف القبالي أهدره يُقَال أهْدر دم فلَان إِذا طل وَلم يثأر بِهِ وَأسْقط الْقصاص وَالْعقل عَنْهُ. وَقَول الشَّاعِر فِي الشّعْر الثَّانِي: لَا يَفْلِتَنَّ العَبْد عنتر عنترا فِيهِ إغراء بِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْك عنترة أَو اقْتُل عنترة، كَمَا تَقول: الطَّرِيق الطَّرِيق فأضمر الْفِعْل، وَمثله قَوْلك لمن رايته يضْرب رجلا أَو يتهيأ لضربه: رَأسه؛ وَهَذَا بَاب وَاسع مَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة يضمر الْفِعْل فِيهِ اكْتِفَاء بِمَا حضر أَو ظهر من الْأَحْوَال والأشياء الدَّالَّة على الْعَامِل(1/510)
الْمَنوِي والمتروك. وَأما قَول الْعَبْسِي " تفقت عينه " فَإِنَّهُ ترك الْهَمْز فِي هَذِه الْكَلِمَة وَهُوَ أصل فِيهَا، قَالَ الشَّاعِر:
تفقأ فَوْقه قلع السَّوَارِي ... وجن الخازباز بِهِ جنونا
وَقد يتْرك الْهَمْز كثيرا وخاصة فِي الشّعْر كَقَوْل الشَّاعِر:
وَكنت أَبَا ستةٍ كالبدور ... أفقي بهم أعين الحاسدينا
بَيت شرِيف فِي امْرَأَة خفرة
حَدثنَا عَبد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاء الْغلابِي، قَالَ حَدَّثَنَا مهْدي بْن سابقٍ، قَالَ حَدَّثَنِي الهَيْثَم بْن عَدِيّ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد صَالح بْن حسان فَقَالَ: أنشدوا بَيْتا شريفًا فِي امرأةٍ خفرة، قُلْنَا قَول حَاتِم الطَّائِي:
يضيء لَهَا الْبَيْت الظليم خصَاصَة ... إِذا هِيَ يَوْمًا حاولت أَن تبسما
فَقَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا الْبَيْت. قُلْنَا قَول الْأَعْشَى:
كَأَن مشيتهَا من بَيت جارتها ... مر السحابة لَا ريث وَلَا عجل
قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا. قُلْنَا بَيت ذِي الرمة:
تنوء بأولاها فلأيا قِيَامهَا ... وتمشي الهوينا من قريب فتبهر
قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا. قُلْنَا: مَا عندنَا شَيْء، قَالَ بَيت أَبِي قيس ابْن الأسلت:
ويكرمنها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عَن إتيانهن فَتعذر
أحسن بَيت فِي وصف الثريا
ثمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ أحسن بيتٍ وصفت بِهِ الثريا؟ قُلْنَا بَيت ابْن الزُّبَيْر:
وَقد لَاحَ فِي الجو الثريا كَأَنَّهُ ... بِهِ راية بَيْضَاء تخفق لِلطَّعْنِ
فَقَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا، قُلْنَا: بَيت امْرِئ الْقَيْس:
إِذا مَا الثريا فِي السَّمَاء تعرضت ... تعرض أثْنَاء الوشاح الْمفصل
قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا، قُلْنَا: بَيت ابْن الطثرية:
إِذا مَا الثريا فِي السَّمَاء كَأَنَّهَا ... جمان وَهِي من سلكه فتسرعا
قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا؛ قُلْنَا قَول ذِي الرمة:
وردتاعتسافاً والثريا كَأَنَّهَا ... على قمة الرَّأْس ابْن مَاء محلق
يدف على آثارها دبرانها ... فَلَا هُوَ مَسْبُوق وَلَا هُوَ يلْحق
بِعشْرين من صغري النُّجُوم كَأَنَّهَا ... وإياه فِي الجرباء لَو كَانَ ينْطق
قلاص حداها رَاكب متعمم ... هجائن قد كَادَت عَلَيْهِ تفرق
قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا؛ قُلْنَا: مَا عندنَا شيءن قَالَ بَيت أَبِي قيس ابْن الأسلت:
وَقد لَاحَ فِي الجو الثريا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حِين نورا(1/511)
تعليقات للْقَاضِي على مَا تقدم
قَالَ القَاضِي: قَول حَاتِم: الْبَيْت الظليم أَرَادَ: المظلم، ومفعل قد ينْصَرف إِلَى فعيل، وَمن ذَلِك عَذَاب أَلِيم أَي مؤلم، قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ " يُونُس:4 وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر:
ونرفع من صُدُور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أَلِيم
وَمِنْه سميع بِمَعْنى مسمع، قَالَ الشَّاعِر:
أَمن ريحانه الدَّاعِي السَّمِيع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
أَرَادَ المسمع. وَقد يُقَال سميع بِمَعْنى سامع، وَيَأْتِي على فعيل للْمُبَالَغَة مثل رَاحِم وَرَحِيم، وحافظ وحفيظ، وعالم وَعَلِيم، وقادر وقدير، وناصر ونصير، فِي نَظَائِر لهاذا كَثِيرَة جدا. وَقَول ذِي الرمة فلأياً قِيَامهَا أَي بطيء؛ وَقَالَ زُهَيْر:
وقفت بهامن بعد عشْرين حجَّة ... فلأيا عرفت الدَّار بعد توهم
وَقَول أبي قيس: " وكيرمنها جاراتها " هَكَذَا رُوِيَ لنا على لُغَة من يَأْتِي بعلامة الْجمع مَعَ تقدم الْفِعْل وفراغه من الضَّمِير، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَلَكِن ديافي أَبوهُ وَأمه ... بحوران يعصرن السليط أَقَاربه
الْأَفْصَح ويكرمها وَقد مضى فِي بعض مَا تقدم من مجالسنا هَذِه قَول لنا فِي هَذَا الْمَعْنى وتفريق بَين عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي العلاقة، وَبَين عَلامَة التَّأْنِيث، ويستغنى بِهِ عَن إِعَادَته فِي هَذَا الْموضع. وَقَول أَبِي قيس بْن الأسلت " كعنقود ملاحية " رُوِيَ لنا فِي هَذَا الْخَبَر ملاحية بتَشْديد اللَّام، ولغة الْعَرَب الفصيحة السائرة ملاحية يَقُولُونَ عِنَب ملاحي، وَرَوَاهُ الحَدِيث وَالْأَخْبَار الَّذين لَا علم لَهُم بِكَلَام الْعَرَب يغلطون فِي هَذَا كثيرا وَفِي مَا أشبهه، وَأرى أَن الَّذِي أوقعهم فِي هَذَا أَنهم لما رَأَوْا هَذَا الْبَيْت رَأَوْا ظُهُور الزحاف فِيهِ إِذا رُوِيَ مخففًا على الْوَجْه الصَّحِيح وسلامته من ذَلِك إِذا شدد، ثُمَّ لم يعلمُوا جَوَاز الزحاف واطّراده وَظُهُور اسْتِعْمَاله وَأَن أَكثر الشّعْر مزاحف، وَمَا لَا زحاف فِيهِ قَلِيل نزر جدا؛ وَهَذَا الْبَيْت من الطَّوِيل والزحاف فِيهِ ذهَاب يَاء مفاعيلن ورده إِلَى مفاعلن، وَيُسمى هَذَا النَّوْع من الزحاف قبضا لذهاب خَامِس حُرُوف الْجُزْء، وَيُسمى الْجُزْء الَّذِي لحقه هَذَا الزحاف مَقْبُوضا، وَقد يسقطون نون مفاعيلن على معاقبة الْقَبْض فِيهِ وَهُوَ ذهَاب الْيَاء وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي السُّقُوط، وَيُسمى هَذَا الزحاف الْكَفّ لذهاب السَّابِع من حُرُوف جزئه، وَيُسمى الْجُزْء مكفوفًا.
الْمجْلس التَّاسِع وَالسِّتُّونَ
حَدِيث فِي الْخَطِيئَة
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الْقَاضِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدِينِيُّ بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا(1/512)
أَحْمَد بْن يحيى، قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مِهْرَانَ الأَسَدِيُّ، قَالَ حَدثنَا أَبُو بكر ابْن عَيَّاشٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ زيادٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ عَنِ الْعُرْسِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي أَرْضٍ فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ كمن غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ رَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا.
تَعْلِيق الْجريرِي على الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: قد ثَبت بِدَلِيل الْعقل والسمع أَن الراضي بِفعل المحسن شريك فِي إحسانه، والراضي بِفعل الْمُسِيء شريك فِي إساءته، من جِهَة الْمَدْح والذم، وَالْأَجْر والأثم. وَقد ذمّ الله تَعَالَى فِي كِتَابه من كَانَ من الْيَهُود فِي عصر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإضافته قتل أَنْبِيَائهمْ إِلَيْهِم، وَإِن كَانَ الْمُبَاشر لذَلِك من تقدم من آبَائِهِم لرضاهم بِهِ وموافقتهم إيَّاهُم فِي دينونتهم بِمَا ضلوا فِيهِ وَكَفرُوا بِفِعْلِهِ وعصوا بارتكابه.
حسن سياسة ملك
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَن الْمَدَائِنِي قَالَ: بلغ بعض مُلُوك الطوائف حسن سياسة ملكٍ، قَالَ: فَكتب إِلَيْهِ يسْأَله أَن يفِيدهُ علم الَّذِي بلغ بِهِ ذَلِك، فَكتب إِلَيْهِ: لم أهزل فِي أَمر ولانهي، وَلَا وعدٍ وَلَا وعيدٍ، واستكفيت أهل الْكِفَايَة، وَأثبت على الْغناء لَا على الْهوى، وأودعت الْقُلُوب هَيْبَة لم يشنها مقت، وودا لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الْفضل.
قَول لبَعض الْحُكَمَاء
حَدثنَا أَبُو النَّصْر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحسن بْن رَاهْوَيْةِ الْكَاتِب قَالَ: بَلغنِي أَن بعض الْحُكَمَاء قَالَ: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى جعل خَزَائِن نعْمَته عرضةً لمؤمليه، وَجعل مفايتحها صدق نيةٍ راجية.
دفتر لِابْنِ دُرَيْد
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا أَنه قَرَأَ على دفترٍ لِابْنِ دُرَيْد بِخَطِّهِ: حسبي من خَزَائِن عطاياه مَفْتُوحَة لمؤمليه، وَمن جعل مفاتيحها صِحَة الطمع فِيهِ. قَالَ: وقرأت على هَذَا الدفتر أَيْضا:
أفوض مَا تضيق بِهِ الصُّدُور ... إِلَى من لاتغالبه الْأُمُور
محاورة بَين ابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَزْيَدٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ عَنْ هِشَامِ بْنِ محمدٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَكْثَرَ غِشْيَانًا لِمُعَاوِيَةَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَوَفَدَ إِلَيْهِ مَرَّةً وَعِنْدَهُ وُفُودُ الْعَرَبِ فَأَقْعَدَهُ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: نشدتك الله يَا ابْن عباسٍ أَنْ لَوْ وَلَّيْتُمُونَا أَتَيْتُمْ إِلَيْنَا مَا أَتَيْنَا إِلَيْكُمْ مِنَ التَّرْحِيبِ وَالتَّقْرِيبِ وَعَطَائِكُمُ الْجَزِيلِ وَإِكْرَامِكُمْ عَنِ الْقَلِيلِ، وَصَبَرْتُمْ عَلَى مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْكُمْ؟ إِنِّي(1/513)
لَا آتِي إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا إِلا صغر تموه: أُعْطِيكُم الْعَطِيَّةَ فِيهَا قَضَاءُ حُقُوقِكُمْ فَتَأْخُذُونَهَا مُتَكَارِهِينَ عَلَيْهَا، تَقُولُونَ: قَدْ نَقُصَ حَقُّنَا وَلَيْسَ هَذَا تَأْمِيلُنَا، فَأَيُّ أملٍ بَعْدَ أَلْفِ ألفٍ أُعْطِيهَا الرَّجُلَ مِنْكُمْ ثُمَّ أَكُونُ أَسَرَّ بِإِعْطَائِهَا مِنْهُ بِأَخْذِهَا؟ وَاللَّهِ لَقَدِ انْخَدَعْتُ لَكُمْ فِي مَالِي، وَذَلَلْتُ لَكُمْ فِي عِرْضِي، أَرَى انْخِدَاعِي تَكَرُّمًا، وَذُلِّي حِلْمًا، وَلَوْ وَلَّيْتُمُونَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِالإِنْصَافِ ثُمَّ لَا نَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ، لِعِلْمِنَا بِحَالِنَا وَحَالِكُمْ، وَيَكُونُ أَبْغَضُ الأَمْوَالِ إِلَيْنَا أَحَبَّهَا إِلَيْكُمْ لأَنَّ أَبْغَضَهَا إِلَيْنَا أَحَبُّهَا إِلَيْكُم، قل يَا ابْن عباسٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وُلِّينَا مِنْكُمْ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتُمْ مِنَّا اخْتَرْنَا الْمُوَاسَاةَ ثُمَّ لَمْ يَعَشِ الْحَيُّ بِشَتْمِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ نَنْبُشِ الْمَيِّتَ بِعَدَاوَةِ الْحَيِّ، وَلأَعْطَيْنَا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَمَّا إِعْطَاؤُكُمُ الرَّجُلَ مِنَّا أَلْفَ أَلْفٍ فَلَسْتُمْ بِأَجْوَدَ مِنَّا أَكُفًّا، وَلا أَسْخَى مِنَّا أَنْفُسًا، وَلا أَصْوَنَ لأَعْرَاضِ الْمُرُوءَةِ وَأَهْدَافِ الْكَرَمِ؛ وَنَحْنُ وَاللَّهِ أَعْطَى فِي الْحَقِّ مِنْكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَعْطَى عَلَى التَّقْوَى مِنْكُمْ عَلَى الْهَوَى. فَأَمَّا رِضَاكُمْ مِنَّا بِالْكِفَافِ فَلَوْ رَضِيتُمْ بِهِ مِنَّا لَمْ نَرْضَ لأَنْفُسِنَا بِذَلِكَ والكفاف رضى من لَاحق لَهُ، فَلَوْ رَضِيتُمْ بِهِ مِنَّا الْيَوْمَ مَا قَتَلْتُمُونَا عَلَيْهِ أَمْسِ، فَلا تَسْتَعْجِلُونَا حَتَّى تَسْأَلُونَا، وَلا تَلْفِظُونَا حَتَّى تَذُوقُونَا. فَقَالَ الْفَضْلُ بْن الْعَبَّاس بْن عتبَة بْن أَبِي لهبٍ:
وَقَالَ ابْنُ حربٍ قَوْلَةً أُمَوِيَّةً ... يُرِيدُ بِمَا قَدْ قَالَ تفتيش هَاشم
أجب يَا ابْن عَبَّاسٍ تُرَاكُمْ لَوْ أَنَّكُمْ ... مَلَكْتُمْ رِقَابَ الأَقْرَبِينَ الأَكَارِمِ
أَتَيْتُمْ إِلَيْنَا مَا أَتَيْنَا إِلَيْكُمْ ... مِنَ الْكَفِّ عَنْكُمْ وَاجْتِبَاءِ الدَّرَاهِمِ
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَقَالا أُمْضِهِ ... وَلَمْ يَكُ عَنْ رَدِّ الْجَوَابِ بِنَائِمِ
نَعَمْ لَوْ وَلَّيْنَاكُمْ عَدَلْنَا عَلَيْكُمْ ... وَلَمْ تَشْتَكُوا مِنَّا انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ
وَلَمْ نَعْتَمِدْ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ غُمَّةً ... تُحْدِثُهَا الركْبَان أهل المواسم
وَلم نُعْطِكُمْ إِلا الْحُقُوقَ الَّتِي لَكُمْ ... وَلَيْسَ الَّذِي يُعْطِي الْحُقُوقَ بِظَالِمِ
وَمَا أَلَفُ ألفٍ تَسْتَمِيلُ ابْنَ جعفرٍ ... بهَا يَا ابْن حربٍ عِنْد حز الحلاقم
فَأصْبح يَرْمِي مَنْ رَمَاكُمْ بِبُغْضِهِ ... عَدُوُّ الْمَعَادِي سَالِمًا لِلْمُسَالِمِ
فَأَعْظِمْ بِمَا أَعْطَاكَ مِنْ نُصْحِ جَيْبِهِ ... وَمِنْ أَمْنِ غيبٍ لَيْسَ فِيهِ بِنَادِمِ
رِسَالَة من خَالِد الْقَسرِي إِلَى أبان البَجلِيّ
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن عبيد بْن نَاصح قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمرَان عَن أَبِيه قَالَ: كتب خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي إِلَى أبان بْن الْوَلِيد البَجلِيّ وَكَانَ قد ولاه الْمُبَارك: أما بعد فَإِن بالرعية من الْحَاجة إِلَى ولاتها مثل الَّذِي بالولاة من الْحَاجة إِلَى رعيتها، وَإِنَّمَا هم من الْوَالِي بِمَنْزِلَة جسده من رَأسه، وَهُوَ مِنْهُم بِمَنْزِلَة رَأسه من جسده فَأحْسن إِلَى رعيتك بالرفق بهم، وَإِلَى نَفسك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَلَا يكونُونَ هم إِلَى صَلَاحهمْ أسْرع مِنْك إِلَيْهِ، وَلَا عَن فسادهم أدفَع مِنْك عَنْهُ، وَلَا يحملك فضل الْقُدْرَة على(1/514)
شدَّة السطوة بِمن قل ذَنبه ورجوت مُرَاجعَته، وَلَا تطلب مِنْهُم إِلَّا مثل الَّذِي تبذل لَهُم، وَاتَّقِ الله تَعَالَى فِي الْعدْل عَلَيْهِم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم، فَإِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون. اصرم فِيمَا علمت، وأكتب إِلَيْنَا فِيمَا جهلت يأتك أمرنَا فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله، وَالسَّلَام.
أَبُو الْأسود يُوصي حَارِثَة أَن يستغل ولَايَته
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغيرَة بْن مُحَمَّد المهلبي قَالَ حَدَّثَنِي الْعُتْبِي قَالَ: كَانَ حَارِثَة بْن بدر الغداني صديقا لزياد بْن أَبِيه وَكَانَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي مؤاخيا لحارثة بْن بدرٍ، فقلد زِيَاد حَارِثَة بْن بدر سرق، فَكتب إِلَيْهِ أَبُو الْأسود:
أحار بْن بدرٍ قد وليت إِمَارَة ... فَكُن جرذا فِيهَا تعق وتسرق
وباه تميمًا بالغنى إِن للغنى ... لِسَانا بِهِ الْمَرْء الهيوبة ينْطق
وَلَا تحقرن يَا حَار شَيْئا أصبته ... فحظك من ملك العراقين سرق
فَإِنِّي رَأَيْت النَّاس إِمَّا مكذب ... يَقُول بِمَا يهوى وَإِمَّا مُصدق
يَقُولُونَ أقوالا بِظَنّ وشبهةٍ ... فَإِن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
فَكتب إِلَيْهِ حَارِثَة بْن بدرٍ: لم يعم علينا الرَّأْي يَا أَبَا الْأسود، وَختم كِتَابه بِهَذَا الشّعْر:
جَزَاك مليك النَّاس خير جَزَائِهِ ... فقد قلت مَعْرُوفا وأوصيت كَافِيا
أمرت بحزمٍ لَو أمرت بِغَيْرِهِ ... لألفيتني فِيهِ لأمرك عَاصِيا
ستلقى امْرَءًا يصفيك بالود مثله ... ويوليك حفظ الْغَيْب إِن كنت نَائِبا
وَأقرب مَا عِنْدِي الْمُوَاسَاة مسمحًا ... إِذا لم يجد قوم صديقا مكافيًا
تَفْسِير التَّرْخِيم وَشرح السماحة
قَالَ القَاضِي: رخم أَبُو الْأسود حَارِثَة فِي شعره، فَحذف الْهَاء والثاء، وَبَعض النَّحْوِيين لَا يُجِيز هَذَا، وَيَقُول يَا حَارِث فِي ترخيم حَارِثَة فتحذف الْهَاء خَاصَّة فَيَقُول: أحارث وأحارث على لغتين للْعَرَب فِيهِ، أفصحهما إِقْرَار حَرَكَة الْحَرْف فِي التَّرْخِيم على مَا كَانَت عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْه الْمُخْتَار، وَالْأُخْرَى صمه على حكم النداء الْمُفْرد وَالْقَضَاء على مَا بَقِي بعد حذف الطّرف للترخيم بِأَنَّهُ اسْم قد قَامَ بِنَفسِهِ وَكفى من غَيره، وَلَا نجيز هَذَا التَّرْخِيم على هذَيْن الوجيهن إِلَّا فِي ترخيم حَارِث، وَقد احْتج بِشعر أَبِي الْأسود وَغَيره فِي إجَازَة هَذَا التَّرْخِيم من أجَازه. وَقَوله: وَأقرب مَا عِنْدِي الْمُوَاسَاة مسمحًا يُقَال من السماحة والسماح، سمعح فلَان بِمَالِه ومعروفه وسامح وتسمح وتسامح، وَيُقَال أسمح فلَان فَهُوَ مسمح إِذا انْقَادَ وأصحب وَلِأَن جَانِبه وقارب غير مستصعب، قَالَ تَمِيم بْن أَبِي بْن مُقْبل الْعجْلَاني:
هَل الْقلب عَن دهماء سالٍ فمسمح ... فتاركه مِنْهَا الخيال المبرح(1/515)
رِوَايَة أُخْرَى عَن
تَوْلِيَة حَارِثَة وَوَصِيَّة أَبِي الْأسود
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْميُّ عَن أَبِيه قَالَ حَدَّثَنَا خَالِد بْن سعيدٍ عَن أَبِيه قَالَ: لما ولي زِيَاد حَارِثَة بْن بدرٍ الغداني سرق خرج مَعَه المشيعون، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْأسود الدؤَلِي مسيرًا إِلَيْهِ: أحار بْن بدرٍ وَذكر الشّعْر وَجَوَاب حَارِثَة عَنْهُ، والألفاظ فِيهِ وَفِي خبر ابْن الْأَنْبَارِي متقاربه الْمعَانِي، وَفِي هَذَا الْخَبَر زِيَادَة بَيت يَلِي قَول أَبِي الْأسود: يَقُولُونَ أقوالا بظنٍ وشبهةٍ.
وَهُوَ:
وَلَا تعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وَمَا كَانَ من يدعى إِلَى الرزق يرْزق
سَمَّاهُ مَعْرُوفا وكناه أَبَا الْحسن
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الغَلابِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة قَالَ: سمى رجل ولدا لَهُ مَعْرُوفا وكناه بِأبي الْحسن، فَلَمَّا شب قَالَ لَهُ: يَا بني إِنَّمَا سميتك مَعْرُوفا وكنيتك بِأبي الْحسن لأحبب إِلَيْك مَا سميتك بِهِ وكنيتك بِهِ. قَالَ الصولي: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث وكيعًا فَقَالَ لي: يُقَال إِن قَائِل هَذَا أَبُو مَعْرُوف الْكَرْخِي لمعروف.
نباذة عَن مَعْرُوف الْكَرْخِي
قَالَ القَاضِي: العروف من كنية معروفٍ الْكَرْخِي أَبُو مَحْفُوظ، وَاسم أَبِيه الفيرزان، وَكَانَ من المعروفين بالصلاح فِي دينه مَشْهُورا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَة والورع والزهادة، فَكَانَ النَّاس فِي زَمَانه وَبعد مضيه لسبيله يتحدثون أَنه مستجاب الدعْوَة، وَله أَخْبَار مستحسنة جمعهَا النَّاس تشْتَمل على أخلاقه وَسيرَته، وَقد رويت لنا عَنْهُ أَخْبَار مُسندَة وموقوفة. وَحدثت عَن عَبد اللَّه بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن حَنْبَل أَنه قَالَ، قلت لأبي: هَل كَانَ مَعَ مَعْرُوف الْكَرْخِي شَيْء من الْعلم؟ فَقَالَ لي: يَا بني كَانَ مَعَه راس الْعلم، خشيَة الله تبَارك وَتَعَالَى.
قَالَ القَاضِي: ولعمري إِن خشيَة الله تَعَالَى وتقواه رَأس الْعلم. وَإِنَّمَا يكْتَسب الْعلم ليؤدي إِلَى خشيَة الله تَعَالَى ومراقبته، وَالسَّعْي إِلَى مَا يعود بثوابه والأمن من عِقَابه، وَقد قَالَ مُجَاهِد: إِنَّمَا الْفَقِيه من يخْشَى الله عز وَجل لِأَنَّهُ قَالَ عز ذكره: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " فاطر: 28 وَقد كَانَ نَبينَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بربه، وأفقههم فِي دينه، وأخشاهم لَهُ، وأحفظهم لحدوده. وَقد جَاءَ فِي الْأَثر: إِن رَأس الْحِكْمَة خشيَة الله تَعَالَى وَإِن حب الدُّنْيَا رَأس كل خَطِيئَة. نسْأَل الله الْكَرِيم إصلاحنا لَهُ حَتَّى نؤثر رِضَاهُ على هوانا، وَلَا نشتغل عَن الاستعداد لمعادنا إِلَيْهِ بغرور دُنْيَانَا، إِنَّه سميع الدُّعَاء لطيف لما يَشَاء.
حَمْدَوَيْه صَاحب الزَّنَادِقَة والطويل الزنديق
حَدثنَا مُحَمَّد بْن عبد الْوَاحِد أَبُو عمر الزَّاهِد قَالَ أَخْبرنِي أَبُو بكر الْمَلْطِي قَالَ أَخْبرنِي(1/516)
من رأى حَمْدَوَيْه الزنديق النَّائِب، تائب الزَّنَادِقَة، قَالَ: فَأَخْبرنِي أَن الْخَلِيفَة رأى فِي مَنَامه كَأَن الْكَعْبَة قد مَالَتْ، وَكَأَنَّهُ أَقَامَهَا هُوَ وَآخر يعرف صورته إِذا رَآهُ فِي الْيَقَظَة، فاستوت الْكَعْبَة، قَالَ: فطلبوني فَقيل لي يَا حَمْدَوَيْه مَا نشك فِيك أَنَّك أَنْت صَاحب الْخَلِيفَة، قَالَ: فأدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: نعم هَذَا هُوَ، قَالَ: فَخلع عَليّ وحملني، ثُمَّ أَمر صَاحب الشرطة أَن يقبل مني كل شَيْء أقوله، وَقَالَ لَهُ: مر أَصْحَاب الأرباع والأعوان بِالطَّاعَةِ لَهُ، قَالَ: نعم، ثُمَّ قَالَ لي أنظر كل زنديق فارفعه إِلَيّ، قَالَ: وَأمر لي بسجن حَتَّى أحبس فِيهِ الزَّنَادِقَة، فَقَالَ لي ابْن مَسْرُوق الصُّوفِي: هِيَ الَّتِي يُقَال لَهَا دَار مُفْلِح قَالَ حَمْدَوَيْه: فالتقطت مِنْهُم جمَاعَة، فَمن أقرّ وَتَابَ خلاه السُّلْطَان وَمن جحد حَبسه، قَالَ، فمررت ذَات يومٍ على مَسْجِد الطَّوِيل وَهُوَ يَقُول فِي أَذَانه: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، قَالَ حَمْدَوَيْه: فَقلت زنديق وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، قَالَ: فَبعثت إِلَى صَاحب الرّبع فَركب، فَقلت: اقبض على ذَا، فرفعه إِلَى السُّلْطَان، قَالَ: وَكَانَ مقرئا قد علم ألوفا من النَّاس، قَالَ: فتسامع أهل الكرخ، قَالَ: فَاجْتمعُوا وهم ثَلَاثُونَ ألفا فَدَخَلُوا على السُّلْطَان الْأَعْظَم فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ حَمْدَوَيْه نَبيا وَلَا صحابياً وَلَا تابيعاً حَتَّى يصدق فِي كل شيءٍ يَقُوله، وَنحن وُجُوه الرَّعْي نحلف للسُّلْطَان بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لقد أبطل حَمْدَوَيْه، قَالَ: وابتدأ قوم فَحَلَفُوا بِالطَّلَاق وأيمان الْبيعَة أَن حَمْدَوَيْه كذب على أستاذنا، قَالَ: وَخَرجُوا وَقد وعدهم أَن يتَوَقَّف فِي قَتله ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن خرج حَمْدَوَيْه بعذرٍ بَين قتل حَمْدَوَيْه وخلى الْمقري، قَالَ: فَخَلا بِي من بعد مَا خرج النَّاس فَقَالَ لي: يَا حَمْدَوَيْه، قد بلغك الْخَبَر وَرَأَيْت الْأمة قد اقبلت إِلَيّ وَزَعَمُوا أَنه أستاذهم وَقد حلفوا بِالطَّلَاق، وَقد أجلته ثَلَاثَة أَيَّام فَإِذا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع فإمَّا قتلته وَإِمَّا أَقْتلك، فَقلت: قد رضيت بِاللَّه رَبًّا وبمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبيا وَقد رضيت بِاللَّه كَافِيا ومعينا وَأَنا أَقمت مَعَك الْكَعْبَة لاهم، قَالَ: وَخرجت فأخذني الْمُقِيم المقعد وَلَا أجد أحدا إِلَّا وَهُوَ يثني عَلَيْهِ بالصيام وَالْقِيَام وَالْأَذَان والإمامة، قَالَ: فَدخلت فِي الْيَوْم الثَّالِث إِلَى سجني، قَالَ: وَكَانَ من الزَّنَادِقَة فِي حبسي غُلَام عَاقل نظيف، قَالَ فَقَالَ لي: مَالِي أَرَاك مهتما؟ قَالَ قلت: دَعْنِي لَيْسَ هَذِه السَّاعَة من ساعاتك، قَالَ: لَعَلَّ فرجك عِنْدِي، قَالَ قلت لَهُ: وَيحك الطَّوِيل المقرى، قَالَ قل لي: وَقعت عَلَيْهِ، قَالَ قلت: وَيحك فرج عني، قَالَ فَقَالَ لي: فَفرج عني حَتَّى أفرج عَنْك، قَالَ فَقلت: وَمَا صدقت عَلَيْك فِيهِ؟ قَالَ فَقَالَ لي: وَالله مَا كذبت عَليّ وَلَا على غَيْرِي، قَالَ قلت: تب حَتَّى أخليك، قَالَ فَقَالَ لي: قد تبت، قَالَ فَقلت: فَحَدثني بحدثني بِحَدِيث هَذَا الرجل وَأَنا أخرجك معي السَّاعَة من الْحَبْس لِأَنِّي مُطَاع عِنْد السُّلْطَان، قَالَ فَقَالَ لي:
هَذَا أستاذي الْكَبِير فِي الزندقة، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا زنديق دَاعِيَة إِلَّا من قبل هَذَا الَّذِي يُقَال لَهُ الطَّوِيل، قَالَ قلت: صدقت، وَلَكِن السُّلْطَان لَا يجعلك أَنْت حجَّة على رجل لَهُ(1/517)
ثَلَاثُونَ ألف نَاصِر، قَالَ فَقَالَ لي: أعرض عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء، فَإنَّك لَو قطعت الزنديق مَا فعلهَا، قَالَ قلت: مَا هِيَ؟ قَالَ: فِي إصبعه خَاتم يخْتم بهَا، عَلَيْهِ مَكْتُوب: أَنا زنديق فَإِذا وافى خَاتمه بعض الزَّنَادِقَة قضى حَاجَة الرجل وَلَو كَانَ فِيهَا فَقده وتلفه، قَالَ قلت: فَإِن خرج مِنْهَا؟ قَالَ فَقَالَ لي: ادْفَعْ إِلَيْهِ ديكًا نبطيًا قلطيًا أصفر المنقار دَقِيق السَّاقَيْن أبح الصَّوْت حَتَّى يذبحه، قَالَ قلت: فَإِن خرج مِنْهَا؟ قَالَ: بقيت وَاحِدَة لَا يَفْعَلهَا زنديق أبدا، فَإِن فعلهَا فقد سلم وَهَلَكت أَنْت، وَإِن لم يَفْعَلهَا وَلَيْسَ يَفْعَلهَا أبدا فقد نجوت أَنْت وَهلك هُوَ، وَأعلم أَنِّي قد آمَنت بِاللَّه وصدقت النَّبِي وَالْمُرْسلِينَ، وَآمَنت بِكُل كتاب نزل وكل نبيٍ مُرْسل، وَأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتم النَّبِيين وقائد الغر المحجلين إِلَى جنَّات النَّعيم، من صدقه نجا، وَمن كذبه هلك؛ قَالَ حَمْدَوَيْه: فَأخذت يَده وأخرجته حَتَّى أديته إِلَى منزله، ووهبت لَهُ دَنَانِير وَقلت لَهُ: أَنا آتِيك بالْخبر فِي غدٍ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فهات الْعَلامَة الثَّالِثَة، قَالَ: فَأخْرج إِلَيّ من جيبه خرقَة حريرٍ فِيهَا صُورَة سمجة جدا: حاجباها غليظان وأنفها مفلطح وفمها كَأَنَّهُ مشافر، قَالَ لي: قل لَهُ فليبزق على هَذِه الصُّورَة، قَالَ حَمْدَوَيْه فَقلت: وَمَا هَذِه الصُّورَة؟ قَالَ: هَذِه صُورَة ماني، قَالَ حَمْدَوَيْه: فَبت بليلةٍ كليلة الحبلى إِذا أَخذهَا الطلق، قَالَ: ثُمَّ غَدَوْت إِلَى السُّلْطَان، قَالَ: فَجَلَسَ على سَرِيره سَرِير الْخلَافَة قَالَ: وَغدا الكرخيون فَامْتَلَأَ الصحن، ثُمَّ قلت: يَا سَيِّدي إِن رَأَيْت أَن تحضر خصمي، قَالَ: فقوي قلب السُّلْطَان لقُوَّة كَلَامي، قَالَ فَقَالَ: الطَّوِيل الطَّوِيل، قَالَ: فَأتي بِهِ، قَالَ: فتشرف النَّاس، وَحَضَرت الْقُضَاة والعدول والمحدثون وَالْفُقَهَاء، قَالَ فَقَالَ لي الطَّوِيل: هَات مَا عنْدك يَا كَذَّاب، قَالَ قلت خاتمك، قَالَ: هَذَا خَاتمِي، قَالَ فَقلت لبَعض الْعُدُول: اقْرَأ مَا عَلَيْهِ، فَقَرَأَ ذَلِك أَنا ونديق، قَالَ فَقَالَ الطَّوِيل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الْعدْل أبكم من هَذَا الْكذَّاب، وَأعلم أَن لي صديقا فِي ذَلِك الْجَانِب يكني أَبَا زيد فنقشت على خَاتمِي أَبَا زيد ثق وجعلتها عَلامَة بيني وَبَينه لقَضَاء حوائجي، وَهُوَ باقٍ، قَالَ: فَنظر إِلَى الْخَلِيفَة فَقلت: عَلامَة أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فأخرجت الديك وَقلت: فليذبح هَذَا، قَالَ فَقَالَ الْخَلِيفَة لَهُ: اذْبَحْ هَذَا، قَالَ فَقَالَ لَهُ الطَّوِيل: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذبحت شَيْئا قطّ بيَدي، وَمَا أمتنع من ذبحه إِلَّا من ارتعاشٍ فِي يَدي، قَالَ فَنظر إِلَى الْخَلِيفَة فَقلت: عَلامَة أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فأخرجت الديك وَقلت: فليذبح هَذَا، قَالَ فَقَالَ الْخَلِيفَة لَهُ: اذْبَحْ هَذَا، قَالَ فَقَالَ لَهُ الطَّوِيل: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذبحت شَيْئا قطّ بيَدي، وَمَا أمتنع من ذبحه إِلَّا من ارتعاشٍ فِي يَدي، قَالَ فَنظر إِلَيّ الْخَلِيفَة وَقَالَ: يُمكن مَا قَالَ، فهات غَيرهَا، قَالَ: فأخرجت الصُّورَة قَالَ فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مره فليبزق على هَذِه الصُّورَة، قَالَ فَقَالَ لَهُ: أبصق على هَذِه الصُّورَة، قَالَ فَقَالَ: هَاتِهَا، قَالَ: فدفعتها إِلَيْهِ، قَالَ فَقَالَ: بِأبي هَذِه الصُّورَة، وَأمي هَذِه الصُّورَة، ثمَّ قبلهَا وَسجد لَهَا ووضعها على عَيْنَيْهِ وَبكى، قَالَ حَمْدَوَيْه: فَلَو طَار إِنْسَان فَرحا لطرت أَنا تِلْكَ السَّاعَة، قَالَ فَدَعَا الْخَلِيفَة بِصَاحِب الشرطة فَقَالَ: خُذْهُ وَاضْرِبْ عُنُقه فِي بَاب الطاق فِي رحبة الجسر، قَالَ: وَقَامَ السُّلْطَان، وَانْصَرف الْقَوْم والعامة تصيح بهم: رحم الله مُعَاوِيَة، رحم الله مُعَاوِيَة.(1/518)
حَدثنَا أَبُو عَمْرو قَالَ أَخْبرنِي أَبُو بكر الْمَلْطِي قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عَبد اللَّه بْن أَبِي عَوْف الْبزورِي قَالَ أَخْبرنِي رُوَيْم الْمقري قَالَ: كنت ذَات يَوْم سلمت من صَلَاتي وَقَعَدت لآخذ على بعض غلماني، قَالَ: فجاءتن جاريتي فَقَالَت: يَا مولَايَ إِن أردْت أَن تنظر إِلَى الطَّوِيل الْمقري فَإِن النَّاس قد انجفلوا وَقَالُوا إِنَّه تضرب عُنُقه السَّاعَة فِي بَاب الطاق فِي رحبة الجسر لِأَنَّهُ قد صحت زندقته، قَالَ فَقلت لغلامي: أَسْرج الْحمار، قَالَ: فركبت، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي النَّاس قَالُوا لصَاحب الشرطة هَذَا أستاذ الْقُرَّاء، قَالَ: فأوسعوا لي قَالَ: فَجئْت فَرَأَيْت رَأسه قد شدّ وَقد مد رقبته، قَالَ فَقلت للسياف: أَصْبِر لي حَبَّة حَتَّى ُأكَلِّمهُ، قَالَ فصاح بِهِ السُّلْطَان: اقْضِ حَاجَة الشَّيْخ، قَالَ: فتقدمت إِلَى الطَّوِيل فَقلت: يَا طَوِيل، إِنَّمَا كَانَ بلغنَا عَنْك أَنَّك تَشْتُم أَبَا بكرٍ وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَخرجت زنديقًا؟! قَالَ فَقَالَ لي: يَا مبلغم أَي شَيْء كَانَ بَين وَبَين أَبِي بكر وَعمر؟ إِنَّمَا أردْت صَاحبهمَا وَإِنِّي لم أجد من يُعِيننِي على صَاحبهمَا، قَالَ فَقلت للسياف: اضْرِب رَقَبَة عَدو الله وعدو رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَرمى بِرَأْسِهِ وانصرفت وَكبر النَّاس.
فضل فِي تَارِيخ الزندقة
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قد كَانَت الزندقة فَشَتْ فِي عهد الْمهْدي، وأنتشر الدائنون بهَا، فوفقه الله تَعَالَى للفحص عَن أَهلهَا وَالسَّعْي فِي محوها وتعفية آثارها، وعني بِالنّظرِ فِي هَذَا، وَقتل جمَاعَة مِنْهُم وَأسلم آخَرُونَ خوفًا من الفناء وَآخَرُونَ لما أُقِيمَت حجَّة الْإِسْلَام ووضحت أَعْلَامه لَهُم، وَنصب للتنقير عَنْهُم وَالْجد فِي طَلَبهمْ حَمْدَوَيْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْخَبَر. وَكَانَ مِنْهُم ذَوُو عددٍ يحامون عَن جهالتهم يَذبُّونَ عَن ضلالتهم، وَجَرت بَين بعض من بَقِي مِنْهُم مناظرات وَبَين بعض متكلمي أهل الْإِسْلَام بِحَضْرَة الرشيد والمأمون وَكَانَ فِي من يُجَادِل مِنْهُم يَزْدَان بخت ويزدا نفروخ وَغَيرهمَا، وَلَهُم أَخْبَار عدَّة، ولعلنا نأتي بِمَا يتَّفق خُرُوجه لنا من أخبارهم وأخبار ماني اللعين صَاحبهمْ الضال المضل لَهُم.
بعض أَخْبَار الخناقين
وَمن عَجِيب مَا بلغنَا من أخبارهم مَا حدّثنَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس الْهَرَوِيّ أَحْمَد بْن مُحَمَّد قَالَ أَخْبرنِي سهل بْن صَالح الْأَصْبَهَانِيّ الْكَاتِب قَالَ: أَخذ النخشبي بِالْبَصْرَةِ رجلا يخنق النَّاس وَلَا يسلبهم ثِيَابهمْ فَقَالَ لَهُ: وَيلك وَلم تفعل هَذَا؟ إِذا كنت لَا ترغب فِي ثِيَاب الرجل وَمَاله فَلم تقتله؟ فَقَالَ لَهُ: وَيلك أما أول ذَلِك فَإِنِّي الْحق الْمَخْلُوق بالخالق، وَالثَّانيَِة أَن هَذِه الْأَرْوَاح محتبسة فِي هَذِه الأجساد فأخلصها تلْحق بالهيولي والصفا، قَالَ: فَلم لَا تخلص نَفسك أَنْت؟ قَالَ: أخْلص مائَة نفسٍ أحب إِلَيّ من أَن أخْلص نفسا وَاحِدَة، على أَن نَفسِي لَا بُد لَهَا من مخلص، وَنَفْسِي نفس طَاهِرَة وأنفس هَؤُلَاءِ قذرة، وَأَيْضًا يخف عَنَّا السّفل وَلَا يزاحمونا فِي الْأُمُور، ويطيب الْهَوَاء وتتسع الديار وَيَنْقَطِع الْغُبَار. وَبعد فَكل من كَانَ من أهل الْخَيْر ألحقته بِالْخَيرِ الَّذِي لَهُ فِي الْآخِرَة، وَأَيْضًا(1/519)
إِن كَانَ الْإِنْسَان فِي هَذِه الدُّنْيَا فِي ضيق أرحته مِنْهُ، وَإِن كَانَ فَاسد الكيموس أرحته، وَإِن كَانَ سفلَة أرحت الْكِرَام من معاشرته، فَأمر بِضَرْب عُنُقه.
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: فِي هَذَا الْخَبَر السّفل وسفلة على كَلَام الْعَامَّة، وَالصَّوَاب: فلَان من السفلة.
أَبُو شَاكر الديصاني
وَقد حُكيَ لنا عَن أَبِي شَاكر الديصاني والديصانية ضرب من الثنوية أَنه اشْترى كارة دَقِيق وَحملهَا على رَأس رجل شيخ، فَلَمَّا صَار إِلَى دَاره سَأَلَ الْحمال عَن سنه وَرَأى ضعف جِسْمه، فَأخْبرهُ بسنٍ عاليةٍ، وَسَأَلَهُ عَن عِيَاله ومعيشته فَذكر لَهُ سوء حَاله وَكَثْرَة عِيَاله، فَقَالَ: لقد رحمتك ورققت لَك، وَأُرِيد أَن أذبحك وأميط الشَّقَاء عَنْك، فأضجعه فذبحه. وَنحن نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان ونسأله أَن يوفقنا لما وفْق لَهُ أولياءه من أهل الْإِيمَان. وَقد كَانَ من الْمهْدي مَا يجازيه الله تَعَالَى بِحسن نِيَّته فِيهِ ويجزل مثوبته عَلَيْهِ.
الْمجْلس السبعون
سُفْيَان يُدَلس فِي الحَدِيث
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مخلدٍ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حبيبٍ أَبُو رِفَاعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبَيِّتُ مَالا وَلا يُقَيِّلُهُ. قَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا محمدٍ سَمَاعًا مِنْ عَمْرٍو؟ قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمَاعًا مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: وَيْحَكَ لِمَ تُفْسِدُهُ؟ قَالَ: سَمَاعًا من انب جُرَيْجٍ؛ قَالَ: أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمَاعًا مِنْ أَبِي عَاصِمٍ؟ قَالَ: وَيْحَكَ لِمَ أَفْسَدْتَهُ؟ قَالَ: سَمَاعًا مِنْ أَبِي عَاصِمٍ؟ قَالَ: حَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ.
وَحَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ نَاجِيَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَاشِمٍ يَقُولُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قُلْتُ لَهُ: سَمَاعًا مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تُفْسِدْهُ، حَتَّى كَرَّرْتَ عَلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ.
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: وَهَذَا مِمَّا دلسه سُفْيَان بْن عُيَيْنَة. وَقد ذكرنَا فِي بعض مَا تقدم من مجالسنا هَذِه بعض مَا وَقع إِلَيْنَا فِيهِ من الْأَخْبَار تَدْلِيس، وَذكرنَا أَن خبر المدلس مَقْبُول غير مردودٍ إِذا كَانَ عدلا وَلم يكن فِي مَا يخبر بِهِ مَا يُوجب توهِينه، وَأَن الشَّافِعِي وَمن وَافقه كَانُوا لَا يرَوْنَ خبر المدلس حجَّة إِلَّا أَن يوقل حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ؛ وَقد حَدَّثَنَا اللَّيْث بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْث المَرْوَزِيّ قَالَ سَمِعت عبد الرَّزَّاق بْن مُحَمَّد الْمعدل الْفَارِسِي قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن زيد الطرسوسي يَقُول، سَمِعت أَبَا حَفْص الفلاس(1/520)
يَقُول، سَمِعت ابْن عُيَيْنَة يَقُول: نخطى ونصحف وندلس وَلَا نكذب.
أَبُو النشناش النَّهْشَلِي
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ: كَانَ أَبُو النشناش النَّهْشَلِي من ولد مخربة بْن أبير بْن نهشل وَأم أَبِي جهل والْحَارث ابْني هِشَام أَسمَاء بنت مخربة وَكَانَ أَبُو النشناش يُصِيب الطَّرِيق، فَطلب فخاف وَأَنْشَأَ يَقُول:
وسائلةٍ أَيْن ارتحالي وسائلٍ ... وَمن يسْأَل الصعلوك أَيْن مذاهبه
ودويةٍ تيهاء يخْشَى بهَا الردى ... سرت بِأبي النشناش فِيهَا ركائبه
ليدرك ثأرًا أَو ليكسب مغنمًا ... جزيلا وَهَذَا الدَّهْر جم عجائبه
إِذا الْمَرْء لم يسرح سوامًا وَلم يرح ... سواما وَلم تعطف عَلَيْهِ أَقَاربه
فللموت خير للفتى من قعوده ... عديمًا وَمن مولى تدب عقاربه
وَلم أر مثل الْفقر ضاجعه الْفَتى ... وَلَا كسواد اللَّيْل أخفق صَاحبه
فمت معدمًا أَو عش كَرِيمًا فإنني ... أرى الْمَوْت لَا ينجو من الْمَوْت هاربه
ودع عَنْك مولى السوء والدهر إِنَّه ... ستكفيه أَيَّام لَهُ ونوائبه
تلقى عدوا مرّة فَيردهُ ... إِلَيْك وتلقاه وَقد لَان جَانِبه
فَأَنْشد عبد الْملك هَذِه القصيدة فَلَمَّا سمع قَوْله: وَلَا كسواد اللَّيْل أخفق صَاحبه قَالَ: لص وَرب الْكَعْبَة، وَأمر بِطَلَبِهِ فَطلب فأعجز.
شرح لبَعض مَا جَاءَ فِي الأبيات
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَوْله يسرح سواما يَعْنِي الغدو بالماشية إِلَى المسرح إِلَى الرَّعْي. وَلم يرح يَعْنِي الرواح إِذا أراحت من المرعى قَالَ الله تَعَالَى وَذكر إنعامه على خلقه بِمَا سَخَّرَهُ لَهُم من الْأَنْعَام وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ النَّحْل: 6 وَقَوله: فإنني أرى الْمَوْت لَا ينجو من الْمَوْت هاربه فَأتى بِالْمَوْتِ ثَانِيًا بالإظهار فِي الْموضع الَّذِي بَابه الْإِضْمَار لتقدم اسْمه ظَاهرا، لإِقَامَة وزن الشّعْر، وَلَو أَتَى بِهِ فِي منثور الْكَلَام لَكَانَ أظهر، وَنَحْو هَذَا أَن تَقول: فإنني أرى الْمَوْت لَا ينجو مِنْهُ هاربه، وَقد أَتَى مثل هَذَا كثير فِي الشّعْر، من ذَلِك قَول الشَّاعِر:
لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء ... نغص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا
وَقَالَ آخر:
إِذا الْوَحْش ضم الْوَحْش فِي ظللاتها ... سواقط من حرٍ وَقد كَانَ أظهرا
وَقد قَالَ الله تَعَالَى ذكره " وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ " النُّور: 42 فَحَمله قوم على أَنه جَاءَ على هَذَا لِأَن الْإِظْهَار فِيهِ والإضمار وَاحِد، وَلَيْسَ الْأَمر على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَتَى الْإِظْهَار هَاهُنَا لتعظيم الْقِصَّة، وَلما فِي إِعَادَة ذكر(1/521)
الْمَوْت بِالِاسْمِ الظَّاهِر من التخويف والحض على الِاعْتِبَار والمراعاة والإذكار، وَقد قَالَ الله جلّ وَعز فِي مَوضِع آخر: " وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ " هود: 123 فَأَعَادَ على الأسم الظَّاهِر اسْما مضمرًا على أصل الْبَاب وَظَاهره؛ وَمن قَالَ لقِيت زيدا فأكرمت زيدا لم يقل لقِيت زيدا فأكرمت أَبَا عَبد اللَّه، وَهِي كنية زيد، لِأَنَّهُ مُشكل لَا دلَالَة لَهُ فِيهِ تَنْفِي اللّبْس عَنْهُ.
الْمعرفَة تَنْفَع عِنْد الْكَلْب الْعَقُور
حَدَّثَنَا يزْدَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزْدَادَ الْمَرْوَزِيُّ الْكَاتِبُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِتِينَةَ قَالَ حَدَّثَنِي التَّوَّزِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيْيَنَةَ قَالَ: عَرَضَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بِالْكُوفَةِ فَوَجَدَهُمْ أَرْبَعَةَ آلافٍ، فَمَرَّ بِهِ شَابٌّ مِنَ الْجُنْدِ فَقَالَ: يَا غُلامُ زِدْ هَذَا فِي عَطَائِهِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقَامَ شَابٌّ كَانَ إِلَى جَانِبِهِ فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ هَذَا ابْنُ عَمِّي لَحًّا لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ فَضِيلَةٌ فِي نسبٍ وَلا نجدةٍ فَأَلْحِقْنِي بِهِ، قَالَ: لَا، قَالَ فَمُرْ مَنْ يُحِطُّ مِنْ عَطَائِي لِيَظُنَّ مَنْ حَضَرَ أَنَّ بِكَ عَلَيَّ مَوْجِدَةً، قَالَ: لَا، إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وَكَانَ صَدِيقًا لِي وَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَنْفَعُ عِنْدَ الْجمل الصؤول وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ ذِي الْمُرُوءَة والحسب؟
الرّبيع بن خثيم وَصديقه العابد
حَدثنَا عَليّ بن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى السُّوسِي قَالَ حَدَّثَنَا عَليّ بْن عَاصِم عَن أَبِي الْأَصْبَغ قَالَ: كَانَ رجل من هَمدَان فِي الْكُوفَة يذكر بعبادةٍ، فَلَزِمَ بَيته وَترك النَّاس، وَكَانَ لَا يخرج من بَيته إِلَّا لصلاةٍ مَكْتُوبَة أَو حقٍ يلْزمه لَا يجد مِنْهُ بدا، وَكَانَ صديقا للربيع بن خثيم، وَالَّذِي بَينهمَا حسن، لَا يأتيان أحدا إِلَّا أَحدهمَا لصَاحبه، قَالَ: وَكَانَ الْهَمدَانِي لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا قليلاًن فَنَامَ سَاعَته الَّتِي كَانَ ينَام فِيهَا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامه فمغثه شَدِيدا وَقَالَ لَهُ: إيت الرّبيع بن خثيم فَقل لَهُ: إِنَّك من أهل النَّار، ثُمَّ تنحى عَنْهُ فانتبه الْهَمدَانِي فتعاظمه ذَلِك وَقَالَ: الرّبيع بْن خثيم؟! قَالَ: فَلم يَأْته وَأَبْطَأ عَنْهُ، قَالَ ثُمَّ أَتَاهُ فِي اللَّيْلَة الْأُخْرَى وَهُوَ نَائِم فمغثه مغثًا شَدِيدا فَقَالَ: ألم أقل لَك أَن تَأتي الرّبيع بْن خثيم تَقول لَهُ إِنَّك من أهل النَّار؟ لَئِن لم تفعل لَأَفْعَلَنَّ بك وَلَأَفْعَلَن بك وَلَأَفْعَلَن، ثُمَّ تنحي عَنْهُ فانتبه الْهَمدَانِي وَقد تعاظمه ذَلِك، وَقَالَ: الرّبيع بْن خثيم؟! قَالَ: فَلم يَأْته وَأَبْطَأ عَن الرّبيع قَالَ: فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الثَّالِثَة أَتَاهُ فمغثه مغثًا شَدِيدا فَقَالَ: لَئِن لم تفعل لَأَفْعَلَنَّ بك وَلَأَفْعَلَن، وَتَنَحَّى عَنْهُ فانتبه الْهَمدَانِي وَقد تعاظمه ذَلِك، فَلَمَّا أصبح وَرَأى الرّبيع بْن خثيم أَنه قد أَبْطَأَ عَنْهُ أَتَاهُ فَدخل عَلَيْهِ فَسلم عَلَيْهِ فَرَآهُ متثاقلا عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أخي مَالك؟ قَالَ: خير، قَالَ: الرّبيع: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، يَا أخي، إِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَان، فأعيذك بِاللَّه وَنَفْسِي من الشَّيْطَان، وتفل الرّبيع عَن يسَاره ثَلَاث تفلاتٍ وتعوذ بِاللَّه من(1/522)
الشَّيْطَان، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى منزله، فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الْمُقبلَة قَامَ الْهَمدَانِي فِي سَاعَته الَّتِي كَانَ ينَام فِيهَا وَقد قوي بعض الْقُوَّة مِمَّا سمع من الرّبيع، فَإِذا هُوَ قد أَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامه بِيَدِهِ ساجور كلبٍ أسود، فِي وَجه الْكَلْب ثَلَاث جراحاتٍ، قَالَ لَهُ: أَتَدْرِي من أَنا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَدْرِي من هَذَا الْكَلْب؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذَا الشَّيْطَان الَّذِي دخل بَيْنك وَبَين أَخِيك الرّبيع بْن خثيم، وَقد وكلت بكما وَبِهَذَا إِلَى أَن تموتا لَا ينفلت من هَذَا الساجور، تَدْرِي مَا هَذِه الْجِرَاحَات الَّتِي بِوَجْه الْكَلْب؟ قَالَ: لَا، قَالَ هِيَ بزقات الرّبيع بْن خثيم عَن يسَاره، قَالَ: فانتبه الْهَمدَانِي، فَلَمَّا أصبح غَدا على الرّبيع فَأخْبرهُ بِمَا رأى فَحَمدَ الله وَقَالَ: قد أَخْبَرتك أَنه من عمل الشَّيْطَان.
معنى المغث
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَوْله فمغثه مغثًا شَدِيدا أَي ناله بمكروه من الجذب والمعصر وَمَا أشبهه، وَيُقَال بَين الْقَوْم مغث إِذا كَانَ بَينهم شَرّ ومكروه من الْأَمر، قَالَ حسان بْن ثَابت فِي صفة الْخمر:
نوليها الْمَلَامَة إِن ألمت ... إِذا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحاءُ
يحب عليا لثلاث
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدِّمَشْقِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْمُعَمَّرِ السَّدُوسِيِّ: إِن لَتُحِبُّ عَلِيًّا حُبًّا مُفْرِطًا، قَالَ: أُحِبُّهُ وَاللَّهِ لِحِلْمِهِ إِذَا غَضِبَ، وَعَدْلِهِ إِذَا حَكَمَ، وَوَفَائِهِ إِذَا وَعَدَ.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَقَدْ فَازَ مَنْ أَحَبَّهُ وَاهْتَدَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ.
سُلَيْمَان يقرع يزِيد بْن أَبِي مُسلم
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ أَخْبرنِي أَحْمَد بْن الْحَارِث قَالَ قَالَ الْمَدَائِنِي: دخل يزِيد بْن أَبِي مسلمٍ كَاتب الْحجَّاج على سُلَيْمَان بْن عبد الْملك، وَكَانَ مصفرًا، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: على رجل أجرك رسنك وسلطك على الْمُسلمين لعنة الله، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، رَأَيْتنِي وَالْأَمر عني مُدبر وَلَو رَأَيْتنِي وَالْأَمر عَليّ مقبل لَا ستعظمت مني مَا استصغرت الْيَوْم، قَالَ: فَأَيْنَ الْحجَّاج؟ قَالَ: يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة بَين أَبِيك وأخيك فاجعله حَيْثُ شِئْت.
الْمَأْمُون يغرم يحيى بْن خاقَان
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن بنان قَالَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس انب الْفُرَات حَدَّثَنِي دِينَار بْن يزِيد بْن عَبد اللَّه قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن يحيى بْن خاقَان قَالَ: كنت كَاتب(1/523)
الْحسن بْن سهل، فَقدم الْمَأْمُون مَدِينَة السَّلَام فَقَالَ لي: يَا يحيى خلوت بِالسَّوَادِ ولعبت فِي أَمْوَالِي واحتجنتها واقتطعتها، قَالَ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا أَنا كَاتب لرجلٍ، والمناظرة فِي الْأَمْوَال والأعمال مَعَ صَاحِبي لامعي، قَالَ: مَا أطلب غَيْرك، وَلَا أعرف سواك، فصالحني على مائَة ألف ألف، قَالَ: فَضَحكت، فَقَالَ: يَا يحيى أجد وتهزل؟، قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا ضحِكت تَعَجبا، وَبِاللَّهِ مَا أملك إِلَّا سبعماة ألف دِرْهَم، فَكيف أصالحك على مائَة ألف ألف؟ قَالَ دع عَنْك وَأَعْطِنِي خمسين ألف ألف، قَالَ: فَمَا زلت أجاذبه ويجاذبني إِلَى أَن بلغ إِلَى اثْنَي عشر ألف ألف، فَلَمَّا بلغ إِلَيْهَا قَالَ: نفيت من الرشيد إِن نقصتك شَيْئا مِنْهَا، فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة، قَالَ: أقِم لي ضمينا إِن لم تف طالبته بهَا، قلت: صَاحِبي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يضمنني، قَالَ: أَترَانِي إِن دافعت بِالْأَدَاءِ أطالب الْحسن بْن سهل بِمَا عَلَيْك؟ هَذَا مَا لَا يكون، قَالَ فَقلت: عَبد اللَّه بْن طَاهِر، فَقَالَ: عَبد اللَّه سَبيله سَبِيل صَاحبك، قلت: فحميد، قَالَ: وَهَذِه سَبيله، فَقلت: أتضمنه يَا فرج؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: إِنِّي وَالله أحْرجهُ بالإلحاح عَلَيْهِ فِي الْمُطَالبَة حَتَّى يهرب أَو يسْتَتر ثُمَّ آخذك بِالْمَالِ فتؤديه لِأَنَّك ملي بِهِ، فَقَالَ فرج: صَاحِبي ثِقَة وَهُوَ لَا يخفرني إِن شَاءَ الله. قَالَ يحيى: فَكتبت إِلَى الْحسن بْن سهل وَعبد الله بْن طَاهِر وَحميد ودينار بْن عَبد اللَّه وغسان وَرِجَال الْمَأْمُون أسألهم إعانتي فِي هَذَا المَال، قَالَ: فَحَمَلُوهُ إِلَيّ كُله عَن آخِره، حمل كل إِنْسَان مِنْهُم على قدره، قَالَ يحيى: وكتبت رقْعَة إِلَى المأمن أعرفهُ أَن المَال قد حضر وأسأله أَن يَأْمر بِقَبْضِهِ. قَالَ: فأحضرني، فَلَمَّا وَقعت عينه عَليّ قَالَ لي: يَا خائن الْحَمد لله الَّذِي بَين خِيَانَتك وَأظْهر لي كَذبك، ألم تذكر أَنَّك لَا تملك إِلَّا سَبْعمِائة ألف دِرْهَم، فَكيف تهَيَّأ لَك أَن حملت فِي عشرَة أَيَّام اثْنَي عشر ألف ألف؟ قَالَ قلت: حملتها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من هَذِه المجريدة، وَدفعت إِلَيْهِ الجريدة بأسماء من حمل المَال ومبلغ مَا حمل كل واحدٍ مِنْهُم، قَالَ: فَقَرَأَ الجريدة ثُمَّ أطرق مَلِيًّا وَرفع رَأسه فَقَالَ: لَا يكون أَصْحَابنَا أَجود منا بِهَذَا المَال، قد وهبناه لَك وأبرأنا ضمينك، قَالَ يحيى: فَانْصَرَفت ورددت المَال إِلَى أَصْحَابه فَأَبَوا أَن يقبلوه وَقَالُوا: قد وهبناه لَك فَاصْنَعْ بِهِ مَا أَحْبَبْت، قَالَ فَحَلَفت أَن لَا أقبل مِنْهُ درهما وَاحِدًا، وَقلت لَهُم: أَخَذته فِي وَقت حَاجَتي إِلَيْهِ، ورددته عِنْد استغنائي عَنْهُ، وقبولي إِيَّاه فِي هَذَا الْوَقْت ضرب من التغنم، فرددته عَلَيْهِم.
فِي قدر وَجْهَان
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: حمل كل إِنْسَان مِنْهُم على قدره يجوز أَن يكون فِيهِ إسكان الدَّال وَفتحهَا، وهما لُغَتَانِ يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، وَقد قَرَأت القرأة " وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ " الْبَقَرَة: 236 بِالتَّحْرِيكِ والإسكان وَقد أنْشد أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ هَذَا الْبَيْت:(1/524)
وَمَا صب رجْلي فِي حَدِيد مجاشع ... مَعَ الْقدر إِلَّا حَاجَة لي أريدها
بِمَعْنى مَعَ الْقدر.
أَبُو حَرْمَلَة الْحجام راوية للشعر
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مَيْمُون الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي جدي أَبُو الْفضل مَيْمُون بْن هَارُون قَالَ: أَرَادَ سُلَيْمَان بْن وهب أَن يَأْخُذ من شعره فِي وقتٍ من الْأَوْقَات، فَطلب أَبَا حَرْمَلَة فَلم يجده، وَوجد غُلَام أَبِي حَرْمَلَة، فَأخذ من شعره، فَقبل أَن يفرغ جَاءَ أَبُو حَرْمَلَة فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: قُم يَا غُلَام، أعْط الْقوس باريها، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَرْمَلَة: تعرف يَا سَيِّدي أول هَذَا الْبَيْت قَالَ: مَا أعرف فِيهِ غير هَذَا، فَقَالَ أَبُو حَرْمَلَة أنْشد ابْن الْأَعرَابِي:
يَا ابري الْقوس بريًا لَيْسَ يحكمه ... لَا تفْسد الْقوس أعْط الْقوس باريها
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَليّ اسباط خَليفَة مُحَمَّد بْن يحيى قَالَ، قَالَ لي أَبُو حَرْمَلَة: حذفت عبيد الله بْن سُلَيْمَان فَلَمَّا فرغت قَالَ: أعْط الْقوس باريها، فَقلت: أتعرف صدر هَذَا الْبَيْت؟ قَالَ: لَا، فَأَنْشَدته إِيَّاه، فَضرب يَده إِلَى الدواة وَكتبه، وَهُوَ:
يَا باري الْقوس بريا لَيْسَ يحكمه ... أفسدت قوسك أعْط الْقوس باريها
تعليقات نحوية ولغوية
قَالَ القَاضِي فِي الرِّوَايَة الأولى: تعرف من غير حرف اسْتِفْهَام فِي الْكَلَام أَو فِي مَا عطف بِهِ عَلَيْهَا، وَهَذَا عِنْد بعض الْمُحَقِّقين من النُّحَاة خطأ، وَقد أجَازه كثير مِنْهُم، وأنشدوا فِيهِ أبياتًا مِنْهَا قَول عمر بْن عُبَيْد الله بن أبي ربيع سامحه الله:
ثمَّ قَالُوا تحبها قلت بَهْرًا ... عدد الرَّمْل والحصى وَالتُّرَاب
وَقَالُوا أَرَادَ: أتحبها، وَأنكر هَذَا من قدمنَا الْحِكَايَة عَنْهُ، وَقَالَ: هُوَ خبر وَلَيْسَ باستفهام وَغير جَائِز الاشراك بَين الْخَبَر والاستخبار، لما فِيهِ من فَسَاد الْكَلَام فِي الْقيَاس، وَدخُول الْإِشْكَال والالتباس، وَقد عَابَ كثير من أهل الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ على امْرِئ الْقَيْس إيتانه بِمثل هَذَا فِي بَيت من شعره يَقُول فِيهِ:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه ... كَلمعِ الْيَدَيْنِ فِي حبي مكلل
فَقَالَ: ترى وَالْمعْنَى أَتَرَى؛ فَأَما قَوْله:
تروح من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... وماذا يَضرك لَو تنْتَظر
فَإِنَّهُ جَائِز لِأَن قَوْله: أم تبتكر قد دلّ على الْمَعْنى، وَمثله كثير، من ذَلِك قَول الشَّاعِر:
لعمرك مَا أَدْرِي وَإِن كنت داريًا ... بِسبع رَمَيْن الجَمْر أم بثمان
وَأما قَول الشَّاعِر فِي الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ أَبُو حرملو: أعْط الْقوس باريها فَإِنَّهُ أنشدوناه(1/525)
باريها بتسكين الْيَاء الَّتِي هِيَ مُدَّة، وَهِي الرِّوَايَة الْجَارِيَة على أَلْسِنَة خَاصَّة النَّاس وعامتهم، وَحَقِيقَة الْإِعْرَاب فِيهَا هَاهُنَا أَن تنصب فِي الْفِعْل، وَقد تسكن فِي الشّعْر تَخْفِيفًا كَمَا قَالَ الراجز: كَأَن أَيْدِيهنَّ بالقاع القرق وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَتى لَو يباري الشَّمْسُ ألقتْ قِنَاعها ... أَو القَمَر الساري لألقى المقالدا
وَرُبمَا اسكنوها وحذفوها فِي النصب كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَلَو أَن واشٍ بالميمامة بَيته ... وداري بِأَعْلَى حضر موت اهْتَدَى ليا
فَإِذا رُوِيَ هَذَا الْبَيْت على هَذَا كَانَ من الْبَسِيط الثَّانِي وبيته فِي الْعرُوض:
قد أشهد الْغَارة الشعواء تحملنِي ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب
عروضه فعلن وضربه فعل، وعروضه فِي مصرعه فعلن إِلْحَاقًا لَهُ بضربه؛ وَإِن رَوَاهُ راوٍ على أَصله فِي تَحْقِيق الْإِعْرَاب فتح الْيَاء فَقَالَ باريها وَكَانَ إِذا من الضَّرْب الأول من الْبَسِيط، وبيته فِي الْعرُوض:
يَا حَار لَا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بداهيةٍ ... لَمْ يَلْقها سُوقَةٌ قبلي وَلَا ملك
وَإِذا رُوِيَ هَكَذَا استقام إعرابه ووزنه، واستوى عروضه وضربه فَكَانَا مَعًا فعلن فِي إِطْلَاقه وتصريفه، إِذْ لَيْسَ بَينهمَا فِي الْمُطلق اخْتِلَاف فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فيغير الْعرُوض ليلحق الضَّرْب بِهِ.
قولة لِابْنِ مسمع تَضَمَّنت مَعْنَاهَا أَبْيَات للبحتري
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ قَالَ قَالَ مَالك بْن مسمع للأحنف: يَا أَبَا بحرٍ مَا أنتفع بِالشَّاهِدِ إِذا غبت، وَلَا أفتقد غَائِبا إِذْ شهِدت.
قَالَ القَاضِي: لكأن البحتري ألم بِهَذَا الْمَعْنى:
رحلت فَلم نفرح بأوبة آيب ... وأبت فمل نجزع لغيبة غَائِب
قدمت فأقدمت النَّهْي عمل الرضى ... إِلَى كل غَضْبَان على الدَّهْر عَاتب
فَعَادَت بك الْأَيَّام زهرًا كَأَنَّمَا ... جلا الدَّهْر مِنْهَا عَن خدود الكواعب
خطْبَة للمنصور فِي يَوْم عَرَفَة
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن يُونُس بن زُهَيْر ابْن الْمسيب قَالَ حدثت عَن إِسْمَاعِيل الفِهري قَالَ: سَمِعت الْمَنْصُور فِي يَوْم عَرَفَة، على مِنْبَر عَرَفَة يَقُول فِي خطبَته: أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أَنا سُلْطَان الله فِي أرضه، أسومكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه بمشيئته أقسمه بإرادته وأعطيه بِإِذْنِهِ، وَقد جعلني الله تَعَالَى عَلَيْهِ قفلا إِذا شَاءَ أَن يفتحني لإعطائكم وَقسم أرزاقكم يسر لي، وَإِذا شَاءَ أَن يقفلني عَلَيْهِ أقفلني، فارغبوا إِلَى الله تَعَالَى أَيهَا النَّاس وَسَلُوهُ فِي هَذَا الْيَوْم الشريف الَّذِي وهب لكم فِيهِ من فَضله مَا أعلمكُم بِهِ فِي كِتَابه إِذْ يَقُول: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ(1/526)
دِينًا " الْمَائِدَة:3 أَن يوفقني للصَّوَاب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم وَالْإِحْسَان إِلَيْكُم، ويفتحني لإعطائكم وَقسم أرزاقكم بِالْعَدْلِ عَلَيْكُم فَإِنَّهُ سميع مُجيب.
جَعْفَر بْن مُحَمَّد يعلم نصر بْن كثير وَالثَّوْري
مَا يَقُولُونَهُ فِي الْحَج
حَدثنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن يزِيد الطَّبَرِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد جَعْفَر بْن مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ حَدَّثَنَا عبيد بْن إِسْحَاق الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا نصر بْن كثير قَالَ: دخلت على جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنا وسُفْيَان الثَّوْريّ مُنْذُ سِتِّينَ سنة أَو سبعين سنة فَقلت لَهُ: إِنِّي أُرِيد الْبَيْت الْحَرَام فعلمني شَيْئا أَدْعُو بِهِ، قَالَ: إِذا بلغت الْبَيْت الْحَرَام فضع يدك على حَائِط الْبَيْت ثُمَّ قل: يَا سَابق الْفَوْت، وَيَا سامع الصَّوْت، وَيَا كاسي الْعِظَام لَحْمًا بعد الْمَوْت، ثُمَّ ادْع بعده با شِئْت؛ فَقَالَ لَهُ سُفْيَان شَيْئا لم أفهمهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا سُفْيَان أَو يَا أَبَا عَبد اللَّه، إِذا جَاءَك مَا تحب فَأكْثر من الْحَمد لله وَإِذا جَاءَك مَا تكره فَأكْثر مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَإِذا اسْتَبْطَأَتْ الرزق فَأكْثر من الاسْتِغْفَار.
دُعَاء جَعْفَر يردده الْجريرِي ويكتبه الطَّبَرِيّ
قَالَ القَاضِي: كنت مُنْذُ سِنِين كَثِيرَة دَعَوْت الله عز وَجل وَقلت يَا سَابق الْفَوْت، وَقلت فِي وقتٍ آخر: يَا سَابق كل فوتٍ، وَكَانَ عِنْدِي أَنه شَيْء خطر لي وَلم أكن ذَاكِرًا لهَذِهِ الرِّوَايَة وَلَا عَالما بهَا فِي الْوَقْت، فاستحسنت هَذِه الدعْوَة ثُمَّ وَجدتهَا عِنْدِي فِي مَا سمعته وكتبته ورويته. وَحكى لي بعض بني الْفُرَات عَن رجلٍ مِنْهُم، أَو من غَيرهم، أَنه كَانَ بِحَضْرَة أَبِي جَعْفَر الطَّبَرِيّ رَحمَه الله قبل مَوته وَتُوفِّي بعد سَاعَة أَو أقل مِنْهَا، فَذكر لَهُ هَذَا الدُّعَاء عَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبها، فَقيل لَهُ أَفِي هَذِه الْحَال؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن لَا يدع اقتباس الْعلم حَتَّى يَمُوت.
الْمجْلس الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ
حيونا نحييكم
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ أَبِي صَخْرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْوَاسِطِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ أَبِيه عَن السَّائِب ين يَزِيدَ قَالَ: لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَارِيَ يَتَغَنَّيْنَ يَقُلْنَ: حَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِنَّ ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَقَالَ: لَا تَقُلْنَ هَكَذَا، قُلْنَ: حَيَّانَا اللَّهُ وَحَيَّاكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرَخِّصُ لِلنَّاسِ فِي هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ نِكَاحٌ لَا سِفَاحٌ، أَشِيدُوا بِالنِّكَاحِ.
أَي غناء فِيهِ رخصَة
قَالَ القَاضِي: وَقد ذكرنَا فِي غير مَوضِع من كتبنَا غناء النصب وماجاء فِيهِ من(1/527)
الرُّخْصَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن الْأَئِمَّة بعده من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وحظر مَا فِيهِ تَرْجِيع وتمطيط، وَإِن ذَلِك مَنْهِيّ عَنْهُ فِي تِلَاوَة الْقُرْآن وَغَيرهَا، وَذكرنَا مَا أَمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الضَّرْب فِي النِّكَاح بالدف، وَأَنه قَالَ: أعْلنُوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالدف. وَرخّص فِي هَذَا فِي عرسات الْمُسلمين ومواطن مسارهم، وَأَنه فِي النِّكَاح سنة لَا يَنْبَغِي تَركهَا. وَقَوله: أشيدوا بِالنِّكَاحِ مَعْنَاهُ أظهروه وأعلنوه. وَقد ذهب مَالك فِي من وَافقه من أهل الْمَدِينَة إِلَى أَن نِكَاح السِّرّ بَاطِل؛ وحضرني بعد إثباتي هَذَا الْخَبَر خبر إِسْمَاعِيل بْن جَامع مَعَ الرشيد فرايت أَن أرسمه هَاهُنَا إِذْ هُوَ مِمَّا يستحسنه ويصغي إِلَى استماعه ذَوُو الْفضل من الأدباء، وينشك للوقوف عَلَيْهِ أولو الحجى من الرؤساء.
خبر ابْن جَامع فِي مجْلِس الرشيد
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن نعيم الْكَاتِب، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن ضوء التَّيْمِيّ قَالَ مسعت إِسْمَاعِيل بْن جَامع السَّهْمِي يَقُول: ضمني الدَّهْر ضمًا شَدِيدا بِمَكَّة، فانتقلت مِنْهَا بعيالي إِلَى الْمَدِينَة، فَأَصْبَحت يَوْمًا لَا أملك إِلَّا ثَلَاثَة دَرَاهِم، فَخرجت وَهِي فِي كمي، فَإِذا بجاريةٍ حميراء على رقبَتهَا جرة تُرِيدُ الركي، تمشي بَين يَدي وتترنم بصوتٍ شجيٍ تَقول فِيهِ:
شَكَوْنَا إِلَى أحبانبا طول ليلنا ... فَقَالُوا لنا مَا أقصر اللَّيْل عندنَا
وَذَلِكَ أَن النّوم يغشى عيونهم ... سرَاعًا وَمَا يغشى لنا النّوم أعينا
إِذْ مَا دنا اللَّيْل المضر بِذِي الْهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إِذا دنا
فَلَو أَنهم كَانُوا يلاقون مثل مَا ... نلاقي لكانوا فِي الْمضَاجِع مثلنَا
فو الله مَا دَار لي مِنْهُ حرف وَاحِد فَقلت لَهَا: يَا جَارِيَة مَا أَدْرِي أوجهك أحسن أم صَوْتك أم جرمك، فَإِن شِئْت أعدتيه عَليّ، فَقَالَت: حبا وكرامة، ثُمَّ أسندت ظهرهَا إِلَى جدارٍ كَانَ بِالْقربِ مِنْهَا وَرفعت إِحْدَى رِجْلَيْهَا فَوَضَعتهَا على ركبتها وحطت الجرة فَوَضَعتهَا على سَاقهَا واندفتعت تغني بِأَحْسَن صَوت، فو الله مَا دَار لي مِنْهُ حرف وَاحِد، فَقلت لَهَا: لقد أَحْسَنت وتفضلت فَلَو شِئْت أعذتيه مرّة أُخْرَى، فقطبت وكلحت وَقَالَت: مَا أعجب هَذَا، أحدكُم يَجِيء إِلَى الْجَارِيَة عَلَيْهَا ضريبة فَيَقُول لَهَا: أعيدي مرّة بعد أخرىن فَضربت يَدي إِلَى الثَّلَاثَة الدَّرَاهِم فدفعتها إِلَيْهَا وَقلت لَهَا: أقيمي بِهَذَا وَجهك الْيَوْم إِلَى أَن نَلْتَقِي، فأخذتهاشبه المتكرهة ثُمّ قَالَت: الْآن تُرِيدُ أَن تَأْخُذ عني صَوتا أحسبك تَأْخُذ عَلَيْهِ ألف دينارٍ، وَألف دينارٍ وَألف دينارٍ، ث3م انبعثت تغني وأعملت فكري فِي غنائها فدار لي الصَّوْت وفهمته، وانصرفت بِهِ مَسْرُورا إِلَى منزلي المكاري على بَاب المحول، فَدخلت لَا أَدْرِي أَيْن أتوجه وَلَا من أقصد، وانْتهى بِي النَّاس إِلَى الجسر، فعبرت فِي من عبر حَتَّى انْتَهوا بِي إِلَى شَارِع الميدان عِنْد دَار الْفضل بْن الرّبيع، فَرَأَيْت هُنَاكَ(1/528)
مَسْجِدا مرتفعًا فَقلت: هَذَا مَسْجِد قوم سراةٍ، وَحَضَرت الْمغرب فَصَعدت الْمَسْجِد فَمَا لَبِثت أَن جَاءَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام وَصليت، وَانْصَرف النَّاس وأقمت مَكَاني إِلَى أَن رَجَعَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام، وَصليت وَانْصَرف النَّاس وأقمت مَكَاني إِلَى أَن رَجَعَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام، وَصليت مَعَ النَّاس على تعبٍ وجوع، وَانْصَرف النَّاس وَبَقِي رجل يُصَلِّي مَلِيًّا وَخَلفه جمَاعَة من الخدم والفحولة ينتظرونه، فَلَمَّا فرغ من صلَاته انْصَرف إِلَيّ بِبدنِهِ كُله فَقَالَ: أحسبك غَرِيبا، قلت: أجل، قَالَ: مَتى كنت بِهَذِهِ الْمَدِينَة؟ قلت: آنِفا دَخَلتهَا، وَلَيْسَ لي بهَا معرفَة، وَلَيْسَت صناعتي من الصَّنَائِع الَّتِي يمت بهَا إِلَى أهل الْخَيْر، قَالَ: وَمَا صناعتك؟ قلت: الْغناء، فَوَثَبَ مبادرًا ووكل بِي رجلا، فَقلت للْمُوكل بِي: من هَذَا؟ قَالَ: أوما تعرفه؟ هَذَا سَلام الأبرش قَالَ: وَإِذا رَسُول قد جَاءَ فِي طلبي ثُمَّ مشينا حَتَّى انْتهى بِي إِلَى قصرٍ من قُصُور الْخلَافَة وَجعل يُجَاوز بِي مَقْصُورَة بعد مقصورةٍ إِلَى أَن دَخَلنَا مَقْصُورَة فِي آخر الدهليز، فَدَعَا لي بِالطَّعَامِ، فَأتيت بمائدةٍ عَلَيْهَا من كل شَيْء، فَأَقْبَلت على أكلي حَتَّى تراجعت إِلَى نَفسِي، وَسمعت ركضًا فِي الدهليز، فَإِذا إِنْسَان يَقُول: أَيْن الرجل، أَيْن الرجل؟ فَقيل: هَا هُوَ ذَا، فَقَالَ يدعى لَهُ بغسول وَطيب وخلعةٍ، فغلفت وخلع عَليّ وَأخذ الرجل بيَدي فَحَمَلَنِي على دابةٍ وأتى بْن منزل الْخَلِيفَة فاستدللت على ذَلِك بالحرس وَالتَّكْبِير والنيران، فَمَا زَالَ يدخلني من دَار إِلَى دَار إِلَى أَن دخلت إِلَى دارٍ قوراء وَإِذا فِيهَا أسرة مُضَاف بَعْضهَا إِلَى بعض، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى الأسرة أَمرنِي بالصعود فَصَعدت، وَإِذا رجل جَالس على يَمِينه ثَلَاث جوارٍ فِي حجورهن العيدان، وَإِذا فِي حجر الرجل عود فَسلمت فَرَحَّبَ بِي وَأَمرَنِي بِالْجُلُوسِ فَجَلَست، وَإِذا مجَالِس خَالِيَة قد كَانَ فِيهَا قوم فَقَامُوا عَنْهَا، فَمَا لَبِثت أَن خرج خَادِم من وَرَاء السّتْر فَقَالَ للرجل: تغنه، فَانْدفع يُغني بصوتٍ لي يَقُول فِيهِ:
لم تمش ميلًا وَلم تركب على جملٍ ... وَلم تَرَ الشَّمْس إِلَّا دونهَا الكلل
تمشي الهوينا كَأَن الشوك يحبسها ... مشي اليعافير فِي جيئاتها الوجل
فو الله مَا أحسن الْغناء، وَلَقَد غنى بِغَيْر إصابةٍ وأوتارٍ متنافرة ودساتين مختلفةٍ، ثمَّ عَاد ذَلِك الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تلِي الرجل فَقَالَ لَهَا: تغني فانبعثت تغني بِصَوْت لي كَانَت فِيهِ أحسن حَالا من الرجل تَقول فِيهِ:
يَا دَار أضحت خلاء لَا أنيس بهَا ... إِلَّا الظباء وَإِلَّا الناشط الْفَرد
أَيْن الَّذين إِذا مَا زرتهم جذلوا ... وطار عَن قلبِي التشواق والكمد
ثمَّ عَاد الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الثَّانِي فَقَالَ لَهَا: تغني فانبعث تغني بِصَوْت حكم الْوَادي تَقول فِيهِ:
فو الله مَا أَدْرِي أيغلبني الْهوى ... إِذا جد وَشك الْبَين أم أَنا غالبه
فَإِن أستطع أغلب وَإِن يغلب الْهوى ... فَفِي دون مَا لاقيت يغلب صَاحبه(1/529)
ثمَّ عَاد الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الثَّالِثَة فَقَالَ لَهَا: تغني فغنت بِصَوْت لحنين تَقول فِيهِ:
مَرَرْنَا على قيسيةٍ عامريةٍ ... لَهَا بشر صافي الْأَدِيم هجان
فَقَالَت وَأَلْقَتْ جَانب السجف دونهَا ... من آيَة حَيّ أَو من الرّجلَانِ
فَقلت لَهَا أما تَمِيم فاسرتي ... هديت وَأما صَاحِبي فيماني
رفيقان ضم السّفر بيني وَبَينه ... وَقد يلتقي الشتى فيأتلفان
قَالَ فَعَاد الْخَادِم إِلَى الرجل فَقَالَ لَهُ: تغنه، فغنى بصوتٍ لي شبه فِيهِ، وَالشعر لعمر بن أبي ربيعَة الْغناء للغريض يَقُول فِيهِ:
أمس بأسماء هَذَا الْقلب معمودا ... إِذا أَقُول صَحا يعتاده عيدا
كَأَن أحور من غزلان شيهمةٍ ... أعارها شبها خديه والجيدا
قَامَت ترَاءى وَقد جد الرحيل بِنَا ... لتنكأ الْقرح من قلبٍ قد اصطلدا
بمشرق كشعاع الشَّمْس بهجته ... ومسبكر على لباتها سُودًا
ثمَّ عاج الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تليه فَقَالَ لَهَا: تغني، فغنت بصوتٍ لحكم الْوَادي يَقُول فِيهِ:
تعيرنا أَنا قيل عديدنا ... فَقلت لَهَا إِن الْكِرَام قَلِيل
وَمَا ضرنا أَنا قَلِيل وجارنا ... عَزِيز وجار الْأَكْثَرين ذليل
وَإِنَّا لقوم مَا نرى الْقَتْل سبةً ... إِذا كرهته عَامر وسلول
يقرب حب الْمَوْت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وتغنت الْجَارِيَة الثَّانِيَة عِنْد قَول الْخَادِم لَهَا تغني:
وددتك لما كَانَ ودك خَالِصا ... وأعرضت لما صَار نهبًا مقسمًا
وَلنْ يلبث الْحَوْض الوثيق بناءه ... إذاكثر الوراد أَن يتهدما
وتغنت الثَّالِثَة بِشعر الخنساء بنت عَمْرو بْن الْحَارِث فِي أَخِيهَا صَخْر:
وَمَا كرّ إِلَّا كَانَ أول طَاعن ... وَلَا أبصرته الْعين إِلَّا اقشعرت
فيدرك ثأرا ثُمَّ لم يخطه الْغنى ... فَمثل أخي يَوْمًا بِهِ الْعين قرت
وَإِن طلبُوا وترا بدا بتراتهم ... ويضربهم شزرا إِذا الْخَيل ولت
فلست أرزا بعده برزيةٍ ... فأذكره إِلَّا سلت وتجلت
وَكَانَ غناء الرجل فِي الدّور الثَّالِث:
لحا الله صعلوكا يبيت وهمه ... من الدَّهْر أَن يلقى لبوسا ومطعما
ينَام الضُّحَى حَتَّى إِذا نَومه اسْتَوَى ... تنبه مسلوب الْفُؤَاد مورما(1/530)
وَلَكِن صعلوكا يساور همه ... وَيَمْشي على الهيجاء ليثا مصمما
فَذَلِك إِن يلق الْمنية تلقه ... كَرِيمًا وَإِن يسْتَغْن يَوْمًا فَرُبمَا
وَكَانَ غناء الْجَارِيَة فِي الدّور الثَّالِث بِشعر لحاتم يَقُول فِيهِ:
إِذا كنت رَبًّا للقلوص فَلَا تدع ... رفيقك بمشي خلفهَا غير رَاكب
أنخها فأردفه فَإِن حملتكما ... فَذَاك وَإِن كَانَ الْعقَاب فعاقب
وَكَانَ غناءالجارية الثَّانِيَة فِي الدّور بِشعر عَمْرو بْن معدي كرب:
ألم تَرَ لما ضمني الْبَلَد القفر ... سَمِعت نِدَاء يصدع الْقلب يَا عَمْرو
أغثنا فَإنَّا معشر مذحجية ... نزار على وفرٍ وَلَيْسَ لنا وفر
وَكَانَ غناء الثَّالِثَة بشعرٍ لعمر بْن أَبِي ربيعَة والغناء فِيهِ للغريض:
فَلَمَّا تلاقينا وسلمت أشرقت ... وُجُوه زهاها الْحسن أَن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن امْرُؤ بَاغ أكل وأوضعا
فَلَمَّا تواضعنا الْأَحَادِيث قُلْنَ لي ... أخفت علينا أَن نغر ونخدعا
قَالَ فَقلت فِي نَفسِي: أَي شَيْء أنْتَظر؟ يَجِيء الْخَادِم السَّاعَة يطالبني بِمثل مَا طَالب بِهِ أَصْحَابِي، فَقلت للرجل: بِأبي أَنْت خُذ الْعود إِلَيْك وَشد وتر كَذَا وارفع الطَّبَقَة وَغير وتر كَذَا وَحط دستان كَذَا، فَعلم مَا أُرِيد فوزنه، فَلم البث أَن خرج الْخَادِم فَقَالَ لي تغنه، عافاك الله، فانبعثت أُغني بِصَوْت الرجل الأول على غير مَا غنى بِهِ فَإِذا بنحوٍ من خمسين أَو سِتِّينَ خَادِمًا يحْضرُون حَتَّى استندوا إِلَى الأسرة ثُمَّ قَالُوا: وَيحك لمن هَذَا الْغناء؟ قلت: لي، فانصرفوا عني بِتِلْكَ السرعة، فَخرج إِلَيّ الْخَادِم فَقَالَ: كذبت هَذَا الْغناء لِابْنِ جَامع، فَسكت، وَدَار الدّور فَلَمَّا انْتهى إِلَيّ خرج الْخَادِم فَقَالَ تغنه، فَقلت لِلْجَارِيَةِ الَّتِي تلِي الرجل: خذي الْعود فانبعثت أُغني صَوتهَا، فَخرجت الْجَمَاعَة من الخدم فَقَالُوا: وَيحك لمن هَذَا؟ فَقلت: لي، فَمَضَوْا وَرجع الْخَادِم فَقَالَ لي: كذبت، هَذَا لِابْنِ جَامع. فَأَمْسَكت عَنْهُ وَدَار الدّور، فَلَمَّا بلغ إِلَيّ خرج الْخَادِم فَقَالَ: تغنه، فَقلت فِي نَفسِي، وَقد شربت وقويت منتي: مَا أنْتَظر؟ فاندفعت أُغني بصوتٍ لَا يعرف إِلَّا بِي:
عوجي عَليّ فسلمي جبر ... فيمَ الْوُقُوف وَأَنْتُم سفر
مانلتقي إِلَّا ثَلَاث منى ... جتى يفرق بَيْننَا النَّفر
قَالَ: فتزلزلت وَالله عَلَيْهِم الدَّار، وَخرج الْخَادِم فَقَالَ: وَيحك، لمن هَذَا؟ فَقلت: لي، قَالَ: فَرَجَعُوا فَقَالُوا: هَذَا لِابْنِ جَامع، فَقلت: أَنا إِسْمَاعِيل ابْن جَامع، قَالَ: فَمَا شَعرت إِلَّا وأمير الْمُؤمنِينَ وجعفر بْن يحيى قد أَقبلَا من وَرَاء السّتْر، فَلَمَّا صعدا السرير وَثَبت على قدمي، فابتدأني أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: ابْن جَامع؟ فَقلت: ابْن جَامع جعلني الله فدَاك يَا أَمِير(1/531)
الْمُؤمنِينَ، قَالَ: وَيحك مَتى كنت فِي هَذِه الْمَدِينَة؟ قلت: آنِفا دَخَلتهَا فِي الْوَقْت الَّذِي علم بِي أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أَجْلِس وَيحك يَا ابْن جَامع، وَجلسَ أَمِير المؤمين وجعفر بْن يحيى فِي بعض تِلْكَ الْمجَالِس الفرغ وَقَالَ لي: يَا ابْن جَامع، أبشر وأبسط أملك، فدعوت لَهُ دعواتٍ ثُمَّ قَالَ: عَن يَا ابْن جَامع، قَالَ: فخطر بقلبي صَوت الْجَارِيَة المدينية، فَقلت للرجل: أصلح عودك وارفع طبقته، قَالَ: فَعلم مَا أُرِيد فوزن الْعود وزنا، وتعهدته حَتَّى استقامت الأوتار وَأخذت الدساتين موَاضعهَا، وانبعثت أُغني بصوتٍ الْجَارِيَة الْحُمَيْرَاء، فَنظر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى جَعْفَر بْن يحيى فَقَالَ لَهُ: أسمعت كَذَا قطّ؟ قَالَ: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا سَمِعت وَلَا خرق سَمْعِي مثله قطّ، وَلَا ظَنَنْت أَن الله عز وَجل خلق على وَجه الأَرْض مثل مَا أسمع، قَالَ فَرفع الرشيد رَأسه إِلَى خَادِم بِالْقربِ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: كيس فِيهِ ألف دينارٍ قَالَ: فَمضى الْخَادِم فَلم يلبث أَن عَاد بكيسٍ فِيهِ ألف دينارٍ، فصيرته تَحت فَخذي ودعوت لأمير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ لي: يَا ابْن جَامع رد على أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الصَّوْت، فرددته وتزيدت فِي غنائي وأعانني على ذَلِك اسْتِوَاء الأوتار، قَالَ: فَنظر جَعْفَر إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: يَا سَيِّدي أما تسمعه كَيفَ يتزايد فِي الْغناء؟ هَذَا خلاف الَّذِي سمعنَا أَولا، على أَن الْأَمر فِيهِ وَاحِد، قَالَ: فَرفع الرشيد رَأسه إِلَى الْخَادِم فَقَالَ: كيس فِيهِ ألف دِينَار، فَمضى الْخَادِم وَجَاء بكيس فِيهِ ألف دِينَار فَرمى بِهِ إِلَيّ فصيرته تَحت فَخذي، ثُمَّ قَالَ لي أَمِير الْمُؤمنِينَ: تغن مَا حضرك، فَأَقْبَلت أقصد إِلَى الصَّوْت بعد الصَّوْت مِمَّا كَانَ يبلغنِي أَنه يَشْتَرِي عَلَيْهِ الْجَوَارِي فأغنيه، فَلم أمزل أفعل ذَلِك إِلَى أَن عسعس اللَّيْل، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيل قد أتعبناك فِي هَذِه اللَّيْلَة لسروري بغنائك، فتعيد عَليّ الصَّوْت الَّذِي تَغَنَّيْت بِهِ أَولا يَعْنِي صَوت الْجَارِيَة فغنيته إِيَّاه، فَرفع رَأسه إِلَى الْخَادِم فَقَالَ: كيس فِيهِ ألف دِينَار، وَذكرت قَول الْجَارِيَة: إِنِّي أحسبك تَأْخُذ عَلَيْهِ ألف دِينَار وَألف دِينَار وَألف دينارٍ، فَكَانَ مني شبه التبسم، ولحظني من بَين الشمع فَقَالَ لي: مِم تبسمت؟ قَالَ: فجثوت على ركبتي ثُمَّ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الصدْق منجاة، فَقَالَ لي بانتهار: قل، فَحَدَّثته حَدِيث الْجَارِيَة فَقَالَ: صدقت قد يكون هَذَا وأعجب مِنْهُ؛ ثُمَّ قَالَ لي: انْصَرف مودعًا، فَقُمْت لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن انفذ ذَلِك الْوَقْت، فَمَا هُوَ إِلَّا أَن نزلت من الأسرة حَتَّى وثب إِلَيّ غفيران من الفراشين، فَأخذ أَحدهمَا بيَدي المينى وَالْآخر باليسرى ومضيا بِي لَا أَدْرِي أَيْن يتوجهان بِي، حَتَّى وَقفا بِي على بَاب دَاري هَذِه، فَإِذا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمر سَلاما فَابْتَاعَ لي هَذِه الدَّار وحول أَهلهَا، وحشيت بالفرش والوصائف والوصفاء وَالطَّعَام وَالشرَاب، وَدفع إِلَيّ أَحدهمَا إضبارة مَفَاتِيح وَقَالَ لي: ادخل بَارك الله لَك فِيهَا، وَهَذَا مِفْتَاح بَيت كَذَا، وَهَذَا مِفْتَاح بَيت مَالك، وَهَذَا مِفْتَاح سُبْرَة الْجَوَارِي، وَهَذَا مِفْتَاح بَيت فرشك وآنتيك، وأوقفني على مَا أردْت، فَأَصْبَحت وَأَنا من مياسير أهل بَغْدَاد، ودخلتها وَأَنا أفقر أَهلهَا، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.(1/532)
تعليقات على بعض مَا جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَول الشَّاعِر فِي هَذَا الْخَبَر اليعافير اليعافير جمع يَعْفُور وَهِي الَّتِي يضْرب لَوْنهَا إِلَى الْحمرَة من الْوَحْش، وَهِي المعفرة، وَيُقَال للتراب أعفر كَمَا قَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ:
يَا لهف نَفسِي كَانَ جدة خالدٍ ... وَبَيَاض وَجهك للتراب الأعفر
وَقَالَ الشَّاعِر:
وبلدةٍ لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس
والعيس: الْبيض. وَقَوله فِي الشّعْر الَّذِي يَلِيهِ وَإِلَّا الناشط الْفَرد الناشط: الثور الوحشي قَالَ الشَّاعِر:
واستقبلت ظعنهم لما احزأل بهم ... مَعَ الضُّحَى ناشط من داعيات دَد
وَقَول عمر بْن أَبِي ربيعَة: وقلن امْرُؤ بَاغ أكل وأوضعا الْبَاغِي هَاهُنَا طَالب ضالةٍ وناشدها؛ أكل يَعْنِي أَن ركابه كلت من سيره عَلَيْهَا وَقَوله: أوضعا يعيني أَنه أسْرع بهَا قَالَ الله تَعَالَى: " ولأضعوا خِلالَكُمْ " التَّوْبَة:47 وَمن الإيضاع قَول دُرَيْد بْن الصمَّة:
يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع
الخبب والإيضاع ضَرْبَان من السّير السَّرِيع. وَقَول الرشيد لِابْنِ جَامع: أبن جَامع وَجه الْكَلَام فِيهِ فتح الْهمزَة، وَذَلِكَ أَن الْألف فِي ابْن جامعٍ ألف وصل وَإِنَّمَا جِيءَ بهَا فِي الْخَبَر لسكون الْبَاء وَأَنه لَا يبْدَأ بساكن فَإِذا دخلت عَلَيْهَا الْهمزَة للاستفهام سَقَطت كَمَا قَالَ ابْن قيس الرقيات:
فَقَالَت ابْن قيسٍ ذَا ... وَبَعض الشيب يعجبها
قَالَ الله عز وَجل: " افْتَرَى عَلَى الله كذبا " سبأ: 8 وَقَالَ عز ذكره: " أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ " الصافات: 153 وَقد رُوِيَ لنا بَيت ذِي الرمة على وَجْهَيْن:
استحدث الركب من أشياعهم خَبرا ... أم رَاجع الْقلب من أطرابه طرب
بالوصل وَالْقطع على مَا بَينا اكْتِفَاء بِدلَالَة قَوْله: أم رَاجع الْقلب من أطرابه طرب، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
تَرُوح من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... وماذا يَضرك لَو تنْتَظر
وَقَول ابْن جَامع: إِلَى أَن عسعس اللَّيْل يُقَال عسعس اللَّيْل إِذا أقبل وعسعس إِذْ ولى، وَقيل هُوَ من الأضداد، وَقَالَ الله جلّ ذكره: " وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ " التكوير: 17 قيل فِيهِ الْقَوْلَانِ اللَّذَان ذكرنَا، وَقَالَ الشَّاعِر:
عسعس حَتَّى لَو يَشَاء ادنى ... كَانَ لَهُ من ضوئه مقتبس
قيل فِي قَوْله: ادنى قَولَانِ أَحدهمَا أَنه افتعل من الدنو، وَأَصله ادتنا، وَقيل بل هُوَ اذدنا(1/533)
وَأَصله أَن يقطع فَيُقَال: لَو يَشَاء اذدنا، وَلكنه ترك الْهَمْز فِي الشّعْر لإِقَامَة وَزنه، وَقد جَاءَ مثله فِي الشّعْر كَقَوْل الطرماح بْن حَكِيم:
أَلا أَيهَا اللَّيْل الطَّوِيل أَلا أصبح ... سَرِيعا وَمَا الإصباح فِيك بأصلح
وَأَصله أَلا أصبح لِأَنَّهُ رباعي من أصبح يصبح، فعلى هَذَا الْوَجْه أَكثر مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَيْت، وَقد رَوَاهُ بَعضهم أَلا أَيهَا اللَّيْل الَّذِي طَال أصبح فَأتى بِهِ على أَصله.
وفادة جرير على الْحجَّاج
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ أَخْبرنِي الزُّبَيْر قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَيُّوب الْيَرْبُوعي عَن أَبِي الذَّيَّال السَّلُولي قَالَ حَدَّثَنِي جرير قَالَ: وفدت على الْحجَّاج بْن يُوسُف فِي سفرةٍ تسمى سفرة الْأَرْبَعين، فَأَعْطَانِي أَرْبَعِينَ رَاحِلَة ورعاءها وحشو حقائبها القطائف والأكسية، كسْوَة لِعِيَالِي، وأوقرها حِنْطَة ثُمَّ خرجت فَلَمَّا شددت على رَاحِلَتي كورها وَأَنا أُرِيد الْمُضِيّ جائني خَادِم فَقَالَ: أجب الْأَمِير، فَرَجَعت مَعَه، فَدخلت على الْحجَّاج، فَإِذا هُوَ قَاعد على كرْسِي، وَإِذا جَارِيَة قَائِمَة تعممه بعمامة فَقلت: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير فَقَالَ: هَات قل فِي هَذِه، فَقلت: بِأبي وَأمي تمنعني هَيْبَة الْأَمِير وإجلاله، وأفحمت فَمَا أَدْرِي مَا أَقُول، فَقَالَ: بل هَات قل فِيهَا، فَقلت: بِأبي وَأمي فَمَا اسْمهَا؟ قَالَ: أُمَامَة، فَلَمَّا أُمَامَة فتح عَليّ فَقلت:
ودع أُمَامَة حَان مِنْك رحيل ... إِن الْوَدَاع لمن تحب قَلِيل
تِلْكَ الْقُلُوب صواديا تيمتها ... وَأرى الشِّفَاء وَمَا إِلَيْهِ سَبِيل
فَقَالَ: بل إِلَيْهِ سَبِيل، خُذ بِيَدِهَا فجبذبتها فتعلقت بالعمامة وجبذتها حَتَّى رَأَيْت عنق الْحجَّاج قد صغت ومالت مِمَّا جبذتها، وَتعلق بالعمامة، قَالَ: ويخطر ببالي بَيت من شعر فَقلت:
إِن كَانَ طبكم الدَّلال فَإِنَّهُ ... حسن دلالك يَا أميم جميل
فَقَالَ الْحجَّاج: إِنَّه وَالله مَا بهَا دلال وَلَكِن بهَا بغض وَجهك وَهُوَ أهل ذَلِك، خُذْهَا بِيَدِهَا جرها، فَلَمَّا سَمِعت ذَلِك مِنْهُ خلت الْعِمَامَة. وَخرجت بهَا فكنيتها أم حَكِيم وجعلتها تقوم على ودي لي وعمالي وتعطيهم نفقاتهم بقريةٍ يُقَال لَهَا الغنية من قرى الوشم حَتَّى نفد الودي. قَالَ طَلْحَة: فَأَخْبرنِي الزُّبَيْر قَالَ، قَالَ مُحَمَّد بْن أَيُّوب: وَسمعت حجناء بْن نوح يَقُول: كَانَت وَالله مباركة.
شُرُوح وتعليقات
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَول جرير جبذتها وأجبذها بِمَعْنى جذبتها وأجذبها، تَقول جبذته أجبذه جبذًا، وجذبته أجذبه جذبا، وَمثله تبيغ بِهِ الدَّم وتبغي، وَمَا أيطبه وَمَا أطيبه، وَمثله كثير. وَأما الودي فَإِنَّهُ الفسيل كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
نَحن بغرس الودي أعلمنَا ... منا بركب الْجِيَاد فِي الْغَلَس(1/534)
وَقَول جرير: إِن كَانَ طبكم الدَّلال يَعْنِي الْخلق والطبع، كَمَا قَالَ الشَّاعِر.
وَمَا إِن طِبَّنا جُبْنٌ وَلَكِن ... مَنَايَانا وطُعْمَةُ آخرينا
يجوز فِيهِ طبكم الدَّلال، وطبكم الدَّلال لِأَنَّهُمَا معرفتان كَمَا قَالَ الفرزدق:
فقد شهِدت قيس فَمَا كَانَ نصرها ... قُتَيْبَة إِلَّا عضها بالأباهم
ويروى فَمَا كَانَ نصرها إِلَّا عضها، وَقَالَ آخر:
لقد علم الأقوام مَا كَانَ داؤها ... بثهلان إِلَّا الخزي مِمَّن يَقُودهَا
ويروى داءها إِلَّا الخزي، وَقَالَ آخر:
إِن يكن طبك الدَّلال فَهَلا ... ذَاك فِي الدَّهْر والسنين الخوالي
الْمجْلس الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ
وَفَاة أَبِي ذَر
حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ الْجَرِيرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن محمدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذرٍ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يبكيك؟ فَقلت: وَمَالِي لَا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَلا يَدَ لِي بِدَفْنِكَ وَلَيْسَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَنًا لِي وَلا لَكَ؟ قَالَ: فَلَا تَبْكِي وَأَبْشِرِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لنفرٍ أَنَا فِيهِمْ: لَيَمُوتَنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ بفلاةٍ مِنَ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي قريةٍ وَجَمَاعَةٍ، وَأَنَا الَّذِي أَمُوتُ بفلاةٍ، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِّبْتُ، فَأَبْصِرِي إِلَى الطَّرِيقِ، قَالَتْ قُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُّ وَانْقَطَعَ الطَّرِيقُ؟ قَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى كثيبٍ فَأَتَبَصَّرُ عَلَيْهِ وَأَرْجِعُ إِلَيْهِ فَأُمَرِّضُهُ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَنَا برجالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمُ الرَّخَمُ، فَأَلَحْتُ بِثَوْبِي، فَأَقْبَلُوا إِلَيّ حَتَّى وفقوا عَليّ فَقَالُوا: مَالك يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: امْرُؤٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ تُكَفِّنُونَهُ، قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذرٍ، قَالُوا: صَاحب رسلو اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَفَدَوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: لَيَمُوتَنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ بفلاةٍ مِنَ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي قريةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَأَنَا الَّذِي أَمُوتُ بِالْفَلاةِ، أَتَسْمَعُونَ؟ إِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ لِي يَسَعُنِي كفناً لي أَو لَا مرأتي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثوبٍ لي أَولهَا، أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ؟ إِنِّي أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَنْ يُكَفِّنَنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيرًا أَوْ عَرِيفًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ نَقِيبًا، وَلَيْسَ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَبَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا عَمُّ أَنَا أُكَفِّنُكَ لَمْ أُصِبْ مِمَّا ذَكَرْتَ شَيْئًا، أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ مِنْ عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي حَاكَتْهُمَا لِي، فَكَفَّنَهُ(1/535)
الأَنْصَارِيُّ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ مِنْهُمْ حُجْرُ بْنُ الأَدْبَرِ وَمَالِكٌ الأَشْتَرُ فِي نفرٍ كُلِّهِمْ يَمَانٍ.
للْخَبَر دلَالَة على نبوة الرَّسُول قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: فِي هَذَا الْخَبَر أكبر دليلٍ على نبوة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثُبُوت رسَالَته لإخباره من الْغَيْب بِمَا وجد على مَا وَصفه، وَهَذَا مِمَّا لم يُعلمهُ إِلَّا بِوَحْي من الله عز وَجل أَلْقَاهُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيه مَا ينبى عَن فضل النَّفر الَّذين ولوا أمرة، و " ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " الْمَائِدَة: 54.
يشكو وَالِي السماوة إِلَى عبد الْملك
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِني عَن التوزي عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ: ولي عبد الْملك بْن مَرْوَان صدقَات كلبٍ رجلا من بني أُميَّة، وَكَانَت الرّوم قد نَزَعته، وَكَانَ أشقر غضا، فَدخل أَعْرَابِي جلف جافٍ على عبد الْملك فِي جفة النَّاس، فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ يَا إِنْسَان إِنَّك مُدبر مربوب، قَالَ: أجل فَمَا تشاءء؟ قَالَ: قد احْتَجَبت بِهَذِهِ المدرة وَوليت خطابنا أصهب غضا كالقرعوش طمطمانيًا أطومًا كَأَن وَجهه جهوة قردٍ قد قشر بصرها، وَكَأن فَاه سرم أتانٍ، قد قاشها عير فَهِيَ ترمز، إِن كشرت بسر، وَإِن خاطبت نهر، وَإِن تألفت زبر، فَلَا الْكَلَام مَدْفُوع، وَلَا القَوْل مسموع، وَلَا الْحق متبوع، وَلَا الْجور مردوع، وَلنَا وَلَك مقَام فِيهِ ينص الْخِصَام، وترجف الْأَقْدَام، وينتصف الْمَظْلُوم، وينعش المهضوم؛ هَا إِن ملكك هُنَاكَ زائل، وعزك حَائِل، وناصرك خاذل، وَالْحَاكِم عَلَيْك عَادل؛ فاكبأن عبد الْملك وتضاءلت أقطاره وترادت عبراته فِي صَدره، ثُمَّ قَالَ: لله أَبوك، أَي ظلم نالك منا حَتَّى أجاءك إِلَى هَذَا الْمقَال؟ قَالَ: ساعيك فِي السماوة، نَهَاره لَهو، ومقاله لَغْو، وغضبه سطو، يجمع المباقط ويحتجن المشائط ويستنجد العمارط، فَأمر عبد الْملك بِصَرْف الْعَامِل.
تَفْسِير أَلْفَاظ وَردت فِي الْخَبَر السَّابِق
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: الغضا الغتم، وَقَالَ ابْن دريدٍ القرعوش ولد البختيه وَهُوَ لَا ينجب وَلَا ينفع، والطمطاني: الْأَعْجَم، والأطوم: الَّذِي لَا يفهم وَلَا يفهم. وَإِنَّمَا أَخذ من جلد الأطوم وَهِي دَابَّة من دَوَاب الْبَحْر صلبة الْجلد، وَقَالَ قوم: هِيَ السلحفاة.
قَالَ القَاضِي: فِي السلحفاة لُغَتَانِ سلحفاة وسلحفية. وَقَوله: جهوة قرد: يُرِيد دبره وَمَا وَالَاهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ لَك ذِي أَربع، وَرُبمَا اسْتعْمل فِي النَّاس. وَقَوله: قشر بصرها فالبصر قشر أَعلَى كل شَيْء. وَقَوله: قاشها أَي نزا عَلَيْهَا، والترمز التحرك، والمشائط: الْوَاحِد مشياط وَهُوَ الَّذِي يسْرع إِلَيْهِ السّمن، والمباقط المتفرقة، يُقَال بقط هَذَا أَي فرقه، والعمارط الْوَاحِد عمروط وَهُوَ الَّذِي لَا يرى شَيْئا إِلَّا اختلسه وَهُوَ اللص، والوأي: الْوَعْد، والترمز: التحرك؛ رُوِيَ عَن أَبِي حَاتِم عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: كَأَن رجل من بني تَمِيم خليعًا يُقَال لَهُ عُمَيْر بْن مَالك فَمَرض فَحَضَرَ نسَاء الْحَيّ يعدنه، فأطلن الْجُلُوس فَقَالَ:(1/536)
لقل غناء عَن عُمَيْر بْن مالكٍ ... ترمز استاه النِّسَاء العوائد
فقمن وقلن: لَا شفَاه الله. وَقَوله: فاكبأن عبد الْملك أَي تدَاخل بعضه فِي بعض، قَالَ الشَّاعِر.
فَلم يكبئنوا إِذْ رأوني وَأَقْبَلت ... عَليّ وُجُوه كالسيوف تهلل
وَقَوله: تضاءلت أَي تصاغرت، والأقطار: النواحي، وَقَوله: أجاءك أَي اضطرك وَأَصله من الْمَجِيء تَقول جَاءَ زيد وأجاءه غَيره مثل صَار وأصار إِلَيْهِ غَيره. وَمِنْه " فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ " مَرْيَم: 23 كَأَنَّهُ جَاءَ بهَا إِلَيْهِ. قَالَ القَاضِي: وَفِي تَفْسِير ابْن دُرَيْد غَرِيب هَذَا الْخَبَر فِي مَوضِع آخر: المباقط أَي المتفرق من الْمَاشِيَة، وَهُوَ مِمَّا نهى عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابه لأكيدر لَا تعد فاردتكم، وَلَا ترد قاصيتكم، والمشائط: واحدتها مشياط وَهِي النَّاقة السريعة السّمن، يُرِيد أَنه يَأْخُذ المشائط فِي الصَّدَقَة، وَهَذَا مِمَّا نهي عَنْهُ أَيْضا من قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَأْخُذُوا حزرات أنفس النَّاس، يُرِيد خِيَار أَمْوَالهم، والعمروط: اللص يُقَال لص ولص.
ابْن الزيات يتفجع على دَابَّة أَخذهَا المعتصم
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَليّ مُحرز الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي سهل بْن عبد الْكَرِيم قَالَ: كَانَ لمُحَمد بْن عبد الْملك دَابَّة أَشهب أحم لم ير مثله فِي الفراهة والوطاء وَالْحسن، فَذكر المعتصم يَوْمًا الدَّوَابّ فَقَالَ: أشتهي دَابَّة فِي نِهَايَة الوطاء تصلح للسرايا، فَقَالَ لَهُ أَحْمَد بْن خَالِد خيلويه قد عَرفته لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ على أَن لَا يعلم صَاحبه أَنِّي ذكرته لَك، قَالَ: لَك ستر ذَلِك، قَالَ: عِنْد كاتبك مُحَمَّد بْن عبد الْملك دَابَّة لم ير مثله، فَوجه المعتصم فَأَخذه من مُحَمَّد، فَقَالَ فِيهِ:
قَالُوا جزعت فَقلت إِن مصيبتي ... جلت رزيتها وضاق الْمَذْهَب
كَيفَ العزاء وَقد مضى لسبيلة ... عَنَّا فودعنا الأحم الْأَشْهب
دب الوشاة فباعدوك وَرُبمَا ... بعد الْفَتى وَهُوَ الْحَمِيم الْأَقْرَب
لله يَوْم غَدَوْت عني ظَاعِنًا ... وسلبت قربك أَي علق أسلب
نَفسِي مقسمة أَقَامَ فريقها ... وَغدا لطيتها فريق يجنب
الْآن إِذْ كملت أداتك كلهَا ... ودعا الْعُيُون إِلَيْك زِيّ معجب
واختير من خير الحدائد خَيرهَا ... لَك خَالِصا وَمن الْحَيّ الأغرب
وغدوت طنان اللجام كَأَنَّمَا ... فِي كل عُضْو مِنْك صنج يضْرب
وَكَأن سرجك فَوق متن غمامةٍ ... وكأنما تَحت الغمامة كَوْكَب(1/537)
وَرَأى عَليّ بك الصّديق مهابة ... وَغدا الْعَدو وصدره يتلهب
أنساك لَا بَرحت إِذا منسية ... نَفسِي وَلَا زَالَت بمثلك تنكب
أضمرت عَنْك الْيَأْس حِين رَأَيْتنِي ... وقوى حبالك من قواي تقضب
وَرجعت حِين رجعت مِنْك بحسرةٍ ... لله مَا صنع الْأَصَم الأشيب
فليعلمن أَلا تزَال عَدَاوَة ... مني مَرِيضَة وثأر يطْلب
يَا صَاحِبي بِمثل ذَا من أمره ... صحب الْفَتى فِي دهره من يصحب
إِن تسعدا فصنيعة مشكورة ... أَو تخذلا فعداوة لَا تذْهب
عوجا نقضي حَاجَة وتبحثا ... بَث الحَدِيث فَإِنَّهُ لَك أعجب
لَا تشعراه بِنَا فَلَيْسَ لذِي هوى ... شكوى الحزازة عِنْده مشتعتب
تَفْسِير أَلْفَاظ
يَعْنِي بالأصم: أَحْمَد بن خَالِد خيلوبه.
قَالَ القَاضِي: الأحم يصف عينه بِالسَّوَادِ. وَقَوله: لَا يرأب يَعْنِي لَا يشعب وَيُقَال لما يرقع بِهِ الْقدح أَو غَيره من الْأَوَانِي رؤبة، وَيُقَال للَّذي يصلح الْفَاسِد ويرقع الصدع هُوَ يرأب الثأى. وَمن ذَلِك قَول الطرماح ابْن حَكِيم:
هَل الْمجد إِلَّا السؤدد الْمَحْض والتقى ... ورأب الثأى وَالصَّبْر عِنْد المواطن
وَمن الثأى قَول ذِي الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بَينهَا الْكتب
الْمُؤلف ينْتَقد ابْن الزيات على موقفه
قَالَ القَاضِي: هَذَا الَّذِي أَتَى بِهِ الْخَبَر فِي هَذِه الْقِصَّة عَن مُحَمَّد بْن عبد الْملك من خلائفه المستعجبة الكاشفة لما كَا فِيهِ من الْآدَاب المستخشنة، وَمَا الَّذِي بلغ من قدر دابةٍ وَلَو أَنه الْوَجِيه ولاحق، أَو الْعَصَا دَابَّة قصير بْن سعد، حَتَّى يضن بهَا عَن المعتصم، وَهُوَ الْخَلِيفَة المبرز فِي فَضله وسروه وجوده وشرفه وَشرف خلائقه وَجَمِيل طرائقه، وَقد اسْتَكْتَبَهُ وموله، وشرفه وخوله، أَو مَا كَانَ قمنا أَن يَبْتَدِئ بقود الدَّابَّة إِلَيْهِ عِنْد وُقُوفه على نزاعه إِلَيْهِ ورغبته فِيهَا ويغتبط بقبوله إِيَّاهَا وَيرى ذَلِك من المآثر الَّتِي يغبط بهَا ويفتخر بحيازتها، وَقد سبق القَوْل السائر بِالْمثلِ المتوارث الغابر: أَي الرِّجَال الْمُهَذّب.
أم قيس ترجو ليلى أَن تزوره
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيّا بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْب بْن السكن عَنْ يُونُس النَّحْويّ قَالَ: لما اخْتَلَط عقل قَيْس الْمَجْنُون(1/538)
وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب مَضَت أُمّه إِلَى ليلى فَقَالَت لَهَا: يَا هَذِهِ، قَدْ لحق ابْني بسببك مَا قَدْ علمت فَلَو صرت معي إِلَيْهِ رَجَوْت أَن يثوب لُبُّهُ ويرجَع عقلُه إِذا عاينك، فَقَالَت لَهَا: أما نَهَارا فَلَا أقدر عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي لَا آمن الحيَّ عَلَى نَفسِي، وَلَكِن أمضي مَعَك لَيْلًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل صَارَت إِلَيْهِ فَقَالَت لَهُ: يَا قَيْس إِن أُمَّك تزْعم أَن عقلك زَالَ بسببي، وَأَن الَّذِي لحقك أَنَا أصلُه، فَفتح عَيْنَيْهِ فَنظر إِلَيْهَا وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَالَتْ جُنِنْتَ عَلَى ذِكْرِي فقلتُ لَهَا ... الحبُّ أعظمُ مِمَّا بالمجانين
الحبُّ لَيْسَ يُفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصرعُ المجنونُ فِي الْحِين
أَعْرَابِي مَعَه نصيحة يدْخل على الرشيد
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَن أَبِيه إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ: بَينا أَنا جَالس مَعَ الرشيد على الْمَائِدَة إِذْ دخل الْحَاجِب فَأعلمهُ أَن بِالْبَابِ أَعْرَابِيًا مَعَه نصيحة، فَأمر بإحضاره، فَلَمَّا دخل أمره بِالْجُلُوسِ على الْمَائِدَة فَفعل، وَكَانَ مَعَه صباحة وفصاحة، فَلَمَّا تمّ الْغَدَاء وَرفعت الموائد وَجَاء الْغسْل غسل يَده، ثُمَّ أَمر بِالشرابِ فأحضر، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا حالتي فِي اللبَاس، فَاسْتحْسن هَارُون ذَلِك من فعله وَأمر بِثِيَاب حسنةٍ فطرحت عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَعْرَابِي من أَيْن؟ قَالَ: من الْكُوفَة قَالَ: أَعْرَابِي أم مولى؟ قَالَ: بل عربين قَالَ: فَمَا الَّذِي قصد بك إِلَيْنَا وَمَا نصيحتك؟ قَالَ: قصد بِي إِلَيْك قلَّة المَال وَكَثْرَة الْعِيَال، وَأما نصيحتي فَإِنِّي علمت أَنِّي لَا أصل إِلَيْك إِلَّا بهَا، قَالَ: فَأخذ إِسْحَاق الْعود فغني صَوتا يشتهيه الرشيد ويطرب عَلَيْهِ وَهُوَ:
لَيْسَ لي شَافِع إِلَيّ؟ ... ك سوى الدمع يشفع
عِشْت بعدِي ومت قب؟ ... لَك هَل فِيك مطمع
قسم الْحبّ خَمْسَة ... صَار لي مِنْهُ أَربع
فَإلَى الله أشتكي ... كبدا لي تقطع
فَقَالَ الرشيد كالمازح: كَيفَ ترى هَذَا يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: بئس وَالله مَا غنى، فَغَضب من ذلكهارون وصعب عَلَيْهِ، قَالَ إِسْحَاق: وَسقط فِي يَدي، فَقَالَ هَارُون: ويكل يَا أَعْرَابِي، وَهل يكون شَيْء أحسن من هَذَا؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قولي حَيْثُ أَقُول:
لَا وحبيك لَا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بَكَى شجوه استرا ... ح وإنكان موجعا
كَبِدِي فِي هَوَاك أس؟ ... قُم من أَن تقطعا
لم تدع سُورَة الْهوى ... للبلى فِي مطما(1/539)
قَالَ: فاستملح هَارُون ذَلِك مِنْهُ وَأمر إِسْحَاق أَن يُغْنِيه بِهِ شهرا لَا يقطعهُ عَنْهُ، وَأمر للأعرابي بِعشْرَة آلَاف درهمٍ وَصَرفه.
الْفضل بْن يحيى يودع أَصْحَابه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى قَالَ: لما خرج الْفضل بْن يحيى إِلَى خُرَاسَان ودع أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ:
لما دنا الْبَين بَين الْحَيّ واقتسموا ... حَبل النَّوَى فَهُوَ فِي أَيْديهم قطع
جَادَتْ بأدمعها سلمى وأعجلني ... وَشك الْفِرَاق فَمَا أُبْقِي وَلَا أدع
يَا قلب وَيحك لَا سلمى بِذِي سلمٍ ... وَلَا الزَّمَان الَّذِي قد مر مرتجع
أكلما مر ركب لَا يلا ئمهم ... وَلَا يبالون أَن يشتاق من فحعوا
علقتني بهوى فيهم فقد جعلت ... من الْفِرَاق حَصَاة الْقلب تنصدع
قَالَ القَاضِي: هَذِه أَبْيَات حَسَنَة. وَقَوله: واقتسموا حَبل النَّوَى من أحسن القَوْل وأظرفه.
أَبْيَات اللمصعب تعجب الرشيد حَدثنَا يزْدَاد بْن عبد الرَّحْمَن الْمروزِي قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كَانَ هَارُون أَمِير الْمُؤمنِينَ يستنشدني كثيرا قَول أَبِي عَبد اللَّه بْن مُصعب وَيُعْجِبهُ:
وَإِنِّي وَإِن قصرت عَن غير بغضةٍ ... مراعٍ لأسباب الْمَوَدَّة حَافظ
وَمَا زَالَ يدعوني إِلَى الصرم مَا أرى ... فآبى وتثنيني عَلَيْك الحفائظ
وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... أَلا ين طورا مرّة وأغالظ
وأنتظر الإقبال بالود مِنْكُم ... وأصبر حَتَّى أوجعتني المغايظ
جربت مَا يسلي الْمُحب على الْهوى ... فأقصرت والتجريب للمرء واعظ
قَالَ القَاضِي: ولعمري إِن هَذِه الأبيات لمن مستحسن الشّعْر فِي مَعْنَاهَا، وَإِعْجَاب الرشيد بهَا مِمَّا ينبى عَن خلوص أدبه وصفاء قريحته.
أَبْيَات لإِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي فِي جَارِيَة كَانَت تخدمه حَدثنَا المظفر بْن يحيى بْن أَحْمَد الشرابي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المرثدي قَالَ حَدَّثَنَا طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّهِ الطلحي قَالَ أَنْشدني يَعْقُوب بْن عباد الزبيرِي لإِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي، وَقد أخدمته بعض العباسيات فِي حَال استخفائه عِنْدهَا جَارِيَة وَقَالَت لَهَا: أَنْت لَهُ، فَإِن مد يَده إِلَيْك فَلَا تمتنعي وَلم يعلم بهبتها لَهُ، وَكَانَت مليحة، فجمشها يَوْمًا بِأَن قبل يَدهَا وَقَالَ:
يَا غزالا لي إِلَيْهِ ... شَافِع من مقلتيه(1/540)
وَالَّذِي أكرمت خدي؟ ... هـ فَقبلت يَدَيْهِ
بِأبي وَجهك مَا أك؟ ... ثر حسادي عَلَيْهِ
أَنا ضيف وَجَزَاء ال؟ ضيف إِحْسَان إِلَيْهِ
بيتان لِابْنِ عَرَفَة
قَالَ القَاضِي: وَمِمَّا يضارع بعض مَا تضمنته هَذِه الأبيات من جِهَة مَا أنشدناه إبراهمي بن مُحَمَّد بن عَرَفَة لنَفسِهِ:
يَا دَائِم الهجر والصدود ... مَا فَوق بلواي من مزِيد
أَصبَحت عبدا وَلست ترعى ... وَصِيَّة الله فِي العبيد
بيتان لمُحَمد بن دَاوُد
وأنشدني أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ عَن مُحَمَّد بْن دَاوُد:
ترى من كوى قلبِي بِنَار فِرَاقه ... وصير حظي من مودته بعدا
تفكر يَوْمًا فِي أَو قَالَ مرّة ... تركنَا لَهُ عبدا أسأنا بِهِ جدا
إِسْمَاعِيل الديلمي اشتهي حلوى
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مخلدٍ بْنِ حَفْص الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا حَامِد بْن مُحَمَّد بْن الحكم بْن عبد الرَّحْمَن أَبُو محمدٍ قَالَ حَدثنَا كردان قَالَ قَالَ لي إسماعي الديلمي: اشْتهيت حلوى وأبلغت شَهْوَته إِلَيّ، فَخرجت من الْمَسْجِد بِاللَّيْلِ لأبول فَإِذا جنبتي الطَّرِيق أخاوين حلوى، فنوديت يَا إِسْمَاعِيل هَذَا الَّذِي اشْتهيت وَإِن تَركه خير لَك، فتركته؛ قَالَ ابْن مخلد: وَقد كتبت أَنا عَن كردان وَكَانَ يكون فِي قنطرة بني زُرَيْق، وَقد رَأَيْت إِسْمَاعِيل الديلمي فَكَانَ مَا شِئْت من رجل، رَأَيْته عِنْد أَبِي جَعْفَر بْن إشكاب.
قَالَ القَاضِي: إِسْمَاعِيل الديلمي هَذَا من خِيَار الْمُسلمين، وَالنَّاس يزورون قَبره، وقبره وَرَاء قبر مَعْرُوف الْكَرْخِي، بَينهمَا قُبُور يسيره، وَهُوَ بَينه وَبَين الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بِمَسْجِد الْخضر وَقد زرته مرَارًا. وحَدثني بعض شُيُوخنَا من أهل الْعلم أَنه كَانَ حَافِظًا للْحَدِيث كثير السماع وَأَنه كَانَ يذاكر بسبعين ألف حَدِيث.
خوان وأخونة
قَالَ القَاضِي: قَوْله: أخاوين حلوى يُقَال لما يَجْعَل عَلَيْهِ الطَّعَام قبل جعله خوان فَإِذا جعل الطَّعَام عَلَيْهِ فَهُوَ مائدة، فَإِذا رفع الطَّعَام عَنهُ عَاد إِلَى تَسْمِيَته خوانًا. وَزعم بَعضهم أَن الْمَائِدَة إِنَّمَا تسمى بِهَذَا الِاسْم إِذا خف مَا عَلَيْهَا من الطَّعَام لِأَنَّهَا حينئذٍ تميد. وَزعم الْفراء أَنه بِمَنْزِلَة المهدى يرجع إِذا كَانَ فَارغًا إِلَى اسْمه الأول فَيُقَال: طبق وقناع وَمثله عِنْده الكأس تسمى كأسًا إِذا كَانَ فِيهَا الشَّرَاب، فَإِذا أخذت مِنْهُ رجعت إِلَى اسْمهَا؛ وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: الخوان بِالْكَسْرِ كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ خوان بِالضَّمِّ بِاللِّسَانِ الْفَارِسِي.(1/541)
وَرُوِيَ لنا عَن الْفراء الْكسر وَالضَّم فِي الخوان من كَلَام الْعَرَب، وَجمعه أخاوين مثل سوار وأساوير وَيجمع السوار أَيْضا أسورة وأساورة، وَالْهَاء فِي أساورة عوض من الْيَاء فِي أساوير. وَذكر نَحْو هَذَا سِيبَوَيْهٍ فِي زنديق وزنادقة وفرزان وفرازنة.
وَقَالَ الْأَخْفَش إسوار وأسورة فِي قَوْله تَعَالَى: " فلولا ألقِي عَلَيْهِ أسورة " الزخرف: 53 لِأَنَّهُ جمع أسوار وأسورة وَقَالَ بَعضهم أساورة فَجعله جمعا للأسورة وَأَرَادَ أساوير، وَالله أعلم، فَجعل الْهَاء عوضا من الْيَاء الَّتِي فِي أساوير.
قَالَ القَاضِي: وَقد قَالَ الله جلّ ذكره: " وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فضةٍ الْإِنْسَان: 21 وَقَالَ تَعَالَى: " يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ " الْكَهْف: 31 فَأتى الْجمع هَاهُنَا على أساور. وَحكى ثَعْلَب أَن الْفراء قَالَ: أسورة جمَاعَة سوار للَّذي فِي الْيَد يضم وَيكسر بِلَا ألف وَجمعه أسورة، وَيجوز أَن يكون أساورة جمع أسورة كَمَا قيل فِي الأسقية أساق، والأسوار والإسوار الرَّامِي. وَقد قيل فِي سوار الْيَد إِنَّه يجوز فِيهِ إسوار وأسوار، فَيجوز على هَذِه اللُّغَة أَن تكون أساورة جمعه. وَقَالَ الْفراء فِي كِتَابه فِي الْمعَانِي: من قَرَأَ أساورة جعل وَاحِدهَا أسواراً، وَمن قَرَأَ سُورَة فواحدها سوار وَقد تكون الأساورة جمع أسورة، كَمَا يُقَال فِي جمع الأسقية النَّحْوِيين: فِي وَاحِد أساور لُغَتَانِ: ضم السِّين وَكسرهَا، وَهُوَ على الْقيَاس، لِأَن جمع فعال وفعال أفعلة، فَأَما أسوار بِمَعْنى سوار فَلَيْسَ بِصَحِيح فِي الْقيَاس، فَإِن كَانَت لُغَة فَهِيَ شَاذَّة، وَلَا يكون جمعه أسورة لِأَن أفعالا لَا يجمع على أَفعلهُ وَإِنَّمَا الأسوار على أَفعَال فارسية معربة، وهواسم الْفَارِس بِالْفَارِسِيَّةِ وَلَيْسَ باسم الرَّامِي كَمَا زعم الْفراء. وَجمعه أساوير وأساور بياءٍ وَبلا يَاء، وأساورة بِالْهَاءِ عوضا عَن الْيَاء. وَلَيْسَت أساورة مثل أساق لِأَن أساقي لَا هَاء فِيهَا فَهِيَ مثل أساور.
قَالَ القَاضِي: وَهَذَا القَوْل أشبه الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ.
الجلس الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ
حَدِيث إِن أمتك مفتتنة بعْدك
حَدثنَا عبد بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ بِلِحْيَتِي وَأَنَا أَعْرِفُ الْحُزْنَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام آنِفا فَقَالَ لَك إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، قلت: أجل إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، فَمِمَّ ذَاكَ يَا جِبْرِيلُ:؟ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ مُفْتَتَنَةٌ بَعْدَكَ بِقَلِيلٍ مِنَ الدَّهْرِ غَيْرِ كَثِيرٍ، فَقُلْتُ: فِتْنَةُ كفرٍ أَوْ فِتْنَةُ ضَلالَةٍ؟ قَالَ: كُلٌّ سَيَكُونُ، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيهِمْ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ يَضِلُّونَ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أُمَرَائِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ، يَمْنَعُ الأُمَرَاءُ الْحُقُوقَ(1/542)
وَيَسْأَلُ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ فَلا يُعْطَوْنَهَا، فَيَقْتَتِلُونَ وَيُفْتَتِنُونَ، فَيَتَّبِعُ الْقُرَّاءُ هَوَى الأُمَرَاءِ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، قُلْتُ: فَبِمَ يَسْلَمُ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بِالْكَفِّ وَالصَّبْرِ، إِنْ أُعْطُوا الَّذِي لَهُمْ أَخَذُوهُ وَإِنْ مُنِعُوهُ تَرَكُوهُ.
الْجريرِي يستغيث بِاللَّه من الظُّلم والظلمة
قَالَ القَاضِي: قد رَأينَا مَا قدم نَبينَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم الْإِخْبَار بِهِ وشاهدناه وَظهر لنا مَا أَنبأَنَا بِهِ وعايناه ومنعنا الَّذِي لنا فصبرنا، وليت مَا نعنا حثنا والمستبد بِهِ اقْتصر على مَا أَتَاهُ وَلم يتجاوزه إِلَى اغتصاب التالد والطريف من أَمْوَالنَا بالخبط والعسف والتعذيب والعنف، وَلم يتخطه إِلَى تكليفنا مَا لَا نقدر عَلَيْهِ وَلَا نصل إِلَيْهِ، فَإلَى الله المشتكى والملتجأ، وَهُوَ المستغاث المرتجى، بعدله نستجير من جور من غلبنا على أقواتنا فشبع بهَا وأجاعنا، وَحفظ بهَا نَفسه وأضاعنا، فَإِنَّهُ قاصم العتاة المترفين، وَعَاصِم العناة الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَمَا هُوَ بغافل عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ. وَقد " قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا من يَشَاء من باده وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " الْأَعْرَاف: 128129 اللَّهُمَّ وَإِنَّا أَصْبَحْنَا مستغيثني بك فصبرنا على بلائك ووفقنا لشكر آلَائِكَ وألهمنا تقواك حَتَّى تكون الْعَاقِبَة لنا واستنقذنا من عَدوك وعدونا إِنَّك رؤوف رَحِيم جواد كريم. فَأَما ممالأة قراء السوء أشكالهم من أمرائهم فقد ظللنا مِنْهُ فِي أَمر عَظِيم وخطب جسيم، وَصَارَ من يعتزي إِلَى تِلَاوَة الْقُرْآن ويدعى لَهُ علم شرائع الْإِيمَان مِمَّن لَيْسَ عِنْده مِمَّا ينْسب إِلَيْهِ إِلَّا ادعاؤه وَقد تموه لَهُ بجده وامتحان الْعباد بِهِ مَا يظنّ أَنه حَاصِل لَهُ وَإِن كَانَ صفرًا مِنْهُ، وَمِنْهُم من قد جعل الزخرفة والغلط والهجر لَهُ صفة معرضة الَّذِي يُدَلس بِهِ نَفسه، ويوهم الْجُهَّال أَن وَرَاء مَا يظهره مَا يضاهي مَا اغتروا بِهِ، وَمِنْهُم من قد اتّفق لَهُ من بعض المترفين وجهله المتعلمين قبُول لَهُ وصبابة نَحوه، واطراح الدَّين شَامِل لهَذِهِ الْفرق الْمُتَقَدّمَة المفتتن بهَا، وَالله نسْأَل إدالة أوليائه وَإِزَالَة أعدائه.
الجمانة الكنانية تقع فِي حب حممة
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبرنِي عمي الْحُسَيْن بْن دُرَيْد عَن أَبِيه قَالَ حَدَّثَنَا هِشَام بْن مُحَمَّد بْن السَّائِب الْكَلْبِيّ وَعَن أبي مسكني عَن عبد الرَّحْمَن بْن مغراء أَبِي زُهَيْر الدوسي قَالُوا: كَانَ حممة بْن رَافع بْن الْحَارِث الدوسي من أجمل الْعَرَب وَكَانَت لَهُ جمة يُقَال لَهَا الرّطبَة كَانَ يغسلهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ يعقصها وَقد احتقن فِيهَا المَاء، فَإِذا مضى لَهَا يَوْمَانِ حلهَا ثُمَّ يعصرها فَيمْلَأ جلساءه، فحج على فرسٍ لَهُ، فَنَظَرت إِلَيْهِ الجمانة الكنانية وَهِي خناس، وَكَانَت عِنْد رجل من بني كنَانَة يُقَال لَهُ ابْن الحمارس فَوَقع بقلبها، فَقَالَت لَهُ: من أَنْت؟ فو الله مَا أَدْرِي أوجهك أحسن أم شعرك أم فرسك، مَا أَنْت بالنجي الثلب، وَلَا التهامي الترب، فاصدقني، قَالَ: أَنا امْرُؤ من الأزد من دوس، ومنزلي ببروق، قَالَت: فَأَنت أحب النَّاس إِلَيّ، وَقد وَقعت فِي نَفسِي فَاحْمِلْنِي مَعَك، فأردفها خَلفه وَمضى إِلَى بَلَده، فَلَمَّا أوردهَا أرضه قَالَ: قد علمت هربك معي كَيفَ كَانَ؛ وَالله لَا تهربين بعدِي إِلَى رجل أبدا، فَقطع عرقوبيها، فَولدت لَهُ عَمْرو بْن حممة، وَكَانَ سيداص، وَولد عَمْرو بْن حممة الطُّفَيْل بْن عَمْرو ذَا النُّور، وَفد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: وَخرج زَوجهَا ابْن الحمارس فِي طلبَهَا فَلم يقدر عَلَيْهَا فَرجع وَهُوَ يَقُول:
أَلا حَيّ الخناس على قلاها ... وَإِن شحطت وَإِن بَعدت نَوَاهَا
تبدلت الطبيخ وَأَرْض دوسٍ ... بهجمة فَارس حمرٍ ذراها
وَقد خبرتها جاعت وذلت ... وَأَن الْحر من طود شواها
وَقد خبرتها نحلت ركيا ... وأثوارا معرقة شواها
وَقد أنبئتها ولدت غُلَاما ... فَلَا شب الْغُلَام وَلَا هناها
فَلَمَّا أنْشد عمر بْن الْخطاب هَذَا الشّعْر قَالَ: قد وَالله شب الْغُلَام وَقد هناها.
قَالَ القَاضِي: قَوْلهَا: " مَا أَنْت بالنجدي الثالب وَلَا(1/543)
التهامي الترب من التُّرَاب جَمِيعًا، والأثلب من أَسمَاء التُّرَاب، يُقَال: بِفِيهِ الأثلب والإثلب، وَقَوله: " لَا هناها " من قَوْلهم كل هنيًا مريًا، وَأَصله الْهَمْز، يُقَال: هنأني الطَّعَام وَقد يتْرك همزه وَتَركه فِي الشّعْر كثير لتصحيح الْوَزْن كَمَا قَالَ:
فارعي فَزَارَة لَا هُنَاكَ المرتع
أَلْسِنَة السّمك يقدمهَا إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي للرشيد
حَدثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أَبِي طَاهِر قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: استزار إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي الرشيد بالرقة فزاره، وَإِن الرشيد كَانَ لَا يَأْكُل الطَّعَام الْحَار قبل الْبَارِد، وَأَنه لما وضعت البوارد على الْمَائِدَة رأى فِيمَا قرب مِنْهُ جَام قريس السّمك، فاستصفر طباخي الْقطع، وَإِنَّمَا هَذِه أَلْسِنَة السّمك، فَقَالَ: يشبه أَن يكون فِي هَذَا الْجَام مائَة لِسَان، فَقَالَ لَهُ مراقب خَادِم إِبْرَاهِيم وَكَانَ يتَوَلَّى قهرمة إِبْرَاهِيم: فِيهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَكثر من مائَة لِسَان، فاستحلفه على مبلغ ثمن السّمك فَأخْبرهُ أَنه ألف دِرْهَم، فَرفع هَارُون يَده علن الطَّعَام وَحلف أَن لَا يطعم شَيْئا دون أَن يحضر مراقب ألف دِينَار، فَأمر أَن يصدق بهَا، وَقَالَ لإِبْرَاهِيم: أَرْجُو أَن تكون هَذِه كَفَّارَة لسرفك فِي إنفاقك عَليّ جَام سمك ألف دِرْهَم، ثُمَّ أَخذ الْجَام بِيَدِهِ وَدفعه إِلَى بعض خدمه وَقَالَ: اخْرُج بِهِ من دَار أخي ثُمَّ أنظر إِلَى أول سَائل ترَاهُ فادفعه إِلَيْهِ، قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانَ شِرَاء الْجَام عَليّ مِائَتَيْنِ وَسبعين دِينَارا، فغمزت خدمي أَن يخرجُوا مَعَ الْجَام فيبتاعونه(1/544)
مِمَّن يدْفع إِلَيْهِ، وَكَأن الرشيد فهم ذَلِك مني، فَهَتَفَ بالخادم فَقَالَ: إِذا دفعت الْجَام إِلَى السَّائِل فَقل لَهُ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ احذر أَن تبيع الْجَام بِأَقَلّ من مِائَتي دِينَار فَإِنَّهُ خير مِنْهَا، فَفعل خادمه مَا أمره بِهِ، فو الله مَا أمكن خادمي يخلص الْجَام إِلَّا بِمِائَتي دِينَار.
السَّرف والإسراف
قَالَ القَاضِي: إِن طعم اللِّسَان من السّمك أشبه الطعوم بطعم لحم الْخِنْزِير، وَقل الرشيد: كَفَّارَة لسرفك فَإِن السَّرف فِي كَلَام الْعَرَب التجاوز للشَّيْء، حُكيَ عَن الْعَرَب مَرَرْت بكم فسرفتكم، وَقَالَ الشَّاعِر:
أعْطوا هنيدة يحدوها ثَمَانِيَة ... مَا فِي عطائهم من وَلَا سرف
فَأَما الزِّيَادَة فِي الْإِنْفَاق وَغَيره فَهُوَ الْإِسْرَاف، وَهُوَ ضد التقتير، يُقَال: أسرف يسرف إسرافًا، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا " الْفرْقَان: 67 وَقَالَ: " فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ " الْإِسْرَاء:33 وَقَالَ: " وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا " النِّسَاء:6 وَقَالَ: " وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " الْأَنْعَام:141 وَقَالَ: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهم " وَهَذَا كثير جدا.
خطْبَة زِيَاد البتراء
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي يَعْقُوب الدِّينَوَرِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عبيد بن مُحَمَّد الفيرياب قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْملك بْن عُمَير قَالَ: شهدتُ زيادَ بْن أَبِي سُفْيَان وَقَدْ صعد الْمِنْبَر فسَلَّم تَسْلِيمًا خَفِيًّا، وانْحرف انحرافًا بطيا، وخطب خطْبَة بتيراء، قَالَ ابْن الفيريابي والْبُتَيْراء الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين قَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ، وَشهد الشُّهُود بِمَا قد علمْتُم، وَإِنَّمَا كنت امْرَءًا حفظ الله مني مَا ضيع النّاس، وَوصل مني مَا قطعُوا، أَلا إِنَّا قَدْ سُسْنا وساسنا السائِسُون، وجَرَّبْنا وجربنا المجربون، وولينا وولينا الوالون، وَإِنَّا وجدنَا هَذَا الْأَمر لَا يصلحه إِلا شدةٌ فِي غَيْر عُنْف، ولينٌ فِي غَيْر ضَعف، وأيم اللَّه إِن لي فِيكُم صَرْعَى فليحذر كُلّ رجلٍ مِنْكُم أَن يكون من صرعاي، وَالله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حَتَّى تلين لي قناتكم، وَحَتَّى يَقُول الْقَائِل مِنْكُم: انج سعد فقد قتل سعيد، فَرب فَرِحٍ بإمارتي لن تَنْفَعَه، ورُبَّ كارهٍ لَهَا لن تَضُرَّه. وَقَدْ كَانَت بيني وَبَين أقوامٍ مِنْكُم دمن وأحقاد، وَقد جعلت ذَلِك خلف ظَهْري وَتَحْت قدمي، فَلَو بَلغنِي عَنْ أحدكُم أَن الْبُغْضَ لي قَتَلَهُ، مَا كَشفْتُ لَهُ قِناعًا وَلا هَتكتُ لَهُ سِتْرًا حَتَّى يُبْدِي صفيحته، فَإِذا أبداها لم أَقَله عثر تهز أَلا وَلَا كذبة أكبر شَاهدا عَلَيْهَا من كذبة أميرٍ على مِنْبر، فَإِذا سمعتموها مني فاغتمزوها فِي، وَإِذَا وعدتكم خيرا أَوْ شرا فَلم أُفٍّ لكم بِهِ فَلَا طَاعَة لي فِي رِقَابكُمْ، أَلا وَأي رجل مِنْكُم مِمَّن كَانَ مكتبه خُرَاسَان فأجَلُه سنَتَان، ثُمّ هُوَ أميرُ نَفسه، وَأَيّمَا رَجُل مِنْكُم كَانَ مكتبه دون خُرَاسَان فَأَجله سِتَّةُ أشهر، ثُمّ هُوَ أَمِير نَفسه، وأيُّما امرأةٍ احْتَاجَت فإننا نعطيها عطاءَ زَوجهَا ثُمّ نقاصه بِهِ، وَأَيّمَا عقال فقد تموه من مُقامِي هَذَا إِلَى خُرَاسَان فَأَنا لَهُ ضامنٌ.
فَقَامَ إِلَيْهِ نُعيم بْن الْأَهْتَم الْمِنْقَرِيّ فَقَالَ: أشهد لقد أُوتيت الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب، فَقَالَ: كذبت أَيهَا الرجلن ذَاك نَبِيَّ اللَّه دَاوُد عَلَيْه السَّلام،، ثُمّ قَامَ إِلَيْهِ الْأَحْنَف بْن قَيْس فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل، إِنَّمَا الجوادُ بِشَدِّه، والسيفُ بِحَدِّه، والمرء بِجَدِّه، وَقَدْ بلَّغَك جَدُّك مَا ترى، وَإِنَّمَا الشُّكْر بعد الْعَطاء، والثناءُ بعد الْبلَاء، ولسنا نُثْنِي عَلَيْك حَتَّى نَبْتليَك، فَقَالَ: صدقت، ثُمّ قَامَ أَبُو بِلَال مِرْداسُ بْن أُدَيَّة فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل قَدْ سَمِعْتُ قَوْلك: واللَّه لآخذن البريء بالسقيم الْمُطِيع بالعاصي والمقبل بالمدبر ولَعَمْرِي لقَدْ خَالَفت مَا حكم اللَّه فِي كِتَابه إِذْ يَقُولُ: " وَلا تَزِرُ وازة وِزْرَ أُخْرَى " الْأَنْعَام:16 فَقَالَ: إيها عني، فو الله مَا أجدُ السَّبيل إِلَى مَا تريدُ أَنْت وأصحابُك حَتَّى أخوض الْبَاطِل خوضًا، ثُمّ نزل فَقَامَ إِلَيْهِ مرداس بْن أدية وَهُوَ يَقُول؛
يَا طَالب الْخَيْر مهر الجَوْرِ مُعْترضٌ ... طولُ التهجُّدِ أَوْ فتك بجبار
لَا كنت إِن لَمْ أَصمّ عَنْ كُلّ غانيةٍ ... حَتَّى يكون بريق الْحور إفطاري
فَقَالَ لَهُ رَجُل: أَصْحَابك يَا أَبَا بِلَال شباب، فَقَالَ: شباب متكهلون فِي شبابهم، ثُمَّ قَالَ:
إِذا مَا اللَّيْل أظْلم كَابَدُوهُ ... فيسفر عَنْهُم وهم سُجُود
فشرى وانجفل النَّاس مَعَه، وَكَانَ قد ضيق الْكُوفَة على زِيَاد.
قَالَ القَاضِي: قد رُوِيَ لنا هَذَا الشّعْر فِي بعض أَخْبَار الْفَوَائِد على غير هَذِه القافية وَهُوَ:
إِذا مَا اللَّيْل أظْلم كَابَدُوهُ ... فيسفر عَنْهُم وهم رُكُوع
أطار الْخَوْف نومهم فَقَامُوا ... وَأهل الْأَمْن فِي الدُّنْيَا هجوع
تَفْسِير مَا ورد فِي البتراء
رغم تكَرر وُرُودهَا
قَالَ القَاضِي: كتبت هَذَا الْخَبَر هَاهُنَا وَأَنا أُرِيد كتب غَيره خطأ مني، لِأَنِّي قد رسمته فِي بعض مَا تقدم من مجَالِس هَذَا الْكتاب، وَأَنا أذكر هَاهُنَا من تَفْسِيره مَا يخرج بِهِ من كتبه عَن أَن يكون لاقي عناء بتكرارٍ لَا فَائِدَة فِيهِ.
قَالَ القَاضِي: قَول زِيَاد: إِن هَذَا الْأَمر لَا يصلحه إِلَّا مَا ذكره قد سبق إِلَى مَعْنَاهُ وَلَفظه عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَذكر منيلي شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فَقَالَ: يكون قَوِيا فِي غير عنف، لينًا فِي غير ضعف، وَفِي ضعف لُغَتَانِ: الضَّم وَالْفَتْح، وَقد قَرَأت القرأة بهما فِي الْقُرْآن، وَزعم بعض عُلَمَاء اللُّغَة أَن وَجه الْكَلَام فِيهِ أَن يضم حَيْثُ يكون إِعْرَاب الْكَلِمَة فِيهِ غير النصب، وَيفتح مَعَ النصب، واستقصاء الْكَلَام فِي هَذَا فِي مَوْضِعه من الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي عُلُوم الْقُرْآن. وَقَوله: قد كَانَت بيني وَبَين قوم مِنْكُم دمن وأحقاد الدمن: الأحقاد وَاحِدهَا: دمنة، يُقَال فِي نَفسه دمنة وحسيكة وغمر وسخيمة وضغن وكتيفة، وَيجمع كتائف كَقَوْل الشَّاعِر:
أَخُوك الَّذِي لَا يملك الْحس نَفسه ... وتهتز عِنْد المحفظات الكتائف
وَفِيه غل، فِي أَسمَاء كَثِيرَة. وَقَوله: انج سعد فقد قتل سعيد كَانَ ابْنا ضبة بْن أد خرجا فِي بغاء إبلٍ لَهما، فَرجع سعد وَلم يرجع سعيد، فَكَانَ أَبوهُمَا إِذا أقبل أَحدهمَا يَقُول: أسعد أم سعيد، فأرسلها مثلا.
أَخ يعشق زَوْجَة أَخِيه وهما من بني كنة
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْص الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن رَاشد بْن سُلَيْمَان الأدمِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَان الثَّقَفِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمفضل بْن فضَالة مولى عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن مُحَمَّد بْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أَخَوان من حَيّ يدعونَ بني كنة، أَحدهمَا متزوج وَالْآخر عزب، فَقضى أَن المتزوج خرج فِي بعض مَا يخرج النَّاس فِيهِ، وَبَقِي الآخر مَعَ امْرَأَة أَخِيه، فَخرجت ذَات يومٍ حَاسِرَة فَإِذا أحسن النَّاس وَجها وَأحسن النَّاس ثغرا، فَلَمَّا علمت أَن قد رَآهَا ولولت وصاحت وَقَالَت بمعصمها فغطت وَجههَا قَالَ القَاضِي: المعصم مَوضِع السوار فزاده ذَلِك فتْنَة، فَحمل الشوق على بدنه حَتَّى لم يبْق إِلَّا رَأسه وَعَيناهُ تدوران فِي رَأسه، وَقدم الْأَخ فَقَالَ: يَا أخي مَا الَّذِي أرى بك؟ فاعتل عَلَيْهِ فَقَالَ: الشوثة قَالَ: الشوصة يسميها الْعَرَب اللوي وَذَات الْجنب فَقَالَ لَهُ ابْن عَم لَهُ: لَا تكذبنه، ابْعَثْ إِلَى الْحَارِث بْن كلدة فَإِنَّهُ من أطب الْعَرَب، فجيء بِهِ فلمس عروقه فَإِذا ساكنها سَاكن وضاربها ضَارب، فَقَالَ: مَا بأخيك إِلَّا الْعِشْق، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله تَقول هَذَا لرجل ميت، قَالَ: هُوَ ذَاك، عنْدكُمْ شَيْء منشراب:؟ فجيء بِهِ ودعا بمسعطٍ فصب فِيهِ وَحل صرة من صراره فذر فِيهِ ثُمَّ سقَاهُ، ثُمَّ سقَاهُ الثَّانِيَة ثُمَّ سقَاهُ الثَّالِثَة، فانتشى يُغني سكرا فَقَالَ:
تهيد مَا تهيج وَيذكر ... أَيهَا الْقلب الحزين مَا يكوننه(1/545)
ألما بِي على الأبيا ... ت من خيفٍ أزرهنه
غزالاً مَا رَأَيْت الي؟ ... وم فِي دور بني كنه
غزال أحور الْعين ... وَفِي مَنْطِقه غنه
قَالَ القَاضِي: الْبَيْت الأول من هَذِه الأبيات مُضْطَرب، وَأرى بعض من رَوَاهُ كَسره وأخل بُنْيَانه ونظمه لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ علم بِوَزْن الشّعْر فَقَالَ الرجل: هَذِه دور بني كنه فليت شعري من؟ فَقَالَ الْحَارِث: لَيْسَ فِيهِ مستمتع غير هَذَا الْيَوْم، وَلَكِن أغدو عَلَيْكُم من الْغَد فَفعل كَفِعْلِهِ بالْأَمْس، فانتشى يُغني سكرا وَاسم امْرَأَة أَخِيه ريا فَقَالَ:
أَيهَا الجيرة اسلموا ... كي تحيوا وتكرموا
خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم
هِيَ مَا كنتي وتز ... عَم أَنِّي لَهَا حمو
فَقَالَ الرجل لمن حَضَره: أشهدكم أَنَّهَا طَالِق ثَلَاثًا ليرْجع إِلَى أخي فُؤَاده، فَإِن الْمَرْأَة تُوجد وَالْأَخ لَا يُوجد، فجَاء النَّاس يسعون وَيَقُولُونَ: هَنِيئًا لَك يَا أَبَا فلَان، فَإِن فلَانا قد نزل لَك عَن فُلَانَة، فَقَالَ لمن حضر: أشهدكم أَنَّهَا عَليّ مثل أُمِّي إِن تَزَوَّجتهَا، قَالَ عَبد اللَّه بْن عُثْمَان، قَالَ الْمفضل قَالَ ابْن سِيرِين قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: مَا أَدْرِي أَي الرجلَيْن أكْرم: الأول أم الآخر.
خبر الْأَخَوَيْنِ من بني كنة بِرِوَايَة أُخْرَى
قَالَ القَاضِي: قد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر من غير هَذِه الطَّرِيق وَفِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلَاف، فَرَأَيْت تكْرَار جملَته لتكمل الْفَائِدَة، وَلَا يفوت مِنْهُ شَيْء، وَمَا يتَكَرَّر من اقتصاصه لَا ضَرَر فِيهِ: حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل الرَّازِيّ قَالَ حَدَّثَنَا سعيد بْن يحيى الْأمَوِي قَالَ، حَدَّثَنِي عمي مُحَمَّد بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْملك بن عيمر قَالَ: كَانَ أَخَوان من ثَقِيف من بني كنة بَينهمَا من التبار والتحاب شَيْء لَا يُعلمهُ إِلَّا الله، كل واحدٍ مِنْهُمَا أَخُوهُ عِنْد رَأسه، وَإِن الْأَكْبَر خرج إِلَى سفر وَله امْرَأَة، فأوصى أَخَاهُ بحاجة أَهله، فَبينا الْمُقِيم فِي دَار الظاعن إِذْ مرت امْرَأَة أَخِيه، وَكَانَت من أجمل الْبشر، تجوز من بيتٍ إِلَى بَيت، فرآها فأى شَيْئا مُخْتَلفا، فَلَمَّا رَأَتْهُ ولولت وَوضعت يَدهَا على رَأسهَا وَدخلت بَيْتا، فَوَقع حبها فِي قلبه، فَجعل يذوب وينحل جِسْمه وَتغَير لَونه، وَقدم أَخُوهُ وَقَالَ: يَا أخي مَالِي أَرَاك هَكَذَا؟ وَمَا وجعك:؟ قَالَ: مَا بِي وجع، فَدَعَا الْأَطِبَّاء فَلم يَقع أحد على دائه، حَتَّى أُتِي الْحَارِث بن كلدة وَكَانَ طَبِيبا فَقَالَ: أرى عينين صحيحتين وَمَا أَدْرِي مَا هَذَا الوجع، وَمَا أَظُنهُ إِلَّا عَاشِقًا، فَقَالَ أَخُوهُ: سُبْحَانَ الله، أَسَالَك عَن وجع أخي وَأَنت تستهزئ بِي؟! قَالَ: مَا فعلت، وسأسقيه شرابًا عِنْدِي، فَإِن(1/546)
كَانَ عَاشِقًا فسيستبين لكم، فَأتى بشراب فَجعل يسْقِيه قَلِيلا قَلِيلا كَمَا يزق الفرخ، فَلَمَّا أَخذ الشَّرَاب مِنْهُ تهيج فَتكلم فَقَالَ:
ألما بِي على الأبيا ... ت بالخيف أزرهنه
عزالاً مَا رَأَيْت الي؟ ... وم فِي دور بني كنه
أسيل الخد مربوب ... وَفِي منْطقَة غنه
فَقَالَ: أَنْت أطب الْعَرَب، فَمن؟ قَالَ: سأعيد الشَّرَاب فَلَعَلَّهُ يُسَمِّي فَأَعَادَ لَهُ بِالشرابِ فَقَالَ:
أَيهَا الجيرة أَسْلمُوا ... وأربعوا كي تكلمُوا
وتقضى لبانة ... وتحيوا فتغنموا
خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم
هِيَ مَا كنتي وتز ... عَم أَنِّي لَهَا حمو
قَالَ: فَطلق أَخُوهُ امْرَأَته، فَقَالَ لَهُ الْمَرِيض: عَليّ كَذَا وَكَذَا إِن تَزَوَّجتهَا أبدا فماتا وَلم يتزوجا.
مَوَدَّة ابْن المُهَاجر للعباسيين حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرو بْن تركي القَاضِي أَبُو الْفضل قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن هِشَام القحذمي قَالَ: لما قتل أَبُو الْعَبَّاس سُلَيْمَان بْن هِشَام دخل عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بْن المُهَاجر البَجلِيّ فأنشده:
إِن بني الْعَبَّاس إِن كنت سَائِلًا ... هم قتلوا من كَانَ أَعْتَى وأظلما
هم ضربوا رَأس النِّفَاق بسيفهم ... وهم ملأوا ثوبيه من دَمه دَمًا
فَمن لم يدن منا بحبك ربه ... فَلَيْسَ يلاقيه إِذا مَاتَ مُسلما
فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَا أدل ظَاهر ابْن المُهَاجر على بَاطِنه فِي ودنا، إِن ذَلِك ليبين فِي عَيْنَيْهِ أَكثر ممايبين فِي لِسَانه.
يسْأَل شَرِيكا الطنبور أطيب أم الْعود
حَدثنَا الْحسن بْن عَليّ بْن زَكَرِيَّا الْعَدوي قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن رَاشد قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى شريك بْن عَبْد اللَّه فَقَالَ: أَيهَا القَاضِي أَيّمَا أطيب الطنبور أم الْعود؟ فَقَالَ: أحسبك بَايَعت يَا عَدو الله، فَحلف أَنه لم يُبَايع، وَأَنه مستفهم، فَقَالَ لَهُ: كم على الطنبور من وتر؟ قَالَ: أثنان، قَالَ: وعَلى الْعود؟ قَالَ: أَرْبَعَة، فَقَالَ: فَكلما كثر هَذَا كَانَ أطيب.
قولة لأبي يُوسُف يَرْوِيهَا ابْن حَنْبَل
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحسن بْن زِيَاد قَالَ أَخْبَرَنَا عَبد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُف القَاضِي يَقُول: إِن للعيون خبايا بالغدوات مَا لَيْسَ لَهَا بالعشيات،(1/547)
فَقلت لَهُ: يَا أَبَت، أَلَيْسَ ذكرت أَنَّك لَا تروي عَن أَبِي يُوسُف؟ فَقَالَ: هَذِه حِكْمَة يَأْخُذهَا العَبْد عَن كل من وجدهَا عِنْده.
الْمجْلس الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ
حَدِيث وَجَبت
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ عَنْ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَى عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَى عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّنَاءِ فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ نَاسٌ: مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، وَمَا شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ مَنْ شَيْءٍ وَجَبَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ " التَّوْبَة:105.
تَعْلِيق للْقَاضِي
قَالَ القَاضِي: فَمَا أولى بِالْمَرْءِ الْمُؤمن الناصح لنَفسِهِ الراجي لرَبه، الْخَائِف من غَضَبه أَن يَتَّقِي الله ويهذب سَرِيرَته، ويخلص من الرِّيَاء وَالْفساد عمله، حَتَّى يَجْعَل الله تَعَالَى المقة بعد وَفَاته فِي قُلُوب عباده، فيثني مؤمنهم عَلَيْهِ، غير مسفٍ إِلَى ثنائهم وتزكيتهم فِي حَيَاته، فقد قَالَ جلّ ثناءه: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " مَرْيَم: 96 وَمن فَارق الدُّنْيَا على الطَّرِيق الَّتِي وَصفنَا أظهر الله حَسَنَاته، وأجراها على أَفْوَاه عباده، وَستر مَا خَفِي على النَّاس من مساوئ عمله، أصحبنا الله وَإِيَّاكُم جميل ستره فِي دُنْيَانَا، وَبعد قَبضه إيانا، إِنَّه جواد كريم رؤوف رَحِيم.
صَبر أعرابية يفوق صَبر الرِّجَال حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه قَالَ: كَانَ بحمي ضرية عَجُوز من بني أَبِي بكر بْن كلاب يتحدث قَومهَا عَن سروها وعقلها، فَأَخْبرنِي من حضرها وَقد مَاتَ ابْن لَهَا وَقد كَانَ وَاحِدهَا، وَقد طَالَتْ علته فأحسنت تمريضه، فَلَمَّا فاظ قعدت بفنائها وحضرها قَومهَا فاقبلت على شيخ مِنْهُم فَقَالَت: يَا فلَان أَو يَا أَبَا فلَان مَا أَحَق من ألبس الْعَافِيَة وأسبغت عَلَيْهِ النِّعْمَة فاعتدلت بِهِ الْفطْرَة أَن لَا يعجز عَن التويق لفنسه قبل حل عقدته، والحلول بعقوته، والحيال بَينه وَبَين نَفسه، ثُمَّ أنشأت تَقول:
هُوَ ابْني وأنسى أجره لي وعزني ... على نَفسه رب إِلَيْهِ ولاؤها
فَإِن احتسب أَو جر وَإِن ابكه أكن ... كباكيةٍ لم يغن شَيْئا بكاؤها
فَقَالَ الشَّيْخ: إِنَّا لم نزل نسْمع أَن الْجزع إِنَّمَا هُوَ للنِّسَاء فَلَا يأس رجل فِي مصيبته، وَلَقَد كرم صبرك وَمَا أشبهت النِّسَاء، فَأَقْبَلت عَلَيْهِ بوجهها وَقَالَت: إِنَّه مَا خير امْرُؤ بَين جزع وصَبر إِلَّا وجد بَينهمَا نهجين بعيدي التَّفَاوُت فِي حاليتهما، أما الصَّبْر فَحسن(1/548)
الْعَلَانِيَة مَحْمُود الْعَاقِبَة، وَأما الْجزع فَغير معوضٍ عوضا مَعَ مأثمه، وَلَو كَانَا فِي صُورَة رجلَيْنِ لَكَانَ الصَّبْر أولاهما بالغلبة بِحسن الصُّورَة وكرم الطبيعة فِي عاجله فِي الدَّين وآجله فِي الثَّوَاب، وَكفى بِمَا وعد الله فِيهِ لمن آلهمه الله إِيَّاه.
تَفْسِير بعض الْأَلْفَاظ
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر أَن هَذِه الْمَرْأَة قَالَت: والحيال بَينه وَبَين نَفسه وَلَا يعرف الحيال فِي هَذَا الْموضع وَإِنَّمَا يُقَال: حَالَتْ النَّاقة أَو الشَّاة حيالا إِذا لم تلقح وَهِي حَائِل. وَرُوِيَ عَن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ فِي سبي أَوْطَاس: لَا تقربُوا حَامِلا حَتَّى تضع وَلَا حَائِلا حَتَّى تحيض.
وَمن الحيال قَول الشَّاعِر:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حَرْب وَائِل عَن حِيَال
وَقَالَ الْفراء: وَمن كَلَام الْعَرَب: حَائِل حولٍ، إِذا تتَابع الحيال عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَعْوَام.
وَأما الْحول بَين الشَّيْء وَغَيره من قَول الله تَعَالَى: " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ " الْأَنْفَال:24 وَقَوله: " وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ هود: 43 وَقَوله: " وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ " سبأ: 54 وَهَذَا معنى اللَّفْظَة الْوَارِدَة فِي هَذَا الْخَبَر فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ: حلت بَين الرجلَيْن حولا وحؤولا.
وَقَوله: والحلول بعقوته يُقَال: ساحة الدَّار وباحتها وقاعتها وعقوتها كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
الْأَحْوَص يسرق شعر ابْن أَبِي دباكل
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن عبد الْملك قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بْن أَبِي بكر المؤملي عَنْ عَبْد اللَّه بْن أبي عُبَيْدَة بْن عمار بْن يَاسر قَالَ: خرجت أَنا والأحوص الْأنْصَارِيّ مَعَ عَبْد اللَّه بْن حَسَن لِلْحَجِّ، فَلَمَّا كُنَّا بِقديد قُلْنَا لعبد الله بْن حسن: لَو أرْسلت إِلَى سُلَيْمَان بْن أَبِي دباكل الْخُزَاعِيّ فأنشدنا من شعره، فَأرْسل إِلَيْهِ فجاءنا فأنشدنا قصيدته:
يَا بَيت خنساء الَّذِي أتجنب ... ذهب الزَّمَان وحبها لَا يذهب
أَصبَحت أمنحك الصدود وإنني ... قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأجنب
مَالِي أحن إِذا جمالك قربت ... وأصد عَنْك وَأَنت مني أقرب
لله دَرك هَل لديك معول ... لمتيمٍ أم هَل لودك مطلب
فَلَقَد رَأَيْتُك قبل ذَاك وإنني ... لمتيم بهواك لَو يتَجَنَّب
وَأرى السمية باسمكم فيزيدني ... شوقا إِلَيْك جنابك المتسبب
وَأرى الْعَدو يودكم فأوده ... إِذْ كَانَ ينْسب مِنْك أَو يتنسب(1/549)
وأخالق الواشين فِيك تجملا ... وهم عَليّ ذَوُو ضغائن ذرب
ثمَّ اتخذتم عَليّ وليجة ... حَتَّى غضِبت وَمثل ذَلِك يغْضب
وَانْصَرف. فَلَمَّا كَانَ الْقَابِل حج أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان فَمر بِالْمَدِينَةِ، فَدخل عَلَيْهِ الْأَحْوَص واستصحبه فأصحبه، فَلَمَّا خرج الْأَحْوَص قَالَ لَهُ بعض من عِنْده: تقدم بالأحوص الشَّام فتعير بِهِ، فَبعث إِلَى الْأَحْوَص فَقَالَ لَهُ: يَا خَال إِنِّي نظرت فِيمَا سَأَلتنِي من الِاسْتِصْحَاب فَكرِهت أَن أهجم بك على أَمِير الْمُؤمنِينَ بِلَا إِذن، وَلَكِنِّي أستأذنه لَك فَإِن أذن كتبت إِلَيْك بِالْمَسِيرِ إِلَيّ؛ فَقَالَ الْأَحْوَص: لَا وَالله مَا بك مَا ذكرت، وَلَكِنِّي سبعت عنْدك، ثُمَّ خرج فَأرْسل إِلَيْهِ عمر بْن عبد الْعَزِيز بصلةٍ واستوهبه عرض أَبِي بكر فوهبه لَهُ ثُمَّ قَالَ:
يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزل ... حذر العدى وَبِه الْفُؤَاد مُوكل
إِنِّي لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأميل
ثمَّ قَالَ فِيهَا يعرض بِأبي بكر بْن عبد الْعَزِيز:
ووعدتني فِي حَاجَتي فصدقتني ... ووفيت إِذْ كذبُوا الحَدِيث وبدلوا
حَتَّى إِذا رفع الحَدِيث مطامعي ... يأسًا وأخلفني الَّذين أُؤَمِّل
زايلت مَا صَنَعُوا إِلَيْك برحلةًٍ ... عجلا وعندك عَنْهُم متحول
وأراك تفعل مَا تَقول وَبَعْضهمْ ... مذق اللِّسَان يَقُول مَا لَا يفعل
فَقَالَ لَهُ عمر بْن عبد الْعَزِيز: مَا أَرَاك أعفيتني مِمَّا استعفيتك مِنْهُ.
إِنَّه أَبُو ثَابت وَابْنه أثبت مِنْهُ
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن الربعِي قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عمر بْن عمرَان بْن إِسْمَاعِيل بْن عبد الْعَزِيز بْن أَبِي ثَابت بْن عمر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف قَالَ حَدَّثَنِي عمي عمر بْن عمرَان قَالَ: انتظرت قُرَيْش عمرَان بْن عبد الْعَزِيز يَوْم قدم الْمهْدي الْمَدِينَة فَقَالَت قُرَيْش: لَا ندخل حَتَّى يدْخل أَبُو ثَابت فَدخل أَبُو ثَابت فَتكلم، فَلَمَّا فرغ من كَلَامه قَالَ النَّاس: الْأَمِير، يعنون المهدين وَكَانَ ولي عهد، فَقَالَ عمرَان: انبي عمر يتَكَلَّم بعدِي، قَالَ: فَتكلم عمر بْن عمرَان فأبلغ قَالَ: فَخرج الْحَاجِب فَقَالَ: أَنا أشهد إِنَّه أَبُو ثَابت، وَابْنه أثبت مِنْهُ، قَالَ: فَأَنْشد الْمهْدي هَذِه القصيدة من قَول عمر:
غشيت لهندٍ بالعقيق ربوعا ... فأذريت فِي دَار الحبيب دموعا
وَلَيْسَ بهَا إِلَّا أثافٍ كَأَنَّهَا ... حمائم ظلت فِي الديار وقوعا
فيا سائلي مَا الْحبّ صادفت عَالما ... بَصيرًا بِمَا عَنْهُ سَأَلت سميعًا(1/550)
فَإِنِّي وجدت الْحبّ كالنار حره ... وحلوًا وَمَرا بعد ذَاك فظيعا
فَمن مسرع يَأْتِي الإِمَام بمنطقي ... ويبلغني مِنْهُ الْجَواب سَرِيعا
لطفت أَمِير الْمُؤمنِينَ لهاشمٍ ... وَكنت لَهَا بعد المحول ربيعا
فأديت حق الله فِي بر والدٍ ... فَلَا تَكُ للْبَاقِي هديت مضيعا
رفعنَا وَأَنْتُم بالحبيب محمدٍ ... وَكَانَ على الْخلق النَّبِي رفيعا
فأعمامه كُنْتُم وَكَانَ ابْن أُخْتنَا ... فَجَاءَت بِهِ طلق الْيَدَيْنِ قريعا
فَلَنْ يقبل الرَّحْمَن برا لوالدٍ ... إِذا لم يبر الْوَالِدين جَمِيعًا
فقد أَمر الرَّحْمَن بِالْبرِّ فيهمَا ... فَكُن فيهمَا يَا ابْن الْكِرَام مُطيعًا
قَالَ: فَألْحق بني زهرَة فِي الْعَطاء ببني هَاشم يَوْمئِذٍ.
أَحْمَد بْن حَنْبَل يكْتب شعر أَبِي نواس
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيد قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب يَقُول: دخلت على أَحْمَد بْن حَنْبَل فَرَأَيْت رجلا تهمه نَفسه لَا يحب أَن يكثر عَلَيْهِ كَأَن النيرَان قد سعرت بَين يَدَيْهِ، فَمَا زلت أرْفق بِهِ، وتوسلت بالشيبانية إِلَيْهِ فَقلت: أَنا من مواليك يَا أَبَا عَبد اللَّه، وَذكرت لَهُ عَبد اللَّه بْن الْفرج، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: وَعبد الله بْن الْفرج هَذَا من صالحي أهل الْبَلَد فقرم إِلَى حَدِيثي وانبسط إِلَيّ وَقَالَ: فِي أَي شيءٍ نظرت؟ فَقلت: فِي علم اللُّغَة وَالشعر، فَقَالَ: مَرَرْت بِالْبَصْرَةِ وَجَمَاعَة يَكْتُبُونَ الشّعْر عَن رجل، فَقيل لي هَذَا أَبُو نواس، فتخللت النَّاس ورآني، فَلَمَّا جَلَست أمل علينا:
إِذا مَا خلوت الدَّهْر يَوْمًا فَلَا تقل ... خلوت وَلَكِن قل عَليّ رَقِيب
وَلَا تحسبن الله يغْفل سَاعَة ... وَلَا أَن مَا يخفى عَلَيْهِ يغيب
لهونا لعمر الله حَتَّى تَتَابَعَت ... ذنُوب على آثارهن ذنُوب
فيا لَيْت أَن الله يغْفر مَا مضى ... وَيَأْذَن فِي توباتنا فنتوب
ثمَّ أطرق، فَعلمت أَنه قد مل، فَسلمت وانصرفت.
قَالَ مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس: فَحدث أَبِي بِهَذَا عَبد اللَّه بْن المعتز وَأَنا حَاضر أسمع فأنشده الأبيات، فَقَالَ لنا عَبد اللَّه: هَذِه الأبيات لأبي نواس من زهدياته.
قَالَ مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس: فَنَظَرت فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ النَّاس عَن أَبِي عَبد اللَّه هَل رأى أَبَا نواس فَوجدت فِيمَا حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بطرِيق خُرَاسَان وَهُوَ قَاضِي النَّاحِيَة قَالَ: سَمِعت أَبِي يَقُول: كنت فِي الْبَصْرَة فِي مجْلِس ابْن علية فَالْتَفت فَإِذا بداعابةٍ وَضحك، وَإِذا بِأبي نواس يكْتب عَنْهُ من زهدياته.(1/551)
قَالَ القَاضِي: وَقد رويت لنا هَذِه الأبيات عَن بعض من تقدم أَبَا نواس من الشُّعَرَاء، وَاسْتشْهدَ بِبَعْضِهَا طَائِفَة من النَّحْوِيين فِي مَوضِع من فُصُول النَّحْو، وَقَدْ ذكرنَا من هَذَا طرفا فِي مَوضِع غير هَذَا فَلم أر لإعادته فِي هَذَا الْموضع وَجها.
وفادة عَبد اللَّه بْن جَعْفَر على مُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمِيمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الرِّيَاحِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: وَفَدَ عبد الله جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَأَنْزَلَهُ فِي دَارِهِ فَقَالَتْ لَهُ ابْنَةُ قَرَظَةَ امْرَأَتُهُ: إِنَّ جَارَكَ هَذَا يَسْمَعُ الْغِنَاءَ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَعْلِمِينِي فَأَعْلَمَتْهُ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ فَإِذَا جَارِيَةٌ لَهُ تُغَنِّيهِ وَهِيَ تَقُولُ:
إِنَّكَ وَاللَّهِ لَذُو ملةٍ ... يَطْرِفُكَ الأَدْنَى عَنِ الأَبْعَدِ
وَهُوَ يَقُولُ: يَا صِدْقَكَاهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ اسْقِينِي قَالَتْ: مَا أَسْقِيكَ؟ قَالَ: مَاءً وعَسَلا، قَالَ: فَانْصَرَفَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَى بَأْسًا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ جَارَكَ هَذَا لَا يَدَعُنَا نَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ: هَكَذَا قَوْمِي رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ مُلُوكٌ بِالنَّهَارِ.
بَان الْمُبَارك يقسم لاخوانه
حَدثنَا مُحَمَّد بن دَاوُد سُلَيْمَان النَّيْسَابُورِي قَالَ: سَمِعت الْحسن بْن سُفْيَان يَقُول: قَالَ حبَان عَن ابْن الْمُبَارك إِنَّه قسم يَوْمًا لاخوانه وَمن حَضَره من أَصْحَابنَا ألف دِرْهَم ثُمّ قَالَ:
لَا خير فِي المَال وكنازه ... بل لجواد الْكَفّ وهابه
يفعل أَحْيَانًا بزاواره ... مَا يفعل الْخمر بشرابه
قَالَ القَاضِي: ذكر ابْن الْمُبَارك الْخمر وَالْمَعْرُوف تأنيثها، أَرَادَ الشَّرَاب.
قَول شُرَيْح فِي الْجَرَاد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عبد الرَّحِيم قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش قَالَ: أَخْبَرَنَا عَامر قَالَ: سُئِلَ شُرَيْح القَاضِي عَن الْجَرَاد قَالَ: قبح الله الجرادة فِيهَا خلقَة سَبْعَة جبابرة: رَأسهَا رَأس فرس وعنقها عنق ثَوْر وصدرها صدر أَسد وجناحها جنَاح نسر ورجلاها رجلا جمل وذنبها ذَنْب حَيَّة وبطنها بطن عقوب.
أفتنت سعيدًا
حَدثنَا مُحَمَّد بْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بكر بْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس دَاوُد بْن رشيد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نميلَة عَن عَمْرو بْن زَائِدَة قَالَ: حَدثنِي امْرَأَة من بني أَسد قَالَت: زففنا عروسًا فِي الْحَيّ فمررنا بِسَعِيد بْن جُبَير والمغنية تَقول:
لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالأَمْسِ أَفْتنتْ ... سعيدًا فأضحى قد قلى كل مسلمٍ
وَألقى مَفَاتِيح الْمَسَاجِد وَاشْترى ... وصال الغواني بِالْكتاب المنمنم(1/552)
قَالَ ابْن مخلد؛ فَقَالَ سعيد: كذب.
التآخي بَين صَعب بْن جثامة وعَوْف بْن مَالك
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَلاءِ الْحَرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن شَبِيب قَالَ حَدَّثَنِي ابْن عَائِشَة قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ صَعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ كَانَا مُتَوَاخِيَيْنِ فَقَالَ صَعْبٌ لِعَوْفٍ: أَيْ أَخِي أَيُّنَا مَاتَ قبل صَاحبه فليتراءى لَهُ قَالَ: أَيَكُونُ ذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمَاتَ صَعْبٌ، قَالَ: فَرَأَى عَوْفٌ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّهُ أَتَاهُ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيْ أَخِي مَا فُعِلَ بِكُمْ؟ قَالَ: غُفِرَ لَنَا بَعْدَ الْمَشَائِبِ قَالَ: وَرَأَيْتُ لُمْعَةَ سَوَادٍ فِي عُنُقِهِ فَقُلْتُ: أَيْ أَخِي مَا هَذَا؟ قَالَ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ اسْتَسْلَفْتُهَا مِنْ فُلانٍ الْيَهُودِيِّ فَهِيَ فِي قَرْنِي فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ، وَاعْلَمْ أَيْ أَخِي أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِي أَهْلِي حَدَثٌ بَعْدِي إِلا وَقَدْ لَحِقَ بِي أَجْرُهُ حَتَّى هِرَّةٌ لَنَا مَاتَتْ لَنَا مُنْذُ أَيَّامٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ بِنْتي تَمُوتُ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ فَاسْتَوْصُوا بِهَا مَعْرُوفًا، قَالَ: فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ قُلْتُ إِنَّ فِي هَذَا لَمَعْلَمًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ أَهْلَهُ فَقَالُوا: مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِعَوْفٍ أَهَكَذَا تَصْنَعُونَ بِتَرِكَةِ إِخْوَانِكُمْ، لَمْ تَقْرَبْنَا مُنْذُ مَاتَ صَعْبٌ، قَالَ: فَاعْتَلَلْتُ بِمَا يَتَعَلَّلُ بِهِ النَّاسُ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الْقَرْنِ فَأَنْزَلْتُهُ، وَانْتَثَلْتُ مَا فِيهِ فَنَدَرْتُ الصُّرَّةَ الَّتِي فِيهَا الدَّنَانِيرُ، فَبَعَثْتُ إِلَى الْيَهُودِيِّ فَجَاءَ فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ كَانَ لَكَ عَلَى صَعْبٍ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ صَعْبًا كَانَ مِنْ خِيَارِ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ لَهُ، قُلْتُ لَتُخْبِرَنِّي قَالَ: نَعَمْ، أَسْلَفْتُهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَنَبَذْتُهَا إِلَيْهِ، قَالَ: هِيَ وَاللَّهِ بِأَعْيَانِهَا قَالَ: قُلْتُ هَذِهِ وَاحِدَةٌ، قَالَ، قُلْتُ: فَهَلْ حَدَثَ فِيكُمْ حَدَثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ حَدَثَ فِينَا كَذَا، قُلْتُ: اذْكُرُوا، قَالَ: نَعَمْ هِرَّةٌ مَاتَتْ لَنَا مُنْذُ أَيَّامٍ، قَالَ: قُلْتُ هَاتَانِ اثْنَتَانِ، قَالَ: قُلْتُ: أَيْنَ ابْنَةُ أَخِي؟ قَالُوا: تَلْعَبُ، قَالَ: فَأُتِيَ بهَا فمستها فَإِذَا هِيَ مَحْمُومَةٌ، فَقُلْتُ: اسْتَوْصُوا بِهَا خَيْرًا، فَمَاتَتْ لِسِتَّةِ أَيَّامٍ.
تَفْسِير مَا يتطلب توضيحًا
قَالَ القَاضِي: قَوْله: بعد المشائب يتَّجه فِيهِ وَجْهَان من التَّأْوِيل احدهما: أَنه من قَوْلهم شَاب الشَّيْء إِذا خالطه ومازحه فَكَأَنَّهُ عني أَنه لَقِي مَعَ أَنه نجا وفاز أمورًا فظيعة راعته حيت عاينها يَوْمئِذٍ، وَهُوَ يَوْم الْفَزع الْأَكْبَر، نسْأَل الله الْعَظِيم خَيره والسلامة فِيهِ، ونعوذ بِهِ من شَره. وَالْوَجْه الثَّانِي أَنه من الشيب والمشيب، وَقد وَصفه الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يَجْعَل الْولدَان شيبا.
وَأما الْقرن فَإِنَّهُ الكنانة أَو الْقنْدِيل، فَإِذا اجْتمعت الكنانة النبل من السِّلَاح فَهُوَ قرن كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يَا ابْن هِشَام أهلك النَّاس اللَّبن ... فكلهم بمشي بسيفٍ وَقرن
مَا هُوَ إِلَّا شَيْء جرى على لساني
حَدثنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي عَن معافى بْن(1/553)
نعيم: أَن واليًا كَانَ على الْيَمَامَة ولاه بِلَال بْن جرير بعض أَعماله، فَجَلَسَ يَوْمًا يحكم والخصوم جُلُوس إِذْ تمثل أحدثم:
وَابْن المراغة حَابِس أعياره ... مرمى القصية مَا يذقن بِلَالًا
وَلَا يشْعر أَنه من ذَلِك بسبيل، قَالَ فَقَالَ: أَيْن هَذَا الراوية:؟ قَالَ: هَا أَنا ذَا أصلحك الله، قَالَ: ادن أَنْت وخصمك، فدنوا قَالَ: هَلُمَّ أعد الْبَيْت، فغمزه إِنْسَان، فَقَالَ: أصلحك الله، وَالله مَا هُوَ إِلَّا شَيْء جرى على لساني وَمَا أردْت بذلك مَكْرُوها، فَقَالَ: هُوَ أشهر من ذَلِك، هَلُمَّ، فاحتجا.
كِتَابَة على قبر
حَدثنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي قَالَ، حَدَّثَنَا عمر يَعْنِي ابْن مُحَمَّد بْن عبد الحكم النَّسَائِيّ، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن بشير بْن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن عَبد اللَّه الدينَوَرِي يَقُول: قَرَأت على قبر:
أَخ طَال مَا سرني ذكره ... فقد صرت أشجى لَدَى ذكره
وَقد كنت أغدو إِلَى قصره ... فقد صرت أغدو إِلَى قَبره
وَقد كنت دهري ضنينا بِهِ ... عَن النَّاس لَو مد فِي عمره
وَكنت إِذا جِئْت فِي جاجةٍ ... فأمري يجوز على أمره
فَصَارَ عَليّ إِلَى ربه ... وَكَانَ عَليّ فَتى دهره
أتم وأكمل مَا لم يزل ... وأنبل من كَانَ فِي عصره
أَتَتْهُ الْمنية مغتالة ... رويدا تخَلّل من ستره
فَلم تغن أجناده حوله ... وَلَا المسرعون إِلَى نَصره
أَشد الْبَريَّة وجدا بِهِ ... أجد الْبَريَّة فِي طمره
فَأصْبح يهدى إِلَى منزل ... تنوق ناعيه فِي حفره
تغلق بالترب أبوابه ... إِلَى يَوْم يُؤذن فِي حشره
وخلى الْقُصُور الَّتِي شادها ... وَحل من الْقَبْر فِي قَعْره
وَبدل بالعرش بسط الثرى ... وريح ثرى الأَرْض من عطره
أَخُو سفرةٍ مَاله أوبة ... غَرِيب وَإِن كَانَ فِي مصره
فلست مشيعه غادياً ... أَمِيرا يسير إِلَى ثغره
وَلَا متلقٍ لَهُ قَافِلًا ... بقتل عدوٍ وَلَا أسره
فَلَا يبعدن أخي هَالكا ... فَكل سيمضي على إثره(1/554)
توجيهات نحوية
قَالَ القَاضِي: قَوْله وَلَا متلقٍ لَهُ بِالْجَرِّ، وَقد عطفه على قَوْله: فلست مشيعه وَهُوَ مَنْصُوب لِأَن قَوْله: فلست مشيعه بِمَعْنى: فلست بمشيعه، وَمن هَذَا قَول زُهَيْر:
بدا لي أَنِّي لست مدرك ماضى ... وَلَا سابقٍ شَيْئا إِذا كَانَ جائيا
وَقد اسْتشْهد النُّحَاة فِي هَذَا الْوَجْه بقول امْرِئ الْقَيْس:
فظل طهاة اللَّحْم من بَين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أَو قديرٍ معجل
وَقَالُوا: قد عطف على قَوْله: صفيف شواء، وَحمل هَذَا بَعضهم على أَنه مَعْطُوف على قَوْله: شواء وَتَأَول هَذَا بَعضهم على الْجوَار كَمَا حُكيَ هَذَا جُحر ضبٍ خربٍ، وَهَذَا بَاب يَتَّسِع القَوْل فِيهِ، وَلنَا فِيهِ كَلَام كثير مشروح فِي مَوَاضِع من كتبنَا فِي الْقُرْآن وَالْفِقْه والنحو.
شعر لسابق الْبَرْبَرِي
حَدثنَا عبد لاله بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن الْوَلِيد الْحَنْظَلِي قَالَ: سَمِعت عمر بْن ذَر يذكر أَنه بلغه عَن مَيْمُون بْن مهْرَان أَنه قَالَ: دخلت على عمر بْن عبد الْعَزِيز يَوْمًا وَعِنْده سَابق الْبَرْبَرِي الشَّاعِر فَانْتهى فِي شعره إِلَى هَذِه الأبيات:
فكم من صَحِيح بَات للْمَوْت آمنا ... أَتَتْهُ المنايا بَغْتَة بَعْدَمَا هجع
فَلم يسْتَطع إِذْ جَاءَهُ الْمَوْت بَغْتَة ... فِرَارًا وَلَا مِنْهُ بحيلته امْتنع
فَأصْبح تبكيه النِّسَاء مقنعا ... وَلَا يسمع الدَّاعِي وَإِن صَوته رفع
وَقرب من لحدٍ فَصَارَ مقِيله ... وَفَارق مَا قد كَانَ بالْأَمْس قد جمع
فَلَا يتْرك الْمَوْت الْغَنِيّ لمَاله ... وَلَا معدمًا فِي المَال ذَا حَاجَة يدع
فَلم يزل عمر يضطرب ويبكي حَتَّى غشي عَلَيْهِ، قَالَ: فقمنا فانصرفنا عَنْهُ.
وَلَكِن تفيض النَّفس عِنْد امتلائها
أنشدنا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ: أنشدنا الْمبرد:
ولي حَاجَة قد راث عني نَجَاحهَا ... وجودك أجدى وافدٍ فِي اقتضائها
وَمَال شَفِيع غير نَفسك إِنَّنِي ات؟ ... كلت من الدُّنْيَا على حسن رائها
عطاؤك لَا يفنى ويستغرق المنى ... وَتبقى وُجُوه الراغبين بِمَائِهَا
شَكَوْت وَمَا الشكوى لنَفْسي عَادَة ... وَلَكِن تفيض النَّفس عِنْد امتلائها(1/555)
كن باذلا للخير أنشدنا عمر بْن الْحسن الشَّيْبَانِيّ، قَالَ: أنشدنا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيّ قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن:
إِذَا مَا اللَّيَالِي أَقبلت بإساءةٍ ... رجونا بِأَن تَأتي بِحسن صَنِيع
وَذَلِكَ فعل الله بِالنَّاسِ كلهم ... فَكُن باذلا للخير غير منوع
الْمجْلس الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ
طير الْجنَّة
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَوَيْهِ الْمروزِي البرائي قَالَ حَدَّثَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عطينة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْرًا فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفَ ريشةٍ فَيَجِيءُ حَتَّى يَقَعَ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَنْتَفِضُ فَيَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ ريشةٍ لَوْنٌ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ صَاحِبَهُ، ثُمَّ يَطِيرُ فَيَذْهَبُ.
تَعْلِيق القَاضِي على الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: قد أنبأ هَذَا الْخَبَر عَن عَظِيم قدرَة الله تَعَالَى ذكره وجسيم نعْمَته وَعَجِيب رزقه، وَعَما أعده لأوليائه فِي جنته مِمَّا لم تتصوره نُفُوسهم، وَلم تبلغه أمانيهم، فهنيئًا لَهُم مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِم رَبهم، وإياه نسْأَل أَن يدخلنا جنته وَلَا يحرمنا رَحمته، فَإِنَّهُ لَا يتعاظمه خير يجود بِهِ، وَلَا يتسصعب عَلَيْهِ شَرّ يصرفهُ، بِيَدِهِ الْخَيْر كُله، وَهُوَ على كل شَيْء قدرير.
إعجاب الأخطل بِأَبْيَات للقطامي
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ الْأَصْمَعِي قَالَ: سَأَلَ عَمْرو بْن سعيد الْقرشِي الأخطل: أَيَسُرُّك أَن لَك شعرًا بشعرك؟ قَالَ: لَا وَالله مَا يسرني أَن لي بمقولي مقولا من مقاول الْعَرَب، غير أَن رجلا من قومِي قد قَالَ أبياتًا حَسَدْته عَلَيْهَا، وإيم الله إِنَّه لمغدف القناع، ضيق الذِّرَاع، قَلِيل السماع، قَالَ: وَمن هُوَ؟ قَالَ: الْقطَامِي، قَالَ: وَمَا هَذِه الأبيات؟ قَالَ: قَوْله:
يمشي رهوا فَلَا الأعجاز خاذلة ... وَلَا الصُّدُور على الأعجاز تنكل
من كل سامية الْعَينَيْنِ تحسبها ... مَجْنُونَة أَو ترى مَا لَا ترى الْإِبِل
حَتَّى وردن ركيات الغوير وَقد ... كَاد الملاء من الْكَتَّان يشتعل
يَمْشين معترضاتٍ والحصى رمض ... وَالرِّيح ساكرة والظل معتدل
والعيش لَا عَيْش إِلَّا مَا تقربه ... عَيْني وَلَا حَال إِلَّا سَوف ينْتَقل
إِن تصبحي من أَبِي عُثْمَان منجحة ... فقد يهون على المستنجح الْعَمَل(1/556)
وَالنَّاس من يلق خيرا قَائِلُونَ لَهُ ... مَا يَشْتَهِي ولأم الْمُخطئ الهبل
قد يدْرك المتأني بعض حَاجته ... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل
تَعْلِيق للْقَاضِي وتفسيرات
قَالَ القَاضِي: لعمري إِن هَذِه الأبيات لمن رصين الشّعْر وبليغه، وَكلمَة الْقطَامِي الَّتِي هَذِه الأبيات مِنْهَا من أَجود شعره، وأولها:
إِنَّا محيوك فَاسْلَمْ أَيهَا الطلل ... وَإِن بليت وَإِن طَالَتْ بك الطول
ويروى الطيل.
وَقد ذكر بَعضهم أَن أَجود مَا أَتَى من أشعار الْعَرَب على هَذِه الْعرُوض وَهَذَا الروي هَذِه الْكَلِمَة وَكلمَة الْأَعْشَى الَّتِي أَولهَا:
ودع هُرَيْرَة إِن الركب مرتحل ... وَهل تطِيق وداعا أَيهَا الرجل
وَقَول الأخطل: إِنَّه لمغدف القناع المغدف: المغطى فَكَأَنَّهُ نسبه إِلَى الخمول وقصوره عَن الشّرف وَأَن يكون بارزًا مبدياً صفحته مجداً وافتخاراً، كَمَا قَالَ سحيم بْن وثيل الريَاحي:
أَنا ابْن جلا وطلاع الثنايا ... مَتى أَضَع العماخمة تعرفوني
وَيُقَال أعدفت الْمَرْأَة قناعها كَمَا قَالَ عنترة:
إِن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بِأخذ الْفَارِس المستئم
وَأما قَول الْقطَامِي: يَمْشين رهوا فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُنَّ يَمْشين فِي سكونٍ وتؤدة، وَقد قيل فِي قَول الله تَعَالَى: " وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا " الدُّخان: 24 أَي سَاكِنا وَقيل طَرِيقا يبسًا. وَحكى أَن بعض الْعَرَب قَالَ فِي فالج من الْإِبِل: رهو بَين سنَامَيْنِ. وَقَالَ بعض أهل الْمعرفَة: لَو كَانَ الْقطَامِي قَالَ هَذَا الْبَيْت فِي صفة النِّسَاء لَكَانَ قد أحسن. وَمن الزهو قَول الشَّاعِر:
كَأَنَّمَا أهل حجرٍ ينظرُونَ مَتى ... يرونني خَارِجا طير بباديد
طير رَأَتْ بازيًا نضح الدِّمَاء بِهِ ... وَأمه خرجت رهوا إِلَى عيد
وَقل عَمْرو بْن كُلْثُوم:
نصبنا مثل رهوة ذَات حدٍ ... مُحَافظَة وَكُنَّا السابقينا
ويروى: نصبنا مثل رهوة وادحر.
قيل هِيَ الْخَيل، وَقَوله: وَالرِّيح ساكرة يَعْنِي سَاكِنة، وَإِذا كَانَت سَاكِنة فَهِيَ فعل الْأَشْيَاء المفقودة المعدومة، يُقَال سكر الشَّيْء إِذا سكن، وَقيل للسكر الَّذِي هُوَ منسكر الأودية والأنهار سكر، لِأَنَّهُ سكن إِذا انسد وعدمت سورته، وَمِنْه السكر من الشَّرَاب وَغَيره، قيل فِيهِ ذَلِك لاحتباس مَا كَانَ مُنْطَلقًا من السَّكْرَان وَصِحَّة رَأْيه وصواب مَنْطِقه، وَقيل سكر الْحر إِذا سكنت فورته وهدأ احتدامه وشدته، كَمَا قَالَ الراجز:
جَاءَ الشتَاء واجثأل الْقَبْر(1/557)
واستخفت الأفعى وَكَانَت تظهر
وَجعلت عين الحرور تسكر
وَقد قَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين " لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا " الْحجر: 15 بِمَعْنى سدت وصعب النّظر بإسكانها عَن الْحَرَكَة الَّتِي تدْرك المبصرات بهَا. وَقَرَأَ جُمْهُور القرأة سكرت بِالتَّشْدِيدِ للتكرار إِذْ كَانَت الْأَبْصَار جمَاعَة، وَقَرَأَ بَعضهم سكرت بِالتَّخْفِيفِ لدلَالَة هَذِه الْقِرَاءَة على الْمَعْنى، وَمثله فتحت أَبْوَابهَا وَفتحت فِي نَظَائِر لهَذَا كَثِيرَة، وَهِي مشروحة فِيمَا تضمنته الْكتب فِي عُلُوم الْقُرْآن من كلامنا وَكَلَام من تقدمنا، وبالتخفيف قَرَأَ ابْن كثير فِي من وَافقه من المكيين. وَقَوله:
إِن تصبحي من أَبِي عُثْمَان منجحة ... فقد يهون على المستنجح الْعَمَل
من الْكَلَام الْحسن فِي الإنباء عَن أَن من أنجح سَعْيه وَأدْركَ مَا أمه هان عَلَيْهِ مَا كَانَ أنصبه وعناه وأتعبه فِي قصد مَطْلُوبه، وَمثله قَول سَابق الْبَرْبَرِي:
إِذا مَا نَالَ ذُو طلبٍ نجاحًا ... بأمرٍ لم يجد ألم الطلاب
ونظائر هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة يتعب إحصاؤها ويمل استقصاؤها.
قصَّة خيالية عَن احتيال مُعَاوِيَة
لتطليق زوج ابْن عَامر ليتزوج هُوَ مِنْهَا وَمَا نجم عَن ذَلِك
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ الْكَوْكَبِيُّ وَحَدَّثَنَا عسل بْن ذكْوَان قَالَ حَدَّثَنَا التوزي عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ الْكَوْكَبِيُّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ قَالَ حَدَّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ صَخْرٍ، قَالَ الْكَوْكَبِيُّ وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الضَّرِيرُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ أَبِيهِ، يُزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَدِيثِ بعضٍ، قَالُوا: كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ جَمَاعَةُ نفرٍ مِنْ سُمَّارِهِ فِي ذَاتِ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَنَى مِنِّي اللَّذَّاتُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ إِلا مِنْ صبيٍ صَغِيرٍ يُلاعِبُنِي وَأُلاعِبُهُ وَأَضُمُّهُ إِلَى صَدْرِي، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَفَلا أَدُلُّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْرَأَةٍ لَوْ تَزَوَّجْتَهَا عُدْتَ بِهَا شَابًّا فِي سِنِّ ابْن ثلاثني سَنَةً ثُمَّ لَا تَزَالُ مَعَهَا أَنْعَمَ النَّاسِ عَيْشًا بَقِيَّةَ عُمُرِكَ؟ قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَمَنْ هِيَ؟ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو الْعَيْنَاءِ دُونَ الْجَمَاعَةِ: هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَقَالَتِ الْجَمَاعَةُ دُونَ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ: هِيَ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَحْسِبُهُ هُوَ الثَّبْتُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: أوليست تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ.؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَبِئْسَ مَا عَرَضْتَ بِهِ إِلَيَّ، أَنْ تَذْكُرَ زَوْجَةَ رجلٍ مِنْ خِيَارِ قُرَيْشٍ، قَالَ عَمْرٌو: رَأَيْتُكَ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بشيءٍ فَعَرَضْتُ عَلَيْكَ مَا عَرَضْتُ، وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَيَتَزَوَّجُهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اكْتُمُوا هَذَا الأَمْرَ لَا تُشْهِرُوهُ، فَلَعَمْرِي إِنْ نَالَ أَحَدٌ حَاجَتَهُ بالرفق والتأني الْحِيلَة لأنالنه(1/558)
مِنْهَا. ثُمَّ دَعَا مُعَاوِيَةُ خَادِمًا لَهُ مِنْ أَبَرِّ خَدَمِهِ عِنْدَهُ وخصهم لَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَزُرْهُ، وَإِذا حضر اباب فَأَلْطِفْهُ وَأَكْرِمْهُ وَأَوْقِعْ فِي قَلْبِهِ كَثْرَةَ ذِكْرِي لَهُ وَأَنِّي رُبَّمَا ذكرته عِنْد نِسَائِي وَحَرَمِي وَحَيْثُ لَا يُذْكَرُ فِيه أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلا لِقَدْرِهِ عِنْدِي وَمَنْزِلَتِهِ مِنِّي، فَإِذَا أَوْقَعْتَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَأَعْلِمْنِي، فَفَعَلَ الْخَادِمُ مَا أَمَرَهُ بِهِ حَتَّى ظَنَّ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْخَادِمِ: انْطَلِقِ الآنَ شِبْهَ النَّاصِحِ وَالْمُتَحَظِّي عِنْدَهُ فَمُرْهُ أَنْ يَخْطُبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَحَبَّ. فَتَهَيَّأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ لِذَلِكَ وَهَيَّأَ لَهُ كَلامَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْخَادِمُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَبَرَّهُ وَأَلْطَفَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ يُحَدِّثُهُ، وَدَعَا بِالطَّعَامِ وَأَلْوَانِ الأَشْرِبَةِ وَأَقْبَلَ يَسْتَطْعِمُهُ الْكَلامَ، فَحَصِرَ عَبْدُ اللَّهِ وَانْقَطَعَ وَانْقَبَضَ وَهَابَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ حِينَ رَأَى حصره وهيبته: إِنَّه لن يَمْنَعُكَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلْوَةُ، قُلْ مَا أَحْبَبْتَ وَانْبَسِطْ فِي كَلامِكَ وَسَلْ مَا أَحْبَبْتَ فَدَعَا لَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَانْصَرَفَ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ، فَدَعَا مُعَاوِيَةُ خَادِمَهُ ذَلِكَ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الرَّجُلَ هَابَ وَحَصِرَ؛ فَاغْدُ إِلَيْهِ وَمُرْهُ أَنْ يَسْأَلَ حَاجَتَهُ وَشَجِّعْهُ وَأَعْلِمْهُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قاضٍ حَاجَتَهُ. فَمَضَى الْخَادِمُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَسْأَلَتِهِ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يُمْنَعَ مَا يُرِيدُ؛ فَغَدَا عَبْدُ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَكْرَمَهُ وَأَلْطَفَهُ وَدَعَا لَهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَمَّا أَكَلا وَشَرِبَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جِئْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حاجةٍ عَلَى حُسْنِ ظَنِّي بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْزِلَتِي مِنْهُ، فَإِنْ وَافَقَ مِنْهُ مَا أَحَبَّ فَذَاكَ الَّذِي أَبْغِي، وَإِنْ خَالَفَهُ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ موجدته، قَالَ مُعَاوِيَة: تكلم يَا ابْن أَخِي بِمَا بَدَا لَكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جِئْتُكَ أَخْطُبُ ابْنَتَكَ رَمْلَةَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ شِبْهَ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِ الْمُسْتَعْظِمِ لَهُ وَالْمُنْقَبِضِ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: نَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَقَدْ سَقَطَ فِي يَدَيْهِ وَظَنَّ أَنَّهُ أَغْضَبَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ دَعَا مُعَاوِيَةُ خَادِمَهُ فَقَالَ: انْطَلِقِ الآنَ فَلا تَظْهَرْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ ابْنَ عامرٍ سَيَطْلُبُكَ، ثُمَّ الْقَهُ بعد وأعلمه أه أَحْمَقُ رَجُلٍ فِي قُرَيْشٍ وَأَقَلُّهُمْ عَقْلا حَيْثُ يَخْطُبُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ وَعِنْدَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا إِنَّمَا يُرِيدُ الإِضْرَارَ بِهَا وَأَنْ يُؤْذِيَهَا، وَتَشَدَّدْ بِذَلِكَ، وَمُرْهُ أَنْ يَعُودَ وَيَكْتُبَ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ هَذَا الأَمْرَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَضُرَّ بِابْنَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونَ عِنْدَهُ غَيْرُهَا، وَأَنَّهُ يُخَلِّي عَنْ كُلِّ امرأةٍ تَعْظِيمًا لِحَقِّهَا، فَفَعَلَ الْخَادِمُ ذَلِكَ ثُمَّ لَقِيَ ابْنَ عَامِرٍ فَبَلَغَ مِنْهُ مَا أَرَادَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: كَيْفَ الْحِيلَةُ لإِصْلاحِ هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: تَدْخُلُ إِنْ شِئْتَ أَوْ تَكْتُبُ كِتَابًا تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّكَ مُطَلِّقٌ لِنِسَائِكَ إِكْرَامًا لابْنَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْظِيمًا لِحَقِّهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَامِرٍ، فَلَمَّا قَرَأَ مُعَاوِيَةُ كِتَابَهُ دَعَا بعشرةٍ مِنْ قريشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ عَرَفْتُمْ حَالَ ابْنِ عَامِرٍ فِي شَرَفِهِ وَحَسَبِهِ وَمَكَانِهِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَابَتِهِ، وَقَدْ خَطَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ، وَقَدْ زَوَّجَهُ عَلَى مَا ضَمِنَ مِنْ تَطْلِيقِ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ أَبُو
الْعَيْنَاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَإِنَّ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْل بن عَمْرو طلق أَلْبَتَّةَ، فَدَعَا لَهُ مُعَاوِيَةُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا. ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى دارٍ سِوَى الدَّارِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا أَنِ اعْتَدِّي، فَلَمَّا أَتَاهَا الرَّسُولُ قَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ قَالَ: طَلَّقَكِ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَتْ: مَا أَظُنُّهُ فَعَلَ هَذَا وَعَقْلُهُ مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلَتْ عَنِ الأَمْرِ فَأُخْبِرَتْ، فَدَعَتْ قَهْرَمَانَهَا فَأَمَرَتْهُ أَنْ يُجَهِّزَهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَتْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ: فَرَّقَ مُعَاوِيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي لِيَتَزَوَّجَنِي، وَاللَّهِ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أُمِّهِ، وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ إِنَّهَا قَدْ شَخَصَتْ، قَالَ: دَعْهَا فَلْتَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَتْ فَلَعَمْرِي لَا تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِي إِلا أَنْ تَخْرُجَ إِلَى أَرْضِ الشّرك. ناء، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَإِنَّ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْل بن عَمْرو طلق(1/559)
أَلْبَتَّةَ، فَدَعَا لَهُ مُعَاوِيَةُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا. ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى دارٍ سِوَى الدَّارِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا أَنِ اعْتَدِّي، فَلَمَّا أَتَاهَا الرَّسُولُ قَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ قَالَ: طَلَّقَكِ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَتْ: مَا أَظُنُّهُ فَعَلَ هَذَا وَعَقْلُهُ مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلَتْ عَنِ الأَمْرِ فَأُخْبِرَتْ، فَدَعَتْ قَهْرَمَانَهَا فَأَمَرَتْهُ أَنْ يُجَهِّزَهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَتْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ: فَرَّقَ مُعَاوِيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي لِيَتَزَوَّجَنِي، وَاللَّهِ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أُمِّهِ، وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ إِنَّهَا قَدْ شَخَصَتْ، قَالَ: دَعْهَا فَلْتَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَتْ فَلَعَمْرِي لَا تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِي إِلا أَنْ تَخْرُجَ إِلَى أَرْضِ الشّرك.
فَلَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنَّ عِدَّتِي لَمْ تَنْقَضِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِكِ، فَقَالَتْ: فَإِنِّي لَا أُخْبِرُكَ دُونَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَأْتِيَنِي لأَمْرٍ أَسْتَفْتِيكَ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: إِنَّ مِثْلِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ لِلْفُتْيَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنْ لَمْ تَأْتِنِي أَتَيْتُكَ فِي مجلسٍ حَاسِرَةً فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْكَ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَاسِرَةً حَتَّى تُفْتِيَهَا فَأَنْتَ وَرَأْيُكَ، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهَا، فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ وَأَمْسَكَ جَوَارِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَوْبًا، فَحَمِدَتِ اللَّهَ وَصَلَّتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: أعندك يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ خَيْرٌ؟ قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَلْجَأْتِنِي إِلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلامِي، مَنْ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْخَيْرُ مِنِّي وَأَدْنَى طَرَفَيْ رَسُولُ اللَّهِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ مُعَاوِيَةَ فِي فُرْقَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي مَا أَحْسِبُ أَنَّهُ قد بلغك، وَوَاللَّه مَالِي فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَقَدِ اخْتَرْتُكَ لِنَفْسِي، فَإِنْ وَجَدْتَ أَحَدًا أَحَقَّ بِي مِنْكَ فَقَدْ رَضِيتُ بِحُكْمِكَ، أَوْ مَا شِئْتَ، قَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ عَلِمْتِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ حَتَّى أَصْلَحَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ مَا أُحَدِّثُ بِهِ نَفْسِي، وَمَالِي يَوْمِي هَذَا فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ، قَالَتْ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ نَفْسِي بَعْدَ إِذْ بَذَلْتُهَا لَك واخترتك، قَالَ: مَالِي إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، فَلَمَّا رَأَتْ تَأَبِّيهِ عَلَيْهَا قَالَتْ لِجَوَارِيهَا نَحِّينَ الثَّوْبَ عَنِّي، فَنَحَّيْنَ الثَّوْبَ فَإِذَا بِمثل الْقَمَر لأَرْبَع عشرَة، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسِنِ النِّسَاءِ وَأَتَمِّهِنَّ وَكَانَ الْحَسَنُ صَاحِبَ نِسَاءٍ، فَلَمَّا رَأَى جَمَالَهَا، وَلَمْ يَكُنْ رَأَى مِثْلَهَا، أَخَذَتْ بِقَلْبِهِ، فَقَالَ: قَدْ رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنَّهَا قَدْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وأشهدهم أَنه قد تزَوجهَا علاى كَذَا وَكَذَا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَرْوَانَ فَأرْسل إِلَى السحن فَحَبَسَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَحَبَسَهَا وَأَقَامَ عَلَيْهَا الرُّقَبَاءَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْحَسَنَ وَثَبَ فَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ عِلْمِ قاضٍ وَلا سلطانٍ وَلا وَلِيٍّ، جُرْأَةً عَلَيْكَ وَخِلافًا لَكَ، وَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُ بِحَبْسِهِمَا إِلَى إِن يَأْتِين مِنْكَ رَأْيٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَهِمْتُ مَا كَتَبْتَ بِهِ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ وَأَمْرِهَا، وَقَدْ أَجَبْتُكَ فِي ذَلِكَ بِكِتَابٍ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ مَخْتُومًا، فَاجْمَعْ إِلَيْكَ ثَلاثِينَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ فُضَّ الْخَاتَمَ بِحَضْرَةِ الْحَسَنِ وَحَضْرَةِ الْقَوْمِ، ثُمَّ اقْرَأْ كِتَابِي وَاعْمَلْ بِمَا(1/560)
فِيهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرْوَانُ، فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَذْكُرُ مِنْ تَزْوِيجِ الْحَسَنِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ وَلا عِلْمِ سُلْطَانٍ، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ بِرَأْيِي فِيهِمَا وَمَكَانِهِمَا، وَلَعَمْرِي مَا بغل مِنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ أَوْ يُحِلَّ شَيْئًا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالْحَسَنُ إِنَّمَا تَرَكَ أَنْ يُعْلِمَ السُّلْطَانَ لِمَخَافَتِهِ مِنِّي، لِمَا سَبَقَ مِنْ خِطْبَتِي الْمَرْأَةَ قَبْلَهُ، وَاخْتَارَتْهُ وَآثَرَتْهُ عَلَيَّ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَخَلِّ عَنِ الْحَسَنِ، وَادْفَعْ إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ، وَلا تَعَرَّضْ لَهُمَا فِي شيءٍ يُؤْذِيهِمَا، وَادْفَعْ إِلَى الْحسن مَا مَالِي قِبَلَكَ عَشَرَةَ آلافِ دِينَارٍ مَعُونَةً لَهُ عَلَى تَزْوِيجِهِ، وَادْفَعْ إِلَى زَوْجَتِهِ خَمْسَةَ آلافِ دِينَارٍ، وَأَحْسِنْ جِوَارَهُمَا، فَلَمَّا قَرَأَ مَرْوَانُ الْكِتَابَ قَبِلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَعَانَهُمَا أَيْضًا مِنْ مَالِهِ، وَمَنَعَ مُعَاوِيَةُ عَنِ ابْنِ عامرٍ ابْنَتَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا زَوَّجْتُكَ عَلَى أَنْ أَتزوّج امْرَأَتك وبنتي صغية حَتَّى تَبْلُغَ، فَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عامرٍ لِلْحَجِّ وَأَتَى الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْحَسَنَ عَلَى بَابِهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ بِهِ السحن وَأَنْزَلَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: أَبَا مُحَمَّدٍ أَتَأْذَنُ فِي الدُّخُولِ عَلَى فَاطِمَةَ بِلَفْظِ أَبِي الْعَيْنَاءِ وَالسَّلامِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: وَكَرَامَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا هَذَا ابْنُ عَمِّكِ عَبْدُ اللَّهِ يُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَيْكِ فَأْذَنِي لَهُ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَجَلَسَتْ وَأَخَذَتْ زِينَتَهَا، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فَدخل عَلَيْهِ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَا هَذَا قَدْ عَلِمْتُ مِثْلَ هَذَا، وَقَدْ صَيَّرَ اللَّهُ الأَمْرَ إِلَى مَا تُرِيدُ، وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ بِالنُّزُولِ عَنْهَا وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا غَيْرَ زَاهِدٍ فِيهَا وَلا قالٍ لَهَا، وَلَكِنْ كَرَاهَةَ مَسَاءَتِكَ، قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: لَا وَاللَّهِ مَالِي بِذَاكَ مِنْ حَاجَةٍ، وَقَالَتْ هِيَ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ وَقَدْ طَلَّقَنِي بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَلا حدثٍ إِلا طَمَعًا فِي ابْنَةِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: فَمَا بُكَاؤُكُمَا؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ ابْنَتِي حَيْثُ نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ مِنْهَا ابْنَةٌ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَخَوَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ كَشَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ شيءٍ تَحت ثَوْبه فغذا سَفَطَانِ فِي أَحَدِهِمَا جَوْهَرٌ وَفِي الآخِرِ دُرٌّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَ لِي عِنْدَهَا سَأَلْتُهَا عَنْهُ وَمَا أَطْمَعُ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيَّ، وَمَا أَظن أحدا تَسْخُو نَفْسُهُ عَنْ مِثْلِهِ، فَرَدَّتْهُ عَلَيَّ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا أَخَذْتَ مِنْهُ
حَاجَتك، قَالَ الْحسن: مَالِي فِيهِ مِنْ حاجةٍ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِمَا لَك، وَلَكِنْ حَاجَتِي إِلَيْكَ غَيْرُ هَذَا، أُحِبُّ أَنْ تُسْعِفَنِي بِهَا، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: ابْنَتُكَ هِيَ ابْنَتِي وَأُحِبُّ أَنْ تَضُمَّهَا إِلَى أُمِّهَا، قَالَ: هِيَ لَكَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَيْهَا مِنْ سَاعَتِهَا فَحُمِلَتْ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ خَدَمٍ ومالٍ فَدَفَعَهَا إِلَى الْحَسَنِ. قَالَ الْحسن: مَالِي فِيهِ مِنْ حاجةٍ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِمَا لَك، وَلَكِنْ حَاجَتِي إِلَيْكَ غَيْرُ هَذَا، أُحِبُّ أَنْ تُسْعِفَنِي بِهَا، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: ابْنَتُكَ هِيَ ابْنَتِي وَأُحِبُّ أَنْ تَضُمَّهَا إِلَى أُمِّهَا، قَالَ: هِيَ لَكَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَيْهَا مِنْ سَاعَتِهَا فَحُمِلَتْ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ خَدَمٍ ومالٍ فَدَفَعَهَا إِلَى الْحَسَنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ: فَأَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي وَكَانَ أَبُوهُ قَاضِي الْمَنْصُورِ قَالَ: لَمَّا طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَهُ مِنْهَا ابْنَةٌ وَتَزَوَّجَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَمْ يَدْرِ مَا الْحِيلَةُ لَهَا لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْهَا، فَبَعَثَ إِلَى ابْنَتِهِ لِيَقْبِضَهَا فَصَرفهُ السحن بِالرِّجَالِ فَكَلَّمَهُ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: ماحجر رجلٍ عِنْدِي أَشْرَفُ وَلا أَفْضَلُ مِنْ حِجْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَكِنَّهَا امْرَأَةٌ قَدْ بَلَغَتْ وَأُحِبُّ كَيْنُونَتَهَا عِنْدِي وَالأُنْسُ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ هِنْدٌ قَالَت لِلْحسنِ:(1/561)
إِنِّي وَلَا لَهُ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَدَعُهَا لأحدٍ إِلا لِي فَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ لأَنَّكَ الْمَأْمُونَةُ وَهُوَ الْمَأْمُونُ، وَكَانَ قَدْ قَبَضَ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي آتِيكَ لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَقَامَ لَهَا ابْنُ عَامِرٍ فِي دَارِهِ الْخَارِجَةَ وَصَفَاءً بِالشَّمْعِ وَفِي قُبَّتِهِ الَّتِي كَانَ يسكنهَا من دراته وَصَائِفُ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ إِلَى بَابٍ خَلْفَهُ وَقَدْ بُسِطَ لَهُ، وَجَاءَتْ فَجَلَسَتْ أَسْفَلَ مِنْ سَرِيرِهِ، وَجَاءَتِ ابْنَتُهَا فَاعْتَنَقَتْهَا وَتَبَاكَيَا، فَقَالَتْ هِنْد لانب عَامِرٍ: إِنِّي جِئْتُكَ فِي بِنْتِي وَلا حِجْرَ لَهَا خَيْرٌ مِنْ حِجْرِي وَلا أَدَبَ أَنْفَعُ لَهَا مِنْ أَدَبِي، وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ مَا فِيهَا إِلَيَّ أَنَّهَا مِنْكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَهَبَهَا لِي وَتُشَفِّعَنِي فِيهَا فَعَلْتُ، قَالَ: هِيَ لَكِ، ثُمَّ دَعَا بِسَبَنِيَّةِ خزٍ فَمُلِئَتْ خَزًّا، وَدَعَا مِنْ أَصْنَافِ الثِّيَابِ بثوبٍ فَمَلأهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَدَعَا بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِينَارٍ وَحُلَلٍ مَا يُدْرَى مَا قَيْمَتُهَا ثُمَّ وَلَّى إِلَى الْبَابِ الَّذِي خَلْفَ سَرِيرِهِ فَقَامَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَكِ مَا بَيْنَ سَرِيرِي هَذَا إِلَى مَا دَخَلْتِ فِيهِ مِنْ مُلْكِي، فَانْصَرَفَتْ بِذَلِكَ الْمَتَاع المَال وَالرَّقِيقِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: كَانَ ابْنُ عَامِرٍ قَدِ اسْتَوْدَعَ هِنْدًا بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرو أسفاظاً فِيهَا حُلِيٌّ كَثِيرٌ وَدُرٌّ وَجَوْهَرٌ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرَهَا، وَطَلَّقَهَا وَهُوَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ بِالْمَدِينَةِ، قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ وَتَزَوَّجَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ابْنُ عَامِرٍ يَطْلُبُ مَا اسْتَوْدَعَهَا، فَأَنْكَرَتِ الرَّسُولَ أَنْ يَكُونَ اسْتَوْدَعَهَا شَيْئًا أَوله عِنْدَهَا شَيْءٌ! فَلَمَّا كَثُرَتِ الرُّسُلُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَقِيَ ابْنُ عَامِرٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَقَالَ لَهُ: كُنْتُ اسْتَوْدَعْتُ هِنْدًا وَدِيعَةً وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهَا فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى قَلْبِي أَنَّ جَحْدَهَا لِمَنْ أَرْسَلْتُهُ مَحَبَّةَ أَنْ لَا يَفْشُوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا لَا تُحِبُّ دَفْعَهُ إِلا إِلَيَّ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِي عَلَيْهَا فَعَلْتُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأَعْلَمَهَا أَنَّ ابْنَ عامرٍ بِالْبَابِ، فَشَدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ عَامِرٍ غَلَبَتْهُ الْعَبْرَةُ وَبَكَتِ الأُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ، إِنْ شِئْتُمَا كُنْتُ خَيْرَ مُحِلٍّ. فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: إِذًا وَاللَّهِ لَا نَجْتَمِعُ أَبَدًا، فَسَأَلَهَا عَمَّا وَضَعَ عِنْدَهَا فَقَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لأُقِرَّ بِهِ لأحدٍ أَبَدًا وَلا أَدْفَعَهُ إِلَى سِوَاكَ أَبَدًا، يَا جَارِيَةُ ضَعِي لِي هُنَاكَ فِرَاشًا، فَوُضِعَ لَهَا فِرَاشٌ وَاسْتَقَرَّ مَجْلِسُهَا، ثُمَّ قَالَتْ: ارْفَعِي الْفِرَاشَ الَّذِي كَانَ تَحْتِي فَرُفِعَ ثُمَّ قَالَتْ: احْفِرِي، فَحَفَرَتْ تَحْتَ فِرَاشِهَا فَأَخْرَجَتْ تِلْكَ الأَسْفَاطَ بِخَاتَمِ ابْنِ عَامِرٍ لَمْ تُحَرَّكْ، فَقَالَت: واله مَا رَأَيْتُهَا وَمَا زِلْتُ أَنْقُلُهُ مَعِي حَيْثُ مَا كُنْتُ مَعَ فِرَاشِي، إِلَى أَنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: خُذِي مِنْهُ مَا أَحْبَبْتِ، وَفَتَحَ بَعْضَهَا ليعطيها فحلقت لَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَقَدْ قَبَضَ مَتَاعَهُ.
غُلَام يمازح أَبَا نواس وَهُوَ ضجر
حَدثنَا مُحَمَّد بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عَليّ بْن سعيد الشَّيْبَانِيّ قَالَ حَدَّثَنِي هَارُون بْن سُفْيَان مولى بجيلة قَالَ: كنت مَعَ أَبِي نواس يَوْمًا فِي بعض طرق بَغْدَاد وَهُوَ(1/562)
ضجر قَلِيل النشاط، فجَاء غُلَام حسن الْوَجْه رائق، فَجعل يمازحه ويعبث بِهِ وَأَبُو نواس لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، فَانْصَرف الْغُلَام وَهُوَ يَقُول: أَصبَحت وَالله يَا أَبَا نواس بَارِدًا، فَقَالَ لي أَبُو نواس أَمَعَك أَلْوَاح:؟ قلت، نعم، قَالَ اكْتُبْ:
اذْهَبْ نجوت من الهجاء ولذعه ... وَأما ولثغة أَحْمَد بْن نجاح
لَوْلَا فتور فِي كلامك يَشْتَهِي ... وترفقي لَك بعد واستملاحي
وتكسر فِي مقلتيك هُوَ الَّذِي ... عطف الْقُلُوب عَلَيْك بعد جماح
لعَلِمت أَنَّك لَا تمازح شَاعِرًا ... فِي ساعةٍ لَيست بِحِين مزاح
الْمجْلس السَّادِس وَالسَّبْعُونَ
معنى كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْطَاكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَعْنِي أَبَا الْحَارِثِ الرَّمْلِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن صَالح الجمشقي قَالَ حَدَّثَنَا الْوَزِيرُ بْنُ صُبَيْحٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " كُلَّ يومٍ هُوَ فِي شأنٍ " الرَّحْمَن: 29 مِنْ شَأْنِهِ يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيُجِيبُ دَاعيا وَيرْفَع قوما يضع آخَرِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر وَفِيهِ: وَيُعْطِي سَائِلا. اللَّهُمَّ فَاجْعَلْنَا مِمَّنْ غَفَرْتَ ذَنْبَهُ وَكَشَفْتَ كَرْبَهُ، وَأَجَبْتَ دُعَاءَهُ وَأَعْطَيْتَهُ سُؤْلَهُ وَرَجَاءَهُ، وَمِمَّنْ تَرْفَعُهُ بِتَوْفِيقِكَ إِيَّاهُ لِطَاعَتِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَأَجِرْنَا أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ تَضَعُهُ وَتَخْفِضُ قَدْرَهُ وَتَحُطُّ مَنْزِلَتَهُ لِتَقْصِيرِهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّكَ وَمُخَالَفَتِهِ لأَمْرِكَ، وَاحْلُلِ الضَّيْعَةَ بِأَعْدَائِكَ وَأَعْدَائِنَا مِنَ الْعُتَاةِ الْمُسْرِفِينَ، وَالطُّغَاةِ الْمُتْرَفِينَ، وَالْبُغَاةِ الْجَبَّارِينَ، وَالْفَجَرَةِ، الظَّالِمِينَ، إِنَّكَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُهْلِكُ الْكَفَرَةِ الضَّالِّينَ.
خِدَاش وَمذهب الخداشية
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا عبد الأول عَن ابْن أَبِي خَالِد قَالَ: كَانَ خِدَاش صَاحب الخداشية يفْسد قوما من أهل الدعْوَة بِرَأْيهِ، وَهُوَ رَأْي
الخرمية، إِبَاحَة الْمَحَارِم، وَكَانَ مِمَّن رأى هَذَا الرَّأْي مَالك بْن الْهَيْثَم والحريش بْن سليم الأعجمي، وَكَانَ خِدَاش يَقُول لَهُم: لَا صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَا حج، وَيَقُول: إِنَّمَا تَأْوِيل الصَّوْم أَن يصام عَن ذكر الإِمَام وَلَا يُبَاح باسمه لأحد، وَالصَّلَاة الدُّعَاء للْإِمَام وَذكره وطاعته، الْحَج أَن تَحُجُّوا الإِمَام أَي تقصدوه فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَج إِلَى الْكَعْبَة دَرك، وَلَا فِي ترك الْأكل وَالشرب للصَّائِم مَنْفَعَة، وَلَا فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود طائل، فَلَا يَنْبَغِي أَن تمتنعوا مِمَّا تحبون من طَعَام أَو شراب أَو جماع أَو غير ذَلِك فِي كل حِين، وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيهِ، ويتأول لَهُم من الْقُرْآن قَوْله عز وَجل: " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا(1/563)
اتَّقَوْا وَآمَنُوا " الْمَائِدَة: 93 الْآيَة، وَكَانَ خِدَاش نَصْرَانِيّا بِالْكُوفَةِ ثُمَّ أسلم وَلحق بخراسان وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر:
تَفَرَّقت الظباء على خداشٍ ... فَمَا يدْرِي خِدَاش مَا يصيد
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: وَقد كَانَ الْمَنْصُور عِنْد خُرُوج من خرج عَلَيْهِ ونهدوا لمحاربته تمثل بِهَذَا الْبَيْت عِنْد إِخْبَار بعض المخبرين لَهُ عَنْهُم.
الخرمية
وَأما رَأْي الخرمية هَذَا فقد كثر المتدينون بِهِ والعاملون عَلَيْهِ من غير أَن يعتقدوه دينا لَهُم، لكِنهمْ ركبُوا المجون والخلاعة، وانقادوا لدواعي نُفُوسهم الأمارة بالسوء الخداعة، وانهمكوا فِي الشَّهَوَات الخسيسة، واستثقلوا عبَادَة الله وطاعته المفضية بهم إِلَى الْمَرَاتِب النفيسة، وَالله نسْأَل التَّوْفِيق والعصمة.
الرشيد وأعرابي باقعة
حَدثنِي الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْفضل الرَّبَعيّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ: خرج الرشيد فِي بعض متنزهاته فَلَمَّا اسرع السّير فِي بعض البراري انْفَرد من النَّاس على نَحْو من ميل، فَرفع لَهُ خباء مَنْصُوب فأمه حَتَّى وقف عَلَيْهِ، فَإِذا فِيهِ أَعْرَابِي جَالس، فَسلم عَلَيْهِ الرشيد، فَرد عَلَيْهِ الْأَعرَابِي السَّلَام ثُمَّ رفع رَأسه إِلَيْهِ فَقَالَ: من أَنْت يَا حسن الْوَجْه؟ فَقَالَ لَهُ الرشيد: أَنا من أبْغض النَّاس إِلَى النَّاس، قَالَ الْأَعرَابِي: أَنْت إِذا من معد، قَالَ نعم، قَالَ: من أَي معد؟ قَالَ: من أبْغض معد ألى معد، قَالَ: فَأَنت إِذا من مُضر، قَالَ: نعم، قَالَ: فَمن أَي مُضر أَنْت؟ قَالَ: من أبْغض مُضر إِلَيّ مُضر، قَالَ: فَأَنت إِذا من كنَانَة، قَالَ: نعم، قَالَ: من أَي كنَانَة؟ قَالَ: من أبْغض كنَانَة إِلَى كنَانَة، قَالَ: فَأَنت إِذا من قُرَيْش، قَالَ: نعم، قَالَ: من أَي قُرَيْش أَنْت؟ قَالَ: من أبْغض قُرَيْش إِلَى قُرَيْش، قَالَ: فَأَنت إِذا من بني هَاشم، قَالَ نعم، قَالَ: فَمن أَي بني هَاشم أَنْت؟ قَالَ: من أبْغض بني هَاشم إِلَى بني هَاشم، قَالَ: فَأَنت إِذا من ولد الْعَبَّاس، قَالَ: نعم، قَالَ: فَمن أَي ولد الْعَبَّاس؟ قَالَ: من أبْغض بني الْعَبَّاس إِلَيّ بني الْعَبَّاس، قَالَ: فَوَثَبَ الْأَعرَابِي قَائِما ثُمَّ قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، وتوافت الجيوش، فَقَالَ الرشيد: احملوه قَاتله الله أَعْرَابِيًا مَا أدهاه!!
هِشَام بْن عبد الْملك يعْزل إِبْرَاهِيم المَخْزُومِي
حَدثنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحسن الْأنْصَارِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الْعَزِيز بْن مُحَمَّد المَخْزُومِي قَالَ: كتب هِشَام بْن عبد الْملك إِلَى إِبْرَاهِيم بْن هِشَام المَخْزُومِي، وَكَانَ عَامله على الْحجاز: أما بعد فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد قلد مَا كَانَ ولاك من الْحجاز خَالِد بْن عبد الْملك، وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يعزلك حَتَّى كنت وإياه كَمَا قَالَ الْقطَامِي:(1/564)
أُمُور مَا يدبرها حَكِيم ... بلَى فَنهى وهيب مَا استطاعا
وكلن الْأَدِيم إِذا تفرى ... بل وتعيبًا غلب الصناعا
وَإِنِّي وَالله مَا عزلتك حَتَّى لم يبْق من أديمك شَيْء أتمسك بِهِ.
فَلَمَّا ورد كِتَابه على إِبْرَاهِيم تغير وَجهه وَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، أَصبَحت الْيَوْم واليًا، وَأَنا السَّاعَة سوقة، فَقَامَ إِلَيْهِ رجل من بني أَسد بْن خُزَيْمَة فَقَالَ:
فَإِن تكن الْإِمَارَة عَنْك راحت ... فَإنَّك للهشام وللوليد
وَقد مر الَّذِي أَصبَحت فِيهِ ... على مَرْوَان ثُمَّ على سعيد
قَالَ: فَسرِّي عَنْهُ وَأحسن جَائِزَة الْأَسدي.
قَالَ القَاضِي: قَول هِشَام حَتَّى كنت وإياه عطف وإياه الَّذِي هُوَ النصب على التَّاء، وَهِي فِي مَوضِع رفع، لِأَنَّهُ من بَاب الْمَفْعُول مَعَه، كَقَوْلِهِم: مَا صنعت وإياكن وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
فَكَانَ وَإِيَّاهَا كحران لم يفق ... عَن المَاء إِذْ لاقاه حَتَّى تعذرا
أَبُو الْأسود يُرِيد وليدة
حَدثنَا يزْدَاد بْن عبد الرَّحْمَن قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى، يَعْنِي تينة، حَدَّثَنِي القحذمي قَالَ: جَاءَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي إِلَى بحير بْن ريسان الحيمري فَقَالَ:
بحير بْن ريسان الَّذِي سَاد حميراً ... بأفعاله الدائرات تَدور
وَإِنِّي لأرجو من بحيرٍ وليدة ... وَذَاكَ على الْمَرْء الْكَرِيم يسير
فَقَالَ: يَا أَبَا الْأسود سألتنا على قدرك، وَلَو سألتنا لعى قَدرنَا مَا رَضِينَا بهَا لَك، قَالَ: إِمَّا لَا فا جعلهَا روقة أَي تعجب مَالِكهَا.
أَعْرَابِي ثكل تِسْعَة من أبنائه
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عمَارَة الْمُسْتَمْلِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: رَأَيْت أَعْرَابِيًا بِمَكَّة يَصِيح واويلاه واثكلاه، فَقلت لَهُ: مَا ثكلك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: ستعة من الذُّكُور فِي تسعةٍ من الشُّهُور كَأَنَّهُمْ البدور، قلت: لَا إخالك إِلَّا وَقد قلت فِي ذَلِك شعرًا، قَالَ: أجل، ثُمَّ أَنْشدني:
أَلا يزْجر الدَّهْر عَنَّا المنونا ... يوقي الْبَنَات وفني البنينا
وَكنت أَبَا تسعةٍ كالبدور ... قد فقأوا أعين الحاسيدنا
فَمروا على حادثات الزَّمَان ... كمر الدَّرَاهِم بالناقدينا
أضرّ بهم ريب هَذَا الْمنون ... حَتَّى أبادهم أجمعينا
وَحَتَّى بكاهم حسادهم ... فقد أقرحوا بالدموع الجفونا
وحسبك من حَادث بامرئ ... ترى حاسديه لَهُ راحمينا(1/565)
أفتنت سعيدًا
حَدثنَا مُحَمَّد بْن مخلد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بكر بْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس دَاوُد بْن رشيد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نميلَة عَن عَمْرو بْن زَائِدَة قَالَ حَدَّثتنِي امْرَأَة بني أَسد قَالَت: زففنا عروسًا فِي الْحَيّ، فمررنا بِسَعِيد بْن جُبَير والمغنية تَقول:
لَئِن فتنتني فَهِيَ بالْأَمْس أفتنت ... سعيدًا فأضحى قد قلى كل مُسلم
وَألقى مَفَاتِيح الْمَسَاجِد وَاشْترى ... وصال الغواني بِالْكتاب المنمنم
قَالَ ابْن مخلد فَقَالَ سعيد: كذب.
الْأَصْمَعِي يصحف فِي شعر الرَّاعِي
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ذفافة بْن سعيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ قَالَ: قَرَأنَا على الْأَصْمَعِي شعر الرَّاعِي، فَمر فِي قصيدته مَا بَال دفك بالفراش مذيلا:
وَكَأن ريضها إِذا باشرتها ... كَانَت معودة الرحيل ذلولا
فَقُلْنَا لَهُ: مَا معنى باشرتها؟ قَالَ: ركبتها من الْمُبَاشرَة، فحكينا ذَلِك لأبي عُبَيْدَة فَقَالَ: صحف وَالله الْأَصْمَعِي، إِنَّمَا هُوَ إِذا يَا سرتها وَهَذَا كَقَوْل الآخر:
إِذا يوسرت كَانَت ذلولا أديبة ... وتحسبها إِن عوسرت لم تؤدب
قَالَ القَاضِي: الْأَمر فِي هَذَا لعمري كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة، واستشهاده فِيهِ صَحِيح على مَا وصف.
الْأَصْمَعِي لَا يأبه لاعتراض ابْن الْأَعرَابِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الطّيب بْن مُحَمَّد الْبَاهِلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سَعِيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ قَالَ قَرَأنَا على الْأَصْمَعِي شعر العجاج، فَمر بِنَا:
من أَن تبدلت بآد آدا ... لم يَك يناد فأمسى إنادا
فقد أَرَانِي أصل القعادا
قَالَ: وَدخل ابْن الْأَعرَابِي فَأَوْمأ إِلَيْنَا: سلوه مَا القعاد، فَقَالَ: الشُّيُوخ الَّذين قعدوا عَن الْغَزل كبرا وَكَذَلِكَ هُوَ من النِّسَاء، فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أما القعاد من الرِّجَال فَصَحِيح، وَأما النِّسَاء فقواعد كَمَا قَالَ الله عز وَجل: " وَالْقَوَاعِدُ من النِّسَاء " النُّور: 60 قَالَ: فو الله مَا الْتفت الْأَصْمَعِي إِلَيْهِ، ثُمَّ أنْشد للقطامي:
أبصارهن إِلَى الشبَّان مائلة ... وَقد أَرَاهُم عني غير صداد
فَمَا الْفرق بَين صداد وقعاد، فَمَا نطق ابْن الْأَعرَابِي بحرفٍ وَقَامَ فَخرج.
قَالَ القَاضِي: الْأَمر فِي هَذَا على مَا قَالَ الْأَصْمَعِي، وَقد أغفل ابْن الْأَعرَابِي إِنْكَاره مِنْهُ مَا أنكرهُ.
خطْبَة للحجاج بعد دير الجماجم
حَدثنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد، يَعْنِي ابْن عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبَّاس، عَن عَطاء، يَعْنِي ابْن مُصعب، عَن عَاصِم قَالَ: خطب الْحجَّاج أهل الْعرَاق بعد دير الجماجم، فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق إِن الشَّيْطَان قد استبطنكم فخالط اللَّحْم وَالدَّم والعصب والمسامع والأطراف، ثُمَّ أفْضى إِلَى الأصماخ والأمخاخ، ثُمَّ ارْتَفع فعشش، ثُمَّ باض وفرخ، ثُمَّ دب ودرج، فحشاكم نفَاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، اتخذتموه دَلِيلا تتبعونه، وَقَائِدًا تطيعونه، ومؤامراً تشاورونه، فَكيف تنفعكم تجربة أَو(1/566)
ينفعكم بَيَان؟ ألستم أَصْحَابِي بالأهواز حَيْثُ رمتم الْمَكْر وأجمعتم على الْكفْر، وظننتم أَن الله عز وَجل يخذل دينه وخلافته، وَأَنا أرميكم بطرفي وَأَنْتُم تتسللون لِوَاذًا وتنهزمون سرَاعًا يَوْم الزاوية بِمَا كَانَ من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وَبَرَاءَة الله مِنْكُم ونكوص وَلِيكُم، إِذا وليتم كَالْإِبِلِ الشاذة عَن أوطانها النوازع، لَا يسْأَل الْمَرْء عَن أَخِيه، وَلَا يلوي الشَّيْخ على بنيه، حِين عضكم السِّلَاح وتجشمتكم الرماح يَوْم ير الجماجم، وَمَا يَوْم دير الجماجم، بهَا كَانَت المعارك والملاحم ب؟:
ضربٍ يزِيل الْهَام عَن مقِيله ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله
يَا أهل الْعرَاق: الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات، إِن بعثناكم إِلَى ثغوركم غللتم وجبنتم، وَإِن أمنتم أرجفتم وَإِن خِفْتُمْ نافقتم، لَا تتذكرون نعْمَة، وَلَا تشكرون مَعْرُوفا. هَل استخفكم ناكث أَو استغواكم غاوٍ أَو استفزكم عاصٍ أَو استنصركم ظَالِم أَو استعضدكم خَالع إِلَّا لبيتم ثُمَّ دَعوته وأجبتم صيحته، ونفرتم إِلَيْهِ خفافاً وثقالاً وفرسناناً ورجالا؟؟! يَا أهل الْعرَاق: هَل شغب شاغب أَو نعب ناعب أَو زفر زَافِر إِلَّا كُنْتُم أَتْبَاعه وأنصاره؟! يَا أهل الْعرَاق: ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عَلَيْكُم وطأته ويذقكم حر سَيْفه وأليم بأسه ومثلاته؟! ثمَّ الْتفت إِلَى أخل الشَّام فَقَالَ: يَا أهل الشَّام، إِنَّمَا أَنا لكم كالظليم الرامح عَن فِرَاخه يَنْفِي عَنْهَا القذر، ويباعد عَنْهَا الْحجر، ويكنها من الْمَطَر، ويحميها من الضباب ويحرسها من الذُّبَاب. يَا أهل الشَّام أَنْتُم الْجنَّة والرداء، وانتم الملاءة والحذاء، أَنْتُم الْأَوْلِيَاء وَالْأَنْصَار، والشعار دون الثار، بكم يذب عَن الْبَيْضَة والحوزة، وبكم ترمي كتائب الْأَعْدَاء ويهزم من عاند وَتَوَلَّى.
القَاضِي شُرَيْح يتَزَوَّج زَيْنَب التميمية
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاك قَالَ حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بْن عدي عَن الشّعبِيّ قَالَ، قَالَ لنا شُرَيْح: يَا شعبي عَلَيْكُم بنساء بني تَمِيم فَإِنَّهُنَّ النِّسَاء، قُلْنَا: وَكَيف ذَلِك يَا أَبَا أُميَّة؟ قَالَ: رجعت يَوْمًا من جنازةٍ مظْهرا فمررت بخباءٍ فَإِذا بِعَجُوزٍ مَعهَا جَارِيَة رؤد، فاستسقيت فَقَالَت: اللَّبن أعجب إِلَيْك أم المَاء أم النَّبِيذ؟ قَالَ قلت: اللَّبن أعجب إِلَيّ. قَالَت: يَا بنية اسقيه لَبَنًا فَإِنِّي أَظُنهُ غَرِيبا، فسقتني، فَلَمَّا شربت قلت: من هَذِه الْجَارِيَة؟ قَالَت: هَذِه بِنْتي زَيْنَب بنت حدير إِحْدَى نسَاء بني تَمِيم ثُمَّ من بني حَنْظَلَة ثُمَّ من بني طهية، قلت: أتزوجينيها، قَالَت: نعم إِن كنت كفؤنا، قَالَ: فَانْصَرَفت إِلَيّ منزلي، فامتنعت من القائلة، فَلَمَّا صليت الظّهْر وجهت إِلَى إخْوَانِي الثِّقَات: مَسْرُوق بْن الأجدع وَالْأسود بْن يزِيد فَصليت الْعَصْر ثُمَّ رحت إِلَى عَمها وَهُوَ فِي مَسْجده، فَلَمَّا رَآنِي تنحى لي عَن مَجْلِسه، فَقلت: أَنْت أَحَق بمجلسك، وَنحن طالبو حاجةٍ، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا أَبَا أُميَّة، مَا حَاجَتك؟ قلت: إِنِّي ذكرت زَيْنَب بنت أَخِيك،(1/567)
فَقَالَ: وَالله مَا بهَا عَنْك رَغْبَة وَلَا بك عَنْهَا مقصر، قَالَ: وتكلمت فَزَوجنِي ثُمَّ انصرفت فَمَا وصلت إِلَى منزلي حَتَّى نَدِمت وَقلت: مَاذَا صنعت بنفسي، فهممت أَن أرسل إِلَيْهَا بِطَلَاقِهَا، ثُمّ قلت: لَا أجمع بَين حمقتين، وَلَكِنِّي أضمها إِلَيّ، فَإِن رَأَيْت مَا أحب حمدت الله تَعَالَى، وَإِن تكن الْأُخْرَى طَلقتهَا. فَأرْسلت إِلَيْهَا بصداقها وكرامتها، فَلَمَّا أهديت إِلَيّ وَقَامَ النِّسَاء عَنْهَا قلت: يَا هَذِه إِن من السّنة إِذا أهديت الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا أَن تصلي رَكْعَتَيْنِ خَلفه ويسألا الله عز وَجل الْبركَة، فَقُمْت أُصَلِّي فَإِذا هِيَ خَلْفي، فَلَمَّا فرغت رجعت إِلَى مَكَانهَا، ومددت يَدي فَقَالَت: على رسلك، فَقلت: إِحْدَاهُنَّ وَرب الْكَعْبَة، فَقَالَت: الْحَمد لله وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله، أما بعد، فَإِنِّي امْرَأَة غَرِيبَة، وَلَا وَالله مَا ركبت مركبا هُوَ أصعب عَليّ من هَذَا، وَأَنت رجل لَا أعرف أخلاقك، فخبرني بِمَا تحب آته وَبِمَا تكره أزدجر عَنْهُ، أَقُول قولي هَذَا، واستغفر الله لي وَلَك. قَالَ فَقلت: الْحَمد لله وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله، أما بعد فقد قدمت خير مقدمٍ، قدمت على أهل دارٍ زَوجك سيد رِجَالهمْ، وَأَنت إِن شَاءَ الله سيدة نِسَائِهِم، أحب كَذَا وأكره كَذَا، قَالَت: فَحَدثني عَن أختانك، أَتُحِبُّ أَن يزوروك؟ قَالَ قلت: إِنِّي رجل قاضٍ وأكره أَن يملوني، وأكره أَن ينقطعوا عني، قَالَ: فأقمت مَعهَا سنة أَنا كل يومٍ اشد سُرُورًا مني بِالْيَوْمِ الَّذِي مضى، فَرَجَعت يَوْمًا من مجْلِس الْقَضَاء فَإِذا عَجُوز تَأمر وتنهي فِي منزلي، فَقلت: من هَذِه يَا زَيْنَب؟ قَالَت: هَذِه ختنتك، هَذِه أُمِّي، قلت: كَيفَ حالك يَا هَذِه؟ قَالَت: كَيفَ حالك يَا أَبَا أُميَّة، وَكَيف رَأَيْت أهلك؟ قَالَ قلت: كل الْخَيْر، قَالَت: إِن الْمَرْأَة لَا تكون أَسْوَأ خلقا مِنْهَا فِي حالتين: إِذا ولدت غُلَاما وَإِذا حظيت عِنْد زَوجهَا، فَإِن رَابَك من أهلك ريب فالسوط السَّوْط، قلت: أشهد أَنَّهَا ابْنَتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الْأَدَب. فَكَانَت تجيئني فِي كل حولٍ مرّة فتوصي بِهَذِهِ الْوَصِيَّة ثُمَّ تَنْصَرِف، فاقمت مَعهَا عشْرين سنة مَا غضِبت عَلَيْهَا يَوْمًا وَلَا لَيْلَة، إِلَّا يَوْمًا وَكنت لَهَا ظَالِما وَذَلِكَ أَنِّي ركعت رَكْعَتي الْفجْر وأبصرت عقربًا فعجلت عَن قَتلهَا فكفأت عَلَيْهَا الْإِنَاء وبادرت إِلَى الصَّلَاة وَقلت: يَا زَيْنَب إياك والإناء، فعجلت إِلَيْهِ فحركته فضربتها الْعَقْرَب، فَلَو رَأَيْتنِي يَا شعبي وَأَنا أمص إصبعيها وأقرأ عَلَيْهِمَا المعوذتين، وَكَانَ لي جَار يُقَال لَهُ قيس بْن جرير لَا يزَال يقرع مريئته، فَعِنْدَ ذَلِك أَقُول:
رَأَيْت رجَالًا يضْربُونَ نِسَاءَهُمْ ... فشلت يَمِيني يَوْم أضْرب زينبًا
وَأَنا الَّذِي أَقُول:
إِذا زَيْنَب زارها أَهلهَا ... حشدت وأكرمت زوارها
وَإِن هِيَ زارتهم زرتها ... وَإِن لم تكن لي هوى دارها
يَا شعبي، فَعَلَيْك بنساء بني تَمِيم فَإِنَّهُنَّ النِّسَاء.(1/568)
شُرُوح وتعليقات على خبر شُرَيْح
قَالَ القَاضِي: قَدْ رُوِّينَا خبر شُرَيْح فِي نِكَاحه زَيْنَب من غير طَرِيق، عثرنا على هَذَا مِنْهَا فأثبتناه، وَهُوَ كافٍ من غَيره. وَفِي بعض مَا روينَاهُ، بَيت يَلِي قَوْله:
رَأَيْت رجَالًا يضْربُونَ نِسَاءَهُمْ ... فشلت يَمِيني يَوْم أضْرب زينبًا
وَهُوَ:
وَزَيْنَب شمس وَالنِّسَاء كواكب ... إِذا طلعت لم تبْق مِنْهُنَّ كوكبا
قَالَ القَاضِي: وَقد أغار شُرَيْح فِي هَذَا الْبَيْت على قَول النَّابِغَة فِي مدح النُّعْمَان بْن الْمُنْذر:
ألم تَرَ أَن اللَّه أَعْطَاك سُورةً ... تَرى كُلّ ملكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ
فَإنَّك شمس والملوكُ كواكبُ ... إِذا طلعتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي الْخَبَر جَارِيَة رؤد يُرِيد وصفهَا بِأَنَّهَا فِي اقتبال شبابها كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
خمصانة قلق موشحها ... رؤد الشَّبَاب غلا بهَا عظم
وَقَوله: أهديت إِلَى زَوجهَا فِيهِ لُغَتَانِ: هديت الْعَرُوس إِلَى زَوجهَا هداء وَأهْديت إهداء، وَطرح الْألف أَكثر، فَكَأَنَّهُ من الْهِدَايَة لَا من الْهَدِيَّة، وَهُوَ أشبه وأليق بِالْمَعْنَى، وَمن الهداء قَول زُهَيْر:
فَإِن تكن النِّسَاء مخبآتٍ ... فَحق لكل محصنةٍ هداء
وَأما قَول زَيْنَب لشريح هَذِه ختنتك فقد تكلم فِي هَذَا قوم من الْفُقَهَاء واللغويين، وحاجة الْفُقَهَاء إِلَى معرفَة ذَلِك بَينه، وَإِذ قد يُوصي الْمَرْء لأصهار فلَان وأختانه؛ وَقد يحلف لَا يكلم أَصْهَار فلَان وأختانه، فَقَالَ قوم: يكون الْأخْتَان من قبل الرجل والأصهار من قبل الْمَرْأَة. وَذهب قوم فِي هَذَا إِلَى التَّدَاخُل والاشتراك وَهَذَا أصح المذهبين عِنْدِي، وَقد قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام.
مُحَمَّد النَّبِي أخي وصهري ... أحب النَّاس كلهم إليا
وَالنَّبِيّ أَبُو زَوجته؛ ويدلك على هَذَا قَوْلهم: قد أصهر فلَان إِلَى فلَان، وَبَين الْقَوْم مصاهرة وصهر، فَجرى هَذَا مجْرى النّسَب والمناسبة فِي إجرائهما على الطَّرفَيْنِ والعبارة بهما عَن الْجِهَتَيْنِ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصهراً " الْفرْقَان:54 وَقد جَاءَ عَن أهل التَّأْوِيل فِي قَول الله تَعَالَى: " وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً " النَّحْل: 72 أَقْوَال: قَالَ بَعضهم: هم الأصهار، وَقَالَ بَعضهم: هم الْأخْتَان، وَظَاهر هَذَا الْعَمَل على اخْتِلَاف الْمَعْنيين بِحَسب مَا ذهب إِلَيْهِ من قدمنَا الْحِكَايَة عَنْهُ، وَقد قَالَ: وَجَائِز أَن يكون عبر(1/569)
باللفظين عَن معنى وَاحِد، وَقد قَالَ بَعضهم: الحفدة الخدم، قَالَ الشَّاعِر:
حفد الولائد حَوْلهنَّ واسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
وَقَالَ رؤبة يُخَاطب أَبَاهُ:
إِن بنيك لكرام نجده ... وَلَو دَعَوْت لأتوك حفده
أَي سرَاعًا إِلَى معاونتك وَاتِّبَاع أَمرك، وَمن هَذَا قَوْلهم: وَإِلَيْك نسعى ونحفد أَي نجد فِي عبادتك ونسعى فِي طَاعَتك.
الْمجْلس السَّابِع وَالسَّبْعُونَ
خطْبَة عمر فِي الْجَابِيَة واستجابته لدَعْوَة قسطنطين
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ النَّدِيمُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَطَاءِ بْنِ قَيْسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَابِيَةَ لِفَرْضِ الْخَرَاجِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، قَالَ: فشهدته دَعَا بِكُرْسِيٍّ مِنْ كَرَاسِيِّ الْكَنِيسَةِ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَكْرِمُوا النَّاسَ، إِنَّ خِيَارَكُمْ أَصْحَابِي، أَلا ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، أَلا ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، أَلا ثُمَّ يَظْهَرُ الْكَذِبُ وَيَكْثُرُ الْحَلِفُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، وَيَشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَشْهَدْ، أَلا فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةَ. يَدُ رَبِّكُمْ مَعَ الْجَمَاعَةَ، أَلا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ بَنِي آدم، فَهُوَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، أَلا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا، أَلا وَمَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَاتُهُ وَسَرَّتْهُ حَسَنَاتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. قُمْتُ فِيكُمْ بِقَدْرِ مَا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا.
ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى نَزَلَ أَذْرُعَاتٍ، وَقَدْ وَلَّى عَلَى الشَّامِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَعَا بِغَدَائِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الثَّرِيدِ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قَصْعَةٌ أُخْرَى، فَصَاحَ وَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا الَّذِي أَنْكَرْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: مَا بَالِي تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيَّ قَصْعَةٌ ثُمَّ تُرْفَعُ وَتُوضَعُ أُخْرَى؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ هَبَطْتَ أَرْضًا كَثِيرَةَ الأَطْعِمَةِ فَخِفْتُ عَلَيْكَ وَخَامَتَهَا، فَأَشِرْ إِلَى أَيِّهَا شِئْتَ حَتَّى أُلْزِمَكَهُ، فَأَشَارَ إِلَى الثَّرِيدِ، فَقَالَ قُسْطَنْطِينُ لِمُعَاوِيَةَ: جَادَ مَا خَرَّجْتَ مِنْهَا.
فَلَمَّا فرغ من غدائه قالم قُسْطَنْطِينُ وَهُوَ صَاحِبُ بُصْرَى بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ فَرَضَ عَلَيَّ الْخَرَاجَ فَاكْتُبْ لِي بِهِ، فَأَنْكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا فَرَضَ عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَرَضَ عَلَيَّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَعَبَاءَةً عَلَى كُلِّ جَلْجَلَةٍ يَعْنِي الْجَمَاجِمَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله عَنهُ لأبي عُبَيْدَة: مَا يَقُول هَذ1؟ قَالَ: كَذِبٌ، وَلَكِنِّي كُنْتُ صَالَحْتُهُ عَلَى مَا(1/570)
ذَكَرَ لِيَسْتَمْتِعَ بِهِ الْمَسْلِمُونَ فِي شِتَائِهِمْ هَذَا، ثُمَّ تَقَدَّمُ أَنْتَ فَتَكُونُ الَّذِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَبُو عُبَيْدَةَ أَصْدَقُ عِنْدَنَا مِنْكَ، فَقَالَ قُسْطَنْطِينُ: صَدَقَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَذَبْتُ أَنَا، قَالَ: فَوَيْحَكَ، مَا أَرَدْتَ بِمَقَالَتِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَخْدَعَكَ، وَلَكِنْ أَفْرِضْ عَلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ الآنَ، قَالَ: فَجَاثَاهُ النَّبَطِيُّ مُجَاثَاةَ الْخَصْمِ عَامَّةَ النَّهَارِ، فَفَرَضَ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وعَلى الْمُفلس المدقع اثْنَيْ عَشَرَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ أَنْ يُشَاطِرَهُمْ مَنَازِلَهُمْ وَيَنْزِلَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى أَنْ لَا يَضْرِبُوا بِنَاقُوسٍ، وَلا يَرْفَعُوا صَلِيبًا إِلا فِي جَوْفِ كَنِيسَةٍ، وَعَلَى أَنْ لَا يُحْدِثُوا إِلا مَا فِي أَيْديهم، وعَلى أَن لَا يقرُّوا خِنْزِيرًا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى أَنْ يُقْرُوا ضَيْفَهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَعَلَى أَنْ يَحْمِلُوا رَاجِلَهُمْ مِنْ رستاقٍ إِلَى رُسْتَاقٍ، وَعَلَى أَنْ يُنَاصِحُوهُمْ وَلا يَغِشُّوهُمْ، وَعَلَى أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا، فَمَنْ وفى لنا وَفينَا لَهُ منعناه مِمَّا نمْنَع نمنه نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَمَنِ انْتَهَكَ شَيْئًا من ذَلِكَ اسْتَحْلَلْنَا بِذَلِكَ سَفْكَ دَمِهِ وَسِبَاءَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
فَقَالَ لَهُ قُسْطَنْطِينُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اكْتُبْ لِي بِهِ كِتَابًا، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ ذَكَرَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَثْنِي عَلَيْكَ مَعُرَّةَ الْجَيْشِ، فَقَالَ النَّبَطِيُّ: لَكَ ثِنْيَاكَ، وَقَبَّحَ اللَّهُ من أقَال:. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ قُسْطَنْطِينُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُمْ فِي النَّاس فأعلمهم كتابك لي لِيَتَنَاهَوْا عَنْ ظُلْمِنَا وَالْفَسَادِ عَلَيْنَا، فقالم عُمَرُ فَخَطَبَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ قَالَ النَّبَطِيُّ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُضِلُّ أَحَدًا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شَيْئًا تَكَلَّمَ بِهِ، فَعَادَ عُمَرُ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ أَعَادَ النَّبَطِيُّ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي مَا يَقُولُ، قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أَحَدًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ عُدْتَ لأَضْرِبَنَّ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، وَمَضَى عُمَرُ فِي خُطْبَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ قُسْطَنْطِينُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ فَاقْضِهَا لِي، فَإِنَّ لِي عَلَيْكَ حَقًّا، قَالَ: وَمَا حَقُّكَ عَلَيْنَا؟ قَالَ: إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالصَّغَارِ، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ إِنْ كَانَ لَكَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ فَعَلْنَا، قَالَ: تَغَدَّى عِنْدِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّكَ، قَالَ: وَلَكِنَّهَا مَكْرُمَةٌ وَشَرَفٌ أَنَالُهُ، قَالَ: فَانْطَلِقْ حَتَّى نَأْتِيَكَ، فَانْطَلَقَ فَهَيَّأَ فِي كَنِيسَةِ بُصْرَي وَنُجُدِهَا وَهَيَّأَ فِيهَا الأَطْعِمَةَ وَقِبَابَ الْخَبِيصِ وَكَانُونًا عَلَيْهِ الْمِجْمَرُ، فَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ نَزَلُوا فِي بَعْضِ الْبَيَادِرِ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي وَتَبِعَهُ النَّاسُ وَالنَّبَطِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِعُمَرَ فَقَالَ: لَا يَتَّبِعْنِي أَحَدٌ، وَمَضَى هُوَ وَالنَّبَطِيُّ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ إِذَا هُوَ بِالسُّتُورِ وَالْبُسُطِ وَقِبَابِ الْخَبِيصِ وَالْمِجْمَرِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبَطِيِّ: وَيْلَكَ، لَوْ نَظَرَ مَنْ خَلْفِي إِلَى مَا هَاهُنَا لَفَسَدَتْ عَلَيَّ قُلُوبُهُمْ، اهْتِكْ مَا أَرَى، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ، قَالَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَأْكُلَ طَعَامَكَ فَاصْنَعْ مَا آمُرُكَ بِهِ، فَهَتَكَ السُّتُورَ وتزع الْبُسُطَ وَأَخْرَجَ عَنْهُ الْمِجْمَرَ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ إِلَى رِحَالِنَا فَأْتِنَا بِأَنْطَاعٍ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ فَبَسَطَهَا فِي الْكَنِيسَةِ، ثُمَّ(1/571)
عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الْخَبِيصِ وَمَا كَانَ هَيَّأَ فَعَكَسَ بَعْضَهُ عَلَى بعض وَقَالَ: أعتدك شَيْءٌ آخَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ عِنْدَنَا بَقْلٌ وَشِوَاءٌ، قَالَ: إِيتِنِي بِهِ، فَأَخَذَهُ فَخَلَطَ الشِّوَاءَ بِالْخَبِيصِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَجَعَلَ يَحْمِلُ بِيَدَيْهِ وَيَجْعَلُهُ عَلَى الأَنْطَاعِ.
قَالَ طَلْحَةُ فَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَأَمْلَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَزَادَنِي فِيهِ، قَالَ فَقَالَ النَّبَطِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الطَّعَامَ لَا يُؤْكَلُ هَكَذَا، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: وَيْلٌ لَكَ وَلأَصْحَابِكَ إِذَا جَاءَ مَنْ يُحْسِنُ يَأْكُلُ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ النَّاسَ، فَجَاءُوا فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ وَأَقْبَلُوا يَأْكُلُونَ، فَرُبَّمَا وَقَعَتِ اللُّقْمَةُ مِنَ الْخَبِيصِ فِي فَمِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا طَعَامٌ مَا رَأَيْنَاهُ، فَيَقُولُ عُمَرُ: وَيْلُكَ أَمَا تَسْمَعُ؟ كَيْفَ لَوْ رَأَوْا مَا رَأَيْتَ؟!
فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ النَّبَطِيُّ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ قَدِ اجْتَمَعُوا، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَخْلاقٌ وَسِخَةٌ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَخْدَعَهُ حَتَّى يَنْزِعَهَا وَيَلْبَسَ ثِيَابًا حَتَّى يَقْضِيَ جُمْعَتَهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا أَنَا فَلا أَدْخُلُ فِي هَذَا بَعْدَ إِذْ نَجَوْتُ مِنْهُ أَمْسِ، فَقَالَ لَهُ النَّبَطِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثِيَابُكَ قَدِ اتَّسَخَتْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعْطِينَاهَا حَتَّى نَغْسِلَهَا وَنَرَمُّهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَغَسَلَ الثِّيَابَ وَتَرَكَهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ هَيَّأَ لَهُ قَمِيصًا مَرَوِيًّا وَرِدَاءً قَصَبِيًّا فَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ قَالَ لَهُ عُمَرُ: إِيتِنِي بِثِيَابِي، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا جَفَّتْ، وَنَحْنُ نُعِيرُكَ ثَوْبَيْنِ حَتَّى تَقْضِيَ جُمُعَتَكَ، فَقَالَ: أَرِنِي، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقَمِيصِ قَالَ: وَيْحَكَ كَأَنَّمَا رُفِيَ هَذَا رَفْوًا، أَغْرِبْهُمَا عَنِّي وَائْتِنِي بِثِيَابِي، فَجَاءَ بِهَا تَقْطُرُ، فَجَعَلَ يَتَنَاوَلَهَا، وَجَعَلَ النَّبَطِيُّ يَأْخُذُ بِطَرَفِ الثَّوْبِ وَعُمَرُ بِالطَّرَفِ الآخَرِ وَيَعْصِرُهَا، ثُمَّ دَعَا بِكُرْسِيٍّ مِنْ كَرَاسِيِّ الْكَنِيسَةِ فَقَامَ عَلَيْهِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَمْسَحُ ثِيَابَهُ وَيُمَدِّدُهَا، قَالَ: فَسَأَلَهُ أَيُّ شيءٍ كَانَتْ ثِيَابُهُ؟ قَالَ: غَزْلُ كتانٍ. قَالَ: وَجَاءَتِ الرُّهْبَانُ فَقَامُوا وَرَاءَ النَّاسِ وَعَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ تَبْرُقُ بَرِيقًا، وَمَعَهُمْ عِصِيٌّ فِيهَا تُفَّاحُ الْفِضَّةِ، وَمَعَهُمُ الْمَوَاكِبُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى هَيْئَتِهِ قَالُوا: أَنْتُمُ الرُّهْبَانُ!! لَا وَالله، وَلَكِنْ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةُ، مَا أَنْتُمْ عِنْدَهُ إِلا مُلُوكٌ.
مشاطرة السكان بِدِمَشْق مَنَازِلهمْ
قَالَ: ثُمَّ ارتحل عمر حَتَّى أَتَى دمشق فشاطرهم مَنَازِلهمْ وكنائسهم، وَجعل يَأْخُذ الحيز القبلي من الْكَنِيسَة لمَسْجِد الْمُسلمين لِأَنَّهَا أنظف وَأظْهر، وَجعل يَأْخُذ هُوَ بِطرف الْحَبل وَيَأْخُذ النبطي بِطرف الْحَبل حَتَّى شاطرهم مَنَازِلهمْ، قَالَ: فَرُبمَا أزحف فَأخذ الْحَبل مِنْهُ فأعقبه. ففرغ عمر من دمشق وحمص وَبعث أَبَا عُبَيْدَة إِلَى قنسرين وحلب ومنبج، فَفعل بهَا كَمَا فعل عمر، وَرجع عمر من حمص إِلَى الْمَدِينَة.
عِيَاض بْن غنم وَصلح الرها
قَالَ: فَلَمَّا نزل أَبُو عُبَيْدَة منبج بعث عِيَاض بْن غنم فِي عشْرين فَارِسًا فَأتى الرها وَقد اجْتمع بهَا أهل الجزيرة من الأنباط، فَأَتَاهَا ابْن غنم فَوقف عِنْد بَابهَا الشَّرْقِي على فرس(1/572)
أَحْمَر مَحْذُوف، فَأخْبرنَا أَحْمَد بْن مُعَاوِيَة عَن مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَان بْن عَطاء، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن جدي عَمَّن سمع عياضًا وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام فَأَبَوا عَلَيْهِ، فَعرض عَلَيْهِم الْجِزْيَة فأقروا، وَقد عرفُوا شَرط عمر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ على أهل الشَّام فَقَالُوا: نعم نقر على أَن نشترط، قَالَ: نعم فَاشْتَرَطُوا ونشترط، فَاشْتَرَطُوا كنائسهم الَّتِي فِي أَيْديهم على أَن يؤدوا خراجها وَمَا لَجأ إِلَيْهَا من طَائِر وصلمهم الَّتِي فِي كنيستهم قَالَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بْن عَطاء: الصلم الْخَشَبَة الَّتِي يَزْعمُونَ أَن عِيسَى بْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام صلب عَلَيْهَا لم يقل صلبهم وسور مدينتهم، قَالَ عِيَاض: فَإِنِّي أشْتَرط أَنا أَيْضا، فأشترط عَلَيْهِم أَن يشاطرهم مَنَازِلهمْ وَينزل فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى أَنْ لَا يحدثوا كَنِيسَة إِلَّا مَا فِي أَيْديهم، وعَلى أَن لَا يرفعوا صليبًا وَلَا يضْربُوا بناقوسٍ إِلَّا فِي جَوف كَنِيسَة، وَأَن يقرُّوا ضيف الْمُسلمين يَوْمًا وَلَيْلَة، وعَلى أَن يحملوا راجل الْمُسلمين من رستاقٍ، إِلَى رُسْتَاقٍ وَعَلَى أَنْ لَا يعمروا خنزيرًا بَين ظهراني الْمُسلمين، وعَلى أَن يناصحوا الْمُسلمين وَلَا يغشوهم وَلَا يمالئوا عَلَيْهِم عدوا، وَمن وفى لنا وَفينَا لَهُ وَمَنَعْنَاهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَمَنِ انْتَهَكَ شَيْئًا من ذَلِك استحللنا سفك دَمه وسباء أَهله وَمَاله، فَقَالُوا: اكْتُبْ بَيْننَا وَبَيْنك كتابا، فتورك عِيَاض على فرسه، فَلَمَّا فرغ قَالُوا: اشْهَدْ لنا، قَالَ: فَكتب شهد الله وَمَلَائِكَته وَكفى بِاللَّه شيهداً. وَدفع الْكتاب إِلَيْهِم فَدخل فِي شرطهم جَمِيع أهل الجزيرة. وَأما الأَرْض فَهِيَ للْمُسلمين وَأَنْتُم عمالهم فِيهَا.
تعليقات للْقَاضِي
قَالَ القَاضِي: قَوْله: فَمن أَرَادَ بحبوحة الْجنَّة يَعْنِي فضاءها وسعتها كَمَا قَالَ جرير:
قومِي تَمِيم هم الْقَوْم الَّذين هم ... ينفون تغلب عَن بحبوحة الدَّار
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جعل أهل الْجِزْيَة طَبَقَات، فَفرض على أغنيائهم مِقْدَارًا من الْجِزْيَة، وعَلى الْمُتَوَسّط مِنْهُم مِقْدَارًا متوسطًا بَين مَا فَرْضه على أعلاهم طبقَة وَمَا جعله على أدونهم فِي الوجد منزلَة، وَظهر ذَلِك من فعله واستفاض فِي الصَّحَابَة فَلم يظره من أحدهم إِنْكَار لَهُ وَلَا مُخَالفَة فِيهِ، ثُمَّ تلاه فِي ذَلِك أَئِمَّة أهل الْعلم بِالدّينِ فِي جَمِيع أَمْصَار الْمُسلمين، وَبِهَذَا نقُول؛ وَكَانَ الشَّافِعِي يرى أَلا يتَجَاوَز فِي قد الْجِزْيَة دِينَارا أَو عدله، واستقصاء الْكَلَام وَالْحجاج فِي هَذَا يطول، وَهُوَ مرسوم فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْفِقْه.
عمر يرحل لنَفسِهِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ أَبُو جَعْفَرٍ الأَنْبَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاخُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَيْقَظْنَا لَيْلَةً وَقَدْ رَحَّلَ لَنَا رَوَاحِلَنَا وَهُوَ يَرْحَلُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ:(1/573)
لَا يَأْخُذُ اللَّيْلُ عَلَيْكَ بِالْهَمِّ ... والبس لَهُ هَذَا الْقَمِيص واعم
وَكُنْ شَرِيكَ رافعٍ وَأَسْلَمَ ... ثُمَّ اخْدِمِ الأَقْوَامَ حَتَّى تُخْدَمِ
قَالَ فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَيْقَظْتَنَا لَكَفَيْنَاكَ.
قَالَ القَاضِي: كَأَن أَبَا تَمام سمع هَذَا فَأخذ مِنْهُ قَوْله:
فَمن خدم الأقوام يَرْجُو نوالهم ... فَإِنِّي لم أخدمك إِلَّا لأخدما
وَقَوله: مؤمله حَتَّى مؤملا
قُمْت وَأَنا عمر وَرجعت وَأَنا عمر
وروينا فِي معنى مَا فعله عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَتَى هَذَا الْخَبَر بِهِ عَن بعض السّلف أَنه قَالَ لَا بن عمر بْن عبد الْعَزِيز: مَا رَأَيْت رجلا أكْرم من أَبِيك، سمرت مَعَه ذَات ليلةٍ فَخفت الْمِصْبَاح، فَقَامَ إِلَيْهِ فأصلحه، فَقلت لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هلا أمرت بإصلاحه، فَقَالَ: قُمْت وَأَنا عمر بْن عبد الْعَزِيز وَرجعت وَأَنا عمر بْن عبد الْعَزِيز.
إِنَّا لَا نتَّخذ الإخوان خولا
وَرُوِيَ نَحْو هَذَا عَن الأبرش الْكَلْبِيّ وَقد قَامَ ليصلح الْمِصْبَاح، فَقَالَ لَهُ صَاحب الْمجْلس: مَه لَيْسَ من الْمُرُوءَة أَن يستخدم الرجل ضَيفه؛ ويروى أَنه قَالَ: إِنَّا لَا نتَّخذ الإخوان خولا.
فَرْوَة بْن مسيك يفد على الرَّسُول
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أخبرنَا الْأَصْمَعِي عَن أَبِي عَمْرو بْن الْعَلاء قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُرَادٍ وَبَيْنَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قِتَالٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاسْتَعَانَتْ بَنُو الْحَارِثِ بِهَمْدَانَ عَلَى مُرَادٍ، فَقُتِلَ مِنْ هَؤُلاءِ أَلْفٌ وَمِنْ هَؤُلاءِ أَلْفٌ، وَذَلِكَ يَوْمَ الرَّزْمِ، فَدَخَلَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ عَنْ قَوْمِكَ يَوْمَ الرَّزْمِ؟ فَقَالَ فَرْوَةُ: يَا رَسُولَ الله:
إِن نَهْزِمْ فَهَزَّامُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا
كَذَاكَ الْحَرْبُ صَوْلَتُهَا سِجَالٌ ... تَكِرُّ صُرُوفُهَا حِينًا فَحِينَا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَدْتُ هَذَا، وَأَنَّ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ قَوْمُكَ هُوَ الَّذِي حَرَّضَهُمْ عَلَى الإِسْلامِ.
أَنْت الَّذِي يكذب من يحدث بأنعم الله؟
حَدثنَا أَبُو طَالب الْكَاتِب عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْن مَنْصُور الزيَادي قَالَ حَدَّثَنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ أَخْبَرَنَا معمر عَن زِيَاد بْن جبل عَن أَبِي كَعْب الْحَارِثِيّ، وَهُوَ ذُو الْإِدَاوَة، قَالَ: سمعته يَقُول: خرجت فِي طلب إبل لي ضوال، فتزودت لَبَنًا فِي إداوة، قَالَ ثُمَّ قلت فِي نَفسِي: مَا أنصفت رَبِّي فَأَيْنَ الْوضُوء؟ قَالَ: فهرقت اللَّبن وملأتها مَاء، فَقلت: هَذَا وضوء وَهَذَا شراب، قَالَ فَكنت أبغي إبلي فَإِذا أردْت أَن أتوضأ اصطببت من الْإِدَاوَة مَاء فَتَوَضَّأت، وَإِذا أردْت أَن أشْرب اصطببت لَبَنًا فَشَربته، فَمَكثت بذلك ثَلَاثًا فَقَالَت لَهُ أَسمَاء النجرانية: يَا أَبَا كَعْب أحقينًا كَانَ أم حليبًا، فَقَالَ: إِنَّك لظالمة، كَانَ(1/574)
يعْصم من الْجُوع ويروي من الظمأ، أما إِنِّي حدثت بِهَذَا نَفرا من قومِي مِنْهُم عَليّ بْن الْحَارِث سيد بني قنان فَقَالَ: مَا أَظن الَّذِي تَقول كَأَن تَقول، قَالَ قلت: الله أعلم بذلك، قَالَ فَرَجَعت إِلَى منزلي فَبت لَيْلَتي تِلْكَ، قَالَ: فَإِذا أَنا بِهِ صَلَاة الصُّبْح على بَابي فَخرجت إِلَيْهِ، قَالَ فَقلت: يَرْحَمك الله لم تعنيت إِلَيّ؟ أَلا أرْسلت إِلَيّ فآتيك؟ قَالَ: لَا، فَإِنِّي أَحَق بذلك أَن آتِيك، مَا نمت اللَّيْلَة إِلَّا أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: أَنْت الَّذِي يكذب من يحدث بأنعم الله؟! موقف الْمُتَكَلِّمين من الكرامات
قَالَ القَاضِي: قد أنكر جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين أَن يظْهر الله تَعَالَى من آيَاته مَا يخرج عَن عادات النَّاس على مُرُور الزَّمَان وكرور الْأَيَّام إِلَّا لنَبِيّ، علما لَهُ شَاهدا بصدقه ودليلا على صِحَة نبوته، أَو فِي زمَان نَبِي وَنَفَوْا جَوَاز هَذَا وَأَن يُؤَيّد بِهِ أحد من الْآدَمِيّين لَيْسَ بني وَإِن كَانَ على غَايَة الصّلاح فِي دينه، وَالطَّهَارَة فِي نَفسه وَقُوَّة يقينه، وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة من أَشد النَّاس دفعا لَهُ وتكذيبًا لمن حكى شَيْئا مِنْهُ، وَقد كَانَ أَبُو بكر ابْن الإخشيد يُجِيز هَذَا إِذا جرى على يَد من لَيْسَ بِنَبِي إِذْ أيد بِهِ على وَجه يرجع إِلَى تَصْدِيق النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّهَادَة بِصِحَّة رسَالَته وَأَبُو بكر من أماثل الْمُعْتَزلَة فِي علمه وَبَيَانه وَنَظره وتدينه. وَرَأَيْت بعض من شَاهَدْنَاهُ من نظاري الْمُعْتَزلَة وَذَوي التدين مِنْهُم يُجِيز إِظْهَار مثل ذَلِك، هَذَا للصالحين وعَلى أَيدي الْأَبْرَار المخلصين، وَفِي ذكر مَا يحْتَج بِهِ لأهل هَذَا القَوْل وَعَلَيْهِم وَإِثْبَات مَا رُوِيَ فِيهِ من الْأَخْبَار المستفيضة المنتشرة وَمَا حُكيَ عَمَّن ظَهرت عَدَالَته واشتهر علمه وأمانته طول لَيْسَ هَذَا مَوضِع اسْتِقْصَائِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَاب مِمَّا يَدْفَعهُ عقل وَلَا نظر وَلَا سمع وَلَا خبر.
وَقد كَانَ بعض الْمُتَكَلِّمين ورواة الْأَخْبَار من المتثبتين يجيزون ظُهُور هَذِه الْحَوَائِج على أَيدي الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ من أئمتهم وأئمة الدَّين بعدهمْ، وَيمْنَع من ظُهُورهَا على من يَدعِي النُّبُوَّة كَاذِبًا ويتدين دينا بَاطِلا، ويذهبون إِلَى أَن فِي تَجْوِيز ذَلِك إِفْسَاد الْأَدِلَّة وَالْتِبَاس الْحجَّة والتسوية بني ذَوي الْهدى والضلالة وَالْولَايَة والعداوة، وأجازوا ظُهُور هَذِه الْأَشْيَاء على يَد من يَدعِي الربوبية على وَجه الْفِتْنَة وتغليظ الْفِتْنَة، كَالَّذي رُوِيَ من أَمر الدَّجَّال وَأَنه يتبعهُ جنَّة ونارن وَقَالُوا: لَيْسَ فِي إضلال النَّاس وَلَا لبس فِي دينهم، لِأَن الْأَسْنَان مرسوم بِمَا لَا يَنْفَكّ مِنْهُ مِمَّا يدل على حَدثهُ وَأَنه مَخْلُوق كَائِن بعد أَن لم يكن، فَأَما الدَّجَّال فَإِنَّهُ مَعَ مَا فِيهِ من سمة الْحَدث الَّتِي يُشَارك فِيهَا سَائِر النَّاس مرمي بالعاهة الظَّاهِرَة لأعين الناظرين، النافية للشَّكّ فِي أمره عَن قُلُوب العاقلين. وَأما النُّبُوَّة فَصدق من يدعيها وَكذب من هُوَ مُبْطل فِي ادعائها، فَإِن هذَيْن الْفَرِيقَيْنِ مشتركان من جِهَة الْخلقَة وَالصُّورَة والهيئة الإنسانية.
الْمجْلس الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ
حَدِيث الرَّسُول عَن فتْنَة الدَّجَّال
أخبرنَا القَاضِي أبن الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن الْحَجَّاجِ بْنِ فَرْقَدٍ الْقَطَّانُ قَالَ حَدَّثَنَا(1/575)
إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ حَدِيثًا غَلِيظًا حَتَّى فَاضَتْ أَعْيُنُ الْقَوْمِ يَنْتَحِبُونَ عَنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، ثُمَّ قَامَ عَنْهُمْ فَخَرَجَ وَهُمْ كَذَلِكَ، فَسَكَبْتُ لَهُ وَضُوءًا فِي الإِنَاءِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَالْوَضُوءُ يَقْطُرُ مِنْهُ، فَاعْتَمَدَ عَلَى عَارِضَتَيِ الْبَابِ ثُمَّ قَالَ: مَهْيَمْ، قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَكُنْتُ جَارِيَةً نَاهِدًا جَرِيَّةً عَلَى مَسْأَلَتِهِ، فَقُلْتُ حِينَ لَمْ يُجِيبُوهُ: مَهْيَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلَعْتَ قُلُوبَنَا بِالأَعْوَرِ الدَّجَّالِ وَقَدْ كَانَ حَدَّثَ الْقَوْمَ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ تَنْحَازُ إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَرْضِ وَأَطْعِمَتُهَا فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْجِنُ عَجِينِي ثُمَّ مَا يَأْنِي لِي حَتَّى إِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَفْتِنَنِي، تَعْنِي الْجُوع، قَالَ: لَا بَأْس، لَا بَأْسَ، إِنْ خَرَجَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَحَدَّثَنِي أَنَّ مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يقرأه كُلُّ مُسْلِمٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ أَن التبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر لَهُ مَا يُقَالُ إِنَّهُ يَتْبَعُ الدَّجَّالُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا، فَقَالَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي أَمر الدَّجَّال وظهوره ومهلكه كَثِيرَة جدا، ونسأل الله أَن يعيذنا من فتنته، ويجيرنا من ضلالته، ويعصمنا من فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات برحمته.
إِنَّهَا حسناء فَلَا تفرك
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاق ابْن بُهْلُولٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ طِوَالٌ عَلَى عُنُقِهِ مِثْلُ الْمَهَاةِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ:
عُدْتُ لِهَذِي جَمَلا ذَلُولا ... مُوَطَّأً أَتَّبِعُ السُّهُولا
أَعْدِلُهَا بِالْكَفِّ أَنْ تَمِيلا ... أَحْذَرُ أَنْ تَسْقُطَ أَوْ تَزُولا
أَرْجُو بِذَاكَ نَائِلا جَزِيلا
فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ وَهَبْتَ حَجَّكَ لَهَا؟ قَالَ: امْرَأَتِي، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا عَلَى ذَاك لحمقاء مرغمة، أكول قمامة، لَا يبْقى لَهَا حامة، وَلَكِنَّهَا حَسْنَاءُ فَلا تُفْرَكُ وَأُمُّ عيالٍ فَلا تُتْرَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: فَشَأْنُكَ إِذًا بِهَا.
شُرُوح وتعليقات
قَالَ القَاضِي: قَوْله: مثل المهاة الْبَيْضَاء يَعْنِي الْبَقَرَة الوحشية، وَيُقَال للبلورة مهاة، وَكَأَنَّهُ قصد بِهَذَا القَوْل الْبَيَان عَن الصفاء وَالْحسن والضياء. وَيُقَال مَا لهَذَا الْعَيْش مهاه أَي نور وبهجة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:(1/576)
وَلَيْسَ لعيشنا هَذَا مهاة ... وَلَيْسَت دَارنَا الدُّنْيَا بدار
يرْوى مهاة بتاءٍ فِي الْوَصْل يُوقف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ، لِأَنَّهَا للتأنيث، وَهِي فعلة مثل حَصَاة ويروى مهاة على أَن الْهَاء أَصْلِيَّة وَهِي لَام الْفِعْل وَزنهَا فعال مثل سفاه. وَقَوله: أعدلها بالكف أَن تميلا قيل مَعْنَاهُ: عَن أَن تميل، والكوفيون يتأولونه بِمَعْنى لِئَلَّا تميل، وَقَالُوا مثل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم " الْأَنْبِيَاء:31 أَنه بِمَعْنى أَلا تميد بكم، وَقَالُوا فِي قَوْله عز وَجل: " يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا النِّسَاء: 176 مَعْنَاهُ أَن لَا تضلوا. وأنشدوا فِي هَذَا قَول الشَّاعِر:
رَأينَا مَا يرى البصراء فِيهَا ... فالينا عَلَيْهَا أَن تباعا
أَي أَن لَا تبَاع.
وَأنكر البصريون هَذَا وَقَالُوا: الْمَعْنى يبين الله لكم كَرَاهِيَة أَن تضلوا وحملوا معنى الْبَيْت على نَحْو هَذَا الْوَجْه.
وَقَوله: إِنَّهَا لحمقاء مرغامة إِن كَانَت الرِّوَايَة هَكَذَا فَهُوَ من المراغمة، وَهِي المشاقة والمخالفة، وَإِن كَانَ الصَّحِيح من الرِّوَايَة مرعامة بِالْعينِ المبهمة فَهُوَ من الرعام وَهُوَ المخاط. رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: صلوا فِي مرابض الْغنم وامسحوا رعامها فَإِنَّهَا من دَوَاب الْجنَّة. فَإِن كَانَت الرِّوَايَة هَكَذَا فَإِنَّهُ وصفهَا بالحمق، تَقول الْعَرَب: أَحمَق يمتخط بكوعه. وَمن قَالَ فِي الْخَبَر مرغامة بالغين الْمُعْجَمَة فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن يَقُول رغامها بِفَتْح الْيَاء. وَقَوله: لَا تبقى لَهَا حامة أَي طَائِفَة تَطوف لإفنائها خبز بَيتهَا. وَقَوله: وَلكنهَا حسناء فَلَا تفرك زعم أهل الْعلم باللغة أَن الْعَرَب تَقول: فركت الْمَرْأَة زَوجهَا تفركه إِذا أبغضته، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الرجل إِذا ابغض امْرَأَته: قد صلفت عِنْده، وَلَا يَقُولُونَ فركها. وَقد جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر حسناء فَلَا تفرك فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام مَحْفُوظًا وَكَانَ رِوَايَة من يضْبط هَذَا ويوثق بنقله ومعرفته فَهُوَ صَحِيح مُسْتَعْمل، مسْقط لقَوْل من زعم أَنه مرفوض مهمل، وَإِن كَانَت الرِّوَايَة غير ثابتةٍ فَمَا ذكره اللغويون الَّذين عنوا بِكَلَام الْعَرَب وميزوا مستعمله من مهمله أولى بإتباعهم وَالْأَخْذ بروايتهم وَإِثْبَات مَا أثبتوه وَنفي مَا نفوه وأسقطوه. وَقد قيل إِن امْرأ الْقَيْس كَانَ مفركًا أَي تبْغضهُ النِّسَاء، وَيُقَال امْرَأَة فارك كَمَا قَالَ متمم بْن نُوَيْرَة:
أَقُول لهندٍ حِين لم أَرض فعلهَا ... أَهَذا دلال الْعِشْق أم فعل فارك
وَيجمع الفارك فوارك، مثل قَاعد وقواعد، وَطَالِق وطوالق، وطاهر وطواهر، كَمَا قَالَ ذُو الرمة:
إِذا اللَّيْل عَن نشزٍ تجلى رمينه ... بأبصار أَمْثَال النِّسَاء الفوارك
وَهَذَا من الْجمع المطرد فِي الْعَرَبيَّة سَمَاعا وَقِيَاسًا.(1/577)
أسئلة عَليّ لِابْنِهِ الْحسن
حَدَّثَنَا بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن عَبدِي اللَّهِ أَبُو رَجَاءٍ مِنْ أَهْلِ تُسْتَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ أَنَّ عليا عَلَيْهِ السَّلَام ساءل ابْنَهُ الْحَسَنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْمُرُوءَةِ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ مَا السَّدَادُ؟ قَالَ: يَا أَبَةِ السَّدَادُ دَفْعُ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ؟ قَالَ: اصْطِنَاعُ الْعَشِيرَةِ وَحَمْلُ الْجَرِيرَةِ، قَالَ: فَمَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ: الْعَفَافُ وَإِصْلاحُ الْمَرْءِ مَالَهُ، قَالَ: فَمَا الدِّقَّةُ؟ قَالَ: النَّظَرُ فِي الْيَسِيرِ وَمَنْعُ الْحَقِيرِ، قَالَ: فَمَا اللُّؤْمُ؟ قَالَ: إِحْرَازُ الْمَرْءِ نَفْسِهِ وَبَذْلَهُ عُرْسِهِ مِنَ اللُّؤْمِ، قَالَ: فَمَا السَّمَاحَةُ؟ قَالَ: الْبَذْلُ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، قَالَ: فَمَا الشُّحُّ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى مَا فِي يَدَيْكَ شَرَفًا وَمَا أَنْفَقْتُهُ تَلَفًا، قَالَ: فَمَا الإِخَاءُ؟ قَالَ: الْوَفَاءُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، قَالَ: فَمَا الْجُبْنُ؟ قَالَ: الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّدِيقِ وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوِّ، قَالَ: فَمَا الْغَنِيمَةُ؟ قَالَ الرَّغْبَةُ فِي التَّقْوَى وَالزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ، قَالَ: فَمَا الْحِلْمُ؟ قَالَ: كَظْمُ الْغَيْظِ وَمَلْكُ النَّفْسِ، قَالَ: فَمَا الْغِنَى؟ قَالَ: رِضَى النَّفْسِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، قَالَ: فَمَا الْفَقْرُ؟ قَالَ: شَرَهُ النَّفْسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: فَمَا الْمَنَعَةُ؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَاسِ وَمُنَازَعَةُ أَشَدِّ النَّاسِ، قَالَ: فَمَا الذُّلُّ؟ قَالَ الْفَزَعُ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ، قَالَ: فَمَا الْجُرْأَةُ؟ قَالَ مُوَافَقَةُ الأَقْرَانِ، قَالَ: فَمَا الْكُلْفَةُ؟ قَالَ كَلامُكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، قَالَ: فَمَا الْمَجْدُ؟ قَالَ: أَنْ تُعْطِيَ فِي الْغُرْمِ وَأَنْ تَعْفُوَ عَنِ الْجُرْمِ، قَالَ: فَمَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: حِفْظُ الْقَلْبِ عَنْ كُلِّ مَا اسْتَرْعَيْتَهُ، قَالَ: فَمَا الْخُرْقُ؟ قَالَ: مُعَادَاتُكَ لإِمَامِكَ وَرَفْعُكَ عَلَيْهِ كَلامَكَ، قَالَ: فَمَا السناء؟ قَالَ إيتان الْجَمِيلِ وَتَرْكُ الْقَبِيحِ، قَالَ: فَمَا الْحَزْمُ؟ قَالَ: طُولُ الأَنَاةِ وَالرِّفْقُ بِالْوُلاةِ وَالاحْتِرَاسُ مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ هُوَ الْحَزْمُ، قَالَ: فَمَا السَّرْوُ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الإِخْوَانِ وَحِفْظُ الْجِيرَانِ، قَالَ: فَمَا السَّفَهُ؟ قَالَ: اتِّبَاعُ الدَّنَاةِ وَمُصَاحَبَةُ الْغُوَاةِ، قَالَ: فَمَا الْغَفْلَةُ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ، قَالَ: فَمَا الْحِرْمَانُ؟ قَالَ: تَرْكُكَ حَظِّكَ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْكَ، قَالَ: فَمَا السَّيِّدُ؟ قَالَ: السَّيِّدُ الأَحْمَقُ فِي مَالِهِ الْمُتَهَاوِنُ فِي عِرْضِهِ، يَشْتُمُ فَلا يُجِيبُ الْمُتَحَرِّزُ بِأَمْرِ عَشِيرَتِهِ هُوَ السَّيِّدُ.
عَليّ يروي كَلِمَات للرسول
قَالَ ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلا وَحْشَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَا مُظَاهرَة أوثق من المشاروة، وَلا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ، وَلا إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ وَالصَّبْرِ. وَآفَةُ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ، وَآفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ، وَآفَةُ الْحِلْمِ السَّفَهُ، وَآفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ، وَآفَةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ، وَآفَةُ الشَّجَاعَةِ الْبَغْيُ، وَآفَةُ السَّمَاحَةِ الْمَنُّ، وَآفَةُ(1/578)
الْجَمَالِ الْخُيَلاءُ، وَآفَةُ الْحَسَبِ الْفَخْرُ. يَا بُنَيَّ لَا تَسْتَخِفَّنَّ بِرَجُلٍ تَرَاهُ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَعُدَّ أَنَّهُ أَبُوكَ، وَإِنْ كَانَ فِي مِثْلِ عُمْرِكَ فَهُوَ أَخُوكَ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَاحْسِبْ أَنَّهُ ابْنُكَ. فَهَذَا مَا سَاءَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنَهُ الْحَسَنَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُرُوءَةِ وَمَا أَجَابَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
تَعْلِيق القَاضِي
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر من جوابات الْحسن أَبَاهُ عَمَّا ساءله عَنْهُ من الْحِكْمَة وجزيل الْفَائِدَة مَا ينْتَفع بِهِ من راعاه وَحفظه، ووعاه وَعمل بِهِ، وأدب نَفسه بِالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وهذبها بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وتتوفر فَائِدَته بِالْوُقُوفِ عِنْده. وَفِيمَا رَوَاهُ فِي أضعافه أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَالا غنى بِكُل لَبِيب عليم ومدرهٍ حَكِيم عَن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتقبله، والمجدود من وفْق لامتثاله وتقبله.
الْمُغيرَة بْن حبناء عِنْد طَلْحَة الطلحات
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدَة قَالَ: قدم الْمُغيرَة بْن حبناء أحد بني مَالك بْن حَنْظَلَة على طَلْحَة الطلحات يطْلب صلته، فَأخْرج إِلَيْهِ حجري ياقوت فِي درجين فَقَالَ: أَيّمَا أحب إِلَيْك عشرَة آلَاف أَو الحجران؟ فَقَالَ: مَا كنت لأختار الْحِجَارَة على الدَّرَاهِم، فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف، ثُمَّ قَالَ: أَيهَا الْأَمِير إِن نَفسِي تنازعني إِلَى أحد الحجرين، فَدفعهُ إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ يَقُول:
أرى النَّاس غاضوا ثُمَّ فاضوا وَلَا أرى ... بني خلفٍ إِلَّا رواء الْمَوَارِد
إِذا نفعوا عَادوا لمن ينفعونه ... وكائن ترى من نَافِع غير عَائِد
فَألْقى إِلَيْهِ الْحجر الآخر.
أَعْرَابِي قَاتل اللُّصُوص وَنَجَا
حَدثنَا يزْدَاد بْن عبد الرَّحْمَن قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى يَعْنِي عِيسَى بْن إِسْمَاعِيل تينة حَدَّثَنِي الرياشي أَن لصوصاً وَقَعُوا على قوم فيهم أَعْرَابِي فسلبوهم ثِيَابهمْ، وَقَاتل الْأَعرَابِي حَتَّى نجا، فَأَنْشَأَ يَقُول:
سَائِلًا سَيفي هَل رويته ... حِين عز الرّيّ من هام اللُّصُوص
فر أَصْحَابِي وقاتلتهم ... باذلا نَفسِي لَهُم دون الْقَمِيص
كَاد يَدْعُو وينادي بَائِع ... من يفوز الْيَوْم بِالثَّوْبِ الرخيص
عمر بْن هُبَيْرَة يلجأ إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب
ليحمل عَنْهُ غرما
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعُقَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ طَلْحَة بْن مُحَمَّد الطلحي النديم قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُعَاوِيَة قَالَ، وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكُوفِي: أغرم سُلَيْمَان بْن عبد الْملك(1/579)
عمر بْن هُبَيْرَة من غزاته فِي الْبَحْر ألف ألف دِرْهَم، فَمشى إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب وَقد ولي الْعرَاق بعثمان بْن حَيَّان المري والقعقاع ابْن خَالِد الْعَبْسِي والهذيل بْن زفر بْن الْحَارِث الْكلابِي وَغَيرهم من قيس، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى بَاب سرادق يزِيد أذن لَهُم الْحَاجِب فِي دُخُوله، وأعلمهم أَنه يغسل رَأسه، فَلَمَّا فرغ خرج فِي سبنية فَألْقى نَفسه على فرشه ثُمَّ قَالَ: مَا ألف بَيْنكُم؟ فَقَالَ عُثْمَان: هَذَا ابْن هُبَيْرَة شَيخنَا وَسَيِّدنَا، كَانَ الْوَلِيد حمل مَعَه مَالا حَيْثُ وَجهه إِلَى الْبَحْر، فَأعْطَاهُ جنده، فَخرج عَلَيْهِ من غرمه ألف ألف دِرْهَم، فَقُلْنَا: يزِيد سيد أهل الْيمن ووزير لِسُلَيْمَان وَصَاحب الْعرَاق وَمن قد تحمل أَمْثَالهَا عَمَّن لَيْسَ مثلنَا، وَوَاللَّه لَو وسعتها أَمْوَال قيس لاحتملناها. ثُمَّ تكلم الْقَعْقَاع فَقَالَ: يَا ابْن الْمُهلب هَذَا خير سَاقه الله إِلَيْك، وَلَيْسَ أحد أولى بِهِ مِنْك، فافعل بِهِ كبعض فعلاتك الأول، فَلَنْ يصدك عَن قَضَاء هَذَا الْحق ضيق وَلَا بخل، وَقد أَتَيْنَاك مَعَ ابْن هُبَيْرَة فِيمَا حمل، فَهَب لنا أَمْوَالنَا واستر فِي الْعَرَب عورتنا. ثُمَّ تكلم الْهُذيْل بْن زفر فَقَالَ: يَا ابْن الْمُهلب، إِنِّي لَو وجدت من الممشى إِلَيْك بدا لما مشيت إِلَيْك، لِأَن أموالك بالعراق، وَإِنَّمَا أَتَيْتنَا خَائفًا، ثُمَّ أَقمت فِينَا ضيفًا، ثُمَّ تخرج من عندنَا محروبًا. وَايْم الله لَئِن تركناك بِالشَّام لنأتينك بالعراق، وَمَا هَا هُنَا أقرب فِي الحظوة وَأوجب للذمام. ثُمَّ تكلم ابْن خَيْثَمَة فَقَالَ: إِنِّي لَا أَقُول لَك يَا ابْن الْمُهلب مَا قَالَ هَؤُلَاءِ، أَخْبرنِي إِن أَنْت عجزت عَن احْتِمَال مَا عَليّ ابْن هُبَيْرَة فعلى من الْمعول، لَا وَالله ماعند قيس لَهُ فكاك، وَلَا فِي أَمْوَالهم متسع، وَلَا عِنْد الْخَلِيفَة لَهُ فرج. ثُمَّ تكلم ابْن هُبَيْرَة فَقَالَ: أما أَنا فقد قضيت حَاجَتي رددت أم أنجحت لِأَنَّهُ لَيْسَ لي أمامك مُتَقَدم وَلَا خَلفك مُتَأَخّر، وَهَذِه حَاجَة كَانَت فِي نَفسِي فقضيتها. فَضَحِك يزِيد بْن الْمُهلب وَقَالَ: إِن التَّعَذُّر أَخُو الْبُخْل، وَلَا أعْتَذر، فاحتكموا، فَقَالَ الْقَعْقَاع: نصف المَال، فَقَالَ يزِيد: قد فعلت، أرنا يَا غُلَام غداءك، قَالَ: فجيء بِالطَّعَامِ فأنكرنا مِنْهُ أَكثر مِمَّا عرفنَا، فَلَمَّا فَرغْنَا أَمر بتطييبنا وحملاننا وإجادة الْكسْوَة لنا، قَالَ: ثُمَّ خرجنَا، حَتَّى إِذا مَرَرْنَا قَالَ ابْن هُبَيْرَة: أخبروني عَمَّا بَقِي من يحملهُ بعد ابْن الْمُهلب؟ لقد صغر الله أقداركم وأخطاركم، وَالله مَا يدْرِي يزِيد مَا بَين النّصْف والتمام، وَمَا هما عِنْده إِلَّا سَوَاء، ارْجعُوا إِلَيْهِ فكلموه فِي الْبَاقِي، قَالَ: وَقد كَانَ يزِيد ظن بهم أَن سيرجعون إِلَيْهِ فِي التَّمام، فَقَالَ للحاجب: إِذا عَادوا فأدخلهم، فَلَمَّا عَادوا أدخلهم، فَقَالَ لَهُم يزِيد: إِن ندمتم أقلناكم، وَإِن استقللتم زدناكم، فَقَالَ لَهُ ابْن هُبَيْرَة: يَا ابْن الْمُهلب، إِن الْبَعِير إِذا أوقر أثقلته أذنَاهُ وَأَنا بِمَا بَقِي مثقل، فَقَالَ: قد حملتها عَنْك، ثُمَّ ركب إِلَى سُلَيْمَان فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِنَّمَا رشحتني لتبلغ بَين وَإِنِّي لَا أضيق عَن شيءٍ اتَّسع لَهُ مَالك، وَمَا فِي أَيْدِينَا عوارٍ لَك تصطنع بهَا النَّاس وتبتني بهَا المكارم، وَلَوْلَا مَكَانك ظلعنا بالصغير. ثُمَّ قَالَ: إِنَّه أَتَانِي ابْن هُبَيْرَة فِي وُجُوه أَصْحَابه، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: أمسك أَتَاك فِي مَال الله عِنْده، خب(1/580)
ضَب، جموع منوع، خدوع هلوع، هيه فصنعت مَاذَا؟ قَالَ: حملتها عَنْهُ، قَالَ: احملها إِذا إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين، قَالَ: وَالله مَا حملتها خدعة وَأَنا حاملها بِالْغَدَاةِ، ثُمَّ حملهَا فَلَمَّا أخبر سُلَيْمَان بذلك دَعَا يزِيد فَلَمَّا رَآهُ ضحك وَقَالَ: ذكت بك نَارِي، ووريت بك زنادي، غرمها عَليّ وحمدها لَك، قد وفت لي يَمِيني فَارْجِع المَال إِلَيْك، فَفعل.
حِين تَأتي حَمَّاد عجرد فِي اسْتِرْدَاد غُلَام آبق
حَدثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد قَالَ أَخْبَرَنَا عمر بْن حَمَّاد عجرد وَكَانَ حَمَّاد يكنى بِهِ قَالَ: آخر شعرٍ قَالَه أَبِي أَنا كُنَّا بواسط فأبق لَهُ غُلَام فَبَلغنَا أَنه بِالْكُوفَةِ، فَوجه أَبِي فِي طلبه، فَأخْبرت أَنه عِنْد ابْن أخي إِسْحَاق بْن الصَّباح الْكِنْدِيّ، وَكَانَ على الْكُوفَة، فَلم أصل إِلَى الْغُلَام، فَكتبت إِلَى أَبِي بِخَبَرِهِ وَقلت: أنظر من يثقل على إِسْحَاق فَخذ كِتَابه يشفع لَك عِنْده، قَالَ: فَكتب إِلَيّ:
أما كتابك يَا بِي فَإِنَّهُ ... جزع وَلَيْسَ بحازمٍ من يجزع
أنظر وصيتي الَّتِي أوصيكها ... فاعمل بهَا إِن كنت مني تسمع
لَا تَطْلُبن إِلَى الْأَمِير شَفَاعَة ... إِن الشَّفَاعَة عِنْده لَا تَنْفَع
وَلَو أَن ذَلِك فِي الْحُكُومَة نافعي ... عِنْد الْأَمِير لَكَانَ لي من يشفع
لكنه وكثيرة آلاؤه ... وسماؤه بالغيث لَيست تقلع
إِن كَانَ يطْلب للصنيعة موضعا ... حسنا فعندي للصنيعة مَوضِع
مَا كَانَ إِسْحَاق ليصنع بِابْنِهِ ... فِي الحكم إِلَّا مثل مَا بك يصنع
فَإِذا قضى فاقنع فَإِن قَضَاءَهُ ... لي إِن قضى لي أَو عَليّ لمقنع
قَالَ الْحُسَيْن: فأنشدتها فِي مَسْجِد الْكُوفَة فتلقفها أهل الْكُوفَة فبلغت إِسْحَاق فَأرْسل إِلَيّ فَقَالَ: يَا ابْن أخير أَنْت هَاهُنَا مُقيم وَلم تعلمني؟ وَأمر بالغلام فَرد عَليّ ووصلني بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم، فَانْصَرَفت إِلَى أَبِي فَوَجَدته قد مَاتَ.
أَقْوَال منثورة ومنظومة فِي المشورة
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أبي عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عمرَان قَالَ يُقَال: توأم الرَّأْي خير من الْفَذ ورأي الثَّلَاثَة لَا ينْقض. قَالَ مُحَمَّد: وَيُقَال نصف عقلك مَعَ أَخِيك، يَعْنِي فِي المشاروة. قَالَ مُحَمَّد: وَيُقَال رَأْي الْفَذ لَا تَسْتَغْنِي بِهِ الْخَاصَّة وَلَا يصلح للعامة. قَالَ مُحَمَّد: وَيُقَال مَا هلك امْرُؤ عَن مشورةٍ وَلَا سعد امْرُؤ باستغناء بِرَأْي، وَإِذا أَرَادَ الله أَن يهْلك عبدا أغناه بِرَأْيهِ فَكَانَ أول مَا يهلكه، قَالَ الله عز وَجل: " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ " آل عمرَان: 159 من غير حَاجَة مِنْهُ اليهم وَلَكِن لتبقى سنة، وَقَالَ الشَّاعِر:(1/581)
خليلي لَيْسَ الرَّأْي فِي صدر واحدٍ ... أشيرا عَليّ الْيَوْم مَا تريان
وَقَالَ الآخر:
إِذا بلغ الرَّأْي المشورة فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْي نصيح أَو نصيحة حَازِم
وَلَا تحسب الشورى عَلَيْك غَضَاضَة ... مَكَان الخوافي نَافِع للقوادم
فِي العجلة والبطء
وَحدثنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عمرَان قَالَ يُقَال: بيتوا الرَّأْي يكْشف لكم عَن محضه. قَالَ وَيُقَال: العجلة تسلب الْوَقار. قَالَ وَيُقَال فِي مثلٍ: أسْرع تبطئ.
عتبَة بْن ربيعَة يعرض على الرَّسُول
أَن يكف عَن أمره
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْن الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ، قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَرِدٌ نَاحِيَةً: أُرِيدُ أَنْ أَقُومَ إِلَى محمدٍ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لِيَكُفَّ عَنْ أَمْرِهِ هَذَا فَأَيُّهَا شَاءَ أَعْطَيْنَاهُ إِذَا رَجَعَ لَنَا عَنْ هَذَا، فَقَالُوا لَهُ: شَأْنك أَبَا الْوَلِيدِ، وَكَانَ عُتْبَةُ سَيِّدًا حَلِيمًا فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أَخِي إِنَّكَ مِنَّا بِحَيْثُ قَدْ علمت من السطة فِي النَّسَبِ وَالْمَكَانِ مِنَ الْعَشِيرَةِ وَإِنَّكَ قَدْ آتَيْتَ قَوْمَكَ بِمَا لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ قَوْمَهُ بِمِثْلِهِ: سَفَّهْتَ أَحْلامَنَا وَكَفَّرْتَ آبَاءَنَا وَعِبْتَ آلِهَتَنَا وَفَرَّقْتَ كَلِمَتَنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا لمالٍ بتغيه جَمَعْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أَيْسَرَنَا، وَإِنْ كُنْتَ تَمِيلُ إِلَى الرِّئَاسَةِ رَأَّسْنَاكَ عَلَيْنَا وَلَمْ نَقْطَعْ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ لِرَئِيٍّ من الْجِنّ بعتادك أَعْذَرْنَا فِي الْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ حَتَّى ينْصَرف عَنْك فَإِن الرَّأْي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى مَا لَا يَصِلُ مَعَهُ إِلَى تَرْكِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ يَسْمَعُ، فَلَمَّا سَكَتَ عُتْبَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا أَقُولُ: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاته قراناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ " فصلت:14 وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم آله فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعُتْبَةُ مصغٍ يَسْتَمِعُ وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَدْ سَمِعْتَ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ فَأَنْتَ وَذَاكَ. فَانْصَرَفَ عُتْبَةُ إِلَى قريشٍ فِي نَادِيهَا فَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي مضى بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. ثُمَّ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ محمدٍ كَلامًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلا السِّحْرِ وَلا الْكَهَانَةِ، فَأَطِيعُونِي فِي هَذِهِ وَأَنْزِلُوهَا بِي وَخَلُّوا مُحَمَدًّا وشأنه واعتزلوه فو الله(1/582)
لَيَكُونَنَّ لِمَا سَمِعْتُ مِنْ قَوْلِهِ نَبَأٌ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ الْعَرَبُ كَفَيْتُمُوهُ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ لأَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُكُمْ وَشَرَفَهُ شَرَفُكُمْ، فَقَالُوا: هَيْهَاتَ، سَحَرَكَ مُحَمَّدٌ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ.
الرَّسُول يصف الْقُرْآن
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ وَهُوَ ابْنُ سَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ وَحَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، النُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا، وَلا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلا يَزِيغُ فَيُسْتَثْبَتُ وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلاوَتِهِ بِكُلِّ حرفٍ عَشْرَ حسناتٍ. أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ ألم حَرْفٌ وَلا أَلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ يَدْعُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ وَإِنْ أصفر الْبيُوت صِفْرٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
على غير مرتاح لوُقُوع النَّاس فِي الْأَحَادِيث
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفٌ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَطَاءٍ، رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ عَنِ الْحَارِثِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ قَدْ وَقَعُوا فِي الأَحَادِيثِ فَأَتَيْتُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا تَرَى النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي الأَحَادِيثِ فَأَتَيْتُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ الَّذِي لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جبارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلا يَخْلُقُ عَنْ رَدٍّ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ لَمَّا سَمِعَتْهُ غير أَن قَالُوا: " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ " الْجِنّ: 1، 2 مَنْ قَالَ بِهِ صِدْقٌ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أَجْرٌ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَوْ قَالَ: مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ.
من أعطي كل الْقُرْآن أوجزءاً مِنْهُ
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ الْمُقْرِي أَبُو أَيُّوبَ الضَّبِّيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَوَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ بِشْرِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحِمْصِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُعْطِيَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُعْطِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ، وَمن(1/583)
أعطي ثلثا الْقُرْآن فقد أعطي ثلثا النُّبُوَّةِ، وَمَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَقَدْ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ.
وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَأْ وَارْقَ فَيَقْرَأُ آيَةً وَيَصْعَدُ دَرَجَةً حَتَّى يُنْجِزَ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَيَقْبِضُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَيَقْبِضُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَتَدْرِي مَا فِي يَدَيْكَ؟ فَإِذَا فِي يَدِهِ الْيُمْنَى الْخُلْدُ وَفِي الْيُسْرَى النَّعِيمُ.
موعظة عَليّ لكميل بْن زِيَاد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَرَّاقُ وَحَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَمِّهِ عَنْ كُمَيْلٍ، وَحَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ، وَالأَلْفَاظُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مُخْتَلِطَةٌ، قَالا، قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ النَّخَعِيُّ: أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نجاةٍ، وَهَمِجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ غاوٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنور الْعلم وَلم يلجأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الإِنْفَاقِ وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ. يَا كُمَيْلُ مَحَبَّةُ الْعَالِمِ دَيْنٌ يُدَانُ بِهِ، فِي كَسْبِهِ الْعِلْمِ لَذَّتُهُ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلُ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَنَفَقَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْلُ مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. إِن هَاهُنَا لَعِلْمًا وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتَ لَهُ حَمَلَةً. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَلَى أَصَبْتَهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى كِتَابِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِجُمْلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْدَحُ الزَّيْغُ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عارضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، اللَّهُمَّ لَا ذَا وَلَا ذَاك، أَو منهوماً بِالذَّاتِ، سَلِسَ الْقِيَادِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَمُغْرَمًا بِالْجمعِ والادخار، وليسا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الأَنْعَامُ السَّائِمَةُ، وَكَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَمَلَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ من قَائِم لله بحجةٍ إِمَّا ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ وَإِمَّا خَائِفٌ مَغْمُورٌ، لِئَلا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ فِيكُمْ، وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ ألئك الأَقَلُّونَ عَدَدًا، الأَعْظَمُونَ قَدْرًا، بِهِمْ يحفظ الله حججه حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ فَبَاشِرُوا رَوْحَ الْيَقِين، واستسهلوا هَا واستوعر الْمُتْرَفُونَ، وَأْنَسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجاهلون، وصحبوا الدُّنْيَا بأرواحٍ مُعَلَّقَةٍ بِالْمحل الأَعْلَى. يَا كُمَيْلُ، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، الدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، هَاهْ وَاشَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ.
مَا رَأَيْت أَقرَأ لكتاب الله من عَليّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد قَالَ حَدثنَا حسني بْن الْأسود قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن آدم(1/584)
عَن أَبِي بكر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم بْن أبي النجُود عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَميّ قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا أَقرَأ لكتاب الله من عَليّ بْن أَبِي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام.
عَليّ لم يصب من الْفَيْء إِلَّا قَارُورَة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْعَلاءِ أَخِي أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: مَا أَصَبْتُ مِنْ فَيْئِكُمْ إِلا هَذِهِ الْقَارُورَةَ أَهْدَاهَا إِلَيَّ الدُّهْقَانُ بِضَمِّ الدَّالِ ثُمَّ أَتَى إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ خُذْهُ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ قَوْصَرَّةٌ ... يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يومٍ مَرَّةً
نيرزوا كل يَوْم
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ السَّعِرِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَالُوذَجَ فِي جَامٍ يَوْمَ النَّوْرُوزِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ النَّوْرُوزِ، فَقَالَ: نَيْرِزُوا كُلَّ يَوْمٍ، بِالْيَاءِ.
شعر لعبد الله بْن زِيَاد الْحَارِثِيّ
حَدثنَا أَبُو بكر ابْن دُرَيْد قَالَ أَنْشدني عمي قَالَ أنشدنا ابْن عَائِشَة لعبد الله بْن زِيَاد الْحَارِثِيّ:
لَا يبلغ الْمجد أَقوام وَإِن كرموا ... حَتَّى يذلوا وَإِن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لَا عَفْو ذلٍ وَلَكِن عَفْو أَحْلَام
وَإِن دَعَا الْجَار لبوا عِنْد دَعوته ... فِي النائبات بإسراجٍ وإلجام
مستلئمين لَهُم عِنْد الوغي زجل ... كَأَن أسيافهم أغرين بالهام
شعر لأعرابي
أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن الْعُتْبِي قَالَ سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول:
إِذا كَانَ الْهياج سحبت دِرْعِي ... وَإِن كَانَ الرخَاء جررت بردي
وأبذل للخليل تلاد مَالِي ... وَإِن قل التلاد بذلت جهدي
وَأغْنِي فِي الحروب غناء مثلي ... وَلست بموحشٍ إِن كنت وحدي
شعر فِي الدعْوَة إِلَى الْفَضِيلَة
أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا السكن قَالَ أنشدنا مُحَمَّد بْن عباد:
إِذا عَثْرَة نابتْ صديقك فاغْتَنِمْ ... مَرَمّتَها فالدهرُ بِالنَّاسِ قلب
وبادر بِمَعْرُوف إِذا كنت قَادِرًا ... زَوَال اقتدارٍ أَوْ غَنِي عَنْك يعقب
إِذا كنت فِي الْأَمريْنِ تَأتي مُخَيّرا ... فأتقاهما لله أولى وَأوجب(1/585)
وَآخر هديت السوء إِن كَانَ نازلا ... وَلَو سَاعَة إِن الْقُلُوب تقلب
وكف عَن السوءات لَا تقربنها ... فَكل مسيء محسن حِين يعتب
فكم فائتٍ فِي فَوته لَك خيرة ... وإدراكه لَو نلته لَك أعطب
وَكم مدركٍ أُمْنِية كَانَ داؤه ... بإدراكها والغيب عَنْهُ محجب
رشونا فَقضيت حاجتنا
حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا الرياشي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو معقل قَالَ سَمِعت عبد الله بن روبة قَالَ: كَانَت لنا حَاجَة إِلَى السُّلْطَان فاستشفعنا إِلَيْهِ فَلم يشفعنا فرشونا فَقضى حاجتنا فَقَالَ رؤبة:
لما رَأَيْت الشفعاء بلدوا ... وسألوا أَمِيرهمْ فأنكدوا
نامستهم برشوةٍ فأفردوا ... وَسَهل الله بهَا مَا شَدَّدُوا
غزل جميل لأبي حَيَّة
أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا عبد الرَّحْمَن عَن عَمه لأبي حَيَّة النميري:
إِذا هن ساقطن الْأَحَادِيث للفتى ... سُقُوط حَصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأنفذن الْقُلُوب فَلَا ترى ... دَمًا مائرًا إِلَّا جرى فِي الحيازم
وخبرك الواشون أَن لَا أحبكم ... بلَى وستور الْبَيْت ذَات الْمَحَارِم
أصد وَمَا الصد الَّذِي تحسبينه ... عزاء بِنَا أَلا ابتلاع العلاقم
حَيَاء وبقيا أَن تشيع نميمة ... بِنَا وبكم أفٍ لأهل النمائم
أما إِنَّه لَو كَانَ غَيْرك أرقلت ... إِلَيْهِ القنا بالمرهفات اللهاذم
ويروى: أرقلت صعاد القنا بالراعفات الملاغم
وَلَكِن وَبَيت الله مَا طلا مُسلما ... كعز الثنايا واضحات المباسم
وَإِن دَمًا لَو تعلمين جنيته ... على الْحَيّ جاني مثله غير سَالم
جمع فأوعى وَسُئِلَ فأكدى
أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي قَالَ: سُئِلَ المساحقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَالَ: جمع فأوعى، وَسُئِلَ فأكدى، وَحكم فتعدى.
رَأْي ابْن الْمسيب فِي مصَارِع بني هَاشم
أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن عَن عَمه قَالَ: ذكر لسَعِيد بْن الْمسيب مصَارِع بني هَاشم فَقَالَ: إِنِّي أَظن أَن الله جلّ اسْمه أَرَادَ أَن يطهر بهم بطن الأَرْض كَمَا عمر بهم ظهروها.
صَاحب يجيد تمزيق عرض صَاحبه
أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة:(1/586)
لي صاحبٌ لَيْسَ يَخْلُو ... لِسَانه من جراحي
يجيد تمزيق عرضي ... على طَرِيق المزاح
يجود بِخَير أَو يهم بِهِ
أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة عَنْ يُونُس:
فَتى لَا ترَاهُ الدَّهْر إِلَّا وَنَفسه ... تجود بخيرٍ أوتهم بِخَير
تيه الْغنى ومذلة الْفقر
أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَبُو عُثْمَان عَن التوزي عَن أَبِي عُبَيْدَة عَن يُونُس:
خلقان لَا أرْضى فعالهما ... تيه الْغَنِيّ ومذلة الْفقر
فَإِذا غنيت فَلَا تكن بطرًا ... وَإِذا افْتَقَرت فته على الدَّهْر
واصبر فلست بواجدٍ خلقا ... أدنى إِلَى فرج من الصَّبْر
أَربع ضائعة
حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ سَمِعت الْأَصْمَعِي يَقُول قَالَ بعض الْحُكَمَاء: لاشيء أضيع من أَربع: مَوَدَّة تمنحها من لَا وَفَاء لَهُ، وبلاء تصطنعه عِنْد من لَا شكر لَهُ، وأدب تؤدب بِهِ من لَا ينْتَفع بِهِ، وسر تستودعه من لَا صيانه لَهُ.
قَول لسلم الخاسر أحسن مَا مدح بِهِ معن
أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ سَمِعت أَبَا عُبَيْدَة يَقُول: بَلغنِي أَنه قيل لِمَعْنٍ بْن زَائِدَة مَا أحسن مَا مدحت بِهِ؟ قَالَ: بقول سلم الخاسر:
أبلغ الفتيان مالكة ... أَن خير الود مَا نفعا
إِن قرمًا من بني مطرٍ ... أتلفت كَفاهُ مَا جمعا
كلما عدنا لنائله ... عَاد فِي معروفه جذعا
عدم جَوَاب اللَّئِيم أَشد عَلَيْهِ من الشتم
أنشدنا أَبُو بكر ابْن الْأَنْبَارِي قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن عبيد قَالَ أنشدنا الْأَصْمَعِي:
وَمَا شَيْء أحب إِلَى لئيمٍ ... إِذا شتم الْكَرِيم من الْجَواب
متاركه اللَّئِيم بِلَا جوابٍ ... اشد على اللَّئِيم من السباب
شَدِيد عَادَة منتزعة
وَحدثنَا أَبُو بكر بْن الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمرَان الضَّبِّيّ قَالَ: كَانَت لأبي الْأسود الديلِي من مُعَاوِيَة نَاحيَة حَسَنَة، فوعده وَعدا فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْأسود:
لَا يكن برقك برقًا خلبًا ... إِن خير الْبَرْق مَا الْغَيْث مَعَه
لَا تهني بعد إِذْ أكرمتني ... فشديد عَادَة منتزعه(1/587)
من مَشى فِي حَاجَة أَخِيه الْمُسلم
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ العابدي المَخْزُومِي بِمَكَّة سنتة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنِ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خطوةٍ سَبْعِينَ حَسَنَةً وَمَحَا عَنْهُ سَبْعِينَ سَيِّئَةً مِنْ حِينِ يَخْرُجُ فِيهَا، فَإِنْ قُضِيَتِ الْحَاجَةُ عَلَى يَدِهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَإِنْ مَاتَ بَيْنَ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْر حِسَاب.
ألم اخْتَار الْوحدَة
وَحدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي أبي عَنْ مُحَمَّد بْن الْحسن الْجَوْهَرِي قَالَ: دخلت على أَحْمَد بْن صاعد الصُّورِي وَهُوَ جَالس وَحده فِي مَسْجده، فَقلت لَهُ: مَا لي أَرَاك وَحدك؟ فَقَالَ:
قنعت بِعلم الله ذخري وواحدي ... بمكنون أسرارٍ تضمنها صَدْرِي
فَلَو جَازَ ستر السِّرّ بيني وَبَينه ... عَن الْقلب والأحشاء ماعلما سري
النعم مغضوب عَلَيْهَا حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا عَبد الرَّحْمَن بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم أَحْمَد بْن يُونُس قَالَ حَدَّثَنَا روح بْن عبد الرَّحْمَن البوشنجي قَالَ سَمِعت سُفْيَان بْن عُيَيْنَة يَقُول: مَا أرى النعم إِلَّا مغضوبًا عَلَيْهَا، أَرَاهَا فِي غير أَهلهَا.
وأنشدني مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ أَنْشدني أَبُو عَبد اللَّه النهمي لسَعِيد بْن حميد فِي هَذَا الْمَعْنى:
يَا حجَّة الله فِي الأرزاق وَالْقسم ... ومحنة لِذَوي الأخطار والهمم
تراك أَصبَحت فِي نعماء سابغةٍ ... إِلَّا وَرَبك غَضْبَان على النعم
وأنشدنا أَبُو الْحسن ابْن الْبَراء:
لَيست النِّعْمَة عِنْد الله فِي مثلك نعمه
غضب الله عَلَيْهَا ... فابتلاها بك نقمه
أمرنَا رَسُول اللَّهِ بِسبع ونهانا عَن سبع
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ يُحَدِّثُ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسبع ونهانا عَن سبع، وأمرنا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَإِفْشَاءِ السَّلامِ؛ وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْمِيثَرَةَ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالْقَسِّيِّ.(1/588)
تفسيرات لغوية
قَالَ اللغويون: التشميت هُوَ الدُّعَاء، يُقَال لَهُ التسميت والتشميت، والتشميت مُعْجمَة فِيهِ أعراف وأفصح. من ذَلِك أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم أَدخل عليا على فَاطِمَة عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ: لَا تعجلا حَتَّى آتيكما، فَلَمَّا أتاهما شمت عَلَيْهِمَا وَانْصَرف، يعين دَعَا لَهما. والميثرة: سرج من سروج الْعَجم فِيهِ حَدِيد والإستبرق الغليظ من الديباج والقسي يُثَاب فِيهَا حَرِير تعْمل فِي نَاحيَة مصر بقرية يُقَال لَهَا القس.
أَيمن بْن خريم لَا يُقَاتل مُصَليا
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْفَلاسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان قَالَ لأَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ: أَلا تَخْرُجُ فَتُقَاتِلُ مَعَنَا؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَعَمِّي شَهِدَا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَانِي أَنْ لَا أُقَاتِلَ رَجُلا يُصَلِّي، فَإِنْ أَعْطَيْتَنِي بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ قَاتَلْتُ مَعَكَ، فَتَرَكَهُ. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
فَلَسْتُ مُقَاتِلا رَجُلا يُصَلِّي ... عَلَى سُلْطَانِ آخَرَ مِنْ قُرَيْشِ
لَهُ سُلْطَانُهُ وَعَلَيَّ وِزْرِي ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سفهٍ وَطَيْشِ
أَأَقْتُلُ مُسْلِمًا فِي غَيْرِ جُرْمٍ ... فَلَيْسَ بِنَافِعِي مَا عِشْتُ عَيْشِي
إِلَى مَتى هَذَا الْفِرَاق
أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا المظفر بْن عَبد اللَّه رَحْمَة الله عَلَيْهِ:
وَقد ضقت ذرعًا بشق الْإِزَار ... غَدَاة الرحيل وبل الْخمار
كَأَن الدُّمُوع على خدها ... بَقِيَّة طلٍ على جلنار
تَلْبِيَة لأبي نواس
حَدثنَا أَبُو بَكْر قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر قَالَ حَدَّثَنَا سعيد بْن الْيَمَان قَالَ حَدَّثَنَا ابْن صَفْوَان قَالَ: لما حج أَبُو نواس لبي فَقَالَ:
إلهنا مَا أعدلك ... مليك كل من ملك
لبيْك قد لبيت لَك ... لبيْك إِن الْحَمد لَك
وَالْملك لَا شريك لَك ... مَا خَابَ عبد سَأَلَك
أَنْت لَهُ حَيْثُ سلك ... لولاك يَا رب هلك
لبيْك إِن الْحَمد لَك ... وَالْملك لَا شريك لَك
وَاللَّيْل لما أَن حلك ... والسابحات فِي الْفلك
على مجاري المنسلك ... لبيْك إِن الْحَمد لَك
وَالْملك لَا شريك لَك ... كل نبيٍ وَملك(1/589)
وكل من أهل لَك ... سبح أوصلى فلك
لبيْك إِن الْحَمد لَك ... وَالْملك لَا شريك لَك
يَا مخطئاً ماأغفلك ... عجل وبادر أَجلك
وَاخْتِمْ بخيرٍ عَمَلك ... لبيْك أَن الْحَمد لَك
وَالْملك لَا شريك لَك
فِي الْقُوت غنى
وأنشدني أَبِي رَحمَه الله: لَيْسَ بذل الْوُجُوه فِي طلب الْفضل عَن الْقُوت من فعال الْكِرَام
فَإِذا مَا أنالك الله قوتًا ... من حلالٍ فَأَنت أغْنى الْأَنَام
جود حَاتِم
أَنْشدني أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي لحاتم بْن عَبد اللَّه:
سَلِي البائس المقرور يَا أم مالكٍ ... إِذا مَا أَتَانِي بَين نَارِي ومجزري
أأبسط وَجْهي أَنه أول الْقرى ... وأبذل معروفي لَهُ دون منكري
إِن الحَدِيث طرف من الْقرى
وأنشدنا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي:
إِنَّك يَا ابْن جَعْفَر نعم الْفَتى ... وَنعم مأوى طارقٍ إِذا أَتَى
فَرب ضيف طرق الْحَيّ سرى ... صَادف زادًا وحديثًا مَا أشتهى
إِن الحَدِيث طرف من الْقرى ... ثمَّ اللحاف بعد ذَاك فِي الذرى
شريك يتلَقَّى الخيزران
حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أَبِي شيخ عَن أَبِي سُفْيَان الْحِمْيَرِي، قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكر العامري قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن مَعْصُوم قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح بْن مُسلم والألفاظ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مختلطة، قَالَا: حجت الخيزران أم مُوسَى وَهَارُون فَخرج شريك يتلقاها وَحمل مَعَه خبْزًا، فأبطأت فَأَقَامَ ثَلَاثًا ينتظرها فيبس خبزه فَجعل يبله بِالْمَاءِ ويأكله، فهجاه ابْن عبدل قَالَ أَبُو بكر: كَذَا فِي رِوَايَة أَبِي، وَفِي رِوَايَة ابْن الْمَرْزُبَان فهجاه أَبُو الْمنْهَال الْعَلَاء الغنوي فَقَالَ:
فَإِن يكن الَّذِي حدثت حَقًا ... بِأَن قد أكرهوك على الْقَضَاء
فمالك حِين تخرج كل يومٍ ... تلقى من يحجّ من النِّسَاء
وسودت الْقَمِيص وصرت فِيهِ ... تَطوف يَا شريك مَعَ الْإِمَاء
مُقيما فِي قرى شاهي ثَلَاثًا ... بِلَا زادٍ سوى كسرٍ وَمَاء(1/590)
يزِيد النَّاس خيرا كل يومٍ ... وَترجع يَا شريك إِلَى وَرَاء
الْمَوَدَّة أقرب الْأَنْسَاب
وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي:
وَلَقَد سبرت النَّاس ثُمَّ خبرتهم ... وَعلمت مَا عرفُوا من الْأَسْبَاب
فَإِذا الْقَرَابَة لَا تقرب قَاطعا ... وَإِذا الْمَوَدَّة اقْربْ الْأَنْسَاب
أرقني أَن لَا ضجيع أَلا عبه
حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْخَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ حَدِيثَ عُمَرَ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذَا إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، إِذْ مَرَّ بأمرأةٍ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ مُغْلِقَةٍ عَلَيْهَا بَابَهَا وَهِيَ تَقُولُ:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ تَسْرِي كَوَاكِبُهُ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا ضجيع ألاعبه
أَلا عبه طَوْرًا وَطَوْرًا كَأَنَّمَا ... بَدَا قَمَرٌ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَاجِبُهُ
يُسَرُّ بِهِ مَنْ كَانَ يَلْهُو بِقُرْبِهِ ... لَطِيفُ الْحَشَا لَا تَجْتَوِيهِ صَوَاحِبُهُ
فو الله لَوْلا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَنُقِّضَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ
وَلَكِنَّنِي أَخْشَى رَقِيبًا مُوَكَّلا ... بِأَنْفُسِنَا لَا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كَاتِبُهُ
ثُمَّ تَنَفَّسَتِ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَتْ: لَهَانَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحْشَتِي وَغَيْبَةُ زَوْجِي عَنِّي، وَعُمَرُ وَاقِفٌ يَسْتَمِعُ قَوْلَهَا، فَقَالَ لَهَا: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَرْحَمُكِ اللَّهُ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهَا بِكُسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، وَكَتَبَ فِي أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا عَلَيْهَا.
وَصَايَا أخلاقية
أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أَنْشدني أَبِي رَحمَه الله:
اسلك من الط ... المناهج ... واصبر وَإِن حملت لَا عج
انبذ همومك لَا تضق ... ذرعًا بهَا فلهَا مفارج
راقض الحوائح مَا اسْتَطَعْت وَكن لَهُم أَخِيك فارج
فلخير أَيَّام الْفَتى ... يَوْم قضى فِيهِ الْحَوَائِج
وأنشدني ... رَحْمَة الله:
لَيْسَ فِي كل ساعةٍ وَأَوَان ... تتهيا صنائع الْإِحْسَان
فَإِذا أمكنت فبادر إِلَيْهَا حذرا من تعذر الْإِمْكَان
وأنشدني أَبِي رَحمَه الله:
وَإِنِّي ليثنيني عَن الْجَهْل والخنا ... وَعَن شتم أَقوام خلائق أَربع(1/591)
حَيَاء وَإِسْلَام وتقوى وأنني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع
تَفْسِير ابْن عمر لآيَة النُّور
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ عَنِ الْوَازِعِ بْنِ نَافِعٍ الْعقيلِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمشكاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ النُّور: 35 قَالَ: الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ " يُوقَدُ مِنْ شجرةٍ مباركةٍ " النُّور: 35 الشَّجَرَةُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ " لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غربيةٍ النُّور: 35 لَا يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ قَرَأَ: " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " آل عمرَان: 67.
مصير عَبدة زوج هِشَام
حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن الرَّبَعيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَيَّاش بْن عبد الْوَاحِد قَالَ حَدَّثَنِي ابْن عَائِشَة قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كَانَت عَبدة بنت عَبد اللَّه بْن يزِيد بْن مُعَاوِيَة عِنْد هِشَام بْن عبد الْملك، وَكَانَت من أجمل النِّسَاء، فَدخل عَلَيْهَا يَوْمًا وَعَلَيْهَا ثِيَاب سود رقاق من هَذِه الَّتِي يلبسهَا النَّصَارَى يَوْم عيدهم، فملأته سُرُورًا حِين نظر إِلَيْهَا ثُمَّ تأملها فقطب، فَقَالَت: مَالك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أكرهت هَذِه، ألبس غَيرهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن، رَأَيْت هَذِه الشامة الَّتِي على كشحك من فَوق الثِّيَاب، وَبِك يذبح النِّسَاء وَكَانَت بهَا الشامة فِي ذَلِك الْموضع أما إِنَّهُم سينزلونك عَن بغلةٍ شهباء يَعْنِي بني الْعَبَّاس وردةٍ، ثُمَّ يذبحونك ذبحا قَالَ وَقَوله يذبح بك النِّسَاء يَعْنِي إِذا كَانَت دولة لأهْلك ذَبَحُوا بك من نسَاء الْقَوْم الَّذين ذبحوك فَأَخذهَا عَبد اللَّه بْن عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس فَكَانَ مَعهَا من الْجَوْهَر مَالا يدْرِي مَا هُوَ، وَمَعَهَا درع يَوَاقِيت وجوهر منسوج بِالذَّهَب، فَأخذ مَا كَانَ مَعهَا وخلى سَبِيلهَا، فَقَالَت فِي الظلمَة: أَي دابةٍ تحتي؟ قيل لَهَا دهماء، لظلمة اللَّيْل، فَقَالَت: نجوت، قَالَ: فَأَقْبَلُوا على عَبد اللَّه بْن عَليّ فَقَالُوا: مَا صنعت؟ أدنى مَا يكون يبْعَث أَبُو جَعْفَر إِلَيْهَا فتخبره بِمَا أخذت مِنْهَا فَيَأْخذهُ مِنْك.
اقتلها. فَبعث فِي أَثَرهَا، وأضاء الصُّبْح فَإِذا تحتهَا بغلة شهباء، وردة، فلحقها الرَّسُول فَقَالَت: مَه، قَالَ: أمرنَا بقتلك، قَالَت: هَذَا أَهْون عَليّ، فَنزلت فشدت درعها من تَحت قدميها وكميها على أَطْرَاف أصابعها وخمارها فَمَا رئي من جَسدهَا شَيْء، وَالَّذِي لحقها مولى لآل الْعَبَّاس، قَالَ ابْن عَائِشَة: فَرَأَيْت من يدْخل دُورنَا يطْلب اليواقيت للمهدي ليتم بِهِ تِلْكَ الدروع الَّتِي أخذت مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَت بدنا يُغطي الْمَرْأَة إِذا قعدت.
من أفاعيل الزنج بِالْبَصْرَةِ
قَالَ الْحسن بْن عبد الرَّحْمَن: وَلما دخل الزنج الْبَصْرَة فِيمَا أَخْبرنِي مَشَايِخنَا لَا يَخْتَلِفُونَ(1/592)
دخلُوا دَار جَعْفَر بْن سُلَيْمَان بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس فَجَاءُوا إِلَى بنته آمِنَة وَهِي عَجُوز كَبِيرَة قد بلغت تسعين سنة، فَلَمَّا رأتهم قَالَت: اذْهَبُوا بِي إِلَيْهِ فَإِنَّهُ ابْن خَال جدتي أم الْحُسَيْن بنت جَعْفَر بْن الْحسن بْن الْحسن بْن عَليّ، قَالُوا: بل أمرنَا بقتلك فَقَتَلُوهَا.
ابْن الزُّبَيْر ينشد مُعَاوِيَة ثَلَاث أَبْيَات
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد الْعَبَّاسُ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن خبيق قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنْشِدْنِي ثَلاثَةَ أَبْيَاتٍ غَرِيبَةٍ، قَالَ: أُنْشِدُكَهَا بِثَلاثِينَ أَلْفًا تَدْفَعُهَا إِلَيَّ، قَالَ: حَتَّى تُنْشِدَ وَأَسْمَعَ، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ وَتَسْمَعُ وَأَنْتَ الْحَكَمُ، فَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتٍ الأَفْوَهِ الأَوْدِيِّ:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ... فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِ
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ ضَرًّا ... وَأَضْنَى مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ
وَذُقْتُ مَرَارَةَ الأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ السُّؤَالِ
قَالَ: فَحَكَمَ لَهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَلاثِينَ أَلْفًا.
أَحبُّوا الْعَرَب لثلاث
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ قَاضِي الْكُوفَةِ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو الْحَنَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ وَكَلامُ أهل الْجنَّة عَرَبِيّ.
بِلِسَان سؤول وقلب عقول
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عِيسَى الْخُتَّلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى السَّاجِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي عَن عَبد الْحَمِيدِ بْنِ الْحَسَنِ الْهِلالِيِّ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْنَ أَصَبْتَ هَذَا الْعلم؟ قَالَ: بِلِسَان سؤول وَقَلْبٍ عَقُولٍ.
مقطعات فِي العتاب
وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ أَنْشدني أَبِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ:
أعاتب ذَا الْمُرُوءَة من صديقي ... إِذا مَا رَابَنِي مِنْهُ اجْتِنَاب
إِذا ذهب العتاب فَلَيْسَ ود ... يبْقى الود مَا بَقِي العتاب
وأنشدني أَبِي:
أعاتب من أُبْقِي على حفظ وده ... وَلَا قدر عِنْدِي للَّذي لَا أعاتبه
وأنشدني أَبِي:
إِن بعض العتاب يدني من ... العتب ويؤذي بِهِ الْمُحب الحبيبا
وَإِذا مَا الْقُلُوب لم تضمر الود ... د فَلَنْ يعْطف العتاب القلوبا(1/593)
الْمجْلس التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ
أنْفق وَلَا تخشى من ذِي الْعَرْش إقلالا
حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعين وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْنِ صَالِحٍ الأَوْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ قَالَ حَدَّثَنَا رَجَا بْنُ مُرَجَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحُنَيْنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ وَلا تخش من ذِي الْعَرْش إقلالا قَالَ: بِذَلِكَ أُمِرْتُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقْ بِلالُ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالا.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَمَا أَنْفَقْتُمْ من شيءٍ فَهُوَ يخلفه هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " سبأ39.
أعرابية قسرية عِنْد خَالِد الْقَسرِي
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ أَخْبَرَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: ذكرُوا أَن خَالِد بْن عَبد اللَّه الْقَسرِي لما أحكم جسر دجلة واستقام لَهُ نهر الْمُبَارك أفشى عطايا كَثِيرَة وَأذن للنَّاس إِذْنا عَاما، فَدخلت عَلَيْهِ أعرابية قسرية فأنشأت تَقول:
إِلَيْك يَا ابْن السَّادة الأماجد
يعمد فِي الْحَاجَات كل عامدٍ
فَالنَّاس بَين صادرٍ ووارد
مثل حجيج الْبَيْت نَحْو خَالِد
وَأَنت يَا خَالِد خير وَالِد
أَصبَحت عِنْد الله بالمحامد
مجدك قبل الشمخ الرواكد
لَيْسَ طريف الْمجد مثل التالد
قَالَ: فَقَالَ لَهَا خَالِد: حَاجَتك كائنة مَا كَانَت، فَقَالَت: أصلح الله الْأَمِير، أَنَاخَ علينا الدَّهْر بجرانه، وعضنا بأنيابه، فَمَا ترك لنا صافنا وَلَا ماهنا، فَكنت المنتجع وَإِلَيْك المفزع، قَالَ فَقَالَ لَهَا خَالِد: هَذِه حَاجَة لَك دُوننَا فَقَالَت: وَالله لَئِن كَانَ لي نَفعهَا إِن لَك لأجرها وَذُخْرهَا، مَعَ أَن أهل الْجُود لَو لم يَجدوا من يقبل الْعَطاء لم يوصفوا بالسخاء، قَالَ لَهَا خَالِد: أَحْسَنت فَهَل لَك من زوج؟ فَقَالَت: لَا، وَمَا كنت لأتزوج دعيًا، وَإِن كَانَ مُوسِرًا غَنِيا، وَمَا كنت أَشْتَرِي عاراُ يبْقى بمالٍ يفنى، وَإِنِّي بجزيل مَال الْأَمِير لغنية، قَالَ الْأَصْمَعِي: فَأمر لَهَا بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
شرح الْغَرِيب
قَالَ القَاضِي: أما قَوْلهَا فَمَا ترك لنا صافنًا وَلَا مَا هُنَا: الصَّافِن من الْخَيل فِيمَا ذكر أَبُو عُبَيْدَة الَّذِي يجمع بَين يَدَيْهِ وَبَين طرف سنبك إِحْدَى رجلَيْهِ، والسنبك مقدم الْحَافِر. قَالَ(1/594)
وَقَالَ بعض الْعَرَب: بل الصَّافِن الَّذِي يجمع بَين يَدَيْهِ، وَالَّذِي يرفع طرف سنبك رجلَيْهِ فَهُوَ مخيم، يُقَال أخام بِرجلِهِ.
وَقَالَ الْفراء: الصافنات فِيمَا ذكر الْكَلْبِيّ بِإِسْنَادِهِ: الْقَائِمَة على ثَلَاث، وَقد أناخت الْأُخْرَى على طرف الْحَافِر من يدٍ أَو رجلٍ، وَهِي فِي قِرَاءَة عَبد اللَّه " صَوَافِن فَإِذا وَجَبت " الْحَج:36 يُرِيد معقولة على ثَلَاث، وَقد رَأَيْت الْعَرَب تجْعَل الصَّافِن الْقَائِم على ثَلَاث أَو غير ثَلَاث، وأشعارهم تدل على أَنه الْقَائِم خَاصَّة، وَالله أعلم بصوابه.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ لرجل يُرِيد نحر نَاقَته: انحرها معقولة الْيُمْنَى أَو الْيُسْرَى قَائِمَة على ثَلَاث، سنة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو نَحْو هَذَا القَوْل. وَقد قرئَ: " فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صَوَافِن " الْحَج:36 على مَا تقدم من الْحِكَايَة عَن ابْن مَسْعُود وصوافي بِمَعْنى خَالِصَة لله عز وَجل من الصفاء والخلوص، فَأَما قِرَاءَة الْجُمْهُور الْأَعَمّ والسواد الْأَعْظَم فَإِنَّهُ صواف على جمع الصافة وَهِي المصطفة، ورسم مصاحف الْمُسلمين شَاهد لهَذِهِ الْقِرَاءَة بِالصِّحَّةِ مَعَ استفاضة النَّقْل لَهَا فِي الْأمة، وَقد قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم فِي معنى هَذِه اللَّفْظَة:
تركنَا الْخَيل عاكفة عَلَيْهِ ... مقلدة أعنتها صُفُونا
وَأما قَوْلهَا: وَلَا مَا هُنَا فَإِنَّهَا تَعْنِي وَلَا خَادِمًا، وَمن الماهن قَول الشَّاعِر:
وهَزئْنَ مِنِّي أَن رأَينَ مُوَيْهِنًا ... تَبدُو عَلَيْه شَتَامَةُ الْمَمْلُوك
المويهن: تَصْغِير ماهن، والخويدم تَصْغِير خَادِم، والشتامة الْقبْح والكلوح، يُقَال: وَجه شتيم أَي باس قَبِيح، وَمن هَذَا الشتم والشتيمة فِي القَوْل مَعْنَاهُ قبحه وقذعه، والمشاتمة المسابة وهما من هجر القَوْل وفحشه.
وَقَالَ بعض اللغويين: لَا يُقَال عضنا الدَّهْر وَإِنَّمَا يُقَال عظنا بالظاء، وَالْمَعْرُوف فِيهِ الضَّاد.
أعز شَيْئَيْنِ دِرْهَم حَلَال وَأَخ فِي الله
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عِيسَى الوَاسِطِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة عَن حزم بْن أَبِي حزم قَالَ: كَانَ يُونُس بْن عبيد يمر بِنَا فِي بني لَاحق فَيَقُول: مَا أعرف الْيَوْم شَيْئا أعز من شَيْئَيْنِ: دِرْهَم حَلَال وَأَخ فِي الله عز وَجل. وأنشدنا إِبْرَاهِيم قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى:
خير إخوانك المشارك فِي الْمُرِّ ... وأيْن الشّريكُ فِي المر أَيّنَا
لَا يني شَاهدا يَسُرك بالبش؟ ... ر وَإِن غبتَ كَانَ أُذْنًا وعَيْنًا
مثل سر العقيان إِن مَسّه النا ... رِجْلَاهُ التلام فازداد زينا
تَفْسِير بعض الْأَلْفَاظ ويروي: أخلصه الْقَيْن وَهُوَ الْحداد، العقيان من أَسمَاء الذَّهَب. وسره أخلصه وأشرفه،(1/595)
وسر كل شَيْء جيده ومختاره، والتلام هُوَ الَّذِي يجلى بِهِ، يُقَال لَهُ المدوس، وَقيل: هُوَ التلام يُرِيد التلامذة والتلاميذ مثل الأساورة والأساوير وَقيل إِنَّهَا فِي قِرَاءَة عَبد اللَّه أساوير من ذهب وَقَالَ: التلام بالحذف دون التَّمام كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
عفت المنا بمتالعٍ فأبان
يُرِيد الْمنَازل فَحذف اكْتِفَاء بِدلَالَة مَا بَقِي من الْكَلَام وَأقَام وزن شعره مستغنياً فِيهِ عَن التَّمام
حِكَايَة غَرِيبَة عَن
توَسط عمر بْن عبد الْعَزِيز لَدَى يزِيد بْن الْمُهلب
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُعَاوِيَة قَالَ: وَقَالَ ابْن الْكُوفِي وَكَانَ بشر بْن مَرْوَان قد ادخر وَهُوَ على الْعرَاق عَن ابْنه عبد الْملك وَعَن عُيَيْنَة بْن أَسمَاء من غلات أراضيهم مَالا عَظِيما، فَلَمَّا ولي الْحجَّاج أخرج تِلْكَ البقايا فَوجدَ مَا على عبد الْملك وعيينة بْن أَسمَاء فَقَالَ: وَمَا على بشرٍ أَن يهب من مَال الله تَعَالَى لِابْنِهِ وَخَتنه هَذَا وَأكْثر مِنْهُ، وَالله لآخذنهما بِهِ أَخذ الضَّب وَلَده، وطالبهما فريثاه حَتَّى هلك فلحقا بِالشَّام فَنزلَا على عمر بْن عبد الْعَزِيز فَقَالَا لَهُ: إِن بشرا كَانَ أطعمنَا شَيْئا كثيرا من غلاتنا فبسطنا فِيهِ أَيْدِينَا، وان الْحجَّاج بسفهه وخرقه وظلمه أخرج علينا ثُمَّ أَخذنَا بِهِ، فَلم نزل نخدعه عَن أَنْفُسنَا حَتَّى هلك، فَكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي هبة ذَلِك لنا، فَضَحِك عمر وَقَالَ: لست أَثِق لَكمَا بكلامي، وَلَكِن لَكمَا عِنْدِي رَأْي فِيهِ نجاح طلبتكما، قَالَا: فادللنا عَلَيْهِ، قَالَ: نمشي إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب فإمَّا أَن يحملهَا من مَاله، وَإِمَّا أَن يعيننا على سُلَيْمَان فيهبها لَكمَا، وَلَا وَالله مَا كنت لأمشي إِلَى عربيٍ على الأَرْض غَيره لَيْسَ من ولد مَرْوَان. ثُمَّ أَتَوا يزِيد فَقَالَ لَهُ عمر: إِن اأتيناك زوارا وَهَذَانِ من قد عرفت، فَلَا تنظرن إِلَى جرم أَبُو يهما عِنْد أَبِيك، فَضَحِك يزِيد وَقَالَ: عَفا الله عَنْك يَا أَبَا حَفْص، أرجع فِي ذنبٍ قد غفره أَبِي قبلي؟! وَالله مَا عجز عَن مكافأتهما فِي حَيَاته وَلَا أَوْصَانِي بالثأر من بعده، فَإِنَّهُمَا لأخواي وصاحباي، هاتوا حَاجَتكُمْ، فَقَالَ عمر: إِن الْحجَّاج أخرج عَلَيْهِمَا مِمَّا كَانَ بشر ترك لَهما من غلاتهما ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف فَمَا ترى؟ قَالَ: رَأْيكُمْ فاحتكموا، قَالَ: تحمل مِنْهَا مَا شِئْت قَالَ: عَليّ نصفهَا، وَالْمطلب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي بقيتها، فَإِن حمله عني وَإِلَّا حَملته، فَقَالَ عبد الْملك بْن بشر: وَالله مَا ظلم النَّاس أَن زَعَمُوا أَنَّك سيدهم. ثُمَّ خَرجُوا وَعمر يَقُول: مَا رَأينَا مثل هَذَا الْعِرَاقِيّ فِي وطأته فعل قبلهَا مثلهَا، ثمَّ حمل عَن القيسيين وَعَن يزِيد بْن عَاتِكَة، وَهَذِه ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف. ثُمَّ ركب يزِيد إِلَى سُلَيْمَان فَدخل عَلَيْهِ وَعِنْده جمَاعَة من وُجُوه أهل الْيمن فَقَامَ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: أمسك، وَأَبِيك إِنَّك لقادر على خلواتي، اجْلِسْ،(1/596)
فَقَالَ يزِيد: مَا قُمْت لأجلس فَأذن لي فِي الْكَلَام، فَقَالَ: هَات، فَأخْبرهُ بمجيء عمر إِلَيْهِ وَقَالَ: قد حملت النّصْف وضمنت عَلَيْك البَاقِينَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن مقَامي بِالشَّام لمن تَمام نعْمَة الله على بأمير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه لم يعمد إِلَى أحد فِي حَاجَة إِلَّا قَضَاهَا الله بك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ على يَدي، فَقَالَ سُلَيْمَان: قد وهبنا ذَلِك كُله لَك، فلك حَمده وعلينا غرمه.
الرشيد يستنشد الْكرْمَانِي شعرًا
فِي خلوب جَارِيَة الرشيد
حَدثنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكواكبي قَالَ: حَدَّثَنِي عمي أَبُو عَبد اللَّه أَحْمَد بْن فراس السَّامِي قَالَ حَدَّثَنَا الجهم بْن بدر قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي فِي خلوب جَارِيَة الرشيد شعرًا، فَبلغ الرشيد فَوجه إِلَيْهِ وأقعد الرشيد خلوب خلف ستر، وَمر الْكرْمَانِي بِالْفَضْلِ بْن الرّبيع فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد وَجه إِلَيّ فأنشده إِن استنشدني؟ قَالَ؛ نعم، بعد الْأمان. فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ الرشيد: أَأَنْت الْكرْمَانِي؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أَنْشدني، قَالَ فِي الزّهْد؟ قَالَ: لست هُنَاكَ، قَالَ: فَفِي المديح؟ قَالَ: وَلَا، قَالَ: فَمَا أنْشدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: شعرك فِي خلوب، قَالَ: بعد الْأمان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: نعم، فأنشده قَوْله فِيهَا حَتَّى بلغ:
لَو لم أذقها طَابَ لي حبها ... لكنني ذقت فَلَا ذقت
فَخرجت خلوب من وَرَاء السّتْر فَقَالَت: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذقته وَلَا ذاقني، وَلَا رَأَيْته وَلَا رَآنِي، وَقد أقرّ بِالزِّنَا فحده، قَالَ: يَا خلوب قد أعطيناه الْأمان، قَالَت: لَا أَمَان فِي حدٍ من حُدُود الله عز وَجل، قَالَ: قد سَمِعت يَا كرماني، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الله عز وَجل: " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ " الشُّعَرَاء:224 إِلَى قَوْله: " وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ " الشُّعَرَاء:226 قَالَ: صدقت، وَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.
طَريقَة الشُّعَرَاء
قَالَ القاضين: وَمن الْمَوْجُود فِي طَريقَة الشُّعَرَاء أَنهم يَقُولُونَ مَالا يَفْعَلُونَ، ويصفون من يمدحونه أَو يَهْجُونَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَبِمَا لَا علم لَهُم بِهِ، وَقد قَالَ فِي هَذَا عمرَان بْن حطَّان للفرزدق:
أَيهَا المادح الْعباد ليُعْطى ... إِن لله مَا بأيدي الْعباد
فسل الله مَا طلبت إِلَيْهِم ... وارج فضل الْمُهَيْمِن العواد
وَلَا تقل فِي الْجواد مَا لَيْسَ فِيهِ ... وَتَسِم الْبَخِيل باسم الْجواد
وأنشدني عَن ابْن الرُّومِي:
يَقُولُونَ مَالا يَفْعَلُونَ مسَبَّة ... من الله مسبوب بهَا الشُّعَرَاء
وَمَا ذَاك فيهم وَحده بل زِيَادَة ... يَقُولُونَ مَا لَا يفعل الْأُمَرَاء(1/597)
وَنَظِير خبر الْكرْمَانِي مَعَ الرشيد مَا رُوِيَ أَن الفرزدق أنْشد عبد الْملك:
فبتن جنابتي مصرعاتٍ ... وَبت أفض أغلاق الختام
فَقَالَ لَهُ: قد أَقرَرت بِمَا أوجب عَليّ أَن أقيم عَلَيْك الْحَد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يمنعك من ذَلِك آيَة من كتاب الله عز وَجل، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْله عز وَجل: " وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ " الشُّعَرَاء: 226.
هِشَام يَسْتَدْعِي حماداً الراوية ليسمع مِنْهُ شعرًا
حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن بْن الْبَراء قَالَ حَدثنِي حميد بْن مُحَمَّد الْكُوفِي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه الْقُرَشِيّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أنس صَاحب شعر الْكُمَيْت قَالَ: حَمَّاد الراوية: كَانَ انقطاعي إِلَى يزِيد بْن عبد الْملك وَكَانَ هِشَام يقليني على ذَلِك، فَلَمَّا ولي هِشَام مكثت سنة لَا أخرج، فَلَمَّا لم أذكر خرجت فَصليت الْجُمُعَة وَجَلَست على بَاب الْفِيل، وَهُوَ بَاب مَسْجِد الْكُوفَة، فَإِذا شرطيان قد وَقفا عَليّ فَقَالَا لي: يَا حَمَّاد أجب الْأَمِير يُوسُف بْن عمر، فَقلت: من هَذَا كنت أحذر، ثُمَّ قلت لَهما: هَل لَكمَا أَن تدعاني آتِي أَهلِي فأودعهم وداع من لَا يرجع إِلَيْهِم أبدا ثُمَّ أصير إِلَيْهِ مَعَكُمَا؟ قَالَا: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل، فاستسلمت فِي أَيْدِيهِمَا وَدخلت على يُوسُف بْن عمر فِي الإيوان الْأَحْمَر، فَسلمت فَرد عَليّ السَّلَام فطابت نَفسِي برده عَليّ السَّلَام، ثُمَّ رمى إِلَيّ بِكِتَاب فِيهِ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من هِشَام أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى يُوسُف بْن عمر، إِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَابْعَثْ إِلَى حَمَّاد الراوية من يَأْتِيك بِهِ غير مروعٍ وَلَا متعتعٍ، وادفع إِلَيْهِ خَمْسمِائَة دِينَار وجملا مهريا يسير عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة إِلَيّ دمشق، فَأخذت الْخَمْسمِائَةِ الدِّينَار وَنظرت فَإِذا جمل مرحول فَوضعت رجْلي فِي الغرز وسرت إِحْدَى عشرَة لَيْلَة، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي عشر وافيت بَاب هِشَام فاستأذنت فَأذن لي، فَدخلت عَلَيْهِ فِي دَار قوراء مفروشةٍ بالرخام، بَين كل رخامتين قَصَبَة من ذهب، وحيطانها على ذَلِك الْعَمَل، وَإِذا هِشَام جَالس على طنفسة من خَز أَحْمَر وَعَلِيهِ ثِيَاب خزٍ حمر مضمخة بالعنبر؛ فَسلمت فاستدناني حَتَّى قبلت رجله وأجلسني، فَإِذا أَنا بجاريتين لم أر مثلهمَا قبلهمَا، فِي أذن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حَلقَة من ذهب فِيهَا جَوْهَرَة تتوقد، فَقَالَ لي: يَا حَمَّاد كَيفَ أَنْت وَكَيف حالك؟ قلت: بِخَير يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أَتَدْرِي لم بعثت إِلَيْك؟ قلت: لَا، قَالَ بعثت إِلَيْك لبيت خطر ببالي لم أدر من قائلة، قلت وَمَا هُوَ؟ قَالَ:
فدعَتْ بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق
قلت هَذَا يَقُوله عدي بْن زيد الْعَبَّادِيّ فِي قصيدة لَهُ، فَقَالَ أنشدنيها، فَأَنْشَدته:
بكر العاذلون فِي وضح الصب؟ ... ح يَقُولُونَ مَا لَهُ لَا يفِيق(1/598)
ويلومون فِيك يَا ابْنة عبد الل؟ ... هـ وَالْقلب عنْدكُمْ موثوق
لست أَدْرِي إِذْ أَكْثرُوا العذل عِنْدِي ... أعدو يلومني أم صديق
زانها حسنها بفرعٍ عميمٍ ... وأثيث صلت الجبين أنيق
وثنا يَا مغلجات عَذَاب ... لَا قصاراً ترى ولاهن روق
فدعَتْ بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق
ثمَّ كَانَ المزاج مَاء سَمَاء ... لَيْسَ مَا اجن وَلَا مطروق
فَقَالَ: أَحْسَنت يَا حَمَّاد، يَا جَارِيَة اسقيه فسقتني شربة ذهبت بِثلث عَقْلِي، ثُمَّ قَالَ: أعد، فَأَعَدْت فاستخفه الطَّرب حَتَّى نزل عَن فرشه، ثُمّ قَالَ لِلْأُخْرَى: يَا جَارِيَة اسقيه، فسقتني شربة ذهب ثلثا عَقْلِي، فَقلت: إِن سقتني الثَّالِثَة افتضحت، ثُمَّ قَالَ: سل حوائجك كائنة مَا كَانَت، قلت: إِحْدَى الجاريتين قَالَ: هما لَك بِمَا عَلَيْهِمَا من حلي وحلل، ثُمَّ قَالَ للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سَقَطت فَلم أَعقل حَتَّى أَصبَحت، فَإِذا أَنا بالجاريتين عِنْد رَأس، وَإِذا خَادِم تقدم عشرَة خدم مَعَ كل وَاحِد بدرة فَقَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول لَك: خُذ هَذِه فَانْتَفع بهَا فِي شَأْنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت.
تعليقات وتفسيرات قَالَ القَاضِي: قد رويت قصَّة هَذَا الشّعْر عَن حَمَّاد أَنَّهَا كَانَت مَعَ الْوَلِيد بْن يزِيد وفيهَا مَا لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَر، وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا لَيْسَ فِيهَا، وَجَائِز أَن تكون القصتان جرتا فِي وَقْتَيْنِ فيكونا غير متنافيتين وَقد أثبتنا الْقِصَّة الْأُخْرَى فِي بعض مجَالِس كتَابنَا هَذَا وَالله أعلم بصواب ذَلِك.
وَقَول عدي بْن زيد فِي هَذَا الشّعْر يصف ثنايا هَذِه الْمَرْأَة: وَلَا هن روق الروق الطوَال، يُقَال نَاب أروق وثنية روقاء وَالْجمع روق مثل أَحْمَر وحمراء وحمر، قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِذا مَا الأكس شبه بالأر ... وق يَوْم الهيجا وَقل البصاق
يُقَال نَاب أكس وثنية كسَاء، إِذا كَانَا قصيرين، وَإِنَّمَا وصف الْحَرْب بالشدة وَإِن ريق الْمُحَارب قد شبهت أَسْنَانه على كسسها بالروق لتجردها وَقلة البصاق فِيهَا.
النوشجاني يتغاضى لِلْمَأْمُونِ فَلَا يرضيه ذَلِك
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يحيى الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي من سمع قَحْطَبَةَ بْن حميد بْن قَحْطَبَةَ يَقُول: حضرت الْمَأْمُون يناظر مُحَمَّد بْن الْقَاسِم النوشجاني فِي شَيْء وَمُحَمّد يغضي لَهُ ويصدقه فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَرَاك تنقاد لي إِلَى مَا تظن أَنه يسرني قبل وجوب الْحجَّة عَلَيْك وَلَو شِئْت أَن أقتسر الْأُمُور بِفضل بيانٍ وَطول لِسَان وأبهة الْخلَافَة وسطوة الرياسة لصدقت وَإِن كنت كَاذِبًا، وصوبت وَإِن كنت مخطئًا، وَعدلت وَإِن كنت(1/599)
جائرًا، وَلَكِنِّي لَا أرضي إِلَّا بِإِزَالَة الشُّبْهَة وَغَلَبَة الْحجَّة، وَإِن شَرّ الْمُلُوك عقلا وأسخفهم رَأيا من رَضِي بقَوْلهمْ صدق الْأَمِير.
لَا باس أَن يكون الْخَال اشرف من الْعم
حَدثنَا يزْدَاد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي تينة قَالَ حَدَّثَنَا القحذمي قَالَ: تزوج قيس بْن معد يكرب بنت الْحَارِث بْن عَمْرو من بني آكل المرار فَولدت لَهُ الْأَشْعَث بْن قيس ففال أَبُو هَانِئ الْكِنْدِيّ:
بَنَات الْحَارِث الْملك بْن عمروٍ ... تخيرها فَتنْكح فِي ذراها
لَهَا الويلات إِذا أنكحتموها ... أَلا طعنت بمديتها حشاها
وَقد نبئتها ولدت غُلَاما ... فَلَا عَاشَ الْغُلَام وَلَا هناها
فَأَجَابَهُ أَبُو قساس الْكِنْدِيّ:
أَلا أبلغ لديك أَبَا هني ... أَلا تنْهى لسَانك عَن رداها
فقد طالبت هندًا قبل قيسٍ ... لتنكحها فَلم تَكُ من هَواهَا
فطافت فِي المناهل تبتغيها ... فلاقت منهلا عذبًا شفاها
شَدِيد الساعدين أَخا حروبٍ ... إِذا مَا سيل منقصة أَبَاهَا
وَمَا حثت مطيته إِلَيْهَا ... وَلَا من فَوق ذروتها أَتَاهَا
قَالَ عِيسَى قَالَ القحذمي: وَآل الْأَشْعَث ينشدون هَذَا الشّعْر وَلَا ينكرونه قَالَ: وَا لأشراف لَا يبالون أَن يكون أخوالهم أشرف من أعمامهم.
اللِّسَان فِي اللُّغَة
قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذَا الشّعْر: أَلا تنْهى لسَانك عَن رداها أنث اللِّسَان، وَذكر أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ أَن الْعَرَب تذكر اللِّسَان وتؤنثه وَقيل من أنثه أَرَادَ بِهِ اللُّغَة والرسالة كَقَوْل الشَّاعِر:
إِنِّي أَتَتْنِي لِسَان لَا أسر بهَا ... من علو لَا صخب فِيهَا وَلَا سخر
مقولة لعَلي فِي مَفْهُوم الْقَضَاء وَالْقدر
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:
لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ صِفِّينَ قَامَ إِلَيْهِ شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا قَطَعْنَا وَادِيًا وَلا عَلَوْنَا تَلْعَةً إِلا بِقَضَاءٍ وقدرٍ، فَقَالَ الشَّيْخُ: عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي، فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلِمَ؟ بَلْ عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ مُصْعِدُونَ، وَفِي مُنْحَدَرِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْحَدِرُونَ، وَمَا(1/600)
كُنْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ مُكْرَهِينَ وَلا إِلَيْهَا مُضْطَرِّينَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: كَيْفَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ سَاقَنَا إِلَيْهَا؟ قَالَ: وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَهُ قَضَاءً لازِمًا وَقدرا حاتماً، لَو كَانَ ذَاكَ لَسَقَطَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَلَبَطُلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَلا أَتَتْ لائِمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ، وَلا مَحْمَدَةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُحْسِنٍ، وَلا كَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِثَوَابِ الإِحْسَانِ مِنَ الْمُذْنِبِ، ذَلِكَ مَقَالُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَجُنُودِ الشَّيْطَانِ وَخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ، وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا، وَلَكِنِ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْخَيْرِ تَخْيِيرًا، وَنَهَى عَنِ الشَّرِّ تَحْذِيرًا، وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوبًا، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَمْلِكْ تَفْوِيضًا، وَلا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا أَرَى فِيهِمَا مِنْ عَجَائِبِ آيَاتِهِمَا بَاطِلا " ذَلِك ظن الَّذين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ " ص: 27.
فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا كَانَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ الَّذِي كَانَ فِيهِ مَسِيرُنَا وَمُنْصَرَفُنَا؟ قَالَ: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ. ثُمَّ قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ " الْإِسْرَاء:23 فَقَامَ الشَّيْخُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ:
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ ... يَوْمَ النُّشُورِ مِنَ الرَّحْمَنِ رِضْوَانَا
أَوْضَحْتَ مِنْ دِينِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِسًا ... جَزَاكَ رَبُّكَ عَنَّا فِيهِ إِحْسَانَا
الْمجْلس الثَّمَانُونَ
يَا أَبَا بكر دعها فَإِن لكل قوم عيدًا
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَكْرٍ دَعْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ قومٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا.
الرُّخْصَة فِي الْغناء الْمُبَاح
قَالَ القَاضِي: قد ضمنا هَذِه الْمجَالِس نَظَائِر لهَذَا الْخَبَر، وَذكرنَا فِي غير مَوضِع من كتبنَا مَا جَاءَ من الرُّخْصَة فِي الْغناء الْمُبَاح وَمَا يسْتَعْمل مَعَه من آلَات الملاهي كالدف وَنَحْوه، وَأَن ذَلِك يخْتَار وَيُؤمر بِهِ فِي الأعياد والعرسات وَمَا يجْرِي مجْراهَا مِمَّا ينبسط عِنْده الْمُسلمُونَ وينشطون فِيهِ فِي مجامعهم ومآدبهم. وَذكرنَا فِي عدَّة مَوَاضِع مَا يكره من تَرْجِيع الْغناء و. طيط فِي تِلَاوَة الْقُرْآن وإنشاد الْعشْر، وأوضحنا سُقُوط من موه على النَّاس فِي ذَلِك وَتعلق بسخيف الشّبَه فِيهِ إرهاصًا لمعيشته وتوطئًا للحطام من مأكلته، وَإِن فِي وفور السرُور واستقامة الْأُمُور بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا أَبَاحَهُ الله عز وَجل وَأذن فِيهِ لمندوحة عَمَّا حظره وزجر عَنْهُ وعابه.
ابْن وَرْقَاء يحْسب الشّعْر قُرْآنًا
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا أبن عُثْمَان عَن التوزي عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ:(1/601)
خطب عتاب بْن وَرْقَاء الريَاحي على الْمِنْبَر فَقَالَ: أَقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه:
لَيْسَ شَيْء على الْمنون بباقٍ ... غير وَجه المسبح الخلاق
فَقيل لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، هَذَا قَول عدي بْن زيد، فَقَالَ: فَنعم وَالله مَا قَالَ عدي بْن زيد.
قَالَ ابْن دُرَيْد أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان فِي عقب هَذَا الحَدِيث وَلم يسْندهُ إِلَى أحد قَالَ: أُتِي عتاب بْن وَرْقَاء بِامْرَأَة من الْخَوَارِج فَقَالَ لَهَا: يَا عدوة الله مَا حملك على الْخُرُوج علينا؟ أما سَمِعت الله يَقُول:
كتب الْقَتْل والقتال علينا ... وعَلى الْمُحْصنَات جر الذيول
فَقَالَت: جهلك بِكِتَاب الله حَملَنِي على الْخُرُوج عَلَيْك وعَلى أئمتك يَا عَدو الله.
كَيفَ سَار الْمثل الْخَيْر يبْقى وَالشَّر أَخبث زَاد
حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْل الربعِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، وَحدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن السَّائِب عَن أَبِيه عَن الشَّرْقِي بْن الْقطَامِي وألفاظ الرِّوَايَتَيْنِ مُخْتَلفَة ومعاينهما مُتَقَارِبَة قَالَ، قَالَ الرشيد للمفضل الضَّبِّيّ: أَخْبرنِي يَا مفضل عَن قَول الْعَرَب:
الْخَيْر يبْقى وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد
فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا مثل لَهُم سَائِر قبل الْإِسْلَام، وَكَانَ من حَدِيث هَذَا الْمثل أَن عبيد بْن الأبرص الْأَسدي كَانَ حكيمًا من حكماء الْعَرَب وشاعرًا مجيدًا، قَتله الْمُنْذر بْن مَاء السَّمَاء من أجل الغريين وَكَانَ من حَدِيث هَذَا الْمثل قبل أَن يقْتله الْمُنْذر بِثَلَاثَة أَحْوَال أَن نَاسا نزلُوا عَلَيْهِ فقراهم وَأحسن ضيافتهم وَكَانَ يقري الضَّيْف وَيحسن إِلَى الْمُنْقَطع بِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْقَوْم الرحيل خرج مَعَهم يشيعهم، فشيعهم حَتَّى أبعدوا ونزلوا فِي مَوضِع وَقَالَ غَيره: فَلَمَّا نزل الْقَوْم وعرسوا خرج عبيد وَصَاحب لَهُ يمشيان فِي الْموضع الَّذِي نزل الْقَوْم فِيهِ، وسارا حَتَّى أَتَيَا حبا هُنَاكَ فرأيا شجاعًا عَظِيما أَقرع يَلْهَث قد أدلع لِسَانه من الْعَطش، فَأخذ صَاحب عبيدٍ حجرا وهم أَن يشدخه بِهِ، فَقَالَ لَهُ عبيد: مَا أَنْت صانع؟ قَالَ: أقتل هَذَا الشجاع فَإِنَّهُ عَدو، قَالَ عبيد: لَا تفعل فَإِن الْأَسير قد يجار وَإِن كَانَ عدوا، ثُمَّ استقى من الْحبّ مَاء فسقى الشجاع، فَجعل يشرب حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ تسبسب فِي الرمل فَغَاب، قَالَ: وَرجع عبيد إِلَى الْقَوْم فودعهم ثُمَّ رحلوا، وَرجع عبيد إِلَى منزله فَأَقَامَ حَوْلَيْنِ، فَأَتَاهُ بعض الرُّعَاة فخبره أَن إبِله قد شَردت فَركب رَاحِلَة لَهُ وَخرج فِي طلب الْإِبِل، وَكَانَ شجاعًا بطلا، فَسَار عشر مراحل لَا يرى لَهُ أثرا وَلَا يعرف لَهَا خَبرا، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَقد كلت رَاحِلَته وتعب وأظلم اللَّيْل وهبت الرِّيَاح فَلم ير سهلا وَلَا جبلا نفقت الرَّاحِلَة، فَقَالَ: يَا لَك من ليلٍ ديجور وَمن نفوق راحلةٍ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ يُقَال لَهُ الصادي وَهُنَاكَ مَاء، فَقَالَ: وَالله مَا أرى إِلَّا(1/602)
الْإِقَامَة على هَذَا المَاء وَالْمَوْت، ثُمَّ حط رَحْله عَن رَاحِلَته وَأسْندَ ظَهره إِلَيْهِ وطأطأ رَأسه إِلَى الأَرْض وَجمع أثوابه عَلَيْهِ، فَإِذا هَاتِف يَهْتِف بِهِ من خَلفه، يسمع صَوته وَلَا يرى شخصه وَهُوَ يَقُول:
يَا أَيهَا الشَّخْص المضل مذْهبه ... وَلَيْسَ مَعَه من أنيس يصحيه
دُونك هَذَا الْبكر خُذْهُ فاركبه ... حَتَّى إِذا اللَّيْل توارى مغربه
بساطع الصُّبْح ولاح كوكبه ... فحط عَنْهُ رَحْله وسبسبه
قَالَ القَاضِي: ويرويى تواري غيهبه، والغيهب الظلمَة. فَالْتَفت وَرَاءه فَإِذا بكر مَعْقُول عَلَيْهِ رَحل، فَوَثَبَ حَتَّى حل عقاله وَصَارَ فِي مَتنه، فَوَثَبَ الْبكر من غير أَن يثيره حَتَّى استقام على الطَّرِيق يسير بِهِ كالبرق الخاطف وكالريح العاصف لَا يلوي على شيءٍ وَلَا يفتر من السّير، حَتَّى إِذا كَانَ فِي وَجه الصُّبْح وَنظر عبيد إِلَى بَيَاض الْحيرَة برك الْبكر فَلم يقم، فاستحثه فَلم يقم، فَقَالَ: إِنَّه لمأمور، وثنى رجله فَنزل عَنْهُ وَولى نَاحيَة فثار الْبكر يجر بزمامه، فَقَالَ عبيد: بكر يسري فِي ليلةٍ واحدةٍ عشر مراحل لَا أسأله مَا أَنْت وَلَا من الَّذِي أرسلك إِلَيّ؟! ثُمَّ أدَار وَجهه إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُول:
يَا أَيهَا الْكبر قد أنجيت من كربٍ ... وَمن فيافٍ تضل المدلج الْهَادِي
أَلا أنبت لنا بالْقَوْل نعرفه ... من الَّذِي جاد بالنعماء فِي الْوَادي
اذْهَبْ سليما فقد بلغت مأمننا ... بوركت من ذِي سنامٍ حَامِل حادي
قَالَ: فَأَجَابَهُ الْبكر وَهُوَ يَقُول:
أَنا الشجاع الَّذِي ألفيته رَمضًا ... يُنَازع المَاء من ذِي المورد الصادي
فجدت بِالْمَاءِ لما ضن حامله ... رويت هامي وَلم تولع بإنكادي
الْخَيْر يبْقى وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد
قَالَ القَاضِي وَيرى: مَا أوعبت فِي الزَّاد
هَذَا جزاؤك من لَا أَمن بِهِ ... فسر سليما وقاك الله من هاد
فَقَالَ لَهُ الرشيد: أَحْسَنت يَا مفضل، يَا ربيع أعْطه عشْرين ألفا، عشرَة آلَاف لمعرفته بِالْمثلِ وَأَصله، وَعشرَة آلَاف لحسن رِوَايَته لَهُ.
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر نفقت الرَّاحِلَة وَإِنَّمَا يُقَال نفق الْفرس وتنبل الْبَعِير.
ابْن الزُّبَيْر بنشد مُعَاوِيَة ثَلَاثَة أَبْيَات حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِي قَالَ حَدثنِي أبي قل حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ الْعَبَّاسُ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَر بْن مُحَمَّد بْن حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُبَيْقٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنْشِدْنِي ثَلاثَةَ أَبْيَاتٍ غَرِيبَةٍ، قَالَ: أُنْشِدُكَهَا(1/603)
بِثَلاثِينَ أَلْفًا تَدْفَعُهَا إِلَيَّ، قَالَ: حَتَّى تُنْشِدَ فَأَسْمَعَ، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ وَتَسْمَعُ وَأَنْتَ الْحَكَمُ، فَأَنْشَدَهُ أبياتاً لِلأَفْوَهِ الأَوْدِيِّ:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قرنٍ ... فَلَمْ أَرَ غَيْرَ ختالٍ وَقَالِ
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ شَرًّا ... وَأَضْنَى مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ
وَذُقْتُ مَرَارَةَ الأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ السُّؤَالِ
قَالَ: فَحَكَمَ لَهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَلاثِينَ أَلْفًا.
عمر معجب بِمُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي تِينَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خرج عُمَرُ يَسِيرُ فِي عَمَلِهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ دِمَشْقَ تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ فِي مَوْكِبٍ لَهُ رِزٌّ، وَعُمَرُ عَلَى حِمَارٍ إِلَى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن ابْن عَوْفٍ عَلَى حِمَارٍ آخَرَ، فَلَمْ يَرَهُمَا مُعَاوِيَةُ وَطَوَاهُمَا، فَقِيلَ لَهُ: خَلَّفْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَاءَكَ، فَرَجَعَ فَلَمَّا رَآهُ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ وَمَشَى حَتَّى عَلَّقَ نَفْسَهُ بِأَرْنَبَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَجْهَدَتَ الرَّجُلَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ أَأَنْتَ صَاحِبُ الْمَوْكِبِ آنِفًا مَعَ مَا يَبْلُغُنِي مِنْ طُولِ وُقُوفِ ذَوِي الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَعَمْ، فَرَفَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَوْتَهُ فَقَالَ: وَلِمَ وَيْلُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّا فِي بِلادٍ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا مِنْ جَوَاسِيسِ الْعَدو، وَلَا بدلهم مِمَّا يُرْهِبُهُمْ مِنْ آلَةِ السُّلْطَانِ، فَإِن أَمرتنِي أَقمت عَلَيْهِ وَإِنِّي نَهَيْتَنِي عَنْهُ انْتَهَيْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ وَاللَّهِ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ أَكْرَهُهُ فَأُعَاتِبُكَ عَلَيْهِ إِلَّا تركنني مِنْهُ فِي أَضْيَقَ مِنْ رَوَاجِبِ الْفَرَسِ، فَإِنْ كَانَ مَا قُلْتَ حَقًّا إِنَّهُ لَرَأْيُ أَدِيبٍ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلا إِنَّهَا لَخَدْعَةُ أَرِيبٍ، لَا آمُرُكَ بِهِ وَلا أَنْهَاكَ عَنْهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لأَحْسَنَ الْفَتَى الْمَصْدَرَ فِيمَا أرودته فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِحُسْنِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا جَشَّمْنَاهُ.
تَوْلِيَة الْمُهلب خُرَاسَان
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي قَالَ حَدثنَا أَحْمد ابْن مُعَاوِيَة قَالَ قَالَ ابْن الْكُوفِي: لما قدم الْمُهلب على الْحجَّاج بعد فَرَاغه من أَمر الْأزَارِقَة وقتالهم، أكْرمه الْحجَّاج وشرفه وَبلغ لَهُ الْغَايَة، قَالَ: فَخرج الْحجَّاج يَوْمًا أخذا بيد الْمُهلب، حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى الْمِحْرَاب قالم ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا سعيد أَنا أطول أم أَنْت؟ فَقَالَ: الْأَمِير أطول مني وَأَنا أشخص مِنْهُ، فَلَمَّا انْصَرف من صلَاته أَخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ مَعَه ثُمَّ قَالَ لَهُ: سجسنان خير ولَايَة أم خُرَاسَان؟ قَالَ: سجستان قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنَّهَا ثغر كابل وزابلستان، وان خُرَاسَان ثغر التّرْك، قَالَ أَيهمَا أحب إِلَيْك أَن يَلِيهِ رجل مثلك؟ قَالَ: إِن أمثالي فِي النَّاس لكثير وَمَا نَحن حَيْثُ يرى النَّاس، قَالَ: سر إِلَى سجستان، قَالَ: غَيْرِي خير لَك فِيهَا مني وَأَنا بخراسان خير لَك من غَيْرِي، قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَن بَدْء نعْمَة الله عَليّ بعد الْإِسْلَام كَانَ فِي غزوتي خُرَاسَان(1/604)
مَعَ الْغِفَارِيّ، وَابْن أَبِي بكرَة بسجستان خير لَك من لِأَن أَهلهَا أحبوه لحسن أياديه فيهم وَأَنا بخراسان خير مِنْهُ، قَالَ: وَمَا كنت تلِي من أَمر الْغِفَارِيّ؟ قَالَ: كنت فِيمَن صَحبه فَلَمَّا نزلنَا بيهق ودنونا من عدونا قَالَ الْغِفَارِيّ: هَل من فوارس ينظرُونَ لنا أمامنا وَإِن أَصَابُوا أحدا أَتَوا بِهِ، فَانْتدبَ منا مَعَ صَاحب شرطته عشرَة فوارس فلقينا عدتنا من عدونا، فَقَالَ أَصْحَابِي: قد عاينا طلائع الْقَوْم فانصرفوا، فَقلت: وَمَا عَلَيْكُم أَن نشامهم؟ فَأَبَوا وَانْصَرفُوا وَتَقَدَّمت فَقتل الله الْعشْرَة على يَدي، ثُمَّ انصرفت برؤوسهم ودوابهم وأسلابهم معي، وَقد كَانَ أَصْحَابِي نعوني إِلَى الْغِفَارِيّ، فَلَمَّا رَآنِي ضحك وَقَالَ:
كبا الْقَوْم عِنْد عيان الرِّهَان ... ونال الْمُهلب حَظّ الْفرس
ففاز الْمُهلب بالمكرمات ... وآب عُمَيْر بِحَدّ التعس
ثمَّ ولاني شرطته وَخرج إِلَيّ من أمره. فولاه الْحجَّاج خُرَاسَان، وَكَانَ وإليها حَتَّى هلك بهَا، فَقَالَ نَهَار بْن توسعة يرثيه:
لله دركم غَدَاة دفنتم ... سم العداة ونائلاً لَا يحظر
إِن تدفنوه فَإِن مثل بلائه ... فِي الْمُسلمين وَذكره لَا يقبر
كَانَ المدافع دون بَيْضَة مصره ... والجابر الْعظم الَّذِي لَا يجْبر
وَالْكَافِي الثغر الْمخوف بحزمه ... وبيمن طَائِره الَّذِي لَا يُنكر
أَنى لَهَا مثل الْمُهلب بعده ... هَيْهَات هَيْهَات الجناب لأخضر
كل امْرِئ ولي الرّعية بعده ... بدل لعمر أَبِيك مِنْهُ أَعور
مَا ساسنا مثل الْمُهلب سائس ... أعفى عَن الذَّنب الَّذِي لَا يغْفر
لَا لَا وأيمن فِي الحروب نقيبة ... مِنْهُ وَأَعْدل فِي النهاب وأوقر
وَأَشد فِي حق الْعرَاق شكيمة ... يخْشَى بوادرها الإِمَام الْأَكْبَر
جمع الْمُرُوءَة والسياسة التقى ... ومحاسن الأخرق مِنْهَا أَكثر
تجْرِي لَهُ الطير الأيامن عمره ... وَلَو أَنه خمسين عَاما يخْطر
لما رأى الْأَمر الْعَظِيم وَأَنه ... سيحل بالمصرين أَمر مُنكر
وأرنت العوذ المطافل حوله ... حذر السباء وَزَل عَنْهَا المئزر
ألْقى القناع وَسَار نَحْو عصابةٍ ... خزرٍ فذاقوا الْمَوْت وَهُوَ مشمر
كَانَ الْمُهلب للعراق سكينَة ... وَولي حادثها الَّذِي يستنكر(1/605)
أَبُو الديك الْمَعْتُوه
حَدثنَا حَمْزَة بْن الْحُسَيْن بْن عمر السمسار قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْن عبد الرَّحِيم الْأنْصَارِيّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ قَالَ أَبُو نعيم: أرسل إِلَى عمرَان بْن إِسْحَاق بْن الصَّباح، وَكَانَ كثيرا مَا يُرْسل إِلَى الْفُقَهَاء، وَكَانَ أَبوهُ قبله يفعل ذَلِك، قَالَ: فَأَتَيْته فَإِذا أَبُو الديك وَكَانَ معتوهًا ذَاهِب الْعقل مختلا محتالا جيد البديهة حسن الْجَواب على بَاب عمرَان بْن إِسْحَاق يُخَاصم ويجلب يخْتَلط وَيُشِير إِلَى الْحَائِط كَأَنَّهُ يرى شَيْئا يخاصمه، وَكَانَ ذَلِك لَا يَعْتَرِيه إِلَّا عِنْد الْجُوع وَكَانَ قد عرف بذلك، وَكَانَ عَلَيْهِ أهل الْكُوفَة: فقهاؤها وأمراؤها، يأمرون بتفقد ذَلِك. فَدخلت على عمرَان فَلم أَجْلِس حَتَّى قلت لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، أَبُو الديك على الْبَاب يُخَاصم ويخلط وَلَا أَحْسبهُ إِلَّا جائعًا، فَإِن ذَلِك يَعْتَرِيه مَعَ الْجُوع، فَقَالَ عمرَان: يَا غُلَام، الْمَائِدَة، بهَا مهيأة، ثُمَّ قَالَ: أَبُو الديك، فَدخل، فَلَمَّا عاين الْمَائِدَة وَرَأى حسنها قَالَ، قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه يَحْكِي مَسْأَلَة نبيه " رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا " الْمَائِدَة: 114 الْآيَة؛ وَهَذِه الْمَائِدَة لأوّل أهل الْكُوفَة وَآخرهمْ، وَالْآيَة معرفَة أَبِي نعيم بِمَا كنت فِيهِ؛ قَالَ أَبُو نعيم: ثُمَّ أقبل عَليّ فَقَالَ: يَا أَبَا نعيم هَذِه فطنة الْعُقَلَاء وأذهان الْفُقَهَاء وَاخْتِيَار الْعلمَاء، جَزَاك الله خيرا. ثُمَّ أقبل على عمرَان فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيراً " الدَّهْر: 8 وَأَنا مِسْكين، يَتِيم من عَقْلِي، أَسِير فِي حبس شَيْطَان مُوكل بِي.
فتيَان بني عبد منَاف وفتيان بني أَسد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ يَعْنِي عمر ابْن شَبَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ: أَدْخِلْ عَلَيَّ فِتْيَانَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَأَدْخَلَهُمْ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الدَّنَانِيرُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتُمْ:
بَنُو الْمَجْدِ لَمْ تَقْعُدْ بِهِمْ أُمَّهَاتُهُمْ ... وَآبَاؤُهُمْ آبَاءُ صدقٍ فَأَنْجَبُوا
هُمْ حَفِظُوا غَيْبِي كَمَا كُنْتُ حَافِظًا ... لَهُمْ غَيْبَ أُخْرَى مِثْلَهَا لَوْ تَغَيَّبُوا
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا أُدْخِلَ عَلَيْكَ فِتْيَانَ بَنِي أَسَدٍ قَالَ: فَأَدْخَلَهُمْ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْحَيَّاتِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَكَلْنَ حِمْضًا فَالْوُجُوهُ شِيبُ ... شَرِبْنَ حَتَّى نَزَحَ الْقَلِيبُ
أَبُو الدَّرْدَاء ينظم شعرًا
حَدثنَا أَحْمد بن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْن إِسْحَاق الْمسَيبِي قَالَ: سَمِعت شَيخا يُقَال لَهُ عبد الْملك بْن عمَارَة من ولد خُزَيْمَة بْن ثَابت ذِي الشَّهَادَتَيْنِ من الْأَنْصَار يحدث أَبِي أَن أَبَا الدَّرْدَاء قيل لَهُ كل أَصْحَابك قد قَالَ الشّعْر غَيْرك، فَنَكس أَو أطرق قَلِيلا ثُمَّ قَالَ:(1/606)
يُرِيد العَبْد أَن يُعْطي مناه ... ويأبى الله إِلَّا مَا أَرَادَا
يَقُول العَبْد فائدتي وَمَالِي ... وتقوى الله أفضل مَا استفادا
فَقَالُوا: لقد أَحْسَنت فزد، فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا قلت حِين قُلْتُمْ إِن أَصْحَابك كلهم قد قَالُوا، فَكرِهت أَن يعملوا عملا لَا أعمله، وَلَيْسَ الشّعْر من شأني.
لَا تملأوا أعينكُم من أَئِمَّة الْجور
حَدثنَا عبد الْبَاقِي بن قَانِع قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن عَليّ بْن الْحسن الْخَواص العابد قَالَ حَدَّثَنَا الْحسن بْن جرير الصُّورِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو الْعَسْقَلَانِي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن أدهم عَن أَبِي عِيسَى الْمروزِي قَالَ: سَمِعت سعيد بْن الْمسيب يَقُول فِي إمرة عبد الْملك بْن مَرْوَان: لَا تملأوا أعينكُم من أَئِمَّة الْجور وَلَا من أعوانهم إِلَّا بإنكار بقلوبكم كَيْلا تحبط أَعمالكُم الصَّالِحَة.
السفاح يعْمل بَيْتَيْنِ لتخويف بني أُميَّة
حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن فهم قَالَ حَدَّثَنَا ابْن النطاح قَالَ: روينَا أَن السفاح عمل بَيْتَيْنِ وَوجه بِرَجُل إِلَى عَسْكَر مَرْوَان ليقوم على الْجَبَل لَيْلًا فَيَصِيح بهما وينغمس فَلَا يُوجد، وهما:
يَا آل مَرْوَان إِن الله مهلككم ... ومبدل أمنكم خوفًا وتشريدا
لَا عمر الله من أنسالكم أحدا ... وبثكم فِي بِلَاد الْخَوْف تطريدا
قَالَ: فَفعل ذَلِك فَدخلت قُلُوبهم مَخَافَة.
وَصِيَّة عَليّ لشريح
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن زِيَاد الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ شَبِيبٍ بِشَيْزَرَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُوسَى الْبَصْرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ عَنِ الرَّمَّاحِ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّهْدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْن عليّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ لِشُرَيْحٍ: لسَانك عَبدك مالم تَتَكَلَّمْ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَأَنْتَ عَبْدُهُ، فَانْظُرْ مَا تَقْضِي وَفِيمَ تَقْضِي وَكَيْفَ تَقْضِي وَفِيمَا تَمْضِي وَإِلَيْهِ تُفْضِي.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي خَاطَبَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شُرَيْحًا مِنْ أَحْسِنِ الْكَلامِ، وَأَشْرَفِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَمَتَى تَأَمَّلَهُ مَنْ يَلِي الأَحْكَامَ وَاعْتَبَرَ بِهِ وَأَجْرَى أَمْرَهُ عَلَيْهِ فَازَ وَرَشِدَ، وَأَفْلَحَ وَسَعَدَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقَهُ وَعِصْمَتَهُ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
الْمجْلس الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ
أسئلة أَبِي ذَر للرسول
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ هَمَّامٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ السَّعْدِيُّ قَالَ(1/607)
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَاغْتَنَمْتُ خَلْوَتَهُ، فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً، قُلْتُ: مَا تَحِيَّتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَكْعَتَانِ، فَرَكَعْتُهُمَا ثُمَّ الْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاةِ فَمَا الصَّلاةُ؟ قَالَ: خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ، قُلْتُ: يَا رَسُول لله أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، قُلْتُ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، قُلْتُ: فَأَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوف اللَّيْل العابر، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ، قُلْتُ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ إِلَى فَقِيرٍ فِي سِرٍّ، قُلْتُ: فَمَا الصَّوْمُ؟ قَالَ: قَرْضٌ مَجْزِيٌّ وَعِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ، قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قُلْتُ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَهُرِيقَ دَمُهُ، قُلْتُ: أَيُّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلا كحلقةٍ ملقاةٍ بِأَرْضِ فَلاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلَقَةِ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وأربعةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كم المُرْسَلُونَ مِنْهُم؟ قَالَ: ثَلَاثمِائَة وَثَلاثَةَ عَشَرَ، جَمُّ الْغَفِيرِ، قُلْتُ: مَنْ كَانَ أَوَّلَ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: آدَمُ، قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مُرْسَلا؟ قَالَ: نَعَمْ نَبِيًّا مُكَلَّمًا خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أربعةٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَنُوحٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ آدَمُ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلُ نَبِيٍّ مِنَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، وَبَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ؟ قَالَ: مِائَةَ كتابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أُنْزِلَ عَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عِشْرِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: أَمْثَالٌ كُلُّهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ، لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا أَنْ تَكُونَ لَهُ ثَلاثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ وَيَتَفَكَّرُ بِمَا صَنَعَ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلالِ فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا لِتِلْكَ السَّاعَاتِ اسْتِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ وَتَفْرِيغًا لَهَا، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، فَإِنَّ مَنْ حَسَبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِي مَا يَعْنِيهِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِثَلاثٍ: مَرَمَّةً لِمَعَاشٍ، أَوْ تَزَوُّدًا لِمَعَادٍ، أَوْ تَلَذُّذًا فِي(1/608)
غَيْرِ مُحَرَّمٍ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا: عَجِبْتُ لممن أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، وَلِمَنْ يَرَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، تَقْرَأُ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى " الْأَعْلَى: 14 19 قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ زَيْنٌ لأَمْرِكَ كُلِّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكِ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: قُلِ الْحَقَّ، وَإِنْ كَانَ مُرًّا، قُلْتُ؛ زِدْنِي، قَالَ: حِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لِيَحْجِزْكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ
مِنْ نَفْسِكَ؛ وَلا تَجِدَّ عَلَيْهِمْ فِي مَا تَأْتِي. ثُمَّ قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَكُونَ فِيهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِي لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، ويؤذي جليسه فِي مَا لَا يُعينهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ. نَفْسِكَ؛ وَلا تَجِدَّ عَلَيْهِمْ فِي مَا تَأْتِي. ثُمَّ قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَكُونَ فِيهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِي لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، ويؤذي جليسه فِي مَا لَا يُعينهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ.
تَعْلِيق على خبر أَبِي ذَر
قَالَ القَاضِي: فِي خبر أَبِي ذَر هَذَا أَنْوَاع من الحكم وفوائد من الْعلم والأنباء عَن الْأُمُور الخالية، وإخبار عَن الْأُمُور الْمَاضِيَة، وَفِيه اعتبارٌ لأولي البصائر والعقول، وتنبيه لِذَوي التَّمْيِيز والتحصيل، وَقد روينَا فِي كثير من فصوله رِوَايَات مُوَافقَة لألفاظه ومعانيه، وَآخر مضارعه لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْأَغْرَاض فِيهِ، وروينا فِي بعض فصوله رِوَايَات مُخْتَلفَة لظَاهِر مَا تضمنه إِلَّا أَنَّهَا إِذا تؤملت رجعت إِلَى التقارب إِذْ اقْتَضَت غَلطا من بعض الروَاة. فَأَما مَا ثَبت أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَه وَأخْبر بِهِ فَهُوَ الْحق الَّذِي لَا مرية فِيهِ وَلَا ريب فِي صِحَّته وَالْقطع على حَقِيقَة مغيبة.
قَالَ القَاضِي: وَفِي خبر أَبِي ذَر مَا دلّ على أَن من الْأَنْبِيَاء من أُوتِيَ النُّبُوَّة وَأرْسل إِلَى طَائِفَة، وَمِنْهُم من كَانَ نَبيا غير مُرْسل إِلَى أحد. وَقد قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ " الْحَج: 52 وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ فِيهِ: " وَلَا مُحدث " وَقَالَ: " إِن مِنْكُم محدثين " وَذكر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمن الدُّعَاء الْمُنْتَشِر الْمُسْتَعْمل الظَّاهِر على أَلْسِنَة خَاصَّة الْمُسلمين وعامتهم: اللَّهُمَّ صل على ملائكتك المقربين وعَلى أنبيائك وَالْمُرْسلِينَ، وَظَاهر هَذَا يَقْتَضِي الْفَصْل بَين الْفَرِيقَيْنِ، وَقد أحَال هَذَا بعض المنتسبين إِلَى علم الْكَلَام وَمن يَدعِي لَهُ فريق مفتون بِهِ مغرور بمخاريقه،(1/609)
وأحال أَيْضا أَن لَا يخْتَص أحد من الْأَنْبِيَاء بِشَيْء من الشَّرِيعَة مُجَدد على يَده مُخَالف فِي الصُّورَة لما أَتَى بِهِ من قبله، وَإِن يقْتَصر بِهِ فِي الدّلَالَة على صدقه وَصِحَّة نبوته بِخَبَر نَبِي من الْأَنْبِيَاء بذلك وتعيينه عَلَيْهِ تعيينًا لَا يشكل، وكل مَا أَحَالهُ من ذَلِك على غير مَا قدره، وَلَا حجَّة لَهُ فِي شَيْء مِمَّا أُتِي بِهِ من ذَلِك، وَلَا شُبْهَة توقع الْعذر لَهُ، إِذْ لم يكن السّمع وَلَا الْعقل يحيلانه، بل يدلان على جَوَازه ويشهدان بِصِحَّتِهِ، وَقد ثَبت الْخَبَر الصَّادِق بِهِ وَله فِي إعجاز الْقُرْآن وَصِحَّة شَهَادَته بِالصّدقِ للنَّبِي صلي الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه لكَلَام يبعد من إِطْلَاق مثله من صحت فطرته وسلمت من التعصب والتحامل والغفلة والتجاهل طَرِيقَته، وَكَانَت استبعدت هَذَا حِين حُكيَ لي عَنْهُ إِذْ لم يكن عِنْدِي مِمَّن بلغ فِي الذّهاب عَن النّظر الصَّحِيح هَذَا الْحَد، إِلَى أَن رَأَيْته مثبتًا بِخَطِّهِ، وَقد حكيته على جِهَته فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه فِي غير مَوضِع، من ذَلِك كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز عَن علم الْقُرْآن المعجز، وَلَيْسَ كتَابنَا هَذَا من مَوَاضِع الْبَيَان عَن ذَلِك والاشتغال بحكايته وإيضاح القَوْل فِي وتبيين فَسَاده. وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: لَو سكت من لَا يعلم لاسترحنا، وَأَنا أَقُول: لَو كَانَ لَهُ دين يردعه، ويكفه ويمنعه، ويقبضه فيقدعه، فيسكته قهرا، ويصمته قسرًا، أَو كَانَ من يصرفهُ عَن شنيع الجهالات وبديع الضلالات بالتأديب والقصب والتثريب، والتبكيت والتأنيب، ولرجونا أَن يعفي النَّاس بذلك عَمَّا ينالهم من الضَّرَر أَو كثير مِنْهُ من جِهَته، وَإِلَى الله المشتكى وَهُوَ المتسعان على كل حَادِثَة وبلوى.
كلمة بليغة لعَلي
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْجَمَّالُ سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَنْبِجِيُّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِحَلَبَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَصَّافُ بْنُ صَالِحٍ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمُقْرِي النَّهْرَوَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زنْدَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ الْبَجَلِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ الْمَنْبِجِيَّانِ، قَالا: حَدَّثَنَا الْوَصَّافُ بْنُ حَاتِمٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي وَقَالا جَمِيعًا: أَعْنِي الْحَرْبِيَّ وَابْنَ زندَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ طَلِيقٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: ذِمَّتِي رَهِينَةٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، لَا يَهِيجُ عَلَى التَّقْوَى زَرْعُ قومٍ وَلا يَظْمَأُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ، وَإِنَّ أَجْهَلَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ قَمَشَ عِلْمًا فِي أَغْمَارٍ مِنَ النَّاسِ غَشَوْهُ، أَغَارَ فِيهِ بأغبار الْفِتْنَة عمى عَمَّا فِي رَيْبِ الْهُدْنَةِ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ مَكَانَ الْهُدْنَةِ الْفِتْنَةُ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِمًا وَلَمْ يُغْنِ فِي الْعِلْمِ يَوْمًا سَالِمًا وَلَمْ يَقُلِ الْحَرْبِيُّ فِي الْعِلْمِ ذَكَرَ فَاسْتُكْثِرَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: وَمَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ لِلنَّاسِ مُفْتِيًا قَالَ الْحَرْبِيُّ: لِتَلْخِيصِ مَا لُبِّسَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ زندَوَيْهِ، وَقَالا: فَإِنْ نَزلَتْ بِهِ إِحْدَى(1/610)
الْمَهَمَّاتُ قَالَ الْحَرْبِيُّ: هَيَّأَ لَهَا حشواُ مِنْ رَأْيِهِ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ: هَيَّأَ حَشْوًا لِرَأْيٍ مِنْ رَأْيِهِ، فَهُوَ مِنْ قَطْعِ الْمُشْتَبِهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَدْرِي أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ مَكَانَ نَسْجٍ غَزْلٌ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: خَبَّاطُ جَهَالاتٍ، رَكَّابُ عَمَايَاتٍ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ رَكَّابُ جَهَالاتٍ خَبَّاطُ عَشَوَاتٍ لَا يَعْتَذِرُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَسْلَمُ، وَلا يَعَضُّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمُ، تَبْكِي مِنْهُ الدُّنْيَا وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ مَكَانَ الدُّنْيَا الدِّمَاءُ وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ عِنْدِي؛ وَقَالا: وَتَصْرُخُ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ، وَيُسْتَحَلُّ بِقَضَائِهِ الْفَرْجُ الْحَرَامُ، لَا مَلِيَ وَاللَّهِ وَلا أَهَلَّ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَلا هُوَ أَهَلَّ لِمَا فُرِضَ لَهُ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ: لَا مَلِيَ وَاللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَلا هُوَ أَهَلَّ لِمَا قَرَظَ بِهِ، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ النِّيَاحَةُ أَيَّامَ الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي: وَأَنْهَى ابْنُ زندَوَيْهِ حَدِيثَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ لِمَا قَرَظَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَأَتَى بِمَا رُوِّينَاهُ بَعْدَ هَذَا عَنِ الْحَرْبِيِّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ.
تَفْسِير مَا غمض فِي كلمة عَليّ
قَالَ القَاضِي: قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ نضر الله وَجهه " ذِمَّتِي رهينة وَأَنا بِهِ زعيم " إبانة عَن تيقنه مَا أخبر بِهِ وبصيرته فِيهِ وثقته بحقيقته وتوثيقه لمن أخبرهُ بِثُبُوتِهِ وَصِحَّته. وَأما قَوْله: وَأَنا بِهِ زعيم فَإِن الَّذِي ترجع إِلَيْهِ هَاء الضَّمِير فِي جملَة الْكَلَام وَمَعْنَاهُ وَمَا دلّ عَلَيْهِ مَفْهُومه وفحواه، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنا بِقَوْلِي زعيم وَإِن لم يَأْتِ بِصَرِيح اسْم خَاص وَلَا مصدر يعود الضَّمِير عَلَيْهِ أَصله وَذَلِكَ مُسْتَعْمل فصيح فَاش فِي الْعَرَبيَّة وَقد يَأْتِي فِي مثل هَذَا فعل أَو اسْم فَاعل يدل على مصدر يعود الضَّمِير إِلَيْهِ دون لفظ جملَة من كَلَام يحمل عَلَيْهِ، فَأَما الْفِعْل الدَّال على مصدره فكقولهم: من كذب كَانَ شَرّا لَهُ؛ أضمر فِي كَانَ الْكَذِب الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كذب وَعَاد الضَّمِير إِلَيْهِ وَإِن لم يَأْتِ على بنيته، قَالَ الله تَعَالَى: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ " آل عمرَان: 180 يَعْنِي الْبُخْل الَّذِي لم يَأْتِ على خَاص لَفظه اكْتِفَاء بِدلَالَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ يَبْخلُونَ عَلَيْهِ. وَأما اسْم الْفَاعِل فكقولهم: إِذا أحسن كَمَا أَمر فجازه عَلَيْهِ، يُرِيد على إحسانه الَّذِي دلّ أحسن عَلَيْهِ، وَرجع عَائِد الضَّمِير إِلَيْهِ، وَمثل هَذَا قَول الشَّاعِر:
إِذا نهي السّفيِهُ جَرى إِلَيْهِ ... وخَالَف والسّفِيهُ إِلَى خلاف
أَرَادَ إِلَى السَّفِيه، على مَا بَينا، وَقد يكتفون فِي هَذَا الْبَاب بِدلَالَة الْعَهْد وَالْحَال وتجلي الْأَمر الشَّائِع فِيهِ، قَالَ الله جلّ ذكره: " وَلَوْ يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة " النَّحْل: 61 وَقَالَ تعالي: " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ " فاطر: 45 فَأَعَادَ الضَّمِير على الأَرْض وَلم يجر لَهَا فِي هَذِه الْقِصَّة ذكر. وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ " الْقدر: 1 يَعْنِي الْقُرْآن، وَقَالَ: " حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ " ص: 32 يَعْنِي الشَّمْس فِي قَول جُمْهُور أهل الْعلم، قَالَ الشَّاعِر:(1/611)
هَذَا مقَام قدمي رَبَاح ... غدْوَة حَتَّى دلكت براح
يُرِيد الشَّمْس. وَقَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين " فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا " العاديات: 4، 5 يُرِيد الْوَادي أَو الْموضع أَو الْمَكَان أَو الْمنزل. وَهَذَا بَاب وَاسع وَله شرح لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَقد أَتَيْنَا مِنْهُ هَاهُنَا بِمَا يَكْفِي مَعَه بعضه بل هُوَ جَمِيعه.
وَأما الزعيم فَإِنَّهُ الْكَفِيل، وَمِنْه قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الزعيم غَارِم. وَقَالَ جلّ ذكره: " وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ " يُوسُف: 72 وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ " الْقَلَم: 40 وَيُقَال: فلَان زعيم الْقَوْم أَي الْقَائِم بأمورهم المتكفل بهَا. وَمِنْه مَا جَاءَ بِهِ الْأَثر فِي ذكر أَشْرَاط السَّاعَة: وَصَارَ زعيم الْقَوْم أرذلهم. قَالَ: الشَّاعِر:
إِنِّي زعيم يَا نويقة إِن نجوت من الرواح
وسلمت من غَرَض الحتو ... ف مَعَ الغدو إِلَى الرواح
أَن تهبطين بِلَاد قو ... م يرتعون من الطلاح
وَيُقَال أَيْضا فِي الزعيم ضمين وقبيل وحميل، من القبالة والحمالة، وصبير وتبيع كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
غدوا وغدت غزلانهم وَكَأَنَّهُم ... ضوامن غرم أزهن تبيع
وَقد قيل فِي قَول الله جلّ ثَنَاؤُهُ: " أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا " الْإِسْرَاء: 92 إِنَّه بِمَعْنى الْقَبِيل أَي الْكَفِيل، وَقيل بل هُوَ من الْجَمَاعَة، وَقيل هُوَ من الْمُقَابلَة والمعاينة. وَاخْتلف فِي تَأْوِيل قَوْله عز وَجل: " أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا " الْكَهْف 55 وَقَوله تَعَالَى: " وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا " الْأَنْعَام: 111 على أَقْوَال مَعَ اخْتِلَاف الْقِرَاءَة فِي كسر الْقَاف وَفتح الْبَاء وَفِي ضمهما وَفِي الْجمع بَين الْمَوْضِعَيْنِ والتفريق بَينهمَا، وَهَذَا مشروح فِي كتبنَا الَّتِي الفناها فِي الْقرَاءَات والتأويل.
وَقَوله: " لَا يهيج على التَّقْوَى " أَي يفْسد فَيصير هشيمًا، من قَول الله عز وَجل: " ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مصفراً " الزمر: 21، الْحَدِيد: 20.
وَقَوله: سنخ أصل، يُقَال قلع سنه من سنخها، وَقَوله فِي الْخَبَر بأغبار الْفِتْنَة يَعْنِي بقاياها، وَيُقَال بفلان غبر من الْمَرَض أَي بقايا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَإِن سَأَلت عني سليمي فَقل لَهَا ... بِهِ غبر من دائه وَهُوَ صَالح
وَقَوله: حَتَّى إِذا ارتوى من آجن، الآجن: المَاء الْمُتَغَيّر لركوده وَطول وُقُوفه وَكَذَلِكَ الآسن، يُقَال: أسن المَاء يأسن ويأسن وأجن يأجن ويأجن، قَرَأَ ابْن كثير غير أسن، مَقْصُور الْهمزَة. وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ " الْبَقَرَة: 259 إِنَّه من السّنة أَي لم تُؤثر فِيهِ السنون فتحيله وتغيره، ووصلوا بِالْهَاءِ ووقفوا عَلَيْهَا إِذْ كَانَت فِيهِ أصلا، يَقُولُونَ: بِعته مسانهة ومساناة، فَجعل من قَرَأَ هَكَذَا الْهَاء لَام الْفِعْل(1/612)
وأصلا فِيهِ، وَأثبت الْهَاء فِيهِ آخَرُونَ زَائِدَة للسكت إِذا وقفُوا كَقَوْلِه أقتده، وكقولهم: ارمه وتعاله وحذفوها فِي الْوَصْل فَقَالُوا: يتسن وَأنْظر، وَزَعَمُوا أَنه من أسن المَاء. وَهَذَا التَّأْوِيل عندنَا غلط من متأوليه، وَذَهَاب عَن وَجه الصَّوَاب فِيهِ، وَلَو كَانَ على مَا توهموه لوَجَبَ أَن يُقَال لم يتأسن لِأَن الْهمزَة فِيهِ فَاء الْفِعْل. وَالسِّين عينه وَالنُّون لامه، وإشباع هَذَا فِي مَا ألفناه من حُرُوف الْقُرْآن مَعَانِيه. وَمن الآجن قَول عبيد بْن الأبرص.
يَا رب مَاء آجنٍ وردته ... سَبيله خَائِف جديب
ريش الْحمام على أرجائه ... للقلب من خَوفه وجيب
وَقَوله: خباط عشوات يَعْنِي الظُّلم. وَهَذَا الْفَرِيق الَّذين وَصفهم أَمِير الْمُؤمنِينَ من الجهلة الأراذل السفلة قد كَثُرُوا فِي زَمَاننَا وغلبوا على أَهله واستعلوا على علمائه والربانيين فِيهِ، وَإِلَى الله المشتكي. وَقد تظاهرت الْأَخْبَار عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِن الله لَا يقبض انتزاعًا ينتزعه من النَّاس، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء، حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم، اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا ".
مَا أحوجك إِلَى محدرج
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا عبد الأول بْن مزِيد السَّعْدِيّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عدنان عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ ابْن عَيَّاش الْهَمدَانِي قَالَ: كَانَ الشّعبِيّ إِذا ابْتَدَأَ فِي حَدِيث أَحْبَبْت أَن لَا يقطعهُ من حسنه، قَالَ: فَإِنَّهُ ليتحدث يَوْمًا وَعِنْده خُنَيْس العلاك، قَالَ: فَقَامَ خُنَيْس فَقَالَ: مَا أبْغض إِلَيّ الْفَقِيه يكون جيد الْكَلَام، فَقَالَ الشّعبِيّ: من هَذَا؟ فَقَالُوا: خُنَيْس العلاك، قَالَ: وَمَا خُنَيْس؟ قَالَ: يَبِيع العلك، فَأقبل عَلَيْهِ وَقَالَ: وَيحك يَا خُنَيْس، مَا أحوجك إِلَى محدرج شَدِيد الإحصاد لين المهزة قد أَخذ من عجب ذَنْب عود إِلَى مغرز عُنُقه فَيُوضَع مِنْك على مثل ذَلِك الْموضع فتكثر لَهُ رقصاتك من غير جذل، قَالَ: مَا ذَاك؟ قَالَ: شَيْء لنا فِيهِ أرب وَلَك فِيهِ أدب.
شرح الْغَرِيب
قَالَ القَاضِي: قَوْله: محدرج أَي سَوط مُحكم جيد الفتل كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَخَاف زيادًا أَن يكون عطاؤه ... أداهيم سُودًا أَو محدرجة حمرًا
وَقَوله: شَدِيد الإحصاد أَي قد أحكم وَاشْتَدَّ، يُقَال حَبل محصد أَي موثق. وَقَوله: لين المهزة يصفه بالتثني إِذا هز، كَمَا قَالَ الشَّاعِر يصف رمحًا:
تقاك بكعب وَاحِد وتلذه ... يداك إِذا مَا هز بالكف يعسل
وَأما قَوْله: قد أَخذ من عجب ذَنْب عود فَإِن الْعود الْبَعِير المسن، وَعجب الذَّنب أَصله، وَهُوَ العصعص، وَيُقَال لَهُ القحقح. وَرُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يبْلى من ابْن آدم كل شَيْء إِلَّا عجب الذَّنب فَإِنَّهُ مِنْهُ ركب وبدئ خلقه. وروينا عَن الشّعبِيّ هَذَا من طَرِيق(1/613)
آخر أَنه قَالَ فِي صفة السَّوْط: يُؤْخَذ من صليف الْعُنُق إِلَى عجب الذَّنب، وصليف الْعُنُق صفحته، وَيُقَال: عجم الذَّنب فِي هَذَا بِالْمِيم، وَهَذَا مِمَّا تعاقبت فِيهِ الْبَاء وَالْمِيم كَمَا قَالُوا ركمة سوء وركبة، وضربة لازب ولازم، فِي حُرُوف كَثِيرَة، قَالَ الله تَعَالَى: " إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ " الصافات: 11 وَمن اللازب قَول نَابِغَة بني ذبيان:
وَلَا يحسبون الْخَيْر لَا شَرّ بعده ... وَلَا يحسبون الشَّرّ ضَرْبَة لازب
وَقَالَ كثير فِي الْمِيم:؟ وَمَا ورق الدُّنْيَا بباقٍ لأَهله وَمَا حدثان الدَّهْر ضَرْبَة لَازم وَفِي هَذَا لُغَة أُخْرَى وَهِي لاتب بِالتَّاءِ وَالْبَاء، وَهِي لُغَة فِي قيس، وَأنْشد الْفراء:
صداع وتوهيم الْعِظَام وفترة ... وغثي مَعَ الأحشاء فِي الْجوف لاتب
وَأما قَوْله: من غير جذل فالجذل الْفَرح، يُقَال قد جذل الرجل يجذل جذلا إِذا سر وَفَرح، فَأَما الجذل بالاسكان فَهُوَ الْعود المنتصب، وَفِيه لُغَتَانِ جذل وجذل، قَالَ ذُو الرمة:
ترى ذكر الحرباء فِيهَا مُصَليا ... على الجذل إِلَّا أَنه لَا يكبر
إِذا حول الظل الْعشي رَأَيْته ... حَنِيفا وَفِي قرن الضُّحَى يتنصر
والحرباء دَابَّة يُقَال للْأُنْثَى مِنْهَا أم حبين، وَهُوَ يقف على الْعود مُسْتَقْبل الشَّمْس يَدُور مَعهَا حَيْثُ دارت، وَقد اخْتلف فِي عِلّة هَذَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِه دَابَّة مقرورة تتبع الشَّمْس لتستدفئ بهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بل تستضر بالشمس فتتقيه برأسها لِأَنَّهُ أقوى مَا فِيهَا، وَالْقَوْل الأول أشبه الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي.
وَقَوله: لنا فِيهَا أرب أَي حَاجَة، قَالَ ذُو الرمة:
والهم عين أَثَال مَا ينازعه ... من نَفسه لسواها موردًا أرب
قَالَ القَاضِي: وَإِنِّي لأستحسن قَول أَبِي نواس:
كَمَا لَا يَنْقَضِي الأرب ... كَذَا لَا يفتر الطّلب
وَهَذَا من أفْصح الْكَلَام وأوضحه وأعذبه، وَللَّه در السَّابِق إِلَى أصل هَذَا الْمَعْنى، الْقَائِل:
تَمُوت مَعَ الْمَرْء حاجاته ... وَتبقى لَهُ حَاجَة مَا بَقِي
قَالَ القَاضِي: وَقد روينَا عَن الشّعبِيّ من وَجه آخر أَنه أجَاب خنيسًا عَن قَوْله: مَا هَذَا؟ بِأَن قَالَ: بعض الْأَمر وَهَذَا جَوَاب حسن بليغ مُخْتَصر، وَإِن كَانَ كَمَا أَتَت بِهِ الرِّوَايَة موقعها من الْحسن والبلاغة.
الْمجْلس الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ
وَفد عِنْد ملك الرّوم يباحثهم وَيُرِيهمْ صور الْأَنْبِيَاء
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ، قَالَ حَدثنَا الْحسن ابْن عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّاءَ الْعَدَوِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا(1/614)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدِينِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْكُوفِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْرٍ الأَنْصَارِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا نَقِيبًا، أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ، وَمَعِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ وَنُعَيْمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى جَبَلَةَ بْنِ الأَيْهَمِ دِمَشْقَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَى مَلِكِهِمْ بِهَا الرُّومِيِّ، فَإِذَا هُوَ عَلَى فَرْشٍ لَهُ مَعَ الأُسْقُفِّ، فَأَجْلَسَنَا وَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ وَسَأَلَنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ لَا نُكَلِّمُهُ بِرَسُولٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي كَلامِنَا حَاجَةٌ فَلْيُقَرِّبْنَا مِنْهُ، فَأَمَرَ بِسُلَّمٍ فَوُضِعَ وَنَزَلَ إِلَى فَرْشٍ لَهُ فِي الأَرْضِ فَقَرَّبْنَا، فَإِذَا هُوَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ مُسُوحٌ، فَقَالَ لَهُ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ: مَا هَذِهِ الْمُسُوحُ الَّتِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: لَبِسْتُهَا نَاذِرًا أَنْ لَا أَنْزِعَهَا حَتَّى أُخْرِجَكُمْ مِنَ الشَّامِ، فَقُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ كَلامًا خَفِيَ عَلَيَّ مِنْ كِتَابِي مَعْنَاهُ: بَلْ نَمْلِكُ مَجْلِسَكَ وَبَعْدَهُ مُلْكَكُمُ الأَعْظَمَ فوَاللَّه لنأخذنه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْبَارُّ، قَالَ: إِذًا أَنْتُمُ السّمرَاءُ، قُلْنَا: وَمَا السّمرَاءُ؟ قَالَ: لَسْتُمْ بِهَا، قُلْنَا: وَمَنْ هُمْ قَالَ: الَّذِينَ يَقُومُونَ اللَّيْلَ وَيَصُومُونَ النَّهَارَ، قَالَ فَقُلْنَا: نَحْنُ وَاللَّهِ هُمْ، قَالَ فَقَالَ: وَكَيْفَ صَوْمُكُمْ وَصَلاتُكُمْ وَحَالُكُمْ؟ فَوَصَفْنَا لَهُ أَمْرَنَا، فَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَرَاطَنَهُمْ وَقَالَ لَنَا: ارْتَفِعُوا، ثُمَّ عَلا وَجْهَهُ سَوَادٌ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ مَسَحٍ مِنْ شِدَّةِ سَوَادِهِ، وَبَعَثَ مَعَنَا رُسُلا إِلَى مَلِكِهِمُ الأَعْظَمِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَخَرَجْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَتِهِمْ، وَنَحْنُ عَلَى رَوَاحِلِنَا عَلَيْنَا الْعَمَائِمُ وَالسُّيُوفُ، فَقَالَ لَنَا الَّذِينَ مَعَنَا: إِنَّ دَوَابَّكُمْ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ مَدِينَةَ الْمَلِكِ، فَإِنْ شِئْتُمْ جِئْنَاكُمْ بِبَرَاذِينَ وَبِغَالٍ، قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ لَا نَدْخُلُهَا إِلا عَلَى رَوَاحِلِنَا، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنُونَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنْ خَلُّوا سَبِيلَهُمْ، فَدَخَلْنَا عَلَى رَوَاحِلِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى غُرْفَةٍ مَفْتُوحَةِ الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِيهَا يَنْظُرُ، قَالَ: فَأَنَخْنَا تَحْتَهَا ثُمَّ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَعْلَمُ اللَّهُ لانْتَفَضَتْ حَتَّى كَأَنَّهَا نَخْلَةٌ تَصْفِقُهَا الرِّيحُ، فَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولا: إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا بِدِينِكُمْ فِي بِلادِنَا، وَأَمَرَ بِنَا فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مَعَ بَطَارِقَتِهِ، وَإِذَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ حُمْرٌ، وَإِذَا فَرْشُهُ وَمَا حَوَالَيْهِ أَحْمَرُ، وَإِذَا رَجُلٌ فَصِيحٌ بِالْعَرَبِيَّةِ يَكْتُبُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا فَجَلَسْنَا نَاحِيَتَهُ فَقَالَ لَنَا وَهُوَ يَضْحَكُ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟ فَقُلْنَا: نَرْغَبُ بِهَا عَنْكَ، وَأَمَّا تَحِيَّتُكَ الَّتِي لَا تَرْضَى إِلا بِهَا فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُحَيِّيَكَ بِهَا، قَالَ: وَمَا تَحِيَّتُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟ قُلْنَا: السَّلامُ، قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تُحَيُّونَ بِهِ نَبِيَّكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَا كَانَ تَحِيَّتُهُ هُوَ؟؟ قُلْنَا: بهَا، قَالَ: فَبِمَ تُحَيُّونَ مَلِكَكُمُ الْيَوْمَ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَبِمَ يُحَيِّيكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَا كَانَ نَبِيُّكُمْ يَرِثُ مِنْكُمْ؟ قُلْنَا: مَا كَانَ يَرِثُ إِلا ذَا قَرَابَةٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَلِكُكُمُ الْيَوْمَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَعْظَمُ كَلامِكُمْ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ: فَيَعْلَمُ اللَّهُ لانْتَفَضَ حَتَّى كَأَنَّهُ طَيْرٌ ذُو رِيشٍ مِنْ حُسْنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فِي وجوههنا، قَالَ فَقَالَ:(1/615)
هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي قُلْتُمُوهَا حِينَ نَزَلْتُمْ تَحْتَ غُرْفَتِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَذَلِكَ إِذَا قُلْتُمُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ تَنَفَّضَتْ لَهَا سُقُوفُكُمْ؟ قُلْنَا: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَاهَا صَنَعَتْ هَذَا قَطُّ إِلا عِنْدَكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلا لأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: مَا أَحْسَنَ الصِّدْقَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مَا أَمْلِكُ وَأَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَهَا عَلَى شَيْءٍ إِلا انْتَفَضَ لَهَا، قُلْنَا: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَيْسَرُ لِشَأْنِهَا وَأَحْرَى أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ حِيَلِ وَلَدِ آدَمَ، قَالَ: فَمَاذَا تَقُولُونَ إِذَا فَتَحْتُمُ الْمَدَائِن والحصون؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَيْسَ غَيْرَهُ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ وَتَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَرَاطَنَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: تَدْرُونَ مَا قُلْتُ لَهُمْ؟ قُلْتَ: مَا أَشَدَّ اخْتِلاطَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ لَنَا بِمَنْزِلٍ وَأَجْرَى لَنَا نُزُلا فَأَقَمْنَا فِي مَنْزِلِنَا تَأْتِينَا أَلْطَافُهُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْنَا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ لَيْلا وَحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَاسْتَعَادَنَا الْكَلامَ فَأَعَدْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الرَّبْعَةِ ضَخْمَةٍ مُذَهَّبَةٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ فَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا بُيُوتٌ
صِغَارٌ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ، فَفَتَحَ مِنْهَا بَيْتًا فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُ الأَلْيَتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُ طُولِ عُنُقِهِ فِي مِثْلِ جَسَدِهِ، أَكْثَرُ النَّاسِ شَعْرًا، فَقَالَ لَنَا: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ وَفَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فنشرها فَإذْ فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَشْعَرُ كَثِيرُ الشَّعْرِ قَالَ الْقَاضِي: أَرَاهُ قَالَ: ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ عَظِيمُ الْهَامَةِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي مَوْضِعِهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ، فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَارِعُ الأَنْفِ سَهْلُ الْخَدَّيْنِ أَشْيَبُ الرَّأْسِ أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ حَيٌّ يَتَنَفَّسُ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَيْنَا، فَقَالَ: بِدِينِكُمْ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ بِدِينِنَا إِنَّهَا صُورَتُهُ كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ حَيًّا، قَالَ: فَاسْتَخَفَّ حَتَّى قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ فَأَمْسَكَ طَوِيلا فَنَظَرَ فِي وُجُوهِنَا قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، فَأَعَادَهُ وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ جَعْدٍ أَبْيَضَ قَطَطٍ غَائِرِ الْعَيْنَيْنِ حَدِيدِ النَّظَرِ عَابِسٍ مُتَرَاكِبِ الأَسْنَانِ مُقَلَّصِ الشَّفَةِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَانِبِه صُورَةٌ شَبِيهَةٌ بِهِ رَجُلٌ مُدَوَّرُ الرَّأْسِ عَرِيضُ الْجَبِينِ بِعَيْنِهِ قَبَلٌ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا رجل شبه الْمَرْأَةَ ذُو عَجِيزَةٍ وَسَاقَيْنِ، وَسَأَلَ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَوْقَصُ قَصِيرُ الظَّهْرِ طَوِيلُ الرِّجْلَيْنِ عَلَى فَرَسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ جَنَاحٌ، فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ وَهَذِهِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فِيهِ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ شَابٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَعَادَهَا وَأَطْبَقَ الرَّبْعَةَ، قَالَ قُلْنَا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّةِ الصُّوَرِ مَا حَالُهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا تُشْبِهُ الَّذِينَ صُوِّرَتْ صُوَرُهُمْ فَإِنَّا رَأَيْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ صُورَتَهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ أَنْبِيَاءَ بَنِيهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُورَهُمْ فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو القرنين من خزانَة آدم فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَصَوَّرَهَا لَنَا دَانْيَالُ فِي خِرَقِ الْحَرِيرِ عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ فَهِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ نَفْسِي طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي فَتَابَعْتُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَأَنْ أَكُونَ عَبْدًا لأَسْوَئِكُمْ مَلَكَةً، وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَطِيبُ، فَأَجَازَنَا وَأَحْسَنَ جَوَائِزَنَا وَبَعَثَ مَعَنَا مَنْ يُخْرِجُنَا إِلَى مَأْمَنِنَا فَانْصَرَفْنَا إِلَى رحالنا. صِغَارٌ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ، فَفَتَحَ مِنْهَا بَيْتًا فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُ الأَلْيَتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُ طُولِ عُنُقِهِ فِي مِثْلِ جَسَدِهِ، أَكْثَرُ النَّاسِ شَعْرًا، فَقَالَ لَنَا: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا آدَمُ صَلَّى الله عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ وَفَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فنشرها فَإذْ فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَشْعَرُ كَثِيرُ الشَّعْرِ قَالَ الْقَاضِي: أَرَاهُ قَالَ: ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ عَظِيمُ الْهَامَةِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي مَوْضِعِهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ، فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَارِعُ الأَنْفِ سَهْلُ الْخَدَّيْنِ أَشْيَبُ الرَّأْسِ أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ حَيٌّ يَتَنَفَّسُ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَيْنَا، فَقَالَ: بِدِينِكُمْ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ بِدِينِنَا إِنَّهَا صُورَتُهُ كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ حَيًّا، قَالَ: فَاسْتَخَفَّ حَتَّى قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ فَأَمْسَكَ طَوِيلا فَنَظَرَ فِي وُجُوهِنَا قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، فَأَعَادَهُ وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ جَعْدٍ أَبْيَضَ قَطَطٍ غَائِرِ الْعَيْنَيْنِ حَدِيدِ النَّظَرِ عَابِسٍ مُتَرَاكِبِ الأَسْنَانِ مُقَلَّصِ الشَّفَةِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَانِبِه صُورَةٌ شَبِيهَةٌ بِهِ رَجُلٌ مُدَوَّرُ الرَّأْسِ عَرِيضُ الْجَبِينِ بِعَيْنِهِ قَبَلٌ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا رجل شبه الْمَرْأَةَ ذُو عَجِيزَةٍ وَسَاقَيْنِ، وَسَأَلَ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ:(1/616)
هَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَوْقَصُ قَصِيرُ الظَّهْرِ طَوِيلُ الرِّجْلَيْنِ عَلَى فَرَسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ جَنَاحٌ، فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ وَهَذِهِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فِيهِ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ شَابٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَعَادَهَا وَأَطْبَقَ الرَّبْعَةَ، قَالَ قُلْنَا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّةِ الصُّوَرِ مَا حَالُهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا تُشْبِهُ الَّذِينَ صُوِّرَتْ صُوَرُهُمْ فَإِنَّا رَأَيْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ صُورَتَهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ أَنْبِيَاءَ بَنِيهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُورَهُمْ فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ خزانَة آدم فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَصَوَّرَهَا لَنَا دَانْيَالُ فِي خِرَقِ الْحَرِيرِ عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ فَهِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ نَفْسِي طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي فَتَابَعْتُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَأَنْ أَكُونَ عَبْدًا لأَسْوَئِكُمْ مَلَكَةً، وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَطِيبُ، فَأَجَازَنَا وَأَحْسَنَ جَوَائِزَنَا وَبَعَثَ مَعَنَا مَنْ يُخْرِجُنَا إِلَى مَأْمَنِنَا فَانْصَرَفْنَا إِلَى رِحَالِنَا.
تَعْلِيق القَاضِي على الْخَبَر الْمُتَقَدّم
قَالَ القَاضِي: قد كُنَّا أمللنا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر، ومعاني الْخَبَرَيْنِ مُتَقَارِبَة، وَلما حَضَرنَا هَذَا الْخَبَر من هَذَا الطَّرِيق رسمناه هَاهُنَا، وَقد تضمن مَا يدل على صدق نَبينَا صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة نبوته على كَثْرَة الْأَخْبَار وَالرِّوَايَات فِيهِ وَشَهَادَة الْكتب السالفة مَعَ تأييد الله جلّ اسْمه إِيَّاه بِالْآيَاتِ الَّتِي أظهرها الله على يَدَيْهِ والأعلام الشاهدة لَهُ. وَفِي هَذَا الْخَبَر عِنْد ذكر دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَصفته بِأَنَّهُ ذُو عجيزة وَقد أنكر كثير من عُلَمَاء الْفِقْه أَن يُقَال فِي الرجل: ذُو عجيزة وَذكروا أَن هَذَا يُقَال فِي النِّسَاء خَاصَّة دون الرِّجَال، وَذكروا أَنه إِنَّمَا يُقَال عجز فلَان، وَقد رَأَيْت بعض أهل الْعلم قَالَ فِي صفة الصَّلَاة وَمَا يَنْبَغِي للْمُصَلِّي أَن يكون عَلَيْهِ فِي صلَاته: وَيرْفَع عجيزته وَلست أَدْرِي أَهَذا شَيْء وَقع إِلَيْهِ من جِهَة اللُّغَة أم ذكره لِأَنَّهُ وصف جملَة الْمُصَلِّين ذكورهم وإناثهم وَقد أَتَى فِي هَذَا الْخَبَر مَا وصفناه، وَالله أعلم بصواب ذَلِك.
براعة الْعَجْفَاء الْمُغنيَة
حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفضل الرياشي عَنْ مُحَمَّد بْن سَلام قَالَ: بَلغنِي عَن غرير بْن طَلْحَة الأرقمي قَالَ، قَالَ لي أَبُو السَّائِب، وَكَانَ من أهل الْفضل والنسك: هَل لَك فِي أحسن النَّاس غناء لَا تسأمه قلت: نعم، وَكَانَ عَليّ يَوْمئِذٍ طيلسان لي أُسَمِّيهِ من غلظه وَثقله مقطع الأزرار، قَالَ: فخرجنا حَتَّى جِئْنَا الْجَبانَة إِلَى دَار مُسلم بْن يحيى الْأَرَت صَاحب الْخمر مولى بني زهرَة فَأذن لنا فَدَخَلْنَا بَيْتا طوله اثْنَا عشر ذِرَاعا فِي مثلهَا، وَطول الْبَيْت فِي السَّمَاء سِتَّة عشر ذِرَاعا، وَفِي الْبَيْت نمرقتان قد ذهب عَنْهُمَا اللحمة وَبَقِي السدى، وَقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا من قدمهما بَينهمَا ثَلَاث(1/617)
وسائد، ثُمَّ طلعت علينا عَجُوز عجفاء كلفاء عَلَيْهَا قرقل هروي أصفر غسيل لم يجدد فِي الصَّبْغ، وَكَأن وركيها فِي خيط من رسحها فَقلت لأبي السَّائِب: بِأبي أَنْت من هَذِه؟ فَقَالَ: اسْكُتْ، فتناولت عودًا فَضربت ثُمَّ غنت:
بيد الَّذِي شعف الْفُؤَاد بكم ... تفريج مَا ألْقى من الْهم
فاستيقني أَنِّي كلفت بكم ... ثمَّ افعلي مَا شِئْت عَن علم
قد كَانَ صرم فِي الْمَمَات لنا ... فعجلت قبل الْمَوْت بالصرم
قَالَ: فتحسنت فِي عَيْني، فَتَلَاهَا نقاء وصفاء فَأذْهب الكلف عَنْهَا وزحف أَبُو السَّائِب وزحفت مَعَه، ثُمَّ تغنت:
برح الخفاء فَأَي مَا بك تكْتم ... ولسوف يظْهر مَا تسر فَيعلم
مِمَّا تضمن من غرير قلبه ... يَا قلب إِنَّك بالحسان لمغرم
بل لَيْت أَنَّك يَا حسام بارضنا ... تلقي المراسي طَائِعا وتخيم
فتذوق لَذَّة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخْوَانًا فَمَاذَا تنقم
فَقَالَ أَبُو السَّائِب: إِن نقم هَذَا فأعضه الله بِكَذَا وَكَذَا من أمه، وَلَا يكني. وزحفت مَعَ أَبِي السَّائِب حَتَّى فارقنا النمرقتين، وربت الْعَجْفَاء فِي عَيْني كَمَا يَرْبُو السويق شيب بِمَاء قربةٍ. ثُمَّ غنت:
يَا طول ليلِي أعالج السقما ... إِذا حل كل الْأَحِبَّة الحرما
مَا كنت أخْشَى فراقكم ابدًا ... فاليوم أَمْسَى فراقكم غرما
قَالَ غرير: فألقيت طيلساني مقطع الأزرار، وَأخذت شاذكونة فَوَضَعتهَا قَالَ القَاضِي: أَحْسبهُ قَالَ: على رَأْسِي وَصحت كَمَا يصاح فِي الْمَدِينَة: الدجر بالنوى، وَقَامَ أَبُو السَّائِب فَتَنَاول ربعَة كَانَت فِي الْبَيْت فِيهَا قَوَارِير ودهن فوضعها على رَأسه، وَصَاح صَاحب الْجَارِيَة وَكَانَ ألثغ: قوانيني قوانيني، وحرك أَبُو السَّائِب رَأسه فاصطكت الْقَوَارِير فتكسرت وسال الدّهن على صدر أَبِي السَّائِب وظهره وَقَالَ للعجفاء: لقد هجت لي دَاء قَدِيما، ثُمَّ وضع الربعة. فَكُنَّا نَخْتَلِف إِلَيْهَا حَتَّى بعث عبد الرَّحْمَن بْن مُعَاوِيَة بْن هِشَام بْن عبد الْملك من الأندلس فابتيعت لَهُ الْعَجْفَاء وحملت إِلَيْهِ.
تفسيرات وتوضيحات
قَالَ القَاضِي: قَول الأرقمي فِي هَذَا الْخَبَر اثْنَا عشر ذِرَاعا وَسِتَّة عشرَة ذِرَاعا على لُغَة من ذكر الذِّرَاع والتأنيث فِيهَا أظهر، وَإِن كَانَت اللغتان فِيهَا قد حكيتا.
أنشدنا فِي التَّأْنِيث مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس عَنْ سَلَمَة عَنِ الْفراء:
أرقى عَلَيْهَا وَهِي فرع أجمع ... وَهِي ثَلَاث أَذْرع وإصبع(1/618)
وَحدثنَا ابْن الْأَنْبَارِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن مُحَمَّد بْن عبد الحكم عَن اللحياني قَالَ: الذِّرَاع والكراع يذكران ويؤنثان، قَالَ: وَلم يعرف الْأَصْمَعِي التَّذْكِير فيهمَا. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي وَحكى السجسْتانِي عَن أَبِي زيد أَنه قَالَ: الذِّرَاع يذكر وَيُؤَنث، وَقَوْلهمْ هَذَا ثوب سبع فِي ثَمَانِيَة، ذكرُوا ثَمَانِيَة وأنثوا سبعا لأَنهم أَرَادوا سبع أَذْرع فِي ثَمَانِيَة أشبار، والشبر مُذَكّر فَلذَلِك ألْحقُوا الْهَاء فِي ثَمَانِيَة. وَقَالَ الْفراء عِنْد ذكره تَأْنِيث الذِّرَاع: وَقد ذكر الذِّرَاع بعض عكل فَقَالَ: الثَّوْب خَمْسَة أَذْرع وَسِتَّة أَذْرع وَخمْس أَذْرع وست أَذْرع. وَقَوله: وَفِي الْبَيْت نمرقتان الْوَاحِدَة نمرقة بِضَم النُّون وَالرَّاء فِيمَا حكى اللغويون وَذكر الْفراء أَنه سمع بعض كلب يَقُول نمرقة بكسرهما وَتجمع نمارق وَهِي الوسائد والمرافق، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ " الغاشية: 15 وَمن هَذَا قَول امْرَأَة من بني عجل فِي يَوْم ذِي قار تَحض قَومهَا على قتال الْأَعَاجِم:
إِن تقدمُوا نعانق ... ونفرش النمارق
أَو تهزموا نفارق ... فِرَاق غير وامق
وَقلت على نَحْو هَذَا هِنْد بنت عتبَة:
نَحْنُ بناتُ طَارِقْ ... نَمْشِي على النمارق
ونلبس اليلامق ... إِن تقبلُوا نعانق
أَو تدبروا نفارق ... فِرَاق غير وامق
وَمن النمارق قَول ذِي الرمة:
كَانَ فُؤَادِي قلب جاني مخوفةٍ ... على النَّفس إِذْ يكسين وشي النمارق
قَالَ القَاضِي: وَفِي تَسْمِيَة الوسادة مرفقة وَجْهَان: أَحدهمَا أَنه من الرِّفْق والارتفاق بالشَّيْء وَالِانْتِفَاع من مرافق الدَّار والأثاث، قَالَ الله عز ذكره " وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا " الْكَهْف: 16 وَقُرِئَ مرفقا. وَقَالُوا: قد ارتفق فلَان بِمَال فلَان وأرفقه صَاحبه، وَجَاء فِي مرفق الْيَد مَرْفِق وَمِرْفَق أَيْضا، تكسر الأدوات مثل مقطع ومخرز ومخيط، قَالَ أُميَّة بْن أَبِي الصَّلْت يُخَاطب سيف بْن ذِي يزن لما ظفر بِالْحَبَشَةِ وأجلاهم عَن الْيمن:
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفقا ... فِي رَأس غمدان دَارا مِنْك محلالا
وَقيل لَهَا وسَادَة لتوسدها، قَالَ الْأَعْشَى:
إِن كنت لَا تشفين غلَّة عاشق ... كلف بحبك يَا جبيرَة صادي
فانهي خيالك أَن يزور فَإِنَّهُ ... فِي كل منزلةٍ يعود وِسَادِي
وَقَالَ الْأسود بن يعفر:
نَام الخلي وَمَا أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وِسَادِي(1/619)
قد يُقَال فِي الوسادة إسادة فتبدل الْوَاو همزَة استثقالا لابتداء الْكَلِمَة بهَا كَمَا قَالُوا: إشاح ووشاح ووجوه وأجوه، وَحكى عَن الْعَرَب سَمَاعا: مَا أحسن هَذِه الأجوه، فِي كثير من الْكَلَام، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
يحل أحيده وَيُقَال بعل ... وَمثل تمولٍ مِنْهُ افتقار
أَصله وحيده. وَهَذَا بَاب نأتي على شَرحه وتفصيله وَذكر جائزه وممتنعه وَمَا هُوَ مرسوم فِيهِ، وَقد قَرَأت عَامَّة القرأة " وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ " المرسلات: 11 وَهُوَ من الْوَقْت، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي وقتت بِالْوَاو وَالتَّخْفِيف، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بِالْوَاو وقتت، عل الأَصْل أَيْضا، غلا أَنه شدده؛ وهم يكْرهُونَ كثيرا افْتِتَاح الْكَلَام بِالْوَاو، وخاصة إِذا تَكَرَّرت، وَقَالُوا إِن ذَلِك يشبه بنباح الْكلاب، وَقَالُوا فِي تَصْغِير وَاصل أَو يصل وَفِي جمعه أواصل فقلبوا الْوَاو همزَة، وَيَقُولُونَ حضر زيد وواصل فَلَا يقلبون لِأَن الْوَاو زيدت للْعَطْف كالفاء وَثمّ وَلَيْسَت من سنخ الْكَلَام فِي أَصْلهَا، وَيُقَال فلَان يتوسد الْقُرْآن وَهَذَا يكون مدحًا بِمَعْنى يَجعله وسَادَة أَي يتلوه مَكَان توسده إِيَّاه، وَيكون ذمًا أَي ينَام عَن الْقيام بِهِ وتأدية الْحق فِيهِ. وَجَاء عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي رجل ذكر عِنْده: " ذَاك رجل لَا يتوسد الْقُرْآن ". وَرُوِيَ عَن عدي بْن حَاتِم أَنه ذكر للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه جعل تَحت وساده خيطين أسود وأبيض فَلم يبن لَهُ بذلك أَمر الْفجْر، فَقَالَ لَهُ: إِنَّك لَعَرِيض الوسادة، ويروى عَنْهُ أَنه قَالَ لَعَرِيض الْقَفَا، إِنَّمَا هُوَ بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل. فَأَما اشتقاق اسْم المرفقة من الْمرْفق فَهُوَ بَاب مَعْرُوف مُسْتَمر، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ مخدة من الخد لِأَنَّهُ يوضع عِنْد الِاضْطِجَاع عَلَيْهَا، وَيَقُولُونَ مصدغة من الصدغ، وَقد يَقُولُونَ مزدغة فيبدلون من الصَّاد زايا لسكونها وإتيان الدَّال تالية لَهَا، وَهَذِه لُغَة مَعْرُوفَة فِي الْعَرَبيَّة، وَقد قَرَأَ بعض القرأة بهَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن كَقَوْلِه يصدر ويصدقون وَقصد السَّبِيل. وَقَوله: قد ذهبت عَنْهَا اللحمة وَبَقِي السدى، فاللحمة لحْمَة الثَّوْب والسدى سداه، وَاللَّام هَاهُنَا مَفْتُوحَة، فَأَما لحْمَة النّسَب فمضمومة وَكَذَلِكَ لحْمَة الْبَازِي والصقر وَهُوَ مَا أطْعمهُ إِذا صَاد. وَقَوله: من رسحها فَإِنَّهُ يُقَال مِنْهُ: امْرَأَة رسحاء وَرجل أرسح إِذا كَانَ مؤخرهما من الْعَجز وَمَا وَالَاهُ عَارِيا من اللَّحْم. وَقَول غرير: وَأخذت شاذكونة مَعْنَاهُ وسَادَة، وَهِي عِنْدِي فِي الأَصْل فارسية تكلم بهَا من تكلم من الْعَرَب، وَهِي مُشْتَقَّة من مَوضِع الْجُلُوس وَيُقَال لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ كَون وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي بَينا الِاشْتِقَاق فِيهِ كالمصدغة والمخدة. وَقد فسر أَبُو عُبَيْدَة الزرابي فِي قَول الله جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ " الغاشية: 16 فَقَالَ: هِيَ الْبسط كَمَا قَالَ غَيره من أهل التَّأْوِيل والعربية، ثُمَّ قَالَ: وَاحِدهَا زربية ثُمَّ قَالَ: والزرابي فِي لُغَة أُخْرَى الشواذكين وأتى بِهِ على هَذَا اللَّفْظ فِي الْجمع. وَقَوله: الدجر بالنوى حكى بذلك نِدَاء من يطوف بالدجر من باعته ويعرض بَيْعه بالنوى، كَأَنَّهُ يَقُول اشْتَروا الدجر بالنوى أَو يَعْنِي الدجر يُبَاع بالنوى،(1/620)
والدجر من أَسمَاء اللوبيا، وَله أَسمَاء ذَوَات عدد: اللوبياء واللوبيا بِالْمدِّ وَالْقصر، وليا الْوَاحِدَة لياءة، وَيُقَال لِلْجَارِيَةِ المستحسنة كَأَنَّهَا لياءة مقشورة، وَرُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: دخلت على مُعَاوِيَة وَفِي يَده لياء مقشو أَي مقشور وَيُقَال لَهُ اللويباج والأحبل والحبيل والدجر.
مَا بَال الْعَرَب تطيل كَلَامهَا وَأَنْتُم تقصرونه
حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي تينة قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِي عَن أَبِيه عَن أَبِي خَالِد عَن أَبِيه قَالَ: وَفد مُحَمَّد بْن عُطَارِد بْن مُحَمَّد إِلَى الْحجَّاج فِي نَيف وَسبعين رَاكِبًا فاستزارهم عَمْرو بْن عتبَة فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَان مَا بَال الْعَرَب تطيل كَلَامهَا وتقصرونه معاشر قُرَيْش؟ فَقَالَ عَمْرو: بالجندل يرْمى الجندل، إِن كلامنا كَلَام يقل لَفظه وَيكثر مَعْنَاهُ ويكتفي بأولاه ويشتفى بأخراه، ويتحدر تحدر المَاء الزلَال على الكبد الحرى، وَلَقَد نقص كَمَا نقص غَيره بعد أَقوام وَالله أدركتهم كَأَنَّمَا جعلُوا لتحسين مَا قبحت الدُّنْيَا، سهلت لَهُم ألفاظهم كَا سهلت لَهُم أنفاسهم، فصانوا أعراضهم وابتذلوا أَمْوَالهم حَتَّى مَا يجد المادح فيهم مزيدًا، وَلَا العائب فيهم مطعنًا، فَلَو احتفلت الدُّنْيَا مَا تزينت إِلَّا بهم، وَلَو نطقت مَا افتخرت إِلَّا بفعالهم، وَلَقَد كَانَ آل أَبِي سُفْيَان مَعَ قلتهم كثيرا مِنْهُ نصِيبهم، وَللَّه در مَوْلَاهُم حَيْثُ يَقُول:
وضع الدَّهْر فيهم شفرتيه ... فَمضى سالما وأضحوا شعوبًا
شفرتان وَالله وضعتا على من كَانَ قبلهم فأفنت أبدانهم وأبقت أخبارهم، فأبقت حسنا فِي الدُّنْيَا ثَوَابه، وسيئًا فِي الدُّنْيَا عِقَابه وَفِي الْآخِرَة أَسْوَأ.
قَالَ القَاضِي: قَول عَمْرو بْن عتبَة فِي هَذَا الْخَبَر من أبلغ كَلَام وَأحسنه وَكَانَ قَوْله: فأفنت أبدانهم وأبقت أخبارهم مَأْخُوذ من قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خبر كميل بْن زِيَاد النَّخعِيّ وَقد ذكر الْعلمَاء وفضله على المَال وشرفه: مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. على أَن فضل كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام وجزالته وبهاءه وطلاوته وَظُهُور تقدمه ومزيته بَيّن، وَأَن كَانَ هَذَا وَقع لعَمْرو، لقد امتار علمه من مَعْدن الحكم، واقتبس شرِيف الْفَائِدَة من الإِمَام الرباني العَلَم.
/الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ
حَدِيثُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقوم خيرا
حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عَامِرٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَبُو يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ السَّبِيعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الأَفْرِيقِيِّ عَنْ حَيَّانَ بْنِ أَبِي(1/621)
جَبَلَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَكْثَرَ فُقَهَاءَهُمْ وقلَّل جُهَّالَهُمْ، حَتَّى إِذَا تكلَّم الْعَالِمُ وَجَدَ أَعْوَانًا، وَإِذَا تكلَّم الْجَاهِلُ قُهِرَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا كَثَّرَ جُهَّالَهُمْ، وَقَلَّلَ فُقَهَاءَهُمْ، حَتَّى إِذَا تكلَّم الْجَاهِلُ وَجَدَ أَعْوَانًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْفَقِيهُ قُهِرَ ".
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ وَرَدَ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظِيرُ مَا أَتَى بِهِ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طرقٍ كَثِيرَةٍ بألفاظٍ مختلفةٍ فِي صُوَرِهَا مُتَّفِقَةٍ فِي مَعَانِيهَا، وممَّا رُوِيَ عَنْهُ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَابِ إِخْبَارُهُ أنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا الأَمْرُ الْمُنْكَرُ الْمَذْمُومُ فِي زَمَانِنَا وَصَارَ الْجَاهِلُ فِيهِ مقدَّماً مَتْبُوعًا، وَالْعَالِمُ الْمُتَقَدِّمُ فِي عِلْمِهِ مقصيّاً حتّى يتسرَّع إِلَى الْفُتْيَا فِي الدِّينِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَمْ يُعْنَ بِدِرَاسَةِ الْفِقْهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ بِمُجَالَسَةِ أَهْلِهِ، وَلا مُجَاثَاةِ الْخُصُومِ فِيمَا اخْتلف أيمة الْفِقْهِ فِيهِ، وَمُنَاظَرَتِهِمْ وَمُجَارَاتِهِمْ وَمُذَاكَرَتِهِمْ. وَسَالَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ المضلَّلة الْمُحْتَقَرَةُ الْمُسْتَرْذَلَةُ بَعْضَ مَنْ قَدِ اشْتُهِرَ طَلَبُهُ لِلْعِلْمِ وَمُذَاكَرَتُهُ وَاشْتِغَالُهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَاتِّفَاقُ أَصْحَابٍ لَهُ يَأْخُذُونَ عَنهُ ويرجعون إِلَى تَلْخِيصِهِ الْمُشْكِلِ مِنْهُ لاخْتِلاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمُعَاشَرَتُهُمْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُمَالأَةُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يُؤْثِرُهُ، وَوُقُوفُ كلِّ حزبٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا يَرْغَبُ عَنْهُ ذُو الدِّينِ وَيُنْكِرُهُ، فَصَارُوا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي قَالَ فِي أَهْلِهِ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: افْتَضَحُوا فَاصْطَلَحُوا، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:؟؟؟؟؟؟؟؟ ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ وَالْمُنْكِرُونَ لكلَّ أمرٍ مُنْكَرِ
وَبَقِيتُ فِي خلفٍ يزيِّن بَعْضُهُمْ ... بَعْضًا لِيَدْفَعَ مُعْوِرٌ عَنْ مُعْوِرِ
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ رَجُلا اسْتَفْتَى بَعْضَ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي شيءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خصمٍ لَهُ، فَأَفْتَاهُ بِمَا فِيهِ حجَّةٌ لَهُ فِيمَا استفتاء عَنهُ، وَإِنْكَارا عَلَى خَصْمِهِ مَا حَاوَلَ مُنَازَعَتَهُ فِيهِ، فَلَمَّا ولَّى لَقِيَهُ بَعْضُ أَنْسِبَاءِ الْخَصْمِ الْمُسْتَفْتَى عَلَيْهِ فَأَخَذَ صَحِيفَةَ الْفُتْيَا مِنْ يَدِهِ وَأَخْبَرَ الْمُفْتِي أَن ذَلِك أستفتاه المستفتي فِيهِ شيءٌ همَّ الْخُصُومُ فِيهِ، وَمَا أَفْتَى بِهِ ممَّا يَكْرَهُونَهُ ويستضرُّون بِهِ، فَارْتَجَعَ الْفُتْيَا مِنْ صَاحِبِهَا، وَأَلْحَقَ بِهَا مَا عَادَ عَلَى فُتْيَاهُ الأُولَى فَنَقَضَهَا وَقَلبَهَا عَنْ جِهَتِهَا. وَلَنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ كلامٌ قَدْ أَثْبَتُّهُ وَوَصَلْتُهُ بِأَبْيَاتٍ حَضَرَتْنِي، وَأَوْدَعْتُ ذَلِكَ كِتَابِي المسمَّى " تَذْكِيرُ الْعَاقِلِينَ وَتَحْذِيرُ الْغَافِلِينَ " وَالأَبْيَاتُ:
تَسَالَمُ الْقَوْمَ لَمَّا ... عَادُوا دُعَاةَ السَّلامه
تَفَاسُدُوا ثُمَّ أَبْدَوْا ... صُلْحًا بِغَيْرِ اسْتِقَامَهْ
والصُّلح مَا لَمْ يُهَذِّبْ ... عداوةٌ مُسْتَدَامَهْ
وكلُّ ودٍّ سقيمٍ ... فَمُنْتَهَاهُ النَّدَامَةْ
أول من قَالَ برح الخفاء
حدَّثنا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبرنِي عمي عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ(1/622)
أول من قَالَ: " برح الخفاء " أَن رجلا من كِنْدَة يُقالُ لَهُ صدّاد بن أَسمَاء، وَأَسْمَاء أمُّه، وَهِي امْرَأَة من بني الْحَارِث بن كَعْب، وَكَانَت تَحت صدّاد امرأةٌ من قومه كنديةٌ وَامْرَأَة من بني الْحَارِث، وَكَانَ لَهُ من ابْنة عمّه أَرْبَعَة رجالٍ وَلم يكن لَهُ من الحارثية ولد، فَوَقع على جَارِيَة سَوْدَاء فأحْبَلَها، فلمّا تبيَّن حملهَا خَافَ امْرَأَته، فأنكرَ ذَلِكَ فِي العلانيَّة وأقرَّ بِهِ فِي السِّرّ، وسمَّاه ثَعْلَبَة، وَأشْهد امْرَأَته الحارثيَّة وأخًا لَهُ أَن ثَعْلَبَة ابْنه. فلمّا مَاتَ صدّاد أخْبرت السَّوْدَاء ابْنهَا أَنَّهُ من صدّاد، فَخرج الْغُلَام حتَّى أَتَى ملكا من مُلُوك الْيمن، فَذكر لَهُ أمره وأتاهُ بِعَمِّهِ وَامْرَأَة أَبِيه فشهدا، فَقَالَت الكندية: إنّما شَهدا للعداوة، فَبعث الْملك إِلَى
سطيح الكاهن وخبأ لَهُ دِينَارا؟ ً بَين قدمه وَنَعله، فلمّا دخل إِلَيْهِ قَالَ: إِنِّي قد خبأتُ لكَ شَيْئا فَأَخْبرنِي بِهِ، فَقَالَ سطيح أحلفُ بِالْبَلَدِ المحرَّم، وَالْحجر الْأَصَم، وَاللَّيْل إِذا أظلم، وَالنَّهَار إِذا تَبَسم، وَبِكُل فصيحٍ وأعجم، لقد خَبأت دِينَارا بَين نعلٍ وَقدم؛ قَالَ: فَأَخْبرنِي مَعَ من هُوَ. قَالَ: أَحْلف بالشهر الْحَرَام، وَبِاللَّهِ مُحْيي الْعِظَام، وبِما خلق من النسام، إِنَّه لتَحْت قدم الْملك الْهُمَام؛ قَالَ: فَأَخْبرنِي بِم أرْسلت إِلَيْك، قَالَ: أرْسلت إليّ تَسْأَلنِي عَن ابْن السَّوْدَاء، وَمن أَبوهُ من الْآبَاء، وَقد بَرَح الخفاء، وَهُوَ أول من قَالَه، وَأَبوهُ صدّاد بن أَسمَاء، لَا شكّ فِيهِ ولامراء، فألحقه الْملك بِأَبِيهِ وَورثه. قَالَ الْملك: يَا سطيح أَلا تُخبرنِي عَن علمك هَذَا؟ قَالَ: إنّ علمي لَيْسَ منّي، وَلَا بجزمٍ وَلَا تَظَنِّي، وَلَكِن أخذتُه من أخٍ لي جنّي، قد سمع الْوَحْي بطور سَنّي. قَالَ الْملك: أَرَأَيْت أَخَاك هَذَا الجنّي، أهوَ مَعَك لَا يُفارقك؟ قَالَ: إِنَّه ليزول حَيْثُ أزول، وَلَا أنطقُ إلاّبما يَقُول، قَالَ لَهُ الْملك: فَهَل عنْدك من خبرٍ بِمَا يكون تخبرنا بِهِ؟ قَالَ: نعم، عِنْدِي خبرٌ طريف، شهركم هَذَا خريف، والقمرُ فِيهِ كسيف، وَيَأْتِي غَدا سحابٌ كثيفٌ، فَيمْلَأ البَرَّ والريف، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
سطيح الكاهن
قَالَ القَاضِي: أَخْبَار سطيح كَثِيرَة، وَقد جمعهَا غيرُ واحدٍ من أهل الْعلم، وَكَذَلِكَ أَخْبَار غَيره من الْكُهَّان. وَالْمَشْهُور من أَمر سطيح أَنَّهُ كَانَ كَاهِنًا، وَقد أخبر عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن نَعْتِهِ ومبعثه بأخبارٍ كَثِيرَة، وَقد رُوِيَ أَنَّهُ عَاشَ سَبْعمِائة سنة وأدركَ الْإِسْلَام فَلم يُسْلِم، وَرُوِيَ أَنَّهُ هلك عِنْدَمَا وُلِدَ النبيُّ عَلَيْهِ السَّلام وَأخْبر بذلك ابْن أُخْته عبد الْمَسِيح بن حَيَّان بن بُقَيلة، وَقد أوفده إِلَيْهِ كسْرَى أنوشروان لارتياعه من أمورٍ ظَهرت عِنْد مولد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأمره أَن يسْأَل خَاله سطيحًا عَنْهَا ويستعلم مِنْهُ تَأْوِيلهَا، وَذكر عبد الْمَسِيح أَنَّهُ أنبأه بذلك، ونعى إِلَيْهِ نَفسه ثُمَّ قضى مَكَانَهُ.
وَرُوِيَ لَنَا مِنْ بَعْضِ الطُّرُقِ باسنادٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ أَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ سَطِيحٍ فَقَالَ: نبيٌّ ضيَّعه قَوْمُهُ، وَهُوَ مشهورٌ عِنْد الْعَرَب يذكرُونَ سَجْعَهُ وكهانته، ويضربون الْمثل بِعِلْمِهِ وَصدقه فِيمَا يخبر بِهِ. وَقد قَالَ الْأَعْشَى يذكرُ زَرْقَاء الْيَمَامَة لَمَّا أخْبرت أهل الْيَمَامَة(1/623)
برؤيتها مَا رَأَتْ من مكانٍ بعيد لَمْ يُعلَم آدميُّ أدْرك مرئيًا من مثل مداه، فَلم يصدّقوها، فَأَتَاهُم الْعَدو الَّذِي أنذرتهم بِهِ فاستباحهم وَخرب دِيَارهمْ:
مَا نظرت ذَات أشفارٍ كنظرتِها ... حقًّا كَمَا صَدَقَ الذّئبيُّ إِذْ سجعا
قَالَت أرى رجلا فِي كفّه كتفٌ ... أَو يخصفُ النعلَ لهفي أَيَّة صنعا
فكذَّبوها بِما قَالَت فصبَّحهم ... ذُو آل حسَّان يُزجي الْمَوْت والشِّرعا
فاستنزلوا أهلَ جو من منازلِهم ... واستخفضوا شاخصَ الْبُنيان فاتضعا
قَوْله: " الذّئبي " يَعْنِي سطيحًا لِأَنَّهُ من ولد ذِئْب بن حجن، وبسطيحٍ الذئبي كَانَ يُعْرَف، وَقد قَالَ لَهُ عبد الْمَسِيح بن أُخْته حِين وَفد عَلَيْهِ من عِنْد كسْرَى:
بافاصل الخطَّة أعيَتْ مَنْ وَمَنْ
أتاكَ شيخُ الحيِّ من آل سَنَنْ
وأمّه من آلِ ذِئْب بن حَجَنْ
وَلكُل فصل مِمَّا ذكرنَا أَخْبَار وأنباء وقصص تَأتي فِي أماكنها، إِن شَاءَ الله.
الثِّيَابُ لَا تَرْفَعُ مَكَانَةَ لابِسِهَا
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ حدَّثنا أَبُو سَعِيدٍ الْحَارِثِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا العتبيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الْملك على سالمٍ ثيابٌ غَلِيظَةٌ رَثَّةٌ، فَلَمْ يَزَلْ سُلَيْمَانُ يرحِّب بِهِ وَيَرْفَعُهُ حَتَّى أَقْعَدَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ: أَمَا اسْتَطَاعَ خَالُكَ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابًا فَاخِرَةً أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ وَيَدْخُلَ فِيهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَعَلَى الْمُتَكَلِّمِ ثيابٌ سريَّةٌ لَهَا قِيمَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا رَأَيْتُ هَذِهِ الثِّيَابَ الَّتِي عَلَى خَالِي وَضَعَتْهُ فِي مَكَانِكَ هَذَا، وَلا رَأَيْتُ ثِيَابَكَ هَذِهِ رَفَعَتْكَ إِلَى مَكَانِ خَالِي ذَاكَ.
قَالَ القَاضِي: لقد أحسن عمر فِي جَوَابه، وأجادَ فِي الذبِّ عَن خَاله، وَقد أنشدنا ابْن دُرَيْد فِي خبر ذكرته فِي غير هَذَا الْموضع لبَعض الْأَعْرَاب:
يُغايظونا بقمصانٍ لَهُم جددٍ ... كأننا لَا نرى فِي السُّوق قمصانا
لَيْسَ القميصُ وَإِن جدَّدت رقعته ... بجاعلٍ رجلا إِلَّا كَمَا كَانَا
وأنشدنا أَيْضا لأعرابي قصد بَاب بعض الْمُلُوك فحجبه الآذان وَجعل يستأذنُ لغيره مِمَّن لَهُ بزَّة:
رأيتُ آذننا يستامُ بزّتنا ... وَلَيْسَ للحَسَبِ الزّاكي بمُستامِ
فَلَو دُعينا على الأحسابِ قدَّمنا ... مجدٌ تليدٌ وجدٌ راجحٌ نامِ
وَلَقَد أحسن الَّذي قَالَ:
قد يُدرك الشَّرف الْفَتى وإزارُهُ ... خلقٌ وجيبُ قَمِيصه مرقوع(1/624)
وَمَا أَتَى فِي هَذَا الْمَعْنى من مُرْسل الْكَلَام وموزونه كثيرٌ جدا، وَقد يَأْتِي كَثِير مِنْهُ فِي مجالسنا.
ولد عتبَة بن مَسْعُود
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى الْخُتَّلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى السَّاجيّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نَوْفَل الْهُذلِيّ عَن أَبِيه قَالَ: ولَد عتبةُ بن مسعودٍ عبد الله وَكَانَ واليًا لعمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فولد عبد الله: عبيد اللَّه وعونًا وَعبد الرَّحْمَن، فأمّا عبيد الله فَكَانَ من أفقهِ أهل الْمَدِينَة وخيارهم، وَكَانَ أعمى، فمرَّ عَلَيْهِ عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَلم يسلِّما عَلَيْهِ، فَأخْبر بذلك فَأَنْشَأَ يَقُول:
وَلَا تَعَجبا أَن تُؤتَيا فتكلَّما ... فَمَا حشي لأقوام شَرًّا من الْكِبْرِ
ومسَّا ترابَ الأرضِ مِنْهَا خلقتما ... وفيهَا المعادُ والمصيرُ إِلَى الْحَشْر
وروينا هَذَا الْخَبَر من وجهٍ آخر وَفِيهِ من شعر عبيد الله زيادةٌ على أبياته هَذِه، وَقد رسمنا ذَلِكَ فِي مَوْضِعه. وَكَانَ عبيد الله أحدَ السَّبْعَة من فُقَهَاء الْمَدِينَة الَّذِينَ جمع أَبُو الزِّنَاد مَا جمع من فقههم. وأمّا عون بن عبد الله فَكَانَ من آدب أهل الْمَدِينَة وأفقههم وَكَانَ مرجئًا فَرجع عَن ذَلِكَ وَأَنْشَأَ يَقُول:
أوّل مَا نُفارقُ غير شكٍّ ... نفارق مَا يَقُول المرجئونا
وَقَالُوا مؤمنٌ من أهل جورٍ ... وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بجائرينا
وَقَالُوا مؤمنٌ دمُهُ حلالٌ ... وَقد حَرُمَت دِمَاء المؤمنيا
ثُمَّ خرج مَعَ ابْن الْأَشْعَث فهرب حَيْثُ هربوا، فَأتى مُحَمَّد بن مَرْوَان بنصيبين فأمَّنه وألزمه ابْنه، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: كَيفَ رَأَيْت ابْن أَخِيك؟ قَالَ: ألزمتني رجلا إِن بعدتُ عَنْهُ عَتِبَ، وَإِن أَتَيْته حجب، وَإِن عاتبته صخب، وَإِن صاخبته غضب، فَتَركه ثُمَّ لزم عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ خَليفَة وَكَانَت لَهُ مِنْهُ منزلَة. وَخرج جريرٌ فَأَقَامَ بِبَاب عمر بن عبد الْعَزِيز فطال مُقامه فَكتب إِلَى عون بن عبد الله:
يَا أيُّها الْقَارئ المرخي عمامَتَهُ ... هَذَا زمانُكَ إِنِّي قَدْ مضى زَمَني
أَبْلغْ خَليفَتَنَا إِنْ كنتَ لاقيهِ ... أَنِّي لَدَى الْبَاب كالمصفودا فِي قرنِ
وأمّا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله فَهُوَ الَّذِي يَقُول:
تأثّل حبُّ عَثْمَة فِي فُؤَادِي ... فباديه مَعَ الخافي يسيرُ
صدعْتِ القلبَ ثُمَّ ذررت فِيهِ ... هَوَاك فَليط فالتامَ الفطورُ
قَالَ أَبُو بكر: ليط معناهُ أُلصق. وضمَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَن وَالْحُسَيْن إِلَيْهِ وَهُوَ على الْمِنْبَر وَقَالَ: إنَّ للْوَلَد لوطةً، يَعْنِي التصاقًا، بِالْقَلْبِ. وَقَالَ الشَّاعِر:(1/625)
سأحبس مَالِي على لذّتي ... وأؤثر نَفسِي على الْوَارِث
وأسبقُ فِي المَال سُهَمانَهُم ... وقولَ المعوِّق والرائثِ
قَالَ أَبُو بكر: وَزَادَنِي فِيهَا أبي رَحِمَهُ الله:
أعاذلَ عاجلُ مَا أشتهي ... أحبُّ إليَّ من الّلابثِ
قَالَ القَاضِي: الأبيات المنسوبة فِي هَذَا الْخَبَر إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عتبَة قد رويت لنا من غير وَجه عَن أَخِيه عبيد الله، وفيهَا زِيَادَة وأنشدناها: تغلغل حبُّ عثمةَ.. وَالْبَيْت الثَّانِي.
تغلغل حَيْثُ لَمْ يبلغْ شرابٌ ... وَلَا حزنٌ وَلم يبلغ سرورُ
شقَقْتِ الْقلب ثمَّ ذررت فِيهِ ... هَوَاك فليمَ فالتَامَ الفطورُ
فلِيم من الالتئام وَأَصله بِالْهَمْز، وَترك همزه لإِقَامَة الْوَزْن فَصَارَ مُسَاوِيا للفظ ليم من اللوم. وَإِن كَانَ المعنيان مُخْتَلفين. وليط فِي هَذَا الْمَعْنى أَيْضا وحُكي هُوَ أَلْيَطُ بقلبي، وحُكي عَن الفرّاء فِي قلبهم الْوَاو يَاء أنَّهم كَرهُوا أَن يشبه الْوَجْه الْمَكْرُوه. وأمّا قَول عون بن عبد الله لمُحَمد بن مَرْوَان فِي ابْنه: " إِن بعدتُ عَنْهُ عَتِبَ، وَإِن أَتَيْته حجب " فلي فِي مثله أبياتٌ من قصيدةٍ " أردّ بِهَا على قصيدة كتب بِهَا إليّ بعضُ رُؤَسَاء الزَّمَان، وَقد استبطأ زيارتي وعاتبني فِي تأخُّري عَنْهُ وكنتُ أتيتُ دَاره فحجبتُ عَنْهُ، والأبياتُ:
إِذَا لَمْ آتِ أزعجني العتابُ ... وإِنْ وافيتُ أخجلني الحجابُ
وإِنِّي حاجبٌ قدري بِهجري ... معززةً تذلُ لَهَا الرقابُ
ونعتي أحمرُ الكبريتِ عزَّاً ... وأصلي حِين تكرمني الترابُ
فَأن تُنْصِفْ فأرضُك مستقرّي ... وإِنْ تَظْلِمْ فمنزلي السحابُ
وَمَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِير، فمما قيل فِيهِ:
لِمَا تنكرت فِي حجابك ... رغبت بِالنَّفسِ عَن عتابكْ
فَأن تزرني أزر وإمّا ... تقفْ ببابي أَقِفْ ببابكْ
واللَّه لَا كنتَ فِي حسابي ... إِلَّا إِذا كنتُ فِي حسابكْ
الْكَلَام الفصيح: لَمْ يكن هَذَا فِي حسباني، أَي فِي ظَنِّي، وَلَيْسَ يبعد أَن يُقالُ فِي حسابي أَي فِيمَا أعدُه وأحصيه وَأَحْسبهُ من الْحساب. وممَّا أنشدناهُ أَيْضا ورويناهُ فِي خبر مَذْكُور فِي مَوضِع آخر:
يَا أيُّها الحرُّ الكريمُ الْكَافِي ... لَيْسَ الحجابُ من آلةِ الأشرافِ
ولقلَّ مَن يَأْتِي فيحجبُ مرَّةً ... فيعودُ ثَانِيَة بقلبٍ صافي
واستقصاء هَذَا الْبَاب يطول وَقد أَتَيْنَا مِنْهُ بِما فِيهِ كِفَايَة(1/626)
الْمَأْمُون وَالرجل المتحنط المتكفن
حدَّثنا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِم النوشجاني قَالَ، قَالَ الْحَسَن بن عبد الْجَبَّار الْمَعْرُوف بالعرق: بَينا الْمَأْمُون فِي بعض مغازيه يسير مُفردا عَن أَصْحَابه وَمَعَهُ عُجَيْف بن عَنْبَسَة إِذْ طلعَ رجلٌ متحنّطٌ متكفّن، فلمّا عاينه الْمَأْمُون وقف، ثُمَّ الْتفت إِلَى عجيف فَقَالَ: وَيحك أما ترى صَاحب الْكَفَن مُقبلا يُرِيدنِي، فَقَالَ لَهُ عجيف، أُعيذكَ بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَمَا كذب الرجل أَن وقف على الْمَأْمُون، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: من أردْت يَا صَاحب الْكَفَن وَإِلَى من قصدت؟ قَالَ: إياك أردْت، قَالَ: أَوَ عَرفتنِي؟ قَالَ: لَو لَمْ أعرفك مَا قصدتك، قَالَ: أَفلا سلَّمت عليَّ؟ قَالَ: لَا أرى السَّلام عَلَيْك، قَالَ: ولِم؟ قَالَ: لإفسادك علينا الغَزَاةَ، قَالَ عجيف: وَأَنا أَلين مسَّ سَيفي لِئَلَّا يبطئ ضرب عُنُقه، إِذْ الْتفت الْمَأْمُون فَقَالَ: يَا عجيف إِنِّي جائعٌ وَلَا رَأْي لجائع، فَخذه إِلَيْك حَتَّى أتغدى وأدعو بِهِ، قَالَ: فتناوله عجيفٌ فَوَضعه بَين يَدَيْهِ، فلمّا صَار الْمَأْمُون إِلَى رَحْله دَعَا بِالطَّعَامِ، فلمّا وضع بَين يَدَيْهِ أَمر بِرَفْعِهِ وَقَالَ: وَالله مَا أسيغه حَتَّى أناظرَ خصمي، يَا عُجيف عليَّ بِصَاحِب الْكَفَن، قَالَ: فلمَّا جلس بَين يَدَيْهِ قَالَ: هيهِ يَا صاحبَ الْكَفَن مَاذَا قلت؟ قَالَ: قلتُ: لَا أرى السَّلام عَلَيْك لإفسادك الْغُزَاة علينا قَالَ: بِماذا أفسدتها؟ قَالَ: بإطلاقك الْخُمُور تبَاع فِي عسكرك وَقد حرَّمها الله عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه، فابدأ بعسكرك فنظِّفه، ثُمَّ اقصد الْغَزْو، لماذا استحللت أَن تبيحَ شَيْئا قد حرَّمه الله كَهَيئَةِ مَا أحل الله عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: أَو عرفت الْخمر أنَّها تُباعُ ظَاهرا أَو رَأَيْتهَا؟ قَالَ: لَو لَمْ أرَها وتصحَّ عِنْدِي مَا وقفت هَذَا الْموقف، قَالَ: فشيءٌ سوى الْخمر أنكرته؟ قَالَ: نعم، إظهارك الْجَوَارِي فِي العماريّات، وكشفهنَّ الشُّعُور منهنَّ بَين أَيْدِينَا كأنهنَّ فِلَقُ الأقمار، خرج الرجلُ منا يريدُ أَن يُهراقَ دَمه فِي سَبِيل الله ويُعْقَرَ جَوَاده قَاصِدا نَحْو الْعَدو، فَإِذا نظر إليهنَّ أَفْسدنَ قلبه وركن إِلَى الدُّنْيَا وانصاع إِلَيْهَا، فَلم استحللت ذَلِك؟ قَالَ: مَا استحللت ذَاك، وسأخبرك بالْعُذر فِيهِ فَإِن كَانَ صَوَابا وإلاّ رجعت. نعم قَالَ:: شَيْء غير هَذَا أنكرته،؟ قَالَ: نعم شَيْء أمرت بِهِ: تَنْهَانَا عَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: أما الَّذِي يَأْمر بالمنكر فَإِنِّي أنهاه وأمّا الَّذِي يأمرُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنِّي أحثّه على ذَلِكَ وأحدوه عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: أفشيء سوى ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: يَا صَاحب الْكَفَن أمّا الخمرُ فلعمري لقد حرَّمها الله تَعَالَى، وَلَكِن الْخمر لَا تُعْرَف إِلَّا بِثَلَاث جوارح: النَّظر والشَّم والذوق، أفتشربها أَنْت؟ قَالَ: معاذَ الله أَن أنكرَ مَا أشْرب، قَالَ: أفيمكن فِي وقتك هَذَا أَن تقفنا على بيعهَا حَتَّى نوجّه مَعَك من يَشْتَرِي مِنْهَا؟ قَالَ: فَمن يظهرها لي أَو يبيعنيها وعليّ هَذَا الْكَفَن؟ قَالَ: صدقت. قَالَ: فكأنك إنَّما عرفتها بِهَاتَيْنِ الجارحتين، يَا عجيف عليَّ بقوارير فِيهَا شراب. فَانْطَلق عجيف فأتاهُ بِعشْرين قَارُورَة فوضعها بَين يَدَيْهِ فِي أَيدي عشْرين وصيفًا، ثُمَّ قَالَ: يَا صَاحب الْكَفَن، نُفِيتُ من آبَائِي الرَّاشِدين المهديين(1/627)
إِن لَمْ تكن الْخمر فِيهَا، فإنَّك تعلم أَن الْخمر من ستر الله على عباده، وَإنَّهُ لَا يَجوز لَك أَن تشهدَ على قومٍ مستورين إِلَّا بمعاينة بيّنة وَعلم، وَلَا يَجوز لي أَن آخذ إِلَّا بِمعاينة بَيِّنَة وشاهدي عدلٍ.
قَالَ: فَنظر صاحبُ الْكَفَن إِلَى الْقَوَارِير، فَقَالَ لَهُ عجيف: أيُّها الرجل لَو كنت خمّارًا مَا عرفت مَوضِع الْخمر بِعَينهَا من هَذِه الْقَوَارِير، قَالَ فَقَالَ لَهُ: هَذِه الْخمر بِعَينهَا من هَذِه الْقَوَارِير، فَأخذ الْمَأْمُون قَارُورَة فذاقها ثُمَّ قطَّب ثُمَّ قَالَ: يَا صَاحب الْكَفَن انْظُر هَذِه الْخمر، فَتَنَاول الرجل القارورة فذاقها فَإِذا خلُّ ذابح، فَقَالَ: قد خرجت هَذِه عَن حدِّ الْخمر، فَقَالَ الْمَأْمُون: صدقت إنَّ الخلّ مصنوعٌ من الْخمر لَا يكون خلًّا حَتَّى يكون خمرًا، وَلَا وَالله مَا كَانَت هَذِه خمرًا قطّ، وَمَا هُوَ إِلَّا رُمّان حامض يعصر لي أصطبغُ بِهِ من سَاعَته؛ قد سَقَطَتِ الجارحتان وبقيَ الشمُّ، يَا عُجيف صيِّرها فِي رصاصيّات وَأت بِهَا، قَالَ: فَفعل، فعُرضت على صَاحب الْكَفَن فشمَّها فَوْقه فَوَقع مَشَمُّه مِنْهَا على قَارُورَة فِيهَا لبيختبج فَقَالَ: هَذِه فَأَخذهَا الْمَأْمُون فصبَّها بَين يَدَيْهِ وَقَالَ: انْظُر إِلَيْهَا كأنَّها طلا قد عقدتها النَّار، بَلْ تُقْطَعُ بالسكين، قد سَقَطت إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي أنْكرت يَا صَاحب الْكَفَن، ثُمَّ رفع الْمَأْمُون رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أتقرَّب إِلَيْك بنهي هَذَا ونظرائه عَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. يَا صَاحب الْكَفَن أدْخلك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ فِي أعظم الْمُنكر، شنَّعت على قومٍ باعوا من هَذَا الخلِّ وَمن هَذَا النبيختج الَّذِي شممت فَلم تسلّم. اسْتغْفر الله من ذَنْبك هَذَا الْعَظِيم وَتب إِلَيْهِ. مَا الثَّانِي؟ قَالَ: الْجَوَارِي قَالَ: صدقت، أخرجتهنّ أبقى عَلَيْك وعَلى الْمُسلمين، كرهتُ أَن تراهنَّ عيونُ الْعَدو والجواسيس فِي المعاريّات والقباب، والسجوف عليهنّ، فيتوهّمون أنهنّ بَنَات وأخوات فيجدون فِي قتالنا ويحرصون على الْغَلَبَة على مَا فِي أَيْدِينَا حَتَّى يجتذبوا خطامَ واحدٍ من هَذِه الْإِبِل يستقيدونكم بِكُل طَرِيق إِلَى أَن يتَبَيَّن لَهُم أنهنَّ إِمَاء، فَأمرت بِرَفْع الظلال عَنْهُن وكشف شعورهن فَعلم العدوُّ أَنَّهُنَّ إِمَاء نقي بهنَّ حوافر دوابنا لَا قدر لهنّ عندنَا؛ هَذَا تَدْبِير دبَّرت للْمُسلمين، ويعزُّ عليَّ أَن ترى لي حُرْمَة، فدع هَذَا فَلَيْسَ هُوَ من شَأْنك فقد صحَّ عنْدك أَنِّي فِي هَذَا مُصِيب وَأَنَّك أنكرتَ بَاطِلا. أيّ شَيْء الثَّالِثَة؟ قَالَ: الأمرُ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: نعم أرأيتك لَو أَنَّك أصبت فتاةً مَعَ فَتى قد اجْتمعَا فِي هَذَا الفجّ على حَدِيث مَا كنت صانعًا بِهما؟ قَالَ: كنتُ أسألهما مَا أَنْتُمَا، قَالَ: كنت تسألُ الرجل فَيَقُول: امْرَأَتي، وتسألُ الْمَرْأَة فَتَقول: زَوجي، مَا كنت صانعًا بِهما؟ قَالَ: كنتُ أحولُ بَينهمَا فأحبسهما، قَالَ: حَتَّى يكون مَاذَا؟ قَالَ: حَتَّى أسأَل عَنْهُمَا، قَالَ: وَمن تسْأَل عَنْهُمَا؟ قَالَ: كنت أسألهما من أَيْن أَنْتُمَا، قَالَ: سألتُ الرجل من أَيْن أَنْت فَقَالَ لَك: أَنا من أسبيجاب، وسألتُ الْمَرْأَة: من أَيْن أَنْت؟ فَقَالَت: من أسبيجاب، ابْن عمِّي، تزوّجنا وَجِئْنَا.(1/628)
كنت حابسًا الرجل وَالْمَرْأَة بسؤالك وتوهّمك الْكَاذِب إِلَى أَن يرجع الرَّسُول من أسبيجاب فَمَاتَ الرَّسُول أَو مَاتَا إِلَى أَن يعود رَسُولك، قَالَ: كنت أسألُ فِي عسكرك هَاهُنَا، قَالَ: فلعلك لَا تصادف فِي عسكري هَذَا من أهل أسبيجاب إلاّ رجلا أَو رجلَيْنِ فَيَقُولَانِ لَك: لَا نعرفهما على هَذَا النّسَب. يَا صَاحب الْكَفَن مَا أحسبُكَ إِلَّا أحدَ ثَلَاثَة رجالٍ إمّا رجل مديون، وَإِمَّا مظلوم، وَإِمَّا رجل تأوّلت فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي خطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ قَالَ: وَرُوِيَ الحَدِيث عَن هشيم وَغَيره، وَنحن نسْمع الْخطْبَة إِلَى مغيربان الشَّمْس إِلَى أَن بلغ إِلَى قَوْله: " إِن أفضل الْجِهَاد كلمةُ حقٍّ عِنْد سلطانٍ جَائِر " فجعلتني جائرًا، وَأَنت الجائر، وَجعلت نَفسك تقوم مقَام الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ، وَقد ركبت من الْمُنكر مَا هُوَ أعظم عَلَيْك، لَا وَالله لَا ضربتُكَ سَوْطًا وَلَا زِدْت على تخرق كفنك، ونُفيتُ من آبَائِي الرَّاشِدين المهديين لَئِن قَامَ أحد مقامك هَذَا لَا يقوم بِالْحجَّةِ فِيهِ إِن نقصتُهُ من ألف سوطٍ ولآمرنَّ بصلبه فِي الْموضع الَّذِي يقوم فِيهِ، قَالَ: فنظرتُ إِلَى عجيف وَهُوَ يخرق كفن الرجل ويلقي عَلَيْهِ ثيابَ بَيَاض.
شرح: انصاع قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: " وركن إِلَى الدُّنْيَا وانصاعَ إِلَيْها " يُقال انصاعَ إِذا أشنقَ فِي نَاحيَة وَمضى آخِذا فِيهَا كَمَا قَالَ ذُو الرمَّة:
فانصاع جانبَهُ الوحشيَّ وانكدرت ... يَلْحَبْنَ لَا يأتلي المطلوبُ والطَّلب
وَقَالَ أَيْضا:
رمى فَأَخْطَأَ والأقدارُ غالبةٌ ... فانصعن والويلُ هجّيراهُ والْحَرَبُ
وَقَالَ أَيْضا:
فانصاعت الْحُقْبُ لَمْ تُقْطَعْ صرائرها ... وَقد نشحن فَلَا ريُّ وَلَا هِيمُ
الْمجْلس الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ
حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ أَبُو عِيسَى الْهُذَيْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَنْطَرِيُّ قَالَ، حدَّثنا آدَمُ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ بن عَبَّادٍ الْمِنْقَرِيِّ وَابْنِ جَبَلَةَ وَأَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ أَخِي عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالُوا: حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ النَّفْسِ وَمَا أَلْقَى مِنْهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْدِثَ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَكَ، وإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالاخْتِصَاءِ، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ إِنَّ اخْتِصَاءَ أمَّتي الصَّوم وَالصَّلاةُ، قُلْتُ: وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي بالترهُّب فِي الْجِبَالِ، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ ترهُّب أمَّتي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ انْتِظَارًا لصَلاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ(1/629)
وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي بِالسِّيَاحَةِ، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الحجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ أَخْرُجَ مِمَّا أَمْلِكُ، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ أَمْسِكْ مَالَكَ تَرْحَمِ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَالْفَقِيرَ، فَتُطْعِمُهُ كلَّ يَوْمٍ فَذَاكَ أَفْضَلُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ أطلِّق خَوْلَةَ، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أُمَّتِي مَنْ هَاجَرَ إِلَيَّ وَأَنَا حَيٌّ، أَوْ زَارَ قَبْرِي، أَوْ مَاتَ يَوْمَ يَمُوتُ وَلَهُ امْرَأَةٌ أَوِ امْرَأَتَانِ أَوْ ثَلاثٌ أَوْ أَرْبَعُ. قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا إِذْ نَهَيْتَنِي عَنِ الطَّلاقِ فإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لَا أَغْشَى أَهْلِي أَبَدًا، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي عبدٌ يَغْشَى أَهْلَهُ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمْ يُصِبْ فِي وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدًا إِلا كَانَ لَهُ وصيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ أَصَابَ وَلَدًا فَمَاتَ وَلَدُهُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ فَرَطًا فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ كَانَ رَحْمَةً لَهُ وَشَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: قُلْتُ وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ لَا آكُلَ اللَّحْمَ أَبَدًا، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِن أكل اللَّحْم يجبني وَلَوْ وَجَدْتُهُ كُلَّ يَوْمٍ لأَكَلْتُهُ وَلَوْ سَأَلْتُ رَبِّي لأَطْعَمَنِيهِ. قُلْتُ: وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ لَا أمسَّ الطِّيبَ أَبَدًا، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بِالطِّيبِ غَبًّا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلا مَتْرَكَ لَهَا، يَا عُثْمَانُ لَا ترغبنَّ عَنْ سنَّتي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سنَّتي ثُمَّ لَمْ يَتُبْ حَتَّى يَمُوتَ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي.
تَعْلِيق القَاضِي على الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: فِي خبر عُثْمَان ببن مَظْعُون هَذَا عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ إرشادٌ للنَّاس إِلَى مصالِحهم وإبانةٌ لإصابة الْقَصْد فِي مَعَايشهمْ ومتصرفاتِهم فِي شرائع دينهم، والتقلب فِيما أبيحَ لَهُم من أَسبَاب دنياهم. وحقيق على من أحسنَ الِاخْتِيَار لنَفسِهِ وآثر صلاحَ أَحْوَاله واستقامة أُمُوره أَن يَجْعَل مَا أرشد إِلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أمّته وآثره لَهُم وَأَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم إِمَامه الَّذِي يأتم بِهِ، وَدَلِيله الَّذِي يتبعهُ، ومنهاجه الَّذِي يتقيَّله ويستحكم رجاؤه نيل العواقب الَّتِي وعدها النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من امتثلَ أمره وَرجع عمّا تسوله لَهُ نَفسه إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورغَّبة فِيهِ.
معنى الفرط
وَقَول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ولد الْوَالِد يَموت كَانَ لَهُ فرطا: الفرط السَّابق المتقدّم كَأَنَّهُ يَقُول إِنَّه يتقدَّم أباهُ سَابِقًا لَهُ إِلَى الْجنَّة منتظرًا لَهُ. وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطِّفْل أَنَّهُ يظلّ بِبَاب الْجنَّة يَقُول: لَا أَدخل حَتَّى يدْخل أبواي.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَن السقط يكون بِبَاب الْجنَّة كَذَلِك. وأصلُ الفروطِ التقدّم، يُقال للَّذي يتقدَّم الْقَوْم فِي مَسِيرهمْ لارتياد المَاء وإعداده لَهم هُوَ فارطُ الْقَوْم، قَالَ الشَّاعِر:
فاستعجلونا وَكَانُوا من صَحابتنا ... كَمَا تعجَّل فرّاطٌ لورَّاد
وَقَالَ آخر:(1/630)
فأثارَ فارُطُهمْ حَماما جثَّما ... أصواتها كتراطنِ الْفُرْسِ
وَقَالَ العجَّاج:
ومنهلٍ وردتُهُ التقاطا ... لَمْ ألقَ إِذْ وردتُه فرَّاطاً
إِلَّا الحمامَ الْوُرْقِ والغطاطا
والأرق الَّذي يشبه لَونه لون الرَّماد، وَيُقَال بعيرٌ أَوْرَق وحمامة وَرْقَاء، والجميع ورقٌ، مثل أَحْمَر وحمر وأزرق وزرق، والغطاط ضرب من القطا.
وَقَالَ الله عزَّ وجلَّ حاكيًا عَن نبيّه مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلام " قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى " طه:45 الْمَعْنى أَن يسْبق إِلَيْنَا من بَوَادِر فِرْعَوْن مَا نكرهه. ويُقال: فَرَطَ من فلانٍ كَلَام سوء أَي سبق وَبدر. ويُقالُ فِي دُعَاء الْمُصَلِّين على من مَاتَ من أطفالِ الْمُسلمين: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لنا فرطا، أَي سَابِقًا لنا إِلَى الْجنَّة ينتظرنا. وَرُوِيَ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله قَالَ لَمَّا دُفِنَ عُثْمَان بن مَظْعُون: هَذَا قبرُ فرطنا، وَإنَّهُ وضعَ حَجَرًا عِنْد رَأسه، وَكَانَ أوّلَ من دُفِنَ فِي بقعةٍ ارتادها رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله من بَقِيع الْغَرْقَد، وإنَّه إِذا مَاتَ الْمَيِّت بعده قيل: يَا رَسُول الله أَيْن ندفنه؟ يَقُول: عِنْد فرطنا عُثْمَان بن مَظْعُون. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم أنّ أوَّل من دُفِنَ بِالبَقِيعِ أسعد بن زُرَارَة، قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا قَول الْأَنْصَار، والمهاجرون يَقُولُونَ أوَّل من دفن بِالبَقِيعِ عُثْمَان بن مَظْعُون. وَقَالَ تَعَالَى: " لَا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النَّارَ وأنَّهم مُفْرَطُونَ " النَّحْل:62. هَكَذَا قَول أَكثر الْقُرَّاء فِي معنى أنَّهم مقدّمون إِلَيْهَا يعجّلون. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي وأنَّهم مفرِّطون، بِكَسْر الرَّاء وتشديدها على وَصفهم بالتفريط، وَهُوَ الإضاعة لما فِيهِ نجاتِهم، يُقالُ فرَّط فلَان فِي أمره إِذا أهمله وأضاعَ الْأَخْذ بالحزم فِيهِ، وَمن ذَلِكَ قَول لبيد بن ربيعَة العامري:
أَقْْضِي اللبانة لَا أفرِّط رِيبَة ... أَو أَن يلومَ بحاجةٍ لوَّامها
وَقيل: إنَّ هَذَا فِي الأَصْل من الْبَاب الَّذي قدمنَا ذكره، وَفسّر معناهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ لَا أقدم شكًّا وَلَا ادْع رِيبَة تتقدّمني. وَقَرَأَ نَافِع: " وأنّهم مفرطون " بِكَسْر الرّاء وتخفيفها من الإفراط، يُقال أمرٌ مفرط، وَقد أفرط الإِنْسَان وَغَيره إِذا تجَاوز الْحَد وَصَارَ بذلك مفرطًا. وَقد يرجع هَذَا إِلَى الأَصْل الَّذي قدمنَا القَوْل فِيهِ وكأنّه بَدَرَ وسبقَ إِلَى تَجاوز الْحَد فَصَارَ بذلك مفرطًا. وَقد جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله أَنَّهُ قَالَ: " أَنا فَرَطُكُمْ على الْحَوْض " أَي السَّابِق لكم إِلَيْهِ منتظرًا ورودكم عَلَيْهِ.
مُصعب بن الزبير وَابْن ظبْيَان
حدَّثنا محمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن أبي عُبَيْدَة وَأَخْبَرَنَا الأشنانداني عَن التوزي عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: قتل مُصعب بن الزبير نابي بن ظبْيَان أحد بني(1/631)
عَابس بن مَالك، وَكَانَ أخوهُ عبيد الله فاتكًا، فنذرَ أَن يقتل بِهِ مائَة، فَقتل ثَمانين وختمهم بَمصعب، وَأَنْشَأَ يَقُول:
يَرى مصعبٌ أَنِّي تناسيتُ نابيًا ... وَبئسَ لعمرُ الله مَا ظنَّ مصعبُ
قتلتُ بِهِ من حيِّ فهر بن مَالك ... ثَمانين مِنْهُم ناشئونَ وشيَّب
وكفِّي لَهُم رهنٌ بِعشْرين أَو يُرَى ... عليَّ مَعَ الإصباح نوحٌ مسلَّب
أَأَرْفعُ سَيفي وَسْطَ بكرِ بن وائلٍ ... وَلم أرْوِ سَيفي من دمٍ يتصبّبُ
فوَاللَّه لَا أنساهُ مَا ذرَّ شارقٌ ... وَمَا لَاحَ فِي داجٍ من اللَّيْل كوكبُ
وثبْتُ عَلَيْهِ ظالِمًا فَقتلته ... فقصرك مِنْهُ يومُ شرٍّ عَصَبْصَبُ
وَجَاء بِالرَّأْسِ إِلَى عبد الْملك فهمَّ عبد الْملك سَاجِدا فَأَرَادَ أَن يقْتله ثُمَّ قَالَ:
هَمَمْتُ وَلم أفعل وكدتُ وليتني ... فعلتُ فَكَانَ المعولاتِ أقاربُه
ثُمَّ خافَ عبد الْملك فلحق بعمان، فجَاء إِلَى سُلَيْمَان بن سعيد بن جَعْفَر بن ... قَالَ: ... مَكَانَهُ وتذمَّم أَن يقْتله، فدسَّ إِلَيْهِ نصف بطيخة قد سمَّها وَقَالَ: هَذَا أوَّل مَا رأيناهُ من البّطيخ، فلمَّا أكلهَا أحسَّ بِالْمَوْتِ، وَدخل إِلَيْهِ سُلَيْمَان يعودهُ فَقَالَ: ادنُ منّي أيُّها الْأَمِير أُسِرُّ إليكَ شَيْئا فَقَالَ: قل مَا بدا لَك فَلَيْسَ فِي الْبَيْت غَيْرِي وَغَيْرك، فَمَاتَ هُنَاكَ.
التَّسْمِيَة بِالْمَصْدَرِ مثل نَوْح وكرم
قَالَ القَاضِي: قَول عبد الله أخي نابي " مَعَ الإصباح نوحٌ مسلَّب " أَرَادَ النِّسَاء، وَقَالَ: " نوح " وَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا أَنَّهُ وصفهما بالنياحة فَقَالَ: نوحٌ، وسمَّاهنَّ بِالْمَصْدَرِ مثل زَوْر وَفطر وَصَوْم، وَهَذَا بَاب مَشْهُور وَاسع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
لقد زَاد الحياةَ إليَّ حبَّاً ... بَنَاتِي إنّهنَّ من الضّعافِ
مخافةَ أَن يَذُقْنَ الْبُؤسَ بعدِي ... وَأَن يشربنَ رَنْقًا بعد صافِ
وَأَن يُعْرينَ إِذْ كُسِيَ الْجَوَارِي ... فتنبو العينُ عَن كرمٍ عجافِ
فسمَّاهنَّ بِالْمَصْدَرِ، وَمن قَالَ هَذَا قَالَ " كرم " فِي الْوَاحِد والواحدة والاثنين والاثنتين، فَلم يثنّ وَلم يَجمع ولَم يُؤنّث، وَمن أَتَى فِيهِ بِالِاسْمِ ذكَّر وأنَّث وثنَّى وَجمع، وَمثله خَصْم وخصمان وخصوم وخصماء وخصمات عِنْد قصد الِاسْم، وخصمٌ فِي التَّذْكِير والتأنيث والتثنية وَالْجمع على مَذْهَب الْمصدر، قَالَ الله تَعَالَى " " وَهل أتيك نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تسوَّروا الْمِحْرَابَ " ص:29 وَقَالَ: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي ربِّهم " الْحَج: 19 قيل نزلت فِي الْمُؤمنِينَ وَالْمُشْرِكين، وَقيل نزلت فِي المتبارزين يَوْم بدر، ويُقال فلانةُ خصمُ فلَان، وَبَنُو فلَان خصم فلَان وخصومه، على مَا ذكرنَا من مذهبي الْعَرَب فِيهِ: وَقَالَ " خصمان " أَرَادَ فريقين وحزبين، وَقَالَ " اخْتَصَمُوا " لِأَن تَحت كلِّ فريق جمَاعَة، قَالَ الله(1/632)
تبَارك وَتَعَالَى: " سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ " الرَّحْمَن: 31 وَمن هَذَا قَول الْقطَامِي:
الم يحزنك أنَّ حبال قيسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعا
والوجهُ الثَّانِي فِي قَوْله " نوحٌ " أَرَادَ النِّسَاء المتقابلات، يُقال: الشّجرُ والمنازلُ تتناوح أَي تتقابل.
وَقَالَ الشَّاعِر:
فَلَو أنَّها طافَتْ بطنبٍ معجَّمٍ ... نَفَى الرقَّ عَنْهُ جَدْبُهُ فَهُوَ كالِحُ
لجاءت كأنَّ القَسْوَرَ الْجَوْنَ بجَّها ... عسالِيجُهُ والثَّامر المتناوِحُ
يُرِيد المتحاذي المتقابل. قَوْله: " بطنبٍ مُعْجم " يُرِيد أَن مَا فِيهِ مِمَّا يحمل الثَّمَرَة من نفيهن وَمَا جرى مجراهُ، مُعْجم أَي قد أسْرع فِيهِ بالعض وَالْأكل. يُقال: عجمت الْعود أعجمه عجمًا إِذا عضضته، ويُقال عجمتُ العودَ لأعرف صلابته؛ وَمن كَلَام الْخَاصَّة: عجمته وخبرته، يشيرونَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى، فقلبته الْعَامَّة وصحَّفته فَقَالُوا: عجنته وخبزته، وقصدوا هَذَا الْمَعْنى وَأتوا بلفظٍ مُشاكل، وَإِن كَانُوا أحالوا الْكَلَام عَن أَصله. وَحكي لي عَن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد النَّحْوِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَا رأيتُ قَارِئًا صحف فِي تِلَاوَة الْقُرْآن تصحيفًا متشاكلا كإنسان قَرَأَ: بَلْ عجنت ويخبزون، لتشاكل العجن وَالْخبْز، وَأَحْسبهُ عزا هَذِه الْحِكَايَة عَن ابْن الراوندي. وَقَول هَذَا الشَّاعِر: نض الرّقّ عَنْهُ جدبه الرّقّ الْوَرق هَا هُنَا والحدب ضد الخصب وَقَوله: " فَهُوَ كالح " أَي كريه المنظر لجدوبته. يُقال: فلَان كالِحُ الْوَجْه إِذا كَانَ عَابِسا باسرًا.
وَقَوله: " لجاءت كأنّ القسور الجون " القسور: الشّجر، وَقيل: إِنَّه شجرٌ بِعَيْنِه، وَقيل فِي قَوْل الله جلّ جَلَاله: " فرَّت مِنْ قَسْوَرَةٍ " " المدثر:51 " أَي من الْأسد، وَقَالُوا: هَذَا من أَسْمَائِهِ، وَقَالَ قائلونَ: هَذَا من لُغَة الْحَبَشَة. قَالُوا: وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَسد وبالنبطية أريا، وبالفارسية شير، وبالحبشية قسورة، وَقيل: عَنى بِهِ الشّجر لِأَن الْحمر فرَّت مِنْهُ لما عاينَتْ جماعته، " وَقيل: بَلْ عَنى بذلك الرُّمَاة " وَقيل: إِنَّه عَنى بِهِ ظلمَة اللَّيْل. وَقَوله " الجون " وَصفه بِالسَّوَادِ الَّذِي يدلّ على الرّيّ من شدَّة الخضرة. وَقد قيل فِي قَوْله جلّ ثَنَاؤُهُ " مدهامَّتان " " الرَّحْمَن: 64 " خضراوان من الريّ. وَقيل إِن أَرض السوَاد سميت بِهذا لِكَثْرَة الخضرة بِهَا. وَقيل إِن الجونَ من حُرُوف الأضداد، وَأَنه يُقال للأبيض جون وللأسود جون، وَمِمَّا أَتَى مِنْهُ فِي معنى الْأَبْيَض قَول الشَّاعِر:
يبادِرُ الجونةَ أنْ تغيبا
يَعْنِي الشَّمْس. وَقد يُقال لكل واحدٍ من بَيَاض النَّهَار وَسَوَاد اللَّيْل جون، قَالَ الشَّاعِر:
غيَّر يَا بنتَ الْحُلَيْسِ لَوْني ... مرُّ اللَّيَالِي واختلافُ الجَوْنِ
وسفرٌ كَانَ قَلِيل الأون(1/633)
وأشرك فِي هَذِه الصّفة بَين اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: " بجّها عساليجه " أَرَادَ فتقها بالسمن، " وعساليجه " أغصانه، وَاحِدهَا عسلوج وعسليج.
تَجز ذؤابتيها للْجِهَاد
حدَّثنا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبيّ قَالَ: حدَّثنا أَبُو عِكْرِمَة الضبيّ قَالَ: حَدَّثَنَا العتبيّ عَن أَبِيه قَالَ: سبا الرّوم نسَاء مسلماتٍ فَبلغ الْخَبَر الرقَّةَ وَبِهَا الرشيد وَمَنْصُور بن عمار هُنَاكَ، فقصّ مَنْصُور يحضُّ على الْغَزْو، فَإِذا خرقةٌ مصرورةٌ مختومة قد طُرحت إِلَى مَنْصُور، وَإِذا كتاب مضمومٌ إِلَى الصرة فقرأه فَإِذا فِيهِ: إِنِّي امرأةٌ من بيوتات الْعَرَب، بَلغنِي مَا فعل الرّوم بالمسلمات، وَبَلغنِي تحضيضك على الْغَزْو، فعمدت إِلَى أكْرم شَيْء فِي بدني عليّ، وهما ذؤابتاي، فجززتَهما وصررتهما فِي هَذِه الصرة المختومة، فأنشدك بِاللَّه الْعَظِيم لما جعلتهما قَيْدَ فرس غازٍ فِي سَبِيل الله، فعلَّ الله ينظر إليَّ نظرةً على تِلْكَ الْحَال فيرحمني، فَبلغ ذَلِكَ الرشيد فَبكى ونادى النفير.
تَعْلِيق القَاضِي على الْخَبَر
قَالَ القَاضِي: قد أَتَت هَذِه الْمَرْأَة بِما دلّ على خلوص دينهَا وصحَّة يقينها، وغضبها لربِّها، وغيرتها على أهل ملّتها، وامتعاضها عِنْدَمَا بلغَهَا من انتهاكِ أَعدَاء الله محارِمَهُ الَّتِي حرَّمها، واستخفافهم بحدود الْإِسْلَام الَّتِي عظمّها، وقصدت بِما أَتَتْهُ من جزّها ذؤابتيها التقرُّب إِلَى خَالِقهَا ورجاء مغفرته لَهَا، وَالله يحقّق برأفته وسعة رَحمته رجاءها، ويغفرُ لنا وَلَهَا، وَلم تقصد بِما فعلته الْأَمر الَّذِي حرِّم عَلَيْهَا فيؤثمها، فقد جَاءَ عَن النبيّ صلى الله عَليّ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لعن الغارفة وَهِي الَّتِي تجزُّ ناصيتَها عِنْد الْمُصِيبَة، وَإِلَى الله نرغب فِي أَن يجعلنا ممّن يغْضب لَهُ ويحام عَن دينه ويوالي ويُعادي فِيهِ، بتوفيقه.
لم كثر فِي جَنَازَة الْحَسَن الْبَصْرِيّ
حدَّثنا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا زيد بن أخرم قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ، حَدَّثَنَا مبارك بن فضَالة عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: انصرفت من جَنَازَة الْحَسَن فقلتُ لبنتي: وَالله مَا رأيتُ جَنَازَة قطُّ اجتمعَ فِيهَا من النَّاس مثلُ مَا اجْتمع فِيهَا، وَإِن كَانَ الحسنُ لأهلا لذَلِك، فَقَالَت لي: يَا أبةِ مَا ذَاك إِلا لسترِ الله عَلَيْهِ، فَصَغُرَتْ واللَّه نَفسِي.
سُلَيْمَانُ وَالْمَارِدُ
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ قَالَ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: بَعَثَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِلَى ماردٍ مِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ كَانَ فِي الْبَحْرِ فَأُتِيَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ أَخَذَ عُودًا فَشَبَرَهُ بِذِرَاعِهِ ثُمَّ رَمَى بِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ،(1/634)
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ بِالَّذِي صَنَعَ الْمَارِدُ، فَقَالَ: تَدْرُونَ مَا أَرَادَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَإِنَّمَا تَصِيرُ إِلَى مِثْلِ هَذَا مِنَ الأَرْضِ.
عَهْدُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ
حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أبي سَعْد قَالَ، حدَّثنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن أبي بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي أَبَا بَكْرِ بْنَ سَالِمٍ قَالَ: لمَّا حَضَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَوْتُ أَوْصَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا عَهْدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا خَارِجًا مِنْهَا، وَأَوَّلُ عَهْدِهِ بِالآخِرَةِ دَاخِلا فِيهَا، حَيْثُ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ وَيَتَّقِي الْفَاجِرُ وَيُصَدِّقُ الْكَاذِبُ، أَنِّي اسْتَخْلَفْتُ مِنْ بَعْدِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَإِنْ قَصَدَ وَعَدَلَ فَذَلِكَ ظَنِّي بِهِ، وَإِنْ جَارَ وبدَّل فَالْخَيْرَ أَرَدْتُ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَبْغَضَكَ مبغضٌ وأحبَّك محبّ، وقدماً يُبْغَضُ الْخَيْرُ ويحبُّ الشَّرُّ، قَالَ: فَلا حَاجَةَ لِي فِيهَا، قَالَ: وَلَكِنْ لَهَا بِكَ حَاجَةٌ، قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُهُ وَرَأَيْتُ أَثَرَتَهُ أَنْفُسَنَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنُهْدِي لأَهْلِهِ فَضْلَ مَا يَأْتِينَا مِنْهُ، وَرَأَيْتَنِي وَصَحِبْتَنِي فَإِنَّمَا اتَّبَعْتُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، وَاللَّهِ مَا نِمْتُ فَحَلَمْتُ، وَلا شَبَّهْتُ فتوهَّمت، وَإِنِّي لَعَلَى طَرِيقِي مَا زُغْتُ. تعلَّم يَا عُمَرُ أنّ الله تَعَالَى حَقًّا فِي اللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ، وَحَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ يَثْقُلَ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلا الْحَقُّ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خفَّت مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ يَخِفَّ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلا الْبَاطِلُ. إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ وَأُحَذِّرُكَ النَّاسَ فَإِنَّهُمْ قَدْ طَمَحَتْ أَبْصَارُهُمْ وَانْتَفَجَتْ أَجْوَافُهُمْ، وَإِنَّ لَهُمْ لَحِيزَةً عَنْ زلَّة تَكُونُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَهُ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا خَائِفِينَ لَكَ فَرِقِينَ مِنْكَ مَا خِفْتَ مِنَ اللَّهِ وَفَرِقْتَهُ، وَهَذِهِ وَصِيَّتِي، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلام.
قَالَ الْقَاضِي: لَقَدْ أَحْسَنَ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةَ وَمَحَضَ النَّصِيحَةَ، وَبَالَغَ فِي الاجْتِهَادِ لِلأُمَّةِ، وَأَنْذَرَ بِمَا هُوَ كائنٌ بَعْدَهُ، فَوُجِدَ عَلَى مَا قَالَ، وَحَذَّرَ مِمَّا يُوتِغُ الدِّينَ وَيَقْدَحُ فِي سِيَاسَةِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، بِأَوْجَزِ قَوْلٍ وَأَفْصَحِهِ، وَأَحْسَنِ بَيَانٍ وأوضحه، وَأوصى لعمر، وَكَانَ وَللَّه كَافِيًا أَمِينًا شَحِيحًا عَلَى دِينِهِ ضَنِينًا، فصدَّق ظنَّه بِهِ وحقَّق تَأْمِيلَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِيهِ، فَانْقَادَتِ الأُمُورُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُ الأُمَّةُ عَلَى يَدَيْهِ، وعدَّلت الشِدَّةُ وَاللِّينُ فِي رَعَايَاهُ، وَعَدَلَ فِي أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ، وَاللَّهُ يَشْكُرُ لَهُ حُسْنَ سِيرَتِهِ، ويَجْزِلُ ثَوَابَهُ عَلَى الْعَدْلِ فِي بَرِيَّتِهِ، إِنَّهُ وليُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُفِيضُ إِحْسَانِهِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
كَيفَ يصف أَبُو بكر نَفسه بالصدّيق
فَإِن قَالَ لنا قَائِل: مَا وَجْهُ وَصْف أبي بكر نَفسه فِي هَذَا الْخَبَر بِأَنَّهُ الصّديق، وَكَيف(1/635)
استجازَ إِطْلَاق هَذَا النَّعْت على نَفسه، وَفِيهِ تزكيةٌ وتعظيم لَا يصف الألباء بِهَا أنفسهم، وَإِن كَانَت ثَابِتَة فيهم وَكَانَ النَّاس يضيفونها إِلَيْهِم ويثنون بِهَا عَلَيْهِم، قيل لَهُ: فِي هَذَا وَجْهَان، أَحدهمَا أَن يكون الكاتبُ أثْبته من قِبَلِ نَفسه وَلم يكن من أبي بكر رضوَان الله عَلَيْهِ ذكرٌ لَهُ، كَمَا يملُّ المملُّ شَيْئا على غَيره فيُجري فِيهِ ذكره فيصله الْكَاتِب بتقريظه وَالدُّعَاء لَهُ، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون أَبُو بكر استجازَ هَذَا لِأَنَّهُ قد اشْتهر بِهِ واستفاض إلحاقُهُ بتسميته، أَلا ترى إِلَى قَول الشَّاعِر يعنيه:
سمِّيت صدّيقًا وكلّ مهَاجر ... سواك يسمَّى باسمه غير منكرِ
وَقَوله فِي الْخَبَر: " مَا نمت فحلمت " فَإِنَّهُ يُقال: حلم فِي نَومه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
حلمتُ بكم فِي نومتي فغضبتُم ... وَلَا ذنبَ لي أَنْ كنتُ فِي النّوم أحلُم
وحلم عَن خَصمه كَمَا قَالَ الآخر:
حلمتُ عَن السَّفِيه فظنَّ أنّي ... عييتُ عَن الجوابِ وَمَا عييتُ
وحَلُمَ الأديمُ إِذا فسد، كَمَا قَالَ الآخر:
فإنَّك والكتابَ إِلَى عليٍّ ... كدابغةٍ وَقَدْ حَلُمَ الأَدِيمُ
دُخُول عبد الْملك بن صالِح على جَعْفَر بن يَحْيَى
فِي مجْلِس منادمة
حدَّثنا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: كَانَ جَعْفَر بن يَحْيَى يَقُول لإخوانه: لَا يَشْغَلني عَنْكُم إِلَّا مَا يشغلني عَن نَفسِي، فَإِذا تخلَّيت من الْخدمَة فإليكم رَاجع، فإنَّ السُّلْطَان لَا يبْقى لي، وَأَنْتُم تَبْقَون لي مَا بقيت لكم. تَعَالَوْا نتفرَّج يَوْمنَا هَذَا، فنتضمّخ بالخَلُوقِ، ونلبس ثِيَاب الْحَرِير، ونفعل ونفعل. فَأَجَابَهُ إخوانه وصنعوا مَا صنع، وتقدَّم إِلَى حَاجِبه فِي حفظ الْبَاب إِلَّا من عبد الْملك بن بجران كَاتبه، فَوَقع فِي أُذُنِ الْحَاجِب عبد الْملك.
وَبلغ عبد الْملك بن صالِح مُقامُ جَعْفَر فِي منزله، فركبَ فَوجدَ الْحَاجِب عبد الْملك قد حضر، فَقَالَ: يُؤذنُ لَهُ وَهُوَ يظنّه ابْن بجران، فَدخل عبد الْملك فِي سوَاده ورصافيته، فلمّا رآهُ جَعْفَر اسودَّ وَجهه، وَكَانَ عبد الْملك لَا يشربُ النَّبِيذ، وَهُوَ كَانَ سَبَب مَوْجدة الرشيد عَلَيْهِ. فَوقف عبد الْملك ودعا غلامَهُ فَنَاوَلَهُ قلنسوته وسواده وَقَالَ: افعلوا بِنَا مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، فَفعل ودعا برطلٍ فَشرب وَقَالَ: جعلني الله فدَاك، وَالله مَا شربته قبل الْيَوْم فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بِالتَّخْفِيفِ لي، فَدَعَا برطليَّة فوُضعت بَين يَدَيْهِ، وَجعل كل مَا فعل من ذَلِك شَيْئا سرِّي عَن جَعْفَر، فلمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف قَالَ لَهُ جَعْفَر: سَل حَاجَتك مِمَّا تحيط بِهِ مقدرتي مُكَافَأَة لما صنعت. قَالَ: إِن فِي قلب أَمِير الْمُؤمنِينَ هنَةً فتسأله الرضى عني رضى صرفا، قَالَ: قد رَضِي عَنْك، قَالَ: عليَّ أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم دينا فيقضيها عنّي، قَالَ: وَالله إنّها عِنْدِي لحاضرة وَلَكِن تقضى من مَال أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أنبلُ لَك(1/636)
وأحبُّ إِلَيْك، قَالَ: وَإِبْرَاهِيم ابْني أحبُّ أَن أشدَّ ظَهره بصهرٍ من أَوْلَاد الْخلَافَة، قَالَ: قد زوَّجه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْنَته الْعَالِيَة، قَالَ: وَأحب أَن يخْفق اللِّوَاء على رَأسه، قَالَ: قد ولاَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ بِلَاد مصر.
وانصرفَ عبد الْملك ونحنُ نتعجَّب من إقدام جَعْفَر على قَضَاء حَوَائِجه من غير اسْتِئْذَان، وَقُلْنَا: لَعَلَّه يُجابُ إِلَى مَا سَأَلَ فَكيف بِالتَّزْوِيجِ؟ فلمّا كَانَ من الْغَد وقفنا بِبَاب الرشيد، وَدخل جَعْفَر فَلم يلبث أَن دَعَا بِأبي يُوسُف القَاضِي وَمُحَمّد بن الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم بن عبد الْملك، فَخرج إِبْرَاهِيم وَقد خُلع عَلَيْهِ وعُقِدَ لَهُ وزوِّج وحُمِلَت الْبَدْر إِلَى منزل عبد الْملك، وَخرج جَعْفَر فأشارَ إِلَيْنَا باتباعه ثُمَّ قَالَ لنا: تعلَّقت قُلُوبكُمْ بِأول أَمر عبد الْملك فأحببتم علم آخِره، إنيّ لما دخلتُ على أَمِير الْمُؤمنِينَ سَأَلَني عَن خبري فَأَخْبَرته حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى خبر عبد الْملك فَجعل يَقُول: أحسن وَالله، أحسن وَالله، فَقَالَ: هَذَا مَا صنع فَمَاذَا صنعت أَنْت بِهِ؟ فَأَخْبَرته أَنِّي حكمته فاحتكم، فضمنت لَهُ قضاءَ حَوَائِجه، فَقَالَ: أَحْسَنت ودعا بِمَا رَأَيْتُمْ حتَّى استتمَّ لَهُ كلُّ مَا سَأَلَ.
الْمجْلس الخامِس وَالثَمانون
الرَّسُولُ يَتَّجِرُ لِخَدِيجَةَ
حدَّثنا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْجَرِيرِيُّ إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ قَالَ، حدَّثنا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا قَالَ، حدَّثنا شُعَيْبُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَنٍ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمَّتِهَا زَيْنَبَ عَنْ عَبد اللَّه بْن جَعْفَر قَالَ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ تَبَنَّى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ أَمْلَقَ وخفَّ مَا بِيَدِهِ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ خَدِيجَةَ توجِّه غُلامَهَا مَيْسَرَةَ فِي تجارةٍ إِلَى الشَّامِ، فأكلِّمها لَكَ فَتَخْرُجَ مَعَهُ، قَالَ: افْعَلْ يَا عَمُّ، فَجَاءَ مَعَهُ إِلَى خَدِيجَةَ فكلَّمها، فَكَانَتْ تُعْطِي كلَّ رَجُلٍ بَعِيرًا، فَخَرَجَ مَعَ مَيْسَرَةَ، فَأَصَابَ مَيْسَرَةُ ضِعْفَيْ مَا كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرِّبْحِ، ثُمَّ قَدِمَا، وَوَقَعَ حبُّه فِي قَلْبِ مَيْسَرَةَ، فلمَّا قَرُبُوا مِنْ مَكَّةَ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ خَدِيجَةَ تُعْطِي كلَّ أجيرٍ بَعِيرًا إِ ذَا ذَهَبَ إِلَيْهَا يُبَشِّرُهَا بِقُدُومِنَا، فَاذْهَبْ فَإِنَّهَا سَتُعْطِيكَ بَعِيرَيْنِ، فَفَعَلَ. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ قَدْ قدَّرت قُدُومَهُمْ فَجَلَسَتْ فِي مشربةٍ لَهَا وَمَعَهَا نسوةٌ من قُرَيْش ينتظرون قُدُومَهُمْ، إِذْ نَظَرَتْ فَإِذَا رجلٌ عَلَى بعيرٍ مقبلٌ عَلَى رَأْسِهِ سحابةٌ تظلُّه مِنَ الشَّمْسِ تَسِيرُ مَعَهُ، فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَقَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: هَلْ تَنْظُرْنَ مَا أَنْظُرُ؟ قُلْنَ: نَرَى رَجُلا مُقْبِلا عَلَى بَعِيرٍ، قَالَتْ: فَمَا تَرَيْنَ عَلَى رَأْسِهِ؟ قُلْنَ: مَا نَرَى شَيْئًا، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا أَنَّهُ شَيْءٌ خصَّت بِهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا تَبَيَّنَتْهُ ثُمَّ نَزَلَتْ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا بِكَثْرَةِ رِبْحِهِمْ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي كُنْتُ أُعْطِي كلَّ أجيرٍ بَعِيرًا وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ بَعِيرَيْنِ بِحِمْلَيْهِمَا فَاذْهَبْ بِهِمَا إِلَى مَنْزِلِكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهَا وَقَدْ دَخَلَ مَيْسَرَةُ فَسَأَلَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ أَحْسَنَ صُحْبَةً وَلا أَعْظَمَ بَرَكَةً، مَا مَدَدْنَا أَيْدِيَنَا إِلَى شَيْءٍ إِلا نِلْنَاهُ، فَوَقَعَ فِي(1/637)
قَلْبِهَا. ثُمَّ خَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: يَا محمّد: يَا مُحَمَّدُ أَمَا لَكَ أربٌ فِي النِّسَاءِ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَالٌ، قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تزوَّج بِي؟ قَالَ: وَتَفْعَلِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَمِّي، قَالَتْ: فَاسْتَأْذِنْهُ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى عمِّه فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ خَدِيجَةَ أيِّم قُرَيْشٍ وَأَكْثَرُهُمْ مَالا، وَأَنْتَ يَتِيمُ قريشٍ وَلا مَالَ لَكَ، ولكنَّها قَالَتْ لَكَ هَذَا عَلَى الْعَبَثِ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِلا مَا قَالَتْ لِي، قَالَ: إِنَّكَ لَصَادِقٌ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ بَعَثَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ إِلَى مَنْزِلِ خَدِيجَةَ لِيَعْلَمَ ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ مَا تَعْثُرُ بشيءٍ إِلا قَالَتْ: لَا شَقِيتَ يَا مُحَمَّدُ، وَمَا تَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ إِلا قَالَتْ: لَا شَقِيتَ يَا مُحَمَّدُ. فَمَضَى مَعَهُ أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ عُمُومَتِهِ حَتَّى أَتَى أَبَاهَا فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ وتنحَّى لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَنْتَ أَوْلَى بِمَجْلِسِكَ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَجْلِسَ إِلا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ قَصَدْتَ؟ قَالَ: فِي حاجةٍ لِمُحَمَّدٍ، قَالَ: لَوْ سَأَلَنِي مُحَمَّدٌ أَنْ أُزَوِّجَهُ خَدِيجَةَ لَفَعَلْتُ فَمَا أحدٌ أعزُّ عليَّ مِنْهَا، قَالَ: فَمَا جِئْنَاكَ إِلا لِنَخْطُبَكَ خَدِيجَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ، قَالَ: فتكلَّم، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْفَحْلُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ فَخَطَبَ، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ وَمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ قُرَيْشٍ حُضُورٌ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ زَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وذريَّة إِسْمَاعِيلَ، وَجَعَلَ لَنَا بَيْتًا مَعْمُورًا وَحَرَمًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَنَا الحكَّام عَلَى النَّاسِ فِي مَوْلِدِنَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أَخِي مُحَمَّدَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا يُوزَنُ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلا رَجَحَ بِهِ، وَلا يُقَاسُ بأحدٍ مِنْهُمْ إِلا عَظُمَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ قلةٌ فَإِنَّ الْمَالَ رزقٌ جاءٍ وظلٌّ زَائِلٌ، وَلَهُ فِي خَدِيجَةَ رَغْبَةٌ وَلَهَا فِيهِ رَغْبَةٌ، والصَّداق مَا سَأَلْتُمْ، عَاجِلُهُ وَآجِلُهُ مِنْ مَالِي، وَلَهُ خطرٌ عَظِيمٌ وَشَأْنٌ شَائِعٌ جَسِيمٌ. فزوَّجه وَدَخَلَ بِهَا مِنَ الْغَدِ، فَأَوَّلَ مَا حَمَلَتْ وَلَدَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
أَوْلادُ الرَّسُولِ مِنْ خَدِيجَةَ
حدَّثنا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ وَالْفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَدَتْ خَدِيجَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ، ثمَّ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ رَجُلا وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ قَالَ لَهُ رجلٌ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الأَبْتَرُ، يَعْنِي النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ إِذَا وُلِدَ لِلرَّجُلِ ثُمَّ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ بَعْدِهِ قَالُوا: هَذَا الأَبْتَرُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ " " الْكَوْثَر:3 ": أَيْ: مُبْغِضُكَ هُوَ الأَبْتَرُ الَّذِي بُتِرَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ زَيْنَبَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ رقيَّة، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الطَّاهِرَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ المطهَّر، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الطيِّب، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الْمُطَيَّبَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ أمَّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ أَصْغَرَهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.(1/638)
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ إِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا دَفَعَتْهُ إِلَى مَنْ يُرْضِعُهُ، فلمَّا وَلَدَتْ فَاطِمَةَ لَمْ يُرْضِعْهَا أحدٌ غَيْرَهَا.
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا دلَّ عَلَى نُبُوَّة النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبديع آيَاته، ورفيع مَنْزِلَته، وعظيم بركته، وَثُبُوت حجَّته، وَمن سَعَادَة خَدِيجَة مَا وفِّقت لَهُ من تكرمته وإيثاره وتقدمته، وَمَا اتفقَّ لَهَا من الشّرف بزوجيّته، والحظوة بالمخالطة لَهُ ثُمَّ تَصْدِيقه والمسارعة إِلَى الْإِيمَان بِهِ واتباعه على دينه بعد أَن تمكَّن عِنْدهَا من تظاهر الْأَخْبَار عَن نبوته، والتبشير بنجومه ودعائه إِلَى ربِّه وتبليغ شَرِيعَته، والوعد بثوابه والتوعد بعقابه، وَمَا تقدَّم من إِلْقَاء ورقة بن نَوْفَل إِلَيْهَا وَتَقْرِير من أمره عِنْدهَا صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه ورضوان الله وَسَلَامه عَلَيْهَا.
الأيّم والناكح
قَالَ القَاضِي: قَول أبي طَالب: " إِنَّ خَدِيجَة أيّم قُرَيْش " الأيم فِي كَلَام الْعَرَب: مَن لَا زوج لَهُ من رجلٍ أَو امْرَأَة كَمَا قَالَ جميل:
أحبُّ الْأَيَامَى إِذْ بثينةُ أيّمٌ ... وأحببتُ لمّا أَن غنيت الغوانيا
وَقَالَت صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب تخاطب ابْنهَا الزبير:
وجربت آبادَ الدّهورِ عليكمُ ... وأسماءُ لَمْ تشعر بذلك أيِّم
وَقَالَ آخر:
لله درُّ بني عل ... يٍّ أيّمٍ مِنْهُم وناكح
وَقَالَ آخر:
فَإِن تنكحي أنكح وَإِن تتأيّمي ... وَإِن كنتُ أفتى منكمُ أتأيَّم
ويروى: يَدَ الدَّهْر مَا لَمْ تنكحي أتأيّم. وَهُوَ مَعْرُوف كَثِير. والأَيْم بِالتَّخْفِيفِ الحيَّة. وَقَالَ الله عَزَّ وجلَّ فِي الْأَيَامَى: " وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ والصَّالحين مِنْ عِبَادِكُمْ " " النُّور: 32 " يريدُ من لَا زوج لَهَا من نِسَائِكُم؛ وَمن الْأَيَامَى أَيْضا قَول الشَّاعِر:
إنَّ الْقُبُور تُنكح الْأَيَامَى ... والنسوة الأرامل الْيَتَامَى
والمرءُ لَا يَنْقَى لَهُ سُلامَى
وَمعنى هَذَا أَن الْمَوْت إِذا أَتَى على الرِّجال وأفنى أكارمهم أنكح بناتهم ووليّاتهم من يقصر عَن أحسابهنّ وَلَيْسَ بكفؤ لَهُنَّ.
النقي والرّيرُ
وَقَوله: " لَا تَنْقَى لَهُ سُلامى " أَي: من هُوَ قَلِيل الْخَيْر أَو لَا خير فِيهِ، وشبَّه ذَلِكَ بالمخ فَكَأَنَّهُ يَقُول: من لَيْسَ فِي سلامياته من قوائمه مخ وَهُوَ النِّفي، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أرارَ الله نَفْسَك فِي السُّلامى ... على من بالحنين تُعولينا
وَيُقَال: إِن آخر مَا يبْقى من النقي فِي السُّلامى وَالْعين كَمَا قَالَ الشَّاعِر:(1/639)
لَا يشتكين ألمًا مَا أَنقينْ ... مَا دَامَ فيهنَّ سلامى أَو عين
ويروى مَا دَامَ نقي فِي سُلامى أَو عين. معنى: أرار: أذاب، ويُقال: للمخ الرَّقِيق ريرٌ، ورارٌ، لإنّه يرق عِنْد الْهُزال، قَالَ ابْن السكّيت: وَزعم القنانيُّ أنّه الرَّرير بِفَتْح الرَّاء، وأنشدَ:
والسَّاق منّي باديات الرَّير
قَالَ ويُقالُ: بارداتُ الرَّير، وَقَالَ الفرّاء: رَير ورِير وَرَارَ، وَقَالَ بعضُ اللغويين: باردات لَا غير مَكَان باديات، يُقَال فلَان بَارِد الْعِظَام إِذا كَانَ مهزولا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
الأبيضان أبردا عِظَامِي ... القتُّ والْمَاءُ بِلَا أدامِ
وحدَّثنا أَبُو عَمْرو عَن ثَعْلَب قَالَ: فَسَأَلت ابْن الْأَعرَابِي: مَا تقولُ؟ قَالَ: العربُ تَقُولُ فلَان بَارِد الْعِظَام إِذا كَانَ مهزولا، وفلانٌ حارُّ الْعِظَام إِذا كَانَ سمينًا ممخًّا. والقتُّ حبٌّ أَبيض يشبه الجاورس يختبر ويُؤكل. وَزعم مُحَمَّد بن الْحَسَن أنَّ مَنْ وصَّى لأيامى بني فلَان فوصيته لثيبهم دون أبكارهم، وَهَذَا خطأ ظَاهر لما ذكرناهُ ووصفناه. وَاحْتج لَهُ بعض أَصْحَابه بِأَنَّهُ حمل هَذَا على عُرف النَّاس، وَلَيْسَ الْأَمر على مَا وَصفه لِأَن عرف الْخَاصَّة هُوَ مَا قدّمنا ذكره، وأمّا الْعَامَّة فَلَا تعرف هَذَا أصلا وَلَا علم لَهَا بِهِ. وَمن النقي قَول الْكُمَيْت: جزُّ ذِي الصوفِ وانتقاءٌ لذِي المخَّة وانعقْ ودعْدِعَنْ بالْبِهَامِ وَرُوِيَ أَن ممَّا أَمر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن تقصى فِي الْأَضَاحِي الْعَجْفَاء الَّتِي لَا تنقي، أَي لامخّ لَهَا. والسلامي عِظَام القوائم.
هُوَ الْفَحْل لَا يقرع أَنْفُه
وَقَول خويلد بن عبد العزَّى أبي خَدِيجَة: " إِن مُحَمَّدًا الفحلُ لَا يُقْرَعُ أَنفه " أَن الْعَرَب إِذا نزا الْفَحْل من الْإِبِل ولَيْسَ من كرائمها على نَاقَة كَرِيمَة قرعوا أَنفه طردًا لَهُ عَنْهَا ورغبة عَنْهُ بِهَا، وَإِذا كَانَ فيهم فَحل كريم لَمْ يدفعوهُ عَن الضراب فِي إبلهم وَلم يقرعُوا أَنفه. فَقَالُوا فِي الْكَرِيم النجيب من النَّاس: لَا يُقرع أَنفه، أَي يرغب فِيهِ وَلَا يرد عَن حاجةٍ لدناءته ولؤمه، فوصف أَبُو خَدِيجَة رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهذه الصّفة الَّتِي هُوَ أَحَق النَّاس بِهَا. وَقَول أَبي طَالب: " وَإِن كَانَ فِي المَال قلَّة " الْمَشْهُور من الرِّوَايَة: وَإِن كَانَ فِي المَال قلُّ، وَهُوَ الْقلَّة والضيق، والعربُ تَقُولُ: الحمدُ لله على الْقُلّ والكثر، أَي على قَلِيل الرزق وَكَثِيره، وَقَالَ الشَّاعِر:
قد يَقْصُرُ القلُّ الْفَتى دونَ همِّه ... وَقد كَانَ لَوْلَا القلُّ طلاَّع أَنْجُدِ
وَقَالَ لبيد:
كُلّ بني حرَّةٍ قُصَارهم ... قلٌّ وَإِن أكثرتْ من العددِ
إِن يُغْبَطُوا يُهْبَطوا وَإِن أَمِرُوا ... يَوْمًا يصيروا للقلِّ والنَّكد
ويُقال: هُوَ قلّ بن قُل، وضُل بن ضلٍ، إِذا كَانَ " لَا يعرف أَبَاهُ و " لَا يُعْرَفُ أَبوهُ.(1/640)
هُوَ أَبتر
وأمّا قَول الْعَاصِ بن وَائِل - فضَّ الله فَاه، وقبَّحه وأخزاه، وأبعده وأقصه - فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله واصطفاهُ وأكرمه واجتباه، وَرفع قدره وَأَعلاهُ، إنّه " أَبتر " على مَا كَانَت العربُ تَقوله فِي من لَا ولد لَهُ يُذكر بِهِ بعده هُوَ أَبتر، أَي مُنْقَطع الذّكر، فَحسب نبيّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَول الله جلّ ذكره فِي كِتَابه: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشَّرْح:4 ". وَقَالَ فِي عدوّه وعدوّ رَسُوله: " إنَّ شائنك هُوَ الأَبْتَرُ " " الْكَوْثَر:3 "، فَوَسمه الله عَزَّ وَجَلَّ بِهذه السِّمة الَّتِي لَا تُرحضُ وَلَا تُغْسَل، وَلَا تُمْحَى وَلَا تُبدل، كَمَا وسم أَبَا جهل بِهذه الكنية على لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَت عَيْبا لَازِما، وعارًا وَاقعا بِهِ دَائِما، حتَّى كَانَ مِمَّا قيل فِيهِ من الشّعْر المتضمّن لِهذا الَّذِي وسم بِهِ:
النَّاس كنّوه أَبَا حكمٍ ... وَالله كنَّاه أَبَا جهل
وَمِمَّا يحقُّ لِذَوي الْأَلْبَاب أَن ينعموا التفكر فِيهِ قَول الله عَزَّ وَجَلَّ لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشَّرْح:4 ". جَاءَ فِي التَّفْسِير: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ معي. أَلا ترى أَن الشَّهَادَة لَهُ بالرسالة مقرونة بِالشَّهَادَةِ لله عزَّ وَجَلَّ بالربوبية، فَلَنْ يدخلَ أحدٌ الْإِسْلَام إِلَّا بِهما، وَأَنه يُذْكَرُ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، والغدوّ وَالْآصَال، ويكرَّر ذكره فِي الْأَذَان وإقام الصَّلَاة والإمامة لَهَا على ترادف السَّاعَات وتتابع الْأَوْقَات، وَأَن آدم عَلَيْهِ السَّلام الَّذِي كلُّ آدميٍّ ولدُهُ إِنَّما يُذْكَرُ فِي الأحيان والإبّان بعد الإبَّان وَفِي الفينة بعد الفينة عِنْدَمَا يعرض من ذكره أَو تُلِيَ من الْقُرْآن مَا تقتصُّ فِيهِ قصَّته، وَهَذَا مِمَّا فَكرت فِيهِ واستخرجته وَمَا علمت أحدا سبقني إِلَيْهِ وَلَا تقدَّمني فِي استنباطه.
نصيب لَا ينشد الشّعْر يَوْم الْجُمُعَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا العكلي عَن ابْن الْكَلْبِيّ عَن عوَانَة، عَن رجلٍ من قُرَيْش من سَاكِني الْكُوفَة قَالَ: قدم نُصَيب الْكُوفَة فوجَّهني أبي إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ صديقا، فَقَالَ: أبلغه عني السَّلام وَقل لَهُ: يقولُ لكَ أبي إِن رَأَيْت أَن تُهْدي إليَّ شَيْئا من قَوْلك فعلت. فَأَتَيْته فِي يَوْم جُمُعَة وَهُوَ يُصلي، فأمهلتُ حَتَّى قضى صلَاته ثُمَّ أَقرَأته السَّلام وأديتُ إِلَيْهِ الرسَالَة، فردَّ وَأحسن ثُمَّ قَالَ: قد علم أبوكَ أَنِّي لَا أُنْشِدُ الشّعْر فِي يَوْم الْجُمُعَة، وَلَكِن تعودُ وَيكون مَا تُحبّ، فَلَمَّا ذهبت لأنصرفَ دَعَاني فَقَالَ لي: أتروي الشّعْر؟ قلت:
نعم، قَالَ: فأنشدني لجميل فَأَنْشَدته:
إِنِّي لأحفظُ سرَّكم ويسرُّني ... لَو تعلمين بصالحٍ أَن تُذْكَري
وَيكون يَوْمًا لَا أرى لَك مُرْسلا ... أَو نَلْتَقِي فِيهِ عليَّ كأشهر
يَا لَيْتَني ألْقى المنيةَ بَغْتَة ... إِن كَانَ يومُ لقائكمْ لَمْ يُقْدَرِ(1/641)
يقْضِي الدُّيُون وَلَيْسَ يُنْجِزُ عَاجلا ... هَذَا الغريمُ لنا وَلَيْسَ بمعسر
فَقَالَ: لله دره، وَالله مَا قَالَ أحدٌ إِلَّا دون قَوْله، وَلَقَد ترك لنا مِثَالا يُحْذَى عَلَيْهِ، أما أصدقنا فِي شعره فجميل، وأمّا أوصفنا لربّاتِ الحجال فكثيّر، وَأما كذبنَا إِذا قَالَ الشّعْر فعمر، وأمّا أَنا فَأَقُول مَا أعرف.
سُمْرَة الْخَارِجِي وَالْحجاج
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاقِدُ بسرَّ مَنْ رَأَى سَنَةَ ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة قَالَ، حَدَّثَنَا العنبريّ قَالَ، حَدَّثَنَا قَاسم بن مُحَمَّد بن عباد قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي الشَّرْقِي بن الْقطَامِي قَالَ: كَانَ سَمُرَةُ بن الجَعْدِ من قَعَد الْأزَارِقَة، غير أَنَّهُ لَمْ يكن يُعْرَفُ بذلك، وَكَانَ قد وَقعت لَهُ من الْحجَّاج منزلةٌ حَتَّى كَانَ يُدْخِلُهُ فِي سَمَرهِ، فَلَمَّا سَار قطريّ بن الْفُجَاءَة إِلَى جِيرفتَ كتب إِلَى سَمُرَة بن الْجَعْد يعيّره مقَامه عَنْهُم وركونه إِلَى الدُّنْيَا، وَكَانَ فِي كِتَابه إِلَيْهِ:
لشتَّان مَا بَين ابْن جعدٍ وبيننا ... إِذا نحنُ رُحْنا فِي الْحَدِيد المظاهرِ
نجالِدُ فرسانَ المهلَّب كلُّنا ... صبورٌ على وقعِ السيوف البواترِ
وراحَ يجرُّ الخزَّ نحوَ أميره ... أميرٍ بتقوى ربِّه غير آمُر
أَبَا الْجَعْد أَيْن الْحلم والعلمُ والتقى ... وميراثُ آباءٍ كرامِ العناصر
ألم ترَ أَن الْمَوْت لابدَّ نازلٌ ... وَلَا بدَّ من بَعْثِ الأُلى فِي المقابرِ
حُفَاة عُرَاة والثوابُ لديهمُ ... فَمن بَين ذِي ربحٍ وَآخر خاسر
فَسِر نحونا إنَّ الْجِهَاد غنيمةٌ ... تُفِدْكَ ابتياعًا رابحًا غير بائر
فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابه لحق بِهم وَكتب إِلَى الْحجَّاج:
فَمن مُبلغُ الْحجَّاج أنَّ سميرةً ... قلى كلَّ دينٍ غيرِ دين الْخَوَارِج
قَالَ القَاضِي: يَجوز " كلَّ دين غير " خفضًا ونصبًا، الْخَفْض على الصّفة لدينٍ والنصبُ على الصّفة لكل وعَلى الِاسْتِثْنَاء.
رأى النَّاس إِلَّا من رأى مثلَ رَأْيهمْ ... ملاعينَ ترَّاكين قصد المخارج
فإنّي امرؤأي يَا ابنَ يوسفٍ ... ظفرتَ بِهِ لَو نلتَ علم الولائج
إِذا لرأيتَ الحقَّ مِنْهُ مُخالفًا ... لرأيك إِذْ كنتَ امْرَءًا غير فالج
فَأَقْبَلت نحوَ الله بِاللَّه واثقًا ... وَمَا كُرْبَتي غير الْإِلَه بفارج
إِلَى قطريٍّ فِي الشراةِ معارجًا ... ولستُ إِلَى غير الشّراةِ بعارجِ(1/642)
إِلَى عصبَة أما النهارَ فإنَّهم ... هم الأسدُ أسدُ البأسِ عندَ التهايجِ
وأمّا إِذا مَا الليلُ جنَّ فإنَّهم ... قيامٌ كأنواحِ النِّسَاء النواشجِ
ينادونَ بالتحكيم لله إنَّهم ... رَأَوْا حُكْمَ عمروٍ كالرياح الهوائج
وَحكم ابْن قيسٍ قبل ذاكَ فأُعْصِمُوا ... بحبلٍ شديدِ الفتلِ لَيْسَ بناهج
تَفْسِير الولائج وفالج وناهج
قَالَ القَاضِي: قَوْله " علم الولائج " أَي الدخائل من ولج أَي دخل، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّه وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً " " التَّوْبَة: 16 " أَي دخلةً يستبطنونَها تخَالف مَا يُظْهِرونَه من إيمانِهم، وَقَوله: " غير فالج " أَي غير مُصِيب ظافر فائز قد فَلَجَتْ حجَّته. وأمّا قَوْله: " كأنواح النساءِ " فقد فسَّرناه فِي مجلسٍ قبل هَذَا. وأمّا: " لَيْسَ بناهجِ " أَي لَيْسَ ببالٍ مُخْلق، يُقال: قد أنْهَج الْبُرْدُ وغيرهُ من الثِّيَاب إِذا صارَ كَذَلِك، كَمَا قَالَ سُحَيْم عبدُ بني الحسحاس.
وَمَا زالَ بُرْدي طيبا من ثِيَابهَا ... إِلَى الحولِ حَتَّى أنْهَجَ البردُ بَالِيًا
خطْبَة لعمر بن عبد الْعَزِيز
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَةَ الأَزْدِيُّ عَنِ ابْنِ أُخْتِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّاسَ بِخُنَاصِرَةَ فَقَالَ، بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: أيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الأَمَانُ عِنْدَ اللَّهِ غَدًا لِمَنْ بَاعَ قَلِيلا بِكَثِيرٍ، فَنَظَرَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ وَحَاسَبَهَا فِي يَوْمِهِ قَبْلَ غَدِهِ، فَإِنَّ السَّعِيدَ مِنْكُمْ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَالسَّلامُ.
بَين الْمُؤلف وجَمَّال
قَالَ القَاضِي: رأيتُ شَيخا جَمَّالا بالنهروان سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة بِيَدِهِ خُطَامُ بعيرٍ يقودُهُ وَهُوَ يترنَّم بِأَبْيَات، فاستحسنت إنشادها وهششتُ لَهُ، فقربت مِنْهُ فَقلت لَهُ: مَا اسْمك؟ قَالَ: خصيب، قلت: ابْن من أَنْت؟ فانتسب إِلَى أبٍ نسيتُ اسْمه، فَقلت لَهُ: هَلْ كتبتَ شَيْئا من الْعلم وَالْأَدب أم عنْدك شيءٌ من الحَدِيث؟ فَقَالَ: قد سمعتُ كثيرا، فقلتُ: أتحفظُ مِنْهُ شَيْئا تملّهُ عليّ، وَكَانَ معظمُ حِرْصِي على ذَلِكَ من أجل اسْمه، فَقَالَ لي: كتبتُ مِمَّا ذكرت شَيْئا كثيرا وَلم يبْق عِنْدِي مِنْهُ شَيْء، وَمَا أحفظُ مِمَّا سمعته شَيْئا إِلَّا هَذِه الأبيات الَّتِي تسمعني أترنَّم بِهَا، فَإِن شَيخا بخراسان أملاها عليَّ وَزعم أنَّها لأبي الْعَتَاهِيَة.
فَسَأَلته إملاءها عليَّ، فأنشدني، ثُمَّ وَجدتهَا فِيمَا يعزى إِلَى أبي الْعَتَاهِيَة م الشّعْر وَهِي:
يَا ربّ سلمٍ أضرَّ من حَرْبِ ... وَرب عذرٍ أشدَّ من عَتْبِ
وَرب بعدٍ بِهِ عَن الذَّنب يَك ... فِي المرءَ من لومه عَن الذَّنب
وَرُبمَا كَانَ فِي التبسم والإقبا ... ل مَا لَا يكونُ فِي الضَّرب(1/643)
وربَّ عزٍّ فِي حَال مَخْمَصَة ... وَرب ذلٍّ فِي الْأكل وَالشرب
وَرُبمَا كَانَت الملالَةُ إف ... راطًا شَدِيدا من وامق صبّ
وَرب ذِي بغية يُعاجله ... من قبلهَا صرعةٌ على الْجنب
وَرُبمَا دارت الْمنية فِي القو ... م كَدَوْرِ العقارِ فِي الشَّرب
يَا صورًا نقّلت إِلَى الترب بِالْمَوْتِ كَمَا صوِّرت من الترب
تجْرِي إِلَيْنَا بِالرَّفْع والخفض ... والجزم على ذَا الإِنْسَان وَالنّصب
منتظرًا نَحْبَهُ إِلَى أجل ... لابدَّ مِنْهُ لذَلِك النحب
يشفي امْرِئ غيظه بسبّ امْرِئ والحلم أشفى لَهُ من السبّ
وَقد تلين العيدان حَتَّى يكون اللَّين مِنْهَا أَقْوَى من الصلب
قَوْله " اللَّين أَرَادَ اللين فَخفف، كَمَا قَالَ: مَيْت وميّت، وهَيْن وهيَّن، ولَيْن وليِّن.
الْمُؤلف ينْتَقد تصرف رَئِيس جَاهِل
ولي فِي معنى أول هَذِه الأبيات شَيْء، وَذَلِكَ لِأَن بعض من قُدّم من رَئِيس فِي زَمَاننَا أرسل إِلَيّ صاحبًا لَهُ وَأَنا عليلٌ وَقد اجتمعَ حَولي جماعةٌ يعودوني، فَقَالَ لي وهم يسمعونه: إنَّ فلَانا - يَعْنِي صَاحبه - يعْتَذر من تَأَخره عَن عيادتك بشيءٍ ذكره لَيْسَ فِيهِ عذرٌ لَهُ، فاستجهلت الرَّسُول والمرسِلَ واستسخفتهما وَقلت:
ربَّ حقيرٍ من الذنوبِ ... عظَّمه العذرُ فِي الْقُلُوب
أبداهُ ذُو غفلةٍ وخرقٍ ... فجَاء يُوفي على الخطوب
وَلَو لَمْ يؤدِّ إليَّ هَذِه الرسَالَة ظَاهرا لما علم الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْني، مَعَ علمهمْ بِما كَانَ بَيْننَا من ظَاهر الْمَوَدَّة. وَقد ابتذلت الْعَامَّة هذَيْن المثلين: عذره أشدُّ من ذَنبه، وَاضْرِبْهُ على ذَنبه مائَة وعَلى عذره مِائَتَيْنِ.
أَن امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس يَعْنِي أَحْمَد بن يَحْيَى قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة قَالَ، حَدَّثَنَا خَلاد الأرقط قَالَ: كُنَّا على بَاب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء فتذاكرنا أَن الْحجَّاج كتب إِلَى قُتَيْبَة بن مُسلم إِنِّي وَإِيَّاك لدةٌ، وإنَّ امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّةً إِلَى منهل لقمنٌ أَن يردهُ.
فأدرنا ذَلِكَ بَيْننَا وجعلناه شعرًا فَقُلْنَا:
وإنَّ امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّة ... إِلَى منهلٍ من وردهِ لَقَريبُ
قَالَ خَلاد: وقلتُ أَنا وانفردت بِهذا الْبَيْت:(1/644)
وَمن كَانَ فِي الدُّنْيَا على حالِ قلعةٍ ... وَإِن طالَ فِيهَا عمرُهُ لغريبُ
قَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي، وأنشدنا أَبُو عَليّ الْعَنزي قَالَ، أنشدنا أَحْمَد بن بكير الْأَسدي:
إِذا مَا خلوتَ الدهرَ يَوْمًا فَلَا تقل ... خلوت وَلَكِن قُل عليَّ رقيبُ
وَإِن امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّةً ... إِلَى منهلٍ من وردهِ لقريبُ
إِذا مَا نقضى الْقرن الّذي أَنْت فيهم ... وخلفِقت فِي قرنٍ فَأَنت غريبُ
نسيبك من أَمْسَى يُناجيكَ طَرْفهُ ... وَلَيْسَ لِمن تَحت التُّرَاب نسيبُ
فأحسنْ قروضًا مَا استطعتَ فإنَّما ... بقرضك تُجْزَى والقروضُ ضروبُ
وَلَا تحسبنَّ الله يغْفل سَاعَة ... وَلَا أَن مَا يَخفى عَلَيْهِ يَغيبُ
قَالَ القَاضِي: قد بيَّنَّا فِي بعض مَا مضى من هَذِه الْمجَالِس معنى " قمن " وَمَا فِيهِ وَفِي أخواته من اللُّغات، فاستغنينا عَن تَفْسِيره من كَلَام الحجّاج فِي هَذَا الْخَبَر. وأمَّا الشّعْر الَّذِي أنشدناهُ ابْن الْأَنْبَارِي فِي هَذَا الْخَبَر عَن الْعَنزي عَن أَحْمَد بن بكير فقد قدَّمنا فِي بعض مَا قدمنَا من مجالسنا هَذِه خَبرا فِيهِ هَذَا الشّعْر، وَذكرنَا الخلافَ فِي من يُنْسَبُ إِلَيْهِ.
المجلِسُ السَّادس وَالثَمانون
حَدِيثُ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حدَّثنا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق القَاضِي قَالَ، حدَّثنا الْعَلَاء بن الْفضل ابْن أَبِي سَوِيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي بَنُو مرَّة بْنِ عبيدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَتَيْتُهُ بِإِبِلٍ كَأَنَّهَا عُرُوقُ الأَرْطَى فَقَالَ لِي: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، فَقَالَ لِي: ارْفَعِ النَّسَبَ، فَقُلْتُ: ابْنُ حُرْقُوصِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ النَّزَّالِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهَذِهِ صَدَقَاتُ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ، فَتَبَسَّمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هَذِهِ إِبِلُ قَوْمِي، هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِي، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُوسَمَ بِمَيْسَمِ الصَّدَقَةِ وَأَنْ تضمَّ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي وَمَضَى بِي إِلَى مَنْزِلِ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأُتِينَا بجفنةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَذْرِ، فَجَعَلْتُ أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا، وَجعل الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى يَدِي الْيُمْنَى وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ واحدٍ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ أُتِينَا بطبقٍ فِيهِ أَلْوَانُ رطبٍ أَوْ تَمْرٍ فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ مَوْضِعٍ واحدٍ، وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّبَقِ، وَقَالَ لِي: يَا عِكْرَاشُ إِنَّهُ غَيْرُ لونٍ واحدٍ فَكُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ. ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ، بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غيَّرت النَّارُ.
تَفْسِير الحَدِيث
قَالَ أَبُو بكر: قَوْله " كأنَّها عروق الأَرطى ": الأرطى شجرٌ، وَاحِدهَا أَرْطَاة، وعروق(1/645)
الارطى عروقحمر، وَكَذَلِكَ عروق السدر، فشبَّه الإبلَ بعروق الأرضي لحمرتِها، وَذَلِكَ أَن أشرفَ الإبلِ عِنْد الْعَرَب حمرها. وَفِيهِ قَول آخر وَهُوَ أَنَّهُ شبَّه الْإِبِل بعروق الأرطى لضمرها، وَذَلِكَ أَن ضمرها يدل عل نجابتها وكرمها، والعربُ تشبِّه الثورَ وَالْحمار بعروق الأرطى فِي الضمر، قَالَ الشَّاعِر فِي صفة حمَار:
خاظٍ كعرق السدر يس ... بق غَارة الخوص النجائب
يَعْنِي بالخاظي الْحمار الممتلئ السَّرِيع. وَقَالَ ذُو الرمة يذكر ثورًا يحْفر عَن أصل شَجَرَة:
توخَّاه بالأَظلافِ حَتَّى كأنَّما ... يثير الكثابَ الْجُعْدَ عَن متنِ مِحْمَلِ
الكثاب مَا يكثب من الرمل، والمحمل وَاحِد حمائل السَّيْف، يشبه حمرةَ عروقِ الشَّجَرَة بحمرة حمائل السَّيْف. والوذر جمع الوذرة وَهِي قِطْعَة لحم مجتمعة، والهبرةُ تشبهها إِلَّا أنَّها أكبرُ مِنْهَا، وَجمع الهبرة هبر. قَالَ القَاضِي: وفضلُ حُمْرِ الإبلِ على غَيرهَا مَشْهُور، وَمن مَعْرُوف كَلَامهم قَول قَائِلهمْ: كَذَا وَكَذَا أحبُّ إليَّ من حُمْرِ النَّعم، فخصُّوا حمرها لشرفها. والأرطى شجرٌ مَعْرُوف عِنْد الْعَرَب، وَهِي شَجَرَة مستطيلة الْوَرق الْوَاحِدَة مِنْهَا أَرْطَاة، وَقَالَ العجاج:
باتَ إِلَى أرطاةِ حقفٍ أَحْقَفَا
وَقَالَ الشماخ فِي الْجمع.
إِذا الأرطى توسَّد أبرديه ... خدودُ جوازئٍ بالرمل عين
وَقَالَ آخر:
وَلَوْلَا جنونُ الليلِ أدركَ ركضنا ... بِذِي الرِّمث والأَرْطَى عياضَ بنَ ناشب
وَالشَّاهِد فِي هَذَا كَثِير جدًّا.
قَالَ القَاضِي: وَألف أرطى أثبتَ للإلحاق بالأربعة كجعفر وَسَلْهَب، وَهُوَ ثلاثيٌّ أَصله " أرط " يدلُّ على هَذَا قَوْلهم أديمٌ مأروط، أَي مدبوغٌ بالأرطى، وَإِذا سميت بِهِ رجلا لَمْ تصرفه فِي الْمعرفَة لشبهه ألف التَّأْنِيث وَأَنه معرفَة، وَانْصَرف فِي النكرَة ليفرق بَين ألف التَّأْنِيث وَبَين الْألف الزَّائِدَة لغير التَّأْنِيث.
وَفِي هَذَا الْخَبَر من حسن مخالقة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميلِ عشرته وكريم شيمته، وتأنيسه عكراش بن ذُؤَيْب وتواضعه لله بمؤاكلته، وتعليمه كَيفَ يَأْكُل أَنْوَاع الطَّعَام مؤتَلِفِه ومختلفه، مِمَّا يباهي شرِيف مَنْزِلَته، ويوازي جلالة مرتبته.
وحقَّ على كلِّ ذِي لبّ وَدين وفطرةٍ سليمَة من أهل الدَّين تقيُّل فعله واتِّبَاع سَبيله والانتهاء إِلَى مَا نَدَبَ إِلَيْهِ والتأدّب بِما اخْتَارَهُ. وَفِيمَا جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أَن أكلَ وَغسل يَدَيْهِ وَمسح بِهما وَجهه وذراعيه قَالَ: هَكَذَا الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار،(1/646)
وَهَذَا يدلُ على أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِما أَمر بِهِ من الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار وَمَا مسَّت النَّار الْأَدَب والتنظفَ دون الْوضُوء الْمَفْرُوض على من قَامَ إِلَى الصَّلَاة. وآراء الْمُحدثين، وترتيبُ الْأَخْبَار فِيهِ تتضمنه كتبنَا فِي الْفِقْه.
قُوَّة منطق الْحجَّاج
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عِيسَى عَن الْعَبَّاس بْن هِشَام عَنْ أَبِيه عَن عوَانَة قَالَ: خطب الحجاجُ الناسَ بِالْكُوفَةِ فحمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الْعرَاق، تزعمونَ أنَّا من بَقِيَّة ثَمود، وتزعمون أَنِّي سَاحر، وتزعمون أنَّ الله عزَّ وَجَلَّ علَّمني اسْما من أَسْمَائِهِ أقهركم بِهِ، وَأَنْتُم أولياؤُهُ بزعمكم وَأَنا عدوه، فبيني وَبَيْنكُم كتاب الله تَعَالَى. قَالَ " عَزَّ وجلَّ: " فلمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجَّينا صَالِحًا والَّذين آمَنُوا مَعَهُ " هود " 66 " فنحنُ بقيةُ الصالِحين إنْ كنَّا من ثَمود. وَقَالَ جلّ وَعز: " إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى " " طه:69 " وَالله أعدلُ فِي حكمه من أَن يعلّمَ عدوا من أعدائِهِ اسْما من أَسْمَائِهِ يهزمُ بِهِ أولياءه. ثُمَّ حَمِيَ من كَثْرَة كَلَامه فتحامل على رمَّانة الْمِنْبَر فحطمها، فَجعل النَّاس يتلاحظونَ بَينهم وَهُوَ ينظرُ إِلَيْهِم، فَقَالَ: يَا أَعدَاء اللَّه مَا هَذَا الترامز؟ أَنا حُدَيا الظبي السانحِ والغرابِ الأبقع والكوكب ذِي الذَّنب، ثُمَّ أَمر بذلك العودِ فأُصْلِح قبل أَن ينزل من الْمِنْبَر.
الحديا
قَالَ أَبُو بكر: الحديّا أَن يتحدَّى الرجلَ فَيَقُول: افعلْ كَذَا حَتَّى أَفعلهُ، ثُمَّ يفعل كَفعل أَخِيه.
قَالَ القَاضِي: قد أَتَى أَبُو بكر بِالْأَصْلِ فِي معنى حُدَيّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَقّق تَفْسِيره، وَمَا ذكره من تحدي الرجل ليَأْتِي بِفعل ثُمَّ يَأْتِي هُوَ بِمثلِهِ فَيكون هَذَا، وَيكون أَن يبرز الرجل على غَيره فِي شَيْء ويبرَّ فِيهِ على من سواهُ، ويبذّ فِي تمكنه مِنْهُ وَسَبقه إِلَيْهِ من عداهُ، فَإِن عَارضه فِيهِ غَيره وحكاهُ فقد قاومه وساواه، وَإِن عجز من مقاومته وكلَّ من مناهضته فالمتحدَّي غالبٌ ظَاهر والمتحدَّي مغلوبٌ غير ظافر، وعاجزٌ غير قَادر، لَا سِيمَا إِن كَانَ فِي قصرته عَن المقاومة نبأ عَظِيم وخطب جسيم كَالَّذي كَانَ فِي تحدي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه أَن يعارضوا الْقُرْآن الَّذِي أبانه الله من سَائِر النَّاس، وَجعله من أكبر أَعْلَامه ودلائه، وَأَن يَأْتُوا بسورةٍ مثله، فَظهر عجزهم، وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم، وَقتلُوا دون ذَلِكَ وأسروا وأخربت دِيَارهمْ وتعقبت آثَارهم، فانقلبوا صاغرين أذلّاء داخرين. وَهَذَا بَاب قد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع مِمَّا ألفناه وأمللناه، من ذَلِكَ صدر كتَابنَا المسمَّى: " الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز ".
والحديَّا فِي هَذِه الْكَلِمَة أَتَى مصغّر اً وَلم يسْتَعْمل المكبَّر فِي بَابه، وَمثله كَثِير كقولِهم السُّكيت من الْخَيل، وحُمَيْل للطائر وكُمَيت. وَنَظِير الحديا الثريا، تَقْدِير الأَصْل فِيهَا غير مصغر(1/647)
يرْوى مثل شروى، فَهَكَذَا حديا كَأَن أَصله حدوى، من حدوته على كَذَا، وَمثله حميا الكأس أَصله من حموها وحَمْيِها أَي احتدامها وحرارتِها وحدتها وسورتها، يُقال: حمي الشَّيْء يحمى حموًا وحميًا، وَقَول من قَالَ: حمى يحمَى حَمى خطأ، وإنَّما مرَّ على قِيَاس الْبَاب فِي الأَصْل مثل شَجِيَ يشجى شَجى وعميَ يَعْمَى عَمى. وَقد جرى فِي هَذَا الْمَعْنى بيني وَبَين رجلٍ من أهل زَمَاننَا لَهُ حظّ من حفظ اللُّغَة كلامٌ فِي هَذَا الْمَعْنى، وأنكرتُ عَلَيْهِ قَوْله أَصَابَهُ ظَلَع، فقلتُ لَهُ: إنَّما هُوَ ظلعٌ بِإِسْكَان اللَّام، فأقامَ على خطائه مُتَعَلقا بِالْقِيَاسِ الَّذِي قدمتُ ذكره، فقلتُ لَهُ: كَيفَ تلفظ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي مِنْهُ حميَ يحمى فَقَالَ: حمًا، مارًّا على وتيرته فعرَّفته فسادَ مَا أَتَى بِهِ، وذكرتُ لَهُ شَيْئا حدِّثت بِهِ عَن أَحْمَد بن يَحْيَى النَّحْوِيّ وَهُوَ أَنَّهُ ذكر الحَمْوَ والحمي وأنكرَ قَول من يَقُول حَمَى، قيل لَهُ إِن حاكيًا حكى عَنْهُ حَمَى فَقَالَ من حكى عني هَذَا فاصفعوه. فَكَأَنَّهُ انْكَسَرَ باله وَلم يظْهر رُجُوعا عَن قَوْله. وَمثل الحديا من الصَّحِيح السَّكري وسُكَيْرَى وَقَوْلهمْ غَضبى وغضيبي. وَمن الحديا قَوْل عَمْرو بن كُلْثُوم التغلبي:
حُدَيّا الناسِ كلِّهم جَمِيعًا ... مقارعةً بنيهم عَن بنينَا
فسّره بعضُ أهل الْعلم فَقَالَ: المقارعة المخاطرة هَاهُنَا. حديّا النَّاس: يُقالُ أَنا حدياك عَن هَذَا الْأَمر أَي أَنا أخاطرك عَلَيْهِ، أَرَادَ إِذْ نَحن نُقَاتِل النَّاس أَجْمَعِينَ نقارعهم بَينهم عَن بَينا، فَإِن غلبناهم سبينَا نساءَهم، وَإِن غلبونا فعلوا بِنَا مثل ذَلِكَ. وَقَول الْحجَّاج: " أَنا حديّا الظبي السانحِ والغرابِ الأبقع والكوكب ذِي الذَّنب " فَإِنَّهُ أَرَادَ إنَّا لثقتنا بالغلبة والاستعلاء، والإفحاطة والاستيلاء، نتحدى ارْتِفَاع الظبي سانحًا، وَهُوَ أَحْمَد مَا يكون فِي سرعته ومضائه، والغراب الأبقع فِي تحذره وذكائه، ومكره وخبثه ودهائه، وَذَا الذَّنب من الْكَوَاكِب فِيمَا ينذر بِهِ من عواقب مَكْرُوهَة وبلائه، فَقَالَ الْحجَّاج هَذَا مختالا فِي غلوائه، ومرهبًا لِمن بَين ظهرانيه من أعدائه، وَالله ذُو الْبَأْس الشَّديد بالمرصاد لَهُ ولحزبه وأوليائه.
السخاء فِي مَفْهُوم ابْن المقفع
حدَّثنا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ: حدَّثنا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْغلابِي قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْعُود بن بشر الْمَازِني قَالَ، حدَّثنا أَبُو عَمْرو خَلاد بن يزِيد الأرقط قَالَ، قَالَ ابْن المقفع: السخاء سخاءان: سخاء الْمَرْء بِما فِي يَدَيْهِ وَهُوَ أذكرهما فِي النّاس وأشهرهما، وسخاء الْمَرْء عَن مَا فِي أَيدي النَّاس وَهُوَ أَمْحَضُهُمَا فِي الْكَرم. وأنشدَ مَسْعُود:
إنَّ الْغِنَى عَن لئامِ النّاسِ مكرمةٌ ... وَعَن كرامهمُ أدْنى إِلَى الكَرَمِ
تَفْسِير أَلْقَت عصاها حِين تَمَثَّلَت بِهَا عَائِشَة
حدَّثنا محمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ الْغَنَوِيُّ قَالَ: لَمَّا نعي عليُّ ابْن أَبِي طَالِبٍ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا واستقرَّ بهَا النَّوَى ... كَمَا قرَّعيناً بِالإِيابِ الْمُسَافِرُ(1/648)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ لَنَا أَبُو حسن ابْن الْبَرَاءِ، قَالَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَزْدِيُّ: مَعْنَى تَمَثُّلِ عَائِشَةَ بِهَذَا الْبَيْت: لتصنع الْعَرَب بعد عليٍّما شَاءَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهَا مَنْ يَقْمَعُهَا وَيَصْرِفُهَا عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الحقِّ. قَالَ: ثمِّ قَالَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ تَمَثُّلِهَا بِهَذَا الْبَيْتِ: إِنْ كَانَ لَمِنْ أَكْرَمِ رِجَالِنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم.
بِم تَمثل مُعَاوِيَة حِين جَاءَهُ نَعْي عَليّ
قَالَ: ولَمَّا نُعِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تمثَّل بِأَبْيَات لبيد:
قُضِيَ القضاءُ وأُنْجِزَ الموعودُ ... وَالله ربِّي ماجدٌ محمودُ
وَله النَّوَافِل والفضائل كلُّها ... وَله أثيثُ الْخَيْر والمعدودُ
وَلَقَد بَلَتْ إرمٌ وعادٌ كيدهُ ... وَلَقَد بَلَتْهُ قبلَ ذَاك ثَمودُ
خلَّوا ثيابَهُم على عوراتِهم ... فهم بأفنية الْبيُوت همود
ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قد كنتُ حذَّرت الغداةَ محرّقًا ... فَأَتَت منيّته الحذارَ النّاجزا
تَمثل ابْن الزبير وَابْن عَبَّاس حِين بلغهما نعي مُعَاوِيَة ولَمَّا نُعي مُعَاوِيَة قَالَ عبد الله بن الزبير: ذهب وَالله عزُّ بني أميَّة، كَانَ وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
رَكُوبُ المنابرِ ذُو همّةٍ ... معنٌّ بخطبته مجْهَرُ
تثوبُ إِلَيْهِ هوادي الْكَلَام ... إِذا ضلَّ خطْبته الْمِهْمَر
ولِمّا بلغ نعيهُ عبدَ الله بن الْعَبَّاس قَالَ:
جبلٌ تصدَّع ثُمَّ مَال بركنِهِ ... فِي الْبَحْر لَا رُتِقَتْ عَلَيْهِ الأبحرُ
تَمثل مُعَاوِيَة لَمَّا نُعي إِلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ
قَالَ: ولَمَّا نُعي عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَة قَالَ:
مَاذَا رزئنا بِهِ من حيّةٍ ذَكَرٍ ... نضناضةٍ للمنايا صلِّ أصلالِ
ولاّجةٍ من ذرى الْأَهْوَال إِن نزلت ... خرَّاجةٍ من ذراها غير زيَّال
موقف جرير حِين نعي إِلَيْهِ الفرزدق
قَالَ: ولمَّا نُعي الفرزدق إِلَى جرير وَهُوَ بالبادية اعْترض الطَّرِيق فَإِذا أَعْرَابِي على قعودٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ جرير: من أَيْن وممَّن؟ قَالَ: من الْبَصْرَة وَمن بني حَنْظَلَة، قَالَ: هَلْ من جائية خبر؟ قَالَ: نعم، بَينا أَنا بالمربد فَإِذا أَنا بِجنَازَة عَظِيمَة قد جفل لَهَا النَّاس فِيهَا الْحَسَن بن أبي الْحَسَن الْبَصْرِيّ فقلتُ: من؟ قَالُوا: الفرزدق، فَبكى جرير بكاء شَدِيدا فَقَالَ لَهُ قومه: أَتَبْكِي على رجلٍ يهجوكَ وتهجوه مذ أَرْبَعُونَ سنة؟ قَالَ: إِلَيْكُم عَنِّي فوَاللَّه مَا تبارى رجلانِ وَلَا تناطحَ كبشان فَمَاتَ أَحدهمَا إِلَّا تبعه الآخر عَن قريب. وأنشدنا أبي الأبيات(1/649)
عَن أبي الْهَيْثَم وَغَيره:
لعمري لَئِن كَانَ المخبِّر صَادِقا ... لقد عَظُمَتْ بلوى تميمٍ وجلَّت
فَلَا حَمَلَتْ بَعد الفرزدق حرَّةٌ ... وَلَا ذاتُ حملٍ من نِفَاسٍ تعلَّت
هُوَ الْوَافِد المحبُّو والراقعُ الثّأي ... إِذا النَّعل يَوْمًا بالعشيرة زلَتِ
قَالَ: ثُمَّ عَاشَ بعده أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمَات.
قَالَ القَاضِي: قد أَتَى فِي وَفَاة الفرزدق ونعيه إِلَى جرير وَمَا رثاهُ بِهِ عدَّة أَخْبَار، وَهِي تَأتي فِي أخبارنا على تفرّقها واختلافها، إِن شَاءَ الله.
إِذا بلغت الْمدَّة
حدثَّنا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ وَسِيمٍ البوشنجي ببوشنج قَالَ: حَدثنَا عيد الرَّحْمَن بْن أَخِي الْأَصْمَعِي عَنْ عمّه قَالَ: قلتُ لأبي عليٍّ يَحْيَى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَهُوَ فِي مَجْلِسه: لَو فعلت كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَقَالَ لي: يَا أَبَا سعيد إِذا بلغت المدَّة، ونفدت العدَّة، حَجَزَ بَين الإِنْسَان وَبَين حِيَلِهِ سدَّة.
تَعْزِيَة للْعَبَّاس بن الْحَسَن
حدَّثنا عمر بن الْحَسَن بن مَالك الشَّيْبَانِيّ قَالَ: حدَّثنا مُحَمَّد بن زيد قَالَ: عزَّى الْعَبَّاس بن الْحَسَن رجلا فَقَالَ: لَمْ آتكَ شاكًّا فِي حزمك وَلَا زَائِدا فِي علمك، ولكنّه حق الصّديق على الصّديق، فاسبق السلوَّ بالصير.
الْحَدِيثُ فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصَّولي قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبد اللَّهِ بْنُ الصبَّاح قَالَ: قَالَ الْمَنْصُورُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: مَا بلغلك فِي الْكَلْبِ؟ قَالَ: قَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لِغَيْرِ زرعٍ وَلا حراسةٍ وَلا صيدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كلَّ يومٍ قِيرَاطٌ، قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ، قَالَ الْمَنْصُورُ: خُذْهَا بِحَقِّهَا، ذَاكَ لأَنَّهُ يَنْبَحُ الضَّيْفَ ويروِّع السَّائِلَ.
أموي يتشفع بِيَحْيَى الْبَرْمَكِي لَدَى الرشيد
حَدَّثَنِي أَبُو النَّصْر الْعقيلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَن بن رَاهَوَيْه الْكَاتِب قَالَ: قَالَ يَحْيَى بن خَالِد الْبَرْمَكِي فِي أَيَّام الرشيد: جَاءَنِي رجلٌ وَأَنا فِي دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ فذكرَ أَنَّهُ من بني أميَّة، وَقَالَ: إِنِّي قصدتُ أَمِير الْمُؤمنِينَ لاستوصله وأمتَّ إِلَيْهِ برحمي، فَإِن رأيتَ أصلحكَ الله أَن توصلني إِلَيْهِ لأخاطبه بِما يَبْعَثهُ على بري وصلتي فعلتَ، وَأَنت الشريكُ فِي الشُّكْر وَالْأَجْر، فتذمَّمت أَن أردَّه بِغَيْر قَضَاء حَاجته، فدخلتُ على الرشيد فاستأذنته لَهُ، فَأذن فَدخل فسلَّم وَأحسن ودعا فَأكْثر، ثُمَّ أنشأ يَقُول:
يَا أمينَ الله إِنِّي قائلٌ ... قولَ ذِي دينٍ وصدقٍ وحَسَبْ
لكمُ الفضُل علينا وَلنَا ... بِكُم الفخرُ على كلِّ الْعَرَب(1/650)
عبدُ شمسٍ كَانَ يَتْلُو هاشمًا ... وهما بعدُ لأمٍّ ولأب
فَصِلِ الْأَرْحَام منَّا إنَّما ... عبدُ شمسٍ عمُّ عبدِ المطلّب
قَالَ: فَأمر لَهُ الرشيد بجائزة عَظِيمَة فأحضرت فقبضها ثُمَّ خرج، وَخرجت لألحقه وأُضيفَ إِلَى جَائِزَة أَمِير الْمُؤمنِينَ صلَة من مَالِي فَلم أَرَهُ، فأمرتُ بِطَلَبِهِ فَلم أَجِدهُ. قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: " وأمتُّ إِلَيْهِ برحمي " أَي أُدْلِي، وَمثله أمطُّ وأمدّ.
ذُو القرنين وَأمة متزهدة
حَدَّثَنَا عبيد الله بْن محمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِم بن هَاشم أَبُو محْمَد قَالَ، حَدَّثَنَا الحكم بن نَافِع قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بن عَمْرو عَن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيّ أَن ذَا القرنين أَتَى على أمة من الْأُمَم لَيْسَ فِي أَيْديهم شيءٌ مِمَّا يسْتَمْتع بِهِ النَّاس من دنياهم، قد احتفروا قبورًا، فَإِذا أَصْبحُوا تعهّدوا تِلْكَ الْقُبُور فكنسوها وصلَّوا عِنْدهَا، ورعوا البقل كَمَا تَرْعَى الْبَهَائِم، وَقد قُيّض لَهم فِي ذَلِكَ معاش من نَبَات الأَرْض، فأرسلَ ذُو القرنين إِلَى ملكهم فَقَالَ لَهُ: أجب الْملك ذَا القرنين، فَقَالَ: مَالِي إِلَيْهِ حَاجَة، فَأقبل إِلَيْهِ ذُو القرنين فَقَالَ: إِنِّي أرْسَلْتُ إليكَ لتَأْتِيني فأبيت، أَنا ذَا قد جئْتُك، فَقَالَ لَهُ: لَو كَانَت لي إليكَ حاجةٌ لأتيتُكَ، فَقَالَ لَهُ ذُو القرنين: مَا لي أَرَاكُم على الْحَال الَّتِي رَأَيْت لَمْ أرَ أحدا من الْأُمَم عَلَيْهَا؟ قَالُوا: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: لَيْسَ لكم دنيا وَلَا شَيْء، أَفلا اتّخذتُم الذّهبَ والفضَّة فاستمتعتم بِهَا؟ فَقَالُوا: إنَّما كرهناها لِأَن أحدا لَمْ يُعطَ مِنْهَا شَيْئا إِلَّا تاقت نَفسه وَدَعَتْهُ إِلَى أفضل مِنْهُ، فَقَالَ: مَا بالكم قد احتفرتم قبورًا فَإِذا أَصْبَحْتُم تعهدتموها فكنستموها وصليتم عِنْدهَا؟ قَالُوا: أردنَا إِذا نَظرنَا إِلَيْهَا فأمَّلنا الدُّنْيَا منعتنا قبورنا من الأمل، قَالَ: وأراكم لَا طَعَام لكم إِلَّا البقل من الأَرْض، أَفلا اتّخذتم الْبَهَائِم من الْأَنْعَام فاحتلبتموها وركبتموها وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا؟ قَالُوا: كرهنا أَن نجعلَ بطوننا قبورًا لَهَا، ورأينا أَن فِي نَبَات الأَرْض بلاغًا، وإنَّما يَكْفِي ابْن آدم أدْنَى الْعَيْش من الطَّعَام وإنّ مَا جاوزَ الحنك لَمْ نجد لَهُ طعمًا كَائِنا مَا كَانَ من الطَّعَام. ثُمَّ بسط ملك تِلْكَ الأَرْض يَده خلف ذِي القرنين فَتَنَاول جمجمة فَقَالَ: يَا ذَا القرنين أَتَدْرِي من هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَمن هُوَ؟ قَالَ: ملكٌ من مُلُوك الأَرْض أعطاهُ الله سُلْطَانا على أهل الأَرْض فغشم وظلم وعتا، فلمَّا رأى الله عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ حسمه بِالْمَوْتِ، فَصَارَ كالحجر الْملقى قد أحصى الله عَلَيْهِ عمله حَتَّى يجْزِيه فِي الْآخِرَة. ثُمَّ تنَاول جمجمة أُخْرَى فَقَالَ: يَا ذَا القرنين هَلْ تَدْرِي من هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَمن هُوَ؟ قَالَ: هَذَا ملك ملّكه الله بعدهمْ، قد كَانَ يرى مَا يصنع الَّذِي قبله بِالنَّاسِ من الغشم وَالظُّلم والتجبّر، فتواضع وخشع لله عَزَّ وَجَلَّ وَعمل بِالْعَدْلِ فِي أهل مَمْلَكَته فَصَارَ كَمَا ترى، قد أحصى الله عَلَيْهِ عمله حَتَّى يجْزِيه فِي آخرته. ثُمَّ أَهْوى إِلَى جُمجمة ذِي القرنين فَقَالَ: وَهَذِه الجمجمة كَأَن قد كَانَت كهاتين، فَانْظُر يَا(1/651)
ذَا القرنين مَا أَنْت صانعٌ. فَقَالَ لَهُ ذُو القرنين: هَلْ لَك فِي صحبتي فأتّخذ ك أَخا ووزيرًا وشريكًا فِيمَا آتَانِي الله من هَذَا المَال؟ قَالَ: مَا أصلحُ أَنا وَأَنت فِي مَكَان وَلَا أَن نَكُون جَميعًا. قَالَ ذُو القرنين: ولِمَ؟ قَالَ: من أجل أنّ النّاس كلهم لَك عَدو ولي صديق، قَالَ: وَلم ذَاك؟ قَالَ: يعادونك لِما فِي يدك من الْملك وَالْمَال وَالدُّنْيَا، وَلَا أجدُ أحدا يُعاديني لرفضي لذَلِك وَلما عِنْدِي من الْحَاجة وقلَّة الشَّيْء، فَانْصَرف عَنْهُ ذُو القرنين.
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا إِذا اعْتَبرهُ ذُو اللُّبِّ وفكر فِيهِ وتأملّه أدَّاه بِتَوْفِيق الله جلّ وعزّ إِلَى الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَة فِي الْآخِرَة. وَلِذِي القرنين عندنَا فِي هَذَا الْمَعْنى أخبارٌ تَأتي متفرّقة فِيمَا يَأْتِي من مجَالِس هَذَا الْكتاب إِن شَاءَ الله.
جود أبي دلف وجود أبي البخْترِي
حدَّثنا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النحويّ قَالَ: أَنْشدني ابْن أبي دلف قَول ابْن أبي فنن فِي أَبِيه أبي دلفٍ:
مَا لي وَمَا لَك قد كلفتني شططًا ... حمْلَ السلاحِ وقولَ الدّارعين قفِ
أمِن رجال المنايا خِلْتَني رجلا ... أُمسي وَأصْبح مشتاقًا إِلَى التَّلف
تسْعَى المنايا إِلَى غَيْرِي فأكرهها ... فَكيف أسْعَى إِلَيْهَا عاريَ الكتفِ
يَا هَلْ حسبت سوادَ اللَّيْل غيّرني ... وأنَّ روحيَ فِي جَنْبَيْ أبي دلفِ
قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ أَبُو دلف بِخَمْسِمِائَة دِينَار، فقلتُ لَهُ: هلا فعل أبوكَ كَمَا فعل أَبُو البخْترِي القَاضِي؟ قَالَ: وَمَا فعل؟ قلتُ: رُوِيَ لنا أَن رجلا باذّ الْهَيْئَة دخل على قومٍ وهم على شراب لَهُم فحطّوا مرتبته فِي الشَّرَاب فَقَالَ:
نبيذانِ فِي مجلسٍ واحدٍ ... لإيثار مثرٍ على مقترِ
وَلَو كنتُ تفعلُ ذَا فِي الطَّعَام ... لزمتَ قياسَك فِي الْمُسكر
وَلَو كنت تسلك سبل الْكِرَام ... سلكتَ سَبِيل أبي البخْترِي
تتبّع إخوانَه فِي الْبِلَاد ... فأغنى المقلَّ عَن المكثر
قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ أَبُو البخْترِي بِأَلف دِينَار.
قَالَ القَاضِي: وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة قبل الْبَيْت الأول من هَذِه الأبيات:
تأمَّلْ قَبِيح الَّذِي جِئْته ... تَجده خُلُوفَ فمِ الأبخرِ
وَهَذَا من قَبِيح الهجاء وَفِيهِ مُبَالغَة فِي الذَّم عَجِيبَة. وأنشدنا فِي هَذَا الْمَعْنى.
رأيتُ نبيذين فِي مجلسٍ ... فَقلت لساقٍ لنا مَا السَّبب
فقالَ الَّذِي نحنُ فِي بيتِه ... يفضِّل قوما بسوءِ الأدبْ(1/652)
تَعْرِيف بِأبي البخْترِي
فأمَّا أَبُو البخْترِي هَذَا فَهُوَ وهب الْقرشِي الْأَسدي الفِهري؛ قَالَ القَاضِي: وَله أخبارٌ كَثِيرَة، ومدحه الشُّعَرَاء مدحًا كثيرا لسماحته وسعة عطائه واستفاضة مكارمه وسجاحة أخلاقه، وَقد ذمَّه آخَرُونَ وَطعن فِيهِ الْأَئِمَّة من الأكابر والرؤساء وأعلام الْمُحدثين وَالْعُلَمَاء ونسبوهُ إِلَى الْكَذِب فِيمَا يرويهِ وَوضع كثيرٍ من الحَدِيث الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ، وهجاهُ بِهذا الْمَعْنى بعض الشُّعَرَاء، وَلَعَلَّ بعض مَا لَمْ نذكرهُ من أخباره يَأْتِي فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الْمجْلس السَّابع وَالثَّمَانُونَ
حَدِيثٌ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ الْمَالِ
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيلَ الأَدَمِيُّ سَنَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ وثلثمائة قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ يَعْنِي الأَزْرَقَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلْمَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ صَاحب إبلٍ وَلَا بقيرٍ وَلا غنمٍ لَا يُؤَدِّي حقَّها إِلا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بقاعٍ قرقرٍ تطأه ذَاتُ الخفِّ بِخُفِّهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا يومئذٍ لَا جمَّاء وَلا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: إِطْرَاقُ فَحْلِهَا.
شرح بعض أَلْفَاظ الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: قَوْله: " بقاعٍ قَرْقَر " أَي أملسَ مستوٍ، ويُقالُ قاع قرق وقرقر وقرقوس، وَمن القرق قَول الراجز.
كَأَنّ أيْديهنَّ بالقَاعِ القَرِقْ ... أَيدي جوارٍ يتعاطينَ الوَرِقْ
وَقَوله: " إطراق فَحلهَا ": يُقال أطرق الرجل فَحل إبِله: من طلبه ليطرقَ إناثَ إبِله للنتاج، وَفِي هَذَا مَا يدلُّ على وجوب الإطراق على صَاحب الْفَحْل، وَلذَلِك نَهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن عسيب الْفَحْل وَهُوَ إِجَارَته للضراب.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأُبَلِّيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ عُمَرُ بن عَبدُوس الهمذاني بالإسكندرية قَالَ: حَدثنَا هاني بْنُ مُتَوَكِّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَعُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ فِحْلَةَ فَرَسِهِ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سهل القشي قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَعُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْقَاضِي قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ فِحْلَةَ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عُقَيْلَ بْنَ خَالِدٍ. قَالَ القَاضِي: فإجارة(1/653)
الْفَحْل للضراب غير جَائِزَة لِما وردَ فِيهَا من نهي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولأنَّ ذَلِكَ من الْغرَر الَّذِي نَهَى عَنْهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قد يُراد الْفَحْل على الضراب فيمنتع، وَقد يُكْرَهُ مِنْهُ الضراب فيتوثَّب عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْظُور بِما ورد من الْأَخْبَار وبدليل النّظر من جِهَة الْقيَاس وَالِاعْتِبَار وَكَانَ مَالك فِي من سلك سَبيله من أهل الْمَدِينَة يجيزونَ هَذَا ويرخصونَ فِيهِ وَلَا يرونَ بِهِ بَأْسا، وَالسّنة وَالْقِيَاس أولى بالاتباع. وَمن العسب قَول زُهَيْر:
وَلَوْلَا عَسْبُهُ لتركتموهُ ... وشرُّ منيحةٍ أيرٌ مُعَارُ
وَقد جَاءَ فِي الْأَمر بإطراق الْفَحْل أخبارٌ كَثِيرَة، وَرُوِيَ من التوعد مثل مَا ذكرنَا فِي هَذَا الْخَبَر فِي مَانع الزَّكَاة، وَجَائِز أَن يقعَ التعذيبُ بِما وَصفنَا، وكلِّ من منع حقًّا وَجب فِي هَذَا المَال عَلَيْهِ بزكاةٍ أَو غَيرهَا.
أَعْرَابِي يخضب لحيته
حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيد قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه الْأَصْمَعِي قَالَ: قدم علينا أَعْرَابِي من الْبَادِيَة شيخٌ كبيرٌ، فقصدته فَوَجَدته يخضب لحيته، فَقَالَ مَا حَاجَتك؟ فَقلت: بَلغنِي مَا خصَّك الله بِهِ فجئتك لأقتبس مِنْك، يَا ابنَ أخي إنَّكَ جئتني وَأَنا أخضب، وَإِن الخضاب من عَلَامَات الْكبر، وَوَاللَّه لطالما غدوتُ على صيدِ الوحوش، وسرتُ أَمَام الجيوش، واختلت فِي الرِّدَاء، ولهوتُ بِالنسَاء، وقريتُ الضيفَ، وأرويتُ السَّيْف، وشربتُ الراح، ونادمتُ الجحجاح، والآن فقد حناني الْكبر، وَضعف مني الْبَصَر، وحلَّ بعد الصفو الكدر، وَأَنْشَأَ يَقُول:
شيبٌ تعلِّله كَيْمَا تغرَّ بِهِ ... كَهَيئَةِ الثوبِ مطويًا على مِزَقِ
قد كنتُ كالغصنِ ترتاحُ الرياحُ لَهُ ... فصرتُ عودًا بِلَا ماءٍ وَلَا وَرَقِ
قَالَ القَاضِي: ويروى " كَيْمَا تدلسه "، وَقَالَ أَيْضا: يرْوى " كالعود ".
صبرا على الدَّهْر إنَّ الدهرَ ذُو غيرٍ ... وأهلُهُ مِنْهُ بَين الصفوِ والرَّنق
خطْبَة لعمر بن عبد الْعَزِيز وَشرح بعض ألفاظها
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأَزْدِيّ عَن ابْن أُخْت أَبِي الْوَزِيرِ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الناسَ بِعَرَفَة فَقَالَ، بعد أَن حمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ: أيُّها النَّاس إنَّكم قد جئْتُمْ من الْقَرِيب والبعيد، وأنضيتم الظّهْر، وأخلقتم الثِّيَاب، وَلَيْسَ السَّابِق اليومَ مَنْ سبقتْ رَاحِلَته أَو دَابَّته، ولكنَّ السابقَ اليومَ من غفر لَهُ.
قَالَ القَاضِي: قَوْله: " أنضيتم الظّهْر " أَي اشْتَدَّ سيركم عَلَيْهِ، فكلَّ وضمر لأنكم جهدتموه وهزلتموه فَصَارَ نضوًا، يُقَال: هُوَ نضو، فِي الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْجمع، وَقد يُقال: للْأُنْثَى نضوة وجَمعها نضوات وأنشدوا:
وروضةٍ سقيتُ مِنْهُ نِضْوَتي(1/654)
وَالرَّوْضَة مَا يبْقى من المَاء فِي الْحَوْض. ويُقال: حَمَلٌ نضوٌ، وجَمْعَه أنضاء. وَقد زعم بعضُ اللغويين أَنَّهُ يُقال: نَضَوْتُ الظهرَ كَمَا يُقال: نضا ثَوْبه إِذا نَزعه ينضوه نضوًا، وَمن ذَلِكَ قَول امْرِئ الْقَيْس:
فَجئْت وَقد نضَتْ لنومٍ ثِيَابهَا ... لَدَى السّتْر إِلَّا لبسة المتفضّلِ
وَقَالَ من ذهب إِلَى هَذَا: إِنَّه يُقال نضا الرجلُ ثَوْبه إِذا نَزعه، ونضوتُهُ عَنْهُ إِذا أَلقيته عَنْهُ، فكأنَّ الَّذِي جهدَ رَاحِلَته وكدَّها حَتَّى هزلها أَو أرذاها نزع عَنْهَا مَا كَانَ لَهَا من من سمن وَقُوَّة، ويُقال: رَاحِلَة مهزولةٌ وهزيلٌ مثل مقتولة وقتيل، وَإِذا سَقَطت من إتعابك لَهَا وعُنْفِكَ بِهَا وَشدَّة سيركَ عَلَيْهَا فقد أرذيتها، وَهِي رذيَّة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يَا ربَّ ملكٍ قد تركتُ رذيَّة ... تقلّبُ عينيها إِذا طارَ طائرُ
وَتجمع رذايا كَمَا قَالَ الإياديّ:
رذايا كالبلايا أَو ... كعيدانٍ من القَضْبِ
وَمن كَلَامهم: أَتَت الرذايا تحمل البلايا، والقَضْبُ الرّطبَة، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبّاً وَقَضْبًا " " عبس: 27 ".
تصرف مُؤذن فِي زمن الْورْد
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد قَالَ، حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ: كَانَ فِي زمَان الْمَأْمُون شيخٌ مؤذِّنٌ مسجدٍ وإمامه، فَكَانَ إِذْ جَاءَ زمَان الْورْد أغلق بَاب الْمَسْجِد وَدفع مفتاحه إِلَى بعض جِيرَانه وَأَنْشَأَ يَقُول:
يَا صاحبيَّ اسقياني ... من قهوةٍ خندريسِ
على جنيَّات وردٍ ... يُذْهِبْنَ همَّ النفوسِ
خذا من الْورْد حظًّا ... بالقصفِ غير خسيس
مَا تنظرانِ وَهَذَا ... أَوَان حثِّ الكؤوس
فبادرا قبلَ فَوت ... لَا عِطْرَ بعد عروس
قَالَ: فَلَا يزالُ على هَذَا حَتَّى إِذا انْقَضتْ أَيَّام الْورْد رَجَعَ إِلَى مَسْجده وَأَنْشَأَ يَقُول:
تبدلت من ورد جنيّ ومسمع ... شهيٍّ وَمن لَهو وَشرب مدامِ
وأنسٍ بِمن أَهْوى وصَحْبٍ ألفتهم ... بكأس ندامى كالشموسِ كرام
أذانًا وإخباتًا وقومًا أؤمّهم ... لصرف زمانٍ مولعٍ بغرامِ
فَذَلِك دأبي أَو أرى الْورْد طالِعًا ... فأتركُ أَصْحَابِي بِغَيْر إمامِ
وأرجعُ فِي لهوي وأتركُ مَسْجِدي ... يؤذِّن فِيهِ من يشا بِسَلام
قَالَ القَاضِي: الخندريس من أَسمَاء الْخمر وَقد أَكثر الشُّعَرَاء من تَسْمِيَتهَا بِهذا، وَزعم(1/655)
بَعضهم أَن أَصله بِالْفَارِسِيَّةِ وَأَنه كندريش أَي أَن شاربها يخفُّ ويطرب فينتف لحيته.
دسائس الْأَحْوَص
حدَّثنا محمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَليّ الْعَنزي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الذارع قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيد بن هِشَام القحذمي قَالَ: وَفَد وفْد من الْمَدِينَة إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك بِالشَّام، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس وَالنَّاس عِنْده إِذْ دخل عَلَيْهِ عبد للأحوص بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ فَقَالَ: أعوذُ بِاللَّه وَبِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِمَّا يكلفني الْأَحْوَص قَالَ: وَمَا يكلّفك؟ قَالَ: فَأخْبرهُ أَنَّهُ يُريدهُ على أَمر مَذْمُوم، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: كذبت أَي عدوَّ الله على مَوْلَاك، اخْرُج، قَالَ: فَخرج فلمّا شاع الْخَبَر اندسَّ الْأَحْوَص إِلَى غُلَام رجلٍ من آل أبي لَهب فَقَالَ لَهُ: إنْ دخلتَ على أَمِير الْمُؤمنِينَ فشكوت من مَوْلَاك مَا شكا عَبدِي منّي أعطيتُكَ مِائَتي دِينَار، فَدخل العَبْد على الْوَلِيد فَشَكا من مَوْلَاهُ مَا شكا عبد الْأَحْوَص مِنْهُ، ومولاه جالسٌ عِنْد الْوَلِيد فِي السماطين، فَنظر إِلَيْهِ الْوَلِيد فَقَالَ: مَا هَذَا يَا فلَان؟ فَقَالَ: مظلومٌ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين واللَّه مَا كَانَ هَذَا، وَهَذَا وفدُ أهل الْمَدِينَة فسلهم عني، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: مَا أبعده ممَّا رماهُ بِهِ غُلَامه، فَقَالَ: خذوهُ فأُخذَ الْغُلَام فضُربَ بَين يَدي الْوَلِيد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تعجل عليَّ حتَّى أخْبرك بِالْأَمر، أَتَانِي الْأَحْوَص فَجعل لي مِائَتي دِينَار على أَن أدخلَ عَلَيْك فأشكو من مولَايَ مَا شكا عبد مِنْهُ. فأرسلَ إِلَى الْأَحْوَص فأُتِيَ بِهِ فَأمر بِه الْوَلِيد فجُرد وَضرب بَين يَدَيْهِ ضربا مبرحًا وَقَالَ: أَي عدوَّ الله سترتُ عَلَيْك مَا شكا عَبدك فعمدت إِلَى رجلٍ من قُرَيْش تُرِيدُ أَن تفضحه؟! فسُيّر إِلَى دَهلك، جَزِيرَة فِي الْبَحْر، فَلم يزل مسيَّراً أَيَّام الْوَلِيد وَسليمَان، فلمّا كَانَت خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَجَعَ الْأَحْوَص إِلَى الْمَدِينَة وَقَالَ: هَذَا رجلٌ أَنا خَاله - يَعْنِي عمر - فَمَا يصنعُ بِي. وَكَانَت أم عمر بن عبد الْعَزِيز بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب وَأم عَاصِم أنصارية بنت عَاصِم بن أبي الأقلح الأَنْصَارِيّ.
قَالَ القَاضِي: هُوَ عَاصِم بن ثَابت بن قيس وَهُوَ أَبُو الأقلح.
الْأَحْوَص ومعبد وزين الغدير
فبلغَ ذَلِكَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَأمر بِهِ فردَّ إِلَى دهلك، فلمَّا قَامَ يزِيد بن عبد الْملك رجعَ الْأَحْوَص إِلَى الْمَدِينَة ثُمَّ إِنَّه خرج وافدًا إِلَى يزِيد بن عبد الْملك فمرَّ بِمعبد المغنّي فَقَالَ لَهُ معبد: الصُّحْبَة يَا أَبَا عُثْمَان، قَالَ: مَا أحبُّ أَن تصحبني، تَقُولُ وُفُود الْعَرَب هَذَا ابْن الَّذِي حَمَتْ لَحْمَهُ الدَّبر والغسيل معبدٌ مَعَه مغنّ فَقَالَ: لابدّ وَالله من الصُّحْبَة، فلمّا أَبى إِلَّا أَن يَصْحَبهُ ذهب فلمّا نزل البلقاء، وَهِي من الشَّام، أَصَابَهُم مطرٌ من اللَّيْل، فَأَصْبَحت الْغُدُر مَمْلُوءَة، فَقَالَ للأحوص: لَو أَقَمْنَا الْيَوْم هَاهُنَا فتغدينا على هَذَا الغدير، ففعلا، ورُفِعَ لَهما قصرٌ لَمْ يريَا بِنَاء غَيره، فلمّا أَصْبحُوا خرجت جاريةٌ مَعهَا جرّةٌ إِلَى غَدِير من تِلْكَ(1/656)
الْغُدر فملأت جرَّتها، فلمّا رفعتها وَمَضَت بِهَا رَمَت بالجرَّة فكسرتها، فَقَالَ معبد للأحوص: أرأيتَ مَا رأيتُ وَمَا صنعت هَذِه؟ قَالَ: نعم، فأرسلَ إِلَيْهَا الْأَحْوَص بعض غلمانه فَقَالَ: مَا حملكَ على مَا صنعت فقد رَأينَا الَّذِي صنعت؟ قَالَ: إِنِّي طربت، قَالَ: وَمَا أطربك؟ قَالَ: ذكرتُ صَوتا كُنَّا نغني بِهِ أَنا وَصَوَاحِب لي بِالْمَدِينَةِ فأطربني فَكسرت الجرَّة، قَالَ: وَمَا الصَّوْت؟ قَالَ:
يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزَّل ... حذر العدى وَبِه الْفُؤَاد موكَّل
قَالَ: ولِمَن هَذَا الشّعْر؟ قَالَ: للأحوص الأَنْصَارِيّ، قَالَ: فالغناء؟ قَالَت: لمعبد، فَقَالَا لَهَا: أفتعرفيننا؟ قَالَت: لَا، قَالَ: فَأَنا الْأَحْوَص وَهَذَا معبد، لمن كنت بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَت: لآل فلَان، اشتراني أهلُ هَذَا الْقصر فصرت هَاهُنَا مَا أرى أحدا غَيرهم، وَقَالَت: فإنَّ لي حَاجَة، قَالَا: مَا حَاجَتك؟ قَالَت لمعبد تغنيني، قَالَ الْأَحْوَص لمعبد: غنّها، قَالَ: فَجعلت تقترحُ ويغنيّها حَتَّى قَضَتْ حَاجَتهَا ثُمَّ قَالَا لَهَا: أتحبينَ أَن نعملَ لَك فِي الْخُرُوج من هَاهُنَا؟ قَالَت: نعم، فلمّا قدما على يزِيد بن عبد الْملك ودخلا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْأَحْوَص: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي رأيتُ فِي مسيرنا عجبا، نزلنَا إِلَى البلقاء فَرَأَيْنَا جَارِيَة، وقصّ عَلَيْهِ قصَّتهَا قَالَ: أفتعرفها؟ قَالَ: نعم، فسمَّاها وَأَهْلهَا موضعهَا وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا الَّذِي أقولُ فِيهَا: "
إنَّ زينَ الغدير من كسر الجرَّ وغنى غنّاء فحلٍ مجيدِ
قلتُ من أَنْت يَا ظعينَ فَقَالَت ... كنتُ فِيمَا مضى لآل الوليدِ
ثُمَّ بدِّلت بعد حيِّ قريشٍ ... من بني عامرٍ لآلِ الوحيد
فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لِفتى النَّاس الأحوصِ الصنديد
يعجز المالُ عَن شراكِ ولكنْ ... سَوف نُسْميك للهمام يزِيد
قَالَ: فَمضى لذَلِك مَا مضى، ثُمَّ دخلَ الْأَحْوَص ومعبد جَميعًا على يزِيد فَأخْرج إِلَيْهِمَا الْجَارِيَة ثُمَّ قَالَ لَهَا الْأَحْوَص: أوفينا لَك؟ قَالَت: نعم جزاكما الله خيرا.
من هِيَ عَاتِكَة الَّتِي يذكرهَا الْأَحْوَص
قَالَ أَبُو عَليّ وحدَّثني مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الذارع قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن هِشَام قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ أَن عَاتِكَة الَّتِي ذكر الْأَحْوَص بَيتهَا هِيَ عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة، وإنَّما كنى عَن امرأةٍ سمّاها غَيرهَا، وَكَانَ يشبّب بِهَا فَذكر عَاتِكَة وبيتها، لِأَن بيتَ عَاتِكَة كَانَ إِلَى جنب بَيت تِلْكَ الْمَرْأَة، وَقد أدخلا جَميعًا فِي مَسْجِد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَعْلِيق وَشرح
قَالَ القَاضِي: الَّذِي حُكِيَ عَن الْأَحْوَص فِي هَذَا الْخَبَر من سَعْيه فِي أَمر اللهبي وَالْكذب عَلَيْهِ وَإِضَافَة مَا لَيْسَ فِيهِ إِلَيْهِ من ألأم الْأَخْلَاق وأفحشها، وأقبح الْمذَاهب وأوحشها،(1/657)
وفاعله متعرض لِما وعد الله من فعله من عَذَابه وأليم عِقَابه، وَقد مضى فِيمَا تقدّم من مجالسنا هَذِه ذكر قصَّة بني أُبَيْرِق ورميهم بفعلهم من هُوَ بَرِيء مِنْهُ، وَإِن الله تَعَالَى أنزلَ فِي ذَلِكَ: " وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " " النِّسَاء:112 " وَقَوله فِي عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح: " الَّذِي حمت لَحْمَه الدَّبر " لما قُتل أَرَادَ الْمُشْركُونَ أَخذه وَكَانَ قد دَعَا الله تَعَالَى أَن لَا يمسَّه مُشْرك، فأرسلَ الله تَعَالَى الدَّبر فأحاطت بِهم وحَمَتْهُ فَلم يصلوا إِلَيْهِ، فلمّا جَاءَ الليلُ أرسلَ الله سيلا فاحتمله من الْوَادي وفاتهم، ولقتله قصَّة أَنا ذاكرها:
عَاصِم حميّ الدَّبر
كَانَ أَبُو سُلَيْمَان عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح شهد بَدْرًا وأحدًا، وَثَبت حِين ولَّى النَّاس يَوْم أحد عَن رسل اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَه، وَبَايَعَهُ على الْمَوْت، وَكَانَ من الرُّمَاة الْمَذْكُورين من أَصْحَاب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذكر أَنَّهُ قتل يَوْم أحد من أَصْحَاب اللِّوَاء من الْمُشْركين الْحَارِث وشافعًا ابْني طَلْحَة بن أبي طَلْحَة، وأمُّهما سلافة بنت سعيد بن الشَّهِيد من بني عَمْرو بن عَوْف، فنذرت أَن تشرب فِي رَأس عاصمٍ الْخمر، وَجعلت لِمن جَاءَ بِرَأْسِهِ مائَة ناقةٍ، فَقدم ناسٌ من بني لحيان من هُذَيْل على رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوهُ أَن يوجِّه إِلَيْهِم من يفقّههم فِي الدَّين، فبعثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهم ستَّة نفر أحدهم عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح.
فَلَمَّا صَارُوا على الرَّجيع استصرخوا عَلَيْهِم هذيلا، فَلم يشعروا وهم فِي رحالِهم إِلَّا وبارقة السيوف قد غشيتهم. فَقَاتلهُمْ مرْثَد بن أبي وخَالِد بن البكير وَعَاصِم بن ثَابت حَتَّى قتلوا، وأمّا الْآخرُونَ فاستأسروا وَحَال بَين الَّذِينَ قتلوا وَبَين رَأس عَاصِم أَن يأخذوهُ الدّبرُ، فتركوهُ وَقَالُوا: حَتَّى نمسي فنأخذه، فَبعث الله السَّيل إِلَى الْوَادي فاحتملَ عَاصِمًا فَذهب بِهِ.
قَالَ القَاضِي: والدَّبر النّحل كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤيب الْهُذلِيّ.
إِذا لَسَعَتْهُ الدَّبر لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وخالفها فِي بيتِ نوبٍ عواملِ
ويُرْوَى: عواسل. النوب: السود من النّوبَة واللوبة والأوبة، ويروى إِذا لسعته النَّحْل. وَقيل: إِن النوب الَّذِينَ ينوبونَ وَلَيْسَ من اللّون. وَقَوله: " لَمْ يرجُ لسعها " معناهُ لَمْ يَخَفْ. وَقيل: فِي قَول الله تَعَالَى: " مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للَّه وَقَارًا " " نوح:13 " إنّ معناهُ لَا تَخافونَ لله عَظمَة. وَمن ذَلِكَ قَول الراجز:
مَا ترتجي حِين تُلاقي الزائدا ... أَسَبْعَةً لاقت مَعًا أَو وَاحِدًا
وَقَول الشَّاعِر:
لعمرك مَا أَرْجُو إِذا كنت مُسلما ... على أيِّ جنبٍ كَانَ فِي الله مصرعي
يَعْنِي: مَا أَخَاف، وَقيل فِي قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَالا يَرْجُونَ "(1/658)
" النِّسَاء: 104 " إِن معناهُ وتَخافونَ من الله مَالا يخَافُونَ، وممَّن قَالَ هَذَا قطرب.
قَالَ القَاضِي: كأنَّما اختزل الرَّجَاء بَين الأمل وَالْخَوْف لأنَّهما مِمَّا ينْتَظر ويُرْتَجى ويُتوقّع، وَلَيْسَ المخلوقون مِنْهُ على أمرٍ يثقون بِهِ ويرقبونه ويقطعون عَلَيْهِ بِعَيْنِه. وأنكرَ الفرّاء مَا ذكره قطرب فِي هَذَا الْموضع وَقَالَ: الْعَرَب تذهبُ بالرجاء مَذْهَب الْخَوْف فِي الْإِثْبَات، وإنَّما تفعل هَذَا فِي الْجحْد وَالنَّفْي. والأحوص بن مُحَمَّد الشَّاعِر من ولد عَاصِم بن ثَابت هَذَا.
حَنْظَلَة الغسيل
وأمّا ذكره فِي الْخَبَر الغسيل فَإِن الغسيل حَنْظَلَة بن أبي عَامِر، وَاسم أبي عامرٍ عبد عَمْرو، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتشْهد مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أُحد، فَأخْبر أَصْحَابه أَنَّهُ رأى الْمَلَائِكَة تُغسله، فَأرْسل إِلَى امْرَأَته فَسَأَلَهَا عَن أمره فَأَخْبَرته أَنَّهُ كَانَ مضاجعها فَلَمَّا اسْتنْفرَ للْجِهَاد مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَن بَطنهَا مبادرًا وَلم يغْتَسل، فَقَالَ: إِنِّي رأيتُ الْمَلَائِكَة تغسله. وَكَانَ أَبُو حنيفَة يرى أَن شهيدَ المعركة إِذا قتل جُنبًا فواجبٌ على الْمُسلمين غسله، ويحتج بِقصَّة حَنْظَلَة هَذِه، وَكَانَ أَصْحَابه وَغَيرهم مِمَّن يذهب إِلَى أَن لَا يغسل الشَّهِيد يرونَ أَن الْجنب وَغَيره سَوَاء فِي ترك الْغسْل، وَإِلَى هَذَا نَذْهَب والاحتجاج فِيهِ مرسومٌ فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي الْفِقْه. وَأَبُو عَامِر أَبُو حَنْظَلَة كَانَ يُقال لَهُ الراهب، فسمّاهُ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِق، وَكَانَ مِمَّن سعى فِي بِنَاء مَسْجِد الضرار الَّذِي ذكره الله عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه، وَالله تَعَالَى يَقُول: " والّذين اتّخذو مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُسلمين وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وليحلفنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى واللَّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " " التَّوْبَة: 107 ".
رِوَايَة أُخْرَى فِي خبر الْأَحْوَص وزين الغدير قَالَ القَاضِي: وَقد كَانَ ابْن الْأَنْبَارِي أمْلى علينا خبر الْأَحْوَص وزين الغدير بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد وعَلى مخالفةٍ فِي مَوَاضِع من الْمَتْن، فَإِن كنت قد رسمته فِيمَا مضى من هَذِه الْمجَالِس فَفِي هَذِه الرِّوَايَة زيادةٌ لَيست فِيهِ، وَإِن كَانَ فِيمَا مضى فَاتَنِي فإنني آتِي بِما أحفظه من جملَته ليحصل بِما أثْبته مِنْهُ مَا فِيهِ من زِيَادَة من غير إطالة بِذكر إِسْنَاده وأعيان أَلْفَاظه، وَهُوَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي وصفت أمرهَا أَن يزِيد بن الْوَلِيد كتب إِلَى الضحّاك بن مُحَمَّد عَامله على الْمَدِينَة أَن وجِّه إليَّ الْأَحْوَص بن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ الشَّاعِر ومعبدًا الْمُغنِي، فجهزهما وَأَمرهمَا بِالْمَسِيرِ، فَكَانَا ينزلان فِي طريقهما للْأَكْل وَالشرب إِلَى أَن أَتَيَا البلقاء، وَهُوَ منزل بَين الْمَدِينَة وَالشَّام، فَجَلَسَا هُنَالك فأكلا، وجلسا على نَهرها. فَإِذا هما بِجَارِيَة قد خرجت من قصرٍ هُنَالك وَمَعَهَا جرٌّ، فاستقت فِيهِ من الغدير، ثُمَّ إنَّها أَلْقَت الجرّ فانكسر فَجَلَست تبْكي، فَسَأَلَاهَا عَن شأنِها وَلمن كَانَت، فَقَالَت: لرجلٍ بِمكة من قُرَيْش، فاشتراني صَاحب هَذَا(1/659)
الْقصر، وَهُوَ رجلٌ من بني عَامِر من آل الوحيد، بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، فَنزلت من قلبه ألطفَ منزلَة، ثمَّ إِنَّه تزوج ابْنة عمٍ لَهُم فَهُديت إِلَيْهِ، فَكَانَت تسيءُ إليّ وتكلفني أَن أستقي فِي كلِّ يومٍ من هَذَا الغدير بجرّ، فشكوتُ ذَلِكَ إِلَى الرجل فَقَالَ: إنَّما أنتِ أمةٌ وَهَذِه ابْنة عمي، فربّما ذكرت مَا كنتُ فِيهِ فَيسْقط الْجَرّ من يَدي فينكسرُ فتضربني على هَذَا، ولَمّا رأيتكما وَمَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ ذكرتُ مَا مضى من أيّامي فَسقط الْجَرّ من يَدي، ثُمَّ أخذت الْعود وغنّت:
يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزَّلحذر العدى وَبِه الْفُؤَاد موكّلإنّي لأمنحك الصّدود وإنّنيقسماً إليكَ مَعَ الصّدود لأميلُ
وَلَقَد نزلتَ من الفؤادِ بمنزلٍ ... مَا كَانَ غَيْرك والأمانةِ ينزلُ
وَلَقَد شكوتُ إليكَ بعض صبابتي ... ولَمَّا شكوتُ من الصبابة أطول
هَلْ عيشنا بكَ فِي زَمَانك راجعٌ ... فَلَقَد تفحَّش بعْدك المتعلّلُ
أعرضتُ عنكَ وَلَيْسَ ذاكَ لبغضةٍ ... أخْشَى مقالةَ كاشحٍ لَا يعقل
فَقُلْنَا لَهَا: لِمن هَذَا الشّعْر؟ قَالَت: للأحوص بن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ، قُلْنَا: فَلَمَّا الْغناء؟ قَالَت: لِمعبد المغنّي. فَقَالَ الْأَحْوَص: فَأَنا وَالله الْأَحْوَص، وَقَالَ معبد: وَأَنا وَالله معبد، فأنشأت تَقُولُ:
إِن تَرَوْني الغداةَ أسعى بجرٍّ ... أستقي الماءَ نَحْو هَذَا الغدير
فَلَقَد كنتُ فِي رخاءٍ من العَيْشِ وَفِي ظلِّ نعمةٍ وسرورِ
ثُمَّ قد تبصران مَا فِيهِ أَصبَحت وماذا إِلَيْهِ صَار مصيري
أبلغا عَنِّي الإِمَام وَمَا بلغ ... صِدْقَ الحديثِ مثلُ الْخَبِير
أنّني أضْرب الْخَلَائق بالعو ... د وأحكاهمُ لبمٍّ وَزِير
فلعلَّ الْإِلَه ينقذُ ممَّا ... أَنا فِيهِ فإننّي كالأسير
لَيْتَني متُّ يَوْم فارقتُ أَهلِي ... وبلادي وزرتُ أهل الْقُبُور
فَقَالَ الْأَحْوَص وَالله لَا أبرحُ حَتَّى أَقُول فِيهَا شعرًا، فَقَالَ:
إنَّ زينَ الغدير من كسر الْجَرّ ... رَّ وغنى غنّاء فحلٍ مجيدِ
قلتُ من أَنْت يَا ظعينَ فَقَالَت ... كنتُ فِيمَا مضى لآل الوليدِ
ثمَّ بدِّلت بعد حيِّ قريشٍ ... فِي بني عَامِر لآلِ الوحيد
فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لِفتى النَّاس الأحوصِ الصنديد
فتبسّمتُ ثُمَّ قلتُ أَنا الأح ... وص والشيخُ معبدٌ فأعيدي(1/660)
فأعادتْ فأحسنتْ ثُمَّ ولَّت ... تتهادى فقلتُ أمّ سعيد
يعجز المَال عَن شراكِ ولكنْ ... أَنْت فِي ذمَّة الهمامِ يزِيد
إنْ نذكِّر بك الإِمَام بصوتٍ ... معبدٍّ يزيلُ حَبْلَ الوريد
يفعل الله مَا يَشَاء فظنِّي ... كلَّ خيرٍ منّا هناكَ وزيدي
ثُمَّ ودّعاها وانصرفا، فلمَّا دخلا على يزِيد قَالَ للأحوص: أَنْشدني أقربَ شعر قلته فأنشده:
إنَّ زينَ الغدير من كسر الجرَّ وغنَّى غنّاء فحلٍ مجيدِ
وَقَالَ لِمعبد: غنّني أقرب غناءٍ غنيته، فغناه إِن زينَ الغدير منْ كسر الجرّ، فَقَالَ: لقد اجتمعتما على أمرٍ، فقصَّا عَلَيْهِ القصَّة، فَكتب إِلَى عَامله على البلقاء: ابتعْ هَذِه الْجَارِيَة بِما بلغت، فابتاعها بِمائة ألف دِرْهَم وأهداها إِلَى يزِيد فحظيت عِنْده، وحلَّت ألطفَ محلٍّ من قلبه. قَالَ: فوَاللَّه مَا انصرفنا حَتَّى صَار إِلَيْنَا من الْجَارِيَة مالٌ وخلعٌ وألطافٌ كَثِيرَة.
الْمجْلس الثّامِن والثَمانون
لَمَّا وَقعت بَنو إِسْرَائِيل فِي الْمعاصِي
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَطْبَقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بُذَيْمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا وَقعت بَنو إِسْرَائِيل فِي الْمعاصِي نهتهم علماؤهم فَلم ينتهو، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، قَالَ يَزِيدُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَفِي أَسْوَاقِهِمْ.
وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا.
وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن لمنكر
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا دلّ على وجوب الأر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وهجر أهل الْمعاصِي ومجانبة المجالسة لَهم والأنس بهم، وإيناسهم يالمقاربة ومخالطتهم بالمؤاكلة والمشاربة، والتنزه عَن مداهنتهم، وَلُزُوم الْمُسلمين عطفهم على وَاجِبَات الدّين وردِّهم إِلَى اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله حَتَّى يأطروهم على الْحق أطرًا. معناهُ يعطفونَهم عَلَيْهِ عطفا. يُقال: أطرتُ الرجل على الشَّيْء آطرُه أطرًا، فَأَنا آطر بِهِ، وَهُوَ مأطور، وَمن ذَلِك قَول طرفَة بن العَبْد:
كَأَن كِنَاسَيْ ضالةٍ يَكْنُفَانِهَا ... وأَطْرَ قِسَيٍّ تَحت صلب مُؤيد
الضَّالة: السِّدْرَة فِي البريَّة الْبَعِيدَة من المَاء تُجمع ضَالًّا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يَا مَا أميلح غزلانًا شدنَّ لنا ... من هؤليائكن الضال والسَّمُرِ
والعبرية السِّدْرَة الَّتِي على المَاء تُجمع عُبريًّا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:(1/661)
لاثٍ بِهِ الْأَشْيَاء والْعُبْرِيُّ
وأمّا السِّدْرَة الَّتِي تكون متوسطة بَين المَاء وَبَين الْبر فَإِنَّهَا تسمى الأشكلة. قَالَ آخر:
وَأَنْتُم أنَاس تَقْمُصُونَ من القنا ... إِذا مار فِي أكتافكم وتأطَّرا
امتحان شمر يرعش لِبَنِيهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد عَنْ مُحَمَّد بْن عَبّاد عَن ابْن الْكَلْبِيّ عَن الشَّرْقِي بن الْقطَامِي قَالَ: كَانَ شمر يرعش الْملك الْحِمْيَرِي مَيْمُون النقيبة مغضور الناصية مظفرًا بعيدَ الصيت وطّاءً للسَّعد، وَملك ثمانيًا وَأَرْبَعين سنة، هَكَذَا يَقُول لأهل الْيمن فِي سيرة مُلُوكهمْ فلمّا تقاربت أيّامه وأشفى على انْقِضَاء مدَّته، وَهُوَ شمر يرعش بن تبع بن يَاسر يَنعم تبع بن عَمْرو ذِي الأذعار تبع بن أَبْرَهَة ذِي الْمنَار تبع بن الرائش تبع بن قيس بن صَيْفِي، جمع بَينه وهم ثَلَاثَة: دُرَيْد ومكنف وشرحبيل، فَقَالَ: تناهت المدَة، وتقضّت الْعِدَّة، وَجَاء مَالا يدْفع، وحلَّ مَالا يُمْنَع، وَقد بلغتُ من السن مدى فِي دونه تنجِّذ التجارب ذَا الحجى، وَإِنِّي ملقٍ إِلَيْكُم كلَاما استدلُّ بجوابه على ألبابِكم، وأسبرُ بِهِ حصافة رويَتكم، لتطمئنَّ نَفسِي عِنْد فراقكم: أَنا لي خلفا أُذكرُ بِهِ وَإِن كَانَ غناءُ ذَلِكَ عنّي قَلِيلا فَقَالُوا: قل: فَقَالَ: مَا الْمجد؟ فَقَالُوا: ابتناء المكارم، وحملُ المغارم، والاضطلاع بالعظائم، وظَلَفُ النَّفس عَن ركُوب المظالِم. قَالَ: فَمَا الشّرف؟ قَالُوا: كَرَمُ الْجوَار، وصيانةُ الأقدار، وبذلُ الْمَطْلُوب فِي الْيُسر والإعسار. قَالَ: فَمَا الدناءة؟ قَالُوا: تتبّع التّافه الْيَسِير، وَمنع النزر الحقير. قَالَ: فَمَا المروّة؟ قالو: سمّو الهمَّة، وصيانة النَّفس عَن المذمَّة قَالَ: فَمَا الكلفة قَالُوا: التمَاس مَا لَا يَعْنِيك ومطالبة مَالا يؤاتيك. قَالَ: فَمَا الْحلم؟ قَالُوا: كظم الغيظ، وَضبط النَّفس عِنْد الْغَضَب، وبذل الْعَفو عِنْد الْقُدْرَة. قَالَ: فَمَا الْجَهْل؟ قَالُوا: معاجلة الْوُثُوب، والغباوة بعواقب الخطوب. قَالَ: فَمَا الجرأة؟ قَالُوا: حفظ مَا استرعيت، ومجانبة مَا استكفيت. قَالَ: فَمَا الأربة؟ قَالُوا: انتظارُ الفرصة، والتوقّف عِنْد الشُّبْهَة. قَالَ: فَمَا الشجَاعَة؟ قَالُوا: صدق الْبَأْس، وَالصَّبْر عِنْد المراس. قَالَ: فَمَا الْعَجز؟ قَالُوا: العجلة قبل الاستمكان، والتأنّي بعد الفرصة. قَالَ: فَمَا الْجُبْن؟ قَالُوا: النزق عِنْد الْفَزع، والهلع عِنْد الْجزع. قَالَ: فَمَا السماحة؟ قَالُوا حسن الْبشر عِنْد السُّؤَال واستقلال كَثِير النوال قَالَ فَمَا الشُّح. قَالُوا: أَن ترى الْقَلِيل إسرافًا، والبذل إتلافًا. قَالَ: فَمَا الظّرْف؟ قَالُوا: حسن الْمُجَاورَة، ولين المعاشرة. قَالَ: فَمَا الصَّلف؟ قَالُوا: التّعظم مَعَ صغر الْقدر، واستشعار الْكبر مَعَ قلَّة الوفر. قَالَ: فَمَا الْفَهم؟ قَالُوا: لِسَان مراعٍ، وقلب واعٍ. قَالَ: فَمَا الْغنى؟ قَالُوا: قلَّة التَّمَنِّي والرضى بِما يَكْفِي قَالَ فَمَا السُّؤدد قَالُوا: اصطناعُ الْعَشِيرَة، وحملُ الجريرة. قَالَ: فَمَا السَّنا؟ قَالُوا: حُسن الْأَدَب، ورعاية الْحسب. قَالَ: فَمَا اللُّؤم؟ قَالُوا؛ إِحْرَاز النَّفس وَإِسْلَام الْعرس. قَالَ: فَمَا الدناءة؟ قَالُوا: الْجُلُوس على الْخَسْف،(1/662)
والرّضا بالهوان. قَالَ: فَمَا الْفقر؟ قَالُوا: شَرَهُ النَّفس، وَشدَّة الْقنُوط. قَالَ: فَمَا الشّرف؟ قَالُوا: الْفِعْل الْكَرِيم، والحَسَبُ الصميم، وَالْفرع العميم. قَالَ: انصرفوا يَا بنيَّ، الْآن أسمحت للْمَوْت قَرونتي، وَأَنْشَأَ يَقُول:
هوَّن فَقْدَ الْحَيَاة أنِّي ... خلَّفت ذكْرًا على الزمانِ
أخلافَ أسلافِ بيتِ مُلْك ... مُؤَيّد الأسِّ والبواني
فَالْآن فلترشف المنايا ... مَا أسْأر الدَّهْر من جناني
تعليقات
قَالَ القَاضِي: قَول الشَّرْقِي فِي شَمر يرعش " مَيْمُون النّقيبة مغضور النّاصية " وَصفه بالْيُمن وَالْبركَة مَعَ خلوص الْحُرِّيَّة وكَرَم النَّجر والشِّيمة، يُقَال للْأَرْض الْحرَّة الطين الطّيبَة الترب غضراء، وَمِنْه غضارة الْعَيْش وغضارة النِّعْمَة، وَمِنْه اشتق اسْم غاضرة من بني أَسد، ويروى بَيت تَوْبَة بن الْحمير:
أبيني لَنَا لَا زَالَ ريشُك ناعِمًا ... وَلَا زلت فِي غَضْراء غضٍّ نضيرُها
على وَجْهَيْن: غضراء وخضراء. وَقَوله " لَا يمْنَع " بِمعنى لَا يُرَد وَلَا يدْفع، وَقَوله " مدى فِي دونه تُنجذ التجارب ذَا الحجى " معنى تنجّذه: تحكّمه وتقرّ عقله وحلمه، والنواجذُ الأضراسُ وَاحِدهَا ناجذ، وفيهَا ناجذ ينْبت عِنْد تناهي الشَّباب ومقاربة التكهُّل يُقال لَهُ ضرس الْحلم، وتسمّيه الْعَامَّة ضرس الْعقل، قَالَ سحيم بن وثيل:
وماذا يدَّري الشعراءُ منّي ... وَقد جاوزْتُ حدَّ الْأَرْبَعين
أَخُو خمسينَ مجتمعٌ أشدِّي ... ونجَّذني مجاورة الشؤون
كسر نون الْجمع فِي " الْأَرْبَعين " لتتفق حركاتُ الْإِطْلَاق فِي قوافيه، وَهِي لُغَة ضعيفةٌ جَارِيَة فِي شذوذها مجْرى فتح نون الِاثْنَيْنِ كَقَوْل الشَّاعِر:
على أحوذيَّين آستقلَّت ركابَها ... فَمَا هِيَ إِلَّا لمحةٌ فَتَغيبُ
وَقد يُقال فِي الناب ناجذة. وَقَول بني شمر " الْجُلُوس على الخَسْف " معناهُ الهوان والمذلة، وَفِيهِ لُغَتَانِ: الخَسْف والْخُسْف، قَالَ الراجز يصف النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنْ سيم خسفًا وجهُهُ تربَّدا " فِي إِعْرَاب هَذَا الْبَيْت وَجْهَان: أَحدهمَا أَن يكون سيم فعلا فَارغًا لقَوْله وَجهه، وَوَجهه مَرْفُوع لِأَنَّهُ لَمْ يسمَّ فَاعله، وَالتَّقْدِير فِيهِ إِن سيم وَجهه خسفًا، وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي يُقال فِيهِ فعلت هَذَا لوجهك أَي لَك، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون فِي سيم ضمير هُوَ اسمٌ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَي سيم بِمعنى إِن سيم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خسفًا، وَقَوله تربَّدا ابْتِدَاء، وَخبر جملَته جَوَاب الشَّرْط " وَهُوَ إِن سيم ". كَأَنَّهُ قَالَ إِن سيم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَسْفًا تربَّد وجهُه أَي تنكر، وَأبي أنفًا وحميَّة وغضبًا. وَقَول شمر: " الْآن أسْمَحت للْمَوْت قَرُونتي " أَي طابت(1/663)
بِهِ نَفسِي واستسهلته، يُقَال: سمحت بالشَّيْء وأسمحت قَالَ ابْن مقبل:
هَل الْقلب عَن دهماء سَالَ فَمُسْمِحُ ... وتَاركُهُ مِنْهَا الخيالُ المبرِّح
وَقَوله " قَرونتي ": القَرونَةُ: النَّفس، وَقَوله " فلترشف المنايا " أَي تَمتصّ. وَقَوله " مَا أسأر الدَّهْر من جناني " مَا أبقى من قلبِي، والسؤر الْبَقِيَّة من كلّ شَيْء، من ذَلِكَ قَول الْأَعْشَى:
بَانَتْ وَقد أسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتهَا ... بعد ائتلافٍ، وخَيْرُ الودِّ مَا نَفَعَا
لِمَاذا سوِّد الْأَحْنَف
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، الْغَلابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالرُّصَافَةِ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَقَدِمَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَكَانَ خَالِدٌ فِي مَنْ أَتَاهُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَصُومُ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ؛ قَالَ خَالِدٌ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي يَوْم خميسٍ فَقَالَ: يَا ابْن الأَهْتَمِ، خَبِّرْنِي عَنْ تَسْوِيدِكُمُ الأَحْنَفِ وَانْقِيَادِكُمْ لَهُ، وَكُنْتُمْ حَيًّا لَمْ تُمْلَكُوا فِي جاهليّةٍ قَطُّ. فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ بِخَصْلَةٍ لَهَا سوِّد، وَإِنْ شِئْتَ بِثِنْتَيْنِ، وَإِنْ شِئْتَ بِثَلاثٍ، وَإِنْ شِئْتَ حدّثتك بَقِيَّة عشيَّتك حتّى تنقضني وَلَمْ تَشْعُرْ بِصَوْمِكَ. قَالَ: هَاتِ الأُولَى فَإِنِ اكْتَفَيْنَا وَإِلا سَأَلْنَاكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: كَانَ أَعْظَمَ مَنْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا - ثُمَّ أَدْرَكَنِي ذِهْنِي فَقُلْتُ: غَيْرَ الْخُلَفَاءِ - سُلْطَانًا عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا أَرَادَ حَمْلَهَا عَلَيْهِ وكفهَّا عَنْهُ. قَالَ: لَقَدْ ذَكَرْتَهَا نَجْلاءَ كَافِيَةً، فَمَا الثَّانِيَةُ؟ قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَظِيمَ السُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَلا يَكُونُ بَصِيرًا بالمحاسن والمساوىء وَلَمْ يُرَ وَلَمْ يُسْمَعْ بأحدٍ كَانَ أبْصر بالمحاسن والمساوىء مِنْهُ، فَلا يَحْمِلُ السَّلْطَنَةَ إِلا عَلَى حَسَنٍ، وَلا يَكُفُّهَا إِلا عَنْ قَبِيحٍ. قَالَ: قَدْ جِئْتُ بصلةٍ للأُولَى لَا تَصْلُحُ إِلا بِهَا، فَمَا الثَّالِثَةُ؟ قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَظِيمَ السُّلْطَانِ عَلَى نَفسه بَصيرًا بالمحاسن والمساوىء وَلا يَكُونُ حَظِيظًا، فَلا يَفْشُو ذَلِكَ لَهُ فِي النَّاسِ وَلَا يُذْكَرُ بِهِ فَيَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ مَشْهُورًا. قَالَ: وَأَبِيكَ لَقَدْ جِئْتَ بصلَة الأوليتن فَمَا بَقِيَّةُ مَا يَقْطَعُ عَنِّي الْعَشِيَّ قُلْتُ: أَيَّامُهُ السَّالِفَةُ قَالَ: وَمَا أَيَّامُهُ السَّالِفَةُ؟ قُلْتُ: يَوْمُ فَتْحِ خُرَاسَانَ، اجْتَمَعَتْ لَهُ جُمُوعُ الأَعَاجِمِ بِمَرْوِ الرُّوذِ فَجَاءَهُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ، وَهُوَ فِي مَنْزِلِ مضيعةٍ، وَقَدْ بَلَغَ الأَمْرُ بِهِ فصلَّى عِشَاءَ الآخِرَةِ وَدَعَا ربَّه وتضرَّع إِلَيْهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي فِي الْعَسْكَرِ مَشْيَ الْمَكْرُوبِ يتسمَّع مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَمَرَّ بعبدٍ يَعْجِنُ وَهُوَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الْعَجَبُ لأَمِيرِنَا يُقِيمُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي مَنْزِلِ مَضِيعَةٍ وَقَدْ جَاءَهُ العدوُّ مِنْ وُجُوهٍ، وَقَدْ أَطَافُوا بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوَاحِيهِمْ ثمّ اتّخذوهم أعراضاً وَلَهُ متحوَّل. فَجَعَلَ الأَحْنَفُ يَقُولُ: اللهمَّ وفِّق، اللهمَّ وَفِّقْ، اللَّهُمَّ سدِّد. فَقَالَ صَاحِبُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: أَنْ يُنَادِيَ السَّاعَةَ بِالرَّحِيلِ، فَإِنَّمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْضَةِ فَرْسَخٌ، فَيَجْعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَيَمْنَعَهُ اللَّهُ بِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ ظَهْرُهُ بَعَثَ بمجنَّبته الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فَيَمْنَعَ اللَّهُ بِهِمَا نَاحِيَتَهُ وَيَلْقَى عدوَّه مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. فخرَّ الأَحْنَفُ سَاجِدًا، ثُمَّ نَادَى بِالرَّحِيلِ مَكَانَهُ،(1/664)
فَارْتَحَلَ الْمُسْلِمُونَ مُكِبِّينَ عَلَى رَايَتِهِمْ حَتَّى الْغَيْضَةِ، فَنَزَلَ فِي قُبُلِهَا وَأَصْبَحَ فَأَتَاهُ الْعَدُوُّ، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلا إِلا مِنْ وجهٍ وَاحِد، وضربوا بطبولٍ أربعةٍ، فَرَكِبَ الأَحْنَفُ وَأَخَذَ الرَّايَةَ وَحَمَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى طبلٍ فَفَتَقَهُ وَقَتَلَ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ عَلَى كلِّ رئيسٍ حَقًّا ... أَنْ يَخْضِبَ الصَّعدة أَوْ تَنْدَقَّا
فَفَتَقَ الطُّبُولَ الأَرْبَعَةَ وَقَتَلَ حَمَلَتَهَا. فَلَمَّا فَقَدِ الأَعَاجِمُ أَصْوَاتَ طُبُولِهِمُ انْهَزَمُوا، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَتْلا لَمْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُ قَطُّ، وَكَانَ الْفَتْحُ. وَالْيَوْمُ الثَّانِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ أَتَاهُ الأَشْتَرُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بَعْدَمَا اطْمَأَنَّ بِهِ الْمَنْزِلُ وَأَثْخَنَ فِي الْقَتْلِ، فَقَالُوا: أَعْطِنَا، إِنَّ كُنَّا قَاتَلْنَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ حِينَ قَاتَلْنَاهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ فَقَدْ رَكِبْنَا حُوبًا كَبِيرًا، وَإِنْ كُنَّا قَاتَلْنَاهُمْ كُفَّارًا وَظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً فَقَدْ حلَّت لَنَا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُفَّارِ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِكُمْ أَنْ تُهَيِّجُوا حَرْبَ إِخْوَانِكُمْ، وَسَأُرْسِلُ إِلَى رجلٍ مِنْهُمْ فَأَسْتَطْلِعَ رَأْيَهُمْ وَحُجَّتَهُمْ فِيمَا قُلْتُمْ. فَأَرْسَلَ إِلَى الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فِي رَهْطٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَنْطِقْ أحدٌ غَيْرُ الأَحْنَفِ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَاذَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ الْجَوَابَ عنَّا لَعِنْدَكَ، وَلا نَتَّبِعُ الحقُّ إِلا بِكَ، وَلا عَلِمْنَا الْعِلْمَ إِلا مِنْكَ. قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَنْكُمْ مِنْكُمْ لِيَكُونَ أَثْبَتَ لِلْحُجَّةِ وَأَقْطَعَ لِلتُّهْمَةِ، فَقل. فَقَالَ: إِنَّهُم قد أخطأوا وَخَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وسنَّة نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كَانَ السَّبْيُ وَالْغَنِيمَةُ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ دَارُهُمْ دَارُ كفرٍ، وَالْكُفْرُ لَهُمْ جامعٌ وَلِذَرَارِيهِمْ، وَلَسْنَا كَذَلِكَ، وَإِنَّهَا دَارُ إيمانٍ يُنَادَى فِيهَا بِالتَّوْحِيدِ وَشَهَادَةِ الحقِّ وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِنَّمَا بَغَتْ طائفةٌ أَسْمَاؤُهُمْ مَعْلُومَةٌ، أَسْمَاءُ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ وَالثَّانِي: حُجَّتُنَا أَنَّا لَمْ نَسْتَجْمِعْ عَلَى ذَلِكَ الْبَغْيَ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِكَ، مِنْ أَثْبَتِهِمْ بَصِيرَةً فِي حَقِّكَ وَأَعْظَمِهِمْ غِنَاءً عَنْكَ، طائفةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فأيُّ أُولَئِكَ يُجْهَلُ حقُّه وَتُنْسَى قَرَابَتُهُ؟ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَتَاكَ بِهِ الأَشْتَرُ وَأَصْحَابُهُ قَوْلَ متعلِّمة أَهْلِ الْكُوفَة، وَايْم وَالله لَئِنْ تَعَرَّضُوا لَهَا ليكرهنَّ عَاقِبَتَهَا وَلا تَكُونَ الآخِرَةُ كَالأُولَى. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا قُلْتَ إِلا مَا نَعْرِفُ، فَهَلْ مِنْ شيءٍ تخصُّون بِهِ إِخْوَانَكُمْ لِمَا قَاسَوْا مِنَ الْحَرْبِ؟ قَالُوا: نعم، أعطياتنا مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ نَكُنْ لِنَصْرِفَهَا فِي عَدْلِكَ عَنَّا، فَقَدْ طِبْنَا عَنْهَا نَفْسًا فِي هَذَا الْعَامِ فَاقْسِمْهَا فِيهِمْ. فَدَعَاهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِحُجَجِ الْقَوْمِ وَبِمَا قَالُوا وَبِمَوَافَقَتِهِمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ قَسَمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ خَمْسمِائَة لِكُلِّ رَجُلٍ. فَهَذَا الْيَوْمُ الثَّانِي. وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ زِيَادًا أَرْسَلَ إِلَيْهِ بليلٍ وَهُوَ جالسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ فِي صَحْنِ دَارِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَحْرٍ مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ فِي أَمْرٍ تُنَازِعُنِي فِيهِ مَخْلُوجَةٌ، وَلَكِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا عَلَى صَرِيمَةٍ، وَكَرِهْتُ أَنْ يُرَوِّعَكَ أمرٌ يَحْدُثُ لَا تَعْلَمُهُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: هَذِهِ الْحَمْرَاءُ قَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ وَخِفْتُ عَدْوَتَهُمْ،(1/665)
وَالْمُسْلِمُونَ فِي ثَغْرِهِمْ وَجِهَادِهِمْ عدوَّهم، وَقَدْ خَلَفُوهُمْ فِي نِسَائِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى كلِّ مَنْ كَانَ فِي عرافةٍ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ فَيَأْتُوا بِسِلاحِهِمْ وَيَأْتِينِي كلُّ عَرِيفٍ بِمَنْ فِي عِرَافَتِهِ مِنْ عبدٍ أَوْ مَوْلًى فَأَضْرِبُ رِقَابَهُمْ فَتُؤْمَنَ نَاحِيَتَهُمْ. قَالَ الأَحْنَفُ: فَفِيمَ الْقَوْلُ وَأَنْتَ عَلَى صَرِيمَةٍ؟ قَالَ: لتقولنَّ. قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَكَ، يَمْنَعُكَ مِنْهُ خصالٌ ثلاثٌ: أَمَّا الأُولَى فَحُكْمُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ، وَمَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ من قَالَ: لَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، بَلْ حَقَنَ دَمه، وَالثَّانيَِة: أنّهم غلَّة النَّاسِ لَمْ يَغْزُ غازٍ فخلَّف لأَهْلِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ إِلا مِنْ غِلاتِهِمْ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَحْرِمَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَهُمْ يُقِيمُونَ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ، أَفَتَجْعَلُ الْعَرَبَ يُقِيمُونَ أَسْوَاقَهُمْ قَصَّارِينَ وَقَصَّابِينَ وَحَجَّامِينَ؟؟! قَالَ: فَوَثَبَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ قَبِلَ مِنْهُ، وَانْصَرَفَ الأَحْنَفُ. قَالَ: فَمَا بتُّ بليلةٍ أَطْوَلَ مِنْهَا أتسمَّع الأَصْوَاتَ، قَالَ: فَلَمَّا نَادَى أَوَّلَ الْمُؤَذِّنِينَ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ: إِيتِ الْمَسْجِدَ فَانْظُرْ هَلْ حَدَثَ أمرٌ، فَرَجَعَ فَقَالَ: صَلَّى الأَمِيرُ وَدَخَلَ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَحْدُثْ إِلا خَيْرٌ.
إضاءة على الْخَبَر السَّابِق
قَالَ القَاضِي: قَول زِيَاد للأحنف " تنازعني فِيهِ مخلوجة ": أَي تعترضني فِيهِ عارضةٌ متعرجةٌ لَيست على سمتٍ وَلَا استقامة، فتقطعني عَن الِاسْتِمْرَار فتجذبني إِلَى الانحراف عَن المحجَّة إِلَى الشُّبْهَة الْمُؤِّدية إِلَى الْحيرَة، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
نطعنهُمْ سُلكى ومخلوجةً ... كرَّك لامينِ على نابلِ
ويُرْوى كرَّ كلامين، وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَيْت وَتَفْسِيره اخْتِلَاف، وَشَرحه مستقصى فِي غير هَذَا الْموضع. وأصلُ الاختلاج الاقتطاع والاجتذاب، وَمِنْه سُمِّي الخليجُ خليجًا لِأَنَّهُ مخلوجٌ من الْبَحْر ومعظمُ المَاء، بِمنزلة مَجْرُوح وجريح ومقتول وقتيل. وَقَوله: " وَأَنا على صريمة " أَي على أمرٍ أَنا قاطعٌ عَلَيْهِ وواثقٌ بِهِ، من صَرَم الحبلُ إِذا قطعه، فصريمةُ ذاكَ مقطوعٌ عَلَيْهَا غيرُ مرتابٍ بِهَا. وَمن ذَلِكَ قَول الْأَعْشَى:
وَكَانَ دَعَا قومَهُ دَعْوَة ... هلمَّ إِلَى أَمركُم قد صُرِمْ
أَي قُطِعَ وَأحكم. وَفِي هلمَّ لُغَتَانِ أفصحهما اللُّغة الحجازيَّة، وَهِي هلمَّ للْوَاحِد والاثنين وَالْجمع والمذكر والمؤنث على اخْتِلَاف أهلِ اللُّغَة فِي جَمع الْمُؤَنَّث، فَمنهمْ من يَقُول هلمنَّ وَمِنْهُم من يَقُول: هلممن، وأمّا أهلُ الحجازِ فلغتهم هلمَّ فِي الْمَوَاضِع كلهَا على مَا قدمنَا ذكره. وبَنو تَميم وَأهل نَجد يقولونَ هلمَّا وهلمّوا وهلمّي وهلمنَّ وهلممن. وَقد رُوِيَ بَيت الْأَعْشَى على اللُّغتين الحجازية والتميمية هلمّ إِلَى أَمركُم وهلمّوا إِلَى، وَجَاء الْقُرْآن فِي هَذَا بلغَة أهل الْحجاز، قَالَ الله تَعَالَى: " قُلْ هلمَّ شُهَدَاءَكُمُ " " الْأَنْعَام: 150 " وَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى: " وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هلمَّ إِلَيْنَا " " الْأَحْزَاب: 48 ".(1/666)
الْمجْلس التاسِع وَالثَّمَانُونَ
الْمَلائِكَةُ وَعِيدُ الْفِطْرِ
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ، حَدَّثَنَا نصر بن أَحْمد بن أَزْهَر الْخطاب قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْفَضْلِ الْيَزِيدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ الْبَلْخِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فِي أَفْوَاهِ الطُّرُقِ فَنَادَوْا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اغْدُوا إِلَى ربٍّ رحيمٍ يَأْمر بِالْخَيرِ وَيثبت عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، أَمَرَكُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فصمتم وأطعمتم رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صلَّوا الْعِيدَ نَادَى منادٍ مِنَ السَّماء: ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ رَاشِدِينَ فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ ذُنُوبُكُمْ. وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمُ الْجَائِزَةِ.
قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا يُرَغِّبُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَتَأْدِيَةِ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ وَمَا يَرْجُونَ نَيْلَهُ مِنْ ثَوَابِهِ بِحَسَبِ مَا وَعَدَهُمْ فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وريثُ ابْن راعي الْإِبِل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن جريد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ الْأَصْمَعِي قَالَ: قدم الرَّاعِي على خَالِد بن عبد الله بن بن خَالِد بن أسيد وَمَعَهُ ابنٌ لَهُ، فَمَاتَ ابْنه بِالْمَدِينَةِ، فلمّا دخل على خالدٍ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَاتَ بَعْدَمَا زَوجته وأصدقت عَنْهُ، فَأمر لَهُ بديةِ ابْنه وصداقه، فَقَالَ الرَّاعِي:
وديتَ ابنَ راعي الإِبْلِ إِذْ حانَ يومُهُ ... وشقَّ لَهُ قبرًا بأرضكَ لاحدُ
وَقد كَانَ مَاتَ الجودُ حَتَّى نشرته ... وأذكيتَ نَار الجودِ والجودُ خامدُ
فَلَا حملتْ أُنْثَى وَلَا آب آيبٌ ... وَلَا بلَّ ذُو سقمٍ إِذا مَاتَ خالِدُ
قَالَ القَاضِي: قَول الرَّاعِي " وديتَ ابْن راعي الإبلِ ": أَرَادَ أدّيت دِيَته، يُقالُ: وديت الْقَتِيل إِذا أدّيت دِيَته إِلَى أَهله، ووديت عَنْهُ من مَالك دِيَة جِنَايَته، وَقيل إنَّ هَذَا ممَّا عابى بِهِ الكسائيُّ مُحَمَّد بن الْحَسَن فَلم يعرف الفرقَ بَينهمَا.
وأمّا قَوْله " وشقَّ لَهُ قبرًا بأرضكَ لَاحَدَّ " فإنّ وَجه الْكَلَام فِي هَذَا أَن يُقال: شقّ شاقّ ولحد لاحدٌ، ويُقال: ألحدَ ملحد، وَذَلِكَ أنّ الشق مَا كَانَ من الْحفر فِي وسط الْقَبْر، واللحد مَا كَانَ فِي جَانِبه. بيَّن هَذَا قَول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللحدُ لنا والشقّ لغيرنا ". ولكنّه لَمّا كَانَ اللَّحْد شقًّا قد ميلَ بِهِ عَن الْوسط إِلَى الْجَانِب قَالَ: وشقَّ لَهُ. وأصل اللَّحْد مأخوذٌ من الْمَيْلِ، يُقالُ فِيهِ: لحد وأَلْحَدَ فِي الدَّين وَغَيره، من الْميل. وَقد قُرئ باللغتين فِي الْقُرْآن فَقَرَأَ الْجُمْهُور: " وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ " " الْأَعْرَاف: 180 ": " لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ " " النَّحْل: 103 " " وإنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ(1/667)
عَلَيْنَا " " فصلت: 40 ". وَقَرَأَ الْآخرُونَ الأحرف الثَّلَاثَة بِالْفَتْح؛ ومِمّن قَرَأَ كَذَلِك حَمْزَة. وَكَانَ الْكِسَائي يقْرَأ الَّتِي فِي الْأَعْرَاف وحم السَّجْدَة بِالضَّمِّ، وَيفتح الَّذِي فِي النحلِ لوضوح دلَالَته على الْميل بقوله " إِلَيْهِ " فَكَانَ أخصَّ بالدِّلالة إِلَى معنى الْميل من " فِي ". وَقد يكون مَا اخْتَارَهُ الكسائيُّ بَعيدا فِي تفريقه بَين اللَّفْظَيْنِ إِلَى الْجمع بَين اللغتين كَمَا قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " فمهِّل الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا " " الطارق:17 "، وَقد كَانَ الْكِسَائي يفعل هَذَا كثيرا، من ذَلِك مَا رُويَ عَنْهُ من اخْتِيَاره فِي قِرَاءَة: " لَمْ يطمثهنَّ " " الرَّحْمَن:56 " ضم عين الْفِعْل فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ وَكسرهَا فِي الآخر. وَالَّذِي اخْتَارَهُ من الْقِرَاءَة على لُغَة من يَقُول " لحد " فِي مَوضِع وعَلى لُغَة من يَقُول " ألحد " فِي غَيره حسنٌ جميلٌ عِنْدِي.
وَقَول الرَّاعِي " وَقد كَانَ مَاتَ الجودُ حَتَّى نشرته " اللُّغَة الصَّحِيحَة " أنشر الله الميّت، فَنُشِرَ هُوَ، ونشره فَهُوَ منشور لُغَة قد قُرئ بِهَا، وَقد مضى من شرح هَذَا فِيمَا تقدّم من مجالسنا هَذِه مَا نكتفي بِهِ فنستغني عَن إِعَادَته. وَقَوله " وَلَا بلَّ من سقم ": يُقالُ بلَّ الرجلُ من مَرضه وأبلَّ واستبلَّ إِذا برأَ وصحَّ، قَالَ الشَّاعِر:
إِذا بلَّ من داءٍ بِهِ ظنَّ أنَّه ... نجا وَبِه الداءُ الَّذِي هُوَ قَاتله
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وكأنَّها مَحْمُوم خَيْبَر بلَّ من أوصابِها
هَارُون الرشيد يكتشف أَن الْمَأْمُون ينظمُ الشّعْر
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَليفَة الْفَضْل بن الْحباب الجُمَحِي قَالَ، حَدَّثَنَا عبد الله بن مُحَمَّد التيميّ قَالَ: أَرَادَ الرشيد سفرا فَأمر النّاس أَن يتأهّبوا وأعلمهم أَنَّهُ خارجٌ بعد الْأُسْبُوع، فَمضى الْأُسْبُوع وَلم يَخرج، فَاجْتمعُوا إِلَى الْمَأْمُون فَسَأَلُوهُ أَن يستعلم ذَلِكَ، وَلم يكن الرشيدُ يعلمُ أَن الْمَأْمُون يَقُول الشّعْر، فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون:
يَا خيرَ من دبَّت المطيُّ بِهِ ... وَمن تقدى بسرجِهِ فَرَسُ
هَلْ غايةٌ فِي المسيرِ نعرفها ... أم أَمْرُنَا فِي المسيرِ مُلْتَبِسُ
مَا عِلْمُ هَذَا إلاَّ إِلَى ملكٍ ... من نوره فِي الظلام نَقْتَبِسُ
إِن سرْتَ سَار الرشاد متّبعًا ... وَإِن تقفْ فالرشادُ محتبسُ
فقرأها الرشيد فسرّ بِهَا وَوَقع فِيهَا: يَا بنيَّ مَا أَنْت وَالشعر؟ أما علمت أنَّ الشّعْر أرفع حالات الدنيّ وأقلُّ حالات السّري، والمسير إِلَى ثلاثٍ إِن شَاءَ الله.
قَالَ القَاضِي: قَول الْمَأْمُون فِي شعره وَمن تقدى بسرجه فَرَسُ: تقدَّى استمرّ كَمَا قَالَ ابْن قيس الرقيّات:
تقدَّت بِي الشهباءُ نَحْو ابنِ جعفرٍ ... سواءٌ عَلَيْهَا لَيْلهَا ونَهارها(1/668)
أَي استمرت وَجَرَتْ قاصدةً إِلَيْهِ.
تَعْزِيَة يَحْيَى بن زِيَاد لبَعض أَهله
حَدَّثَنَا عمر بن الْحَسَن بن علّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن زيد قَالَ: كتب يَحْيَى بن زِيَاد إِلَى بعض أَهله يُعزّيه: أمّا بعدُ فإنّ الْمُصِيبَة وَاحِدَة إِن صبرت ومصائب إِن لَمْ تصبر، وَقد مضى لَك سلفٌ يحسن عَلَيْهِم الْبكاء، وَبَقِي خلفٌ فِي مثلهم العزاء، فَلَا البكاءُ يردُّ الْمَاضِي وبالعزاء يطيبُ عيشُ الْبَاقِي، ونحنُ عمّا قَلِيل بِهم لاحقون، فآثرِ الصَّبْرَ فإنَّهُ أردُّ الأَمرين عَلَيْك وأرجعهما بالنفعِ إِلَيْك.
قَالَ القَاضِي: ولِمن تقدّمنا من التعازي مَا يستحسنه الألباء لبلاغته وفصاحته وجودة معناهُ وقوته وجزالته، وتعزية يَحْيَى بن زِيَاد هَذِه من أحسن مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب وأبلغه.
رُؤْيَة فِي صغره
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنِي أبي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بن عبد الله بن آدم الْعَبْدي قَالَ العجاج: سقط خبالي عليَّ فاستغثتُ بولدي فَلم يجبني أحد مِنْهُم، ثمَّ جَاءَنِي رُؤْيَة وَهُوَ صبي صَغِير فقلتُ لَهُ:
إنَّ بنيَّ للئامٌ زهدهْ ... ماليَ فِي صُدُورهمْ من مَوْددَهْ
إِلا كودِّ مسدٍ لقرمدَه
قَالَ فَقَالَ رُؤْيَة:
إنَّ بنيكَ لكرامٌ مَجَدَه ... وَلَو دعوتَ لأتوكَ حَفَدَه
عجّاجُ مَا أَنْت بأرضِ مأسدَه
قَالَ: فضممته إِليَّ وَقلت: ابْني سَيكون. قَالَ أَبُو بكر: المسَدُ حبالٌ تعْمل من ضروب من أوبار الْإِبِل، والقرمد: الآجرّ.
قَالَ القَاضِي: قد مضى خبر العجّاج هَذَا فِي بعض مَا تقدّم من هَذِه الْمجَالِس، وفسَّرنا مَا فِيهِ من إِعْرَاب وغريب، وأوردْنَاهُ عَن شيخ حَدَّثَنَا بِهِ عَن أبي بكر ابْن الْأَنْبَارِي.
شاهَكْ فَمَا مَعنا فِي الْبَيْت أحد
حَدَّثَنَا الْحَسَن بن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد الْكَلْبِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا عَبد الله بن الضحّاك ومهدي بن سَابق قَالَا: حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بن عدي عَن صالِح بن حسان قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب صديقا للوليد يَأْتِيهِ ويؤانسه، فَجَلَسَا يَوْمًا يلعبان بالشطرنج إِذْ أَتَى الْآذِن فَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير، رجلٌ من أخوالك من أَشْرَاف ثَقِيف قدم غازيًا وأحبَّ السَّلام عَلَيْك، فَقَالَ: دَعه، فَقَالَ عبد الله: وَمَا عَلَيْك إئذن لَهُ، فَقَالَ: نَحن على لعبتنا وَقد أجحت عَلَيْك. قَالَ: فادعُ بمنديلٍ فضعْ عَلَيْهَا ويسلمُ الرجل ونعود، فَفعل، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَدخل مشمرٌ لَهُ هَيْبَة،(1/669)
بَين عَيْنَيْهِ أثر السُّجُود، وَهُوَ مُعْتَمّ قد رجَّل لحيته، فسلّم ثُمَّ قَالَ: أصلح الله الْأَمِير قدمتُ غازيًا وكرهتُ أَن أجوزكَ حتّى أَقْْضِي حقّك، قَالَ: حيّاك الله وَبَارك عَلَيْك، ثُمَّ سكتَ عَنْهُ. فلمّا أنس أقبل عَلَيْهِ الْوَلِيد فَقَالَ: يَا خَال هَلْ جَمَعْتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: لَا كَانَت تَشْغَلُنَا عَنْهُ شواغلُ. قَالَ: حفظت من سنة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ومغازيه وَأَشْعَارهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فأحاديثُ أهل الْحجاز ومضاحكها؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فأحاديثُ الْعَجم وآدابُها؟ قَالَ: إِن ذَلِكَ شيءٌ مَا كنتُ أطلبه. فَرفع الْوَلِيد المنديل وَقَالَ:: شاهَكَ. قَالَ عبد الله بن مُعَاوِيَة: سُبْحَانَ الله، قَالَ: لَا وَالله مَا مَعنا فِي الْبَيْت أحد. فلمّا رأى ذَلِكَ الرجلُ خرج فَأَقْبَلُوا على لعبهم.
الْحسب بِلَا أدب
قَالَ القَاضِي: مَا أعجبَ كَلَام الْوَلِيد هَذَا وألطفه وَأحسنه وأظرفه. وشبيه هَذَا مَا رُوِيَ أنّ رجلا خاطبَ مُعَاوِيَة فأكثرَ اللَّغْو فِي كَلَامه فضجرَ مُعَاوِيَة وَأعْرض عَنْهُ، فَقَالَ: أأسكت يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: وَهل تكلّمت؟ ولعمري إِن ذَا الْجَهْل والغباوة إِلَى منزلَة من النَّقْص وَسُقُوط الْقدر وبِمعزل من الطَّبَقَة الَّتِي تستحقّ التهيُّب والإعظام والتبجيل والأكرام، وَإِن اتفقَ لَهم بالجَد وطائر السعد إعظام كَثِير من النّاس لَهم واغترار طَائِفَة من الْأَغْنِيَاء بِهم. وَقد ذكر أَن بزرجمهر سُئِلَ: مَا نعْمَة لَا يُحسد صَاحبهَا عَلَيْهَا؟ قَالَ: التَّوَاضُع، قيل: فَمَا بلية لَا يُرحَمُ صَاحبهَا؟ قَالَ: الْكِبْر، قيل: فَمَا الَّذِي إِذا انفردَ لَمْ يساوِ شَيْئا؟ قَالَ: الْحسب بِلَا أدب. وَفِي استقصاء القَوْل فِي هَذَا الْبَاب طول لَا يحْتَملهُ هَذَا الْموضع.
حلم سلمى بن نَوْفَل
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصُّولي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن صَفْوَان عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ سلمى بن نَوْفَل الدَّيلي سيدًا فِي كنَانَة، فَوَثَبَ رجلٌ من أَهله على ابْنه فجيء بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أمَّنك منّي وأجرأكَ عليَّ؟ أما خشيتَ عقابي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: لأنّا سوّدناك لكظم الغيظ والحلم عَن الْجَاهِل، فخلَّى سَبيله.
ولِّ الْبكاء أَهله - مصرع أَبنَاء الْحَارِث الْبَاهِلِيّ
حَدَّثَنَا عبد الله بن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ، محدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر بْن حبيب قَالَ، حَدَّثَنِي سعيد بن سلم الْبَاهِلِيّ قَالَ: كَانَ الْحَارِث بن حبيب الْبَاهِلِيّ كَثِير الْبَنِينَ فنحى بنيه عَن قومه يخْشَى معرّتهم عَلَيْهِم، فغابَ الْحَارِث بن حبيب وشوى بنوه شَاة لَهم فأُخرجت وغطوها فَأَكَلُوا مِنْهَا فماتوا وهم ثَمانية، فجَاء فَرَآهُمْ موتى حول الشَّاة، فَأكل مِنْهَا وَأكْثر ليموتَ فَلم يَمت، فركبَ نَاقَة لَهُ يريدُ قومه ليعينوهُ على دفنهم، فمرَّ وَهُوَ راكبٌ برجلٍ جالسٍ يبكي، وَهُوَ رجل من بني قُشَيْر، فَقَالَ: مَا لَك؟ قَالَ: كَانَت لي شَاة فَأكلهَا الذئبُ فَنزل عَن رَاحِلَته فَقَالَ: هَذِه لَك بدل شَاتك وولِّ البكاءَ أهلَه، ثُمّ قَالَ:(1/670)
يَا أيُّها الباكي على شاته ... يبكي جهارًا غير إسرار
إنّ الرزيّاتِ وأشباهَهَا ... مَا غادر الحارثُ فِي الدَّار
والْحَارث الَّذِي يَقُول:
المرءُ يأمُلُ أَن يعيشَ وطولُ عيشٍ قد يضرُّه
تَفْنَى بشاشتُهُ وَيبقى بعد حُلْوِ العيشِ مرُّه
وتسوءه الْأَيَّام حَتَّى لَا يرى شَيْئا يسرّه
كم شامتٍ لي إِن هلكتُ وقائلٍ للهِ دَرُّه
الحطيئة يعجب بِابْن عَبَّاس
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ وَحَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَظَرَ الْحُطَيْئَةُ إِلَى ابْنِ عبّاسٍ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ كَلَامه، فَقَالَ: من الَّذِي قَدْ نَزَلَ عَنِ الْقَوْمِ فِي سنِّه وَعَلاهُمْ فِي قَوْلِهِ؟ قَالُوا: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، هَذَا ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِنِّي وَجَدْتُ بَيَانَ الْمَرْءِ نَافِلَةً ... تُهْدِي لَهُ وَوَجَدْتُ العيَّ كالصَّمم
الْمَرْءُ يَبْلَى وَيَبْقَى الْكَلْمُ سَائِرُهُ ... وَقَدْ يُلامُ الْفَتَى يَوْمًا وَلَمْ يُلَمِ
الكَلْم والكَلِم
قَالَ القَاضِي: قَوْله " وَتبقى الْكَلم ": الْكَلم هَا هُنَا جمع كلمة، وأصلُ الْكَلم بِكَسْر اللَّام فسكنه تَخفيفًا لإِقَامَة وزن الْبَيْت كَمَا قَالُوا فِي مَلِك ملك، وفخذ وكَبِد. قَالَ الله تَعَالَى: " يُحَرِّفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه " " الْمَائِدَة: 13 ". وَقد رُوِيَ عَن تَميم بن حدلم أنَّهُ قَرَأَ: " تُحَرِّفُونَ الكلامَ ". وَقد قَرَأَهُ عُلَمَاء الْأَمْصَار " يُرِيدُونَ أَنْ يبدّلوا كَلَام الله " " الْفَتْح: 15 " و " كلم اللَّه ". ومِمَّا قيل فِي هَذَا وَهُوَ مِمَّا يُستحسن لبَعض الْمُحدثين:
قَالَت عييتَ عَن الشكوى فقلتُ لَهَا ... جَهْد الشكايةِ أَن أعَيْا عَن الكَلِم
فأمَّا الْكَلم الّذين عيْنُ فعلِهِ سَاكِنة فِي أصل بنائِهِ فَإِنَّهُ مصدر كَلَمه يكلمهُ كَلْمًا، بِمعنى جرحه يَجرحه جرحا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
لعمرك إنّ الدَّار غفرٌ لذِي الْهوى ... كَمَا يَغْفِرُ المحمومُ أَو صاحبُ الكَلْمِ
يَعْنِي إِن ذَا الْهوى يَهْتَز لذكرها كَمَا يَهْتَز المحموم والمكلوم أَي الْمَجْرُوح ويهتران. ويجمعُ الكَلْم كلَاما مثل جَرْح وجراح، وَجمع فَعْل على فِعَال كَثِير جدًّا فِي الْقلَّة مثل كلب وكلاب وَسَهْم وسِهام، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
أجدَّك مَا لعينك لَا تنامُ ... كأنّ جفونها فِيهَا كِلامُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا من أحدٍ يُكْلَمُ كلما فِي سَبِيل الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا جَاءَ(1/671)
يَوْم الْقِيَامَة وأوداجه تشخُبُ دَمًا: اللونُ لونُ دمٍ والريحُ ريحُ مسكٍ. وَيجمع الْكَلم أَيْضا مثل فَلْس وَفُلوس، وصَقْر وصُقور، وَمثله كَثِير. وَمن الكلوم قَول بعض الشُّعَرَاء:
فَلَو أنّ قولا يكلِمُ الجلدَ قد بدا ... بِجلديَ من قولِ الوشاةِ كُلومُ
وَقَوله " سائرُهُ " يَعْنِي أَنَّهُ يبْقى سَائِر الْكَلَام يريدُ الْحِكَم السائرة من الْكَلم، يُقال: قولٌ سَائِر ومثلٌ سَائِر، وَقَوله " سائرهُ " بَدَل من الْكَلم تابعٌ لَهُ فِي إعرابه كَقَوْلِك يُعجبني القَوْل بليغُهُ.
لِمَاذا أكلت الفأر أذن الإسرائيلي
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتَلَّي، أَخْبَرَنَا عمي يَعْنِي النَّسَائِيّ قَالَ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن عبد الحميد المهراني قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن صَالِح الوحاظي قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن عيّاش قَالَ: حَدَّثَنِي بشر بن عبد الله بن سيّار أنَّ رجلا من بني إِسْرَائِيل حَضَره الْمَوْت، فَرَأى جزع امْرَأَته عَلَيْهِ فَقَالَ: أتحبين أَن لَا أُفَارِقك؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فاصنعي لي تابوتًا ثُمَّ اجعليني فِي بَيْتك هَذَا فَإِنَّهُ لَا يتَغَيَّر جَسَدِي، فَفعلت، فاطلعت بعد زمانٍ فَإِذا هِيَ بِإِحْدَى أُذُنَيْهِ قد أُكِلَتْ، فَقَالَت: فلانٌ مَا كذبتني قبلهَا، قَالَ: فاستأذنَ ربه عَزَّ وَجَلَّ فردَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ روحه، فَقَالَ لَهَا: إِن الَّذِي رَأَيْت من أُذُنِي أَنِّي سمعتُ ملهوفًا يَوْمًا من الْأَيَّام يستغيثُ فَلم أُغِثْهُ فأُكلت أُذُنِي الَّتِي كَانَت تليه.
عمر بن عبد الْعَزِيز يرد المظالِم
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ، حدّثنا عبد الله ابْنِ أُخْتِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنِ أبي مُحَمَّد الشَّامي قَالَ: كنتُ غُلَاما فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، فلمَّا أَخذ عمر فِي ردّ المظالِم غلظ ذَلِكَ على أهل بَيته وعَلى جَميع قُرَيْش، فَكتب إِلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام:
فأبلغَ هشاماً والّذين تجمّعوا ... بدابق لاسلمتم آخر الدَهْرِ
ويروى:
فَقل لهشامٍ وَالَّذين تَجمّعوا ... بدابق موتوا لَا سلمتمْ يَدَ الدَّهرِ
فأنْتُم أَخذتم حَتْفَكُمْ بأكفّكم ... كباحثةٍ عَن مديةٍ وَهِي لَا تَدْرِي
عشيَّةَ بايعتم إِمَامًا مُخَالفا ... لَهُ شجنٌ بَين الْمَدِينَة والْحِجر
فَأَجَابَهُ بعض ولد مَرْوَان عَن هِشَام بن عبد الْملك:
لَئِن كَانَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الردى ... فَمَا أَنْت فِيهِ ذُو غناء وَلَا وفر
وأنتَ من الريش الذنابي وَلم تكن ... من الجزلة الأولى وَلَا وسَطِ الظّهْر
ونحنُ كَفَيْنَاك الأمورَ كَمَا كفى ... أَبونَا أَبَاك الْأَمر فِي سالِفِ الدّهر(1/672)
صرف دابق وَعدم صرفه
قَالَ القَاضِي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن الحكم فِي شعره هَذَا " بدابق " فَلم يصرفهُ فِي موضِعين، وَفِي صرفه وَترك صرفه وَجْهَان معروفان فِي كَلَام الْعَرَب، وَالْعرب تذكّره وتُؤنّثه، فَمن ذكّره صرفه كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
بدابقٍ وأينَ منّي دابق
ومَن أنَّثه لَمْ يصرفهُ كَمَا قَالَ الآخر:
لقد خابَ قومٌ قلّدوك أُمُورهم ... بدابقَ إِذْ قيلَ العدوُّ قريبُ
الباحثة عَن حتفها
وَقَوله " كباحثة عَن حتفها هِيَ لَا تَدْرِي " هَذَا مثلٌ يُضرب للَّذي يثير بِجهله مَا يُؤدّيه إِلَى هَلَاكه أَو الْإِضْرَار بِهِ. وَأَصله أَن نَاسا ً أخذُوا شَاة لَيست لَهم فأرادوا أكلهَا، فَلم يَجدوا مَا يذبحونها بِهِ فَهموا بتخليتها، فاضطربت عَلَيْهِم، وَلم تزل تثيرُ الأَرْض وتبعثرها بقوائمها، فَظهر لَهُم فِيمَا احترفته مديةٌ فذبحوها بِهَا، وَصَارَت هَذِه الْقِصَّة مثلا سائرًا فِيمَا قدّمنا ذكره. وَقَول المرواني " وَأَنت من الريش الذناني ". يُقال ذَنْب الْفرس وَغَيره، وذنابي الطَّائِر وذنابي الْوَادي وذنابته ومذنب النَّهر قَالَ الشَّاعِر:
أيا جحمتا بكي على أمِّ صاحبِ ... قتيلة قلَّوبٍ بِإِحْدَى الذنائبِ
ويروى المذانب، والجحمتان: العينان، والواحدة جحمة، ويُقال إنَّها بلغَة أهل الْيمن، والقلَّوب: الذِّئْب.
شعر ابْن البخْترِي فِي خَالِد بن الْوَلِيد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحِرْمَازِيُّ قَالَ: دَخَلَ هِشَامُ الْبَخْتَرِيِّ فِي ناسٍ مِنْ مَخْزُومٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ أَنْشِدْنِي شِعْرَكَ فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: قصَّرت فِي الْبُكَاءِ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنْ كَانَ لَيُحِبُّ أَنْ يذلَّ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الشَّامِتُ بِهِ لَمُتَعَرِّضًا لِمَقْتِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَاتَلَ اللَّهُ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا أَشْعَرَهُ.
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلافَ الَّذِي مَضَى ... تَهَيَّأْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَن قَدِ
فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بنافعٍ ... وَلا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ يَوْمًا بِمُخْلِدِي
وَيُرْوَى: " وَلا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ قَبْلِي ". ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خيرٌ لَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَلَقَدْ مَاتَ فَقِيدًا وَعَاشَ حَمِيدًا، وَلَكِنْ رَأَيْتُ الدَّهْرَ لَيْسَ يُقَاتَلُ.
قَالَ القَاضِي: لقد أحسن عمر بن الْخطاب رضوَان الله عَلَيْهِ الثَّنَاء على خَالِد بن الْوَلِيد رَحِمَهُ الله على تشعُّثٍ قد كَانَ بَينهمَا، فَلم يثنه عَن معرفَة حقّه وصحبته وصلَة رَحمَه،(1/673)
وَكَانَ ابنَ خَالَته. وَقد كَانَ الصَّحَابَة، رضوَان الله عَلَيْهِم، ربَّما عرض فِيمَا بَينهم بعضُ العَتْبِ وبعضُ مَا يوحش الإخوان فَلَا يخرجهم ذك عَن الْولَايَة إِلَى العدواة.
المجلسُ التسْعُون
مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلصَّالِحِينَ
حدَّثنا طَلْحَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْرَائِيلَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَبُو بْكَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي رُفِعْتُ إِلَى الْجَنَّةِ فَاسْتَقْبَلَتْنِي جاريةٌ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ يَا جَارِيَةُ؟ قَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَإِذَا بأنهارٍ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وأنهارٍ مِنْ لبنٍ لَمْ يتغيَّر طَعْمُهُ، وأنهارٍ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وأنهارٍ مِنْ عسلٍ مصفَّى، وَإِذَا رماَّنها كَأَنَّهُ الدِّلاءُ عِظَمًا، وَإِذَا بِطَائِرِهَا كَأَنَّهُ بُخْتُكُمْ هَذِهِ، فَقَالَ عِنْدَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجل أعدَّ للصالحين مَالا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ".
مَكَانَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَفِي أَنَّهُ صَادَفَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَكَانَ مِنْ أبرِّ النَّاسِ بِأُمِّهِ، وَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُخْبِرَ بِإِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى زَيْدًا وَإِسْكَانِهِ جَنَّتَهُ: كَذَلِكُمُ البرُّ كَذَلِكُمُ البرُّ، وَلَنْ يَضِيعَ لأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِحْسَانُهُمْ بِطَاعَتِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ. نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِطَاعَتِهِ وَالْعِصْمَةَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، إِنَّهُ رؤوفٌ رَحِيمٌ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
النَّابِغَة الْجَعْدِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، حَدَّثَنَا أَبُو حاتِم قَالَ، قَالَ النَّابِغَة الْجَعْدِي أَبُو ليلى، واسْمه قيس بن عبد الله بن عُدس، وَقَالَ القحذمي: اسْمه حبَّان بن قيس بن عبد الله بن وَحْوَح بن عُدَس بن ربيعَة بن جعدة بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامِر بن صعصعة، وَكَانَ أسنَّ من النَّابِغَة الذبياني، وَالدَّلِيل على ذَلِكَ قَوْله:
تذكرت والذكرى تهيجُ على الْهوى ... وَمن حَاجَة المحزونِ أَن يتذكّرا
نداماي عِنْد الْمُنْذر بن محرِّقٍ ... أرى الْيَوْم مِنْهُم ظَاهر الأَرْض مقفرا
كهولٌ وفتيانٌ كأنّ وُجُوههم ... دنانيرُ مِمّا شِيفَ فِي أَرض قيصرا
قَالَ: فَهَذَا يدلُّكَ على أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمُنْذر بن محرق، والنابغة كَانَ مَعَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن محرق، وَكَانَ النَّابِغَة غبر ثَلَاثِينَ سنة لَا يتَكَلَّم، ثُمَّ تكلّم بالشعر، وَمَات وَهُوَ ابْن مائَة وَعشْرين سنة بأصبهان، وَكَانَ ديوانه بِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَقُول:
فَمن يَك سَائِلًا عنّي فإنّي ... من الشبّان أيّام الْخُنَانِ
وأيّام الخنان كَانَت أَيَّامًا فِي الْعَرَب قديمَة لداءٍ هاج فيهم:
مَضَت مائةٌ لعامَ ولدتُ فِيهِ ... وعشرٌ بعد ذاكَ وحجّتانِ(1/674)
فأبقى الدَّهْرُ والأيامُ منّي ... كَمَا أبقى من السيفِ الْيَمَانِيّ
تحسّر وَهُوَ مأثور جرازٌ ... إِذا جمعت لقائمه اليدانِ
وَقَالَ أَيْضا فِي طول عمره:
لبستُ أُناسًا فأفنيتهم ... وأفنيتُ بعد أناسٍ أُنَاسًا
ثلاثةَ أهلينِ أهلكتهم ... وَكَانَ الإلهُ هُوَ المستآسا
قَالَ أَبُو حاتِم، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَكَانَ النَّابِغَة مِمّن فكَّر فِي الْجَاهِلِيَّة فأنكرَ الْخمر وَالسكر وَمَا يفعلُ بِالْعقلِ، وتجنَّب الأزلامَ والأوثان، وَقَالَ قصيدته الَّتِي أَولهَا:
الحمدُ لله لَا شريك لَهُ ... مَنْ لَمْ يقلها فنفسهُ ظَلَما
وَكَانَ يذكر دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل صلَّى الله عَلَيْهِمَا، ويصومُ ويستغفرُ ويتوقى أَشْيَاء لعواقبها، ووفد عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ فِي ذَلِك:
لأتيت رَسُول الله إِذْ جَاءَ بِالْهدى ... وَيَتْلُو كتابا كالمجرَّة نيّرا
وجاهدتُ حَتَّى مَا أحسَّ وَمن معي ... سُهَيْلا إِذا مَا لَاحَ ثُمَّ تغوّرا
يَقُول: كنتُ بِالشَّام وسهيلٌ لَا يكادُ يُرى هُنَاكَ.
يقومُ على التَّقْوَى ويوصي بِفِعْلِهَا ... وَكَانَ من النّارِ المخوفةِ أوجرا
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ الأَشْدَقِ الْعَقِيلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّابِغَةَ يَقُولُ: أَنْشَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودُنَا ... وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
فَقَالَ: أَيْنَ الْمَظْهَرُ يَا أَبَا لَيْلَى؟ قُلْتُ: الْجَنَّةُ، قَالَ: أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ قَوْلِي:
وَلا خَيْرَ فِي حلمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يكدَّرا
وَلا خَيْرَ فِي جهلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حليمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرَا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُفْضَضُ فُوكَ ". فَمَاتَ وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ لَمْ يغيَّر لَهُ سِنٌّ.
استطراد فِي شرح شيف وَغَيرهَا
قَالَ القَاضِي: قَول النَّابِغَة فِي أَرض قيصرا ": معنى شِيفَ جُلي ومُسح حَتَّى أنارَ وصَفَا، كَمَا قَالَ عنترة:
وَلَقَد شربتُ من المدامة بَعْدَمَا ... ركد الهواجرُ بالمشوفِ الْمُعْلَمِ
يُقال للدينار وَالدِّرْهَم المجلوين: دِينَار مشوفٌ ودرهمٌ مشوف، ويُقال شافه يشوفه شوفًا كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
بأسحم ملتفَ الغدائرِ واردٍ ... وَذي أشرٍ تِشُوفُهُ وَتَشُوصُ
قَالَ القَاضِي: قَوْله " تشوفه " أَي تجلوه، والأُشُر: تَحْدِيد أَطْرَاف الْأَسْنَان ورقّتها. وَذكر أَن أَعْرَابِيًا أتَى بطفل لَمْ تنْبت أَسْنَانه فَجعل يقبّله وَيَقُول: وابأبي دُرْدُرك، فرأته امْرَأَته وَلم(1/675)
تكن حظيَّةً عِنْده، فظنّت أَن الْفَم الأدرد يُعجبُهُ، فعمدتْ إِلَى فهرٍ فصكَّت بِهِ أسنانها حَتَّى ألقتها ثمَّ جائته فلمّا رَآهَا قَالَ: أعييتني بأشرٍ فكيفَ بدردرٍ؟! والأدرد: الَّذِي لَيْسَ فِي فِيهِ شَيْء من الْأَسْنَان، يُقَال: دَرِدَ الرجل يَدْرَدُ إِذا لَمْ يبقَ لَهُ سنٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَوْصَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلام بِالسِّوَاكِ حَتَّى خفتُ أَن أدرد ". ويُقالُ: رجل أدرد وَامْرَأَة درداء، ودريدٌ تَصْغِير أدرد، ويسمِّي هَذَا البصريون من النَّحْوِيين تَصْغِير التَّرْخِيم لحذف مَا حذف مِنْهُ، وَلَو صغِّر على أَصله وَتَمَامه لقيل أُدَيْرِد. وَمثل هَذَا أَحْمد وأحميد وحُميد وأزرق وأزيرق وزُريق. وَمن الأدرد قَول الشَّاعِر:
فَمَا تدَّري من حيّةٍ جبليَّةٍ ... سكاتٍ إِذا مَا عضَّ لَيْسَ بأدْردا
وَقَول امْرِئ الْقَيْس " وتشوص " أَي تغسلُهُ غسلا تبالِغُ فِيهِ بالمضمضة ورُوي عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذا قَامَ من اللَّيْل يشوصُ فَاه بِالسِّوَاكِ.
طوق بن مَالك وأعرابية
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَليّ بن هِشَام الرقي قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يحيى بن مُسلم الْحَرَّانِي قَالَ: كَانَ طوقُ بن مَالك يتولَّى الدبار وَكَانَ من عَادَته إِذا صلَّى الْجُمُعَة أَن يُنادي مناديه: من لَهُ مظْلمَة، مَنْ لَهُ قصَّة، من لَهُ حَاجَة فليشهد الْبَاب ولينصرف. فَفعل هَذَا فِي جُمُعَة من الْجمع، فلمّا صَار بَين بَاب دَاره وَالْمَسْجِد اعترضته امرأةٌ أعرابيةٌ من بني كلاب كاللبُؤة الْمُجْرِية، فَأخذت بعنان دابتّه ثُمَّ أنشات تَقُولُ:
يَا طوقُ يَا ذَا الجودِ فاسمع إِلَى ... مقصِد هذي الْمَرْأَة المسلمهْ
ناديتَ من كَانَت لَهُ قصَّة ... أَو حاجةٌ أَو من لَهُ مظلمهْ
فليشهدِ البابَ، فقد جئتُهُ ... أَشْكُو إِلَيْك السنَّة المظلمهْ
أمّ بَنِينَ كلّ يَوْم لَهَا ... قتلٌ وَفِي أموالِنَا ملحمه
أَعْد بني الدُّنْيَا على دهرهم ... وابنِ لعدنانَ بِهَا مكرمه
فقَالَ: أَي وَالله أيُّتها الْمَرْأَة، نُعديك على دهرك. ثُمَّ أَمر الخدم بضَمهَا، فرأيتها بعد ذَلِكَ بِحال حسنةٍ وبزةٍ جميلَة.
الشُّعَرَاء يستأذنونَ على عقيلة بنت عقيل بن أبي طَالب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن صَالِح قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه ابْن النطاح قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدة عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن صالِح بن كيسَان، قَالَ: كَانَت عقيلة بنت عقيل بن أبي طَالب تجلسُ للرِّجَال، فاستأذنَ عَلَيْهَا جميلٌ فَأَذنت لَهُ، فَلَمَّا دخلَ قيل لَهَا: هَذَا كثيرٌ بِالْبَابِ، فَقَالَت: أدخلوه، فَمَا لبث أَن قيل لَهَا: هَذَا الأحوصُ بِالْبَابِ، فَقَالَت: أدخلوه. فَأَقْبَلت على جَميل وَقَالَت: ألسْتَ الْقَائِل:(1/676)
فَلَو تركتْ عَقْلِي معي مَا طلبتُها ... وَلَكِن طِلابيها لما فَاتَ من عَقْلِي
أما تطلبها إِلَّا لذهابِ عقلك؟! أما وَالله لَوْلَا أبياتٌ قلتَها مَا أَذِنْتُ لَك، وَهِي:
علقتُ الْهوى مِنْهَا وليدًا فَلم يزلْ ... إِلَى الْيَوْم ينمي حبُّها ويزيدُ
فَلَا أَنا مرجوعٌ بِما جئتُ طَالبا ... وَلَا حبُّها فِيمَا يبيدُ يبيدُ
يَموتُ الْهوى منّي إِذا مَا لقيتها ... ويحيا إِذا فارقتها فيعودُ
ثُمَّ أَقبلت على كثّير فَقَالَت: وأمّا أَنْت يَا كَثِير فأقلُّ النَّاس وَفَاء فِي قَوْلك:
أريدُ لأنسى ذِكْرَها فكأنَّما ... تمَّثل لي ليلى بكلِّ سبيلِ
أما تريدُ أَن تذكرها حَتَّى تمثَّل لَك؟! أما وَالله لَوْلَا أبياتٌ قلتَها مَا أَذِنْتُ لَك، وَهِي:
عجبت لسعي الدّهرِ بيني وَبَينهَا ... فلمّا انْقَضى مَا بَيْننَا سَكَنَ الدّهْرُ
فيا حبَّ ليلى قد بلغتَ بيَ المدى ... وزدت عل مَا لَيْسَ يبلُغُه الهجرُ
قَالَ القَاضِي: الْمَشْهُور من هذَيْن الْبَيْتَيْنِ أنّهما من كلمة لأبي صَخْر الْهُذلِيّ منسوبة إِلَيْهِ أوّلها:
لليلى بذاتِ الْجَيْش دارٌ عرفتُها ... وَأُخْرَى بذاتِ الْبَين آياتها سَطْرُ
وَقد أملَّها علينا عَن أَحْمَد بن يَحْيَى عَن عبد الله بن شبيب معزوَّةً إِلَى أبي صَخْر، مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي وَمُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي.
ثُمَّ أَقبلت على الْأَحْوَص وَقَالَت: وأمّا أَنْت يَا أحوص فألأم الْعَرَب فِي قَوْلك:
من عاشقين تراسلا وتواعدا ... لَيْلًا إِذا نجم الثّريّا حلَّقا
باتا بأنعم عيشةٍ وألذها ... حَتَّى إِذا وضح النهارُ تفرّقا
لِمَ قلت: تفرّقا؟! أما وَالله لَوْلَا شيءٌ قلتهُ مَا أَذِنْتُ لَك، وَهُوَ:
كم من دنيّ لَهَا قد صِرْتُ أتبعُهُ ... وَلَو صَحا القلبُ عَنْهَا كَانَ لي تبعا
قَالَ: ثُمَّ قَالَت لكثير: يَا فَاسق أَخْبِرْنِي عَن قَوْلك:
أإن زمَّ أجمالٌ وَفَارق جيرةٌ ... وصاحَ غرابُ البينِ أنتَ حزينُ
أينَ الْحزن إلاّ عِنْدهَا؟ فَقَالَ كَثِير؟ أعزّك الله، قد قلت شَيْئا أذهَبَ هَذَا العيبَ عنّي، وَهُوَ:
وأزمعْنَ بَينا عَاجلا وتركنني ... بصحرا خريمٍ قَاعِدا أتبلَّد
وَبَين التراقي واللهاةِ حرارةٌ ... مَكَان الشجا لَا تطمئنُّ فتبرد
وَقد كَانَت قَالَت لجواريها: مزِّقن ثِيَابه عَلَيْهِ، فلمَّا أنشدَ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَت: خلِّين عَنْهُ يَا خبائث، وأمرتْ لَهُ بحلَّةٍ يمانيةٍ وبِمائة دِينَار فَأَخذهُمَا وَانْصَرف.
دَعْوَى عريضة تنْسب للجرمي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد قَالَ، قَالَ أَبُو عمر الْجرْمِي(1/677)
يَوْمًا: أَنا أعلم النَّاس بِكَلَام الْعَرَب، فَسَمعهُ الْأَصْمَعِي فَقَالَ: كَيفَ تنشد هَذَا الْبَيْت:
قد كنَّ يخبأنَ الوجوهَ تستّرًا ... فَالْآن حِين بدأنَ للنظّارِ
أَو حِين بدين؟ قَالَ أَبُو عمر: حِين بدأن، فَقَالَ: أَخْطَأت، فَقَالَ: بدين، فَقَالَ: أَخْطَأت يَا أعلم الناسِ بِكَلَام الْعَرَب، حِين بَدَوْنَ.
القَاضِي يَنْفِي الدَّعْوَى عَن الْجرْمِي، ويُخطئه
قَالَ القَاضِي: أَبُو عمر الْجرْمِي أرفعُ طبقَة عندنَا فِي علم الْعَرَبيَّة من أَن يذهب مثلُ هَذَا عَلَيْهِ، ولكنَّه أجابَ على البديهة، وَترك التبين والرويَّة، فَوَقع فِي خطأ العجلة، وَهُوَ أعلم بالتصريف والأبنية وأمضى فِي معرفَة المهموز والفصل فِي غير المهموز من بَنَات الْوَاو وَبَنَات الْيَاء من الْأَصْمَعِي. وأمّا تخطئة الأ صمعي لَهُ فِي قَوْله بدأن فِي الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ فَهُوَ كَمَا ذكر، وَقد أصابَ فِي تخطئته. وأمّا تَخطئته إيّاه فِي قَوْله بدين فَكَمَا قَالَ أَيْضا، وإنَّما يُقال بدأن بِكَذَا إِذا ابتدأن بِهِ بتحقيق الْهَمْزَة، وبدان بتليين الْهَمْزَة، وبدين على قَلبهَا يَاء حِين أَلْقَاهَا، كَمَا يُقال قَرَأت وقريت، وصحيفة مقروءة على تَحقيق الْهَمْزَة، ومقروَّة على تليينها، ومقراةٌ على الطرح وَالْقلب، وَقد قَرَأَ جُمْهُور القرأة: " أَرَأَيْت " " أرَيْتَ " بالطرح، وَاخْتَارَ الْكِسَائي هَذَا الْوَجْه فَقَرَأَ بِهِ، وَهُوَ معروفٌ فِي الْعَرَبيَّة، وَفِيهِ تَفْرِيق بَين الْخَبَر والاستخبار. وَمن هَذِه اللُّغَة قَول أبي الْأسود الدؤَلِي:
أرَيْتَ امْرَءًا كنتُ لَمْ أبْلُهُ ... أَتَانِي فَقَالَ اتَّخذني خَلِيلًا
وَقَالَ آخر:
أريتِ الآمريكِ بِصَرْم حبلي ... مُرِيهمْ فِي أحبتهم بذاكِ
وَقَالَ آخر:
أريتكَ أَنْ مَنَعْتَ كلامَ ليلى ... أتمنعني على ليلى البكاءَ
وَقَالَ آخر:
أريتَ أَن جَاءَت بِهِ أملودا
معَّما ويلبسُ البرودا
أقائلونَ أحضروا الشهودا
وَهَذَا بَاب مستقصى فِي كتبنَا المرسومة فِي عُلُوم الْقُرْآن.
أَبُو خَليفَة وطفلة تصبو إِلَى زين الورى
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بن زِيَاد الْمقري قَالَ: ألقيت رقعةٌ إِلَى أبي خَليفَة الْفضل بن الْحباب القَاضِي فِيهَا:
قل للحكيم أبي خليفهْ ... يَا زين شيعةِ أبي حنيفهْ
إِنِّي قصدتُكَ للَّذي ... كاتمتُ من حذرٍ وخيفه(1/678)
مَاذَا تَقُولُ لطفلةٍ ... فِي الجسر منزلُها شريفه
تصبو إِلَى زين الورى ... من غير مأثمةٍ عفيفهْ
فَقلب الرقعة وَكتب على ظهرهَا:
يَا مَنْ تكاملَ ظَرْفُها ... حالُ الْهوى حالٌ شريفهْ
إِن كنتِ صادقةَ الَّذِي ... كاتَمتِ من حذرٍ وخيفه
فلك السَّعَادَة والشها ... دة والجلالَةُ يَا شريفهْ
هَذَا الفصاحُ بِعَيْنِه ... وَبِه يَقُول أَبُو حنيفهْ
رقْعَة تلقى إِلَى القَاضِي الْأَنْطَاكِي وَجَوَابه عَنْهَا
قَالَ أَبُو بكر النقاش: وأُلْقِيَتْ رقعةٌ إِلَى أبي بكر القَاضِي أَحْمَد بن مُوسَى الْأَنْطَاكِي مكتوبٌ فِيهَا:
أيُّها الفاضلُ الكثيرُ الْعِدَاتِ ... صانَكَ الله عَن مقَام الدُّناة
أَيكُون القصاصُ من فتكِ لحظٍ ... من غزالٍ مورَّد الوَجَنَاتِ
أم يخافُ العذابَ من هُوَ صبٌّ ... مبتلى بالزفيرِ والْحَسَراتِ
لَيْسَ إِلَّا العفاف وَالصَّوْم والنس ... ك زاجرًا عَن الشُّبُهَات
فأخذَ الرقعة وَكتب على ظهرهَا:
ياظريف الصَّنِيع والآلات ... وعظيمَ الأشجان واللوعات
إنْ تَكنْ عَاشِقًا فَلم تأت ذَنبا ... بَلْ ترقيتَ أَرْفَع الدَّرَجَات
فلك الحقُّ وَاجِبا إِن عرفنَا ... من تعلَّقته من الحجراتِ
أَن أكون الرَّسُول جَهرا إِلَيْهِ ... إِذْ تنكَّبت مُوبِقَ الشُّبُهَات
وَمَتى أَقضِ بِالْقصاصِ على اللح ... ظ حَبِيبِي أُخْطئْ طريقَ الْقُضَاةِ
الفتك: بَطش الإِنْسَان بِغَيْرِهِ على وَجه الْمَكْر والغدر، يدلّ على ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِيمَان قيَّد الفتكَ، لَا يفتك مُؤمن "، وَفِيهِ ثَلَاث لُغَات فَتْك وفُتْك وَفِتْك.
خبرٌ آخر لذِي القرنين
حَدَّثَنَا عُبَيْد الله بن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنِي يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل قَالَ، أَخْبَرَنَا حَيَّان بن مُوسَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ، أَخْبَرَنَا رشيد بن سعد قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بن الْحَارِث عَن سعد بن أبي هِلَال أَنَّهُ بلغه أَن ذَا القرنين فِي بعض مسيره دخل مَدِينَة فاستكفَّ عَلَيْهِ أَهلهَا ينظرونَ إِلَى موكبه: الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان، وَعند بَابهَا شيخٌ على جمل، فمرَّ بِهِ ذُو القرنين فَلم يلْتَفت الشَّيْخ إِلَيْهِ، فَعجب ذُو القرنين لَهُ. فأرسلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ استكفَّ الناسُ ونظروا إِلَى موكبي، فَمَا بالك أَنْت؟ قَالَ: لم يُعجبنِي مَا أَنْت فِيهِ، إِنِّي رأيتُ ملكا مَاتَ فِي يَوْم كَذَا هُوَ(1/679)
ومسكين، ولموتانا موضعٌ يُجْعَلونَ فِيهِ، فأدخلا جَميعًا فأطلعتهما بعد أَيَّام وَقد تَغَيَّرت أكفانَهما، ثُمَّ أطلعتهما وَقد تزايلت لحومهما، ثُمَّ رأيتهما وَقد تفصلت الْعِظَام واختلطت فَمَا أعرفُ الْمِسْكِين من الْملك، فَمَا يُعجبنِي ملكك. فَلَمَّا خرج اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة.
هَذَا الَّذِي تعرفُ الْبَطْحَاء وطأته
حَدَّثَنِي أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن زَكَرِيّا قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بن مُحَمَّد بن عَائِشَة قَالَ: حَدَّثَنِي أبي أَن هِشَام بن عبد الْملك حجَّ فِي خلَافَة عبد الْملك أَو الْوَلِيد، فطافَ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَ أَن يسْتَلم الْحجر فَلم يقدر عَلَيْهِ من الزحام، فنصب لَهُ مِنْبَر فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وأطاف بِهِ أهل الشَّام، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبلَ عليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِم السَّلام عَلَيْهِ إزارٌ ورداء، أحسن النَّاس وَجها، وأطيبهم رَائِحَة، بَين عَيْنَيْهِ سجَّادة: أَنَّهَا ركبة عير، فَجعل يطوفُ بِالْبَيْتِ، فَإِذا بلغ الحَجَر تنحَّى الناسُ حَتَّى يستلمه هَيْبَة لَهُ وإجلالا. فغاظَ ذَلِكَ هشامًا، فَقَالَ رجل من أهل الشَّام لِهشام: من هَذَا الَّذِي قد هابه النَّاس هَذِه الهيبة وأفرجوا لَهُ عَن الحَجَر؟ قَالَ هِشَام: لَا أعرفهُ، لِئَلَّا يرغب فِيهِ أهل الشَّام، فَقَالَ الفرزدق وَكَانَ حَاضرا: لكني أعرفهُ، فَقَالَ الشَّامي: من هُوَ يَا أَبَا فراس؟ فَقَالَ الفرزدق:
هَذَا الَّذِي تعرفُ الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفُهُ والحلُّ والحَرَمُ
هَذَا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهمُ ... هَذَا النقيّ التيُّ الطاهرُ الْعلم
إِذا رَأَتْهُ قريشٌ قَالَ قَائِلهَا ... إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الْكَرم
ينمي إِلَى ذرْوَة العزِّ الَّتِي قصرت ... عَن نيلها عَرَبُ الإسلامِ والعجم
يكَاد يُمْسكه عرفانَ رَاحَته ... ركنُ الحطيمِ إِذا مَا جَاءَ يسْتَلم
يغضي حَيَاء ويُغْضِي من مهابته ... وَلَا يكلَّم إِلَّا حينَ يبتسم
بكفّه خيزرانٌ ريحُهُ عبقٌ ... من كفِّ أروعَ فِي عرنينه شمم
مشتقةٌ من رَسُول الله نَبْعَتُهُ ... طابتْ عناصرُهُ والْخِيمُ والشِّيم
ينجابُ نورُ الْهدى عَن نورِ غرته ... كَالشَّمْسِ ينجابُ عَن إشراقها الظُّلم
حمَّال أثقالِ أقوامٍ إِذا قُدِحُوا ... حُلْو الشَّمَائِل تَحلو عِنْده نعم
هَذَا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنت جاهلَه ... بجدِّه أنبياءُ اللَّه قد ختموا
اللَّه فضَّله قِدْمًا وشرَّفه ... جرى بذاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ الْقَلَم
مَنْ جدُّه دَان فضلُ الأنبياءِ لَهُ ... وفضلُ أمته دانتْ لَهُ الْأُمَم
عمَّ البريةَ بالإحسانِ فانقشعت ... عَنْهَا الغياية والإملاقُ وَالظُّلم
كلتا يَدَيْهِ غياثٌ عمَّ نفعهما ... يستوكفانِ وَلَا يعروهما الْعَدَم
سهلُ الخليقةِ لَا تُخشى بوادره ... يزينُهُ اثْنَتَانِ الْحلم وَالْكَرم(1/680)
لَا يُخْلِفُ الوعدَ ميمونٌ نقيبته ... رحبُ الْفِناءِ أريبٌ حينَ يعتزم
من معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كفرٌ وقربهمُ مَنْجًى وَمُعْتَصَم
يُسْتَدْفَعُ السوءُ والبلوى بِحبِّهمُ ... ويسترقُّ بِهِ الْإِحْسَان وَالنعَم
مقدَّمٌ بعد ذكرِ الله ذكرهمُ ... فِي كلِّ يومٍ ومختومٌ بِهِ الْكَلم
إِن عدَّ أهلُ التقى كَانُوا أئمتهم ... أَو قيلَ مَنْ خَيْرُ أهلِ الأَرْض قيلَ هُمُ
لَا يَسْتَطِيع جوادٌ بُعْدَ غايتهم ... وَلَا يدانيهم قومٌ وإنْ كَرموا
هم الغيوث إِذا مَا أمةٌ أَزَمَتْ ... والأُسْدُ أُسْدُ الشَّرى والبأسُ مُحْتَدِمُ
يَأْبَى لَهم أَن يحلَّ الذمُّ ساحتَهم ... خيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالنَّدى هضم
لاينقص الْعُسْرُ بسطًا من أكفهمُ ... سيان ذَلِكَ إِن أَثروا وَإِن عدموا
أيّ الْخَلَائق لَيست فِي رقابِهم لأولية هَذَا أَو لَهُ نعم
من يعرف الله يعرفْ أوَّلَّية ذَا ... فالدّين من بَيت هَذَا ناله الْأُمَم
قَالَ: فَغَضب هِشَام وَأمر بِحَبْس الفرزدق، فحبس بعسفان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. فبلغَ ذَلِكَ عليَّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِم السَّلام، فَبعث إِلَى الفرزدق اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وَقَالَ: اعذر أَبَا فراس، وَلَو كَانَ عندنَا أَكثر مِنْهَا لوصلناك بِهَا.
فردَّها وَقَالَ: يَا ابْن رَسُول الله. مَا قلتُ الَّذِي قلت إِلَّا غَضبا لله وَلِرَسُولِهِ، مَا كنت لأرزأ عَلَيْهِ شَيْئا. فردَّها إِلَيْهِ وَقَالَ: بحقي عليكَ لَمَا قبلتها، فقد رأى الله مَكَانك وَعلم نيتك، فقبلها، فَجعل يهجو هشامًا، فَكَانَ مِمَّا هجاهُ بِهِ:
أيحسبني بَين الْمَدِينَة وَالَّتِي ... إِلَيْهَا قلوبُ النَّاس يهوي منيبها
يقلِّب رَأْسا لَمْ يكن سيد ... وعينين حولاوين بادٍ عيوبها
فَبعث وَأخرجه.
الْمجْلس الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ
وَفد ثَقِيف إِلَى الرَّسُول
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ يس أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْرَائِيلَ قَالَ، حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ الْبَصْرِيُّ عَنْ خَصِيبِ بْنِ جَحْدَرٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُفَيٍّ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفَ عَلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَيْئَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ طَوِيلَةً أَشْعَارُهُمْ وَشَوَارِبُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " امْكُثُوا وتعلَّموا الْقُرْآنَ، وخذوا من أَشْعَاركُم وشواربكم وأظافركم "، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا، فَاسْتَعْرَضَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَطْهَرَهُمْ ثِيَابًا وَأَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا قَدْ فَضَلَهُمْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فأمَّره عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِذَا صلَّيت بِقَوْمِكَ فصلِّ بِأَضْعَفِهِمْ فإنَّ خَلْفَكَ الْكَبِيرَ وَالسَّقِيمَ وَذَا(1/681)
الْحَاجَةِ وَلا يَتَّخِذُونَ مُؤَذِّنًا يَطْلُبُ عَلَى أَذَانِهِ الأُجْرَةَ.
تَعْلِيق على الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر أوضح دليلٍ على أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ التنظفَ وإماطةَ الْأَذَى عَن الْجَسَد، ويكرهُ القذارة الَّتِي هِيَ من هيئات أهل الْجفَاء ومفارقة مَا يؤثره ذَوُو الأدبِ والمروءة. وَقد أَتَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلام فِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا أشبهه أخبارٌ كَثِيرَة، وَذَلِكَ أَكثر وأوضح وَأظْهر من أَن يحْتَاج إِلَى استقصاء مَا ورد فِيهِ لاشتراك الْخَاصَّة والعامة فِي مَعْرفَته، واستحسان تَفْصِيله وَجُمْلَته. وَفِيهِ أَيْضا الدّلَالَة البيّنة على فضل أهل الْقُرْآن وحَفَظَته وحَمَلَته، وأنّ مَنْ جَمَعَهُ أوفرهم حظًّا وأشرفُهُم منزلَة وأعلاهُمْ رُتْبَة وأولاهم بالتقدمة وأحقُّهم بالتأمر عَلَيْهِم. وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنى أَكثر من أَن يُحيطَ الآدميونَ بِهِ، وَلَو لَمْ يأتِ فِيهِ إِلَّا مَا تَوَاتَرَتْ الأخبارُ بِهِ من قَول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل الْقُرْآن أهل الله وخاصته "، وَقَوله: " خَيركُمْ من تعلّم الْقُرْآن وَعلمه ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: أفضلكم. وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدِّم الأقرأ فالأقرأ لكتاب الله من أَصْحَابه.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي من استشهدَ مِنْهُم يَوْم أحد: " زمّلوهم بدمائِهم وَلَا تغسلوهم، ودفنوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فِي قبرٍ واحدٍ، وقدِّموا إِلَى الْقبْلَة أَكْثَرهم قُرْآنًا ".
مقَالَة أعشى هَمدَان فِي أهل الْبَصْرَة والكوفة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا العكلي قَالَ، حَدَّثَنَا سعيد بن يحيى الْأمَوِي قَالَ، حَدَّثَنِي عمي عُبَيْد بن سعيد عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ قَالَ: قدمتُ الْبَصْرَة فجلستُ فِي حلقةٍ فِيهَا الْأَحْنَف بن قيس، فَقَالَ لي رجلٌ من أهل الْحلقَة: مِمَّن أَنْت؟ قلت: من أهل الْكُوفَة، فالتفتَ إِلَى جليسه فَقَالَ: هَذَا مَوْلَانَا، فقلتُ لَهُ: أتدرونَ مَا قَالَ أعشى هَمدَان فِينَا وَفِيكُمْ؟ قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قلت:
وَإِذا فاخرتمونا فاذكروا ... مَا فعلناهُ بكم يومَ الْجمل
بَين شيخٍ خاضبٍ عثنونَهُ ... وفتى أبيضَ وضاحٍ رِفَلْ
جَاءَنَا يهدرُ فِي سابغةٍ ... قد ذبحناهُ ضحى ذَبْحَ الحَمَلْ
وعفونا فنسيتم عَفَوْنَا ... وكفرتم نعمةَ الله الْأَجَل
وقتلتم خشبيِّين بهم ... بدلٌ من قومكم شرَّ بَدل
قَالَ: فَغَضب الْأَحْنَف وَقَالَ لجاريته: هَاتِي تِلْكَ الصَّحِيفَة، فَإِذا فِيهَا من الْمُخْتَار بن أبي عُبَيْد إِلَى الْأَحْنَف بن قيس وَمَنْ قِبَلُه من مُضر: أما بعد فويل لمضر، من شرِّ أمرٍ قد 1حضر، وَإِن الْأَحْنَف موردٌ قومَه حرَّ سقر، حَيْثُ لَا يقدر لَهُم على صَدَر، وَلَقَد بَلغنِي أنَّكم تكذبون رُسُلِي، وَلَئِن فَعلْتُمْ لقد كُذِّبت الرسلُ من قبلي، وكتبت بِخَبَر من كُذِّبَ مِنْهُم،(1/682)
وَالسَّلَام. قَالَ الْأَحْنَف: هَذَا منا أَو مِنْكُم؟ فقمتُ وَمَا أحير جَوَابا.
دفن الرشيد مُحَمَّد بن الْحَسَن وَالْكِسَائي بالريّ
حَدَّثَنِي أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ، أَخْبرنِي أَبُو الْحسن ابْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب قَالَ: حُدِّثْتُ أَن مُحَمَّد بن الْحَسَن وَعلي بن حَمْزَة الْكسَائي كَانَا بِالريِّ مَعَ الرشيد، وأنَّهما مَاتَا فِي يومٍ واحدٍ بقرية من قرى الريّ يُقالُ لَهَا الرّنبويه، فجزع الرشيد عَلَيْهِمَا وَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إلبه رَاجِعُون، دفنتُ الفقهَ واللغةَ فِي يَوْم وَاحِد، وَكَانَ اليزيدي حاضراَ فَأَنْشَأَ يَقُول:
تصرَّمت الدُّنْيَا فَلَيْسَ خلودُ ... وَمَا قد يُرَى من بهجةٍ سيبيدُ
أَسِيتُ على قَاضِي الْقُضَاة محمدٍ ... فأذريتُ دمعاَ والفؤادُ عميد
وقلتُ إِذا مَا الخطبُ أشكلَ من لنا ... بإيضاحه يوماَ وَأَنت فقيد
فأوجعني موت الْكِسَائي بعده ... وكادت بِي الأرضُ الفضاءُ تَميد
هما عالِمان أوديا وتخرَّما ... وَمَا لَهما فِي العالِمين نديد
قَالَ الرشيد: أحسنتَ يَا بصريّ، قد كنت تظلمه فِي حَيَاته وأنصفته بعد مَوته.
شُرُوح لغوية
قَالَ القَاضِي: قَوْله: " أوديا معناهُ هلكا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
وَلم يُودِ مَنْ كنتَ تسْعَى لَهُ ... كَمَا قيلَ فِي الحربِ أَوْدَى درم
وَمعنى " ونخرما " مثله، فَهُوَ الْهَلَاك وانقطاعُ الْأَجَل وتصرم الْعُمر، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ:
سبقوا هويَّ وَأعنقوا لسبيلهم ... فتخرِّموا ولكلِّ جنب مصرعُ
ويروي: فقدتهم. وَقَالَ: " هزيّ " وَهِي فِيمَا قيل لُغَة هديل يَجْعلونَها بِمنزلة عليَّ وإليَّ، وَذكر أَنَّهَا لُغَة بعض بني سُلَيْم، وَقد قَرَأت القرأة بِهاتين اللغتين فِي الْقُرْآن. فأمَّا جُمْهُور القرأة فيقرأون بلغَة أهل الْحجاز وَعَامة الْعَرَب، وَقد رويت الْقِرَاءَة الْأُخْرَى عَن أبي طفيل عَامِر بن وَاثِلَة وَعبد الله بن إِسْحَاق الحضرميّ وَعَاصِم الجحدري وَعِيسَى بن عمر الثَّقَفِيّ، وَرفع عضهم مَا رُوِيَ عَن أبي الطُّفَيْل إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمن هَذِه اللُّغَة قَول الشَّاعِر:
فأَبْلُوني بليَّتكم لعليّ ... أصالحكم واستدرج نَوَيّا
يريدُ: نواي.
وَقَالَ آخر:
يطوِّف بِي عكبٌّ فِي معدٍّ ... ويطعنُ بالصُّملَّة فِي قفيَّا
فإنْ لَمْ تثأرا لي من معدٍّ ... فَلَا أرويتما أبدا صديَّا
أَرَادَ: قفاي وصداي. وَذكر أَن طَلْحَة قَالَ وَقد ذكر لَهُ بيعَته أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي(1/683)
طَالب عَلَيْهِ السَّلام: بايعتُ واللجُّ على قفيَّ. اللج: السَّيْف، وَقيل إِن طَلْحَة تزوج امْرَأَة هندية فتكلَّم بلغتهَا. وَقد اخْتلف البصريون والكوفيون من النُّحَاة فِي عِلّة الْفرق بَين عليَّ وإليَّ ولديَّ وَبَين هواي وقفاي وعصاي، وَبَيَان هَذَا واستقصاء مَا فِيهِ مرسوم فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي الْقُرْآن. وَقَول اليزيدي " وَمَا لَهما فِي العالِمين نديد ": النديد " الندّ وَمِنْه قَول لبيد.
أحمدُ الله فَلَا ندَّ لَهُ ... بيدَيْهِ الخيرُ مَا شَاءَ فَعَلْ
والندّ والنديد فِيهِ لُغَات: ندّ ونديد ونديدة. فَمن الند والنديد قَول جرير يهجو عمر بن بن لَجأ:
أتيتم تجعلونَ إليَّ ندًّا ... وَمَا تيمٌ بِذِي حسبٍ نديدِ
وأمّا النديدة فَإِن الْهَاء ألحقت فِيهِ للْمُبَالَغَة، كقوللهم فِي الْمَدْح راوية وعلامة ونسابة، وَفِي الذَّم هلباجة وفَرُوقة وَمَلولة. وَزعم الْفراء أَن الهاءَ أُدْخِلَت فِي هَذَا يُرَاد بِهَا أَن الممدوح بِمنزلة الداهية والمذموم بِمنزلة الْبَهِيمَة. وَمن النديدة قَول الشَّاعِر:
لِئَلَّا يكون السندريُّ نديدتي ... وأتركَ أعماماً عُمُوما عماما
ويَجمع الند أندادًا، قَالَ الله عز وَجل " فَلا تَجْعَلُوا للَّه أنداد " " الْبَقَرَة: 31 " وَمِنْه قَول الْأَعْشَى ":
فَقَالَ تزيدونني تِسْعَة ... وَلَيْسَ بكفؤٍ لأندادِها
وَزعم بعضُ أهل اللُّغَة أَنَّهُ يُقال للضد ندّ أَيْضا وَأَنه من حُرُوف الأضداد.
منازعات اللغويين فِي مجْلِس الْمهْدي
وَقد كَانَت تجْرِي بَين الْكسَائي واليزيدي منازغةٌ وهفوات، ومماراة وخصومات، عِنْد الملاحاة فِي اللُّغَة، والمجادلة فِي مقاييس النَّحْو وأبواب الْعَرَبيَّة، وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا مُتَقَدم وعلمٌ مبرز فِي مَعْرفَته، ذُو حظٍّ عَظِيم من علم الْقُرْآن وَإِعْرَابه، وَجُمْلَة النَّحْو وأبوابه، رَحْمَة الله علينا وَعَلَيْهِمَا وَبَرَكَاته. فممَّا دَار بَينهمَا من الْخُصُومَة واللحاء، والمنازعة والمراء، مَا حدَّثنيه عُبَيْد الله بن أَحْمَد الْكَاتِب أحد إِخْوَاننَا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ، حَدَّثَنِي عمي عُبَيْد الله بن مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّد أبي قَالَ: كُنَّا مَعَ الْمهْدي بِبَلَد فِي شهر رَمَضَان قبل أَن يُستخلف بأَرْبعَة أشهر، وَكَانَ الْكِسَائي مَعنا، فَذكر الْمهْدي الْعَرَبيَّة وَعِنْده شيبَة بن الْوَلِيد الْعَبْسِي عمُّ دفافة، فَقَالَ الْمهْدي: يُبعث إِلَى اليزيدي وَإِلَى الْكسَائي، وَأَنا يَوْمئِذٍ مَعَ يزِيد بن مَنْصُور خَال الْمهْدي، وَالْكِسَائي مَعَ الْحَسَن الْحَاجِب، قَالَ: فجاءنا الرَّسُول فَجئْت، وَإِذا الكسائيُّ على الْبَاب، فَقَالَ لي: يَا أَبَا مُحَمَّد أعوذُ بِاللَّه من شرّك، قَالَ فقلتُ لَهُ: وَالله لَا تُؤْتَى من قبلي حَتَّى أُوتى من قبلك، قَالَ: فلمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ أقبل عليَّ فَقَالَ: كَيفَ نسبوا إِلَى الْبَحْرين بحراني ونسبوا إِلَى الحصنين فَقَالُوا: حصني وَلم يَقُولُوا حصناني كَمَا قَالُوا بَحراني؟ قَالَ، قلت: أصلح الله(1/684)
الْأَمِير، إنَّهم لَو نسبوا إِلَى الْبَحْرين فَقَالُوا بحريّ لَمْ يُعرف إِلَى الْبَحْرين نسبوه أم إِلَى الْبَحْر، وَلما جَاءُوا إِلَى الحصنين لَمْ يكن مَوضِع آخر يُقال لَهُ الْحصن ينْسب إِلَيْهِ غير الحصنين فَقَالُوا: حصني. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فَسمِعت الْكِسَائي يَقُول لعمر بن بزيع، وَكَانَ حَاضرا: لَو سَأَلَني الْأَمِير لأخبرته بعلَّةٍ هِيَ أحسنُ من هَذِه. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقلت: أصلح الله الْأَمِير إِن هَذَا يزْعم أنَّكَ لَو سَأَلته لأجابَ بِأَحْسَن مِمَّا أجبتُ بِهِ. قَالَ: فقد سَأَلته، فَقَالَ الْكِسَائي: إنَّهم لَمّا نسبوا إِلَى الحصنين كَانَت فِيهِ نونان، فَقَالُوا حصنيّ فاجتزءوا بِإِحْدَى النونين عَن الْأُخْرَى، وَلم يكن فِي الْبَحْرين إِلَّا نون وَاحِدَة فَقيل بحراني، فقلتُ: أصلح الله الْأَمِير كَيفَ ينْسب رجلا من بني جنان؟ يلْزمه أَن يَقُول جنّي لِأَن فِي جنّان نونين، فَإِن قَالَ ذَلِكَ فقد سوَّى بَينه وَبَين الْمَنْسُوب إِلَى الجنّ. قَالَ الْمهْدي: فتناظرا فِي غير هَذَا، قَالَ: فتناظرنا فِي مساءل حُفِظَ قولي وَقَوله فِيهَا قَالَ: إِلَى أَن قلت: كَيفَ تَقُولُ إِن من خير الْقَوْم أَو خَيرهمْ بتة فقلتُ: أعزّ الله الْأَمِير لِأَن يُجيبَ فيُخطئ فيتعلّم أحسن من هَذِه الإطالة، قَالَ فَقَالَ: إِن من خير الْقَوْم أَو خيرُهم نِيَّة زيدا، قَالَ: فقلتُ: أصلح الله الْأَمِير مَا رَضِي أَن يلحن حَتَّى لحن وأحال، قَالَ: كَيفَ؟ قَالَ قلت: لرفعه قبل أَن يَأْتِي بِالِاسْمِ ونصبه بعد رَفعه، قَالَ: فَقَالَ شيبَة بن الْوَلِيد: أَرَادَ بأوبل، قَالَ: فقلتُ: هَذَا تَعْنِي، فَقَالَ الْكِسَائي: مَا أردتُ غيرَ ذَلِكَ، قَالَ فَقلت: قد أَخطَأ جَميعًا أيّها الْأَمِير، لَو أَرَادَ بأوّبل لرفع زيدا لِأَنَّهُ لَا يكون بَلْ خيرُهم زيدا. قَالَ فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: يَا كسائي لقد دخلت إليَّ مَعَ سَلمَة النَّحْوِيّ وَغَيره فَمَا رَأَيْت كَمَا أَصَابَك الْيَوْم. ثُمَّ قَالَ الْمهْدي: هَذَانِ عالِمان وَلَا يقْضي بَينهمَا إِلَّا أعرابيٌّ فصيح تُلْقَى عَلَيْهِ الْمسَائِل الَّتِي اخْتلفَا فِيهَا فيُجيب.
قَالَ: فبعثَ إِلَى فصيح من فصحاءِ الْأَعْرَاب. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فَإلَى أَن يَأْتِي الْأَعرَابِي أطرقت، وَكَانَ الْمهْدي محبًّا لأخواله، وَمَنْصُور بن يزِيد بن مَنْصُور خَاله حَاضرا. قَالَ فقلتُ: أصلح الله الْأَمِير كَيفَ يُنشدُ هَذَا الْبَيْت من هَذِه القصيدة:
يَا أيُّها السائلي لأخبر ... عَمَّن بصنعاءَ من ذَوي الحَسَبِ
حمير سادتها تقرُّ لَهَا ... بالفضلِ طرًّا جحاجحُ العربِ
وإنّ من خَيرهمْ وَأكْرمهمْ ... أَو خَيرهمْ بتةً أَبُو كَرِبِ
فَقَالَ الْمهْدي: كَيفَ تُنشد أَنْت؟ قَالَ فقلتُ: أَو خيرَهم بتةً أَبُو كرب على معنى إِعَادَة " إنَّ ". قَالَ فَقَالَ الْكِسَائي: هُوَ قَالَهَا السّاعة أصلح اله الْأَمِير.
قَالَ: فتبسَّم الْمهْدي وَقَالَ إنَّك لتُجيدُ لَهُ وَمَا تَدْرِي. قَالَ: ثُمَّ طلع الْأَعرَابِي الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ فألقيتُ الْمسَائِل عَلَيْهِ، وَكَانَت ستَّ مسَائِل، فأجابَ عَنْهَا كلهَا بِقَوْلِي. قَالَ: فاستفزّني السرُور حَتَّى ضربتُ بقلنسوتي الأَرْض وَقلت: أَنا أَبُو مُحَمَّد. قَالَ فَقَالَ شيبَة بن الْوَلِيد:(1/685)
تكنى بِاسْمِك أيُّها الْأَمِير!! فَقَالَ الْمهْدي: وَالله مَا أَرَادَ مَكْرُوها وَلكنه فعل مَا فعل للظفر، ولعمري لقد ظفر. قَالَ فَقلت: إِن الله عَزَّ وَجَلَّ أنطقك أيُّها الْأَمِير بِما أَنْت أَهله، وأنطقَ غَيْرك بِما هُوَ أَهله.
قَالَ: فلمّا خرجنَا قَالَ لي شيبَة: تخطِّئني بَين يَدي الْأَمِير؟! أما لتعلمنّ. قَالَ فَقلت: قد سمعتُ مَا قلت وَأَرْجُو أَن تجدَ غبّها. قَالَ: ثُمَّ لَمْ أصبح حَتَّى كتبتُ رِقَاعًا عدَّة، فَلم أدع ديوانًا حَتَّى دسستُ إِلَيْهِ رقْعَة فِيهَا أَبْيَات قلتهَا، فَأصْبح الناسُ ينشدونَها وَهِي:
عش بجدٍّ وَلَا يَضرك نوكٌ ... إنَّما مَنْ تَرَى بالجدود
عش بجد وَكن هبنّقةَ القيسيَّ نوكًا أَو شيبةَ بن الْوَلِيد
شيبَ يَا شيبَ يَا جديَّ بني الْقَعْقَاع مَا أَنْت بالحليم الرشيد
لَا وَلَا فيكَ خلَّةٌ من خلال ال ... خير أحرزتها بحزمٍ وجود
غير مَا أَنَّك الْمجِيد لتقطيع غناءٍ أَو ضَرْبِ دفٍّ وعود
فعلى ذَا وَذَاكَ يُحْتَمَلُ الدهرُ مجيدًا لَهُ وغيرَ مَجيد
قَالَ أَبُو عبد الله، وَحَدَّثَنِي عمي عُبَيْد الله قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر أخي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد قَالَ: كَانَت تحتبس أرزاق الْكِسَائي فَيصير إليّ فَيَقُول لي: اكْتُبْ لي رقْعَة إِلَى جَعْفَر بن يَحْيَى فأكتب لَهُ.
قَالَ القَاضِي: وَقد أحسنَ اليزيدي فِيمَا أجابَ بِهِ، وأَلْطَفَ فِي نظره وَقِيَاسه، وأتى فِيمَا بَينه وَبَين الْكِسَائي من الْجفَاء بِما كَانَ الأوْلَى بِهِ خِلَافه، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ لَو حابَى الكسائيَّ وأغضى لَهُ، فقد كَانَ يعرفُ فَضله وتمكُّنه من الْعلم ونبله. وَالْمَسْأَلَة التّتي سَأَلَهُ عَنْهَا بِحَضْرَة الْمهْدي لطيفةٌ، وتعرضُ كثيرا فِي أمثالِها الشُّبْهَة، وَقد سَأَلَهُ عَنْهَا واستبطأهُ فِي جوابِها وأنَّبه على تَأْخِيره الْجَواب عَنْهَا، وَمَا أرى الزيدي حصَّل جوابَها عِنْد ابْتِدَاء وُقُوعهَا إِلَيْهِ على البدار والبديهة حَتَّى أنعمَ فِيهَا نظره وأعملَ فِيهَا فكره. وَقد كنت أمللتُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كلَاما، وشرحت مَا استدلَّ بِهِ اليزيدي فِيهَا وَالْوَجْه الَّذِي تعلّق بِهِ الْكِسَائي فِي إجَابَته عَنْهَا، كرهتُ إِعَادَته والإطالة هَاهُنَا بِذكرِهِ.
الْأَصْمَعِي وَالْجَارِيَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد قَالَ، قَالَ الْأَصْمَعِي: دخلت عَلَى جَعْفَر بْن يَحْيَى بْن خَالِد يَوْمًا من الأيَّام فَقَالَ لي: يَا أصمعي هَلْ لَك من زوجةٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فجارية؟ قُلْتُ: جاريةٌ للمِهْنة، قَالَ: فَهَل لَك أَن أهبَ لَك جَارِيَة نظيفة؟ قُلْتُ: إِنِّي لمحتاجٌ إِلَى ذَلِكَ، فَأمر بِإِخْرَاج جاريةٍ إِلَى مَجْلِسه، فخرجتُ جاريةٌ فِي غَايَة الْحَسَن وَالْجمال والهيئة والظَّرف، فَقَالَ لَهَا: قَدْ وهبتُكِ لهَذَا. وَقَالَ لي: يَا أصمعي(1/686)
خُذْهَا، فشكرته؛ وبكت الْجَارِيَة وَقَالَ: يَا سيِّدي تدفَعُني إِلَى هَذَا الشَّيْخ مَعَ مَا أرى من سَمَاجته وقُبْح منظره؟! وجَزِعَت جزعًا شَدِيدا، فَقَالَ: يَا أَصْمَعيُّ: هَلْ لَك أَن أعوضِّك مِنْهَا ألف دِينَار؟ قُلْتُ: مَا أكرهُ ذَلِكَ. فَأمر لي بِأَلف دِينَار وَدخلت الْجَارِيَة، فَقَالَ لي: يَا أصمعي إِنِّي أنكرتُ على هَذِه الْجَارِيَة أمرا فأردتُ عقوبتها بك، ثُمّ رحمتها مِنْك. فقلتُ: أيُّها الْأَمِير فألا أعلمتَني قبل ذَلِكَ؟ فإنِّي لَمْ آتِك حَتَّى سرَّحت لِحْيتي وأصلحتُ عِمَّتِي، وَلَو عرفتُ الْخَبَر لحضرتُ على هَيْئَة خلقتي، فوَاللَّه لَو رأتْني كَذَلِك لما عاودتْ شَيْئا تكرههُ مِنْهَا أبدا مَا بَقِيَتْ.
النِّسَاء تَمْقُت بَحشلا لدمامته وجهامة صورته
حَدَّثَنِي الْحَسَن بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق أحد إِخْوَاننَا عَن بحشل الْقَارئ، وَكَانَ مَشْهُورا بِحسن الصَّوْت ينتابه النَّاس لاستماع قِرَاءَته وعذوبة تِلَاوَته، قَالَ: كَانَ بحشَل مشنوءَ الْخلقَة شتيم الْوَجْه جهم الصُّورَة، وَكَانَ يُرِيد النكاحَ، فَإِذا خطبَ النِّسَاء ردَّ وَلم يُرَدْ لبشاعة منظره، وَإِذا شرع فِي ابتياع الْإِمَاء أَبَيْنَهُ ونبون عَنْهُ، والتوين عَلَيْهِ، ورغبن عَن مخالطته. فَشَكا إِلَى صديق لَهُ يأنس بِهِ مَا يلقى م مضض التعزُّب وَتعذر المباعلة، ويقاسي من شدَّة الشَّبق وفَقْدِ المباضعة ونفور النِّسَاء عَنْهُ لسماجة الْخلقَة، فَقَالَ لَهُ: أَنا أسعى لَك فِي هَذَا بِما يُؤَدِّي إِلَى محبتك. وَمضى إِلَى سوق الرَّقِيق فَابْتَاعَ جَارِيَة حلوة مَقْبُولَة وَصَارَ بِهَا فِي آخر النَّهَار إِلَى منزل بحشل، فلمَّا استقرا فِي منزله أحضر الطَّعَام واجتمعا على الْعشَاء ثُمَّ وثب الرَّجل فودَّع بحشلا وخلَّف الْجَارِيَة عِنْده فتعلقت بِثَوْبِهِ وَقَالَت: إِلَى أَيْن تمْضِي وتخلّفني؟ فَقَالَ: أمضي إِلَى منزلي وَأَنت عِنْد مولاكِ. قَالَت: وَمن مولَايَ؟ فقَالَ: هَذَا، فصرخت وَقَالَت: ظننتُ أَنَّك مولَايَ، وَأما هَذَا فَلَو أُرغبت أَو أرهبت بكلِّ شَيْء مَا خاليته فِي منزلٍ. فَلم يزل الرجل يديرها ويلويها، ويستعطفها وَيُدَارِيهَا، ويبذل لَهَا فاخر الكساء ونفيسَ الْحُلي والإخدام، والتكرمة والإعظام، وَهِي مصرَّةٌ على نفورها، مقيمةٌ على إبائها. فلمَّا يئس من قبُولهَا قَالَ لَهَا: فَإِنِّي مباكرٌ إِلَى هناهنا وحاملك إِلَى السُّوق للْبيع. قَالَت: فَأَيْنَ أبيتُ؟ قَالَ: هَاهُنَا، قَالَت: لَا أفعل، قَالَ: فإنّا ندخلك بَيْتا تبيتين فِيهِ ونقفله عَلَيْك، قَالَت: على أَن يكون مفتاحه معي. فَفعل ذَلِكَ وانصرفَ الرجل، وَقَامَ بحشل وَقت وِرْدِهِ من اللَّيْل لصلاته، وَرفع بِالْقِرَاءَةِ صَوته، فطربت إِلَيْهِ وشُغفت بِهِ، وَوَقع فِي قَلبهَا حبه، فَجعلت تناديه: يَا مولَايَ، يَا مولَايَ، خُذ الْمِفْتَاح وَافْتَحْ الْبَاب وأخرجني إِلَيْك أَو ادخل إليّ فَأَنا طوعُ يَديك. فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا حَتَّى قضى صلَاته، ثُمَّ فتح الْبَاب فَجعلت تعتذرُ إِلَيْهِ وقبَّلت يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ واستولدها.
قَالَ القَاضِي: وَقد روينَا خَبرا يُضارعُ هَذَا من وجهٍ بعض المضارعة وأخّرنا إثْبَاته لِئَلَّا يطول الْمجْلس بِهِ ويتجاوز حَده، ونحنُ راسموهُ فِي الْمجْلس الَّذِي يَلِيهِ إِن شَاءَ الله.(1/687)
الْمجْلس الثَّاني وَالتِّسْعُونَ
حَدِيثٌ لَا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَكْرٍ السُّكَّرِيُّ سنة تسع عشرَة وثلاثمائة قَالَ، حَدَّثَنَا يَعِيشُ بْنُ الْجَهْمِ الْحَدَثِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لمسلمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَلْقَاهُ هَذَا فَيُعْرِضُ، وَيَلْقَاهُ هَذَا فَيُعْرِضُ عَنْهُ، فَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِالتَّسْلِيمِ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ ".
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ أخبارٌ كَثِيرَةٌ مِنْ طرقٍ شتَّى، وَإِسْنَادُ هَذَا الْخَبَرِ غَرِيبٌ لَمْ نَسْمَعْهُ إِلا مِنْ هَذَا الشَّيْخِ، وَحُفَّاظِ الْحَدِيثِ لَا يَعْرِفُونَهُ إِلا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَفِيهِ حَثٌّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّوَاصُلِ والتبارِّ وَالتَّبَاذُلِ وَحَسْمِ أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَتَشْتِيتِ الأُلْفَةِ وَتَشْعِيثِ الْمَوَدَّةِ بِالْحَسَدِ وَالتَّقَاطُعِ والتدابر والتمانع والمصارمة وَالتَّنَازُعِ.
نصيحة لُقْمَان لِابْنِهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان الأشنانداني قَالَ، حَدَّثَنَا التوّزي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَة قَالَ: حدِّثت أَن لُقْمَان قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُني عَلَيْك بخلالٍ إِن تمسكت بِهنَّ لَمْ تزل سيدًا: ابْسُطْ حلمَكَ للغريب والقريب، وأَمْسِك جهلك عَن الْكَرِيم واللئيم، واحفظ إخوانكَ، وصلْ أقاربك، وَليكن خلانك من إِذا فَارَقْتهمْ وفارقوك لَمْ تَبِعَهُمْ وَلم يبيعوك؛ وخصلتان يزينانك: اعْلَم أَنَّهُ لَا يطَأ بساطك إِلَّا رَاغِب فِيك أَو رَاهِب مِنْك. فأمَّا الراهب مِنْك فأدن مَجْلِسه، وتهلل فِي وَجهه، وَإِيَّاك والغمز من وَرَائه. وأمّا الراغبُ فِيك فابذل لَهُ البشاشة وابدأهُ بالنوال قبل السُّؤَال، فَإنَّك مَتى تلجئه إِلَى مسألتك تَأْخُذ من حرِّ وجهِهِ ضعْفي مَا تعطيه.
الفرزدق يَمدح عَمْرو بن عتبَة
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يزِيد قَالَ، أَخْبَرَنَا الْمَازِني عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: دخل الفرزدق على عَمْرو بن عتبَة فِي دَاره بالزاوية وَهُوَ يسلتُ العرقَ عَن وَجهه، فأنشده:
لَوْلَا ابنُ عتبةَ عَمْرو والرجاءُ لَهُ ... مَا كَانَت البصرةُ الحمقاءُ لي وطنا
أَعْطَانِي المَال حَتَّى قلتُ يودعني ... أَو قلتُ أودَعُ مَالا قد رآهُ لنا
فجودُهُ متعبٌ شكري ومنَّته ... فكلّما زدتُ شكرا زادني مننا
يري بِهمته أقْصَى مسافتها ... وَلَا يريدُ على معروفه ثَمنا
قَالَ: فَقَالَ عَمْرو بن عتبَة: يَا أَبَا فراس نَحن نبتاعُ مِنْك حماقةَ بصرتنا بِأَلف دِينَار،(1/688)
وَأمر لَهُ بِهَا.
من كَانَ على شَرط جالوت
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ، حَدَّثَنَا الصَّلْت بن مَسْرُوق الْكُوفِيّ قَالَ، حَدَّثَنِي أبي قَالَ، قَالَ رجل لأبي حنيفَة: مَا بَقِي عليَّ من الْعلم شَيْء، فَقَالَ لَهُ: من كَانَ على شَرط جالوت يَوْم لَقِي طالوت؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَهَذَا شَيْء من الْعلم قد بَقِي عَلَيْك.
تأبين ابْن الحنيفة لِأَخِيهِ الْحَسَن
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلامُ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَبَا مُحَمَّدٍ، فَلَئِنْ عزَّت حَيَاتُكَ لَقَدْ هدَّت وَفَاتُكَ، وَلَنِعْمَ الرُّوحُ رُوحٌ تضمَّنه بَدَنُكَ، وَلَنِعْمَ الْبَدَنُ بَدَنٌ تَضَمَّنَهُ كَفَنُكَ، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ هَكَذَا وَأَنْتَ سَلِيلُ الْهُدَى، وَحَلِيفُ أَهْلِ التُّقَى، وَخَامِسُ أَصْحَابِ الْكِسَا، غَذَّتْكَ كفُّ الْحَقِّ، وَرُبِيتَ فِي حِجْرِ الإِسْلامِ، وَرَضَعْتَ ثَدْيَ الإِيمَانِ، فَطِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْفُسُنَا غَيْرَ طيبةٍ بِفِرَاقِكَ وَلا نَشُكُّ فِي الْخَيْرَةِ لَكَ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ قَبْرِهِ.
بَازِلُ عَاميْنِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب قَالَ: قَالَ لي الرياشي يَوْمًا: كَيفَ تُنْشِدُ هَذَا:
مَا تنقمُ الحربُ العَوانُ منِّي ... بَازِلُ عامينِ حديثٌ سنّي
فقلتُ لَهُ: بازلُ عَاميْنِ على الِابْتِدَاء، وبازلَ عَاميْنِ على الْحَال، وبازلِ عَاميْنِ على الْبَذْل من الْيَاء، وَالله يَا أَبَا الْفضل مَا آتيكَ إِلَّا لِهذه المقطَّعات، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: وَكَانَت قطعه وَالله عسلا.
قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: وَقد حَدَّثَنَا عبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر بِهذه الْقِصَّة على خلاف هَذَا الْوَجْه، فَحكى أَن أَحْمَد بن يحيى قَالَ: كنت عَن ابْن الْأَعرَابِي فَسَأَلَنِي: كَيفَ تُنشدُ " بازل عَاميْنِ " فَذكر أَنَّهُ أخبر بِهذه الْأَوْجه الثَّلَاثَة، قَالَ: فَكَأَنَّهُ لَمْ يرضَ مَا قلت فقلتُ لَهُ: إيّاك أَن تكلّمني فِي النَّحْو فإنَّما آتيكَ لهَذِهِ الخرافات.
قَالَ القَاضِي: ومِمّا حكاهُ الصولي أَن أَحْمَد بن يَحْيَى قَالَ: " على الْبَدَل " وَلَيْسَ هَذَا من أَلْفَاظ الْكُوفِيّين، وإنَّما يَقُولُونَ فِي هَذَا النَّحْو وَمَا جرى مجْرَاه أَنَّهُ تَرْجَمَة وإتباع وردّ(1/689)
وتكرير، وَإِن كَانَ أَحْمَد بن يَحْيَى لَفَظَ بِالْبَدَلِ فَلَعَلَّهُ قصد خطابَ الرياشي بِما يعرفهُ من قَول أَصْحَابه الْبَصرِيين.
الْإِسْكَنْدَر يَمر على مَدِينَة ملكهَا سَبْعَة وبادوا
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنِي الْحَارِث بن مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن شيخٍ من قُرَيْش قَالَ: مرَّ الْإِسْكَنْدَر بمدينةٍ قد ملكهَا أملاكٌ سَبْعَة وبادوا، فَقَالَ: هَلْ بَقِي من نَسْلِ الأملاكِ الَّذِينَ ملكوا هَذِه الْمَدِينَة أحد؟ قَالُوا: نعم، رجل يكونُ فِي الْمَقَابِر.
فَدَعَا بِهِ فَقَالَ: مَا دعاكَ إِلَى لُزُوم الْمَقَابِر؟ قَالَ: أردتُ أَن أعزل عظامَ الْمُلُوك عَن عِظَام عبيدهم فوجدتُ عظامهم وعظامَ عبيدهم سَوَاء. قَالَ لَهُ: فَهَل لَك أَن تتبعني فاحيي بك شرف آبَائِك إِن كَانَت لَك همة؟ قَالَ: إِن همَّتي عظيمةٌ إِن كَانَت بُغيتي عنْدك، قَالَ: حياةٌ لَا موتَ فِيهَا، وشبابٌ لَيْسَ مَعَه هرم، وغنى لَا فقر بعده، وسرور بِغَيْر مَكْرُوه، قَالَ: لَا، قَالَ: فامضِ لشأنكَ وَدعنِي أطلبُ ذَلِكَ مِمَّن هُوَ عِنْده ويَملكه. قَالَ الْإِسْكَنْدَر: هَذَا أحكمُ من رَأَيْت.
قَالَ القَاضِي: وَكُنَّا رسمنا فِي الْمجْلس الَّذِي قبل هَذَا خبرين أحببتُ أَن أَصلهمَا بِخَبَر ثَالِث يضاهيهما من بعض وُجُوههمَا وكرهتُ إطالة الْمجْلس بِذكرِهِ، ووعدتُ بِأَن أثْبته فِي الْمجْلس الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ مَجْلِسنَا هَذَا، وَهَا أَنا راسمهُ هَاهُنَا إِن شَاءَ الله.
فَم الْحُوت وَعلي بن يَقْطِين
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر الحريري عبد الله بن الْحَسَن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِصَاحِب الْمَرْوِيّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن خلف وَكِيع القَاضِي قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو العمراوي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعُتْبِي قَالَ: قدم فَم الْحُوت من الْمَدِينَة بَغْدَاد فَنزل على عَليّ بن يَقْطِين، وَكَانَ لاعبًا بالشطرنج، فَقَالَ لَهُ عَليّ: لاعبني، قَالَ: إنَّ عليَّ يَمينًا أَلا ألعبَ أبدا إِلَّا فِي إمرة مطاعةٍ، قَالَ: فها هُنَالك، فلاعبه فقمره فَم الْحُوت، وَكَانَ مشوَّه الْوَجْه أهدلَ الشّفة السُّفْلى مقلَّص الْعليا مائل الشدق قَبِيح الْأَسْنَان، فَقَالَ لَهُ: احتكم، قَالَ: تقبّلني قبْلَة، قَالَ: أَو الْفِدْيَة قَالَ ذَاك لَك قَالَ ألف دِرْهَم قَالَ: لَا وَالله قَالَ أَلفَيْنِ: قَالَ لَا وَالله، قَالَ: ثَلَاثَة آلَاف، قَالَ: لَا وَالله، قَالَ: أربعةُ آلَاف، قَالَ: هَاتِهَا. فَدَفعهَا إِلَيْهِ وركبَ عليُّ بن يَقْطِين إِلَى الْمهْدي فَأخْبرهُ فاستضحك وَقَالَ: وَيحك أرنيه من حيثُ لَا يراني، فأدخلته عَلَيْهِ من مَوضِع يراهُ الْمهْدي: وَهُوَ لَا يراهُ فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ وَإِلَى تَشْوِيه خَلْقه وقبح فَمه قَالَ لَهُ الْمهْدي: وَيحك يَا عَليّ قد وَالله ربحتَ سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألفا. قَالَ: وكيفَ؟ قَالَ: من لَا يفتدي قبْلَة من هَذَا بِأَرْبَعِينَ ألفا؟! قد ربحت سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألفا.(1/690)
إمرة وأمرة وجِلْسَة وَجَلَسة
قَالَ القَاضِي: قَوْله " إمرةٌ مطاعة " الصَّوَاب فِيهَا أمرة بِفَتْح الْهَمْزَة وَهَذَا مِمَّا ذكره أهل الْعلم فِيمَا تلحن فِيهِ الْعَامَّة فَتَقول: إمرَة بِالْكَسْرِ، والأمرة بِالْفَتْح مَعْنَاهَا المرةُ الْوَاحِدَة من الْأَمر، وأمّا الإمرة فالولاية. وَهَذَا بَاب مطّردٌ منسحبٌ على قياسة جارٍ مستمرٌّ فِي نَوعه، يُقال هِيَ الجلسة والرِّكبة والْقِعدة والنِّيمة بِمعنى الْهَيْئَة، فَإِذا أَرَادَ الْعبارَة عَن الْمرة والمرتين قيل جلْسَة وجلستان وركبة وركبتان وقعدة وقعدتان ونومة ونومتان، وَفِي هَيْئَة نوم النَّائِم نيمة وَأَصلهَا الْوَاو لِأَنَّهَا من النّوم كَمَا قيل خيفة من الْخَوْف، فقلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا. فَأَما حجَّة فَإِنَّهَا مَكْسُورَة الْحَاء، وَزعم قومٌ أَنَّهُ إِذا أريدَ بِهَا الْمرة وَطَرِيق الْعدَد فُتِحَت حاؤها فَقيل حجَّ حجَّةً وَاحِدَة، ومِمّن قَالَ هَذَا الْفراء والأصمعي، وَقَالَ جُمْهُور الْمُحَقِّقين: الْكَلَام فِيهَا بِالْكَسْرِ فِي كلِّ مَوضِع. فأمّا الحجَّة بِمعنى السّنة فَهِيَ بِالْكَسْرِ لَا غير، وَمن ذَلِكَ قَول زُهَيْر:
وقفت بهَا من بعد عشْرين حجَّةً ... فلأيا عرفت الدَّار بعد توهُّم
وَقَول النَّابِغَة الْجَعْدِي:
مَضَت مائةٌ لعامَ ولدتُ فِيهِ ... وعشرٌ بعد ذاكَ وحجَّتان
قَضَاء ابْن شبْرمَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن زِيَاد الْمُقْرِئ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْن عبد الْعَزِيز، قَالَ القَاضِي: وَقد كتب بِهذا إِلَيْنَا الْحُسَيْن بن أَحْمَد بن عبد الْعَزِيز الْجَوْهَرِي من الْبَصْرَة قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو زَيْدٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ شبَّة قَالَ، أَخْبَرَنَا زُهَيْر بن حَرْب عَن جرير قَالَ: قضى ابْن شبْرمَة بقضيةٍ، فَبَلغهُ أنَّ بعض من كَانَ بَينه وَبَينه وَحْشَة تكلَّم فِيها، فَقَالَ ابْن شبْرمَة:
مَا فِي القضاءِ شفاعةٌ لمخاصمِ ... عِنْد اللبيبِ وَلَا الفقيهِ الحاكمِ
أَهْوِنْ عليَّ إِذا قضيتُ بسنَّةٍ ... أَو بالكتابِ برغم أنفِ الراغمِ
وقضيتُ فِي مَا لَمْ أجدْ أثرا بِهِ ... بنظائرٍ معروفةٍ ومعالِمِ
أَوْلِيَاء الله وَالدَّفْع عَنْهُم
حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ مَعَ وُلاةِ الظَّلَمَةِ يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ أَوْلِيَائِهِ.
بَين عُمَر وجَميل
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى عَن أبي عبد الله القر شي قَالَ: خرج عمر بن أبي ربيعَة إِلَى الشَّام، حَتَّى إِذا كَانَ بالجناب لقِيه جَميل بن معمر، فاستنشدهُ عمر بن أبي ربيعَة فأنشده كَلمته الَّتِي يَقُول فِيهَا:(1/691)
خليليَّ فِيمَا عشتما هَلْ رَأَيْتُمَا ... قَتِيلا بَكَى من حبِّ قَاتله قبلي
ثُمَّ استنشده جميل، فأنشده قافيته الَّتِي أَولهَا:
عرفتُ مصيفَ الحيِّ والمتربَّعا
حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله فِيهَا:
وقرَّبن أسبابَ الْهوى لمتيّمٍ ... يقيسُ ذِرَاعا كلما قِسْنَ إصبعا
فصاحَ جميل واستحيا وَقَالَ: لَا وَالله مَا أحسن أَن أَقُول مثل هَذَا فَقَالَ لَهُ عمر: اذْهَبْ بِنَا إِلَى بثينة لنتحدث عِنْدهَا، فَقَالَ لَهُ: إِن السُّلْطَان قد أهدرَ لَهُم دمي مَتى جِئْتهَا، قَالَ: فدلَّني على أبياتِها، فدلَّه. وَمضى حَتَّى وقف على الأبيات وتأنّس وتعرف، ثُمَّ قَالَ: يَا جَارِيَة أَنا عُمَر بن أبي ربيعَة فأعلمي بثينة مَكَاني. قَالَ، فأَعْلَمَتها فَخرجت إِلَيْهِ فَقَالَت لَهُ: لَا وَالله يَا عمر مَا أَنا من نِسَائِك اللَّاتِي تزْعم أَن قد قتلهنَّ الوجدُ بك، قَالَ: وَإِذا امْرَأَة طوالة أدماء حسناء، فَقَالَ لَهَا عمر: فَأَيْنَ قولُ جميل:
وهما قَالَتَا لَو أنَّ جَميلا ... عرض الْيَوْم نظرةَ فرآنا
نظرتْ نَحْو تربها ثمَّ قالتقد أَتَانَا وَمَا علمنَا منانا
بَيْنَمَا ذَاك مِنْهُمَا رأتاني ... أوضع النَّقْض سيرَهُ الرَّتكانا
ويروى أعمل النَّقْض سيره زفيانا فَقَالَت لَهُ: لَو استمدَّ مِنْك جميل مَا أفلحَ، وَقد قيل: اشْدُد العَيْرَ مَعَ الْفرس فَإِن لَمْ يتَعَلَّم من جريه تعلَّم من خلقه.
بعض أَنْوَاع السّير
قَالَ القَاضِي: " أوضعُ النقضَ سيرَهُ الرتكانا " أَنَّهُ يحمل على سرعَة السّير، قَالَ الله تَعَالَى: " وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ " " التَّوْبَة:47 " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الإيضاعُ سرعَة السّير، يُقالُ: أوضعتُ بَعِيري وأوضعتُ نَاقَتي إِذا أسرعت، فَإِذا كَانَت هِيَ الفاعلة قلت: وضعت النَّاقة تضعُ وضعا، ويُقال وضع الرجلُ يضعُ إِذا سَار أسْرع سير، قَالَ دُرَيْد بْن الصمَّة:
يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع
من الخبب والوضع. وَقد اخْتلف فِي بَيت عمر بن عبد الله بن أبي ربيعَة:
تبالهنَ بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرءٌ باغٍ أكلَّ وأوضعا
فراوه قوم هَكَذَا وَجعلُوا أكلَّ من الكلال، وَهُوَ من الذروح والإعياء، وَقَالُوا: إنَّه كدّ فِي بغاء نَاقَته، وأوضع فِي طلبَهَا، وأسرعَ مَعَ الكلال ليدركها، فاجتمعَ عَلَيْهِ الكلالُ والإيضاعُ. ورواهُ آخَرُونَ: " وقلنَ امْرُؤ باغٍ أضلَّ وأوضعا " بِمعنى أَنَّهُ أضلَّ بعيره فجدَّ فِي بغائه وأوضع فِي طلبه. وَقَوله: " النَّقْض " يريدُ الَّذِي قد هزله السّير فصارَ نِقْضًا بَالِيًا ويَجمع أنقاضًا. والزفيان كنحوه. وَقَوله: " امْرَأَة طوالة " يَعْنِي طَوِيلَة، وَهَذَا مِمَّا جَاءَ على فعيلٍ وفُعَال، يُقال رجل طويلٌ وطُوَال وطوَّال، قَالَ الراجز:(1/692)
جَاءُوا بصيدٍ عجبٍ من العجبْ ... أزيرقِ الْعَينَيْنِ طوَّال الذنبْ
ويُقال: أَمر عجبٌ وعُجَاب، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " إنَّ هَذَا لشيءٌ عُجَابٌ " " ص:5 " وَمثله كَبِير وكبَّار، قَالَ الله تَعَالَى: " وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا " " نوح:22 " وَمن الْكُبَار قَول الْأَعْشَى:
كحلفةٍ من أبي رياحٍ ... يسْمعهَا لاههُ الْكُبَارُ
وَهَذَا بَاب وَاسع واستقصاؤه يطول وَله مَوضِع هُوَ أولى بِهِ.
عمر وحيلته على أبي الْأَعْوَر السّلمِيّ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَالِدٍ الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَحْذَمِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ أَبِي مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ احْتَجَزَ دُونَنَا خَرَاجَ مِصْرَ، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ أَبَا الأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ. فَبَلَغَ عَمْرًا الْخَبَرُ فَدَعَا وَرْدَانَ مَوْلاهُ وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا عُثْمَانَ عَزَلَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَمَنِ اسْتَعْمَلَ؟ قَالَ: أَبَا الأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ حِيلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، اصْنَعْ لَهُ طَعَامًا وَلا تَنْظُرْ لَهُ فِي كِتَابٍ حَتَّى يَأْكُلَ، وَدَعْنَا نَعْمَلُ مَا نُرِيدُ. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو الأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ وَأَخْرَجَ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَمَلِ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَمَا نصْنَع بكتابك؟ وَلَو جِئْتَنَا بِرِسَالَةٍ لَقَبِلْنَا ذَلِكَ مِنْكَ، دَعِ الْكِتَابَ وَكُلْ، قَالَ: انْظُرْ فِي الْكِتَابِ، قَالَ: مَا أَنَا بناظرٍ فِيهِ حَتَّى تَأْكُلَ. فَوَضَعَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَاسْتَدَارَ لَهُ وَرْدَانُ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَالْعَهْدَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَبُو الأَعْوَرِ مِنْ غَدَائِهِ طَلَبَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَقَالَ: أَيْنَ كِتَابِي؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَلَيْسَ إِنَّمَا جِئْتَنَا زَائِرًا لِنُحْسِنَ إِلَيْكَ وَنُكْرِمَكَ ونبرَّك؟ فَقَالَ: اسْتَعْمَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَزَلَكَ، فَقَالَ: مَهْلا لَا يَظْهَرَنْ هَذَا مِنْكَ، إِنَّهُ قَبِيحٌ، نَحْنُ نَصِلُكَ وَنُحْسِنُ جَائِزَتَكَ فَارْضَ بِالْجَائِزَةِ. فَبَلَّغَ مُعَاوِيَةَ الْخَبَرَ فَاسْتَضْحَكَ وَأَقَرَّ عَمْرًا عَلَى مِصْرَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْبِهُ هَذَا خَبَرَ الْمَأْمُونِ وَدِينَارٍ لَمَّا أَنْفَذَهُ إِلَى الْمَدَائِنِ لِمُحَاسَبَةِ يَاسِرٍ وَاسْتِيفَاءِ الأَمْوَالِ مِنْهُ، وَلَعَلَّنَا إِنْ عَثَرْنَا عَلَيْهِ نُورِدُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مواعيد عرقوب
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن سُلَيْمَان المَخْزُومِي قَالَ: كَانَ عرقوب رجلا من الْأَوْس فَجَاءَهُ أخٌ لَهُ فَقَالَ: إِذا أطلعت هَذِه النَّخْلَة فَهِيَ لَك، فلمّا أطلعت قَالَ: دعها حَتَّى تصير بَلَحًا، فَلَمَّا صَارَت بلحًا قَالَ: دعها حَتَّى تشقح، فلمّا شقحت قَالَ: دعها حَتَّى تصير رُطَبًا، فَلَمَّا صَارَت رطبا قَالَ: دعها حَتَّى تصير تَمرًا، فَلَمَّا صَارَت تَمرًا جَاءَ لَيْلًا فجدَّها، فَلذَلِك قَالَ الْأَشْجَعِيّ:
وعدتَ وَكَانَ الخلفُ مِنْك سجيَّةً ... مواعيد عرقوبٍ أَخَاهُ بِيَثْرِب(1/693)
فضربته الْعَرَب مثلا.
تَحقيقات
قَالَ القَاضِي: ذكر بعضُ الْمُحَقِّقين أَن الْكَلَام الفصيح بلحٌ بِضَم الْبَاء، كم قَالَ الْأَعْشَى:
مثل مَا مُدّت نصاحاتُ الْبُلَح
ويروى: مثل مَا مدَّت نِصَاحاتُ الرُّبح وَقَوله: " حَتَّى تشقّح " أَي حَتَّى تزهو وَتظهر فِيهَا حمرةٌ أَو صفرَة. جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَشْقَحَ. وَأرى أَنَّهُ قيلَ فِيهَا ذَلِكَ لأنَّها حِينَئِذٍ يفارقها خلوص الخضرة ولَمَّا تتكامل فِيهَا الْحمرَة أَو الصُّفْرَة فَلَيْسَتْ لَهَا حلاوة. وَهَذَا من مَشْهُور أَمْثَال الْعَرَب وَقد ذكره كَعْب بن زُهَيْر فِي كَلمته الَّتِي قَالَهَا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومدحه فِيهَا، وَاعْتذر إِلَيْهِ وَأظْهر تَوْبَته من سالِفِ كفره، وَرغب إِلَيْهِ فِي عَفوه عَنهُ، وإعفائه ممّا توعّده بِهِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
نُبّئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني ... وَالْعَفو عندَ رسولِ اللهِ مَأْمُولُ
وبيته الَّذِي ذكر فِيهِ عرقوبًا فِي هَذِه الْكَلِمَة قَوْله:
كَانَت مواعيدُ عرقوبٍ لَهَا مثلا ... وَمَا مواعيدها إلاَّ الأباطيلُ
اسْتِقْلَال اصطناع الْمَعْرُوف
حَدَّثَنِي عُبَيْد الله بن مُسلم الْحَارِثِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفضل الْهَاشِمِي الربعِي قَالَ، وحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي شيخ قَالَ، قَالَ يَحْيَى بن خَالِد: مَنِ استقلَّ اصطناعَ الْمَعْرُوف حُرِمَ، ثُمَّ أنشأ يَقُول:
إِذا تكرَّمت عَن بَذْلِ القليلِ ولَمْ ... تَقْدِر على سعةٍ لَمْ يَظْهَرِ الجودُ
بثَّ النوالَ وَلَا تَمْنَعْكَ قلَّته ... فكلُّ مَا سدَّ فقرا فَهُوَ محمودُ
قَالَ القَاضِي: اسْتِقْلَال الْمُعْطِي عطاءه حتّى يَمنعه، يحرمه أجره وشكره، واستقلال الْمُعْطَى يحرمه من مستقلِّ الْعَطاء كَثِيرَة ووفيره، وَقد جَاءَ فِي الْأَثر: من يسْتَقلّ قليلَ الرزق يُحرم كَثِيره.
وَرُوِيَ فِي نَحو هَذَا بِإِسْنَاد لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت ذكره، وَقد عُزي إِلَى الْمَأْمُون أَنَّهُ قَالَ وَذكر هَذَا الْمَعْنى:
قدِّم طعامَكَ وابذله لآكِلِهِ ... واحلفْ على مَن أَبى واشكرْ لِمَن أكلا
وَلَا تكنْ سابريَّ العَرْضِ محتشمًا ... من الْقَلِيل فلسْت الدَّهر محتفلا(1/694)
الْمجْلس الثّالِث والتسعُون
سُرَاقَةُ يَتَتَبَّعُ آثَارَ الرَّسُولِ عِنْدَ هِجْرَتِهِ
أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ أَبُو عُمَرَ القَاضِي سنة تسع عشرَة وثلثمائة، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عمي عَنْ أَبِيه عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مالكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَتْ قريشٌ لِمَنْ ردَّه مِائَةَ نَاقَةٍ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جالسٌ فِي نَادِي قَوْمِي إِذْ أقبل رجل ٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَكْبًا ثَلَاثَة مرُّوا عليَّ آنِفا، إنّني لأَرَاهُ مُحَمَّدًا، قَالَ: فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ، إِنَّمَا هُمْ بَنُو فُلانٍ يَبْغُونَ ضالَّتهم، قَالَ: فَمَكَثْتُ قَلِيلا ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي فَقِيدَ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي، وَأَخْرَجْتُ سِلاحِي مِنْ وَرَاءِ حُجْرَتِي، ثُمَّ أَخَذْتُ قِدَاحِي الَّتِي أَسْتَقْسِمُ بِهَا، وَلَبِسْتُ لأْمَتِي، ثُمَّ أَخْرَجْتُ قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرُّهُ "، قَالَ " وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أردَّه وَآخُذَ الْمِائَةَ نَاقَةٍ.
قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ، وَالْوَجْهُ مِائَةُ النَّاقَةِ، فَتَكُونُ الأَلِفُ وَاللامُ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ كَمَا يُقَالُ غُلامُ الْقَوْمِ، وَلا يُقَالُ الْغُلامِ قَوْمٍ.
فَرَكِبْتُ عَلَى أَثَرِهِ، فَبَيْنَمَا فَرَسِي يشتدُّ بِي عَثِرَ فَسَقَطْتُ عَنْهُ، فَأَخْرَجْتُ قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهم الَّذِي أَكْرَهُ " لايضرّه "، قَالَ: فَأَبَيْتُ إِلا أَنْ أَتْبَعَهُ، فَرَكِبْتُ فَلَمَّا بَدَا لِيَ الْقَوْمُ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ عَثِرَ بِي فَرَسِي وَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الأَرْضِ وَسَقَطْتُ عَنْهُ، فَاسْتَخْرَجَ يَدَيْهِ وَانْبَعَثَ دُخَانٌ مِثْلُ الإِعْصَارِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنِّي وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَنَادَيْتُهُمْ فَقُلْتُ: انْظُرُونِي فَوَاللَّهِ لَا أُرِيبُكُمْ وَلا يَأْتِيكُمْ مِنِّي شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا تَبْتَغِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ اكْتُبْ لِي كِتَابًا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ آيَةً، قَالَ: اكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ، فَكَتَبَ لِي ثُمَّ أَلْقَاهُ إليَّ.
قَالَ: فَرَجَعْتُ فَسُئِلْتُ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ، حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ خَرَجْتُ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَلْقَاهُ وَمَعِي الْكِتَابُ الَّذِي كتب لي فَبين أَنَا عَامِدٌ لَهُ دَخَلْتُ بَيْنَ كَتِيبَةٍ مِنْ كَتَائِبِ الأَنْصَارِ فَطَفِقُوا يُفَزِّعُونَنِي بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ. قَالَ: فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا كِتَابُكَ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَسُقْتُ إِلَيْهِ صَدَقَةَ مَالِي.
دلَالَة قصَّة سراقَة وَدَلَائِل النَّبِيّ جملَة
قَالَ القَاضِي: خبر سراقَة بن مَالك هَذَا وَمَا كَانَ من أمره آيَة من إِعْلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودلائله الشاهدة بنبوته والدّالة على صدقه، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بأنّ قَوَائِم رَاحِلَته ساخت(1/695)
فِي الأَرْض، فَنَادَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثًا بِهِ ولاجئًا إِلَيْهِ فِي استنقاذه مِمَّا وَقع فِيهِ، وتائبًا مِمَّا قصد لَهُ ومنيبًا مِمَّا سلف من كفره، فَدَعَا الله تَعَالَى لَهُ حَتَّى نجاه مِمَّا نزل بِهِ، وَصَحب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عَنْهُ رواياتٍ من أخباره وسننه وآثاره. وَقد ألَّف العلماءُ فِي أَعْلَام النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآياته الْكثير الَّذِي يحجّ من بلغه ويقطَعُ عُذْرَ من انْتهى إِلَيْهِ، ولعلي بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي كتابٌ ضمَّنه من دَلَائِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآياته خَمْسمِائَة آيَة أَو نَحوها، وَلَو لَمْ يكن لَهُ من الشواهد على رسَالَته والدلائل على نبوّته إِلَّا الْكتاب الَّذِي أَتَى بِهِ من وَحي الله تَعَالَى إِلَيْهِ وتنزيله جلَّ اسْمه عَلَيْهِ، الَّذِي ذلَّت لَهُ الرّقاب، وبَهر بنوره ألبابَ ذَوي الْأَلْبَاب، لَكَانَ ذَلِكَ بليغًا كَافِيا، وحاسمًا للشكِّ وَمن أدوائه شافيًا، وَهُوَ فِي أَيْدِينَا إِلَى حَيْثُ انتهينا نتلوه ونقرأه فِي محاريبنا وصلواتنا، ونرسمه فِي صحفنا وَمَصَاحِفنَا، وتعلّمه أبناءَنا وعبيدَنَا وإماءَنا، وَلَا يزْدَاد إِلَّا بهاءً وإشراقًا وضياء وائتلاقًا، وَلَا يزْدَاد الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا عياء بِمعارضته وعجزًا عَن مقاومته. وَقد رتبنا القَوْل فِي وَجه إعجازه ومفارقته أَنْوَاع كَلَام البلغاء والفصحاء بِما خصَّه الله بِهِ من بديع نظمه وَعَجِيب رسمه مَا كَانَ كَافِيا من غَيره.
وَقَول سراقَة: " لأمتي " اللأمة: الدرْع، يجمع لُؤَمًا على غير قِيَاس، قَالَ الْأَعْشَى:
وقوفًا بِما كَانَ من لأمةٍ ... وهنَّ صيامٌ يَلُكن اللُّجُمْ
مَوْعِظَةُ عَلِيٍّ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْجَمَّالُ سنة ستّ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ قَالَ، حَدَّثَنِي نَجِيحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزِّمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلام فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ فعالمٌ ربَّاني، ومتعلّمٌ عَلَى سَبِيلِ نجاةٍ، وهمجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كلِّ ريحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعلم وَلم يلجأوا إِلَى ركنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْعِلْمُ خيرٌ لَكَ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَاتُ، وَمَحَبَّةُ الْعِلْمِ دينٌ يُدَانُ بِهِ يَكْسِبُهُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ محكومٌ عَلَيْهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلْ أَصَبْتُ لَهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يسْتَعْمل لَهُ آلَة الدَّين بالدنيا، يَسْتَظْهِرُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَبِحُجَّتِهِ عَلَى كِتَابِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْدَحُ الشكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عارضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، فَلا ذَا وَلا ذَا، أَوْ مَنْهُومًا بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرَمًا(1/696)
بِجَمْعِ الأَمْوَالِ وَالادِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ دَعَائِمِ الدِّينِ، أَقَرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الأَنْعَامُ السَّائِمَةُ.
كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ. اللَّهُمَّ بَلَى، لَنْ تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمِ اللَّهِ بحجةٍ لِكَيْلا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ. أُولَئِكَ الأَقَلُّونَ عَدَدًا، الأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ حُجَجِهِ حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ فَاسْتَلانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأْنَسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجاهلون، صحبوا الدُّنْيَا بأبدانٍ أراوحها معلقةٌ بِالْمَلَكُوتِ الأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّه فِي بِلادِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهٍ آهٍ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
قَالَ القَاضِي: لقد ألْقى أميرُ الْمُؤمنِينَ العالِمُ الربانيُّ إمامُ الْمُسلمين صلوَات الله عَلَيْهِ وَآله إِلَى كُميل بن زيادٍ فِي مَجْلِسه هَذَا علما عَظِيما وَحكما جسيمًا، وخلَّف بِما أَتَى بِهِ مِنْهُ للْمُسلمين حِكْمَة شافيةً وَوَصِيَّة كَافِيَة، وَمن جعل من الْعلمَاء مستودع هَذَا الْخَبَر إِمَامه، وَأخذ بِهِ فِي دينه، اقتبسَ علما غزيرًا، واستفادَ خيرا كثيرا. ونسألُ الله التَّوْفِيق لإصابة القَوْل وَالْعَمَل، والعصمة من الْخَطَأ والزلل.
بنت مُعَاوِيَة تَمْتَنِعُ على زَوجهَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عمر بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أبي سُفْيَان قَالَ: زوج مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان ابْنَته من عَبْد اللَّه بْن عَامر بْن كريز، فَلَمَّا ابتنى بِهَا امْتنعت عَلَيْهِ امتناعًا شَدِيدا لَمْ يصل مَعَه مِنْهَا إِلَى شَيْء، فضربها فَبَكَتْ وَسمع الْجَوَارِي بكاءها فَصِحْنَ، وَوَقع ذَلِكَ فِي أذن مُعَاوِيَة، فجَاء مبادرًا وَسمع مقَالَة الْجَوَارِي، فَدخل على عبد الله الْبَيْت فَقَالَ لَهُ: مثل هَذِه تُضرب؟ قبَّح الله رَأْيك وقبح مَا أتيت بِهِ، اخْرُج عَن هَذَا الْبَيْت إِلَى غَيره، فَلَمَّا خرج أقبل على ابْنَته فَقَالَ: يَا بنية لَا تفعلي فإنَّما هُوَ زَوجك الَّذِي أحلَّه الله لَك، أَو مَا سمعتِ يَا بنية قَول الشَّاعِر:
م الخفرات الْبيض أما حرامها ... فصعبٌ وأمّا حلُّها فذلولُ
ثُمَّ نَهض فَخرج وَعَاد زَوجهَا إِلَى الْبَيْت فَلَانَتْ وأذعنت.
معنى بنى وابتنى
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: " فَلَمَّا ابتنى بِهَا " وَقد اسْتعْمل هَذِه اللفظةَ جماعةٌ من المتفقهين وَمن لَهُ معرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ، وأنكرها من اللغويين منكرون وَقَالُوا: الكلامُ الصَّحِيح فِي هَذَا بَنَى عَلَيْهَا، وَذَاكَ أنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ إِذا تزوج بنى على امْرَأَته بنيًّا من خباء وَغَيره للخلوة بِهَا والإفضاء إِلَيْهَا، وَكثر ذَلِكَ وَعرف حَتَّى قيلَ لكلِّ من دخل بِزَوْجَتِهِ: قد بنى عَلَيْهَا. ومِمَّا حدث فِي زَمَاننَا من كَلَام سفلَة العامةِ أَن يَقُولُوا لِمن غشي امْرَأَة: قد ابتنى بِهَا، وَإِن كَانَ إِتْيَانه إِيَّاهَا زنا وسفاحًا.(1/697)
دِمَاء الَّذِينَ قتلوا فِي فخ
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أبي الْعَلَاء الإيصاحي الْمَعْرُوف بحرمي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سعيد يَعْنِي عبد الله بن شبيب قَالَ، حَدَّثَنِي عَليّ بن طَاهِر قَالَ: التقى الْعَبَّاس بن مُحَمَّد ومُوسَى بن عبد الله فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس بن مُحَمَّد: يَا أَبَا حسن مَا رثيت بِهِ أَصْحَابك الَّذِينَ قتلوا بفخ؟ قَالَ: قلت:
بني عمنَا ردُّوا فضول دمائنا ... ينم ليلكم أَولا تَلُمْنَا اللوائمُ
قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاس: دماءٌ واللَّه لَا تردُّ عليكَ أبدا. فَقَالَ مُوسَى بن عبد الله: ذَلِكَ إِذا كَانَ الأمرُ إِلَيْك فصدقت.
قَالَ القَاضِي: ينم ليلكم آمنينَ غير خائفينَ وتستقرُّ بكم مضاجعكم، والعربُ تَقُولُ: ليل نَائِم وسرّ كاتِم، تريدُ ليل منوم فِيهِ وسر مَكْتُوم، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
لقد لمتنا يَا أمَّ غَيْلان فِي السُّرى ... ونِمْتِ وَمَا ليلُ المطيِّ بنائِمِ
وَقَالَ آخر:
إنَّ الَّذِينَ قتلتم أمسِ سيِّدهم ... لَا تَحسبوا ليلَهم عَن ليلكم نَامَا
وَقَالَ آخر:
حارثُ قد فرَّجت عَنِّي غمي ... فنامَ ليلِي وتجلَّى همي
يريدُ أنَّهم لَمْ يَنَامُوا عَن وترهم، وأنَّهم طالبون لَهُ منقطعونَ للسعي فِي إِدْرَاكه. وَهَذَا النَّحْو من مجَاز الْعَرَبيَّة كثير فِي اللُّغَة فصحٌ عِنْد الْعلمَاء بِهَا، مطَّردٌ مستمرٌ فِيهَا.
فرّغ رَأْيك للمهم
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي سعيد الْبَلْخِي الْوراق قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد السكرِي عَن الْفضل بن مُحَمَّد الْعلوِي العباسي عَن عُبَيْد الله بن الْحَسَن الطَّالِبِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: إِن رَأْيك ر يَتَّسِع لكل شَيْء ففرغه للمهم، وَإِن مَالك لَا يُرْضِي النَّاس كلَّهم فتوخّ بِهِ أهلَ الحقّ، وَإِن كرامتك لَا تطِيق الْعَامَّة فاخصصْ بِهَا أهل الْفضل، وَإِن ليلك ونَهارك لَا يستوعبان حَاجَتك، فَإِن دأبت بِهما فَأحْسن قسمتهما بَين عَمَلك ودعتك. قَالَ الْكَوْكَبِيّ: وَزَادَنِي أَحْمَد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْهَرَوِيّ: فَإِن شغلت من رَأْيك فِي غير المهم أزرى بك فِي المهم، وَمَا صرفت من مَالك إِلَى أهل الْبَاطِل فقدته عِنْد طلب الْحق، وَمَا عدلت بِهِ من كرامتك إِلَى أهل النَّقْص أضرَّ بك فِي الْعَجز عَن أهل الْفضل، وَمَا شغلت من ليلك ونَهاركَ فِي غير الْحَاجة أزرى بك فِي الْحَاجة.
توالي ذهَاب السُّلْطَان وَأَصْحَابه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن أستاذ الْهَروي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الشَّامي، قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذر مُحَمَّد بن الْمُنْذر قَالَ، أَخْبَرَنِي آدم بن عتيبة قَالَ، أخبرنيه رجلٌ من بني(1/698)
تَميم عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: لقد رأيتُ فِي هَذَا الْقصر عجبا: دخلتُ على عُبَيْد الله بن زِيَاد فِي بهوٍ وَهُوَ على سَرِير، والناسُ عِنْده سماطان، على يَمينه ترس عَلَيْهِ رَأس الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلام، ثُمَّ دخلتُ على الْمُخْتَار فِي ذَلِكَ البهو على ذَلِكَ السرير وَالنَّاس عِنْده سماطان، على يَمينه ترسٌ عَلَيْهِ رَأس عُبَيْد الله، ثُمَّ دخلتُ على مُصعب فِي ذَلِكَ البهو على ذَاك السرير وَالنَّاس عِنْده سماطان، على يَمينه ترس عَلَيْهِ رَأس الْمُخْتَار، ثُمَّ دخلتُ على عبد الْملك فِي ذَلِكَ البهو وعَلى ذَلِكَ السرير وَالنَّاس عِنْده سماطان، على يمنه ترسٌ عَلَيْهِ رَأس مُصعب، ثُمَّ قَامَ عبد الْملك وقمنا فَانْتهى إِلَى منزل فَقَالَ: لِمن هَذَا؟ فقيلَ لَهُ: كَانَ لفُلَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ انْتهى إِلَى فَقَالَ: لمن هَذِه؟ قيل لَهُ: كَانَت لفُلَان، حَتَّى فعل ذَلِكَ بدار ثَالِثَة ورابعة، كل ذَلِكَ يُقال: كَانَت لفُلَان، فَضرب بِإِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ:
وكلُّ جديديٍ يَا أميمَ إِلَى بلَى ... وكل امرئٍ يَوْمًا يصيرُ إِلَى كَانَا
فاعمل على مَهَلٍ فإنّك ميتٌ ... وامهد لنَفسك أيُّها الإِنْسَان
فكأنَّ مَا قد كَانَ لَمْ يكُ إِذْ مَضَى ... وكأنَّ مَا هُوَ كائنٌ قد كَانَا
ثُمَّ مضى على وَجهه.
مصير ظالِم
قَالَ القَاضِي: وَحكى لي بعضُ إِخْوَاننَا أَن بعض الظلمَة المترفين جلس يَوْمًا من الأيّام فِي موضعٍ من دَاره وَقد نجِّد لَهُ، وَعِنْده جماعةٌ وظهرَ مِنْهُ ظلمٌ أسرف فِيهِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ تَطُلْ أيّامه حَتَّى هلك، فَجَلَسَ مَكَانَهُ رجلٌ من ضَرْبِهِ، وشرعَ فِي مثلِ ظلمه فَقَالَ لَهُ بعضُ من يُرامُ ظلمه مِمّن حضر مجْلِس الَّذِي كَانَ قبله:
فِي مثل ذَا الْيَوْم فِي هَذَا الْمَكَان على ... هَذَا السرير تدلَّى السرُّ فاصطلما
قَالَ: فانكسرَ وأقصر.
اللَّهُمَّ فاجعلنا مِمّن يتأملُ العبر، ويخشى الْغَيْر، ويستعدُّ لليوم الَّذِي وَصفه فِي كِتَابه وَأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُنْذِرهم إيّاهُ إِذْ يَقُول: " وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ربَّنا أخَّرنا إِلَى أجلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَو لم تَكُونُوا أقسمتم من قبل مالكم مِنْ زَوَالٍ. وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذين ظلمُوا أنفسهم وبيَّنا لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ " " إِبْرَاهِيم: 44 - 45 ".
جَزَعُ الْحَسَنِ مِنَ الْمَوْتِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد عَلِيٍّ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ، حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ بْنِ(1/699)
الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم الْمَطْبَخِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى بْنِ مُسْلِمٍ الْحَنَفِيَّ أَخَا سُلَيْمِ بْنِ عِيسَى قَارِئِ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ الْوَفَاةُ كَأَنَّهُ جَزِعَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يُعَزِّيهِ: يَا أَخِي مَا هَذَا الْجَزَعُ؟ إِنَّكَ تَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عليٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُمَا أَبَوَاكَ، وَعَلَى خَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ وَهُمَا أُمَّاكَ، وَعَلَى الْقَاسِمِ وَالطَّاهِرِ وَهُمَا خَالاكَ، وَعَلَى حَمْزَةَ وجعفرٍ وَهُمَا عَمَّاكَ، فَقَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَيْ أَخِي إِنِّي أَدْخُلُ فِي أمرٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ أَدْخُلْ فِي مِثْلِهِ، وَأَرَى خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَبَكَى الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
قَالَ القَاضِي: أشدُّ الناسِ خشيَة لله جلَّ وَعلا أعظمهم طَاعَة لَهُ وأجدُّهم فِي عِبَادَته، وهم مَلَائكَته وأصفياؤه وأنبياؤه، وَقد قَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ فِي صفة من ذكر من مَلَائكَته المقربين إنَّهم: " عبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " " الْأَنْبِيَاء:26 - 28 " وَقَالَ: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وجلةٌ أَنَّهُمْ إِلَى ربِّهم رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ " " الْمُؤْمِنُونَ:60 - 61 ". اللهمَّ اجْعَلْنَا مِمّن يُخْلِصُ عبادتك، وَيُؤْثِرُ طَاعَتك، ويستشعرُ خوفك ورهبتك، وارزقنا من خشيتك مَا يحجزُ بَيْننَا وَبَين معصيتك، ويُفضي بِنَا إِلَى الْأَمْن من عذابك وأليمِ عقابك، وهبْ لنا من رجاءِ عفوك مَا يُوافقُ مرضاتَكَ، ويُؤدِّي إِلَى تَحقيق مَا نرجوهُ من مغفرتك وسعة رحمتك، وعدِّل رجاءنا وخوفنا، واعصمنا فيهمَا من الْعُلوّ والغلوّ وَالتَّقْصِير والسموّ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسنَا، وأعنَّا على عدوّك وعدوّنا، إنّا إِلَيْك راغبونَ وَبِك معتصمون، يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ.
من نَوَادِر مزبّد
حَدَّثَنَا عبد الله بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ مُزَبّد يُكنى أَبَا إِسْحَاق، وَكَانَت لَهُ نَوَادِر، فَبينا هُوَ ذَات يَوْم جالسٌ إِذْ جَاءَ أَصْحَابه فَقَالُوا: يَا أَبَا إِسْحَاق هَلْ لَك فِي الْخُرُوج بِنَا إِلَى العقيق وَإِلَى قبَاء وَإِلَى أحُد ناحيةَ قبورِ الشُّهَدَاء، فإنّ هَذَا يومٌ كَمَا ترى طيّبٌ. فَقَالَ: اليومَ يومُ الْأَرْبَعَاء ولستُ أَبْرَح من منزلي. فَقَالُوا: مَا تكرهُ من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَفِيهِ ولد يُونُس بن مَتى؟ قَالَ: بِأبي وَأمي صلى الله عَلَيْهِ فقد التقمه الْحُوت. فَقَالُوا: يومٌ نُصِرَ فِيهِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْم الْأَحْزَاب، قَالَ: أجل، وَلَكِن بعد إِذْ زاغت الْأَبْصَار وبلغتِ الْقُلُوب الْحَنَاجِر.(1/700)
الْمجْلس الرَّابِع وَالتسعُون
حَدِيثٌ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يُنْقِذُ صَاحِبَهُ
حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ التِّرْمِذِيُّ سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة قَالَ، حَدثنَا إِبْرَاهِيم بت إِسْحَاقَ الْجَرْمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ قَالا، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا، إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَجَاءَهُ برُّه بِوَالِدَيْهِ فردَّ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي يسلَّط عَلَيْهِ عَذَابُ الْقَبْرِ فَجَاءَهُ وُضُوءُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فخلَّصه مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ فَجَاءَتْهُ صَلاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلا يَلْهَثُ عَطَشًا كلَّما وَرَدَ حَوْضًا مُنِعَ مِنْهُ فَجَاءَهُ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَسْقَاهُ وأرواه، وَرَأَيْت رجلا والنبيّون حلقٌ كُلَّمَا جَاءَ إِلَى حَلْقَةٍ طُرِدَ فَجَاءَهُ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأخذ بِيَدِهِ فأعده إِلَى جَانِبِي، وَرَأَيْتُ رَجُلا بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَخَلْفَهُ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلَمٌ فَهُوَ مُتَحَيِّرٌ، فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ فَأَدْخَلاهُ فِي النُّورِ، وَرَأَيْتُ رَجُلا يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ فَلا يُكَلِّمُونَهُ فَجَاءَهُ صِلَةُ الرَّحِمِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ كلِّموه فَإِنَّهُ كَانَ واصلاً لرحمه، فكلَّمه الْمُؤمنِينَ وَقَرَّبُوهُ. وَرَأَيْتُ رَجُلا يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ وشرَّها بِيَدِهِ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ سِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ وَظِلا عَلَى رَأْسِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلا أَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ مِنْ كلِّ مَكَانٍ فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَأَدْخَلاهُ مَعَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ فَصَارَ مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلا جَاثِيًا عَلى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ فَجَاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَأَيْتُ رَجُلا هَوَتْ صَحِيفَتُهُ قِبَلَ شِمَالِهِ فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ. وَرَأَيْتُ رَجُلا قَدْ خَفَّ مِيزَانُهُ فَجَاءَتْهُ أَفْرَاطُهُ فثقَّلوا مِيزَانَهُ. وَرَأَيْتُ رَجُلا قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَجَاءَهُ وَجَلُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَنْقَذَهُ مِنَ ذَلِكَ وَمَضَى. وَرَأَيْتُ رَجُلا هَوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَاهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ.
قَالَ القَاضِي: قد روينَا مَا تضمّنه هَذَا الْخَبَر من طرق شَتَّى، مُجملا ومفصلا، وَمَا ورد فِي معناهُ ونَحوه، وَفِيهِ من التَّرْغِيب فِي الْخَيْر وحُسن عاقبته، والتحذير من فعل الشرّ وَسُوء مغبّته، مَا يَدْعُو ذَوي الْأَلْبَاب إِلَى الاستكثار من الطَّاعَة ومجانبة الْمعْصِيَة. فالفاضل الرشيد والفائز السعيد من استكملَ خلال الْخَيْر وَفَارق خصالَ الشَّرّ. ومَن تعلّق بِبَعْض الْأَخْلَاق الحميدة فَلَنْ يعْدم الانتفاعَ بِهِ وإحمادَ عاقبته. والبليَّةُ الْكُبْرَى والمصيبةُ الْعُظْمَى فِي من عَرِيَ(1/701)
من شُعَبِ الْخَيْر كلِّها وَلم يستصحب شَيْئا مِنْهَا. وليحذر الْمُؤمن أَن يُعْرِضَ عَن حَظه وَيذْهب، وَأَن يكون مِمَّن يجدُّ بِهِ ويلعب. وَللَّه تَعَالَى ذكره يومٌ يَخْسَرُ فِيهِ المبطلون، ويغتبطُ بِهِ الفائزون، وَيَنْعَمُ فِيهِ المتقون. فَجعلنَا الله وإيّاكم من أوليائه الْمُتَّقِينَ وعباده المخلصين من الَّذِينَ لَا خوفٌ عَلَيْهِم " فِي معادهم " وَلَا هُم يَحْزَنُون.
هُوَ ابْن عمي لَا ابْن عمك
حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن أبي الْعَلَاء قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سعيد يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن شَبِيب قَالَ، حَدَّثَنِي ابْن أبي مرّة المكيّ قَالَ، حَدَّثَنِي خَالِد بن سُفْيَان مولى الصيفي قَالَ: شهِدت الرّشيد وَقد رمى جمرةَ الْعقبَة يَوْم النحرِ فِي بعضِ حجَّاته ثُمَّ مالَ إِلَى المنحرِ فَأتى ببدنة فنحرها ثُمَّ أَتَى بِأُخْرَى فنحرها ثُمَّ أنشدَ رَافعا صوتَهُ:
إنّ ابنَ عمّي لابنُ زيدٍ وَإنَّهُ ... لبلاَّل أَيدي حلَّة الشوْكِ بالدَّم
فصاحَ بِهِ أعرابيّ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَاك ابْن عمي لَا ابْن عمك، قَالَ: عليَّ بالأعرابي، فَأتي بِهِ وَإِنَّا لنخافه عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَمن أَنْت؟ قَالَ: رجلٌ من بني سلول، قَالَ: فَمن يَقُول هَذَا الشّعْر؟ قَالَ: العجير السَّلولي قَالَ: أحسنتَ، أَعْطوهُ كَذَا كَذَا.
مُعَاوِيَةُ وَاللُّقْمَةُ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ لَهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأَنْبَارِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عبد الْعَزِيز بْن مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: جَلَسْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى غَدَائِهِ فَأَخَذَ لُقْمَةً فَهَيَّأَهَا، وَأَخَذَ يَتَحَدَّثُ فَوَضَعَهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يَضَعُهَا وَآخُذُهَا وَأَلْقُمُهَا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ يَخْطُبُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْفَعُ اللُّقْمَةَ إِلَى فِيهِ يَرَاهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ لَهُ قَدْ كَتَبَهَا لِغَيْرِهِ فَيَأْكُلُهَا الَّذِي كُتِبَتْ لَهُ.
مصقلة يرجف بِمرض مُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن عبد الْمطلب بن ربيعَة قَالَ: لَمَّا مرض مُعَاوِيَة أرجف بِهِ مَصْقَلَةُ البكريّ ثُمَّ قدمَ عَلَيْهِ وَقد تَماثلَ، فأخذَ مُعَاوِيَة بيدَيْهِ فَقَالَ:
أبقى الحوادثُ من خَلِيلك مثلَ جَنْدَلةِ الْمُرَاجِمْ
قد رامني الأقوامُ قبلك فامتنعتَ من المظالِم
فَقَالَ مصقلة: قد أبقى الله مِنْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هُوَ أعظمُ من ذَلِكَ: حلمًا وكلأ ومرعى لوليك، وسمًّا ناقعًا لعدوّك، كَانَت الْجَاهِلِيَّة وَأَبُوك سيد الْمُشْركين، وَأصْبح الناسُ مُسلمين وَأَنت أميرُ الْمُؤمنِينَ.
يَوْم بؤس وَيَوْم نعيم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا عبد الرَّحْمَن قَالَ، قَالَ عمّي: سمعتُ(1/702)
يُونُس يَقُول: كَانَ الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء جد النُّعْمَان بن الْمُنْذر ينادمه رجلَانِ من الْعَرَب خالِدُ بن الْمفضل وَعَمْرو بن مَسْعُود الأسديان، وهما اللَّذَان عَنى الشَّاعِر بقوله:
أَلا بكر الناعي بِخَيْرَيْ بني أَسد ... بِعَمْرو بن مسعودٍ وبالسيد الصمدْ
فَشرب لَيْلَة مَعَهُمَا فراجعاه الْكَلَام فأغضباهُ فَأمر بِهما فجُعلا فِي تابوتين ودفنا بِظَاهِر الْكُوفَة، فلمّا أصبح سألَ عَنْهُمَا فَأخْبر بذلك، فندم وركبَ حَتَّى وقف عَلَيْهِمَا وَأمر بِبِنَاء الغريين، وَجعل لنَفسِهِ يَوْمَيْنِ، يَوْم بؤس وَيَوْم نعيم فِي كلِّ عَام، فَكَانَ يضعُ سَرِيره بَينهمَا فَإِذا كَانَ فِي يَوْم نعيمه فأوّل من يطلُعُ عَلَيْهِ وَهُوَ على سَرِيره يُعطيه مائَة من الْإِبِل، إبل الْمُلُوك، وَأول من يطلع عَلَيْهِ يَوْم بؤسه يُعْطِيهِ رأسَ ظَرِبَان.
قَالَ القَاضِي: الظربان دابٌ مُنْتِنَة الرّيح.
وَيَأْمُر بِهِ فَيُذْبَحُ ويغرَّى بدمه الغريان. فَلم يزل بذلك مَا شَاءَ الله. فَبينا هُوَ ذَات يومٍ من أَيَّام بُؤسه إِذْ طلعَ عُبَيْد بن الأبرص، فَقَالَ الْملك: أَو أجلٌ بَلَغَ إناه. قَالَ: أَنْشدني يَا عُبَيْد، فقد كَانَ يُعجبني شعرك، فَقَالَ: حالَ الجريض دون القريض، وَبلغ الحزامُ الطبيين، فَقَالَ أَنْشدني:
أقفر من أهلِهِ مَلْحُوبُ ... فالْقُطَّبياتُ فالذَّنوب
فَقَالَ:
أقفر لَهُ أهلهِ عبيدُ ... فاليومَ يُبْدِي وَلَا يُعيد
عنّت لَهُ شقوةٌ نكود ... وحان مِنْهُ لَهَا ورودُ
فَقَالَ: أَنْشدني هَبَلتكَ أمكَ، قَالَ: المنايا على الحوايا، فاقل بعض الْقَوْم: أنْشد الْملك هبلتك أمك، قَالَ: لَا يرحل رحلك مَن لَيْسَ مَعَك، قَالَ لَهُ آخر: مَا أَشد جزعك من الْمَوْت، فَقَالَ:
لَا غرو من عيشةٍ نافده ... وَهل غير مَا ميتةٍ واحدَه
فأبلغ بنيَّ وأعمامهم ... بأنّ المنايا هِيَ الراصدَه
لَهَا مدّةٌ فنفوسُ العبادِ ... إِلَيْها وَإِن كرهت قاصدَه
فَلَا تَجزعوا لِحمام دنا ... فللموت مَا تَلِدُ(1/703)
الوالده
فَقَالَ لَهُ الْمُنْذر: لابدّ من الْمَوْت، وَلَو عرض لي أبي فِي يومي هَذَا لَمْ أجد بدًّا من ذبحه، فأمّا إِذْ كنت لَهَا وَكَانَت لَك فاختر من ثَلَاث خصالٍ: إِن شِئْت من الأكحل، وَإِن شِئْت من الأبجل، وَإِن شِئْت من الوريد. فَقَالَ: ثَلَاث خِصَال مقادها شَرّ مقاد، وحاديها شرُّ مَا حاد، وَلَا خير فِيهَا لمرتادِ، فَإِن كنت لَا بدَّ قاتلي فاسقني الْخمر حَتَّى إِذا ذهلتْ لَهَا ذواهلي، وَمَاتَتْ لَهَا مفاصلي، فشأنكَ وَمَا تُرِيدُ. فَأمر لَهُ الْمُنْذر بحاجته من الْخمر، فلمّا(1/704)
أخذت مِنْهُ وَقرب ليذبح أنشأ يَقُول:
وخيَّرني ذُو البؤسِ فِي يومِ بُؤْسِهِ ... خِصَالا أرى فِي كلّها الموتَ قد بَرقْ
كَمَا خيِّرت عادٌ من الدّهرِ مرَّةً ... سحائبَ مَا فِيهَا لذِي خيرةٍ أَنَقْ
سحائبُ ريحٍ لَمْ توكَّل ببلدةٍ ... فتتركها إِلَّا كَمَا لَيْلَة الطلقْ
فَأمر بِهِ ففُصد فلمّا مَاتَ طلي بدمه الغريّان.
تعليقات وشروح لغوية ونَحوية
قَالَ القَاضِي: قَول الشَّاعِر بخيري بني أَسد، وَالطَّرِيق اللاحب فِي هَذَا الْبَاب أَن يُقَال زيد خير من بني فلَان، والزيدان والزيدون خير بني فلَان، ولكنّه ثنَّى فِي هَذَا الشّعْر مُبَالغَة فِي وصف كلِّ مِنْهُمَا واحدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ منسوبٌ إِلَيْهِ الْفضل، أَو لِأَن كلَّ واحدٍ مِنْهُمَا يفضل فِي معنى يختصّ بِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
هما سيّدانا يزعمان وإنَّما ... يسوداننا أَنْ سيِّرت غَنَمَاهُمَا
فَثنى لاختلافِ النَّوْعَيْنِ وافتراق الإضافتين. وَفِي التَّنْزِيل: " أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا " " الْمُؤْمِنُونَ:47 ". وَقَول الْمُنْذر لِعبيد أَلا كَانَ الذَّبِيح غيرَكَ أَرَادَ الشَّيْء الْمَذْبُوح قَالَ الله تَعَالَى " وَفَدَيْنَاهُ بذبحٍ عَظِيمٍ " " الصافات: 107 " والذَّبح بِفَتْح الذَّال الْمصدر. يُقال: ذبحت الكبشَ ذَبْحًا، وَمثله الطِّحن.
والطَّحن. فالطَّحن الشَّيْء المطحون والطَّحن مصدر وَكَذَلِكَ الْقِسم والقَسْم فالْقِسْم بِالْكَسْرِ النَّصِيب وَالشَّيْء الْمَقْسُوم، والقَسْمُ بِالْفَتْح مصدر قَسَمْتُ. وَهَذَا بَاب تَتّسع فروعه ويَطرد قِيَاسه. وَقَول عُبَيْد: " أتتك بحائن رِجْلَاهُ " يُقال فلَان حائن إِذا حَان هَلَاكه، هَذَا مثلٌ سَائِر. وَقَول الْمُنْذر: " أَو أجلٌ بلغَ إناه " معناهُ غَايَته ونِهَايته، من قولِهم قد آن كَذَا وَكَذَا، أَي بلغَ غَايَته، قَالَ الله تَعَالَى: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حميمٍ آنٍ " " الرَّحْمَن:44 " أَي قد انْتهى حرّه، وَمن ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
وتَخضب لحية غَدَرَتْ وخانَت ... بأحمرَ من نجيع الجوفِ آنِ
وَقَالَ الله تَعَالَى: " إِلَى طعامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ " " الْأَحْزَاب:53 " وَفِيهِ لُغَتَانِ الْكسر وَالْقصر، وَالْفَتْح وَالْمدّ، وَقد قَرَأَ بعضُ الْقُرَّاء غيرَ ناظرين إناءَه " وَمن هَذِهِ اللُّغَة قَول الشَّاعِر:
وآنيت الْعشَاء إِلَى سهيلٍأو الشعرى فطالَ بيَ الإِنَاءُ ويروى " وأكريت.. فطال " من الْكرَى وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقد قَرَأَ بعضُ الْقُرَّاء: " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قطرٍ آن " يَعْنِي النّحاس الَّذِي قد انْتهى حرّه، وروى هَذَا بعضُ الروَاة عَن عَاصِم بن أبي النَّجود. فأمّا الْقِرَاءَة المستفيضة فِي الْأمة والسائرة بَين الْأَئِمَّة فَهِيَ: " من قطران ". وَمَا الجريض فَإِنَّهُ مُعالجة النَّفس لِلْخُرُوجِ، وأمّا قَول عُبَيْد: " فللموت مَا تلدُ الوالدة " فقد رُويت الأبياتُ الَّتِي هَذَا مِنْهَا على غير هَذِه الْأَلْفَاظ وَفِي غير هَذِه الْقِصَّة، وأنشدناها لغير عُبَيْد وَهِي:
لَا يُبْعِدِ الله ربُّ الْعباد ... وَالْملح مَا وَلَدَتْ خالَدَهْ
هم المطعمونَ سديفَ السَّنام ... والشحمَ فِي الليلةِ الباردهْ
فَأن يكن الموتُ أفناهُمُ ... فللموتِ مَا تلدُ الوالده
معنى قَوْله: " فللموت مَا تَلد الوالده " إِن مآل الْمَوْلُود إِلَى الْمَوْت، وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر:
وللمنايا تربى كلُّ مرضعةٍ ... وللخرابِ يجدُّ الناسُ عمرانا
وَقَالَ آخر:
لدوا للموتِ وَابْنُوا للخرابِ ... فكلكمُ يصيرُ إِلَى ذهابِ
وَمن هَذَا النَّحْو قَول الله تَعَالَى: " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عدوَّاً وَحَزَنًا " الْقَصَص:8 " فهم وَإِن لَمْ يكن مآل أَمرهم مَعَه فِيمَا قصدوه وَلَا أرادوه بِمنزلة من ابْتِدَاء شَيْئا التماسًا لعاقبته فجَاء على تَقْدِيره وإرادته. ولِهذا الْمَعْنى نَظَائِر فِي الْعَرَبيَّة يُتْعِبُ إحصاؤها. والبصريون من النَّحْوِيين يسمون هَذِه اللَّام، وَإِن كَانَت على صُورَة لَام كي، لامَ الْعَاقِبَة ولامَ الصيرورة، لأنَّ عَاقِبَة الشَّيْء الْمَذْكُورَة انْتَهَت إِلَى مَا أخبر بِهِ وَصَارَت إِلَيْهِ، وَإِن لَمْ يكن مِمّا آثره الْفَاعِل وَلَا أَرَادَهُ، ويسمونها أَيْضا لَام الصيور. وأمّا الفراءُ فِي أَصْحَابه الْكُوفِيّين فيذهبونَ إِلَى أنَّها لامُ كي لمّا كَانَ المآلُ لَا محَالة انْتهى إِلَى مَا انْتهى إِلَيْهِ صَار بِمنزلة مَا ابتدى يُراد بِهِ مَا صَار إِلَيْهِ؛ ونظيرها أَن يسْقِي الرجل الرجل دَوَاء ليشفيه من دائه فيتلف، فَيُقَال سقَاهُ دَوَاء فَقتله، وسقاه ليَقْتُلهُ، أَي كَانَ بِمنزلة من قصد إِتْلَافه وَإِن كَارِهًا لِهذا غيرَ مختارٍ لَهُ. وَنَظِير هَذَا قَوْلهم أردْت نَفعه فضررته، لَا يريدونَ بِهذا أَنَّهُ قصد الْإِضْرَار بِهِ، وإنَّما أَرَادَ أَنَّهُ استضرَّ بِما أريدَ نَفعه بِهِ. وَمعنى قَول الْبَصرِيين والكوفيين فِي هَذَا مُتَقَارب إِذا تحقِّق معناهُ مصيبٌ فِي قَوْله. وَهَذَا بَاب مستقصى ملخَّصٌ مُسْتَوفى فِيمَا ألَّفناه من عُلُوم الْقُرْآن. وَلَيْلَة الطَلَقِ وَلَيْلَة القَرَبِ من اللَّيَالِي الَّتِي يُسْرَى فِيهَا إِلَى المَاء، وَلَيْسَ هَذَا موضعَ ترتيبها.
وهب يقْرَأ نقش حجر
حدَّثنا عبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن إِدْرِيس قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا التَّيْمِيّ قَالَ: بَيْنَمَا سُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي الْمَسْجِد الْحَرَام إِ أُتِيَ بحجرٍ منقورٍ فَطلب من يقرأه، فأُتي بوهب بن مُنَبّه فقرأه فَإِذا فِيهِ: ابْن آدم، إنَّك لَو أَبْصرت قَلِيل مَا بَقِي من أَجلك لزهدت فِي طول أملك، ولرغبتَ فِي(1/705)
الزِّيَادَة من عَمَلك، ولقصّرت عَن حرصك وحيلك، وإنّما يلقاك غَدا ندمك، لَو قد زلَّت بك قدمك، وأسلمكَ أهلك وحشمك، فبانَ مِنْك الولدُ الْقَرِيب، ورفضك الوالِدُ والنسيب، ف أَنْت إِلَى دُنياكَ عَائِد، وَلَا فِي حَسَنَاتك زَائِد، فاعمل ليَوْم الْقِيَامَة، قبل الْحَسْرَة والندامة. قَالَ: فَبكى سُلَيْمَان.
وَالِد ذاهل يرثي ابْنه الوحيد
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي سعد قَالَ، حَدَّثَنِي حمْنَة بن الْقَاسِم بن حَمْزَة الْعلوِي قَالَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن يَعْقُوب الْبَصْرِيّ قَالَ: كَانَ لبني الْعَبَّاس مولى يُقالُ لَهُ الْوَزير بن عبد ربّه، وَكَانَ قد عُمّر حَتَّى فقد مَاله وَولده فَلم يبْق لَهُ إِلَّا ابنٌ وَاحِد يُقالُ لَهُ إِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم الَّذِي يغذوه ويرفق بِهِ، والشيخُ شبيهٌ بالواله، فَرمي فِي جَنَازَة ابْنه إِبْرَاهِيم، فَأخذ الْجِيرَان فِي مصْلحَته، وَإنَّهُ لجالسٌ فِي نَاحيَة بِمنزله لَا يحيرُ شَيْئا، أكبر ظنهم أَنَّهُ لَا يفهمُ مَا نزل بِهِ من فقد ابْنه إِبْرَاهِيم، حَتَّى إِذا أصلحوا شَأْنه، وحملوا سَرِيره، خرج يدرجُ قدَّام الْجِنَازَة، فلمّا انْتَهوا بِهِ إِلَى شَفير قَبره ضرب يَده إِلَى أَكْفَانه ثُمَّ أنشأ يَقُول:
إِنِّي لأصبرُ مَن يمشي على قدمٍ ... غداةَ أَبْقى وإبراهيمُ فِي الرَّجُمِ
يَا مَنْ لعينٍ أبانَ الله قُرَّتها ... وَمن لسمعٍ رماهُ الله بالصممِ
قَالُوا أطلتَ الأسى فاربعْ عَلَيْك وَهل ... بكيتُ حِبِّيَ مَا لَمْ أبكِهِ بدمِ
بُدِّلْتُ من فرحي الْمَاضِي بِهِ تَرَحًا ... وَعَاد عهدُ أبي إِسْحَاق كَالْحلمِ
فَالله موضعُ مَا أَشْكُو وغايتُهُ ... وبالإلهِ من الشَّيْطَان مُعْتَصَمي
قد ذاقه من بِهِ سمَّيت فانهملت ... عينُ النَّبِيّ عَلَيْهِ سحَّة السجمِ
فَقَالَ مَا أَنا فِيك اليومَ قائلُهُ ... وبالإله سدادُ الفعلِ والكلم
مَا برَّ من قَالَ يبري الوجدُ صَاحبه ... وَقد بقيتُ ووجدي لَيْسَ بالأمم
تعصب الْمَأْمُون للأوائل من الشُّعَرَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي قَالَ، حَدَّثَنِي عبد الله بن الْحُسَيْن قَالَ، حَدَّثَنِي النجدي عَن إِبْرَاهِيم بن الْحَسَن بن سهل، قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون يتعصّب للأوائل من الشُّعَرَاء وَيَقُول: انْقَضى الشّعْر مَعَ انْقِضَاء ملك بني أميَّة. وَكَانَ عمي الْفضل يَقُول لَهُ: الْأَوَائِل حجةٌ وأصول، وَهَؤُلَاء أحسن تَفْرِيعا، إِلَى أَن أنْشدهُ يَوْمًا عبد الله بن أَيُّوب التَّيْمِيّ شعرًا مَدَحَهُ فِيهِ فلمّا بلغ قَوْله:
ترى ظاهرَ الْمَأْمُون أحسنَ ظاهرٍ ... وأحسنُ مِنْهُ مَا أسرَّ وأضمرا(1/706)
يُناجي لَهُ نفسا ترِيعُ بهمةٍ ... إِلَى كل معروفٍ وَقَلْبًا مطهّرا
ويخشعُ إكبارًا لَهُ كلُّ ناظرٍ ... ويأبى لِخوفِ الله أَن يتكبّرا
طَوِيل نجاد السَّيْف مضطمر الحبشا ... طواهُ طرادُ الْخَيل حَتَّى تحسَّرا
رفلٌ إِذا مَا السّلم رفَّل ذيله ... وإنْ شمَّرت يَوْمًا لَهُ الحربُ شَمّرا
فَقَالَ للفضل: مَا بعد هَذَا مدح، وَمَا أَشْبَهَ فروعَ الإحسانِ بأصوله.
الْمجْلس الخامِس والتسعُون
مِنْ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْثُ أَبُو نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ صَعْصَعَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّقِّيُّ الأَنْصَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَنْبَسَةَ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارِ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ بَكَتِ الأَرْضُ مِنْ بَعْدِي فَنَبَتَ اللَّصف مِنْ مَائِهَا، فَلَمَّا أَنْ رَجَعْتُ قُطِرَ مِنْ عَرَقِي عَلَى الأَرْضِ فَنَبَتَ وردٌ أَحْمَرُ، أَلا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشُمَّ رَائِحَتِي فليشمَّ الْوَرْدَ الأَحْمَرَ ".
قَالَ الْقَاضِي: اللَّصَفُ: الْكَبَرُ وَمَا أَتَى بِهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ هُوَ الْيَسِيرُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودلَّ عَلَى فَضْلِهِ وَرَفِيعِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أهلٌ لكلِّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَسْدَى لَهُ مِنْ شَرِيفِ الْكَرَامَةِ إِلَيْهِ، وَمَا لَهُ عِنْدَهُ فِي مَعَادِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يعبِّر عَنْهُ الْخَلْقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَجْسَمُ مَنْ أَنْ يَخْطُرَ بِقُلُوبِهِمْ، فَهَنِيئًا لَهُ مَا أَوْلاهُ اللَّهُ مِنْ إِنْعَامَهِ وَشَرِيفِ إِكْرَامِهِ، وَجَعَلَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَلْقَاهُ فِي مَعَادِهِ، مُؤَدِّيًا مَا أَلْزَمَهُ مِنْ حقِّ شَرِيعَته، وأنالنا النُّورُ وَالْكَرَامَةُ وَالسَّعَادَةُ بِشَفَاعَتِهِ، إِنَّهُ أَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَقَدْ رُوِّينَا مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي رسمناه هَاهُنَا مِنْ طُرُقٍ حَضَرَنَا مِنْهَا هَذَا فَأَتَيْنَا بِهِ.
الغلامُ الرَّاعِي والجنيون الثَّلَاثَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا عمي قَالَ، حَدَّثَنِي أبي عَن ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ: خرج غلامٌ من مَذْحجِ، أحسبُه قَالَ: من صُدَا يرْعَى غنيماتٍ لَهُ، فَأَدْرَكته السَّمَاء فأوى إِلَى كهفٍ فأكنَّ غنمه واقتدح نَارا واحتلبَ لَبَنًا فوغره، فَإِذا ثلاثةُ نفر قد ولجوا عَلَيْهِ الغارَ فحيَّوه فردَّ تحيّتهم وَقَالَ: هلمّوا، وقرَّب إِلَيْهِم غُمَرَه بِما فِيهِ، فَأَخذه أحدهم فشمَّه ثمَّ ردّه ثُمَّ أنشا يَقُول:
يَا راعي الضأنِ اغتنثْ من مضحكا ... روى لَك الله قفيلَ نحضكا
يُقَال: اغتنث من الْإِنَاء شربةً أَو شربتين إِذا جرعت. يُقال: جرعَ ولعق يلعق،(1/707)
والقفيل: الْيَابِس، والنحضُ: اللَّحْم.
وَلَا عدمت غبيةً بأرضكما ... تعيدُ غَمْرًا مَا انزوى من برضكا
الغبيةُ: الدفعةُ من الْمَطَر، الْغمر: المَاء الْكثير، الانزواء: التقبض، والبَرْضُ: المَاء الْقَلِيل؛ قَالَ: وَمن الانزواء قَول الْأَعْشَى:
يزيدُ يغضُّ الطرفَ دوني كأنَّما ... زَوَى بَين عَيْنَيْهِ عليَّ المحاجِمُ
فَلَا ينبسطْ من بينِ عينيكَ مَا انزوى ... وَلَا تَلْقَني إِلا وأنفُكَ راغم
وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " زُويتْ لي الأَرْض فرأيتُ مشارقها وَمَغَارِبهَا وسيبلغُ ملك أمّتي مَا زوي لي مِنْهَا ".
وَقَالَ الثَّانِي:
يَا راعي البُهْمِ سُقيتَ ريًّا ... وَلَا تزالُ تطَأ السُّميّا
والسمي: جمع السَّمَاء، وَالْمعْنَى الْمَطَر؛ حُكي عَن الْعَرَب: مَا زلنا نَطَأ السَّمَاء حَتَّى أَتَيْنَاكُم.
وسميَّها والتابعَ الوليّا ... لَا تعدمُ الدّهر حيًّا مرعيًّا
قَالَ القَاضِي: الوسميُّ: أول مطر الرّبيع، وَقيل: إنّما سمّي وسمياً لِأَنَّهُ يسم الأَرْض، والوليُّ المطرةُ الَّتِي تلِي الوسمي، والحيا: الْغَيْث، مَقْصُور، قَالَ ذُو الرمة:
خليليّ لَا تستيئسا واسألا الَّذِي ... لَهُ كلّ أمرٍ أَن يصوبَ ربيعُ
حيًّا لبلادٍ شيَّب المحلُ أَهلهَا ... وجبرًا لعظم فِي شظاه صدوعُ
يرْوى الْبَيْت الأول على وَجْهَيْن لَا تستيئسا من الْيَأْس وَلَا تستبئسا من التباؤس والتمسكن.
وَقَالَ الثَّالِث:
يَا ساقيَ البهم سقاكَ السَّاقي ... بكلِّ أحوَى مثجمٍ غيداقِ
حتَّى ترى ظواهر الْبراق ... ضاحكةَ الروضِ إِلَى الْإِشْرَاق
قَالَ القَاضِي: الأحوى: الْأَحْمَر الَّذِي يضْرب حمرته إِلَى السوَاد، والمثجم: الْمُقِيم، يُقَال: أثجم فَهُوَ مثجم إِذا أَقَامَ، وغيداق: كَثِير وَاسع من قَوْل الله تَعَالَى: " لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا " " الْجِنّ:16 " وغيداق فيعال مِنْهُ وَالْيَاء زَائِدَة، والبراق: جمع برقةٍ. فَقَالَ الْغُلَام:
حيّيتُم من فتيةٍ أزوالِ ... شمِّ الأنوفِ سادةٍ أقوالِ
أقوالٌ يصفهم بالسؤدد والرئاسة، ويُقالُ وأقيال وأقوال لموك الْيمن، وَقيل إِن القيلَ هُوَ من دون الْملك الْأَعْظَم، وقيلَ إِن أَصله من القَوْل فَمن هَاهُنَا قيل أَقْوَال، كَأَن أَصله قيِّل أَي فَيْعل، والأصلُ قَيْوِل، فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمَ الحرفُ الأول فِي الثَّانِي فَصَارَ يَاء مُشَدّدَة. وخففوا فَقَالُوا: قَيل، وَمثله ميت وميّت وَأَصله مَيْوِت. وَكَانَ الفرّاء يَأْبَى أَن(1/708)
يكون فِي المعتل فيعل كَمَا لَمْ يَأْتِ فِي الصَّحِيح، وَيَزْعُم أَن أصل هَذَا فعّيل، وَلما يحتجُّ بِهِ ويحتج بِهِ مخالفوه مَكَان هُوَ أولى بِهِ، وَأَكْثَرهم يَقُول: قيلٌ وأقيال كَمَا قَالَ عبد الْمَسِيح بن حنان بن بُقَيْلَة:
رسولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يسري بالوثن
وَيجمع القيل أَيْضا قيولا، وَيَقُولُونَ للْمَرْأَة قَيلة، وَبِه سُمّيت قيلة.
إِن الْقِرَى يعتدُّ للنُّزّال ... فدونكم مدمومة الأوصال
فأَحْنِذُوا من هَذِه الأجذال
قَالَ القَاضِي: أحنذوا معناهُ اشتووا، من قَوْل الله تَعَالَى: " بِعِجْلٍ حَنِيذٍ " " هود:69 " أَي محنوذ، ومعناهُ مشويٌ، وَقيل: هُوَ الَّذِي يُشوى على الأَرْض أَو فِيهَا وَلَا يُبَالغ فِي إنضاجه وإنّه من شيءّ الْأَعْرَاب، وَقيل: هُوَ الَّذِي يُشوى على الأَرْض أَو فِيهَا وَلَا يُبَالغ فِي إنضاجه وإنّه من شيءّ الْأَعْرَاب، وَقيل: إِنَّه الرطبُ الَّذِي فِيهِ نداوةٌ، وَمِنْه حنذب الفرسَ إِذا أجريَتهُ ليعرقَ؛ والأجذالُ: جمع جِذْل، ويُقال جذال، وَهُوَ الْعود من الْخشب كَمَا قَالَ ذُو الرمة الشَّاعِر:
مَا كنتُ فِي الحربِ العوانِ مغمَّراً ... إِذْ شبَّ حرَّ وقودها أجذالُهَا
وَقَالَ ذُو الرمَّة:
يظلّ بِهَا الحرباء للشمس ماثلا ... على الْجِذْلِ إِلا أَنَّهُ لَا يكبِّر
وَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر يَوْم السَّقِيفَة: أَنا جُذَيْلُها المحكّكَ، هَذَا معناهُ،
تَتِمَّة الْخَبَر
ثمَّ قَالَ شاةٍ ليذبحها فَقَالُوا لَهُ: لَا تفعل فإنَّا لَا نأكلُ مِنْهَا، وَقَالَ لَهُ أحدهم:
بوركت من حزوَّرٍ بذَّال ... رَحْبِ الفناء عُرضة النزَّال
إنّ لنا فِي الأبَّد الأهمال
قَالَ القَاضِي: الأُبُد جمع آبدٍ وآبدة، يجمع أَيْضا أوابد، وَهُوَ الوحشي، يُقال: تأبّد العير إِذا توحّش، وَهُوَ نقيضُ تأنّس. وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بعير ندَّ من الْغَنِيمَة يَوْم خَيْبَر فرماهُ رجلٌ من أَصْحَابه بسهمٍ فأثبتَهُ: " إِن لِهذه الْإِبِل أوابد كأوابد الْوَحْش فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا "، وَقَالَ الْأَعْشَى:
شبّهته هِقْلا يباري هقلةً ... رَبْداءَ فِي خيطٍ تطاردُ أبَّدا
وَقد يُقال للربع والمنزل إِذا خلا من أَهله وأوحشَ وأقفرَ قد تأبد، قَالَ الْأَعْشَى:
تأبّد الربْعُ من سلمى بأحصارِ ... وأقفرتْ من سليمى دمنةُ الدَّار
وَيُقَال: قد أَتَى فلَان بآبدة إِذا جَاءَ بِكَلِمَة فظيعة أَو فعلة موحشة بديعة، وَإنَّهُ ليَأْتِي بالأوابد. والأهمال مَا أُهْمِلَ وَلم يكن لَهُ راعٍ.(1/709)
أرفيّ كلِّ ثرّةٍ مِجْفالِ
قَالَ ابْن دُرَيْد: الأرفيّ: لبن الظباء، قَالَ القَاضِي: وَقَوله: ثرَة غزيرة، ويروي بَيت عنترة:
جادتْ عَلَيْهِ كلُّ عينٍ ثرّةٍ ... فتركن كلَّ قرارةٍ كالدرهم
وَقَوله: كجفال: أَي كَبِيرَة تعمُّ لسعتها، وَمن هَاهُنَا قيل: فلَان يَدْعُو الجفَلَى أَي يعمّ بعوته، وَإِذا خصّ وَلم يَعُم قيل: دَعَا النَّقرى، قَالَ طرفَة:
نحنُ فِي المشتاةِ نَدْعُو الجَفْلَى ... لَا ترى الآدبَ فِينَا يَنْتَقِرْ
وَقَالَ الآخر:
إنّا سنجزيكَ جَزَاء جزلا ... فقد بَرَعْتَ كرمًا وبَذْلا
إنَّ بأقصى ذَا الْكُهَيْفِ هجلا ... فاختفِ مِنْهُ جنبا مبتلا
تلقى غنى يطرد عَنْك الأزلا
قَالَ القَاضِي: الْجَهْل: الشَّيْء المخبوء الْكثير، وَقَوله: فاختفِ مِنْهُ جانبًا مبتلا: أَي اكتشفه وأظهره، يُقال: اختفى فلَان كَذَا إِذا أظهره بعد استتاره، وَمثله خَفَاهُ، وخفيتُ الشيءَ أظهرته، وأخفيته سترته. وَرُوِيَ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المختفي والمختفية يَعْنِي النبَّاش والنبّاشة. وَقد ذكرت من وُجُوه هَذَا الْبَاب وتصريفه فِي بعض أَوَائِل مجالسنا هَذِه وَفِيمَا رسمناهُ من عُلُوم الْقُرْآن مَا يُغْنِي عَن إِعَادَته فِي هَذَا الْمَكَان. وَقَوله يطرد عَنْك الْأَزَل بِفَتْح الْهَمْزَة الْفَاقَة والفقر والإضاقة، فَأَما الإزل بِكَسْر الْهَمْزَة فالكذب، قَالَ الشَّاعِر:
يقولونَ إزلٌ حبُّ ليلى وذكرُها ... وَقد كَذَبوا مَا فِي مَوَدَّتِها إزْلُ
وَمن الْأَزَل بِمعنى الضّيق قَول زُهَيْر:
تجدهم على خيَّلتهم إزاءها ... وَإِن أفسدَ المالَ الجماعاتُ وَالْأَزَلُ
يرْوى هم إزاءها وعَلى أَن تَجعل فِي مَوضِع اسْم مَرْفُوع، إِلَّا أَنَّهُ نصبَ على الظّرْف، واستقامَ فِيهِ الْوَجْهَانِ كخلف وَإِمَام، قَالَ لبيد:
فَغَدَتْ كلا الفرجين تحسبُ أَنَّهُ ... مولى المخافةِ خلفُها وأمامُها
وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي أَتَى على السعَة، قَالَ الله تَعَالَى: " بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " " سبأ:33 " وَإِذا جعل إزاؤها بِمعنى الْمُخْتَص بالاسمية دون الظّرْف، وَجعل مَكَانَهُ اسْم مَحْض لَا يكون ظرفا وَكَانَ على أفعل أَو فِيهِ لَام وَألف اتجه فِيهِ وَجْهَان من الْإِعْرَاب: الرّفْع على أَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء الَّذِي هُوَ هم، وَهِي لغةُ أهلِ نجدٍ وَبني تَميم، والنصبُ على أَنَّهُ مفعولٌ " تَجدهم " الثَّانِي، وَيكون هم فصلا، وَهَذِه عبارَة الْبَصرِيين من النَّحْوِيين، فأمّا كوفيّوهم قيسمّونها الْعِمَاد، وكلُّ مَا أَتَى فِي الْقُرْآن من هَذَا الْبَاب فَهُوَ مَنْصُوب فِي قراءتنا ورسم مَصَاحِفنَا، وَقد حكى رَفعه فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود ورسم مصحفه، فَفِي قراءتنا:(1/710)
" وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ " " الزخرف: 76 " وَفِي مَا رُوِيَ عَن عبد الله: " وَلَكِن كَانُوا هم الظالِمُون ". وممّا فِي الشّعْر نصبا قولُ الشَّاعِر:
وجدنَا آل مرَّة حِين خَافُوا ... جريرتَنَا هُمُ الأُنُفَ الكراما
وَمن الْمَرْفُوع قَول الآخر:
أجدَّك لن تزالَ نجيَّ تيم ... تبيتُ اللَّيْل أنتَ لَهُ ضَجيعُ
وَفِيمَا ألّفناهُ من عُلُوم الْقُرْآن استقصاء هَذَا الْبَاب بحججه وشواهده.
فَقَالَ الثَّالِث:
إِذا احتفرتَ منكبًا فلجّفِ ... من عَن يَمِين الجَلَدِ المحصَوْصِفِ
ثُمَّ اعتقم قِيدَ الذراعِ واكشفِ ... عَن مثل رأسِ الكودن المقرَّف
وَثِقْ بعيشٍ غَمْرُهُ لَمْ ينزفِ
فَخَرجُوا عَنْهُ، فَقَامَ الْغُلَام إِلَى حَيْثُ وصفوا وحفر كَمَا أمروا، فاستخرج صنمًا كرأسِ الكودن من ذهب لَهُ عينان من جَوْهَر أَحْمَر، فَأصْبح الْغُلَام وَالله أَكثر أهل الحواءِ مَالا وَأَحْسَنهمْ حَالا.
قَالَ القَاضِي: قَوْله: فلجِّف أَي بَالغ وأعمق، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يحجُّ مأمومةً فِي قَعْرها لجفٌ ... فاستُ الطَّبِيب عَلَيْهَا كالمغاريد
وَالْجَلد المحصوصف من الأَرْض: الصّلب الجَدَد. وَقَوله " ثُمَّ اعتقم قيد الذِّرَاع " أَي ذلله بحفرك إيّاهُ بعد أَن كَانَ فِي استصعابه بِمنزلة الْعَقِيم الَّذِي لَا يفتح لشدّته، وَقيد الذِّرَاع: قدره ومقياسه ويُقال قيد وقدى كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وإنِّي إِذا مَا الْمَوْت لَمْ يكُ دونهقدى الشبر أحنى الْأنف أَن أتأخَّرا وَمِنْه قاب، قَالَ الله تَعَالَى: " فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى " " النَّجْم:9 ". وَقد بيّنا مَا فِي هَذِه الْكَلِمَة من اللُّغَات فِي غير هَذَا الْموضع. والكوادن: المقاريف من الْخَيل، وَكَذَلِكَ الهجين مِنْهَا، تقصّر فِي كرمها وفضلها عَن عتاقها، ورؤوسها أعظمُ من رُؤُوس الْعتاق، فَلذَلِك شبَّه بِهِ الشَّاعِر مَا شبّه. وقيلَ فِي قَوْله فِي أوّل الْخَبَر " واحتلبَ لَبَنًا فوغره " أَنَّهُ أسخنه وأودعه إناءه، وأنّه أشارَ بقوله: إِن بأقصى ذَا الكهيفِ هجلا إِلَى كَثْرَة مَا أومئ بِهِ إِلَيْهِ.
قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: قَوْله هلموا جَاءَ على اللُّغَة النجدية، وَقد بيّنا فِي مجَالِس قبل هَذَا مَا فِي هَلُمَّ من اللُّغَات بِما يُغني عَن إِعَادَته. وَقَوله مدمومة الأوصال إِشَارَة إِلَى الشَّاة الَّتِي أَمرهم بشيها. وَقَوله: " وَقرب إِلَيْهِم غمره " الغمرُ: القدحُ الصَّغِير كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
يَكْفِيهِ حزَّة فلذٍ إِنْ ألمَّ بِهَا ... من الشواءِ وَيُروى شُرْبَهُ الْغُمَرُ
أَبُو الينبغي والمأمون
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِم بن خرداذبه قَالَ: كَانَ أَبُو(1/711)
الينبغي يحمَّق، وَكَانَ أحد الدَّوَاهِي والمجّان، وَكَانَ يتكسَّب بالحمق، فَلَمَّا قتل مُحَمَّد بن زبيدة وَصَارَ الأمرُ إِلَى الْمَأْمُون ذكر لَهُ أَبُو الينبغي فَأمر بإحضاره، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وسلَّم أمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ بعضُ الجلساء: قُم فَأَنْشد أَمِير الْمُؤمنِينَ، فاقل: يَا رقيع، أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول لي: اجْلِسْ وَأَنت تقولُ لي قُم. فَقَالَ الْمَأْمُون: بَلِ اجْلِسْ وَأنْشد، فَقَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأَنْشَأَ يَقُول:
كُنْتُم أَنْتُم ثلاثهْ ... كلّكم نسلُ الملوكْ
ذهب الموتُ بواحدْ ... مَا أرى ذاكَ يَسُوكْ
فَقَالَ الْمَأْمُون: اغرب قبحك الله، وَأمر بِهِ فَأخْرج، ثُمَّ قَالَ: لَا وَالله مَا يَنْبَغِي أَن نخيِّبه فقد قَالَ على جُنُونه شَبِيها بِالْحَقِّ، وَلَا وَالله أعطوهُ عشرَة آلَاف فقبضها وَانْصَرف. وَهُوَ يَقُول: شَبيه بِالْحَقِّ، لَا وَالله إِلَّا الْحق كلّه.
سيل بِالْيمن يكْشف عَن جثمان شخص
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأنبَاريّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ: أَقْبَلَ سيلٌ بِالْيَمَنِ فِي وِلايَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَبْرَزَ لَنَا عَنْ بَابِ الْبَلَقِ، وَهُوَ الرُّخَامُ، فظننا كَنْزًا، فَكَتَبْنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُعْلِمُهُ ذَاكَ، فَكَتَبَ إِلَيْنَا لَا تُحَرِّكُوهُ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْكُمْ أُمَنَاءٌ مِنْ قِبَلِي. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ أُمَنَاؤُهُ فَتَحْنَاهُ فَإِذَا نَحْنُ برجلٍ عَلَى سريرٍ طُولُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَعَلَيْهِ سَبْعُونَ حُلَّةً مَنْسُوجَةً بِالذَّهَبِ، وَفِي يَدِهِ الْيُمْنَى لوحٌ وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى مِحْجَنٌ، وَفِي اللَّوْحِ مَكْتُوبٌ مَا هَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
إِذَا خَانَ الأَمِيرُ وَكَاتِبَاهُ ... وَقَاضِي الأَرْضِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ
فويلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ... لِقَاضِي الأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ
قَالَ: وَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ سَيْفٌ أَشَدُّ خُضْرَةً مِنَ الْبَقْلَةِ، وَعَلَى السَّيْفِ مَكْتُوبٌ: هَذَا سَيْفُ هُودِ بْنِ عَادِ بْنِ إِرَمَ.
المجلِسُ السَّادس والتسعُون
حَدِيثُ اتَّزِنْ وَأَرْجِحْ
حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ، حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ الْوَرَّاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرِ بْنِ أُنَاسٍ السَّعْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، عَنِ الأَعْرَابِيِّ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّوق، قَالَ: فَقعدَ إِلَى البززين فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، قَالَ: وَكَانَ لأَهْلِ السُّوقِ رجلٌ يَزِنُ بَيْنَهُمُ الدَّرَاهِمَ يُقَالُ لَهُ فُلانٌ الْوَزَّانُ، فَدَعَا بِهِ لِيَتَّزِنَ ثَمَنَ السَّرَاوِيلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتَّزِنْ وَأَرْجِحْ "، قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَحَدٍ فَمَنْ(1/712)
أَنْتَ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقُلْتُ: حَسْبُكَ مِنَ الرَّهق وَكْفًا فِي دِينِكَ أَلا تَعْرِفُ نَبِيَّكَ، هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقَبِّلَهَا، فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " مَهْ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا الأَعَاجِمُ بملوكها، وَإِنِّي لست بِملك، أَنَا رجلٌ مِنْكُمْ ". قَالَ: فَقَعَدَ الْوَزَّانُ فَاتَّزَنَ وَأَرْجَحَ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا انْصَرَفْنَا تَنَاوَلْتُ السَّرَاوِيلَ لأَحْمِلَهَا عَنْهُ فَمَنَعَنِي وَقَالَ: " صَاحِبُ الشَّيْءِ أحقُّ بِحَمْلِهِ إِلا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا عَنْهُ فَيُعِينُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ قَالَ: نَعَمْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَشَكَكْتُ فِي قَوْلِهِ " وَمَعَ أَهْلِي " إِنِّي أُمِرْتُ بِالتَّسَتُّرِ فَلَمْ أَجِدْ ثَوْبًا أَسْتَرَ مِنَ السَّرَاوِيلِ.
شرح وإعراب
قَالَ القَاضِي: قَول أبي هُرَيْرَة للوزان: " حَسبك من الرهق " يَعْنِي الهجومَ على الْبَاطِل، والمبادرة إِلَى غشيان الشرِّ والإسراع إِلَى تقحمه. وَمِنْه قَوْله جلّ اسْمه: " فَزَادُوهُمْ رَهَقًا " " الْجِنّ:6 " وَقَوله: " فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا " " الْجِنّ:13 " وَقَوله " وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قترٌ " " يُونُس: 26 ". وَقَول أبي هُرَيْرَة: " حَسبك مِنَ الرَّهَقِ وَكْفًا فِي دِينِكَ " الوكف: الْعَيْب، قَالَ الشَّاعِر:
الحافظو عورةَ العشيرةِ لَا ... يأتيهمُ من ورائهم وَكَفُ
نصب الْعَوْرَة لِأَنَّهُ أَرَادَ الحافظونَ العورةَ من الوكف، وَمثله الفارجو بابَ الأمرِ الْمُبْهم. وَقد رُوِيَ عَن الْأَعْمَش أَنَّهُ قَرَأَ " إِنَّا مرسلو النَّاقة " وَقَرَأَ عمَارَة بن عقيل: " وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ " " يس:40 " وَهَذَا الْفَصْل بَاب من أَبْوَاب النَّحْو وَاسع وفروعه ومسائله وشواهده ودلائله كَثِيرَة، وَلَهَا مَوضِع غير هَذَا هِيَ مشروحة فِيهِ، ويسميه البصريون من اللغويين بَاب الصّفة المشبهة باسم الْفَاعِل. وَسَرَاويل فِي الأَصْل اسْم أعجمي أشبه من كَلَام الْعَرَب مَالا ينْصَرف، وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ شروال فبنتها الْعَرَب على مَا ينْصَرف من كَلَامهَا، فَإِذا صغَّرتها صرفتها إِلَّا أَن يكون اسْم رجل. وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا دلَّ على أَن السَّرَاوِيل من الملابس المختارة، فَيَنْبَغِي لكلِّ ذِي دين وفطرة سوية من الْمُسلمين أَن يَجعل السَّرَاوِيل من أَمْثِلَة لبوسه للأثر الْوَارِد فِيهِ ولأنَّ فِيهِ من ستر العورات والإدفاء من القرّ فِي السيرات مَا لَيْسَ فِي غَيره.
سَرَاوِيلُ قَيْسٍ
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَلاءِ الْأَضَاحِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّه بْن شَبِيبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيم الدروقي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو نُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ يُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: بَعَثَ قَيْصَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ سَرَاوِيلَ أَطْوَلِ رجلٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: مَا أَظُنُّنَا إِلا قَدِ احْتَجْنَا إِلَى سَرَاوِيلِكَ، قَالَ: فتنحَّى فَجَاءَ بِهَا فَأَلْقَاهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَرْحَمُكَ(1/713)
اللَّهُ مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا؛ أَلا ذَهَبْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ ثُمَّ بَعَثْتَ بِهَا إِلَيْنَا؟ فَقَالَ قَيْسٌ:
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قيسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
وَأَلا يَقُولُوا غَابَ قيسٌ وَهَذِهِ ... سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ
وَإِنِّي مِنَ الحيِّ الْيَمَانِينَ سيدٌ ... وَمَا النَّاسُ إِلا سيدٌ وَمَسُودُ
فَكِدْهُمْ بِمِثْلِي إِنَّ مِثْلِي عَلَيْهِمُ ... شديدٌ وَخَلْقِي فِي الرِّجَالِ مَدِيدُ
قَالَ: فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ أَطْوَلَ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ فَوَضَعَهَا عَلَى أَنْفِهِ فَوَقَعَتْ بِالأَرْضِ. قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِسَرَاوِيلَ، فَلَمَّا جِيءَ بِهَا قَالَ لَهُ قَيْسٌ: نحِّ عَنْكَ ثِيَابَكَ هَذِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَمَّا قريشٌ فأقوامٌ مُسَرْوَلَةٌ ... واليثربيون أَصْحَاب التباين
فَقَالَ قَيْسٌ:
تِلْكَ الْيَهُودُ الَّتِي تَعْنِي بِبَلْدَتِنَا ... كَمَا قريشٌ هُمُ أَهْلُ السَّخَاخِينِ
رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر السَّابِق
وَقد رُوِيَ لنا هَذَا الْخَبَر من وُجُوه، وَهَذَا الَّذِي حَضَرنَا مِنْهَا، وَجَاء من طريقٍ آخر وَفِيهِ زِيَادَة وَخلاف فِي سياقته وَبَعض مَعَانِيه وَأَلْفَاظه. فَمن تامِّ مَا رُوِيَ فِيهَا أَن قَيْصر كتب إِلَى مُعَاوِيَة: إِنِّي قد وجهتُ إِلَيْك برجلَيْن: أَحدهمَا أقوى رجل ببلادي، والآخرُ أطول فِي أرضي، وَقد كَانَت الْمُلُوك تتجارى فِي مثل هَذَا وتتحاجى بِهِ، فَأخْرج إِلَيْهِمَا مِمَّن فِي سلطانكَ من يُقَاوم كلَّ وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِن غلب صاحباك حملتُ إليكَ من المَال وأسارى الْمُسلمين كَذَا وَكَذَا، وَإِن غلبَ صَاحِبَايَ هادنتني ثَلَاث سِنِين. فَلَمَّا ورد كتاب قَيْصر على مُعَاوِيَة أهمه وشاور فِيهِ أَصْحَابه، فَقيل لَهُ: أما الأِّيد فادعُ لمناهضته إمَّا مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وإمّا عبد الله بن الزبير، فَقَالَ: إِذا كَانَ الأمرُ هَكَذَا فالمنافيُّ أحبُّ إِلَيْنَا، فأحضر مُحَمَّد بن عَليّ والأيّدُ الرُّومِي حَاضر، فَأخْبرهُ بِما دَعَاهُ لَهُ. فَقَالَ مُحَمَّد للرومي: مَا تشاءُ، فَقَالَ: يجلسُ كلُّ وَاحِد منا وَيدْفَع يَده إِلَى صَاحبه فَمن قلع صَاحبه من مَوْضِعه أَو رَفعه عَن مَكَانَهُ فقد فلج عَلَيْهِ، وَمن عجز عَن ذَلِكَ وقهر صَاحبه قُضِيَ بالغلبة لَهُ، فَقَالَ مُحَمَّد: هَذَا فَجعل يُمارسه ويَجتهد فِي إِزَالَته عَن مَوْضِعه فَلم يَتَحَرَّك مُحَمَّد، وَظهر عجز الرُّومِي لِمن حضر. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: اجْلِسْ الْآن، فَجَلَسَ وَأخذ بِيَدِهِ فَمَا لبث أَن اقتلعه وَرَفعه فِي الْهَوَاء ثُمَّ ألقاهُ على الأَرْض. فسر مُعَاوِيَة وحاضروهُ من الْمُسلمين. وَقَالَ مُعَاوِيَة لقيس بن سعد والرومي الطوَال: تطاولا، فَقَالَ قيس: أَنا أخلعُ سراويلي ويلبسها هَذَا العلج، فَإِن مَا بَيْننَا يبين بذلك؛ ثُمَّ خلع سراويله وَأَلْقَاهَا إِلَى الرُّومِي فلبسها، فبلغت ثدييه وانسحبَ بَعْضهَا فِي الأَرْض، فاستبشرَ النَّاس بذلك. وَجَاءَت الْأَنْصَار إِلَى قيس فَقَالَت لَهُ تبذَّلت بَين يَدي مُعَاوِيَة، وَلَو كنت مضيتَ إِلَى مَنْزِلك وبعثتَ بالسراويل إِلَيْهِ، فَقَالَ:(1/714)
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
وَأَلا يَقُولُوا غَابَ قيسٌ وَهَذِهِ ... سَرَاوِيلُ عاديٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ
وَإِنِّي مِنَ الْقَوْم اليمانينَ سيد ... وَمَا النَّاس إِلَّا سيد ومسود
وفضَّلني فِي الناسِ أُصَلِّي ووالدي ... وباعٌ بِهِ أعلو الرِّجَال مديد
مدح بِما يشبه الذمّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بْن دُرَيد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ: وَفد عُبَيْد اللَّه بْن زِيَاد بن ظبْيَان من بني عَابس بن مَالك على عتاب بن وَرْقَاء التَّيْمِيّ فأعطاهُ عشْرين ألفا، فلمّا أَرَادَ توديعه قَالَ لَهُ: وَالله مَا أحسنتَ فأمدحكَ وَلَا أسأتَ فأهجوكَ، وَإنَّك لأقربُ الْبعدَاء وأحبُّ الْبغضَاء.
بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْحِجَازَ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُوكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاتِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْطَقَكَ يَا مُعَاوِيَةُ بالحقِّ، وعرَّفك حَقَّنَا وَفَضْلَنَا، وَأَنَّا أَهْلُ الْبَيْتِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ حَرَمَكُمْ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي عرَّضتم لَهُ أَكْتَافَكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُوكَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ عَزَائِمِ قُدْرَةِ اللَّهِ مَا يَذُودُنَا عَنِ الدُّنْيَا وَمَوَارِدِ الْهَلَكَةِ أَنَّ قَالَ: " قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خيرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلاً " " النِّسَاء:77 "؛ فو الله يَا مُعَاوِيَةُ لَوْلا طَاعَةُ اللَّهِ لَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَغْرِفَ بِدَلَوِكَ فِي طَوِيٍّ شدَّ عَلَيْهِ هاشمٌ رِشَاءً؛ فَتَضَاحَكَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: أُمَازِحُكَ فَلا تَحْلُمُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُوكَ: عَمَّنْ أَحْلُمُ؟ عَمَّنْ يَرَى أَنَّ لَهُ الْفَضْلَ؟! ثمَّ نفض ثَوْبه ايخرج فَجَذَبَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عِنْدِي ثَوْبٌ مِنْ عَصْبِ الْيمن وثوبان من نسج الْعَجَمِ فَأَهْدِيهِمَا إِلَيْكَ. فَلَبِسَهُمَا أَبُوكَ وَغَدَا عَلَيْهِ فِيهِمَا فَقَالَ الشَّاعِرُ: فِي ذَلِكَ
إِنَّ الثِّيَابَ بِآلِ هَاشِمَ زِينَةٌ ... تَزْهُو وَيَضْعُفُ حُسْنُهَا فِي الْمَشْهَدِ
وَبَنُو أُمَيَّةَ فِي الثِّيَابِ تَرَاهُمُ ... شِبْهَ الْقُرُودِ أَذِلَّةً فِي الْمَحْتِدِ
هَاشِمٌ، قُرَيْش. باهلة ... هَلْ تصرف
قَالَ القَاضِي: لَمْ يصرف هَذَا الشَّاعِر " هاشمًا " فِي شعره، أَرَادَ الْقَبِيلَة، وَلَو أَرَادَ الحيّ أَو اسْم الْأَب لصرفه، وَإِن لَمْ يصرف مَعَ هَذِه النِّيَّة لَمْ يُصِبْ - فِي قَول الْخَلِيل وسيبويه(1/715)
وَجُمْهُور الْبَصرِيين - لِأَن الشَّاعِر لَهُ أَن يصرف فِي الشّعْر مَا لَا ينْصَرف فِي الْكَلَام، وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ صَرْفِ المنصرف. وَكَانَ الْأَخْفَش يُجيزُ ذَلِكَ وَهُوَ مذهبُ الْكُوفِيّين، وَقد اسْتشْهدُوا بأَشْيَاء وَردت عَلَيْهِم فِيهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع استقصاء هَذَا الْبَاب لكنّا آثرنا ذكر جملَة مِنْهُ يقفُ بِهَا ذُو الْفَهم على الأَصْل فِيهِ، وَيجْرِي عَلَيْهِ قِيَاس بَاقِيه. وَالَّذين أَبَوا ترك صرف مَا لَا ينْصَرف فِي الشّعْر يعتلونَ بأنَّ الشَّاعِر إِذا اضْطر إِلَى مَا يُتَنَكّبُ فِي منثور الْكَلَام رَجَعَ إِلَى أَصله وَلَيْسَ لَهُ مُفَارقَة الأَصْل وهدمه؛ وَالْأَصْل فِي الْأَسْمَاء الصّرْف، فَإِذا عَرَضَ فِي شيءٍ مِنْهَا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ استجيزَ فِي الشّعْر كوب الصّرْف حَملا على الأَصْل. فأمّا ترك صرف الْمصر وف فنقضُ مَا بني الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أَصله.
وَالَّذين أَجَازُوا هَذَا تعلقوا بِأَبْيَات أنشدوها على هَذَا الْوَجْه الَّذِي عابهم عَلَيْهِ يه مخالفوهم. وَقد دفع الْأَولونَ مَا رَوَوْهُ عَنْهُم وأنشدوا كثيرا مِنْهُ على خلاف إنشادهم. فأمَّا وَجه ترك صرف هَاشم فِي الْبَيْت الَّذِي أَتَى فِي هَذَا الْخَبَر وَنَظِيره من الْأَسْمَاء فَلِأَنَّهُ ذهب بِهِ مَذْهَب الْقَبِيلَة دون اسْم الرجل، وَدون حمله على أَن اسْم الْحَيّ. وَإِن مثل هَذَا فِي الشّعْر كَثِير. وَهَذَا كَقَوْلِهِم حضرت قُرَيْش ومعدُّ وثقيفُ وَمَا لَا يُقال فِيهِ بَنو فلَان، أَلا ترى أَنَّهُ لَا يُقال بَنو قُرَيْش وَلَا بَنو ثَقِيف. وَقَالَ الشَّاعِر:
غلب المساميحَ الوليدُ سماحةً ... وَكفى قريشَ المعضلاتِ وسادَها
وَقَالَ آخر:
بَكَى الخزُّ من روحٍ وَأنكر جلدَه ... وعجَّت عجيجًا من جذامَ المطارفِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
ولسنا إِذا عدَّ الْحَصَا بأقلَّةٍ ... وَإِن معدَّ اليومَ مودٍ دليلُهَا
وَمثله باهلة، وَهُوَ اسْم امرأةٍ لَا يُقالُ فِيهِ بَنو باهلة إِلَّا أَنَّهُ لَا يصرف وَإِن جُعِلَ اسمَ الحيّ من أجل التَّأْنِيث. وَنَظِير مَا وَصفنَا سبأ قد صُرِفَ وَترك صرفه، وَاخْتلف الْقُرَّاء فِيهِ فَصَرفهُ بَعضهم وَلم يصرفهُ بَعضهم، وأجراهُ بَعضهم على مَذْهَب الْحِكَايَة، وروى فَرْوَة - صَوَابه فَرْوَة بن مُسَيك الْغَطَفَانِي - عَن النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سَأَلَ عَن سبأ أهوَ اسْم أَرض أم امْرَأَة، فَقَالَ: لَيْسَ بِأَرْض وَلَا امْرَأَة وَلكنه رجلٌ ولد عشرَة فتيامن مِنْهُم أَرْبَعَة وتشاءم سِتَّة. وَقد أَتَى فِي الْعَرَبيَّة مصروفًا وَغير مَصْرُوف قَالَ النَّابِغَة:
من سبأ الحاضرينَ مأربَ إِذْ ... يبنونَ من دون سيله العَرِمَا
وَلم يذكر شَيْئا مِمَّا جَاءَ مِنْهُ مصروفًا فِي الشّعْر إِذْ لَا حجَّة فِيهِ من أجل جَوَاز صرف مَا ينْصَرف فِيهِ. وَبَيت النَّابِغَة هَذَا يشْهد لقَوْل من قَالَ: العرمُ المسنَّاة أَو الْبناء، ونصبه العرم بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يبنون كَأَنَّهُ قَالَ: يبنون العرم من دون سيله. وقصة مأرب والعرم من مَشْهُور الْقَصَص، قَالَ الْأَعْشَى:(1/716)
فَفِي ذَاك للمؤتسي أُسْوَة ... ومأرب قفَّي عَلَيْهَا العَرِمْ
قفى مثل عفى، وأوّل القصيدة:
أتهجرُ غانيةً أَن تلهمّ ... أم الحبلُ واهٍ بِهَا مُنْجَذِمْ
أم الصّبر أحجى فَإِن امْرَءًا ... سينفعه علمه إِن علم
وَذكر بعد هَذَا أبياتًا تشتملُ على جملَة من بنائِهم. وَقد اخْتلف فِي معنى العرم فقيلَ هُوَ الْبناء، وَقيل هُوَ المسناة بلغَة أهل الْيمن، وَقد قَالَ الْأَعْشَى فِي ذَلِكَ:
رخامٌ بَنَتْهُ لَهُم حمير ... إِذا جَاءَ دفَّاعه لَمْ يَرِم
وَقد يرْوى: إِذا جَاءَ ماؤهم. وَقيل العرم الفارة وأنَّها خرقت من المسناة موضعا فاتسع وَصَارَ نبعًا مُفْسِدا بلغَة أهل الْيمن، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي ذَلِكَ:
سعى جرذٌ فيهم لَيْلَة ... فخانَ بِهم جارفٌ منهدمْ
ومِمَّا يُضارع هَذَا الْبَاب فِي بعض فصوله مَا أَتَى من ذكر أَسمَاء الْأُمَم ذَوي الْملَل الْمُخْتَلِفين فِي الآراء والنحل كالمجوس وَالْيَهُود، قَالَ الشَّاعِر:
أصاحَ ترى بُرَيْقًا هبَّ وَهنا ... كنار مجوسَ تستعرُ استعارًا
وَقَالَ آخر:
فرَّت يَهودُ وأسلمتْ جيرانَها ... صمّى لما فعلتْ يهودُ صمامِ
فَلم يصرف يهود على مَا بَيْننَا. وَقَالَت امْرَأَة من الْأَنْصَار:
رَحل الصومُ حامدًا مَحْمُودًا
خرج الصَّوْم حامدًا مَحْمُودًا
دخل الشرُّ فِي بيوتِ يهودا
وَقَالَ كَعْب بن مَالك الأَنْصَارِيّ يؤنب الْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ فِي مدحه قُرَيْظَة وبكائه عَلَيْهِم، وَيُشِير إِلَى أَن مدحه الْأَنْصَار كَانَ أولى بِهِ.
أُولَئِكَ أولى من يهودَ بمدحةٍ ... إِذا أَنْت يَوْمًا قُلْتَها لَمْ تؤنَّب
ونظيرُ هَذَا ثَمود، وكلامنا فِيهِ مستقصًى فِيمَا ألفناهُ من علومِ الْقُرْآن وَذكر مَنْ صرفه وَمن لَمْ يصرفهُ فِي شَيْء من الْقُرْآن، وَمن صرفه فِي بعض الْمَوَاضِع وَلم يصرفهُ فِي بَعْضهَا، وَهُوَ وَاسع جدًّا وإنَّما نذكرُ من هَذِه الْأَنْوَاع مَا يَدْعُو النَّاظر فِي كتَابنَا إِلَى التبغي فِي طلبه والحرص على استفادته، وَقد تركتُ الإطالة بشرحه فِي غير مَوْضِعه.
الْمجْلس السَّابع والتسعُون
لَا يَدْخُلُ قَلْبَ امْرِئٍ الإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هَارُونَ أَبُو جَعْفَرٍ الإِسْكَافِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَوْطَا قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ(1/717)
عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ قريشٍ إِذَا تَلاقَوْا بَيْنَهُمْ تَلاقَوْا بوجوهٍ مُسْتَبْشِرَةٍ، فَإِذَا لَقَوْنَا لَقَوْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احمرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ: " لَا يَدْخُلُ قَلْبَ امرئٍ الإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ".
قَالَ القَاضِي: وَإِن مَوَدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقَاربه وإخلاص الْمُوَالَاة لآله من أَرْكَان الْملَّة وخالص الشَّرِيعَة، وَإِن من انحرف عَن هَذَا وزاغ عَنْهُ وَصَدَفَ عَن التديّن بِهِ متقربًّا باعتقاده إِلَى الله وَرَسُوله فقد خسرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة " ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " " الْحَج:11 ".
أَبُو الْأسود الدئلي وَبَنُو قُشَيْر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: كَانَ أَب الْأسود ينزل فِي بني قُشَيْر، وَكَانُوا عثمانية، وَكَانَ أَبُو الْأسود علويَّ الرَّأْي، وَكَانَ بَنو قُشَيْر يسيئونَ جواره ويؤذونه ويرجمونه بِاللَّيْلِ، فعاتبهم على ذَلِكَ فَقَالُوا: مَا رجمناك وَلَكِن الله رجمك، قَالَ: كَذبْتُمْ لأنكم إِذا رجمتموني أخطأتموني وَلَو رجمني الله لمَّا أخطأني. ثُمَّ انتقلَ عَنْهُم إِلَى هُذَيْل وَقَالَ فيهم:
شتموا عليا ثُمَّ لَمْ أزجرهم ... عَنْهُ وَقلت مقالةَ المتودِّدِ
الله يعلمُ أَن حبّي صادقٌ ... لبني النَّبِي وَللْإِمَام الْمُهْتَدي
قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: وَقد رُوِيَ لنا من طَرِيق آخر أَن أَبَا الْأسود قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى وَفِي بني قُشَيْر:
يقولُ الأرذلونَ بَنو قشيرٍ ... طوالَ الدهرِ مَا تَنْسَى عليا
بَنو عمِّ النَّبِيّ وأقربوه ... أحبُّ الناسِ كلِّهم إليَّا
أحبُّ مُحَمَّدًا حبًّا شَدِيدا ... وعباسًا وحمزةَ والوصيا
فإنْ يكُ حبهم رشدا أُصِبْه ... ولستُ بمخطئٍ إِن كَانَ غيا
أَو مَتى تفِيد الشَّك
ويُقالُ إِن مُعَاوِيَة قَالَ لَهُ لَمّا أنْشد هَذَا الْبَيْت: قد شَككت، فَقَالَ: مَا شَككت، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ " " سبأ:24 " أَفَهَذَا شكّ؟. وَالَّذِي احتجَّ بِهِ أَبُو الْأسود بيّن الصِّحَّة، وَالْإِنْسَان يقولُ مثل هَذَا على المناصفة وتحسين المخاطبة والإرهاص لتمكين الْحجَّة وَنفي الشُّبْهَة وملاينة الْخصم، فإنَّها مِمَّا قد تعطفه إِلَى المقاربة، وتثنيه عَن اللَّدد والمشاغبة. وَقد يَقُول الرجل لِمن ركب مَعَه الْبُهْتَ فِي مناظرته والمكابرة فِي منازعته: قد زعمتَ أَنَّهُ إِذا جُمِعَ بَين النَّار والقطن أَنَّهُ لَا يَحْتَرِق الْقطن، فنحنُ نجمعُ بَينهمَا فَنَنْظُر أيحترقُ أم لَا، فَإِن لَمْ يَحْتَرِق فالقولُ مَا قلت، وَإِن احترقَ فالقولُ فِيهِ على مَا قُلْنَا. وقائلُ هَذَا لَيْسَ يَحتاجَ بجمعه بَين هذَيْن الشَّيْئَيْنِ إِلَى عِلْمِ شيءٍ جَهله، وَلَا(1/718)
دَفْعِ شكٍ عَرَضَ لَهُ، وَلكنه لاستظهاره قصد حَسْمَ شَغَبِ خَصْمِهِ، وردَّه إِلَى الحقِّ عَن باطله. قَالَ الله تَعَالَى ذكره لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا " " الْأَحْقَاف:8 " وَقَالَ عزَّ اسْمه " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افتريته فعليَّ إجرامي وَأَنا بريٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ " " هود:35 " وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ فِي قصَّة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قدَّ مِنْ قبلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قدَّ مِنْ دبرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادقين " " يُوسُف:26 - 27 ". أَلا ترى إِلَى الْمُسَاوَاة فِي الشَّرْطَيْنِ وجوابَهما، وَإِلَى الْحِكْمَة وَالْمُبَالغَة فِي التفقه وَجَمِيل المحاورة، والتبدية بِذكر المبطلة وَتَقْدِيم الْإِخْبَار عَن تصديقها إِن كَانَت لَهَا الْحجَّة، وَهَذَا بابٌ وَاسع. وَقد قَالَ قَائِلُونَ إِن قَوْله أَو إيَّاكُمْ بِمعنى وَإِيَّاكُم، وَزَعَمُوا أَن أَو بِمعنى الْوَاو، فادَّعوا مثل هَذَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن كَثِيرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: " مَثَلُهُمْ كمثلٍ الَّذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " " الْبَقَرَة:17 " ثُمَّ قَالَ: " أَوْ كصيِّبٍ مِنَ السَّماء " " الْبَقَرَة:19 " وَكَقَوْلِه: " فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أشدُّ قَسْوَةً " " الْبَقَرَة:74 " وَقَوله تَعَالَى: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ ألفٍ أَوْ يَزِيدُونَ " " الصافات:147 " وَقَوله تَعَالَى: " فَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " " الْإِنْسَان:24 " وَزَعَمُوا أَن أَو قد تَأتي بِمعنى الْوَاو، واستشهدوا بقول الشَّاعِر:
فَلَو كَانَ البكاءُ يردُّ شَيْئا ... بكيتُ على بجيرٍ أَو عفاقِ
على المرءين إِذْ مضيا جَميعًا ... لشأنِهما بشجوٍ واشتياق
الْمَعْنى عل بحير وعفاق، وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بقوله: " على الْمُؤمنِينَ "، وَمثله قَول جرير:
نَالَ الْخلَافَة أَو كَانَت لَهُ قدرا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر
وأبى مُحَقّقَةُ النَّحْوِيين هَذِه الطريقةَ، وتأوّلوا كلَّ شيءٍ مِمّا أَتَى هَؤُلاءِ بِهِ وتلوه واستشهدوا بِهِ وَرَوَوْهُ على خلاف تأويلهم. وإنَّما أوقعَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَن " أَو " تكون بِمعنى الْوَاو فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من خلاف الْقيَاس الْمُمَيز بَين الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلفَة الْمعَانِي فِي أُصُولهَا، وَإِنَّا تقاربت فِي بعض وجوهها، وجودُهم ألفاظًا اشتبهت عَلَيْهِم لتقاربها، فخلطوا بَعْضهَا بِبَعْض، وَلم ينعموا النّظر فِيهَا، فيحصّلوا تمييزها، ويقوا على مَا يختصّ بِهِ كلُّ نوعٍ مِنْهَا، ويتبّينوا أَوْجُهَ تقاربها وعلَّةَ اشتراكِها وتداخلها، وَذَلِكَ كقولِهم: اجْلِسْ فِي السوقِ أَو الْمَسْجِد، وجالس الْحَسَن أَو ابْن سِيرِين، وخالطَ الفقهاءَ أَو النَّحْوِيين، وكلِ اللَّحْم أَو الشَّحْم، وَالتَّمْر أَو الزَّبِيب، والرُّطب أَو العنبَ. وَهَذَا بابٌ يُسَمَّى بَاب الْإِبَاحَة وَلَيْسَ من بَاب الشَّك وتَخير أحد الْمَذْكُورين وحظر الْجمع بَينهمَا. فلمَّا لَمْ يُحْكِمُوا معانيَ هَذَا النَّوْع على حَقِيقَتهَا، وأغفلوا ملاحظةَ تفصيلها وتَمييزها ذَهَبُوا عَن وَجه الصَّوَاب فِيهَا. ولتفصيل مَا يشْتَمل هاذ الْبَاب عَلَيْهِ وَشرح علله وَاسْتِيفَاء شعبه وأقسامه موضعٌ هُوَ أخصّ بِهِ.(1/719)
الْمَنْصُور وواعظ مُنَافِق
حدَّثنا الْحُسَيْن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أبي قَالَ: بَينا الْمَنْصُور ذاتَ يومٍ يَخْطُب وَقد علا بكاؤه إِذْ قَامَ رجلٌ فَقَالَ يَا وصّاف تَأمر بِما تجتنبه، وتَنْهَى عمّا ترتكبه، بِنَفْسِك فابدأ ثُمَّ بِالنَّاسِ.
فَنظر إِلَيْهِ الْمَنْصُور وتأمّله مليًّا وَقطع الْخطْبَة ثُمّ قَالَ: يَا عبد الْجَبَّار، خُذْهُ إِلَيْك. فَأَخذه عبد الْجَبَّار، وَعَاد إِلَى خطبَته حَتَّى أتمّها وَقضى الصَّلَاة، ثُمَّ دخلَ ودعا بِعَبْد الْجَبَّار فَقَالَ لَهُ: مَا فعل الرجل؟ قَالَ: محبوسٌ عندنَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أملِ لَهُ ثُمَّ عرِّض لَهُ بالدنيا فَإِن صَدَفَ عَنْهَا وقلاها فلعمري إِنَّه لمريد، وَإِن كَانَ كَلَامه ليَقَع موقعًا حسنا؛ وَإِن مالَ إِلَى الدُّنْيَا وَرغب فِيهَا إِ ن لي فِيهِ أدبًا يزعه عَن الْوُثُوب على الْخُلَفَاء وطَلَبِ الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة. فَخرج عبد الْجَبَّار فَدَعَا بِالرجلِ وَقد دَعَا بغدائه فَقَالَ لَهُ: مَا حملكَ على مَا صنعت؟ قَالَ: حقّ كَانَ الله فِي عنقِي فأدّيته إِلَى خَلِيفَته، قَالَ: ادنُ فكُلْ من هَذَا عَلَيْك من أكل الطَّعَام إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، قَالَ: وَمَا عَلَيْك من أكل الطَّعَام إِن كَانَت نيّتك حَسَنَة فَلَا يفثأكَ عَنْهَا شَيْء. فَدَنَا فأكلَ، فَلَمَّا أكلَ طمع فِيهِ. فَتَركه أيّامًا ثُمَّ دعاهُ وَقَالَ: لَهِيَ عَنْك أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنت مَحْبُوس، فَهَل لَك فِي جاريةٍ تؤنسك وتسكن إِلَيْهَا؟ قَالَ: مَا أكرهُ ذَلِكَ، فأعطاهُ جَارِيَة ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ: هَذَا الطَّعَام قد أكلت وَالْجَارِيَة قد قبلت، فَهَل لَك فِي ثيابٍ تكتسيها وتكسو عِيَالك إِن كَانَ لَك عِيَال وَنَفَقَة تستعين بِهَا على أَمرك إِلَى أَن يَدْعُو بك أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: مَا أكرهُ ذَلِكَ، فأعطاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عَلَيْك أَن تصنع خلَّة تبلغ بِهَا الْوَسِيلَة من أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أردْت الوسيلةَ عِنْده إِذا ذكرك؟ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أولّيكَ الحسبةَ والمظالِم فَتكون أحدَ عمّاله تأمرُ بمعروفٍ وَتَنْهَى عَن مُنكر، قَالَ: مَا أكره ذَلِك؛ فولاّه الَّذِي تكلَّم بِما تكلم بِهِ فأمرتَ بحبسه قد أكلَ من طَعَام أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلبس من ثِيَابه، وعان فِي نعْمَته.
قَالَ القَاضِي: الصَّوَاب عِنْدِي وعاش فِي نعْمَته.
وَصَارَ أحدَ ولاتِهِ، وَإِن أحبَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أدخلهُ عَلَيْهِ فِي زيّ الشِّيعَة فعلت، قَالَ: أدخلهُ. فَخرج عبد الْجَبَّار إِلَى الرجل فَقَالَ: قد دَعَا بك أميرُ الْمُؤمنِينَ وَقد أعلمته أَنَّك أحد عمّاله على المظالِم والحسبة، فَادْخُلْ عَلَيْهِ فِي الزيّ الَّذِي يُحبّ. فألبسه قبَاء بأَربند وعلَّق خنجرًا فِي وَسطه وسيفًا بِمعاليق، وأسبلَ جمَّته، وَدخل فَقَالَ: السّلام عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ورَحْمَةُ الله، فَقَالَ: وَعَلَيْك، ألسْتَ الْقَائِم بِنَا والواعظ لنا ومذكِّرنا بأيّام الله على رُؤُوس الْمَلأ؟! قَالَ: نعم، قَالَ: فكيفَ حُلْتَ عَن مذهبك؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَكرت فِي أَمْرِي فَإِذا أَنا قد أَخْطَأت فِيمَا تكلّمت بِهِ، ورأيتني مصيبًا فِي مُشَاركَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمَانَته. فَقَالَ: هَيْهَات، أَخْطَأت استُك الحفرة، هِبناكَ يومَ أعلنتَ الكلامَ، وظننّا أَنَّك(1/720)
أردتَ الله بِهِ فَكَفَفْنَا عَنْك، فلمّا تبيَّن لنا أَنَّك الدُّنْيَا أردْتَ جعلناكَ عِظةً لغيرك حتَّى لَا يجترئ بعدكَ مجترئٌ على الْخلَافَة. أخرجه يَا عبد الجبّار فَاضْرب عُنُقه، فَأخْرجهُ فَقتله.
أُمْنِيَّاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ
حدَّثنا محمَّد بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاق قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ قَالَ: قَعَدَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ، مَا شَيْءٌ أُصِيبُهُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، أُصِيبُهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِطِيبِ نَفْسِهِ؛ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: لَكِنِّي لَسْتُ هَكَذَا، مَا شَيْءٌ أُصِيبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصْبِحَ عَرُوسًا بِعَقِيلَةٍ مِنْ عَقَائِلِ الْعَرَبِ؛ ورجلٌ جالسٌ فَقَالَ: وَلَكِنِّي لَسْتُ هَكَذَا، مَا شَيْءٌ أُصِيبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى الإِخْوَانِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ لَا أمَّ لَكَ، قَالَ: فَقَدْ قَدَرْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَتْوَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ لِلرَّشِيدِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن مَسْعُودٍ الزَّرَقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْعَقِيلِيُّ، وَكَانَ مِنْ ظُرَفَاءِ النَّاسِ وَشُعَرَائِهِمْ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الرَّشِيدُ الْمَدِينَةَ أَعْظَمَ أَنْ يَرْقَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قباءٍ أَسْوَدَ وَمِنْطَقَةٍ. فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ وَمِنْطَقَةٌ مُخَنْجِرًا فِيهَا بِخِنْجَرٍ، فَقَالَ المعاذي التَّيْمِيّ:
ويلٌ وعولٌ لأبي البخْترِي ... إِذا توافَى الناسُ للمحشرِ
من قولِهِ الزّورَ وإعلانِهِ ... بِالْكَذِبِ فِي النَّاس على جعفرِ
وَالله مَا جالسه سَاعَة ... للفقه فِي بدوٍ وَلَا محْضر
يَا قاتلَ الله ابنَ وهبٍ لقد ... أعلنَ بالزّورِ وبالمنكر
يزْعم أَن الْمُصْطَفى أحمدًا ... أتاهُ جِبْرِيل التقي الْبري
عَلَيْهِ خفّ وقبا أسودٌ ... مخنجرًا فِي الحقو بالخنجرِ
يَتَزَوَّجُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَشِيرَ مِائَةَ رَجُلٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْمُقْرِئُ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَلَفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يتزوَّج حَتَّى يَسْتَشِيرَ مِائَةَ رَجُلٍ، فَاسْتَشَارَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلا ثُمَّ خَرَجَ وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَسْتَقْبِلُنِي أَسْتَشِيرُهُ، فَإِذَا هُوَ برجلٍ قَدْ طيَّن رَأْسَهُ وَرَكِبَ قَصَبَةً، وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يَضْرِبُ الْقَصَبَةَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ سَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَأَخَّرْ عَنِ الْفَرَسِ لَا يَرْمَحُكَ؛ فَرَكَضَ عَلَى قَصَبَتِهِ شَوْطًا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَهُ: هَاتِ حَاجَتَكَ. قَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ أَلا أَتَزَوَّجُ حَتَّى أَسْتَشِيرَ مائَة رجل، فاستشرت تِسْعَة وَتسْعُونَ رَجُلا وَأَنْتَ تَمَامُ الْمِائَةِ. فَقَالَ لَهُ: صَاحِبُ الْوَاحِدَةِ إِذَا حَاضَتْ حَاضَ مَعَهَا، وَإِنْ مَرِضَتْ مَرِضَ مَعَهَا، وَإِنْ غَابَتْ غَابَ مَعَهَا، وَصَاحِبُ اثْنَتَيْنِ قَاضٍ، وَصَاحِبُ الثَّلاثِ مَلِكٌ، وَصَاحِبُ الأَرْبَعِ مُسَافِرٌ.
قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَقَدِ اسْتَشَرْتُ تِسْعَةً وَتسْعُونَ رَجُلا مَا كَانَ فِيهِمْ أَعْقَلَ مِنْكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَرَادَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَقْضُونِي فَفَعَلْتُ هَذَا لِكَيْ أَنْجُوَ مِنْهُمْ.
رِوَايَة أُخْرَى للقصة السَّابِقَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن الْجَوْهَرِي عَن مُحَمَّد بن حاتِم عَن شُجَاع بن الْوَلِيد عَن حريش بن أبي الْحَرِيش قَالَ: كَانَ رجلٌ فِي من كَانَ قبلنَا حلفَ أَن لَا يتزوَّج امْرَأَة حَتَّى يَستَشيرَ مائَة نفس، وَإنَّهُ اسْتَشَارَ تِسْعَة وَتسْعُونَ رجلا فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فلمّا بَقِي رجلٌ وَاحِد قَالَ: أوَّل من يفجأني من هَذَا الطَّرِيق أَسْتَشِيرهُ ثُمَّ آخذ بقوله. فتلقاهُ رجل شيخ على قَصَبَة، وَمَعَهُ صبيان حوله. قَالَ لَهُ: إِنِّي حلفتُ أَن لَا أَتزوّج حَتَّى أستشير(1/721)
مائَة رجل، وَقد استشرتُ تِسْعَة وَتِسْعين رجلا فَاخْتَلَفُوا فَقلت: أول من يفجأني من هَذَا الطَّرِيق أَسْتَشِيرهُ، فجَاء شيخٌ راكبٌ على قَصَبَة، ثُمَّ لَمْ يجد بُدًّا فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عبد الله إِنِّي أريدُ أَن أَتزوّج فأشِرْ عليَّ، فَقَالَ لَهُ: النساءُ ثَلَاث، ثُمَّ مضى. قَالَ: قلت فِي نَفسِي وَالله مَا قَالَ لي أحدٌ مثل مَا قالة هَذَا لأتبعنَّه، قَالَ: فاتبعته حَتَّى لحقته، قلت: يَا عبد الله قلتَ لي النساءُ ثَلَاث، قَالَ: نعم واحدةٌ لكَ وَوَاحِدَة عَلَيْك وَوَاحِدَة لَا لَك وَلَا عَلَيْك. قَالَ: ثُمَّ مضى فاتبعته فَسَأَلته عَن تَفْسِير مَا قَالَ، فَقَالَ: أمَّا الْبِكْرُ فَهِيَ لكَ وَلَا عَلَيْك، وأمّا الحنَّانة فَهِيَ الثّيب الَّتِي قد كَانَ لَهَا زوجٌ فَهِيَ لَا لَك وَلَا عَلَيْك، وأمَّا المنانة فالثيبُ الَّتِي لَهَا ولدٌ فَهِيَ الَّتِي عَلَيْك وَلَا لَك، خلِّ سبيلَ الْجواد. قَالَ: فاتبعته فَقلت: يَا عبد الله من أَنْت وَمَا قصّتك؟ قَالَ: مَاتَ قَاضِي بني إِسْرَائِيل أَو قَالَ: فَقيل من أَنْت؟ فَقيل فلَان، فأرادوا أَن يَجعلوني قَاضِيا فكرهتُ ذَلِكَ فصنعتُ مَا رَأَيْت فِرَارًا مِنْهُم.
الفرزدق لَا يساجل الْفضل اللهبي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد قَالَ، وَحَدَّثَنِي ابْن عَائِشَة قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَة النَّحْوِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي من سمعَ الفرزدقَ يَقُول: أتيتُ الفضلَ بن الْعَبَّاس اللهبي وَهُوَ يمتح بدلوٍ من زَمْزَم، وَهُوَ يَقُول:
وَأَنا الأخضرُ من يعرفنِي ... أَخْضَر الْجلْدَة فِي بَيت الْعَرَب
من يساجلني يساجل ماجدا ... يمْلَأ الدَّلْو إِلَى عقد الكرب
وَرَسُول الله جدي جدّه ... وعلينا كَانَ تنزيلُ الْكتب
قلت: من يُسَاجِلْكَ فرجلي فِي كَذَا وَكَذَا من أُمّه قَالَ: أتعرفني لَا أمّ لَك؟ قَالَ: قلت:(1/722)
وَكَيف لَا أعرفك وَقد فرَّغ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي أبويكَ سُورَة من كِتَابه فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: " تبَّت يَدَا أَبِي لهبٍ " " المسد:1 " قَالَ: فضحكَ وَقَالَ: أَنْت الفرزدق، قلت: نعم، قَالَ: قد علمتُ أَن أحدا لَا يحسنُ هَذَا غَيْرك.
معنى فرغ أَي لَيْسَ فِي السُّورَة غير ذكر أبي لَهب وَذكر امْرَأَته.
قَالَ القَاضِي: وَقد ألطفَ الفرزدق فِيمَا خاطبَ بِهِ الْفضل، لِأَنَّهُ لَما لَمْ يُمكنهُ مساجلته، وَقد فَخر بنسبه من هَاشم وقرباه من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَى بِمَا يمضُّه ويفلُّ من غربه.
كَانَت الْعَرَب تَقُول
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْن مُسلم الْعَبْدي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الْهَاشِمِي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو بكر الْحَسَن بن عَليّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عبد الله وَزعم أَن رجل من أهل الْجَبَل، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: سمعتُ أَبَا ربيعَة النَّحْوِيّ يَقُول: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: من لَمْ يكنْ عقله أكملَ مَا فِيهِ كَانَ هَلَاكه بأكملِ مَا فِيهِ. قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبي: فَحدثت بِهذا الحَدِيث الأصمعيَّ فَقَالَ: إِن هَذَا لحسن وَعِنْدِي آخرُ يُشبههُ: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: من كَانَت فِيهِ خصْلَة هِيَ أكمل من عقله فالحري أَن تكون سَبَب منيته. قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبي فَحدثت بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَبَا عُبَيْدَة فَقَالَ: هَذَانِ حسنان وَعِنْدِي آخر يشبههما: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: من لَمْ يكن أغلب خِصَال الْخَيْر عَلَيْهِ عقله كَانَ أغلب فِي خِصَال الْخَيْر عَلَيْهِ حتفه. قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبي: فحدثتُ بِهذه الأحاديثَ أَبَا دلف فَقَالَ: هَذِه حسان، وَعِنْدِي آخر أحسن مِنْهَا: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: كل شَيْء إِذا كثر رخص إِلَّا الْعقل فَإِنَّهُ إِذا كثر غلا.
أَعْرَابِي يصف امْرَأَة جَمِيلة
حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن حَيَّان قَالَ، حَدثنَا أَبُو حام السجسْتانِي عَن أبي عبد الرَّحْمَن الْعُتْبِي قَالَ: كَانَ أَعْرَابِي يشبب بِامْرَأَة، فقيلَ لَهُ: صفها، فَقَالَ: كَانَ وَالله وَجههَا السقمَ لمن رَآهَا، ولفظها البرءَ لمن ناجاها، وَكَانَت فِي الْقرب أبطن من الحشا، وَفِي النأي أبعدَ من السما، وَلَقَد كنت آتيها فِي أَهلهَا فيتجهَّمني لسانها ويَمنيني طرفها، فتعتريني لذَلِك فَتْرَة فتذكرني الصِّبَا وَهوى يهتك مني ستر الحيا.
أَبْيَات فِيهَا بعض معنى الْخَبَر السَّابِق
قَالَ القَاضِي: وَقد أُنْشِدْتُ ثلاثةَ أبياتٍ الْبَيْت الثَّالِث يضارع بعض مَا أَتَت بِهِ أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر وَهِي:
وتنالُ إِن نظرتْ بلحظتها ... مَا لَا ينالُ بحدِّه النصلُ
وَإِذا نظرتَ إِلَى محاسنها ... فكلِّ مَوضِع نظرةٍ قتل
ولقلبها حلمٌ تصدُّ بِهِ ... عَن ذِي الْهوى ولطرفها جَهْلُ(1/723)
وَمَا أَتَى من هَذَا الضَّرْب كَثِير، وَقد أَتَيْنَا مِنْهُ فِي أَوَائِل مجالسنا هَذِه ورسمنا من منظومه لنا ولغيرنا.
مَا قَالَه بزرجمهر قبيل مَوته
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبد الله قَالَ، حَدَّثَنِي عَليّ بن مُحَمَّد قَالَ، قَالَ أنو شرْوَان لبزرجمهر لَما أَرَادَ قَتله: إِنِّي قاتِلُكَ فَتكلم بِشَيْء تُذْكَرُ بِهِ، فَقَالَ: أيُّها الْملك إِن الدُّنْيَا حَدِيث حسن وقبيح، فَإِن استطعتَ أَن تكونَ حَدِيثا حسنا فَكُنْهُ. قَالَ أَبُو عبد الله: فَذكر هَذَا الْكَلَام لِابْنِ عَائِشَة فَقَالَ: صَدَقَ وَالله، وَهُوَ من قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدقٍ فِي الآخِرِينَ " " الشُّعَرَاء: 84 " وَأنْشد ابْن عَائِشَة:
ألمْ تَرَ أنَّ تخلُد بعدهمْ ... أَحَادِيثهم والمرءُ لَيْسَ بِخالِدِ
وَأنْشد أَيْضا:
وَإِذا الْفَتى لَاقَى الْحِمامَ رأيتهُ ... لَوْلَا الثَّنَاء كَأَنَّهُ لَمْ يولدِ
الْمجْلس الثامِن والتسعُون
حَدِيث أبي مطر عَن عَليّ وَهُوَ يتجول فِي الْأَسْوَاق
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ الْهَمَذَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ يَقُولُ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: قَدِمَ شيخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَطَرٍ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ يَرْوِي حَدِيثًا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. فَأَخَذَنِي فَضَمَّنِي إِلَيْهِ وَبَكَى ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ وَلَيْسَ لِي بِهَا مَعْرِفَةٌ فَكُنْتُ آوِي إِلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عِمَارَتُهُ بِاللَّيْلِ كَعِمَارَتِهِ بِالنَّهَارِ مِنْ بَيْنِ مصلٍّ أَوْ ذَاكِرِ فِقْهٍ أَوْ مُتَعَبِّدٍ. فَدَخَلْتُ السُّوقَ وَأَنَا غلامٌ ذيَّالٌ صَاحِبُ سُكَيْنِيَّةٍ، فَإِذَا رجلٌ مِنْ خَلْفِي يَقُولُ: ارْفَعْ إِزَارَكَ فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ وَأَتْقَى لِرَبِّكَ، وَخُذْ مِنْ شَعْرِكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا. فالتفتُّ فَإِذَا رجلٌ أَصْلَعُ ضَخْمُ الْبَطْنِ مؤتزرٌ أَسْفَلَ مِنْ ثَدْيَيْهِ، عَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَفِي يَدِهِ مِخْفَقَةٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَتَجَنَّبْتُ الطَّرِيقَ فَحَلَلْتُ شَعْرِي وَفَرَّقْتُهُ، وَرَفَعْتُ إِزَارِي وَشَمَّرْتُهُ، وَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ دَارَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَكَانَتِ الإِبِلُ تُبَاعُ بِهَا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الإِبِلِ إِيَّاكُمْ وَالْحَلِفَ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ السِّلْعَةَ وَيَمْحَقُ الْبَرَكَةَ، ثُمَّ أَتَى النَّحَّاسِينَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّحَّاسِينَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُزَيِّنُوا سِلْعَتَكُمْ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، أَلا إِنَّنِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غشَّنا ". ثُمَّ أَتَى التَّمَّارِينَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ التَّمَّارِينَ، تَصَدَّقُوا يَرْبُ كَسْبُكُمْ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ. فَلَمَّا كَادَ يَجُوزُهُمْ إِذَا هُوَ بأمةٍ تَبْكِي، قَالَ مَا لَكِ؟ قَالَتْ: ابْتَعْتُ مِنْ هَذَا تَمْرًا بِدِرْهَمٍ فَأَتَيْتُ بِهِ أَهْلِي فَقَالُوا: ردّيه. فقا ل: يَا تَمَّارُ، خُذْ تَمْرَكَ وَارْدُدْ عَلَيْهَا(1/724)
فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَمْرٌ. فَأَنْكَرَهُ التَّمَّارُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ وَقَالَ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: اذْهَبْ إِلَى شَأْنِكَ، ثُمَّ عَرَفَهُ فَأَقْبَلَ يَعْتَذِرُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُ؟ فَقَالُوا: ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْكَ، يَسْأَلُكَ أَنْ تَرْضَى عَنْهُ، قَالَ: فَمَا أَرْضَانِي عَنْهُ وَعَنْ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ إِذَا وَفَّى لِلْمُسْلِمِينَ بِشُرُوطِهِمْ وأدَّى حُقُوقَهُمْ. ثُمَّ مَضَى مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْقَصَّابِينَ فَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَالنَّفْخَ والغشَّ. فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ زَكَا الْيَهُودِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّفْخَ لَا يُزِيدُ فِيهِ وَلا يُنْقِصُ مِنْهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ فَمَا هُوَ؟ قَالَ: يُزِينُهُ، قَالَ: فَذَاكَ الْغِشُّ. ثُمَّ أَتَى السَّمَّاكِينَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الْحيتَان، وَلَا تَبِيعُوا فِي سُوقِنَا الطَّافِيَ فَإِنَّهُ مَيِّتٌ. ثُمَّ أَتَى الْبَزَّازِينَ فَجَلَسَ إِلَى شَيْخٍ فَقَالَ: بِعْنِي قَمِيصًا بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ وَأَحْسِنْ بَيْعِي، فَنَاوَلَهُ قَمِيصًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُومُ عليَّ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ لَكَ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ، قَالَ: نَقَّصْتَ مِنْ رَأْسِ مَالِكَ دِرْهَمًا مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ عَرَفْتَنِي، لَسْتُ أَنَا الَّذِي أَبْتَاعُ مِنْكَ شَيْئًا. فَجَلَسَ إِلَى آخَرَ فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصًا بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَلَبِسَهُ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي كَسَانِي مِنْ رِيَاشِهِ مَا أتجمَّل بِهِ فِي النَّاسِ وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي. ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَكَذَا. ثُمَّ أَتَى الرَّحْبَةَ فَهَتَفَ: يَا قَنْبَرُ، يَا قَنْبَرُ آتِنِي بِطَهُورٍ، فَأَقْبَلَ بِإِنَاءٍ مِنْ خَزَفٍ فَأَهْوَى ليصبَّ عَلَيْهِ، فَتَنَاوَلَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ فَغَسَلَهُمَا حَتَّى أَنْقَاهُمَا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا، وَتَمَضْمَضَ ثَلاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، يَسْتَقْبِلُ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ بِكَفَّيْهِ وَيَسْتَدْبِرُهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ جَرِعَ مِنْ فَضْلِ وُضُوئِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ. فَأَتَاهُ شَيْخٌ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّكَ أَتَيْتَ ابْنِي وَهُوَ لَا يَعْرِفُكَ فَابْتَعْتَ مِنْهُ قَمِيصًا وَإِنَّهُ أَغْلَى عَلَيْكَ، إِنَّمَا يَقُومُ عَلَيْنَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَخُذْ هَذَا الدِّرْهَمَ. قَالَ: لَا، أَخَذْتُ رِضَايَ وَأَخَذَ الْغُلامُ حَاجَتَهُ. ثُمَّ أَخَذَ مؤذته ابْن النباح فِي لإِقَامَة، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلا فَبِعْتُهُ وَأَكَلْتُ ثَمَنَهُ، قَالَ: يَا قَنْبَرُ دُونَكَ الرَّجُلَ أَوْقِدِ النَّارَ وأعدَّ المحدَّ حَتَّى آتِيَكَ، فَدَخَلَ فصلَّى بِالنَّاسِ وَصَلَّيْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ خَرَجَ مُبَادِرًا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَيْهِمَا، فَإِذَا الرَّجُلُ يَقُولُ: يَا قَنْبَرُ، مَا تَرَاهُ صَانِعًا بِي، قَالَ: لَا وَلَكِنِّي مَا سَرَقْتُ شَيْئًا قَطُّ، إِذْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: يَا قَنْبَرُ مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ عليَّ بِهِ. قَالَ: هُوَ ذَا، هُوَ يزْعم مَا سَرَقْتُ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ: وَيْحَكَ مَا دَعَاكَ إِلَى مَا قُلْتَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْكَرْتُ عَقْلِي، قَالَ: آللَّهِ، قَالَ: الله. فَنَاشَدَهُ الله ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: آللَّهِ مَا سَرَقْتُ شَيْئًا قَطُّ. قَالَ: يَا قَنْبَرُ أَخْلِ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".
سَنَدٌ آخَرُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ قَالَ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ عُثْمَانَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْعُكْلِيُّ التَّمَّارُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو مَطَرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الجهنيَّ الْبَصْرِيُّ قَالَ: قَدِمْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ(1/725)
فَأَتَيْتُ الْكُوفَةَ وَلَمْ يَكُنْ لِي بِهَا مَعْرِفَةٌ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَهُ.
وُفُودُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ على الرَّسُول
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْعُكْلِيُّ عَنِ الْحِرْمَازِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَفَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ بِنْ يَرْبُوعِ بْنِ وَاثِلَةَ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ رَئِيسُ هوزان يَوْمَ حُنَيْنٍ، بَعْدَ إِسْلامِهِ إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلا سَمِعْتُ بواحدٍ ... فِي النَّاسِ كلِّهم كَمِثْلِ مُحَمَّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ لمجتدٍ ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ
وَإِذَا الْكَتِيبَةُ حَدَّدَتْ أَنْيَابَهَا ... بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كلِ مُهَنَّدِ
فَكَأَنَّهُ ليثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسَطَ الأَبَاءَةِ خادرٌ فِي مَرْصَدِ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَكَسَاهُ حُلَّةً.
شرح لفظتين
قَالَ القَاضِي: الأباءة الغيضة أَو الْقطعَة من الْقصب، والأباءُ الْقصب، قَالَ الشَّاعِر:
يَا مَنْ تَرَى ضربا يُرَعْبِلُ بعضُهُ ... بَعْضًا كمعمعةِ الأباءِ الْمُحْرَقِ
والخادر: المستكنُّ فِي غيضته أَو غابته وَهِي كالخدر لَهُ، قَالَت الخنساء فِيمَا ترثي بِهِ أخاها صخرًا:
فتىٌ كَانَ أَحْيَا من فتاةٍ حيّيةٍ ... وأشجعَ من ليثٍ بخفَّان خادِرِ
ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَيَنْتَقِدُهُ ابْنُ الأَزْرَقِ
حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الزُّهْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَيَّارٍ عَنْ عُمَرَ الْبَرَكَا قَالَ: بَيْنَمَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعِنْدَهُ ابْنُ الأَزْرَقِ وناسٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَسْأَلُونَهُ إِذْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ فِي ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ مُوَرَّدَيْنِ أَوْ مُمَصَّرَيْنِ.
قَالَ الْقَاضِي: الْمُمَصَّرَانِ: اللَّذَانِ فِيهِمَا صُفْرَةٌ.
يَسِيرُ حَتَّى سلَّم وَجَلَسَ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشِدْنَا، فَأَنْشَدَهُ:
أَمِنْ آلِ نعمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ ... غَدَاةَ غدٍ أَوْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ
حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ الأَزْرَقِ فَقَالَ: اللَّهَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّا لَنَضْرِبُ إِلَيْكَ أَكْبَادَ المطيِّ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِنَسْأَلَكَ عَنِ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ فَتَتَثَاقَلَ عَنَّا، وَيَأْتِيكَ مُتْرِفٌ مِنْ مُتْرِفِيِّ قُرَيْشٍ فَيُنْشِدُكَ:
رَأَتْ رَجُلا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَخْزَى وَأَمَّا بالعشيِّ فَيَخْسَرُ
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَكَذَا قَالَ، قَالَ:(1/726)
رَأَتْ رَجُلا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بالعشيِّ فَيخْصَرُ
قَالَ: مَا أَرَاكَ إِلا وَقَدْ حَفِظْتَ الْبَيْتَ، قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شِئْت أَن أنْشدك القصيدة أنشدتكما، قَالَ: فَإِنِّي أَشَاءُ، قَالَ: فَأَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ حَتَّى جَاءَ عَلَى آخِرِهَا، ثمَّ أقبل على ابْن رَبِيعَةَ فَقَالَ: أَنْشِدْ، فَقَالَ:
تُشَطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَلدَّارُ بَعْدَ غدٍ أَبْعَدُ.
فَقَالَ: كَذَاكَ قُلْتُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، أَسَمِعْتَهُ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ كَذَلِكَ يَنْبَغِي.
شرح أَلْفَاظ تتصل بِالْبَيْتِ السَّابِق
قَالَ القَاضِي: وَقد روى بعضُ الروَاة بَيت ابْن أبي ربيعَة فَقَالَ: أيّما إِذا الشَّمْس، وَأَيّمَا بالعشيّ، وَهِي لغةٌ مَعْرُوفَة. وَقَوله فيضحى قيل: معناهُ يمسّه الْحر، وَقيل: تعلوهُ الشَّمْس وَهُوَ ضاحٍ لَهَا غيرُ مستتر مِنْهَا، والضحُّ، الشَّمْس، والعربُ تَقُولُ: الضحّ والدحّ. وَرُوِيَ أَن عبد الله بن عمر رأى رجلا قد استظلَّ من الشَّمْس وَهُوَ محرم فَقَالَ لَهُ: أضحِ لِمن أَحرمت لَهُ. وَمن هَذَا قَول الله عَزَّ وَجَلَّ. " وأنَّك لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى " " طه:119 " أَي لَا يصيبك فِيهَا حرٌّ ولَا يعلوك شمسٌ؛ وَقد قَالَ جلّ اسْمه فِي أهل الْجنَّة: " لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا " " الْإِنْسَان:13 ". والزمهرير: الْبرد الشَّديد، وَمن وقِي أذاهما فقد أنعم الله عَلَيْهِ، قَالَ الْأَعْشَى:
مبتّلة الخلقِ مثل المهاةِ ... لَمْ تَرَ شمسًا وَلَا زَمهريرا
وَقد زعم بَعضهم أَن الزَّمْهَرِير من أَسمَاء الْقَمَر، وَأنْشد فِي هَذَا الْمَعْنى:
وليلةٍ فِيهَا الظلامُ مُعْتَكِرْ ... قطعتُها والزمهريرُ مَا زَهَرْ
وأمّا الخَصَرُ فَإِنَّهُ البردُ القارس، يُقال: قد خَصِرَ الرجلُ يخصر إِذا أَصَابَهُ الْبرد، كَمَا قَالَ الفرزدق:
إِذا أنسوا نَارا يقولونَ ليتها ... وَقد خَصِرَتْ أيديهمُ نارُ غالِبِ
وَيُقَال: ماءٌ خصر أَي بَارِد، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
فَلَمَّا استطابا صبَّ فِي الصحن نِصْفُهُ ... وَجَاءُوا بنصفٍ غير طرقٍ وَلَا كَدِرْ
بِماءِ سحابٍ زلَّ عَن ظهرِ صخرةٍ ... إِلَى بطنِ أُخْرَى طيّبٍ ماؤُها خَصِرْ
أحسن مَا قيل فِي وصف المَاء
قَالَ بَعضهم: هَذَا أحسنُ مَا قيل فِي صفة المَاء. وَقَالَ قَائِلُونَ: بَلْ أحسنُ مَا قيل فِي صفة المَاء أبياتٌ أتتْ فِي خبرٍ حدَّثناه أَبُو بكر ابْن الأَنْبَارِيّ لَمْ يَحْضرْني إسنادُهُ، وَقد ذكرتُهُ فِي بعض مجالسنا هَذِه، وَهُوَ أَنَّهُ ذكر أَن عاتكةَ المرية عَشِقَتِ ابْن عمّها فأرادها عَن نَفسهَا، فأنشأت تَقُولُ:(1/727)
مَا بردُ ماءٍ أيّ مَاء تَقوله ... تنزّلَ من غرٍّ طوالِ الذوائبِ
بمنحدرٍ من بطنِ وادٍ تقابلتْ ... عَلَيْهِ رياحُ الصيفِ من كلِّ جانبِ
ترقرق ماءُ المزنِ فيهنَّ والتقت ... عليهنَّ أنفاسُ الرياحِ الغرائبِ
نَفَتْ جريةُ الماءِ القذى عَن متونه ... فَلَيْسَ بِهِ عيبٌ يحسُّ لشارب
بأحسنَ مِمّن يقصر الطرفُ دونَهُ ... تُقَى الله واستحياءُ مَا فِي العواقبِ
الْحجَّاج وَابْن الْحَنَفِيَّة وشكوى الثَّانِي لعبد الْملك
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن بشر الْوَرَّاقُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ خَلِيفَةَ الدَّارِمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ قَالَ: خَرَجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا صَارَا فِي الطَّرِيقِ قَالَ الْحَجَّاجُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: لَقَدْ بَلَغَنِي أَن اباك كَانَ إِ ذَا فَرَغَ مِنَ الْقُنُوتِ يَقُولُ كَلامًا حَسَنًا أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْرِفَهُ، فَتَحْفَظُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَوْحَشَ لِقَاءَكُمْ، وَأَفْظَعَ لَفْظَكُمْ، وأشدَّ خُنْزُوَانَتَكُمْ، مَا تعدُّون النَّاسَ إِلا عَبِيدًا، وَلَقَدْ خُضْتُمُ الْفِتْنَةَ خوضاً وقتلتم الْمُهَاجِرين والنصار. فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنْكَرَ لَفْظَهُ وَأَحْفَظَهُ، فَوَقَفَ وَسَارَ الْحَجَّاجُ. وَرَجَعَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لِلآذِنِ: اسْتَأْذِنْ لِي، فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ قَبْلُ وَخَرَجْتَ آنِفًا، فَمَا ردَّك وَقَدِ ارْتَفَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَسْتُ أَبْرَحُ حَتَّى أَلْقَاهُ. فَكَرِهَ الآذان غَضَبَ الْخَلِيفَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ مستأذنٌ عَلَيْكَ، فَقَالَ: أَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي قَبْلُ، لَقَدْ ردَّه أمرٌ، إِيذَنْ لَهُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ تَحَلْحَلَ عَنْ مَجْلِسِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْحَجَّاجُ أَسْمَعَنِي كَلامًا تكمَّشت لَهُ، وَذَكَرَ أَبِي بِكَلامٍ تَقَمَّعْتُ لَهُ، وَمَا أَحَرْتُ حَرْفًا، قَالَ: فَمَا قَالَ لَكَ حَتَّى أَعْمَلَ عَلَى حَبْسِهِ؟ قَالَ: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ الرُّمَّانُ وَنَخَسَهُ شَوْكٌ، فَخَبَّرَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: عليَّ بِالْحَجَّاجِ السَّاعَةَ. فَأَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ حِينَ خَلَعَ ثِيَابَهُ فَحَمَلَهُ حَمْلا عَنِيفًا، وَانْصَرَفَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. فَجَاءَ الْحَجَّاجُ فَوَقَفَهُ بِالْبَابِ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: إِيذَنْ لَهُ، فَدَخَلَ فسلَّم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ:
لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بعمروٍ عَيْنًا ... تَحِيَّةَ السُّخط إِذَا الْتَقَيْنَا
يَا لُكَعُ وَهِرَاوَةَ الْبَقَّارِ، مَا أَنْتَ وَمُحَمّد ابْن الْحَنَفِيَّةِ؟! قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ إِلا خَيْرًا، قَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَهُوَ أَصْدَقُ مِنْكَ وَأَبَرُّ، ذَكَرْتَهُ وَذَكَرْتَ أَبَاهُ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ أَبِيهِ؛ وَمَا جَرَى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: سَأَلْتُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ شيءٍ بَلَغَنِي كَانَ أَبُوهُ يَقُولُهُ بَعْدَ الْقُنُوتِ، قَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَاكَ مقتٌ مِنْهُ لَنَا وَلِدَوْلَتِنَا، فَأَجَبْتُهُ بِالَّذِي بَلَغَكَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَسَأْتَ وَلَؤُمْتَ، وَاللَّهِ لَوْلا أَبُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ لكنَّا حَيَارَى(1/728)
ضُلالا، وَمَا أَنْبَتَ الشَّعْرَ عَلَى رؤوسنا إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ، وَمَا أعزَّنا بِمَا تَرَى إِلا رَحِمُهُمْ وَرِيحُهُمُ الطَّيِّبَةُ، وَاللَّهِ لَا كلَّمتك كَلِمَةً أَبَدًا، أَوْ تَجِيئَنِي بِالرِّضَا مِنْهُ، وتسلَّ سَخِيمَتَهُ. قَالَ: فَمَضَى الْحَجَّاجُ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَلْفَاهُ وَهُوَ يتغدَّى مَعَ أَصْحَابِهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَتَى بِرِسَالَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَنِي أَنْ أسلَّ سَخِيمَتَكَ، وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَنِي أَبَدًا حَتَّى آتِيَهُ بِالرِّضَى مِنْكَ، وَأَنَا أحبُّ، بِرَحِمِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلاَّ عَفَوْتَ عَمَّا كَانَ، وَغَفَرْتَ ذَنْبًا إِنْ كَانَ. فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ عَلَى شَرِيطَةٍ فَتَفْعَلَهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَلَى صُرْمِ الدَّهْرِ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ الْحَجَّاجُ فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِرِضَاهُ وَسَلَلْتُ سَخِيمَتَهُ وَأَجَابَ إِلَى مَا أُحِبُّ وَهُوَ أَهْلُ ذَلِكَ. قَالَ: فأيُّ شيءٍ آخِرُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: رَضِيَ عَلَى شَرِيطَةٍ، عَلَى صُرْمِ الدَّهْرِ، فَقَالَ: شنشنةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ، انْصَرِفْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَخَلَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: أَتَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَرَضِيتَ وَأَجَبْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: ثُمَّ مَالَ إِلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ تَحْفَظُ مَا سَأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا مَنَعَنِي أَن أبثه غياه إِلا مَقْتِي لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ ثَمُودَ. فَضَحِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ ثُمَّ قَالَ: يَا سُلَيْمَانُ - لِغُلَيْمٍ لَهُ - كَاتِبًا وَدَوَاةً وَقِرْطَاسًا، قَالَ: فَكَتَبَ بِخَطِّهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذَا فَرَغَ مِنْ وِتْرِهِ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَاجَتِي الْعُظْمَى الَّتِي إِنْ قَضَيْتَهَا لَمْ يضرَّني مَا مَنَعْتَنِي، وَإِنْ مَنَعْتَنِي لَمْ يَنْفَعْنِي مَا أَعْطَيْتَنِي. فَكَّاكَ الرِّقَابِ، فكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، ربِّ مَا أَنَا إِنْ تَقْصِدَ قَصْدِي بِغَضَبٍ مِنْكَ يَدُومُ عليَّ، فوعزَّتك مَا يُحَسِّنُ مُلْكِكَ إِحْسَانِي، وَلا تُقَبِّحُهُ إِسَاءَتِي، وَلا يُنْقِصُ مِنْ خَزَائِنِكَ غِنَايَ، وَلَا يُزِيدُ فِيهَا فَقْرِي. يَا مَنْ هُوَ هَكَذَا اسْمَعْ دُعَائِي وَأَجِبْ نِدَائِي، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَارْحَمْ غُرْبَتِي وَوَحْشَتِي وَوِحْدَتِي فِي قَبْرِي، هَا أَنَا ذَا يَا ربِّ بِرُمَّتِي. وَيَأْخُذُ بِتَلابِيبِهِ ثُمَّ يَرْكَعُ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: حَسَنٌ وَاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
شُرُوح وتعليقات
قَالَ القَاضِي: قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِ السَّلام: " أسمعني كلَاما تكمشتُ لَهُ " أَي انقبضتُ مِنْهُ، يُقَال لما تغضَّن وتشنّج من الْفَاكِهَة وَغَيرهَا قد تكمّش فَهُوَ متكمّش. وَقَوله: " ذكر أبي بِكَلَام تقمّعت لَهُ " يُقال: قد تقمَّع الرجل وانقمعَ إِذا انخزلَ وانكسر. وَقَول عبد الْملك: " يَا لكع " يريدُ يَا عبد أَو يَا لئيم. وَقَوله " " وهراوة البقّار " يَعْنِي عصار الرَّاعِي الَّتِي يذودُ بِهَا الْبَقر، يُرِيد أَنَّهُ لَا يصلح إِلَّا لأداني الْأُمُور. وَمَا رواهُ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة من قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السّلام فِي دَعَاهُ: " هَا أَنَا ذَا يَا ربٌ برمّتي " العربُ تَقُولُ: أَخذ فلَان كَذَا وَكَذَا برمَّته، يُرِيدُونَ أَخذه كلّه واستوفاهُ وَلم يُغادر شَيْئا مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلهم أَخذه بأسره، والأسرُ الْقَيْد، وَبِه سُمّي الأسيرُ أَسِيرًا وَهُوَ الْآخِذ بِمعنى الْمَأْخُوذ، وَكَانُوا يشدّونه بالقدِّ إِذا(1/729)
أسروه. وأمّا الرمة فالحبل الْبَالِي كَانُوا يشدُّون الْأَمْتِعَة بِهِ، وَمِنْه قَول ذِي الرّمة: أَشْعَث بَاقِي رمَّة التَّقْلِيد وَقيل: إنَّما سُمّي ذَا الرمَّة لقَوْله هَذَا، وَهُوَ غيلَان بن عقبَة، فأمَّا الرِّمَّة بِالْكَسْرِ فالعظمُ الْبَالِي، ويُقال: رمَّ الْعظم يرمّ وَهُوَ رَمِيم، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
والنيبُ إِن تعرُ مني رمَّةً خلقا ... بعد المماتِ فَإِنِّي كنتُ أتَّئر
وَهَذَا من أَبْيَات الْمعَانِي ومعناهُ أَن النيب، وَهِي جمع نَاب، وَهِي النَّاقة المسنَّة، يُقالُ لَهَا ذَلِكَ كَأَنَّهَا لَمْ يبْق مرُّ السنين عَلَيْهَا إِلَّا نابًا كَمَا يُقال فلَان رَأس وَفُلَان بطن، وَمن الناب قَول جرير:
لقد سرَّني أَلا تعدَّ مجاشعٌ ... من المجدِ إِلَّا عَقْرَ نابٍ بِصَوْأَرِ
وَقَالَ أَيْضا:
تعدونَ عَقر النيب أفضلَ مجدكم ... بَني ضوطرى لَوْلَا الكميَّ المقنعّا
قَالَ: كَانَت تأكلُ عظامَ الْمَوْتَى طلبا لموحتها فَقَالَ هَذَا الشَّاعِر: إِن تَعْرُ منّي رمةً خَلَقًا، يريدُ إِن تأكلَ عِظَامِي بعد موتِي، فإنّي كنتُ أتئر أَي آخذ مِنْهَا بِثَأْرِي سلفا فِي حَياتِي، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرهَا للأضياف. وَقَوله: " أتَّئر " افتعل من الثأر وَأَصله اثتئر فقلبت الثَّاء تَاء وأدغمت فِي الَّتِي بعْدهَا، وَكَذَلِكَ مدَّكر أَصله مُذْتكر، ومظلّم أَصله مظتلم. وَلما وَصفنَا من الْقلب عِلّة هِيَ مرسومة فِي موضعهَا. وَمن الْعَرَب من يَقُول أثّتر بالثاء، ومذّكر بِالذَّالِ، ومطّلم بِالطَّاءِ إِلَّا أَن الْمُخْتَار أفْصح فِي الْقيَاس، وَالْأَشْهر فِي الرِّوَايَة مدّكر ومتئر ومظَّلم وَمثله مدّخر ومذّخر، قَالَ زُهَيْر بْن أَبِي سلمي يَمدحُ هرم بن سِنَان:
هُوَ الجوادُ الَّذِي يُعطيكَ نائلةٌ ... عفوا وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فيظَّلم
يُروى على الْوَجْهَيْنِ والظاءُ أشهرهما، وَالْمَشْهُور من الْقُرَّاء فِي قَوْل الله تَعَالَى: " فَهَلْ مِنْ مدَّكر " " الْقَمَر: 15، 17، 22، 32، 40، 51 " الدَّال، وَكَذَلِكَ وَله تَعَالَى: " وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ " " آل عمرَان:49 ".
الْمَجْلِس التَّاسِع والتسعُون
حَدِيثٌ الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَالِدٍ الْبَزَّازُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَاصِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَنْبِيَاءُ إخوةٌ لعلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاس بِعِيسَى ابْن مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَهُوَ خَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي، وَهُوَ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رجلٌ مربوعٌ يَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ، يَكَادُ رَأْسُهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بللٌ، يَمْشِي بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، يَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَفِيضُ الْمَالَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ(1/730)
وَيُقَاتِلُ عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى تَهْلِكَ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا، فَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِي الأَرْضِ، فَتَرْعَى الإِبِلُ مَعَ الأُسُودِ، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ مَعَ الحيَّات فَلا تَضُرُّهُمْ شَيْئًا، فَيَلْبَثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يتوفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ ".
العلات والأخياف وصلَة ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ
قَالَ القَاضِي، قَالَ أَبُو بكر: قَوْله إخْوَة لعلاَّت، يَقُول العربُ هم إخْوَة لعَلَّات إِذا كَانَت أمهاتُهم مختلفاتٍ وأبوهم وَاحِد، فَإِذا كَانَ الآباءُ مختلفينَ والأمُ وَاحِدَة قيل: هم إخْوَة لآحاد. وَقَالَ بَعضهم: يُقال فِي هَذَا الْمَعْنى هم إخوةٌ لأخياف وإخوة لأعيان. وشتى معناهُ مختلفات. قَالَ القَاضِي: الْمَعْرُوف من كَلَام الْعَرَب أنَّهم يقولونَ للإخوة الَّذِينَ أبوهم وَاحِد وأمهاتهم شتَّى بَنو العلاتِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
والناسُ أولادُ علاَّت فَمن علمُوا ... أنْ قَدْ أقلَّ فمحقورٌ ومهجورُ
وهم بَنو الْأُم أمّا إنْ رَأَوْا نَشَبًا ... فذاكَ بالغيبِ محفوظٌ ومنصورُ
فَإِذا كَانَت الْأُم وَاحِدَة والآباءُ مختلفينَ فهم الأخيافُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَفِي الشدائد أخيافًا لواحدةٍ ... وَفِي الولائمِ أَوْلَادًا لعلاَّت
ويُقالُ للْفرس إِذا كَانَت إِحْدَى عَيْنَيْهِ زرقاء وَالْأُخْرَى محلاء أخيف. وَإِذا كَانَ أَبُو الْإِخْوَة وَاحِدًا وأمهم وَاحِدَة فهم الْأَعْيَان. وَجَاء عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَعْيَانُ بَنِي الأُمِّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بَنِي الْعَلاتِ ". وَقد استدلَّ بِهَذَا الحَدِيث بعضُ من ذهبَ إِلَى قَول عبد الله بن مَسْعُود وَمن قَالَ مثل قَوْله من الْخلف وَالسَّلَف فِي ابْني عمٍّ أَحدهمَا أخٌ لأم أنَّ المالَ كلَّه لِابْنِ الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم دون الآخر، وَحمله مخالفوهم على أَنَّهُ جَاءَ فِي الْأَخ للْأَب وَالأُم، وَالْأَخ للْأَب، وَجَمَاعَة غَيرهم من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين. ولكلُّ فريق مِنْهُم عللٌ يوردونها وحججٌ يأْتونَ بِهَا، وَقد رسمناها فِي موَاضعهَا من كتبنَا، وَذكرنَا مَا نختاره مِنْهَا.
مزِيد من التَّفْسِير وَالتَّعْلِيق
قَالَ ابْن الأَنْبَارِيّ فِي الْخَبَر الَّذِي قدمنَا رِوَايَته عَنْهُ، وَقَوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يمشي بَين مُمَصَّرَتَيْنِ " معناهُ بَين شقتين فيهمَا صفرةٌ يسيرَة، والممشَّق عِنْد الْعَرَب المصبوغُ بالمغرة، والمغرة يُقال لَهَا الْمشق.
قَالَ القَاضِي: قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وتهلكُ فِي زَمَانه الْملَل كلُّها " صريحُ البيانِ على أنَّ اليهودَ وَالنَّصَارَى والمجوسَ وسائرَ الْمُشْركين ذَوُو مللٍ مُخْتَلفَة وَلَيْسوا أهلَ ملةٍ وَاحِدَة، وَإِن جَمَعَهُم الْكفْر، وَأَنه لَا توارث بن أحدٍ مِنْهُم وَمن هُوَ على غير مِلَّته، لقَوْل النَّبِيّ: " لَا يتوارث أهل ملتين شَتَّى "؛ وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن الْحَسَن وَمَالك وَأبي عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ وَبِه نقُول. وَكَانَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يرونَ الْكفْر كلَّه مِلَّة وَاحِدَة ويوقعون التوارثَ بَينهم، وَإِلَيْهِ يذهب أصحابُ الشَّافِعِي، وَهَذَا قولٌ فَاسد، وشرحُ الْبَيَان عَن هَذَا الْبَاب(1/731)
مرسومٌ فِي مَوْضِعه.
هُبُوطُ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يهْبط عِيسَى ابْن مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرقيَّ دِمَشْقَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَفِظْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بِالدَّالِ وَتَفْسِيرُهُ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ هُبُوطِ عِيسَى
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَرَتَائِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ هَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْرَقُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ يَحْيَى - قَالَ أَبُو مَرْوَانُ: وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى حِمْصَ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يهْبط عِيسَى ابْن مَرْيَمَ بَيْنَ مَهْرُوذَتَيْنِ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَفِظْنَاهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالذَّالِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، يَعْنِي بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ.
مَعَاني الصير
قَالَ أَبُو بكر: فَهَذَا مِمَّا فسر فِي الحَدِيث بِما لَا يُعرف إِلَّا مِنْهُ كالحروف الَّتِي جَاءَت مفسَّرةً فِي الحَدِيث، مِنْهَا: من اطَّلع فِي صير بَاب فقئت عينه فَهِيَ هدر. وَمِنْهَا أَن سالِم بن عبد الله رأى رجلا مَعَه صيرٌ فذاقَ مِنْهُ فَقَالَ: كَيفَ تبيعه؟ فالصيرُ الأول الشقّ، وَالثَّانِي الصحناة. وَمِنْهَا أَن عمر رضوَان الله عَلَيْهِ سَأَلَ المفقودَ الَّذِي استهوته الْجِنّ مَا شرابهم؟ فَقَالَ: الجدف، ففسَّلا هُوَ نَبَات بِالْيمن لَا يحْتَاج اليذ يَأْكُلهُ أَن يشرب عَلَيْهِ، ويُقال هُوَ كل مَالا يذكر الله عَلَيْهِ من الْآنِية والأشربة. وَمِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْأَمريْنِ من السقا والثُّقا، تَفْسِير الثّقا الْحُرْف " قيل: هُوَ الرشاد "؟ قَالَ القَاضِي: جعل أَبُو بكر ابْن الأَنْبَارِيّ الصير مِمَّا لَا يُعْرَفُ تَفْسِيره إِلَّا فِي الحَدِيث الَّذِي جَاءَ تَفْسِيره فِيهِ، فَذكر هَذَا أَبُو بكر على سَعَة حفظه وإتقانه وَضَبطه، وَكَانَ يذهبُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت أشياءُ ظاهرةٌ مَعْلُومَة وينكرها مَعَ اشتهارها، فأخذنا عَنهُ راويتها بأسانيدها؛ على أننا لَمْ نر فِي من يشار إِلَيْهِ بِحفظ الرِّوَايَات والآداب أحسنَ مِنْهُ حفظا، وَلكنه بشرٌ يجْرِي عَلَيْهِ من السَّهْو وَالنِّسْيَان مَا يَعْرَى من مثله الإِنْسَان. والصيرُ معروفٌ مَشْهُور، فأمّا الصير الَّذِي أَتَى فِي حَدِيث الِاطِّلَاع ففسر بِأَنَّهُ الشق فقد أصابَ مفسره الْمَعْنى أَو قاربه.
فأمّا الصحناة فتسميتها صيرًا مِمّا يعرفهُ أهل الْعلم، وَقد ذكره قومٌ من أهل الْفِقْه وَغَيرهم، وأصلُ الصير الَّذِي بدأنا بِذكرِهِ عِنْدِي الحدّ، وَقد جَاءَ فِي الشّعْر مَا يشْهد بِهذا ويدلُّ عَلَيْهِ، قَالَ زُهَيْر:(1/732)
وَقد كنت من سلمى سِنِين ثَمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ مَا يمرُّ وَمَا يَحْلو
يُسَمِّي الْوَلَدَ عَلِيًّا وَيُكَنِّيهِ أَبَا الْحَسَنِ
فَيَعْرِضُ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهِ جَائِزَةً إِنْ غَيَّرَهُمَا
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الربعِي قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى بْنِ الْمَنْصُورِ قَالَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ قَالَ، حَدثنِي أَي وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وُلِدَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَسَمَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلِيًّا وكناه أبي الْحَسَنِ، وَوُلِدَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام غلامٌ فسمَّاه عَلِيًّا وَكَنَّاهُ بِأَبِي الْحَسَنِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فوجَّه إِلَيْهِمَا أَنِ انْقُلا اسْمَ أَبِي تُرَابٍ وَكُنْيَتَهُ عَنِ ابْنَيْكُمَا وَسَمِّيَاهُمَا بِاسْمِي وَكَنِّيَاهُمَا بِكُنْيَتِي، ولكلِّ واحدٍ مِنْكُمَا أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمَا بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ سَارَعَ إِلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فسمَّى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ وَأَخَذَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ أَبَى ذَلِكَ وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا من قومٍ يَكُونُ فِيهِمْ رجلٌ صالحٌ فَيَمُوت فيخلّف فيهم مَوْلُود فيسمونه إِلا خَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِالْحُسْنَى "، وَمَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا. فَأَتَى الرَّسُولُ مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فردَّ الرَّسُولَ وَقَالَ: فَانْقُلْ كنيته عَن كنيته وَلَك خَمْسمِائَة أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ قَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ وَكَنَّاهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ.
مقتل أبي مُسلم وَكَيف تَم
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عمر بن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاس المنصوري قَالَ: لَمَّا قتل الْمَنْصُور أَبَا مُسْلِم قَالَ: رَحِمك اللَّه أَبَا مُسلم، فَإنَّك بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيتَ لنا ووفينا لَك، فَإنَّك بايعتنا على أَنَّهُ من خرج علينا قَتَلْنَاهُ، وَأَنَّك خرجت علينا فقتلناك، وحكمنا لَك حكمك لنا على نَفسك.
قَالَ: وَلما أَرَادَ الْمَنْصُور قَتله دسَّ رجَالًا من القواد مِنْهُم شبيب بن واج وتقدَّم إِلَيْهِم فَقَالَ: إِذا سمعتهم تصفيقي فاخرجوا إِلَيْهِ فَاضْرِبُوهُ. فَلَمَّا حضر حاوره طَويلا حَتَّى قَالَ لَهُ فِي بعض قَوْله: وَقتلت وُجُوه شِيعَتِنَا فلَانا وَفُلَانًا، وَقتلت سُلَيْمَان بن كَثِير، وَهُوَ من رُؤَسَاء أنصار دولتنا، فقتلت لاهزًا، قَالَ: إنَّهم عَصَوْنِي فقتلتهم، وَقد كَانَ قبل ذَلِكَ قَالَ الْمَنْصُور لَهُ: مَا فعل سيفان بَلغنِي أَنّك أخذتهما من عبد الله بن عَليّ؟ قَالَ: هَذَا أَحدهمَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، يَعْنِي السيفَ الَّذِي هُوَ متقلّدٌ بِهِ. قَالَ: أرنيه، فَدفعهُ إِلَيْهِ فَوَضعه الْمَنْصُور تَحت مُصَلَّاهُ وسكنت نَفسه. فلمّا قَالَ مَا قَالَ، قَالَ الْمَنْصُور: يَا للعجب أتقتلهم حِين عصوكَ وتعصيني أنتَ فَلَا أَقْتلك؟! ثُمَّ صفق فَخرج الْقَوْم وبدورهم إِلَيْهِ شبيبٌ فَضَربهُ فَلم يزدْ على أَن قَطَعَ حمائلَ سَيْفه. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: اضربه قطع الله يدك، فَقَالَ أَبُو مُسلم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ استبقن لعدوّك قَالَ: وأيُّ عدوٍّ أعدى مِنْك؟ فضربوهُ بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى قطعوهُ(1/733)
إربًا إربًا. فَقَالَ الْمَنْصُور: الحمدُ لله الَّذِي أَرَانِي يَوْمك يَا عدوَّ الله. واستؤذنَ لعيسى بن مُوسَى. فلمّا دخلَ وَرَأى أَبَا مُسلم على تِلْكَ الْحَال، وَقد كَانَ يكلم الْمَنْصُور فِي أمره لعناية كَانَت مِنْهُ بِهِ، استرجعَ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: احْمَد اللَّه فَإنَّك إنّما هجمتَ على نعمةٍ وَلم تهجم على مُصِيبَة، فَفِي ذَلِكَ يَقُول أَبُو دلامة:
أَبَا مجرمٍ مَا غيَّر الله نعْمَة ... عَلَى عَبده حَتَّى يغيِّرها العَبْدُ
أَبَا مجرمٍ خوفتني الْقَتْل فانتحى ... عليكَ بِمَا خَوَّفْتِني الأسَدُ الوَرْدُ
خطْبَة الْمَنْصُور بعد قتل أبي مُسلم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي بإسنادٍ لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت ذكره لخَبر الْمَنْصُور وقتلِهِ أَبَا مُسلم، ثمَّ حَدَّثَنَا أَيْضا بِإِسْنَاد هَذِه صفته قَالَ: خطبَ لَمنصورُ الناسَ بعد قتلِ أبي مُسلم فَقَالَ: أيُّها النَّاس لَا تَخرجوا من أُنْسِ لطاعةِ إِلَى وَحْشَة الْمعْصِيَة، وَلَا تَمشوا فِي ظلمَة الْبَاطِل بعد سعيكم فِي ضِيَاء لحقّ. إِن أَبَا مُسلم أحسن مبتديًا وأساءَ معقبًا. وأخذَ من النَّاس بِنَا أَكثر مِمَّا عطانا، ورجحَ قَبِيح بَاطِنه على حَسَنِ ظَاهره، وَعلمنَا من خَبِيث سَرِيرَته وَفَسَاد نيَّته مَا لَو علمه اللائمُ لنا فِيهِ لعذرنا فِي قَتله، وعنَّفنا فِي إمهاله. وَمَا زَالَ ينْقض بيعَته ويحفر ذمَّته حَتَّى أحلَّ الله لنا عُقُوبَته وأباحنا دَمه، فحكمنا فِيهِ حُكمَهُ فِي غَيره، ولَم يَمنعنا الحقُّ لَهُ من إِمْضَاء الحقِّ فِيهِ، وَمَا أحسن مَا قَالَ النَّابِغَة الذبياني فِي النُّعْمَان:
فَمن أطاعكَ فانفعْهُ بطاعتِه ... كَمَا أطاعكَ وادْلُلْهُ على الرَّشد
وَمن عصاكَ فعاقِبْهُ معاقبةً ... تَنْهَى الظلومَ وَلَا تَقْعُدْ على ضَمَد
ثُمَّ نزل:
خطْبَة أُخْرَى للمنصور بعد قتل أبي مُسلم
حَدَّثَنَا الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوب بن جَعْفَر عَن أَبِيه قَالَ: خطبَ الناسَ المنصورُ بعد قتل أبي مُسلم فَقَالَ: أيُّها النَّاس لَا تنفّروا أطرافَ النعمةِ بقلة الشُّكْر فتحلَّ بكم النقمَة، وَلَا تسرُّوا غشَّ الْأَئِمَّة، فَإِن أحدا لَا يسرُّ مُنْكرا إِلَّا ظهر فِي فَلَتاتِ لِسَانه وصفحاتِ وَجهه وطوالِعِ نظره. وإنَّا لن نجهلَ حقوقكم مَا عَرَفْتُمْ حقَّنا، وَلَا ننسى الْإِحْسَان إِلَيْكُم مَا ذكرْتُمْ فضلنَا، وَمن نازعنا هَذَا القميعص أوطأنا أم رَأسه خبيء هَذَا الغمد. وَإِن أَبَا مُسلم بَايع لنا على أَنَّهُ من نكثَ بيعتنا وأضمر غشَّاً لنا فقد أباحنا دَمه، ثُمَّ نكث وغدر، وَكفر وفجر، فحكمنا عَلَيْهِ لأنفسنا حُكْمَهُ على غَيره.
كِتَابٌ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدثنِي عَليّ بن بْنُ الْمَغَانِيِّ قَالَ: كَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ حِينَ اسْتَوْحَشَ مِنْهُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ كُنْتُ اتَّخَذْتُ أَخَاكَ إِمَامًا، وَجَعَلْتُهُ عَلَى الدِّينِ دَلِيلا لِقَرَابَتِهِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي(1/734)
زَعَمَ أَنَّهَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَأَوْطَأَنِي عَشْوَةَ الضَّلالَةِ، وَأَوْهَقَنِي فِي رِبْقَةِ الْفِتْنَة، وَأَمرَنِي أَنْ آخُذَ بِالظَّنَّةِ وَأَقْتُلَ عَلَى التُّهْمَةِ وَلا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَتَكْتُ بِأَمْرِهِ حرماتٍ حَكَمَ اللَّهُ بِصِيَانَتِهَا،، وَسَفَكْتُ دِمَاءً فَرَضَ اللَّهُ حَقْنَهَا، وَزَوَيْتُ الأَمْرَ عَنْ أَهْلِهِ، وَوَضَعْتُهُ مِنْهُ فِي غَيْر مَحَلِّهِ. فَإِنْ يَعْفُ اللَّهُ عَنِّي فبفضلٍ مِنْهُ، وَإِنْ يُعَاقِبْ فَبِمَا كَسَبَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلام لِلْعَبِيدِ.
ثُمَّ أَنْسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا حَتَّى جَاءَهُ حَتْفُ أَنْفِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمُتَقَدِّمِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
معنى حتف أَنفه
قَالَ القَاضِي: قَول هَذَا الْقَائِل: " حَتَّى جَاءَهُ حتف أَنفه " يَنْبَغِي أَن يكونَ على قَول أهلِ الْعلم خطأ من قَائِله، وَذَلِكَ أنَّهم ذكرُوا أَنَّهُ يُقالُ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ وَمَات على فرَاشه: " مَاتَ حتف أَنفه، وَمَات حتف أنفيه ". وَذكر بعضُ الْمُتَقَدِّمين فِي علم اللُّغَة وَأهل الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ أَن هَذَا مِمَّا أَتَى فِي أَلْفَاظ مَعْدُودَة تكلَّم بِهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجدوا سَابِقًا إِلَيْهَا غَيره، وَأَبُو مُسلم على هَذَا لَمْ يَأْته حتفُ أَنفه، وإنَّما كَانَ بنسيانه عَظِيم جِنَايَته على نَفسه وتعرّضِهِ لما لَهَا قبلَ لَهُ بِهِ وطمعِهِ فِي الْأَمْن مِمَّا الخوفُ مِنْهُ أولى بِهِ، فَتوجه إِلَى جَبَّار من الْمُلُوك قد وتره، وأسرفَ فِي خطابه الَّذِي كَاتبه بِهِ، مَعَ مَا كَانَ مِنْهُ مِمَّا اضطغنه هَذَا الْملك عَلَيْهِ، واسترسلَ فِي إتْيَان حَضرته، وأضاعَ وَجه الحزم، واستأنسَ للخصم، وسلَّم عدَّته الَّتِي كَانَ يَحمي بِهَا نَفسه إِلَى من أَتَى عَلَيْهَا وفجعه بِهَا، فَقتله أفظعَ قتلة. فَكيف يُقالُ فِيهِ جَاءَهُ حتفُ أَنفه مَعَ مَا بيَّنَّاه من معنى هَذِه الْكَلِمَة واختصاصها بِما تختصُّ بِهِ. وبيِّن أَن قَوْلهم " مَاتَ حتف أَنفه " مخالفٌ فِي الْمَعْنى قَوْلهم " قتل " قَول السمأل بن عادياء:
وَمَا مَاتَ منا سيّدٌ حتفَ أَنفه ... وَلَا طلَّ منا حَيْثُ كَانَ قتيلُ
وَهَذَا فِي دلَالَته على الْفَصْل بِمنزلة قَول الْعَامَّة: " مَاتَ فلَان على فرَاشه " ليفصلوه مِمّن قتل. وَلَو كَانَ هَذَا القائلُ فِي هَذَا الْموضع قَالَ " حَتَّى جَاءَهُ حتفه أَو منيته، أَو حتف نَفسه "، أَوْ مَا أشبه هَذَا من الْأَلْفَاظ المنبئة عَن هَذَا الْمَعْنى، لوصل إِلَيْهِ بغيته وأصابَ فِي الْعبارَة عَمَّا قصد لَهُ، وَسلم من تخطئة أهل الْعلم لَهُ.
الْمهْدي يَسْتَدْعِي مولى فائد ليُغَنِّيه صَوتا معينا
حدَّثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي طَاهِر قَالَ، حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَن أَبِيه قَالَ، حَدَّثَنِي الرّبيع بن الْفضل قَالَ: أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ المهديُّ بالتقدُّم إِلَى خَليفَة الْعَامِل على الْبَاب أَن يكتبَ إِلَى صَاحبه كتابا عَن نَفسه فِي إشخاص أبي سعيد مولى فائد، فَلم يَك شَيْء حَتَّى وافى أَبُو سعيد فَأدْخلهُ خليفةُ الْعَامِل عليَّ. فتوهّمت عِنْد نَظَرِي إِلَيْهِ أنّه قَاضِي الْحَرَمَيْنِ، فدخلتُ من سَاعَتِي إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمته، فَأمرنِي بِصَرْف النَّاس وإدخاله. قَالَ: فقرّب أميرُ الْمُؤمنِينَ مَجْلِسه وأحفى سؤالَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: غنني أَبَا سعيد:(1/735)
لقد طفتُ سَبْعًا قلتُ لما قضيتها ... أَلا ليتَ سعيي لَا عليَّ وَلَا ليا
وإنَّ الَّذِي يَبْغِي رضايَ بذكرها ... لأكرمُ من أَهلِي عليَّ وماليا
فَقَالَ: وأغنيك أحسنَ مِنْهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، جعلني الله فدَاك. قَالَ: أَنْت وَذَاكَ، فَغَنّاهُ:
قدم الطويلُ فأشرقت واستبشرت ... أرضُ الحجازِ وَبَان فِي الأسحار
غيث الحيا وضياءُ كلِّ مُلمَّة ... سهل القيادِ ومألفُ الزوّار
قَالَ القَاضِي: فأجاده وَأحسنه، غير أَن الْمهْدي قَالَ: هَذَا حسن وَلَكِن غنني " لقد طفت سبعا " قَالَ لَهُ: وأحسنُ مِنْهُ، جعلني الله فدَاك. قَالَ لَهُ: أَنْت وَذَاكَ، فغناه:
إنَّ هَذَا الطَّوِيل من آل حفصٍ ... نشر الجودَ بَعْدَمَا كَانَ مَاتَا
وَبنى المجدَ مُشْبهًا لِأَبِيهِ ... مثلَ مَا يشبهُ النباتُ النباتا
قَالَ القَاضِي: هَكَذَا رواهُ، وأنشر أفْصح. فأحسنه وأجاده، فَقَالَ الْمهْدي: وَيحك يَا أَبَا سعيد، مَا تركتُ فِي إحسانٍ مزيدًا وَلَكِن غنّني: " لقد طفتُ سبعا " فغنّاه:
إنَّ الطويلَ من آل حفصٍ فاعملوا ... سَاد الْحُضُور وساد فِي الْأَسْفَار
قَالَ، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أَنْت تحسنُ يَا أَبَا سعيد، وَلَكِن لَيْسَ تغنيني الَّذِي أشتهي. فَقَالَ لَهُ الْفضل منتهرًا، غنِّ أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا يَأْمُرك بِهِ. فَقَالَ أَبُو سعيد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا وَالَّذِي أكرمك بخلافته مَا لي إِلَى ذَلِكَ سَبِيل. قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنِّي رأيتُ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَام، وَكَانَ فِي يَده شَيْء، فَأَهوى إليّ ليضربني بِهِ وَهُوَ يَقُول: لقد طفتُ سبعا، مَاذَا صنعتَ يَا بني؟ فقلتُ: اعفُ عَنِّي، فوباعثكَ بالحقِّ لَا غنَّيت هَذَا الصوتَ أبدا. قَالَ: فردَّه عني وَقَالَ: عَفا الله عَنْك. فرأيتُ الْمهْدي يبكي وتغلبُهُ دموعُهُ وَهُوَ يكفُّها، ثُمَّ وَصله وَصَرفه.
عرار رَسُول الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبُو بكر الْبَزَّاز قَالَا، حَدَّثَنَا أَبُو العيناء قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: كتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك كتابا ووجَّه بِهِ مَعَ رَسُوله. فَجعل عبد الْملك يقرأُ الكتابَ ويستنشي الخبرَ من الرَّسُول فيجدُ شَرحه أشفى من كتاب الْحجَّاج، وَكَانَ أسود، فَأَنْشَأَ عبد الْملك يَقُول:
وَإِن عرارًا إنْ يكنْ غيرَ واضحٍ ... فَإِنِّي أُحبّ الجَوْنَ ذَا المنكبِ العَمَمْ
فَقَالَ الرَّسُول: أَنا عرار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأبي قَالَ فيَّ هَذَا الشّعْر، فأُعجبَ بذلك عبد الْملك.
مُعَاوِيَةُ يَعِيبُ أَهْلَ الْيَمَنِ فَيَعِيبُ الْيَمَنِيُّ قَوْمَ مُعَاوِيَةَ
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْكِلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: مَا كَانَ أَجْهَلَ قَوْمَكَ حَيْثُ قَالُوا: " ربَّنا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا " سبأ:19 " وَحَيْثُ مَلَّكُوا أَمْرَهُمُ(1/736)
امْرَأَةً. فَقَالَ: أَجْهَلُ مِنْهُمْ قَوْمُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ " الْآيَة " الْأَنْفَال:32 " أَلا قَالُوا: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا لَهُ.
تَمّ الْمجْلس بِحمد الله وَحسن توفيقه.
الْمجْلس الْمِائَة وبهِ تَمامُ المجالِس
زَكَاةُ الرَّأْسِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ قَالَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بن مُحَمَّد بن كزال البزازقال، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى يَعْنِي الْمَرْوَزِيَّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ، قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا سُنَّةُ الْفِطْرَةِ فَقَالَ: سَأَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنَّ أُمَّتِي يُكَذِّبُونَ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَخَافُ أَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يتمَّ صَوْمُهُمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مُرْهُمْ فَلْيُعْطُوا كلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ برٍّ يَكُونُ كفَّارة لِذُنُوبِهِمْ فِي صَوْمِهِمْ حَتَّى تُعْتَقَ رِقَابُهُمْ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ نَجَاةٌ مِنَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ أحبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ مَخْلَدٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَلَكِنْ فِيهِ تَرْغِيبٌ، وَأْسَأْلُ اللَّهَ السَّلامَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ رَجُلٌ ضَعِيفٌ وَأَبُوهُ أَيْضًا.
هَلْ ضعف الرَّاوِي يَجْعَل الحَدِيث ضَعِيفا
قَالَ القَاضِي: الَّذِي ذكره ابْن مخلد من تَضْعِيف إِسْمَاعِيل بن يَحْيَى رَاوِي هَذَا الحَدِيث على مَا ذكر عِنْد أهل صناعَة الحَدِيث. وَكثير من العامَّة وَمن لَا نظرَ لَهُ من النقلَة يظنّ أنَّ مَا ضعف رَاوِيه فَهُوَ باطلٌ فِي نَفسه مقطوعٌ على إِنْكَاره من أَصله، وَهَذَا جهلٌ مِمّن ذهبَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَن رَاوِيا مَعْرُوفا بِالْكَذِبِ فِي رواياته لَو روى خَبرا انْفَرد بِهِ مِمَّا يُمكن أَن يكون حقًّا وَأَن يكون بَاطِلا لوَجَبَ التَّوَقُّف عَن الحكم بِصِحَّتِهِ وَالْعَمَل بِما تضمنه، وَلم يجز الْقطع على تَكْذِيب رَاوِيه وَالْحكم بتكذيب مَا رواهُ.
مبلغ زَكَاة الْفطر
فأمَّا تَقْدِير مَا يخرج من زَكَاة الْفطر من الْبر بِأَنَّهُ نصفُ صاعٍ فقد رُوِيَ هَذَا الْمِقْدَار عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جهاتٍ متواترة وبأسانيد متظاهرة، وَهُوَ القَوْل المستفيض فِي الصحاة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء السّلف من الْمُسلمين، وَإِلَيْهِ يذهبُ أَئِمَّة الْفُقَهَاء الْعِرَاقِيّين وَغَيرهم من الْمُفْتِينَ، وَبِه نقُول. وَكَانَت طَائِفَة كَبِيرَة الْعدَد ترى أَن مَا يخرج فِي صَدَقة الْبُرّ بِمنزلة مَا يخرج فِيهَا من التَّمْر، ومِمّن ذهبَ إِلَى هَذَا مالكٌ والشافعيّ، الّذي يخْتَار إِخْرَاج صاعٍ مِمن وجد سَعَة من غير أَن توجب عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِكَ. وَقد بينّا مَا يجب إِخْرَاجه فِي هَذِه(1/737)
الصَّدَقَة من أَنْوَاع الأقوات، وَذكرنَا اخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِكَ والاحتجاجَ لكلّ ذِي مَذْهَب فِيهِ وَعَلَيْهِ فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْفِقْه مشروحًا ملخّصًا.
معنى بَيت يفسره الْأَصْمَعِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه الْأَصْمَعِي أَن رجلا وقفَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَن معنى هَذَا الْبَيْت:
وماذا عَلَيْهَا من قلوصٍ تمرَّغت ... بعِكمين أَو أَلقتهما بالصحاصحِ
فَقَالَ لَهُ عمي: هَذَا الرجلُ كَانَ مُفردا، وَكَانَت عِنْده امرأةٌ فطلَّقها ونكحَ أُخْرَى، فَلَقِيت الْمَرْأَة الأولى صاحبًا للرجل فَقَالَت: مَا فعلتْ صاحبةُ فلَان؟ قَالَ: هِيَ كَمَا يحبّه، فَقَالَت: كلا لقد تمرّغت بعكمين أَي سَاءَ خُلُقها عَلَيْهِ وكرهته، فَبلغ ذَلِك الرجل، وَكَانَ اسْمه الْمَرْأَة الأولى أَسمَاء، فَقَالَ:
نعرَّض أسماءُ الركابَ عشيَّةً ... تسائل عَن ضِغْنِ النساءِ النواكح
وماذا عَلَيْهَا من قلوصٍ تمرَّغت ... بعِكمين أَو ألقتهما بالصحاصح
وَهَذَا مثلٌ، وَلَيْسَ هُناكَ قلوصٌ وَلَا عكمان.
مصير مُسَافر بن عَمْرو
وَحَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد عَنْ مُحَمَّد بْن عَبّاد عَن هِشَام بن مُحَمَّد قَالَ: كَانَ مُسَافر بن أبي عَمْرو بن أُميَّة بن عبد شمس من فتيَان قُرَيْش جمالا وسخاءً وشعرًا. فعشق هِنْد بنت عتبَة حَتَّى شُهِرَ أَمرهمَا، فاستحيا وَخرج إِلَى الْحيرَة ليسلوها. فنادم عَمْرو بن هِنْد، وَكَانَ لَهُ مكرمًا؛ ثُمَّ إِن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب تزوَّج هندًا فِي غيبةِ مُسَافر هَذِه. وَخرج أَب سُفْيَان إِلَى الْحيرَة تَاجِرًا، فلقي مُسَافر بن أبي عَمْرو فَسَأَلَهُ عَن مَكَّة وأخبار قُرَيْش، فخبره من ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وإنّي تزوّجتُ هِنْد ابنةَ عتبَة. فأسفَ مُسَافر من ذَلِكَ ومرضَ حَتَّى سُقي بَطْنه، وَقَالَ:
أَلا إِن هندًا أَصبَحت مِنْك مَحرَما ... وأصبحتَ من أدنى حموّتها حما
وأصبحتَ كالمسلوبِ جفنَ سلاحِهِ ... يقلِّب بالكفّين قوسًا وأسهما
فَدَعَا عَمْرو بن هِنْد الأطباءَ فَسَأَلَهُمْ عَن حَاله فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ دَوَاء إِلَّا الكيّ، فَقَالَ لَهُ: مَا ترى؟ قَالَ: افْعَل. فَدَعَا لَهُ طَبِيبا من الْعِباد فأَحْمى مكاويه حَتَّى صَارَت كالنار، ثُمَّ قَالَ: أمسكوهُ لي، فَقَالَ لَهُ مُسَافر: لستُ أحتاج إِلَى ذَلِكَ.
فَجعل يضعُ عَلَيْهِ المكاوي، فلمّا رأى الطبيبُ صبره هاله ذَلِكَ، فَقَالَ مُسَافر: قد يَضْرِطُ العَيْر والمكواة فِي النَّار، فأرسلها مثلا. قَالَ: فَلم يغنه ذَلِكَ شَيْئا.
فَخرج يريدُ مَكَّة فأدركه الْمَوْت بزبالة، فَدفن بِهَا ونعي إِلَى أهل مَكَّة، وَكَانَ أَبُو طَالب ابْن عبد الْمطلب لَهُ نديمًا، فَقَالَ يرثيه:(1/738)
لَيْت شعري مسار بن أبي عَم ... روٍ وليتٌ يَقُولهَا المحزونُ
كيفَ كَانَت مرَارَة الْمَوْت فِي فِي ... ك وماذا بعد المماتِ يكون
رَجَعَ الْوَفْد سَالِمين جم يعاً ... وخليلي فِي مرمسٍ مدفونُ
ميت صدقٍ على هبالة قد حا ... لت فيافٍ من دونه وحزون
مروةٌ تدفعُ الخصومَ بأيدٍ ... وبوجهٍ يزينهُ الْعرنِين
بوركَ الميّتُ الْغَرِيب كَمَا بور ... ك نَضْحُ الرمَّان وَالزَّيْتُون
الرُّمَّان وَالزَّيْتُون
قَالَ القَاضِي: وَالْمَشْهُور من الرِّوَايَة فِي هَذَا الْبَيْت " كَمَا بورك نَضْرُ الرُّمَّان وَالزَّيْتُون "، وَذكر الرُّمَّان وَالزَّيْتُون لتقدّمهما فِي أنواعهما وَعظم منافعهما وسعة الِانْتِفَاع بأصولِهما وفروعهما. وورق هَاتين الشجرتين من أقوى الْأَشْيَاء اشتباهًا وكلُّ واحدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ صَاحبه، وَبَين ثَمرتيهما من الِاخْتِلَاف والتفاوت مَا لَا يخيل، وَذَلِكَ من بديع حِكْمَة الله تَعَالَى وإتقان صَنعته ولطيفِ قدرته. وَقد قَالَ الله حجلّ ثَنَاؤُهُ: " وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كلِّ شيءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخل مِنْ طَلْعِهَا قنوانٌ دانيةٌ وجنَّاتٍ مِنْ أعنابٍ والزَّيتون والرَّمان متشابهاً وَغير متشابهٍ " " النعام:99 ". فَهُوَ مشتبه فِي ورقة غير متشابه فِي أَنْوَاعه وطعومه وَصُورَة ثَمرته، فسبحانَ الحكيمِ فِي تَدْبيره، المحسن فِي تَقْدِيره، الْمُنعم على خلقه، والنّاظر لَهم بسبوغ رزقه.
تَمام الْخَبَر السَّابِق
رَجعْنَا إِلَى الْخَبَر: قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ، قَالَ الشَّرْقِي بن الْقطَامِي: البيتان الأوّلان لِهشام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي، وَكَانَت عِنْده أَسمَاء بنت مخربة النهشلية، فَولدت لَهُ أَبَا جهل والْحَارث، فَغَضب عَلَيْهَا فِي أمرٍ من الْأُمُور فَجَعلهَا كَظهر أمّه، وَهُوَ أول ظهارٍ كَانَ فِي الْعَرَب، فَجَعَلته قُرَيْش طَلَاقا.
فَأَرَادَتْ أسماءُ الرحلةَ إِلَى أَهلهَا، فَقَالَ لَهَا هِشَام: أَيْن الْموعد؟ فَقَالَت: الْمَوْسِم، فَقَالَ لَهَا ابناها أَبُو جهل والْحَارث أقيمي مَعنا، فأقامت. فَقَالَ لَهَا الْمُغيرَة: لأزوجنّك غُلَاما لَيْسَ بِدُونِ ابْني هِشَام، فزوَّجها ابْنه أَب ربيعَة، فَولدت لَهُ عبد الله وعياشًا، فَذَلِك قَول هِشَام بن الْمُغيرَة:
أَلا زعمتْ أسماءُ أنْ سَوف نَلْتَقِي ... أحاديثَ طسمٍ إِنَّما أَنْت حالِمُ
وَقَالَ: أَلا أَصبَحت أَسمَاء حجرا محرّمًا " الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين ".
وُفُود أم سِنَان المذحجية على مُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بن مُحَمَّد سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا(1/739)
الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدِينِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ: حَبَسَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ غُلامًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ فِي جِنَايَةٍ جَنَاهَا بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَتْهُ جَدَّةُ الْغُلامِ أمُّ أَبِيهِ، وَهِيَ أُمُّ سِنَانٍ بِنْتُ خَيْثَمَةَ بْنِ خَرَشَةَ الْمَذْحِجِيَّةُ، فَكَلَّمَتْهُ فِي الْغُلامِ فَأَغْلَظَ لَهَا وَزَبَرَهَا. فَخَرَجَتْ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهَا، فَلَمَّا جَلَسَتْ قَالَ: يَا بِنْتَ خَيْثَمَةَ، مَا أَقْدَمَكِ أَرْضِي وَقَدْ عَهِدْتُكِ تَشْنَأِينَ قُرْبِي، وَتَحُضِّينَ عَلَيَّ عَدُوِّي. قَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَخْلاقًا طَاهِرَةً وَأَعْلامًا ظَاهِرَةً، لَا يَجْهَلُونَ بَعْدَ عِلْمٍ، وَلا يَسْفَهُونَ بَعْدَ حِلْمٍ، وَلا يَتَعَقَّبُونَ بَعْدَ عَفْوٍ، وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاتِّبَاعِ سُنَنِ آبَائِهِ لأَنْتَ. قَالَ: صَدَقْتِ، نَحْنُ كَذَلِكِ، فَكَيْفَ قَوْلُكِ:
عَزَبَ الرُّقَادُ فَمُقْلَتِي لَا تَرْقُدُ ... وَاللَّيْلُ يَصْدَرُ بِالْهُمُومِ وَيُورِدُ
يَا آلَ مَذْحِجَ لَا مقَام فشمرا ... إِنَّ الْعَدُوَّ لآلِ أَحْمَدَ يَقْصِدُ
هَذَا عليٌّ كَالْهِلالِ تَحُفُّهُ ... وَسْطَ السَّمَاءِ مِنَ الْكَوَاكِبِ أَسْعُدُ
خَيْرُ الْخَلائِقِ وَابْنُ عمِّ محمّدٍ ... وَكَفَى بِذَلِكَ والعدوُّ يُهَدِّدُ
مَا زَالَ مُذْ عَرَفَ الْحُرُوبَ مظفَّراً ... وَالنَّصْرُ فَوْقَ لِوَائِهِ مَا يُفْقَدُ
قَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّا لنمطع بِكَ خَلَفًا. قَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ الْقَائِلَةُ:
إِمَّا هَلَكْتَ أَبَا الْحُسَيْنِ فَلَمْ تَزَلْ ... بالحقِّ تُعْرَفُ هادياً مهديّا
فَاذْهَبْ عَلَيْك السَّلَام ربِّك مَا دَعَتْ ... فَوْقَ الْغُصُونِ حمامةٌ قُمْرِيَّا
قَدْ كُنْتَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ خَلَفًا لَنَا ... أَوْصَى إِلَيْكَ بِنَا فَكُنْتَ وَفِيَّا
فَالْيَوْمَ لَا خلفٌ نُؤَمِّلُ بَعْدَهُ ... هَيْهَاتَ نَمْدَحُ بَعْدَهُ إِنْسِيَّا
قَالَتْ: يَا أَمِيرَ، لسانٌ نَطَقَ، وقولٌ صَدَقَ، وَلَئِنْ تَحَقَّقَ فِيكَ مَا ظَنَنَّا فَحَظُّكَ أَوْفَرُ، وَاللَّهِ مَا أَوْرَثَكَ الشَّنَاءَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِلا هَؤُلاءِ، فَادْحَضْ مَقَالَتَهُمْ، وَأَبْعِدْ مَنْزِلَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ازْدَدْتَ بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ قُرْبًا، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ حُبًّا. قَالَ: إِنَّكِ لَتَقُولِينَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ مُدِحَ بِبَاطِلٍ، وَلا اعْتُذِرَ إِلَيْهِ بِكَذِبٍ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِنَا وَضَمِيرِ قُلُوبِنَا.
كَانَ وَاللَّهِ عَلِيٌّ أحبَّ إِلَيْنَا مِنْكَ إِذْ كَانَ حَيًّا، وَأَنْتَ أحبُّ النَّاسِ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِكَ إِذْ أَنْتَ بَاقٍ. قَالَ: فَمن شَكْوَاكِ؟ قَالَتْ: مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ. قَالَ: وَبِمَ اسْتَحْقَقْتِ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا؟ قَالَتْ: بِحُسْنِ حِلْمِكَ، وَكَرَمِ عَفْوِكَ. قَالَ: وَإِنَّهُمَا لَيَطْمَعَانِ فِي ذَلِكَ؟ قَالَتْ: هُمَا وَاللَّهِ لَكَ مِنَ الرَّأْيِ عَلَى مِثْلِ مَا كُنْتَ عَلَيْهِ لِعُثْمَانَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَارَبْتِ فَمَا حَاجَتُكِ؟(1/740)
قَالَتْ: إِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ تَبَنَّكَ بِالْمَدِينَةِ تبنُّك مَنْ لَا يُرِيدُ الْبَرَاحَ مِنْهَا، لَا يَحْكُمُ بِعَدْلٍ، وَلا يَقْضِي بِسُنَّةٍ، يَتَتَبَّعُ عَثَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، حَبَسَ ابْنِي فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَلْقَمْتُهُ أَخْشَنَ مِنَ الْحَجَرِ، وَأَلْعَقْتُهُ أمرَّ مِنَ الصَّابِ. " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الصَّابُ الْحُضَضُ ".
قَالَ الْقَاضِي: الْحُظَظُ بِالظَّاءِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. قَالَ أَبُو ذويب الْهُذَلِيُّ:
نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُشْتَجِرًا ... كَأَنَّ عَيْنَيْكَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ
مَذْبُوحٌ مَشْقُوقٌ، وَالذَّبْحُ الشَّقُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا والفكِّ ... فَأْرَةَ مسكٍ ذُبِحَتْ فِي سكِّ
رَجْعُ الْخَبَرِ
ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي بِالْمَلامَةِ، وَأَتَيْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَكُونَ فِي أَمْرِي نَاظِرًا وَعَلَيْهِ مُعْدِيًا. قَالَ: صَدَقْتِ لَا أَسْأَلُكِ عَنْ ذَنْبِهِ، وَلا أَسْأَلُكِ الْقِيَامَ بِحُجَّتِهِ؛ اكْتُبُوا لَهَا بِإِخْرَاجِهِ. قَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّى لِي بِالرُّجْعَةِ وَقَدْ نَفِدَ زَادِي وكلَّت رَاحِلَتِي؟ فَأَمَرَ لَهَا بِرَاحِلَةٍ مُوَطَّأَةٍ وَخَمْسَةِ آلافِ دِرْهَمٍ.
عُرْوَة يشكو خالَ هِشَام إِلَى هِشَام
حَدثنَا أَبُو النَّضر القيلي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا عبيد الله بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْغلابِي: وَحَدَّثَنَا الْعُتْبِي عَن أَبِيه قَالَا: دخل عبد الله بن عُرْوَة بن الزبير " قَالَ ابْن عَائِشَة: وأمّه ابْنة الْمُغيرَة بن شُعْبَة " على هِشَام بن عبد الْملك، وَقد كَانَ إِبْرَاهِيم بن هِشَام أضرَّ بِهِ وَهُوَ على الْمَدِينَة. فَقَالَ لَهُ عبد الله: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إنَّكَ قد ولّيت خالكَ مَا بَين الْمَدِينَة إِلَى عدن فَلم يمنعهُ كثيرُ مَا فِي يَده من قَلِيل مَا فِي أَيْدِينَا إِن نازعته نَفسه اختلاس مَا فِي اختلاسه هَتْكُنا، فأنشدك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تصلَ رحِمًا بقطيعة أُخْرَى، فو الله مَا سخى بِأَنْفُسِنَا عَن الْأَمْوَات إِلَّا مَا كفّ وجوهَ الْأَحْيَاء، وَلِأَن نَموتَ مرفوعين أحبُّ إِلَيْنَا من أَن نعيشَ مخفوضين. فَقَالَ هِشَام لعبد الله: إِنَّه لَا سلطانَ لخالي عَلَيْك بعد يَوْمك هَذَا. فَقَالَ لَهُ عبد الله: فَإِن قَالَ نقُول وَإِن مدَّ يَده مدننا بِأَيْدِينَا؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ عبد الله لِأَخِيهِ يَحْيَى قُلْ، فَجَثَا بَين يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
إِنَّا وإخوانًا لنا قد تكلمُوا ... حَدِيثا على أَمر الضلاة والْهُدَى
يقولونَ كُنَّا سادةً فِي نديِّنا ... وَمَا ذاكمُ مرّ الحَدِيث وَلَا حلا
قعُودا بأبوابِ الفجاج وخيلنا ... تساقى كؤوسَ الموتِ تدعسُ بالقنا
فَلَمَّا أَتَاهُم فيئهم برماحنا ... تكلّم مكفيُّ بعيبٍ لِمن كفى
فَضَحِك هِشَام هِشَام وَقَالَ لَهُ: أَحْسَنت، ثُمَّ أَمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ لكَاتبه: اكْتُبْ إِلَى إِبْرَاهِيم بن هِشَام يحسنْ إِلَيْهِ ويرفعْه فَفعل.(1/741)
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الْكَوْكَبِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن أقبان النَّخعِيّ قَالَ: أَنْشدني لمروان بن أبي حَفْصَة فِي ابْن أبي دواد لمّا نالته الْعلَّة الْبَارِدَة:
لسانُ أحمدَ سيفٌ مسَّه طبعٌ ... من علّةٍ فجلاها عَنْهُ جاليها
مَا ضرَّ أحمدَ بَاقِي علّةٍ درست ... وَالله يُذْهِبُ عَنْهُ رَسْمَ بَاقِيهَا
مُوسَى بن عمرَان لَمْ يُنْقِصْ نبوَّته ... ضَعْفُ اللسانِ بِهِ قد كَانَ يمضيها
قد كَانَ مُوسَى على علاَّت مَنْطِقه ... رسائلُ الله تَأتيه يُؤدّيها
لُقْمَان وَزَوجته الَّتِي تَخونه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَسَن بن عليل الْعَنزي قَالَ، حدَّثنا عَليّ بن الصَّباح قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْبَدْر هِشَام بن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانَ لُقْمَان بن عَاد بن عاديا، وَكَانَ منبني صيدى بن عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح رجلا غيورًا وَكَانَ لَا يتَزَوَّج امْرَأَة إِلَّا فجرت، فتزوّج جَارِيَة صَغِيرَة لَا تَدْرِي مَا الرِّجَال، وَبنى لَهَا بَيْتا فِي رَأس جبل، وَجعل لَهُ خطافًا، وَكَانَ يصعدُ إِلَيْهِ وَينزل مِنْهُ بالسلاسل، فإ ذَا تنحى عَنْهُ نحَّى السلاسلَ. فَبَصر بِهَا غلامٌ من عَاد فعشقها فَقَالَ لأَهله: لَئِن لَمْ تَجمعوا بيني وَبَين امْرَأَة لُقْمَان بن عَاد لأجابنَّ عَلَيْكُم حَربًا ترقّص أشياخكم.
قَالُوا: كَيفَ الوصولُ إِلَيْهَا؟ قَالَ: بِأَن تَجعلوني بَين سيوفٍ تودعونها لقمانَ إِلَى أجل ثُمَّ تستردُّونها مِنْهُ حِين يحين ذَلِكَ. فجعلوه بَين سيوفٍ وَجَاءُوا بهَا لُقْمَان فأوعوه إيّاها مَعهَا، فَإِذا جَاءَ لُقْمَان توارى. فلمّا انْقَضى الْأَجَل جَاءَ أهلُهُ يطلبونَ السيوف فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا وَهُوَ فِيهَا. ثُمَّ إِن لُقْمَان كَانَ ذَات يَوْم جَالِسا فِي ذَلِكَ الْموضع على سريرٍ لَهُ مَعَ امْرَأَته، فَرفع رَأسه فَإِذا تخامةٌ تنوسُ فِي السّقف، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذِه؟ قَالَت: منّي.
قَالَ أَبُو بكر: النوس حَرَكَة الشَّيْء المتدلي.
قَالَ: فتنخَّمي فَفعلت فَلم تصنع شَيْئا. قَالَ: يَا ويلاه، السيوف دهتني.
ثُمَّ احتملها فألقاها من ذَلِكَ الْموضع فَقَتلهَا. فَنزل غَضْبَان شديدَ الْغَضَب فَلَقِيته ابْنَته صُحْر فَقَالَت: مَا لي أراكَ يَا أبةِ شديدَ الْغَضَب؟ قَالَ: وَأَنت أَيْضا من النِّسَاء، فأخذَ حجرا فضربَ رَأسهَا فَقَتلهَا. فَضربت بِهَا الْعَرَب الْمثل فَقَالُوا: مَا أذنبت إِلَّا ذنبَ صحر، ويضربونه لِمن يُعاقَب ويُؤاخَذ وَلَا ذنبَ لَهُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُول خفاف بن ندبة للْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ:
وعبّاس يدبُّ لي المنايا ... وَمَا أذنبتُ إِلَّا ذنبَ صُحْرِ
لُقْمَان ولقيم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن سعيد أَن لُقْمَان بن عَاد خاطرَ(1/742)
لقيما ابْن أُخْته فِي مائةٍ من الْإِبِل على السَّبق إِلَى مَوضِع أَيهمَا سبق إِلَيْهِ أَخذهَا. فسبقه لقيم واستاقَ الْإِبِل، فَقدم بِهَا ونَحر وَأهْدى وطبخ وَأطْعم. فَأتى لُقْمَان ابْنَته صحر، فَقدمت إِلَيْهِ لَحمًا مطبوخًا. فَقَالَ: من أَيْن هَذَا اللَّحْم؟ قَالَت: قدم لقيم بِالْإِبِلِ فنحرَ وَأهْدى وَأطْعم، فَهَذَا اللَّحْم من عِنْده. فتأسّف وَغَضب وَضرب برأسها وقتلها، فَضربت الْعَرَب فِي ذَلِكَ الْمثل، وَفِيهِ يَقُول أَبُو دَهْبَل الجُمَحِي، قَالَ أحْمَد بن سعيد: أنشدناهُ الزبير بن بكار لَهُ، قَالَ ابْن الأَنْبَارِيّ: وأنشدناه أَحْمَد بن يَحْيَى أَيْضا عَن الزبير بن بكار لأبي دهبل الجُمَحِي:
اذهبي بِاللَّه فاستسمعي ... خبّريه بِالَّذِي فعلا
واسأليه فيمَ يَصْرِمُنَا ... قد وَصَلْنَاهُ كَمَا وصلا
وتجنَّى حينَ لنتُ لَهُ ... ذنبَ صحرٍ يَبْتَغِي العللا
قَالَ القَاضِي: ولقمان بن عَاد ولقيم معروفان مشهوران عِنْد الْعَرَب، وَلَهُمَا أَخْبَار كَثِيرَة، وَالْعرب تُكثر فِي كَلَامهَا وَأَشْعَارهَا ذكرهمَا، وتضربُ أَمْثَالًا كَثِيرَة بِهما، وَقد قَالَ بعضُ من هجا بني تَميم.
إِذا مَا مَاتَ ميتٌ من تَميم ... فسرَّك أَن يعِيش فجِئ بزادِ
بخبزٍ أَو بلحمٍ أَو بتمرٍ ... أَو الشَّيْء الملفَّف فِي البجاد
تراهُ يطوّفُ الْآفَاق طرًّا ... ليأكلَ رأسَ لُقْمَان بن عَاد
ولقيم هُوَ ابْن لُقْمَان من أُخْته، ولقمان أَبوهُ وخاله، وَذَلِكَ فِيمَا ذكر أهلُ السّير قَالُوا: كَانَ لأخت لُقْمَان زوجٌ مُحْمِق يولدها الحمقى. يُقَال فِي هَذَا الْمَعْنى رجلٌ محمقٌ وَامْرَأَة مُحْمِقة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
لستُ أُبَالِي أَن أكونَ مُحْمِقَهْ ... إِذا رَأَيْت خصْيةً معلَّقه
فَقَالَت لامْرَأَة أَخِيهَا لُقْمَان: هبي لي لَيْلَة من بعل، قَالَت: وَكَيف السبيلُ إِلَى ذَلِكَ وَفِيهِ تلفي وتلفك؟! قَالَت: السَّبِيل إِلَى ذَلِكَ أَن تسقيه الْخمر، فَإِذا كَانَ يثمل مِنْهَا رفعت الْمِصْبَاح من الْبَيْت وأخليتِ لي فرَاشه، فَفعلت ذَلِكَ.
وَأَوَى لُقْمَان إِلَى فرَاشه فَوَقع عَلَيْهَا وَهُوَ يظنّ أنّها امْرَأَته، لكنه لَمْ يخفَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ فِي سكره، حِين بَاشَرَهَا: هَذَا هنٌ جَدِيد. فاشتملت على لقيمٍ من أَخِيهَا، فَأَتَت بِهِ أدهى من لُقْمَان وَأفضل، وَفِي ذَلِكَ يَقُول النمر بن تولب:
لقيم ابْن لقيمان من أُخْته ... فكانَ ابنَ أختٍ لَهُ وابنما
عَشِيَّة حمِّق فاستضحكت ... إِلَيْهِ فغرَّ بهَا مظلما
فأحبلها رجلٌ نابه ... فَجَاءَت بِهِ رجلا مُحْكما
هَلْ كَانَ لُقْمَان مجوسيًا
قَالَ القَاضِي: قد حُكيَ أَن فائلاً ذكر أَن لُقْمَان بن عَاد كَانَ مجوسيًا، وإنَّما توهم هَذَا(1/743)
لاستيلاده أُخْته، وَلَيْسَ الْأَمر على مَا توهّمه، وَلَكِن السَّبَب فِيهِ مَا ذكرنَا. وَقد ذكر الفرّاء فِي قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف فِي قَوْله تَعَالَى: " أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا " " الْكَهْف6:19 " أنَّ الَّذِينَ كَانُوا بَينهم كَانُوا مجوسًا، وَذكر أنَّ من لَمْ يكن من أهل الْكتاب يُقال لَهُ مَجُوسِيّ. وَهَذَا خطأ من قَائِله لأنَّ الْمَجُوسِيَّة ملَّةً مَخْصُوصَة متميّزة عَن غَيرهَا كاليهودية والنصرانية.
وَهَذَا آخر مَا يسَّر اللَّه تَعَالَى إملاءه من كتاب الجليس الصَّالح الْكَافِي
والأنيس النّاصح الشَّافي، وللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحَمد والمنَّة وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قوَّة باللَّه العليّ الْعَظِيم.
تمّ(1/744)