بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
مُقَدّمَة
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب
الْحَمد لله الَّذِي دلّ على مَعْرفَته بإتقان صَنعته، وبديع لطائف حكمته، وَبِمَا أودعهُ نفوس المميزين من أَعْلَام ربوبيته، وَاسْتحق على كل مُكَلّف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، وَالشُّكْر والإشادة بِمَا أَسْبغ من نعْمَته، وَنشر من رَحمته، وَجعل قُلُوب أوليائه تسرح فِي ميادين محَاسِن مَا ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عَلَيْهِم من استنباط الْمعرفَة بِمَا اخترعه، فأغناهم بالتنعم بِمَا بسط لَهُم من الْمُبَاحَات، عَمَّا زجرهم عَنهُ من الْمَحْظُورَات، فَصَارَ مَا تُدْرِكهُ الْعُقُول من لطيف مَا أنشأه، وشريف الْغَرَض فِيمَا ابتدأه، وغريب أَفعاله فِي تَدْبِير عباده، وتصريفهم، وَتَقْدِير منافعهم ومصالحهم، أقواتاً لَهَا تربى على أقوات أجسادها الَّتِي هِيَ أوعية تشْتَمل عَلَيْهَا، وَأشْهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وليّ النعم كلهَا دون من سواهُ، وَأَنه لَا فلاح إِلَّا لمن هداه، وَلَا صَلَاح إِلَّا لمن عصمه من إتباع هَوَاهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده الَّذِي ارْتَضَاهُ، وَنبيه الَّذِي اخْتَارَهُ واجتباه، وَرَسُوله الَّذِي ائتمنه واصطفاه، وَرَفعه وَأَعلاهُ، وَخَصه بِخَتْم النُّبُوَّة وحباه، وأبانه بِأَعْلَى منَازِل الْفضل على كل آدَمِيّ عداهُ، ونسأله أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ وعَلى آله وَيسلم أزكى تسلم وَصَلَاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إِلَى ظله وذراه، والداعين إِلَى نوره وهداه، ويعصمنا من الْخُرُوج عَن طَاعَته، والولوج فِي مَعْصِيَته، ويوفقنا لإيثار عِبَادَته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وَهُوَ لي الإنعام بذلك، والتيسير لَهُ، والمعونة عَلَيْهِ من رَحمته.
أما بعد، فإنني مُنْذُ مُدَّة مَضَت، وسنةَ خلت، فَكرت فِي أَشْيَاء من عجائب خلق الله وَحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وَقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شَتَّى من حوادث الزَّمَان، وَمَا قد فَشَا فِي النَّاس من التظالم التحاسد، والتقاطع والتباعد، وَأَن مَا هُوَ أولى بهم من الْأنس للمجانسة، قد فارقوه إِلَى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الِاسْتِئْنَاس بالوحدة وَالْخلْوَة، ثمَّ تطلعت إِلَى جليس طَمَعا فِي أنس وسلوة، فأعوزني ذُو لب عَاقل، وَاتفقَ لي كل غبي جَاهِل، فلاح لي أَن أنشئ كتابا أضمنه أنواعاً من الْجد الَّذِي يُسْتَفَاد ويعتمد عَلَيْهِ، وَمن الْهزْل فِي أَثْنَائِهِ مَا يسر استماعه ويستراح إِلَيْهِ، فَإِن اخْتِلَاف الْأَنْوَاع يسهل النّظر فِيهَا، وينشط الْوُقُوف عَلَيْهَا، ويوفر الِاسْتِمْتَاع بهَا، وَأَن أضمنه علوماً غزيرة وآداباً كَثِيرَة، وأجعله مجَالِس موزعة على الْأَيَّام والليالي، وَلم اشْترط فِيهَا مبلغا من الْعدَد محصوراً وَلَا قدرا من الْمجَالِس مَحْظُورًا، ثمَّ إِن طوارق الزَّمَان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حَالَتْ بَين وَبَين مَا آثَرته، وَنَفْسِي على هَذِه مُتَعَلقَة بِهِ، ومؤثرة لَهُ ومنازعة إِلَيْهِ، إِلَى حَيْثُ انتهينا، ثمَّ إِنَّنِي حملت نَفسِي فِي(1/5)
هَذَا الْوَقْت على الشُّرُوع فِيهِ، الِاشْتِغَال بِهِ، وَسَهل الْأَمر عَليّ فِيهِ أَن بعض أَصْحَابنَا يَكْتُبهُ عني إملاء فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت.
وَقد صنف فِي نَحْو هَذَا الْكتاب جمَاعَة من أهل الْعلم وَالْأَدب كتبا على أنحاء مُخْتَلفَة، فَمنهمْ من جعل جملَة كِتَابه جَامِعَة لكتب مكتتبة، وَمِنْهُم من جعله أبواباً مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مُمَيزَة، وَمَعَان خَاصَّة غير ممتزجة، وسمى بعض هَؤُلَاءِ مَا أَلفه الْجَوَاهِر وَبَعْضهمْ زَاد الْمُسَافِر وَبَعْضهمْ الزهرة وَبَعْضهمْ أنس الْوحدَة، فِي أشباه لهَذِهِ السمات عدَّة، وَعمل أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْوِيّ كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْكَامِل، وَضَمنَهُ أَخْبَارًا وقصصاً لَا إِسْنَاد لكثير مِنْهَا، وأودعه من اشتقاق اللُّغَة وَشَرحهَا وَبَيَان أسرارها وفقهها مَا يَأْتِي مثله بِهِ لسعة علمه وَقُوَّة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، وَمن جلي النَّحْو وَالْإِعْرَاب وغامضها مَا يقل وجود من يسد فِيهِ مسده، إِلَّا أَن كِتَابه هَذَا مقصر عَمَّا وسمه بِهِ، وَاخْتَارَهُ من تَرْجَمته، وَغير لَائِق بِهِ مَا آثره من تَسْمِيَته، فحطه بِهَذَا عَن منزلَة - لَوْلَا مَا صنعه - كَانَت حَاصِلَة لَهُ، فسبحان الله مَا أبين انْتِفَاء هَذَا الْكتاب عَن نسبه، وَأَشد منافاته للقبه! وَأَنْشَأَ الصولي كتابا سَمَّاهَا الْأَنْوَاع مبوباً أبواباً شَتَّى غير مستوفاة، وأتى فِيهِ بأَشْيَاء مستحسنة على مَا ضم إِلَيْهِ من أُمُور مستهجنة، وصنف أَيْضا كتابا كَأبي قماش سَمَّاهُ النَّوَادِر، وهجاه بعض الشُّعَرَاء بِمَا كرهت حكايته، وَإِن كَانَ حِين وقف عَلَيْهِ فِيمَا بَلغنِي اسْتغْرب ضحكاً، غير أَن الْجَمِيل أجمل، والتسلم من أَعْرَاض النَّاس أمثل، وصنف قوما كتبا فِي هَذَا الْبَاب تشْتَمل على فقر من الْآدَاب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مُقَيّدَة، بفصول متميزة وَلَا أَبْوَاب متحيزة.
وَقد سميت كتابي الجليس الصَّالح الْكَافِي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيرا من فنون الْعُلُوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيرا من محَاسِن الْكَلَام وجواهره، وملحه ونوادره، وَذكرت فِيهِ أصولاً من الْعلم أتبعتها شرح مَا يتشعب مِنْهَا، ويتصل بهَا بِحَسب مَا يحضر فِي الْحَال، مِمَّا يُؤمن مَعَه الملال، وَمن وقف على مَا أتيت بِهِ من هَذَا، علم أَن كتَابنَا أَحَق بِأَن يُوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام وَالِاسْتِقْصَاء، وَصدق وسمه بالجليس والأنيس، فَإِن الْكتاب إِذا حوى مَا وصفناه من الْحِكْمَة وأنواع الْفَائِدَة، كَانَ لمقتنيه والناظر فِيهِ بِمَنْزِلَة جليس كَامِل وأنيس فَاضل، وَصَاحب أَمِين عَاقل، وَقد قيل فِي الْكتاب مَا مَعْنَاهُ أَنه حَاضر نَفعه، مَأْمُون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إِلَيْك، ويمل بملالك فينفض عَنْك، إِن أدنيته دنا، وَإِن أنأيته نأى، لَا يبغيك شرا، وَلَا يفشي عَلَيْك سرا، وَلَا ينم عَلَيْك، وَلَا يسْعَى بنميمة إِلَيْك، وَلذَلِك قَالَ بَعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو بِهِ إِن خانك الْأَصْحَاب
لَا مفشياً عِنْد القطيعة سره ... وتنال مِنْهُ حِكْمَة وصواب(1/6)
وَقَالَ آخر:
لنا جلساء مَا نمل حَدِيثهمْ ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهمْ طرف حِكْمَة ... وَلَا نتقي مِنْهُم لِسَانا وَلَا يدا
فِي أَبْيَات.
وَذكر عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه سُئِلَ: أما تستوحش من مقامك مُنْفَردا بهيت؟ فَقَالَ: كَيفَ يستوحش من يُجَالس النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم، وَقد كَانَ بعض من كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا صيت ومكانة، عَاتَبَنِي على ملازمتي الْمنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي مَا عودته من الْإِلْمَام بِهِ وغشيان حَضرته، وَقَالَ لي: أما تستوحش الْوحدَة وَنَحْو هَذَا من الْمقَالة، فَقلت لَهُ: أَنا فِي منزلي إِذا خلوت من جليس يقْصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، فِي أحسن أنس وأجمله، وَأَعلاهُ وأنبله، لأنني أنظر فِي آثَار الْمَلَائِكَة والأنبياء، وَالْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء، وخواص الْأَعْلَام الْحُكَمَاء، وَإِلَى غَيرهم من الْخُلَفَاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، وَالْكتاب والبلغاء، والرجاز وَالشعرَاء، وكأنني مجَالِس لَهُم، ومستأنس بهم، وَغير ناء عَن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فِيمَا انْتهى إِلَيّ من حكمهم وآرائهم.
وَقد تجشمت إملاء هَذَا الْكتاب على مَا خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فِيهِ من عشر التسعين، مَعَ ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة مَا أَزَال مرتمضاً بِهِ، وممتعضاً مِنْهُ لفساد الزَّمَان وانتكاسه، وَعَجِيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، وَوَضعه الْأَعْلَام الرفعاء، وَرَفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل مَحل الأفاضل، وَأعْطى السَّفِيه الأخرق حَظّ النبيه الْعَاقِل، وَصرف نصيب الْعَالم إِلَى الْجَاهِل، وصير النَّاقِص مَكَان الوافر الْكَامِل، وَالرَّاجِح الْفَاضِل، وَقدم على الْعلم المبرز الغفل الخامل، وَلَقَد قلت فِي بعض مَا دفعت إِلَيْهِ، وامتحنت بِهِ، حِين منعت النّصْف، وحملت على الْخَسْف، حَتَّى انقدت للعنف، وأصبحت عِنْد الْغَلَبَة والعسف:
علام أعوم فِي الشّبَه ... وأمري غير مشتبه
أرى الْأَيَّام مُعْتَبرا ... على مَا بِي من الوله
بلحظ غير ذِي سنة ... وحظ غير منتبه
أروح وأغتدي غبناً ... أَكثر من أقل بِهِ
وَقلت فِي نَحْو هَذَا الْمَعْنى:
أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشَّرَاب من السراب
أُرِيد من الزَّمَان النذل بذلاَ ... وأرياً من جنى سلع وصاب
أرجي أَن أُلَاقِي لاشتياقي ... سراة النَّاس فِي زمن الْكلاب
فِي كثير من نَحْو هَذَا من النثر والقريض، وذم الزَّمَان السوء بِالصَّرِيحِ والتعريض،(1/7)
وَأَرْجُو أَن يُغير الله مَا أَصْبَحْنَا مِنْهُ ممتعضين، وأمسينا مَعَه مرتمضين، ويشفي صُدُور قوم مُؤمنين، وَيذْهب غيظ قُلُوب الأماثل من الْعلمَاء المبرزين، فقد بلغ مِنْهُم مَا يرَوْنَ من تَقْدِيم الأراذل الضلال، والأداني الْجُهَّال، حَتَّى صدرُوا فِي مجَالِس علم الدَّين، وَقدمُوا فِي محافل وُلَاة أُمُور الْمُسلمين، وصيروا قُضَاة وحكاماً ورؤساء وأعلاماً، دون ذَوي الأقدار، وأولي الشّرف والأخطار، وَكثير مِمَّن يشار إِلَيْهِم مِنْهُم لَا يفهم من كتاب الله آيَة، وَإِن تعَاطِي تلاوتها لحن فِيهَا، وأتى بِخِلَاف مَا أنزل الله مِنْهَا، وَلَا كتبُوا سنة من سنَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَلَا دورها، وَإِن تكلفوا ذكرهَا أحالوها، وآتو بهَا على غير وَجههَا، وَلَا عرفُوا شَيْئا من أَبْوَاب الْعَرَبيَّة وتصريفها، وَلَا لَهُم حَظّ من الفلسفة وأجزائها، وَمَعَ هَذِه فقد اتّفق لبَعْضهِم من فريق قد شدا من الْعلم طرفا، ونال مِنْهُ حظاً، عدد يعظمونه ويغلون فِي تَعْظِيمه وتقديمه على أنفسهم، وَإِن كَانَ أَسْوَأ حَالا وأخفض عقلا مِنْهُم، كَمَا عبد الْأَصْنَام من هُوَ أَعلَى منزلَة مِنْهَا بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَة، وَالْعلم والمعرفة، والبطش وَالْقُوَّة، وَالتَّصَرُّف وَالْحِيلَة، وأقدم هَؤُلَاءِ الأغمار على الشَّهَادَة بالزور لمن وَصفنَا جَهله وسقوطه، بإضافتهم إِلَيْهِ من الْعلم بِمَا هُوَ أَجْهَل النَّاس بِهِ، وأبعدهم من مَعْرفَته لميلهم إِلَى بعض ضلالاته، وأنسهم بِكَثِير من خساراته، وَإِن كَانَت بِخِلَاف مَا يعذرُونَ فِيهَا من مُوَافَقَته، فقد صَارُوا سخرياً مسخوراً مِنْهُم، وسخريا مسخرين لتقليد من وَصفنَا صفته، وَاسْتمرّ هَذَا الْفَرِيق الْمَغْرُور على إتباع حزب الشَّيْطَان الَّذين اغتروا بهم، وبذلوا المناصرة لَهُم وممالأتهم ومضافرتهم وإعزازهم، ومظاهرتهم وتأييدهم ومؤازرتهم، واستفزهم مَا يزخرفونه لَهُم من كَلَامهم، وَإِن كَانَ مسترذلاً، ومخطأً ملحناً، عِنْد من أَعْلَاهُ الله من أفاضل الْعلمَاء عَلَيْهِم، وأبانهم بِالْعلمِ والتفقه فِي الدَّين مِنْهُم، إِذْ أَكثر مَا يأْتونَ بِهِ من الهجر الَّذِي يُسَمِّيه قوم الهاذور، وبمنزلة من قَالَ فِيهِ بعض الشُّعَرَاء:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذُو لب نثر
واستنزلهم من عبارتهم مَا هُوَ من نوع هجر باعة القميحة السفوفيين، وتنميق هَذِه أَصْحَاب الْفَاكِهَة والرياحين، وهذيان أهل الْحِكَايَة والمخيلين، فَلَمَّا وَصفنَا جنحنا إِلَى الصَّبْر، واستصحبنا، الخمول رَجَاء إنعام الله بالإعانة والنصر، وَذكرت - فِي وقتي هَذَا عِنْد إثباتي مَا أثْبته من حَال ذَوي النَّقْص الَّذِي يَتَقَلَّبُونَ فِي دولة، وَإِن كَانُوا من باطلهم فِي بولة، على أَنَّهَا سَحَابَة صيف عَن قَلِيل تقشع - خَبرا حَدثنَا بِهِ مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مهْدي الأبلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن السايح، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن شُعَيْب بن سَابُور، قَالَ: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ ينشد هَذِه الأبيات:(1/8)
إِذا كَانَ الخطاء أقل ضراً ... وأنجحَ بالأمور من الصوابِ
وَكَانَ النِّوك مَحْموداً مذالاً ... وَكَانَ الدَّهْر يرجع بانقلابِ
وعطِّلت المكارمُ والمعالي ... وأُغلقَ دون ذَلِك كلُّ بابِ
ويوعد كل ذِي حَسَب ودينٍ ... وقُرِّب كل مهتوك الحجابِ
فَمَا أحدٌ أضنَّ بِمَا لَدَيْهِ ... من المتحرج المحْضِ اللُّباب
وَأنْشد شَيخنَا أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ رَحمَه الله هَذِه الأبيات، وَفِيمَا أنْشدهُ بَيت آخر وَهُوَ:
وولّى بَعضهم خَرْجاً وحربا ... وولِّي بَعضهم فصلَ الخطابِ
وَحذف من الْجُمْلَة بَيْتا.
وَأَنا مِنْهُ هَذِه الرسَالَة إِلَى هَذَا الْموضع، ومبتدئ بِمَا قصدت إيداعه هَذِه الْكتاب وتضمينه إِيَّاه.(1/9)
الْمَجْلِسُ الأَوَّلُ
حَدِيثُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثَلاثِ ليل خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده من الناي.
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله عَلَيْهِ السّلام: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَة " أَمر لأمته بتبليغ مَا أَتَاهُم بِهِ من وَحي رَبهم، وَيسر الْأَمر عَلَيْهِمْ فِيمَا يبلغونه، ويلقونه، إِلَى مَا بعدهمْ ويؤدونه، ليتصل نقل الْقُرْآن عَنْهُ إِلَى آخر أمته، وَيلْزم حجَّته جَمِيع من انْتهى إِلَيْهِ مِمَّن يَأْتِي بعده، فقد أَتَاهُ الْوَحْي بِمَا أَتَاهُ من قَوْله، " أُوحِي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذرنكم بِهِ وَمن بلغ " ونظيرُ مَا أَمر بِهِ من التَّبْلِيغ قَوْله فِي خبر آخر: " نَضّر اللَّه امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها ثُمَّ أدّاها كَمَا سَمعهَا، فربَّ حامِل فقه غَيْر فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ " وَقَوله: وَلَو آيَة، فَإِنَّهُ أَتَى عَلَى وَجه التقليل ليسارع كلّ امْرِئ فِي تَبْلِيغ مَا وَقع من الْآي إِلَيْهِ، فيتصل بتبليغ الْجَمِيع أَوْ بعضه نَقله، ويتكامل باجتماعه واستكمال أَدَاؤُهُ.
الْآيَة وَمَا فِيهَا من اللُّغَة والنحو
فَأَما الْآيَة فَفِيهَا من طَرِيق علم اللُّغَة ثَلَاثَة أوجه، وَمن جِهَة صناعَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب ثَلَاثَة أضْرب، فأحدُ الْوُجُوه فِيهَا من قِبَلِ اللُّغَة أَنَّهَا العَلامة الفاصلة، وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهَا لأعجوبة الْحَاصِلَة، وَالْوَجْه الثَّالِث أَنَّهَا الْمثلَة الفاصلة، وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة إِذَا رُدَّت إِلَى أُصُولهَا مُتَقَارِبَة رَاجِعَة فِي الْمَعْنى إِلَى طَريقَة وَاحِدَة، وَجُمْلَة آحادها متناسبة، فَإِذا قيل: اجْعَل لكذا وَكَذَا آيَة، فَالْمَعْنى عَلامَة فاصلة تدل عَلَى الشَّيء بحضورها، وتفقد دلالتها بغيبتها، أَلا ترى إِلَى قَول اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ: " قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قَالَ آتِيك أَلا تكلم النَّاس " إِلَى آخر الْقِصَّة فَإِنَّمَا سَأَلَ السَّائِل ربه أَن يَجْعَل لَهُ عَلامَة لمّا وعده وبشره بِهِ، فِي مَا جانس هَذِه ممّا تضمنه كتاب اللَّه عزَّ ذكرهُ، قَالَ الشَّاعِر:
أَلا بلغ لَدَيْكَ بَنِي تَميمٍ ... بآيةِ مَا يُحِبُّون الطعاما
وَقَالَ آخر:
ألِكنْي إِلَيْهَا عَمْرُك اللَّه يَا فَتى ... بآيةِ مَا جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا
وَمثل هَذَا فِي الشّعْر وَسَائِر الْكَلَام كثير.
ولمّا كَانَ ذكر الْآيَة يَعْنِي الأعجوبة فَمِنْهُ مَا ذكره اللَّه عزَّ ذكره فِي مَوَاضِع من كِتَابه(1/10)
عِنْدَ ذكره مَا أحله من النقمَة بأعدائه: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ " بِمَعْنى الْعجب ممّا حلّ بهم عِنْدَمَا كَانَ من تكذيبهم رُسُلَ رَبهم.
وأمّا الْعبارَة بِالْآيَةِ عَنِ الْعُقُوبَات المنكَّلة فكثيرةُ فِي كَلَام الْخَاصَّة من أَهْلَ اللِّسَان الْعَرَبِيّ كَقَوْلِهِم: قَدْ جُعل فلَان آيَة، إِذا جلّ بِهِ فظيع من الْمَكْرُوه أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ لمن نزل بِهِ شَيْءٍ من هَذَا بِهِ، أَوْ حصل عَلَى صفة مذمومة يُعيَّر بهَا وَيُسَبُّ ويُوصم بهَا: فلانٌ آيةٌ منزلَة، فَأَما الْعِقْد الْجَامِع لهَذِهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة الَّذِي يردُّها إِلَى جملَة وَاحِدَة، فَهُوَ أنَّ العَلامَة إنّما قيل لَهَا لدلالتها وفضلها وإبانتها، وَوَقع الْفَصْل فِي الْقُرْآن بهَا حَتَّى تميزت بَعْض أَلْفَاظه من غَيرهَا، فَصَارَت كلّ قِطْعَة من ذَلِكَ جملَة عل حَالهَا.
وأمّا معنى الأعجوبة فَإِنَّمَا يَقع فِي التعجُّبُ من المستغرب الَّذِي يقل وُقُوعه، فينفصل من الْكثير الْوُجُود الَّذِي يخْتَلط فِيهَا بعضه بِبَعْض، وَلَا يكون فِيهِ من الِاخْتِصَاص مَا فِي الْمَوْجُود الَّذِي قدمنَا ذكره.
وأمّا النكال الحالّ بِمن حل بِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ آيَة، من حَيْث مَسَارُ أمره أعْجوبة يُعتبر ويتعظ بهَا، وَكَانَ معنى خَاصّا قُوبل بِهِ أمرٌ خاصٌّ بِمَا أَتَاهُ من وَقعت المجازاة بِهِ، فَكل وَاحِد من هَذِهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة مجانس لصَاحبه فِي أَنَّهُ أَمارَة وعلامة وأعجوبة لاختصاصها بِمَا فِيهِ حجَّة باهرة، وَدلَالَة قاهرة، ومثلة ونقمة لما فِيهِ من التميز وَالْعجب وفظيع التنكيل، بِأَهْل الزيغ والتبديل.
وأمّا الأضرب الثَّلَاثَة من قبل النَّحْو وتصريف الْإِعْرَاب، فَإِن النَّحْوِيين من الْكُوفِيّين والبصريين اخْتلفُوا فِي الْآيَة مَا وَزنهَا من الْفِعْل، فَقَالَ الْكسَائي: هِيَ فِي الأَصْل فاعلة وَأَصلهَا آيية، وَكَانَ يَنْبَغِي أنَّ تُدْغَم الْيَاء الأولى فِي الثَّانِيَة لاجتماعهما متحركتين فَتَصِير آيَة مثل دابَّة الَّتِي أَصْلهَا دَابِيَة، فاستثقلوا التَّشْدِيد فَقَالُوا: آيَة.
وَقَالَ نحويو الْبَصْرَة: وَزنهَا فِي الأَصْل فَعَلَة وَأَصلهَا أَيَيَة، فَصَارَت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ الْفراء: وَزنهَا من الْفِعْل فعلة وَأَصلهَا أيَّة، فاستثقلوا التَّشْدِيد فأتبعوه مَا قبله فَصَارَت الْيَاء الأولى ألفا كَمَا قَالُوا: ديوَان ودينار وَالْأَصْل فِيهَا دوان ودنار، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ فِي جمعهَا دواوين ودنانير، وَلَا يَقُولُونَ دياوين وديانير، وَيجمع الْآيَة آيَات عَلَى جمع السَّلامَة، وآيًا عَلَى أَنَّهَا من الْقَبِيل الَّذِي سبق جمعه واحدَة فَصَارَ بَيْنَ توحيده وَجمعه الْهَاء الَّتِي فِي واحده. وَقد زعم قومٌ أنَّ معنى الْآيَة: الْجَمَاعَة، وَهَذَا قَول رَابِع لِأَنَّهُ خطأ، وَالْبَيَان عَنهُ أصل اشتقاق الْآيَة بِمَا بَيْنَ الْخَلِيل وسيبويه والأخفش فِيهِ من الِاخْتِلَاف فِي تَقْدِير مَدَّته وتصريفه، واستيعاب بَابه يَأْتِي فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز، عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز إِن شَاءَ الله عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوله عَلَيْهِ السّلام: " وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حرج " فإنّ الحَرَج أصلُه فِي كَلَام الْعَرَب:(1/11)
الضّيق، وَمِنْه قيل للطائفة من الشّجر الملتفّ المتضايق: حَرْجة، وَكَانَ مقَاتل بْن سُلَيْمَان يتَأَوَّل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من ذَكَرَ الْحَرج أَنه الشَّك، وَهَذِه يرجع إِلَى مَا وصفناه من معنى الضّيق، لِأَن الشاكَّ يضيق صَدره، وَيُخَالف الْعَالم بالشَّيْء الْمُثْلج صدرُه بِمَا عَلمِه فِي رَاحَة الْيَقِين، واتساع الصَّدْر وانفساحه وتعرَّيه من ازدحام الظنون وَاعْتِرَاض الشكوك الَّتِي تضيِّقه، وَقد زعم بَعْض أَهْلَ الِاشْتِقَاق أنَّ الَّذِي يَتَّخِذهُ الرَّكْبُ من العيدان والخَشَب لرحالهم يُقَالُ لَهَا حُرْجُوج، لتضايقه واشتباكه وَيجمع حِراج، كَمَا قَالَ ذُو الرمة:
فَسِيرَا فقد طَال الوقوفُ ومَلّه ... قلائصُ أمثالِ الحَرَاجِيج ضمر
وَمِنْه قَلِيل للشَّيْء الْمَحْظُور المضّيق بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَنْع: حَرَج وَقَرَأَ بَعْض الْمُتَقَدِّمين: " هَذِهِ أنعام وحرث حرج " مَكَان الْقِرَاءَة الْجُمْهُور حِجْر وحَجْر وَهِي كلهَا لُغَات مَعْرُوفَة فِي الْحجر بِمَعْنى الْحَرَام لُغَتَانِ الضَّم وَالْكَسْر، وَقد قرئَ بهما جَمِيعًا، وَقَوله: حرث حجر أَي حرَام، وَقَوله: " وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا " قَالَ أَهْلَ التَّأْوِيل: مَعْنَاهُ حَرَامًا محرما، قَالَ الشَّاعِر:
حَنّتْ إِلَى النَّخْلَةِ القصوى فَقلت لَهَا ... حِجْرٌ حرَام أَلا تِلْكَ الدَّهَارِيس
وَقَالَ آخر:
قَالَت وفيهَا حِمْقةٌ وذُعْرُ ... عوذ بربي مِنْكُمْ وَحجر
أَي استعاذة تُحَرِّم عَلَيْكُمْ مَا أخافه من مكروهكم، وَالْحجر أَيْضا: الْعقل، والحجى، وَمِنْه قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لذِي حجر " أَي عقل يمنعهُ من السَّفه والخرق، وَمِنْه حَجَر الْحَاكِم عَلَى السَّفِيه، هُوَ من التَّضْيِيق وَالْمَنْع وَالتَّحْرِيم، والمصدر مِنْهُ مَفْتُوح، وروى أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للأعرابي الَّذِي بَال فِي المَسْجِد ثُمَّ سَمعه يَقُولُ: " اللَّهُمّ ارْحَمْنِي ومحمدًا وَلَا ترحم مَعَنَا أحدا - " لَقَدْ تحجّرت وَاسِعًا " أَي ضَيّقْتَ مَا وسّعَهُ اللَّه عزَّ ذكره وحَظَرْتَ مَا فَسّح فِيهِ.
والْحِجْر ديار ثَمُود، وحِجْر الْكَعْبَة مكسوران، وحُجْر اسْم الرَّجُل مضموم الْحَاء سَاكن الْجِيم، كَمَا قَالَ عُبَيْد بْن الأبرص:
هلا عَلَى حُجْرِ بْن أمّ ... قَطَام تبْكي لَا علينا
وهرٌّ تصيدُ قلوبَ الرِّجَال ... وأفلت مِنْهَا ابنُ عَمْرو حُجر
كَمَا قَالَ طرفَة:
أيُّها الْفِتْيَانُ فِي مَجْلِسنَا ... جرِّدوا مِنْهَا وَارِدًا وشقرْ
وَالْكَلَام شُقْر بالإسكان مثل حُمْر وصُفْر، وَحجر الْيَمَامَة مَفْتُوح قَالَ الشَّاعِر:
فلولا الرِّيحُ أسمع من بحجرٍ ... صليلُ البيضِ تقرعُ بالذِّكورِ
وحِجْر الإِنْسَان فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْح وَالْكَسْر.
وَمثل حرجٌ وحجْر، صَاعِقة وصاقعة، وجذَبْته جذبًا وجبذتهُ جبْذًا، فِي نَظَائِر لما(1/12)
وَصفنَا كَثِيرَة، وَأما حاجز فموضع مَعْرُوف، قَالَ الْأَعْشَى:
شاقك من قَتْلَة أطْلالُها ... فالشطُّ فالقفُّ إِلَى حاجِرِ
وَخص بني إِسْرَائِيل بِهَذَا لمّا مَضَت فيهم من الْأَعَاجِيب، كَمَا خص الْبَحْر بِمَا فِيهِ من الْعَجَائِب، وأرخص فِي التحدث عَنْهُم مَعَ اتقاء الْحَرج بِالْكَذِبِ فِيهِ، وَقَوله: وَلَا حَرَج، يتّجه فِيهِ تَأْوِيلَانِ، إِحْدَاهمَا: أَن يكون خَبَرًا مَحْضا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه، كَأَنَّهُ لمّا ذَكَرَ بني إِسْرَائِيل وَكَانَت فيهم أعاجيبُ وَكَانَ كثيرٌ من النّاس ينبُو سمعُه عَنْهَا، فَيكون هَذَا مقطعَة لمن عِنْدَهُ علم مِنْهَا أَن يحدث النّاس بهَا، فَرُبمَا أدّى هَذَا إِلَى دروس الْحِكْمَة، وَانْقِطَاع مواد الْفَائِدَة، وانسداد طَرِيق إِعْمَال الفكرة، وإغلاق أَبْوَاب الاتعاظ وَالْعبْرَة، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي تحدثكم بِمَا علمتموه من ذَلِكَ حرج.
والتأويل الثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى فِي هَذَا: النَّهْي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تحرَّجوا بِأَن تتحدثوا بِمَا قَدْ تبين لَكُم الْكَذِب فِيهِ محققين لَهُ أَوْ غَارِّين أحدا بِهِ، فَهَذَا اللفظُ عَلَى هَذَا الْوَجْه لفظُه لفظُ الخبَر وفائدتُه النهيُ من جِهَة الْمَعْنى، وَلَفظ النَّهْي لَا يَأْتِي إِلَّا مُتَعَلقا بفعلٍ مُستقبل، فَإِذا قيل: وَلَا تَحَرَّجُوا فَهُوَ صَرِيح اللَّفْظ بِالنَّهْي، فَإِذا قيل: وَلَا حرج جَازَ أَن يكون خَبرا مَحْضا معنى ولفظًا، وَجَاز أَن يكون لَفظه لفظ الْخَبَر فِي بنيته، وَمَعْنَاهُ النهيُ لقصد الْمُخَاطب وإرادته، دون صُورَة اللَّفْظ وصيغته، وَنصب الحَرَج فِي هَذَا الْموضع هُوَ الْوَجْه عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنى الَّذِي يُسَمِّيه البصريون النَّفْي ويسميه الْكُوفِيُّونَ التبرئة، وَهُوَ عَلَى قَول الْخَلِيل مبنيٌّ يضارع المعرب، وعَلى قَول سِيبَوَيْهٍ معربٌ يضارع الْمَبْنِيّ، وَلَو رُفع ونُوِّن لَكَانَ وَجها قَدْ عرف واستُعمل كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
من صَدّ عَنْ نِيرانها ... فَأَنا ابْن قيسٍ لَا براحْ
وَقَوْلهمْ: لَا حول وَلَا قُوة إِلَّا بِاللَّه، للْعَرَب فِيهِ خَمْسَة مَذَاهِب: لَا حول وَلَا قوةَ إِلَّا بِاللَّه، وَلَا حولَ وَلَا قُوةً، وَلَا حولَ وَلَا قوةٌ، وَلَا حولٌ وَلَا قوةٌ، وَلَا حولٌ وَلَا قُوَّةُ.
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَال فِي الْحَج " هَذِه قِرَاءَة شَبيه وَنَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ فِي آخَرين، وَقُرِئَ: فَلا رفثَ وَلا فسوقَ وَلَا جدالَ، وَهِي قِرَاءَة أَبِي جَعْفَر يزِيد بْن الْقَعْقَاع المَخْزُومِي، وَقُرِئَ: فَلا رفثٌ وَلا فسوقٌ وَلا جِدَالَ " وَهِي قِرَاءَة مُجَاهِد وَابْن كثير وَأبي عَمْرو وَعدد غَيرهم، وَقد قَرَأَ بَعضهم وَلَا جِدَال مثل دَرَاكِ ومَنَاعِ، رويتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن أبي إِسْحَاق، وَاخْتلف فِي علل إِعْرَاب هَذِه الْقرَاءَات، وَفِي عِلّة فرق فِي الْإِعْرَاب بَين بعضهما وَبَعض اخْتِلَاف يطول شَرحه، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، وَنحن مستقصو القَوْل فِيهِ عِنْدَ انتهائنا إِلَيْهِ من كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز فِي عَلَمِ الْقُرْآن المعجز وَفِي كتَابنَا فِي الْقرَاءَات، وَكِتَابنَا فِي عللها وتفصيل وجوهها.
وَقَوله: " من كذب عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " قَدْ أَتَت الرِّوَايَة بِهَذَا اللَّفْظ وَمَا(1/13)
يُقَارِبه من جِهَات كَثِيرَة، وَقيل: إِنَّهُ عَلَى عُمُومه، وَجَاء فِي بَعْض هَذِهِ الْأَخْبَار: من كذب عليّ مُتَعَمدا ليضلّ بِهِ النّاس، وروى أَنَّهُ ورد عِنْدَ قصَّة خَاصَّة فِي رَجُل ادّعى عِنْدَ قَوْمٍ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أرسلهم إِلَيْهِ ليزوجوه، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ: قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَمَاقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُنِيرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِيكُمْ بِرَأْيِي فِي كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَبَعَثَ الْقَوْمُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ " ثُمَّ أَرْسَلَ رَجُلا فَقَالَ: " إِنْ أَنْتَ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاقْتُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ مَيِّتًا فَحَرِّقْهُ "، فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ لُدِغَ فَمَاتَ فَحَرَّقَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ "
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَيَّانَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " كَانَ حَيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَأَتَاهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَانِي هَذِهِ الْحُلَّةَ وَأَمرَنِي أَن أحكم نِسَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ بِمَا أَرَى، وَكَانَ قد خطب امْرَأَة مِنْهُم فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، قَالَ: فَأَرْسَلُوا رَسُولا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِنَّك أمرت هَذِه أَنْ يَحْكُمَ فِي نِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا بِمَا يَرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ " ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: اذْهَبْ فَإِنْ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَإِن وجدته قد مَاتَ فَأحرق بِالنَّارِ، وَمَا أَرَاكَ تَجِدُهُ حَيًّا، قَالَ: فجَاء فَوَجَدته قَدْ لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ أَفْعَى فَمَاتَ، فَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو حَامِدٍ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا تَأْوِيلُ هَذَا الحَدِيث: " من كذب عَلَيَّ مُتعمدًا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ "؟ قَالَ: رَجُلٌ عَشِقَ امْرَأَةً فَأَتَى أَهْلَهَا مَسَاءً، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ أَنْ أَتَضَيَّفَ فِي أَيِّ بُيُوتِكُمْ شِئْتُ، قَالَ: فَكَانَ يَنْتَظِرُ بَيْتُوتَةً إِلَى الْمَسَاءِ، قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلانًا أَتَانَا يَزْعُمُ أَنَّكَ أَخْبَرْتَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَيِّ بُيُوتِنَا شَاءَ، فَقَالَ: كَذَبَ، يَا فُلانُ انْطَلِقْ مَعَهُ فَإِنْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، وَلا أُرَاكَ إِلا قَدْ نَعَيْتَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُوهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَإِنْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَلا تُحَرِّقْهُ بالنَّار، فَإِن لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ وَلا أُرَاكَ إِلا قَدْ كُفِيتَهُ، فَجَاءَتِ السَّمَاءُ(1/14)
فَصَبَّتْ فَخَرَجَ لِيَتَوَضَّأَ فَلَسَعَتْهُ أَفْعَى، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ فَلْيَتَبَوَّأْ أَيْ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ وَيَعْلَمْ أَنَّهُ تَبَوَّأَ معقده من النَّار أَي تكون لنار مُبَوَّأً لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: " بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ " أَيْ جَعَلْنَاهَا مَنْزِلا لَهُمْ، قَالَ ابْنُ هِرْمَةَ:
وَبُوِّئْتُ فِي صَمِيمِ معشرها ... فتمَّ فِي قَومهَا مُبوَّؤُهَا
وَقَالَ بَعْضُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُخَاطِبُ الْفَرَزْدَقَ:
لَقَدْ بوَّأتك الدَّارَ بكرُ بْنُ وائلٍ ... وَقَرَّتْ لَكَ الأحشاءُ إِذْ أَنْتَ مُحْرِمُ
وَقَول اللَّه تَعَالَى: " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لنبَوِّئّنَهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا " من هَذَا الْبَاب، وَكَذَلِكَ قَرَأَ جُمْهُور أَهْلَ الْحجاز وَالشَّام وَالْبَصْرَة والكوفة، وَقَرَأَ عدد من الْكُوفِيّين مِنْهُم حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: لنثوينهم من الثواء، كَمَا قَالَ الْحَارِث بْن حلزة:
آذنَنْتَنا بِبَيْنِهَا أسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يملُّ مِنْهُ الثُّواءُ
وَفِي تصريف الْفِعْل من هَذَا لُغَتَانِ يُقَالُ: ثوى يثوي وأثوى يثوي، ويروى بَيت الْأَعْشَى عَلَى وَجْهَيْن:
أثْوَى وقَصّر ليلةٌ ليُزَوَّدَا ... فَحَنى وأخلفَ من قُتَيْلةَ موعِدا
ويروى أثوى عَلَى الْوَجْه الرباعي، ويروى أَثَوى بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام عَلَى أَنَّهُ ثلاثي، وَلَو قيل ثوى من غَيْر تَقْدِيم عَلَى أَن يكون الْجُزْء الأوّل من الْبَيْت مخروما لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابا.
ذكر بعض نَوَادِر الْأَخْبَار
مَجْنُون بني سَعْد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ إملاءً من حَدِيثه سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد بْن صَالح الْيَشْكُرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن محبّ الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: لمّا قَدِمَ سُلَيْمَان بْن عليّ الْبَصْرَة واليًا عَلَيْهَا قيل لَهُ: إنَّ بالْمِرْبد رَجلا من بني سَعْد، مَجْنُونا سريع الْجَواب لَا يتَكَلَّم إِلَّا بالشعر، فَأرْسل إِلَيْهِ سُلَيْمَان بْن عليّ قَهْرمانه، فَقَالَ لَهُ: أجب الْأَمِير، فَامْتنعَ فجرّه وَزبَره، وخرَّق ثَوْبه، وَكَانَ الْمَجْنُون يَسْتَقِي عَلَى نَاقَة لَهُ فاستاق القهرمان النَّاقة وأتى بهَا سُلَيْمَان بْن عليّ، فَلَمّا وقف بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ سُلَيْمَان، حيّاك اللَّه يَا أَخا بني سَعْد، فَقَالَ:
حيّاك ربُّ النّاس من أَمِير ... يَا فاضلَ الأَصْل عَظِيم الخيرِ
إِنِّي أَتَانِي الفاسِقُ الجلْوازُ ... والقلبُ قَدْ طَار بِهِ اهتزازُ
فَقَالَ سُلَيْمَان: إنّما بعثنَا إِلَيْكَ لنشتري نَاقَتك، فَقَالَ:
مَا قَالَ شَيْئا فِي شِرَاء الناقهْ ... وَقد أَتَى بِالْجَهْلِ والحماقةْ
فَقَالَ: مَا أَتَى؟ فَقَالَ:
خَرّق سِرْبالي وشَقّ بُرْدتي ... وَكَانَ وَجْهي فِي الملا وزيني(1/15)
فَقَالَ: أفتعزم على النَّاقة؟ فَقَالَ:
أبيعُها بَعْدَ مَا أُوكَسُ ... والبيعُ فِي بَعْض الأوان أَكيس
قَالَ: كم شراؤها عَلَيْكَ؟ فَقَالَ:
شراءها عشرٌ بِبَطن مكهْ ... من الدَّنَانِير الْقيام السُّكهْ
وَلَا أبيعُ الدهرَ أَو أزادُ ... إنّي لريحٍ فِي الورى مُعْتَاد
قَالَ: فبكم تبيعها؟ فَقَالَ:
خُذْها بعشرٍ وبخمسٍ وازنهْ ... فَإِنَّهُ نَاقَة صدق مَازنه
قَالَ: فحطّنا، فَقَالَ:
تبَارك اللَّه العليُّ العالي ... تَسْألُني الحطّ وَأَنت الْوَالِي
قَالَ: فنأخذها مِنْك وَلَا نعطيك شَيْئا، فَقَالَ:
فَأَيْنَ ربِّي ذُو الْجلَال الْأَفْضَل ... إنَّ أنتَ لَمْ تَخْشَ الْإِلَه فافعلِ
قَالَ: فكم أزنُ لَك فِيهَا؟ فَقَالَ:
وَالله مَا يُنعِشُني مَا تُعطي ... وَلَا يُدَاني الْفقر مني حطّي
خُذْهُ بِمَا أحببتَ يَا بْن عباسِ ... يَا بْن الْكِرَام من قريشِ الرّاسِ
فَأمر لَهُ سُلَيْمَان بِأَلف دِرْهَم وَعشرَة أَثوَاب، فَقَالَ:
إِن رَمَتْنِي نَحْوك الْفِجَاجُ ... أَبُو عيالٍ مُعْدَمٌ محتاجُ
طَاوي الْمِعَى ضَيّق المعيشِ ... فأنبتَ اللَّه لديك ريشي
شَرّفتني مِنْك بألفٍ فاخره ... شَرَّفَك اللَّهُ بهَا فِي الآخِرَة
وكسوةٍ طاهرةٍ حسانِ ... كساك رَبِّي حلل الجنانِ
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
فَقَالَ سُلَيْمَان: من يَقُولُ إنَّ هَذَا مَجْنُون؟ مَا كلمتُ قَطّ أَعْرَابِيًا أَعقل مِنْهُ.
قَول الأَعْرَابِي: ضيق المعيش، المعيش جمع معيشة، كَمَا قَالَ رؤبة:
أَشْكُو إِلَيْكَ شدَّة المعيش ... ومرِّ أعوامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وَيكون المعيش الْموضع والمعاش الْمصدر، مثل المَضربِ والْمِضرَب وَالْمقر وَالْمقر.
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَدْ أنهينا هَذَا الْمجْلس إِلَى هُنَا لِئَلَّا يستطال، إِذْ قَدْ تقدمته خطبةٌ ورسالة، وَالله الْمُسْتَعَان.
الْمجْلس الثَّانِي
حَدِيث جريج
حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن سُلَيْمَان أَبِي دَاوُدَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ، فِي يَوْمِ الثُّلاثَاءِ لأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بن(1/16)
يزِيد، قَالَ: أَخْبرنِي أَي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَطَرٌ، قَالَ: وَلا أَعْلَمُ سَنَدَهُ إِلا عَنِ الْحسن بن أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، وَكَانَ صَاحِبَ صَوْمَعَةٍ قَالَ: فَاشْتَاقَتْ أُمُّهُ إِلَيْهِ فَأَتَتْهُ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ صَوْمَعَتِهِ، فَنَادَتْهُ: أَيْ جُرَيْجُ! أَيْ جُرَيْجُ! وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، ف فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ فَعَرَفَ الصَّوْتَ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! صَلاتِي أَوْ أُمِّي، ثُمَّ قَالَ: رَبِّي أَعْظَمُ عَلَيَّ حَقًّا مِنْ أُمِّي، قَالَ: فَمَضَى فِي صَلاتِهِ، ثُمَّ نَادَتْهُ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ أيضاَ مِثْلَهَا، وَقَالَتِ الثَّالِثَةَ، فَفَعَلَ أَيْضا مثلهَا وَلَمْ يُشْرِفْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ كَمَا لَمْ يُرِنِي وَجْهَهُ فَابْتَلِهِ بِنَظَرِ الْمُومِسَاتِ فِي وَجْهِهِ، فَحَمَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْ فَاحِشَةٍ فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا؟ قَالَتْ: صَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُ صَوْمَعَةٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا؟ فَأَمَرَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَأَخَذُوا الْفُئُوسَ وَالْمَسَاحِيَ، حَتَّى أَتَوْهُ فَنَادَوْهُ وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، قَالَ: فَقَالُوا: ضَعُوا الْفُئُوسَ فِي الصَّوْمَعَةِ فَضَرَبُوا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَمِيلَ، قَالَ: فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ مَالِي وَلَكُمْ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ فِي الصَّوْمَعَةِ وَأَنْتَ تُحْبِلُ النِّسَاءَ؟ فَقَالَ: أَنَا؟ فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّبِيِّ وَلَمَّا يَتَكَلَّمْ فَضَرَبَ قَفَاهُ وَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: صُهَيْبٌ صَاحِبُ الضَّأْنِ، وَكَانَ صُهَيْبٌ رَجُلا يَرْعَى الْغَنَمَ يَأْوِي إِلَى الصَّوْمَعَةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ لأَفْتَنَهُ عَنْ دِينِهِ ". وَقَدْ رُوِيَ خَبَرُ جُرَيْجٍ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الصَّوْمَعَةَ هُدِّمَتْ وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نَبْنِيهَا لَكَ لَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: بَلْ رُدُّوهَا كَمَا كَانَتْ.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَوْله فِي الْخَبَر: الْمُومِسات هُوَ جمع مُومسة وَهِي الْبَغي الْفَاجِرَة، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيْفَ دعت أمه عَلَيْهِ واستجيب لَهَا فِيهِ؟ وَهُوَ لَمْ يقْصد عقوقها، وَلم يتْرك إجابتها تهاونًا بهَا، وَلَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا، وَإِنَّمَا آثر مرضاة اللَّه عَلَى أمرهَا، وإتمام صلَاته الَّتِي ابتدأها، إِمَّا مُؤديا الْفَرْض فِيهَا، وَإِمَّا مُتَطَوعا بِفِعْلِهَا، قيل لَهُ: جَائِز أَن يكون الْكَلَام فِي شريعتهم كَانَ جَائِزا فِي صلَاته كَمَا كَانَ فِي أول الإِسْلام ثمَّ نسخ مَا أُبِيح مِنْهُ بحظره، وَالنَّهْي عَنْهُ، عَلَى مَا وَردت الْأَخْبَار بِهِ، وَجَاء أنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أخبر أَنَّهُ كَانَ يسلّم بَعضهم عَلَى بَعْض فِي الصَّلاة فَيرد عَلَيْهِ، وَأَنه ذَكَرَ أَنه حِين قَدِمَ من أَرض الْحَبَشَة سلم عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلاة فَلم يرد عَلَيْهِ، وَأَنه قَالَ: فأخذني مَا قرب وَمَا بَعْدَ، وَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين فرغ من صلَاته: أعوذ بِاللَّه من غضب اللَّه وَغَضب رَسُوله، سلمت عَلَيْك فَلم ترد، فَقَالَ: إِن اللَّه يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَأَنه مِم أحدث " أَلا تَكلّموا فِي الصَّلاة " وَأَن يكون جريج رَأَى وَإِن كَانَت إجَابَته فِي أمه جَائِزَة فِي صلَاته أَوْ غَيْر قَاطِعَة لَهَا - بِأَن الْمُضِيّ عَلَى الصَّلاة أولى من إجابتها، وجائزة أَن يكون الْقَوْم قَدْ فرض عَلَيْهِمْ إِجَابَة أمهاتهم فِي الصَّلاة إِذَا(1/17)
دعونهم وَإِن كَانُوا فِي صلَاتهم، فَترك ذَلِكَ جريج لتفريط مِنْهُ وَفِي فعله أَو الْعلم بِهِ، وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَو نادني أحدُ أبويَّ وَأَنا فِي الصَّلاة فَقَالَ يَا مُحَمَّد لأجبته "، وَهَذَا مُحْتَمل أَن يكون عَلَى بَعْض الْوُجُوه الْمَخْصُوصَة أَو المنسوخة، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ لأجبته بالتسبيح ليعلم أَنِّي قَدْ سمعته أَوْ فِي هَذِهِ الْحَال بالتصفيق، وَقَالَ: التَّسْبِيح للرِّجَال والتصفيق للنِّسَاء، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لبَعض من ناداه وَهُوَ يُصَلِّي فَلم يجبهُ فَقَالَ: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: إِنِّي كنت أُصَلِّي فَقَالَ: ألم تسمع قَول اللَّه عَزَّ وَجل: " اسْتجِيبُوا لله وَلِرَسُولِهِ إِذا دعَاكُمْ " وروى أنَّ إِبْرَاهِيم النّخَعي سُئِلَ عَمَّن شَمّت رَجُلا فِي الصَّلاة، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يقل إِلَّا مَعْرُوفا، وَالْقَوْل فِي هَذَا النَّحْو مستقصى فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْفِقْه.
حُرُوف المقاربة
وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر: حَتَّى كَادَت أَن تميل.. الظَّاهِر فِي كَلَام الْعَرَب أَن يَقُولُوا كَادَت تميل من غَيْر أَن يَأْتُوا بِأَن، وَكَاد هَذِهِ من حُرُوف المقاربة، فَقَالَ: كَاد فلَان يهْلك وَكَاد يفعل كَذَا، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ " وَقَالَ: " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ "، وَقَالَ: " كَانُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا " فِي نَظَائِر لهَذَا كَثِيرَة، وَقد تَقول الْعَرَب: كَاد أَن يفعل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
كَادَت النّفْسُ أَن تفيضَ عَلَيْهِ ... إِذْ ثَوَى حَشْوَ رَيْطةٍ وبُرُودِ
وَقَالَ الراجز:
قَدْ كادَ من طُولِ الْبِلَى أَن يَمْصَحَا
فَكَأَنَّهُ أدخلها فِي بَاب عَسى كَمَا أَدخل عَسى عَلَيْهَا الْقَائِل من الشّعراء:
عَسَى الكربُ الَّذِي أمسيتُ فِيهِ ... يكونُ وَرَاءه فرجٌ قريبُ
وَقَالَ آخر:
عَسى اللَّهُ يُغْنِي عَنْ بلادِ ابْن قادرٍ ... بمنهمرٍ جَوْنِ الرَّبَابِ سكوبِ
وَقَالَ آخر:
عَسَى فرجٌ يأتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كلّ يومٍ فِي خليقته أمْرُ
وَمثل هَذَا لَعَلَّ، الْبَاب فِيهَا لعلى الْقَوْم، قَالَ الله: " لَعَلَّكُمْ تفلحون "، وَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى "، وَقد تدخلُ عَلَى بَاب عَسى لاشتراكها فِي بَاب الترجِّي والمقاربة والتوقع، وَذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
تَتَبعْ خبايا الأَرْضِ وَادْعُ مَليكَها ... لَعَلَّكَ يَوْمَا أَنْ تُجَابَ وَتُرْزَقا
وَقَالَ آخر:
ترفق أَيهَا القمرُ الْمُنِير ... لعلّك أَن تَرَى حُجْرًا يسيرُ(1/18)
وَقَالَ آخر:
لعلِّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَة ... عَلَى ابنِ أبي ذُبَّان أَن يَتَندّما
وَقد تَأتي كَاد بِمَعْنى الْإِرَادَة لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى المقاربة، كَقَوْلِك: كَاد الْحَائِط أَن يمِيل، وضربه حَتَّى كَاد أَنْ يَمُوت، أَي أَرَادَ أَن يمِيل وَأَن يَمُوت، وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَذَا الْمَعْنى:
كَادَت وَكِدْتُ وَتلك خيرُ إِرَادَة ... لَوْ عَاد من وَصْلِ الحبيبةِ مَا مضى
وَقد قيل فِي قَول اللَّه: " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أخفيها " أنَّ مَعْنَاهُ أكاد أقيمها، فَحذف. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أخفيها وَأَن الْكَلَام انْتهى إِلَى أكاد، وَأَنه وقف تَامّ، وأخفيها ابْتَدَأَ كَأَنَّهُ قَالَ: أخفيها لِتُجْزَى، لتجزي إِخْبَار بصلَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْإخْفَاء.
وَقَرَأَ بَعْض الْقُرَّاء: أكاد أخفيها بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أُظْهرها، يُقَال: خفيت الشَّيْء إِذا أظهرته وأخفيته إِذا سترته، وروى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: " لعن المختفي والمختفية " يَعْنِي النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما مَا ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، وَرويت هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيره، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول الشَّاعِر:
دَابَ شَهْرَيْن ثُمَّ شَهْرًا دَبِيكَا ... بَاركين يَخفيان غَمِيرًا
وَقَالَ آخر:
فَإِن تَكْتُمُوا الداءَ لَا نَخْفهِ ... وإنْ تبعثُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
خَفَاهُنَّ من أنفاقهن كأنّمَا ... خفَاهُنَّ ودقٌ من عشيٍّ مجلبُ
وخفيت وأخفيت جَمِيعًا يرجعان إِلَى أصل وَاحِد، خفيت أَي أزلت الْإخْفَاء وأخفيت أَي فعلت الْإخْفَاء، وَنحن نبين مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من الْقُرْآن والمعاني ووجوه التَّفْسِير وَطَرِيق الْإِعْرَاب والتأويل فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْقُرْآن إِن شَاءَ اللَّه.
وأمّا قَول جريج للصَّبِيّ: من أَبُوك؟ فقد يسْأَل السَّائِل فَيَقُول: كَيفَ من قَالَ من أَبوك والعاهر لَيْسَ بأب لمن أَتَت بِهِ البغيُّ من مَائه فِي حكم الشَّرِيعَة؟ قيل: فِي هَذَا وَجْهَان من التَّأْوِيل أَحدهمَا: أَنَّهُ جائزٌ أَن يكون فِي شَرِيعَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلْحَاق ولد العاهر بِهِ إِذَا حملت أمه بِهِ مِنْهُ.
وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون جريج قَالَ هَذِه عَلَى وَجه التَّمْثِيل أَوْ كنى بِهِ تَنْزِيها لألفاظه عَلَى جِهَة التَّشْبِيه، فقد تُضَاف الْأُبُوَّة لفظا من طَرِيق التجاوز والاستعارة إِلَى من لَيست لَهُ ولادَة وَلَا نسب بَينه وَبَين من ينْسب إِلَيْهِ وَلَا قرَابَة، فَيُقَال: فلَان أَبُو الأرامل واليتامى إِذَا كفلهم وبرّهم ووصَلَهم، وَقَامَ بتدبير أُمُورهم وكَنَفَهُم كَفعل الْآبَاء الْوَالِدين لمن ولدُوا من الْبَنِينَ.
وَقد روى فِي بَعْض قراءات من رويت عَنْهُ الْقِرَاءَة من الْمُتَقَدِّمين " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وَهُوَ أَب لَهُم وأزواجه أمهاتهم " وَعبر عَنِ الْأزْوَاج بأنهن للْمُؤْمِنين أُمَّهَات(1/19)
توكيداً لحرمتهن وَدلَالَة على تأبيد تَحْرِيم نِكَاحهنَّ عَلَى غَيْر النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِك استقصاء هَذِه الْبَاب وَمَا يُنَاسِبه ويتصل بِهِ طول.
وَقَوله: " وَلما يتَكَلَّم " هَذِهِ لَم الجازمة دخلت عَلَيْهَا مَا وَقيل: إِنَّهَا تَأتي لنفي حُضُور شَيْءٍ منتظر متوقع وَقيل: بل هِيَ عَلَى طَرِيق لَمْ وَإِن ضمت إِلَيْهَا مَا كَمَا هِيَ فِي: إنَّ تقم أقِم، وَإِمَّا تقم أقِم، وَلِهَذَا النَّحْو مَوضِع هُوَ أولى بِهِ.
وأمّا قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ لأَفْتَنَهُ عَنْ دِينِهِ " فَالَّذِي أحفظ عَنِ ابْن أبي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث هَكَذَا أَن يَفتنه، وَقَالَ لأفتنه، وَفِي تصريف الْفِعْل من الْفِتْنَة عَلَى تشعب مَعَانِيهَا وَاخْتِلَاف وجوهها لُغَتَانِ: يُقَالُ: فتنه يفتنه عَلَى وزن فعل يفعل وَهَذِه أَعلَى اللغتين وأفصحهما، وَبهَا جَاءَ كتاب اللَّه تَعَالَى فِي جَمِيع الْقُرْآن، من ذَلِكَ: " لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَان "، وَقَوله " عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وملأهم أَن يفتنهم " وَقَوله: " وَظن دَاوُود أَنما فتناه " بِمَعْنى امتحناه، وأضاف هَذِه إِلَيْهِ جلّ ذكره، وَقد قرئَ أَنما فَتَنَاه بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَوْجِيه الْفِعْل إِلَى الْملكَيْنِ، وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم " وَقَالَ: " إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ".
واللغة الثَّانِيَة فِي هَذِهِ الْكَلِمَة هِيَ أقلُّهما فِي كَلَام الْعَرَب وَهِي: أفتنه يفتنه عَلَى أفعل يفعل.
فَإِن كَانَ مَا روى لَنَا فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى اللَّفْظ الَّذِي وَصفنَا مَحْفُوظًا عِنْدَ رُوَاته وَمن أَدَّاهُ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ ممّا جمع فِيهِ بَيْنَ اللغتين.
الْجمع بَيْنَ اللغتين
وَالْجمع بَيْنَ اللغتين كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَقد جَاءَ مِنْهُ فِي كتاب اللَّه عزَّ ذكره على تجَاوز واتصال، وتراح وانفصال، فَمن الْمُتَّصِل قَوْله: " فَمَهِّلِ الْكَافرين أمهلهم "، وَمن الْمُنْفَصِل قَوْله فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْأَنْفَال: " وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " على إِظْهَار التَّضْعِيف، وَفِي سُورَة الْحَشْر " وَمن يشاق إِلَى الله " بِالْإِدْغَامِ، وَمثله " فليملل وليه " عَلَى لُغَة من يَقُولُ: أمللت الْكتاب فَأَنا أملهُ، وَقَوله: " فَهِيَ تملي عَلَيْهِ "، من أمليته أمليه، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْجمع بَيْنَ اللغتين:
لَئِنْ فتنتني لهي بالْأَمْس أفتنت ... سعيدًا فَأَضْحَى قَدْ قَلَى كلّ مُسْلِم
وَمن الْجمع بَيْنَ اللغتين قَول لبيد:
سَقَى قَوْمِي بني مَجْدٍ وَأسْقَى ... عُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلالِ
وَقَالَ آخر:
يَا بن رُفَيع هَلْ لَهَا من مَغْبَقِ ... هَل أَن سَاقيهَا سقاك المسُقّي
وَقرن بَعضهم بَيْنَ الْمَعْنيين فِي اللغتين فَقَالَ: سقيته أَي ناولته مَاء لشفته، وأسقيته إِذَا(1/20)
جعلت لَهُ شربًا دَائِما، وَيُقَال أسقيته إِذَا دَعَوْت لَهُ بالسُّقيا.
كَمَا قَالَ ذُو الرومة:
وَقَفَتْ عَلَى ريعٍ لميَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زلتُ أبْكِي عِنْدَهُ وأخاطبه
وأسقيه حَتَّى كَاد ممّا أبثُّه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
وَيُقَال: سقيته فَشرب، وأسقيته جعلت لَهُ مَاء وسقيا.
قَالَ الْخَلِيل: سقيته مثل كسوته وأسقيته مثل ألبسته، ولاستقصاء الْكَلَام فِي هَذَا وَفِي هَاتين اللغتين وَهل هما بِمَعْنى وَاحِد أَوْ بمعنيين، وَفِي مَا اخْتلف نسخ كتاب سِيبَوَيْهٍ فِيهِ من التَّفْسِير والتمييز لَهُ، وَفِي اخْتِلَاف الْقِرَاءَة بِمَا أَتَى مِنْهُ فِي مواضيع من الْقُرْآن مُتَّفق اللَّفْظ أَوْ مختلفُه فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة كَقَوْلِه: " نسقيكم مِمَّا فِي بطونها " بِالْفَتْح فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ من سَقَى يُسْقِي بِالضَّمِّ من لُغَة من قَالَ: أسْقَى يُسْقِي، وَفِي تَفْرِيق من فَرّق بَيْنَ الْقِرَاءَة فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ وَبَينهَا فِي قَوْله: " وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاماً " وَجمع من جمع فِي الْفَتْح وَالضَّم طولٌ يتَجَاوَز حدّ مَا قصدناه بكتابنا هَذَا وَبَيَانه فِي مَوَاضِع من كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن.
معنى الْفِتْنَة
وللفتنة وُجُوه مِنْهَا الصّرْف عَنِ الشَّيء وَمِنْه هَذَه الْكَلِمَة، وأفتنته مثل حزنته، وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أنَّ من قَالَ: فتنته أَرَادَ جعلت فِيهِ فتْنَة، وَمن قَالَ: أفتنته أَي جعلته فاتنًا، يُقَالُ وَفتن الرَّجُل فَهُوَ فاتن، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَزعم الْخَلِيل أنَّكَ حَيْث قلت فتنته وحزَنته لَمْ تُرِدْ أنَّ تَقول جعلتُه دَاخِلا، وَلَكِنَّك أردْت أنَّ تَقول جعلتُ فِيهِ حُزْنًا وفتنة، فَقلت فتْنَة كَمَا قلت كحلته جعلت فِيهِ كُحلا، ودهنته جعلت فِيهِ دُهْنًا، وَقَالَ الْجرمي: سَمِعت أَبَا زَيْدُ يَقُولُ: حَزَنَني الْأَمر حُزْنًا وحَزْنا وَأَنا حَزِين ومَحْزون، وَهَذَا مثل: جريح ومجروح وقتيل ومقتول، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: كلهم يَقُولُ: أحزنني الْأَمر فَإِذا صَار إليَّ يفعل فَفِيهَا لُغَتَانِ، يَقُولُ قَوْمٍ: يحزنني عَلَى غَيْر قِيَاس، وَيَقُول قَوْمٍ: يحزنني عَلَى قِيَاس، وأمّا الْقُرَّاء فَلم يزدْ فِي هَذَا عَلَى أَن ذَكَرَ فِي حزن يحزن وأحزن يحزن لغتين.
وَقد اخْتلفت الْقِرَاءَة فِي اللَّفْظ بِهَذِهِ الْكَلِمَة فِي الْقُرْآن، فَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي يقْرَأ لَا يحزنك الدَّين، وَإنَّهُ ليحزنك، وأيها الرَّسُول لَا يحزنك الدَّين، وَإِنِّي ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ، ويستمرّ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآن كُله إِلَّا فِي قَوْله: وَلَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر، فَإِنَّهُ يضم الْيَاء فِيهِ، وأمّا نَافِع فعلى عكس هَذَا الْمَذْهَب لأنَّه ضم مَا فَتحه أَبُو جَعْفَر فِي هَذَا الْبَاب وَفتح مَا ضمه، وَكَانَ ابْن مُحَيْصِن يضم ذَلِكَ كُله، وَكَانَ الْجُمْهُور من الْقُرَّاء بعده يفتحون الْجَمِيع وَفِي استقصاء هَذِه الْمَعْنى وَذكر مَا يتَّصل لَهُ لتفريق من فرق بَيْنَ بعضه وَبَين بَعْض، والاحتجاج فِيمَا اخْتلف المقرئون فِيهِ مَوَاضِع جمة من كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن، نأتي عَلَى الْبَيَان عَنْهُ إِن شَاءَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.(1/21)
من نزلت فِيهِ هَذِهِ الْآيَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بن عينة، عَن أبي سعد، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا " قَالَ: هُوَ رَجُلٌ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ ثَلاثَ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ مَا يَدْعُو بِهِ، وَكَانَ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَكَانَ سَمِجَةً دَمِيمَةً، قَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا اللَّهَ لَهَا، فَلَمَّا عَلِمَتْ أنْ لَيْسَ فِي بني إِسْرَائِيل أجمل مِنْهَا رَغِبَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَأَرَادَتْ غَيْرَهُ، فَلَمَّا رَغِبَتْ عَنْهُ دَعَا اللَّهَ أَن يَجْعَلهَا كلبة نباحة، وَذَهَبت عَنهُ دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا صَبْرٌ أَنْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يردهَا إِلَى الْحَال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلا، فَدَعَا اللَّهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَذَهَبَ فِيهَا الدَّعَوَاتُ الثَّلاثُ فَسُمِّيَتِ الْبَسُوسَ وَقِيلَ: أَشْأَمُ مِنَ الْبَسُوسِ.
قَالَ أَبُو الفَرَج: الْمَشْهُور عِنْدَ أَهْلَ السّير وَالْأَخْبَار أنَّ البسوس الَّتِي يُقَالُ من أجلهَا أشأم من البسوس، النَّاقة الَّتِي جرى فِيمَا جرى من أمرهَا حَرْب داحس والغبراء، وَالْمَعْرُوف من قَول جُمْهُور أَهْلَ التَّأْوِيل أنَّ قَوْله: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا " عَنَى بِهِ بلْعَم بْن بَاعُورَاء الَّذِي دَعَا للجبارين عَلَى مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل، وَقَالَ بَعضهم: نزلت فِي أُميَّة بْن أبي الصَّلْت، وَلكُل وَاحِد من هذَيْن الَّذِي سميناهما حَدِيث طَوِيل وَقد جَاءَ الْخَبَر الَّذِي وَصفنَا مَا حكينا وَالله أعلم.
وَفِي هَذَا الْخَبَر، قَالَ: وَكَانَت سمجة بِكَسْر الْمِيم مثل بطرة، وَحكى سِيبَوَيْهٍ عَنِ الْعَرَب: رَجُل سَمْج بتسكين الْمِيم مثل سَمْح، وَقَالَ: فَقَالُوا: سميح كقبيح، قَالَ: وَلم يَقُولُوا سمح وَإِن كَانَت الْعَامَّة قَدْ أولعت بِهِ.
وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: يعيّرنا النّاس بهَا، الفصيح من كَلَام الْعَرَب: عيرت فلَانا كَذَا، وأمّا عيرته بِكَذَا فلغة مقصِّرة عَنِ الأولى فِي الاشتهار والفصاحة، وَإِن كَانَتْ هِيَ الْجَارِيَة عَلَى أَلْسِنَة الْعَامَّة، وَمن اللُّغَة الأولى قَول النَّابِغَة:
وعَيّرتْنِي بَنو ذُبْيان رهبتهُ ... وهَلْ عليَّ بِأَن أخشاك من عَارِ
وَقَالَ المتلمس:
يُعيِّرني أميِّ رجالٌ وَلَا أرى ... أخَا كرمٍ إِلا بِأَن يَتَكرَّمَا
وَقَالَ المقنّع الْكِنْديّ فِي اللُّغَة الْأُخْرَى:
يعرني بِالدّينِ قومِي وَإِنَّمَا ... تدانيت فِي أشياءَ تكسبهمْ مَجدا
أَقْوَال حكيمة عَنْ بَعْض الْعلمَاء والأعراب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه، قَالَ: سَمِعت(1/22)
أَعْرَابِيًا يَقُولُ: فَوْتُ الْحَاجة خيرٌ من طلبَهَا من غَيْر أَهلهَا، قَالَ الْأَصْمَعِي: وَسمعت آخر يَقُولُ: حمْلُ الْمِنَن أثقلُ من الصَّبْر عَلَى العَدَم.
قَالَ: وَسمعت آخر يَقُولُ: النزاهة أشرف من سرُور الْفَائِدَة، قَالَ: وَبَلغنِي أنَّ ابْن عَبَّاس يَقُولُ: كَمَا يتُوخى بالوديعة أَهْلَ الثِّقَة وَالْأَمَانَة فَكَذَلِك يَنْبَغِي أَن يتوخى بِالْمَعْرُوفِ أَهْلَ الْوَفَاء وَالشُّكْر.
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا يضاهيه وَمَا يُخَالِفهُ أَخْبَار وَكَلَام لَعَلَّنَا نأتي بِهِ فِيمَا يسْتَقْبل من كتَابنَا هَذِه إِن شَاءَ اللَّه.
وأنشدنا ابْن دُرَيْد، قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم
رَأَيْتُ الدهرَ بالأحرارِ يَكْبُو ... وَيرفعُ رَايَةَ القَوْمِ اللِّئامِ
كأنَّ الدهرَ موتورٌ حقودٌ ... فيطلبُ وِتْرَه عِنْدَ الْكِرَامِ
قَالَ: وأنشدنا أَبُو حَاتِم أَيْضا:
أَظنُّ الدَّهْر أَقْسَمَ ثُمَّ برَّا ... بِأَن لَا يكْسِبَ الأمْوَالَ حرَّا
لَقَدْ قَعَد الزَّمانُ بكلِّ حرٍّ ... وَنَقّض من قواه مَا استمرا
الْمجْلس الثَّالِث
هَذَا فِي سَبِيل اللَّه
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ إِمْلاءً فِي يَوْمِ الأَحَدِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ الرَّبِيعِ الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، فَقَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا يَمِينًا وَشِمَالا ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ثُمَّ قَرَأَ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عَن سَبيله ".
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَهذا القَوْل من النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتمثيل من أبين الْأَقْوَال البليغة وأفصحها، وأرصن الْأَمْثَال البليغة المضروبة الصَّحِيحَة وأوضحها، وَذَلِكَ أَنه خطّ خَطًّا جعله مثل الصِّرَاط فِي استقامته إِذْ لَا زيغ فِيه وَلَا ميل، ثُمَّ خطّ خُطُوطًا يمنة وشأمة آخذة فِي غَيْر سَمْته وجهته، تفرَّق بِمن سلكها واتبعها عَنِ السَّبِيل الَّتِي هِيَ سَبِيل الْهدى، والنجاة من مُرْديات الْهوى، وَبِهَذَا جَاءَ وحيُ الله وتنزيله فِي كِتَابه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه، قَالَ: جَلَّ ذكره: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ " فدلّ هَذَا عَلَى مثل مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة الَّتِي تَلَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء " وَقَالَ: " فتقطعوا(1/23)
أَمرهم بَينهم زمراً كُلُّ حِزْبٍ، بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " فِي كثير ممّا يضاهي هَذَا الْمَعْنى، والسبيل الطَّرِيق. وَقَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَر حِين خطّ الْخط " هَذَا سَبِيل اللَّه " يحْتَمل أَن يكون إِشَارَة إِلَى الْخط فَذَكَرَ، إِذْ الخطُّ مُذَكّر، وَجَائِز أَن تكون الإِشارة فِيهِ إِلَى السَّبِيل فَذكره إِذْ الْعَرَب تذكِّر السَّبِيل وتؤنثه، وَقد جَاءَ التَّنْزِيل باللغتين، على أَن مِنْهُ من يذكر الطَّرِيق وَمِنْهُم من يؤنثه وَكَذَلِكَ الصِّرَاط، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّذْكِير: " وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يتخذوه سَبِيلا " وَذكر أَنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيِّ بْن كَعْب لَا يتخذها ويتخذها بالتأنيث وَقَالَ فِي التَّأْنِيث: " وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ "، وَقَالَ: " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة " والتذكير والتأنيث كثيرٌ مَوْجُود فِي الْكتاب وَالسّنة كَقَوْل النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَوْلَا أَنَّهُ سَبيلٌ آتٍ وَحَتْمٌ مَقْضِيّ " وَفِي أشعار الْعَرَب وَسَائِر كَلَامهَا، والتأنيث أَكثر، وَأنْشد أَبُو عُبَيْدة:
فَلا تَجْزَعْ فكلُّ فَتَى أناسٍ ... سَيُصْبِحُ سَالِكًا تِلْكَ السّبِيلا
وأمّا قَول الله " ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين " فقد أَتَت القراءةُ فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ مَعًا، أَعنِي التَّذْكِير والتأنيث، فَكَانَ من قَرَأَ بالتأنيث الحسنُ وَمُجاهد وَعبد اللَّه بْن كثير وَعبد اللَّه بْن عَامر وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَأَبُو الْمُنْذر سَلام بْن الْمُنْذر، وَيَعْقُوب الحَضْرمي وَقَرَأَ ذَلِكَ بالتذكير الأَعْمَشُ وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَر الْمَدَنِيّ وَعبد الرَّحْمَن بْن هُرْمز الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع " وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرمين " أَي لتتبينها يَا أَيهَا النَّبِي وتستوضحها، وَالتَّاء فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة للمخاطبة وَلَا دلَالَة فِيهَا عَلَى تذكير وَلَا تَأْنِيث، والسبيل مَنْصُوبَة بِالْفِعْلِ، وَقد اخْتلفت الْقِرَاءَة أَيْضا فِي كسر " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا " وَفتحهَا وتخفيفها وتشديدها وَفتح الْيَاء من صِرَاطِي وإسكانها، فَقَرَأَ بِكُل وَجه من هَذِهِ الْوُجُوه أئمةٌ من قراء الْأَئِمَّة، فَمن قَرَأَ وَأَن هَذَا بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد فِي أنَّ وصراطي بِإِسْكَان الْيَاء أَبُو جَعْفَر وَابْن هُرْمُز الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع وَعَاصِم وَأَبُو عَمْرو، وَمِمَّنْ قَرَأَ بِكَسْر إِن وتشديدها وتسكين يَاء صِرَاطِي عَبْد اللَّه الأَعْمَشُ، وَطَلْحَة بْن مصرف وَالْكسَائِيّ عَلَى الِابْتِدَاء، وَمِمَّنْ قَرَأَ بِفَتْح الْهمزَة وتخفيفها وَفتح يَاء صِرَاطِي عَبْد اللَّه بْن أبي إِسْحَاق الحضرميّ وَعبد اللَّه بْن عَامر وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذر سَلام: وأنّ بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد وصراطيَ بِفَتْح الْيَاء، وَقَرَأَ وَأَن بِالْفَتْح والإسكان لياء الصراطي يَعْقُوب الحضْرميّ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج وبهذه الْقِرَاءَة أَقرَأ، وهين وَسَائِر مَا قدمنَا ذكره من الْقرَاءَات فِي هَذِهِ الْآيَة صَوَاب عندنَا صَحِيح مَعْنَاهُ لدينا، وَقد تقْرَأ بِهِ وتراه مُسْتَقِيمًا حَسَنًا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه، وَترى مختاري الْقِرَاءَة بِهِ مصيبين، ولسبيل الْحق متبعين، وَبِاللَّهِ ذِي الطول وَالْقُوَّة والحول نستعين.
عزل الحَجَّاج بْن يُوسُف عَنِ الْحَرَمَيْنِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بْن يحيى،(1/24)
قَالَ: حَدثنِي عمرَان بن عد الْعَزِيز بْن عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف الزُّهْرِيّ قَالَ: لمّا وَلِي الحَجَّاج بن يُوسُف الْحَرَمَيْنِ، بعد قتل عبد الله بن الزبير استحضر إِبْرَاهِيم بن طَلْحَة بن عبيد الله وقربه فِي الْمنزلَة فَلم يزل على حَاله عِنْده، حَتَّى خرج إِلَى عبد الْملك زَائِرًا لَهُ فَخرج مَعَه فعادله لَا يتركُ فِي بره وإجلاله وتعظيمه شَيْئا، فَلَمّا حضر بَاب عَبْد الْملك حضر بِهِ مَعَه، فَدخل عَلَى عَبْد الْملك فَلم يبْدَأ بِشَيْء بَعْدَ السّلام إِلَّا أنَّ قَالَ: قدمت عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِرَجُل الْحجاز، لَمْ أدع لَهُ وَالله فِيهَا نظيرًا فِي كَمَال الْمُرُوءَة وَالْأَدب والديانة، وَمن السّتْر وَحسن الْمَذْهَب وَالطَّاعَة والنصيحة، مَعَ الْقَرَابَة وَوُجُوب الْحق: إِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَقد أحضرتُه بابك لتسهّل عَلَيْهِ إذنك وتلقاه ببشرك وَتفعل مَا تفعل بِمِثْلِهِ مِمَّن كَانَتْ مذاهبه مثل مذاهبه، فَقَالَ عَبْد الْملك: ذَكّرَتْنا حَقًّا وَاجِبا ورحما قَرِيبا، يَا غُلَام ائْذَنْ لإِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قرّبه حَتَّى أجلسه عَلَى فرشه، ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا ابْن طَلْحَة! إنَّ أَبَا مُحَمَّد أذْكرنا مَا لَمْ نَزَلْ نعرفك بِهِ من الْفضل وَالْأَدب وَحسن الْمَذْهَب، مَعَ قرَابَة الرَّحِم وَوُجُوب الْحق، فَلا تَدَعَنَّ حَاجَة فِي خاصِّ أَمرك وَلَا عامّته إِلَّا ذكرتها، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إنَّ أولى الْأُمُور أنَّ تفتتح بهَا حوائج وترجى بهَا الزُّلف مَا كَانَ لله عَزَّ وَجَلَّ رضَا، ولحقّ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَدَاء، وَلَك فِيهِ ولجماعة الْمُسلمين نصيحة، وَإِن عِنْدِي نصيحة لَا أجد بدًّا من ذكرهَا وَلَا يكون البوح بهَا إِلَّا وَأَنا خَال، فأخْلنِي تَردُ عَلَيْكَ نصيحتي، قَالَ: دون أبي مُحَمَّد؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُم يَا حجّاج، فَلَمّا جَاوز السّتْر قَالَ: قل يَا بن طَلْحَة نصيحتك، قَالَ: الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: اللَّه، قَالَ: إِنَّك عَمَدت إِلَى الحَجَّاج مَعَ تغطرسه وتعترسه، وتعجرفه وَبعده عَنِ الْحق وركونه إِلَى الْبَاطِل، فوليته الْحَرَمَيْنِ، وَفِيهِمَا من فيهمَا، وَبِهِمَا من بهما من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، والموالي المنتسبة الأخيار، أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبْنَاء الصَّحَابَة، يسومهم الْخَسْف، ويقودهم بالعسف، وَيحكم فيهم بِغَيْر السّنة، ويطؤهم بطغام أَهْلَ الشَّام، ورعاع لَا روية لَهُمْ فِي إِقَامَة حق، وَلَا إزاحة بَاطِل، ثُمَّ ظننتَ أنَّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنك وَبَين اللَّه يُنجيك، وَفِيمَا بَيْنك وَبَين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخلصك إِذَا جاثاك للخصومة فِي أمته، أما وَالله لَا تنجو إِلَّا بِحجَّة تقيمن لَك النجَاة، فابق عَلَى نَفسك أَوْ دع، فقد قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلّكُمْ راعٍ وَكُلكم مَسْئولٌ عَنْ رَعيته " فَاسْتَوَى عَبْد الْملك جَالِسا وَكَانَ مُتكئا، فَقَالَ: كذبت - لعَمْرو اللَّه - ومنْتَ وَلُؤُمت فِيمَا جئتَ بِهِ، قَدْ ظنَّ بك الحَجَّاج مَا لَمْ يجد فِيك، وَرُبمَا ظُنَّ الْخَيْر بِغَيْر أَهله، قُم فَأَنت الْكَاذِب المائن الْحَاسِد، قَالَ: فَقُمْت وَالله مَا أبْصر طَرِيقا، فَلَمّا خلّفت السّتْر لَحِقَنِي لاحقٌ من قبله، فَقَالَ للحاجب: احْبِسْ هَذَا، أَدخل أَبَا مُحَمَّد للحجاج، فَلَبثت مَلِيًّا لَا أَشك أَنَّهُمَا فِي أَمْرِي، ثُمَّ خرج الْآذِن فَقَالَ: قُم يَا ابْن طَلْحَة فَادْخُلْ، فَلَمّا كُشِفَ لِيَ السِّتر لَقِيَنِي الحَجَّاج وَأَنا دَاخل وَهُوَ خَارج فاعتنقني وَقبل مَا بَيْنَ عَيْني، ثُمَّ قَالَ: إِذَا جزى(1/25)
الله المتحابين بِفضل تواصلهم فجازاك الله أفضل مَا جزى بِهِ أَخا، فوَاللَّه لَئِن سلمتُ لَك لأرفعنَّ ناظرك، ولأعْلِيَنّ كعبك، ولأتبعَنّ الرِّجَال غُبار قدمك، قَالَ: فَقلت: يَهْزأ بِي، فَلَمّا وصلتُ إِلَى عَبْد الْملك أدناني حَتَّى أجلسني مجلسي الأوّل، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْن طَلْحَة لَعَلَّ أحد من النّاس شاركك فِي نصيحتك؛ قَالَ: قلت: لَا وَالله، وَلَا أعلم أحدا كَانَ أظهر عِنْدِي مَعْرُوفا وَلَا أوضح يدا من الحَجَّاج، وَلَو كنت محابيًا أحدا بديني لَكَانَ هُوَ، وَلَكِن آثرت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالْمُسْلِمين، فَقَالَ: قَدْ علمت أنَّكَ آثرت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَلَو أردْت الدُّنْيَا لَكَانَ لَك بالحجاج أمل، وَقد أزلتُ الحَجَّاج عَنِ الْحَرَمَيْنِ لمّا كرهتُ من ولَايَته عَلَيْهِمَا، وأعلمته أنَّكَ استنزلتني لَهُ عَنْهُمَا استصغارًا لَهما، ووليته العراقين لما هُنَا من الْأُمُور الَّتِي لَا يَرْحَضُها إِلَّا مثله، وأعلمته أنَّكَ استدعيتني إِلَى التَّوْلِيَة لَهُ عَلَيْهِمَا استزادة لَهُ ليلزمه من ذِمَامك مَا يُؤدي بِهِ عني إِلَيْكَ أجر نصيحتك، فَاخْرُج مَعَه فَإنَّك غَيْر ذامٍّ صحبته مَعَ تقريظه إياك ويدك عِنْدَهُ، قَالَ: فخرجتُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَة.
قَالَ أَبُو بَكْر بْن أبي الْأَزْهَر: يَرْحَضُها يَعْنِي يغسلهَا، قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: الرحض: الْغسْل، وَمِنْه سميت الأخلية المراحيض، وَجَاء فِي خبر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ذكرت فِيهِ الْخُرُوج إِلَى الْأَقْضِيَة للْحَاجة وَذَلِكَ قَبْلَ أَن يتَّخذ النّاس المراحيض، وَمن ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ وَقد سُئِلَ عَنِ الطَّبْخ فِي قدور الْمُشْركين " أرْحِضُوها بِالْمَاءِ: وَمن ذَلِكَ الرُّحَضَاء فِي الْحمى وَذَلِكَ حِين يعرق صَاحبهَا، كَمَا قيل فِيهَا الثُّؤَبَاء من التثاؤب، والْمُطَواء من التمطي، والْعُرُواء إِذَا أعرت، من قَوْلهم عر يعرو، وَقيل لَهَا رُحَضَاء إِمَّا لِأَن العَرَق مؤذِنٌ بانصرافها فَكَأَنَّهُ أماطها وغسلها، وَإِمَّا لِأَن المحموم إِذا عرق شبه بالمغتسل بِالْمَاءِ، وَقَول عَبْد الْملك لإِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة فِي هَذَا الْخَبَر: أعلمتَ الحَجَّاج فِي موضِعين، كَلَام غير خَارج على طَرِيق الصِّحَّة وَالتَّحْقِيق، وَذَلِكَ لِأَن الْإِعْلَام هُوَ إِلْقَاء الشَّيء الصَّحِيح الَّذِي يَقع بِمِثْلِهِ الْعِلْم للملقَى إِلَيْهِ، فَأَما مَا لَا حَقِيقَة لَهُ فَلا يُقَالُ أعلمت أحدا بِهِ، وَلَو كَانَ أخبرتُه مَكَان أعلمته لَكَانَ الْكَلَام مُسْتَقِيمًا، لِأَن الْمعلم لَا يكون إِلَّا محقًا، والْمُخْبر قَدْ يكون محقًّا ومبطلا، أَلا ترى أنَّ رَجُلا لَوْ قَالَ لعبيده: من أعلمني مِنْكُمْ بقدوم زَيْدُ فَهُوَ حُرّ، فَقَالَ لَهُ قَائِل مِنْهُم: قَدْ قَدِمَ زَيْدُ وَهُوَ كَاذِب، لَمْ يعْتق، وَلَو كَانَ قَالَ: من أَخْبرنِي مَكَان من أعلمني لعتق هَذَا الْمخبر، وَكَذَلِكَ لَوْ أخبرهُ مخبر بِهَذَا مِنْهُم بَعْدَ أَن يقوم الْعلم لَهُ لَمْ يعْتق، لِاسْتِحَالَة إِعْلَام من قَدْ عَلَمُ، وَلَو أخبرهُ لعتق لصِحَّة إِخْبَار الْمخبر بِمَا كَانَ قد أخبر بِهِ.
عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يتَمَثَّل بِشعر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، عَنْ يُونُس، قَالَ: جَاءَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إِلَى بَاب عُمَر بْن الخَطَّاب فَسَمعهُ وَهُوَ يتَمَثَّل فِي بَيته:
وَكَيف مُقَامِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ... قضى وطراً مِنْهَا جَمِيلُ بْن مَعْمَرِ(1/26)
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: ويروي كَيْفَ ثُوائي بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا يرفأ! من بِالْبَابِ؟ قَالَ: عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف، قَالَ: ادْخِله، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: أسمعت؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إنّا إِذَا خلونا فِي مَنَازلنَا قُلْنَا مَا يَقُولُ النّاس. قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: هَذَا جميل بن مُعَمَّر الْجُمَحي من مَسْلَمَة الْفَتْح، قُتل عَلَى عهد عُمَر، وَلَيْسَ بجميلِ بْن عَبْد اللَّه بْن مُعَمَّر الْعُذري الشَّاعِر.
كَلِمَات مأثورة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا حريز بن أَحْمد بن داؤد، قَالَ سَمِعت الْعَبَّاس بْن الْمَأْمُون قَالَ: سَمِعت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون يَقُولُ: قَالَ لي عليّ بْن مُوسَى الرِّضَا: ثلاثةٌ توكّل بهَا ثَلَاثَة، تحاملُ الْأَيَّام عَلَى ذَوي الأدوات الْكَامِلَة، واستيلاء الحرمان على الْمُقدم فِي صَنعته، ومعادة الْعَوَامِّ لأهل الْمعرفَة.
من زَهْد رجال الحَدِيث
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن قَاسم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مَسْروق الْكِنْدي الْكُوفِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن الْمُنْذر الْكِنْديّ - قَالَ: وَكَانَ جارًا لعبد اللَّه بْن إِدْرِيس قَالَ: حج الرشيد وَمَعَهُ الْأمين والمأمون فَدخل الْكُوفَة فَقَالَ لأبي يُوسُف: قل للمحدثين يَأْتُونَا يحدثونا، فَلم يتَخَلَّف عَنْهُ من شُيُوخ الْكُوفَة إِلَّا اثْنَان عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس وَعِيسَى بْن يُونُس، فَركب الْأمين والمأمون على عبد الله بن إِدْرِيس فحدثهما بِمِائَة حَدِيث، فَقَالَ الْمَأْمُون لعبد اللَّه: يَا عَمِّ! أتأذنُ لي أَن أعيدها عَلَيْك وَمن حِفْظِي؟ قَالَ: افْعَل، فَأَعَادَهَا كَمَا سَمعهَا فَكَانَ ابنُ إِدْرِيس من أهل الْحِفْظ يَقُول: لَولَا أنّني أخْشَى أَن ينفلتَ مني الْقُرْآن مَا رويتُ الْعلم، يعجب عَبْد اللَّه من حفظ الْمَأْمُون، وَقَالَ الْمَأْمُون: يَا عَمِّ! إِلَى جنب مسجدك دارٌ إِن أَذِنت لَنَا اشتريناها ووسعنا بهَا المَسْجِد، فَقَالَ: مَا بِي إِلَى هَذَا حَاجَة قَدْ أَجْزَأَ من كَانَ قبلي وَهُوَ يُجْزِئُنِي، فَنظر إِلَى قرح فِي ذِرَاع الشَّيْخ فَقَالَ: إِن مَعَنَا متطبين وأدوية، أتأذن لي أَن يجيئك من يعالجك؟ قَالَ: لَا، قَدْ ظهر بِي مثل هَذَا وبَرَأ، فَأمر لَهُ بِمَال وجائزة فَأبى أَن يقبلهَا وَصَارَ إِلَى عِيسَى بْن يُونُس فحدثهما، فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَأبى أَن يقبلهَا فَظن أَنه استقلها، فَأمر لَهُ بِعشْرين ألفا، فَقَالَ عِيسَى: لَا وَلَا إهليلجة وَلَا شربة مَاء عَلَى حَدِيث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَو مَلَأت لي هَذَا المَسْجِد ذَهَبًا إِلَى السّقف، فانصرفا من عِنْدِهِ.
من الشّعْر الْحَكِيم
حَدَّثَنَا القَاسِم بْن دَاوُد بْن سُلَيْمَان أَبُو ذرّ القراطيسي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن:
إِذَا لَمْ تتسامحْ بالأمور تعقدتْ ... عَلَيْكَ فسامحْ وامزج الْعُسْر بالْيُسْرِ
فَلم أرَ أوقى للبلاءِ من التُّقَى ... وَلم أر للمكروه أشفى من الصَّبْرِ(1/27)
الْمجْلس الرَّابِع
إِن من الشّعْر حكما
حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَق بْنِ بُهْلُولٍ إِمْلاءً فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ "
مَذْهَب للمؤلف فِي الصَّغِير
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: هَذَا الْبَيْت الَّذِي حَكَاهُ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَائِله من الشُّعَرَاء هُوَ للبيد بْن ربيعَة، افْتتح بِهِ كلمة فَقَالَ فِي أَولهَا:
أَلا كُلُّ شيءٍ مَا خَلا اللَّهُ بَاطلُ ... وكلُّ نُعَيْم لَا محالةَ زائلُ
وَبعده:
وكلُّ أناسٍ سَوف تدخلُ بَينهم ... دويْهيةٌ تصفرُّ مِنْهَا الأنامل
وَقد روى أنَّ عُثْمَان رضوَان اللَّه عَلَيْهِ، لمّا سمع قَوْله: وكل نُعَيْم لَا محَالة زائل، قَالَ كذب، نُعَيْم أَهْلَ الْجنَّة لَا يَزُول، وَهَذَا القَوْل من عُثْمَان يدل عَلَى أنَّ مَذْهَب الْقَوْم فِي الْعُمُوم هُوَ جارٍ فِي لغتهم عَلَى الشُّمُول عِنْدَ تجرده واستغراق الْجِنْس بِإِطْلَاق لَفظه.
وأمّا قَول لبيد فِي الْبَيْت الآخر: دُويهية عَلَى التصغير، فَمن النّاس من يَقُولُ هُوَ تصغيرٌ مَعْنَاهُ التَّكْبِير، وجعلهُ مثبتو الأضداد فِي اللُّغَة من الأضداد، وَقَالَ بَعضهم: بل هُوَ عَلَى تصغيره، وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّغِير مِنْهُ يبلغ هَذِه الْمبلغ، ويؤثر هَذِه الْأَثر فكبيره أعظم وأبلغ، وَلِي فِي هَذَا مَذْهَب استخرجته بنظري، وَمَا علمت أحدا سبقني إِلَيْهِ وَلَا تقدَّمني فِيهِ، وَلَكِن اللَّه الَّذِي يُؤْتي الْحِكْمَة من يَشَاء نبهني عَلَيْهِ، وَهُوَ أنَّ الِاسْم المصغر فِي ذَاته وَقلة أَجْزَائِهِ فالْحُجَيرة الصَّغِيرَة الَّتِي لَيْسَ حجرَة كَبِيرَة، وأمّا الْمُتَعَلّق بِشَيْء يسير فكقولك: أَتَيْتُك قُبيل الْعَصْر أَوْ بُعيد الْفجْر، فَتبين أنَّ الْمُتَقَدّم من الزَّمَان فِي قَوْلك قبيل يسير قَلِيل، والمتأخر مِنْهُ فِي قَوْلك بعيد قصير لَيْسَ بطويل، وَنَحْو هَذَا قديديمة وريئة فِي قُدَّام ووراء يجْرِي الْأَمر فِيهِ من جِهَة الْأَمْكِنَة مجْرَاه فِيمَا قدمْنَاهُ من بَاب الْأَزْمِنَة كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
قديديمةُ التّجريبِ والحْلمِ أنّني ... أرى غفلاتِ العيشِ قَبلَ التّجارِبِ
فَظن من قَالَ إنَّ التصغير فِي هَذَا الْبَاب تَكْبِير لمّا رَأَى أنَّ الْقَصْد من قَائِله الْإِشْعَار بِأَمْر عَظِيم وخَطْب كَبِير جسيم، وَلَو تَأمل هَذَا الظانُّ الأمرَ فِي هَذَا لبان لَهُ أنَّ الصّغير عَلَى صغره، فَإِنَّهُ نتج كَبِيرا وَأدّى إِلَيْهِ عَظِيما فِي نَفعه أَوْ ضَرَره، وكل وَاحِد من الْأَمريْنِ عَلَى حَقِيقَته فِي نَفسه، وخصوصيته فِي جنسه، فالدُّوَيْهِية هُنَا صَغِيرَة جَرَّت أمرا كَبِيرا، كَمَا قَالَ:
ربَّ كبيرٍ هَاجهُ صغيرٌ ... وَفِي البُحُور تغرقُ النُّحورُ(1/28)
وَقَول الْقَائِل من الْمُحدثين:
لَا تحقرنَّ سُبَيْبًا ... كم جَرَّ أمرا سُبَيْبُ
وَكَانَ بَعْض من يتعاطى الْأَدَب، ويدأب فِي طلب الْمعَانِي واستنباط لطيفها سمع مني معنى مَا ذكرته فِي هَذَا الْفَصْل، بَعْدَ أنَّ طعن على من قدمت لَهُ الْحِكَايَة عَنْهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ: كَيْفَ يكون الصّغير كَبِيرا؟ وَإِذا جَازَ هَذِه جَازَ مِنْهُ أَن يَصح قَول من قَالَ: الدَّاء هُوَ الدَّوَاء السقم هُوَ الشِّفَاء، وَهَذَا ممّا عبرت عَنْ مَعْنَاهُ بلفظي دون لفظ الْمُتَكَلّم بِهِ، لأنني لَمْ أصمد لحفظه، وَلِأَنَّهُ كَانَ غَيْر بليغ فِي نَفسه وَلَا مُسْتَقِيم فِي ترتيبه، فجليت مَعْنَاهُ بِلَفْظ لَمْ آل فِي إيضاحه وتهذيبه.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن الَّذِي اجتبيتُه فِي هَذَا غَيْر مُخَالف لِلْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي قَدَّمْتَ حكايته عَنْ قَائِله، فَكَانَ من جوابي لهَذَا الْقَائِل أَن قلت لَهُ: إِن الْفرق بَيْنَ قولي وَقَول من رغبت عَنْ قَوْله وتسبقني إِلَى مُوَافَقَته، أنَّ هَذَا الَّذِي حكيت قَوْله، يزْعم أنَّ الصّغير الْمَذْكُور إِذَا جر إِلَى ضَرَر فكبيره أبلغ فِي الضَّرَر مِنْهُ، وَأَنا ذهبت إِلَى أنَّ هَذَا التصغير يُؤثر تَأْثِيرا كَبِيرا من حَيْث كَانَ جنسه يُؤثر نفعا أَوْ ضُرًّا بكيفيته دون كميته، وَضربت لهَذَا الْمُخَاطب مثلا قربت هَذا الْفَصْل عينه حِين بَعْدَ عَنهُ إِدْرَاكه، إِذَ كَانَ الْفرق بَيْنَ هذَيْن الْقَوْلَيْنِ لطيفًا جدا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا من بَعْض الْوُجُوه تناسب وَشبه تقَارب. فَقلت لَهُ: لمّا كَانَ من الْأَشْيَاء مَا يكون عِنْدَ قَلِيل أَجْزَائِهِ مَنْفَعَة جسيمة أَوْ مضرَّة عَظِيمَة، كالدرياق والسم بولغ فِي الْعبارَة عَنِ الْمَنَافِع بهَا لاشتهار هَذَا الْمَعْنى، كَقَوْل الْحُبَابِ بْن الْمُنْذر: " أَنَا جُذَيْلُها الْمُحَكّك وعُذَيْقها الْمُرَجّب "، وَفِي الْإِخْبَار عَنِ الْجِنْس الضار قَول لبيد: دويهية تصفر مِنْهَا الأنامل، وَجُمْلَة الْفَصْل بَيْنَ قولي وَقَول من خالفته وتوهمت أَنِّي وافقته أَنَّهُ عني بالكمية وعنيت بالكيفية، وَقد يكون من الْأَشْيَاء مَا يُؤثر قَلِيله، وينتفي تَأْثِيره عَنْ كبيره، كالجروراء من الْحَيَّات والصرد والقرقس والبعوض من الْجِنْس الْوَاحِد، وكنوع من الْحَيَّات ذَوَات الْأَجْسَام اللطيفة وعظيم ضررها، وقُصور الْحَيَّة الْكَبِيرَة الْمُسَمَّاة الحَفّاث فِي ذَلِكَ عَنْهَا وَإِن كَانَتْ أعظم خلقا وأشنع منْظرًا، وَقد قَالَ أَهْلَ الْعلم بصناعة الطِّبّ: إِن السقمونيا ينْتَفع بتناول مِقْدَار فِيهِ يسيرٌ ذَكرُوهُ، ويقاربه فِي النَّفْع والضر مَا قاربه من الْأَجْزَاء فِي الْمبلغ وَالْقدر، وَأَنه إِذَا بلغ من الْكَثْرَة مِقْدَارًا متفاوتًا لَمْ يَضْرُر كَبِير ضَرَر، وَلم يظْهر فِي أَخذه مَا يظْهر بتناول قَلِيله من الْأَثر فِي نفع وَلَا ضَرَر، وَلَقَد حَدَّثَنِي بَعْض متفقهي الْقُضَاة أنَّ قوما دسوا كثيرا من السقمونيا فِي بَعْض المطاعم الحلوة لرجل كَانُوا يعاشرونه، وَكَانَ مَعْرُوفا بِكَثْرَة الْأكل، وَأَنه أكل جَمِيعه وَانْصَرف عَنْهُمْ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم، وَأَشْفَقُوا على هَذِه الرجل، وَعَلمُوا عَلَى الفحص عَنْ أمره واستعلام خَبره، فَجَاءَهُمْ يتأوه وَيَقُول لَهُمْ: أَي شَيْءٍ أطعمتموني فقد عرض لي قَوْلُنَج بَرّح بِي. وأمّا قَول هَذَا الْمُخَاطب لي:(1/29)
كَيْفَ يكون الدَّاء دَوَاء والسقم شِفَاء؟ فَإِن هَذَا قَدْ يُوجد معنى وَيسْتَعْمل لفظا، وَقد ظهر لعامة النّاس وخاصتهم أنَّ الدَّاء الْمُسَمّى خمار الْعَارِض عَن الشَّرَاب الْمُسكر يشفى مِنْهُ شرب شَيْءٍ ممّا تولد الْخمار عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وصَرْعَةِ مخمورٍ رفعت بقرقفٍ ... وَقد صرعتَني قَبْلَ ذَلِكَ قرقفُ
فَقَامَ يداوي صرعتي متعطفًا ... وَكنت عَلَيْهِ قبلهَا أتعطف
يموتُ ويحيا تَارَة بَعْدَ تَارَة ... وتُتلفنا هَذِي المدام وتخلف
إِذَا مَا تسلقنا من الكأس سلوة ... تقاضى الْكرَى مِنْهَا الَّذِي نتسلف
وَقَالَ آخر:
تداويتُ من لَيْلَى بليلي من الْهوى ... كَمَا يَتَدَاوى شاربُ الخمرِ بالخَمْرِ
وَقَالَ أَبُو نواس:
دع عَنْكَ لومي فَإِن اللومِ إغراءُ ... ودَاوِني بِالَّتِي كانتْ هِيَ الدَّاء
أَخذه من قَول الْأَعْشَى:
وكأسٍ شربتُ عَلَى لَذّةٍ ... وَأُخْرَى تداويتُ مِنْهَا بهَا
لكَي يعلمَ الناسُ أَنِّي امرؤٌ ... أتيتُ الْمَعيشَة من بَابهَا
وَقَالَ جرير:
يَرْمِين من خلَلِ السُّتور بأعينٍ ... فِيهَا السِّقام وبُرْءُ كلِّ سقيمِ
وَكنت فِي الحداثة أنشأت كلمة مسمطة عَلَى نَحْو قصيدة مدرك الشَّيْبَانيّ فِي عَمْرو النَّصْرَانِي فَكَانَ ممّا ذكرتُه فِي كلمتي هَذِهِ عِنْدَ صفة عين إِنْسَان نَعته ونسبتُ الْكَلِمَة بِهِ:
سُقم أَوَى أحسن عين تطرفُ ... تَقْوى بِهِ والقلوبُ تُضْعِفُ
كالسم فِي الأفعى تَقِي وتحتفُ ... تَحْيا بِهِ وبالنفوس تتْلف
ثُمَّ قلت:
دواءُ من أقصده بسُقمه ... تكراره نَحْو مَرَامي سهمهِ
كالأفعوان يُشْتفى من سُمِّهِ ... بشُرب درياقِ كربهِ لَحْمِهِ
وَقلت أَيْضا من كَلمته:
وشفائي بسقم مُقْلة ظبيٍ ... قَدَّ قلبِي مِنْهُ بِأَحْسَن قَدِّ
سُقمها لي شفاءُ دائِي إِذا ... جَادَتْ وداءٌ إِذَا تصدَّتْ لصدِّ
وَأَنا أسْتَغْفر اللَّه من مساكنة مَا يشغل عَنْ عِبَادَته، وَمِمَّا يضارع مَا وَصفنَا فِي هَذَا الْفَصْل من وَجه، قَول ابْن الرُّومِي:
عَيْني لعينك تُبْصِرُ مقتلُ ... لكنّ عينكَ سَهْمُ حتفٍ مُرْسَلُ
وَمن العجائِبِ أنَّ مَعْنىً وَاحِدًا ... هُوَ مِنْك سهمٌ وَهُوَ مِنِّي مقتل(1/30)
وَلَيْسَ بمنكر أَن يكون الشَّيء يُدْوِي شَيْئا وَيُدَاوِي غَيره، وَينْتَفع بِهِ فِي بَعْض ويستضر فِي بَعْض.
وَهَذَا أفشى وَأكْثر وَأبين وَأظْهر من أَنْ نحتاج إِلَى الإطناب فِي شَرحه وَضرب الْأَمْثَال لَهُ، وَقد حُكيَ ممّا يدْخل فِي هَذَا الْبَاب أنَّ بَعْض المترفين أسَفّ إِلَى طَريقَة المتصوفة، واستشرف لصحبتهم والاختلاط بهم وملابستهم، فَشَاور فِي هَذَا بَعْض مشيختهم فردّه عَمَّا تشوف إِلَيْهِ من هَذَا وحذّره من التَّعَرُّض لَهُ. فَأَبت نَفسه إِلَّا إِجَابَة مَا جذبته الدَّوَاعِي إِلَيْهِ وعطفته الخواطر عَلَيْهِ، فَمَال إِلَى فريق من هَذِهِ الطَّائِفَة فعلق بهم واتصل بجلتهم، ثُمَّ صحب جمَاعَة مِنْهُم مُتَوَجها إِلَى الْحَج فعِجز فِي بَعْض الطَّرِيق عَنْ مسايرتهم وَقصر عَنِ اللحاق بهم فَمَضَوْا وتخلّف عَنْهُمْ، واستند إِلَى بَعْض الأميال إِرَادَة الاسْتِرَاحَة من الإعياء من الكلال، فَمر بِهِ الشَّيْخ الَّذِي شاوره فِيما حصل فِيهِ قَبْلَ أَن يتسنّمه فَنَهَاهُ عَنْهُ، وحذره مِنْهُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْخ مُخَاطبا لَهُ يَقُولُ:
إنَّ الَّذِينَ بخيرٍ كنتَ تذكرُهُمْ ... قَضَوا عَلَيْكَ وعنهم كنتُ أنهاكا
فَقَالَ لَهُ: فَمَا أصنع الْآن؟ فَقَالَ لَهُ:
لَا تَطْلُبَنَّ حَيَاة عِنْدَ غيرهمُ ... فَلَيْسَ يُحييك إِلَّا مَنْ توفاكا
واستقصاء هَذَا الْبَاب وَمَا يضاهيه ويتشعب مِنْهُ يطول، وَلَا يَلِيق بِهَذَا الْمجْلس الزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَقد يتَّجه فِي التصغير أَن يكون أَتَى بِهِ تَنْبِيها عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي صَغِيرا ثُمَّ ينمى فَيصير كبيراًن أَوْ أَن يضامّه غَيره فَيصير قَلِيله كثيرا، كَمَا قيل:
ربّ كَبِير هاجه صغيرُ
وكما قيل:
وَلَا تَحْقِرَنَّ سُبَيْبًا ... كم جَرَّ أمرا سُبيب
وَقيل: رُبَّ محنةٍ حدثت عَنْ لَحْظَة، وَرب حَرْب جنُيت من لَفْظَة.
وَقد قَالُوا: الْقَلِيل إِلَى الْقَلِيل كثير، والذود غل الذود إبل وَقد يمْلَأ القطرُ الإنَاء فيُفْعَمُ وَالشَّر تَحْقِره وَقد يَنْمى، وَقد يُفْني الجزءُ بَعْدَ الْجُزْء الْجُملةَ، وَالشَّيْء يتبع بعضه بَعْضًا، وَقد يُؤَدِّي انْقِطَاع الحبَّة من السلك إِلَى انْقِطَاع سَائِر مَا فِيهِ، وَنزع الْحجر من سور أَوْ جِدَار يُؤَدِّي إِلَى تهافت بَاقِيه، وَقد قَالُوا: الْعَصَا من الْعُصَيَّة، وَفَسرهُ بَعضهم أنَّ الْفَرد ينْبت وينشأ لينًا صَغِيرا، ثُمَّ ينمى فيستطيل ويغلظ ويشتد ويصلب.
وَقيل: بل الْمَعْنى إِن الْعَصَا نتجت من أمهَا العصية، والعصا هِيَ الدَّابَّة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَصيرٌ عَلَى جَذِيمة بركوبها عِنْدَ ظُهُور عَلامَة ذكرهَا، إِذ كَانَتْ عَلَى حد من الْإِحْضَار والسرعة والإهذاب، والجودة تفضل بِهِ مَا هُوَ من جِنْسهَا، وَقد يكون الْكثير من الْقَلِيل، والْجُمَّارُ من الفَسيل والفَنِيق من الفصيل.(1/31)
الْمُحَارب الشجاع
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاذِ خَلَف بْن أَحْمَد الْمُؤَدب، عَن أبي إِسْحَق الزيَادي، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُل من الْعَرَب قَالَ: كَانَ بَيْننَا وَبَين قَوْمٍ حَرْب فلقونا فهزمناهم فَإِذا فَتى مِنْهُم قد صَبر فَجعل لَا يحمل عَلَى نَاحيَة من معسكرنا إِلَّا كشفها وهزمها، ثُمَّ احتويناه بأرماحنا فأشفقنا عَلَيْهِ فعرضنا عَلَيْهِ الْأمان. فَقَالَ:
أذلَّ الحياةِ وذلَّ الْمَمَات ... وكُلا أرَاهُ طَعَاما وبيلاً
فَإِن كَانَ لَا بُد من وَاحِد ... فسِيري إِلَى الْمَوْت سيرا جميلا
ثُمَّ حملنَا عَلَيْهِ فقتلناه فَإِذا هِيَ امْرَأَة.
حُسْن الظنّ بِاللَّه
حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِم بْن دَاوُد أَبُو ذَر القراطيسي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن: أنَّ وَزِير الْملك نَفَاهُ الْملك لموجده وجدهَا عَلَيْهِ فَاغْتَمَّ لذَلِك غمًا شَدِيدا فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَة فِي بَيت لَهُ إِذْ أنْشدهُ رَجُل كَانَ مَعَه:
أَحْسِنِ الظَّنَّ بربٍّ عَوَّدّكْ ... حَسَنًا بالْأَمْس وسَوّى أَوَدَكْ
إِنَّ ربّا كَانَ يَكْفِيك الَّذِي ... كَانَ بالْأَمْس سيكفيك غَدَك
تَعْلِيق على خبر
هَكَذَا فِي الْخَبَر إِذ أنْشدهُ فَبينا هُوَ، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يُنكر الْإِتْيَان باذ فِي هَذَا الْبَاب ويستخطئ الْقَائِل: بَينا أَنَا جَالس إِذْ أقبل فلَان وَيرى أَن الْكَلَام صَحِيح: بَينا أَنَا جَالس أقبل فلَان، وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ وَغَيره من أَهْلَ الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ يرَوْنَ ذَلِكَ جَائِزا، وَقد جَاءَ فِي الْكَلَام وَالْأَخْبَار كثيرا، وَإِذ من حُرُوف المفاجأة الدَّالَّة عَلَيْهَا.
الجليس الصَّالح
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المَنْصُورِيّ، عَنِ القثمي، عَنْ مبارك الطَّبَريّ، قَالَ: سَمِعت أَبَا عُبَيْد اللَّه، يَقُولُ سَمِعت الْمَنْصُور يَقُولُ للمهدي: يَا أَبَا عَبْد اللَّه لَا تجْلِس مَجْلِسا إِلَّا ومعك فِيهِ رَجُل من أَهْلَ الْعلم يحدثك، فَإِن مُحَمَّد بن مُسلم بْن شهَاب قَالَ: إِن الحَدِيث ذَكَرَ يُحِبهُ الذُّكُور من الرِّجَال ويكرهه مؤنثوهم، قَالَ الْمَنْصُور: صدق أَخُو بني زهرَة.
وَقَالَ آخر:
إِن المشيبَ وَمَا بدا فِي عَارِضِي ... صَرَفَ الغواني فانصرفتُ كَرِيمًا
وسخوتُ إِلَّا عَنْ جليسٍ صالحِ ... حسنِ الحديثِ يزيدُني تَعْلِيما
قَالَ القَاضِي:
وَلَقَد سئمتُ مآربِي ... فَكَأَن طيِّبُها خبيثُ
إِلَّا الحديثُ فإنّه ... مثل اسْمه أبدا حَدِيث(1/32)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد الْخُزَاعِيّ الْأَزْهَرِي: قَالَ: دخلت إِلَى سُرّ من رَأَى فَقيل إنَّ بهَا رَجُلا يكنى أَبَا الفَضْل وَيعرف بِالْعَبَّاسِ بْن أبي العبيس بْن حمدون النديم، لَهُ أدب وَمَعَهُ ظرْف وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى مثلك يعاشره، فَاكْتُبْ إِلَيْهِ أبياتًا فَكتبت إِلَيْهِ:
أَبَا الفَضْل يَا من لَيْسَ تُحْصَى فضائلهُ ... وَمن مَاله فِي الْخلق خَلْقٌ يعادله
أتقبل خِلا جَاءَ يتبعُ شَوْقَه ... إِلَيْكَ عَلَى عَلَمُ بأنك قَابله
يرحّل عَنْكَ الْهم عِنْدَ حُلُوله ... ويُلهيك بالآداب حِين تساجله
يكسِّر طمح الْعين من لحظاته ... ويغمض مِنْهُ الجفن حِين تخاتله
ويشربُ مَا تَسْقيه غَيْر مماكس ... إِلَى أَن يُرى وَالرَّأْس تهتز مائله
فَحِينَئِذٍ تُثْنَى إِلَى الْبَاب رجلُه ... وَإِن لَمْ يكن بِالْبَابِ مَا هُوَ حامله
فَكتب إليَّ فِي جوابها من سَاعَته:
أَتَانَا مقَال أوجب الشُّكْر حامله ... وَدلّ عَلَى فضلِ الَّذِي هُوَ قَائِله
ومكّن ودَّاً قَبْلَ تمكينِ رؤيةٍ ... وَمن قبلُ مَا لاحت بِذَاكَ مخايِله
سنقبلُ مَا أهداه من صفو بره ... ونبذل مِنْهُ فَوق مَا هُوَ باذله
ونقصد أسبابَ التهاجر بَيْننَا ... فنقطعها مذمومة ونواصله
فَإِن دَامَ دُمنا لَمْ نرد بَدَلا بِهِ ... وَإِن زَالَ عَنْ عهد فلسنا نزايله
وَتَحْت هَذِهِ الأبيات: تفضل - جُعِلْتُ فدَاك - بالمصير إِلَيْنَا من ساعتك، فصرت إِلَيْهِ فَوَجَدته فَوق الْوَصْف، فَلم نزل نتعاشر طول مُقامي هُنَاكَ إِلَى أَن انحدرت.
من أَيْنَ لَك هَذِهِ الْجُبَّة؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْن الخليع، قَالَ: كُنَّا فِي حَلقَة فجاءنا أَبُو نواس وَعَلِيهِ جُبَّة خَز، فَقُلْنَا لَهُ: من أَيْنَ لَك هَذِهِ الْجُبَّة؟ فكتمنا، فترجمنا خَبَرهَا حَتَّى وَقع لَنَا أَنَّهَا من جِهَة مؤنس بْن عِمْرَانَ بْن جَمِيع، فانسللتُ من الْحلقَة وصرت إِلَى مؤنس فَوجدت عَلَيْهِ جُبَّة خَز جَدِيد، فَقلت لَهُ: كَيْفَ أَصبَحت يَا أَبَا عِمْرَانَ؟ فَقَالَ: بِخَير، صبحك اللَّه بِخَير، فَقلت:
إِن لي حَاجَة فرأيك فِيهَا ... أَنَا فِيهَا وَأَنت لي سيان
فَقَالَ: اذْكُرْهَا عَلَى بركَة اللَّه، فَقلت:
جُبَّة من جبابك الْخَزّ كَيْمَا ... لَا يراني الشتَاء حَيْث يراني
فَقَالَ: بِسم اللَّه خُذْهَا، وخلعها فلبستها وَرجعت إِلَى الْحلقَة، فَقَالَ لي أَبُو نواس من أَيْنَ لَك هَذِهِ الْجُبَّة؟ قلت: من حَيْث جبتك.
يستعيذ بِاللَّه من السّبْع
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل الخصيب، قَالَ: كَانَ(1/33)
جميل بْن مُحَمَّد بْن جميل إِذَا أَرَادَ الرّكُوب فِي كلّ غَدَاة يَقُولُ: اللَّهُمّ إِنِّي أعوذ بك من السّبْع، فَقيل لَهُ: أَنْت تركب إِلَى الكَرْخ، فَأَي سبْعٍ فِي الكرخ، فَقَالَ: لَوْ أردتُ ذَلِكَ لَقلت: السّبُع، وَلَكِنِّي أستعيذ من سبْعٍ خِصَال، فَأَقُول: اللَّهُمّ إِنِّي أعوذ بك من السّبْع وأضمرها، وَهِي اللَّهُمّ إِنِّي أعوذ بك من السَّعْي الخائب، والبربخ العائب، والحائط المائل، والميزاب السَّائِل، ومشحمات الروايا، والمطايا الَّتِي تحمل البلايا، والتهور فِي البلاليع والركايا.
قَالَ القَاضِي: قَدْ تخفف الْعَرَب السّبُع فَتَقول السّبْع كَمَا يَقُولُ عجز وَعجز وَقد قرئَ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ، بتسكين الْبَاء وَجَاءَت هَذِهِ الْقِرَاءَة فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ عَاصِم بْن أبي النجُود، وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر الْمِيزَاب هُوَ الَّذِي تخطئ فِي اللَّفْظ العامةُ فَتَقول مُزْراب، والميزاب مَأْخُوذ من قَوْلهم وزب المَاء يَزِبُ إِذَا سَالَ أَوْ جرى، وأمّا المزراب فَهُوَ السَّفِينَة.
الْمجْلس الْخَامِس
صنائع الْمَعْرُوف تقيُّ مصَارِع السوء
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِفِيُّ سَنَةَ أَربع عشرَة وثلثمائة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ التِّنِّيسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا: " صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِ "
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر من التَّنْبِيه عَلَى فضل اصطناع الْمَعْرُوف، وَصدقَة السِّرِّ الَّتِي يُراد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بهَا، ويطمئن الْمُتصدِّق بهَا إِلَى الإِيمَان باطّلاع عَلَيْهَا وإخلاصها من الرِّيَاء الْمُبْطل لثوابها مَا يبْعَث كلّ ذِي لب نَصَحَ لنَفسِهِ وَأَرَادَ السّعادة لَهَا، والنجاة من هول عَظِيم الْمَكْرُوه بهَا، عَلَى الرَّغْبَة فِيهِ والمسابقة إِلَيْهِ، فأعظم بِالنعْمَةِ عَلَى من دَفَعه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لطاعته، ووقاه شُحَّ نَفسه " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون " وَقد ورد فِي هَذَا الْمَعْنى من التَّرْغِيب فِي الْبر والحض عَلَى مَا فعل مَا عَاد بجزيل الْأجر وَجَمِيل الذّكر، مَا يطول شَرحه ويُتِعب جَمْعُه، مُسْنَدًا وَمَقْطُوعًا، وَمُرْسَلا وَمَوْصُولا، وَنحن نأتي بِطرف مِنْهُ كَاف لمن تشوف إِلَيْهِ، وشاف لمن أَرَادَ لنَفسِهِ الصّلاح بِهِ فمما جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنى مَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِمَامُ وَكَانَ يَجْلِسُ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَده فِي كل يَوْم خَمِيسٍ فَيَعِظُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ، فَقَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ بُكْرَةً وَاسْتَعْجَلَنِي الرَّسُولُ، فَظَنَنْتُ ذَلِكَ لأَمْرٍ حَدَثَ فَرَكِبْتُ إِذْ سَمِعْتُ وَقْعَ الْحَافِرِ، فَقُلْتُ لِلْغُلامِ: انْظُرْ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أَخُوكَ عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَرَفَقْتُ فِي السَّيْرِ فَلَحِقَنِي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ فَقَالَ: أَتَاكَ رَسُولُ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَهَلْ أَتَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: فَفِيمَ ذَاكَ تُرَى؟ قَالَ: تَجِدُهُ اشْتَهَى خَلا(1/34)
وَزَيْتًا سَوْدًا الْغَدَاةَ فَأَحَبَّ أَنْ نَأْكُلَ مَعَهُ، فَقُلْتُ: مَا أَرَى ذَاكَ، وَمَا أَظُنُّ هَذَا إِلا لأَمْرٍ قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ فَدَخَلْنَا فَإِذَا الرَّبِيعُ وَاقِفٌ عِنْدَ السِّتْرِ، وَإِذَا الْمَهْدِيُّ وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي الدِّهْلِيزِ جَالِسٌ، وَإِذَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَقَالَ الرَّبِيعُ: اجْلِسُوا مَعَ بَنِي عَمِّكُمْ، قَالَ: فَجَلَسْنَا ثُمَّ دَخَلَ الرَّبِيعُ وَخَرَجَ، فَقَالَ الْمهْدي: ادْخُلْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ادْخُلُوا جَمِيعًا، فَدَخَلْنَا فَسَلَّمْنَا وَأَخَذْنَا مَجَالِسَنَا، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ: هَاتِ دوياً يَكْتُبُونَ فِيهِ، فَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ كل منا داوة وورقاً، ثمَّ الْتفت إِلَى عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: يَا عَمِّ حَدِّثْ وَلَدَكَ وَإِخْوَتَكَ وَبَنِي أَخِيكَ بِحَدِيثِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ لَيُطَوِّلانِ الأَعْمَارَ وَيُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيُثْرِيَانِ الأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ فُجَّارًا " ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ الْحَدِيثَ الآخَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ لَيُخَفِّفَانِ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سوء الْحساب "
فَقَالَ الْمَنْصُورُ: يَا عَمِّ الْحَدِيثَ الآخَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلِكَانِ أَخَوَانِ عَلَى مَدِينَتَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا بَارًّا بِرَحِمِهِ عَادِلا مَعَ رَعِيَّتِهِ، وَكَانَ الآخَرُ عَاقًّا بِرَحِمِهِ جَائِرًا عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَكَانَ فِي عَصْرَيْهِمَا بنيٌ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى ذَلِك النَّبِي أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِ هَذَا الْبَارِّ ثَلاثُ سِنِينَ، وَبَقِيَ مِنْ عُمُرِ الْعَاقِّ ثَلاثُونَ سَنَةً، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ رَعِيَّةَ هَذَا وَرَعِيَّةَ ذَلِكَ فَأَحْزَنَ ذَلِكَ رَعِيَّةَ الْعَادِلِ، وَأَحْزَنَ ذَلِكَ رَعِيَّةَ الْجَائِرِ، فَقَالَ: فَفَرَّقُوا بَيْنَ الأَطْفَالِ مِنَ الأُمَّهَاتِ وَتَرَكُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُمَتِّعَهُمْ بِالْعَادِلِ وَيُزِيلَ عَنْهُم الْجَائِرِ فَأَقَامُوا ثَلاثًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْبِرْ عِبَادِي أَنِّي قَدْ رَحِمْتُهُمْ وَأَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، فَجَعَلْتُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ هَذَا الْبَارِّ لِذَلِكَ الْجَائِرِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ الْجَائِرِ لِهَذَا الْبَارِّ، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَمَاتَ الْعَاقُّ لِتَمَامِ ثَلاثِ سِنِينَ وَبَقِيَ الْعَادِلُ فِيهِمْ ثَلاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ "، ثُمَّ الْتَفَتَ الْمَنْصُورُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، حَدِّثْ إِخْوَتَكَ وَبَنِي عَمِّكَ بِحَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِرِّ، فَقَالَ جَعْفَرُ بن مُحَمَّد: حَدثنِي أبين عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَليّ ابْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مَلِكٍ يَصِلُ ذَا قَرَابَتِهِ وَيَعْدِلُ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِلا شَدَّ اللَّهُ مُلْكَهُ، وَأَجْزَلَ لَهُ ثَوَابَهُ وَأَكْرَمَ مَآبَهُ وَخَفَّفَ حِسَابَهُ ".(1/35)
حَدِيث الْحَيَّة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم بْن جَعْفَر الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن حَرْب الطَّائِي، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَر الطَّائِي قرَابَة القحاطبة من أَهْلَ جَزِيرَة مهروبان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبان بْن عَبْد الجَبَّار، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة وَهُوَ يحدثنا إِذْ الْتفت إِلَى شيخ جنبه فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! حَدَّثَنَا حَدِيث الْحَيَّة.
فَقَالَ الشَّيْخ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عتبَة، قَالَ: خَرَجَ حِمْيَريُّ بْن عَبْد اللَّه إِلَى مقصد لَهُ، فَلَمّا أقفرت بِهِ الأَرْض انسابت حَيَّةٌ بَين قَوَائِم دَابَّته فَقَامَتْ عَلَى ذَنَبها، وَقَالَت: آوني آواك الله فِي ظلّ عَرْشه، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِله، فَقَالَ لَهَا: ومم آويك؟ قَالَتْ: من عدوٍّ لي قَدْ غشيني يريدُ أَن يُقَطِّعَني إربًا إربًا، قَالَ لَهَا: وَأَيْنَ آويك؟ قَالَتْ: فِي جوفك إنَّ أردتَ الْمَعْرُوف، قَالَ لَهَا: من أَنْت؟ قَالَتْ: من أَهْلَ قَول لَا اله إِلَّا اللَّه، قَالَ لَهَا: فهاك جوفي، فصيرها فِي جَوْفه، قَالَ: فَإِذا هُوَ بفتى قَدْ أقبل وَمَعَهُ صمصامة لَهُ وَقد وَضعهَا على عَاتِقه، فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الشَّيْخ أَيْنَ الْحَيَّة الَّتِي استظلت بكنفك وأناخت بفنائك؟ قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا، قَالَ: عظُمت كلمة خرجت من فِيك، قَالَ: مَا جَاءَ مِنْك أعظم، تراني أَقُول مَا رَأَيْت شَيئًا، وَتقول لي مثل هَذَا؟ فولى الْفَتى مُدبرا فَلَمّا توارى قَالَت الْحَيَّة: يَا عَبْد اللَّه انْظُر هَلْ يرَاهُ بَصرك أَوْ يَأْخُذهُ طرفك؟ قَالَ: مَا أرى شَيئًا، قَالَتْ: اختر مني إِحْدَى منزلتين إِمَّا أنكث قَلْبك نكثة فأجعله رميمًا أَوْ أرث كبدك رثًا فَأخْرجهُ من أسفلك قطعا، قَالَ لَهَا: وَالله مَا كافأتني يَرْحَمُك اللَّه، قَالَتْ لَهُ: فَمَا اصطناعك بِالْمَعْرُوفِ إِلَى من لَا يعرف مَا هُوَ، لَولَا جهلك، وَقد عرفتَ الْعَدَاوَة الَّتِي كَانَتْ بيني وَبَين أَبِيك قَبْل، وَقد علمت أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَال أعطيكه وَلَا دَابَّة أحملك عَلَيْهَا، قَالَ: أردْت الْمَعْرُوف، قَالَ: فَالْتَفت فَإِذا بفيء جبل قَالَ: فَإِن كَانَ لَا بُد فَفِي هَذَا الْجَبَل، ثُمَّ نزل يمشي فَإِذا هُوَ فِي الْجَبَل بفتى قَاعد كَأَن وَجهه الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، فَقَالَ لَهُ الْفَتى: يَا شيخ مَالِي أَرَاك مستبسلا للْمَوْت آيسًا من الْحَيَاة؟ فَقَالَ: من عدوٍّ فِي جوفي آويته من عدوه فَلَمّا صَار فِي جوفي وقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ لَهُ الْفَتى أَتَاك الْغَوْث، ثمَّ ضرب بِيَدِهِ إِلَى رُدْنه فَأخْرج مِنْهُ شَيئًا أطْعمهُ إِيَّاه فاختلجت وجنتاه، ثُمَّ أطْعمهُ ثَانِيَة فَوَجَدته تمخضًا فِي بَطْنه، ثُمَّ أطْعمهُ الثَّالِثَة فَرمى بالحية من أَسْفَله قَطعًا، فَقَالَ لَهُ حميري: من أَنْت رَحِمك اللَّه، فَمَا أحد عَلَى أعظم مِنَّة مِنْك؟ قَالَ لَهُ: أَو مَا تعرفنِي أَنَا الْمَعْرُوف وَأَنه اضْطَرَبَتْ مَلَائِكَة سماءٍ سماءٍ من خذلان الْحَيَّة إياك فَأوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إليَّ أَن يَا مَعْرُوف أغِثْ عَبدِي، وَقل لَهُ: أردتَ شَيئًا لوجهي فآتيتك ثوابَ الصَّالِحين، وأعقبتك عُقبى الْمُحْسِنِينَ ونجيتك من عَدوك.
الْجَار إِذَا أَرَادَ شين جَاره
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد: قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَمِير أَخْبَرَنَا عمَارَة بْن(1/36)
عقيل، قَالَ: " كَانَ الرَّجُل فِيمَا مضى إِذَا أَرَادَ شَيْن جَاره أَوْ صَاحبه طلب حَاجته إِلَى غَيره "
نادرة بَيْنَ الحَجَّاج وخارجي
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عِيسَى الأَنْصَارِيّ، عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّيْميّ، قَالَ: أُتِي الحَجَّاجُ بِرَجُل مُتَّهم بِرَأْي الْخَوَارِج، فَقَالَ لَهُ الحَجَّاج: أخارجي أَنْت؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي أَنْت بَيْنَ يَدَيْهِ غَدا أذلّ مني بَيْنَ يَديك الْيَوْم مَا أَنَا بخارجي، فَقَالَ الحَجَّاج: إِنِّي يَوْمئِذٍ لذليل. وَأطْلقهُ.
مَال من يَأْخُذ؟
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري: قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن صبيح، قَالَ: ولى الحَجَّاج رَجُلا من الْأَعْرَاب بَعْض الْمِيَاه، فكُسر عَلَيْهِ بَعْض خراجه فَأحْضرهُ ثُمّ قَالَ لَهُ: يَا عَدو اللَّه! أخذتَ مالَ اللَّه، قَالَ: فمالُ من آخذ؟ أَنَا وَالله مَعَ الشَّيْطَان مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة أَن يعطيني حَبَّةً مَا أَعْطَانِي.
لَوْ كَانَت الْجنَّة بِيَدِهِ
حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ: قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُنْذر بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَليّ، قَالَ: حَدثنَا سليم ابْن جَعْفَر الهاشميّ، عَنِ الرِّضَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن: إِن لأستحيي من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنَّ أرى الْأَخ من إخْوَانِي فأسأل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِالْجنَّةِ وأبخل عَلَيْهِ بالدنيا، فَإِذا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَة قيل لي: لَو كَانَت الْجنَّة بِيَدِك لَكُنْت بهَا أبخل وأبخل وأبخل.
جَزَاء الْإِحْسَان
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا بْن دِينَار الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الضَّحَّاك، قَالَ: حَدَّثَنِي الهَيْثَم بْن عَدِيّ، عَنْ عوَانَة، قَالَ: أَتَى الحَجَّاج بِأسَارَى من أَصْحَاب قطريّ من الْخَوَارِج فَقَتلهُمْ إِلَّا وَاحِدًا، كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَد وَكَانَ قَرِيبا لقطري، فَأحْسن إِلَيْهِ وخلَّى سَبيله، فَصَارَ إِلَى قطريّ فَقَالَ لَهُ قطريّ: عاود قتال عَدو اللَّه الحَجَّاج، فَقَالَ هَيْهَات، غَلَّ يدا مُطْلِقُها واسترقَ رَقَبَة معتقُها، ثُمّ قَالَ:
أأقاتلُ الحَجَّاجَ عَنْ سُلْطانه ... بيدِ تُقرُّ بِأَنَّهَا مولاتُه
إِنِّي إِذًا لأخو الدناءة وَالَّذِي ... طمَّتْ عَلَى إحسانه جهلاته
مَاذَا أقولُ إِذَا وقفتُ إزاءَه ... فِي الصَّفّ واحتجّت لَهُ فَعَلاته
أأقول جَار عليّ لَا، إِنِّي إِذًا ... لأحقّ من جارت عَلَيْهِ وُلاتَه
وتحدث الأقوام أنَّ صنائعًا ... غرست لديّ فحنظلتْ نخلاته
هَذَا وَمَا ظَنِّي بحينٍ أنني ... فكيم لمطرقُ مشهدٍ وعلاته(1/37)
كرم أَبِي أيّوب المورياني
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن إِسْمَاعِيل بْن هَيْثَم، قَالَ: قَالَ ابْن شُبرمة: زوجت ابْني عَلَى ألفي دِرْهَم فَلم أقدر عَلَيْهَا ففكرت فِيمَن أقصده فَوَقع فِي قلبِي أَبُو أَيُّوب المورياني فَدخلت عَلَيْهِ فشرحتُ لَهُ خَبَري فَقَالَ: فلك أَلفَانِ، فَلَمَّا نهضت لأَقوم، قَالَ: فالمهر أَلفَانِ فَأَيْنَ الجهاز؟ فلك أَلفَانِ للجهاز، فَذَهَبت لأَقوم فَقَالَ: الْمهْر والجهاز فَأَيْنَ الْخَادِم؟ فلك أَلفَانِ للخادم، فَذَهَبت لأَقوم، قَالَ: فالشيخ لَا يُصِيب شَيئًا قَالَ: فلك أَلفَانِ فَلم أزل أقوم ويقعدني حَتَّى انصرفت من عِنْدَهُ بِخَمْسِينَ ألفا.
مثل يضْربهُ الأَعْمَشُ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبْد الصَّمد الهاشميّ، ويزداد بْن عَبْد اللَّه بْن يزْدَاد المَرْوَزِيّ وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس، قَالَ: سُئِلَ الأَعْمَشُ عَنْ حَدِيث فَامْتنعَ مِنْهُ، فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى استخرجوه مِنْهُ، فَلَمّا حدُّث لَهُ ضرب مثلا، فَقَالَ: جَاءَ قفّاف، إِلَى صيرفي بدارهم يزينه إِيَّاهَا، فَلَمّا ذهب يزنها وجدهَا تنقص سبعين، فَقَالَ:
عجبتُ عَجِيبَة من ذِئْب سُوء ... أصابَ فريسةً من لَيْث غابِ
فقفَّ بكفّه سبعين مِنْهَا ... تنَقّاها من السُّود الصلاب
فَإِن أخدع فقد نخدع وتُؤخذْ ... عتيقُ الطير من جوِّ السحابِ
تَعْلِيق نحوي
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: أسكن فِي هَذَا الْبَيْت فقد تخدع وَالْعرب إنّما تسكن هَذَا وَنَحْوه فِي كَلَامهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ جازم، وَمَتى لَمْ يدْخل عَلَيْهِ جازم يجزمه وَلَا ناصب ينصبه فتسكينه إِذَا وُصل بِكَلَام بعده خَارج عَنِ الفصيح الْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب، وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا مَرْفُوعا عَلَى أَصله، ولمّا لَمْ يُمكن هَذَا الشَّاعِر تحريكه لِئَلَّا ينكسر وزن الْبَيْت الَّذِي قَالَه أسْكنهُ، وَأقرب مَا يعْتَذر لَهُ بِهِ أَنه عمل عَلَى السُّكُوت عَلَيْهِ وَنِيَّته الرّفْع فِيهِ، وَقد روى مثل هَذَا الْوَجْه المستقبح فِي أَبْيَات روتها الْعلمَاء، من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
أَقُول شُيَيْهَاتٌ بِمَا قَالَ عالمٌ ... بهنّ وَمن أَشْبَهْ أَبَاهُ فَمَا ظَلَم
فَهَذَا ممّا يسْتَحق تحريكه بِالْفَتْح بِنَاء لَا إِعْرَاب، فَيُقَال: وَمن أشبهَ أَبَاهُ، وَمَا بِهَذَا الشَّاعِر ضَرُورَة إِلَى مَا أَتَاهُ لنه لَو قَالَ: وَمن يشبه أَبَاهُ فَجزم بِحرف الشَّرْط إِذ هُوَ من بَاب الْجَزَاء لَكَانَ مصيبًا مُحسنًا، وَقَالَ آخر:
شَكَوْنَا إِلَيْهِ خَرَابَ السّوَادِ ... فَحَرَّمْ عَلَيْنَا لُحُومَ البَقَر
فَهَذَا حمل نَفسه عَلَى هَذَا الْوَجْه للضَّرُورَة، وَلَو كَانَ قَالَ: فَحرم فِينَا لَكَانَ مصيبًا.
وَقد ذَكَرَ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه من هَذَا الْبَاب طرفا، وروُي بَيت امْرِئ الْقَيْس:(1/38)
فاليَوْمَ أشربْ غَيْر مُسْتَحْقبٍ ... إِثْمًا من اللَّه وَلَا وَاغل
فَأنْكر هَذَا بَعْض أَصْحَابه وَقيل: إنَّ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِيهِ فاليوم فَاشْرَبْ، أَوْ فاليوم أسْقى، وروى قَول الفرزدق:
وَقد بَدَا هَنْكِ من المئرز
قَالَ من أنكر هَذَا: إنّما هُوَ: وَقد بدا ذَاك، وَقد روى عَنْ أبي عَمْرو أَنَّهُ قَرَأَ بِهَذِهِ اللُّغَة فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن مِنْهَا " فَتُوبُوا إِلَى بارئكم " ويأمُرْكم، وأنلزمُكُموها، فَمن الروَاة عَنْهُ من رَوَاهُ بِالسُّكُونِ خَالِصا وَأَجَازَ فِيهِ وَفِي نَظَائِره مثل هَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
سَوف أُزَحْلِقَكِ غَدا أَوْ بَعْدَ غَدِ
وروى أنَّ هَذَا أَتَى مخففًا لِكَثْرَة الحركات فِيهِ، فاحتج بَعْض أَصْحَابه بِأَن الْحُرُوف الَّتِي أسكنها مَخْصُوصَة بِجَوَاز حذف الْحَرَكَة بِمَعْنى يخصُّها دون غَيرهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الِاشْتِغَال بِهِ، وَأنكر بَعْض رُوَاة أبي عَمْرو هَذَا، وَذكر أَنَّهُ كَانَ مختلس الْحَرَكَة فيظن من لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أسكن، وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْقِرَاءَة وأمّا قَول الشَّاعِر فِي الْخَبَر الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنِ الأَعْمَشُ: فقد تخدع وتُؤخذ، فَإِن قَائِله لَوْ ضم تخدع وَجزم وَتُؤْخَذ لَكَانَ قَدْ أَتَى بِوَجْه مَعْرُوف من كَلَام الْعَرَب، وَقد قَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء فِي الْقُرْآن مَا مَنْزِلَته فِي الْإِعْرَاب مَنْزِلَته، وَذَلِكَ أَن يرد الْفِعْل الثَّانِي عَلَى مَوضِع الْفَاء الدَّاخِلَة عَلَى الْفِعْل الأوّل، وَذَلِكَ قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين " فكره من قَرَأَ ذَلِكَ مُخَالفَة رسم الْمُصحف إِذْ لَا وَاو فِيهِ، وَله فِي الْعَرَبيَّة وَجه مَفْهُوم، وَمن ذَلِكَ قَول أَبُو داؤد الأيادي:
فأبْلُونِي بَلِيّتكُم لَعَلِّي ... أُصَالِحَكُم فأسْتدرجْ نَوَيّا
وَكَانَ أَبُو عَمْرو يخْتَار أَن يَقْرَأ وأكون بِإِثْبَات الْوَاو، وَكَانَ الْأَوْجه عِنْدَهُ فِي الْعَرَبيَّة، وَزعم أنَّ الْوَاو حذفت مِنْهُ فِي الْخط كَمَا حذفت من كلمن، وَلَيْسَ الْأَمر عندنَا عَلَى مَا ذكر فِي هَذَا فَفِي الْكَلِمَتَيْنِ فرق ظَاهر، يَقْتَضِي الْإِثْبَات حَيْث أَثْبَتَت، والحذف حَيْث حذفت، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه من كتُبنا الْمُؤَلّفَة فِي عُلُوم تَنْزِيل الْقُرْآن وتأويله إنْ شَاءَ اللَّه.
الْمجْلس السَّادِس
خبأت هَذَا لَك
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُفَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: اذْهَبْ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ فَسَمِعَ كَلامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَفِي يَدِهِ قِبَاءٌ وَهُوَ يُرِي أَبِي مَحَاسِنَهُ وَيَقُولُ: خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ.(1/39)
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر لَعَلَّه أَن يُعْطِينَا وَهِي لُغَة لبَعض الْعَرَب، والأسير كَلَامهَا، لَعَلَّه يُعْطِينَا بِغَيْر أَن، وَقد ذكرنَا هَذَا الْبَاب فِيمَا مضى من مجالسنا هَذِهِ وشرحنا وجْهَه وأحضرنا صورًا من شَوَاهِد الشّعْر فِيهِ، والْقِبَاء مَمْدُود، وَجمعه أقبية وَهُوَ من ملابس الْأَعَاجِم فِي الْأَغْلَب، واشتقاقه من الْجمع وَالضَّم فَقيل لَهُ قبَاء لمّا فِيهِ من الِاجْتِمَاع، وَإِمَّا بجمعه جسم لابسه وضمه إِيَّاه عِنْدَ لبسه وَمِنْه قَول سحيم عَبْد نَبِي الحسحاس:
فَإِن تَهْزَئِي مِنِّي فَيا رُبَّ ليلةٍ ... تَرَكتُكِ فِيهَا كالْقِباء المفرّج
وقراءُ أَهْلَ المَدِينَةِ ونُحاتُهم يُعبِّرون عَنِ المعرب والمبني الَّذِي يُسَمِّيه قراء الْعرَاق ون - اتهمَ مَرْفُوعا ومضمومًا بِأَنَّهُ مقبوء، فيشيرون بعبارتهم إِلَى الضَّم الَّذِي من بَاب الْجمع، وَقد شرحنا هَذِهِ الْجُمْلَة شرحًا وَاسِعًا فِي كتَابنَا الَّذِي شرحنا فِيهِ مُخْتَصر أبي عمر الجرِمْي فِي النَّحْو.
وَقد تُسَمى الْعَرَب القباء اليملق وتجمعه يَلامق، كَمَا قَالَتْ هِنْد بن عتبَة:
نَحْنُ بناتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقِ
وَنَلْبَسُ اليَلامقْ
وَقَالَ ذُو الرمة:
تَجْلُو البَوَارِقَ عَنْ مجرمزٍ لهقٍ ... كَأَنَّهُ مُتَقَبِّي يَلْمَقٍ عَزَبِ
وَذكر الْأَصْمَعِي أَنَّهُ فارسيٌّ مُعرِّب، وَأَنه فِي الأَصْل عَلَى كَلَام الْأَعَاجِم يَلْمَه، كَمَا قَالَت الْعَرَب شَبْرُق وفَالُوذَق، وَقَالَت الْعَجم: شبره وفالوذه، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مثل هَذَا ف قَول الْعَرَب اسْتَبْرق، فَإِنَّهُ فِي كَلَام الْعَجم استبره، وَقَالَ عدد من أَهْلَ الْعلم مِنْهُم أَبُو عُبَيْدة: إِن من زعم فِي الْقُرْآن شَيئًا بِغَيْر الْعَرَبيَّة فقد أَخطَأ وَأعظم عَلَى اللَّه الْفِرْية، لِأَن اللَّه تَعَالَى قَالَ: " بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبين "، وَفِي الْقُرْآن عدد من الْكَلم نسبه بَعْض أَهْلَ التَّأْوِيل إِلَى لُغَة بَعْض أُمَم الْعَجم، وَأنكر هَذَا بَعضهم، وَذهب إِلَى اتِّفَاق لغتين فِيهِ أَوْ لُغَات كثيرٌ مِنْهُم، وَهَذَا ممّا بياننا مُستَقصى فِيهِ فِي كتَابنَا الْمُسَمّى كتاب الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز، وَفِي كتاب شَيخنَا أبي جَعْفَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، الَّذِي سَمَّاهُ جَامع الْبَيَان عَنْ تَأْوِيل آي الْقُرْآن.
وَفِي خبر الْمسور هَذَا، البيانُ البّيِّنُ عَنْ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يتفقد أَصْحَابه بألطافه وَصلَاته، ويشاركهم فِيمَا يسديه اللَّه إِلَيْهِ من رزق ويفيئه عَلَيْهِ من فَضله، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يسألونه عَن حَاجتهم، ويرغبون إِلَيْهِ فِي بذل الرّفد لَهُم، وَإِضَافَة الْأَمْوَال عَلَيْهِمْ، لبسطه إيَّاهُم وخفض جنَاحه لَهُم، ولظهور جوده وسعة خلقه عِنْدهم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم.
الشُّعَرَاء عَلَى بَاب عُمَر بْن عبد الْعَزِيز
حَدثنَا مُحَمَّد بن قَاسم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد(1/40)
الرَّحْمَن الجوهريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الضَّحَّاك، قَالَ: أَخْبَرَنَا الهَيْثَم بْن عَدِيّ، عَنْ عوَانَة بن الحك، قَالَ: لمّا استُخلف عُمَر بْن عبد الْعَزِيز وَفد الشُّعَرَاء إِلَيْهِ فأقاموا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ، الرحيل، إِذْ مرّ بهم رَجَاء بْن حَيْوَة. وَكَانَ من خطباء أَهْلَ الشَّام فَلَمّا رَآهُ جرير دَاخِلا عَلَى عُمَر أنشأ يَقُولُ:
يَا أيُّها الرجلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ ... هَذَا زمانُك فَاسْتَأْذن لَنَا عُمَرا
قَالَ: فَدخل وَلم يذكرْ من أَمرهم شَيئًا، ثُمَّ مر بهم عَدِيّ بْن أَرْطَأَة، فَقَالَ لَهُ جرير:
يَا أيُّهَا الراكبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَه ... هَذَا زَمانُك إِنِّي قَدْ مضى زَمَني
أَبْلغْ خَليفَتَنَا إِنْ كنتَ لاقيهِ ... أَنِّي لَدَى الْبَاب كالمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لَا تَنْسَ حاجتنا لُقِّيت مَغْفرةً ... قَدْ طَال مُكثِيَ عَنْ أَهلِي وَعَن وَطَنِي
قَال: فَدخل عَدِيّ عَلَى عُمَر، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! الشُّعَرَاء ببابك وسهامهم مَسْمُومَة وأقوالهم نَافِذَة، قَالَ: وَيحك يَا عدي! مَا لي وللشعر، قَالَ: أعزَّ اللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَد امتُدِح فَأعْطى، وَلَك فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسوت حَسَنَة، فَقَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: امتدحه الْعَبَّاس بْن مرداس السُّلَميّ فَأعْطَاهُ حُلةً قطع بهَا لِسَانه، قَالَ: أَوْ تروي من قَوْله شَيئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأنْشد:
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ البريَّةِ كُلِّها ... نشرتَ كتابا جَاءَ بالحقِّ مَعْلَما
شَرعت لَنَا دينَ الْهُدي بَعْدَ جَوْرِنا ... عَنِ الحَقِّ لمّا أصبح الحقُّ مُظْلما
ونورتَ بالْبُرهان أمرا مُدَنَّسا ... وَأَطْفَأت بالبرهان نَارا تَضَرّما
فَمن مبلغ عني النبيَّ مُحَمَّدا ... وكلُّ أمرئ يُجزي بِمَا كَانَ قدما
أَقمت سَبِيل الْحق بَعْدَ اعوجاجه ... وَكَانَ قَدِيما رُكْنه قَدْ تهدَّما
تَعَالَى عُلوًّا فَوق عرش إلهنا ... وَكَانَ مَكَان اللَّه أَعلَى وأعظما
قَالَ وَيحك يَا عَدِيّ! من بِالْبَابِ مِنْهُم؟ قَالَ: عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن أبي ربيعَة، قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ثُمَّ نبهتُها فهبّتْ كِعابًا ... طفلةً مَا تبينُ رَجْعَ الكلامِ
سَاعَة ثُمَّ إنّها بَعْدُ قَالَتْ ... وَيْلَتا قَدْ عجلتَ يَا ابنَ الكرامِ
أَعلَى غير موعدٍ جئتَ تَسْري ... تَتَخَطى إليّ رُوسَ النيامِ
مَا تجشمتَ مَا يزين من الأمْ ... رِ وَلَا جِئْت طَارِقًا لخصامِ
فَلَو كَانَ عَدُوَّ اللَّه إِذْ فجر كتم نَفسه، لَا يدخلُ عليّ وَالله أبدا، فَمن بِالْبَابِ سواهُ؟ قَالَ: هَمّام بْن غَالب، يَعْنِي الفرزدق، قَالَ: أوليس هُوَ الَّذِي يَقُول:
هما دلتاني من ثَمَانِينَ قامةً ... كَمَا انقضَّ بازٍ أقْتَم الريشِ كاسرُهُ
فَلَمّا اسْتَوَت رجلاي بِالْأَرْضِ قَالَتَا ... أَحَي يُرَجّى أم قتيلٌ نُحاذِرُه(1/41)
لَا يطَأ وَالله بساطي، فمنْ سواهُ بِالْبَابِ مِنْهُم؟ قَالَ: الأخطل، قَالَ: أُدي! هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ولستُ بصائمٍ رَمَضَان طَوْعًا ... ولسب بآكلٍ لَحْم الأضَاحِي
ولستُ بزاجرٍ عَنْسًا بكُور ... إِلَى بطحاء مكَّة للنجاح
ولستُ بقائم كالعيرِ يَدْعُو ... قُبَيْلَ الصُّبْح حَيَّ عَلَى الْفَلاح
وَلَكِنِّي سأشربها شمولا ... وأسجدُ عِنْدَ منبلج الصَّباح
وَالله لَا يدْخل عَليّ وه وَكَافِر أبدا، فَهَل بِالْبَابِ سوى من كرت؟ قَالَ: نَعَم الْأَحْوَص، قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
اللَّه بيني وَبَين سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بهَا وأتّبِعُه
غرِّبْ عَنْهُ، فَمَا هُوَ بِدُونِ من ذكرت، فَمن هَاهُنَا أَيْضا؟ قَالَ: جميل بْن مُعَمَّر قَالَ: يَا عَدِيّ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلا لَيْتنَا نَحْيا جَمِيعًا وَإِن تَمُتْ ... يُوَافق فِي موتِي ضَرِيحي ضَرِيحُها
فَمَا أَنَا فِي طولِ الْحَيَاة براغبٍ ... إِذَا قيل قَدْ سُوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُها
فَلَو كَانَ عَدو اللَّه تمنى لقائها فِي الدُّنْيَا ليعْمَل بَعْدَ ذَلِكَ صَالحا، وَالله لَا يدْخل عليّ أبدا، هَلْ سوى من ذكرت أحد؟ قَالَ: جرير بْن عَطِيَّة، قَالَ: أما إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقتْكَ صائدةُ القلوبِ وَلَيْسَ ذَا ... حينَ الزيارةِ فارْجِعي بسلامِ
فَإِن كَانَ لَا بُد فَهُوَ، قَالَ فَأذن لجرير، فَدخل وَهُوَ يَقُولُ:
إِن الَّذِي بعث النَّبِي مُحَمَّدا ... جعل الْخلَافَة فِي الإِمَام العادلِ
وسع الْخَلَائق عدلُه ووفاؤه ... حَتَّى ارعوى وَأقَام ميل المائلِ
إِنِّي لأرجو مِنْك خيرا عَاجلا ... وَالنَّفس مولعةٌ بحب العاجلِ
فَلَمّا مثل بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: وَيحك يَا جرير، اتَّقِ اللَّه وَلَا تقولن إِلَّا حَقًا، فَأَنْشَأَ جرير يَقُولُ:
أأذكُر الْجُهْدَ والبَلْوى الَّتِي نَزَلَتْ ... أم قَدْ كَفَانِي مَا بُلِّغْتَ من خَبَري
كَمْ باليمامةِ من شَعْثَاءَ أرملةٍ ... وَمن يتيمٍ ضعيفِ الصَّوتِ والنظرِ
مِمن يعدُّك تَكْفِي فقدَ والدهِ ... كالفرخ فِي الْعُشِّ لَمْ يَنْهَض وَلم يَطرِ
يَدْعُوك دعة ملهوفٍ كَأَن بِهِ ... خَبَلا من الْجِنِّ أَوْ مَسًّا من النشرِ
خليفةَ اللَّهِ مَاذَا تأمُرُون بِنَا ... لَسْنا إِلَيْكُم وَلَا فِي دَار منتظر
مَا زلتُ بعدَك فِي هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي ... قَدْ طَال فِي الحَيِّ إصْعَادي وَمُنْحَدِرِي
لَا ينفع الحاضِرُ المجهودُ بادِيَنَا ... وَلا يعودُ لَنَا بادٍ عَلَى حَضِرِ
إِنَّا لنرجُو إِذَا مَا الغيثُ أَخْلَفَنَا ... من الْخَلِيفَة مَا نرجو من المَطَرِ(1/42)
نَالَ الْخلَافَة إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر
هذي الأرامل قَدْ قَضَّيْت حاجَتَها ... فمَنْ لحاجةٍ هَذَا الأرمل الذَّكَرِ
الخيْر مَا دمتَ حَيًّا لَا يفارقنَا ... بُوركْتَ يَا عُمَر الخَيْرَاتِ من عمرِ
فَقَالَ: يَا جرير! مَا أرى لَك هَاهُنَا حَقًا، فَقَالَ: بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَنَا ابْن سَبِيل ومنقطع بِي، فَأعْطَاهُ من صلب مَاله مائَة دِرْهَم، وَقد ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيحك يَا جرير! لَقَدْ ولينا هَذَا الْأَمر وَمَا نملك إِلَّا ثلثمِائة دِرْهَم، فمائة أَخذهَا عَبْد اللَّه وَمِائَة أَخَذتهَا أم عَبْد اللَّه، يَا غُلَام أعْطه الْمِائَة الْبَاقِيَة، قَالَ: فَأَخذهَا وَقَالَ: وَالله لهي أحب مِمَّا اكتسبته إليَّ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاء: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: مَا يسوءكم، خرجت من عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ يُعْطي الْفُقَرَاء، وَيمْنَع الشُّعَرَاء، وَإِنِّي لراض، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْت رُقَى الشَّيْطَان لَا تستفزّه ... وَقد كَانَ شيطاني من الْجِنِّ رَاقيا
وَقد كتبنَا هَذَا الْخَبَر من طُرق أُخْرَى، والقصص فِيهَا مُخْتَلفَة فِي مَوَاضِع، عَلَى تَقَارُب جُمْلَتهَا ولعلنا نأتي بهَا فِيمَا يسْتَقْبل من مجَالِس كتَابنَا هَذَا إِن شَاءَ اللَّه.
الْمُؤَنَّث الْمَعْنَوِيّ
وَفِي هَذَا الْخَبَر مَوضِع ذَكَرَ فِيهِ الْمُؤَنَّث، وَهُوَ قَوْله: وأطفأتَ بالْبُرهان نَارا تضرما، وَيُرِيد تضرمت وَفِيه قبح فِي الْعَرَبيَّة، وَالْوَجْه الَّذِي يعتل بِهِ فِيهِ عَلَى ضعفه أَنَّهُ ممّا تأنيثه لَفْظِي غَيْر معنوي حَقِيقِيّ، وَقد أَتَى مثله فِي الشّعْر فَمِنْهُ قَول الشَّاعِر:
فَلا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدَقَهَا ... وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ أَبْقَالَها
فَذَكَرَ فعل الأَرْض وَهِي أُنْثَى، وَلَو قَالَ: أبقلت ابقالها لأنث وَلم يذكّر، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا للهمزة، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
عُدِّي لِغَيْبَتِي أشْهُرًا ... إِنِّي لَدَى خَيْرِ المَقَاوِل
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَإِن تعهديني وَلِيَ لمةٌ ... فإنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَى بِها
قَالَ بَعضهم: أَرَادَ الْحِدْثان، وَقَالَ بَعضهم: ذكّر إِذْ لَمْ يكن التَّأْنِيث فِيهِ حَقِيقِيًّا، وَلَو قَالَ: أودت بهَا لصحّ الْإِعْرَاب واستقام الْوَزْن، إِلَّا أَنَّهُ يكون قَدْ أَتَى بِبَيْت غَيْر مردف فِي كلمة جَمِيع أبياتها مردفة، وَهَذَا عيب عِنْدَ أَهْلَ الْعلم بصناعة القوافي، وَقد تَأَول قَوْمٍ من أَهْلَ الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ قِرَاءَة من قَرَأَ " كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا " بِفَتْح الطَّاء عَلَى الْجمع، أَنَّهُ بِمَنْزِلَة قَول أبي ذُؤَيب:
لَوْ أنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرِ أَحدَا ... أحْيَا أَبَاكَ لَنَا طُولُ التماديحِ
وَمثله:
إِذْ هِيَ أحْوَى من الرِّبِعيِّ، حاجبهُ ... والعينُ بالإِثْمِدِ الحَارِي مَكْحُول(1/43)
وَالصَّوَاب عندنَا من القَوْل فِي وَجه قُراءة من قَرَأَ قطعا بِالتَّحْرِيكِ أنَّ نَصبه مظلمًا عَلَى الْحَال وَالْمعْنَى من اللَّيْل فِي حَال إظلامه أَي شدَّة ظلمته، والكوفيون من النَّحْوِيين يَقُولُونَ: هُوَ مَنْصُوب على قطع النكرَة من الْمعرفَة، وَالْمعْنَى من اللَّيْل المظلم، وَفِيه موضعان شَذَّ لَفْظهمَا عَنِ الْوَجْه الْأَصَح الأعرف فِي مقاييس الْعَرَبيَّة فِي الْإِعْرَاب وَالْبناء، أَحدهمَا قَول جميل:
وَأَن أمت يوافقُ فِي الْمَوْتَى
بِرَفْع يُوَافق وَكَانَ سَبيله بجزمه عَلَى مَا تَقْتَضِيه الْعَرَبيَّة فِي بَاب الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَقد أَتَى مثله ممّا رُدَّ إِلَى أَصله فِي الرّفْع وَلم ينْقل بالجزاء إِلَى الْجَزْم فِي أَبْيَات من الشّعْر مِنْهَا:
يَا أقرعُ بْن حابسٍ يَا أقرعُ
إِنَّك إِن يُصْرَعْ أَخُوك تُصرعُ
وَقد حمل قَوْمٍ هَذَا عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّك تصرع إِن يصرع أَخُوك، وَمثل هَذَا فِي بَيت جميل أَن يجْرِي عَلَى أنَّ مَعْنَاهُ: ويوافق فِي الْمَوْتَى وضريحي ضريحها إِن أمت، وَذهب آخَرُونَ فِي هَذَا إِلَى إِرَادَة الْفَاء كَأَنَّهُ أَرَادَ فتصرع ويوافق.
اقْطَعْ عنِّي لسانَه
حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى شَاعِرٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلالٍ: " يَا بِلالُ اقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ "، قَالَ: فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَحُلَّةً، فَذَهَبَ وَهُوَ يَقُولُ: قَطَعْتَ وَاللَّهِ لساني.
أُعْطِيك بِمَا مدحتَ اللَّه
حَدَّثَنَا يزْدَاد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: وحَدثني الْحزَامِي، عَنْ عَبْد اللَّه بْن وهْب الْمَصْرِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا هِشَام بْن سَعْد، عَنْ زَيْدِ بْن أسلم، قَالَ: بلغنَا أنَّ أَبَا بَكْر الصَّدِّيق رضوَان اللَّه عَلَيْهِ أَتَى بشاعر إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم فِي المَسْجِد، فَقَالَ: يُنشد يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: لَا خَير فِي الشّعْر، فَقَالَ: بلَى يَا رَسُول اللَّه، فَقَالَ: فاخرجوا بِنَا إِلَى المقاعد، فأنشده مِدْحَة لله وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعْطِيه يَا بلالُ النَّاقةَ السَّوْدَاء "، ثُمَّ قَالَ: " أُعطِيكَها لما مدحتَ اللَّهَ فأمّا مِدْحَتِي فَلا أُعْطِيك شَيئًا ".
إِلَى أَي شَيْء أفْضى بهم الزُّهْد
حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، عَنْ أبي أَحْمَد بْن أبي الْجوَار، قَالَ: سَمِعت مضاء العابد يَقُولُ لسباع العابد: يَا أَبَا مُحَمَّد! إِلَى أَي شَيْء أفْضى بهم الزُّهْد؟ قَالَ: إِلَى الأنْس بِهِ.
من الشّعْر الْحَكِيم
أنشدنا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَنشدنا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أنشدنا أَبُو عُبَيْدة، قَالَ:(1/44)
كَانَ الشَّعْبِيّ ينشد:
أرى أُنَاسًا بأدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنعُوا ... وَلَا أَرَاهُم رَضوا فِي الْعَيْش بالدونِ
فاستغْنِ بالدِّينِ عَنْ دُنيا الْمُلُوك كَمَا ... اسْتغنى الْمُلوكُ بدنياهم عَنِ الدينِ
الْمجْلس السَّابِع
الرّوح والفرج فِي الرِّضَا وَالْيَقِين
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّدِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي: مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ الله، إِن رزق اللَّهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ، إِنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ وَجَلالَتِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَجَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ ".
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْخَبَر تنبيهٌ لِذَوي التَّمْيِيز وَحسن التفكر، والتحذير من إرضاء الْمَخْلُوق الموسوم بِالنَّقْصِ والفقر، عَلَى الْخَالِق الْمَالِك للنفع والضر، فقد قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ".
وَقَالَ تَعَالَى جَدّه: " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لنا، هون مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ "، وَهَذَا ظاهرٌ فِي عقول ذَوي الفطن السليمة، كثير فِي الْكتاب وَالسّنة، يطول إحصاؤه ويتعب استقصاؤه، وَقد أَكثر الشُّعَرَاء والْبُلغاء فِي ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنى وأسهبوا، وَجمعه شاق جدا عَلَى متعاطيه، والقَدْر الَّذِي أَتَيْنَا بِهِ كافٍ فِيهِ. وَقد حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن سهل الْخُتّلي، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَاسِم بْن الْحَسَن، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: أَخْبرنِي رَجُل، قَالَ: أَنْشدني صديق لي:
لَعَمْرُك مَا كلُّ التّعَطُّلِ ضَائِرًا ... وَلَا كلُّ شُغُلٍ فِيهِ للمَرْء مَنْفَعَهُ
إِذَا كَانَت الأرزاق فِي الْقرب والنّوى ... عَلَيْكَ سَوَاء فاغتنم لَذَّة الدَّعَه
إِذَا ضقت فاصبر يُفْرِج اللَّه مَا ترى ... أَلا كلُّ ضيقٍ فِي عواقبه سَعَهْ
وُلّي فِي هَذَا الْمَعْنى أَبْيَات قُلتها قَدِيما، هِيَ:
مَالك الْعَالمين ضَامِنُ رِزْقِي ... فلماذا أُملِّكُ الخَلْق رِقِّي
قَدْ قَضَى لي بِمَا عليّ وماليخالقي جلّ ذكره قَبْلَ خلقي
صَاحب الْبَذْل والندى فِي يساري ... ورفيقي فِي عُسْرتَي حُسْنُ رِفْقي(1/45)
وكما لَا يردُّ رِزْقِي عَجْزِي ... فَكَذَا لَا يَجُر رزقِيَ حِذْقِي
مَا حجازية وتميمية
قَوْله فِي الأبيات الَّتِي قدمنَا إنشادها: مَا كَانَ التعطل ضائرًا، أنشدناه نصبا عَلَى لُغَة أَهْلَ الْحجاز، وهم يشبهونها بليس مَا كَانَتْ عَلَى أصل ترتيبها، وَأكْثر مَا تَأتي بِإِدْخَال الْبَاء عَلَيْهَا، كَقَوْلِك: مَا زيدٌ بقائم، وبهذه اللُّغَة جَاءَ الْقُرْآن، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " مَا هَذَا بشرا " وجَلِيٌّ أنّ من لَمْ يَنْظُر فِي الْمُصحف من بني تَمِيم يقرأونها بشرٌ عَلَى لغتهم، ذَكَرَ هَذَا سِيبَوَيْهٍ وَغَيره، ورُوي عَنْ بَعْض الْقُرَّاء " مَا هَذَا بِشَري " أَي مَا هُوَ بمُشْتَرى، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " مَا هُنَّ أمهاتهم " فنصب جُمْهُور الْقُرَّاء عَلَى اللُّغَة الحجازية إِلَّا أَن التَّاء كسرت إِذْ لَيست أصليَّة، وروى الْمفضل عَنْ عَاصِم " مَا هن أمهاتهم " على اللُّغَة التميمية، وَمِنْهَا قَول الشَّاعِر:
وَيْزُعُم حسلٌ أه فرع قومه ... وَمَا أنتفرع يَا حُسَيلُ وَلا أصْل
وَأنْشد الْفراء:
لَشَتّانَ مَا يَنْوِي وَيَنْوِي بَنو أبي ... جَمِيعًا فَمَا هَذَانِ مُسْتَوِيَانِ
تَمَنّوْا لِيَ الموتَ الّذِي يَشْعَبُ الفَتَى ... وكلُّ امرئٍ والموتُ يَلْتقيان
وَقَالَ ذُو الرمة:
أما نَحن رؤو دَارِهَا بَعْدَ هَذِهِ ... بَدَا الدَّهْر إِلَّا أنْ نَمُرَّ بهَا سَفْرا
ابْن أبي عُيَيْنَة يعْزل وَالِي الْبَصْرَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِكْرمة عَامر بن عِمْرَانَ بْن زِيَاد، قَالَ: كَانَ إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان وَالِي الْبَصْرَة، فأساء مجاورة مُحَمَّد بْن أبي عُيَيْنَة فتباعد مَا بَينهمَا وقبح، وَكَانَ إِسْمَاعِيل ينتقصه، فَخرج مُحَمَّد بْن أبي عُيَيْنَة إِلَى طَاهِر ابْن الْحُسَيْن يشكو إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر وَيطْلب عَزله عَنِ الْبَصْرَة، فصحب طَاهِر بْن الْحُسَيْن فِي بَعْض أَسْفَاره فَأدْخل عَلَيْهِ وَرفع حَوَائِجه إِلَيْهِ وَقَالَ:
من أوحشته البلادُ لَمْ يَقُم ... فِيهَا، وَمن آنسته لَمْ يَرِمِ
وَمن يَبِتْ والهمومُ قادحةٌ ... فِي صَدره بالسُّهَاد لَمْ ينمِ
وَمن يرى النّقْصَ فِي مواطِنه ... يَزل عَنِ النَّقْص مَوْطِئَ القَدَمِ
والقربُ مِمَّن ينأى بحاجته ... صَدْعٌ عَلَى الشّعب غيرُ مُلتَئِمِ
وربَ أمرٍ يعيا اللبيبُ بِهِ ... يَحَارُ مِنْهُ فِي حيرة الظُّلُم
صبرٌ عَلَيْهِ كَظْمٌ عَلَى مضضٍ ... وتَرْكُه من مراتع الندمِ
يَا ذَا اليمينين لَمْ أَزُرْكَ ولَمْ ... آتِك من خلةٍ وَلَا عدمِ
إِنِّي من اللَّه فِي مَرَاح غِنى ... ومُغْتَدى واسعٌ وَفِي نعمِ
زَارَتْكَ مِنِّي همَّةُ منازعةٌ ... إِلَى الْعُلا من مَرَاتِب الهممِ(1/46)
وإنني للكبير محتملٌ ... فِي الْقدر من منصبي وَمن شيمي
وَقد تعلّقت مِنْك بالذمم ال ... كبرى الَّتِي لَا تخيبُ فِي الذِّمم
فإنْ أنل هِمّتي فَأَنت لَهَا ... فِي الحَقِّ حقِّ الإخاء والرَّحمِ
وَإِن يَعُق عائقٌ فلستُ عَلَى ... جميلِ رأيٍ عِنْدِي بمتهمِ
فِي قدر اللَّه مَا أُحَمِّله ... تعويق أَمْرِي واللوح والقلمِ
لَمْ تَضَقِ السُّبْل والفجاج على ... حر كريم بالصب مُعْتَصِمِ
ماضٍ كحَدِّ السنان فِي طرف ال ... عَامل أوحد مُصْلَتٍ خذمِ
إِذَا ابتلاه الزَّمَان كَشَّفَهُ ... عَنْ ثَوْب حريَّة وَعَن كَرَمِ
مَا سَاءَ ظَنِّي إِلَّا لوَاحِدَة ... فِي الصَّدر مَحْصورة عَنِ الكلمِ
لِيَهْنَ قَوْمٌ جُزْت المَدَى بهم ... وَلم تُقَصِّر بهم وَلم تلمِ
مَا تنبتُ الأَرْض كلَّ زهرتها ... وَلَا تَعُمُّ السَّمَاء بالدِّيَم
وَلَيْسَت كلّ الدلاء رَاجِعَة ... بِالنِّصْفِ أَو ملئها إِلَى الوذم
ترجع بالحمأة القليلة أَحْيَانًا ... ورَنْق الصُّبابة الأمَمِ
مَا بِي نقصٌ عَنْ كلِّ منزلةٍ ... شريفةٍ والأمور بالقسمِ
فَأَجَابَهُ طَاهِر بْن الْحُسَيْن:
من تستضفه الهموم لم ينم ... غلا كنوم الْمَرِيض ذِي السقم
وَلَا يزل قلبه يكابد مَا ... يُولد الْهم فِيهِ من ألم
فدع أَبَا جَعْفَر بعتب مَا ... لَيْسَ التجني عَنْهُ بمنصرم
وَقد سَمِعت الَّذِي هَتَفت بِهِ ... وَمَا بأذني عَنْكَ من صمم
وَقد علمنَا إِن لَيْسَ تصحبنا ... لخلةٍ فِيك لَا وَلَا عدم
إِلَّا لحق وَحُرْمَة وعَلى ... مثلك رعى الْحُقُوق والذمم
أَنْت امْرُؤ مَا تُزال عَنْ كرم ... إِلَّا إِلَى مثله من الْكَرم
وَأَنت من أسرة جحاجحة ... سادوا بِحسن الفَعال والشيم
فَمَا تَرُمْ من جسيم منزلَة ... فَالْحكم فِيهَا إِلَيْكَ فاحتكم
إِن كنت مستسقيًا سماحتنا ... منا تجدك السَّمَاء بالديم
أَوْ ترمِ فِي بحرنا بلدوك لَا ... نعدمك ملأها إِلَى الوذم
إِنَّا أنَاس لَنَا صنائعنا ... فِي الْعَرَب مَعْرُوفَة وَفِي الْعَجم(1/47)
مغتنمو كسب كلّ محمدة ... وَالْكَسْب للحمد خَيْر مغتنم
فاحتكم عَلَيْهِ عزل إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر عَنِ الْبَصْرَة، فَعَزله عَنْهَا، وَأمر لِابْنِ أبي عُيَيْنَة بِمِائَة ألف دِرْهَم عونًا لَهُ عَلَى سَفَره، وَقَالَ ابْن أبي عُيَيْنَة فِي عزل إِسْمَاعِيل:
لَا تعدم الْعَزْل يَا أَبَا حَسَن ... وَلَا هزالًا فِي دولة السّمن
وَلَا انتقالا من دَار عَافِيَة ... إِلَّا إِلَى ديار الْبلَاء والفتن
أَنَا الَّذِي إِذَا كفرت نعْمَته ... أذبتُ مَا فِي جنبيك من عُكن
تَعْلِيق لغَوِيّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ: أَخْبرنِي الطُّوسيّ، عَنْ أبي عبيد، قَالَ: السيوز الَّتِي بَين آذان الدَّلْو والعراقي هِيَ الوذم، يُقَالُ فِيهَا: أوذمت الدَّلْو إِذَا شددتها، والخشبتان اللَّتَان تعترضان عَلَى الدَّلْو كالصليب هما العرقوتان يُقَال: عرقيت الدَّلْو عرقاة إِذَا شددتهما عَلَيْهِ.
نجابة الْفَتْح بْن خاقَان
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم، قَالَ: دَخَلَ المعتصم يَوْمَا إِلَى خاقَان غرطوج يَعُوده، فَرَأى ابْنه الْفَتْح وَهُوَ صبي لم يثغر، فمازحه فَقَالَ: أَيهمَا أحسن دَاري أَوْ داركم؟ فَقَالَ لَهُ الْفَتْح: يَا سَيِّدي دَارنَا إِذَا كنت فِيهَا أحسن، فَقَالَ المعتصم: لَا أبرحُ وَالله أَوْ يُنْثَر عَلَيْهِ مائَة ألف دِرْهَم، فَفُعِل ذَلِكَ.
رضَا المتجني
سَمِعت عَبْد الرَّحْمَن بْن عُثْمَان الشهوري، يَقُولُ: سَمِعت ابْن اتيكين صَاحب الشرطة بِبَغْدَاد، يَقُولُ: سَمِعت ابْن الْمثنى يَقُولُ: سَمِعت بِشْر بْن الْحَارِث يَقُولُ: سَمِعت الْمُعافى بْن عِمْرَانَ يَقُولُ: سَمِعت سُفْيَان الثّوريّ يَقُولُ: رضَا المتجنِّي غايةٌ لَا تُدْرك.
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن كَامِل قَالَ: سَمِعت ناشب المتوكليَّة تغني لإِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي: أ
أَنْت امرؤٌ متجنٍّ ... وَلَيْسَ بالغَضْبَانِ
هَبْنِي أسأتُ فَألا ... مَنَنْتَ بالغفرانِ
وَنَحْو هَذَا تما أنشدناه عَن إِسْحَاق الْموصِلِي:
فَهَبْنِي أغفلت الْجَمِيل من الْأُم ... ر وساعدتُ أهلَ الغَدْرِ فِيك عَلَى الغدرِ
وَلم يَك لي عذرٌ فتعذرَنِي بِهِ ... أما لِي نصيبٌ فِي التّجَاوُزِ والْغُفْرِ؟
وَنَحْوه بَعْض الْمُحدثين يَقُولُ:
هبيني يَا معذبتي أسأتُ ... وبالهجران قَبْلَكُمُ بدأتُ(1/48)
فَأَيْنَ الفضلُ مِنْكِ فدتكِ نَفسِي ... عليَّ إِذَا أسأتُ كَمَا أسأتُ
شعر الشَّاعِر بِمَنْزِلَة وَلَده
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُوسَى الْبَرْمَكِي جحظة، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِد الْكَاتِب، قَالَ: قَالَ لي عليّ بن الجهم: هَبْ لي بيتَك:
ليتَ مَا أصْبَحَ مِنْ ... رَقَّة خَدّيكَ بقَلْبِك
قَالَ: فَقلت لَهُ: هَلْ رَأَيْت أحدا يهبُ وَلَدَهُ؟
عَدو همة ابْن أبي داؤد
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَالك حريز بن أَحْمد بن أبي داؤد، قَالَ: قَالَ الواثق يَوْمَا لأبي تَضَجُّرًا بِكَثْرَة حَوَائِجه:
يَا أَحْمَد! قَد اختلّتْ بيوتُ الْأَمْوَال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! نتائجُ شُكرها مُتَّصِلَة بك، وذخائر أجلهَا مكتوبةٌ لَك، وَمَالِي من ذَلِكَ إِلَّا عشقُ اتِّصَال الألسن بُحلْوِ المَدْح فِيك، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! وَالله لَا منعناك مَا يزِيد فِي عشقك، ويُقَوّي من همتك فِينَا وَلنَا.
الْخَلِيفَة الْمَنْصُور يخلعُ ثِيَابه عَلَى شَاعِر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن خضر، عَنْ أَبِيه، قَالَ: دَخَلَ رَجُل عَلَى الْمَنْصُور فَقَالَ:
أقولُ لَهُ حِين واجهتهُ: ... عَلَيْكَ السّلام أَبَا جعفرِ
قَالَ الْمَنْصُور: وَعَلَيْك السّلام. فَقَالَ:
فأنتَ المهذَبُ من هاشمٍ ... وَفِي الْفَرْع مِنْهَا الَّذِي يذكرُ
فَقَالَ الْمَنْصُور: ذَاك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
فَهَذِهِ ثِيَابِي وَقد أُخلقت ... وَقد عَضّنِي زَمَنٌ منكرُ
فَألْقى إِلَيْهِ الْمَنْصُور ثِيَابه، وَقَالَ: هَذِهِ بدلهَا.
الْمجْلس الثَّامِن
حَدِيث خرافة
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُقَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نِسَاءَهُ حَدِيثًا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا حَدِيثُ خُرَافَةَ، قَالَ: " أَتَدْرِينَ مَا خُرَافَةُ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلا مِنْ عُذرة، أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فَمَكَثَ فِيهِمْ دَهْرًا ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الإِنْسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الأَعَاجِيبِ، فَقَالَ النَّاسُ: حَدِيثُ خُرَافَةَ ".(1/49)
رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ سَلامَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَزْهَرَ الْحَضْرَمِيُّ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الدَّرْبَنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ صَاحِبِ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: اجْتمع عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ يَوْمًا فَجَعَلَ يَقُولُ الْكَلِمَةَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: كَأَنَّ هَذَا حَدِيثُ خُرَافَةَ، فَقَالَ: تَدْرِينَ مَا حَدِيثُ خراف؟ وَذكر الحَدِيث.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَالَ القَاضِي: عوامُّ النّاس يَرَون أنَّ قَول الْقَائِل: هَذِهِ خرافة، إنّما مَعْنَاهُ أَنَّهَا حَدِيث لَا حَقِيقَة لَهُ، وَأَنه ممّا يجْرِي فِي السّمر للتأنُّس بِهِ، وينتظم من الْأَعَاجِيب وطرف الْأَخْبَار مَا يرتاح إِلَيْهِ ويتمتع أهل الأندية بِالْإِضَافَة فِيهِ، ويقطعون أَوْقَات ندامهم بتداوله، وَأَنه أَوْ معظمه لَا أصل لَهُ، ورسولُ اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أصدق فِي كلّ مَا يخبر عَنهُ وَأعلم بِحَقِيقَة الْأَمر فِيهِ، وَأولى من رَجَعَ إِلَى قَوْله وَأخذ بِهِ، والغَيُّ مَا خَالفه، فَأَما مَا وَصفنَا من مَذْهَب الْعَامَّة فِيهِ، فَإِن الحَدِيث مُضَاف إِلَى الْجِنْس الَّذِي هُوَ جُزْء مِنْهُ، وَبَعض من جملَته ومميز لَهُ من كلّ حَدِيث لَيْسَ بِحَدِيث خرافة، كَقَوْلِهِم هَذَا ثوب خَزٍّ وخاتَم فضَّة وَبَاب حَدِيد، واشتقاقه عَلَى هَذَا القَوْل من قَوْلهم: اخترف فلَان من بستانه هَذِهِ الثَّمَرَة، وَقَوْلهمْ: هَذِهِ خَرْفة فلَان، يشار بِهِ إِلَى شَيْءٍ من الْفَاكِهَة، وَمِنْه سُمي الرّبيع الأوّل من السَّنَة خَريفًا لِأَن جُلّ الْفَوَاكِه تُخْترف فِيهِ، وَجَاء فِي الْخَبَر: أنَّ عَائِدَ الْمَرِيض فِي مَخْرفة الْجنَّة إِشَارَة إِلَى مَا يُرجى لَهُ من النَّعيم وثواب الْملك الْكَرِيم. فَقَالَ أَصْحَاب هَذا الْمَذْهَب: إِن المجتمعين عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُعْجبة الْمُلِذَّة الْمُطرفة بِمَنْزِلَة المجتمعين عَلَى مَا يُخْترف من الْفَاكِهَة الَّتِي ينالون من قِبَلها الْمُتْعَة السارة لَهُم الفائضة عَلَيْهِمْ، ويتوهم هَؤُلَاءِ أَن مُخْتَلف الْبَاطِل ومفتعل الْكَذِب بِمَنْزِلَة من أَتَى شَيئًا أَو اخترفه فِي أَنَّهُ قَدْ ظفر بِمَا يلهيه ويمتعه، وَإِن كَانَ عَلَى مَا وَصفا فِي أَصله، وَيَقُولُونَ لما لَا يحققون صِحَّته من الْأَخْبَار: هَذِهِ خرافة، وَهَذَا حَدِيث خرافة، وَقَالَ بَعْض مجان الشُّعَرَاء عجز بَيت لَهُ حكايته:
حَدِيثُ خُرَافة يَا أمَّ عَمْرو
وَقَالَ رَضِي الله عَنهُ مِنْهُم فِي آخر بَيت قَالَه:
قَالَتْ ودَعْنِي من أَحَادِيث خرفةٍ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة:
إِذا أخلوا فأنتِ حَدِيثي ... وَذَلِكَ كالحديثِ من الْخُرَافَةْ
وَأرى أنَّ قَوْلهم للْإنْسَان إِذَا أفند وَتغَير وأهتر وهجر: قَدْ خَرَّف، من هَذَا الْبَاب وَأَنه(1/50)
قيل لَهُ ذَلِكَ: إِمَّا لأنَّه يتَعَلَّق بِمَا تُخَيِّلُه لَهُ وساوسُه فَيظْهر من لَفظه مَا يُنبئ عَنِ اختلاله ويعجب سامعوه مِنْهُ بضحك من خُرُوجه عَنِ الِاعْتِدَال وَالصِّحَّة، وَيَأْتِي بِأَلْفَاظ خَارِجَة عَنْ سَنَن الْحِكْمَة، وَإِمَّا لِأَن سامعيه يَطْربون تَعَجُّبًا بِمَا يُبديه ويستخرجون مِنْهُ مَا ينشطون ويرتاحون عِنْدَهُ، فكأنهم يجتنون ثَمَرَة أَوْ يخترفون فَاكِهَة، وَمن هَا هُنَا قيل: فكهت من كَذَا أَي عجبت، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَلَقَد فَكِهْتُ من الَّذين تقاتلوا ... ويم الخميسِ بِلَا سلاحٍ ظاهرِ
وَمن هَذَا الأَصْل قيل للمُزَاح: فكاهة، لما فِيهِ من مسَّرةِ أَهله والاستمتاع بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
حُزُقٌّ إِذَا مَا القَوْمُ أبْدَوْا فُكَاهَةً ... تفكراً آإياه يَعْنُونَ أمْ قِرْدًا
وَقَالَ بَعْض أَهْلَ الْعلم: الْغَيْبَة فَاكِهَة الْقُرَّاء.
وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض أَنَّهُ قَالَ: لكل شَيْءٍ ديباج، وديباج الْقُرَّاء ترك الْغَيْبَة.
وَمن كَلَام الْعَرَب السائر: لَا تمازح صَبيا وَلَا تفاكهن أمة، يُرِيد: وَلَا تمازحن، وَخَالف بَين اللَّفْظَيْنِ مَعَ اتِّفَاق الْمَعْنى لأنَّه أحسن كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وقَدَّمَت الْأَدِيم لراهشيه ... وألفى قَوْلهَا كَذَّاب ومِينًا
والمين: الْكَذِب، وَقَالَ آخر:
أَلا حَبّذَا هِنْد وأرْضٌ بهَا هندُ ... وهندُ الَّتِي من دُونها النّأيُ والبعدُ
وَمن الخريف والاختراف عَلَى مَا قدمنَا ذكره: لفُلَان مَوضِع كَذَا خرفة، أَي مقَام فِي الخريف، وَيُقَال: زمَان صَائِف وشات ورابع وقائظ، من الصَّيف والشتاء وَالربيع والقيظ، وَلم يَقُولُوا مثل هَذَا فِي الخريف، وَيُقَال فِي النّسَب: خرْفيُّ وربْعِي، كَمَا قَالَ:
إِن بَنِيَّ صبيةٌ صيْفِيُّون ... أَفْلح من كَانَ لَهُ رِبْعيُّون
وَمِنْه الرّبع فِي الْمَاشِيَة، قَالَ الشَّاعِر:
وَلَها بالمَاطِرُونَ إِذَا ... أكل النّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِرفة حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ من جِلّقٍ بِيَعَا
فِي قبابٍ وَسْطَ دسكرةٍ ... حَوْلَها الزَّيْتُون قَدْ يَنَعَا
ويروى: خرفة عَلَى مَا فسرنا، ويروى: خلفة من الِاخْتِلَاف إِلَى الْمَكَان، وَقَول اللَّه جلّ ذكره: " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا "، وَقد اخْتلف أَهْلَ التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله، فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أنَّ مَا فَاتَ فِي أَحدهمَا قضى فِي الآخر، كَالصَّلَاةِ تفوت لَيْلًا فتُقْضى نَهَارا وتفوت نَهَارا فتقضى لَيْلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنى أَنَّهُ جَعلهمَا مُخْتَلفين فِي ألوانهما هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض، وَقَالَ آخَرُونَ: إِن كلّ وَاحِد مِنْهُمَا(1/51)
يخلف صَاحبه، إِذَا ذهب هَذَا جَاءَ هَذَا، وَقيل: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعل كَذَلِك لالتبس عَلَى النّاس أَمر دينهم فِي أَوْقَات صومهم وصتهم، وَقيل: إِن الخلفة مصدر وَلذَلِك وجدت، وَهِي خبر عَنِ اللَّيْل وَالنَّهَار، وَقَول زُهَيْر:
بهَا العينُ والآرامَ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطلاؤُها يَنْهَضْنَ من كُلِّ مجثمِ
يَعْنِي تذْهب مِنْهَا طَائِفَة وتحدث مَكَانهَا أُخْرَى، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ الألوان والهيئات، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ أَنَّهَا تذْهب كَذَا وتجيء كَذَا.
وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ من أَفْكه النّاس، بِمَعْنى أَنَّهُ كَانَ يمزح، وَقد روى عَنْهُ عَلَيْهِ السّلام، أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لأمْزَح وَلَا أَقُول إِلَّا حقًّا ".
وروى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤاخذ المَزَّاح الصَّادِق فِي مُزاحه ".
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّازُ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنِ أبي لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ بَغْدَادَ الصَّيْدَنَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ ابْن الضَّحَّاكِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَزَّاحًا، وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤاخذ المَزَّاح الصَّادِقَ فِي مُزَاحِهِ ".
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: إنّما ذكرنَا مَا ذَكرْنَاهُ من بَاب المزاح هَا هُنَا بِحَسب مَا اقْتَضَاهُ مَا تَقَدَّمَ من كلامنا لاتصاله ومناسبته إِيَّاه، وَلذكر مَا جَاءَ فِي المزاح من الِاسْتِحْسَان والرخصة وَالنَّهْي والكراهية مَوضِع غير هَذَا.
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن نصر بْن بجير القَاضِي، قَالَ: أَخْبرنِي أَبِي عَبْد اللَّه بْن نصر بْن بجير، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عبّاد بْن مُوسَى قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بَكْر الْهُذَلي، قَالَ: قَالَ لي الشَّعْبِيّ: أَلا أُحَدِّثُك حَدِيثا تحفظه فِي مجْلِس وَاحِد إِن كنت حَافِظًا كَمَا حفظته أَنَا، لمّا أُتي بِي الْحجَّاج وَأَنا مُقَيّد وَخرج إليَّ يزِيد بْن أبي مُسْلِم، فَقَالَ: إِنَّا لله وَمَا بَيْنَ دِفّتيك من الْعلم يَا شَعْبيُّ، وَلَيْسَ بِيَوْم شَفَاعَة، إِذَا دخلت عَلَى الْأَمِير فَبُؤْ لَهُ بالشِّرْك والنفاق عَلَى نَفسك فبالحَرَى أَن تنجو. فَلَمّا كنتُ قَرِيبا من الإيوان خَرَجَ مُحَمَّد بْن الحَجَّاج، فَقَالَ: إنّا لله وَمَا بَيْنَ دِفّتيك من الْعلم يَا شَعْبيُّ، وَلَيْسَ بِيَوْم شَفَاعَة، إِذَا دخلت عَلَى الْأَمِير فَبُؤْ لَهُ بالشِّرْك والنفاق فبالحرى أَن تنجو، فملا قُمْت بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: هِي يَا شُعبي، أكرمتُك وأدنيتُك وقَرّبتُ مجلسك ثُمَّ خرجتَ عَلَيْنَا؟ قلت: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَحْزَن بِنَا الْمنزل وأجدب الجنابُ وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الْخَوْف، ووقعنا فِي
خِزْية لَمْ نَكُنْ بَرَرة أتقياء وَلَا فَجَرة أقوياء، قَالَ: صدق وَالله، مَا بَرُّوا حِين خَرَجوا وَلَا قَووا حِين فجروا، أطْلقُوا عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: تَعَهّدْني وكُنْ مني قَرِيبا، فَأرْسل إليَّ يَوْمَا نصف النَّهَار وَلَيْسَ عِنْدَهُ أحد، فَقَالَ: مَا تقولُ فِي أمٍّ وجَدٍّ وَأُخْت؟ قلت: اخْتلف فِيهَا خَمْسَة من أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَنْ؟ قلت: عليٌّ(1/52)
وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعُثْمَان وَزيد بن ثَابت، قَالَ: فَمَا بَال عَليّ؟ قلت: جعلهَا سِتَّة فَأعْطى الْأُخْت النّصْف ثَلَاثَة، وَأعْطى الْأُم الثُّلُث سَهْمَيْنِ، وَأعْطى الْجد السُّدس سَهْما، قَالَ: فَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود؟ قلت: جعلهَا أَيْضا ستَّة، وَكَانَ لَا يفضِّل أمًّا عَلَى جَد، فَأعْطى الْأُخْت النّصْف ثَلَاثَة، وَأعْطى الْأُم ثُلْثَ مَا بَقِي، وَأعْطى الْأُم الثُّلُث وَأعْطى الْأُخْت الثُّلُث وَأعْطى الْجد الثُّلُث وَأعْطى الْجد الثُّلثَيْنِ، قَالَ: فَمَا قَالَ: قَالَ عُثْمَان؟ قلت: جعلهَا أَثلَاثًا فَأعْطى الْأُم الثُّلُث وَأعْطى الْأُخْت الثُّلُث وَأعْطى الْجد الثُّلُث، قَالَ: فَمَا قَالَ زَيْدُ؟ قلت: جعلهَا من تِسْعَة فَأعْطى الْأُم الثَّلَاثَة وَأعْطى الْأُخْت سَهْمَيْنِ وَأعْطى الْجد أَرْبَعَة، جعلهَا مِنْهَا بِمَنْزِلَة الْأَخ، قَالَ: يَا غُلَام امضها عَلَى مَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان، قَالَ: إِذْ دَخَلَ الْحَاجِب فَقَالَ: إِن بِالْبَابِ رُسُلا، قَالَ: أدخلهم، فَدَخَلُوا وسُيُوفهم عَلَى عَواتقهم وعَمَائمهم فِي أوساطهم وكتبهم بأيمانهم، قَالَ: ائْذَنْ، فَدخل رَجُل من بني سُلَيم يُقَالُ لَهُ سَيّابة بْن عَاصِم، قَالَ: من أَيْنَ؟ قَالَ: من الشَّام، قَالَ: كَيْفَ أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ كَيْفَ هُوَ فِي بدنه.
كَيْفَ هُوَ فِي حَاشِيَته، كَيْفَ كَيْفَ؟ قَالَ: خَير، قَالَ: كَانَ وَرَاءَك من غيث؟ قَالَ: نَعَمْ أصابتني فِيمَا بيني وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ ثَلَاث سحائب، قَالَ: فانعت كَيفَ لي كَيْفَ كَانَ وَقع الْمَطَر وَكَيف كَانَ أَثَره وتباشيره؟ قَالَ: أصابتني سَحَابَة بحوران فَوَقع قطر صِغَار وقَطْرٌ كبار، فَكَانَ الصغار لُحْمة الْكِبَار، وَوَقع سِبْطًا مُتِداركًا وَهُوَ السَحُّ الَّذِي سمعتَ بِهِ، فواد سَائل وواد نازح، وَأَرْض مقبلة وَأَرْض مُدبرَة، وأصابتني سَحَابَة بسُوان فأندت الدياث وأسالت الغَرَّار وأدحضت التلاع وصدعت عَنِ الكمأة أماكنها، وأصابتني سَحَابَة بالقريتين، فأفاءت الأَرْض بعد الرّيّ،، وامتلأت الإخاذ وأفعمت الأودية، وجئتك فِي مثل مجرِّ الضَّبع، قَالَ: ائْذَنْ، فَدخل رَجُل من بني أَسد، قَالَ: هَل كَانَ وَرَاءَك غيث؟ قَالَ: لَا، كثرت الْأَعْصَار واغبرت الْبِلَاد وَأكل مَا أشرف من الجنبة، واستيقنا أَنَّهُ عَامَ سنة، قَالَ: بئس الْمخبر أَنْت، قَالَ: أَخْبَرتك بِمَا كَانَ، قَالَ: ائْذَنْ، قَالَ: فَدخل رجلٌ من بني حنيفَة من أَهْلَ الْيَمَامَة، قَالَ: هَلْ كَانَ وَرَاءَك من غيث؟ قَالَ: سَمِعت الرواد يدعونَ إِلَى ريادتها، وَسمعت قَائِلا يَقُولُ: هَلْ أظعنكم إِلَى محطة تطفأ فِيهَا النيرَان وتَشَكّى فِيهَا النِّسَاء، وتتنافس فِيهَا المعزى، قَالَ: فوَاللَّه مَا درى الحَجَّاج مَا أَرَادَ. قَالَ: وَيحك إِنَّمَا تحدث أَهْلَ الشَّام فأفهمهم، قَالَ: أما تطفأ النيرَان فأخصب النّاس فَلا تُوقد نَار يختبز بهَا، فَكَانَ السّمن والزبد وَاللَّبن، وأمّا تشكِّي النِّسَاء فَإِن الْمَرْأَة تظل تُريق بُهمها وتَمْحض لَبنهَا فتبيت وَلها أَنِين من عَضُدَيْها كَأَنَّهُمَا ليسَا مِنْهَا، وأمّا تنافس المعزى فَإِنَّهَا ترى من أَنْوَاع الشّجر وألوان الثِّمَار ونَوْر النَّبَات مَا يُشبع بُطُونها وَلَا يُشبع عيونها، فتبيتُ وَقد امْتَلَأت كروشها، لَهَا من الكَظَّة جَرَّة، وَتبقى الجَرة حَتَّى يسْتَنْزل بهَا الدَّرَّة، قَالَ: ائْذَنْ فَدخل رَجُل من الْحَمْرَاء من الموَالِي، وَكَانَ من أَشد أَهْلَ(1/53)
زَمَانه، قَالَ: من أَيْنَ؟ قَالَ: من خُرَاسَان، قَالَ: هَلْ كَانَ وَرَاءَك من غيث؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِن لَا أحسن أَن أَقُول كَمَا قَالَ هَؤُلاءِ، قَالَ: فَمَا تحسن أَنْت؟ قَالَ: أصابتني سَحَابَة بحلوان فَلم أزل أَطَأ فِي أَثَرهَا حَتَّى دخلتُ عَلَى الْأَمِير، قَالَ: إِن كنت أقصرهم فِي الْمَطَر قصَّة، إِنَّك لأطولهم بِالسَّيْفِ خطْوَة
عود إِلَى خبر الشَّعْبِيّ مَعَ الحَجَّاج
وحَدثني أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الصُّوفيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن عُمَر الأقطع الرقي، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْن يُونُس، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبّاد بْن مُوسَى رَجُل من أَهْلَ وَاسِط عَنْ أبي بَكْر الْهُذلِيّ، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: أَتَى بِي الحَجَّاج موثقًا فَلَمّا انتهينا إِلَى بَاب الْقصر لَقِيَنِي يزِيد بْن أبي مُسْلِم، فَقَالَ: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون يَا شعبي لمّا بَيْنَ دفتيك من الْعلم، وذَكَرَ الحَدِيث.
وروى لَنَا خبر الحَجَّاج مَعَ الشَّعْبِيّ عَلَى نَحْو مَا أَتَيْنَا بِهِ فِي هَذَا الْجُزْء من غَيْر طَرِيق، وَبَعض رواياته يخْتَلف ألفاظها وَيزِيد بَعْضهَا عَلَى بَعْض، وَأَنا أذكر هَا هُنَا طَرِيقا حضرني وَقرب مني.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان النهرواني، وَحَمْزَة بْن الْحُسَيْن بْن عُمَر أَبُو عِيسَى السِّمْسار، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور الرَّمَادِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن بهْلُول التّميميّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِر بْن نُوح الْحماني، قَالَ: حَدَّثَنِي مجَالد، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: لمّا قَدِمَ الحَجَّاج الْكُوفَة قَالَ لِابْنِ أبي مُسْلِم: اعْرِض على الْعُرَفَاء، فعرضهم عَلَيْهِ فَرَأى فيهم وحشًا من وَحش النّاس، قَالَ: وَيحك: هَؤُلاءِ خلفاء الْغُزَاة فِي عِيَالهمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اطرحْهُم واغدُ عليّ بالقبائل، فغدا عَلَيْهِ بالقبائل عَلَى رَايَاتها، فَجعلُوا يُعْرضون عَلَيْهِ فَإِذا وَقعت عينه عَلَى رَجُل دَعَاهُ، فَدَعَا بالشّعْبيِّين فمرت بِهِ السن الأولى فَلم يدع مِنْهُم أحدا، وَمَرَّتْ بِهِ السن الثَّانِيَة فدعاني، فَقَالَ: من أَنْت؟ فَأَخْبَرته؟ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَست، فَقَالَ: قَرَأت؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ: رويت الشّعْر؟ قلت: قَدْ نظرت فِي مَعَانِيه، قَالَ: نظرت فِي الْحساب؟ قلت: نَعَمْ، فَقَالَ: لِابْنِ أبي مُسْلِم: إِنَّا لنحتاج إِلَيْهِ فِي بَعْض الدَّوَاوِين، قَالَ: رويت مغازي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: نَعَمْ قَالَ: حَدَّثَنِي بِحَدِيث بدر، قَالَ: فابتدأت لَهُ من رُؤيا عَاتِكَة حَتَّى أذِّن المؤذنّ لِلظهْرِ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَالَ: لَا تبرحْ، فَخرج فصلّى الظّهْر وأتممتُها لَهُ، فجعلني عَرِيفًا عَلَى الشّعْبييِّن ومِنْكبًا عَلَى جَمِيع هَمدان وفَرَضَ لي فِي الشّرَف، فَلم أزل عِنْدَهُ بِأَحْسَن منزلَة حَتَّى كَانَ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَشْعَث، فَأَتَانِي قراء أَهْلَ الْكُوفَة فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرو! إِنَّك زعيم الْقُرَّاء، فَلم يزَالُوا لي حَتَّى خرجتُ مَعَهم فَقُمْت بَيْنَ الصفين أَذْكُر الحَجَّاج وأعيبه بأَشْيَاء قَدْ علمتُها، قَالَ: فبلغني أَنَّهُ قَالَ: أَلا تعْجبُونَ من هَذَا الشَّعْبِيّ الَّذِي جَاءَنِي وَلَيْسَ فِي الشّرف من قومه، فألحقتُه بالشرف، وَجَعَلته عَرِيفًا عَلَى الشّعْبييِّن ومِنْكبًا عَلَى هَمْدان، ثُمَّ(1/54)
خَرَجَ مَعَ عَبْد الرَّحْمَن يُحَرَض عليّ، أما إِنَّه لَئِن أمكن الله مِنْهُ لأجعلن الدُّنْيَا أضيف عَلَيْهِ من مِسْك جمل، قَالَ: فَمَا لبثنا أَن هُزِمْنا فَجئْت إِلَى بَيْتِي فدخلتُه وأغلقت عليّ بَابي، فَمَكثت تسْعَى أشهر الدُّنْيَا عليّ أضيقُ من مسك جَمل، فندب النّاس لخراسان، فَقَامَ قُتَيْبَة بن مُسلم، فَقَالَ: أَنا لَهَا، فعقد لَهُ خُرَاسَان وعَلى مَا غلب عَلَيْهِ مِنْهَا وَأمن لَهُ كل خَائِف، فَنَادَى مناديه: إِنَّه من لحق بعسكر قُتَيْبَةَ فَهُوَ آمن، فَجَاءَنِي شيءٌ لم يجيئني شيءُ هُوَ أسَرٌّ مِنْهُ، فَبعث بمولى لي إِلَى الْكُنَاسة، فَاشْترى لي حمارا وزودني، ثمَّ خرجت فَكنت فِي الْعَسْكَر، فَلم أزل مَعَه حَتَّى أَتَيْنَا فرغانة، فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمَ وَقد برّق، فنظرتُ إِلَيْهِ فعرفتُ مَا يُرِيد، فَقلت: أَيهَا الْأَمِير! عِنْدِي عَلَمُ مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: وَمن أَنْت؟ قَالَ: قلت: أعيذُك أَلا تَسَلْ عَنْ ذَاكَ، قَالَ: أَجْلِ، فَعرف أَنِّي مِمَّن يُخفي نَفسه، فَدَعَا بِكِتَاب فَقَالَ: أكتب نُسْخَة، قلت: لستُ مُحْتَاجا إِلَى ذَلِكَ، فَجعلت أمل عَلَيْهِ وَهُوَ ينظر إليَّ حَتَّى فرغتُ من كتاب الْفَتْح، قَالَ: فَحَمَلَنِي عَلَى بغلة وَأرْسل إليَّ بِسَرَقٍ من حَرِير، وكنتُ عِنْدَهُ فِي أحسن منزلَة، فَإِنِّي لَيْلَة أتعشى مَعَه إِذْ أَنَا برَسُول من الْحجَّاج بِكِتَاب فِيهِ: إِذْ نظرتَ فِي كتابي هَذَا فَإِن صَاحب كتابك عَامر الشَّعْبِيّ، فَإِن فاتك قطعت يَديك على رجلك وعَزَلْتُك، قَالَ: فَالْتَفت إليَّ فَقَالَ: مَا عرفتُك قبل السَّاعَة فَامْضِ حَيْث شِئْت من الأَرْض، فوَاللَّه لأحلفنَّ لَهُ بكلِّ يَمِين، قَالَ: قلت: أَيهَا الْأَمِير إِن مثلي لَا يَخْفى، قَالَ: فَقَالَ: أَنْت أعلم، قَالَ: فَبَعَثَنِي إِلَيْهِ مَعَ قَوْمٍ وأوصاهم بِي، وَقَالَ: إِذا نظرتم إِلَى خضراء وَاسِط فاجعلوا فِي رجلَيْهِ قيدا ثُمَّ ادخُلُوا بِهِ عَلَى الحَجَّاج، قَالَ: فَلَمّا دنوتُ من وَاسِط استقبلني ابْن أبي مُسْلِم فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرو! إِنِّي لأضنُّ بك عَلَى الْقَتْل، إِذَا دخلت عَلَى الحَجَّاج فَلَمّا رَآنِي قَالَ: لَا مرْحَبًا بك وَلَا أَهلا يَا شعبي الْخَبيث، جئتني وَلست فِي الشّرَف من قَوْمك وَلَا عَرِيفًا وَلَا مِنْكبًا، فألحقتك بالشرف وجعلتك عريفًا عَلَى الشّعْبييِّن ومِنْكبًا عَلَى جَمِيع هَمدان، ثُمَّ خرجتَ مَعَ عَبْد الرَّحْمَن تُحَرِّض عليّ؟ قَالَ: وَأَنا سَاكِت لَا أُجِيبهُ، قَالَ: فَقَالَ لي: تكلم، قَالَ: قلت: أصلح اللَّه الْأَمِير، كلّ مَا ذكرت من فضلك فَهُوَ عَلَى مَا ذكرت، وكل مَا ذكرت من خروجي مَعَ عَبْد الرَّحْمَن فَهُوَ كَمَا ذَكَرت، وَلَكنَّا قَد اكتحلنا بَعْدَك بالسهر وتَحَلّسنا الْخَوْف، وَلم نَكُنْ مَعَ ذَلِكَ بررة أتقياء وَلَا فجرة أقوياء، وَإِن حقنت لي دمي واستقبلت بِي التَّوْبَة؟ قَالَ: قَدْ حقنتُ دمك واستقبلتُ بك التَّوْبَة، قَالَ: فَقَالَ ابْن أبي مُسْلِم: الشَّعْبِيّ كَانَ أعلم مني حَيْث لَمْ يقبل مني الَّذِي قلت لَهُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر، وَحَمْزَة بْن الْحُسَيْن، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور قَالَ: سَمِعت الْأَصْمَعِي، يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُثْمَان الشحام، قَالَ: لمّا أَتَى الحَجَّاج بالشعبي عاتبه، فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيّ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أجدب بِنَا الجَنَاب، وأحزن بِنَا الْمنزل، واستحلسنا الْخَوْف، واكتحلنا السهر، وأصابتنا خِزْية لَمْ نَكُنْ فِيهَا بررة أتقياء، وَلَا فجرة أقوياء، قَالَ: لله دَرُّك(1/55)
يَا شعَبي.
قَالَ القَاضِي: وَالَّذِي ذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَر عَلَى مَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بدأنا بهَا ذَكَرَ الْفَرِيضَة الَّتِي سَأَلَ الْحجَّاج الشّعبِيّ عَنْهَا فأجابهن وَذكر أنَّ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتلفُوا فِيهَا عَلَى خَمْسَة أَقْوَال فَهَذَا عَلَى مَا ذكره، وَهَذِه فَرِيضَة من فَرَائض الْجد مَعْرُوفَة يسميها الفرضيون الخَرْقاء، وأصول الصَّحَابَة فِيهَا مُخْتَلفَة، فَمنهمْ من يُنْزل الجَدَّ بِمَنْزِلَة الْأَب الْأَدْنَى فَلا يُورث الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات مَعَه، وَمِنْهُم من يُعْطي الْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم أَو الْأَب فرائضهن وَيُورث الْجد بَعْدَ مَا يسْتَحقّهُ، وَهَذَا مَذْهَب عليّ وَعبد اللَّه، إِلَّا أنَّ عَبْد اللَّه لَا يفضِّل أُمًّا عَلَى جَدّ، وَقد روى عَنْهُ أنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَة من مُرَبّعاته، وَمِنْهُم من يُنزل الْجد مَعَ الْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم أَوْ من الْأَب بِمَنْزِلَة الْأَخ فِي الْمُقَاسَمَة، وَبينهمْ فِي الْقدر الَّذِي تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمُقَاسَمَة ويفرض للْجدّ فَرِيضَة، خلاف لَيْسَ هَذِه مَوْضِعه، وروى منع الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات الْمِيرَاث مَعَ الْجد عَنْ أبي بَكْر وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير فيعدد كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من عُلَمَاء الْأَمْصَار وَالْمُسْلِمين، والى هَذَا نَذْهَب، وَبَيَانه مشروح فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي فَرَائض الْمَوَارِيث.
لَوْ حدثت أحدا لحدثتك
وحَدثني أَحْمَد بْن كَامِل، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن القَاسِم الْمَعْرُوف بِأبي العيناء، قَالَ: أتيت عَبْد اللَّه بْن دَاوُد الْخُرَيْبِي فَقَالَ لي: قَدْ حفظتُ الْقُرْآن، قَالَ: فاقرأ: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ "، قَالَ: فَقَرَأت الْعشْر حَتَّى أنفدتْه، قَالَ: اذْهَبْ فتعلم الْفَرَائِض، قَالَ: فَلت: قَدْ حفظت الصلب وَالْجد والْكُبْر، قَالَ: فأيما أقرب إِلَيْكَ، ابْن أَخِيك أَوْ عمك؟ قَالَ: قلت: ابْن أخي، قَالَ: وَلم؟ قَالَ: قلت: لِأَن ابْن أخي من أَبِي، وَعمي من جدي، قَالَ: اذْهَبْ الْآن فتعلم الْعَرَبيَّة، قَالَ: قلت: قَدْ علمتها قَبْلَ ذين، قَالَ: فَلم قَالَ عُمَر بْن الْخطاب حِين طعن: يَا لله للْمُسلمين، لم فتح تِلْكَ اللَّام وَكسر هَذِهِ؟ قَالَ: قلت: فتح تِلك للدُّعاء ومسر هَذِهِ للاستنصار قَالَ: لَوْ حَدّثْت أحدا لحدثتك.
قَالَ القَاضِي: قلت لِابْنِ كَامِل أملّ هَذَا الحَدِيث: مَا أنصفه لِمَا أوقع بِهِ هَذِهِ المحنة، وأسرع بِمَا لَمْ يُنكره من الْإِجَابَة، بمنعهما التمس من الْفَائِدَة، فَضَحِك.
قَالَ القَاضِي: هَذَا الْعشْر الَّذِي استقرأه الْخُريبي أَبَا العيناء يعرف بالصهيبي ويمتحن بِهِ من يتعاطى الْحِفْظ من الْقُرَّاء، وَله حَدِيث نذكرهُ فِيمَا يَأْتِي من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه، وأمّا اللَّام فِي الْمَوْضِعَيْنِ من هذَيْن فَإِن أَئِمَّة النَّحْوِيين من الْكُوفِيّين والبصريين رَوَوْها مَفْتُوحَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِذا قيل: يَا لَلْقوم، فَهُوَ استغاثة تُفتح فِيهِ لَام المَدْعو، وَإِذا قيل: لِلْماء فالكسر لَازم لَام المَدْعُوِّ لَهُ أَوْ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أدعوكم للْمَاء، وَقَالَ الشَّاعِر:
يالَ بكرٍ انشروا لي كُلَيْبًا ... يالَ بكرٍ أَيْنَ أَيْنَ الفِرَارُ؟(1/56)
وَقَالَ الْأَعْشَى:
يالَ قَيْسِ لِمَا لَقِينَا العَامَا
أَي أدعوكم لهَذَا، وَشرح واستقصاء فروعه وَعلله يطول، وَله مَوضِع غَيْر هَذَا.
وَصِيَّة الحَجَّاج بِأَهْل الْبَصْرَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ: قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن مُحَمَّد بن عَائِشَة: قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ: أَرَادَ الحَجَّاج الْخُرُوج من الْبَصْرَة إِلَى مكَّة فَخَطب النّاس، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَة إِنِّي أُرِيد الْخُرُوج إِلَى مكَّة وَقد استخلفتُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدًا ابْني وأوصيته فِيكُم بِخِلَاف مَا أوصى بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَنْصَار، فَإِنَّهُ أوصى فِي الأَنْصَار أَن يُقْبل من محسنهم وَلَا يتَجَاوَز عَنْ مسيئهم، أَلا وَإِنِّي قَدْ أوصيته فِيكُم أَلا يقبل من مُحْسنكم وَلَا يتَجَاوَز عَنْ مسيئكم، أَلا وَإِنَّكُمْ قَائِلُونَ بعدِي كلمة لَيْسَ يَمْنعكم من إظهارها إِلَّا الْخَوْف، أَلا وَإِنَّكُمْ قَائِلُونَ: لَا أحسن الله لَهُ الصَّحَابَة، إِنِّي معجلٌ لَكُم الْجَواب: لَا أحسن اللَّه عَلَيْكُم الْخلَافَة.
الْمجْلس التَّاسِع
مؤرق وفضيلة كتمان السِّرّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بِمَ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدثنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مِهْرَانَ الدَّارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرِبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن كَانَ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُؤَرَّقٌ وَكَانَ مُتَعَبِّدًا، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي صَلاتِهِ إِذْ ذَكَرَ النِّسَاءَ فَاشْتَهَاهُنَّ وَانْتَشَرَ حَتَّى قَطَعَ صَلاتَهُ، فَغَضِبَ فَأَخَذَ قَوْسَهُ فَقَطَعَ وَتَرَهَا فَعَقَدَهُ بِمَذَاكِيرِهِ وَشَدَّهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، ثُمَّ مَدَّ رِجْلَهُ فَانْتَزَعَهَا، ثُمَّ أَخَذَ طِمْرَيْهِ وَنَعْلَيْهِ حَتَّى أَتَى أَرْضًا لَا أَنِيسَ بِهَا وَلا وَحْشَ، فَاتخذ عَرِيشًا ثمَّ قَالَ يُصَلِّي، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَصْبَحَ انْصَدَعَتْ لَهُ الأَرْض، فَخرج خَارِجَة مِنْهَا وَمَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ طَعَامٌ فَيَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ، ثُمَّ يَدْخُلُ وَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ الأَرْضُ، فَإِذَا أَمْسَى فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّ ناسٌ مِنْهُ فَأَتَاهُ رَجُلانِ مِنَ الْقَوْمِ فَمَرَّا تَحْتَ اللَّيْلِ فَسَأَلاهُ عَنْ قَصْدِهِمَا فَسَمَتَ لَهُمَا بِيَدَيْهِ، فَقَالَ: هَذِه قصد كَمَا حَيْثُ تُرِيدَانِ، فَسَارَا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا يُسْكِنُ هَذَا الرجل هَا هُنَا؟ أَرْضٌ لَا أَنِيسَ بِهَا وَلا وَحْشَ، وَلَوْ رَجَعْنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ، فَرَجَعَا فَقَالُوا لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا يُقِيمُكَ بِهَذَا الْمَكَانِ، بِأَرْضٍ لَا أَنِيسَ فِيهَا وَلا وَحْشَ؟ فَقَالَ: امْضِيَا لِشَأْنِكُمَا وَدَعَانِي، فَأَلَحَّا عَلَيْهِ قَالَ: فَإِنِّي مُخْبِرُكُمَا عَلَى أَنَّ مَنْ كَتَمَ عَلَيَّ مِنْكُمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمَا أَهَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالا: نَعَمْ قَالَ: انْزِلا فَلَمَّا أَصْبَحَا خَرَجَ مِنَ الأَرْضِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّعَامِ وَمِثْلاهُ مَعَهُ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا(1/57)
ثمَّ دخل فَخرج عَلَيْهِم شَرَابٌ فِيهِ إِنَاءٌ مِثْلُ الَّذِي كَانَ يخرج فِي كلي يَوْمٍ وَمِثْلاهُ مَعَهُ، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا ثُمَّ دَخَلَ فَالْتَأَمَتِ الأَرْضُ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: مَا يُعْجِلُنَا؟ هَذَا طَعَامٌ وشرابٌ وَقَدْ عَلِمْنَا سَمْتَنَا مِنَ الأَرْضِ، امْكُثْ إِلَى الْعَشَاءِ فَمَكَثَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فِي الْعَشَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلُ الَّذِي خَرَجَ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: امْكُثْ حَتَّى نُصْبِحَ، فَمَكَثَا فَلَمَّا أَصْبَحَا خَرَجَ إِلَيْهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ رَكِبَا فَانْطَلَقَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَلَزِمَ بَابَ الْمَلِكِ حَتَّى كَانَ مِنْ خَاصَّتِهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَقْبَلَ عَلَى تِجَارَتِهِ وَعَمَلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ لَا يَكْذِبُ أحدٌ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ كَذْبَةً تُعْرَفُ إِلا صَلَبَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً فِي السَّمَرِ فَحَدَّثُوا مَا رَأَوْا مِنَ الْعَجَائِبَ أَنْشَأَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يحدث، فَقَالَ: لأحدثنك أَيهَا لملك بِحَدِيثٍ مَا سَمِعْتَ بِأَعْجَبَ مِنْهُ قَطُّ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي رَأَى مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ الْمَلِكُ: مَا سَمِعْتُ بِكَذِبٍ قَطُّ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَاللَّهِ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ وَإِلا صَلَبْتُكَ، فَقَالَ: بَيِّنَتِي فُلانٌ، فَقَالَ: رِضًا ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ الْمَلِكُ: إِنَّ هَذَا حَدَّثَنِي أَنَّكُمَا مَرَرْتُمَا بِرَجُلٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: أَوَ لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ، وَلَوْ أَنِّي حَدَّثْتُكَ بِهَذَا لَكَانَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَصْلُبَنِي، قَالَ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، فَأَدْخَلَ الَّذِي كَتَمَ فِي خَاصَّتِهِ وَسَمَرِهِ وَأَمَرَ بِالآخَرِ فَصُلِبَ، فَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَمَّا الَّذِي كَتَمَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مكرمه فِي الآخِرَةِ " ثُمَّ نَظَرَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ إِلَى ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُثَنَّى: أَسَمِعْتَ جَدَّكَ أَنَسًا يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
بدءُ أَمر الْخضر عَلَيْهِ السّلام
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ فُرَاتٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: كَانَ مَلِكٌ وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ الْخَضِرُ، وَإِلْيَاسُ أَخُوهُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَقَالَ إِلْيَاسُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَابْنُكَ الْخَضِرُ لَيْسَ يَدْخُلُ فِي مُلْكِكَ، فَلَوْ زَوَّجْتَهُ لِيَكُونَ وَلَدُهُ مَلِكًا بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ تَزَوَّجْ، فَقَالَ: لَا أُرِيد، قَالَ: لَا بُد لَكَ، قَالَ: فَزَوِّجْنِي، فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِكْرًا، فَقَالَ لَهَا الْخَضِرُ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ فَإِنْ شِئْتِ عَبَدْتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعِي فَأَنْتِ فِي طَعَامِ الْمَلِكِ وَنَفَقَتِهِ، وَإِنْ شِئْتِ طَلَّقْتُكِ، قَالَتْ: بَلْ أَعْبُدُ اللَّهَ مَعَكَ، قَالَ: فَلا تُظْهِرِي سِرِّي فَإِنَّكِ إِنْ حَفِظْتِ سِرِّي حَفِظَكِ اللَّهُ، وَإِنْ أَظْهَرْتِ عَلَيْهِ أَهْلَكِ أَهْلَكَكِ اللَّهُ، فَكَانَتْ مَعَهُ سَنَةً لَمْ تَلِدْ، فَدَعَاهَا الْمَلِكُ فَقَالَ: أَنْتِ شَابَّةٌ وَابْنِي شَابٌّ فَأَيْنَ الْوَلَدُ وَأَنْتِ مِنْ نِسَاءٍ وُلَّدٍ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا الْوَلَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَعَا الْخَضِرَ فَقَالَ: أَيْنَ الْوَلَدُ يَا بُنَيَّ، فَقَالَ: الْوَلَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: لَعَلَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ، فَزَوِّجْهُ امْرَأَةً قَدْ وَلَدَتْ، فَقَالَ لِلْخَضِرِ: طَلِّقْ هَذِهِ، قَالَ: لَا تُفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهَا فَقَدِ اغْتَبَطْتُ بهَا، فَقَالَ: لَا بُد، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ زَوَّجَهُ ثَيِّبًا، قَدْ وَلَدَتْ، فَقَالَ لَهَا(1/58)
الْخَضِرُ كَمَا قَالَ لِلأُولَى، فَقَالَتْ: بَلْ أَكُونُ مَعَكَ، فَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ دَعَاهَا فَقَالَ: إِنَّكَ ثَيِّبٌ قَدْ وَلَدْتِ قَبْلَ ابْنِي فَأَيْنَ وَلَدُكِ، فَقَالَتْ: هَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا من بعل؟ وبعلي منشغل بِالْعِبَادَةِ وَلا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ فَغَضِبَ الْمَلِكُ وَقَالَ: اطْلُبُوهُ، فهرب فَطَلَبه ثَلَاثَة فأصابته اثْنَانِ مِنْهُمْ فَطَلَبَ إِلَيْهِمَا أَنْ يُطْلِقَاهُ فَأَبَيَا، وَجَاءَ الثَّالِثُ فَقَالَ: لَا تَذْهَبَا بِهِ فَلَعَلَّهُ يَضْرِبُهُ وَهُوَ وَلَدُهُ فَأَطْلَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَا إِلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ الاثْنَانِ أَنَّهُمَا أَخَذَاهُ وَأَنَّ الثَّالِثَ أَخَذَهُ مِنْهُمَا، فَحَبَسَ الثَّالِثَ، ثُمَّ فَكَّرَ الْمَلِكُ فَدَعَا الاثْنَيْنِ فَقَالَ: أَنْتُمَا خَوَّفْتُمَا ابْنِي حَتَّى هَرَبَ، فَذَهَبَ فَأَمَرَ بِهِمَا فَقُتِلا، وَدَعَا بِالْمَرْأَةِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ هَرَّبْتِ ابْنِي وَأَفْشَيْتِ سِرَّهُ، وَلَوْ كَتَمْتِ عَلَيْهِ لأَقَامَ عِنْدِي، فَقَتَلَهَا وَأَطْلَقَ الْمَرْأَةَ الأُولَى وَالرَّجُلَ، فَذَهَبَتْ فَاتَّخَذَتْ عَرِيشًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ تَحْتَطِبُ وَتَبِيعُهُ وَتَتَقَوَّتُ بِثَمَنِهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَة فَقير الْحَال فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَأَنْتَ تَعْرِفُ اللَّهَ؟ قَالَ: أَنَا صَاحِبُ الْخَضِرِ، قَالَتْ: وَأَنَا امْرَأَةُ الْخَضِرِ، فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ لَهُ، وَكَانَتْ مَاشِطَةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهَا بَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ رَبِّي، فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ، قَالَتْ: أُخْبِرُ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَا بِهَا، وَقَالَ: ارْجِعِي، فَأَبَتْ فَدَعَا بِنُقْرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأَخَذَ بَعْضَ من وَلَدِهَا فَرَمَى بِهِ فِي النُّقْرَةِ وَهِيَ تَغْلِي، ثُمَّ قَالَ: تَرْجِعِينَ؟ قَالَتْ: لَا، فَأَخَذَ الْوَلَدَ الآخَرَ حَتَّى ألْقى الْأَوْلَاد أَجْمَعِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَرْجِعِينَ؟ قَالَتْ: لَا، فَأَمَرَ بِهَا، قَالَتْ: إِنَّ لِي حَاجَةً، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: إِذَا أَلْقَيْتَنِي فِي النُّقْرَةِ تَأْمُرُ بِالنُّقْرَةِ أَنْ تُحْمَلَ ثمَّ تطفأ فِي بَيْتِي بِبَابِ الْمَدِينَةِ وَتُنَحِّيَ النُّقْرَةَ وَتَهْدِمَ الْبَيْتَ عَلَيْنَا حَتَّى تَكُونَ قُبُورَنَا، فَقَالَ: نَعَمْ إِنَّ لَكِ عَلَيْنَا حَقًّا، قَالَ: فَفَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَشَمَمْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رِيحُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَوَلَدِهَا "
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَالَ القَاضِي: فِي هذَيْن الْخَبَرَيْنِ عظة ومعتبر، وتنبيه لمن عقل ومُزْدَجر، وَفِيمَا اقْتضى فِيهَا مَا دَعَا ذَوي النَّهْي إِلَى الصدْق وَحفظ الْأَمَانَة، وحَذَّر من ركُوب الْغدر والخيانة، وَفِي خزن السِّر وحياطته، وصونه وحراسته مَا لَا يحِيل عَلَى الألباء وفور فضيلته، كَمَا لَا يذهب عَلَيْهِمْ مَا فِي إفشائه وإضاعته، من سُقُوط الْقدر، وقبيح الذّكر، وَمَا يُكسب صَاحبه من حَطَّه عَنْ منزلَة من يشرف ويعتمد عَلَيْهِ، ويؤتمن ويركن فِي جلائل الخطوب إِلَيْهِ، وَالنَّاس فِي هذَيْن الخلقين المتناقضين مُعافًى مُكْرم، ومبتلى مذمّم، وَقد قَالَ بَعْض من افتخر بالخلق الْكَرِيم مِنْهَا:
وأطعن الطعنة النجلاء عَنْ عِرْضٍ ... وأكتمُ السِّرَّ فِيهِ ضَرْبَةُ العنقِ
وَقَالَ بعض من خَالف هَذِه صفته، وسلك خلاف محجته:(1/59)
وَلا أكتمُ الأسرارَ لكنْ أُذِيعُها ... وَلَا أدعُ الأسرارَ تغلِي عَلَى قَلْبِي
وَمَا أَتَى من هَاتين الخليقتين المتضادتين من مَنثور الْأَخْبَار ومنظوم الْأَشْعَار مَا يتعب إحصاؤه، ويمل استقصاؤه، ولعلنا نضمن فِي مجَالِس كتَابنَا هَذَا مِنْهُ مَا يستفيده النَّاظر فِيهِ، إِذَا أَتَى مَا يجرّه ويقتضيه، إِن شَاءَ اللَّه.
وَذكرت من النَّوْع الَّذِي تضَاد فِيهِ فريقان فِيمَا وصف بِهِ كلّ وَاحِد مِنْهُمَا نَفسه، شَيئًا أَحْبَبْت أَن أثْبته فِيمَا هَا هُنَا، وَإِن كَانَ بَابه أوسع من أَن يُستوعى، وَأكْثر من أَن يسْتَغْرق ويستوفى، وَهُوَ مَا روى لَنَا أَن منفوسة بِنْت زَيْدُ الفوارس لمّا أهديت إِلَى قيس بْن عَاصِم قَرِّبت إِلَيْهِ إهداء، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ أكيلي؟ فَلم تدرِ مَا يَقُولُ لَهَا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أيا ابنةَ عَبْد الله وَابْنَة مالكٍ ... وَيَا بنة ذِي الْبُرْدَيْن والفَرَس الوردْ
إِذَا مَا صنعتِ الزَّاد فالتمسي لَهُ ... أكيلا فَإِنِّي لستُ أكلهُ وحدِي
أَخا طارِقًا أَوْ جَارَ بَيْتِ فإنني ... أخافُ مَلامات الأحاديثِ من بعدِي
وَإِنِّي لعبد الضَّيْف مَا غَيْر ذلة ... وَمَا فِي إِلَّا ذَاك من شِيَمِ العبدِ
فَسَمعهُ جَار لَهُ وَكَانَ مبخلا، فَقَالَ:
لبيني وَبَين الْمَرْء قيس بْن عَاصِم ... بِمَا قَالَ بون فِي الفعال بعيد
وَإِنَّا لنجفو الضَّيْف من غَيْر عسرة ... مَخَافَة أَن يغرى بِنَا فَيَعُود
عُقبى الْحسنى
حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْحُسَيْن بْن قتبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أحكم الْأَعْمَى، عَنْ أبي خَالِد بْن مُحَمَّد، عَنْ مُحَمَّد بْن مُسْلِم، عَنْ أبي عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، أنَّ رَجُلا من بني إِسْرَائِيل خَرَجَ فِي بَعْض حَوَائِجه، وَكَانَت لَهُ امْرَأَة فأوصى بهَا أَخَاهُ، وَسَأَلَهُ يتعهدها وَيقوم بحوائجها وَمَا تُرِيدُ، فَكَانَ يَأْتِيهَا فيسألها عَنْ بَعْض حوائجها وَمَا تُرِيدُ، إِلَى أَن رَآهَا فَوَقَعت فِي نَفسه، فَرَاوَدَهَا فَأَبت عَلَيْهِ، فَقَالَ لَها: وَالله لَئِن لَمْ تفعلي لأهلكنك، قَالَت: لَا وَالله مَا أَنَا بفاعلة وَلَا أَنَا متابعتك عَلَى مَا تُرِيدُ فعله فافعل مَا أَنْت فَاعل، فَسكت عَنْهَا إِلَى أَن قَدِمَ أَخُوهُ فَتَلقاهُ وَسَأَلَهُ وحادثه إِلَى أَن جرى ذكرهَا، فَقَالَ: يَا أخي علمت أَنَّهَا راودتني عَنْ نَفسِي وَفعلت وَفعلت؟ فَقَالَ: أَخُوهُ أَي شَيْءٍ تَقول؟ قَالَ: هُوَ وَالله مَا قتل لَك، فَلَمّا قَدِمَ الرَّجُل لَمْ تكن لَهُ همة إِلَّا أَن حملهَا وَلم يسْأَلهَا عَنْ شَيْءٍ تَصْدِيقًا لِأَخِيهِ، فأنزلها لَيْلًا وضربها بِسَيْفِهِ حَتَّى ظن أَنَّهُ قَتلهَا ثمَّ مضى، وَإِن المرأى بَقِي بهَا رَمق، فَقَامَتْ تَدُبُّ إِلَى أَن انْتَهَت إِلَى أصل دير رَاهِب فَسمع أنينها فَأَشْرَف عَلَيْهَا من(1/60)
ديره، فَلَمّا رَآهَا نزل ودعا غُلَاما لَهُ أسود فاحتملاها فأدخلاها الدَّيْر، فَلم يزل الراهب يعالجها حَتَّى برأت، وَكَانَ لَهُ ابنٌ صغيرٌ قَدْ مَاتَت أمه، فَقَالَ الراهب: إِن شِئْت أَن تذهبي فاذهبي، وَإِن شِئْت أَن تقيمي فأقيمي، فَقَالَت: بل أقيم فأخدمك أبدا، فَدفع إِلَيْهَا ابْنه وَكَانَت تربيه إِلَى أَن وَقعت فِي نفس العَبْد الْأسود فَرَاوَدَهَا، وَقَالَ: وَالله لَئِن لَمْ تتابعيني لأهلكنك، قَالَت: مَا أَنَا بمتابعتك فافعل مَا أَنْت فَاعل، فَلَمّا كَانَ اللّيل جَاءَ إِلَى الصَّبِي وَهُوَ نَائِم بَيْنَ يَديهَا فذبحه، فَلَمّا فعل لَك مضى إِلَى الراهب فَقَالَ لَهُ: أما علمت مَا كَانَ من أَمر هَذِه الخبيثة وَمَا فعلت بابنك؟ وَترى هَذِهِ فعل بهَا مَا فعل إِلَّا من أَمر عَظِيم قَدْ أتتْه، قَالَ الراهب: وَيحك وَمَا فعلت بِابْني؟ قَالَ: ذَبَحَتْهُ. فجَاء الراهب فَوجدَ ابْنه متشحطًا فِي دَمه، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لَا عَلَمُ لي غَيْر أَن غلامك كَانَ من أمره وَكَانَ، فقصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ الراهب: قَدْ شَكّكْتني فِي أَمرك، وَلست أُحِبَّ مقامك معي، فَهَذِهِ خَمْسُونَ دِينَارا فخذيها وامضي حَيْث شِئْت تكون لَك قُوَّة، فأخذتها وَمَضَت حَيْث انْتَهَت إِلَى قَرْيَة، فَإِذا رجل قَدِمَ ليُصْلَب وَالنَّاس مجتمعون والوالي، فَقَالَت للوالي - وَقد يرفع الرَّجُل عَلَى الْخَشَبَة - هَلْ لَك أَن تَأْخُذ مني خمسين دِينَارا وتخلي سَبِيل هَذا الرَّجُل؟ قَالَ: هَات. فحلّت كمها فَدفعت إِلَيْهِ الْخمسين دِينَارا فخلى سَبِيل الرَّجُل، فَقَالَ لَهَا الرَّجُل: مَا صنع أحدٌ بِأحد مَا صنعت لي أَنْت، وَلست بمفارقك، أخدُمك حَتَّى يفرق الْمَوْت بَيْننَا. فَمضى مَعهَا حَتَّى انتهيا إِلَى سَاحل الْبَحْر وَالنَّاس يعبرون فِي السفن فَدخل وأدخلها وَكَانَ لَهَا هَيْئَة وجمال، فَلَمّا رَآهَا أَهْلَ السَّفِينَة قَالُوا: من هَذِهِ الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: مَمْلُوكَة لي، وَقد وَقعت فِي نفس رَجُل مِنْهُم لما رَآهَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُل: أتبيعها؟ قَالَ: إِنِّي لأكْره بيعهَا، وَلَو أردتُ ذَلِكَ ثُمَّ علمتْ للقيتُ مِنْهَا أَذَى لِأَنَّهَا تحبني، وَقد أخذت عَلَى أَلا أبيعها أبدا، قَالَ الرَّجُل: بعْها وخذْ مالَكَ واخْرُج وَلَا تُعْلِمها، فَبَاعَهُ إِيَّاهَا بِمَال كثير فَدفعهُ إِلَيْهِ وَأشْهد عَلَيْهِ أَهْلَ السَّفِينَة وَهِي مَعَ النسا، وَقرب إِلَيْهِ قاربا فَرجع فِيهِ وَهِي لَا تعلم ومضوا فِي الْبَحْر، فَلَمّا عَلَمُ الَّذِي اشْتَرَاهَا أَنَّهُ قَدْ تبَاعد وَلَا تقدر عَلَيْهِ قَامَ يكلمها وَيعلمهَا أَنَّهُ قد اشترها، قَالَتْ: اتِّق اللَّه فَإِنِّي امْرَأَة حرَّة، قَالَ: دعِي هَذَا عَنْكَ فقد مضى صَاحبك فَلا تقدرين عَلَيْهِ، فَلا تَزَوَّجي بِمَا لَا تنتفعين بِهِ، وَأَقْبل أَهْلُ السَّفِينَة عَلَيْهَا وَقَالُوا: يَا عدوة اللَّه! قَد اشْتِرَاك الرَّجُل وَنحن نشْهد، قَالَتْ: وَيحكم! خَافُوا اللَّه فَإِنِّي وَالله امرأةٌ حُرَّة وَمَا ملكني أحدٌ قد، قَالُوا: قُم إِلَيْهَا حَتَّى تفعل بهَا كَذَا وَكَذَا، فَإنَّك إِذَا فعلت ذَلِكَ سكنت، فَقَامَ إِلَيْهَا فَلَمّا خَافت عَلَى نَفسهَا دعت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَإِذا السَّفِينَة قَد انقلبت بهم، فَلم ينج مِنْهُم غَيرهَا عَلَى ظهر السَّفِينَة، وَكَانَ للْملك ذَلِكَ الْيَوْم عيد عَلَى سَاحل الْبَحْر من الْجَانِب الآخر، وَهُوَ وَاقِف وَأهل مَمْلَكَته فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بعث من دخل عَلَيْهِم فِي السفن فَلم يقدر عَلَى غَيرهَا، فأخرجت إِلَيْهِ، فساءلها عَنْ أمرهَا ودعاها إِلَى التَّزْوِيج فَأَبت،(1/61)
وَقَالَ: إِن لي قصَّة وَلَيْسَ يجوز لي التَّزْوِيج، فصيّرها فِي دَار فَكَانَ إِذَا ورد عَلَيْهِ الْأَمر الَّذِي يَهُولُه أَتَاهَا فشاورها، فتشير عَلَيْهِ فَيرى فِي مشورتها الْبركَة، إِلَى أَن حضر الْملك فَجمع أهل مَمْلَكَته، فَقَالَ: كَيفَ كنت لَكُمْ؟ قَالُوا: كَالْأَبِ الرَّحِيم فجزاك اللَّه
خيرا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَول أَمْرِي من آخِره قَالُوا: كنت فِي آخر أَمرك أحزم، قَالَ: فَإِن جَمِيع مَا رَأَيْتُمْ من ذَلِكَ كَانَ بمشورة هَذِهِ الْمَرْأَة، وَقد رَأَيْت لَكُمْ رَأيا، قَالُوا: وَمَا هُوَ أَيهَا الْملك؟ قَالَ: أُمِلِّكُها عَلَيْكُمْ من بعدِي، قَالُوا: فرأيك، فملكها عَلَيْهِمْ وَمَات الْملك، وَإِنَّهَا أمرت بحشر النَّاس إِلَيْهَا ليبايعوها، فحشر النّاس وَجَلَست تنظر، فَمر بهَا زَوجهَا وَأَخُوهُ، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن ثُمَّ مر بهَا المصلوب الَّذِي بَاعهَا، فَقَالَت: اعزلوا هَذَا، ثمَّ مر بهَا الراهب وَغُلَامه، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن، ثُمَّ صرفت النّاس ودعت بهم فَقَالَت لزَوجهَا: تعرفنِي؟ قَالَ: لَا وَالله، إِلَّا أَنِّي أعلم أنَّكَ الملكة، قَالَتْ: أَنَا فُلَانَة امْرَأَتك، وَإِن أَخَاك فعل بِي وَفعل وخبرته الْخَبَر، وَإِن اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يصل إليَّ رَجُل مُنْذُ فارقتك، ثُمَّ دعت بأَخيه فَقتل، ثُمَّ دعت بِالرَّاهِبِ فأجازته، وَقَالَت: ارْفَعْ غلي مَا كَانَتْ لَك من حَاجَة، وحدثته بِقصَّة الْغُلَام وَمَا صنع بِابْنِهِ، ثُمَّ أمرت بالغلام فقُتل، ثمَّ دعت بالمصلوب وَأمرت بِهِ أَن يقتل ويصلب، فَفعل ذَلِك بِهن وَمَكَثت فِي ملكهَا مَا أَرَادَ اللَّه أَن تمكث ثُمَّ مَاتَت.، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَول أَمْرِي من آخِره قَالُوا: كنت فِي آخر أَمرك أحزم، قَالَ: فَإِن جَمِيع مَا رَأَيْتُمْ من ذَلِكَ كَانَ بمشورة هَذِهِ الْمَرْأَة، وَقد رَأَيْت لَكُمْ رَأيا، قَالُوا: وَمَا هُوَ أَيهَا الْملك؟ قَالَ: أُمِلِّكُها عَلَيْكُمْ من بعدِي، قَالُوا: فرأيك، فملكها عَلَيْهِمْ وَمَات الْملك، وَإِنَّهَا أمرت بحشر النَّاس إِلَيْهَا ليبايعوها، فحشر النّاس وَجَلَست تنظر، فَمر بهَا زَوجهَا وَأَخُوهُ، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن ثُمَّ مر بهَا المصلوب الَّذِي بَاعهَا، فَقَالَت: اعزلوا هَذَا، ثمَّ مر بهَا الراهب وَغُلَامه، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن، ثُمَّ صرفت النّاس ودعت بهم فَقَالَت لزَوجهَا: تعرفنِي؟ قَالَ: لَا وَالله، إِلَّا أَنِّي أعلم أنَّكَ الملكة، قَالَتْ: أَنَا فُلَانَة امْرَأَتك، وَإِن أَخَاك فعل بِي وَفعل وخبرته الْخَبَر، وَإِن اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يصل إليَّ رَجُل مُنْذُ فارقتك، ثُمَّ دعت بأَخيه فَقتل، ثُمَّ دعت بِالرَّاهِبِ فأجازته، وَقَالَت: ارْفَعْ غلي مَا كَانَتْ لَك من حَاجَة، وحدثته بِقصَّة الْغُلَام وَمَا صنع بِابْنِهِ، ثُمَّ أمرت بالغلام فقُتل، ثمَّ دعت بالمصلوب وَأمرت بِهِ أَن يقتل ويصلب، فَفعل ذَلِك بِهن وَمَكَثت فِي ملكهَا مَا أَرَادَ اللَّه أَن تمكث ثُمَّ مَاتَت.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَالَ القَاضِي: وَإِن ممّا تقدّمت روايتنا إِيَّاه فِي هَذَا الْمجْلس من التَّنْبِيه مَا يبْعَث الألباء عَلَى تَأمل عَاقِبَة أَعْمَالهم، وَمَا تؤثره نياتهم ومقاصدهم فِي أفعالهم، وَحسن عُقْبى الْحسنى وَسُوء مغبة السوءى. نسْأَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَن يهب لَنَا بَصِيرَة مؤدية لَنَا إِلَى السَّلامَة وَالْغنيمَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَلم ينلْ أحد خيرا إِلَّا بتوفيقه وإحسانه، وَلم يحلل بِهِ سوء فِي دُنْيَاهُ إِلَّا بامتحانه، وَلَا فِي دينه إِلَّا بخُذْلانه.
الوشاية منزلَة بَيْنَ الْخِيَانَة وَالْإِثْم
حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي، قَالَ: وَشَى واشٍ بِعَبْد اللَّه بْن هَمّام السّلُولي إِلَى زِيَاد أَنَّهُ هجاك فَقَالَ زِيَاد: أجمع بَيْنك وَبَينه؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبعث زِيَاد إِلَى ابْن همام فجيء بِهِ فَأدْخل الرَّجُل بَيْتا، ثُمَّ قَالَ زِيَاد: يَا ابْن همام! بَلغنِي أنَّكَ هجوتني، قَالَ: كَلا أصلحك اللَّه مَا فعلت، وَلَا أَنْت لذَلِك بِأَهْل، قَالَ: فَإِن هَذَا أَخْبرنِي - وَأخرج الرَّجُل - فَأَطْرَقَ ابْن همام هنيهة، ثمَّ أقبل على الرجل فَقَالَ:
وَأَنت امْرُؤ إِمَّا ائتمنتك خَالِيا ... فخنت، وإمّا قلت قولا بِلَا علم
فَأَنت من الْأَمر الَّذِي كَانَ بَيْننَا ... بمنزلةٍ بَيْنَ الْخِيَانَة وَالْإِثْم
فأعجب زيادا جَوَابه، وأقصى السَّاعِي وَلم يقبل مِنْهُ.(1/62)
هَذَا سوار سَاقه اللَّه إِلَيْكَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن أبي العنبس، عَنْ إِسْحَاق بْن يحيى بْن مُعَاذِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَوَّارٌ صَاحب رحبة سوار، قَالَ: انصرفتُ يَوْمَا من دَار الْمهْدي، فَلَمَّا دخلت منزلي عوت بالغَدَاء فجاشَتْ نَفسِي وَأمرت بِهِ فَرُدّ، ثُمَّ دعوتُ بالنرد ودعوت جَارِيَة لي ألاعبها فَلم تطب نَفسِي لذَلِك، فَدخلت للقائلة فَلم يأخذني النّوم، فَنَهَضت وَأمرت ببغلة لي شهباء فأُسرجت فركبتها، فَلَمّا خرجتُ استقبلني وَكيل لي وَمَعَهُ مَال فَقتل: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: ألفا دِرْهَم جَبَيْتُها من مستغلِّك الْجَدِيد، قلت: أمْسكهَا مَعَك واتبعني، قَالَ: وخليتُ رَأس البغلة حَتَّى عَبَرَت الجسر ثُمَّ مضيتُ فِي شَارِع دَار الرَّقِيق حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الصَّحرَاء، ثُمَّ رجعتُ إِلَى بَاب الأنبار فطَوفت، فَلَمَّا صرت فِي شَارِع بَاب الأنبار انتهيتُ إِلَى بَاب دَار نظيف عَلَيْهِ شَجَرَة وعَلى الْبَاب خَادِم، فوقفت وَقد عطشنا، فَقَالَ للخادم، أعندك مَا تسقيني؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَامَ فَاخْرُج قُلَّة نظيفة حيرية طيبَة الرَّائِحَة عَلَيْهَا منديل، فناولني فَشَرِبت، وَحضر وقتُ الْعَصْر فَدخلت مَسْجِدا عَلَى الْبَاب فَصليت فِيهِ، فَلَمّا قضيت صَلَاتي إِذْ أَنَا بأعمى يتلمس، فَقلت: مَا تُرِيدُ يَا هَذَا؟ قَالَ: إياك أُرِيد، قلت: وَمَا حَاجَتك؟ فجَاء حَتَّى قعد إِلَى فَقَالَ: شممتُ مِنْك رائحةَ الطِّيب فظننتُ أنَّكَ من أَهْلَ النَّعيم، فأردتُ أَن ألقِي عَلَيْكَ شَيئًا، فَقلت: قل، قَالَ: أَتَرَى بَاب هَذَا الْقصر؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ: هَذَا قصر كَانَ لأبي فَبَاعَهُ وَخرج إِلَى خُرَاسَان وخرجتُ مَعَه، فَزَالَتْ عَنَّا النعم الَّتِي كُنَّا فِيهَا، فَقدمت فَأتيت صَاحب الدَّار لأسأله شَيئًا يَصِلُني بِهِ وأصير إِلَى سَوّار، فَإِنَّهُ كَانَ صديقا لأبي، قلت: وَمن أَبوك؟ قَالَ: فلَان بْن فلَان، قَالَ: فَإِذا أصدقُ النّاس كَانَ لي فَقلت لَهُ: يَا هَذَا فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَتَاك بسَوّار وَمنعه النومَ والطعامَ حَتَّى جَاءَ بِهِ فأقعده بَيْنَ يَديك، ثُمَّ دعوتُ الْوَكِيل وأخذتُ الدَّرَاهِم مِنْهُ ودفعتها إِلَيْهِ، وَقتل لَهُ: إِذَا كَانَ غدٌ فصر إِلَى الْمنزل، ثمَّ مضيت فَقتل: مَا أحدث أَمِير المهديِّ بِشَيْء هُوَ أطرف من هَذَا، فَأَتَيْته فاستأذنت عَلَيْهِ فَأذن لي، فَدخلت إِلَيْهِ فَحَدَّثته فأعجبه فَأمر لي بألفي دِينَار، فأحضرت، فَقَالَ: ادفعها إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَهَضت، فَقَالَ لي: أعليك دين؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ كم؟ قلت: خَمْسُونَ ألف دِينَار. فَأمْسك وَجعل يحدثني سَاعَة، ثمَّ قَالَ: امْضِ إِلَى مَنْزِلك، فصرت إِلَى منزل فَإِذا خَادِم مَعَه خَمْسُونَ ألف دِينَار فَقَالَ: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ اقْضِ بهما دينك. قَالَ: فقبضتها، فَلَمّا كَانَ من الْغَد أَبْطَأَ عليّ المكفوفُ وَجَاء رَسُول المهديِّ يدعوني فَجِئْته، فَقَالَ: فَكرت فِي أَمرك وَقتل: يقْضِي دينه ثُمَّ يحْتَاج إِلَى الْحِيلَة وَالْقَرْض، وَقد أمرتُ لَك بِخَمْسِينَ ألف دِينَار أُخْرَى، قَالَ: فقبضتها وانصرفت فَأَتَانِي المكفوفُ فَدفعت إِلَيْهِ الألفي دِينَار، وَقتل قَدْ رزق اللَّه تَعَالَى بكرمه بك خيرا كثيرا، وأعطيته من مَالِي ألفي دِينَار.(1/63)
أَبْيَات فِي التوديع
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ عَشِيَّة - يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى - وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ فِي شوّال، فَجَاءَهُ أَبُو الْحَسَن الأسَدِيُ يودعه فِي خُرُوجه إِلَى مكَّة، فَقَالَ لَهُ: لَوْ كُنَّا نحسن صَنَعْنا عِنْدَ وداعك مَا صنع غَيرنَا، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قَالَ أَبُو سعيد عبد الله ابْن شَبِيب: أتيت هِشَام بْن إِبْرَاهِيم الأَنْصَارِيّ لأودعه فِي خرجَة خرجها إِلَى المَدِينَةِ، فَقَالَ: لَا أودعك حَتَّى أغنيك، فغنى:
وَأَنا بَكَيْت على الفرا ... ق فَهَل بكيتَ كَمَا بكيتُ
ولطمتُ خدِّي خَالِيا ... ومَرَستْهُ حَتَّى اشتفيتُ
وعواذلي ينهينني ... عَمَّن هويتُ فَمَا انتهيتُ
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بعقب هَذَا شَيئًا لَمْ أفهمهُ إِلَّا أَنَّهُ تكلم فِي أَنَا بَكَيْت أَرَادَ أَنَا بَكَيْت بِغَيْر وقُوف عَلَى الْألف. قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيد: فجئتُ إِلَى الزُّبَيْر لأودعه فَحَدَّثته بِحَدِيث هِشَام، فَقَالَ: وَأَنا لَا أودعك حَتَّى أُغني:
أزِف البَيْنُ الْمُبين ... وَجَلا الشكُّ اليَقِينْ
لَمْ أكنْ لَا كنتُ أَدْرِي ... أنَّ ذَا البينِ يكونْ
علموني كَيفَ أشتا ... ق إِذَا خَفَ القطينْ
حَنّتِ الْعِيسُ فأبكي ... من العيسٍ الحَنِينْ
حذف ألف أَنَا فِي الْوَصْل
قَالَ القَاضِي: الْكَلَام الْمَشْهُور: أَنَا فعلت بِغَيْر ألف فِي الْوَصْل، فَإِذا وقف الْمُتَكَلّم قَالَ: أَنَا، فَأثْبت الْألف، وإثباتها فِي الْوَصْل لُغَة قَدْ قرئَ بهَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن، وَمِمَّنْ قَرَأَ كَذَلِك نافعٌ فِيمَن وَافقه من أَهْلَ المَدِينَةِ، وَمن هَذِهِ اللُّغَة، قَول الشَّاعِر:
أنَا شَيْخ العَشِيرةِ فاعْرِفُونِي ... حَمِيدا قَدْ تَذرَّيْتُ السّنَاما
نَصَّب حميدا عَلَى الْمَدْح والافتخار، وَقد قَرَأَ بعض الْمُتَقَدِّمين " وَنحن عصبَة " نصبا عَلَى هَذَا النَّحْو من الِاخْتِصَاص والافتخار.
أَبْيَات لسوار يُغني بهَا
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن قصر، قَالَ: حَدَّثَنَا الْجرْمِي، قَالَ: دخلتُ حَماما فِي درب الثَّلج، فَإِذا فِيهِ سَوَّارُ بْن عَبْد اللَّه القَاضِي فِي الْبَيْت الدَّاخِل قَد اسْتلْقى وَعَلِيهِ المئزر، فَجَلَست بِقُرْبِهِ فساكتني سَاعَة ثُمَّ قَالَ: قَدْ أحْشَمْتَني يَا رَجُل، فإمَّا أَن تَخْرُجَ أَوْ أخرج فَقلت: جِئْت أَسأَلك عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوضِع الْمسَائِل، فَقلت: إِنَّهَا من مسَائِل الْحمام، فَضَحِك وَقَالَ: هَاتِهَا، فَقلت: مَنِ الْفَتى الَّذِي يَقُولُ:
سلبتِ عِظَامِي لَحْمَها فَتَرَكْتِهَا ... عَواريَ ممّا نَالَها تتكسرُ
وأخليتِها من مُخِّها فتركتِها ... قواريرَ فِي أجوافها الرّيح تصفرُ
إِذَا سمعتْ ذكرَ الْفِرَاق تراعدت ... مفاصلُها خَوفا لمَا تتنظرُ
خذي يَدي ثُمَّ اكشفي الثَّوْب فانظُري ... بِلَى جَسَدي لكنني أتستّرُ
فَقَالَ سوار: أَنَا وَالله قُلْتُها. قلت: فَإِنَّهُ يُغَنّي بهَا ويجود، فَقَالَ: لَوْ شهد عِنْدِي الَّذِي(1/64)
يُغني بهَا لجزت شَهَادَته.
قَوْله: أحشمتني لُغَة، وحَشَمْتني أَكثر فِي الْعَرَبيَّة، قَالَ الشَّاعِر:
لَعَمْرُك إنّ قُرْص أبي خُبيبٍ ... بَطِيءُ النُّضْجِ مَحْشُوم الأكيلِ
وَمن مأثور الحكم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ ملك من مُلُوك الْأَعَاجِم لحكيم من حكمائهم: أَي الْمُلُوك أَحزم؟ قَالَ: من ملك جَدُّه هَزْلَه، وقهر رأيهُ هَوَاه، وعَبّر فعلُه عَنْ ضَمِيره، وَلم يَخْدَعْهُ رضاهُ عَنْ خَطَئِهِ، وَلَا غَضَبُهُ عَنْ كَيْدِه.
قَالَ القَاضِي: هَذَا من أفْصح لفظ وَأحسنه، وأوضح معنى وأبينه، وأنشدنا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: أَنْشدني أَبِي لبَعض الْأَعْرَاب:
أَلا يَا حَمَام الشِّعْبِ شِعْبَ مؤنسٍ ... سُقِيتَ الغَوادِي من حَمَام وَمن شِعبِ
سُقيت الغَوادِي رُبَّ خودٍ خَرِيدَةٍ ... أصاختْ لخفضٍ من غِنَائك أَوْ نصبِ
فَإِن يرتحلْ صَحْبِي بجُثْمانِ أعظُمي ... يُقِمْ قَلْبِيَ المحزونُ فِي منزل الركبِ
الْمجْلس الْعَاشِر
رجل أحب قومه
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بكر بن أبي شيبَة الْبَزَّاز، فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وثلثمائة قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ حَسَّانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَجُلٌ أحب قوما وَلما يعْمل مثل عَمَلَهُمْ، قَالَ: " هُوَ مِنْهُمْ " قَالَ: فَمَا فَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي أَبُو الْفَج: أبان رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ عَنْهُ فِي هَذَا الحَدِيث أنَّ من تَولّى قوما وأحبهم، وَكَانَ رَاضِيا بِمَا أَتَوْه من أفعالهم فَهُوَ مِنْهُم، فِي اسْتِحْقَاقه الثَّنَاء والمدح، والتولي لمشاركته إيَّاهُم فِي اعْتِقَاد مَا يعتقدونه وَفِي اسْتِحْسَان مَا يستحسنونه، وَكَذَلِكَ الْأَمر فِي من تولى قوما على اعْتِقَاد فَاسد وَفعل قَبِيح فِي أَنَّهُ مُلْحق فِي الذَّم بهم، وجار فِي سُقُوط الْمنزلَة مجراهم.
وَجَاء فِي الْخَبَر أَن من حضر الْفِتْنَة فأنكرها فَهُوَ بِمَنْزِلَة ن غَابَ عَنْهَا، وَمن غَابَ عَنْهَا وَرَضي بهَا كَانَ بِمَنْزِلَة من شَهِدَهَا، وَقد قَالَ اللَّه جلّ جَلَاله " يَا أَيهَا الَّذين آمنا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعضٍ، وَمَنْ يتولّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين "، وَقَالَ جلّ اسْمه: " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعضهم من(1/65)
بعض "، وَقَالَ: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " وَمَا أَتَى بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنى من الْكتاب وَالسّنة كثير جدا، وَقد نعى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُم عَلَى عهد نَبينَا صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم من كَفَرة أهلِ الْكتاب مَا كَانَ من قَبْلَ أسلافهم ومَنْ تقادم عَهده من آبَائِهِم أنبياءهم، لرضاهم بذلك ودينونتهم بِهِ، وتوليهم من تولى دونهم فعله، وَإِن لَمْ يدركوه وَلم يباشروا مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَلم تَزل الْعَرَب تفتخر بِمَا أَتَاهُ الماضون من آبَائِهِم، وتتمادح وتتعاير بِهِ، وينسبونه فِي ألفاظهم إِلَى أنفسهم فِي أشعارهم وخطبهم لهَذَا الْمَعْنى، وَهَذَا مَذْكُور عَلَى استقصاء بشواهده فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز، وَإِذا كَانَ الْأَمر فِي هَذَا الْفَصْل عَلَى مَا وَصفنَا، فَتبين أنَّ الراضي بِالْفِعْلِ والمؤتى لَهُ والدالّ عَلَيْهِ مشارك لفَاعِله فِيمَا بِكَسْبِهِ من حمد أَوْ ذمّ، أَوْ أجرٍ أَوْ إِثْم، وَلذَلِك أشرك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ من تولّى الْحَج من غَيره وَبَين من أوصى بِهِ، وَبَين من نفذه فِي الْأجر، وَبَين آكل الرِّبَا ومؤكله وكاتبه وَشَاهده فِي الْوزر، وَبَين العاصر والمعتصر، وَالْبَائِع وَالْمُشْتَرِي، وَالْحَامِل والمحمول إِلَيْهِ والساقي والشارب فِي اللَّعْنَة الَّتِي أوقعهَا فِي الْخمر، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كَتَمَ عَلَى غَالٍّ فَهُوَ مثله " وَجَاء فِي الكاتم عَلَى السَّارِق سَرقته أَنَّهُ يشركهُ فِي عارها وإثمها، وَهَذَا الْبَاب أَكثر من أَن يُحصى، وَلم يزل ذَوُو النَّهْي وأولو البصائر والحجى يبعثون عَلَى إتْيَان المحاسن وَفعل المكارم ويحضون عَلَيْهَا، فَيحسن الذّكر لَهُمْ وَالثنَاء عَلَيْهِمْ، ويتوفر من جميل الأحدوثة عَنْهُمْ مَا يرى كثيرا عَلَى من بَاشر الْفِعْل بِنَفسِهِ، وبذل فِي الْعرف خَاصَّة مَاله، وَللَّه در الْقَائِل:
وَإِذا امرؤٌ أَهدى إِلَيْكَ صَنِيعة ... من جاهه فكأنّها من مَالِه
وَقد حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن إِسْحَاق بْن سَعِيد بْن الْحَارِث الْعقيلِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: كتب إليَّ سهل بْن صَالح الْحلْوانِي أنَّ الْحَسَن بِن سهل كتب لرجل شَفَاعَة، فَقَالَ الرَّجُل يَدْعُو لَهُ ويشكره فَقَالَ لَهُ الْحَسَن، عَلَى مَا تشكرنا وَنحن نرى كتب الشفاعات زكاةُ مروءاتنا، وَأنْشد:
فَرَضَتْ عليَّ زكاةُ مَا مَلَكَتْ يَدِي ... وزكاةُ جاهي أَن أُعينَ وأشْفَعَا
فَإِذا ملكَت فَجُدْ وَإِن لَمْ تستطعْ ... فاجهدْ بوُسْعِك كلِّهِ أَن تنفعا
هَكَذَا أمل عَلَيْنَا أَبو النَّضْر هَذَا الْخَبَر من حفظه، فَقَالَ فِيهِ: فَقَامَ إِلَيْهِ يَدْعُو لَهُ ويشكره، وَقَالَ: عَلَى مَا تشكرنا؟ والفصيح من كَلَام الْعَرَب فَشكر لَهُ، تَقول الْعَرَب: شكرت النِّعْمَة وشكرت للمنعم، قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَاشْكُرُوا نعْمَة اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ "، وَقَالَ: " قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ " وَقَالَ تَعَالَى ذكره: " وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تكفرون "، وَقَالَ: " أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ " وَقد جَاءَ:(1/66)
شكرتُ فلَانا فِي لغةٍ قَليلَة، من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
هُمُ جَمَعُوا نُعْمَى وبُؤْسي عليكمُ ... فَهَلا شكرتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقَاتِلِ
وَقَالَ أَبُو نُخَيْلة السّعدي:
شكرتُك إنَّ الشُّكْر حبلٌ من التُّقَى ... وَمَا كلُّ من أوليته نعْمَة يَقْضِي
قَالَ القَاضِي: وَلنَا فِي هَذَا الْمَعْنى، وَالْكَلَام عَلَى فقهه، وَبَيَان أصل مَا يتَفَرَّع مِنْهُ رِسَالَة مُفْردَة مستقصاة، يَعِزُّ المتصورون لَهَا، ويَقلُّ القائمون بهَا، وَنَحْمَد اللَّه عَلَى ظَاهر نعمه وباطنها.
وأمّا قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: عَلَى مَا تشكرنا، فقد بيّنا فِي مجلسٍ من مجالسنا هَذِهِ أنَّ الفصيح من كَلَام الْعَرَب حذف الْألف فِيمَا يَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب عَلَى لفظ الِاسْتِفْهَام، كَقَوْلِك: فيمَ أَنْت، وَلم فعلت؟ وعلام تذْهب؟ وَعم تسْأَل؟ وَذكرنَا مَا تستشهد بِهِ عَلَى هَذَا، وَبَعض مَا أَتَى عَلَى اللُّغَة الْأُخْرَى الْآتِيَة بِإِثْبَات الْألف بشواهده بِمَا كرهنا إِعَادَته، وَمن هَذَا الْبَاب أَيْضا: حتام كَذَا، كَمَا قَالَ الْكُمَيْت:
فَتلك ولاةُ السُّوءِ قَد طَال عَهْدُهُم ... فَحَتّامَ حَتّامَ العَنَاءُ المطولُ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحرز الْكَاتِب، قَالَ: قَالَ الْحَسَن بْن سهل: كُتب الشفاعاتِ زَكَاةُ الجاه.
امْرَأَتك أكْرمكُم
حَدثنَا بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أبي شيخ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْوَاقِدِيّ القَاضِي، قَالَ: جَاءَتْنِي جارتي يَوْمَ عَرَفَة، فَقَالَت لي: مَا عندنَا من آلَة الْعِيد شيءٌ، فمضيت إِلَى صديق لي من التُّجَّار فعرفته حَاجَتي إِلَى الْقَرْض، فَأخْرج إليَّ كيسا مَخْتُومًا فِيهِ ألف وَمِائَتَا دِرْهَم، فَانْصَرَفت بِهِ إِلَى الْمنزل، فَمَا استقررت جَالِسا حَتَّى اسْتَأْذن عَليّ رج من بني هَاشم، فَذَكَرَ تَخَلُّفَ غلّته واختلال حَاله وَحَاجته إِلَى الْقَرْض، فَدخلت إِلَى امْرَأَتي فعجّبْتُها من ذَلِكَ، فَقَالَت: فَمَا عَزْمُك؟ قلت: أشاطره الْكيس، فَقَالَت: وَالله مَا أنصفت، لقِيت رجلا سُوقة فأعطاك شَيئًا، وجاءك رَجُل لَهُ من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمٌ فتعطيه نصف مَا أَعْطَاك السُّوقة، فأخرجت الْكيس بخاتَمه فَدَفَعته إِلَيْهِ، وَمضى صديقي التَّاجِر يلْتَمس مِنْه الْقَرْض فَأخْرج إِلَيْهِ الْكيس بِخَاتمِهِ، فَلَمّا رَآهُ عرفه فَجَاءَنِي بِهِ، ثُمَّ وافاني رَسُول يحيى بْن خَالِد يَقُولُ: إِن الْوَزير شُغل عَنْكَ بحاجاتِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ يطلبك، فركبتُ إِلَيْهِ وحدثته حَدِيث الْكيس وانتقاله، فَقَالَ: يَا غُلَام! هَات الدَّنَانِير، فجَاء بِعشْرَة آلَاف دِينَار، فَقَالَ: خُذ أَنْت أَلفَيْنِ، وَأعْطِ الهاشميّ أَلفَيْنِ، وصديقك التَّاجِر أَلفَيْنِ، وامرأتك أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، فَإِنَّهَا أكْرمكُم.(1/67)
قَالَ القَاضِي: أمْلَى عَلَيْنَا أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ هَذَا الْخَبَر فِي إِثْر
خبر الْوَاقِدِيّ مَعَ يحيى بْن خَالِد، وَهُوَ يضارع هَذَا الْخَبَر فِي الْجُمْلَة ويناسبه، وَأَنا ذاكره، إِن شَاءَ اللَّه.
خبر الْوَاقِدِيّ مَعَ يحيى بْن خَالِد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدثنَا عَامر ابْن عِمْرَانَ بْن زِيَاد، أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الْعَنْبَري، عَنْ أبي عَبْد اللَّه الْوَاقِدِيّ، قَالَ: كنتُ حَنّاطًا بِالْمَدِينَةِ أضارب بِمِائَة ألف دِرْهَم من مَال النّاس قِبَلي، فلزمني وضائع فشخصتُ إِلَى بَغْدَاد وقصدتُ يحيى بْن خَالِد الْبَرْمَكِي، فَجَلَست فِي دهليزٍ وآنست الخَدَم والحاشية، وعَرَّفْتُهم حَاجَتي إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ، فَقَالَ لي بَعضهم: إِذَا وُضع الطَّعَام لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُ أحد، فَحِينَئِذٍ أَدخل فأجلسك مَعَه عَلَى الْمَائِدَة، فَفعل بِي ذَلِكَ، وسألني يحيى عَنْ خبري فشرحته لَهُ، فَلَمّا غسلنا أَيْدِينَا دَنَوْت مِنْهُ أقبل رَأسه فاشمأزّ منّي، فَلَمّا صرت إِلَى الْموضع الَّذِي يركب مِنْهُ إِذْ قَدْ لَحِقَنِي خَادِم بكيس فِيهِ ألف دِينَار، فَقَالَ: الْوَزير يَقْرَأ عَلَيْكَ السّلام وَيَقُول لَك: اسْتَعِنْ بِهَذَا على أَمرك، فَأخذت وعدت فِي الْيَوْم التَّالِي فأجْلِسْتُ مَعَه عَلَى الْمَائِدَة، فَسَأَلَنِي عَمَّا سَأَلَني فِي الْيَوْم الْمَاضِي، كَأَنَّهُ لَمْ يرني، فَلَمّا غسلنا أَيْدِينَا دَنَوْت لأقبل رَأسه فاشمأزَّ من ذَلِكَ، فَلَمّا صرتُ إِلَى مَوضِع الرّكُوب لَحِقَنِي الخادمُ بِمثل ذَلِكَ الْكيس وَمثل تِلْكَ الرسَالَة، فَأَخَذته وانصرفت، وَفعل بِي فِي الْيَوْم الثَّالِث مثل ذَلِكَ، فَلَمّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع وغسلنا أَيْدِينَا دنوتُ لأقبل رَأسه فَلم يشمأز من ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّمَا امْتنعت من هَذَا فِيمَا مضى لأنَّه لَمْ يكن وصل إِلَيْكَ من معروفنا مَا يَحْتمل هَذَا، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَام! سلم إِلَيْهِ الدَّار الْفُلَانِيَّة، يَا غُلَام! أفرشه الْفرش الْفُلَانِيّ، ثُمَّ قَالَ: ادفعوا إِلَيْهِ مائَة ألف دِرْهَم توجّه فِي قَضَاء دينك واحمل عِيَالك إِلَى حضرتنا، فَقتل: إِن رَأْي الْوَزير أَن يَأْذَن لي فِي الشخوص لأسلِّم إِلَى غُرمائي حُقُوقَهم فَأَنا بهم أعرف، وأدم بعيالي فَأَنا بهم أَرْفَق. فَقَالَ: فَلا تتأخر عَنا، وَأمر لي بجائزة أُخْرَى للشخوص، فَقدمت المَدِينَةِ فقضيتُ دَيْني وقدمت بعيالي، وَلم أزل فِي ناحيته ومنقطعًا إِلَيْهِ.
قَالَ القَاضِي: وَقد رُوينا فِي هَذَا الْمَعْنى من أَبْوَاب المكارم مَا يعودُ من مَحْمُود مغبتها وَحسن عَاقبَتهَا، وَجَمِيل الأحْدُوثة عَنْ أَهلهَا وَيَأْتِي بالثناء عَلَيْهِمْ، وَإِن تصرمت أزمانهم ففقدت أعيانهم، وَقد جَاءَ فِي تَأْوِيل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: " وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدقٍ فِي الآخرين " أَنَّهُ الثَّنَاء الْحَسَن، وَقد قَالَ حَاتِم:
أماويَّ إِن المَال غادٍ ورائحٌ ... ويَبقي من المَال، الأحاديثُ والذكرُ
وَقَالَ آخر:
ثَمَنُ الْإِحْسَان شكرُ ... ويدُ المعروفُ ذخرُ(1/68)
وثناء الْحَيّ بعد المو ... ت للميِّتِ عمرُ
ولَعَمْري إِن الزَّمَان الَّذِي يُثْنَي فِيهِ عَلَى الْمَيِّت بَعْدَ مَوته أحسن عمريه وأطولهما وأشرفهما وأفضلهما، وَمِمَّا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى:
رَدَّتْ صنائعُهُ إِلَيْهِ حَيَاتَهُ ... فكأنّه من نشْرِها منشورُ
تَعْلِيق لغَوِيّ
قَوْله: فَكَأَنَّهُ من نشرها منشور، فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا فَكَأَنَّهُ من حَيَاة ذكره وَالثنَاء عَلَيْهِ حَيّ غي ميت، يُقَالُ: لفُلَان ذكرٌ حيُّ إِذَا كَانَ باديًا غَيْر خامل، وَقد مَاتَ ذَكَرَ فلَان إِذَا انْقَطع، قَالَ أَبُو نُخَيْلة:
فأحييتَ لِي ذكري وَمَا كنتُ خَامِلا ... ولكنَّ بَعْض الذِّكْرِ أَنْبَهَ مِنْ بَعْضِ
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون عني بنشرها رائحتها الطّيبَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
سُقيِتُ دَمًا إنْ لَمْ أَرُعْكِ بضرةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النّشْرِ
وَقَالَ المرقِّش الْأَكْبَر:
النّشْرِ مسكٌ والْوُجُوهُ دنانيرٌ ... وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
كأنَّ الْمُدَامَ وصَوْبَ الغمامِ ... ونَشْرَ الْخُزامَى ورِيحَ القطرْ
ويروى القَطَر، الْقطر: الْعُود الَّذِي يتبخر بِهِ، وَقيل للمجموعة الَّتِي تُوضَع فِيهَا لتتبخر بِهِ: مقطرة، اشتقاقًا مِنْهُ، قَالَ المرقِّشُ الْأَصْغَر:
فِي كلِّ مَمْشى لَهَا مِقْطَرَةٌ ... فِيهَا كبَاءٌ مُعَدٌّ وحَمِيم
الْكِبَاء مَمْدُود: الْعود وَقيل: مَا يُتبخر بِهِ، والكبا مَقْصُور المزبلة، وَقَوله: منشور فِيهِ وَجْهَان، أَحدهمَا: أَن يكون مَعْنَاهُ النشر الْمُقَابل للطيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
طوى الموتُ مَا بيني وَبَين محمدٍ ... وَلَيْسَ لما تَطْوي المنيةُ ناشرُ
فَجعل مَوته بِمَنْزِلَة ثوب أَوْ غَيره طُوِي مَا كَانَ مِنْهُ ظَاهرا وخفي، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
فَإِن أظهرُوا خيرا فجَاء بِمِثْلِهِ ... وَإِن هُمُ طَوَوْا عَنْكَ الحديثَ فَلا تَسَلْ
وَقَالَ بَعْض الْمُحدثين:
فَإِن يَكُ هَذَا مِنْك جِدّا فإنني ... مُدَاوِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ بالهجرِ
ومنصرفٌ عَنْكَ انْصِرَافَ ابنِ حرةٍ ... طَوَى وُدَّهُ والطَيُّ أَبْقَى عَلَى النشرِ
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة - وَقد روى لَنَا عَمَّن تَقَدَّمَ بِزَمَان طَوِيل:
طَوَتْكَ خُطُوبُ دهرك بَعْدَ نشرٍ ... كَذَاك خُطُوبُهُ نَشْرًا وَطَيًّا
وَيُقَال للْحَدِيث إِذَا اشْتهر واستفاض وتفرق: انْتَشَر.(1/69)
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون معنى منشور: مُحْيًا، وَفِي هَذَا الْوَجْه لُغَتَانِ يُقَالُ: أنشر اللَّه الْمَيِّت إنشارًا فنشر هُوَ نُشُورًا، وَهَذِه أعْلى اللغتين، وأكثرهما وأفصحهما وأظهرهما وَبهَا جَاءَ التَّنْزِيل، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " ثُمَّ إِذَا شَاءَ أنشر "، يُقَالُ من هَذِهِ اللُّغَة: أنشره اللَّه وَهُوَ منشره، وَنشر الْمَيِّت فَهُوَ ناشر، قَالَ الْأَعْشَى:
لَوْ أَسْنَدَت مَيْتًا إِلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ وَلم يُنْقَلْ إِلَى قابرِ
حَتَّى يَقُولَ النّاس ممّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا للمَيِّتِ الناشرِ
وَقَالَ اللَّه أصدق الْقَائِلين: " أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من الأَرْض هم ينشرون " واللغة الثَّانِيَة: نَشَر الْمَيِّت فَهُوَ منشور، وَهُوَ أقل اللغتين، وَكثير من أَهْلَ الْعلم لَا يعرفهَا وَقد حُكيَت لَنَا، وَمِمَّنْ حَكَاهَا أَبُو بَكْر بْن دُريد، وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشرها "، فَأَتَت فِيهَا ثَلَاث قراءات، نُنْشِرُها بِضَم النُّون وَالرَّاء بِمَعْنى نحييها، كَمَا قَالَ عزَّ ذكره: " قَالَ من يحي الْعِظَام وَهِي رَمِيم " ونَنْشُرُها بالراء أَيْضا بِفَتْح النُّون، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَة وَجْهَان من التَّأْوِيل، أَحدهمَا النشر الَّذِي هُوَ خلاف الطي، وَالْآخر حمله عَلَى لُغَة من يَقُول: نر الله الْمَيِّت فنشر، مثل جبر اللَّه فجبر، كَمَا قَالَ العجاج: قَدْ جَبَر الدِّينَ الإِلَهُ فَجَبَرَ وَمثله: فغرتُ فَاه ففغر إِذَا فَتحته فانفتح، وَمثله: شحا فَاه وشَحَا فُوه.
وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة: نُنْشِزها بالزاي بِضَم النُّون أَي نرفع بَعْضهَا إِلَى بَعْض واستقصاء الْكَلَام فِي مَعَاني هَذِهِ الْقرَاءَات وَتَسْمِيَة الْقُرَّاء بهَا وَبَيَان مَا يخْتَار مِنْهَا يطول، وَهُوَ مرسوم فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْقرَاءَات وعلوم الْقُرْآن عَلَى الشَّرْح وَالْبَيَان.
وَمِمَّا جَاءَ فِي حَسَن الثَّنَاء مَا أنشدناه عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: أنشدنا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني أَبُو جَعْفَر الْقُرَشِيّ:
كُلُّ الْأُمُور تَزُولُ عَنْكَ وتَنْقَضِي ... إِلَّا الثّنَاءَ فَإِنَّهُ لَك باقِ
وَلَو أنني خُيرت كلُّ فَضِيلَة ... مَا اخترتُ غير محَاسِن الأخلاقِ
وَقد روينَا فِي بذل الْعَطاء وَمَا ينْتج من حَسَن الثَّنَاء مَا لَمْ نر إطالة هَذِهِ الْمجْلس بِهِ، لأَنا بنينَا كتَابنَا هَذَا عَلَى تَضْمِينه أنواعًا منثورة، وَغير جَارِيَة عَلَى أَبْوَاب مَجْمُوعَة محصورة، لِئَلَّا تَتَفَاوَت مجَالِس الْكتاب فِي الطول وَالْقصر، وَنحن نأتي من هَذَا الْبَاب فِيمَا نستقبله من هَذِهِ الْمجَالِس مَا يتَّفق ويحضر أَولا أَولا، إِن شَاءَ اللَّه.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد، قَالَ: أَخْبَرَنَا التوزي، عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ: لمّا بلغ حَاتِم طييء قَول المتلمس:
قَليِلُ المالِ تُصْلِحُهُ فيبْقَى ... وَلَا يبقَى الكثيرُ عَلَى الفسادِ
وحفظُ المَال خيرٌ من فناهُ ... وعسفٌ فِي الْبِلَاد بغَيْرِ زَاد(1/70)
قَالَ: مَا لَهُ قطع اللَّه لِسَانه حمل النّاس عَلَى الْبُخْل، فَهَلا قَالَ:
فَلا الْجُودُ يُفْنى المالَ قَبْلَ فنائه ... وَلَا الْبُخْل فِي مَال الشّحيح يزيدُ
فَلا تلتمسْ مَالا بعيشِ مُقَتِّر ... لَك غدٍ رزقٌ يعودُ جديدُ
ألم تَرَ أَن المَال غادٍ ورائحُ ... وَأَن الَّذِي يعطيكَ غَيْر بعيدُ
وَلَقَد أحسن حَاتِم فِي قَوْله: وَأَن الَّذِي يعطيكَ غَيْر بعيدِ وَلَو كَانَ مُسلما لرجي لَهُ بِمَا أَتَى من هَذَا مَا يغتبطه فِي معاده، وَقد أَتَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذَا الْمَعْنى بِمَا يعجز المخلوقون عَنْ مساواته، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ "، وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة الدَّاعِي إِذا دعان ".
الْعَبَّاس بْن الْأَحْنَف يُؤْتى بِهِ لَيْلًا لإجازة بَيت
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن أبي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الرّبيع، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا، قَالَ: صنع الرشيد ذَاتَ لَيْلَة بَيْتا واضطرب عَلَيْهِ الثَّانِي، فَقَالَ: عليّ بِالْعَبَّاسِ بْن الْأَحْنَف، فأُتي بِهِ فِي جَوف عَلَى حَال من الذُّعْر عَظِيمَة، فَقَالَ لَهُ الرشيد: لَا تُرَعْ، قَالَ: وَكَيف لَا يكون ذَلِكَ؟ وَقد طرقتُ فِي منزلي فِي مثل هَذَا الْوَقْت فَلم أخرج من منزلي إِلَّا والراعبة فِيهِ، وَأَهلي لَا يشكُّون فِي قَتْلِي، فَقَالَ: إنّما أحضرتُك لبيت قلته صَعُب عليّ أَن أُشْفِعَهُ بِمِثْلِهِ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ:
جنانٌ قَدْ رأيناها ... فَلَمْ نَرَ مَثْلَهَا بَشَرًا
فَقَالَ الْعَبَّاس:
يَزِيدُك وَجْهُها حُسْنا ... إِذَا مَا زِدْته نَظَرَا
إِذَا مَا اللَّيْلُ جَنَّ عَلَيْ ... كَ بالإِظْلام واعْتَكَرَا
ودَجَّ فَلم تَرَ قَمَرا ... فَأبْرِزْها ترى قمرا
فَقَالَ الرشيد: أقل مَا يجب عَلَيْنَا أَن ندفع إِلَيْكَ دينك إِذْ نزل بك هَذَا الروع بعيالك منا. فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَصَرفه.
فِي صلَة هَذَا الْخَبَر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ: سُئِلَ ابْن عَائِشَة عَنْ أشعر الْمُحدثين، قَالَ: الَّذِي يَقُولُ:
كَأَن ثِيَابه أطلع ... ن من أَزْرَارِه قَمَرا
قَالَ أَبُو بَكْر الصُّولي: فَأخذ هَذَا الْمَعْنى أَحْمَد بْن يحيى بْن الْعرَاق الْكُوفِي فَقَالَ:
بَدَا وكَأنّمَا قمرٌ ... عَلَى أزْرَارهِ طَلَعَا(1/71)
بِحَتِّ الْمِسْك مِنْ ... عِرْقِ الجَبِينِ بنَانُه وَلَعَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد، قَالَ: صرت إِلَى مجْلِس ابْن عَائِشَة وَفِيه الجاحظ والجماز، فَسَأَلَهُ عِيسَى بْن إِسْمَاعِيل تينة: من أشعر المولدين؟ فَقَالَ: الَّذِي يَقُولُ:
كأنَّ ثَيَابَهُ أطلع ... ن من أزراره قمراً
يزيدك وَجهه حُسْنا ... إِذَا مَا زِدْته نَظَرَا
بِعَين خالط التفتي ... ر مِن أجْفَانِها الحَوَرَا
وَوَجْهٍ سَامِريٍّ إِذْ تَصَوَّب مَاؤُهُ قَطَرَا
يعْنى الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف.
فِي وَجهه شَافِع
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن يحيى، قَالَ: كنتُ وَاقِفًا بَيْنَ يَدي المعتضد وَهُوَ مقطب، فَأقبل بدرٌ فَلَمّا رَآهُ من بعيد تَبَسم وَأنْشد:
فِي وَجْهِهِ شافعٌ يمحُو إساءتَه ... من الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْث مَا شَفَعا
ثمَّ قَالَ لي: لِمَنْ هَذَا؟ قلت: يَقُوله الحكم بْن قَنْبَر الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيّ، قَالَ: أَنْشدني بَاقِي شِعره، فَأَنْشَدته:
لَهَفي عَلَى مَن أطار النَوْمَ فامْتنعَا ... وزَادَ قَلْبِي عَلَى أوجَاعِهِ وَجَعَا
كَأَنَّمَا الشمسُ من أعْطَافه لمعتْ ... حُسْنًا إِلَى البَدْرِ من أزراره طلعا
مستقبلُ بِالَّذِي يَهوَى وَإِن عَظُمَتْ ... مِنْهُ الْإِسَاءَة مَعْذُورٌ بِمَا صَنَعَا
فِي وَجهه شافعٌ يمحُو إساءتَه ... من الْقُلُوبِ وجيهٌ حَيْث مَا شَفَعا
قَالَ الصُّولي: وَأخذ هَذَا الْمَعْنى أَحْمَد بْن يحيى الْعرَاق الْكُوفِي فَقَالَ:
بَدَا فكأنّما قمرٌ
وَأنْشد الْبَيْتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ الصولي: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه حرمي الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن يحيى الْعرَاق، قَالَ: خرجتُ من بَغْدَاد أُرِيد الْكُوفَة واكتريت حِمَارا فتألمتُ من ركُوبه، وَكَانَ مَعَ المكاري عدةٌ من الْحمير للكراء غَيْرَه، ففكرتُ فِي أَن أسأله إِبْدَاله لي بِغَيْرِهِ فابتدأ يُغَني:
بدا وكأنما قمر ... عَلَى أزراره طَلَعا
فقلتُ: أُعْلِمْه أنَّ الشّعْر لي حَتَّى يهل عَلَيْهِ إِبْدَاله حماري، فَقلت: لمن هُوَ؟ فَقَالَ: لمن أمه ألف مؤاجرة، جروالك جر، فَخفت وَالله أَن أزداد فيزيدني، وَمر بِي من الْحمار شدَّة.(1/72)
القَوْل فِي معنى فِي وَجهه شَافِع
قَالَ القَاضِي: يتَّجه فِي قَوْله: فِي وَجهه شَافِع يمحو إساءته من الْقُلُوب، أَن يكون الْمَعْنى: يمحو من الْقُلُوب الْإِسَاءَة فيزيلها مِنْهَا، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: فِي وَجهه شَافِع من الْقُلُوب وجيه، وَيكون فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَيكون من الْقُلُوب من صلَة شَافِع، وَيشْهد لهَذَا أَنَّهُ قَدْ روى هَذَا الْبَيْت من طَرِيق آخر:
فِي وَجهه شافعٌ يمحُو إساءتَهُ ... مُشَفّعٌ ووجيهٌ حَيْث مَا شفعا
فعلى هَذَا: من الْقُلُوب صفة لشافع كمشفع، والتقديم وَالتَّأْخِير إِذَا دلّت جملَة الْكَلَام عَلَى مَعْنَاهُ وعَلى مَوضِع كلّ شَيْءٍ مِنْهُ، كثير فِي اللُّغَة مَشْهُور فِي الْعَرَبيَّة. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ".
وَقَالَ الشَّاعِر:
إِذَا شَاب الْغُرَابُ لقيتُ أَهلِي ... وَصَارَ القَارُ كاللَّبنِ الحَلِيبِ
الْأَصْمَعِي يعادي ابْن الْأَحْنَف
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد الثُّمالي: كَانَ الْأَصْمَعِي يعادي عَبَّاس بن الْأَحْنَف، فَقَالَ عَبَّاس يَوْمَا وَهُوَ بَيْنَ يَدي الرشيد والأصمعي بالحضرة:
إِذَا أَحْبَبْت أَن تع ... مل شَيئًا يعجبُ النّاسَا
فَصَوِّرْ هَا هُنا فَوْزا ... وصَوِّرْ ثَمَّ عَبّاسَا
وَدَعْ بَيْنَهُمَا فِتْرًا ... فَإِن زِدْتَ فَلا بَاسَا
فَإِن لَمْ يَدْنُوَا حَتَّى ... ترى رأسَيْهما رَاسَا
فكذِّبْها بِمَا قاسَتْ ... وَكذبه بِمَا قاسا
فَقَالَ الرشيد: مَا رَأَيْتُ معنى أحسن من هَذَا. فَقَالَ الْأَصْمَعِي: قَدْ سبقه إِلَى هَذَا الْمَعْنى رجلٌ من الْعَرَب وَرجل من النّبط، فَقَالَ: مَا قَالَ الْعَرَبِيّ؟ قَالَ: كَانَ رَجُل يُقَالُ لَهُ عُمر يحبُّ جَارِيَة يُقَالُ لَهَا قمر، فَقَالَ:
إِذَا أحببتَ أَن تُبْ ... صر شَيئًا يُعْجِب البَشَرَا
فَصَوِّرْ هَا هُنَا قَمَرا ... وصَورْ هَا هُنَا عُمرا
فَإِن لَمْ يَدْنُوا حَتَّى ... تَرَى بَشَرَيْهِما بَشَرا
فكذِّبها بِمَا ذَكَرَتْ ... وَكذبه بِمَا ذَكَرَا
قَالَ الرشيد: فَمَا قَالَ النَبَطيُّ؟ قَالَ: كَانَ رَجُل يُقَالُ لَهُ زَوْرا يحب جَارِيَة يُقَالُ لَهَا(1/73)
فَلْقا، فَقَالَ:
إِذَا أَحْبَبْت أَن تع ... مل شَيئًا يعجب الخَلْقَا
وَتسمع صَوت معشو ... قين لاقي فِي الْهوى رَبَقَا
فصوّر هَا هُنا زَوْرَا ... وصَوِّر هَا هُنَا فَلْقَا
فَإِن لَمْ يَدْنُوَا حَتَّى ... ترى خَلْقَيهما خَلْقَا
فكذِّبها بِمَا لاقتْ ... وَكذبه بِمَا يَلْقى
تَعْلِيق نحوي
قَالَ القَاضِي: هَكَذَا رَوَاهُ لَنَا الكوكبي. فصور هَا هُنَا فوزًا بِالصرْفِ، وَترك الصّرْف أَعلَى، وَكَانَ الزَّجّاج لَا يُجِيز صرف شَيْءٍ من الْأَسْمَاء المؤنثة إِلَّا فِي ضَرُورَة الشّعْر، وَكَانَ جَمِيع من تَقَدَّمَ من النُّحَاة يُجِيز فِي مثل هِنْد ودعد، وَمَا كَانَ وَسطه من أَسمَاء الْمُؤَنَّث سَاكِنا ويختارون ترك الصّرْف فِي غَيْر الشّعْر.
وَقَوله: حَتَّى ترى رأسيهما رَأْسا، ثنى الرَّأْس فِي اللَّفْظ، والفصيح فِيهِ وَفِيمَا كَانَ فِي الْجَسَد مِنْهُ وَاحِد أَن يُؤْتِي بِهِ عَلَى لفظ الْجَمِيع فِي تثنيته وَجمع، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " واللغة الْأُخْرَى مَعْرُوفَة وَيبين ذَلِكَ قَول أَبِي ذُؤَيْب:
فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بنوافذٍ ... كَنَوافِذِ الْعُبطِ الَّتِي لَا ترقعِ
ويروى الْعُبُط وَهُوَ جمع عبيط، يُقَالُ: اعتبط الرَّجُل إِذَا هلك شَابًّا، واعتبط الْبَعِير إِذَا نُحر فَتيا، قَالَ أُميَّة بْن أبي الصَّلْت:
من لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يمت هَرَمَا ... للموتُ كأسٌ والمرءُ ذَائِقُها
وَالدَّم العبيط: الطريّ، ويروى كنوافذ العطب وَهُوَ جمع عطبة، وَهِي الْقطعَة من الْقطن، مثل غرفَة وغُرف وحُجرة وحُجَر.
أنشدنا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَنْشدني أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة:
لي صاحبٌ لَيْسَ يَخْلُو ... لِسَانه عَنْ جِرَاحِي
يُجِيدُ تمزيق عِرضي ... عَلَى طَرِيق المزاحِ
الْمجْلس الْحَادِي عَشْر
نَعَم الْإِبِل الثَّلَاثُونَ
حَدَّثَنَا بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ شَرِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَ الإِبِلُ الثَّلاثُونَ، يُنْحَرُ سَمِينُهَا وَيُحْمَلُ عَلَى نَجِيبِهَا ".(1/74)
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: قَدْ نَبّه النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَر عَلَى أنَّ هَذَا الْعدَد من الْإِبِل قصدٌ من المَال، وَأَشَارَ بمدحه فِيهِ إِلَى من نحر السمين مِنْهَا وَحمل عَلَى النجيب، فدلّ عَلَى فضل من نحر المَال لسبل الْمَعْرُوف ووجوه الْبر، وَأَوْمَأَ إِلَى التَّرْغِيب فِي قرى الضَّيْف وإنفاق أَعلَى الظّهْر وَبث المكارم العائدة بِالْأَجْرِ وَجَمِيل الذّكر، وَلم يزل الألباءُ يؤثرون بذل النوال وإفاضة الإفضال، تَزَوُّدًا ليَوْم الْعرض، وصيانة للعرض، ورغبة فِي إِحْرَاز الذّكر، وحُسن القالة وَجَمِيل الذّكر، عَلَى تشعب الْأُمُور الباعثة لَهُمْ عَلَى كريم السخاء وشريف العطايا.
فَمن جُود مَعْن بْن زَائِدَة
حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عَليّ بن مَالك اليباني، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَعْنَب، قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن سلم: لمّا وَلّي الْمَنْصُور معن بْن زَائِدَة أَذَرْبَيْجان قَصده قَوْمٍ من أَهْلَ الْكُوفَة، فَلَمَّا صَارُوا بِبَابِهِ اسْتَأْذنُوا عَلَيْهِ فَدخل الْآذِن فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير بِالْبَابِ وَفد من أَهْلَ الْعرَاق، قَالَ: من أيِّ الْعرَاق؟ قَالَ: من الْكُوفَة، قَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَنظر إِلَيْهِم معنٌ فِي هَيْئَة زَرِيَّة، فَوَثَبَ عَلَى أريكته وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِذَا نَوْبَةٌ نابتْ صديقك فاغْتَنِمْ ... مَرَمّتَها فالدهرُ بِالنَّاسِ قُلّبُ
فأحسنُ ثوبيكَ الَّذِي هُوَ لابسٌ ... وأفْره مُهريك الَّذِي هُوَ يركب
وبادر بمعروفٍ إِذَا كنت قَادِرًا ... زَوَال اقتدارٍ أَوْ غنى عَنْكَ يُعقِبُ
قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُل من الْقَوْم، وَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَلا أنْشدك أحسن من هَذَا؟ قَالَ: لمن؟ قَالَ: لِابْنِ عمك ابْن هرمة، قَالَ: هَات، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وللنفس تاراتٌ تَحَلُّ بهَا العرى ... وَتَسْخُو عَنِ المَال النُّفُوس الشحائح
إِذا المرءُ لمن ينفعْك حَيًّا فنفعُه ... أقلُّ إِذَا ضُمّت عَلَيْهِ الصفائحُ
لأية حالٍ يمنعُ الْمَرْء مالَهُ ... غَدا فغدا والموتُ غاد ورائحُ
قَالَ معن: أحسن وَالله وَإِن كَانَ الشّعْر لغيرك، يَا غُلَام! أعطهم أَرْبَعَة آلَاف يستعينوا بهَا عَلَى أُمُورهم إِلَى أَن يتهيأ لَنَا فيهم مَا نُرِيد، فَقَالَ الْغُلَام: يَا سَيِّدي! أجعلها دَنَانِير أم دَرَاهِم، فَقَالَ معن: وَالله لَا تكون همتك أرفع من همتي، صفّرها لَهُمْ.
وَمن سخاء يزِيد بْن الْمُهلب
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِي، قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب فامتدحه، فَأَحْمَد عقله وفصاحته فَجعله أحد ندمائه، وَكَانَ ينْصَرف فِي كلّ يَوْمَ من عطيته بِمِائَة دِينَار، فَلَمّا أَرَادَ الرحيل والانصراف إِلَى أَهله أَمر لَهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار، ثمَّ قَالَ: إِن - وَالله - مَا أستقلُّها تَكَبُرا وَلَا أستكثرها(1/75)
امتنانًا، وَلَا أستزيدك بهَا ثَنَاء وَلَا أقطع لَك بهَا رجاءَ.
ليلى الأخْيلِيَّةُ ووفودها عَلَى الحَجَّاج
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنْ أبي الْحَسَن الْمَدَائِنِي، عَمَّن حَدثهُ، عَنْ مولى لعنبسة ابْن سَعِيد بْن الْعَاصِ، قَالَ: كنت أَدخل مَعَ عَنْبَسَة إِذَا دَخَلَ عَلَى الحَجَّاج، فَدخل يَوْمَا وَدخلت إِلَيْهِمَا وَلَيْسَ عِنْدَ الحَجَّاج أحد غَيْر عَنْبَسَة، فَقَعَدت فجيء الحَجَّاج بطبق فِيهِ رُطَب، فَأخذ الْخَادِم مِنْهُ شَيئًا فَجَاءَنِي، ثُمَّ جَاءَ بطبق آخر فَأَتَانِي الْخَادِم مِنْهُ بِشَيْء، ثُمَّ جِيءَ بطبق آخر حَتَّى كثرت الأطباق، وَجعل لَا يُؤْتونَ بِشَيْء إِلَّا جَاءَنِي مِنْهُ بِشَيْء حَتَّى ظَنَنْت أنَّ مَا بَيْنَ يَدي أَكثر ممّا عِنْدهم، ثُمَّ جَاءَ الْحَاجِب فَقَالَ: امْرَأَة بِالْبَابِ، فَقَالَ الْحجَّاج: أدخلها. فَدخلت، فَلَمّا رَآهَا الحَجَّاج طأطأ رَأسه حَتَّى ظَنَنْت أنَّ ذقنه قَدْ أصَاب الأَرْض، فَجَاءَت حَتَّى قعدت بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَظَرت إِلَيْهَا فَإِذا امْرَأَة قَدْ أَسِنَت، حَسَنَة الخَلْق، وَمَعَهَا جاريتان لَهَا، وَإِذا هِيَ ليلى الأخيلية، فَسَأَلَهَا الحَجَّاج عَنْ نَسَبهَا فانتسبت لَهُ، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى! مَا أَتَانِي بك؟ قَالَتْ: إخلاف النُّجُوم وَقلة الغيوم وكلب الْبرد وَشدَّة الْجهد، وَكنت لنا بعد الله الرفد، فَقَالَ لَهَا: صفي لنا الفجاج، فقاتل: مغبرة وَالْأَرْض مقشعرة، والمبرك معتل، وَذُو الْعِيَال مختل، وَالْمَال القُلّ، وَالنَّاس مُسنتون، رَحْمَة الله يرجون، وأصابتنا سنُون مجحفة مبلطة، لم تدع لَنَا هُبَعًا وَلَا ربَعًا، وَلَا عافطة وَلَا نافطة، أذهبت الْأَمْوَال ومزقت الرِّجَال وأهلكت الْعِيَال، ثمَّ قَالَتْ: قَدْ قلت فِي الْأَمِير قولا، قَالَ: هَاتِي، فأنشأت تَقول:
أحجّاجُ لَا يُفْلَلُ سلاحُك إِنَّمَا ال ... منايا بِكفِّ اللَّه حَيْثُ يَرَاها
أحجاجُ لَا تُعْطِي العداة مناهمُ ... وَلَا اللَّهُ يُعْطي للعُداة مناها
ذَا هَبَط الحَجَّاجُ أَرضًا مَرِيضَة ... تتبع أقْصَى دائها فشفاها
شفاها من الدَّاء الْعُضال الَّذِي بهَا ... غُلَام إِذَا هَزَّ القناةَ سَقَاها
سَقَاهَا فرواها بشِرْبٍ سِجَالُهُ ... دِماءَ رِجال حَيْثُ قَالَ حشاها
إِذَا سمع الحَجَّاج رِزَّ كَتِيبَة ... أعدَّ لَهَا قَبْلَ النُّزُول قِراها
أعدَّ لَهَا مَسْمومة فارسيَّة ... بأيدي رجال يَحْلِبُون صَرَاها
فَمَا ولدَ الأبكارُ والْعُونُ مثلَه ... ببحرٍ وَلَا أرضٍ يَجِفُّ ثَرَاها
قَالَ: فَلَمّا قَالَتْ هَذَا الْبَيْت، قَالَ الحَجَّاج: قاتلها اللَّه! مَا أصَاب صِفَتي شَاعِر مُنْذُ دخلت الْعرَاق غَيرهَا، ثُمَّ الْتفت إِلَى عَنْبَسَة بْن سَعِيد، فَقَالَ: وَالله إِنِّي لأعد لِلْأَمْرِ عَسى أَلا يكون أبدا، ثُمَّ الْتفت غليها، فَقَالَ: حَسبك، فَقَالَت: قَدْ قلت أَكثر من هَذَا، قَالَ: حَسبك(1/76)
وَيحك حَسبك، ثمَّ اقل: يَا غُلَام! اذْهَبْ بهَا إِلَى فلَان فَقل لَهُ: اقْطَعْ لسانها، فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَك الْأَمِير: اقْطَعْ لسانها، قَالَ: فَأمر بإحضار الْحجام، والتفتت إِلَيْهِ وَقَالَت: ثكلتك أمك، أما سمعة مَا قَالَ، إِنَّمَا أَمرك أنَّ تقطع لساني بِالْبرِّ والصلة فَبعث إِلَيْهِ يستثبته، فاستشاطَ الحجّاج غَضبا وهم بِقطع لِسَانه، وَقَالَ: اردُدها، فَلَمّا دخلت عَلَيْهِ، قَالَت: كَاد - وَأَمَانَة اللَّه - أَيهَا الْأَمِير يقطع مقولي، ثمَّ أنشأت تَقول:
حجاج أَنْت الَّذِي مَا فَوْقه أحد ... إِلَّا الْخَلِيفَة والمستغفر الصمدُ
حجاج أَنْت شهَاب الْحَرْب إِن لقحت ... وَأَنت للنَّاس نور فِي الدجى يقدُ
ثمَّ أقبل الْحجَّاج على جُلَسَائِهِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ من هَذِه؟ قَالُوا: لَا وَالله أَيهَا الْأَمِير، إِلَّا أننا لَمْ نر امْرَأَة قَط أفْصح لِسَانا وَلَا أحسن محاضرة، وَلَا أصبح وَجها وَلَا أرصن شعرًا مِنْهَا، فَقَالَ: هَذِهِ ليلى الأخْيِلِية الَّتِي مَاتَ تَوْبَة الخفاجي من حبها، ثُمَّ الْتفت إِلَيْهَا، فَقَالَ: أنشدينا يَا ليلى بَعْض مَا قَال فِيك تَوْبَة، فَقَالَت: نَعَمْ أَيهَا الْأَمِير، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَهل تبكين ليلى إِذَا متُّ قبلهَا ... وقامتْ عَلَى قَبْرِي النِّسَاءُ النوائحُ
كَمَا لَوْ أصَاب الموتُ ليلى بكيتُها ... وجَادَ لَهَا دمعُ من الْعين سافحُ
وأُغْبَطُ من ليلى، بمالاً أنالهُ ... بَلَى كُلُّ مَا قَرَّتْ بِهِ العَيْن صَالِحُ
وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي تُرْبة وصفائحُ
لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صائحُ
فَقَالَ لَهَا: زيدينا يَا ليلى من شعره، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
حمامةَ بطن الواديَيْنِ تَرَنّمِي ... سقاك من الْغُرِّ الغَوَادِي مطيرُها
أبيني لَنَا لَا زَالَ ريشُك نَاعِمًا ... وَلَا زلتِ فِي خَضْراء دَانٍ نَضِيرُها
وأشرفُ بالقَوْزِ اليَفَاع لعلّني ... أرى نَار ليلى أَوْ يراني بَصِيرُها
وَكنت إِذَا مَا جئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الغَدَاةَ سُفُورُها
يَقُولُ رَجالٌ لَا يُضيرُك نأيُها ... بلَى كلُّ مَا شفَّ النفوسَ يضِيرُها
بلَى قَدْ يضير الْعين أَن تكْثر البك ... ى يمْنَع مِنْهَا نومُها وسرورُها
وَقد زعمتْ ليلى بأنِّيَ فاجرٌ ... لنَفْسي تقاها أَوْ عَلَيْهَا فجورُها
فَقَالَ الحَجَّاج: يَا ليلى! مَا الَّذِي رابه من سفورك؟ قَالَتْ: أَيهَا الْأَمِير! كَانَ يُلِمّ بِي كثيرا فَأرْسل إليَّ يَوْمَا: أَنِّي آتِيك، فَفطن الحيُّ فأرصدُوا لَهُ، فَلَمّا أَتَانِي سَفِرتُ فَعلم أنَّ ذَلِكَ لشرّ، فَلم يزدْ عَلَى التَّسْلِيم وَالرُّجُوع، فَقَالَ: لله درُّك! فَهَل رَأَيْت مِنْهُ شَيْئا تكرهينه؟(1/77)
قَالَ: لَا، وَالله الَّذِي أسأله أَن يُصلحك، غَيْر أَنَّهُ قَالَ لي مرّة قولا ظننتُ أَنَّهُ قَدْ خضع لبَعض الْأَمر فأنشأت أَقُول:
وَذي حَاجَة قُلْنَا لَا تَبُحْ بهَا ... فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حييتَ سبيلُ
لَنَا صاحبٌ لَا نبتغي أَن نخونه ... وأنتَ لأخرى صاحبٌ وخليلُ
فَلا وَالله الَّذِي أسأله أَن يصلحك مَا رأيتُ مِنْهُ شَيْئا قد فرّق الموتُ بيني وَبَينه، قَالَ: ثُمَّ مَه، قَالَتْ: ثُمَّ إِنَّه لَمْ يلبث أَن خَرَجَ فِي غزاةٍ لَهُ فأوصى ابْن عَمه: إِذَا أتيت الْحَاضِر من بني عبَادَة فَنَادِ بِأَعْلَى صَوْتك:
عَفا اللَّه عَنْهَا هَلْ أبيتَن لَيْلَة ... من الدَّهْر لَا يسري إليَّ خَيَالُها
فَخرج وَأَنا أَقُول:
وَعنهُ عَفا رَبِّي وَأحسن حالهُ ... فغز عَلَيْنَا حَاجَة لَا ينالُها
قَالَ: ثُمَّ مَه، قَالَتْ: ثُمَّ لَمْ يلبث أَن مَاتَ فَأتى نعيه، قَالَ: فأنشدينا بَعْض مراثيك فِيهِ، فَأَنْشَدته:
كَأَن فَتى الفتيان توبةَ لَمْ يُنِخ ... قَلَائِص يفحصن الْحَصَى بالكَرَاكرِ
لِيَبْك العذارى من خفاجة نسوةٌ ... بماءِ شئونِ العَبْرة الْمُتَحادِرِ
فَلَمّا فرغتْ من القصيدة، قَالَ مُحصن الفقعسي، وَكَانَ من جُلساء الحَجَّاج: من الَّذِي يَقُولُ هَذِهِ هَذَا فِيهِ، فواللَّه إِنِّي لأظنها كَاذِبَة، فَنَظَرت إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: وَالله أَيهَا الْأَمِير إِن هَذَا الْقَائِل لي لَوْ رَأَى تَوْبَة لسَرَّه أَلا يكونَ فِي دَاره عذراء وَهِي حَامِل مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الحَجَّاج: هَذَا وَأَبِيك الْجَواب، وَقد كنت عَنْهُ غَنِيا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: سَلِي يَا ليلى تُعْطَيْ، قَالَتْ: أعْط فمثلك أعْطى فَأحْسن، قَالَ: لَك عشرُون قَالَتْ زِدْ فمثلك زَاده فأجمل، قَالَ: لَك أَرْبَعُونَ، قَالَتْ: زد فمثلك زَاد فأفضل، قَالَ: لَك سِتُّونَ قَالَتْ: زد فمثلك زَاد فأكمل، قَالَ: لَك ثَمَانُون، قَالَتْ: زد فمثلك زَاد فتممّ، قَالَ: لَك مائَة، واعلمي يَا ليلى أَنَّهَا غنم، قَالَتْ: مُعَاذِ اللَّه أَيهَا الْأَمِير، أَنْت أجودُ جُودًا وأمجد مجدًا وأورى زِنْدًا من أَن تجعلها غنما، قَالَ: فَمَا هِيَ وَيحك يَا ليلى؟ قَالَتْ: مائَة نَاقَة برعاتها، فَأمر لَهَا بهَا، ثُمَّ قَالَ: لَك حَاجَة بعْدهَا، قَالَتْ: تدفع إليَّ النابغةَ الجَعْدي فِي قَيْد، قَالَ: قَدْ فعلتُ، وَقد كَانَتْ تهجوه ويهجوها، فَبلغ النَّابِغَة ذَلِكَ فَخرج هَارِبا عائذًا بِعَبْد الْملك بْن مَرْوَان فاتبعته فهرب إِلَى قُتَيْبَةَ بْن مُسْلِم بخراسان فاتّبَعَتْه عَلَى الْبَرِيد بِكِتَاب الحَجَّاج إِلَى قُتَيْبَةَ، فَمَاتَتْ بقُومِس وَيُقَال بحلوان.
ذَكَرَ السَّبَب فِي وفاتها
وَقد ذَكَرَ فِي وفاتها أمرٌ عَجِيب يُخَالف مَا فِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَة، وَأَنا بعون اللَّه ذَاكر مَا حضرني مِنْهُ ومتبعه الْبَيَان عَمَّا يشكل من غَرِيب هَذَا الْخَبَر إِن شَاءَ اللَّه.(1/78)
فمما روينَاهُ من وَفَاة ليلى الأخيلية مَا حدّثنَاهُ مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أبي الثَّلج، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن فهم، قَالَ: حَدثنِي حُسَيْن بْن فهم، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يحيى الأَزْدِيّ، عَنِ الْقُتَبي قَالَ: قَالَ تَوْبَة بْن الْحمير:
وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي جَنْدَلٌ وصفائحُ
لسلمتُ تَسْلِيم البشاشة أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صَائِحُ
وأُغْبَطُ من ليلَى بِمَا لَا أَنَالَهُ ... بَلَى كُلُّ مَا قَرَّتْ بِهِ العَيْن صَالِحُ
قَالَ: فَلَمّا قُتل تَوْبَة وأتى بَعْدَ مَقْتَله دهر، اجتاز زَوْجَ ليلى الأخيلية وَهِي مَعَه عَلَى قبر تَوْبَة، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى! هَذَا قبرُ تَوْبَة الَّذِي يَقُولُ:
لسلمتُ تَسْلِيم البشاشة أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صائحُ
نَادِيه حَتَّى يجيبك كَمَا زعم، قَالَتْ: اذهبْ عَنْكَ، فَأبى وألحّ وَحلف عَلَيْهَا أَن تنادِيَه، قَالَ: فاستعبرتْ ثُمَّ نادت: يَا تَوْبَة، قَالَ: ويزقُو ثَعْلَب كَانَ إِلَى جَانب الْقَبْر فَخرج يَصِيح ويفوت نَاقَة ليلى، فَسَقَطت عَنْهَا فارتاعت لذَلِك واحتملها زَوجهَا فَذهب بهَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب مَوتهَا، عاشت أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَت.
خبر ثَان فِي ذَلِكَ
وَمن ذَلِكَ مَا حدّثنَاهُ مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس الأَزْدِيّ قَالَ: خَرَجَ زَوْجَ ليلى الأخيلية بليلى، فمرَّا عَلَى قُبر تَوْبَة بْن الْحُمَيِّر، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى هَذَا الَّذِي يَقُولُ فِيك:
وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي تُرْبة وصفائحُ
لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أَو زَقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صَائِحُ
فَقَالَ: أَنْت طالقٌ إنّ لَمْ تُسلَّمي عَلَيْهِ حَتَّى أنظر مَا يرد عَلَيْكَ، فَقَالَت: وَمَا دعَاك إِلَى عِظَام قَدْ رُمّت، قَالَ: هُوَ مَا سَمِعت، فدنت مِنْهُ، فَقَالَت: السّلامُ عَلَيْكَ يَا تَوْبَة فَتى الفتيان وَسيد الشّبان، قَالَ: وَكَانَت قَطَاة قَدْ عَشّشَتْ فِي جَانب الْقَبْر، فَلَمّا سَمِعت الصَّوْت نَفَرتْ وَخرجت تَقول: قطا قطا، فَلَمَّا سَمِعت ناقةُ ليلى الصوتَ نَفَرَتْ بليلى فَسَقَطت فاندقت عُنقها، فدفنت إِلَى جَانِبه.
خبر آخر عَجِيب فِي ذَلِكَ
وَمن أعجب مَا روى لَنَا فِي هَذِهِ الْقِصَّة، مَا حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَر بْن مُحَمَّد بْن الحكم النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن زَيْدُ النَّيْسَابُوريّ: أنَّ ليلى الأخيلية بَعْدَ موت تَوْبَة تزوجت، ثُمَّ إِن زَوجهَا بَعْدَ ذَلِكَ مرّ بِقَبْر تَوْبَة وليلى مَعَه، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى تعرفين هَذَا الْقَبْر؟ فَقَالَت لَا، قَالَ: هَذَا قبر تَوْبَة فسلِّمي(1/79)
عَلَيْهِ، فَقَالَت: امْضِ لشأنك فَمَا تُرِيدُ من تَوْبَة وَقد بليتُ عِظَامَه، قَالَ: أُرِيد تَكْذِيبه، أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُول:
وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سلمت ... عَلَى ودوني تُرْبة وصَفَائِحُ
لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صَائِحُ
فوَاللَّه لَا برحتُ أَوْ تسلِّمي عَلَيْهِ، فَقَالَت: السّلام عَلَيْكَ يَا تَوْبَة ورحمك اللَّه وَبَارك لَك فِيمَا صرت إِلَيْهِ، فَإِذا طَائِر قَدْ خَرَجَ من الْقَبْر حَتَّى ضرب صَدْرها فشهقت شهقة فَمَاتَتْ فدفنت إِلَى جَانب قَبره فَنَبَتَتْ عَلَى قَبره شَجَرَة وعَلى قبرها شَجَرَة فطالتا فالتفتا.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر بأكمله
قَالَ القَاضِي: قَول ليلى الأخيلية فِي هَذَا الْخَبَر الَّذِي قدمنَا رِوَايَته: أصابتنا سنُون مجحفة مبلطة، فمجحفة الَّتِي قد جهدتم وأصارتهم إِلَى اختلال أَحْوَالهم، وَالنَّقْص الْبَين فِي وفرهم وَأَمْوَالهمْ، قَالَ الشَّاعِر:
لَوْ قَدْ نزلتَ بهم تَريدُ قراهمُ ... مَنَعُوكَ من جُهْدٍ وَمن إجحافِ
والمبلطة عَلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنى، وَهِي الَّتِي فرقت جَمَاعَتهمْ، وشتتت شملهم، وفرقتهم للقحط الَّذِي لَا مقَام مَعَه، والجدب الَّذِي لَا صَبر عَلَيْهِ، وَقد حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بِشْر المرثدي، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله الطلحي قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبرنِي القرمطي الْوَالِبِي: الإبلاط غَايَة الْجهد وَالْحَاجة، قَدْ أبلط الرَّجُل، وَالسّنة المبلطة الَّتِي قَدْ أكلت كلّ شَيْءٍ فَلم تدع شَيئًا.
وَقَوْلها: لَمْ تدع لَنَا هُبَعًا وَلَا ربَعًا: الرّبع من الْإِبِل الَّتِي تَأتي فِي أول النِّتَاج والهبع الَّتِي تَأتي فِي آخِره، قَالَ الشَّاعِر:
وَلَا وجد ثَكْلَى كَمَا وَجِدَتْ ... وَلَا أمُّ أضلها ربعُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
تلوي بِعَذِقِ خضاب كُلما خَطَرَتْ ... عَنْ فَرْجِ مَعْقُومة لَمْ تَتبع رُبَعا
وَيُقَال لَهُ ربيع، قَالَ الشَّاعِر:
إِن بَنِيَّ صِبْيَةٌ صيْفِيُّون ... أَفْلح من كَانَ لَهُ رِبْعيُّون
وَقَالَ آخر:
إذْ هِيَ أحْوَى من الرِّبِعيِّ، حاجبهُ ... والعينُ بالإثمد الحاريِّ مكحولُ
وروى أنَّ دَرَاهِم أَصْحَاب الْكَهْف كَانَتْ كأخفاف الرِّبْع ويروى أنَّ يُونُس عَلَيْهِ السّلام لمّا جعل النُّبُوَّة تفسّخ تحتهَا كَمَا يتفسخ الرِّبْعُ تَحت الْحِمْل الثقيل.
وَقَوْلها: وَلَا عافطة، تُرِيدُ الْوَاحِدَة من الضَّأْن، وَلَا نافطة، الْوَاحِدَة من المَعز، يُقَالُ:(1/80)
نفطت العَنْز وعفطت الضائنة، وهما مِنْهُمَا كالامتخاط والاستنثار من النّاس، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ تدع لَنَا عَنْزًا وَلَا ضأنًا، وَمثل هَذَا قَوْلهم: مَالَه سَبَدٌ وَلَا لُبَد، يُرِيدُونَ شَاة وَلَا نَاقَة، وَقد يُقَالُ للصوف: لَبَد، والسّبد: الشّعْر، وَنَظِير هَذَا قَوْله: لَمْ تبْق لَهُ ثاغية وَلَا راغية أَي شَاة وَلَا بعير، فالثغاء صَوت الْغنم والرغاء صَوت الْإِبِل، وَمن الرُّغاء قَول الشَّاعِر:
رَغَا فَوْقهم سَقْبُ السَّمَاءِ فداحصٌ ... بِشَكّتهِ لَمْ يُسْتَلَبْ فَسَلِيبُ
يَعْنِي سقب نَاقَة صَالح، وَمثله قَول الشَّاعِر:
فَلَمّا رَأَى الرَّحْمَن أَن لَيْسَ فيهم ... رشيد وَلَا ناهٍ أَخَاهُ عَن الغدرِ
وصب عَلَيْهِ تَغْلِبَ ابنةَ وائلٍ ... فَكَانَ عَلَيْهِمْ مثلُ راغيةِ البكرِ
وَمن السّبَد قَول الشَّاعِر:
أما الْفَقِير الَّذِي كَانَتْ حلوبته ... وَفْقَ الْعِيَال فَلم يُتْركْ لَهُ سبدُ
وَفِي الطير طَائِر يُقَالُ لَهُ السبد لوفور ريشه.
وَقَوْلها: فَمَا وُلِدَ الْأَبْكَار والْعُون مثله، العون: جمع عوان وَهِي الَّتِي بَيْنَ الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره فِي صفة بقرة بني إِسْرَائِيل " إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فارضٌ وَلا بكرٌ عوانٌ بَين ذَلِك "، وَيُقَال: حَرْبٌ عَوَان إِذَا لَمْ تكن مُبتَدأَة، وحاجة عوان إِذَا لَمْ تكن بَكْر الْحَاج، قَالَ الشعار:
قُعُودًا لَدَى الأبوابِ طالبُ حاجةٍ ... عوانٍ من الْحَاجَات أَوْ حَاجةٍ بكرِ
وَمِمَّا نستحسنه لبَعض الْمُحدثين فِي معاتبة بعض ذَوي الْخِيَانَة من الإخوان:
وكنتَ أخي بإخاء الزَّمَان ... فَلَمّا انْقَضى صرت حَرْبًا عَوَانًا
وكنتُ أعدُّك للنّائباتِ ... فها أَنَا أطلب مِنْك الأمانا
وَنَظِير هَذَا قَول الشَّاعِر الآخر:
أيا مولَايَ صرت قذى لعَيْنِي ... وسترًا بَيْنَ جفني والمَنَام
وكنتَ من الحوادثِ لي مَلاذا ... فصَرتَ مَعَ الحوادِث فِي نِظام
وكنتَ من المصائب لي عَزَاءً ... فصرت من الْمُصِيبَات الْعِظَام
وَقَالَ آخر:
هَبِ الزَّمَان زماني ... الشَّأْن فِي الخُلان
يَا مَنْ رَمَانِي لمّا ... رَأَى الزَّمانَ رَمَاني
وَمن ذخرتُ لنَفْسي ... فَعَاد ذُخْرَ الزمانِ
لَوْ قيل لي خُذْ أَمَانًا ... من أعظم الحدثانِ(1/81)
لما أخذتُ أَمَانًا ... إِلَّا من الإخوانِ
وَقَالَ ابْن الرُّومِي:
تَخِذْتكمُ ظهرا وعونًا لتدفعوا ... نبال الْعِدَا عَنِّي فصرتُم نِصَالُها
وَقد كنت أرجُو مِنْكُم خَيرَ صاحبٍ ... عَلَى حينِ خِذْلانَ اليمينِ شِمَالُها
فَإِن أَنْتُمُ لَمْ تحفظُوا لمودَّتي ... فكونوا كَفَافًا لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا
قفوا موقف المَعْذور عنِّي بمعزلٍ ... وخَلُّوا نِبَالي والْعِدَا ونبالَها
وَمِمَّا يضارع هَذَا النَّوْع بعض المضارعة قَول ابْن الرُّومِي:
عَدُوَّكَ من صديقك مستفادٌ ... فَلا تستكثرنَّ من الصحابِ
فَإِن الداءَ أكثرَ مَا تَرَاهُ ... يكون من الطَّعَام أَو الشَّرَاب
وَأَعْجَبهُ هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ:
عَدُوَّكَ من صديقك مستفادٌ ... فَلا تكثرن من الصَّديقِ
فَإِن الداءَ أكثرَ مَا تَرَاهُ ... يكون من الْمُسَوَّغ فِي الحلوقِ
وَهَذَا بَاب إِن استقصيناه طَال جدا وتجاوزنا بِهِ حدّ الْمجْلس الْوَاحِد من مجَالِس كتَابنَا هَذَا، وَلم يبن هَذَا الْكتاب عَلَى اسْتِيفَاء أَبْوَاب أَنْوَاعه، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ موشحا ممتزجًا، بِمَنْزِلَة الحدائق الْمُشْتَملَة عَلَى أَنْوَاع مُخْتَلفَة، يَقع الْأنس بمشاهدتها، والالتذاذ بجناها، وَالِانْتِفَاع بثمرها.
وَقَول تَوْبَة: وأشرف بالقوزِ اليَفَاع، القَوْز: الْوَاحِد من أقواز الرمل وَهُوَ مَا علا وأشرف مِنْهُ، وَكَذَلِكَ اليفاع مَا ارْتَفع، وَقَالَ: أَيفع الْغُلَام فَهُوَ يافع إِذَا ارْتَفع، وَهُوَ من نَوَادِر أَبْوَاب الْعَرَبيَّة، لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى أفعل فَهُوَ فَاعل، وَله أَخَوَات مَعْدُودَة مِنْهَا: أورف الظل فَهُوَ وارف، وأورس الرمث فَهُوَ وارس، وَقد قَالَ النَّابِغَة:
كليني لِهَمٍّ يَا أميمةَ ناصبٍ ... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الْكَوَاكِب
بِمَعْنى مُنْصب، كَمَا قَالَ فِي كلمة أُخْرَى:
تعنّاك همٌّ من أُمَيْمَة منصبُ
وَقَوله: أرى نَار ليلى أَوْ يراني بصيرها، أَي يراني المبصر بهَا، وَالْعرب تَقول: ليل نَائِم وسر كاتم أَي منوم ومكتوم، قَالَ جرير:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أمَّ غَيْلان فِي السُّرى ... ونِمتِ، وَمَا ليلُ المَطِيِّ بنائمِ
وَمثل هَذَا كثير.
أعطنا حَقنا الَّذِي فِي هَذَا الْمُصحف
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن(1/82)
سَعِيد بْن مُسْلِم الْبَاهِلِيّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي من حضر مجْلِس السفاح وَهُوَ أحشد مَا كَانَ ببني هَاشم والشيعة ووجوه النّاس، فَدخل عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَن وَمَعَهُ مصحف، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أعطنا حَقنا الَّذِي جعله اللَّه لَنَا فِي هَذَا الْمُصحف، فأشفق النّاس أَن يعجل السفاحُ بِشَيْء إِلَيْهِ فَلا يُرِيدُونَ ذَلِكَ فِي شيخ بني هَاشم فِي وقته، أَوْ يعيا بجوابه فَيكون ذَلِكَ نقصا وعارًا عَلَيْهِ، قَالَ: فَأقبل عَلَيْهِ غَيْر مغضب وَلَا منزعج، فَقَالَ: إِن جدَّكَ عليًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَانَ خيرا منّي وَأَعْدل، وَلِي هَذَا الْأَمر فَأعْطى جَدَّك الْحَسَن وَالْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَكَانَا خيرا مِنْك شَيئًا، وَكَانَ الْوَاجِب أَن أُعْطِيك مثله، فَإِن كنت فعلت فقد أنصفتُك، وَإِن كنت زدتُك فَمَا هَذَا جزائي مِنْك، قَالَ: فَمَا ردّ عبدُ اللَّه جَوَابا، وَانْصَرف النّاس يتعجبون من جَوَابه لَهُ.
حِكْمَة عَلَى مِحْبرة
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس بْن مَسْرُوق قَالَ: رَأَيْت عَلَى محبرة مَكْتُوبًا:
تَمَكَّنَ فِي الفؤادِ فَمَا أُبَالِي ... أَطَالَ الهجرَ أم مَنَح الْوِصَالا
الْمجْلس الثَّانِي عَشْر
امْرُؤ الْقَيْس يحمل لِوَاء الشّعْر إِلَى النَّار
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْد اللَّه بْن نصر بْن بُجَيْرٍ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابْن سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَارُ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ أَحْيَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْس، قَالَ: وَكَيف ذال؟ قَالُوا: أَقْبَلْنَا نُرِيدُكَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ فَمَكَثْنَا ثَلاثًا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَتَفَرَّقْنَا إِلَى أُصُولِ طَلْحٍ وَسَمُرٍ لِيَمُوتَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا فِي ظلّ شجر، فينما نَحن بآخر رَمق غذ رَاكِبٌ يُوضَعُ عَلَى بَعِيرٍ مُعْتَمٌّ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُنَا قَالَ وَالرَّاكِبُ يسمع:
لما رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّهَا ... وَأَنَّ الْبَيَاضَ مِنْ فَرَائِصِهَا دَامِي
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضارجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي
قَالَ الرَّاكِبُ مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ؟ وَقَدْ رَأَى مَا بِنَا مِنَ الْجَهْدِ، قَالَ: قُلْنَا: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: مَا كَذَبَ وَإِنَّ هَذَا لضارجٌ أَوْ ضَارِجٌ عِنْدَكُمْ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ المَاء نحون مِنْ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَحَبَوْنَا إِلَيْهِ عَلَى الرُّكَبِ، فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَيْهِ الْعَرْمَضُ يَفِيءُ عَلَيْهِ الظِّلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ رَجُلٌ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيَا مَنْسِيٌّ فِي الآخِرَةِ، شَرِيفٌ فِي الدُّنْيَا خَامِلٌ فِي الآخِرَةِ، بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ ".(1/83)
رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ السُّكَيْنِ الْبَلَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ هِلالٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ جَارُ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ عَفِيفٍ أَوْ قَالَ: عَفِيفِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنَ الأَعْرَابِ حُفَاةً عُرَاةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَنْجَانَا اللَّهُ بِبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقْبَلْنَا نُرِيدُكَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَضْلَلْنَاهُ ثَلاثًا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ عَمَدَ كلُّ رَجُلٍ مِنَّا إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ أَوْ سَمُرَةٍ لِيَمُوتَ تَحْتَهَا، فَإِذَا رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُوضَعُ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُنَا قَالَ وَالرَّاكِبُ يسمع:
لما رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّهَا ... وَأَنَّ الْبَيَاضَ مِنْ فَرَائِصِهَا دَامِي
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي
قَالَ: فَقَالَ الرَّاكِبُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ؟ قَالَ: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَ وَإِنَّ عِنْدَهُ الآنَ لَضَارِجًا عَلَيْهِ الْعَرْمَضُ يَفِيءُ عَلَيْهِ الظِّلُّ، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذَا لَيْسَ بَينا وَبَيْنَهُ إِلا قَدْرُ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ رَجُلٌ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيَا، مَنْسِيٌّ فِي الآخِرَةِ، بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ ".
قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر وَالشعر: وَأَن الْبيَاض من فرائصها دامي (الفرائص) جمع فريصة وَهِي الْموضع الَّذِي يترعد من الدَّابَّة، قَالَ النَّابِغَة الذبياني:
شَكَّ الفريصَةَ بالْمِدْري فأنفذَها ... شَكَّ الْمُبَيْطِرِ إِذ يَشْفِي من العضدِ
وَمن هَا هُنَا أَخذ قَوْلهم: فلَان تَرْعَد فرائصه إِذَا وصف بِشدَّة الْخَوْف، وَمن ذَاك الْخَبَر المرويُّ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى بِأَصْحَابِهِ وَرَأى رجلَيْنِ تَرْعَدُ فرائصهما.
وأمّا قَوْله: تيممت الْعين، فَمَعْنَاه قصدت وتعمدت، يُقَالُ: يممت كَذَا وَكَذَا إِذَا قصدته، وَمن ذَلِكَ قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا " يَعْنِي اقصدوا، وَذكر أَنَّهَا فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود. فَأَقُول: وَالْمعْنَى وَاحِد، أممت وتيممت مثل عَمَدت وتعمدت، وَيُقَال: أممت، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلا آمّين الْبَيْت الْحَرَام " يَعْنِي قَاصِدين وعامدين، وَقَالَ عزَّ ذكره: " وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تنفقون "، وَقَرَأَ مُسْلِم بْن جُنْدُب: وَلا تيمموا أَي توجهوا، وَمن هَذَا الْبَاب قَول الشَّاعِر:
إِنِّي كَذَاك إِذَا مَا ساءَنِي بلدٌ ... يَمّمْت صَدْرَ بَعِيري غَيْرَهُ بَلَدا
ويروى: أممت، قَالَ الْأَعْشَى:
تيممتُ قيسا وَكم دُونَه ... من الأَرْض من مَهْمَهٍ ذِي شَزَن(1/84)
وَقَالَ آخر:
تيممتُ هَمَدان الَّذين همُ همُ ... إِذَا نَاب خطبٌ جُنتي وسهامي
وَقَالَ خفاف بْن ندبة:
فَإِن تكُ خَيْلي قَدْ أُصِيبَ صَميمها ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْني تيممتُ مَالِكا
وَمن هَذَا قَوْلهم: أمرٌ أمَمْ أَي قَصْد، قَالَ الْأَعْشَى:
أَتَانَا عَن بني الأحرا ... ر عَنهُ قولٌ لَمْ يكن أمَمَا
وَقَالَ ابْن قيس الرّقَيَّات:
كوفيةٌ نازحٌ مَحَلّتُها ... لَا أممٌ دَارُهَا وَلَا صقبُ
الْأُمَم: الْقَصْد، والصقب: الْقرب، وَمِنْه: الْجَار أحقٌّ بصقبه، وَقَالَ الشَّاعِر:
وَلَو نارُ لَيْلى بالعَذِيبِ بَدَتْ لَنَا ... لَحَبَّتْ إِلَيْنَا دَارَ من لَا يصاقبُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَمَا أنْسَ ملْ الأشياءِ لَا أنسَ قَوْلَها ... لَعَلَّ النَّوى بَعْدَ التَّفَرُّقِ تصقبُ
وَهَذَا بَاب يكثر ويتسع جدا، وَفِيمَا ذكرنَا مِنْهُ هَا هُنَا بل فِي بعضه كِفَايَة.
وَمعنى قَوْله: يفِيء عَلَيْهَا الظل، معنى يفِيء: يرجعن يُقَال فَاء الظل أَي رَجَعَ قَبْلَ الزَّوَال، وَلَا يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ فيءٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ فَيْء بَعْدَ الزَّوَال لرجوعه، وكلا الْوَجْهَيْنِ ظلُّ، قَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر الهلاليّ:
فَلا الظِّلُّ من بَرْدِ الضُّحَى نستطيعهُ ... وَلَا الفَيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ نذوقُ
وَمن هَذَا سُمِّيَ مَا رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمنِينَ من مَال الْمُشْركين فَيْئًا، وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُم "، وَقَالَ: " وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أهل الْقرى "، وَقَالَ تقدَّس اسْمه: " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ "، وَقَالَ: " فَإِن فاءوا " أَي رجعُوا إِلَى غشيان من آلوا من نِسَائِهِم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا وَاسع بيِّن.
وَقَول امْرِئ الْقَيْس: عرمضها طامي، العَرْمَض: الطُّحْلب الَّذِي يكون فِي المَاء وَيُقَال لَهُ عرمض وعَلْفق ونَوْر، وَقَوله: طامي، يَعْنِي أنَّه عَال يُقَالُ: طما الْوَادي إِذَا امْتَلَأَ وَعلا مَاؤُهُ، قَالَ الْأَعْشَى:
مَا جُعل الْجُدُّ الظَّنُون الَّذِي ... جُنِّب صَوْبَ اللّجْبِ الماطِرِ
مثلُ النَّواتِيِّ إِذَا مَا طما ... يَقْذِفُ بالْبُوصيِّ والماهر
من مصَارِع الْعُشّاق
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مرزبان، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الطَّائِف، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُحَمَّد الصَّيْمَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن(1/85)
مسْعدَة الْأَخْفَش، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو محظورة الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالك الراوية قَالَ: سَمِعت الفرزدق يَقُولُ: أبق غلامان لرجل من بني نهشل يُقَالُ لَهُ الْخضر. فَحَدثني الْخضر قَالَ: خرجت أبغيهما وقصدت نَاحيَة الْيَمَامَة على نَاقَة لي عَيْساء كوماء، قَالَ: ابْن الأنبَاريّ: العَيْساء: الْبَيْضَاء، والكوماء: الْعَظِيمَة السنام - فَنَشَأَتْ سَحَابَة فَرعدَت وَبَرقَتْ وحلت عَزَالِيهَا، فملت إِلَى بعض ديار بني حنيفَة وقصدت دَارا وَطلبت الْقرى، فَقيل لي: ادخل فأنخت نَاقَتي ودخلتُ وَجَلَست تَحت ظلة من جريد - قَالَ ابْن الأنبَاريّ: الجريد مَا جُرد من النّخل - وَفِي الدَّار جُوَيْرية سُويداء فدخَلَتْ جاريةٌ كَأَنَّهَا سبيكة فضَّة، وَكَأن عينيها كوكبان، فَقَالَ: لمن هَذِهِ النَّاقة؟ قَالَت السويداء: لضيفكم هَذَا، فَسلمت عليّ وَقَالَت: مِمَّن الرَّجُل؟ قلت: من بني حَنْظَلَة، قَالَت: من أَيهمْ؟ قَالَت: من بني دارم، قَالَ: من أَيهمْ؟ قلت من بني نهشل، قَالَ: وَأَنت من الَّذِي يَقُولُ فيهم الفرزدق:
إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لَنَا ... بَيْتا دعائمه أعزُّ وأطولُ
بَيْتا بناه لنا المليكُ وَمَا بنى ... ملك السَّمَاء فَإِنَّهُ لَا يُنقلُ
بَيْتا زُرَارةُ محتبٍ بِفِنَائهِ ... ومُجَاشِعٌ وَأَبُو الفوارس نهشلُ
فَأَعْجَبَنِي ذَلِكَ من قَوْلهَا: فَقَالَت: إِلَّا أنَّ ابْن الخَطَفي نقض عَلَيْهِ، فَقَالَ:
أخزى الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ مُجَاشعًا ... وَبنى بناءَك بالحضيضِ الْأَسْفَل
بَيْتا يُحَمِّم قَيْنُكُم بِغِنَائِهِ ... دَنِسًا مقاعدُه خَبِيث الْمدْخل
فخجلت وَاسْتَحْيَيْت، ثُمَّ قلت لَهَا: أيم أَنْت أم ذاتُ بَعْل؟ فَقَالَت:
إِذَا رَقد النِّيامُ فَإِن عَمْرًا ... تُؤَرِّقُهُ الهمومُ إِلَى الصباحِ
تقطِّع قلبه الذكرى وقلبي ... فَما هُوَ بالخَلِيِّ وَلَا بصاحِ
سقى اللَّه اليمامةَ دارَ قومٍ ... بهَا عَمْرو تَحِنُّ إِلَى الرواحِ
فَقلت لَهَا: من عَمْرو هَذَا؟ فَقَالَت:
سألتَ وَلَو علمتَ كففتَ عنهُ ... وَمن لَك بِالْجَوَابِ سوى الخبيرِ
فَإِن تَكُ سَائِلًا عَنْهُ فعمرو ... مَعَ الْقَمَر المضيء المستنيرِ
ثُمَّ قَالَتْ: أَيْنَ تَؤُمّ؟ قلتُ: الْيَمَامَة، فتنفّست الصُّعداء، ثُمّ قَالَتْ:
تُذَكِّرُني بلادًا حَلّ أَهلِي ... بهَا أَهْلُ المودَّة والكرامة
أَلا فسقي الْإِلَه أجشَّ صوبٍ ... يسح بدرهِ بلد اليمامه
وحيّ بالسّلام أَبَا نُجيدٍ ... وأهلٍ للتحية والسّلامة(1/86)
ثمَّ قَالَت:
يخيل لي أيا عَمْرُو بْنَ كعبٍ ... بأنك قَدْ حُملت عَلَى سريرِ
فَإِن يكُ هَكَذَا يَا عَمْرو إِنِّي ... مبكرةٌ عَلَيْكَ إِلَى القبورِ
ثُمَّ شهقت شهقة فَمَاتَتْ فألف عَنْهَا فصل لي: هِيَ من وُلِدَ محرِّق ابْن النُّعْمَان بْن الْمُنْذر وَعَمْرو بْن كَعْب هوى لَهَا بِالْيَمَامَةِ فركبتُ نَاقَتي فصرت إِلَى الْيَمَامَة. فَسَأَلت عَنْ عَمْرو بْن كَعْب، فخُبِّرْتُ أَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت الَّذِي قَالَت فِيهِ الْجَارِيَة مَا قَالَتْ.
أعطِه لكلِّ بيتٍ ألف دِينَار
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد، أَبُو عليّ الْكَلْبِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الدجاجي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بْن سَعِيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ، قَالَ: كنتُ فِي حَرَسِ الْمَأْمُون بحُلْوَان حِين قفل من خُرَاسان أَوْ حِين قفل من الْعرَاق، - أَبُو عَليّ يشك - قَالَ القَاضِي: وَالصَّوَاب قفل من خُرَاسَان أَو قفل إِلَى الْعرَاق، والقفول الرُّجُوع لَا ابْتِدَاء السَّفَر، والمأمون رَجَعَ من خُرَاسَان إِلَى الْعرَاق، بَعْدَ قتل الْأمين واستتباب الْخلَافَة لَهُ، قَالَ: فَخرج لينْظر إِلَى الْعَسْكَر فِي بَعْض اللَّيْل، فعرفتهُ وَلم يعرِفْني فأغفلتهُ، فجَاء من ورائي حَتَّى وضع يَده عَلَى كَتِفي، فَقَالَ لي: من أَنْت: قَالَ: عَمْرو عَمَرك اللَّه، ابْن سَعِيد أسْعَدَك اللَّه، ابْن سَلْم سَلّمكَ اللَّه، فَقَالَ: أَنْت الَّذِي كنتَ تكلَؤُنا فِي هَذِهِ اللَّيْلَة؟ فَقلت: اللَّه يكلَؤُك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَأَنْشَأَ الْمَأْمُون يَقُولُ:
إِن أَخَاك الحقَّ من يَسْعَى مَعَكَ
وَمن يضرُّ نَفسه لينفعك
وَمن إِذَا رَيْبُ زمَان صَدَعَك
فرّق من جَمِيعه ليَجْمَعَك
ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَام! أعْطه لكل بَيت ألف دِينَار، فوددت أَن تكون الأبيات طَالَتْ عليّ فأجد الْغنى، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأزيدُك بَيْتا من عِنْدِي، فَقَالَ: هَات، فَقلت:
وَإِن غدوتَ ظَالِما غَدا مَعَك
فَقَالَ: أعْطه لهَذَا ألف دِينَار، فَمَا برحتُ من موقفي حَتَّى أخذتُ خَمْسَة آلَاف دِينَار.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَالَ القَاضِي: فَإِن قَالَ قَائِل: كَيْفَ أعْطى الْمَأْمُون عَنْ قَوْله:
فَإِن غدوتَ ظَالِما غَدا مَعَك
وَلم وَافقه عَلَى تصويب مساعدة وممالأته، قيل: إِنَّه لَمْ يظْهر فِي قَول هَذَا الْقَائِل مَا يُوجب مظافرة الظَّالِم فِي عمله، وَقَوله: غَدا مَعَك، يتَّجه فِيهِ أَن يكون مَعْنَاهُ غَدا مَعَك ليكفك عَن الظُّلم، بالوعظ لَك وَالرّق بك والاستعطاف عَلَى مَا تُسَوِّلُ لَك نَفسك ظلمه، فيصرفك عَنِ الظُّلم، ويَثنِيك عَنْ معرة الْإِثْم.(1/87)
وَقد جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " انْصُر أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا " فَقيل لَهُ: يَا رَسُول اللَّه! أنصره مَظْلُوما فَكيف أنصره ظَالِما؟، قَالَ: " تحجبه عَنِ الظُّلم فَذَلِك نُصْرُك إِيَّاه ".
الْأَمر لَا حِيلَة لَهُ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عجلَان، قَالَ: سَمِعت الفَضْل بْن مَرْوَان يَقُولُ: كَانَ ابْن المقفع يَقُولُ: إِذَا نزل بك أَمر مُهِمٌّ فَانْظُر فَإِن كَانَ ممّا لَهُ حِيلَة فَلا تَجْزَع.
ضَعُفَ قلبِي عَنِ الرَّد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أبي الثَّلج، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن فهم، قَالَ: قَالَ ابْن المَوْصِليّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أتيت يحيى بن خَالِد بن برمك فشكون إِلَيْهِ ضِيقَة، فَقَالَ: وَيحك! مَا أصنع بك، لَيْسَ عندنَا فِي هَذَا الْوَقْت شَيْءٍ، وَلَكِن هَا هُنَا أَمر أدلُّك عَلَيْهِ فَكُن فِيهِ رَجُلا، فقد جَاءَنِي خَليفَة صَاحب مصر يسألني أَن أستهدي صَاحبه شَيئًا، وَقد أبيتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فألحَّ عليّ، وَقد بَلغنِي أنَّكَ أُعْطِيتَ فِي جاريتك فُلَانَة ألف دِينَار، فَهُوَ ذَا أستهديه إِيَّاهَا وَأخْبرهُ أَنَّهَا قَدْ أعجبتني، فإياك أَن تُنْقِصها عَنْ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، وَانْظُر كَيْفَ تكون؟ قَالَ: فوَاللَّه مَا شَعرت إِلَّا بِالرجلِ قَدْ وافاني فساومني الْجَارِيَة، فَقلت: لَا أنقصها من ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَلم يزل يساومني حَتَّى بذل لي عشْرين ألف دِينَار، فَلَمّا سَمعتهَا ضَعُفَ قلبِي عَنْ رَدِّها، فبعتُها وقبضتُ المَال الْعشْرين ألفا، ثُمَّ صرت إِلَى يحيى بْن خَالِد، فَقَالَ لي: كَيْفَ صنعتَ فِي بيعك الْجَارِيَة، فَأَخْبَرته وَقلت: وَالله مَا ملكتُ نَفسِي أَن أجبتُ إِلَى الْعشْرين حِين سمعتُها، فَقَالَ: إِنَّك لخسيس، وَهَذَا خليفةُ صَاحب فَارس قَدْ جَاءَنِي فِي مثل هَذَا، فَخذ جاريتك فَإِذا ساومك فها فَلا تنقصها عَنْ خمسين ألف دِينَار، فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يَشْتَرِيهَا مِنْك بِذَاكَ، قَالَ: فَجَاءَنِي الرَّجُل فاسْتَمْتُ عَلَيْهِ خمسين ألف دِينَار، فَلم يزل يساومني حَتَّى أَعْطَانِي ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فضعف قلبِي عَنْ رَدِّها وَلم أصدق بهَا وأوجبتها لَهُ، ثُمَّ صرت إِلَى يحيى بْن خَالِد فَقَالَ: بكم بِعْت الْجَارِيَة؟ فَقتل: بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَقَالَ: وَيحك! ألم تؤدِّبُك الأولى عَنِ الثَّانِيَة؟ قَالَ: قلت: ضَعُفْتُ وَالله عَنْ رَدِّ شَيْءٍ لَمْ أطمع فِيهِ، قَالَ: فَقَالَ: هَذِهِ جاريتك فخذْها إِلَيْكَ، قَالَ: فَقلت: جاريةٌ أفدتُ بهَا خمسين ألف دِينَار ثُمَّ أملكهَا! أشهدك أَنَّهَا حُرَّةٌ وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجتُها.
نصيحة أَعْرَابِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه الْأَصْمَعِي، قَالَ: رَأَيْت أَعْرَابِيًا يعظ آخر ويحذِّره، وَقَالَ: إِن فلَانا وَإِن ضحك لَك فَإِنَّهُ يضْحك مِنْك، وَإِن أظهر الشَّفَقَة عَلَيْكَ إِن عقاربه تسري إِلَيْكَ، فَإِن لَمْ تَجْعَلهُ عدوا لَك فِي علانيتك، فَلا تَجْعَلهُ صديقا لَك فِي سريرتك.(1/88)
قُرَيْش أسخى أم أُميَّة
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنَا سليم بْن حَرْب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلَال الرباضي، عَنْ حُمَيْد بْن هِلَال، قَالَ: تفاخر رجلَانِ رجل من قُرَيْش وَرجل من بني أُميَّة، فَقَالَ هَذَا: قومِي أسخى من قَوْمك، وَقَالَ هَذَا: لَا، قومِي أسخى من قَوْمك، فَقَالَ: سَل فِي قَوْمك حَتَّى أسل فِي قومِي، فَافْتَرقَا عَلَى ذَلِكَ، فَسَأَلَ الْأمَوِي عشرَة من قومه فَأَعْطوهُ مائَة ألف عشرَة آلَاف عشرَة آلَاف، قَالَ: وَجَاء الهاشميُّ إِلَى عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ فَأعْطَاهُ مائَة ألف، ثُمَّ أَتَى الْحَسَن بْن عليّ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ أتيت أحدا قبلي؟ قَالَ: نَعَمْ، عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس فَأَعْطَانِي مائَة ألف، فَأعْطَاهُ الْحَسَن مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا، ثُمَّ أَتَى الْحُسَيْن بْن عليّ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ سَأَلت أحدا قَبْلَ أَن تَأتِينِي، قَالَ: نَعَمْ، أَخَاك الْحَسَن فَأَعْطَانِي مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا.
فَقَالَ: لَوْ أتيتني قَبْلَ أَن تَأتيه أَعطيتك أَكثر من ذَلِكَ، وَلَكِن لَمْ أكن لأزيد عَلَى سَيِّدي، فَأعْطَاهُ مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا، قَالَ: فجَاء الْأمَوِي بِمِائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا، قَالَ: فجَاء الْأمَوِي بِمِائَة ألف من عشرَة، وَجَاء الْهَاشِمِي بثلثمائة وستِّين ألفا من ثَلَاثَة، فَقَالَ الْأمَوِي: سَأَلت عشرَة من قومِي فأعطوني مائَة ألف، وَقَالَ الهاشميّ سَأَلت ثَلَاثَة من قومِي فأعطوني ثلثمِائة ألف وستِّين ألفا، قَالَ: ففخر الهاشميّ الأمويَّ فَرجع الأمويُّ إِلَى قومه فَأخْبرهُم الْخَبَر، فردّ عَلَيْهِم المَال فقبلوه، وَرجع الْهَاشِمِي إِلَى قومه فَأخْبرهُم الْخَبَر فردّ عَلَيْهِم المَال فَأَبَوا أَن يقبلونه، وَقَالُوا: لَمْ نَكُنْ لنرتجع شَيئًا قَدْ أعطيناه.
سمى اللَّه المستهزئ جَاهِلا
حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن مُحَمَّد بْن صَالح الكريري، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الْجَلِيل ابْن الْحُسَيْن، قَالَ: كَانَ مَما عُرف عَنْ أَحْمَد بْن المعَذِّل وَهُوَ صبيٌّ لَهُ ذُؤابة فِي مجْلِس أبي عَاصِم، وَمر لأبي عَاصِم حديثٌ فِيهِ فقه، فَقَالَ أَحْمد: إِنَّه مِمَّا ألقح إِلَيْنَا عَنْ مَالك بْن أنس فِي هَذَا الْخَبَر، فَسمع أَبُو عَاصِم، فَقَالَ: لَا زرعك اللَّه، فَخَجِلَ أَحْمَد، فَلَمّا كَانَ الْمجْلس الثَّانِي مَرَّ لأبي عَاصِم حَدِيث فِيهِ فقه، فَقَالَ: أَيْنَ أَنْت يَا مَنْقُوص؟ أنس ألقح إِلَيْكُم عَنْ مَالك، قَالَ: فَخَجِلَ أَحْمَد ثُمَّ وثب، فَقَالَ: يَا أَبَا عَاصِم! إِن اله خلقك جَدًّا فَلا تهزلنَّ، فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سمى المستهزئ فِي كِتَابه جَاهِلا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " قَالَ: فَخَجِلَ أَبُو عَاصِم وَكَانَ لَا يحدَّثُ حَتَّى يحضر أَحْمَد فيقعده إِلَى جنبه.
أَخْبَار أَصْحَاب الغلمان
النوبختي وزرزر الْمُغنِي
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْكَاتِب، قَالَ: كَانَ عليّ بْن الْعَبَّاس النّوْبَخْتِيُّ مَعَ جمَاعَة من أَهله عَلَى سطح دَار أبي سهل النوبختي فِي لَيْلَة من ليَالِي الصَّيف يشربون وَمَعَهُمْ(1/89)
إِبْرَاهِيم بْن القَاسِم بْن زُرْزُر الْمُغنِي، وَكَانَ إِذْ ذَاك أَمْرَد حَسَن الْوَجْه، وَكَانَ فِي السَّمَاء غيم ينجاب مرّة ويتصل أُخْرَى، فانجاب الغيمُ عَنِ الْقَمَر فانبسط فَقَالَ عليّ بْن الْعَبَّاس، وَأَقْبل عَلَى إِبْرَاهِيم:
لَمْ يَطْلُعِ البَدْرُ إِلَّا من تَشوُّقِهِ ... إِلَيْك حَتَّى يُوَفِّي وَجْهَكَ النّظَرَا
وَلم يتمم الْبَيْت حَتَّى استتر الْقَمَر، فَقَالَ:
وَلَا تغيَّبَ إِلَّا عِنْدَ خَجْلَتِهِ ... لمّا رآك تولّى عَنْكَ فاسْتَتَرَا
المعتز وَيُونُس بْن بغا
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى بْن أَبِي عَبّاد، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك، قَالَ: شرب المعتز وَيُونُس بْن بغا بن يَدَيْهِ يسْقِيه والجلساء والمغنون حُضور قَدْ أعدَّ الْخِلَع والجوائز، إِذْ دَخَلَ بُغا فَقَالَ: يَا سَيِّدي! وَالِدَة عَبدك يُونُس فِي الْمَوْت وَهِي تحب أَن ترَاهُ، فَأذن لَهُ فَخرج، وفَتَر المعتز لبُعْده ونَعِس، فَقَامَ الْجُلساءُ وتفرَّق المغنون إِلَى أَن صليت الْمغرب وَعَاد المعتز إِلَى مَجْلِسه، وَدخل يُونُس وَبَين يَدَيْهِ الشموع فَلَمَّا رَآهُ المعتز دَعَا برطل فشربه وَسَقَى يُونُس رطلا، وغنى المغنون وَعَاد الْمجْلس أحسن مَا كَانَ، فَقَالَ المعتز:
تغيب فَلَا أفرح ... فليتك لَا تبرحْ
فَإِن جِئْت عَذَّبْتَنِي ... فَإنَّك لَا تسمحْ
فأصْبحتُ مَا بَين دَيْ ... ن ولي كبد تُجْرح
عَلَى ذَاك يَا سيِّدي ... دُنُوُّكَ لِي أَصْلَحْ
ثُمَّ قَالَ: غنوا فِيهِ فَجعلُوا يفكرون، وَقَالَ المعتز لِابْنِ القصّار الطُّنبوري: وَيلك ألحان الطنبور أَمْلَح وأخف فغنِّ لَنَا، فغنى فِيهِ لحنًا، فَقَالَ: دَنَانِير الخريطة، وَهِي مائَة دِينَار فِيهَا مِائَتَان مَكْتُوب عَلَى كلّ دِينَار مِنْهَا ضرب هَذَا الدِّينَار الحَسَنِيُّ لخريطة أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ دَعَا بِالْخلْعِ والجوائز لسَائِر النّاس، فَكَانَ ذَلِكَ الْمجْلس من أحسن الْمجَالِس.
وناسكٌ يقتلُه الوَجْد
حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن النصير بْن القَاسِم الخَوّاص، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس بْن مَسْرُوق، قَالَ: حَدَّثَنِي فضل اليزيدي، عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي عَنْ عُمَر الْهِلَالِي، قَالَ: شهدتُ أَبَا يحيى التَّيْميّ، يَقُولُ: كَانَ يخْتَلف مَعَنَا رَجُل من النُّسَّاكِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحَسَن إِلَى مِسْعر بْن كِدَام، وَكَانَ يخْتَلف مَعَه فَتًى حَسَن الْوَجْه يفتن النّاس إِذَا رَأَوْهُ، فَأكْثر الناسُ القَوْل فِيهِ وَفِي صحبته إِيَّاه، فَمَنعه أَهله أَن يَصْحَبهُ وَأَن يكلمهُ، فذُهِل عقله حَتَّى خُشِيَ عَلَيْهِ التّلف، فَبلغ ذَلِكَ مسعرًا، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: أَلا يقربَني وَلَا يَأْتِي مجلسي،(1/90)
فَإِنِّي لَهُ كَارِه، فلقيتُه فأخبرتهُ ذَلِك، فتنفس الصُّعَداء وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا من بَدَائِع حَسَن صورته ... تَثْني إِلَيْهِ أعِنّهُ الحدقِ
لي مِنْك مَا للنَّاس كلهم ... نَظَرٌ وَتَسْلِيم عَلَى الطرقِ
لكِنهمْ سعدوا بأمنهمُ ... وشقيتُ حِين أَرَاك بالفَرَقِ
قَالَ: ثمَّ صرخَ صرخة وشخص بَصَره نَحْو السَّمَاء، وَسقط فحرّكته فَإِذا هُوَ ميت.
لَوْ أَمر اللَّه الْعباد بالجزع
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنِي مهديُّ بْن سَابق، قَالَ: قَالَ يحيى بْن خَالِد: لَوْ أَمر اللَّه تَعَالَى الْعباد بالجزع دون الصَّبْر لَكَانَ قَدْ كلّفهم أَشد الْمَعْنيين عَلَى الْقُلُوب، وَقَالَ الشَّاعِر:
بَكَى جزعًا لفُقْدَانِ الحَبيب ... وأسْبَل دَمْع مَلْهُوفٍ كَئيبِ
وَكَانَ الصبرُ أجملَ لَوْ تَعَزَّى ... وأشْفَى للصُّدُور من النحيبِ
فَلَو جعل الْإِلَه الْحُزْن فرضا ... لَكَانَ الصَّبْرُ من جِلِّ الخطوبِ
لَكَانَ الحزنُ فِيهِ غَيْر شَكِّ ... أشدَّ الْمَعْنيين عَلَى الْقُلوبِ
الْأمين يتوجع لإصابة خادمه كوثر
حَدَّثَنَا الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عُمَر، قَامَ كوثر خَادِم الْأمين ليرى الْحَرْب، فأصابتْه رجمةٌ فِي وَجهه فَجَلَسَ يبكي فوجّهُ مُحَمَّدٌ من جَاءَ بِهِ، وَجعل يمسح الدمع عَنْ وَجهه، ثُمّ قَالَ:
ضَرَبُوا قُرَّةَ عَيْني ... ولأجلي ضَرَبُوه
أَخَذَ اللَّه لِقَلْبي ... من أناسٍ أَحْرَقُوه
فَأَرَادَ زِيَادَة فِي الأبيات، فَقَالَ للفضل بْن الرّبيع: من هَاهُنَا من الشُّعَرَاء؟ فَقَالَ: السَّاعَة رَأَيْت عَبْد اللَّه بْن أيّوب التَّيْميّ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ، فَلَمّا دَخَلَ أنْشدهُ الْبَيْتَيْنِ وَقَالَ: قل عَلَيْهِمَا، فَقَالَ:
مَا لِمَن أهْوَى شَبيه ... فِيهِ الدُّنْيَا تَتيه
وَصْلُهُ حُلْو وَلَكِن ... هَجْرُهُ مُرٌّ كريه
من رأى النَّاس لَهُ الفض ... ل عَلَيْهِمْ حَسَدُوه
مثل مَا قَدْ حسد القا ... ئم بالملكِ أَخُوه
فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنت، هَذَا وَالله خيرٌ ممّا أردْت، بحياتي عَلَيْكَ يَا عباسيّ إِلَّا نظرت فَإِن كَانَ جَاءَ عَلَى الظّهْر مَلَأت أحمال ظَهره دَرَاهِم، وَإِن كَانَ جَاءَ فِي زورق ملأته لَهُ، فأوقر(1/91)
لَهُ ثَلَاثَة أبغل دَرَاهِم.
الْمَأْمُون يعاتبه بِسَبَب هَذَا الْبَيْت فيلجأ إِلَى الفَضْل بْن سهل
قَالَ الصولي: فحدثنا الْحَسَن بْن عليّ العنزيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِدْرِيس، قَالَ: لمّا قتل الْأمين خرج أَبُو مُحَمَّد التَّيْميّ إِلَى الْمَأْمُون فامتدحه، فَلم يَأْذَن لَهُ فَصَارَ إِلَى الفَضْل بْن سهل ولجأ إِلَيْهِ وامتدحه، فأوصله إِلَى الْمَأْمُون، فَلَمّا سلم عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا تَيْمِي:
مثل مَا قَدْ حسد القا ... ئم بِالْملكِ أَخُوهُ؟
فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد التَّيْميّ:
نُصِرَ المأمونُ عَبْد اللَّه لمّا ظَلَمُوه
نُقِضَ العهدُ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا أكّدُوه
لَمْ يعاملْه أخُوه الَّذِي أوصى أَبُوهُ
ثُمَّ أنْشدهُ قصيدة امتدحه بهَا أَولهَا:
جَزِعَت ابنَ تَيْم أنَ عَلاك مشيبُ ... وَبان الشبابُ والشّبَابُ حبيبُ
فَلَمّا فرغ مِنْهَا قَالَ الْمَأْمُون: قَدْ وَهبتك لله ولأخي أبي الْعَبَّاس، يَعْنِي الفَضْل بْن سهل، وَأمرت لَك بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
خَمْسَة آلَاف فِي تَفْسِير كلمة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْأَصْمَعِي، قَالَ: دخلتُ على الرشيد هرون ومجلسه حافل، قَالَ: يَا أصمعي! مَا أغفلك عَنَّا وأجفاك لحضرتنا! قلت: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ألاقَتْنِي بلادٌ بعدَك حَتَّى أَتَيْتُك، قَالَ: فَأمرنِي بِالْجُلُوسِ فجلستُ حَتَّى خَلا الْمجْلس فجلستُ وَسكت عني حَتَّى تفرق النّاس إِلَّا أقلهم، فنهضتُ للْقِيَام فَأَشَارَ إِلَى أَن أَجْلِس، فَجَلَست وَلم يبقَ غَيْرِي وَغَيره وَمن بَيْنَ يَدَيْهِ من الغلمان، فَقَالَ لي: يَا أَبَا سَعِيد: مَا ألاقَتْني؟ قلت: أمسكتني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ:
كَفّاك كف مَا تلِيق درهما ... جواداً وأُخْرَى تُعْطِ بالسّيفِ الدَّمَا
أَي مَا تمسك درهما، فَقَالَ: أحسنتَ وَهَكَذَا فَكُن وفْرنا فِي المَلاءِ وعِلمْنا فِي الْخَلَاء، وَأمر لي بِخَمْسَة آلَاف دِينَار.
أَبْيَات غزلية
أنشدنا الصولي، قَالَ أنشدنا الْمبرد:
أَنْت إلفُ العُيُو ... ن فاكتحلي أَوْ تَمَرَّهِي
لستُ عنكمُ وَلَو قتل ... ت بَدَا الدَّهْر أنتَهي
قَادَنِي نَحْوَكِ الشقا ... ء كَذَا كُنْتُ أشْتَهي(1/92)
الْمجْلس الثَّالِث عَشْر
حَدِيث الْغَار
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحِ بْنِ عبد الله الْمَعْرُوف بالجنديسابوري، إِمْلاءً فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ عِشْرِينَ وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن حَرْب الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي مِقْسَمٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ: " أَنَّ ثَلاثَةَ نَفَرٍ انْطَلَقُوا يَتَمَاشَوْنَ فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ أَنْ يُفَرِّجَ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ وَكَانَ لِيَ امْرَأَةٌ وَصِبْوَةٌ، وَكُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمَا فَإِذَا مَشَيْتُ حَلَبْتُ لَهُمَا فِي إِنَائِهِمَا ثُمَّ سَقَيْتُهُمَا، وَإِنِّي جِئْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ دَنَا السَّحَرُ وَقَدْ نَامَا، وَكُنْتُ قَدْ حَلَبْتُ لَهُمَا فِي إنائهما فَقُمْت على رؤوسهما وَالصِّبْوَانُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْوَانَ قَبْلَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ مَخَافَتِكَ فَافْرِجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، قَالَ: فَأُفْرِجَتْ مِنْهَا فُرْجَةٌ رَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ.
قَالَ: وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ وَإِنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَكْسِرِ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا وَتَرَكْتُهُ لَهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ مَخَافَتَكَ، فَافْرِجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاء، فأفرجت فُرْجَة أُخْرَى فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ.
قَالَ: وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا يَعْمَلُ لِي فِي فَرَقٍ مِنْ زَيْتٍ، فَلَمَّا عَمِلَ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ: اعْمِدْ إِلَى هَذَا الْفَرَقِ الزَّيْتِ فَخُذْهُ، فَرَغِبَتْ عَنْهُ نَفْسُهُ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ، فَجَمَعْتُهُ فَبِعْتُ مِنْهُ حَتَّى كَانَ بَقَرًا وَرُعَاتَهَا، فَأَتَانِي فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَأَعْطِنِي أُجْرَتِي، فَقُلْتُ: امْلِكْ هَذِهِ الْبَقَرَاتِ وَرُعَاتَهَا. فَاسْتَاقَهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ مَخَافَتَكَ فَافْرِجْ عَنَّا الْحَجَرَ، فَأُفْرِجَ عَنْهُمُ الْحَجَرُ، فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ إِلَى أَهَالِيهمْ ".
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: حديثُ الْغَار هَذَا معروفٌ عِنْدَ أَهْلَ الْعلم، وَقد ورد الْخَبَر بِهِ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وُجُوه، وكتبناه من طرق شَتَّى عَنِ الشُّيُوخ، وأتينا بِهَذَا لأنَّه حَضَرنا فِي هَذَا الْوَقْت دون غَيره.
وَفِيه مَا يَدْعُو إِلَى فعل الْخَيْر واصطناع الْمَعْرُوف والإشفاق من الظُّلم، والحذر من وخيم مَغَبّته وسُوءِ عاقبته، وَفِيه بَيَان أنَّ أَكثر فعل البرِّ عُدة لصَاحبه، وَذخر يورثه النجَاة من المَخُوفات، وَيُعْطِيه الإغاثة عِنْدَ اللزبات.
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِقِيُّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن الْعَبَّاسِ بْنِ(1/93)
النَّصِيرِ التِّنِّيسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا حول وَلَا قُوة إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ ".
كثير من أَصْحَاب الحَدِيث لَا يضْبط اللُّغَة
وروى لَنَا الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ هَذَا الْخَبَر، فَقَالَ فِيهِ: الصَّبْوَة والصِّبْوَان كَأَن اللافظ اعْتبر فِيهِ لفظ الصَّبوة. وَقَوْلهمْ: صبا يصبو، والسائر فِي كَلَام الْعَرَب الصِّبية فِي جمع صبيٍّ وَالصبيان، وأصحابُ الحَدِيث لَا يضبطُ كثيرٌ مِنْهُم مثل ذَلِك فيحيله وَلَا يضبطه، ورسولُ اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أفْصح الْعَرَب، وَكَلَامه جارٍ عَلَى أوضح الْإِعْرَاب، وَأَعْلَى مَرَاتِب الصَّوَاب.
إِعْرَاب الْمَفْعُول لَهُ
وَقَول من حكى عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَر: إِنَّمَا فعلتُ ذَلِكَ مخافتك، الْمَعْنى بِهِ لمخافتك وَمن مخافتك وَلأَجل مخافتك، وَهَذَا الَّذِي ينْتَصب عِنْدَ النُّحاة لأنَّه مفعول لَهُ، يُقَالُ: دَنَوْت ابتغاءَ الْخَيْر، ونأيتُ حذار الشَّرّ، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت " أَي لحذر الْمَوْت، أَوْ من حذره، وَقد قيل إِن الْمَعْنى، أَنهم جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم حذر الْمَوْت، وَأَن حذر الْمَوْت مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان، فقولك: جعلت مَالك فِي بَيْتك عدَّة لزمانك، وسلاحك فِي رَحْلك جُنَّةً من عَدوك، وَمن هَذَا النَّحْو، قَول الشَّاعِر:
وأغفرُ عَوْرَاءَ الكَرِيم ادَّخَارَهُ ... وَأعْرض عَنْ ذَنْبِ اللئِيم تَكَرُّمَا
غَار أخر ينطبق عَلَى تِسْعَة إخْوَة
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد مُحَمَّد بْن جَعْفَر الْخُتلِي: قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه - يَعْنِي ابْن عَمْرو البلْخيّ - قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه الْخُتّلي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرو الْعمريّ، قَالَ: أَخْبرنِي حُسَيْن بْن حَسَن بْن سَلَمَة بْن مُزينة العاري، عَنْ أَبِيه: أنَّ امْرَأَة من بني عَامر كَانَ لَهَا بنُون عشرَة، فَخرج تِسْعَة مِنْهُم فِي بَعْض حَاجتهم، فَأَصَابَتْهُمْ السَّمَاء فابتدروا كهفا فتحدرت صخرةٌ فردمت عَلَيْهِمْ بَاب الْكَهْف، فَمَكَثُوا فِيهِ لَا يقدرُونَ عَلَى الْخُرُوج مِنْهُ حَتَّى مَاتُوا عَنْ آخِرهم، فَلَمّا طَال ذَلِكَ عَلَى أمّهم، قَالَتْ لابنها الْعَاشِر: انْطلق فاقْفُ آثَار إخْوَتك فَمَا أَرَانِي إِلَّا وَقد رزئتهم، قَالَ: يَقُول ابْنهَا: كَيفَ ذَاك يَا أمه؟ قَالَتْ: يَا بنيَّ إِنِّي وَالله أجد كَبِدي تحترقُ احتراقًا، كلما قلت قَدْ سكن عَاد تَلَهُّبًا، فانطِلِقْ هَلْ تُحِسُّ لَهُمْ أثرا، أَوْ تعلم لَهُم خَبرا، قَالَ: فَخرج الْفَتى يقفو آثَار إخْوَته حَتَّى انْتهى إِلَى ذَلِكَ الْكَهْف فَاطلع فِيهِ فَإِذا إخْوَته موتى مُجَدَّلِين، فَرجع يُرِيد أمه باكيًا، فَلَمّا أَتَاهَا قَالَتْ: مَا وَرَاءَك يَا قيس؟ قَالَ: خَيْرٌ يَا(1/94)
أمَّه، قَالَتْ: عليّ ذَلِكَ يَا بني، قَالَ:
لَا تأسَفِنَّ عَلَى شَيْءٍ فُجِعْتِ بِهِ ... إِنَّ المنايا خِلال الوَعْثِ والجَدَدِ
رَبّيْتِهمْ تِسْعَة حَتَّى إِذَا اتّسقُوا ... أصبحْتِ مِنْهُم كقَرْنِ الأغْضَبِ الفَرَدِ
وكل أمٍّ وَإِن سُرَّتْ بِمَا ولدتْ ... يَوْمَا سَتَثْكِلُ مَا ربّتْ من الولدِ
قَالَت: فنحبت العجوزُ نحيبًا شَدِيدا، ثُمَّ قَالَتْ:
بُنَيَّ لَا صبرَ لي فِيمَا فُجِعْتُ بِهِ ... عَنْ تسعةٍ مثلهم غَرَّاءُ لَمْ تلدِ
زُهرٌ جحاجحةٌ بيضٌ خضارمةٌ ... وَفِي الهَزَاهِزِ والرَّوْعَاتِ كالأسْدِ
الأعضب وَمَا قيل فِيهِ من اللُّغَة وَالْفِقْه
قَالَ القَاضِي: الأعضبُ الْقرن: المكسور، وَقيل إِنَّهُ المكسور نصفه، وَقيل: ثلثه، وَبَين الْفُقَهَاء خلاف فِي جَوَاز الأضْحية بالمعضوب الْقرن، وَفِي الْقدر الْمَانِع من تَجْوِيز الضحية بِهِ كاختلاف أَهْلَ اللُّغَة، وَيُقَال لذِي الزَّمانة وَالْكَسْر من النّاس: المعضوب، وَمن هَذَا الْبَاب قَول لبيد بْن ربيعَة يرثي أرْبَدَ أَخَاهُ:
يَا أرْبَدَ الخَيْرِ الْكِرَامُ جُدُودُه ... خليتني أمشير كقرنٍ أعضُبِ
شعر لَا يستنكر إنشاده فِي المَسْجِد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ: قَدم أَعْرَابِي من الْيمن فَدخل مَسْجِد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي حَلقَة فِيهَا الْحَسَن بْن عليّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُم من يُنشد، فَقيل لَهُ: إِنَّك لجَاهِل، أتستنشد ابْن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَالله لأنشدنَّ مَا لَا يُنْكِره، ثُمَّ إِن أُحِبَّ قَالَ، وَإِن أحبَّ سكت، ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
رُبَّ أمورٍ قَدْ بَريْتُ لحَاهَا ... وقَوَّمْتُ من أصلابها ثُمَّ رِشْتُها
أقيمُ بدار الصدْق مَا لَمْ أُهن بهَا ... وَإِن خِفْت من دارٍ هَوَانا تَرَكْتُها
وأصْبِحُ خَالِي المَال حَتَّى تَخَالُني ... بَخِيلًا وَإِن حَقٌّ عراني أَهَنْتُها
وَلست بولاجِ البيوتِ لِفَاقَةٍ ... ولكنْ إِذَا استغنيتُ عَنْهَا وَلِجْتُها
إِذَا قصرت أَيدي الرِّجَال عَنِ الْعُلا ... مددتُ يَدي باعًا إِلَيْهَا فَنِلْتُها
ومكرمةٍ كَانَتْ سجية وَالِدي ... فعلميها وَالِدي فعلمتها
وَقد علمت أعلامُ قومِيَ أنّني ... إِذَا نَالَ أظفاري صديقا قَلَمْتُها
رجاءَ غدٍ أَن يعطِفَ الْوُدُّ بَيْننَا ... ومظلمة مِنْهُم بجنبي عَرَكْتها
وَإِنِّي سألقي اللَّه لَمْ أرْمِ حُرَّةً ... وَلم تأتمني سِرَّ قَوْمٍ فخُنْتُها(1/95)
وَلَا بَاغِيا خَمْرًا وأسماع قَيْنَة ... وَلَا قائِلا فِي الشّعْر أَنِّي شَرِبْتُها
وَلَا غائرًا مَا لَمْ تُغِرْني حليلتي ... مَتَى مَا أغْرِ إِن لَمْ تُغْرِني ظَلَمتُها
فَقَالَ الْحَسَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: مَا رأيتُ كَالْيَوْمِ شعرًا أرصن، وَأمر لَهُ بصلَة لَمْ يقبلهَا، وَانْصَرف.
أكله كُلّه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن عَرَفَة المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عتبَة الْبَصْرِيّ، قَالَ: قَدِمَ عمَارَة بْن عقيل الْبَصْرَة، فَأَتَاهُ النّاس يَكْتُبُونَ عَنْهُ، فَقَالَ لرجل حَضَره: أَنْشدني بَعْض مَا قَالَه الفرزدق لجدي، وَبَعض مَا قَالَ جدي للفرزدق، فأنشده قَول الفرزدق:
حلقتُ بربِّ مكَّة والْمُصَلّى ... وأعناقِ الهَدِيِّ مقلداتِ
لَقَدْ قَلّدْتُ جِلْفَ بَنِي كليبٍ ... قَلائِدَ فِي السَّوَالِفِ باقياتِ
قلائدَ لَيْسَ من ذهبٍ وَلَكِن ... قَلائِدَ من جَهَنَّمَ منضجاتِ
حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا فَجعل يتلظّى، ثُمَّ قَالَ: هَات مَا قَالَه لَهُ أَبِي فأنشده:
تُعَلِّلُنا أُمامةُ بالْعِدَاتِ ... وَمَا يَشْفِي القلوبَ الصادياتِ
وَلَوْلَا حُبُّها وإله مُوسَى ... لَوَدَّعْتُ الصِّبَا والغانيات
إِذَا رَضِيَتْ رَضِيتُ وَتَعْتَرِيني ... إِذَا غَضبت كَهَيْضَاتِ السُّبَاتِ
وَمَا صبْري عَنِ الذَّلْفَاءِ إِلَّا ... كصبر الْحُوتِ عَنْ مَاء الْفُراتِ
ثُمَّ قَالَ: مَاذَا؟ قَدْ قطّع الفرزدقُ عِرْضه وَهُوَ فِي أُمَامَة؟ حَتَّى إِذَا بلغ إِلَى قَوْله:
رَجَوْتُم يَا بني وَقَبان مَوْتِي ... وأرجُو أَن تطولَ لَكُمْ حَيَاتي
إِذَا اجتمعُوا عَلَيَّ فخلِّ عَنْهُمْ ... وَعَن بازٍ يَصُكُّ حبارياتِ
إِذَا طَرِب الحمامُ حمامُ نجدٍ ... نَعَى جارَ الأقارع والْحُتاتِ
فَقَامَ يحجلُ طَرَبًا، وَقَالَ: أَكَلَهُ كُلَّهُ.
أبشر بطول سَلامَة يَا مِرْبَع
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه بْن عَرَفَة: وَقد تمثل بِهَذَا الْبَيْت الْحَسَن بْن قَحْطبة حِين هَمّ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بالبيعة للمهدي أبي عَبْد اللَّه، فَدخل عَلَيْهِ الْحَسَن بْن قَحْطبة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! مَا تنْتَظر بالفتى الْمُقْبل الْمُبَارك، جَدِّدْ لَهُ الْبيعَة فَمَا أحد ممتنعٌ وَرَاء هَذَا السِّتْر، ومَن أبَى فَهَذَا سَيفي، وَبلغ الْخَبَر عِيسَى بْن مُوسَى، فَقَالَ: وَالله لَئِن ظَفِرْت بِهِ لأشَرِب الْبَارِد، وَبلغ الْحَسَن بْن قَحْطَبَةَ الْخَبَر والمنصور فَدخل الْحَسَن ابْن قَحْطَبَةَ عَلَى الْمَنْصُور وَعِنْده عِيسَى بْن مُوسَى، فتمثل الْمَنْصُور بقول جرير:(1/96)
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا ... أبشر بطول سَلامَة يَا مِرْبَع
مربع رَجُل من بني جَعْفَر بْن كلاب، كَانَ يرْوى شعر جرير فَنَذر الفرزدق دَمَه، فَقَالَ جرير:
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا ... أبشر بطول سَلامَة يَا مربعُ
إِن الفرزدق قَدْ تبيّن لُؤمُه ... حَيْث الْتقَى حُشَشَاؤه والأخدعُ
فَلَمّا خلع الْمَنْصُور عِيسَى بْن مُوسَى مَرَّ فِي موكب، فَقَالَ إِنْسَان: من هَذَا؟ فَسَمعهُ مُخَنّث، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَن يكون غَدا فَصَارَ بَعْدَ غَد، وَقد رُوينا فِي خبر آخر: أنَّ عِيسَى بْن مُوسَى قَالَ لمخنّثٍ يتهدَّدُه: أما تَعْرِفُني؟ فَقَالَ: بلَى، أَنْت الَّذِي كنت غَدا فصرت بَعْدَ غَد.
وَقَول جرير: حَيْث التقى حششاءه، الْحُشاشاوان: هما العظمان الناشزان وَرَاء الْأُذُنَيْنِ، وَالْوَاحد حُشَشَاء وهما لُغَتَانِ إِحْدَاهمَا هَذِهِ مثل فُعلاء، وَالْأُخْرَى حشاء عَليّ فعلاء مثل قسطاس وفسطاط من الصَّحِيح، وَكَذَلِكَ قُوياء وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء عَلَى هَذَا الْوَزْن غَيرهمَا.
وأمّا فُعلى فقد حكى الْفراء وَيَعْقُوب وَغَيرهمَا فِيهِ ثَلَاثَة أحرف، وَحكى غَيرهمَا فِيهِ رَابِعا وخامسًا وسادسًا، فَأَما الأحرف الثَّلَاثَة فأدَمَى اسْم مَكَان، وأُربَى من أَسمَاء الداهية، كَمَا قَالَ الشَّارِع:
هِيَ الأرْبَى جَاءَتْ بأمِّ حَبَوْ كَرَى
وشُعَبَى اسْم بَلْدَة، قَالَ جرير:
أعبدًا حَلَّ فِي شُعَبَى غَريبًا ... أَلُؤْمًا لَا أَبَا لَكَ واغْتِرَابَا
وأمّا الْحُرُوف الْأُخَر فحكاهنَّ فِيمَا روى لنا أَبُو عُمَر الشَّيْبَانيّ وَابْن الأَعْرَابِي.
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَعْلَب، قَالَ: جَاءَت حُرُوف لَمْ يأتِ بهَا يَعْقُوب وَلَا الْفراء، أَتَى بهَا أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانيّ وَابْن الأَعْرَابِي، وَهِي: جُمَدى اسْم مَوضِع وجُسَقى اسْم بلد، وجُبنَى اسْم جبل.
دَعْ لله إِحْدَاهمَا تنَلْ الْأُخْرَى
حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم، أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعي، قَالَ: وحَدثني عليُّ بْن مُحَمَّد بْن خَلَف العَطَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن الْحُسَيْن الْأَشْقَر، قَالَ: كنت أَطُوف مَعَ عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَن فَإِذا نَحْنُ بِامْرَأَة حسناء تَطوف، قَالَ: فَقَالَ لَهَا عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَن:
أهْوَى هَوَى الدِّينِ واللّذَّاتُ تُعْجِبُني ... فَكيف لي بهوى اللّذَّاتِ والدينِ
فَقَالَت: يَا ابْن رَسُول اله دَعْ لله إِحْدَاهمَا تنَلْ الْأُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ من زَوْجَ؟ قَالَتْ:(1/97)
كَانَ فدُعي، قَالَ: مُنْذُ كم؟ قَالَتْ: مُنْذُ سنة، فَقَالَ: الْحَمد لله عَلَى تَمام النِّعْمَة، قَالَ: هَلْ لَك فِي التَّزْوِيج؟ قَالَتْ: وَالله مَا كَانَ ذَاك رَأْيِي، وَلَكِن لَك فَنعم، فتزوجَّها.
عَبْد اللَّه بْن طَاهِر يُجِيز العَتّابي ثَلَاث مَرَّات
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي طَاهِر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هفان، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: دَخَلَ العَتّابي عَلَى عَبْد اللَّه بْن طَاهِر فأنشده:
حَسَن ظَنِّي وَحسن مَا عوّد ال ... لَهُ سوائي بك الْغَدَاة أَتَى بِي
أَي شيءٍ يكون أحسن من حس ... نِ يَقِين حدا إِلَيْكَ ركابي
فَأمر لَهُ بجائزة، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مرّة أُخْرَى فأنشده:
جُودُك يَكْفِينيكِ فِي حَاجَتِي ... ورُؤْيَتِي تَكْفِيكَ مِنِّي السؤالِ
كَيْفَ أَخْشَى الفَقْر مَا عِشْتَ لِي ... وإنّما كَفّاكَ لِي بيتُ مالِ
فَأَجَازَهُ أَيْضا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الْيَوْم الثَّالِث فأنشده:
أكسني مَا يبيد أصلحك الل ... هـ فإِنِّي أكسوك مَا لَا يبيدُ
فَأَجَازَهُ وكساه وَحمله.
قصَّة أبياتٍ من الشّعْر لعبد اللَّه بْن طَاهِر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بن إِبْرَاهِيم الحكيمي، أَبُو عَبْد اللَّه الْكَاتِب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن الْحَسَن بْن هِشَام، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر يَوْمَا، وَدخل مُحَمَّد بْن عِيسَى الْكَاتِب، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أَعْطوهُ قدحاً، فَأبى وَاعْتذر، فَقيل عذره وَجلسَ وغنينا وشربنا، ثُمَّ تغنى كُنيز دبة صَوتا فَالْتَفت أَبُو الْعَبَّاس وَنظر إِلَى قدحٍ فِيهِ أربعةُ أرطالٍ فِي يَد مُحَمَّد بْن عِيسَى فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَبَا جَعْفَر؟ فَقَالَ: أعز اللَّه الْأَمِير، لي وَلِهَذَا الشّعْر حَدِيث، كنتُ مَعَ أبي الْعَبَّاس عَبْد اللَّه بْن طَاهِر جَالِسا فَشَكا إليَّ وجدَه وعِشْقه لإِنْسَان فَقَالَ:
أعْيانِيَ الشّادِنُ الربيبُ
فَقلت: دَارِه، فَقَالَ:
أكتبُ أشْكو فَلا يجيبُ
فَقلت: دَاوه، فَقَالَ:
فكيفَ أرجُو دواءَ دائِي ... وإنّما دَائِيَ الطبيبُ
ثُمَّ افْتَرقَا فَلم أسمع أحدا يذكرهُ حَتَّى سمعتُ هَذَا يُغني بِهِ السَّاعَة.
أَبْيَات ثَلَاثَة لأبي نواس تُساوي شعر أَبِي الْعَتَاهِيَة كُله
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن(1/98)
الرَّبَعيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مطهر الْكُوفِي، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة، قَالَ: قلت عشْرين ألف بَيت فِي الزّهْد وودت أنَّ لي مَكَانهَا الأبيات الثَّلَاثَة الَّتِي لأبي نواس:
يَا نواسيّ تَوَقّرْ ... وتَعَزَّى وَتَصَبّر
إِن يكنْ ساءكَ دهرٌ ... فَلَمَّا سَرَّكَ أكْثر
يَا كثير الذَّنب عَفْو ال ... لَهُ من ذَنْبك أكبر
قَالَ الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ أَبُو مُسْلِم الْكَاتِب: هَذِهِ الأبيات مَكْتُوبَة عَلَى قبر أبي نواس، فزادني أَبِي فِيهَا بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد:
أعظم الْأَشْيَاء فِي أص ... غر عَفْو اللَّه يصغُر
لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا ... مَا قَضَى اللَّه وقَدَّرْ
لَيْسَ للمخلوق تَدْبي ... رٌ بَلِ اللَّه المدَبِّرْ
ريبةُ الرَّشيد فِي النمري
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عونُ بْن مُحَمَّد، أَن سعيد ابْن سلم قَالَ: حضرتُ النمريَّ يُنشدُ الرشيدَ شِعْرًا فَمر فِيهِ وصفٌ لسيوفه:
لَيْسَتْ كأسيافِ الحسينِ وَلَا ... بَنِي حسنٍ وَلَا آل الزُّبَيْر الكلل
هرونُ فِي الْخُلفاء مثلُ مُحَمَّد ... فِي الْأَنْبِيَاء مفضَّلٍ لمفضَّلِ
فَقَالَ لَهُ الرشيد: مَا يولُعك بِذكر قَوْمٍ لَا ينالهم ذمٌّ إِلَّا شاطرتهم إِيَّاه، قَدْ رَابَنِي مِنْك هَذَا وفيك، لَا تَعُدْ لَهُ، وَإِنَّمَا نفارقهم فِي الْمُلْك ثُمَّ لَا افتراقَ فِي شَيْءٍ بعده.
شعر يَعْزِلُ قَاضِيا عَنِ الْقَضَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مسبح بْن حَاتِم، قَالَ: أَخْبَرَني يَعْقُوب بْن إِسْرَائِيل، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن عليّ بْن أُميَّة، قَالَ: كُنَّا بِحَضْرَة الْمَأْمُون بِدِمَشْق فغنى عَلُّويه:
بَرِئْتُ من الإِسْلام إِن كَانَ ذَا الَّذِي ... أتاكِ بِهِ الواشُون حَقًّا كَمَا قَالُوا
وَلَكنهُمْ لمّا رَأَوْكِ سريعةً ... إليَّ تواصَوْا بالنميمة واحْتَالُوا
فقد صِرْتِ أُذْنًا للوشاةِ سميعةً ... ينالون من عِرْضي وَلَو شئتِ مَا نالوا
فَقَالَ الْمَأْمُون لعلُّويه: لمن هَذَا الشّعْر؟ قَالَ: للْقَاضِي، قَالَ: أَي قَاض؟ قَالَ: قَاضِي دمشق، فَأقبل عَلَى أَخِيه المعتصم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاق اعزله، قَالَ: قَدْ عزلته، قَالَ: فليحضُر السَّاعَة، فأحضِرَ شيخٌ خضيبٌ رَبْعة من الرِّجَال، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون من تكون؟(1/99)
فنسب نَفسه، فَقَالَ: تَقول الشّعْر؟ قَالَ: قَدْ كنتُ أقوله، قَالَ: يَا عَلُّويه أنْشدهُ الشّعْر فأنشده، فَقَالَ: هَذَا شعرك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ونساؤه طوالقٌ وعبيدهُ أَحْرَار ومَالُه فِي سَبِيل اللَّه إِن كَانَ قَالَ شِعرًا غلا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة وَإِلَّا فِي زُهد أَوْ معاتبة صديق، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق اعزله، فَمَا كنت لأُوَلِّي الْحُكْم بَيْنَ الْمُسلمين من يبْدَأ فِي هَزله وجدِّه بِالْبَرَاءَةِ من الإِسْلام، ثُمَّ قَالَ: اسقوه، فَأتي بقدح فِيهِ شراب فَأَخذه بِيَدِهِ وَهِي ترْعد، ثُمّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! اللَّه اللَّه مَا ذَقَته قَطّ، قَالَ: أفحرام هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أوْلَى لَك بهَا، أَي نجوت. ثُمَّ قَالَ لعلويه: لَا تقلْ برئتُ من الإِسْلام، وَلَكِن قُل:
حرمتُ منائِي مِنْك إِن كَانَ ذَا الَّذِي أتاكِ بِهِ الواشُون حَقًّا كَمَا قَالُوا
قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري: هَذَا القَاضِي هُوَ عُمَر بْن أبي بَكْر المَوْصِليّ، روى عَنْه الزبير بن بكار وَإِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذر.
تَعْلِيق نحوي مد الْمَقْصُور وَقصر الْمَمْدُود
قَالَ القَاضِي: مَدَّ الْمَأْمُون الْمُنى فِي هَذَا وَهُوَ مَقْصُور، وَكَانَ نحاة الْبَصْرَة من متقدميهم ومتأخريهم لَا يُجيزون ذَاك فِي شعر وَلَا نثر، إِلَّا الْأَخْفَش فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيزهُ فِي الشّعْر، وَهُوَ مَذْهَب مُتَقَدِّمي نُحاة الْكُوفِيّين، وَكَانَ الفَرَّاء يُجِيزهُ فِي بَعْض الْوُجُوه ويأباهُ فِي بَعْضهَا، فَأَما قصر الْمَمْدُود فِي الشّعْر فَجَائِز عِنْدَ جَمِيع النَّحْوِيين، وَلَو جعل مَكَان هَذَا: حُرمت رجائي أَوْ شفائي أَوْ مَا أشبههَا لَكَانَ وَجها صَحِيحا لَا يُنكر وَلَا يخْتَلف فِي جَوَازه.
عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يعْزل واليًا بِسَبَب شِعره
ونظيرُ عزل هَذَا القَاضِي عَنْ عمله لمّا أنكرهُ إمامهُ من القَوْل السَّيئ فِي شِعره، الْخَبَر الْوَارِد عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ من عَزله النُّعْمَان ابْن عَدِيّ بْن نَضْلة، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاه عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن مَنْصُور الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وهْب بْن جرير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: أُنبئت أنَّ عَدِيَّ بْن نَضْلة بْن عَبْد الْعُزَّى بْن حرثان بْن عَوْف بْن عُبَيْد بْن عويج بْن عَدِيّ بْن كَعْب مِمَّن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَمَات بهَا، وَكَانَ مَعَه ابْنه النُّعْمَان بْن عَدِيّ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعْملهُ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى مَيْسان، فَقَالَ أبياتًا من الشّعْر فَعَزله، فَقَالَ:
أَلا هَلْ أَتَى الحسناءَ أنَّ حَليلَها ... بمَيْسان يُسْقَى فِي زجاجٍ وحِنْتَم
إِذَا شئتُ عادتَنِي دَهَاقِينُ قريةٍ ... ورقّاصة تجدو عَلَى كلِّ منسمِ
فَإِن كنت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تسقين بالأصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أميرَ الْمُؤمنِينَ يسوءهُ ... تنادُمُنا بالجَوْسقِ الْمُتَهَدِّم(1/100)
فَلَمّا بلغت عُمَر الأبيات، قَالَ: أَجْلِ وَالله إِن ذَلِكَ ليسُوءُني، فَمن لقِيه مِنْكُم فليخبُره أنِّي قَدْ عزلتُه، فَقدم عَليّ عمر فَاعْتَذر، حلف مَا صنع مَما قَالَ شَيئًا، وَلَكِنِّي كنت امْرأ شَاعِرًا وجدت فضلا من قَول كَمَا يَقُولُ النّاس، فَقَالَ عُمَر: وَالله لَا تَعْمَل لي عملا مَا بقيتُ وَقد قلتَ مَا قلت.
تَعْلِيق لغَوِيّ وبلاغي
قَالَ القَاضِي: قَوْله تجذو عَلَى أَطْرَاف أَصَابِع رِجْلَيْهَا: أَي تقوم، يُقَالُ مِنْهُ: جذا يجذو عَلَى أَصَابِع رجلَيْهِ، وَجَثَا يجثو عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
وسمّى الرِّجْل مِنْسمًا اسْتِعَارَة وَهُوَ فِي الأَصْل للبعير، كَمَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَة لتستثفر، وَهُوَ فِي الأَصْل للدواب ذَات الْحَافِر، وكما قَالَ: " من حفظ مَا بَيْنَ فُقْمَيْهِ وَمَا بَيْنَ رجلَيْهِ دَخَلَ الْجنَّة " يُرِيد الْفَم والفرج، وأصل الفقم للحية، وَمن المنسم قَول زُهَيْر:
وَمن لَمْ يصانع فِي أُمُور كَثِيرَة ... يُضَرَّس بأنيابٍ ويُوطَأ بمنسمِ
وَالَّذِي يُسمى من الإِنْسَان الظفر يُقَالُ لَهُ من ذَوَات الخفّ المنسم.
من الشّعْر الْعَفِيف
حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن مُحَمَّد بْن صَالح الكريري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل القَيْسيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيب الْمَدَنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: أنشدنا عَبْد اللَّه بْن مُصْعَب لخيرة بِنْت أبي ضيغم البَلَويَّة:
وبِتْنا خِلافَ الحَيِّ لَا نَحْنُ منهمُ ... وَلَا نَحْنُ والأعداءُ مختلطانِ
وبتنا يَقِينا بَارِدَ الطلِّ والندى ... من اللَّيْل بُرْدَا يَمْنةٍ عطران
نذوذ بِذكر الله عنّا من الخَنا ... إِذا كَانَ قَلْبانا بِنَا يردانِ
ونصدر عَن ري العفاف وربّما ... نقعنا غليل الصَّدْر بالرَّشَفَان
أَبْيَات تمثّل بهَا ابْن الزبير مُنْصَرفه يَوْم الْجمل
حَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن صَالح بْن شيخ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرياشي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحكم الْجبلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حلحلة الْقُرَشِيّ، عَنْ أبي رَيْحَانَة، قَالَ: لما انْصَرف الزُّبَيْر يَوْمَ الْجمل تمثل:
أمرتُهُمُ أَمْرِي بمنْعَرج اللِّوى ... وَلَا أمْر للمَعْصِيَّ إِلَّا مُضيّعا
فَقلت لكأسٍ ألْجميها فَإِنَّمَا ... حَلَلْت الْكَثِيب من زرود لأفزعا
كَأَن بليتها وبَلْدَةٍ نَحْرها ... من النَّبْلِ كُراثُ الصَّرِيم الْمُنَزّعا
إِذَا الْمَرْء لَمْ يَغْش الكريهةَ أوشَكَتْ ... حِبَالَ الْهُويَنا بالفتى أَن تُقطعا(1/101)
قَالَ الرياشي: الليتان صفحتا الْعُنُق من النَّاقة، وهما تَحت الْقُرط من الْمَرْأَة، قَالَ القَاضِي: من الليت قَول الشَّاعِر:
وفرعٍ يَصِيرُ الجيدَ وحفٍ كَأَنَّهُ ... على اللّيْتِ قِنوانِ الْكُروم الدوالحُ
وَقَالَ آخر:
إِذَا هِيَ قامتْ تَقْشعرُّ شُواتُها ... ويَبْرقُ بَيْنَ اللّيْتِ مِنْهَا إِلَى الصُّقْلِ
قَالَ الرياشي فِي قَوْله وبلدة نحرها: الْبَلدة من الإِنْسَان اللّبة، وَمن الْبَعِير الْكَركرة، وكُرّاث الصريم: نبت لَهُ ثَلَاثَة عروق ينْبت فِي الرمل فَإِذا أَخْرَجَهُ كَانَ أَسْفَله كَأَنَّهُ قذذ السهْم، فَشبه النبل بِذَاكَ، والصريم: الرمل، وَأنْشد الرياشي:
أنيخت فَأَلْقَت بَلْدَة فَوق بلدةٍ ... قليلٌ بهَا الأصواتُ إِلَّا بُغامُها
يُقَالُ لصوت الْبَعِير بُغام، قَالَ الشَّاعِر:
حَسِبْتَ بُغام رَاحلتي عَنَاقًا ... وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرك بالعناقِ
الْمجْلس الرَّابِع عَشْر
الصّاحب مسئول عَنْ صَاحبه
حَدثنَا مُحَمَّد بن هرون، أَبُو حَامِدٍ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَحِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبًا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْضَةً فَقَطَعَ غُصْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْوَجُ وَالآخَرُ مُسْتَقِيمٌ، فَدَفَعَ إِلَى صَاحِبِهِ الْمُسْتَقِيمَ وَأَمْسَكَ الأَعْوَجَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْت أَحَق بِهَذَا، فَقَالَ: " كَلا، مَا مِنْ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبًا إِلا وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ".
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ الْبَلَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ بْنِ الْقَاسِمِ الْيَمَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عَن حموة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدِّثُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ غَيْضَةً وَمَعَهُ صَاحب لَهُ، فَأخذ مِنْهَا مِسْوَاكَيْنِ أَرَاكًا، أَحَدُهُمَا مُسْتَقِيمٌ وَالآخَرُ مُعْوَجٌّ، فَأَعْطَى صَاحِبَهُ الْمُسْتَقِيمَ وَحَبَسَ الْمُعْوَجَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْتَ أَحَقُّ بِالْمُسْتَقِيمِ مِنِّي، قَالَ: " كَلا، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صاحبٍ يُصَاحِبُ صَاحِبًا وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ إِلا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ مُصَاحَبَتِهِ إِيَّاهُ، فَأَحْبَبْتُ أَلا أَسْتَأْثِرَ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ ".
الْعبْرَة من الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: تأملوا - رحمكم اللَّه - مَا فِي هَذَا الْخَبَر من ذَكَرَ مَا أَتَى بِهِ من أَخْلَاق رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَة الْعلية، وعشرته لمن صَاحبه الْكَرِيمَة الرضية، والإفضال والإيثار، وعزوفه عَنِ الاستبداد والاستئثار، وَمن أولى بذلك مِمّن الْقُرْآن الْعَظِيم أدبُه، ومُنزل(1/102)
الْوَحْي الْحَكِيم مُؤدبه، وَقد رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلت عَنْ خُلُقِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: كَانَ خُلُقُه الْقُرْآن.
قَالَ القَاضِي: وَأعظم بقول الله عَزَّ وَجَلَّ " وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم " نُبْلا وَمَجْدًا وَفَضْلا وجدًّا، وَقد جَاءَ فِي الْأَثر أَنَّهُ كَانَ أَحْيَا من عَذْراء فِي خدرها، وَأَنه كَانَ أَشد النّاس فِيمَا كَانَ من أَمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فيرضى أحسن الرِّضَا حِين التَّوَاضُع، وَيُعْطِي أجزل الْعَطاء عِنْدَ السّمَاحةِ والاسترفاد، ويغضب لله عَزَّ وَجَلَّ أَشد الْغَضَب عِنْدَ ظُهُور الغّيِّ والْعِناد، والعَبَث والفَسَاد، وَكَانَ فِي أَمر ربه ونصرة دينه كالحسام الباتر، والضِّرغام الخَادِر، فَأكْرم بِنَفسِهِ السمحة الزكية الشَّرِيفَة الأبية، وسجاياه السهلة الرضية، وعطاياه الفاضلةُ السّنيَّة، اللَّهُمَّ لفك الحمدُ عَلَى توفيقك إيانا لتصديقه، وهدايتك لَنَا بِهِ، اللَّهم فأسْعِدنا باتّباع أوامره، وَالْوُقُوف عِنْدَ زواجره، والاستمرار عَلَى سُنّته، والسعادة بِشَفَاعَتِهِ.
جدُّ أعشى هَمدَان وَصَاحبه
حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنِ الْعَبَّاس بْن هِشَام، عَنْ أَبِيه، عَنْ عوانةَ بن الحكم، قَالَ: حَدثنَا شَيْخَانِ من هَمْدَان قَالَا: كَانَ نظام بْن جشم بْن عُمَر بْن مَالك بْن عَبْد الْجِنّ الْهَمدَانِي، وَهُوَ جدُّ أعشى هَمدَان، وَاسم الْأَعْشَى عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن نظام، مؤاخيًا لأشْوع بْن أبي مَرْثد الهَمْداني وَكَانَا مغوارين فاتكين قرضوبين جوداين - قَالَ ابْن دُرَيْد: القرضوب: الَّذِي يَأْخُذ كلّ مَا لَاحَ لَهُ - لَا يَلِيقَان شَيئًا، قَالَ القَاضِي: يُقَالُ للصوص: قراضبة، وَيُقَال للْفَقِير قرضوب، قَالَ الشَّاعِر:
قَوْمٌ إِذَا صَرَّحَتْ كَحْلٌ فَدَارُهُمُ ... كَهْفُ الضَّعيفِ ومأوى كُلِّ قرضوبِ
رَجَعَ الحَدِيث: لَا يَليقان شَيئًا، فَخَرَجَا يُريدَان الْغَارة عَلَى مَهْرة ابْن حيدان، وَكَانَ يختلسان الصِّرمة ثُمَّ يشلانها مجاهرة، فَإِن أدْركا رَمَيا فَلم يَسْقُط لَهَما سهم، قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: قَالَ أبي، قَالَ عوَانَة: سمعتُ من أثقب بِهِ من رجال هَمدَان يخبر أنّ السرب من القطا كَانَ يمرُّ بهما طائرا فَيَقُولَانِ: أَيهَا تُرِيدُونَ؟ فيوَمأ إِلَى الْوَاحِدَة مِنْهَا فيرميانها فَلا يخطئان، وَكَذَلِكَ الظّباء، وَبَين بِلَاد هَمدَان وبلاد مَهْرة مَفَازة مُنكَرة، لَا تسلكها الخيلُ وتسوخُ فِيهَا أَخْفَاف الْإِبِل فتصب فِيهَا أَوديَة مَهْرة وأودية الْحُوف، وَهِي سبخَة ملحة نشاشة، لَا تُنبت عودا لَيْسَ العكرش، قَالَ: ففوزا أيّامًا وشَوّل ماؤهما وخافا الْهَلَاك، فأبصرا يَوْمَا مَعَ ذرور الشَّمْسُ طيرًا تَحُوم عَلَى غمضٍ من الأَرْض، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: أَلا ترى مَا أرَاهُ، فَقَالَ: بلَى وَالله إِنَّهَا لتحوم عَلَى لحم أَوْ مَاء، وأيها كَانَ فَهُوَ ملكٌ أَوْ وَشَل فقصدا الْجِهَة حَتَّى هبطا غَائطًا ذَا خَبْراوات ونُقْعَان، فأناخا وشربا وسقيا وعَضَّدَا لراحلتيهما، واستظلا بِبَعْض تِلْكَ الشَّهْر، فَبينا كَذَلِك إِذْ مرَّ بهما أُمعوز، وَهُوَ جمَاعَة من الظباء، فرمياه فصرعا ظبيين وأورقا وأوْريا واشْتَوَيَا وقعدا يرقُبان اللَّيْل ليستدلا بالنجوم،(1/103)
فَإِذا سوادٌ مقبل فأخْمرا راحلتيهما، قَالَ ابْن دُرَيْد: أَي وارياها تَحت الشّجر، قَالَ القَاضِي: وَهُوَ الخَمْر، قَالَ الشَّاعِر:
أَلا يَا زَيْدُ والضَّحّاكُ سِيرا ... فقد جَاوَزْتُما خَمْر الطريقِ
وطلعا دوحة فتغيبا فِي شعابها فَإِذا صِرْمةٌ زُهْرٌ كالصوار يَحْدُوها عبدٌ اسود وَهُوَ يَقُولُ:
رُوحِي إِلَى خَيرِ أَبِي المعارك ... لمبركٍ من أرحب الْمُبَارك
فَإِن بَيت أضيافه هُنَالك ... فأبشري بِوَقع عضبٍ بَاتِك
يبترُ مِنْك أسْوُقَ البَوَائِك
فَمَا غَابَ الأوّل عَنْ أَعيننَا حَتَّى بَدَتْ صِرمةٌ أُخْرَى يحدُوها عَبْد أسود، وَهُوَ يَقُولُ:
رُوحِي إِلَى مبركك الدَّمَاثِر ... إِلَى فَتَى كُهبان والمهاجرِ
وعصمةٍ المعترِّ والْمُهاجر ... واللَّيثِ فِي الْيَوْم الْعُماسِ الخادِر
قَالَ ابْن دُرَيْد: العماس الشَّديد -
فَإِن منيتِ بمُضاف زائر ... فأيْقِني بِوَقع عضبٍ باتِر
ثُمَّ اعتراقٍ بشفارٍ جَازِر ... مخطرفٍ للجِلَّةِ البَهَازِر
فَلَمّا غَابَ الراعيان عَنْ أَعيننَا خرجنَا نقتفي آثَار الْإِبِل، حَتَّى قربنا من الْحلَّة فأنخنا فَلَمّا هدأت الرَّجل خرجنَا مصلتين حَتَّى انتهينا إِلَى المبرك فاستُثَرْنا من إطراره صِرْمه فشَلَلْناها ليلتنا، حَتَّى إِذَا انحسر خدرُ اللَّيْل وذرَّ الشُّروقُ إِذَا شبحٌ يهوى إِلَيْنَا هَوِيَّ الْعُقاب، فَمَا ارتدَّ الطَّرفُ حَتَّى أَثْبَتْنَاهُ نَظَرًا، فَإِذا رَجُل عَلَى نَاقَة كَأَنَّهَا ظَبْي صَرَع، قَالَ القَاضِي: الصَّرَع الَّذِي بَيْنَ الْكَبِير وَالصَّغِير، قَالَ الْأَعْشَى يصفُ وَعْلا:
قَدْ يتْرك الدَّهْرُ فِي خَلْقَاءَ راسيةٍ ... وَهْيًا ويُنزِلُ مِنْهَا الأعْصَمَ الصّرَعا
فأيَّةَ بالصِّرمة فانكفأتْ رَاجِعَة، فأقبلنا نَصُورها أَي نَعْطفها ونُمليها كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وفرعٍ يُصِيرُ الْجِيدَ وحفٍ كَأَنَّهُ ... على اللّيْتِ قِنوانُ الْكُرُوم الدوالحُ
وَقَالَ الشَّاعِر:
وجَاءَتْ خلعةٌ دهسٌ صَفَايا ... يَصُور عُنوقها أحْوَى زَنِيمُ
وَيُقَال أَيْضا: صَار يصير كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَفرع يصير ... الْبَيْت وَقد قرئَ: فَصُرْهُنَّ إِلَيْك وقصرهن.. وَالْمعْنَى الْميل، وَقيل: الْقطع، وَبَيَان هَذَا فِي كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن مستقصاة.
رَجَعَ الحَدِيث، وَهِي سُرَع إِلَى تأييهه، فَلَمّا دنا منا قَالَ: خَلِّيا عَنْهَا لَا أم لَكمَا، فَقُلْنَا: وَلَا نُعْمَى عين، وبوأنا لَهُ سَهْمَيْنِ فأقحم من رَاحِلَته كالوعل المذعور، وانتضى سيفَه وثَنّى رَأسه فِي دَرَقته، فوَاللَّه مَا أرسلنَا سهمينا حَتَّى خالطَنَا، فَضرب عُرقوبي نَاقَة صَاحِبي(1/104)
فغادرها نُكُوس، وأهوى لِلْأُخْرَى فبتر عرقوبها وَهُوَ يَقُولُ:
عَلام أسْقي رَسْلها وأمنحُ ... وأُشبع الضيفَ بهَا وأجرحُ
إِن لَمْ أقاتلْ دُونها وأضرحُ ... عَنْهَا إِذَا خام الكَميُّ الشحشحُ
ثُمَّ قَالَ: استأسرا، فتذامرنا وَإِن أَنْفُسنَا لتنازعا إِلَى مَا قَالَ، فكررنا عَلَيْهِ بأسيافنا فَوَثَبَ وثبات الفهد، فَوقف حُجْرة وفَوَّت النّبل ثُمَّ كرّ رَاجعا، فَضرب درقة صَاحِبي فاقتدَّها، فَلَمّا رَأينَا ذَلِكَ استسلمنا وَقُلْنَا عياذاً بك يَا بن الْكِرَام، فَقَالَ: بمعاذ عُذْتما، وَسَأَلنَا عَنْ أنسابنا فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: ارتدفا عَلَى رَاحِلَتي واصرفا وجهتها شطر مطلع الشَّمْسُ تبلغكما الحيّ، فخبّت بِنَا الناقةُ تهوي لَا تُمَلّكنا من أمرنَا شَيئًا حَتَّى وردتْ بْنا الحَيّ، فكلا وَلَا إِذ أقبل ضَاحِكا كَأَنَّهُ لَمْ تَمْسَسْهُ مشقة، وَقد مَشى مسيرَة لَيْلَة للراكب الْمُجِدّ، فَقَالَ: دونكما الصرمة الَّتِي اطردْتُماها وناقتين من سُرِّ إبلي برحليهما وحملنا وسَرّحنا، فَقَالَ: اسمعا مَا أَقُول لَكمَا، فَقَالَ:
أَقُول لِخَارِبَيْ هَمْدَان لَمّا ... أثارَا صِرمة حُمْرا وعِيسَا
ألم تعلما أَنْ لن تَفُوتا ... وَأَن لن تُعْجِزا اللَّيْث الهَمُوسا
فظنٌ عَاجز أَن تَسْلُباني ... وَمن ذَا يسلب اللَّيْثَ الفَريسا
وَمن دون الَّذِي أملتُماه ... ضِرابٌ يقطُر البطلَ البَليسا
إِذَا أَنَا لَمْ أذدْ عَنْ مدفآتٍ ... فيحدُو بيدَها الحَزْن الشريسا
فَمِمَّ أُجَنِّبُ الأضيافَ ذَمِّي ... إِذَا النكباءُ أوجفت البَئِيسَا
وَمِمَّا أحَسَبُ الْجُمَم اللّواتي ... يظل لَهَا الرِّجَال إِلَى شُوسَا
وَمِمَّا أُنْعِشُ الْعُفّى إِذَا مَا ... ترَاءى وَجهُ دهرهم عُبُوسا
أهيبا خاربي هَمْدان مِنْهَا ... بزُهْر تَطرد الْفقر الضُّرُوسا
وأوبا سَالِمَيْنِ بهَا ولَمّا ... أُثِر لَكمَا النآدَ المَرْمَرِيسا
قَالَ ابْن دُرَيْد: يُرِيد الداهية، قَالَ القَاضِي: أَحسب الجمم مَعْنَاهُ أنيلهم مَا يَكفهمْ يُقَالُ: أحسبني الطَّعَام وَغَيره يحسبني أَن كفاني، وَقَوْلهمْ حَسبك مَعْنَاهُ كافيك، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " عَطَاءً حسابا " مَعْنَاهُ عَطاء كَافِيا يَحْسبهُم أَي يكفيهم وَقَوله: الْجُمم جمعُ جُمة وهم الْقَوْم يسْأَلُون فِي الدِّيَة، وَقَوله: شوسًا جمع أشوس وَهُوَ الَّذِي ينظر نظرا شَدِيدا، قَالَ الشَّاعِر:
خَلا أنّ الْعِتَاقَ من المَطَايَا ... أَحْسَن بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ
وَقَوله: وَمِمَّا أنعش الْعُفّى، معنى أنعش أرفع، وَقَوْلهمْ: نَعشك اللَّه أَي رفعك إِمَّا بسد(1/105)
خلتك أَوْ بإقالة عَثْرتك وَمَا أشبههما، وَمِنْه قيل لسرير الْمَيِّت نعش لأنَّه يُرفع عَلَيْهِ، وَقَوله: العفّى جمع عاف وَهُوَ السَّائِل للْحَاجة وطالبها، يُقَالُ: عَفا فلَان فلَانا يعفوه إِذَا سَأَلَهُ وَرغب إِلَيْهِ فِي حَاجته، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُد " لَوْلَا أنْ يُحْزِن ذَلِكَ نساءُنا لَتَركْنا حَمْزةَ بالعراء تأكلُه عافِيةُ الطّيْر " يُقَالُ: عافٍ وجَماعة عَافِية مثل كَاف وَجَمَاعَة كَافِيَة، وَيُقَال للعافي: معتف، وَهُوَ مفعل مِنْهُ قَالَ الشَّاعِر:
تَرَى حَوْلَهُنَّ الْمُعْتَفين كأنّهُم ... عَلَى صنمٍ فِي الجَاهلية عكّفُ
جمع الْعَافِي أَيْضا عفاة، مثل كَاف وكفاة وسَاق وسقاة وقاض وقضاة فِي أشباه لهَذَا كَثِيرَة جدا، وَمن هَذَا قَول الْأَعْشَى:
تَطُوفُ العفاة بأبوابه ... كَطَوْفِ النّصَارى ببيتِ الوَثَنْ
وَجمع الْعَافِي فِي الشّعْر الَّذِي بلغ فِي هَذَا الْخَبَر عُفى عَلَى وزن فُعّل مثل غاز وغزىً هاد وهُدَّى، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " أَو كَانُوا غزىً " وَمثله فِي الصَّحِيح رَاكِع ورُكّع وساجِد وسُجّد، قَالَ الراجز يُخَاطب النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِن قُرَيْشًا أخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ... وَنَقضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكّدَا
وَقَتَّلُونا رُكّعًا وَسُجْدا
وَقَالَ الله تَعَالَى: " الركع السُّجُود ".
خبر مقتل أبي مُسْلِم صَاحب الدّولة
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المَنْصُورِيّ، قَالَ: لمّا قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور أَبَا مُسْلِم، قَالَ: رَحِمك اللَّه أَبَا مُسْلِم، بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيتَ لنا ووفينا لَك، وَإِنَّا بايعناك عَلَى أَلا يَخْرُج عَلَيْنَا أحدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّام إِلَّا قَتَلْنَاهُ فخرجتَ عَلَيْنَا فقتلْناك.
ولمّا أَمر الْمَنْصُور بقتْله وَقد دَسّ لَهُ رجَالًا من خاصته، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا سَمِعْتُمْ تصفيقي فاضربُوه، فَضَربهُ شَبِيب بْن داج ثُمَّ ضربه القواد، فَدخل عِيسَى بْن مُوسَى وَقد كَانَ كلّم الْمَنْصُور فِي أمره، فَلَمّا رَآهُ قَتِيلا اسْترْجع، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: احْمَد اللَّه تَعَالَى أَنَّك هجمت عَلَى نِعمة وَلم تهجم على مُصِيبَة، فَقَالَ أَبُو دلامة:
أَبَا مُسْلِم مَا غَيّرَ اللَّه نِعْمَةً ... عَلَى عَبده حَتَّى يُغَيِّرُها العبدُ
أَبَا مسلمٍ خَوَّفَتْني القتْل فانتَحى ... عليكَ بِمَا خَوَّفْتِني الأسَدُ الوردُ
خبر للمؤلف مَعَ بَعْض الرؤساء فِي شَأْن أَبْيَات لأبي تَمام
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمَد بْن الْحُسَيْن بْن هِشَام قَالَ: أَنْشدني أَبُو تَمام:(1/106)
يَقُولُونَ هَلْ يَبْكي الفَتَى لخريدةٍ ... مَتَى مَا أَرَادَ اعْتاضَ عَشْرًا مَكَانَها
وَهل يستعيضُ المرءُ من خمسِ كَفِّه ... وَلَو بُدّلت حُرَّ اللُّجَيْنِ بَنَانُها
وَكَيف عَلَى نارِ اللَّيَالِي مُعَرَّسي ... إِذَا كَانَ شيبُ العارِضيْن دُخَانَها
قَالَ القَاضِي: كَانَ بَعْض رُؤَسَاء الزَّمَان أنْشد بَعْض هَذِهِ الأبيات، فاستحسنها جدا، وَقَالَ - وَنحن بِحَضْرَتِهِ جمَاعَة -: أتعرفون لهَذِهِ الأبيات أَولا؟ فَقلت لَهُ: هَذِهِ كلمة لأبي تَمام مَشْهُورَة أَولهَا:
ألم تَرَني خَلّيتُ نَفْسي وشَأْنها ... فَلم أحَفِلِ الدُّنْيَا وَلَا حَدْثَانَها
لَقَدْ خوفتني الحَادِثاتُ صُرُوفَها ... وَلَو آمنتني مَا قبلتُ أمانُها
وأنشدتهُ مِنْهَا:
يَقُولُونَ هَلْ يَبْكي الفَتَى لخريدة ... إِذا مَا أَرَادَ اعْتاضَ عَشْرًا مَكَانَها
وَهل يستعيضُ المرءُ من خَمْسِ كَفه ... وَلَو صاغ من حُرّ اللُّجَيْنِ بَنَانَها
فطرب عِنْدَ الِانْتِهَاء إِلَى هَذَا وَجعل يردده ويتعايا فه إِلَى أَن حفظه، وَقَالَ: هَذَا ألذُّ من كلِّ شراب وغناء.
الْحُسَيْن يرفض تَزْوِيج زَيْنَب من يزِيد
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمقري الشاذ كوني، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ السُّلَمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أُمِّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ زَيْنَبَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عَلِيٍّ وَأُمُّ أُمِّ كُلْثُومٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْضِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ دَيْنَهُ، وَكَانَ دَيْنُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَيُعْطِيَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَيُصْدِقَهَا أَرْبَعَ مِائَةَ دِينَارٍ وَيُكْرِمَهَا بِعَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ. فَبَعَثَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَأَجَابَهُ، وَاسْتَثْنَى عَلَيْهِ رضى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: لَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا دُونَهُ مَعَ أَنِّي لَسْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ وَهُوَ خالٌ، وَالْخَالُ وَالِدٌ، قَالَ: وَكَانَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَنْبُعَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَا انْتِظَارُكَ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ، فَلَوْ حَزَمْتَ؟ فَأَبَى وَتَرَكَهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلا خَمْسَ لَيَالٍ حَتَّى قَدِمَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا تَسْمَعُ وَأَنْتَ خَالُهَا وَوَالِدُهَا، وَلَيْسَ لِي مَعَكَ أَمْرٌ فَأَمْرُهَا بِيَدِكَ، فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ جَمَاعَةً بِذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَقَالَ: يَا بِنْتَ أُخْتِي إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيكِ أَمْرٌ، وَقَدْ وَلانِي أَمْرَكِ وَإِنِّي لَا آلُوكِ حُسْنَ النَّظَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَخْرُجُ مِنَّا غَرِيبَة فأمرك بيَدي، قَالَ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ الْحُسَيْنُ(1/107)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعْمل أَنِّي لَمْ أُرِدْ إِلا الْخَيْرَ، فَقَيِّضْ لِهَذِهِ الْجَارِيَةِ رِضَاكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَقِيَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ وَأَشْرَافُ قُرَيْشٍ وهيأوا مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يُصْلِحُهُمْ، فَتَكَلَّمَ مَرْوَانُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ الْقَرَابَةَ لُطْفًا وَالْحَقَّ عَطْفًا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَلافَى مَا كَانَ صَلاحُ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ مَعَ مَا يُحِبُّ مِنْ أَثَرِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ الْمَعَادِ الَّذِي لَا غِنَاءَ بِهِ عَنْهُ مَعَ رِضَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي ابْنَته مَا قد حَسُنَ فِيهِ رَأْيُهُ، وَوَلَّى أَمْرَهَا خالها الْحُسَيْن ابْن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحُسَيْنِ خِلافٌ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَكَلَّمَ الْحُسَيْنُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الإِسْلامَ يَرْفَعُ الْخَسِيسَةَ وَيُتِمُّ النَّقِيصَةَ وَيُذْهِبُ الْمَلامَةَ، فَلا لَوْمَ عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا فِي مَأْثَمٍ، وَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي عَظَّمَ اللَّهُ حَقَّهَا وَأَمَرَ بِرِعَايَتِهَا، وَسَأَلَ الأَجْرَ فِي الْمَوَدَّةِ عَلَيْهَا وَالْمُحَافَظَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَرَابَتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أُزَوِّجَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا نَسَبًا وَأَلْطَفُ سَبَبًا، وَهُوَ هَذَا الْغُلامُ، يَعْنِي الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَلَمْ أُرِدْ صَرْفَهَا عَنْ كَثْرَةِ مَالٍ نَازَعَتْهَا نَفْسُهَا وَلا أَبُوهَا إِلَيْهِ، وَلا أَجْعَلُ لامْرِئٍ فِي أَمْرِهَا مُتَكَلَّمًا، وَقَدْ جعلت مهرهَا كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا فِي ذَلِكَ سَعَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَغَضِبَ مَرْوَانُ، وَقَالَ: أَغَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: مَا هَذِه بأبادي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ، وَمَا غِبْتَ عَمَّا تَسْمَعُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ الْخَبَرَ حَيْثُ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ وَأَعْلَمْتُكَ أَنِّي لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: عَلَى رِسْلِكَ أَقْبِلْ عَلَيَّ، فَأَوَّلُ الْغَدْرِ مِنْكُمْ وَفِيكُمْ، انْتَظِرْ رُوَيْدًا حَتَّى أَقُولَ، نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَيُّهَا النَّفَرُ ثُمَّ أَنْتَ يَا مِسْوَرُ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ خَطَبَ عَائِشَةَ بِنْتَ عُثْمَانَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ مِنَ الإِشْفَاءِ عَلَى الْفَرَاغِ، وَقَدْ وَلَّتْكَ يَا مَرْوَانُ أَمْرَهَا، قُلْتَ: إِنَّهُ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُزَوِّجَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ يَعْنِي الْمِسْوَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ وَأَنَا أُجِيبُكَ وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَسْأَلْنِي، قَالَ الْحُسَيْن: فَأَنت مَوْضِعُ الْغَدْرِ.
عَمْرو بْن حُريث يتَزَوَّج ابْنَة عَدِيّ بْن حَاتِم عَلَى حُكمه
حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد: قَالَ: حَدَّثَنِي عمي، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْن الْكَلْبِيّ، عَنْ مُحَمَّد بْن سليم أبي هِلَال الرَّاسِبِي، عَنْ حُمَيْد بْن هِلَال الْخُدْري، قَالَ: خطب عَمْرو بْن حُرَيْثٍ إِلَى عَدِيّ بْن حَاتِم فَقَالَ: لَا أزَوجك إِلَّا عَلَى حكمي، فَرجع عَمْرو وَقَالَ: امْرَأَة من قُرَيْش عَلَى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم أعجب إليَّ من امْرَأَة من طييء على حكم أَبِيهَا، فَرجع ثمَّ أَبَت نَفسه فَرجع إِلَيْهِ، فَقَالَ: على حكمي؟ قَالَ: نعم، فَرجع عَمْرو بْن حُرَيْثٍ فَلم ينم ليلته مَخَافَة أَن يَحْكم عَلَيْهِ بِمَا لَا يُطيق، فَلَمّا أصبح بعث إِلَيْهِ أنْ عَرّفْني مَا حكمتَ بِهِ عليّ، فَأرْسل إِلَيْهِ: إِنِّي حكمتُ بِأَرْبَع مائَة دِرْهَم وَثَمَانِينَ درهما سنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبعث إِلَيْهِ بِعشْرَة آلَاف(1/108)
دِرْهَم وَكِسْوَة فردّها وفرّق الثِّيَاب فِي جُلَسَائِهِ، وَقَالَ:
يرى ابنُ حُرَيْثٍ أنَّ هَمِّيَ مَالُهُ ... وَمَا كُنْتُ موصُوفًا بحبِّ الدَّراهمِ
وَقَالَت قُريش لَا تحكِّمه إِنَّه ... عَلَى كلِّ مَا حَال عَدِيُّ بْنُ حَاتِم
فَيذْهب مِنْك المالُ أولَ وهْلة ... وحَمَامَها والنَّخْل ذَاتَ الكمائم
فقلتُ معَاذَ اللَّه من ترك سنةٍ ... جَرَت من رَسُول الله واللهُ عاصمي
وَقلت مَعَاذَ الله من سُوءِ سُنة ... يحدِّثها الركْبَان أَهْلَ المواسمِ
بَيْنَ حَفْص بْن غياث القَاضِي وَأبي الديك الْمَعْتُوه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَتَّات بِالْكُوفَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْم، قَالَ: كنتُ جَالِسا عِنْدَ حَفْص بْن غياث بَعْدَ أَن وُلّي الْقَضَاء، فَدخل عَلَيْهِ أَبُو الديك الْمَعْتُوه وَكَانَ ذَاهِب الْعقل مُحتالا للمعاش، وَكَانَ دُخُوله فِي يَوْمَ من أيّام الشتَاء شَدِيد الْبرد فَرَآهُ حافيًا حاسرًا فرحمه، فَدَعَا الْجَارِيَة فسارّها فَجَاءَتْهُ بعمامة وخفين، فَقَالَ: ارفعيه إِلَى أَبِي الديك، قَالَ: فلفّ الْعِمَامَة عَلَى رَأسه وَلبس الْخُفَّ ثُمَّ قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأخذ قَمِيصه وَكَانَ خَلِقًا رثاًُ فَجَال بإصبعه ثُمَّ قَالَ: أَيهَا القَاضِي! جَزَاك اللَّه عَنِ الْأَطْرَاف خيرا، وحَرّك قَمِيصه بإصبعه أَي انْظُر إِلَى قَمِيصِي ورقّته ورثاثته، فَضَحِك حَفْص بن غياث ثُمَّ قَامَ فَدخل ثُمَّ خرج وَقد خلع الْجُبة الَّتِي عَلَيْهِ وقميصها، وَلبس غَيرهمَا وَأمر بدفعهما إِلَى أبي الديك فلبسهما أَبُو الديك ثُمَّ قَالَ: أَيهَا القَاضِي! يحْكى أنَّ عَبْد الْملك ابْن مَرْوَان قَالَ لبَعض وَلَده: أَي الثِّيَاب أعجب إِلَيْكَ؟ قَالَ: مَا رأيتهُ عَلَى غَيْرِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَأَي الرِّجَال اخترتَ لنَفسك؟ قَالَ: أحْسنهم اخْتِيَارا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَقد اخْتَرْت لنَفسك أَيهَا القَاضِي الثَّوَاب وَحسن الثَّنَاء وسررت أَبَا الديك كلّ السرُور إِلَّا قُطيرة، فَقَالَ لَهُ حَفْص: يَا أَبَا الديك! وَمَا الْقُطيرة؟ قَالَ: شَيْءٍ أنصرف بِهِ إِلَى عيالي، قَالَ: حَفْص: حُبًّا وكرامة، وَالله مَا فِي منزلي ذَهَبٌ وَلَا فضَّة وَلَكِن أستقرض لَك، يَا غُلَام! قل لفُلَان أقرضنا دِينَارا أدفعه إِلَى أَبِي الديك، قَالَ: يَقُولُ لَهُ أَبُو الديك: أَيهَا القَاضِي! وَالله مَا أجد لَك مَثَلا إِلَّا قَول الشَّاعِر:
يُعيِّرني بالدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا تَقَرّضت فِي أشياءَ تُكْسِبْهُمْ مَجْدَا
وَقَول صَاحبه:
وَمَا كنتَ إِلَّا كالأصَمِّ بْن جعفرٍ ... رَأَى المالَ لَا يَبْقى فأبْقَى بِهِ حمْدا
الْمجْلس الْخَامِس عَشْر
قَول الرَّسُول فِي مُخَاطبَة قَتْلَى بدر
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا(1/109)
نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ فَقَالَ: " جَزَاكُمُ اللَّهُ عَنِّي مِنْ عِصَابَةٍ شَرًّا، فَقَدْ خَوَّنْتُمُونِي أَمِينًا وَكَذَّبْتُمُونِي صَادِقًا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ: هَذَا أَعْتَى عَلَى اللَّهِ مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ وَحَّدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ دَعَا بِاللاتِ وَالْعُزَّى ".
قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا ينبّه أولي الْأَلْبَاب من الْمُؤمنِينَ عَلَى نعْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فِي هدايته إيَّاهُم إِلَى الْإِيمَان بِهِ، وتوفيقهم لتصديق نبيه، وَالْإِقْرَار بِصِحَّة نبوته، الِاعْتِرَاف بوفور أَمَانَته، والإذعان لاتّباعه وَالْجد فِي طَاعَته، وأنْ بَصّرهم من دينه مَا عَمِي عَنْهُ أعداؤُه، وعَصمهم من الضَّلَالَة الَّتِي هلك فِيهَا عُصاة عباده، وعتاة خلقه، فَالْحَمْد لله عَلَى نعْمَته عَلَيْنَا فِي ديننَا ودنيانا، وَله الشُّكْر عَلَى إحسانه إِلَيْنَا فِي جَمِيع شئوننا، وَنَظره لَنَا فِيمَا يُصْلِحنَا، وَيعود عَلَيْنَا بالفوز فِي معادنا، والنجاة من العطب يَوْمَ حشرنا.
جَارِيَة ظريفة ترد عَلَى أَبِي الشعْثَاء حِين أخْبرهَا بحبه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرياشي، عَنِ ابْن سَلام، قَالَ: أَخْبرنِي عليّ بْن هِشَام أَوْ من أَخْبرنِي عَنْ عليّ بْن هِشَام، قَالَ: كَانَ بِالْكُوفَةِ رَجُل يكنى أَبَا الشعْثَاء، عفيفا مَزَّاحًا، وَكَانَ يدْخل عَلَى سُراة أَهْلَ الْكُوفَة، فمزح مَعَ جَارِيَة لبَعْضهِم وأخبرها أَنَّهُ يهواها، وَكَانَ شاعرة ظريفة، فَقَالَت:
لأبي الشّعْثَاء حب باطنٌ ... لَيْسَ فه تُهْمةٌ للمتهمْ
يَا فُؤَادِي فازدْجِرْ عَنْهُ وإنْ ... عَبَثَ الحبُّ بِهِ فاقْعُدْ وقمْ
جَاءَنِي مِنْهُ كَلَام صائبٌ ... ورسالاتُ المحبِيِّن الكَلِم
صائدٌ تأمنه غزلانه ... مثل مَا تأمن غزلانُ الحَرَمْ
صَلِّ إِن أحببتَ أَن تُعْطى المنى ... يَا أَبَا الشعْثَاء لله وصمْ
ثمَّ ميعادك بعد الْمَوْت فِي ... جَنَّة الْخُلْد إِن اللَّهُ رحمْ
حَيْثُ نلقاك غُلَاما ناشئاً ... كلَاما قَدْ كَمُلت فِيك النِّعَم
ابْن الزُّبَيْر يغضبُ من ابْني الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامر بْن عِمْرَانَ أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، قَالَ: دَخَلَ عَبْد اللَّه بْن صَفْوَان عَلَى عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر، فَقَالَ: أَنْت وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
إِن تُصبك من الْأَيَّام جائحةٌ ... لَمْ نَبْكِ مِنْك عَلَى دُنْيَا وَلَا دينِ
قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: هَذَان ابْنا الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، أَحدهمَا يُفتي النّاس فِي دينهم(1/110)
وَالْآخر يطعم فَمَا بَقَّيَا لَك، فَأرْسل إِلَيْهِمَا: إنَّكُمَا تريدان أَن ترفعا رايةً قَدْ وَضعهَا اللَّه، ففرقا مَنْ قِبَلكما من مُرَّاقِ الْعرَاق، فَقَالَ عَبْد اللَّه: أَي الرجلَيْن نطردُ عَنَّا؟ أقابس عَلَمُ أم طَالِب نَيْلُ، وَبلغ الْخَبَر أَبَا الطُّفَيْل، فَقَالَ:
لَا درَّ دَرُّ اللَّيَالِي كَيْفَ يُضحِكُنا ... مِنْهَا عجائبُ أنباءٍ وتُبكينا
مثل مَا تَحِدثُ الْأَيَّام من عجبٍ ... وَابْن الزُّبَيْر عَنِ الدُّنْيَا يُلَهِّينا
كُنَّا نَجيء ابْن عباسٍ فيُقْبِسنا ... علما ويُكسْبنا أجرا ويَهدينا
وَلَا يزالُ عُبَيْد اللَّه مُتَرْعةً ... جِفَانُه مُطْعِمًا ضَيفًا وَمِسْكينًا
فالدِّينُ وَالْعلم وَالدُّنْيَا ببابهما ... ننالُ مِنْهَا الَّذِي شِئْنَا إِذَا شينا
فَفِيمَ تَمْنَعنا مِنْهُم وتَمْنَعُهم ... منا وتؤذيهم فِينَا وتُؤْذينا
إِن الرَّسُول هُوَ النُّور الَّذِي كشفت ... بِهِ عَمَايَةُ ماضينا وبَاقِينا
وأهلُه عصمةٌ فِي ديننَا وَلَهُم ... حقٌّ عَلَيْنَا وحقٌّ وَاجِب فِينَا
ولستَ فاعلمْ بالأوْلَى بِهِ نَسَبَا ... يَا بن الزُّبَيْر وَلَا الأوْلَى بِهِ دِينا
لن يَجْزِيَ اللَّه من أجْزى لبُغضهم ... فِي الدِّين عِزًّا وَلَا فِي الأَرْض تَمْكِينا
زواج شُرَحْبِيل بْن الْحَارِث الغساني
من مية بنت عَمْرو ثمَّ تطليقه لَهَا بِأَمْر أَبِيهِ
حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبّاد، عَنِ ابْن الْكَلْبِيّ، قَالَ: قدم شُرَحْبِيل بْن الْحَارِث الغسّاني - وَكَانَ من أهل بَيت الْملك - موسمًا من مواسم الْعَرَب، وَحَضَرت ذَلِكَ الْعَام بَكْر بْن وَائِل، فَخَطب شرحبيلُ مَيَّة بْنت عَمْرو بْن مَسْعُود بْن عَامر بْن عَمْرو ابْن أبي ربيعَة بْن ذُهل بن شَيبَان وَهُوَ أَصمّ بني ربيعَة، فَقَالَ لَهُ أَبوهَا: هِيَ لَك وقومها بِيَدِك، فوَاللَّه مَا فِي غَسَّان ملك أحبّ إليَّ صهرًا مِنْك، فأنكحه إِيَّاهَا، فاحتملها شُرَحْبِيل إِلَى أَبِيه الْحَارِث بْن مرّة، فَكَانَت مَعَهم وانقطعت إِلَيْهِم بَكْر بْن وَائِل وَذَلِكَ فِي أيّام الطوائف قبل ملك بني نصر بِالْحيرَةِ، فَبينا هُوَ نَائِم ذَات لَيْلَة هِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ، إِذْ أقبل أسودُ سالخ يهوى إِلَى الْفَتى فاتحًا فَاه والسِّراج تُزهر، حَتَّى إِذَا أَهْوى إِلَيْهِ أخذت بحلقه فخنقته حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ جعلتْه بَيْنَ أثْنَاء الْفراش، وَكَانَ أَبُوهُ إِذَا أصبح غَدا عَلَيْهِ هُوَ وَأمه تَعْظِيمًا لَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِ النّاس فيسلمون عَلَيْهِ فَلَمّا اجْتمع النّاس أهوت إِلَى الْأسود فأخرجتْه مَيتا، فذعر الشَّيْخ فَقَالَ: من قتل هَذَا؟ فَقَالَت: أَنَا قتلتُه وَلَو كَانَ أشدّ مِنْهُ لقتلته، فَقَالَ: يَا شُرَحْبِيل خلِّ عَنْهَا، فَهِيَ - وأبيها - للرِّجَال أقتل، فكره شُرَحْبِيل أَن يَعْصِي أَبَاهُ فَسَار بهَا وبمالها حَتَّى إِذَا دنا من أَرض بَكْر بْن وَائِل بعث مَعهَا من يُلحقها(1/111)
بقومها، فَقَالَت: لَو مضيت بَين إِلَى أَبِي كَانَ أحبّ إليَّ، فَقَالَ: واسوءَتاه! أنظر إِلَى أَبِيك وَقد طلقتُك فِي غَيْر ذَنْب، فَقدمت إِلَى أَبِيهَا، فَدَعَا قبيصَة ابْن هَانِئ بْن مَسْعُود فَأَنْكحهَا إِيَّاه، فَقَالَ شُرَحْبِيل:
أوزجتني غَرّاءَ من خَيْر نسوةٍ ... نَماها إِلَى العلياء عَمْروٌ وعامرُ
فَلَمّا مَلَأت صَدْرِي سُرورا وبهجة ... عزمتَ بحقٍّ لَيْسَ لي فِيهِ عاذرُ
فطلقتها من غَيْر ذَنْب أَتَتْ بِهِ ... إليَّ سوى أنِّي بميَّة غادرُ
سَرَى فِي سَواد اللَّيْل أسودُ سالخٌ ... إليَّ وَقد نَامَتْ عيونٌ سَوامِرُ
فأهوت لَهُ دون الْفراش بكفها ... فَأصْبح مقتولاً فَهَل أَن شاكرُ
فَقَالَ أَبوهُ:
لَعَمْري لَئِن طَلقتهَا إِن مثلهَا ... إِذَا طلب الْقَوْم من النِّسَاء قَلِيل
ولكنني حاذرتُها أَن تُعِيدَها ... فتصبحَ محجوبًا وَأَنت قَتِيل
وَأصْبح فِي غَسَّان أبْكِي بعبرةٍ ... عَلَيْكَ ورُزئي عِنْدَ ذَاك جليل
من مخارج أَبِي يُوسُف الفقيهة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق المَوْصِليّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي بِشْر بْن الْوَلِيد وَسَأَلته من أَيْن جَاءَ؟ قَالَ: كنت عِنْدَ أبي يُوسُف يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم القَاضِي، وَكُنَّا فِي حَدِيث طريف، قَالَ: فَقلت لَهُ: حَدَّثَنِي بِهِ قَالَ: قَالَ لي يَعْقُوب: بَينا أَنَا البارحة قَدْ أويتُ إِلَى فِرَاشِي، فَإِذا داقٌّ يدق الْبَاب دقًّا شَدِيدا، فأخذتَ عليّ إزَارِي وخرجتُ، فَإِذا هرثمةُ بْن أعْينُ فسلّمتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أجِبْ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قلت: يَا أَبَا حَاتِم! لي حُرمة وَهَذَا وقتٌ كَمَا ترى، ولمت آمن أَن يكون أَمِير الْمُؤمنِينَ دَعَاني لأمر من الْأُمُور، فَإنَّك أمكنك أَن تدفع بذلك إِلَى غدٍ فلعلّه أَن يَحْدُثَ لَهُ رَأْي، فَقَالَ: مَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيل، قلت: فَمَا كَيْفَ كَانَ السَّبَب؟ قَالَ: خَرَجَ إليَّ مسرور الْخَادِم فَأمرنِي أَن آتِي أَمِير الْمُؤمنِينَ بك، قلت: تَأذن لي أَن أصبَّ عليَّ مَاء وأتحنَط، فَإِن كَانَ أمرٌ من الْأُمُور كنت قَدْ أَجدت وأحكمت أَمْرِي، وَإِن رَزَقَ اللَّه تَعَالَى الْعَافِيَة فَلَنْ يضرّ، فَأذن لي فَدخلت فَلبِست ثيابًا جدداً وتطيبتُ بِمَا أمكن من الطِّيب، ثُمَّ خرجنَا حَتَّى أَتَيْنَا دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد، فَإِذا مسرور وَاقِف فَقَالَ لَهُ هَرْثمة: قَدْ جئتُ بِهِ، فَقلت لمسرور: يَا أَبَا هَاشم! خدمتي وحُرمتي وميلي، وَهَذَا وقتٌ ضيق، لِمَ طلبني أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لَا، قلت: فَمن عِنْدَهُ؟ قَالَ: عِيسَى بْن جَعْفَر، قلت: وَمن؟ قَالَ: مَا عِنْدَهُ ثَالِث، قَالَ: مُرّ، فَإِذا صرت فِي الصحن فأتْه فِي الرواق وَهُوَ ذَاك جالسٌ، فحرِّك رجلَك بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُ سيسألُك، فَقل لَهُ: أَنَا، فجئتُ فَفعلت، قَالَ: من هَذَا؟ قلت: يَعْقُوب، قَالَ: ادخل، فدخلتُ فَإِذا هُوَ جالسٌ وَعَن(1/112)
يَمِينه عِيسَى بْن جَعْفَر، فَسلمت فَرد عليّ السّلام، وَقَالَ: أظننا رَوَّعناك؟ قلت: إِي وَالله وكذاك من خَلْفي، قَالَ: اجْلِسْ فجلستُ حَتَّى سكن رُوعي، ثُمَّ الْتفت إليَّ فَقَالَ: يَا يَعْقُوب تَدْرِي لَمْ دَعوتُك؟ قلت: لَا. قَالَ: دعوتُك لأشهدك عَلَى هَذَا، إِن عِنْدَهُ جَارِيَة سَأَلْتُهُ أَن يَهَبَها لي فَامْتنعَ، وسألتُه أَن يَبِيعهَا فَأبى، وَوَاللَّه لَئِن لَمْ يفعل لأقتلنّه، قَالَ: فالتفتُّ إِلَى عِيسَى، فَقلت: وَمَا بلغ اللَّه بِجَارِيَة تمنعُها أَمِير الْمُؤمنِينَ وتُنزل نَفسك هَذِهِ الْمنزلَة؟ قَالَ: فَقَالَ: عَجِلتَ عليّ فِي القَوْل قَبْلَ أَن تعرف مَا عِنْدِي؟ قلت: وَمَا فِي هَذَا الْجَواب؟ قَالَ: إِن عليّ يَمِينا بِالطَّلَاق والْعِتاق وصَدَقَة مَا أملك أَلا أبيع هَذِهِ الْجَارِيَة وَلَا أهبها، فَالْتَفت الرشيدُ فَقَالَ: هَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ مَخْرَج؟ قلت: نَعَمْ، يَهَبُ لَك نِصْفها ويَبِيعُك نِصْفَها، فَيكون لَمْ يهب وَلم يَبع، قَالَ عِيسَى: ويجوزُ ذَلِكَ؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ: فأُشْهِدك أَنِّي قَدْ وهبت لَهُ نِصْفَها وبعتُه النّصْف الْبَاقِي بِمِائَة ألف دِينَار، فَقَالَ: الْجَارِيَة، فأتيَ بالجارية وبالمال، فَقَالَ: خُذْها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بَارك اللَّه لَك فِيهَا، قَالَ: يَا يَعْقُوب؟ بقيتْ وَاحِدَة، قلت: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ مَمْلُوكَة وَلَا بدّ أَن تُستبرأ، وَوَاللَّه لَئِن لَمْ أبِت مَعهَا لَيْلَتي إِنِّي لأظُنُّ نَفْسي ستخرج، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تعتقها وتتزوجها فَإِن الْحرَّة لَا تُستبرأ، قَالَ: فإنيّ قَدْ عتقْتُها فَمن يُزَوِّجنيها؟ قلت: أَنَا، قَالَ: فافعل، فَدَعَا بمسرور الْخَادِم وحسين فخطبتُ فحمدت اللَّه وزوجَّته عَلَى عشْرين ألف دِينَار، ودعا بِالْمَالِ وَدفعه إِلَيْهَا، ثُمّ قَالَ: يَا يَعْقُوب؟ انْصَرف، وَرفع رَأسه إِلَى مسرور فَقَالَ: يَا مسرور؟ قَالَ لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: احْمِلْ إِلَى يَعْقُوب مِائَتي ألف دِرْهَم وَعشْرين تختًا ثيابًا، فحُمِل ذَلِكَ معي. قَالَ: فَقَالَ بِشْر بْن الْوَلِيد: فالتفتَ إليَّ يَعْقُوب فَقَالَ: هَلْ رَأَيْت بَأْسا فِيمَا فعلتُ؟ قلت: لَا، قَالَ: فَخذ مِنْهَا حَقك، قَالَ: وَمَا حَقِّي؟ قَال: الْعُشْر. فشكرتُه ودعوت لَهُ، ذهبت لأَقوم فَإِذا بِعَجُوزٍ قَدْ دخلتْ فَقَالَت: يَا أَبَا يُوسُف؟ ابْنَتك تُقرِئُك السّلام وَتقول لَك وَالله مَا وصل إليَّ فِي لَيْلَتي هَذِهِ من أَمِير الْمُؤمنِينَ سوى الْمهْر الَّذِي قَدْ عرفتَه، وَقد حملتُ إِلَيْكَ النّصْف مِنْهُ وخلّفت الْبَاقِي لمّا أحتاج إِلَيْهِ فَقَالَ: رديه فوَاللَّه لَا قبلتها، أخرجتُها من الرِّق وزوجتها أَمِير الْمُؤمنِينَ وترضى لي بِهَذَا، فَلم نَزَلْ نَطلب إِلَيْهِ أَنَا وعَمّتي حَتَّى قِبِلَها وَأمر لي بِأَلف دِينَار.
إِسْقَاط اسبتبراء الْأمة وتولية عقد نِكَاحهَا
قَالَ القَاضِي: إِسْقَاط أبي يُوسُف الِاسْتِبْرَاء فِي هَذَه الْمَسْأَلَة هُوَ مذْهبه وَمذهب من تقدمه وَمن اتبّعه من أَصْحَابه، فَأَما مذهبُ الْجُمْهُور من الْحِجَازِيِّينَ وَغَيرهم فعلى أَن الِاسْتِبْرَاء هَا هُنَا باقٍ بِحَالهِ، وأمّا تَوَلِّيه عَقْدَ نِكَاح هَذِهِ الْمُعتقَة فَإِن مَذْهَب أبي يُوسُف ومتقدمي أَصْحَابه من أَهْلَ الْعرَاق ومتأخريهم أَن مَوْلَى الْأمة الْمُعْتِق لَهَا أولى بِعقد النِّكَاح لَهُ وَلغيره عَلَيْهَا، وَمذهب عَامَّة أَهْلَ الْعلم من الْحِجَازِيِّينَ وَغَيرهم من الشاميين والعراقيين - وَكَانَ الشّافعيّ يرى أَنَّهُ يعْقد عَلَيْهَا النِّكَاح لغيره وَلَا يعقده لنَفسِهِ - وَأَنه إِذَا أَرَادَ أَن(1/113)
يَتزوجها تولّى العقدَ لَهُ عَلَيْهَا الْحَاكِم، وَرَأَيْت أَبَا جَعْفَر شَيخنَا رَحمَه اللَّه قَدْ أفتى بِهَذَا فِي مسَائِله، وَالْقَوْل الأوّل أولى بِالْحَقِّ عِنْدِي وأشبه بقوله، وَبَيَان هَذَا الْبَاب وَشَرحه مستقصًى فِيمَا رسمناه من كتبنَا فِي الْفِقْه، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
عمَّة مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عِيسَى تستشفع لَهُ لَدَى المعتضد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كَانَ مَعَ المعتضد أعرابيٌّ فصيح يُقَالُ لَهُ شعلة بْن شهَاب الْيَشْكُرِي، وَكَانَ يأنس بِهِ فَأرْسلهُ إِلَى مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن شيخ وَكَانَ عَارِفًا بِهِ ليرغّبه فِي الطَّاعَة ويُحَذره الْعِصْيَان ويرفق بِهِ، فَقَالَ شعلة بْن شهَاب فصرت إِلَيْهِ فخاطبته أقرب خطاب فَلم يجبني، فوجهت إِلَى عمته أم الشريف فصرت إِلَيْهَا فَقَالَت: يَا أَبَا شهَاب! كَيْفَ خلفت أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقلت: خلفتهُ وَالله أمارًا بِالْمَعْرُوفِ فَعّالا للخير، متعزّزًا عَلَى الْبَاطِل متذلِّلا للحقّ، لَا تَأْخُذهُ فِي اللَّه لومة لائم، فَقَالَت لي: أهل ذَلِك هُوَ مُسْتَحقّه ومستوجبهُ، وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَهُوَ ظلُّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمَمْدُود على بِلَاده، وخليفته عَلَى عباده، وأعزّ بِهِ دينه، وَأَحْيَا بِهِ سنُته، وَثبتت بِهِ شرائعه، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا شهَاب فَكيف رَأَيْت صاحبنا؟ قلت: رَأَيْت حَدَثًا معجبًا قَد استحوذ عَلَيْهِ السُّفَهَاء واستبدّ بآرائهم وأنصت لأفواههم، يزخْرفون لَهُ الْكَذِب ويُوردونه النَّدَم، فَقَالَت: هَلْ لَك أَن ترجع إِلَيْهِ بكتابي قَبْلَ لِقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ، فلعلك تَحُلُّ عقدةَ السُّفَهَاء؟ قَالَ: قلت: أَجلْ، فَكتبت إِلَيْهِ كتابا حسنا لطيفاً معجبًا أجزلتْ فِيهِ الموعظة وأخلصت فِيهِ النَّصِيحَة بِهذه الأبيات:
اقبل نصيحةَ أُمٍّ قلبُها وَجِلٌ ... عَلَيْكَ خوفًا وإشفاقاً وَقل سدداً
وَاسْتعْمل الْفِكر فِي قولي فَإنَّك إنْ ... فكّرتَ ألفيتَ فِي قولي لَك الرَّشَدا
وَلَا تثق بِرِجَال فِي قلوبهمُ ... ضغائن تبعثُ الشنآن والحَسَدا
مثل النعاج خمولا فِي بُيُوتهم ... حَتَّى إِذَا أمنُوا ألفيتَهم أسْدا
وداوِ داءك والأدواء مُمكنَة ... وَإِذ طبيبك قَدْ ألْقى إِلَيْكَ يَدَا
أعْط الْخَلِيفَة مَا يَرْضِيه مِنْك وَلَا ... تمْنعه مَالا وَلَا أَهلا وَلَا ولدا
وارددْ أَخا يشْكر ردًّا يكونُ لَهُ ... رِدْءا من السوءِ لَا تُشْمِتْ بِهِ أحدَا
قَالَ: فَأخذت الكتابَ وصرت بِهِ إِلَى مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عِيسَى، فَلَمّا نظر فِيهِ رمى بِهِ إليَّ ثُمَّ قَالَ: يَا أَخا يشْكر مَا بآراء النِّسَاء تتمُّ الْأُمُور، وَلَا بعقولهنّ يُسَاسُ الْملك، ارْجع إِلَى صَاحبك. فَرَجَعت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَخْبَرته الْخَبَر عَلَى حقِّه وَصدقه، فَقَالَ: وَأَيْنَ كتابُ أم الشريف؟ فدفعتُه إِلَيْهِ فقرأه وَأَعْجَبهُ شعرهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالله إِنِّي لأرج أَن أشفّعها فِي كثير من الْقَوْم، فَلَمّا كَانَ من فتح آمد مَا كَانَ، أرسل المعتضد فَقَالَ: يَا شُعلة! هَلْ عِنْدَك عَلَمُ من أم الشريف؟ قَالَ: قلت لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَامْضِ مَعَ هَذَا الْخَادِم فَإنَّك(1/114)
ستجدها فِي جملَة نسائها، قَالَ: فمضيت فَلَمّا بصرت بِي من بعيد سَفَرتْ عَنْ وَجههَا، وأنشأت تَقول:
رَيْبُ الزَّمَان وصَرْفُهُ ... مُعْتَادةٌ كشف القناعا
أذلّ بعد الْعِزّ منا ال ... صَعب والبَطَل الشُّجَاعا
وَلكم نصحتُ فَمَا أطع ... ت وَكم حَرَصْتُ بِأَن أطاعا
فَأبى بِنَا الْمِقْدَار إِلَّا ... أَن نقتسم أَوْ نُباعا
يَا لَيْت شعري هَلْ ترى ... يَوْمَا لفُرْقتنا اجتماعا
قَالَ: ثُمَّ بَكت حَتَّى علا صَوتهَا وضرت بِيَدِهَا عَلَى الْأُخْرَى، وَقَالَت: يَا أَبَا شهَاب إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، كَأَنِّي وَالله كنت أرى مَا أرى، فَقلت لَهَا: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ وَجه بِي إِلَيْكَ وَمَا ذَاك إِلَّا لجيل رَأْيه فِيك، فَقَالَ: هَلْ لَك أَن توصل لي رقْعَة إِلَيْهِ، قلت: فدفعَتْ إليَّ رقْعَة فِيهَا:
قل للخليفة وَالْإِمَام الْمُرْتَضَى ... ابْن الخلائف من قُرَيْش الأبطحِ
عَلَم الْهُدى وسِرَاجه ومَنَاره ... مِفتاحُ كُلِّ عظيمةٍ لَمْ تفتحِ
بك أصلح اللَّه الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... بَعْدَ الْفساد وَطَالَ مَا لَمْ تصلح
فتزحزحت بك هَضْبَةُ العَرَب الَّتِي ... لولاك بَعْدَ اللَّه لَمْ تَتَزَحْزَحِ
أَعْطَاك رَبك مَا تحبُّ فأعطه ... مَا قَدْ يُحِبُّ وجدُ بعفوك وَاصْفَحْ
يَا بهجة الدُّنْيَا وَبدر مُلُوكها ... هَب ظَالِميَّ ومُفْسِدِيّ لُمْصِلحي
قَالَ: فَأخذت الرقعة وصرت بهَا إِلَى المعتضد، فَلَمّا قَرَأَهَا ضحك، وَقَالَ: لَقَدْ نصحت لَوْ قُبل مِنْهَا فَأمر أَن تحمل إِلَيْهَا خَمْسُونَ ألف دِرْهَم وَخَمْسُونَ تَخْتًا من الثِّيَاب، وَأمر بِأَن يحمل مثل ذَلِكَ إِلَى مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عِيسَى.
حكم مَا بَعْدَ لَوْلَا من الضَّمِير الْمُتَّصِل
قَالَ القَاضِي: قَول أم الشريف لَهُ فِي هَذَا الشّعْر:
لولاك بَعْدَ اللَّهِ لَمْ تَتَزَحْزَحِ
جَائِز عِنْدَ جَمِيع مُتَقَدِّمي النُّحاة ومتأخريهم، كُوفِيِّهم وبصريهم غلا أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُجِيزهُ ويطعن فِيمَا ورد فِي الشِّعر مِنْهُ، وينسُب قَائِله إِلَى الشذوذ ومفارقة السماع وَالْقِيَاس، وَمِمَّا جَاءَ فِي الشّعْر من هَذَا قَول ابْن أم الحكم:
وَأَنت امرؤٌ لولايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى ... بأجرامه مِن قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
وَقَالَ آخر:(1/115)
تَقول لي من داخلِ الهَوْدجِ ... لولاك هَذَا الْعَام لَمْ أَحججِ
وَقَول الآخر:
أتُطمع فِينَا من أراقَ دِمَاءَنا ... ولولاك لَمْ يَطْمعْ بأحسَابِنَا حَسَن
وَقد اخْتلف النحويون فِي مَوضِع مَا يَلِي لَوْلَا من الْمُضمر الْمُتَّصِل من الْإِعْرَاب، وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ والكسائيُّ يَقُولَانِ: هُوَ مجرور وَإِن كَانَ الظَّاهِر إِذَا حلَّ محلهُ رفع، وَكَانَ الْفراء والأخفش يحكمان عَلَى مَوْضِعه بِالرَّفْع، وَإِن كَانَ آتِيَا عَلَى الصُّورَة الَّتِي صِيغت فِي الأَصْل إِلَى ضمير الْمَجْرُور لغَلَبَة الِاشْتِرَاك فِي صِيغَة الْمُضمر بَينه وَبَين الْمُنْفَصِل وَهُوَ كثير فِي هَذَا الْبَاب، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
فأحْسِنْ وأجْمِلْ فِي أسيرك إِنَّهُ ... ضَعِيفٌ وَلم يَأْسِرْ كإيّاك آسرُ
وَقَالُوا: أَنْت كأنا وَأَنا كَأَنْت، ولاستقصاء هَذَا الْبَاب والاحتجاج فِيهِ مَوضِع هُوَ أولى بِهِ من هَذَا الْموضع، والأفصح والأوضح فِي الْعَرَبيَّة سَمَاعا وَقِيَاسًا: لَوْلَا أَنا وَلَوْلَا أَنْت، وَالْقَضَاء على مَوضِع هَذَا الْمُضمر الْمُنْفَصِل فَإِنَّهُ فِي مَوضِع رفع كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِر كَذَلِك، كَقَوْلِك: لَوْلَا زيدٌ وَلَوْلَا عَبْد اللَّه، غَيْر أَن الْوَجْه الآخر جَائِز، كَمَا قَالَ جُمْهُور النَّحْوِيين لروايتهم إِيَّاه عَنِ الْعَرَب وَمَا اسْتشْهدُوا بِهِ من أشعارها، وَلَيْسَ بمطرحٍ لَاحق باللحن المرغوب عَنْهُ كَمَا زعم أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد.
عظة وَاعْتِبَار
حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُوسَى الْبَرْمَكِي الْمَعْرُوف بجحظة، قَالَ: قَالَ لي صافي الحرمي: لمّا مَاتَ المعتضد بِاللَّه كَفّنتُه وَالله فِي ثَوْبين قوهي قيمتُهما سِتَّة عَشْر قيراطًا.
خبر مَقْدم وَكِيع وَابْن إِدْرِيس وَحَفْص عَلَى الرشيد
حَدَّثَنَا ابْن مخلد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن المؤمل، أَبُو جَعْفَر الضَّرِير الْكَلْبِيّ، حَدَّثَنِي شيح عليّ بَاب بَعْض الْمُحدثين، قَالَ: سَأَلت وكيعا عَنْ مَقْدَمِه وَهُوَ وَابْن إِدْرِيس وَحَفْص عَلَى هَارُون الرشيد، فَقَالَ لي: مَا سَأَلَني عَنْ هَذَا أحدٌ قبلك، قدمنَا عَلَى هَارُون أَنَا وَعبد اللَّه بْن إِدْرِيس وَحَفْص بْن غياث، فأقعدنا بَيْنَ السّريرين فَكَانَ أول من دَعَا بِهِ أَنَا، فَقَالَ لي هَارُون: يَا وَكِيع! فَقلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: إِن أَهْلَ بلدك طلبُوا مني قَاضِيا وسَمّوْك لي فِيمَن سَمّوْا، وَقد رَأَيْت أَن أشركك فِي أمانتي وَصَالح مَا أَدخل فِيهِ من أَمر هَذِهِ الْأمة، فَخذ عَهْدَكَ وامض. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! وَإِحْدَى عَيْني ذَاهِبَة وَالْأُخْرَى ضَعِيفَة؟ فَقَالَ هَارُون: اللَّهُمّ غُفْرًا، خُذْ عَهْدك أَيهَا الرَّجُل وامض، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالله لَئِن كنت صَادِقا إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن تقبل مني وَإِن كنت كَاذِبًا فَلا يَنْبَغِي أَن تُوَلِّيَ الْقَضَاء كذابا، فَقَالَ: اخْرُج، فَخرجت، فَدخل ابْن إِدْرِيس فَكَانَ هَارُون قَدْ وُسم لَهُ من ابْن إِدْرِيس وَاسم، يَعْنِي خُشُونة جَانِبه، فَدخل فسمعنا صَوت رُكبتيه عَلَى الأَرْض حِين بَرَك، وَمَا سمعناه يُسلِّم إِلَّا سَلاما(1/116)
خفِيا، فَقَالَ لَهُ هَارُون: أَتَدْرِي لَمْ دعوتُك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِن أَهْلَ بلدك طلبُوا مني قَاضِيا وَأَنَّهُمْ سَمّوْك لي فِيمَن سَمّوْا، وَقد رَأَيْت أَن أشركك فِي أمانتي وأدخلك فِي صَالح مَا أَدخل فِيهِ من أَمر هَذِهِ الْأمة، فَخذ عَهْدَكَ وامض، فَقَالَ لَهُ ابْن إِدْرِيس: لستُ أصلح للْقَضَاء، فنكث هَارُون بإصبعه وَقَالَ لَهُ: وددت أَنِّي لَمْ أكن مَثَلْتُك، قَالَ لَهُ ابْن إِدْرِيس: وَأَنا وددتُ أَنِّي لَمْ أكن رأيتُك، فَخرج ثُمَّ دَخَلَ حَفْص بْن غياث، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَنَا، فَقبل عَهده وَخرج، فَأَتَانَا خَادِم مَعَه ثَلَاثَة أكياس فِي كلّ كيس خَمْسَة آلَاف دِينَار، فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقرئكم السّلام وَيَقُول لَكُمْ: قَدْ لزمتكم مؤونة فِي شخوصكم فاستعينوا بِهَذِهِ فِي سفرتكم، قَالَ وَكِيع: أَقْرئ أَمِير الْمُؤمنِينَ السّلام وقُل: قَد وَقَعَتْ مني بِحَيْثُ يحبُّ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنا عَنْهَا مُسْتَغْنٍ، وَفِي رعية أَمِير الْمُؤمنِينَ من هُوَ أحْوج إِلَيْهَا مني، فَإِن رَأَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يصرفهَا إِلَى من أحبّ، وأمّا ابْن إِدْرِيس فصاح بِهِ: مُرَّ من هَا هُنَا وَقبلهَا حَفْص، وَخرجت الرّقعة إِلَى ابْن إِدْرِيس من بَيْننَا، عَافَانَا الله وَإِيَّاك سألناك أَن تدخل فِي أَعمالنَا فَلم تفعل، ووصلناك من أَمْوَالنَا فَلم تقبل، فَإِذا جَاءَك ابْني الْمَأْمُون فحَدثّه إِن شَاءَ اللَّه، فَقَالَ للرسول: إِذَا جَاءَ مَعَ الْجَمَاعَة حَدَّثْنَا إِن شَاءَ اللَّه، ثُمَّ مَضَيْنا، فَلَمّا صرنا إِلَى الياسرية حضرت الصَّلاة فنزلنا نَتَوَضَّأ للصَّلَاة، قَالَ وَكِيع: فنظرتُ إِلَى شُرَطيِّ مَحْمُوم نَائِم فِي الشَّمْس عَلَيْهِ سوَاده فطرحت كسائي عَلَيْهِ، وَقلت: تدفأ إِلَى أَن نَتَوَضَّأ، فجَاء ابْن إِدْرِيس فاستلبه ثُمّ قَالَ: رَحمته لَا رَحِمك اللَّه، فِي الدُّنْيَا أحد رحم مثل ذَا؟ ثُمَّ الْتفت إِلَى حَفْص وَقَالَ: قَدْ علمتُ حِين دخلت إِلَى سُوق أَسد فخضبتَ لِحْيتك وَدخلت الحَمّام أنَّكَ سَتَلي الْقَضَاء، وَلَا وَالله لَا كلَمتُك حَتَّى تَمُوت، فَمَا كلَمه حَتَّى مَاتَ.
الْمَأْمُون يتركُ جَارِيَته الحبيبة إِلَى بِلَاد الرّوم
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن مَالك النَّحْويّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن أبي حَمَّاد الموكبي، عَنْ أَبِيه، قَالَ: لمّا وصفت لِلْمَأْمُونِ جَارِيَة بِكُل مَا تُوصَف بِهِ امْرَأَة من الْكَمَال وَالْجمال، فَبعث فِي شِرَائهَا فَأتى بهَا وَقت خُرُوجه إِلَى بِلَاد الرّوم، فَلَمّا هَمّ بِلبْس درعه خطرت بِبَالِهِ فَأمر فأخرجت إِلَيْهِ، فَلَمّا نظر إِلَيْهَا أعجب بهَا وأعجبت بِهِ، فَقَالَت: مَا هَذَا: قَالَ: أُرِيد الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الرّوم. قَالَتْ: قَتَلتنِي وَالله يَا سَيِّدي، وجَرَتْ دموعها عَلَى خدها كنظَم اللُّؤْلُؤ، وأنشأت تَقول:
سأدْعُو دَعْوَة الْمُضْطَر رَبًّا ... يُثيبُ عَلَى الدُّعَاء ويستجيب
لَعَلَّ الله أَن يَكْفِيك حَربًا ... ويجمعنا كَمَا تهوى الْقُلُوب
فضم الْمَأْمُون إِلَى صَدره وَأَنْشَأَ متمثلاُ يَقُول:
فيا حسنها إِ يَغْسِل الدمع كُحْلَها ... وَإِذ هِيَ تَذْري الدمْعَ مِنْهَا الأنامل
صَبِيحَة قَالَتْ فِي العتاب قَتَلْتني ... وقَتْلِي بِمَا قَالَتْ هُناك تحاولُ
ثُمَّ قَالَ لِخَادِمِهِ: يَا مسرور احتفظ بهَا وَأكْرم محلهَا وَأصْلح لَهَا كلّ مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من(1/117)
المقاصير والخدم والجواري إِلَى وَقت رجوعي، فلولا مَا قَالَ الأخطل حِين يَقُولُ:
قومٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مآزرهم ... دُون النِّسَاء وَلَو بَاتَتْ بأطهارِ
ثُمَّ خَرَجَ فَلم يزل يتعهدها ويُصْلح مَا أُمِرَ بِهِ، فاعتلّت الْجَارِيَة عِلَّة شَدِيدَة أشْفق عَلَيْهَا مِنْهَا وَورد نعي الْمَأْمُون، فَلَمّا بلغَهَا ذَلِكَ تنفّستِ الصُّعداء وتُوفيت، وَكَانَ ممّا قَالَتْ وَهِي تُجودُ بِنَفسِهَا:
إِن الزَّمَان سقانا من مرارته ... بَعْدَ الْحَلَاوَة أنفاسًا فأروانا
أبدى لَنَا تَارَة فأضحكنا ... ثُمَّ انثنى تَارَة أُخْرَى فأبكانا
إِنَّا إِلَى اللَّه فِيمَا لَا يزَال لَنَا ... من الْقَضَاء وَمن تلوين دُنيانا
دُنيا نَراها تُرينا من تَصَرُّفها ... مَا لَا يدومُ مصافاةً وأحْزَانا
ونحنُ فِيهَا كأنّا لَا نُزَايلها ... للعيش أحياؤُنا يَبْكُونَ مَوْتانا
الْمجْلس السَّادِس عَشْر
حَدِيث مَا ذئبان جائعان فِي حَظِيرَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي خَيْثَمَة، قَالَ: حَدَّثَنَا قَحْطَبَةَ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ فِي حَظِيرَةٍ وَثِيقَةٍ يَأْكُلانِ وَيَفْتَرِسَانِ، بِأَضَرَّ فِيهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ".
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: هَذَا خبر صَحِيح مَشْهُور، قَدْ روينَاهُ من غَيْر وَجه، وَفِي جملَة أَلْفَاظه اخْتِلَاف فِي اللَّفْظ دون الْمَعْنى، فِي بَعْضهَا: مَا ذئبان ضاريان، وَفِيه تنبيهٌ عَلَى أَن أَوْلى الْأُمُور بِالْمَرْءِ حِفْظُه دِينَه، وإشفاقُه من دخُول الْخلَل فِيهِ، فَإِن حب المَال والشرف وَالسَّعْي فِي اكتسابهما، والحرص عَلَى حيازتهما والانهماك فِي مسابقة أهلهما إِلَيْهِمَا، ومغالبته عَلَيْهِمَا، ممّا يُؤَدِّي إِلَى هدم الدِّين وتوهين أَرْكَانه، وطمس معالمه وَحط بُنْيَانه، مَعَ مَا فِيهِ من حمل الْمَرْء مِنْهُ على أَسبَاب الهلكة، وجده فِيمَا يورطه فِي حبائل الرذائل، وبُعده عَنْ شرِيف الْفَضَائِل، فقلّ من سلم مِمَّن وَصفنَا حَاله من الْبَغي والعدوان والحسد والطغيان، وَقد يحرم مَعَ هَذَا ممّا أمّل إِدْرَاكه، وطمع فِي بُلُوغه، فَحصل من الكد وَالْجد، والعناء والشقاء ولاستيلاء النحوس عَلَيْهِ وانحطاط الْجد، فنسأل الله تعلى توفير حَظِّنا من رَحمته وعصمته، وَأَن يتمم مَا ابتدأنا بِهِ من نعْمَته، فَلَقَد هلك من هلك من النّاس فِي ركوبهم مَا حذَّر مِنْهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوضح الْبَيَان عَنْهُ.
وَقد ذَكَرَ عَنِ الْحجَّاج بْن أَرْطَاة وَكَانَ من المَشْهورين بالفقه وَالْقَضَاء وَالرِّوَايَة(1/118)
وَالتَّصَرُّف فِي الآراء، أَنَّهُ قَالَ: أهلكني حب الشّرَف. وروى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يشْهد جُمُعة وَلَا جمَاعَة وَيَقُول: أكره مزاحمَة الأنذال.
أَمر الحَجَّاج بْن علاط السُّلَميّ وحيلته فِي جمع مَاله من مكَّة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ الْكَاتِبُ النَّهْرَوَانِيُّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ حَدَّثَنَا هرون بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَيْدِيُّ وَيَعْقُوبُ، قَالا: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ صَفَرٍ، وَكَانَ افْتِتَاحُ خَيْبَرَ فِي عَقِبِ الْمُحَرَّمِ، قَالَ: وَلَمَّا أَسْلَمَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الْبَهْزِيُّ شَهِدَ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَزْيَدٍ النَّحْوِيُّ بِإِسْنَادٍ لَهُ، قَالَ: وَلَمَّا أَسْلَمَ حَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ السُّلَمِيُّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ تَعْلَمْ قُرَيْشٌ بِإِسْلامِهِ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَيَأْخُذَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ، وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ الْحَجَّاجُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَالا بِمَكَّةَ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَلَى التُّجَّارِ، وَعِنْدَ صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ أُخْت بني عبد الدَّار، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلامِي أَنْ يَذْهَبَ، فَأْذَنْ لِي بِاللُّحُوقِ بِهِ لَعَلِّي أُخَلِّصُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ بِأَنْ يَصِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَيَأْخُذَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ بِهَا، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَهُوَ رَجُلٌ غَرِيب فهم، إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ بَنِي سُلَيْمٍ بن مَنْصُورٍ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي بَهْزٍ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَحْتَاجُ إِلَى أَنْ أَقُولَ، قَالَ: فَقُلْ. وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: لَا بُدَّ لي مِنْ أَنْ أَقُولَ: قَالَ: قُلْ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا كَلامٌ حَسَنٌ يُقَالُ عَلَى جِهَةِ الاحْتِيَالِ غَيْرِ الْحَقِّ، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِيلَةِ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، يَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " أَمْ يَقُولُونَ تَقوله ". وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ، قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى ثَنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ وَجَدْتُ بِهَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمَّعُونَ الأَخْبَارَ وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَكَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَنَّهَا أَرْضُ الْحِجَازِ وَبِهَا مَنْعَةٌ وَرِجَالٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا أَبْصَرُونِي قَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ عِنْدَهُ الْخَبَرُ، أَخْبِرْنَا يَا حَجَّاجُ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ وَهِيَ بَلَدُ يَهُودَ وَرِيفُ الْحِجَازِ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا وَعِنْدِي مِنَ الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ، قَالَ: فَالْتَبَطُوا بجنبتي نَاقَتِي يَقُولُونَ: هِيَ يَا حَجَّاجُ، قَالَ: قُلْتُ: هُزم هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقُتِلَ أَصْحَابُه قَتْلا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأَخَذُوا مُحَمَّدًا أَسِيرًا، وَقَالُوا: لَنْ نَقْتُلَهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ(1/119)
فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ، فَقَامُوا فَصَاحُوا بِمَكَّةَ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمُ الْخَبَرُ، هَذَا مُحَمَّدٌ إِنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْكَلامُ كُلُّهُ مِنْ حَدِيثِ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ عَلَى غُرَمَائِي فَإِنِّي أُبَادِرُ خَيْبَرَ فَأُصِيبُ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إِلَى مَا هُنَاكَ، قَالَ: فَجَمَعُوا مَالِي كُلَّهُ كَأَحَثِّ جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ، وَجئْت صاحبتني، فَقُلْتُ: مَالِي قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمُطَّلِبِ ذَلِكَ، حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التُّجَّارِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَأَتَانِي الْعَبَّاسُ وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ الْوَالِهَةِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَكَاتِمٌ أَنْتَ عَلَيَّ خَبَرِي؟ وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ! مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَهَلْ عِنْدَكَ حِفْظٌ لِمَا يُوضَعُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اسْتَأْخِرْ حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلاءٍ فَإِنِّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: وَقُلْتُ: فَالْبَثْ عَنِّي شَيْئًا يَخْفَ مَوْضِعِي، فَانْصَرَفَ عَنِّي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَجْمَعْتُ أَمْرِي عَلَى الْخُرُوجِ لَقِيتُهُ فَقُلْتُ: احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي فَإِنِّي أَخْشَى الطَّلَبَ، قَالَ: أفْعَلُ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ تَرَكْتُ ابْنَ أَخِيكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: خَلَّفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَخَلَّفْتُهُ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ وَمَا جِئْتُكُمْ إِلا مُسْلِمًا. وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: وَلَقَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَنَقَلَ مَا كَانَ فِيهَا وَسَاقَ وَصَارَتْ لَهُ وَلأَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَاكْتُمِ الْخَبَرَ ثَلَاث حَتَّى أُعْجِزَ الْقَوْمَ ثُمَّ أَشِعْهُ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ الْحَقُّ. قَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ ثَلاثًا، وَمَا جِئْتُ إِلا لأَخْذِ مَالِي فَرَقًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَضَتْ ثَالِثَةٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَكَ، وَالأَمْرُ وَاللَّهِ عَلَى مَا تُحِبُّ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ لَبِسَ الْعَبَّاسُ الْحُلَّةَ وَتَخَلَّقَ ثُمَّ أَخَذَ عَصَاهُ وَخَرَجَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَتْ: يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ، قَالَ: كَلا وَمَنْ حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فَنَزَلَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ، قَالُوا: وَمَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ: قُلْتُ: الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا وَأَخَذَ مَا لَهُ وَانْطَلَقَ فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْحَبُهُ وَيَكُونُ مَعَهُ، قَالُوا: أَفْلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْنٌ، قَالَ: وَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ.
وَقَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ صَالِحٌ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ شَيْخٍ، قَالَ: لَمَّا أُخْبِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ خَيْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ أَعْتَقَ غُلامَهُ الَّذِي خَبَّرَهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَلَمَّا سَمِعَ بذلك أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَدَعَا بِابْنٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ، وَكَانَ شَبِيهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيُنْشِدُ، وَلأَعْدَاءِ اللَّهِ يَقُولُ:
ابْنِي قثمْ ... ذُو الأَنْفِ الأشمْ(1/120)
شَبِيهُ ذِي الْكَرَمْ ... بِرَغْمِ مَنْ رغمْ
نَبِيِّ ذِي النِّعَمْ
وَقَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ: وَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ خَرَجَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ السُّلَمِيُّ إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ لِيَأْخُذَ مَالا لَهُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ مُكْثِرًا لَهُ مِنْ مَالِهِ مَعَادِنَ الذَّهَبِ بِأَرْضِ سُلَيْمٍ، وَذَكَرَ كَلامَ الْحَجَّاجِ بِطُولِهِ، وَبَلَغَ الْعَبَّاسَ فَأَرَادَ النُّهُوضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَأَمَرَ بِبَابِ الدَّارِ فَفُتِحَ ثُمَّ دَعَا غُلامَهُ أَبَا رَافِعٍ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُبَلِّغُ حَقًّا، فَأَبْلَغَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ، قَالَ لأَبِي الْفَضْلِ عِنْدِي مَا تُسَرُّ بِهِ، فَرَجَعَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَكْتُمَ الْخَبَرَ فَرَحًا، فَقَامَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَقَالَ هَارُون فِي حَدِيثه: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ سَبْعَةٌ ثَامِنُهُمْ مَوْلًى لَهُمْ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَثَامِنُهُمْ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَةِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِثَفْرِهَا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا عَمُّ؟ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَخُوكَ وَابْنُ عَمِّكَ أَبُو سُفْيَانَ بن الحراث. قَالَ: نَعَمْ أَخِي وَخَيْرُ أَهْلِي. وَقَالَ الْعَبَّاسُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ:
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ سَبْعَةٌ ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا
وَثَامِنُنَا لاقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... لِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ
وَقَوْلِي إِذَا مَا الْفَضْلُ شَدَّ بِسَيْفِهِ ... عَلَى الْقَوْمِ أُخْرَى يَا بُنَيَّ فَيَرْجِعُوا
قَالَ القَاضِي: هَكَذَا هُوَ فِي كتابي فَإِن يكن فِي أصل الشَّيْخ عَلَى هَذَا، فتقدير الْكَلَام أشدد أُخْرَى فيرجعوا فَدخلت الْفَاء جَوَابا، وَإِن كنت الرِّوَايَة فِي الأَصْل فَيرجع عَلَى الْخَبَر عَنِ الْوَاحِد بِالْمَعْنَى فَهُوَ يرجع.
الحَجَّاج وفراشة الَّتِي كَانَتْ تجهز الْخَوَارِج
حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، وَذكره أَبُو حَاتِم عَنِ الْعُتْبِي أَيْضا، قَالَ: كَانَت امْرَأَة من الْخَوَارِج من الأزد يُقَالُ لَهَا فراشة، وَكَانَت ذَاتَ نبهٍ فِي رَأْي الْخَوَارِج تُجَهِّزُ أَصْحَاب البصائر مِنْهُم، وَكَانَ الحَجَّاج يطْلبهَا طَلَبًا شَدِيدا، فأعوزته فَلم يظفر بهَا، وَكَانَ يَدْعُو اللَّه أَن يُمكنهُ من فراشة أَوْ من بَعْض من جهزته، فَمَكثَ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ جِيءَ بِرَجُل فَقَالَ: هَذَا مِمَّن جهّزته فراشة، فخرّ سَاجِدا ثُمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ لَهُ: يَا عدوُّ الله، قَال: أَنْت أولى بهَا يَا حجاج، قَالَ: أَيْنَ فراشة؟ قَالَ: مرت تطير مُنْذُ ثَلَاث. قَالَ: أَيْنَ تطير؟ قَالَ: تطير(1/121)
مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض، قَالَ: أعن تِلْكَ سَأَلتك عَلَيْكَ لعنة اللَّه؟ قَالَ: عَنْ تِلْكَ أَخْبَرتك عَلَيْك غضب الله، قَالَ: سَأَلتك عَنِ الْمَرْأَة الَّتِي جَهّزتْك وَأَصْحَابك، قَالَ: وَمَا تصنع بهَا؟ قَالَ: دلنا عَلَيْهَا، قَالَ: تصنع بهَا مَاذَا؟ قَالَ: أَضْرِبُ عُنُقهَا. قَالَ: وَيلك يَا حجاج، مَا أجهلك! تُرِيدُ أَن أدلك وَأَنت عَدو اللَّه عَلَى من هُوَ وَلِيُّ الله؟ قَدْ ضللتُ إِذَا وَمَا أَنَا من المهتدين. قَالَ: فَمَا رَأْيك فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْملك؟ قَالَ: على ذَاك الْفَاسِق لعنة اللَّه ولعنة اللاعنين، قَالَ: وَلم لَا أم لَك؟ قَالَ: انه أَخطَأ خَطِيئَة طبقت بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: اسْتِعْمَاله إياك عَلَى رِقَاب الْمُسلمين، فَقَالَ الْحجَّاج لجلسائه: مَا رَأْيكُمْ فه؟ قَالُوا: نرى أَن تقتله قتلةً لَمْ يقتل مثلهَا أحد، قَالَ: وَيلك يَا حجاج، جلساء أَخِيك كَانُوا أحسن مجالسة من جلسائك، قَالَ: وَأي أخويَّ تُرِيدُ؟ قَالَ: فِرْعَوْن حِين شاور مُوسَى فَقَالُوا: أرجه وأخاه، وَأَشَارَ عَلَيْك هَؤُلاءِ بقتلي، قَالَ: وَهل حفظتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: وَهل خَشيت فراره فأحفظه؟ قَالَ: هَلْ جمعتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: مَا كَانَ مُتَفَرقًا فأجمعه، قَالَ: أَقرَأته ظَاهرا؟ قَالَ: مُعَاذِ الله بل قرأته وَأَنا أنظر إِلَيْهِ، فَقَالَ: فَكيف تراك تلقى اللَّه إِن قتلتُك؟ قَالَ: أَلْقَاهُ بعملي وتلقاه بدمي، قَالَ: إِذا أُعَجِّلُك إِلَى النَّار، قَالَ: لَوْ علمت أنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ أَحْسَنت عبادتك واتقيتُ عذابك وَلم أبغ خِلافك ومناقضتك، قَالَ: إِنِّي قَاتلك، قَالَ: إِذا أخاصمك لِأَن الحكم يَوْمئِذٍ إِلَى غَيْرك، قَالَ: نُقْمِعُك عَنِ الْكَلَام السَّيئ، يَا حِرسي! اضْرِب عُنُقه، وأومى إِلَى السياف أَلا يقْتله، فَجعل يَأْتِيهِ من بَيْنَ يَدَيْهِ وَمن خَلفه ويروعه بِالسَّيْفِ، فَلَمّا طَال ذَلِكَ عَلَيْهِ رَشَح جَبينه، قَالَ: جَزعت من الْمَوْت يَا عدوَّ اللَّه؟ قَالَ: لَا يَا فَاسق، وَلَكِن أَبْطَأت عليّ بِمَا لي فِيهِ رَاحَة، قَالَ: يَا حرسيّ أعظم جرحه، فَلَمَّا أحس بِالسَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَوَاللَّه مَا أتمهَا وَرَأسه فِي الأَرْض.
حمدَان البرتي يهيم بِامْرَأَة طقطق الْكُوفِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الصَّلْت، قَالَ: كَانَ حمدَان البرتي عَلَى قَضَاء الشرقية، فَقدمت امْرَأَة طقطق الْكُوفِي طقطقًا إِلَيْهِ فادعت عَلَيْهِ مهْرا أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، فَسَأَلَهُ القَاضِي عَمَّا ذَكَرَتْ، فَقَالَ: أعز اللَّه القَاضِي، مهرهَا عشرَة دَرَاهِم، فَقَالَ لَهَا البرتي: أسْفري، فَسَفَرتْ حَتَّى انْكَشَفَ صَدْرها، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ لطقطق: وَيلك! مثل هَذَا الْوَجْه يستأهل أَرْبَعَة آلَاف دِينَار لَيْسَ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، ثُمَّ الْتفت إِلَى كَاتبه فَقَالَ لَهُ: فِي الدُّنْيَا أحسن من هَذَا الشذر على هَذَا النَّحْر؟ فَقَالَ لَهُ طقطق، فديتك، إِن كَانَتْ قَدْ وَقعت فِي قَلْبك طَلقتهَا، قَالَ لَهُ البرتي: تهددها بِالطَّلَاق وَقد قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وطراً زَوَّجْنَاكهَا " إِن طَلقتهَا كَانَ هَا هُنَا ألف مِمَّن يَتَزَوَّجهَا، فَقَالَ طقطق: إِنِّي وَالله مَا قضيتُ وَطَري مها، وَأَنا طقطق لَيْسَ أَنَا زَيْدُ، فَأقبل البرتي عَلَى الْمَرْأَة: فَقَالَ لَهَا: يَا حبيبتي مَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ صبرك عَلَى مباضعة هَذَا البغيض؟ ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:(1/122)
تَرَبّصْ بهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلّهَا ... تُطَلّقُ يَوْمَا أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُها
فَقَامَ طقطق فَتعلق بِهِ وصيف غُلَام البرتي فصاح بِهِ: دَعه يذهب عَنا فِي سقر، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِن لَمْ يَصِرْ لَك إِلَى مَا تريدين فصيري إِلَى امْرَأَة وصيف حَتَّى تُعْلمني فأضعه فِي الْحَبْس، فَكتب صَاحب الْخَبَر بِمَا كَانَ فعلق بِهِ البرتي وصانعه عَلَى خمس مائَة دِينَار عَلَى أَلا يرفع الْخَبَر بِعَيْنِه، وَلَكِن يكْتب أنَّ عجوزًا خَاصَمت زَوجهَا فألط فاستغاثت بِالْقَاضِي فَقَالَ لَهَا: مَا اصْنَع يَا حبيبتي هُوَ حُكْم وَلَا بدّ أَن أَقْْضِي بِالْحَقِّ، وَانْصَرف البرتي متيمًا، فَمَا زَالَ مُدَنفًا يبكي ويهيم فَوق السطوح، وَيَقُول الشّعْر فَكَانَ ممّا قَالَه:
وَا حسرتي عَلَى مَا مضى ... لَيْتَني لَمْ أكُن أعْرِف الْقَضَا
أحببتُ امْرَأَة وَخفت الل ... هـ حَقًا فَمَا تَمَّ حَتَّى انْقَضى
وَغير ذَلِك من شعر لَا وزن لَهُ وَلَا روى، إِلَى أَن ارعوى وَرجع.
لطّ وألطّ وَأيهمَا أصح
قَالَ القَاضِي: هَكَذَا فِي الْخَبَر ألطّ، وَالْمَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة لط، وَقَالُوا فِي اسْم الْفِعْل ملط عَلَى غَيْر الْقيَاس لِأَن قِيَاس ألط ملط وَقِيَاس لط لَاطَ، غير أنّ السماع لَا اعْتِرَاض لأحد فِيهِ، وَلَا يتْرك للْقِيَاس بل يتْرك الْقيَاس لَهُ.
بَيْنَمَا يَبُول من فزعه إِذْ يَبُول عَلَى قَبره
حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جَعْفَر بن مُوسَى بالبرمكي الْمَعْرُوف بجحظة، قَالَ: قَالَ لي مَيْمُون بْن هرون الْكَاتِب: جرد شُعَيْب بْن عُجَيف رَجُلا ليضربه بالسياط فِي مَال اختانه مِنْهُ، فَبَال الرَّجُل لمّا رَأَى السِّيَاط فَجرى بَوْله من بائكة سراويله فأطله، وشخص مَعَ المعتصم يُرِيدُونَ بِلَاد الرّوم، فَمَاتَ شُعَيْب بْن عجيف فِي الطَّرِيق، وَخرج الرَّجُل خَلَف الْعَسْكَر يطْلب الرزق، فغمزه الْبَوْل فِي السحر وَهُوَ بِبَعْض الْقرى، فَرَأى ركامًا فَبَال عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَجُل من الْقرْيَة: بئْسَمَا فعلت، بلت عَلَى قبر شُعَيب بْن عجيف، فَقَالَ الرَّجُل: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، بَينا أَنَا أبول من فزعه إِذْ بلت عَلَى قَبره.
إِلَّا يكن أَخا بِالنّسَبِ فَإِنَّهُ أَخ بالأدب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن حَمَّاد، قَالَ: سَمِعت عليّ بْن الجهم، وَقد ذَكَرَ دعبلا وكفره ولعنه، وَقَالَ: كَانَ قَدْ أغرى بالطعن عَلَى أبي تَمام وَهُوَ خَير مِنْهُ دينا وشعرًا، فَقَالَ لَهُ رَجُل: لَوْ كَانَ أَبُو تَمام أَخَاك مَا زَاد عَلَى كَثْرَة وصفك لَهُ، فَقَالَ: إِلَّا يكن أَخا بِالنّسَبِ فَإِنَّهُ أخٌ بالأدب وَالدّين والمروءة، أما سَمِعت فِي قَوْله فِيّ:
إِن يكد مُطّرِفُ الإخاءَ فَإِنّنا ... نَغْدُو ونَسري فِي إخاء تالدِ(1/123)
أَوْ يخْتَلف مَاء الْوِصَال فماؤُنا ... عَذْبٌ تحدَّر من زُلال باردِ
أَوْ يفْتَرق نسبٌ يؤلِّف بَيْننَا ... أدبٌ أقمناه مقَام الْوَالِد
أَبْيَات متفاضلة فِي الْمَدْح لبَعض الشُّعَرَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الحكيمي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر، قَالَ: أنْشد أَبُو السمط بْن أبي الْجنُوب بْن أبي حَفْصَة لرؤبة:
إِن جِئْت أَعْطَانِي وَإِن كنت لم أجي ... تنفذ أَمْرِي فَوق مَا كنت أرتجي
فَقَالَ: لي وَالله أَجود من هَذَا فِي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى نصر بْن شِيث فَوجه إليَّ بِعشْرين ألفا، فَقلت:
لَعَمْرِي لنعم الْغَيْث غيثٌ أَصَابَنَا ... بِبَغْدَاد من أَرض الجزيرة وَابِلُه
وَنعم الْفَتى والبيدُ بَيْني وَبَينه ... بِعشْرين ألفا صَبّحْتنا رسائلُه
وَكُنَّا كحي صبّح الغيثُ أهلَه ... وَلم يحْتَمل أظعانُه وحمائلُه
وأنشدنا هَذَا الشّعْر عمَارَة بْن عقيل، فَقَالَ: لي - وَالله - فِي خَالِد بْن يزِيد أحسن من هَذَا، ثُمَّ أنْشد:
لَمْ أستطع سيرًا لمدحة خَالِد ... فجعلتُ مَدْحِيِه إِلَيْهِ رَسُولا
فليرحلَنَّ إليَّ نائلُ خالدٍ ... وليكفيَنَّ رواحِلي التّرْحِيلا
وَأنْشد هَذِهِ الشّعْر المسمعي، فَقَالَ: أَنْشدني الْأَصْمَعِي أَجود من هَذَا:
جزى اللَّه خيرا والجزاءُ بكفِّه بنى السِّمْط أخدانَ السّماحة والحمدِ
أَتَانِي وَأَهلي بالعراقِ جَدَاهُم ... كَمَا انقضَّ غيثٌ فِي تِهَامَةَ أَوْ نَجْدِ
زِيَارَة حرقة بِنْت النُّعْمَان لسعد بْن أبي وَقاص
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن يَعْقُوب الدينَوَرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسّان بْن أبان البَعْلَبَكيّ، قَالَ: لمّا قَدِمَ سَعْد بْن أبي وَقاص الْقَادِسِيَّة أَمِيرا أتتْه حرقة بِنْت النُّعْمَان بْن الْمُنْذر فِي جَوَارٍ فِي مثل زِيَّها، تطلب صِلَته، فَلَمّا وقفن بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: أيتكن حرقة؟ قُلْنَ: هَذِهِ، قَالَ: أَنْت حرقة؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَا تكرارك استفهامي؟ إِن الدُّنْيَا دَار زَوَال وَإِنَّهَا لَا تدوم على حَال، تنْتَقل بِأَهْلِهَا انتقالا، وتُعقبهم بَعْدَ حَال حَالا، إِنَّا كنتا ملوكَ هَذَا الْمِصْرِ قبلك، يُجْبى إِلَيْنَا خَرْجه، ويُطيعنا أَهله، مدَّة الْمدَّة وزمان الدّولة، فَلَمّا أدبر الْأَمر وانقضى، صَاح بِنَا صائحُ الدَّهْر، فصدع عصانا وشتّتَ ملأنا، وكذاك الدَّهْر يَا سَعْد، إِنَّهُ لَيْسَ من قَوْمٍ بحبرة إِلَّا والدهر مُعقبهم عَبْرة، ثُمَّ أنشأت تَقول:
فَبينا نَسُوسُ الناسَ وَالْأَمر أمرنَا ... إِذَا نَحْنُ فيهم سوُقةٌ نَتَنَصَّفُ(1/124)
فأف لدُنْيَا لَا يَدُوم سرورها ... تقبل تاراتٍ بِنَا وتصرفُ
فَقَالَ سَعْد: قَاتل اللَّه عَدِيّ بْن زَيْدُ كَأَنَّهُ كَانَ ينظر إِلَيْهَا حَيْث تَقول:
إِن للدهر صَوْلةً فاحْذَرَنْها ... لَا تبين قَدْ أمنت الشُّرُورا
قَدْ يبيت الْفَتى مُعَافًى فيُرْزَا ... وَلَقَد كَانَ آمنا مَسْرُورًا
وَأَكْرمهَا سَعْد وَأحسن جائزتها فَلَمَّا أَرَادَت فِرَاقه، قَالَتْ: حَتَّى أُحَيِّيك تحيةَ أمْلاكِنَا بَعضهم بَعْضًا: لَا جعل الله لَك إِلَّا لئيمٍ حَاجَة، وَلَا زَالَ لكريم عنْدك حَاجَة، وَلَا نزع من عَبْد صَالح نعْمَة إِلَّا جعلك سَببا لردّها عَلَيْهِ. فَلَمّا خرجت من عِنْدَهُ تلقاها نساءُ الْمِصْر فَقُلْنَ لَهَا: مَا صنع بك الْأَمِير؟ قَالَتْ:
حَاطَ لي ذِمّتي وَأكْرم وَجْهي ... إِنَّمَا يُكْرم الكريمُ الكَريما
الْمُغيرَة بْن شُعْبَة يعرض عَلَيْهَا الزواج فترفُض
وَقد روينَا بِإِسْنَاد لَمْ يحضر الْآن وَلَعَلَّه يَأْتِي فِيمَا بَعْدَ، أنَّ الْمُغيرَة بْن شُعْبَة خطب حُرَقة هَذِهِ، فَقَالَت: لَهُ: إِنَّمَا أردتَ أَن يُقَالُ: تزوج ابنةَ النعمانَ بْن الْمُنْذر وَإِلَّا فأيُّ حَظّ لأعورَ فِي عَمْياء.
أمُّ جَعْفَر البرمكيِّ وَمَا وصلتْ إِلَيْهَا حالَتُها من عظة وعبرة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر الضَّرِير وَجه الْهِرَّة، قَالَ: حَدَّثَنِي غَسَّان بْن مُحَمَّد بْن القَاضِي، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الهاشميّ صَاحب صَلاة الْكُوفَة قَالَ: دخلتُ عَلَى أمِّي فِي يَوْمَ أضحى وَعِنْدهَا امْرَأَة بَرزَة فِي أَثوَاب دنسة رثَّة، فَقَالَت لي: أتعرفُ هَذِهِ؟ قلت: لَا، قَالَتْ: هَذِهِ عبَادَة أم جَعْفَر بْن يحيى بْن خَالِد، فسلّمت عَلَيْهَا ورحبت بهَا وَقتل لَهَا: يَا فُلَانَة! حدثيني بِبَعْض أَمركُم، قَالَتْ: أذكُر لَك جملَة كَافِيَة فِيهَا اعْتِبَار لمن اعْتبر، وموعظة لمن فكر، لَقَدْ هجم عليّ مثل هَذَا الْعِيد وعَلى رَأْسِي أَربع مائَة جَارِيَة ووصيفة وَأَنا أزعم أنَّ جَعْفَر ابْني عاقٌّ بِي، وَقد أتيتكم فِي هَذَا الْيَوْم وَالَّذِي يُقْنعني جلدُ شَاتين أجعَل أَحدهمَا شعاراً وَالْآخر دثارًا.
زُبَيْري يقُتُّ بهاشم
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عُمَر بْن شبة، قَالَ: لمّا قَالَ الزبيرِي للرشيد فِيمَا أغراه بِيَحْيَى بْن عَبْد اللَّه بْن حَسَن وَعند الرشيد يحيى، فَقَالَ: إِن هَذَا يُخْبِرنِي عَنْكَ بِأُمُور إِن صحّت وَجب عليّ تأديبك وَإِن أَتَى التأديبُ عَلَى نَفسك. قَالَ يحيى: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِنَّمَا النّاس نَحْنُ وَأَنْتُم، فَإِن خرجنَا عَلَيْكُمْ فِيمَا أكلْتُم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرحلتمونا، فَوَجَدنَا بذلك مقَالا فِيكُم ووجدتُم بخروجنا عَلَيْكُمْ مقَالا فِينَا يتكافأ فِيهِ القَوْل، وَيعود أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ(1/125)
عَلَى أَهله بِالْفَضْلِ، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! فَلم تجرِّئ هَذَا وضرباؤه على أهل بَيْتك؟ يسْعَى بهم عنْدك، وَالله مَا يسْعَى بِنَا إِلَيْك نصيحة مِنْهُ لَك، وَإنَّهُ ليَأْتِينَا فيسعى بك عندنَا من غَيْر نصيحة مِنْهُ لَنَا، يُرِيد أَن يباعد بَيْننَا ويشتفي من بَعْض بِبَعْض، وَوَاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه للخائن بْن الخائن، يسْقط بَيْنَ اللحاء والقضيب، يُرِيد أَن يُوهنهما جَمِيعًا حَسَدًا وبَغْيًا وَغِلا، ثُمَّ الْتفت إِلَى الزبيرِي متمثلا بقول الشَّاعِر:
وَقد يُسَوِّدُ عصرُ السُّوء مثلَكُم ... وَقد يعودُ رءوسُ النّاس أذنابا
وَقد قَالَ بَعْض أهلك:
أَلَيْسَ من إِلْقَاء الزَّمَان عَلَى استه ... وقوفُ
زبيريٍّ يقتُّ بهاشم
إِذَا مَا رَآهُمْ كَانَ هَمْزًا ولامزًا ... لأعراضهم مَيْنا وبغيًا لحازمِ
قَوْله: يقتّ معناهُ ينمُّ، وَقَالَ: لَا يدخلُ الجنةَ قتّات، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لعن القَتّات يَعْنِي النمام.
رَجَاء يُرْجئُ مَا أُمِر بِهِ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفضل أَحْمَد بْن أبي طَاهِر، قَالَ: مدحتُ الْحَسَن بْن مخلد فَأرْسل إليَّ أَنِّي قَدْ أمرت لَك بِمِائَة دِينَار، فَالْحق رَجَاء، فلقيتُ رَجَاء فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرنِي بِشَيْء، فَكتبت إِلَيْهِ:
أما رجاءُ فأرْجَى مَا أمرتَ بِهِ ... وَكَيف إِن كنتَ لَمْ تَأمُره يأتمر
بَادر بجودك إمّا كنتَ مقتدرًا ... فَلَيْسَ فِي كلّ حالٍ أَنْت مُقْتَدِرُ
الْمجْلس السَّابِع عَشْر
حَدِيث فَلْيقل خيرا أَوْ لينصت
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَهْشَلُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيُنْصِتْ ".
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ". وَفِي بَعْض الرِّوَايَات: أَوْ لِيَسْكُت. ولمّا أملّ عَلَيْنَا أَبو عُمَر هَذَا الْخَبَر عَلَى من يَلِيهِ كالمبتسم وَإِلَى جنبه أَبُو بَكْر النَّيْسَابُوريّ كالمتعجب المستغرب لهَذِهِ اللَّفْظَة، وَمعنى هَذِهِ الْأَلْفَاظ تتفق.
ونحوٌ مِنْهُ مَا ورد الْخَبَر بِهِ من قَوْله: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَكَلَّمَ فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ.
وَفِي الْكَلَام ممّا هُوَ خَيّر وَصدق وَعدل، وَحقّ الْأجر والفائدة، وَالْغنيمَة الْبَارِدَة، وَفِي(1/126)
الصمت فِي مَوَاطِن الصمت الرَّاحَة والسلامة، والتنزه عَمَّا عاقبته الْمَكْرُوه والندامة، وَقد ذُكر فِي فضل النُّطْق ومدح الصمت نثرًا ونظمًا مَا يطول إِتْيَانه وَيكثر تعداده، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الْإِتْيَان بِهِ، وَجُمْلَة القَوْل أنَّ لكلِّ وَاحِد من الْأَمريْنِ موضعا هُوَ فِيهِ أولى من صَاحبه، وَقد يعتدلان فِي بَعْض الْأَحْوَال ويتقاربان، وَإِن كَانَا فِي بعضهما يتفاوتان ويتفاضلان. وَقد حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الدقيقي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عُمَر السّبيعي، قَالَ: سَمِعت بِشْر بْن الْحَارِث يَقُول: الصَّبْر هُوَ الصمت، والصمت هُوَ الصَّبْر، وَلَا يكون الْمُتَكَلّم أورع من الصَّامِت إِلَّا رَجُل عالمٌ يتَكَلَّم فِي مَوْضِعه ويسكت فِي مَوْضِعه.
خَالِد بْن الْوَلِيد وَعبد الْمَسِيح بْن عَمْرو الغساني فِي فتح الْحيرَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا العكلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عوَانَة بْن الحكم، وشرقي بْن قطامي وَأبي مخنف قَالُوا: لمّا انْصَرف خَالِد بْن الْوَلِيد من الْيَمَامَة، وَضرب عسكره عَلَى الجَرْعة الَّتِي بَيْنَ الْحيرَة وَالنّهر وتحصَّن مِنْهُ أَهْلُ الْحيرَة فِي الْقصر الْأَبْيَض وَقصر ابْن بُقَيلة وَجعلُوا يرمونه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى نَفِدَت، ثُمَّ رَمَوْهُ بالخزف من آنيتهم، فَقَالَ لَهُ ضرار بْن الأزْور: مَا لَهُمْ مكيدةٌ أعظمَ ممّا ترى، فَبعث إِلَيْهم: ابْعَثُوا إليَّ رَجُلا من عُقلائكم أسائله ويُخبرني عَنْكُم، فبعثوا لَهُ عَبْد الْمَسِيح بْن عَمْرو بْن قيس بْن حَيَّان بْن بُقيلة الغساني، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن خمسين وثلثمائة سنة، فَأقبل يمشي إِلَى خَالِد فَلَمّا رَآهُ قَالَ: مَا لَهُمْ أخزاهم اللَّه بعثوا إليَّ رَجُلا لَا يفقه، فَلَمّا دنا قَالَ: أنعم صباحًا أَيهَا الْملك، فَقَالَ خَالِد: قَدْ أكرمنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْر هَذِهِ التَّحِيَّة، بِالسَّلَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ خَالِد: من أَيْنَ أقْصَى أثرك؟ قَالَ: من ظهر أَبِي. قَالَ: من أَيْنَ خرجت؟ قَالَ: من بطن أُمِّي. قَالَ: عَلَى مَا أَنْت: قَالَ: عَلَى الأَرْض. قَالَ: فيمَ أَنْت وَيحك؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي. قَالَ: أتعقل؟ قَالَ: نعم وأقيد، قَالَ: ابْن كم أَنْت: قَالَ: ابْن رَجُل وَاحِد. قَالَ خَالِد: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ، أسائلهُ عَنْ شَيْءٍ وينحو فِي غَيره، قَالَ: مَا أَجَبْتُك إِلَّا عَمَّا سَأَلت عَنْهُ فاسأل عَمَّا بدا لَك، قَالَ: كم أَتَى عَلَيْك؟ قَالَ: خَمْسُونَ وثلثمائة سنة، قَالَ: أَخْبرنِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: عربٌ استنبطنا ونبطٌ استعربنا، قَالَ: فحربٌ أَنْتُم أم سِلْم؟ قَالَ: بل سِلْم. قَالَ: فَمَا بَال هَذِهِ الْحُصُون؟ قَالَ: بنيناها لنحبس السَّفِيه حَتَّى ينهاه الْحَلِيم، قَالَ: وَمَعَهُ سمٌّ سَاعَة يقلِّبه فِي يَده، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَ: هَذَا السم، قَالَ: وَمَا تصنعٌ بِهِ؟ قَالَ: أتيتُك فَإِن رَأَيْت عنْدك مَا يسرني وَأهل بلدي حمدت اللَّه تَعَالَى، وَإِن كَانَت الْأُخْرَى لَمْ أكن أول من سَاق إِلَيْهِم ضيمًا وبَلاءً فآكلُه وأستريح، وَإِنَّمَا بَقِيَ من عُمريَ الْيَسِير، فَقَالَ: هاته فَوَضعه فِي يَد خَالِد، فَقَالَ: بِسم اللَّه وَبِاللَّهِ ربِّ الأَرْض وَرب السَّمَاء، الَّذِي لَا يضر مَعَ اسْمه دَاء، ثُمَّ أكله فتجلته غَشْية فضربَ بذقنه عَلَى صَدره ثُمَّ عرق وأفاق، فَرجع ابْن بقيلة إِلَى قومه، فَقَالَ: جئتُ من عِنْدَ شَيْطَان أكل سمَ سَاعَة(1/127)
فَلم يَضُرَّه، أخرجوهم عَنْكُم، فصالحوهم عَلَى مائَة ألف، فَقَالَ لَهُ خَالِد: مَا أدْركْت؟ قَالَ: أدْركْت سفن الْبَحْر ترفأ غلينا فِي هَذَا الجرف، وَرَأَيْت الْمَرْأَة من أَهْلَ الْحيرَة تخرج إِلَى الشَّام فِي قرى متواترة مَا تُزَوَّدُ رغيفا، وَقد أَصبَحت خرابًا يبابا، كَذَلِك دأب اللَّه فِي الْعباد والبلاد، وَقَالَ عَبْد الْمَسِيح حِين رَجَعَ:
أبعد الْمُنْذِرِين أرى سوَامَا ... تَرَوَّحُ بالخورنق والسّدير
تحاماها فوارسُ كلّ حَيٍّ ... مَخافة ضَيْغم عالي الزئير
وَبعد فوارس النُّعْمَان أرعى ... رياضًا بَيْنَ ذرْوَة والحفير
فصرنا بَعْدَ هُلك أبي قبيس ... كَمثل الشَّاء فِي الْيَوْم المطير
تَقَسّمها الْقَبَائِل من مَعَدٍّ ... عَلَانيَة كأيسار الْجَزُور
وَكُنَّا لَا يُبَاح لَنَا حَرِيمٌ ... فَنحْن كضرة الناب الفَخُور
كَذَاك الدَّهْر دولته سجالٌ ... تَصَرَّفُ بالمَسَاءةِ والسُّرورِ
قَالَ القَاضِي: قَول عَبْد الْمَسِيح لخَالِد لما سَأَلَهُ مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: عربٌ استنبطنا ونبطٌ استعربنا، مَعْنَاهُ أَنَا عرب ونبط خالط بَعْضنَا بَعْضًا وجاوره، فَأخذ كلّ فريق منا من خلائق صَاحبه وَسيرَته.
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن أبي الرّحال الصّالحيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الدوري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بِشْر، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْل الْخياط، عَنْ جَعْفَر بْن أبي جَعْفَر: أَنَّهُ كَانَ يتَعَوَّذ من النبطي إِذَا استعرب والعربي إِذَا استنبط، فَقيل لَهُ: كَيْفَ يستنبط الْعَرَبِيّ؟ قَالَ: يَأْخُذ بأخلاقهم ويتأدب بآدابهم.
خبر الغضبان بْن القَبَعْثَري مَعَ الحَجَّاج
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد بْن نَاصح، قَالَ: حُدِّثْت أنَّ الحَجَّاج بْن يُوسُف بعث الغضبان بْن القبعثري ليَأْتِيه بِخَبَر عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن الْأَشْعَث وَهُوَ بكِرْمَان، وَبعث عَلَيْهِ عينا وَكَانَ كَذَلِك يفعل، فَلَمّا انْتهى الغضبان إِلَى عَبْد الرَّحْمَن قَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: شَرّ، تَغَدَّ بالحجاج قَبْلَ أَن يتعشى بك، وَانْصَرف الغضبان فَنزل رَملَة كرمان وَهِي أرضٌ شَدِيدَة الرمضاء، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ ورد عَلَيْهِ أَعْرَابِي من بني بَكْر بْن وَائِل عَلَى فرس لَهُ يَقُود نَاقَة، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك، قَالَ الغضبان: السَّلَام كثير وَهِي كلمة مقولة، قَالَ الأَعْرَابِي: مَا اسْمك؟ قَالَ: آخذ. قَالَ: أفتعطي؟ قَالَ: لَا أُحِبَّ أَن يكون لي اسمان، قَالَ: من أَيْنَ أَقبلت؟ قَالَ: من الذَّلُول، قَالَ: وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْمَشْي فِي مناكبها، قَالَ: من عُرِض الْيَوْم؟ قَالَ: عرض المتقون. قَالَ: فَمن سَبَق؟ قَالَ الفائزون، قَالَ: فَمن غلب؟ قَالَ: حِزْبُ اللَّه، قَالَ: فَمن حِزْبُ اللَّه؟ قَالَ:(1/128)
هُم الغالبون، قَالَ: فَعجب الأَعْرَابِي من مَنْطِقه، قَالَ: أما تَقْرض؟ قَالَ: إِنَّمَا تَقْرض الْفَأْرَة، قَالَ: أتسمع؟ قَالَ: إِنَّمَا تسمع الْقَيْنَة، قَالَ: أفتنشد؟ قَالَ: إِنَّمَا تنشد الضَّالة، قَالَ: أفتقول؟ قَالَ: إِنَّمَا يَقُولُ الْأَمِير، قَالَ: أفتتكلم؟ قَالَ: كلٌّ مُتَكَلم، قَالَ: أفتنطق؟ قَالَ: إِنَّمَا ينْطق كتاب اللَّه، قَالَ: أتسمع؟ قَالَ: حَدِّثنِي أسمع، قَالَ: أفتسجع؟ قَالَ: قَالَ إِنَّمَا تسجع الْحَمَامَة، قَالَ الأَعْرَابِي: تالله مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ، قَالَ: بلَى وَلَكِنَّك نسيت، قَالَ الأَعْرَابِي: فَكيف أَقُول؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَالله، قَالَ الأَعْرَابِي: كَيْفَ ترى فرسي هَذِهِ؟ قَالَ الغضبان: هُوَ خَيّر من آخر شَرّ مِنْهُ وَآخر خَير مِنْهُ أفره مِنْهُ، قَالَ الأَعْرَابِي: إِنِّي قَدْ علمتُ ذَلِكَ، قَالَ: لَوْ علمت لَمْ تَسْأَلنِي، قَالَ، قَالَ الأَعْرَابِي: إِنَّكَ لمنكر، قَالَ الغضبان: إِنَّكَ لمعروف. قَالَ: لَيْسَ ذَاك أُرِيد، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أردْت إِنَّك لعاقل قَالَ: أفتعقل بعيرك هَذَا؟ قَالَ الأَعْرَابِي: أفتأذن لي فَأدْخل عَلَيْكَ؟ قَالَ الغضبان: وراؤك أوسع لَك، قَالَ الأَعْرَابِي: قد أحرقتني الشَّمْس، قَالَ: السَّاعَة يفِيء عَلَيْك الْفَيْء، قَالَ الْأَعرَابِي: إِن الرمضاء قَدْ آذتني، قَالَ: بُلْ عَلَى قَدَمَيْك، قَالَ قَدْ أوجعني الْحر، قَالَ الغضبان: مَا لي عَلَيْهِ سُلْطَان، قَالَ الأَعْرَابِي: إِنِّي لَا أُرِيد طَعَامك وَلَا شرابك، قَالَ: لَا تعرِّض بهما فوَاللَّه لَا تذوقهما، قَالَ الأَعْرَابِي: سُبْحَانَ اللَّه، قَالَ: من قَبْلَ أَن تطلع رَأسك، قَالَ الأَعْرَابِي: أما عنْدك إِلَّا مَا أرى؟ قَالَ: بلَى، هِرَّاوتان أضْرب بهما رَأسك، فَقَالَ الأَعْرَابِي: اللَّه، قَالَ: ظَلَمك أحد؟ فَلَمَّا رأى الْأَعرَابِي ذك قَالَ: إِنِّي لأظنك مَجْنُونا، قَالَ الغضبان: اللَّهُمّ اجْعَلنِي مِمَّن يَرْغب إِلَيْكَ، قَالَ: إِنِّي لأظنك حروريا، قَالَ: اللَّهُمّ اجْعَلنِي مِمَّن يتَخَيَّر الْخَيْر، ثُمَّ قَالَ: لَهُ الغضبان: أَهَذا بعيرك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ: فَمَا شَأْنه؟ أرى فِيهِ دَاء فَلهُ أَنْت بَائِعه ومشتر مَا هُوَ شَرّ مِنْهُ، فولى الأَعْرَابِي وَهُوَ يَقُولُ: وَالله إِنَّكَ لمرح أَحمَق. فَلَمّا قَدِمَ الغضبان عَلَى الحَجَّاج قَالَ: كَيْفَ تركت أَرض كرمان؟ قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَرض مَاؤُهَا وشل، وَثَمَرهَا دقل ولصها بَطل، فالجيش فِيهَا ضِعَاف، إِن كَثُرُوا فِيهَا جَاعُوا، وَإِن قلوا بهَا ضَاعُوا، فَقَالَ الحَجَّاج لَهُ: أما إِنَّكَ صَاحب الْكَلِمَة الَّتِي بلغتني عَنْكَ حِين قلت تغد بالحجاج قَبْلَ أَن يتعشى بك؟ قَالَ الغضبان: أما إِنَّهَا - جعلني اللَّه فداءك - لَمْ تَنْفَع من قيلت لَهُ، وَلَا تضر من قيلت فِيهِ، فَأمر الحَجَّاج بِهِ إِلَى السجْن، فَلَمّا ذهب مكث فِيهِ حَتَّى إِذَا بنى الحَجَّاج خضراء وَاسِط أَعْجَبته كَمَا لَمْ يُعجبهُ بِنَاء قَطّ فَقَالَ لمن حوله: كَيْفَ ترَوْنَ قبتي هَذِه؟ قَالُوا: أصلح اللَّه الْأَمِير، مَا بنى ملك قَطّ مثلهَا، وَمَا نعلم للْعَرَب مأثرة أفضل مِنْهَا، قَالَ الْحجَّاج: أما إِن لَهَا عَيْبا، سأبعث إِلَى من يُخْبِرنِي بِهِ فَبعث إِلَى الغضبان فَأقبل يرسف فِي قَيده، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ سلم، فَقَالَ الْحجَّاج: كَيفَ ترى قبتي هَذِه؟ قَالَ: أصلح الله الْأَمِير هَذِه قبَّة بنيت فِي غَيْر بلدك لغير ولدك، لَا يسكنهَا وارثك وَلَا يَدُوم لَك بَقَاؤُهَا كَمَا لم يئيم هَالك وَلم يبْق فان، وأمّا هِيَ فَكَأَن لَمْ تكن، قَالَ: صدقت، ردُّوه إِلَى السجْن فَإِنَّهُ صَاحب الْكَلِمَة الَّتِي(1/129)
بلغتني عَنْهُ، قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، مَا ضرت من قيلت فِيهِ وَلَا نَفَعت من قيلت لَهُ، قَالَ: أتراك تنجو مني لأقطعن يَديك ورجليك ولأكوين عَيْنَيْك، قَالَ: مَا يخَاف وعيدك البريء وَلَا يَنْقَطِع مِنْك رَجَاء الْمُسِيء، قَالَ: لأَقْتُلَنك إِن شَاءَ اللَّه، قَالَ: بِغَيْر نفس، وَالْعَفو أقرب للتقوى، قَالَ لَه الحَجَّاج: إِنَّكَ لسمين، قَالَ: لمَكَان الْقَيْد والرتعة وَمن يكن جَار الْأَمِير يسمن. قَالَ الحَجَّاج رُدُّوه إِلَى السجْن، قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير
قَدْ أثقلني الْحَدِيد فَمَا أُطِيق الْمَشْي، قَالَ: احملوه لعنهُ اللَّه، فَلَمّا حَملته الرِّجَال عَلَى عواتقها قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي يخر لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين "، قَالَ: أنزلوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ " اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ المنزلين "، قَالَ: جَرُّوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ: " بِسم الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "، قَالَ: وَيحكم، اتركوه فقد غلبني بخبثه. أثقلني الْحَدِيد فَمَا أُطِيق الْمَشْي، قَالَ: احملوه لعنهُ اللَّه، فَلَمّا حَملته الرِّجَال عَلَى عواتقها قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي يخر لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين "، قَالَ: أنزلوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ " اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ المنزلين "، قَالَ: جَرُّوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ: " بِسم الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "، قَالَ: وَيحكم، اتركوه فقد غلبني بخُبثه.
معنى الوشل فِي اللُّغَة
قَالَ القَاضِي: قَول الغضبان فِي وَصله للحجاج كرمان: مَاؤُهَا وشل، يَعْنِي بِهِ المَاء الْقَلِيل كَمَاء الِأنهار الصغار والجداول الَّتِي لَيست كالبحور والأودية الْعَظِيمَة يُرِيد الْخَبَر عَنْ قلته كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
اقْرَأ عَلَى الوَشَل السّلام وقُلْ لَهُ ... كُلُّ المشارب مُذْ فُقِدت ذميمُ
وَقَالَ جرير:
إِن الَّذين غدو بلبُّك غادروا ... وَشَلا بِعَيْنِك لَا يزَال مَعِينا
وَجمع الوشل أوشال، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
عَيْناك دمعهما سجالُ ... كَانَ شأنيهما أوشالٌ
وَفسّر قَوْمٍ أَوشال بِأَنَّهُ مَا قطر من الْجَبَل.
جَعْفَر بْن مُحَمَّد يُزَوّج حُسَيْن بْن زَيْد ويوصله إِلَى الثراء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد الْكُوفِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن يُوسُف ابْن يَعْقُوب بْن حَمْزَة بْن زِيَاد الْجعْفِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن مقبل أَبُو أَيُّوب الهاشميّ الْمَدَنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سليم بْن جَعْفَر الْجَعْفَرِي، عَنْ حُسَيْن بْن زَيْد، أَنَّهُ كَانَ نَشأ فِي حجر أبي عَبْد اللَّه يَعْنِي جَعْفَر بْن مُحَمَّد، فَلَمّا بلغ مبالغ الرِّجَال قَالَ لَهُ أَبُو عَبْد اللَّه: مَا يمنعُك أَن تتَزَوَّج فتاة من فتيات قَوْمك؟ قَالَ: فَأَعْرَضت عَنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَى غَيْر مرّة، فَقلت لَهُ: من ترى أَن أَتزوّج؟ قَالَ: كُلْثم بن عَبْد اللَّه الأرقط، فَإِنَّهَا ذَاتَ جمال مَال، قَالَ: فَأرْسلت إِلَيْهَا فثارت عَلَى رَسُولي وضحكتْ مِنْهُ وتعجّبَتْ كلِّ الْعجب لإقدامي وجُرأتي عَلَى خِطْبتها، فَأتيت أَبَا عَبْد اللَّه فَأَخْبَرته، فَقَالَ لمعتب: آتني بثوبين يَمَنِيَّيْن مُعْلَمين فَأتى بهما فلبستهما، ثُمَّ قَالَ: تعرّض أَن تمرَّ قرب منزلهَا وتستسقي مَاء واحرص عَلَى أَن تعلم بمكانك، قَالَ: فوقفتُ بِالْبَابِ فَعلمت مَكَاني ففتحت منْظرًا لَهَا فَأَشْرَفت عليّ وَأَنا لَا أعرفهَا فَنَظَرت إليَّ وَقَالَت:(1/130)
تسمع بالْمُعَيْديّ خيرٌ من أَن ترَاهُ - قَالَ القَاضِي: أَكثر الْكَلَام: تسمع بالمعيديِّ لَا أَن ترَاهُ، ثُمَّ انصرفتُ فَأتيت أَبَا عَبْد اللَّه فَأَخْبَرته، وَكنت رُبمَا غِبْتُ عَنِ المَدِينَةِ أتصيّد، فَقَالَ لي: إِذَا شِئْت، فغبت عَنِ المَدِينَةِ أَيَّامًا ثُمَّ نزلت المَدِينَةِ فَإِذا مولاةٌ لَهَا قَدْ أَتَتْنِي، فَقَالَت: نَحْنُ نُرِيد أَن نُعَمِّرَك للعُرْس وَأَنت تطلب الصَّيْد وتضحى للشمس، قَدْ جئتُ طلبتُك غَيْر مرّة، وبعثتْ معي ألفَ دِينَار وَعشرَة أَثوَاب وَتقول لَك: تقدمْ إِذَا شِئْت فاخطبني وأمهرنيها، فَإِن لَك عِنْدي عشرَة جميلَة ومواتاة، قَالَ: فغدوتُ فملكتها وَبعثت إِلَيْهَا بِالْألف الدِّينَار وأمرتها بالتهيؤ، ثُمَّ أتيتُ أَبَا عَبْد اللَّه فَأَخْبَرته فَقَالَ: تهيّأ للسَّفر وَانْظُر من يَخْرُج مَعَك من مواليك عَلَى جَمَلٍ عَليّ زَادُك، فسميتُ لَهُ الموَالِي، فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَيْلَة الْخَمِيس فادخُل إِلَى مَسْجِد النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلِّم عَلَى جَدِّك وودِّعْه ينتظرك بعيرُ زِيَاد بْن عَبْد اللَّه، فَفعلت مَا أَمرنِي بِهِ، فأتيتُه فأجده وَالقَاسِم بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن حَسَن، فَلَمّا وقفتُ عَلَيْهِ أَمر لي بِثِيَاب السَّفَر وخلا بِي فَقَالَ: استشْعر تقوى اللَّه تَعَالَى، وأحْدِث لكلِّ ذَنْب تَوْبَة، لذنب السِّرِّ تَوْبَة ولذنب الْعَلَانِيَة تَوْبَة، وامض لوجهك، فقد كتبت لَك إِلَى معن بْن زَائِدَة كتابا، وغَيْبَتُك فِي سفرك ثَلَاثَة أشهر إنْشَاء اللَّه، فَإِذا قدمت صنعاء فَانْزِل منزلا وَلَا تحمل عَلَى معنٍ بِأحد، وتأتَّ لَهُ أَن تَدْخُل عَلَيْهِ بِإِذن عَامَ مَعَ النّاس، فَإِذا دخلتَ عَلَيْهِ فعرَّفْه من أَنْت، فَإِن رَأَيْت مِنْهُ جَفْوةً أَوْ نبوة فاغتفرْها وَأعْرض عَنْهَا، فَإنَّك ستصيبُ مِنْهُ عشْرين ألف دِينَار سوى مَا تصيب من غَيره، فخرجتُ حَتَّى قدمت صنعاء، فَفعلت جَمِيع مَا أَمرنِي بِهِ ودخلتُ عَلَيْهِ بِإِذن عَامَ، فَإِذا أَنَا بِهِ قَاعِدا وَحده وَإِذا بِرَجُل جهم الْوَجْه مختضب بِالسَّوَادِ وَالنَّاس سِماطان قيام، فَأَقْبَلت حَتَّى سلّمت عَلَيْهِ فردّ السّلام، فَقَالَ: من أَنْت؟ فَأَخْبَرته بنسبي، فصاح: لَا وَالله، مَا أُرِيد أَن تَأْتُونِي، ولَبَابُ أميرِ الْمُؤمنِينَ أَعُود عَلَيْكُمْ من بَابي، فَقلت لَهُ: عَلَى رسلك، أَنَا أسْتَغْفر اللَّه من حَسَن الظَّن بك، وانصرفت من عِنْدَهُ، فأدركني رَجُل من أَهْلَ الْبَلَد فأخبرتُه خبري، فَقَالَ: قَدْ عَوَّضَك اللَّه خَيْرًا ممّا فاتك، ثُمَّ بعث غُلَاما فَأَتَاهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار فَدَفعهَا إِلَيّ، وسألني عَمَّا أحتاج إِلَيْهِ من الْكسْوَة فكتبتها لَهُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْعشَاء دَخَلَ إِلَى صَاحب الْمنزل فَقَالَ: هَذَا الْأَمِير معن بْن زَائِدَة يدْخل إِلَيْكَ، فَلَمّا دَخَلَ أكبِّ عَلَى رَأْسِي ويدي، ثمَّ قَالَ: سَيِّدي وَابْن سادتي اعذرني فَإِنِّي أعرف مَا أداري، فَلَمَّا قر قراره أعلمتُه بِالْكتاب الَّذِي معي من أبي عَبْد اللَّه فَقبله وقرأه، ثُمَّ أَمر لي بِعشْرَة آلَاف دِينَار، ثمَّ قَالَ: أَي شَيْء أقدمك؟ فَأَخْبَرته خبري، فَأمر لي بِعشْرَة آلَاف دِينَار أُخْرَى وبعشرة من الْإِبِل وَثَلَاث نَجَائِب برجالها وكساني ثَلَاثِينَ وَشْيًا وَغَيرهَا وَقَالَ لي: جُعلت فدَاك، إِنِّي أَظن أَبَا عَبْد اللَّه متطلِّعًا إِلَى قُدومك، فَإِن رَأَيْت أَن تُخِفَّ الوقْفة وتمضي فعلتَ، وودَّعَني، فتلومت بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا، وقضيتُ حوائجي ثُمَّ خرجت حَتَّى قدمت مكَّة موافيًا لعُمْرة شهر رَمَضَان، فَإِنِّي لفي(1/131)
الطّواف حَتَّى لقيتُ مَعْتبًا مَوْلَى أَبِي عَبْد اللَّه، فسلّمت عَلَيْهِ وَسَأَلته، فَقَالَ: هُوَ ذَا أَبُو عَبْد اللَّه قَدْ وافى وَإِن أحْدَث مَا ذَكَرك البارحة، فمضيتُ حَتَّى أَتَيْته فَسلمت عَلَيْهِ وساءلته وَقبلت رَأسه، فَقَالَ: تركت مَعْنًا؟ فَأَخْبَرته بسلامته، فَقَالَ: أصبتَ مِنْهُ بَعْدَ مَا جَبَهك وَصَاح عَلَيْكَ عشْرين ألفا سوى مَا لقِيت من غَيره؟ قلت: نَعَمْ، جعلت فدَاك. قَالَ: فانَّ مَعَنا جمَاعَة من أَصْحَابك ومواليك وَقد كَانُوا يدعونَ لَك ويذكرونك فَمر لَهُم بِشَيْء، قلت: ذَاك إِلَيْكَ جعلني فدَاك، قَالَ: فأعطهم مَا
رَأَيْت، كم فِي نَفسك أَن تُعْطِيَهم؟ فَقلت: ألف دِينَار، قَالَ: إِذَا تُجْحِف نَفسك، وَلَكِن فَرِّق عَلَيْهِمْ خمس مائَة دِينَار، وَخمْس مائَة دِينَار لمن يعتريك بِالْمَدِينَةِ، فَفعلت ذَلِك، فَقدمت الْمَدِينَة واستخرجت عَيْني بِذِي الْمَرْوَة وبالمضيق بالسُّقْيا، وبنيتُ منازلي بِالبَقِيعِ، فتَرَوْني أُؤدِّي شُكْرَ أَبِي عَبْد اللَّه وَولده أبدا، وضممتُ إليَّ أَهلِي ورزقتُ مِنْهَا عَليًّا والحَسَن أبْنَيَّ وَالْبَنَات.، كم فِي نَفسك أَن تُعْطِيَهم؟ فَقلت: ألف دِينَار، قَالَ: إِذَا تُجْحِف نَفسك، وَلَكِن فَرِّق عَلَيْهِمْ خمس مائَة دِينَار، وَخمْس مائَة دِينَار لمن يعتريك بِالْمَدِينَةِ، فَفعلت ذَلِك، فَقدمت الْمَدِينَة واستخرجت عَيْني بِذِي الْمَرْوَة وبالمضيق بالسُّقْيا، وبنيتُ منازلي بِالبَقِيعِ، فتَرَوْني أُؤدِّي شُكْرَ أَبِي عَبْد اللَّه وَولده أبدا، وضممتُ إليَّ أَهلِي ورزقتُ مِنْهَا عَليًّا والحَسَن أبْنَيَّ وَالْبَنَات.
مُصْعَب بْن الزُّبَيْر يتَمَثَّل عَن هزيمته ببيتي شعر
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع، أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَا زبير بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن حَمْزَة، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِيه، قَالَ: لمّا تَفَرَّق عَنْ مُصْعَب جُنده، قَالَ: لَهُ أوِدَّاؤُه: لَو اعتصمتَ بِبَعْض القلاع وكاتبتَ من قَدْ بَعدُ عَنْكَ من أوليائك كَمثل الْمُهلب وَابْنه الأشتر وَفُلَان وَفُلَان فَإِذا اجْتمع لَك من تَرْضاه لقيتَ الْقَوْم بأكفائهم، فقد ضَعُفت جدا واختلَّ أَصْحَابك. فَلبس سلاحه وَخرج فِيمَن بَقِي مَعَه من أَصْحَابه وَهُوَ يتَمَثَّل بِشعر قيل إِنَّه لِطَريف العَنْبري، وَكَانَ طريفُ الْعَنْبَري يُعَدُّ بِأَلف فَارس من فرسَان خُرَاسَان:
علام تقولُ السّيف يُثْقِلُ عَاتِقي ... إِذَا أَنَا لَمْ أركبْ بِهِ الْمركب الصَّعْبا
سأحْمِيكُمُ حَتَّى أموتَ وَمن يَمُتْ ... كَرِيمًا فَلا لَوْمٌ عَلَيْهِ وَلَا عَتْبا
جمع القلعة قلاع خلافًا لِابْنِ الأَعْرَابِي
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر، أَنَّهُ قيل لمصعب: لَو اعتصمت بِبَعْض القلاع وَهِي جمع قلعة، وَهَذَا صَحِيح فِي الْقيَاس وَمثله فِي قِيَاس الْعَرَبيَّة رَقَبَة ورقاب وَعقبَة وعقاب فِي أحرف كَثِيرَة، وَقد جَاءَ فِي الْأَخْبَار عَنِ السّلف الَّذين كَلَامهم حُجة فِي اللُّغَة لسبقهم اللّحن، وَزعم ابْن الأَعْرَابِي أنّ القلعة لَا تجمع قلاعًا، وَالَّذِي قَالَه خطأ من جِهَة السماع وَالْقِيَاس مَعًا، وَقد حكى القلاع فِي جمع القلعة عددٌ من عُلَمَاء اللغويين مِنْهُم أَبُو زَيْد وَغَيره.
نديم ينْتَقم من صَاحب بَيت المَال
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن مُحَمَّد الرُّومِي، قَالَ: كَانَ عَلَى بَيت مَال المعتصم رجلٌ من أَهْلَ خُرَاسَان يكنى أَبَا حَاتِم، فَخرجت لي جائزةٌ فمطلني بهَا، وَكَانَ ابْنه قَد اشْترى جَارِيَة مغنية تسمّى قَاسم بستين ألف دِرْهَم، قَالَ: فَعمِلت فِيهِ شعرًا(1/132)
وجلستُ ألاعب المعتصم بالشِّطْرِنج فِي يَوْمَ الْخمار، وَكَانَ يشرب يَوْمَا ويستريح يَوْمَا فيلعب فِيهِ وَنَلْعَب بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجعلت أنْشد:
لتنصفنِّي يَا أَبَا حَاتِم ... أَوْ لتصيرنَّ إِلَى حاكِمِ
فتعطِيَ الحقَّ عَلَى ذلةٍ ... بالرغم من أَنْفك ذَا الراغم
يَا سَارِقا مَال إِمَام الْهدى ... سَيظْهر الظُّلم عَلَى الظَّالِم
سِتِّينَ ألفا فِي شِرَا قَاسِمٍ ... من علٍ هَذَا الْملك الفَّئِمِ
فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الشّعْر؟ فتفازعت كَأَنِّي أنشدته سَاهِيا ولجلجت، فَقَالَ: أعده فَقتل: إِن رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُعفيني، وَإِنَّمَا أريدُ أَن يحرص عَلَى أَن يسمعهُ، فَقَالَ: أعده وَيلك، فأعده، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقتل: أَظن صَاحب بَيت المَال مطل بَعْض هَؤُلاءِ الشُّعَرَاء بِشَيْء لَهُ فَعمل فِيهِ هَذَا الشّعْر، قَالَ: فَمَا معنى قَاسم؟ قلت: جَارِيَة اشْتَرَاهَا ابْنه بستين ألف دِرْهَم، قَالَ: وَأرَانِي أَنَا الْملك النَّائِم صدق وَالله قَائِل هَذَا الشّعْر، وَالله لَو عَرفته لوصلته لصدقته، رَجُل مُمْلِق ولّيته بَيت المَال ليعيش برزقه مُنْذُ سنتَيْن، من أَيْنَ لِابْنِهِ هَذَا المَال؟ ثُمَّ قَالَ لإيتاخ: قيد صَاحب بَيت المَال وَابْنه حَتَّى تَأْخُذ مِنْهُمَا مِائَتي ألف دِرْهَم وولّ بَيت المَال غَيره.
حِكَم من كَلَام الْخَلِيل بْن أَحْمَد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن المَرْوَزِيّ بمرو، قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن أَكْثَم، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْر بْن شُمَيْل، قَالَ: سمعتُ الْخَلِيل بْن أَحْمَد يَقُولُ: التواني إِضَاعَة، والحزم بضَاعَة، والإنصاف رَاحَة، واللّجاج وَقَاحة.
وَمن كَلَام عليّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن زَكَرِيّا الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الهَيْثَم بْن عَبْد اللَّه الرمّاني، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَأْمُون، قَالَ: حَدَّثَنِي الرشيد، قَالَ: حَدَّثَنِي المهديُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَنْصُور عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدّه، عَنِ ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام: من الدَّهَاء حسنُ اللِّقَاء.
صُحْبَة لَطِيفَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنِ الْمُغيرَة بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي مَرْوَان بْن مُوسَى بْن عَبْد اللَّه الْمَدَنِيّ مَوْلَى عُثْمَان بْن عَفَّان، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْن جَعْفَر بْن أبي نمير مَوْلَى زُرَيْق، قَالَ: بَعَثَنِي عليّ بْن الْمهْدي من مصر إِلَى الرشيد هرون أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَى الْبَرِيد فلحقتُ شَيخا فِي طريقي عَلَى دَابَّة دميم، فَقَالَ لي: يَا هَذَا، إِن دَابَّتي هَذِهِ قَدْ أتعبتني فَهَل لَك أَن أسايرك وتحبس عليّ، فَإِن عِنْدِي وَالله ظَاهرا وَبَاطنا، قَالَ: قلت لَهُ: أفعل، قَالَ: فَقلت لَهُ يَوْمَا: أما ظاهرك فحُسْنُ محادثتكَ وظرفك،(1/133)
فَمَا باطنك؟ قَالَ أغَنيِّ وَالله أحسنَ غناء فِي الأَرْض، قَالَ: فغناني:
بِزَيْنَب ألمم قَبْلَ أَن يرحل الرَّكْب ... وقُلْ إنْ تَمَلّينَا فَمَا مَلّكِ القَلْبُ
قَالَ القَاضِي: الشّعْر لنصيب.
الْمجْلس الثَّامِن عَشْر
حَدِيث جَالس الكبراء
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن يحيى الجنبسي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَالِسِ الْكُبَرَاءَ، وَسَائِلِ الْعُلَمَاءَ، وَخَاطِبِ الْحُكَمَاءَ ".
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عبد الرَّحْمَن الجرجرائي، قَالَ: أَخْبَرَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَالِسُوا الْكُبَرَاءَ، وَخَالِطُوا الْحُكَمَاءَ، وَسَائِلُوا الْعُلَمَاءَ ".
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر إرشاد من النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إِلَى مُخَالطَة ذَوي الفَضْل فِي مخالطتهم ومجالستهم ومعاشرتهم، فحقيق عَلَى كلّ ذِي لب تقبل ذَلِكَ وَالرُّجُوع إِلَيْهِ، وَالْعَمَل عَلَيْهِ، فَفِيهِ امْتِثَال أَمر النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَخْذ بسنته والتأدب بأدبه، وَفِيه السَّلامَة من مَعَرَّة الْجُهال، ومضرة الضلال، واكتساب الْآدَاب والفوائد، وحيازة الْمصَالح والمراشد، وحُسن الثَّنَاء والمحامد، والأمن فِي العواقب، والتنزه عَنِ المعايب، ونسأل اللَّه تَوْفِيقًا لمّا نغتبط بِهِ فِي ديننَا ودنيانا وَآخِرَتِنَا.
عَبْد الْملك يُوَجه نظر الحَجَّاج إِلَى إسرافه وردّ الحَجَّاج عَلَيْهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عبِّيَّة، قَالَ: لمّا قتل الحَجَّاجُ ابنَ الْأَشْعَث وصَفَتْ لَهُ العراقُ قدَّم قيسا واتسع لَهُ فِي إِنْفَاق الْأَمْوَال، فَكتب إِلَيْهِ عَبْد الْملك: أما بَعْدَ، فقد بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ أنَّكَ تنفقُ فِي الْيَوْم مَا لَا ينفقُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْأُسْبُوع، وتنفقُ فِي الْأُسْبُوع مَا لَا يُنْفِقهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الشَّهْر، عَلَيْكَ بتقوى اللَّه فِي الْأَمر كُله وَكن لوعيده تخشى وتضرع، ووفر خراج الْمُسلمين وفيأهم، وَكن لَهُمْ حصنًا يجير وَيمْنَع، فكب إِلَيْهِ الحَجَّاج:
لعمري لَقَدْ جَاءَ الرَّسُول بكتبكم ... قَرَاطِيس تملي ثُمَّ تطوى فتطبع
كتاب أَتَانِي فِيهِ لين وغلظة ... وذكّرت والذكرى لذِي اللب تَنْفَع(1/134)
وَكَانَت أُمُور تعتريني كَثِيرَة ... فأرضخ أَوْ أعتل حينا فأمنع
إِذَا كنت سَوْطًا من عَذَاب عَلَيْهِمْ ... وَلم يَك عِنْدِي فِي الْمَنَافِع مطمع
أيرضى بِذَاكَ النّاس أم يسخطونه ... أم أَحْمد فيهم أم ألام فأقدع
وَكَانَت بلادًا جِئْتهَا حَيْث جِئْتهَا ... بهَا كلّ نيران الْعَدَاوَة تلمع
فقاسيت فِيهَا مَا علمت وَلم أزل ... أصارع حَتَّى كدت بِالْمَوْتِ أصرع
فكم أرجفوا من رَجْفَة قَدْ سَمعتهَا ... وَلَو كَانَ غَيْرِي طَار ممّا يروع
وَكنت إِذَا هموا بِإِحْدَى هَنَاتِهم ... حَسَرت لَهُمْ رَأْسِي وَلَا أتقنع
فَلَو لَمْ يذد عني صَنَادِيد مِنْهُم ... تقسّم أعضائي ذئاب وأضبع
فَكتب إِلَيْهِ عَبْد الْملك: اعْمَلْ بِرَأْيِك.
الحَجَّاج يُؤمن النّاس إِلَّا أَرْبَعَة
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن الْحَسَن بْن مُوسَى، عَنْ عَبْد اللَّه بْن حمد التَّيْميّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حَفْص، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن فضَالة الزهْرَانِي، قَالَ: نَادَى مُنَادِي الحَجَّاج بْن يُوسُف يَوْمَ رستقا باذ: آمن النّاس كلهم إِلَّا أَرْبَعَة: عبد الله بن الْجَارُود وع بن فضَالة وَعِكْرِمَة بن ربعي وَعبد اللَّه بْن زِيَاد بْن ظبْيَان، قَالَ: فَأتى بِرَأْس عَبْد اللَّه بْن الْجَارُود فَلم يصدق فَرحا بِهِ، وَقَالَ: عمموه لي أعرفهُ فَإِنِّي لَمْ أره قَطّ إِلَّا معممًا فعمم لَهُ فَعرفهُ، فَأمر الْمُنَادِي فَنَادَى: أَمن النّاس إِلَّا ثَلَاثَة: عَبْد اللَّه بْن فضَالة وَعبيد اللَّه بْن زِيَاد بْن ظبْيَان وَعِكْرِمَة بْن ربعي، فَأَما عبيد الله بن زِيَاد فَإِنَّهُ انْطلق إِلَى عمان فَأَصَابَهُ الفالج بهَا فَمَاتَ، وأمّا عِكْرمة ابْن ربعي فَإِنَّهُ لحقته خيل الحَجَّاج فِي بَعْض سِكَك المربد فعطف عَلَيْهِمْ فَقتل مِنْهُم نيفًا وَعشْرين رَجُلا ثُمَّ قَتَلُوهُ، وأمّا عَبْد اللَّه بْن فضَالة فَإِنَّهُ أَتَى خُرَاسَان فَلم يزل بهَا حَتَّى وُلّي الْمُهلب خُرَاسَان فَأمر بِأَخْذِهِ حَيْث أَصَابَهُ، وَقيل لَهُ: أكِنّ ذَلِكَ وَلَا تبده فيحذر ويحرز فاحرص عَلَى أسره دون قَتله، قَالَ: فَبعث الْمُهلب ابْنه حبيبا أَمَامه فساق من سوق الأهواز إِلَى مَرْو عَلَى بغلة شهباء فِي سبْعٍ عشرَة لَيْلَة فَأَخذه غارا بمرور وَهُوَ لَا يشْعر، ثُمَّ كتب إِلَى الحَجَّاج يُعلمهُ ذَلِكَ، فجَاء الْمُغيرَة بْن الْمُهلب إِلَى منزل حَبَّة ابْنَة الفَضْل، امْرَأَة عَبْد اللَّه بْن فضَالة وَهِي ابْنَة عَم عَبْد اللَّه، فَأرْسل إِلَيْهَا أنَّ حبيبا قَدْ أَخذ عَبْد اللَّه، وَقد كتب إِلَى الحَجَّاج يُعلمهُ بذلك، فَإِن كَانَ عنْدك خَير فشأنك وعولي عليّ من المَال مَا بدا لَك، فَأرْسلت إِلَيْهِ: لَا وَلَا كَرَامَة، تَقْتُلُونَهُ وآخذ مِنْكُم المَال، هَذَا مَا لَا يكون، فتحولت إِلَى منزل أَخِيهَا لأمها خولي بْن مَالك الرَّاسِبِي وَأرْسلت إِلَى بني سَعْد فاشتُرى لَهَا بَاب(1/135)
عَظِيم وألقته عَلَى الخَنْدَق لَيْلًا ثُمَّ جَازَت عَلَيْهِ فَغشيَ عَلَيْهَا، فَلَمّا أفاقت قَالَتْ: إِنِّي لَمْ أكن أتعب، فَمَتَى أصابني هَذَا فشدوني وثاقًا ثُمَّ سِيرُوا بِي، فَخرجت مَعَ خَادِمهَا وغلامها ودليلها، لَا يَعْلَمُ بهَا أحد، فسارت حَتَّى دخلت دمشق عَلَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان، فَأَتَت أم أيّوب بِنْت عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عَفَّان، وَكَانَت أمهَا بِنْت ذُؤَيْب بْن حلحلة الْخُزَاعِيّ، قَالَتْ: يَا أم أَيُّوب قصدتك لمر بهظني وغم كظمني وأعلمتها الْخَبَر وقصت عَلَيْهَا الْقِصَّة، فَقَالَت أم أَيُّوب: قَدْ: كنت أسمع أَمِير الْمُؤمنِينَ يكثر ذَكَرَ صَاحبك وَيظْهر التلظي عَلَيْهِ، قَالَتْ: وَأَيْنَ رحلتي إِلَيْكَ؟ قَالت: سأدخلك مدخلًا وأجلسك مَجْلِسا إِن شفّعت فَفِيهِ، وَإِن رددت فَلا تنصبي، فَلا شَفَاعَة لَك بعده فأجلستها فِي مجلسها الَّذِي كَانَتْ تجْلِس فِيهِ لدُخُول عَبْد الْملك لَيْلًا، وَجَلَست أم أيّوب قَرِيبا مِنْهَا فَقَالَت لَهَا: إِذَا دَخَلَ فشأنك، فَدخل عَبْد الْملك لَيْلًا مغترًا، فَلَمّا دنا أخذت بِجَانِب ثَوْبه ثُمّ قَالَت: هَذَا مَكَان العائذ بك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَفَزعَ عَبْد الْملك وَأنكر الْكَلَام، فَقَالَت أم أيّوب: مَا يفزعك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من كَرَامَة سَاقهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ! فَقَالَ: عذت معَاذًا، فَمن أَنْت؟ قَالَتْ: تُؤَمن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من جئْتُك فِيهِ من كَانَ من خَلْق اللَّه تَعَالَى مِمَّن تعرف أَوْ لَا تعرف، مِمَّن عظم ذَنبه لديك أَوْ صغر شاميًا أَوْ عراقيًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ من الْآفَاق؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ آمن، قَالَتْ: بِأَمَان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أمانك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمن هُوَ أيتها الْمَرْأَة؟ قَالَتْ: عَبْد اللَّه بْن فضَالة، قَالَ: أرسلي ثوبي أنبئك عَنْهُ، قَالَتْ: أغدرًا يَا بني مَرْوَان؟ قَالَ: لَا، أرسلي ثوبي أحَدثك ببلائك عِنْدَهُ، وَهُوَ آمن لَك ولمعاذك قَالَتْ: فَحَدثني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببلائك عَنده، قَالَ: ألم تعلمي أَنِّي وليته السوس وجندي سَابُور وأقطعته كَذَا وَكَذَا وفرضت لَهُ كَذَا ونوهت بِذكرِهِ وَرفعت من قدره؟ قَالَتْ: بلَى وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَفلا أحَدثك ببلائه عنْدك؟ قَالَ: بلَى، قَالَتْ: أتعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن دَاره هدمت ثَلَاث مَرَّات بسببك لَا يسْتَتر من السَّمَاء بِشَيْء، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: أفتعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أنَّكَ كتبت إِلَى وُجُوه أَهْلَ الْبَصْرَة وأشرافها وكتبت إِلَيْهِ فَلم يكن مِنْهُم أحد أجابك وَلَا أطاعك غَيره، قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: أفتعلم أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ زلته سَيْفا لَك عَلَى أعدائك وسلمًا وبساطًا لأوليائك قَالَ: نَعَمْ، حَسبك قَدْ أجبْت وأبلغت، قَالَتْ: أفيذهب يَوْمَ من إساءته بِصَالح أَيَّامه وطاعته وَحسن بلائه، قَالَ: لَا، هُوَ آمن، قَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه الدما وَإنَّهُ الحَجَّاج وَإنَّهُ إِن رَآهُ قَتله، قَالَ: كَلا، قَالَتْ: فالكتاب مَعَ الْبَرِيد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَكتب لَهَا كتابا مؤكدا: إياك وإياه أحسن جائزته
ورفده وخل سَبيله، ثُمَّ وَجه بِهِ مَعَ الْبَرِيد، ثمَّ أقبل عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا أَنْت مِنْهُ؟ قَالَتْ: امْرَأَته وَابْنَة عَمه، قَالَ: فَضَحِك وَقَالَ: أَيْنَ نشأت، قَالَتْ: فِي حجر أَبِيهِ، قَالَ: فوَاللَّه لأَنْت أعرب مِنْهُ وأفصح لِسَانا، فَهَل مَعَه غَيْرك؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، قَالَ: النميري قَالَتْ: نَعَمْ، وَكَذَا وَكَذَا جَارِيَة، قَالَ: فَأَنا أوليك طَلاقهَا وَعتق جواريه، قَالَتْ: بل تهنيه نِسَاءَهُ كَمَا هنأته دَمه، فَأقبل عَلَى أم أَيُّوب فَقَالَ لَهَا: يَا أم أيّوب لَا نسَاء إِلَّا بَنَات الْعم. ثُمَّ قَالَ: أقيمي عِنْدَ أم أَيُّوب حَتَّى يَأْتِيك الْكتاب بمحبتك إِن شَاءَ اللَّه، وقدِم الْكتاب وَقد قَدِمَ بِهِ على الْحجَّاج من خُرَاسَان، فأقامه للنَّاس فِي سَرَاوِيل وَقد كَانَ نزع ثِيَابه قَبْلَ ذَلِكَ وَعرضه عَلَى النّاس فِي الْحَدِيد ليعرفوه، فَلَمّا أَمْسَى دَعَا بِهِ الحَجَّاج فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: أتأذن لي فِي الْكَلَام؟ قَالَ: لَا كَلَام سَائِر الْيَوْم، قَالَ: فَكَسَاهُ وَحمله وَأَجَازَهُ وخلى سَبيله، وَانْصَرف إِلَى أَهله فَسَأَلَهُمْ عَن حبه، فَأخْبر بأمرها وَقيل لَهُ: مَا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهت، ثُمَّ بلغه مَا صنعت، فَكتب إِلَيْهَا: إِنَّك قد صنعت مَا لم تصنع أُنْثَى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك النّاس معي، فَلم تعلمه حَتَّى قدمت لَيْلًا وَهُوَ عِنْدَ ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، فَقَالَت: لَا وَالله لَا يُؤذن بِي اللَّيْلَة، فَلَمّا أصبح، أخبر بمكانها فَأَتَاهَا. رفده وخل سَبيله، ثُمَّ وَجه بِهِ مَعَ الْبَرِيد، ثمَّ أقبل عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا أَنْت مِنْهُ؟ قَالَتْ: امْرَأَته وَابْنَة عَمه، قَالَ: فَضَحِك وَقَالَ: أَيْنَ نشأت، قَالَتْ: فِي حجر أَبِيهِ، قَالَ: فوَاللَّه لأَنْت أعرب مِنْهُ وأفصح لِسَانا، فَهَل مَعَه غَيْرك؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، قَالَ: النميري قَالَتْ: نَعَمْ، وَكَذَا وَكَذَا جَارِيَة، قَالَ: فَأَنا(1/136)
أوليك طَلاقهَا وَعتق جواريه، قَالَتْ: بل تهنيه نِسَاءَهُ كَمَا هنأته دَمه، فَأقبل عَلَى أم أَيُّوب فَقَالَ لَهَا: يَا أم أيّوب لَا نسَاء إِلَّا بَنَات الْعم. ثُمَّ قَالَ: أقيمي عِنْدَ أم أَيُّوب حَتَّى يَأْتِيك الْكتاب بمحبتك إِن شَاءَ اللَّه، وقدِم الْكتاب وَقد قدم بِهِ على الْحجَّاج من خُرَاسَان، فأقامه للنَّاس فِي سَرَاوِيل وَقد كَانَ نزع ثِيَابه قَبْلَ ذَلِكَ وَعرضه عَلَى النّاس فِي الْحَدِيد ليعرفوه، فَلَمّا أَمْسَى دَعَا بِهِ الحَجَّاج فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: أتأذن لي فِي الْكَلَام؟ قَالَ: لَا كَلَام سَائِر الْيَوْم، قَالَ: فَكَسَاهُ وَحمله وَأَجَازَهُ وخلى سَبيله، وَانْصَرف إِلَى أَهله فَسَأَلَهُمْ عَن حبه، فَأخْبر بأمرها وَقيل لَهُ: مَا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهت، ثُمَّ بلغه مَا صنعت، فَكتب إِلَيْهَا: إِنَّك قد صنعت مَا لم تصنع أُنْثَى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك النّاس معي، فَلم تعلمه حَتَّى قدمت لَيْلًا وَهُوَ عِنْدَ ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، فَقَالَت: لَا وَالله لَا يُؤذن بِي اللَّيْلَة، فَلَمّا أصبح، أخبر بمكانها فَأَتَاهَا.
خبر الحَجَّاج بْن عَبْد اللَّه الثَّعْلَبِيّ مَعَ عَبْد الْملك
حَدَّثَنَا عدد من الشُّيُوخ مِنْهُم عَبْد الْوَاحِد أَبُو عُمَر هَذَا الْخَبَر عَلَى لَفظه، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَعْلَب، عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَبِيب، قَالَ: أَخْبرنِي زبير، قَالَ أَخْبرنِي عمي، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن الحَجَّاج الثَّعْلَبِيّ من أَشد النّاس عَلَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان فِي طَاعَة ابْن الزُّبَيْر مَعَ القيسية، فَلَمّا قتل ابْن الزُّبَيْر أرسل عَبْد الْملك يطْلب عَبْد اللَّه بْن الحَجَّاج فَلم يظفر بِهِ، فَلَمّا خَافَ عَبْد اللَّه بْن الحَجَّاج أَن يظفر بِهِ أقبل فَدخل عَلَى عَبْد الْملك فِي الْيَوْم الَّذِي يطعم فِيهِ أَصْحَابه فَمثل بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ، قَالَ:
منع الْفِرَار فَجئْت نَحْوك هَارِبا ... جَيش يجر ومقنب يتلمع
فَقَالَ: أَي الأخابث أَنْت؟ فَقَالَ:
ارْحَمْ أصيبيتي هُديت فَإِنَّهُم ... حَجَل تدرج بالشّرِبَّة جوعُ
فَقَالَ: أجاع اللَّه بطونهم، فَقَالَ:
مَال لَهُمْ فِيمَن يظنّ جمعته ... يَوْمَ القليب فحيز عَنْهُمْ أجمع
فَقَالَ: أَحْسبهُ كسب سوء، فَقَالَ:
أدنوا لترحمني وَتقبل تَوْبَتِي ... وأراك تدفعني فَأَيْنَ المدفع
قَالَ: إِلَى النَّار، فَقَالَ:
ضَاقَتْ ثِيَاب الملبسين ونفعهم ... عني فألبسني فثوبك أوسع
قَالَ: فَنزع مطرفا كَانَ عَلَيْهِ فطرحه عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: آكل؟ قَالَ: كلّ. فَلَمّا وضع يَده عَلَى الطَّعَام قَالَ: أمنت وَرب الْكَعْبَة، قَالَ: كنت من كنت إِلَّا عَبْد اللَّه بْن حجاج، قَالَ: فَأَنا عَبْد اللَّه بْن حجاج، قَالَ: أولى لَك.
وَقد روى لَنَا هَذَا الْخَبَر عَنْ طَرِيق آخر، وَفِيه: أنَّ عَبْد اللَّه قَالَ لَهُ: لَا سَبِيل لَك إِلَى(1/137)
قَتْلِي، قَدْ جَلَست فِي مجلسك وأكلت طَعَامك ولبست من ثِيَابك.
من جود خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص يَعْنِي النَّسَائيّ، قَالَ: وقرأت فِي كتاب عَنْ عَبْد الْملك بن قريب الْأَصْمَعِي، قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِي عَلَى خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي، فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، إِنِّي قَد امتدحتك ببيتين وَلست أنشدكهما إِلَّا بِعشْرَة آلَاف وخادم، فَقَالَ لَهُ خَالِد: قل. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَزِمت نعم حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تكن ... سَمِعت من الْأَشْيَاء شَيئًا سوى نَعَمْ
وَأنْكرت لَا حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تكن ... سَمِعت بهَا فِي سالف الدَّهْر والأمم
فَقَالَ خَالِد بْن عَبْد اللَّه: يَا غُلَام! عشرَة آلَاف وخادمًا يحملهَا.
وَدخل عَلَيْهِ أَعْرَابِي: فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قلت فِيك شعرًا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أخالد إِنِّي لَمْ أزرك لحَاجَة ... سوى أنني عافٍ وَأَنت جواد
أخالد إِن الْأجر وَالْحَمْد حَاجَتي ... فَأَيّهمَا أَتَانِي فَأَنت عماد
فَقَالَ لَهُ خَالِد بْن عَبْد اللَّه: سل يَا أَعْرَابِي، قَالَ: وَقد جعلت الْمَسْأَلَة إليَّ أصلح اللَّه الْأَمِير؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مائَة ألف دِرْهَم، قَالَ: أكثرت يَا أَعْرَابِي قَالَ: فأحطك أصلح اللَّه الْأَمِير قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَدْ حططتك تسعين ألفا، قَالَ لَه خَالِد: يَا أَعْرَابِي مَا أَدْرِي من أَي أمريك أعجب؟ فَقَالَ: لَهُ: أصلح اللَّه الْأَمِير: إِنَّك لمّا جعلت الْمَسْأَلَة إِلَى سَأَلتك عَلَى قدرك وَمَا تستحقه فِي نَفسك، فَلَمّا سَأَلتنِي أَن أحط حططت عَلَى قدري وَمَا أستأهله فِي نَفسِي، فَقَالَ لَه خَالِد: وَالله يَا أَعْرَابِي لَا تغلبني، يَا غُلَام، مائَة ألف، فَدَفعهَا إِلَيْهِ.
شعر لبشار بْن برد فِي قينة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم المَوْصِليّ، قَالَ: كَانَتْ بِالْبَصْرَةِ لرجل من آل سُلَيْمَان بْن عليّ جَارِيَة، وَكَانَت محسنة بارعة الظّرْف وَالْجمال، وَكَانَ بشار بْن برد صديقا لمولاها ومداحا لَهُ، فَحَضَرَ مَجْلِسه وَالْجَارِيَة نغنيهم، فَشرب مَوْلَاهَا وسكر ونام ونهض للانصراف من كَانَ بالحضرة، فَقَالَت الْجَارِيَة لبشار: أُحِبَّ أَن نذْكر مَجْلِسنَا هَذَا فِي قصيدة مليحة وَترسل بهَا إليَّ عَلَى أَلا تذكر فِيهَا اسْمِي وَاسم سَيِّدي، فَقَالَ بشار وَبعث بهَا مَعَ رَسُوله إِلَيْهَا:
وَذَات دلّ كَأَن الشَّمْس صورتهَا ... باتت تغني عميد الْقلب سكرانا
إِن الْعُيُون الَّتِي فِي طرفها حور ... قتلننا ثُمَّ لَمْ يحيين قَتْلَانَا
فَقلت: أَحْسَنت يَا سؤلي وَيَا أملي ... فأسمعيني جَزَاك اللَّه إحسانا(1/138)
يَا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا سَاكن الريان من كَانَا
قَالَتْ: فَهَلا فدتك النَّفس أحسن من ... هَذَا لمن كَانَ صب الْقلب حيرانا
يَا قوم أُذُنِي لبَعض الْحَيّ عاشقة ... وَالْأُذن تعشق قبل الْعين أَحْيَانًا
فَقلت: أَحْسَنت أَنْت الشَّمْسُ طالعة ... أضرمت فِي الْقلب والأحشاء نيرانا
فأسمعينا غناء مطربًا هزجًا ... يزِيد حبا محبا فِيك أشجانا
يَا لَيْتَني كنت تفاحًا تمخضه ... وَكنت من قضب الريحان ريحانا
حَتَّى إِذَا وجدت ريحي فأعجبها ... وَكنت فِي خلْوَة مثلت إنْسَانا
فحركت عودهَا ثُمَّ انْثَنَتْ طَربا ... تبدي الترنم لَا تخفيه كتمانا
أَصبَحت أطوع خَلْق اللَّه كلهم ... نفسا لأكْثر خَلْقٌ اللَّه عصيانا
فَقلت: أطربينا يَا زين مَجْلِسنَا ... فغننا، أَنْت بِالْإِحْسَانِ أولانا
فغنت الشّرْب صَوتا مؤنقًا رصفا ... يُذكي السرُور ويبكي الْعين أَحْيَانًا
لَا يقتل اللَّه من دَامَت مودته ... وَالله يقتل أَهْلَ الْغدر من كَانَا
قَالَ القَاضِي: قَول بشار فِي هَذَا الشّعْر: حَتَّى إِذا وددت ريحي فأعجبها، عَلَى لفظ التَّذْكِير وَالرِّيح مُؤَنّثَة، وَقد يكن فعل هَذَا فِي ضَرُورَة الشّعْر وَجعل الضَّمِير الَّذِي فِي - فأعجبها - عَائِدًا عَلَى الرّيح وَهِي مُؤَنّثَة، إِمَّا لِأَن تأنيثها لَيْسَ بحقيقي، وَإِمَّا لأنَّه أَرَادَ بقوله: ريحي نسيمي وَنَحْوه، وَقد جَاءَ فِي الشّعْر مثله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَلا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدَقَهَا ... وَلا أَرض أبقل أبقالها
وَقد اختف النحويون فِي الْفرق بَيْنَ التَّأْنِيث الْحَقِيقِيّ والتأنيث الَّذِي هُوَ غَيْر حَقِيقِيّ فَقَالَ بَعضهم: التَّأْنِيث الَّذِي هُوَ حَقِيقِيّ مَا لَا يُطلق لَفظه عَلَى مذكّره لاخْتِصَاص مؤنثه بِلَفْظِهِ كامرأة وناقة، وأمّا التَّأْنِيث الَّذِي لَيْسَ بحقيقي، فكقولهم شَاة للذّكر من هَذَا النَّوْع وَالْأُنْثَى، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
فَلَمّا أَضَاء الصبحُ قَامَ مبادرًا ... وَكَانَ انطلاق الشَّاة من حَيْث خيما
قيل إِن الشَّاة هَا هُنَا الثور، وَقَوله دابَّة وحية لذكرهما وأنثاهما، وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيّين، فَأَما البصريُّون فيَروْن الْفَصْل بَيْنَ هذَيْن التأنيثين ومقابلهما من التذكيرين من قَبْلَ اخْتِلَافهمَا من جِهَة الْفروج الْمُخْتَلفَة فيهمَا، كَرجل وَامْرَأَة وجمل وناقة وفتى وفتاة، وَفِي تذكير بشار الْمُضمر فِي قَوْله فأعجبها وجهٌ آخر حَسَن لَيْسَ فِيهِ مَا فِي الْوَجْه الَّذِي قدمنَا ذكره من الضَّرُورَة، وَهُوَ جَائِز مطّرد فِي النثر وَالشعر، وَلم أر أحدا مِمَّن يتعاطى هَذَا الشَّأْن من أَهْلَ الْعلم وَالْأَدب أَتَى بِهِ وَهُوَ أَن يكون لمّا قَالَ: وجدت ريحي فَلم يستو لَهُ التَّأْنِيث(1/139)
مَتَى رد الضَّمِير إِلَى الرّيح لِئَلَّا ينكسر الشّعْر وَيفْسد الْوَزْن رده إِلَى الْوُجُود، كَأَنَّهُ قَالَ: وجدت ريحي فأعجبها وجود ريحي، وَاعْتمد عَلَى دلَالَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ وجدت وعَلى الْمصدر الَّذِي هُوَ وجود، وَهَذَا صَحِيح مستفيض فِي كَلَام الْعَرَب، وَقَوْلهمْ: من كذب كَانَ شَرّا لَهُ، فَدلَّ قَوْلهم كذب عَلَى الْكَذِب، وَقد قَالَ اللَّه تَعَالَى جده: " وَلَا تحسبن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بل هُوَ شَرّ لَهُم " الْمَعْنى: لَا تحسبن الْبُخل، فدلّ يَبْخلُونَ عَلَى الْبُخْل، وَمن هَذَا الْبَاب: قَول الشَّاعِر:
إِذَا نهِي السّفيِهُ جَرى إِلَيْهِ ... وخَالَف والسّفِيهُ إِلَّا خِلافِ
أَرَادَ جرى إِلَى السّفَه، فَدلَّ قَوْله السفية عَلَى السَّفه، وَهَذَا بَاب وَاسع جدا.
عُبَيْد اللَّه بْن يحيى بْن خاقَان يتنبأ بالأحداث
حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم، أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ أَحْمَد بْن إِسْرَائِيل، قَالَ: صِرْتُ يَوْمَا إِلَى عُبَيْد اللَّه بْن يحيى بْن خاقَان فَلَمّا صرت فِي صحن الدَّار رَأَيْته مُضْطَجِعًا عَلَى مُصَلاه مُوليًا ظَهره بَاب مَجْلِسه، فهممتُ بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ لي الْحَاجِب: أُدْخُلْ فَإِنَّهُ منتبه، فَلَمّا سمع حِسِّي جلس، فَقلت: حَسِبْتُك نَائِما، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي كُنت مفكراً، قلت: فيماذا أعزَّك اللَّه؟ قَالَ: فكرتُ فِي أَمر الدُّنْيَا وصلاحها فِي هَذَا الْوَقْت واستهوائها ودُرُورِ الْأَمْوَال وأمنِ السّبيل وعِزِّ الْخلَافَة فعلمتُ أَنَّهَا أمكر وَأنكر وأغدر من أَن يَدُوم صَفَاؤها لأحد، قَالَ: فدعوتُ لَهُ وانصرفت، فَمَا مَضَت أَرْبَعُونَ لَيْلَة مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم حَتَّى قتل المتَوَكل وَنزل بِهِ من النَّفْي مَا نزل.
وتنبؤ آخر للْإِمَام أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ
حَدثنِي بعض شُيُوخنَا: أنَّ بعضَهم حَدثهُ: أَنَّهُ لمّا كَانَ من خلع الْمُقْتَدِر فِي الْمرة الأولى مَا كَانَ، وبُويع عَبْد اللَّه بْن الْمُعتزِّ بالخلافة، دَخَلَ عَلَى شَيخنَا أبي جَعْفَر الطَّبَريّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: مَا الخَبر، وَكَيف تركتَ النّاس؟ أَوْ نَحْو هَذَا من القَوْل، فَقَالَ لَهُ: بُويع عَبْد اللَّه بْن المعتز، قَالَ: فَمَنْ رُشِّح للوزارة؟ قَالَ: مُحَمَّد بْن دَاوُد بْن الجَرَّاح، قَالَ: فَمن ذُكِر للْقَضَاء؟ قَالَ الْحَسَن بْن الْمُثَنى، فَأَطْرَقَ ملِيًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا أمرُ لَا يتمُّ وَلَا يَنْتَظِم، قَالَ: قلت لَهُ: فَكيف؟ فَقَالَ: كلّ واحدٍ من هَؤُلَاءِ الَّذين سَمّيت مُتَقَدِّمٌ فِي مَعْنَاهُ عَلَى الرّتْبة من أَبنَاء جنسه، وَالزَّمَان مُدبر والدُّنْيا مُوَليَّة، وَمَا أرى هَذَا إِلَّا إِلَى اضمحلال وانتقاص وَلَا يكون لمدته طول، فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ، وَرَأَيْت صِحَة قَوْله فِي أسْرع وَقت.
صَدَّقه حِين كذب وكَذَّبه حِين صدق
حَدَّثَنِي شيخ من أَهْلَ بَغْدَاد بجسر النّهَروان يُعرف بالْقُدَّامي ذهب عني اسْمه، وَكَانَ ذَا أدب وَمَعْرِفَة، بإسنادٍ ذهب عني حفظه:(1/140)
أنَّ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الطاهري، قَالَ لمُحَمد بْن شُجَاع الثّلجي: أُرِيد أَن تُوَجِّه إليَّ رَجُلا من أفاضل أَصْحَابك أستكفيه شَيئًا من أموري، قَالَ: فأرسلتُ إِلَيْهِ بعضَ من كَانَ يَلزم مجلسي وَيَأْخُذ الْفِقْه عني، وَله دينٌ وعِلمٌ فَمضى إِلَيْهِ ثُمَّ عَاد إليَّ فَأَخْبرنِي أَنَّهُ كَلّفه تَفْرِقَة مَال دَفعه إِلَيْهِ فَصَرفهُ فِي وُجُوه الْبر، فَلَمّا كَانَ فِي الْعَام الْقَابِل سَأَلَ إِسْحَاق أَيْضا أَبَا عَبْد اللَّه بْن شُجَاع إِنْفَاذ الرَّجُل إِلَيْهِ فَفعل، فَلَمّا كَانَ من الْغَد أرسل الرَّجُل إِلَى ابْن شُجَاع يذكر أنَّ إِسْحَاق حَبسه، فارتاع لذَلِك وأتى إِسْحَاق فَقَالَ لَهُ: لَمْ حبست صاحبنا؟ قَالَ: هَذَا رجلٌ خائن، وَكَانَ ابْن شُجَاع قَبْلَ أَن يَلْقى إِسْحَاق قَدْ دَخَلَ عَلَى صَاحبه فِي محبسه فَسَأَلَهُ عَنْ قصَّته فَقَالَ لَهُ: أَعْطَانِي فِي الْعَام الْمَاضِي عشرَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ: اصرفها فِي ذَوي الْحَاجة بهَا، وفكّرتُ فِي الَّذِي آتيه فِيهَا، فحدَّثَتْني نَفسِي أَن آخذها لنَفْسي وَأسد بهَا خلتي وأنفقها على عيالي وأَرُمُّ بهَا حَالي، إِذْ كنتُ فِي عُسرة وضيق من الْمَعيشَة وعَلى حدٍّ من الْفَاقَة، وَقلت تَارَة: إِن كنت أصرفها فِيمَا يخصني موافقاَ لجملة مَا رسمه لي عَلَى طَريقَة من الْخِيَانَة إِذْ لَمْ يَأْمر لي بِهَذَا المَال، فَكَانَ مَا قَالَه يَقْتَضِي دَفعه إِلَى غَيْرِي، ثُمَّ قلت: إِن غَيْرِي إِنَّمَا أُرَجِّحُ أَنَّهُ مُحْتَاج أَوْ مُسْتَحقّ إِلَى ظَاهر وظَنِّ غَالب، وَأَنا من صُورَة أَمْرِي عَلَى يَقِين وَعلم بالباطن، وغَلّبت هَذَا عَلَى عزيمتي، فصرفتُ المَال فِي صَلَاح شئوني وَقَضَاء ديوني والتوسعة عَلَى عيالي، ثُمَّ رجعتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لي: مَا صنعت؟ فَأَخْبَرته أَنِّي أتيت بِمَا كلفنيه وامتثلت أمره فِيهِ، فَقَالَ: امْضِ جَزَاك اللَّه خيرا، فَلَمّا كَانَ هَذَا الْعَام أَعْطَانِي مثل نَفسِي لَا عذر لَك فِي أَدَاء الْأَمَانَة واستفراغ الْجهد والطاقة والتنزه عَنِ السفسفة أَو الْخِيَانَة، فأتعبت نَفسِي وأعملت فكري وكددت جسمي فِي تحري أَهْلَ المسكنة وتوخي ذَوي الْحَاجة حَتَّى بلغت الْغَايَة، وصرفت المَال بأسره فِي هَذِهِ الطَّبَقَة، وَلم آخذ لنَفْسي مِنْهُ مِثْقَال ذرة ثُمَّ جِئْته فَقَالَ: مَا صنعت؟ فَأَخْبَرته أنني أتيتُ مَا أَمرنِي بِهِ، فَقَالَ كذبت وَأمر بِي إِلَى السجْن، فَقَالَ لَهُ ابْن شُجَاع: أهكذا كَانَ الْأَمر؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَهَل كَانَ غَيْر هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ ابْن شُجَاع: فَقلت لإسحاق: إِن عِنْدِي فِي هَذَا شَيئًا أذكرهُ لَك، وفصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة عَلَى وَجههَا، فنكث فِي الأَرْض وَقَالَ: قَدْ صدق الرجل فِيمَا ذكره وَأمر بِتَخْلِيَتِهِ، فَقلت لَهُ: كَيْفَ علمت بصدقه بَعْدَ مَا كَانَ مِنْك؟ قَالَ: أمْرُنَا هَذَا جَار عَلَى الإدغال وَخلاف الصِّحَّة، فَإِذا عوملنا بِمثل عَملنَا سَكَنا إِلَيْهِ وأحسنّا الظّن بعامله، وَإِذا أَتَى مَا يُخَالِفهُ أنكرناه ونفرنا عَنْهُ وَلم نصدق صَاحبه.
قَالَ القَاضِي: حَدَّثَنِي الشَّيْخ بِهَذِهِ الْحِكَايَة بِلَفْظ غَيْر هَذَا عَبّرت عَنْهُ بلفظي وَلم أخل بِمَعْنَاهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.(1/141)
الْمجْلس التَّاسِع عَشْر
ائْتُونِي بسكين أشقه بَيْنكُمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا فَجَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِأَحَدِهِمَا: فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِسِكِّينٍ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى لِلصُّغْرَى بِهِ "، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كُنْتُ أَقُولُ إِلا الْمُدْيَةَ.
قَالَ القَاضِي: السِّكِّين والمدية مَعًا اسمان لهَذِهِ الأداة الَّتِي تذبح الْحَيَوَان ويُنحر بهَا وهما موجودان فِي كَلَام الْعَرَب، ولعلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يعرف السكين وَلم تكن من لُغَة قومه، فَأَما الْمُدية فمؤنثة بِحرف التَّأْنِيث الَّذِي فِيهَا وَهُوَ الْهَاء وَجَمعهَا مدى مثل زبية وزبى ورُقية ورقى وكنية وكنى، قَالَ الشَّاعِر:
من كلّ كوماء سَحُوف إِذَا ... جَفّتْ من اللَّحْم مُدَى الجازِرِ
وَقد اخْتلفت أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي تذكير السكين وتأنيثه، فَذكر بَعضهم وَأنكر تأنيثه، وأنثه آخَرُونَ وأبَوا تذكيره، وَأَجَازَ فريقٌ الْوَجْهَيْنِ مَعًا فِيهِ، وَهَذَا أولى الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ عندنَا فِيهِ، لِأَن أُولِي الْمعرفَة بِهَذَا الْبَاب قَدْ حَكَوْها وَأتوا بشواهد رَدُّوها فِيهَا، وَأَنا ذاكرٌ مَا ورد فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ بِمَشِيئَة اللَّه وتوفيقه.
قَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتانيّ: السكين تُذكر، قَالَ: وَسَأَلت أَبَا زَيْدُ الأَنْصَارِيّ والأصمعي وَغَيرهمَا مِمَّن أدركنا فكلُّهم يذِّكره وينكر التَّأْنِيث، قَالَ: أَنْشدني الْأَصْمَعِي للهذلي:
يُرى ناصحًا فِيمَا بَدَا وَإِذا خلا ... فَذَلِك سِكِّينٌ عَلَى الحَلْقِ حَاذِقُ
وَقَالَ أَبُو هفان: قَالَ أَبُو عُمَر الْجرْمِي فِي تذكير حاذق: هَذَا كَمَا يَقُولُ شَفْرة قَاطع وحاذق، وَامْرَأَة حَائِض وعاقر، قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ: وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِمَنْزِلَة ذَلِكَ، لِأَن الْحيض لَا يكون إِلَّا للنِّسَاء، والحذقُ يكون للمذكر والمؤنث فَلَا بُد فِيهِ من الْهَاء إِذَا وصف بِهِ الْمُؤَنَّث، وَهَذَا الْبَيْت يدل عَلَى تذكير السكين.
قَالَ القَاضِي: الَّذِي ذَكَرَه ابنُ الأنبَاريّ فِي تذكير لفظ حَائِض من العلَّة هُوَ مَذْهَب أَصْحَابه الكوفييَّن، وَقد خَالفه فِيهِ البصريّون عَلَى اخْتِلَاف بَينهم عَلَى تعْيين الْعلَّة سوى أَبِي حَاتِم السِّجستاني فَإِنَّهُ اخْتَار فِيهِ قَول الْكُوفِيّين، ولشرح هَذَا مَوضِع هُوَ أولى بِهِ. وَلَو سُلّم إِلَى ابْن الأنبَاريّ اعتلاله فِي حَائِض لَكَانَ مَا احْتج بِهِ أَبُو عُمَر الْجرْمِي من قَوْلهم شفرة قَاطع وحاذق كَافِيا فِيمَا استدلَّ بِهِ وَلم يَقُل أَبُو بَكْر فِي هَذَا شَيئًا وَلَا عرض للمعتل بطعن فِي اعتلاله، وَهَذَا(1/142)
يدلُّ عَلَى لُزُومه إِيَّاه وعجزه عَنِ الِانْفِصَال مِنْهُ، وَقد قَالَت الْعَرَب: امْرَأَة عاشق وَهَذَا مثل حاذق والعشق يكون للرِّجَال وَالنِّسَاء وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر الأنبَاريّ، قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو الْعَبَّاس، عَنْ سَلَمَة، عَنِ الْفراء، أَنَّهُ قَالَ: السكين ذَكَرَ وَقد أُنِّثت، وَأنْشد فِي التَّأْنِيث:
فَعَيّثَ فِي السّنام غَدَاةَ قُرٍّ ... بِسِكيِّنٍ مُوَثّقة النِّصَابِ
وَأنْشد فِي التَّأْنِيث أَيْضا:
إِذَا أعْرَضَت مِنْهَا عَناقٌ رَأَيْته ... بسكيِّنِه من حولهَا يتلهف
يلوذ بهَا عَنْ عينهَا لَا يَرُوعُها ... كَأَنَّهُ من حَوْبائه الموتُ يُصْرَفُ
وَحَدَّثَنَا ابْن الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن الْحزَامِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوب، قَالَ ابْن الأنبَاريّ: وحَدثني أبي، عَنْ مُحَمَّد بْن الحكم، عَنِ اللحياني، قَالَ: السكين تذكر وتؤنث، قَالَ اللحياني: لَمْ يعرف الْأَصْمَعِي فِي السكين إِلَّا تذكير السكين وتأنيث السَّرَاوِيل، وأنشدنا عَنْ ثَعْلَب:
ادنُ إِلَى الشّاةِ من خِيارها ... واخْرج السكين من قِمْجَارِها
القمجار: الغلاف، فَهَذَا شَاهد التَّأْنِيث.
ذكاء عَبْد الْملك وَعلمه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُريد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعُكْلي، عَنِ الحرمازي قَالَ: أنْشد رَجُل من جلساء عَبْد الْملك أبياتَ أُحَيْحَةَ بْن الْجُلاح:
استغنِ أَوْ مُتْ وَلَا يَغْرُرْكَ ذُو نَشَبٍ ... من ابْن عَمٍّ وَلَا عَمٍّ وَلَا خَالِ
يَلْوُون مَا عِنْدهم من حَقِّ جارهم ... وَعَن عَشيرتهم وَالْمَال بالوالي
وأجْمَع وَلَا تَحْقِرَنْ شَيئًا تُجَمِّعُه ... وَلَا تُضَيِّعَهْ يَوْمَا عَلَى حَال
إِنِّي مقيمٌ عَلَى الزَّوْراء أعْمُرُها ... إنّ الكريمَ عَلَى الأقوام ذُو المَال
لَهَا ثَلاثُ بِئَارٍ فِي جَوَانبها ... وكُلُّها عَقِبٌ تُسْقَى بإقْبَالِ
كلُّ النداء إِذَا ناديتُ يَخْذُلُني ... إِلَّا ندَائِي إِذَا ناديتُ يَا مَالِي
مَا إِن يَقُولُ لشَيْء حِين أَفعلهُ ... لَا أستطيعُ وَلَا يَنْمُو عَلَى حَال
فَقَالَ رَجُل من جلساء عَبْد الْملك، وَمَا الزَّوْرَاء يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَالله لَوْ أرْسلت فِيهَا الْأَشْقَر مَا ترك حَوْضًا، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْملك: إِن أَبَا عَمْرو كَانَ من رجال قومه وَكَانَ يرى أَنَّهُ عَنَى هَذَا، فَعجب النّاس من ذكاء عَبْد الْملك وَمن مَعْرفَته بكُنْيَةِ أحيحة.
قصَّة غَرِيبَة ممّا كَانَ يرد عَلَى الْقُضاة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، فقَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن(1/143)
مُحَمَّد بْن يزِيد، عَنْ أبي عَبْد اللَّه النباجي، قَالَ: دَخَلَ ابْن أبي ليلى عَلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور
وَهُوَ قاضٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: إِن القَاضِي قَدْ يرد عَلَيْهِ من طرائف النّاس ونوادرهم أُمُور، فَإِن كَانَ ورد عَلَيْكَ شَيْءٍ فَحَدَّثَنِيهِ، فقد طَال عليّ يومي، فَقَالَ: وَالله لَقَدْ ورد عليّ - مُنْذُ ثَلَاث - أمرٌ مَا ورد عليّ مثله، أَتَتْنِي عَجُوز تكَاد أَن تنَال الأَرْض بوجهها أَوْ تسْقط من انحنائها، فَقَالَت: أَنَا بِاللَّه ثُمَّ بِالْقَاضِي أَن يَأْخُذ لي بحقّي وَأَن يُعِينَني عَلَى خَصْمي، قلت: من خَصْمُك؟ قَالَتْ: ابْنَة أَخ لي، فدعوتُ بهَا فَجَاءَت امْرَأَة ضخمةُ ممتلئة فَجَلَست مُنْبهرة، فَقَالَت الْعَجُوز: أصلح اللَّه القَاضِي، إِن هَذِهِ ابْنَة أخي وَأوصى إليَّ بهَا أَبوهَا، فربَيْتُها فأحسنت التربية، ووليتها فأحسنت الْولَايَة، وأدّبْتها فأحسنتُ التَّأْدِيب، ثُمَّ زوجتها ابْن أَخ لي، ثُمَّ أفسدَتْ عليّ بَعْدَ ذَلِكَ زَوجي، فَقلت لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: يَأْذَن لي القَاضِي أَن أُسفر فَأخْبر بحجتي؟ فَقَالَت: يَا عدوة الله تريدين أَن تسفري فتفتني القَاضِي بجمالك، فَقَالَ: فأطرقت خوفًا من مقالتها، وَقلت: تكلمي، فَقَالَت: صَدَقَتْ أصلح اللَّه القَاضِي، هِيَ عَمّتي أوصى بِي إِلَيْهَا أَبِي وربتني فأحسنت وَوَلِيَتْنِي فأحسنت وأدّبتني فأحسنت، وزوَّجتْني ابْن عَم لي وَأَنا كارهة، فَلم أزل حَتَّى عطف اللَّه بَعْضنَا عَلَى بَعْض واغتبط كلُّ وَاحِد منا بِصَاحِبِهِ، ثُمَّ نشأت لَهَا بنيَّة فَلَمّا أدْركْت حَسَدتْني عَلَى زَوجي ودأبت فِي فَسَاد مَا بيني وَبَينه، وحَسّنت ابْنَتهَا فِي عينه حَتَّى عَلِقَها وخطبها إِلَيْهَا، فَقَالَت: لَا أزَوجك حَتَّى تجْعَل أَمر امْرَأَتك بيَدي فَفعل، فَأرْسلت إليَّ: أَي بنية إِن زَوجك قَدْ خطب إِلَى ابْنَتي فأبيت أَن أزَوجهُ حَتَّى يَجْعَل أَمرك فِي يَدي فَفعل، وَقد طَلقتك ثَلَاثًا، فَقلت صبرا لأمر اللَّه وقضائه، فَمَا لَبِثت أَن انْقَضتْ عدتي فَبعث إليَّ زَوجهَا: إِنِّي قَدْ علمتُ ظلم عَمَّتك لَك وَقد أخلف اللَّه عَلَيْكَ زوجا فَهَل لَك فِيهِ؟ قلت: من هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، وَأَقْبل يخطبني فَقلت: لَا وَالله حَتَّى تجْعَل أَمر عَمّتي فِي يَدي فَفعل، فَأرْسلت إِلَيْهَا: إِن زَوجك قَدْ خطبني فأبيتُ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَجْعَل أمرَك فِي يَدي فَفعل، وَقد طَلقتك ثَلَاثًا، فَلم يزل حَيا حَتَّى توفى رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ ألبثْ أَن عطف اللَّه قلب زَوجي الأوّل فَتذكر مَا كَانَ من موافقتي إِيَّاه فَأرْسل إليَّ: هَلْ لَك فِي الْمُرَاجَعَة، قلت: قَدْ أمكنك ذَلِكَ، فخطبني فأبيت إِلَّا أَن يَجْعَل أَمر بنتهَا فِي يَدي فَفعل، فطلقتها ثَلَاثًا، فَوَثَبت الْعَجُوز وَقَالَت: أصلح اللَّه القَاضِي، فعلتُ هَذَا مرّة وفعلتْه هِيَ مرّة بَعْدَ مرّة، فَقلت: إِن اللَّه تبَارك وَتَعَالَى لَمْ يُوَقِّت لهَذَا وَقْتًا، وَقَالَ: " وَمن بغي عَلَيْهِ لينصرنه الله ".
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَالَ القَاضِي: إِن زَوْجَ الْعمة لَمْ يكن لَهُ أَن يتَزَوَّج ابْنَة أَخِيهَا وَهِي فِي حباله، وَأرى أنَّ الْجَارِيَة أَرَادَت أَن يتَوَلَّى التَّفْرِيق بَينه وَبَينهَا، اسْتِيفَاء مِنْهَا ومجازاة لَهَا عَلَى فعلهَا، وَقد رُويت لَنَا هَذه الْقِصَّة عَنْ طَرِيق آخر وفيهَا مُخَالفَة لهَذِهِ الرِّوَايَة فِي السَّنَد والمتن مَعًا، وَأَنا(1/144)
ذاكرها ليستوفي النَّاظر فِي كتاب هَذَا الْأَمريْنِ جَمِيعًا بِمَشِيئَة اللَّه وعونه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن دَاوُد بْن سُلَيْمَان النَّيْسَابُوريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن سهل السّامري بفلسطين، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الإِمَام، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْخَلِيل، قَالَ: أَخْبرنِي رُوح بْن حَرْب السِّمْسار، قَالَ: كنت فِي دَار الطيالسة فَإِذا الْهَيْثَم بِهِ عَدِيّ حَاضر، قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بْن أبي ليلى يَقُولُ: كنت يَوْمَا فِي مجْلِس الْقَضَاء فوردت على عَجُوز وَمَعَهَا جَارِيَة شَابة، قَالَ: فَذَهَبت الْعَجُوز تَتَكَلَّم قَالَ: فَقَالَت الشَّابَّة: أصلح اللَّه القَاضِي، مُرْها فلتسكُتْ حَتَّى أتكلمَ بحُجّتي وحُجّتِها، فَإِن لحنتُ بِشَيْء فلتردَّ عليّ، فَإِن أذِنْتَ لي سَفَرْت، قَالَ: فَقلت: أسفري، قَالَ: فَقَالَت الْعَجُوز: إِن سَفَرَتْ قضيتَ لَهَا عليّ، قَالَ: قلت: أسْفِري، فأسْفَرت وَالله عَنْ وَجْهٍ مَا ظننتُ أَن يكون مثله إِلَّا فِي الْجنَّة، فَقَالَت: أصلح اللَّه القَاضِي، هَذِهِ عَمّتي، مَاتَ أبي وَتَرَكَنِي يتيمة فِي حجرها فربتني فأحسنت التربية، حَتَّى إِذَا بلغتُ مبلغ النِّسَاء قَالَتْ: يَا بنية! هَلْ لَك فِي التَّزْوِيج؟ قلت: مَا أكره ذَلِكَ يَا عمَّة، هَكَذَا كَانَ؟ قَالَت الْعَجُوز: نَعَمْ. قَالَتْ فخطبني وُجُوه أَهْلَ الْكُوفَة فَلم ترض لي إِلَّا رَجُلا صيرفيًّا فزوجتني، فَكُنَّا كأننا ريحانتان مَا يظنّ أَن اللَّه تَعَالَى خَلَق غَيْرِي، وَلَا أظنّ أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلْقٌ غَيره، يَغْدوُ إِلَى سُوقه وَيروح عليّ بِمَا رزقه اللَّه، فَلَمّا رَأَتْ الْعمة موقعه مني وموقعي مِنْهُ حَسَدَتْنا عَلَى ذَلِكَ، قَالَتْ: فَكَانَت لَهَا ابْنَة فسَوَّقْتها وهيأتها لدُخُول زَوجي عليّ فَوَقَعت عينه عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا عَمَّة! هَلْ لَك أَن تزوجيني ابْنَتك؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِشَرْط، قَالَ لَهَا: وَمَا الشَّرْط؟ قَالَتْ: تُصَيَّر أَمر ابْنَة أخي إليَّ، قَالَ: قَدْ صيرتُ أمرهَا إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَإِنِّي قَدْ طلقتُها ثَلَاثًا بتَّةً، وزوجت ابْنَتهَا من زَوجي، فَكَانَ يَغْدُو عَلَيْهَا وَيروح كَمَا كَانَ يَغْدُو عليّ وَيروح. فَقلت لَهَا: يَا عمَّة! تأذنين لي أَن أنتقل عَنك، قَالَتْ: نَعَمْ، فانتقلت عَنْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ لعمتي زوجٌ غَائِب فَقدم فَلَمّا توَسط منزله، قَالَ: مَالِي لَا أرى رَبِيبتَنا؟ قَالَتْ تزوجتْ وَطَلقهَا زوجُها فانتقلت عَنَّا، فَقَالَ لَهَا: عَلَيْنَا من الْحق مَا نُعَزِّيها بمصيبتها، قَالَتْ: فَلَمّا بَلغنِي مَجِيئه تهيأتُ لَهُ وتَسَوَّقْتُ، قَالَتْ: فَلَمّا دَخَلَ عليّ سلم وعَزَّاني بمصيبتي ثُمَّ قَالَ لي: إِن فِيَّ بَقِيَّة من الشَّبَاب فَهَل لَك أَن أتزوجك؟ قلت: مَا أكره ذَاك وَلَكِن عَلَى شَرط، قَالَ لي: وإيش الشَّرْط؟ قلت: تُصَيّر أَمر عَمّتي بيَدي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ صيرت أمرهَا بِيَدِك، قلت: فَإِنِّي قَدْ طَلقتهَا ثَلَاثًا بَتَّة، قَالَتْ: وقدِم بثَقَلِه عليّ من الْغَد وَمَعَهُ سِتَّة آلَاف دِرْهَم، فَأَقَامَ عِنْدِي مَا أَقَامَ ثُمَّ إِنَّهُ اعتلَّ فُتوفي، فَلَمّا انقضتْ عِدَّتي جَاءَ زَوجي الأوّل يُعَزِّيني بمصيبتي فَلَمّا بَلغنِي مَجِيئه تهيأتُ لَهُ وتَسَوَّقْت، فَلَمّا دَخَلَ عليّ قَالَ: يَا فُلَانَة! إِنَّك لتعلمين أنَّكَ كنت أحبَّ النّاس إليَّ وأعزهم عليّ، وَقد حل لَنَا الرّجْعَة فَهَل لَك فِي ذَلِكَ؟ قلت: مَا أكره ذَلِكَ وَلَكِن تُصَيِّر أَمر ابْنَة عمِّي بيَدي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ فعلتُ صيرتُ أَمر ابْنَة عَمَّتك بِيَدِك، قلت: فَإِنِّي قَدْ طَلقتهَا ثَلَاثًا بَتَّة، أصلح اللَّه(1/145)
القَاضِي، فَرَجَعت إِلَى زَوجي، فَمَا استعداؤُها عليّ، فَقَالَ ابْن أبي ليلى: وَاحِدَة بِوَاحِدَة والبادي أظلم، قومِي إِلَى مَنْزِلك. قَالَ ابْن أبي ليلى: فَحدثت الْهَادِي بذلك، فَقَالَ: وَيحك يَا مُحَمَّد! مَا سَمِعت حَدِيثا أحسن من هَذَا، أَنَا أُحِبَّ أَن أحدث بِهِ الخيزران، يَعْنِي أمه.
قَالَ القَاضِي: وقصة هَذَا الْخَبَر كقصة الْمُقدم لَهُ فِي أَنَّهُ لَا يحل الْجمع بَيْنَ الْمَرْأَة وعمتها فِي النِّكَاح، وَأَن التمَاس هَذِهِ الْجَارِيَة من خاطبها تمليكها طَلَاق عَمَّتهَا وبنتها من حباله لمّا وَصفنَا أَنَّهَا أَرَادَت أَن تشفي غيظها وتتولى التَّفْرِيق بَينهَا وَبَين زَوجهَا بِنَفسِهَا مُقَابلَة لَهَا عَلَى مَا ابْتَدَأتهَا بِهِ من إساءتها.
أَخَاف أَن يكونَ فِي قَبُولهما وَهَقُ رقبتي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حسان، قَالَ: قَالَ لي عمي: قَدِمَ مُحَمَّد بْن قَحْطَبَةَ الْكُوفَة فَقَالَ: أحتاج إِلَى مُؤَدِّب يؤدبُ أَوْلَادِي، حافظٌ لكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عَالِمٌ بِسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالآثار وَالْفِقْه والنحو وَالشعر وَأَيَّام النّاس فَقيل لَهُ: مَا يجمع هَذِهِ الْأَشْيَاء إِلَّا دَاوُد الطَّائِي وَكَانَ مُحَمَّد بْن قَحْطَبَةَ ابْن عَم دَاوُد، فَأرْسل إِلَيْهِ يعرض ذَلِكَ عَلَيْهِ ويُسَنِّي لَهُ الأرزاقَ والفائدة، فَأبى داودُ ذَلِكَ، فَأرْسل بدرة فِيهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَقَالَ لَهُ: اسْتَعِنْ بِهِا عَلَى دهرك، فَردهَا، فَوجه إِلَيْهِ ببدرتين مَعَ غلامين لَهُ مملوكين، وَقَالَ: إِن قَبِل البدرتين فأنتما حُرَّان. فمضيا بهما إِلَيْهِ فَأبى أن يقبلهما فَقَالَا لَهُ: فِي قبولهما عتق رقابنا، فَقَالَ لَهما: إِنِّي أَخَاف أَن يكونَ فِي قَبُولهما وَهَقُ رقبتي فِي النَّار، رُدَّاها إِلَيْهِ وقولا لَهُ أَن يَرُدَّهما عَلَى من أخَذْتُهما مِنْهُ أولى من أَن تُعْطِيني إيَّاهُمَا.
لَوْ عُلِم السّبَب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الْمبرد فَجَاءَهُ رجلٌ من وُلِد ابْن الزيات فَشَكا إِلَيْهِ أَمر ابنٍ لَهُ خُدع وَلَيْسَ يدْرِي أَيْنَ هُوَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ جميل الْوَجْه، وشاور أَبَا الْعَبَّاس فِي أمره، فَلَمّا قَامَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أنشدنا الرياشي:
وَلَو كَانَ هَذَا الضَّبُّ لَا ذَنَبٌ لَهُ ... وَلَا كُشْيةٌ مَا مَسّهُ الدَّهْر لامِسُ
وَلكنه من أَجْلِ طِيب ذُنَيبِه ... وكُشْيَتِه دَبّتْ إِلَيْهِ الدهارِسُ
قَالَ القَاضِي: الْكُشية: الشحمة، وَيُقَال: إِن عَليّ جنبتي ظَهره من جهتي عُنُقه إِلَى ذَنبه شَحْمتين ممتدتين إِلَيْهِ هما كُشْيتاه، وجمع الكشية كُشى مثل كُلية وكلى، قَالَ الشَّاعِر:
إِنَّك لَوْ ذُقت الْكُشَى بالأكباد ... لَمْ تُرسلِ الضَّبَّة إعداء الوَادِ
والدهارس والدهاريس: الدَّوَاهِي، قَالَ الشَّاعِر:
حَنّتْ إِلَى النَّخْلَةِ القصوى فَقلت لَهَا ... حِجْرٌ حرَام أَلا تِلْكَ الدَّهارِيس(1/146)
بِأَيّ شَيْءٍ استحقَّ سَعِيدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن توليه الْقَضَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السّرّاج بنَيْسَابور، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن رشيد، قَالَ: قلت للهيثم بْن عَدِيّ: بِأَيّ شَيْءٍ اسْتحق سعيدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن أَن ولاه المهديُّ الْقَضَاء وأنزله مِنْهُ تِلْكَ الْمنزلَة الرفيعة؟ قَالَ: إِن خَبره فِي اتِّصَاله بالمهدي طريف، إِن أحببتَ شَرَحْتُه لَك، قلت: قَدْ وَالله أحببتُ ذَلِكَ، قَالَ: اعْلَم أَنَّهُ وافي الرّبيع الْحَاجِب حِين أفضت الخلافةُ إِلَى الْمهْدي، فَقَالَ: اسْتَأْذن لي على أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ لَهُ الرّبيع: يَا هَذَا! وَمَا حَاجَتك؟ قَالَ: أَنا رجل رَأَيْت لأمير الْمُؤمنِينَ أعزه الله رُؤْيا صَالِحَة، وَقد أَحْبَبْت أَن تذكرني لَهُ، قَالَ: لَهُ الرّبيع: يَا هَذَا! إِن الْقَوْم لَا يصَّدِّقُون مَا يرونه لأَنْفُسِهِمْ فَكيف مَا ترَاهُ لَهُمْ، فاحتل بحيلة هِيَ أَرَدُّ عَلَيْكَ من هَذِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِن لَمْ تخبره بمكاني سألتُ من يُوَصِّلُنْي إِلَيْهِ، فَأَخْبَرته أَنِّي سَأَلتك الْإِذْن لي عَلَيْهِ فَلم تَفْعل، فَدخل الرّبيع عَلَى المهديّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّكُم قَدْ أطمعتم النّاس فِي أَنفسكُم، فقد احْتَالُوا لَكُمْ بِكُل ضرب، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: هَكَذَا تصنع الْمُلُوك فَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: رَجُل بِالْبَابِ يزْعم أَنَّهُ رَأَى لأمير الْمُؤمنِينَ أيّده اللَّه رُؤْيا حَسَنَة، وَقد أحَبَّ أَن يَقُصَّها عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ المهديُّ: وَيحك يَا ربيع! إِنِّي وَالله أرى الرُّؤْيَا لنَفْسي فَلا تَصِحُّ لي، فَكيف إِذَا ادَّعاها لي من لعلّه قَد افتعلها؟ قَالَ: قَدْ وَالله قلتُ لَهُ مثل ذَلِكَ فَلم يقبل، قَالَ: فهات الرَّجُل، قَالَ: فَأدْخل عَلَيْهِ سعيد بن الرَّحْمَن وَكَانَ لَهُ رواءٌ وجمال ومروءة ظَاهِرَة ولحية عَظِيمَة وعارضةٌ ولسان، فَقَالَ لَهُ المهديُّ: هَات بَارك اللَّه عَلَيْكَ، مَاذا رَأَيْت؟ قَالَ: رأيتُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ آتِيَا أَتَانِي فِي مَنَامِي فَقَالَ لي: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ المهديُّ يعِيش ثَلَاثِينَ سنة فِي الْخلَافَة، وَآيَة ذَلِكَ أَنَّهُ يرى فِي ليلته هَذِهِ فِي مَنَامه كَأَنَّهُ يُقَلِّبُ يواقيتَ ثُمَّ يَعُدُّها فيجدها ثَلَاثِينَ ياقوتة كَأَنَّهَا قَدْ وُهبت لَهُ، فَقَالَ لَهُ المهديُّ: مَا أحسن مَا رَأَيْت! وَنحن نمتحن رُؤْيَاك فِي ليلتنا الْمُقبلَة عَلَى مَا خيبرتنا، فَإِن كَانَ الْأَمر عَلَى مَا ذَكَرَت أعطيناك مَا تُرِيدُ، وَإِن كَانَ الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك لم نعاقبك لعلمنا أَن الرُّؤْيَا رُبمَا صدقت وَرُبمَا أخلفت، قَالَ لَهُ سَعِيد: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَاذَا أصنع أَنَا السَّاعَة إِذَا صرت إِلَى منزلي وعيالي وَأَخْبَرتهمْ أَنِّي كنت عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أكْرمه اللَّه ثُمَّ رجعت صِفْرًا؟ قَالَ لَهُ الْمهْدي: فَكيف نعمل؟ قَالَ: يُعَجِّل لي أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه اللَّه مَا أحبّ وأحلف لَهُ بِالطَّلَاق أَنِّي قَدْ صدقتُ، فأمَرَ لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وَأمر أَن يُؤخذ مِنْهُ كَفِيل ليحضُر فِي غَيْر ذَلِكَ الْيَوْم، فَقبض المَال وَقيل: من يكفُلُ بك، فَمد عينه إِلَى خَادِم لَهُ حَسَن الْوَجْه والزي فَقَالَ: هَذَا يكفلُ بِي، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أتكفل بِهِ يَا تَمَلُّك، فاحمرّ وخجل وَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فكفل بِهِ وَانْصَرف سَعِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَلَمّا كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة رأى المهدى مَا ذكر لَهُ سعيد حرفا حرفا، وَأصْبح سعيد فَوَافى الْبَاب وَاسْتَأْذَنَ فَأذن لَهُ، فَلَمّا وَقعت(1/147)
عين الْمهْدي عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ مصداق مَا قلت لَنَا؟ قَالَ لَهُ سَعِيد: وَمَا رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ شَيئًا؟ فضجع فِي جَوَابه، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: امْرَأَتي طَالِق إِن لَمْ يكن رأيتَ شَيئًا، قَالَ لَهُ الْمهْدي: وَيحك! مَا أجرأك عَلَى هَذَا الْحلف بِالطَّلَاق! قَالَ: لِأَنِّي أَحْلف عَلَى صِدْق، قَالَ لَهُ المهديُّ: فقد وَالله رَأَيْت ذَلِكَ مُبينًا، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: اللَّه أكبر، فأنجز لي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا وَعَدتنِي، قَالَ لَهُ: حُبًّا وكرامة، ثُمَّ أَمر لَهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَعشرَة تخوت ثيابًا من كلّ صنف، وَثَلَاث مراكب من أنفس دوابّه مُحلاة، فَأخذ ذَلِكَ وَانْصَرف، فلحق بِهِ الْخَادِم الَّذِي كفل بِهِ، وَقَالَ لَهُ: سألتُك بِاللَّه هَلْ كَانَ لهَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي ذكرتَها من أصل؟ قَالَ لَهُ سَعِيد: لَا وَالله، قَالَ الْخَادِم: كَيْفَ وَقد رَأَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذكرتَه لَهُ؟ قَالَ هَذِهِ من المخاريق الْكِبَار الَّتِي لَا يأبه لَهَا أمثالكم، وَذَلِكَ أَنِّي لمّا ألقيت إِلَيْهِ هَذَا الْكَلَام خطر بِبَالِهِ وَحدث نَفسه وَأسر بِهِ قلبه وشغل بِهِ فكره، فساعة نَام خُيِّل لَهُ مَا حَلَّ فِي قلبه وَمَا كَانَ شغل بِهِ فكره فِي الْمَنَام، فَقَالَ لَهَ الْخَادِم: قَدْ حلفتَ بِالطَّلَاق، قَالَ: طلقت وَاحِدَة وَبقيت معي عَلَى ثِنْتين فأزيدُ فِي مهرهَا عشرَة دَرَاهِم وأتخلّص وأحصل عَلَى عشرَة آلَاف دِرْهَم وَثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَعشرَة تخوت من أَصْنَاف الثِّيَاب وَثَلَاث مراكب فرهة، فبهت الْخَادِم فِي وَجهه وتعجّب من ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: قَدْ صَدَقْتُك وَجعلت صِدقي لَك مكافأتك عَلَى كفالتك بِي فاسْتُر عليّ، فَفعل ثُمَّ طلبه المهديُّ لمنادمته، وحَظِيَ عِنْدَهُ وقَلّده القضاءَ عَلَى عَسْكَر المهديّ فَلم يزل على ذَلِكَ إِلَى أَن مَاتَ.
فَهَذَا كَانَ السَّبَب فِي وُصلة سَعِيد بْن الرَّحْمَن بأمير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي، فَهَل سَمِعت بِأَعْجَب من ذَلِكَ يَا دَاوُد؟ قَالَ: لَا.
التَّعْلِيق عَلَى هَذِهِ الْقِصَّة
قَالَ القَاضِي: قَول سَعِيد فِي هَذَا الْخَبَر أَنَّهُ طَلّق وَاحِدَة وَبقيت مَعَه عَلَى اثْنَتَيْنِ وَأَنه يزِيد فِي مهرهَا عشرَة دَرَاهِم، من كَلَام الحَمْقى العامَّة وجُهّالهم، لأنَّ مُطِلق امْرَأَته الْمَدْخُول بهَا وَاحِدَة إِن راجَعَها فِي عِدَّتها فَلا مَهْرَ عَلَيْهِ لَهَا، وَإِن تزوَّجها بَعْدَ بينونتها فَعَلَيهِ الصَدَاق مبتدئًا غَيْر زَائِد عَلَى قدرٍ مِنْهُ مُتَقَدم، وَفِي حمل سَعِيد نَفسه فِي هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى الْكَذِب وخاصة فِي الرُّؤْيَا وإطلاع الْخَادِم عَلَى قَبِيح مَا أَتَاهُ، وَكذبه فِيمَا حَكَاهُ، وجَعْله هَذِا مُكَافَأَة لَهُ عَلَى كفَالَته بِهِ، واعتماده مسترسلا إِلَيْهِ فِي سَتْر رذيلته عَلَيْهِ، دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِمحل من الغَرَق، وَأَن عِظَمَ لحيته كَانَ عَلَى شكلٍ يدل عَلَى السّفاهة والحمق. وَقد حَدَّثَنَا عليّ بْن الفَضْل بْن طَاهِر البلْخيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَيُّوب بْن يزِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَعْقُوب، قَالَ حَدَّثَنَا مُصْعَب بْن خَارِجَة، عَنْ أَبِيه، من كَانَتْ لحيته طَوِيلَة فَلا يلم فِي عقله شَيْءٍ.
حَدَّثَنَا اللَّيْث بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْث المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعت عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود، يُقَالُ: نظر(1/148)
عَليّ بن حجر إِلَى أبي الدَّرْدَاء، قَالَ: وَهُوَ طَوِيل اللِّحْيَة فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَيْسَ بطُولِ اللَّحَى ... يَسْتَوجِبُون القَضَا
إِن كَانَ هَذَا كَذَا ... فالتّيْسُ عَدْلٌ رِضَا
قَالَ: ومكتوب فِي التَّوْرَاة: لَا يَغُرَّنك طول اللحى، فَإِن التيس لَهُ لحية.
حِكَايَة عَنِ القَاضِي الْعَوْفِيّ، وَكَانَ طَوِيل اللِّحْيَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري، قَالَ: أَخْبرنِي السَّاجِي بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: اشْترى رَجُل من أَصْحَاب القَاضِي الْعَوْفِيّ جَارِيَة فغاضبته وَلم تطعه، فَشَكا ذَلِكَ إِلَى الْعَوْفِيّ فَقَالَ: أنفذها إِلَيّ حَتَّى أكلمها فأنفذها إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَزُوبُ يَا لَعُوبُ يَا ذَاتَ الجلابيب، مَا هَذَا التمنع المجانب لِلْخَيْرَاتِ، وَالِاخْتِيَار للأخلاق المَشْنُوءات، فَقَالَت لَهُ: أيد اللَّه القَاضِي: لَيْسَ لي فِيهِ حَاجَة فَمُرْه يَبِيعني، فَقَالَ لَهَا: يَا مُنْيَةَ كُلِّ حَلِيم، وبَحّاثٍ عَنِ اللطائف عليم، أما علمت أَن فرط الاعتياصات من الموموقات عَلَى طالبي المودات والباذلين لكرائم المصونات مؤديات إِلَى عدم المفهومات؟ فَقَالَت الْجَارِيَة: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أصلح لهَذِهِ العثنونات عَلَى صُدُور أَهْلَ الركاكات من المواسي الحالقات، وضحكت وَضحك أَهْلَ الْمجْلس. وَكَانَ الْعَوْفِيّ عَظِيم اللِّحْيَة.
قَالَ القَاضِي: الْعَوْفِيّ هُوَ الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَطِيَّة بْن سعيد بْن جُنَادَة، ويكنى أَبَا عَبْد اللَّه من أَهْلَ الْكُوفَة وَقد سمع سَمَاعا كثيرا، غَيْر أَنَّهُ ضَعِيف فِي الحَدِيث، قَدِمَ بَغْدَاد وَولي قَضَاء الشرقية بَعْدَ حَفْص بْن غياث ثُمَّ نقل من الشرقية فولى قَضَاء عَسْكَر الْمهْدي فِي خلَافَة هَارُون ثُمَّ عزل، فَلم يزل بِبَغْدَاد إِلَى أَن تُوُفّي بهَا سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ من أعظم النّاس لحية.
الْمجْلس الْعشْرُونَ
حَدِيث إِن يصدق ذُو العقيصتين يدْخل الْجنَّة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ الصَّالِحِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ يُوسُفَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَزِيعٍ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعِيدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فيا ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنِّي سَائِلُكَ وَمُغْلِظٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: أنْشدك لله إِلَهَكَ وَإِلَهَ مَنْ كَانَ(1/149)
قَبْلَكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولا؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نعم، قَالَ: فنشدة مِثْلَهَا، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نعم، قَالَ: فنشدة مِثْلَهَا، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ شَرَائِعَ الإِسْلامِ يُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا يُنَاشِدُهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَلا إِلَهَ إِلا اللَّهَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ وَلا أَزِيدُ وَلا أَنْقُصُ، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين وَلَّى: " إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ". قَالَ: فَأَتَى إِلَى بَعِيرِهِ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ، اتَّقِ الْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ، قَالَ: وَيْلَكُمْ، وَاللَّهِ مَا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولا وَأَنْزَلَ كِتَابًا لينقذكم بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمَةً، قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ ذَكَرَ كَلِمَةً مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ القَاضِي رَحمَه اللَّه: لَمْ يذكر لَنَا مَا الْكَلِمَة، ولعلّها ذهبتْ عَنْ حفظ بَعْض الروَاة أَوْ سَقَطت من كِتَابه، وَيَنْبَغِي أَن يكون مَعْنَاهُ أعظم بركَة أَوْ مَا أشبه هَذَا من الْوُجُوه، وَفِي هَذَا الْخَبَر: مَا أبان عَنْ حُسْنِ دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووطاءة كَنَفه ولين جَانِبه، وإجابته إِلَى الحَلِف لما فِيهِ من تسكين نفس مُسَاجله، وتأميله زَوَال الريب عَنْ قَلْبه، وَهُوَ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أصدق النّاس فِي قِيله، وأوفاهم أَمَانَة فِيمَا هُوَ بسبيله.
كتاب قَيْصر إِلَى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بشأن النَّخْلَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَنْصُور بْن أبي الجهم الشيعي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُس بْن الْحَارِث الطَّائِفِي، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: كتب قَيْصر إِلَى عُمَر: أخْبرك أَن رُسُلي أَتَتْنِي من قبلك فَزَعَمت أنَّ قِبلَكم شَجَرَة ليستْ بخليقةٍ لشَيْء من الْخَيْر، تَخْرج مثل آذان الْحُمُر ثُمَّ تشقق عَنْ مثل اللُّؤْلُؤ أَحْسبهُ قَالَ: الْأَبْيَض ثُمَّ تخضر فَتكون مثل الزمرد الْأَخْضَر ثُمَّ تحمرّ فَتكون مثل الْيَاقُوت الْأَحْمَر، ثُمَّ تينع وتنضج فَتكون كأطيب فالوذج أُكِل، ثُمَّ تيبس فَتكون عصمَة للمُقِيم وَزَادا للْمُسَافِر، فَإِن تكن رُسُلي صَدَقتني فَلا أرى هَذِهِ الشَّجَرَة إِلَّا من شجر الْجنَّة. فَكتب إِلَيْهِ عُمَر؟ " من عَبْد اللَّه عُمَر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى قَيْصر ملك الرّوم: إِن رُسُلَك قَدْ صدقتك، هَذِهِ الشَّجَرَة عندنَا هِيَ الشَّجَرَة الَّتِي أنبتها اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَرْيَم حِين نَفَست بِعِيسَى ابْنهَا عَلَيْهِ السّلام فَاتق اللَّه وَلَا تتَّخذ عِيسَى إِلَهًا من دون اللَّه، فَإِن مَثَل عِيسَى عندنَا كَمثل آدم، خَلقه من تُراب ثُمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون، الحقُّ(1/150)
من رَبك فَلا تكن من الممترين ".
بَعْض مَا تلحن فِيهِ الْعَامَّة الزُّمرد والزَّبَرجد
قَالَ القَاضِي رَحمَه اللَّه: قَدْ رُوينا هَذَا الْخَبَر من طرق شَتَّى، وَفِي بَعْضهَا أَلْفَاظ لَيست فِي بَعْض، وَقَوله الزمرد الْعَامَّة يخطئون فِيهِ فَيَقُولُونَ زُمُرُّد بِالدَّال الْمُهْملَة، وَيَقُولُونَ الزبرجذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَالَّذِي حَكَاهُ أَهْلَ اللُّغَة عَنِ الْعَرَب أَنَّهُ الزمرد بالإعجام والزبرجد بالإبهام عَلَى عكس مَا يَقُوله من لَا عَلَمُ بِهِ من الْعَوام، وَذكر بَعْض أَهْلَ الْمعرفَة أنَّ من فضل النّخل أنَّ جَمِيعه فِي بِلَاد الإِسْلام، وَأَنه لَيْسَ فِي بِلَاد الشّرك مِنْهُ شَيْءٌ.
من شُهَدَاء الْهوى
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن الفَرَج الرياشي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن سَلام، قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَتًى من بني أُميَّة من ولدَ سَعِيد بْن عُثمان بْن عَفّان وَكَانَ يختلفُ إِلَى قَيْنة لبَعض قُرَيْش، وَكَانَ طَريرًا ظريفًا، وَكَانَت الْجَارِيَة تُحِبُّه وَلَا يَعْلَمُ بحبها، فَأَرَادَ يَوْمَا أَن يشكو ذَلِكَ، فَقَالَ لبَعض إخوانه: امضِ بِنَا إِلَى فُلَانَة، وانطلقا فدخلا إِلَيْهَا وتوافى فتيَان من قُرَيْش وَالْأَنْصَار، فَلَمّا جَلَست مجلسها واحتجرت بمزهرها، قَالَ الأمويُّ تغنين:
أحبكمُ حبًّا بكلِّ جوارحي ... فَهَل لكمُ عِلْم بِمَا لكمُ عِنْدي
وتَجْزُون بالودِّ المضاعَفِ مثله ... فَإِن الْكَرِيم من جزى الْوُدَّ بالْوُدِّ
قَالَتْ نَعَمْ، وَأحسن مِنْهُ، وغنت:
للَّذي ودنا الْمَوَدَّة بالضع ... ف وفَضْل البَادِي بِهِ لَا يُجَازَى
لَو بدا بِنَا لكم مَلأ الأر ... ض وأقطارَ شامِها والْحِجَازَا
فَعجب الْقَوْم من سرعته مَعَ شغل قلبه، وَمن ذهنها وَحسن جوابها فازداد بهَا كَلَفًا، وصَرَّح عَمَّا فِي قلبه فَقَالَ:
أَنْت عُذْر الْفَتى إِذا هتك السِّت ... ر وَإِن كَانَ يُوسُفَ المَعْصُومَا
من يَقُمْ فِي هَوَاكِ يَقْصُر عَنِ اللّو ... مِ وإمّا زَالَ كَانَ مَلُوما
وَبلغ عُمَر بْن عبد الْعَزِيز وَهُوَ عَلَى المَدِينَةِ خَبَرهَا، فاشتراها بِعشر حدائق ووهبها لَهُ وَمَا يُصلحها، فَمَكثت عِنْدَهُ حولا ثُمَّ مَاتَت فرثاها، فَقَالَ:
قَدْ تمنيت جنَّة الْخلد بالجه ... د فأُدخلْتُها بِلَا اسْتِئْهَالِ
ثُمَّ أخرجتُ إِذْ تطعمت بالنع ... مة مِنْهَا والمَوْتُ أَحْمَدُ حَالِيَ
وَكرر هَذَا الشّعْر مرَارًا وقَضَى، فدُفنا مَعًا، فَقَالَ أشعب: هَذَان شَهِيدا الْهوى انحرو(1/151)
اعَلَى قَبره سبعين نحرة كَمَا كبر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قبر حَمْزَة سبعين تَكْبِيرَة.
قَالَ: وَبلغ أَبَا حَازِم فَقَالَ: لَوْ مُحِبٌّ فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يبلغ فِي الْحبّ هَذَا الْمبلغ فَهُوَ وَلِيٌّ.
من نزاهة حَفْص بْن غياث فِي الحكم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مخلد بن حَفْص حَفْص العَطَّار: قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى ابْن اللَّيْث، قَالَ: بَاعَ رَجُل من أَهْلَ خُرَاسَان جمالا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم من مَرْزُبان المجوسيِّ وَكيل أم جَعْفَر، فمطله بِثمنِهَا وحبسه، فطال ذَلِكَ عَلَى الرَّجُل فَأتى بَعْض أَصْحَاب ابْن غياث فشاوره، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقل لَهُ: أَعْطِنِي ألف دِرْهَم وأحيلُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ الْبَاقِي وأخرجُ إِلَى خُراسان، فَإِذا فعل هَكَذَا فالقني حَتَّى أُشير عَلَيْكَ، فَفعل الرَّجُل وأتى مرزبان فَأعْطَاهُ ألف دِرْهَم، فَرجع إِلَى الرَّجُل فَأخْبرهُ، فَقَالَ: عُد إِلَيْهِ فَقل لَهُ: إِذَا ركبت غَدا فطريقُك عَلَى القَاضِي تَحْضُرُ وأوكِّل رَجُلا يقبض المَال وَأخرج، فَإِذا جلس إِلَى القَاضِي فادِّع عَلَيْهِ مَا بَقِي لَك من المَال، فَإِذا أقرّ حَبسه حَفْص وَأخذت مَالك، فَرجع إِلَى مرزبان فَسَأَلَهُ فَقَالَ: انتظرني بِبَاب القَاضِي، فَلَمّا ركب من الْغَد وثب إِلَيْهِ الرَّجُل فَقَالَ: إِن رَأَيْت أَن ننزل إِلَى القَاضِي حَتَّى أوكِّل بِقَبض المَال وَأخرج فَنزل مرزبان فتقدَّما إِلَى حَفْص بْن غياث فَقَالَ الرَّجُل: أصلح اللَّه القَاضِي، لي عَلَى هَذَا تِسْعَة وَعِشْرُونَ ألف دِرْهَم، قَالَ حَفْص: مَا تَقول يَا مجوسيُّ؟ قَالَ: صَدَق أصلَح اللَّه القَاضِي، قَالَ: مَا تقولُ يَا رَجُل فقد أقرّ لَك؟ قَالَ: يُعطيني مَالِي أصلح اللَّه القَاضِي، فَأقبل حَفْص عَلَى الْمَجُوسِيّ فَقَالَ: مَا تَقول؟ قَالَ: هَذَا المَال عَلَى السيدة، قَالَ: أَنْت أَحمَق، تقرُّ ثُمَّ تَقول: عَلَى السيدة، مَا تَقول يَا رَجُل؟ قَالَ: أصلح اللَّه القَاضِي، إِن أَعْطَانِي مَالِي وَإِلَّا حبستَه، قَالَ حَفْص: مَا تَقول يَا مجوسيّ؟ قَالَ: المالُ عَلَى السيدة، قَالَ: خُذُوا بِيَدِهِ إِلَى الْحَبْس، فَلَمّا حُبس بلغ أم جَعْفَر الْخَبَر فَغضِبت فَبعثت إِلَى السِّنْدي: وَجِّه إليَّ مرزبان، وَكَانَت الْقُضاة تَحبس الْغُرَمَاء فِي الْجِسر، فعَجِلَ السِّنْدي فَأخْرجهُ، وَبلغ حفصًا الْخَبَر فَقَالَ: أَحْبِسُ أَنَا ويُخرِج السِّنْدي، لَا جَلَست مجلسي هَذَا أَوْ يُردُّ مرزبان إِلَى الْحَبْس، فجَاء السندي إِلَى أم جَعْفَر فَقَالَ: اللَّه اللَّه فِي، أَنه حَفْص بْن غياث وأخاف من أَمِير الْمُؤمنِينَ أنْ يَقُولُ: بِأَمْر من أخرجته، رُدِّيهِ إِلَى الْحَبْس وَأَنا أكَلمُ حفصًا فِي أمره فأجابته فَرجع مرزبان إِلَى الْحَبْس، فَقَالَت أم جَعْفَر لهارون: قاضيك هَذَا أَحمَق، حبس وَكيلِي واستَخف بِهِ فمرهُ لَا ينظر فِي الحكم ويولي أمره إِلَى أَبِي يُوسُف، فَأمر لَهَا بِكِتَاب وَبلغ حفصًا الْخَبَر، فَقَالَ للرجل: أحضرني شُهودًا حَتَّى أُسَجِّلَ لَك عَلَى المجوسيِّ بِالْمَالِ، فَجَلَسَ حَفْص فسجّل عَلَى الْمَجُوسِيّ وَورد كتاب هَارُون مَعَ خَادِم، فَقَالَ: هَذَا كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: مَكَانك نَحْنُ فِي شَيْءٍ حَتَّى نَفرُغ مِنْهُ، فَقَالَ: كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: انْظُر مَا يُقَالُ لَك، فَلَمّا فرغ حَفْص من السِّجل أَخذ الْكتاب من الْخَادِم فقرأه، فَقَالَ: اقْرَأ عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ السّلام وَأخْبرهُ أنَّ كِتَابه ورد وَقد أنفذْتُ الحكم،(1/152)
فَقَالَ الْخَادِم: قَدْ وَالله عرفتُ مَا صنعتَ، أبيتَ أَن تَأْخُذ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ حَتَّى تَفْرغ مِمَّا تُرِيدُ، ووَالله لأخبرنّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، بِمَا فعلت، فَقَالَ لَهُ حَفْص: قل مَا أَحْبَبْت، فجَاء الْخَادِم فَأخْبر هَارُون فَضَحِك، وَقَالَ: مُرْ لحفص بْن غياث بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، فَركب يحيى بْن خَالِد فَاسْتقْبل حفصًا منصرفًا من مجْلِس الْقَضَاء، فَقَالَ: أيُّها القَاضِي! قَدْ سررتَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْيَوْم وَأمر لَك بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، فَمَا كَانَ السَّبَب فِي هَذَا؟ قَالَ: تَمّم اللَّه سُرُور أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأحسن حفظه وكلاءته، مَا زدتُ عَلَى مَا أفعل كلَّ يَوْمَ، قَالَ: عليّ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا أعلم إِلَّا أَن يكون سَجّلْتُ عَلَى مرزبان الْمَجُوسِيّ بِمَا وَجب عَلَيْهِ، فَقَالَ يحيى بْن خَالِد: بِهَذَا سُرَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ حَفْص: الْحَمد لله كثيرا، فَقَالَت أم جَعْفَر لهارون: لَا أَنَا وَلَا أَنْت إِلَّا أَن تعزل حفصًا، فَأبى عَلَيْهَا، ثُمَّ ألحّت عَلَيْهِ فَعَزله عَنِ الشرقية وولاه الْقَضَاء على الْكُوفَة فَمَكثَ عَلَيْهَا ثَلَاث عشرَة سنة، وَكَانَ أَبُو يُوسُف لمّا وُلّي حَفْص قَالَ لأَصْحَابه: تَعَالَوْا نكتبْ نوادرَ حَفْص، فَلَمّا وَردت أَحْكَامه وقضاياه عَلَى أَبِي يُوسُف قَالَ لَهُ أَصْحَابه: أَيْنَ النَّوَادِر الَّتِي زعمت نكتبها؟ فَقَالَ: وَيحكم! إِن حفصًا أَرَادَ اللَّه فوفّقه. قَالَ ابْن مخلد: قَالَ أَبُو عليّ: سَمِعت أَبَا عليّ حَسَن بْن حَمَّاد سجادة يَقُولُ: قَالَ حَفْص بْن غياث: وَالله مَا وليت الْقَضَاء حَتَّى حَلّت لِيَ الْميتَة، وَمَات يَوْمَ مَاتَ وَلم يُخَلّف درهما وَخلف عَلَيْهِ تسع مائَة دِرْهَم دَيْنًا، قَالَ سجادة: وَكَانَ يُقَالُ: خُتِم الْقَضَاء بحفص بْن غياث.
لَا يَسْتَحْيي أَحَدُكُمْ من التّعَلُّم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْفَتْح القلانسي، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي عَمْرو الشَّيْبَانيّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن الطَّائِي، قَالَ: قَالَ لي عَبْد اللَّه بْن زَيْدُ القَيْسيّ: بَينا أَنَا وَاقِف عَلَى رَأس ابْن هُبَيْرة وَبَين يَدَيْهِ سِمَاطَانِ من وُجُوه النّاس إِذْ أقبل شَاب لَمْ أر فِي مثل جماله وكماله، حَتَّى دنا من ابْن هُبَيْرة فَسلم عَلَيْهِ بالإمرة فَقَالَ: لَهُ: أصلح اللَّه الْأَمِير، امرؤٌ قدحته كُربة، وأوحشته غُربة، ونأتْ بِهِ الدَّار، وَحل بِهِ عَظِيم، خَذَله أخلاؤُه، وشمت بِهِ أعداؤه، وأسلمه الْبعيد، وجفاه الْقَرِيب، فَقُمْت مقَاما لَا أرى لي مُعَولا ولَا حازبا إِلَّا الرَّجَاء لله تَعَالَى وحُسن عَائدة الْأَمِير، وَأَنا أصلح اللَّه الْأَمِير مِمَّن لَا تُجهل أسرته وَلَا تضيع حرمته، فَإِن رَأَى الْأَمِير - أصلحه اللَّه - أَن يسدَّ خَلتي وَيجْبر خصاصتي يفعل، فَقَالَ ابْن هُبَيْرة: مَنِ الرَّجُل؟ قَالَ: من الَّذِينَ يَقُولُ لَهُم الشَّاعِر:
فَزَارةُ بَيت العزِّ والعزُّ فِيهِمُ ... فَزَارَة قَيسٍ حَسْبَ قيس فَعَالُها
لَهَا الْعِزَّة القصوى مَعَ الشّرف الَّذِي ... بناه لقيس فِي الْقَدِيم رِجالُها
وَهل أحدٌ إِن مدَّ يَوْمَا بكفه ... إِلَى الشَّمْسِ فِي مجْرى النُّجُوم ينالها
لهيهات مَا أعيا القرونَ الَّتِي مَضَت ... مآثر قيس واعتلاها فعالها(1/153)
فَقَالَ ابْن هُبَيْرة: إِن هَذَا لأدبٌ حَسَنٌ مَعَ مَا أرى من حَداثة سنك، فكم أَتَى لَك من السن؟ قَالَ: تسع وَعِشْرُونَ سنة، فلحن الْفَتى، فَأَطْرَقَ ابْن هُبَيْرة كالشامت بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَو لَحّان أَيْضا مَعَ جميل مَا أَتَى عَلَيْهِ منطقك؟ شِنْتَه وَالله بأقبح الْعَيْب، قَالَ: فأبصر الْفَتى مَا وَقع فِيهِ، فَقَالَ: إِن الْأَمِير أصلحه اللَّه عظُم فِي عَيْني وملأت هيبته صَدْرِي، فَنَطَقَ لساني بِمَا لَمْ يعرفهُ قلبِي، فوَاللَّه إِلَّا مَا أقالني الْأَمِير عثرتي عِنْدَمَا كَانَ من زلتي، فَقَالَ ابْن هُبَيْرة: وَمَا عَلَى أَحَدكُمْ أَن يتَعَلَّم الْعَرَبيَّة فيقيم بهَا أوَدَه، ويَحْضُرَ بهَا سُلْطَانَه، ويُزَيّن بهَا مشهده، وينوءَ بهَا عَلَى خصمة، أَوَ يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَن يكون لِسَانه مثل لِسَان عَبده أَوْ أكّاره؟ وَقد أمرنَا لَك بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَإِن كَانَ سَبَقَك لسَانك وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِبَعْض مَا أوصلناه إِلَيْك، وَلَا يستحيي أَحَدُكُمْ من التَّعَلُّم، فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذَا اللِّسَان لَكَانَ الإِنْسَان كالبهيمة الْمُهْملَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَوْ كالصورة الممثلة، قتل اللَّه الشَّاعِر حَيْث يَقُولُ:
ألم تَرَ مِفْتَاح الْفُؤاد لسانَهُ ... إِذَا هُوَ أبْدى مَا يَقُولُ من الفَمِ
وكائِنْ ترى من صاحبٍ لَك مُعْجَب ... زيادتُه أَوْ نَقْصُه فِي التَّكَلُّم
لسانُ الْفَتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه ... فَلم يبْق إِلَّا صُورَة اللَّحْم والدمِ
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: فَإِن رَأَى الْأَمِير يفعل، فَالْأَحْسَن: فَإِن رَأَى فعل، أَوْ فَإِن ير يفعل ليتفق لفظ الشَّرْط وَلَفظ الْجَزَاء، وَفعل الْجَزَاء مُسْتَقْبل فِي الْمَعْنى وَإِن أَتَى بِهِ بِلَفْظ الْمُضِيّ، ومجيئه مختلط عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَر صَوَاب، وَقَالَ زُهَيْر:
وَمن هاب أَسبَاب المنايا يَنَلْنَهُ ... وَلَو نَالَ أَسبَاب السَّمَاء بسُلّمِ
اللّحّانُون من الخَاصَّة
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عليّ الخَطِبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد البربوني، قَالَ: قَالَ أَبُو أَيُّوب يَعْنِي سُلَيْمَان بْن أبي شيخ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: كَانَ الْوَلِيد بْن عبد الْملك بْن مَرْوَان لَحّانًا كَأَنِّي اسْمَعْهُ عَلَى مِنْبَر النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أهل المَدِينَةِ. قَالَ: وَقَالَ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان لرجل من قُرَيْش: إنَّك لرجل لَوْلَا أنَّكَ لحّان، فَقَالَ: وَهَذَا ابْنك الْوَلِيد يلحن، قَالَ: لَكِن ابْني سُلَيْمَان لَا يلحن، قَالَ الرَّجُل: وَأخي فلَان لَا يلحن.
قَالَ أَبُو أَيُّوب: كَانَ ربيعَة الرَّأْي لحّانًا، وَمَالك بْن أنس لَحّانًا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَن السُّلَميّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَازِنِيِّ، قَالَ: سمع أَبُو عَمْرو أَبَا حنيفَة يتَكَلَّم فِي الْفِقْه ويلحن فأعجبه كَلَامه واستقبح لحنه، فَقَالَ: إِنَّهُ لَخطابٌ لَوْ ساعده صَوَاب، ثُمَّ قَالَ لأبي حنيفَة: إِنَّك أحوجُ إِلَى إصْلَاح لسَانك من جَمِيع النّاس.(1/154)
جاريتان تغلبان عِيسَى بن أبان
حَدَّثَنِي طَاهِر بْن مُسْلِم الْعَبْدي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعت عِيسَى بْن أبان، يَقُولُ: كنت عِنْدَ الْمَأْمُون فاستأذنته فِي الْخُرُوج إِلَى الْبَصْرَة إِلَى عيالي، فَقَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ أشوق إِلَيْكَ مِنْك إِلَى عِيَالك، وَلَكِن وَجِّه إِلَيْهِم فيحملوا، ثُمَّ قَالَ لخادم عَلَى رَأسه: قل لَهُمْ: يحثّوا، قَالَ: فَإِذا غلامٌ أَمْرَد قَدْ أقبل لَمْ تَرَ عَيْني أحسنَ مِنْهُ مُغَلَّفٌ بالغالية يخْطر حَتَّى جَاءَ فَسلم، فَقَالَ لَهُ: مرْحَبًا ثُمَّ أجلسه على فَخذه الْيُمْنَى، ثُمَّ أقبل آخر مثله فأقعده عَلَى فَخذه الْيُسْرَى فَجعلت أنظر إِلَى حُسنهما، فَقَالَ لي: يَا عِيسَى! بأيِّهما ترى أَن أبدأ، فَقلت: أعيذ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِاللَّه، لَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّه عَنْ هَذَا وصانه، قَالَ: يَا عِيسَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي ذهبتَ إِلَيْهِ، إنَّهُمَا جاريتان اشْتَهيْتُهما فِي زيّ الغلمان، فَقلت: أَمِير الْمُؤمنِينَ أَعلَى عينا، فَقَالَت الأولى: وَالله يَا عِيسَى مَا تحسن الْحُكُومَة، ألم تسمع إِلَى قَول الله عز وَجل: " السَّابِقُونَ الْأَولونَ " قَالَ: فبقيتُ وَالله مُتَعَجِّبا وتمنّيت أَنِّي كنتُ اهتديت إِلَى مَا قَالَت بِجَمِيعِ مِلْكي، ثُمَّ قَالَت الْأُخْرَى: لَا وَالله يَا عِيسَى، مَا تبصر من الْحُكُومَة شَيئًا، ألم تسمع إِلَى قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى " فتركته مَعَهُمَا وَخرجت.
أَبُو نواس يَأْخُذ معنى حَدِيث شرِيف وينظمه شعرًا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو ثُمَامَةَ الْقَيْسِيُّ، قَالَ: فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ عِنْدَهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، فَتَحَدَّثَ رَوْحٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْقُلُوبُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ". قَالَ أَبُو نُوَاسٍ: أَنْتَ لَا تَأْنَسُ بِي وَسَأَجْعَلُ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْظُومًا بِشِعْرٍ، قُلْتُ: فَإِنْ قُلْتَ ذَلِكَ فَجِئْنِي بِهِ، فَجَاءَنِي فَأَنْشَدَنِي:
يَا قَلْبُ رِفْقًا، أَجَدٌّ مِنْكَ ذَا الْكَلَفُ ... وَمَنْ كَلِفْتَ بِهِ جَانٍ كَمَا تَصِفُ
وَكَانَ فِي الْحَقِّ أَنْ يَهْوَاكَ مُجْتَهِدًا ... بِذَاكَ خَبَّرَ مِنَّا الْغَابِرُ السَّلَفُ
إِنَّ الْقُلُوبَ لأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ ... لِلَّهِ فِي الأَرْضِ بِالأَهْوَاءِ تَعْتَرِفُ
فَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا فَهُوَ مُخْتَلِفٌ ... وَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهُوَ مُؤْتَلِفُ
حَدَّثَنَا الصولي: قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزِيد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْن مهدويه، قَالَ: حَدَّث أَبُو حَفْص عُمَر بْن إِبْرَاهِيم الْعَدوي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمنْهَال - إِلَّا أَنَّهُ قَالَ الضَّرِير - قَالَ: حَدَّثَنِي يزِيد بْن زُرَيْع: وسَاق الْخَبَر، إِلَّا أَنَّهُ زَاد فِيهِ قَالَ يزِيد بْن زُرَيْع: وَكَانَ أَبُو نواس صَبِيًّا.(1/155)
شرب نبيذًا ثُمَّ لَا يدْرِي أطلق امْرَأَته أم لَا، وَحكم ذَلِكَ
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أيّوب بْن زَاذَان الْقُرْبَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد التّميميّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن معري، قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى أبي حنيفَة، فَقَالَ: إِنِّي شربتُ البارحة نبيذًا فَلا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: الْمَرْأَة امرأتُك حَتَّى تستيقن أنَّكَ طَلَقْتَها، ثُمَّ أَتَى سُفْيَان الثّوريّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! إِنِّي شربتُ البارحة نبيذًا فَلا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: اذْهَبْ فَرَاجعهَا فَإِن كنت قَدْ طَلقتهَا فقد راجعتها وَإِن لَمْ تَكُ طَلّقْتها لَمْ تَضُرَّك الْمُرَاجَعَة شَيئًا، ثُمَّ أَتَى شريك بْن عَبْد اللَّه، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! إِنِّي شربت البارحة نبيذا وَلَا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: اذْهَبْ فَطلقهَا ثُمَّ رَاجعهَا، ثُمَّ أَتَى زُفَر بْن الْهُذيْل، فَقَالَ: يَا أَبَا الْهُذيْل! إِنِّي شربت البارحة نبيذا وَلَا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: سَأَلت غَيْرِي؟ قَالَ: أَبَا حنيفَة، قَالَ: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: الْمَرْأَة امرأتُك حَتَّى تستيقن أنَّكَ قَدْ طَلقتهَا، قَالَ: الصَّوَاب قَالَ، قَالَ: فَهَل سألتَ غَيره؟ قَالَ: سُفْيَان الثّوريّ، قَالَ: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: اذْهَبْ فَرَاجعهَا فَإِن كنت قَدْ طَلقتهَا فقد راجعتها وَإِن لَمْ تَكُ طَلّقْتها لَمْ تَضُرك الْمُرَاجَعَة شَيئًا، قَالَ: مَا أحسن مَا قَالَ! قَالَ: فَهَل سَأَلتَ غَيره؟ قَالَ: شريك بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: اذْهَبْ فَطلقهَا ثُمَّ رَاجعهَا، فَضَحِك زفر وَقَالَ: لأضربنَّ لَك مثلا، رَجُل مَرَّ بمثغب يسيل فَأصَاب ثَوْبه، قَالَ لَك أَبُو حنيفَة: ثوبُك طَاهِر وصلاتك تَامَّة حَتَّى تستيقن أَمر المَاء، وَقَالَ لَك سُفْيَان: اغسله فَإِن يَك نجسا فقد طَهُر، وَإِن يَك نظيفاً زَاد نظافة، وَقَالَ لَك شريك: اذْهَبْ فبُلْ عَلَيْهِ ثُمَّ اغسله.
حذف ألف الِاسْتِفْهَام
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: وَلَا أَدْرِي طلقت امْرَأَتي أم لَا، والفصيح وَلَا أَدْرِي أطلقت، غَيْر أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِع بِغَيْر ألف اكْتِفَاء بِدلَالَة أم، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
تَرُوح من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... وماذا يَضُرُّك لَوْ تنتِظر
وَقَالَ آخر:
لَعَمْرك مَا أَدْرِي وَإِن كنتُ داريا ... شُعَيْبُ بْن سَهْم أم شُعَيب بْنِ مِنْقَرِ
وَقَالَ ابْن أبي ربيعَة:
فوَاللَّه مَا أَدْرِي وَإِن كنتُ داريا ... بِسبع رَمَيْن الجَمْر أم بِثَمَانِ
وَقد أجَاز قَوْمٍ حذف ألف الِاسْتِفْهَام وَإِن لَمْ تكن أم فِي الْكَلَام، وتأولوا مثل هَذَا فِي الْقُرْآن، كَقَوْلِه " هَذَا رَبِّي " واستشهدوا بقول الْهُذلِيّ:
رَفَوْني وَقَالُوا يَا خُوَيلدُ لمْ تُرَع ... فقلتُ وأنكرتُ الْوُجُوه: هُمُ هُمُ؟
وَقَول ابْن أبي ربيعَة:
ثُمَّ قَالُوا: تحبها؟ قلت بهراًعدد الرَّمْل والحصى والتُّرابِ وَأنكر هَذا بعض نظار(1/156)
النَّحْوِيين، إِذْ فِيهِ عِنْدَهُ التباس الْخَبَر والاستخبار، وَقَالَ: الأبيات
عَلَى الْخَبَر دون الِاسْتِفْهَام.
وَقد أحسن زُفَر فِي فَصله بَيْنَ هَؤُلاءِ الثَّلَاثَة فِيمَا أفْتَوا بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَفِيمَا ضربه لسائله من الأمثل، وأمّا قَول أبي حنيفَة فَهُوَ محضُ النّظر ومَرُّ الْحق، وَلَا يجوز أَن يحكم عَلَى امْرِئ فِي زَوجته بِطَلَاقِهَا بَعْدَ صِحَة زوجيِّتها، ويقين الْعلم بِثُبُوت النِّكَاح بَينه وَبَينهَا، بظنِّ عَرَض لَهُ وحُسْبان أَنَّهُ أوقع الطَّلَاق فِي حالٍ يتَغَيَّر فِيهَا الْفَهم، ويزولُ مَعهَا التَّمْيِيز، وَهُوَ أبعد عِنْدَ ذَوي الأفهام، من أضغاث الأحلام، ورؤيا الراقد فِي الْمَنَام، من حَال الصِّحَّة الَّتِي تلْزم فِيهَا الْأَحْكَام، وتجري فِيهَا الأقلام، فأمّا مَا قَالَ سفيانُ الثّوريّ فَإِنَّهُ أَشَارَ بالاستظهار والتوقفة وَالْأَخْذ بالحزم والحيطة وَهَذِه طَريقَة أَهْلَ الْوَرع الْمُتَّقِينَ، وَذَوي الِاسْتِقْصَاء عَلَى أنفسهم من أَهْلَ الدِّين، وفُتيا أَبِي حنيفَة فِي هَذَا عين الْحق وجُلُّ الْفِقْه، وَأي هَاتين المحجّتين سلك من نزلت بِهِ هَذِهِ النَّازِلَة، وعرضَتْ لَهُ هَذِهِ الحادثةُ فَهُوَ مُصيبٌ محسن عَلَى مَا بَينا فِيهَا من الفَضْل بَيْنَ المنزلتين، وأمّا مَا أفتى بِهِ شريك وتعجّب زفُر مِنْهُ وَاقع فِي موقعه، وَلَا وَجه فِي الصِّحَّة لمّا أَشَارَ بِهِ، وَقد أصَاب زُفرٌ أَيْضا فِي الْمثل الَّذِي ضربه لَهُ، وَأرى أنَّ شَرِيكا توهم أنَّ الرّجْعَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا مَعَ تحقق الطَّلَاق، فَأمر باستئناف تَطْلِيقَة لتصح الرّجْعَة بعْدهَا، وَهَذَا مَا لَا يحِيل فَسَاده، وَلَو كَانَ كَمَا نرى أَنَّهُ توهمه لما أثرت الرّجْعَة إِلَّا فِي التطليقة الَّتِي أوقعهَا وتيقنها دون الَّتِي أشْفق من تقدمها وَهُوَ عَلَى غَيْر يَقِين مِنْهَا، وَلَو أنَّ رَجُلا وكّل رَجُلا فِي طَلَاق زَوجته، ثُمَّ غَابَ الْوَكِيل فأشفق من تطليقه إِيَّاهَا عَلَيْهِ، وَأشْهد على رَجعتهَا وَهُوَ غَيْر عَالم بوقوعها، ثُمَّ تبين أَنَّهَا وَقعت قَبْلَ مُرَاجعَته لصحّت رجعته، وَكَذَلِكَ لَوْ كتب إِلَى زَوجته بِطَلَاقِهَا إِذَا وصل إِلَيْهَا كِتَابه، ثُمَّ أشهد عَلَى الرّجْعَة بَعْدَ الْوُصُول وَقبل انْقِضَاء الْعدة، لكَانَتْ الرّجْعَة صَحِيحَة لوقوعها بَعْدَ الطَّلَاق الَّذِي لَمْ يكن عَالما بِهِ.؟
الْمجْلس الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
حَدِيث إِنَّكُم لن تسعوا النّاس بأموالكم
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأُبَلِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَفٍ الْجِيلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي: قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ ذِي حَمَّامٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ الْحَنَفِيِّ وَيُكَنَّى أَبَا الْفَضْلِ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ".
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي: هَذَا الَّذِي ذكره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحسن الْكَلَام وألطفه، وأبلغ بَيَان وأشرفه، وَلَقَد أرشد أمته إِلَى الْحَاضِر المتيسر، وَالْمَوْجُود الَّذِي لَيْسَ بمستصعب وَلَا مُتَعَذر، وَقد جَاءَ عَنْهُ وَعَن السّلف بعده فِي حسَن الْخلق، وَبسط الْوَجْه، وتوطئة الكَنَف،(1/157)
وَجَمِيل المعاشرة، وكريم الصُّحْبَة، مَا يطول ذكره ويتعب جمعه، وَجَاء عل النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: " إنَّ الرَّجُل ليدرك بحُسْن خَلْقه دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم، وَإِن خَير مَا أُوتِيَ الْمَرْء بَعْدَ الْإِيمَان بِاللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلْقٌ حَسَن " وَجَاء عَنْهُ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا فِي ذمّ سوء الْخلق مَا يطولُ ذكره، وَأمر هذَيْن الخلقين فِي فَضله وَحسنه، وَنقض الآخر وقبحه، بَين عِنْدَ خَواص العاقلين وعوام المتميزين، من أَن يحْتَاج إِلَى الإطناب فِيهِ والإسهاب فِي الاستشهاد عَلَيْهِ، وفقنا الله وَإِيَّاكُم من الْأَخْلَاق لكل مَا يحمد ويُستحسن، وأعاذنا ممّا يذمّ ويستهجن، فَلَنْ ندرك خيرا إِلَّا بفضله ومعونته، وَلنْ ندرأ شَرًّا إِلَّا بحوله وقوته.
عَيْش الْفُقَرَاء وحساب الْأَغْنِيَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ الْعُتْبِي، عَنْ سَعِيد، قَالَ: سَمِعت أَعْرَابِيًا، يَقُولُ: عجبا للبخيل المتعجل للفقر الَّذِي مِنْهُ هرب، والمؤخر للسّعَة الَّتِي إِيَّاهَا طلب، وَلَعَلَّه يَمُوت بَيْنَ هربه وَطَلَبه، فَيكون عيشه فِي الدُّنْيَا عَيْش الْفُقَرَاء، وحسابه فِي الآخِرَة حِسَاب الْأَغْنِيَاء، مَعَ أنَّكَ لَمْ تَرَ بَخيلا إِلَّا وَغَيره أسعد بِمَالِه مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مهتمٌ بجمعه، وَفِي الآخِرَة آثم بِمَنْعه، وَغَيره آمن فِي الدُّنْيَا من همّه، وناج فِي الآخِرَة من إثمه.
قَالَ القَاضِي: وَفِيمَا حكى لي من منثور كَلَام ابْن المعتز: بَشِّرْ مَال الْبَخِيل بحادث أَوْ وَارِث، وَمن منظومة:
يَا مَالَ كُلِّ جامعٍ ووارث ... أبْشِر بريبِ حادثٍ أَوْ وَارِثِ
سَبَب نكبة أبي أَيُّوب المورياني وَزِير الْمَنْصُور
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْل الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي: قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور فِي بَعْض أَسْفَاره فِي أيّام بني أُميَّة تزوج امْرَأَة من الأزد بالموصل عَنْ ضُرٍّ شَدِيد أَصَابَهُ حَتَّى أكرى نَفسه مَعَ الملاحين يمدُّ فِي الْحَبل، حَتَّى انْتهى إِلَى المَوْصِل أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لأمر خَافَه عَلَى نَفْسه، فتنكر وأكرى نَفسه فِي مدادي السفن، فَخَطب هَذِه الْمَرْأَة ورَغّبها فِي نَفسه، ووعدها ومناها وَأخْبرنَا أَنَّهُ نَابِهُ القَدْر، وَأَنه من أَهْلَ بَيت شَرَف، وَأَنَّهَا إِن تزوجته سَعِدَتْ بِهِ، فَلم يزل يُمَنِّيها بِهَذَا وَشبهه حَتَّى أَجَابَتْهُ وَأقَام مَعهَا، وَكَانَ يخْتَلف فِي أَسبَابه وَيجْعَل طَرِيقه عَلَيْهَا بِمَا رزقه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اشتملتْ عَلَى حَمْل، فَقَالَ لَهَا: أيتها الْمَرْأَة! هَذِهِ رُقْعةٌ مختومة عنْدك لَا تَفْتَحيها حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنك، فَإِن ولدت ابْنا فسمِّيه جعفرا وكَنِّيه أَبَا عَبْد اللَّه، وَإِن ولدت بِنْتا فسمِّيها فُلَانَة، وَأَنا عَبْد اللَّه بن مُحَمَّد ابْن عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، فاسْتُري أَمْرِي فَإنّا قومٌ مطلوبون، وَالسُّلْطَان إِلَيْنَا سريع، وودّعها وَخرج، فقُضي أَنَّهَا ولدتْ ذكرا وأخرجت الرقعة وقرأت النّسَب فَسَمتْهُ جعفرًا وَضرب الدَّهْر على ذَلِكَ مَا تسمع لَهُ خَبرا، وَنَشَأ الصَّبِي مَعَ أَخْوَاله وَأهل بَيت أمه، وَكَانَ كَيِّسًا ذَهِنًا لَقِنًا واستخلف(1/158)
أَبُو الْعَبَّاس فَقيل للْمَرْأَة: إِن كنت صَادِقَة فِي رقعتك وَكَانَ من كتبهَا صَادِقا فَإِن زَوجك الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَتْ: مَا أَدْرِي صفوا لي صفة هَذَا الْخَلِيفَة، قَالُوا: غلامٌ حِين اتَّصل وَجهه، قَالَتْ: لَيْسَ هُوَ هُوَ، قيل: فاستري إِذَا أَمرك، وَلم يلبث أَبُو الْعَبَّاس أَن مَاتَ وَاسْتحق عِنْدهَا الْيَأْس، وَأَقْبل ابْنهَا عَلَى الْأَدَب فتأدب وظَرُفَ وَكتب ونزعت بِهِ همته إِلَى بَغْدَاد، فَدخل ديوَان أبي أَيُّوب كَاتب الْمَنْصُور، وَانْقطع إِلَى بَعْض أَهله فَأتى عَلَيْهِ زمَان يتقَّوت الْكتب ويتزيد فِي أدبه وفهمه وخطه، حَتَّى بلغ إِن صَار يكْتب بَيْنَ يَدي أبي أَيُّوب، إِلَى أَن تهَيَّأ أَن خرج خَادِم يَوْمَا إِلَى الدِّيوَان يطْلب كَاتبا يكْتب بَيْنَ يَدي الْمَنْصُور، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب للغلام: خُذْ دَوَاتَك وقم واكتب بَيْنَ يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَدخل الغلامُ فَكتب وَكَانَت تتهيأ من أبي جَعْفَر إِلَيْهِ النظرة بَعْدَ النظرة يتأمله، وألقيت عَلَيْهِ محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فَلبث زَمَانا لَا يزَال الْخَادِم قَدْ خَرَجَ فيَقُولُ: يَا غُلَام خُذ دواتك وقم واكتب بَيْنَ يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، واستراح أَبُو أَيُّوب إِلَى مَكَانَهُ، وَرَأى أَنَّهُ قَدْ حَمَل عَنْهُ ثقلا، وبرَّ الغلامَ وَوَصله وكساه كُسْوةً تصلح أَن يَدْخُل بهَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ إِن أَبَا جَعْفَر قَالَ للغلام يَوْمَا: مَا اسْمك؟ قَالَ: جَعْفَر، قَالَ: ابْن من؟ فَسكت متحيرًا، قَالَ: ابْن من وَيحك؟ قَالَ: ابْن عَبْد اللَّه قَالَ: فَأَيْنَ أَبوك؟ قَالَ: لَمْ أره وَلم أعرفهُ، وَلَكِن أُمِّي أَخْبَرتنِي أَن أبي شرِيف، وَأَن عِنْدَها رقْعَة بِخَطِّهِ فِيهَا نسبه، عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، فساعة ذَكَرَ الرقعة تغير وَجه الْمَنْصُور، فَقَالَ: وَأَيْنَ أمك؟ قَالَ: بالموصل، قَالَ: وَأَيْنَ تَنْزِلُونَ؟ قَالَ: فِي مَوضِع كَذَا، قَالَ: فتعرفُ فلَانا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ إِمَام مَسْجِد مَحَلّتنا، قَالَ: أفتعرف فلَانا؟ قَالَ: نَعَمْ بَقّالٌ فِي سكتنا، فَلَمّا رَأَى الْغُلَام أَبَا جَعْفَر ينْزع بأسماء قَوْمٍ يعرفهُمْ أَدْرَكته هيبةٌ لَهُ، وجَزَع وتَدَمّعَ، فأدركت أَبَا جَعْفَر الرقة عَلَيْهِ فَلم يَتَمَالَك أَن قَالَ: فُلَانَة بِنْت فلَان من هِيَ مِنْك؟ قَالَ: أُمِّي، قَالَ: ففلانة؟ قَالَ: خَالَتِي، قَالَ: ففلان؟ قَالَ: خَالِي، فضمه إِلَيْهِ وَبكى، وَقَالَ: يَا غُلَام! لَا يعلمنّ أَبُو أَيُّوب وَلَا أحد من خَلْقٌ اللَّه تَعَالَى مَا دَار بيني وبنيك، انْظُر انْظُر احذر احذر، فَنَهَضَ الْغُلَام فَخرج، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوب لَقَد احتبستَ عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: كتبتُ كتبا كَثِيرَة وأملّها عَلَي، قَالَ: فَأَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: جعلهَا نسخا يتردَّدُ فِيهَا حَتَّى يُحْكمها ثُمَّ تخرج إِلَى الدِّيوَان ثُمَّ إِن أَبَا جَعْفَر جعل يَقُولُ فِي بَعْض الْأَيَّام لأبي أَيُّوب: هَذَا الْغُلَام الَّذِي يكْتب بَيْنَ يَدي كيس فاستوص بِهِ، قَالَ: فاتّهم أَبُو أَيُّوب الْغُلَام أَنه يلقِي إِلَى أبي جَعْفَر الشَّيء بَعْدَ الشَّيء من خَبره، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن سَأَلَهُ عَنْهُ مرّة بَعْدَ مرّة فقُذِف فِي قلب أبي أَيُّوب بُغْضُ الْغُلَام، وَأَنه يقوم مقَامه إِن فَقده أَبُو جَعْفَر، وَقذف فِي قلبه أَنَّهُ يسْعَى عَلَيْهِ وَأَنه يخرج أخباره، فَجعل إِذَا خَرَجَ الْخَادِم يطْلب كَاتبا بعث مَعَه غَيره وَأَبُو جَعْفَر يزْدَاد وَلها إِلَى الْغُلَام ويجن جنونًا وَلَيْسَ يمنعهُ من إدنائه وَإِظْهَار أمره إِلَّا لأمر يَريده، فَلَمّا رَأَى أنَّ(1/159)
أَبَا أيّوب يحْبسهُ عَنْهُ عنادًا، قَالَ للخادم: اخْرُج إِلَى الدِّيوَان فجئني بفلان الْغُلَام الَّذِي كَانَ يكْتب بَيْنَ يَدي، فَإِن بعث مَعَك أَبُو أَيُّوب بِغَيْرِهِ فَقل:
لَا، أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا يدْخل عَلَيْهِ غَيره، فَفعل الْخَادِم ذَلِكَ فَاسْتحقَّ فِي قلب أبي أَيُّوب مَا حذره وحَدَّثَتْه بِهِ نَفسه، فَقَالَ الْغُلَام: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ - جعلني اللَّه فدَاك - قَدْ تعرفت من أبي أَيُّوب البغض والاستثقال بمكاني، وَله غوائل لَا يُحِيط بهَا علمي وَأَنا أخافه عَلَى نَفسِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: بَارك الله عَلَيْك، فَمَا أَخْطَأت الَّذِي فِي نَفسِي وَهَذَا كُله يَا بني قَدْ جال فِي صَدْرِي، فَإِذا كَانَ غَد فتعرض لِأَن يغلظ لَك، فَإِذا أغْلظ فَقُمْ فَانْصَرف كَأَنَّك مغضب، وَلَا تعد إِلَى الدِّيوَان وَاجعَل وَجهك إِلَى أمك، وأوصل إِلَيْهَا هَذَا العقد وَهَذَا الْكيس وكتابي هَذَا، واحمل أمك وَمن اتبعها من قرابتك وَأَقْبل فَانْزِل مَوضِع كَذَا، فَانِي منفذ إِلَيْكَ خَادِمًا يتفقد أمورك وَيعرف خبرك، وَلَا تطلِعنَّ أحدا من الْخلق طلع مَا مَعَك، وامض بِهَذَا المَال وَبِهَذَا العقد وأحرزه أَولا قَبْلَ رجوعك إِلَى الدِّيوَان، ثُمَّ قَالَ للخادم: أَخْرَجَهُ من بَاب كَذَا وَكَذَا، فَخرج الْغُلَام فأحرز مَا كَانَ مَعَه ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الدِّيوَان، وَأَبُو أَيُّوب فِي فكره من احتباسه عِنْدَ الْمَنْصُور، وَرجع الْغُلَام بِوَجْه بهج مسرور لَا يخفي ذَلِكَ عَلَيْهِ وَظُهُور الْفَرح فِي وَجهه وشمائله، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: أحلفُ بِاللَّه لَقَدْ رَجَعَ هَذَا الْغُلَام بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي مضى بِهِ، وَلَقَد دَار بَينه وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ من ذكرى مَا سرّه، واستشعر الوحشة مِنْهُ وَصرف أَكثر عمله عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن أغْلظ لَهُ، فَقَالَ الْغُلَام: أَنَا إِنْسَان غَرِيب أطلب الرزق وَأَنت تستخفُّ بِي، فَكَأَنِّي قَدْ ثقلت عَلَيْكَ فأنتحي عَنْكَ قَبْلَ أَن تطردني، ثُمَّ قَامَ فَانْصَرف وافتقده أَبُو أَيُّوب أيّاما، وَرَأى أنَّ أَبَا جَعْفَر لَا يسْأَل عَنْهُ وَلَا يذكرهُ، ثُمَّ إِن نفس أبي أَيُّوب نازعته إِلَى عَلَمُ حَقِيقَة خَبره، فَأرْسل من يسْأَل عَنْهُ فِي الْموضع الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ، فَقيل لَهُ: إِنَّهُ قَدْ تهَيَّأ للسَّفر وتجهز جهازًا حسنا وشخص إِلَى أَهله بالموصل، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب فِي نَفسه: وَمن أَيْن لَهُ مَا يتجهز بِهِ، وَكم مبلغ مَا ارتزق معي وارتفق بِهِ؟ لهَذَا الْأَمر نبأ، وَجعلت نَفسه تزدادُ وَحْشَة مِنْهُ وَمن خَبره إِلَى أَن قيل لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو جَعْفَر وَصله بِمَال ووهب لَهُ شَيئًا، فَقَالَ فِي نَفسه: هَذَا الَّذِي ظَنَنْت وَقد ربصه لمكاني وَيَنْبَغِي أَن يكون استأذنه فِي أَن يخرج إِلَى أَهله فيلم بهم ثُمَّ يرجع إِلَيْهِ فيقلِّده مَكَاني، فَقَالَ لرجل من أَصْحَابه: اخْرُج إِلَى طَرِيق المَوْصِل قَرْيَة قَرْيَة برًّا وبحرًا، فَإِذا عرفتَ مَوْضِعه فاقتله وجئني بِمَا مَعَه، فشخص وتهيأ، ثُمَّ إِن الْغُلَام لمّا خرج عَنْ بَغْدَاد رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمن فقصر فِي مسيره، وَكَانَ يُقيم فِي الْموضع فيستطيبه الْيَوْم واليومين وَالْأَكْثَر والأقل، فَلحقه رَسُول أبي أَيُّوب وعرفه، فباتا بقرية فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُول فخنقه وطرحة فِي الْبِئْر وَأخذ خُرجَه وخرائط كَانَتْ مَعَه، وَركب دابَّة لَهُ وَرجع إِلَى أبي أَيُّوب وسَلّم ذَلِكَ إِلَيْهِ وَشرح الْخَبَر لَهُ، ففتش مَتَاعه أَبُو أَيُّوب فَإِذا المَال وَالْعقد فَعرفهُ، وَإِذا كتاب الْمَنْصُور بِخَطِّهِ إِلَى أمه فَوَجَمَ أَبُو أَيُّوب وَنَدم وَعلم أَنَّهُ قَدْ عجل وَأَخْطَأ، وَأَن الْخَبَر لَمْ يكن كَمَا ظن، وعزم عَلَى الْحلف والمكابرة إِن عثر عَلَى شَيْءٍ من أمره، وَأَبْطَأ خبر الْغُلَام عَلَى أبي جَعْفَر، واستبطأه فِي الْوَقْت الَّذِي ضرب لَهُ، فَدَعَا خَادِمًا من ثقاته ورجلا من خاصته، فَقَالَ لَهما: استقرئا الْمنَازل إِلَى المَوْصِل منزلا منزلا وقرية قَرْيَة، وأعطيا صفة الْغُلَام حَتَّى تدخلا المَوْصِل، ثُمَّ اقصدا مَوضِع كَذَا من المَوْصِل فسلا عَن فُلَانَة، وَوصف لَهما كل مَا أَرَادَ ففعلا، فَلَمّا انتهيا إِلَى الْموضع الَّذِي أُصِيب فِيهِ الْغُلَام أُعْلِما خَبره، وَذكروا الْوَقْت الَّذِي أُصِيب فِيهِ فَإِذا التَّارِيخ بِعَيْنِه، ثُمَّ مضيا إِلَى المَوْصِل فسألا عَنْ أمه فوجداها أشدَّ خَلْق اللَّه تَعَالَى وَلَهًا إِلَى ابْنهَا، وحاجة إِلَى عَلمُ خَبره، فأطلعاها طلع حَاله، وأمراها أَن تستر أمرهَا، ثُمَّ رجعا إِلَى أبي جَعْفَر بجملة خَبره، فَكَادَتْ أمه أَن تقتل نَفسهَا وَلم تُرد الدُّنْيَا بعده، وَكَانَ الْمَنْصُور يذكُره فيكادُ ذكرهُ يصدع قلبه، وَأجْمع أَبُو جَعْفَر عَلَى الْإِيقَاع بِأبي أَيُّوب عِنْدَ ذَلِكَ، فاستصفي مَاله وَمَال أَهْلَ بَيته، ثُمَّ قَتلهمْ جَمِيعًا وأباد عصراءهم، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَبَا أَيُّوب لَعنه وسبه، وَقَالَ: ذَاك قَاتل حَبِيبِي.، أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا يدْخل عَلَيْهِ غَيره، فَفعل الْخَادِم ذَلِكَ فَاسْتحقَّ فِي قلب أبي أَيُّوب مَا حذره وحَدَّثَتْه بِهِ نَفسه، فَقَالَ الْغُلَام: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ - جعلني اللَّه فدَاك - قَدْ تعرفت من أبي أَيُّوب البغض والاستثقال بمكاني، وَله غوائل لَا يُحِيط بهَا علمي وَأَنا أخافه عَلَى نَفسِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: بَارك الله عَلَيْك، فَمَا أَخْطَأت الَّذِي فِي نَفسِي وَهَذَا كُله يَا بني قَدْ جال فِي صَدْرِي، فَإِذا كَانَ غَد فتعرض لِأَن يغلظ لَك، فَإِذا أغْلظ فَقُمْ فَانْصَرف كَأَنَّك مغضب، وَلَا تعد إِلَى الدِّيوَان وَاجعَل وَجهك إِلَى أمك، وأوصل إِلَيْهَا هَذَا العقد وَهَذَا الْكيس وكتابي هَذَا، واحمل أمك وَمن اتبعها من قرابتك وَأَقْبل فَانْزِل مَوضِع كَذَا، فَانِي منفذ إِلَيْكَ خَادِمًا يتفقد أمورك وَيعرف خبرك، وَلَا تطلِعنَّ أحدا من الْخلق طلع مَا مَعَك، وامض بِهَذَا المَال وَبِهَذَا العقد وأحرزه أَولا قَبْلَ رجوعك إِلَى الدِّيوَان، ثُمَّ قَالَ للخادم: أَخْرَجَهُ من بَاب كَذَا وَكَذَا، فَخرج الْغُلَام فأحرز مَا كَانَ مَعَه ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الدِّيوَان، وَأَبُو أَيُّوب فِي فكره من احتباسه عِنْدَ الْمَنْصُور، وَرجع الْغُلَام بِوَجْه بهج مسرور لَا يخفي ذَلِكَ عَلَيْهِ وَظُهُور الْفَرح فِي وَجهه وشمائله، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: أحلفُ بِاللَّه لَقَدْ رَجَعَ هَذَا الْغُلَام بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي مضى بِهِ، وَلَقَد دَار بَينه وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ من ذكرى مَا سرّه، واستشعر الوحشة مِنْهُ وَصرف أَكثر عمله عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن أغْلظ لَهُ، فَقَالَ الْغُلَام: أَنَا إِنْسَان غَرِيب أطلب الرزق وَأَنت تستخفُّ بِي، فَكَأَنِّي قَدْ ثقلت عَلَيْكَ فأنتحي عَنْكَ قَبْلَ أَن تطردني، ثُمَّ قَامَ فَانْصَرف وافتقده أَبُو أَيُّوب أيّاما، وَرَأى أنَّ أَبَا جَعْفَر لَا يسْأَل عَنْهُ وَلَا يذكرهُ، ثُمَّ إِن نفس أبي أَيُّوب نازعته إِلَى عَلَمُ حَقِيقَة خَبره، فَأرْسل من يسْأَل عَنْهُ فِي الْموضع الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ، فَقيل لَهُ: إِنَّهُ قَدْ تهَيَّأ للسَّفر وتجهز جهازًا حسنا وشخص إِلَى أَهله بالموصل، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب فِي نَفسه: وَمن أَيْن لَهُ مَا يتجهز بِهِ، وَكم مبلغ مَا ارتزق معي وارتفق بِهِ؟ لهَذَا الْأَمر نبأ، وَجعلت نَفسه تزدادُ وَحْشَة مِنْهُ وَمن خَبره إِلَى أَن قيل لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو جَعْفَر وَصله بِمَال ووهب لَهُ شَيئًا، فَقَالَ فِي نَفسه: هَذَا الَّذِي ظَنَنْت وَقد ربصه لمكاني وَيَنْبَغِي أَن يكون استأذنه فِي أَن يخرج إِلَى أَهله فيلم بهم ثُمَّ يرجع إِلَيْهِ فيقلِّده مَكَاني، فَقَالَ لرجل من أَصْحَابه: اخْرُج إِلَى طَرِيق المَوْصِل قَرْيَة قَرْيَة برًّا وبحرًا، فَإِذا عرفتَ مَوْضِعه فاقتله وجئني بِمَا مَعَه، فشخص وتهيأ، ثُمَّ إِن الْغُلَام لمّا خرج عَنْ بَغْدَاد رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمن فقصر فِي مسيره، وَكَانَ يُقيم فِي الْموضع فيستطيبه الْيَوْم واليومين وَالْأَكْثَر والأقل، فَلحقه رَسُول أبي أَيُّوب وعرفه، فباتا بقرية فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُول فخنقه وطرحة فِي الْبِئْر وَأخذ خُرجَه وخرائط كَانَتْ مَعَه، وَركب دابَّة لَهُ وَرجع إِلَى أبي أَيُّوب وسَلّم ذَلِكَ إِلَيْهِ وَشرح الْخَبَر لَهُ، ففتش مَتَاعه أَبُو أَيُّوب فَإِذا المَال وَالْعقد فَعرفهُ،(1/160)
وَإِذا كتاب الْمَنْصُور بِخَطِّهِ إِلَى أمه فَوَجَمَ أَبُو أَيُّوب وَنَدم وَعلم أَنَّهُ قَدْ عجل وَأَخْطَأ، وَأَن الْخَبَر لَمْ يكن كَمَا ظن، وعزم عَلَى الْحلف والمكابرة إِن عثر عَلَى شَيْءٍ من أمره، وَأَبْطَأ خبر الْغُلَام عَلَى أبي جَعْفَر، واستبطأه فِي الْوَقْت الَّذِي ضرب لَهُ، فَدَعَا خَادِمًا من ثقاته ورجلا من خاصته، فَقَالَ لَهما: استقرئا الْمنَازل إِلَى المَوْصِل منزلا منزلا وقرية قَرْيَة، وأعطيا صفة الْغُلَام حَتَّى تدخلا المَوْصِل، ثُمَّ اقصدا مَوضِع كَذَا من المَوْصِل فسلا عَنْ فُلَانَة، وَوصف لَهما كل مَا أَرَادَ ففعلا، فَلَمّا انتهيا إِلَى الْموضع الَّذِي أُصِيب فِيهِ الْغُلَام أُعْلِما خَبره، وَذكروا الْوَقْت الَّذِي أُصِيب فِيهِ فَإِذا التَّارِيخ بِعَيْنِه، ثُمَّ مضيا إِلَى المَوْصِل فسألا عَنْ أمه فوجداها أشدَّ خَلْق اللَّه تَعَالَى وَلَهًا إِلَى ابْنهَا، وحاجة إِلَى عَلمُ خَبره، فأطلعاها طلع حَاله، وأمراها أَن تستر أمرهَا، ثُمَّ رجعا إِلَى أبي جَعْفَر بجملة خَبره، فَكَادَتْ أمه أَن تقتل نَفسهَا وَلم تُرد الدُّنْيَا بعده، وَكَانَ الْمَنْصُور يذكُره فيكادُ ذكرهُ يصدع قلبه، وَأجْمع أَبُو جَعْفَر عَلَى الْإِيقَاع بِأبي أَيُّوب عِنْدَ ذَلِكَ، فاستصفي مَاله وَمَال أَهْلَ بَيته، ثُمَّ قَتلهمْ جَمِيعًا وأباد عصراءهم، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَبَا أَيُّوب لَعنه وسبه، وَقَالَ: ذَاك قَاتل حَبِيبِي.
جميل وَقَول أحدهم فِيهِ لن يفلح هَذَا أبدا
حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذر، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخٌ من أَهْلَ وَادي الْقرى، قَالَ: لمّا استعدى آل بثينة مَرْوَان بْن الحكم عَلَى جميل وَطَلَبه رِبْعِيُّ ابْن دجَاجَة الْعَبْدي صَاحب تيماء هرب إِلَى أقاصي بِلَادهمْ، فَأتى رَجُلا من بْني عذرة شريفًا وَله بَنَات سبْعٍ كأنهن البدور جمالا، فَقَالَ: يَا بَنَاتِي! تحلّيْن بجيد حُليكن والبسن جيّد ثيابكن ثُمَّ تعرضن لجميل فَإِنِّي أنفس عَلَى مثل هَذَا من قومِي، فَكَانَ جميل إِذَا تزيَّنَّ ورآهن أعرض بِوَجْهِهِ فَلا ينظر إلَيْهِنَّ، ففعلن ذَلِك مرَارًا وَفعله جميل، فَلَمّا عَلَمُ مَا أُرِيد بِهن أنشأ يَقُول:
حَلَفْتُ لكَي تَعْلَمُنَّ أنِّيَ صادقٌ ... ولَلصدقُ خَيْر فِي الأمورِ وأنْجَحُ
لتكليمُ يَوْمٍ من بُثَيْنة واحدٍ ... ورؤيتها عِنْدِي ألذُّ وأصلحُ
من الدَّهْر أَوْ أخْلُو بِكُنَّ وَإِنَّمَا ... أعالِجُ قلبًا طامحًا حَيْث يطمحُ
قَالَ: فَقَالَ لَهُنَّ أَبُوهُن: ارْجِعْنَ، فوَاللَّه لَا يفلح هَذَا أبدا.
أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ يردُّ عَلَى اتهام الرشيد لَهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا يزِيد بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: كنت جَالِسا بَيْنَ يَدي هَارُون الرشيد أنْشدهُ شعرًا، وَأَبُو يُوسُف القَاضِي جَالس عَلَى يسَاره، فَدخل الفَضْل بْن الرّبيع، فَقَالَ: بِالْبَابِ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ، فَقَالَ: أدخلهُ، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: السّلام عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَقَالَ لَهُ الرشيد: لَا سلّم اللَّه عَلَيْكَ وَلَا قَرَّب دَارك وَلَا حَيّا مزارك، قَالَ: لَمْ(1/161)
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: أَنْت الَّذِي يحرم لبس السوَاد، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، من أخْبرك بِهَذَا؟ لَعَلَّ ذَا أخْبرك؟ وَأَشَارَ إِلَى أبي يُوسُف - فعلى هَذَا لعنة اللَّه وعَلى أستاذه من قبله، وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَقَدْ خَرَجَ إِبْرَاهِيم عَلَى جَدِّك الْمَنْصُور فَخرج أخي مَعَه، وعزمت عَلَى الْغَزْو فَأتيت أَبَا حنيفَة فَذكرت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لي: مخرج أَخِيك أحِبَّ إليَّ ممّا عزمت عَلَيْهِ من الْغَزْو، وَوَاللَّه مَا حَرَّمت السوَاد. فَقَالَ الرشيد: فسلّم اللَّه عَلَيْكَ وقَرَّب دَارك وحَيّا مزارك، اجْلِسْ يَا أَبَا إِسْحَاق، يَا مسرور! ثَلَاثَة آلَاف دِينَار لأبي إِسْحَاق، فَأتى بهَا ووضعها فِي يَده وَخرج وَانْصَرف، فَلَقِيَهُ ابْن الْمُبَارك فَقَالَ: من أَيْنَ أَقبلت؟ فَقَالَ من عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَقد أَعْطَانِي هَذِهِ الدَّنَانِير، وَأَنا عَنْهَا غنيّ، قَالَ: فَإِن كَانَ فِي نَفسك مِنْهَا شَيْءٍ فَتصدق بهَا فَمَا خَرَجَ من سوق الرافقة حَتَّى تصدق بهَا كلهَا.
كأس أم حَكِيم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنِي عون بْن مُحَمَّد الْكِنْديّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن إِسْمَاعِيل، أَبُو أَحْمَد إِبْرَاهِيم، قَالَ: ركب الرشيد يَوْمَا بَكِرًا فَنظر إِلَى مُحَمَّد الْأمين يميلُ بِهِ سَرْجه، فَقَالَ: مَا أصارك إِلَى هَذَا يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: أصارني إِلَيْهِ البارحة:
عَلِّلاني بعاتقاتِ الْكُرُوم ... واسْقِيَانِي بكأسِ أمِّ حَكِيم
قَالَ: فانصرفْ يَا مُحَمَّد، فَلَمّا رَجَعَ الرشيد وجّه إِلَيْهِ بخادم وَمَعَهُ كأس أم حَكِيم، وَكَانَ كأسًا كَبِيرا فِرْعُونيًا، قَدْ جعل فِيهِ طَوْقُ ذهبِ ومقبض من ذهب، فَإِذا هُوَ مَمْلُوء دَنَانِير، وَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ بعثتُ إِلَيْكَ بِالَّذِي أسهرك لتشرب فِيهِ وتنتفع بِمَا يصل مَعَه، قَالَ: فَأعْطى الْخَادِم قَبْضَة من دَنَانِير، وَفرق نصفه مَا فِيهِ عَلَى جُلَسَائِهِ وَأعْطى النّصْف خازنه وَشرب فِي الْقدح ثَلَاثَة أَرْطَال رطلا بَعْدَ رَطْل ورَدّه، فَكَانَ مبلغ الدَّنَانِير عشرَة أُلَّاف دِينَار.
مَتَى يُقَالُ اللَّيْلَة الْمَاضِيَة، وَمَتى يُقَالُ البارحة
قَالَ القَاضِي: جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر أنَّ الْأمين قَالَ: بَكِرًا أصابني البارحة، وَهَذَا كَلَام مستفيض فِي الْعَامَّة إِطْلَاقهم إِيَّاه فِي خطابهم وَفِيمَا يَرْوُونَهُ عَنْ غَيرهم، فَأَما أَهْلَ الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فيذهبون إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي أَوْل النَّهَار إِلَى زَوَال الشَّمْسُ لليلة الْمَاضِيَة كَانَ كَذَا وَكَذَا اللَّيْلَة، فَإِذا زَالَت الشَّمْسُ قَالُوا حِينَئِذٍ: البارحة، وَفِي هَذَا الْخَبَر ذَكَرَ الكأس، وَقد ذهب قَوْمٍ إِلَى أَنَّهَا اسْم للخمر وَاسم للإناء، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ " وَقيل إِنَّها فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه: صفراء، وَقَالَ الْفراء: الكأس: الْإِنَاء بِمَا فِيهِ، فَإِذا أَخذ مَا عَلَيْهِ وَبَقِي فَارغًا رَجَعَ إِلَى اسْمه إِن كَانَ طَبَقًا أَوْ خُوَانًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْض أَهْلَ التَّأْوِيل: الكأس الْخمر، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مزاجها كافوراً " وَقَالَ جلَّ ذكره: " وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كأساً كَانَ مزاجها زنجبيلاً " وَأنْشد أَبُو عُبَيْدة:(1/162)
ومَا زَالَتِ الكَأسَ تَغْتَالُنَا ... وتَذْهَبُ بالأوَّلِ الأوَّلِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وكأسٍ شربتُ عَلَى لَذَّة ... وَأُخْرَى تداويتُ مِنْها بهَا
وَقَالَ آخر:
ومَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يمت هَرَمَا ... الْمَوْت كأسٌ والمرءُ ذَائِقُها
العبطة: أَن يَمُوت الرَّجُل من غَيْر عِلّة، وَمن هَذَا قَوْلهم: دمٌ عبيط إِذَا كَانَ طريًا قَدْ خَرَجَ من جسم صَحِيح، وَقَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتانيّ: لَا يُقَالُ للْمَوْت كأس، قَالَ القَاضِي: وَهَذَا خطأ مِنْهُ، قَدْ يُضَاف الكأس إِلَى الْمنية، وَقد تُوصَف الْمنية بِأَنَّهَا كأس كَمَا تُوصَف بِأَنَّهَا رَحَى، ويضاف إِلَيْهَا الرّحى فَيُقَال: الْمنية رحى دَائِرَة عَلَى الْخلق، وللمنية عَلَى النّاس رَحَى دَائِرَة، وللموت كأسٌ مرّة، وَالْمَوْت كأس كريهة، وَيُقَال شرب فلَان كأس الْمنية، فيضاف الكأس إِلَيْهَا، قَالَ مهلهل:
مَا أُرَجِّي العيشَ بَعْدَ نَدَامَي ... قَدْ أَرَاهُمُ سُقُوا بكأس حَلاقِ
أَي بكأس الْمنية، لِأَن حلاق من أَسمَاء الْمنية بِمَنْزِلَة حَذَام وقطام، وَرَوَاهُ بكأس خلاق بِالْخَاءِ فَقَالَ: يَعْنِي بكأس تصيبهم من الْمَوْت وَهَذَا أَكثر وَأشهر من أَن يخيل عَلَى عَالم بِالْعَرَبِيَّةِ، وأعجب بذهابه عَلَى أبي حَاتِم مَعَ سَعَة مَعْرفَته، وَلَكنهُمْ بِشْر وَأَنِّي إِنْسَان يُحِيط بِالْعلمِ كُله وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٍ من جَلِيِّه فضلا عَنْ غامضه وخَفيِّه، وَقد قَالَ الشَّاعِر فِي هَذَا الْمَعْنى:
أَيْنَ الْقُرُون الَّتِي عَنْ حَظِّها غَفلَتْ ... حَتَّى سَقَاها بكأسِ المَوْت سَاقِيها
وَقَالَ السِّجِسْتانيّ: فِي الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْمَوْت إنّما هُوَ الْمَوْت كأس، قَالَ: وَقطع ألف الْوَصْل لِأَنَّهَا فِي مُبْتَدأ النّصْف الثَّانِي وَهَذَا يحْتَمل، وَقَالَ: أنشدناه الْأَصْمَعِي لبَعض الْخَوَارِج، وَقَالَ: لَيْسَ لأمية بْن أبي الصَّلْت، قَالَ القَاضِي: وَقد رَوَت الروَاة هَذَا الشّعْر لأمية بْن أبي الصَّلْت وأمّا الْمَعْنى الَّذِي ذكره السِّجِسْتانيّ من تَجْوِيز قطع ألف الْوَصْل فقد جَاءَ فِي الشّعْر كثيرا كَقَوْل الشَّاعِر:
بأبِي امرؤٌ الشَّام بَيْني وبَيْنَه ... أَتَتْنِي ببِشْر بُرْدُه ورَسَائِلُه
وَقَالَ آخر:
إِذَا جَاوز الْإِثْنَيْنِ سِرٌّ فَإِنَّهُ ... بِبَثٍّ وتَكْثِيِر الْوُشَاةِ قَمِينُ
وَقَالَ آخر:
أَلا لَا أرى إثْنَين أَحْسَنَ شِيمَةً ... عَلَى حِدْثان الدَّهْر مِنِّي ومِنْ جُمْل
وَأحسن هَذَا الْبَاب مَا كَانَ فِي الْأَوَائِل والأركان والأنصاف قَالَ حسان:
لتسْمَعُنَّ وشيكًا فِي ديارِهِمُ ... اللَّه أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا
الْقُضاة فِي نظر أبي يُوسُف
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَن الحَرَّانيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن الْجَعْد، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُف القَاضِي يَقُولُ: مَا وُلّي الْقَضَاء أحد أفقه فِي(1/163)
دين الله وَلَا أَقرَأ لكتاب الله وَلَا أعف عَنِ الْأَمْوَال من ابْن أبي ليلى قَالَ: فَقلت: فابْنُ شُبْرُمة، قَالَ: رَجُلٌ مِكْثار، قَالَ عليّ: وَولى حفصُ بْن غياث الْقَضَاء من غَيْر مشورة أبي يُوسُف فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ بْن الْوَلِيد وَالْحسن اللؤْلُؤِي تتبّعا قضاياه، فتتبعناها فَلَمّا نظر إِلَيْهَا، قَالَ: هَذِهِ قضايا ابْن أبي ليلى، ثُمَّ قَالَ لَهما: تتبعا الشُّرُوط والسجلات ففعلا، فَلَمّا نظر فِيهَا، قَالَ حَفْصُ بْنُ غياثٍ ونظراؤه يعانون قيام اللَّيْل.
كم كَانَ يُصَلِّي بهم لَوْ أكلُوا اللّوْزِيَنج
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي، قَالَ: سَمِعت سُفْيَان بْن وَكِيع بْن الجرّاح، يَقُولُ: سمعتُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة، يَقُولُ: دَعَانَا سفيانُ الثّوريّ يَوْمَا فَقدم إِلَيْنَا تَمْرًا ولبنًا خاثرًا فَلَمّا توسّطْنا الْأكل قَالَ: قُوموا بِنَا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ شُكْرًا لله تَعَالَى قَالَ سُفْيَان بْن وَكِيع: لَوْ كَانَ قدم إِلَيْهِم شَيئًا من هَذَا اللّوْزينج الْمُحْدَث لقَالَ لَهُمْ: قومُوا بِنَا نصلي التراوح.
إغْباب الزِّيَارَة
أنشدنا مُحَمَّد بْن أَبِي الْأَزْهَر، قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد:
عَلَيْكَ بإقْلال الزِّيَارَة إنّها ... تكون إِذَا دَامَتْ إِلَى الْهَجْرِ مَسْلَكًا
فإنِّي رأيتُ الْقَطْرَ يُسْلَمُ دَائمًا ... ويُسْألُ بالأيْدِي إِذَا هُوَ أمْسَكَا
قَالَ ابْن أبي الْأَزْهَر: فأنشدت هَذِين الْبَيْتَيْنِ أَبَا بِشْر الْبَنْدَنِيجِيّ بِإِسْكَان بني سَعِيد فَقَالَ: هما فِي شعرٍ طَوِيل، وأنشدني القصيدة وَهِي طَوِيلَة، فَقلت لَهُ: أَنْشدني الْمبرد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة، قَالَ: قَدْ قلتهما أَكثر من سبعين سنة، قَالَ القَاضِي: فِي نَحْو هَذَا الْمَعْنى قَول أبي تَمام:
وطُول مقَام الْمَرْء فِي الحقِّ مُخْلِقٌ ... لِدِيباجَتَيْه فاغْتَرِبْ يَتَجَدَّدِ
فإنِّي رَأَيْتُ الشَّمْسَ زيدتْ مَحبَّةً ... إِلَى النّاس إذْ ليستْ عَلَيْهِمْ بَسْرمَدِ
وَمن الْبَيَان الحَسَن فِي هَذَا الْمَعْنى، مَا رَوى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْله: " زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا ".
أنشدنا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ: أَنْشدني أَبُو بَكْر الْقُرَشِيّ، قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن:
هَل الدَّهْرُ إِلَّا ساعةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ... بِمَا كَانَ فِيهَا من عَنَاء وَمن خَفْضِ
فَهَوْنَك لَا تَحْفِلْ بمَشْتَاةِ عَارِضٍ ... وَلَا فَرْحَةٍ سَرَّتْ فكلتاهُما تَمْضِي
الْمجْلس الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
فضل الْعقل
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ النُّورِ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ(1/164)
عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ فَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَقْلِ، تَسْبِقُهُمْ بِالدَّرَجَاتِ وَالزُّلَفِ عِنْدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ ".
قَالَ القَاضِي: وَهَذَا مَا يبين بِهِ شَرَف الْعقل وفضله، وَأَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة تَزْكو بِهِ ويتضاعف ثَوَاب عاملها بِحَسب حَظِّهم مِنْهُ، وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُل ليَكُون من أَهْلَ الصَّلاة وَأهل الصّيام وَأهل الْجِهَاد - حَتَّى عد سِهَام الْخَيْر - ويجازي إِلَّا عَلَى قَدْرِ عَقْله " وروى عَنْهُ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُ قَالَ: " مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا عَقْلا إِلا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمَا مَا ".
وَمَا روى عَنِ الْعقل وفضله، وَشرف مَنْزِلَته، وعظيم نَفعه، أَكثر من أَن يُحْصى.
وَقد حَدَّثَنَا الْحَارِث بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ حَسَنٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ ". وَإِن فِي هَذَا مَا يرغب فِي اقتباس الْعلم واكتساب الْحِكْمَة وَرفع الْمَرْء قدره عَنْ طبقَة الْعَوام، ومنزلة الهَمَج الطغام، فكم ذِي علم وَمَعْرِفَة وَحِكْمَة وبصيرة، قد نبه وسَمَا وارتفع وَعلا، وَصَارَ متبوعًا مُعظَمًّا وزَعيمًا مُقَدَّما، وَكم من ذِي قدر وَحسب، ومنصب وَنسب، وَمَال ونشب، وَشرف فِي أَصله، ومنزلة فِي أَهله، قَدْ هدم مَا بِنَاء لَهُ أَهله وشيّدوه، وخفض مَا رَفَعُوهُ، وحطَّ مَا عَلوه وعَمّدُوه، وَقد روينَا أَن بَعْض وُلْدِ رَوْحِ بْن حَاتِم بْن قُبَيصة بْن الْمُهلّب وُجد فِي الْقبَّة الَّتِي بِالْبَصْرَةِ، وَهِي الَّتِي يُقَالُ لَهَا " خضراء روح " عَلَى سوءة، فَقيل لَهُ: وَيْحك أَفِي مَحَلِّ شَرَفك؟! فَقَالَ:
ورثنا المجدَ عَنْ آباءِ صِدْقٍ ... أسَأْنَا فِي دِيَارِهِم الصَّنِيعَا
وَمِمَّا يستحسن فِي هَذَا الْمَعْنى قَول الْقَائِل:
إنَّ الْفَتى من يَقُولُ هأنذا ... لَيْسَ الفَتَى من يَقُولُ كَانَ أبي
وَللَّه در الْقَائِل:
لَسْنَا وإنْ أَحْسَابُنَا كَرُمَتْ ... أبدا عَلَى الأحساب نَتّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أوائلُنا تبني ... ونفعل مثل مَا فَعَلُوا
وَقد رُوينا أنَّ زَيْدَ بْن عليّ تَمثّل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَلَقَد كَانَ رضوَان اللَّه عَلَيْهِ من أَعْلَام الْأَبْرَار وَالْأَئِمَّة الأخيار، سلك سَبِيل سلفه، واقتفى آثَارهم فارتفع واعتلى، وَأم أنوارهم فاستبصر واهتدى، وَرفع قواعدَ بنيانهم، وشيد وثيق أركانهم، واتّبع سبيلهم فِي نصْرَة حزب الإِسْلام وأوليائه، ومحاربة حَرْبِ الدِّين وأعدائه، وغَضِب لله جلّ جَلَاله من طغيان(1/165)
المترفين وعدوان الْمُسْرِفين، فَجَاهد فِي سَبِيل ربه بِنَفسِهِ وَمن أطاعه من أَهله الْمُتَّقِينَ، وأوليائه من أماثل الْمُسلمين، وإخوانه فِي الملَّة والدِّين، وَأبْدى صفحته، وبذل فِي ذَاتَ اللَّه مَاله وصحبته، فَقضى اللَّه تَعَالَى لَهُ بالتوفيق والسعادة، وَختم لَهُ بالفوز وَالشَّهَادَة، وَنَقله إِلَى دَار كرامته، وَجعل أعداؤه بغرض الانقلاب إِلَى دَار عَذَابه ونقمته.
حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاذِ الْمُؤِّدب خَلَف بْن أَحْمَد، قَالَ سَمِعت المازنيِّ ينشد:
وَلرُبَّ ذِي مالٍ ترَاهُ مُبَاعدا ... كَالْكَلْبِ ينبحُ من وَرَاء البابِ
وَترى الأديب وَإِن دَهَتْه خَصَاصَةٌ ... لَا يُسْتَخَفُّ بِهِ عَلَى الأبوابِ
وَلَقَد أحسن ابنُ الرُّومِي فِي قَوْله:
فَلا تفتخر إِلَّا بِمَا أَنت فاعلٌ ... وَلَا تحسبن المَجْد يُوَرثُ كالنّسَب
وَلَيْسَ يَسُود المرءُ إِلَّا بِفِعْلِهِ ... وَإِن عَدَّ آبَاء كرامًا ذَوِي حَسَب
إِذَا الْعُود لَمْ يُثْمِرْ وَإِن كَانَ شُعْبَةً ... من الْمُثْمِرات اعْتَدَّه النّاسُ فِي الحَطَب
وَهَذَا بَاب يَتَّسِع وَيكثر جمعه، وَلنَا فِيهِ رِسَالَة تشْتَمل عَلَى جملَة كَثِيرَة مِنْهُ.
خبر سَعْد الْعَشِيرَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبرنِي عمي، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْن الْكَلْبِيّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: وَفَدَ سعدُ الْعَشِيرَة فِي مائَة من وَلَده إِلَى بَعْض مُلُوك حِمْير، وَكَانَ سعدٌ قَدْ عُمّر مائَة وَخمسين سنة، فَلَمّا دَخَلَ عَلَى الْملك قَالَ لَهُ: مَا مَعَك يَا سَعْد؟ قَالَ: عشيرتي، قَالَ: أَنْت سَعْدُ الْعَشِيرَة. فَسُمِّيَ سَعْد الْعَشِيرَة، قَالَ لَهُ الْملك: إِنَّهُ قَدْ بَلغنِي عَنْكَ رجاحةُ لُبِّ، ورصانةُ حِلم، وأصالة رَأْي، ونفاذٌ فِي الْأُمُور، مَعَ مَا جَرّبت من تصرف الدُّهور، فَهَل أَنْت مخبري عَمَّا أسائِلُك عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَيهَا الْملك: إِن عَقْلِي وقلبي مضغتان مني، حَرَاهما الدَّهْر كَمَا حَرَى سَائِر جسمي، وَلَكِنِّي أَبُو روية ثاقبة مَا خذلتني مُنْذُ أيدتني، فَلْيقل الْملك أسمع، فَإِن أوفّق للصَّوَاب فبِيُمْنِ الْملك، وَإِن يَخُنِّي الجوابُ، فبمَا ثَلَمَتْهُ مِنِّيَ الأحْقابُ، قَالَ لَهُ: يَا سَعْد! مَا صلاحُ الْملك؟ قَالَ: أَيهَا الْملك! مَعْدَلةٌ شائعة، وهيبة وازعة، ورعية طَائِعَة، فَإِن فِي المعدَلة حَيَاة الْأَنَام، وَفِي الهيبة نفي الظلام، وَفِي طَاعَة الرّعية التآلف والالتئام. قَالَ لَهُ الْملك: يَا سَعْد! فَمن أَحْمَدُ الْمُلُوك إيَالا، وَأَحْسَنهمْ عِنْدَ الرّعية حَالا؟ قَالَ: من كثرتْ فِي اصطناع الْمَعْرُوف رغبته، ومالت إِلَى الأضياف رَحمته، وتخول بالمراعاة رَعيته، واعتدلت بهيبته رأفته، قَالَ: يَا سَعْد! يُسْتَدرك عَنْهُ الْمُلُوك حُسْنُ المكانة؟ وتُستبدل مِنْهُ الفظاظة بالليانة؟ قَالَ: بالمبالغة فِي طَاعَته، والانتهاء إِلَى مَشِيئَته، ومجانية مسخطته، والتقرب إِلَيْهِ بموافقته، قَالَ: فَبِمَ تُؤْمَن سطوة الْملك ويُحتجب من بَوَادِر(1/166)
عُقُوبَته؟ قَالَ: بِالنَّصِيحَةِ غَيْر المَمْذُوقة، وَأَدَاء الْأَمَانَة غَيْر المشوبة بالخيانة، وَقطع لِسَان العتاب بالحيطة بالمغيب، والتحفظ عَنْ إفشاء الْكَلِمَة فِي الطعْن عَلَيْهِ، فَإِن الْكَلَام إِذَا لَفَظَهُ اللِّسَان لَمْ تَمْلِك إِعَادَته إِلَى الْقلب، وَلم يُؤْمن مِنْهُ عَثْرةٌ غَيْر مُقَالة، وكبوة غَيْر مغتفرة، قَالَ: فَأَيْنَ يُوجد الرَّأْي الْأَصِيل، وَالصَّوَاب الألِيل؟ قَالَ: عِنْدَ الناصح اللبيب، الحازم الأريب، الَّذِي إعلانه ككمنونه، ومبتذله كمصونه، قَالَ: فَبِمَ يدْرك عَلَمُ الْأَمر فِي الولاج المَأزول والرأي المستور فِي مُسْتَقر التامور؟ قَالَ: بِإِحْدَى خلتين، إِمَّا بالعشيرة المماطلة، والتجربة المصاولة، أَوْ بالمحبة الْبَالِغَة، والبصيرة الثاقبة، قَالَ: من أَحَق النّاس بالمعاونة عَلَى دهره وأحراهم بالمساعدة عَلَى أمره؟ قَالَ: من جعلك سندًا لظهره، وَألقى إِلَيْكَ مقاليد أمره، وَجعل رجاءك عَامر صَدره، قَالَ: بِمَ تتأكد محبَّة الْخَاصَّة، ويستعطف رضَا الْعَامَّة؟ قَالَ: ببسط يَد العَدْل، أَوْ إِطْلَاق عقل الْبَذْل، والتجافي عَنِ العثار، مَا لَمْ يخرج ذَلِكَ إِلَى انتشار، قَالَ: فَبِمَ تحسن أحدوثة الْملك؟ قَالَ: بإرجائه الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب، وتعجيل مُكَافَأَة المحسن قَبْلَ الطّلب، وتسليط الْحلم والأناة عَلَى الطيش والنزق واستصلاح أولى الانقياد لاستجلاب أولى الرهَق.
معنى الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة
قَالَ القَاضِي: قَول سَعْد الْعَشِيرَة فِي عقله وَقَلبه: حراهما الدَّهْر كَمَا حرى سَائِر جسمي مَعْنَاهُ نقصهما، يُقَالُ: حرى الشَّيء يحرى أَي نقص، كَمَا قَالَ الْقَائِل:
فِي جَسَدٍ يَنْمِي وعَقلٍ يَحْرِي
وَفِي قَوْله: فبمَا ثَلَمتَه مني الأحقاب يَعْنِي السنين، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: " لابثين فِيهَا أحقابا " وَالْوَاحد حُقْب، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " أَو أمضي حقبا " وَقيل إِن الحقب ثَمَانُون عَاما، وَقيل لَهُ: حقبة من الدَّهْر يُراد بِهِ الْمدَّة الطَّوِيلَة، قَالَ متم بْن نُوَيرة: يرثى أَخَاهُ مَالِكًا:
وكُنّا كَنُدْمَانَيْ جَذيِمة حِقْبَةً ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يَتَصَدَّعَا
وَقَوله: أَحْمَد الْمُلُوك إيالا: يَعْنِي الْإِصْلَاح وَالتَّدْبِير والسياسة، وَيُقَال فلَان حَسَن الإيالة إِذَا وُصِف بِالْإِحْسَانِ فِي سياسة أمره، وَقَوله: الولاج المأزول يَعْنِي المَدْخل الضَّيِّق، وَيُقَال: أصَاب الْقَوْم أزل أَي شدَّة وضيق.
قَالَ الشَّاعِر:
وَإِن أفْسَد المَالُ الجماعاتِ والأزْل
فَأَما الإزل بِكَسْر الْهمزَة: فالكذب، كَمَا قَالَ ابنُ دارة:
يَقُولُونَ إزلٌ حُبٌّ ليلى وودُّها ... وَقد كَذَبوا مَا فِي مَوَدَّتِها إزْلُ
وَقَوله: التامور يُرِيد الْقلب، ويعبر بالتّامور عَنِ النَّفس وَهُوَ الدَّم، يُقَالُ نفس سَائِلَة أَي دم، وَالنّفاس وَالنُّفَسَاء من هَذَا.(1/167)
الْوَلِيد يُوَافق الحَجَّاج عَلَى عسفه بآل الْمُهلب
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق إِسْمَاعِيل بْن يُونُس، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَة بْن دراج، قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِي: كتب الحَجَّاج إِلَى الْوَلِيد بْن عَبْد الْملك يذكر عَسْفَهُ آل الْمُهلب ومطالبته إيَّاهُم بِمَا اختانوا من الْأَمْوَال، فَوَقع فِي كِتَابه بِخَطِّهِ: لَيْسَ للخائن حُرْمَة تبْعَث الْأَحْرَار عَنْ ترفيههم، فإياك وتضييع حق قَدْ وَجب، وَأَمَانَة مَال خطير يزين الدّولة ويُحَصِّن الْخلَافَة، وَيُؤْخَذ من خائن لَمْ يَشكر عَلَيْهِ، وَيدْفَع إِلَى نَاصح يحْتَاج إِلَيْهِ، فَلَمّا قَرَأَ الحَجَّاج كِتَابه أنشأ يَقُولُ متمثلا بِشعر من بني كلاب:
وَإِنِّي لَصَوَّانٌ لنَفْسي وإنّني ... عَلَى الهول أَحْيَانًا بهَا لَرحُومُ
وَإِنِّي لأزري فِي خلال كَثِيرَة ... عَلَى الْمَرْء أَن يختال وَهُوَ لئيمُ
أَنَا أشعر أم أَنْت؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: أَخْبرنِي ثَابت بْن الزُّبَيْر بْن هِشَام، قَالَ: قَدِمَ الْمَأْمُون من خُرَاسَان وَمَعَهُ شَاعِر، فَلَقِيَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة فَقَالَ لَهُ: من أشعر أَنَا أم أَنْت؟ قَالَ: أَنْت أشعر وَأولى بالتقدمة ووقّره، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة: كم تَقول فِي اللَّيْلَة من بَيت شعر؟ قَالَ: رُبمَا أَقمت عَلَى القصيدة لَا تكون ثَلَاثِينَ بَيْتا شهرا، قَالَ: فَأَنا أشعر مِنْك، رُبمَا دَعَوْت الْجَارِيَة فأمليتُ عَلَيْهَا خمس مائَة بَيت، قَالَ: فحمي الْخُرَاساني فَقَالَ: لَوْ كنت أرْضى مِثل شِعرك لقلتُ فِي اللَّيْلَة خَمْسَة آلَاف بَيت، قَالَ: مثل أَي شعر؟ مثل قَوْلك:
أَلا يَا عُتْبةَ السَاعَةْ ... أمُوت السّاعَةَ الساعهْ
قَالَ: فاستضحك الْقَوْم مِنْهُ.
وَحَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: قيل لأبي مهدية: يُعْجِبك قَول الشَّاعِر:
أَلا يَا عتبَة السَاعَةْ ... أمُوت السّاعَةَ الساعهْ
قَالَ: لَا، وَلكنه يَغُمُّني، قَالَ: فَقيل لَهُ: فَمَا يُعْجِبك؟ قَالَ: يُعجبنِي:
جَاءَ زهيرٌ عارضًا رُمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رِمَاحُ
هَلْ أحْدَثَ الدَّهْر لَنَا نكبةً ... أَوْ فُلَّ يَوْمَا لزهيرٍ سلاحُ
بَدْء أَمر أبي الْعَتَاهِيَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن صَدَقة، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الأسَدِيُ، قَالَ: أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بْن سَلام، قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يعْمل الفخار، وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة معتوهًا، وَكَانَ يعرف بإبراهيم الْمَجْنُون، قَالَ: فجَاء إنسانٌ يَوْمَا فصاح: أَيْنَ إِبْرَاهِيم الْمَجْنُون؟ فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة:(1/168)
لَا ذنبَ إِن كَانَ ذَا جُنُونا ... كَذَا أَرَادَ اللَّه أَن أكونا
وَانْطَلق يَقُولُ الشّعْر واشتهر بِهِ وبإحسانه فِيهِ.
يَقُولُ شعرًا وَهُوَ لَا يدْرِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَحْمُود الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُوس بْن مهْدي بالكرخ، قَالَ: نزلت على ابْن أبي الْبَغْل عِنْدَ تقلده الإشراف عَلَى أَعمال الْجَبَل، فزارته مغنيةٌ كَانَ بهَا لَهِجًا عَلَى قِلَّة إعجابه بِالنسَاء، فَإنّا لَلَيْلةٌ وَنَحْنُ قُعُودٌ بِالْبُسْتَانِ نَشْرَبُ وَقَدْ طَلَعَ الْقَمَرُ، فَهَبَّتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ فَقَلَبَتْ صَوَانِيَنَا الَّتِي كَانَ فِيهَا شَرَابُنَا فَشِيلَتْ وَأَقْبَلَ الْغِلْمَانُ يَسْقُونَنَا، فَسَكِرَ ابْن أبي الْبَغْل عَلَى ضَعْفِ شُربه، وَقَامَ إِلَى مرقده وأخَذَنَا مَعَه والمغنية، فَلَمّا حصلنا فِيهِ استدعى قدحًا وَلنَا مثله، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مغموسةٌ فِي الْحُسَن معشوقةٌ ... تقتلُ ذَا الصَّبِّ وتُحْيِيهِ
باتَ يُرِينِيهَا هِلالُ الدُّجَى ... حَتَّى إِذَا غَاب أَرتْنِيهِ
وَطرح الشّعْر عَلَى الْمُغنيَة فلقنته وغنتنا بِهِ، وشربنا الْقدح وانصرفنا، فَلَمّا كَانَ من غدٍ وحضرنا الْمَائِدَة وَهِي مَعَنَا فاتحناه بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَحلف أَنَّهُ لَمْ يعقل بِمَا جرى وَلَا بالشعر، واستدعى دفتره فَأثْبت الْبَيْتَيْنِ فِيهِ.
طَرَأَ الواغل برغم هروبهم إِلَى الصَّحرَاء
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بحرمي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عبد الرَّحْمَن الْبَصْرِيّ وَيعرف بالمخضوب، بِمَكَّة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: حَدثنِي ابْن عَائِشَة: أنَّ ثَلَاثَة فتيَان من فتيَان أَهْلَ الْبَصْرَة وَكَانُوا يتنادمون، فتطربوا يَوْمَا إِلَى الصَّحرَاء وَالْخلْوَة فِيهَا مِمَّن يَغُلُّ عَلَيْهِمْ فِي شرابهم ويَنْبذ عَلَيْهِمْ، فَخَرجُوا فِي غِبِّ مطرٍ إِلَى ظهر الْبَصْرَة فَأخذُوا فِي شرابهم ولهوهم يتناشدون حَتَّى كَرُبَت الشَّمْسُ أَن تغيب، فَإِذا بأعرابي كالنجم المنقض يهوى حَتَّى جلس بَينهم، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: قَدْ علمنَا أنَّ مثل هَذَا الْيَوْم لَا يتم لَنَا ثُمَّ قَالَ لَهُ أحدهم:
أيُّهَا الواغلُ الثقيلُ عَلَيْنَا ... حِين طَابَ الحديثُ لِي ولِصَحْبي
ثُمَّ قَالَ الآخر:
خَلِّ عَنَّا فَأَنت أثقل والل ... هـ عَلَيْنَا من فَرْسَخَيْ دِيرِ كَعْبِ
ثُمَّ قَالَ الثَّالِث:
ومِن النّاس من يَخِفُّ ومنْهُمْ ... كَرَحَى البَزْرِ رُكِّبَتْ فَوق قَلْبِي
فَقَالَ الأَعْرَابِي:
لست بالبارح العشية والل ... هـ لشجٍّ وَلَا لِشِدَّة ضَرْبِ
أَوْ ترَوْنَ بالْكِبَار مُشَاشي ... وتُعِلُّون بَعْدَ ذَاكَ بقَعْبِ(1/169)
وَطرح قِعْبا كَانَ معلّقا فضحكوا من ظَرْفِهِ وحَمَلوه مَعَهم إِلَى الْبَصْرَة فَلم يَزَلْ نديمًا لَهُمْ.
الواغل والوارش
قَالَ القَاضِي: الواغل الَّذِي يَغِلُ عَلَى الشِّرْب من غَيْر أَن يَدْعُوَهُ النّاس، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
فاليوم أشربُ غَيْر مُسْتَحْقبٍ ... إِثْمًا من اللَّه وَلَا وَاغِلِ
وَيُقَال للَّذي يفعل مثل هَذَا فِي الطَّعَام وارش.
احتكم يَا أَبَا السِّمْط
حَدَّثَنَا يزْدَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي عِيسَى بْن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقُتَبي، قَالَ: قَدِمَ معنُ ابْن زَائِدَة بَغْدَاد فَأَتَاهُ النّاس وَأَتَاهُ ابْن أبي حَفْصة، فَإِذا الْمجْلس غَاصٌ بأَهْله، فَأخذ بعضَادَتَيِ الْبَاب ثُمَّ قَالَ:
وَمَا أحْجَم الأعْدَاءُ عَنْكَ تَقِيَّةً ... عَلَيْكَ ولكنْ لَمْ يَرَوا فِيك مَطْمَعَا
لَهُ راحتان الْجُود والحَتْفُ فيهمَا ... أبَى اللَّه إِلَّا أَن يَضُرَّ ويَنْفَعَا
فَقَالَ معن: احتكم يَا أَبَا السِّمْط؟ فَقَالَ: عشرَة آلَاف، فَقَالَ معن: ربحتُ وَالله عَلَيْكَ تسعين ألفا.
مُكَافَأَة بغا عَلَى شجاعته
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عليّ بْن الْحُسَيْن بن عبد الْأَعْلَى الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي عليّ بْن الْحُسين بْن عَبْد الْأَعْلَى، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر قَدْ أهْدى للمعتصم شُهْرُبين مُلَمّعين ذَكَرَ أنَّ خُرَاسَان لَمْ تُخرج مثلهمَا، فَسَأَلَهُ بغا أَن يحملهُ عَلَى أَحدهمَا فَأبى وَقَالَ: تَخَير غَيرهمَا مَا شِئْت فخُذه، قَالَ: فخرجنا وَلم يَأْخُذ شَيئًا فَلَمّا كُنَّا بطبرستان عرض لَهُ قَوْمٍ من أَهلهَا، فَقَالُوا: أعز اللَّه الْأَمِير! إِن فِي بَعْض الْغِياض سَبُعًا قَد استكلب عَلَى النَّاس وأقناهم، فَقَالَ: إِذَا أردْت الرحيل غَدا فكُونوا مَعي حَتَّى تَقِفُوني عَلَى مَوْضِعه، قَالَ: فَلَمّا رحلنا من غَد حضر جمَاعَة مِنْهُم فَانْفَرد مَعَهم فِي عشْرين فَارِسًا من غلمانه، وَمَعَهُ قوسه ونشابتان فِي منطقته، قَالَ: فصاروا بِهِ إِلَى الغيضة فثار السَّبع فِي وَجهه من بَينهم، قَالَ: فحرك فرسه من بَين يَدَيْهِ وَأخذ نشابة من النشابتين فَرَمَاهُ فِي استه، فَمر السهْم فِيهَا إِلَى الريش، وَركب السَّبع رَأسه، قَالَ: وَعَاد بغا إِلَيْهِ فَمَا أجترأ أحد عَلَى النُّزُول إِلَيْهِ حَتَّى نزل بغا فَوَجَدَهُ مَيتا، قَالَ: فشبرناه فَكَانَ من رَأسه إِلَى رَأس ذَنبه سِتَّة عشر شبْرًا، ووجدناه أحَصَّ الشّعْر إِلَّا مَعْرِفَتَه، قَالَ: فكتبنا بِخَبَرِهِ إِلَى المعتصم، فلحقنا جوابُ كتَابنَا بُحلوان يذكر فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تفاءلت بقتل السَّبع، وَرَجا أَن يكون من عَلَامَات الظفر ببابك، وَأَنه قَدْ وجّه إِلَى بُغا بالشهربين اللَّذين كَانَ طلب أَحدهمَا فَمَنعه، وبسبع خلع من خَاصَّة خلعه وثيابه، وَخمْس مائَة ألف دِرْهَم صلَة لَهُ وَجَزَاء عَلَى قَتله السَّبع، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ المعتصم بذلك إضراؤه عَلَى طَاعَته ومجاهدة عدوه.(1/170)
قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي السَّبع وَجَدْنَاهُ أحَصّ: لَا شعر عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
قَدْ حصَّتِ البَيْضة رَأْسِي فَمَا ... أُطْعَمُ نَوْمًا غَيْر تِهْجَاعِ
أول مَا ظهر من فهم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السّلام
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن سُفْيَان، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن صَالح، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَلِيد، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيد بْن بشير، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِد، عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس، قَالَ: لمّا تزوج دَاوُد عَلَيْهِ السّلام بِتِلْكَ الْمَرْأَة، وولدتْ لَهُ سُلَيْمَان بْن دَاوُد بَعْدَمَا تَابَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، غُلَاما طَاهِرا نقيًا فهما عَاقِلا عَالما، وَكَانَ من أجمل النّاس وأعظمه وأطوله، فَبلغ مَعَ أَبِيهِ حَتَّى كَانَ يشاوره فِي أُمُوره ويدخله فِي حكمه، فَكَانَ أول مَا عرف دَاوُد من حكمته وتفرس فِيهِ النُّبُوة أنَّ امْرَأَة كَانَتْ كُسِيت جمالا، فَجَاءَت إِلَى القَاضِي تخاصمُ عِنْدَهُ، فَأَعْجَبتهُ فَأرْسل إِلَيْهَا يخطبها، فَقَالَت: مَا أُرِيد النِّكَاح فَرَاوَدَهَا عَلَى الْقَبِيح، فَقَالَت: أَنَا عَنِ الْقَبِيح أبعد، فَانْقَلَبت مِنْهُ إِلَى صَاحب الشرطة فأصابها مِنْهُ مثل الَّذِي أَصَابَهَا من القَاضِي، فَانْقَلَبت إِلَى صَاحب السُّوق فَكَانَ مِنْهُ مثل ذَلِك، فَانْقَلَبت مِنْهُ إِلَى حَاجِب دَاوُد فأصابها مِنْهُ مَا أَصَابَهَا من الْقَوْم، فرفضت حَقّهَا ولزمت بَيتهَا فَبينا القَاضِي وَصَاحب الشرطة وَصَاحب السُّوق والحاجب جُلُوس يتحدثون فَوَقع ذكرهَا، فتصادق القوم بَينهم وشَكَا كلُّ وَاحِد مِنْهُم إِلَى صَاحبه مَا أَصَابَهُ من الْعجب بهَا، قَالَ بَعضهم: وَمَا يمنعكم وَأَنْتُم وُلَاة الْأَمر أَن تتلطفوا بهَا حَتَّى تستريحوا مِنْهَا فَاجْتمع رأيُ الْقَوْم عَلَى أَن يشْهدُوا أنَّ لَهَا كَلْبًا وَأَنَّهَا تضطجع فترسله عَلَى نَفسهَا حَتَّى ينَال مِنْهَا مَا ينَال الرَّجُل من الْمَرْأَة، فَدَخَلُوا عَلَى دَاوُد عَلَيْهِ السّلام، فَذكرُوا لَهُ أنَّ امْرَأَة لَها كلب تُسَمِّنُه وترسله عَلَى نَفسهَا حَتَّى يفعل بهَا مَا يفعل الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ فكرهنا أَن نرفع أمرهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَتَحقّق، فمشينا حَتَّى دَخَلنَا منزلا قَرِيبا مِنْهَا فِي السَّاعَة الَّتِي بلغنَا أَنَّهَا تفعل ذَلِكَ، فَنَظَرْنَا إِلَيْهَا كَيْفَ حَلّتْه من رباطه ثُمَّ اضطجعت لَهُ حَتَّى نَالَ مِنْهَا مَا ينَال الرَّجُل من الْمَرْأَة، ونظرنا إِلَى الميلِ يدْخل فِي الْمُكْحلة وَيخرج مِنْهَا، فَبعث دَاوُد عَلَيْهِ السّلام فَأتى بهَا فرجَمَها، فَخرج سُلَيْمَان يَوْمئِذٍ وَهُوَ غلامٌ حِين ترعرع وَمَعَهُ الغلمان وَمَعَهُ حصانه يلْعَب، فَجعل مِنْهُم صَبيا قَاضِيا آخر عَلَى الشرطة وَآخر عَلَى السُّوق وَآخر حاجبًا وَآخر كَالْمَرْأَةِ، ثُمَّ جَاءُوا يشْهدُونَ عِنْدَ سُلَيْمَان مثل مَا شهد أُولَئِكَ عِنْدَ دَاوُد عَلَيْهِ السّلام يريدونَ رَجْم ذَلِكَ الصَّبِي كَمَا رُجِمَت الْمَرْأَة، قَالَ سُلَيْمَان عِنْدَ شَهَادَتهم: فَرِّقُوا بَينهم، ثُمَّ دَعَا بِالصَّبِيِّ الَّذِي جعله قَاضِيا، فَقَالَ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا كَانَ لَوْن الْكَلْب؟ قَالَ: أسود، قَالَ: نَحُّوه، ونادى بِالَّذِي جعل على الشرطة، فَقَالَ لَهُ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا كَانَ لَوْن الْكَلْب؟ قَالَ أَحْمَر، قَالَ: نَحُّوه، ثُمَّ دَعَا بِصَاحِب السُّوق فَقَالَ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا كَانَ لون الْكَلْب؟ قَالَ: أَبيض قَالَ: نَحُّوه، ثُمَّ دَعَا بِالَّذِي(1/171)
جعله حاجبًا، فَقَالَ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا كَانَ لَوْن الْكَلْب؟ قَالَ: أغبش، قَالَ: أردتم أَن تَغُشُّوني حَتَّى أرْجُمَ امْرَأَة من الْمُسلمين، فَقَالَ للصبيان: ارجمُوهُم، وخلّي سَبِيل الصَّبِي الَّذِي جعله امْرَأَة وَرجع إِلَى حصانه، فَدَخَلُوا عَلَى دَاوُد عَلَيْهِ السّلام فأخبروه الْخَبَر، فَقَالَ دَاوُد: عليّ بالشهود السَّاعَة وَاحِدًا وَاحِدًا فَأتى بهم فَسَأَلَ القَاضِي: مَا كَانَ لون الْكَلْب؟ قَالَ: أسود، ثُمَّ أَتَى بِصَاحِب الشرطة فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَبيض، ثُمَّ أَتَى بِصَاحِب السُّوق فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كَانَ أَحْمَر، ثُمَّ أَتَى بالحاجب فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كَانَ أغبش، فَأمر بهم دَاوُد عَلَيْهِ السّلام فَقتلُوا مَكَان الْمَرْأَة، فَكَانَ هَذَا أَوْل مَا استبان لداود عَلَيْهِ السّلام من فهم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السّلام.
وَقد حدث فِي أيّام الدّولة العباسية فِي وَدِيعَة أودعها بَعْض الشُّهُود بواسط، فأبدلها واختان صَاحبهَا فِيهَا مَا يضارع هَذِهِ الْقِصَّة من بَعْض جهاتها، نَحن نأتي بهَا فِيمَا نستأنفُه من مجَالِس كتَابنَا هَذَا إِن شَاءَ اللَّه.
الْمجْلس الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
من مَكَارِم الْأَخْلَاق
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمَحَارِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّاشِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاهِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سكين ابْن أَبِي سِرَاجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورًا يَدْخُلُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ يَكْشِفُ عَنْ كَرْبِهِ أَوْ يَسُدُّ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ لأَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخٍ لَهُ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ ".
قَالَ القَاضِي: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سَعِيد فِي سكين، يُقَالُ سُكَيْنُ بْن أبي سراج وسكين بْن سراج، قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر ترغيبٌ فِي أَنْوَاع من أَفعَال الْخَيْر وأبواب الْبر وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وذَمٌّ لسوء الْخلق وتكريهٌ لَهُ، وكل فصل من فُصُول هَذَا الْخَبَر قَدْ أَتَى فِي مَعْنَاهُ أَخْبَار، وَرويت فِي مجالسه آثَار عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن تقدمنا من الْأَئِمَّة الماضين وَالسَّلَف الصَّالِحين، والخاصة من عُلَمَاء الْمُسلمين وحكماء أَهْلَ الدِّين، وَكِتَابنَا هَذَا مُتَضَمّن لكثير مِنْهُ مُتَفَرقًا فِي الْمجَالِس المرسومة فِيهِ، وحقيق عَلَى من كَرُمَتْ نَفسه عَلَيْهِ، وحُبِّبَتْ مَنَافِعهَا إِلَيْه، أَن يسْعَى فِي اكْتِسَاب مَا يزينها ويصلحها، ويهذب أخلاقه ويُنَقحها، ويهجر مَذْمُوم الْخَلَائق ويطرحها، نسْأَل اللَّه المعونة عَلَى ذَلِكَ بفضله وَطوله، وقوته وَحَوله.(1/172)
خبر عَمْرو بْن المسبح أرمى عَرَبِيّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنِ الْعَبَّاس بْن هِشَام، قَالَ: حَدَّثَنِي جميل بْن مُرَاد الطَّائِي من بني معن، عَنْ أشياخه، قَالَ: كَانَ عَمْرو بْن المسبح أرمي عربيٍّ عَلَى وَجه الأَرْض فَأدْرك امْرَأَ الْقَيْس وَله يَقُولُ امْرُؤ الْقَيْس:
رُبَّ رامٍ من بَنِي ثُعَلٍ
وعاش حَتَّى أدْرك النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْن خمسين وَمِائَة سنة فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّيْد، فَقَالَ " كل مَا أصْمَيْت ودَعْ مَا أنْمَيْت " وَفِيه يَقُولُ رجلٌ من طييء:
نَعَبَ الْغُرَابُ ولَيْتَهُ لَمْ يَنْعَبِ ... بالبين من سَلْمَى وأمِّ الحَوْشَبِ
ويروى زعب الْغُرَاب وَهِي لُغَة، قَالَ القَاضِي: وَكَأن زعب فِي هَذِهِ اللُّغَة من رفع الشَّيء وَأَخذه وَمِنْه قَول النَّبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد بن عَمْرو: " وأرغب لَك من المَال " قَالَ الشَّاعِر:
لَيْت الْغُرَاب رَمَى حِمَاطَةَ قَلْبهِ ... عَمْروٌ بأسهمه الَّتِي لَمْ تُلْغَبِ
ويروى تغلب، واللغاب عيب فِي السِّهَام، وَهُوَ اخْتِلَاف فِي الريش الَّتِي يراش بهَا واللُّؤام خِلَافه وَهُوَ مَحْمُود، وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ أنَّ عمرا هَذَا كَانَ يمر بِهِ السِّرْبُ من القطا يطير فِي السَّمَاء، فَيَقُول: أيتها تُرِيدُونَ؟ فيشار لَهُ إِلَى وَاحِدَة فيصرعها، قَوْله: كُلْ مَا أصْمَيْتَ ودع مَا أنميت، يُقَالُ: أصمى الرَّجُل الصَّيْد إِذَا أَصَابَهُ فَمَاتَ بِحَضْرَتِهِ، وأنماه إِذا أَصَابَهُ فتحامل فعاب عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ وأشواه إِذَا أخطأه وَيُقَال: هَذَا شَوًى إِذَا لَمْ يصب المقتل، قَالَ الشَّاعِر:
وَكنت إِذَا الْأَيَّام أحْدَثنَ نكبةً ... أَقُول شَوًى مَا لَمْ يُصِبْن صَمِيمي
وَيُقَال: أشوي إِذَا أَخطَأ الصميم وَأصَاب الْأَطْرَاف كاليدين وَالرّجلَيْنِ، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
سَلِيمُ الشّظَى عَبْل الشّوى شَنِج النّسَا ... لَهُ حَجَبَاتٌ مُشْرِفَات عَلَى الفَال
وَقد يُقَالُ لجلدة الرَّأْس شواة وَتجمع شوا، وَقَالَ بَعْض أَهْلَ التَّأْوِيل فِي قَوْله عزَّ ذكره " نَزَّاعَةً لِلشَّوَى " أنَّ مَعْنَاهُ الْأَطْرَاف، وَقيل: فَرْوَة الرَّأْس، وَقيل الْهَام، وَقيل العصب والعقب، وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي أكل الصَّيْد إِذَا أَتَاهُ راميه وَغَابَ عَنْ عينه فأحلّه بَعضهم، وحَرّمه بَعضهم عَلَى ظَاهر الْخَبَر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقدر آخَرُونَ لغيبته مدَّة عَلَى اخْتِلَاف مِنْهُم فِي قَدْرِهَا، قَالَ القَاضِي: وَأرى أَنَّهُ قيل للرامي فِي الْموضع الَّذِي وَصفنَا لإصابته الصميم، وأصمى أَصله عِنْدِي أصْمم فاسُتثْقِل التَّضْعِيف فَقيل أصمى، وأشْبِعت فَتحة الْمِيم الأولى فَصَارَت ألفا مَكَان الْمِيم الثَّانِيَة وبدلا مِنْهَا، وَالْعرب تَقول: تمطى فلَان من المطا وَهُوَ الظّهْر وَأَصله تمطط، وَيَقُولُونَ تقضى من القضة وَأَصله تقضض، قَالَ الراجز:
دَانِي جَنَاحَيْه من الطّور فَمَرّ ... تَقَضَى البَازِي إِذَا البَازِي كَسَر(1/173)
وَهَذَا الْبَاب كثيرٌ جدا، وَمَا وجدت أحدا سبقني إِلَى مَا قلتُ فِي الصميم
وَهُوَ بَيِّن، وَمن الشوى بِمَعْنى فَرْوَة الرَّأْس، قَول الشَّاعِر:
إِذَا هِيَ قَامَت تقشعر شواتها ... ويشرق بَين اللَّيْث مِنْهَا إِلَى الصُّقْل
وَقَالَ الْأَعْشَى:
قَالَت قُتَيْلَةُ مَا لَهُ ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ
وَذكر عَنْ أبي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ قَالَ: من رَوَاهُ هَكَذَا فقد صَحّف، وَزعم أَنَّهُ سَرَاتُه بِالسِّين وَالرَّاء يَعْنِي أَعْلَاهُ، وَمَا ذكره أَبُو عَمْرو أولى بالتصحيف، وَرِوَايَة الْبَيْت بالشين وَالْوَاو، وَقد ثَبت وَصحت فِي تَأْوِيلهَا وعُرفت، وَقَول أَبِي عَمْرو فِي السراة صَحِيح لَوْ أَتَى بِهِ الشَّاعِر، وَمن السّراة قَول امْرِئ الْقَيْس:
كَأَن سَرَاتَهُ وجِدَّةَ مَتْنِهِ ... مَدَكُّ عروسٍ أَوْ صَرَايَةَ حنظل
وَقد روى أنَّ أَبَا عَمْرو لمّا تبين صِحَة الرِّوَايَة بالشين رَجَعَ إِلَيْهَا، وَقد ذكرنَا كلَاما فِي هَذَا الْفَصْل أشْبع من هَذَا فِي كتَابنَا الَّذِي أمللناه فِي شرح مُخْتَصر الْجرْمِي فِي النَّحْو.
لَمْ يُسْمع بأسرة دخلت الإِسْلام كهؤلاء
وَحَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنِ الْعَبَّاس بْن هِشَام، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيد بْن عَبْد اللَّه الْجعْفِيّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَشْيَاخ قومه قَالُوا: كَانَتْ عِنْدَ أبي سَبْرة وَهُوَ يزِيد بْن مَالك بْن عَبْد اللَّه بْن الذُّؤَيب بْن سَلَمَة بْن عَمْرو بْن ذهل بْن مُرّان بْن جُعْفي امْرَأَة مِنْهُم فَولدت لَهُ سَبْرة وعَزيزًا ثُمَّ مَاتَت فورّثت ابناها إبِلا، ثُمَّ تزوج أَبُو سُبْرَة أُخْرَى فجفا ابنيه ونحاهما فِي إبلهما الَّتِي ورثاها عَنْ أمهما، فَلَمّا بلغهما مهاجرة النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُبْرَة لمولى لأمه كَانَ يرْعَى عَلَيْهِ: ابغني نَاقَة كِنَازًا ذاتَ لبن، فَقَالَ القَاضِي: هِيَ الْكَثِيرَة اللَّحْم المجتمعة الْجِسْم، فَأَتَاهُ بهَا فركبها وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِيهِ:
أَلا أبْلِغا عني يَزِيدَ بْن مَالِكٍ ... ألمّا يَأنِ للشّيخ أَن يَتَذَكّرا
رَأَيْت أبَانَا صَدَّ عَنّا بِوَجْهِهِ ... وأمسَك عنّا مَالَه وَتَنَمّرا
ثُمَّ توجّه إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأسلم وَأَقْبل أَخُوهُ عَزِيز، فَقَالَ للْمولى: أَيْنَ أخي؟ قَالَ: نَدَّت لَهُ نَاقَة فَذهب فِي طلبَهَا، فَنظر فِي الْإِبِل فَلم يرَ شَيئًا، فَقَالَ للْمولى: لَتُخْبِرنّي، فَأخْبرهُ وأنشده الْبَيْتَيْنِ، فَدَعَا بِنَاقَة فركبها وَهُوَ يَقُولُ:
أَلا أبلغا عنّي معاشر مذْحج ... فَهَل لي من بَعْد ابْن أُمِّيَ مِعْبَرُ
وَلحق بِالنَّبِيِّ صلّى اللَّه عَلَيْهِ فَأسلم، ثُمَّ أقبل أَبُو سُبْرَة فَقَالَ للْمولى: أَيْنَ ابناي؟ فَأخْبرهُ خبرهما وأنشده شعرهما، فَركب وَهُوَ يَقُولُ:
وسبرة كَانَ النَّفس لَوْ أنَّ حَاجَة ... تُرَدُّ وَلَكِن كَانَ أمرا تَيَسّرا(1/174)
وَكَانَ عَزِيزٌ خَلّتي فرأيتهُ ... تولّى وَلم يقبل عَلَيَّ وأدْبرا
ثُمَّ لحق بهما وَخلف عِنْدَ الْمولى غُلَاما لَهُ يُقَال لَهُ شَنْفر، فَمَكثَ الْمولى أَيَّامًا ثُمَّ لحق بهم وَأنْشد يَقُولُ:
بُدِّلْت أنيابًا حِيالا وشَنْفَرَا ... بأهْلِي لَا أرْضَى بِهِمْ من أُولَئِك
قَالَ القَاضِي: الأنياب جمع نَاب وَهِي النَّاقة المسنة، والحيال: جمع حَائِل وَهِي الَّتِي حَالَتْ عَنْ أَن تشْتَمل عَلَى حمل، فَأتى أَبُو سُبْرَة النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابناه فأسلموا، فَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَزِيز: مَا اسْمُك؟ قَالَ: عَزيز، قَالَ: لَا عَزِيز إِلَّا اللَّه، أَنْت عَبْد الرَّحْمَن، وَقَالَ أَبُو سَبْرة للنَّبِي صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم: إِن بِظهْر كَفّي سَلْعة قَدْ مَنَعَتْني من خطام رَاحِلَتي، فَدَعَا النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدح فَجعل يَضْرِبُ بِهِ عَلَى السَّلْعة ويَمْسَحُها فَذَهَبت، ودعا لَهُ ولابنيه وأقطعه جروان وَاديا فِي بِلَاد قومه، قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: فَلم يسمع لأهل بَيت أجابوا إِلَى الإِسْلام طَوْعًا بِمثل هَؤُلاءِ.
خبر مقتل عَمْرو ذِي الْكَلْب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنِ الذمارِي، قَالَ: دَخَلَ عَمْرو بْن معدي كرب الزَّبِيديّ عَلَى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَوْمَا، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا ثَوْر! أَخْبرنِي بِأَعْجَب مَا رَأَيْت، فَقَالَ: إِنِّي أخْبرك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنِّي خرجت يَوْمَا أُرِيد حَيا من أَحيَاء الْعَرَب حَتَّى إِذَا مَا كنت بواد يُقَالُ لَهُ بطن شريان إِذَا أَنَا بِرَجُل مفترس أسدًا قَدْ أَدخل رَأسه فِي جَوْفه، وَهُوَ يلغ فِي دَمه كَمَا يفترس الْأسد النّاس والبهائم ويلغ فِي دِمَائِهِمْ، فهالني ذَلِكَ وراعني وظننته شَيْطَانا ثُمَّ عاتبت نَفسِي، فَصحت بِالرجلِ فوَاللَّه مَا نهنه صياحي بِهِ حَتَّى صحت بِهِ صَيْحَة أُخْرَى فَلم يبل، فَصحت الثَّالِثَة فَرفع رَأسه وَنظر إليَّ وَعَيناهُ كالجمرتين، ثُمَّ أعَاد رَأسه فِي جَوف الْأسد احتقارًا لي، فوقفت أنظر إِلَيْهِ تَعَجبا مِنْهُ، فَأَقْبَلت حَيَّة كَانَ عَلَى طريقها تكون شبْرًا أَوْ نَحوه فتعثرت بِهِ فلدغته لدغة فِي مَنْكِبه كَمَا كَانَ باركا عَلَى الْأسد، فصاح مِنْهَا صَيْحَة ثُمَّ أطرق فَلم أره يَتَحَرَّك كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فدنوت مِنْهُ فَإِذا سيف لَهُ وقوسٌ موضوعان، وَفرس مشدود فَأخذت سلاحه، فَلم يَتَحَرَّك فأممته ودنوت مِنْهُ وَضربت بيَدي إِلَى ذِرَاعَيْهِ فتبعتني وَالله يَده من الْكَفّ فَوَقَعت، فَقلت: إِن هَذَا للعجب، لَا أَبْرَح حَتَّى أعلم علمه عِنْدَ بَعْض من يمر فأسأله فَإِذا كلب رابض نَاحيَة، فَأَقْبَلت السبَاع والنسور فحماه الْكَلْب فَلَمَّا جنني اللَّيْل انصرفت وَتركته عَلَى هَيئته فَمضى لذَلِك زمن، فَبينا أَنَا بسوق عكاظ فِي أيّام الْمَوْسِم فِي أجمع مَا كَانَ النَّاس، إِذَا امْرَأَة تَنْشُدُ الرَّجُلَ فَعرفت النَّعْت وَالصّفة، فقلتُ: أَنَا صَاحب الرَّجُل، وَهَذَا سَيْفه وقوسه، قَالَ: فَقَالَت: يَا عَمْرو! إِنَّهُ لَا يجمل بمثلك الْكَذِب وَأَنت فَارس قَوْمك، فأسألك باللاتِ والْعُزّى إِلَّا صَدَقْتني، فخبرتها الْخَبَر، فَقَالَت: صدقت، وَإِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِكَ لِأَن أسدًا مرّة عدا عَلَى أَخ كَانَ لَهُ يُقَالُ لَهُ صَخْر فَأَكله، فآلى عَلَى نَفسه أَلا(1/175)
يلقى أسدًا إِلَّا افترسه وولغ فِي دَمه، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ كلب، فَسمى عمرا ذَا الْكَلْب، وَأَنا أُخْته الْجنُوب، وبكته فِي شعر تَقول فِيهِ:
وكلّ حَيّ وَإِن طالَتْ سَلامَتُهم ... يَوْمَا طريقهمُ فِي الشَّرِّ مركُوب
أبلغ هُذيلا وخصِّص فِي سَرَاتِهِمُ ... عَنِّي مقَالا وبعضُ القَوْل تكذيبُ
بِأَن ذَا الْكَلْب عمرا خيرهُم نَسَبًا ... بِبَطن شريان يَعْوِي عِنْدَهُ الذِّيبُ
تمشي النسور إِلَيْهِ وَهِي لاهية ... مَشْيَ العذارى عَلَيْهِن الجَلابِيبُ
الطاعنُ الطَّعْنَةَ النَّجْلاءَ يتبعُها ... مُثْعَنْجِرٌ من نَجِيعِ الجَوْفِ أُثْغُوبُ
أَيهمَا أَجود؟
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْن يزِيد، عَنْ صَالح بْن كيسَان، وحَدثني الْحَسَن بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن ضحاك، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بْن مُحَمَّد، عَنْ عوَانَة، قَالَ: وَفد عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس عَلَى مُعَاوِيَة بْن أبي سُفْيَان، فَلَمّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق عارضته سَحَابَة فأمَّ أبياتًا من الشِّعرَ، فَإِذا هُوَ بأعرابي قَدْ قَامَ إِلَيْهِ فَلَمّا رَأَى هَيئته وبهاءه، وَكَانَ من أحسن النَّاس شارة وَأَحْسَنهمْ هَيْئَة، قَامَ إِلَى عُنَيْزة لَهُ ليذبحها فجاذبته امْرَأَته ومانعته، وَقَالَت: أكَلَ الدهرُ مَالَك وَلم يُبْق لَك ولبناتك إِلَّا هَذِهِ الْعُنَيْزة يتمتعون مِنْهَا ثُمَّ تُرِيدُ أَن تَفْجَعَهُنّ بهَا، فَقَالَ: وَالله لأذبحنّها، فذبْحُها أحسن من اللُّؤم، قَالَت: إِذن وَالله لَا تبقي لبناتك شَيئًا فَأخذ الْعُنَيْزة - وأضجعها، وَقَالَ:
قَرِينَتِي لَا تُوقِظي بُنَيَّهْ ... إِن توقظيها تنتحب عَلَيْهِ
وتنزع الشَّفْرَة من يَدَيَّه ... أبْغِضْ بِهَذَا وبذا إِلَيَّه
ثمَّ ذبح الشَّاة وأضرم نَارا وَجعل يقطع من أطايبها وَيُلْقِيه عَلَى النّار ثُمَّ يناوله عُبَيْد اللَّه ويحدثه فِي خلال ذَلِكَ بِمَا يُلْهيه ويضحكه، حَتَّى إِذا أصبح عبيد اللَّه وانجلت السحابة وهَمَّ بالرحيل قَالَ لقيِّمِه: مَا مَعَك؟ قَالَ: خمس مائَة دِينَار، قَالَ: ألقها إِلَى الشَّيْخ، قَالَ: القَيِّم جعلتُ فِداك، إِن هَذَا يُرضيه عُشْر مَا سميت وَأَنت تَأتي مُعَاوِيَة وَلَا تَدْرِي عَلَى مَا توافقه عَلَى ظَاهره أم على بَاطِنه، قَالَ: وَيحك إِنَّا نزلنَا بِهَذَا وَمَا يملك من الدُّنْيَا إِلَّا هَذِهِ الشَّاة فَخرج لَنَا من دُنْيَاهُ كلهَا، وَإِنَّمَا جُدْنا لَهُ بِبَعْض دُنْيَانَا فَهُوَ أَجود منا، ثُمَّ ارتحل فَأتى مُعَاوِيَة فَقضى حَوَائِجه، فَلَمّا انْصَرف وَقرب من رَحل الأَعْرَابِي قَالَ لوَكِيله: انْظُر مَا حَال صاحبنا، فعوَّل إِلَيْهِ فَإِذا إبل وَحَال حَسَنَة وَشاء كثير، فَلَمّا بصر الأَعْرَابِي بعبيد اللَّه قَامَ إِلَيْهِ فأكب عَلَى أَطْرَافه يقبلهَا، ثُمَّ قَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، قَدْ مدحتك وَمَا أَدْرِي من أَي خَلْقٌ اللَّه أَنْت ثُمَّ أنْشدهُ:(1/176)
توسَّمْتُه لمّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ وَقلت: المَرْءُ من آلِ هاشمِ
والا فمِنْ آل الْمُرَار فإنَّهُم ... مُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك الأكارم
فَقُمْت إِلَى عنز بَقِيَّة أعنزٍ ... فأذبحها فعل امرئٍ غَيْر نادم
فعوَّضني مِنْهَا غِنَايَ وإنَّمَا ... يُسَاوي لُحيم العَنْزَ خمس دَرَاهِم
أفدتُ بهَا ألفا من الشَّاء حُلَّبا ... وعبدًا وَأُنْثَى بَعْدَ عَبْد وخادم
مباركة من هاشمي مبارك ... خِيَار بني حَوَّاء من نسل آدم
فَللَّه عينا من رَأْي لعُنَيزة ... أفادت وراشت بَعْدَ عَشْر قوادم
فَقلت لعِرْسِي فِي الْخَلَاء وصِبْيَتِي ... أحقٌّ ترى هَذَا أم أَحْلَام نَائِم
قَالَ عُبَيْد اللَّه: قَدْ أصبتُ وَأَنا من وُلَد الْعَبَّاس وَأَنا من آل المرار، فبلغت مُعَاوِيَة، فَقَالَ: لله درُّ عُبَيْد اللَّه، من أَي بَيْضَة خَرَجَ، وَفِي أَي عُش درج، عُبَيْد اللَّه معلِّم الْجُود، وَهُوَ وَالله كَمَا قَالَ الحطيئة:
أُولَئِكَ قومٌ إِن بَنَوْا أحسَنُوا الْبِنا ... وَإِن عاهدُوا أوْفَوْا وَإِن عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِن كَانَت النُّعْمى عَلَيْهِمْ جَزَوْا بهَا ... وَإِن انْعَمُوا لَا كدَّرُوها وَلَا كدوا
مطايب الْجَزُور وأطايب الْفَاكِهَة
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: وَجعل يقطع من أطايبها، وَالصَّوَاب من مطايبها هَكَذَا يُقَالُ فِي اللَّحْم، وَالْعرب تَقول: مطايب الْجَزُور وأطايب الْفَاكِهَة، والمطايب من الْجمع الَّذِي لَا وَاحِد لَهُ عَلَى منهاج لَفظه، وَقِيَاسه مثل ملامح ومشابه وَهَذَا كثير. وَقد حكى الْفراء أَنَّهُ سَأَلَ بَعْض الْعَرَب عَنِ الْوَاحِد فِي مطايب الْجَزُور، فَحكى عَنْهُ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يكن عِنْدَهُ فِيهِ شَيْءٍ يحفظه، وَأَنه أَخذ يتَكَلَّف فِيهِ قولا يَسْتَخْرِجهُ وَجعل يَقُولُ: مطيبة وَأَنه ضحك من هَذَا من قَوْله مطيبة، وَقَول الحطيئة أَحْسنُوا الْبُنا هَكَذَا رَأَيْته بِضَم الْبَاء. وَقد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْقُرَشِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: أتيت شُعْبَة يَوْمَا وَعِنْده حَمَّاد بْن سَلَمَة وهما يتكلمان فِي حَدِيث، فَقَالَ لَهُ شُعْبَة: يَا أَبَا سَلَمَة! هَذَا الْفَتى الَّذِي ذكرته لَك، فَقَالَ لي حَمَّاد بْن سَلَمَة كَيْفَ تنشد قَول الحطيئة: أُولَئِكَ قَوْمٍ ... ، فابتدأت القصيدة من أَولهَا:
أَلا طرقتنا بَعْدَمَا هجعتْ هنْد ... وَقد سِرْنَ خَمْسًا واتْلأبَّ بِنَا نَجْد
إِلَى أَن بلغت الْبَيْت:
أُولَئِكَ قومٌ إِن بَنَوْا أحسَنُوا الْبِنا ... وَإِن عاهدُوا أوْفَوْا وَإِن عَقَدُوا شَدُّوا
فَقَالَ لي حَمَّاد بْن سَلَمَة: يَا بني! إِن الْعَرَب تَقول: بَنَى يَبْني بِناءً فِي الْعمرَان، وَيَقُولُونَ(1/177)
فِي الشّرف: بِنَا يبنو بنَاءً فَأَنْشد هَذَا: أُولَئِكَ قَوْمٍ إِن بنوا أَحْسنُوا إِلَيْنَا، فَعرفت قَدْر حَمَّاد بْن سَلَمَة من ذَلِكَ الْيَوْم، فَمَا كَنت أنْشدهُ إِلَّا مَا كنت أتقنه.
قَالَ القَاضِي: وَالْبناء فِي الرباع والمساكن مَمْدُود مكسور الْبَاء فِي لُغَات عَامَّة الْعَرَب، وبهذه اللُّغَة جَاءَ الْقُرْآن، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَالسَّمَاءَ بِنَاءً "، وَذكر الْفراء أنَّ من الْعَرَب من يقصر الْبناء هَا هُنَا.
أَعْرَابِي يشرب بجزَّة صوف فتعاتبه امْرَأَته
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نصر، عَنِ الْأَصْمَعِي، قَالَ: شرب أَعْرَابِي بجزة صوف، فَلَامَتْهُ امْرَأَته وعتبت عَلَيْهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
عَتَبَتْ عَلَيَّ لأنْ شَرِبْتُ بصُوفِ ... فلئنْ عَتَبْتِ لأشْرَبَنْ بخَرُوفِ
وَلَئِن عتبتِ لأشربنَّ بنَعْجَةٍ ... ذَرْءًا وَمن بَعْدَ الخروف سَحُوفِ
الذرء: الَّتِي فِي رَأسهَا بَيَاض، والسحوف: سَمِينَة.
وَلَئِن عتبت لأشربن بلَقْحَةٍ ... صَهباء مالِئَةَ الإناءِ صَفُوفِ
وَلَئِن عتبتِ لأشربنَّ بصاهل ... مَا فِيهِ من هجن وَلَا تَقْرِيفِ
الهجين: الَّذِي أمه من غَيْر جنس أَبِيهِ، والمقرف مثله.
وَلَئِن عتبتِ لأشربنَّ بواحدي ... ويكونُ صبري بَعْدَ ذَاك حَلِيفِي
فَلَقَد شربتُ الْخمر فِي حَانُوتِها ... صفراءَ صَافِيَة بِأَرْض الرِّيفِ
وَلَقَد شهِدت الْخَيل تُقْرَعُ بالقَنَا ... وأجبْتُ صَوْتَ الصَّارِخ المَلْهُوفِ
قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ: إِنِّي وجدت بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد أنَّ امْرَأَته أَجَابَتْهُ فَقَالَت:
مَا إِن عتبت لِأَن شَرِبْتَ بصُوفِ ... أَوْ أَن تَلَذَّ بلَقْحَةٍ وخَرُوفِ
فاشربْ بِكُل نفيسة أُوتِيتَها ... ومَلكتَها من تَالِدٍ وطريفِ
وارفع بطرفك عَنْ بُنَيَّ فَإِنَّهُ ... من دونه شغب وجذع أُنُوفِ
فطنة قَاض
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِدْرِيس الْحداد، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُون الْحمال، عَنْ يزِيد بْن هَارُون، قَالَ: تقلد الْقَضَاء بواسط رَجُل ثِقَة كثير الحَدِيث مَا أَظُنهُ إِلَّا أُكْرِه عَلَى الْقَضَاء وَالله أعلم - فجَاء رَجُل فاستودع بَعْض الشُّهُود كيسًا مَخْتُومًا ذَكَرَ أَنَّ فِيهِ ألف دِينَار، فَلَمّا حصل الْكيس عِنْدَ الشَّاهِد، وطالت غيبَة الرَّجُل، قَدَّر أَنَّهُ قَدْ هلك، فَهَمَّ بإنفاق المَال، ثُمَّ دَبّر ففتق الْكيس من أَسْفَله وَأخذ الدَّنَانِير وَجعل مَكَانهَا(1/178)
دَرَاهِم وَأعَاد الْخياطَة كَمَا كَانَتْ، وقُدِّر أنَّ الرَّجُل وافى وطالب الشَّاهِد بوديعته فَأعْطَاهُ الْكيس بختمه، فَلَمّا حصل فِي منزله فضَّ خَتْمه فصادف فِي الْكيس دَرَاهِم فَرجع إِلَى الشَّاهِد، وَقَالَ لَهُ: عافاك اللَّه، اردُدْ عليّ مَالِي فَانِي استودعتُك دَنَانِير وَالَّذِي وجدت دَرَاهِم مَكَانهَا، فَأنْكر ذَلِكَ واستعدى عَلَيْهِ القَاضِي الْمُقدم ذكره، فَأمر بإحضار الشَّاهِد مَعَ خَصمه، فَلَمّا حضرا سَأَلَ الْحَاكِم: مُذْ كم أودعتُه هَذَا الْكيس؟ قَالَ: مذ خمس عشرَة سنة، فَأقبل عَلَى الشَّاهِد، فَقَالَ: مَا تَقول؟ قَالَ: صدق هُوَ عِنْدِي مُنْذُ خمس عشرَة سنة، فَأخذ القَاضِي الدَّرَاهِم وَقَرَأَ شكلها فَإِذا هِيَ دَرَاهِم مِنْهَا مَا قَدْ ضُرب مُنْذُ سَنتين وَثَلَاثَة وَنَحْو ذَلِكَ فَأمره أَن يدْفع الدَّنَانِير إِلَيْهِ فدفعَها إِلَيْهِ أَوْ مَكَانهَا وأسْقَطَه، فَقَالَ لَهُ: يَا خائن ونادى مناديه: أَلا إِن فلَان بْن فلَان القَاضِي قَدْ أسقط فلَان بْن فلَان الشَّاهِد، فاعلموا ذَلِكَ وَلَا يغتَرِرْ بِهِ أحد بَعْدَ الْيَوْم، فَبَاعَ الشَّاهِد أملاكه بواسط، وَخرج مِنْهَا هَارِبا فَلا يَعْلَمُ عَنْهُ خبر، وَلَا أحسَّ مِنْهُ أثر.
رأيُ أَبِي يُوسُف القَاضِي فِيمَن يشْهدُونَ عِنْدَهُ
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن قَال حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: قَالَ الرشيد لأبي يُوسُف القَاضِي: بَلغنِي أنَّكَ تَقول إِن هَؤُلاءِ الَّذِين يشْهدُونَ عنْدك وَتقبل أَقْوَالهم متصنعة، فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ وَكَيف ذَلِكَ؟ قَالَ: لأنَّ من صَحَّ سَتْرُه وخلصت أَمَانَته لَمْ يعرفنا وَلم نَعْرَفْه، وَمن ظهر أمره وانكشف سِتْرُه لَمْ يأتنا وَلم نقبله، وبَقِيتْ هَذِهِ الطَّبَقَة وهم هَؤُلاءِ الْمُتَصَنِّعة الَّذِينَ أظهرُوا السّتْر وأبطنوا غَيره، فَتَبَسَّمَ الرشيد وَقَالَ: صدقت.
نوع الشُّهُود الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد بْن أبي حنيفَة
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عليّ أَبُو مُحَمَّد الخطبي، قَالَ: لمّا وُلّي إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد بْن أبي حنيفَة الْقَضَاء، قَالَ: يجب أَن يكون بَيْنَ أَيْدِينَا قَوْم نَتَمَنْدَلُ بهم ويتمنْدَلُون هُمْ بالعامة، وَلَا يجب أَن يَكُونُوا من أكَابِر النّاس وَمن أعاليهم، وَلَا سوقتهم وسِفْلتهم، فَاخْتَارَ متوسطي التُّجَّار فجعلهم شُهُودًا.
معنى السوقة الصَّحِيح
قَالَ القَاضِي: قَول ابْن حَمَّاد من سوقتهم وسفلتهم، يدلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يظنّ أنَّ السوقة أَهْلَ الْأَسْوَاق، وَلم يَعْلَمُ أنَّ السوقة هُم الَّذِينَ يسوقهم الْمُلُوك بسياستهم وَأَن النّاس مُلُوك وسوقة أَي رعية، كَمَا قَالَ زُهَيْر:
يَا حَار لَا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بداهيةٍ ... لَمْ يَلْقها سُوقَةٌ قبلي وَلَا مَلِكُ
وَقَالَت حُرقة بِنْت النُّعْمَان بْن الْمُنْذر:
فَبينا نسوسُ النّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذَا نَحْنُ فيهم سوُقةٌ نتنصف(1/179)
مَا قيل فِي نوح بْن دراج الْقَضَاء
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ الْعَدوي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن رَاشد، قَالَ: قيل لِشَرِيك بْن عَبْد اللَّه: قَدْ تقلد الْقَضَاء نوح بْن دَرّاج، قَالَ: ذهبت العَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا غضبوا كَفَرُوا.
النّسَب الْقصير
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْحَسَن الصَّواف، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الصَّلْت الْحمانِي، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْر بْن عليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن الْحَارِث، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ الفرزدق بْن غَالب: خرجت من الْبَصْرَة أُرِيد الْعمرَة، فَرَأَيْت عسكرًا فِي الْبَريَّة، فَقلت: عَسْكَر من هَذَا؟ قَالُوا: عَسْكَر الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: فَقلت: لأقضينّ حق رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَأَتَيْته فسلّمت، فَقَالَ: من الرَّجُل؟ فَقلت: الفرزدق بْن غَالب، فَقَالَ: هَذَا نسب قصير، فَقلت: أَنْت أقصر مني نسبا، أَنْت ابْن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لي: أَبُو من؟ فَقلت: أَبُو فراس، قَالَ: يَا أَبَا فراس كَيْفَ خَلّفْتَ النّاس وَمن أَيْنَ والى أَيْنَ؟ قَالَ: قلت: من الْبَصْرَة أُرِيد الْعُمْرة، وَمَا سَأَلت عَنْهُ من أَمر النّاس فقلوبهم مَعَك وَسُيُوفهمْ مَعَ بني أُميَّة وَالْقَضَاء ينزل من السَّمَاء قَالَ: فاغرورقت عَيناهُ، وَقَالَ: هَكَذَا النّاس فِي كلِّ زمَان، أَتبَاع لذِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَالدّين لَغو عَلَى ألسنتهم فَإِذا فُحصوا بالابتلاء قَلَّ الدَّيّانون.
قَالَ القَاضِي: معنى مَا ذَكَرَ من قصر النّسَب فِي هَذَا الْخَبَر، أنَّ النبيه الَّذِي بِغَيْر نَظِير لَهُ يُشَارِكهُ فِي نسبه وَمَا يعرف بِهِ فَلا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة فِي انتسابه وإطالته، وَهُوَ مستغن بقصير مَا يعرف بِهِ عَنْ كَثِيره، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أحبُّ من النِّسوانِ كُلِّ قصيرةٍ ... لَهَا نَسَبٌ فِي الْعَالمين قَصِيرُ
وَمن هَذَا النّسَب نسب الرُّسُل والأنبياء والملوك وَالْخُلَفَاء، وَقد قَالَ النسابة الْبكْرِيّ لرؤبة بْن العجاج لمّا انتسب لَهُ: مَه قَصّرْت وعَرَّفت.
وَحكى لي بَعْض أَصْحَابنَا، أَنَّهُ وجد بِخَط صاحبنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن جُمْهُور: سألتُ أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بْن جرير بْن يزِيد الطَّبَريّ أَن يزيدني فِي نسبه، فَقَالَ متمثلا قَول رؤبة:
قَدْ يرفعُ العجّاجُ بَيْتا فادْعُني ... بِاسْمٍ إِذَا الأنسابُ طالَتْ يَكْفِني
الْمجْلس الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
من يكن فِي حَاجَة أَخِيه
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَمَّالُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: ابْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ يَكُنْ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ يَكُنِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ ".
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا يرغب فِي قَضَاء حاجات الإخوان، إِذْ سَعْيهمْ فِيهَا يعود(1/180)
عَلَيْهِمْ بمعونة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي حَاجتهم، ويرجى بِهِ إدراكهم مِنْهَا مَا لَا يبلغونه بسعيهم، دون مَعُونَة اللَّه لَهُمْ عَلَيْهِ وتيسيره إِيَّاه، وَقد جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنى وَنَحْوه أَخْبَار كَثِيرَة، وَقد مضى بَعْض ذَلِكَ فبمَا مضى فِي كتَابنَا، فَلَعَلَّنَا نأتي فِيما بَعْدَ بِمَا يَحْضُرنا مِنْهُ إِن شَاءَ اللَّه.
إِسْلَام سَادِن الصَّنَم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن، عَن الْعَبَّاس ابْن هِشَام، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كبران الْمُرادي، عَنْ يحيى بْن هاني بْن عُرْوَة، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أبي سُبْرَة الْجعْفِيّ، قَالَ: كَانَ لسعد الْعَشِيرَة صنم يُقَالُ لَهُ فراس وَكَانُوا يعظمونه، وَكَانَ سادنه رَجُلا من بني أنس اللَّه بْن سَعْد الْعَشِيرَة، يُقَالُ لَهُ ابْن دقشة، قَالَ عَبْد الرَّحْمَن: فَحَدثني رَجُل من بني أنس اللَّه يُقَالُ لَهُ ذُبَاب، قَالَ: كَانَ لِابْنِ وقشة رَئِيٌّ من الجنّ يُخبرهُ بِمَا يكون، قَالَ: فَأَتَاهُ ذَاتَ يَوْمَ وَأَنا عِنْدَهُ فَأخْبرهُ بِشَيْء فَنظر إليَّ وَقَالَ لي: يَا ذُبَاب، اسْمَع الْعجب العجاب، بعث اللَّه أَحْمَد بِالْكتاب، يَدْعُو بِمَكَّة فَلا يُجاب، قَالَ: فَقلت مَا تَقول؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي هَكَذَا قَالَ لي، فَلم يكن إِلَّا قَلِيل حَتَّى سمعنَا بِظُهُور النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فثُرت إِلَى الصَّنَم فحطمته، ثُمَّ أتيتُ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقلت:
تَبِعْتُ رَسُول الله إِذْ جَاءَ بِالْهدى ... وخَلّفْت فَرَّاسًا بدار هَوَانِ
شَدَدْتُ عَلَيْهِ شَدَّةً فتركتُهُ ... كَأَن لَمْ يكن والدهر ذُو حَدَثَانِ
فَلَمّا رَأَيْت اللَّه أظهر دينَهُ ... أجبتُ رَسُول الله حِين دَعَاني
فأصبحتُ لِلْإِسْلَامِ مَا عشتُ ناصرًا ... وألقيتُ فِيهِ كَلْكَلِي وجِراني
فَمن مُبلغٍ سَعْد الْعَشِيرَة أنّنِي ... شَرِيتُ الَّذِي يَبْقَى بآخَرَ فَانِ
مناظرة ابْن عَبَّاس للحَرُورية
حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم، أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن يُوسُف بْن الضَّحَّاك الْفَقِيه، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن عليّ الفلاسي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن سُدّي، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرمة بْن عمار، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو رميل، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاس، قَالَ: لمّا خَرَجَت الحرورية اعتزلوا فِي دَار، وَكَانُوا سِتَّة آلَاف، فقلتُ لعليٍّ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ لعلِّي أكلِّمُ هَؤُلاءِ الْقَوْم، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافهُم عَلَيْكَ، قلت: كَلا فَلبِست أحسن مَا يكن من اليمنة وترجّلْتُ وَدخلت عَلَيْهِمْ فِي دَار نصف النَّهَار وهم يَأْكُلُون، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا ابْن عَبَّاس، فَمَا جَاءَ بك؟ فَقلت لَهُمْ: أتيتكم من عِنْدَ أَصْحَاب النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَمن عِنْدَ ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصهره، وَعَلَيْهِم نزل الْقُرْآن، وهم أعلم بتأويله مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُم مِنْهُم أحد لأبلغكم مَا يَقُولُونَ وأبلغهم مَا تَقولُونَ، فَقَالَ بَعضهم: لَا تخاصموا قُريْشًا فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " بَلْ هُمْ(1/181)
قوم خصمون " فانتحى لي نَفَرٌ مِنْهُم فَقَالُوا: لنكِّلمنه، فَقلت: هاتوا مَا نقمتم عَلَى أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْن عَمه، قَالُوا: ثَلَاثًا، قلت: مَا هن؟ قَالُوا: أما إِحْدَاهُنَّ فإنّه حكّم الرِّجَال فِي أَمر اللَّه تَعَالَى، وَقد قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " إِن الحكم إِلَّا لله " مَا شَأْن الرِّجَال وَالْحكم؟ قلت: هَذِهِ وَاحِدَة، قَالُوا: وأمّا الثَّانِيَة فَإِنَّهُ قَاتل وَلم يَسْبِ وَلم يغنم، فَإِن كَانُوا كفَّارًا فقد حلَّ سِباهم وقتالهم، وَلَئِن كَانُوا مُؤمنين فَمَا حَلَّ قِتَالهمْ وَلَا سباهم، قلت: هَذِهِ ثِنْتَانِ فَمَا الثَّالِثَة؟ قَالُوا: إِنَّه محا نَفسه من إمرة الْمُؤمنِينَ فَإِن لَمْ يكن أَمِير الْمُؤمنِينَ فَهُوَ أَمِير الْكَافرين، قَالَ: قلت: هَلْ عنْدكُمْ من غَيْر هَذَا؟ قَالُوا: حَسبنَا هَذَا، قلت: أَرَأَيْتُم إِن قَرَأت عَلَيْكُمْ من كتاب اللَّه وَسنة نبيه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم مَا يَرُدُّ قَوْلكُم هَذَا ترجعون؟ قَالُوا: نَعَمْ، قلت أما قَوْلكُم حَكّم الرِّجَال فِي أَمر اللَّه تَعَالَى، فَأَنا أَقرَأ عَلَيْكُمْ من كتاب اللَّه عز وَجل أَن قَدْ صير اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حكمه إِلَى الرِّجَال فِي ثُمْن رُبْع دِرْهَم، وَأمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الرِّجَال أَن يحكموا فِي أرنب، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عدل مِنْكُم " وَكَانَ من حكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنَّه صيره إِلَى الرِّجَال يحكمون فِيهِ وَلَو شَاءَ لحكم فِيهِ فَجَاز حكم الرِّجَال، أنْشدكُمْ بِاللَّه أحكم الرِّجَال فِي صَلَاح ذَاتَ الْبَين وحقن دِمَائِهِمْ أفضل أم حكمهم فِي أرنب؟ وَفِي الْمَرْأَة وَزوجهَا: " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَينهَا فَابْعَثُوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا إِن يريدا إصلاحاً يوفق الله بَينهمَا "، نشدتكم الله فَحكم الرِّجَال فِي إصْلَاح ذَاتَ بَينهم وحقن دِمَائِهِمْ أفضل أم حكمهم فِي بضع امْرَأَة؟ أخرجت من هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وأمّا قَوْلكُم قَاتلَ وَلم يَسِبْ وَلم يَغْنَم أفتَسْبُون أمكُم عَائِشَة فتستحلون مِنْهَا مَا تستحلون من غَيرهَا وَهِي أمكُم، فَإِن قُلْتُمْ: إِنَّا نستحل مِنْهَا مَا نستحل من غَيرهَا لَقَدْ كَفرْتُمْ، وَلَئِن قُلْتُمْ لَيست بأمِّنا لَقَدْ كَفَرْتُم لقَوْله تَعَالَى: " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم " فَأنْتم بَين ضلالتين فَأتوا مِنْهُمَا مخرجا، أخرجت من هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. وأمّا قَوْلكُم محا نَفسه من إمرة الْمُؤمنِينَ فَأَنا آتيكم بِمَا ترصون بِهِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَة صَالح الْمُشْركين فَقَالَ لعليّ: " اكْتُب يَا عليّ: هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله قَالُوا: لَا نعلم أنَّكَ رَسُول الله، وَلَو نعلم أَنَّك رَسُول اللَّه مَا قَاتَلْنَاك، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْحُ يَا عليّ، اللَّهُمّ إِنَّك تعلم أَنِّي رَسُول الله، أمْحُ يَا عليّ واكتب: هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، وَوَاللَّه، لرَسُول اللَّه خَيّر من عليّ لَقَدْ محا نَفسه، وَلم يكن مَحْوُه ذَلِكَ يَمْحُوه من النُّبُوَّة، أخَرَجْتُ من هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَرجع مِنْهُم أَلفَانِ وَخرج سَائِرهمْ فقتُلوا عَلَى ضَلَالَة، قَتلهمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار.
خبر الأصدقاء الثَّلَاثَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابنَا أنَّ عَبْد(1/182)
الْملك بْن مَرْوَان كتب إِلَى الحَجَّاج: أنفذ مَعَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب أَرْبَعَة آلَاف إِلَى خُرَاسَان فَفعل، فشخص فِي المعسكر ثَلَاثَة كَانُوا متؤاخين متصاحبين عَلَى اللَّذَّات ومعاقرة الشَّرَاب، يُقَالُ لَهُمْ: أَوْس بْن حَارِثَة وأنيس بْن خَالِد وَبشر بْن غَالب، وَكَانُوا إِذَا نزلُوا منزلا انفردوا دون النّاس فَخَلَوْا بشرابهم ولذاتهم، فَلم يزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى دخلُوا سجستان ونزلوا رزداق راوند وخزازي..قَالَ أَحْمَد بْن يحيى: الصَّوَاب مَا ذكره وَهُوَ رزداق، ورستاق خطأ - فَمَاتَ أَوْس - قَالَ القَاضِي: أصل هَذَا الْكَلَام بِالْفَارِسِيَّةِ وعُرِّب فَقيل: رزداق ورستاق، وَهُوَ أَكثر فِي كَلَام من تَقَدَّمَ وَمن تَأَخّر فِيمَا وَردت الْأَخْبَار عَنْهُمْ بِهِ فَعظم حزنهما عَلَيْهِ وجزعهما لَهُ، وَقَالَ أنيس يرثيه:
تَخَطّى إِلَى الموتَ من بَيْنَ من أرى ... فأتلفَ نُدْماني لَقَدْ جَار واعْتَدَى
أثْلَبَني فَتى كَانَ النديمَ حياتَهُ ... لَنَا دُونَ خَلْق اللَّه كَانَ أَبَا الرِّضَا
حَلِيمًا أديبًا ماجدًا ذَا سَمَاحَةٍ ... بَعيدا عَن الْفَحْشَاء وَالشَّر والخنا
أَمينا جوادًا غَيْرَ كَزٍّ مخالفٍ ... وَلَا جاعلا ربًّا من المَال مَا حَوَى
يخَوَّنَه الدَّهْر الخَئُونُ برِيبةٍ ... فَأصْبح رهنا للصفائح والصّفَا
أناديه يَا أوسُ بْنُ حَارِثَة الَّذِي ... بِهِ كنتُ أنْفِي الهَمَّ عني والأذى
أجبني لقد أنفذت بالوجد عَبرتي ... عَلَيْكَ أما ترثي لباكٍ إِذَا بَكَى
وَقد كنت ذَا رأيٍ وسَمْع وفِطْنَة ... سَرِيعا إِلَى الدَّاعِي مجيباً الندا
فَلَيْسَ لَنَا إِذَا مَاتَ أَوْس منادِمٌ ... سِوى قَبره حَتَّى يحل بِنَا الرَّدَى
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا:
وردنا خُزازى إِذْ وردنا ثَلَاثَة ... كأنا جَمِيعًا أَيهَا النّاس واحدُ
أنيسٌ وأوسُ الْحَارِثِيّ بْنُ خَالِد ... وَنصر أخوهم والمنايا رواصدُ
فَكُنَّا وَلَا نبغي من النّاس رَابِعا ... كأنا أثاف لَا نَريمُ رواكدُ
فَلَمّا رمانا النّاس بالأعين الَّتِي ... مَتَى يَرْمُقوا شَيئًا بهَا فَهو بائدُ
رمتني بَنَات الدَّهْر منا بأسْهُمٍ ... ونبل المنايا للرِّجَال قواصدُ
فأردَيْنَ أَوْسًا لهفَ نَفْسِي لفقده ... سَقي قبرَه صَوْبُ الغَمامِ الرَّواعدُ
فَمَاتَ أنيس فَعظم حزن نصر عَلَيْهِ، واتصل بكاؤه وجزعه لَهُ، وَقَالَ يرثيه:
أنيس فدته النَّفس مَيْتًا فقدتُهُ ... فنفسي لَهُ حَرَّى عَلَيْهِ تَقَطّعُ
أنيس فدتك النفسُ أصبحتُ مُفردًا ... وحيدًا فَمَا أَدْرِي أخي كَيْفَ أصنعُ(1/183)
أنيس فَدْتكَ النَّفس خُلّفْتَ حَسْرةً ... عليّ فعيني الدَّهْر مَا عشتُ تُدْمُع
أنيس فدتك النَّفس مَاذا رزئته ... لَقَدْ خفت أَن أَقْْضِي وشيكًا فأسْرعُ
فَكيف بقائي بَعْدَ أوسٍ أخي الفدى ... وَبعد أنيس لستُ فِي الْعَيْش أطمعُ
ثُمَّ جعل يجلس بَيْنَ قبريهما فيشرب قدحًا وَيصب فِي كلّ قبر قدحاً، وَيَقُول:
خليلي هبا مَا قَدْ رَقَدْتُما ... أجَدَّكُما لَا تقضيان كَرَاكُما
ألم تعلما مَا إِن راوند كُلّها ... وَلَا بخزازي لي صديق سواكما
أصبُّ عَلَى قبريكما من مدامة ... فإلا تَذُوقا أرْوِ مِنْهَا ثَرَاكُما
مُقيم عَلَى قَبْريكما لستُ بارحًا ... طوال اللَّيَالِي أَوْ يُجيب صَدَاكما
أجدكما مَا ترثيان لموجع ... حَزِين عَلَى قبريكما إِذْ بكاكما
جرى النّوم بَيْنَ اللّحم والعظم مِنْكُمَا ... كأنّكُما كَأسَيْ عُقَارٍ سَقَاكُمَا
ألم ترحمَاني أنني صِرْت مُفْردًا ... وأنِّيَ مُشْتَاقٌ إِلَى أَن أرَاكُما
أناديكما بالجهر مني صَبَابَة ... كأنكما لَمْ تسمعا من دَعَاكُما
فَإِن كنتما لَا تسمعاني فَمَا الَّذِي ... خليلي عَن سمع الدُّعَاء عداكما
سأبكيكما حَتَّى الْمَمَات فَمَا الَّذِي ... يَرُدَّ عَلَى ذِي عَوْلَةٍ إِن بَكَاكُمَا
فَلم يزل يشرب ويردد هَذَا الشّعْر حَتَّى مَاتَ، فَدفن إِلَى جانبهما، فقبورهم هُنَاكَ تسمى قُبُور الْإِخْوَة.
تَعْلِيق لغَوِيّ
قَالَ القَاضِي: قَول أنيس فِي شعره: كأنا أثاف لَا تريم رواكد، الأثافي أثافي الْقدر، وَهِي مَا تنصب عَلَيْهِ من حِجَارَة أَوْ غَيرهَا، والواحدة أثفية، وَمثله أُمْنِية وأماني وأوقية وأواق، وَقد يُخَفف هَذَا فَيُقَال أماني وأواقي، وروى عَنْ بَعْض الْمُتَقَدِّمين أَنَّهُ قَرَأَ " لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أماني " بِالتَّخْفِيفِ، وَقيل: هُوَ فِي تخفيفه وتشديده بِمَنْزِلَة قراقر وقراقير فِي جمع قُرْقُور، وَالْعرب تَقول فِي دعائها عَلَى الرَّجُل: رَمَاه اللَّه بثالثة الأثافي يُرِيدُونَ الْجَبَل، لأَنهم يجْعَلُونَ للقدر أثفيتين ويسندونهما إِلَى الْجَبَل فيغنيهم عَنْ أثفية أُخْرَى، وَقيل: إِنَّهُم يخففون الأثافي من هَذَا الْبَاب أَكثر من تخفيفهم غَيره لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله، وَمن قَالَ هَذَا وَنَحْوه: الْأَخْفَش وَقَوله: لَا تريم، أَي لَا تَبْرَح، يُقَالُ: لَا أريم وَمَا أريم، وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي النَّفْي لَا يُقَالُ: مَا رمت كَمَا يُقَال مَا زلت، وَلَا يُقَالُ زلت فِي الأبيات، قَالَ الشَّاعِر:
لَمِنْ طَلَلٌ برامة مَا يريم ... عَفَا وخَلا لَهُ حُقْبٌ قديم(1/184)
وَقَالَ الْأَعْشَى:
أَبَانَا فَلا رِمْتَ مِنْ عِنْدَنا ... فإنّا بخيرٍ إِذَا لَمْ تَرِم
وَقَالَ أَيْضا:
أَفِي الطَّوْفِ خِفْتِ عَلَيَّ الرَّدَى ... وَكم من ردٍ أَهله لَمْ يَرِم
وَقَول نصر بْن غَالب فِي أنيس أَيْضا: لَقَدْ خفت أنْ أَقْْضِي وشيكًا أسكن الْيَاء فِي أقضى وَحكمهَا أَن تنصب بِأَن ليسلم بَيته من الانكسار، وَقد يَجْعَل هَذَا عَلَى لُغَة من يَقْرَأ الْفِعْل الْمُضَارع عَلَى الرّفْع بَعْدَ أَن وَلَا ينصبه وَقد جَاءَت فِي الشّعْر أَبْيَات عَلَى هَذَا فِي الصَّحِيح غَيْر المعتل، من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
وَإِنِّي لأجتاز القِرى طَاوِيَ الحَشَا ... مُحَاذَرَةً من أَن يُقَالُ لئيمُ
وروى بَعضهم عَن مُجَاهِد أنَّه قَرَأَ: " لِمَنْ أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة " وَالْأَشْهر عَنْهُ: من أَرَادَ أَن يتمَّ الرضَاعَة، وعَلى تَوْجِيه الْفِعْل إِلَيْهَا وَقِرَاءَة الْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف الَّتِي لَا نستجيز تَعَدِّيها " من أَرَادَ أَن يتمَّ الرضَاعَة " لوجُوب الحجَّة بنقلها لصحتها فِي الْعَرَبيَّة ومقاييسها، وَمِمَّا أسكنت ياؤه من معتل هَذَا الْبَاب قَول الْأَعْشَى:
فَتى لَوْ يُنادي الشَّمْسُ ألقتْ قِنَاعها ... أَو القَمَر السّاري لألْقَى المَقَالدا
وَجَاء مثله فِي الْوَاو، وَذَلِكَ قَول الفرزدق:
فَإِن حَرَامًا أَن أسبَّ مُقَاعِسا ... بآبائي الشُّمِّ الكرامِ الخضارمِ
وَلَكِن نَصَفًا لَوْ سببتُ وسَبّني ... بَنو عَبْد شمسٍ من منافٍ وهاشمِ
أُولَئِكَ أكفائي فجئتني بمثلهم ... وأعبدُ أَن أهجو كُلَيْبًا بدارمِ
وَمثل هَذَا كثير وشواهده وَذكر علله من جِهَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب وَاسع جدا، وَله مَوضِع هُوَ أولى بِهِ، وَقد أضيفت جملَة هَذَا الشّعْر وَالْخَبَر الَّذِي تضمنه فِي رِوَايَة أُخْرَى إِلَى قُس بْن سَاعِدَة وَأَنه أنْشد هَذَا فِي نديميه، وَقد روينَاهُ فِي أَخْبَار قُسِّ وأقاصيصه.
الصمصامة سيف عَمْرو بْن معدي كرب
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعقيلِيّ أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن إِسْحَاق بْن الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمَد بْن أبي مُحَمَّد اليزيدي، قَالَ: كَانَ أبي ربّى الرشيد ومُوسَى ابْني المهديّ وأدَّبهما قَالَ: فَدخلت عَلَى مُوسَى وَقد اسْتخْلف وَكَانَ يجلني ويكرمني، فَسلمت فَرد عَليّ السّلام واستقعدني فَقَعَدت، وَإِذا بَيْنَ يَدَيْهِ سيف عريض كَأَنَّهُ بقلة، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا سيف عَمْرو بْن معدي كرب الصمصامة، فاستحسنته، فَقَالَ لي أَمِير الْمُؤمنِينَ: قَدْ كنت سَأَلت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَن يهب لي هَذَا السَّيْف فضنَّ بِهِ عَنْي ومنعنيه، فآليت إِن بَلغنِي اللَّه(1/185)
تَعَالَى أملي أَن أمتحنه، وَقد عزمت على أَن أَدْعُو غلامي طرخان الحريري وَهُوَ جيد الذِّرَاع، وَأَن يحضر لي صَخْرَة سَوْدَاء طولانية من حِجَارَة القصارين، وأتقدم إِلَيْهِ أَن يجمع يَدَيْهِ فِي السَّيْف ثُمَّ يضْرب بِهِ الرَّأْس الدَّقِيق من الصَّخْرَة، فَإِن سلم سلم وَإِن يقطع يقطع، قَالَ: فَلم نزل نطلب إِلَيْهِ ونسأله إعفاء السَّيْف من المحنة ونقول: شرفٌ من شَرَف الْعَرَب وَسيف لَا يُوجد مثله، فَأبى ودعا غُلَامه طرخان وأحضر الصَّخْرَة، قَالَ أَحْمَد، قَالَ أبي: فَقلت لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! فَإِذا لَمْ تُطِعْنِي فاعمل لَهُ حَدِيثا يبْقى على الدَّهْر، يدْخل من بِالْبَابِ من الشُّعَرَاء حَتَّى يحضروا السَّيْف ومحنته، فَإِن سلم وصفوه وَإِن يقطع رثوه، فَأمر بإحضار الشُّعَرَاء، وَكَانَ بِالْبَابِ مِنْهُم أَبُو الهول وَأَبُو الغول التَّمِيمِي وَسلم الخاسر، فَقيل لَهُم: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أحْضركُم لمحنة هَذَا السَّيْف فَمن أحسن الْوَصْف لَهُ وَالْقَوْل فِيهِ فصلته عشرَة آلَاف دِرْهَم وخلعة وحملان، ثمَّ أحضر طرخان وَالسيف بَين يَدي مُوسَى، فحسر عَنْ ذِرَاعَيْهِ وهزّه وَجمع يَدَيْهِ فِي قَائِمَة ثُمَّ ضَرَب بِهِ الصَّخْرَة فَمضى فها باترًا لَهَا وَلم يصبهُ شَيْءٍ، فَأَما أَبُو الهول فَلم يصف شَيئًا، وأمّا سلم فَلم يرض مَا قَالَ، وأمّا أَبُو الغول فوصف فَأحْسن وَأخذ الصِّلَة عشرَة آلَاف دِرْهَم والْحُملان وَالْخلْع وَانْصَرف، وَأمر لأبي الهول وَسلم الخاسر بِخَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف وانصرفا، فَكَانَ الشّعْر لأبي الغول حَيْثُ يَقُولُ:
حَازَ صمصامة الزَّبِيديّ من بِي ... ن جَمِيع الْأَنَام مُوسَى الْأمين
سيف عَمْرو وَكَانَ فِيمَا علمنَا ... خيرُ مَا أغمدتْ عَلَيْهِ الجفون
أَخْضَر اللَّوْن بَيْنَ حَدَّيْه بردٌ ... من رياحٍ تَمِيسُ فِيهِ المَنُون
أوقدتْ فَوْقه الصَّوَاعِق نَارا ... ثُمَّ شابته بالزُّعاف القيون
فَإِذا مَا سللته بهر الشم ... س ضِيَاء فَلم تكد تَسْتَبِين
مَا يُبَالِي إِذَا الضّريبة حانت ... أشمالٌ سَطَتْ بِهِ أم يَمِينُ
نتيجةُ الرِّفْق ونتيجة التعذيب
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْمَرْزُبَان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن جَعْفَر بْن بنان المخزمي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي، عَنْ أبي المضرحي، قَالَ: أَمر الْحجَّاج مُحَمَّد بْن الْمُنْتَشِر بْن أخي مَسْرُوق بْن الأجدع أَن يَعذِّبَ أزْدَاد مَرْذ بْن الهربز، فَقَالَ أزداد مرذ: يَا مُحَمَّد! إِن لَك شرفًا قَدِيما، وَإِن مثلي لَا يعْطى عَلَى الذُّلِّ شَيئًا، فاستأد وارفق بِي، فاستأدى فِي جُمُعَة ثَلَاثمِائَة ألف، فَغَضب الحَجَّاج وَأمر معبدًا صَاحب الْعَذَاب أَن يعذبه فدق يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فَلم يعطهم شَيئًا، قَالَ: فَإِنِّي لأسير بَعْدَ ثَلَاثَة أيّام إِذ أَنَا بأزداد مرذ مُعْتَرضًا عَلَى بغل قَدْ دُقّتْ يَدَاهُ وَرجلَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! فَكرِهت أَن آتيه فَيبلغ الحَجَّاج، وتذممت من تَركه إِذْ دَعَاني، فدنوتُ مِنْهُ فَقتل: حَاجَتك؟ فَقَالَ: إِنَّك قَدْ(1/186)
وليت مني مثل هَذَا فأحسنت إِلَيّ، ولي عِنْد فُلَانَة مائَة ألف دِرْهَم، فَانْطَلق فَخذهَا، قفلت: لَا وَالله لَا آخذ تدرهماً وَأَنت عَلَى هَذِهِ الْحَال، قَالَ: فَإِنِّي أحَدثك حَدِيثا سمعته من أَهْلَ دينك، يَقُولُونَ: إِذَا أَرَادَ الله بالعباد خَبرا أمطرهم فِي أَوَانه، وَاسْتعْمل عَلَيْهِمْ خيارهم، وَجعل المَال عِنْدَ سمحائهم، وَإِذا أَرَادَ بهم شرا أمطروا فِي غير أَوَانه، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم شرارهم، وَجعل المَال فِي أشحائهم. وَمضى وأتيت منزلي فَمَا وضعت ثِيَابِي حَتَّى جَاءَنِي رَسُول الحَجَّاج، فَأَتَيْته وَقد اخْتَرَطَ سَيْفه فَهُوَ فِي حجره، فَقَالَ: ادنُ، فدنوت قَلِيل، ثُمَّ قَالَ: ادن، فَقلت: لَيْسَ بِي دُنُوٌّ، وَفِي حجر الْأَمِير مَا أرى، فأضحكه اللَّه تَعَالَى لي وأغمد السَّيْف فَقَالَ: مَا قَالَ لَك الْخَبيث، فَقلت: وَالله مَا غششتك مُنْذُ استنصحتّني، وَلَا كذبتك مذ صدقتني، وَلَا خُنْتُك مُنْذُ ائتمنتني، وأخبرته بِمَا قَالَ: فَلَمّا أردتُ ذَكَرَ الرَّجُل الَّذِي عِنْدَهُ المَال صرف وَجهه، وَقَالَ لَا تسمه، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ سمع عَدو اللَّه الْأَحَادِيث.
كَيْفَ يكون بَارِدًا وَله هَذَا الشّعْر
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الفَضْل بْن حبَان الْحلْوانِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن ضباب، قَالَ: سمعتُ بَعْض أَصْحَابنَا بالرَّقة يَقُولُ: كَبر خَالِد الْكَاتِب حَتَّى دق عظمه ورَق جلده فوسوس، فرأيته ببغدّاد وَالصبيان يتبعونه ويصيحون بِهِ: يَا بَارِد يَا بَارِد! فأسند ظَهره إِلَى قصر المعتصم، وَقَالَ: كَيْفَ أكون بَارِدًا وَأَنا الَّذِي أَقُول:
بَكَى عاذلي من رَحْمَتي فرحمته ... وَكم من مبعدٍ من مثله ومعينِ
ورَقّتْ دموعُ الْعين حَتَّى كَأَنَّهَا ... دُموعي لَا دموعُ جفوني
السَّيِّد الحميريُّ يستكمل هَدِيَّة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا الصَّائِغ بِمَكَّة، قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن مَعِين، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن كناسَة: أَن واليًا كَانَ بِالْكُوفَةِ أهْدى إِلَى السَّيِّد بْن مُحَمَّد الْحِمْيريّ رِدَاءً عَدَنِيًّا، فَكتب إِلَيْهِ السَّيِّد فِي شعر وجَه بِهِ إِلَيْهِ:
وَقد أتَانا رداءٌ من هَدِيَتِكُمْ ... فَلا عَدِمْناك طُولَ الدَّهْر من والِ
نَعَم الرداءُ جَزَاك اللَّه صَالِحَة ... لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُوصولا بسربال
فَلَمَّا قَرَأَ اشعر أهْدى إِلَيْهِ خلعة تَامَّة.
معاتبات فِي عدم قَضَاء الْحَاجة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي خَيْثَمَة، قَالَ: أنشدت لسَعِيد بْن سُلَيْمَان المساحقي القَاضِي فِي هَارُون بْن زَكَرِيّا كَاتب الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد:(1/187)
أزورك رِفهًا كلّ يومٍ وليلةٍ ... ودرُّك مخزونٌ عليّ قصير
لأيّ زمَان أرتجيك وخَلة ... إِذَا أَنْت لَمْ تَنْفع وَأَنت وَزِيرُ
فَإِن الْفَتى ذَا اللب يطْلب مَاله ... وَفِي وَجهه للطالبين بشيرُ
حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: كتب رَجُل إِلَى يحيى ابْن خَالِد بْن برمك فِي حَاجَة وَكَانَ وعده فمطله إِيَّاهَا فَأرْسل إِلَيْهِ بِهَذِهِ الأبيات:
لَوْلَا المماتُ وَأَن الْعُمر مُنْتَقصٌ ... لما اكْتَرثتُ بِمَا تَأتي من الْعِلَلِ
إِمَّا اعتزمتَ عَلَى تَنفيذ وَعْدِك لي ... فامنع حَياتِي من الآفاتِ والأجلِ
وَمَا تَذَكّرَ قَوْمٌ مَا فعلتَ بهم ... عِنْدَ الْوُرود على مَعْرُوفك الخَضِلِ
إِلَّا استعنتُ بوجهِ الأَرْض أنكتُهُ ... وأضمُّ بَعْضِي إِلَى بعضيِ من الخَجَلِ
قَالَ: فَقضى حَاجته وَأحسن جائزته، وَوَقع مَا قَالَه بألطف الْموقع عِنْدَهُ.
عُبَيْد اللَّه بْن جَعْفَر يهب ثِيَابه لبَعض الفتيان
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَبْد الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيّ، وَأحمد بْن عُبَيْد اللَّه الغنوي، أنَّ عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر كَانَ فِي سفر لَهُ، فمرَّ بفتيانٍ يُوقدون تَحت قِدْرٍ لَهُمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ أحدُهُم، فَقَالَ:
أَقُول لَهُ حِين ألفيتُه ... عَلَيْكَ السلامُ أَبَا جعفرٍ
فَوقف وَقَالَ: وَعَلَيْك السّلام وَرَحْمَة اللَّه، فَقَالَ:
وهذي ثِيَابِي فقد أخلقت ... وَقد عضني زمن مُنكر
قَالَ: فَهَذِهِ ثِيَابِي مَكَانهَا - وَعَلِيهِ جُبَّة خَز وعمامة خَز ومطرف خَز - ونعينك على زمنك، فَقَالَ:
فَأَنت كريم بني هَاشم ... وَفِي الْبَيْت مِنْهَا الَّذِي يذكر
قَالَ: يَا ابْن أخي، ذَاك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ القَاضِي: وهذي ثِيَابِي، وَيُقَال: هاتا أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر:
فهذي سيوفٌ يَا صُدَيُّ بْن مالكٍ ... كثيرٌ وَلَكِن أَيْنَ بِالسَّيْفِ ضاربُ
وَقَالَ آخر فِي هاتا:
إِن كنتِ كارهةً لعيشتنا ... هاتا فحُلِّي فِي بني بدر
وروى عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَميّ أَنَّهُ قَرَأَ " وَلا تَقْرَبَا هَذِه الشَّجَرَة "، وأمّا هَذَا فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات. هَذَا وَهِي أفصحهن وأشهرهن، وهذّاء بمدَّة بعْدهَا همزَة مَكْسُورَة، وهذَّائِهِ بِمدَّة بعْدهَا همزَة ثُمَّ هَاء مكسورتان وكسرة الْهَاء مشبعة، قَالَ الشَّاعِر فِي هَذِهِ اللُّغَة:(1/188)
هذَّائِهِ الدِّفَّة خَيْرُ دفترٍ ... فِي كفِّ خيرِ عَالمٍ مُصَوِّرِ
وَآخَرُونَ يروون هَذِه الْقِصَّة عَن الْمَنْصُور.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن خضر، عَنْ أَبِيه، قَالَ: دَخَلَ رَجُل عَلَى الْمَنْصُور، فَقَالَ:
أقولُ لَهُ حِين واجهتهُ ... عَلَيْكَ السّلام أَبَا جَعْفَر
فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: وَعَلَيْك السّلام، فَقَالَ:
فأنتَ المهذَبُ من هاشمٍ ... وَفِي الْفَرْع مِنْهَا الَّذِي يذكرُ
فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: ذَاك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ:
فهذي ثِيَابِي قد أُخْلِقَتْ ... وَقد عَضّنِي زَمَنٌ منْكَرُ
فَألْقى إِلَيْهِ الْمَنْصُور ثِيَابه وَقَالَ: هَذَه بدلهَا.
الْمجْلس الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
الرزق عَلَى قدر النَّفَقَة
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْحَمَّالُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: أَوْصَلْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رُقْعَةً أَشْكُو فِيهَا غَلَبَةَ الدَّيْنِ وَحَالا قَدْ دُفِعْتُ إِلَيْهَا، فَوَقَّعَ عَلَى ظَهْرِ رُقْعَتِي: فِيكَ يَا شَيْخُ خَلَّتَانِ: الْحَيَاءُ وَالسَّخَاءُ، أَمَّا السَّخَاءُ فَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ مَا فِي يَدَيْكَ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي قَطَعَكَ عَنْ إِطْلاعِنَا عَلَى حَالِكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بُلْغَةٌ فَذَاكَ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذِهِ ثَمَرَةُ مَا جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، فَأَنْتَ حَدَّثْتَنِي وَأَنْتَ قَاضٍ لأَبِي الرَّشِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاق الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مَفَاتِيحَ الرزق متوجهة نَحْو الْعَرْش فَيُنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ أَرْزَاقَهُمْ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ، فَمَنْ كَثَّرَ كُثِّرَ لَهُ، وَمَنْ قَلَّلَ قُلِّلَ لَهُ ". قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَكُنْتُ أُنْسِيتُ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى حَدَّثَنِي بِهِ الْمَأْمُونُ فَكَانَ أَحْظَى عِنْدِي مِنَ الصِّلَةِ.
ابْن هرمة يرثي الحكم بْن الْمطلب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان، قَالَ: أَخْبرنِي رَجُل من قُرَيْش بِمَكَّة، أَحْسبهُ قَالَ: من وُلِدَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْد بْن مغوث الْحِمصِي عَنْ أَبِيه، قَالَ: كنت فِيمَن حضر الحكم بْن الْمطلب بْن عَبْد اللَّه بْن الْمطلب بْن حنظب بن الْحَارِث ابْن عَبْد بْن عُمَر بْن مَخْزُوم وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ بمنبج، قَالَ: وَلَقي من الْمَوْت شِدَّة، فَقَالَ رجلٌ مِمَّن حضر وَهُوَ فِي غشية لَهُ: اللَّهُمّ هوّن عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ وَكَانَ، فَلَمّا أَفَاق قَالَ: من الْمُتَكَلّم؟ قَالَ: الْمُتَكَلّم أَنَا. فَقَالَ: إِن ملك الْمَوْت يَقُولُ لَك: إِنِّي بكلِّ(1/189)
سخي رَفِيق، قَالَ: وكأنما كَانَتْ فَتِيلَة أطفئت، فَلَمّا بلغ مَوته ابْن هرمة قَالَ:
سَأَلَا عَنِ الْجُود وَالْمَعْرُوف أَيْن هما ... فَقلت إنَّهُمَا مَاتَا مَعَ الحَكَمِ
مَاتَا مَعَ الرَّجُل الموفي بِذِمَّتِهِ ... يَوْمَ الْحفاظ إِذَا لَمْ يُوفَ بالذممِ
مَاذَا بمنبَج لَوْ تُنشَرْ مَقَابِرُها ... من التَهَدُّمِ بِالْمَعْرُوفِ والكَرَمِ
قَالَ ابْن دُرَيْد: فَسَأَلت أَبَا حَاتِم عَنْ قَوْله: لَوْ تنشر مقابرها لَمْ جزم؟ فَقَالَ: قَالَ قَوْمٍ من النَّحْوِيين: كَرَاهَة لِكَثْرَة الحركات، كَمَا قَالَ الراجز:
إِذَا اعوجَجْنَ قلتُ صاحبْ قَوِّمِ ... بالدَّوِّ أَمْثَال السّفِينِ الْعُوَّمِ
وَقَالَ: لَوْ قَالَ: لَوْ نبشتْ مقابرها لاستراح من اللّبْس وَكَانَ كلَاما فصيحًا.
قَالَ القَاضِي: وَقد بَينا فِيمَا مضى من هَذِهِ الْمجَالِس هَذَا النَّحْو ممّا سُكِّن فِي الشّعْر مَعَ اسْتِحْقَاقه التحريك، وَذكرنَا مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ فِي هَذَا الْمَعْنى وَالِاخْتِلَاف فِي رِوَايَته واستجازته، مَا يُغني عَنْ إِعَادَته، فَأَما قَول أَبِي حَاتِم فِي معنى نبشت فِي لفظ الْفِعْل الْمَاضِي وَإِسْكَان عينه، فَهُوَ كَمَا قَالَ: وَهُوَ مطرد فِي الْقيَاس وَقد جَاءَ مِنْهُ شَيْءٍ كثير، وَمن ذَلِكَ قَول أبي النَّجْم:
لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْمسك والبانُ انْعَصَر
وَمثله:
رُجْمَ بِهِ الشيطانُ فِي ظلمائِهِ
وُفُود جرير عَلَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طهْمَان قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَنْ أبي عَمْرو الشَّيْبَانيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَرْوَان بْن أبي حَفْصَة، قَالَ: جلس عَبْد الْملك بْن مَرْوَان يَوْمَا للنَّاس عَلَى سَرِير، وَعند رِجْلِ السرير مُحَمَّد بْن يُوسُف أَخُو الحَجَّاج بْن يُوسُف، وَجعل الْوُفُود يدْخلُونَ عَلَيْهِ وَمُحَمّد بْن يُوسُف يَقُولُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! هَذَا فلَان، هَذَا فلَان، إِلَى أَن دَخَلَ جرير بْن الخَطَفَي فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! هَذَا جرير بْن الخطفي، قَالَ: فَلا حَيّاه اللَّه، الْقَاذِف للمُحْصَنَات والعاضِه لأعراض النّاس - قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ: العاضه: الْمُغتاب، وَيُقَال: العاضه: النّمّام، وَيُقَال: السَّاحر، قَالَ القَاضِي: وَمِنْه الْخَبَر عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لعن العاضهة والمستعضهة، يَعْنِي الساحرة والمستسحرة، قَالَ الراجز:
الماءُ مِنْ عِضَاهِهِنَّ زَمْزَمَهْ
وَقيل فِي قَول اللَّه تَعَالَى: " الَّذِينَ جعلُوا الْقُرْآن عضين " أَقْوَال مِنْهَا: هَذَا، وَهُوَ أنَّ(1/190)
الْمُشْركين قَالُوا: هُوَ سحر، وَقيل: إِنَّهُم عَضَوْه بِأَن آمنُوا بِبَعْضِه وَكَفرُوا بِبَعْضِه، وَقيل، بل اقتسموه بَينهم استهزاء فَقَالُوا: لفُلَان هَذِهِ السُّورَة وَلفُلَان هَذِهِ السُّورَة، فعضوه كَمَا تعضى الشَّاة وكما تجزأ أَعْضَاء الْجَزُور فتقسم وتوزّع بَيْنَ مقتسميها وَهَذَا فِيمَا يتَضَمَّن عَنْهُ بِمَشِيئَة اللَّه وعونه كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز ونأتي عَلَى مَا جَاءَ فِيهِ عَنْ أَهْلَ الْعلم، وَأَصْحَاب التَّأْوِيل والمفسرين، وَعَن أَصْحَاب الْمعَانِي النَّحْوِيين، وَمن العضه السحر، مَا أنشدنيه عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى:
أعُوذُ بِرَبِّي من النافثا ... فِي عُقَد العَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَقَالَ: يَعْنِي بهما السَّاحر، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الحَامض: المعضه الَّذِي يَأْتِي بِالْأَمر الْعَظِيم ثُمَّ يَبْهَت - فَقَالَ جرير: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ دخلتُ فاشْرأب النّاس نحوي، وَدخل قومٌ بعدِي فَلم يشرئب النّاس إِلَيْهِم، فقدرت أَن ذَلِكَ لذكر جميلٍ ذَكرنِي بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ عَبْد الْملك: لمّا ذُكِرْت لي قُلتُ: لَا حيّاهُ اللَّه القاذفُ للمحصنات العاضهُ لأعراض النّاس، فَقَالَ جرير: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هجوتُ أحدا حَتَّى أجزه عِرضي سَنَةً، فَإِن أمسك أَمْسَكت، وَإِن أَقَامَ استعنتُ عَلَيْهِ وهجوتُه، فَقَالَ لَهُ: هَذَا صديقك أَبُو مَالك سَلِّم عَلَيْهِ - يَعْنِي الأخطل - فاعتنقه وَقَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هجاني أحدٌ كَانَ هجاؤُه عليّ أشدَّ من هجائه، إِلَّا أَنِّي كنتُ أَظن أنَّه يُرْشى عَلَى هجائي، فَقَالَ لَهُ الأخطل: كذبتَ وأُتُنِ أمِّك، قَالَ لَهُ جرير: صدقتُ وَخَنَازِير أمك، فَقَالَ عَبْد الْملك: أحضروا جَامِعَة فأحضرت وغمز الْوَلِيد الْغُلَام أَن ناجز بهَا، فَقَالَ عَبْد الْملك للأخطل: أنْشِدْ، فَأَنْشد:
تأبّد الربُع من سلمى بأجْفار ... وأقْفرتْ من سُلَيمي دِمْنَةَ الدَّارِ
حَتَّى خَتمهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْملك: قضينا لَك أنَّك أشعر من مضى وَمن بَقِي. واستأذنت قيس عَبْد الْملك فِي أَن ينشد جريرٌ فَأبى، وَلم يزل جرير مُقيما دهرًا يلْتَمس إنشاد عَبْد الْملك وَقيس تشفع لَهُ، وَعبد الْملك يَأْبَى إِلَى أَن أذن لَهُ يَوْمَا، فأنشده:
أتصحُو بل فؤادُك غَيْر صَاح ... عَشِيَّة هَمَّ صَحْبُك بالرواح
فَقَالَ عبد الْملك: بل فُؤَادك يَا بن اللخناء - قَالَ أَبُو بَكْر: اللخناء: المنتنة الرّيح، فَلَمّا انْتهى إِلَى قَوْله:
تَعَزَّتْ أم حَزْرَة ثُمَّ قَالَتْ ... رَأَيْتُ الْمُوردين ذَوي اللقاحِ
تُعَلِّلُ وَهِي سَاغِبةٌ بَنِيها ... بِأَنْفَاسِ من الشبم القراح
قَالَ أبوبكر: الشبم: الْبَارِد، والقراح: المَاء الَّذِي لَيْسَ مَعَه لبن، والساغبة الجائعة، قَالَ القَاضِي: وَمن دُعَاء الْعَرَب: حلبتَ قَاعِدا وشربتَ بَارِدًا، يُرِيدُونَ كنت ذَا غنم تحلبها وَأَنت قَاعد وَلَا إبل لَك تحلبها قَائِما، وشربت بَارِدًا أَي مَاء مَحْضا، قَالَ عبد الْملك: لَا(1/191)
أروى اللَّه عَيمتَها، قَالَ القَاضِي: العَيْمة: شَهْوَة اللَّبن، يُقَالُ: عَمت إِلَى اللَّبن أعيم عيمة، وَمن دُعَاء الْعَرَب: مَا لَهُ عَامَ وغام وآم، فغام: قرم إِلَى اللَّبن وَلم يقدر عَلَيْهِ، وآم: مَاتَت امْرَأَته، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وأُبنا وَقد آمتْ نِسَاءٌ كثيرةٌ ... ونسْوَانُ سَعْدٍ لَيْسَ فيهنَّ أيِّمُ
معنى آمت نسَاء مَاتَ أَزوَاجهنَّ، وغام: عَطش فَلم يقدر عَلَى المَاء، فَلَمّا انْتهى إِلَى قَوْله:
ألستُمْ خَيْر من ركب المَطَايا ... وأندى العَالمين بُطُون رَاحِ
قَالَ عَبْد الْملك: من مَدْحنَا فليمدحْنا هَكَذَا. فَلَمّا خَتمهَا أمره بإعادتها، فَلَمّا أنْشد:
أتَصْحُو أم فؤادُك غَيْرُ صَاحِ
لَمْ يقل لَهُ مَا قَالَ فِي الْمرة الأولى، ولمّا خَتمهَا أَمر لَهُ بِمِائَة نَاقَة بأداتها ورعاتها، فَقَالَ جرير: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! اجْعَلْهَا من إبل كلب، وإبل كلب إبل كرام.
قَالَ القَاضِي: وَقد كتبنَا هَذَا الْخَبَر عَنْ أبي بَكْر بْن الأنبَاريّ فِي مجْلِس آخر: فَأتى بِهِ بِزِيَادَة فِي هَذِهِ القصيدة وَأنْشد فِيهِ كلمة جرير كلهَا وَفسّر غريبها، وَإِذا عثرنا عَلَيْهِ رسمناه فِيمَا نستقبله من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه.
الرشيد يحبس مُحَمَّد بْن اللَّيْث ثُمَّ يُطلقهُ ويكرمه
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن زَيْدُ أَبُو عليّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بالحكيمي، قَالَ: سمعتُ أَحْمَد بْن يُوسُف الْكَاتِب يَقُولُ: حَدَّثَنِي ثُمَامَة بْن أَشْرَس، قَالَ: أول مَا أنكر يحيى بْن خَالِد من أمره، أنَّ مُحَمَّد بْن اللَّيْث أبي الرّبيع الْكَاتِب كتب إِلَى الرشيد رِسَالَة يَعِظُه فِيهَا وَيذكر فِيهَا يحيى بْن خَالِد وَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن يحيى بْن خَالِد لَا يُغني عَنْكَ من اللَّه شَيئًا، وَقد جعلته فِيما بَيْنك وَبَين اللَّه عَزَّ وَجل، فَكيف أَنْت إِذا وقفت بَيْنَ يَدَيْهِ فسألك عَمَّا عملت فِي عباده وبلاده، فَقلت: أَي رب! استكفيت يحيى بْن خَالِد أُمُور عِبَادك، أتراك تحتج بِحجَّة يرضاها؟ مَعَ كَلَام فِيهِ توبيخ وتقريع، فَلَمّا قَرَأَهَا الرشيد دَعَا يحيى بْن خَالِد وَقد تَقَدَّمَ إِلَى يحيى خبر هَذِهِ الرسَالَة، فَقَالَ لَهُ: أتعرف مُحَمَّدًا بْن اللَّيْث؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فأيُّ الرِّجَال هُوَ؟ قَالَ: مُتّهم على الْإِسْلَام. فَأمر الرشيد بِمُحَمد بْن اللَّيْث فَوضع فِي المطبق فَأَقَامَ دهرًا، فَلَمّا تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فَأمر بِإِخْرَاجِهِ فأحضر، فَقَالَ لَهُ بَعْدَ مُخَاطبَة طَوِيلَة: يَا مُحَمَّد! أتحبني، قَالَ: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: أوتقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وضعت فِي رِجلي الأكْبَالَ وحلت بيني وَبَين الْعِيَال بِلَا ذَنْب وَلَا حَدَثٍ أحدثتُ سوى قَول حَاسِد يكيدُ الْإِسْلَام وَأَهله، وَيُحب الْإِلْحَاد وَأَهله، فَكيف أُحِبَّكَ؟ قَالَ: صدقت، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ، ثُمّ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد بْن اللَّيْث أتحبني، قَالَ لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِن قَدْ ذهب بَعْض مَا كَانَ فِي قلبِي، فَأمر أَن يدْفع إِلَيْهِ من(1/192)
سَاعَته مائَة ألف دِرْهَم فأحضرت، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد أتحبني؟ قَالَ: أما الْآن فَنعم، قَدْ أَنْعَمت وأحسنت، فَقَالَ: انتقم الله لَك مِمَّن ظلمك وَأخذ بحقِّك مِمَّن بغى عَلَيْكَ، فَكَانَ هَذَا أول مَا ظهر من الرشيد فِي أَمر يحيى بْن خَالِد ثُمَّ تَزَيّد الْأَمر بَعْدَ ذَلِكَ.
خبرُ وضَّاحِ الْيمن
حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حِبّان بْن صَدَقة، عَنْ مُحَمَّد بْن أبي السّري، عَنْ هِشَام بْن مُحَمَّد بْن السَّائِب، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ يزِيد بْن عَبْد الْملك بْن مَرْوَان أم الْبَنِينَ بِنْت فلَان، وَكَانَ لَهَا من قلبه مَوضِع قَالَ: فَقدم عَلَيْهِ من نَاحيَة مصر بجوهر لَهُ قيمَة وَقدر، قَالَ: فَدَعَا خصِيًّا لَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى أم الْبَنِينَ وَقل لَهَا: أُتيتُ بِهِ الساعةَ فبعثتُ بِهِ إِلَيْكَ، قَالَ: فَأَتَاهَا الْخَادِم فَوجدَ عِنْدهَا وَضَّاحَ الْيمن وَكَانَ من أجمل الْعَرَب وأحسنها وَجها، فعشقته أم الْبَنِينَ فأدخلته عَلَيْهَا، فَكَانَ يكون عِنْدهَا فَإِذا أحسّت بِدُخُول يزِيد بْن عَبْد الْملك عَلَيْهَا أدخلته فِي صندوق من صناديقها، فَلَمّا رَأَتْ الْغُلَام قَدْ أقبل أدخلته فِي الصندوق فَرَآهُ الْغُلَام وَرَأى الصندوق الَّذِي دخل فِيهِ، فَوضع الْجَوْهَر بَيْنَ يَديهَا وأبلغها الرسَالَة، ثُمَّ قَالَ: يَا سيِّدتي هَبِي لي مِنْهُ لُؤْلؤة، قَالَتْ: لَا، وَلَا كَرَامَة، فَغَضب وَجَاء إِلَى مَوْلَاهُ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِنِّي دخلت عَلَيْهَا وَعِنْدهَا رَجُل، فَلَمّا رأتني أدخلته صندوقًا فَهُوَ فِي الصندوق الَّذِي من صفته كَذَا وَكَذَا وَهُوَ الثَّالِث أَو الرَّابِع، فَقَالَ لَهُ يزِيد: كذبت يَا عَدو اللَّه، جئوا فِي عُنُقه فوجأوا عُنُقه وَنَحْوه عَنهُ، قَالَ: فأمهل قَلِيلا ثُمَّ قَامَ فَلبس نَعله وَدخل عَلَى أم الْبَنِينَ وَهِي تمتشط فِي خزانتها، فجَاء حَتَّى جلس عَلَى الصندوق الَّذِي وصف لَهُ الْخَادِم، فَقَالَ: يَا أم الْبَنِينَ! مَا أحبب إِلَيْكَ هَذَا الْبَيْت؟ قَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أدخلهُ لحاجتي وَفِيه خزانتي فَمَا أردْت من شَيْءٍ أَخَذته من قُرب، قَالَ: فَمَا فِي هَذِهِ الصناديق الَّتِي أَرَاهَا؟ قَالَتْ: حُلِيِّي وأثَاثي، قَالَ: فهبي لي مِنْهُ صندوقًا، قَالَتْ: كلهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: لَا أُرِيد إِلَّا وَاحِدًا وَلَك عليّ أُعْطِيك زِنَته وزنة مَا فِيهِ ذَهبًا، قَالَتْ: فَخذ مَا شِئْت، قَالَ: هَذَا الَّذِي تحتي، قَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! عَدِّ عَنْ هَذَا وَخذ غَيره، فَإِن لي فِيهِ شَيئًا يَقع بمحبتي، قَالَ: مَا أُرِيد غَيره، قَالَتْ: هُوَ لَك، قَالَ: فَأَخذه ودعا الفراشين فحملوا الصندوق فَمضى بِهِ إِلَى مَجْلِسه فَجَلَسَ وَلم يَفْتَحهُ وَلم ينظر مَا فِيهِ، فَلَمَّا جنه اللَّيْل دَعَا غُلَاما لَهُ أعجميا، فَقَالَ لَهُ: اسْتَأْجر أجراء غرباء لَيْسُوا من أهل الْمصر، قَالَ: فجَاء بهم فَأَمرهمْ فَحَفروا لَهُ حُفْرة فِي مَجْلِسه حَتَّى بلغ المَاء، ثُمَّ قَالَ: قَدِّموا لي الصندوق فألقي فِي الحفرة ثُمَّ وضع فَمه عَلَى شَفْرِهْ فَقَالَ: يَا هَذَا! قَدْ بلغنَا عَنْكَ الْخَبَر فَإِن يكن حَقًا فقد قَطعنَا أَثَره وَإِن يكن بَاطِلا فَإِنَّمَا دفنّا خَشَبًا، ثُمَّ أهالوا عَلَيْهِ التُّرَاب حَتَّى اسْتَوَى، قَالَ: فَلم ير وضاح الْيمن حَتَّى السَّاعَة، قَالَ: فَلا وَالله مَا بَان لَهَا فِي وَجهه وَلَا فِي خلائقه وَلَا فِي شَيْءٍ حَتَّى فرق الْمَوْت بَيْنَهُمَا.(1/193)
جَنّهُ وجنَّ عَلَيْهِ
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: فَلَمّا جنّه اللَّيْل، والفصيح من كَلَام الْعَرَب: جن عَلَيْهِ اللَّيْل وأجنه اللَّيْل، قَالَ اللَّه جلّ اسْمه " فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كوكباً " وَفِيه لُغَة أُخْرَى وَهُوَ جَنّه كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر، وَقد روى عَن بعض الماضين من الْقُرَّاء " جَنّهُ المَأْوى " وَهَذَا وَجه شَاذ فِي الْقِرَاءَة، واللغة، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَيْضا وجهٌ من اللُّغَة لَيْسَ بِالظَّاهِرِ السائر وَهُوَ قَوْله: ثُمَّ أهالوا عَلَيْهِ التُّرَاب، واللغة الفاشية الصَّحِيحَة الْعَالِيَة: هِلْتُ عَلَيْهِ التُّرَاب أهِيله، قَالَ اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَكَانَتِ الْجِبَالُ كثيباً مهيلاً ".
من أدب آل الْبَيْت
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ شَاذَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بِالْقَلْزُمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الْمَدَائِنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، فَقلت: يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ أَوْصِنِي، فَقَالَ: يَا سُفْيَانُ! لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ، وَلا رَاحَةَ لِحَسُودٍ، وَلا خَلَّةَ لِبَخِيلٍ، وَلا أَخَا لِمَلُولٍ، وَلا سُؤْدُدَ لسيء الْخلق، قلت يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ، زِدْنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ! كُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَكُنْ عَابِدًا، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَاصْحَبِ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوكَ بِهِ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَكَ مِنْ فُجُورِهِ، وَشَاوِرْ فِي أمورك الَّذين يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، فَقُلْتُ: يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ: زِدْنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ! مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ، فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قلت: يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي قَالَ: يَا سُفْيَانُ أَدَّبَنِي أَبِي بِثَلاثٍ وَأَتْبَعَنِي بِثَلَاث، قلت يَا ابْن رَسُول الله! مَا الثَّلاثُ الَّتِي أَدَّبَكَ بِهِنَّ أَبُوكَ؟ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السَّوْءِ لَا يَسْلَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السَّوْءِ يُتَّهَمْ، وَمَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ تَحْظَ بِهِ ... إِنَّ اللِّسَان لِمَا عَوَّدْتَ مُعْتَادُ
مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ ... فِي الْخَيْرِ وَالشَّر فانظركيف تَرْتَادُ
قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا الثَّلاثُ الأُخَرُ؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: إِنَّمَا يُتَّقَى حَاسِدُ نِعْمَةٍ، أَوْ شَامِتٌ بِمُصِيبَةٍ، أَوْ حَامِلُ نَمِيمَةٍ.
وُفُود كَثِيرَة عزَّة عَلَى عَبْد الْملك وَحَدِيثه مَعَه
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عليّ بن المزربان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن هَارُون النَّحْوِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أبي يَعْقُوب الدينَوَرِي، قَالَ: أَخْبرنِي نصر بْن مَنْصُور، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: كَانَ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان يحب النّظر إِلَى كُثَيِّر إِذَا دخل عَلَيْهِ آذنه يَوْمَا، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! هَذَا كُثَيِّر بِالْبَابِ، فَاسْتَبْشَرَ عَبْد الْملك، وَقَالَ: أَدْخِلْه يَا غُلَام،(1/194)
فَدخل كُثير وَكَانَ دميمًا حَقِيرًا تَزْدَريه الْعين فسلّم بالخلافة، فَقَالَ عَبْد الْملك: تَسْمَع بالْمُعَيْديِّ خيرٌ من أَن ترَاهُ، فَقَالَ كثير: مهلا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَإِنَّمَا الرَّجُل بأصغريه - قَالَ القَاضِي: الْعَرَب تَقول: تسمع بالمعيديِّ لَا أَن ترَاهُ، وَأَن تسمع بالمعيدي خَير من أَن ترَاهُ، وَهُوَ مَثَلٌ سَائِر - بِلِسَانِهِ وَقَلبه، فَإِن نَطَق نَطَقَ بِبَيَان، وَإِن قَاتل قَاتل بحنان، وَأَنا الَّذِي أَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ:
وَجَرَّبْتُ الأمورَ وَجَرَّبَتْنِي ... فقد أبدتْ عَريكَتي الأمُورُ
وَمَا يَخْفَ الرِّجَالُ عَلَيَّ إِنِّي ... بِهِم لأخُو مُثَاقَبَة خَبِيرُ
تَرى الرَّجُل النّحيفَ فتزدريه ... وَفِي أثوابه أسدٌ يَزِيرُ
ويُعْجِبكَ الطّرِيرُ فتبتليه ... فيُخْلِفُ ظَنّكَ الرَّجُل الطّريرُ
وَمَا عِظَمُ الرِّجَال لَهُمْ بِزَيْنٍ ... وَلَكِن زَيْنُهَا كَرَمٌ وخيرُ
بُغَاثُ الطّيْر أطْوَلُها جُسُومًا ... وَلم تَطِلِ الْبُزَاةُ وَلَا الصُّقُورُ
وروى
بغاث الطّير أَكْثَرهَا فِرَاخًا ... وأمُّ الصَّقْر مِقْلاتٌ نَزُور
وَفِي بغاث الطير لُغَتَانِ: بَغَاث وبِغَاث بِالْفَتْح وَالْكَسْر، فَأَما الضَّم فخطأ عِنْدَ أَهْلَ الْعلم باللغة، فقد أجَاز بَعضهم الضَّم، والمقلات الَّتِي لَا يعِيش لَهَا وُلِدَ، والقلت بِفَتْح اللَّام: الْهَلَاك، وَمن ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسَافر وَمَا مَعَه عَلَى قَلَتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَمِنْه قَول الشَّاعِر
فَلم أر كالتّجْمِيرِ مَنْظَرَ نَاظِرٍ ... وَلَا كَلَيَالِي الحَجِّ أقْلَتْن ذَا هَوَى
ويروى: أفلتن بِالْفَاءِ، فَأَما القلت بِسُكُون اللَّام: فالنقرة فِي الْجَبَل أَو الْحجر يجْتَمع فِيهَا المَاء، تجمع قلات، قَالَ الشَّاعِر:
كأنَّ عَيْنَيْهِ من الْغُئُورِ ... قَلَتَان فِي جَوْف صَفًا مَنْقُورِ
ثُمَّ رَجعْنَا إِلَى شعر كُثَيِّر:
لَقَدْ عَظُم البَعِير بِغَيْر لُبٍّ ... فَلَم يَسْتَغْنِ بالْعِظَمِ البَعِيرُ
فيركب ثُمَّ يضْرب بالهراوى ... فَلا عُرْفٌ لَدَيْهِ وَلَا نَكِيرٌ
قَالَ القَاضِي فيروى:
يُجَرِّرهُ الصَّبِيُّ بكلِّ سَهْبٍ ... ويَحْبِسهُ عَلَى الْخَسْف الْجَرِير
قَالَ القَاضِي: الْجَرِير: الْحَبل، وَبِه سمي الرَّجُل: قَالَ الشَّاعِر:
يرى فِي كف صَاحبه خَلاء ... فيُفْزِعهُ ويُجْبِنُه الجريرُ(1/195)
رَجعْنَا إِلَى شعر كُثَيِّر:
وعُودُ النّبْعِ يَنْبَتُ مُسْتَمِرًّا ... وَلَيْسَ يَطُول والقَصْبَاء خُور
قَالَ القَاضِي: النبع من كريم الشّجر وتتخذ مِنْهُ القسيّ، قَالَ الشَّاعِر:
ألم تَرَ أنَّ النّبْعَ يَصْلُب عُودُهُ ... وَلَا يَسْتَوِي والخَرْوَعُ المَتَقصِّفُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
ونَحْنُ أُنَاسٌ عُودُنا عُودُ نَبْعَةٍ ... إِذَا افتخرَ الحَيّان بَكْرٌ وتَغْلِبُ
قَالَ: فَاعْتَذر إِلَيْهِ عبد الْملك وَرفع مَجْلِسه، ثُمَّ قَالَ: يَا كثير! أَنْشدني فِي إخْوَان دهرك هَذَا، فأنشده:
خَيْرُ إخوانِك الْمُشَارِكُ فِي المر ... روأين الشّريكُ فِي الْمُرِّ أَيْنَا
الَّذِي إِن حضرت سرك فِي الح ... ي وَإِن غبتَ كَانَ أُذْنًا وعَيْنًا
ذَاك مثل الحسام أخلصه الق ... ين وجلاه الْجلاء فاداد رَيْنَا
قَالَ القَاضِي: ويروى: جلاه التلام يُرِيد التلامذة والتلاميذ وهم الصياقلة هَا هُنَا، وَيُقَال التلام المدوس وَهُوَ حجر يُجلى بِهِ، رَجَعَ الشَّاعِر:
أنتَ فِي معشر إِذَا غبت عَنْهُمْ ... بَدَّلُوا كلّ مَا يَزينك شَيْنَا
فَإِذا مَا رأوك قَالُوا جَمِيعًا ... أَنْت من أكْرم الرِّجَال عَلَيْنَا
فَقَالَ لَهُ عَبْد الْملك: يغْفر اللَّه لَك يَا كُثَيِّر، فَأَيْنَ الإخوان؟ قَالَ: غَيْر أَنِّي أَنَا الَّذِي أَقُول:
صَدِيقُك حِينَ تَسْتَغْنِي كثيرٌ ... ومَالَكَ عِنْدَ فقركِ من صِدِيقِ
فَلا تُنْكِر عَلَى أحدٍ إِذَا مَا ... طَوَى عَنْكَ الزِّيَارة عِنْدَ ضِيقِ
وكنتُ إِذَا الصّديق أَرَادَ غيظيعلى حَنَقٍ وأشْرَقني برِيقِي غفرتُ ذُنُوبَه وصفحت عنهمخافة أَن أكونَ بِلَا صَدِيقِ
خُرُوج عَبْد الْملك بِنَفسِهِ إِلَى حَرْب مُصْعَب وتمثله بِشعر لكثير
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدّه، قَالَ: وفَدَ كُثَيِّر على عبد الْملك وَهُوَ يُرِيد الْخُرُوج إِلَى مُصْعَب، فَقَالَ لَهُ لمّا خَرَجَ: يَا ابْن أبي جُمُعَة! ذكرتُك بِشَيْء من شعرك السَّاعَة، فَإِن أصبته فلك حُكْمُك، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أردتَ الخروجَ فبكتْ عاتكةُ بِنْت يزِيد وَحَشَمُها - يَعْنِي امْرَأَته - فذكَرْتَ قولي:
إِذَا مَا أَرَادَ الغَزْوُ لَمْ تَثْنِ هَمّه ... حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرٍّ يَزِينها(1/196)
نَهَتهُ فلمّا لَمْ تَرَ النّهْي عَاقَه ... بكتْ فَبكى مِمّا عراها قَطِينُها
فَقَالَ: أصبت وَالله، احْتَكِم، قَالَ: مائَة نَاقَة من نُوقك المختارة، قَالَ: هِيَ لَك، فَلَمّا كَانَ الْغَد نظر عَبْد الْملك إِلَى كُثَيِّر يسيرُ فِي عُرْض النّاس ضَارِبًا بذقنه عَلَى صَدره يفكر، فَقَالَ عليّ بِكَثِير فجيء بِهِ، قَالَ: فَإِن أصبت مَا كنتَ تفَكُر فِيهِ فَلِي حُكْمي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: الله، قَالَ: اللَّه، قَالَ: قلت فِي نَفسك: مَا أصنع بِالْمَسِيرِ مَعَ هَذَا الرَّجُل، لَيْسَ على نِحِلَتي وَلَا عَلَى مذهبي يسير إِلَى رَجُل كَذَلِك وَكِلَاهُمَا عِنْدِي ظَالِم من أَهْلَ النَّار، ويلتقي الْحَيَّانِ فيصيبني سهم غَرْبٌ فَأَكُون قَدْ خسرتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، قَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أَخْطَأت حَرْفًا فاحتكم، قَالَ حكمي أحْسِنَ صِلَتك وأصرفك إِلَى أهلك، فَفعل ذَلِكَ
معنى الغرب
قَالَ القَاضِي: يُقَالُ: أَصَابَهُ سهم غَرَب وَغرب والتحريك أعلاهما، وَهُوَ أَن يُصِيبهُ السهْم عَلَى حِين غَفلَة مِنْهُ، والغرب أَيْضا عِلّة تعرض للعين، والغرب دلو عَظِيمَة، وَمِنْه الْخَبَر: " بالغَرْب فَفِيهِ نصف الْعُشْر " وَيجمع غروبا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
من ديارْ بالهَضْبِ هَضْبِ القَلِيبِ ... فَاضَ مَاءُ الشُّؤونِ فَيْضَ الْغُرُوبِ
والغرب مُقَابل الشرق، والغَرَب بِالتَّحْرِيكِ ضرب من الشّجر مَعْرُوف، والغرب بِالْفَتْح أَيْضا من أَسمَاء الْفِضَّة، قَالَ الْأَعْشَى:
إِذَا انكب أَزْهَر بَيْنَ السُّقاة ... وَلِعُوا بِهِ غَرَبًا أَوْ نُضَارا
قَالَ أَبُو عُبَيْدة: الغرب: الْفِضَّة، والنُّضَار: الذَّهَبَ، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الغرب: الْخشب، والنضار: الأثْل، وكل ناعم فَهُوَ نضار، وَقيل للأصمعي: إِنَّهُم لَمْ يَكُونُوا يشربون فِي آنِية الْخشب يَعْنِي الأكاسرة، وَيُقَال لِلْفِضَّةِ: اللُّجَين، والقطعة مِنْهُ سبيكة ودبلة، وَالذَّهَب: نضر وعقيان وعسجد، وَيُقَال لَهُ: الزخرف، والغرب أَيْضا: مَا سَالَ من الْحَوْض والبئر من المَاء، كَمَا قَالَ ذُو الرمة:
فَأدْرك الْمُتَبَقّي من ثَمِيلَتِهِ ... وَمن ثمائلها واستنشئ الغرب
قَوْله: واستنشئ الغرب مَعْنَاهُ أَنَّهُ شم من قَوْلهم: شممت مِنْهُ نشوة طيبَة أَي ريحًا طيبَة، يَقُولُ: شممن المَاء من شدَّة الْعَطش، يَعْنِي حمر الْوَحْش.
/بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْمَجْلِسُ السَّادِسُ وَالْعِشرُونَ
أَصْلُ الْمُعَانَقَةِ وَالْمُصَافَحَةِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو سَعِيدٍ الْخُوَارِزْمِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّوِيلُ، حَدثنَا مُحَمَّد بن حَاتِم الجرجائي، حَدثنَا سَلمَة ابْن صَالِحٍ الأَحْمَرُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، عَنْ مُعَانَقَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ إِذَا لَقِيَهُ؟ قَالَ: كَانَ تَحِيَّةُ الأُمَمِ وَخَالِصُ وُدِّهِمُ(1/197)
الْعِنَاقَ، وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ خَرَجَ يَرْتَادُ لِمَاشِيَتِهِ بجبلٍ مِنْ جِبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِذْ سَمِعَ صَوْتَ مقدسٍ يُقَدِّسُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَذُهِلَ عَمَّا كَانَ يَطْلُبُ، فَقَصَدَ ذَلِكَ الصَّوْتَ، فَإِذَا هُوَ بِشَيْخٍ طُولُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا شَيْخُ! مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: مَنْ فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّ مَنْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: ألها رب غَيره؟ قَالَ: فَمَنْ رَبُّ مَنْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: أَلَهَا رَبٌّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: مَالهَا رَبٌّ غَيْرُهُ، وَهُوَ رَبُّ مَنْ فِيهَا وَرَبُّ مَنْ تَحْتَهَا وَمَنْ فَوْقَهَا، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ فَأَوْمَأَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ طَعَامِهِ، قَالَ: أَجْمَعُ مِنْ هَذَا التَّمْرِ فِي الصَّيْفِ فَآكُلُهُ فِي الشِّتَاءِ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا أعلم أحدٌ بَقِيَ مِنْ قَوْمِي غَيْرِي، قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ؟ قَالَ: فِي تِلْكَ الْمَغَارَةِ قَالَ: أَفَتُرِينَا بَيْتَكَ، قَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَهُ وادٍ لَا يُخَاضُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَيْفَ تَعْبُرُهُ؟ قَالَ: أَمْشِي عَلَيْهِ ذَاهِبًا وَأَمْشِي عَلَيْهِ جَائِيًا، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: فَانْطَلِقْ بِنَا لَعَلَّ الَّذِي ذَلَّلَهُ لَكَ أَنْ يُذَلِّلَهُ لِي، قَالَ: فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَيْهِ، فَمَشَيَا عَلَيْهِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَتَعَجَّبُ مِمَّا أُوتِيَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا دَخَلا الْمَغَارَةَ إِذَا قِبْلَتُهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَيُّ يومٍ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى أَشَدُّ؟ قَالَ الشَّيْخُ: يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ يَضَعُ كُرْسِيَّهُ، يَوْمَ تُؤْمَرُ جَهَنَّمُ فَتَزْفُرُ زَفْرَةً فَلا يَبْقَى نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ إِلا تَهُمُّهُ نَفْسُهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا شَيْخُ! ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يُؤَمِّنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: وَمَا تَصْنَعُ بِدُعَائِي، إِنَّ لِي فِي السَّمَاءِ دَعْوَةً مَحْبُوسَةً مُنْذُ ثَلاثِ سِنِينَ، قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: ألأا أُخْبِرُكَ بِمَا حَبَسَ دَعْوَتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَبَسَ دَعَوَاتِهِ لِحُبِّ صَوْتِهِ، ثُمَّ يُجِيبُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا عَجَّلَ لَهُ الْحَاجَةَ وَأَلْقَى الْيَأْسَ فِي صَدْرِهِ لِبُغْضِ صَوْتِهِ، مَا دَعْوَتُكَ يَا شَيْخُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ مَحْبُوسَةٌ؟ قَالَ: مر بِي هَاهُنَا شَابُّ فِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ مُنْذُ ثَلَاث سِنِينَ وَمَعَهُ غنمٌ كَأَنَّهَا حَشَفٌ، وبقرٌ كَأَنَّهَا حَفِيَتْ ...
قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ وَأَحْسَبُهُ حَفِلَتْ أَيْ جُمِعَ اللَّبَنُ فِي ضُرُوعِهَا وَأُخِّرَ حِلابُهَا، قُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لَكَ فِي الأَرْضِ خليلٌ فَأَرِنِيهِ قَبْلَ خُرُوجِي مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكَ، فَاعْتَنَقَا، فيومئذٍ كَانَ أَصْلُ الْمُعَانَقَةِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ السُّجُودُ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا، ثُمَّ جَاءَ الصِّفَاحُ مَعَ الإِسْلامِ فَلَمْ يَسْجُدُوا وَلَمْ يُعَانِقُوا، وَلا تَتَفَرَّقُ الأَصَابِعُ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لِكُلِّ مُصَافِحٍ.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر الإصْر، الذِّرَاع
قَالَ القَاضِي: الْحَمد للَّه الَّذِي وضع عَنَّا الآصار، والآصار: جمعُ إصْر، وَهُوَ الْعَهْد، وَأَصله الثُّقْل، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ من قبلنَا " يَعْنِي التَّشْدِيد فِي الْعِبادة، والتثقيل فِي الشَّرِيعَة، وقَالَ تَعَالَى ذكره: " وأخذتم على ذَلِكُم إصري " أَيْ عَهْدي، وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي(1/198)
كَانَت عَلَيْهِم " يَعْنِي التثقيل فِيمَا كُلِّفُوهُ وكُتب عَلَيْهِم، وَقد قرىء: آصَارهم عَلَى الجَمْع.
وَفِي هَذَا الْخَبَر: أَن الرَّجُل الَّذِي لَقِيَه إِبْرَاهِيمُ عَلَيْه السَّلام كَانَ طولُه ثمانيةَ عَشَرَ ذِرَاعا، فجَاء بِهِ عَلَى التَّذْكِير والأغلبُ فِيهِ التَّأْنِيث، وَفِي تذكيره خلاف بَيْنَ اللُّغَويين، وَقَدْ أجَازه بَعضهم وَحَكَاهُ، وَقَد استقصينا القَوْل فِي هَذَا فِي مَوضِع غَيْر هَذَا، وشرحناه وأوضحنا الْبَيَان عَنْهُ وبينَّاه.
حكم المصافحة والمعانقة وَالْقِيَام للزائر
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ أَنَّهُ ندب إِلَى المصافحة وَكَانَ يَفْعَلهَا، وَأَنه سُئِل: أينحني الرجلُ لصَاحبه، فَقَالَ: لَا، قِيلَ أفيعانقه؟ قَالَ: لَا، قِيلَ: أفيصافحه؟ قَالَ: نعم.
وَقَدْ ذكر اسْتِعْمَال الْقيام والمصافحة عَنْ بعض السّلف، وليسا عِنْدِي بمحظورين، أَولا أحد من أَهْل الْقُدْوة حَرّم ذَلِكَ، غَيْر أَن الْأَخْذ بِمَا أدَّب بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته أولى بذوي الْأَلْبَاب، وأليقُ بِوَجْه الْحق وَالصَّوَاب.
أصل الْيمن، مَا هُوَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ، حَدَّثَنَا السَّكَنُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَزِيَّةَ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي قُرْظَةُ الْمَازِنِيُّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيِّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ، قَالَ: خَرَجْتُ وافدًا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي جَمَاعَةٍ لَيْسَ فِيهِمْ يمانٍ غَيْرِي، فَلَمَّا كُنَّا بِبَابِهِ دُفعنا إِلَى ابْن هُبَيْرة وَهُوَ عَلَى شُرَطِهِ وَمَا وَرَاء بَابه، فَتقدم الوفدُ رَجُلا رَجُلا كلهم يخْطب ويُطنب فِي أَمِير الْمُؤْمِنِين وَابْن هُبيرة، فَجعل يبحثهم عَنْ أنسابهم، فَكرِهت ذَلِكَ، وَقلت: إِن عَرَفني زادني ذَلِكَ عِنْده شرًّا، وكرهتُ أَن أَتكَلّم فأُطْنب، فجعلتُ أتأخر رجاءَ أَن يَمَلَّ كلامَهم فُيمْسِك، حَتَّى لَمْ يبْق غَيْرِي، ثُمّ تقدمْتُ فتكلمت بِدُونِ كَلَامهم وَإِنِّي لقادر عَلَى الْكَلَام، فَقَالَ: مِمَّن أَنْت؟ فَقلت: من أَهْل الْيمن، قَالَ: من أيِّها؟ قُلْتُ: من مذْحج، قَالَ: إِنَّك لتطمح بِنَفْسِك، اختصر. قُلْتُ: من بني الْحَارِث بْن كَعْب، قَالَ: يَا أَخا بني الْحَارِث! إِن النّاس ليزعمون أنّ أَبَا الْيمن قردٌ، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ قُلْتُ: وَمَا أَقُول أصلحك اللَّهُ، إِن الحجَّة فِي هَذَا لغير مشكلة، فَاسْتَوَى قَاعِدا، وقَالَ: وَمَا حجتك؟ قُلْتُ: تنظر إِلَى القرد أَبَا من يُكنَّى، فَإِن كَانَ أَبُو الْيمن فَهُوَ أبوهم، وَإِن كَانَ يكنى أَبَا قَيْس فَهُوَ أَبُو مَنْ كُنِّيَ بِهِ. فَنَكس ونكت بظفره إِلَى الأَرْض، وَجعلت اليمانة تَعضّ عَلَى شفاهها تظن أَن قَدْ هَوِيتُ، والقيسيَّةُ تكَاد أَن تَزْدردني، وَدخل بهَا الْحَاجِب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين ثُمّ رَجَعَ، فَقَامَ ابْن هُبَيْرة فَدخل ثُمّ لَمْ يلبث أَن خرج، فَقَالَ الْحَارِثِيّ: فَدخلت ومَرْوَان يضْحك، فَقَالَ: إيهٍ عَنْك وَعَن ابْن هُبَيْرة فَقلت: قَالَ: كَذَا فَقلت كَذَا، فَقَالَ: وَايْم اللَّه لقَدْ حَجَجْتَه، أَوْ لَيْسَ أَمِير(1/199)
الْمُؤْمِنِين الَّذِي يَقُولُ:
تمسَّك أَبَا قَيس بِفضل هَنَاتِها ... فَلَيْس عَلَيْهَا إِن هلكتَ ضمانُ
فَلم أر قردًا قبلهَا سَبَقَتْ بِهِ ... جيادَ أَمِير الْمُؤْمِنِين أتَانُ
قَالَ زِيَاد: فخرجتُ واتَّبعني ابنُ هُبَيْرة فَوضع يَده بَيْنَ مِنكبي، ثُمّ قَالَ: يَا أَخا بني الْحَارِث، واللَّهِ مَا كَانَ كَلَامي إيّاك إِلا هفوة، وَإِن كُنْت لأربأ بنفسي عَن ذَلِك، وَلَقَد سرّني إِذْ لُقِّنْتَ عليَّ الحجَّة ليَكُون ذَلِكَ لي أدبًا فِيمَا أسْتقبل، وَأَنا لَك بِحَيْثُ تُحِب، فاجعلْ مَنْزِلك عليَّ، ففعلتُ فأكرمني وَأحسن منزلي.
قَالَ ابْن دُرَيْد: والبيتان ليزِيد بْن مُعَاوِيَة، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حمل قردًا عَلَى أتانٍ وحشية فَسبق بَينهَا وبَيْنَ الْخَيل.
وعَلى ذكر القرد
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن كَامِل، قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَجِيحٍ أَبِي مُضَرَ، وَقَالَ: هُوَ نَجِيحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: خَطَبَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر فَقَالَ مِنْ خُطْبَتِهِ: يَزِيدُ الْقِرْدُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ، قَالَ: فَبَلَغَتْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَة، فَمَا بَات لَيْلَتِهِ حَتَّى جَهَّزَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَجَلَسَ وَالشَّمْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مُعَصْفَرَةٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا الأَمْرُ انْبَرَى
وَأَخَذَ الْجَيْشُ عَلَى وَادِي الْقُرَى
عِشْرُونَ أَلْفًا بَيْنَ كَهْلٍ وَفَتَى
أَجَمْعَ سكرانٍ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى
فِي أول لِقَاء بَيْنَ أَبِي نواس وَأبي الْعَتَاهِيَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، ثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور المَرْوَزِيّ، حَدَّثَنَا عُمَر بْن يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيّ، قَالَ: اجْتمع عِنْدِي أَبُو نواس وأَبُو الْعَتَاهِيَة، وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يعرفُ صاحبَه، فعرَّفْتُ أَبَا الْعَتَاهِيَة أَبَا نُوَاس فسلَّم عَلَيْه، وَجَعَل أَبُو نواسٍ ينشدُ من شغشاف شعره، فَانْدفع أَبُو الْعَتَاهِيَة فَأَنْشد، فَقَالَ لَهُ أَبُو نواس: هَذَا وَالله الْمُطْمِعُ الْمُمْتَنع، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة: هَذَا القولُ مِنْك - واللَّه - أحسنُ من كلِّ مَا أنشدتَ، كَيفَ الْبَيْت الَّذِي مدحتَ بِهِ الرشيدَ أَو الرَّبِيعَ:
قَدْ كنتُ خفتُك ثُمّ آمَنَنِي ... مِنْ أنْ أَخَافَكَ خَوْفُك اللَّهَ
لوددتُ أَنِّي كُنْت سبقتُك إِلَيْهِ.
قَالَ أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي: وأنْشدني أَبِي هَذِهِ الأبيات لأبي نُوَاس فِي الْفَضْل بْن الرَّبِيع بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد:
مَا من يدٍ فِي النّاس واحدةٍ ... إِلا أَبُو الْعَبَّاس مَوْلَاهَا
نَام الثقاتُ وَطَالَ نومُهُمُ ... وسَرَى إِلَى نَفسِي فأحْيَاها(1/200)
قَدْ كنتُ خفتُك ثُمّ آمَنَنِي ... مِنْ أنْ أَخَافَكَ خَوْفُك اللَّهَ
فغفوت عني عَفْو مقتدرٍ ... حلت لَهُ نقمٌ فألْغَاها
هِشَام بْن عَبْد الْملك يسترضي الأَبْرَش الْكَلْبِيّ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، ثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن الطَّائِي، عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس، قَالَ: حَدَّثَنِي الأبرشُ بْن الْوَلِيد الْكَلْبِيّ، قَالَ: دخلت عَلَى هِشَام بْن عَبْد الْملك فَسَأَلته حَاجَة فَامْتنعَ عَليّ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! لَا بُد مِنْهَا، فإنّا قَدْ ثَنَيْنَا عَلَيْهَا رِجْلا، قَالَ: ذَلِكَ أضعفُ لَك أَن تَثْنِيَ رِجْلَك عَلَى مَا لَيْسَ عنْدك، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! مَا كنتُ أظنُّ أَنِّي أمدُّ يَدي إِلَى شَيْء مِمَّا قِبَلك إِلا نلتُه، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنِّي رأيتُك لذَلِك أَهلا ورأيتُني مُستحقَّهُ مِنْك، قَالَ: يَا أبرشُ! مَا أَكثر من يرى أَنَّهُ يستحقُّ أمرا لَيْسَ لَهُ بِأَهْل، فَقلت: أُفٍّ لَك لَكِن إِنَّك - واللهِ مَا علمتُ - قليلُ الْخَيْر نَكِدُهُ، واللَّه إنْ نُصِيبُ مِنْك الشيءَ إِلا بعد مَسْأَلَة، فَإِذا وصل إِلَيْنَا مَننْتَ بِهِ، واللَّه إنْ أصبْنَا مِنْك خيرا قَطُّ، قَالَ: لَا، واللَّه، ولكنّا وجدنَا الأعرابيَّ أقلَّ شيءٍ شُكرًا، قُلْتُ: واللَّه إِنِّي لأكْره للرجل أَن يُحْصِيَ مَا يُعطي.
وَدخل عَلَيْه أَخُوهُ سَعِيدُ بْن عَبْد الْملك وَنحن فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَه يَا أَبَا مُجاشِع، لَا تقل ذَلِكَ لأمير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: فَقَالَ هِشَام: أَتَرْضَى بِأبي عُثْمَان بيني وَبَيْنك؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ سعيدٌ: مَا تقولُ يَا أَبَا مُجاشِع؟ فَقلت: لَا تَعْجَلْ، صَحِبْتُ - واللَّهِ - هَذَا وَهُوَ أرْذَلُ بني أَبِيهِ، وَأَنا يومئذٍ سَيِّدُ قَومي وأكثرُهُمْ مَالا وأوجَهُهُمْ جاهًا، أُدْعَى إِلَى الأمورِ الْعِظَام من قِبَلِ الْخُلَفَاء، وَمَا يَطْمع هَذَا يومئذٍ فِيمَا صَار إِلَيْهِ، حَتَّى إِذا صَار إِلَى الْبَحْر الأخْضَر غَرَفَ لنا مِنْهُ غَرْفَةً ثُمّ قَالَ: حسبُ.
فَقَالَ هِشَام: يَا أبرشُ! اغْفِرها لي، فواللَّهِ لَا أعودُ لشيءٍ تكرههُ أبدا، صدق يَا أَبَا عُثْمَان.
قَالَ: فواللَّه مَا زَالَ مُكرمًا لي حَتَّى مَاتَ.
الفَرَزْدَق يُؤّجَّل ثَلَاثًا
حَدَّثَنَا أَبِي رحمَهُ اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الحنلى، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن بشر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَمْرو الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بْن خَالِد الْعُمَاني، قَالَ: قدم الفرزدق الْمَدِينَة فِي سنةٍ جدبةٍ حَصْباء، فَمشى أهلُ الْمَدِينَة إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز، وَهُوَ يَوْمئِذٍ أميرها فَقَالُوا لَهُ: أصلح اللَّه الْأَمِير، إنّ الفرزدقَ قدِم مدينتنا هَذِهِ فِي هَذِهِ السّنة الجَدْبة الَّتِي قَدْ خَلَتْ أموالها، ولَيْسَ عِنْد أحدٍ مِنْهُم مَا يُعطيه، فَلَو أَن الْأَمِير بعث إِلَيْهِ فأرضاه وتقدّم إِلَيْهِ أَلا يَعْرض لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء، قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز، فَقَالَ: يَا فرزدقُ! إِنَّك قَدِمْتَ مدينتنا فِي هَذِهِ السّنة الجدبة، ولَيْسَ عِنْد وَاحِد مِنَّا مَا يُعطي شَاعِرًا، وَقَدْ أمرت لَك بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، فخُذْها وَلا تَعْرِض(1/201)
لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء.
قَالَ: فَأَخذهَا الفرزدق ومرّ بِعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان وَهُوَ جَالس فِي سقيفَةِ دَاره وَعَلِيهِ مطرفٌ وعمامةُ خَز حَمْرَاء وجبة خَزٍّ حَمْرَاء، فَقَالَ:
أعَبْدَ اللَّهِ أنتَ أحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجَمَاعير الكبارِ
فلِلْفَارُوقِ أمُّكَ وابنُ أرْوَى ... أَبوك وَأَنت مُنْصَدِعُ النهارِ
هما قمرُ السَّماءِ وَأَنت نجمٌ ... بِهِ فِي اللَّيْل يُدْلِجُ كلُّ سارِ
قَالَ: فَخلع عَلَيْه جُبَّتَه والْمِطْرَفُ والْعِمامة ودعا لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: فَخرج رجلٌ كَانَ عندعبد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، وَقَدْ حضر الفَرَزْدَق عِنْدَمَا أَعْطَاه عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَتقدم إِلَيْهِ فَأخْبر عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْخَبَر، فَبعث إِلَيْهِ عُمَر: ألم أتقدّم إِلَيْك يَا فرزدقُ أَلا تَعْرِض لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء، اخْرُج فقد أَجَّلْتُك ثَلَاثًا، فَإِن وجدتُك بعد ثَلَاث نَكَّلْتُ بك، قَالَ: فَخرج الفرزدق وَهُوَ يَقُولُ:
أَأَوْعَدَنِي وأَجَّلَنِي ثَلَاثًا ... كَمَا وعدت لمهاكها ثَمُودُ؟
قَدْ يُصْلِحُ العشقُ الفتيانَ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْن مُحَمَّد بْن ناظرة السدُوسِي، قَالَ: حَدَّثَنِي قُبَيْصةُ بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْيَمَان ابْن عُمَر مَوْلَى ذِي الرِّيَاسَتين قَالَ: كَانَ ذُو الرِّياستين يَبْعثُني وأحداثًا من أَحْدَاث أَهله إِلَى شيخ بخراسان لَهُ أدبٌ وَحُسْنُ معرفةٍ بالأمور، وَيَقُولُ لنا: تعلَّموا مِنْهُ الْحِكْمَة فَإِنه حَكِيم، فكنّا نأتِيه، فَإِذا انصرفنا من عِنْده سَأَلَنا ذُو الرياستين وَاعْترض مَا حفظناه فنُخْبِرُه، فصرنا ذَات يوْم إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ لنا: أَنْتُم أدباءُ وَقَدْ سَمِعْتُمْ الْحِكْمَة، وَلكم خيراتٌ ونعمٌ، فَهَل فِيكُم عاشق؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: اعشقوا فَإِن الْعِشْق يُطلق اللسانَ الغبيَّ، وَيفتح حِيلَة البليد والبخيل، وَيبْعَث عَلَى التنظُّفِ، وتحسين اللِّباس، وتَطْيِيبِ المَطْعم، وَيَدْعُو إِلَى الْحَرَكَة والذكاء. وَيُشْرِفُ الهِّمَة، وإيّاكُم والحرامَ.
فانصرفنا من عِنْده إِلَى ذِي الرياستين، فَسَأَلْنَاهُ عمّا افدناه فِي يَوْمنَا ذَلِكَ، فهِبْناهُ أَن نُخْبِره، فغرم علينا، فَقُلْنَا لَهُ: أَمَرَنَا بِكَذَا وَكَذَا، وقَالَ لنا كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صدق واللَّهِ، أتعلمون من أَيْن أَخذ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ ذُو الرياستين: إِن بهْرَام جُور كَانَ لَهُ ابنٌ وَكَانَ قَدْ رَشَّحَه لِلْأَمْرِ من بعده، فَنَشَأَ الْفَتى ناقصَ الْمُرُوءَة، خاملَ النَّفْس، سيىء الْأَدَب، فغَمَّهُ ذَلِكَ، وَوَكَّلَ بِهِ من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يُلازمه ويعلَّمه، وَكَانَ يسألهم عَنْهُ فيحكون لَهُ مَا يَغُمُّه، من سوء فهمه وَقلة أدبه، إِلَى أَن سَأَلَ بعضَ مؤدِّبيه يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُؤَدب قَدْ كُنّا نَخَاف سُوءَ أدبه فحَدَثَ من أمْرِه مَا صِرنْا إِلَى الْيَأْس من فلاحه، قَالَ: وَمَا(1/202)
ذَاك الَّذِي حدَّث؟ قَالَ: رَأَى أَمَةَ فلانٍ الْمَرْزُبَانِ فعشِقها حَتَّى غلبتْ عَلَيْه، فَهُوَ لَا يَهْذِي إِلا بهَا، وَلا يتشاغلُ إِلا بذكرها، فَقَالَ بهْرَام: الْآن رجوتُ فَلاحَه.
ثُمّ دَعَا بِأبي الْجَارِيَة، فَقَالَ: إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْك سِرًّا فَلَا يَعْدُوَنَّكَ، فضمِن لَهُ سِرَّه، فَأعلمهُ أَن ابنَهُ قَدْ عشق ابْنَته، وَأَنه يُرِيد أَن يُنكحها إيّاه، وأمرَهُ أَن يأمرها بإطماعه فِي نَفسهَا، ومراسلته من غَيْر أَن يَرَاهَا، أَوْ تقع عينه عَلَيْهَا، فَإِذا استحكم طمعُهُ فِيهَا تَجنَّتْ عَلَيْه وهجرته، فَإِن استعتبها أعلمتْهُ أَنَّهَا لَا تصلْح إِلا لملكٍ وَمَنْ همَّتُه همَّةُ مَلِك، وَأَنه يمْنَعهَا من مواصلته أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ، ثمَّ ليعلمه خَبَرهَا وَخَبره، لايطلعها عَلَى مَا أسرّ إِلَيْهِ.
فَقبل أَبوهَا ذَلِكَ مِنْهُ، وَفعلت الْمَرْأَة مَا أمرهَا بِهِ أَبوهَا، فَلَمَّا انْتَهَت إِلَى التجني عَلَيْه، وَعلم الْفَتى السَّببَ الَّذِي كرهته، أَخَذَ فِي طَلَبِ الْأَدَب وَالْحكمَة، والْعِلم والفروسيَّة، والرِّماية وضَرْب الصَوَالِجة، حَتَّى مَهَر فِي ذَلِكَ، ثُمّ رفع إِلَى أَبِيهِ أَنَّهُ يحْتَاج من الدوابِّ والآلات والمطاعم والملابس والندماء إِلَى فَوق مَا يُقَدَّرُ لَهُ، فسُرَّ بِذَلِك وَأمر لَهُ بِهِ.
ثُمّ دَعَا مُؤدِّبه فَقَالَ لَهُ: إِن الموضعَ الَّذِي وَضَع ابْني نفْسَه من حُبِّ هَذِهِ الْمَرْأَة لَا يُزْري بِهِ، فتقدَّم إِلَيْهِ أَن يرفَع إليَّ أمْرَها، ويسألَنِي أَن أزّوِّجَه إِيَّاهَا فَفعل، فَرفع الْفَتى ذَلِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَدَعَا بأبيها فزوَّجه إِيَّاهَا، وَأمر بتعجيلها إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِذا اجْتَمَعْتَ وَهِي فَلَا تُحْدِثْ شَيْئا حَتَّى أصيرَ إِلَيْك، فَلَمَّا اجْتمعَا صَار إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا بُني! لَا يَضَعَنَّ مِنْها عنْدك مراسلَتُها إياك وليستْ فِي حِبَالِك، فإنِّي أَنَا أمَرْتُها بِذَلِك، وَهِي أعظمُ النّاس مِنَّةً عَلَيْك بِمَا دَعَتْك إِلَيْهِ من طلب الْحِكمة، والتَخَلُّق بأخلاق الْمُلُوك، حَتَّى بلغتَ الحدَّ الَّذِي تَصْلُح مَعَه لِلْمُلْكِ من بعدِي، فزِدْها من التشريف وَالْإِكْرَام بِقدر مَا تَستحقُّ مِنْك، فَفعل الْفَتى وعاش مَسْرُورا بالجارية، وعاش أَبوهُ مسرورٌ بِهِ، وَأحسن ثوابَ أَبِيهَا، وَرفع مرتبتهُ وشَرَفه، بصيانته سِرَّهُ وطاعتِه، وأحسنَ جَائِزَة المؤدِّبِ بامتثاله مَا أمرَهُ بِهِ، وَعقد لِابْنِهِ عَلَى الْمُلْك من بعده.
قَالَ الْيَمَانِيّ مَوْلَى ذِي الرياستين، ثُمّ قَالَ لَهُم ذُو الرياستين: سَلُوا الشَّيْخ الْآن لِمَ حَمَلَكْم عَلَى الْعِشق؟ فَسَأَلْنَاهُ، فحدثنا حَدِيث بهْرَام جور وَابْنه.
الْآن ظرف ولَطُف
قَالَ القَاضِي: وَقَدْ حَكى لي بعضُ ذَوي الْفَضْل وَالْأَدب أَنَّهُ أُخْبِر عَنْ فَتى من خاصَّةِ أَهله أَنَّهُ عَشِق، عَلَى وَجه الزِّرَاية عَلَيْه، فَقَالَ: الْآن ظَرُف ولَطُف ونَظُف.
من التلطف فِي ترقية الْمَرْء إِلَى الْمَعَالِي
وَمِمَّا يضارع خبر بهْرَام جور فِي السياسة وَالتَّدْبِير والتلطُّفِ والاحتيال، فِي ترقية الْمَرْء من الدناءة إِلَى معالي الْأَحْوَال، مَا حَدَّثَنِي بِهِ بعضُ إِخْوَاننَا من أَهْل الْأَدَب عَمَّن ذكره من نُظرائه، أَن بعض الْحُكَمَاء حَضَّ أصحابَه عَلَى طلب الْعلم، وذَكَر لَهُم عِظَمَ فَضله وشَرَفَ(1/203)
أَهله، وقصَّ عَلَيْهِم فِيهِ قصصا، وَضرب لَهُم أَمْثِلَة، فَكَانَ مِمَّا قَالَه لَهُم: إنّ الرَّجُل قَدْ يبلغُهُ الْكِبَر، فَتَكِلُّ أدواتُه، وتضعُف آلاته، وتنقطعُ لَذَّاته، فَلَا يحفلُ بشيءٍ من أمْر الدُّنْيَا إِلا بِأَن يُثْنَى عَلَيْه بالمعرفة، ويُعَظَّمَ بِأَن يُشارَ إِلَيْهِ بِالْعلمِ وَالْحكمَة، فجِدُّوا فِي طلب الْعلم، وَلا تيأسوا من إِدْرَاكه.
فقد بَلغنِي أَن رَجُلا قَرَأَ فِي صحيفَة: أَنَّهُ من أَرَادَ شَيْئا وسعى فِي طلبه ناله أَوْ شَيْئا مِنْهُ، فَقَالَ فِي نَفسه: أريدُ أَتزوّج فُلانة - يَعْنِي مَلِكَةً كَانَتْ فِي زَمَانه، وَأخذ فِي طلب ذَلِكَ، فتوجَّه إِلَى بلادها وأتى قصرهَا، وَرَأى الْحَاشِيَة المحيطة ببابها، وَكَانَ يَأْتِي الْبَاب فِي كُلّ يوْم فيجلسُ فِي فنائه، وَصَارَ بَينه وبَيْنَ الْحَاشِيَة بعضُ الأنْسِ لِكَثْرَة ترداده، وَكَانَ يُحَدِّثهُمْ ويحدثونه، وَرُبمَا سَأَلُوهُ عَنْ حَاجَة إِن كَانَتْ لَهُ فَلَا يُجِيبهُمْ بِشَيْء، إِلا أَنَّهُ بَعْدُ قَالَ: لي حاجةٌ إِلَى الملكة، فَقَالُوا لَهُ: أخْبِرنا بهَا فإنّ وَرَاءَنَا خدمًا وَمن بعدهمْ جوارٍ ووصائفَ بحضرتها، وَمن قِبَلِهِنَّ تَنْتَهِي الْأَخْبَار إِلَيْهَا، فَقَالَ: لَا أذكر حَاجَتي إِلا لَهَا، فأمسكوا عَنْهُ، وَكَانَت الملكةُ تشرِفُ من بعض مُسْتشرفاتها عَلَى فنَاء قصرهَا، وَترى من يَحْضُرُ ببابها، فأرسلتْ بعد سنةٍ من مصير ذَلِكَ الرَّجُل إِلَى حضرتها إِلَى مَنْ بِالْبَابِ: إِنِّي أرى منذُ سَنة رجلا غَرِيبا يَأْتِي فِي كُلّ يوْم، فانظروا مَا شَأْنه، فَإِن كَانَ مَظْلُوما نصرناهُ، وَإِن كَانَ مُسْتميحًا أعطيناه، وَإِن خطب عملا يصلُحُ لمثله ولّيناه، فأرسلوا إِلَيْهَا بِمَا خاطبهم بِهِ إِذْ سَأَلُوهُ عَنْ حَاله، فَأمرت بإدخاله إِلَيْهَا، فَلَمَّا وقف بَيْنَ يَديهَا سَأَلْتُهُ عَنْ حَاجته، فَقَالَ: لَا أذكرها وأحدٌ يسمعُ مَا أذكرهُ، فَأمرت جواريها بالتباعد، ثُمّ قالَتْ لَهُ: قُل، فَقَالَ: قصدتُ الملكة خاطبًا لَهَا، أتزوِّجُني نَفسهَا؟ فَقَالَت: إِنَّك لست بملكٍ وَلَا من وَلَد الْمُلُوك، وَمَتى تزوجتُك سقطَت منزلتي، وَزَالَ ملكي، وَلَكِن مالذي جَرَّأك عَلَى أَن خاطبتني بِهَذَا؟ فَأَخْبرهَا بِمَا خطر لَهُ حِين قَرَأَ الصَّحِيفَة، فَقَالَت لَهُ: فإنني أرى أَن تطلب الْحِكْمَة، وتتعلم الْعلم حَتَّى تصير رَأْسا فِيهِ، وتشتهر فِي النّاس منزلتك مِنْهُ، فَإِن منزلَة الْعلم أشرفُ من منزلَة الْمُلْك، فَإِذا صرتَ فَردا فِي الْحِكْمَة حَسُن مِنْك أَن تَخْطُبنِي وحَسُن بِي أَن أتزوَّجك، وَأَن أسمع أَهل مملكتي فَأَقُول لَهُم: قَدْ طالَتْ أيّامُ مُلكي وَلَيْسَ فِي أَهْل بَيْتِي من يقوم بِهِ بعدِي، وَقَدْ رَأَيْت أَن أَتزوّج إِلَى هَذَا وأرجع إِلَى رَأْيه فِي حَياتِي، لفضل علمه وَظُهُور حكمته، وَيقوم مقَامي بعد وفاتي، فَلَا ينكرُ ذَلِكَ أحدٌ من رعيتي.
وَفِي هَذِهِ الْمَدِينَة دارٌ يجْتَمع فِيهَا أَهْل الْحِكْمَة ورؤساء الفلاسفة، ويجتمع النّاس إِلَيْهِم للْقِرَاءَة عَلَيْهِم والتعلُّمِ مِنْهُم، وَأَنا أتقدَّم إِلَى الْمُتَقَدّم مِنْهُم بالتقديم لَك والإقبال عَلَيْك، فاجتهدْ فِي التَّعَلم، واقطعْ ليلك ونهارك باقتباسه، فَإِذا بلغتَ مِنْهُ رُتْبَة عالية فَحِينَئِذٍ تنالُ مَا أَنْت راغبٌ فِيهِ من جِهتي، فَفعل ذَلِكَ وَصَارَ إِلَى الدّار وَأَقْبل عَلَى التعلُّمِ، وَكَانَ ذَا ذكاءٍ وفطنة، وَكَانَ يأخذُ فِي الْمدَّة الْيَسِيرَة مَا يأخذُ غَيره فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة، إِلَى أَن لحق بِمن(1/204)
هُنَالك من متقدِّمي الْحُكَمَاء، ثُمّ تقدَّمهم إِلَى أَن صَار فَردا فيهم، واشتهر فِي النّاس فضلُه، وعَظَّموه لِسَعَةِ علمه وَظُهُور حكمته، وَصَارَ مَقْصُودا للاستفادة مِنْهُ، فخطر ببال الملكة ذكره، فسألتْ عَنْهُ فأُخْبِرت بِمَا انْتهى إِلَيْهِ أمره، فَأمرت باستدعائه فَحَضَرَ، فَقَالَت لَهُ: قَدْ بَلَغني مَا أصبتُه من الْحِكْمَة، فَهَل لَك فِيمَا كُنْت سألتنيه؟ فَقَالَ: لَا حاجَة لي فِي ذَلِكَ، فَقَالَت: وَلِم، وَقَدْ كنتَ حَرِيصًا عَلَيْه؟ فَقَالَ: رغبتُ فِي هَذَا وَأَنا أرى أَنَّهُ أفضلُ مَا يبلغهُ الإِنْسَان فِي دُنْيَاهُ، فَلَمَّا نِلتُ مَا نلتُه من الْحِكْمَة، وعلمتُ مَا علمتُ من أفانين الْعلم، تبينتُ مَا بَيْنَ الْعلم والْمُلْك من الْفَضْل، فرغبتُ بعلمي عَنْ مُلْكِ الدُّنْيَا، فَقَالَت لَهُ: لهَذَا أمرتُك بِمَا أمرتُك بِهِ، ورأيتُ أنَّكَ إِن لَمْ تبلغ الْغَايَة فِي الْعلم لَمْ تَعُد إليَّ، وَإِن عَلَتْ طبقتُك فِيهِ رغبتَ بِنَفْسِك عَنْ أُمُور الدُّنْيَا، وعلمتَ أَن مَا ظفرتَ بِهِ أفضلُ مِمَّا كنتَ التمسته.
وصَرَفَتْه وَلَمْ تَزَلْ مُكْرِمةً لَهُ.
ودرسٌ من أفلاطون للحث عَلَى التعلّم
وَقَدْ حكى لي بعضُ المَفَلْسِفين بأنّ فَتى كَانَ يحضرُ مجلسَ أفلاطون ويحبُّه ويعظمه، ويُؤثر اسْتِمَاع كَلَامه، وَلا يقرأُ عَلَيْه شَيْئا، وَلا يتَعَلَّم مِنْهُ كَمَا يتَعَلَّم غَيره، وَأَن هَذَا الْفَتى قَالَ لأفلاطون يَوْمًا: قَدْ أحببتُ أَيهَا الحكيمُ أَن تحضرَ الْيَوْم منزلي وتأكل من طَعَامي، وتكرمني بالْمُشَاربة والمنادمة، فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا صَار إِلَى منزله أكلا وأخذا فِي تنَاول - الشَّراب واستماع الملاهي، ثُمّ إِن أفلاطون بَصق فِي وَجهه - يَعْنِي الْفَتى - فارتاع لذَلِك، وقَالَ: مَا هَذَا أَيهَا الْحَكِيم؟ فَقَالَ: إنّه عُرِض لي هَذَا الَّذِي نفثته كَمَا يعرض لسَائِر النّاس فيلقونه فِي أَهْون الْأَمَاكِن وأخّسِّها، ورأيتُ مَنْزِلك وفرشك وآنيتَك، فَلم أر موضعا أخَسَّ من نَفسك، فنبذتُ هَذَا الْأَذَى فِيهِ، فَقَالَ: قَدْ وَعَظْتَ أَيهَا الحكيمُ فأبلغْتَ، ونصحتَ فأحسنتَ، وَأَنا مُنْذُ الْآن أسعى فِي تشريف نَفسِي بدراسة الْعِلم وَطلب الْحِكْمَة.
ثُمّ صَار من أشدِّ حاضري مجْلِس أفلاطون حِرصًا عَلَى اكْتِسَاب الْحِكْمَة، وَأَحْسَنهمْ للْعلم أخذا.
المجِلسُ السّابع وَالْعِشروُن
مَذَق فمُذِق لَهُ
حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا رجلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَّجِرُ بِالْخَمْرِ فِي الْبَحْرِ إِذْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: إِنِّي آتِي قَوْمًا لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِجَيِّدِ الْخَمْرِ مِنْ رَدِيئِهِ، فَلَوْ أَنِّي مَزَجْتُ الْخَمْرَ أُضْعِفَ لِيَ فِي الثَّمَنِ، فَأَمْهَلَ حَتَّى اسْتَعْذَبُوا الْمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى أَوَانِيهِ فَنَصَّفَهَا مِنَ الْخَمْرِ ثُمَّ مَزَجَهُ بِالْمَاءِ حَتَّى مَلأَهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَوْضِعَ فَبَاعَ بِضِعْفِ مَا كَانَ يَبِيعُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَأَى فِي طَرِيقِهِ قِرْدَةً(1/205)
فَاسْتَحْسَنَهَا فَاشْتَرَاهَا. وَحَمَلَهَا مَعَهُ فِي سفينته، فَلَمَّا لججوا عدث الْقِرْدَةُ عَلَى كِيسِهِ فَأَخَذَتْهُ وَصَعِدَتِ الدَّقَلَ، فَأَقْعَتْ عَلَيْهِ وَالْكِيسُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فَصَاحَ بِهَا أَهْلُ السَّفِينَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَقْذِفَ بِنَفْسِهَا وَالْكِيسَ فِي الْبَحْرِ، فَتَرَكُوهَا فَفَتَحَتِ الْكِيسَ ثُمَّ أَقْبَلَتْ تُخْرِجُ دِينَارًا فَتَرْمِي بِهِ فِي السَّفِينَةِ وَدِينَارًا فِي الْبَحْرِ، وَدِرْهَمًا فِي السَّفِينَةِ وَدِرْهَمًا فِي الْبَحْرِ، حَتَّى أَتَتْ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الْكِيسِ ثُمَّ نَزَلَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: " مَذَقَ فَمُذِقَ لَهُ ".
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا أوجب مجانبة الْغِشِّ، وتدليس الْعَيْب فِي البيع، وظلم النّاس فِي أَمْوَالهم، وبخسهم أشياءهم، وتخويف لِذَوي الْأَلْبَاب بتعجيل الْعقُوبَة لَهُم، وَسُوء الْعَاقِبَة فِي أَمْوَالهم، وسلبهم مَا طمعوا أَن يتمتعوا بِهِ فِي دنياهم، وينتفعوا بِهِ فِي مَعَايشهمْ مَعَ التَّعَرُّض للإثم فِي معادهم، وحلول مَا لَا قبل لَهُم بِهِ من عُقُوبَة رَبهم.
وَقَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ: " مَذَقَ فَمُذِقَ لَهُ " أَيّ مزج سلْعَته بغَيْرهَا غِشًّا للنَّاس إرادةَ تثمير مَاله وغِشِّ غَيره، فجُوزي بسلبه الْفَضْل الَّذِي ظَلَم بِأَخْذِهِ، فسُمِّيتُ مجازاته مَذْقًا، إِلْحَاقًا لَهَا بالممذُوقِ فِي حَقِيقَة اللُّغَة من جِهَة التَّسْمِيَة، وَهَذَا ضرب من فصيح كَلَام الْعَرَب، ومُسْتَحْسَنِ خطابها، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ "، فسَمَّى المبتدأَ باسم الْجَزَاء، وَإِن كَانَ الابتداءُ لَا يُسمى عُقُوبَة فِي انْفِرَاده، طلبا للائتلاف، واتفاق أَلْفَاظ الْجُمْلَة فِي الخَطَّاب، وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن وألفاظ الشَّرِيعَة، ومنثور كَلَام الْعَرَب ومنظومه، من ذَلِكَ قَول عَمْرو بْن كُلْثُوم:
أَلا لَا يَجْهَلنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا
وأصلُ المَذْقِ فِيمَا ذكرنَا: الخَلْطُ والمزج، يُقَالُ: لَبَنٌ صرفٌ وصريفٌ وممذوقٌ، ويُقَالُ لَهُ أَيْضا: مَذْق، فيسمى باسم الْمصدر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
لَمْ يَسْقِها مذقٌ وَلا نَصِيفُ ... وَلا تُمَيْراتٌ وَلا تَعْجيفٌ
لَكِن غَذَاهَا المّذْقُ والصَّرِيفُ
وَقَد اسْتعَار هَذَا الْمَعْنى بعضُ الْمُحدثين، فَقَالَ:
وأراك تَشْرَبُني وتَمْذُقُني ... وَلَقَد عهدتُك شاربي صِرْفا
وقَالَ صَالِح بْن عَبْد القدوس، وَبَعْضهمْ يرويهِ لسابق الْبَرْبَرِي:
إِن الْكَرِيم إِذا أحبَّكَ قلبُهُ ... أَعْطَاك مِنْهُ مَوَدَّة لَا تُمْذَقُ
وقَالَ أَبُو مَعْدَان مَوْلَى آل أَبِي الْحَكَم:
جَرِّعَانِي ممذوقةٌ وامْزُجَاها ... لَيْسَ صِرْف الشَّرَاب كالممذوقِ
وَهَذَا النَّحْو كثير وَاسع.(1/206)
يصارح الحَجَّاج بِرَأْيهِ فِي أَخِيهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُريد، أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: بَلغنِي أَن طاووساً كَانَ يَقُولُ: بَينا أَنَا جَالس مَعَ الحَجَّاج بِمَكَّة إِذْ مرّ رَجُلٌ يُلَبّي حول الْبَيْت، فَرفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ، فَقَالَ الحَجَّاج: عليَّ بِالرجلِ، فأُتِي بِهِ، قَالَ: مِمَّن الرَّجُل؟ قَالَ: من الْمُسْلِمِين، فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك، قَالَ: فَعَمَّ سَأَلت، قَالَ: عَنِ الْبَلَد، قَالَ: من أَهْل الْيمن، قَالَ: كَيفَ تركتَ مُحَمَّد بْن يُوسُف؟ قَالَ: تركته عَظِيما جسيمًا، رَكَّابًا خَرَّاجًا ولاجًا، قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك، قَالَ: فَعَمَّ سَأَلت؟ قَالَ: عَنْ سيرته؟ قَالَ: تركته ظَلُومًا غَشُومًا، مُطيعًا للمخلوق، عَاصِيا للخالق، قَالَ: فَمَا الَّذِي حملك عليَّ بِهَذَا فِيهِ، وَأَنت تعرف مَكَانَهُ مني؟ قَالَ: أتراه مَكَانَهُ مِنْك أعز بمكاني من اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَأَنا قَاضِي دَيْنَهُ، ووافدُ بَيته، ومصدق نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، فَسكت الحَجَّاج فَمَا أحار جَوَابا، وَقَامَ الرَّجُل فَدخل الطّواف.
فاتَّبَعْتُه فَإِذا هُوَ فِي الْمُلْتزم، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بك، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ لي فِي الْكَهْف إِلَى جُودِك، والرِّضا بضمانك، مندوحةً عَمَّن سواك الباخلين، وغِنًى عَمَّا فِي أَيدي الْمُسْتأْثِرِين، اللَّهُمَّ فَرَجَكَ الْقَرِيب، ومعروفَك الْقَدِيم، وعادتَك الْحَسَنَة، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، رأيتُهُ وَاقِفًا عَلَى الْموقف فدنوتُ مِنْهُ، فَسَمعته يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِن كنتَ لَمْ تقبلْ حَجِّي وتَعَبِي ونَصَبِي، فَلَا تَحْرمَنِي الأجرَ عَلَى مصيبتي بِتَرْكِكَ القبولَ مني، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ غَدَاة جمعٍ أَفَاضَ مَعَ النّاس، فسمعتُه يَقُولُ: يَا سَوْءَتاهُ مِنْك يَا رب وَإِن غفرت.
ثمَّ لَمْ أره بعد ذَلِكَ.
معنى المندوحة والمستأثرين
قَالَ القَاضِي: قَوْله: مَنْدُوحة، المندوحة: السَّعَةُ والْفُسْحة، كَمَا قَالَ تَمِيم بن أبي مُقْبل:
سَرَّ عَامر قومِي وَمن يَكُ قَوْمُهُ ... كقومي يكنْ لَهُ بِهم مُنْتَدَح
يَعْنِي غُنْيةً ومُتَّسَعًا.
وَقَوله: عَمَّا فِي أَيدي المستأثرين، المستأثرون: هم الَّذين يستبِدُّون بِمَا فِي أَيْديهم، يُقَالُ: اسْتَأْثر فُلان بِمَا عِنْده أَيّ استبدَّ بِمَا فِي يَده وتَفَرَّد بِهِ، قَالَ أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة:
تَمَزَّزْتُها غيرَ مستأثرٍ ... عَلَى الشّرْبِ أَوْ منكرٌ مَا عُلِمْ
ويروى:
غَيْر مستدبرٍ ... عَنِ الشّرْبِ
وَمن أَمْثَال الْعَرَب: إِذا اسْتأْثَر اللَّهُ بشيءٍ فَالْهُ عَنْهُ.
وَفِي الْخَبَر: " أَو اسْتأْثرتَ بِهِ فِي علم الغَيْب عنْدك ".(1/207)
ويُقَالُ فِي الذَّمِّ: استأَثَر فلانٌ بِمالِهِ أنْ يُخرجَهُ فِي حَقِّه.
وَفِي الْمَدْح: " آثرَ بِمَا عِنْده " إِذا آثر غَيره عَلَى نَفسه، وَإِذَا آثر غَيره مَعَ حَاجته كَانَ أولى بالمدح والثَّناء، وأبعدَ من الذَّمِّ والْهِجاء، قَالَ اللَّه جلّ اسْمه: " وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون "، فَبيْنَ المؤثرين والمستأثرين مَا بَيْنَ الأجواد والباخلين، والمانعين والباذلين، وَأهل هَاتين المنزلتين فِي اسْتِحْقَاق الْحَمد والذم، والتفريط والقَصْد، عَلَى رُتْبه من التَّفَاوُتِ بِحَسب مَا تقرَّر فِي الدّين، وَثَبت فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِين، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِك قواماً "، وقَالَ تَعَالَى ذكرُه: " وَلا تَجْعَلْ يدك مغلولةً إِلَى عُنُقك ول تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ كَانَ بعباده خَبِيرا بَصيرًا "، وقَالَ تقدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ: " وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لرَبه كفوراً ".
فقد أبان لنا ربُّنا بفضله وإنعامه علينا فِي هَذَا الْبَاب قَصْدَ السَّبِيل، وأوضح لنا محجَّة الاقتصاد والتَّعْدِيل، وبيّن أَن بَيْنَ الْإِسْرَاف والتبذير طَرِيقا أَمَمًا، وصِراطًا قِيَمًا، فإيّاه نسألُ تَوْفِيقًا لسُنَن أولى الْفَضْل، وهدايتنا سَوَاء السَّبيل، وَهُوَ حَسْبُنا وَنعم الْوَكِيل.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَعِيلُ أحدٌ عَلَى قَصْدٍ، وَلا يَغْنَى أحدٌ عَلَى سرفٍ كَبِير ".
معنى يعيل هَاهُنَا: يفْتَقر، يُقَالُ: عَال الرَّجُل يَعيلُ عَيْلَةً إِذا افْتقر، قَالَ الشَّاعِر:
فَمَا يَدْرِي الفقيرُ مَتَى غِنَاهْ ... وَلا يدْرِي الغنيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَجَاء عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ آخذٌ عَنْ رَبِّهِ أَدَبًا حَسَنًا، فَإِذَا وَسَّعَ عَلَيْه وَسَّعَ، وَإِذَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ ".
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الضَّالُّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الضَّالَّ لأَنَّهُ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ فَضَلَّ الطَّرِيقَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ الضُّبَعِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ آخِذٌ عَنْ رَبِّهِ أَدَبًا حَسَنًا، فَإِذَا وَسَّعَ عَلَيْه وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ ".
تشدد الْقُضَاة فِي الْحق، وَتَقْدِير الْخُلَفَاء لَهُم
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَزْيَدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدثنِي عمر ابْن أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ نُمَيْرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَدِم عَلَيْنَا أَمِيرُ الؤمنين الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ(1/208)
عِمْرَانَ الطَّلْحِيُّ عَلَى قَضَائِهِ وَأَنَا كَاتِبُهُ، فَاسْتَعْدَى الْحَمَّالُونَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَيْءٍ ذَكَرُوهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْهِ كِتَابًا بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ أَوْ إِنْصَافِهِمْ، فَقُلْتُ: تُعْفِينِي مِنْ هَذَا فَإنَّهُ يَعْرِفُ خَطِّي، فَقَالَ: اكْتُبْ، فَكَتَبْتُ ثُمَّ خَتَمَهُ وَقَالَ: لَا يَمْضِي بِهِ وَاللَّهِ غَيْرُكَ، فَمَضَيْتُ بِهِ إِلَى الرَّبِيعِ وَجَعَلْتُ أَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّبِيعُ فَقَالَ لِلنَّاسِ - وَقد حَضَره وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالأَشْرَافُ وَغَيْرُهُمْ -: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكُمُ: " إِنِّي قَدْ دُعِيتُ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلا أَعْلَمَنَّ أَحَدًا قَامَ إِلَيَّ إِذَا خَرَجْتُ أَوْ بَدَأَنِي بِالسَّلامِ "، ثُمَّ خَرَجَ وَالْمُسَيَّبُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالرَّبِيعُ وَأَنَا خَلْفَهُ، وَهُوَ فِي إزارٍ ورداءٍ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَمَا قَامَ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى بَدَأَ بالقبر فَسلم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الرَّبِيعِ فَقَالَ: يَا رَبِيعُ! وَيْحَكَ أَخْشَى إِنْ رَآنِي ابْنُ عِمْرَانَ تَدْخُلُ قَلْبَهُ هيبةٌ فَيَتَحَوَّلُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَبِاللَّهِ لَئِنْ فَعَلَ لاولي لِي وِلايَةً أَبَدًا، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَ متكأً أَطْلَقَ رِدَاءَهُ عَنْ عَاتِقِهِ ثُمَّ احْتَبَى بِهِ، وَدَعَا بِالْخُصُومِ الْحَمَّالِينَ، ثُمَّ دَعَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَقَضَى لَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ لِلرَّبِيعِ: اذْهَبْ فَإِذَا قَامَ وَخَرَجَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْخُصُومِ فَادْعُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا دَعَاكَ إِلا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ جَمِيعًا، فَدَعَاهُ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ سلّم، فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ نَبِيِّكَ وَعَنْ حَسَبِكَ وَعَنْ خَلِيفَتِكَ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ فَاقْبِضْهَا، فَكَانَتْ عَامَّةُ أَمْوَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ من تِلْكَ الصِّلَةِ.
الْبر بالْقُصَّادِ وَكَيف يَكُون
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْفَضْل بْن الْحَسَن الْأَهْوَازِي، قَالَ: قدِم إِلَى الأهواز رجلٌ من وُلِد الْحَسَن بْن سهل، حسن الْهَيْئَة وَالْأَدب، فَأخْبرنَا جماعةٌ من العراقَّيين أَنَّهُ كَانَ فِي نعمةٍ واسعةٍ فزالَتْ عَنْهُ، وَكَانَ قَصْدُه لِأَحْمَد بْن دِينَار، فَقبله أَحْمَد وقَالَ: الْزَمْني ووَعَدَهُ الإِحْسَان، وأجرى عَلَيْه وعَلى غُلام كَانَ مَعَه نُزُلا من خُبْز ولحمٍ وتَوَابِلَه مِقْدَار ثَلَاثَة دَرَاهِم، وقَالَ لَهُ: تمهَّلْني فإنّي فِي شغلٍ، فَإِذا انْكَشَفَ وَجْهي بَلَغْتُ لَك مَا تحبّ، فطال مقَامه وأُخْلِقَتْ أثوابُه، فَكتب إِلَيْهِ:
صَحِبتكُمُ عَامَيْن فِي حالِ عسرةٍ ... أُرَجِّي نَداكُمْ والظُّنُونُ فُنُونُ
فَمَا نلتُ مِنْكُم طائلا غَيْر أَنني ... تعلمتُ حَال الْفقر كَيفَ تكون
فوصلت الرقعة إِلَى أَحْمَد بْن دِينَار، وَكَانَ يَعْقُوب بْن إِسْحَاق اليزيدي حَاضرا، فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لرجلٍ من وُلِد الْحَسَن بْن سهل، قَالَ لَهُ: وَهُوَ مقيمٌ عنْدك نَحوا من حَوْلين، قَالَ: قريب من ذَلِكَ، فَانْصَرف أَبُو يُوسُف ووجّه إِلَى الرَّجُل فَأحْضرهُ وَدفع لَهُ بِمِائَة دِينَار، وقَسَّط لَهُ عَلَى جمَاعَة من الْوُجُوه أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَكتب لَهُ إِلَى بزازٍ كَانَ(1/209)
يعامله بكسوةٍ بِأَلف دِرْهَم، ووجّه من اكترى لَهُ زَوْرقًا إِلَى مَدِينَة السَّلام، وزوَّدَهُ زادًا كَبِيرا حسنا، وقَالَ لَهُ: اخْرُج لَا تَلْقَ مَنْ قَصَدْته، فَقَالَ: واللَّه لأضْرِبَنّ جُودَك عَلَى نائلٍ يَكُون مِنْهُ، ولأَفْرِدَنَّ الشُّكْر لَك دونه، ولأتجهنَّ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي صيانتك عَنْ كلِّ دناءةٍ ومعرةٍ كَمَا صُنْتني عَنْهَا، وَانْصَرف.
وَبلغ الخبرُ ابْن دِينَار، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وحشةٍ عظيمةٍ صَارَت بَيْنَهُمَا.
من سخاء الْمهْدي
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد، وحَدَّثَنِي أَبِي رحمَهُ اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمد الْخُتلِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه ابْن هَارُون، ومُوسَى الفَرْوِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْملك بْن عَبْد الْعَزِيز، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَني المهديُّ أميرُ الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: يَا ماجشون! مَا قُلْتُ حِين فُقد أَصْحَابك، يَعْنِي الْفُقَهَاء، قَالَ: قُلْتُ:
يَا مَنْ لباكٍ عَلَى أَصْحَابه جَزِعَا ... قَدْ كنتُ أَحْذَرُ ذَا مِنْ قَبْلِ أَن يَقَعَا
إِن الزَّمَان رأى إلْفَ السُّرور بِنَا ... فدَبَّ بالهَجْرِ فِيمَا بينَنَا وسَعَى
فليصْنَعِ الدَّهْر بِي مَا شاءَ مُجْتَهدًا ... فَلَا زيادَةَ شيءٍ فَوق مَا صَنَعَا
فَقَالَ: واللَّهِ لأُغْنِيَنَّك، فَأَجَازَهُ بِعشْرَة آلَاف دِينَار فَقدم بهَا الْمَدِينَة فَأكلهَا فِي السخاء وَالْكَرم.
الْأَقْوَال فِي " بَيْنَ "
قَالَ القَاضِي: فِيمَا بينَنَا بِالنّصب، هَكَذَا رُوِي عَلَى الظَّرْف، وَقَدْ حكى بعضُ النحْويِّين عَنِ الْعَرَب، أَتَانِي سِوَاءَك ودُونَك، وذُوكِرْت بروايته بالجرّ هَلْ تَجُوز؟ وَمَا وَجه جَوَازهَا؟ ووجهُ الجرِّ فِي هَذَا أَن يَكُون معنى البَيْن هَاهُنَا: الْوَصْل، وَالْمعْنَى فدب فِي وصلنا، فَيكون لَهَا وَجْهَان: أَحَدُهُمَا أَن تكون مَا حَشْوًا زَائِدا كَمَا قِيلَ مثل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: " فَبِمَا رحمةٍ من الله "، " فبمَا نقضهم ميثاقهم "، وَرُوِيَ مثل هَذَا فِي قَول الشَّاعِر:
فَلَو أنَّ نَفْسًا أَخْرَجَتْها مخافةٌ ... لأخرجَ نفسِي اليومَ مَا قَالَ خالِدُ
الْمَعْنى: قَولُ خَالِد وقِيلُ خَالِد، فقولٌ وقالٌ، مثل عيبٍ وعَاب، وذمٍّ وذامٌ، وقيلٌ وقالٌ: مثل: قيرٍ وقَار.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تكون مَا بِمَعْنى شيءٍ أتتْ للإبهام فِي النَّوْع أَو الْقدر ويبدل مِنْهَا مَا بعْدهَا، كأَنَّه قَالَ فِي الْبَيْت: فدبّ فيّ شَيْء مَا، ثُمّ فسّره بقوله: بَيْننَا وجرّه عَلَى البَدَل مِنْهُ، وَمثل مَا هَاهُنَا قَول ذِي الرُّمة:
أشْبَهْنَ من بَقَرِ الخَلْصَاءِ أعْيُنَها ... وهُنّ أحسنُ مِنْهَا بَعْدَهَا صُوَرا
الْمَعْنى: أحسن مِنْهَا صُوُرا، وَمن الْبَين بِمَعْنى الْوَصْل قَول الشَّاعِر:
لقَدْ كَذَّبَ الواشِين بيني وَبَينهَا ... فقرت بِذَاكَ البَيْنِ عَيْني وعينُها(1/210)
وقَالَ الآخر:
لَعَمْرُك لَوْلَا البينُ لانقطع الْهوى ... وَلَوْلَا الهَوَى مَا حَنَّ للبينِ آلفُ
وَمِمَّا أَتَى بِالرَّفْع فِي بَيْنَ بِالْفِعْلِ قَول الشَّاعِر:
إِذَا هِيَ قامتْ تَقْشعرُّ شُواتُها ... ويُشْرِقُ بَيْنَ اللّيْتِ مِنْهَا إِلَى الصُّقْلِ
وَقَد اخْتلفت الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة قَول اللَّه تَعَالَى: " لَقَدْ تقطع بَيْنكُم "، فَقَرَأَ ذَلِكَ كثيرٌ من قُرَّاء الْمَدِينَة وَالشَّام وبعضُ أَهْل الْكُوفَة " بينَكُم " بِالنّصب، وَقَرَأَ كثير من أَهْل الْحجاز وَالْعراق وَغَيْرُهُمْ " بَيْنَكُمْ " بِالرَّفْع والنَّصْب، وَاحْتج كلُّ واحدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِهِ، وَهُوَ قَوْله:
كأنّ رماحَهُمْ أشْطَانُ بئرٍ ... بعيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ
وَقَدْ عَابَ بعضُ أَهْل الْعَرَبيَّة مِمَّنْ يتكلّم فِي الْقرَاءَات واخْتَار مِنْهَا قِرَاءَة لنَفسِهِ، وَهِي الْقِرَاءَة بِالنّصب فِي هَذَا الْحَرْف، وَزعم أَن من اخْتَارَهَا حَذَف الْمَوْصُول وَأبقى الصِّلَة واسْتُنْكِرَ هَذَا إِذْ كَانَت الصِّلَة تَمامًا للموصول، وَكَأن الذَّاهب إِلَيْهِ أَتَى بِبَعْض جملَة الِاسْم دون بَاقِيهَا كالدَّال من زَيْد، وَلَيْسَ هَذَا كالصفة الْقَائِمَة مقَام الْمَوْصُوف لِأَن كُلّ واحدٍ من الْمَوْصُوف وَالصّفة كلمة تَامَّة فِي نَفسهَا، وَجَعَل الْمَعْنى هَذَا الْقَائِل: لقَدْ تقطع مَا بَيْنكُم، وَكَأن العائب لهَذِهِ الْقِرَاءَة يعرف للنصب فِيهَا وَجها غَيْر الَّذِي ذكره فطعن فِيهِ وَأنْكرهُ.
وَفِي هَذَا عِنْدِي - بعد الَّذِي قدمت ذكره فِي أول هَذَا الْفَصْل - وَجه آخر لَمْ أر أحدا قبلي أَتَى بِهِ، وَهُوَ أَن يَكُون تَأْوِيل الْكَلَام لقَدْ تقطع مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ بَيْنكُم وضلَّ عَنْكُم، كأَنَّه قَالَ: الَّذِي كُنْتُم تَزْعُمُونَ تقطع بَيْنكُم فَلم يَنْتَظِم لكم ويَصْلُحْ بِهِ أمرُكم، وَهَذَا قَوْله تَعَالَى: " وتقطعت بهم الْأَسْبَاب ".
يتَخَلَّص من الْولَايَة بِبَيْت شعر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو عُثْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعُتْبِي: قَالَ: وُلّي عمرُ بْن عَبْد الْعَزِيز رَجُلا فكره الْولَايَة، فَكتب إِلَى عُمَر: بِسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحيم، لعبد اللَّه عُمَر أَمِير الْمُؤْمِنِين، أما بعد:
فاسْقِنِي شَرْبَةً أَلَذُّ عَلَيْها ... ثُمّ عِدَّ مِثْلَ شَرْبَتِي لِهِشَامِ
فَكتب إِلَيْهِ عُمَر: اعتزلْ عَمَلي، فاعتزل ثمَّ كتب إِلَيْهِ:
عسلاً سَائِلًا وَمَاءً قُرَاحًا ... إنَّني لَا أُحِبُّ شُرْبَ الْمُدَامِ
فَكتب إِلَيْهِ عُمَر: عُدْ إِلَى عَمَلك، فَكتب إِلَيْهِ: لَا حَاجَة لي فِي عَمَلكُمْ.
أَنْت أسْوَدُ أم حَاتِم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّد بْن سَلام، قَالَ: قِيلَ لأوس بْن حَارِثَة، وَهُوَ أَوْس بْن سَعْد الطَّائِي: أنتَ أسْوَدُ أم حَاتِم؟ وَكَانَ أوسُ يَمْشي فِي ثَلَاثِينَ من وَلَده، فَقَالَ: لَو أنني وَوَلَدِي لحاتم لأنْهَبَنَا فِي غَدَاة.(1/211)
وَقيل لحاتم: أَنْت أسود أم أَوْس؟ فَقَالَ: بعضُ وَلَدِ أوسٍ أسْودُ منّي.
يُصْلِح بَيْنَ عَبْد الْملك وزَوْجِه فينالُ حُكمه
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الضَّحَّاك الْمِصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بْن عَدِيّ الطَّائِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي.
أَن عَبْد الْملك بْن مَرْوَان كَانَ من أَشد النّاس حُبًّا لامْرَأَته عَاتِكَة بِنْت يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، وأمُّها أم كُلْثُوم بِنْت عَبْد اللَّه بْن عَامر بْن كُرَيْز، قَالَ: فَغَضِبَتْ عَلَيْه - يَعْنِي عَلَى عَبْد الْملك - وَكَانَ بَيْنَهُمَا بَاب فحجبتْه وأغلقَتْ ذَلِكَ الْبَاب، فشقَّ عَلَى عَبْد الْملك فَشَكا إِلَى خاصته، فَقَالَ لَهُ عُمَر بْن بِلَال الْأَسدي: مَالِي عَنْك إِن رَضِيَتْ؟ قَالَ: حُكْمُك، قَالَ: فَأتى عمر ابْن بِلَال بَابَها باكيًا، فخرجتْ إِلَيْهِ حاضنتها ومواليها وجواريها، فَقُلْنَ: مَا لَك؟ فَقَالَ: فزعتُ إِلَى عَاتِكَة ورجوتُها، فقد عَلِمَتْ مَكَاني من أَمِير الْمُؤْمِنِين مُعَاوِيَة وَمن يَزِيد بعده، فَقُلْنَ: مَالك؟ قَالَ: كَانَ لي ابْنَانِ لَمْ يكن لي غَيرهمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحبه، فَقَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِين: أَنَا قاتلٌ الآخر، فَقلت: أَنَا الْوَلِيّ وَقَدْ عفوتُ.
فَقَالَ: لَا أَعُود النّاس هَذِهِ الْعَادة.
ورجوت اللَّه تَعَالَى أَن يحيا ابْني هَذَا، فدخلْنَ عَلَيْهَا فذكرن لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَت: فَمَا أصنع مَعَ غَضَبي عَلَيْه، وَمَا أظهرت لَهُ؟ فَقُلْنَ: إِذا واللَّه يقتل ابْنه.
فَلم يزلن بهَا حَتَّى دَعَتْ بثيابها فلبستْها، ثُمّ خرجت إِلَيْهِ من الْبَاب، فَأَقْبَلَ خَدِيج الْخَادِم، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! عَاتِكَة قَدْ أقبلتْ، فَقَالَ: وَيلك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قَدْ - وَالله - طَلَعَتْ.
قَالَ: فأقبلتْ فسلَّمتْ فَلم يردَّ، فَقَالَت: أمَا - واللَّه لَوْلَا عُمَرُ بْن بِلَال مَا جئتُ قطُّ، فَلَا بدَّ أَن تَهَبَ لي ابنَه، فَإنَّهُ الوليُّ وَقَدْ عَفَا.
قَالَ: إِنِّي أكرهُ أَن أُعوِّدَ النّاس هَذِهِ الْعَادة.
فَقَالَت: نَشَدْتُك اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فقد عرفتَ مَكَانَهُ من أَمِير الْمُؤْمِنِين مُعَاوِيَة وَمن يَزِيد.
فَلم تزل بِهِ حَتَّى أخذت رجله فقبّلتها، فَقَالَ: هُوَ لَك. فَلم يبرحا حَتَّى اصطلحا.
قَالَ: ثُمّ رَاح عُمَر بْن بِلَال إِلَى عَبْد الْملك، فَقَالَ لَهُ: رَأينَا ذَلِكَ الْأَمر، حاجتُكَ؟ قَالَ: مزرعةً بعَبِيدِها وَمَا فِيهَا، وألْفَ دينارٍ، وفَرَائضَ لوَلَدي وأهلِ بَيْتِي، وإلْحاقَ عُمَّالِي.
قَالَ: ذَلكَ لَك.
المجِلسُ الثَامِن وَالْعِشرُونْ
أَنْت صَاحب الْجُبَيْذة بالْأَمْس؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْنِ الْحُسَيْنِ الْمُسْتَعِينِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٌ، حَدَّثَنَا هَرْثَمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ بَنَانٍ، عَنْ قُعَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَهْمٍ، قَالَ:(1/212)
كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ فَمَرَّتْ بِيَ امرأةٌ فَأَخَذْتُ بِكَشْحِهَا، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَيْتُهُ فَلَمْ يُبَايِعْنِي، فَقَالَ: أَنْتَ صَاحِبُ الْجُبَيْذَةِ بِالأَمْسِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا أَعُودُ، قَالَ: فَبَايَعَنِي.
تَعْلِيق لغَوِيّ الكشحُ والجبيذة
قَالَ القَاضِي: الكَشْحُ: الخاصرة، كَمَا قَالَ زُهَيْر:
وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكَنِّهِ ... فَلَا هُوَ أبداها وَلم يتندم
وَقَوله: الْجُبيذة: تصغيرُ جَبْذَة، والجَذْبةُ، يُقَالُ: جَبَذْتُ الشَّيْء وجَذَبْته إِذا شددتُه إِلَيْك، وَنَحْو هَذَا من كَلَام الْعَرَب: صاعقةٌ وصَاقِعَة، وَمَا أطْيَبَهُ وَمَا أيْطَبَه، ويبتغي بِي الدَّم ويتبغّي فِي كثير من الْكَلَام أَتَى كَذَلِك، وَسمي اللغويُّون هَذَا النَّوْع " بَاب الْقلب "، وَقَدْ جمع بَعضهم هَذَا الضَّرْب أَوْ مَا انْتهى إِلَيْهِ مِنْهُ.
وسيلةٌ مُؤَكدَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد: أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: قَالَ بعض خلفاء بني أُمَيَّة - وَلَمْ يسمه - مَا توسل إليّ أحدٌ بوسيلة، وَلا تذرع بذريعةٍ هِيَ أقرب إِلَى مَا يحبُّ منَّي من يدٍ سبقتْ منِّي إِلَيْهِ أُتْبِعُها لِيُحْسِنَ حفظهَا، لِأَن مَنْع الْأَوَاخِر يقطعُ لسانَ شكر الْأَوَائِل، وَمَا سمحتْ نَفسِي بِرَدِّ بِكر الْحَوَائِج.
تشدُّد شريك بْن عَبْد اللَّه فِي إحقاق الْحق
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْخُزَاعِيَّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْهَيَامِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَتَتْهُ امْرَأَة يَوْمًا - يَعْنِي شَرِيكًا - مِنْ وَلَدِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ صَاحِبِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مجْلِس الْحكم، فَقَالَت: أَنَا بِاللَّه ثُمّ بِالْقَاضِي، امرأةٌ مِنْ وَلَدِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه صَاحب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وردَّدت الْكَلَام، فَقَالَ: إيهًا عَنْك، الْآن من ظلمك؟ قَالَتْ: الْأَمِير عِيسَى بْن مُوسَى، كَانَ لي بستانٌ عَلَى شاطىء الْفُرات، لي فِيهِ نخلٌ، ورثْتُه عَنْ آبَائِي، وقاسمتُ إخوتي، وبنيتُ بيني وَبينهمْ حَائِطا، وجعلتُ فِيهِ رَجُلا فارسيًّا فِي بيتٍ يحفظُ لي النَخْلَ ويقومُ بِبُسْتاني، فَاشْترى الأميرُ عِيسَى من إخوتي جَمِيعًا وسَامَنِي فأرْغَبَنِي فَلم أبِعْهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَة بعث خَمْسمِائَة فاعلٍ فاقتلعُوا الْحَائِط، فأصبحتُ لَا أعرف من نَخْلي شَيْئا وَاخْتَلَطَ بِنَخْل إخوتي. قَالَ: يَا غُلام! طينَة، فختم لَهَا خَاتمًا، ثُمّ قَالَ لَهَا: امْضِي بِهِ إِلَى بَابه حَتَّى يحضرَ معكِ.
فَجَاءَت الْمَرْأَة بالطينة فَأَخذهَا الحاجبُ وَدخل عَلَى عِيسَى، فَقَالَ لَهُ: أعْدِيَ شريكٌ عَلَيْك، قَالَ لَهُ: أدْعُ لي صاحبَ الشرطة، فَدَعَا بِهِ، فَقَالَ: امْضِ إِلَى شريك فَقل لَهُ: يَا سُبْحَانَ اللَّه! مَا رأيتُ أعجبَ من أمْرِك، امرأةٌ ادَّعتْ دَعْوى لَمْ تصحَّ، أَعْدَيْتها عليَّ؟ فَقَالَ: إِن رَأَى الأميرُ أَن يُعفِيَني فَلْيفعل، فَقَالَ: امضِ وَيْلَك.(1/213)
فَخرج فَأمر غلمانه أَن يتقدّموا إِلَى الْحَبْس بفراشٍ وَغير ذَلِكَ من آلَة الْحَبْس، فَلَمَّا جَاءَ وقف بَيْنَ يَدي شريكٍ القَاضِي فأدّى الرسَالَة، فَقَالَ لصَاحبه: خُذْ بِيَدِهِ فضعْهُ فِي الْحَبْس، قَالَ: قَدْ - واللَّه يَا أَبَا عَبْد اللَّه - عرفتُ أنَّكَ تفعلُ بِي هَذَا، فقدَّمتُ مَا يُصْلحني إِلَى الْحَبْس.
قَالَ: وَبلغ عِيسَى بْن مُوسَى ذَلِكَ فوجَّه بحاجبه إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا من ذَاكَ، رسولُ أَيّ شيءٍ أَنْت؟ فأدَّى الرسَالَة، فألحقه بِصَاحِبِهِ فحُبس.
فَلَمَّا صلّى الأميرُ الْعَصْر بعث إِلَى إِسْحَاق بْن صَباح الأَشْعَثيّ وَإِلَى جمَاعَة مو وُجُوه الكوفةِ من أصدقاءِ شريك، فَقَالَ: أمضوا إِلَيْهِ وأبلغوه السَّلَام وأَعْلمُوه أَنَّهُ قَد استخفَّ بِي، فإنّي لستُ كالعَامَّة.
فمضَوْا وَهُوَ جالسٌ فِي مَسْجده بعد الْعَصْر، فَدَخَلُوا إِلَيْهِ فأبلغوه الرسَالَة، فَلَمَّا انْقَضى كلامُهم، قَالَ لَهُم: مَالِي لَا أَرَاكُم جئْتُمْ فِي غَيره من النّاس؟! من هَاهُنَا من فتيَان الحيِّ؟ فابتدرُوهُ، فَقَالَ: يأخذْ كلُّ وَاحِد مِنْكُم بيدِ رجلٍ من هَؤُلاءِ فيذهبْ بِهِ إِلَى الْحَبْس، لابتم - واللَّه - إِلا فِيهِ، قَالُوا: أجادٌ أَنْت؟ قَالَ: حقًّا، حَتَّى لَا تعودوا تَحملُوا رسالةَ ظَالِم، فحبسهم.
فَركب عِيسَى بْن مُوسَى فِي اللَّيْل إِلَى بَاب الحَبْس فَفتح الْبَاب وأخذهُم جَمِيعًا، فَلَمَّا كَانَ من الغَدِ وَجلسَ شريكٌ للْقَضَاء، جَاءَ السَّجَّان وَأخْبرهُ، فَدَعَا بالْقِمَطْرِ فختمها ووَجَّه بهَا إِلَى منزله، وقَالَ لغُلامه: الْحقْني بثَقَلي إِلَى بَغْدَاد، واللَّه مَا طلبنا هَذَا الأمرَ مِنْهُم، ولكنْ أكرهُونا عَلَيْه، وَلَقَد ضَمِنُوا لنا الإعزازَ فِيهِ.
وَمضى نَحْو قنطرة الْكُوفَة يُرِيد بَغْدَاد، وَبلغ عِيسَى بْن مُوسَى الخبرُ، فَركب فِي موكبه فَلحقه وَجَعَل يناشده اللَّه وَيَقُولُ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! تَثَبَّتْ، انْظُر إخوانَك تحبسْهم؟ دَعْ أعْوَاني، قَالَ: نعم، لأنَّهُم مَشَوْا لَك فِي أمرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِم المشْيَ فِيهِ، ولستُ ببارح أَوْ يُردُّوا جَمِيعًا إِلَى الْحَبْس، وإِلا مضيتُ من فوري إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين فاستعفيتُه فِيمَا قَلَّدني.
فَأمر بردهمْ جَمِيعًا إِلَى الْحَبْس، وَهُوَ - واللَّه - واقفٌ مَكَانَهُ حَتَّى جَاءَ السَّجَّان، فَقَالَ: قَدْ رجعُوا إِلَى الْحَبْس، فَقَالَ لأعوانه: خُذُوا بلجامه قُودُوه بَيْنَ يَدَيَّ إِلَى مجْلِس الْحُكْم، فَمَرُّوا بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى دخل الْمَسْجِد، وَجلسَ مجْلِس الْقَضَاء، ثُمّ قَالَ: الجَرِيرِيَّةُ الْمُتَظَلِّمةُ من هَذَا؟ فَجَاءَت، فَقَالَ: هَذَا خَصْمُكِ قَدْ حضر، فَلَمَّا جلس مَعهَا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: يَخْرجُ أُولَئِكَ من الْحَبْس قبل كُلّ شيءٍ، ثُمّ قَالَ: مَا تقولُ فِيمَا تَدَّعِيه هَذِهِ؟ قَالَ: صَدَقَتْ، فَقَالَ: تَرُدُّ جميعَ مَا أُخِذَ مِنْهَا إِلَيْهَا وتَبْنِي حائطَها فِي أسْرع وَقت، كَمَا هدم، قَالَ: أَفْعَلُ، أَبقِيَ لَكِ شيءٌ؟ قَالَ: تَقُولُ المرأةُ: نعم، وبيتُ الفارسيّ ومَتاعُه، قَالَ: وبيتُ الفارسيّ ومتاعُه، فَقَالَ شريك: أبَقِيَ شيءٌ تَدّعينه عَلَيْه؟ قَالَتْ: لَا، وجَزَاكَ اللَّهُ خيرا، قَالَ: قُومي، وَزَبرها، ثُمّ وثب من مَجْلِسه فَأخذ بيد عِيسَى بْن مُوسَى فأجْلَسَه فِي مَجْلِسِه، ثُمّ قَالَ: السَّلام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير، تأمرُ بِشَيْء؟ قَالَ: بأيِّ شيءٍ آمُر؟ وَضحك.(1/214)
من بلاغة خَالِد بْن صَفْوَان وحُسْنِ كَلَامه
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْخُتُلِّيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عَمْرٍو، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ:
خَرَجَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَعَهُ مَسْلَمَةَ أَخُوهُ إِلَى مَصَانِعَ قَدْ هُيِّئَتْ لَهُ وَزُيِّنَتْ بِأَنْوَاعِ النَّبْتِ، وَتَوَافَى إِلَيْهِ بِهَا وُفُودُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ بُسِطَ لَهُ فِي مَجَالِسَ مشرفةٍ، مطلةٍ عَلَى مَا شُقَّ لَهُ مِنَ الأَنْهَارِ الْمُحِفَّةِ بِالزَّيْتُونِ فِي سَائِرِ الأَشْجَارِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ! هَلْ فِيكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَانِعِ؟ قَالُوا: لَا، غَيْرَ أَنَّ فِينَا قَبْرَ نَبِيِّنَا الْمُرْسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: أَفِيكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَانِعِ؟ قَالُوا: لَا، غَيْرَ أَنَّ فِينَا تِلاوَةَ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: أَفِيكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَانِعِ؟ قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ لسانٌ وبيانٌ لأَجَابَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: أَفَعِنْدَكَ غَيْرُ مَا قَالُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَصِفُ بِلادِي، وَقَدْ رَأَيْتُ بِلادَكَ نَفْسَهَا، فَقَالَ: هَاتِ، فَقَالَ: يَعْدُو قَانِصُنَا فَيَجِيءُ هَذَا بالشَّبُّوط والشِّيم، وَيَجِيء هَذَا بالظَّبْي والظَّلِيم، وَنحن أكثرُ النّاس عاجًا وساجًا، وخزًّا وديباجاً، وخريدة مغناجاً، وبرذرناً هِمْلاجًا، وَنحن أَكثر النّاس فَيْدًا ونقدًا، وَنحن أوسعُ الناسِ بَرِّيَّةً، وأريفهم بحريَّة، وَأَكْثَرهم ذُرِّيَّة وأبعدُهُم سَريَة، بُيُوتنَا ذهب، ونهرنا عجب، أَوله رُطب، وآخرهُ عِنَب، وأوسطُه قَصَب.
فأمّا نهرهُ العجبُ، فَإِن الماءَ يُقبل وَلَهُ عُبَاب وَنحن نيامٌ عَلَى فُرُشِنا، حَتَّى يدْخل بأرضنا، فيغْسِل آنيتَها، وَيَعْلُو مَتْنَها، فنبلغ مِنْهُ حاجتنا، وَنحن عَلَى فرشنا، لَا نُنافِسُ فِيهِ من قِلَّة، وَلا نُمنَعُ مِنْهُ لِذِلَّة، يأتينا عِنْد حاجتنا إِلَيْهِ، وَيذْهب عَنَّا عِنْد ريِّنا مِنْهُ، وغناءنا عَنْهُ.
النخلُ عندنَا فِي منابته، كالزَّيتون عنْدكُمْ فِي مَنَازِله، فَذَلِك فِي أَوَانه، كَهَذا فِي إبّانه، ذَاك فِي أفنانه، كَهَذا فِي أغصانه، يخرجُ أَسْفَاطًا عِظامًا وأوساطًا، ثُمّ ينغلقُ عَنْ قضبان الْفِضَّة منظومة بالزبرجد الْأَخْضَر، ثُمّ يصير أصفر وأحمر، ثُمّ يصير عسلا فِي شَنِّه، مرتتجًا بِقَرَبِه، وَلا إِنَاء حولهَا الْمُذَاب، ودونها الحراب، لَا يقربهَا الذُّبَاب، مَرْفُوعَة عَنِ التُّرَاب، من الرَّاسِخاتِ فِي الوَحْل، الْمُلْقَحَاتِ بالفَحْل، الْمُطْعِمَات فِي المَحْل.
وأمّا بيوتُنا الذَّهَب فَإنَّا لنا عَلَيْهِنَّ خَرْجًا فِي السنين والشهور نَأْخُذهُ فِي أوقاته، وَيدْفَع اللَّه عَنْهُ آفاته، وننفقه فِي مرضاته.
قَالَ: فَقَالَ هِشَام: وأنّي لَكُمُ هَذَا يَا ابْن صَفْوَان وَلَمْ تسبقوا إِلَيْهِ، وَلَمْ تغلبُوا عَلَيْه؟ فَقَالَ: ورثناه عَنِ الْآبَاء ونَغْمُرُه للأبناء، ويدفعُ لنا عَنْهُ ربُّ السَّمَاء، فمثلُنا فِيهِ كَمَا قَالَ أَوْسُ بْن مَغْراء الشَّاعِر:
فمهما كَانَ مِنْ خيرٍ فإنَّا ... وَرِثْنَاهُ أَوَائِلَ أوَّلِينَا(1/215)
ونحنُ مُوَرِّثُوه كَمَا وَرِثْنا ... عَنِ الْآبَاء إِن مِتْنا بنينَا
قَالَ: فَقَالَ هِشَام: للَّهِ دَرُّكَ يَا ابْن صَفْوَان، لقَدْ أُوتيتَ لِسَانا وعِلْمًا وبيانًا، فأكرمَهُ وأحسنَ جائزته وقَدَّمه عَلَى أَصْحَابه.
السَّبَب فِي عزل شريك بْن عَبْد اللَّه القَاضِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر العامري، حَدَّثَنَا مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه الزُّبَيْريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: تقدَّم إِلَى شريك بْن عَبْد اللَّه وَكيل لمُؤْنِسَةَ مَعَ خصمٍ لَهُ، فَجعل يستطيل عَلَى خَصْمه إدْلالا بموضعه من مُؤْنِسَة.
فَقَالَ لَهُ شريكٌ: كُفَّ لَا أَبا لَك فَقَالَ: أتقولُ هَذَا لي وَأَنا وكيلُ مُؤنسة؟! فأمَرَ بِهِ فصُفِعَ عَشْرَ صفعاتٍ فَانْصَرف يجْرِي وَدخل عَلَى مُؤْنِسَة وشَكَا لَهَا، فكتبتْ مُؤنِسَة إِلَى المهديِّ فعزل شَرِيكًا.
وَكَانَ قبلَ هَذَا بيسيرٍ قَدْ دخل شريكٌ عَلَى الْمهْدي، فَقَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي لَك تَقَلُّدُ الْحِكم بَيْنَ الْمُسْلِمِين، قَالَ: وَلِمَ؟! قَالَ: لخلافك عَلَى الْجَمَاعَة، وقولك بِالْإِمَامَةِ.
قَالَ: أما قَوْلك: لخلافك عَلَى الْجَمَاعَة، فَعَن الْجَمَاعَة أخذتُ ديني، فَكيف أخرج عَنْهُمْ وهم أُصَلِّي فِي ديني؟ وأمّا قَوْلك: بِالْإِمَامَةِ، فَمَا أعرف إِمَامًا إِلا كتاب اللَّه وَسنة رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وَأما قولُك: مثلك لَا يَنْبَغِي لَهُ الحكم بَين المسليمن، فَهَذَا شيءٌ أَنْتُم فعلتموه فَإِن كَانَ خطأ فاستغفروا اللَّهَ مِنْهُ، وَإِن كَانَ صَوَابا فأمسكوا عَلَيْه.
قَالَ: مَا تقولُ فِي عليِّ بْن أَبِي طَالِب؟ قَالَ: مَا قَالَ عَنْهُ جَدَّاك الْعَبَّاسُ وعبدُ اللَّه قَالَ: وَمَا قَالا عَنْهُ؟
قَالَ: أما الْعَبَّاسُ فَمَاتَ وعليُّ عِنْده أفضل الصَّحَابَة، وَقَدْ كَانَ يرى كبراء الْمُهَاجِرين يسألونه عَمَّا ينزل من النَّوَازِل، وَمَا احْتَاجَ هُوَ إِلَى أحدٍ حَتَّى لحق بِاللَّه تَعَالَى، وَأما عَبْد اللَّه فَإنَّهُ كَانَ يَضْربُ بَيْنَ يَدَيْهِ بسيفين، وَكَانَ فِي حروبه رَأْسا مُتَّبعًا وَقَائِدًا مُطَاعًا، فَإِن كانتْ إمامةُ عليٍّ جَوْرًا لَكَانَ أوَّلَ من يقعدُ عَنْهَا أَبوك لعلمه بدين اللَّهِ تَعَالَى وفقهه فِي أَحْكَام اللَّه.
فَسكت المهديُّ وأطرق، وَلَمْ يَمْضِ بعد هَذَا الْمجْلس إِلا قليلٌ حَتَّى عَزَل شريك.
لَطِيفَة بَيْنَ خَالِد بْن عَبْد اللَّه وأعرابي قَصده
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كثير الْعَبْدِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْملك بْن قُرَيْب الْأَصْمَعِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن الْهَيْثَم، قَالَ: بَيْنَمَا خَالِد بْن عَبْد اللَّه بظَهْرِ الْكُوفة مُتَنَزِّهًا إذْ حَضَره أعرابيُّ، فَقَالَ: يَا أَعْرَابِي! أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ الْقرْيَة - يَعْنِي الْكُوفَة - قَالَ: وماذا تحاولُ بهَا؟ قَالَ: قصدتُ خَالِد بْن عَبْد اللَّه متعرِّضًا لمعروفه، قَالَ: فَهَل تعرِفُه؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل بَيْنك وَبَينه قرَابَة؟ قَالَ: لَا، ولكنْ لِمَا بَلَغنِي من بَذْله(1/216)
المعروفَ، وَقَدْ قُلْتُ فِيهِ شعرًا أتقرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، قَالَ: فأنشِدْني مِمَّا قُلْتُ فِيهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إليكَ ابنَ كُرْزِ الخَيْر أقبلتُ رَاغِبًا ... لتجبُرَ منّي مَا وَهى وتبدَّدا
إِلَى الْمَاجِد الْبُهْلولِ ذِي الْحلم والنَّدى ... وأكرمِ خَلْقِ اللَّهِ فرعا ومَحْتَدَا
إِذا مَا أناسٌ قصَّرُوا فِي فَعَالِهمْ ... نَهَضْتَ فَلم يُلْفَى هُنَالك مَقْعَدَا
فيا لَك بحرًا يَغْمُرُ النَّاسَ مَوْجُهُ ... إِذا يُسْأَلُ المعروفُ جاشَ وأزْبدا
بلوتُ ابْن عَبْد اللَّهِ فِي كُلّ موطنٍ ... فألفيتُ خير النّاس نَفْسًا وأمْجدا
فَلَو كَانَ فِي الدُّنْيَا من النّاس خالدٌ ... لجودٍ بِمَعْرُوف لَكُنْت مُخَلَّدا
فَلَا تَحْرِمَنِّي مِنْك مَا قَدْ رجوتُهُ ... فيصبحَ وَجْهي كَالِحَ اللَّونِ أرْبَدا
فحفظ خَالِد الشّعْر، وقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ، صَنَعَ اللَّه لَك.
فَلَمَّا كَانَ من غدٍ وَدخل الناسُ إِلَى خالدٍ واسْتوى السِّماطانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، تقدَّمَ الأَعْرابي وَهُوَ يَقُولُ: إليكِ ابنَ عبدِ الْقَيْس، فَأَشَارَ إِلَيْهِ خالدٌ بِيَدِهِ أَن اسْكُتْ.
ثُمّ أنْشد خَالِد بَقِيَّة الشّعْر، وقَالَ لَهُ: يَا أعرابيُّ! قَدْ قِيلَ هَذَا الشّعْر قبل قَوْلك، فتحَّير الأعرابيُّ وَورد عَلَيْه مَا أدْهَشَه، وقَالَ: واللَّه مَا رأيتُ كَالْيَوْمِ سَبَبًا لخيبةٍ وحِرْمان، فانصرفَ وأتْبَعَهُ خالدٌ برسولٍ ليسمعَ مَا يَقُولُ، فَسَمعهُ الرسولُ يَقُولُ:
أَلا فِي سَبِيل اللَّهِ ماكنت أَرْتَجِي ... لديْهِ وَمَا لاقَيْتُ من نَكَدِ الجَدِّ
دخلْتُ عَلَى بحرٍ يجودُ بمالِهِ ... ويُعطي كثيرَ المالِ فِي طلب الحَمْدِ
فحالَفَني الجَدُّ المشومُ لِشِقْوتِي ... وقارنني نَحْسِي وفارَقَني سَعْدِي
فَلَو كَانَ لي رزقٌ لَدَيْهِ لَنِلْتُهُ ... وَلكنه أمرٌ من الْوَاحِد الفَرْدِ
فَقَالَ لَهُ الرسولُ: أجب الْأَمِير، فَلَمَّا انْتهى إِلَى خالدٍ، قَالَ لَهُ: كَيفَ قُلْتُ فأنشده، ثُمّ استعاده فَأَعَادَهُ ثَلَاثًا إعجابًا مِنْهُ بِهِ، ثُمّ أَمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
تَعْلِيق نحْوي
قَوْله: فَلم يُلْفَى، وَالْوَجْه: لَمْ يُلْفَ، وَلكنه اضْطُرَّ فجَاء بِهِ عَلَى الأَصْل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَلَمْ يأتِيكَ والأَنْبِاء تَنْمِي ... بِمَا لاقتْ لَبُونُ بني زيَادِ
وَقَد استقصينا هَذَا الْبَاب فِي غَيْر هَذَا الْموضع.
اعفني من أَربع
حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن الأَزْدِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: كَانَ عبد الملك بْن مَرْوَان إِذا دخل عَلَيْه رجلٌ من أفقٍ(1/217)
من الْآفَاق، قَالَ لَهُ: اعْفني من أَربع، وقُلْ بعدَها مَا شئتَ أَلا تكْذِبْني فَإِن الكَذُوب لَا رَأْي لَهُ، وَلا تُجِبْنِي فِيمَا لَا أسألُك عَنْهُ، فَإِن فِي الَّذِي أَسأَلك عَنْهُ شغلا عَمّا سِوَاه، وَلا تحملْني عَلَى الرّعية، فَإِنَّهُم إِلَى مَعْدَلَتِي ورأفَتي أحْوَج.
الزَّرع وَالْجَرَاد
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عليّ بْن الْمَرْزُبَان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن الأَسَديّ أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن صَالِح بْن شيخ بْن عُمَيْرة، حَدثنَا عبد الرحمن بْن أَخِي الْأَصْمَعِي، عَنْ عمّه الْأَصْمَعِي، قَالَ: قِيلَ لأعرابيٍّ: أَكَانَ لَك زَرْعٌ؟ قَالَ: نعم، وَلَكِن أَتَانَا رجلٌ من جَراد، تَنَبَّل مناجل الحَصاد، فسُبحان مهلك القويِّ الأكُول، بالضَّعيفِ المأكُول.
المتفضِّلُ جَاوز حدَّ الْمنصف
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن خَلَف السُّكري، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى زَكَرِيّا بْن يَحْيَى بْن خَلاد الْمِنْقَرِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرفيّ، ثَنَا الْأَصْمَعِي، عَمَّن أخبرهُ:
أَن أَبَا جَعْفَر المَنْصُور حِين عَفَا عَنْ أَهْل الشَّام، قَالَ لَهُ رجلٌ، يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! الانتقامُ عدلٌ والتجاوزُ فَضْل، والْمُتفضِّلُ قَدْ جَاوز حَدَّ الْمُنْصِف، فَنحْن نُعِيذُ أَمِير الْمُؤْمِنِين بِاللَّه عَزَّ وَجَلّ من أَن يَرْضى لنَفسِهِ بأوْكَسِ النَّصِيبين، وأَلا يرتفعَ إِلَى أَعلَى الدَّرَجتين.
المجِلسُ التَاسِع والْعِشروُن
النّاس سَوَاء كأسنان الْمشْط
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ حَيَّانَ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ إِدْرِيسُ بْنُ يُونُسَ الْفَرَّاءُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَاجٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّاسُ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ، وَالْمَرْءُ كثيرٌ بِأَخِيهِ، وَلا خَيْرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ ".
قَالَ القَاضِي: وَقَدْ تضمَّن هَذَا الْخَبَر بألفاظه اللطيفة الجامعة، ومعانية الشَّرِيفَة النافعة، حِكَمًا متقبَّلةً فِي الْعقل، ثَابِتَة فِي الْفَضْل، راجحةً فِي ميزَان الْعدْل.
وَقَوله عَلَيْه السَّلام: " الناسُ سواءٌ كأسْنان الْمُشْط " من أَبْيَنِ الْكَلَام النَّبيه، وَأحسن التَّمْثِيل والتشبيه، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر:
سواسيةٌ كأسْنان الْحِمَار
فنحا هَذَا النحوَ فِي الْعبارَة من التَّساوي والتشاكُل، والاشتباه والتماثُل.
فأمّا قَول هَذَا الشَّاعِر: سواسية.. فَإِن بعض عُلَمَاء أَهْل اللُّغة ذكر أَن السَّواسية هُمُ المتساوون فِي الشَّبَه، وَأَن هَذَا القَوْل إِنَّمَا يُستعمل فِي الذَّم، وقولُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّاسُ سواءٌ كَأَسْنَانِ الْمشْط، وَإِنَّمَا يتفاضلون بالعافية "، تَأْدِيب لَهُم وحَضٌّ لَهُم عَلَى تفكُّرِهِم فِي أنفسهم، وَأَنَّهُمْ يتساوون فِي الأَصْل، ويتفقون فِي الخَلْقَ والْجِبِلّ، ويتفاوتون فِي منَازِل(1/218)
الْفَضْل، ليرجعوا إِلَى الْمعرفَة بِأَنْفسِهِم، ويتنزهوا عَنِ المنافسة الَّتِي تُفْسِدُ ذاتَ بَيْنهم، ويجتنبوا البَغْيَ والتفاخُرَ، والاستطالة بالتكاثر، وليشكُرِ الْمُفَضَّل مِنْهُم ربه عَزَّ وَجَلّ، إِذْ أَبَانَهُ بِالْفَضْلِ عَلَى من سواهُ، وخصّه بنعمته دون كثير مِمَّنْ عداهُ، وَيُؤَدِّي حق مَوْلَاهُ فِيمَا أولاه وأبلاه، فَإِن النّاس عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَثر مُعَافى ومُبْتلى، وَقَدْ أحسن الَّذِي يَقُولُ:
الناسُ أشكالٌ وشَتَّى فِي الشِّيَمْ ... وكُلُّهُمْ يجمَعُهُ بيتُ الأَدَمْ
وَقَوله عَلَيْه السَّلام: " المَرْءُ كثيرٌ بأَخيه " من بليغ الْكَلَام ونفيس الْحِكَم، لِأَن الْمَرْء يشد أَخَاهُ ويؤازره، ويُعَضِّدُه ويناصره، وَقَدْ أَتَى الْخَبَر فِي الأُمَّةِ الهادية أَنَّهَا كالْبُنْيان يَشُدُّ بعضُه بَعْضًا.
وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَنَاصُرِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ، أَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى عَضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ بُرْدَةَ، حَدثنَا أَبُو شهَاب، عَن الْحسن، وَعَمْرو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسْلِمُونَ كرجلٍ وَاحِدٍ، إِذَا اشْتَكَى عضوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ ".
وَفِي استقصاء مَا جَاءَ فِي التعاطف والتواصل، والمصافاة والتباذل، من الرِّوَايَات والْآثَار، والحكايات وَالْأَخْبَار، وتُنُوشد من منظوم الأَشْعَار، طولٌ لَيْسَ هَذَا من مَوْضِعه، واشتهارهُ عِنْد الْعَامَّة والخاصة، يُغني عَنِ الإسهاب فِيهِ، والإطناب فِي ذكره، وإحضار جُمَيْع مَا قِيلَ فِيهِ، وَمَا خَالفه، وَإِنِّي لأستحسنُ مَا أنشدتُه عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْمُعْتَزّ وَهُوَ:
للَّهِ أخوانٌ صَحِبْتُهُمُ ... لَا يملِكُونَ لسلوةٍ قَلْبَا
لَوْلَا تستطيعُ نفوسُهُمْ بَعُدتْ ... أجْسامُهُمْ فتعانقتْ حُبَّا
وَقَوله فِي الْخَبَر: " وَلا خَيْرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مِثْلَ مَا ترى لَهُ ". من أفْصح لفظٍ، وأوضحِ معنى.
وتأويله عِنْدِي: أَنَّهُ لَا خير لامرىء فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لِأَخِيهِ من المناصحة والمكافأة والمخالصة، وَأخذ نَفسه لَهُ بالإنصاف والمساعدة، والإسعاف والمرافدة، مثل الَّذِي يرَاهُ لَهُ أَخُوهُ من ذَلِكَ، وَمن كَانَ لِأَخِيهِ الصَّادِقِ فِي مؤاخاته بِهَذِهِ الْمنزلَة فَهُوَ بالعدو أشبه مِنْهُ بالولي.
وَقَد اخْتلف ذَوُو الْفُحْص والتفتيش من أَصْحَاب الْمعَانِي، فِي قَول الشَّاعِر:
وَإِنِّي لأستحيي أَخِي أَن أرَى لَهُ ... عَلَيَّ مِنَ الحَقّ الَّذِي لَا يرَى ليَا
فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يرى أَن لي عَلَيْه حَقًا حسب مَا أرى لَهُ من وجوب حَقه عَلَى، ووجَّهُوه إِلَى نَحْو مَا تأوَّلنَاه.
وقَالَ بعض الْمُحَقِّقين من هَذِهِ الطَّائِفَة والمتحققين بتحصيل مَعَانِيهَا:(1/219)
بل الْمَعْنى إِنِّي أستحيي أَخِي أَن أرى لَهُ عِنْدِي مِنْ فضلٍ سابقٍ مِنْهُ، مَالا يرى لي عِنْده من فضل، فَيكون قَدْ ثَبَّت عِنْدِي حقَّا لَمْ أُثَبِّتْ لنَفْسي عِنْده من الْحق مثلَه.
وَهَذَا أصح التَّأْويلَيْنِ، وأصوب المعنين، وَقَوله: وَإِنِّي لأستحيي أَخِي أَن أرى لَهُ ... ، يشهدُ بِصِحَّة هَذَا التَّأْوِيل، لِأَن قَائِلا لَو قَالَ لآخر: إِنِّي لأستحييك أَن آتِي من حسن عشرتك مَا لَا يَأْتِي مثله فِي معاشرتي، لَكَانَ من الْكَلَام الركيك الَّذِي يستهجن وَلا يُسْتَحسن، وَلَو قَالَ لَهُ: إِنِّي لأستحييك أَن تعاشرني من النُّبْل مَا لَا أعاشرك بِمِثْلِهِ، لَكَانَ من أبين الْكَلَام وأفْصَحِه، وَأحسن معنى وأوضحه.
فأمّا قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الْخَبَر: " وَلا خيرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يرى لَك مِثْلَ مَا ترَاهُ لَهُ "، فَهُوَ جارٍ علىعكس هَذِهِ الطَّرِيقَة بِحَسب مَا بَيناهُ، وَإِنَّمَا يَصحُّ حملُه عَلَى النَّحْو الَّذِي حملنَا عَلَيْه تَفْسِير الْبَيْت، لَو كَانَ قِيلَ فِيهِ: وَلا خير لمن صُحبته فِي صحبتك إِذا لَمْ تَرَ لَهُ من الْحق مثل الَّذِي يرى لَك، عَلَى مَا تقدم من تلخيصنا.
خبر من فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: كتب مَسْلَمَةَ بْن عَبْد الْملك إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ:
أرِقتُ وصحراءُ الطُّوانَةِ مَنْزِلِي ... لبرقٍ تلالا نَحْو عمْرَة يلمح
أزوال أمرا لم يَكُنْ ليُطِيقَهُ ... من الْقَوْم إِلا الْقُلَّبِيُّ الصَّمَحْمحُ
فَكتب الْقَعْقَاع بْن خُلَيْد الْعَبْسيّ إِلَى عَبْد الْملك:
فأبْلغ أميرَ الْمُؤْمِنِين بأنَّنا ... سِوَى مَا يَقُولُ الْقُلَّبِيُّ الصَّمَحْمحُ
أكلْنا لحومَ الْخَيل رَطْبًا ويابسًا ... وأكبادُنا من أكْلنا الخيلَ تَقْرَحُ
ونحْسُبها نَحْو الطوانة ظُلّعا ... وَلَيْسَ لَهَا حَوْلَ الطوانة مسرح
فليت الفَزَارِيّ الَّذِي غشَّ نفسَهُ ... وَخَانَ أميرَ الْمُؤْمِنِين يُسَرَّحُ
وَكَانَ أصابتُهم مجاعةٌ حَتَّى أكلُوا الخيْلَ، فكتم ذَلِكَ مَسْلَمَةَ بْن عَبْد الْملك، وَكتب مَعَ رَجُل من بني فَزَارَة، فَذَلِك معنى قَوْله:
فليت الفَزَاريّ الَّذِي غش نَفسه
معنى بعض الْكَلِمَات ووزنها
قَالَ القَاضِي: الْقُلَّبِيُّ: الَّذِي يعرف تَقَلُّبَ الْأُمُور وتدبيرها، ويتصفَّحُها فَيعلم بمجاريها، يُقَالُ: رجلٌ قُلَّبِيٌّ حُوَّليٌّ: لمحاولته وتقلبه، وتدبيره، ويُقَالُ لَهُ أَيْضا: حُوَّلٌ قُلَّب، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
حُوَلّ قلبٌ معنٌ مفنٌ ... كُلّ داءٍ لَهُ لَدَيْهِ دَوَاءُ
وَقَوله: الصَّمَحْمح: أَرَادَ بِهِ وَصفه بالشدة وَالْقُوَّة، وبَيْنَ أَهْل الْعلم بِكَلَام الْعَرَب(1/220)
اخْتِلاف فِي معنى الصَّمحمح من جِهَة اللُّغَة وَفِي وَزنه من الْفِعْل عَلَى الطَّرِيقَة القياسية، فَأَما اللُّغويون فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَذهب سِيبوَيْه وَمن قَالَ بقوله: إنَّه الشديدُ الغليظ الْقصير وَهُوَ صفة، ويُقَالُ أَيْضا للغليظ الشَّديد: دَمَكْمَك، وقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الصَّمحمح: المحلوق الرَّأْس، وَأنْشد:
صمحمحٌ قَدْ لاحَهُ الهَوَاجِرُ
وقَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى: الصَّمحمح: الأصلع.
وَاخْتلف النحويون فِي وزن صمحمح من الْفِعْل، فَقَالَ سِيبوَيْه وَمن يسْلك سَبيله من الْبَصرِيين: هُوَ فَعَلْعل، وقَالَ الفَرَّاءُ وأتباعُه من الكوفيِّين: هُوَ فَعَلَّل مثل: سفرجل، وَكَذَلِكَ دَمَكْمَك، ولكلِّ فريقٍ مِنْهُم اعتلالٌ فِي قَوْله، وطعنٌ فِي مَذْهَب خَصْمه.
فَأَما الفراءُ فَإنَّهُ احْتج بِأَن قَالَ: لَو جَازَ أَن يَكُون صمحمح عَلَى فعلعل لتكرير لفظ الْعين وَاللَّام، لجَاز أَن يَكُون صَرْصَر عَلَى فَعْفَع، وسَجْسَج لتكرير لفظ الْفَاء، فَلَمَّا بَطَل أَن يَكُون صَرْصَر عَلَى فَعْفَع بَطل أَن يكون صمحمج عَلَى فعلعل.
وَالَّذِي قَالَه سِيبوَيْه هُوَ الصَّحِيح الَّذِي يشهدُ القياسُ بتصويبه، وَذَلِكَ أَن مُوَافقَة الْحَرْف المتكرر الْحَرْف الْمُتَقَدّم فِي صورته يُوجب مُوَافَقَته فِي الْحَكَم عَلَى وَزنه إِذا استوفى فِي وزن الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ فَاء الْفِعْل وعينه ولامه، مَا لم يلجىء إِلَى خلاف هَذَا حجةٌ كالقصور عَنِ استكمال هَذِهِ الْحُرُوف، وَالْحَاجة إِلَى إتْمَام الْكَلِمَة بِاخْتِصَار حُرُوف الْفِعْل، فَلهَذَا قُضِيَ عَلَى " صَرْصَر " بِأَنَّهُ " فَعْلَل "، وَلَمْ يَجُزْ حمله عَلَى " فَعْفَع " لِأَنَّهُ لَو حُمِل عَلَى هَذَا بَطل التَّمامُ لعدم اللّام، وَإِذَا جعلت عين الْفِعْل فِي صمحمح مكررة لَمْ يفْسد الْكَلَام، وَتمّ مَعَ إِقَامَة الْقيَاس واستقام، وَقَدْ قَالَ بعض من احتجَّ بِهَذَا من أَصْحَاب سِيبوَيْه: أَلا ترى أَنَا نجْعَل إِحْدَى الرَّاءين فِي احمرَّ زَائِدَة، وَلا نجْعَل إِحْدَى الرَّاءين فِي مَرَّ وكَرَّ زَائِدَة لأنّا لَو جعلنَا أَحَدهمَا زَائِدَة بَطل عين الْفِعْل أَوْ لامه.
وَقَالُوا: مِمَّا يُبطل قَول الفَرَّاء، قَوْلهم: " خُلَعْلَع " وَهُوَ الْجُعَلُ، لَو سلكنا بِهِ مَذْهَب " سَفَرْجل " لَمْ يَكُنْ لَهُ نظيرٌ فِي كَلَام الْعَرَب، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامهم مثل سُفَرْجَل، قَالُوا: وَفِي خُرُوجه عَن أبينة كَلَام الْعَرَب دليلٌ عَلَى زِيَادَة الْحَرْف فِيهِ.
وَزعم الفَرَّاء أَن اخْلَوْلق: افْعَوْعل، فكرَّر العينَ وَلَمْ يَجعله افعولل أَو افعلَّل، وقَالَ بعض من احْتج لسيبويه بِهَذَا، وَأنكر قَول الفَرَّاء إِن قَالَ قائلٌ: لَيْسَ فِي الْأَفْعَال افعلَّل، قِيلَ لَهُ: يلْزم الفَرَّاء أَن يَجْعَلهَا افعلل وَلا يَجعله افعوعل وَلا يُكَرر الْعين، إِذا كَانَ قَدْ أنكر تَكْرِير الْعين فِيمَا ذكرنَا.
وَفِي استقصاء القَوْل فِي هَذِهِ الْكَلِمَة ونظيرها وذُكِر اخْتِلاف النَّحْوِيين فِي أصل الْبَاب الَّذِي يشْتَمل عَلَيْهَا طولٌ يضيق عَنْهُ قدْرُ مجلسٍ بأسره من مجَالِس هَذَا الْكتاب، وَلَهُ مَوضِع(1/221)
هُوَ أولى بِهِ يُؤتي بِهِ فِيهِ إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
تصميم قَاضِي الرقة عَلَى إنصاف الْمَظْلُوم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الازهر، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الزُّبَير بْن بَكَّار بْن عَبْد اللَّه بْن مُصْعَب بْن ثَابِت بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير بْن الْعَوَّام بْن أَسد، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مُصْعَب بْن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ عُبَيْد اللَّه بْن ظَبْيان قَاضِي الرَّقَّةِ، وَكَانَ الرشيد إِذْ ذَاك بهَا، فجَاء رَجُل فاستعدى إِلَيْهِ من عِيسَى بْن جَعْفَر، فَكتب إِلَيْهِ ابنُ ظبْيَان: " أما بعد، أبقى اللَّه الْأَمِير وَحفظه، وأتمَّ نعْمَته عَلَيْه، أَتَانِي رجلٌ يذكر أَنَّهُ فُلان بْن فُلان، وَأَن لَهُ عَلَى الْأَمِير - أبقاه اللَّه - خمس مائَة ألف دِرْهَم - فَإِن رَأَى الْأَمِير - أبقاه اللَّه - أَن يحضر مَعَه مجْلِس الحكم أَوْ يوكَّل وَكيلا يُناظر خَصْمَهُ فعل ".
قَالَ: وَدفع الْكتاب إِلَى الرَّجُل، فَأتى بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر فَدفع الْكتاب إِلَى حَاجِبه فأوصله إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: كُلْ هَذَا الْكتاب.
فَرجع إِلَى القَاضِي فَأَخْبَرَه، فَكتب إِلَيْهِ: أبقاك اللَّه وحفظك وأمتع بك، حضر رجلٌ يُقَالُ لَهُ فُلان بْن فُلان، فَذكر أَن لَهُ عَلَيْك حقًّا فَصِرْ مَعَه إِلَى مجْلِس الْحَكَم أَوْ وكيلك إِن شَاءَ اللَّه.
وَوجه بِالْكتاب مَعَ عونين من أعوانه، فحضرا بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر ودفعا الْكتاب إِلَيْهِ، فَغَضب وَرمى بِهِ، فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فَأَخْبَرَاهُ.
فَكتب إِلَيْهِ: حفظك اللَّه وأبقاك وأمتع بك، لَا بُد أَن تصيرَ أَنْت وخصمك إِلَى مجْلِس الْحُكْم، فَإِن أَنْت أبيتَ رفعتُ أَمرك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين إِن شَاءَ الله.
وَوجه الْكتاب مَعَ رجلَيْنِ من أَصْحَابه الْعُدُول، فقعدوا عَلَى بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر حَتَّى خرج، فقاما إِلَيْهِ ودفعا إِلَيْهِ كتاب القَاضِي، فَلم يقرأه وَرمى بِهِ، فأبلغاه ذَلِكَ.
فختم قِمَطْرَهُ وَانْصَرف وَقعد فِي بَيته، وَبلغ الخبرُ الرشيدَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أمره، فَأَخْبَرَه بالقصة حرفا حرفا، فَقَالَ لإِبْرَاهِيم بْن عُثْمَان: صِرْ إِلَى بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر فاختم عَلَيْه أبوابَه كُلَّها، وَلا يخرُجَنَّ أحدٌ وَلا يدخلن أحدٌ عَلَيْه حَتَّى يَخْرُج إِلَى الرَّجُل من حقِّه أَوْ يصير مَعَه إِلَى الْحَاكِم.
قَالَ: فأحاط إِبْرَاهِيم بداره ووكَّل بهَا خمسين فَارِسًا وأغلقت أبوابه، وَظن عِيسَى أَنَّهُ قَدْ حدَّث للرشيد رأيٌ فِي قَتله، فَلم يَدْر مَا سَبَب ذَلِكَ، وَجَعَل يكلم الأعوان من خلف الْبَاب، وارتفع الصياحُ من دَاره، وصَرَخ النساءُ، فأمرهن أَن يَسْكُتن، وقَالَ لبَعض غِلمان إِبْرَاهِيم: أُدْعُ لي أَبَا إِسْحَاق لأكلمه، فأعلموه مَا قَالَ: فجَاء حَتَّى صَار إِلَى الْبَاب، فَقَالَ لَهُ عِيسَى ويْلك مَا حالُنا؟ فَأَخْبَرَه خبرَ ابنِ ظَبيان، فَأمر أَن تحضر خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم من سَاعَته ويُدفع بهَا إِلَى الرَّجُل.(1/222)
فجَاء إِبْرَاهِيم إِلَى الرشيد فَأَخْبَرَه، فَقَالَ: إِذا قبض الرَّجُل مَاله فافتح أبوابه.
يُخَوِّف جَارِيَة بإهدائها لأصمعي
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد، قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِي: دخلت عَلَى جَعْفَر بْن يَحْيَى بْن خَالِد يَوْمًا من الأيَّام، فَقَالَ: يَا أصْمَعيُّ! هَلْ لَك من زَوْجَة؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فجارية؟ قُلْتُ: جاريةٌ للمِهْنة، قَالَ: فَهَل لَك أَن أهبَ لَك جَارِيَة نظيفة؟ قُلْتُ: إِنِّي لمحتاجٌ إِلَى ذَلِكَ.
فَأمر بِإِخْرَاج جاريةٍ إِلَى مَجْلِسه، فخرجتُ جاريةٌ فِي غَايَة الْحَسَن وَالْجمال والهيئة والظَّرْف، فَقَالَ لَهَا: قَدْ وهبتُكِ لهَذَا، وقَالَ: يَا أصْمَعِيُّ! خُذْها. فشكرتُهُ. فَبَكَتْ الجاريةُ وَقَالَت: يَا سيِّدي! تدفَعُني إِلَى هَذَا الشَّيْخ مَعَ مَا أرى من سَمَاجته وقُبْح منظره؟ وجَزِعَت جزعًا شَدِيدا.
فَقَالَ: يَا أَصْمَعيُّ! هَلْ لَك أَن أعَوِّضَك مِنْهَا ألف دِينَار؟ قُلْتُ: مَا أكرهُ ذَلِكَ، فَأمر لي بِأَلف دِينَار، وَدخلت الجاريةُ، فَقَالَ: يَا أصمعيُّ! إِنِّي أنكرتُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَة أمرا فأردتُ عقوبتها بك ثُمّ رحمتُها مِنْك. قُلْتُ: أَيهَا الْأَمِير! فألا أعلمتَني قبل ذَلِكَ فإنِّي لَمْ آتِك حَتَّى سَرَّحْتُ لِحْيتي وأصلحتُ عِمَّتِي، وَلَو عرفتُ الْخَبَر لصِرْت إِلَيْك عَلَى هيئةِ خِلْقَتِي، فواللَّه لَو رأتْني كَذَلِك لما عاودت شَيْئا تنكره أبدا مَا بقيت.
الْمَرْء فِي رُتْبَة السّلطان
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمَدَائِنِي، قَالَ: زَعَمُوا أَن رجلا من بني كنَانَة أَتَى نَصْرَ بْن سَيَّار وَهُوَ عَلَى خُرَاسَان، وَكَانَ لَهُ صديقا فَوَجَدَهُ قد غير عَنِ الْعَهْد، فَلَمَّا رَأَى الْإِعْرَاض قَالَ:
قُلْ لنصرٍ والمرءُ فِي رُتْبَة السل ... طان أعْمَى مَا دَامَ يُدْعى أميرَا
فَإِذا زَالَت الإِمارةُ عنهُ ... واستوى والرجالٌ عادَ بَصيرَا
فَبَلغهُ، فَقَالَ: أقسمتُ عَلَيْك إِلا أنْشَدْتني الْبَيْتَيْنِ، فأنشده فَقَالَ: صدقت لَعَمْرو اللَّه، وأثبَته فِي صحابته، وَأحسن جائزته، وَجعله فِي سُمَّاره.
تَأْكِيد الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل - الْمَفْعُول مَعَه
قَالَ القَاضِي: هَكَذَا فِي كتابي: واستوى وَالرِّجَال بِالْوَاو، وَرفع الرِّجَال عطفا عَلَى الضَّمِير الَّذِي فِي اسْتَوَى، والفصيح من كَلَام الْعَرَب فِي مثل هَذَا أَن يُؤكِّدُوه ثُمّ يَعْطِفُوا عَلَيْه فيقولوا: فاسْتوى هُوَ والرِّجال، وَقَدْ جَاءَ فِي الشّعْر غيرُ مؤكَّد، قَالَ جرير:
ورَجَا الأُخَيْطِلُ من سفاهةِ رَأْيِهِ ... مَا لَمْ يكنْ وأبٌ لَهُ لِينَالا
والبصريُّون من النَّحْوِيين يستقبحون ترك التوكيد فِيهِ، وَالْأَمر فِيهِ عِنْد الْكُوفِيّين أيسرُ، عَلَى أَنهم يختارون التوكيد ويُؤْثرونه، وَقَدْ أنْشد الفَرَّاء:(1/223)
ألم تَرَ أنَّ النّبْعَ يَصْلُب عُودُهُ ... وَلَا يَسْتَوِي والخَرْوَعُ المَتَقصِّفُ
وَلَو قيل: فَاسْتَوَى وَالرِّجَال بِمَعْنى مَعَ الرِّجَال كَانَ حسنا، وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي يُسمى بَاب الْمَفْعُول مَعَه، كَقَوْلِهِم: اسْتَوَى الماءُ والخَشَبَة، وَجَاء البَرْدُ والطَّيَالِسَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فكونُوا أنْتُمُ وَبَنِي أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الْكُلْيَتَيْنِ من الطُّحَالِ
وَقَد يُقَالُ: اسْتَوَى الماءُ بالخشبة، وَرُوِيَ هَذَا الْبَيْت: واستوى بِالرِّجَالِ، وَجَاء فِي الْخَبَر: ذكر التَّبِيع فِي وُلِد الْبَقر، فَقِيل: هُوَ الَّذِي اسْتَوَى قرناه بأذنيه، وَمن هَذَا النَّحْو قَوْلهم: مَا صنعتَ وأباك.
وَهَذَا بَاب يَتَّسِع القَوْل فِيهِ من قِبَلِ صناعَة النَّحو ومذاهب أَهله، وَلَيْسَ هَذَا من مَوَاضِع شَرحه، وَقَدْ ذَكرْنَاهُ فِي مَوْضِعه من كتبنَا فِي النَّحْو وعلوم الْقُرْآن الْكَرِيم، وَفِي رسالةٍ أفردناها.
حَمَّاد الراوية يحاول أَن يغتنم غنيمَة
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه المَرْثدي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِد بْن كُلْثُوم وَغَيره، عَنْ حَمَّاد الراوية، قَالَ: كُنْت عِنْد الْوَلِيد يَوْمًا فَدخل عَلَيْه رَجُلان كأنَّهما كَانَا مُنَجِّمَيْن، فَقَالا: قَدْ نَظَرْنا فِيمَا أَمَرْتَنا بِهِ فوجدناك تملِكُ سَبْعَ سِنِين مُؤَيَّدًا مَنْصورًا، تستقيمُ لَك النّاس، ويزكُو لَك الخَرَاجُ.
قَالَ حَمَّاد: فاغتنمتُها وأردتُ أَن أخدعَه كَمَا خَدَعاه، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! كَذَبَا، نَحْنُ أعْلمُ بالروايةِ والْآثَار وضَرُوبِ الْعُلُومِ مِنْهُمَا، وَقَدْ نَظرنَا فِي هَذَا وَنظر الناسُ فِيهِ قَدِيما فوجدناك تملكُ أَرْبَعِينَ سنة فِي الْحَال الَّتِي وَصفا.
قَالَ: فَأَطْرَقَ الْوَلِيدُ ثُمّ رفع رَأسه إليّ، فَقَالَ: لَا مَا قَالَه هَذَانِ يكسرني، وَلَا مَا قُلْتَه يَقَرُّنِي، واللَّه لأَجْبِيَنَّ هَذَا المَال من حِلِّهِ جبايةَ من يعيشُ لِلْأَبَد، ولأصرفَّنهُ فِي حقِّه صَرْف من يموتُ فِي غدٍ.
كَلِمَات حكيمة للخليل بْن أَحْمَد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري، أَنْبَأَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود المَرْوَزِيّ بمرو، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْن أَكْثَم، أَنْبَأَنَا النَّضْر بْن شُمَيْل، قَالَ: سمعنَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد، يَقُولُ: التواني إضاعةٌ، والحزمُ بضَاعَة، والإنصافُ رَاحَة، واللجاجةُ وقاحة.
المجلِسُ الثَلاثون
حديثُ سَوادِ بْنِ قَارِب
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ حُجْرٍ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَنْصُور الْأَنْبَارِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ، عَنْ(1/224)
مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ.
قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَالسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِذْ مَرَّ بِهِ رجلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَتَعْرِفُ هَذَا الْمُسَلِّمَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الَّذِي أَتَاهُ رَئِيُّهُ مِنَ الْجِنِّ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
فَدَعَا عُمَرُ الرَّجُلَ فَقَالَ: أَنْتَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: أَنْتَ كَمَا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ الرَّجُلُ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا اسْتَقْبَلَنِي أحدٌ بِهَذَا مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِمَّا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ، فَأَخْبِرْنِي بِإِتْيَانِكَ رَئِيُّكَ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينِ! بَيْنَا أَنَا نائمٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي رَئِيِّي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ وَافْهَمْ وَاعْقِلْ، قَدْ بُعِثَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَأَخْبَارِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هاشمٍ ... بَيْنَ رَوَابِيهَا وَأَحْجَارِهَا
فَقُلْتُ: دَعْنِي أَنَامُ، فَإِنِّي أَمْسَيْتُ نَاعِسًا.
فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلابِهَا ... وشَدَّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا صَادِقُو الْجِنِّ كَكُذَّابِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هاشمٍ ... لَيْسَ قدامها كَأَذْنَابِهَا
قَالَ الْقَاضِي: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:
وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى بَابِهَا
فَقُلْتُ: دَعْنِي أَنَامُ، فَإِنِّي أَمْسَيْتُ نَاعِسًا.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، قَدْ بُعِثَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى عِبَادَته، ثمَّ أنشأ يقولك
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَحْسَاسِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَحْلاسِهَا(1/225)
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا خير الْجِنِّ كَأَنْجَاسِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْك إِلَى رَاسِهَا
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ شَدَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي رَحْلَهَا وَصِرْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَقِيلَ لِي: قَدْ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَصِرْتُ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَعَقَلْتُ نَاقَتِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ: هَاتِ يَا سَوَادُ بْنُ قَارب فَقلت:
أَتَانِي رئيي بَعْدَ هدءٍ ورقدةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا بَلَوْتُ بِكَاذِبِ
ثَلاثَ ليالٍ قَوْلُهُ كُلَّ ليلةٍ ... أَتَاكَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
فَشَمَّرْتُ مِنْ ذَيْلِ الإِزَارِ وَوَسَّطْتُ ... بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْنَاءُ بَيْنَ السَّبَاسِبِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... فَإِنَّكَ مأمونٌ عَلَى كُلِّ غَائِبِ
ةأنك أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وَسِيلَةً ... إِلَى اللَّهِ يَا ابْن الأَكْرَمِينَ الأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا نَأْتِيهِ يَا خَيْرَ مَنْ مَشَى ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيْبُ الذَّوَائِبِ
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شفاعةٍ ... سِوَاكَ بمغنٍ عَنْ سَوادِ بْنِ قَارِبِ
قَالَ: فَفَرِحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَرَحًا شَدِيدًا.
قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: لقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ هَذَا الْخَبَرَ مِنْكَ، فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَأْتِيكَ رَئِيُّكَ الْيَوْمَ؟ قَالَ: أَمَا مُنْذُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَلا، وَنعم الْبغوض كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْجِنِّ.
قَالَ القَاضِي: قَدْ رُوِّينَا خبر سَواد بْن قَارب هَذَا من طُرُق عِدَّة، وَفِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلاف، ومعانيها مُتَقَارِبَة، وَقَوله: فارْحل إِلَى الصفوة من هَاشِم: صفوة الشَّيْء: خِيارُه وأخْلصه، يُقَالُ: هَذِهِ صَفْوة الْمَتَاع وصِفوته، وَالْكَسْر أفْصح اللُّغَات فِيهِ، فَإِذا نزعت الْهَاء فِيهِ، فَقِيل: هَذَا صَفْوُ الشَّيْء بِالْفَتْح لَا غَيْر.
وَقَوله: الذعلِبُ: السَّريعةُ، والوَجْنَاءُ: صفةٌ لَهَا بغلظ الوَجْنة وسَعَتها وَهُوَ من عَلَامَات النجابة.
وَفِي هَذَا الْخَبَر: مَا دلَّ عَلَى نُبُوَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وصِحة دَعوته، وَهُوَ أحدُ الْأَخْبَار الَّتِي تقدَّمت بالتبشير برسالته، والإشارةُ إِلَى صفته، والإيماء إِلَى نجومه ومخرجه، وَهُوَ بابٌ واسعٌ كَبِير جدا يُتْعب إحصاؤه، وَقَدْ ضمنته العلماءُ كتبَهُمْ وأخْبارهم.
وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر: بَيْنَ السَّباسِب، وَهِي الأفضية الواسعةُ من الأَرْض، وَهِي مَا كَانَ مِنْهَا قَفْرًا أملس، وَاحِدهَا سَبْسَب، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
نعم قَدْ تركناهُ بأرضٍ بعيدةٍ ... مُقيمًا بهَا فِي سبسبٍ وأَكَامِ(1/226)
ويُقَالُ فِي هَذَا بَسَابِس.
كَلِمَات حكيمة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رجلٌ من حَنْظَلة يَقُولُ: إِنَّهُ لَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ يَدُلَّكَ عَقْلُكَ عَلَى تَرْك القَوْل فِي أَخِيك، فَفِيهِ خلالٌ ثَلَاث: أما واحدةٌ فلعلَّك أَن تذكُرَهُ بِمَا هُوَ فِيك، أَوْ لَعَلَّك تذكره بأمرٍ قَدْ عافاك اللَّه مِنْهُ، فَمَا هَذَا جزاءُ الْعَافِيَة أَن تَجْحد الشُّكْر عَلَيْهَا.
أَوْ لعلَّك تذكُرُه بِمَا فِيك أعظمُ مِنْهُ، فَذَلِك أشَدُّ اسْتحكامًا لمقْتِه إياك، أما كُنْت تسمع: ارْحم أَخَاك وأحْمَدِ الَّذِي عَافَاك.
عَجِيبَة من الْعَجَائِب الزاغ أَبُو عَجْوَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ مُحرز ابْن أَحْمَد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَليّ مُحرز ابْن أَحْمَد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُسْلِم السَّعْديّ، قَالَ: وَجَّه إليَّ يَحْيَى بْن أَكْثَم يَوْمًا فصرتُ إِلَيْهِ، فَإِذا عَنْ يَمِينه قمطرٌ مجلَّدة، فَجَلَست فَقَالَ لي: افْتَحْ هَذَا القمطر، فَفَتحهَا فَإِذا شيءٌ قَدْ خرج مِنْهَا، رَأسه رَأس إنسانٍ، وَهُوَ من سُرَّتِهِ إِلَى أَسْفَل خِلْقَةٌ " زاغ "، وَفِي ظَهره وصَدْره سَلْعَتَان، فكبَّرتُ وهلَّلتُ وفَزِعْت، ويَحْيَى يضْحك، فَقَالَ لي بلسانٍ فصيح طَلْق ذَلِق:
أَنَا الزاغُ أَبُو عَجْوه ... أَنَا ابنُ اللَّيْثِ واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والنَّشْوةَ والقَهْوَة
فَلَا عَدْوَى يَدِي تُخْشَى ... وَلا تُحْذَرُ لي سَطْوَه
وُلي أشياءُ تُسْتَطْرَفْ ... بِيَوْم الْعُرْسِ والدعوة
فَمِنْهَا سلعةٌ فِي الظه ... ر لَا تسترها الفَرْوَة
وأمّا السّلْعَة الْأُخْرَى ... فَلَو كَانَ لَهَا عُرْوة
لما شكّ جَمِيع النا ... س فِيهَا أنَّها رِكْوَةْ
ثُمّ قَالَ: يَا كهلُ! أنشِدْني شِعرًا غَزِلا: فَقَالَ لي يَحْيَى: قَدْ أنْشَدَك الزاغُ فأنْشِدْه، فأنشدْتُه:
أَغَرَّكِ أنْ أَذْنَبْتِ ثُمّ تَتَابَعَتْ ... ذنوبٌ فَلم أهْجُرْكِ ثُمّ ذُنُوبُ
وَأَكْثَرت حَتَّى قلتِ لَيْسَ بصارِمِي ... وَقَدْ يُصْرَمُ الإِنْسَانُ وَهُوَ حَبِيبُ
فصاح: زاغ زاغ زاغ، ثُمّ طَار، ثُمّ سقط فِي القمطر، فَقلت ليحيى: أعزَّ اللَّه القَاضِي، وعاشقٌ أَيْضا؟! فَضَحِك، قلت: أَيهَا القَاضِي: ماهذا؟ قَالَ: هُوَ مَا ترَاهُ، وجَّه بِهِ صاحبُ الْيمن إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَمَا رَآهُ بعدُ وَكتب كتابا لَمْ أَفْضُضْهُ، وأظن أَنَّهُ ذكر فِي الْكتاب(1/227)
شَأْنَهُ وحَالَه.
عَدْلُ سَوَّار القَاضِي وانتصارُ الرشيد لَهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الْأَزْهَر، حَدَّثَنَا الزُّبَير، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَلام، قَالَ: كَانَ حَمَّاد بْن مُوسَى صاحبَ أمرِ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان وَالْغَالِب عَلَيْه، فحبس سَوَّارُ القَاضِي رجلا فِي بعض مَا يَحْبِس فِيهِ الْقُضاة، فَبعث حمادٌ فَأخْرج الرَّجُل من الْحَبْس فجَاء خَصْمُه إِلَى سَوَّار حَتَّى دخل، فَأَخْبَرَه أَن حَمَّادًا قَدْ أخرج الرَّجُل من الْحَبْس.
وَركب سَوَّارٌ حَتَّى دخل عَلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان وَهُوَ قاعدٌ للنَّاس، وَالنَّاس عَلَى مَرَاتِبهمْ، فَجَلَسَ بِحَيْثُ يرَاهُ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان، ثُمّ دَعَا آخر من نظرائه، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ للْأولِ، فَأجَاب مثل جَوَاب الأول فأقعده مَعَ صَاحبه، فَفعل ذَلِكَ بجماعةٍ مِنْهُم، ثُمّ قَالَ لَهُم: انْطَلقُوا إِلَى حَمَّاد بْن مُوسَى فضعوه فِي الْحَبْس، فنظروا إِلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان فأعلموه مَا أَمرهم بِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِم: أَن افعلوا مَا يَأْمُركُمْ بِهِ، فَانْطَلقُوا إِلَى حَمَّاد فوضعوه فِي الْحَبْس، وَانْصَرف سَوَّارٌ إِلَى منزله، فَلَمَّا كَانَ بالعشيِّ أَرَادَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان الرّكُوب إِلَى سَوَّار، فجاءتْه الرُّسُل فَقَالُوا: إِن الأميرَ عَلَى الرّكُوب إِلَيْك، فَقَالَ: لَا، نحنُ بالركوب أولى إِلَى الْأَمِير.
فَركب إِلَيْهِ فَقَالَ: كنتُ عَلَى الْمَجِيء إِلَيْك أَبَا عَبْد اللَّه، قَالَ: مَا كنت لأجشم الْأَمِير ذَاك، قَالَ: بَلغنِي مَا صنع هَذَا الجاهلُ حَمَّاد، قَالَ: هُوَ مَا بلغ الْأَمِير، قَالَ: فَأحب أَن تَهَبَ لي ذَنْبَه، قَالَ: أفعلُ أَيهَا الْأَمِير، اردُدَ الرَّجُل إِلَى الْحَبْس، قَالَ: نعم، بالصَّغَرِ لَهُ والقماءة.
فَوجه إِلَى الرجل فحبسه وَأطلق حَمَّادًا، وَكتب بِذَلِك صاحبُ الْخَبَر إِلَى الرشيد، فَكتب إِلَى سوارٍ يُجرِّيه ويَحْمَدُهُ عَلَى مَا صنع، وَكتب إِلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان كتابا غليظًا يذكُرُ فِيهِ حَمَّادًا وَيَقُولُ: الرَّافِضِيُّ ابنُ الرَّافِضِيّ، واللَّهِ لَوْلَا أَن الوعيدَ أَمَام العقوبةِ مَا أدَّبْتُه إِلا بِالسَّيْفِ، ليَكُون عِظَةً لغيره ونَكَالا.
يفتاتُ عَلَى قَاضِي الْمُسْلِمِين فِي رَأْيه، ويركبُ هَوَاهُ لموضعِهِ مِنْك، ويَعْرِضُ فِي الْأَحْكَام استهانةً بِأَمْر اللَّهِ تَعَالَى، وإقداماً على أَمِير لمؤمنين، وَمَا ذَاك إِلا بك، وَبِمَا أرْخيتَ من رَسَنِه، فَأَنا للَّه لَئِن عَاد إِلَى مثلهَا ليجِدنِّي أغضبُ لدين اللَّه تَعَالَى، وأنتقمُ من أعدائه لأوليائه.
أبياتٌ فِي مَا يلاقيه المحبُّون
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى، قَالَ: قَالَ: أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّه بْن شبيب، أَنْشدني عَلِيّ بْن طَاهِر ابْن زَيْد بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام لبَعض الْمُحدثين:
أَلا رُبَّ مشغوفٍ بِمن لَا يَنَالُه ... غَدَاةَ تُسَاقُ الْمُنْشَآتُ إِلَى البحرِ
غَدَاةَ تَوَافَى أهلُ جمعٍ وصحبةٍ ... لَدَى الجَمْرةِ القصوى أولو الجمجم الْغُبْرِ(1/228)
ولِلرَّمْيِ أَن تُبْدِي الْحِسانُ أكُفَّها ... وتَفْتَرُّ بِالتَّكْبِيرِ عَنْ شَنَب غُرِّ
فيا رُبَّ باكٍ شجوَهُ ومعولٍ ... إِذا مَا رَأَى الأطنابَ تُنْزَعُ للنَّفْرِ
تَفْسِير الشنب والغرّ
قَالَ أَبُو بَكْر: الشَّنب: الثغر الْبَارِد، والشّنب: بردُ الأسْنان، والْغُرُّ: الْبيض.
قَالَ القَاضِي: وَمن الشنب قولُ ذِي الرُّمَّة:
لمياءُ فِي شَفَتَيْها حوةٌ لعسٌ ... وَفِي اللَّثَاتِ وَفِي أنْيابِها شَنَبُ
فَسَّره أهلُ اللُّغَة أَنَّهُ بردٌ وعذوبةٌ فِي الْأَسْنَان، وَقَوله فِي هَذَا الشّعْر:
وتَفتَرُّ بِالتَّكْبِيرِ ... عَنْ شنبٍ غُرِّ
يُقَالُ: شَنَبٌ وَهُوَ نعتٌ مُوَحَّدُ اللَّفْظ، كأَنَّه قَالَ: عَنْ بَارِد، ثُمّ قَالَ: غُرّ، فَأتى بِلَفْظ الْجمع، لِأَنَّهُ أَرَادَ بالشَّنب جُمَيْع الثغر فَهُوَ عدد، وَلَفظه مُوحد، وعَلى هَذَا الْوَجْه قَرَأَ من قَرَأَ: " ثِيَاب سندسٍ خضرٍ " لِأَن السُّنْدُسَ جمعٌ فِي جنسه واحدٌ فِي لَفظه.
عَاقِبَة الاستخفاف
حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمد الختلين قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن خَالِد الحَنّاط، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّه الْخُرَاساني، يَقُولُ: من استخف بالعلماء ذَهَبتْ آخرتُه، وَمن استخفَّ بإخوانه قلَّتْ معونته، وَمن استخفّ بالسُّلْطان ذهبتْ دُنْياه.
عِفَّةُ جرير، وفجور الفَرَزْدَق
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد الله ابْن إِسْحَاق بْن سَلام وأَحْمَد بْن يَحْيَى، وأَبُو الْعَبَّاس الْأَحول، كلُّ بِسَنَده: أَن جَرِيرًا قَدِم عَلَى عُمَر بْن عبد الْعَزِيز وَهُوَ يتولَّى الْمَدِينَة، فأنزله فِي دارٍ وَبعث إِلَيْهِ بجاريةٍ تَخْدُمُه، فَقَالَت لَهُ: إِنِّي أَرَاك شَعِثًا فَهَل لَك فِي الْغُسْل؟ فَجَاءَتْهُ بغِسْل وَمَاء، فَقَالَ: تَنَحَّيْ عَنِّي ثُمّ اغْتسل.
ثُمّ قدِم الفَرَزْدَق فأنزله دَارا وَبعث إِلَيْهِ بجاريةٍ فعرضت عَلَيْه مثل ذَلِكَ، فَوَثَبَ عَلَيْهَا فخرجتْ إِلَى عُمَر، فنفاه عَنِ الْمَدِينَة وأجَّلَهُ ثَلَاثًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ:
توعَّدَنِي وأجَّلني ثَلاثًا ... كَمَا لَبِثَتْ لِمهلَكِهَا ثَمُودُ
وَبلغ ذَلِكَ جَرِيرًا، فَقَالَ:
نَفَاكَ الأَغَرُّ ابنُ عَبْد الْعَزِيز ... بِحَقِّكَ تُنْفى عَنِ المسجدِ
وشَبَّهْتَ نفسَكَ أشْقَى ثَمُودَ ... فَقَالُوا: ضَلَلْتَ وَلَم تهتدِ
وَقَدْ أُخِّرُوا حِين حَلَّ العَذَابُ ... ثَلاثَ ليالٍ إِلَى الموعدِ
تَعْلِيق لغَوِيّ
قَالَ القَاضِي: الْغِسْل: مَا يُغْسل بِهِ الرأسُ والجَسَدُ من خِطْمِيٍّ وَغَيره، والغَسْلُ مصدر(1/229)
غَسَلْت، وأمّا الْغُسْل بِالضَّمِّ فقد اخْتلف أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ المَاء، وقَالَ بَعضهم: الغَسْل والْغُسْل لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد، كالرَّهْبِ والرَّعْبِ، والرُّهْب والرُّعْب، وَمثله من الْأَسْمَاء الْأَعْيَان: الحَشُّ والْحُشُّ والرَّفْغُ والرُّفُغ.
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة: بحقك تنفى، وَقد رَوَاهُ رَاوُون: وَحَقُّك، واخْتُلِف فِي مَوضِع تُنْفَى من الْإِعْرَاب، فَقَالَ بعضُهم: مَوْضِعه رفعٌ عَلَى أصل إِعْرَاب الْمُضارع، إذْ لَمْ يأتِ هاهُنا أَن فتنْصَبَه، وقَالَ آخَرُونَ: مَوْضِعه نصبٌ وأضمروا أَن وأعملوها مضمرة، لِأَن الْمَعْنى: وحقُّك أَن تُنْفى، وَقَد اختُلف نَحْو هَذَا الاخْتِلاف فِي بَيت طَرَفة، حَيْثُ يَقُولُ:
أَلا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... وَأَن أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْت مُخْلِدِي
فروى: أحضرُ بِالرَّفْع والنَّصب عَلَى نَحْو مَا وَصفنَا، وروى عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضا قَول الشَّاعِر:
يَا لَيْتَني مِتُّ قبل أعْرِفكمْ ... وصَاغَنَا اللَّهُ صِيغَة ذَهَبَا
وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " قُلْ أفغير الله يأمروني أعبد " فَزعم الْكُوفِيُّونَ أَن الْمَعْنى: تأمروني أَن أعْبُدَ، وَأنكر البَصْريون هَذَا وَقَالُوا: تأمروني كَلَام أَتَى اعتراضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَالْمعْنَى: أفغير اللَّهِ أعبدُ، كَقَوْلِك: زيدا أرى لقِيت، وَنَحْو هَذَا قَول جرير يهجو عُمَر بْن لَجأ:
أَبِالأَرَاجِيزِ يَا ابْنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُني ... وَفِي الأَرَاجِيزِ خِلْتُ اللُّؤْمَ والخَوَرَا
الْمَعْنى: وَفِي الأراجيز اللؤمُ والخَوَرُ فِيمَا خلت.
وَهَذَا عندنَا من الكَلِم الَّذِي اخْتُصِرت فَائِدَته من الصِّيغَة اللُّغَوِيَّة، وأُلغِيَ عمله من الْجِهَة النحوية.
وَلِهَذَا الْفَصْل وَمَا ذكرنَا فِيهِ، موضعٌ من كلامنا فِي مَعَاني الْقُرْآن وأبواب الْعَرَبيَّة، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ.
الحَدِيث الْحسن، أبقى للذات
حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن مَالك الشَّيْبَانِيّ، حَدَّثَنَا الغَلابِي، حَدَّثَنَا ابْن سَلام، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَعْبَد، قَالَ: بعث عَبْد الْملك بْن مَرْوَان إِلَى الشَّعْبِيّ، فَقَالَ: يَا شَعْبِي! عَهْدِي بك وَأَنَّك الْغُلَام فِي الْكُتَّاب فَحَدِّثْنِي، فَمَا بَقِيّ شيءٌ الْآن إِلا وَقَدْ مَلِلْتُه سوى الْحَدِيث الْحَسَن، وَأنْشد:
ومِلِلْتُ إِلا من لِقاء محدثٍ ... حَسَن الْحَدِيث يَزيدُني تَعْليمَا
قَالَ القَاضِي: ونظيرُ هَذَا قَول ابْن الرُّومِي:
وَلَقَد سئمتُ مآربِي ... فَكَأَن طيِّبُها خبيثُ
إِلَّا الحديثُ فإنّه ... مثل اسْمه أبدا حديثُ(1/230)
كَيفَ عَاد الزُّهْرِيّ إِلَى قَول الْحَدِيث
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ فَأَلْفَيْتُهُ عَلَى بَابِهِ، فَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحَدِّثَنِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُ الْحَدِيثَ؟ فَقُلْتُ: إِمَّا أَنْ تُحَدِّثَنِي وَإِمَّا أَنْ أُحَدِّثَكَ، فَقَالَ: حَدِّثْنِي، فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: " مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا ".
قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا.
المجلِسُ الْحَادِي وَالثَلاثون
أَنَا خَيْركُم بَيْتا، وخيركُم نَفْسًا
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَلِيِّ بْنِ بَطْحَا فِي آخَرِينَ، وَاللَّفْظُ لإِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو فُضَيْلٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ: " أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْمَعُ مِنْ قَوْمِكَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: إِنَّمَا مَثَلُ محمدٍ كَمَثَلِ نبتٍ فِي كِبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عبد الْمطلب - مَا سمعناه اسمى قَبْلَهَا - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جعلهم بُيُوتًا فجعلني من خَيْرَهُمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا ".
قَالَ القَاضِي: قَدْ أبان رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَر مَا فَضله اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَى الْعَالمين، وأرغم بِهِ أعدائه الضَّالِّين المكذبين، وَلَقَد شَرّفه اللَّه تَعَالَى بفضله عَلَى سَائِر الْمُسْلِمِين، وكَرَّمه بِأَن ختم بِهِ النَّبيين، وَرفع دَرَجَته فِي عليّين، فهناه اللَّه مَا أَعْطَاه، وزاده فِيمَا منحه وأولاه، وتابع لَدَيْهِ مواهبه وعطاياه، وأسعدنا بِشَفَاعَتِهِ يوْم نَلْقاه، وكافأه عَنَّا وحاطه وأجزل مثوبته، وَرفع فِي أَعلَى عليين مَنْزِلَته، بِمَا أدّاه إِلَيْنَا من رسَالَته، وأفاضه علينا من نصيحته، وعَلَّمناه من كِتَابه وحكمته.
وَمعنى قولِ مَنْ قَالَ: نبتٌ فِي كبا، الْكِبَا بِالْقصرِ: المَزْبلة، والْكِبَاءُ بِالْمدِّ: الْعُودُ والبَخُور، قَالَ المرقِّشُ الأَصْغر:
فِي كلِّ يوْم لَهَا مقطرةٌ ... فِيهَا كباءٌ مُعَدٌّ وحَمِيم
والمقطرة: هِيَ الَّتِي يَجْعَل فِيهَا الْقُطُر فيُتبخر بِهِ، والْقُطُر: الْعود الَّذِي بِمَبْخَرتِه كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس:
كأنّ الْمُدَامَ وصَوْبَ الغَمَامِ ... وريحَ الْخُزَامَى ونَشْرَ الْقُطُرْ
يُعَلُّ بِهِ بردُ أنْيابها ... إِذا طَرَّبَ الطائرُ المستحر(1/231)
من حسن مُعَاوِيَة وذكائه
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ، أَنْبَأَنَا الرِّيَاشِيُّ، عَنِ ابْنِ سَلامٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لابْنِ أَبِي أَحْمَدَ: أَصَبْتَ لَنَا مَالا أَبْتَاعُهُ؟ فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتُ لَكَ مَالا، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: البَلْدَةُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، قَالَ: النُّخَيْلُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: وَدْعَانُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: الْغَابَةُ، قَالَ: نَعَمْ، اشْتَرِهَا، قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! سَمَّيْتُ لَكَ أَمْوَالا تَعْرِفُهَا فَكَرِهْتَهَا، وَأَخْبَرْتُكَ بِمَا لَا تَعْرِفُ فَاخْتَرْتَهُ، قَالَ: نَعَمْ، سَمَّيْتَ لِيَ الْبَلْدَةَ فَتَبَلَّدَتْ عَلَّيَ، وَسَمَّيْتَ النُّخَيْلَ فَكَانَ مُصَغَّرًا، وَسَمَّيْتَ لِي وَدْعَانَ فَنَهَتْنِي نَفْسِي عَنْهَا، وَسَمَّيْتَ لِيَ الْغَابَةَ فَعَلِمْتُ أَنَّ بِهَا كَثْرَةَ الْمَاءِ، وَقَدْ قَالَ الأَوَّلُ:
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي الْعِلْمَ أَوْ مِثْلَهُ ... أَوْ شَاهِدًا يُخْبِرُ عَنْ غَائِبِ
فَاعْتَبِرِ الأَرْضَ بِأَسْمَائِهَا ... وَاعْتَبِرِ الصَّاحِبَ بِالصَّاحِبِ
أعِزَّ أمْرَ اللَّه يُعزَّك اللَّه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه، عَنْ عَمْرو بْن الْهَيَّاج بْن سَعِيد، حَدَّثَنِي مُجالد بْن سَعِيد، قَالَ:
كنتُ من صحابة شَرِيك فأتيتُه يَوْمًا وَهُوَ فِي منزله باكرًا، فَخرج إليَّ فِي فَرْوٍ مَا تَحْتَهُ قميصٌ وَعَلِيهِ كِسَاء، فَقلت: قَدْ أضْحَيْتَ عَنْ مجْلِس الْحَكَم، قَالَ: غسلتُ ثِيَابِي أمس فَلم تَجِفَّ فَأَنا أنْتَظر جُفُوفَها، اجلسْ فجلستُ، فَجعلنَا نتذاكرُ بَاب العَبْدِ يتزوَّجُ بِغَيْر إِذن موَالِيه، فَقَالَ: مَا عنْدك فِيهِ؟ وَمَا تَقُولُ؟ وَكَانَت الخيرزان قَدْ وجَّهت رَجُلا نصرانيًّا عَلَى الطِّراز بِالْكُوفَةِ وكتبت إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى أَلا يعْصِيَ لَهُ أمرا، فَكَانَ النَّصْرانُّي مُطَاعًا فِي الْكُوفَة، فَخرج علينا ذَلِكَ اليومَ من زُقَاقٍ يخرجُ إِلَى النَّخَعِ وَمَعَهُ جماعةٌ من أَصْحَابه، عَلَيْه جُبَّةُ خَزٍّ وطيلسان، عَلَى بِرْذَوْنٍ فَارِه، وَإِذَا رجلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مكتوفٌ وَهُوَ يَقُولُ: واغَوْثَاهُ بِاللَّه، أَنَا بِاللَّه ثُمّ بِالْقَاضِي، وَإِذَا آثَار السِّيَاطِ فِي ظَهره، فَسلم عَلَى شَرِيك وَجلسَ إِلَى جَانِبه، فَقَالَ الرَّجُل الْمَضْرُوب: أَنَا بِاللَّه ثُمّ بك أصلحك اللَّه، أَنَا رَجُل أعمل لهَذَا الوَشْيَ، أُجْرَةُ مثلي مائةُ دِرْهَم فِي الشَّهْر، أَخَذَنِي هَذَا مُنْذُ أَرْبَعَة أشهرٍ واحتبسني فِي طرازٍ يُجْرِي عليَّ فِيهِ الْقُوت، وُلّي عيالٌ قَدْ ضَاعُوا، فأفلتُّ مِنْهُ الْيَوْم هَارِبا فلحقني فَفعل بظهري مَا ترى.
فَقَالَ: قمّ يَا نَصْرانيُّ واجلسْ مَعَ خَصْمِك، قَالَ: أصلحك اللَّه يَا أَبَا عَبْد اللَّه هَذَا من خَدَمِ السيدة، مُرْ بِهِ إِلَى الحَبْس، قَالَ: قُمْ وَيلك فاجلسْ مَعَه كَمَا يُقَالُ لَك، فَجَلَسَ.
فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْآثَار الَّتِي بِظهْر هَذَا الرَّجُل؟ مَنْ أثَّرها بِهِ؟ قَالَ: أصلح اللَّه القَاضِي، إِنَّمَا ضربتُه أسْوَاطًا بيَدي، وَهُوَ يستحقُّ أَكثر من هَذَا، مُرْ بِهِ إِلَى الْحَبْس.
فَألْقى شريكٌ كساءُهُ وَدخل دَاره وَأخرج سَوْطًا رَبَذِيًّا، ثُمّ ضرب بِيَدِهِ إِلَى مجامع أَثوَاب النَّصْرانُّي، وقَالَ للرجل: انْطَلِقْ إِلَى أهلك، ثُمّ رفع السَّوْط فَجعل يضْرب بِهِ النَّصْرانُّي(1/232)
وَيَقُولُ: بأصْبَحيٍّ قُدَّ من قَفَا جمل.
لاتضرب - واللَّه - الْمُسْلِمِين بعْدهَا أبدا، فَهَمَّ أصحابُ النَّصْرانُّي أَن يخلِّصُوه من يَده فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا من فتيَان الْحَيّ؟ خُذُوا هَؤُلاءِ فاذهبوا بهم إِلَى الْحَبْس، فهرب الْقَوْم جَمِيعًا وأَفْردُوا النَّصْرانُّي، فضُرب أسواطًا فَجعل النَّصْرانُّي يَعْصِرُ عَيْنَيْهِ ويبكي وَيَقُولُ: سَتَعْلم.
فَألْقى السَّوطَ فِي الدهليز، وقَالَ: يَا أَبَا حَفْص! مَا تقولُ فِي العَبْد يتزوَّجُ بِغَيْر إذْن موَالِيه، وأخذْنا فِيمَا كُنّا فِيهِ كأَنَّه لَمْ يصنعْ شَيْئا، وَقَامَ النَّصْرانُّي إِلَى البرذون ليركبه فاستعصى عَلَيْه، وَلَم يَكُنْ لَهُ من يأخذُ ركابه، فَجعل يضْرب البرذون، فَقَالَ لَهُ شريك: ارُفق بِهِ وَيلك، فَإنَّهُ أطوعُ لله مِنْك، فَمضى.
فالتفتَ إِلَى شريكٌ، فَقَالَ: خُذْ بِنَا فِيمَا كُنّا فِيهِ، قُلْتُ: مَا لنا وَلذَا؟ قَدْ - وَالله - فعلت الْيَوْم فَعْلةً ستكونُ لَهَا عَاقِبَة مَكْرُوهَة، فَقَالَ: أعز أَمر الله تَعَالَى يُعِزَّكَ اللَّهُ، خُذْ فِيمَا نحنُ فِيهِ.
وَذهب النَّصْرانُّي إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى فَدخل عَلَيْه، فَقَالَ: من بك، وَغَضب الأعوان وَصَاحب الشرطة، فَقَالَ شريكٌ فعل بِي كَيْت وَكَيْت، قَالَ: لَا واللَّه، مَا أتعرض لِشَرِيك، فَمضى النَّصْرَانِي إِلَى بَغْدَاد فَمَا رَجَعَ.
قَالَ القَاضِي: الأصبحيات: سياطٌ مَعْرُوفَة، وَاحِدهَا أصبحي، وَهِي منسوبةٌ إِلَى ذِي أصبح ملك من مُلُوك الْيمن.
صلَة الرَّحِم تخفف الْحساب
حَدثنَا الْحسن بن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد الْكَلْبِيّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْميُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَقَعَ بَيْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كلامٌ فِي صدر يَوْم، فأغلط فِي الْقَوْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ، ثُمَّ افْتَرَقَا وَرَاحَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَالْتَقَيَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: كَيْفَ أَمْسَيْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ: بِخَيْرٍ، كَمَا يَقُولُ الْمُغْضَبُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! أمَا عَلِمْتَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُخَفِّفُ الْحِسَابَ؟ فَقَالَ: لَا تَزَالُ تَجِيءُ بِالشَّيْءِ لَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتْلُو عَلَيْكَ بِهِ قُرْآنًا، قَالَ: وَذَلِكَ أَيْضًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَاتِهِ، قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عز وَجل: " الَّذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سوء الْحساب ".
قَالَ: فَلا تَرَانِي بَعْدَهَا قَاطِعًا رَحِمًا.
أبياتٌ فِي وصف الْهوى
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الوضاح، عَنِ الْوَاقِدِيّ، عَنْ أَبِي الجحَاف، قَالَ: إِنِّي لفي الطّواف وَقَدْ مضى أَكثر اللَّيْل وخفّ الحاجُّ إذْ بامرأةٍ شابةٍ قَدْ أقبلتْ كأَنَّها شمسٌ، عَلَى قضيبٍ غُرِسَ فِي كَثِيب، وَهِي تَقُولُ:(1/233)
رَأَيْتُ الْهوى حُلْوًا إِذا اجْتمع الوَصْلُ ... ومُرًّا عَلَى الْهِجْرَانِ لَا بل هُوَ القَتْلُ
وَمن لَمْ يَذُقْ للهَجْر طعْمًا فَإنَّهُ ... إِذا ذاق طَعْم الْحُبِّ يَدْر مَا الوَصْلُ
وَقَدْ ذُقْتُ من هذَيْن فِي الْقُرْبِ والنَّوى ... فأبْعَدُهُ قتلٌ وأقْرَبُهُ خَبْلُ
هُوَ أشعر النّاس
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، قَالَ: قَالَ بعض أَصْحَاب العتابي: رَأَيْت العَتَّابِيّ ينظر فِي كتابٍ ويلتفتُ إليَّ وَيَقُولُ: هُوَ واللَّهِ أشعرُ النّاس، فَقلت: وَمن هُوَ؟ قَالَ: أما تعرفُه؟ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
إِذا نَحْن أَثْنَيْنَا عَلَيْك بِصَالح ... فَأَنت الَّذِي نُثْنِي وَفَوق الَّذِي نُثْنِي
وَإِن جَرَتِ الألفاظُ يَوْمًا بمدحةٍ ... لغيرك إنْسَانًا فَأَنت الَّذِي نَعْنِي
فَقلت لَهُ: من هُوَ؟ قَالَ: أَوْ مَا تعرفه؟ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
تَسَتَّرْتُ من دَهْرِي بِظلِّ جَنَاحِه ... فَصِرْتُ أرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي
فَلَوْ تَسَلِ الأَيَّامُ مَا اسْمِيَ لما دَرَتْ ... وَأَيْنَ مَكَاني مَا عَرَفْنَ مكانِي
ويروى: فَلَو تسْأَل الْأَيَّام بِي مَا عرفنني، ويُروى: مَا دَرَيْن بِي، فَقلت: من هُوَ؟ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
إِن السَّحابَ لَتَسْتَحْيِي إِذا نَظَرَتْ ... إِلَى نَدَاكِ فَقَاسَتْهُ بِمَا فِيها
حَتَّى تَهُمَّ بإقلاعٍ فيجمعها ... خوف الْعُقُوبَةِ من عِصْيان مُنْشِيها
فَقلت: لمن هُوَ؟ قَالَ: لأبي نواس.
جميلَة من هُذَيْل
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن أَبِي خميصة الْأَضَاحِي وَيعرف بِأبي عَبْد اللَّه، الحَرَمِيّ، ويزدادُ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يزْدَاد المَرْوَزِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بكارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن دَاوُد الْمَخْزُومِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بْن يَعْقُوب الثَّقَفيّ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي الزِّنَاد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة امرأةٌ من هُذَيل من نَاحيَة مَكَّة، وَكَانَت جميلَة وَمَعَهَا صبي، فَرغب الناسُ فِيهَا فخطبوها، فَكَادَتْ تذْهب بعقول أَكْثَرهم، فَقَالَ فِيهَا عبيد الله ابْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة بْن مَسْعُود:
أُحِبُّك حبًّا لَو شَعَرت بِبَعْضِهِ ... لَجُدْتِ وَلَم يَصْعُبْ عَلَيْك شَدِيدُ
أُحِبك حُبًّا لَا يحبُّك مثَلَهُ ... قريبٌ وَلا فِي العاشقين بعيدُ
وحبك يَا أم الصَّبيِّ مُدَلِّهِي ... شهيدي أَبُو بَكْر فَنِعْمَ شَهِيدُ
ويَعْرِفُ وَجْدي قاسمُ بنُ محمدٍ ... وعُروةُ مَا ألْقى بكم وسَعِيدُ(1/234)
ويَعْلَمُ مَا ألْقى سُلَيْمَانُ عِلْمَهُ ... وخارجةٌ يُبْدي بِنَا ويُعيدُ
مَتَى تسْألي عَمَّا أَقُول وتُخْبَرِي ... فلِلَّهِ عِنْدِي طارفٌ وتَلِيدُ
فُقَهَاء الْمَدِينَة السَّبْعَة
أَبُو بكر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وعُرْوَة بْن الزُّبَير، وسَعِيد بن الْمسيب ابْن حون، وسُلَيْمَان بْن يَسَار مَوْلَى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وخارجة ابْن يَزِيد بْن ثَابِت، وهَؤُلاءِ السِّتةُ وَهُوَ سابعهم " فقهاءُ الْمَدِينَة السَّبْعَة " الَّذِين أُخِذَ عَنْهُمُ الرَّأْي والسُّنَن، قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّب: أما أَنْت - واللَّهِ - فقد أَمِنْت أَن تسألنا وَمَا طمعتَ إِن سَأَلْتَنَا أَن نَشْهد لَك بزُورٍ - والْحَدِيث عَلَى لفظ الحَرَمِيّ - وَحَدِيث يزْدَاد نَحوه.
جَارِيَة لِلْحَجَّاج تَشُكُّ فِي عِفَّة جرير
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن أَحْمَد الْمُزَني، قَالَ: قَالَتْ جَارِيَة لِلْحَجَّاج: يدْخل عَلَيْك جريرٌ فيشبِّبُ بالْحُرم، قَالَ: مَا علمتُه إِلا عفيفًا، قَالَتْ: فأَخْلِني وإياه، فأخلاهما.
فَقَالَت: يَا جرير! فَنَكس رَأسه وقَالَ: هأنذا، فَقَالَت: بِاللَّهِ أَنْشدني قَوْلك:
أوانِسُ، أمَّا مَنْ أردن عفاءه ... فعانٍ، وَمن أطْلقْنَ فَهُوَ طَلِيقُ
دَعَوْنَ الهَوَى ثُمّ ارْتَمَيْن قلوبَنا ... بأسْهُمِ أعداءٍ وهنَّ صَدِيقُ
فَقَالَ: مَا أعرف هَذَا، ولكنّي الْقَائِل:
ومَنْ يأمنُ الحَجَّاجَ أمَّا نَكَالُهُ ... فصعبٌ وأمّا عِقْدُه فَوَثِيقُ
وخِفْتُك حَتَّى اسْتَنْزَلَتْنِي مَخَافَتِي ... وَقَدْ كَانَ دُوني من عِمَايَةَ نِيقُ
عمايةُ: جَبل، ونيق: أَعْلَاهُ.
يُسِرُّ لَك البغضاءَ كلُّ منافقٍ ... كَمَا كُلُّ ذِي دينٍ عَلَيْك شفيق
فَقَالَت: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك يَا بغيضُ، بِاللَّهِ أَنْشدني قَوْلك:
نَام الخلي وَمَا رقدت بحيلة ... ليل التَّمامِ تَقَلُّبَا وسُهُودَا
مَا ضرَّ أهْلُكِ أَن يقولَ أميرُهُمْ ... قولا، إِذا نَزَل الْمُلِمُّ، سدِيدًا
رَمَتِ الرُّماةُ فَلم تُصِبْكَ سِهَامُهُم ... وَرَأَيْت سهمك للرماةصيودا
فَقَالَ: مَا أعرف هَذَا، ولكنّي الْقَائِل:
دَعَا الحَجَّاجُ مثلَ دُعاءِ نوحٍ ... فَأَسْمع ذَا المعارج فاسْتَجَابا
صبرت النفسَ يَا ابْن أَبِي عقيلٍ ... مُحَافظَة فَكيف ترى الثوابا(1/235)
وَلَو لَمْ يَرْضَ رَبُّكَ لَمْ يُنزِّلْ ... مَعَ النَّصْر الملائكةَ الْغِضَابا
فَقَالَت: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسأَلك يَا بغيض، أَنْشدني قَوْلك:
إِن الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفها مرضٌ ... قتلننا ثُمَّ لَمْ يحيين قَتْلَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وهُنَّ أضْعَف خلق اللَّه أرْكَانَا
فَقَالَ: مَا أعرف هَذَا، وَلَكِنِّي الْقَائِل:
رَأَى الحَجَّاجُ عَافِيَة ونَصْرا ... عَلَى رَغْم الْمُنَافِقِ والحَسُود
دَعَا أهلَ الْعِراق دعاءَ نوحٍ ... وَقَدْ ضَلُّوا ضَلالَةَ قومِ هُود
فَقَالَت: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُكَ يَا بغيضُ، بِاللَّهِ أَنْشدني قَوْلك:
نَام الخليُّ وَمَا تنامُ هُمُومِي ... وكأنَّ لَيْلِي باتَ لَيْلَ سَلِيمِ
كُنَّا نواصلكُمْ بحبْل مودةٍ ... فَلَقَد عجبتُ لحبْلِنا المَصْرُومِ
وَلَقَد تَوَكَّلُ بالسُّهادِ لِحُبِّكُمْ ... عينٌ تبيتُ قليلةَ التَّهْوِيمِ
إِن امْرَأً مَنَع الزِّيَارَة مِنْكُم ... حقًّا لَعَمْرُو أبيكِ غيرُ كريمِ
فَقَالَ: مَا أعرفُ هَذَا وَلَكِنِّي الْقَائِل:
وثِنْتَانِ فِي الحَجَّاجِ لَا تَرْكُ ظالمٍ ... سَوِيًّا وَلا عِنْد الْمُرَاشَاة قابِلُ
وَمن غَلَّ مالَ اللَّهِ غُلّتْ يمينُه ... إِذا قِيلَ أدُّوا لَا يَغُلَّنَّ عَامِلُ
وهما حَيْثُ يراهما الحَجَّاج، فَقَالَ: للَّهِ دَرُّك يَا ابْن الخَطَفَي، أبيتَ إِلا كَرَمًا وتَكَرُّمًا.
الحَجَّاج يُفضِّل شِعر جرير
حَدَّثَنَا المظفر بْن يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس المَرْوَزِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْحَاق بْن سَعْدان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه الثَّقَفيّ، عَنْ خَاله مُحَمَّد بْن يَحْيَى، قَالَ: أنْشد الفَرَزْدَق الحَجَّاج:
وَمَا يأْمنُ الْحَجَّاجَ وَالطَّيْرُ تَتَّقِي ... عُقُوبَتَهُ إِلا ضَعِيفُ الْعَزَائِمِ
فَقَالَ الحَجَّاج: وَيحك يَا فَرَزْدق، واللَّهِ إِن الْحِبالَ لَتُوضَعُ للطير فتَتَنَحَّى عَنْهُ، مَا قَالَ جرير أحسنُ من هَذَا، حيثُ يَقُولُ:
فَمَا يأمنُ الْحَجَّاجَ أما عِقابُهُ ... فَمُرٌّ وأمّا عَقْدة فوثيقُ
يُسِرُّ لَك الشحناء كلُّ مُنَافِق ... كَمَا كلُّ ذِي دينٍ عَلَيْك شفيقُ
براعةُ بشّارٍ فِي الشكاية إِلَى الْأَحْرَار
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن الْحَارِث الْعُقَيْليّ، ثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر بْن حبيب العَدَويّ، عَنِ الْأَصْمَعِي، قَالَ: لَمْ يقلْ أحدٌ قطُّ فِي التَفَرُّجِ(1/236)
بالمفاوضة إِلَى الْأَحْرَار، والتشكِّي إِلَى أَهْل الْحِفاظ والأقْدار، وذَوِي الرِّقَابِ والأخْطار، مثل قَول بشار حَيْثُ يَقُولُ:
وأبْثَثْتُ عَمْرًا بعضَ مَا فِي جَوَانحي ... وجَرَّعْتُه من مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ
وَلا بُدَّ من شكوى إِلَى ذِي حفيظةٍ ... إِذا جَعَلَتْ أسْرَارُ نَفْسِيَ تطْلُعُ
لُؤْلؤةُ ابْن جَعْفَر
حَدَّثَنَا أَبِي رَحْمَة اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتَلَّي، أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْصٍ النَّسَائِيُّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن حاتِم الجَرْجَرائي، سَمِعْتُ أَيُّوب بْن سيارٍ، يُحدِّث: أَن رَجُلا من أَهْل الْمَدِينَة بَعث بابْنتِهِ إِلَى عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، فَقَالَ: إِنَّا نُرِيد أَن نُخْدِرَها، وَقَدْ أحببتُ أَن تمسح بيدِكَ عَلَى نَاصِيَتها وتَدْعُوَ لَهَا بِالْبركَةِ.
قَالَ: فأقعدها فِي حجره، وَمسح ناصِيتها، ودَعَا لَهَا بِالْبركَةِ، ثُمّ دَعَا مَوْلَى لَهُ فَسَارَّهُ بشيءٍ، فَذهب الْمولى ثُمّ جَاءَ فَأَتَاهُ بشيءٍ فَصَرَّهُ عَبْد اللَّه ابْن جَعْفَر فِي خِمار الفتاة ثُمّ دَفعهَا إِلَى الرَّسُول.
قَالَ: فنظروا فَإِذا لؤلؤةٌ فأُخْرجت إِلَى السُّوقِ لتُباع فعُرِفَتْ وَقيل: لؤلؤةُ ابْن جَعْفَر حَبَا بِها ابنةَ جَارِه، قَالَ: فبيعتْ بِثَلَاثِينَ ألفِ دِرْهَم.
ملكي خير من ملككما
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَر الأَزْدِيّ، ثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُفَضَّل بْن غَسَّان، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِر الدِّمِشْقي، حَدَّثَنَا هِشَام بْن يَحْيَى الغساني، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: خرج عبد اللك بْن مَرْوَان مِنَ الصَّخْرة فَأدْرك سُلَيْمَان بْن قَيْس الغساني وَابْن هُبَيْرة الْكِنْديّ وهما يمشيان فِي صحن بَيت المَقْدِس.
قَالَ: فَمَا عَلِما حَتَّى وضع يَدَه الْيُمنى عَلَى مِنكَبِ سُلَيْمَان، وَيَده الْيُسْرَى عَلَى منْكب ابْن هُبَيْرة الْكِنْديّ، ثُمّ قَالَ: أفْرِجَا لملكٍ لَيْسَ كملك غَسّانَ وَلا كنْدة، قَالَ: فالتفتا فَإِذا أميرُ الْمُؤْمِنِين، فأرادا أَن يَفْخَرا بمُلكهما، فَقَالَ: عَلَى رَسْلكما، أَلَيْسَ مَا كَانَ فِي الإِسْلام خيرا مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالا: بلَى، قَالَ: فمُلكِي خيرٌ من مُلككم؟، قَالَ: ثُمّ مَشَيَا مَعَه حَتَّى أَتَيَا منزله فَدخل، فَأذن لَهما، فَقَالَ لَهما: إِن الشَّاعِر يَقُولُ:
جاءتْ لتصْرَعَنِي فقلتُ لَهَا: ارْفُقِي ... وعَلى الرَّفيق من الرفيق ذِمامُ
وَقَدْ صحبتماني من حَيْثُ رَأَيْتُمَا، ولكما بِذَلِك عَليّ حقٌّ وذِمَام، فَإِن أحببتما أَن تَرْفَعَا مَا كانتْ لَكمَا من حاجةٍ السَّاعة، وَإِن أحببتُما أَن تَنْصرفا فتذكَّرا عَلَى مهلكما فعلتما.
قَالَ: فَمَا رفعا إِلَيْهِ حَاجَة إِلا قَضَاهَا
المأمونُ يسألُ عَنِ الْعِشْق
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَة(1/237)
الشَّامي، قَالَ: سَأَلَ أَمِير الْمُؤْمِنِين الْمَأْمُون يَحْيَى بْن أَكْثَم عَنِ الْعِشْق مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ سوانح تَسْنَحُ للمرءِ فيهيمُ بهَا قَلْبُه، وتُؤْثرها نَفسه، قَالَ: فَقَالَ لَهُ ثُمامة: اسْكُتْ يَا يَحْيَى، إِنَّمَا عَلَيْك أَن تُجيب فِي مَسْأَلَة طلاقٍ، أَوْ فِي محرمٍ صَادَ ظَبْيًا أَوْ قَتَلَ نَمْلة، فَأَما هَذِهِ فَمَسائِلُنا نَحْنُ، فَقَالَ لَهُ المأمونُ: قُلْ يَا ثُمَامة، مَا الْعِشْق؟ فَقَالَ ثُمامةُ: العشقُ جليسٌ ممتع، وأليفٌ مُؤنس، وصاحبٌ ملك، مسالكه لَطِيفَة، ومذاهبه غامضة، وَأَحْكَامه جائرة، ملك الْأَبدَان وأرواحَها، والقلوبَ وخواطرها، والعيونَ ونَواضِرَها، والعقولَ وآراءَها، وأُعْطِيَ عِنانَ طاعتها، وقَوْدَ تَصَرُّفِها، توارى عَنِ الْأَبْصَار مَدْخَلُه، وعَمِيَ فِي الْقُلُوب مسلكه.
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَحْسَنت - واللَّهِ - يَا ثُمَامَة، وَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار.
عَبْدُ اللَّهِ بْن طَاهِر يُصْلح زَوْجَهُ ببيتي شعر
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن إِسْحَاق الجابري الْمَوْصِلِيّ بِالْبَصْرَةِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَاسر الْكَاتِب، كَاتب ابْن طولون، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن إِسْحَاق، قَالَ: اشْترى عَبْد اللَّه بْن طَاهِر جَارِيَة بخمسةٍ وَعشْرين ألفا عَلَى ابْنة عَمِّه، فوجِدَتْ عَلَيْه، وقعدتْ فِي بعض المقاصير، فمكثتْ شَهْرَيْن لَا تُكَلِّمه، فَعمل هذَيْن الْبَيْتَيْنِ:
إِلَى كَمْ يكونُ العَتْبُ فِي كل ساعةٍ ... وَكم لَا تملين القطيعة والهَجْرَا
رُويدَكِ إنّ الدَّهْر فِيهِ كفايةٌ ... لِتَفْرِيقِ ذاتِ البَيْنِ فانتظري الدهرا
قَالَ: وقَالَ لِلْجَارِيَةِ: اجلسي عَلَى بَاب المقصَورة فَغَنِّي بِهِ، قَالَ: فَلَمَّا غنت الْبَيْت لأوّل لَمْ تَرَ شَيْئا، فَلَمَّا غَنَّت الثَّانِي فَإِذا هِيَ قَدْ خرجتْ مشقوقة الثَّوْب حَتَّى أكبَّتْ عَليّ رِجْلِهِ فقَبَّلَتْها.
الجوابُ من جنس السُّؤال
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، ثَنَا يَمُوت بْن الْمُزَرَّع قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَاتِم السّجِسْتانيّ، يَقُولُ: كَانَ رجلٌ يحبُّ الكلامَ وَيخْتَلف إِلَى حُسَيْن النَّجّار، وَكَانَ ثقيلاً متشادقاً لَا يدْرِي مَا يَقُولُ، فآذى حُسَيْنًا ثمَّ فطن لَهُ، فَكَانَ يعد لَهُ الجوابَ من جنس السُّؤَال فَيَنْقَطِع ويسكت، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: مَا تقولُ - أسْعَدَك اللَّه - فِي جَدٍّ يُلاشِي التوهيمات فِي عُنْفُوان الْقُرْبِ من دَرْكِ المطالب؟ فَقَالَ لَهُ حُسَين: هَذَا من وجُود فَوْتِ الكَيْفُوفِيَّة عَلَى غَيْر طَرِيق الحسوبية، وبمثله يَقع إِلَيْنَا قي الْمُجانَسَةِ عَلَى غَيْر تلاقٍ وَلا افْتِرَاق.
فَقَالَ الرجلُ: هَذَا محتاجٌ إِلَى فِكْر واسْتخراج، فَقَالَ حُسَيْن: افتكرْ، فإنّا قَد استرحْنا.
المجلِسُ الثَاني وَالثَلاثون
زوجاتُ الرسولِ يسألْنَهُ النَّفَقَة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُسَاحِقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ(1/238)
عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ مَحْجُوبِينَ بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لأحدٍ مِنْهُمْ، فَأَذِنَ لأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ واجمٌ، فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لأُمَازِحَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وَلأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي آنِفًا النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ فِي عُنُقِهَا. فَضَحِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: فَهُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلُنَّنِي النَّفَقَةَ، قَالَ: فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ فَوَجَأَ فِي عُنُقِهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ فَوَجَأَ فِي عُنُقِهَا، وَكِلاهُمَا يَقُولُ: لِمَ تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَبَدًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ.
تَعْلِيق وَشرح لغَوِيّ
قَالَ القَاضِي: قَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر " ورسولُ اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسلم: واجم، الواجم: الحزين، والوجُومُ: الْحزن والفتور، يُقَالُ: وَجِم يَجِمُ وُجُومًا فَهُوَ واجم، مثل وقف يقف وقوفًا فَهُوَ وَاقِف.
قَالَ الْأَعْشَى مَيْمُون بْن قَيْس:
هُرَيْرَةَ وَدِّعْهَا وإنْ لَام لائِمُ ... غَدَاة غدٍ أمْ أَنْتَ لِلْبَيْنِ واجمُ
وَقَول عُمَر: فَوَجَأْتُ عُنقها، مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَكَّ عُنُقَها بِيَدِهِ أَوْ غَيرهَا، وَمن الْعَرَب من يتْرك الْهَمْز فِيهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَكنت أذلّ مِنْ وتدٍ بقاعٍ ... يوجيء رَأسه بالفهر واجي
وَقيل: إِن الشَّاعِر اضطُرَّ فَترك الْهَمْز لإِقَامَة الْوَزْن فِي الْبَيْت، كَمَا قَالَ الآخر:
سَالَتْ هذيلٌ رَسُولَ اللَّهِ فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هذيلٌ بِمَا سالَتْ وَلَم تُصِبِ
يُرِيد: سَأَلت.
وقَالَ آخر:
فارعَيْ فَزارَةُ ... لَا هَنَاكِ المرْتَعُ
يُرِيد: هَنَّأك.
خبر صَخْر بن شريد السُّلَمِيّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، أَنْبَأَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: التقى صَخْرُ بْن عَمْرو بْن الشَّرِيد السُّلَمِيّ ورجلٌ من بني أَسد، فطعن الأَسَديّ صَخرًا، فَقِيل لصخر: كَيفَ طَعَنَك؟ قَالَ: كَانَ رُمْحُه أطولَ من رُمْحِي بأُنْبُوب، فَمَرض صخرٌ مِنْهَا فطال مرضُه، فكانتْ أمُّهُ إِذا سُئلت عَنْهُ، قَالَتْ: نَحْنُ بخيرٍ مَا رَأينَا سوادَه بَيْننَا، وَكَانَت امْرَأَته(1/239)
إِذا سُئِلت عَنْهُ، قَالَتْ: لَا حَيٌّ فيُرجَى، وَلا ميتٌ فيبكى، فَقَالَ صَخْر:
أرى أمَّ صخرٍ مَا تَمَلٌّ عِيادتي ... ومَلَّتْ سُلَيْمَي مَضْجَعِي ومَكَاني
إِذا مَا امرؤٌ سَوَّى بأُمٍّ حَلِيلَة ... فَلَا عَاشَ إِلا فِي شقًا وهوان
لَعَمْري لقَدْ أيقظتَ لَو كَانَ نَائِما ... وأسمعتَ لَو كَانَتْ لَهُ أذُنَانِ
بَصيرًا بِوَجْهِ الحَزْم لَو يَسْتَطِيعُهُ ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعِيرِ والنَّزَوانِ
قَالَ القَاضِي، ويروى: أَهُمُّ بأمرِ الحزم لَو أستطيعه.
وَقَول أم صَخْر، مَا رَأينَا سوَاده: أَيّ شَخْصَه، قَالَ الشَّاعِر:
بَين المخارِم يَرْتَقِبْنَ سَوَادِي
أَيّ شخصي.
خبر عَنْ تَحْلِيل النَّبِيذ، والاستطراد إِلَى حكمه
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: حَضَرْتُ شَرِيكًا فِي مَجْلِسِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعِنْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْجُرَيْرِيُّ رجلٌ مِنْ وَلَدِ جُرَيْرٍ، وَكَانَ خَطِيبًا لِلسُّلْطَانِ، فَتَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فِي النَّبِيذِ الأَحْمَرِ وَاخْتِلافِهِمْ فِيهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: إِنَّا نَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذِهِ الإِبِلِ وَنَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ النَّبِيذِ مَا يَقْطَعُهَا فِي أَجْوَافِنَا وَبُطُونِنَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ، إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ، فَقَالَ شَرِيكٌ: أَجَلْ وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ، شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ الْجُلُوسُ عَلَى الطَّنَافِسِ فِي صُدُورِ الْمَجَالِسِ وَسَكَتَ.
فَتَذَاكَرَ الْقَوْمُ الْحَدِيثَ فِي النَّبِيذِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! حَدِّثِ الْقَوْمَ بِمَا سَمِعْتَ فِي النَّبِيذِ، فَقَالَ: كَلا، الْحَدِيثُ أَعَزُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ أَنْ يُعَرَّضَ لتكذيبٍ عَلَى مَنْ يَرُدُّ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ أَوْ عَلَى عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ.
تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ
قَالَ الْقَاضِي: مَا أَسْكَرَ مِنَ الأَنْبِذَةِ فَهُوَ خمرٌ مُحَرَّمٌ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الأَوْدِيُّ:
كُلُّ شَرَابٍ مسكرٍ كَثِيرُهْ ... مِنْ عِنَبٍ أَوْ غيْرِهِ عَصِيرُهْ
فَإنَّهُ محرمٌ يَسِيرُهْ ... إِنِّي لَكُمُ من شَرِّهِ نَذِيرُهْ
ويحقق هَذَا مَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ".
وَقَدْ ذكرنَا فِي كتبنَا الْفِقْهِيَّة الدليلَ من الْكتاب والسُّنَّة وَالْقِيَاس، عَلَى تَحْرِيم الأَنْبذةِ الَّتِي(1/240)
أحَلَّها من أَحلَّها من مُتَفَقِّهة العراقين. وذُكِر من ذَلِكَ شَيْخُنا أَبُو جَعْفَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي كتبه فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالفين فِيهِ، ونَقْضِ مَا اعتلُّوا بِهِ مَا تشرّف بِهِ النَّاصح لنَفسِهِ، النَّاظِر لدينِهِ، المحقِّق فِي نظره عَلَى مَوضِع الصَّوَاب مِنْهُ، فَأَما الرِّوَايَة الَّتِي حدَّث بهَا شريكٌ عَنْ عُمَر رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهَا مَعْرُوفَة وَلها نَظَائِر مروية عَنْهُ، وَهِي فِي تَأْوِيلهَا غَيْر مخالفةٍ لما ذهب إِلَيْهِ مُخَالفونا، مُخطئون عندنَا فِي تَأْوِيل بَعْضهَا، فَكيف يُظَنُّ بعمر غَيْر مَا أضفنا من القَوْل إِلَيْهِ، وحَمَلْنا تَأْوِيل الرِّوَايَات عَنْهُ عَلَيْه، وَقَدْ ثَبت عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي ابْنه: إِن عُبَيْد اللَّه شرب شَرَابًا وَإِنِّي سائلٌ عَنْهُ، فَإِن كَانَ مُسْكِرًا حَدَدْتُه، فَسَأَلَ عَنْهُ فَكَانَ مُسْكرًا فَحَدَّه، فَلم يسْأَل أيُّ سائلٍ عَنْهُ: إِن كَانَ فِي نوعٍ مخصوصٍ أَوْ نيئًا غَيْر مطبوخ، وَلا قَالَ أيُّ سائلٍ عَنْ عُبَيْد اللَّه: هَلْ تَمَادى فِي شُرْب مَا شَرِبَهُ حَتَّى أسكره؟ أم اقْتصر عَلَى الْقَلِيل مِنْهُ؟ ووقف عِنْد مقدارٍ لَا يبلغ إِلَى السُّكْر بِهِ؟ وَقَدْ نُقِل عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحدُّ فِي الرَّائحة، فَأخذ بِهَذَا جمهورُ المتفقهين من أَهْل الْمَدِينَة.
وَلَيْسَ كتَابنَا هَذَا من مَوَاضِع الإطناب فِي هَذَا الْبَاب ومحاجّاة الْخُصُوم فِيهِ.
خَلَع عَلَيْه حَتَّى اسْتَغَاثَ
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن إِسْحَاق بْن سَلام، قَالَ: أَتَى الْكُمَيْتُ بابَ مَخْلَد بْن يَزِيد بْن الْمُهَلّب يمدحه، فصادف عَلَى بَابه أَرْبَعِينَ شَاعِرًا، فَقَالَ للآذن: استأذنْ لي عَلَى الْأَمِير.
فَاسْتَأْذن لَهُ عَلَيْه فإذِن لَهُ، فَقَالَ لَهُ: كم رأيتَ بِالْبَابِ من شاعرٍ؟ قَالَ: أربعينَ شَاعِرًا، قَالَ: فَأَنت جَالِبُ التَّمْرِ إِلَى هَجَر، قَالَ: فَإِنَّهُم جَلَبُوا دَقَلا وَجَلَبْتُ أَزَاذًا، قَالَ: فهاتِ أَزاذَك، فَأَنْشد:
هَلا سألتِ منازلا بالأبْرَقِ ... دَرَسَتْ فَكيف سُؤَالُ من لَم يَنْطِقِ
لعبتْ بهَا رِيحَانِ ريحُ عجاجةٍ ... بالسَّافِياتِ من التُّراب الْمُعْنِقِ
والهَيْفُ رأئحةٌ لَهَا ينتاحُها ... طَفَلُ العَشِيِّ بِذِي حَنَاتِمَ شُرَّقِ
الحَنَاتِمُ: جرارٌ خُضْر شَبَّه الغَيْمَ بهَا، والهَيْفُ: الرِّيحُ الحَارَّة، قَالَ القَاضِي: من الهَيفِ قولُ ذِي الرُّمَّة:
وصَوَّحَ البَقْلَ مازيٌ يجيءُ بِهِ ... هيفٌ يمانيةٌ فِي مَرِّهَا نَكَبُ
والحَنَاتِمُ: وَاحِدهَا حَنْتَمة وحَنْتَم، قَالَ الشَّاعِر فِي الحَنْتم:
وأَقْفَر من حضارةٍ وِرْدُ أهْلِهِ ... وَقَدْ كَا يَسْقِي فِي قلالٍ وحَنْتَمِ
وقَالَ فِي الحناتم:
يَمْشُون حولَ مكدمٍ قَدْ كَدَّحَتْ ... مَتْنَيْهِ حَمْلُ حناتمٍ وقِلالِ(1/241)
قَوْله: كَدَّحَتْ متنيه حملُ حناتم، كَقَوْل الشَّاعِر:
أرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخذَ السِّرارُ من الْهِلالِ
وَلِهَذَا نَظَائِر تُذكَرُ وتُشْرح عِلَلُها فِي مَوَاضِع أُخَر.
تمامُ شِعر الْكُمَيْت:
تصلُ اللِّقاحُ إِلَى النَّتَاجِ مَزِيَّةً ... لِحُقوق كوكبها وَإِن لَمْ يَحْقُقِ
غَيَّرْنَ عهدَك بالديار وَمن يَكُنْ ... رَهْنَ الْحَوَادِث من جديدٍ يَخْلُقِ
إِلا خَوالِدَ فِي المحلَّةِ بيتُها ... كالطَّيلَسَانِ من الرمادِ الأوْرَقِ
مُتَبَجِّحًا تَرَكَ الولائدُ رأسَهُ ... مثلَ السِّوَاكِ ودَمُّهُ كالْمُهْرقِ
دارُ الَّتِي تركتْك غيرَ ملومةٍ ... دنا فارع بهَا عَلَيْك وأشفق
قَدْ كنتُ قبلُ تَتُوقُ من هجرانِها ... فاليومَ إذْ شحط المزارُ بهَا تَقِ
والحبُّ فيهِ حلاوةٌ ومرارة ... سائلْ بِذَلِك من تَطَعَّمَ أَوْ ذُقِ
مَا ذاقَ بُؤسَ معيشةٍ ونعيمَها ... فِيمَا مضى أحدٌ إِذا لَمْ يعشقِ
من قَالَ رَبِّ أَخا الهموم وَلَم يبتْ ... غَرَضَ الْهُمُومِ ونَصْبِهِنَّ يؤرَّقِ
حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله:
بَشَّرْتُ نَفْسِي إذْ رأيتُك بِالغنَى ... ووثِقْتُ حِين سَمِعْتُ قَوْلك لي: ثِقِ
فَأمر بِالْخِلَعِ عَلَيْه، فخُلِع عَلَيْه حَتَّى اسْتَغَاثَ، فَقَالَ: أَتَاك الْغَوْث، ارْفَعُوا عَنْهُ.
اعتذارٌ بليغٌ لَدَى الْمَأْمُون
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم بْن جَعْفَر الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْل الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وإِبْرَاهِيم بْن عِيسَى، قَالا: دخل مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك بْن صَالِح عَلَى الْمَأْمُون - وَقَدْ كَانَتْ ضِياعُه حِيزَتْ وقُبضت - فَقَالَ: السَّلام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك بَيْنَ يَديك، سليلُ نِعْمَتك، وَابْن دَوْلتك، وغُصْنٌ من أغْصان دَوْحتك، أتأذنُ لي فِي الْكَلَام؟ قَالَ: نعم.
فَتكلم فَقَالَ: الحمدُ للَّه ربِّ الْعَالمين، وَلا إِلَه إِلا اللَّهُ ربُّ الْعَرْش الْعَظِيم، وَصلى اللَّهُ عَلَى مَلَائكَته المقربين، وعَلَى مُحَمَّد خَاتَمِ النَّبِيِّين، ونستميحُ اللَّه لحياطةِ ديننَا ودنيانا، ورعايةِ أقصانا وأدنانا ببقائك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، ونسألُ اللَّهَ أَن يَمُدَّ فِي عمرك وَفِي أثرك من أعمارنا وآثارنا، وَأَن يَقِيكَ الأَذَى بأسْماعنا وأَبْصارنا، فَإِنّ الحقّ لَا تَعْفُو دياره، وَلا يتهدَّمُ مَسَارُه، وَلا يَنْبتُّ حبلُه، وَلا يَزُول ظِلُّه، مَا دمت ظلّ اللَّه فِي رَعيته، والأمين عَلَى عباده وبلاده.
يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! هَذَا مقامُ العائذ بظلِّك، الهاربُ إِلَى كَنَفِك وفَضْلِك، الفقيرُ إِلَى(1/242)
رحْمتك وعَدْلك، من تَعَاوُرِ الغوائب، وسهام المصائب، وكَلَبِ الدَّهْر، وَذَهَاب الوَفْر، وَفِي نظرِ أَمِير الْمُؤْمِنِين مَا فَرَّج كُرْبةَ المكروب، وبَرَّد غليل الملهوف.
ثُمّ إنَّه تقدَّم من رَأْي أَمِير الْمُؤْمِنِين فِي الضِّياع الَّتِي أفادناها نعمُ آبَائِهِ الطاهرين، ونَوافِلُ أسْلافه الرَّاشدين، مَا اللَّهُ وليُّ الْخِيَرةِ فِيهِ لأمير الْمُؤْمِنِين، وَإِن عَبْد الْملك بْن صَالِح قَدِم الجزيرة حِين قدمهَا والحربُ لاقِح، والسيفُ مَشْهور، وَالشَّام قَدْ نَفِل أديمه، وتحطمتُ قُرُونُه، والسفيانيُّ قَد استعرتْ ناره، وكَثُرَتْ أنصاره، وَلبس للحرب لباسها، وأعَّد لَهَا أحَلاسها، وكُلُّنا يومئذٍ فِي ثَوب الْقِلَّةِ والصَّغار، بَيْنَ حربٍ دائرةٍ رحاها، وفتنةٍ تُصَرِّفُ بأنيابها، فكأنَّا نُهْزَةُ دواعيها، وغَرضُ راميها، إِذا ثارت عجاجةٌ من عجاجها لَمْ تَنْجَلِ إِلا عَنْ شِلْو مَأْكُول، أَوْ دمٍ مَطْلُول، أَوْ منزلٍ مَهْدوم، أَوْ مالٍ مَكْلُوم، أَوْ قلبٍ يَجِف، أَوْ عين تَذْرِف، أَوْ حرمةٍ حَرَّى، أَوْ طَرِيدَة وَلْهى، قَدْ أتْعَسَ اللَّهُ جَدَّها، تهتفُ بسِّيدها أَمِير الْمُؤْمِنِين مِنْ تَحت رَحَا الدَّهْر، وكَلْكَل الفَقْر، وَتَدْعُو اللَّه بإلباس الصَّبْر، وإعداد النَّصْر، فَالْحَمْد للَّه المتطول عَلَى أوليائك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، إعزازَ نصرك، الْمُبَلِّغهم الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يأْمُلُون، والأمَدَ الْأَقْصَى الَّذِي كَانُوا ينتظرون.
ثُمّ إِنِّي قمتُ هَذَا الْمقَام متوسِّلا إِلَيْك بآبائك الطَّاهرين، بالرشيد خير الهداة الرَّاشِدين، والمَهْدِيِّ ربيع السِّنين، والمنصورِ نَكَالِ الظَّالمين، ومحمدٍ خير المحمَّدين بعد خَاتم النَّبِيين والمرسليين، وبعليٍّ زَيْن العابدين، وَبِعَبْد اللَّه تَرْجُمانِ الْقُرآن ولسان الدّين، وبالعباس وَارِث سيِّد الْمُرْسلين، مُزْدَانًا إِلَيْك بِالطَّاعَةِ الَّتِي أفرغ اللَّه عَلَيْهَا غُصْني، واحتنكتْ بهَا سِنِّي، وسِيطَ بهَا لحمي وَدمِي، مُتَعَوِّذًا من شماتة الأعداءِ، وحلول الْبلَاء، ومقارنة الشِّدَّة بعد الرخَاء.
يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! قَدْ مضى جَدُّكَ المنصورُ وعَمُّكَ صالِحُ بنُ عليٍّ وَبَينهمَا من الرَّضاعِ والنَّسَبِ مَا قَدْ علم أميرُ الْمُؤْمِنِين، فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ خصُوصًا ولبني أَبِيهِ عُمُوما، فَسبق بِهِ بني أَبِيهِ، وَفَاتَ بِهِ أقربيه، وَهُوَ صَاحب الجعديّ الناجم فِي مصر، حِين اجتثَّ اللَّه أصْله، وأيْبَس فَرْعَه، وصرعَهُ مَصْرَعَه، وَهُوَ صاحبُ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ حِين دَعَا الشَّيْطَانُ أولياءَهُ فَأَجَابُوهُ، وَرفع لَهُم لواءَ الضَّلالَةِ فاتَّبعُوه. وَهُوَ صاحبُ عِيسَى بْن مُوسَى حِين رمى الْخلَافَة بِبَصَرِه، وسَمَا إِلَيْهَا بنظره، وَمَشى إِلَيْهَا البَخْتَرِيّ، وَلبس لباسَ وُلاةِ العهود، حَتَّى أثبت اللَّه الحقَّ فِي نِصابه، وأقرَّهُ فِي قِرابه.
يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! الدَّهْرُ ذُو اغتيال، وَقَدْ تقلَّب بِنَا حَالا بعد حَال، فليرحم أميرُ الْمُؤْمِنِين الصِّبْيةَ الصِّغَار، والعجائزَ المحجوباتِ الْكِبَار، واللاتي سقاهُنَّ الدَّهْر كَدرًا بعد صفوٍ، ومُرًّا بعد حلْو، وهَنيئًا نِعَمُ آبَائِك اللَّاتِي غَذَتْنا صغَارًا وكبارًا، وشبابًا وأمشاجًا فِي الأصلاب، ونُطَفًا فِي الْأَرْحَام، وقَرّبْنا بِحَيْثُ قَرَّبنا اللَّه مِنك فِي القَرابة والرَّحِم، فَإِن رقابَنا قَدْ ذَلَّتْ لِسَخَطك، وَإِن وُجُوهنا قَدْ عَنَتْ لموْجَدَتِك، فأقلنا عَثْرَة عاثرنا، وعَلى اللَّه المليِّ(1/243)
الْجَزَاء، وَإِن الْحق فِي يدك، فهبْ لنا مَا قصّرنا فِيهِ من تَرْك الرِّمَمِ البالية، للأُمَمِ الخالية، مِنَّا فِي طَاعَة آبَائِك، فقد مَضَوْا مُتَمَسِّكِينَ بأقوى وسائلها، معتصمين بأقوى حبائلها، يوالون فِيهَا الْبعيد الجنيب، ويُنَادون فِيهَا الْقَرِيب الحبيب، عَلَى ذَلِكَ مَضَوْا وَبَقينَا حَتَّى يَرِثَنا اللَّه عَزَّ وَجَلّ، وَهُوَ خيرُ الْوَارِثين.
يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن اللَّه عَزَّ وَجَلّ سَهَّل بك الْوُعُور، وجَلَّى بك أَن تجور، ومَلأَ من خَوفِك القلوبَ والصُّدُور، وَجَعَل اسْمك حبلا كثيفًا، وجَبَلا منيفًا، يردعُ بك الْفَاسِق، ويقمع بك الْمُنَافِق، فَارْتَبَطَ نِعَم اللَّه عز وَجل عَنْك بِالْعَفو وَالْإِحْسَان، فَإِن كلَّ إمامٍ مسؤل عَنْ رَعيته، وَإِن النعم لَا تَنْقَطِع بالمزيد فِيهَا حَتَّى ينقطعَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا.
يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إنَّه لَا عَفْوَ أفضلُ من عَفْو إمامٍ قادرٍ عَلَى مذنبٍ عَاثِر، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: " وليعفو وَلْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لكم ".
حاط اللَّهُ أَمِير الْمُؤْمِنِين بسَتْرِهِ الضَّافي، وصُنْعِه الْكَافِي، ثُمّ قَالَ:
أميرَ الْمُؤْمِنِين أَتَاك ركبٌ ... لَهُم قُرْبَى ولَيْسَ لَهُم بلادُ
همُ الصَّدْر الْمُقدم من قُرَيْش ... وَأَنت الرأسُ يتبعك العبادُ
فقد طابت لَك الدُّنْيَا ولذتْ ... وأرجُو أَن يطيب لَك المَعَادُ
فَقَالَ الْمَأْمُون: يفعلُ ذَلِكَ بِمَشِيئَة اللَّه، وأسأله التَّوْفِيق فِي الرِّضَا عَنْك، والإجابة إِلَى مَا سَأَلت، وَأَن يُعقب ذَلِكَ محبوبًا بِمَنِّهِ، وَجَمِيل عَادَته فِي مثله.
وَأمر بردِّ ضيَاعه، وَأحسن جائزته، وَقضى حاجاته.
المجلِسُ الثالِث وَالثلاثُونْ
لَا حَلِيم إِلا ذُو عَثْرَة
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَوْهِبُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْحَارِث، عَن دراج بن السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، وَمُحَمّد بْنُ إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: " لَا حَلِيمَ إِلا ذُو عَثْرَةٍ، وَلا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ ".
قَالَ القَاضِي: وَهَذَا الخبرُ من بليغ الْحِكْمَة الَّتِي أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعلمهَا أُمته، والعاثُر إِذا كَانَ لبيبًا، والمجرِّب إِذا كَانَ مُحنَّكًا أريبًا، فَتبين هَذَا مغبة عثرته، وتهذَّب هَذَا بعواقب تجربته، استشعرا الحذار، وأنعما الِاعْتِبَار، واستصحبا الاستبصار، فتحرزا من(1/244)
العثار، وتنزَّها عَنْ تورُّطِ الْخبط والاغترار، وَقَدْ قَالَ بعض الْعلمَاء الربانيين، وَمن بَصَّره اللَّه رُشْده فِي الدُّنْيَا وَالدّين:
لقَدْ عثرتُ عَثْرَة لأُختبرْ ... سَوف أكيسُ بعْدهَا واسْتَمِرّ
وَفِي قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طائفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هم مبصرون ". مَا يُؤَيّد هَذَا وَيشْهد لَهُ.
جعلنَا اللَّه وإيّاكُم مِمَّنْ يُؤثر حَظه من الخليقة الْحسنى، والطريقة المثلى، عَلَى حَظِّ نَفسه من الْهوى.
بَنو أُمَيَّة وتنقُّصها لعليّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن خضر، عَنْ سَعِيد بْن عُثْمَان الْقُرشي، قَالَ: سَمِع عامرُ بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير ابْنه ينالُ من عَلِيّ بْن أبي طَالِب عَلَيْه السَّلام، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! لَا تَنْتَقِصْهُ، فَإِن بَنِي أُمَيَّة تَنَقَّصَتْهُ ثَمَانِينَ عَاما فَلم يَزِدْهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِك إِلا رِفْعةً، إِن الدّين لَمْ يَبْنِ شَيْئا فهدَّمتْه الدُّنْيَا، وَإِن الدُّنْيَا لَمْ تَبْنِ شَيْئا إِلا رجعتْ عَلَى مَا بنتْ فهدَّمته.
التخلُّص البارع
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بَكَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم التَّمِيمِي، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَضْل بْن الرَّبِيع يحدث عَن أَبِيه، قَالَ: كُنَّا وقوفًا عَلَى رَأس المَنْصُور وَقَدْ طرحت للمهدي وسَادَة، إِذْ أقبل صَالِح ابْنه فَوقف بَيْنَ السماطين وَالنَّاس عَلَى مقادير أسنانهم ومواضعهم، وَقَدْ كَانَ يرشحه لبَعض أُمُوره، فَتكلم فأجاد، وَمد المَنْصُور يَده إِلَيْهِ ثُمّ قَالَ: يَا بني إليَّ واعتنقه، وَنظر فِي وُجُوه أَصْحَابه: هَلْ يذكر أحدٌ فَضله، ويصف مقامة؟ فكلهم كره ذَلِكَ، فَقَامَ شَبَّة بْن عقال بْن معية بْن نَاجِية التَّمِيمِيّ، فَقَالَ: للَّه در خطيب قَامَ عنْدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! ماأفصح لِسَانه، وَأحسن بَيَانه، وأمضى جنانه، وأبل رِيقه وَكَيف لَا يَكُون كَذَلِك وأمير الْمُؤْمِنِين أَبوهُ وَالْمهْدِي أَخُوهُ، وهما كَمَا قَالَ زُهَيْر بْن أَبِي سلمي:
يطْلب شأو امرأين قدما حسنا ... نالا الْمُلُوك وبذا هَذِهِ السِّوقَا
هُوَ الْجواد فَإِن يلْحق بشأوهما ... على تكاليفه فَمثله لَحقا
أَو يسبقاه عَلَى مَا كَانَ من مهلٍ ... فَمثل مَا قدما من صالحٍ سبقا
قَالَ الرَّبِيع: فَأَقْبَلَ عَليّ أَبُو عُبَيْد اللَّه فَقَالَ: واللَّه مَا رَأَيْت مثل هَذَا تخلص، أرْضى أَمِير الْمُؤْمِنِين، ومدح الْغُلَام، وَسلم من الْمهْدي.
قَالَ: والتفت إِلَى المَنْصُور فَقَالَ: يَا ربيع! لَا ينصرفن التَّمِيمِيّ إِلا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.(1/245)
قصَّة عَجِيبَة فِي البراعة فِي علم النُّجُوم
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس البرتي، قَالَ: حُدِّثْتُ أَن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر كَانَ مولودًا بحدِّ السرطان، فَلَمَّا أَن كَانَ ذَات لَيْلَة جمع أَهْل بَيته، فَقَالَ: إِنِّي مولودٌ بِحَدّ السرطان، وَإِن طالع السّنة السرطان، وَإِن الْقَمَر اللَّيْلَة ينكسف فِي السرطان وَهِي لَيْلَة الْأَحَد، فَإِن نجوت فِي هَذِهِ اللَّيْلَة فسأبقى سِنِين، وَإِن تكن الْأُخْرَى فَإِنِّي ميتٌ لَا محَالة. فَقَالُوا لَهُ: بل يُطِيل اللَّه تَعَالَى.
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة دَعَا غُلَاما لَهُ، كَانَ قَدْ علمة النُّجُوم، فأصعده إِلَى قبَّة لَهُ فَأعْطَاهُ بَنَادِق واصطرلابًا، وقَالَ لَهُ: خُذ الطالع فَكلما مضى من انكساف الْقَمَر دقيقة فاقذف إِلَى ببندقة حَتَّى أَعْلَم ذَلِكَ.
وَجلسَ محمدٌ مَعَ أَصْحَابه فَجعل الْغُلَام كلما مضى من انكساف الْقَمَر دقيقة رمى إِلَيْهِ ببندقة، فَلَمَّا انكسف من الْقَمَر ثُلثه قَالَ لأَصْحَابه: مَا تَقولُونَ فِي رَجُل قَاعد مَعكُمْ يقْضِي ويمضي وَقَدْ ذهب ثلث عمره، وَقَالُوا لَهُ: بل يُطِيل اللَّه تَعَالَى عمرك أَيهَا الْأَمِير.
فَلَمَّا مضى من الْقَمَر ثُلُثَاهُ عمد إِلَى جواريه فَأعتق مِنْهُنَّ من أحبّ، ووقف من ضيَاعه مَا وقف، وقَالَ لَهُم: " مَا تَقولُونَ فِي رَجُل معلم يقْضِي ويمضي، وَقَدْ ذهب ثلثا عمره، فَقَالُوا لَهُ: بل يُطِيل اللَّه عمرك أَيهَا الْأَمِير، فَلَمَّا مضى من الثَّالِث دقيقتان قَالَ لَهُم مُحَمَّد إِذا استغرق الْقَمَر فأمضوا إِلَى أَخِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن طَاهِر، ثُمّ قَامَ فاغتسل وَلبس أَكْفَانه وَتحفظ وَدخل إِلَى بيتٍ لَهُ وردَّ عَلَيْه الْبَاب واطضجع، فَلَمَّا استغرق الْقَمَر فِي الانكساف فاضت نَفسه، فَدَخَلُوا إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ ميت، فَانْطَلقُوا إِلَى عُبَيْد اللَّه أَخِيهِ ليعلموه فَإِذا عُبَيْد اللَّه أَخُوهُ فِي طيارة عَلَى الْبَاب قَدْ سبقهمْ، فَقَالَ لَهُم: أمات أَخِي؟ قَالُوا: نعم، فَقَالَ: مَا زلت آخذ لَهُ الطالع حَتَّى استغرق الْقَمَر فِي الْكُسُوف، فَعلمت أَنَّهُ قَدْ قبض، ثُمّ دخل فأكبَّ عَلَى أَخِيه باكيًا طَويلا ثُمّ خرج وَهُوَ يَقُولُ:
هد ركن الْخلَافَة الموطود ... زَالَ عَنْهَا السرادق الْمَمْدُود
حط فسطاطها الْمُحِيط عَلَيْهَا ... هوت أطنابها فَمَال العمود
يَا كسوفين لَيْلَة الْأَحَد النح ... س أضلتكما النُّجُوم السُّعْود
أحد كَانَ حَده، من نحوسٍ جمعت ... حَدهَا إِلَيْهِ الأحود
أحدٌ كَانَ حَده مثل حد السي ... ف وَالنَّار شب فِيهَا الْوقُود
كسف الْبَدْر والأمير جَمِيعًا ... فانجلى الْبَدْر والأمير عميد
عاود الْبَدْر نوره لتجلي - يه وَنور الْأَمِير لَا يعود(1/246)
أظلمت بعده الْخلَافَة والدن ... يَا عَلَيْهَا كآبة وجمودُ
لأمور قَدْ كَانَ دبر مِنْهَا ... مبرما وَقَدْ مضى وَمِنْهَا عنيد
قَدْ بكاه الْعرَاق والشرق والغر ... ب فمنهما تهائمٌ ونجود
وَبكى حاسدوه حزنا عَليّ ... هـ وَبكى بعده الْعَدو الحقود
يَا ابْن عَبْد الْإِلَه لَمْ يَك للمو ... ت إِلَى مَنْ سواك عَنْك محيد
قَالَ: فَلَمَّا حمل عَلَى السرير أنشأ يَقُولُ:
تداوله الأكف عَلَى سري ... أَلا للَّه مَا حمل السرير
أكف لَو تمد إِلَيْهِ حَيا ... إِذا رجعت وأطولها قصير
تباشرت الْقُبُور بِهِ وأضحى ... تبكيه الأرامل وَالْفَقِير
الْكُسُوف والخسوف
قَالَ الْقَاضِي: وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ. وَقِيلَ فِيهِ الْكُسُوفُ وَالانْكِسَافُ بِالْكَافِ وَاللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ: خَسَفَ الْقَمَرُ بِالْخَاءِ، قَالَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَخسف الْقَمَر ط، وَجَاء عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يُكْسَفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاةِ " فِي خبرٍ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ عَلَى عَهْدِهِ.
وَقَد اخْتلف اللغويون فِي هَذَا فَقَالَ بَعضهم: يُقَالُ: كسفت الشَّمْس إِذا لحق الْكُسُوف بَعْضهَا وخسفت إِذا استغرق الْكُسُوف جَمِيعهَا.
وقَالَ بَعضهم: يُقَالُ: كسفت الشَّمْس وَخسف الْقَمَر، وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد، وقَالَ أَوْس بْن حجر فِي عَبْد اللَّه بْن فَضَالَة:
ألم تكسف الشَّمْس شمس النها ... ر والنجم للجبل الْوَاجِب
ويروى: الْبَدْر فِيمَا أروي.
وَالصَّلَاة عِنْد الْكُسُوف سنة مَعْرُوفَة، وَقَد اخْتلف فِي صفتهَا وَعدد ركعاتها، والجهر والمخافتة فِي الْقِرَاءَة فِيهَا، وَكَانَ مَالك يرى الِاجْتِمَاع لَهَا فِي كسوف الشَّمْس دون الْقَمَر، وَكَانَ غَيره يرى الِاجْتِمَاع للصَّلَاة فِي الخسوفين مَعًا، وقَالَ جرير يرثي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز:
الشَّمْس طالعةٌ لَيست بكاسفةٍ ... تبْكي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا
وَقَد اخْتلف الروَاة فِي رِوَايَة هَذَا الْبَيْت، فَرَوَاهُ البصريون: الشَّمْس طالعة لَيست بكاسفةٍ، وَرَوَاهُ الْكُوفِيُّونَ الشمسُ كاسفةٌ لَيست بطالعةٍ، وَرَوَاهُ بعض الروَاة: ويبكي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا، وَرَوَاهُ بَعضهم: يبكي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا.(1/247)
وَقد اخْتلف أَصْحَاب الْمعَانِي وَأهل الْعلم من الروَاة وذووا الْمعرفَة بالإعراب من النُّحَاة فِي تَفْسِير وُجُوه هَذِهِ الرِّوَايَات وقياسها فِي الْعَرَبيَّة.
وَفِي ذكر ذَلِكَ طولٌ لَا يحْتَملهُ هَذَا الْموضع، وَقَدْ ذَكرْنَاهُ فِي مَوضِع هُوَ أولى بِهِ، عَلَى أنني سأذكر عِنْد آخر تَفْسِير مَا فِي هَذَا الْخَبَر طرفا يشرف عَلَى جملَة هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ اللَّه.
القَوْل فِي فاضت نَفسه وفاظت
وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: فَلَمَّا استغرق الْقَمَر فِي الإنكساف فاضت نَفسه، مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَاتَ وَفَارق الْحَيَاة وَخرجت نَفسه، وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَة لُغَتان محكيتان عَنِ الْعَرَب بالظاء وَالضَّاد عَلَى مَا سنبينه إِن شَاءَ اللَّه.
وَقد يُقَال: فاذ وفاز فِي هَذَا الْمَعْنى فِي أحرف كَثِيرَة.
وَقَد اخْتلف أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي مَوَاضِع مِمَّا يَأْتِي فِيهِ فاظ وفاض، وَأَنا أذكر مَا حضرني من جملَة القَوْل فِيهِ مِمَّا حُكيَ عَنِ الْعَرَب، وَمَا أروى من مَذَاهِب اللغويين فِيهِ، غَيْر مستقصٍ لجَمِيع مَا روينَاهُ لِسَعَتِهِ وغيبة كثيرٍ مِنْهُ، وَمن يقف عَلَى مَا أثْبته من هَذَا الْبَاب هَاهُنَا يشرف عَلَى مَعْرفَته، ويشرك الْعلمَاء بِهِ فِي إِدْرَاك جملَته أَوْ معظمه، إِن شَاءَ اللَّه.
فمما روينَاهُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاه مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن الطُّوسيّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدة، عَنِ الْكسَائي، قَالَ: يُقَالُ: فاظت فسه وفاض الميتُ نَفْسَهُ، وأفاظ اللَّه تَعَالَى نَفْسَهُ، قَالَ: وَبَعض بني تَمِيم يَقُولُ: فاضت نَفسه بالضاد.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَن وأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن الْحَكَم، عَنْ أَبِي الْحَسَن اللحياني، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت بالظاء، وفاض الْمَيِّت بالضاد.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي: قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن وسيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوب بْن السّكيت، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت يفوظ، وفاظ يفيظ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الجهم، عَنِ الفَرَّاء، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت نَفسه بالظاء وَنصب النَّفْس، قَالَ أَبُو بَكْر، وأنشدني أَبِي، قَالَ: أَنْشدني أَبُو عِكْرمَة الضَّبِّيّ:
وفاظ ابْن حَضْرَة عانيًا فِي بُيُوتنَا ... يمارس قدا فِي ذِرَاعَيْهِ مصحبًا
" الْمُصْحَب ": الَّذِي عَلَيْه وَبَرُه.
وقَالَ رُؤْبة:
لَا يَدْفِنُونَ مِنْهُمُ من فَاظَا
قَالَ القَاضِي: وقَالَ ابْن السِّكِّيت فِي كتَاب الْأَلْفَاظ، ويُقَالُ: فاظ الرَّجُل وفاظت نَفسه تفيظ فيظاًوفووظاً، وَقَالَ رؤبة:
لَا يفنون مِنْهُمُ من فَاظَا(1/248)
أَيّ من هلك.
وقَالَ الْكسَائي: فَاظَ هُوَ نَفْسُه، وأَفَظْتُهُ أَنَا نَفْسَه، قَالَ: وقَالَ أَبُو عُبَيْدة: وَمن الْعَرَب من يَقُولُ فاضت نَفسه بالضاد، وَأنْشد لبَعض الرُّجَّاز:
اجْتمع النّاس وَقَالُوا عُرْسُ ... زَلَحْلَحَاتٌ مائراتٌ مُلْسُ
فَفُقِّئتْ عينٌ وفاضَتْ نفسُ ... إِذا قصاعٌ كالأكُفِّ خَمْسُ
قَالَ: وقَالَ الْكسَائي: ناسٌ من تَمِيم يَقُولُونَ: فاضت نَفسه تفيض.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ: أَتَيْنَا رَجُلا من بني مَخْزُوم، وَكَانَ مَوْلَى ضاحية بني تَمِيم، فَوَافى دُكَيْنُ الراجز، فَقَالَ: للبواب: إِنِّي أُلاع إِلَى السجْن أدْخِلني، فَأبى البواب أَن يُدْخِلَه، فَوقف دُكَيْن الراجز عَلَى دكانٍ وَقَد انْصَرف بعضُ الْقَوْم، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
اجْتمع النَّاس وقَالُوا عُرْسُ ... إِذا قصاع كالأكَفِّ خَمْسُ
زَلَحْلَحاتٌ قَدْ جُمِعْنَ مُلْسُ ... فَفُقِّئَتْ عينٌ وفاظت نفسُ
فَقَالَ لَهُ البواب: من أَنْت لَا حيَّاك اللَّه؟ قَالَ: أَنَا دُكَيْنُ الراجز، فَأدْخلهُ.
قَالَ أَبُو بَكْر، قَالَ لي أَبِي، قَالَ أَحْمَد بْن عُبَيْد: أُلاع مَعْنَاهُ: أتوقَّدُ حِرصًا عَلَيْه، ويحترق فُؤَادِي طلبا لَهُ، قَالَ القَاضِي: من هَذَا قَول الْأَعْشَى:
ملمعٍ لاعَةِ الْفُؤَاد عَلَى الجح ... ش فَلاهُ عَنْهَا فَبِئْسَ الفَالي
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الزَّلَحْلحات: الَّتِي تجول وَتذهب فكَأَنَّها لَا تَقَرُّ فِي مَوضِع وَاحِد - وَجرى بَيْنَ الْأَصْمَعِي وَأبي عُبَيْدة فِي هَذَا الْبَاب تَشَاجُرٌ ومُنَازَعة - وفاظت نفس، فَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعَرَب لَا تَقُولُ: فاظت نَفسه وَلا فاضت نَفسه، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: فاظ الرَّجُل إِذا مَاتَ وطَنَّ الضِّرس.
وقَالَ أَبُو عُبَيْدة: كذب الْبَاهِلِيّ - يَعْنِي الْأَصْمَعِي -: مَا هُوَ إِلا فاظت نفس.
قَالَ القَاضِي: قَول الْأَصْمَعِي: وطنَّ الضِّرس إخبارٌ مِنْهُ، لِأَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِي تَمام هَذَا الْبَيْت: وَطن الضرس مَكَان وفاظت نفس، وَقَدْ أَتَى فِي هَذَا أَربع رِوَايَات: فاظت نفسٌ وفاضت نفسٌ، وَطن الضرس وطَنَّتْ ضرس، وَاسْتشْهدَ بِهَذِهِ الرِّوَايَة من رَأَى تَأنيث الضِّرس عَلَى معنى تَأْنِيث السِّنِّ.
وقَالَ أَبُو حَاتِم فِي الضرس: رُبمَا أنَّثوه عَلَى معنى السِّنِّ، قَالَ: وَأنكر الْأَصْمَعِي تأنيثه، قَالَ: وأنشدنا قَول دُكَيْن الراجز: ففقئت عينٌ وطنت ضِرسُ إِنَّمَا هُوَ: وطَنّ الضرس، قَالَ: فَلم يفهمهُ الَّذِي سَمعه، وَأَخْطَأ سَمعه.
قَالَ أَبُو بَكْر: قَالَ أَصْحَاب الْكسَائي والفَرَّاء وَمن نقل عَنْهُمَا، فَقَالَ: فاضت نَفسه(1/249)
وفاظت نَفسه، وفاظ الْمَيِّت نَفسه وأفاظه اللَّه نَفسه.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر: قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق القَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا نصر بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، عَنْ أبي عَمْرو بْن الْعَلَاء، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت وَلا يُقَالُ: فاظت نَفسه، وعَلى قَول من أجَاز فاضت نَفسه تفيض، قَالَ الشَّاعِر:
كَادَت النّفْسُ أَن تفيضَ عَلَيْهِ ... إِذْ ثَوَى حَشْوَ ريطةٍ وبُرُودِ
قَالَ القَاضِي: وَأرى أَن من قَالَ: فاض الْمَيِّت مَكَان فاظ، أَخذه من قَوْلهم: فاظ الْإِنَاء إِذا طفح فَخرج مِنْهُ بعض مَا فِيهِ، وفاض الدمع: إِذا انحدر وسال، فَكَأَن النَّفْس لما ضَاقَ بهَا الْحَيّ لَمْ يحملهَا فَفَاضَتْ وسالت، يُقَالُ: نفس سَائِلَة، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس:
ففاضتْ دُموعُ العَيْنِ منِّي صبَابةً ... عَلَى الَّنْحر حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمَلِي
وقَالَ الْأَعْشَى:
مِن ديارٍ بالهَضْبِ هَضْبِ القَلِيبِ ... فَاضَ مَاءُ الشُّئُونِ فَيْضَ الْغُرُوبِ
أنشدنا أَبُو مُحَمَّد بْنُ الْحَسَن بْن عُثْمَان الْبَزَّار، قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد ابْن الرُّومِي مَوْلَى الطاهري. فِي أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن جرير الطَّبَرِيّ:
كَانَ بَحْرًا من الْعُلُوم فَلَمَّا ... فاضَ بالنَّفْس غاضَ بحرٌ مَعِينُ
من لَهُ بَعْدَهُ إِذا هُوَ لَا هُوَ ... مَثْلُهُ غَيْرُهُ عَلَيْه أمينُ
وقَالَ ابْنُ السّكيت، وقَالَ الأَصْمَعِيّ: وَجَب الرَّجُل فَهُوَ وَاجِب إِذا مَاتَ، وَأنْشد لقيس بن الخطيم:
أطاعت بَنو عوفٍ أَمِيرا نَهَاهُم ... عَنِ السِّلْمِ حَتَّى كَانَ أوّلَ وَاجِبِ
قَالَ القَاضِي: فعلى هَذَا التَّأْوِيل قَدْ يُحمل الجبلَ الواجبُ الَّذِي فِي الْبَيْت، الَّذِي قدمنَا رِوَايَته عَنْ أَوْس بْن حجر: أَن يَكُون مَعْنَاهُ: الْمَيِّت، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي: الْوَاقِع السَّاقِط، وَمن قَوْلهم: وَجَبَتِ الشَّمس إِذا سقط الْقُرْصُ، وقَالَ اللَّه تبَارك وتَعَالَى: " فَإِذا وَجَبت جنوبها ".
تَوْجِيه إِعْرَاب بَيت جرير
وَنحن الْآن مُنْجِزُو مَا وَعَدْنا فِي الْبَيَان عَنِ اخْتِلاف النَّحْوِيين فِي قَول جرير:
تَبْكِي عَلَيْك نُجُوم اللَّيل والقَمَرَا
وَفِي إِعْرَاب نُجُوم اللَّيْل، وَفِي وَجه نَصَبِ قَوْله: والقمرا، فَأَما من رَوَى:
الشَّمْس طالعةٌ لَيست بكاسفةٍ
فَإنَّهُ ينصب: نُجُوم اللَّيْل بإعمال كاسفة، كَمَا يُقَالُ: هِيَ ضاربةٌ عَبْد اللَّه، ويعطف الْقَمَر عَلَى نُجُوم اللَّيْل، وَقَوله: تبْكي صفة لقَوْله الشَّمْس طالعة، وتبكي فِي مَوضِع رفع، كأَنَّه قَالَ: طالعة باكية، وَقَدْ يَكُون تبْكي فِي مَوضِع نَصَبِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنى الْحَال، إِمَّا من(1/250)
الشَّمْس أَوْ من التَّاء فِي لَيست، كأَنَّه قَالَ: لَيْسَت فِي حَالَة بكاء، وَقَدْ تكون سادَّةً مسد خبر لَيْسَ، وَنصب نُجُوم اللَّيْل بكاسفة.
وَأشهر الجوابات فِي هَذَا وأعرفها، وأقربها مأخذًا أَن جملَة معنى هَذَا القَوْل: أَن الشَّمْس لَمْ تَقْوَ عَلَى كَسْفِ النُّجُوم وَالْقَمَر لإظلامها وكسوفها، وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: نَصَبِ نُجُوم اللَّيْل بقوله: تبْكي، وَالْمعْنَى: تبْكي عَلَيْك مُدَّة نُجُوم اللَّيْل وَالْقَمَر، فنصب عَلَى الظّرْف.
وَحكى عَنِ الْعَرَب: لَا أُكَلِّمك سَعْد الْعَشِيرَة أَيّ زَمَانَه، وقَالَ آخَرُونَ: المعني تغلب ببكائها عَلَيْك بكاءَ نُجُوم اللَّيْل، وَفِي هَذَا التَّأْوِيل وَجْهَان، أَحَدهمَا أَن يَكُون أُرِيد بالنجوم وَالْقَمَر الساداتُ الأماثل، كَمَا قَالَ النَّابِغَة فِي مدح النُّعْمَان بْن الْمُنْذر:
ألم تَرَ أَن اللَّه أَعْطَاك سُورةً ... تَرى كُلّ ملكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ
فَإنَّك شمس والملوكُ كواكبُ ... إِذا طلعتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وَقَدْ تَأَول الْمُفَضَّل الضَّبِّيّ قَول الفَرَزْدَق:
أخذْنا بآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُم ... لنا قمراها والنجومُ الطوالِعُ
أَنَّهُ عَنى بالقمر: مُحَمَّدًا وإِبْرَاهِيم صلّى اللَّه عَلَيْهِمَا، وبالنجوم الطوالع: أَئِمَّة الدّين وخلفاء الْمُسْلِمِين، وَإِن كَانَ غَيره قَدْ تَأَول ذَلِكَ أَنَّهُ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب، وَمثل هَذَا أَيْضا:
وَمَا لتغلب إِن عدوا مساعيهم ... نجمٌ يُضيءُ وَلا شمسٌ وَلا قَمَرُ
وَهَذَا التَّأْوِيل فِي تبْكي أَي تغلب ببكائها من الْبَاب الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: خاصمني فَخَصمته وغالبني فغلبته، كَمَا قَالَ الأخطل:
إِن الفَرَزْدَق صَخْرَة ملمومةٌ ... طَالَتْ فَلَيْس نيالها الأوعالا
يُرِيد: طَالَتْ الأوعال فَلَيْسَتْ تنالها أَنْت، ذهب إِلَى هَذَا أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي، وَمَا علمت أحدا سبقه إِلَيْهِ، وجائزٌ أَن يَكُون الْمَعْنى: أَن الأوعال ليستْ تنَال الصَّخرة وَقَدْ طالتها، وَتَكون من بَاب الفاعلين والمفعولين اللَّذين يفعل كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه مثل مَا فعل بِهِ، مثل: ضربت وضربني زيدٌ وزيدًا، وَلِهَذَا مَوضِع ييسر فِيهِ.
وَأما من رَوَى: نُجُوم اللَّيْل والقمرا، فَإنَّهُ من بَاب الْمَفْعُول مَعَه، كَقَوْلِهِم: اسْتَوَى المَاء والخشبة، وَمَا صنعت وأباك، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
فكونُوا أنْتُمُ وَبَنِي أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الْكُلْيَتَيْنِ من الطَّحَالِ
ويروى: الشَّمْس كاسفةً لَيست بطالعة، فَإنَّهُ استعظم أَن تطلع وَلا تكسف مَعَ الْمُصَاب.
وَمثل: ألم تكسف الشَّمْس فِي الْبَيْت الَّذِي قدمنَا ذكره، مثل هَذَا قَول الشَّاعِر:
أَيَا شَجَرَ الخابُور مَالَكَ مُورقًا ... كأنَّكَ لَمْ تَجْزَع عَلَى ابْن طَرِيف(1/251)
فَتى لَا يُحِبُّ الزَّادَ إِلا من التُّقَى ... وَلا المالَ إِلا من قَنَاةِ سُيُوفِ
احذر هَؤُلاءِ الْخَمْسَة
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد مولى بني هِشَام، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْقُرَشِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْهُذلِيّ، عَنْ أَبِي حَمْزَة الثمالِي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْن عَلِيّ، قَالَ: قَالَ لي أَبِي: يَا بني! انْظُر خَمْسَة لَا تحادِثْهُمْ وَلا تُصَاحِبْهُمْ، وَلا تُرى مَعهم فِي طَرِيق، قُلْتُ: يَا أبه! جُعِلتُ فِدَاكَ، من هَؤُلاءِ الْخَمْسَة؟ قَالَ: إياك ومصاحبةَ الْفَاسِق، فَإنَّهُ يبيعك بأكلةٍ أَوْ أقل مِنْهَا، قُلْتُ: يَا أبه! وَمَا أقل مِنْهَا؟ قَالَ: الطمع فِيهَا ثُمّ لَا ينالها. قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الثَّانِي؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الْبَخِيل، فَإنَّهُ يخذلك فِي مَاله أحْوج مَا تكون إِلَيْهِ، قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الثَّالِث؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الْكذَّاب فَإنَّهُ يقرب مِنْك الْبعيد ويباعد مِنْك الْقَرِيب، قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الرَّابِع؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الأحمق، فَإنَّهُ يحذرك مِمَّنْ يُرِيد أَن ينفعك فيضرك، قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الْخَامِس؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الْقَاطِع لرحمه، لِأَنِّي وجدته ملعونًا فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي الَّذِين كفرُوا، " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ " إِلَخ، وَفِي الرَّعْد " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ " الآيَةَ، وَفِي الْبَقَرَة: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا " إِلَى آخر الآيةِ.
وَاحْذَرْ هَؤُلاءِ إِن ...
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن وسيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن أَخِي الْأَصْمَعِي، عَنْ عمّه، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلاء: يَا عَبْد الْملك: كن من الْكَرِيم عَلَى حذرٍ إِن أهنته، وَمن اللَّئِيم إِذا أكرمته، وَمن الْعَاقِل إِذا أحرجته، وَمن الأحمق إِذا مازحته، وَمن الْفَاجِر إِذا عاشرته، وَلَيْسَ من الْأَدَب أَن تجيب من لَا يَسْأَلك، وَلا تسْأَل من لَا يُجيبك، أَوْ تُحَدِّث من لَا يُنْصِت لَك.
قَالَ القَاضِي: وَكَأن قَول البحتري:
وسألتُ من لَا يستجيب فَكنت فِي اس ... تخباره كمجيب من لَا يسْأَل
مأخوذٌ من قَول أبي عَمْرو فِي هَذَا الْخَبَر، وَمَا ذكره من سُؤال من لَا يُجيب، وَإجَابَة من لَمْ يسْأَل.
معنى تعاوره الشُّعَرَاء
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن إِسْحَاق الحائري الْمَوْصِلِيّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: كُنْت فِي منزل أَبِي عَبْد اللَّه نفطويه إِذْ دخل عَلَيْه غلامٌ هاشمي نضر الْوَجْه، فَقَالَ لَهُ: يَا أستاذ! قَدْ عملت من الشّعْر بَيْتَيْنِ اسمعهما، فَقَالَ: أنْشد، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
كم صديقٍ منحته صفو ودي ... فجفاني وملني وقلاني(1/252)
قل مَا مل ثُمّ عاود وَصلي ... بَعْدَمَا ذمّ صُحْبَة الخلان
قَالَ نفطويه: يَا موصلي! لَيْسَ تجيئون بِمثل هَذِهِ الملاحات. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فأمسكتُ سَاعَة ثُمّ عملتُ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ:
أَحْمد اللَّه مَا امتحنت صديقا ... لي إِلا نَدِمت عِنْد امتحاني
لَيْت شعري خصصت بالغدر من ... كُلّ صديقٍ أم ذَاك حكم الزَّمَان
قَالَ القَاضِي: وَقد قَالَ متقدموا الشُّعَرَاء ومتأخروهم فِيمَا تضمنته هَذِهِ الأبيات الْأَرْبَعَة مَا يتعب جمعه ويشق استيعابه، ولعلنا نودع مجَالِس كتَابنَا هَذَا كثيرا مِنْهُ إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا:
ذممتك جاهدًا حَتَّى إِذا مَا ... بلوت سواك عَاد الذَّم حمدا
وَلَم أحمدك من خيرٍ وَلَكِن ... وجدت سواك شرا مِنْك جدا
فعدت إِلَيْك مبتئسًا ذليلا ... لِأَنِّي لَمْ أجد من ذَاك بدا
كذي جوعٍ تحامى أكل ميتٍ ... فَلَمَّا اضْطر عَاد إِلَيْهِ شدا
وَالْبَيْت السائر فِي هَذَا الْمَعْنى:
عتبتُ عَلَى بشرٍ فَلَمَّا جفوته ... وعاشرت أَقْوَامًا بكيتُ عَليّ بشر
رُبمَا نفع الْحمق
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ، حَدَّثَنَا ابْن الْمُدبر، قَالَ: انْفَرد الرشيد وعِيسَى بْن جَعْفَر بْن المَنْصُور والْفَضْل بْن الرَّبِيع فِي صيد من الموكب، فَلَقوا أَعْرَابِيًا مليحاً فصيحًا فولع بِهِ عِيسَى إِلَى أَن قَالَ لَهُ: يَا ابْن الزَّانِيَة! فَقَالَ: بئس مَا قُلْتُ، قَدْ وَجب عَلَيْك ردهَا أَو الْعِوَض، فارض بِهَذَيْنِ المليحين يحكمان بيني وَبَيْنك، فَقَالَ: قَدْ رضيت، فَقَالا: يَا أَعْرَابِي! خُذْ مِنْهُ دانقين عوضا من شتمك، فَقَالَ: أَهَذا الْحُكْمُ؟ فَقَالا: نعم، فَقَالَ: هَذَا درهمٌ وأمكم جَمِيعًا زانيه، وَقد أرجحت لَكمَا بترك مَا وَجب لي.
فغلب عَلَيْهِم الضحك، وَمَا كَانَ لَهُم سرُور يومهم ذَلِكَ غَيْر الْأَعرَابِي، وَضم الرشيد الْأَعرَابِي إِلَيْهِ وَخص بِهِ، وَكَانَ يَدعُوهُ فِي أكثرالأوقات، فَكَانَ الْأَعرَابِي بعد ذَلِكَ يَقُولُ للرشيد: لَو عرفت لأبقيت، ولربما نفع الْحمق.
المجلِسُ الرَّابِع وَالثَلاثونْ
شكره الله أَربع خِصَال
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهَ الْعَلَوِيُّ الْعَيَّاشِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بن(1/253)
جَعْفَر ابْن أَبِي طَالِبٍ الْجَعْفَرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْخَصِيبِ الْحَنَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ بَزَّازٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ شَكَرَكَ عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ كُنْتَ عَلَيْهِنَّ مُقِيمًا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا هُنَّ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَوْلا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَبَّأَكَ بِهِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ عَنْ نَفْسِي كَرَاهِيَةَ التَّزْكِيَةِ.
إِنِّي كَرِهْتُ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ لأَنِّي رَأَيْتُهَا لَا تَنْفَعُ وَلا تَضُرُّ، وَكَرِهْتُ الزِّنَا لأَنِّي كَرِهْتُ أَنْ يُؤْتَى إِلَيَّ، وَكَرِهْتُ شُرْبَ الْخَمْرِ لأَنِّي رَأَيْتُهَا مُنْقِصَةً لِلْعَقْلِ، وَكُنْتُ إِلَى أَنْ أَزِيدَ فِي عَقْلِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَنْقِصَهُ، وَكَرِهْتُ الْكَذِبَ لأَنِّي رَأَيْتُهُ دَنَاءَةً.
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر من المحاسن لظَاهِر مَا فِيهَا من الْفَضْل لِذَوي اللب وَالْعقل، مَا لَا خَفَاء بِهِ لمن أحسن النّظر لنَفسِهِ، ونصح لَهَا، وحرص عَلَى رشدها وصلاحها، ونزهها عَمَّا يرديها ويشينها.
وَقَدْ أَتَت الشَّرِيعَة بِالدُّعَاءِ إِلَى هَذِهِ الْخِصَال، ووكدتها وحضت عَلَيْهَا وأيدتها، وَذَلِكَ أظهر من أَن يحْتَاج إِلَى ذكر مَا أَتَى بِهِ التَّنْزِيل، وأَنْبَأَ بِهِ الرَّسُول، وَرُوِيَ عَنْ عُلَمَاء أَهْل الْفِقْه والتأويل، وَأولى التَّقَدُّم فِي الْفَهم والتحصيل، وَالْأَمر فِيهِ أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى الإطلالة بإحضار مَا رُوِيَ فِيهِ.
وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لما يرضيه، وعصمنا من الضَّلَالَة وهدانا لصالح الْأَعْمَال وَحميد الفعال، وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيد، الْعلي الْمجِيد.
مَا كَانَ زِيَاد يَقُوله للرجل إِذا ولاه عملا
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، عَنْ يُونُس، قَالَ: كَانَ زيادٌ إِذا وُلّى رَجُلا عملا قَالَ لَهُ: خُذْ عَهْدك وسر إِلَى عَمَلك، وَاعْلَم أنَّكَ مَصْرُوف رَأس سنتك، وَأَنَّك تصير إِلَى أَربع خلال، فاختر لنَفسك، إِنَّا إِن وجدناك أَمينا ضَعِيفا استبدلنا بك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وَإِن وجدناك قَوِيا خائنًا استهنَّا بقوتك، وأحسنَّا عَلَى خِيَانَتك أدبك، وأوجعنا ظهرك، وثقلنا غرمك، وَإِن جمعت علينا الجرمين جَمعنَا عَلَيْك المضرتين، وَإِن وجدناك أَمينا قَوِيا زِدْنَا فِي عَمَلك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مَالك، وأوطأنا عقبك.
معنى أوطأنا عقبك
قَالَ القَاضِي: قَول زِيَاد: وأوطأنا عقبك، يُرِيد أَن نشرفك وننوه بك ونرفع من قدرك، فيكثر أتباعك، ويطأ الرِّجَال عقبك، باتبَاعهمْ إياك، وازدحامهم فِي موكبك، وَالْعرب تَقُولُ للرجل إِذا وَصفته بالسؤدد: فلَان موطأ الأعقاب، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:(1/254)
يَا سيِّدًا مَا أَنْتَ مِنْ سيدٍ ... مُوَطَّأَ الأَعْقَابِ رَحَب الذِّرَاعِ
قَوَّالَ معروفٍ وَفَعَّالَهُ ... وَهَّابَ أُمَّاتِ الفصال الرِّبَاع
قَالَ هَذَا فِي الشّعْر: موطأ الأعقاب، وَإِنَّمَا للْإنْسَان عقبان عَلَى أحد وَجْهَيْن، إِمَّا أَن يَكُون رَأْي الْإِثْنَيْنِ جمعا. كَمَا قَالَ اللَّه جلّ جَلَاله: " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قَالُوا: لَا تَخَفْ، خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بعض " إِلَى قَوْله: إِنَّ هَذَا أَخِي ... ، وَإِمَّا يَكُون جمع العقبين بِمَا حولهما كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ... شُرُفَاتُهُ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ
فَجَمَعَ اللَّبَّة بِمَا حَوْلَهَا.
وقَالَ: أمات فِي جمع أم، وَهَذَا مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب، وَقَدْ زعم بَعضهم أَن أمات تسْتَعْمل فِي الْبَهَائِم وَأُمَّهَات تسْتَعْمل فِي الأناسي، وَالْجُمْهُور عَلَى تَجْوِيز ذَلِكَ فِي الْجَمِيع، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر:
إِذَا الأُمَّهَاتُ قَبَحْنَ الْوُجُوه ... فَرَجْتَ الظَّلامَ بِأُمَّاتِكَا
وَفِي مَوَاضِع من هَذَا الْبَاب خلاف بَيْنَ الْكُوفِيّين والبصريين لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، واللغة الْمَشْهُورَة أُمَّهَات، وَفِي الْوَاحِدَة هَاء مقدرَة، وَرُبمَا أظهرت، كَمَا قَالَ الراجز:
أُمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي
واللغة الْعَالِيَة المستفيضة السائرة الَّتِي جَاءَ بهَا الْقُرْآن الْكَرِيم فِي مَوَاضِع كَثِيرَة: أم وَأُمَّهَات، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأمه آيَة "، وقَالَ تَعَالَى: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ".
مُعَاوِيَة وإعجابه بولده يَزِيد
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأضَاحِيُّ الْمَعْرُوفُ بِحَرَمِيٍّ، ثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّه بْن شَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن عَمْرو ابْن مُعَاوِيَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسَتْ مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيَّةُ تُرَجِّلُ ابْنَهَا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَمَيْسُونُ يَوْمَئِذٍ مُطَلَّقَةٌ، وَمُعَاوِيَةُ وَفَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِمَا، وَيَزِيدُ وَأُمُّهُ لَا يَعْلَمَانِ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ تَرْجِيلِهِ نَظَرَتْ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهَا وَقَبَّلَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بَيْتًا مِنَ شِعْرٍ:
إِذَا مَاتَ لَمْ تُفْلِحْ مُزَيْنَةُ بَعْدَهُ ... فَنُوطِي عَلَيْه يَا مُزَيْنُ التَّمَائِمَا
قَالَ: وَمَضَى يزِيد فَأتبعهُ فَاخِتَةُ بَصَرَهَا، وَقَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ سَوَادَ سَاقَيْ أُمِّكَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ رَأَيْتِهَا؟ أَمَا وَاللَّهِ عَلَى ذَاك لَمَا فَرَّجَتْ عَنْهُ وَرِكَاهَا خيرٌ مِمَّا تَفَرَّجَتْ عَنْهُ وَرِكَاكِ.
وَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ مِنْ بِنْتِ قَرَظَةَ عَبْدُ الله، وَكَانَ أَحمَق النَّاسِ، قَالَتْ فَاخِتَةُ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّكَ تُؤْثِرُ هَذَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَوْفَ أُبَيِّنُ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى تَعْرِفِيهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومِي مِنْ مَجْلِسِكِ، يَا غُلامُ! ادْعُ لِي عَبْدَ اللَّهِ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا بُنَيَّ! إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ(1/255)
أُسْعِفَكَ وَأَنْ أَصْنَعَ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، فَسَلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَسْتَ تَسَلْهُ شَيْئًا إِلا أَعَطَاكَهُ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْتَرِيَ لِي كَلْبًا فَارِهًا وَحِمَارًا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا بُنَيَّ! أَنْتَ حِمَارٌ وَنَشْتَرِي لَكَ حِمَارًا، قُمْ فَاخْرُجْ، قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ يَا غُلامُ! ادْعُ لي يزيداً، فَدَعَاهُ.
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يُسْعِفَكَ وَيُوَسِّعَ عَلَيْكَ وَيَصْنَعَ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، فَاسْأَلْهُ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي بَلَّغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَأَرَاهُ فِي هَذَا الرَّأْيَ، حَاجَتِي أَنْ تَعْقِدَ لِيَ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِكَ، وَتُوَلِّيَنِي الْعَامَ صَائِفَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُحْسِنَ جَهَازِي وَتُقَوِّيَنِي، فَتَكُونَ الصَّائِفَةُ أَوَّلَ أَسْفَارِي، وَتَأْذَنَ لِي فِي الْحَجِّ إِذَا رَجَعْتُ وَتُوَلِّيَنِي الْمَوْسِمَ، وَتُزِيدَ أَهْلَ الشَّامِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَتجْعَل ذَلِك بشفاعتي، وتفرض لأَيْتَامِ بَنِي جُمَحَ وَأَيْتَامِ بَنِي سَهْمٍ وَأَيْتَامِ بَنِي عَدِيٍّ، قَالَ: مَالك وَلِبَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ: لأَنَّهُمْ جَالَفُونِي وَانْتَقَلُوا إِلَى دَارِي، قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ - إِذَا رَجَعْتَ - ذَلِكَ بِكَ، وَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَقَالَ لابْنَةِ قَرَظَةَ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَوْصِهِ بِي، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، فَفَعَلَ.
قَالَ القَاضِي: قدر روينَا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر، وَفِيه: أنَّ عَبْد اللَّه سَأَلَ مَالا وأرضًا، وَأَن يَزِيدَ قَالَ لمُعَاوِيَة: اعْتِقْني من النَّار أعتق اللَّه رقبتك من النَّار، فَقَالَ لَهُ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنِّي وجدتُ فِي الْأَثر أَنَّهُ " من تقلَّد أَمر الأُمَّةِ ثَلَاثَة أَيَّام حَرّمه اللَّهُ عَلَى النَّار "، فاعهد إِلَيّ من بعْدك.
سيدة النّساء
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعِجْلِيُّ الْبَزَّازُ الْمَعْرُوفُ بِالْمَرَاجِلِيِّ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَرَ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُجَالِدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَرَّ بِي مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا شَعْبِيُّ! قُمْ، فَقُمْتُ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي وَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ فَقَصَّرْتُ، فَقَالَ: ادْخُلْ يَا شَعْبِيُّ، فَدَخَلَ حُجْرَةً فَقَصَّرْتُ، فَقَالَ: ادْخُلْ يَا شَعْبِيُّ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتًا فَقَصَّرْتُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَدَخَلْتُ، فَإِذَا امْرَأَةٌ فِي حَجَلَةٍ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ هَذِهِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذِهِ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لَيْلَى، وتمثَّل:
وَمَا زلتُ فِي ليلى لَدُنْ طَرَّ شَاربي ... إِنِّي الْيَوْم أُخْفِي حُبَّها وأداجنُ
وأحْمِلُ فِي ليلى لقومٍ ضغينةً ... وتُحْمَلُ فِي ليلى عليَّ الضغائنُ
ثُم قَالَ لي: يَا شَعْبِي! إِنَّهَا اشتهتْ عليّ حَدِيثك، فحادثْها، وَخرج وتَرَكنا.
قَالَ: فَجعلت أُنْشِدُها وتُنْشِدُني، وأحادثها وتحادثُني حَتَّى أنشدتها قَول قَيْس بْن ذُرَيْح:
أَلا يَا غُراب البَينْ قَدْ طِرْتَ بالَّذِي ... أُحاذِرُ من لُبْنَى فَهَل أنْتَ واقِعُ
تبْكي عَلَى لُبنى وَأَنت قتلتَها ... وَقَدْ هلكتْ لُبْنَى فَمَا أَنْت صَانِعُ
قَالَ: فَلَقَد رَأَيْتهَا وَفِي يَدهَا غراب تنتفُ ريشَه وتضربُه بقضيبٍ وتَقُولُ لَهُ: يَا مَشُوم.
وغراب يُضرب فِي سوق الطير
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير، قَالَ: قَالَ الْخَلِيل بْن سَعِيد: مررتُ بسوق الطير فَإِذا النّاس قَد اجْتَمعُوا يركبُ بعضُهم بَعْضًا فاطلعت فَإِذا أَبُو السّائب قَابِضا عَلَى غرابٍ يباعُ قَدْ أَخَذَ طرف رِدَائه، وَهُوَ يَقُولُ للغراب يَقُولُ لَك قَيْس بْن ذُرَيْح:(1/256)
أَلا يَا غُراب البَينْ قَدْ طِرْتَ بالَّذِي ... أُحاذِرُ من لُبْنَى فَهَل أَنْت واقعُ
ثُمّ لَا يَقع ويضربه بردائه والغراب يَصِيح.
وَجَارِيَة تُغنِّي فِي ذَمِّه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَمُوت بْن الْمُزَرّع، قَالَ: كُنْت آتِي أَبَا إِسْحَاق الزيَادي إِذْ مَرَّت بِهِ أمةٌ سَوداء شَوْهاء، فَقَالَ لَهَا: يَا عُنَيْزة! أسمعيني:
مَرَّ بالبَيْن غرابٌ فَنَعَبْ
فَقَالَت: لَا: واللَّهِ، أَو تهب لي قِطْعَة.
فَأخْرج صريرة من جيبه فناولها قِطْعَة أريت أَن فِيهَا ثَلَاث حباتٍ، فَوضعت الجرة على ظهرهَا وَقَعَدت عَلَيْهَا ثُمّ رفعت عقيرتها:
مَرّ بالبَيْنِ غُرَابٌ فنعب ... لَيْت ذَا الناعبَ بالبين كَذَبْ
فلحاك اللَّهُ من طيرٍ فقد ... كنت لَو شئتَ غَنِيًّا أَن تُسَبْ
قَالَ أَبُو بَكْر: فأحْسَنَتْ.
هَذَا الطَّائِر الْمَظْلُوم
وأنشدني الحكيمي لأبي الشيص:
النَّاس يلحون غرا ... ب الْبَيْنِ لما جَهلُوا
ومَا غُرَابُ الْبَين إِلا ... ناقةٌ أَوْ جَمَلِ
وَمَا على ظهر غرا ... ب البَيْنُ تُمطى الرِّحَلُ
وَلا إِذا صَاح غرا ... ب فِي الديار احتملوا
مَا فرق الألاف بِعْ ... د اللَّه إِلا الإبلُ
قَالَ القَاضِي: وأنشدني مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن مقسم، قَالَ: أَنْشدني أَحْمَد بْن يَحْيَى لِأَحْمَد بْن مَيَّة - وَهُوَ أحد الظرفاء - شعرًا:(1/257)
يسبُّ غرابَ الْبَين ظُلْمًا معاشرُ ... وهم آثروا بُعْدَ الحبيب عَلَى الْقُرْبِ
وَمَا لغرابِ البينِ ذنبٌ فأبتدي ... بِسَبِّ غُرابِ الْبَين لكنه ذنبِي
فيا شَوْقُ لَا تَنْفَدْ وَيَا دَمْعُ فِضْ وزِدْ ... وَيَا حُبُّ راوح بَيْنَ جنبٍ إِلَى جنبِ
وَيَا عاذلي لُمْني ويَا عَائِدي الْحَنِي ... عَصَيتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي التُّرْبِ
إِذا كَانَ ربِّي عَالما بسريرتي ... فَمَا النَّاسُ فِي عَيْني بأعظمَ من رَبِّي
حقق اللَّه لَهُم أمنياتهم
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْن الْقَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا، كُنَّا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن الزبير، وَمصْعَب بن الزبير، وَعبد الْملك بن مَرْوَان، قَالَ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ حَدِيثِهِمْ: لِيَقُمْ رجلٌ رجلٌ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَيَسْأَلِ اللَّهَ حَاجَتَهُ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَعَةٍ.
قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مولودٍ وُلِدَ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عظيمٌ، أَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ وَحُرْمَةِ عَرْشِكَ، وَبِحُرْمَةِ نَبِيِّكَ، أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْحِجَازَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلافَةِ.
وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا مُصْعَبُ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رَبُّ كُلِّ شيءٍ وَإِلَيْكَ يَصِيرُ كُلُّ شيءٍ، أَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شيءٍ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْعِرَاقَيْنِ، وَتُزَوِّجَنِي سُكَيْنَةَ بنت الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَقَامَ وَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرَضِينَ السَّبْعِ، ذَاتِ النَّبْتِ بَعْدَ الْقَفْرِ، أَسْأَلُكَ بِمَا سَأَلَكَ الْمُطِيعُونَ لأَمْرِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ، وَبِحَقِّ الطَّائِفِيِنَ حَوْلَ بَيْتِكَ، أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَلا يُنَازِعُنِي أحدٌ إِلَّا أتيت بِرَأْسِهِ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ.
ثُمَّ قَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَامَ حَتَّى أَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رحمنٌ رَحِيمٌ، أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَكَ، وَأَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ، أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوجِبَ لِيَ الْجَنَّةَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَا ذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى رَأَيْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَبُشِّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْجَنَّةِ.(1/258)
أسلوب الْحَكِيم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو، حَدَّثَنَا أَبُو عبد الله الْقرشِي، حدثنامحمد بْن الضَّحَّاك الْخُزَاعيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
أَمر الحَجَّاج بإحضار الغَضْبَانِ بْن القَبَعْثَرِي، وقَالَ الحَجَّاج: زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يكذبْ قَطُّ، وَالْيَوْم يكذب، فَلَمَّا دخل عَلَيْه، قَالَ: قَدْ سَمِنْتَ يَا غَضْبَان! قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، القَيْدُ والرَّتْعَةُ، والخَفْضُ والدَّعَة، وقِلَّةِ التَّعْتَعَة، وَمن يكن ضيف الْأَمِير يَسْمَن، قَالَ: أتُحِبُّني يَا غَضْبَان؟ قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَوْ فرقٌ خيرٌ من مَحَبَّتي، قَالَ: لأحملنَّك عَلَى الأَدْهم، قَالَ: مثلُ الْأَمِير حَمَلَ عَلَى الأدهم والكميت الْأَشْقَر، قَالَ: إنَّه حَدِيد، قَالَ: لِأَن يَكُون حديدًا خيرٌ من أَن يَكُون بليدًا.
الرّدُّ الخَالِص
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاسُ الْمَرْثَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الطلحي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! واللَّهِ لَكَأَنَّ عِمَّتُكَ هَذِهِ خِمْرَةُ هِنْدٍ عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهَا فِيمَا يُوصَفُ لِي. قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهُ مُعَاوِيَةُ بِشَيْءٍ.
وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: مرْحَبًا، هَاهُنَا فأجلسه بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعِيدٍ عَلَى السَّرِيرِ، فَسَاءَلَهُ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ بِرُّ هَذَا بِكَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا أَرَدْتُ بِهَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: وَمَا أَرَدْتَ بِخِمْرَةِ هِنْدٍ.
لَوْلَا الْحيَاء
حَدَّثَنِي عُثْمَان بْن مُحَمَّد بْن شَاذان القَاضِي، حَدَّثَنَا عَبْد الْملك بْن الْقَاسِم الْحَارِثِيّ، قَالَ: بَلغنِي أَن إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق القَاضِي كَانَ يُؤذِّن، فمرَّ بِهِ غلامٌ حسنُ الْوَجْه، فَأطَال النّظر إِلَيْهِ، ثُمّ قَالَ عِنْد فَرَاغه من أَذَانه:
لَوْلَا الحياءُ وأنني مستورُ ... والعيبُ يلحقُ بالكبير كبيرُ
لَحَلَلْتُ بالأرضِ الَّتِي أَنْتُم بهَا ... ولكانَ منزلُنا هُوَ المهجورُ
شَيْء من الصبوة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: كنتُ عِنْد ثَعْلَب جَالِسا فَجَاءَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ، فَقَالَ لَهُ: أهاهنا شيءٌ من صبوتك، فأنشده:
سقى الله أَيَّامًا لنا وليالينا ... لَهُنَّ بِأَكْنَافِ الشَّبَاب ملاعب
إِذْ الْعَيْش غض وَالزَّمَان بعزةٍ ... وَشَاهد آفاتِ المحبين غائبُ(1/259)
أحسن الشّعْر
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: استنشدني أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بْن عَلِيّ بعقب قصيدة أنشدتُه إِيَّاهَا ومدحته فِيهَا، وَسَأَلته الْجُلُوس فَأَجَابَنِي، وقَالَ لي فِي شيءٍ مِنْهَا: لَو أبدلتَ مَكَانَهُ؟ فَقلت لَهُ: هَذَا كلامُ الْعَرَب، فَقَالَ: أحسنُ الشّعْر مَا دخل القلبَ بِلَا آذان، هَذَا بعد أَن بدلتُ الْكَلِمَة، فَقَالَ لي إِنْسَان بِحَضْرَتِهِ: مَا أَشد وُلُوعك بِذكر الْفِرَاق فِي شعرك! فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وأيُّ شيءٍ أمَضُّ من الْفِرَاق؟ ثُم حكى عَنْ مُحَمَّد بْن حبيب، عَنْ عمَارَة بْن عقيل بْن بِلَال بْن جرير، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَبوك صانعًا حَيْثُ يَقُولُ:
لَو كنتُ أَعْلَمُ أَن آخِرَ عَهْدِكُمْ ... يوْم الرَّحيلِ فعلتُ مَا لَمْ أفْعَلِ
قَالَ: يَقْلَعُ عينه وَلا يرى مَظْعَنَ أحبابه
تعليقات بلاغية ونحوية
قَالَ القَاضِي: وَلي من أبياتٍ لَمْ يَحْضُرْني حفظهَا فِي هَذَا الْوَقْت أَيْضا هِيَ فِي معنى قَول أَبِي سُلَيْمَان دَاوُد فِي هَذَا الْخَبَر:
تَخْترِقُ الْحُجْبَ بِلَا حَاجِبِ ... وتَدْخُلُ الأُذْنَ بِلَا آذِنِ
والأُذْنُ مَعَ الْآذِن يُؤْثر للمجانسة، وَمَا يدخُل الْقلب أبلغ فِي تَحْقِيق الْمَعْنى وَقَوله:
لَو كنتُ أَعْلَم أَن آخِرَ عَهْدِكُمْ ... يوْم الرَّحيلِ.....................
يرْوى: يوْم الرحيل رفعا ونصبًا، فَمنْ نَصبه فَعَلَى أَنَّهُ ظَرْف، وَالْمعْنَى أَن آخر عهدكم فِي يوْم الرحيل، وَمن رَفَعَهُ جعل يوْم الرحيل نفسَهُ هُوَ آخر الْعَهْد.
وَقَدْ قَرَأت القَرَأَةُ: " قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة "، فَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ الْموعد هُوَ الْيَوْم، وَمن نَصَبِ جعل الْموعد فِي الْيَوْم.
وقَالَ يُونُس: سألتُ رُؤْبَة: أَيْنَ منزلُكَ؟ فَقَالَ: شَرْقِيُّ الْمَسْجِد، وقَالَ جرير:
هَبّتْ شَمَالا فذِكْرَى مَا ذَكَرْتُكُمُ ... إِلَى الصَّفَاةِ الَّتِي شَرْقِيَّ حَوْرَانَا
فنصب، وَالرَّفْع جَائِز وَذَلِكَ عَلَى مَا مضى من بياننا، وَالِاخْتِيَار عِنْدِي رفع قَول رُؤْبة وَنصب قَول جرير فِي بَيته عَلَى مَا قَالا، مَعَ جَوَاز خِلَافه، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئل عَنْ نفس منزله فَأخْبر أَنَّهُ شَرْقي الْمَسْجِد، وَيقدر جَوَابه: منزلي هُوَ شرقيُّ الْمَسْجِد أَوْ شرقيُّ الْمَسْجِد هُوَ منزلي، هَذَا هُوَ عُرْف النّاس فِي السُّؤَال عَنْ مثل هَذَا، وَالْجَوَاب عَنْ: مَا ثوبُك؟ فَيُقَال: خزٌّ أَيّ من خزّ، وَمَا لون فَرَسِك؟ فَيُقَال: أشقرُ، وَلا يُقَالُ فِي الْغَالِب: شُقْرة، والنَّصْبُ فِيهِ عَلَى معنى أَنَّهُ سُئل فِي أَيّ موضعٍ مَنْزِلك؟ فَيُقَال: فِي شرقيِّ الْمَسْجِد، وأمّا شرقيُّ حَوْران فِي بَيت جرير فَمَعْنَاه إِلَى الصفاة الَّتِي هِيَ شَرْقي حوران، وَلَو أُرِيد هَذَا فَالوَجْهُ فِيهِ إظهارُ هِيَ فَيُقَال الَّتِي هِيَ شَرْقي حَوْرَان.
وَقَدْ قَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر: " تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ "، وَالْوَجْه إِذا أُوثِرَ هَذَا الْمَعْنَى أَن(1/260)
يُقَالُ: عَلَى الَّذِي هُوَ أحسن.
يتعلَّقُ بالقضاة حِين يُعْزلون
حَدَّثَنَا ظَاهر بْن مُسْلِم الْعَبْدِيّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عِمْرَانَ الضَّبِّيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حلايس، قَالَ: لما عُزل شريكٌ عَنِ الْقَضَاء تعلَّق بِهِ رَجُلٌ ببغدادَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! لي عَلَيْك ثلثمِائة دِرْهَم فأعْطِنَاهَا، قَالَ: وَمن أَنا؟ قَالَ: أَنْت شريك بْن عَبْد اللَّه القَاضِي، قَالَ: وَمن أَنَّى هِيَ لَك؟ قَالَ: من ثمن هَذَا الْبَغْل الَّذِي تَحْتك، قَالَ: نعم، تَعَال، فجَاء يمشي مَعَه حَتَّى إِذا بلغ الْجِسْر قَالَ: من هَاهُنَا؟ فَقَامَ إِلَيْهِ أولَئِك الشُّرَط، فَقَالَ: خُذُوا هَذَا فاحبسوه وَلَئِن أطلقتموه لأخبرنَّ أَبَا الْعَبَّاس عَبْد اللَّه بْن مَالك، فَقَالُوا: إِن هَذَا الرَّجُل يتَعَلَّق بِالْقَاضِي إِذا عُزِل فيفتدي مِنْهُ، وَقَدْ تعلق بسلمة الْأَحْمَر حِين عزل عَنْ وَاسِط فَأخذ مِنْهُ أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، فَقَالَ: هَكَذَا.
فَكُلِّمَ فِيهِ فَأبى أَن يُطلقه، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن مَالك: إِلَى كم تحبس هَذَا الرَّجُل؟ قَالَ: حَتَّى يَرُدَّ عَلَى سَلَمَة الْأَحْمَر أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، قَالَ: فَرد عَلَى سَلَمَة أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، فجَاء سلمةٌ إِلَى شريك فتشكّر لَهُ، فَقَالَ: يَا ضَعِيف! كُلّ من سَأَلَك مَالَكَ أَعْطيته إيّاه.
لَعَلَّه الْخضر أَوْ إلْيَاس
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَاهِلِيُّ الصَّرَّافُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ فُرَافِصَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلانِ يَتَبَايَعَانِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُكْثِرُ الْحَلِفَ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ رجلٌ فَقَامَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي يُكْثِرُ الْحَلِفَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُكْثِرُ الْحَلِفَ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي رِزْقِكَ إِنْ حَلَفْتَ، وَلا يُنْقِصُ مِنْ رِزْقِكَ إِنْ لَمْ تَحْلِفْ، قَالَ: امْضِ لِمَا يَعْنِيكَ، قَالَ: إِنَّ ذَا مِمَّا يَعْنِينِي، فَلَمَّا أَخَذَ يَنْصَرِفُ عَنْهُمَا، قَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ آيَةِ الإِيمَانِ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ، وَأَلا يَكُونَ فِي قَوْلِكَ فضلٌ عَلَى عَمَلِكَ، وَاحْذَرِ الْكَذِبَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ..
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: الْحَقْهُ فَاسْتَكْتِبْهُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَقَامَ فَأَدْرَكَهُ، فَقَالَ: أكْتِبْنِي هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ، قَالَ: مَا يُقَدِّرُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أمرٍ يَكُونُ.
قَالَ: فَأَعَادَهُنَّ عَلَيَّ حَتَّى حَفِظْتُهُنَّ، ثُمَّ مَشَى مَعَهُ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدَهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخِضْرُ أَوْ إِلْيَاسُ.
سَبْقُ والبة إِلَى بَيْتَيْنِ جَيِّدين
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل بْن الْقَاسِم الشَّرْقِي، حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن سَلام السَّكُونيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن جنَاح الْمحَاربي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نواس يَقُولُ: سبقني والبةُ إِلَى بَيْتَيْنِ من شعرٍ قالهما، وَدِدْتُ أَنِّي سبقته وَأَن بعض أعضائي اختلج مني:(1/261)
وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيان من رَاحَ واغْتَدَى ... لِشُرْب صبوحٍ أَوْ لشُرْب غَبْوقِ
ولكنْ فَتى الفتيان من رَاح واغْتَدَى ... لِضَرِّ عَدُوٍّ أَوْ لِنَفْعِ صديق
أَسمَاء أَوْقَات الشَّرَاب
قَالَ القَاضِي: شُرب الغَدَاةِ يُقال لَهُ فِي كَلَام الْعَرَب: صَبْوح، ويُقَالُ لشرب نصف النَّهَار: القَيْل، ولِشُرْب العَشِيِّ: الغَبُوق، ولشرب اللَّيْل: الفَحْمة، ولشُرب السَّحَر: الجاشِريَّة.
وَقَول أَبِي نواس: وَأَن بعض أعضائي اختلج مني، أَيّ اقْتُطِع، وَمِنْه سمي المقْتَطَعُ من الْبَحْر إِلَى الْوَادي خليجًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
ومُدْرِك أمرٍ كانَ يَأْمُلُ دُونَهُ ... ومختلجٍ من دُونِ مَا كانَ يَأْمُلُ
المجلِسُ الخامِسُ والثَلاثون
طَائِر أَبيض يُرْسل قبل الضَّيْف
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أَبُو حُمَيْدٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرَةُ بْنُ أَشْرَسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ ضَيْفًا إِلَى أَهْلِهِ بَعَثَ طَائِرًا أَبْيَضَ يُسَمَّى ضَيْفًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَيَجِيءُ الطَّائِرُ فَيَقُومُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَعِظَمُ ذَلِكَ الطَّائِرِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا، قَالَ: فَيُنَادِي: يَا أَهْلَ الدَّارِ! وَلَيْسَ يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ سَاعَةً؟ ثُمَّ يُنَادِي الثَّانِيَةَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَيَسْمَعُ صَوْتَهُ جَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأَرْضِ السَّابِعَةِ مَا خَلا الثَّقَلَيْنِ، فَيُجِيبُهُ جِبْرِيلُ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِنْ تَحْتِ عَرْشِ الْجَبَّارِ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا حَاجَتُكَ إِلَى أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَسُولا إِلَى أَهْلِهَا وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ السَّلامَ، وَيَقُولُ إِنَّ فُلانًا يَأْتِيكُمْ ضَيْفًا إِلَى أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَهَذِهِ بَرَكَتُهُ وَرِزْقُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: نَاوِلْنِيهِ لأَقْبِضَهُ، فَيُنَاوِلْهُ جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: مَا هَذِهِ الرُّقْعَةُ فِي مِنْقَارِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّهَا بَرَاءَةٌ لَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ، نَاوِلْنِيهَا فَيُنَاوِلُهُ فَيَقْرَؤُهَا وَيَتَعَجَّبُ جِبْرِيلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ الطَّائِرُ: أَتَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ الطَّائِرُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُحْصِيَ عَلَيْهِمْ حَسَنَاتِهِمْ وَلا أُحْصِي عَلَيْهِمْ سَيِّئَاتِهِمْ مَا دَامَ الضَّيْفُ فِيهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ مَنْ عِنْدِهِمْ خَرَجَ بِذُنُوبِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَرِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَإِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ، وَحَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الضَّيْفُ ضَيْفًا بِذَلِكَ الطَّائِرِ.
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر ترغيب فِي إِضَافَة الضَّيْف وَقَضَاء حق ضيافته، وَدلَالَة عَلَى وجوب حَقه ورفعة منزلَة مُضِيفه، وَلَم تزل الْأُمَم عَلَى اخْتِلاف أديانها وآرائها، وأخلاقها وعاداتها، تستحسن الضِّيَافَة وترغبُ فِيهَا وتتواصى بهَا، وتتحاض عَلَيْهَا، وتتعاير بالرغبة عَنْهَا، والتفريط فِي الْمُسَابقَة إِلَيْهَا، وللعرب من الخصُوصية فِي هَذَا، والحفوف فِيهِ،(1/262)
والمباذلة والمباهاة، وَحسن الِاقْتِدَاء بهَا عَلَيْه والمضاهاة، مَا بزتْ بِهِ مَنْ سواهَا وأبَرَّت عَلَيْه، حَتَّى أَنَّهَا كَانَتْ تتدين باعتقاد وُجُوبه، وَلُزُوم فَرْضه، وتقصب من أَعْرَاض عَنْهُ وتنبذه، وتسبه وتعيبه، وَترى الْحَمد والذم فِيهِ متوارثًا فِي أعقابها وأحسابها، ثُمّ جَاءَ الإِسْلام بتحسين هَذَا الْبَاب وَالنَّدْب إِلَيْهِ وَالتَّرْغِيب فِيهِ، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ "، فَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ الإِسْلامِ، وَأَخْلاقِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَوَائِلِ السَّلَفِ وَأَمَاثِلِ الْخَلَفِ، وَذَوِي الأَدَبِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبَصَائِرِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَعَنِ الشُّعَرَاءِ قَدِيمِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ مَدْحًا وَذَمًّا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى الْمُخْتَارُ مِنْ لَطِيفِهِ وَبَدِيعِهِ، فَضْلا عَنْ أَنْ يُحَاطَ بِجَمِيعِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي بَعْضِ مَجَالِسِ كِتَابِنَا هَذَا صَدْرٌ مِنْهُ، وَنَحْنُ نَأْتِي فِيمَا نَسْتَقْبِلُهُ مِنْهَا بِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُوَّتِهِ ومشيئته ن.
من بركَة آل الْبَيْت
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَلِيّ الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْص بْن مُحَمَّد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن مُحَمَّد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي حمد بْن الخصيب قبل وزارته، قَالَ: كُنْت كَاتبا للسيدة شُجَاع أمّ المتَوَكل، فَإِنِّي ذَات يوْم فِي مجلسي فِي ديواني إِذْ خرج إليّ خَادِم خَاص وَمَعَهُ كيس، فَقَالَ لي: يَا أَحْمَد! إِن السيدة أم أَمِير الْمُؤْمِنِين تقرئك السَّلام، وَتقول لَك: هَذِهِ ألف دِينَار من طيِّب مَالِي، خُذْها وادفعها إِلَى قوم مستحقين تكتبُ لي أَسْمَاءَهُم وأنسابهم ومنازلهم فَكلما جَاءَنَا من هَذِهِ النَّاحِيَة شيءٌ صَرَفْناه إِلَيْهِم، فَأخذت الْكيس وصرت إِلَى منزلي، ووجهت خلف من أَثِق بهم فعرفتهم مَا أمرت بِهِ، وسألتهم أَن يُسموا لي من يعْرفُونَ من أَهْل السّتْر وَالْحَاجة، فأسْمَوْا لي جمَاعَة، ففرقت فيهم ثلثمِائة دِينَار وَجَاء اللَّيْل وَالْمَال بَيْنَ يَدي لَا أُصِيب مُحِقًّا، وَأَنا أفكر فِي سُرَّ من رَأَى وبُعْد أقطارها وتكاثف أَهلهَا، لَيْسَ بهَا محقٌ يَأْخُذ ألف دِينَار، وبَيْنَ يَدي بعضُ حُرَمي وَمضى من اللَّيْل ساعةٌ وغُلِّقت الدُّرُوبُ وَطَاف العَسَسُ، وَأَنا مفكرٌ فِي أَمر الدَّنَانِير، إِذْ سَمِعْتُ بَاب الدَّار يدقُّ، وسَمِعْتُ البواب يكلم رَجُلا من وَرَائه، فَقلت: لبَعض مَنْ بَيْنَ يديّ: اعرف الْخَبَر، فَعَاد إليّ، فَقَالَ لي: بِالْبَابِ فُلان بْن فُلان العَلَويّ يسألُ الْإِذْن عَلَيْك، فَقلت: مُرْه بِالدُّخُولِ، وَقلت: لمن بَيْنَ يَدي من الْحُرم: كونُوا وَرَاء هَذَا السّتْر، فَمَا قَصَدَنا فِي هَذَا الْوَقْت إِلا لحَاجَة، فَدخل وَسلم وَجلسَ، وقَالَ لي: طَرَقَني فِي هَذَا الْوَقْت طَارق لرَسُول اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْه وَآله من ابْنة لرَسُول اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْه وَآله، وَلا واللَّه مَا عندنَا وَلا أعْدَدنا مَا يَعُدّ النّاس، وَلَم يَكُنْ فِي جواري من أَقرع إِلَيْهِ غَيْرك، فَدفعت إِلَيْهِ دِينَارا فَشكر وَانْصَرف، وخرجتْ ربَّةُ الْمنزل، فَقَالَت: يَا هَذَا تدفع إِلَيْك السيدةُ ألفَ دِينَار تدفعُها إِلَى مُحِقٍّ أحقّ من ابْن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا قَدْ شكاه إِلَيْك؟ فَقلت لَهَا: فإيش(1/263)
السَّبِيل؟ قَالَتْ: تدفع الْكيس إِلَيْهِ، قُلْتُ: يَا غُلام! رُدَّه، فردّه فحدّثته بِالْحَدِيثِ وَدفعت الْكيس إِلَيْهِ فَأَخذه وشكر وَانْصَرف، فَلَمَّا ولَّى جَاءَ إبليسُ لَعنه اللَّه، فَقَالَ لي: المتوكلُ وانحرافه عَنْ أَهْل هَذَا الْبَيْت، يُدفع إِلَيْك ألفُ دِينَار تدفعها إِلَى مستحقين تكْتب أَسْمَاءَهُم وأنسابهم ومنازلهم، فإيش تحتج؟ وَقَدْ دفعتَ إِلَى عَلَويٍّ سبعَ مائَة دِينَار. فَقلت لربة الْمنزل: وقعتيني فِيمَا أكره، فإمَّا سَبْعمِائة دِينَار أَوْ زَوَال النعم، وعرَّفتُها مَا عِنْدِي، فَقَالَت: اتكل عَلَى جَدِّهم، فَقلت: دَعِي هَذَا عَنْكِ، المتَوَكل وانحرافه فإيش أحتج إيش أَقُول؟ قَالَتْ: اتكل عَلَى جَدّهم، فَمَا زَالَت بِمثل هَذَا القَوْل وَمثله إِلَى أَن اطمأننت وَسكت وَقمت إِلَى فِرَاشِي، فَمَا استثقلتُ نومًا إِلا وَصَوت الْفُرَانِقِ عَلَى الْبَاب، فَقلت: لبَعض من يَقْرُب مني: مَنْ عَلَى الْبَاب؟ فَعَاد إِلَيّ، فَقَالَ: رَسُول السيدة يَأْمُرك بالركوب إِلَيْهَا السَّاعَة فَخرجت إِلَى صحن الدَّار وَاللَّيْل بحالته والنجوم بحالتها، وَجَاء ثَان وثالث فأدخلتهم، فَقلت: اللَّيْل بحالته! فَقَالُوا: لابد من أَن تركب فركبت فَلم أصل إِلَى الْجَوْسَقِ إِلا وَأَنا فِي موكب من الرُّسُل، فَدخلت الدَّار فَقبض خادمٌ عَليّ يَدي فَأَدْخلنِي إِلَى الْموضع الَّذِي كُنْت أصل، ووقفني، وَخرج خَادِم خَاصَّة من دَاخل فَأخذ بيَدي، وقَالَ: يَا أَحْمَد! إِنَّك تُكلِّم السيدة أم أَمِير الْمُؤْمِنِين فقف حَيْثُ توقف، وَلا تَكَلَّم حَتَّى تُسْأَل، وأدخلني إِلَى دَار لَطِيفَة فِيهَا بيُوت عَلَيْهَا ستورٌ مُسْبَلة، وشمعةٌ وسط الدَّار، فوقَفَنِي عَلَى بابٍ مِنْهَا فوقفت لَا أَتكَلّم، فصاح بِي صائح، قَالَ: يَا أَحْمَد! فَقلت: لبيْك يَا أم أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَت: حسابُ ألف دِينَار، بل حِسَاب سَبْعمِائة دِينَار وبكت، فَقلت فِي نَفسِي: نكبة! علويٌ أَخَذَ المَال وَمضى فَفتح دكاكين التُّجَّار فِي السُّوق وَاشْترى حَوَائِجه، وتحدث فَكتب بِهِ بعض أَصْحَاب الْأَخْبَار، فَأمر المتوكِّل بقتلي وَهِي تبْكي رَحْمَة لي، ثُمّ أمسكتْ عَنِ الْكَلَام، وقَالَتْ: يَا أَحْمَد! حِسَاب ألف دِينَار بل حِسَاب سَبْعمِائة دِينَار، ثُمّ بَكت فَفعلت ذَلِكَ ثَلَاث مَرَّات ثُمّ أمسكتْ، وسَأَلَتْني عَنِ الْحساب، فصدَقْتُها عَنِ الْقِصَّة، فَلَمَّا بلغتُ إِلَى ذكر العَلَويّ بكتْ، وَقَالَت: يَا أَحْمَد! جَزَاك اللَّه خيرا وجزى من فِي مَنْزِلك خيرا، تَدْرِي مَا كَانَ جرى اللَّيْلَة؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: كُنْت نَائِمَة فِي فِرَاشِي فَرَأَيْت النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: جَزَاك اللَّه خيرا وجزى أَحْمَد بْن الخصيب خيرا، وَمن فِي منزله خيرا، فقد فَرَّجتم فِي هَذِهِ الليلةَ عَنْ ثلاثةٍ من وَلَدِي، مَا كَانَ لَهُم شيءٌ، خُذْ هَذَا الْحلِيّ مَعَ هَذِهِ الثِّيَاب وَهَذِه الدَّنَانِير وادفعها إِلَى العَلَويّ، وَقل لَهُ: نَحْنُ نصرف عَلَيْك مَا جَاءَ من هَذِهِ النَّاحِيَة، وَخذ هَذَا الحليَّ وَهَذِه الثِّيَاب وَهَذَا المَال فادفعه إِلَى
زَوجتك، وَقل: يَا مباركة! جَزَاك الله عناخيراً فَهَذِهِ دلالتك، وَخذ هَذَا يَا أَحْمَد، فدفَعَتْ إليّ مَالا وثيابًا، وخرجتُ يُحملُ ذَلِكَ بَيْنَ يديَّ، وركبتُ منصرفًا إِلَى منزلي، وَكَانَ طريقي عَلَى بَاب العَلويّ، فَقلت: أبدأ بِهِ إِذا كَانَ اللَّه رَزَقنا هَذَا عَليّ يَدَيْهِ، فدقَقْتُ الْبَاب، فَقِيل لي: من هَذَا؟ فَقلت: أَحْمَد بْن الخصيب، فَخرج إليّ فَقَالَ: يَا أَحْمَد هاتِ مَا مَعَك، فَقلت فِي بالي: وَمَا يدْريك مَا معي؟ فَقَالَ لي: انصرفتُ من عنْدك بِمَا أخذتُه مِنْك وَلَم يَكُنْ عندنَا شَيْء فَدخلت عَلَى بِنْت عمي فعرَّفْتُها الْخَبَر، ودفعتُ إِلَيْهَا المَال ففرحَتْ، وَقَالَت: مَا أُرِيد أَن تشتري شَيْئا وَلا آكل شَيْئا، وَلَكِن قُمْ فَصَلِّ أَنْت وادْعُ حَتَّى أؤمِّن عَلَى دعائك، فقمتُ فصلَّيتُ ودعوت وأمّنَتْ ووضعتُ رَأْسِي ونمتُ، فَرَأَيْت جدِّي عَلَيْه السَّلام فِي النّوم وَهُوَ يَقُولُ لي: قَدْ شكرتُهم عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم إِلَيْك، وهم بارُّوكَ بشيءٍ فاقْبَلْه، فدفعتُ إِلَيْهِ مَا كَانَ معي وانصرفتُ، وصرت إِلَى منزلي فَإِذا ربَّة الْمنزل قلقة قَائِمَة تُصلِّي وَتَدْعُو، فعرفتْ أَنِّي قَدْ جِئْت مُعَافًى، فَخرجت إليّ فسألتني عَنْ خبري، فحدَّثْتها الْحَدِيث عَلَى وَجهه، فَقَالَت لي: ألم أقل لَك: أتكل عَلَى جَدِّهم، رأيتَ مَا فعل؟ فدفعتُ إِلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا فأخذتْهُ. وَقل: يَا مباركة! جَزَاك اللَّه عناخيراً فَهَذِهِ دلالتك، وَخذ هَذَا يَا أَحْمَد، فدفَعَتْ إليّ مَالا وثيابًا، وخرجتُ يُحملُ ذَلِكَ بَيْنَ يديَّ، وركبتُ منصرفًا إِلَى منزلي، وَكَانَ طريقي عَلَى بَاب العَلويّ، فَقلت: أبدأ بِهِ إِذا كَانَ اللَّه رَزَقنا هَذَا عَليّ يَدَيْهِ، فدقَقْتُ الْبَاب، فَقِيل لي: من هَذَا؟ فَقلت: أَحْمَد بْن الخصيب، فَخرج(1/264)
إليّ فَقَالَ: يَا أَحْمَد هاتِ مَا مَعَك، فَقلت فِي بالي: وَمَا يدْريك مَا معي؟ فَقَالَ لي: انصرفتُ من عنْدك بِمَا أخذتُه مِنْك وَلَم يَكُنْ عندنَا شَيْء فَدخلت عَلَى بِنْت عمي فعرَّفْتُها الْخَبَر، ودفعتُ إِلَيْهَا المَال ففرحَتْ، وَقَالَت: مَا أُرِيد أَن تشتري شَيْئا وَلا آكل شَيْئا، وَلَكِن قُمْ فَصَلِّ أَنْت وادْعُ حَتَّى أؤمِّن عَلَى دعائك، فقمتُ فصلَّيتُ ودعوت وأمّنَتْ ووضعتُ رَأْسِي ونمتُ، فَرَأَيْت جدِّي عَلَيْه السَّلام فِي النّوم وَهُوَ يَقُولُ لي: قَدْ شكرتُهم عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم إِلَيْك، وهم بارُّوكَ بشيءٍ فاقْبَلْه، فدفعتُ إِلَيْهِ مَا كَانَ معي وانصرفتُ، وصرت إِلَى منزلي فَإِذا ربَّة الْمنزل قلقة قَائِمَة تُصلِّي وَتَدْعُو، فعرفتْ أَنِّي قَدْ جِئْت مُعَافًى، فَخرجت إليّ فسألتني عَنْ خبري، فحدَّثْتها الْحَدِيث عَلَى وَجهه، فَقَالَت لي: ألم أقل لَك: أتكل عَلَى جَدِّهم، رأيتَ مَا فعل؟ فدفعتُ إِلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا فأخذتْهُ.
قَالَ القَاضِي رمة اللَّه عَلَيْه: وجدتُ ابْن الخصيب مخطِئًا فِي نِسْبَة المتَوَكل إِلَى الانحراف عَنْ أَهْل الْبَيْت، وسأبيِّن فِيمَا يَأْتِي من مجَالِس هَذَا الْكتاب مَا يبطل قَوْله إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وقصة أُخْرَى فِي هَذَا الشَّأْن
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشُّحَيْمِيُّ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ الحَرَضِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَوْمًا فَقَالَ لِي: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ قاعدٌ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ، قَالَ لَكَ: أَطْلِقِ الْقَاتِلَ الْمَحْبُوسَ، فَقُلْتُ: لَيْسَ عِنْدِي قَاتِلٌ مَحْبُوسٌ، قَالَ: فَأَمَرْتُ أَنْ يُفَتَّشَ، فَذُكِرَ لِي رجلٌ فَأَمَرْتُ بِإِحْضَارَهِ، فَرُفِعَ فِي قِصَّةٍ أَنَّهُ رجلٌ وُجِدَ مَعَهُ سكينٌ أَوْ أَنَّهُمْ وَجَدُوا السِّكِّينَ مَعَهُ؟ فَقُلْتُ لَهُ: مَا قِصَّتُكَ؟ فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ بتريٌ، عَمِلْتُ كُلَّ بليةٍ مِنَ الزِّنَا وَالْفِسْقِ وَالشَّرِّ وَكُنَّا جَمَاعَةٌ فِي دَارٍ فَأَدْخَلْنَا امْرَأَةً فَصَاحَتْ، فَقَالَتْ: يَا قَوْمُ! اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنِّي امْرَأَةٌ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَمِنْ وَلَدِ فَاطِمَةِ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَدَفَعْتُهُمْ عَنْهَا، فَقَالُوا: أَيَا فَاسِقُ لَمَّا قَضَيْتَ بِحَاجَتِكَ مِنْهَا تَدْفَعُنَا، فَجَاذَبْتُهُمْ وَجَاذَبُونِي حَتَّى قَتَلْتُ رَجُلا مِنْهُمْ وَخلَّصْتُهَا مِنْهُمْ، فَابْتَدَرُونِي وَمَعِيَ السِّكِّينُ وَحُبِسْتُ، قَالَ: قُلْتُ: رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ جَاءَنِي وَأَمَرَنِي بِإِطْلاقِكَ، قَالَ: فَقَالَ: فَإِنِّي تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ كُلِّ شيءٍ كُنْتُ فِيهِ وَلَا أَعُود فِي شَيْء مِنْهُ أَبَدًا فَأَطْلَقْتُهُ.
قَالَ الشُّحَيْمِيُّ: هَذَا مَعْنَى مَا حَدَّثَنِي بِهِ حَفِظْتُهُ مِنْهُ حِفْظًا.
قَالَ القَاضِي: عُمَر بْن الْحَسَن الحَرَضِي هَذَا هُوَ ابْن الأُشْنَاني القَاضِي، والحَرَض فِي كَلَام الْعَرَب الأُشنان والإِناءُ الَّذِي يَجْعَل مِنْهُ الْمُحْرضَة فاتهمه لنا الشحيمي لأَنا حَدَّثَنَا عَنْهُ هَذِهِ الْقِصَّة قبل مَوته بسنين كَثِيرَة.
رَأْي القَاضِي فِي إِطْلَاق سراح الرَّجُل
قَالَ القَاضِي: وَدَفْعُ هَذَا الْمَحْبُوس مَنْ حاول مِنْ أَصْحَابه ركوبَ الْفَاحِشَة - عَلَى مَا(1/265)
ذكر فِي هَذَا الْخَبَر - حسنٌ فِي الدّين، جميلٌ فِي شَرِيعَة الْمُسْلِمِين، وتخلية إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم سَبيله وَترك تَعَقُّبِه بمكروه أَوْ عُقُوبَة صَوَاب، إِن كَانَت الْقِصَّة جَرَتْ عَلَى مَا حَكَاهُ، مِن عرضٍ لمُسلم أَوْ معاهدٍ يُرِيد بِهِ مَكْرُوها، بِغَيْر حقٍّ فِي نَفسه أَوْ مَاله، فحقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِين دَفْعُه عَمَّا قَصَده من ذَلِكَ وَشرع فِيهِ، وحَرْبُه وقتالُه إِن كَانَتْ لَهُ قُوَّة وَفِيه مَنَعَةٌ، وَإِن أَبى دَفَعهُم إِيَّاه بالطَّعْنِ وَالضَّرْب عَلَى نَفسه إِذْ كَانَ قصدهم دَفْعَه عَنْ ظلمه، وإعجازه عَمَّا يرومُه من بَغْيِهِ وعَدْوِه، ودَمُهُ وَمَا ناله من الْجراح فِي نَفسه وإتلافُ أعضائِهِ هدرٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلا دِيَة، وَلا إرْشَ وَلا حُكُومَة، وَلا تبعةَ وَلا عُقُوبة، وَلا غُرْم وَلا كَفَّارَة، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَفْهُوم فِي الشَّرِيعَة والموروث بَيْنَ أهل الملَّة، والمستفيض بَيْنَ أَهْل الْقبْلَة، والمتقبل من مَذَاهِب خَاصَّة عُلماء الأئمَّة، وعامَّةُ الْأمة.
التجمل مَعَ المصائب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَان، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: لما تُوُفّي عَبْد الْملك بْن مَرْوَان أَسف عَلَيْه عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أسفا مَنعه عَنِ الْعَيْش وَكَانَ نَاعِمًا فاستشعر مِسْحًا تَحت ثِيَابه سبعين لَيْلَة، فَقَالَ لَهُ قَاسِم بْن مُحَمَّد يَوْمًا وَهُوَ يفاكهه: أما علمت أَن من مضى من سَلَفِنا كَانُوا يستحبون اسْتِقْبَال المصائب بالتجمل، ومواجهة النِّعم بالتواضع، فراح عُمَر من عجيَّة يَوْمه ذَلِكَ فِي ثيابٍ موشاة تقوم عَلَيْهِ بثمانمائة دِينَار.
مَالك بْن أَسمَاء يضْرب لِلْحَجَّاج مثلا
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي بْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر الضَّبِّيّ، قَالَ: عَاصِم بْن الحَدَثَان، حَدَّثَنِي من شهد الحَجَّاج وَهُوَ يُعاتب مَالك بْن أَسمَاء وَكَانَ يَسْتَعْمِلهُ عَلَى الْحيرَة وطَسُّوجِها، فَشَكَاهُ أهل الْحيرَة فَبعث إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَدو اللَّه! استعملتُك وشرَّفتك وَأَرَدْت أَن ألحقك بعلية الرِّجَال فأفسدت نِعْمَتك، وأشمت بأختك ضرائرها، وفضحت نَفسك، وأقبلتَ عَلَى الْبَاطِل وَمَا لَا يحب اللَّه من الشُّرب وَقَول الشعرن والانتشار بِهِ وَأَقْبَلت تغني، وَتقول:
حبّذا لَيْلَتي بتلّ بُوَنَّا ... حَيْثُ نُسْقَى شرابنا ونُغَنَّي
بِشرب الكاسِ ثُمت الكاس حَتَّى ... يحسَبَ الجاهلون أنَا جُننّا
أما لأُخْرِجَنّ جنونك من رَأسك، يَا حَرَسيّ أَدْخل مَنْ بِالْبَابِ من أَهْل الْحيرَة، فَدخلت جماعةٌ مِنْهُم شيخ من بني بَقِيلة، فَقَالَ لَهُم، أيُّ أميرٍ أميركم؟ قَالَ الشَّيْخ: خيرُ أميرٍ، غَيْر أَن الْخمر غليت مُنْذُ وَلِينا، قَالَ: وَكَيف ذَاك، قَالَ الشَّيْخ: أَخَذَ ألفَ دِنٍّ فِي شهر، قَالَ الحَجَّاج: قَاتله اللَّه مَا أمكره من شيخ! لجَادَ مَا تخلص إِلَى مَا يُرِيد، قَالَ: ومالكٌ ساكتٌ لَا يتَكَلَّم، فَأدْخل عَلَيْه مِلْحَان بْن قيسٍ الرّاسبيّ وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قَدْ شهد مشَاهد الحَرُوريَّة فبُعِثَ إِلَيْهِ من الْبَصْرَة، فَقَالَ لَهُ الحَجَّاج: أمِلْحان؟ قَالَ: نعم ملْحان، قَالَ: أَحْمد(1/266)
اللَّه الَّذِي خَصَّني بقتلك وأراق دَمَكَ عَلَى يَدي، قَالَ: فَضَحِك ملْحَان، وقَالَ: واللَّه مَا رأيتُ رَجُلا كَالْيَوْمِ أبعدَ من كل خير وَلا أقرب من كُلّ قَبِيح، واللَّه يَا حَجّاج لَو عرفت أَن لَك رياً وخِفْتَ عذَابا ورجوتَ ثَوابًا، مَا اجْتَرأت عَلَى اللَّه هَذِهِ الجرأة، دونَك دمي فأرِقْه، فَالْحَمْد للَّه الَّذِي أكرمني بهوانك، عَلَيْك لعنةُ الله وعَلى من وَلَا، فاستشاط الحجاجُ وَغَضب، وقَالَ: اضْرِب عُنُقه، فضُرب عُنُقه فَتَدَهْدَهَ رأسُه حَتَّى كَاد يصيبُ مَالك بْن أَسمَاء، قَالَ: ثُمّ سكن الحَجَّاج قَلِيلا، ثُمّ قَالَ لمَالِك: تكلم، أما لَك عُذرٌ؟ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَك، فَقَالَ مَالك: أصلح اللَّه الْأَمِير، إِن لي وَلَك مثلا، قَالَ الْحجَّاج: مَا هُوَ قَبّح اللَّه أمثالكم يَا أَهْل الْعرَاق، قَالَ: زَعَمُوا أَن أسدًا وثعلبًا وذئبًا اصطحبوا فَخَرجُوا يتصيَّدُون، فصادوا حمارا وظبيًا وأرنبًا، فَقَالَ الْأسد للذئب: يَا أَبَا جعدة! اقْسمْ بَيْننَا صيدنا، قَالَ: الْأَمر أبين مُنْذُ لَك، الْحمار لَك والأرنب لأبي مُعَاوِيَة، والظبي لي، فخبطه الْأسد فأنْدَرَ رَأسه، ثُمّ أقبل عَلَى الثَّعْلَب، وقَالَ: قَاتله اللَّه مَا أجهله بِالْقِسْمَةِ هَات أَنْت، قَالَ الثعب: يَا أَبَا الْحَارِث! الْأَمر أوضح من ذَلِك، الْحمار الْحمار لغذائك والظَّبْيُ لعشائك وتخلَّلْ بالأرنب فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ الْأسد: مَا أقضاك! من علمك هَذِهِ الْقَضِيَّة؟ قَالَ: رأسُ الذِّئْب النَّادِرُ بَيْنَ عَيْني، وَلَكِن رَأس ملْحَان أبطل حجتي أصلحك اللَّه، قَالَ: أَخْرجُوهُ عني قبَّحه اللَّه وقَبَّح أَمْثَاله.
قَالَ عَاصِم بْن الْحدثَان: ملْحَان الَّذِي يَقُولُ:
وأبيضَ مخباتٍ إِذا اللَّيْل جَنَّهُ ... رَعَى حَذَرَ النَّارِ النُّجُوم الطَّوالِعا
إِذا استثقل الأقوامُ نوما رأيتَهُ ... حذارًا عِقَاب اللَّه لِلَّهِ ضَارِعا
فَطَوْرًا تَبَكَّى سَاجِدًا مُتَضرِّعًا ... وطورًا يُنَاجِي اللَّه وَسْنان رَاكِعَا
صَحِبت فَلم أذْمُمْ وَمَا ذَمَّ صُحْبتي ... وَكَانَ لخلّات المكارم جَامعا
سَخِيًّا شجاعًا يَبْذُل النَّفْس فِي الوغى ... حَيَاةً إِذا لَاقَى العدوَّ المقارعا
فلاقى المنايا مُسْلِمُ بْن خويلد ... فَلم يكُ إذْ لاقَى الْمنية جازعًا
مضى والقَنَا فِي نَحره متقدِّمًا ... إِلَى قِرْنِهِ حَتَّى تكعكع رَاجعا
وأدبرت الأقْرَان عَنْهُم وخافهم ... وَكَانَ قَدِيما للعَدُوِّ مُمَاصِعا
فَمَاتَ حميدا مُسْلِم بْن خويلد ... لأهل التقى والحزم والحلم فاجعا
ومُسْلِم بْن خويلد بْن زَيَّان الرَّاسِبي، قُتِل يوْم النهروان، وَأم مُسْلِم أُخْت وَهْب الرَّاسِبي أعقب السَّجَّاد، عَبْد اللَّه بْن وَهْب ذِي الثفنات وَكَانَ يُقَالُ لَهُ السَّجَّاد.
قَالَ: القَاضِي: حَتَّى تكعكع رَاجعا مَعْنَاهُ ارْتَدَّ رَاجعا ووقف عَنِ الْمُضِيّ والاستمرار عَلَى وتيرته، وَقَوله: وَكَانَ قَدِيما لِلْعَدو مماصعًا: والمماصعة الْمُضَاربَة والمجالدة، يُقَالُ:(1/267)
ماصعه مماصعةً ومصاعًا مثل ضاربه مُضَارَبَة وضرابًا، وقاتله مقاتلة وقتالا وصارعه مصارعة وصراعًا.
وَمن المصاع، قَول الْأَعْشَى:
إِذا هنّ نازلن أقرانهن ... وَكَانَ الْمِصاعُ بِمَا فِي الْجُوَقْ
يصف جواري يلهون ويتلاعبن تضارباً بحليهن، وقَالَ الْقطَامِي:
تراهم يَغْمزُون من استركوا ... ويجتبنون مَنْ صدق الْمِصَاعَا
وَرُوِيَ عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْه السَّلام فِي التذكية. إِذا مَصَعت بذَنَبِها وَهُوَ من هَذَا، وَجَاء عَنْ بعض أَهْل التَّأْوِيل فِي الْبَرْق: " مَصْعُ ملكٍ " فِي مثل هَذَا الْمَعْنى.
وَفِي المَثَل الَّذِي ضربه مَالك بْن أَسمَاء لِلْحَجَّاج تأديبٌ وتنبيه، وَقِيَاس زتشبيه، وَيعْتَبر بِهِ ذَوُو اللب، وتتمكن حكمته فِي الْقلب.
وَمِمَّا يضارع هَذَا الْمثل مِمَّا أَتَى بِهِ الْحُكَمَاء عَلَى ألسن الْبَهَائِم: مَا ذكرمن أَن الْأسد كَانَ يلازمه ويحضر مَجْلِسه ذئبٌ وثعلب، وَأَن الْأسد وجد عِلَّةً فَتَأَخر عَنْهُ الثَّعْلَب أَيَّامًا فتفقده وَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا فعل الثَّعْلَب فَأَنا لَمْ أره مُنْذُ ثَلَاثَة أَيَّام مَعَ مَا عرض لي من الْمَرَض، فانتهزها الذِّئْب ليُغري بِهِ الْأسد وَيفْسد حَاله عِنْده، ويحمله عَلَى مكروهه، فَقَالَ: أَيهَا الْملك مَا هُوَ إِلا أَن وقف عَلَى عِلَّتِك حَتَّى استبدَّ بِنَفسِهِ وَمضى فِيمَا يَخُصّه من كَسبه ولهوه، وَبلغ الثَّعْلَب هَذَا فَوَافى الْأسد فَلَمَّا دخل عَلَيْه، قَالَ: مَا أخَّرك عنِّي مَعَ علَّتي وحاجتي إِلَى كونك بِالْقربِ مني، قَالَ: أَيهَا الْملك لما وقفت عَلَى الْعِلَّة الْعَارِضَة لَك لَمْ يَسْتقرّ بِي قَرَار، وَجعلت أجول وأجوب الْآفَاق إِلَى أَن وقفت عَلَى مَا يشفى الْملك من مَرضه، فَقَالَ: قَدْ علمت أنَّكَ لَا تفارق نصيحتي وَلا تخرج عَنْ طَاعَتي، فَمَا الَّذِي وقفت عَلَيْه مِمَّا أشْتَفِي بِهِ، قَالَ: تتَنَاوَل خُصَى ذِئْب، فَإنَّهُ يُبرئك حِين يستقرُّ فِي جوفك، قَالَ: أَنَا عَامل عَلَى هَذَا، وَخرج الثَّعْلَب فَجَلَسَ فِي دهليز الْأسد، ووافى الذِّئْب فحين وقف بَيْنَ يَدَيْهِ وثب عَلَيْه، فالتهم خُصْيتيه، فَخرج والدمُ يسيل وَيجْرِي عَلَى فَخذيهِ، فَلَمَّا مرَّ بالثعلب، قَالَ لَهُ: يَا صَاحب السِّروال الْأَحْمَر، إِذا جالست الْمُلُوك فَانْظُر كَيفَ تذكرُ حاشيتهم عِنْدهم.
وَقَدْ روينَا فِي بعض مجالسنا هَذِهِ أَنَّهُ قِيلَ لبَعض الْحُكَمَاء: مِمَّنْ تعلمت الْعقل؟ قَالَ: مِمَّنْ لَا عقل لَهُ، كُنْت أرى الْجَاهِل يفعل الشَّيْء فيضرُّه فأجتنبه.
يَا فَتى! أَلَسْت ظريفًا؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامر بْن عِمْرَانَ أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي شيخ، قَالَ: بَينا عبيد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن ابْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْهِمَا السَّلام يطوف بِالْبَيْتِ، إِذْ رَأَى امْرَأَة تَطوف وتنشد:(1/268)
لَا يقبل اللَّهُ من معشوقةٍ عملا ... يَوْمًا وعاشقها غَضْبَان مهجور
قَالَ القَاضِي: وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة يَلِيهِ بيتٌ آخر وَهُوَ:
وَكَيف يَأجُرُها فِي قتل عاشقها ... لَكِن عاشقها من ذَاك مأجور
فَقَالَ عَبْد اللَّه للْمَرْأَة: يَا أمة اللَّه! مثل هَذَا الْكَلَام فِي مثل هَذَا الْموقف؟ فَقَالَت: يَا فَتى أَلَسْت ظريفًا؟ قَالَ: بلَى، قَالَتْ: أَلَسْت راويةً للشِّعر؟ قَالَ: بلَى، قَالَتْ: ألم تسمع الشَّاعِر يَقُولُ:
بيضٌ غَرَائِر مَا هَمَمْنَ بريبةٍ ... كَظَباءِ مَكَّة صَيْدُهُنَّ حَرَامُ
يُحْسَبْنَ مِن لينِ الْحَدِيث زَوَانِيَا ... ويَكُفُّهنّ عَنِ الخَنَا الإِسْلامُ
رَأْي أَبِي زَيْد فِي أَصْحَاب الْحَدِيث
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل التَّنوخي: سرق أصحابُ الْحَدِيث نعل أَبِي زَيْد سَعِيد بْن أَوْس، فَكَانَ إِذا جَاءَ أَصْحَاب الشّعْر وَالْأَخْبَار رمى ثِيَابه وَلَم يتفقدها، وَإِذَا جَاءَ أَصْحَاب الْحَدِيث ضَمّها إِلَيْهِ، وقَالَ: ضُمَّ يَا ضَمَّام، واحْذَر لَا تنام.
إنَّهُنَّ يكفر العَشِير
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَيْمُون بن هرون، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ جَدِّهِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ. قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ من عِنْد زبيدة - وَقد تغذى عِنْدَهَا وَنَامَ وَشَرِبَ - وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: قَدْ سَرَّنِي سُرُورُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: مَا أَضْحَكُ إِلا تَعَجُّبًا، أَكَلْتُ عِنْدَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَنِمْتُ وَشَرِبْتُ فَسَمِعْتُ رَنَّةً، فَقُلْتُ: مَا هَذَا، قَالُوا: ثلثمِائة أَلْفِ دِينَارٍ وَرَدَتْ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَتْ: هَبْهَا لِي يَا ابْنَ عَمِّ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى عَرْبَدَتْ، وَقَالَتْ: أَيَّ خَيْرٍ رَأَيْتُ مِنْكَ؟ قَالَ القَاضِي: قَدْ روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي النِّسَاءِ: " إِنَّهُنَّ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ "، وَفَسَّرَهُ بِمَا ذَكَرْتُ مِنْ إِحْسَانِ الرَّجُلِ إِلَيْهَا وَأَنَّهَا تَرُبُّ مَنْزِلَهَا، وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا بَعْدَ الْحَجْرِ وَالْخَطْرِ، وَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.
المجلِسُ السَادِسُ وَالثَّلَاثُونَ
خير شَجَرَة فِي الجَنَّة
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشُّحَيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُعَاوِيَةَ الضَّبِّيُّ إِمْلاءً بِمِصْرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عُمَرَ بْنِ يُونُسَ الْيَمَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لَهَا خَيْرًا، أَصْلُهَا فِي مَنْزِلِ رجلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَا أُسَمِّيهِ لَكُمْ، وَفَرْعُهَا فِي سَائِرِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ تِلْكَ الشَّجَرَةَ ".(1/269)
لحن الرَّاوِي فِي كلمة خير
قَالَ: القَاضِي: هَكَذَا أما علينا الشُّحَيْمي هَذَا الْحَدِيث، وَلَفظ بِهِ كَمَا روينَاهُ، فَقَالَ: يُقَالُ لَهَا خيرا، وَلَم يَكُنْ ذَا علم بطريقة الْإِعْرَاب، وَلَعَلَّه لحن فِيهِ فغيَّره عَنْ صَوَابه، ولحن فِيهِ بعضُ من تقدَّمه من رُواته الَّذِين لَا معرفَة لَهُم بتصاريف الْإِعْرَاب ووجوهه، وَالصَّوَاب فِيهِ عِنْدِي أَن يَكُون اللَّفْظ فِي الْخَبَر أَتَى عَلَى الصِّحَّة وَهُوَ يُقَالُ لَهَا خير، فَلَو كَانَ اللَّفْظ خيراء عَلَى فعلاء، أَوْ فعلى على خيرى، لَكِن وَجها مَعْرُوف الْمَذْهَب فِي الْعَرَبيَّة، غَيْر أَنَّهُ كَانَ غَيْر مَصْرُوف وَلا مُنَون، وَالْمَشْهُور من هَذَا الْخَبَر التَّنْوِين، وَأَن خيرا فِيهِ من الخيرالذي هُوَ ضد الشَّرّ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ الثَّنَاءَ "، وَالْعرب تَقُولُ: جزى اللَّه فلَانا خيرا إِذا دعت لَهُ، وجزاه اللَّه شرًّا إِذا دعت عَلَيْه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر فِي الْمَعْنى الأول:
أَلا رَجُلا جزاهُ اللَّه خيرا ... يَدُلُّ عَلَى محصلةٍ تَبِيتُ
وقَالَ أَبُو مَعْبَد:
جزى اللَّهُ رَبُّ الناسِ خير جَزَائِهِ ... رفيقن قَالا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
وقَالَ الحطيئة فِي الْمَعْنى الثَّانِي:
جَزَاكِ اللَّهُ شَرًّا من عجوزٍ ... ولَقَّاكِ الْعُقُوقَ من البَنِينا
وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الْمَعْرُوف بَيْنَ خَاصَّة النَّاس وعامتهم، وَغير مُمْتَنع عِنْدِي أَن يَكُون خير اسْم الشَّجَرَة ويَعْني بقولِ الْقَائِل: جَزَاك اللَّه خيرا الْخَيْر الْمَعْرُوف، فَيُجْزَى تِلْكَ الشَّجَرَة إِذا كَانَتْ خيرا من الْخُيُور، وَنَظِير ذَلِكَ قَوْلهم: ويلٌ لفُلان، وذُكِر سِيبوَيْه أَنَّهُ قُبُوح، وقَالَ: غَيره نَحْو ذَلِكَ، وَجَاء عَنْ عددٍ من أَهْل التَّأْوِيل أَنَّهُ وادٍ فِي جَهَنَّم، فَتَأمل هَذَا فَإنَّهُ وجْهٌ لطيفٌ حَسَن.
إنَّه شَيْطَان الأحلام
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَن أَبِيه، عَن أم الْحُسَيْن بنت جَعْفَر بْن حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمَّتِهَا زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ:
أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عناقٌ مَشْوِيَّةٌ فَبَعَثَ إِلَى فَاطِمَةَ، وَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَأَجْلَسَهُمْ مَعَهُ لِيَأْكُلُوا فَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيْهَا الْحَسَنُ فَجَذَبَتْ فَاطِمَةُ يَدَهُ وَبَكَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِدَاكِ أَبُوكِ! مَا شَأْنُكِ لِمَ تَبْكِينَ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي الْبَارِحَةَ كَأَنَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْكَ هَذِهِ الْعَنَاقُ وَكَأَنَّكَ جَمَعْتَنَا، فَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيْهَا الْحَسَنُ فَأكل فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُفُّوا، ثُمَّ قَالَ: يَا رُؤْيَا! فَأَجَابَهُ شيءٌ:(1/270)
لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتِ حَبِيبَتِي شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: يَا أَضْغَاثُ! قَالَ شيءٌ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتِ حَبِيبَتِي شَيْئًا قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، قَالَ: يَا حَدِيثَ النَّفْسِ! فَأَجَابَهُ شيءٌ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتِ حَبِيبَتِي شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، قَالَ: يَا شَيْطَانَ الأَحْلامِ! أَجَابَهُ شيءٌ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتَ حَبِيبَتِي شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَيْتُهَا كَذَا وَكَذَا، قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعَبَثُ، فَقَالَ: لَا تَعُدْ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَفَلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ.
خبران يرويهما الزُّهْرِيّ عَنْ نَفسه
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرو القَعْنَبي، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن هُبَيْرة التَّمِيمِيّ، عَنِ الصَّدَفيّ، عَنِ الزُّهْرِيّ، قَالَ: أتيتُ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان فاستأذنت عَلَيْه فَلم يُؤْذَنْ لي، فَدخل الْحَاجِب، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين إِن بِالْبَابِ رَجُلا شابًّا أَحْمَر، زعم أَنَّهُ من قُرَيْش، قَالَ: صِفْه فوصفه لَهُ، قَالَ: لَا أعرفهُ إِلا أَن يَكُون من وُلِد مُسْلِم بْن شهَاب، فَدخل عَلَيْه، فَقَالَ: هُوَ من بني مُسْلِم فَدخلت، قَالَ: من أَنْت؟ فانتسبت لَهُ وقُلْتُ: إِن أَبِي هلك وَترك عيالا صِبية، وَكَانَ رَجُلا مِتْلافًا لَمْ يتْرك مَالا، فَقَالَ: لي عَبْد الْملك: أَقرَأت الْقُرْآن؟ قُلْتُ: نعم بإعرابه، قَالَ: وَمَا يَنْبَغِي مِنْهُ من وجوهه وعِلَلِه؟ قَالَ: قُلْتُ: نعم، قَالَ: إِنَّمَا فَوق ذَلِكَ فضل إِنَّمَا يُرَاد أَن يعايا ويلغز بِهِ، قُلْتُ: نعم، قَالَ: تعلَّمتَ الْفَرَائِض؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ: الصُّلْبُ والجَدُّ واختلافهما؟ قُلْتُ: أَرْجُو أَن أكون قَدْ فعلت، قَالَ: وَكم دَيْنُ أَبِيك؟ قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ قضى اللَّه دَيْنَ أَبِيك، وَأمر لي: بجائزة ورزق يجْرِي، وَشِرَاء دارٍ قطيعةٍ بِالْمَدِينَةِ، وقَالَ: اذْهَبْ فاطلب الْعلم وَلا تَشَاغَل عَنْهُ بشيءٍ فَإِنِّي أرى لَك عينا حافظة وَقَلْبًا زاكيًا، وائت الأَنْصَار فِي مَنَازِلهمْ، قَالَ الزُّهْرِيّ وَكنت أخذت الْعلم عَنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا خرجت إِلَيْهِم إِذا عِلْم جَمٌّ فأتَّبعْتُهم حَتَّى ذُكرتْ لي امْرَأَة نَحْو قبَاء تروي رُؤيا فأتيتُها، فَقلت: أَخْبِرِينِي برؤياك، قَالَ: فَقَالَت: كَانَ لي ولدان واحدٌ حِين حبا، وَالْآخر يتبعهُ، وَهلك أَبوهُمَا وَترك واهنًا وداجنًا ونَخَلات، فَكَانَ الدَّاجنُ نشرب لَبنهَا وَنَأْكُل تمر النخلات، فَإِنِّي لبين النائِمة واليقظانَة - قَالَ: القَاضِي: هَكَذَا فِي الْخَبَر وَالْمَشْهُور فِي العَربيَّة اليقظى - وَلنَا جديٌ فَرَأَيْت كَأَنّ ابْني الْأَكْبَر قَدْ جَاءَ إِلَى شفرةٍ لنا فَأَخذهَا، وقَالَ يَا أمَّه! قَدْ أضْرَرْتِ بِنَا وحبست اللَّبن عَنَّا، فَأخذ الشَّفْرَة وَقَامَ إِلَى وُلد الدَّاجن فذبحه بِتِلْكَ الشَّفرة، ثُمّ نَصَبِ قدرا لنا ثُمّ قطّعه وَوَضعه فِيهَا، ثُمّ قَامَ إِلَى أَخِيهِ فذبحهُ بِتِلْكَ الشَّفْرَة، واستنبهت مَذْعُورَة وَإِذَا ابْني الْأَكْبَر قَدْ جَاءَ، فَقَالَ: يَا أُمّه! أَيْنَ اللَّبن، فَقلت: يشربه وُلِد هَذِهِ الدَّاجِن، فَقَالَ: مَا لنا فِي هَذَا من شيءٍ، وَقَامَ إِلَى الشَّفْرَة فَأَخذهَا ثُمّ أمرَّها عَلَى حلق الدّاجن ثُمّ نَصَبِ الْقدر، قَالَتْ: فَلم ُأكَلِّمهُ حَتَّى قُمْت إِلَى ابْني الصَّغِير فاحتضنته فأتيتُ بِهِ بعض بيُوت الْجِيرَان فَخَبَّأْته عِنْدهم، ثُمّ أَقبلت مغتمة لما رَأَيْت، ثُمّ صعد عَلَى بعض تِلْكَ النخلات فَأنْزل رطبا ثُمّ قَالَ:(1/271)
يَا أُمّه! أُدْني فكُلي، قُلْتُ: لَا أُرِيد، ثُمّ مضى فِي بعض حَوَائِجه وَترك الْقدر فَإِنِّي لمنكبَّة عَلَى بُلِيس عِنْدِي إِذْ ذهب بِي النّوم فَإِذا أَنَا بآتٍ قَدْ أَتَانِي، فَقَالَ: مَالك مُغتَمَّة؟ فَقلت: لكذا وَكَذَا، وَلِأَن ابْني صنع كَذَا وَكَذَا، فَنَادَى يَا رُؤْيَاهُ يَا رُؤْيَاهُ! فَجَاءَت امرأةٌ شابةٌ حَسَنَة الْوَجْه طيبَة الرّيح، فَقَالَ: مَا أردتِ من هَذِهِ الْمَرْأَة الصَّالِحَة، قَالَتْ: مَا أردْت مِنْهَا شَيْئا، فَنَادَى: يَا أضْغَاثُ يَا أضْغَاثُ! فَأَقْبَلت امرأةٌ سَوْدَاء الْخلقَة وسخةُ الثِّيَاب دونهَا، فَقَالَ: مَا أردتِ من هَذِهِ الْمَرْأَة؟ قَالَتْ: رَأَيْتهَا صَالِحَة فَأَرَدْت أَن أغُمَّها، قَالَتْ: ثُمّ انْتَبَهت فَإِذا ابْني أقبل، فَقَالَ: يَا أُمّه! أَيْنَ أَخي؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَبَا إِلَى بعض الْجِيرَان، قَالَتْ: فَذهب يمشي لَهو أهْدى إِلَى مَوْضِعه حَتَّى أَخذه وَجَاء بِهِ فَقبله، ثُمّ قعد فَأكل وأكلت مَعَه.
قَالَ القَاضِي: قَوْله: فِي الْخَبَر وَترك لي ماهِنًا وداجِنًا، الماهن: الْخَادِم، ويُقَالُ: مَهَن الرَّجُل مِهْنةً ومَهْنَةً، وَفُلَان فِي مِهْنة أَهله ومَهْنَةِ أَهله، وَالْفَتْح عِنْد كثير من أَهْل اللُّغَة أَعلَى، ويُقَالُ: مَهُن مهانةً من الهوان، وَمن المهان بِمَعْنى الْخَادِم، قَول الشَّاعِر:
وهَزئْنَ مِنِّي أَن رأَينَ مُوَيْهِنًا ... تَبدُو عَلَيْه شَتَامَةُ المَمْلُوكِ
وَأما الدَّاجِن فَهِيَ الشاةُ من شِيَاه البيوتِ الَّتِي تُعْلَفُ، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء لَا ترى فِي دواجن الشَّاءِ زَكَاة، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة أَهْل الْعرَاق وَبِه نقُول، وَقَدْ أوجب عددٌ من فُقَهَاء الْحجاز الزَّكَاة فِي دواجن الْغنم، كَمَا أوجبهَا الْجَمِيع فِي سوائمها، وَاخْتِلَافهمْ فِي عوامل الْإِبِل وَالْبَقر كختلافهم فِي دواجن الْغنم، وكلامنا فِي هَذَا عَلَى استقصاءِ الْحُجج مرسوم فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْفِقْه.
وَقَول الْمَرْأَة: وَإِنِّي لمتكئةٍ عَلَى بلسٍ لي، البَلَسُ: بعضُ مَا يَكُون فِي رَحْلِ الْقَوْم من الْمَتَاع الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْه، وَهُوَ اسْم أعجمي لَا أعرفهُ فِي الْعَرَبيَّة وَأرَاهُ بالرومية وَقَد اسْتعْمل عَلَى تَولُّدِه قَدِيما وحديثًا فَروِيَ فِي خبرٍ ذكر أَن أَبَا جفر الْجُمَحِيّ نظر بَيْنَ الْحَسَن بْن زَيْد ومُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز، فَقَالَ: إنَّه أقامني عَلَى البَلَسِ يَعْنِي الْحسن، فَكَأَنَّهُ اسْم لما يُعَلَّى عَلَيْه من كراسي أَو مَا أشبهه ن.
وَمِمَّا انْتهى إِلَيْنَا من عجائب أَخْبَار الرُّؤْيَا مَا يُتْعب جمعه وتصعب الْإِحَاطَة بِهِ، وَإِذَا عثرنا مِنْهُ عَلَى شيءٍ أتيناه فِي مُسْتَقْبل مجالسنا مِمَّا تيَسّر مِنْهُ، إِذْ لَمْ نَبْن كتَابنَا هَذَا عَلَى استقصاء نوع نوع مِمَّا يشْتَمل عَلَيْه، وَإِنَّمَا نأتي مِنْهُ بِأَبْوَاب ممتزجة، وأجناس موشحة، وَالْخُرُوج من قصَّة إِلَى قصَّة ن.
سَبَب حُدُوث الزلزلة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الْعَبَّاس بِالْكُوفَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأسباط، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ حُسَيْن، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّه جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق عَلَيْهِمَا السَّلام يَقُولُ: لما خلق اللَّه تَعَالَى ذكره الحوتَ الَّذِي عَلَى ظَهره الأَرْض استعظم فِي نَفسه واستكبر، وقَالَ: مَا خلق اللَّه خلقا هُوَ أقوى مني فَعلم اللَّه(1/272)
ذَلِكَ مِنْهُ، فخلق سَمَكَة أكبر من النملة وأصغر من الجرادة، فَدخلت فِي مِنْخَرَيْهِ فضعف أَرْبَعِينَ خَرِيفًا ثُمّ خرجت، ثُمّ إِذا أَرَادَ اللَّه يوْم زلزلةٍ تراءت لَهُ تِلْكَ السَّمَكَة فاضطرب من خوفها فاضطربت الأَرْض.
قَالَ القَاضِي: رُوينا فِي الزلزلة هَذَا القَوْل وَقَدْ جَاءَ فِي كثير من الْأَخْبَار أَنَّهَا من حَرَكَة الْحُوت واضطرابه من غَيْر ذكر السَّمَكَة المحكي فِي هَذَا الْخَبَر ودخولها فِي أَنفه، وَهِي فِي الْجُمْلَة من الْآيَات الَّتِي يخوف اللَّه بهَا عباده، ويَحُثُّ بهَا إِلَى طَاعَته، والتفكُّر فِي عجائب صَنعته، ومجانبة مَعْصِيَته.
والزلزلةُ يقلُّ حُدُوثُها فِي بعض الأرَضَين وَيكثر فِي بَعْضهَا، كَمَا يكثر الْمَطَر فِي بعض الْبلدَانِ كطبرستان ويقلُّ فِي بَعْضهَا كمصر، وَنَظِير هَذَا مَا يُشَاهد من الجَزْرِ والمدِّ فِي بعض الْأَنْهَار دون بعض وَقَدْ جَاءَ عَنْ بعض السّلف أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ سُئِل عَنِ الجزر والمدّ: إِن اللَّه تَعَالَى وكَّلَ مَلَكًا بقاموس الْبَحْر فَإِذا وضع قدمه فِيهِ فاض، وَإِذَا رَفعهَا غاض.
وَمِمَّنْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْن عَبَّاس، وَأي الْوُجُوه كَانَ مَعْنَاهُ فَهُوَ من عَجِيب آيَات اللَّه تَعَالَى ذكره وبديع صَنعته، وَفِيه دَلِيل ظَاهر عَلَى توحيده ولطيف حكمته، وَظُهُور قدرته.
وَقَدْ ذكر عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنة أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَن سُفْيَان الثَّوْرِي أَو الْفُضَيْل بْن عِياض - أَنَا أَشُكُّ - أَخْبَرَنِي عَنِ الجَزْرِ وَالْمدّ لما صدقت، وَرَأَيْت غُلَاما لي وَأَنا مُصْعَد من الْبَصْرَة جَالِسا فِي جَانب السَّفِينَة نَاظرا إِلَى شاطىء دجلة مُنْذُ طُلُوع الشَّمْس إِلَى قريبٍ من زَوَالهَا ثُمّ أقبل علينا، فَقَالَ: لَا إِلَه إِلا اللَّه، مَا أعجب هَذَا! أَنَا أراعي دجلة مُنْذُ غدوةٍ وَالْمَاء بِحَالهِ لَمْ يزدْ وَلَم يَنْقُص، فَعجب من فَقْدِه الجزر والمدَّ إِذْ لم يره ن. وأمّا مَا قَالَه المنجمون وَغَيْرُهُمْ من الفلاسفة فِي هَذَا فإننا لَمْ نؤثر ذكره فِي هَذَا الْموضع وَهَذَا معنى لَا يَقع الْعلم بِهِ إِلا بخبرٍ عَنِ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه أَوْ عَلَى لِسَان رَسُوله، وَلا ضَرَر عَلَى أحدٍ من الْخلق فِي فَوت الْعلم بِهِ، وَلَو كَانَ مِمَّا يحْتَاج الناسُ إِلَى مَعْرفَته، وكُلِّفُوا عمله، انصب اللَّه تَعَالَى جَدُّه لَهُم دَلِيلا عَلَيْه، وَجَعَل لَهُم سَبِيلا هاديًا إِلَيْهِ، فالاعتبار بِهِ وَاجِب، والإِيمَان بِأَنَّهُ حِكْمَة اللَّه وَصِحَّة تَدْبيره وَحسن تَقْدِيره لَازم، وَإِن ثَبت فِيهِ مَا يُحِيط الْعلمَاء من الْخلق بحقيقته عَمَّن يلْزم احجة بقوله، وَجب التَّسْلِيم لَهُ والدَّيْنُونة بِهِ.
أعرابيُّ ظريف عِنْد أحد العياد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرياشي، عَنِ مُحَمَّد بْن سَلام، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ من بني ضبة، قَالَ: رَأَيْتُ أعرابيًّا كَبِير السِّنِّ كثير المزاح، بِيَدِهِ مِحْجَنٌ، وَهُوَ يجرُّ رجلَيْهِ حَتَّى وقف عَلَى مِسْعَرِ بْن كِدّام وَهُوَ يصلِّي، فَأطَال الصَّلاة والأعرابي وَاقِف، فَلَمَّا أعيا قعد، حَتَّى إِذا فرغ مِسْعَر من صلَاته سلم الأعرابيُّ عَلَيْه، وقَالَ لَهُ: خُذْ من الصَّلَاة كَفِيلا فتبسن مسعرٌ، وقَالَ: عَلَيْك بِمَا يُجْدِي عَلَيْك نَفْعُه، يَا شيخ كم تَعُد؟(1/273)
قَالَ: مائَة وبضع عشرَة سنة، قَالَ: فِي بَعْضهَا مَا كفى واعظًا فاعمل لنَفسك، فَقَالَ:
أحبُّ اللَّواتي هُنَّ من وُرْقِ الصِّبا ... وَمن هُنَّ عَنْ أزواجِهن طِماحُ
مُسِرَّاتُ بغضٍ مُظْهِراتُ مودةٍ ... تَرَاهُنَّ كالمرضى وهُنَّ صِحَاحُ
فَقَالَ مِسْعَر: أفٍّ لَك، فَقَالَ: واللَّه مَا بأخيك حَرَكةٌ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة، وَلكنه بحرٌ يَجِيش وَيَرْمِي بزبده، فَضَحِك مِسْعَر، وقَالَ: إِن الشّعْر كلامٌ حَسَنُهُ حَسَن وقَبِيحُه قَبِيح ن.
جَزَاء مجالسة الأنذال
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله الطَّلْحي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير بْن أَبِي بَكْر، قَالَ: كَانَ بشكستُ النَّحْويُّ الْمَدَنِيّ وَفد عَلَى هِشَام بْن عَبْد الْملك فَلَمَّا حضر الغَدَاء دَعَاهُ هِشَام، وقَالَ لفتيان من بني أُمَيَّة: تَلاحَنُوا عَلَيْه، فَجعل أحدهم يَقُولُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! رَأَيْت أَبِي فُلان، وَيَقُولُ الآخر: مر بِي أَبَا فُلان، وَنَحْو هَذَا، فَلَمَّا ضجر أَدخل يَده فِي صحفةٍ فغمسها ثُمّ طلى لحيته، وقَالَ لنَفسِهِ: ذُوقي هَذَا جزاؤُك فِي مجالسة الأنذال.
من أَخْبَار خَالِد بْن يَزِيد الْكَاتِب
حَدَّثَنَا يَزِيد بْن الْحَسَن الْبَزَّاز، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِد الْكَاتِب، قَالَ: دخلتُ عَلَى أَبِي عُبَاد أَبِي الرَّغل بْن أَبِي عُبَاد، وَعِنْده أَحْمَد بْن يَحْيَى وَابْن الْأَعرَابِي فَرفع مجلسي، فَقَالَ لَهُ ابْن الْأَعرَابِي: من هَذَا الْفَتى الَّذِي أَرَاك ترفع من قدره؟ قَالَ: أَوْ مَا تعرفه؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: هَذَا خَالِد الْكَاتِب الَّذِي يَقُولُ الشّعْر، فَقَالَ: أَنْشدني من قَوْلك شَيْئا فَأَنْشَدته:
لَو كَانَ من بشرٍ لَمْ يَفْتِنِ البَشَرا ... وَلَم يَفُقْ فِي الضياء الشَّمْس والقمرا
نور تجسَّم منحلٌ ومعقدٌ ... لَو أدركتْه عيونُ النّاس لانكدرا
فصاح ابْن الْأَعرَابِي، وقَالَ: كفرت يَا خَالِد هَذِهِ صفة الْخَالِق لَيست صفة الْمَخْلُوق، فأنشدني مَا قُلْتُ غَيْر هَذَا، فَأَنْشَدته:
أَرَاك لما لَججْتَ فِي غَضَبِك ... تَتْركُ رَدَّ السَّلامِ فِي كُتُبِك
حَتَّى أتيت عَلَى قولي:
أقولُ للسُّقْم إِلَى بدني ... حبا لشفاً يَكُون من سَببك
فصاح ابْن الْأَعرَابِي، وقَالَ: إِنَّك لفطنٌ وَفَوق مَا وَصَفْتِ بِهِ.
قَالَ القَاضِي: ابْن الْأَعرَابِي هَذَا أولى بِصفة الْكفْر من خَالِد، لِأَن خَالِدا لَمْ يَصِفْ مَنْ ذكَرَهُ فِي شعره إِلا بِصفة المخلوقين، إِذْ النورُ مَخْلُوق متجسَّمُه ومُنْحلَّهُ ومنعقِدُه، وَهُوَ والظلمة من خلق اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُنكر خَلْقَهُمَا ويَدَّعي أَنَّهُمَا أصلان قديمان الثنوية، وَابْن الْأَعرَابِي إِذْ جعل هَذِهِ الصّفة للخالق دون الْمَخْلُوق جَاهِل بِالدّينِ، ضال عَنْ سَبِيل الْمُؤْمِنِين.(1/274)
لَا يقبلهَا أَوْ يعرفهُ
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُوسَى الْبَرْمَكِي، قَالَ: قَالَ خَالِد الْكَاتِب: وقف عَليّ رجلٌ بعد الْعشَاء متلفحٌ برداء عَدَنِيّ أسود وَمَعَهُ غُلام مَعَه صُرَّة، فَقَالَ لي: أَنْت خَالِد؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ: أَنْت الَّذِي يَقُولُ:
قَدْ بَكَى العاذلُ لي من رَحْمتي ... فبكائي لبكاءِ العاذل
قُلْتُ: نعم، قَالَ: يَا غُلام ادْفَعْ إِلَيْهِ الَّذِي مَعَك، فَقلت: وَمَا هَذَا، قَالَ: ثلثمِائة دِينَار، قُلْتُ: واللَّه لَا أقبلها أَوْ أعرفك، قَالَ: أَنَا إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي.
الْحبّ أعظم مِمَّا بالمجانين
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنباي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيّا بْن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْب بْن السكن، عَنْ يُونُس النَّحْويّ، قَالَ: لما اخْتَلَط عقل قَيْس الْمَجْنُون وَامْتنع عَنِ الطَّعَام وَالشرَاب مَضَت أُمّه إِلَى ليلى، فَقَالَت لَهَا: يَا هَذِهِ قَدْ لحق ابْني بسببك مَا قَدْ علمت، فَلَو صِرْت معي إِلَيْهِ رَجَوْت أَن يثوب لُبُّهُ ويرجَع عقلُه، إِذا عاينك، فَقَالَت: أما نَهَارا فَلَا أقدر عَلَى ذَلِكَ، لِأَنِّي لَا آمن الحيَّ عَلَى نَفسِي، وَلَكِن أمضي مَعَك لَيْلًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل، صَارَت إِلَيْهِ، فَقَالَت: لَهُ: يَا قَيْس إِن أُمَّك تزْعم أَن عقلك ذهب بسَببي، وَأَن الَّذِي لحقك أَنَا أصلُه، فَفتح عَيْنَيْهِ فَنظر إِلَيْهَا، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَالَتْ جُنِنْتَ عَلَى ذِكْرِي فقلتُ لَهَا ... الحبُّ أعظمُ مِمَّا بالمجانين
الحبُّ لَيْسَ يُفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصرعُ المجنونُ فِي الْحِين
كَانَ يظنهُ هجاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيم الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذر الخرامي، قَالَ: حَدَّثَنِي معن بْن عِيسَى، قَالَ: دخل ابنُ سَرْجُون السُّلَمِيّ عَلَى مَالك بْن أَنَس وَأَنا عِنْده، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! إِنِّي قَدْ قُلْتُ أبياتًا من شعرٍ وذكرتُك فِيهَا، فَاجْعَلْنِي فِي حل، قَالَ: أَنْت فِي حلٍّ، قَالَ: أحِبُّ أَن تسمعها، قَالَ: لَا حَاجَة لي بِذَلِك، فَقَالَ: بلَى، قَالَ: هَات، فَقَالَ: قلت:
سلوا مَالك الْمُفْتِي عَنِ اللَّهو والْغِنا ... وحُبّ الْحِسان المعجبات الفوارك
ينبئكم أَنِّي مُصِيب وَإِنَّمَا ... أسلي هموم النَّفس عني بذلك
فَهَل فِي محب يكتم الْحبّ والهوى ... أثامٌ وَهل فِي ضمة المتهالك
فَضَحِك مَالك وسري عَنهُ، وقَالَ: لَا إِن شَاءَ اللَّه، وَكَانَ ظن أَنَّهُ هجاه.
بيتان لأبي الْعَتَاهِيَة من أحسن الشّعْر
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ ابْن حَمْزَة الْهَاشِمِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْن عَبْد(1/275)
الْملك، قَالَ: جَاءَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يُرِيد الدُّخُول عَلَى أَحْمَد بْن يُوسُف فَمَنعه الْحَاجِب فَكتب إِلَيْهِ:
ألم تَرَ أنَّ الفَقْر يُرْجَى لَهُ الْغِنَى ... وأنَّ الْغِنَى يُخْشَى عَلَيْه من الفَقْرِ
قَالَ: فَقلت لَهُ: لَا تَتَعرض لَهُ وأسْكِتْهُ عَنْك، فَوجه إِلَيْهِ بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، قَالَ عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم: فأعلمت ذَلِكَ عَلَى بْن جَبَلَة، فَقَالَ: بئْسَمَا صنع كَانَ يَنْبَغِي أنْ يَقُول لَهُ:
أحمدُ، إِن الْفقر يُرْجَى لَهُ الْغنى
فيشيد باسمه، قَالَ: القَاضِي قَدْ رُوينا هَذَا الْخَبَر عَنْ أَبِي الْعَتَاهِيَة من غَيْر هَذَا الطَّرِيق، وَبعد بَيته الَّذِي فِيهِ بَيت آخر وَهُوَ:
ألم تَرَ أَن البَحْر يَنْضُبُ مَاؤُهُ ... وَتَأْتِي عَلَى حيتانه نُوَبُ الدَّهْر
من لحن الْعَامَّة
فِي ينضب لُغَتَانِ، ضم عين الْفِعْل وَكسرهَا وماضيه نَضَب بِالْفَتْح، وَإِنَّمَا ذكرت هَذِهِ لأنني أسمع الْعَامَّة يَقُولُونَ فِيهِ: ينضَب بِالْفَتْح وَرُبمَا قَالُوا: نضِب بِكَسْر الضَّاد فِي الْمَاضِي، وَهَذَانِ البيتان لأبي الْعَتَاهِيَة من أحسن الشّعْر وأوضحه، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سبقه إِلَى بَيته الأول الْقَائِل:
فَمَا يدْرِي الْفَقِير مَتى غناهُ ... وماد يَدْري الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَعِبْرَةٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ".
عذريٌ وَرب الْكَعْبَة
حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بن نصير لخواص، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن مَسْرُوق، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن شبيب، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الصَّمد الْبكْرِيّ، أَخْبَرَنَا ابْن عُيَيْنة، قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن عُقْبة الهَمْدانِّي لأعرابي: مِمَّنْ أَنْت، فَقَالَ: من قوم إِذا عشقوا مَاتُوا، قَالَ: عذريٌ وربِّ الْكَعْبَة، فَقلت: ومم ذَاك، قَالَ: فِي نسائنا صباحة، وَفِي فتياننا عفَّة.
أتلف ثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم
حَدَّثَنَا يزْدَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يزْدَاد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، قَالَ: وحَدَّثَنِي ابْن أَبِي زُهَيْر الْعَبْسيّ، عَنْ عِيسَى بْن أَبِي شَيْبَة الْأَصْغَر، قَالَ:
دخل عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي بكرَة عَلَى الحَجَّاج وَفِي إصبعه خَاتَم، فَقَالَ لَهُ: يَا عُبَيْد اللَّه! عَلَى كم ختمت بخاتمك هَذَا؟ قَالَ: عَلَى ثَلَاثِينَ ألف ألف، قَالَ: فَفِيمَ أتْلَفْتها، قَالَ: فِي تَزَوُّج العقائل والمكافأة بالصنائع، وَأكل الْحَار وشُرْبِ القار، قَالَ: أَرَاك ضليعًا، قَالَ: ذَاك أصلحك اللَّه لِأَنِّي لَا آكل إِلا عَلَى نقاء، وَلا أجامع إِلا عَلَى شَهْوَة، فَإِذا كَانَ اللَّيْل رَوَّيْتُ قدميَّ زَنْبقًا، ورأسي بَنَفْسجة يصعد هَذَا ويحدِر هَذَا فَالْتَقَيَا فِي الْمعدة فَعقَد الشَّحْم.
قَالَ القَاضِي: العقائل جمع عقيلة، والعقيلة: دُرَّة الْبَحْر، وَبهَا سميت الْمَرْأَة لكرامتها، قَالَ ابْن قيس الرقيات:
تذهل الشَّيْخ عَن بنيه وتبدي ... عَن خدام العقيلة الْعَذْرَاء(1/276)
يحْتَاج صَاحب السّلطان إِلَى ثَلَاث
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ مُحدث عَنْ عمّه، قَالَ: خرجتُ من عِنْد يَعْقُوب بْن دَاوُد فَلَمَّا استويتُ عَلَى دابّتي قَامَ إليّ دِهْقَانٌ مَجُوسِيّ وَسَأَلَ أَن أَسْتَأْذن لَهُ يَعْقُوب، فَقلت: إِنَّك لَو كُنْت سَأَلتنِي وَأَنا أَدخل كَانَ أحسن، فَأَما وَأَنا أخرج فَلَا، قَالَ: فَخَطب عَليّ خطْبَة بِالْفَارِسِيَّةِ واضطرني إِلَى أَن دخلتُ عَلَى يَعْقُوب فاستأذنت لَهُ، فَقَالَ: أعرفُه، ثُمّ أرسل من أدخلهُ، فَقَالَ لَهُ الدِّهقان: إِنَّك تعلم أَن من أمثالنا أَن صَاحب السّلطان يَنْبَغِي أَن يَكُون مَعَه خلالٌ ثَلَاث: الصبرُ والعقلُ وَالْمَال، فَأَما مَا لَا ينفذ مِنْهَا فمعي. الصَّبْر وَالْعقل، وَأما مَا تُنْفِده الْأَيَّام فقد فَنِيَ وَهُوَ المَال، فإمَّا أَن تمدَّني بمالٍ فأقيم، وَإِمَّا أَن تَقْضِيَ حَاجَتي، قَالَ: فَقضى حَاجته وَأَعْطَاهُ.
المجلِسُ السَّابع والثَلاثون
من هدي النبوَّة
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفُلُوسِيُّ أَبُو يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُكَيْنُ بْنُ أَبِي سِرَاجٍ أَبُو عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَادَى رجلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، قَالَ: فَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ لأَخٍ لِي مُسْلِمٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يمضينه لأَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة رضى، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخٍ لَهُ مُسْلِمٍ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلُّ الأَقْدَامُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ.
رِوَايَة أُخْرَى للْحَدِيث
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْقَاسِم من زَكَرِيَّا الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْن إِسْحَاقَ الرَّاشِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاهِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُكَيْنِ بْنِ أَبِي سِرَاجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ وَإِنَّ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سُرُورًا تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً أَوْ تَسُدُّ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ لأَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخٍ لَهُ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلُّ الأَقْدَامُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ.(1/277)
تعقيب للمؤلف
قَالَ القَاضِي: وَقَدْ روينَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَة وَنَحْوهَا أَخْبَارًا كرهنا الإطالة باستيعابها، واكتفينا بِمَا أَثْبَتْنَاهُ فِي هَذَا الْموضع مِنْهَا، وفيهَا من إِعْلَام النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذكره فِيهَا من مَكَارِم الْأَفْعَال، ومحاسن الْأَعْمَال، وحَضِّه عَلَيْهَا، وَوَصفه مَا أَنْبَأَ عَنْهُ من الْفَضْل مِمَّا يَدْعُو كُلّ ذِي بَصِيرَة إِلَى الِانْقِطَاع إِلَيْهِ، والمواظبة عَلَيْه، وَقُوَّة الرَّغْبَة فِيهِ، والمنافسة فِي وفور الحظِّ مِنْهُ، وَهُوَ مؤكدٌ لما اسْتَقر فِي نفوس ذَوي الفطن السليمة حُسْنُه وشرفه، وَاسْتِحْقَاق الْأَخْذ بِهِ من الإجلال والتعظيم، والتشريف والتقديم، مَعَ عَظِيم مَا يُرْجَى لمن تخلَّق بِهِ من أَهْل الإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله، من جزيل الثَّوَاب، والفوز فِي المنقلب والإياب، والأمن من سوء الْحساب، وأليم الْعَذَاب.
يتَصَدَّق بقصب بَيته
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صاعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بْن الْحَسَن المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْهَيْثَم بْن جميل، يَقُولُ:
كَانَ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ يتَصَدَّق، حَتَّى إِذا لَمْ يبْق فِي يَده شيءٌ وَجَاء سائلٌ نزع خُصًّا كَانَ يَكُون أَمَام بَيته فَأعْطَاهُ السَّائِل، حَتَّى إِذا وجد شَيْئا اشْترى قصبًا وبناه، قَالَ: وَكَانُوا إِذا رَأَوْا بابَهُ بِغَيْر خُص علمُوا أَنَّهُ لَمْ يبْق عِنْده شَيْء.
خبر صَخْر بْن شريد السُّلَمِيّ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، ثُمّ حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيّ قَالَ: التقى صَخْرُ بْن عَمْرو بْن الشَّرِيد السُّلَمِيّ وَرجل من بني أَسد، فطعن لأسدي صخرًا فَقِيل لصخر كَيفَ طَعَنَك، قَالَ: كَانَ رُمْحُه أطولَ من رُمْحِي بأُنْبُوب، فضمن صخرٌ مِنْهَا فطال مَرضه، وَكَانَت أُمّه إِذا سُئلت عَنْهُ، قَالَتْ: نَحْنُ بخيرٍ مَا رَأينَا سوادَه بَيْننَا، وَكَانَ امْرَأَته إِذا سُئِلت عَنْهُ، قَالَتْ: لَا حَيٌّ فُيْرجَى وَلا مَيِّتٌ فيُنْعَى، فَقَالَ صَخْر:
أرى أم صخرٍ لَا تَمَلٌّ عِيادتي ... ومَلَّتْ سُلَيْمَي مَضْجَعِي ومكاني
إِذا مَا امرؤٌ سَاوَى بأُمٍّ حَلِيلَة ... فَلَا عَاشَ إِلا فِي شقًا وهوان
لَعَمْري لقَدْ أيقظت من كَانَ نَائِما ... وأسمعتَ مَنْ كَانَتْ لَهُ أذنان
بَصيرًا بوَجْهِ الحَزْمِ لَو أسْتطيعه ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ العَيْرِ والنزوان
شرح معنى الضَّمَان والسواد
قَالَ: القَاضِي قَوْله فضمن مَعْنَاهُ سَقِم وبَلِي جِسْمه، يَقُولُ: بفلان ضمانٌ مثل سقامٌ وضمانةٌ مثل زَمَانة، قَالَ ابْن الدُّمَيْنة:
أُمَيْم بقلبي مِنْ هَوَاكِ ضمانةٌ ... وأنتِ لَهَا لَو تَعلمين طبيبُ(1/278)
ويروي زَمَانَة، وَحكى: بفلان زمنٌ وزمانةٌ وزمنةٌ، وضمنٌ وضمنةٌ وضمانةٌ وضَمَان، وَقَول: أم صَخْر مَا رَأينَا سَوَادَهُ يَعْنِي شخصه، قَالَ الْأسود بْن يَعْفُر:
إِن المنيَّة والْحُتوف كِلاهما ... فَوق المَخَارِمِ يَرْمُقان سَوَادِي
مَعَاني العير
والعَيْر هَا هُنَا الْحمار، وَهُوَ اسمٌ يقعُ عَلَى أَشْيَاء ذَوَات عددٍ. مِنْهَا اسْم جبل، ويُقَالُ: للملَك عَيْرٌ، وللعُودِ الْمُمتدِّ متوسطًا لورق الشَّجر والنبات، وللناتىء فِي الْكَفّ، وللناتىء فِي ظهر الْقدَم، وَلما فِي سَواد الْعين، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
ويمشِي الْقِبِصَّى قبل عيرٍ وَمَا جَرَى ... وَلَم تَدْرِ مَا شَأني وَلم أدر مَا لَهَا
الْقِبِصَّى مشيةٌ فِيهَا تَوَثُّب، وَمن كَلَام الْعَرَب: افْعَل هَذَا قبل عيرٍ وَمَا جرى، ويُقَالُ: للوَتِد عَيْر، وَقَدْ قَالَ أولو الْمعرفَة مِنْ رُواة الشِّعر فِي قَول الْحَارِث بْن حِلْزة:
زَعَمُوا أَن كل من ضرب العي ... ر موالٍ لنا وَأَنا الوَلاءُ
أقوالا وَحمل كُلّ مِنْهُم تَأْوِيله عَلَى وَجه من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلذكر ذَلِكَ موضعٌ غَيْر هَذَا، وأمّا النَّزَوَان فَهُوَ التوثُّب والتحرك صُعُدًا، وذُكِر أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا حَرَكَة فِيهَا تصعُّد وارتفاع، ذكر نَحْو ذَلِكَ سِيبوَيْه، وَمثل هَذَا الجَوَلان والخَفَقَانُ والبَرَدَان والرَّجفان والعَسَلان والسَّيلان مِمَّا يكثر تعداده.
شعرٌ عَلَى حَائِط
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُفَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: قَالَ لي أَبُو عَليّ صديقنا حَدَّثَنِي بعض أَهْل الْمعرفَة، أَنَّهُ بَينا هُوَ فِي بعض بِلَاد الشَّام نزل فِي دَار من دورها فَوجدَ عَلَى بعض الْحِيطَان كتوباً:
دعوا مُقْلَتي تبْكي لفقد حبيبها ... ليطفىء بَرْدُ الدَّمْع حرَّ كُرُوبها
فَفي حلِّ خيطِ الدمع للقلب راحةٌ ... فَطُوبَى لنَفس مُتِّعَتْ بحبيبها
بِمن لَو رأتْهُ القاطعاتُ أكُفَّها ... لما رضِيَتْ إِلا بِقطع قُلُوبِها
قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهُ فَأخْبر أَن بعض الْعمَّال ترك هَذِهِ الدَّار وَقَدْ أصَاب ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَعَلِقَ غُلَاما فأنفق ذَلِكَ المَال كُلَّه عَلَيْه، قَالَ: فَبينا أَنَا جالسٌ وَمر بِنَا ذَلِكَ الْغُلَام، قَالَ: قَالَ: فَمَا رأيتُ غُلَاما أحسنَ مِنْهُ حُسنًا وجمالا.
معنى إِذا سرقت فاسرق دُرَّة
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْثُ أَبُو نصر المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نصر مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن طَاهِر الْخُزَاعيّ المَرْوَزِيّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور بن طَلْحَة، يَقُولُ: سَمِعْتُ عمي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، يَقُولُ: سَأَلَني الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس!(1/279)
مَا معنى إِذا سرقت فاسرق دُرَّة، وَإِذَا زَنَيْت فازْنِ بحُرَّة، فَقلت: أويخبرني أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: لَيْسَ هَذَا حَثًّا عَلَى الزِّنَا، وَلا عَلَى السَّرِقَة، وَلَكِن إِذا رُمْتَ الزِّنا من الْحُرَّة تَعذَّر عَلَيْك، وَإِذَا رُمْتَ السّرقَة للدُّرة تعذَّر عَلَيْك لِأَنَّهَا مصونة فَلَا تقدر عَلَيْهَا.
بعض أَخْبَار ذِي الرمة وَإِخْوَته ومحبوبته
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، ومُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، عَنْ أَبِي زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِح الفَزَاريّ، قَالَ:
ذكر ذُو الرمة فِي مجْلِس فِيهِ عدَّة من الْأَعْرَاب، فَقَالَ: عصمَة بْن مَالك شيخ مِنْهُم قَدْ أَتَى لَهُ مائَة سنة، فَقَالَ، كَانَ من أظرف النّاس، وقَالَ: كَانَ آدم خَفِيف العارضين حسن المضحك حُلْو الْمنطق، وَكَانَ إِذا أنْشد بربر وَحسن صَوته، وَإِذَا واجهك لَمْ تَسْأَم حَدِيثه وَكَلَامه، وَكَانَ لَهُ إخْوَة يَقُولُونَ الشّعْر مِنْهُم مَسْعُود، وَهَمَّام، وخرواش، وَكَانُوا يَقُولُونَ القصيدة فيزيد فِيهَا الأأبيات فيغْلب عَلَيْهَا فتذهب لَهُ، فَأتى يَوْمًا فَقَالَ لي: يَا عصمَة! إِن مية مِنقَرية وَبَنُو منقر أَخبث حَيّ وأبصره بأثر وأعلمه بطرِيق، فَهَل عنْدك من نَاقَة تزدارُ عَلَيْهَا ميَّة؟ فَقلت: نعم، عِنْدِي الجؤذر، قَالَ: عَليّ بهَا فركبناها جَمِيعًا حَتَّى نشرف عَلَى بيُوت الْحَيّ، فَإِذا هُمْ خلوف وَإِذَا بَيت ميَّة خالٍ، فملنا إِلَيْهِ فتقوص النّساء نحونا وَنَحْو بَيت ميّ، فطلعت علينا فَإِذا هِيَ جَارِيَة أملودٌ وَارِدَة الشَّعر، وَإِذَا عَلَيْهَا سِبُّ أصفر وقميص أَخْضَر، فَقُلْنَ أنشدن يَا ذَا الرُّمَّةِ، فَقَالَ: أنشدهن يَا عصمَة، فَنَظَرت إلَيْهِنَّ فأنشدْتُهن:
وقفتُ عَلَى رسْم لمية نَاقَتي ... فَمَا زلتُ أبْكِي عِنْدَهُ وأخاطبه
وأسقيه حَتَّى كَاد ممّا أبثُّه ... تُكَلِّمني أحجارُه وملاعبُه
حَتَّى بلغت إِلَى قَوْله:
هَوَى آلفٍ جَاءَ الْفِراقُ وَلَم تُجِلْ ... جوائلها أسرارُهُ ومَعَاتبه
فَقَالَت ظريفه مِمَّنْ حضر: فلتجل الْآن، فَنَظَرت إِلَيْهَا حَتَّى أتيت عَلَى القصيدة إِلَى قَوْله:
إِذا سَرَحتْ من حُبٍّ مَيٍّ سوارحٌ ... عَلَى الْقلب أبته جَمِيعًا عوازبُه
فَقَالَت الظريفة مِنْهُنَّ: قَتَلْتِهِ قَتَلَكِ اللَّه، فَقَالَت ميٌّ: مَا أصحَّهُ وهنيئًا لَهُ، فتنفس ذُو الرمة نفسا كَاد من حَرِّه يُطَيِّر شعر وَجهه، ومضيت فِي الشّعْر حَتَّى أتيت عَلَى قَوْله:
وَقد حَلَفت بِاللَّه مية مالذي ... أَقُول لَهَا إِلا الَّذِي أَنَا كاذبه
إِذا فَرَمَانِي اللَّه من حَيْثُ لَا أرى ... وَلا زَالَ فِي دَاري عدوٌّ أحاربه(1/280)
فَقَالَت الظريفة: قتلته قَتلك اللَّه، فَقَالَت ميٌّ: خَفْ عواقب اللَّه يَا غيلَان، ثُمّ أتيتُ عَلَى الشّعْر حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى قَوْله:
إِذا راجَعَتْكَ القولَ ميَّةُ أَوْ بدا ... لَك الوجهُ مِنْهَا أَوْ نَصَا الدِّرعَ سَالِبُهُ
فيا لَك من جُدٍّ أسيلٍ ومنطق ... رخيم وَمن خلقٍ تعلل جادبه
فَقَالَت: تِلْكَ الظريفة: هَا هَذِهِ وَهَذَا القَوْل قد رَاجَعتك، تُرِيدُ واجهتها فَمن لَك أَن يَنضو الدرْع سالبه، فالتفتت إِلَيْهَا مية، فَقَالَت: قَاتلك اللَّه مَا أعظم مَا تجيئين بِهِ، فتحدثنا سَاعَة ثُمّ قَالَت الظريفة للنِّسَاء: إِن لَهما شَأْن فقمن بِنَا، فقمن وَقمت معن فَجَلَست بِحَيْثُ أراهما، فَجعلت ميةُ تَقول لَهُ: كذبت، فَلَبثت طَويلا ثُمّ أَتَانِي وَمَعَهُ قارورةٌ فِيهَا دهن، قَالَ: هَذَا دهنُ طيبٍ أتحفتنا بِهِ مية، وَهَذِه قِلادة للجُؤذُر، واللَّه لَا أَخْرجتُها من يَدي أبدا، فَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهَا حَتَّى إِذا انقصى الربيعُ ودعا النّاس الصَّيف أَتَانِي، فَقَالَ: يَا عصمَة! قَدْ رحلت ميُّ فَلم يبْق إِلا الرَّبْعُ والْآثَار، فَاذْهَبْ بِنَا نَنْظُر إِلَى آثَارهم، فخرجنا حَتَّى انتهينا فَوقف، وقَالَ:
أَلا يَا اسْلَمي يَا دَارَ ميٍ عَلَى البلَى ... وَلا زَال مُنْهَلًّا بجرْ عائِك القطْرُ
وَإِن لَم تَكُوني غَيْر شامٍ بقفرةٍ ... تجرُّ بهَا الأذْيال صيفيةٌ كُدْرُ
فَقلت لَهُ: مَا بالُك، فَقَالَ لي: يَا عصمَة إِنِّي لجَلْد، وَإِن كَانَ مني مَا ترى فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
وَالْخَبَر عَلَى لفظ أَبِي عَبْد اللَّه. قَالَ: وَحدثت عَنِ ابْن أَبِي عَدِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا الرُّمة يَقُولُ: بلغت نصف عُمَر الهَرِم أَرْبَعِينَ سنة، وقَالَ ذُو الرمة:
عَلَى حِين راهقتُ الثَّلَاثِينَ وارعوتْ ... لِدَاتي وَكَانَ الحلمُ بِالْجَهْلِ يرجح
إِذا خطرت من ذككر ميَّةَ خطرةٌ ... عَلَى الْقلب كَادَت فِي فُؤَادك تجرحُ
تصرَّفُ أهواء الْقُلُوب وَلا أرى ... نصيبَك من قلبِي لغيرك يُمْنَحُ
وبعضُ الْهوى بالهجر يُمحى فيمَّحى ... وحُبُّك عِنْدِي يَسْتَجدُّ ويَرْبَحُ
وَلما شكوتُ الْحبّ كَيْمَا تثيبني ... بوجْدِيَ قَالَتْ إِنَّمَا أَنْت تمزح
بعادًا وإدلالا عَليّ وَقَدْ رأتْ ... ضمير الْهوى قَدْ كَاد بالجسم يبرحُ
لَئِن كَانَت الدُّنْيَا عَليّ كَمَا أرى ... تباريح من ذكراك لَلْمَوتُ أرْوَحُ
ويروى تباريح من مي فللموت أروح قَالَ القَاضِي: وَهَذِه القصيدة من قصائد ذِي الرمة الطوَال الْمَشْهُورَة المستحسنة وأولها:
أمنزلتي مي سلامٌ عَلَيْكُمَا ... على النأي والنائي يود وَينْصَح(1/281)
وَمِنْهَا ذكرتك إِذْ مرت بِنَا أمُّ شادنٍ ... أَمَام المطايا تشرَئبُّ وتسْنَح
من المؤلفات الرملَ أدْمَاءُ حرةٌ ... شُعاعُ الضُّحى فِي مَتْنِها يتوضحُ
رأتنا كأنا عامِدُون لصيدها ... ضُحى فَهِيَ تَدْنُو تَارَة وتزحزحُ
هِيَ الشِّبْهُ أعطافًا وجيدًا ومُقلةً ... ومَيَّةُ أبْهى بَعْدُ مِنْهَا وأملحُ
وَهَذِه من أحسن الحائيات الَّتِي أَتَتْ عَلَى هَذَا الروي، ونظيرها كلمة ابْن مُقْبِل الَّتِي أَولهَا:
هَل الْقلب عَنْ أسْماءَ سالٍ فَمُسْمِحُ ... وزاجِرُهُ عَنْهَا الخيالُ الْمُبَرَّحُ
وَقَول جرير:
صَحَا القلبُ عَنْ سَلْمى وَقَدْ بَرِحَت بِهِ ... وَمَا كَانَ يَلْقَى من تُمَاضِرَ أبرحُ
وذُكِر فِي خبر ذِي الرمة بِهَذَا الْإِسْنَاد إخوةُ ذِي الرُّمة فَقيل فِيهِ: مَسْعُود، وَهَمَّام، وخرقاش، فَأَما مَسْعُود فَمنْ مشهوري إخْوَته، وإياه عني ذُو الرمة، بقوله:
أَقُول لمسعودٍ بجرعاءِ مالكٍ ... وَقَدْ هُمّ دَمْعِي أَن تَسُحّ أوائِلُهْ
وَمِنْهُم هِشَام وَهُوَ الَّذِي اسْتشْهد سِيبوَيْه من الْإِضْمَار فِي لَيْسَ بقوله.
فَقَالَ: قَالَ هِشَام بْن عُقْبة أَخُو ذِي الرمة:
هِيَ الشِّفَاء لدائي لَو ظفرتُ بهَا ... ولَيْسَ مِنْهَا شفاءُ الداءِ مَبْذُولُ
وَمِنْهُم أَوْفَى وَهُوَ الَّذِي عناه بعض إخْوَته فِي شعرٍ رثا فِيهِ ذَا الرمة أخاهما:
تَعَزَّيْتُ من أوفى بغيلانَ بعدَهُ ... عَزَاءُ وَجَفْنُ الْعين ملآنُ مُتْرعُ
وَلَم تُنسني أَوْفَى المصيباتِ بعده ... وَلَكِن نَكْءَ القَرْحِ بالقَرْحِ أوجعُ
وَذكره ذُو الرمة، فَقَالَ:
أَقُول لأوفي حِين أبْصر باللوى ... صحيفَة وَجْهي قد تغير حَالهَا
وَقَوله: فَإِذا هم خلوف، يُقَال: لمن تخلف بالحي إِذا ظعنوا وانتجعوا: خُلُوف، قَالَ الشَّاعِر:
فيا لَذَّات يومٍ أزورُ وَحْدي ... ديار الْمُوعِدِيَّ وهُمْ خلوف
يروي فيالذات يوْم ويومٍ، أَزور، فَمنْ عَنَى بقوله فيالذات بِالْإِضَافَة إِلَى الْيَاء الَّتِي هِيَ ضمير الْمُتَكَلّم وأسقطها اكْتِفَاء بكسرة التَّاء الَّتِي هِيَ فِي مَوضِع نَصَبِ لإِقَامَة وزن الشّعْر، فَيوم مَنْصُوب لَا غَيْر عَلَى الظّرْف، وَمن أضَاف قَوْله فيالذات إِلَى الْيَوْم جَازَ لَهُ النصب لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْل وَهِي الَّتِي يسميها كوفيُّو النُّحَاة إِضَافَة غَيْر مُحصنَة، وَجَاز الْجَرّ واختير لِإِضَافَتِهِ إِلَى فعل مُعرب غَيْر مَبْنِيّ.
وَقَدْ يُقَالُ أَيْضا للحي الظاعن: خُلُوف.
وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: مي فِي مَوَاضِع فِيهِ، ومية فِي مَوَاضِع أخر، فقد ذكر(1/282)
النحويون أَن ذَا الرمة كَانَ يسميها تَارَة مية وَتارَة مي، وَهَذَا بَيْنَ فِي كثير من شعره، من ذَلِكَ قَوْله:
ديارُ ميةَ إذْ ميٌّ تساعِفُنا ... وَلا يَرى مثلَها عجمٌ وَلا عَرَبُ
وروى قَوْله:
فِيمَا ميّ مَا يُدريك أَيْنَ مناخنا ... معرقة الألحى يَمَانِية شَجرا
بِالرَّفْع وَالنّصب فَمن رَوَاهُ بِالنّصب فوجهه أَنَّهُ رُخِّم عَلَى قَول من قَالَ: يَا حارِ أقبل وَهُوَ أَقيس وَجْهي التَّرْخِيم، وَمن رَوَاهُ بِالرَّفْع فعلى أَن مي اسمٌ تامٌ غَيْر مرخّم، لِأَنَّهُ منادى مُفْرد وَقَدْ يجوز ترخيمه عَلَى قَول من قَالَ: يَا حارِ.
وَمِمَّا يُبِّين أَنَّهُ كَانَ يقْصد تَسْمِيَتهَا بمي عَلَى غَيْر التَّرْخِيم، قَوْله:
تداويتُ من ميٍّ بِتَكْلِيم ساعةٍ ... فَمَا زَاد إِلا ضَعْفَ مَا بِي كَلامُها
وَقَوله: جاريه أُمْلُود، مَعْنَاهُ: ناعمة كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أرَيْتَ إِن جاءتُ بِهِ أُمْلُودَا ... مُرَجَّلا ويَلْبَسُ الْبُرُودا
وأمّا قَوْله وَإِذَا عَلَيْهَا سبٌ أصفر، فَإنَّهُ يَكُون الرِّداء والْخِمَار، قَالَ الشَّاعِر:
وأشهدُ من عَوْف حُلُولا كَثِيرَة ... يحجون سِبَّ الزِّبرقان الْمُزَعْفَرا
والسِّبُّ: الْخَيط، والسِّب أَيْضا الكفؤ فِي السباب كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
لَا تسببني فَلَسْتَ بِسِبِّي ... إِن سِبِّي من الرِّجالِ الكريمُ
وقَالَ الأخطل:
بني أَسد لستُم بِسبِّي فأقْصِرُوا ... ولكنما سبي سليمٌ وعامر
قَوْله: أونضا الدِّرْع سالبه، معنى نَضَاهُ: خَلَعَه، يُقَالُ: نضا السَّيْف من غِمده وانتضاه ونضا الثَّوْب عَنْهُ إِذا خلعه، قَالَ: امْرُؤ الْقَيْس:
فَقُمْت وَقد نضَتْ لنومٍ ثِيَابهَا ... لَدَى السِّتْر إِلا لُبْسة المتفضل
وَقَوله ومنطق رخيم، الرخيم الَّذِي فِيهِ تقطع يستحسن وَمثله قَوْله أَيْضا:
لَهَا بشرٌ مثلُ الحَرِير ومنطقٌ ... رَخِيمُ الحَوَاشي لَا هراءٌ وَلا نَزْرُ
وَمن هَذَا قَوْلهم: رخمت الدَّجَاجَة إِذا قطعت بيضها، وَمِنْه ترخيم الْكَلَام فِي الْعَرَبيَّة كَقَوْلِك: يَا حَار وَيَا مالِ، وَقَوله تَعلَّلَ جَادِبُه، الجادب: العائِب، وَمِنْه الْخَبَر " جَدب عمر السمر بعد الْعشَاء " أَيّ عَابَ السَّمَر وَكَرِهَهُ بعد الْعشَاء.
وَقَوله أَلا يَا اسلمي، مَعْنَاهُ: يَا هَذِهِ اسلمي، وعَلى هَذَا الْمَذْهَب قِرَاءَة من قَرَأَ " أَلا يَا اسْجُدُوا " وَمن هَذَا النَّحْو قَول الأخطل:
أَلا يَا اسلمِي يَا هِنْدُ هِنْدُ بني بدرٍ ... وَإِن كَانَ حيانا عَدِيّ آخر الدَّهْرِ
وقَالَ الآخر:(1/283)
يَا لعنةُ اللَّه والأقوامُ كُلِّهِمُ ... والصَّالحين عَلَى سَمْعَان مِنْ جَارِ
وَهَذَا بَاب وَاسع جدا وَنحن نشبع القَوْل فِيهِ إِذا انتهينا إِلَى الْبَيَان عَنْ قَول اللَّه عز وَجل: " أَلا يَا اسجدوا لله " وَشرح مَا فِيهِ من التَّأْوِيل والقراآت فِي مَوْضِعه فِي كتبنَا فِي علل التَّأْوِيل والتلاوة إِن شَاءَ اللَّه.
وقولُ ذِي الرمَّة: عَلَى حِين راهقتُ الثَّلَاثِينَ بِنصب حِين، هَكَذَا روينَاهُ، وَهُوَ الْوَجْه المتَّفقُ عَلَى صِحَّته فِي الْإِعْرَاب، وَالْمُخْتَار عِنْد كثير من نُظار النُّحاة الْفَتْح لِإِضَافَتِهِ إِلَى مبنيٍ غَيْر مُعْرب، وَذَلِكَ " راهقت " الَّذِي هُوَ فعل مَاض كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
عَلَى حينَ عاتبتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبا ... وقُلْتُ ألَمَّا تَصْحُ والشيبُ وَازِعُ
وعَلى هَذَا الْوَجْه قِرَاءَة من قَرَأَ من القَرَأَةِ " وَمِنْ خزي يَوْمئِذٍ " وَمن قَرَأَ: يومئذٍ " وَمن عَذَاب يَوْمئِذٍ "، وَهَذَا كلُّه مشروح مَعَ تَسْمِيَة من قَرَأَ بِهِ، وحُجج الْمُخْتَلِفين فِيهِ فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي حُرُوف الْقُرْآن وتأويله.
الصُّغْرَى أظرفهن
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن زُهَيْر بْن حَرْب بْن أَبِي خَيْثَمَة، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير بْن بَكَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَب عمي، قَالَ: ذكر لي رجلٌ من أَهْل الْمَدِينَة، أَن رَجُلا خرج حاجًّا فَنزل تَحت سرحةٍ فِي بعض الطَّرِيق من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، فَنظر إِلَى كتاب معلقٍ عَلَى السَّرْحة مَكْتُوب فِيهِ: بِسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم: أَيهَا الْحَاج القاصدُ بَيت اللَّه، إِن ثَلَاث أخواتٍ خَلَون يَوْمًا فبُحْنَ بأهوائهن وذكرن أشجانهن، فَقَالَت الْكُبْرَى:
عجبْتُ لَهُ إذْ زار فِي النَّومِ مَضّجَعي ... وَلَو زَارَني مُستيقظًا كَانَ أعْجَبَا
وَقَالَت الْوُسْطَى:
وَمَا زَارَنِي فِي النَّوْمِ إِلا خَيَالُهُ ... فقلتُ لَهُ أَهلا وسَهْلا ومَرْحَبَا
وَقَالَت الصُّغْرَى:
بنفسي وَأَهلي من أرى كُلّ ليلةٍ ... ضَجِيعي وريَّاهُ من الْمِسْك أطْيَبَا
وَفِي أَسْفَل الْكتاب مَكْتُوب: رحم اللَّه امْرأ نظر فِي كتَابنَا هَذَا فَقضى بِالْحَقِّ بَيْننَا، وَلم يجر فِي الْقَضِيَّة، قَالَ: فَأخذ الْكتاب فَكتب فِي أَسْفَله:
أحدِّثُ عَنْ حورٍ تَحَدّثْن مرّة ... حَدِيث امرىءٍ سَاس الْأُمُور وجَرَّبا
ثلاثٌ كبكْرَاتِ الهجان عَقَائِل ... نَوَاعم يغلبن اللبيب المهذَّبا
خلون وَقَدْ غَابَتْ عيونٌ كثيرةٌ ... من اللائي قَدْ يهوين أَن يتغيبا
فبحن بِمَا يُخفين من لاعج الْهوى ... مَعًا واتخذن الشّعْر ملهًى وملعبا(1/284)
عجبت لَهُ أَن زار فِي النَّومِ مَضّجَعي ... وَلَو زَارَني مُستيقظًا كَانَ أعجبا
فَلَمَّا أخْبرت مَا أخْبرت وتضاحكت ... تنفست الْأُخْرَى، وَقَالَت تطربا
وَمَا زَارَنِي فِي النَّوْمِ إِلا خَيَالُهُ ... فقلتُ لَهُ أَهلا وسَهْلا ومَرْحَبَا
وشوقت الْأُخْرَى وَقَالَت مجيبة ... لَهُنَّ بقولٍ كَانَ أشهى وأعجبا
بنفسي وَأَهلي من أرى كُلّ ليلةٍ ... ضَجِيعي وريَّاهُ من الْمِسْك أطْيَبَا
فَلَمَّا تبينت الَّذِي قُلْنَ وانبرى ... لي الْحَكَم لَمْ أترك لذِي القَوْل مَعْتَبا
قضيت لصُغْراهن بالظّرف إنَّني ... رَأَيْت الَّذِي قَالَتْ إِلَى الْقلب أعجبا
قَالَ القَاضِي: السَّرحة الشَّجَرَة، قَالَ عنترة يصف رَجُلا بِعظم الجثة وَكَمَال الْخلقَة وبهاء الصُّورَة:
بطلٌ كأنّ ثيابَهُ فِي سرحةٍ ... تَحذى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ
وقَالَ بعض الْأَعْرَاب:
يَا سرحة الدَّوح أَيْنَ الحيُّ واكبدا ... رُوحِي تَذُوب وَبَيت اللَّهِ من حَسَرِ
وقَالَ حُمَيد بْن ثَوْر الْهِلَالِي:
أَبى اللَّه إِلا أَن سَرْحَةَ مالكٍ ... إِلَى الْقلب من بَين العضاه تروق
الدَّوْحُ: جمع دَوْحة، وَهُوَ مَا عظم من الشّجر.
المجلِسُ الثَامِن وَالثَلاثونْ
إِذا أحبّ اللَّه عبدا منحه الْقبُول
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِشْكَابَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَشِّرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُة بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
قَالَ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: وَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، قَالَ: وَلا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ.
شرح الْحَدِيث
قَالَ القَاضِي إِن اللَّه جلّ جَلَاله يحب من عباده من أطاعه، وَيَضَع الْقبُول لمن قَبِل وَصَايَاهُ وَعمل بِمَا يعودُ بمرضاته، فنسأل اللَّه تَعَالَى توفيقنا لطاعته الْمُوجبَة لمحبته، وعصمتنا من مَعْصِيتَه المؤدية إِلَى سَخَطه، فطوبى لمن أطَاع ربه فأحبّه، وويلٌ لمن عَصَاهُ وأغضبه، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى ذِكره: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيغْفر لكم ذنوبكم " وقَالَ جلَّ اسْمه: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قل فَلم(1/285)
يعذبكم "، وَمن أحبه ربه أكْرمه وَلَم يُهنه، ونَعَّمه وَلَم يُعذبه، وَلَقَد أحسن لقَائِل:
تعضي الإِله وَأَنت تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا مجالٌ فِي الْقِيَاسِ شَنِيعُ
لَو كَانَ حُبُّك صَادِقا لأطعتَهُ ... إنَّ المحبَّ لِمن أحبَّ مُطِيعُ
ضبط بعض المصادِر الَّتِي أَتَتْ عَلَى فعول
قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَالْقَبُول والوَقود والَولُوع وَالْوُضُوء والطَّهور مصَادر جَاءَت عَلَى فَعُول، وَالظَّاهِر الفاشي فِي المصادر الفعول، وَأكْثر مَا يَأْتِي فِي اللَّازِم من الْفِعْل غَيْر الْمُتَعَدِّي، كالْقُعُود وَالْجُلُوس وَمَا أشبههما، ويَّطرِدُ الْفرق بَيْنَ الِاسْم بِالْفَتْح والمصدر بِالضَّمِّ، وَذَلِكَ كَالسحُورِ والْفُطور والصَّعُود والصُّعود والهَبُوط والْهُبُوط وَمَا أشبه هَذَا، وَقَد اخْتلف فِي الْوقُود وَالْوُضُوء ومجاريهما، وَفِي قِرَاءَة قَوْله: " وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " ووقود النَّار، وَبَيَان هَذَا مَرْسُوم فِي أوْلَى الْمَوَاضِع بِهِ، وَمن الولوع قَول عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة:
إِن هَمِّي قَدْ نَفَى النَّوم عَنِّي ... وحديثُ النَّفْس شيءٌ وَلُوعُ
فِي قَوْله: ولوع وَجْهَان: يَكُون مَصْدرًا مبدلا من شَيْء، وَيكون صفة لشيءٍ مثل رَجُل ضَرُوب، وَحكى الفَرَّاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ رَوَى: وَجَبَ البيعُ وَجُوبا، وذُكِر الفَرَّاء أَنَّهُ لَمْ يُسْمع فِي هَذَا إِلا الضَّم، فَأَما جُمْهُور أَهْل الْعلم فَلم يعرفوا فِي هَذَا الْبَاب الْفَتْح إِلا فِي الأحرف الْخَمْسَة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا عَلَى مَا فِي بَعْضهَا من الاخْتِلاف فِي تَفْصِيله وتصريفه، وَإِذَا ضُم إِلَى هَذَا مَا حكيناه عَنِ الْكسَائي فَهُوَ حرفٌ سادس، وَقَدْ وجدنَا حرفا سابعًا فِي هَذَا محكيًّا، وَهُوَ غَرِيب نَادِر وَذَلِكَ الْجور.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَحْمُود الْأَزْهَرِي، عَنْ أَبِي الْعَبَّاس ثَعْلَب، عَنِ ابْن: وَجَرْتُ الصَّبِيَّ آجِرُه وَجُورًا وَوَجُورًا.
بيتان فِي المحبَّة والتفضيل بَيْنَهُمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: سَمِعت جَعْفَر بْن سُلَيْمَان، يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ بأشعر من الْقَائِل:
إِذا رُمْتُ مِنْهَا سَلْوةً قَالَ شافعٌ ... من الحبِّ ميعادُ السُّلُوِّ المَقَابِرُ
فَقلت: أشعر مِنْهُ الأحْوَص حَيْثُ يَقُول:
سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَر القَلْبِ والحشا ... سريرة ود يَوْم تُبْلَى السَّرَائِرُ
قَالَ القَاضِي: بيتُ الْأَحْوَص أوفى معنى وتقصير الْبَيْت المقدَّم عَنْهُ فِي الْمَعْنى الَّذِي قَصده الشاعرانِ، أجلى وَأظْهر من أَن يخفى من وُجُوه شتَّى مِنْهَا: أَن الأول، قَالَ: إِذا رُمْت عَنْهَا سلوةً، وَالْآخر أَوْمَأ إِلَى اتِّصَال وُدِّهِ وَامْتِنَاع انْقِطَاعه وتصرُّمه، وقَالَ الأول: إِن الَّذِي يَثْنيه عَنِ السلوة شَافِع يصرفهُ عَنْهَا بعد رومه إِيَّاهَا، وَجعل الأول وَقت السلو حيت(1/286)
تجنّه وَأَهْلهَا الْقُبُور، وصيره ميعادًا ينتظره من رام السَّلْوه، فَهَذَا نقد متيسر ظَاهر لمتأمّله، وَإِن لَمْ يقل فِي جهبذة هَذَا الشَّأْن وطبقته.
بَيت لأبي طَالِب فِي مدح الرَّسُول
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أُسْتَاذُ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حِكْمَةَ الْمُقَوِّمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: تَذَاكَرُوا أَيُّ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَحْسَنُ، قَالَ: فَقَالَ رجلٌ: مَا سَمِعْتُ بَيْتَ شعرٍ أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ محمودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
تَعْلِيق عروضي
قَالَ القَاضِي: قَوْله من اسْمه، يرْوى عَلَى وَجْهَيْن: أَحَدهمَا من اسْمه عَلَى همزَة مَقْطُوعَة لإِقَامَة الْوَزْن وَقَدْ جَاءَ مثله فِي الشّعْر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
بأَبِي امرؤٌ الشَّام بيني وَبَينه ... أَتَتْنِي ببشرى بُرْدُهُ ورَسَائِلُه
وقَالَ الآخر:
إلّا لَا أرى إثنين أكرمَ شِيمَةً ... عَلَى حِدْثان الدَّهْر مِنِّي ومِنْ جُمْلُ
وقَالَ آخر:
إِذا جَاوز الْإِثْنَيْنِ سِرٌّ فَإِنَّهُ ... بِبَثٍّ وتَكْثِيِر الوشاة قمينُ
ويروي أَلا كُلّ سر جَاوز اثْنَيْنِ إنَّه، فعلى هَذِهِ الرِّوَايَة لَا شَاهد فِيهِ، وَالْوَجْه الثَّانِي فِي رِوَايَة الْبَيْت: وشق لَهُ من اسْمه عَلَى الْوَصْل وَترك الْقطع إِقْرَارا لَهُ عَلَى أَصله فِي إِخْرَاجه عَنْ قِيَاسه، فَإِذا رُوِيَ هَكَذَا فَهُوَ عَلَى الزحاف وزحافه حذف خَامِس جزئه الثَّانِي مفاعِي لن، فَيصير مفاعلن وَيُسمى هَذَا الزحاف الْقَبْض، وَقَدْ يَقع الزحاف فِي هَذَا الْخَبَر بِإِسْقَاط سابعه، وَهُوَ نون مفاعي لن وَيُسمى الْكَفّ، وَالْقَبْض فِي هَذَا أحسن الزحافين عِنْد الْخَلِيل، والكف أحسنهما عِنْد الْأَخْفَش، وَهَذَانِ الزحافان يتعاقبان وَلا يَجْتَمِعَانِ.
من أحسن مَا قِيلَ فِي الرثاء
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُوسَى الملقي، قَالَ: حَدَّثَنَا سوار، قَالَ: قَالَ الأَصْمَعِيّ: جهدت الْعَرَب أَن تَقُولُ مثل هَذَا الْبَيْت فَمَا قدرت:
لقَدْ سَخَّى ربيعةُ أَن يَوْمًا ... عَلَيْهَا مثل يَوْمك لَا يعودُ
قَالَ القَاضِي: وَقَدْ نحا هَذَا النَّحْو عددٌ من الشُّعَرَاء، إِمَّا اقْتِدَاء وَإِمَّا ابْتِدَاء، وَفِي جمعه طول كرهت الإطناب فِيهِ، وَمن أحسن مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ:
لَعَمْري لئِن كُنَّا فَقَدْناك سَيِّدًا ... كَرِيمًا لَهُ حقُّ التَّنَاوُشُ والفَزَع(1/287)
لقَدْ جر نفعا فَقدنَا لَك إننا ... أمِنا عَلَى كُلّ الرَّزايا من الجَزَع
وقَالَ آخر:
لَئِن كَانَت الْأَيَّام أطْولْن لَوْعتي ... لفقدك أَوْ ألْزَمْن قَلْبي التَّفَجُّعَا
لقَدْ أمنتْ نَفسِي المصائِبَ بعدَهُ ... فأصبحتُ مِنْهَا آمِنًا أَن أرَوَّعا
وَهَذَا النَّوْع وَمَا يُضارِعه كثير، كرهنا الإطالة بِذكرِهِ.
أَبْيَات فِي الزّهْد
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَامِد بْن أَحْمَد بْن أُسَيْد، قَالَ: أخذت بيد عَلِيّ بْن جَبَلَة يَوْمًا فأتينا أَبَا الْعَتَاهِيَة فوجدناه فِي الْحمام، فانتظرناه فَلم يلبث أَن جَاءَ، فَدخل عَلَيْه إِبْرَاهِيم بْن مقَاتل بْن سهل وَكَانَ جميلا، فَتَأَمّله أَبُو الْعَتَاهِيَة، وقَالَ مُتمثلا:
يَا حسان الْوُجُوه سَوف تموتو ... ن وتبلى الْوُجُوه تَحت التُّرَاب
فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيّ بْن جَبَلَة، فَقَالَ: اكْتُبْ:
يَا مُرَبيِّ شَبَابَهُ للتراب ... سَوف يلهو الْبِلَى بعِطْر الشَّبَاب
يَا ذَوِي الأوجُهِ الْحِسانِ المصونا ... ت وأجسامها الْغِضَاض الرِّطَاب
أكثرُوا من نعيمها أَوْ أقلُّوا ... سَوف تُهدونها لعَفْر التُّراب
قَدْ تُصبك الْأَيَّام نصبا صَحِيحا ... بِفِرَاق الإخوان والأصحابِ
قَالَ: فَقَالَ لي أَبُو الْعَتَاهِيَة: قل يَا حَامِد، قُلْتُ: مَعَك وَمَعَ أَبِي الْحَسَن؟ فَقَالَ: نعم، فَقلت:
يَا مقيمين رَحَلوا للذِّهاب ... بشفير الْقُبور حَطُّ الرِّكاب
نَعِّمُوا الأوْجُهَ الْحِسَانَ فَمَا ... صَوْنكموها إِلا لعَفْر التُّرَاب
والْبَسُوا ناعم الثِّيَاب فَفِي الحف ... رة تُعرُّون من جُمَيْع الثِّيَاب
قَدْ ترَوْنَ الشَّبَاب كَيفَ يموتو ... ن إِذا اسْتُنْضِرُوا بمَاءِ الشبابِ
إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ يحكم بَيْنَ شاعرين
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن عجلَان، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق، قَالَ: كَانَ عِنْد الْفَضْل بْن يَحْيَى وَعِنْده مُسْلِم بْن الْوَلِيد الأَنْصَارِيّ ومَنْصُور النمري يُنْشِدانه، فَقَالَ: احكم بَيْنَهُمَا، فَقلت: الْحَكَم عيبٌ عَليّ، والأمير أولى من حكم وَقَدْ سَمِع شعرهما، قَالَ: أقسمتُ عَلَيْك لمَّا فَعَلْت، قُلْتُ: هما صديقان شاعران وَقل من حكم بَيْنَ الشُّعَرَاء فَسلم مِنْهُم، وَلَكِن إِن أحبَّ الأميرُ وصفتُ لَهُ شعرهما، فَقَالَ:(1/288)
فصفه، فَقلت: أما مَنْصُور النمري فَحسن الْبناء، قريب الْمَعْنى، سهل كَلَامه، صَعب مرامه، سُلَيْم الْمُتُون، كثير الْعُيُون، وأمّا مُسْلِم فمزج كَلَام البَدَوِيِّين، بِكَلَام الحضريّين، وَضَمنَهُ الْمعَانِي اللطيفة، والألفاظ الطريفة، فَلَه جزالة البدويّين ورقَّة الحضريين، قَالَ: أبَيْتَ أَن تحكم فحكمت، مَنْصُور أشعرهما.
آراء للمؤلف فِي النَّقْد بِحَضْرَة الْخَلِيفَة
قَالَ القَاضِي: وَكنت يَوْمًا جَالِسا فِي دَار أَمِير الْمُؤْمِنِين الْقَادِر بِاللَّه وبالحضرة جمَاعَة مِنْ أماثل شعراء زَمَاننَا، وَفِيهِمْ من لَهُ حَظّ من أَنْوَاع الْآدَاب، وَتصرف فِي نقد الشّعْر وَمَعْرِفَة بأعاريضه وقوافيه، وخواصه ومعانيه، وَمَا يمْتَنع مِنْهُ وَيجوز فِيهِ، فأفاضوا فِي هَذِهِ الْوُجُوه إِلَى أَن انْتَهوا إِلَى ذكر أَبِي تَمام وَمُسلم بْن الْوَلِيد، وقَالَ كُلّ وَاحِد مِنْهُم فِي تجميل أوصافهما، وترتيب أشعارهما بِمَا حَضَره، وَلَم أُصْغِ كُلّ الإصغاء إِلَى مَا أتوابه من ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يَجْرِ عَلَى قصد التَّحْقِيق، وَظهر مِنْهُم أَوْ من بَعضهم تَشَوُّفٌ إِلَى أَن آتِي بِمَا عِنْدِي فِي ذَلِكَ، فَقلت: أَبُو تَمام لَهُ التَّقَدُّم فِي إحكام الصَّنْعَة وحبك الْأَلْفَاظ الْمُطَابقَة المسْتَعْذَبة، وإبداع الْمعَانِي اللطيفة الْمُسْتَغْرَبة، والاستعارة المتقبلة الغريبة، والتشبيهات الْوَاضِحَة العجيبة، ومُسلم لَهُ الطَّبْع وَقرب المأخذ، فقبلوا بِهَذَا وأعجبوا بِهِ، وأظهروا استحسانه، والاغتباط باستفادته، ثُمّ حضرني بعض من يتعاطى هَذَا الشَّأْن فَسَأَلَنِي إملاءَه عَلَيْه، فَقلت لَهُ: أَنَا قائِل لَك فِي هَذَا قولا وجيزًا مُخْتَصرا يَأْتِي عَلَى الْمَعْنى، وَلَهُ مَعَ الِاخْتِصَار حلاوة، وبهاء وطلاوة، وَهُوَ أَن أَبَا تَمام أصنع، وَمُسلم أطبع، وَكَانَ بعضُ من قَدَّمتُ الْحِكَايَة عَنْهُ من الشُّعَرَاء لما قلتُ فِي ذَلِك الْمجْلس مَا قلته أقبل عليَّ، وقَالَ لي: مَا أحدٌ يُدَانِيك فِي هَذَا الْبَاب، فَلِمَ لَا تكون مِنَّا؟ وَلَم تُؤثر مجالسة غَيرنَا، لغَلَبَة هَذَا الشَّأْن عَلَيْه، وَجرى يَوْمًا بيني وبَيْنَ رجلٌ لَهُ حَظّ من الْعلم وَالْأَدب ذكُر بعض من كُنَّا نجالسه من رُؤَسَاء ذَوي السّلطان وَالْولَايَة، وَأهل الْعلم وَالْأَدب وَالرِّوَايَة، مَعَ وفور حَظه من التدين، والنزاهة والتصون، وَأَنه كَانَ يخالفنا فِي أَشْيَاء، ويمارينا فِيهَا مَعَ ظُهُور صِحَة مذاهبنا، وَفَسَاد اختياراته الْمُفَارقَة لاختيارنا، وتذاكرنا مَا يُظهره من الزراية عَلَى أَبِي تَمام وَابْن الرُّومِي وأَنَّهُ لَا يقف عِنْد التَّسْوِيَة بَينهمَا وبَيْنَ من هُوَ منخفض بدرجات متفاوته عَنْهُمَا، حَتَّى يَحَطَّهُما عَمَّن هُوَ أَدْوَن رُتْبَة وأوفى منزلَة، فَقلت لهَذَا الرَّجُل: كَأَنّ هَذَا الْأَمر يخْتَلف بِحَسب اخْتِلاف الأمزجة، وتركيب الْأَبْنِيَة، وَيلْحق بِمَا يخْتَلف فِيهِ شهوات النّاس ولَذَّاتهم من الْأَطْعِمَة والاشربة، ويُؤْثِرُونه من المراكب والملابس والمواطن، ثُمّ ذكرت لَهُ أَحْوَال النّاس فِي اختيارهم مَا يختارونه من الشّعْر، وَأَن كثيرا مِنْهُم بالطويل أَشد أعجابًا مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَيذْهب غَيره إِلَى مثل هَذَا بالبسيط، وَبَعْضهمْ فِي الْكَامِل، وَبَعْضهمْ فِي الوافر، وَقَدْ كَانَ قُدَامة الْكَاتِب يرى تَقَدُّم أول السَّريع عَلَى غَيره من أَنْوَاع الشّعْر فِي بهائه وتَقَبُّل الطبائع لَهُ،(1/289)
وَألف كتابا فِي نقد الشّعْر وأتى بِهَذَا الْمَعْنى فِيهِ، وَذهب غَيره إِلَى إِيثَار الْخَفِيف، وذُكِر أَن الألحان أحسن موقعًا فِيهِ مِنْهَا فِيمَا سواهُ، قَالَ: وَلذَلِك صَار مُحْتملا من الزَّحاف مَا لَا يحْتَملهُ غَيره، فَقلت لهَذَا الرَّجُل: إِن نقد الشّعْر عَلَى التَّحْقِيق عزيزٌ جدا، وَإِن النَّاقِد الَّذِي يُعْتَمدُ فِي النَّقْد عَلَيْه، ويُرجع فِي صِحَّته إِلَيْهِ، لَا يَكُون كَامِلا حَتَّى يَكُون مفرِّقًا عَلَى الصِّحَّة بَيْنَ المطبوع عَلَى المنظوم الْمُؤلف، وبَيْنَ النَّظْمِ الْمُتَكَلّف، وَالطَّرِيق المتعسَّف، وَيكون ناقدًا فِي فقه اللُّغَة غَيْر مقصر عَلَى تأدية مسموعها، وَحفظ مَنْصُوصِها ومَسْطُورها، ومضطلعاً بلطيف الْإِعْرَاب وَقِيَاس النَّحْو، حَافِظًا للأمثال المضروبة، مهتديًا بأعلام الْعقل المنصوبة، حَاصِرًا لمجاري الْعُرْفِ وَالْعَادَة، آخِذا من كُلّ علم وأدب بحظٍّ، وضاربًا فِي صناعات الْفِكر بِسَهْم، وَيكون نَاظرا مِدْرهًا، قَدْ أَنَس بجملة من أساليب المتفلسفين، وصناعة الْمُتَكَلِّمين، وجدال المتناظرين، وَيكون مَعَ هَذَا معتدلا بَعيدا من الْهوى والتعصب لنَوْع دون نوع، وشخص دون شخص، وبحسب تَكَامل هَذِهِ الْخلال، واجتماع هَذِهِ الْخِصَال، تتكامل لناقد الشّعْر نَقده، وبحسب مَا يعْدم مِنْهَا يقل حَظه، وبقدر مَا تَمكُّن هَذَا النَّاقِد من النَّقْد بَيْنَ الرجحان، والتساوي وَالنُّقْصَان، كَمَا يُميِّز وازن الذَّهَب وَالْفِضَّة بَيْنَ الزائِد والمعتدل والناقص بالعيان، ويتجلى الْمَعْنى لأَحَدهمَا بِبَصَرِه وَالْآخر ببصيرته.
بعض النَّاس يَدعِي من الآراء مَا لَيْسَ لَهُ
وَكَانَ بعض من مضى لسبيله من أَهْل زَمَاننَا شكا لبَعض من يُحَاضِرُه فِي مجْلِس بعض وُلَاة هَذَا الزَّمَان، وَحكى عَنْهُ أَنَّهُ يُعَارضهُ فِي أَشْيَاء يَأْتِي بهَا من الْآدَاب، يَدَّعيها لنَفسِهِ، وَكَانَ مِمَّا حكى أَنَّهُ وصف أَبَا تَمام والبحتري، فَقَالَ: أَبُو تَمام أَعلَى، والبحتري أحلى، وادَّعى لنَفسِهِ هَذَا القَوْل، وَقَدْ كَانَ عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الأَزْدِيّ حكى أَنَّهُ سَمِع رَجُلا فِي مجْلِس ثَعْلَب يَقُولُ هَذَا، فَاسْتَحْيَيْت من هَذَا الْمُخَاطب إِلَى أَن أَقُول لَهُ هَذَا كَلَام قَدْ سبقتما إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ لَك وَلا لَهُ، وكِلاكُما مدعٍ مِنْهُ مَا لَا حقَّ لَهُ فِيهِ، وخطر بقلبي، قَول الْقَائِل:
تَجمعُوا فِي فلانٍ فكلُّهم يَدَّعِيه ... والأُمُّ تضحكُ مِنْهُم لعلمها بِأَبِيهِ
وَحكى لي بعض كُتَّابِ ابْن الْفُرات: أَن ابْن الْفُرَات أنْشد هَذَا، قَالَ: فَقلت لَهُ: لَو قَالَ: لجهلها بِأَبِيهِ، كَانَ أَجود، فأعجبه ذَلِكَ فناظرتُ الحاكي فِي هَذَا، وبَصَرْت مَا أَتَى بِهِ هَذَا الشَّاعِر وَلَم أوثر إطالةَ كتابي بحكايته، وَكَانَ بعض أَصْحَابنَا حكى لي عَنْ هَذَا الْمُخَاطب الشاكي إِلَى أَنَّهُ أدعى مثل هَذِهِ الدَّعْوَى فِي شيءٍ أَنَا ذاكرٌ مَا رُوِيَ لي فِيهِ.
دَابَّة وَمَا أشبههَا لَا تقع فِي شعر
حَدَّثَنَا صديقنا الْحَسَن بْن خالويه، قَالَ: كتب الْأَخْفَش إِلَى صديق لَهُ من الْكتاب يستعير مِنْهُ دَابَّة، ودابة لَا تقع فِي شعر لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ساكنين، فَكتب إِلَيْهِ:
أردتُ الركُوب إِلَى حاجةٍ ... فمرْ لي بفاعلةٍ من دَبَبْتُ(1/290)
وَكَانَ الْمَكْتُوب إِلَيْهِ ظريفًا فَأَجَابَهُ:
بريذيننا يَا أخي غامزٌ ... فكنْ سيِّدي فَاعِلا من عَذَرْتُ
فَحكى صاحبنا هَذَا أَن هَذَا الرَّجُل ادّعى هَذِهِ الْقِصَّة وَهَذَا الشّعْر لنَفسِهِ.
قَالَ: القَاضِي: فَأَما امْتنَاع دُخُول دَابَّة وخاصة وَمَا أشبههَا فِي الشّعْر لِئَلَّا يلتقي فِيهِ ساكنان، فَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا يجْتَمع فِي الشّعْر سَاكن ومُسَكَّن كَقَوْل امرىء الْقَيْس:
لَا وَأَبِيك ابْنة العامِرِيّ ... لَا يَدعي القَومُ أَنِّي أفر
إِذا ركبُوا الْخَيل واستلأموا ... تحرقتِ الأرضُ واليومُ قر
وَقَول الْأَعْشَى:
إِذا أَنَا سَلَّمْتُ لَمْ يُرْجِعُوا ... تحيَّتَهم وهُمْ غَيْر صُرّ
وَهَذَا كثير وتفسيرهذا لَهُ مَوضِع لَمْ نر إطالة كتَابنَا هَذَا بِذكرِهِ، وَقَدْ بَيناهُ فِي أولى الْمَوَاضِع، وَقَدْ جَاءَ فِي الشّعْر اجْتِمَاع الساكنين فِي مزاحف للمتقارب، وَذَلِكَ:
فَقَالُوا الْقصاص وَكَانَ القصا ... ص حَقًا وعدلا عَلَى الْمُسْلِمِينا
وَقَدْ رُوِيَ وَكَانَ الْقصاص عَلَى الأَصْل وَالْوَجْه الجائِز الْمَعْرُوف، وَقَدْ كَانَ بَعضهم أَتَى فِي الشّعْر بالدواب وخفف الْبَاء فَلم يلتق ساكنان، وَبَعْضهمْ يكره التقاء الساكنين فِي منثور الْكَلَام ويهرب مِنْهُ إِلَى الْهَمْز، فِيمَا لَا أصل للهمز فِيهِ، وَقَدْ قَرَأَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ " وَلا الضأْلين " بِالْهَمْز، وَهَذِه قراءةٌ مُخَالفَة لقِرَاءَة سائِر الأئمَّة، وَلما نَقله من فِي نَقْلِه الحجَّة من الأئمَّة، وَكَذَلِكَ سَبِيل الْقِرَاءَة الَّتِي رويناها.
أَمْثِلَة مِمَّا همز وَلا أصل للهمز فِيهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَوْس، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرو بْن عُبَيْد يقْرَأ: فيومئذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنسٌ وَلَا جَان "، مهموزًا، فَظَنَنْت أَنَّهُ قَدْ لحن، حَتَّى سَمِعْتُ الْعَرَب تَقُولُ: امْرَأَة شأبة، وَهَذِه دأبة عَلَى أَن كُثَيِّرًا قَدْ قَالَ:
وأنتَ ابنُ لَيْلَى خَيْرُ قومِكَ مَأَثُرًا ... إِذا مَا احْمَأَرَّتْ بالدِّماءِ العَوَامِلُ
فَعلمت أَنَّهُ مَا قَرَأَ إِلا بِأَصْل.
قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد: فَقلت للمازني: أَفَتُحبُّ أَنْت هَذِهِ الْقِرَاءَة؟ قَالَ: أختارها، والتقاء الساكنين اللَّذين أَولهمَا من حُرُوف الْمَدّ واللّين مِنْهَا مَا هُوَ بِمَنْزِلَة حَرَكَة من فصيح كَلَام الْعَرَب الْجَارِي مجْرى فصيح اللُّغَة.
وَقَدْ روينَا خَبرا فِي معنى الْخَبَر الَّذِي ريوناه عَنِ ابْن خالويه وَالشعر الَّذِي تَضَمَّنه.(1/291)
نحوي يحادث جَارِيَته
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعْد الكراني، قَالَ: حَدَّثَنِي يَقْدُم بْن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ عَوَانَة: كَانَ رجلٌ يتكلَّف النَّحْو وَكَانَت لَهُ جَارِيَة تسمى زَهْرة، فناداها: يَا فَعْلة من زَهَرْتُ، هَاتِي فَيْعَلاني من طَلَسْتُ، يُرِيد طَيْلَسانه.
رَجُل يعاب من لَا يصطنعه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سهل الرَّازيّ، قَالَ: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد تلقَّاه أَهلهَا، فَقَالَ لَهُ رجلٌ من الموَالِي: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! بَارك اللَّه لَك فِي مَقْدَمِك، وَزَاد فِي نِعَمك، وشكرك عَنْ رعيتك، فقد فُقْت مَنْ قَبْلَك، وأتْعبتَ من بعْدك، وأيْأسْت أَن يُعتاض مِنْك، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مثلك، وَلا علم شبهك، أما فِيمَن مضى فَلَا يعرفونه، وأمّا فِيمَن بقى فَلَا يرتجونه، فهم بَيْنَ دعاءٍ لَك، وثناءٍ عَلَيْك، وتمسكٍ بك، أخصب جَانِبك، واحْلَوْلى لَهُم ثوابك، وكَرُمَتْ مقدرتُك، وحَسُنت مَبَرَّتُك، ولانت نَظْرتُك، فجبرت الْفَقِير، وفككت الْأَسير، وَأَنت كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
مَا زِلتَ للبَذْل للنوال وإط ... لَاق لعانٍ بجُرْمِهِ غَلقٍ
حَتَّى تمنَّى الْبُزَاةُ أَنهم ... عنْدك أمْسَوْا فِي الْقِدِّ والحَلَقْ
فَقَالَ الْمَأْمُون: مثلك يُعَاب من لَا يصطنعه، ويُعَرُّ مَنْ يجهل قدره، فاعذرني فِي سالفك، فَإنَّك ستجدنا فِي مُسْتأنفنا.
بِالْإِحْسَانِ فِي البديهة تفاضلت الْعُقُول
حَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مهْدي بْن سَابق، قَالَ: دخل الْمَأْمُون ديوَان الْخراج فَمر بِغُلَام جميل عَلَى أُذُنه قلمٌ فأعجبه مَا رَأَى من حُسْنه، فَقَالَ: من أَنْت يَا غُلَام؟ قَالَ: الناشىء فِي دولتك وخريج أدبك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين المتقلب فِي نِعْمَتك، والمؤمل لخدمتك الْحَسَن بْن رَجَاء، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: يَا غُلام بِالْإِحْسَانِ فِي البديهة تفاضلت الْعُقُول، ثمَّ أَمر أَن يرفع عَنْ مرتبته فِي الدِّيوَان، وَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم.
تامُّ الْآلَات فِي كُلّ شَيْء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن من زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان سَعِيد بْن عَبْد اللَّه بْن سَعِيد المهرقاني بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن الْفرج الرياشي، عَنِ الأَصْمَعِيّ، عَنْ أبي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَمْرو بْن معدي كرب يحدث بِحَدِيث، فَقَالَ فِيهِ: لقِيت فِي الْجَاهِلِيَّة خَالِد بْن الصَّقْعب وضَربتُه وقَدَوْتُه، وخالدٌ فِي الحَلَقة، فَقَالَ لَهُ رَجُل: إِن خَالِدا فِي الْحلقَة، فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا سيىء الْأَدَب، إِنَّمَا أَنْت محدثٌ فاسمعْ أَوْ فَقُمْ، وَمضى فِي حَدِيثه فَلم يقطعهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُل: أَنْت شجاعٌ فِي الْحَرْب وَالْكذب مَعًا، قَالَ: كَذَلِك أَنَا تامُّ الْآلَات.(1/292)
المجلِسُ التَاسِع والثَلاثون
حكم الْحُدَاء والإنشاد
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَاعِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ قَارِمٍ الْعَمِّيُّ بِبَغْدَادَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرْبٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ابْنُ صَاعِدٍ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَحَدَّثَنَاهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا تَقُولُ فِي الْحُدَاءِ؟
طَافَ الْخَيَالانِ وَهَاجَا سَقَمَا ... خَيَالُ تَكْنَى وَخَيَالُ تَكْتَمَا
قَامَتْ تُرِيكَ رَهْبَةً أَنْ تَصْرِمَا ... سَاقًا بِخُنْدَاةٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا
فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ كَانَ يُحْدَى بِنَحْوِ هَذَا أَوْ مِثْلِ هَذَا مَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعِبْهُ.
قَالَ القَاضِي: هَذَا الْخَبَر قَدْ كتبناه عَنْ عِدَّة من الشُّيُوخ، وَفِيه دلاله عَلَى الرُّخْصة فِي هَذَا الْفَنّ من الإنشاد والْحُداء والنَّصْبِ، ولشيخنا أَبِي جَعْفَر وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب كَلَام وَاسع، وَقَوله: بخنداة بِعني السَّاق الممتلئة الْحَسَنَة، والأدرم: الأملس الَّذِي لَيْسَ لحجمه نُتُوء.
المتَوَكل لم يكن منحرفاً عَن أهل الْبَيْت
حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: حكى عَلِيّ بْن الجهم عَن المتَوَكل وَقَدْ بلغه أَن رَجُلا أنكر عَلَى رَجُل ينتمي إِلَى التَّشَيُّع قولا أغرق فِيهِ من مدح أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْه السَّلام فَغَضب المتَوَكل، وقَالَ: الناسبُ هَذَا الْمَدْح إِلَى الْغُلُوِّ جاهلٌ، وَهُوَ إِلَى التَّقْصِير أقرب، وَهل أحد بعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَئِمَّة الْمُسْلِمِين أحقُّ بِكُل ثناءٍ حسنٍ من عليٍّ؟ وأتى من هَذَا الْمَعْنى بِمَا ذكر ابنُ رَاهَوَيْه أَنَّهُ ذهب عَنْهُ حفظه.
قَالَ القَاضِي: وَكنت رويتُ فِي الْمجْلس الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ من مجَالِس كتَابنَا هَذَا عَنْ أَحْمَد بْن الخصيب خَبرا نسب فِيهِ المتَوَكل إِلَى الانحراف عَنْ أَهْل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلام، فخطأتُ الخصيب فِي قَوْله هَذَا، ووعدت أَن آتِي فِيمَا أستقبله من الْمجَالِس بِمَا يشْهد لما قُلْتُه، فعثرتُ عَلَى هَذَا الْخَبَر فأوردتُه، ولعلِّي آتِي بِكَثِير مِمَّا رَوَى مَعْنَاهُ إِذا وقعْتُ عَلَيْه، فَإِن المتَوَكل أفضل من أَن لَا يعلم أَن تَعْظِيمه أَهْل الْبَيْت من أعظم مفاخره بعد تَعْظِيمه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ من آله دينا ونسبًا، وَلَو كَانَ المتَوَكل من عَامَّة بني هَاشِم دون خلفائهم لَكَانَ حَقِيقا بتعظيمه للْإِمَام الْعدْل الْهَاشِمِي ابْن الهاشميين أَبِي سِبْطَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَن والْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلام.
ابْن عَبَّاس كَانَ يَأْخُذ بركابي الْحَسَن والْحُسَيْن
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ:(1/293)
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ حُسَيْنٍ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُطْرِيٌّ الْخَشَّابُ، عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ آخِذًا بِرِكَابِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فَقِيلَ لَهُ: تَأْخُذُ بِرِكَابِهِمْ وَأَنْتَ أَسَنُّ مِنْهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ ابْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوَلَيْسَ مِنْ سَعَادَتِي أَنْ آخُذَ بِرِكَابِهِمَا، وَالْمُتَوَكِّلُ لِمِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِأَنْ يُتَقَبَّلَ مَا فَعَلَهُ جَدُّهُ، وَأَوْلَى مَنْ تَأَسَّى بِمَا أَتَاهُ وَلَمْ يَعْدُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ انْحِرَافُهُ عَمَّنْ نَازَعَهُ خِلافَتَهُ وَسَعَى فِي تَشْعِيثِ سُلْطَانِهِ، وَالْقَدْحِ فِي مُلْكِهِ، وَكَيْفَ يَظُنُّ ذُو لُبٍّ بِالْمُتَوَكِّلِ الانْحِرَافَ عَنْ عَشِيرَتِهِ وَأُسْرَتِهِ وَفَصِيلَتِهِ، وَلَحْمَتِهِ الَّذِينَ شَرُفَ بِهِمْ وَوَرِثَ الْمَجْدَ عَنْهُمْ.
خبر زَيْد بْن مُوسَى الْمَعْرُوف بالنَّار
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَارِثِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الغَلابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا أُدْخِلْتُ عَلَى الْمَأْمُونِ وَبَّخَنِي، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ، فَجِيءَ بِي إِلَى الرِّضَا فَتُرِكْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَاعَةً وَاقِفًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا زَيْدُ سَوْءَةً لَكَ، مَا أَنْتَ قائلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَفَكْتَ الدِّمَاءَ وَأَخَفْتَ السَّبِيلَ، وَأَخَذْتَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ؟ لَعَلَّكَ غَرَّكَ حَدِيثَ حَمْقَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ أَحْصَنَتْ فرجهَا فَحرم الله زريتها عَلَى النَّارِ، وَيْلَكَ! إِنَّمَا هَذَا لِمَنْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْن فَقَط لَا لي وَلَك، وَاللَّهِ مَا نَالُوا ذَلِكَ إِلا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنَالَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا نَالُوهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ إِذًا لأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ.
زَيْدٌ هَذَا امْرُؤٌ يُعْرَفُ بِزَيْدِ النَّارِ، وَلَهُ أخبارٌ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِهِ قَدِمَ مِنْ بِلادِ الْعَجَمِ إِلَى الْعِرَاقِ وَنُوزِعَ فِي نَسَبِهِ، وَكَانَ لَهُ حججٌ فِي دَعوته كَانَت مِنِّي معونةٌ لَهُ، فَهَذَا الَّذِي حَكَى لَنَا عَنِ الرِّضَا هُوَ اللائِقُ بِفَضْلِهِ وَدِيَانَتِهِ وَنُبْلِهِ وَنَبَاهَتِهِ، وشرفه ونزاهته، وَقد اتبع فِي سَبِيلَ سَلَفِهِ، وَاهْتَدَى بِالْمُصْطَفِينَ مِنْ آبَائِهِ الْمُكَرَّمِينَ بِالنُّبُوَّةِ وَالإِمَامَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رسولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شاعرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كاهنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُم من أحدٍ عَنهُ عاجزين "، فَانْظُرْ إِلَى مَا قَالَهُ فِي خَيْرِ النَّاسِ عِنْدَهُ وَأَسْعَاهُمْ فِي مرضاته، وأعلمهم بِطَاعَتِهِ، وَأَتْقَاهُمْ لَهُ، وأَوْرَعِهِمْ عَنْ مَحَارِمِهِ، وَأَعْرَفِهِمْ بِهِ، وَأَحْفَظِهِمْ لِحُدُودِهِ، وَأَعْلَمِهِمْ بِشَرَائِعِهِ، وَأَفْقَهِهِمْ فِي دِينِهِ، وَأَنْصَحِهِمْ لِخُلُقِهِ، وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، إِعْلامًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ، أَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ لَدَيْهِ فَذَكَرَ أَمْكَنَ الرُّسُلِ عِنْدَهُ، قَصْدًا إِلَى تَحْذِيرِ خَلْقِهِ، وَتَخْوِيفِ عِبَادِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولتكونن من الخاسرين "(1/294)
فَخَصَّهُ بِخِطَابِهِ وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وَدَلالَةً عَلَى خَطَرِ مَا ذَكَرَهُ لَهُ، كَمَا خصّه بقوله: " يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء " وَهَكَذَا قَصَّ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ مِنْ عِلْيَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَذَكَرَ تَعَالَى جَدُّهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الأَنْعَامَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ، قَالَ: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ ويوسف ومُوسَى وهرون وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ".
الْأسد فِي سفينة نوح
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن المنادين قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو عُثْمَانَ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: لَمَّا أُمِرَ نوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَكَانَ فِيمَا حَمَلَ مَعَهُ الأَسَدُ، فَجَاعَ فَزَأَرَ زَأْرَةً خَافَ أَهْلُ السَّفِينَةِ أَنْ يَأْكُلَهُمْ، فَشَكَوْهُ إِلَى نُوحٍ فَشَكَاهُ نُوحٌ إِلَى اللَّهِ عز وَجل، فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْحُمَّى، وَكَانَ نوح يمر بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْكُلُهُ بِرِجْلِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَرِنَا مَا أَنْتَ بسرا، قَالَ: فَيَقُولُ: لَهُ الأَسَدُ لَا رَبَّاهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي، قَالَ لَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَدْ أَكدتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَحْيَى بْنَ معِين فَاسْتَحْسَنَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَقَالَ: مَعَ كَثْرَةِ كِتَابَتِي عَنْ عَفَّانَ لَمْ أَكْتُبْ هَذَا، فَأَيْنَ كَتَبْتَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ؟ فَقُلْتُ: بِالْبَصْرَةِ.
لَا يحب اللَّه من الظُّلم شَيْئا
وَحَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ أَيْضًا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، لَمَّا أَمَرَ نُوحٌ بِإِخْرَاجِ مَنْ فِي السَّفِينَةِ مَرَّ بِالأَسَدِ، وَقَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى فَضَرَبَهُ لِيُقِيمَهُ، قَالَ: أَبَا يَحْيَى: مَا أَدْرِي بِيَدِهِ أَمْ بِرِجْلِهِ، فَخَمَشَهُ الأَسَدُ فَبَاتَ سَاهِرًا فَشَكَا ذَلِكَ نُوحٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُحِبُّ مِنَ الظُّلْمِ شَيْئًا.
قَضِيَّة رَجُل يسب السّلف
كُنْت بحلوان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فاتفق أَن شَيخا كَانَ يُجَالِسُنَا بِهَا مِنْ أَهْلِ الدِّينَوَرِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْحَسَن بْن ظُفْرَان ويُؤْنِسُنا، وَكَانَ مُحَدِّثًا قَدْ حلب الدَّهْر أَشْطُره، وخالط الرؤساءَ وَصَحب السّلطان وَتعلق بأربه وَتصرف فِي أَعماله، وَكُنَّا نعجب بمعاشرته وَحَدِيثه، وذُكِر لأبي الْحَسَن بْن طَاهِر الْكَاتِب فَعرفهُ وذُكِر أَن لَهُ ابْنا هُوَ خَلِيفَته وَصَاحبه عَلَى الْبَرِيد وَالْخَبَر بالدِّينَوَر.(1/295)
فحدثنا أَبُو الْحَسَن بْن ظفران هَذَا من حفظه، بِمَا أَن موردٌ مَعْنَاهُ بِلَفْظ دون لَفظه عَمَّن حدّثه، قَالَ: كَانَ بالدّينَور شيخٌ يتشيَّع ويميل إِلَى مَذْهَب أَهْل الْإِمَامَة، وَكَانَ لَهُ أَصْحَاب يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ، وَيَأْخُذُونَ عَنْهُ، ويدرسون عَنهُ، يُقَالُ: لَهُ بشر الجَعَّاب فَرفع صاحبُ الْخَبَر بالدِّينَوَر إِلَى المتَوَكل أَن بالدينور رَجُلا رافضيًّا يُحْضِرُ جمَاعَة من الرَّافِضة ويتدارسون الرَّفْض، ويسبُّون الصَّحابة، ويشتمون السَّلف، فَلَمَّا وقف المتَوَكل عَلَى كِتَابه أَمر وزيره عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى بِالْكِتَابَةِ إِلَى عَامله عَلَى الدينور بإشخاص بشر هَذَا والفرقة الَّتِي تجالسه، فَكتب عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وصل إِلَى الْعَامِل كِتَابه وَكَانَ صديقا لبشر الجعّاب، حسن المصافاة لَهُ، شَدِيد الإشفاق عَلَيْه، هَمَّهُ ذَلِكَ وشق عَلَيْه، فاستدعى بشرا وأقرأه مَا كُوتِب بِهِ فِي أمره وَأمر أَصْحَابه، فَقَالَ لَهُ بشر: عِنْدِي فِي هَذَا رَأْي إِن استعملته كُنْت غير مستبطىءٍ فِيمَا أمرت بِهِ، وَكنت بمنجاة مِمَّا أَنْت خَائِف عَليّ مِنْهُ، قَالَ: وَمَا هُوَ، قَالَ: بالدينور شيخ خَفَّاف اسْمه بشر وَمن الْمُمكن المتيسر أَن تجْعَل مَكَان الجعّاب الخَفّاف، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ عِنْدهم وَمَا نسبت إِلَيْهِ من الحرفة والصناعة، فسُر الْعَامِل بقوله وَعمد إِلَى العَيْنِ من الجَعَّاب فَغير عَيْنِهَا وَغير اسْتِوَاءَ خَطِّها وانبساطه، وَوصل الْبَاء بِمَا صَارَت بِهِ فَاء، وَكَانَ أخبرهُ عَنْ بشر الْخفاف أَنَّهُ رجلٌ فِي غَايَة البله والغفلة، وَأَنه هُزَأَة عِنْد أهل بَلَده وضُحكَة، وَذَلِكَ أَن أَهْل سَواد الْبَلَد يَأْخُذُونَ مِنْهُ الْخِفاف التَّامَّة والمقطوعة بنسيئة، ويَعِدُونَه بأثمانها عِنْد حُصُول الغَلَّة، فَإِذا حصلت وحازوا مَالهم مِنْهَا ماطلوه بِدِينِهِ، ولووه بِحقِّهِ، وَاعْتَلُّوا بأنواع الْبَاطِل عَلَيْه، فَإِذا انْقَضى وَقت البيادر، ودنا الشتَاء واحتاجو إِلَى الْخِفَاف وَمَا جرى مجْراهَا وافوا بشر هَذَا وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وخدعوه، وابتدوا يَعِدُونه الوفاءَ ويُؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة، والمعاهدة الْبَاطِلَة ويضمنون لَهُ أَدَاء الدُّيُون الْمَاضِيَة والمستأنفة، فَيحسُن ظَنُّه بهم ويستسلم إِلَيْهِم، ويستأنف إعطائهم من الْخِفاف وَغَيرهَا مَا يريدونه، فَإِذا حضرت الغَلَّةَ أجْرَوْه عَلَى الْعَادة وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا تقدم من السّنة ثُمّ لَا يزالون عَلَى هَذِهِ الوتيرة من أَخذ سلفه فِي وَقت حاجاتهم، وَدفعه عَنْ حَقه فِي أبان غلاتهم، فَلَا يَنْتبه من رقدته وَلا يفيقُ من سُكْره وغفلته، فأنفذ صَاحب الْخَبَر كِتَابه وَأَشَارَ بِتَقْدِيم هَذَا الخَفَّاف أَمَام القَوْل، والإقبال عَلَيْه بالمخاطبة وتخصيصه بِالْمَسْأَلَة، سَاكِنا إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي من ركاكته وعِيِّه وفهاهته بِمَا يضْحك الْحَاضِرين ويحسم الِاشْتِغَال بالبحث عَنْ هَذِهِ الْقِصَّة، ويتخلَّص من هَذِهِ البلية، فَلَمَّا ورد كتاب صَاحب الْخَبَر أَعْلَم عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى المتَوَكل بِهِ وبحضور الْقَوْم فَأمره أَن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فِيمَا حُكِي عَنْهُمْ، وَأمر فعُلِّقَتْ بَينه وَبينهمْ سَبَنيَّة ليقف عَلَى مَا يجْرِي ويسمعه ويشاهده، ففُعل ذَلِكَ، وَجلسَ عُبَيْد اللَّه واستدعى المحضرين فقدموا إِلَيْهِ يقدمهم بشر الْخفاف، فَلَمَّا جَلَسُوا أقبل عُبَيْد اللَّه عَلَى بشر، فَقَالَ: أَنْت بشر الخَفَّاف فَقَالَ: نعم، فسكنتْ نفوسُ الْحَاضِرين مَعَه إِلَى تَمام هَذِهِ(1/296)
الْحِيلَة، وإتمام هَذِهِ المدالسة، وَجَوَاز هَذِهِ المغالطة، فَقَالَ: إنَّه رفع إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين من أَمركُم شَيْء أنكرهُ فَأمر بالكشف عَنْهُ، وسؤالكم بعد إحضاركم عَنْ حَقِيقَته، فَقَالَ لَهُ بشر: نَحْنُ حاضرون، فَمَا الَّذِي تَأْمُرنَا بِهِ؟ قَالَ: بلغ أَمِير الْمُؤْمِنِين أَنَّهُ يجْتَمع إِلَيْك قوم فيخوضون مَعَك فِي الترفض وَشتم الصَّحَابَة، فَقَالَ بشر: مَا أعرف من هَذَا شَيْئا، قَالَ: فقد أمرت بامتحانكم والفحص عَنْ مذاهبكم فَمَا تَقُولُ فِي السّلف، قَالَ: لعن اللَّه السَّلَف، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّه: وَيلك تدي مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: نعم، لعن اللَّه السّلف، فَخرج خَادِم من بَيْنَ يَدي المتَوَكل، فَقَالَ لِعبيد اللَّه: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤْمِنِين: سَلْهُ الثَّالِثَة فَإِذا أَقَامَ عَلَى هَذَا فَاضْرب عُنُقه، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَسأَلك فِي هَذِهِ الْمرة فَإِن لَمْ تَثُبْ وَترجع عَمَّا قُلْتُ أمرت بقتلك، فَمَا تَقُولُ الْآن فِي السّلف؟ فَقَالَ: لعن اللَّه السَّلف، قَدْ خَرَب بَيْتِي، وأبطل معيشتي، وأتلف مَالي وأفقرني وَأهْلك عيالي، قَالَ: وَكَيف، قَالَ: أَنَا رجلٌ أُسَلِّف الأَكَرةَ وَأهل الرُّسْتاق الخَفَّاف والتَّمَشْكان، عَلَى أَن يُوفوني الثّمن مِمَّا يحصل لَهُم من غلاتهم، فأصير إِلَيْهِم عِنْد حُصُول الْغلَّة فِي بيادرهم، فَإِذا أحرزوا الغلت، دفعوني عَنْ حَقي وامتنعوا من تَوْفِيَتي مَالِي، ثُمّ يعودون عِنْد دُخُول الشِّتَاء فيعتذرون إليّ، ويحلفون لي أَنهم لَا يُعاوِدُونَ مَطْلي وظُلمي، وَأَنَّهُمْ يؤدون إليّ الْمُتَقَدّم والمتأخر من مَالِي، فأجيبهم إِلَى مَا يلتمسونه وأعطيهم مَا يطلبونه، فَإِذا جَاءَ وَقت الغَلَّة عَادوا إِلَى مثل مَا
كَانُوا عَلَيْه من ظُلمي وكَسَرُوا مَالِي، فقد اختلت حَالي، وافتقرْتُ أَنَا وعيالي، قَالَ: فسُمع ضحكٌ عالٍ من وَرَاء السَّبَنِيَّة، وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ: استحلل هَؤُلاءِ الْقَوْم وخل سبيلهم، فَقَالُوا: أَمِير الْمُؤْمِنِين فِي حِلٍّ وسَعَة، فصرفهم فَلَمَّا توسطوا صحن الدَّار، قَالَ بعض الْحَاضِرين: هَؤُلاءِ قومٌ مُجَّان يحتالون وَصَاحب الْخَبَر فطنٌ مُتَيقِّظ، لَا يكْتب إِلا بِمَا يُعلمهُ ويثق بِصِحَّتِهِ، وَيَنْبَغِي أَن يُسْتَقصى الفحصُ عَنْ هَذَا وَالنَّظَر فِيهِ، فَأمر بردهمْ، فَلَمَّا أمروا بِالرُّجُوعِ، قَالَ بعض الْجَمَاعَة التابعة لبَعض: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك الَّذِي تقدم، فَيجب أَن نتولى نَحْنُ الْكَلَام، ونسلكَ طَرِيق الْجِدِّ والديانة، وَرَجَعُوا فَأمروا بِالْجُلُوسِ ثُمّ أقبل عُبَيْد اللَّه عَلَيْهِم، فَقَالَ لَهُم: إِن الَّذِي كتب فِي أَمركُم مَا كتب لَيْسَ مِمَّنْ يُقْدِم عَلَى الكَتْبِ بِمَا لَمْ يَقْتُلْهُ عِلمًا ويُحيط بِهِ خُبْرًا، وَقَدْ أَمر أَمِير الْمُؤْمِنِين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عَنْ أَمركُم، فَقَالُوا لَهُ: افْعَل مَا أمرت بِهِ، فَقَالَ: من خيرُ النّاس بعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، فَقَالَ لخادم بَيْنَ يَدَيْهِ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالُوا فَأخْبر أَمِير الْمُؤْمِنِين بِهِ، فَمضى ثُمّ عَاد، فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَذَا مذهبي، فَقُلْنَا: الْحَمد لله الَّذِي وَافق أَمِير الؤمنين فِي دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته عَلَى مذْهبه، ثُمّ قَالَ لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ؟ فَقَالُوا: رَحْمَة اللَّه عَليّ أَبِي بَكْر، نقُول فِيهِ خيرا، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي عُمَر قُلْنَا: رَحْمَة اللَّه عَلَيْه وَلا نُحِبُّه، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ أخرج مَوْلَانَا الْعَبَّاس من الشُّورى، قَالَ: فسمعنا من وارء السَّبَنِيَّةِ ضحكًا أَعلَى من الضحك الأول ثُمّ أَتَى الْخَادِم، فَقَالَ لِعبيد اللَّه عَنِ المتَوَكل: أتبعهم صِلَةً فقد لَزِمَهُم فِي طريقهم مؤونة واصرِفْهم، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي غِنًى وَفِي الْمُسْلِمِين من هُوَ أحقُّ بِهَذِهِ الصِّلة وإليها أحْوج. وَا عَلَيْه من ظُلمي وكَسَرُوا مَالِي، فقد اختلت حَالي، وافتقرْتُ أَنَا وعيالي، قَالَ: فسُمع ضحكٌ عالٍ من وَرَاء السَّبَنِيَّة، وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ: استحلل هَؤُلاءِ الْقَوْم وخل سبيلهم، فَقَالُوا: أَمِير الْمُؤْمِنِين فِي حِلٍّ وسَعَة، فصرفهم فَلَمَّا توسطوا صحن الدَّار، قَالَ بعض الْحَاضِرين: هَؤُلاءِ قومٌ مُجَّان يحتالون وَصَاحب الْخَبَر فطنٌ مُتَيقِّظ، لَا يكْتب إِلا بِمَا يُعلمهُ ويثق بِصِحَّتِهِ، وَيَنْبَغِي أَن يُسْتَقصى الفحصُ عَنْ هَذَا وَالنَّظَر فِيهِ، فَأمر بردهمْ، فَلَمَّا أمروا بِالرُّجُوعِ، قَالَ بعض الْجَمَاعَة التابعة لبَعض: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك الَّذِي تقدم، فَيجب أَن نتولى نَحْنُ الْكَلَام، ونسلكَ طَرِيق الْجِدِّ والديانة، وَرَجَعُوا فَأمروا بِالْجُلُوسِ ثُمّ أقبل عُبَيْد اللَّه عَلَيْهِم، فَقَالَ لَهُم: إِن الَّذِي كتب فِي أَمركُم مَا كتب لَيْسَ مِمَّنْ يُقْدِم عَلَى الكَتْبِ بِمَا لَمْ يَقْتُلْهُ عِلمًا ويُحيط بِهِ خُبْرًا، وَقَدْ أَمر أَمِير الْمُؤْمِنِين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عَنْ أَمركُم، فَقَالُوا لَهُ: افْعَل مَا أمرت بِهِ، فَقَالَ: من خيرُ النّاس بعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، فَقَالَ لخادم بَيْنَ يَدَيْهِ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالُوا فَأخْبر أَمِير الْمُؤْمِنِين بِهِ، فَمضى ثُمّ عَاد، فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَذَا مذهبي، فَقُلْنَا: الْحَمد لله الَّذِي وَافق أَمِير الؤمنين فِي دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته عَلَى مذْهبه، ثُمّ قَالَ لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ؟ فَقَالُوا: رَحْمَة اللَّه عَليّ أَبِي بَكْر، نقُول فِيهِ خيرا، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي عُمَر قُلْنَا: رَحْمَة اللَّه عَلَيْه وَلا نُحِبُّه، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ أخرج مَوْلَانَا الْعَبَّاس من الشُّورى،(1/297)
قَالَ: فسمعنا من وارء السَّبَنِيَّةِ ضحكًا أَعلَى من الضحك الأول ثُمّ أَتَى الْخَادِم، فَقَالَ لِعبيد اللَّه عَنِ المتَوَكل: أتبعهم صِلَةً فقد لَزِمَهُم فِي طريقهم مؤونة واصرِفْهم، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي غِنًى وَفِي الْمُسْلِمِين من هُوَ أحقُّ بِهَذِهِ الصِّلة وإليها أحْوج.
قَالَ القَاضِي: فَهَذِهِ الْحِكَايَة تُبِّينُ أَن المتَوَكل عَلَى خلاف مَا توهمه ابْن الخصيب، وبمعزلٍ مِمَّا نسبه فِي هَذَا الْمَعْنى إِلَيْهِ، واللَّه تَعَالَى أَعْلَم بالضمائر، وخفيات السَّرائر، وَهُوَ الْمجَازِي كُلّ مُحْسن ومسيء بِعَمَلِهِ.
اعتذار الْحَسَن بْن وَهْب عَنِ الْإِعْطَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُوسَى الْبَرْبَرِي، قَالَ: كتب رجلٌ إِلَى الْحَسَن بْن وَهْب يستميحه وَكَانَ مضيقًا، فَكتب إِلَيْهِ الْحَسَن:
الْجُود طَبْعِي ولكنْ لَيْسَ لي مالٌ ... فَكيف يحتال من بالرَّهْن يحتالُ
وشهوتي فِي العطايا وانبساطُ يَدي ... وَلَيْسَ مَا أشتهي يَأْتِي بِهِ الْحَال
فهاك خطي فزُرْني بحيثُ لي نشبٌ ... وَحَيْثُ يمكنُ إحسانٌ وإفضالُ
المجلِسُ الأربَعُونْ
لن يدْخل الجَنَّة شحيح أَوْ بخيل
حَدَّثَنَا رِضْوَانُ بْنُ أَحْمَدَ بن جالينوس الصَّيْد نائي، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي شَجَرَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَفَتَقُولُونَ أَوْ يَقُولُ قَائِلُكُمْ: الشَّحِيحُ أَعْذَرُ مِنَ الظَّالِمِ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشُّحِّ، مَا أَسْرَعَ فِي نَفْضِ الإِسْلامِ شيءٌ إِسْرَاعَ الشُّحِّ، وَحَلَفَ اللَّهُ بِعِزَّتِهِ وَجَلالِهِ، لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ شَحِيحًا وَلا بَخِيلا ".
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا يبعثُ عَنِ التَّنَزُّهِ عَنِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَة عَنِ الدناءةِ وَالْبخل، وَيَدْعُو إِلَى السَّماحة والبَذْلِ، ويحثُّ عَلَى السَّخاء، وَيبْعَث عَلَى الْعَطاء، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمثل هَذَا الْخَبَر أَخْبَار كَثِيرَة، وَعَن السّلف وَالْخلف، وأتى فِيهِ من أَخْبَار الْعَرَب وجواهر كَلَامهَا، ومنظوم أشعارها، مِمَّا يقف النَّاظر فِي مجَالِس كتَابنَا هَذَا عَلَى الْكثير المستحسن مِنْهُ، وَلا يحْتَمل هَذَا الْمَكَان الْإِتْيَان بِجَمِيعِهِ فِي مجْلِس وَاحِد لطوله.
تَعْزِيَة بليغة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: عزي رجلٌ بعضَ مُلُوك العَجم، فَقَالَ: أَغْنَاك اللَّه عَنِ الْحَاجة إِلَى الصَّبْر بِحسن العزاء، وَلا أنساك مصيبتك بأعظم مِنْهَا وَلا حَرمك جزيل الثَّوَاب عَلَيْهَا.(1/298)
مُخَارق يهاجم إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ فيدافع هَذَا عَنْ نَفسه
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم المَوْصِليّ، قَالَ: قَالَ لي عَلِيّ بْن هِشَام: قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الصَّبُوح فاغْدُ عَليّ، فعانقني عائق عَنِ البكور إِلَيْهِ، فجئتُ فِي وَقت الظّهْر وَعِنْده مُخَارِق، فَقَالَ لي: يَا أَبَا إِسْحَاق أَيْنَ كُنْت؟ فَقلت: شغلني - أعز اللَّه الْأَمِير - مَا لَمْ أجد من الْقيام بِهِ أبدا، ثُمّ دَعَا بِطَعَام وَجَلَسْنَا عَلَى شرابنا فغنى مُخارق صَوتا من الطَّوِيل شعر المؤقل، والغناء لأبي سَعِيد مَوْلَى فَايِد وَهُوَ:
وَقَدْ لامني فِي حب مَكْنُونَةَ الَّتِي ... أهيمُ بهَا أهلُ الصَّفَاءِ فأكثرُوا
يَقُولُونَ لي مَهْلا وصبرًا فَلم أجدْ ... جَوَابًا سوى أَن قُلْتُ كَيفَ التصبر
أأصبرُ عَنْ نَفسِي وَقَدْ حيل دُونها ... ووافقني مِنْهَا الَّذِي كُنْت أحذرُ
فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقلت: أَخْطَأت وَيلك! ثُمّ غنَّى صَوتا من الْبَسِيط شعره لحميد بْن ثَوْر، والغناء للهُذَلي وَهُوَ:
يَا مُوقِد النَّار بالعلياء من إضمٍ ... قد هجت لي سُقُمًا يَا مُوقِد النَّارِ
يَا رُبَّ نارٍ هدتني وَهِي مُوقَدَة ... بالنِّدِّ والعَنْبر الْهِنديِّ والغَارِ
تَشُبُّها إِذْ خَبَتْ أيدٍ مخضبةٌ ... من ثيباتٍ مصوناتٍ وأبْكارِ
قلوبُهن وَلَم يَبْرَحْن شاخصةٌ ... ينظرن من أَيْنَ يَأْتِي الطَّارِقُ السَّاري
فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقلت: أَخْطَأت وَيلك! ثُمّ تغنى صَوتا ثَالِثا من الْكَامِل، شعره لكُثَيّر، والغناء لمعْبَد:
إِنِّي لأسْتَحِي أَن أبُوح بحاجتي ... فَإِذا قَرَأت صحيفتي فتهمني
وَعَلَيْك عهدُ اللَّه إِن أنبأتِهِ ... أحدا وَلا أظهرتِه بتَكَلُّمِ
فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقلت: أَخْطَأت وَيلك! فَغَضب، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق يَأْمُرك الْأَمِير بالبكور فتأتي ظهرا، وتغنيت أصواتًا كُلَّها يُحبها ويطرب إِلَيْهَا فخطأتني فِيهَا، وتزعم أنَّكَ لَا تضرب بِالْعودِ إِلا بَيْنَ يَدَي خليفةٍ أَوْ ولِيِّ عهد، وَلَو قَالَ لَك بعضُ البرامكة مثل هَذَا لبكَّرْتَ وضَرَبْتَ وغَنّيت، فَقلت: مَا ظننتُ أَن هَذَا يَجْري، وواللَّه مَا أُبْديه انتقاصًا لمجلس الْأَمِير أعثره اللَّه، وَلَكِن اسْمَع يَا جَاهِل، ثُمّ أَقبلت عَلَى ابْن هِشَام، فَقلت: دَعَاني - أصلح اللَّه الْأَمِير - يَحْيَى بْن خَالِد يَوْمًا، وَقَالَ لي: بكر فَإِنِّي علىالصبوح، وَقَدْ كُنْت يَوْمئِذٍ فِي دارٍ بأُجْرة، فَجَاءَنِي من اللَّيْل صاحبُ الدَّار فأزعجني إزعاجًا شَدِيدا. فَجرتْ مني يمينٌ غَلِيظَة أَنِّي لَا أُصْبح حَتَّى أتحوَّل، فَلَمَّا أصبحتُ خرجت أَنا وغلماني حَتَّى اكتريتُ منزلا وتحولتُ ثُمّ صرتُ إِلَى يَحْيَى وَقت الظّهْر، فَقَالَ لي: أَيْنَ كُنْت إِلَى السَّاعَة؟ فحدثُته بقصَّتي(1/299)
وقعدنا عَلَى شربنا وأخذنا فِي غنائنا، فَلم ألبث أَن دَعَا يحيى بداوة وَقِرْطَاس فَوَقع شيءاً لَمْ أدْرِ مَا هُوَ، ثُمّ دفع الرُّقْعة إِلَى جَعْفَر فَوَقع فِيهَا شَيْئا وَدفعهَا إليّ، وَإِذَا يَحْيَى قَدْ كتب: يُدفع إِلَى إِسْحَاق ألف ألفٍ يبتاعُ بهَا منزلا، وَإِذَا جَعْفَر قَدْ كتب يُدفع إِلَى إِسْحَاق ألف ألف يَصْرفها فِي نفقاته ومُرُوءته، فَقلت فِي نَفسِي هَذَا حُلم، فَلم ألبث أَن جَاءَ خَادِم أَخذهَا من يَدي، فَلَمَّا كَانَ فِي وَقت الِانْصِرَاف استأذنتُ وَخرجت، فَإِذا أَنَا واللَّه بِالْمَالِ وَإِذَا الوكلاء ينتظروني حَتَّى أقبضهُ مِنْهُم فعلام يَلُومُنِي هَذَا الْجَاهِل؟ ثُمّ قُلْتُ لمخارق: هَات الْعود فَأَخَذته ورددت الْأَصْوَات الَّتِي أَخطَأ فِيهَا، وغنيت صَوتا من الطَّوِيل بِشعر لِابْن ياسين، والغناء فِيهِ لي وَهُوَ:
إلهي مَنَحْتَ الْوُدَّ مِنِّي بخيلةً ... وَأَنت على تَغْيِير ذَاك قَدِيرُ
شفاءُ الْهوى بَثُّ الجوى واشتكاؤه ... وَإِن امْرأ أخْفَى الْهوى لصَبُورُ
فطرب لذَلِك طَربا شَدِيدا ثُمّ قَالَ: حُقَّ لَك، ثُمّ أقبل عَلَى مُخَارق، فَقَالَ: يَا فَاسق! مَا أَنْت وَالْكَلَام، وَأمر لي بِمِائَة ألف دِرْهَم وخِلعة، وَأمر لِمُخَارق بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَبلغ ذَلِكَ إِسْحَاق بْن خَلَف فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِن جئتَ ساحته تبغي سماحته ... تَلْقَاكَ رَاحَتُهُ بالوَبْلِ والدِّيَمِ
مَا ضرَّ زَائِره الرَّاجي لنائله ... إِن كَانَ ذَا رحمٍ أَوْ غَيْر ذِي رحِمِ
فَعَالُه كرمٌ وَقَوله نغمٌ ... بقوله نعمٌ قَدْ لجَّ فِي نِعَم
قَالَ القَاضِي: قَول حُمَيد بْن ثَوْر: النِّدُّ والعنبر الْهِنْدِيّ، زعم بعضُ عُلَمَاء اللُّغَة أَن النِّد أعجمي، وَهَذَا حُمَيد بْن ثَوْر أَتَى بِهِ فِي شعره، وَقَدْ رُوِيَ شعرٌ فِي خبر لمُعَاوِيَة نِسْبَة بعضُ الرُّواةِ إِلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن حَسَّان، وَبَعْضهمْ إِلَى أَبِي دهبل، فَذكر بعض من رَوَاهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ:
تجْعَل النِّدَّ والألوة والمس ... ك صَلالَها عَلَى الكانون
وقَالَ العَرْجيُّ:
تَشُبُّ مُتُون الْحُمْر بالنِّد تَارَةً ... وبالعنبر الْهِنْدِيّ وَالْعرْف سَاطِع
وَقَالَ الأحْوَص:
إِذا خَبَتْ أُوقِدَتْ بالنِّدِّ واشْتَعَلتْ ... وَلَم يكنْ عِطْرُها مسكٌ وأظْفَارُ
وَقَوله: تَشُبُّها إِذا خَبَت، معنى تشبها: تُلْهِبُها وتُضْرِمُها، قَالَ الأحْوَص بْن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ:
أمِن خليدَة وَهْنًا شَبَّتِ النَّارُ ... ودُوننا من ظلام اللَّيْل أسْتَارُ
باتَتْ تُشَبُّ وبتنا الليلَ نَرْقبها ... تَعْنِي قلوبٌ بهَا مَرْضى وأبْصَارُ
يُقَالُ: شبت النَّار والرحب شَبَّهُما الإِنْسَان يَشُبُّهَا شبوبًا وشَبًا، وشبَّ الصبيُّ يَشِبُّ(1/300)
شَبَابًا وشَبِيبةً، وشَبَّ الفرسُ يَشِبُّ شِبَابًا وشُبُوبًا، وَقَوله: إِذا خبت يَعْنِي إِذا خمدت، يُقَال: خبت النَّار تخبو خَبُوًا إِذا سكنت، قَالَ الشَّاعِر:
وَمنا ضِرَار وابنماه وحاجبٌ ... مُؤَجِّجُ نيرانِ المكارمِ لَا الْمُخْبِي
وقَالَ آخر:
أَمن زَيْنب ذِي النَّارُ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مَا تَخْبُو
إِذا مَا خَمدَت يَلْقَى ... علينا المندَلُ الرَّطْبُ
وقَالَ الْقطَامِي:
وَكُنَّا كالحريقِ أصَاب غابا ... فيخبُو تَارةً ويَهِبُّ سَاعَا
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: " كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا " أَقْوَال، قِيلَ: إِن الْمَعْنى كلما سكنت، وَقيل الْمَعْنى كلما التهبت وتوقَّدت، وَجعلُوا هَذِهِ الْكَلِمَة من الأضداد، وَقيل: بل الْمَعْنى بِهَذِهِ الْجُلُود، والتأويل كلما خَبَت جُلُودهمْ.
وَشرح هَذَا يَأْتِي فِي كتَابنَا الْمُسَمّى " الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز " إِن شَاءَ الله.
وَقَول: كُثَيِّر: إِنِّي أسْتَحيك، اللُّغَة الفصيحة إِنِّي أستحييك، قَالَ: قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يضْرب مثلا "، وقَالَ عز ذكره: " إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ " وللعرب فِيهِ لُغَة أُخْرَى بعد هَذَا وَهِي اسْتَحى يستحي كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
أَلا يَسْتَحي منَّا رجالٌ وتَتَّقِي ... محارمَنَا لَا يَبُوءُ الدَّمُ بالدَّمِ
وَنسب إسحاقُ الشّعْر الَّذِي ختم مَجْلِسه بِالْغنَاءِ فِيهِ إِلَى أَنَّهُ من الطَّوِيل، وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يبين أَيّ نوع من الطَّوِيل هُوَ، فَرَأَيْت أَن أبيِّنَه وَأَقُول: إنَّه النَّوْع الثَّالِث مِنْهُ، وَهُوَ مَقْبُوض العَرُوض مَحْذُوف الضَّرْب مَا كَانَ مُطلقًا، وَمِنْه:
أقيمُوا بَنِي النُّعْمَانِ عنَّا صُدُورَكُمْ ... وإِلا تُقِيمُوا صاغرين الرؤسا
فَإِذا صُرِّع أَلْحقْتَ عَرُوضَه بضَرْبِه، فَصَارَت محذوفة بِمَنْزِلَتِهِ وَكَانَت فِي الْإِطْلَاق أتم وأطول مِنْهُ، فَمنْ مصرع هَذَا النَّوْع قَول امرىء الْقَيْس:
لمن طللٌ أبْقرتُهُ فَشَجاني ... كخط الزَّبُورِ فِي عسيبٍ يَمَانِ
وقَالَ أَيْضا:
أجَارَتَنَا إِن الْخُطُوبَ تَنُوبُ ... وَإِنِّي مقيمٌ مَا أَقَامَ عَسِيبُ
وَقبض فَعُولن الَّذِي قبل الضَّرْب من هَذَا الشّعْر، عَذْبٌ فِي الأسْمَاع من إِيرَاده سالما.
ابْن بيض يتَحَقَّق لَهُ حلمه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن بنان، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو الْكُوفِي، قَالَ: دخل حَمْزَة بْن بَيْض عَلَى يَزِيد بْن الْمُهَلّب يوْم جُمُعَة وَهُوَ يتأهَّبُ للمضيِّ إِلَى(1/301)
الْمَسْجِد، وجاريةٌ تُعَمِّمُهُ فَضَحِك، فَقَالَ: لَهُ يَزِيد: ممَّ تَضْحك، فَقَالَ: للَّه رُؤْيَا رأيتُها إِن أذن لي الأميرُ قَصَصْتُها، قَالَ: قل، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
رأيتُك فِي الْمَنَام سَنَنْتَ خزًّا ... عَلَيَّ بَنَفسَجًا وقَضَيْتَ دَيْنِي
فَصَدِّقْ مَا هُدِيتَ الْيَوْم رُؤْيا ... رأتها فِي الْمَنَام كَذَاك عَيْنِي
قَالَ: كم دينُك؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ ألفا، قَالَ: قَدْ أمرتُ لَك بهَا وبمثلها، ثمَّ قَالَ: يَا غلْمَان! فتشوا الخزائن فجيؤه مِنْهَا بِكُل خَزٍّ بنفسجٍ تَجدُونها، فَجَاءُوا بِثَلَاثِينَ جُبَّة، فَنظر إِلَيْهِ يُلَاحظ الْجَارِيَة، فَقَالَ: يَا جَارِيَة عاوني عَمَّك عَلَى قَبْض الْجِبَاب، فَإِذا وصلت إِلَى منزله فَأَنت لَهُ، فَأَخذهَا والجباب وَالْمَال وَانْصَرف.
قَالَ: سننت خَزًّا أَيّ أَلقيته وصَبَبْتَهُ عَليّ، يُقَالُ صَبَّ عَلَيْه ثَوْبه كَمَا قَالَ أَبُو نواس:
صببت على الْأَمِير ثيابَ مَدْحِي ... فَقَالَ الناسُ أحسنَ بل أَجَاد
ويُقَالُ: سننتُ عَليَّ قَمِيصِي، وسننتُ المَاء عَلَى وَجْهي بِالسِّين الْمُهْملَة، وشننت عَليّ المَاء إِذا أفَضْتَه على جسدك، بالشين النعجمة، وَكَذَلِكَ شَنَّ عَلَيْه الدِّرْع، وشنَّ عَلَيْهِم الْغَارة، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " من حمأٍ مسنون " أَيّ مَصْبوب عَلَى قصد، وَقيل: متغير الرَّائِحَة، وَهَذَا مسنون وسَنِين، وَلِهَذَا الْبَاب مَوضِع هُوَ مُسْتَقْصى فِيهِ، وَالسّنة مُشْتَقَّة من خذا الأَصْل لِأَنَّهَا شيءٌ جَار عَلَى وَجهه، وَمِنْه سُنَّةُ الطَّرِيق وسَنَنُه، قَالَ لبيد:
من معشر سننت لَهُم آباؤهم ... وَلكُل قوم سنةٌ وإمامُها
وسُنَّة الْوَجْه كأَنَّها الشيءُ المصبوبُ الْجَارِي عَلَى طَريقَة مَقْصُودَة: كَمَا قَالَ ذُو الرمة:
تُرِيكَ سُنَّةَ وجهٍ غيرَ مقرفةٍ ... مَلْساء لَيْسَ بهَا خالٌ وَلا نَدَبُ
يروي غَيْر مقرفة وَغير بِالنّصب والجر، فَمن رَوَاهُ نصبا فَهُوَ الْوَجْه الظَّاهِر فِي الصِّحَّة الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلا مَرِيَّة إِذْ هُوَ صفةٌ لمنصوب، وَهُوَ السّنة المنصوبة بالفهل وَهُوَ تريك، وَمن رَوَاهُ جَرًّا فَإنَّهُ أتبعه إِعْرَاب وجْه المخفوض يالإضافة، عَلَى الطَّرِيقَة الَّتِي يجيزُها من يجيزُها للمجاورة، ويجعلها بِمَنْزِلَة قَوْلهم " حُجْرُ ضَبٍّ خربٍ "، وَهَذَا وَجه ضَعِيف مَرْغُوب عَنهُ، وكثيرمن النَّحْوِيين لَا يُجِيزهُ، وَمن محقيقيهم من يُلَحِّن الْمُتَكَلّم بِهِ، وينسب مجيزه من النُّحَاة إِلَى الْخَطَأ والمتكلم بِهِ من العَرَبِ وَإِن كَانَ قدوة حجَّة فِي اللُّغَة إِلَى الْغَلَط، وَهَذَا يَتَّسِع القولُ فِيهِ، وَقَد استقصينا بَيَانه فِي كتَابنَا " الشافي فِي طَهَارَة الرجلَيْن " وَغَيره من كُتبنا ومسائلنا.
توصي لَهُ بِثلث مَالهَا نَظِير بَيت شعر
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بركَة الْأَشْجَعِيّ، قالك حَضَرَتِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ الْوَفَاةُ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي، فَقَالَتْ: نَعَمْ، خَبِّرُونِي مَنِ الْقَائِلِ:(1/302)
لَعَمْرُكَ مَا رِمَاحُ بَنِي نميرٍ ... بِطَائِشَةِ الصُّدُورِ وَلا قِصَارُ
قَالَ: فَقِيلَ لَهَا: زِيَادٌ الأَعْجَمُ، قَالَتْ: فأُشْهِدُكُمْ أَنَّ لَهُ ثُلُثَ مَالِي، قَالَ: فَحُمِلَ إِلَيْهِ مِنْ ثُلْثِهَا أَرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ.
من جُود عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر
حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حُدِّثْتُ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُد بْن مُحَمَّد، عَنْ سوَادَة بْن أَبِي الْأسود، عَنْ شهر بْن حَوْشَب.
أَن رَجُلا عَطِبَتْ راحلتُه فَأتى أَمِير الْمَدِينَة فَسَأَلَهُ فَلم يحملهُ، فَقِيل لَهُ: ائْتِ ابْن جَعْفَر فَأَتَاهُ فَقَالَ:
أَبَا جعفرٍ إِن الحجيج تَرَحَّلُوا ... وَلَيْسَ لَرَحْلي فاعلمنّ بَعيرُ
أَبَا جَعْفَر من أهل بَيت نبوةٍ ... صَلاتهمُ للْمُؤْمِنين طهورُ
أَبَا جَعْفَر ضنّ الْأَمِير بِمَالِه ... وَأَنت عَلَى مَا فِي يَديك أَمِير
قَالَ: فَأمر لَهُ براحلة وَنَفَقَة وَكِسْوَة سابغة.
إِبْلِيس يعلم الْغناء
حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: قَالَ: لي شيخٌ من الْكتاب قَدْ أَتَى عَلَيْه نَحْو ثَمَانِينَ سنة، انصرفتُ من ديواني وَأَنا حدثٌ من أحسن النّاس وَجها فلقيني شيخٌ فِي مَوضِع كَانَ زيُّه زِيَّ الرهبان فعلق بِكُمِّي، ثُمّ رفع صَوته وغنى غناء مَا سمعتُ قطُّ أَشْجى وَلا أحسن مِنْهُ فَقَالَ: انْظُر إليّ يَا طوالوالحن، ثُمّ خَلَّى كُمّي وَانْصَرف، وأحسبُه إِبْلِيس.
من أَخْبَار ابْن جُدْعَان
حَدَّثَنِي عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ: أَتَى رَجُل عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان فَأعْطَاهُ شَيْئا يَسِيرا فلامه الرَّجُل، وَلابْن جُدْعَان جارٌ من قُرَيْش لَهُ مالٌ لَا يُعطي أحدا شَيْئا، فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان:
ألام وأُعطِي والبَخِيلُ مُجَاوِرِي ... لَهُ مِثْلُ مَالِي لَا يُلامُ وَلا يُعْطِي
قَالَ القَاضِي: ابْن جُدْعَان التَّيْميّ من مشهوري أجواد قُرَيْش، وَفِيه يَقُولُ أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:
علم جدعَان بن عَم ... رٍو أَنَّهُ يَوْمًا مُدَابِرْ
ومسافرٌ سَفَرًا بعي ... داً لَا يؤوب لَهُ الْمُسَافِر
فقدروه بِفَنائِهِ ... للضيف مترعةٌ زوافِر
وَلَهُ أَخْبَار كثيرةٌ، لَعَلَّنَا نأتي بهَا فِيمَا نستقبله من هَذِهِ الْمجَالِس.(1/303)
الْعلم من ظُهُور الدفاتر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَليفَة الْفضل ابْن الْحُبَاب: أَن أَبَا زَيْد الأَنْصَارِيّ، رَأَى رَجُلا حسن الْعلم، كثير الراوية، جيد الْحِفْظ لمُلح الْأَخْبَار، لَا يتَمَثَّل إِلا بِحسن، وَلا يستشهد إِلا بجيد، فَقَالَ: كَأَنّ عِلْمَهُ واللَّه من ظُهُور الدفاتر.
أَعْرَابِي يسْأَل عُمَر
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَليّ بن إِسْمَاعِيل الخطي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الْمُسَيَّبِ بن شريك بن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ:
يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّةْ ... اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ
أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ:
إِذًا أَبَا حفصٍ لأذهبته
قَالَ: فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ:
تَكُونُ عَنْ حَالِي لِتُسْأَلَنَّهْ ... يَوْمَ تَكُونُ الأَعْطِيَاتُ يَمْنَهْ
وَالْوَاقِفُ الْمَسْئُولُ بَيْنَهُنَّهْ ... إِمَّا إِلَى نارٍ وَإِمَّا جَنَّةْ
قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلامُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ.
نموُّ النَّبات مُرْتَبِط بِطَاعَة اللَّه
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الْهَيْثَم الشَّبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَوْذَة بْن خَليفَة، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْف الْأَعرَابِي، عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ، قَالَ: أَصَابُوا فِي خزائِن كسْرَى سَلَّةً فِيهَا حِنْطَة كأمثال اللُّؤْلُؤ مَكْتُوب فِيهَا: هَذَا نَبَتَ فِي سنةٍ كَانَ يعْمل فِيهَا بِطَاعَة الله.
بكاء الشُّعَرَاء عَلَى الشَّبَاب
حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش، قَالَ: حَدَّثَنِي السكرِي، عَنِ المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ، أحِسبه عَنِ ابْن سَلام، عَنْ يُونُس، قَالَ: مَا بَكت الأعرابُ فِي أشعارها شَيْئا مَا بَكت الشَّبَاب وَمَا بلغتْ كُنْهَهُ، فاتَّبع هَذَا الْكَلَام النَّمرِيّ، فَقَالَ:
مَا كنتُ أُوفِي شَبابي كُنْهُ عِزَّتِهِ ... حَتَّى انْقَضَى فَإِذا الدُّنْيَا لَهُ تَبَعُ
قَالَ يَزِيد: وسمعتُ أَحْمَد بْن المعَذَّلِ يتعجَّبُ من بَيت النَّمرِيّ بعد هفا وَيَقُولُ: أما ترى حَيْثُ اشْترط النَّمرِيّ حَيْثُ يَقُولُ:
مَا واجه الشيبَ من عين وَإِن وَمِقَتْ ... إِلا لَهَا نبوةٌ عَنْهُ ومُرْتَدَعُ(1/304)
فتح أول الِاسْم فِي النِّسْبَة وَعلة ذَلِكَ
قَالَ القَاضِي: النَّمرِيّ منسوبٌ إِلَى النَّمِرِ بْن قاسط، وَإِنَّمَا فتح الْمِيم فِي النِّسْبَة، وَهِي فِي الِاسْم قبل إِضَافَته مَكْسُورَة، فِرَارًا من ثقل الكسرةِ إِلَى خفَّة الفتحة، لِمَا اجْتمع فِي الِاسْم من الكسرات والياءات، وَقَدْ أَتَى هَذَا كثيرا فاشيًا فِي ثَلَاثَة أسماءٍ عِنْد النَّسب، أحدُهُن النَّمرِيّ كَمَا فسرناه والشَّقِرِيّ فِي النّسَب إِلَى بني شَقِرَة من بني تَمِيم، والسُّلَمِيّ فِي النّسَب إِلَى بني سَلَمَة من الْأَنْصَار، والشقرة الْوَاحِدَة من شقائق النُّعْمَان، والسَّلِمة حجارةٌ سُود.
وَفِي عِلّة تَغْيِير الكسرة ونقلها فِي النّسَب إِلَى الفتحة حَيْثُ ذكرنَا، وعَلى مَا بَينا، وجهٌ آخر لَمْ أجد أحدا تقدمني فِي استخراجه، وَهُوَ أنَّهم يسكنُون أَوسط مَا كَانَ فَعْل وَإِن كَانَ أَصله الْحَرَكَة تَخْفِيفًا مثل مَلْك وكَتْف وَكَانَ تخفيفه إِذا اتَّصل بِهِ يَاء النّسَب أولى وَكَانُوا إِلَى تسكينه أحْوج، فخفَّفوه وفتحوا ثَانِيَة عوضا مِمَّا حذفوه، وَلِأَنَّهُ قَد ازْدَادَ بياء النّسَب ثِقَلا، ولزمت الكسرة مَا قبل الْيَاء الأولى مِنْهَا.
ممازحة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عونُ بْن مُحَمَّد الْكِنْديّ، قَالَ: خرجتُ مَعَ مُحَمَّد بْن أَبِي أُمِّيّه إِلَى نَاحيَة الجسر بِبَغْدَاد، فَرَأى فَتى من أَوْلَاد الْكُتَّاب جميلا فمازحه فَغَضب وتهدّده، فَطلب من غُلَامه دَوَاتَهُ وَكتب من وقته:
دون بَاب الْجِسر دارٌ لِهَوًى ... لَا أسمِّيهِ ومَنْ شَاءَ فَطنْ
قَالَ كالمازح واسْتَقْلَمَنِي ... أَنْت صَبٌّ عاشقٌ لي أَوْ لِمَنْ؟
قلتُ سَلْ قَلْبك يُخْبرك بِهِ ... فَتَحايَا بَعْدَمَا كَانَ مَجَنْ
حُسْنُ ذَاك الوجهِ لَا يُسْلِمُني أبدا مِنْهُ إِلَى غَيْر حَسَن
ثُمّ دفع الرقعة إِلَيْهِ فَاعْتَذر وَحلف أَنَّهُ لَمْ يعرفهُ.
يعاف المشرب الْمُشْتَرك
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن الْقَاسِم، قَالَ: عَشِق التَّيْميّ جَارِيَة عِنْد بعض النخاسين، فَشَكا وجده ومحبَّته إِلَى أَبِي عِيسَى الرشيد، فَقَالَ أَبُو عِيسَى لِلْمَأْمُونِ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إنَّ التَّيْميّ يجدُ بجاريةٍ لبَعض النخَّاسين، وَقَدْ كتب إليّ بَيْتَيْنِ يسألني فيهمَا، فَقَالَ: لَهُ: وَمَا كتب إِلَيْك؟ فأنشده:
يَا أَبَا عِيسَى إِلَيْك الْمُشْتَكَى ... وأخُو الصَّبر مَتَى عيلَ شكا
لَيْسَ لي صبرٌ عَلَى هجرانها ... وأعاف المشربَ المشتركا
قَالَ: فَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فاشتراها.
أَبْيَات لحسان فِي مدح الْخمر وذمها
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي(1/305)
هَارُون بْن عَبْد اللَّه الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن عَبْد الْعَزِيز بن المجاشون، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت: أتيت جَبَلَة بْن الأَبْهم، الغساني وَقَدْ مَدَحْتُه، وَكَانَ حَسَّانُ قَد اشْتَكَى، فَقَالَ: لَهُ: يَا أَبَا الْوَلِيد مَا تشْتَهي، قَالَ: مَا لَا تقدرون عَلَيْه، قَالَ نتكلَّفُه لَك، قَالَ: رطباتٌ محلقماتٌ من بَنَات ابْن طَابَ، قَالَ: هَذَا مِمَّا لَا نقدر عَلَيْهِ ببلادنا هَذِه، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيد: إِن الْخمر قد شغفتني فاذممها لعَلي أرفضها، فَقَالَ:
لَوْلَا ثلاثٌ هُنّ فِي الكأس لَمْ يكنْ ... لَهَا ثمن من شاربٍ حِين يشربُ
لَهَا نزقٌ مثل الْجُنُون ومصرع ... دنيُّ وَأَن العقلَ يَنْأى ويعزُبُ
فَقَالَ: أفسَدْتها فحسِّنْها، فَقَالَ:
وَلَوْلَا ثلاثٌ هنّ فِي الكأس أَصبَحت ... كأنفسِ مالٍ يُسْتفادُ ويُطْلَبُ
أمانُّيها وَالنَّفس تظهر طيبها ... على حزنها والهم يُسْلَى فَيذْهب
قَالَ: لَا جرم لَا أدعها أبدا.
نصيحةُ أَب لِابْنِهِ
حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِم بْن الْحسن الزُّبَيْديّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن مُحَمَّد، قَالَ حَدَّثَنِي الْعُتْبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي خَالِد عَنْ سُفْيَان بْن عَمْرو بْن عُتْبَة، قَالَ: لما بلغت خمسَ عشرةَ سنَة، قَالَ لي أَبِي: أَيّ بنيَّ! قَد انقطعتْ عَنْك شرائع الصِّبا، فاختلطْ بِالْخَيرِ تكن من أَهله، وَلا تزايله فَتَبِينَ مِنْهُ كُله، وَلا يغرَّنَّك من اغْترَّ بِاللَّه عَزَّ وَجَلّ فِيك فمدحك بِمَا تعلم خِلَافه من نَفسك، وَاعْلَم أَنَّهُ يَا بني لَا يَقُولُ أحدٌ فِي احدٍ من الْخَيْر مَا لَا يعلم إِذا رَضِيَ، إِلا قَالَ فِيهِ مثله من الشَّرِّ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ إِذا سخط، فاستأنسْ بالوحدة من جلساء السَّوء تسلم من عواقبهم، وَلا تنقل حُسْن ظنِّي بك إِلَى غَيره، قَالَ: سُفْيَان فَمَا زَالَ كَلَام أَبِي لي قِبْلةً أنتقل مَعهَا وَلا أنتقل عَنْهَا وَمَا شيءٌ أَحْمَد مَغَبَّةً من قبولٍ من نَاصح معروفٍ نُصْحَه.
فليغننا أصواتًا بَدَلا من الْعَطاء
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الطَّبَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مهويه، قَالَ: وجدتُ فِي كتاب أَبِي بِخَطِّهِ، قالك لما بُويِعَ إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي بِبَغْدَاد قل المَال عِنْده فَكَانَ يلجأ إِلَيْهِ أَعْرَاب من أَعْرَاب السَّوادِ وَغَيْرُهُمْ، فاحتبس عَلَيْهِم العَطاء فَجعل إِبْرَاهِيم يُسَوِّفُهُم بِالْمَالِ وَلا يرَوْنَ لذَلِك حَقِيقَة، إِلَى أَن اجْتَمعُوا يَوْمًا فَخرج رَسُول إِبْرَاهِيم إِلَيْهِم يصرِّح لَهُم أَنَّهُ لَا مَال عِنْده، فَقَالَ قومٌ من غَوْغاء أَهْل بَغْدَاد: فأخرجوا إِلَيْنَا خليفَتَنا فليُغَنِّ لأهل هَذَا الْجَانِب ثَلَاثَة أصوات، وَلأَهل ذَلِكَ الْجَانِب ثَلَاثَة أصوات، فَيكون عَطاء لَهُم،(1/306)
فأنشدني دعبل فِي ذَلِكَ:
يَا مَعْشَرَ الْأَعْرَاب لَا تغلطوا ... خُذُوا عَطَاياكم وَلا تسْخطوا
فَسَوف يعطيكُم حُنَيْنِيَّةً ... لَا تَدْخُل الكيسَ وَلا تُربط
والمَعْبَدِيَّاتُ لقوادكم ... وَمَا بِهَذَا أحدٌ يُغْبَطُ
فَهَكَذَا يرزقُ أجْنادَهُ ... خليفةٌ مصحفُهُ البَرْبَطُ
قَالَ القَاضِي: البَرْبط الْعُود، وَأَصله بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْعرب تسميه الْمِزْهَر، وَقَدْ زعم بَعضهم أَن هَذَا الضَّرْب من آلَات الملاهي تُسَمى الْعود فِي سالف الْأُمَم وغابرها، وَأَن من أَسْمَائِهِ عِنْد الْعَرَب الْكِرَانُ والبَرْبَطُ والْمُوتَر، وَلنَا فِي هَذَا قولٌ لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره.
المجلِسُ الحَادي وَالأربَعوُنْ
وجوب ضبط الْعلم وَتَقْيِيد الْحِكْمَة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبٍ، أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ وَمُجَاهِدًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: حَدَّثَهُمَا أَنَّهُ، قَالَ لرَسُول اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: أَكْتُبُ مَا سَمِعْتُ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عِنْدَ الْغَضَبِ وَعِنْدَ الرِّضَا، قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَقُولَ إِلا حَقًّا.
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة وَاضِحَة عَلَى أَنَّهُ من الصَّوَاب ضبط الْعلم وَتَقْيِيد الْحِكْمَة، بالْكِتاب حفظا لَهما وحِرْزًا من تَشَذُّ بهما، وعتادًا يُرجع إِلَيْهَا، ويفزع الناسِي إِلَيْهِمَا فيذكر مَا نَسيَه مِنْهُ، ويستدل عَلَى مَا عزب عَنْهُ، وعَلى فَسَاد قَول من ذهب إِلَى كَرَاهِيَة ذَلِكَ، وَقد جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ "، وَجَاء فِي الْأَثر: أَن سُلَيْمَان بْن دَاوُد، قَالَ لبَعض من أسره من الشَّيَاطِين: مالكلام؟ قَالَ: ريح، قَالَ: فَمَا يُقَيّده، قَالَ: الْكتاب، وَفِي إِحْضَار مَا ورد فِي هَذَا الْمَعْنى وإيراد الْحجَج فِيهِ طول لَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكره فِي هَذَا الْموضع.
نصائح غَالِيَة للأحنف بْن قَيْس
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو، عَنِ الثَّوْرِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُل من أهل الْبَصْرَة، عَنْ رَجُل من بني تَمِيم، قَالَ حضرت مجْلِس الْأَحْنَف بْن قَيْس وَعِنْده قومٌ مجتمعون فِي أمرٍ لَهُم، فَحَمدَ اللَّه تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْه، ثُمّ قَالَ: إِن مِنَ الكَرَمِ مَنْعَ الْحُرَم، مَا أقرب النِّقْمةَ من أَهْل الْبَغي، لَا خير فِي لذةٍ تُعْقِبُ نَدَمًا، لن يَهْلِكَ وَلنْ يَفْتَقِر مَنْ زَهِد، ربَّ هزلٍ قَدْ عَاد جِدًّا، مَنْ أمِن الزَّمَان خانه، وَمن تَعظَّم عَلَيْه مهانه، دَعُوا الْمُزَاح فَإنَّهُ يُورث الضغائِن، خير القَوْل مَا صدقه الْفِعْل، وَاحْتَملُوا لمن أدَلَّ عَلَيْكُم، واقبول عُذْر(1/307)
من اعتذر إِلَيْكُم، أطع أَخَاك وَإِن عصاك، وصِلْهُ وَإِن جفاك، أنْصِف من نَفسك قبل أَن يُنتصف مِنْك، وَإِيَّاك ومشاورة النّساء، وَاعْلَم أَن كُفْرَ النِّعمة لُؤْم، وصُحبة الْجَاهِل شُؤْم، ومِن الْكَرم الْوَفَاء بالذِّمم، مَا أقبح القطيعةَ بعد الصِّلة، والجفاءَ بعد اللُّطُف، وأقبح العداوةَ بعد الود، لَا تكونن عَلَى الْإِسَاءَة أقوى مِنْك عَلَى الْإِحْسَان، وَلا إِلَى الْبُخْل أسْرع إِلَى البَذْل، وَأعلم أَن لَك من دنياك مَا أصلحت بِهِ مثواك، فأنْفِق فِي حقّ، وَلا تكونَنّ خَازِنًا لغيرك، وَإِذَا كَانَ الغَدْرُ فِي النّاس مَوْجُودا فالثقَة بِكُل أحدٍ عجز، أعْرف الحقَّ لمن عَرَفَه لَك، وَاعْلَم أَن قطيعة الْجَاهِل تعدلُ صلَة الْعَاقِل.
قَالَ: فَمَا رَأَيْت كلَاما أبلغ مِنْهُ. فَقُمْت وَقَدْ حفظته.
قَالَ القَاضِي: هَذَا لَعَمْري من أشرف الْكَلَام وأبلغه وَأحسنه، وأبلغ الخَطَّاب وأبينه، فرحم اللَّه أَبَا بَحر كَيفَ أَشَارَ بالرَّشَد، وَهدى إِلَى الْقَصْد، وَمَا فصل من فُصُول خطبَته هَذِهِ إِلا وَقَدْ وَردت الآثارُ بِمَا يؤيِّده، مَعَ مَا فِي الْعُقُول مِمّا يدعُو إِلَيْهِ ويؤكده، ومجالسنا هَذِهِ تَتَضَمَّن كثيرا مِمَّا ورد فِي مَعْنَاهُ، إِن شَاءَ اللَّه، وأيَّد بعونه وتوفيقه.
بِمَ سُدت قَوْمك؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نصر بْن عَلِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ المهيبي رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَرَابَةَ الأَوْسِيِّ: بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أُعْطِي سَائِلَهُمْ، وَأَعْفُو عَنْ جَاهِلِهِمْ، وَأَسْعَى فِي مَصَالِحِهِمْ، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِي فَهُوَ مِثْلِي، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ خيرٌ مِنِّي وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.
كَيفَ قَالَ فِيك ذُو الرمة هَذِهِ الْأَشْعَار؟
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو المهلهل الْحُدَاني، قَالَ: ارتحلتُ إِلَى الرمال فِي طلب مي صاحبةِ غيلانَ ذِي الرُّمَّة، فَمَا زلتُ أطلب مَوضِع بَيتهَا حَتَّى أرْشِدتُ إِلَى الْبَيْت، فَإِذا خيمة كبيرةٌ عَلَى بَابهَا عَجُوز هتماء فسَلّمْتُ عَلَيْهَا، ثُمّ قُلْتُ لَهَا: أَيْنَ منزلُ مَيّ؟ قَالَتْ: مَيُّ ذِي الرُّمة، قُلْتُ: نعم، قَالَتْ: أَنَا مي، فعجبت ثُمّ قُلْتُ لَهَا: الْعجب كُلّ الْعجب من ذِي الرُّمَّة وَكَثْرَة مَا قَالَ فِيك، ولستُ أرى من الشَّاهِد وَالْوَصْف شَيْئا، فَقَالَت: لَا تَعْجَبَنَّ يَا هَذَا مِنْهُ، فَإِنِّي سأقوم بِعُذْرِهِ عَنْك، قَالَ: ثُمّ قَالَتْ: يَا فُلَانَة، قَالَ: فَخرجت من الْخَيْمَة جاريةٌ ناهدةٌ عَلَيْهَا برقع، فَقَالَت: أسْفري عَنْك، فَلَمَّا أسفرت تحيَّرتُ لِمَا رَأَيْت من جمَالهَا وبراعتها وفصاحتها، فَقَالَت لي عَلِقَ ذُو الرمة بِي وَأَنا فِي سِنِّها، فَقلت: عَذَرَهُ اللَّهُ ورَحِمَه، أنشديني مَا قَالَ فِيك، قَالَ: فَجعلت تُنْشد وأكتب أَنَا مَا كنتُ مُقيما عِنْدهَا، ثُمّ ارتحلتُ. فَكَانَت مِمَّا أنْشَدتني قَوْله:
خليليّ لَا ربعٌ بِوَهْبِينَ مخبرٌ ... وَلا ذُو حجَى يَسْتَنْطِقُ الدَّار يُعذِرُ(1/308)
فَسِيرَا فقد طَال الوقوفُ ومَلّه ... حراجيَجُ أمثالُ الحَنِيَّاتِ ضُمَّرُ
فيا صَاح لَو كَانَ الَّذِي بِي من الْهوى ... بِهِ لَمْ أذرْه أَن يُعَزَّى ويُنظَرُ
خَليليَ هَلا عُجْتَ إذْ أَنَا واقفٌ ... أَغِيضُ البكا فِي دَارِ مَيٍّ وأزْفُرُ
القصيدة ...
قَوْله: عجوزٌ هَتْماء: الهَتَمُ: سقوطُ الْأَسْنَان من فَوق وَمن أَسْفَل، يُقال: امْرَأَة هتماء وَرجل أهتم، ويُقَالُ: ضربه فهتم فَاه، قَالَ الفَرَزْدَق:
إنّ الأَرَاقِمَ لنْ يَنَال قَدِيمُها ... كلبٌ عوى مُتَهَتِّمُ الأسْنانِ
مرثية من أحسن المراثي
حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَاسِم بْن الْحَسَن، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيّا بْن أَبِي خَالِد البلديّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْوَرَّاق، عَنِ الأَصْمَعِيّ، قَالَ: خرجت إِلَى مَقَابِر الْبَصْرَة فَإِذا امْرَأَة واقفةٌ عَلَى قبر، وَهِي تَنْدُب وَتقول:
هَلْ أخبر القبرُ سائِليهِ ... وقرّ عينا بزائريه
أم هَلْ تُراه أحَاط علما ... بالجسد المستكن فِيهِ
يَا موت لَو تقبل افتداءً ... كنتُ بنفسي سأفتديهِ
أنْعِي بُرَيْدًا لمجتديه ... أنعي بُرَيْدًا لِمُعْتَفِيه
أنْعِي بُرَيْدًا إِلَى حزوبٍ ... تَحسِرُ عَنْ منظرٍ كريهِ
أنْعَتُ من لَا يُحِيط علما ... بوصفه نَدْبُ واصِفيهِ
يَا جَبَلا كَانَ ذَا امْتنَاع ... وركنَ عِزٍّ لآمليهِ
يَا نَخْلةً طلعُها نضيدٌ ... يَقْرُبُ من كفِّ مُجْتَنيهِ
وَيَا مَرِيضا عَلَى فراشٍ ... تؤذيه أيْدي مُمَرِّضِيهِ
وَيَا صبورًا عَلَى بلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّه مُبْتَليهِ
يَا موتُ مَاذَا أردْتَ مني ... حققتَ مَا كنتُ أتّقِيهِ
دهر رماني بفقد إلفي ... أَذمّ دهري وأشتكيه
آمَنَكَ اللَّه كُلّ روع ... وكل مَا كُنْت تَتّقِيهِ
أسكنك اللَّه فِي محلٍّ ... يقصرُ عَنْ وصفِ ذاكريهِ
قَالَ القَاضِي رَحْمَة اللَّه عَلَيْه: هَذِهِ المراثي من أحسن المراثي وأبلغها من الْقُلُوب، للطف مَعَانِيهَا، ورقة حواشيها، وَقرب ألفاظها وعذوبتها، وسماحة مَجَاريها وطلاوتها، وَقل(1/309)
مَا أثر فِي قلبِي منظوم تأثيرها عِنْد إنشادها، وَكَانَت لي ابْنة لَطِيفَة الْمحل من قلبِي، نَفِيسَةُ الْمنزلَة فِي نَفسِي، ذَات محَاسِن كَثِيرَة، وفضائِل غزيرة، وَرزقت حظًّا من حفظ التِّلَاوَة والآداب الدِّينِيَّة، مَعَ عقل رصينٍ ونزاهة وَدين، وَهبهَا الله ليبفضله ونِعْمتهِ، ثمَّ اسْتَأْثر بهَا بعدله ومشيئته، فَسلمت للرب جلّ جَلَاله قَضَاءَهُ فِيهَا وَعرفت حسن اخْتِيَاره لي وَلها، إِذْ كَانَ خَالِقهَا أملك بهَا من والدها ومنشيها، وأرحم بهَا من ثاكلها، وصابرت عَظِيم الْمُصَاب بهَا، ورضيت بِثَوَاب اللَّه عوضا مِنْهَا، ولَهجْتُ بِهَذِهِ الأبيات الَّتِي قدمت ذكرهَا فَمَكثت زَمَانا أقطع ليلِي ونهاري بتَرْجِيعِها والترنم بهَا، وأستشفي بفيض دموعي وَرفع عفيرتي بتردادها، ولإعجابي بهَا رَأَيْت إتباعها بِذكر مَا حضرني من الْأَخْبَار الَّتِي تضمنتها أنسا مني بإعادتها، وَلَم أَدخل بعض الْآتِيَة بهَا فِي بعض إِذْ كَانَتْ قَدْ وقعتْ إليّ من جهاتٍ شَتّى وطرق مُخْتَلفَة.
فَمنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سُلَيْمَان الطُّوسيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْملك بْن قُرَيْب الْأَصْمَعِي: خرجت ذَات يوْم فِي الْبَادِيَة فَإِذا أَنَا بِامْرَأَة إِلَى جَانب قبر وَهِي تُشِير بِيَدِهَا، فَقلت: يَنْبَغِي أَن تكون هَذِهِ تندب أَوْ ترثي، فدنوت حَتَّى قربتُ مِنْهَا فَإِذا هِيَ تَقُولُ:
هَلْ خبر الْقَبْر سائِليه ... أم قرّ عينا بزائريه
أم هَلْ تُراه أحَاط علما ... بالجَسَدِ الْمُسْتكِنِّ فيهِ
لَو يعلم الْقَبْر من يُواري ... تَاهَ عَلَى كُلّ من بليه
يَا قبر لَو تقبلُ افْتِدَاءً ... كنتُ بنفسي سأفتديهِ
أنعي بُرَيْدًا إِلَى حُزُوب ... تَحسِرُ عَنْ منظرٍ كَرِيهِ
أندب من لَا يُحِيط علما ... بوصفه ندب نادبيه
يَا جبلا كَانَ فا امتناعٍ ... ةركن عِزٍّ لآمليهِ
أنعي بُرَيدًا لمجتنيه ... أنعي بُرَيدًا لمعتفيه
يَا نَخْلَة طلعُها نضيدٌ ... يَقْرُبُ من كفِّ مجتنيه
تحلو نعم عِنْده سماحًا ... وطيبها راتب بِفِيهِ
أيا صبورًا عَلَى بلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّه مبتليه
قَالَ: عَبْد الْملك فَحفِظت مَا قَالَتْ، ثمَّ دَنَوْت إِلَيْهَا، فَقلت لَهَا: أعيدي لفظك رَحِمك اللَّه، قَالَتْ: أما وَالله لَو علمت أَن أحدا يَسْمَعُني مَا تفوهت بِهِ، قَالَ: فَقلت لَهَا: إِنِّي أَسأَلك أَلا أعَدْتِيه، فَقَالَت: يَا شيخ سوءةً لَك، أَقُول لَك مَا أَقُول وتعيد عَليّ الْكَلَام فَقلت لَهَا: إِنِّي أَسأَلك(1/310)
إِلا سمعتيه مني، فَأَقْبَلت عَليّ بوجهها، وسفرت عَنْ قناعها، وَقَالَت: اللَّهُمَّ إِن يَأْتِ فِي الدُّنْيَا أصمعي فَهَذَا هُوَ، فَقلت: أَنَا هُوَ، من الْفَتى تندبين؟ فَقَالَت: أَخِي وَابْن أُمِّي.
وَرِوَايَة ثَالِثَة حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر، قَالَ: سَمِعْتُ الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ أَتَى الْمَقَابِر ذَات يومٍ فَإِذا جاريةٌ كَادَت أَن تختفي بَيْنَ قبرين قِلة ودمامة، وَهِي تبْكي بقلب موجع، وكلامٍ حزينٍ، وَلَفظ كَأَنَّهُ خرزاتٌ نُظِمْن تحدَّرْن، وَقَدْ أدخلت رَأسهَا فِي لوح الْقَبْر، وَهِي تَقُولُ:
هَلْ أخبر الْقَبْر سائِليه ... أم قر عينا بزائريه
أم هَلْ ترَاهُ أحَاط علما ... بالبَدَنِ المستكنِّ فِيهِ
لَو يعلم الْقَبْر مَا يُواري ... تَاهَ عَلَى كُلّ من يليهِ
يَا موت لَو تقبل افتداءً ... كنتُ بنفسي سأفتديهِ
أنْعِي بُرَيدًا لمجتنيه ... أنعي بُرَيدًا لمعتفيه
أبْكِي بُرَيْدًا إِلَى حزوبٍ ... تَحْسِرُ عَنْ منظرٍ كريهِ
يَا جبلا كَانَ ذَا امْتنَاع ... وركنَ عِزٍّ لآمليه
يَا نَخْلَة طلْعُها هضيمٌ ... يَقْرُبُ من كفِّ مُجْتَنيهِ
وَيَا مَرِيضا عَلَى فراشٍ ... تؤذيه أيْدي مُمَرِّضِيهِ
وَيَا صبورًا عَلَى بلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّه مُبْتَليهِ
يَا دهر مَاذَا أردْتَ مني ... حققتَ مَا كنتُ أتقيهِ
دهرٌ رماني بفقد صبري ... أذمُّ دَهْري وأشْتَكيهِ
ذهبت يَا موتُ بِابْن أُمِّي ... بالسيد الفاضلِ الوجيهِ
المجلِسُ الثَاني وَالأربَعُونْ
فضل ابْن عَبَّاس
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ أَبُو الْعَلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ وَلَيْسَ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، قَالَ: بَيْنَمَا سائلٌ يَسْأَلُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَلأِ جَالِسٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا سَائِلُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُصَلِّي الْخَمْسَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَصِلَكَ قَالَ: فَنَزَعَ ثَوْبًا كَانَ عَلَيْهِ وَكَسَاهُ إِيَّاهُ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/311)
يَقُولُ: " أَيُّمَا مسلمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مَا بَقِيَتْ مِنْهُ رُقْعَةٌ ".
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَدْعُو إِلَى فعل الْخَيْر، ويحضُّ عَلَيْه، ويُرَغِّب فِي اصطناع الْمَعْرُوف، ويَنْدُب إِلَيْهِ، ورحمةُ اللَّهِ ورضوانُه عَلَى ابْن عَبَّاس تُرْجمان التَّنْزِيل، وحَبْر التَّأْوِيل، وبحر الْعُلُوم وَالْحكم، والْجُود والكَرَم، فلقت أجيبتْ فِيهِ دعوةُ ابنِ عمِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نبيِّ الرَّحْمَة إِذْ دَعَا لَهُ بالفقه وَالْحكمَة، فأقْبَس عِلمه لقاصديه من الأمَّة، وأفاض فيهم مكارمَه، وأفادهم غرائبَ عِلم الدّين ومَسَائِلَه.
عينٌ لِلْحَجَّاج يوفَّقُ فِي مُهَمته
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ الأَصْمَعِيّ، عَنْ يُونُس، عَنْ أَبِي عَمْرو، قَالَ: بعث الحَجَّاج - إِذْ كَانَ يقاتلُ شَبِيبًا والحَرُورِيَّةَ بالعراق - إِلَى صَاحب أَهْل دمشق، فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ لَهُ: اطْلُب لي من أَصْحَابك رَجُلا جَليدًا بَئِيسًا ذَا عَقْل ورأي، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأميرَ، وَمَا أحسَبَني إِلا وَقَدْ أصَبْتُه، إِن فِي أَصْحَابِي رَجُلا من حَكَمِ بْن سَعْد يُقَال لَهُ: الجراخ جَلْد صَحِيح الْعقل يَعُدُّ ذَلِكَ من نَفسه، يَعْنِي الْبَأْس، قَالَ: فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الحجاجُ قَالَ لَهُ: أدْنُ يَا طَوِيل، فَلم يَزَلْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ويُشير إِلَيْهِ بِيَدِهِ حَتَّى لَصِق بِهِ أَوْ كَاد، ثُمّ قَالَ: اقعد، فَقعدَ تَحُكُّ ركبتُه ركبتَه، وَلَيْسَ عِنْده غَيره، ثُمّ قَالَ لَهُ: قُم السَّاعَة إِلَى فَرَسِك فاحْسُسُه وأَعْلِفه وَأصْلح مِنْهُ، ثُمّ خُذْ سَرْجَه ولجامه، وسلاحك فضعه عِنْد وَتَدِ فَرَسِك، ثُمّ ارْقُب أَصْحَابك حَتَّى إِذا أخذُوا مضاجعهم ونَوَّمُوا فاشدُدْ عَلَى فَرَسك سَرْجَه ولِجَامه، واصبب عَلَيْك سِلَاحك وَخذ رُمْحَك واخرج حَتَّى تَأتي إِلَى عَسْكَر أَعدَاء اللَّهِ تَعَالَى تُعاينهم وتَنْظر إِلَى حَالاتِهم وَمَا هُمْ عَلَيْه، ثُمّ تُصْبِحَني غَدًا، وَلا تُحْدِثَنَّ شَيْئا حَتَّى تَنْصَرِف، فَإِذا انصرفتَ إِلَى أَصْحَابك فَلا تخبرهم بِمَا عهدتُه إِلَيْك.
فَنَهَضَ الجراحُ، فَلَمَّا أَتَى أَصْحَابه وهم مُتَشَوِّفُون لَهُ سَأَلُوهُ عَنْ أمره، فَقَالَ: سَأَلَني الْأَمِير عَنْ أَمر أَهْل دمشق، واعْتَلَّ لَهُم بِهِ، ثُمّ فعل مَا أمره بِهِ الحَجَّاج، ثُمّ خرج من الْعَسْكَر يُرِيد عَسْكَر الْقَوْم، فَلَمَّا كَانَ فِي المَنْصَفِ من العسكرين لَقِي رَجُلا فِي مثل حَاله، فَعلم الجراحُ أَنَّهُ عينُ العدوِّ يريدُ مثل الَّذِي خرج لَهُ فتواقفا وتساءلا، ثُمّ شَدَّ عَلَيْه الجَرّاح فَقتله، وأوثق فرسه بَرحْله، ثُمّ نَفَذَ إِلَى الْعَسْكَر الَّذِي فِيهِ القومُ فعاينه، وَعرف من حَاله وَحَال أهلَهُ مَا أُمر بِهِ، ثُمّ انْصَرف إِلَى الْقَتِيل فاحتزّ رَأسه وَأخذ سلاحه وجَنَّب فرسه، وعلق الرَّأْس فِي عُنق فرسه، ثُمّ أقبل.
وَصلى الحَجَّاجُ صَلَاة الصُّبْح وَقعد فِي مَجْلِسه، وَأمر بالأستار فَرفعت وَهُوَ مُتَشَوِّف منتظرٌ الجَرّاح، وَجَعَل يَرْمِي بَطَرْفهِ إِلَى النَّاحِيَة الَّتِي يظنّ أَنَّهُ يقبل مِنْهَا، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبل الْجراح يَجْنُبُ الْفرس وَالرَّأْس منوطٌ فِي لبان فَأَقْبَلَ الحَجَّاج يَقُولُ ويقلب كفَّية: فعلتَ(1/312)
مَا أمرتُك بِهِ؟ قَالَ: نعم، وَمَا لَمْ تَأْمُرنِي، حَتَّى وقف بَيْنَ يَدَيْهِ وَسلم، ثُمّ نزل وحدَّث الحَجَّاج بِمَا صنع وَمَا عاين من الْقَوْم، فَلَمَّا فرغ من حَدِيثه زَبَرَهُ الحَجَّاج وانتهره، وقَالَ لَهُ الحَجَّاج: انْصَرف فَانْصَرف، فَبينا هُوَ فِي رَحْله إِذْ أقبل فَراشون يسْأَلُون عَنِ الْجراح، مَعَهم رُواق وفرشٌ وَجَارِيَة وَكِسْوَة، فدلوا عَلَى رَحْله، فَلم يكلموه حَتَّى ضربوا لَهُ الرواق وفرشوا لَهُ فرشًا واقعدوا فِيهِ الْجَارِيَة، ثُمّ أَتَوْهُ فَقَالُوا: انهض إِلَى صلَة الْأَمِير وكرامته، فَلم يزل الْجراح بعْدهَا يَعْلُو ويرتفع حَتَّى وُلّي أرمينية فاستشهد، قتلته الخَزَرُ.
قَالَ أَبُو حَاتِم: الجَرَّاح مَوْلَى مسكان أبي هانىء أَي أَبِي نواس، وَذَلِكَ عني أَبُو نواس بقوله حَيْثُ يَقُولُ:
يَا شَقِيقَ النَّفْسِ من حَكَمِ ... نِمْتَ عَنْ لَيْليِ وَلَم أَنَمِ
معنى البئيس واللبان
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: فاطلُب لي من أَصْحَابك رَجُلا جَليدًا بَئِيسًا، البئيس: الشجاع الشَّديد فِي الْحَرْب، وَهُوَ من الْبَأْس، والبأس: الْحَرْب قَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ فِي البئيس:
وَمَعِي لبوسٌ للبئيس كأنَّها ... قرنٌ بجبهة ذِي نعاج مجفل
من قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " بعذابٍ بئيسٍ " مَعْنَاهُ: شَدِيد، وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: وَالرَّأْس منوطٌ فِي لِبَان فرسه، اللبان: الصَّدْر قَالَ عنترة:
يَدْعُون عَنْتَرَ والرِّمَاحُ كأَنَّها ... أشْطَانُ بئرٍ فِي لِبَانِ الأَدْهَمِ
مَا زلتُ أرْميهم بثُغْرةِ نَحْره ... ولِبَانِهِ حَتَّى تَسَرْبَلَ بالدَّم
فازْوَرَّ من وَقع القنا بِلبانِهِ ... وشكا إليّ بعبرةٍ وتَحَمْحُمِ
وأمّا اللُّبَان بِالضَّمِّ فَهُوَ الْكُنْدر، واللُّبَانة: الْحَاجة، قَالَ لبيد:
قض اللُّبَانة لَا أبالك واذهب ... والحقْ بأسْرتك الْكِرام الْغُيّبِ
فَأَما اللِّبان بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَا يدر بِهِ ثدي النّساء، ويُقَالُ لَهُ: مِنْهُنَّ اللبان وَمن غَيْرهنَّ من إناث الْحَيَوَان: لبن، قَالَ الْأَعْشَى:
رَضِيَعيْ لبانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَما ... بأسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ
وقَالَ بعض الْعَرَب:
دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عمروٍ وَلَم أكُنْ ... أَخَاهَا وَلَم أَرْضَعْ لَهَا بِلِبَانِ
وَقَدْ كثر اسْتِعْمَال النّاس لفظ اللَّبن فِي اللبان، واستفاض فِي الْآثَار، وَكَلَام فُقَهَاء السَّلَف وَالْخلف ومنطق الْخَاصَّة والعامة، وَأنْكرهُ بعض أَهْل اللُّغَة.
الحَجَّاج يكثر الْخَيْر فِي الْبيُوت
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الْحَسَن، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد، عَنِ الْهَيْثَم بْن الرَّبِيع، قَالَ: قَالَ الْحجَّاج: إِنِّي لَا(1/313)
أرى النّاسَ قَدْ قَلُّوا عَلَى موائدي فَمَا بالهم؟ فَقَالَ لَهُ رَجُل من عُرْض النّاس: أصلح اللَّه الْأَمِير، إِنَّك أكثرت خير الْبيُوت فَقل غشيان النّاس لطعامك، فَقَالَ: الْحَمد للَّه وَبَارك اللَّه عَلَيْك، من أَنْت؟ قَالَ: أَنا الصَّلْت بْن قَرَان الْعَبْدِيّ، فَأحْسن إِلَيْهِ.
الْخُلَفَاء يغارون من أَبْيَات جَيِّدَة قيلت فِي غَيرهم
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن حَمْزَة، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمد بْن مُوسَى بْن حَمْزَة، قَالَ: الْفضل بن يزِيغ، قَالَ: رَأَيْتُ مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة قَدْ دخل عَلَى الْمهْدي بعد موت مَعْن بْن زَائِدَة فِي جماعةٍ من الشُّعَرَاء وَفِيهِمْ سَلْمُ الخَاسِرُ وغيرهُ، فأنشده مديحًا، فَقَالَ: من؟ قَالَ: شاعرُك مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أَلَسْت الْقَائِل:
أَقَمْنَا باليمامةِ بعد معنٍ ... مُقَامًا لَا نُرِيدُ بِهِ زِيَالا
وَقُلْنَا أَيْنَ نرحلُ بعد معنٍ ... وَقَدْ ذهب النوالُ فَلَا نَوَالا
قَدْ جِئْت تطلبُ نوالنا وَقَدْ ذهب النَّوال، لَا شَيْء لَك عندنَا، جُرُّوا بِرجلِهِ. قَالَ: فجروا بِرجلِهِ حَتَّى أخرج، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل تلطَّف حَتَّى دخل مَعَ الشُّعَرَاء - وَإِنَّمَا كَانَت الشُّعَرَاء تدخل عَلَى الْخُلَفَاء فِي ذَلِكَ الْحِين فِي كُلّ عَام مرّة - قَالَ: فَمثل بَيْنَ يَدَيْهِ وأنشدهُ قصيدته الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
طرقَتْكَ زائرةٌ فَحيِّ خيالَها ... بيضاءُ تخلطُ بِالْحَيَاءِ دلالَها
قَادَتْ فؤادَكَ فاستقاد وقَبْلَها ... قاد القلوبَ إِلَى الصِّبَا فأمالها
قَالَ: فأنصت لَهَا حَتَّى إِذا بلغ إِلَى قَوْله:
هَلْ تَطْمِسُون من السَّماء نجومَها ... بأكُفكم أَوْ تسترُون هِلالها
أَوْ تدفعُون مقَالَة عَنْ ربكُم ... جِبْرِيل بَلَّغها النَّبِيّ فقالَها
شهِدَتْ من الْأَنْفَال آخر آيةٍ ... بتُراثهم فأردتُمُ إبطالَها
يَعْنِي بني عَليّ وَبني الْعَبَّاس، قَالَ: فرأيتُ الْمهْدي وَقَدْ زحف من صدر مُصَلاه حَتَّى صَار عَلَى الْبسَاط إعجابًا بِمَا سَمِع، ثُمّ قَالَ لَهُ: فَإِنَّهَا لأوّل مائَة ألف أُعْطِيها شَاعِر فِي خلَافَة بْني الْعَبَّاس.
قَالَ: فَلم تلبث الأيامُ أَن أفْضَت الْخلَافَة إِلَى هَارُون الرشيد، قَالَ: فرأيتُ مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة ماثلا مَعَ الشُّعَرَاء، بَيْنَ يَدي الرشيد وَقَدْ أنْشدهُ شعرًا، فَقَالَ لَهُ: مَنْ؟ قَالَ: شاعرك مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْت الْقَائِل الْبَيْتَيْنِ اللَّذين لَهُ فِي معن اللَّذين أنشدهما الْمهْدي: خُذُوا بِيَدِهِ فأخرجوه، فَإنَّهُ لَا شَيْء لَهُ عندنَا، فَأخْرج.
فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِكَ بيومين تَلَطَّف حَتَّى دخل عَلَيْه فأنشده قصيدته الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:(1/314)
لَعَمْرُكَ لَا أنسى غَدَاة الْمُحَصَّبِ ... إِشَارَة سلمى بالبنان المخضب
وَقَدْ صَدَر الْحُجّاجُ إِلا أَقَلَّهُمْ ... مَصادر شَتّى موكبًا بعد مَوْكب
قَالَ: فأعجبتْه، قَالَ لَهُ: كم قصيدتك بَيْتا؟ قَالَ لَهُ: سِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ بَيْتا، فَأمر لَهُ بِعَدَد أبياتها ألوفًا، فَكَانَ ذَلِكَ رَسْمُ مَرْوَان حَتَّى مَاتَ.
مُزَرَّدُ ينتقمُ لحرمانه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حثنا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَصْمَعِيّ.
قَالَ: كُنْت يَوْمًا عِنْد هَارُون أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقدمت إِلَيْهِ فالوذجة، فَقَالَ: يَا أصمعي! قُلْتُ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَدِيث مُزَرَّد أَخِي شَماخ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن مُزَرَّدًا كَانَ غُلَاما نَهِمًا جَشِعًا، وَكَانَت أمُّهُ تُؤْثِرُ عيالها بالزَّاد عَلَيْه، وَكَانَ ذَلِكَ يغيظه ويَغُمُّه، فَذَهَبت أُمّه يَوْمًا فِي بعض حُقُوق أَهلهَا وخَلَّفَتْ مُزرَّدًا فِي رَحْلِها، فَدخل الْخَيْمَة وَأخذ صَاعَيْ دقيقٍ وصاعَ عجوةٍ وصاعَ سَمْن، فَضرب بعضه بِبَعْض وَأكله، ثُمّ أنشأ يَقُولُ:
وَلما مَضَتْ أُمِّي تزورُ عِيالها ... أَغَرْتُ عَلَى الْعِكْمِ الَّذِي كَانَ يُمْنَعُ
خلِطتُ بِصَاعَيْ حِنطة صَاعَ عجوةٍ ... إِلَى صاعِ سمنٍ وَسْطُهُ يتربَّعُ
ودَبَّلْتُ أَمْثَال الأثافي كَأَنَّهَا ... رُءُوس نقادٍ قُطِّعَتْ يَوْمَ تُجْمَعُ
وَقلت لبطني أشْبع الْيَوْم إنَّه ... حِمَى أُمِّنا مِمَّا تفِيد وَتجمع
فَإِن كنت مَصْفُورًا فَهَذَا دواؤه ... وَإِن كُنْت غرثاناً فَذا يوْم تشبعُ
قَالَ: فاستضحك هَارُون حَتَّى أَخَذَ عَلَى بَطْنه، واستلقى. ثُمّ قعد، فَمد يَده وقَالَ: خُذُوا باسم اللَّه.
معنى النهم والنقد، والصفر والغرث
قَالَ القَاضِي: قَوْله: كَانَ غُلَاما نَهِمًا، يَعْنِي حَرِيصًا عَلَى الْأكل وَهُوَ كالشَّرِه والجَشِع، يُقَالُ: نهم يَنْهَمُ نَهَمًا فَهُوَ نَهِم، مثل شَرِهَ يَشْرهُ شَرَهًا ويُقَالُ أَيْضا: رَجُل منهوم، وَقَدْ قَدَّمنا القَوْل فِي ذَلِكَ.
والنِّقادُ: الْغنم الصغار الَّتِي هِيَ شرطٌ لَيست خِيرات وَلا حَرَزَات، يُقَالُ لَهَا: نَقَد، كَمَا قَالَ الراجز:
لَو كُنْتُمُ شَاءً لكنتُمُ نَقَدَا
وَقَول مزردٍ يخاطبُ بَطْنه: فَإِن كُنْت مصفورًا، يَعْنِي: وَإِن كَانَ بك الصَّفَرُ وَهُوَ دَاء فِي الْبَطن يهيج الْجُوع عَلَى صَاحبه، قَالَ الشّعْر:
لَا يغمزُ السَّاقَ من أَيْن وَلا نَصَبٍ ... وَلا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ(1/315)
وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " لَا عَدْوَى وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ "، وَكَانَ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يُعْدِي، فَتَأَوَّلَ قَوْمٌ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِهِ هَذَا الْمَعْنَى وَذَهَبَ بِهِ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ الشَّهْرَ الْمُسَمَّي صَفَرًا، وَإِبْطَالِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي تَقْدِيمِهِ إِلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا كَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي النَّسِيءِ.
واستقصاء بَيَان هَذَا مرسوم فِي مَوْضِعه، فَأَما الصَّفَر فِي بَيت مُزَرّد وَفِي الْبَيْت الَّذِي استشهدنا بِهِ، فَإنَّهُ الدَّاءُ الَّذِي وَصَفْناه دون غَيره.
وَأما قَوْله: فَإِن كُنْت غرثانًا فَإنَّهُ من الغَرْث، وَهُوَ الْجُوع، يُقَالُ: رَجُل غَرْثَانُ أَيّ جَائِع، وَامْرَأَة غَرْثَى، مثل غَضْبان وغَضْبَى، قَالَ الْأَعْشَى:
تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ ... وجَارَاتكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا
وتروي غُرٌّ مَكَان غرثى، وقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت:
حصانٌ رزانٌ مَا تَزنُّ بريبةٍ وتُصَبح غَرْثَى من لُحُوم الغَوافِلِ
رَدٌّ عَلَى عِتاب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَزِيد المهلبي، قَالَ: سَمِعت هبة الله ابْن إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي، يَقُولُ: كتب أَبِي إِلَى بعض من عتب عَلَيْه فِي شَيْء: لَو عرفتَ الْحُسْن لتجنبتَ الْقَبِيح، وَلَو اسْتَحْلَيْتَ الْحِلْم لاسْتَمْرَرْتَ الخَرقَ، وَأَنا وَأَنت كَمَا قَالَ زُهَيْر:
وَذي خطلٍ فِي القَوْل يُحْسَبُ أَنَّهُ ... مصيبٌ فَلم يُلْمِمْ بِهِ فَهُوَ قَائِله
عَبَأْتُ لَهُ حِلمي وأكرمتُ غَيْرَه ... وأعرضتُ عَنْهُ وَهُوَ بادٍ مقاتِلُهُ
وَإِن من إِحْسَان اللَّه تَعَالَى إِلَيْنَا وإساءتك إِلَى نَفسك أَنَّا أمْسَكْنا عَمَّا تعلم، وقلتَ مَا لَا تعلم، وَتَركنَا الْمُمكن وتناولتَ الْمُعْجِز.
أشعب يَتُوب عَنْ لحم الجداء
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس الرثدي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّد عِيسَى بْن عُمَر بْن عِيسَى التَّيْميّ، قَالَ:
كَانَ زيادُ بْن عَبْد اللَّه الْحَارِثِيّ خَال أَبِي الْعَبَّاس أَمِير الْمُؤْمِنِين واليًا لأبي الْعَبَّاس عَلَى مَكَّة، فَحَضَرَ أشعب مائدته فِي أناسٍ من أَهْل مَكَّة، وَكَانَت لزياد بْن عَبْد اللَّه الْحَارِثِيّ صَحْفَة يُخَصُّ بهَا، فِيهَا مضيرةٌ من لحم جديٍ، فَأتى بهَا فَأمر الغلامَ أَن يَضَعهَا بَيْنَ يَدي أشعب وَهُوَ لَا يدْرِي أَنَّهَا المضيرة، فَأكلهَا أشعب، يَعْنِي أَتَى على مَا فِيهَا، فاستبطأ زِيَاد بْن عَبْد اللَّه المضيرة، فَقَالَ: يَا غُلام! الصحفة الَّتِي كُنْت تَأتِينِي بهَا، قَالَ: قَدْ أتيتُ بهَا - أصلحك اللَّه - فأمرتني أَن أضعها بَيْنَ يَدي أَبِي الْعَلاء، قَالَ: هَنَّأ اللَّهُ أَبَا الْعَلاء وَبَارك لَهُ، فَلَمَّا رُفِعت الْمَائِدَة، قَالَ: يَا أَبَا الْعَلاء - وَذَلِكَ فِي اسْتِقْبَال شهر رَمَضَان - قَدْ حضر(1/316)
هَذَا الشَّهْر الْمُبَارَك، وَقَدْ رَقَقْتُ لأهل السجْن لما هُمْ فِيهِ من الضُّرِّ، ثُمّ لانضمام الصَّوْم عَلَيْهِم، وَقَدْ رَأَيْتُ أَن أُصَيِّرك إِلَيْهِم فتلهيَهُمْ بِالنَّهَارِ وَتصلي بهم اللَّيْل، وَكَانَ أشعب حَافِظًا لكتاب اللَّه، فَقَالَ: أوَ غَيْرُ ذَلِكَ - أصلح اللَّه الْأَمِير - قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أعطي اللَّه عهدا أَلا آكل مَضِيرَة جديٍ أبدا.
أول تَعَرُّفِ الشُّعَرَاء بِأبي تَمام
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَحْمُود الْخُزَاعيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الجَهْم، قَالَ: كَانَ الشعراءُ يَجْتَمعُونَ فِي كُلّ جمعةٍ فِي الْقُبَّةِ الْمَعْرُوفَة بهم فِي جَامع الْمَدِينَة، فيتناشدون الشّعْر ويَعْرِضُ كُلّ وَاحِد مِنْهُم عَلَى أَصْحَابه مَا أحدث من القَوْل بعد مفارقتهم فِي الْجُمُعَة الَّتِي قبلهَا.
فَبينا أَنَا فِي جُمُعَة من تِلْكَ الْجمع، ودعبل وأَبُو الشِّيص وَابْن أَبِي فنن يَجْتَمعُونَ وَالنَّاس يَسْتَمِعُون إنشاد بَعْضنَا بَعْضًا، أبصرتُ شابَّا فِي أخريات النَّاس جَالِسا فِي زِيّ الْأَعْرَاب وهيئتهم، فَلَمَّا قَطعنَا الإنشاد قَالَ لنا: قَدْ سَمِعْتُ إنشادكم مُنْذُ الْيَوْم، فَاسْمَعُوا إنشادي، قُلْنَا: هَات، فأنشدنا:
فَحْوَاكَ عينٌ عَلَى نَجْوَاك يَا مَذِلُ ... حَتَّامَ لَا يَنْقَضِي من قَوْلك الخطل
فَإِن أسمج من تَشْكُو إِلَيْهِ هَوًى ... مَنْ كَانَ أحسن شَيْء عِنْده العَذَلُ
كَأَنّما جادَ مَغْنَاهُ فغيَّرهُ ... دُموعُنا يَوْم بانوا وَهِي تنمهل
وَلَو تَرَانا وإيَّاهُمْ ومَوْقِفُنا ... فِي موقف الْبَين لاستهلالنا زجل
من حرقةٍ أطاعتها فرقةٌ أسرت ... قلباً وَمن عذلٍ فِي نَحره غزل
وَقَدْ طوى الشوقُ فِي أحْشائنا بقرٌ ... عِينٌ طَوَتْهُن فِي أحشائها الْكِلَلُ
ثُمّ مر فِيهَا حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله فِي مدح المعتصم:
تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إذْ سَهِرْتُ لَهُ ... حَتَّى ظننتُ قوافِيهِ ستقْتَتِلُ
قَالَ: فعقد أَبُو الشيص عِنْد هَذَا البيتِ خنْصره ثُمّ مَرَّ فِيهَا إِلَى آخرهَا، فَقُلْنَا: زِدْنَا فأنشدنا:
دمنٌ أَلَمَّ بهَا فَقَالَ سلامٌ ... كم جلَّ عَقْد ضَمِيره الإلمامُ
ثُمّ أنشدناها إِلَى آخرهَا، وَهُوَ يمدح فِيهَا الْمَأْمُون، فاستزدناه فأنشدنا قصيدته الَّتِي أَولهَا:
قَدْك اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ فِي الْغُلَوَاءِ ... كم تَعذِلُون وأنْتُمُ سُجَرَائِي
حَتَّى انْتهى إِلَى آخرهَا، فَقُلْنَا لَهُ: لمن هَذَا الشّعْر؟ فَقَالَ: لمن أنشدكموه، قُلْنَا: وَمن تكون؟ قَالَ: أَبُو تَمام حبيبُ بنُ أَوْس الطَّائِي، قَالَ أَبُو الشِّيص: تزْعم أَن هَذَا الشّعْر لَك وَتقول:
تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إذْ سَهِرْتُ لَهُ ... حَتَّى ظننتُ قوافِيهِ ستقْتَتِلُ(1/317)
قَالَ: نعم، لأنِّي سهرتُ فِي مدح ملكٍ وَلَم أسْهَرْ فِي مدح سُوقة، فقربناه حَتَّى صَار مَعنا فِي موضعنا، وَلَم نَزَل نتهاداه بَيْننَا، وجعلناه كأحدنا، وَاشْتَدَّ إعجابنا بِهِ لدماثته وظرفه، وَكَرمه وَحسن طبعه، وجودة شعره، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم أول يوْم عَرفْنَاهُ فِيهِ، ثُمّ تراقت حَاله حَتَّى كَانَ من أمره مَا كَانَ.
شرح وإعراب
قَالَ القَاضِي: قَول أَبِي تَمام: يَا مَذِل، المَذَل، الْفُتُور والخَدَر، قَالَ الشَّاعِر:
وَإِن مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أشْتكِي ... بِدَعْوَاك من مذلٍ بهَا فَيَهُونُ
وَقَوله:
حَتَّى ظننتُ قوافِيهِ ستقتتلُ
أسكن الْيَاء وحَقُّها النصب لضَرُورَة الشّعْر، وَقَدْ جَاءَ مثله فِي كثير من الْعَرَبيَّة، وَمن ذَلِكَ قَول الْأَعْشَى:
فَتًى لَو يُنادي الشَّمْسُ ألقتْ قِنَاعها ... أَو القمرَ السَّارِي لألْقَى المَقَالِدَا
وقَالَ رُؤْبة:
كَأَنّ أيْديهنَّ بالقَاعِ القَرِقْ ... أَيدي جوارٍ يتعاطَيْن الوَرقْ
وَقَدْ قَرَأَ بعضُ النَّحْوِيين من القرأة حرفا من الْقُرْآن عَلَى هَذِهِ اللُّغَة فِي رِوَايَة انْتَهَت إِلَيْنَا عَنْهُ، ذَلِكَ أنَّ أَبِي حَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُعَاذ بْن قُرَّةَ الهَرَويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن خَشْرَم، قَالَ: سَمِعْتُ الْكسَائي يقْرَأ: " وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ من ورائي " قَالَ:
كَأَنّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أَيدي جوارٍ يتعاطين الوَرق
وَالْمَعْرُوف فِي هَذَا الْموضع من التِّلَاوَة قراءتان، إِحْدَاهمَا: " وَإِنِّي خفت الموَالِي " بِمَعْنى: قَلَّتِ الموَالِي، فالموالي فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة ساكنه، وَهِي فِي مَوضِع رفع بِالْفِعْلِ.
رُوِيَت هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَعدد من مُتَقَدِّمي القرأة، وَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة: وَإِنِّي خِفْتُ، من الْخَوْف الموالِيَ بِالنّصب، إِذْ هِيَ مفعول بهَا.
وَهَذَا بَاب وَاسع مُسْتَقْصًى فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي عُلُوم التَّنْزِيل والتأويل، وَالْمَعْرُوف مِمَّا نَقله رُوَاة الشّعْر فِي بَيت الْأَعْشَى: فَتى لَو يُنَادي الشَّمْس، فِيهِ وَجْهَان من التَّفْسِير.
أَحَدهمَا: أَن يَكُون من الدُّعَاء والمناداة، وَالْمعْنَى: لَو دَعَاهَا لأجابته مُذْعِنَةً طَائِعَة. وَالْآخر: أَن يَكُون الْمَعْنى: لَو جالسها فِي النَدِيِّ والنَّادِي، وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد النَّحْويّ: لَو يباري من المباراة، وَهِي الْمُعَارضة، وَالْعرب تَقُولُ: فلانٌ يُباري الرّيح، أَيّ يُعَارِضها، قَالَ طرفَة:
تباري عنَاقًا ناجياتٍ وأتعبت ... وظيفًا وظيفًا فَوق مورٍ مُعَبَّدِ
وَقَول أَبِي تَمام: قَدْكَ، مَعْنَاهُ: حَسبك، قَالَ النَّابِغَة:(1/318)
قَالَت: أَلا لَيْتَما هَذَا الْحمام لنا ... إِلَى حمامتنا أَو نِصْفُهُ فَقَدِ
وَمعنى: اتئب: استحيي، أربيت: زِدْتَ فِي الْغُلَوَاء، مَأْخُوذ من الْغُلُوِّ وتَجَاوْز الحَدِّ، قَالَ الشَّاعِر:
إِلا كَنَاشِرَةِ الَّذِي ضَيَّعْتُمُ ... كالْغُصْنِ فِي غُلَوائِهِ المتثبت
والسُّجَرَاء بِالسِّين الْمُهْملَة جمع سَجِير، وَهُوَ الْقَرِيب الْوَلِيّ، فَأَما الشُّجَراء بالشين الْمُعْجَمَة فَإنَّهُ جمع شجير، وَهُوَ الْبعيد والعَدُوّ.
المجلِسُ الثالِث وَالأربَعُونْ
الزَّجْرُ عَنْ أَذَى الْيَتِيم
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ الْفُلُوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بن سُفْيَان القطيغي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْيَتِيمَ إِذَا بَكَى اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ لِبُكَائِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ أَبْكَى عَبْدِي وَأَنَا قَبَضْتُ أَبَاهُ وَوَارَيْتُهُ فِي التُّرَابِ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا عِلْمَ لَنَا، قَالَ: اشْهَدُوا أَنْ مَنْ آوَاهُ أَرْضَيْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر زجر عَنْ أَذَى الْيَتِيم وترغيب فِي التعطفِ عَلَيْه، وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ، والعقول السليمة والفطن السوية، تُنْبِئان عَنْ حَظْر ظُلْمه، وَحسن حفظه وتَعَهُّدِه، وَمَا أَتَى عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي مُحكم تَنْزِيله وعَلى لِسَان رَسُوله من التوصية بِهِ، والتوعد بأليم الْعقَاب عَلَى ظلمه، كثير ظَاهر، قَدْ قَامَت الحجَّة بِهِ واستفاض الْعلم بِصِحَّتِهِ، فِي خاصَّةِ الْمُسْلِمِين وعامتهم، ومأموميهم وأئمتهم، فاتقى امرؤٌ ربه، وَخَافَ مقَامه، وأشفق مِمَّا هُوَ أَمَامه، وتدبر قَول الله عز وَجل: " وليخشن الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وسيصلون سعيراً " فَإِن هَذَا الَّذِي تلوناه فِي نَظَائِره من التَّنْزِيل أَجْزلُ لفظٍ وأبلغ وعظ، وَفِي فضل المصيخ إِلَيْهِ، وَالْعَامِل عَلَيْه، والقابل لَهُ، والقائم بِالْقِسْطِ فِيهِ، أوفر حَظّ.
وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لمرضاته وأعاننا عَلَى طَاعَته، وعَصَمَنا من مَعْصِيَته، إِنَّه جواد كريمٌ، رءوف رَحِيم.
سآكلُ مِنْهَا وَلَو شققت بَطْنَك
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعُتْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرْوَانُ، فَلَمَّا وَرَدَ الْمَدِينَةَ هَيَّأَ لَهُ مَرْوَان(1/319)
طَعَاما فَأكْثر وَجَوَّدَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ الْغَدَاءُ جَاءَ متطببٌ نَصْرَانِيٌّ لِمُعَاوِيَةَ فَوَقَفَ وَجَعَلَ إِذَا أَتَى لونٌ قَالَ: كُلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا، وَإِذَا أَتَى لونٌ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ، قَالَ: لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا.
فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ غَدَائِهِمْ، أَقْبَلَ زَنْجِيَّانِ مُؤْتَزِرَانِ بربطتين بيضاويين يَدْلَحَانِ بجفنةٍ لَهَا أَرْبَعُ حَلَقَاتٍ مُتْرَعَةٍ حَيْسًا، فَلَمَّا رَآهَا مُعَاوِيَةُ اسْتَشْرَفَ لَهَا وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: أَيُّ شيءٍ تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أُرِيد - وَالله - أَن أواقع ماترى، قَالَ: أُمَزِّقُ ثِيَابِي، قَالَ: وَلَوْ مَزَّقْتَ بَطْنَكَ، فَجَعَلَ يُدَبِّلُ مِثْلَ دَبْلِ الْبَعِيرِ وَيَقْذِفُ فِي جَوْفِهِ حَتَّى إِذَا نَهَلَ، قَالَ: يَا مَرْوَانُ! مَا حَيْسُكُمْ هَذَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عجوةٌ نَاعِمَةٌ، وإقطةٌ مزنية، وسمنةٌ جهنمية، قَالَ: هَذِهِ - وَاللَّهِ - الأَشْفِيَةُ جُمِعَتْ لَا كَمَا يَقُولُ هَذَا النَّصْرَانِيُّ.
زهد بعض الصَّحَابَة وتَقَشُّفُهُم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّكَنِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمُّ أَبِي زَحْرُ بْنُ حصنٌٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ عَمْرٍو الْوَهْبِيُّ، قَالَ: مَرَّ بِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَنَحْنُ بسرفٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ، فَأَهْدَيْنَا إِلَيْهِ إِقْطًا وَسمنًا ولبناً وَطَيْرًا جَاءَتْ بِهَا الرُّعَاةُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي فِي مَوْضِعِ هَذَا الطَّيْرِ حَيْثُ لَا أَرَى أَحَدًا وَلا يَرَانِي، ثُمَّ جَلَسَ يَأْكُلُ وَجَلَسْتُ آكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الأَكْلِ جَعَلَ يَلْحَسُ الصَّحْفَةَ وَيَلْعَقُ مَا فِيهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن! إِن هَاهُنَا من يَكْفِيك غسلهَا، فَقَالَ: إِن لَعْقَ الصِّحَافِ يَعْدِلُ عِتْقَ الرِّقَابِ.
عود إِلَى خبر مُعَاوِيَة وَأكله من الحَيْس
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو السُّكَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ وَعَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرْوَانُ، فَاتَّخَذَ طَعَامًا فَلَمَّا حَضَرَ وَجَلَسَ يَأْكُلُ قَامَ نَصْرَانِيٌّ عَلَى رَأْسِ مُعَاوِيَةَ وَجَعَلَ يَقُولُ: كُلْ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ، وَدَعْ هَذَا فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ، وَأُتِيَ بَعْدَ الطَّعَامِ بجفنةٍ عظيمةٍ يَحْمِلُهَا أَسْوَدَانِ مُؤْتَزِرَانِ بِرَبْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ، مَمْلُوءَةٍ حَيْسًا، أَحْسِبُ أَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا يَحْمِلُ جَفْنَةً، فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مُعَاوِيَةُ فَلَمَّا وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلَ يُدَبِّلُ مِنْهَا تَدْبِيلا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا تَأْكُلْ مِنْهَا وَإِلا مَزَّقْتُ ثِيَابِي، قَالَ: وَاللَّهِ لآكُلَنَّ وَلَوْ مَزَّقْتَ بَطْنَكَ، وَجَعَلَ يُمْعِنُ فِي الأَكْلِ حَتَّى اكْتَفَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مَرْوَانُ! مَا جَفْنَتُكَ هَذِهِ؟ قَالَ: عجوةٌ ناعمة، وإقطةٌ مزينة وسمنةٌ جهنمية، قَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ أَشْفِيَةٌ كُلُّهَا لَا مَا يَقُولُ هَذَا النَّصْرَانِيُّ.
قَالَ مُوسَى: أَبُو السُّكَيْنِ بْنُ عَبَّاسٍ خَرَجَ إِلَى الْبَادِيَةِ إِلَى شَيْخِنَا هَذَا زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ فَكَتَبَ مِنْهُ هَذِهِ الأَخْبَارَ، وَكَانَ يُسَمِّيهَا " أَخْبَارُ الأَشْرَافِ ".(1/320)
ابْن الْأَنْبَارِي لَا يرغب فِي تَفْسِير الحيس
قَالَ القَاضِي: لما ذكر ابْن الْأَنْبَارِي الحَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَر وَهُوَ يمليه علينا سُئل أَن يُفَسِّر الحَيْس، فَأبى فروجع، فَامْتنعَ وضحر، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: لَمْ يفسره من قلبِي فأفسره أَنَا! فعجبت من اعتلاله فِي الِامْتِنَاع من تَفْسِيره بِأَنَّهُ لَمْ يفسره من قبله، وَالنَّاس يَحْتَاجُونَ إِلَى تَفْسِير من تَأَخّر لَهُم مَا لَمْ يتقدمه فِي تَفْسِيره من رَوَاهُ قبله، وأعجب من هَذَا أَنَّهُ أورد تَفْسِيره فِي الْخَبَر نَفسه عِنْد آخِره.
قَالَ القَاضِي: والحَيْس من مطاعم الْعَرَب الْمَعْرُوفَة لَهُم الْمَشْهُورَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
وَإِذَا تكونُ كريهةٌ أُدْعَى لَهَا ... وَإِذَا يُحَاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بحيسٍ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا.
وَقَول الرَّاوِي فِي الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ عَنِ ابْن دُرَيد: دلحان، عني بِهِ حَمْلهما وتناولهما، وجعلهما بِمَنْزِلَة الدَّالِح الَّذِي هُوَ أحدُ من تنَاول الدَّلْو عِنْد الاسْتقاء، وَبعده الماتحُ والمائحُ.
أوَّلُ من ذَكَرَ الحَيْسَ فِي شِعْره
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا شيخ ذكره يُقَالُ لَهُ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، حدّثه وَذهب عني اسْمه، عَنِ ابْن دأب، قَالَ: كَانَ ضَمْرَةُ بْن بَكْر بْن عَبْد مَنَاة، سيدَ بني كنَانَة، وَقَدْ ضم وُلِد أَعْمَامه إِلَيْهِ فأغير عَلَى إبل لَهُ فَخرج أهلُه واستنقذوها، وَكَانَ أَشَّدهم بَأْسا أَحْمَر بْن الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة، فَلَمَّا رَدّوا الْإِبِل عَلَى ضَمْرَة عمل حَيْسًا فأطعمه ابْنه جُنْدُب إِذْ كَانَ أحمرُ قَدْ خرج، فَعمد أحمرُ إِلَى سلاحه فلبسه وَأخذ إبِله ورَحْله، وقَالَ: وَالله لَا سَاكَنْتُ ضَمْرَة أبدا وَقَدْ عرف حسن بلائي، وَهُوَ مقبلٌ عَلَى ابْنه دوني، وقَالَ:
يَا ضَمْرُ أخْبِرْني ولستَ بفاعلٍ ... وأخُوك صادقُك الَّذِي لَا يكذب
هَل فِي الْقَضِيَّة أنْ إِذا استغنيتم ... وأمنتم وَأَنا الْبعيد الأجنب
وَإِذَا الشَّدائدُ بالمخَنَّق مَرَّةً ... أشْجَتُكمُ فَأَنا الحبيبُ الأقربُ
وَإِذا تكون شَدِيدَة أدعى لَهَا ... وَإِذا يحاس الحيس يدعى جُنْدُب
عَجَبًا لتِلْك قَضِيَّة وإقامتي ... فِيكُم عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّة أعجبُ
فأكونُ فيكمْ مثلَ عبدِ أبيكمُ ... لَا أُمَّ لي إِن كَانَ ذَاك وَلَا أبُ
فَقَالَ جُنْدُب:
لنا صاعٌ إِذا كِلْنَا خُصُومَنَا ... نُطَفِّفُها ونُوفِي لِلْوَفِيّ
لأحمرَ حَيْسُهُ وَلنَا غِنَانا ... كَمَا أَغْنَى وَإِن عابوا الغَنِيّ
فَلِذَا قَالَ عَبيدُ بْن الأبرص(1/321)
سنُهْدِي إليكمْ أيَّ هَاتين شِئْتُمُ ... ونُعْطِيكُمُ الصَّاعَ الَّذِي قَالَ جُنْدُب
الْمَشْهُور من الرِّوَايَة فِي هَذَا الشّعْر:
وَإِذَا تكون كريهةُ أُدْعَى لَهَا
وشديدةٌ أَيْضا، وَفِي الْبَيْت الَّذِي يَلِيهِ:
ذَاكُمْ وجَدِّكُمُ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ ... لَا أُمَّ لي............
والهَوَانُ أَيْضا، وَقَدْ رُوِيَ: عجبٌ لتِلْك قَضِيَّة بِالرَّفْع، عَلَى أَنَّهُ - أَعنِي الْعجب - شيءٌ لَازم، مثل قَوْلهم: ويلٌ لَهُ، وَقَوله:
فتربٌ لأفْوَاهِ الْوُشَاةِ وجندلٌ
وَقَالُوا: تُرْبًا وجَنْدَلا، وتراباً، جَعَلُوهُ نَائِبا عَنِ الإِهانة والإِذلال.
وَرُوِيَ: عجبا لتِلْك، نصبا عَلَى إِضْمَار الْفِعْل، بمنزله قَوْلهم: سَقْيًا ورَعْيًا.
وَقد روى لَنَا هَذَا الْخَبَر - أَعنِي خبر ضَمْرة - عَنْ أَبِي مُحَمَّد الْأَنْبَارِي وَفِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلاف، ولعلنا نخرجهُ فِيمَا يُسْتَقبل من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه.
طالبٌ مُشاكس
حَدَّثَنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن كَامِل النَّخَعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن جَعْفَر الرُّمَّاني، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل السُّدِّيّ، قَالَ: كنتُ فِي مجلسِ مالكٍ أكتبُ عَنْهُ، فسُئِل عَنْ فَرِيضَة فِيهَا اخْتِلاف عَنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأجَاب فِيهَا بجوابِ زَيْد بْن ثَابِت، فَقلت: فَمَا قَالَ فِيهَا عَلِيّ بْن أَبِي طالبٍ وَعبد اللَّه بْن مَسْعُود، فَأَوْمأ إِلَى الحَجَبَةِ فَلَمَّا هَمُّوا بِي حَاصَرْتُهم وحاصروني فأعْجَزْتُهم، وبَقِيَتْ مِحْبَرتي بكُتُبِي بَيْنَ يَدَيْ مَالك، فَلَمَّا أَرَادَ أَن ينْصَرف، قَالَ لَهُ الحَجَبةُ: مَا نعملُ بكُتب الرَّجُل ومِحْبرته، فَقَالَ: اطلبوه وَلا تهيجوه بسوءٍ حَتَّى تُأْتُوني بِهِ، فَجَاءُوا إِلَيَّ فرفقوا بِي حَتَّى جِئْت مَعَهم، فَقَالَ لي: من أَيْنَ أَنْت؟ فقلتُ: من أهل الْكُوفَة، فَقَالَ لي: إِن أهل الْكُوفَة قوم مَعَهم معرفَة بأقدار الْعلمَاء، فَأَيْنَ خلَّفت الْأَدَب؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا ذاكَرْتُك لأستفيد، فَقَالَ: إِن عليًّا وَعبد اللَّه لَا يُنكَرُ فضلهما، وأهلُ بلدنا عَلَى قَول زَيْد، وَإِذَا كنتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قومٍ فَلَا تبؤهم بِمَا لَا يعْرفُونَ فيبدأَك مِنْهُم مَا تكره.
قَالَ: ثُمّ حججتُ من سَنَتِي وقدمتُ الشَّام، فدخلتُ دمشق فجلستُ فِي حلقه الْوَلِيدِ بْن مُسْلِم، فَلم أصبرْ أَن سألتُه عَنْ مَسْأَلَة فَأصَاب، فَقلت: أخطأتَ يَا أَبِي الْعَبَّاس، فَقَالَ: تُخَطِّئُني فِي الصَّواب وتلحنُ فِي الْإِعْرَاب، فَقلت: خَفَضْتُكَ كَمَا خَفَضَك ربُّك، وداخلتُه الاحتجاجَ فَمَالَ الناسُ إليّ وتركُوه، وَقَالُوا: أهلُ الْكُوفَة أهلُ الْفِقه وَالْعلم، فَخفت أَن يندأني مِنْهُ مَا ندأني من مَالك بْن أَنَس، فَإِذا رجلٌ لَهُ حلمٌ ودينٌ وَزَعَهُ عَنِ الْإِقْدَام.
السَّفَلَة، وسفلة السفلة
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن الْجراح الضراب، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن أَمِين، قَالَ:(1/322)
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أوَيْس، قَالَ: سَمِعْتُ مَالك بْن أَنَس، يَقُولُ: قَالَ ربيعةٌ الرَّأْي: يَا مَالِك! مَن السَّفِلَةُ؟ قَالَ: من أكل بِدِينِهِ، قَالَ: فَمنْ سَفِلَةُ السفلة؟ قَالَ: قُلْتُ: من أصلح دُنْيَا غَيره بفسادِ دينه، قَالَ: زِهْ، صَدَقْتَني.
شهرة قاضٍ بالغلمان
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الصَّفَّار، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا العيناء فِي مجْلِس أَبِي الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد، قَالَ: كنتُ فِي مجلسِ أَبِي عَاصِم النَّبِيل، وَكَانَ أَبُو بَكْر بْن يَحْيَى بْن أَكْثَم حَاضرا فنازع غُلامًا، فارتفعَ الصَّوْتُ، فَقَالَ أَبُو عَاصِم: مَهْيَم؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بكر ابْن يَحْيَى بْن أَكْثَم ينازعُ غُلامًا، فَقَالَ: إِن يَسْرقْ فقد سَرَقَ أبٌ لَهُ من قبل.
وحكاية أُخْرَى فِي الْمَعْنى
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: قَالَ أَبُو عبيد الله مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم: لما عُزِل إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد عَنِ الْبَصْرَة، شيَّعُوه فَقَالُوا: عَفَفْت عَنْ أَمْوَالنَا وَعَن دمائنا، فَقَالَ إِسْمَاعِيل: وَعَن أَبْنَائِكُم. يُعَرِّض بِيَحْيَى بْن أَكْثَم من اللُّواط.
وقاضٍ تَفْتِنُه حسناء
وَحَدَّثَنَا الحكيمي، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه: وَكَانَ الْحَسَن بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن العَنْبري قَاضِيا عندنَا فِي الْفِتْنَة، وَكَانَ عَابِسا كالِحًا، فَقدمت إِلَيْهِ جاريةٌ لبَعض أَهْل الْبَصْرَة تُخَاصِم فِي مِيرَاث، وَكَانَت حَسَنَة الْوَجْه، فتبسَّمَ وكَلَّمها، فَقَالَ عَبْد الصَّمد بْن المعذَّل:
وَلما سَفَرَتْ عَنْهَا الْقِناع متيمٌ ... تَرَوَّحَ مِنْهَا العنبريُّ مُتَيَّمَا
رَأَى ابنُ عَبْد اللَّهِ وَهُوَ محكمٌ ... عَلَيْهَا، لَهَا طرفا عَلَيْه مُحَكّما
وَكَانَ قَدِيما عَابَس الْوَجْه كالحًا ... فَلَمَّا رَأَى مِنْهَا السُّفُورَ تَبسَّما
فَإِن يَصبُ قلبُ الْعَنْبَري فقبلها ... صَبَا باليتامى قلبُ يَحْيَى بْن أكثما
مصدر فَاعل الفعال والمفاعلة
قَالَ القَاضِي: قولُ أبي العيناء فِي الْحِكَايَة الأولى من حكايتيه هَاتين فِي قَول إِسْمَاعِيل مَا قَالَه يعرِّض بِيَحْيَى بْن أَكْثَم باللواط هَكَذَا قَالَ:
فاللِّوَاط مصدر لاوط يلاوط ومصدره لواطٌ ومُلاوطة فِي الْقيَاس، مثل زانى يزاني مُزاناةً وزِناءً، وَقَاتل يُقَاتل قِتالا ومُقاتلة، فِي نَظَائِر ذَلِكَ من بَاب الْفِعال والمفاعلة، وأتى بِالْمَصْدَرِ فِيهِ صَحِيحا بِالْوَاو لصِحَّة فعله، وَذَلِكَ لاوط يلاوط وَلَو كَانَ مصدر لَا يلوط لأُعِلَّ إعلال فعله فَقِيل لَاطَ لياطًا، وقُلبت واوه يَاء لانكسار مَا قبلهَا، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ: قَامَ قيَاما فِي مصدر قَامَ يقوم، وقوام فِي مصدر قاوم يُقَاوم، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا " فلواذًا مصدر لاوذ يلاوذ، فَأَما مصدر لَاذَ يلوذ يُقَال فِيهِ:(1/323)
لَاذَ لياذ، قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت فِي مصدر " لاوذ ":
وقريشٌ تفِرُّ مِنْهُم لِوَاذًا ... لَمْ يُقيمُوا وخَفَّ مِنْهَا الْحُلُومُ
وقَالَ ذُو الرمة فِي مصدر " لَاذَ ":
تَلُوذُ من الشَّمْس أطْلاؤُهَا ... لِيَاذَ الغَرِيم من الطَّالِبِ
وَفِي استقصاء تصريف هَذَا الْجِنْس من الْأَفْعَال والمصادر، وذُكِر أُصُوله تَقْديرا وتقريرًا، وتمييز مقايسه تَفْصِيلًا وتحريراً، طولٌ، وَله مَوضِع وَهُوَ أولى بِهِ.
أَيُّهُمَا الأَصْل الْفِعْل أم الْمصدر
وَقَدْ تعلق نحاة الْكُوفِيّين عَلَى أَصْحَابنَا الْبَصرِيين بِأَنَّهُم قَد اتَّفقُوا عَلَى حمل الْمصدر فِي الإعتلال على الْفِعْل فأجروه مجْرى التَّابِع التَّالِي لَهُ، وَأَن هَذَا يدلُّ عَلَى صِحة قَوْلِ مَنْ قَدَّم الْفِعْل فَجعل المصدرَ مأخوذًا مِنْهُ، وَفَسَاد قَول الْبَصرِيين بِتَقْدِيم المصدرِ وَالْحكم بِأَنَّهُ أُخذ مِنْهُ الْفِعْل.
وللبصريِّين جوابٌ عَنْ هَذَا وانفصال مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن كُره اخْتِلاف الْجُمْلَة واضطراب الْبَاب، وأوثر التَّوْفِيق بَيْنَ بعضه وَبَعض، فَلَمَّا حضر معنى أوْجَبَ اعتلال الْفِعْل اعَتَلَّ الْمصدر، عَلَى أَن المعتلَّ من المصادر مَا كَانَ متجاوزاً الأَصْل فَإِنَّهُ هُوَ أولٌ فِي الْحَقِيقَة لَهُ، أَلا ترى أَن أصل الْمصدر فِي الْقيام قَامَ قَوْمَةً وقَوْمًا عَلَى أصل الْقيَاس فِي التَّقْدِير، مثل: صَامَ صوما وعام عومًا ورام رومًا.
وَمن فَائِدَة الاخْتِلاف فِي أبنية المصادر يحصل الْفرق بَين الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة، كَقَوْلِهِم: وِجْدانٌ فِي المَال، وَوُجُود فِي الإِدراك، ومَوْجِدَةٌ فِي الْغَضَب، ووجدٌ فِي الْغنى، وجدةٌ فِي المَال، ووجدٌ فِي الحبِّ وَالْغَضَب، وَالْفِعْل فِيهِ كُلُّه وَجَد يَجِد، وفَرَّع المولَّدُون من هَذَا قَوْلهم: وجادةٌ: مَا كَانَ من الْعلم أَخَذَ من صحيفَة من غَيْر سَماع وَلا إجَازَة وَلا مناولة.
وَمثل هَذَا فِي الْأَسْمَاء الَّتِي حُفِظَتْ مصادِرُها يستفادُ بِهِ الْفرق فِي العَلاقَةِ بِالْفَتْح فِي الْمحبَّة وَالْخُصُومَة، والْعِلاقة بِالْكَسْرِ فِي السَّيْف وَالسَّوْط، وَلا خلاف فِي سبق هَذِهِ الْأَسْمَاء للأفعال وتقدمها عَلَيْهَا.
وومما يبين إيثارهم توفيق الْمَفْضُول فِي الجلمة وَإِن كَانَ الْقيَاس يَقْتَضِي لشَيْء مِنْهَا دون غَيره من بَابه حكما، فيُسْتَتْبَع مَا سواهُ وَإِن لَمْ يَكُنْ فِيهِ من العلَّة مَا فِيهِ، قَوْلهم: آمن، وأبدلوا من الهزة مَدَّة كَرَاهِيَة لِاجْتِمَاع الهمزتين، ثُمّ حملُوا عَلَيْه يُومن وتُومن ونُومن للتوفيق والتسوية، وَإِن كَانُوا قَدْ يقرونه عَلَى أَصله، ويتركون إِلْحَاقه بِمَا الْعِلَّة خَاصَّة فِيهِ.
وَفِي شرح هَذَا الْبَاب وَبسط القَوْل فِيهِ طول لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه، والفَرَّاء وَهُوَ مِنْ أَنْبَهِ مُخَالِفِي البَصْريَّين فِي هَذَا الفَضْل وأعلَمِهِم وأَنْظَرِهم فِي قِيَاسه واستدلاله قَد احْتج فِي اسْتِحْقَاق الْفِعْل الْمَاضِي الْفَتْح يحملهُ إِيَّاه عَلَى التَّثْنِيَة فِي قَوْلك: جَلَسَ وجَلَسَا، فألزم(1/324)
الْوَاحِد وَهُوَ مُتَقَدم حُكْم الِاثْنَيْنِ وَهُوَ بَعْده، فأتْبَع الأول الثَّانِي وعَلّق عَلَيْه حُكمه كَأَنّ ثَانِيه أولٌ لَهُ، وَمن كَانَ هَذَا مذْهبه فحقيقٌ عَلَى أَن لَا يُنكر عَلَى خَصمه مثله، وَكَيف وَقَدْ أومأنا من مَذْهَب مخالفيه إِلَى مَا يوضِّح عَنْ حَقِيقَته، ويدلُّ عَلَى صِحَّته.
عَلّمتْهُ الْحَيَاة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْل الْأَصْفَهَانِي، قَالَ: حَدَّثَنَا بنْدَار، عَنِ الأَصْمَعِيّ، قَالَ: مَثَلَ فَتًى بَيْنَ يَدَي الحَجَّاج، فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، مَاتَ أَبِي وَأَنا حملٌ، وَمَاتَتْ أُمِّي وَأَنا رَضِيع، فكفلني الْغُرباء حَتَّى ترعرعتُ، فَوَثَبَ بعض أَهلِي عَلَى مَالِي فاجْتَاحَه، وَهُوَ هاربٌ مني وَمن عَدْلِ الْأَمِير. فَقَالَ الحَجَّاج: اللَّه! مَاتَ أبُوك وَأَنت حَمْلٌ وَمَاتَتْ أمُّك وَأَنت رضيعٌ وكفلك الغرباء، فَلم يمنعك ذَلِكَ من أَن فَصُح لسَانك، وأنبأت عَنْ إرادتك! اطْرُدُوا الْمُؤَدِّبين عَنْ أَوْلَادِي.
كَيفَ تختارُ أصدقاؤك؟
حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّد ابْن عُمَر الْبَزَّاز، يذكر عَنْ مُحَمَّد بْن عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَان بن عيينةن قَالَ عَلْقَمَة بْن لبيد الْعُطَارِدي، لِابْنِهِ: يَا بُنيَّ! إِن نَزَعَتْكَ إِلَى صُحبةِ الرِّجَال حاجةٌ، فاصْحَبْ من إِن صحبتَه زَانَك، وَإِن خَدَمْتَه صانك، وَإِن عَرَكت بِهِ مانك.
مَنْ إنْ قُلْتَ صَدَّق قَوْلك، وَإِن صُلْت سَدَّد صَوْلك، يزاوِلُ عَنْك مَنْ رَامَ ونَالَك.
مَنْ إِن مَدَدْتَ يَدَك يصلُ مَدَّها، وَإِن بدرَتْ مِنْك ثلمةٌ سَدَّها، وَإِن رَأَى مِنْك حَسَنَة عَدَّها.
مَنْ إِن سَأَلْتُهُ أَعْطَاك، وَإِن سَكَتَّ عَنْهُ ابتدأك.
من إِن نزلَتْ بك إِحْدَى مُلِمَّات الزَّمَان آساك، من لَا تَأْتِيك مِنْهُ البوائق، وَلا تخْتَلف عَلَيْك من الطرائق، وَلا يخذلك عِنْد الْحَقَائِق.
من إِن حاوَلْتَ حَوِيلا أمَرَك، وَإِن تَنَازَعْتُما مَنْفَسًا آثرك.
قَوْله: إِن حاولت حويلا أَي رمت أمرا طَالبا ومنازعًا أَمرك، وَيتَّجه فِي قَوْله: أَمرك وَجْهَان، أَحَدهمَا: أَن يَأْمُرك بِالصَّوَابِ فِيهِ، وَيُشِير عَلَيْك بركوب الحزم فِيمَا تحاوله، ويرشدك إِلَى وَجه الرَّأْي فِي التأتي لَهُ. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يَكُون معنى قَوْله: أَمِرَك كَثَّرك فِيمَا تحاوله، وأيَّدك فِيمَا تجاذِبُهُ وَتُزَاوله، وأمدك بقُوَّته، ورَفَدَكَ بمعونته، من قَوْلهم: قَدْ أَمِرَ بَنو فُلان: أَي كَثُروا، كَمَا قَالَ لبيد:
إِن يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وإنْ أَمِرُوا ... يَوْمًا يَصِيرُوا للذُّلِّ والعَارِ
وقَالَ آخر:
أُمُّ عيالٍ ضَنْؤُهَا أَمِرْ ... لَو نَحَرَتْ لضيْفِها عَشْرَ جُزُرْ(1/325)
لأصبحتْ من لحمهنَّ تَعْتَذِرْ
وَقَدْ تُأُوِّل قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ " أمرنَا مُتْرَفِيهَا " عَلَى وَجْهَيْن فِي قِرَاءَة الْجَمَاعَة، والوجهان: أمرنَا أَيّ أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ ففسقوا، وَقيل: فِيهِ أكثرنا، وقرىء أمَّرنا من الْإِمَارَة، وأَمِرْنا بِمَعْنى أكثرنا، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ: أمِرنا بِكَسْر الْمِيم عَلَى معنى أكثرنا، وَأنكر الفَرَّاء هَذِهِ الْقِرَاءَة وذُكِر أَن أَمر لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول. وَحكى أَبُو زَيْد التَّعَدِّي فِي هَذَا الْفِعْل عَنِ الْعَرَب، فصحَّت قراءةُ الْحَسَنِ من جِهَة الْعَرَبيَّة، وَإِن شَذَّتْ عَمَّا نقلتْهُ الجماعةُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من الْقِرَاءَة.
واستقصاءُ هَذَا الْفِعْل وتلخيصُه، فِي مَوْضِعه من كتبنَا فِي عُلُوم التَّنْزِيل والتأويل.
المجلِسُ الرَّابِع وَالأربَعُونْ
نعيمان الصَّحَابِيّ الظريف
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ - يَعْنِي ابْنَ بَكَّارٍ - قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو طُوَالَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمَانُ، يُصِيبُ الشَّرَابَ، فَكَانَ يُؤْتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فَيَضْرِبُونَهُ بِنِعَالِهِمْ، وَيَحْثُونَ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ: وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طُرْفَةً إِلا اشْتَرَى مِنْهَا ثمَّ جَاءَ إِلَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا أَهْدَيْتُهُ لَكَ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهُ يُطَالِبُ نُعَيْمَانَ بِثَمَنِهِ جَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعْطِ هَذَا ثَمَنَ مَتَاعِهِ، فَيَقُولُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَمْ تُهْدِهِ إِلَيَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ - وَاللَّهِ - لَمْ يَكُنْ ثَمَنُهُ عِنْدِي، وَلَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَهُ، فَيَضْحَكُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ.
وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا أبان فَضْلَ مَكَارِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنَ فُكَاهَتِهِ وَسَعَةَ خُلُقِهِ وَسَجَاحَتِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ كَانَ من أَفْكه النّاس، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا "، وَأَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤاخذ المَزَّاح الصَّادِق فِي مُزاحه ".
ونعيمانٌ هَذَا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ بَدِيعَ الْمُمَازَحَةِ، وَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ، وَكَانَتْ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاباتٌ اسْتَحْسَنَهَا النَّاسُ وَيُعْجَبُونَ بِهَا.
مِنْهَا، مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْغَرِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ(1/326)
الأَصْغَرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ قَرِيبَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْغَرِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامٍ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بُصْرَى وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرو الأنصاي وَسَلِيطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَهُمَا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ سَلِيطُ بْنُ حَرْمَلَةَ عَلَى الزَّادِ، وَكَانَ نُعَيْمَانُ مَزَّاحًا، فَقَالَ لِسَلِيطٍ، أَطْعِمْنِي، فَقَالَ: لَا أُطْعِمُكَ حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ نُعَيْمَانُ لِسَلِيطٍ: لأُغِيظَنَّكَ.
فَمَرُّوا بِقَوْمٍ فَقَالَ نُعَيْمَانُ لَهُمْ: أَتَشْتَرُونَ مِنِّي عَبْدًا لِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهُ عَبْدٌ لَهُ كَلامٌ، وَهُوَ قَائِلٌ لَكُمْ لَسْتُ بِعَبْدِهِ وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، فَإِنْ كَانَ إِذَا قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ تَرَكْتُمُوهُ فَلا تَشْتَرُوهُ وَلا تُفْسِدُوا عَلَيَّ عَبْدِي، قَالُوا: لَا، بَلْ نَشْتَرِيهِ وَلا نَنَظْرُ فِي قَوْلِهِ.
فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُ بِعَشْرِ قَلائِصَ، ثُمَّ جَاءُوا لِيَأْخُذُوهُ فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ، فَوَضَعُوا فِي عُنُقِهِ عِمَامَةً، فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ يَتَهَزَّأُ وَلَسْتُ بِعَبْدِهِ، فَقَالُوا: قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا كَلامَهُ.
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَأَتْبَعَ الْقَوْمَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مزحٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْقَلائِصَ وَأَخَذَ سَلِيطًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَضَحِكَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ جَوْلا وَأَكْثَرَ.
وَلِنعيمان أَخْبَار كَثِيرَة لَا يحْتَمل كتَابنَا هَذَا إحضارُ جَمِيعهَا، وَقَد اسْتدلَّ مُسْتَدِلُّون بِمَا أَتَى فِي الْخَبَر الأول من ثَنَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نعيمان، وزجره لِلاعِنِه، ونظائره من الْأَخْبَار عَلَى فَسَاد مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فِي وَعِيد أَهْل الصَّلاة وعَلى صِحَة تَجْوِيز الْعَفو عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ فِي مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى.
وللكلام فِي هَذَا الْبَاب مَوضِع آخر.
صفة الْوَلِيد بْن يَزِيد وَبَعض شِعره
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة، قَالَ: قَالَ لي هَارُون أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَلْ رَأَيْت الْوَلِيد بْن يَزِيد؟ قَالَ: قُلْتُ: نعم، قَالَ: صفه لي. قَالَ: فَذَهَبت أتحرَّجُ، فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين لَا يكره مَا تَقُولُ فَقل، فَقلت: كَانَ من أجمل النّاس وأشعرهم وأشدهم، قَالَ: أتروي من شعره شَيْئا؟ قلت: نعم، وَدخلت عَلَيْهِ مَعَ عمومتي وُلي جُمَّة فينانة. فَجعل يَقُولُ بالقضيبِ فِيهَا وَيَقُولُ: يَا غُلامُ! هَلْ وَلَدَتْكَ سُكّر؟ " أمُّ ولدٌ كَانَتْ لمروان بْن الْحَكَم، زوَّجها أَبَا حَفْصَة " فَقلت: نعم، فسمعتُه يقولُ أَنْشَدَ عمومتي:
لَيْت هاشماً عاشَ حَتَّى يرى ... مِحْلَبَهُ الأوْفَرَ قَدْ أتْرِعَا
كِلْنَا لَهُ الصَّاع الَّتِي كالها ... وَمَا ظلمناه بهَا آصُعَا
وَمَا أَتَيْنَا ذَاك عَنْ بدعةٍ ... أحَلَّها الْقُرْآن لي أجمعا
قَالَ: فَأمر هَارُون بكتابتها فَكتبت.(1/327)
قَالَ القَاضِي: جمةٌ فينانة مَعْنَاهَا الوافرة الجثلة، وَقَول الْوَلِيد فِي شعره: مِحْلبه الأوفر: يَعْنِي: الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ بِكَسْر ميمه، أجراه فِي بَابه الْأَعَمّ فِي الْأَوَانِي والأدوات، كالْمِخْرَف والْمِكْتل والْمِرْجل والمقطع والْمِحْيَط والْمِبْضَع، فَأَما المتَطَبَّبُ بِهِ الَّذِي تغلظ فِيهِ الْعَامَّة، فَيَقُولُونَ: الْمِحْلَب فَهُوَ المَحْلَبُ بِفَتْح الْمِيم مثل المَنْدل، وَهُوَ الْعود.
الْوَلِيد يُسَافر ليشْرب فِي حانة بِالْحيرَةِ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفَضْل الرَّبَعِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن مَنْصُور الأَزْدِيّ، حَدَّثَنِي شيخ من أهل الْكُوفَة، قَالَ: حَدَّثَنِي خمارٌ كَانَ بِالْحيرَةِ، قَالَ: مَا شعرتُ يَوْمًا وَقَدْ فتحت حانوتي إِذا فوارس ثَلَاثَة مُتَلثِّمُون بعمائم خَزٍّ قَدْ أَقبلُوا من طَرِيق السَّمَاوة فِي البَرِّيَّة، فَقَالَ لي أحدهم: أَنْت مَرُّ عَبْد الْخمار؟ قُلْتُ: نعم، وَكنت مَوْصُوفا بالنظافة وجودة الْخمر وَغسل الْأَوَانِي، فَقَالَ: اسْقِنِي رطلا، فَقُمْت فغسلت يَدي ثُمّ نقرت الدنان فنظرتُ إِلَى أصفاها فبزلته وَأخذت قدحًا نظيفًا فملأته ثُمّ أخذت منديلا جَدِيدا فناولته إِيَّاه فَشرب، وقَالَ: اسْقِنِي آخر. فغسلت يَدي وَتركت ذَلِكَ الدَّنّ وَذَلِكَ الْقدح وَذَلِكَ المنديل، ونقرت دنا آخر فبذلت مِنْهُ رطلا فِي قدح نظيف، وَأخذت منديلا جَدِيدا فسقيته فَشرب، وقَالَ: اسْقِنِي رطلا آخر، فسقيته فِي غَيْر ذَلِكَ الْقدح، وأعطيته غَيْر ذَلِكَ المنديل، فَشرب وقَالَ: بَارك اللَّه عَلَيْك، فَمَا أطيب شرابك وأنظفك! فَمَا كَانَ رَأْيِي أَن أشْرب أَكثر من ثَلَاثَة، فَلَمَّا رَأَيْت نظافَتَك دَعَتْني إِلَى شُرب آخر فهاته، فناولته إِيَّاه عَلَى تِلْكَ السَّبِيل، ثُمّ قَالَ: لَوْلَا أسبابٌ تمنعُ من بَيْتك لَكَانَ حبيبًا إِلَى أَن أَجْلِس فِيهِ بَقِيَّة يومي هَذَا.
وولّي رَاجعا فِي الطَّرِيق الَّذِي بدا مِنْهُ، وقَالَ: اعذرنا، وَرمى إليّ أحدُ الرجلَيْن اللَّذين كَانَا مَعَه بِشَيْء فَنَظَرت فَإِذا صرة فِيهَا خمس مائَة دِينَار، وَإِذَا هُوَ الْوَلِيد بْن يَزِيد أقبل من دمشق حَتَّى شرب من شراب الْحيرَة وَانْصَرف.
قَالَ القَاضِي: أَخْبَار الْوَلِيد بْن يَزِيد كَثِيرَة، وَقَدْ ذكرهَا الإِخباريون مَجْمُوعَة ومفرقة، ومعظمها يَأْتِي مُتَفَرقًا فِي مجَالِس كتَابنَا هَذَا.
وَكنت جمعت شَيْئا مِنْهَا فِيهِ، من سَيِرِه وآثاره وَمن شعره الَّذِي ضمّنَه مَا فجر بِهِ من خُرْقة وسفاهته، وحُمْقه وخسارته، وهزله ومجونه، وركاكته وسخافة دينه، وَمَا صَرَّح بِهِ من الإِلحاد فِي الْقُرْآن، وَالْكفْر وباطله مِمَّنْ أنزلهُ وَأنزل عَلَيْه، وعارضت شعره السخيف بشعرٍ حَصِيف، وباطله بِحَق نبيهٍ شرِيف، وأتيت فِي هَذَا بِمَا توخيت بِهِ رضَا اللَّه تَعَالَى، واستيجاب مغفرته.
خطْبَة يَزِيد بْن الْوَلِيد بعد عَزله لِابْن عمّه
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْويّ، قَالَ: خطب(1/328)
النّاس يَزِيد بْن الْوَلِيد، فَقَالَ: أما بعد، أَيهَا النّاس فَإِنِّي واللَّه مَا خرجت أشَرًا وَلا بَطرًا وَلا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَة فِي المَال، ومابي إطرء نَفسِي، إِنِّي لظلومٍ لَهَا إِلا أَن يرحَمَني رَبِّي، ولكنني خرجت غَضبا للَّه تَعَالَى ولدينه، وداعيًا إِلَى اللَّه جلّ ثناؤُه وَسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، لما هدمت معالم الْهدى، وأطفىء نورُ أَهْل التَّقْوَى، وَظهر الْجَبَّار العنيد المستحلُّ لكل حُرْمَة، الرَّاكِب كلَّ بِدعَة، يَعْنِي الْوَلِيدَ بْن يَزِيد، مَعَ أَنَّهُ واللَّه مَا كَانَ يُصَدِّق بِالْكتاب، وَلا يُؤمنُ بِيَوْم الْحساب، وَإِنَّهُ لابْن عمي فِي النّسَب، وكُفْئِي فِي الْحسب، فَلَمَّا رأيتُ ذَلِكَ استخرتُ اللَّه تَعَالَى فِي أمره، وَسَأَلته أَلا يَكِلَني إِلَى نَفسِي، ودعوتُ إِلَى ذَلِكَ.
من أجابني من أَهْل ولايتي
حَتَّى أراح اللَّه مِنْهُ الْعباد وطهر مِنْهُ الْبِلَاد بحول اللَّه وقوته لَا بحولي وقوتي
أَيهَا النّاس! إِن لَكُمْ عليَّ أَلا أَضَع حجرا عَلَى حجر، وَلا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَة، وَلا أكْنِزَ مَالا، وَلا أحمل خراجًا من بلدٍ، إِلَى بلد، حَتَّى أَشد ثغر ذَلِكَ الْبَلَد وخصاصته، فَإِن فَضَلَ عَنْهُ شيءٌ نقلتُه إِلَى الْبَلَد الَّذِي يَلِيهِ، وَإِلَى من هُوَ أحْوج إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلا أُجَمِّرُكُمْ فِي نُفُوركم، فأفتنكم وأفتن أهاليكم، وَلا أغلقُ بَابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، وَلا أَحْمَل أَهْل جزيتكم مَا يجليهم عَنْ بِلَادهمْ، وَيقطع نسلهم، وَإِن لَكُمْ عِنْدِي أُعطياتكم فِي كُلّ سنة، وأرزاقكم فِي كُلّ شهر، حَتَّى تستوي الْمَعيشَة بَيْنَ الْمُسْلِمِين، فَيكون أَقْصَاهُم كأدناهم، فَإِن أَنَا وفيت بِمَا قُلْتُ، فلي عَلَيْكُم السّمع وَالطَّاعَة، وَحسن المؤازرة، وَإِن أَنَا لَمْ أَفِ فلكم أَن تَسْتَتِيبوني فَإِن تُبْت وَإِلَّا فأنتُم فِي حلٍّ من بيعتي وَدمِي، وَإِن علمْتُم أحدا يُعرفُ بالصلاح يعطيكم مثل الَّذِي أَعطيتكُم فأردتم أَن تبايعوه فَأَنا أول من بَايعه وَدخل فِي طَاعَته.
أَيهَا النّاس! إنَّه لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق، وَلا وَفَاء فِي نقض عهد اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا الطَّاعَة طَاعَة اللَّه تَعَالَى، فَمنْ أطَاع اللَّه عَزَّ وَجَلّ فأطيعوه بِطَاعَة اللَّه تَعَالَى، فَإِذا عصى اللَّه عَزَّ وَجَلّ، ودعا إِلَى مَعْصِيَته فَهُوَ أَهْل أَن يُعصى وَأَن يقتل.
أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر اللَّه لي ولكُمْ.
معنى التجمير
قَالَ القَاضِي: قَوْله: وَلا أجمركم فِي ثغوركم، التجمير: أَن يُبْعث الرَّجُل إِلَى الثغر ثُمّ يتْرك فِيهِ فَلَا يَقْفِل إِلَى أَهله، ويُردَّ إِلَى وَطنه، فيضرُّ بِهِ ويُعَرَّض للفتنة فِي نَفسه وَأَهله، وَالْعدْل أَلا يُجَمّر الجندُ فِي الْبَعْث، وَأَن يُعقِّب بَينهم فِي كُلّ سِتَّة أشهر فِيمَا يختاره، وَقَدْ كَانَ بعض من تقدم من وُلَاة الْأَمر وَبِمَا عقب فِي كُلّ سنة، وَالْأَمر فِي هَذَا عندنَا أَن يَتَوخى فِيهِ الأئمَّة وأولو الْأَمر الْمصلحَة، ويحملوا النّاس عَلَى الرِّفْق بهم، ويجتهد فِي حسن النّظر لَهُم، ويتحرى فِي هَذَا الْبَاب من التَّدْبِير مَا هُوَ أبلغ فِي سياسة الرّعية، وتحصين الثغور، وَحفظ الْبَيْضَة، وحماية الْحَوْزَة، والتحرز من الْفساد والفتنة، وانتشار الْكَلِمَة، فالتجمير فِي هَذَا الْخَبَر مَعْنَاهُ مَا وَصفنَا.(1/329)
والتجمير: حضورُ الْجمار بمنى ورميها، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَلم أرى كالتّجْمِيرِ مَنْظَرَ ناظرٍ ... وَلَا كَلَيَالِي الْحَج أفْتَنَّ ذَا هوى
والتجمير: مصدر جمرت النَّخْلَة إِذا نَزَعْتَ جُمَّارَها.
الدَّار الَّتِي كَانَ يقف فِيهَا ابْن أَبِي رَبِيعَة
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، قَالَ: أخبرنَا الزبير ابْن بَكَّار، قَالَ:
كُنْت أرمي الجمارَ رَاجِلا فَإِذا أعْيَيْتُ جِئْت إِلَى دَار بكارٍ مَوْلَى الأخْنَسِ بْن شُرَيْق، وَهِي الدَّارُ الَّتِي عِنْد الْجَمْرَة، فَكنت مَعَ عمي مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه وَنحن نرمي الْجِمار، فَقلت: هَذِهِ دَار بكَّار، قَالَ: أَوْ مَا عنْدك من خَبَرهَا أَكثر من هَذَا؟ فَقلت: لَا، قَالَ: موضِعُها كَانَ عُمَر بْن أَبِي رَبِيعَة يقف عَلَيْه ينظر إِلَى النّساء إِذا خرجن يرمين الْجَمْرَة، وَكَانَ إِذا ذَاك دُكانًا، قَالَ: وَكَانَ بكارٌ لي صديقا فأنشدنا أَصْحَابنَا عَنْهُ يرثي الْمهْدي، وَكَانَ الْمهْدي أعطَاهُ بداره أَرْبَعَة آلَاف دِينَار فَأبى وقَالَ: مَا كُنْت لأبيع جوَار أَمِير الْمُؤْمِنِين بِشَيْء أبدا، فَقَالَ الْمهْدي: أَعْطوهُ أَرْبَعَة آلَاف دِينَار ودعُوهُ ودَارَه، فَلَمَّا مَاتَ الْمهْدي، قَالَ بكارٌ يرثيه:
أَلا رحمةُ اللَّهِ فِي كُلّ ساعةٍ ... عَلَى رمةٍ أمْسَتْ بِمَا سَبْذَانِ
لقَدْ غيَّبَ القبرُ ثُمّ سُؤْدُدًا ... وكفَّيْنِ بِالْمَعْرُوفِ يَبْتَدِرَانِ
قَالَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد: وَكَانَ الْمهْدي مَاتَ بِمَا سَبْذَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة.
يتَمَنَّى كل يَوْم حجَّة أَو اعتمارًا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَنْشَدَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ ابْتِكَارًا ... قَدْ قَضَى مِنْ تِهَامَةَ الأَوْطَارَا
إِنْ يَكُنْ قَلْبُكَ الْغَدَاةَ خَلِيًّا ... فَفُؤَادِي بِالْخَيْفِ أَمْسَى مُعَارَا
لَيْتَ ذَا الدَّهْرَ كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا ... كُلُّ يَوْمَيْنِ حِجَّةً وَاعْتِمَارَا
وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَ الْمُسْلِمِينَ شَطَطًا، فَقَالَ: فِي نَفْسِ الْجُمَلِ شيءٌ غَيْرُ مَا فِي نَفْسِ سَائِقِهِ.
قَالَ: وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعُمَرَ بْنِ أبي ربيعَة: يَا ابْن أَخِي! مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ حَيْثُ قُلْتَ:
لَيْتَ ذَا الدَّهْرَ كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا ... كُلُّ يَوْمَيْنِ حِجَّةً وَاعْتِمَارَا
فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! إِنِّي وَضَعْتُ لَيْتَ حَيْثُ لَا تَقَعُ، قَالَ: صَدَقْتَ.(1/330)
بعض مَا كَانَ يلقاه أَتبَاع البرامكة
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي سَعْد، عَنْ هَاشِم بْن مُوسَى أَخِي مسرور الْكَبِير، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مسرور، قَالَ: لما أُصِيب يَحْيَى بْن خَالِد بْن بَرْمَك بَعَثَنِي هَارُون إِلَى جَارِيَة لَهُ كَانَتْ قَدْ ترهبت، مغنية يُقَالُ لَهَا قُرْب، وَكَانَت صاحبةَ أَمر يَحْيَى بْن خَالِد، فَقَالَ: ائْتِنِي بهَا، فدخلتُ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا لِبَاسُ الصُّوف، فَقلت: أجيبي أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَت: أَنَا أَعْلَم لِمَ يَدْعُوني، وَهَذَا أمرٌ قَدْ تركتُه لِلَّهِ تَعَالَى فأحبُّ أَن تحتال لي، فأعلمتُها أَلا حِيلَة فِي ذَلِكَ.
قَالَ: فدعتْ بأثوابٍ فلبستْها ثُمّ تَقَنَّعت بسَبْعَةِ أخمرة، قَالَ: فَجئْت بهَا فدخلتُ بهَا عَلَيْه. فأقعدها ثُمّ قَالَ: هاتِ عُودًا، قَالَ: فجئتُه بِهِ، قَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَت: يَا أَمِير(1/331)
الْمُؤْمِنِين! هَذَا أمرٌ تركتُه لِلَّهِ تَعَالَى ونويتُ أَلا أَفعلهُ بعد يَحْيَى بْن خَالِد، قَالَ: فألحّ فأبَتْ، فَقَالَ: يَا مَسْرُور! خُذْ مَقْرَعة وقِفْ عَلَى رَأسهَا فَإِن أبَتْ فاضربْ رَأسهَا أبدا، قَالَ: فَأَبَتْ، فضربتُها، حَتَّى تقطَّعَت السَّبْعَةُ أَخْمرة، فنظرتُ إِلَى شَعْرِها والدَّمُ قَدْ خرج من رَأسهَا، فَقَالَت: أفعل، ثُمّ تناولت الْعُودَ، فغنَّتْ:
لما رأيتُ الدِّيَارَ قَدْ دَرَسَتْ ... أيْقنتُ أَن النَّعِيمَ لَمْ يَعُدِ
قَالَ: فواللَّهِ مَا فرغتُ حَتَّى نظرت إِلَى دموع هَارُون عَلَى لحيته، ثُمّ قَالَ: انصرفي فَقَامَتْ من بَيْنَ يَدَيْهِ وَهِي تبْكي، فَقَالَ لي: يَا مسرور! الحقها بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَقل لَهَا: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤْمِنِين: اصرفيها فِيمَا تحتاجين إِلَيْهِ، واجعليني فِي حلٍّ، فَقَالَت: يَا مسرور لَا حَاجَة لي فِيهَا، وَهُوَ فِي حلٍّ.
مَا أحسن الحقَّ!
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ بعض أشياخه، عَنِ الْعَلاء بْن الْمنْهَال، قَالَ: أَتَى خاقانَ رجلٌ من غَنِيٍّ فِي وَفد أَتَوْهُ من الْعَرَب، وبوَجْهِ الرَّجُل ضربةٌ مُنكرَة، فَقَالَ لَهُ خاقانُ: أَيّ يوْم ضُربت هَذِهِ الضَّرْبَة؟ وَهُوَ يرى أَنَّهَا ضربةُ سَيْف، فَقَالَ الرَّجُل: ضَرَبَنِي فرسٌ لي، فَقَالَ خاقانُ: لَصِدْقُهُ أعجبُ لي مِمَّا ظننتُ، مَا أحسنَ الحقّ! فأضْعف لَهُ الْجَائِزَة.
كَيفَ تولى أَبُو الأحْوَص ولَايَة مصر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السّرّاج بنَيْسَابور، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن رُشَيْد، عَنِ الْهَيْثَم بْن عَدِيّ، قَالَ:
وَجه المهديُّ أَمِير الْمُؤْمِنِين إِلَى أَبِي الأحْوَص فأُقْدِم عَلَيْه ليوليِّه مصر وأعمالها، قَالَ: فَلَمَّا حضر عرض عَلَيْه ذَلِكَ فَامْتنعَ مِنْهُ امتناعًا شَدِيدا، فاغتاظ من ذَلِكَ الْمهْدي فهم بِضَرْب عُنقه، وَكَانَ بِحَضْرَة الْمهْدي مُحَمَّد بْن دَاوُد جليس خير، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! تمهل عَلَيْه ثَلَاثَة أَيَّام، فَفعل وَأمره بالانصراف، فَلَمَّا خرج من عِنْده اشْتَدَّ غيظه وقَالَ: أما ترى إِلَى هَذَا الشَّيْخ، قَدْ لبس خُفًّا أحمرَ وخُفَّا أسود ليوهمَ أَنَّهُ مُضْطَرب الْعقل! فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد الجليسُ الصَّالح: لَا تقل ذَلِكَ، لَعَلَّ الشَّيْخ أُخْرِج إِلَيْهِ مَا يَلْبَسُه فِي الظلمَة فَلم يعلم، فسَكَنَ.
وَمضى مُحَمَّد بْن دَاوُد إِلَى الشَّيْخ أَبِي الأحْوَص فألفاه متشكيًا يبكي، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: إنَّه خرج لي من الظلمَة خُفٌّ أَحْمَر وخُفٌّ أسود، فلبستها وَلَم أَعْلَم، فَلَمَّا خرجتُ من عِنْد أَمِير أَمِير الْمُؤْمِنِين جعل الصّبيان يصيحون وَيضْحَكُونَ، فَلَمَّا تبينتُ ذَلِكَ نزعتُ الْخُفَّيْنِ ومشيتُ حافيًا فلحقني وجعٌ عَظِيم فِي رجليَّ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين وَقع لَهُ غَيْر هَذَا فثنَيْتهُ عَمَّا كَانَ وَقع لَهُ، فَإِذا حضرتَ عِنْده فإياك أَن تأبَى أَوْ تَمْتنع، فَمضى إِلَى الْمهْدي فعرَّفه ذَلِكَ فسكن غضبُه، وَاشْتَدَّ حرصه عَلَى تَقْلِيد أَبِي الأحْوَص.
فَلَمَّا حضر بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْيَوْم الرَّابِع دَعَا بسفطٍ فَأخْرج مِنْهُ كتابا فِيهِ عَهْدُهُ على مصر وأعمالها، ثمَّ دفع إِلَيْهِ كتابا ثَانِيًا إِلَى صَاحب الشرطة يَأْمُرهُ بالحضور مَجْلِسه وَألا يخلِّيَه، ثُمّ دفع إِلَيْهِ كتابا ثَالِثا، فَقَالَ: هَذَا تَبْيِين ٌ برزقك عَلَى الْعَامِل، وَهُوَ ألف دِينَار فِي كُلّ شهر، وَمِائَتَا دِينَار للمائدة، ثُمّ دَعَا بسفطٍ آخر فَأخْرج مِنْهُ ثيابًا وطِيبًا فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَأمر لَهُ بثلثمائة دِينَار للنَّفَقَة، ثُمّ قَالَ لَهُ: الرزق تَأْخُذهُ معجلا هنيًّا تستعينُ بِهِ، وللمائدة مِائَتَا دِينَار وكُلِ الطَّيِّبَ لتُقَوِّي بِهِ نَفسك، وَلا تَمِل إِلَى شيءٍ بتَّةَ، لِأَن نَفسك غنية بالرزق، وَهَذِه الثلثمائة دِينَار تستعين بهَا عَلَى نَفَقَة الطَّرِيق، فَلَا تعترضن من أحد شَيْئا فتستحش مِنْهُ، وَهَذِه الثِّيَاب وَالطّيب تكون مَعَك، فَإِن - وعائذ بِاللَّه تَعَالَى - حدَّث حَادث عَلَيْك كَانَ هَذَا مُعّدًّا، فَانْظُر لنَفسك وأعزَّها فقد أعززناك وأمدَدْناك، وفَّقَك اللَّه تَعَالَى للصَّوَاب.
فَخرج أَبُو الأحْوَص إِلَى مصر فَحكم بهَا سِنِين كَثِيرَة فحَسُن أَثَره وحُمِدَ أمره.
مَا لهَذَا حَسَنَة وَلا لَكِ سَيِّئَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْمُغِيرَة، عَنْ هَارُون، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْملك بْن عَبْد الْعَزِيز الْمَاجشون، قَالَ: كُنَّا نأتي الْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن فَجَاءَهُ يَوْمًا مَوْلى لَهُ يُقَالُ لَهُ كُبَّة، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: يَا كُبَّة! بِاللَّه حَدَّثَنَا بعض مَا كَانَ فِي شبابك، فَقَالَ: نعم، دَخَلنَا مرّة بَيت مغنية أَنَا وَثَلَاثَة من مَزَّاحِي الْمَدِينَة، فغنت صَوتا، فَقَالَ لَهَا أحدهم: أسأَل اللَّه تَعَالَى أَلا يُنزل لي حَسَنَة إِلا كتبهَا لَك، ثُمّ غنت صَوتا آخر، فَقَالَ لَهَا الآخر مِنْهُم: بِأبي أَنْت، غَرَّك واللَّهِ، لَا واللَّه مَا لَهُ حَسَنَة، وَلَكِن أسأَل اللَّه تَعَالَى أَلا ينزل لَك سَيِّئَة إِلا كتبهَا عَليّ، ثُمّ غنت صَوتا آخر، فَقَالَ لَهَا الثَّالِث: غَرَّاك واللَّه، لَا واللَّه مَا لهَذَا حَسَنَة وَلا كرامةَ لَهُ، وَلا لَك سَيِّئَة، وَلَكِن أسألُ اللَّه تَعَالَى أَلا يخْرجك من الدُّنْيَا حَتَّى تريه أعمى يُقَاد.(1/332)
قَالَ القَاضِي: قَدْ قَالَ جميل فِي نَحْو هَذَا:
أَلا لَيْتني أعمى أصَمُّ تَقُودُني ... بثينةُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ كَلامُها
وَلَو كَانَ هُوَ القَاضِي
حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد الدقيقي، قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن عَلِيّ الدفتري، قَالَ: حَدَّثَنِي فروةُ بْن عَبْد اللَّه المَدِينيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَن بشر بْن آدم، قَالَ: سَأَلَ الأغضف مَالك بْن أَنَس عَنْ مَسْأَلَة فَأَجَابَهُ، ثُمّ سألهُ فَأَجَابَهُ، وقَالَ الأغضف: لَمْ قُلْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالك: يَا غُلام! خُذْ بِيَدِهِ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى السجْن، فَلَمَّا وَلَّى بِهِ الغلامُ قَالَ لَهُ الأغضفُ: إِنِّي قَاضِي أَمِير الْمُؤْمِنِين! قَالَ: ذَاك أَهْون لَك عَليّ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه لَا أَعُود، قَالَ: خَلِّ سبيلَه.
المجلِسُ الخامِس والأربعُونْ
لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضُرٍّ نزل بِهِ
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عُثْمَانَ الْبَزَّازُ، أَخُو الزُّبَيْرِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكُم الْمَوْت لضُرٍّ نزل بِهِ إِمَّا مسيءٌ فَيُسْتَعْتَبُ، وَإِمَّا محسنٌ فَيَزْدَادُ ".
وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرّبيع بن صبيح، قَالَ: أخبرنل حَبِيبُ بْنُ فَضَالَةَ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَكَأَنَّهُ تَمَنَّاهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَكَيْفَ تَمَنَّى الْمَوْت بعض قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لَا بَارًّا وَلا فَاجِرًا، أَمَّا بارٌ فَيَزْدَادُ، وَأَمَّا فَاجر فيستعيب "، قَالَ: وَكَيْفَ لَا أَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تُدْرِكَنِي فِتْنَةُ الدَّهْمَاءِ، وَبَيْعُ الْحُكْمِ، وَتَقَاطُعُ الأَرْحَامِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، ونشءٌ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ ".
قَالَ القَاضِي: قَدْ وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِمَا بُيِّنَ فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى، وَجَاءَ فِي مَعْنَاهُ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَخْبَارٌ مِنْهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْت لضلر نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أحدٌ إِلا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ بَرٍّ وَلا فَاجِرٍ، إِنْ كَانَ بَرًّا فقد قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خيرٌ لِلأَبْرَارِ " وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمًا ".
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْخَبَرُ عَنِ ابْن عَبَّاس خَارج عَلَى معنى يواطىء مَا قَالَه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قدمنَا رِوَايَته، وَلا يُنَافِيهِ إِذا حُمل عَلَى الْوَجْه الصَّحِيح فِي الْمَعْنى.
ذَلِكَ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ تمني الْمَوْت عِنْد الضَّرَر ونزوله، وَوَقع الْبلَاء وحلوله، وأرشد إِلَى اسْتِقْبَال التَّوْبَة من الْإِسَاءَة والوزر، والازدياد من فعل الْخَيْر وأعمال الْبر، وَأَن(1/333)
يَسْتَعتبَ المرءُ من فَرَطَاته، ويستكثر من طاعاته، فَأَما إِذا توفاه اللَّه جلّ جَلَاله من غَيْر تمن مِنْهُ للْمَوْت، وَهُوَ عَلَى غَيْر علم مِنْهُ بِحَالهِ فِيهِ، وَلا مُتَيَقن أَن إماتته خير لَهُ من تبقيه، فَإِن حَاله فِي هَذَا مُخَالفَة للمعنى الآخر الَّذِي قدمنَا بَيَانه، وَلكُل وجهٍ من هذَيْن المعنين حكمٌ جارٍ عَلَى طَرِيقَته، ومختصٌّ بحقيقته، وَقَدْ كَانَ أَعْلَام السّلف الأخيار، وصلحاؤهم الْأَبْرَار، يرغبون إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الشَّهَادَة فِي سَبيله ويحرصون عَلَيْهَا ويتعرضون لَهَا ويأْسَوْن عَلَى فَوتهَا، ويغبطون من رُزِقَها، وأكرمُ بهَا لظُهُور فَضلهَا وَشرف أَهلهَا، وَهَذَا يُوَضِّح عَنْ إِجْرَاء كُلّ جِهَة من هَذِهِ الْجِهَات عَلَى حكمهَا، وإنزالها منزلتها، وَأَنا مَا ذكره أَبُو هُرَيْرَةَ من فِتْنَةُ الدَّهْمَاءِ وَبَيْعُ الْحُكْمِ وَتَقَاطُعُ الأَرْحَامِ وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ ونشءٍ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآن مَزَامِير، فقد رَأينَا جُمَيْع مَا تخوفه، وأدركنا مَا خَافَ أَن يُدْرِكهُ، فَإلَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ نجأر بالشكوى، وإياه نستعين عَلَى كُلّ بلوى.
فَأَما قَوْله: فتْنَة الدَّهْماء، فَإنَّهُ أضَاف الْفِتْنَة إِلَى الدهماء، وللنحويين فِي هَذَا مذهبان: مِنْهُم من يَجْعَل الْفِتْنَة مُضَافَة إِلَى الدهماء ويجيز إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه ويُجري هَذَا فِي أشيئاء كَثِيرَة: لَحَقُّ الْيَقِين، ودَارُ الْآخِرَة، ةمسجد الْجَامِع، وَصَلَاة وَالْأولَى.
وَكثير من محقِّقيهم ينكرُ هَذَا الْمَذْهَب، وَيُخَالف هَؤُلاءِ فِي تَأْوِيل هَذِه الْكَلِمَات، وَمَا أَتَى من نظائرها، ويحملُ حقَّ الْيَقِين عَلَى معنى حق الْعلم الْيَقِين، وَالْأَمر الْيَقِين عَلَى إِقَامَة الصّفة مقَام الْمَوْصُوف، وَيَقُولُ: معنى دَار الْآخِرَة أَيّ دَار الْمنزلَة الْآخِرَة أَو النشأة والمذمة، وَمعنى مَسْجِد الْجَامِع: الْوَقْت الْجَامِع، أَو الفَرْضُ الْجَامِع، وَصَلَاة الأولى صَلَاة الْمَكْتُوبَة الأولى، وَنَحْو هَذَا الْوَجْه من التَّأْوِيل الصَّحِيح فِي الْمَعْنى الْجَارِي عَلَى الْقيَاس.
فَأَما الدهماء فِي هَذَا الْخَبَر فَفِيهِ وَجْهَان فِي التَّأْوِيل، أَحَدهمَا صفة الْفِتْنَة أَوْ مَا أضيفت إِلَيْهِ بالدهمة والسواد والظلمة، وَقَدْ قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك فِي خبرٍ ضُمِّنَ شعرًا لَهُ:
فَنَحْنُ فِي فتنةٍ عَشْوَاءَ مظلمةٍ ... نستغفرُ اللَّهَ من أهوالِ مَا فِيهَا
وَالْوَجْه الآخر: غشيان الْفِتْنَة وهجومها وتراكمها وعُمومها، من قَوْلهم دهمت القومَ الْخَيل تدهمهم.
وَقَوله: نشءٌ يتخذون الْقَوْم مَزَامِير، فَإنَّهُ عَنَى بِهِ من حَدَثَ ونَشَأ من الأشرار بعد من مَضَى من البررة الأخيار، قَالَ نُصَيْب:
وَلَوْلَا أَن يقالَ صَبَا نصيبٌ ... لقُلْتُ: بِنَفْسِي النَّشْءُ الصِّغَارُ
وَهَؤُلَاء الَّذِين عنوا بِهَذَا الْخَبَر هُمُ الَّذِين يرددون الْقُرْآن لبطونهم بالألحان غَيْر خاشعين وَلا مُتَّعِظِين وَلا مُعْتبرين وَلا مُتَفهّمين، وَأمر هَذَا النشءِ فِي زَمَاننَا فاشٍ، فهم من أشدِّ النّاس فتْنَة، وأعظمهم عَلَى أَهْل الدّين بلية، فقد جعلُوا اجتماعَهم عَلَى تِلَاوَة الْقُرْآن بمنكر الألحان، وَمَزَامِير الشَّيْطَان، وعَلى تُهَم القَيان وملاهيهم من المعازف والعيدان، وَالزِّيَادَة(1/334)
فِي كتاب اللَّه تَعَالَى مَا لَيْسَ مِنْهُ بالإِيقاع والأوزان، وَحصل خَواص أَهْل الْعلم وَالْإِيمَان بِمَنْزِلَة إقصاء وهوان، وَمن عداهم من حَلِيف فتْنَة وأسير قينة، وَأكْثر من ترَاهُ فِي وقتنا مِمَّنْ أومىء إِلَيْهِ، إِمَّا واهي العزيمةِ ضعيفُ الْعقْدَة، قَدْ تأوَّل الْمُحكم غَيْر تَأْوِيله، وتشبَّثَ بجملةِ الْمُتَشَابه لعَجزه عَنْ معرفَة تَفْصِيله، وَإِمَّا ماجنٌ خليعٌ أَوْ مغرورٌ مخدوعٌ قَد استفزَّه الغَارُّ لَهُ بجرأته وجسارته، واستنزله الماكرُ بِهِ فورَّطه فِي خسارته، فأوهمه أَن الَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَحمله عَلَيْه، من أَعمال الْبر، والْقُرَبِ الكابسة لِلْأجرِ، وَأَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى هَذَا بِمَا ذكره من التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ، وتحسين التِّلَاوَة بالترنم والألحان، وَالَّذِي عناه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندنَا، قراءَةَ الْقُرْآن بالتحسين والخشوع وتحقيقه وترتيله، وتبيينه وتفصيله، وتحسين الصَّوْت بِهِ من غَيْر إِحْدَاث زِيَادَة فِي أضعافه بالزَّمزمة والنَّقَرات، والهَمْهَمة والنَّبَزَات.
الْأَذَان بالألحان
حَدثنَا المظفر بن يحيى ابْن الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن يَعْنِي ابْنَ عَبْد الْعَزِيز الهَرَويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِث بْن مِسْكين، عَنِ ابْن وَهْب، أَوْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم، عَنْ مَالك، أَنَّهُ قَالَ: لَهَمَمتُ أَوْ أردتُ أَن أُكَلِّم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْأَذَان بألأحان أَن يَمْنَعَ من ذَلِكَ، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " فَمَاذَا بَعْدَ الْحق إِلَّا الضلال " أَفَمَن الْحق أَن يُؤذن بألحان.
وَالْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يطول ويتسع، واستقصاؤه يتَعَذَّر وَيمْتَنع، وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب ولشيخنا أَبِي جَعْفَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَلَام كثير مرسوم فِي موَاضعه، من كتبنَا، وَقَدْ رسمنا من ذَلِكَ صَدرا صَالحا فِي كتَابنَا الْمُسَمّى " بتذكير العاقلين وتحذير الغافلين " فَمنْ أحبَّ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَينْظر فِيهِ، فَفِيهِ بَيَان وَفَائِدَة لمن نصح نَفسه وَنظر لدينِهِ، بِمَشِيئَة اللَّه وعونه.
عَبْد الْملك يتوسم الْخلَافَة بِأُمُور فِي نَفسه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ الْعُتْبِي، عَنْ أَبِي عُبَيْدة، عَنْ عمَارَة الْعُقَيْليّ، أَوْ غَيْر رَجُل عَنْ عمَارَة، قَالَ: كُنَّا نجلس عِنْد الْكَعْبَة وَعبد الْملك بْن مَرْوَان يجالسنا من رَجُل عذب اللِّسَان لَا يَمَلُّ جليسُه حديثَه، فَقَالَ لي ذَات يوْم: يَا أَبَا إِسْحَاق! إِنَّك إِن عِشْت فسترى الْأَعْنَاق إليّ مادَّة، والآمال إِلَى سامية.
ثُمّ قَامَ فَنَهَضَ من عندنَا، فَأَقْبَلت عَلَى جلسائي فَقلت: أَلا تعْجبُونَ من هَذَا الْقُرَشِيّ! يذهب بِنَفسِهِ إِلَى معالي الْأُمُور، وَإِلَى أَشْيَاء لَعَلَّه لَا ينالها، قَالَ: فَلَا واللَّهِ مَا ذَهَبَت الأيامُ حَتَّى قِيلَ لي: إنَّه قَدْ أفضيت إِلَيْهِ الْخلَافَة، فذكرتُ قَوْله، فتحمَّلتُ إِلَيْهِ فوافيت دمشق يَوْم الْجُمُعَة، فَدخلت الْمَقْصُورَة فَإِذا أَنَا بِهِ وَقَدْ خرج عَليّ من الخضراء، فَصَعدَ الْمِنْبَر فَحَمدَ الله جلّ وَعز وَأثْنى عَلَيْه، فَبَيْنَمَا هُوَ يخْطب إِذْ نظر إليّ ثُمّ أعرض عني، فساءني ذَلِكَ، وَنزل فصلَّى بِنَا وَدخل الخضراء.(1/335)
فَمَا جَلَست إِلَّا هنيهة حَتَّى خرج غُلَامه قَائِلا: أَيْنَ عمَارَة الْعُقَيْليّ؟ قُلْتُ: هأنذا، قَالَ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِين فَدخلت إِلَيْهِ فَسلمت عَلَيْه بالخلافة فَقَالَ لي: أَهلا وسهلاً، وناقةً ورحلاً، كَيفَ بَعْدِي كُنْت؟ وَكَيف كُنْت فِي سفرك؟ وَكَيف من خلقت؟ لَعَلَّك أنْكرت إعراضي عَنْك فَإِن ذَلِكَ مَوضِع لَا يَحْتمل إِلا مَا صنعت، يَا غُلَام! بوىء لَهُ بَيْتا معي فِي الدَّار، فأنزلني بَيْتا فَكنت آكل مَعَه وأسامره حَتَّى مَضَت لي عشرُون يَوْمًا، فَقَالَ لي: يَا أَبَا إِسْحَاق! قَدْ أمرنَا لَك بِعشْرين ألف دِينَار وأمرنا لَك بحُمْلان وَكِسْوَة فلعلك قَدْ أَحْبَبْت الْإِلْمَام بأهلك ثُمّ الْإِذْن فِي ذَلِكَ إِلَيْنَا، أَترَانِي حققت أملك يَا أَبَا إِسْحَاق؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَإِنَّكَ لذاكر لذَلِك؟!، قَالَ: إِي واللَّه، وَإِن تَمَادى بِهِ عهد، قُلْتُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أَكَانَ عنْدك عهدٌ مَا قُلْتُ لي، أم مَاذَا؟ قَالَ: بِثَلَاث اجْتَمعْنَ فيِّ، مِنْهَا إنصافي جليسي فِي مجلسي، وَمِنْهَا أنِّي مَا خُيِّرتُ بَيْنَ أَمريْن قطّ إِلا اخترتُ أيْسَرَهُما، وَمِنْهَا: قِلَّةُ المراء.
مَتَى تكون الشّركَة فِي الْهَدِيَّة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدِّيبَاجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيُوسُفِيُّ.
أَنَّ أُمَّ جَعْفَرٍ كَتَبَتْ إِلَى أَبِي يُوسُفَ: مَا تَرَى فِي كَذَا، وَأَحَبُّ الأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِيهِ كَذَا، فَأَفْتَاهَا بِمَا أَحَبَّتْ.
فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ بِحَق فضَّة فِيهِ حقائق فِضَّةٍ مطبقاتٌ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ لَوْنٌ مِنَ الطِّيبِ، وَفِي جَامٍ دَرَاهِمُ وَسَطُهُ جامٌ فِيهِ دَنَانِيرُ، فَقَالَ لَهُ جليسٌ لَهُ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ هديةٌ فَجُلَسَاؤُهُ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا "، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ذَاكَ حِينَ كَانَتْ هَدَايَا النَّاس التَّمْر وَاللَّبن.
شماتةالأعداء فِي الْعَزْل
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن المزربان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو يَعْقُوب النخبي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: قِيلَ لِشَرِيك لما قلِّدَ القَضَاءَ: ليتك خَلَصت من هَذَا الأمرُ وَلَو بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: أما بِالْمَوْتِ فَلَا، وَلَكِن بعورٍ أَوْ شَلَل.
فَلَمَّا تَعَصَّبتْ عَلَيْه الْقَبَائِل وعُزِل عَنِ الْقَضَاء جعل يسْعَى فِي أَن يُرَدّ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُل: ليتك أُعِدْتَ إِلَى الْحَكَم وَلَو بعورٍ أَوْ شَلَل، إِنَّك لتمنّى ذَلِكَ، فَقَالَ: نعم يَا ابْن أخي، وشماتة الْأَعْدَاء شَدِيدَة.
قَالَ القَاضِي: نَظِير هَذَا قَول عُمَر لعمَّار: سَاءَكَ إِذْ عزلتك؟ فَقَالَ: واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين لقَدْ سَاءَنِي أَن وَلَّيْتَني، وَلَقَد سَاءَنِي أَن عزلتني.
مَعْبَدٌ يتحدَّى الْغَرِيض
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن بشر المرثدي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله(1/336)
الطلحي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، عَمَّن حدّثه، قَالَ: خرج معبدٌ - وَهُوَ يَوْمئِذٍ أحسن أَهْل الْمَدِينَة غناء - إِلَى مَكَّة يتحدَّى الغَرِيض، فَسَأَلَ عَنْ منزله فَدُلَّ عَلَيْه، فَأَتَاهُ فقرع الْبَاب فَقَالَت الْجَارِيَة: من هَذَا؟ فَقَالَ: قولي لأبي فُلان، هَذَا رجلٌ من أَهْل الْمَدِينَة من إخوانك، فَقَالَ: افتحي لَهُ، فَدخل فحياه وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجته، فَقَالَ: أَنَا رجلٌ من أَهْل صناعتك، وَقَدْ أَحْبَبْت أَن أسمع مِنْك وأُسْمِعَك، فَقَالَ هَات على اسْم الله تَعَالَى، فغناه معبد، فَقَالَ: أَحْسَنت وَالله يَا أخي، حَتَّى انْتهى، ثمَّ انْدفع هُوَ يُغني، فَسمع معبد شَيْئا لم يسمع بِمثلِهِ قطّ، فَقَالَ لَهُ: أَنْت أحسن النَّاس غناء، فَقَالَ لَهُ: كَيفَ لَو سَمِعْتُ عجوزًا لنا فِي سَفْحِ أَبِي قُبَيْس، يَعْنِي ابْن سُرَيْج، فَقَالَ: كَيفَ لي - جعلت فدَاك - بِأَن أسمعهُ مِنْهُ؟ قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَيْهِ، قَالَ: فنهضنا حَتَّى أَتَيْنَا بَاب ابْن سُرَيْج فقرعه الْغَرِيض فعرفته الْجَارِيَة، فَقَالَت: ادخل فدخلا جَمِيعًا فَإِذا ابْن سُرَيْج نَائِم الصُّبحة، وَإِذَا عَلَيْه قرقرة أصفر.
قَالَ القَاضِي: كَذَا قَالَ ابْن الشرابي، وَهَكَذَا رَأَيْته فِي أصل كِتَابه وَالصَّوَاب قرقل فِي قَول الْجُمْهُور، وَإِن كَانَ بَعضهم قَدْ رد هَذَا وصواب قَوْلهم قرقر، وَقَدْ خضب يَدَيْهِ وزراعيه إِلَى مرفقيه، فَقَالَ لَهُ الْغَرِيض: جعلت فدَاك، هَذَا رَجُل من إخوانك من أَهْل الْمَدِينَة يتَغَنَّى، وَقد أحب أَن يسمعك غناهُ وَيسمع مِنْك، قَالَ: هَات، فغناه مَعْبَد فَقَالَ لَهُ ابْن سُرَيْج: أَحْسَنت واللَّه ثمَّ استل ابْن سُرَيج دفاً مُربَّعًا وتغني:
نظرتْ عَيْني فَلَا نَظَرَتْ ... بَعْدَه عَيْني إِلَى أحدٍ
قَالَ مَعْبَد: فَسمِعت شَيْئا مَا سَمِعْتُ مثله قطّ، وَلا ظَنَنْت يَكُون، فأخذتُ أَئْتَمَّ بِهِ واخْتَلف إِلَيْهِ.
من صفة الْغَرِيض
وَحَدَّثَنَا المظفَّر، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد المرثدي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: وَأَخْبرنِي أَحْمَد، قَالَ: كَانَ الْغَرِيض مخنثًا وَكَانَ جميلا لَهُ شَعْر، وَكَانَ مَوْلَى الثُّرَيَّا بِنْت عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن أُمَيَّة الْأَصْغَر، وَكَانَ يتعلّم من ابْن سُرَيْج.
من نَوَادِر طويس
وَحدثنَا المظفر، قالك أَخْبَرَنِي أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: وخبرني أَحْمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: مر طُوَيْسٌ وَكَانَ مخنثًا أحسنَ الناسِ غناءٍ، وَمَعَهُ جمَاعَة من المخنثين، فَمر بنهر حمام يَكُون ذِرَاعا، فَرفع ثِيَابه ووضعها تَحت إبطه اعتزاءً وتجلُّدًا، ثُمّ قَالَ: أَنَا زَيْد الْخَيل، أَنَا عَامر بْن الطُّفَيْل، أَنَا دُرَيد بْن الصِّمة، ثُمّ قفز قفزة فَإِذا هُوَ مستنقعٌ فِي النَّهر، وَصَاح المخنَّثُون الغريقَ الغريقَ.
من مخارج أَبِي يُوسُف
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن أَبُو شبيب،(1/337)
قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن الْجَعْد، قَالَ:
أرسل أميرُ الْمُؤْمِنِين الرشيدُ إِلَى قَاضِي الْقُضَاة أَبُو يُوسُف، فِي ساعةٍ لَمْ يَكُنْ يُرسل إِلَيْهِ فِي مثلهَا، قَالَ أَبُو يُوسُف: فتحنَّطْتُ وتكفَّنْتُ ولبست فَوق ذَلِكَ ثِيَابِي، وَدخلت عَليّ أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَأَلْفَيْته جَالِسا عَلَى طرف الْمُصَلَّى، وَإِذَا بَيْنَ يَدَيْهِ سيف مَسْلُول، فسلَّمْتُ فَرد عَليّ السَّلام وأدناني، فشم مني رَائِحَة الحنوط، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَة فَأَخْبَرته الْخَبَر فَاسْتَرْجع، ثُمّ أَمر بِذَلِك فنُزِعَ عَنِّي، وَجَاءَنِي بِثِيَاب فلبستُها، ثُمّ قَالَ لي: تَدْرِي من خَلْفَ هَذَا السّتْر؟ قُلْتُ: لَا، يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: إِن خَلفه أعز خلق اللَّه تَعَالَى عَليّ، قَالَ: فَظَنَنْت أَنَّهَا الخيزران، ثُمّ قَالَ: إِنِّي أودعتها عقودًا لَهَا مِقْدَار، وجوهرًا لَهُ خَطَر، وإنِّي فقدتُ مِنْهَا عِقدًا، فحلفتُ بأيمان البَيْعةِ وأكَّدْتُها عَلَى نَفسِي أَنَّهَا تَصْدُقُنِي عَنْ خَبَره، فَإِن لَمْ تصدقني ضَربْتُها بسيفي هَذَا حَتَّى أُبَضِّعَها قطعا، قَالَ أَبُو يُوسُف: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! قَدْ أخرجك اللَّه تَعَالَى من يَمِينك، فَمر بِالسَّيْفِ يُرَدُّ إِلَى غِمْده، فَأمر بِهِ فَرُدَّ إِلَى غِمده، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! سَلْها وعَرِّفْها يَمِينك، فَسَأَلَهَا وغَلَّظَ عَلَيْهَا الْأَمر، قَالَ: قُلْ لَها: لَا تُجِيبُك حَتَّى أقولَ لَهَا، ثُمّ قَالَ لَهَا أَبُو يُوسُف: أمسكي، ثُمّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! فسلها ثَانِيَة، فَسَأَلَهَا وغَلَّظَ عَلَيْهَا مَا حلف بِهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو يُوسُف: قولي إِنِّي لَمْ آخذه، فَقَالَت: لَمْ آخذه.
ثمَّ الْتفت إليّ أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: قَدْ صَدَقَتْك فِي أحد الْقَوْلَيْنِ إِن كَانَتْ أخذتُه فقد صدقَتْ، وَإِن كَانَتْ لَمْ تَأْخُذهُ فقد صدقَتْك.
فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وقاما وخرجا من الْبَيْت الَّذِي كَانَا فِيهِ إِلَى خِزانة، فَأمر بهَا فَفُتِحَتْ وأُخرج إِلَيْهِ أسفاطٌ فَأمر بهَا فحُلتْ، فَإِذا فِيهَا جَوْهَر لَهُ خَطَر، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! مَا رَأَيْتُ أحسن من هَذَا، فَإِن رَأَيْت أَن تهبه لي؟ فَقَالَ: لَا واللَّه مَا نَفسِي بِذَلِك طَيِّبة، فَقَالَ: فهبه لأم جَعْفَر، فَقَالَ: لَا واللَّهِ، وَلا نَفْسِي بِهِ طَيِّبة، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! فَإِن لَمْ تفعل لَا هَذَا وَلا ذَا فتُعْلِمْ أمَّ جعفرٍ أَنِّي سأَلْتُك أَن تهب لَهَا هَذِهِ الْعُقُود فأبيت، قَالَ: أما ذَا فَنَعَم، فَأعْلم أم جعفرٍ بِذَاكَ فأنفذَتْ إِلَى أَبِي يُوسُف بِمِائَة ألف دِرْهَم.
سَبَب شدَّة المَنْصُور عَلَى مخالفيه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْد الصَّمد بْن عَلِيّ للمنصور: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! لقَدْ هجمت بالعقوبة حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تسمع بِالْعَفو، فَقَالَ: لأنَّ بني مَرْوَان لَمْ تَبْلَ رِمَمُهُم، وآلَ أَبِي طَالِب لَمْ تُغْمَدْ سُيُوفُهُم، وَنحن بَيْنَ قومٍ قَدْ رَأَوْنَا أمسِ سُوقَةً وَالْيَوْم خُلَفاءَ، فَلَيْس تتمهَّد هيبتُنا فِي صُدُورهم إِلا بنسيان العَفْو وَاسْتِعْمَال الْعقُوبَة، وَلَو لَمْ أفعل هَذَا لاحتجنا إِلَى مَا هُوَ أعظم مِنْهُ.
من مُرُوءَة الْحَسَن الْبَصْرِيّ
حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص(1/338)
النَّسائيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن كثير، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كثير بْن مَخْلَد بْن الْحُسَيْن، عَنْ هِشَام بْن حَسَّان، قَالَ: كَانَ الْحَسَن إِذا اشْترى لَهُ شَيْء بِكَذَا وَكَذَا وَنصف أتمه بِهِ، فَبَاعَ الْحَسَنُ بَغْلا لَهُ بِأَرْبَع مائَة دِرْهَم، فَقِيل لصَاحبه، لَو أَتَيْته فاستَحْطَطْتُه من ثمنه شَيْئا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيد! إِن رَأَيْت أَن تُخَفِّف عني من ثمن الْبَغْل! فَقَالَ لَهُ: خَمْسُونَ درهما أرضيت؟ قَالَ: نعم، يَا أَبَا سَعِيد، قَالَ: فلك خَمْسُونَ أُخْرَى أرضيت؟ قَالَ: نعم، رَضِيَ اللَّه عَنْك، قَالَ: فَلَمَّا أدبر الرَّجُل قَالَ: هَلُمَّ فَإنَّهُ بَلغنِي أَن من الْإِحْسَان أَن يَضَعَ الرَّجُل نصف حَقِّه، اذْهَبْ فلك مِائَتَان.
المجلِسُ السَادِس وَالأربَعُونْ
قصَّة مقتل أُمَيَّة بْن خَلَف
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْقَاسِم الأنباي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كُنْتُ أُعْرَفُ بِعَبْدِ عَمْرٍو فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا كَانَ يوْمُ بَدْرٍ سَلَبْتُ أَرْبَعَة ادرعٍ مِنْ دُرُوعِ الْمُشْرِكِينَ وَأَقْبَلْتُ بِهِنَّ، فَمَرَّ بِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَابْنُهُ عَلَيٌّ، فَنَادَانِي أُمَيَّةُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو! فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! قُلْتُ: وَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: أَنَا وَابْنِي خيرٌ لَك من هَذِه الأدرع، فَأَلْقَيْتُهُنَّ وَأَقْبَلْتُ بِهِمَا، فَبَصُرَ بِهِمَا بِلالٌ فَأَقْبَلَ بِسَيْفِهِ، وَقَالَ: أُمَيَّةُ رَأْسُ الْكُفْرِ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَنِي مِنْكَ، فَقُلْتُ: يَا بِلالُ! كَانَت معي وَالله أَرْبَعَة أدرع وَأَلْقَيْتُهُنَّ وَاعْتَمَدْتُ عَلَى هَذَيْنِ، فَلا تَفْجَعْنِي بِهِمَا.
فَأَقْبَلَ يُرِيدُهُمَا فَقُلْتُ: تَنَح يَا ابْن السَّوْدَاءِ، وَقَامَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ! أُمَيَّةُ رَأْسُ الْكُفْرِ وَابْنُهُ، فَأَقْبَلُوا بِالسُّيُوفِ إِلَيْهِمَا، فَمَا مَلَّكُونِي مِنْ أَمْرِهِمَا شَيْئًا، فَضُرِبَ عَلَيَّ ضَرْبَةً فَطَنَّتْ سَاقَهُ، فَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، ثُمَّ حَمَلُوا فَذَفَّفُوا عَلَيْهِمَا.
فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ بِلالا، فَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ وَذَهَبَتْ أَدْرَاعِي.
مَعْنَى ذَفَّفُوا: أَجْهَزُوا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَبِي: قَالَ الْعَبَّاسُ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنَ عَائِشَةَ، فَقَالَ لِي: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ شَاعِرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَدَحَ بِلالا لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ:
هَنِيئًا زَادَكَ الرَّحْمَنُ خَيْرًا ... فَقَدْ أَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ يَا بِلالُ
فَمَا نِكْسًا وُجِدْتَ وَلا جَبَانًا ... غَدَاةَ تَنُوشُكَ الأَسَلُ الطِّوَالُ
معنى التناوش مهموزاً وغير مَهْمُوز
قَالَ القَاضِي: معنى تنوشك: تناولك، وَهُوَ من المناوشة، وَقيل: إِن التناوش: التَّنَاوُل من قريب بِغَيْر همز، والتناؤش بِالْهَمْز: التَّنَاوُل من بعيد، قَالَ الراجز:
فَهِيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلا ... نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الفَلا(1/339)
فَهَذَا غَيْر مَهْمُوز، وقَالَ نَهْشَلُ بن حري فِي الْهَمْز:
تمنى نَئيشًا أَن يَكُون أَطَاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بعد الأُمُورِ أُمُورُ
وَقَدْ قَرَأت القرأة: " وأنى لَهُم التناؤش " بِالْهَمْز وَتَركه، وَنسب الصلولي شَيخنَا أَبَا جَعْفَر رحِمَه اللَّه إِلَى التَّصْحِيف فِي بَيت نَهْشَل، وَذكر أَنه رَوَاهُ تمنى حبيشٌ، وَجَرت بَيْننَا وَبَينه فِي هَذَا مُخَاطبَة قمعته بِحَضْرَة جمَاعَة مِنْهُم أولو علم وَمَعْرِفَة، وَلنَا فِي هَذَا رِسَالَة أوضحنا فِيهَا سُقُوط مَا أوردهُ الصولي وَحَكَاهُ، وضمناها من خطأ الصولي وَتَصْحِيفه وتعاطيه مَا لَا يُحسنهُ فِي مَوَاضِع من تأليفه، وَمن نَظَر فِي ذَلِكَ أشرف مِنْهُ عَلَى علم مُسْتَفَاد، وَبَيَان مستجاد، إِن شَاءَ اللَّه.
الْوَلِيد يتوله بِجَارِيَة نَصْرَانِيَّة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعُتْبِي، قَالَ: كَانَ الْوَلِيد بْن يَزِيد نظر إِلَى جَارِيَة نَصْرَانِيَّة من أهيأ النّاس يُقَالُ لَهَا سفرى، فجُنَّ بهَا وَجَعَل يراسلها وتأبى عَلَيْه، حَتَّى بلغه أَن عيدًا لِلنَّصَارَى قَدْ قرب، وَأَنَّهَا ستخرج فِيهِ وَكَانَ مَوضِع الْعِيد بستانٌ حَسَن، وَكَانَ النساءُ يَدْخُلْنه، فصانع الْوَلِيد صاحبَ الْبُسْتَان أَن يُدخله فَينْظر إِلَيْهَا فَتَابَعَهُ، وَحضر الْوَلِيد وَقَدْ تقشَّف وَغير حِلْيَته، ودخلتْ سَفْرى الْبُسْتَان فَجعلت تمشي حَتَّى انْتَهَت إِلَيْهِ، فَقَالَت لصَاحب الْبُسْتَان: من هَذَا؟ قَالَ لَهَا: رجلٌ مصابٌ، فَجعلت تمازحه وتضاحكه حَتَّى اشتفى من النّظر إِلَيْهَا وَمن حَدِيثهَا، فَقِيل لَهَا: وَيلك! تدرين من ذَلِكَ الرَّجُل؟ قَالَتْ: لَا، فَقِيل لَهَا: الْوَلِيد بْن يَزِيد فَإِنَّمَا تقشف حَتَّى ينظر إِلَيْك، فجُنَّتْ بِهِ بعد ذَلِكَ، وَكَانَت عَلَيْه أحرص مِنْهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْوَلِيد فِي ذَلِكَ:
أَضْحَى فُؤَادُكَ يَا وليدُ عَمِيدَا ... صَبًّا قَدِيما للحسانِ صَيُودا
من حُبِّ واضحةِ العَوَارِضِ طفلةٍ ... برزت لنا نَحْو الْكَنِيسَة عيدا
مَا زلت أرمُقها بعينْي وامِق ... حَتَّى بَصُرْتُ بهَا تقبِّلُ عُودا
عودَ الصَّلِيب فَوَيْح نفسِي من رَأَى ... مِنْكُم صَلِيبًا مِثله مَعْبُودا
فسألتُ رَبِّي أَن أكونَ مكانَهُ ... وأكون فِي لَهب الْجَحِيم وقودا
قَالَ القَاضِي: لَمْ يَبْلُغْ مُدْرِكُ الشَّيْبَانِيّ هَذَا الْحَد من الخلاعة فِيمَا قَالَ فِي عَمْرو النَّصْرانُّي:
يَا لَيْتَني كنتُ لَهُ صَلِيبَا ... وكنتُ مِنْهُ أبَدًا قَرِيبا
أَبْصِرُ حُسْنًا وأشُمُّ طيبا ... لَا واشِيًا أخْشَى وَلا رَقِيبا
فَلَمَّا ظهر أمره وَعلمه النّاس، قَالَ:
أَلا حَبَّذَا سَفْرِي وَإِن قِيلَ إِنَّنِي ... كَلِفْتُ بنصرانيةٍ تَشْرَبُ الخمرا(1/340)
يهونُ عَلَينَا أَن نَظَلَّ نهَارَنا ... إِلَى اللَّيْل لَا أُولَى نُصَلِّي وَلا عَصْرا
وللوليد فِي هَذَا النَّحْو من الخلاعة والمجون وسخافة الدّين مَا يطول ذكره، وَقَدْ ناقضناه فِي أَشْيَاء من منظوم شعره والمتضمن رَكِيك ضلاله وكفره، وَمَا لَعَلَّنَا نُورده فِيمَا نستقبله من مجَالِس فِي كتَابنَا هَذَا.
حكم الْوَادي يضطرب أَمَام الْوَلِيد
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بن أَحْمد الْمَعْرُوف بَان الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المرثدي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الثَّلْجِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ حَكَم الْوَادي، قَالَ:
قَالَ الْوَلِيد بْن يَزِيد بْن عَبْد الْملك لجلسائه من المغنيين: إِنِّي لأشتهي غناء أطول من أهزاجكم وأقصر من الْغناء الطَّوِيل، قَالُوا جَمِيعًا: قَدْ أصبته يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، بِالْمَدِينَةِ رَجُل يُقَالُ لَهُ: مَالك بْن أَبِي السَّمْح الطَّائِي حَلِيف لقريش وَهَذَا غناؤه، وَهُوَ أحسن النّاس خلقا وَأَحْسَنهمْ حَدِيثا، قَالَ: أرْسلُوا إِلَيْهِ، فَأرْسل إِلَيْهِ فشخص حَتَّى وافاه بِالشَّام بِدِمَشْق.
قَالَ: فَلَمَّا دَخَلنَا فِي وَقت النَّبِيذ دخل مَعنا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: غَنِّه، فَانْدفع يضْرب فَلم يطاوعه حلقه وَلَم يصنع قَلِيلا وَلا كثيرا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: قُم فَاخْرُج.
قَالَ: وَأَقْبل علينا يعنفنا، وَيَقُولُ: مَا تزالون تُغْرُوني بِالرجلِ وتزعمون أَن عِنْده بعض مَا أشتهيه حَتَّى أُدْخِلَه وأُطْلِعَه عَلَى مَا لَمْ أكن أُحِبَّ أَن يَطَّلِع عَلَيْه أحد، ثُمّ لَا أجد عِنْده مَا أُرِيد. فَقُلْنَا: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! واللَّه مَا كذبنَا وَلَكِن عَسى الرَّجُل قَدْ تغيَّر بَعدنَا، قَالَ: وَلَم نزل بِهِ حَتَّى استرسل وَطَابَتْ نَفسه وغنّيْناهُ حَتَّى نَام، ثُمّ انصرفنا فَجعلنَا طريقنا على مَالك، فافترينا عَلَيْهِ وكدنا نتناوله، قَالَ: فَقَالَ: وَيحكم! دخلتني لَهُ هيبةٌ منعتْني من الْغناء وَمن الْكَلَام لَو أردته، فأعيدوني إِلَيْهِ فَإِنِّي أَرْجُو أَن يرجع إليّ حلقي وغنائي.
قَالَ: فكلمنا الْوَلِيد فَدَعَا بِهِ، فَكَانَ فِي الثَّانِيَة أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فِي الأولى فصاح بِهِ أَيْضا فَخرج، وَفعلنَا كفعلنا، قَالَ: فَقَالَ: أعيدوني إِلَيْهِ فامْرَأَتُهُ طَالِق وَمَا يَمْلك فِي سَبِيل اللَّه إِن لَمْ أستنزله عَنْ سَرِيره إِن هُوَ أنصفني، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى الْوَلِيد، قَالَ: فَأَخْبَرنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ: وَعلي مثل يَمِينه إِن هُوَ لم يستنزلني أَن أُنَفِّذَ فِيهِ مَا حَلَف بِهِ فَهُوَ أَعْلَم.
قَالَ: فأتيناه فَأَخْبَرنَاهُ بمقالة الْوَلِيد وَيَمِينه، قَالَ: قَدْ قبلت، قَالَ: فحضرنا مَعَه دَارا نَكُون فِيهَا إِلَى أَن يَدعِي بِنَا، فمرّ بِهِ صَاحب الشَّرَاب فَأعْطَاهُ دِينَارا عَلَى أَن يأتيَهُ بقدحٍ حَبَشَانِي مملوءٍ شرابًا من شراب الْوَلِيد، فَأَتَاهُ بقح ثمَّ بقدح ثُمّ بقدح، بِثَلَاثَة أقداح، فَأعْطَاهُ ثَلَاثَة دَنَانِير ثُمّ أدخلْنَاهُ عَلَيْه، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: هَات، فَقَالَ: لَا، وَالله أوترجع إِلَيّ نَفسِي وأضطرب وَأرى للغناء موضعا، قَالَ: فَذَاك لَك، قَالَ: فَاشْرَبْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَشرب وَجعل يشرب ويغني المغنون، حَتَّى إِذا ثمل الْوَلِيد وثمل هُوَ سل صَوتا فَأحْسن وَجَاء بِمَا يغرب، فطربنا وطرب الْوَلِيد وتحرك، وقَالَ: اسْقِنِي يَا غُلام فسُقِي(1/341)
وتَغَنَّى مالكٌ صَوتا آخر فجَاء بالعجب، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: أَحْسَنت أَحْسَنت أحسن اللَّه إِلَيْك، فَقَالَ: الأَرْض الأَرْض يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: ذَاك لَهُ وَنزل فحياه وَأحسن إِلَيْهِ، وَلم يزل مَعَه، حَتَّى قتل الْوَلِيد.
إِلَّا أَن تحج ثَانِيَة يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْجُرْجَانِيِّ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا أَنا بَين الْقَبْر والمنبر، إِذْ أَنَا عَنْ يَمِينِي بِرَجُلٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ خَاضِبٍ، مَعَهُ رجلٌ فِي مِثْلِ حَالِهِ، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ نَحْوَهُ فَإِذَا هُوَ يَكْسِرُ حَاجِبَهُ، وَيَفْتَحُ فَاهُ، وَيَلْوِي عُنُقَهُ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ، فَتَجَوَّزْتُ فِي صَلاتِي وَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: أَفِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَغَنَّى؟ قَالَ: قَنَّعَكَ اللَّهُ دَارَ مَخْرَمَةَ، مَا أَجْهَلَكَ! - قَالَ: وَدَارُ مَخْرَمَةَ صَخْرَةٌ - أَمَا فِي الْجَنَّةِ غِنَاءٌ؟ قُلْتُ: بَلَى، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ، قَالَ: فَأَنَا فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَاحْرَبَاهْ! أَتَرُدُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَوْلَهُ: " بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي روضةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ "، فَنَحْنُ فِي تِلْكَ الرَّوْضَةِ، فَقُلْتُ: قَبَّحَ اللَّهُ شَيْخًا وَشَارَةً، مَا أَسْفَهَكَ! فَقَالَ: بِالْقَبْرِ لَمَا أَنْصَتَّ إِلَيَّ، فَتَخَوَّفْتُ أَلا أُنْصِتَ إِلَيْهِ، فَانْدَفَعَ فَتَغَنَّى بصوتٍ يُخْفِيهِ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... عَلَيْكَ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَكَ تَدْمَعَا
فَوَاللَّهِ إِنْ قُمْتُ لِلصَّلاةِ مِمَّا دخا عَليَّ، فَلَمَّا رَأَى مَا نَزَلَ بِي، قَالَ: يَا ابْن أُمِّي! أَرَى نَفْسَكَ قَدِ اسْتَجَابَتْ وَطَابَتْ، فَهَلْ لَكَ فِي زِيَادَةٍ؟ قُلْتُ: وَيْحَكَ! مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله وَسَلَّمَ، قَالَ: أَنَا أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكَ، فَدَعْنَا مِنْ جَهْلِكَ، وَتَغَنَّى:
فَلَوْ كَانَ واشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ ... وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا
وَمَا بَالُهُمْ لَا أَحْسَنَ اللَّهُ حِفْظَهُمْ ... مِنَ الْحَظِّ هُمْ فِي نصر هم لَيْلَى حِيَالِيَا
قَالَ: فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا ابْن أَخِي! أَحْسَنْتَ وَاللَّهِ، عَتَقَ مَا يَمْلِكُ لَوْ أَنَّ هَذَا فِي مَوْضِعِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ لَخَلَعَ عَلَيْك ثِيَابه مشقومةً طَرَبًا، قَالَ: فَقُمْتُ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَنْ أَنَا، فَدَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا لَا يَفُوتَانِكَ، فَوَجَّهْتُ مَنْ أَتَى بِهِمَا، فَلَمَّا دَخَلا عَلَيْهِ وَدَخَلا بوجوهٍ قَدْ ذَهَبَ مَاؤُهَا، وَأَنَا قائمٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! هَذَانِ هُمَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَظَرَ الْمُغَنِّي مِنْهُمَا إِلَيَّ وَقَالَ: سِعَايَةً فِي جوَار قبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَسُرِّيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ غَضَبِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمَا فِيهِ؟ قَالا: خيرٌ، قَالَ: فَمَا من ذَلِك الْخَيْر؟ فسكتا، فَقَالَ لِلْمُغَنِّي مِنْهُمَا: مَنْ أَنْتَ؟ فَابْتَدَرَهُ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذَا ابْنُ جُرَيْجٍ فَقِيهُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: فَقِيهٌ يَتَغَنَّى فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ مني، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الْمَخْزُومِيِّ -(1/342)
يَعْنِي صَاحِبَهُ - صَوْتَيْنِ لَمْ يَزَالا فِي قَلْبِي حَتَّى الْتَقَيْنَا وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَأْخُذَهُمَا عَلَيَّ فَأَخَذَهُمَا عَلَيَّ، وَحلفت أَنِّي قَدْ أَحْسَنْتُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَخَلَعَ عَلَيَّ، وَسَكَتَ.
فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَرَكْتَ مِنَ الْحَدِيثِ شَيْئًا فَهَاتِهِ، فَقَالَ: مَا تَرَكْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا، قَالَ: وَاللَّهِ لَتَقُولَنَّ مَا قَالَ أَوْ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: لَوْ كُنْتُ فِي مَوْضِعِهِ لَخَلَعْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَكَ مَشْقُوقَةً طَرَبًا، فَتَبَسَّمَ الرَّشِيدُ وَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَلا، وَلَكِنْ سَأَنْبِذُهَا لَكَ صَحِيحَةً فَهُوَ خيرٌ لَكَ، ثُمَّ دَعَا بثيابٍ وَنَبَذَ إِلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَلِصَاحِبِهِ بِخَمْسَةِ آلافِ دِرْهَم، وَقَالَ: لَا تعود لِمِثْلِ هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ صَاحِبُ ابْنِ جُرَيْجٍ: إِلا أَنْ تَحُجَّ ثَانِيَةً يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَضَحِكَ وَقَالَ: أَلْحِقُوهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْجَائِزَةِ.
وَصِيَّة أعرابية لولدها
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن رستم، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عِيسَى النَّحْويّ، قَالَ: قَالَ أبان بْن تَغْلِب - وَكَانَ عابدًا من عبّاد الْبَصْرَة: شهِدت أعرابية وَهِي توصي ولدا لَهَا يُرِيد سفرا وَهِي تَقُولُ لَهُ: أَيّ بُنَيّ! اجْلِسْ أمنحْك وصيَّتي، وَبِاللَّهِ تَعَالَى توفيقُك، فإنَّ الْوَصِيَّة أجدى عَلَيْك من كثير عقلك.
قَالَ أبان: فوقفتُ مُسْتَمِعًا لكلامها مستحسنًا لوصيتها فَإِذا هِيَ تَقُولُ: أَيّ بني! إياك والنميمة، فَإِنَّهَا تَزْرَع الضغينة وتفرِّقُ بَيْنَ المحبين، وَإِيَّاك والتغرض للعيوب، فتُتَّخذَ غَرَضًا، وخليق إلّا يثبت الغَرَض عَلَى كَثْرَة السِّهَام، وقلَّ مَا اعْتَوَرَتِ السِّهامُ هَدَفًا إِلا كَلَمَتْهُ حَتَّى يَهِي مَا اشتدَّ من قُوَّته، وَإِيَّاك والجودَ بِدينِك، وَالْبخل بِمَالك، وَإِذا هززت فاهزز كَرِيمًا يلين لهزتك، وَلَا تهزز اللّئيم فَإنَّهُ صَخْرَة لَا يتفجَّرُ ماؤُها، ومَثِّل لنَفسك أمثالَ مَا استحسنتَ من غَيْرك فاعمل بِهِ، وَمَا استقبحتَ من غَيْرك فاجْتَنِبْهُ، فَإِن الْمَرْء لَا يرى عيب نَفسه، وَمن كَانَتْ مودته بِشْرَه، وَخَالف ذَلِكَ فِعْلَه، كَانَ صديقُه مِنْهُ عَلَى مثل الرّيح فِي تصرُّفِّها، ثُمّ أمسكَتْ. فدنوتُ مِنْهَا فَقلت: بِاللَّهِ يَا أعرابية إِلا زِدْتيه فِي الْوَصِيَّة، قَالَتْ: أوقد أعْجبك كَلَام الْأَعْرَاب يَا عراقي؟ قُلْتُ: نعم، قَالَتْ: والغدر أقبح مَا تعامل بِهِ الناسُ بَينهم، وَمن جمع الْحلم والسخاء فقد أَجَاد الْحُلَّةَ رَيْطَتَها وسِرْبَالَها.
عِنْدَمَا يسمع المحبُّ اسمَ حَبِيبه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عون بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنِي إِدْرِيس بْن بدر أَخُو الجَهْم بْن بدر، قَالَ: كَانَ أبي مُنْقَطِعًا إِلَى الْفَضْل بْن يَحْيَى، فَكَانَ مَعَه يَوْمًا فِي موكبه، فَقَالَ أَبِي: فرأيتُ من الْفضل حيرةً وجَوْلة، فَنظر إليّ فَفطن أَنِّي قَد استبنت مَا كَانَ فِيهِ، فَقَالَ: عَرِّفْني يَا بدر، كَيفَ قَالَ الْمَجْنُون: وداع دَعَا.......؟ فأنشده:(1/343)
وداعٍ دَعَا إذْ نَحْنُ بالْخِيفِ من مِنًى ... فَهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ وَمَا يدْرِي
دَعَا باسم ليلى غَيرهَا فَكَأَنَّمَا ... أطار بليلي طائرًا كَانَ فِي صَدْرِي
قَالَ: هَذِهِ واللَّهِ قِصَّتي، كُنْت أَهْوى جَارِيَة يُقَال لَهَا خِشْف، فَكَانَ مني مَا رَأَيْت ونالني مثل مَا نَالَ الْمَجْنُون.
كُتَّاب سُوء الْأَدَب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الشَّامي بهراة، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيّ بْن الجَعْد، قَالَ: كتب أَبُو يُوسُف القَاضِي يَوْمًا وَعَن يَمِينه إِنْسَان، فلاحظه يقرأُ مَا يكْتب، فَفطن بِهِ أَبُو يُوسُف، فَقَالَ لَهُ: وقفتَ عَلَى شيءٍ من خطأ؟ قَالَ: لَا، واللَّه، وَلا حرف. فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُف: جُزِيتَ خيرا كفيتنا مؤونة قِرَاءَته، ثمَّ أنشأ يَقُولُ:
كأنَّهُ من سُوءِ تَأْدَابِهِ ... تَعَلَّم فِي كُتَّابِ سُوءِ الْأَدَب
لَمْ يَدعه يسْأَل غَيره
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن مَنْصُور الْخُزَاعيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَريّ، عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن جَعْفَر الأَنْصَارِيّ، قَالَ: قدِم أعرابيٌّ الْمَدِينَة يطْلب فِي أَربع دياتٍ حنلها، فَقِيل لَهُ: عَلَيْك بِحسن ابْن عَليّ، وَعَلَيْك بِعَبْد بْن جَعْفَر، وَعَلَيْك بِسَعِيد بْن الْعَاصِ، وَعَلَيْك بِعَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس، فَدخل الْمَسْجِد فَرَأى رَجُلا يَخْرُج وَمَعَهُ جمَاعَة، فَقَالَ: من هَذَا؟ قِيلَ: سَعِيد بْن الْعَاصِ، قَالَ: هَذَا أحدُ أَصْحَابِي الَّذِين ذُكِرُوا لي، فَمشى مَعَه فَأَخْبَرَه بِالَّذِي قدِم لَهُ، وَمن ذكره وَأَنه أحدهم، وَهُوَ ساكتٌ لَا يجِيبه، فَلَمَّا بلغ بَاب منزله قَالَ لخازنه: قل لهَذَا الْأَعرَابِي فليأتِ بِمن يَحْمِلُ لَهُ، فَقِيل لَهُ: ائْتِ بِمن يحمل، قَالَ: عافي اللَّه سعيدًا، إِنَّمَا سِألناه ورِقًا وَلَم نَسْأَلهُ تَمرا، قَالَ: وَيحك ائتِ بِمن يحمل لَك، فَأخْرج إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ ألفا، فاحتملها الأعرابيُّ فَمضى إِلَى الْبَادِيَة وَلَم يلق غَيره.
كَيفَ خلصه اللَّه من الْغُلَام
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمد بن أبي الثلجن قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن فهم، قَالَ: حَدثنَا عمر بن شية، عَنْ فُلان من أَهْل الْبَصْرَة، قَالَ: مَرَرْت بالنخاسين بِبَغْدَاد فَإِذا أَنَا بِرَجُل يُنَادي عَلَى غُلام نظيف لَهُ هَيْئَة وجمال، وَهُوَ يَقُولُ: من يَشْتَرِي غُلَاما سَارِقا آبقًا قَتُولا لمواليه؟ فعد خِلالَ سُوء، قَالَ: فَقلت: يَا غُلام! مَا هَذِهِ الصفاتُ بك؟ قَالَ: فَقَالَ لي: امضِ إِلَى عَمَلك إِن أردْت أَن تَمْضي، فَإِنّ مولَايَ يريدُ أَن يستعيبَني بِهَذَا، قَالَ: فَرَغَّبني هَذَا الكلامُ فِيهِ، فقلتُ للمنادِي: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: مَعَ كُلّ مَا وصفتُ من الْخلال المذمومة فِيهِ؟ قَالَ: فَقلت: ارْمِ بِثمن هَذَا فِي الْبَحْر.
فاشتريته بسبعة عشر دِينَارا وصرت بِهِ إِلَى منزلي، فَمَكثَ شهورًا لَا أرى إِلا كُلّ خلة(1/344)
ٍ جميلَة، حَيْطَة وشفقة ونُصْحًا حَتَّى أمِنْتُه وسلَّمتُ إِلَيْهِ، فَقبض عَلَى كيسٍ لي فِيهِ جملةٌ ثُمّ هرب، فَلم أعرف لَهُ خَبَرًا، وَلَم يَكُنْ لي عَلَى بَيْعه حجةٌ لما بيَّن من خِلاله.
قَالَ: فَقلت: مَا أرى كُلّ مَا قِيلَ فِيهِ إِلا حقًّا، وحمدت اللَّه عَزَّ وَجَلّ إِذْ كَانَت النَّازِلَة بِمَالي وَلَم تكن بِي. قَالَ: ثُمّ اتَّصل بِي الْخَبَر أَنَّهُ بِالْكُوفَةِ قَد انْقَطع إِلَى صَيْرفيٍّ، قَالَ: فخرجتُ خَلفه فَأرَاهُ قَاعِدا فِي الصيارف فِي دُكَّان رَجُل نبيلٍ مِنْهُم، قَالَ: فقبضتُ عَلَيْه وَقلت: يَا عَدو اللَّه يَا آبق! قَالَ: فَقَالَ الصَّيْرفيّ: أهوَ مَمْلُوك؟ قَالَ: فَقلت: نعم، وَهُوَ عَبدِي، قَالَ: فَقَالَ الْغُلَام: نعم، هُوَ مولَايَ وَأَنا مَمْلوكه، فراعني تَمَاوُتُه، قَالَ: وخفتُ أَن ينالَني مَا قَالَ الْمُنَادِي، قَالَ: فجئتُ بِهِ إِلَى حدادٍ فَقلت لَهُ: ضَعْ بيَدي وَيَده مَصَكَّةً وَثِيقَة، قَالَ: وَقلت: واللَّه لَا نزال هَكَذَا إِلَى بَغْدَاد، وَخرجت من الْكُوفَة أَمْشِي وَيَمْشي لَا يتهيأ لنا الرّكُوب من أجل المصكة، حَتَّى وافينا برقيا، قَالَ: فنمنا فِي الخان عَلَى تَعَب، قَالَ: فَمَا شَعرت إِلا بوثبة الْأسد فَوق الْغُلَام، قَالَ: فَأَخذه يجره ويجرني مَعَه بالمصكةِ قَالَ: فذكرْتُ سكينًا فِي خُفِّي صَغِيرَة، فأخرجتها فحززت يَده فَبَقيت فِي المصكة، وَمضى بِهِ الْأسد، ثُمّ نزعت المصكة ودفنتُ يَده
رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ بِنَحْوِ هَذَا عَنْ أَبِي الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: حكى بعض التُّجَّار أَن مَمْلُوكا سرق مِنْهُ كيسًا فِيهِ جملَة من الدَّنَانِير وهرب، قَالَ: فَخرجت فِي طلبه فأدركني الْمسَاء فِي مَوضِع حَدَّدَه وذُكِر لي أَنَّهُ مسبعٌ، فَرَأَيْت شَجَرَة عالية فتسنَّمتُها، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل أقبل الْأسد وَالْأَرْض كَادَت تنشقُّ من زئيره، فَجَزِعت وجذبت غُصْنًا من الشَّجَرَة مُتَعَلقا بِهِ لأرتفع من مَكَاني وازداد بعدا من الأَرْض، فَسقط شخص من الشَّجَرَة سَمِعْتُ وجْبَتَه، فَوَثَبَ الْأسد عَلَيْه وَجَعَل يَلَغُ فِي دَمه، ويلتهم لَحْمه ثُمّ ولَّى، وأقمتُ بمكاني حَتَّى جَاءَ الصُّبْح وانتشر النّاس، فَنزلت فَإِذا رَأس غلامي ملقى وَإِلَى جنبه كيسي بِحَالهِ، فَأَخَذته وانصرفت.
أَبَى إِلا الحقَّ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بْن حَسَّان قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن دَاوُد التغلبي، عَنْ عَوَانَة بْن الْحَكَم، قَالَ:
أَتَى الحَجَّاج برجلَيْن من الْخَوَارِج، فَقَالَ لأَحَدهمَا: مَا دِينُك؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا مُسْلمًا وَمَا أَنَا من الْمُشْركين، فَقَالَ: يَا حَرَسِيّ! اضْرِب عُنُقه، ثمَّ قَالَ للْآخر: أَنْت مَا دِينُك؟ قَالَ: دينُ الشَّيْخ يُوسُف بْن الْحَكَم - يَعْنِي أَبَا الحَجَّاج - قَالَ: وَيحك أَخَبَرْتُه؟ لقَدْ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، يَا حَرَسِيّ! خلِّ عَنْهُ، فَقَالَ: وَيحك يَا حَجّاج! أشقيتَ نَفسك وأثمت بربِّك، قتلتَ رَجُلا عَلَى دين إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ(1/345)
إِلَّا من سفه نَفسه ": فَقَالَ: أبَيْتَ، يَا حَرَسِيّ! اضْرِب عُنُقه، فَانْطَلق بِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
سُبحان ربٍّ قَدْ يَرَى ويَسْمَعُ ... وَقَدْ مَضَى فِي علمه مَا تَصْنعُ
وَلَو يَشَا فِي ساعةٍ بل أسرعُ ... فيرسِلَنْ عَلَيْك نَارا تَسْطعُ
فَيتْرك السَّرِير مِنْك بلقعُ
فضُربت عُنُقه.
من طرائف الْقُضَاة
حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر النهرواني، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَمَّن حدّثه، قَالَ: وُلّي يَحْيَى بْن أَكْثَم إِسْمَاعِيل بْن سَمَّاعَة الْقَضَاء بغربي بَغْدَاد، وَولى سوار بْن عَبْد اللَّهِ شرقيها، وَكَانَا أعورين، فَكتب فِيهِ مُحَمَّد بْن رَاشد الْكَاتِب:
رأيتُ من الْعَجَائِب قاضيين ... هما أُحْدُوثةٌ فِي الْخَافِقين
هما فَالُ الزَّمَان بهُلْكِ يَحيى ... إذِ افْتتح القضاءَ بأعورين
فَلَو جُمع العَمَى يَوْمًا بأفقٍ ... لكانا للزمانة خلتين
ةتحسب مِنْهُمَا من هز رَأْسا ... لينْظر بُزَالَهُ من فَرْدِ عَيْن
وَكَانَ يَحْيَى بْن أَكْثَم أَعور.
من رسائل العَتَّابِيّ
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن المزربان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن صَدَقَة النَّحْويّ، قَالَ: كتب العَتَّابِيّ إِلَى دَاوُد بْن يَزِيد بْن الْمُهَلّب: أما بعد، فَإِنِّي امْرُؤ فيَّ خُلَّتَان: حصرٌ مُقَيَّدٌ بِالْحَيَاءِ، وعِزَّةُ نَفْسٍ شبيهةٌ بالجفاء، وَلَم أزل أرغبُ بنفسي فِي صُحْبَة غَطَارفة الرِّجَال، وَأَبْنَاء ذَوي الفعال، فوردت الْعَسْكَر فَرفع إليّ أَقوام مِنْهُم من يرتاشُ حَاله، وَلا يَشْرُفُ إِلا بِمَالِه، وَمِنْهُم من أنْحَلَ أديمه، وَلم يصل قديمه، فِي طبات شَتَّى يضيقُ عَنْهُمُ الْمَدْح، ويتسع فيهم الذَّم، وَرَأَيْت وُجُوه الْقَبَائِل تصدر عَنْك بأنواع الْفَضَائِل فِي حمل الدِّيَات، وَفضل الهبات، ورأيتُك من نبعةٍ أصلُها الكَرَم، وَأَغْصَانهَا الْهِمَم، تُثْمِرُ الْحَمد، وتَرْقَعُ الْمجد، فحطَطْتُ رَحْلي بفِنَائك وشددتُ عُراه بأطنابِ وفائك، وَقلت فِي ذَلِكَ
دَاوُدُ خيرُ فَتًى يُعَاذُ برُكْنِهِ ... ملكٌ يُجيرُ من الزَّمانِ القَاسِي
كم من يَد لَك أصبحتْ مَشهورةً ... بيضاءَ تَجْلُو ظلمَة الإبْلاسِ
فلقلما تلقاهُ إِلا وَاقِفًا ... مُتَحرِّمًا بَيْنَ الندى والباس
أثر الْهَدِيَّة فِي النُّفُوس
حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص - يَعْنِي النَّسَائيّ -(1/346)
قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن يَعْقُوب التَّمِيمِيّ، عَنْ عَليّ بْن مُحَمَّد الْقُرَشِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْص بْن عَمْرو بْن خاقَان، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُس بْن عُبَيْد، قَالَ: أتيت مُحَمَّد بْن سِيرِينَ، فَقلت: قُولُوا لَهُ: يُونُس بْن عُبَيْد بِالْبَابِ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: أَنَا نَائِم، فَقلت: قُولُوا لَهُ: إِن معي هَدِيَّة، فَقَالَ: كَمَا أَنْت إِذا.
هَلْ كذب ابْن سِيرِينَ
قَالَ القَاضِي: قَول ابْن سِيرِينَ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: إنَّه نَائِم وَلَيْسَ بنائم، أَرَادَ بِهِ - واللَّه أَعْلَم - أَنَّهُ نائمٌ بعد هَذَا الْوَقْت، كَقَوْل الرَّجُل: أَنَا قاتم غَدا، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " إِنَّك ميتٌ وَإِنَّهُم ميتون "، وَابْن سِيرِينَ مِمَّنْ تنزه عَنِ الْكَذِب لدينِهِ ووَرَعِه. وَقَدْ رُوِي عَنْهُ فِي ذمِّ الْكَذِب أشياءَ كَثِيرَة.
لماذا يهدأ ولماذا يضْرب؟
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن السَّري التَّمِيمِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن قرج، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُمَر الدفتري، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْكسَائي يَقُولُ: كُنْت يَوْمًا أَقرَأ عَلَى حَمْزَة فَدخل سُلَيْم فاضطربت، فَقَالَ لي حَمْزَة: يَا هَذَا! تقْرَأ عَليّ وَأَنت مستمرٌّ حَتَّى إِذا دخل سُلَيْم اضْطَرَبَتْ؟ قُلْتُ: إِنِّي إِذا قرأتُ عَلَيْك فأخطأتُ قَوَّمْتَني، وَإِذَا أخطأتُ فسمعني سُلَيْم عَيَّرني.
الْقِصَّة يَرْوِيهَا الْكسَائي
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن مقسم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد المخرمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْم، قَالَ: رَأَيْت الْكسَائي يقرأُ عَلَى حَمْزَة فجئتُه فاستندتُ إِلَى الْمِحْرَاب بِجنب حَمْزَة، فَجعل الْكسَائي يَرْعَد، فَقَالَ لَهُ حَمْزَة: كأَنَّه أهْيَبُ فِي عَيْنك مِنِّي؟ قَالَ: لَا، ولكنِّي إِذا أخطأتُ عَلَّمْتَني، وَهَذَا إِذا سمعني أخطىء شَنَّع عليَّ.
أَلْفَاظ التَّلْبِيَة
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد، أَبُو عُمَر الْبَزَّاز، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْر، قَالَ: قَالَ ابْن إِسْحَاق لأخي: يَا رُجَيل! قَالَ: لَبَّيْك، قَالَ: لَبَّيْ يَديك.
قَالَ القَاضِي: قَول الْقَائِل: لَبَّيْك، بِالْإِضَافَة فِيهِ إِلَى كَاف المخاطبة، وَلَيْسَت الإضافةُ فِيهِ إِلَى الْأَسْمَاء الظَّاهِرَة أعْلامها ومُبْهَمها، كَقَوْلِك: لَبَّى زَيْد، ولبى هَذَا الظَّاهِر الْمُسْتَعْمل فِي الْعَرَبيَّة، وَقَدْ أَتَى عَلَى شذوذه كَمَا أَتَى فِي هَذِهِ الْكَلِمَة، أَعنِي لَبَّيْ يَدَيْك، وَذَلِكَ أَن عددا من النَّحْوِيين أنشدوني هَذَا الْبَيْت:
دَعَوْتُ لما نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسُوَرِ
وللتلبية أَحْكَام قَدْ رسمنا فِيهَا رِسَالَة تحوي تَفْسِير مَعَانِيهَا، وَمَا اتّفق عَلَيْه وَاخْتلف فِيهِ مِنْهَا، من جِهَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب، وأَبُواب الْفِقْه، وسببها ومجاريها فِي الْحَج وَالْعمْرَة،(1/347)
وَمن نَظَر فِيهِ أَشْرَفَ عَلَى أنواعٍ من الْفَائِدَة.
الهموم تزيد مَعَ النعم
حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: وحَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو الضَّرِير بِالْكُوفَةِ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: كُنْت أَنَا وَأحمد بْن حَنْبَل عِنْد عَبْد الرَّزَّاق، وَكنت أكتب الشّعْر والْحَدِيث، وَكَانَ أَحْمَد يكْتب الْحَدِيث وَحده، فَخرج إِلَيْنَا يَوْمًا عَبْد الرَّزَّاق، وَهُوَ يَقُولُ:
كن مُوسِرًا إِن شئتَ أَوْ مُعْسِرًا ... لَا بُد فِي الدُّنْيَا من الهمَّ
وَكلما زادك من نعمخ زا ... دك مَا زادكَ من غَمَّ
فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: كَيفَ قُلْتُ؟ كَيفَ قُلْتُ؟ فَأَعَادَهَا عَلَيْه فكتبها.
رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر فِيهَا زِيَادَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ بعض أَصْحَابه، عَنْ أَبِي عَاصِم، عَنِ ابْن جُرَيْج.
قَالَ: خرجت فِي السحر، فَرَأَيْت رُقْعةً تَضْربها الرِّيَاح فأخذتها فَلَمَّا أَضَاء الصُّبْح فتحتُها، فَإِذا فِيهَا:
كن مُوسِرًا إِن شئتَ أَوْ مُعْسِرًا ... لَا بُد فِي الدُّنْيَا من الهمَّ
وَكلما زادك من نعمةٍ ... زَادَكَ الَّذِي زادك فِي الغَمِّ
إِنِّي رَأَيْت الناسَ فِي دَهْرنَا ... لَا يطْلبُونَ الْعلم للعلمِ
إِلا مباهاةً لأصحابهم ... وعُدَّةً للغَشْمِ والظلمِ
قَالَ ابْن جُرَيْج: واللَّه لقَدْ مَنَعَتْنِي هَذِهِ الأبيات عَنْ أَشْيَاء كَثِيرَة.
المجلِسُ السَابع وَالأربَعُونْ
تَأْكُل من فَم رَسُول اللَّه
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْن أبي الثَّلج، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَثَالِ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: " كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ امرأةٌ تُضْحِكُ الثَّكْلَى، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا وَهُوَ يَأْكُلُ قَدِيدًا، فَقَالَتْ: انْظُرُوا يَأْكُلُ وَلا يُطْعِمُنِي! قَالَ: فَنَاوَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَتْ: لَا آكُلُهُ إِلا مِنْ فِيكَ، فَأَخْرَجَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِ فَأَكَلَتْ، فَمَا تَكَلَّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ ".
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القاضيك وَكَيف يُسْتَبْعَدُ هَذَا وَقَدْ أكَلَتْ من طعامٍ كَانَ فِي وعَاء الصدْق، وظَرْفِ الحقَّ، وَطَرِيق الْعلم، وَالْوَقار والحلم.
وَفِي الْقِصَّة الَّتِي أَتَى هَذَا الْخَبَر بهَا مَا فِيهِ الْبَيَان عَنْ فضل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبركته، ويمن نقيبته،(1/348)
ووضوح أَعْلَام نُبُوَّته، وَظُهُور جاهه عِنْد ربه، وَنحن نحمد اللَّه تَعَالَى عَلَى هدايتنا لتصديقه، وتوفيقنا للْإيمَان بِهِ، ونسأله أَن يثبتنا عَلَى التَّمَسُّك بملته، وَحفظ شَرِيعَته، ويعصمنا من مَعْصِيَته ويجعلنا من الفائزين يوْم الْحساب بولايته فيسعدنا بِرَفْع الدَّرَجَات بِشَفَاعَتِهِ إنَّه سميع الدُّعَاء، لطيف لما يَشَاء.
اللّحن فِي أُذُنه أوقع
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَر، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَمِير عَلَى الْكُوفَة من بني هَاشِم، وَكَانَ لحَّانًا فَاشْترى دورًا من جِيرَانه ليزيدها فِي دَاره، فَاجْتمع إِلَيْهِ جِيرَانه فَقَالُوا لَهُ: أصلحك اللَّه، هَذَا الشِّتَاء قَدْ هجم علينا فتمهلنا إِن رَأَيْت حَتَّى يقبل الصَّيف ونتحول، فَقَالَ: لسنا بِخَارِجيكُم.
قَالَ: ودعا يَوْمًا بِابْنِهِ وبمؤدبه، وَهُوَ عَلَى سطح فَمر ثوران فِي الطَّرِيق، فَقَالَ الْغُلَام: مَا أحسن هَذَانِ الثوران! فَلَمَّا نزلا من عِنْده قَالَ الْمُؤَدب للغلام: وَيحك! أهلكْتَني، فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: هَذَا حمَار، وَلَو قُلْتُ هذَيْن الثورين مَا وَقع عِنْده موقعَا وستنظر مَا يَكُون؟ فَلم يلبث أَن جَاءَتْهُ خمس مائَة دِرْهَم وتَخْتُ ثيابٍ، فَقَالَ: كَيفَ رَأَيْت؟
تَخْرِيج قَوْلهم مَا أحسن هَذَانِ
قَالَ القَاضِي: أما قَول هَذَا اللحان الْجَاهِل: لسنا بخارجيكم يُرِيد بمخرجيكم، فَمن النَّوَادِر المضحكة الدَّالَّة عَلَى انحطاط منزلَة الْمُتَكَلّم وركاكاته. وأمّا قَول ابْنه: مَا أحسن هَذَانِ الثوران، فَلَيْس بلحن، وَإِن كَانَ الفصيح الْمُخْتَارِ خِلَافه، وَقَدْ رسمنا من القَوْل فِي هَذَا مَا يُوضح عَنْ علله ووجوهه فِيمَا بَيناهُ فِي وَجه قِرَاءَة من قَرَأَ: " إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ "، وَلا حَاجَة بِنَا فِي هَذَا الْموضع إِلَى التشاغل بِهِ.
حِيلَة عراقي فِي أَخَذَ جَارِيَة ابْن جَعْفَر
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْن حمدون النديم، عَنْ أَبِي بَكْر الْعِجْليّ، عَنْ جمَاعَة من مَشَايِخ قُرَيْش من أَهْل الْمَدِينَة، قَالُوا: كَانَتْ عِنْد عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر جاريةٌ مُغنية يُقَال لَهُ عمَارَة، وَكَانَ يَجِدُ بهَا وجدا شَدِيدا، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ مكانٌ لَمْ يَكُنْ لأحدٍ من جواريه، فَلَمَّا وَفد عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر عَلَى مُعَاوِيَة خرج بهَا مَعَه، فزاره يَزِيدُ ذَات يوْم فأخرجها إِلَيْهِ، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا وسَمِع غناءها وقعتْ فِي نَفسه، فأخذَهُ عَلَيْهَا مَا لَا يملكهُ، وَجَعَل لَا يمنعهُ من أَن يبوح بِمَا يجد بهَا إِلا مَكَان أَبِيهِ مَعَ يأسه من الظفر بهَا.
وَلَم يزل يكاتمُ النّاس أمرهَا إِلَى أَن مَاتَ مُعَاوِيَة وأفضى الْأَمر إِلَيْهِ، فَاسْتَشَارَ بعض من قَدم عَلَيْه من أَهْل الْمَدِينَة وعامةَ من يَثِق بِهِ فِي أمرهَا وَكَيف الْحِيلَة فِيهَا، فَقِيل لَهُ: إِن أَمر عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر لَا يُرام، ومنزلته من الْخَاصَّة والعامة ومنك مَا قَدْ علمت، وَأَنت لَا تستجيزُ إكراهه، وَهُوَ لَا يَبِيعهَا بِشَيْء أبدا، وَلَيْسَ يُغني فِي هَذَا إِلا الْحِيلَة.(1/349)
فَقَالَ: انْظُرُوا لي رَجُلا عراقيًّا لَهُ أدبٌ وظرفٌ وَمَعْرِفَة، فطلبوه فَأتوهُ بِهِ، فَلَمَّا دخل رَأَى بَيَانا وحلاوة وفَهْمًا، فَقَالَ يَزِيد: إِنِّي دعوتُك لأمر إِن ظَفرت بِهِ فَهُوَ حُظْوَتُك آخر الدَّهْر، ويدٌ أكافئك عَلَيْهَا إِن شَاءَ اللَّه، ثُمّ أخبرهُ بأَمْره فَقَالَ لَهُ: إِن عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر لَيْسَ يُرام مَا قِبَلَهُ إِلا بالخديعة، وَلنْ يقدر أحدٌ على مَا سُئِلت، وَأَرْجُو أَن أكونه وَالْقُوَّة بِاللَّه، فأَعِنِّي بِالْمَالِ، قَالَ: خُذْ مَا أَحْبَبْت، فَأخذ من طُرف الشَّام وَثيَاب مصر وَاشْترى مَتَاعا للتِّجَارَة من رقيقٍ ودواب وَغير ذَلِكَ، ثُمّ شخص إِلَى الْمَدِينَة فَأَنَاخَ بعَرْصَة عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، واكترى منزلا إِلَى جَانِبه ثُمّ توسل إِلَيْهِ، وقَالَ: رجلٌ من أَهْل الْعرَاق قدمتُ بِتِجَارَة وأحببت أَن أكون فِي عز جوارك وكنفك إِلَى أَن أبيع مَا جِئْت بِهِ.
فَبعث عَبْد اللَّه إِلَى قهرمانه أَن أكْرم الرَّجُل ووسِّع عَلَيْه فِي نُزُله، فَلَمَّا اطْمَأَن العراقيُّ سلَّم عَلَيْه أَيَّامًا وعرفه نَفسه وهيّأ لَهُ بغلة فارهة وثيابًا من ثِيَاب الْعرَاق وألطافًا، فَبعث بهَا إِلَيْهِ وَكتب مَعهَا: إِنِّي يَا سيِّدي رجلٌ تَاجر ونعمة اللَّه تَعَالَى عليَّ سابغة، وَقَدْ بعثت إِلَيْك بِشَيْء من لطفٍ وَكَذَا وَكَذَا من الثِّيَاب والعطر، وَبعثت ببغلة خَفِيفَة الْعَنَان وطيئة الظّهْر فاتخذها لرجلك، فَأَنا أَسأَلك بقرابتك من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قبلت هديتي، وَلا توحشني بردهَا، فَإِنِّي أدين للَّه تَعَالَى بمحبتك وحبِّ أَهْل بَيْتك، فَإِن أعظم أملي فِي سفرتي هَذِهِ أَن أستفيد الْأنس بك والتحرم بمواصلتك.
فَأمر عَبْد اللَّه بِقَبض هديته وَخرج إِلَى الصَّلاة، فَلَمَّا رَجَعَ مر بالعراقيّ فِي منزله فَقَامَ وقبَّل يَده واستكثر مِنْهُ، فَرَأى أدبًا وظَرفًا وفصاحةً فأعجب بِهِ وسُرَّ بنزوله عَلَيْه، فَجعل العراقيُّ فِي كُلّ يوْم يبْعَث إِلَى عَبْد اللَّه بلَطَف وطرفٍ، فَقَالَ عَبْد اللَّه: جزى اللَّه ضيفَنَا هَذَا خيرا، فقد مَلأَنا شكرا وَمَا نقدر عَلَى مكافأته، فَإنَّهُ لكذلك إِلَى أَن دَعَاهُ عَبْد اللَّه ودعا عمَارَة وجواريه، فَلَمَّا طَابَ لَهما الْمجْلس وسَمِع غناء عمَارَة تعجب وَجَعَل يَزِيد فِي عجبه، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّه سُرَّ بِهِ إِلَى أَن قَالَ لَهُ: هَلْ رَأَيْت مثل عمَارَة؟ قَالَ: لَا واللَّهِ يَا سَيِّدي، مَا رَأَيْت مثلهَا وَلا تصلح إِلا لَك، وَمَا ظَنَنْت أَنَّهُ يَكُون فِي الدُّنْيَا مثل هَذِهِ الْجَارِيَة حسن وَجه وَحسن غناء، قَالَ: وَكم تَسَاوِي عنْدك؟ قَالَ: مَا لَهَا ثمن إِلا الْخلَافَة، قَالَ: تَقُولُ هَذَا لتزين لي رَأْيِي فِيهَا وتجتلب سروري؟ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدي واللَّهِ إِنِّي لأحب سرورك، وَمَا قُلْتُ لَك إِلا الْجد، وَبعد فَإِنِّي تَاجر أجمع الدِّرْهَم إِلَى الدِّرْهَم طلبا للربح، وَلَو أعطيتهَا بِعشْرَة آلَاف دِينَار لأخذتها، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه عشرَة آلَاف دِينَار؟ قَالَ: نعم، وَلَم يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان جَارِيَة تعرف بِهَذَا الثّمن، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: أَنَا أبيعكها بِعشْرَة آلَاف دِينَار، قَالَ: وَقَدْ أَخَذتهَا، قَالَ: هِيَ لَك، قَالَ: وَجب البيع، فَانْصَرف الْعِرَاقِيّ.
فَلَمَّا أصبح عَبْد اللَّه لَمْ يشْعر إِلا بِالْمَالِ قَدْ وافى بِهِ، فَقِيل لعبد اللَّه: قَدْ بعث الْعِرَاقِيّ بِعشْرَة آلَاف دِينَار، وقَالَ: هَذَا ثمن عمَارَة فَردهَا وَكتب إِلَيْهِ: إِنَّمَا كُنْت أمزح مَعَك، وَمِمَّا(1/350)
أعلمك أَن مثلي لَا يَبِيع مثلهَا، فَقَالَ لَهُ: جعلت فدَاك، إِن الْجِدَّ والهَزْل فِي البيع سَوَاء، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: وَيحك! مَا أَعْلَم جَارِيَة تَسَاوِي مَا بذلت، وَلَو كنتُ بَائِعهَا من أحدٍ لآثرتُك، وَلَكِنِّي كُنْت مازحًا، وَمَا أبيعها بِملك الدُّنْيَا لحُرْمتها بِي وموضعها من قلبِي، فَقَالَ الْعِرَاقِيّ: إِن كُنْت مازحًا فَإِنِّي كُنْت جادًّا، وَمَا اطَّلَعْتُ عَلَى مَا فِي نَفسك، وَقَدْ ملكت الْجَارِيَة وَبعثت إِلَيْك بِثمنِهَا، وَلَيْسَت تَحِلُّ لَك وَمَا لي من أَخذهَا من بُد.
فمانعه إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ: لَيست لي بيِّنة، وَلَكِنِّي أستحلفك عِنْد قبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنبره، فَلَمَّا رَأَى عَبْد اللَّه الْجِدَّ قَالَ: بئس الضَّيْف أَنْت، مَا طرقنا طارقٌ وَلا نَزَل بِنَا نازلٌ أعظمَ علينا بَلِيَّةً مِنْك، تحلِّفُني فَيَقُول النّاس اضطهد عَبْد اللَّه ضَيفه وقهره فألجأه إِلَى أَن أستحلفه، أما واللَّه ليعلمنّ اللَّه جلّ ذكره أَنِّي سائله فِي هَذَا الْأَمر الصَّبْر وَحسن العزاء، ثُمّ أَمر قهرمانه بِقَبض المَال مِنْهُ وتجهيز الْجَارِيَة بِمَا يشبهها من الثِّيَاب والخدم وَالطّيب، فجُهزت بِنَحْوِ من ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، وقَالَ: هَذَا لَك وَلها عوضا مِمَّا ألطفتنا، واللَّه الْمُسْتَعَان.
فَقبض الْعِرَاقِيّ الْجَارِيَة وَخرج بهَا، فَلَمَّا برز من الْمَدِينَة قَالَ لَهَا: يَا عمَارَة! إِنِّي واللَّه مَا ملكتُك قطّ، وَلا أَنْت لي، وَلا مثلي يَشْتَرِي جَارِيَة بِعشْرَة آلَاف دِينَار، وَمَا كُنْت لأقدم عَلَى ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأستلبه أحبَّ النّاس إِلَيْهِ لنَفْسي، ولكنني دسيسٌ من يَزِيد بْن مُعَاوِيَة وَأَنت لَهُ، وَفِي طَلَبك بعث بِي فاستترى منِّي، وَإِن داخلني الشَّيْطَان فِي أَمرك وتاقت نَفسِي إِلَيْك فامتنعي.
ثُمّ مضى بهَا حَتَّى ورد دمشق فَتَلقاهُ النّاس بِجنَازَة يَزِيد، وَقَد استُخْلِف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد، فَأَقَامَ الرَّجُل أَيَّامًا ثُمّ تلطف للدخول عَلَيْه فشرح لَهُ الْقِصَّة - وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُن أحدٌ من بني أُمَيَّة يعدل بِمُعَاوِيَة بْن يَزِيد فِي زَمَانه نُبْلا ونُسكا - فَلَمَّا أخبرهُ قَالَ: هِيَ لَك، وكل مَا دَفعه إِلَيْك فِي أمرهَا فَهُوَ لَك، وارحل من يَوْمك فَلَا أسمع من خبرك فِي بِلَاد الشَّام، فَرَحل الْعِرَاقِيّ، ثُمّ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: إِنِّي قلت لَك حِين خرجتُ بك من الْمَدِينَة، وأخبرتُكِ أنَّكَ ليزِيد وَقَدْ صرت لي، وَأَنا أُشْهد اللَّه أنَّكَ لعبد اللَّه بْن جَعْفَر، فَإِنِّي قد رددتك إِلَيْهِ فاستتري مني، ثُمّ خرج بهَا حَتَّى قدِم الْمَدِينَة فَنزل قَرِيبا من عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، فَدخل عَلَيْه بعض خدمه، فَقَالَ لَهُ: هَذَا الْعِرَاقِيّ، ضيفُك الَّذِي صنع بِنَا مَا صنع وَقَدْ نزل العَرْصَة لَا حَيَّاهُ اللَّه.
فَقَالَ عَبْد اللَّه: مَه! أنزلوا الرَّجُل وأكرموه.
فَلَمَّا اسْتَقر بِهِ، بعث إِلَى عَبْد اللَّه: جُعلتُ فِداك، إِن رَأَيْت أَن تأذَنَ لي أَذْنة خَفِيفَة لأُشَافهك بِشَيْء؟ فَقلت: فَأذن لَهُ، فَلَمَّا دخل سلم عَلَيْه وَقبل يَده وقربه عَبْد اللَّه ثُمّ اقْتصّ عَلَيْه الْقِصَّة حَتَّى فرغ، ثُمّ قَالَ: قَدْ - واللَّه - وهبتُها لَك قبل أَن أَرَاهَا أَوْ أَضَع يَدي عَلَيْهَا فَهِيَ لَك، ومَرْدُودة عَلَيْك، وَقَدْ علم اللَّه جلّ وَعز أَنِّي مَا رَأَيْت لَهَا وَجها إِلا عنْدك، وَبعث(1/351)
إِلَيْهَا فَجَاءَت وجاءتْ بِمَا جهزها بِهِ موفرًا، فَلَمَّا نظرت إِلَى عَبْد اللَّه خَرَّتْ مغشيًا عَلَيْهَا، وأهوى إِلَيْهَا عَبْد اللَّه وَضمّهَا إِلَيْهِ.
وَخرج الْعِرَاقِيّ وتصايح أَهْل الدَّار: عمَارَة عمَارَة، فَجعل عَبْد اللَّه يَقُولُ ودموعه تجْرِي: أحُلْمٌ هَذَا؟ أحقٌ هَذَا؟ مَا أصدق هَذَا! فَقَالَ لَهُ الْعِرَاقِيّ: جعلت فداءك، ردهَا اللَّه عَلَيْك بإيثارك الْوَفَاء وصبرك عَلَى الْحق، وانقيادك لَهُ، فَقَالَ عَبْد اللَّه: الْحَمد لله، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي صبرت عَنْهَا، وآثرتُ الْوَفَاء وسلمتُ لأمرك، فرددتها عليَّ بمنّك، وَلَك وَالْحَمْد.
ثُمّ قَالَ: يَا أَخا الْعرَاق! مَا فِي الأَرْض أعظم مِنَّةً مِنْك، وسيجازيك اللَّه تَعَالَى.
فَأَقَامَ العراقيُّ أَيَّامًا، وَبَاعَ عَبْد اللَّه غنما لَهُ بِثَلَاثَة عشر ألف دِينَار، وقَالَ لقهرمانة: احملها إِلَيْهِ، وَقل لَهُ: اعذر وَاعْلَم أَنِّي لَو وصلتكَ بكلِّ مَا أملك لرأيتك أَهلا لأكْثر مِنْهُ.
فَرَحل العراقيّ مَحْمُودًا وافر الْعِرْض وَالْمَال.
الْوَلِيد وعَطَرَّد الْمُغني
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عجلَان أَبُو بَكْر، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَمِيد بْن إِسْمَاعِيل بْن عَبْد الْحَمِيد بْن يَحْيَى، عَنْ عمّه أَيُّوب بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: لما استُخْلِف الْوَلِيد كتب إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ: أَن أَشْخِص إليّ عَطَرَّدَ الْمُغنِي قَالَ عَطَرَّد: فَدفع إليّ الْعَامِل الْكتاب فَقَرَأته، وَقلت: سمعا وَطَاعَة.
فَدخلت عَلَيْه فِي قصره وَهُوَ قاعدٌ عَلَى شَفير بِرْكة لَيست بالكبيرة، يَدُور فِيهَا الرَّجُل سباحة، فواللَّهِ مَا كلمني كلمة حَتَّى قَالَ: أعَطَرَّد؟ فَقلت: لبَّيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: غنني حَيِّ الْحُمُول. قَالَ عَطَرَّد: فغنيتُ:
حَيّ الْحُمُولَ بِجَانِب العَزْلِ ... إذْ لَا يُناسِبُ شَكْلُها شَكْلِي
اللَّهُ أنجحُ مَا طلبتَ بِهِ ... والْبِرُّ خيرُ حقيبة الرَّحْلِ
إِنِّي بحبْلِك واصلٌ حَبْلِي ... وبِريش نبلك رائشٌ نَبْلِي
وشَمَائِلي مَا قَدْ علمتَ وَمَا ... نَبَحَتْ كلابُك طَارِقًا مِثّلي
قَالَ: فواللَّهِ مَا تكلم بِكَلِمَة حَتَّى شقّ بُرْدةً صنعانية عَلَيْه - مَا يدْرِي مَا ثمنهَا - نِصْفَيْنِ فَخرج مِنْهَا كَمَا وَلدته أُمّه، ثُمّ رمى بِنَفسِهِ فِي الْبركَة فنهل مِنْهَا حَتَّى تعرفت فِيهَا النُّقْصَان فَأخْرج مِنْهَا مَيتا سُكْرًا، فَضربت يَدي إِلَى الْبردَة فأخذتها فواللَّهِ مَا قَالَ لي الْخَادِم خُذْهَا وَلا دعها، وانصرفت إِلَى منزلي وَأَنا أفكِّر فِيهِ وَفِيمَا رَأَيْت مِنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد دَعَاني فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، وَهُوَ قَاعد فِي مثل ذَلِكَ الْموضع، فَقَالَ: عَطَرَّد؟ قُلْتُ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: غنني، فغنيته:(1/352)
أيَذْهَبُ عُمْرِي هَكَذَا لَمْ أَنَلْ مِنْهُ ... مَجَالِسَ تَشْفي قَرْحَ قَلبي من الوَجْدِ
وَقَالُوا: تَدَاوَى إنَّ فِي الطبِّ رَاحَة ... فَعزّيتُ نَفسِي بالدوَّاءِ فَلم يُجْدِ
فَلم يتَكَلَّم حَتَّى شقّ بردة كَانَتْ عَلَيْه مثل الْبردَة والأمسية فَخرج مِنْهَا وَرمى بِنَفسِهِ فِي الْبركَة فنهل وَالله حَتَّى تبينتُ النُّقصان، فأُخْرج ميِّتًا سُكْرًا، وضممت الْبردَة إليّ فَمَا قِيلَ لي خُذْ وَلا دَعْ، فانصرفتُ إِلَى منزلي، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث دَعَاني فَدخلت إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بهوٍ قَدْ كُنَّت سُتُوره، فكلمني من وَرَاء السّتْر، فَقَالَ: أعطرد؟ فَقلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: كَأَنَّني بك الْآن قَدْ أتيت الْمَدِينَة فَقلت: دَعَاني أَمِير الْمُؤْمِنِين فَدخلت إِلَيْهِ فَفعل وَفعل، قَالَ يَا ابْن الفاعلة لَئِن تَكَلَّمت - بِشَيْء مِمَّا كَانَ - شَفَتَاكَ، لأطرحن الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك، يَا غُلَام! أعْطه خَمْسمِائَة، الْحق بِالْمَدِينَةِ.
قُلْتُ: أَفلا يَأْذَن لي أَمِير الْمُؤْمِنِين فَأَقْبَلَ يَده وأتزود نظرة إِلَى وَجهه، قَالَ: لَا، قَالَ عَطَرَّد: فَخرجت من عِنْده فَمَا تَكَلَّمت بِشَيْء من هَذَا حَتَّى دَخَلَت الهاشميَّة.
قَوْله: وَقَالُوا: تداوى.....خرجه عَلَى الأَصْل لإِقَامَة الْوَزْن، وَقَدْ بَينا هَذَا فِيمَا مضى بشواهده.
شعر لَا يصدر من قلب سليم
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شبيب، عَنْ عَمْرو بْن عُثْمَان، قَالَ: مرت سُكَيْنَةُ بعُروة بْن أُذَيْنة، وَكَانَ يتنسَّك، فَقَالَت لَهُ: يَا أَبَا عَامر! أَلَسْت الْقَائِل:
إِذا وَجَدْتُ أَذَى للحبِّ فِي كَبِدِي ... أقبلتُ نَحْو شِفَاء الحبِّ أبْتَردُ
هَذَا بَرَدْتُ بِبرد الماءِ ظاهرَهُ ... فَمنْ لِحَرٍّ عَلَى الأحشاء يتّقِدُ
أولست الْقَائِل:
قَالَتْ وأبثثُتها سِرِّي فبحتُ بِهِ ... قَدْ كُنْت عهدي تُحِبُّ السِّتْر فاسْتَتِرِ
ألستَ تبصرُ مَنْ حَوْلي فقلتُ لَهَا ... غطَّي هواكِ ومَا ألْقَى عَلَى بَصَري
هَؤُلاءِ أَحْرَار - وأشارت إِلَى جواريها - إِن كَانَ هَذَا خرج من قلب سليم.
قَالَ القَاضِي: وأنشدنا بَيْتِي عُرْوَة الْأَوَّلين من غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة.
لما وجدتُ أُوَار الحبِّ فِي كَبِدي ... أقبلتُ نَحْو سجَال الْقَوْم أبْتَرِدُ
هَذَا بَرَدْتُ بِبرد الماءِ ظاهرَهُ ... فَمنْ لنارٍ عَلَى الأحشاء تَتَّقِدُ
والأُوار: مَا يجدُ من الْغُلَّةِ والحرارة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
والنارُ قَدْ تَشْفِي من الأُوَار
وأمّا السِّجَالُ فَجمع سجلٍ، وَهُوَ الْكَبِير من الدِّلاء، قَالَ الراجز:
لطالما حَلَّأْتُمَاهَا لَا تَرِدْ ... فَخَلِّيَاها والسِّجالَ تبتَرِدْ(1/353)
وأمّا قَوْله: أبترد فَهُوَ افتعلُ من قَوْلهم: بَرّدَ الماءُ حرارةَ جوفي، قَالَ الشَّاعِر:
ةعطل قَلْوصِي فِي الرِّكابِ فإنَّها ... سَتَبْرُدُ أكْبَادًا وتُبْكِي بواكيا
وَرُوِيَ لنا قَوْله فِي الشّعْر الثَّانِي: وأبثثتُها وَجْدي مَكَان سِرِّي.
الالتذاذ بالتلاقي بعد الْفِرَاق
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمبرد، قَالَ: حَرَّم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْقِيَان، وَكتب إِلَيْهِ أَحْمَد بْن عَبْد السَّلام الْخُزَاعيّ رقْعَة وَلَم يُترجمها ودَسَّها فِي رقاع المتظلمين، فِيهَا:
عَرَفَاتُ الْأَمِير أيَّده الل ... هـ بطول التَّوْفِيق والتَّسْديدِ
فرقت بَيْننَا وبَيْنَ مُدِلٍّ ... وعجابٍ ومنصفٍ وفريد
كم قُلُوب قَدْ أحرقت فِي صُدورٍ ... ودموعٍ قَدْ أُقْرِحَتْ من خُدودِ
فَوَقع مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر فِي رقعته:
حُسْنُ رَأْي الْأَمِير فِي الْعُشَّاق ... وفَّر الْحُبَّ بامتناعِ التلاق
خَافَ أَن تُحْدِثَ المَلالُ سُلوًا ... فتلافي الهَوَى بِبَعْض الْفِرَاق
وأغضُّ اللقاءِ مَا كَانَ مِنْهُ ... من تناءٍ وبَعْدَ طوُل اشتياق
شجرٌ غَرْسُهُ كريهٌ ولكنْ ... يُجْتَنَى غِبُّهُ لذيذَ المذاق
قَالَ القَاضِي: قَدْ قَالَ النّاس فِي تضاعيف الالتذاذ بالتلاقي بعد الْفِرَاق، وَفِي تسهيل الْفِرَاق، واستحبابه لوفور الِاسْتِمْتَاع بالأوبة والاتفاق، فَأَكْثرُوا، وَإِن كَانَ أَكْثَرهم يعلِّلُ نَفسه ويُرضيها بِمَا لَو خُلِّيَ وَمَا يختاره لَمْ يرضه لَهَا، لَمْ نَبْن كتَابنَا هَذَا عَلَى استقصاء أَنْوَاعه، وَاسْتِيفَاء الْأَبْوَاب فِيهِ، فنجمع ذَلِكَ ونستوعبه، وَهُوَ يَأْتِي فِي هَذِهِ الْمجَالِس مُتَفَرقًا بِحَسب مَا يحضرنا، وَيخرج لنا، وَبِاللَّهِ توفيقنا، وبمشيئته وَحسن مَعْرفَته نرجو أَن تَجْري مقاصدنا ومتصرفاتنا.
أَبْيَات وجدت عَلَى سدّ مأرب
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: لما هُدّمَتْ مَأْرِبُ سَبَأ أُصِيب فِي ركن من أَرْكَانهَا:
ستأتي سنونُ هِيَ المعضلا ... ت تُرَجعُ مل الهَجْعةِ الأَجْدَل
وفيهَا يُهينُ الصَّغيرُ الكبيرَ ... وذُو الْحلم يُسْكِتُه الأجهل
ترى الشَّيْخ يُلْقِي الْعَصَا طَائِعا ... وَيَمْشي عَلَيْهَا الْفَتى الأَرْجَلُ
وَفِي الرُّكْن الثَّانِي:(1/354)
مَا يَكُنْ كَائِنا لَا شكّ فِيهِ ... يَزِدْهُ الصُّبْحُ وَاللَّيْل اقترابا
وليسا زَائِدِي شَيْئا تَوَلَّى ... وحَالا دُونَهُ إِلا ذَهَابَا
وَفِي الرُّكْن الثَّالِث:
أيالك دَهْرًا قَدْ خَلا عَجَبُهْ ... دَهْرًا تحول رَأسه وذنبه
دَهْرًا تَدَاوَلَهُ الإماءُ فَقَدْ ... تَرْضَى بماءِ بُطُونِهَا عَرَبُهْ
وَفِي الرُّكْن الرَّابِع الْأَخير:
الأخيرُ شَرُّ ... الأخيرُ شَرّ
قَالَ القَاضِي: تُرْجع مِل الهَجْعة أَرَادَ من الهجعة، فَحذف النُّون، وَلَم يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلهَا لِئَلَّا ينكسر الشّعْر، وَهَذَا مذهبٌ مَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة إِذا كَانَتْ هَذِهِ اللَّام ظَاهِرَة كَقَوْلِهِم: بَلْعَنْبر وبَلْحَرث وبَلْقَيْن، فَإِذا كَانَت اللَّام لَا تظهر أخرج عَلَى أَصله كَقَوْلِك، بَنو الرحل وَيَقُولُونَ: بَلْمَرة لظُهُور اللَّام، قَالَ الشَّاعِر:
غَدا بني علْبَاء بَكْر بْن وَائِل ... وعجا صُدُور الْخَيل نحر تَمِيم
وَمن الْكثير الفاشي من هَذَا الْبَاب فِي كَلَامهم قَوْلهم: مَا أنْسَ مِلْ أَشْيَاء بِمَعْنى من الْأَشْيَاء، قَالَ الْأَعْشَى:
فَمَا مل أَشْيَاء لأنس قَوْلهَا ... لَعَلَّ النَّوَى بعد التغرق تصقب
فَمَا أنسى ملْ أشياءِ لَا أنسى قَوْلَها ... وأدمُعها يَغْسِلْن حَشْو المكاحِلِ
وَهَذَا بَاب يَتَّسِع، ويتصل بِهِ الْبَيَان عَنْ قِرَاءَة أَبِي عَمْرو: " وأنَّهُ أَهْلَكَ عَادَلْ أُولَى "، وقَالَ الشَّمَاخُ بْن ضِرار يمدح عرابة الأوسي:
رَأَيْت عرايتل أَوْسِيَّ يَسْمُو ... إِلَى الخيراتِ مُنْقَطِعَ القَرِين
ولِشَرْح هَذَا الْمَعْنى مَوضِع من كتبنَا هُوَ أحقُّ بِهِ.
المجلِسُ الثَامِن وَالأربَعوُنَ
خَبَرُ بَنِي أُبَيْرِقٍ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَرَّانِيُّ بِبَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بيتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ " بَنُو أُبَيْرِقٍ ": بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلا مُنَافِقًا، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ يَنْحَلُهُ بَعْضَ الْعَرَبِ، ثُمّ يَقُولُ: قَالَ فُلانٌ كَذَا وَقَالَ فُلانٌ كَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْرَ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرُ إِلا الْخَبيث، فَقَالَ:(1/355)
أوكلما قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَصَمَوْا وَقَالُوا ابْنُ الأُبَيْرِقِ قَالَهَا؟
وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ فاقةٍ وحاجةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يسارٌ فَقَدِمَتْ ضافطةٌ مِنَ الشَّامِ، ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهِ نَفْسَهُ، فَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَقَدِمِتْ ضافطةٌ مِنَ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زيدٍ حِمْلا مِنَ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ، وَفِي المَشْرَبَةِ سلاحٌ لَهُ دِرْعَانِ وَسَيْفَاهُمَا وَمَا يُصْلِحُهُمَا، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ فَنُقِبَتِ الْمَشْرَبَةُ فَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلاحُ، فَأَتَى عَمِّي رِفَاعَةَ، فَقَالَ: ابْنَ أَخٍ! أتَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا فَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَشَرَابِنَا وَسِلاحِنَا، قَالَ: فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقروا فِي هَذِه اليلة، وَلا نَرَى فِيمَا نَرَاهُ إِلا بَعْضَ طَعَامِكُمْ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ - قَالُوا وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحَبَكُمْ إِلا لِبِيدَ بْنَ سَهْلٍ - رجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاحٌ وَإِسْلامٌ - فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ لبيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَبَنِي أُبَيْرِقٍ! وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتَبِنْ هَذِهِ السَّرِقَةُ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ، حَتَّى لم نشك أَنهم أَصْحَابنَا، فَقَالَ: لي عمي: يَا ابْن أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: قَتَادَةَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَهْلَ بيتٍ مِنَّا أَهْلُ جفاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زيدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلاحَهُ وَطَعَامَهُ، فَلْيَرُدُّوا سِلاحَنَا فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلا مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: أُسَيْدُ بْن عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قومٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدُوا إِلَى بيتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلامٍ وَصَلاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بينةٍ وَلا تثبتٍ، قَالَ قَتَادَةَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بيتٍ ذُكِرَ فِيهِ إِسَلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ تثبتٍ وَلا بَيِّنَةٍ، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَى عَمِّي رِفَاعَة، فَقَالَ يَا ابْن أَخٍ! مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَل الْقُرْآنُ " إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا - أَيْ بَنِي أُبَيْرِقٍ - وَأَنْتَ، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحِيما - أَيْ مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ -، وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ - أَي بني بيرق - إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا، هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ(1/356)
الله غَفُورًا رحِيما - أَيْ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ - وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائفةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شيءٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، لَا خَيْرَ فِي كثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بصدقةٍ أَوْ معروفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيما " إِلَى: وَمن يُشَاقق الرَّسُول. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ، قَالَ: قَتَادَةُ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أَرَى إِسْلامَهُ مَدْخُولا، فَلَمَّا أَتَيْته بِالسِّلَاحِ، قَالَ: يَا ابْن أَخِي! هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بشيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَنَزَلَ عَلَى سُلافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهدى وَيتبع غير سبل الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ " إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلافَةَ رَمَاهَا حَسَّانٌ بأبياتٍ مِنْ شِعْرٍ، فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْهُ فِي الأَبْطَحِ، ثُمَّ
قَالَتْ: أهدَيْتَ إِلَى شِعْرِ حَسَّانٍ، مَا كنت تَأتِينِي بِخَير. قَالَتْ: أهدَيْتَ إِلَى شِعْرِ حَسَّانٍ، مَا كُنْتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ.
معنى الضافطة، والدرمك
قَالَ القَاضِي: قَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: ضافطة أَرَادَ عَيْرًا أَوْ رُفْقه فِيهَا ميرة، وَقَوله: الدَّرْمَكُ يُرِيد النَّقي، وَمِنْه الْخَبَر: " إِن الأَرْض بعد الْبَعْث درمكةٌ بَيْضَاء "، قَالَ: أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة:
لَهُ دَرْمَكٌ فِي رَأْسِهِ ومشاربٌ ... وقدرٌ وخبازٌ وصاعٌ وَدَيْسَقُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فِي تُرْبَةِ الْجَنَّةِ: إِنَّهَا الْخُبْزُ مِنَ الدَّرْمَكِ.
وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: الدَّرْمَكُ خُبْزُ الحَوَّارَى، وَأنْشد:
ذَهَب الَّذِين إِذا اسْتَجَعْتُ فَزُرْتُهُمْ ... خَبَزُوا الْفُؤَادَ بدرمكٍ وشَرَابِ
حذف الْيَاء فِي مثل يَا ابْن أَخ وَيَا ابْن أمّ
وَفِي الْخَبَر: يَا ابْن أَخ، بِحَذْف الْيَاء الْمُضَاف إِلَيْهَا وإبقاء الكسرة دلَالَة عَلَيْهَا، وَهَذَا وَجه مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب، غَيْر أَن مُعظم النَّحْوِيين زَعَمُوا أَن الَّذِي يكثر اسْتِعْمَاله فِي هَذَا الْبَاب موضعان: يَا ابْن أمَّ وَيَا ابْن عَم، عَلَى اخْتِلاف الْقِرَاءَة فِي فتح الْمِيم وَكسرهَا من قَوْله يَا ابْن أم، وعَلى مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من لُغَات الْعَرَب، واعتل بَعضهم فِي اخْتِصَاص هذَيْن الاسمين لهَذَا الْمَعْنى بِابْن الرَّجُل يَقُولُ: يَا ابْن أمَّ وَيَا ابْن عَم، لمن لَيْسَ بأَخيه وَلا ابْن عمّه، وَهَذَا عِنْدِي لَازم فِي يَا أخي وَيَا ابْن أَخِي لِكَثْرَة قَوْلهم: يَا أَخِي وَيَا ابْن أخي(1/357)
للْأَجْنَبِيّ، وَقد يَقُولُونَ يَا ابْن أُمِّي فِي الْإِضَافَة فِي يَا ابْن أُمِّي، ويُسَكِّنُونها تَارَة ويحركونها أُخْرَى، قَالَ الشَّاعِر:
يَا ابْن أمِّي وَيَا شُقيّقَ نَفْسِي ... أَنْت خلَّيْتَنِي لدهرٍ شَدِيدِ
وقَالَ أخر:
يَا ابْن أمِّيَ وَلَو شَهِدْتُكَ إذْ ... تَدْعُو تميمًا وأنتَ غَيْرُ مُجَابِ
وَقَوله: وَكَانَ شَيخا قَدْ عَسى، يَعْنِي أَن الْكِبَرَ قَدْ بلغ مِنْهُ وَأثر فِيهِ، وَقد قرىء " وقَدْ بَلَغْتُ من الْكِبَرِ عِسِيًّا " وعُسِيًّا عَلَى مَا بَيْنَ الْقُرَّاءِ من الاخْتِلاف فِي ضَمِّ الْعين عَلَى الأَصْل وَكسرهَا، قَالَ الشَّاعِر:
لَوْلَا الحياءُ وَأَن رَأْسِيَ قَدْ عَسَا ... فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أمَّ الْقَاسِم
ويروى: وَقَدْ بدا، ويُقَالُ: فِي هَذَا الْبَاب الْعُسُوُّ والْعُتُوّ
كتب بني أُمَيَّة أقصر من كتب بني الْعَبَّاس
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: سَمِعْتُ بعض أَصْحَابنَا يُحَدِّثُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَوَّار، قَالَ: كُنْت غُلَاما أكتب بَيْنَ يَدي يَحْيَى بْن خَالِد، فَدخل عَلَيْه شيخٌ ضخمٌ جميل الْهَيْئَة، فأعظمه يَحْيَى وَأَقْعَدَهُ إِلَى جانِبه وحَادَثَه ثُمّ قَالَ لَهُ: مَا بالكم كُنْتُم تكتبون الْكتب إِلَى عُمّالكم فِي سَائِر أُمُوركُم فَلَا تطبلون، وَإِنَّمَا الْكتاب بِقدر الْفَضْل من كتبنَا، وَنحن نطيل إطالة لَا يمكنّا غَيْر ذَلِكَ، فَقَالَ: اعْفِني، فَأبى عَلَيْه إِلَّا أَن يجِيبه، فَقَالَ وَأَنت غير ساخط؟ ٍ قَالَ: نعم، قَالَ: إِن بني أُمَيَّة كَانَتْ لَا تكْتب فِي الْبَاطِل أَنَّهُ حقٌ، وَلا فِي الْحق أَنَّهُ بَاطِل فَلَا تُعْقِب أمرا قَدْ نفذ بِخِلَافِهِ أمرٌ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الإطالة وَطلب المعاذير والتلبيس، وَأَنْتُم تكتبون فِي الشَّيْء الْحق أَنه بَاطِل وَالْبَاطِل أَنَّهُ حق، ثُمّ تُعْقبون ذَلِكَ بِخِلَافِهِ فَلَا بُد لَكُمْ من الإطالة.
قَالَ عَبْد اللَّه بْن سَوَّار: فسالت عَنِ الشَّيْخ فَقِيل لي: هَذَا رجلٌ من كُتَّاب بني أُمَيَّة القدماء من أَهْل الشَّام.
قَالَ القَاضِي: قَول يحيى لهَذَا الْكتاب فِي سَائِر أُمُوركُم، إِن كَانَ أَرَادَ فِيمَا يسير وينتشر من أُمُوركُم، فَهُوَ صَوَاب فِي اللَّفْظ، وَإِن كَانَ أَرَادَ بِهِ الْعُمُوم والإحاطة عَلَى معنى جَمِيع أُمُوركُم، فَهُوَ خطأ من جِهَة اللَّفْظ وَالْمعْنَى، إِذْ السائرُ فِي هَذَا الْمَعْنى تَأْوِيله الْبَاقِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ: فعلت فِي بَاب كَذَا كَيْتَ وَكَيْت وَفِي سَائِر الْأَبْوَاب لِمَعْنى الْفَاضِل والبقية، يُقَال: أسأرت فِي الْإِنَاء أسأر بِالْهَمْز قَالَ الشَّاعِر:
أعطِ الْمُلَوُّحَ سُؤْرَ الكلبِ يشربُهُ ... إِن الْمُلَوِّحَ شرابٌ عَلَى الكَدَرِ
وقَالَ الْأَعْشَى:
بانَتْ وَقَدْ أسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتهَا ... بعد ائتلافٍ وخَيْرُ الودِّ مَا نَفَعَا(1/358)
وقَالَ أَيْضا:
فبانتْ وَقَدْ أسْأرَتْ فِي الفؤا ... د صَدْعًا عَلَى نأْيِهَا مُسْتَطِيرَا
وقَالَ حُمَيد بْن ثَوْر الْهِلَالِي:
أَلا إنَّ أُمِّي مَا يزالُ مِطَالُها ... شَدِيدا وفيهَا سؤرةٌ وَهِي قاعِدُ
يَعْنِي بَقِيَّة من الشَّبَاب، وَهِي من الْقَوَاعِد، وَقَدْ رُوِيَ بَيت الأخطل عَلَى وَجْهَيْن:
وشاربٌ مربحٌ بالكأسِ نَادَمَنِي ... لَا بالحَصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ
بِالْهَمْز فِي سَوَّار وَغَيره فَمن رَوَاهُ مهموزاً قالمعنى أَنَّهُ لَا يُفْضِل فِي الكأس شَيْئا إِذْ أَن هَذَا عيبٌ عِنْدهم من وَجْهَيْن، أَحَدهمَا: أَنَّهُ يدلُّ عَلَى عَجزه عَنِ الشَّرَاب أَوْ كَرَاهِيَة الشَّرَاب والنَّدام، وَمن رَوَاهُ بِسوار غَيْر مَهْمُوز فَمَعْنَاه بوثاب من المساورة والمواثبة، فَهَذَا بَيَان الْخَطَأ فِي هَذَا من جِهَة اللَّفْظ، وَأما من جِهَة الْمَعْنى فلكثرة كتب بني أُمَيَّة فِي عَظِيم الآثام وجسيم الْإِحْرَام، وذميم الْجور وَالْأَحْكَام، ولكثرة الإطالة فِي كتبهمْ، وَالْعجب من يَحْيَى كَيفَ أمسك عَنْ جَوَاب هَذَا الْمُتَكَلّم من أَن يريَهُ من إطالة كتب بني أُمَيَّة وَخطأ مَعَانِيهَا، ونَقْضِها أَكثر مَا أصدرت من أَحْكَامهَا.
مَا للشَّيْطَان ذَنْب فِي هَذَا
صلّى رَجُل مِنْهُم خلف إِمَام فَلَمَّا قَرَأَ " الْحَمْد " أرتج عَلَيْه فَلم يدر مَا يَقُولُ، فَجعل يَقُولُ: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، ويردد ذَلِكَ مرَارًا، فَقَالَ الشَّاطر من خَلفه: مَا للشَّيْطَان ذنبٌ إِلا أنَّكَ أَنْت مَا تحسنُ تقْرَأ.
مجّان الشُّعَرَاء يصفونَ صَلَاة أحدهم
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه، قَالَ: صلّى يَحْيَى بْن المعلي الْكَاتِب، وَكَانَ فِي مجلسٍ فِيهِ أَبُو نواس ووالبة بْن الْحُبَاب وعَلِيّ بْن الْخَلِيل والْحُسَيْن الخليع صَلَاة فَقَرَأَ فِيهَا: قُلْ هُوَ الله أحد، فغلظ فَسلم، فَقَالَ: أَبُو نواس:
أكْثَرَ يحيى غلظاً ... فِي قُلْ هُو اللَّهُ أحَدٌ
فَقَالَ والبةُ:
قَامَ طَويلا سَاكِنًا ... حَتَّى إِذا أَعْيَ سَجَدْ
فَقَالَ عَلِيّ بْن الْخَلِيل:
يزحَرُ فِي محرابِهِ ... زحيرُ حُبْلى بِولد
فَقَالَ الْحُسَيْن الخليع:
كأنَّمَا لِسَانُهُ شُدّ ... بحبلٍ من مَسَدْ
منزلَة أَبِي الْعَتَاهِيَة عِنْد العباسيين
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عون بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن(1/359)
الْحَسَن، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَتَاهِيَة ينشد الْمَأْمُون:
مولَايَ أَعْلَمُ ذِي علمٍ بِمَا يَأْتِي ... يزيدُني كُلّ يومٍ فِي كراماتي
لَمْ يأتِ شَيْئا من الْأَشْيَاء أعْلمُهُ ... إِلا تحرّى بِهِ برِّي ومرضاتي
أُعْطِيتُ فَوق المنى من سيدٍ ملكٍ ... وخصني اللَّهُ مِنْهُ بالكراماتِ
عَدُوُّهُ من جُمَيْع النّاس كلهم ... فَالْحَمْد للَّه من يَبْغِي معاداتي
فَقل لحاسدِ هَذَا الحبِّ مُتْ كَمَدًا ... فَالْحُبُّ يَقْسِمُهُ ربُّ السَّموات
إِن لَمْ يعاودُهُ شكري فِي مدائحِهِ ... فَلَا تملَّيْتُ مِنْهُ حُسْنَ عاداتي
فَقَالَ الْمَأْمُون: أَنْت يَا أَبَا إِسْحَاق تمدحنا مُنْذُ خمسين سنة، لَو كُنْت تَذُمُّنا لكَانَتْ لَك حُرْمة، وكل مَا نفعلُه بك من استحقاقك.
المجلِسُ التاسِع وَالأربَعُونَ
الحبُّ فِي اللَّهِ وَمَنْزِلَتِهِ
أَخْبَرَنَا الْمُعَافِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمُقْرِي أَبُو الْعَبَّاسِ الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ الرَّسِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي رجلٍ زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ، قَالَ: هَل لَهُ عَلَيْهِ قَرْضٌ؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ يُعْلِمُكَ أَنَّهُ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ".
تَعْلِيق الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: هَذَا خبرٌ مَعْرُوف قَدْ كتبناه عَنْ عددٍ من الشُّيُوخ من طرق شَتَّى، وأتى فِي مَعْنَاهُ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدةٌ من الْأَخْبَار، وَأَنه قَالَ فِي بَعْضهَا: إِن اللَّه تَعَالَى ذكره، قَالَ: " حَقتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مُحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَإِنَّ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ".
مِمَّا أشبه هَذَا مِمَّا يرغب فِي التحابِّ فِي اللَّه والتواصُل فِيهِ، وَإِنَّمَا يُخْلص الْمَوَدَّة والمخالة فِي اللَّه وَلَهُ مَعَ التَّقْوَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثر: " أَنَّهُ مَا تحاب قطّ رجلَانِ فِي اللَّه إِلا كَانَ أحبُّهما إِلَى اللَّه أشدهما حبا لصَاحبه "، مَتى عَرِيَ المتحابَّان من تقوى اللَّه فَإلَى أشدِّ الْعَدَاوَة مآلهما، وأقبحُ التباغُض عَاقِبَة أَمرهمَا، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ جَلَاله: " الأَخِلاءُ يومئذٍ بَعْضُهُمْ لبعضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ " وَقَد اقْتصّ اللَّه من أَحْوَال الْكفَّار وإخوانهم وطَوَاغِيتهم وأذْنَابِهم، وَمن تَبَرُّؤ بَعضهم من بعض، ولَعْنِ بَعضهم بَعْضًا، مَا فِيهِ تنبيهٌ للناظرين، وعظةٌ للمعتبرين، واللَّه نسْأَل التَّوْفِيق لما يرضيه، والْعِصْمة من جُمَيْع معاصية.(1/360)
من أَعْلَام النُّبُوَّة
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدَةَ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ليثٍ: بَعَثَنِي قَوْمِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ لآتِيَهُمْ بِخَبَرِهِ، فَقَدِمْتُ فَبِتُّ فِي جَبَلِ آلِ خُوَيْلِدٍ، وَمَعِي فُلانُ ابْن فُلانٍ، فَلَمْ أَرَ كَرُعْبِهِ، فَقُلْتُ: أَبِهَذَا الْقَلْبِ تُقَاتِلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ نَفْسِي تُخْبِرُنِي أَنَّهُ إِنْ رَآنِي قَتَلَنِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لِيَ الرَّجُلُ: ائْتِنِي بِخَبَرِهِ وَلا يَعْلَمَنْ بِمَكَانِي، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَجِدُهُ جَالِسًا بِالأَبْطَحِ فِي ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَعْكَانِ بَطْنِهِ، وبلالٌ قَائِمٌ يَقْرَأُ " يس، وَالْقُرْآن الْحَكِيمِ " فَقُلْتُ لَهُ: مُرْهُ فَلْيَزِدْنَا مِنْ هَذَا الْكَلامِ الطَّيِّبِ، فَقَالَ: زِدْهُ يَا بِلالُ، فَقَرَأَ " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الإِسْلامُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَتَفْعَلُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ وَتَنْهَى عَمَّا تُنْهَى عَنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عِنْدِي أَمَانَةً لرجلٍ أَفَأَكْتُمُهَا أَمْ أُحَدِّثُكَ بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُمْهَا وَهُوَ فُلانُ ابْن فُلانٍ، بَاتَ مَعَكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي جَبَلِ آلِ خُوَيْلِدٍ وَلِلظَّالِمِينَ مَصَارِعُ، اللَّهُ صَارِعُهُ فِيهَا؟ قَالَ: وَرَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَرَحَلْتُ مَعَهُ فَانْكَشَفَتْ هَوَازِنُ، وَوَقَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ صَرِيعًا يَرْكُضُ بِرِجْلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْعَدَكَ اللَّهُ فَإِنَّكَ كُنْتَ تُبْغِضُ قُرَيْشًا.
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر علمٌ من إِعْلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّالَّةِ عَلَى ثبوتُ رسَالَته، وصحةِ نُبُوّتِه، وَمَا أطلعهُ اللَّه عَلَيْه من غَيْبه، الَّذِي يُكرم من يَخُصُّهُ بِهِ، وعَلى منزلَة قُرَيْش قومِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسرته ورهطه الأدنين وعِزّته. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ، قَالَ: " من يُرِدْ هَوَانَ قُريش أهانَهُ اللَّه " وَكَيف يُبغِضُ ذُو حجًى قَبِيلا مِنْهُم رَسُول اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سيد أصفيائه، وَخَاتم أنبيائه.
يستحيي من النَّهر
حَدثنَا الْحُسَيْن بت الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بْن إِسْحَاق القَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن صَالِح الوَحَاصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، عَنْ صَفْوَان بْن عَمْرو، عَن شُرَيْح بْن عُبَيْد الْحَضْرَمِيّ، عَنْ كَعْب الْأَحْبَار.
أَن رَجُلا من بَنِي إِسْرَائِيل أَتَى فَاحِشَة فَدخل نَهرا يغْتَسل فِيهِ، فناداه الماءُ: يَا فُلان أَلا تَسْتَحي ألم تتب من هَذَا الذَّنب؟ فَقلت إِنَّك لَا تعود فِيهِ؟ فَخرج من المَاء فَزعًا وَهُوَ يَقُولُ: لَا أعصي اللَّهَ، فَأتى جبلا فِيهِ اثْنَا عشر رَجُلا يعْبدُونَ اللَّه فَلم يزل مَعَهم حَتَّى تَخَطَّوْا موضعهم فنزلوا يطْلبُونَ الكَلأَ، فمرُّوا عَلَى ذَلِكَ النَّهر، فَقَالَ الرَّجُل: أما أَنَا فلستُ بذاهب مَعكُمْ، قَالُوا لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لأنّ ثَمَّ من قَد اطَّلع مني عَلَى خطيئةٍ فَأَنا أستحيي مِنْهُ أَن يراني، فَتَرَكُوهُ ومَضَوْا، فناداهم النَّهر: يَا أَيهَا الْعُبَّاد! مَا فعل صَاحبكُم؟ قَالُوا: زَعَم لنا أَن هَاهُنَا من قَد اطلع مِنْهُ عَلَى خطيئةٍ(1/361)
فَهُوَ يستحيي مِنْهُ أَن يرَاهُ، قَالَ: يَا سُبْحَانَ الله! إِن بَعْضكُم ليغضب على وَلَده أَو على قراباته، فَإِذا تَابَ وَرجع إِلَى مَا يحب أحبه، وَإِن صَاحبكُم قَدْ تَابَ وَرجع إِلَى مَا أُحِب فَأَنا أحبُّه، فأْتُوه فأخْبِرُوه، واعْبُدُوا اللَّه عَلَى شَاطِئِي. فأخبروه فجَاء مَعَهم فأقاموا يعْبدُونَ اللَّه زَمَانا، ثُمّ إِن صَاحب الْفَاحِشَة توفّي، فناداهم النَّهر: يَا أَيهَا الْعُبَّاد وَالْعَبِيد الزُّهاد! غَسِّلُوه من مائي وادْفُنُوه عَلَى شاطئي حَتَّى يبْعَث يوْم الْقِيَامَة من قُرْبِي، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: نبيتُ ليلتنا هَذِهِ عَلَى قَبره نبْكي، فَإِذا أَصْبَحْنَا سِرنا، فَبَاتُوا عَلَى قَبره يَبْكُونَ، فَلَمَّا جَاءَ وَجْهُ السَّحَر غَشِيَهُم النُّعَاسُ، فأصْبحوا وَقَدْ أنبت اللَّه عَلَى قَبره اثْنَتَيْ عشرَة سروة، فَكَانَ أول سروٍ أنْبَتَهُ الله تَعَالَى عَلَى وَجه الأَرْض، فَقَالُوا: مَا أنبت هَذَا الشّجر فِي هَذَا الْمَكَان إِلا وَقَدْ أحبّ عبادتَنَا فِيهِ، فأقاموا يعْبدُونَ اللَّه عَلَى قَبره، كلما مَاتَ مِنْهُم رجلٌ دفنوه إِلَى جَانِبه حَتَّى مَاتُوا بأجمعهم، قَالَ كَعْب: فَكَانَت بَنو إِسْرَائِيل يحجون إِلَى قُبُورهم.
خطْبَة زِيَاد البتراء، وَتَعْلِيق بعض من سَمعهَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أَبِي يَعْقُوب الدِّينَوَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْفِرْيَابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْملك بْن عُمَير، قَالَ: شهدتُ زيادَ بْن أَبِي سُفْيَان وَقَدْ صعد الْمِنْبَر فسَلَّم تَسْلِيمًا خَفِيًّا، وانْحرف انحرافًا بطيًّا، وخطب خطْبَة بُتَيْرا، قَالَ ابْن الْفرْيَابِيّ: والبتيرا: الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين قَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ، وَشهِدت الشُّهُود بِمَا قَدْ علمْتُم، وَإِنَّمَا كنتُ امْرأً حفظ اللَّه مني مَا ضيع النّاس، وَوصل مني مَا قطعُوا، أَلا إِنَّا قَدْ سُسْنا وساسنا السائِسُون، وجَرَّبْنا وجَرَّبَنَا المجرِّبُون، ووُلِّينا ووَلِيَ علينا الوالون، وَإِنَّا وجدنَا هَذَا الْأَمر لَا يصلحه إِلا شدةٌ فِي غَيْر عُنْف، ولينٌ فِي غَيْر ضَعف، وأيم اللَّه إِن لي فِيكُم صَرْعَى، فليحذر كُلّ رَجُل مِنْكُم أَن يَكُون من صَرْعاي، فواللَّهِ لآخُذَنَّ البريء بالقسيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حَتَّى تلين لي قناتكم، وَحَتَّى يَقُولُ الْقَائِل: " انْجُ سَعْد، فقد قُتِل سُعَيْد "، أَلا رُب فرحٍ بإمارتي لن تَنْفَعَه، ورُبَّ كارهٍ لَهَا لن تضره، وَقد كَانَت بيني وبَيْنَ أَقوام مِنْكُم إحَنٌ وأحْقَاد، وَقَدْ جعلتُ ذَلِكَ خلف ظَهْري وَتَحْت قدمي، وَلَو بَلغنِي عَنْ أحدكُم أَن الْبُغْضَ لي قَتَلَهُ مَا كَشفْتُ لَهُ قِناعًا، وَلا هَتكتُ لَهُ سِتْرًا، حَتَّى يُبْدِيَ لي صفْحَته، فَإِذا أبداها لَمْ أُقِلْه عَثْرته، أَلا وَلا كذبةَ أكثرُ شاهدٍ عَلَيْهَا من كَذِبَةِ إِمَام عَلَى مِنْبر، فَإِذا سمعتموها مني فاغتمزوها فِي، وَإِذَا وعدتكم خيرا أَوْ شرا فَلم أفِ بِهِ فَلَا طَاعَة لي فِي رِقَابكُمْ، أَلا وَأَيّمَا رَجُل مِنْكُم كَانَ مكتبه خُرَاسَان فأجَلُه سنَتَان ثمَّ هُوَ أَمِير نَفسه أَلا وَأَيّمَا رجلٍ مِنْكُم كَانَ مكتبه دون خُرَاسَان فَأَجله سِتَّةُ أشهر ثُمّ هُوَ أَمِير نَفسه، وأيُّما امرأةٍ احْتَاجَت فإننا نعطيها عطاءَ زَوجهَا ثُمّ نُقَاصُّهُ بِهِ، وَأَيّمَا عقال فَقَدْتُمُوه من مُقامِي هَذَا إِلَى خُرَاسَان فَأَنا لَهُ ضامنٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ(1/362)
نُعيم بْن الْأَهْتَم الْمِنْقَرِيّ، فَقَالَ: أشهدُ قَدْ أُوتيت الْحِكْمَة وفَصْل الخَطَّاب، فَقَالَ: كذبت أَيهَا الرَّجُل ذَاك نَبِيَّ اللَّه دَاوُد عَلَيْه السَّلام، ثُمّ قَامَ إِلَيْهِ الْأَحْنَف بْن قَيْس، فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل إِنَّمَا الجوادُ بِشَدِّه، والسيفُ بِحَدِّه، والمرء بِجَدِّه، وَقَدْ بلَّغَك جَدُّك مَا ترى، وَإِنَّمَا الشُّكْر بعد الْعَطاء، والثناءُ بعد الْبلَاء، ولسنا نُثْنِي عَلَيْك حَتَّى نَبْتليَك، فَقَالَ: صدقت، ثُمّ قَامَ أَبُو بِلَال مرداس ابْن أُدَيَّة، فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل: قَدْ سَمِعت قَوْلك: وَالله لآخذن البريء بالسقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، ولَعَمْرِي لقَدْ خَالَفت مَا حكم اللَّه فِي كِتَابه إِذْ يَقُولُ: " وَلا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرَى " فَقَالَ: إيهًا عني، فواللَّهِ مَا أجدُ السَّبيل إِلَى مَا تريدُ أَنْت وأصحابُك حَتَّى أخوض الْبَاطِل خوضاً. ثمَّ نزل.
فَقَامَ مرداس بْن أدية، وَهُوَ يَقُول:
يَا طَالِب الْخَيْر نهر الجَوْرِ معترضٌ ... طولُ التهجُّدِ أَوْ فتكٌ بجبار
لَا كنت إِن لم أَصمّ عَنْ كُلّ غانيةٍ ... حَتَّى يكون بريق الْحور إفطاري
فَقَالَ لَهُ رجلٌ: أَصْحَابك يَا أَبَا بِلَال شباب، فَقَالَ: شباب مكتهلون فِي شبابهم، ثُمّ قَالَ:
إِذا مَا اللَّيْل أظْلم كَابَدُوهُ ... فيُسْفِرُ عَنْهُمُ وهُمُ سُجُودُ
فسرى وانجفل النّاس مَعَه، فَكَانَ قَدْ ضيق الْكُوفَة عَلَى زِيَاد.
شريطة بشار
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْف بْن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ دِعْبَل لإِبْرَاهِيم بْن الْعَبَّاس: أُرِيد أَن أصحبك إِلَى خُرَاسَان، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: حَبَّذَا أَنْت صاحبًا(1/363)
مصحوبًا إِن كُنَّا عَلَى شريطة بشار قَالَ: وَمَا شريطة بشار قَالَ: قَوْله:
أخٌ خيرٌ من آخيتُ أحملُ ثِقْلَهُ ... ويحملُ عَني حينَ يَفْدَحُنِي ثِقَلِي
أخٌ إِن نَبَا دهرٌ بِهِ كُنْتُ دُونَهُ ... وَإِن كانَ كونٌ كَانَ لي ثقةٌ مثْلي
أخٌ مالُهُ لي لستُ أرهبُ بُخْلَهُ ... وَمَالِي لَهُ لَا يرهبُ الدهرَ من بُخْلِي
قَالَ: ذَلِكَ لَك ومزية فاصطحبا.
من كنوز الْعلم
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، قَالَ: مُحَمَّدٌ - يَعْنِي بْن زَكَرِيّا الغَلابِي -، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ يَحْيَى الأَسْلَمِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
شَهِدْتُ مَائِدَةً عَلَيْهَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيِّ بْن أَبِي طالبٍ، وَعبد اللَّه بن الْعَبَّاس، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، فَسَقَطَتْ جرادةٌ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ الحنيفة: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ عَلَى جَنَاحِ الْجَرَادَةِ مَكْتُوبٌ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأَتَكَلَّمُ بِحَضْرَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ - يَعْنِي الْحَسَنَ - فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! مَا كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ؟ قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ: عَلَى جَنَاحِ الْجَرَادَةِ مَكْتُوبٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْجَرَادَةِ وَخَالِقُهَا، فَإِذَا شِئْتُ أَنْ أَبْعَثَهَا رِزْقًا لِقَوْمٍ فَعَلْتُ، وَإِذَا شِئْت أَن أبعثها عزاباً عَلَى قومٍ فَعَلْتُ، فَقَامَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْحَسَنِ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ.
سَبَب غضب بشار عَلَى سلم
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد الْبَزَّاز، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف بْن الْمَرْزُبَان، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن صَالِح الْمُؤَدب وَكَانَ أحد الْعلمَاء، قَالَ: أَخْبَرَنِي جمَاعَة من أَهْل الْأَدَب أَن بشارًا غَضِبَ عَلَى سلمٍ الخاسر وَكَانَ من تلامذته ورُواته، فاستشفع عَلَيْه: بِجَمَاعَة من إخوانه فأتَوْه، فَقَالُوا: جئْنَاك فِي حَاجَة، قَالَ: كُلّ حاجةٍ لَكُمْ مَقْضِيَّة إِلا سَلْمًا، قَالُوا: مَا جئْنَاك إِلا فِي سَلْم فَلَا بُدَّ من أَن ترْضى عَنْهُ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هوذا فَقَامَ سلْمٌ فَقبل رَأْسَهُ ويَدَيْه، وقَالَ: يَا أَبَا مُعَاذ! خِرِّيجُكَ وأديبك، قَالَ: يَا سَلْم! من الَّذِي يَقُولُ:
من رَاقَبَ النّاس لَمْ يَظْفَرْ بحاجَتِهِ ... وفاز بالطَّيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ
قَالَ: أَنْت يَا أَبَا مُعَاذ، جعلني اللَّه فدَاك، قَالَ: فَمن الَّذِي يَقُولُ:
مَنْ رَاقَب النَّاسَ مَاتَ غَمًّا ... وفاز باللَّذَّةِ الجَسُورُ
قَالَ: خرِّيجُك يَقُولُ ذَلِك - يَعْنِي نَفسه - فَقَالَ: فتأخُذُ مَعَاني الَّتِي عنيتُ بهَا، وتَعِبْتُ فِي اسْتنباطها، فتكْسُوها ألفاظًا أخفَّ من لفاظي حَتَّى يُرْوَى مَا تَقُولُ: وَيذْهب شِعرِي، لَا(1/364)
أرْضَى عَنْك أبدا، قَالَ: فَمَا زَالَ يتَضَرَّع إِلَيْهِ ويتشفع لَهُ الْجَمَاعَة حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ.
انتقام الْعَنزي
حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى النَّحْويّ.
قَالَ: كَانَ رَجُل من عَنْزَةَ دَعَا رؤبة بْن العَجَّاجِ فأطعمه وسقاه، وأنشده فَخْرَه عَلَى عَنزةَ، فسَاء ذَلِكَ العَنزِيَّ، فَقَالَ لغلامه سِرا: اركب فَرَسِي وجِئْني بِأبي النَّجْم، فَطَلَبه فجَاء وَعَلِيهِ جُبَّة حزوبت من غَيْر سَرَاوِيل، فَدخل وَأكل وَشرب، ثُمّ قَالَ: العَنْزَي: أنشدنا يَا أَبَا النَّجم ورؤبة لَا يعرفهُ، فانتحى فِي قَوْله:
الحَمْدُ للَّهِ الوَهُوبِ المجْرِلِ
حَتَّى بلغ:
تبقلَتْ من أَوَّلِ التَّبَقُّلِ ... بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ ونَهْشَلِ
قَالَ القَاضِي: ثَنَّى أَبُو النَّجْم فِي قَوْله بَيْنَ رماحي، لِأَن رماح الْفَرِيقَيْنِ وَإِن كَانَتْ جمعا جملتان كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
ألم يُحْزِنْكَ أَن جبَالَ قيسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعا
وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: " هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا " وقَالَ جلّ ذكره: " سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيهَا الثَّقَلَان " فَثنى وَجمع عَلَى مَا فسرناه، فَقَالَ لَهُ رؤبة: إِن نَهْشَلَا ابْن مَالك يَرْحَمك اللَّه، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أَخِي إِن النّاس أشباه، إنَّه لَيْسَ مَالك بْن حَنْظَلة، إنَّه مَالك بْن ضُبَيْعة، قَالَ: فَخَزِيَ رُؤْبةُ وحَيِيَ من غَلَبَة أبي النَّجْم إِيَّاه، ثمَّ أنْشدهُ أَبُو النَّجْم فخره على تَمِيم، فَاغْتَمَّ رؤبة، وقَالَ لصَاحب الْبَيْت: لَا يحبُّك قلبِي أبدا.
قَالَ القَاضِي: والبَتُّ: الكساء ويجمعُ بُتُوتًا.
وَقَدْ ذكر أَن رؤبة ذوكر بالأراجيز، فَقَالَ: وَقَدْ ذكر أَبُو النَّجْم قصيدتَهُ تِلْكَ: لعنها اللَّه، يَعْنِي هَذِهِ اللامية لاستجادته إِيَّاهَا وغضبه مِنْهَا وحَسَدِه عَلَيْهَا.
القصيدة أَيْضا
حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يَحْيَى بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن بشر المرشدي، أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، حَدَّثَنَا الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُلَيْم الْعَلاء، قَالَ: قُلْتُ لرؤبة: كَيفَ رَجَزُ أَبِي النَّجْم عنْدكُمْ؟ قَالَ: لاميته تِلْكَ عَلَيْها لعنةُ اللَّه، قَالَ: فَإِذا هِيَ قَدْ غَاظَتْهُ وبلغتْ مِنْهُ.
أَسْوَأ النّاس حَالا
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سلم الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بَكَّار، قَالَ: قَالَ بَعضهم: أَسْوَأُ النّاس حَالا مَنْ قويتْ شَهْوَتُهُ، وَبَعُدَتْ هِمَّتُهُ، وَاتَّسَعَتْ معرفتُه وضاقتْ قدرته.(1/365)
أَيْنَ حدث الْخرق
قَالَ: وقَالَ: الزُّبَير: كَانَ بِالْبَصْرَةِ رَجُل بصيرٌ بِالْغنَاءِ، فَحَضَرَ مجْلِس بعض الْأَشْرَاف فحفظ عَنْهُ بعضُهم صَوتا أخل بِهِ بَعْدُ، فَلَقِيَهُ يَوْمًا بِبَاب بعض الْأُمَرَاء، فَقَالَ: يَا أَبَا فُلان! الثَّوْب الَّذِي أعْطَيتنا كَانَ فِيهِ خَرْق، فَقَالَ: عنْدكُمْ حدث ذَلِكَ.
هَذِهِ الْأَحَادِيث الصغار
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن يُونُس، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِم وذُكِر هَذِهِ الْأَحَادِيث الصغار، فَقَالَ: هَذَا اللُّؤْلُؤ.
شكر وردٌّ عَلَيْه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَليفَة قَالَ: أَخْبَرَنِي القَاضِي مُحَمَّد بْن الْفَتْح السِّيِّاري.
قَالَ: اجْتَزْتُ بالكوفَةِ فِي بعض شوارعها، فأخَذَنِي بَطْني فَلم أدرِ مَا أصنع، إِذْ رَأَيْتُ خِصِيًّا عَلَى بَاب كَبِير، فَقلت: أصلحك اللَّه، هَلْ من موضعٍ أبولُ فِيهِ؟ فَقَالَ لي: ادخُل، فدخلتُ فَإِذا دَار كَبِيرَة قَوْراء، فِي وَسطهَا بُسْتان، فَرَأَيْت عينا من ثقبٍ فِي السِّتَارة، ووجهًا لَا يَنْبَغِي أَن يَكُون أحسن مِنْهُ، فَلَمَّا قضيتُ حَاجَتي، قُلْتُ فِي نَفسِي: إِن كَانَ مَعَ هَذَا الوجهِ الْحَسَنِ براعةُ لسانٍ فَهُوَ غَايَة، فَقلت وَأَنا خَارج لأُسْمِعَها: أحسن اللَّه لَكُمْ، وَبَارك عَلَيْكُم، وَتَوَلَّى مكافأتكم بالْحُسْنى، فَقَالَت مسرعةً: وَأَنت، فَبَارك اللَّه عَلَيْك وَأحسن إِلَيْك، فَمَا رَأينَا خَارِئًا أشكرَ مِنْك، فأفْحَمَتْنِي.
لَا، وَلا العوراء
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد المطيقي، حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُوسَى المَرْوَزِيّ، قَالَ: قَالَ عَبْد اللَّه بْن خُبيق، سَمِعْتُ بعض أَصْحَابنَا، يَقُولُ: قِيلَ للفُضَيْلِ بْن عِياض مَاتَ حَمَّاد البربريُّ وَأوصى بِخَمْسَة أَفْرَاس، قَالَ فُضَيْل: وَأَصَابُوا من يَقْبَلُها؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: وإيش يَطْلُبُون عَلَيْها، قَالُوا: الْحَوْرَاء، قَالَ: لَا وَلا العوراء
معنى الرِّفْه
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن أبي خَيْثَمَة، قَالَ: أنشدت لسَعِيد بْن سُلَيْمَان المساحقي القَاضِي، فِي هَارُون بْن زَكَرِيّا كَاتب الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد:
أزورك رِفهًا كلّ يومٍ وليلةٍ ... ودرُّك مخزونٌ عليّ قصير
لأيّ زمانٍ أرتجيك وخلةٍ ... إِذَا أَنْت لَمْ تَنْفع وَأَنت وَزِيرُ
فَإِن الْفَتى ذَا اللب يطْلب مَاله ... وَفِي وَجهه للطالبين بَشِيرُ
قَالَ القَاضِي قَوْله: أزورك رِفْهًا، يَعْنِي كُلّ يوْم من غَيْر إغْبَابٍ، وَقَدْ أبان ذَلِكَ بقوله: كُلّ يوْم وَلَيْلَة، وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم فِي الْإِبِل: هِيَ تردُ المَاء رِفْهًا، إِذا اتَّصل وِرْدُها، ثُمّ يُقَالُ فِي إظمائها غبٌ وربعٌ وخِمس إِلَى عشر، وَهُوَ أقْصَى الإظماء، وَكنت بِحَضْرَة بعض(1/366)
المجدُودين يَوْمًا مِمَّنْ حكمه زمانُ السُّوءِ فِينَا، وجَارَ بِبَسْطِ يَده وقَبْضِ أَيْدِينَا، وأشاع لَهُ فِي عَامَّة النّاس وعُشرائهم، وأغمارِهم وغوغائِهم، أَنَّهُ أوحدُ دهره، وقريعُ عصره، علما وذكاءً، وأدَبًا ومضاء، فتمثل بِبَيْت الْبُحْتُري من كَلمته السِّينيَّة الَّتِي يصفُ فِيهَا إيوانَ كِسْرى، وَهِي من جيد شعره وحَسَنِه، وأولها:
صُنْتُ نَفْسِي عَمَّا يُدَنِّسُ نَفْسِي ... وترفَّعْتُ عَنْ جَدَا كُلّ جِبْس
وَالْبَيْت الَّذِي تمثل بِهِ هَذَا الرَّجُل عَلَى قبح خطئِهِ فِيهِ:
وبعيدٌ مَا بَيْنَ وَاردِ خمسٍ ... عللٍ شِرْبُهُ وَوَارِد سُدْسِ
فَمَا رَأَيْت أحدا من حَاضِرِي مَجْلِسه يومئذٍ عَلَى كثْرتِهم قَدْ تبيَّن مِنْهُ إِنْكَار هَذَا اللَّفْظ وَلا لَحْظ، وَعَاد بعدُ بِمثل هَذَا فِي مجْلِس آخر، ثُمّ إِنَّنِي كُنْت أَنَا وَهُوَ يَوْمًا خَالِييْن، فَأَنْشد هَذَا الْبَيْت غَيْر مرةٍ عَلَى الْوَجْه الَّذِي أنكرتُه، فَقلت لَهُ: قَدْ سمعتُك تنشدُ هَذَا الْبَيْت غَيْر مرةٍ عَلَى مَا أنشدته فِي هَذَا الْوَقْت، ولَسْتُ أَدْرِي كَيفَ اتّفق لَك الْخَطَأ فِيهِ مَعَ ظُهُوره؟ وَكَيف لَمْ تتأمَّلْهُ فتعرفَ فسادَ الْمَعْنى الَّذِي إنشادك عبارَة عَنْهُ؟ قَالَ: فَكيف هُوَ؟ فَقلت لَهُ:
وبعيدٌ مَا بَيْنَ وَارِد رفهٍ عللٍ شِرْبُهُ وواردِ خِمْسِ
فَقَالَ: لَا، وَهُوَ عَلَى مَا رويتُه، فَقلت لَهُ: وأيّ بُعد بَيْنَ الْخُمْسِ والسُّدْس؟ هُوَ تاليه الْمُتَّصِل بِهِ الَّذِي يَلِيهِ، وبَيْنَ الرِّفْهِ وبَيْنَ الْخِمْس وَمَا دُونه بعد ظَاهر، وَفضل حَائِل، فَلم يَبِنْ لي مِنْهُ رُجُوع، وَقَدْ كَانَ كثيرا، مَا يرجعُ فِي أَشْيَاء كثيرةٍ إليّ، وَيرجع عَنْهَا عِنْد توقيفي إِيَّاه وتثبيتي لَهُ.
المجلِسُ الخَمْسُونَ
لَا نستعمل عَلَى عَملنَا من طلبه
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، حَدَّثَنَا مِنْدَلٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلٌ، فَقَالَ: اسْتَعْمِلْنِي، فَقَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ طَلَبَهُ وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ ".
شرح السَّبَب فِي ذَلِكَ
قَالَ القَاضِي: تأملوا رحمنا اللَّه وَإِيَّاكُم، مَا ورد بِهِ هَذَا الْخَبَر عَنْ نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إخبارِهِ أَنَّهُ لَا يستعملُ عَلَى النّاس من طلب الْعَمَل عَلَيْهِم، وَلا من حَرَصَ عَلَى ولَايَة أُمُورهم، لِأَن من سَأَلَ هَذَا وحرص عَلَيْه لَمْ يُؤْمَنْ زَيْغُه عَنِ الْعدْل فِي من يلِي عَلَيْه، ومحاباته لمن يُواليه، وشفاءِ غيظه مِمَّنْ يُعاديه، والاستطالة بِمَا بُسط فِيهِ عَلَى من بُسط عَلَيْه، فيجورُ فِي حكمه، ويستعينُ بسلطانه عَلَى ظُلمه، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ، مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ.(1/367)
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ " أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مسألةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مسألةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ".
وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْرِصَنَّ أحدٌ عَلَى الإِمَارَةِ فَيُعْزَلَ ".
وَقَدْ كَانَ سُلَفَاؤُنَا مِنْ علماءِ الْمُسْلِمِين يَنْأون عَنِ الولايات ويمتنعون من ملابستها وَالدُّخُول فِيهَا، ويجانبون أَهلهَا مَعَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهَا وإكراههم عَلَيْهَا، حَتَّى إِن مِنْهُم من يتهيَّبُ الْفُتْيا فِي الدِّين، ويَكلُ مُسْتفْتيهِ إِلَى غَيره من الْمُفْتِين، وَلَو ذكرنَا مَا رُوِيَ فِي تَفْصِيل هَذِهِ الْجُمْلَة لأطلنا القَوْل وَالْوَصْف، وملأنا الأجلاد والصحف، وَقَدْ مضى فِي بعض مَا تقدم من مجَالِس كتَابنَا هَذَا من ذَلِكَ طرفٌ، ولعلنا نأتي بِكَثِير من هَذَا الْبَاب فِي المؤتنف، وَبِاللَّهِ نستعين، وَإِلَى اللَّه المشتكى مِمَّا يُرَاد فِي زَمَاننَا هَذَا، من تَقْلِيد السَّفَلَةِ والْجُهالِ السُّخَفاءِ الضُّلال للْأَحْكَام، وإجلاسهم مجَالِس الأئمَّة الْأَعْلَام، مَعَ عَظِيم جهالتهم، وسُقوط عدالتهم، وَفَسَاد أمانتهم، وقُبْح الظَّاهِر وَالْبَاطِن من أَمرهم، واللَّه وليُّ الانتقام مِمَّنْ يطوي فِي هَذَا الْبَاب بِصِحَّة الإِمَام، وَيسْعَى لما يُساق إِلَيْهِ من الْأَحْكَام، فِي هدم شَرِيعَة الإِسْلام، ونستعين اللَّه عَلَى تمكيننا من إِيضَاح هَذَا الْأَمر، وإنهائه إِلَى من إِلَيْهِ الْأَمر، ساسة الْأمة، ومُدَبِّرِي الملَّة، حَتَّى تنكشف لَهُ نصيحة المحقِّين، وفضيلة المحقِّقين، وَيظْهر لَهُ تمويه الْمُمَخْرقين، وَمَا تَنَحَّوْهُ ولبَّسُوه، وتبجحوا فِيهِ ودَنَّسوه، ويوفقه اللَّه جلَّ جَلَاله لتأمله حَقَّ تَأمله، والإصغاء إِلَيْهِ وتقبُّله، ويبسط فِيهِ لِسَانه وَيَده، ويُعلى فِيهِ أمره ونَهْيه، فَينزل كُلّ ذِي منزلةٍ مَنْزِلَته، وَيقف كل امرىءٍ عِنْد انْتِهَاء قدره، اللَّهُمَّ فِبِك نستعين، وَأَنت خير معِين، وَأَنت أرْضى بِمَا نُحِبه، وأكره لما نكرهه، وأقدر عَلَى نصْرَة الْحق وَأَهله، ومَحْق الْبَاطِل وحِزْبِه.
الشكوى من تولي الْجُهَّال الْأَمر
وَقَدْ حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْنِ جَعْفَرٍ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَعْرَابِيُّ، قَالَ: كَانَ مِنْ كَلامِ عَلِيِّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام وَكَثِيرًا مَا يَقُولُهُ فِي حُرُوبِهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَرْضَى لِلتَّرَضِيِّ، وَأَسْخَطُ لِلسُّخْطِ، وَأَقْدَرُ عَلَى أَنْ تُغَيِّرَ مَا كَرِهْتَ، وَأَعْلَمُ بِمَا تُقَدِّرُ، وَلا تُغْلَبُ عَلَى بَاطِلٍ، وَلا تَعْجَزُ عَنْ حَقٍّ، وَمَا أَنْتَ بغافلٍ عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ.
ثُمَّ إِنِّي أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِي عَلَى الْوَسَائِطِ الْفُجَّارِ، وَالسُّفَرَاءِ الأَشْرَارِ، وَكُلِّ سَاخِطٍ خَامِلٍ، وَسَفِيهٍ جَاهِلٍ، مِمَّنْ قَدِمَ عَلَى نبيهٍ فَاضِلٍ، وَرُضِيَ بِهِ بَدَلا مِنْ كُلِّ عَالِمٍ عَاقِلٍ، فَهُوَ يَغُرُّ إِمَامَهُ، ويَفْجُرُ أَمَامَهُ وَتَأَمَّلُوا أَيُّهَا الأَلِبَّاءُ قُضَاةَ الْحَضْرَةِ، وَالْعِرَاقَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، بله أَطْرَاف الْبِلَاد ورسا تيق السَّوَادِ، أَيْنَ هُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ؟ وَأَيُّ حَظٍّ لَهُمْ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالْعَفَافِ وَالْأَمَانَة؟ وَقد كَانَ الْأَئِمَّة فِيمَا مَضَى رُبَّمَا دَلَّسَ عَلَيْهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ مَنْ هُوَ عَلَى بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي قَدَّمَنَا ذِكْرَهَا، فَيَنْتَبِهُ الرَّاقِدُ مِنْهُمْ(1/368)
مِنْ غَفْلَتِهِ، وَيَسْتَيْقِظُ الْوَسْنَانُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى سَوَامِ رَعِيَّتِهِ، فَيَبْنِي مَا انْهَدَمَ، وَيَسُدُّ مَا انْثَلَمَ، وَيَسْتَدْرِكُ الْفَاسِدَ بِإِصْلاحِهِ، وَيَتَلافَى التَّفْرِيطَ بِاسْتِصْلاحِهِ، وَكَانَتِ الرَّعَايَا تَمْتَعِضُ مِنْ مُنْكَرِ هَذَا النَّوْعِ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ فَلا تُقَارُّ عَلَيْهِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى رَفْضِ الأَرَاذِلِ، وَاجْتِبَاءِ الأَمَاثِلِ، وَتَقْدِيمِ الأَفَاضِلِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُقَلَّدُ شَيْئًا مِنْ شِعَبِ الدِّينِ وَالْمَمْلَكَةِ، إِلا بَعْدَ الابْتِلاءِ وَالْخِبْرَةِ، وَالامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ.
مَا قِيلَ فِي تقلد نوح بْن دارج الْقَضَاء
وَقد حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ أَبُو سَعِيد الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن رَاشد، قَالَ: قيل لِشَرِيك بْن عَبْد اللَّه: قَدْ تقلد الْقَضَاء نُوحُ بْن دَرَّاج، فَقَالَ: ذهبت العَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا غضبوا كَفَرُوا، وَقَدْ كَانَ لنوح بْن دراج فِي الْعلم والمعرفة والفهم منزلَة مَعْرُوفَة، لَا ينكرها ذُو معرفَة، وَقَدْ كَانَ استدرك بعضَ مَا أغفله رجلٌ من عُلَمَاء الْقُضَاة، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ القَاضِي:
كادتْ تَزِلُّ بِهِ من حالقٍ قدمٌ ... لَوْلَا تدارُكُها نوحُ بْن دَرَّاج
تَصْحِيح رِوَايَة الْبَيْت
قَالَ القَاضِي: رَأَيْت الْمُحدثين يَقُولُونَ فِي رِوَايَة هَذَا الْبَيْت: لَوْلَا تداركها بِفَتْح الرَّاء وَالْكَاف، وَهَذَا خطأ مِنْهُم، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عَلَى هَذَا كَانَت لَوْلَا فِيهِ بِمَعْنى التَّحْضِيض، كَقَوْلِك: يَا هَذَا فعلت كَذَا وَلَوْلَا مَا فعلت وَإِلَّا فعلت، وَلا معنى لذَلِك هَاهُنَا، وَإِنَّمَا المُرَاد لَوْلَا الَّتِي تُؤْذِن بامتناع الشَّيْء الْوُجُود غَيره، كَقَوْلِك لَوْلَا أَنْت للقيت زيدا، وَالصَّوَاب إِذا أَن تُروى لَوْلَا تَدَارُكُها بِضَم الرَّاء وَالْكَاف وعَلى إِعْمَال الْمصدر، وَالْمعْنَى لَوْلَا أَن تداركها، كَقَوْل اللَّه تَعَالَى: " لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نعمةٌ مِنْ رَبِّهِ " وَمن قصد هَذَا الْمَعْنى فقد أَخطَأ بحذفه الْمَوْصُول وإبقائه الصِّلَة.
فهم الْقَضِيَّة، فولاه الْقَضَاء
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ مُرِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْهَيْثَمِ بن عدي، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ، قَالَ: أَتَت امْرَأَة عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي، إِنَّهُ لَيَقُومُ اللَّيْلَ وَلا يَنَامُ، وَيَصُومَ النَّهَارَ مَا يُفْطُرُ، فَقَالَ عُمَرُ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، مِثْلُكِ أَثْنَى بِالْخَيْرِ، فَاسْتَحْيَتْ ثُمَّ وَلَّتْ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ الأَزْدِيُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي لَقِيطِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمٍ حَاضِرًا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا أَعْدَيْتَ الْمَرْأَة إِذْ جَاءَت تَسْتَعْدِي؟ قَالَ: أَوَلَيْسَ إِنَّمَا جَاءَتْ تُثْنِي عَلَى زَوْجِهَا وَتَذْكُرُ خِصَالَ الْخَيْرِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي أَعْظَمَ حَقَّكَ لَقَدْ جَاءَتْ تَسْتَعْدِي، فَقَالَ عُمَرُ: عَلَيَّ بِهَا، فَجَاءَتْ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: اصْدُقِينِي فَلا بَأْسَ بِالْحَقِّ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي لامْرَأَةٌ، وَإِنِّي لأَشْتَهِي كَمَا يَشْتَهِي النِّسَاءُ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ! فَقَالَ: يَا كَعْبُ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّكَ قَدْ فَهِمْتَ(1/369)
مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! تَحِلُّ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعٌ، فَلَهُ ثَلاثَةُ أَيَّام وَثَلَاث ليلالٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ مَا شَاءَ، وَلَهَا يَوْمًا، وليلتها، فَقَالَ عمر: مَا لحق إِلا هَذَا، اذْهَبْ فَأَنْتَ قاضٍ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يَزَلْ قَاضِيًا بَقِيَّةَ خِلافَةِ عُمَرَ وَخِلافَةِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ تَقَلَّدَ مُصْحَفًا وَخَرَجَ يُصَلِّي بَيْنَ النَّاسِ فَأَتَاهُ سهمٌ غربٌ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ يومئذٍ أَخَوَانِ فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ بَعْدَمَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ فَحَمَلَتْهُمْ وَهِيَ تَقُولُ:
أَعَيْنَيَّ جُودَا بدمعٍ سَرِبْ ... فتيةٍ مِنْ خِيَارِ الْعَرَبْ
وَمَا ضرهم غير حتف النفو ... س أَيَّ أَمِيرَيْ قريشٍ غَلَبْ
قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي قَضَى بِهِ كَعْبُ بْنُ سُورٍ فِيمَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا هُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْخَلَفِ وَبِهِ تَقُولُ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كعبٌ فِيهِ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ.
السَّبَب فِي زَوَال ملك بني أُمَيَّة فِي رَأْي ملك النّوبَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْفَضْل بْن الْعَبَّاس الرَّبَعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى بْن أَبِي جَعْفَر المَنْصُور، قَالَ: سمعتُ عمي سُلَيْمَان بْن أَبِي جَعْفَر يَقُولُ:
كُنْت وَاقِفًا عَلَى رَأس المَنْصُور لَيْلَة وَعِنْده إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ، وَصَالح بْن عَلِيّ، وَسليمَان بْن عَلِيّ، وَعِيسَى بْن عَلِيّ، فتذاكروا زَوَال ملك بني أُمَيَّة وَمَا صنع بهم عَبْد اللَّه، وقُتِل من قُتِل مِنْهُم بنهر أَبِي فِطْرَس، فَقَالَ المَنْصُور: رَحْمَة اللَّه ورضوانه عَلَى عمي، أَلا مَنَّ عَلَيْهِم حَتَّى يرَوْا من دولتنا مَا رَأينَا من دولتهم، وَيرغبُوا إِلَيْنَا كَمَا رغبنا إِلَيْهِم، فَلَقَد لَعَمْرِي عاشوا سُعَداء وماتوا فُقَرَاء، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن فِي حَبْسِك عَبْد اللَّه بْن مَرْوَان بْن مُحَمَّد، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ قصَّة عَجِيبَة مَعَ ملك النُّوبة، فَابْعَثْ فَسَلْهُ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا مُسَيب! عليَّ بِهِ، فأَخْرَجَ فَتًى مُقَيَّدًا بقيدٍ ثَقِيلٍ وَغُلٍّ ثَقِيلٍ فَمَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! رَدُّ السَّلامِ أمنٌ، وَلَمْ تَسْمَحْ لَكَ نَفْسِي بِذَلِكَ بَعْدُ، وَلَكِنِ اقْعُدْ، فَجَاءُوا بوسادةٍ فَثُنِّيَتْ فَقَعَدَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ: لقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَتْ لَكَ قصةٌ عجيبةٌ مَعَ مَلِكِ النُّوبَةِ فَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْخِلافَةِ، مَا أَقْدِرُ عَلَى النَّفَسِ مِنْ ثِقَلِ الْحَدِيدِ، وَلَقَد صدىء قَيْدي مِمَّا أُرَششُ عَلَيْه من البَوْل، وأصبُّ عَلَيْه المَاء فِي أَوْقَات الصَّلَوَات، فَقَالَ: يَا مسيِّب! أطلق عَنْهُ حَدِيدَه، ثُمّ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لم قَصدَ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ إِلَيْنَا، كنتُ الْمَطْلُوب من بَيْنَ الْجَمَاعَة، لأنِّي كنتُ وليَّ عَهْدِ أبِي مِنْ بعده، فدخلتُ إِلَى خزانَة فاستخرجتُ مِنْهَا عشرَة آلَاف دِينَار، ثُمّ دعوتُ عشرَة من غلماني وحمَّلتُ كُلّ واحدٍ عَلَى دابَّة ودفعتُ إِلَى كُلّ غلامٍ ألف دِينَار وأوقرتُ خَمْسَة أبغلٍ فُرْشًا، وشَدَدْت فِي وسطي جوهرًا لَهُ قيمَة مَعَ ألف دِينَار، وَخرجت هَارِبا إِلَى بِلَاد النّوبَة فَسِرْتُ فِيهَا ثَلَاثًا،(1/370)
فوقفت إِلَى مَدِينَة خراب فَأمرت الغلمان فعدلوا إِلَيْهَا وكشحُوا مِنْهَا مَا كَانَ قذرًا ثُمّ، بسطنا بعض تِلْكَ الْفُرُش، ودعوتُ غُلَاما لي كُنْت أَثِق بعقله، فَقلت: انْطلق إِلَى الْملك فأقْرِئِه مني السَّلام، وخُذ لي مِنْهُ الأمانَ وابْتَعْ لي مِيَرةً، قَالَ: فَأَبْطَأَ عليَّ حَتَّى سُؤْتُ بِهِ ظنًّا، ثُمّ أقبل وَمَعَهُ رَجُل آخر، فَلَمَّا أَن دخل كَفَرَ لي ثُمّ قعد بَيْنَ يَدي، فَقَالَ لي: الْملك يَقْرَأ عَلَيْكَ السّلام، وَيَقُول لَك: من أَنْت؟ وَمَا جَاءَ بك إِلَى بلادي؟ أمحارب أم رَاغِب إليّ أم مستجيرٌ بِي، قُلْتُ: ترد عَلَى الْملك السَّلام، وَتقول لَهُ: أما مُحَاربًا لَك فمعاذ اللَّه فَأَما رَاغِبًا فِي دينك فَمَا كُنْت أبغي بديني بَدَلا، وَأما مُستجيرٌ بك فَلَعَمْري، قَالَ: فَذهب ثُمّ رَجَعَ إليّ، فَقَالَ: إِن الْملك يقْرَأ عَلَيْك السَّلام، وَيَقُولُ لَك: أَنَا صائر إِلَيْك غَدا فَلَا تُحْدِثَنَّ فِي نَفسك حَدَثًا وَلا تَتَّخِذْ شَيْئا من ميرةٍ فَإِنَّهَا تَأْتِيك وَمَا تحْتَاج إِلَيْهِ، فَأَقْبَلت الميرةُ فأمرتُ غلماني ففرشوا ذَلِكَ الْفرش كُله وَأمرت بفرشٍ فنُصِبَت لَهُ وُلي مثله، وأقبلتُ من غدٍ أرْقُب مَجِيئه، فَبينا أَنَا كَذَلِك إِذْ أقبل غلماني يحْضرُون، قَالُوا: إِن الْملك قَدْ أقبل، فقمتُ بَيْنَ شُرْفتين من شُرَف القَصْر أنظر إِلَيْهِ، فَإِذا أَنَا برجلٍ قَدْ لَبِس بُرْدَيْن ائْتَزر بِأَحَدِهِمَا وارتدى الآخر، حافٍ راجلٍ وَإِذَا عشرَة مَعَهم الحراب ثَلَاثَة يقدمونه وَسَبْعَة خَلفه، وَإِذَا الرَّجُل الموجهُ إِلَى جَنْبة فاستصغرتُ أمره، وَهَان عَليّ لما رأيتهُ فِي تِلْكَ الْحَال، وسولَتْ لي نَفسِي قَتله، فَلَمَّا قَرُب من الدَّار إِذا أَنا بسواد عَظِيم، فَقلت: مَا هَذَا السوَاد؟ فَقِيل: الخيلُ، فَوَافى يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين زهاء عشرَة آلَاف عنان، وَكَانَ موافاة الْخَيل الدَّار فِي وَقت دُخُوله فأحد قوابها، فَدخل إليّ فَلَمَّا نظر إليّ، قَالَ: لِترْجُمَانِهِ: أَيْنَ الرَّجُل؟ فَأَوْمأ الترجمانُ إليّ، فَلَمَّا نظر إليّ، وَثَبت لَهُ فأعظم ذَلِكَ وَأخذ بيَدي فقبلها ووضعها عَلَى صَدره، وَجَعَل يدْفع مَا وَالِي الْفُسطاط بِرجلِهِ ويشوِّش الفَرْشَ، فظننتُ أَن ذَلِك شَيْئا يجلونه أَن يطؤوا عَلَى مثله حَتَّى انْتهى إِلَى الْفراش فَقلت لِترْجُمَانِهِ: سُبْحَانَ اللَّه لِمَ لَمْ يقْعد عَلَى الْموضع الَّذِي قد وطىء، فَقَالَ: قل لَهُ: إِنِّي ملكٌ، وحقُّ كُلّ ملك أَن يتواضع لعظمةِ اللَّه إِذْ رَفعه اللَّه، قَالَ: ثُمّ أقبل طَويلا ينكت بإصبعه فِي الأَرْض ثُمّ رفع رَأسه، فَقَالَ لي، كَيفَ سُلِبتم هَذَا الْمُلْك وأخِذ مِنْكُم وَأَنت أقرب النَّاس إِلَى نبيَّكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقلت: جَاءَ من كَانَ أقرب قرَابَة إِلَى نَبينَا صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فسلبنا وقتلنا فَطُرِدْنا، فَخرجت إِلَيْك مُستجيرًا بِاللَّه عَزَّ وَجَلّ ثُمّ بك، قَالَ: كُنْتُم تشربون الْخمر وَهِي محرمةٌ عَلَيْكُم فِي كتابكُمْ؟ فَقلت: فعل ذَلِكَ عبيدٌ وأتباعٌ وأعاجمُ دخلُوا فِي ملكنا، من غَيْر رَأينَا، قَالَ: فَلم كُنْتُم تَلْبَسُون الْحَرِير والدِّيباج، وعَلى دوابكم الذهبُ والْفِضة وَقَدْ حُرِّم ذَلِكَ عَلَيْكُم، قُلْتُ: عبيدٌ وأتباعٌ دَخَلُوا فِي مُلْكنا، قَالَ: قَالَ: فَلم كُنْتم أَنْتُم بأعيانكم
إِذا خرجتُم إِلَى نُزَهِكُم وصَيْدكُم تَقَحَّمْتم عَلَى الْقُرى فكلَّفْتم أَهلهَا مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ، بالضَّرب الوجيع ثُمّ لَا يُقْنِعكُم ذَلِكَ حَتَّى تدوسُوا زُرُوعَكُم فتُفْسِدُوها فِي طلب دراجٍ قيمتُه نصف دِرْهَم، أَوْ فِي عُصْفُور قيمتهُ لَا شيءَ وَالْفساد محرَّمٌ عَلَيْكُم فِي دينكُمْ، قُلْتُ: عبيدٌ وَأَتْبَاع، قَالَ: لَا وَلَكِنَّكُمْ استحللتم مَا حَرَّم اللَّه عَلَيْكُم وأتَيْتُمْ مَا عَنْهُ نَهاكُم، فَسَلبَكُم اللَّه العزَّ وألبسكم الذُّل، وَللَّه فِيكُم نقمة لَمْ تبلغْ غايتها بعدُ، وَإِنِّي أتخوَّف أَن تنزل النِّقْمةُ وَهِي إِذا نزلت عَمَّتْ وشَمِلتْ، فاخْرُجْ بعد ثَلَاث، فَإِنِّي إِن وجدتُك بعْدهَا أخذْتُ جَمِيع مَا معلك وقتلتُك وقتلتُ جميعَ مَنْ مَعَك، ثُمّ وثب فَخرج. فأقمت ثَلَاثًا وَخرجت إِلَى مصر، فأخَذَني واليك فَبعث بِي إِلَيْك فها أنذا وَالْمَوْت أحبُّ إليّ من الْحَيَاة، قَالَ: فَهَمَّ أَبُو جَعْفَر بِإِطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ: فِي عُنُقي بيعةٌ لَهُ، قَالَ: فَمَاذَا ترى؟ قَالَ: ينزلُ فِي دارٍ من دُورنا ونُجْرِي عَلَيْه مَا يَجْري عَلَى مِثله، قَالَ: فَفُعِل ذَلِكَ بِهِ، فواللَّهِ مَا أَدْرِي أمات فِي حَبسه أَن أطلقهُ الْمهْدي. خرجتُم إِلَى نُزَهِكُم وصَيْدكُم تَقَحَّمْتم عَلَى الْقُرى فكلَّفْتم أَهلهَا مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ، بالضَّرب الوجيع ثُمّ لَا يُقْنِعكُم ذَلِكَ حَتَّى تدوسُوا زُرُوعَكُم فتُفْسِدُوها فِي طلب دراجٍ قيمتُه نصف دِرْهَم، أَوْ فِي عُصْفُور قيمتهُ لَا شيءَ وَالْفساد محرَّمٌ عَلَيْكُم فِي دينكُمْ، قُلْتُ:(1/371)
عبيدٌ وَأَتْبَاع، قَالَ: لَا وَلَكِنَّكُمْ استحللتم مَا حَرَّم اللَّه عَلَيْكُم وأتَيْتُمْ مَا عَنْهُ نَهاكُم، فَسَلبَكُم اللَّه العزَّ وألبسكم الذُّل، وَللَّه فِيكُم نقمة لَمْ تبلغْ غايتها بعدُ، وَإِنِّي أتخوَّف أَن تنزل النِّقْمةُ وَهِي إِذا نزلت عَمَّتْ وشَمِلتْ، فاخْرُجْ بعد ثَلَاث، فَإِنِّي إِن وجدتُك بعْدهَا أخذْتُ جَمِيع مَا معلك وقتلتُك وقتلتُ جميعَ مَنْ مَعَك، ثُمّ وثب فَخرج. فأقمت ثَلَاثًا وَخرجت إِلَى مصر، فأخَذَني واليك فَبعث بِي إِلَيْك فها أنذا وَالْمَوْت أحبُّ إليّ من الْحَيَاة، قَالَ: فَهَمَّ أَبُو جَعْفَر بِإِطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ: فِي عُنُقي بيعةٌ لَهُ، قَالَ: فَمَاذَا ترى؟ قَالَ: ينزلُ فِي دارٍ من دُورنا ونُجْرِي عَلَيْه مَا يَجْري عَلَى مِثله، قَالَ: فَفُعِل ذَلِكَ بِهِ، فواللَّهِ مَا أَدْرِي أمات فِي حَبسه أَن أطلقهُ المهديُّ.
قَالَ القَاضِي فِي هَذَا الْخَبَر اتعاظٌ ومعتبر وتحذيرٌ ومُزْدجر، واللَّه نسْأَل توفيقنا وعصمتنا مِمَّا يُوجب حُلُول الْغِيَر، ويُلْهمنا الشُّكْر، ويُيَسِّرُنا لأعمال الْبر، وَإِن يُحكم عقدَة الْأنس بَيْننَا وبَيْنَ نِعمه، حَتَّى يَأْلَفنا لشكرنا إِيَّاهَا، وتأدية حق رَبنَا الْمُنْعم علينا بهَا، ويُوَطِّنُها فَلَا نَنْأى عَنْهَا.
أَبْيَات فِي تحذير بني الْعَبَّاس
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه الأَلْوسِيّ، قَالَ: لما صَار جَيش الدَّعِيِّ بِالْبَصْرَةِ إِلَى النعمانية طُرِحَتْ رُقْعة فِي دَار النَّاصِر مختومة، فجاءُوا بهَا إِلَى الموفَّق، فَقَالَ: فِيهَا عَقْربٌ لاشك، ففتوحها فَإِذا فِيهَا:
أرى نَارا تأجَّجُ من بعيدٍ ... لَهَا فِي كُلّ ناحيةٍ شُعاعُ
وَقَدْ نامَتْ بنوُ الْعَبَّاس عَنْهَا ... وأصبحتْ وَهِي غافلة رِتَاعُ
كَمَا نَامَتْ أُمَيَّةُ ثُمّ هَبَّتْ ... لتدفع حِين لَيْس لَهَا دِفَاعُ
فَأمر الموفَّق من سَاعَته بالارتحال إِلَى الْبَصْرَة.
قَالَ القَاضِي: وَهَذَا الشّعْر مِمَّا يُجَابِهُ قائلُهُ قَول الْقَائِل فِي بني أُمَيَّة:
أرى تَحت الرَّماد وَمِيضَ جمرٍ ... وأخْلِقْ أَن يكونَ لَهُ ضِرَامُ
وَقَدْ غفلتْ أُمَيَّةُ عَنْ سَنَاها ... ويوشكُ أَن يَكُون لَهَا اضطرامُ
أقولُ من التَّعَجُّبِ ليْتَ شِعْري ... أأيقاظٌ أُمَيَّة أم نِيَامُ
مَرْوَان بْن مُحَمَّد حِين أحيط بِهِ
وحَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، عَمَّن أخبرهُ: أَن مَرْوَان بْن مُحَمَّد جلس يَوْمًا وَقَدْ أُحيط بِهِ، وعَلى رَأسه خَادِم لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلا ترى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ لَهَفي عَلَى يدٍ مَا ذُكرتْ، ونعمةٍ مَا شُكرت، ودولةٍ مَا نُصِرَتْ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! من ترك الْقَلِيل حَتَّى يكثر، وَالصَّغِير حَتَّى يكبر، والخَفِيَّ حَتَّى يظْهر، وَأخر فعل(1/372)
الْيَوْم لغدٍ، حل بِهِ أَكثر من هَذَا، فَقَالَ: هَذَا القَوْل أشدُّ عَليّ من فَقْدِ الْخلَافَة.
قَالَ القَاضِي: وَنحن نلجأ إِلَى اللَّه جلّ جَلَاله راغبين إِلَيْهِ، خاضعين لَهُ، واثقين بِهِ، راجين لإحسانه، مستجيرين بعفوه وَكَرمه، فِي أَن يحفظ علينا الْخلَافَة الهاشمية والدولة الْعَبَّاسية، ونَعُوذ بِهِ أَن نَضْحَي بعد الاسْتِظْلال بِظِلِّها، والتَّقَلُّبِ فِي عَدْلِها، والْبِشْرِ بِخِدْمَة أَهلهَا، ونسأله سُؤال من وَجَّه رَغْبته إِلَيْهِ، وَاعْتمد فِي دينه ودنياه عَلَيْه، أَن يتمم نعْمَته، ويُهنِّي مَوْهِبَتَه، ويُوفِّر تشريفَه وتكْرِمتَه، لعَبْدِهِ القادرِ بِاللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِين، ويعز نَصره، وَيرْفَع فِي الْمَلأ الْأَعْلَى ذكره، ويُنّفِّذ فِي شَرق الْبِلَاد وغربها أمْرَه، ويَبْسُطَ يَده فِي جُمَيْع الرعايا وَلسَانه، ويُديل من كُلّ مخالفٍ عَلَيْه سُلْطَانه، حَتَّى يَفِيض العدلُ فِينَا، ويُديل ظالمنا، ويُنيل مظلومنا، ويَظْهَرَ لَهُ مَا ستره المُنَافِقُونَ، ويمكِّنه من نقضِ مَا أبرمه المارقون، حَنى يُدنِي كُلّ أَمِين، ويُقْصِي كُلّ ظَنِين، ويَسْتَبْطِن أُولي النِّعَم من أهل الدِّين، ويصطنع ذَوي الْفِقْه والإمامة، ويَطرِح أهلَ الرِّيَبِ والخيانة، إنَّه لطيفٌ خَبِير.
الْمُهْتَدِي يتشبه بعمر بْن عَبْد الْعَزِيز
حَدَّثَنِي بعض الشُّيُوخ مِمَّنْ شَاهد جمَاعَة من الْعلمَاء، وخالط كثيرا من الرؤساء أَن هَاشِم بْن الْقَاسِم الْهَاشِمِي، حدّثه وَقَدْ حدَّث هَاشِم هَذَا حَدِيثا كثيرا، وكتبنا عَنْهُ الْآن هَذِهِ الْحِكَايَة، لَمْ أسمعْها مِنْهُ وحَدَّثَنِي بهَا هَذَا الشَّيْخ الَّذِي قدمت ذكره، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس هَاشِم بْن الْقَاسِم: كنتُ بِحَضْرَة الْمُهْتدي عَشِيَّةً من العَشَايَا، فَلَمَّا كَادَت الشمسُ تَغْرُب وَثَبْتُ لأنصرف، وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ: اجْلِسْ فجلستُ، ثُمّ إِن الشمسَ غَابَتْ، وَأذن المؤذنُ لصَلَاة الْمغرب وَأقَام، فتقدَّم الْمُهْتدي فصلى بِنَا ثُمّ ركع وركعْنَا، ودعا بِالطَّعَامِ فأُحْضِر طبقُ خلافٍ وَعَلِيهِ رغفٌ من الْخبز النقي، وَفِيه آنيةٌ فِي بَعْضهَا مِلْح وَفِي بَعْضهَا خَلٌّ، وَفِي بَعْضهَا زيتٌ، فدعاني إِلَى الْأكل فابتدأت آكل مِقْدَارًا أَنَّهُ سيُؤْتَى بطعامٍ لَهُ نيقةٌ وَفِيه سَعة، فَنظر إليّ وقَالَ لي: ألم تَكُ صَائِما؟ قُلْتُ: بلَى، قَالَ: أفَلَسْتَ عَازِمًا عَلَى صَوْم غدٍ، فَقلت: كَيفَ لَا وَهُوَ شهر رَمَضَان، فَقَالَ: فكُلْ وَاسْتَوْفِ غذاءك فَلَيْسَ هَاهُنَا من الطَّعَام غَيْر مَا ترى، فعجبتُ من قَوْله، ثُمّ قُلْتُ: واللَّه لأخاطبنه فِي هَذَا الْمَعْنى، فَقلت: وَلَم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين؟ وَقَدْ أوسع اللَّه نعْمَته وَبسط رزقه وَكثير الخَيْر من فَضله، فَقَالَ: إِن الْأَمر لعلى مَا وَصَفْتَ وَالْحَمْد للَّه، ولكنني فكرتُ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي بني أُمَيَّة عُمَر بن عبد الْعَزِيز، وَكَانَ من التَّقَلُّلِ والتَّقَشُّفِ عَلَى مَا بلغك، فَغِرْتُ عَلَى بني هَاشِم أَن لَا يَكُون فِي خلفائهم مثله، فَأخذت نَفسِي بِمَا رَأَيْت.
قَالَ القَاضِي: وَلَم تزل المنافسة فِي أَعمال الْبر وأبواب الْخَيْر، فِي أثر الْمُتَّقِينَ وسبيل الصَّالِحين، وَقَدْ وفْق اللَّه الْمُهْتَدِي رضوَان اللَّه عَلَيْه من هَذَا لما يُرْجَى لَهُ المثوبة مِنْهُ والزلفى لَدَيْهِ، وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لطاعته وَحسن عِبَادَته.(1/373)
آراء لهِشَام بْن عَبْد الْملك
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَد بْن الْحَارِث، قَالَ: قَالَ: أَبُو الْحَسَن.
قَالَ يَوْمًا هِشَام بْن عَبْد الْملك وَهُوَ يسير فِي موكبه: يَا لَك دُنْيَا مَا أحسنك! لَوْلَا أنَّكَ ميراثٌ لآخرك، وآخرك كأولك، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة نظر إِلَى وَلَده يَبْكُونَ حوله، فَقَالَ: جَادَ لَكُمْ هِشَام بالدنيا وجُدْتُم عَلَيْه بالبكاء، وَترك لَكُمْ مَا جمع، وتركتم عَلَيْه مَا كسب، مَا أعظم منْقَلَب هِشَام إِن لَمْ يغْفر اللَّه لَهُ!
مَتَى أحصل عنْدك؟
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْر الحَرْبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر الْكُوفِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الْوَرَّاق، قَالَ: صَحِبْتُ رَجُلا فِي السَّفر وأنِسْتُ بِهِ لأدبه وَحسن أخلاقه، فصرنا إِلَى مصر، وَكنت أقصده وأبيتُ عِنْده اللَّيْلَة والليلتين فِي الْأُسْبُوع، وَقل مَا أُخِلُّ بزيارته فِي ليلةٍ كُلّ جُمُعَة، وَكَانَ ينزل غُرْفَةً من الْغُرَف فقصدْت فِي بعض العشايا زيارته فوجدتُ غرفته مغلوقة وَعَلَيْهَا مَكْتُوب:
أبدا تحصلُ عِنْدِي ... فَمَتَى أحْصُلُ عندكْ
إِن تناصَفْنا وإِلا ... أَنْت يَا ورَّاقُ وَحْدَكْ
فانصرفتُ إِلَى منزلي ثُمّ لقيتُه من غدٍ فَضَحِك كُلّ واحدٍ مِنَّا إِلَى صَاحبه فِيمَا كَانَ من مداعبته فِيمَا كتبه، واستدعيتُ بعد ذَلِكَ زيارتَه إيَّايَ، وَكَانَ يبيت اللَّيَالِي عِنْدِي وأبيتُ عِنْده إِلَى أَن فرَّقَتْ بيْننا حوادثُ الْأَيَّام.
تَأْخِير كُلّ وتقديمها
قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذِهِ الْحِكَايَة: فِي لَيْلَة كُلّ جُمُعَة وَاللَّفْظ الْآتِي فِي هَذَا الْخَبَر صَحِيح يُؤَدِّي عَنْ هَذَا الْمَعْنى، وَقَدْ جَاءَ فِي بعض الْقُرْآن نحوُ هَذَا فِي مَوضِع من الْقُرْآن، وَهُوَ قَول اللَّه تَعَالَى " كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كل قلبٍ متكبرٍ جَبَّار " فَقَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء من أَهل الحَرَمَيْن وَالشَّام والْعِرَاقَيْن عَلَى كُلّ قلبٍ متكبرٍ، بِإِضَافَة كُلّ إِلَى قلبٍ، عَلَى أَن قَوْله متكبر جَبَّار، من صفة ذِي الْقلب، وَإِن كَانَ الْقلب نَفسه قَدْ يُوصف بِذَلِك، وَنَحْو هَذَا قَوْلهم: فلانٌ سليمُ الْقلب، وقلبُ فلانٍ سُلَيْم، فيُجْرِي الصّفة عَلَى اللَّفْظ تَارَة أَيّ عَلَى الْقلب إِذْ كَانَت السَّلامةُ والتكبرُّ والجبرية فِيهِ، وَتارَة عَلَى صَاحبه وَيجْعَل صفة لجمْلَتِه لاستحقاقه الْوَصْف لَهَا، وَإِن كَانَتْ حَالَة فِي قلبه، وَقَدْ قَرَأَ بعض الْقُرَّاء عَلَى كُلِّ قلبٍ متكبرٍ بتنوين الْقلب، وَجَعَل الصّفة لَهُ إِذْ كَانَتْ فِيهِ، وَمِمَّنْ قَرَأَ هَكَذَا أَبُو عَمْرو بْن الْعَلاء من الْبَصْرَة، وذُكِر أَنَّهَا من قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَلَى كُلّ قلب متكبر، بِإِضَافَة قلب إِلَى كُلّ على الْوَجْه الَّذِي قدمنَا ذكره، وَهَذِه الْقِرَاءَة شاهدةٌ للإضافة موافقةٌ فِي الْمَعْنى قِرَاءَة من أضَاف عَلَى الْوَجْه الآخر، وَحكى الفَرَّاء أَنَّهُ سَمِع بعض الْعَرَب يَقُولُ: رَجُل سَفَرُه يوْم كُلّ جُمُعَة، يُرِيد كُلّ يوْم جمعه، قَالَ: وَالْمعْنَى وَاحِد.(1/374)
قَالَ القَاضِي: وَلَفظ قراءتنا عَلَى مَا فِي مَصَاحِفنَا عَلَى الْإِضَافَة أولى بإبانة الْمَعْنى وَطَرِيق التَّحْقِيق دون التَّجَوُّز، لِأَن قراءتنا أَتَتْ بِإِضَافَة كُلّ إِلَى قلب، واستوعبت قُلُوب المنكرين، وَجَرت عَلَى إِضَافَة جمع إِلَى مَا دَلِيل الْجمع ظَاهر فِي لَفظه، وَقِرَاءَة عَبْد اللَّه أضيف فِيهَا وَاحِد إِلَى جمَاعَة تجوزًا وعني بِهِ معْنى الْجمع وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول الشَّاعِر:
كلوا فِي نصف بَطْنِكُمُ تَعيشُوا ... فَإِن زَمَاننا زمنٌ خميصُ
وَقَول الآخر:
كأَنَّه وجهُ تركيين قَدْ عُصِبَا ... مستهدفٌ لِطِعان غير تذبيب
وَقَول ابْن عَبْدة:
بهَا جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها ... فبيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِيبُ
وَقَول جرير:
الوَارِدِينَ وتيمٌ فِي ذُرَا سبأٍ ... قَدْ عض أَعْنَاقهم جلدُ الجَوَامِيسِ
وقَالَ الآخر:
لَا تُنكِرُوا القَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا ... فِي حَلْقِكُمْ عظمٌ وَقَدْ شَجِينَا
عَلَى أَن وَجه قِرَاءَة عَبْد اللَّه فِي هَذَا الْمَعْنى أقوى مِمَّا فِي هَذِهِ الأبيات، لِأَن لكلّ لفظا يَقْتَضِي التَّوْحِيد، وَمعنى يَقْتَضِي الْجمع، وَقَدْ يُتَّجه فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه حملهَا عَلَى مَا لَا يتَغَيَّر الْمَعْنى بِهِ من التَّجَوُّز، الَّذِي يُسَميه النحويُّون الْقلب، وَقَدْ تَأَول عَلَيْه قومٌ من النَّحْوِيين كثيرا من آي الْقُرْآن وَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي بلغتين: أدخلتُ القَلَنْسُوَةَ رَأْسِي، وتَهَيَّبني الفلاة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَلا تَهَيَّبُنِي الموماةُ أرْكَبُها ... إِذا تجاوبتِ الأصْدَاءُ بالسَّحَرِ
وَهَذَا بَاب قَد استقصيناه فِي كتبنَا، وأمللْنا مِنْهُ قدرا وَاسِعًا عَلَى شرحٍ وتفصيل فِيمَا أمللناه من النثر وَالنّظم، وَمن شرح مُخْتَصر أَبِي عَمْرو الْجرْمِي فِي النَّحْو، وأتينا فِيهِ بِمَا لَا نعلم أحدا سبقنَا إِلَيْهِ، وَمن نظر فِيمَا هُنَالك تبين مِنْهُ مَا وَصفنَا إِن شَاءَ اللَّه.
المجلِسُ الحَادي والخمسُون
أَيّ الْخلق أعجب إِيمَانًا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد أَبُو عِيسَى الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْهَالُ بْنُ بَحْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلائِكَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالُوا: فَالنَّبِيُّونَ، قَالَ: كَيْفَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: كَيْفَ لَا تَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَإِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِيمَانًا قومٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَجِدُونُ اسْمِي فِي ورقةٍ فَيُؤْمِنُونَ بِي وَيُصَدِّقُونِي ".(1/375)
تعقيب الْمُؤلف
قَالَ القَاضِي: فَالْحَمْد للَّه الَّذِي هدَانَا لدينِهِ، وَالْإِيمَان بِنَبِيِّهِ، وَتَصْدِيقنَا بكتابه ووَحْيه، ووفقنا لموالاة من تقدمنا من السَّابِقين الْأَوَّلين، وتابعيهم بإحسانٍ من السّلف الصَّالِحين، وبصَّر بِأَفْضَل أَئِمَّتنَا الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين، الَّذِين سبقُونَا بِالْإِيمَان ولاتجعل فِي قُلُوبنَا غِلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم، ونبرأ إِلَى الله تَعَالَى مِمَّن عادى الأئمَّة، وَسَب الأخيار من سلف الْأمة، وَكَانَ فِيمَا وجدته عَن عمر بن ذَر، ثمَّ وجدته عَن عبد الله بن عمر، ثمَّ وجدته عَنْ عَليّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْه السَّلام أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ ذُكر لَهُ أَن أُناسًا يَشْتمون أَصْحَابه -: قَاتلهم اللَّه أيَشْتُمون قوما - يَعْنِي الصَّحَابَة - أَسْلمُوا من مَخَافَة اللَّه عَزَّ وَجَلّ، وَأسلم النّاس من مَخَافَة أسيافهم؟
أطع كُلّ أَمِير
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعْدٍ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، عَنْ جَمِيلِ بْنِ مَالِكٍ الْحِمْصِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاذُ! أَطِعْ كُلَّ أَمِيرٍ، وَصَلِّ خَلْفَ كُلِّ إمامٍ، وَلا تَسُبَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي ".
قَالَ القَاضِي: وَمَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من الأخيار وَنقل الرِّوَايَات والْآثَار مِمَّا لَا يَتَّسِع استقصاؤه، وَيمْتَنع عَلَى رُوَاته جمعه وإحصاؤه.
كَيفَ يسب أحد أَصْحَاب النَّبِيّ
وَقَدْ حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن هَارُون، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بشر هَارُون بْن حَاتِم الْبَزَّاز، قَالَ: سمعتُ مُحَمَّد بن صبيح ابْن السماك، يَقُولُ: علمتُ أَن الْيَهُود لَا يَسُبُّون أَصْحَاب مُوسَى عَلَيْه السَّلام، وَأَن النَّصارى لَا يَسُبُّون أَصْحَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَمَا بالك يَا جَاهِل سببت أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ علمت من أَيْنَ أتيت، لَمْ يشغَلْكَ ذنبُك، أَمَا لَو شَغَلَك ذنُبك لخِفْتَ رَبك، لقَدْ كَانَ فِي ذنْبِك شُغُل عَنِ المسيئين، فَكيف لَمْ يشغَلْك عَنِ الْمُحْسِنِينَ، أما لَو كُنْت من الْمُحْسِنِينَ لما تناولتَ الْمُسِيئين، ولرجوْتَ لَهُمْ أرْحم الرَّاحِمِينَ، وَلَكِنَّك مِن المسيئين، فَمنْ ثَمَّ عِبْتَ الشُّهَدَاء والصَّالحين، أَيهَا العائِبُ لأَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَو نمت لَيْلَك وَأَفْطَرت نهارك لَكَانَ خيرا لَك من قيام ليلك وَصِيَام نَهارك، مَعَ سُوء قَوْلك فِي أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فويْحَك! لَا قيامَ ليلٍ وَلا صَوْم نهارٍ وَأَنت تتَنَاوَل الأخيار، فأبْشِر بِمَا لَيْسَ فِيهِ الْبُشرى إِن لَمْ تَتُب مِمَّا تسمع وَترى، وَيحك! هَؤلاءِ شرفوا فِي أُحُد، وهَؤُلاءِ جَاءَ الْعَفو عَنِ اللَّه تَعَالَى فيهم، فَقَالَ: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَنْزَلَهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفا الله عَنْهُم " فَمَا تَقُولُ فِيمَن عَفا اللَّه عَنْهُم؟ نَحْنُ نَحْتجُّ بخليل الرَّحْمَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي(1/376)
فَإنَّك غفورٌ رَحِيم " فقد عرض العاصِي للغُفْران فَلَو قَالَ: فإنَّك عزيزٌ حَكِيم، أَوْ عَذَابُك عذابٌ أَلِيم، فَبِمَ تحْتَجُّ يَا جَاهِل إِلا بالجاهلين، شَرُّ الْخلف خَلَف شَتَم السَّلَف، واللَّه لواحدٌ من السَّلَف خير من ألفٍ من الْخلف.
القَوْل فِي كلمة " خلف "
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر قَدْ حَرَّك لَام الْخلف، وَقد اخْتلف أولو الْعلم باللغة والعربية فِي هَذَا، فَقَالَ معظمهم: يُقال: هَؤُلاءِ خَلَفُ صدقٍ بِالتَّحْرِيكِ، وخَلْف سوءٍ بالتسكين، وَمن أَمْثَال الْعَرَب فِي الَّذِي يُطِيل السُّكُوت ثُمّ يتَكَلَّم بالفاسد من الْكَلَام: " سكت ألْفًا ونَطَقَ خَلْفًا " وَمِنْه قَول لبيد:
ذَهَبَ الَّذِين يُعَاشُ فِي أكْنَافِهِمْ ... وبقيتُ فِي خلفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
وذُكِر أَن أَعْرَابِيًا كَانَ مَعَ قومٍ فحَبِق فتَشَوَّر ثُمّ أَوْمى بِيَدِهِ إِلَى اسْتِه، فَقَالَ: خَلْفُ سوءٍ نَطَقتْ خَلْفًا، ويُقَالُ للمحال الْفَاسِد من الْمقَال: هَذَا خَلْف، وَذكر الْأَخْفَش أَنَّهُ يُقَالُ: خلفٌ للمتَّبعِ لمن سَلَف قَبْله، وخَلْف لمن أَتَى بعد من تقدمه من غَيْر تَفْرِيق مِنْهُ بَيْنَ الْمَدْح والذم فِيهِ، وَهَذَا قَول حسن غَيْر مستبعد، وَقَدْ يَكُون تَحْرِيك اللَّام فِي الْخلف فِي هَذَا الْخَبَر لاقترانه بالسلف كَمَا قَالَ من قَالَ: من العَيْر الخَيْر، كَمَا قَالُوا: الغدايا والعشايا، وَهَذَا بَاب يَتَّسِع منظومه ومنثوره، وَقَدْ أَتَيْنَا بِهِ أَوْ بمعظمه فِي مَوَاضِع من كتبنَا.
وقَالَ الفَرَّاء: هُوَ خَلَف سوءٍ من أَبِيهِ، وَلَك عِنْدِي خلفٌ من مَالك، وَرُبمَا ثَقّلوا خَلف سوءٍ، وَهُوَ قَلِيل.
وَصِيَّة مُعَاوِيَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمَّا اشْتَكَى مُعَاوِيَةُ مَشْكَاتَهُ الَّتِي هَلَكَ فِيهَا أَرْسَلَ إِلَى فاس مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَخَصَّ وَلَمْ يَعُمَّ، فَقَالَ: يَا بَنِي أُمَيَّةَ! إِنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مَا لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَخِفْتُ أَنْ يَسْبِقَكُمُ الْمَوْتُ إِلَيَّ سَبَقْتُهُ بِالْمَوْعِظَةِ إِلَيْكُمْ، لَا لأَرُدَّ قَدَرًا وَلَكِنْ لأُبَلِّغَ عُذْرًا، لَوْ وُزِنْتُ بِالدُّنْيَا لَرَجَحْتُ بِهَا، وَلَكِنِّي وُزِنْتُ بِالآخِرَةِ فَرَجَحَتْ بِي، إِنَّ الَّذِي أُخَلِّفُ لَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا أمرٌ سَتُشَارَكُونَ فِيهِ أَوْ تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي أُخَلِّفُ لَكُمْ مِنْ رأيٍ أَمْرٌ مَقْصُورٌ عَلَيْكُمْ نَفْعُهُ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ، مخوفٌ عَلَيْكُمْ ضَرَرُهُ إِنْ ضَيَّعْتُمُوهُ، فَاجْعَلُوا مُكَافَأَتِي قَبُولَ وَصِيَّتِي، إِنَّ قُرَيْشًا شَارَكَتْكُمْ فِي نَسِبِكُمُ وَبِنْتُمْ مِنْهَا بفعالكم، فقدمكم مَا تقدتم فِيهِ، إِذْ أَخَّرَ غَيْرُكُمْ مَا تَأَخَّرُوا لَهُ، وَبِاللَّهِ لَقَدْ جُهِرَ لِي فَعَلِمْتُ، وَنُغِمَ لِي فَفَهِمْتُ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَبْنَائِكُمْ بَعْدَكُمْ نَظَرِي إِلَى آبَائِهِمْ قَبْلَهُمْ، إِنَّ دَوْلَتَكُمْ سَتَطُولُ، وَكُلُّ طَوِيلٍ مَمْلُولٌ مَخْذُولٌ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّتُكُمْ كَانَ أَوَّلُ تَجَادُلِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَاجْتِمَاعُ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْكُمْ، فَيُدَبَّرُ الأَمْرُ بِضِدِّ الْحُسْنِ الَّذِي أَقْبَلَ بِهِ، فَلَسْتُ أَذْكُرُ عَظِيمًا يُرْكَبُ مِنْكُمْ وَلا حُرْمَةً تُنْتَهَكُ، إِلا وَالَّذِي(1/377)
أَكُفُّ عَنْ ذِكْرِهِ أَعْظَمُ، فَلا مُعَوِّلٌ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّبْرِ، وَتَوَقُّعُ النَّصْرِ، وَاحْتِسَابُ الأَجْرِ، فَيُمَادُّكُمُ الْقَوْمُ دَوْلَتَهُمُ امْتِدَادَ الْعِنَانَيْنِ فِي عُنُقِ الْجَوَادِ، فَإِذَا بَلَغَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالأَمْرِ مَدَاهُ، وَجَاءَ الْوَقْتُ الْمَحْتُومُ، كَانَتِ الدَّوْلَةُ كَالإِنَاءِ الْمَكْفُوِّ، فَعِنْدَهَا أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّقِهِ غَيْرُكُمْ فِيكُمْ، فَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ فِيكُمْ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
سُلَيْمَان بْن عَبْد الْملك وشرهه إِلَى الطَّعَام
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه وَصله، قَالَ: قَالَ: لنا سُلَيْمَان يَوْمًا: إِنِّي قَدْ أمرت قيّم بستاني أَن يحبس عليّ الْفَاكِهَة وَلا يجني مِنْهَا شَيْئا حَتَّى تدْرك، فاغدوا عَلَيّ مَعَ الْفجْر - يَقُولُ: لأَصْحَابه الَّذِين كَانَ يأنس بهم: لنأكل الْفَاكِهَة فِي برد النَّهَار - فغدونا فِي ذَلِكَ الْوَقْت، فصلى الصُّبْح وصلينا، ثُمّ دخل ودخلنا مَعَه، فَإِذا الْفَاكِهَة متهدلةٌ عَلَى أَغْصَانهَا وَإِذَا كُلّ فَاكِهَة مختارة قَد أدْركْت كلهَا، فَقَالَ: كلوا، ثُمّ أقبل فأكلنا بِمِقْدَار الطَّاقَة، واقبلنا نقُول: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَذَا العنقود، فيخرطه فِي فِيهِ، يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، هَذِهِ التفاحة، كلما رَأينَا شَيْئا نضيجًا أومأنا إِلَيْهِ فَيَأْخذهُ فيأكله ويَحْطِمُه، حطمًا، حَتَّى ارْتَفع الضُّحَى ومَتَع النَّهَار، ثُمّ أقبل عَلَى قيّم الْبُسْتَان، فَقَالَ: وَيحك يَا فُلان، إِنِّي قَد استجعتُ فَهَل عنْدك شَيْء تطعمنيه؟؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين عناقٌ حوليَّة حَمْرَاء، قَالَ: ائْتِنِي بهَا وَلَا تأتين مَعهَا بِخبْز، فجَاء بهَا عَلَى خوان لَا قَوَائِم لَهُ وَقَد انفخت وملأت الخوان، وَجَاء بهَا غلمةٌ يحملونها فأدنوها مِنْهُ وَهُوَ قَائِم، فَأقبل يَأْخُذ الْعُضْو فَيَجِيء مَعَه لنُضْجه فيطرحه فيخرطه فِي فِيهِ، ويلقي الْعظم حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا، ثُمّ عَاد لأكل الْفَاكِهَة فَأكل فَأكْثر ثُمّ قَالَ للقيّم: وَيحك! مَا عنْدك شَيْء تطعمنيه؟ قَالَ: بلَى يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، دجاجتان قَدْ عبئتا شحمًا، قَالَ: ائْتِنِي بهما، فَفعل بهما كَمَا فعل بالعناق، ثُمّ عَاد لأكل الْفَاكِهَة، فَأكل مَلِيًّا ثُمّ قَالَ للقيّم: هَلْ عنْدك شَيْء تطعمنيه، فَإِنِّي قَدْ جعت، قَالَ: عِنْدِي سويقٌ جَدِيدَة يَعْنِي الْحِنْطَة كأَنَّه قطع الأوتار وَسمن سلاء وسكر، قَالَ: أَفلا أعلمتني بِهَذَا قبل: ائْتِنِي وَأكْثر، فجَاء بقعبٍ يقْعد فِيهِ الرَّجُل، وَقَدْ ملأَهُ من السويق قَدْ خلطه بالسكر وصب عَلَيْه سمن سلاء، وأتى بجرة ماءٍ بَارِد وكوزٍ فَأخذ الْقَعْب عَلَى كَفه، وَأَقْبل القيّم يصب عَلَيْه المَاء فيحركه حَتَّى كفأه عَلَى وَجهه فَارغًا، ثُمّ عَاد لأكل الْفَاكِهَة فَأكل مَلِيا حَتَّى حرت عَلَيْه الشَّمْس، فَدخل وأمرنا أَن ندخل إِلَى مَجْلِسه فَدخل وَجَلَسْنَا، فَمَا مكث أَن خرج علينا فَلَمَّا جلس قَامَ كَبِير الطباخين حياله يُؤذنهُ بالغداء، فَأَوْمأ إِلَيْهِ أَن ائتِ بالغداء، فَوضع يَده فَأكل، فَمَا فَقَدْنا من أكله شَيْئا.
أكفأه وكفأه
قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر حَتَّى أكفأه عَلَى وَجهه بِمَعْنى قَلَبه وَهُوَ خطأ إِنَّمَا هُوَ كَفَأَهُ،(1/378)
فَروينَاهُ عَلَى الصَّوَاب، يُقَالُ: كفأت الْإِنَاء فَهُوَ مكفوءٌ، وَأَنا كافىء، وَأما أكفأ فَإِنَّهُ فِي الشّعْر، وَهُوَ من عُيُوب قوافيه، وَأهل هَذِهِ الصِّنَاعَة مُخْتَلفُونَ فِي ماهيته، وَله موضه هُوَ مَذْكُور فِيهِ عَلَى شرح لمعانيه وَقَدْ رُوِيَ لنا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر، وَفِيه أَن سُلَيْمَان بْن عَبْد الْملك بعد فَرَاغه من أكله هَذَا عرضت لَهُ حمى أدته إِلَى الْمَوْت.
الْأَعرَابِي الَّذِي استحمل ابْن الزُّبَير
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَن، قَالَ أَبِي: أَتَى فَضَالَةُ بْنُ شَرِيكٍ الْكَاهِلِي الْأَسدي - أَسد بني خُزَيْمَةَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَفِدَتْ نَفَقَتِي وَنَقَبَتْ رَاحِلَتِي فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ لَهُ: أَحْضِرْ رَاحِلَتَكَ، فَأَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ بِهَا أَدْبِرْ بِهَا فَفَعَلَ، فَقَالَ: ارقعها بسبتٍ واخفصها بلهبٍ، وَانْجُدْ بِهَا يَبْرُدْ خُفُّهَا وَسِرْ عَلَيْهَا البردين تصح، فَقَالَ ابْنُ فَضَالَةَ: إِنَّمَا أَتَيْتُكَ مُسْتَحْمِلا وَلَمْ آتِكَ مُسْتَوْصِفًا، لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ وَرَاكِبَهَا، يُرِيدُ نَعَمْ وَرَاكِبَهَا، فَانْصَرَفَ ابْنُ فَضَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَقُولُ لِغِلْمَتِي شُدُّوا رِكَابِي ... أُفَارِقُ بَطْنَ مَكَّةَ فِي سَوَادِ
فَمَا لِي حِينَ أَقْطَعُ ذَاتَ عرقٍ ... إِلَى ابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ مِنْ مَعَادِ
سَيُبْعِدُ بَيْنَنَا نَصُّ الْمَطَايَا ... وَتَعْلِيقُ الأَدَاوِي وَالْمَزَادِ
وَكُلُّ معبدٍ قَدْ أَعْلَمَتْهُ ... مَنَاسِمُهُنَّ طَلاعُ النِّجَادِ
أَرَى الْحَاجَاتِ عِنْدَ أَبِي خبيبٍ ... نَكِدْنَ وَلا أُمَيَّةَ بِالْبِلادِ
من الأعياص أَوْ مِنْ آلِ حربٍ ... أَغَرَّ كَغُرَّةِ الْفَرَسِ الْجَوَادِ
قَالَ: فَالْكَاهِلِيَّةُ إِحْدَى جَدَّاتِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: عَلِمَ أَنَّهَا أَلأَمُ جَدَّاتِي فَسَبَّنِي بِهَا قَالَ القَاضِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِن فِي قَول ابْن الزُّبَير إِن وراكبها مَعْنَاهَا نعم، وَهِي لغةٌ مَشْهُورَة يَمَانِية، وَقَدْ حمل قوم عَلَيْهَا إِن فِي قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " إِنَّ هَذَانِ لساحران " فَقَالُوا: الْمَعْنى نَعَمْ، وَجَاء فِي بعض فصيح الْخطب: إِن الحمدُ للَّه، بِرَفْع الْحَمد، بِمَعْنى نعم الْحَمد للَّه، وَمن ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
بكرت عليّ عواذلي ... يلحونني وألومهنه
وَيَقُلْنَ شيبٌ قد علا ... ك وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ
يَعْنِي بقوله إنَّه: نعم، وَالْهَاء للسكْتِ وَالْوَقْف، كَقَوْلِهِم: تعاله، وَالْقَوْل مستقصي عَلَى شَرحه فِي إِن هَذِهِ وَفِيمَا أَتَى من الْقُرْآن والتلاوات فِي قَوْله: إِن هَذَانِ فِي موَاضعه من تآليفنا وإملائنا، وَقَول ابْن فَضَالَة فِي شعره هَذَا: نَص المطايا النَّص ضربٌ من السّير فِيهِ ظُهُور وارتفاع، وَمن هَذَا اشتق اسْم المنصة أعنى الِارْتفَاع والظهور، وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/379)
فِي قصَّة ذُكرت أَنَّهُ كَانَ يسير الْعُنُق فَإِذا وجد فجوة نَص، وَمِنْه: نصصتُ الْحَدِيث إِلَى صَاحبه أَيّ رفعته إِلَيْهِ، وقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
وجيدٍ كجيد الرئم لَيْسَ بفاحشٍ ... إِذا هِيَ نَصّته وَلا بِمُعَطِّلِ
وَقَوله: وكل مَعْبَد: المعبد الْمُذَلل، قَالَ طرفَة:
إِلَى أَن تحامتني الْعَشِيرَة كلهَا ... وأفردت إِفْرَاد الْبَعِير المعبد
وأَبُو خُبَيْبٍ: هُوَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير، كَانَ يكنى أَبَا خُبَيْبُ وَأَبا بَكْر. وقَالَ الشَّاعِر فِيهِ، وَفِي أَخِيهِ مُصْعَب:
قدني من نصر الخبيبين قدي ... لَيْسَ أَمِيري بالشحيح الملحد
يروي الخبيبين مثنى، يُرَاد هُوَ وَأَخُوهُ، ويروي الخبيبين عَلَى الْجمع، من بَاب الأشاعثة والمسامعة والمهالبة، يُرَاد هُوَ وذووه، وَقَوله: وَلا أُمَيَّة فِي الْبِلَاد نَصَبِ بِلَا النافية، وَإِنَّمَا تعْمل فِي النكرَة دون الْمعرفَة، لِأَنَّهُ أَرَادَ: وَلا مثل أُمِّيّه، كَمَا قَالَ الآخر:
لَا هَيْثَم ... اللَّيْلَة للمطي
أَيّ لَا مثل هَيْثَم، وَقَوله: من الأعياص، نسب بني أُمَيَّة مقسوم عَلَى الإضافتين الأعياص والعنابس والأعياص أعلاهما.
قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: ابْن الزُّبَير حِين ذكر الكاهلية وَنسبَة ابْن فَضَالَة إِيَّاه إِلَيْهَا معنى لطيف، وتعريض بسبه أبلغ من التَّصْرِيح، إِذْ علم أَن الكاهلية ألأم أُمَّهَات ابْن الزُّبَير فَسَبهُ بهَا، فالسب راجعٌ عَلَيْه بأعظم من سبه من هجاه، إِذْ بَنو كَاهِل رَهْط ابْن فضَالة وعصبته.
وَقَول ابْن الزبير: أرقعها بسبت، السبت: جلودٌ يُؤْتى بهَا من الْيمن تتَّخذ مِنْهَا النّعّال، وَهِي من جُلُود الْبَقر، وَكَانَت من ملابس الْمُلُوك، وروى أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لرجل رَآهُ يمشي فِي الْمقْبرَة لابسا شَيْئا مِنْهَا: يَا صَاحب السبتين: اخلع سِبْتَيْك.
وقَالَ عنترة يصف رَجُلا بالنُّبل وَتَمام الْخلق:
بطلٌ كأنّ ثيابَهُ فِي سرحةٍ ... يحذى نعال السبت لَيْسَ بتوأم
وَقَوله: اخصفها بهلب: يَعْنِي مَا أَخَذَ من شعر الذَّنب، وَقَوله: وأنجد بهَا، يُرِيد: ائْتِ بهَا نجداً: أنجد الرجل إِذْ أَتَى نجدًا، وأغار إِذا أَتَى الْغَوْر، وَمن كَلَام الْعَرَب " أنجد من رَأَى حِصنًا " أَيّ شَارف نجدًا، وحصن جُبَيْل، قَالَ الْأَعْشَى:
نَبيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَاد وأَنْجَدَا
وَقَوله: وسِر عَلَيْهَا البَرْدَيْن: البَرْدَان: أولُ النَّهار وَآخره، ورُوي عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَل الْجَنَّةَ ". قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل " وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْبَرْدَيْنِ قَوْلُ حُمَيدِ بْن ثَوْر الهلاليّ:
فَلا الظِّلُّ من بَرْدِ الضُّحَى نَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الفَيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ نَذُوقُ(1/380)