أقامك الله فِيهِ وسهلا، وَلَو زرت طيفورا أَو سهلا، كف الأكف العادية، وَبث المراشد الرايحة والغادية، وَخِلَافَة الْهِدَايَة الهادية، وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم حجَّة بادية، وَمن وَاقع فَليدع نَادِيه، وَللَّه در رَابِعَة، وَقد شغلت بالحي عَن الْمَيِّت، وبالمشكاة عَن الزَّيْت، فَقَالَت النَّاس يطوفون بِالْبَيْتِ وَإِن [شوق] ارتياض ومران، وَكَاد يلفي بمعطن التَّجْرِيد خوان فَلَيْسَ يحمد قبل النَّضْح بحران، وَعلم السياسة قلب، وود إخْوَان الخوان بارقة خلب، وَفرع دوحتك الَّذِي فِي هضبة الْمِنْبَر الإمامي قد غرسته، وديوان النشأة الطاهرة قد درسته، تعاهده بِالْكَفَالَةِ حَتَّى يشبح، ويرقب دوحه وينتسج، وَلَا توحش منابعه الْمُبَارَكَة بأغباب شمسك، ومتعه وأخويك، بنعيم ملكك، إِذا لَا قدمة لنَفسك، على رد أمسك، وَإِذا ذكر الْقدر فَأمْسك، وَهوى مماليك سَيِّدي، أَن لَا يَقع تعويض، وَلَا يعْدم للمدبر الْحَكِيم تَسْلِيم وتفويض. فَالَّذِي دبره فِي الأحشاء، وَحكم فِي صورته الْحَسَنَة، يَد الْإِنْشَاء، حَيْثُ لَا سَبَب يعْمل، وَلَا فكر فِيمَا يلقى، وَلَا فِيمَا يعْمل، وَلَا حِيلَة بِحكم الْقُوَّة العاجزة وَاللِّسَان الأبكم هُوَ الْكَفِيل لَك بِحِفْظ المنصب، وصون الجناب المخصب، حَتَّى نستوفي عمر: [النِّهَايَة حلْس] وِسَادك فائزا بنعيم الدَّار على رغم حسادك، وتطرب إِذا قرعت المنابر المفضلة، عصيات حفدتك وأولادك، تَحت كفالتك وإرفادك. وسيدي شيخ زَاوِيَة الْخلَافَة، فَلَا أقفر مِنْهُ مِحْرَابهَا، وَلَا أغفلت من غرر صنائعه الْبيض عرابها، وَلَا استوحش من حسام رَأْيه السديد قرابها. وعندما ورد البشير بِرُجُوع نفرك الْأَعْظَم إِلَى بَيت شرفه، واستحثاث بريد الْخلَافَة ركاب مُنْصَرفه، قلت اللَّهُمَّ اكْتُبْ خطاه وأجره، واربح فِي مُعَاملَة أوليائك تجره، وغبطه بعد بالْمقَام فِي الْمقَام الَّذِي فِيهِ أفمته، وأرغمت(2/158)
الْبَاطِل ووقمته، وهنه الإياب الَّذِي أزحت بِهِ الارتياب، وَالْقَبُول الَّذِي كفيت بِهِ آمالنا الأفول وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مِمَّا خاطبت بِهِ أحد الجلة بِمَا نَصه:
أبقى الله أَيَّام الْمجْلس العلمي العملي، يانعة بِالْفَضْلِ أدواحه، مؤيدة بِروح الله أرواحه، وَلَا زَالَ نور علمه مشرقا صباحه ونسيم ثنائه شهرا غدوه، وشهرا رَوَاحه، بِمَا أثنى على شمائله الَّتِي لَو كَانَت الشَّمَائِل أفكارا، لكَانَتْ حجازا، أَو كَانَت ألفاظا، لكَانَتْ حَقِيقَة لَا مجَازًا، أَكَانَت مواعيد، لكَانَتْ إنجازا، أَو كَانَت آيَات، لكَانَتْ إعجازا، أَو أكافىء بعض فضائله الَّتِي لَو كَانَت غيثا مَا خص بَلَدا، أَو شَفَقَة مَا، أثرت أَهلا وَلَا ولدا، أَو قُوَّة نفسانية، لشعرت النُّفُوس بِمَا تكسب غَدا، أَو أراجع بَيَانه الَّذِي إمداده فلكي وإلهامه ملكي، إِلَّا لَو أَنِّي استعرت لمحة من بلاغته الَّتِي بِحَق مَا كَانَت لَهَا المنابر مَوْضُوعَة، والخواطر فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع مَجْمُوعَة، والمبادرة إِلَى التمَاس بركتها مَشْرُوعَة، والأكف فِي أعقابها للاستسقاء بسحابها مَرْفُوعَة. فلعمري لقد كنت أوفى حَقًا، وأشيم من أفق الرِّضَا عَن نَفسِي برقا، لَكِن حسبي نِيَّة أبلغ من الْعَمَل، وعزم مول وَجهه شطر بُلُوغ هَذَا الأمل. وَلم تزل ترد من لدن الْمجْلس العلمي نواسم قدس، وتحييني من تلقائه مباسم أنس حظرت على بُلُوغ الخواطر، فَعَاشَتْ، وتجلت لجبال الْوُجُود فتلاشت، وطش وبلها بساحات الْعُقُول فطاشت. وَمن لخطاب الْمجْلس العالي بمواد تلِيق بصوره، أَو لبات تحمل بذوره، أَو وُجُوه يرضاها الْحق لغرره، أَو افهام تقبض أيديها قَبْضَة من أَثَره. فلولا أَن الْعدْل من شيمه، وَالْمجد من خيمه، وَالْفضل من ديمه، مَا كَانَ من حَقي أَن ألوذ بِغَيْر(2/159)
الْقُصُور، وَمن لي بمساورة الْأسد الهصور، ومقابلة الْعلم الْمَنْصُور، على أَنِّي أَقف على شكر الْمجْلس لِسَانا لَو ملكت غَيره لوقفته، وَأنْفق على حَمده بَيَانا لَو ظَفرت يَدي بِأَعْلَى مِنْهُ لأنفقته، وَأنْفق فِي الثنا عَلَيْهِ سَببا لَوْلَا اعتمادى يعلى إغصائه مَا لفقته، وَإِذا كَانَ الْعذر لَا يلتبس طَرِيقه، ظهر بِالْقبُولِ فريقه، وساغ للخجل رِيقه. وليعلم سَيِّدي أَن مشرفته وَجههَا إِلَى الْأَمِير أبي الْحسن أثيره صُحْبَة هَدِيَّة تشْتَمل على فذلكة الطّيب. وفلذات الْعود الرطيب، فعجبت من انتماء ذَلِك الأرج حسا وَمعنى إِلَى دارينه، وتذكرت قَوْلهم، عَن الْمَرْء لَا تسل، وسل عَن قرينه. وَقد كَانَ عِنْدِي أثيرا، فَهُوَ الْيَوْم لوصاتكم فلك أثير ومحترما، وَإِن رعيه الْيَوْم لكثير، فَمن أدّى عني بعض بركم، فَكَأَنَّمَا حمل عني فرضا، وَأحسن قرضا، وَعرض على الآمال عرضا، وَقَالَ خُذ حَتَّى ترْضى، وسيدي يسمح فِيمَا حمل عَلَيْهِ الإدلال من جَوَابه وَيجْعَل إغضاء مثابته حَسْبَمَا يلْتَمس من ثَوَابه، فَلَا يخفى عَن عين فَضله مَا منيت بِهِ من شغل متشغب، ومرام للْخدمَة متصعب، بِحَيْثُ يشغلني عَن شأني، ويضايق فِي خطرة الذّكر نامور جناني، فلولا أَنِّي اختلست هَذِه النفثة فِي كَفه، ونسجت لمصليها موقعا فِي صفه، لما وجدت إِلَى بعثها سَبِيلا، وَلَا ألفيت لأملي الضاحي فِي كنف الْمُرَاجَعَة مقيلا. وَالله تَعَالَى يضفي للمجلس العلمي، موارد عرفانه، ويحفظ مِنْهُ على هَذَا الْوُجُود إِنْسَان عينه وَعين إنسانه وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك ماخاطبت بِهِ الْوَزير المتغلب على الدولة بالمغرب فراجعني صَاحب الْعَلامَة، فَكتبت إِلَيْهِ
أبقى الله سَيِّدي للعشى والنوابغ، وَالْحكم البوالغ، وَالنعَم السوابغ، وَلَا زَالَ(2/160)
يَنُوب عَن أنس الْعِزّ، فَيحسن المناب، ويحمى خوزة الْمجد فيصون الجناب، وَثَبت لَهُ الضرائر النابتة فيرفع بالعذر مَا نَاب، وَلَا زَالَت مَنَابِر بلاغته للكرامات العمرية مظْهرا ومناسك مبراته لحاج الْحَمد وَالشُّكْر حجا ومعتمرا، وَلَا بَرحت أقلامه تأسو الْكَلَام، وَتَنصر الْأَخ كَانَ الظَّالِم على تَأْوِيله أَو الظلوم، وتنشر الْعُلُوم والحلوم، وفقت من الْمُرَاجَعَة الوزارية بِخَط الْيَد الْبَيْضَاء، المستمدة من جيب الْحلم والإغضاء، المقلمة الظفر مَعَ المضاء، الصادعة بِحجَّة سر الِاخْتِيَار والارتضاء فِي غيب الْقَضَاء، ساكبة غمام الرحمات على الرمضاء، فَقلت اللَّهُمَّ بَارك لذِي الْخلق الْحسن فِيمَا وهبت، وأمتعهم مِنْهَا بِمَا قضيت وَمَا كتبت، فنعمت الحضة الصَّادِر بهَا منشور أَمرك لزيدك وعمرك، صفة أنبيائك، وأجياد عُقُود ثنائك، وإمارات اختصاصك، فِي عَالم الْغَيْب واعتنائك. مَا الَّذِي اشْتَمَل عَلَيْهِ ذَلِك الْمَكْتُوب، وَالْعلم الْمَوْهُوب، من أسرار وَخلق أبرار، وأحلا غطى على أمرار، وتنبيه بِحكم انجرار، واعتدال دَار فلكه على قطب دَار قَرَار. فَللَّه تِلْكَ الذَّات العمرية، مَا ألطف شمائلها، وأورف خصائلها، لعمري إِن السعد لمتوليها، ومظهر ثأرها بِفضل الله ومعليها، زَادهَا الله من فَضله أضعافا، وَلَا قطع عَنْهَا إسعادا وإسعافا، وَجعل سِنَان نصرها رعافا، وقوى ضدها موتا زعافا، وشيمة مجدها عدلا وإنصافا، وتخلقا بالجميل واتصافا، غير أَن النَّفس كالصبى والغلام الغبي، إِذا تسومح فِي زَجره وأدبه، جرى من التَّمَادِي على مذْهبه، فشرهها كثير، ولجاجها لنكير الْحق مثير. جعلنَا الله مِمَّن شدّ خطامها، وَأحكم عَن رضَاع ثدي العوائد فطامها، طمحت للمراجعة فِي عنان الهور، ومشت قطوفا بَين مهاوي العور، فَقلت وبماذا يُجيب من انْقَطع، وَكَيف بلبل الشَّك وَالْحق قد سَطَعَ، إِذْ كَانَ خيالك لليلى الأخيلية، فقد قطع حجاج الْحجَّة لِسَانه، بِأَن أَفَاضَ عَلَيْهِ إحسانه، وَإِن كَانَ(2/161)
جفاؤك اخْتِيَارا، فقد أظهر مُعَاوِيَة الْحلم شَأْنه وَمَا عابه ذَلِك. مَا كَانَ أَبُو سُفْيَان يَبْغِي مِنْهَا وَلَا شَأْنه وَرَاءَك، قبح الله افتراءك، أَنا علمت أَن الطماح من سيء الْأَخْلَاق، وَأَن كَثْرَة المجاوية مِفْتَاح الطَّلَاق، هبك صمت وَقلت وَجَبت وجلت وجزيت وبلت، مَا الْفَائِدَة، وَبَعض الصّديق كالأصبع الزَّائِدَة، وَلما أعيتني مداراتها عَاقبَتهَا على بعض الْفُصُول، وركضتها خطوَات على سَبِيل الفضول، وسامحتها فِي الْجَواب عَن فصلين، إقناعا لطماعها، واستدفاعا لجماحها، لَا وَالله بل لجماجها، أَحدهَا إِنْكَار توهم الْوَرع وزوره المخترع، فِيمَا يخْتَص بِجِهَة الْمُجيب وَالْكَاتِب، والمعتب أبقاه الله والعاتب، وحسبك من مُرَاجعَة نَكِير فِي وَجه الْوَرع بزخرفها المخترع، هَذَا والورع من المقامات السّنيَّة، والنازل الَّتِي يسري بهَا السالك إِلَى رب هَذِه البلية، الْمَسْأَلَة الأولى الْعَزْم على التَّجَافِي عَن أنعام الْوَزير ورفده الغزير، إِذا حط بِبَاب الرحل، وارتبط الْفَحْل، وَحفظ الْأَزَل وَالْمحل، فَأَنا أستقبل من تِلْكَ الخطة الصعبة مشهدا، وَأمر عَن تِلْكَ الخطة مُجْتَهدا، وأنسب تِلْكَ الْحَال الغالية بَين بيوى الفئة الْمُطَالبَة، وَللَّه در الْقَائِل:
(دَعَوْت عَلَيْك لما عيل صبري ... وقلبي قَائِل يَا رب لالا)
وَالثَّانِي الإنحاء على رفد بني زيان بِكَوْنِهِ حَرَامًا، ومغرما يجر غراما، ويورد ضراما، والاستعادة من إرفاد يتَحَمَّل الْمُشبه، أَو مصارفة تقبل الشبة، وَنحن فِي هَذَا الْقطر نَأْكُل البقل، وَلَا نسل عَن المبقلة، ونتحمل النَّقْل وَلَا نَنْظُر من نَقله، وللضرائر فِي الشَّرْع أَحْكَام تبيح غير الدكى، ومقاصد لَا تخفى على الدكى. وَهَذَا الْعذر مِمَّا ظهر انحلال أوأخيه، فَإِن ضَاقَ عَنَّا طيفور الْحَلَال رَضِينَا بأَخيه، وَالْحرَام إِذا تحيز وَتعين، فمصرفه فِي الْجِهَاد وَالصَّدَََقَة على مَا تبين، وَهَذِه حجَّة يشفق مِنْهَا الْخصم على خَصمه، ويسامحه إِقَامَة لرسمه. وَبِالْجُمْلَةِ فَنحْن بِهَذَا الْيَد إِلَى من بِيَدِهِ النوال الْغمر، وَله الْخلق وَالْأَمر، أَن(2/162)
يُعِيد الْأَحْوَال إِلَى معتادها أمنا وصلاحا وشفاء للصدور بتمهيد الْإِسْلَام وانشراحا. وَقد رضيناه بالأعذار، نمتك عظامها، والآمال نلمس أوضامها، والإعانة نشكر حلالها وحرامها. وَلَوْلَا الْأَدَب لقمنا وَلم نبل بالإصابة من غيرَة الْإِصَابَة، اللَّهُمَّ أَن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة، حَال الجريض دون القريض، وضاق الْوَقْت عَن التَّعْرِيض، عَدو مجاور، وتنين مساور، ومادة ناصبة، وتفوس يقرعها الْحق فترتد مغاضبة، وَسَائِر الْفُصُول، أبقى الله سَيِّدي بَين عُمُوم وخصوص، ومخرج ومنصوص، قد وَسعه التَّسْلِيم، وَسمع الشُّكْر عَلَيْهِ السَّمِيع الْعَلِيم. والمسؤول من سَيِّدي أَن يجيل اللِّسَان الرطب، فِي شكر تِلْكَ الوزارة، نَائِبا عَن صَنِيعَة خلالها، ولسان ثنائها، ومستدعى فضل الله لَهَا ولأبنائها، بِمَا أحسن بَيَانه المناب عَن فُصُول اعتنائها، فَهُوَ الملي بِمثل هَذَا الْمطلب الْعَزِيز، وَجَائِز الْوَقْت فِي التبريز بِمثل هَذَا الإبريز. وَمِمَّا يجب عَلَيْهِ التَّنْبِيه، ويطرب بِهِ الْمحل الوزارى النبيه، إِذْ كَانَ الْمَمْلُوك قد اسْتقْرض للجبل رفد طَعَام، فَاسْتعْمل النّظر فِيهِ وخد نعام، من الْحَيَوَان الْغَرِيب الصُّور. الهضوم الزُّور، رزاة الْحمير، وصواعق المطامير، وهضمة الْحَدِيد وبلعة المسامير، كَمَا شَككت أَن لفظ الطَّعَام طرقه التَّصْحِيف أَو التحريف، فتنكر من مَقْصُود التَّعْرِيف وَكَثِيرًا مَا بليت بِهِ الطا، وأبلى ظهرهَا ذَلِك الأمطاء. قَالَ الشَّاعِر:
(هن المطايا عوضت من طابها ... يَوْم النَّوَى نونا لكل عميد)
فَإِن كَانَ الْجَزَاء مَقْصُودا سلمنَا، وَإِن كَانَ غير ذَلِك فقد نبهنا وتكلمنا، وعرفنا وَأَعْلَمنَا، وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن، نَسْتَغْفِر الله مَا ثمَّ إِلَّا نعم ونعام، وخيل وإنعام، وَنصر إِن شَاءَ الله وَطَعَام، وَإِن مطل شهر وعام، ووزارة وسع مِنْهَا الكنف، وارتفع الحيف، تُؤْخَذ الدُّيُون على وعدها، وتهدد الخطوب بسعدها، وَالصَّبْر ضمين الظفر، وَلَا ييأس من روح الله إِلَّا من(2/163)
كفر، وَالله عز وَجل يبقيه علما ساميا، وغماما للفضل هاميا، وَيجْعَل سعده ناميا، وَحده من ثعر المحمد فِي سَبِيل الْمجد وَالْخَيْر دَائِما. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ قَاضِي الْقُضَاة بِمصْر حَسْبَمَا يظْهر من الْغَرَض
أبقى الله أَيَّام الْمجْلس العلمي القاضوي السيادي وجانبه بالتعظيم مُعْتَمد، وفسحة سعده لَيْسَ لَهَا حد وَلَا أمد، وساحة سروره لَا يعين عَلَيْهَا كمد، ومورد فَضله غمر لَا ثَمد، وَلَا زَالَ عين الْإِسْلَام الَّتِي لَا يشوبها مرض وَلَا يُصِيبهَا رمد، ودام فسطاط الْإِسْلَام ثقله من عناية الله على عمد. مَا الَّذِي يفاتح بِهِ الْمَمْلُوك مجْلِس قَاضِي الْقُضَاة وَهُوَ الأوج، والمثابة الَّتِي يتزاحم فِي استلامها الفوج وَالْبَحْر الَّذِي أبحاثه هِيَ الموج، والديوان الَّذِي عجز عَن حصر أَسبَاب مجده الْفَرد وَالزَّوْج. تالله لَو أمد لساني طبع الْفَاضِل البيساني، بل المدد الحساني، لَا بل الْعقل الإنساني، لتوقعت خمول شاني، وأنفت لدسته الْعَرَبِيّ من لغط حبشاني، وخشيت لهول الهيبة أَن يَغْشَانِي فلج مِقْدَاره، وَإِن رغم الشاني، لَا يتعاطاه مثل هَذَا الشاني، فَكيف مَعَ الْقُصُور، والأمد المحصور، بمساورة الْأسد الهصور، وموافقة الْعلم الْمَنْصُور، وأنى للمغربي بعنصر النُّور. وَمن يسبح بعد فَور التَّنور، لَكِن فضل الْمجْلس العالي للمقصرين شَفِيع، وَإِن اتضع قدر المنشور على خطابه، فَعلمه رفيع، والمتطفل قل أَن يخيبه فِي بَاب مثله صَنِيع، والمستفيد بحرمه، قد كنفه جناب وسيع والموارد يقتحمها العير والجواد، والمسارح الْكَرِيمَة، يقصدها الرواد، والكعبة يعج إِلَيْهَا من الْبِلَاد السوَاد، فَلَو تنخل المستأهل من غَيره أَو عومل(2/164)
السَّائِل على مِقْدَار سيره وبركته وخيره، لَكَانَ المطرود أَكثر مِمَّن يصلح لَهُ الْوُرُود، ونقع غَلَّته البرود. لَكِن الرَّحْمَة تَشْمَل، والضعيف لَا يهمل، والإغضاء أجمل. وَإِن الْمَمْلُوك مَا زَالَ يتلَقَّى من محامد الْمجْلس العلمي، نوافج طيب ونوافح روض رطيب، وملامح بشر تذْهب بِمَا للزمن من تقطيب، ونقمات مطيل فِي النَّعيم مُطيب، وتعشق النُّفُوس لَيْسَ بمقصور على مُشَاهدَة طرف، وَلَا مُبَاشرَة حسن وَلَا ظرف، أَو شم عرف، وَالْعدْل يمْنَع أَن تقَابل هَذِه الْحجَّة بِصَرْف، أَو يعبد الله فِي إنكارها على حزف. فَمن الْمَشْهُور، والذائع بَين الْجُمْهُور:
(يَا قوم عَيْني لبَعض الْحَيّ عاشقة ... وَالْأُذن تعشق قبل الْعين أَحْيَانًا)
وَقَوله: وعشق الْفَتى بِالسَّمْعِ مرتبَة أُخْرَى. .
وَلَيْسَ فِي هَذِه الدَّعْوَى عناد، وَلها استناد إِلَى قَوْله، الْأَرْوَاح أجناد، فَلَو تركني الدَّهْر وَمَا أسر من التَّشَيُّع لمثابته للبيت دَاعِي شوقي بإجابته، وَإِن تجاسرت على خرق حجاب مهابته، شَأْن المحبين كلما خَانَهُمْ الصَّبْر، وَلم يتل مواجد كلومهم السبر، لكنه سد المسالك، فاستنبنا الْمَالِك، وأساء الماكد، فاستعدينا عَلَيْهِ الْمَالِك، وَبعثت سبحاتي هَذِه، متوسلة بوسيلة الْحبّ الصَّرِيح، عادلة عَن التَّعْرِيض إِلَى التَّصْرِيح، والبوح المريح، تلطفه فِي المثول بِبَاب إيوانه، والاستشراف على شعب بوانه، مُتَعَلقَة بأردان أَصْغَر أعوانه، فأرجو أَن تبلغ النِّيَّة هديها إِلَى مَحَله، وتفديها سَعَادَة الْجد على مَحَله. والمرغوب من تِلْكَ المثابة الَّتِي تعشو إِلَى نورها الْعُيُون، وتقضى من صدقَات طولهَا الدُّيُون، أَن تحسب هَذَا الْمُحب المادح، مِمَّن سعد بحبه، وَصدق مِنْهُ التوسل فِي لِقَائِه إِلَى(2/165)
ربه، وَأَن يَنْتَظِم فِي ذَوي ولايه، وشيعة علايه، فَإِن قضي اللِّقَاء حصل الْكَمَال، واستوفيت الآمال، وتضافرت النيات والأعمال، وارتفع عَن سوء الْقَصْد الإهمال، وَإِن كَانَ غير ذَلِك نَفَعت النِّيَّة، وللذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ المزية. وَلما تحققت من مَكَارِم السَّيِّد الْعِمَاد قَاضِي الْقُضَاة، أبقاه الله، أَن يلْتَمس مَا فِي يَدَيْهِ أحظى المتوسلين إِلَيْهِ، افتتحت تعريضي بسؤاله، ومددت يَدي إِلَى نواله، ورغبت مِنْهُ أَن يسم مغفلا، وَيفتح إِلَى الْعِنَايَة بَابا مقفلا، وَيَأْذَن فِي الرِّوَايَة عَن مقَامه المخدوم، بَين الْوِفَادَة على مَحَله والقدوم، وإيجاد الشّرف الْمَعْدُوم لصرحا ملكته، ونسبا عبوديته، وكغلاء ظلاله، ونبهاء مباسم خلاله، أَوْلَاد مُوجب حَقه المحتوم، ومعظم مقَامه الْمَعْلُوم، وهم فلَان وَفُلَان، مطوفا نعْمَته، لإسعاف من يعرف قدرهَا الْعلي فِي الأقدار، ويرقى الْأَهِلّة بإمدادها إِلَى مَرَاتِب الأبدار، وَهُوَ الْكَفِيل بإجابة السَّائِل، وإحساب الْعَامِل، وَللَّه در الْقَائِل:
(وَلم يممتهم فِي الْحَشْر تجدّد ... لَا عطوك الَّذِي صلوا وصاموا)
والمملوك يطالع الْعُلُوم الشَّرِيفَة بَين جلال تنبض، وهيبة أسودها تربض، وإدلال عروقه تنبض، أَنه وَجه إِلَى تِلْكَ الْمحَال الشَّرِيفَة بهرجا زائفا، ومترقبا خَائفًا، مِمَّا صدر عَن طبع قَاصِر، ووطن دَار بنطاقه لِلْعَدو حاصر، وَلَيْسَ إِلَّا الله نَاصِر، فَإِن أحظاه الْجد بالمثول بناديه، وضفت على طارقه الضاحي ظلال أياديه، والمسئول من شفقته الإغضا عَن معترف، والتجاوز عَن خطل زمن خرف، ويشكر الله الَّذِي كمله، إِذا وقف على النَّقْص وتأمله، ويخفض الْجنَاح لمن أمله، ويعامل بالشفقة من أم لَهُ، وَمن لَهُ، بالوصول إِلَى مجْلِس الْملك، وَإِلَى الله تجلته، كَمَا أعز بنظره مِلَّته، إِنَّمَا هُوَ فرض يفْرض، وآمال على النَّفس تعرض. ونسل الله لمثابة الْمجْلس العالي بقا يمتع الْمُسلمين بمواهب الْعدْل الْمَشْهُور، وَالدّين تجلت شمسه فِي مظَاهر الظُّهُور، وَالْعلم الَّذِي يجلو غياهب(2/166)
الديجور، والمتكفل من الله بإنماء الأجور، وَالسَّلَام الْكَرِيم، الطّيب العميم، يعْتَمد سَيِّدي عودا على بَدْء، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. من خَاطب شرف وداده، وملتمس مواهب الله فِي إعانته وسداده، فلَان.
وَمن ذَلِك فِي هَذَا الْغَرَض
مِمَّا خاطبت بِهِ أحد الْفُضَلَاء بِمَا نَصه، وَهُوَ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الله بن ولى الله يَعْقُوب البادسي رَحمَه الله.
(حفيد ولى الله ذِي الرُّتْبَة الْعليا ... وَمن نَالَ فِي الْأُخْرَى السمو وَفِي الدُّنْيَا)
(أعدت لي الْأَيَّام سهلا ومرحبا ... وأحييت أنسي بعد مَا مَاتَ يَا يحيا)
(وَمَا كنت إِلَّا ظاميا لَك ضاحيا ... فأنشأت لي ظلا وأعذبت لي سقيا)
(وسوغت لي الْفضل الَّذِي أَنْت أَهله ... وَلم تبْق فِي التسويغ شرطا وَلَا ثنيا)
(إِذا مَا أجلت الْفِكر فِي فضلك الَّذِي ... يسلم فِيهِ للْبَيَان إِذا أعيا)
(أَقُول سقى باديس منسجم الحيا ... وأوسع رعى الله أرجاءها رعيا)
(وحاكت لَهَا كف السحائب حلَّة ... ترى مَذْهَب النوار فِي جيدها حليا)
( [لمغنى] أبي يَعْقُوب رهن ضريحه ... يحِق لأجل الله أَن نعمل السعيا)
(غياث من استعدى وَنور من اهْتَدَى ... وملجأ من أذته داهية دهيا)
(جعلتك يَا يحيى إِلَيْهِ وَسِيلَة عَلَيْهَا ... اعْتِمَاد فِي الْمَمَات وَفِي الْمحيا)
مَا كنت أَيهَا الْوَارِث، والحسام الفارث، أَظن الدَّهْر يبْقى مَوضِع صلح، وَلَا اللَّيَالِي تسمح بصبح، وَلَا الزَّمن يرجع عَن تفويق سهم واشراع رمح،(2/167)
وَلَا الْأَيَّام تسنح بالْحسنِ، مَا سفرت عَنهُ من قبح، حَتَّى ظَفرت يَدي بودك فأثرت، وقدحت زناد حظي فأورت، وشفيت الْعِلَل واستشرت، ورحلت البوس بَعْدَمَا اسْتَقَرَّتْ، رحب ساحة، وتأنق سماحة، وندى رَاحَة، ورأم جِرَاحَة، وَطيب نفس إِلَى الْفضل مرتاحة، وخواطر لَهَا فِي بَحر الْمعرفَة، أَي سباحة، فَأَنا وَللَّه الْمِنَّة رائد اغتبط فَارْتَبَطَ، ووال تحكم على الدَّهْر فَاشْترط، لَا بل عَفا عَمَّا فرط، فمذ أَفَادَ قربك قد غفرت جِنَايَته، وشكرت عنايته، وَحمل على أفْصح المحامل إفصاحه وكنايته [فقد يشم الْبَرْق ووضحت الْفرق] وَعَاد الْجمع، وارتفع الْفرق، وَحل العقال فَأمكن الغرب والشرق، وَمن الله اسل أَن يمتع بك، كَمَا وصل سَبَب وليه بسببك، ويفردك بمقامه ويشفيك وإيانا من علل الْحس وأسقامه، ويؤوينا جَمِيعًا إِلَى يقطينة رَحمته، بعد ابتلاع حوت الْوُجُود والتقامه، فَمَا هُوَ إِلَّا أَوْهَام استحكمت، ومألوفات ازدحمت، وعوائد سوء جارت إِذْ حكمت، حَتَّى إِذا شمس الْحق تجلت، حَالَتْ صبغتها واضمحلت، وَأَلْقَتْ الأَرْض مَا فِيهَا وتخلت، وأدبرت شياطينها، الَّتِي اقتضاها طينها وَوَلَّتْ، فاتسع المجال، وَذَهَبت الأوجال، وَارْتَفَعت الحجال، وحمدت سراها عِنْد الصَّباح الرِّجَال، واللطف مَعْرُوف، وَالْمعْنَى معنى، وَمَا سواهُ حُرُوف، وأواني وظروف. وَالسَّلَام على سَيِّدي، وعَلى الْأَصْحَاب كافأ الله تأنيسهم، وَشَمل بالرعي مرؤوسهم وَرَئِيسهمْ، ورو 1 ذحا بخمرة التَّحْقِيق نُفُوسهم، وأطلع لَهُم من ذواتهم، أقمارهم وشموسهم، من محبهم الرَّاغِب فِي اجْتِمَاع الشمل اللَّيْلَة بهم. فلَان. وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.(2/168)
وَمن ذَلِك مَا كتبت بِهِ إِلَى رَئِيس ديوَان الإنشاد الشريف شمس الدّين أبي عبد الله بن أبي ركب [أعزه الله تَعَالَى]
أبقى الله أَيَّام الْمجْلس العالي ظلا على العشائر والفضائل، أجمة للأسد الغر الصَّائِل، مفضضة الغدوات، مذهبَة الأصائل، من أمثالهم الَّتِي كلفت بهَا الألسن، الموثرة لما يحسن، لَوْلَا الحمقاء لخربت الدُّنْيَا، وَالَّذِي يشْرَح بِهِ هَذَا الْمُضمر، إِنَّهَا بهم تعمر، فَيعْمل الصَّائِف للشاتي، ويخلف الذَّاهِب الْآتِي، وَمن الْأَدِلَّة، والبراهين المستقلة عِنْد الجلة، مُخَاطبَة الْمَمْلُوك ذَلِك الْمجْلس العلمي مَعَ قُصُور النّسَب الَّتِي قدمت للْعُذْر وتمهد، بل مَعَ وفور مَا يرغب ويزهد، أما بِاعْتِبَار الإيالة والخلافة العباسية أصل، وَمَا سواهَا فرع، حجَّة يعضدها طبع وَشرع، وَلَا يَتَّسِع فِي ردهَا ذرع. وَأما بِاعْتِبَار الْقطر فايز الْقدَم من المفرق، وَأَيْنَ الغرب من الْمشرق، تشهد بذلك الشعار الْخمس، وَالْيَوْم والأمس، لَا بل الشَّمْس، فَهَذَا ننصب فِيهِ منصتها، وتشهر قصَّتهَا، وَهَذَا تتبلع فِيهِ فرصتها، وتجترع غصتها. وَأما بِاعْتِبَار الذوات، فَلَو لم يكن إِلَّا النّسَب الْقرشِي (لَكَانَ] مُوجبا للتقديم، مسوغا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح مزية التَّقْدِيم، فَإلَى أَيْن يذهب مُخَاطب الْمجْلس العلمي، وَقد سدت الْمذَاهب، وتباينت الْأَنْوَار والغياهب، وَالله الْوَاهِب، وَلَقَد أحس الْمَمْلُوك عِنْد تعَاطِي هَذِه الذريعة الَّتِي تزل فِيهَا الْأَقْدَام، وينتصح الْإِقْدَام، وتخل الدَّعْوَى بصاحبها. كَمَا يفعل الدام، خورا فِي الطباع، وقصرا فِي الباع، وكلالا فِي الأداة، وسهوا فِي فَرِيضَة الْبَيَان المؤداة. أما الْفِكر ففر، وَأما البراع فنحل واصفر، وَأما الطرس فخفق فُؤَاده، وَأما النَّفس فحال سوَاده،(2/169)
مهلا عَلَيْك، وَإِلَيْك عني إِلَيْك. الْجَهْل لوم، والأوزان الْأَعْيَان حلوم، وَمَا منا إِلَّا لَهُ مقَام مَعْلُوم، ومتعدى طوره ظلوم، قد علم كل أنَاس شربهم، فليعملوا إِلَى الْإِنْصَاف مهربهم، وَلَا تجود يَد إِلَّا بِمَا تَجِد مثل مَعْرُوف، وَإِذا لم تكن إبل فمعرى، لمثل هَذَا الْغَرَض مَصْرُوف، وَرب حفيرة أَجدت، وَنَفس حر إِلَى الْموقع اللَّطِيف تهدت، وَقد أَهْدَت القبرة إِلَى سُلَيْمَان جَرَادَة، فَقبل مَا أَهْدَت، والمجلس العلمي تولى الله إطالة مدَّته، يجرى الْمَمْلُوك فِي الإدلال على مدَّته مجْرى العاطش، ورد المَاء فاقتحمه غير مبال بِمن زحمه ... . . الَّذِي وَقع على الْحَمِيم فأسام، وَمَا سَالَ وَلَا سَام، وَلَا بالي بِنَبِي حام - وسام. والمحب أمكنه الْوَصْل، فَمَا راعه النصل، وطالما قبض الْعَنَان، وزجر البنان، وَعلل بالجذع الْجنان، وَأما أَن يكون اللِّقَاء، وَيَقَع بالمشاهفة الْإِلْقَاء، ويتأتى إِلَى الْأُفق الْأَعْلَى الارتقاء، وتكبر عَن أَن تصاد العنقاء، فعرج على طلل الصَّبْر، ويمم، وَلم يجد إِلَّا الصَّعِيد فَتَيَمم، فأصدر هَذِه المفاتحة، لتمثل بِبَاب الْمجْلس العلمي حاطة رَأسهَا، رابطة بالعناء الْمُقَدّس أفراسها، مصدقة افتراضها وافتراسها، جانية غراسها، لائمة ركن الْمجد الَّذِي يشْهد بمجده الرُّكْن المستلم، والنقا وَالْعلم، والمسعى والملتزم وأريس وزمزم، مودية من الشوق الَّذِي شب عمروه مَا لَوْلَا ندا الْمجْلس العلمي لخيف تعديه، وَظُهُور مَا يكنيه زنده الواري ويبديه، وَمن الِاعْتِدَاد أصفى مَا تأزره الآمال وترتديه، وَمن التَّحِيَّة الطّيبَة [وَالْبركَة الصبية] أطيب مَا يتحفه النسيم اللدن(2/170)
ويهديه، ومقررة أَنه بِالنَّفسِ يفْدِيه، وعَلى الشوق الحثيث يستعديه. وَكَانَ الأمل أَن يُشَاهد غرَّة السِّيَادَة من المرقب الْغَرِيب، ويقتني غرائب إفادته الَّتِي لَا غرو أَن تحن على الْغَرِيب، وَيَقْضِي الأمل بلقائه ممطول دينه، ويزيل المنافسة الَّتِي وَقعت من جراء كَمَاله بَين أذن الْمَمْلُوك وعينه، لَكِن الِاخْتِيَار لمن بِيَدِهِ المقاد، وَأَن لَا فعل لسواه هُوَ الِاعْتِقَاد، وَغير ذَلِك خطة الانتقاد. وَعَسَى أَن لَا يخيب هَذِه السحاة من لثم يَمِينه، واجتلاء نور جَبينه، فأجدر بِمن ركب الْفلك، وخاض اللجج الحلك، إِلَى بَاب من كرم انتماؤه، وزينت بنجوم الْحسب المنيف سماؤه، أَن لَا يعْدم مشفعا، وَلَا يكون قَصده مخفقا. واقرأ على الْمجْلس العلمي من طيب السَّلَام، مَا يخجل رَوْضَة الْحسن عقب المزن، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك فِي هَذَا الْغَرَض مِمَّا خاطبت بِهِ أَبَا الْقَاسِم الشريف:
(أخذت وأمواج الردى متلاطمة ... بضبعي يَا نجل الْوَصِيّ وَفَاطِمَة)
(وسكنت ريح الْخطب بعد هبوبها ... ولولاك كَانَت موجها لي حاطمة)
(وَقَامَ بأَمْري مِنْك أروع ماجد ... برد حُرُوف الدَّهْر عني راغمة)
(سللت لنصري من علاك مهندا ... كَفَفْت بِهِ كفا من الْبَغي ظالمة)
(أَبَا قَاسم لَا زلت للفضل قاسما ... ظباه لظهر الْجور وَالظُّلم قاصمة)
(سجاياك تفضى أَنَّك ابْن مُحَمَّد ... أيمجد حق وَالشَّهَادَة قَائِمَة)
(ألنت لي الدَّهْر الظلوم فَأَصْبَحت ... لياليه من بعد التعسف خادمة)
(فقد كظم الغيظ الشَّديد بعزمة ... سرت لَك من عهد العقيق وكاظمة)
(فيا ملبسي من فَضله قرشيته ... أتيح لَهَا من كَفه أَي راقمة)
(بِأَيّ لِسَان أَو بِأَيّ بلاغة أَقْْضِي ... حقوقا من فروضك لَازِمَة)
(فدم وَاحِد الْآحَاد فِي كل غِبْطَة ... وَلَا بَرحت عين الردى عَنْك نَائِمَة)(2/171)
فِي علم سَيِّدي وذخري أَن الغايات يؤمل دركها، ويسفر عَن الْغنم وَالظفر معتركها، ويرام مفردها ومشتركها، إِلَّا مَا كَانَ من تَوْفِيَة حَقه، فَإِنَّهَا الْغَايَة الَّتِي تتْرك إِذْ لَا تدْرك، وتتعدى إِذْ لوازمها لَا تُؤدِّي، فسيان الإطالة والاختصار، والاسترسال والإقصار، فحياها الله من ذَات تحذر على عين كمالها الْعين، وأخلاق كَمَا سبك اللجين. وحسبك بمجد توارثه عَن الرَّسُول الْكَرِيم، وَلَده الْحُسَيْن. لَكِن الْمَرْء مَطْلُوب بِجهْدِهِ، وَمن عهد لزمَه الْوَفَاء بعهده. فحسبي، أبقى الله سَيِّدي، أَن أقصر عَلَيْك الثنا وَإِن كَانَ قَصِيرا، وَألقى قَمِيصه على وَجه القريحة فيرتد بَصيرًا، وأستعين الله عَلَيْهِ وأتولاه، وَكفى بِاللَّه وليا، وَكفى بِاللَّه نَصِيرًا:
(حَتَّى يعود الدَّهْر رب شَرِيعَة ... بعلاك وَالْأَيَّام أهل كتاب)
وَقد كَانَ ظَنِّي أَن مَطِيَّة الدَّهْر غير ركُوب لكل منكوب، وَمَا الْحَيَاة غير شروب لكل محروب، والأحرار فِي أَرض الله غياث، لمن نَالَ سعادته التياث، وأركان لمن نبا بِهِ مَكَان، فَالْحَمْد لله الَّذِي كذب الْقيَاس، وَبَطلَت النتيجة، وأقصرت فِي يَد الدَّعْوَى الوشيجة، وَجَرت بِالْحَقِّ الْوَسِيلَة المرعية والوليجة. وَمَا أعز هَذَا الْبَيْت الْمُتَعَلّق بأذيالك يَا كَبِير أهل الْبَيْت، النَّاجِي بسببك الوثيق، من بعد الكيت والكيت، [وأسراح الْكُمَيْت] ألادجنا أخرج من إيالة الْكفْر وفريسته استخلصت من بَين الناب وَالظفر، والآمال بعد فِي سَيِّدي، فسيحة كعلاه، والمطامع لَا تحصر، كأوصافه الْكَرِيمَة وحلاه، لله در الْقَائِل فَمَا أحلاه:
(تَمُوت مَعَ الْمَرْء حاجاته ... وَيبقى لَهُ حَاجَة مَا بقى)(2/172)
انصرم عمر هَذِه المراحل، وكل شَيْء إِلَى تَمام، وزادت الْعشْرَة ذماما إِلَى ذمام، فَلَو أَن فلاحا، توسل إِلَيْهِ زرعه، أَو أَهله ذكره بالذمام فَرعه، لذكرت سَيِّدي بِعُود راشه، وجاه مسح من غير الخمول وَجهه، وَكَفاهُ قحة، الدَّهْر ونجهه، وحرصت على استخلاص جدة غصب سفينتها الْملك الغصاب، وَذمَّة عظمت لأَجلهَا الأوصاب، وَجل لفقدها الْمُصَاب، فَأَصْبَحت النَّفس بَهِيمَة يروعها القصاب، ومصادرة يشد عَلَيْهَا الدَّهْر الغصاب. وَإِذا أحكم سَيِّدي أَسبَاب التعاطف، سهلت ببركة جده الشَّفِيع الشَّفَاعَة، وصدرت الْعَزِيمَة النفاعة، وَعين سَعَادَة الْمَطْلُوب والطالب وَالْوَقْت والساعة، فارتفع كل، وتأتى للْمَالِك نهل وعل، وَسعد بمحالفة الركاب الْهَاشِمِي ظعن وَحل، وَالله يُعينهُ على الْعَجز الَّذِي يخْطب مثله علمه وَدينه، وشرفه الَّذِي ثبتَتْ براهينه، وينجده على العتاد الَّذِي يجده. وَمثله من سلالة خَاتم النَّبِيين من أحسن الختام، وَرفع عَن وَجه الصنيعة القتام. وَأما تمهيد جرايه أَو عقد رايه، فَلَا يُنَبه كَعْب أَو حَاتِم على من طرقها، وَاللَّيْل عاتم، وَوَاللَّه مَا أجد لَدَى أَدَاة تجلى فِي ميدان، وَلَا لى بالكفاية المرضية يدان، وَإِنَّمَا حمل يخت انسدل ستره، وَسعد امْتَدَّ بره، وشفع وتره، فَإِن هبت رِيحه من بعد الخمود، أَو نجمت مِنْهُ زهرَة بعد جفاف الْعود، فمعجزة إِلَى بركَة سَيِّدي منسوبة، وَفِي كرامات أهل بَيته محسوبة، وَإِلَّا فدهر تحرّك ثمَّ استكان، وَشَيْء رد إِلَى اصله، وَالْأَصْل بقا مَا كَانَ على مَا كَانَ. وَالله أسل أَن يديم النِّعْمَة على سَيِّدي، من شرِيف اقتعد الْفضل مَطِيَّة، وَتَهْنَأ الْكَمَال هبة من الله وعطية، ويبقيه ناجح الْأَعْمَال، مبلغ الآمال، ويقيه عين الْكَمَال، وَالسَّلَام(2/173)
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ الْفَاضِل أَبَا عبد الله الفشتالي بِمَا نَصه:
(من ذَا يعد فَضَائِل الفشتالي ... والدهر كَاتب أَيهَا والتالي)
(علم إِذا التمسوا الْفُنُون فَعلمه ... مرعى الْحَمِيم ونجعة المتكال)
(نَالَ الَّتِي لَا فَوْقهَا من رفْعَة ... مَا أملتها حِيلَة الْمُحْتَال)
(وَقضى قِيَاس تراثه عَن جده ... إِن الْمُقدم فِيهِ غير التال)
قَاضِي الْقُضَاة بِمَا أثنى على جلالك المرتضاه، أبقديمك الْمُوجب لتقديمك، أم ذَا بحديثك الدَّاعِي لتجمل حَدِيثك، وَكِلَاهُمَا بعد غَايَة بعد مرماها، وتحامي التسور حماها، والضالع لَا يسام سَيْفا، والمنبت لَا أَرضًا قطع، وَلَا ظهرا أبقى، وَمَا الظَّن بأصالة تعترف بهَا الْآثَار وَتشهد، وأبوة صَالِحَة كَانَت فِي غير الْحق تزهد، وَفِي نيل الِاتِّصَال بِهِ تجهد، ومعارف تقرر قَوَاعِد الْحَقَائِق وتمهد، وتهزم الشّبَه إِذا تنهد. وَقد علم الله أَن جوارك، لم يبْق على الدَّهْر جورا، ولاحت من غصني وَرقا وَلَا نورا. هَذَا وَقد زأر على أسدا، وَحمل ثورا. فقد أَصبَحت فِي ظلّ الدولة الَّتِي وقف على سَيِّدي اخْتِيَارهَا، وَأظْهر خلوص إبريزه معيارها تَحت كنف، وَعز مؤتنف، وَجوَار أبي دلف، وعَلى ثِقَة من الله خلف. وَمَا منع من انتياب مَا لَدَيْهِ من الْفَضَائِل إِلَّا رحْلَة لم يبرك بعد جملها، وَلَا فرغ عَملهَا، وأوحال حَال بيني وَبَين مسور الْبَلَد الْقَدِيم مهملها. وَلَوْلَا ذَاك لاغتبط الرائد، واقتنيت الْفَوَائِد. وَالله يُطِيل بقاه تتأكد الْقرْبَة الَّتِي تنسى بهَا الغربة، وتعظم الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تذكر مَعهَا الْفَضِيلَة. وَأما مَا أَشَارَ بِهِ من تَقْيِيد القصيدة الَّتِي نفق سوقها استحسانه وَأنس باستظرافها إحسانه، فقد أعمل وَمَا أهمل، والقصور(2/174)
باد إِذا تومل، والإغضاء أولى مَا أمل، فَإِنَّمَا هِيَ فكرة أخمدت نارها الْأَيَّام وغيرت آثارها اللئام وَكَانَ الْحق إجلال سَيِّدي عَن مطالعة خللها، وتنزيه رجله عَن تَقْبِيل مرتجلها، لَكِن أمره ممتثل، وأتى [من الْمجد] أَمر لَا مرد لَهُ مثل. وَالسَّلَام على سَيِّدي من مُعظم قدره، وملتزم بره ابْن الْخَطِيب وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته. وَمن ذَلِك فِي هَذَا الْغَرَض مِمَّا خاطبت بِهِ أحد الْفُضَلَاء
(تعرفت أمرا سَاءَنِي ثمَّ سرني ... وَفِي صِحَة الْأَيَّام لَا بُد من مرض)
(تعمدك المحبوب بِالذَّاتِ بَعْدَمَا ... جرى ضِدّه وَالله يَكْفِيك بالغرض)
فِي مثلهَا أبقى الله سَيِّدي يجمل الِاخْتِصَار، وَيقصر الْأَنْصَار، وتطرق الْأَبْصَار، إِذا لم يتَعَيَّن ظَالِم، وَلم يتَبَيَّن يقظ وَلَا حالم. وَإِنَّمَا هِيَ هَدِيَّة أجر، وَحَقِيقَة وصل عقب بحار هجر، وجرح جَبَّار، وَأمر لَيْسَ بِهِ اعْتِبَار، ووقيعة لم يكن فِيهَا إِلَّا غُبَار، وعثرة الْقدَم لَا تنكر، وَالله يحمد فِي كل حَال ويشكر. وَإِذا كَانَ اعْتِقَاد الْخلَافَة لم يشبه سائب، وَحسن الْولَايَة لم يعبه عائب، والراعي دائب، والجاني تائب، فَمَا هُوَ إِلَّا الدَّهْر الحسود لمن يسود. خمس بيد قَائِم سترهَا، وَرمى عَن قَوس مَا أصلحها وَالْحَمْد لله، وَلَا أوترها. إِنَّمَا بَاء بشينه، وجنا من مزِيد الْعِنَايَة، سخنة عينه. وَلَا اعْتِرَاض على قدر أعقب بحظ مبتدر، وَورد نغص يكدر، ثمَّ أنس بأكرم صدر. وحسبنا أَن نجهد الدفاع من الله والذب، وَلَا نقُول مَعَ الكظم إِلَّا مَا يُرْضِي الرب. وَإِذا تسابق أَوْلِيَاء سَيِّدي فِي مضمار، وحماية ذمار، واستباق إِلَى ندا وابتدار، بِجهْد اقتدار،(2/175)
فَأَنا، وَلَا فَخر متناول القصبة، وَصَاحب الدّين من بَين الْعصبَة، لما بلوت من بر أوجبه الْحسب، وَالْفضل الْمَوْرُوث والمكتسب، ونصح وضح مِنْهُ الْمَذْهَب، وتنفيق رَأْي من الرِّدَاء الْمَذْهَب. هَذَا مُجمل بَيَانه عَن وَقت الْحَاجة مُؤخر، ونبذة سهر لتعجيلها يراع مسخر. وَالله يعلم مَا انطوى عَلَيْهِ لسيدي، من إِيجَاب الْحق، وَالسير من إجلاله على أوضح الطّرق. وَالسَّلَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي مُخَاطبَة صَاحب قلم الْإِنْشَاء أبي زيد بن خلدون
ورد البشير بالإبلال، مُقَارنًا بِخَبَر الاعتلال، وتألم ذَلِك الْجلَال، فَكَانَت رَحْمَة لقِيت عذَابا، وعقبى نسخت عتابا، وذنبا من الدَّهْر أتبعه مثابا، فَالْحَمْد لله الَّذِي اقال، وَفك من الوعك العقال، وأدر من الرَّحْمَة السحائب الثقال، وَأقر الْحَال وَقد عرف الِانْتِقَال. وَهل أَنْت أعزّك الله إِلَّا عين تألمها عَزِيز، وَلها على الْجَوَارِح بِالْفَضْلِ تَمْيِيز، فَالله عز وَجل يعقب الْقُوَّة والنشاط، والتمتع والاغتباط. وَللَّه در الشَّاعِر:
(فَإِذا مَرضت وَلَا مَرضت فَإِنَّهُ ... مرض الرِّيَاح يطيب فِيهِ ثناها)
ولحين تعرفي هَذَا النبأ لم أطْعم النّوم هنيا، وَلَا اقتطعت الأمل جنيا، ولازلت بتحقيق الْأَعْمَال معنيا، حَتَّى ثَبت سَنَده، واستقام أوده. وَكثر من روايه عدده، فَكتبت أمني نَفسِي بسلامة سقتها، ومظنة مقتها، وَحفظ ثمالها، وحراسة رَأس مَالهَا، وَلَو تمثلت لي القوى الطبيعية فِي الْخَارِج لعرفت عقدي،(2/176)
ورابها فِي سوء التَّصَرُّف نقدي، أَو نسي التَّيْسِير لعتبتها، أَو الهضبة الْمُبَارَكَة، لقررتها بنظري ورتبتها، لَكِن أَحْوَال تشذ عَن الِاسْتِطَاعَة، وَلَا تدين فِي غير سَبِيل البخت والاتفاق بِالطَّاعَةِ، فلنسل الله خير مَا لَدَيْهِ، ونتق بِهِ فِي حفظ ذَلِك الْجلَال ونتوكل عَلَيْهِ، وَقد كنت تعرفت أَن سَيِّدي، زَاد عِنْده مَوْلُود مبارك، فبادرت بِمَا يصله، فَإِن كَانَ الْخَبَر حَقًا لم يكن مني إغفال، وَإِن كَانَ منتظرا فَهُوَ فأل وَالسَّلَام.
(هَنِيئًا أَبَا الْفضل وَالرِّضَا وَأَبا زيد ... وَأمنت من بغي يخَاف وَمن كيد)
(بطالع يمن طَال فِي السعد شأوه ... فَمَا هُوَ من عمر الرِّجَال وَلَا زيد)
(وَقيد بشكر الله أنعمه الَّتِي أوابد ... هَا تأبى سوى الشُّكْر من قيد)
أَهلا بدرى الْكَاتِب وصدري المراقب، وعتبى الزَّمَان العاتب، وفكر المُشْتَرِي وَالْكَاتِب. ومرحبا بالطالع فِي أسعد الْمطَالع، والثاقب فِي أَعلَى الْمَرَاتِب وسهلا بغنى البشير، وَعزة الْأَهْل والعشير، وتاج الْفَخر الَّذِي يقصر عَنهُ كسْرَى وأزدشير. الْآن اعتضدت الْخلَّة الحضرمية بالفارس، وَأمن السارح فِي حمى الحارس، وسعدت بالنير الْكَبِير أفلاك التدمين من حلقات الْمدَارِس، وقرت بالجنى الْكَرِيم عين الْفَارِس، واحتقرت أنظار الآبلى وأبحاث ابْن الدارس، وَقيل للمشكلات طالما ألفت الْخمْرَة، وأمضت على الأذهان الإمرة، فتأهبي للغارة المبيحة لحماك، وتحيزي إِلَى فِئَة البطل المستأثر برشف لماك. وَللَّه من نصبة(2/177)
احتفى فِيهَا المُشْتَرِي واحتفل، وَكفى الْغمر سنى ترتيبها وكفل، واختال عُطَارِد فِي حلل الجذل لَهَا ورفل، واتضحت الْحُدُود، وتهللت الْوُجُوه [وتنافست لآلىء كَانَت تؤمل الْمظهر وترجوه] وَنبهَ الْبَيْت على واجبه، وَأَشَارَ لحظ الشّرف بحاجبه، وأسرع نير التَّوْبَة فِي الأوبة، قَائِما بالاعتذار مقَام التَّوْبَة، واستأثر بالبروج المولدة، بَيت الْبَنِينَ، وتخطت خطى الْغمر رَأس الْجَوْهَر وذنب التنين، وساوى مِنْهَا بِحكم الأَصْل حذرك النَّعْل بالنعل، تَحْويل السنين، وحقق هَذَا الْمَوْلُود نير الموالد، نِسْبَة عمر الْوَالِد، فَتَجَاوز دَرَجَة الْمُبين، واقترن بعاشره السعدان اقتران الْجَسَد، وَثَبت بدقيقة من كرّ قلب الْأسد، وسرق من بَيت أعدائه، خرثى الغل والجسد، ونطقت طرق التَّيْسِير، كَمَا يفعل بَين يَدي السَّادة عِنْد الْمسير، وَسقط الشَّيْخ البهم من الدوح فِي البير، وَدفع الْمقَاتل إِلَى وبال كَبِير:
(لم لَا تنَال العلى أَو يعْقد التَّاج ... وَالْمُشْتَرِي طالع وَالشَّمْس هيلاج)
(والسعد يرْكض فِي ميدانها مرحا ... جذلان والفلك الدوار هملاج)
كَأَن بِهِ وَالله بَقِيَّة، قد انْتقل من مهد التَّقْوِيم، إِلَى النهج القويم، وَمن أريكة الذِّرَاع، إِلَى تصريف اليراع، وَمن كتد الداية، إِلَى مقَام الْهِدَايَة، والغاية المختطفة الْبِدَايَة، جعل الله وقايته عَلَيْهِ عودة، وَقسم حَسَدْته قسْمَة محرم اللَّحْم بَين منخنقة ونطيحة، ومتردية، وموقوذة، وَحفظ هلاله فِي البدار إِلَى تمه، وَبعد تمه، وَأقر عين أَبِيه فِيهِ وَأمه، غير أنني وَالله يغْفر لسيدي، بيد(2/178)
أَنِّي رَاكِع فِي سَبِيل الشُّكْر وَسَاجِد، وَأَنا عَاتب وواجد، إِذْ كَانَ ظَنِّي أَن الْبَرِيد إِلَى بِهَذَا الْخَبَر يعْمل، وَأَن إتحافي بِهِ لَا يهمل، فانعكست الْقَضِيَّة، وَرَأَيْت الْحَال المرضية، وفضلته الْأُمُور الذاتية لَا العرضية، وَالْحكم جازم، وَأحد الْأَمريْنِ لَازم. أما عدم السوية، ويعارضه اعتنا سَببه معار، وعهدة سلم لم تدْخلهَا جِزْيَة وَلَا صغَار، أَو جهل بِمِقْدَار الْهِبَة، ويعارضه علم بِمِقْدَار الْحُقُوق، ورضا منَاف للعقوق، فَوَقع الْإِشْكَال، وَرُبمَا لطف عذر كَانَ عَلَيْهِ الاتكال. وَإِذا لم يبشر مثلى بمنيحة الله قبل تِلْكَ الذَّات السّريَّة، الخليقة بِالنعَم الْحُرِّيَّة، فَمن الَّذِي يبشر، أَو على من تعرض برهَا وينشر، وَهِي الَّتِي واصلت التفقد وبهرجت الْمُعَامَلَة وأبت أَن تنقد، وأنست الغربة، وجرحها غير مندمل، ونفست الْكُرْبَة، وجنحها على الجوانح مُشْتَمل، فَمَتَى فرض نِسْيَان الْحُقُوق لم يتأن فرض، وَلَا شهِدت بِهِ لاعلى سَمَاء وَلَا أَرض. وَإِن قصر فِيمَا يجب لسيدي عمل، لم يقصر رَجَاء وَلَا أمل، ولى فِي شرح حَمده نَاقَة وجمل، وَمِنْه جلّ وَعلا نسل أَن يرِيه قُرَّة الْعين فِي نَفسه وبنيه، وَيجْعَل أكبر عطايا الهيالج اصغر سنيه، ويقلد عوائق الْكَوَاكِب اليابانية حمائل أمانيه. وَإِن تشوف سَيِّدي لحَال وليه، فَحَمَلُوهُ طيبَة وَرَحْمَة من جناب الله صيبة، وبرق يشام، فَيُقَال حدث مَا وَرَاءَك يَا هِشَام. وَللَّه در شَيخنَا إِذْ يَقُول:
(لَا بَارك الله فِي إِن لم ... اصرف النَّفس فِي الأهم)
(وَكثر الله فِي همومي إِن ... كَانَ غير الْخَلَاص همي)
وَإِن أنعم سَيِّدي بالإلماع بِحَالهِ، وأحوال الْوَلَد الْمُبَارك، فَذَلِك من غرر إحسانه، ومنزلته فِي لحظ لحظى بِمَنْزِلَة أنسانه.(2/179)
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي مُخَاطبَة ابْن رضوَان
(مَرضت فأيامي لذاك مَرِيضَة ... وبرءك مقرون ببرء اعتلالها)
(فَلَا رَاع تِلْكَ الذَّات للضر رائع ... وَلَا وسمت بِالسقمِ غر خلالها)
وَردت على من فئتي الَّتِي إِلَيْهَا فِي معرك الدَّهْر أتحيز، وبفضل فَضلهَا فِي الأقدار الْمُشْتَركَة أتميز، سحاءة سرت وَسَاءَتْ، وَبَلغت من القصدين مَا شَاءَت، أطلع بهَا سَيِّدي صَنِيعَة وده من شكواه على كل عابث فِي السويداء، مُوجب اقتحام الْبَيْدَاء، مضرم نَار الشَّفَقَة فِي فؤاد لم يبْق من صبره إِلَّا الْقَلِيل، وَلَا من إفصاح لِسَانه إِلَّا الأنين والأليل، وَنوى مدت لغير ضَرُورَة يرضاها الْخَلِيل، فَلَا تسل عَن ضنين تطرقت الْيَد إِلَى رَأس مَاله، أَو عَابِد يوزع متقبل أَعماله، أَو أمل ضويق فِي فذلكة آماله، لكنني رجحت دَلِيل الْمَفْهُوم على دَلِيل الْمَنْطُوق وعاوضت الْقَوَاعِد الموحشة بالفروق، وَرَأَيْت الْحَظ يبهر وَالْحَمْد لله ويروق، وَاللَّفْظ الْحسن تُومِضْ فِي حبره للمعنى الْأَصِيل بروق، فَقلت ارْتَفع الوصب، ورد من الصِّحَّة المغتصب، وَآلَة الْحس وَالْحَرَكَة هُوَ العصب. وَإِذا أشرق سراج الْإِدْرَاك، دلّ على سَلامَة سليطه، وَالروح خليط الْبدن، والمرء بخليطه. وَمَعَ ذَلِك فبليد احتياطي لَا يقنعه إِلَّا الشَّرْح، فِيهِ يسكن الظمأ البرح، وعذرا على التَّكْلِيف فَهُوَ مَحل الِاسْتِقْصَاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند القلق فِي مثلهَا أورى، والشفق بِسوء الظَّن مغرى، وسيدي هُوَ الْعُمْدَة الَّتِي سلمت لي الْأَيَّام فِيهَا، وَقَالَت حسب آمالك ويكفيها، فَكيف لَا أشْفق، وَمن أنْفق من عينه، فَأَنا من عَيْني لَا أنْفق، وَالله لَا يحبط سعيى فِي سُؤال عصمتها وَلَا يخْفق، ويرشد إِلَى شكره على مَا وهب مِنْهَا ويوفق. وَالسَّلَام الْكَرِيم على سَيِّدي، الْبر(2/180)
الْوُصُول، الَّذِي زكتْ مِنْهُ الْفُرُوع، لما طابت الْأُصُول، وخلص من دره لِابْنِ الْخَطِيب الْمَحْصُول وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ صَاحب الْعَلامَة أَبَا الْحسن بن السُّعُود بِمَا نَصه
(أَبيت إِلَّا كرما دلّ عَلَيْهِ العزما ... يَا ابْن السُّعُود دمت صبا بالمعالي مغرما)
(مثلك من فرطس أغراض العلى رما ... وجدد الْعَهْد من الْمجد وَكَانَ انصرما)
(والدهر قد شب بِهِ وَكَانَ يشكو الهرما ... )
أَخْبَار الأماجد كثيرا مَا تجمح أفراسها عِنْد الركض، وتتباين أحوالها فِي حلبة الْعرض، فَرُبمَا فضحت الْمُشَاهدَة وصف الواصف، أَو أقرَّت شَهَادَة المتناصف، إِلَّا مَا كَانَ من خبر فضلك، فقد تمحص إِلَى طرف الصدْق وترجح، وَبِأَيِّ ناقله وتبجح، وَمن أبلغ عذرا لمن أنجح، زجر وفال، وحزم لَا يشوبه إغفال، وبراءات تصحبها أنفال، واحتفا بالضيف واحتفال، إِلَى الْجَانِب المرهف، وَالْوَجْه الطلق، والخصال الَّتِي تذكر قَوْله عز وَجل، يزِيد فِي الْخلق، وَقد كنت على الْبعد علم الله، ترد على آثَار سَيِّدي، فاستدل على ظرف، يحسده عُطَارِد، وعقل صفت مِنْهُ الْمَوَارِد. فَأَنا الْآن فِي جوَار سَيِّدي رائد، اغتبط فَارْتَبَطَ، واستؤثر فَاسْتَكْثر، وعاطش ورد الْكَوْثَر. وَالْحَمْد لله الَّذِي أظفر جوَار سَيِّدي بِجِهَة مفضلة، وَللَّه در حساننا إِذْ يَقُول: جاور عليا وَلَا تحفل بمعضله. وَلَقَد عظمت عناية الله بالوالد وَالْولد، فِي الْقدوم على هَذَا الْبَلَد، وَهُوَ حل بِهَذَا الْبَلَد، وَقد صَبر وطاب الْجلد، فانسر ورحب، وتبسط بره وتسحب، هَدِيَّة سجية عدمت من الدَّهْر مُنْذُ زمَان، وسلعة لَيْسَ لَهَا غير الهمم الشَّرِيفَة من أَثمَان. وَالله أسل أَن يمتع من فضل سَيِّدي بالمتاع الْحسن، ويحلنا من عين كَمَاله مَحل الوسن، ويتبعه السعد سَلس القيادة والرسن، كَمَا جعل فَضله، يشذ عَن مدرك اللسن. وَأما(2/181)
شكري لهديته، الَّتِي مبتداها من العوامل، وانتسبت شواهدها إِلَى الْكَامِل، فقد أوجر، وتطيب الإطناب فأوجز، ووعد فَمَا أنْجز. وَالله يتَوَلَّى سَيِّدي بِحسن الْمُكَافَأَة، ويعين على مَا يحبب لَهُ من المصافاة. ويحجبه من الْآفَات بحجاب المعافاة، مَا اسْتَقَلت طيور الهمزات على قضبان الألفات، والتفتت عُيُون السحر الْحَلَال من خلال أدواح الِالْتِفَات. وَالسَّلَام الْكَرِيم يَخُصُّهُ من مُعظم مجده، المسرور بجواره. فلَان.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي مُخَاطبَة صَاحب الْعَلامَة أبي سعيد بن رشيد بِمَا نَصه من المنثور والمنظوم
(بل الخطط الرفيعة فلتهنا ... فَإنَّك سعدها لفظا وَمعنى)
(إِذْ أذكر الْعَلَاء فَأَنت أَعلَى ... وَإِن ذكر السنا فَأَنت أسنا)
(محاسنك اغتدت جنَّات عدن ... لمن يرتاد إحسانا وحسنا)
(فمهما حلهَا إِنْسَان عين ... فلإنسان فِيهَا مَا تمنا)
(غرزت أَبَا سعيد مِنْك دوحا ... بِهِ مَا شِئْت من ظلّ ومجنا)
(فَكُن حَيْثُ اقْتضى مِنْك اعتدادي ... وَشد لي من كريم الرعى مبنا)
(فَتى الفتيان أَنْت بِلَا نزاع ... ومثلى من وفا بيد وأثنا)
الْحَمد لله حمد من لم يفقد اللطف، وَلم يعْدم على الْبَدَل الْعَطف، وَالشُّكْر لله الَّذِي سحب السحب الوطف، وسوغ من أفنان نعمه القطف. أطالع سَيِّدي الَّذِي وسم السعد كنيته وأعلمها، وَقبل الْإِجْمَاع حجَّة فَضله وَسلمهَا، وتيمنت باسمه وَصورته ومعرفته الدولة الَّتِي خدمها، لما عجل لَهَا الْوَسِيلَة وقدمها، إِنَّنِي(2/182)
لما اتَّصل بِي خبر استقلاله برياسة الْقَلَم الْأَعْلَى، والرتبة الفضلى، والدرجة الَّتِي هُوَ الأحق بهَا وَالْأولَى، ذاتا وصفاتا وقولا، قلت هَذِه فَرِيضَة لي فِيهَا حَظّ وتعصيب، وغنيمة لي فِيهَا إرضاخ وَنصِيب، وهدف لي مِنْهُ سهم مُصِيب، العروة وثقى، وَالْآخِرَة خير وَأبقى، اللَّهُمَّ أوزعنا شكر نعمك، وَلَا تقطع عَنَّا عوائد كرمك، سادة لكعوب الرمْح، فَضلهمْ أوضح من فلق الصُّبْح، كلما أفل مِنْهُم آفل أَو غَابَ كَاف كافل، أربى من أقبل على من أدبر. وَقَالَ لِسَان الْحَال هَذَا هَذَا أكبر، سِيمَا هَذَا الْفَاضِل، الَّذِي هُوَ يمن كُله، وطبعه على الْفَضَائِل يدله، ماشيب من رشد وَسعد، وَوجه سبط وَحسب جعد، وَقبل وَبعد، ومخيلة نجح لَا تخلف بوعد، ورياسة هَذَا الْقَلَم الْأَعْلَى، أبقى الله سَيِّدي مورد مثلى مِمَّن اصبح سلْعَة يتغالى فِيهَا أولُوا الذوات الفاخرة، ويتناغى الْمُتَنَافسُونَ فِي إحْيَاء الْعِظَام الناخرة، وحظ الدُّنْيَا وحظ الْآخِرَة، فَإِذا فِي الرُّتْبَة علم خفاق، وَتعين إِجْمَاع وإصفاق، فَهُوَ قِبْلَتِي الَّتِي أرضاها، ووجهتي الَّتِي عينهَا الدَّهْر واقتضاها. فهنأت أَولا نَفسِي بوفور حظها من النِّعْمَة، وفوزها بالقدح الْمُعَلَّى عِنْد الْقِسْمَة، ثمَّ هنأت الرُّتْبَة الَّتِي ظَفرت بالكفو الْكَرِيم، ولازمها الْيمن والسعد مُلَازمَة الْغَرِيم، وقدمت بَين يَدي قدومي على سَيِّدي، الَّذِي لَا محط لي إِلَّا على نَار قراه، وَلَا سير لي إِلَّا لذراه، فقد جمع لي الصَّبْر فراه، وَحمد عزمي عِنْد صبح وَجهه الْمشرق سراه، وتنبيه مثله على رعى مثلي جفوة يَسعهَا كَمَاله، ويتغمدها أفضاله، إِذْ ذَاته أشرف، وَهُوَ بِمَا توجبه طباعه الْكَرِيمَة أعرف، حفظ الله علينا مِنْهُ جملَة الْكَمَال، وقبلة الآمال، وعرفه الْيمن والإقبال، بفضله، وَالسَّلَام الْكَرِيم يَخُصُّهُ، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ أحد الْفُضَلَاء بِمَا نَصه
سَيِّدي شهَاب الطّلبَة الثاقب، وفخر الكتبة الْعَظِيم المناقب، أقسم بالحاشر العاقب، والغاسق الواقب، لما زلت سحاءتكم بِحَال المراقب. وصلني كتابكُمْ(2/183)
الَّذِي هَنأ وَبشر، وَأَحْيَا وأنشر، ناصحا هاديا، رائحا فِي الْوَفَاء غاديا، فأردى صاريا، وَأخذ بحظ من فَضِيلَة قَوْله، وَلَا يفطمون وَاديا. فحبذا طَعَام أشركناه زكا، ومتات توسد وانكا، ووفاء وَفَاء السموأل حكا، وأنجد لما خذل الدَّهْر الخؤون، وَالله المشتكا، وأنار الله مشكاة تِلْكَ الذوات، الَّتِي لطفت أسرارها، وتألقت أنوارها، وأعلقها بالعالم الأزلي وانتهابها فِي المورد المفيض على القطب وَالْوَلِيّ، فألفاني محتزما، ولخدمة الْمولى ابْن الْمولى مُلْتَزما، وَيحل ودي فِي مثلهَا أَن يذكر هُوَ أشهر من أَن يذكر: لَا تدعني إِلَّا بياعبدها فَإِنَّهُ أشهر أسمائي. وَأما مَا أهديتم من نبإ فَإِنَّهُ مسكوب، وَملك لملكهم مَنْسُوب، فَمن جاد بالنفوس على أعدائه، فَكيف لَا يجدد بِالْعرضِ على أوليائه، وَالله الْكَفِيل بِحسن جَزَائِهِ. وَمن أياديكم لدي، يَا مَحل وَلَدي حبا وشفقة، وَمحل أخي اعتدادا وثقة، أَن تمرغوا عَنى خدكم فِي أَخْمص رجله الْعَالِيَة، وتقبلوا بِسَاط تربه، قبلا مُتَوَالِيَة، بخلال مَا يرْتَفع إِن شَاءَ الله بالحضور حكم النِّيَابَة، وييسر الله اللحاق بِتِلْكَ المثابة. وَالسَّلَام على سَيِّدي وَأخي، وَرَحْمَة الله.
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة صَاحب قلم الإنشا أبي زيد ابْن خلدون فِي الْغَرَض الْمَذْكُور
سَيِّدي الَّذِي لَهُ الْفَضَائِل الذاتية، والمزايا الحسية والمعنوية، ودرجة السَّبق فِي المكارم دون مثنوية، صُورَة مكملة، وذاتا مقلدة بالخصال الشَّرِيفَة محملة، وبيتة موصلة، ومجادة مجملة ومفصلة، كتبت أهنىء سيادتك، بِنِعْمَة الْخَلَاص من الشدَّة، واستيعاب سَعَادَة النصبة، وَطول الْمدَّة، والسلامة من التَّحَوُّل، العائدة بِسوء التقول، وَذَهَاب التمول، فَأَنت الْيَوْم غير مثلوم الوفا(2/184)
وَلَا متكدر الصَّفَا، قرير الجفن بالإغفا، مَجْمُوع الشمل بِالْيَقِينِ، وَالله يجمعه بالرفا. وَكنت أتوقع أَن يذهب بك الضجر مذهبا تسوء مغبته، أَو تخلف حبته، وَأَنت الموشح، والمحلى والمرشح، والغمر جَدِيد، فعلام المرعز شَدِيد، والأمل مديد، فعلام القلق عتيد. وَإِن نافست أَرْبَاب الرتب الْعَالِيَة، فَاعْتبر مَا نلْت من رتب الْحِكْمَة، وَإِن نافست أَرْبَاب الذمم فالمعارف هِيَ وَنور الذِّمَّة. وَأنْفق فِي سوق السياسة صرفهَا من الهمة، وَلَا تغفل مُلَاحظَة الْأُمُور المهمة، ولتعلم أَنِّي وَإِن أعييت فِي بَاب الدَّالَّة عَلَيْك، أعرف الْخلق بِمَا لديك، وأهواهم إِلَيْك، فانصفني باغتفار جنايتي، وَلَا يوحشك عتبي فِي سَبِيل حبي، فَالله يعاملني فِيك بنيتي، ويبلغني من جَرَيَان أمورك على مَا يرضى أمنيتي قبل منيتي، وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي مُخَاطبَة الْمَذْكُور
(حللت حُلُول الْغَيْث فِي الْبَلَد الْمحل ... على الطَّائِر الميمون والرحب والسهل)
(عبنا بِمن تعنو الْوُجُوه لوجهه ... من الشَّيْخ والطفل المعصب والكهل)
(لقد نشأت عِنْدِي للقياك غِبْطَة ... تنسى اغتباطي بالشبيبة والأهل)
(وودي لَا يحْتَاج فِيهِ لشاهد ... وتقريري الْمَعْلُوم ضرب من الْجَهْل)
يَمِينا بِرَبّ حجت قُرَيْش لبيته، وقبر صرفت أزمة الْأَحْيَاء لميته، وَنور ضربت الْأَمْثَال بمشكاته وزيته، لَو خيرت أَيهَا الحبيب الَّذِي زيارته الأمنية السّنيَّة، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة، بَين رَجَعَ الشَّبَاب، يقطر مَاء ويرف نَمَاء، ويغازل عُيُون الْكَوَاكِب [فضلا عَن الكواعب] إِشَارَة وإيماء، بِحَيْثُ لَا الوحظ يلم بسياج لمته، أَو يقْدَح ذبالته فِي ظلمته، أَو يقوم حواريه فِي لمته، من الأحابش وَأمته، وزمانه روح وَرَاح، ومغدى فِي النَّعيم ومراح، وَنصب وصراح،(2/185)
وانتخاب واقتراح، وصدور مَا بهَا إِلَّا انْشِرَاح، ومسرات تردفها أفراح، وَبَين قدومك خليع الرسن، ممتعا باليقظة والوسن، محكما فِي نسك الْجُنَيْد أَو فتك الْحسن، ممتعا بظرف المعارف، ماليا أكف الصيارف، مَا حَيا بأنوار الْبَرَاهِين شبه الزخارف. لما اخْتَرْت الشَّبَاب، وَإِن شاقني زَمَنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سَحَاب دمعي دمنه. فَالْحَمْد لله الَّذِي وقى جُنُون اغترابي، وملكني أزمة أرابي، وغبطني بمائي وترابي، وَقد أغصني بلذيذ شرابي، وَوَقع على سطوره الْمُعْتَبرَة أضرابي، وعجلت هَذِه مغبطة بمناخ الطية، ومنتهى الطية، وملتقى السُّعُود غير البطية، وتهني الآمال الوثيرة الوطية، فَمَا شيت من نفوس عاطشة إِلَى ريك، متجملة بزيك، عَاقِلَة خطا مهريك، وَمولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومطابق مثالك، وسيصدق الْخَبَر مَا هُنَالك، ويسمعني فضل مجدك، عَن التَّخَلُّف عَن الأصحار، لَا بل للقاء من وَرَاء الْبحار، وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة القَاضِي بدكالة
(إِلَيْك قَلِيل نظرة إِن نظرتها ... إِلَيْك وكلا لَيْسَ مِنْك قَلِيل)
وصلت أَيهَا القَاضِي رفعتك الَّتِي تَضَمَّنت الْفَوَائِد، وصلتك الَّتِي استصحبت الْعَائِد، وَشَاهد فضلك، الَّذِي بَين تصريفه الْأَصْلِيّ وَالزَّائِد، متفننة فِي ضروب لَا تجنح شمسها إِلَى غرُوب، هزت ألحانها مني عطفي طروب، وَاسْتقر قراها بَين يَدي أكول [لمثلهَا] وشروب. فَللَّه مَا تَضَمَّنت من فَوَائِد رحْلَة حجازية، لبست من حسن الحجازية، وَذكر أَعْلَام وَمَكَان استسلام، إِلَّا أَنَّهَا كَانَت كليلة الْوَصْل، مَا عابها إِلَّا الْقصر، فَلَوَدِدْت أَن لَو أمدها بسواده مني الْقلب، الْبَصَر، بخس وَزنهَا الِاخْتِصَار، لَا بل الِاقْتِصَار، وافتقرت إِلَى شرح يَقع بِهِ على متعاصى مَعَانِيهَا الِانْتِصَار، ووعد الْمجْلس القاضوي باكتتاب شَيْء من منظومه بعد اعترافه بِأَنَّهُ كثير، ومهاد وثير، فَمَا كَانَ إِلَّا الْوَعْد، والإخلاف من بعد:(2/186)
(يَا لواله الدّين عَن ميسرَة ... والضنينات، وَمَا كُنَّا لِئَامًا)
وَالظَّن لسيدي أَنه عَاد عِنْد شربه من بير الْحرم، بِأَن ترفع عِنْد مُؤنَة الْكَرم، فأجيبت الدعْوَة كَمَا ورد، واستقام الْعَمَل واضطرد، فَكَانَ اللِّقَاء على مَسَافَة قَصِيرَة، وملاحظة [الْبر] بمقلة غير بَصِيرَة، والزيارة مزورة، وَأَظنهُ لاحظ بَيت شَاعِر المعرة:
(لَو اختصرتم من الْإِحْسَان زرتكم ... والعذب يهجر الإفراط فِي الخصر)
والقرى قد كفى القَاضِي وَالْحَمْد لله مؤونته الثَّقِيلَة، وَلم يحوج إِلَى تشويش [الْعقل، واستخدام] العقيلة، وَهَذَا الْقسم غير مَعْدُود، وَلَا تقع المشاهة إِلَّا فِي مَرْدُود، وهم يتحفه شعره. ثمَّ قَالَ بالبداء، وناداه الإنجاز، فَصم عَن الصدا فاضطرد بَاب الشُّح حسا وَمعنى، وموحدا ومثنى، حَتَّى كَأَن دكاله، شرابة لسوء، والقضاة أكالة، وبيدها لتحجير أَيْديهم وكَالَة. وَهَذِه الْحَرَكَة كَانَت المحبه حَرَكَة الْفَتْح، ووجهة الْمَنّ والمنح، فَلَو لم يَقع فِيهَا بخلة تميمه، للعقتة الْعين، وعسر الهين. وَالْقَاضِي أعزه الله كَمَال، وعيب الْكَمَال لَا يُنكر، وَالْغَالِب الْفضل، وَغير الْغَالِب لَا يذكر، وَهُوَ على التافه يشْكر، داعبته حفظه الله. مداعبة من يعْتَقد خلاف مقَالَة، وَيرجع القناطر المقنطرة بمثقاله، وَلَا يَقُول فِي حَال سيره بانتقاله، وَمَعَ الْيَوْم غَد، وَلكُل شَيْء أمد، ويرجى أَن يمتع الله مِنْهُ بِوَقْت فِيهِ اسْتِدْرَاك، ويرتفع باختصاص النُّزُول لَدَيْهِ الِاشْتِرَاك إِن شَاءَ الله. وَالسَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.(2/187)
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن عَليّ بن أبي رمانة فِيمَا يظْهر من الْغَرَض
(جَفا ابْن أبي رمانة وَجه مقدمي ... ونكب عني معرضًا وتحامان)
(وحجب عني حبه غير جَاهِل ... بِأَنِّي ضيف والمبرة من شان)
(وَلَكِن دراني مغربيا محققا ... وَأَن طَعَامي لم يكن حب رمان)
زِيَارَة القَاضِي، أصلحه الله لمثلي، مِمَّن لَا يخافه وَلَا يرجوه، تحب من وُجُوه، أَولهَا كَونه ضيفا مِمَّن لَا يعد على الِاخْتِيَار زيفا، وَلَا تجر مؤانسته حيفا، فضلا أَن تشرع رمحا أَو تسل سَيْفا، وَثَانِيها أَنِّي أمت إِلَيْهِ من الطّلب بِنسَب، بَين مَوْلُود ومكتسب. وَقَاعِدَة الْفضل قد قررها الْحق وَأَصلهَا، وَالرحم كَمَا علم، تَدْعُو لمن وَصلهَا، وَثَالِثهَا المبدأ فِي هَذَا الْغَرَض، وَلَكِن الْوَاو لَا ترَتّب إِلَّا بِالْعرضِ، وَهُوَ اقتفاء سنَن الْمولى أيده الله فِي تأنيسي، وَوَصفه إيَّايَ بمغربي أَو جليسي، [وَرَابِعهَا وَهُوَ عدَّة كيسي، وهزيز خيسي] وقافية تجنيسي ومقام تلويني وتلبيسي، مَوَدَّة رَئِيس هَذَا الصِّنْف العلمي ورئيسي، فليت شعري مَا الَّذِي عَارض هَذِه الْأُصُول الْأَرْبَعَة، وَرجح مذاهبها المتبعة، إِلَّا أَن يكون عمل أهل الْمَدِينَة ينافيها، فَهَذَا [الْحسب النَّفْسِيّ] ويكفيها. وَإِن تعذر لِقَاء أَو استدعاء، وَعدم طَعَام أَو وعَاء، وَلم يَقع نِكَاح وَلَا استدعاء، فَلم يتَعَذَّر عذر يَقْتَضِيهِ الْكَرم، والمنصب الْمُحْتَرَم، فالجلة إِلَى التمَاس الْحَمد ذَات استباق، وَالْعرْف بَين الله وَالنَّاس بَاقٍ، والغيرة على منصب مثله مَفْرُوضَة، والأعمال معروضة وَالله لَا يستحي(2/188)
أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة. وَإِن كَانَ لَدَى القَاضِي فِي ذَلِك عذر فليفده، وَأولى الْأَعْذَار بِهِ أَنه لم يَقْصِدهُ. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ الشريف أَبَا عبد الله ابْن نَفِيس مِمَّا يظْهر من الْغَرَض
(جزيت يَا ابْن رَسُول الله أفضل مَا ... جَزَاك الْإِلَه شرِيف الْبَيْت يَوْم جزا)
(إِن أعجز الشُّكْر مني منَّة ضعفت ... عَن بعض حَقك شكر الله مَا عَجزا)
سَيِّدي، أبقى الله شرفك تشهد بِهِ الطباع، إِذا بَعدت الْمعَاهد المقدسة وَالْبِقَاع، وتعترف بِهِ الْأَبْصَار والأسماع، وَإِن جحدت عارضها الْإِجْمَاع. بِأَيّ لِسَان أثني، أم أَي الأغصان أهصر وأجنى، أم الْمَقَاصِد الْكَرِيمَة، أَعنِي، أمطيت جوادك الْمُبَارك. وأسكنت دَارك، وأوسعت مَطْلِي اصطبارك، وهضمت حَقك، وبوأت جوارك، وواصلت للغرباء إيثارك. أشهد بأنك الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم لَا أَقف فِي تعدادها عِنْد حد، إِلَى خير جد، فَإِن أعَان الدَّهْر على مجازاة، وَإِن ترفع كرمك عَن موازاة، مجاجة نفس قضيت، وَأَحْكَام آمال أمضيت، وَإِن اتَّصل الْعَجز، فعين عَن القذا أغضيت، ومناصل عزم مَا انتضيت. وعَلى كل حَال فالثناء ذائع، وَالْحَمْد لله شَائِع، وَالله مُشْتَر مَا أَنْت بَائِع. وَقد وجهت من يحاول لسيدي ثمن مَا أكسبه مجده، وسفر عَنهُ حَمده، والعقيدة بعد التَّرَاضِي، وَكَمَال التقاضي، وَجَمِيل الصَّبْر وسعة التغاضي، وَكَونه الْخصم وَالْقَاضِي. إِنَّهَا هبة سوغها إنعامه، والجلة سناها إطعامه، نسل الله أَن يعلى ذكره، ويتولى شكره، وينمي مَاله وَيرْفَع قدره. وَالْولد جازه الْغَرِيب، الَّذِي برز إِلَى مقارعة الْأَيَّام عَن خبْرَة قَاصِرَة،(2/189)
وتجربة غير منجدة على الدَّهْر وَلَا ناصرة، قد جعلت وَدِيعَة فِي كرم جواره، وأنمته فِي حجر إيثاره، فَإِن زاغ بِيَدِهِ الْعليا فِي تبصيره، ومؤاخذته بتقصيره، وَمن نبه مثله نَام، وَمن استنام إِلَيْهِ بهمه أكْرم مِمَّن إِلَيْهِ استنام، وَإِن تشوف سَيِّدي لحَال محبه، فمطلق للدنيا من عقال، ورافض أثقال، ومؤمل اعتياض لخدمة الله وانتقال. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك فِي الْغَرَض الْمَذْكُور
(لم يبْق لي جود الْخلَافَة حَاجَة ... فِي الْأَمر أَو فِي الجاه أَو فِي المَال)
(فقد القا ألوى الْفَضَائِل بغيتي ... وَرَأَيْت هَذَا الْفضل شَرط كَمَال)
(أجملته وتشوفت ببيانه هم ... فَكنت مُفَسّر الْإِجْمَال)
(وخصصت بالإلقا غَيْرك غيرَة ... وَجعلت ذكرك شَاهد الْأَعْمَال)
(للبست يَا ابْن أبي الْعلَا قشب ... الملا وَتركت أهل الأَرْض فِي أسمال)
(إِن دون الفضلا فضلا معلما ... فَلَقَد أتيت عَلَيْهِ بالإكمال)
(تثنى عَلَيْك رعية آمالها ... فِي أَن تفوز يداك بالآمال)
(أرعيتها هملا فَلم يطْرق لَهَا ... بمنيع سورك فَارق الإهمال)
(من كنت وَإِلَيْهِ تولته الْعلَا ... وَمن أطرحت فَمَا لَهُ من وَال)
أبقى الله سَعَادَة والى الْوُلَاة، وَعلم العلاه، وقضايا فَضله منتشرة فِي الْجِهَات، ضَرُورِيَّة بِحَسب الْوَصْف والذات، مشروفة فِي العزمات، عرفية فِي الأزمات، يطرز بهَا ابْن الْخَطِيب أوراق آيَاته الْبَينَات، فَإِن أتيت وأفردت، وأفصحت وكنيت وخطبت وبينت، فمسألة إِجْمَاع، وَنُهْبَة إبصار وإسماع، ومعقول(2/190)
أَولا، وبديهي مَا على غَيره معول، وَتَحْصِيل الْحَاصِل إِضَاعَة وَقت، وإذاعة شت، فلنصرف الْعَنَان إِلَى تأصيل الود الْأَصِيل، وتحرير الْحبّ الْغنى عَن التَّقْرِير، فأقسم بباري النسم، وَهُوَ أبر الْقسم، لقد خلق سَاعَة النمحة الطّرف، وَدلّ عَلَيْهِ قبل الْمعرفَة الْعرف، وَحكم ميذق الفراسة بِطيبَة، قبل أَن يعْمل فِي ديناره الصّرْف، إِنَّه مَدْلُول مَا ضَاعَ لَهُ من الثنا المسموع، وَتَقْرِيره ذَلِك الْمَشْرُوع، وجرثومة تِلْكَ الْفُرُوع، وبذر الْحبّ المزروع. حَتَّى إِذا قرطست السِّهَام، وارتفع الْإِبْهَام، وَكَاد يتغشى النَّفس الإلهام، وَشهد الِاسْتِفْهَام، عجبت واعتبرت، وارتجزت عِنْد الضريبة وَكَبرت، وَقلت دس عرق الْفَاقَة، وَأحكم الْكَشْف والاطلاع عمل الثقافة، وَانْحَدَرَ التَّحْلِيل عَن مقولة الْإِضَافَة، وَلم تبْق ضميمة إِلَّا انضمت، وخصت بعد مَا عَمت، وَلَا امْرَأَة مرام عَزِيز إِلَّا أمت وألمت، لما شمت النِّعْمَة الَّتِي تمت، وَلَقَد هَمت من بسالة يعرفهَا الكمي، ويشمخ بِمِثْلِهَا الْأنف الحمي، وخصل يشْهد بِهِ الْأُمِّي، وَعدل تساوى فِيهِ الرفيع وَالذِّمِّيّ، وطرف كَمَا وسم الرَّوْضَة الوسيمة الوسمي، واهتزاز إِلَى الضَّيْف يَقْتَضِيهِ الْقدر السمي، والخلق العلمي. وَفضل تَوَاتر نَقله، عَمَّن رَضِي دينه وعقله، وَسوى بغل حميمه، وجم بقله، ووقار، قصر عَنهُ كسْرَى السرير وهرقله، وندى هُوَ الْغَمَام، وَلَوْلَا التَّوَاتُر قُلْنَا رغم الْهمام، وَلم أزل لأواجه فِي الْمجَالِس ناشقا. ولجلاله عَاشِقًا، يروقني فِي حفوف المحافل وقاره وسكونه، ويشوقني جنوحه إِلَى المعارف وركونه، إِلَى أَن انْصَرف، وَلَو عرف لما تحول قبل معرفتي وانحرف، ولطرز بهَا الْمجد الَّذِي حازه والشرف، فَإِنَّهُ وَالله يَقِيه، وَإِلَى أقْصَى السَّعَادَة يرقيه، إِن عضل عقايل بره عَن إكفاء استحساني. أَو غصب حلل شيمي طرر لساني، أنكح(2/191)
هَذِه فِي جنب لفقدها الأراقم، وأفقد هَذِه عجائب وشى شكرت الراقم، فطويت، علم الله الجوانح على برح. يجل عَن الشَّرْح. ونكأت قرحا بقرح، وسمت هامات الزَّفِير بُنيان صرح، حَتَّى إِذا الْمقَام المولوي، الإمامي، كافأ الله تهممه، وشكر أنعمه، أطرفني باجتلاء هَذِه العمالة، ودرب السن الركائب عِنْد ربوع الحبايب عَن الإمالة، وَنصب مني لوصف الْبِقَاع وأربابها قسطاسا لَا يظلم مِثْقَالا وَلَا يعلم فِي غير الْإِنْصَاف عِنْد الْحلِيّ والأوصاف مقَالا، ولبيت دَاعِي الْحَرَكَة الَّتِي عَلَيْهَا جبلت، وصرفت إِلَيْك صُدُور الرِّجَال حايرة فِي الأوحال حيرة الْمُتَكَلّم فِي الْحَال، وَصَاحب سوء فسطاي فِي انتحال الْمحَال، وَكلمَة اعترضتني الرِّبَا والأكم جذبتني المعارف وَالْحكم، فَقلت فِي بَيته يُؤْتى الحكم، وَرُبمَا نثرت وَقلت، وآثرت الِاعْتِبَار وتمثلت:
(أزوركم لَا أكافيكم بجفوتكم ... إِن الْمُحب إِذا لم يزر زارا)
وخططته والنسوع مشدودة، والمراحل مَعْدُودَة، واللقيا مَرْدُودَة، وَالله يصدق المخيلة، فِي إيناس ذِي أَنْوَاع وأجناس، وَصدق قِيَاس، واستمتاع بحلم أحنف فِي ذكاء إِيَاس، وَإِذا كَيفَ النَّفس التشوق، ووسمها التوشح بِهِ والتطوق انتابها الخيال، وتتابع مِنْهُ الانثيال، ونشأت نشأة لَا يستطيعها الجريال، وَكَأَنِّي بمثوال قد حططت، وانشدت لما اغتبطت، وعقلت وربطت:
(نادتني الْأَيَّام عِنْد لِقَائِه ... وَهِي الَّتِي لَا تغفل التنبيها)
(يَا ابْن الْخَطِيب حظيت بالعزم والعلا ... فبلغت مِنْهَا الْفضل يَا ابْن أَبِيهَا)
(الْوَجْه طلقا والمعارف جمة ... والجود رحبا وَالْمحل نبيها)
(أثرت باشقات الْفَضَائِل كفة ... أَتَرَى ولَايَته الَّتِي يُحْيِيهَا)(2/192)
وَمن ذَلِك مِمَّا خاطبت بِهِ الْوَالِي بمراكش
وَإِلَى الْوُلَاة الَّذِي بمكارمه يضْرب الْمثل، وَشرف الْحَيَاة الَّذِي جمع لَهُ الْعلم وَالْعَمَل، أبقاكم الله، والسعادة لكم مركب، ونصبه ولايتكم لَا يُخَالف سعدها كَوْكَب، كتبته ولساني طليق، وثناي بالاقتصار على تِلْكَ الذَّات خليق. وَقد كَانَت عِنْد مكارمكم الَّتِي وقفت على أعيانها، وبحثت فِي سمع كيانها، واجتزيت بأثرها عَن عيانها، وتخطيت إجمالها إِلَى بَيَانهَا، مِمَّا يَقْتَضِي مِنْهُ الْعجب ويجلى من عرف الْجُود مَا احتجب، وأظن ذَلِك احتفالا اسْتَنْفَذَ الْقُوَّة، وحذقا ختم آي الْكَرم المتلوه، فأتيح لي استخبار الضاربين فِي الأَرْض، والواردين على الْغمر والبرض، ومتحملي العنايات والشفاعات والوسائل النفاعات، كَأبي عبد الله بن جِدَار، والشرفا ألوى المدن الْكِبَار، وسواهم على تبَاين الأقدار، إِن قَضِيَّة مكاركم مُطلقَة، وأعداد جودكم، بالثنا منْطقَة، فلعمري لقد وجدت لذَلِك خفَّة على كَبِدِي، إِذا لم أر الصنيعة الْبَعِيدَة مُخْتَصَّة بيَدي. إِنَّمَا أَنْت بَحر الْوَاهِب الزاخر، وَالْوَاحد الَّذِي افتخر بِهِ الزَّمن الآخر، ومتحمله فلَان من ذَوي الْفضل ذاتا وصحبة، ووسيلة وتربة، وَله بِصَاحِب رياسة الْإِنْشَاء تخصص وتميز، وفية وتحيز، وَالْمرَاد أَن يكون من رعى وَإِلَى الْوُلَاة بمَكَان مكين، وآويا من مجده إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين، يكون ذَلِك من جملَة مَاله من الأيادي الثرة، والفواضل المتألقة الْغرَّة، وَالله يديم سعده، ويحرس مجده، وَالسَّلَام
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة بعض الْفُضَلَاء وَقد كتبت إِلَيْهِ رقْعَة تغافل عَن جوابها فَظن القَاضِي أَنَّهَا لم تصل فَأَعَادَهَا مخاطبته بِمَا نَصه
الرَّامِي، أبقى الله سَيِّدي إِذا أضلّ بعد إصماء الرَّمية سَهْمه، وَقد حكم عقله(2/193)
وفهمه، أرسل سَهْما آخر على سمته متحرجا من عوجه وأمنه، فَيجْبر ثَانِيهمَا الأول، وأظن هَذَا الْغَرَض، اعْتبر سَيِّدي وَتَأمل إِذْ أرسل سَهْمه، وَهُوَ الْمُصِيب شاكلة السداد بتفريق توفيق الإلهام والإمداد، مُخْتَصًّا بسواد المداد، ثمَّ خَفِي عَلَيْهِ موقع نصله، وعمى لَدَيْهِ خبر خصله، وَلم يقم من الْأَمر على أَصله، فَأَعَادَ، وَالْعود أَحْمد، وثنى وقصده الْبر يشْكر ويحمد، فأقسم بشيمه، وبركات ديمه، مَا رَأَيْت إغفالا سوغ أنفالا، وأكد احتفا واحتفالا، ونسيانا يَقع أَحْيَانًا، فَمَلَأ الْيَد بَيَانا وذهولا، عرف خطا مَجْهُولا، وأقطع من الفصوك حزونا وسهولا، وبلما النَّفس أملهَا، وأنجح قَوْلهَا وعملها، كإبلاغي التَّعْرِيف ببلوغ هَدْيه إِلَى مَحَله، وتبنى قراه المبرور قرى حلّه، فقد كَانَ الأول وصل والعناية تزف عروسه، والبراعة تهدل غروسه، فاستقر بَين سحر الْقبُول ونحره، مُحدثا فِي الْبر عَن بحره، إِن أجهد هَذَا الْفِكر المكدود، جهد نزوح إِلَى روضه أَو ظمى، وَقد تذوكر عهد كريم كرع فِي حَوْضه، وَلَو توهم أَن مهديه يتشوف إِلَى بَرَاءَة مؤديه، لتعين الِاجْتِهَاد وَوَقع بِقَبض ذَلِك الْبسط الْإِشْهَاد، وضمنت رُؤْيَة الْعين بِالْعينِ، وَقد تحصل حصولا بريا من المين. لَكِن تبع الرشا، [من ذَلِك السَّعْي الرشا] وَأَنْشَأَ سحائب الرَّحْمَة المترادفة ذَلِك الْإِنْشَاء، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء ولحكمة مَا ثنيت الْجَوَارِح المصونة عَن الهوان فِي الْحَيَوَان أعداه لحسن الْخلف، ومنابا إِن وفع بمفرد مِنْهَا وُقُوع التّلف. فالمحب يماصع من رقْعَة سَيِّدي بسيفين مرهفين [ويسنو إِلَى درتين مشرقين، أطلعهما رب المشرقين مرصعين] فِي قوتهما مدافعة أَلفَيْنِ، ويصول بكفين، ويرتبط لطراد الْمعَانِي مِنْهَا أسهمين(2/194)
سليمين، وَيرجع من مذخورهما إِلَى خُفَّيْنِ محقين [ويعشوا إِلَى درين مشرقين أطلعهما رب المشرقين] وَلَقَد نبه سَيِّدي، بِمَا أظهر من الضنانة بالمكتوب الْمكنون، وإعمال الشَّفَقَة فِي شَأْنه، وترجيم الظنون، على نفاسه عروضه، وَوُجُوب فروضه، من لم يكن عَن ذَلِك ذاهلا، وَلَا فِي المبالاة بأمثاله مستأهلا، مستأهلا، فَهِيَ النفثات السحرية [وَالْحكم الْحَقِيقَة بِالْحِفْظِ الْحُرِّيَّة] والكرائم الَّتِي تبرها الْبَريَّة. وَإِذا تقرر مَا إِلَيْهِ سَيِّدي تشوف، وَأمن على نَعته مَا تخوف، فالمحب يهيده من لطائف الشُّكْر مَا يَلِيق بِمهْر الْبكر، وَالله عز وَجل يبْقى سَيِّدي صدفا لمثل هَذِه الدُّرَر، بل لمثل تِلْكَ الْكَوَاكِب الْغرَر. وَالسَّلَام عَلَيْهِ من وليه الشاكر لمواقع وليه المعتد على الزَّمَان بعليه [وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته] .
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ الشَّيْخ الْوَلِيّ الْفَاضِل أَبَا مُحَمَّد بن بطْنَان فِيمَا يظْهر من الرسَالَة
(لَا نَاقَة لي فِي صبري وَلَا جمل ... من يعد مَا ظعن الأحباب وَاحْتمل)
(قَالُوا استقلوا بِعَين الْقطر قلت لَهُم ... مَا أعرسوا بسوى قلبِي وَلَا نزل)
مَا هَذَا الاستدعاء الَّذِي نقد وبهرج، وَعطف على من اتّصف بالسعادة وعرج وَمر على الخليط الْمُنَاسب كَمَا مرت على الطَّحْن سبابة الحاسب، يقدم ويحفل، ويعلى ويسفل، وَيعلم ويغفل، ومنزلتي صفر من هَذَا التَّعْيِين، وحظى الظمأ من المورد الْمعِين. فَلَيْسَ إِلَّا الصَّبْر، إِن كَانَت الْوَسِيلَة الْمُعْتَبرَة، وَسِيلَة الْحبّ، فَمَا لوسيلتي تحفظ، وركائب استقدامي لَا ترتبط، وَفِي مثلهَا يحْسد أَو يغبط(2/195)
الصحب، وَالْمحل الرحب. بِحَيْثُ يفعم الوطب، ويدرأ الْخطب، وترفع للطارق نَار الْقرى مادتها المندل الرطب. نَسْتَغْفِر الله من الاسترابة بالود اللّبَاب، ونتوب فِي الِاعْتِذَار عَن الأحباب، وَلَو علمُوا بارتفاع النقية، والمطالبة بالبقية، لما حجبوا بروقهم، وَلَا أغفلوا مشوقهم، وَلَا منعُوا عَنهُ صبوحهم وَلَا غبوقهم.
(وَعَسَى الَّذِي قدر البعاد يُزِيلهُ ... وَعَسَى الَّذِي كتب الْفِرَاق يجمع)
وَلما وقفت على استدعاء صاحبنا أبي الْقَاسِم، وصل الله حفظه، وأجزل من نعمه حَظه، آثرت اعتزامه، واقتضيت بالعهد الْتِزَامه، وكافحت جَيش اعتذاره، حَتَّى رَأَيْت انهزامه، فِي أَن أشاهد ذَلِك الْجمع الْمُبَارك بعيني، وأكون غَرِيم الدَّهْر فِي اقْتِضَاء ديني، وحركت لَهُ الشوق يذهب مَعَه الوسن، ويخلع فِي طَاعَته الرسن وَكنت فِي طَاعَته كَمَا قَالَ الْحسن:
(أَيهَا الرابحان باللوم لوما ... لَا أَذُوق المدام إِلَّا شميما)
(جلّ حظي مِنْهَا إِذا هِيَ دارت ... أَن أَرَاهَا وَأَن أَشمّ النسيما)
(نالني بالملام فِيهَا إِمَام ... لَا أرى لي خِلَافه مُسْتَقِيمًا)
(فَكَأَنِّي وَمَا أزين مِنْهَا ... تعدى يزين التحكيما)
(كل عَن حمله السِّلَاح إِلَى الْحَرْب ... فأفضى المطين أَن لَا يُقِيمَا)
وَالله يسر براحة الشَّيْخ النُّفُوس، وَيذْهب البوس، ويضفي من الْوِقَايَة اللبوس، وَالسَّلَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ الْحسن بن يحيى فِيمَا يظْهر من الرسَالَة
(وسائلة عَن الْحسن بن يحيى ... وَقد جرحت مآقيها الدُّمُوع)
(تَقول ترحل المفضال عَنَّا ... وَضعنَا بعده فَمَتَى الرُّجُوع)(2/196)
(وَكَأن الشَّمْس فارقنا سناه ... فأظلمت الْمعَاهد والربوع)
(فَقلت كَانَ بمقدمه فَقَالَت ... بشارتك الصواهل والنجوع)
(تولى الله مِنْهُ خير وَال ... نكف بِهِ الخطوب فَمَا تروع)
(فَقلت لَعَلَّهَا انْفَرَدت بِهَذَا ... فَقَالَ بقولِهَا الْحَيّ الْجَمِيع)
(فَكَانَت دَعْوَة صعدت ونجوى ... فقبلها الْمُجيب لَهَا السَّمِيع)
(وَوَافَقَ مَا نطقت بِهِ قَضَاء ... قضى إِن الْوَسَائِل لَا تضيع)
مَا كنت، أعزّك الله أَظن الْإِجْمَاع ينْعَقد على فضل وَال، وَلَا الأكف تمد فِي سَبِيل ضراعة من أَجله وسؤال، فَالنَّاس فِي الْوُلَاة على اخْتِلَاف أَحْوَال، بَين معاد وموال، ومتوقع عِقَاب ومؤمل نوال، حَتَّى خضت بَحر أهوال، وجنحت شمس ولايتك إِلَى وَقت زَوَال، فَظهر أَنه ثوب لم ينسج على منوال، وعنوان قبُول من الله متوال، وَلم يكن إِلَّا أَن أعملت الرحلة وأزمعتها، ولفقت الْعَزِيمَة وجمعتها، وشرعت فِي أَن أحقق الْأَخْبَار الَّتِي عَنْك سَمعتهَا، فنغص سروري الْوَاقِع، وأوحشتني الرسوم البلاقع، وساءتني المواقع، ثمَّ تدارك الْخرق وَالْحَمْد لله الرافع، وَبَطل بترياق الخواطر ذَلِك السم الناقع، فسكن الرَّعْد، وأنجز الْوَعْد، وسبط الْجَعْد، وساعد وجهتي السعد، وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد، ووفدت على مَنْزِلك مطلا على الْقَبِيل والعشير، مَعَ البشير، مزاحما إِيَّاه فِي ثنية الْمسير، فَلَو لم يكن لله على منَّة إِلَّا هَذِه الْمِنَّة، الَّتِي وكفت، لأحسبت وكفت، ولوت وعطفت، وحجت واعتكفت، لارتهنت أمد الْحَيَاة شكر لساني، واستدعت إدامة ذكرى لمن لَا ينساني، فَالْحَمْد لله الَّذِي نظم الشمل لما انتثر، وَأَحْيَا الرَّسْم فَمَا أمحا وَلَا دثر [وَقد روينَا الحَدِيث وحققنا الْأَثر] ، وَفِيه أَن الله أَخذ بيد الْكَرِيم كلما عثر، وَمَا زلت تسمعني الثنا الحائك، وينشقني الْحَمد رواحك وريحانك(2/197)
فَأَقُول رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ. فَلَمَّا تجللت الْحَال، يثني عَلَيْك مثيرها وراعيها، وتعرفت آثَار عداك، تكلّف الْأَلْسِنَة بشكر مساعيها، علمت أَن الله لَا يهملك، وَأَن حلمه يحملك، وبصنعه يزينك ويحملك، حَتَّى ينجح من يؤملك، وهممت أَن أقيم حَتَّى أشافهك بهنائك، وأسرك بتعرف ثنائك، إِلَّا أَنِّي تعرفت أَن الشغب تبيت مِنْهُ تبعة، ستزول بِفضل الله وترتفع. وتنصرف بقدرته وتندفع، وَالَّذِي حفظ جَوْهَر الذَّات، يجْبر عرض المَال، وَالَّذِي أحسن فِي الْمَاضِي وَالْحَال، يحسن فِي المنال، وللإنسان حَظّ يَسْتَوْفِيه، ورزق يفضل عَنهُ أَو يَكْفِيهِ وَغدا لَا يدْرِي مَا الله صانع فِيهِ، فَرَأَيْت أَن أنصرف حَتَّى أزورك بحول الله، رَضِي البال، ناجح الانتهاز فِي فرص الْعِزّ والاهتبال، راشقا إِلَى هدى السَّعَادَة بأشد النبال، جَامِعَة ولايتك بَين السهول وَالْجِبَال، وَأحل بك وفكرك وادع، وعزك لأنف الدَّهْر جادع وأمرك بالعز صادع، فَمَا أَحْرَى دهرك أَن يضن مِنْك بالذحيرة الَّتِي أزرت بهَا كف هَذِه الْأَزْمَان الْأَخِيرَة، ليستدل على مَا ذهب من الْخيرَة، وَمَعَ الْعسر يسر، وَالْأَيَّام رطب وَبسر، وصفقة الْفضل لَا يتعقبها خسر. وَالله يتولاك ويحرس علاك ويحفظ عَلَيْك مَا أولاك، كَمَا جعل المحامد حلاك، وَالسَّلَام يخصك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مِمَّا خاطبت بِهِ الشَّيْخ أَبَا الْحسن ابْن بطان أهنيه بولده عبد الْوَاحِد
(يهنيك مقدم عبد الْوَاحِد ابْنك عَن ... مطل بوعد من الْأَيَّام مرقوب)
(كيوسف كَانَ فِي فعل الزَّمَان بِهِ ... وَكنت فِي البث والشكوى كيعقوب)
قد علم الله، وَهُوَ الذى يعلم السِّرّ والخفى، ويميز المأذق والوفى، أننى(2/198)
أَيهَا الْفَاضِل، الَّذِي إِلَيْهِ فِي الْمجد الْإِشَارَة، وباجتماع شَمله ذاعت الْبشَارَة، من يَوْم وَقع عَلَيْك بَصرِي، وَوَجَب عَن حصر كرمك حصري، وَرَأَيْت مِنْك كَوْكَب السحر الَّذِي أَخذ أعقاب النُّجُوم، وَالصُّبْح مرتقب الهجوم، وَبَقِيَّة الْغَيْث السجوم، والزمن كثير [الفبارك] والرجوم، واسيت لفراق ابْنك، إِذْ جوانحي بالفراق جد مكلومة، وأسوار صبري بمنازلة الدَّهْر [غير الموادع] أَي مثلومة، وَنَفْسِي بالرقة المسترقة مَعْلُومَة، وَفِي الْجزع للبين غير ملومة، لم أزل أضن على الْحَوَادِث بذاتك، وأوسع الْأَيَّام ذما فِي أذاتك، وأرغب فِي بقا رسم الْمَرْوَة بِبَقَاء حياتك، وأمل جمع شملك بِعَين أهلك، وأحتقر فِي جنبه مَا أملك، وَمَا عَسى الْيَوْم أَن أملك. وَأما مَا يرجع إِلَى تخليد ذكر جميل، وتنفيق فِي مَحل تأميل، وهز الْخلَافَة إِلَى وعيك، وإحماد سعيك، فَأمر لم آل فِيهِ جهدا، فقد أوسعته حرصا لَا زهدا، ونشرت لَك بأبوابهم مِنْهُ نبدا، وجندت جندا. وَكنت عينت الشكران من أَجلك، إِذا جمع الله شملك بنجلك، فَلَمَّا تعرفت خلاص بدره من سراره، ودنو دَاره، ورجوعه بعد الْميل إِلَى مَدَاره، ثمَّ نظرت إِلَى محاسنه بِعَين نايبة عَن عَيْنك، وسرني حسن القضا، بعد أَن مطل الدَّهْر بِدينِك، شاهدت فَاضلا فِي فِرَاق مثله يحسن الْجزع، ويرفض الصَّبْر المنتزع، وابنا مزيته على الْبَنِينَ مزية سنة الْهِجْرَة على السنين، حفظ الله كَمَاله، وَبلغ كلا مِنْكُم آماله، وأعانه على تأدية حَقك الَّذِي لَا يُوسع الشَّرْع وَلَا الطَّبْع إهماله، وحمدت الله وشكرته ورحت فِي طلق المسرة وابتكرت، وعذرت ووفيت بِمَا نذرت، وَلم يقنعني إِلَّا بعث من يشافه بهنائك [فِي أحب(2/199)
أبنائك] وَلَوْلَا أَنِّي ملازم حُرْمَة لَا أبرحها، ومغمور جراية لَا أرفض حُقُوقهَا، وَلَا أطرحها، وموصل آمال لَا أشرحها، لم يقنعني إِلَّا أَعمال الركاب، بدل إِعْمَال الْكتاب. فمثلي إِذا عرف مثلك الْتزم، وَقطع بِمُوجب الوفا وَجزم، وَفِي وضع موَاضعهَا حزم من حزم، وَالله أسل أَن يَجْعَل شملكم شملا مَحْفُوظًا، وبعين الْجمع على الْأَيَّام ملحوظا، ومقدما مجدودا محظوظا ويمتع الْفُرُوع بِالْأَصْلِ، وَالْأُصُول بالفروع ويجعله ريعا بالبين غير مروع، ويعين من الْبر على الْحق الْمَشْرُوع. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة الْفَقِيه أبي عبد الله الْكِنَانِي وَقد صرف عَن خطة الِاشْتِغَال إِلَى الْخدمَة
(أَصبَحت سَهْما من كِنَانَته صائبا ... يمْضِي إِلَى هدف الْكَمَال ونحره)
(وَأَبُو المكارم جدك الأرضى الَّذِي ... استولى على سر الْكَمَال وجهره)
(مَا كَانَ يَدعِي بالمكارم كنية ... إِلَّا لكونك ثاويا فِي ظَهره)
سَيِّدي الَّذِي لساني مُرْتَهن حَمده، وجناني مستودع وده، أقسم بِمن فضلك على أَبنَاء جنسك، ومنابت غرسك، وَجعل يَوْمك فِي الْفضل موفيا على أمسك، مَا من يَوْم إِلَّا ولى فِيهِ لعلاك ذكر، وَحمد وشكر، وهم بلقائك وفكر، لما استجلبت من جمال يثير الكلف، وجلال يذكر من سلف، وَلما تعرفت مَا كَانَ من الِانْصِرَاف، وتطويق الافتراف، وَتَصْحِيح الْمثل فِي الْأَطْرَاف منَازِل الْأَشْرَاف، ارتمضت وَمَا اغتمضت، ثمَّ شكرت الله على نعمه وتبينت مَوَاضِع لطفه بك وَكَرمه، كَأَنَّك وَالله يقيك عرضة لإصابة الْعين ووقعها، ونعوذ بِاللَّه لَيْسَ بالهين. وَكم بَين المشوب والمحض، وَبَعض الشَّرّ أَهْون من بعض، ويتفاضل الدَّهْر فِي(2/200)
العض، وَللَّه عناية ببقاع الأَرْض. فَإِن كَانَت سجلماسة قبل الْيَوْم يجلب مِنْهَا التبر إِلَى دَار الْملك، فقد رد إِلَيْهَا الذَّهَب الإبريز من بعد السبك، وَلَا بُد أَن يصول الْحق على الشَّك، فتعود الْأُمُور إِلَى معتادها، وتملك الْعليا مَحل فؤادها، فَإِنَّمَا هُوَ جميم وَرَاءه إنعام عميم، وَمن الله أسل أَن يكل لَك أَسبَاب الْعِزّ آمِنَة من الانصرام، وَلَا يقطع عَنْك عوارف الإنعام، وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مِمَّا خاطبت بِهِ الْفَقِيه الْحَكِيم الْقَاسِم ابْن دَاوُد الفخار من أهل سلا
(يَا من يُعِيد الطين كل صُورَة ... عَن مثل فِي علمه محصورة)
(والفلك الدوار من دواره ... وَالنَّار تمْضِي حكمه ضَرُورَة)
(فَهَذِهِ تحمل طيبا طَاهِرا ... وَهَذِه تَكْفِي بهَا قاذورة)
(أَوْصَاف حق فِي مقَال بَاطِل ... وَآلَة منهية مأمورة)
سَيِّدي جعلك الله مِمَّن تكيف بِالْحَقِّ وتجوهر، وَعلم الْمشرق والمظهر، إِذا غلب الْفرق اشْتقت إِلَى لقائك وارتمت إِلَى الْبَرْق من تلقائك. وَإِذا غلب الْجمع، وَهُوَ ثَمَرَة المجاهدة، تمتعت بك عين الْمُشَاهدَة، إِن تشوفت إِلَى الْأَحْوَال واستشرقت، فَلم تنْتَقل عَمَّا عرفت خرقَة الْقَوْم اللبَاس، وَمن بشكاة الْحق الاقتباس وَقد ذهب الباس. ولى أمل فِي العودة إِلَى ذَلِك الْجوَار، الحقي بالدوار، والجناب المظلل بالأعناب، وَالْبَيْت الْمَعْمُور بالكليات من الْأُمُور. وَالله يبلغ المآرب، وييسر المسارب، ويعذب المشارب، وَقد نظمت كلمة تَضَمَّنت ذكر الْمعَاهد الَّتِي نشأت بهَا العلاقة، وتعذرت من سكر شكرها الْإِفَاقَة، لتنظرها بِعَين الرِّضَا الكليلة عَن الْعُيُوب، وتأذن فِي انتساخها كمن ذهب إِلَى ذَلِك من أَرْبَاب الْقُلُوب، لَعَلَّ ذكرهم بالجميل ينفع، وَفِي كثير من سيئاتي يشفع. وَالله عز وَجل، يتَوَلَّى(2/201)
شَأْنكُمْ أَيهَا الْحَكِيم الَّذِي لَهُ النَّفس الزكية وَالْقلب السَّلِيم، ويبلغك [كَمَا لَك] الْأَخير، فَهُوَ على كل شَيْء قدير. وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ الْفَقِيه أَبَا جَعْفَر بن خَاتِمَة رَحمَه الله، عَن رِسَالَة كتب بهَا إِلَى
(لم فِي الْهوى العذري أَو لَا تلم ... فالعذل لَا يدْخل أسماع)
(شَأْنك تعنيفي وشاني الْهوى ... كل امْرِئ فِي شَأْنه ساع)
أَهلا بتحفة القادم وَرَيْحَانَة المنادم، وذكرى الْهوى المتقادم، لَا يصغر الله مسراك، فَمَا أسراك، لقد جيت إِلَى من همومي لَيْلًا، وجبته خيلا ورجلا، ووفيت من صَاع الْوَفَاء كَيْلا، وظننت بِي الأسف على مَا فَاتَ فأعملت الِالْتِفَات لكيلا. فأقسم لَو أَن أَمْرِي الْيَوْم بيَدي، أَو كَانَت اللمة السَّوْدَاء من عددي، مَا أفلت أشراكي المنصوبة لأمثالك. حول الْمِيَاه وَبَين المسالك، ولعلمت مَا هُنَا لَك، لكنك طرقت حمى كسحته الْغَارة الشعواء وغيرت ربعَة الأنواء، فجمد بعد ارتجاجه، وَسكن أذين دجاجه، وتلاعبت الرِّيَاح الهوج فَوق مجاجه، وَطَالَ عَهده بالزمن الأول، وَهل عِنْد رسم دارس من معول. وَحيا الله ندبا إِلَى زيارتي ندبك، وبآدابه الحكيمة أدبك ... . [
(فَكَانَ وَقد أَفَادَ بك الْأَمَانِي ... كمن أهْدى الشفا إِلَى العليل)
]
وَهِي شِيمَة بوركت من شيمه، وَهبة الله قبله من لدن المشيمة، وَمن مثله فِي صلَة رعى، وَفضل سعى، وَقَول ووعى ... ... ... .(2/202)
(فقسما بالكواكب الزهر والزهر عاتمة ... إِنَّمَا الْفضل مِلَّة ختمت بِابْن خَاتِمَة)
كساني حلَّة فَضله، وَقد ذهب زمَان التجمل.
( [وحملني ناهض شكره ... وكتدى واه عَن التَّحَمُّل] )
ونظرني بِالْعينِ الكليلة، عَن، للعيب، فَهَلا أَجَاد التَّأَمُّل، واستطلع طلع بثى ووالي فِي أحرك المجرة] حثي. إِنَّمَا أَشْكُو بثي.
(وَلَو ترك القطا لَيْلًا لناما)
وَمَا حَال شَمل قَيده مفروق، وقاعدته فروق، وصواع بني أَبِيه مَسْرُوق، وَقَلبه قرحَة من عضة الدَّهْر دَامَ، وجمرة حسرته ذَات احتدام. هَذَا وَقد صَارَت الصُّغْرَى، الَّتِي كَانَت الْكُبْرَى لمشيب لم يرع أَن هجم، لما نجم، ثمَّ تهلل عَارضه وانسجم.
(لَا تجمعي هجرا على وغربة ... فالهجر فِي تلف الْغَرِيب سريع)
نظرت فَإِذا الْجنب نَاب، وَالنَّفس فريسة ظفر وناب، وَالْمَال أكيلة انتهاب، والعمر رهن ذهَاب، وَالْيَد صفر من كل اكْتِسَاب، وسوق الْمعَاد مترامية، وَالله سريع الْحساب.
(وَلَو نعطى الْخِيَار لما افترقنا ... وَلَكِن لَا خِيَار مَعَ الزَّمَان)
وهب أَن الْعُمر جَدِيد، وظل الْأَمْن مديد، وَرَأى الِاغْتِبَاط بالوطن سديد، فَمَا الْحجَّة لنَفْسي، إِذا مرت بمطارح جفوتها، وملاعب هفوتها، ومثاقب قناتها، وَمظَاهر [عراها وهناتها] والزمن ولود، وزناد الْكَوْن صلود.
(وَإِذا امْرُؤ لدغته أَفْعَى مرّة ... تركته حِين يجر حَبل مفرق)
ثمَّ إِن المرغب قد ذهب، والدهر قد اسْترْجع مَا وهب، والعارض قد اشتهب(2/203)
وأدات الِاكْتِسَاب مرجوحة مرفوضة، وأسماؤه على الْجوَار مخفوضة، وَالنِّيَّة مَعَ الله على الزّهْد فِيمَا بأيدي خلقه معقودة، وَالتَّوْبَة بِفضل الله عز وَجل شُرُوطهَا غير مُعْتَرضَة وَلَا منقودة، والمعاملة سامرية، ودروع الصَّبْر سابرية، والاقتصاد قد قرت الْعين بِصُحْبَتِهِ، وَالله قد عوض حب الدُّنْيَا بمحبته، فَإِذا رَاجعهَا مثلي من بعد الْفِرَاق، وَقد رقى لدغتها ألف راق، وجمعتني بهَا الْحُجْرَة، مَا الَّذِي تكون الْأُجْرَة، جلّ شأني وَإِن رضى الوامق، أَو سخط الشاني. إِنَّنِي إِلَى الله مهَاجر، وللعرض الْأَدْنَى هَاجر، ولأظعان السّري زاجر، [لأحد إنْشَاء الله وحاجر] لكني دَعَاني إِلَى الْهَدْي إِلَى الْمولى الْمُنعم هوى، خلعت نعلى الْوُجُود، وَمَا خلعته، وشوق أَمرنِي فأطعته، وغالب وَالله صبري فَمَا استطعته، وَالْحَال [وَالله] . أغلب، وَعَسَى أَن لَا يخيب الْمطلب. فَإِن يسره رِضَاهُ فأمل كمل، وراحل احْتمل، وحاد أشجى النَّاقة والجمل. وَإِن كَانَ خلاف ذَلِك، فالزمن جم الْعَوَائِق، وَالتَّسْلِيم بمقامي لَائِق:
(مَا بَين طرفه عين وانتباهتها ... يقلب الْأَمر من حَال إِلَى حَال)
وَأما تفضيله هَذَا الوطن على غَيره ليمن طيره وَعُمُوم خَيره وبركة جهاده وَعمْرَان رباه ووهاده، بأشلاء زهاده، حَتَّى لَا يفضله إِلَّا أحد الْحَرَمَيْنِ، فَحق بَرى من المين. لكني للحرمين جنحت، وَفِي جو الشوق إِلَيْهَا سرحت. وَقد أفضت إِلَى طَرِيق قصدي محجته، ونصرتني والْمنَّة لله حجَّته، وَقصد سَيِّدي أَسْنَى قصد، توخاه الشُّكْر وَالْحَمْد، ومعروف عرف بِهِ النكر، والآمال من فضل الله بعد تمتار، وَالله يخلق مَا يَشَاء ويختار، ودعاؤه بِظهْر الْغَيْب مدد، وعدة وَعدد(2/204)
وبره حَالي الْإِقَامَة، والظعن معتمل مُعْتَمد، ومجال الْمعرفَة يفضله لَا يحصره أمد. وَالسَّلَام الْكَرِيم من محبه الْمثنى على كَمَاله. فلَان.
وَمن ذَلِك فِي مُرَاجعَة قَاضِي الْجَمَاعَة عَن رِسَالَة فِي شَأْن نَخْلَة خَارج الْحَمْرَاء
(مزايا النّخل يَوْم الْفَخر مِمَّا ... تساوى الشَّيْخ فِيهِ والغلام)
(وَحقّ بِطيبَة للنخل طيب ... على حجرات ساكنها السَّلَام)
(فيا قَاضِي الْقُضَاة فدتك نَفسِي ... أقرّ الْخصم فارتفع الْكَلَام)
وَأَنت أيتها الطارقة طروق الولهان، المنافرة فِي الْفَخر إِلَى الْكُهَّان، الْمُسَابقَة يَوْم الرِّهَان، المنتصرة من امتهان غير المهان، حياك الله من أبيَّة حنيم، وبارقة غيم، وراعية جَار، ومشيدة نجار، وملحقة من قل فِي أمس وَيَوْم، وَوُجُود سوم، بسراة قوم مَعَ الْبَرَاءَة من لؤم أَو لوم، حَتَّى جزت بأنسابه الْعَرَب، وقارعة النبع بالغرب، بَين الشعوب والقبائل، والبطون والفضائل، متلفعة ببرود لبردى الْبكر والأصايل، مَتى أطلت صُحْبَة كميل، واستفدت مَا لَدَى النَّضر بن شُمَيْل، مَتى وَردت بِغَيْر ثماد، من معرفَة الْأَصْمَعِي وَحَمَّاد، حَتَّى رددت كلا إِلَى نسبه، وجبرت على اللَّقِيط لقطَة حَسبه، وَرفعت بالأصباع عَن ذهدة اللوم، وسبرت غابرة الكلوم، ورددت الْمَجْهُول إِلَى الْمَعْلُوم. وَكم مر قبلك من حَان وفاعل، فَوق ناهق وصاهل، وسهى وعد ووعيد. وطالب مرام بعيد، ومبدي فِي اللَّغْو ومعيد، وبارز إِلَى مصلى عيد، وَفَارِس صنديد، وأسراب عباديد، يمتون إِلَى تِلْكَ الغريبة. بالوسائل الْقَرِيبَة، ويعترفون لسخبها(2/205)
بِطيب الضريبة، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مَعَ ذَلِك بالعيون المريبة، ويجتنبونها اجْتِنَاب الحريبة، وَهِي الْعمة، وَلها الْحُقُوق الجمة، وَالرَّفْع والضمة. دَعْنَا من إطراء ذَاتهَا، والامتعاض لأذاتها، وَالنَّظَر فِي آلامها ولذاتها، ولنعتبر مزية أَصْلهَا، وصعدة نصلها، وبركة فصلها، وتفد الجس إِلَى جِنْسهَا عَن فَضلهَا. أليست قسيمة آدم أبي الْبَريَّة فِي طيبَة البشرية، أَلَيْسَ جذعها الْمَخْصُوص بالمعجزة السّنيَّة لما انثال على البتول بالرطب الجنية، بِأَمْر رب هَذِه البنية، وحن إِلَى الرَّسُول الْخَاتم واهتز، وابتز الشوق من تماسكه مَا ابْتَزَّ، إِلَى مَا ورد فِي الذّكر من تَكْمِيل لبرها، وتتميم، وَتَخْصِيص من بعد تَعْمِيم، فَمَا الْعذر فِي الإغفال، وَالْتِبَاس الهوادي بالأكفال [وَعدم الاحتفاء والاحتفال وَكَاد أَن يرْضخ لَهَا من الْأَنْفَال] وَأَن تستعد لتجنبك الْأَطْفَال وتوسم بهَا الموائد الأغفال، وتحاط خزائنها إِذا كملت جرايتها بالأقفال، وينال من ضلعها التقريع والعتب السَّرِيع، وَيعلم بهَا ذَلِك الرّيع، ويستدعى لَهَا الْعَيْش المريع، ويدار بهَا سياج السَّلامَة، ويتاحف من سقيطها وَلَو بالقلامة، وَيرْفَع ببرها عَن [بني أَخِيهَا] وترتب الْمَلَامَة، وَيجْعَل لِلْأُصُولِ الغريبة كالعلامة، لَكِن رُبمَا أجَاب مِنْهُم منتدب محتسب، وجذب إِلَى الْأَنْصَار منتسب، فَقَالَ مَا لنا وللبر المضاع، والعتب الْمُقَرّر الأوضاع، وَلم يخف علم الله رحما، وَلَا أنكرناه عيصا ملحما وفوجا ملتحما فَمَا كل نسب يرْعَى وَلَا كل ولد يَرث أَبَاهُ شرعا، وَرُبمَا أنكر الأَصْل فرعا، وَمَا كالسعدان كل مرعى. وَفِي التَّفْرِقَة بَين نوح وَبَين سليله، مَا يتكفل لهَذَا الْقبُول بتعليله وتكثير قَلِيله إِذْ يَقُول سُبْحَانَهُ، وَقد جعله مِمَّن يهْلك، يَا نوح(2/206)
إِنَّه لَيْسَ من أهلك، وَهَذَا السَّبِيل الَّذِي عفم مِنْهُ النَّسْل، قيل فِي الْحَقِيقَة، وحايد عَن الطَّرِيقَة العريقة، خلع فِي السخف الرسن، وَلم ينبته الله النَّبَات الْحسن، وَأدْركَ بادس الْملك وَمَا سكن، فَمَا أطرق بتمره اللِّسَان وَلَا أطلق بفضله اللسن، أغفل الشُّكْر على الْمَعْرُوف، وَعدل عَن الْأَسْمَاء للحروف، وَنظر عَن الظّرْف المظروف، واتصف مَعَ الأَصْل الشريف بِصفة المشروف، بعد أَن أكتب من مقرّ الْعِزّ جواره، وكنفته من معقل الْملك أسواره، فَمَا عدم مَاء يَسْتَدْعِي نَمَاء وآثاره تحفظ مِنْهُ ذما، يحيا عِنْد افْتِتَاح الْبَاب ويبيا، وَينظر عَن يَمِين الْمحيا، قد رفع علما بِبَاب الشَّرِيعَة، ومنارا بهضب الرَّوْضَة المريعة، يهدي الطارق ويصافح البارق، ويشيع الغارب، وَيسْتَقْبل الشارق، فأخلف ذَلِك الْخلف الْوَعْد، وَأثر فِي الزَّمن الْبسط خلقه الْجَعْد. أما عموده فقصير، وَإِن طَال مِنْهُ الْعُمر، وَأما ثمره فمعدوم، وَإِن جَادَتْ التَّمْر، وَأما جديده فَغير نَافِع لمن يُريدهُ، قد أمكن أهل السبت من ناصيته، وأبلغ مرتادهم إِلَى قاصيته والسمح للْكَافِرِ بكفراه، فَمَا أحقه باللوم وأحراه، فاستضافة الكدبة على الغرير، ومالوا إِلَيْهِ عَن الْغَيْر، فدان بدينهم، واتسم بسمة خدينهم، وَظَهَرت عَلَيْهِ الْغلَّة، وَضربت المسكنة والذلة، وحكمهم فِي مفرقه، يعلونه بالأنامل، إِلَى أَن يبلغُوا مِنْهُ أمل الآمل، وَأما من مَكَائِد مستسر، فِي مَظَنَّة بر، إِذا أخبر العبور، والتلمود المستور، بعيد إِسْرَائِيل تهلل، وَإِن باكره التَّكْبِير، وَالذكر الْجَمِيل، تذلل، وبالصغار فِي عين الْخُشُوع تجلل. فأقسم بِمن حرم الفسوق وَوصف الطّلع والمبسوق، ونفق مِنْهَا السُّوق، إِنِّي ليغلب على ظَنِّي، وَبَعض الظَّن إِثْم، وَفَوق كل ذِي علم عليم، وعَلى أَن نواته المجتلبة على النَّوَى، والغربة(2/207)
الهادية من التخوم، الثَّابِتَة إِلَى هَذِه الْقرْبَة، كَانَ من خمرة خَبِير اكتسابها، وَفِي بني النظير أَو بني قُرَيْظَة انتسابها، وَأَن بركَة بِي الْحقيق ظَهرت على ذَلِك العذيق فَلذَلِك مَا تألفت الأشكال، وَحقّ النكال، وَإِلَّا فَمَا للنخيل وشيم الْبَخِيل وأكذاب المخيل، وَالنّسب الدخيل، إِنَّمَا هِيَ مِمَّن غل يَده العقال، وَلعن بِمَا قَالَ. فليعد ذَلِك العذق بالملامة على نَفسه فهضمه لَا يعود على جنسه، ومعرة الْيَوْم مُرْتَفعَة عَن أمسه أَمر. وعَلى ذَلِك فجواره الْقَرِيب الَّذِي لَا يهمل، وعيته بعد وصاة قَاضِي الْقُضَاة، لَا تسمل، بل تكنف إِن شَاءَ الله بالرعى وتسمل وتتلقى بِالَّتِي هِيَ أجمل، فَالله قد زكى بنظره الشُّهُود لما وفى النصح المجهود، وَأدْخل فِي الدّين الحنيف على يَده النَّصَارَى وَالْيَهُود، فَالْخَبَر يُبَارك وسيدي فِي الرَّد إِلَى الْحق يُشَارك، والقس يصلب، وَالله عز وَجل بسعيه الْقُلُوب يقلب، حَتَّى أكثرت المهاجرة وبرت الْقسم الْفَاجِرَة، وَلَعَلَّ هَذِه النَّخْلَة الإسرائيلية تكون بليته مِمَّن أسلم، وأسدى وَتعلم، وأبل بعد مَا تألم، وَانْطَلق لِسَانه بالعز وَتكلم، حَتَّى يجود غمامها وَتحمل بالرطب أكمامها. وَيعود إِلَى الْمُلَامسَة عودهَا، وتنجز بالأزهاء وعودها، ويرتفع جمودها، الَّذِي شان وخمودها، وتيأس الْيَهُود من جناها المحبور، وحماها الشاكي بالحبور، كَمَا يسر الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور، وَإِن تَمَادى الاهويا فِي مبعث أهل السبت وَوَقع عَلَيْهِ الْكتب بالكبت، فعدله أبقاه الله، يجْبر الْيَهُود على جبره، ويرعى مَا أبداه من تماسكه على دينهم وَصَبره، وبحكم التَّوْرَاة، فِي مواراة وَصله وَالزَّبُور، وليكلف الحبر أَن يعامله مُعَاملَة وَلَده لصلبه، وَإِلَّا فليجعله جذعا لصلبه، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فيرجى أَن تنشأ لَهُ فِي أهل الْكتاب ناشية وتتعلق بِهِ أَحَادِيث فَاشِية، وَيجْعَل الله بِرَأْسِهِ من التَّمْر(2/208)
المضفر شاشية، وَحفظ أهل الذِّمَّة، لَا يُنكر على هَذِه الْأمة. وَالله يبْقى سَيِّدي مُشِيرا للهمة بالأمور المهمة، ومحييا للرمة، وراعيا للوسائل والأذمة، بحول الله.
وَمن ذَلِك وَقد تَكَرَّرت حَرَكَة السُّلْطَان أيده الله تَعَالَى إِلَى سُكْنى قَصَبَة الْمنْكب فكثرت بيني وَبَين الْأَوْلَاد والأحباب الْمُكَاتبَة
(بِحَق مَا بَيْننَا يَا سَاكِني القصبة ... ردوا على حَياتِي فَهِيَ مغتصبة)
(مَاذَا جنيتم على نَفسِي ببعدكم ... وَأَنْتُم الأمل والأحباب والعصبة)
لمن المشتكي بالبطيحة، الَّتِي هواؤها مثل مَائِهَا أجن، وقدرها ساجن، وساكنها الْأَصْلِيّ جلال دَاجِن، وبحرها متلاعب متماجن، والمشاهق مثل جَارك الناهق، مقفر من أنيسه، فاغرة حلوق دماميسه، والأثر الماثل سَيْفا فَردا لَا بل مُفردا، ينحت جَوَانِب الْأَعْمَار، ويذود راعيه قطائع اللَّيْل وَالنَّهَار، فَلَقَد عوضتني من من النَّعيم ببوسي، وحجبت عني أقماري وشموسي، وليت شعري لمن تنافرها الحضرة من الكنهان مستعدية بِسَبَب الامتهان. أما المزية الَّتِي أحلتها هَذَا الْمَكَان حَتَّى تتْرك وَهِي المفداة، وتفضل حاضرتها مَا سكنته البداه. نَسْتَغْفِر الله، فالقبح وَالْحسن على الشَّرْع موقوفان، وَالْعقل مَعْزُول عَن هَذَا الْعرْفَان. ومولانا أبقاه الله حجَّة، وبحر إِدْرَاكه، لَا يُقَاس بِهِ لجة، وحسبنا أَن نسل الله إمتاعه بِمَا اخْتَارَهُ فَإِن يجْرِي وفْق غَرَضه أقداره، وَإِن تشوفتم إِلَى الْحَال فمقبول الْمَرَض بعد جاثم، وَالشَّيْخ فِي الشُّكْر على مَا سَاءَ وسر آثم، وَاللَّفْظ لجب، وَوجه الْحق محتجب، ففرجوا بعض الكرب برقى رقاعكم، وَبَادرُوا السَّهْو عَن مكاتبتي بأرقاعكم،(2/209)
وَلَا تغفلوا عَن مؤانسة من وجوده وَحْشَة لولاكم، صانكم الله وتولاكم، وشملكم بالعافية، وأوردكم فِي الْحل والترحال، مواردها الصافية. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا كتبت إِلَيْهِم فِي الْمَعْنى
(يَا سَاكِني مرفا الشواني ... شوقي من بعدكم شواني)
(ولاعج الشوق قد هواني ... من بعدكم وَاقْتضى هواني)
(لقد كفاني لقد كفاني ... بَاقِي ذما ناهبا كفاني)
(كَأَنَّهُ مَالِكًا عناني ... أنموذج من أبي عناني)
(منوا على الشوق بالأمالي ... فَأنْتم جملَة الْأَمَانِي)
إِلَى أَي كَاهِن أتنافر، وَفِي أَي ملعب أتجاول وأتظافر، وَبَين يَدي أَي حَاكم أتظالم، فَلَا أتفاخر، مَعَ هَذَا الْجَبَل، الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَة جمل، حف بِهِ من الدّور همل، سنامه التامك أجرد، وذنبه قد سَالَ كَأَنَّهُ مطرد وعنقه إِلَى مورد الْبَحْر يتعرج ويتعرد، وكأنما البنية بأعلاه، خدر فاتنة، أَو برق غمامة هاتنة، اسْتَأْثر غير مَا مرّة بأنسي، وَصَارَت عينه الحمئة، مغرب شمسي، حَتَّى كَانَ هَذَا للشكل من خدر وبعير، وَإِن كَانَ مجَاز مستعير، ليتضمن شكوى الْبَين، وَيفرق بَين المحبين
(مَا فرق الأحباب بعد الله إِلَّا الْإِبِل ... وَالنَّاس يلحون غراب الْبَين لما جهل)
(وَمَا على ظهر غراب الْبَين تقضى الرحل ... وَلَا إِذا صَاح غراب فِي الديار ارتحل)
(وَمَا غراب الْبَين إِلَّا نَاقَة أَو جمل ... )
فأقسم لَوْلَا أَن الله تَعَالَى، ذكر الْإِبِل فِي الْكتاب الَّذِي أنزل، وَأعظم الْعِنَايَة(2/210)
بهَا وأجزل، لسللت عَلَيْهَا سلَاح الدُّعَاء، وأغريت بهجرها نفوس الرعاء. وَقلت أَرَانِي الله إكسارك من بعير فَوق سعير، وَلَا سمحت عقبَة الأندر وَالشعِير بتبن وَلَا شعير.
(دَعَوْت عَلَيْك لما عيل صبري ... وقلبي قَائِل يَا رب لَا لَا)
نَسْتَغْفِر الله، وَأي ذَنْب لذِي ذَنْب شَامِل، وَلَيْث مائل، بِإِزَاءِ لج هائل يتعاوده الْوَعْد والوعيد، فَلَا يُبْدِي وَلَا يُعِيد، وتمر الْجُمُعَة والعيد، فَلَا يستزيد وَلَا يستعيد، إِنَّمَا الذَّنب لدهر يرى الْمُجْتَمع فيغار ويشن مِنْهُ على الشمل الْعَار، ونفوس على هَذَا الْغَرَض تساعده، وتعينه ليبطش ساعده، وتقاربه فِيمَا يُرِيد فَلَا تباعده:
(وَلَقَد علمت فَلَا تكن متجنيا ... أَن الْفِرَاق هُوَ الْحمام الأول)
(حسب الْأَحِبَّة أَن يفرق بَينهم ... رب الْمنون فَمَا لنا نستعجل)
لَكِن الْمُحب حبيب ولغرض المحبوب منيب
(وَيحسن الْفِعْل إِن جَاءَ مِنْكُم ... كَمَا طَابَ عرف الْعود وَهُوَ دُخان)
وَقد قنعت برسالة تبلغ الأنة، وَتدْخل بعد ذَلِك الصِّرَاط الْجنَّة، ويعبر لسانها عَن شوقي من دون عقله، وَتنظر عَيْني من بَيَاض طرسها، وَسَوَاد نَفسهَا بمقلة، فَإِن كَانَ الْجَواب، فَهُوَ الْأجر وَالثَّوَاب، وَلم أر قبل شوقي من نَار تخمد بطرس، يلقى على أوارها، فَيَأْمَن عَادِية جوارها، لَكِنَّهَا نَار الْخَلِيل، رُبمَا تمسكت من المعجزة بأثر، وعثرت على آثاره مَعَ من عثر، جمع الله من الشمل بكم مَا انتثر، وأنسى بِالْعينِ الْأَثر، وحرس على الْكل من مشوق وشائق، وموحش ورائق سر الْقُلُوب، ومناخ الْهوى المجلوب، ومثار الأمل الْمَطْلُوب، وَلَا زَالَت الْعِصْمَة(2/211)
تنسدل فَوق مثواه قبابها، والسعود يحمد فِي أمره العالي مثابها، فالمحبوب إِلَيْهِ حبيب، وَإِن أَسَاءَ وأوحش الصَّباح والمسا:
(إِن كَانَ مَا سَاءَنِي مِمَّا يسركم ... فعذبوا فقد استعدبت تعذيبي)
وَالسَّلَام عَلَيْكُم مَا حن مشوق، وتأود لليراع فِي رياض الرّقاع قصب ممشوق، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك وَقد أجابني الْفَقِيه أَبُو عبد الله بن زمرك وإبناي عبد الله وعَلى، فراجعت الثَّلَاثَة بِمَا نَصه
(أكْرم بهَا من بِنَا بنان ... أرسخ فِي الْفَصْل من أبان)
(أجنا لَدَيْهَا الرِّضَا حنان ... من الْمعَانِي جنا جنان)
(أَي جبى للأكف وَأَن ... مِمَّا للمباري بِهِ يدان)
(أقسم بِالذكر والمثان ... مَالك فبمَا سَمِعت ثَان)
(مدامة بزت الْأَوَانِي ... تنشط لِلْقَوْلِ كل دَان)
(تَقول أوضاعها الغواني ... با الْعلم عَن زِينَة الغوان)
(يارب بَارك لمن بنان ... فِي الْفِكر وَالْقلب والبنان)
هَكَذَا هَكَذَا، وبعين الحسود القذا، تتناثر الدُّرَر الكامنة، وتهاج القرائح لنائمة الآمنة، وتقضى الدُّيُون من الطباع الضامنة:
(أُعِيذهَا بالخمس من ولايد ... قد قلدت بنخب القلايد ... . غَيره)
(أُعِيذهَا بالخمس من حبايب ... يغذين بالمراضع الأطايب ... غَيره)
(أُعِيذهَا بالخمس من وُجُوه ... يصونها الله من الْمَكْرُوه)(2/212)
ويامانح قلب الْقُلُوب أوريت، وَصدق مانويت، البير بيرك، وَذُو حفرت وَذُو طويت، وَمَا رميت إِذْ رميت، وَلَو علمنَا السرائر، لأعددنا لهَذَا الْمكيل الغرائر، وَلَو تحققنا إِجَابَة السُّؤَال، والنسيج على هَذَا المنوال لفسحنا الظروف لهَذَا النوال. ساجلنا الغيوث فشححنا، وبارزنا الليوث فاقتضحنا، وصلينا، وَالْحَمْد لله على السَّلامَة بِمَا قدحنا لَا بل التمسنا نقبة، وأقطعنا تنورا واقتبسنا جذوة، فأقبستنا نورا.
(ملك الثَّلَاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبِي بِكُل مَكَان)
(هَذَا الْهلَال وَتلك بنت المُشْتَرِي ... حسنا وهذي أُخْت غُصْن البان)
مَتى كَانَ أفق الْمنْكب مطلعا لهَذَا الْكَوْكَب، وأجمة تِلْكَ السَّاحِل الماحل، من معاهد الدمر الحلاحل، ومورد الْجمل الْبَادِيَة الغر، مقاصا لمثل هَذَا الدّرّ، إِلَّا أَن يكون كنز هَذَا المرام المستدعي الكلف والغرام من مستودعات تِلْكَ الْأَهْوَاء والأهرام، دمنة الْملك الغضاب، بعد أَن قدست الأنصاب، وأقفى الْأَثر فَلَا يصاب، أَو تكون الْأَنْوَار هُنَالك تتجسم، والحظوظ تعين وتقسم، والحقائق تحد وترسم، أَو تتوالد بِتِلْكَ المغارات يوسانيا وروسم ظَنَنْت بِأَن تثور من أجم الأقلام أسود، وتعبث بالسويداوات من نتائج اليراع والدواة لحاظ سود. من قَالَ فِي الْإِنْسَان عَالما صَغِيرا فقد ظلمه، كَيفَ وَالله بالقلم علمه وَرفع فِي العوالم علمه. لقد ذرت حلمات تِلْكَ الأحلام من رسل غرير، وَمَا كَانَ فَحل تِلْكَ الأقلام بزير، وَلَا سُلْطَان تِلْكَ الطباع، المديدة الباع، ليستظهر بوزير، إِنَّمَا هِيَ مشاكي أَعمال أوقدها الله وأسرجها، وملكات فِي الْقُوَّة رَجمهَا، مُرَجّح الْقُدْرَة فأبرزها إِلَى الْعقل وأخرجها، وَأَحْرَى بهَا أَن تحط بذور(2/213)
المدارك الإلهية رِحَالهَا، وتترك إِلَى الْوَاجِب الْحق مجالها، فَتَجَاوز أوحالها مستنيرة بِمَا أُوحِي لَهَا. إيه بنية، أقسم بِرَبّ البنية. وقاسم الحظوظ السّنيَّة، لقد فزت من نجابتكم عِنْد التماح إجابتكم بالأمنية، فَمَا أُبَالِي بعد بالمنية وَقَاه الله عين الْكَمَال من كَمَال، وصان سروجه من السمال، واكتنفه بالمزيد من عز، يَمِين وشمال، كَمَا سوغ الْفَقِير مثلي إِلَى فقرها زَكَاة حجال لَا زَكَاة جمال. ولعمري، وَمَا عمري عَليّ بهين، وَلَا الْحلف فِي مقطع الْحق بمتعين، لقد زحفت مِنْهَا إِلَى ثَلَاث كتائب، قادها النَّصْر جنائب، ألفاتها العصي، ونوناتها القسي، وغاياتها المرام العصي، ورقومها الْخلق، وجيادها قد فشى فِيهَا البلق، بِحَيْثُ لَا استظهار للشَّيْخ إِلَّا بشعب، وَلَا افتراس إِلَّا لمن قد قدر، ودريد هَذَا الْفَنّ يحمل فِي خدر:
(سلت على سيوفها أجفانه ... فلقيتهن من الْمُنِيب بمغفر)
فلولا تقدم الْعلم بالسلم، لخيف من كلمها وُقُوع الْكَلم. أما أحداهن ذَات الْقيام والدلج بالإعتام، المستمد سوادها الْأَعْظَم من مسك الختام، فعالت فريضتها بِالزِّيَادَةِ، وعلت يَدهَا بمنشور السِّيَادَة، ورسم شنشتها الْمَعْرُوفَة أخزم، وجادها من الطَّبْع الْمعِين السماك والمرزم، وظفر أسجاعها المظفرة لُزُوم مَا لَا يلْزم:
(خدم اليراع بهَا فدلجها ... وَسَأَلت مُجْتَهدا عَن الْفَرْض)
(فَعلمت أَن الصُّلْح مقْصده ... لتزول بعض عَدَاوَة الربض)
وَأما أُخْتهَا التالية، ولدتها الحانية، فنؤوم مكسال، رِيقهَا برود مسلسال، وَمن دونهَا موارد وكسال وذيب عَسَّال، وَإِن عالت بِنَقْض فِي النّظم، فقد أخذت من الْبَدَائِع بالكظم، وامتكت الْمَعَالِي امتكاك الْعظم. وَأما الثَّالِثَة فكاعب حسنها(2/214)
بالعقول متلاعب، بنت لبون لَا بنت حَرْب زبون، حياها الله وبياها، فَمَا أعظم رياها.
(تشم أنفاس نجد من ثِيَابهمْ ... عِنْد الْقدوم لقرب الْعَهْد بِالدَّار)
وَلَو قصرت لتغمد تَقْصِيرهَا، وَكثر بِالْحَقِّ نصيرها فَكيف وَقد أجابت، وصابت غمامتها وجادت، وَقد شكرت على الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل، وَعرفت مِنْهُ الْبَاذِل وَجهد الفصيل، وطالعت مسَائِل الْبَيَان والتحصيل، وقابلت مفضض الضُّحَى بِمذهب الْأَصِيل، وأثرت يَدي، وَكَانَت إِلَى تِلْكَ الْفقر الفقيرة، ونبهت فِي عَيْني الدُّنْيَا، وَكَانَت حقيرة، ورجوت أَن لَا تعدم هَذِه الْأَسْوَاق مديرا، وَلَا تفقد هَذِه الْآفَاق رَوْضَة وغديرا، وَسَأَلت لجملتكم المحوطة الشمل الملحوظة بِعَين السّتْر الْجَمِيل، عزا أثيرا، وَخيرا كثيرا، وَأمنا تحمدون مِنْهُ فراشا وثيرا. وعذرا أَيهَا الأحباب، والصفو اللّبَاب عَن كدح سنّ وَكبره، وفل استرجاع وعبرة، استرقته ولج الشغب طام ذُو التظام، والخلق فرَاش يكبون منى على حطام. ورسل الفرنج قد غشى الْمنَازل منثالها، ونتجتها بالعشى أَمْثَالهَا، والمراجعات تَشْكُو البث، والجفاة تستشعر المكيدة والحيف.
(وَلَو كَانَ هما وَاحِدًا لبكيته ... وَلكنه هم وثان وثالث)
وَالله عز وَجل يمتع بأنسكم من عدم الِاسْتِمْتَاع بسواه، وتصر عَلَيْهِ متشعب هَوَاهُ، وَيبقى بركَة الْمولى الَّذِي هُوَ قطب مدَار هَذِه الأقمار والأهلة، لَا بل مَرْكَز فلك الْملَّة، وسجل حُقُوقهَا المستقلة، وَالسَّلَام عَلَيْكُم مَا حنت النيب إِلَى الفصال، وتعللت أنفس المحبين بِذكر أزمنة الْوِصَال، وكرت الْبكر على الآصال، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.(2/215)
وَمن ذَلِك، وَقد صدرت بَين فاضلين من الْأَصْحَاب مُكَاتبَة مفتتحة بِأَبْيَات، وصرفا إِلَى التَّحْكِيم، وَجعلا لنظري التَّفْضِيل، فَكتبت:
(بَارك عَلَيْهَا بِذكر الله من قصَص ... وَاذْكُر بهَا مَا أُتِي فِي سُورَة الْقَصَص)
(حَيْثُ اغتدى بِسحر يلهو بالعقول وَقد ... أجال بَين حبال كبده وعص)
(عقائل الْعقل وَالسحر الْحَلَال ثوت ... من كافل الصون بعد الْكَوْن حجروص)
(وَأَقْبَلت تتهادى كالبدور إِذا ... سجن من فلك التدوير فِي حصص)
(من للبدور وربات الْخُدُور بهَا ... الْمثل غير مُطِيع والمثال عص)
(مَا قرصة الشَّمْس وَالشَّمْس المنيرة إِن ... قيست بِهن سوى من جملَة الفرص)
(تالله مَا حكمهَا يَوْمًا بمنتقض ... كلا وَلَا بدورها يَوْمًا بمنتقص)
(إِن قَالَ حكمى فِيهَا بالسواء فقد ... أمنت مَا يحذر القَاضِي من الْغصَص)
(أَو كنت أرخصت فِي التَّرْجِيح مُجْتَهدا ... لم يقبل الْوَرع الْفتيا من الرُّخص)
يَا مُدْلِج ليل التَّرْجِيح قف، فقد جفيت الْكَوَاكِب، وَيَا قافي طرق التحسين والتقبيح، تَسَاوَت وَالْحَمْد لله، المناكب، وَيَا مستوكف خبر الوقيعة، من وَرَاء قتام القيعة، تصالحت المواكب. حصحص الْحق فارتفع اللجاج، وتعارضت الْأَدِلَّة فَسقط اللجاج، وَطَاف [نحل الأقلام بأزهار الأحلام، فطاب المجاج] وَقل لفرعون الْبَيَان وَإِن تأله، وبلد الْعُقُول وبله، وَدلّ بالغرور(2/216)
ودله، أوسع الكناس نثلا، ودونك أيدا شلا، وشجرا جثلا، لاخمطا وَلَا أثلا إِن هَذَانِ لساحران يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى، وَإِن أثرت أدب الْحَلِيم مَعَ قصَّة الْحَكِيم، فَقل لمجيل جِيَاد التعاليم، وَوَاضِع حفر أبيار الأقاليم، أندلسنا كَمَا علمت بلد الأجم: لَا سود الْعَجم، ومداحض السُّقُوط على شوك قتاد القوط، وَلم ندر أَن مَحل ذَات العجايب والأسرار، الَّتِي تضرب بهَا أباط النجايب، فِي غير الإقليم الأول، وَهَذَا الوطن بِشَهَادَة الْقلب الْحول، إِنَّمَا هُوَ رسم دارس، لَيْسَ عَلَيْهِ من معول، فهنالك يتَكَلَّم الْجِنّ لبَعْضهِم وَيفهم، وَيرد المدد على النُّفُوس الحزينة، من مطالع الأضواء الْكُلية، فَيحدث ويلهم وعود خَازِن الأمدار على المتوسل، لوسيلة الاستعداد، فَيقطع ويسهم. وَأما أقليمنا الرَّابِع وَالْخَامِس، بعد أَن تكافأت المناظر والملابس، وتناصف اللَّيْل الدامس، وَالْيَوْم الشامس، ذاعتدال ربيعي، ومجرى طبيعي، وذكى وبليد، ومعاش وتوليد، وطريف فِي البداوة وَتَلِيدُ، لَيْسَ بِهِ مرماة وَلَا هرم، يخْدم بهَا ذرى يخترم، ويشب لغربانه ضرم، فَيُفِيد روحانيا، يتَصَرَّف، وربيا يتَعَرَّض ويتعرف، كلما استنزل صاب، وأعمل الانتصاب، وَعلم الْجَواب، وَفهم الصَّوَاب. وَلَو فَرضنَا هَذِه المدارك ذَوَات أَمْثَال أَو مسبوقة بمثال. لتلقينا منشور الفضايل بامتثال، لأننا نَخَاف أَن نَمِيل بعض الْميل، فنجنى بذلك بخس الجرى، وارضاء الزميل، [وتجر تنابح] الزُّهْرِيّ مَعَ الصميل، فَمن خير حير، وَمن حكم ازدرى بِهِ وتحكم. فَمَا سل سيوف الْخَوَارِج فِي الزَّمن الدارج إِلَّا التَّحْكِيم، حَتَّى جهل الْحَكِيم، وخلع الخطام، وَنزع الشكيم، فأضر(2/217)
بالخلق نَافِع، وَذهب [الطِّفْل] لجراه واليافع، وذم الذمام، ورد الشافع، وقطر سيف قطره بِكُل نجيع طرى، وزار لشبيب الْأسد الهصور، وصلت الغزالة بِمَسْجِد الثَّقَفِيّ وَهُوَ مَحْصُور، وانتهبت المقاصير والقصور، إِلَّا أَن مستاهل الْوَظِيفَة الشَّرْعِيَّة عِنْد الضَّرُورَة تحير، والمنتدب [للبر] يجبى عِنْد الله ويحير، واجعلني على خزاين الأَرْض، وَهُوَ الْأَصَح الْأَشْهر فِيمَا بِهِ يستظهر. وَأَنا وَإِن حكت على التَّعْجِيل، فَغير مشْهد على نَفسِي بالتسجيل، إِنَّمَا هُوَ تلفيق يُرْضِي، وتطفيل يعتب عَلَيْهِ، من يصدع بِالْحَقِّ ويمضي، إِلَّا أَن يقْضِي، ورأيي فِيهَا المراضات وَإِلَّا فالسلاح، والركاب الطلاح، وَالصُّلْح خير، وَمَا استدفع بِمثل التسامح ضير، وَمن وقف عَلَيْهِ وَاعْتبر مَا لَدَيْهِ، فَليعلم أَنِّي قد صدعت وَقطعت، وَالْحق أَطَعْت. وَإِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ أَبَا الْحسن القرموني من حذام الْخَطِيب أبي عبد الله بن مَرْزُوق وَلها حِكَايَة تظهر من الرسَالَة
حَملَنِي أعزّك الله على قصدك، وَتَحْقِيق رصدك، مَا حدثوا بتونس عَن يَوْم فصدك، وَأَن الْعَاقِل ود يَوْمئِذٍ أَن يكون حجاما، وَلم يعرف إسراجا فِي ابْتِغَاء الفضايل وَلَا إلجاما،، وَلَا يعرف امتيازا بالفضايل وَلَا اختصاصا إِلَى ليلاتك الَّتِي فضحت الظُّلم، وأنست ليَالِي ذِي سلم، وأضحت لشهرتها نَارا على علم، إِذْ بَانَتْ العيدان مصطفة اصطفاف الْهدى، أَخْذَة مَا بَين رَأس السرطان إِلَى رَأس الجدي، وَقلت نَفسِي لَا تدين بالإمساك، وَلَا تلِيق لوعظ النساك، لابد تَحت هَذِه السفرة من نفاضة، وحول هَذِه الزبرة من قراضة، فَلَمَّا رَأَيْتُك، رَأَيْت مخيلة(2/218)
رجولة فِي طلعة مَقْبُولَة، وَعلمت أَن اخْتِصَاص سيدنَا باستعمالك وَعدم إهمالك، قبُول الشَّهَادَة مزكيك، وَبَيَان يرفع التشكيك، فاستعنت بقربك، وطعنك وضربك، وَقد بَلغنِي جميل بلائك، وَإِن كَانَ ضَعِيفا، لَكِن الله سُبْحَانَهُ وَله الْمثل الْأَعْلَى، يقبل رغيفا. وَالشُّكْر وَاجِب، وَالْعَمَل الصَّالح لَا يَحْجُبهُ عَن الرقى حَاجِب، فخاطبتك شاكرا، وبفضل مَا صدر عَنْك ذَاكِرًا وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا كتبت فِيمَا يظْهر من الرسَالَة لأحد الْفُضَلَاء بِمَا نَصه
(تعرفت قرب الدَّار مِمَّن أحبه ... فَكنت أجد السّير لَوْلَا ضروره)
(فأتلوا من أبي المحاسن سُورَة ... وَأبْصر من شخص المكارم صوره)
كنت أبقاك الله، لاغتباطي بولائك، وسروري بلقائك، أود أَن أطوي إِلَيْك هَذِه المرحلة، وأجدد الْعُمر بلقياك المؤملة، فَمنع مَانع، وَلَا نَدْرِي فِي الْآتِي مَا الله صانع، وعَلى كل حَال فشأني قد وضح مِنْهُ سَبِيل مسلوك، وَعلمه مَالك ومملوك، واعتقادي أَكثر مِمَّا تسعه الْعبارَة والألفاظ المستعارة، وموصلها يَنُوب عني فِي شكر تِلْكَ الذَّات، المستكملة شُرُوط الوزارة، المتصفة بالعفاف وَالطَّهَارَة. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني مِمَّا خاطبت من بعض الْفُضَلَاء
(يَا حفيد الْوَلِيّ يَا وَارِث الْفضل ... الَّذِي نَالَ فِي مقَام وَحَال)
(لَك يَا أَحْمد بن يُوسُف حبا ... كل ثغر يعْنى أكف الرِّجَال)
أبقاك الله مثابة انْتِفَاع، ونورا على يفاع، ومتضعا على علو وارتفاع، ترى الْوتر فِي أشفاع، وتقابل الْوَهم بطراد من الْحَقِيقَة ووضاع. ان حثت على لِقَاء الْأَعْلَام، شهرتهم فلك الشُّهْرَة، وَأَنت الْعلم والشهاب الَّذِي تجلى بِهِ الظُّلم،(2/219)
ورباط جدك بالمغرب الرُّكْن المستلم، فَإلَى أَيْن يذهب عَن جنابك الذَّاهِب، وَقد وضحت الْمذَاهب، وَالله الْمَانِع والواهب، وإلي من لدن اجتليت غرتك، الَّتِي تلوح عَلَيْهَا سِيمَا الْولَايَة إِرْثا واكتسابا، وانتماء إِلَى جَانب الله وانتسابا، أُؤَمِّل التوسل والتقرب، وأخطب مِنْك الْأنس الَّذِي أنسى بِهِ التغرب إِلَى أَن تهَيَّأ بِفضل الله وتيسر، وَتبين مُجمل الشوق وتفسر. وشتان مَا بَين أثرى وأعسر، وَأَنا الْآن وَالْحَمْد لله، قد حططت بمثوى الْولَايَة رحلي، وعثرت بأثر أسرار الْأَبْرَار نحلى، وَأخذت من الدَّهْر ذحلى، وحللت من رِبَاط الشَّيْخ أبي مُحَمَّد صَالح بِالْحرم الْأمين، فظفرت من ود حافده بالذخر الثمين، فيا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي، وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين، عرفتك أبقاك الله بقصدي، وحركة رصدي، لتعلم أَن هَذِه الوجهة لقاؤك أقوى دواعيها، وأنجح مساعيها [وبركة الشَّيْخ] نفع الله بِهِ، تلاحظها وتراعيها، فَمَا استبعد المرام من قصد الْكِرَام. وَمَا فقد الإيناس من أمل النَّاس، وتنخل الْأَفْرَاد، وتخطى الْأَجْنَاس، وَترك للنصر الْقيَاس، وتملك المنى لما أحرز الرياس. وسيدي بعد، وَمَا يظْهر لَهُ من تأنيس غربته، وإزاحة كربته، ووعى وسيلته وقربته، وإتحاف باجتلا حمى نزور وتربة، وَالله عز وَجل يبقيه مَقْصُودا على بعد الْمَكَان، مرجحا فِي الْفضل طرف الْإِمْكَان، مطمين الْفُؤَاد بِذكر الله، رطب اللِّسَان من رجا فِي الْوُصُول إِلَيْهِ مقَام الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان. وَالسَّلَام(2/220)
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ أحد الْفُضَلَاء
(إِن كَانَت الْآدَاب أضحت جنَّة ... فقد غَدا جنانها الْجنان)
(أقلامه الْقصب اللدان بروحها ... والزهر مَا رقمته مِنْهُ بنان)
مَا كنت أَيهَا الْفَاضِل، الَّذِي زار وتفقد، وضاء كوكبه الدُّرِّي وتوقد، فأنسى سناه الفرقد، أَظن هَذَا الْبَلَد يشْتَمل على مثل درتك دَرَجَة، وَلَا يشرف بِمثل نيرك برجه، وَلَا يشمخ بِمثل بطلك سَرْجه، حَتَّى اجتليت مِنْك معارف شَتَّى وَغَايَة فضل لَا تحد بحتي، فَعلمت أَن الْبلدَانِ بخيارها، لَا بِتَعَدُّد ديارها، والأماكن بأربابها، لَا بِتَعَدُّد أَبْوَابهَا. وَقد علمت أَي ضيف، وقراي خَفِيف، لَا قديد وَلَا ضَعِيف، إِنَّمَا هُوَ أنس يبْذل، وَنَفس فِي الانقباض تعذل، ومذاكرة يهز دوجها وينشق روحها. فَإِن أردْت أَن تعدد مَا أفردت، وتعيد من دوَل الفضايل مَا أوردت، أفدت شكرا لَا يجر ذكرا، واغتنمت حمدا وشكرا. وَالسَّلَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ قَائِد الأسطول أهنيه بِطُلُوع وَلَده
أبقاك الله أَيهَا الْقَائِد الَّذِي بأسه ضرم، وشأنه شجاعة وكرم، وَمحل ولَايَته من الْعَدو حرم، لَا تسل عَن شوقي لقربك، وعكوفي على حبك، وضراعتي فِي سعادتك إِلَى الله رَبِّي وَرَبك، وَبَلغنِي الطالع لديك، والوارد من حَضْرَة الْمَوَاهِب الآلهية عَلَيْك. جعله الله أسعد مَوْلُود على وَالِد، ووقفك لما يرضيه من مقَام الشاكر الحامد، وَأقر عَيْنك مِنْهُ بالقائد بن الْقَائِد [ابْن الْقَائِد بن الْقَائِد] وَقد كنت أعدك مِنْهُ تفاؤلا واستفتاحا، وسؤالا من الله واستمناحا، فَالْحَمْد لله الَّذِي صدق الزّجر، ووضح الْفجْر. وَقد نظمت لَهُ أبياتا، إِن أَدْرَكته بعْدهَا حَياتِي، بر وشكر، أَو كَانَت الْأُخْرَى ترحم وَذكر وَهِي:(2/221)
(أرفع قسى الشتات بوعده ... واستنجز النَّصْر الْعَزِيز لوعده)
(وَانْظُر إِلَيْهِ تلح إِلَيْك بِوَجْهِهِ ... سمة الشجَاعَة من أَبِيه وجده)
(لله من سيف لنصرك صارم ... ينساب مَاء الْحسن فَوق فرنده)
(صدرت إِلَيْك بشارتي وتفاؤلي ... بِالْأَمر قبل بروزه من غمده)
(يستبشر الأسطول مِنْهُ بقائد ... كالبدر تَحت شراعه أَو بنده)
(وَالْبَحْر يفخر مِنْهُ يَوْم ولاده ... بملنده ابْن ملنده ابْن ملنده)
وَمن ذَلِك مَا صدر عني لما استدعى مني الْإِجَازَة وكتبت مَا نَصه:
أما بعد حمد الله الَّذِي جعل الْفَضَائِل بذرا تنْبت زرعا، وأصلا يخلف فرعا، فَإِن أهمل الأَصْل، فَهُوَ من الاستعادة الْفَصْل، وَإِن نرك الزَّرْع، ضَاقَ بِالْحَاجةِ الضَّرع، فحفظها لهَذَا السَّبَب، حفظ الْأَنْوَاع، وأغرى بهَا سكيمة الْفِكر وكريمة الطباع، فاضطرت الْعِنَايَة واستمرت، وانثالت وَدرت، ونجحت الْأَعْمَال، وانبعثت الآمال، وتعديت شُرُوط الْوُجُوب إِلَى شُرُوط الْكَمَال. وَالصَّلَاة على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد رَسُوله، الَّذِي فضلت مِلَّته الْملَل، وشفت هدايته الْعِلَل، فَكَانَ مِمَّا انْفَرَدت بِهِ رِوَايَة السّلف عَن السّلف، وتلافى الْفَوَائِد من قبل التّلف، والرضى عَن آله الطيبين، وصحابته المنتخبين، فَإِنِّي لما استدعاني السَّيِّد الْكَبِير الحبر الإِمَام، صَاحب الْقَلَم الْأَعْلَى، والطريقة المثلى، والذات الفضلى رَيْحَانَة الأندلس، الَّذِي تضوع فِيهَا الْمغرب، وتغنى بِحَدِيث فَضلهَا الْحَادِي المطرب، وفخر الْأُفق الجهادي، وبيتا معمورا بالوزراء الأخيار، والصلحاء الْأَبْرَار، ونسبا فِي ذرْوَة الْأَنْصَار من بني النجار، وحسبك بخؤولة الْمُخْتَار، وعفافا طَاهِر الثَّوْب ضافى الْإِزَار إِلَى الْوَجْه المبشر بالسعادة وبيمن النقيبة، فِي الإبداء والإعادة، والمحيا الَّذِي نضر الْوَجْه. وراق الْبشرَة، والذات الَّتِي لَا تعرف(2/222)
الخسرة وَالْعلم المملك من أزمة الْفُنُون، الْمُسلم لَهُ فِي الإبكار مِنْهُ والعون، أَبُو فلَان لإجازة وَلَده الأسعد الأمجد. وَارِث رتبته الشماء بعد تملي الْحَيَاة وَطول الْبَقَاء، وتتمة عين المجادة والعلياء، أبي فلَان وَابْن أَخِيه، الْفَاضِل، الصَّدْر الرفيع الْقدر أبي الْفضل، وَهُوَ الْوَلَد الأسعد أَبُو فلَان، شَمل الله الْجَمِيع بستره وعصمته، وَوصل لَهُم مَا عودهم من نعْمَته، وشغلهم بِالْعلمِ النافع وخدمته، وأعلقهم بوسائل الْعرْفَان وأذمته تضاءلت علم الله إجلالا لمحله من التبحر فِي المعارف، واستظلاله بظلها الوارف، لَكِن قدمت امتثالا وحذوت من أمره مِثَالا، وبادرت اعْتِمَادًا على إغضايه واتكالا، فَقلت أجزت للوزير الْمَذْكُور فِيمَا يَصح لي أَن أُجِيز فِيهِ من رِوَايَة أشرك هَذَا الْفَاضِل فِي بَعْضهَا، وأسهم بتافه من فَرضهَا، ونظم ونثر، هَذَا المكتتب من بعض فنيه، وتأليف يُنَبه عَلَيْهِ ككتاب " الْإِحَاطَة فِي تَارِيخ غرناطة " فِي سَبْعَة أسفار، و " عايد الصِّلَة " فِي سفرين، و " عمل من طب لمن حب " فِي سفر، و " الْكتاب اليوسفي " فِي سفرين، و " طرفَة الْعَصْر " فِي ثَلَاثَة " والصيب والجهام " فِي سفرين، و " نفاخة الجراب " فِي ثَلَاثَة، و " الأراحيز الْخمس من تطمى بِمَدِينَة سلا فِي أصُول الْفِقْه "، و " التَّارِيخ الإسلامي والسياسة "، والعلاج، والأغذية، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ بهرج، يفْتَقر إِلَى إغضاء الْعَارِف وزيف يحْتَاج إِلَى مُسَامَحَة أَمَام الصيارف إجَازَة تَامَّة على شَرطهَا الْمُعْتَبر، وسننها الْوَاضِح الْأَثر، وَالله يعدل بِنَا إِلَى مَا ينفع، ويزكى وَيرْفَع، فَلَقَد ذهب الْعُمر الأطيب فِي السَّعْي الأخيب، وَانْصَرف الزَّمن الأبدع فِي السراب الَّذِي يخدع. اللَّهُمَّ لَا تطردنا من بابك، وَلَا تقطع بِنَا عَن جنابك. وَكتب العَبْد الغافل الراجي الآمل فلَان فِي كَذَا.(2/223)
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ الْمقَام السلطاني بِمَا يظْهر من الْغَرَض
(أبقاك ظلا للعباد وملجأ ... وأعانك الرَّحْمَن من سُلْطَان)
(قد زين الدُّنْيَا بِنور جماله ... فَلذَلِك مَا يدعى أَبَا زيان)
مولَايَ، سُلْطَان الْمُسلمين وَالْإِسْلَام، مُخْتَار الْملك العلام، المستخلص رَحْمَة لعباد الله من أَيدي عباد الْأَصْنَام، الَّذِي أحسن خلقه، وسوغه بارئه من وَرَاء الْبحار الزاخرة، والأمم الْكَافِرَة، وأورثه حَقه الْمولى الْهمام، الْخَلِيفَة الإِمَام، أَبُو زيان ابْن مَوْلَانَا، ولي الْعَهْد، وفارع هضبة الْمجد، الْمُقَدّس، المطهر، الْمعلم بشيم الْكَرم، المشهر أبي عبد الرَّحْمَن، ابْن مَوْلَانَا كَبِير الْمُلُوك وإمامها، وَعلم أعلامها، الإِمَام الْخَلِيفَة الشهير - الْمُعظم الْمُقَدّس، أبي الْحسن، ابْن موالينا الْأَئِمَّة، المهتدين، وَالْخُلَفَاء من بني مرين، أبقاه الله ممتعا بِالْملكِ، الَّذِي ألبسهُ حلته، وشفا بِهِ علته، وَجعله فِي عقبه بَاقِيا، وَكَانَ لَهُ فِيهَا حَافِظًا وافيا، عبدكم الَّذِي أَمن عدوان الدَّهْر فِي ظلكم، ونشق نسيم الرَّحْمَة من جَانب فَضلكُمْ، وتعرف من ضروب نعمكم الْكَرِيمَة، الْأَنْوَاع والأجناس، واستضاء من حبكم وطاعتكم بِنور يمشي بِهِ فِي النَّاس مَا أوجب أَن يتَمَثَّل بقول أبي نواس.
(علقت بِحَبل من حبال مُحَمَّد ... أمنت بِهِ من طَارق الْحدثَان)
(تغطيت من دهر بِظِل جنَاحه ... فعيني ترى دهري وَلَيْسَ يران)
(فَلَو تسل الْأَيَّام مَا اسْمِي مَا درت ... وَأَيْنَ مَكَاني مَا عرفن مَكَاني)
يسلم على الْمقَام المولوي سَلام الْعُبُودِيَّة الثَّابِتَة الرَّسْم، ويتطارح على تَقْبِيل ذَلِك الْبسَاط، بِالروحِ قبل الْجِسْم، ويسل الله لكم وَنور الْحَظ من السَّعَادَة وَالْقسم، ويطالع بِأَنَّهُ انْصَرف بنية الرحيل إِلَى مراكش إِلَى، وأهم الْأَغْرَاض أَن يلْتَمس الدُّعَاء بمقام الْأُبُوَّة، من الْمُشَاهدَة الْمَشْهُورَة، بِقبُول السُّؤَال، المتكفلة ببلوغ الآمال، فَلَمَّا توَسط تامسنا، شعر بالضعف عَن الْحَرَكَة، وأحس بِأَسْبَاب(2/224)
الْمَرَض مُنْفَرِدَة ومشتركة، فانكفأ رَاجعا، مستعينا بِاللَّه وببركة الْمولى الَّذِي عرفت رَحمته، وغمرت فِي الظعن وَالْإِقَامَة نعْمَته، خوفًا من ألم يتحكم، أَو مرض يسري فِي هَذِه البنية الضعيفة ويلحم، وَنَرْجُو الله أَن يَقْتَضِي لكم الدُّعَاء من هَذَا الْوَلِيّ الَّذِي من الله بجواره، وَجعله من بَرَكَات هَذَا الْبَلَد وآثاره، إِلَى أَن يتيح نشاطا مستأنفا للحركة الَّتِي كَانَ قد أزمعها، وييسر الأعانة، ويسوغ مشرعها. وَقد كَانَ العَبْد عني برحلة، تصف المراحل والمنازل، وَالْحَادِي والنازل، والجاد والهازل، مطرزة باسمكم السعيد مشرقة باسمكم الحميد. حَسْبَمَا يتضمنه أفذاذ بعث العَبْد شَيْئا من فصولها وفروعها وأصولها، تقرر أَن الْحَرَكَة والسكنة بِالْخدمَةِ معمورة، وَالنَّفس مسخرة فِي التمَاس رِضَاء الْمولى أيده الله ومأمورة، وَهُوَ جلّ وَتَعَالَى الْمعِين على لَازم الْعُبُودِيَّة بجلالتكم المولوية. وَالسَّلَام الْكَرِيم الْمُبَارك العميم، وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته.(2/225)
كتب الدعابات والفكاهات
فَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ أَبَا زيد بن خلدون [وَقد اشْترى بكرا من بَنَات الرّوم مولدة اسْمهَا هِنْد وأعرس بهَا]
(أوصيك بالشيخ أَبَا بكرَة ... لَا تأمنين فِي حَالَة مكره)
(واجتنب الشَّك إِذا جِئْته ... جَنْبك الرَّحْمَن مَا تكره)
سَيِّدي، لَا زلت تتصف بالوالج بَين الخلاخل والدمالج، وتركض فَوْقهَا ركض الهمالج. أَخْبرنِي كَيفَ كَانَت الْحَال، وَهل حطت بالقاع من خير الْبِقَاع الرّحال، وَأحكم بمروود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وَصَحَّ الانتحال، وحصحص الْحق، فَذهب الْمحَال. وَقد طولعت بِكُل بشرى وَبشر، وزفت هِنْد مِنْك إِلَى بشر، فَللَّه من عَشِيَّة تمتعت من الرّبيع بفرش موشية، وابتذلت مِنْهَا إِلَى وساد وحشية، وَقد أقبل ظبى الكناس من الديماس، ومطوق الْحمام من الْحمام، وَقد حسنت الْوَجْه الْجَمِيل النظرية، وأزيلت عَن الْفَرْع الأثيت الأبرية، وصقلت الخدود فَهِيَ كَأَنَّهَا الأترية، وسلط الدَّلْك على الْجُلُود، وأعزيت النورة بالشعر الْمَوْلُود، وعادت الْأَعْضَاء يزنق عَنْهَا اللَّمْس، وَلَا تنالها الْبَنَات الْخمس، والسحنة يجول فِي صفحتها الفضية مَاء النَّعيم والمسراك يُلَبِّي من ثنية التَّنْعِيم، وَالْقلب يرْمى من الْكَفّ الرقيم، بالمقعد الْمُقِيم، وَينظر إِلَى نُجُوم الوشم، فَيَقُول إِنِّي سقيم، وَقد تفتح ورد الخفر، وَحكم لزنجي الظفيرة بالظفر، واتصف أَمِير الْحسن بالصدود المغتفر، ورش بِمَاء الطّيب، ثمَّ أعلق بِهِ دُخان الْعود الرطيب، وَأَقْبَلت الغادة يهديها الْيمن، وتزفها السَّعَادَة، تمشي على استحياء، وَقد ماع طيب الريا، وراق حسن الْمحيا، حَتَّى إِذا نزع الْخُف، وَقبلت الأكف وصخب الزمر، وتجاوب الدُّف، وذاع الأرج، وارتفع الْحَرج،(2/226)
وتجوزوا اللوا والمنعرج. وَنزل على بشر بزيارة هِنْد الْفرج، اهتزت أرضه وربت، وعوصيت الطباع البشرية فَأَبت، وَللَّه در الْقَائِل:
(وَمَرَّتْ وَقَالَت مَتى نَلْتَقِي ... فهش اشتياقا إِلَيْهَا الْخَبيث)
(وَكَاد يمزق سرباله فَقلت ... إِلَيْك يساق الحَدِيث)
فَلَمَّا انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غَرِيم الْعشَاء الْأَخِيرَة فَرِيضَة الْإِسْلَام، وخاطت خيوط الْمَنَام عُيُون الْأَنَام، تأتى دنو الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثمَّ عض النهد، وَقبلت الْفَم والخد، وارسال الْيَد من النجد إِلَى الوهد، ثمَّ كَانَت الإمالة قَلِيلا قبل الْمَدّ، ثمَّ الْإِفَاضَة فِيمَا يغبط ويرغب. ثمَّ الإماطة لما يشوش ويشغب، ثمَّ إِعْمَال الْمسير إِلَى السرير.
(وسرنا إِلَى الْحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أى إذلال)
فاستقرت على موطإ مَالِكهَا، وأصبهانى مسالكها، وَمُقْتَضى فذالكها بعد مُنَازعَة للأطواق يسيرَة، يَرَاهَا الغيد من السِّيرَة، ثمَّ شرع فِي حل التكة، وَنزع السِّكَّة، وتبينت الأَرْض العوار عمل السِّكَّة، ثمَّ وَقع الوحى والاستعجال، وَحمى الْوَطِيس والمجال، وعاك الْجُزْء الْخَفِيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطَّبْع الْعَفِيف، ثمَّ تَوَاتر التَّقْبِيل، ثمَّ كَانَ الْأَخْذ الوبيل، وامتاز الأنوك من النَّبِيل، وَمِنْهَا جَائِر وعَلى الله قصد السَّبِيل، فيالها من نعم متداركة، ونفوس فِي سَبِيل القحة متهالكة، وَنَفس يقطع حُرُوف الْحلق، وَسُبْحَان الذى يزِيد فِي الْخلق. وعظمت الْمَانِعَة، وَكَثُرت بِالْيَدِ عَن الْموضع الْمُعْتَمد المصانعة، وَطَالَ التراوغ والتزاور [وشكى التجاور] وَاشْتَدَّ القلق والتضاور، فهنالك تخْتَلف الْأَحْوَال، وتعظم الْأَهْوَال، وتخسر أَو تربح الْأَمْوَال، فَمن عَصا عسطوس تنْقَلب ثعبانا مُبينًا، وبدنه تصير تنينا، وَبَطل لم يهله المعترك الهايل، وَالوهم(2/227)
الزايل، وَلَا حَال بَينه وَبَين قَرْيَة الحايل. فتعدى فتكه السليك إِلَى فتكة الفراض وتقلد مَذْهَب الْأزَارِقَة من الْخَوَارِج فِي الأعتراض، واتصف بِصفة الساخط، وَهُوَ الراضى، ولوح فِي ميدان السرير بالحسام الطرير، ولف فِي ملعب الأوطار بالقنا الخطار، ثمَّ شقّ الصَّفّ، وَقد خضب السَّيْف والكف، بعد مَا كَاد يُصِيب البرين بطعنته، ويبوء بمقته ولعنته ... . طعنت ابْن عبد الْقَيْس طعنة ثاير لَهَا نفذ لَوْلَا الشعاع أضاها، [وهنالك هدأ الْقِتَال، وَسكن الخيال وَوَقع المتوقع فاستراح] البال، وتشوف إِلَى مَذْهَب التنويه من لم يكن ليمر لَهُ التَّوْحِيد ببال، وَكثر السُّؤَال عَن المبال بهَا فَقَالَ:
(وَإِن تعدّدت اللَّذَّات واطردت ... فَلَيْسَ يعدل شَيْء لَذَّة الظفر)
[وَلم يجربوا للحروب] صَرِيعًا أشْفق من صريع السرير على من صرعه، نصب الْيَد الذايل وشرعه حَتَّى أضرعه. فيكثر مَا ينشد، وَنَفسه قد خلت، وَقواهُ قد انجلت، ونظرة عَيْنَيْهِ قد اختلت:
(خليلي هَل أبصرتما أَو سمعتما ... قَتِيلا بَكَى من حب قَاتله مثلى)
وَيَقُول: وَقد نظر إِلَى دَمه يسيل على قدمه:
(أَنى لَهُ عَن دمي المسفوك معتذر ... أَقُول حَملته فِي سفكه تعبا)
وَمن سِنَان غَادَرَهُ عِنْد الْحَاجة عنانا، وشجاع صَار مدانا جَبَانًا، كلما شابته رايبة شيبَة، أَدخل يَده فِي جيبه، فانحجرت الْحَيَّة، وَمَاتَتْ الغريزة والحية [فَكَأَنَّهُ سلحفاة أغمدت ورأسها جحدت] فَكَأَنَّهُ يزِيغ الْبَصَر، ويخذل الْمُنْتَصر، وتسلم الْأجر، ويغلب الْحصْر، ويجف اللعاب، ويخفق الْفُؤَاد، ويكبو الْجواد،(2/228)
ويسيل الْعرق، وتجري فِي غير مَحَله المرق، ويعظم الكرب ويشتد الأرق، وينشأ فِي مَحل الْأَمْن الْفرق، وَيدْرك فِرْعَوْن الْغَرق، وَيُقَوِّي اللجاج، ويعظم الْخرق، فَلَا يزِيد الْحَال إِلَّا شدَّة، وَلَا تعرف تِلْكَ الْجَارِحَة المومنة إِلَّا ردة: [
(إِذا لم يكن عون من الله للفتى ... فَأكْثر مَا يجني عَلَيْهِ اجْتِهَاده)
فكم مُغْرِي بطول اللّّبْث، وَهُوَ من الكيد والخبث، يؤمل الكرة ليزيل المعرة، ويستنجز الْوَعْد، ليستأنف السعد، ويستنفر الخيال، وَيعْمل بِالْيَدِ الاحتيال] .
(إِنَّك لَا تَشْكُو إِلَى مصمت ... فاصبر على الْحمل الثقيل أَو مت)
ومكثر اللثم وَالضَّم، والعض والشم يَدْعُو فِي خلل هامد، وَيضْرب فِي حَدِيد بَارِد:
(لقد ناديت لَو أسمعت حَيا ... وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي)
وَكم معتذر بِمَرَض أَصَابَهُ، جرعه أوصابه، ووجع طرقه جلب أرقه، ومغضب يُقَلّد للمانعة الذَّنب، ويطوقها العتب، وخطيب أرتج عَلَيْهِ أَحْيَانًا، فَقَالَ سيحدث الله بعد عسر يسرا، وَبعد عي بَيَانا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من فضايح الْفروج، إِذْ استغلقت أقفالها، وَلم تتسم بالنسيم أغفالها، وَمن معرات الأقدار، والنكول عَن الْأَبْكَار، وَمن النُّزُول عَن الْبُطُون والسرر، والجوارح الحسان العزر، قبل ثقب الدُّرَر، وَمن سَواد الْوَجْه إِذا بكرت الْوُجُوه، ونالت النُّفُوس من إطراء العادين والمهنين مَا ترجوه، وَلَا تجعلنا مِمَّن يستحي من الْبكر بِالْغَدَاةِ، وَيعلم مِنْهُ كلال الْجد، وَضعف الأداة، هَذَا مجَال فَضَح فِيهِ رجال، وفراش تنكبت فِيهِ أوجال، وأعملت روية وارتحال. فَمن قايل:(2/229)
(أرفعه طورا على أُصْبُعِي ... وَرَأسه مُضْطَرب أَسْفَله)
(كالحنش الْمَقْتُول يلقى على ... عود لكَي يطْرَح فِي مزبله)
وَقَالَ:
(عدمت من إيرى قوي حسه ... يَا حسرة الْمَرْء على نَفسه)
(ترَاهُ قد مَال على أَصله ... كحائط خر على أسه)
وَقَائِل:
(أيحسدني إِبْلِيس فَأَيْنَ أصبحا ... برجلي ورأسي دملا وزكاما)
(فليتهما كَانَا بِهِ وأزيده ... رخاوة أير لَا يُطيق قيَاما)
(إِذا نهضت للنيك أَرْبَاب معشر ... توسد إِحْدَى خصيتيه وناما)
وَقَالَ:
(أَقُول لَا يرى وَهُوَ يرقب فتكه بِهِ ... خبت من أير وغالتك داهية)
(إِذا لم يكن للأير بخت نعذرت ... عَلَيْهِ وُجُوه ... من كل نَاحيَة)
وَقَائِل:
(تعقب فَوق الخصيتين كَأَنَّهُ ... رشا إِلَى جنب الرَّكية ملتف)
(كفرخ ابْن ذِي يَوْمَيْنِ يرفع رَأسه ... إِلَى أَبَوَيْهِ ثمَّ يُدْرِكهُ الضعْف)
وَقَائِل:
(تكرش أيري بعد مَا كَانَ أملسا ... وَكَانَ غَنِيا من قواه فأفلسا)
(وَصَارَ جوابي للمها أَن مررن بِي ... مضى الْوَصْل إِلَّا منية تبْعَث الأسا)
وَقَائِل:
(بنفسي من حييته فاستخف بِي ... وَلم يخْطر الهجران يَوْمًا على بَال)
(وقابلني بالهزء والنجه بعد مَا ... حططت بِهِ رجْلي وجردت سربال)
(وَمَا ارتجى من مُوسر فَوق دكة ... عرضت لَهُ شَيْئا من الحشف البال)
هموم لَا تزَال تبْكي، وَعلل على الدَّهْر تشكى، وَأَحَادِيث تقص وتحكى، فَإِن ذَلِك الْعُضْو على شهرته، وَعظم قدرته، يستمد من الْميرَة، وحركته لَا تقوم إِلَّا بالمؤن الْكَثِيرَة، من حَيا يرْتَفع، وبلادة بهَا فِي الْغَالِب ينْتَفع، وفكر يعْقد، وشبق على اصله يعْقد، ورياح تنفخ، ورطوبة ترضخ، وعضل شَدِيد، وَعمر جَدِيد، ومزاج فِي عرض الجو، طَوِيل مديد، وَهُوَ غير مُطَاوع للإرادة،(2/230)
وَلَا معط للقادة، خَبِيث وقاح، شامت نضاح، كم نقض من وَقت، وجلب من مقت، لَا يستصلح بالتعليم، وَلَا يرد عَن مرتكبه الذميم، بالْقَوْل الْأَلِيم، وَلَا يغلب إِلَّا بمقام الرِّضَا وَالتَّسْلِيم:
(حكمُوا فَلَا أحلى من التَّسْلِيم ... وأدر رحيق فُؤَادِي الْمَخْتُوم)
(مبرد بِهِ الأحشاء من نَار الجوى ... وانضح لهيب فُؤَادك المكلوم)
(مَا قَابل التَّسْلِيم نَار صبَابَة ... إِلَّا إِلَّا انْثَنَتْ فِي حَال برد نعيم)
فَإِن كنت أعزّك الله من النمط الأول، فقد جنيت الثَّمر، واستطبت الثَّمر، وتلوت أول وردك، اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر، فاستدع الأبواق من أقْصَى الْمَدِينَة، واخرج على قَوْمك فِي لِبَاس الزِّينَة، واستعد كرْسِي الْقعُود، والقبقاب من المدهون الْمَشْهُود، واستبشر بالوفود، وَعرف المسمع عارفة الْجُود، وتبجح بصلابة الْعود، وإنجاز الوعود، واستمتع بالشهود واجن رمان النهود، من أَغْصَان القدود، وانس من الشُّعُور السود عباسية البنود، واقتطف ببنان اللثم أفاح الثغور، وَورد الخدود. وَإِن كَانَت الْأُخْرَى، فأخف الكمد، وَارْضَ بالثمد، وانتظر الأمد، واكذب التوسم، وَاسْتعْمل التبسم واستكتم النسْوَة، وأفض فِيهِنَّ الرِّشْوَة، أَو تقلد المغالطة وارتكب، وَجِيء على قَمِيصك بِدَم كذب، واستنجد الرَّحْمَن، واستعن على أَمرك بِالْكِتْمَانِ:
(لَا تظهرن لعاذل أَو عاذر ... حاليك فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء)
(فلرحمة المتفجعين مرَارَة ... فِي الْقلب مثل شماتة الْأَعْدَاء)
وانتشق الأرج، وارتقب من جَانب الْفرج الْفرج، فكم غمام طبق وَمَا هما، وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رما. وأملك بعْدهَا عنان نَفسك، حَتَّى(2/231)
تمكنك الفرصة، وترفع إِلَيْك الغصة، وتثقب الفرصة، وَلَا تشره إِلَى عمل لَا تفي مِنْهُ بِتمَام، وَخذ عَن إِمَام، وَللَّه در عُرْوَة بن حزَام:
(الله يعلم مَا تركت قِتَالهمْ ... حَتَّى رموا مهري بأشقر مُزْبِد)
(وَعلمت أَنِّي إِن أقابل دونهم ... أقتل وَلَا يضرر عدوي مشْهد)
(ففررت عَنْهُم والأحبة فيهم ... طَمَعا لَهُم بعقاب يَوْم مُفسد)
واللبانات تلين وَتجمع، المآرب تَدْنُو وتنزح، وتخور ثمَّ تسمح. وَكم من شُجَاع خام ويقظ نَام، وَدَلِيل أَخطَأ الطَّرِيق، وأضل الْفَرِيق. وَالله عز وَجل يَجْعَلهَا خلة مَوْصُولَة، وشملا أكنافه بِالْخَيرِ مشمولة، وبنية أَرْكَانهَا لركاب الْيمن مأمولة، حَتَّى تكْثر خدم سَيِّدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتصفو عَلَيْهِ نعْمَة باريه، مَا طورد قنيص، واقتحم عيص، وَأدْركَ مرام عويص، وَأعْطى زاهد، وَحرم حَرِيص، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك فِي هَذَا الْغَرَض مِمَّا خاطبت بِهِ أَبَا إِسْحَاق ابْن الْحَاج على لِسَان قَاضِي الحضرة أبي الْحسن
سَيِّدي، جعل الله أكوار العمائم تتضاءل لكور عمامتك، والنفوس الطامحة الهمم على اخْتِلَاف الْأُمَم، تقر بِوُجُوب إمامتك، وسر الْإِسْلَام باتصال سلامتك، وتبرأ الملا من ملامتك، وصلتني رِسَالَتك الَّتِي أخبت فِي ميدان البلاغة فأوضعت، وأخلاف الْفُنُون ارتضعت، وعَلى ارْتِفَاع الْقدر اتضعت، وَوضعت الْحِكْمَة المشرقية بنت سَاعَة وَالله أعلم بِمَا وضعت، لَكِنَّهَا تنافست الْجَوَارِح، كَمَا غصت بنعمها المسارح، وتعارض السائح والبارح والرامز والسارح فِي صلت الْإِذْن على المغنا، وأنجبت من اللَّفْظ البديع بأعذب المنا، واستولت الْعين من الْخط على الْحسن الْبعيد الشط، ونتيجة مَا أودع الْبَارِي بَين مقدمتي الْبري والقط، وعظمت حسرة الْخلق، إِذْ بَقِي بَابه مسدودا، وَأصْبح سلكه من المسالك المنافذة معدودا،(2/232)
وَاشْتَدَّ أَسف الضرس إِذا أَصبَحت أرْضى طواحنه عاطلة، وسحاب الدّين عَلَيْهَا غير هاطلة، ومذاهبها بَاطِلَة، ومواعيد بالمضغ ماطلة، وماضر سَيِّدي وَالله يَقِيه الضّر، ويحفظ منصبه الْحر، وبحره الَّذِي يقذف الدّرّ، أَن لَو ضَاعَت الطول، وَجمع الْفِعْل وَالْقَوْل، فَوجه من الْكَتَّان، مَا يثقل ظهر الأتان، وَمن الزَّيْت، مَا يمْلَأ ركن الْبَيْت، وَمن الدَّجَاج وَالْعَسَل المجاج، مَا يتكفل بصلاح المزاج، وَمن الأترج والليم، مَا يخل بحلم الْحَلِيم، فجانب الْوَرع عَن هَدِيَّة سَيِّدي، لَا يضيق، فَهُوَ الرفيق الشَّقِيق، وَالْعدْل الَّذِي وضح من فَضله الطَّرِيق. وَأما أَن لَا يكون حَظّ وليه إِلَّا نقر لَا تدفع فقرا، وألفاظ لَا تذْهب وقرا، وحلة يجوع من حل بهَا ويعري، وبحر لَا يجد الغائص لَهُ قعرا، فَأمر يُنكر على المجادة التميمية، والمثابة الْحكمِيَّة، مَعَ أَن الإقليم، لم تزل ترفد هَذِه الخطة كلما وصلت وَتصْلح صلَاتهَا إِذا سهت، وَلَا مرفقتها مَا أمرت وَلَا نهدت، وَلَا أكلت مَا اشتهت، فَليُرَاجع سَيِّدي عَادَة الْكَرم، وَلَا يحْسب الشَّحْم فِي الورم، وَالله يطلع من تلقائه على الأدقة، الَّتِي تضيق عَن أحمالها عراض الْأَزِقَّة، والعسول المتكفلة بالسول، وَالزَّبِيب الَّذِي يسر قلب الحبيب، والأجبان الَّتِي تشجع قلب الجبان، والجدبان الَّتِي تردي بالْخبر عَن العيان، وَالْبيض الَّذِي تشهد بالفيض، وَالزَّيْت الَّذِي يخلف حَيَاة الْمَيِّت، وَالله يبقي سَيِّدي للقضاة زيتا، وَفِي الْعلمَاء عينا، ويفضي بجودك على الدَّهْر، الَّذِي سمح بجوده دينا، وَالسَّلَام عَلَيْهِ مَا استمح جواد، وأطرف بالفكاهة فؤاد، وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي مخاطبته أَيْضا إِذْ هُوَ الْيَوْم فَارس الميدان، وَصدر هَذَا الشَّأْن
(يَا قَاضِي الْعدْل الَّذِي لم تزل ... تمتاز شهب الْفضل من شمسك)(2/233)
(قعدت للإنصاف بَين الورى ... فاطلب لنا بالإنصاف من نَفسك)
مَا للْقَاضِي أبقاه الله، ضَاقَ ذرع عدله الرحب عَن الصحب، وصم عَن العتب، وضن على صديقه حَتَّى بالكتب، ابْن الْمُدَوَّنَة الْكُبْرَى ارْتكب هَذَا التَّخْرِيج، أم من المبسوطة ذهب إِلَى هَذَا الْأَمر المريج. أم من الْوَاضِحَة امْتنع عَن الْإِلْمَام بِرَفْع الوفا والتعريج. وَمن أمثالهم إِذا ولى أَخُوك فاقنع بعشروده، وَقد قنعنا نَحن وَالْحَمْد لله بِحَبَّة من مده، وإيثارة من دَرَجه وبده، وَسَاعَة معتدلة من زمَان بُلُوغ اشده، فَمَا باله يمطل مَعَ الْغِنَا، ويحوج إِلَى العنا مَعَ قرب الجنا، المرحلة مرحلة طالع وخامع، ومطمع طامع، ومرأى رَاء وَسمع سامع، والكنف، وَاسع وَالْمَكَان لاناء وَلَا شاسع، والضرع حافل، والذرع كَاف كافل، والقريحة وارية الزند، والإمامة خافقة البند، وهب الْبُخْل يَقع بِمَا فِي الخوان على الإخوان، فَمَا باله يَقع بالبنان، أعيذ سَيِّدي من ارْتِكَاب رَأْي ذميم، يُؤَيّد بَيت القطافي تَمِيم، ويعضد مَعْنَاهُ بتشميم، وهلا تَلا حَامِيم، وعهدي بالسيادة القاضوية، قد نَامَتْ فِي مهاد الترف، نوم أهل الْكَهْف، وَلم تبل بمدد الويل واللهف، أَو شربت لحفظ الصِّحَّة بختجا، ودقت لإعادة الشبيبة عفصا ورد وردسختجا، وغطت على الصُّبْح بِاللَّيْلِ إِذا سجا، ومدت على ضاحي الْبيَاض ظلا سجسجا، وَردت سوسن الْعَارِض بنفسجا، وَلبس بحرها الزاخر ثوبا من طحلب الْبر منشجا، وَأحكم الْعِمَامَة، وصديق الْمَرْأَة ينصح ويرشد، وَينظر فِي المحاسن وينشد، حَتَّى حسنت الدارة، وَصحت الاستدارة، وَأَعْجَبهُ الْوَجْه الْجَمِيل، وَالْقد الَّذِي يمِيل [فِي دكة الدَّار ويميل، فاعرى السِّوَاك التتميم والتكميل ووشج بَين شفري سَيِّدي الْميل] وَقيل لوضاح الْيمن خَابَ فِيك التأميل، وامتد جنَاح برنس الشرق، واحتفل الْغُصْن الرطيب فِي ناضر الْوَرق، ورش الْورْد(2/234)
مَاؤُهُ عَن رشح الْعرق، وتهيأ للمنطلق، وقرأت عَلَيْهِ نسَاء أعوانه، وكتبة ديوانه سُورَة العلق، من بعد مَا أوقف الأملين الْحجاب على أَقْدَامهم، وكفهم الخذلان عَن أَقْدَامهم، فمثلوا وَاصْطَفُّوا، وتألفوا والتفوا، [وداروا وحفوا] وَمَا تسللوا وَلَا خفوا، كَأَنَّمَا أسمعتهم صَيْحَة النشر، أَو خَرجُوا الأول الْحَشْر، فعيونهم بملتقى المصراع معقودة، وأذهانهم لمَكَان الهيبة، وحفالاتهم قبل الطّلب بهَا منقودة، فعندما فرش الوساد، وارتفع بالنفاق الكساد، وذاع الكبا، وتارج الجساد، واستقام الْكَوْن وارتفع الْفساد. وأرجعت أرداجها الأجساد، جَاءَت السِّيَادَة فَجَلَست وتنعمت الأحداق بِالنّظرِ الَّذِي اختلست، وسمحت الأكف حَتَّى أفلست، وزانت الشَّمْس ذَلِك الْفلك وجلت الْأَنْوَار الحلك، فتحت الْأَبْوَاب، وَقَالَت هيت لَك، ووقفت الْأَعْيَان سماطين، ومثلوا خُفَّيْنِ. وتشكلوا مجرة تَنْتَهِي إِلَى البطين، يعلنون بالتفدية ويجهرون، لَا يعصون الله مَا أَمرهم، ويفعلون مَا يؤمرون، من كل شهب ثاقب، وطايف غَاسِق واقب، وملاحظ مراقب، كميش الْإِزَار، بعيد المزار، حَامِل للأوزار، خصيم مُبين، ووارث سوفسطها عَن رنين، مطلع بِفقه البير وحريمها، فضلا عَن تلقين الْخُصُوم وَتَعْلِيمهَا، أسْهم العريف المقرب، والمقدم المدرب، والمشافه الْمُبَاشر، والنابح الكاشر، والمنهج الْعَاشِر، الَّذِي يَقْتَضِي خلاص العقد، وَيقطع فِي الكاي والنقد، ويزكى ويجرح ويمسك الْمُثبت أَو يطْرَح، ويجمل ويشرح، والمسيطر الَّذِي بِيَدِهِ ميزَان الْوَرق، وَجمع الْأجر المفترق، وكفه قَابِلَة رحم الدواة الفاغرة، ورشا بلالة الصُّدُور الواغرة، فَإِذا وقف الخصمان بأقصى مطرح الشعاع، وأفأى مجمع الرعاع، واعلنا الندا، وَطلب الأعدا، وصاحا جعل الله أَنْفُسنَا لَك الفدا، وَرفع الْأَمر، إِلَى مقطع الْحق، وَالْأولَى بالمثابة الأحق، أخذتهما الْأَيْدِي دفعا(2/235)
فِي القفى، ورفعا لستر اللطف الْخَفي، وإمساكا بِالْحجرِ والأكمام، ومنعا للمباشرة والإلمام واستنطاقا عِنْد الْأَخْذ بالْكلَام، وإسكاتا عِنْد صريف الأقلام فَإِذا أدلى بحجته من أدلى، وسعهما دينه عدلا، وَحقّ القَوْل، وَاسْتقر الهول، وَوَجَبَت الْيَمين أَو الْأَدَاء الَّذِي يفوت لَهُ الذخر الثمين أَو الرَّهْن أَو الضمين، أَو الاعتقال، الَّذِي هُوَ على أَحدهمَا الْأمين، نهش الصل، الَّذِي سليمه لايبل ولسبت العقارب الَّذِي لَا يفلتها الهارب، وَلَا تنجى مِنْهَا المسارب. وَكم تَحت الظلام من غرارة يحملهَا غر، وحرة ريح فِيهَا صر، وسهد فِي انْتِظَار قلَّة شهد، وكبش يجر تَارَة بروقيه، وَيدْفَع بعد رفع سَاقيه، ومعزى وجدي وقلايد هدى، وسرب دَجَاج ذَوَات لجاج، يقضحن الطارق، ويشيعن المفارق، فَمَتَى يستفيق سَيِّدي مَعَ هَذَا اللَّغط، العايد بالصلة، واللهى الْمُتَّصِلَة. أَو تتفرع يَده الْبَيْضَاء لأعمال ارتياض، وَخط سَواد فِي بَيَاض، أَو حنين لدوح أَو رياض، أَو إمتاع طرف، باكتئاب حرف أَو إِعْمَال عدل لرَسُول فِي صرف، أَو حَشْو طرب يتحفه ظرف، شَأْنه أَشد استغراقا، وميوله أَكثر طراقا، من ذكر حبيب ومنزل، وَأم معزل، وَكَيف يستخدم الْقَلَم الَّذِي يصارف مَاء الحبر يذوب التبر فِي ترهات عدم جناها، وأقطع جَانب الخيبة لَفظهَا وَمَعْنَاهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تحصل النَّفس على كِفَايَة تختم لَهَا الصرر، وتشام من خلالها للجين الْغرَر، أَو تحن النَّفس إِلَى الفكاهة والأنس، وَينْفق لَدَيْهَا ذمام الْإِبْقَاء على الْجِنْس، فَرُبمَا تقع المخاطبة المنزورة، وتبيح هَذَا المرتكب الصعب للضَّرُورَة، والمرغوب من سَيِّدي القَاضِي أَن يذكر بؤسنا بالإغفال عِنْد نعيمه، وَلَا يخيب آمالنا الْمُتَعَلّقَة بأذيال زعيمه ويسهمنا حظا من فوايد حَظه، لَا من فوايد خطته، وَيجْعَل لنا كفلا من فضل بريته وفطنته، لَا من فضل بعره وقطته، فقد غنينا عَن الحلاوات،(2/236)
بحلاوة لَفظه، وَعَن الطّرف الْمَجْمُوعَة، بفنون حفظه، وَعَن قصب السكر، بقصب أقلامه، وَعَن جنى الدوم بداومه، وبهديه عَن جديه، وبمحاجته عَن دجاجته، وَبدر لجه عَن أترجه، وَعَن الْبر ببره، وَعَن الْحبّ بحبه، وَلَا نأمل إِلَّا طُلُوع بطاقته، وَقد رَضِينَا بِجهْد طاقته، وَإِلَّا فَلَا بُد أَن نحشد جَيش الْكَلَام إِلَى عَتبه، ونوالي الكتايب، حَتَّى يَتَّقِي بضريبة كتبه. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي سَبِيل الدعابة فِيمَن تزوج قَيْنَته
كتبت أغبطك، أعزّك الله، بتسويغ اللَّذَّات، وتسنى طيب الْحَيَاة، ولباس خلع الخلاعة، وَلَو قَامَت السَّاعَة، فَإِنَّمَا الْإِنْسَان بيومه لَا بقَوْمه، وبوقته لَا بالمبالات بمقته، وأدعو الله أَن يجزك أجرتك، ويتقبل هجرتك، ويؤمن من الشُّرُوط حجرتك، ويعطف على محلك قُلُوب الفتيان، وَيَدْعُو بهم للإتيان، وَيقطع بشهرة قينتك حظوظ القيان، ويسلبك الْغيرَة الَّتِي تفْسد الْعشْرَة، وَتكشف القشرة، وَكَأَنِّي بك أعزّك الله، وَقد ظهر بِوَجْهِك سعفة النَّبِيذ، وتفطر لَهَا وَجهك تفطر الجدي الحنيذ، وأصابت أسنانك الْحَضَر، وريحك البخر، وعينك السّتْر، وشعرك الحزاز، ويدك الكزاز، وأصبحت مخمورا، مَنْهِيّا عَن عِيَالك مَأْمُورا، وَقد أغلقت عمامتك بسروالك، وسدلت القشرة الْبَيْضَاء على أسمالك، وَقَعَدت بركَة بابك، تتلقف العيادة، وتعترض السِّيَادَة، وَتعين للْوَقْت الزِّيَادَة، فَإِذا اقتضيت النَّقْد من الخرج، ودللت الفحول على المرج، وخطبت لمشاهدة الرقص والدرج، نهضت لشرامون فحولك، وَمَا يتكل بسولك، من طرواة تصقل الْعشْرَة وتنقيها، ولخلخلة يستر رَائِحَة الْإِبِط وتخفيها، وسنون يطيب الْفَم، ويوافق الشم، وضماد يشد الثدي إِذا ذبل، وبرزجة تمنع الْحمل، وحشوت جيبك أوتارا، وأعددت دستانا ثَانِيًا وَحِمَارًا، وشاركت على الْمُرَابَحَة خمارا،(2/237)
وَبسطت نطع الْقعُود، واعددت لإيداع الْفتُوح غشا الْعود، وترددت إِلَى الْبَاب، توقعا لإخلاف الوعود، فأقسم عَلَيْك يَا سَيِّدي أَن لَا تغفلنا من بالك، وَلَا تنسنا من حرامك الْمُصحف [أَو حلالك، وأسهمنا] فِي فضل تجارتك. وعيى جعالتك وإجارتك، وَاضْرِبْ لنا بِخَط عِنْد قسم مَا فِي طنجارتك. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة بعض الْأَطِبَّاء بِمَا يظْهر من الْغَرَض
أبثك يَا أحب الأحباء، أطرف الأنباء، من حَدِيث الْأَطِبَّاء، وَذَلِكَ أَن لي أَيَّامًا ثَلَاثَة، أعاني مَا أعاني، من الْأَلَم الَّذِي شريني وأرتعاني، فَأَما قوتي فواهية، فِي دَرَجَات الضعْف متناهية، وَأما أفكاري فمتبلدة متناهية، وَأما آلام الْفُؤَاد فَمَا أدريك مَاهِيَّة، فَإِذا دخل الْقَوْم حيو وقعدوا، وصوبوا فِي الهذر وصعدوا، وَرُبمَا امتدوا طوع تعديهم، إِلَى تنَاول الرّقاع والكراريس بِأَيْدِيهِم، يدرسون أسطارها سرا، ويكفون، ويكبون عَلَيْهَا إكبابا مستمرا، فَإِذا ملوا نهضوا على جادة أُخْرَى واستقلوا، فأفاضوا فِي التَّوْرَاة وَالزَّبُور، والتلمود والعبور، وَغير ذَلِك من فُصُول الْأُمُور. وَلَقَد أتحامل الخلا، والضعف ظَاهر الاستيلا، ومجالس السهل مترادفة الولا، فيذهلون عَمَّا ألاقيه من العفا، إِلَى أَن ينتصف الْيَوْم، وبريبهم التثاؤب وَالنَّوْم، فَحِينَئِذٍ يَتَحَرَّك الْقَوْم، وَوَاللَّه مَا أعملوا فِي العلاج قولا، وَلَا نظرُوا خرا وَلَا بولا، وَلَا قعدوا وَلَا شعروا هَل أَنا مَرِيض أم لَا، وَمَا ضرّ لَو أَشَارَ مِنْهُم المشير بعلاج، أَو أخذُوا للمذاكرة فِي نتاج، حَتَّى يقيموا رسم الصِّنَاعَة، ويأنفوا لَهَا من طَرِيق الإضاعة، أَو يعدلُوا هَوَاء،(2/238)
أَو يبدلوا سَبِيلا سَوَاء، أَو يجلب أحدهم من الخزانة السُّلْطَانِيَّة دَوَاء. إِنَّمَا هِيَ عَادَة الْأَيَّام، وَعدم الاهتمام، وتعدي طرق الْكِرَام. فَإِذا وَقعت الهفوة، عتبوا وشافهوا [وَكَتَبُوا] كَأَنِّي لست مَوْضُوعا إِلَّا لشكوى دهر. وتعزير صَخْر أَو تمر أَو بكاء هم، أَو السباحة للفضول فِي يم، وَإِن قَالُوا قدرك سنىء. وَأَنت عَن نَظرنَا غنى، فَأَنا عَن الزِّيَارَة مني إِلَى العلاج وَعَن الْأَصَالَة الخارقة للسياج مني لصلاح المزاج، قدرت لَك عُذْري لتقوم فِيهِ بحجتي، وإيضاح محجتي، لَا زلت متحليا من الْإِنْصَاف، بأجمل الْأَوْصَاف، وَالسَّلَام المتعاهد بالألطاف، والرحمات الدانيات القطاف يخصك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي مُخَاطبَة ابْن جبور الْوَالِي بمكناسة فِي بعض الْأَغْرَاض
شاع، أعزّك الله، على أَلْسِنَة أَصْحَابك مِمَّن عرف نبله وعقله، وَصَحَّ فِي الْأَخْبَار نَقله، أَنَّك جواد الْوَقْت، الآمن المقت، وَأَنَّك مجلى التخت، ومفيد البخت، ومأوى الضَّيْف، فِي الشتَاء والصيف، وَأَنا مَا علمت ضيف الْكِرَام حَيْثُ حللت، ونزيل الأجواد مَتى نزلت، أرحل عَنْهُم، وَالثيَاب تضيق بهَا الْعباب، والجياد يجنبها القياد، والصرر قد أشرقت مِنْهَا الْغرَر، حرصا على ثَنَاء يخلد، وَمعنى يُقَلّد، ودولة تجلى بالمكارم [ومروة تحل عَلَيْهَا] ضرب المغارم، فَبت بجوارك لَيْلَتَيْنِ، أكلت فيهمَا من زادي، وشربت من مَاء الْوَادي، وَجعلت الأَرْض مهادي، وَطَالَ لأجل البراغيث سهادي. وَلَقَد سَأَلَني الْوَزير أبقاه الله عَن طريقي، ورفيقي وفريقي، وأجملت الْمُفَسّر، وألممت من الْكَذِب بِمَا تيَسّر، وَقلت علم استدعاؤك إيَّايَ، واستقدامي من مثواي، فسائر النَّاس بجملتهم هواي، وأماني الإياب، بعد أَن بدأت الْبَيْت، وأوليت مَا أوليت، فَالْأَمْر أكبر،(2/239)
وَالْخَبَر لَا يَفِي بِهِ الْخَبَر، فخاطبتك، أعزّك الله، مُخَاطبَة من يغار على شهرة جودك، وَالْحكم لَك بالثنا قبل وجودك. فإمَّا أَن يَقع الصُّلْح على ضريبة قريبَة، ويرتفع عَن وَجه المجادة نقاب الرِّيبَة أَو يكذب النَّقْل، وَيكون قرى ضيفك، المَاء. والبقل، اللَّهُمَّ [إِلَّا] أَن يكون قبولك خَاصّا بِمن راق خَدّه، وَحسن قده، وتبلبلت نظرته، وأخجلت البدو غرته، فحظنا لديك الخيبة، وَلَو قصدناك من قلَّة وطيبة وموصله يُقرر الْمطلب، وَيجْبر مِنْك البارق والخلب، وَالْقَصْد الْمُشَاركَة فِيمَا أَمر بِشِرَائِهِ، ومحاولة نَقله، بِمَا يستخف من كرايه، وَأَنا أرتقب وُصُوله، وأنتظر حُصُوله، وعَلى كل حَال، فشكري لشكر الْخلق فِيك تبع، وَإِن لم يَقع فِي جوارك ري وَلَا شبع، وثنائي جميل، وَإِن لم يقْض من برك نأميل، وَمَا أَلممْت بِهِ إِنَّمَا هُوَ دعابة، تخف على أهل النبل، وَمن يسْلك من التظرف أوضح السبل، وَالله يمتع بعد بلقائك، ويجلي غرر الْفضل من تلقائك. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني مِمَّا خاطبت بِهِ الْوَزير أَبَا بكر بن الْحَكِيم.
(ألام على أَخذ الْقَلِيل وَإِنَّمَا ... أعامل أَقْوَامًا أقل من الذَّر)
(فَإِن أَنا لم آخذ مِنْهُم فقدته ... وَلَا بُد من شَيْء يعين على الدَّهْر)
سَيِّدي: أطلق الله يدك بِمَا تملك، وفتر عَن مخنقك الْبُخْل لِئَلَّا تهْلك، كنت قد هومت، وزجرني القلق فتلومت، ونومي مَا علمت سني الْخلال، عَزِيز الْوِصَال، يمطل غَرِيمه ديني، ويعافه طيري، ورد نمر عَيْني، وَإِذا بِالْبَابِ يدق بِحجر، دقا يُنَبه عَن ضجر، وجار الْجنب يُؤْخَذ بالذنب، فَقُمْت مبادرا، وَجَزِعت، وَإِن كَانَ الْجزع مني نَادرا، واستفهمت من وَرَاء الفلق، عَن سَبَب(2/240)
هَذَا القلق، واستعذت بِرَبّ الفلق، فَقَالَت امْرَأَة من سكان السوَاد، ورابطة الْفُؤَاد، يَا قوم رَسُول خير، بأيمن طير، وقرع إدلال: لَا قرع إذلال، حطو شعار الْحَرْب وَالْحَرب، وَقد ظفرتم ببلوغ الأرب، فتأخرت عَن الْإِقْدَام، وانهدت إِلَيْهِ مجن عمر ابْن أبي ربيعَة مِمَّن كَانَ بِالدَّار من الخدام، وأسفرت الوقيعة عَن سَلام وَسلم، وَلم يرزأ أحد منا بكلم. وَنظرت إِلَى رجل قرطبي الطلعة والأخلاق، جاو على الْإِطْلَاق، تنهد قبل أَن سلم، وارتمض لما ذهب من الشبيبة وتألم، شنشنة مَعْرُوفَة، وَعَن تِلْكَ الْجِهَة، معَاذ الله، مصروفة، وَقد حَملته سيادتكم من المبرة ضروبا شَتَّى، وتجاوزت فِي السراوة غَايَة حَتَّى، وَلم نذع عضوا من جسده، فضلا عَن مَنْكِبه وَيَده، إِلَّا أعلقته وعَاء ثقيلا، وناطت بِهِ زنبيلا، وصييره مضاعف الْبر، سفينة من سفن الْبر، فَأَنَاخَ كَالْجمَلِ إِذا برك، واستلقى كالكمى ترك المعترك، وعلت حوله تِلْكَ الأثقال، وتعاورها الِانْتِقَال، وَكثر بالزقاق القيل والقال. فَلَمَّا تحصلت بِالدَّار، وسترت معرتها بالجدار، وتناولها الاختبار الفاضح، وَبَان قُصُورهَا الْوَاضِح، تلاشت بعد مَا جَاشَتْ واضمحلت بعد مَا حلت، وَنظرت إِلَى قَعْب من التِّبْن المذوق، الَّذِي لَا يسْتَعْمل فِي الْبيُوت، وَلَا يُبَاع فِي السُّوق، أذكرني قَول الشَّاعِر:
(تِلْكَ المكارم لَا قعبان من لبن ... شيبا بِمَاء فَعَاد أبعد أبوالا)
أما زبده فَرفع، وَأما زيته فانتيت بِهِ وانتفع. وَأما من أنف من بَعثه من فضلاء الخدام فَرفع، وَكَأَنِّي بِهِ قد ألح فصفع. والتفت إِلَى قفة قد خيطت، وبعنق ذَلِك البائس قد نيطت، رمس فِيهَا أفراخ من الحمائم، وقلدت بلبته، كَمَا يتقلد بالعمائم، وَشد حبلها بمخنقه، وألزم مِنْهَا فِي العاجلة طَائِره فِي عُنُقه، هَذَا بعد مَا ذبحت، وَأما حشوتها فربحت، وَلَو سلكتم الطَّرِيقَة المثلى، لحفظتم جثتها من العفن بِمَا تحظ بِهِ جثث الْقَتْلَى، وأظنكم لم تغفلوا هَذَا الْغَرَض،(2/241)
وَلَا أهملتم هَذَا المهم الَّذِي عرض، فَإِنِّي رميت مِنْهَا للبر رمى المختبر، فكلح من مرَارَة الصَّبْر، وَلما أخرجتها من كفن القفة، واستدعيت لمواراتها من حضر من الْأَصْحَاب أهل الصّفة، تمثلت تمثل لَبِيب بقول حبيب:
(هن الْحمام فَإِن كسرت عناقه ... من حايهين فَإِنَّهُنَّ حمام)
وَلَوْلَا أَن أحد الدجاجتين لاحت عَلَيْهَا مخيلة سرو، وَكَانَت من بقايا ديوك مرو، بعث بهَا جلالك جَلَاله، وَأهْدى مِنْهَا لفساد مزاجي آله، لم يكن فِي الْهَدِيَّة مَا يذكر، ولكانت مِمَّا يُنكر، وَأَسْتَغْفِر الله، فَلَو لم تكن التُّحْفَة إِلَّا تِلْكَ الأكولة العاطرة، والغمامة الماطرة، حَتَّى أحسبت الأمل الْأَقْصَى، وتجاوزت المنن الَّتِي لَا تحصى، للَزِمَ الشُّكْر وَوَجَب، وبرز من حر الْمَدْح مَا تيَسّر واحتجب، والمكارم وَإِن تَغَيَّرت أنسابها، وَادّعى إرثها واكتسابها. إِلَيْكُم تُشِير أيديها، ولفئتكم تميل بهواديها، وبساحتكم يسيل واديها، وعَلى أَرْضكُم تسح غواديها، ومثلى أعزكم الله لَا يفض من قدر تحفكم الحافلة، وَلَا يقْعد من شكرها عَن فَرِيضَة وَلَا نَافِلَة، وَلكنهَا دعابة مُعْتَادَة، وفكاهة أصدرتها وداده، وَلَا أَشك أَنكُمْ بِمَا جبلتم عَلَيْهِ من محبتي قَدِيما وحديثا، وأثاري الَّذِي صيرتموه سمرا وحديثا، تهدرون جفاي فِي جنب وفائي وتغضون، وتتجلون، وَبقول الشَّاعِر تتمثلون
(وأسمع من أَلْفَاظه اللُّغَة الَّتِي ... يلذ بهَا سَمْعِي وَإِن ضمنت شتمي)
وَهِي طَوِيلَة
وَمن ذَلِك مَا صدر عني مِمَّا خاطبت بهَا أَبَا عبد الله الْيَتِيم بِمَا نَصه
يَا سَيِّدي الَّذِي إِذا رفعت راية ثنائه، تلقيتها باليدين، وَإِذا قسمت سِهَام وداده، على ذَوي اعْتِقَاده، كنت صَاحب الْفَرِيضَة وَالدّين، وَأم بقاؤك، لطرفة(2/242)
تبديها، وغريبة تردفها بِأُخْرَى تَلِيهَا، وعقيلة بَان تجتليها، وَنَفس أَخذ الْحزن بكظمها، وكلف الدَّهْر بِشَتٍّ نظمها، تونسها وتسليها، لم أزل أعزّك الله، أَشد على بدائعك يَد الضنين، وأقتني دُرَر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدّرّ الثمين، وَالْأَيَّام بلقاك تعد، وَلَا تسعد. وَفِي هَذِه الْأَيَّام انثالت على سماؤك بعد قحط، وتوالت لَدَى آلاؤك على شحط، وزارتني من [عقائل بنانك] ، كل فاتنة الطّرف، عاطرة الْعرف [رافلة فِي حلل الْبَيَان والطرف] لَو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لَهَا الْعَرَب العاربة بالإعجاز، ماشيت من رصف المبنى، ومطاوعة اللَّفْظ الْمَعْنى، وَطيب الأسلوب، والتشبث بالقلوب، غير أَن سَيِّدي أفرط فِي التنزل، وخلط المخاطبة بالتغزل، وراجع الِالْتِفَات، ورام اسْتِدْرَاك مَا فَاتَ، يرحم الله شَاعِر المعرة، فَلَقَد أَجَاد فِي قَوْله، وَأنكر مُنَاجَاة الشوق بعد انصرام حوله، فَقَالَ:
(أبعد حول تناجى النَّفس نَاجِية ... هلا وَنحن على عشر من الْعشْر)
وَقد تجاوزت فِي الأمد، وأنسيت أَخْبَار صَاحبك عبد الصَّمد، فأقسم بألفات القدود، وهمزات الجفون السود، وحاملي الْأَرْوَاح مَعَ الألواح، بِالْغُدُوِّ والرواح، لَوْلَا بعد مزارك، مَا أمنت غائلة مَا تَحت إزارك، ثمَّ إِنِّي حققت الْغَرَض، وبحثت عَن الْمُشكل الَّذِي عرض، فَقلت للخواطر انْتِقَال، وَلكُل مقَام مقَال، وتختلف الْحَوَائِج باخْتلَاف الْأَوْقَات، ثمَّ رفع اللّبْس خبر الثِّقَات، وَمِنْهَا: وتعرفت مَا كَانَ من مُرَاجعَة سَيِّدي لحرفة التكتيب والتعليم والحنين إِلَى الْعَهْد الْقَدِيم، فسررت باستقامة حَاله، وَفضل مَاله، وَإِن لاحظ الملاحظ، مَا قَالَ الجاحظ، فاعتراض لَا يرد، وَقِيَاس لَا يضطرد حبذا وَالله عَيْش أهل التَّأْدِيب، فَلَا بالضنك وَلَا بالجديب، معاهدة الْإِحْسَان، ومشاهدة الصُّور الحسان. يَمِينا إِن(2/243)
المعلمين لسادة الْمُسلمين، وَإِنِّي لأنظرهم كلما خطرت على الْمكَاتب، أُمَرَاء فَوق الْمَرَاتِب، من كل مسطر الدرة، متقطب الأسرة، متنمر للوارد تنمر الْهِرَّة، يَغْدُو إِلَى مكتبه، كالأمير فِي موكبه، حَتَّى إِذا اسْتَقر فِي فرشه، واستوى على عَرْشه، وترنم بِتِلَاوَة قالوته وورشه، أظهر لِلْخلقِ احتقارا، وأزرى بالجبال وقارا، وَرفعت إِلَيْهِ الْخُصُوم، ووقف بَين يَدَيْهِ الظَّالِم والمظلوم، فَتَقول كسْرَى فِي إيوانه أَو الرشيد فِي زَمَانه، أَو الْحجَّاج بَين أعوانه، فَإِذا استولى على الْبَدْر السرَار، وَتبين للشهر الْفِرَار تحرّك لِلْخُرُوجِ تحرّك القرد إِلَى الْفرج، اسْتغْفر الله مِمَّا يشق على سَيِّدي سَمَاعه، وتشمئز من ذكره طباعة، شيم اللِّسَان خلط الْإِسَاءَة بِالْإِحْسَانِ، والغفلة من صِفَات الْإِنْسَان، وَأي عَيْش كَهَذا الْعَيْش، وَكَيف حَال أَمِير هَذَا الْجَيْش، طَاعَة مَعْرُوفَة، ووجوه إِلَيْهِ مصروفة. فَإِن أَشَارَ بالإنصات، لتحقيق الغصات، فَكَأَنَّمَا طمس على الأفواه، ولاءم بَين الشفاه. وَإِن أَمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضجيج والعجيج، وحف بِهِ كَمَا حف بِالْبَيْتِ الحجيج، وَكم بَين ذَلِك من رشوة تدس، وغمرة لَا تحس، ووعد يستنجز وحاجة تستعجل وتجهز. هَنأ الله سَيِّدي مَا خوله، وأنساه بِطيب آخِره أَوله، وَقد بعثت بدعابتي هَذِه، مَعَ إجلال قدره، والثقة بسعة صَدره، فليتلقها بِيَمِينِهِ، ويفسح لَهَا فِي الْمجْلس بَينه وَبَين خدينه، ويفرغ لمراجعتها وقتا من أوقاته، عملا بِمُقْتَضى دينه، وَفضل يقينه، وَالسَّلَام الْكَرِيم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمن ذَلِك مَا خاطبت بِهِ أحد المنتحلين لصنعة الْحجامَة
يَا أَحْمد أبقاك الله لذكر تعظه. وورم تبطه، وَدم تسيله، وَرَأس سما بِهِ الْكبر تميله، حَتَّى يتَبَيَّن لديك حَال الثروة، ويجتمع بَين يَديك من الشُّعُور، مثل مَا يجْتَمع بَين الصَّفَا والمروة، مَا هَذِه الْغَيْبَة، الَّتِي أسالت من صبيتك(2/244)
القوارب، وأطالت من معامليك اللمم والشوارب، وَتركت من كَانَ يحوم على دكانك، وَينْفق سلْعَته فِي مَكَانك، كأسد السُّوق، يُعِيد الْعَهْد بالفسوق. إثن من عنانك، وألن لمن خلقك قاسي جنانك وَارِث لخدود كنت حاصد نباتها، ومتفيىء جناتها فقد طَغى بهَا الآس على الْورْد، ولبست من خلعات العذار، كل محكمَة السرد، فبلطافة شمائلك، وَطيب حمائلك، أَلا مَا أخذت فِي الإياب، وأدلجت إدلاج الذياب، فقد طَال الأمد، وَعظم على حَملتك العاشقة الكمد، واستصحب مَا رسمت لَك [من الفخار] وَغَيره، وَخذ فِي الْقدوم، وحث من سيره، وَإنَّهُ سلامي من اسْتَسْقَيْت سحب خَيره، وتيمنت [لله مَادَّة] طيره، وصل الله علاءه وأجزل لَدَيْهِ آلاءه. وَالسَّلَام
وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة أبي جَعْفَر بن سُلَيْمَان الْقرشِي وَقد عرض عَلَيْهِ عقد إِيجَابه
يَا مَحل الْوَلَد، هَذَا رَأْي، مَا فِيهِ وَالْحَمْد لله وَهِي، وَنظر مُعْتَبر، يرجحه كتاب وَخبر، وحسبك بهَا من صلَة رحم، وعصابة فضل تزدحم، فَإلَى أَيْن يذهب الْمُحْتَار، عَمَّا يذب إِلَيْهِ الْمُخْتَار، كتب الله لكم السعد، حَلِيف هَذَا النَّقْد، وَلَا زَالَ نَقده وكاليه آمِنين من النَّقْد، وَجعل حُصُول الأنبا بالأبناء عَن الرفاء ورفكم فِيهِ عوارف الْيمن والأمان، وَجعل حِكْمَة سعادته مِمَّا فهمها الله - والدكم سُلَيْمَان بفضله وَكَرمه.(2/245)
المقامات
فَمن ذَلِك مَا صدر عَنى للسُّلْطَان الْجَلِيل الْمُعظم الْكَبِير أبي عنان فَارس رَحمَه الله من سبتة بَين يَدي ركُوب الْبَحْر وَفِي كل كلمة مِنْهَا سين
(سقت ساريات السحب ساحة فاس ... سواحب، تكسو السَّرْح حسن لِبَاس)
(وسارت بتسليمي لسدة فَارس ... نسيم سرى للسلسبيل بكاس)
مِنْهَا فِي ذكر السُّلْطَان أبي عنان:
(أنست بمسرى سبتة وتأنست ... بساحته نَفسِي وأسعد نَاس)
(ويسرت لليسرى وَيسر مرسلي ... وسدد سهمي واستقام قِيَاس)
باسم السَّلَام أستمنح مُسبل الإسعاد، وأبلس أنفس الحساد، وبإرسال التَّسْلِيم لسَيِّد الْمُرْسلين، أَسد أسراب الْفساد، وألتمس لسفري سَلامَة النُّفُوس والأجساد، سَلام وسيم، تستعير نفس مسراه الْبَسَاتِين، ويحسده الآس والياسمين، ويستمده النرجس السَّاجِي والنسرين، يسى ر لمجلس، مستخلف القدوس السَّلَام سُبْحَانَهُ، ويستبق لسدة سُلْطَان الْمُسلمين. سل السعد حسامه، وسدد سهامه، سيف السّنة السمحاء سَحَابَة سَمَاء السخا أَسد المراس، ملبس المفسدين لِبَاس الباس، ميسر الْحَسَنَة للنَّاس، يعسوب الْخَمِيس، مسرح سوائم التسجيع والتنسيم والتجنيس سَنَد السّنة، أَسد الأسنة، الباسل السَّيِّد السّني المسدد، السَّامِي السّني، سُلْطَان السلاطين، الساطي بأسه بالساطين، مُسْتَند الْإِسْلَام، فَارس، سدلت لسيرته الْحَسَنَة الملابس، واستنار بابتسام سعده المسري العابس. حَسبك باسم ومسمى، وَنَفس نفيسة سكنت الْإِسْلَام جسما، وأسنت لسعادة الْمُسلمين قسما، ينسى السحايب الساكنة لمسنتي السنين، وتخرس ألسن محاسنه اللسنين، ويستعبد إحسانه إِحْسَان الْمُحْسِنِينَ، سما مَجْلِسه، وَسعد ملتمسه، وتسنت سَلَامَته، وحرست سبل السّنة استقامته، وسدد سَهْمه، وسنى السَّعَادَة للنَّاس بأسه وَسلمهُ، فسبحان ميسر العسير، ومسدي الكسير،(2/246)
ومسهل الإكسير، ومسنى سُلْطَانه يستوعب محَاسِن السَّبْعَة المستخلفين، اسْتِيعَاب التَّيْسِير، فسهلت المسالك العسيرة، وَحسنت السِّيرَة، ليستبين سر الِاسْتِخْلَاف، ويتيسر سَبَب الاستيلاف، ويستجد ملابس سلطنة الأسلاف، وسيطهر سَيْفه مَسَاجِد الْمُسلمين بالأندلس، سالبا دنس الناقوس، ويلبس إِبْلِيس باستنقاذها، لِبَاس الْبُؤْس، ويستفتح الْقُدس، بتيسير القدوس، رسمه بسبته حرست ساحتها، واتسعت باليسر مساحتها، مسترق إحسانه، ومستعبد سُلْطَانه السعيد السفارة والرسالة، بِسَبَبِهِ، المتوسل بالوسائل الْحَسَنَة، لحسبه سمى الرَّسُول، سليل سعيد، المنتسب لسلمان، لَيْسَ بسلمان الْفَارِسِي، حَسْبَمَا استوعبه سفر الْأَنْسَاب تيسرت لسراة الْمُسلمين برسالته الْأَسْبَاب. سطره لسلطانكم السامى، وسفر السفين تيَسّر، وسور التسهيل والتيسر تفسر، والسمراء ونسبتها استوعبها الإيساق، ولسوابق المرسى استباق، ولمحاسن السلطنة الفارسية اتساق، وسكنها مستملككم تِسْعَة بِسَبَب نسيم استباد مسراه، واستتبع سراه ينتسب لسمت الْإسْكَنْدَريَّة، ويسخر بالسفن السفرية، والساعة استعجلت السّفر مستننما سُكُون، نَفسه وسهو حرسه، واستتبتت لاستصحاب الْحَسَنَة الفارسية لساحل البلس ميسورا من سكانه يُسمى، بِحُسَيْن وينسب لسالم استنجاحا بسمته الْحسن والسلامة، سلكت للتسهيل، سَوَاء السَّبِيل وسقت النَّاس سلاف المسرة، بكأس السلسبيل، ومسترق الْمجْلس الْفَارِسِي، مجْلِس السنا والقدس، مُسَافر بالجسم، مستوطن بِالنَّفسِ وَلسَانه بإحسانكم سيف مسلول، ولنفسه بتسنى سعادتكم سَوَّلَ، فبسعادتكم يستصبح، وببسملة محاسنكم يستفتح، وسلطانكم لَيْسَ ينسى وَسِيلَة متوسل، وسبل الْحَسَنَات من سما سيرتكم مسترسل، واستوعبها سينية، وبسين اسمكم سعيدة سنية، خلسة مجْلِس، ووسع مُفلس. وسمحكم مسئول، ومستعيذ سلطانكم أسعد رَسُول، نسل السَّلَام تقدس اسْمه، بتسني سعادتكم سرُور الْمُسلمين، ويسنى بسببكم سنة سيد الْمُرْسلين، ورسم تَاسِع مستفتح سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة.(2/247)
نحمد الله حمد معترف بِحقِّهِ، ونشكره على عوائد فَضله ورفقه، الَّذِي جعل لنا الأَرْض ذلولا، نمشي فِي مناكبها، وَنَأْكُل من رزقه، وَنُصَلِّي على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد خيرته من خَلفه، ونستوهب للمقام المولوي اليوسفي النصري، سَعْدا يتلألأ نور أفقه، ونصرا يُتْلَى، بغرب الْمَعْمُور وشرقه:
(وقابلة صف لي فديتك رحْلَة ... عنيت بهَا يَا شقة الْقلب من بعد)
(فَقلت خذيها من لِسَان بلاغة ... كَمَا نظم الْيَاقُوت والدر فِي عقد)
لما وَقع الْعَزْم الَّذِي وَقفه الله على مصَالح هَذِه الجزيرة، وَالْقَصْد المعرب عَن كريم القصيدة، وَفضل السريرة، على تفقد بلادها وأقطارها، وتمهيد أوطانها، وتيسير أوطارها، رأى فِي قَلّدهُ الله أمورها، ووكل إِلَى حمايته ثغورها، مَوْلَانَا وعصمة ديننَا ودنيانا، أَمِير الْمُسلمين، وظل الله على الْعَالمين أَبُو الْحجَّاج، ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين وكبير الْمُلُوك الْمُجَاهدين الصَّالِحين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل، ابْن مَوْلَانَا الْهمام الْأَعْلَى، الَّذِي تروى مفاخره وتتلى، أبي سعيد، حفظ الله مِنْهُ على الْأَيَّام بَحر الندا، وَبدر المنتدا، وسابق الْفَخر الْبعيد المدا، وشمله برواق عصمته، كلما رَاح واغتدا، أَن يُبَاشِرهَا بِنَفسِهِ، وَيجْعَل آفاقها مظلة شمسه، نظرا لِلْإِسْلَامِ وقياما بِحقِّهِ، وَعَملا على مَا يقربهُ مِمَّن اسْتَخْلَفَهُ على خَلفه، فِي وجهة حالفها الْغَمَام المستجم، ونصبة قضى لَهَا بالسعد من لَا ينجم، فَكَانَ البروز إِلَيْهَا يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شهر محرم فاتح عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، خرجنَا وصفحة الْأُفق بالغيم متنفسة، وأدمع السحب لوداعنا منسكبة، نتبع من الرَّايَة الْحَمْرَاء دَلِيلا هاديا، ونثق بوعد الله سُبْحَانَهُ فِي قَوْله، وَلَا يقطعون وَاديا. وسلكنا جادة المَاء المفروش، نَسْرَح اللحاظ بَين تِلْكَ العروش، ونبتذل مَا نحلته(2/248)
عروس الرّبيع من تِلْكَ الفروش، وَمن لَهُ بالحضرة حرسها الله شوق حثيث، وَهوى قديم وَحَدِيث، يكثر الِالْتِفَات، ويتذكر لما فَاتَ ويبوح بشجنه، وينشر مُشِيرا إِلَى مَسْكَنه:
(يَوْم أزمعت عَنْك طي البعاد ... وَعَدتنِي عَن البعاد العوادي)
(قَالَ صحبي وَقد أطلت التفاني ... أَي شَيْء تركت قلت فُؤَادِي)
وَرُبمَا غلبته لواعج أشواقه، وشبت زفراته عَن أطواقه، فَعبر عَن وجده، وخاطب الحضرة معربا عَن حسن عَهده:
(أَلا عَم صباحا أَيهَا الرّبع واسلم ... وَدم فِي جوَار الله غير مذمم)
(وَلَا عدمت أرجاؤك النُّور إِنَّهَا ... مطالع أقماري وآفاق أنجم)
(إِذا نسى النَّاس العهود وأغفلوا ... فعهدك فِي قلبِي وذكرك فِي فَم)
(وَإِنِّي وَإِن أزمعت عَنْك لطية ... وفوضت رحلي عَنْك دون تلوم)
(فقلبي لَك الْبَيْت الْعَتِيق مقَامه ... وشوقي إحرامي ودمعي زَمْزَم)
ثمَّ اسْتَقَلت بِنَا الحمول، وَكَانَ بوادي فرذش النُّزُول، منزل خصيب، وَمحل لَهُ من الْحسن نصيب، وَلما ابتسم ثغر الصَّباح، وبشرت بمقدمه نسمات الرِّيَاح، ألفينا عمل السراج إِلَى إلإسراج، وشرعنا فِي السّير الدائب، وصرفنا إِلَى وَادي أنس صروف الركائب، واجتزنا بوادي حمتها، وَقد متع النَّهَار، وتأرجت الأزهار، فشاهدنا بِهِ معالم الْأَعْلَام، وحيينا دَار حمدة بِالسَّلَامِ، وتذاكرنا عمَارَة نواديها، وتناشدنا قَوْلهَا فِي واديها:
(أَبَاحَ الشوق أسراري بوادي ... لَهُ فِي الْحسن آثَار بوادي)
(فَمن وَاد يطوف بِكُل روض ... وَمن روض يطوف بِكُل وَادي)
(وَمن بَين الظبي مهاة تضرسبت ... قلبِي وَقد ملكت فُؤَادِي)(2/249)
(لَهَا لحظ ترقده لأمر وَذَاكَ ... الْأَمر يَمْنعنِي رقادي)
واستقبلنا الْبَلدة حرسها الله فِي تبريز سلب الأعياد احتفالها، وغصبها حسنها وجمالها، نَادَى بِأَهْل الْمَدِينَة، مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة، فسمحت الحجال برباتها، والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها، والمنازل ببدورها، فَرَأَيْنَا تزاحم الْكَوَاكِب بالمناكب، وتدافع البدور، بالصدور، بَيْضَاء كأسراب الْحمام، متنقبات، تنقب الأزهار بالكمايم، حَتَّى إِذا قضى الْقَوْم من سلامهم على إمَامهمْ فرضا، اسْتَوْفَيْنَا أعيانهم، تمييزا وعرضا، خيمنا بِبَعْض رباها المطلة، وسرحنا الْعُيُون فِي تِلْكَ العمالة المغلة، والزروع المستغلة، فحياها الله من بَلْدَة أنيقة الساحة، رحبة المساحة. نهرها مضطرد، وطائرها غرد، تبْكي السَّحَاب فيضحك نورها، ويدندن النسيم فترقص حورها:
(بلد أعارته الْحَمَامَة طوقها ... وكساه ريش جنَاحه الطاؤوس)
(فَكَأَنَّمَا الْأَنْهَار فِيهِ مدامة ... وَكَأن ساحات الديار كؤوس)
معقلها بَادِي الجهامة، تلوح عَلَيْهِ سمة الشهامة، نفقت سوق النِّفَاق دهرا، وخطبتها الْمُلُوك، فَلم ترض إِلَّا النُّفُوس مهْرا، طالما تعرقت وتنكرت، وحجتها نعم الإيالة النصرية فأنكرت، ومسها طائف من الشَّيْطَان ثمَّ تذكرت، فَالْحَمْد الَّذِي هداها، بعد أَن ثَبت يداها، فجف من قنتها مَا نبع، وانقادت إِلَى الْحق، وَالْحق أَحَق أَن يتبع، وتنافس أَهلهَا فِي الْبر الْكَفِيل، والقرى الحقيل، فبتنا نثني على مكارمهم الوافية، ونواضلهم الكافية، وَلم نحفل بقول ابْن أبي الْعَافِيَة:
(إِذا مَا مَرَرْت بوادي الأشا ... فَقل رب من لدغته مُسلم)
(وَكَيف السَّلامَة فِي منزل ... عصبَة من بني الأرقم)
وَلما فاض نهر الصَّباح على البطاح، ونادى مُنَادِي الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، قمنا للرواحل لارتياد منزل، وأقمنا عَن اتِّبَاع آثارها بمعزل، نظرا للمدينة فِي(2/250)
مهمات الْأُمُور، وَكَانَ اللحاق بغور من بعض تِلْكَ الثغور، أتيناها والنفوس مستبشرة، والقباب لأَهْلهَا منتظرة، فحمدنا الله على كَمَال الْعَافِيَة، وَقُلْنَا فِي غَرَض تجنيس القافية:
(وَلما اجتلينا من نُجُوم قبابنا ... سنى كل خفاق الرواق بغور)
(زرينا على شهب السَّمَاء بشهبها ... مَتى شِئْت يَا زهر الثواقب غور)
أظلتنا بهَا لَيْلَة شَاتِيَة، وألحفتنا أنواء للْأَرْض مؤاتية، فَلَمَّا شَاب مفرق اللَّيْل، وشمرت الْآفَاق من بزتها العباسية فُصُول الذيل، بكرنا نغتنم أَيَّام التَّشْرِيق، وندوس بأرجلنا حبات الطَّرِيق، وجزنا فِي كنف الْيمن وَالْقَبُول، بحصن الببول حَسَنَة الدولة اليوسفية، وَإِحْدَى اللطائف الْخفية، تكفل للرفاق بمأمنها، وفضح سَرِيَّة الْعَدو فِي مكمنها، من أَبيض كالفازة ضمن الْفَوْز فِي تِلْكَ الْمَفَازَة، فحييناه بأيمن طير، وتمثلنا عِنْده بقول زُهَيْر:
(وسكنتها حَتَّى إِذا هبت الصِّبَا ... بنعمان لم تهتز فِي الأيك أغصبان)
(وَلم يَك فِيهَا مقلة تعرف الْكرَى ... فَلَو زارها طيف مضى وَهُوَ غَضْبَان)
وَكَانَ ملقى الحران منابت الزَّعْفَرَان بسطة حرسها الله، وَمَا يبسطه، مَحل خصيب، وبلدة لَهَا من اسْمهَا نصيب، بَحر الطَّعَام، وينبوع الْعُيُون المتعددة، بِتَعَدُّد أَيَّام الْعَام، ومعدن مَا زين للنَّاس حبه من الْحَرْث والأنعام، يَا لَهَا من عقيلة، صفحتها صقيلة، وخريدة محاسنها فريدة، وعشيقة نزعاتها رشيقة، لبست حلَّة الديباج الْمُوشى، مفضضة بلجين الضُّحَى، مذهبَة بنضار الْعشي، وسفرت عَن المنظر الْبَهِي، وتبسمت عَن الشنب الشهي، وتباهت بحصونها مباهاة الشَّجَرَة الشماء بغصونها، فَوَقع النفير، وتسابق إِلَى لقائنا الجم الْغَفِير، مثل الفرسان صفاء، وانتثر الرحل جنَاحا ملتفا، وَاخْتَلَطَ الْولدَان بالولائد، والتمائم بالرئد، فِي حفل سلب(2/251)
النها، وَجمع الْبَدْر والسها، والضراغم والمها، وَألف بَين القاني والفاقع، وسد بالمحاجر كؤوس البراقع، فَلَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد وَحسن منظره الَّذِي يشفى من الكمد، لَو نظر الشَّاعِر إِلَى نوره المتألق، لآثرها بقوله فِي صفة بِلَاد جلق:
(بِلَاد بهَا الْحَصْبَاء در وتربها ... عبير وأنفاس الرِّيَاح شُمُول)
(تسلسل مِنْهَا مَاؤُهَا وَهُوَ مُطلق ... وَصَحَّ نسيم الرَّوْض وَهُوَ عليل)
رمت إِلَى غَرَض الْفَخر بِالسَّهْمِ الْمُصِيب، وَأخذت من اقتسام الْفضل بأوفى نصيب، وكفاها بِمَسْجِد الْجنَّة دَلِيلا على الْبركَة، وبباب الْمسك عنوانا على الطّيب، يغمر من الْقرى موج كموج الْبَحْر، إِلَّا أَن الرِّيَاح لاعبتنا ملاعبة الصراع، وكدرت الْقرى بالقراع، ولقينا من الرّيح، مَا يلقاه قلب المتيم من التبريح. وَكلما شكت إِلَيْهَا الْمضَارب شكوى الجريح، تركتهَا بَين المائل والطريح.
وَلما توَسط الْوَاقِع، والتقمت أنجم الْعَرَب المواقع، صدقت الرّيح الكرة، وجادتنا الْغَمَام كل عين تره، حَتَّى جهلت الْأَوْقَات، واستراب الثِّقَات. فتستر الْفجْر بنقابه، وانحجر السرحان فِي غابه، وَكَانَ أَدَاء الْوَاجِب بِحَدّ خُرُوج الْحَاجِب. وارتحلنا وَقد أذن الله للسماء فأصحت، وللغيوم فسحت، وللريح فَلَانَتْ بعد مَا ألحت، وساعد التَّيْسِير، وَكَانَ على طَرِيق قنالش الْمسير، كبرى بناتها، وشبيهتها فِي جداولها وجناتها، مَا شِئْت من أدواح توشحت بِالنورِ وتنوجت، وغدران زرع هبت عَلَيْهَا الصِّبَا فتموجت، سفربها الشَّقِيق الأرجواني. عَن خدود الغواني، فأجلنا الْعُيُون فِي رياض، وتذكرنا قَول القَاضِي عِيَاض:
(انْظُر إِلَى الزَّرْع وخاماته يحْكى ... وَقد مَاس أَمَام الرِّيَاح)
(كتيبته خضرًا مهزومة شقائق ... النُّعْمَان فِيهَا جراح)
مثل أَهله فَسَلمُوا، وَمن عدم النُّزُول بهم تألموا، وأتينا فحص الْأَبْصَار(2/252)
فتجددت لَهُ ملابس المجادة، وتذكر عهود من حل بِهِ عِنْد الْفَتْح الأول من السَّادة، لما خَفَقت بِهِ راية سعد بن عبَادَة. وَلم تزل الركايب تغلى الفلاة فرى الْأَدِيم، وَأَهله السنابك صيرها السّير كالعرجون الْقَدِيم، حَتَّى ألحفتنا شجراته المضبر بشذاها العنبر، وراقتنا بِحسن ذَلِك المنظر، سوار مصفوفة، وأعلام خضر ملفوفة، ونخل يانعة البسوق، وعذارى كشفت حللها الْخضر عَن السُّوق، كَأَنَّهَا شمرت الأذيال لتعبر الْوَادي على عَادَة نسا الْبَوَادِي، ينساب بَينهَا الزلَال المروق، ويغني فَوْقهَا الْحمام المطوق، فتهيج الجوى، وتجدد عهود النَّوَى، صبحتنا بهَا أصوات تِلْكَ الغمارى، وأذكرتنا قَول أبي حصن الحجاري:
(وَمَا رَاعى إِلَّا ابْن وَرْقَاء هَاتِف ... على فنن بَين الجزيرة وَالنّهر)
(أدَار على الْيَاقُوت أجفان لُؤْلُؤ ... وصاغ على المرجان طوفا من التبر)
(حدير شبا المنقار داج كَأَنَّهُ ... شبا قلم من فضَّة مد فِي تبر)
(توسد من فَوق الْأَرَاك أريكة ... وَمَال على طي الْجنَاح مَعَ الصَّدْر)
(وَلما رأى دمعي مراقا أرابه ... بُكَائِي فاستولى على الْغُصْن النَّضر)
(وحث جناحيه وصفق طائرا ... فطار بقلبي حَيْثُ طَار وَلَا أَدْرِي)
ونزلنا بِظَاهِر حصن شيرون، وَقد ترعرع شباب الْيَوْم، وطالبنا عزيم الظهيرة بمنكسر فرض للنوم، حصن أَشمّ، ومناخ لَا يذم، نزلنَا الهضبة بإزائه، وغمرنا من بره، مَا عجزنا عَن جَزَائِهِ، وعثرنا بَين الْمضَارب، بِبَعْض العقارب، سود الروس، متوجة بأذنابها فِي شكل الطاووس فتلقينا ذَلِك بسعة الصَّدْر، ومكنا الْعَقْرَب من منَازِل الْبَدْر. ودخلنا بِمثل تِلْكَ الصُّورَة، نلتحف ظلال وَادي المنصورة، سمر الأندية، وسلطان الأودية، يالها من أرائك مهدلة السجوف، وجنات دانية القطوف، ينساب بَينهَا للعذب الزلَال، أَرقم سريع الانسلال،(2/253)
وصارم يغمد فِي جفون الظلال، يتلاعب بَين أَيْدِينَا شمالا ويمينا، فطورا تنْقَلب عَصَاهُ ثعبانا، وآونة تنعطف صولجانا، وَتارَة تستدير أفلاكا، وَرُبمَا نسجت مِنْهُ أَيدي الرِّيَاح شباكا، وَأم حسن فِيهِ ذَات لسن، تبْعَث فِيهِ بنغماتها لواعج الشؤون، وتقيم دين وَلَدهَا فِي الخلاعة المجون. وسرنا ودر الْحَصَى بِسَاط لأرجل رِكَابنَا، ودنانير أبي الطّيب تنشر فَوق أثوابنا، ترقب نُجُوم القلاع والحصون، من خلال سَحَاب الغصون، والنسوان إِلَى مُشَاهدَة التبريز قد خفت، وبشاطي الْوَادي قد صفت، قد أخذن السنايا، وسددن سِهَام المنايا، عَن حواجب كالحنايا، يشغلن الْفَتى عَن شئونه، ويسلبن الرَّوْض لين غصونه. هَذَا خلق الله، فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه.
وطالعنا برشانة حرسها الله، فحيتنا ببواكر الْورْد، ونضت عَنَّا برود الْبرد، وشملتنا بالهواء المعتدل، وأظلتنا برواقها المنسدل، بلد أَعْيَان وصدور، ومطلع نُجُوم وبدور، وقلعة سامية الْجلَال، مختمة بالكواكب، متوجة بالهلال، حللناها فِي التبريز الحفيل، والمشهد الْجَامِع بَين الذّرة والفيل، حشر أَهلهَا بَين دَان ونازح، وَمثل حاميتها من نايل ورامح، فَكَانَ [ذَاك الْمُجْتَمع عيدا وموسما سعيدا. وبتنا] فِي لَيْلَة للأنس جَامِعَة، ولداعي السرُور سامعة، حَتَّى إِذا الْفجْر تبلج، وَالصُّبْح من بَاب الْمشرق تولج، سرنا وتوفيق الله قَائِد، وَلنَا من عنايته، صلَة وعائد، تتلقى رِكَابنَا الأفواج، وتحيينا الهضاب والعجاج إِلَى قتورية، فناهيك من مرحلة قَصِيرَة كأيام الْوِصَال، قريبَة الْبكر من الآصال، كَانَ الْمبيت بِإِزَاءِ قلعتها السامية الِارْتفَاع، الشهيرة الِامْتِنَاع، وَقد برز أَهلهَا فِي العديد وَالْعدة، والاحتفال الَّذِي قدم بِهِ الْعَهْد على طول الْمدَّة، صُفُوفا بِتِلْكَ الْبقْعَة خيلا ورجلا، كشطرنج(2/254)
الرقعة، لم يتَخَلَّف ولد عَن وَالِد، وَركب قاضيها ابْن أبي خَالِد، وَقد شهرته النزعة الحجازية، وَلبس من حسن الحجازية، وأرخى من الْبيَاض طيلسانا، وصبغ لحيته بِالْحِنَّاءِ والكتم، ولاث عمَامَته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع المَاء والهواء يَقُودهُ قَود الْجمل المحظوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب، وَخيرته بَين خصلتي الذيب، وَقلت نظمت مقطوعتين، إِحْدَاهمَا مدح وَالْأُخْرَى قدح، فَإِن هَمت ديمتك، وكرمت شيمتك، فللذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة وَإِلَّا فالمثل الْأَدْنَى، فَقَالَ أَنْشدني لأرى على أَي الْأَمريْنِ أثب، وأفرق بَين مَا أجتنى وَمَا أجتنب فَقلت:
(قَالُوا وَقد عظمت مبرة خَالِد ... قاري الضيوف بطارف فِي وبتالد)
(مَاذَا تمت بِهِ فَجئْت بِحجَّة ... قطعت بِكُل مجادل ومجالد)
(أَن يفْتَرق نسب يؤلف بَيْننَا ... أدب أقمناه مقَام الْوَالِد)
وَأما الثَّانِيَة فيكف من البارق شعاعه، وحسبك من شَرّ سَمَاعه، ويسير التَّنْبِيه كَاف، للنبيه فَقَالَ لست إِلَى قراي بِذِي حَاجَة، وَإِذا عزمت فأصالحك على دجَاجَة، فَقلت ضريبة غَرِيبَة، ومؤتة قريبَة، عجل وَلَا تؤجل، وَإِن انصرم أمد النَّهَار فأسجل، فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشير مِنْهُم بقدومها يبتدر، يزفونها كالعرس فَوق الرُّءُوس، فَمن قَالَ أمهَا البجائية، وَقَائِل أَخُوهَا الْخصي الموجه إِلَى الحضرة الْعلية، وأدنوا مربطها من المضرب، عِنْد صَلَاة الْمغرب، وألحفوا فِي السُّؤَال، وتشططوا فِي طلب النوال، فَقلت يَا بني اللكيعة، وَلَو جئْتُمْ ببازي، بِمَاذَا كنت أجازي، فانصرفوا. وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتلاومون، حَتَّى إِذا سلت لذكاتها المدا، وَبلغ من عمرها المدا، قلت يَا قوم، ظفرتم بقرة، الْعين، وابشروا باقتراب اللقا، فقد ذبحت لكم غراب الْبَين، وَكَانَت الْبِلَاد الشرقية، قد أخلفتها الغيوث، وعدت عَلَيْهَا لِلْعَدو الليوث(2/255)
فحيتنا على السجط، وَشَكتْ إِلَى سَعَادَة مقدمنا معرة الْقَحْط، فظهرت مخيلة السعد، فَأذن الله فِي إنجاز الْوَعْد، وَقربت غَرِيم الْغَمَام فِي الْمقَام أعوان الرَّعْد، فاعترف وسمح، وانقاد لحكم القضا بعد مَا جمح. وَلم يلم بكيف وَلَا حَتَّى، وقضاها الدّين فِي دفع شَتَّى، هَذَا وَإِن كَانَ إِنَّمَا كَانَ غرم، وأمده كَاد أَن ينصرم، فبمنفعته يحول الله كبرى، وَفِيه مآرب أُخْرَى، فتنفس صدر الجو وَزفر، وقطب وَجهه بعد مَا سفر، وهما الْغَمَام وانسكب، وارتكب من إيراطنا مَا ارْتكب، فَلم تَجف لَهُ قَطْرَة، وَلَا خطرت بِبَالِهِ للصحو خطرة، فسبحنا ذَلِك الْعَارِض الهطال، وسهرنا اللَّيْل وَقد طَال، وَمَا رَاعنا وَالصُّبْح قد نم من خلف الْحجاب، وَقَضيته قد انْتَقَلت من النَّفْي إِلَى الْإِيجَاب، والغمام لَا يفتر انسكابه، إِلَّا السُّلْطَان مدَار قل ركابه فضربنا بالقباب وَجه الصَّعِيد واستقبلنا طية الْغَرَض الْبعيد نهيم فِي ذَلِك الْوَادي، ونكرع من أطواقنا فِي غُدْرَان العوادي، وَقد تهدلت القروع، وخضلت بالغيث تِلْكَ الزروع، كَأَنَّمَا أخلفتها الرّيح، فترامت، وسقتها كؤوس السحب حَتَّى سكرت ونامت، والمذانب أَمْثَال الصلال [قد تفرعت] وكأنما رعناها فانسابت أمامنا وأسرعت، ومخيلة الصحو لَا تتوسم، والجو نستضحكه بشأننا فَلَا يبتسم، ومررنا بوادي المنصورة الَّتِي ينْسب الْوَادي إِلَيْهَا وَعرضت مراكب تياره بَين يَديهَا، وأطلالها بالية، وبيوتها خاوية خَالِيَة، ومسجدها بَادِي الاستكانة، خاضع للبلى على سمو المكانة، فعبرنا واعتبرنا، وأبصرنا فاستبصرنا، وَقَول أبي الطّيب تذكرنا:
(أَيْن الَّذِي الهرمان من بُنْيَانه ... مَا قومه مَا يَوْمه مَا المصرع)
(فَتخلف الْآثَار عَن أَصْحَابهَا ... حينا ويدركا البلى فتتبع)
ثمَّ نَبَذْنَا ذَلِك الْوَادي بالعراء، واستقبلنا أَرضًا شَبيهَة بالصحراء، ملاعب(2/256)
للريح، ومنابت للسدد والشيح، سحبت علينا بهَا السحائب فضول الذيل، وطفف الْغَمَام فِي الْكَيْل، وغار النُّور، وفار التَّنور، وفاضت السَّمَاء، والتقى المَاء بالركائب تسبح سبح الأساطيل، والأرجل [تزهق زهوق] الأباطيل، وَالْمبَارك تعرى، والأدلة لَا تمتري، واللباس قد غير الطين من شكله، وَالْإِنْسَان قد رَجَعَ من المَاء والجماء إِلَى أَصله، وخيمنا من بيرة حرسها الله بالثغر الْأَقْصَى، وَمحل الرِّبَاط الَّذِي أجر ساكنه لَا يُحْصى، بَلْدَة عَددهَا متعقب، وساكنها خَائِف مترقب، مسرحة بعير، ومزرعة شعير، إِذا شكرت الوابل أنبتت حبها سبع سنابل، ونجادها بالهشم قد شابت، وزروعها قد دَعَا بهَا الْفضل فَمَا ارتابت، وندا وآنواحقه يَوْم حَصَاده أجابت، أَرحْنَا بهَا يَوْمًا، صَحا فِيهِ الجو من سكرته، وأفاق من خمرته، فَقيل للنفوس شَأْنك وذماك، وَيَا أَرض ابلعي مائك، وتجلت عقيلة الشَّمْس معتذرة عَن مغيبها، مغتنمة غَفلَة رقيبها.
ورحلنا من الْغَد، وَشَمل الأنواء غير مُجْتَمع، والجو قد أنصت كَأَنَّهُ يستمع، يعد أَن تمحض الرَّأْي عَن زبدته، واستدعى من الأذلاء من وثق بنجدته، وَكثر المستشار، وَوَقع على طَرِيق ينشر الِاخْتِيَار، وانتدب من الْفَرِيق إِلَى دلَالَة تِلْكَ الطَّرِيق، رجل ذُو احتيال، يعرف بِابْن هِلَال، اسْتقْبل بِنَا شعبًا مقفلا، ومسلكا مغفلا، وسلما فِي الدرج سامي المنعرج، تزلق الذَّر فِي حَافَّاته، وتراع الْقُلُوب لآفاته، ويتمثل الصِّرَاط عِنْد صِفَاته، أَو عَار لَا يتَخَلَّص مِنْهَا الأوعال، وَلَا تغني السنابك فِيهَا وَلَا النِّعَال، قَطعنَا بَيَاض الْيَوْم فِي تُسنم جبالها، والتخبط فِي جبالها، نهوى من شَاهِق إِلَى وهد، ونخوض كل مشقة وَجهد، كأننا فِي حلم مَحْمُوم، أَو أفكار مغموم، أَو برسام بوم. وَطَالَ مرام العروج إِلَى جو السَّمَاء ذَات البروج، قلت يَا قوم انْظُرُوا لأنفسكم فِيمَا أَصْبَحْتُم فِيهِ، وَاعْلَمُوا أَن دليلكم ابْن هِلَال عزم(2/257)
على اللحاق بِأَبِيهِ. ثمَّ أَخذنَا فِي الانحدار بأسرع الابتدار، نهوى إِلَى المرقب السَّامِي الذري، ونهبط من الثريا إِلَى الثرى، ونتمثل فِي ذَلِك المسلك الواعر بقول الشَّاعِر:
(بطرِيق بيرة أجبل وعقاب ... لَا يرتجى فِيهَا النجَاة عِقَاب)
(فَكَأَنَّمَا الْمَاشِي عَلَيْهَا مذنب ... وكأنما تِلْكَ الْعقَاب عِقَاب)
وَلما أصبح استقبلنا الفحص الأفيح، بساطه مَمْدُود الصرح، يعجز عَن وَصفه لِسَان الشَّرْح، طاردنا قنيصه على طول صحبته للأمان من حوادث الزَّمَان، يأثرنا كل ذلق المسامع ناء عَن إِدْرَاك المطامع، كثير النفار، مصطبر على سُكْنى القفار، يختال فِي الفروة اللدنة الْحَوَاشِي، وينسب إِلَى الطَّائِر والماشي، تغلبناه على نَفسه، وسلطنا عَلَيْهِ آفَة من جنسه، وحللنا مقادة كل طَوِيل الباع، رحب الذِّرَاع، بَادِي التَّحَوُّل، طَالب بِالدُّخُولِ، كَأَنَّهُ لفرط النحول، عاشق، أَو نون أجادها ماشق، أوهلال سرار، أَو حنية أسرار، رميناه مِنْهُ بأجله على عجله، وقطعنا بِهِ عَن أمله، فَأصْبح رهين هوان، مطوفا بأرجوان، ووصلنا الخطا بَين جاثم الأرانب وأفاحيص القطا، فِي سهل يتلَقَّى السائر بترحيب [واهن إِلَى اسكوذر] حللناها، وَالْيَوْم غض الشبيبة، والجو يختال من مَذْهَب سناه، فِي الحلى العجيبة. واستقبلنا ألمرية عصمها الله فِي يَوْم سطعت أشعة سعده، وتكفل للدهر بإنجاز وعده، مثل أَهلهَا بِجَمْعِهِمْ، فِي صَعِيد سعيد، ويدعوهم عيد عَهدهم بِهِ بعيد، فَلم يبْق حجاب إِلَّا رفع، وَلَا عذر إِلَّا دفع، وَلَا فَرد إِلَّا شفع، فِي يَوْم نَادَى بالجمهور، إِلَى الْموقف الْمَشْهُور، وَأذن الله(2/258)
لشهره بالظهور، على مَا تقدمه من الشُّهُور، رمت الْبَلدة فِيهِ بأفلاذها، وقذفت بثباتها وأفذاذها، وبرز أَهلهَا، حَتَّى غص بهم سهلها، وَقد أَخذهم التَّرْتِيب، ونظمهم المصف العجيب، تقدمها مراكب الْأَشْيَاخ الجلة، وَالْفُقَهَاء الَّذين هم سراج الْملَّة، وخفقت أَصْنَاف البنود المطلة، واتسقت الجموع، الَّذِي لَا توتى بحول الله من الْقلَّة، وتعددت بمناكب البدور أشكال الْأَهِلّة، فِي جموع تسد مهاب الصِّبَا، وتكثر رَحل الدبا، صُفُوفا كَصُفُوف الشطرنج، على أَعْنَاقهم قسى الفرنج، وَقد نشرُوا البنود الشهيرة الألوان، واستشعروا فِي يَوْم السّلم شعار الْحَرْب الْعوَان، يتسابقون من الاحتفال إِلَى غَايَة، وَيرجع كل مِنْهُم إِلَى شعار وَإِلَى راية، وَقد أَحْسنُوا بالمشيخة الاقتدا، وَرفعُوا بِالسَّلَامِ الندا، وامتاز خدام الأساطيل المنصورة، فِي أحسن الصُّورَة، بَين أَيْديهم الطبول والأبواق، تروح أصواتها وتهول، وتألق من تجار الرّوم من استخلص الْعدْل هَوَاهُ، وتساوى سره ونجواه، فِي طروق من الْبر ابتدعوها، وأبواب من الاحتفاء شرعوها، فَرفعُوا فَوق الركاب المولوي، على عمد الساج مظلة من الديباج، كَانَت على قمر العلياء غمامة، وعَلى خصر الْمجد كمامة، فراقتنا بِحسن الْمعَانِي، وأذكرنا قَول أبي الْقَاسِم بن هاني:
(وعَلى أَمِير الْمُسلمين غمامة ... نشأت تظلل تاجه تظليلا)
(نهضت بعبء الدّرّ ضوعف ... نسجه وَجَرت عَلَيْهِ عسجدا محلولا)
إِلَى غير ذَلِك من أروقة عقدوها، وكرامة أعدوها، وطلعت فِي سَمَاء الْبَحْر أهلة الشواني كَأَنَّهَا حواجب الغواني، دالكة الْأَدِيم، متسربلة بِاللَّيْلِ البهيم، تتزاحم وفودها على الشط، كَمَا تتداخل النونات فِي الْخط، فياله من منظر بديع الْجمال، أَخذ بعنان الْكَمَال، بكر الزَّمَان، وَآيَة من آيَات الرَّحْمَن، حَتَّى إِذا هالت الْقبَّة استدارت، وبالغمر السعد من وَجه السُّلْطَان أيده الله أنارت، مثلُوا فَسَلمُوا، وطافوا بِرُكْن مقَامه واستلموا، وأجهروا بِالتَّلْبِيَةِ، ونظروا من(2/259)
وَجهه الْجَمِيل إِلَى سعد الأخبية، وتزاحم من النِّسَاء الأفواج، كَمَا تتدافع الأمواج، فَرفع الْجنَاح، وخفض الْجنَاح، ومهد لَهُنَّ سَبِيل الْعَطف، وشملهن كنف الإشفاق والعطف.
وَلما أَرحْنَا وَاسْتَرَحْنَا، والعيون فِي تِلْكَ الْبَلدة سرحنا، رَأينَا قيد الْبَصَر، والمحاسن الَّتِي ترمي [اللِّسَان] بالحصر، حَضْرَة يسْتَقلّ بهَا الْملك، ومربع يلتقي بِهِ القطار والفلك، رفعت راية الشّرف الْقَدِيم، وحازت على نظراتها مزية التَّقْدِيم، مَا شِئْت من ساحة طيبَة الْأَدِيم رحيبة كصدر الْحَلِيم، متناسبة الْوَضع بِتَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم، تبرجت تبرج العقيلة، وَنظرت وَجههَا من الْبَحْر فِي الْمرْآة الصقيلة. وَركب السُّلْطَان، أيده الله ثَالِث يَوْم وُرُوده، إِلَى مُشَاهدَة قلعتها الشماء، الْمُتَعَلّقَة بعنان السَّمَاء. فقدح سكانها زناد البارق المتألق، وتلعب صبيتها على جنَاح الطَّائِر المحلق، وعَلى سمو مَكَانهَا، وجلالة شَأْنهَا، فدولابها شجي الْمِضْمَار ومياهها فِي انهمار، وخزائنها تستغرق [بطوال الْأَعْمَار] ، وعددها كفيلة بحماية الذمار، فعوذناها من كل خطب فادح، وحيينا بهَا بهو خيران، وَقصر ابْن صمادح، ونظرنا إِلَى تِلْكَ الْآثَار الْكِبَار، والمشاهد الَّتِي تغني عَن الْأَخْبَار، أشرقت الْعَدو بريقه، وسطت بفريقه، وَأخذت عَلَيْهِ فِيهَا يَد الله ثنايا طَرِيقه، وَخص الْمولى أيده الله، فأيدها بتشريفه وترفيعه، وَتَنَاول بِيَدِهِ الْكَرِيمَة من صَنِيعه، فِي مجْلِس احتفى واحتفل. وَفِي حلل الْكَمَال رفل، وَأخذت مجالسها الْخَاصَّة والكبرا، وأنشدت الشعرا، فَكَانَ مقَاما جَلِيلًا، وعَلى الهمم الْعَرَبيَّة، والشيم الملوكية دَلِيلا. وَكَانَ الرحيل عَن تِلْكَ الْمَدِينَة، لَا عَن ملال، وَلَا ذمّ خلال، وَلَكِن مقَام بلغ أمد، ورحلة انْتَهَت إِلَى أمد.(2/260)
(أَقَمْنَا بهَا يَوْمًا وَيَوْما وثالثا ... وَيَوْم لَهُ يَوْم الترحل خَامِس)
فيالها من خَمْسَة علقها الدَّهْر تَمِيمَة على نَحره، وأثبتها معوذة فِي قرَان فخره، كَانَت لياليها معطرة النواسم، وأيامها كأيام المواسم. وثنينا الأعنة إِلَى الإياب، وصرفنا إِلَى أوطاننا صُدُور الركاب، فكم من قلب لرحيلنا وَجب، لما اسْتَقل وَوَجَب، ودمع لوداعنا عظم انسكابه لما رمت للبين ركابه، وصبر أصبح من قبيل الْمحَال، عِنْد ذمّ الرّحال، وإلف أنْشد بِلِسَان النُّطْق وَالْحَال:
(وَمضى وَخلف فِي فُؤَادِي ... لوعة تركته مَوْقُوفا على أوجاعه)
(لم استتم سَلَامه لقدومه ... حَتَّى ابتدأت عناقه لوداعه)
وانصرفنا، وعروشها تتَعَلَّق بأذيالنا، ومخاضة واديها تعترض صُدُور رجالنا، ورياحها تتدافع عَن الْمسير، ومعاملها تقنع من إلماحنا وَلَو باليسير. واستقبلنا وَادي بجانة، وَمَا أَدْرَاك مَا هُوَ، النَّهر السيال، والغصن المياد الميال، والإفياء والظلال، الْمسك مافت فِي جنباته، والسندس مَا حاكته يَد جناته، نعمه وَاسِعَة، ومساجده جَامِعَة، أزرت بالغوطتين زياتينه وأعنابه، وسخرت بشعب بوان شعابه، بِحَيْثُ لَا تبدو للشمس أَيَّاهُ، وَلَا تتأتى للحرباء حَيَّاهُ، وَالرِّيح تلوى أعطاف غصون البان، على أردان الكثبان، وتجاذب عَن أنس الخمائل فضول الغلائل، إِلَى برشانة، وَهِي الْكَوْكَب الْأَعْلَى، والأشهب الْمحلي، والصباح إِذا تجلى، والعروس على المنصة تحلى، وَبهَا حلت الغيوم سموطها، ومدت على السَّحَاب خيوطها، وعيون المزن باكية، والمنازل من توقع فراقنا شاكية.
[واستقبلنا الْوَادي نجعله دَلِيل تِلْكَ الطَّرِيق، ونتبعه فِي السعَة والمضيق. فكم مخاضة مِنْهُ عبرنا وعَلى مشقتها صَبرنَا. حَتَّى قطرت الأذيال والأردان،(2/261)
وَشَكتْ أَذَى المَاء الْأَبدَان، وتوفرت دواعي الضجر، لملازمة المَاء وَالْحجر، ونسينا بمعاناة ألم البعاد، وَذكرنَا بترديده وإعادته مثلهم فِي الحَدِيث الْمعَاد. اللَّهُمَّ غفرا فَضله مديد، ومنظره فِي الْحسن فريد، وَقد راق شَأْنه، وتصاف على الشط سكانه، فَرَأَيْنَا الْحور تَحت سماط الْحور، والنور فَوق بِسَاط النُّور. وَلما كَاد عمر الْيَوْم ينتصف، وَقد بلونا من بعد الْمَشَقَّة مَا لَا تصف، وتخلصنا من ذَاك الكمد، شارقنا دَار مية بالعلياء فَالسَّنَد] .
واستقبلنا عبلة ولورسانة، وأنخنا الركاب بِظَاهِر فنيانة بقْعَة حظها من النعم موفور، وبلدة طيبَة وَرب غَفُور، حللناها ومنافسي العجماء يعرب، وَالشَّمْس يراودها الْمغرب، وَقد عظم الهياط والمياط، وسطا الكلال بالنشاط، وبتنا، والشيح وسائد مضاجعنا، وشكوى التَّعَب حلم هاجعنا، واستقبلنا النهج الأمثل، والسهل الَّذِي يضْرب بِهِ الْمثل، بِسَاط مَمْدُود، وَمن الْبحار الأرضية مَعْدُود. وَلم يكن إِلَّا كخطفة بارق، أَو خلسة سَارِق، حَتَّى تقلص الظل وطوى منشوره طي السّجل. واستقبلنا مَدِينَة وَادي آش حرسها الله، وَقد راجعت الِالْتِفَات، واستدركت مَا فَاتَ، فتجلت المخدرات، وقذفت من اشْتَمَلت عَلَيْهِ الجذرات، وتنافس أَهلهَا فِي الْعدة والعديد، واتخاذ شكك الْحَدِيد، فَضَاقَ رحب المجال، واختلطت النِّسَاء بِالرِّجَالِ، والتف أَرْبَاب الحجا برباب الحجال، فَلم نفرق بَين السِّلَاح والعيون الملاح، وَلَا بَين حمر البنود من حمر الخدود. وبتنا بإزائها، وَنعم الله كافلة، ونفوسنا فِي حلل السرُور رافلة، حَتَّى إِذا ظلّ اللَّيْل تقلص، وحمام الصُّبْح من مخالب غرابه قد تخلص، سرنا وعناية الله ضافية، ونعمه وافية. فنزلنا بوادي فرذش مَنَازلنَا الْمُعْتَادَة، وَقُلْنَا رَجَعَ الحَدِيث إِلَى قَتَادَة،(2/262)
وَبهَا تلاحقت وُفُود التهاني، وسفرت وُجُوه الْأَمَانِي، فنزلنا مِنْهُ بالمروج فتفتحت بهَا أزهار القباب الْبيض فِي بساطه العريض، وخطرت ببالي مَقْطُوعَة فِي مُخَاطبَة الْمولى، انجح الله عمله، وَيسر من فَضله أمله، أَثْبَتَت على حكم الاستعجال، وأوجفت على بيوتها خيل الارتجال:
(إِذا سرت سَار النُّور حَيْثُ تعوج ... كَأَنَّك بدر والبلاد بروج)
(لَك الله من بدر على أفق العلى ... يلوح وبحر بالنوال يموج)
(تفقدت أَحْوَال الثغور بنية ... لَهَا نَحْو أَسبَاب السَّمَاء عروج)
(وسكنتها بِالْقربِ مِنْك وَلم ... تزل تهيم هوى من قبله وتهيج)
(مَرَرْت على وعد من الْغَيْث بَينهَا ... فمنظرها بعد العبوس بهيج)
(فكم قلعة قد كلل النُّور تاجها ... ورف عَلَيْهَا للثبات نَسِيج)
(وَلَا نجد إِلَّا رَوْضَة وحديقة ... وَلَا غور إِلَّا جدول وخليج)
(أيوسف دم للدّين تَحْمِي ذماره ... إِذا كَانَ للخطب الأبي ولوج)
(بفتية صدق إِن دجا ليل حَادث ... فهم سرج آفاقهن سروج)
(بقيت قرير الْعين مَا ذَر شارق ... وَمَا طَاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيق حجيج)
وبتنا نتعلق بأنوار الحضرة العاطرة، ونستظل بسمايها الماطرة، ونعلق الاستبشار، وَنحن إِلَى الْأَهْل حنين العشار.
(وَأقرب مَا يكون الشوق يَوْمًا ... إِذا دنت الديار من الديار)
فَلَمَّا تَبَسم زنجي اللَّيْل عَن ثغر الْفجْر، وشب وليد الصَّباح عَن عقد الْحجر، ولحظتنا ذكا بطرفها الرمد، وَقد ترك اللَّيْل فِيهِ بَقِيَّة الأثمد، استقبلنا الحضرة، حرسها الله، فأنست النُّفُوس بعد اغترابها، واكتحلت الْعُيُون بإثمد ترابها، واجتلينا من فحصها الْكَرِيم، الساحة الرحباء المساحة، مَا يبهر الْعين جمالا، ويقيد الطّرف يَمِينا وَشمَالًا، أم الْبِلَاد وَالْقَوَاعِد، وملجأ الْأَقَارِب والأباعد،(2/263)
قعدت مقْعد الْوَقار، وَنظرت إِلَى الأَرْض بِعَين الاحتقار، ومدت إِلَيْهَا الْبِلَاد أكف الافتقار، نصبت من الْجَبَل منصة، قعدت عَلَيْهَا وَقَامَت، وصادف الْفَرِيق فِي ذَلِك الْبسَاط بَين يَديهَا، فَمن ذَا يدانيها أَو يداريها، أَو يناهضها فِي الفخار ويجاريها، وَهِي غَابَ الْأسود، والأفق الَّذِي نشأت فِيهِ سَحَاب الْجُود، وطلعت بِهِ من الْأُمَرَاء السُّعُود أنجم السُّعُود، سيدة الْأَمْصَار وَدَار الْمُلُوك من أَبنَاء الْأَنْصَار، ومصرع الطواغيت وَالْكفَّار، والغمد الَّذِي استودع بسيوف الله دامية الشفار، وَللَّه در بعض شُيُوخنَا، فقد عبر عَنْهَا ببيانه، وَاعْتذر عَن بروها فِي أَوَانه حَيْثُ يَقُول:
(رعى الله من غرناطة متبوأ ... يسر كئيبا أَو يجير طريدا)
(تبرم مِنْهَا صَاحِبي عِنْد مَا رأى ... مسالكها بالبرد عدن جليدا)
(هِيَ الثغر صان الله من أهلت بِهِ ... وَمَا خير ثغر لَا يكون برودا)
وصلناها والجو مصقول كالفرند، وَالسَّمَاء كَأَنَّهَا لصفائها مرْآة الْهِنْد، فِي بروز أخرج الحلى من الأحقاق، وَعقد أزرار الْحلَل على الْأَعْنَاق، وأطلع أقمار الْحسن على الْآفَاق، وَأثبت فَخر الحضرة بِالْإِجْمَاع والإصفاق، على دمشق الشَّام وبغداد الْعرَاق، حَتَّى إِذا بلغنَا قُصُور الْملك، وانتهينا إِلَى وَاسِطَة السلك، وقفنا مهنئين ومسلمين، وَقُلْنَا ادخلوها بِسَلام آمِنين، وَأَلْقَتْ عصاها، واستقرت بهَا النَّوَى، كَمَا قر عينا بالإياب الْمُسَافِر.
وَمن ذَلِك كَلَام فِي السرحلة
لما خف عيد مقَامه صُحْبَة وَفد طَاعَته، ومقدم سنة أمره الْعَزِيز وجماعته، باذلا فِي البدار جهد استطاعته، طائرا بجناح الْحبّ الأول أَمر الْإِمْكَان وساعته، فَرَأى السرير قد اسْتَقل بِهِ عاصبه، وَالْملك قد تقررت مناصبه، فَأدى الْغَرَض،(2/264)
وقرض فَأحْسن الْقَرْض، وَعرض كتائب الْمَدْح، فاستوعب الْغَرَض، وملأ بهَا الأَرْض، وَصدر قَافِلًا، فِي ثِيَاب الْعِزّ رافلا، وَاقْتضى من إِذْنه فِي زِيَارَة الْبِلَاد المراكشية مَا يُبْدِي لمن نَاب عَنهُ خلال كَمَاله، ويهني الْعباد بِتمَام الْأَمر، ونجح مآله، ويلتمس بركَة الضريح الَّذِي بِحَسب الرَّاغِب بآماله، وَظهر لَهُ أَن يدون رحْلَة، وجهته المنسوبة إِلَى عناية أمره، ويفتق كمامة فخرها عَن زهره، مستعينا بِاللَّه فِي سره وجهره.
فَقَالَ خرجنَا من أم الْقرى، وَمجمع الورى، وكعبة السّير والسرى، مَدِينَة فاس، دَار الْملك الْأَصِيل، والعز المشرف الثليل، حَيْثُ الْقُصُور الْبيض، وَالْملك الطَّوِيل العريض، والأبواب المحروسة، والبساتين المغروسة، والمياه المتدفقة، والجنود المرتزقة، والمباني الْعَظِيمَة، والرباع المترفعة عَن الْقيمَة وَالدّين وَالدُّنْيَا، من غير شَرط وَلَا ثنيا، حرسها الله وكلأها، ووفر وَقد فعل ملأها، نلتفت إِلَى معاهدة السَّادة، وعلق الودادة، ومراتب أولى الْجُود والإفادة:
(همو اسكنونا فِي ظلال بُيُوتهم ... ظلال بيُوت أدفأت وأكنت)
(أَبَوا أَن يملونا وَلَو أَن أمنا ... تلاقى الَّذِي لَا قوه منا لملت)
وشعينا مِمَّن كرم ذمامه، وَعرف بِرَفْع الْوَفَاء إلمامه، جملَة من الصُّدُور، والشموس والبدور، تذكرت عِنْد وداعهم المهيج الشكاة، والمدامع المشتبكات، قَول شَيخنَا أبي البركات:
(يَا من إِذا رمت توديعه ... ودعت قلبِي قبل ذَاك الْوَدَاع)
(وَبت ليلى ساهرا حائرا ... أخادع النَّفس بِبَعْض الخداع)
(يَا محنة النَّفس بمألوفها ... من أَجله قد جَاءَ هَذَا الصداع)(2/265)
وَكَانَ الْمبيت بدشار البوير من أحوازها، دشار نشعت الطَّرِيق بلالة أَهله، وأعدم الله الْمُرُوءَة من فتاه وكهله، وَمن الْغَد قَطعنَا للرحلة الآهلة، وَالطَّرِيق الطاعمة الناهلة، حَيْثُ السهل الْمَمْدُود، وَالْمَاء المورود، والجسور المحنية، والدشر السّنيَّة، والْآثَار المدينية إِلَى مَدِينَة مكناسة، وَمِنْهَا بعد كثير، حَتَّى إِذا الشَّمْس هَمت بتسلق الجدرات، وقادت أَهلهَا من وَرَاء الحجرات، وطفق عسجدها يذهب لجين الضحا، وَمرْسَاهَا الموشية تجلو خد الأَرْض بَعْدَمَا التحا، قمنا نستشعر التجلد للبين، وَهُوَ يفصح، ويجمل حكم الوجد، والدمع يشْرَح، فودعنا الخليط المصاحب، وسلكنا الطَّرِيق غير اللاحب. وَقد طبق ضباب لَهُ على الأَرْض، أكباب حجب الْجِهَات، ولابس بَين الْأُمَّهَات، وضللنا لَوْلَا أَن هدَانَا، وسرنا، والحفنا السَّحَاب وردانا، والنبت قد أطلع ولدانا، ونواحل الطلول قد عَادَتْ بدانا، ثمَّ إِن مرْآة الْأُفق جلت الغزالة صداها، وَأَتَتْ كل نفس هداها، فحمدت السراة مغداها. واقتحمنا الرمل الذى أقدح الله مرعاه، وَحشر غليهم فَحَضَرت مدعاه، مَا بَين خيام، ورعاة غير ليام، وبيوت شعر ومعاطن، وبقر وغنم، تملت بهَا الأَرْض، وبقر ضَاقَ بهَا الطول وَالْعرض، وعجائز يئسن من المحيص، مهدية قرب الْمَحِيض، وَقد اضْطَرَبَتْ فِي الفحص الأفيح محلّة السَّاعِي، ناجحة مِنْهُ المساعي، والأذواد تعد، والنطايع تمد، والعاملون عَلَيْهَا حجتهم لَا ترد، وَلم تكن الشَّمْس تقتعد سَنَام خطّ الزَّوَال، وتسدل من رُؤُوس القوائم ذوائب الظلال، حَتَّى نزلنَا بِعَين الشعرا، وانتبذنا عَن حصنه إِلَى العرا، حصن مثلوم مهدوم، مَوْجُود الْأنس بِهِ مَعْدُوم، إِلَّا أَنه كثير الْوُفُود، ومناخ مَقْصُود، ومعدن الْحَدِيد، وَبَاب الوطن العريض المديد، خيمنا بِظَاهِرِهِ خيفة برغوته، وَلم تخف من سباعه الَّتِي تزأر حولنا وليوثه، فَكَانَت للوقاية النادرة، وَأمنت والمن لله، البادرة(2/266)
وبلونا من وَإِلَيْهِ مبرة، وَمَا فَقدنَا من اللطف مِثْقَال ذرة: وَعند الصَّباح شرعنا فِي الارتحال، وَعين الشَّمْس بَحر الضباب، مفتقرة إِلَى الاكتمال، فسلكنا خندقها خَنْدَق هَارُون وفحص خواز ماز بن برَاز ومظان احْتِرَاز، إِلَى دشار مكول، وَهُوَ إِلَى الفنا موكول، وبرحل الخراب من الْأَعْرَاب موكول. وَلما رَأينَا جنابه غير مأنوس، وَقد امتاز بلبوس البوس، جزناه إِلَى ماغوس، دشار الزاوية، ومركز الحظوظ المتساوية، ومناخ الرِّفْق السارية، وحاضرة تامسنا، حَيْثُ مجْلِس قاضيها، وتشاجر ساخطها وراضيها، وحمام متوضيها، دشار كَبِير، يَأْكُل من هوى وَيشْرب من بير، فقد النضارة، وَعدم مرافق الحضارة، إِلَّا أَنه على الاختزان أَمِين، ولحفظ الْحُبُوب ضمين، مَا لم تعث شمال للْفَسَاد وَيَمِين، قد اتخذ بِهِ مَسْجِد، شان النَّقْص من مناره، لقُصُور درهمه ودنيره، فمنظره شنيع، وحماه غير منيع، بتنا بِهِ فِي كنف شَاهده الْعدْل، فَصم عَن العذل، وترفع عَن خلق الْبَدَل، وأنشدته من الْغَد:
(مَاذَا لَقينَا بماغوس من اللَّفْظ ... لَيْلًا من خرس الْأَجْرَاس وَالشّرط)
(وَمن رداة مَاء لَا يسوغ لنا ... شراب جرعته إِلَّا على الشطط)
(وَمن لُغَات حوالينا مبربرة ... كأننا بِبِلَاد الزنج والنبط)
(جرد إِلَّا شجرات نستظل بهَا ... وَلَا أنس يربح النَّفس من قنط)
(منارها قعد الْبَانِي لنصبته ... فَلَا تُشِير إِلَيْهِ كف مغتبط)
(كَأَنَّهُ قيشة جَاءُوا لفلقها ... بخاتن قطّ مِنْهَا النّصْف عَن غلط)
(لَكِن فَاضل كتاب الشُّرُوط بهَا ... بحي أبر فَتى للفضل مشترط)
(أَحْيَا بهَا الْأنس يحيى بعد وحشتها ... وناب عَن حلَّة من ذَلِك النمط)
ورحلنا من الْغَد عَن شكر لقراه، وَصرف الركب إِلَى محلّة سُفْيَان سراه،(2/267)
فسرنا نَؤُم حلَّة سُفْيَان وملاعب الرعيان بَين خيام قد استدارت كالرذائل، واشتملت على الولائد والعقائل، ودثر ركبت الهضاب بأخصاصها، ومالت الوهاد بنهمها وخلاصها، يسمح أَهلهَا بِاللَّبنِ الحامض بعد مَا نزع جبنه وزبده، وترجح للراغب فِيهِ زهده، وَوجدنَا الطَّاعُون فِي بُيُوتهم، قد نزل واحتجز مِنْهُم الْكثير إِلَى الْقُبُور وَاعْتَزل، وبقر وبزل، واحتجن واختزل، فَلَا تبصر إِلَّا مَيتا يخرج، وصراخا يرفع، وعويلا بِحَيْثُ لَا ينفع، فعفنا الهجوم، وألفنا الوجوم، وتراوغنا عَن الْعمرَان، وَسَأَلنَا الله السَّلامَة من معرة ذَلِك الْقرَان، وركضنا نبغي اللحاق بالفرج، حَيْثُ مخيم شيخ الْقَبِيلَة، ونروم الْمبيت بالمنزلة غير الوبيلة وَقلت:
(ترى لهَذَا السّير من مُنْتَهى ... بِنَاء أَعْضَاء من بِهِ قدوها)
(قَالُوا نُرِيد البرح قلت ارْجعُوا ... عَن سهوكم قد جرت براح السها)
فَزَالَتْ الشَّمْس ومالت ثمَّ سَالَتْ، وانهارت فِي حجر الْمغرب وانهالت، وَبعد لأي مَا بلغنَا، وَمن الكد فَرغْنَا، ومنحة الرَّاحَة تسوغنا. ونزلنا بِإِزَاءِ خيام استدارت فِي سَنَام، قد اشتبكت حبالها، وتراصت جبالها، مَدَائِن دورها شعر، ووقودها بعر، وسورها سدر، وبقلها لَا تَخْلُو مِنْهُ قدر، قد جَاوَزت بركا ريانة، ومنازل بالأمم ملآنة، ومروجا مرقومة الطرر وبطاحا معضوضة الكور، وبادر الشَّيْخ فَرَحَّبَ، وتبسط وتسحب، رجل قد اكتمل، وعَلى الوخط اشْتَمَل، تدل مِنْهُ المنابشة على نبل تَحت جمامه، وتنشق مِنْهُ كمامه الفهامة عَن فهامة، وَلم يقصر عَن طَعَام نظيف، واحتفال مضيف. وَركب لوداعنا فِي مركب لجب، غير محجز وَلَا محتجب، وَسَأَلَ عَن الطية، ومناخ المطية، قُلْنَا الْمنزل الْأَثِير، من حلَّة أبي كثير، فَهُوَ محركات الرحلة، وأوضح مَذَاهِب تِلْكَ النحلة،(2/268)
فَوكل بلحظنا عينه، وَقسم المرحلة بَيْننَا وَبَينه، وأنزلنا مرحلة مهْدي بن مُوسَى، وَقد امتدت إِلَيْهَا أنامل البوسي، فانتبذنا عَن جوارها، وأصحرنا عَن قورة دوارها، وَلم يجد صاحبنا فِيهَا مرغبا لجوده الَّذِي بذله، وَلَا قبولا لقراه الَّذِي عجله، واجتنبناه اجتنابا أخجله، وبتنا فِي وقاية ضفى جناحها، إِلَى، إِلَى أَن اشتعل فِي نجمه اللَّيْل صباحها، فركضنا تَحت رواق ضباب سَاتِر، ورذاذة متناثر، لم تزل الشَّمْس ترشقه، والرياح تستكشفه، حَتَّى تقشع، وَبَان الْأَهْل من البلقع، فتعرفنا فِي بعض طريقنا، أَن أَبَا مثوانا، وَحَام قرانا، يجمع بَيْننَا وَبَينه الطَّرِيق، ويلتقي الْفَرِيق بالفريق، لمجمع بَين الْعَرَب مَعْقُود، وَرَأى مشهود، فَقُلْنَا تَعْجِيل اجْتِمَاع، وحظ إبصار بعد حَظّ إسماع، ومزيد استكثار بِأبي كثير واستمتاع، وعَلى بريد تراءت الْخَيل تسل الأباطح بأعرافها وَتَأْخُذ الإجراء بأطرافها، وخالفت بَيْننَا بنيات الطَّرِيق باشتباهها. فنزلنا بِبَعْض الْجِهَات على مياهها، وخاطبته بِمَا نَصه:
(مبارك مَا قدمت سُفْيَان رَغْبَة ... وَلَا خوف تَقْصِير وَلَا سوء سيرة)
(وَمَا نظرة مني إِلَيْك أعدهَا ... سوى منَّة لله فِي ... كَثِيرَة)
(وَإِن كَانَ مَا لاقيت قبلك الجما ... فَأَنت على التَّحْقِيق شمس منيرة)
(وَرب صَلَاة قدم النَّفْل قبلهَا ... وتشرب من قبل الثَّرِيد حريرة)
ثمَّ كَانَ النُّزُول بالزاوية قبر زِمَام وَأبي ذمام، ورعى اهتمام دشار وَجَدْنَاهُ، وَالْحَمْد لله محتويا على صِحَة، محجوبا عَن خطوب حواليه ملحة، رحب بِنَا أَهله، واسهل إِلَيْنَا رحبه وسهله، واقتدى فِينَا بِمذهب الشَّيْخ، فتاه وكهله، وَلما اصبح بكرنا محلته الآهلة، وَذكرنَا، وَالشَّيْء يذكر بضده بأَهْله، ونظرنا إِلَى خيام وحلل، وجديد وطلل، ومبارك ومعاطن، ومسكن يعرف بأصالة قاطن(2/269)
تيط أقوران، وَمَا أَدْرَاك مَا تيط، حَيْثُ الجناب الغبيط الْبشر والبسيط، وَالْبَحْر الْمُحِيط، تَفَجَّرَتْ بهَا للزلازل عين كَمَا سَالَ لجين، أَو صقل صفحة السَّيْف قين، وتسنم ذرْوَة الْبيُوت مِنْهَا قصر مشيد، أثلع مِنْهُ جيد، وأغرى بِهِ تحكيم وتنجيد، ودارت الْبيُوت، كَمَا نسج العنكبوت، واتجهت إِلَيْهِ الطّرق والسموت، ونجح بإزائه السُّوق، وَبَان من فجر ساكنها البسوق. وَقلت:
(نزلنَا حلَّة الْخَلْط الْكِرَام ... بأخت الرُّكْن والبلد الْحَرَام)
(وَمن يَك من ضيوف أبي كَبِير ... غَنِي بالفعال عَن الْكَلَام)
(وَإِن بيوته لَكمَا سمعنَا ... بيُوت الْخَيل وَالنعَم الجسام)
(تظللها الفوارس بالعوالي ... وتفرشها الولائد بِالطَّعَامِ)
إِلَى غير هَذَا من الشّعْر، وَينظر فِي مَوْضِعه.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني من المقامات فِي هَذَا الْغَرَض
حدث من ينظم فرائد الْأَخْبَار فِي سلك قصصه، ويدوس حبات الطّرق بأخمصه، ويطارد شوارد الْكَلَام، حَتَّى يصبح من قنصه، قَالَ: بَيْنَمَا أَنا فِي بعض الطّرق، وَقد وصلت الهاجرة، وتبرجت الْمَفَازَة الْفَاجِرَة، وَسورَة القيظ تكَاد تميز من الغيظ، وَشهر ناجر، قد أَخذ بالحناجر، وَالشَّمْس قد ركبت سَنَام خطّ الزَّوَال، ومدرجة الصِّبَا قد ضنت النوال، وصمتت عَن السُّؤَال، وَقد تشاجرت الجنادب، وَاخْتلفت لقيانها الولائم والمآدب، وَتَبَاعَدَتْ من الفضا الْأُخَر والمناكب، ومدت نَسِيج الْآل العناكب، والطية تطفف فِي الْمسير، والمطية قد سميت الذرع والتكسير، والظل مرامه من العسير، وَالْمَاء بِمَنْزِلَة الإكسير، إِذْ رفعت لي على الْبعد سرحه فِي فريدة عَن اللَّذَّات، والوشائج المولدات، فَهِيَ فِي الْمُجْمل(2/270)
علم، وللركائب ركن مستلم، نستامه كَأَنَّهَا فِي جلد اليباب شامة، فملت إِلَى سمتها وانحرفت، وثنيت الْعَنَان نَحْوهَا وصرفت، فَمَا كَانَ إِلَّا فوَاق حرف، لَا بل ارتداد طرف حَتَّى عشيت مِنْهَا عقيلة فلاة، وخدر سعلاة، ذَات عَمُود سَام، وطنب يكتنف ببني حام وسام، ظللت من الأَرْض حجرا مدحوا، ومهرقا من حُرُوف الْمهْر ممحوا، ودمثا سهلا، ورحبا وَأهلا، وشيخا وكهلا، وعلما وجهلا، يَتَخَلَّل سَمَّاهَا الخضراء شهبان أهلة، وَتثبت بأهدابها أَسْنَان وأعنة، وتموج فِي ظلها إنس وجنة، كَأَنَّمَا ضربت الصَّخْرَة الصما بعصاها، فأطاعها العذب الْفُرَات وَمَا عصاها، وانساب بَين يَديهَا ثعبان تراع لَهُ وهاد وكثبان ينشب حصاه عَن حَصى تغلط الْعَارِف من الصيارف، وتوهم الأملياء انتهاب عقودها، لَا تَسْتَطِيع الْجَوَارِح مصابرة خصره وَلَا يماثله الشهد بمجاج معتصره، فحييت الْجمع بِأَحْسَن تحياته، واتحفت الرّوح من ذَلِك العذب البرود تحياته، وتلوت كَذَلِك، يحيى الله الْمَوْتَى ويريكم آيَاته، وَقلت حياك الله من خميلة، وفاتنة جميلَة، وتمثلت بقول ابْن قَاضِي مَيْلَة:
(وقانا وقدة الرمضاء روض ... وَقَاه فضاعف الظل العميم)
(فصرنا نَحوه فحنا علينا ... حنو الوالدات على الْيَتِيم)
(يُرَاعى الشَّمْس أَنا قابلتنا ... فيحجبها وَيَأْذَن للنسيم)
(وَسَقَانَا على ظمإ زلالا ... ألذ من الشَّرَاب مَعَ الْكَرِيم)
(تردع حَصَاة حَالية الغواني ... فتلمس جَانب العقد النظيم)
وَكَانَ فِي جملَة من اغتنم المقيل، واستنصر على عَدو الظمإ ذَلِك العضب الصَّقِيل، وألم بِالنَّوْمِ الْخَفِيف على الرحل الثقيل، لايث عمَّة على همة، ومستظهر بوفر وَذمَّة، ورعى أذمة، قد عَبث الوخط مِنْهُ بلمة، بَين يَدَيْهِ عتاق قَود، وَعبيد(2/271)
تحسبهم أيقاظا وهم رقود، فاشرأب عِنْد سَماع إنشادي كَمَا يشرئب للريم، وهزت حميا الْأَدَب مِنْهُ عطف كريم، وَصَاح بِصَوْت جهير، يَنْبَنِي عَن منصب شهير، من هَذَا الطارق، وَمَتى أومض هَذَا البارق، وَإِنِّي لأنس مخيلة غير مخيلة، وَأنْظر إِلَى مَظَنَّة غير ذَات ظنة، ليدن مني جوارك، ويرع إِن شِئْت حوارك، ويتفتح نوارك، وتتألق أنوارك، وَلم يزل يحاجي ويسمل، ويرعى فَلَا يهمل، فَلَمَّا دَنَوْت من مهاده، وركضت فِي رَبًّا الحَدِيث ووهاده، وأصبت من زَاد طَرِيقه، وانخرطت فِي فريقه، وأطهر بني بِأَحَادِيث الغريبة وتشريقه، سفر مِنْهُ الِاخْتِيَار عَن نجار هاشمي، وكرم حاتمي، وَدَار فاسي، ومنصب رياسي، وأصل عراقي، وَفرع بَين، نَفِيس ونفيسه راقي. وَلما انخفض قرن الغزالة، ولان طبع الهوا من بعد الجزالة، وَلم يبْق من عمر الْيَوْم إِلَّا الْقَلِيل، ورقية النسيم تَتَرَدَّد على الْأَصِيل العليل، وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، ويسلك مَسْلَك أمسه، وَالْمغْرب يبتلع قرصة شمسه، قمنا نقضي الدّين، ونقلد رقيم العذار كل أسيل الْخَدين، كريم الجدين، ونشيد المناطق على جميل كل ماضي الحدين، ونغتنم ثَانِي الأبردين، فَرفعت الرّحال من فَوق الظُّهُور، وسرنا بِنَصّ السّير على الْمَذْهَب الْمَشْهُور، وَتَركنَا البنيات إِلَى جادة الْجُمْهُور - وَقلت أَيهَا الرفيق الْبر الصَّحَابَة الْأَغَر السحابة، إِن الشقة بعيدَة، وَالْمَشَقَّة مبدية معيدة، وَلَا يستعان على المراحل إِذا اشتطت واستطالت، وليالي السرى إِذا قمطت وطالت، إِلَّا بتناوب الْأَخْبَار المنقولة، والآداب المهذبة المعقولة، فَقَالَ أثر الكامن، وأزجر الميامن، وابغ الْفلك الثَّامِن، واطلب غَرِيم الغرائب وَأَنا الضَّامِن: قلت افسح لي مجَال غرضك واشرح لي معنى جوهرك وعرضك، وطية سفرك وعودك بظفرك. فَقَالَ أَنا كَالشَّمْسِ أجوب هَذِه الْمنَازل مرّة فِي كل سنة، وأحصى كل سَيِّئَة وحسنة، وأطوى الغلاة، وأبهرج الْوُلَاة، فهم يرقبون تِلْكَ النّوبَة، ويتوقعون الأوبة، ويستعدون لخُرُوج الدَّابَّة الَّتِي(2/272)
تكلمهم بالإقلاع وَالتَّوْبَة، فأسعط الأنوف، وأنتزع حَتَّى الشنوف، وَأحكم لساني فِيمَن ينساني، وأجود بِظِل ينساني، من بسر إنساني، وأداول بَين إساءتي، وإحساني وأتصدى للهدية الودية، وآنف من الْعَطِيَّة غير البطية. وأوسع الْبَخِيل هجرا، وأقرط من كرم نجرا، ووضح فجرا، قَالَ لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا:
(يَا أهل بَيت رَسُول الله حبكم ... فرض من الله فِي الْقُرْآن أنزلهُ)
(يكفيكم من عَظِيم الْفَخر أَنكُمْ ... من لم يصل عَلَيْكُم لَا صَلَاة لَهُ)
فَلَا أَزَال أطلق عنان الصولة فِي جو الجولة، مستظهرا بوسيلة الْبَيْت ومنشور الدولة، فأسلق الخامل فِي مرقة النبية، وَأحكم للشبيه بِحكم الشبيه، وَلَا أقبل عذر الْبَغي، وَلَو شغلته جَنَازَة أَبِيه، أهجم هجوم السَّيْل بالنيل، وَأجر على الْبيُوت فضول الذيل، وأتقلب تقلب الْفلك بَين الاسْتقَامَة والميل، وأزن كل بضَاعَة فأبخس فِي الْوَزْن أَو أطففه فِي الْكَيْل، وأغرر غرَّة الصَّباح بغزر الْخَيل، وَلَو على حَيّ عَامر بن طفيل، وأرحل عَن الْحلَّة وَقد همدت بعد ارتجاجها وسكنت قساطل عجاجها، وَصحت أذين دجاجها، وفليت عَن الخزين روس مجاجها، وأعود والصرة لَا يجْتَمع مغلاقها، والبدرة لَا يقلها معلاقها، والعياب يصعب مَعهَا الإياب، وتبرز من خلال أستارها الثِّيَاب، وَالْخَيْل تموج فِي الأرسان، وتختال فِي السُّرُوج المحلاة والجلال الحسان، قلت لعمري لقد اتَّسع نطاق الْكَلَام، وَطَالَ مدى التِّلَاوَة بَين الْإِمَامَة وَالسَّلَام، فَأَعْرض لي الْقَوْم عرضا، وصف لي الْمَوَارِد غمرا وبرضا، وميز الهمم سما وأرضا، وأخبط الْعضَاة بعصاك حَتَّى ترْضى، فقهقه قهقهة الشقشاق، وتأوه تأوه العشاق، وَكَأَنَّهَا كَانَت حَاجَة فِي نَفسه قَضَاهَا، وعزيمة يتجاذبها الكسل أمضاها، فسام نصاله وانتضاها، وَقَالَ خذهم بالكلاليب، وأجنبهم بِحجر الجلاليب، وعث عيث الغزالة وشبيب،(2/273)
فِي كل غرفَة وسبيب، وابدأ بِمن تُرِيدُ، وَأرْسل شهَاب فكرك خلف كل شَيْطَان مُرِيد، وَمن غَابَ عَنْك فخيل الْبَرِيد. قلت الحضرة وجملتها، والمزرعة الْعُظْمَى ونباتها، وافتتح المراسم بِمُحَمد بن الْقَاسِم. فَقَالَ شيخ موقر والمنصب مَا لم يصنه مخظر، مُدع على رتب الْخدمَة، قديم الاصطناع وَالنعْمَة، مؤتمن على الْحساب، منتسب إِلَى الْأَمَانَة أتم الانتساب، نبيه الْعقار والاكتساب، مكرم لِذَوي الأحساب، قلت، ففلان، قَالَ فَارس زِمَام، ومتمسك بذمام، ومصل خلف إِمَام، يناقش ويدقق، ويعاود ويحقق، وَهُوَ عَن الصبوح يرفق، فغريمه مُتْعب مهمى عسر وصعب، واستوعب: كعصفورة فِي كف طِفْل يسومها ترود حِيَاض الْمَوْت، والطفل يلْعَب، وعَلى الرُّتْبَة الشماء، والخلق اللطيفة كَالْمَاءِ. فبينه وَبَين رَيْحَانَة الكرما، وشهاب الظلما، مَا بَين الْحُرُوف والأسما، لَا بل الأَرْض والسما:
(وَقد يُسمى سما كل مُرْتَفع ... وَإِنَّمَا الْفضل حَيْثُ الشَّمْس وَالْقَمَر)
قلت: قَالَ خدوم، وقاضي سدوم، مَوْجُود مَعْدُوم، يخيل بِالنَّبلِ، ويحيد عَن السبل، ويخلط أَرضًا وسما، ومسميات وَأَسْمَاء، وَنَارًا وَمَا، ويحسبه الظمآن مَا. قلت، قَالَ شختور يسبح، وَفصل يذبح، وتاجر فِي كل نفس يربح: انسحب عَلَيْهِ الْقبُول من لدن صباه، وَصَاح بِهِ الجو فلباه، شَأْنه الدَّهْر غمز وإيثاره، ونداوة وَبشَارَة، محظوظ مجدود، وَعقد حرصه مشدود، وَهُوَ فِي الْكَفَاءَة مَعْدُود، قلت، فَقَالَ، فارة، وَقَضَاء وَكَفَّارَة، وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هرون تَحت غفاره، بعوضة فِي الْأَذَان، تغني عَن الاستيذان، ويطرق حَتَّى بهنات الْإِقَامَة وَالْأَذَان، قَادر على تلفيق الثُّبُوت، وَحمل الْيَهُود على نِسْيَان(2/274)
السبوت، يرى الْحِكْمَة خبيئة جيبه، ويشتغل بعيوب النَّاس عَن عَيبه، قلت: قَالَ أُلُوف ودود، أنوف عَن الْخبث والمكيدة صدود، مَحْسُوب من الأسرياء مَعْدُود كثير [الشنشنة] والأريحية، مبذول الْمُشَاركَة شَائِع التَّحِيَّة، بَادِي النبل والطرب، ينظم الأبيات، ويوضح من الْفضل الْغرَر والشيات.
(عَلَيْك بكاتب لبق ذكي ... أديب فِي شمائله حرارة)
(تُشِير لَهُ بلحظك من بعيد ... فيفهم طرفه عَنْك الْإِشَارَة)
قلت، فالوالي ابْن الربيب، فَشد خيشومه، واستدفع بيمن الله شومة، ثمَّ قَالَ الرَّوْض وَالْأنف، تحْتَاج إِلَى الكنف. إعلم أَنِّي على طول تجريبي، وتشريقي وتغريبي، لم أعثر لَهُ على شَبيه، فلعنة الله عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه، الْجَهْل والرعونة، والطلعة الملعونة، والحيا المسلوب، وَالصَّبْر الْمَهْزُوم عِنْد الشَّهَوَات المغلوب، والخيانة الَّتِي يعرفهَا الْوُجُود، وَالْيَد الَّتِي فِي غير الْخَنَا لَا تجود، نَار الجباية، الَّتِي تَأْكُل فِي اللحظة الْوَاحِدَة جبالها، وخنجر الْأَمَانَة الَّتِي يقد جبالها المارق على النكال وَالْعِقَاب، المخل بِالْأَلْقَابِ، الخامل الْبَيْت والهمة، الْكثير الذَّم، الْقَلِيل الذِّمَّة، وَالله در أبي مُحَمَّد العلكوم، ذِي الْعَارِض المركوم، حَيْثُ يَقُول:
(لأبي الْفضل ابْن الربيب خِصَال ... شهِدت بالوفا وَالْفضل فِيهِ)
(سَاقِط الأَصْل عاهر الْفرج مذ ... كَانَ سَفِيه قد بذ سَفِيه)
(ذِي محيا من الْحيَاء عديم ... وَقفا مختل وشكل كريه)
(سلحفاة قد عَمت وأجران ... فِي رِدَاء موشع يلويه)
(مُجمل السرج مِنْهُ ذُو رجيع ... يعرف النَّاس ذوقه من فِيهِ)
(حجر الله جوده وندا كفيه ... إِلَّا عَن أسود يشفيه)
(فَهُوَ لَا يستكفه من بلَاء ... ومجابي الْبِلَاد لَا تكفيه)(2/275)
(قلت للنَّاس وَالسُّؤَال شفا ... وَهُوَ قدما شَأْن النَّبِيل النبيه)
(لم يدعى بِابْن الربيب فَقَالُوا ... كَانَ يَزْنِي بِأُمِّهِ ابْن أَبِيه)
(أبعد الله ذَلِك الْوَجْه من ... كل مقَام بر وَقدر نبيه)
(وَكَأَنِّي بِهِ وَقد بشرت مِنْهُ ... يَد الذل غلظة التنويه)
(تترع الْعِزّ مِنْهُ سخطَة رب ... لم يدنه يَوْمًا يرضيه)
(وأهالت مِنْهُ السِّيَاط كثيبا ... واكمت رمله ريَاح التيه)
(ورست مِنْهُ فِي الأداهم رجل ... ودعتها نضارة الترفيه)
(كَانَ عارا على الْوُجُود وَمن ... يبْلى بِعَارٍ كَيفَ لَا يخفيه)
(عَادَة الله كلما اعتز بَاغ ... بضلال فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ)
قلت، ففلان، فَقَالَ شعلة من ضرام، ودمل من أورام، وَلَا بُد لكل شَيْء من انصرام.
سعيد الدّين خير من أَبِيه، وَطرح الْكَلْب خير من سعيد.
قلت، ففلان. قَالَ صَاحب هدي وسمت، وَطَرِيقَة غير ذِي عوج وَلَا أمت، واشتمال من الطَّهَارَة والتفات، متقلد من مَحل ولَايَته فِي جنَّات ألفاف، مَعَ مهيب عدل وإنصاف، معتدل الْجُود، وَاضع إِيَّاه فِي ضرورات الْوُجُود، كثير الضَّيْف، مطعم فِي الشتا والصيف، أَمن جَاره من الحيف، يرْعَى الْوَسِيلَة، فَلَا ينساها، ويصل مغدى الصنيعة بممساها، فَإِذا ذكرت الْخِيَار فاذكره فِيهَا، أَو حسب الْولَايَة بِهِ فخرا ويكفيها: لَا يسمع الهجر فِي مجالسه، وَلَا تضم الْخَنَا سقائفه.
قلت، وَهُوَ لعمري سَلس القياد، وحقيبة جباد، فَلم يفه ببنت شفه، لَا أدرى أم أَنفه.(2/276)
قلت، فمشربه، قَالَ أنهد، وَفِي غير الْكفَّار لَا تجهد، وَدعنَا من الحضيض الأوهد، فَالْأَمْر أزهد، وَلَا تعد إِلَى مثلهَا، وَالله يشْهد. قلت، مُقيم رسم، وممتاز من الشُّهْرَة بوسم، وَرجل عَاقل، وجال صفحات الْبر وصاقل، ومتماسك عَن الْغَايَة متثاقل، لَا بفصاحة سحبان، وَلَا بعي بَاقِل، يروقك لقاؤه، ويعجبك خوانه وسقاإه (؟) ، ويثنى على صلته أصدقاؤه. قلت فأخوه، قَالَ درة بَيتهمْ، وغرة كميتهم، ومصباح زيتهم، منزلَة منزع جفان، ومحط ضيفان، يركب المطية، ويمهد الأريكة ي الوطية، وَيتبع بالعذر أثر الْعَطِيَّة غير البطية، ويجدد الْعَمَل بِالْعِصَابَةِ البرمكية، وأخبارهم المحكية. قلت، قَالَ كَوْكَب سحر، وكريم قرى وَنحر، وأبهت وسحر، ماشيت من تَرْتِيب وَتَقْدِير، خليق بِالْبرِّ جدير، وَروض وغدير، وخورنق وسدير، هذب الْأَدَب خُدَّامه، وأطاب الاحتفال خبزه وإدامه، إِلَى عطا يحْسب الأمل، ويثقل النَّاقة والجمل، عضه الدَّهْر فَمَا عض من طباعه، واستأثر بِمَالِه ورباعه، وَتَركه فريسة بَين سباعه، فَمَا حط من همته، وَلَا قصر من طباعه: ... وطالما أصلى الْيَاقُوت جمر غضا، ثمَّ انطفأ الْجَمْر، والياقوت ياقوت.
قلت، قَالَ، أَمِين وَذخر ثمين، وشمال للنصيحة وَيَمِين، إِلَى صدر سليم، وتعويض وَتَسْلِيم، وسرو عميم، ومرعى للفضل حميم، يقنع بالمصاصة، ويؤثر على الْخَصَاصَة، ويحافظ على القلامة والقصاصة. قلت، قَالَ بر وَفِي [يذوب حَيَاء، ويتهالك إبلاغا فِي الْبر وإعياء] . قلت، قَالَ لفظ بِلَا معنى، وَشَجر بِلَا مجنى، مروته سقيمة، وسراوته عقيمة، مَدين الحرمان لَهُ خدين، لَا يحمد قراه، وَلَا يمسك البلالة ثراه، وَإِن تسمع بالمعيدي لَا أَن ترَاهُ. قلت، قَالَ، حمول للكلفة كثير الألفة حمَار قَلِيل العلفة وطيه، وَهُوَ قعُود ذَلُول ومطية. قلت(2/277)
فَقَالَ سُورَة الْفضل والكمال، وَصُورَة الْحَلَال وَالْجمال، وَسيف الجباية وَالْمَال. وَحج العفاة وكعبة الآمال، العف الْإِزَار، ذُو الْمَوَاهِب الغزار. مَا شيت من حَيا ووقار، واهتضام للعرض الْأَدْنَى واحتقار، يهب الجزيل، وَيكرم النزيل، وَيحكم التَّنْزِيل، أقسم لَو سبق الزَّمن زَمَانه، وانتظم فِي سلك العقد المتقادم حمانه، لما كَانَ لكعب من علو كَعْب، وَلَا ساعد ابْن سعدي ذكر، وَلَا أعمل فِي مدح هرم بن سِنَان فكر، ولطوى حَاتِم طي وَلم تَأْخُذهُ يَد النشر إِلَى الْحَشْر، وَلَا أعملت فِي أخباره يَد الإضراب والبشر، فَهُوَ الْعَامِل الْعَالم، والعادل الَّذِي تكف بِهِ الْمَظَالِم، وَالْبَحْر الَّذِي من دونه بلالة والكفاية مَا سواهَا علالة.
(مدحت الورى قبله كَاذِبًا ... وَمَا صدق الْفجْر حَتَّى كذب)
إِن طرقت منزله هش ورحب، وتبسط جالبا للأنس وتسحب، وَحكم كَمَاله، وَألقى قبل الوسادة مَاله، فَهُوَ حَسَنَة الدولة الغرا، وطراز حلتها الشيرا: وحديثها الْمَنْقُول، وصفيحها المصقول، وَللَّه در الَّذِي يَقُول:
(سلني عَن النّدب وَإِلَى الْوُلَاة ... فَإِنِّي على مدحه قَادر)
(مخدرة فِي سَبِيل الحيا وَيَوْم ... الوغى أَسد خادر)
وَلما بلغ إِلَى هَذَا الْحَد، كَأَنَّمَا كَانَ الحَدِيث ثوبا على جَسَد المرحلة مقدودا، وعددا مَعَ لياليها المحسوبة معدودا، أَتَى للسير مِنْهُ الْقَوَاعِد والبروق، وانتهب عمر اللَّيْل إِلَى الشروق، وَكَانَ آخِره بِبَاب المحروق، وَجعل كل وَجهه إِلَى ذره، وَعَاد إِلَى مركزه عقب مَدَاره، وعلق بقلبي كَلَامه، فاستقر فِي احتزانه، وَأَنا أزن الْقَوْم بميزانه، وَالله يتغمد مَا يُوَافقهُ العَبْد من هفوة لِسَانه، ويغطى الْإِسَاءَة بإحسانه.(2/278)
من ذَلِك الْكتاب الْمُسَمّى بمعيار الِاخْتِيَار
الْحَمد لله الَّذِي انْفَرَدت صِفَاته بالاشتمال على أشتات الْكَمَال، والاستقلال بأعباء الْجلَال، المنزه عَن احتلال الْحَلَال، المتصفة الْخلال بالاختلال، الْمُتَعَمد بالسؤال، لصلة النوال، جَاعل الأَرْض كسكانها مُتَغَايِرَة الْأَحْوَال، باخْتلَاف الْعرُوض والأطوال، متصفة بالمحاسن والمقابح، عِنْد اعْتِبَار الهيئات والأوضاع والصنائع والأعمال، على التَّفْصِيل والإجمال، فَمن قَامَ خَيره بشره، دخل تَحت خطّ الِاعْتِدَال، وَمن قصر خَيره عَن شَره، كَانَ أَهلا للاستعاضة بِهِ والاستبدال، وَمن أربى خَيره على شَره، وَجب إِلَيْهِ شدّ الرّحال، وَالْتمس بِقَصْدِهِ صَلَاح الْحَال، وَكَثِيرًا مَا اغتبط النَّاس بأوطانهم، فحصلوا فِي الْجبَال على دعة البال، وفازوا فِي الرمال بالآمال، حِكْمَة مِنْهُ فِي اعْتِبَار ربع الشمَال، وتضيء أكنافه عَن الْيَمين وَالشمَال، إِلَى أَن يَدْعُو بِأَهْل الأَرْض، لموقف الْعرض وَالسُّؤَال. وَيذْهل عَن الأمل عظم الْأَهْوَال. وَالصَّلَاة على سيدنَا مُحَمَّد الْمُصْطَفى، الَّذِي أنقذ بدعوته الوارفة الظلال من الضلال، وجا بِرَفْع الأغلال، وتمييز الْحَرَام من الْحَلَال، وَالرِّضَا عَمَّن لَهُ من الصحب والآل.
أما بعد، ساعدك السعد، ولان الْجَعْد، فَإِن الْإِنْسَان، وَإِن اتّصف بِالْإِحْسَانِ، وأبانة اللِّسَان، لما كَانَ بعضه لبَعض فَقِيرا، نبيها كَانَ أَو حَقِيرًا، إِذْ مونه الَّتِي تصلح بهَا حَاله، وَلَا يَسعهَا انتحاله، لزم اجتماعه وائتلافه على سياسة يُؤمن مَعهَا اختلافه، واتخاذ مَدِينَة يقر بهَا قراره، وَيتَوَجَّهُ إِلَيْهَا ركونه وفراره، إِذا رابه إضراره، وتختزن فِيهَا أقواته الَّتِي بهَا حَيَاته. ويحاول مِنْهَا معاشه، الَّذِي بِهِ انتعاشه، وَإِن كَانَ اتخاذها جزَافا واتفاقا. واجتزاء بِبَعْض الْمرَافِق وارتفاقا،(2/279)
تحاول خَيرهَا وشرها، وتعارض نَفعهَا وضيرها، وفضلها فِي الْغَالِب غَيرهَا، وَإِن كَانَ عَن اخْتِيَار وتحكيم معيار، وتأسيس حَكِيم، وتعويض لِلْعَقْلِ وتحكيم، تنافر إِلَى حكمهَا للنفر، وإعمال السّفر، وَكَانَت مساويها بِالنِّسْبَةِ إِلَى محاسنها تفْتَقر، إِذْ وجود المَال فاضح للآمال، وَللَّه در الْقَائِل:
(وَمن ذَا الَّذِي ترْضى سجاياه كلهَا ... كفى الْمَرْء فضلا أَن تعد معايبه)
وبحسب ذَلِك، حدث من يعْنى بالأخبار ينقلها، وَالْحكم يصقلها، والأسمار بنتقيها، والْآثَار يخلدها ويبغيها، والمجالس يَأْخُذ صدورها، والآفاق يشيم شموسها وبدورها، وَالْحلَل يصرف دورها، وَيَأْكُل قدورها، والطرف يهديها، والخفيات يبينها، وَقد جرى ذكر تَفْضِيل الْبلدَانِ، وَذكر القاصي والدان، ومزايا الْأَمَاكِن، وخصائص الْمنَازل والمساكن، والمقابح والمحاسن، وَالطّيب والآسن، قَالَ ضمني اللَّيْل، وَقد سدل الْمَسِيح راهبه، وَأَشْهَب قرصة الشَّمْس من يَد الأمس ناهبه، وذلفت جيوشه الحبشية وكتائبه، وَفتحت الأزهار شط المجرة كواكبه، وجنحت الطُّيُور إِلَى وَكَونهَا، وانتشرت الطوافات بعد سكونها، وعويت الذئاب فَوق هضابها، ولوحت البروق بفيض عضابها، وباحت الْكَفّ الخضيب بخضابها، وتسللت اللُّصُوص لانتهاز فرصها، وَخرجت الليوث إِلَى قسمهَا وحصصها فِي مناخ رحب المنطلق، وثيق الغلق، سامي السُّور، كَفِيل بِحِفْظ الميسور، يَأْمَن بِهِ الذعر خائفه، وتدفع معرة السما سقائفه، يشْتَمل على مأوى الطريد، ومحراب المريد، ومرابط خيل الْبَرِيد، ومكاسع الشَّيْطَان المريد، ذِي قيم، كثير البشاشة، لطيف الحشاشة، قَانِع بالمشاشة، يروح وَيَمْشي، وَيقف على رتب الْأَعْيَان، وأعيان الرتب، فَلَا يشي، بر فَأكْثر، ومهد ودثر، وأذفا ودثر، ورقى بِسوار استنزاله فأثر. فَلَمَّا أرحت الكافة واقضمت جَوَاده العلفة، وأعجبتني من رُفَقَاء الْمرْفق الألفة، رمقت فِي بعض السقائف أمنا فِي(2/280)
زِيّ خَائِف، وشيخا طَاف مِنْهُ بِالْأَرْضِ طائف، وَسكن حَتَّى الْيَمَامَة والطائف [حنيب عكاز ومثير ركاز، قل حَظه بسلاحه لِسَان ذلو السفرة] ومثير شيب أثبت الوفرة، وقسى ضلوع توثر بالزفرة، حكم لَهُ بَيَاض الشيبة بالهيبة، وَقد دَار بذراعه للسبحة الرقطاء حَنش، كَمَا اخْتَلَط روم وحبش، وَإِلَى يَمِينه دلو فامق، وَعَن يسَاره تلميذ مراهق، وأمامه حمَار ناهق، وَهُوَ يَقُول:
(هم أسكنونا فِي ظلال بُيُوتهم ... ظلال بيُوت أدفأت وأكنت)
(أَبَوا أَن يملونا وَلَو أَن أمنا ... تلاقي الَّذِي لاقوه منا لملت)
حَتَّى إِذا اطْمَأَن حُلُوله، وأصحب ذلوله، وتودد إِلَى قيم الحنان، زغلوله، واستكبر لما جَاءَ بِمَا يهواه رَسُوله، استجمع قوته، واستحشد، وَرفع عقيرته وَأنْشد:
(أَشْكُو إِلَى الله ذهَاب الشَّبَاب ... كم حسرة أورثتني واكئياب)
(سد عَن اللَّذَّات بَاب الصِّبَا ... فزادت الأشجان من كل بَاب)
(وغربة طَالَتْ فَمَا تَنْتَهِي ... مَوْصُولَة الْيَوْم بِيَوْم الْحساب)
(وَشر نفس كلما هملجت ... فِي الغي لم تقبل خطام المتاب)
(يَا رب شفع فِي شيبي وَلَا ... تحرمني الزلفى وَحسن المآب)
ثمَّ أَن، وَاللَّيْل قد جن، فَلم يبْق [فِي الْقَوْم] إِلَّا من أشْفق وحن، وَقد هزته أريحية، على الدُّنْيَا سَلام وتحية، فَلَقَد نلنا الأوطار، وحلبنا الأشطار، [وركبنا الأخطار، وأبعدنا المطار، واخترقنا الأقطار] فَقَالَ فتاه، وَقد افترت عَن الدّرّ شفتاه مستثيرا لشجونه، ومطلعا نُجُوم همه من دجونه، ومدلا عَلَيْهِ بمجونه، وماذا بلغ الشَّيْخ من أمرهَا، أَو رفع من عمرها، حَتَّى يقْضى مِنْهُ عجب، أَو يجلى مِنْهُ محتجب، فَأَخَذته حمية الْحفاظ لهَذِهِ الْأَلْفَاظ، وَقَالَ أَي بني مثلي من الأقطاب، يُخَاطب بِهَذَا الْخطاب، وأيم الله لقد عقدت الْحلق،(2/281)
ولبست من الدَّهْر الْجَدِيد والخلق، وفككت العلق وأبعدت فِي الصفوة الطلق، وخضت الْمنون، وصدت الضَّب وَالنُّون، وحذقت الْفُنُون، وقهرت بعد سُلَيْمَان الْجُنُون، وقضيت الدُّيُون، ومرضت لمَرض الْعُيُون، وَركبت الهمالج، وتوسدت الرذائل والدمالج، وركضت الفاره، واقتحمت المكاره، وَجَبت الْبِلَاد، وَحَضَرت الجلاد، وأقمت الفصح والميلاد، فعدت من بِلَاد الْهِنْد والصين، بِالْعقلِ الرصين، وحذقت بدار قسنطين، علم اللطين، ودست مدارس أَصْحَاب الرواق، وَرَأَيْت غَار الْأَرْوَاح، وَشَجر الوقواق، وشريت حلل الْيمن، ببخس الثّمن، وحللت من عدن حُلُول الرّوح من الْبدن، وَنظرت إِلَى قرن الغزالة لما شَرق، وأزمعت على العراقين بسرى الْعين، وشربت من مَاء الرافدين باليدين، وَصليت بمحراب الدملى رَكْعَتَيْنِ، وَتركت الْأَثر للعين، ووقفت حَيْثُ وقف الحكمان، وتقابل التركمان، وَأخذت بالقدس، عَن الحبر الندس، وَركبت الولايا إِلَى بِلَاد العلايا، بعد أَن طفت بِالْبَيْتِ الشريف، وحصلت بِطيبَة على الخصب والريف فِي فصل الخريف، وقرأت بأخميم علم التصريف، وأشرعت فِي الانحطاط إِلَى الْفسْطَاط، والمصر الرحب الاختطاط، وسكنت مَدِينَة الْإسْكَنْدَريَّة ثغر الرِّبَاط، وعجلت بالمرور إِلَى التكرور، فَبِعْت الظل بالحرور، ووقفت بأشبانية إِلَى الهيكل المزور [وحصلت بإفريقية على الرفد غير المنزور] وانحدرت إِلَى الْمغرب انحدار الشَّمْس إِلَى الْمغرب، وصممت تصميم الحسام الْمَاضِي المضرب، ورابطت بالأندلس ثغر الْإِسْلَام، وأعلمت بِمَا تَحت ظلال الْأَعْلَام، فآها وَالله على عمر مضى وَخلف مضضا، وزمن انْقَضى، وَشَمل قضى الله من تفرقه بِمَا قضى. ثمَّ أجهش ببكائه، وأعلن باشتكائه، وَأنْشد:(2/282)
(لبسنا فَلم نبل الزَّمَان وأبلانا ... نتابع أخرانا على الغي أولانا)
(ونغتر بالآمال والعمر يَنْقَضِي ... فَمَا كَانَ بالرجعي إِلَى الله أولانا)
(وماذا عَسى أَن ينظر الدَّهْر مَا عسا ... فَمَا انْقَادَ بالزجر الحثيث وَلَا لانا)
(جزينا صَنِيع الله شَرّ جَزَائِهِ ... فَلم نرع مَا من سَابق الْفضل أولانا)
(فيا رب عاملنا بِمَا أَنْت أَهله ... من الْعَفو واجبر صدعنا أَنْت مَوْلَانَا)
ثمَّ قَالَ:
(لقد مَاتَ إخْوَانِي الصالحون ... فَمَا لي صديق وَلَا لي عماد)
(إِذا أقبل الصُّبْح ولى السرُور ... وَإِن أقبل اللَّيْل ولى الرقاد)
فتملكتني لَهُ رقة وهزة للتماسك مسترقة، فهجمت على مضجعه هجوما أنكرهُ، وراع صَفوه وعكره، وغطى بِفضل ردنه سكره، فَقلت على رسلك أَيهَا الشَّيْخ، نَاب حنت إِلَى خوار، وغريب أنس بجوار، وحائر اهْتَدَى بِنَار، ومقرور قصد إِلَى ضوء نَار، وطارق لَا يفضح عَيْبا، وَلَا يثلم وَلَا يهمل شيبا، وَلَا بِمَنْع سيبا، ومنتاب يكسو الْحلَّة، وَيحسن الْخلَّة، ويفرغ الْغلَّة، ويملأ الْقلَّة:
(أجارتنا إِنَّا غَرِيبَانِ هَاهُنَا ... وكل غَرِيب للغريب نسيب)
فَلَمَّا وقم الهواجس وكبتها، وَتَأمل المخيلة واستثبتها، تَبَسم لما توهم وَسمع بعد مَا جمح، فهاج عقب مَا فتر، وَوصل مَا بتر، وَأظْهر مَا خبأ تَحت ثَوْبه وَستر، وماج مِنْهُ الْبَحْر الزاخر، وأتى بِمَا لَا تستطيعه الْأَوَائِل والأواخر، وَقَالَ، وَقد ركضى الْفُنُون وأجالها، وَعدد الحكم ورجالها، وفجر للأحاديث أنهارها، وَذكر الْبلدَانِ وأخبارها:
(وَلَقَد سهمت مآربي فَكَانَ أطيبها حَدِيث ... إِلَّا الحَدِيث فَإِنَّهُ مثل اسْمه أبدا حَدِيث)(2/283)
قلت، ذهب الخجل والوجل، وَطَالَ المروى والمرتجل، وتوسط الْوَاقِع، وتشوفت للنجوم المواقع، وتوردت الخدود البواقع. قلت أَيهَا الحبر واللج الَّذِي لَا يَنَالهُ السبر: لاحجبك قبل عمر النِّهَايَة الْقَبْر، وأعقب كسر أعداد عمرك الْمُقَابلَة بِالْقبُولِ والجبر، كَأَن اللَّيْل قد أظهر لوشك الرحيل الْهَلَع، والغرب الجشع لنجومه قد ابتلع، ومفرق الأحباب، وَهُوَ الصُّبْح قد طلع، فأولني عارفة من معارفك اقتنيها، واهزز لي أفنان رحكمك اجتنبها. فَقَالَ، أمل ميسر، ومجمل يحْتَاج أَن يُفَسر، فأوضح الملغز، وأبن الطلا من البرغز، وسل عَمَّا بدا لَك، فَهُوَ أجدى لَك، وَأقسم لَا تسلنى عَن غامض، وحلو أَو حامض، إِلَّا أوسعته علما وبيانا، وأريتك الْحق عيَانًا. قلت صف لي الْبِلَاد وَصفا لَا يظلم مِثْقَالا، وَلَا يعْمل فِي غير الصدْق وخدا وَلَا أرقالا، وَإِذا قُلْتُمْ فأعدلو، وَمن أحسن من الله مقَالا. قلت انفض لي الْبِلَاد الأندلسية من أطرافها، وميز بميزان الْحق بَين اعتدالها وانحرافها، ثمَّ اتلها بالبلاد المرينية نسقا، واجل بِنور بيانك غسقا، وهات مَا تَقول فِي جبل الْفَتْح. قَالَ. فَاتِحَة الْكتاب من مصحف ذَلِك الإقليم، ولطيفة السَّمِيع الْعَلِيم، وقصص المهارق، وأفق البارق، ومتحف هَذَا الوطن المباين للْأَرْض المفارق، بِأَهْل العقيق وبارق، ومحط طارقها بِالْفَتْح طَارق، وارم الْبِلَاد الَّتِى لم يخلق مثلهَا فِيهَا، وَذُو المناقب الَّتِى لَا تحصرها الْأَلْسِنَة وَلَا توفيها، حجره الْبَحْر حَتَّى لم يبْق إِلَّا خصر، فَلَا يَنَالهُ من غير تِلْكَ الفرصة منيق وَلَا حصر. وأطل بأعلاه قصر، وأظله فتح من الله وَنصر، سَاوَى سُورَة الْبَحْر فأعياه، قد تهلل بالكلس محياه، واستقبل الثغر الْغَرِيب فحياه، واطرد صنع الله فِيهِ من عَدو يَكْفِيهِ، ولطف يخفيه، وداء عضال يشفيه، فَهُوَ خلْوَة الْعباد، ومقام العاكف والباد، ومسلحة من وَرَاءه من الْعباد، وشقة الْقُلُوب الْمسلمَة والأكباد. هَوَاهُ صَحِيح وثراه بالخزين سحيح، ونجر الرِّبَاط فِيهِ ربيح، وحماه لِلْمَالِ وَالْحرم غير مُبِيح، وَوَضعه الْحسن لَا يشان بتقبيح(2/284)
إِلَّا أَنه، وَالله يَقِيه [مِمَّا يتقيه] بعيد الأقطار، هماز بالقطار، كثير الرِّيَاح والأمطار، مكتنف بالرمل المخلف، والجوار الْمُتْلف قَلِيل الْمرَافِق، مَعْدُوم المشاكل والمرافق، هزل الكراع، لعدم الأزدراع، حاسر الذِّرَاع للقراع، مرتزق من ظلّ الشراع، كورة دبر، ومعتكف أزل وصبر، وساكنه حَيّ فِي قبر:
(هُوَ الْبَاب إِن كَانَ التزاور للقيا ... وغوث وغيث للضريح وللسقيا)
(فَإِن تطرق الْأَيَّام فِيهِ بحادث ... وأعزز بِهِ قُلْنَا السَّلَام على الدُّنْيَا)
قلت، فأسطبونه قَالَ، عَفا رسمها، وبقى اسْمهَا وَكَانَت مَظَنَّة النعم الغزيرة، قبل حَادِثَة الجزيرة. قلت فمربلة، قَالَ بلد التاذين على السرذين، وَمحل الدُّعَاء والتأمين لمطعم الْحُوت السمين، وحد ذَاتهَا مفرس الْعِنَب الْقَدِيم الْفرس إِلَى قبَّة أرين، إِلَّا أَن مرْسَاها غير أَمِين، وعقارها غير ثمين، ومعقلها تركبه الأَرْض من عَن شمال وَيَمِين. قلت، فسهيل قَالَ حصن حُصَيْن، يضيق عَن مثله هِنْد وصين، وَيَقْضِي بفضله كل ذِي عقل رصين، سَبَب عزه متين، ومادة قوته شعير وتين، قد علم أَهله مشربهم، وأمنوا مهربهم، وأسهلت بَين يَدَيْهِ قراه ماثلة بِحَيْثُ يرَاهُ، وجاد بالسمك واديه، وبالحب ثراه، وَعرف شَأْنه بِأَرْض النّوبَة وَمِنْه يظْهر سُهَيْل من كواكب الْجنُوب، إِلَّا أَن سواحله فل الْغَارة البحرية، ومهبط السّريَّة غير السّريَّة، الخليقة بالحذر الْحُرِّيَّة، مسرح السايمة الأميرية، وخدامها كَمَا علمت أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة.
قلت فمدينة مالقة، قَالَ، وَمَا القَوْل فِي الدرة الوسيطة، وفردوس هَذِه البسيطة، أشهد لَو كَانَت سُورَة، لغرقت بهَا حدقة الْإِطْعَام، أَو يَوْمًا لكَانَتْ(2/285)
عيدا فِي الْعَام، تبِعت لَهَا بِالسَّلَامِ مَدِينَة السَّلَام، وتلقي لَهَا يَد الاستسلام محَاسِن بِلَاد الْإِسْلَام، إِلَى دَار، وقطب مدَار، وهالة إبدار، وكنز تَحت جِدَار، قصبتها مضاعفة الأسوار، مصاحبة للسنين، مُخَالفَة للأدوار، قد برزت فِي أكمل الأوضاع، وأجمل الأطوار، كرْسِي ملك عَتيق، ومدرج مسك فتيق، وإيوان أكاسرة، ومرقب عِقَاب كاسرة، ومجلى فاتنة حَاسِرَة، وصفقة غير خاسرة، فحماها منيع حريز، وديوانها ذهب إبريز وَمذهب فخار هاله على لآماكن تبريز [إِلَى مَدِينَة تبريز] وحلل بدائعها بالبدائع ذَات تطريز. اضطبنت دَار الأسطول، وساويت الْبَحْر بالطول، واسندت إِلَى جبل الرَّحْمَة ظهرهَا، واستقبلت ملعبها ونهرها، ونشقت وردهَا الأرج وزهرها، وَعرفت قدرهَا فأغلت مهرهَا، وَفتحت جفنها على الجفن غير الغضيض، والعالم الثَّانِي مَا بَين الأوج إِلَى الحضض، دَار الْعَجَائِب المصنوعة، والفواكه غير المقطوعة والممنوعة، حَيْثُ الْأَوَانِي تلقى لَهَا يَد الغلب، ضائع حلب وَالْحلَل الَّتِي تلج صنعا فِيهَا بِالطَّلَبِ، وَتَدْعُو إِلَى الجلب، إِلَى الدست الرهيف ذِي الْوَرق الهيف، وَكفى برمانها حقاق ياقوت، وأمير فَوت، وزائرا غير ممقوت، إِلَى المؤاساة، وتعددت الأساة وإطعام الجائع، والمساهمة فِي الفجائع، وَأي خلق أسرى من استخلاص الأسرى، تبرز مِنْهُم المخدرة حسرى، سامحة بسواريها، وَلَو كَانَا سواري كسْرَى، إِلَى الْمقْبرَة الَّتِي تسرح بهَا الْعين، ويستهان فِي ترويض روضاتها الْعين، إِلَى غللها المحكمة الْبُنيان، الماثلة كنجوم السما للعيان، وافتراض سكناهَا، أَوَان الْعَصْر على الْأَعْيَان، ووفور أولى المعارف والأديان:
(وَأحسن الشّعْر مِمَّا أَنْت قَائِله ... بَيت يُقَال إِذا أنشدته صدقا)
وعَلى ذَلِك فطينها يشقى بِهِ فطينها، وأزبالها تحيي بهَا سبالها، وسروبها يستمد)(2/286)
مِنْهَا مشروبها، فسحبها متغيرة، وكواكب أذمانها النيرة متحيرة، وأقطارها جد شاسعة، وأزقتها حرجة غير وَاسِعَة، وآبارها تفسدها أدبارها، وطعامها لَا يقبل الاختزان، وَلَا يحفظ الْوزان، وفقيرها لَا يُفَارق الأحزان، وجوعها يَنْفِي بِهِ هجوعها، تحث على الأمواج أقواتها، وَتَعْلُو على الموازين غير الْقسْط أصواتها، وأرحيتها تطرقها النوائب، وتصيب أهدافها السِّهَام الصوائب وتعدلها الجنايب، وتستخدم فِيهَا الصِّبَا والجنايب، وديارها الآهلة، قد صم بالنزائل صداها، وأصبحت بَلَاقِع بِمَا كسبت يداها، وَعين أعيانها أثر، ورسم مجادتها قد دثر، والدهر لَا يَقُول لَهَا لمن عثر، وَلَا ينظم شملا إِذا انتثر، وَكَيف لَا يتَعَلَّق الذام، بِبَلَد يكثر بِهِ الجذام، عِلّة بلواه آهلة، والنفوس بمعرة عدواه جاهلة. ثمَّ تَبَسم عَن انْشِرَاح صدر، وَذكر قصَّة الزبْرِقَان بن بدر:
(تَقول هَذَا مجاج النَّحْل تمدحه ... وَإِن ذممت فَقل فيىء الزنابير)
(مدح وذم وَعين الشي وَاحِدَة ... إِن الْبَيَان يرى الظلماء فِي النُّور)
قلت فبلش قَالَ جادها الْمَطَر الصيب، فَنعم الْبَلَد الطّيب، حلى وَنحر، وبر وبحر، ولوز وتين، وسبت من الْأَمْن متين، وبلد أَمِين وعقار ثمين، وفواكه من عَن شمال وَيَمِين، وفلاحة مدعي إنجابها لَا يَمِين. إِلَّا أَن التشاجر بهَا أقمى من الشّجر، والقلوب أقسى من الْحجر، ونفوس أَهلهَا بَيِّنَة الْحَسَد والضجر، وشأنها غيبَة ونممة، وخبث مَا بهَا على مَا سوخ الله من آلائها ثميمة.
قلت فقمارش، قَالَ مُودع الوفر، ومحط السّفر، ومزاحم الفرقد والقفر، حَيْثُ المَاء الْمعِين، والقوت الْمعِين، لَا تخامر قلب الثائر بِهِ خطْوَة وجله. إِلَّا من أَجله. طالما فزعت إِلَيْهِ النُّفُوس الْمُلُوك الأخاير بالذخاير، وَشقت(2/287)
عَلَيْهِ أكواس المرائر فِي الضرائر، وَبِه الأعناب الَّتِي راق بهَا الجناب، والزياتين، واللوز والتين، والحرث الَّذِي لَهُ التَّمْكِين، وَالْمَكَان المكين، إِلَّا أَنه عدم سهله، وَعظم جَهله، فَلَا يصلح فِيهِ إِلَّا أَهله.
قلت فالمنكب قَالَ مرفأ السفن ومحطها، ومنزل عباد الْمَسِيح ومختطها بَلْدَة معقلها منيع، وبردها صقيع، ومحاسنها غير ذَات تقنيع. الْقصر المفتح الطيقان، الْمُحكم الإتقان، وَالْمَسْجِد المشرف الْمَكَان، والأثر المنبي عَن كَانَ وَكَانَ، كَأَنَّهُ مبرد وَاقِف أَو عَمُود فِي يَد مثاقف، قد أَخذ من الدَّهْر الْأمان، وتشبه بصرح هامان، وأرهفت جوانبه بالصخر المنحوت، وَكَاد أَن يصل مَا بَين الْحُوت والحوت. غصت بقصب السكر أرْضهَا، واستوعب بهَا طولهَا وعرضها، زبيبها فائق، وجنابها رائق، وقدمت إِلَيْهَا جبل الشوار، بِنسَب الْجوَار، فَنَشَأَ الأسطول، فوعدها غير ممطول، وأمده لَا يحْتَاج إِلَى الطول، إِلَّا أَن اسْمهَا مَظَنَّة طيرة تشتنف، والتنكيب عَنْهَا يوتنف، وطريقها يمْنَع شَرّ سلوكها، من تودد مُلُوكهَا، وهواؤها فَاسد، ووبأها مستأسد، وجارها حَاسِد، فَإِذا التهبت السَّمَاء، وتغيرت بالسمائم المسميات والأسماء، فأهلها من أجداث بُيُوتهم يخرجُون، وَإِلَى جبالها يعرجون، والودك إِلَيْهَا مجلوب، والقمح بَين أَهلهَا مقلوب، وَالصَّبْر إِن لم يَبْعَثهُ الْبَحْر مغلوب، وَالْحر مَا يعراها وَالْحر بِدَم الْغَرِيب مَطْلُوب.
قلت فشلوبانية، قَالَ أُخْتهَا الصُّغْرَى ولدتها، الَّتِي يشغل بهَا الْمُسَافِر، ويعزى حصانه معقل، وموقب متوقل، وَغَايَة طَائِر، وممتنع ثَائِر، ومتنزه زائر، تركب برهَا الجداول المرفوعة، وتخترق وجهاتها المذانب المنفردة(2/288)
والمشفوعة، فَفِي المصيف، تلعب بِالْعقلِ الحصيف، وَفِي الخريف يسفر عَن الخصب والريف، وحوت هَذِه السواحل أغزر من رمله، تغرى القوافل إِلَى الْبِلَاد بِحمْلِهِ، إِلَى الْخضر الباكرة، وَالنعَم الحامدة للمرء الشاكرة، وَكفى بمترايل من بسيطها محلّة مَشْهُورَة، وعقيلة ممهورة، ووادعة فِي غير السهل مبهورة، جَامعهَا حافل، وَفِي حلَّة الْحسن رافل، إِلَّا أَن أرْضهَا مستخلص السُّلْطَان، بَين الأوطان، ورعيتها عديمة الْأَعْيَان، مروعة على الأحيان، وتختص شلوبانية بمزية الْبُنيان، وَلكنهَا غَابَ الْحَيَّات الحميات، غير أمينة على الافتيات، وَلَا وسيمة الفتيان والفتيات. قلت فبرجة، قَالَ تَصْحِيف وتحريف، وتغيير فِي تَعْرِيف، مَا هِيَ إِلَّا بهجة نَاظر، وشرك خاطر، ونتيجة عَارض ماطر، ودارة نفس عاطر، عقارها ثمين، وحرمها أَمِين، وحسها باد وكمين، عُقُود أعنابها قد قرطت أَذَان الميس والحور، وعقائل أدواحها، مبتسمة عَن ثغور النُّور [وبسيطها متواضع عَن النجد، مترفع عَن الْغَوْر] وعينها سلسالة، وسنابك المذانب مِنْهَا مسالة تحمل إِلَى كل جِهَة رِسَالَة، ودروها فِي العرا مبثوثة، وركائب النواسم بَينهَا محثوثة، لَا تَشْكُو بِضيق الْجوَار، واستكشاف العوار، وتزاحم الزوار، مياه وظلال، وَشَجر وحلال، وَخلق دمث كثراها، ومحاسن مُتعَدِّدَة كقراها، ولطافة كنواسمها عِنْد مسراها، وأعيان ووجوه نجل الْعُيُون، بيض الْوُجُوه، غلتهم الْحَرِير، ومجادتهم غنية عَن التَّقْرِير، إِلَّا أَن متبوأها بسيط مطروق، وقاعدتها فروق، ووتدها مطروق ومعقلها خرب، كَأَنَّهُ أحدب جرب، إِن لم ينْقل إِلَيْهِ المَاء برح بِهِ الظمأ. وَللَّه در صاحبنا إِذْ يَقُول:(2/289)
(يَا بسيطا بمعاني برجة ... أصبح الْحسن بهَا مشتهرا)
(لَا تحرّك بفخار مقولا ... فَلَقَد ألقمت مِنْهَا حجرا)
وَالْبر بهَا ندر الْوُجُود وَاللَّحم تلوه، وهما طيبتا الْوُجُود، والحرف بهَا ذواية الْعود، والمسلك إِلَيْهَا بعيد الصعُود قلت فدلاية، قَالَ خير رِعَايَة وَولَايَة، حَرِير ترفع عَن الثّمن، وملح يُسْتَفَاد على مر الزَّمن، ومسرح مَعْرُوف، وَأَرْض ينْبت بهَا جبن وخروف، إِلَّا أَنَّهَا كسرايا الْعَدو البحري، مجر العوالي، وَمحل الفتكات على التوالي، فطريقها صور ومشاهد، والعارف بهَا زاهد.
قلت فمدينة ألمرية، قَالَ ألمرية هنيَّة مرية، بحريّة بَريَّة، أصيلة سَرِيَّة، معقل الشُّيُوخ والإباية، ومعدن المَال وعنصر الجباية، وجندة الأسطول غير الْمُعَلل وَلَا الممطول، ومحط التُّجَّار وكرم النجار، ورعى الْجَار، مَا شِئْت من أَخْلَاق معسولة، وسيوف من الجفون السود مسلولة، وتكك محلولة، وحضارة تعبق طيبا، وتتأود دوحا رطيبا، ووجوه لَا تعرف تقطيبا، لم تزل مَعَ الظّرْف دَار نساك، وخلوة اعْتِكَاف وإمساك، أرْغم أَهلهَا أنف الصَّلِيب لما عجم، مِنْهَا بِالْعودِ الصَّلِيب، وَألف لامها وألفها حكم التغليب، فَانْقَلَبَ مِنْهَا آيسا عِنْد التقليب:
(يسائل عَن أهل المرية سَائل ... وَكَيف ثبات الْقَوْم والردع يَاسر)
(قطا دارج فِي الرمل فِي يَوْم لِدَة ... وَلَهو وَيَوْم الروع فتح كواسر)
بحرها مرفأ السفن الْكِبَار، وكرسيها هُوَ الْعَزِيز عِنْد الِاعْتِبَار،، وقصبتها سلوة الحزين وفلك المتنزهين، وَهِي مَحل الفلل المجدية، والأندية المشفوعة الأردية، ولواديها المزية على الأودية، حجَّة النَّاظر الْمفْتُون، المكسو الحصور(2/290)
والمتون، بالأعناب وَالزَّيْتُون، بلد الخام والرخام، والذمم الضخام، وحمتها بديعة الْوَصْف، محكمَة الرصف، مَقْصُودَة العلاج والقصف، حرهَا شَدِيد، وَذكرهَا طَوِيل مديد، وأثرها على الْبِلَاد جَدِيد، إِلَّا أَن مغارمها ثَقيلَة، وصفحة جوها فِي المحول صقيلة، وسماؤها بخيلة، وبروقها لَا تصدق مِنْهَا مخيلة دبلالة النطية، منزورة الطية، وسعرها لَيْسَ من الأسعار الوطية، ومعشوق الْبر بهَا قَلِيل الْوِصَال، وَحمل الْبَحْر صَعب الفصال، وَهِي متوقعة إِلَّا أَن يقي الله طُلُوع النصال، دعاة النصال.
قلت فطيرنش من شرقها، قَالَ حَاضِرَة الْبِلَاد الشرقية، وثنية البارقة الأفقية، ماشئت من تنجيد بَيت، وعصير وزيت، وإحياء أنس ميت، وحمام طيب، وشعاب شرفيه دَنَانِير أبي الطّيب، إِلَّا أَنَّهَا محيلة الغيوث عَادِية الليوث متحزبة بالأحزاب، شرهة الأعزاب، وَلَو شكر الْغَيْث شعيرها، أخصب الْبِلَاد عيرها.
قلت فبيرة، قَالَ بَلْدَة صَافِيَة الجو، رحيبة الدو، يسرح بهَا الْبَعِير، ويحجم بهَا الشّعير، ويقصدها من مرسية وأحوازها العير، فساكنها بَين تجر، وابتغاء أجر، وواديها نيلى الفيوض والمدود، مصري التخوم وَالْحُدُود، إِن بلغ إِلَى الْحَد الْمَحْدُود، فَلَيْسَ رزقها بالمحصور وَلَا بالمعدود، إِلَّا أَنَّهَا قَليلَة الْمَطَر، مُقِيمَة على الْخطر، مثلومة الْأَعْرَاض والأسوار، مهطعة لداعي الْبَوَار، خَلِيقَة الْحسن المغلوب، معللة بِالْمَاءِ المحلوب، آخذة بأكظام الْقُلُوب، خاملة الدّور، قَليلَة الْوُجُوه والصدور، كَثِيرَة المشاجرة والشرور، برهَا أنذر من برهَا، فِي الْمُعْتَمِر والبور، وزهد أَهلهَا فِي الصَّلَاة شَائِع فِي الْجُمْهُور، وَسُوء ملكة الأسرى بهَا من الذائع بهَا وَالْمَشْهُور:
(مَا قَامَ خيرك يَا زمَان بشره ... أولى لنا مَا قل مِنْك وَمَا كفا)(2/291)
قلت فمحاقر، قَالَ حصن جَدِيد، وَخير مديد، وبحر مَا على إفادته مزِيد وخصب ثَابت وَيزِيد، ساكنه قد قضى الْحَج أَكْثَره، وَظهر عين الْخَيْر فِيهِ وأثره، إِلَّا أَنه لَا تلقى بِهِ للْمَاء بلالة، وَلَا يسْتَشف للجود علالة.
قلت فقتورية، قَالَ يسَار يَمِينهَا، وغبار كمينها، ومعمول يَمِينهَا، يجود بهَا الْجُبْن وَالْعَسَل، وَفِي دونهَا الأسل، وَأما الْخَبَر فَلَا تسل، وَإِن كَانَت أحسن شكلا، فَأَقل شربا وأكلا، وأحما أَهلا، وآسد جملا، وأعدم علا ونهلا. وَأَهْلهَا شرار، أضلعهم بالظمإ حرار، لَا تلفى بهَا نبعة مَاء، وَلَا تعدم مشقة ظمإ، وَلَا تتوج أفقها إِلَّا فِي الندرة قرعَة سما.
قلت فبرشانة، قَالَ حصن مَانع، وجناب يَانِع، أَهلهَا أولو عَدَاوَة لأخلاق البداوة، وعَلى وُجُوههم نَضرة، وَفِي أَيْديهم نداوة، يدادون بالسلافة على الْخلَافَة، [ويؤثرون لَذَّة التَّخَلُّف على لَذَّة الْخلَافَة] ، فَأصْبح ربعهم ظرفا قد ملىء ظرفا، فللمجون بهَا سوق، وللعيون ألف سوق، تشمر بِهِ الأذيال عَن سوق، وَهِي تلين بعض بَيَان من أَعْيَان، وعَلى وُجُوه نسوانها طلاقة، وَفِي ألسنتهن ذلاقة، ولهن بالسفارة من الْفُقَرَاء علاقَة، إِلَّا أَن جفنها لَيْسَ ندي، سور يَقِيه مِمَّا يتقيه، ودعدها يتَكَلَّم على فِيهِ، وحليها يشقى بالسفيه، ومحياها تسكن حَيَّة الْجور فِيهِ.
قلت فأورية، قَالَ الْجُبْن وَالْعَسَل، والهوا الَّذِي يذهب بِهِ الكسل. وَأما عَن المَاء البرود فَلَا تسل، أدامه الصَّيْد الَّذِي لَا يتَعَذَّر، وقوته الشّعير الَّذِي يبذر. إِلَّا أَنه بَادِي الوحشة والانقطاع، والإجابة لداعي الْمُخَالفَة والإهطاع، وحيش الجناب عرى من شجرات النّخل وَالْأَعْنَاب، حَقِيقَة لمعرة الْعَدو بالاجتناب.
قلت فبلش، قَالَ نفر قصي، وقياد على الْأمان عصي، ويتيم لَيْسَ عَلَيْهِ(2/292)
غير الْعد وَصِيّ، مَاؤُهُ معِين، وصوره عين، وخلوته على النّسك وسواه تعين، وَبِه الْحمام، والعطف الجمام، ولأهله بالصيادة اهتمام، وعسله إِذا لطفت العسول إِمَام، إِلَّا أَنَّهَا بَلْدَة مُنْقَطِعَة باينة، وبأحواز الْعَدو كائنة، ولحدود لورقة، فتحهَا الله مُشَاهدَة مُعَاينَة، وبرها الزهيد الْقَلِيل يتحف بِهِ العليل، وسبيل لِأَن إِلَيْهَا غير سَبِيل، ومرعاها لسوء الْجوَار وبيل.
قلت فمدينة بسطة، قَالَ، وَمَا بسطة بلد خصيب، ومدينة لَهَا من اسْمهَا نصيب، دوحها متهدل، وَطيب هوائها غير متبدل، وناهيك من بلد اخْتصَّ أَهلهَا بالمران فِي معالجة الزَّعْفَرَان، وامتازوا بِهِ عَن غَيرهم من الْجِيرَان، عَمت أرْضهَا السقيا فَلَا تخلف، وشملتها الْبركَة تخْتَص من يَشَاء الله ويزلف، يَتَخَلَّل مدينتها الْجَدْوَل المتدافع والناقح للغلال النافع، ثِيَاب أَهلهَا بالعبير تتأرج، وحورها تتجلى وتتبرج، وولدانها فِي شط أنهارها المتعددة تتفرج، وَلها الفحص الَّذِي يُسَافر فِيهِ الطّرف سعيا، وَلَا تعدم السَّائِمَة بَدْرِيًّا وَلَا رعيا. وَللَّه در الْقَائِل.
(فِي بَلْدَة عودت نَفسِي بهَا ... إِذْ فِي أسماطه وَيَاسِين)
(ألجأني الدَّهْر إِلَى عَالم ... يُؤْخَذ عَنهُ الْعلم وَالدّين)
إِلَّا أَن تربها تفصح الْبَنَّا، فَإِن صَحبه الاعتنا، فأسواره تسْجد عِنْد الْإِقَامَة، وخندقها لإكسارها تلقامه، فَهِيَ لذَلِك غير دَار المقامة، ورياحها عَاصِفَة، ورعودها قاصفة، وحاميتها تنظر إِلَى الْهياج من خلف سياج، والعدو فِيهَا شَدِيد الفتكات معمل الحركات، وساكنها دَائِم الشكاة، وَحدهَا فليل، وأعيانها قَلِيل وعزيزها المتوقع الْمَكْرُوه ذليل.
قلت فأشكر قَالَ نعم الْبَسِيط المديد، والرزق الْجَدِيد، والسقي العديد،(2/293)
وَالصَّيْد والقديد، تركب الجداول فحصها، ويأبى الْكَمَال نَقصهَا، ويلازم ظلّ الخصب شخصها، مسرح للبهائم، ومعدن للربيع الدَّائِم، إِلَّا أَن معقلها لَا يمْنَع، ومكانها يحوم عَلَيْهِ الْحَادِث الأشنع، ونفوس أَهلهَا مستسلمة لما الله يصنع.
قلت فأندرش، قَالَ عنصر جباية، ووطن بهم أولى باية، حريرها ذهب، وتربها تبر منتهب، وماؤها سلسل، وهواؤها لَا يلفي مَعَه كسل، إِلَّا أَنَّهَا ضيقَة الأحواز والجهات، كَثِيرَة المعابر والفوهات، عديمة الْفرج والمتنزهات، كَثِيرَة المغارم، مستباحة الْمَحَارِم، أغرابها أولو استطالة، وأنباء مُتْرَفِيهَا كثير البطالة، فَلَا يعْدم ذُو الضَّرع وَالزَّرْع عُدْوانًا، وَلَا يفقد عين الشَّرّ نزقانا، وطريقها غير سوي، وشأنها ضَعِيف يشكو من قوى.
قلت فقنالش، قَالَ مَعْدن حَرِير خلصت سنابكه، وأثرى بزازه وحابكه وتهدلت حجاله، وتمهدت أرائكه، وجبايته سهل اقتضاؤها، وجمت بيضاؤها، إِلَّا أَنه وَطن عدم إدامه، وبليت ظهر اهتدامه، وفقدت بِهِ حيل التعيش وأسبابه، وَمحل لَا هيم فِيهِ إِلَّا أربابه.
قلت فمدينة وَادي آش، قَالَ مَدِينَة الوطن، ومناخ من غبر أَو قطن، للنَّاس مَا بدا وَالله مَا بطن، وضع سديد، وبأس شَدِيد، ومعدن حَدِيد، وَمحل(2/294)
عدَّة وعديد، وبلد لَا يعتل مِنْهُ إِلَّا النسيم، ومرأى يخجل مِنْهُ الصَّباح الوسيم، كَثِيرَة الجداول والمذانب، مخضرة الجوانب، إِلَى الْفَوَاكِه الْكَثِيرَة والكروم الأثيرة، والسقى الَّذِي يسد الْخلَّة، ويضاعف الْعلَّة، وسندها مَعْدن الْحَدِيد وَالْحَرِير، ومعقلها أهل للتاج والسرير، وَهِي دَار أَحْسَاب وإرث وإكتساب، وآداب وحساب، وماؤها مجاج الجليد، وهواؤها يذكى طبع البليد، إِلَّا أَن ضعيفها يضيق عَلَيْهِ المعاش، وتافهها يتَعَذَّر عَلَيْهِ الانتعاش، وشيخها يَسْطُو على عصبه الارتعاش، فَهِيَ ذَات برد، وَعكس وطرد، ماشئت من لحي راعد، ومقرور على الْخمر قَاعد، وَنَفس صاعد، وفتنة يعد بهَا وَاعد، وشرور تسل الخناجر، وفاخر يَسْطُو بفاجر، وكلف يُهَاجر، واغتمام تبلغ بِهِ الْقُلُوب الْحَنَاجِر، وزمهرير تجمد لَهُ الْمِيَاه، فِي شهر ناجر، وعَلى ذَلِك فدرتها أسمح للحالب، ونشيدها أقرب للطَّالِب، ومحاسنها أغلب، وَالْحكم للْغَالِب.
قلت ففنيانة، قَالَ مَدِينَة، وللخير خدينة، مَا شِئْت من ظبى غزير، وَعصب طرير، وغلة حَرِير، وَمَاء نمير، ودوام للخزين وتعمير، إِلَّا أَن بردهَا كثير، ووقودها نثير، وشرارها لَهُم فِي الْخِيَار تَأْثِير.
قلت فمدينة غرناطة، قَالَ حَضْرَة سنية، وَالشَّمْس عَن مدح المادح غنية، كَبرت عَن قيل وَقَالَ، وحلت عرقا من وَقَالَ، وقيدت الْعقل بعقال، وَأمنت لحَال حسنها من انْتِقَال، لَو خيرت فِي حسن الْوَضع لما زَادَت وَصفا، وَلَا أحكمت رصفا، وَلَا أخرجت أرْضهَا ريحانا وَلَا عصفا، وَلَا أخذت بأشتات الْمذَاهب وأصناف الْمَوَاهِب حدا وَالنَّبِيّ قُولُوا لَو وورولو وَلَا قصفا، كرسيها ظَاهر الإشراف، مطل على الْأَطْرَاف،(2/295)
وديوانها مَكْتُوب بآيَات الْأَنْفَال والأعراف، وهواؤها صَاف، وللأنفاس مصَاف، حجبت الْجنُوب عَنْهَا الْجبَال، فأمنت الوبا والوبال، وَأصْبح ساكنها غير مبال، وَفِي جنَّة من النبال، وانفسحت للشمال، واستوفت شُرُوط الْكَمَال، وَانْحَدَرَ مِنْهَا مجاج الجليد على الرمال، وانبسط بَين يَديهَا المرج، الَّذِي نَضرة النَّعيم لَا تُفَارِقهُ ومدرار النسيم تعلن بهَا مفارقه، ريع من واديه ثعبان مُبين، أَن لدغ ثلول شطه، ثلها للجبين، وَولد حيات المذانب عَن الشمَال وَالْيَمِين، وقلد مِنْهَا اللبات سلوكا تأتى من الْحَصْبَاء بِكُل در ثمين، وَترك الأَرْض مخضرة، تغير من خضراء السَّمَاء ضرَّة الأزهار مفترة، والحياة الدُّنْيَا بزخرفها مغترة.
(أَي وَاد أَفَاضَ من عَرَفَات ... فَوق حمرائها أتم إفَاضَة)
(ثمَّ لما اسْتَقل بالسهل يجْرِي ... شقّ مِنْهَا بحلة فضفاضة)
(كلما انساب كَانَ غصنا صقيلا ... وَإِذا مَا اسْتَدَارَ كَانَ نفاضة)
فتعددت الْقرى والجنات، وحفت بالأناث مِنْهَا الْبَنَات، ورف النَّبَات، وتدبجت الجنبات، وتقلدت اللبات، وَطَابَتْ بالنواسم الهبات، ودارت الأسوار دور السوار للمنى والمستخلصات، ونصبت للروض المنصات، وَقعد سُلْطَان الرّبيع لعرض القصات، وخطب بلبل الدوح فَوَجَبَ الْإِنْصَات، وتمرجت الأعناب، واستنجر بِكُل عذب لجنانها الجناب، وزينت السَّمَاء الدُّنْيَا من الأبراج العديدة بأبراج، ذَوَات دقائق وأدراج، وتنفست الرّيح عَن أراج، أذكرت الْجنَّة كل أمل عِنْد الله وراج، وتبرجت بحمرائها الْقُصُور مبتسمة عَن بيض الشرفات، سافرة عَن صفحات القباب المزخرافات، تقذف بِالنَّهَارِ من بعد المرتقى فيوض بحارها الرزق، وتناغى أذكار المآذن بأسحارها، نغمات الْوَرق، وَكم أطلقت من أقمار وأهلة، وربت من مُلُوك جلة، إِلَى بَحر التمدن(2/296)
الْمُحِيط الاستدارة، الصادع عَن الْأَحْكَام والإدارة، ذِي المحاسن عير المعارة، المعجزة لِسَان الْكِتَابَة والاستعارة، حَيْثُ الْمَسَاجِد العتيقة الْقَدِيمَة، والميازب الْمُحَافظَة للري المديحة، والجسور العريقة، والعوائد المقررة تَقْرِير الْفَرِيضَة، والأسواق المرقومة الإطراق، بنفائس الأذواق، وَالْوُجُوه الزهر، والبشرات الرفاق، والزي الَّذِي فاق زِيّ الأوان، وملأ قُلُوب الْمُؤمنِينَ بالإشفاق. ...
(بلد جللها الله سناء وسنا ... وَأجر السعد منحل لَدَيْهَا رسنا)
(قد أجرت سكرا احما وَرِزْقًا حسنا ... أعجزت عَن مُنْتَهى الْفَخر الْبعيد اللسنا)
يروقك فِي أطراقها حسن الصُّورَة وجمالها. وطرف الصنايع وكمالها، والفعلة وأعمالها، حَتَّى الأطلال وانهمالها وَالسُّؤَال وأسمائها.
(كل عَلَيْهِ من المحاسن لمحة ... فِي كل طور للوجود تطورا)
(كالروض يعجب فِي ابتدانباته ... وَإِذا استجم بِهِ النَّبَات ونورا)
(وَإِذا الْجمال الْمُطلق استشهدته ... ألغيت مَا انتحل الخيال وزورا)
ثمَّ قَالَ، أَي أَمْرِي عري عَن مَخَافَة، وَأي حصافة لَا تقَابلهَا سخافة، وَلكُل شَيْء آفَة، لَكِنَّهَا وَالله بردهَا يطفىء حر الْحَيَاة، وَيمْنَع الشفاه عَن رد التَّحِيَّات، وأسعارها يشمر معيارها بالترهات، وعدوها يعاطي كؤوس الْحَرْب بهاك وهات، إِلَى السكَك الَّتِي بَان خمولها، وَلم يقبل الْمَوْضُوع محمولها، وَالْكرب الَّذِي يجده الْإِنْسَان فِيهَا صَادف إِضَافَة أَو ترفيها، والمكوس الَّتِي تطرد الْبركَة وتلقيها إِلَى سوء الْجوَار، وجفاء الزوار، ونزالة الديار، [وَغَلَاء الْخشب والجيار، وكساد المعايش عِنْد الِاضْطِرَار وامعان الْمَقَابِر وَهِي دَار الْقَرار] وَقصر الْأَعْمَار،(2/297)
وَاسْتِحْلَال الْغَيْبَة والأسحار، واحتقار أولى الْفضل وَالْوَقار، والتنافس فِي الْعقار، وَالشح فِي الدِّرْهَم وَالدِّينَار، باليم وَالنَّار، ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ غفرا، وَإِن لم نقل كفرا، إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ، وبغفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء. وَللَّه در أبي الْعَتَاهِيَة إِذْ يَقُول:
(أَصبَحت الديار لنا فتْنَة ... وَالْحَمْد لله على ذلكا)
(اجْتمع النَّاس على ذمها ... وَمَا نرى مِنْهُم لَهَا تَارِكًا)
قلت فالحمة، قَالَ، أجل الصَّيْد والحجل وَالصِّحَّة، وَإِن كَانَ الْمُعْتَبر الْأَجَل، وتورد الخدود وَإِن لم يطرقها الخجل، والحصانة عِنْد الْهَرَب من الريب، وَالْبر كَأَنَّهُ قطع الذَّهَب، والحامة الَّتِي حَوْضهَا يفهق بالنعيم، مبذولة للخامل والزعيم، تَحت ثنيتها بِالنّسَبِ إِلَى ثنية التَّنْعِيم، قد ملأها الله اعتدالا، فَلَا تَجِد الْخلق اعتياضا وَلَا استبدالا، وأنيط صخرتها الصماء عذبا زلالا، قد اعتزل الكور اعتزالا، لَكِن مزارعها لَا ترْوِيهَا الجداول، وَلَا ينجدها إِلَّا الْجُود المزاول، فَإِن أخصب الْعَام، أعيي الطَّعَام، وَإِن أخلف الإنعام، هَلَكت النَّاس والأنعام، والفواكه يطرف بهَا الجلب، وتزر عَلَيْهَا العلب، وعصيرها لَا يَلِيق لَا بِالْأَكْلِ وَلَا يصلح للحلب، وبردها شَدِيد، وَإِن لم يقْض بِهِ المنقلب.
قلت فصالحة، قَالَ. لَوْلَا أَنَّهَا مناخ لم تذكر، فَلَيْسَتْ مِمَّا يذم وَلَا يشْكر، وَإِن كَانَ مَاؤُهَا فضيا، وَوجه جوها وضيا، وعصيرها مرضيا، وَرِزْقهَا أرضيا، وفضلها ذاتيا لَا عرضيا، فَهِيَ مهب نسف، وَدَار خسف، وَأَهْلهَا بهم لَيْسَ لأحد مِنْهُم فهم.
قلت فإلبيرة ومنتفريد، قَالَ بَلَدا ارتفاق بِإِجْمَاع وإصفاق، مَعْدن الْبر(2/298)
الذكى، وَالصَّيْد الذكي، وهما ذَا شَاهِق، ومصرخ ناهق، ومعدن بر فائق، إِن لم يعق من عَدو القلعة عائق.
قلت فلوشة قَالَ مرأى بهيج، ومنظر يروق ويهيج، ونهر سيال، وغصن مياد ميال، وجنات وعيون، ولذات لَا تمطل بهَا دُيُون، وجداول تنضح بهَا الجوانح، ومحاسن يشغل بهَا من وَكره السايح، وَنعم يذكر بهَا الْمَائِع المانح، مَا شِئْت من رحى تَدور، ونطف تشفى بهَا الصُّدُور، وصيد ووقود، وإعنات كلما زانت اللبات عُقُود، وأرانب تحسبهم أيقاظا وهم رقود، إِلَى مَعْدن الْملح، ومعصر الزَّيْت، وَالْخضر المتكلفة بخصب الْبَيْت، والمرافق الَّتِي لَا تحصر إِلَّا بعد الكيت، وَالْخَارِج الَّذِي عضد مسحة الملاحة بجدوى الفلاحة، إِلَّا أَن داخلها حرج الْأَزِقَّة، أَحول أَهلهَا مائلة إِلَى الرقة، وأزقتها قذرة، وَأَسْبَاب التَّصَرُّف فِيهَا متعذرة، ومنازلها لترامل الْجند نازلة، وعيون الْعَدو لثغرها الشنيب مغازلة.
قلت فأرجدونه، قَالَ شَرّ دَار، وطلل لم يبْق مِنْهُ غير جِدَار، ومقام يرجع الْبَصَر عَنهُ إِلَيْهِ وَهُوَ حاسر، وعورة ساكنها لعدم الما مستأسر، وقومها ذُو بطر وأشر، وشيوخها تيوس فِي مسالح بشر، طغام، من يقوت مِنْهُم أَو يعول التيوس والوعول، وحرثها مقل، وخلقها حسد وغل.
قلت فأنتقيرة، قَالَ، مَحل الْحَرْث والإنعام، ومبذر الطَّعَام، والمرآة الَّتِي يتجلى فِيهَا وُجُوه الْعَام، الرحب والسهل، والثبات الطِّفْل، والمنسم والكهل، والوطن والأهل. ساحتها الجداول فِي فحصها الأفيح، وسالت وانسابت حَيَاة المذانب، فِي سقيها الرحب الجوانب، وانسالت لَا تَشْكُو من نبو ساحة، وَلَا تسفر(2/299)
إِلَّا عَن ملاحة، وَلَا تضاهي فِي جدوى فلاحة، إِلَّا أَنَّهَا جرداء الْخَارِج، فل مارد ومارج، وَشدَّة فرجهَا بارج، لَا تصطبنها المسلحة للاتساع، [الذرع الوساع] ، قَليلَة الْفَوَاكِه، عديمة الملاطف والفاكه، أَهلهَا أولو سرُور وغرور، وَسلَاح مَشْهُور، وقاهر ومقهور لَا تقبل غَرِيبا، وَلَا تعدم من الْعَدو تثريبا.
قلت فذكوان، قَالَ، روض وغدير، وفواكه جلت عَن تَقْدِير، وخورنق وسدير، ومائدة لَا تفوتها فَائِدَة، دارت على الطَّحْن الغرير أحجارها، والتفت أشجارها، وطاب هواؤها، وخفق بالمحاسن لواؤها. إِلَّا أَنَّهَا ضَالَّة سَاقِطَة، وحية ترتقب لاقطة، لَا تدفع عَن قُرْطهَا وسوارها بأسوارها، وَلَا تمنع نزع صدارها بجدارها، قَضَت بقلة أعيانها، حَدَاثَة بنيانها.
قلت فقرطمة، قَالَ: الكرك الَّذِي يُؤمن عَلَيْهِ الدَّرك، وَإِن عظم المعترك، جوها صَاف فِي مبشتى ومصطاف، وتربها للبر مصَاف، وعصيرها بِالْكَثْرَةِ ذُو اتصاف. إِلَّا أَن المَاء بمعقلها مخزون، وعتاد مَوْزُون، وَأَهْلهَا فِي الشدائد لَا يجزون، أَيْديهم بالبخل مغلولة، وسيوف تشاجرهم مسلولة.
قلت فمدينة رندة، قَالَ، أم جنَّات وحصون، وشجرة ذَات غصون، وجناب خصيب وَحمى مصون، بلد زرع وضرع، وَأهل وَفرع، مخازنها بِالْبرِّ مَالِيَّة، وأقواتها جَدِيدَة وبالية، ونعمها بجوار الْجَبَل مُتَوَالِيَة، وَهُوَ بلد أَعْيَان وصدور، وشموس وبدور، ودور أَي دور، وَمَاء واديها يتَوَصَّل إِلَيْهِ فِي حدور، بِحكم مَقْدُور، وَفِي أَهلهَا فضاضة وغضاضة، مَا فِي الكلف بهَا غَضَاضَة، تلبس نساؤها الموق، على الأملد المرموق، ويسفرن عَن الخد المعشوق، وينعشن قلب المشوق، بالطيب المنشوق. إِلَّا أَن الْعَدو طوى ذيل برودها](2/300)
وغصب بنياتها وَكَيف السَّبِيل إِلَى ردهَا، وأضاق خَارِجهَا، وخفض معارجها، وَأَعْلَى طائرها ودارجها.
فَلَمَّا بلغ هَذَا الْحَد، قَالَ: هَل اكتفيت، فقد شرحت صدرك وشفيت، وَبِمَا طلبت مني قد وفيت، يَا بني كَأَنِّي بالصباح السافر، وأدهم الظلام النافر قد أحفل أَمَام منتبه الوافر، وَترك من الْهلَال نعل الْحَافِر، وَنَفْسِي مطيتي، وَقد بلغت اللَّيْلَة طيتي، وأجزلت عطيتي، فلنجم بالحمض، ونلم بالغمض، وَأَنا بعد نزيلك، أَن سرني جزيلك وعديلك، أَن ضحك إِلَى منديلك وسميرك، إِن رواني نميرك، فبادرت البدرة، والصرة فافتضفتها، والعيبة فنفضتها، والمعادن فأفضتها. فَقَالَ بوركت من مراس، وَأنْشد قَول أبي نواس:
(مَا من يَد فِي النَّاس وَاحِدَة ... كيد أَبُو الْعَبَّاس أولاها)
(نَام الثِّقَات على مضاجعهم ... وسرى إِلَى نَفسِي فأحياها)
ثمَّ قَالَ، نم فِي أَمَان من خطوب الزَّمَان، وقم فِي ضَمَان من وقاية الرَّحْمَن، فلعمري، وَمَا عمري عَليّ بهين، وَلَا الْحلف لدي بمتعين، لَو كَانَ الْجُود ثمرا لَكُنْت لبَابَة، أَو عمرا لَكُنْت شبابه، أَو منزلا لَكُنْت بَابه، فَمَا هُوَ إِلَّا أَن كحلت جفني بميل الرقاد، وَقد سَلس المقاد، وَقَامَ فيمَ الخان إِلَى عَادَة الافتقاد، وبادر سراجه الإيقاد. وَنظرت إِلَى مَضْجَع الشَّيْخ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَن يبر أطماره. وروت حِمَاره، فَخرجت لإيثاره مقتفيا لآثاره فَكَأَن العلك لفه فِي مَدَاره، أَو خسفت الأَرْض بِهِ وَبِدَارِهِ، وسرت، وَفِي قلبِي لبينة، وَذَهَاب أَثَره وعينه حرقة، وَقلت متأسيا لكل اجْتِمَاع من حبيبين فرقة.(2/301)
الْمجْلس الثَّانِي
قَالَ الْمخبر: فَلَمَّا اندمل جرح الْفِرَاق، بعد طول، وزمان مطول، ومحى رسم التَّذَكُّر تكَرر فُصُول، ونصول خطاب وخطاب نصول، بَينا أَنا ذَات يَوْم فِي بعض أسواق الْغُبَار، أسرح طرف الِاعْتِبَار، فِي أُمَم تنسل من كل حدب، وتنتدب من كل منتدى، مَا بَين مُشْتَمل الصماء يلويها، ولائث الْعِمَامَة لَا يسويها. وصاعد من غور، ومتظلم من جور، وممسك بذنب عير أَو رفق ثَوْر يموجون، وَمن الأجداث يخرجُون، كَأَنَّهُمْ النَّمْل نشرها، وَقد برزت إِلَى الشَّمْس من منظر الأمس، يشيرون بأجنحة الأكسية، ويتساقطون على ثمار الْقلب، وأستار الأحسية، وَقد اصطف ذابحوا الْجَزُور، وَبَايَعُوا اللبوب والبذور، ولصق بالأملياء حللة العقد، وَشَهَادَة الزُّور، وَنظرت فِي ذَلِك الْمُجْتَمع الهائل الْمرَائِي والمستمع، إِلَى درسة غي، وطهاة عي، ورقاة جُنُون، بضروب من القَوْل وفنون، وَفهم كهل قد استظل بقيطون، وسل سيف الأطون، وتحدى برقية لديغ ومداواة سبطين، قد اشْتَمَل بسمل غباره، وَبَين يَدَيْهِ عيار فِي جلد فاره، وَطعن من إطْعَام كفاره، وأمامه تلميذ قد شمر الأكمام والتفت الْخلف والأمام، وَصرف لوحي لحظه الاهتمام، وَهُوَ يأسو ويجرح [ويتحكم بِلِسَان الْقَوْم ثمَّ يشْرَح] ويقيد من حَضَره بِقَيْد الْعَزِيمَة فَلَا يبرح، وَيَقُول أَيهَا البهم السارح، والحزب المسرور بِمَا لَدَيْهِ الفارح، والسرب الَّذِي تقتاته الْوُلَاة الْبَغي الْجَوَارِح، ضرفتهم غرُوب اعتنايكم لنسائكم وأبنائكم، وذهلتم عَمَّن جعلتم بفنائكم، وجعلتم تطمعون وتجمعون إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ، من وَقعت عَليّ مِنْكُم عينه، فقد رأى فاتح أقفال الأسمار، ومثبت الْفِرَار، ومصمت الْإِفْك الصرار، ومقدر مياه الْآبَار بسير الْغُبَار، ومخرج الأضمار فِي الْمِضْمَار، وَمذهب الْمس، وطارد(2/302)
الْعمار، أَنا قَاطع الدما إِذا نزفت، وَكَاشف الغما إِذا انكشفت، أما الْإِبِل فَلَا تجْرِي، وأحط حول الْحمى فَلَا تَدْنُو السبَاع وَلَا تقرب، وأذخر بهَا، فَلَا تتسلل الْحَيَّة وَلَا تدب الْعَقْرَب، وَإِن تغيب الشَّمْس لوقت مَحْدُود طمس فِيهِ نورها، وَإِن وعدت الأَرْض بَرى مَحْمُود فار تنورها، وَإِن كتبت لعقد النِّكَاح انْحَلَّت، وَإِن عقدت خطى الضَّالة وقفت حَيْثُ حلت، وَإِن زجرت الْجُنُون تركت وخلت، وَإِن انتثرت الدفائن، أَلْقَت الأَرْض مَا فِيهَا وتخلت، أَنا جردت الْبَيْضَة الشُّعَرَاء، أَنا زوجت الْفَتى الشَّرْقِي من الْجَارِيَة الْعَذْرَاء، أَنا صافحت الْملك ورصدت الْفلك، ومزجت بسر الْحِكْمَة الضياء والحلك، فاحتقرت، وَمَا ملك دَعَوْت، علم الطباع فأطاع [وَقطعت شكوك الهينة بالشكل اقتطاع] وَقلت بِالْقدرِ والاستطاع، وسبقت فِي صناعَة الْبُرْهَان يَوْم الرِّهَان، ورضت صعاب الرياضيات، حَتَّى ذل قيادها، وَسَهل انقيادها، وَعدلت الْكَوَاكِب، واختبرت الْقُلُوب البابانية والمناكب، وبشرت عِنْد رُجُوع خنسها بالغيوث السواكب، ورهبت بالامتحان على صناعَة الألحان، وقرأت مَا بعد الطبيعة، وناظرت قسيس الْبيعَة، وأعملت فِي فن الْأُصُول مرهفة النصول، وأحكمت أمزجة الطباع وطبائع الْفُصُول، وامتزت بالبروع فِي الْفُرُوع [وَقمت فِي الْعَهْد الحَدِيث بِالْحَدِيثِ، وحزت فِي علم اللِّسَان دَرَجَة الْإِحْسَان] وحققت قسْمَة الْفُرُوض، وَعدلت الشّعْر بميزان الْعرُوض، وعبرت حلم النّوم، ولبست الْخِرْقَة بِشُرُوط الْقَوْم، ولزمت خلْوَة الذّكر ومعتكف الصَّوْم. وَأما معرفتي بالأخبار وذرع الأَرْض بالأشبار، مَا بَين جليقية إِلَى الأنبار، وأوصاف المدن الْكِبَار، فقد ثَبت بِالِاعْتِبَارِ.
قَالَ، فأثار قديمي، وأذكرنى بنديمي، فَقلت، الله أكبر، ووضح الْخَبَر(2/303)
والمخبر، فخضت الْقُدس بيني وَبَينه، وهم بَحر زاخر، وَأول لَيْسَ لَهُ آخر، وبهم يسخر مِنْهُ الساخر، مَا بَين كَبْش مجتر، وَعجل ناخر، وَقلت، أَيهَا الحبر ضالتي قريب أمدها، ومعروف معتمدها، وعَلى ذَلِك فالشكر ممنوح والرفد طوفان نوح، فألان العريكة، وَسلم النطع والأريكة، وَقَالَ إجل أعرض، وَانْزِلْ السُّؤَال وأقرض، فَقلت، بِي إِلَى تعرف الْبلدَانِ جنوح وجنون، وَالْجُنُون فنون، وَقد ظَفرت قبلك بنقاب، وعود احتقاب وبسارب نقاب، حصل بِهِ من طلى الشُّكْر، وَبِك يتم السطر ويعظم الْخطر، فَقَالَ النَّاس مُتَّهم ومنجد، وخاذل ومنجد، وَلَا تجود يَد بِمَا تَجِد، وَالله المرشد، وَجعل ينشد:
(إِذا المشكلات تصدين لي ... كشفت غوامضها بِالنّظرِ)
(وَلست بائقة فِي الرِّجَال ... أسائل هَذَا وَذَا مَا الْخَبَر)
(ولكنني مدرب الأصفرين ... أبين مَعَ مَا مضى مَا غبر)
ثمَّ قَالَ هَات، أَمن عقدك الشُّبُهَات.
قلت مَا تَقول فِي باديس، قَالَ، بدأت بحمدلة الرقعة، وبركة الْبقْعَة، ومدفن الْوَلِيّ، ومظهر النُّور الجلى، والنحر غير العاطل وَلَا الخلي من الحلى، بلد السراوة والشجاعة، والإيثار على فرض الْجَمَاعَة، والنفوس الأوابة إِلَى الله الرجاعة، حَيْثُ الْبر والحوت، والخشب الَّذِي ينشأ مِنْهَا كل منحوت، والبأس والإقدام، والفاكهة الطّيبَة والإدام، وَرب الْجبَال، وَفضل المدافعة لصب السبال، إِلَّا أَنَّهَا موحشة الْخَارِج [وعرة المعارج] مجاورة من غمارة بالمارد المارج، فهم ذُو دَبِيب فِي مدارج تِلْكَ الغرابيب، وكيدهم ببركة الشَّيْخ فِي تثبيت.
قلت فمدينة سبتة، قَالَ، عروس تِلْكَ المجلى، وتنية الصَّباح الأجلى، تبرجت تبرج العقيلة، وَنظرت وَجههَا من الْبَحْر فِي الْمرْآة الصقيلة، واختص(2/304)
ميزَان حسناتها بِالْأَعْمَالِ الثَّقِيلَة، وَإِذا قَامَت بيض أسوارها [مقَام سوارها] وَكَانَ جبل بنيونس شماتة أزهارها، والمنارة مَنَارَة سوارها، كَيفَ لَا ترغب النُّفُوس فِي جوارها، وتخيم الخواطر بَين أنجادها وأغوارها، إِلَى الميناء الغالية، والمراقي الفلكية، والمركبة الزكية غير المنزورة وَلَا البكية، حَيْثُ الْوقُود الجزل، الْمعد للأزل، والقصور الْمَقْصُورَة، على الْجد والهزل، وَالْوُجُوه الزهر السحن، المضنون بهَا عَن المحن، دَار الناشية والحامية، المضرمة للحرب المناشية، والأسطول المرهوب الْمَحْذُور الألهوب، وَالسِّلَاح الْمَكْتُوب المحسوب، وَالْأَمر الْمَعْرُوف الْمَنْسُوب، كرْسِي الْأُمَرَاء والأشراف، والوسيطة لخامس أقاليم البسيطة، فَلَا حَظّ لَهَا فِي الانحراف، بصرت عُلُوم اللِّسَان، وَصَنْعَاء الْحلَل الحسان، وَثَمَرَة قَوْله، أَن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان، الأمينة على الاختزان، القويمة الميكيال وَالْمِيزَان، محشر أَنْوَاع الْحيتَان، ومحط قوافل الْعصير وَالْحَرِير والكتان، وكفاها السُّكْنَى ببنيونش فِي فُصُول الزَّمَان، وَوُجُود المساكن النبيهة بأرخص الْأَثْمَان، والمدفن الموهوم غير المزحوم، وخزانة كتب الْعُلُوم، والْآثَار المنبية عَن أَصَالَة الحلوم، إِلَّا أَنَّهَا فاغرة أَفْوَاه الْجنُوب للغيث المصبوب، عرضة للرياح ذَات الهبوب، عديمة الْحَرْث، فقيرة من الْحُبُوب، ثغر تنبو فِيهِ الْمضَاجِع بالجنوب، وناهيك من حَسَنَة تعد من الذُّنُوب، فأحوال أَهلهَا رقيقَة، وتكلفهم ظَاهر مهما عرضت وَلِيمَة أَو عقيقة، واقتصادهم لَا تَلْتَبِس مِنْهُ طَريقَة، وأنساب نفقاتهم فِي تَقْدِير الأرزاق عريقة، فهم يمحصون البلالة، مص المحاجم [بِالشَّرِّ الهاجم] [ويجعلون الْخبز فِي الولائم بِعَدَد الجماجم، وفتنتهم فِي بلدهم فتْنَة الواجم بالبشر المناجم] وراعى الْحَدث، بالمطر الساجم، فَلَا يفضلون على مدينتهم(2/305)
مَدِينَة، الشَّك عِنْدِي فِي مَكَّة وَالْمَدينَة.
قلت فطنجة، قَالَ، الْمَدِينَة المعادية، والبقعة الَّتِي لَيست بالخبيثة وَلَا بالردية، إِلَيْهَا بالأندلس كَانَت نِسْبَة المغاربة، وَالْكتاب الْمُحَاربَة، والرفق السابحة فِي الأَرْض الضاربة. سورها لَيْسَ بمثلوم، وساكنها غير ملوم، وفضلها مَعْلُوم، ودارها لَيست بدار لوم. ميدان أَفْرَاس كَبِير، ومعدن ضد وذكير، مثلت بَين الْمنَار والقالة، وحكماها فِي التَّفْضِيل، فأشكل الحكم وتعذرت الْمقَالة، وَلم يَصح البيع وَلَا وَجَبت الْإِقَالَة، [هذي سَمَاء بروج] وهذي أزهار مروج، وَكِلَاهُمَا مركب سرُور وسروج، [ومسمع فروج] ومطعم غَدِير ومروج. وديارها نبيهة. وعَلى الْجُمْلَة فأحوالها بأحوال جارتها شَبيهَة، لَكِن رملها يحشو الْعين بالذرور عِنْد الْمُرُور، وَيدخل الدّور، وَيفْسد الْقُدُور. ورياحها لَا تسكن إِلَّا فِي الندور، وظلمة جوها متسببة عَمَّا وراها من مغرب الشموس والبدور، وَعين فرقان أعذب عيونها مَشْهُور بتواليد الْهَرج، قُرْآن عِنْد النَّاس غير ذِي عوج. وَيذكر أَن سُلَيْمَان اختصها بسخر مَوَدَّة الْجِنّ، فيعثر على أواني ملئت ريحًا تثير تبريحا، ويسندون [لذَلِك إفكا صَحِيحا] .
قلت فقصر كتامة، فَقَالَ، مغرد عندليب، وعنصر بر وحليب، ومرعى سَائِمَة غَائِبَة [ومسرح بَهِيمَة فِي الْجَحِيم هائمة، ومسقط مزنة عائمة] وديمة دائمة. وَبِه التفاح النفاح، ترتاح إِلَى شمه الْأَرْوَاح، يقذف إِلَيْهَا المسا والصباح، ويتفنن فِيهِ الْحَرَام والمباح، والسمك كَمَا جردت الصفاح، إِذا استنجز الكفاح وَطَرِيقه مَسْلَك الْقَافِلَة، وببابه الشئون الحافلة، ينسل إِلَيْهَا من غمارة، قرود وفهود، وَأمة صَالح وَهود. ذَلِك يَوْم مَجْمُوع لَهُ النَّاس وَذَلِكَ يَوْم مشهود. إِلَّا أَنه قدر قد تهدم، وَدَار الندوة لَام ملدم، ومثير الهائج الموار، وثائر الدَّم،(2/306)
جثم الهوا الْخَبيث فِي بطيحته وربض، وانبسط وَمَا انقبض، وجبر ليله عَسْكَر البعوض الهاجم، دربة بمص المحاجم. وَأما وحله، فَلَا يعبر وَلَا يسبر، وَإِن أسهبت الْعبارَة وَالْأَمر أكبر. قلت فأصيلا، قَالَ، كَثِيرَة الْمرَافِق، رَافِعَة فِي الخصب اللِّوَاء الخافق، الْعصير الْأَثِير، والحوت الْكثير وَالْبر الغزير، والإدام الَّذِي يَرْمِي بِهِ من حكم عَلَيْهِ بالتعزير، والسفن المترددة، وفيهَا الملد الأبازير. إِلَّا أَن حصنها من المنعة بَرى، وساكنها بربرى، وجارها من غمارة جرى.
قلت فمدينة سلا، قَالَ، العقيلة المفضلة، والبطيحة المخضلة، [وَالْقَاعِدَة الموصلة، والسدرة المفصلة] ذَات الوسامة والنضارة، والجامعة بَين البداوة والحضارة، مَعْدن الْقطن والكنان، والمدرسة والمارستان والزاوية كَأَنَّهَا الْبُسْتَان، والوادي المتعدد الأجفان [والقطر الآمن الرجفان] والعصير الْعَظِيم الشَّأْن، والأسواق المحازة حَتَّى برقيق الْحيتَان. اكتنفها المسرح وَالْخصب الَّذِي لَا يبرح، وَالْبَحْر الَّذِي يأسو ويجرح. وشقها الْوَادي يتمم محاسنها ويشرح، وقابلها الرِّبَاط الَّذِي ظهر بِهِ من الْمَنْصُور الِاغْتِبَاط، حَيْثُ القصبة والساباط، وَوَقع مِنْهُ بنظرة الاعتباط، فاتسع الْخرق، وَعظم الاشتطاط، وَبعد الْكَمَال يكون الانحطاط، إِلَى شامة مرعى الذمم، ونتيجة الهمم، وشمخ الأنوف ذَوَات الشمم، وعنوان الذمم، حَيْثُ الْحَسَنَات المكتتبة، والأرزاق الْمرتبَة، والقباب كالأزهار، مجودة بِذكر الله آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار، وطلل حسان الْمثل فِي الاشتهار. وَهِي على الْجُمْلَة من غَيرهَا أوفق، ومغارمها لاحترام الْمُلُوك الْكِرَام أرْفق،(2/307)
ومقبرتها المنضدة عجب فِي الانتظام. مَعْدُودَة فِي الْمرَافِق الْعِظَام، وتتأتى بهَا للعباد الْخلْوَة، وَيُوجد عِنْدهَا للهموم الشلوة، كَمَا قَالَ ابْن الْخَطِيب:
(وصلت حثيث السّير فِيمَن فَلَا الفلى ... فَلَا خاطرت لما نأى وانجلى انجلا)
(وَلَا نسخت كربي بقلبي سلوة ... فَلَمَّا سرى فِيهَا نسيم سلا سلى)
وَكفى بالشابل رزقا طريا، وسمكا بالتفضيل حريا، يبرز عدد قطر الديم، وَيُبَاع ببخس الْقيم، ويعم حَتَّى المجاشر النائية والديم. إِلَّا أَن ماءها لَا يرْوى بِهِ وَارِد، لَا كريم وَلَا بَارِد، وإلفها شارد، والخزين بهَا فَاسد، وبعوضها مستأسد راضع غير مفطوم [خَالع للعذار غير محطوم] وَاسع للحد والخرطوم، تصغى لرنته الْأَذَان، ويفتك بوخز اللِّسَان، كالقوس تصمى الرمايا وَهِي مرنان، وديارها فِي المَاء دَار عُثْمَان، وطواحنها عالية الْأَثْمَان، وكثبانها تلوث بيض الثِّيَاب طي العياب، وعابر واديها إِلَى مأرب أكيد فِي تنكيد، إِلَى غَلَبَة الْإِمْسَاك، وخوض النساك، وَكَثْرَة أَرْبَاب الخطط، والإغيا فِي الشطط، تذود عَن جناتها للأسد جنان، فَلَا يلتذ بقطف العنقود مِنْهَا بنان، وَفِي أَهلهَا خفَّة، وميزانها لَا تعتدل مِنْهَا كفة. قلت فانقا، قَالَ، جون الْحَط والاقلاع ومجلب السلاع، تهوى إِلَيْهَا النَّفس شارعة، وتبتدر مسارعة، تصارف برهَا الذَّهَبِيّ بِالذَّهَب الإبريز، وتراوح برهَا وتفاديه بالتبريز.
(يكثر الطير حَيْثُ ينتشر ... الْحبّ وتغشى منَازِل الكرماء)
وخارجها يفضل كل خَارج، وقنيصها يجمع بَين طَائِر ودارج، وفواكهها طيبَة وأمطارها صيبة، وكيلها وافر، وسعرها عَن وَجه الرخَاء سَافر، وميرتها لَا يَنْقَطِع لَهَا خف وَلَا حافر. لَكِن مَاؤُهَا وهواؤها عديما الصِّحَّة، وَالْعرب عَلَيْهَا فِي الْفِتَن ملحة، والأمراض عَلَيْهَا تعيث وتعبث، والخزين لَا يلبث.(2/308)
قلت فأزمور، قَالَ جَار وَاد وريف، وعروس ربيع وخريف، وَذُو وضع شرِيف، أطلت على واديه المنارة والمراقب، كَأَنَّهُمَا النُّجُوم الثواقب، وجلت عَن خصبه المناقب، وقمين الْمرَافِق نهره المجاور وبحره المصاقب، بلد يخزن الأقوات، ويملأ اللهوات، بَاطِنه الْخَيْر، وأمامه اللَّحْم وَالطير، وساكنه رفيه، ولباسه يتَّخذ فِيهِ، ومسكنه نبيه، وصوته الشابل لَيْسَ لَهُ شَبيه، لَكِن أَهله إِنَّمَا حرثهم وحصادهم اقتصادهم، فَلَا يعْرفُونَ إرضاخا وَلَا وردا نضاحا، يترامون على حَبَّة الْخَرْدَل بالجندل، ويتضاربون بِالسُّيُوفِ على الْأَثْمَان والزيوف، بربري لسانهم، كثير حسانهم، قَلِيل إحسانهم، يكثر بَينهم بِالْعرضِ الافتخار، ويعدم ببلدهم المَاء وَالْملح والفخار.
قلت فتيط، قَالَ، مَعْدن تَقْصِير، وبلد بَين مجْرى وَمَاء وعصير، للأولياء بِهِ اغتباط، ومسجدها يضيق عَنهُ المداين، منارا عَالِيا، وبقلادة الْأَحْكَام حاليا. إِلَّا أَن خَارِجهَا يروق عين الْمُقِيم وَالْمُسَافر، وَلَا يشوق بِحسن مُسَافر، ومؤمنة تشقى بصداع كَافِر، وحماه عَدو كل خف وحافر، فلولا ساكنها، لم يلبس يَوْم فَخر وَلم ينْبت أَي صَخْر.
قلت فرباط آسفي، قَالَ، لطف خَفِي، وجناب حفي، ووعد وَفِي، وَدين ظَاهره مالكي، وباطنه حَنَفِيّ. الدماثة وَالْجمال، وَالصَّبْر وَالِاحْتِمَال، والزهد وَالْمَال وَالْجمال [والسذاجة والجلال] قَليلَة الإخوان، صابرة على الاختزان، وافية الْمِكْيَال وَالْمِيزَان، رَافِعَة اللِّوَاء بِصِحَّة الْهَوَاء، بلد مَوْصُوف برفيع ثِيَاب الصُّوف، وَبِه تربة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد صَالح، وَهُوَ خَاتِمَة المراحل المسورات من ذَلِك السَّاحِل. لَكِن مَاؤُهُ قَلِيل، وعزيره لغاديه من يواليه من الْأَعْرَاب ذليل.
قلت فمدينة مراكش، قَالَ فتنفس الصعدا، وأسمع البعدا، وَقَالَ درج(2/309)
الحلى، وبرج النُّور الْجَلِيّ، وتربة الْوَلِيّ، وحضرة الْملك الأولى، وَصرح النَّاصِر الْوَلِيّ، ذَات المقاصر والقصور، وغابة الْأسد الهصور وسدة النَّاصِر والمنصور، بَعدت من المركز دارتها، وسحرت الْعُيُون شارتها، وَتعبد الإيماءة إشارتها، وخاضت الْبَحْر الخضم بدارتها وبشارتها. اقتعدت الْبَسِيط المديد، واستظهرت بتشييد الأسوار وأبراج الْحَدِيد، وَبكى الْجَبَل من خشيتها بعيون الْعُيُون، فسالت المذانب كصفاح القيول، وقيدت طرف النَّاظر الْمفْتُون أدواح الشّجر بهَا وغابات الزَّيْتُون. مَا شِئْت من انفساح السكَك، وامتداد الباع فِي ميدان الانطباع، وتجويد فنون المجون بِالْمدِّ والإشباع، زيتها للمزمن يعصر، وَخَيرهَا يمد وَلَا يقصر، وفواكهها لَا تحصر. فَإِذا تنافس الْحر وَالْبرد وَتَبَسم الزهر، وخجل الْورْد، وكسا غدرانها الحائرة الْخلق السرد، قلت انجز لِلْمُتقين من الْجنَّة الْوَعْد، وساعد السعد، وَمَا قلت إِلَّا بِالَّذِي عملت سعد. ومنارها الْعلم فِي الفلاة، ومنزلته فِي المآذن منزلَة والى الْوُلَاة. إِلَّا أَن هَواهَا مُحكم فِي الجباه والجنوب يحمى عَلَيْهَا بكر الْجنُوب، وحمياتها كلفة بالجسوم، طالبة ديونها بالرسوم، وعقاربها كَثِيرَة الدبيب، منغصة مضاجع الحبيب، وحزابها موحش هائل، وَبعد الأخطار عَن كثير من الأوطار بهَا مائل، وعدوها ينتهب فِي الفتق أقرانها، وجرذان الْمَقَابِر تَأْكُل أمواتها وَكَانَت أولى الْمنَازل بالأعياد، لَو أَنَّهَا الْيَوْم مَعْدُودَة فِي الْأَحْيَاء.
قلت فأغمات، قَالَ، بَلْدَة لحسنها اشتهار، وجنة تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار، وشمامة تتضوع مِنْهَا الأزهار، مُتعَدِّدَة الْبَسَاتِين، طامية بحار الزياتين، كَثِيرَة الْفَوَاكِه وَالْعِنَب والتين، خَارِجهَا فسيح المذانب فِيهِ تميح، وهواؤها صَحِيح، وقبولها بالغريب شحيح، وماؤها نمير، وَمَا وردهَا ممد للبلاد وممير. إِلَّا أَن أَهلهَا(2/310)
يوصفون بنوك وَذُهُول، بَين شُبَّان كهول، وخرابها يهول، وعدوها تضيق لكثرته السهول، فأموالها لعدم المنعة فِي غير ضَمَان، ونفوسها لَا تعرف طعم أَمَان.
قلت: فمدينة مكناسة، قَالَ، مَدِينَة أَصْلِيَّة، وَشعب للمحاسن وفصيلة، فَضلهَا الله ورعاها، وَأخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها، فجانبها مريع، وَخَيرهَا سريع، ووضعها لَهُ فِي فقه الْفَضَائِل تَفْرِيع، عدل فِيهَا الزَّمَان، وانسدل الْأمان، وفاقت الْفَوَاكِه فواكهها، وَلَا سِيمَا الرُّمَّان، وَحفظ أقواتها الاختزان، ولطفت فِيهَا الْأَوَانِي والكيزان، واعتدل الجسوم للوزان، ودنا من الحضرة جوارها، وَكثر قصادها من الوزراء وزوارها، وَبهَا الْمدَارِس وَالْفُقَهَاء، ولقصبتها الأبهة والبهاء، والمقاصر والأبهاء. إِلَّا أَن طينها ضحضاح، لذِي الطّرف فِيهِ افتضاح، وأزقتها لَا يفارقها القذر، وأسواقها يكثر بهَا الهذر، وعقاربها لَا تبقي وَلَا تذر، ومقبرتها لَا يحْتَج عَن إهمالها وَلَا يعْتَذر.
قلت، فمدينة فاس، قَالَ: رعى الله أَرضًا تربها ينْبت الفنا، وآفاقها ظلّ على النَّاس مَمْدُود، نعم العرين لأسود بني مرين، وَدَار الْعِبَادَة الَّتِي يشْهد بهَا مطرح الْجنَّة، وَمَسْجِد الصابرين، وَأم الْقرى، [ومأم السرى] وموقد نَار الدعا، ونارء القرا، ومقر الْعِزّ الَّذِي لَا يهضم، وكرسي الْخلَافَة الْأَعْظَم، والجزية الَّتِي شقها ثعبان الْوَادي، فَمَا ارتاعت، والأبية الَّتِي مَا أذعنت إذعانها للإيالة المرينية وَلَا أطاعت أَي كَاف وكلف، وَخلف عَن سلف، ومحاباة وزلف، وقضيم وعلف، إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف. سَأَلت عَن الْعَالم الثَّانِي، ومحراب السَّبع المثاني، وَمُغْنِي المغاني، ويرقص النادب والغاني، وأرمم المباني، ومصلى القاصي والداني، هِيَ الْحَشْر الأول، والقطب الَّذِي عَلَيْهِ الْمعول، وَالْكتاب الَّذِي لَا يتَأَوَّل، بل المدارك والمدارس، والمشايخ والفهارس، وديوان الراجل والفارس، وَالْبَاب الْجَامِع من موطإ الْمرَافِق،(2/311)
وَبَدَأَ الْملك الخافق، وتنور المَاء الدافق، ومحشر الْمُؤمن وَالْمُنَافِق [وسوق الكاسد والنافق] حَيْثُ الْبَنَّا الَّذِي نظر إِلَيْهَا عُطَارِد واستجفاها، وَخَافَ عَلَيْهَا الْوُجُود أَن يُصِيبهَا بِعَيْنِه الحسود فسترها بالغور وأخفاها، والأسواق الَّتِي ثَمَرَات كل شَيْء إِلَيْهَا قد حبيت، والموارد الَّتِي اخْتصّت بالخصر وجبلت، والمنارة المخطوبة، وصفح الحلج المشطوبة والغدر الَّتِي مِنْهَا أَبُو طوبة.
(بلد أعارته الْحَمَامَة طوقها ... وكسا ريش جنَاحه الطاووس)
(فَكَأَنَّمَا الْأَنْهَار فِيهِ مدامة ... وَكَأن ساحات الديار كؤوس)
اجْتمع بهَا مَا أولده سَام وَحَام، وَعظم الالتآم والالتحام، فَلَا يعْدم فِي مساكنها رُخَام، فأحجارها طاحنة [ومخابزها ساخنة] وألسنتها باللغات الْمُخْتَلفَة لاحنة، ومكاتبها سابحة، ورحابها متمالحة، وأوقافها جَارِيَة، الهمم فِيهَا إِلَى الْحَسَنَات واضدادها متبارية. بلد نِكَاح وَأكل، وَضرب وركل، وامتياز من النسا بِحسن زِيّ وشكل، ينتبه بهَا للباءة، وتسل الجباه، وتوجد للأزواج الْأَشْبَاه وفور النشب، وَكَثْرَة الْخشب وَوُجُود الرفيق، وَطيب الدَّقِيق، وَإِمْكَان الإدام، وتعدد الخدام، وَعمْرَان الْمَسَاجِد والجوامع، وإدامة ذكر الله فِي المآذن والصوامع.
وَأما مَدِينَة الْملك فبيضاء كالصباح، أفق للغرر الصَّباح، يحتقر لإيوانها إبوان كسْرَى، وَترجع الْعين حسرى، ومقاعد الحرس، وملاعب اللَّيْث المفترس، ومنابت الرّوح المفترس، [ومدشر من درس أَو درس، ومجالس الحكم للفصل] وسقايف الترس، والنصل، وأهداف الناشبة أولى الخصل وأواوين الْكتاب، وخزاين محمولات الإقتاب، وكراسي الْحجاب، وعنصر الْأَمر العجاب، إِلَى(2/312)
الناعورة الَّتِي ملكت من الْفلك الدوار مِثَالا، وَأوحى المَاء إِلَى كل سَمَاء مِنْهَا أمرهَا، فأجزت امتثالا، ومحبة البرود سلسالا، وألفت أكوارها الترفة والترف، فَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى:
(وقورا من قَوس الْغَمَام ابْتَغوا لَهَا ... مِثَالا أداروها عَلَيْهِ بِلَا شكّ)
(قس الثريا والترا سد جرمها ... وللباك الدوار قد أَصبَحت تحك)
(تصوغ لجين النَّهر فِي الرَّوْض دَائِما ... وزاهم نور قد خلص من الشَّك)
(وَترسل شهباتها ذَا ذؤابة ... تبتغي استراق السّمع عَن حوزة الْملك)
(تذكرت الْعَهْد الَّذِي اخترعت بِهِ ... وحنت فَمَا تنفك ساجعة تبك)
إِلَّا أَن حر هَذِه الميدنة يذيب، وساكنها ذيب، ومسالكها وعرة، وظهايرها مستعرة وطينها هايل، ورخامها حَرْب وابل، إِن نَشد الجفا نَاشد، فَهِيَ ضالته المنشودة، أَو حشد إِضَافَة حاشد، فَهِيَ كتيبته المحشودة، إِلَى بعد الأقطار، وعياث الميازب أَوْقَات الأمطار، والاشتراك فِي المساكن والديار، عَن الْمُوَافقَة. وَالِاخْتِيَار، وتجهم الْوُجُوه للغريب ذِي الطّرف الْمُرِيب، وغفلة الأملس عَن الجريب، ودبيب العقارب إرْسَالًا كالقطار الغارب. وَأَهْلهَا يرَوْنَ لأَنْفُسِهِمْ مزية الْفضل، ويدينون فِي مُكَافَأَة الصَّنَائِع الْبَالِغَة بالعضل، يلقى الرجل أَبَا منواه فَلَا يَدعُوهُ لبيته، وَلَا يسمح لَهُ ببقله وَلَا زيته، فَلَا يطْرق الطيف حماهم، وَلَا يعرف اسمهم وَلَا مسامهم، إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وَقَلِيل مَا هم، ومقبرتهم غير نابهة، وأجداثها غير متشابهة، منشبة حَيَوَان ومشبعة جرذان غير وان.
ثمَّ قَالَ فِي أَمر سلوين، قَالَ وَاد عَجِيب، وبلد لداعي الإيناع مُجيب، مخضر الوهاد والمتون، كثير شجرات الْجَوْز وَالزَّيْتُون، كنفته الْجبَال الشم، وَحنث عَلَيْهِ الطود كَمَا تحنو على الْوَلَد الْأُم، فهواؤها ملائم، وَالْعِنَب على الْفُصُول دَائِم،(2/313)
إِلَّا أَن الشَّمْس لَا تطرقه سمال، وَلَا ترمقه إِلَّا وَقت زَوَال، قد بَاء بالحظ الموكوس، وانكمش تَحت إبط الظل المنكوس، فجوه عديم الطلاوة، وعنبه للبرد قَلِيل الْحَلَاوَة.
قلت فسجلماسة، فَقَالَ تِلْكَ كورة. وَقَاعِدَة مَذْكُورَة، ومدينة محمودة مشكورة، كَانَت ذَات تَقْدِيم، وَدَار ملك قديم، وبلد تبر وأديم، ومنتهى تجر ومكسب عديم، مَعْدن التَّمْر، بحكمة صَاحب الْخلق وَالْأَمر، تَتَعَدَّد أَنْوَاعه، فتعيي الْحساب، وتجم بهَا فوائدها، فتحسب الاقتناء والاكتساب، قد اسْتَدَارَ بهَا لحلو السُّور وَالْأَمر العجاب، والقطر الَّذِي تحار فِي ساحته النجاب، فَيضْرب مِنْهُ على عذاريها الْحجاب، بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب، تحيط بهَا مرحلة رَاكب، ويصيرها سَمَاء مخطرة ذَات كواكب، فمنازلها لَا تنَال بهوان، وفدانها ودمنها تَحت صوان، ونخلها تطل من خَلفه الْجِدَار، وتتبوأ الْإِيمَان والديار، وحللها مبتوتة بَين الدمن، وضياعها تمتلك على مر الزَّمن، وسوائمها تالعة للسمن، مَوْجُودَة بنزر الثّمن، وفواكهها جميمة، ونعمها عميمة، وسورها يعجز عَن مثله معتصم ورشيد، وسقيها يخص دَار الْملك بحظ مَعْلُوم، وَيرجع إِلَى وَال يكف كل مظلوم. وَهِي أم الْبِلَاد الْمُجَاورَة لحدود السودَان فتقصدها بالتبر القوافل، وتهدي إِلَى مِحْرَابهَا النَّوَافِل، والرفاهة بهَا فَاشِية، وَالنِّسَاء فِي الْحلَّة ناشية. لَكِنَّهَا معركة غُبَار، وقتيل عقربها جَبَّار، ولباسها خامل، والجفا بهَا شَامِل، والجو يسفر عَن الْوَجْه القطوب، والمطر مَعْدُود من الخطوب، لبِنَاء جدرانها بالطوب، والقرع برؤوس أَهلهَا عابث، والعمش لجفونهم لابث، والحصا يصيبهم، ويتوفر مِنْهُ نصِيبهم.(2/314)
قلت فتازى، فَقَالَ، بلد امْتنَاع، وكشف قناع، وَمحل ربع وإيناع، ووطن طَابَ مَاؤُهُ، وَصَحَّ هواؤه، وَبَان إشرافه واعتلاؤه، وجلت فِيهِ مواهب الله وآلاؤه، عصيره مثل، وَأمر الخصب بِهِ ممتثل، وفواكهه لَا تحصى بِمَائِهَا لأقصى، وحبوبه تدوم على الخزن، وفخاره آيَة فِي لطافة الجرم وخفة الْوَزْن، إِلَّا أَن رِيحه عاصف، وبرده لَا يصف واصف، وَأَهله فِي وبال من معرة أهل الْجبَال، وليوثه مفترسة، وأخلاق أَهله شرسة.
قلت فغساسة، قَالَ فريسة وأكيلة، وحشف وَشر كيلة، إِلَّا أَنَّهَا مرسى مطروق بِكُل مَا يروق، ومرفأ جَارِيَة بحريّة، ومحط جباية تجرية.
ثمَّ لما وصل إِلَى هَذَا الْحَد، نظر إِلَى حَاج السُّوق، وَقد أَفَاضَ، ومزاده أعمل فِيهِ الإنفاض، وعلو الْأَصْوَات بِهِ قد صَار إِلَى الانخفاض. فَقَالَ، وَجب اعتناء بالرحيل واهتمام، وكل شَيْء فَإلَى تَمام، ومددت يَدي إِلَى الدُّعَاء فحزمته، وَإِلَى الْعين فأرقته، فَقلت لَا حكمتك من كرائم بني الأصقر فِي الْعدَد الأوفر، ماثلة فِي اللبَاس المزعفر، فَلَمَّا خضب كَفه بجنابها، وحصلت النَّفس على استغنائها، استدناني، وَشَبك بنانه ببناني، وَقَالَ لَا حَبط الله عَمَلك، وَلَا خَابَ أملك، وَلَا عدم المرعى الخصب هملك، فلنعم فعلي البضائع، وحافظ الْفضل الضائع ومقتنى الْفَوَائِد، ومعود العوائد. واستثبت مخيلته فَإِذا الشَّيْخ وتلميذه، وَحِمَاره ونبيذه، وَقد تنكر بالخضاب المموه، والزي المنوه، وعاث نخده الشّعْر المشوه. فَقلت هيه، أَبَت المعارف أَن تتنكر، والصباح أَن يجْحَد أَو يُنكر، كَيفَ الْحَال بعدِي، وَمَا اعتذارك عَن إخلاف وعدي، فَقَالَ:
(خُذ من زَمَانك مَا تيَسّر ... واترك بجهدك مَا تعسر)
(فلرب مُجمل حَالَة ... موصى بهَا مَا لم تفسر)
(والدهر لَيْسَ بدائم ... لابد أَن سيسوء أَن سر)(2/315)
(واكتم حَدِيثك جاهدا ... شمت الْمُحدث أَو تحسر)
(وَالنَّاس آنِية الزّجاج ... إِذا عثرت بِهِ تكسر)
(لَا تعدم التَّقْوَى فَمن عدم ... التقى فِي النَّاس أعْسر)
(وَإِذا امرء خسر الْإِلَه ... فَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ أخسر)
[ثمَّ ضرب جنب الْحمار، وَاخْتَلَطَ فِي الغمار، وَتَرَكَنِي اتقرى الْآثَار، وكل نظم فَإلَى انتثار] .
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي السياسة وَكَانَ إملاؤها فِي لَيْلَة وَاحِدَة
حدث من امتاز بِاعْتِبَار الْأَخْبَار، وَحَازَ دَرَجَة الاشتهار، بِنَقْل حوادث اللَّيْل وَالنَّهَار، وولج بَين الكمائم والأزهار، وتلطف لخجل الْورْد من تَبَسم البهار.(2/316)
قَالَ، سهر الرشيد لَيْلَة، وَقد مَال فِي هجر النَّبِيذ مَيْلَة، وَجهد ندماؤه فِي جلب رَاحَته، وإلمام النّوم بساحته، فشحت عهادهم، وَلم يغن اجتهادهم. فَقَالَ، اذْهَبُوا إِلَى طرق سَمَّاهَا ورسمها، وَأُمَّهَات قسمهَا، فَمن عثرتم عَلَيْهِ من طَارق ليل، أَو غثاء سيل، أَو ساحب ذيل، فبلغوه، والأمنة سوغوه، واستدعوه، وَلَا تَدعُوهُ. فطاروا عجالا، وَتَفَرَّقُوا ركبانا ورجالا، فَلم يكن إِلَّا ارتداد طرف، أَو فوَاق حرف، وَأتوا بِالْغَنِيمَةِ الَّتِي اكتسحوها، والبضاعة الَّتِي ربحوها، يتوسطهم الْأَشْعَث الأغبر، واللج الَّذِي لَا يعير، شيخ طَوِيل الْقَامَة، ظَاهر الاسْتقَامَة، سبلته مشمطة، وعَلى أَنفه من الْقبْح مطة، وَعَلِيهِ ثوب مرقوع، لطير الْخرق عَلَيْهِ وُقُوع، يهينم بِذكر مسموع، وينبي عَن وَقت مَجْمُوع. فَلَمَّا مثل سلم، وَمَا نبس بعْدهَا وَلَا تكلم. فَأَشَارَ إِلَيْهِ فَقعدَ، بعد أَن انشمر وابتعد، وَجلسَ، فَمَا اسْترق النّظر وَلَا اختلس، إِنَّمَا حَرَكَة فكره، معقودة بزمام ذكره، ولحظات اعْتِبَاره، فِي تفاصيل أخباره. فَابْتَدَرَهُ الرشيد سَائِلًا، وانحرف إِلَيْهِ مائلا، وَقَالَ مِمَّن الرجل، فَقَالَ فَارسي الأَصْل، أعجمي الْجِنْس، عَرَبِيّ الْفَصْل. قَالَ بلدك، وَأهْلك وولدك. قَالَ أما الْوَلَد، فولد الدِّيوَان، وَأما الْبَلَد، فمدينة الإيوان. قَالَ النحلة وَمَا أعملت إِلَيْهِ الرحلة، قَالَ [أما الرحلة فالاعتبار، وَأما النحلة فالأمور الْكِبَار] قَالَ، فنك، الَّذِي اشْتَمَل علية دنك، فَقَالَ، الْحِكْمَة فني الَّذِي جعلته أثيرا، وأضجعت مِنْهُ فراشا وثيرا، وَسُبْحَان الَّذِي يَقُول. وَمن يُؤْت الْحِكْمَة، فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا، وَمَا سوى ذَلِك فتبيع، ولي فِيهِ مصطاف وتربيع. قَالَ فتعاضد جذل الرشيد وتوفر، وكأنما غشى وَجهه قِطْعَة(2/317)
من الصُّبْح إِذا أَسْفر، وَقَالَ، مَا رَأَيْت كالليلة أجمع لأمل شارد، وأنعم بمؤانسة وَارِد. يَا هَذَا إِنِّي سَائِلك، وَلنْ تخيب بعد وسائلك، فَأَخْبرنِي بِمَا عنْدك فِي هَذَا الْأَمر الَّذِي بلينا بِحمْل أعبائه، ومنينا بمراوضة آبَائِهِ. فَقَالَ هَذَا الْأَمر قلادة ثَقيلَة، وَمن خطة الْعَجز مستقيلة، ومفتقرة لسعة الذرع، وربط السياسة المدنية بِالشَّرْعِ، يُفْسِدهَا الْحلم فِي غير مَحَله، [وَيكون ذَرِيعَة إِلَى حلّه] ويصلحها مُقَابلَة الشكل بشكله:
(وَمن لم يكن سبعا آكلا ... تداعت سِبَاع إِلَى أكله)
فَقَالَ الْملك، أجملت ففصل، وبريت فنصل، [وكلت فأوصل] وانثر الْحبّ لمن يحوصل، واقسم السياسة فنونا، وَاجعَل لكل لقب قانونا، وابدأ بالرعية، وشروطها المرعية. فَقَالَ: رعيتك ودائع الله قبلك، ومرآة الْعدْل الَّذِي عَلَيْهِ جبلك، وَلَا تصل إِلَى ضبطهم [إِلَّا بإعانته] الَّتِي وهب لَك. وَأفضل مَا استدعيت بِهِ عونك فيهم، وكفايته الَّتِي تكفيهم، تَقْوِيم نَفسك عِنْد قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، [وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عَن تضيعهم] ، وَأخذ كل طبقَة بِمَا عَلَيْهَا، وَمَالهَا، أخذا يحوط مَالهَا، ويحفظ عَلَيْهَا كمالها، وبقصر عَن غير الْوَاجِب آمالها، حَتَّى تستشعر عَلَيْهَا رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها فِي [النصب امتنانك] وتحذر سفلتها سنانك، وحظر على كل طبقَة مِنْهَا، أَن تتعدى طورها، أَو تخَالف دورها، أَو تجَاوز بِأَمْر طَاعَتك فورها. وسد فِيهَا سبل الذريعة، واقصر جَمِيعهَا على خدمَة الْملك بِمُوجب الشَّرِيعَة،(2/318)
وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، وَالنَّظَر فِي شُبُهَات الدّين بالتمشدق والإطالة، وَليقل فِيمَا شجر بَين السّلف كَلَامهَا، وترفض مَا ينبز بِهِ أعلامها، فَإِن ذَلِك يسْقط الْحُقُوق، ويرتب العقوق. وامنعهم من فحش الْحِرْص والشره، وتعاهدهم بالمواعظ الَّتِي تجلوا البصائر من الموه، واحملهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِمَارَة على أحسن الْمذَاهب، وانههم عَن التحاسد على الْمَوَاهِب، ورضهم على الْإِنْفَاق بِقدر الْحَال، والتعزى عَن الْفَائِت، فَرده من الْمحَال. وحذر الْبُخْل على أهل الْيَسَار، والسخاء على أولى الْإِعْسَار. وخذهم من الشَّرِيعَة بالواضح الظَّاهِر، وامنعهم من تَأْوِيلهَا منع القاهر. وَلَا تطلق لَهُم التجمع على من أَنْكَرُوا أمره فِي نواديهم، وكف عَنْهُم أكف تعديهم. وَلَا تبح لَهُم تَغْيِير مَا كرهوه بِأَيْدِيهِم. ولتكن غايتهم فِيمَا تَوَجَّهت إِلَيْهِ إبايتهم، وَنَكَصت عَن الْمُوَافقَة عَلَيْهِ رايتهم، انهاؤه إِلَى من وكلته بمصالحهم من ثقاتك، المحافظين على أوقاتك. وَقدم مِنْهُم من أمنت عَلَيْهِم مكره، وحمدت على الْإِنْصَاف شكره، وَمن كثر حياؤه مَعَ التأنيب، وقابل الهفوة باستقالة الْمُنِيب، وَمن لَا يتخطى عنْدك مَحَله الَّذِي حلّه، فَرُبمَا عمد إِلَى المبرم فَحله. وَحسن النِّيَّة لَهُم بِجهْد الِاسْتِطَاعَة، واغتفر المكاره فِي جنب حسن الطَّاعَة. وَإِن ثار جرادهم وَاخْتلف فِي طَاعَتك مُرَادهم، فتحصن لثورتهم، واثبت لفورتهم فَإِذا سَأَلُوا وسلوا، وَتَفَرَّقُوا وانسلوا، فاحتقر كثرتهم، وَلَا تقل عثرتهم] واجعلهم لما بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم نكالا، وَلَا تتْرك لَهُم على حلمك اتكالا.(2/319)
ثمَّ قَالَ: والوزير الصَّالح أفضل عددك، وأوصل مددك [فَهُوَ الَّذِي] يصونك عَن الابتذال، ومباشرة الأنذال، ويثب لَك على الفرصة، وينوب فِي تجرع الغصة، واستجلاء الْقِصَّة، ويستحضر مَا نَسِيته من أمورك، ويغلب فِيهِ الرَّأْي بموافقة مأمورك، وَلَا يَسعهُ مَا تمكنك الْمُسَامحَة فِيهِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيه. وَاحْذَرْ مصادمة تياره، والتجوز فِي اخْتِيَاره، وَقدم استخارة الله فِي إيثاره، وارسل عُيُون الملاحظة فِي آثاره، وَليكن مَعْرُوف الْإِخْلَاص لدولتك، مَعْقُود الرضاء وَالْغَضَب برضاك وصولتك، زاهدا عَمَّا فِي يَديك، مؤثرا كل مَا يزلف لديك، بعيد الهمة، رَاعيا للأذمة، كَامِل الْآلَة محيطا بالإيالة، رحب الصَّدْر، رفيع الْقدر، مَعْرُوف الْبَيْت، نبيه الْحَيّ وَالْمَيِّت، مؤثرا للعدل والإصلاح، دربا بِحمْل السِّلَاح، ذَا خبْرَة بدخل المملكة وخرجها، وظهرها وسرجها، صَحِيح العقد، متحرزا من النَّقْد، جادا عِنْد لهوك، متيقظا فِي حَال سهوك، يلين عِنْد غضبك، ويصل الإسهاب بمقتضبك، قلقا من شكره دُونك وحمده، ناسبا لَك الْأَصَالَة بعمده. وَإِن أعيا عَلَيْك وجود أَكثر هَذِه الْخلال، وَسبق إِلَى نقيضها شَيْء من الاختلال، فاطلب مِنْهُ سُكُون النَّفس وهدوئها، وَأَن لَا يرى مِنْك رُتْبَة إِلَّا رأى قدره دونهَا. وتقوى الله تفضل شرف الانتساب، وَهِي للفضائل فذلكة الْحساب، وساو فِي حفظ غيبه بَين قربه ونأيه، وَاجعَل حَظه من نِعْمَتك موازيا لحظك من حسن رَأْيه، واجتنب مِنْهُم من يرى فِي نَفسه إِلَى الْملك سَبِيلا، أَو يَقُود من عيصه للاستظهار عَلَيْك قبيلا، أَو من كاثر مَالك مَاله، أَو من تقدم لعدوك اسْتِعْمَاله، أَو من سمت لسواك آماله، أَو من يعظم عَلَيْهِ إِعْرَاض(2/320)
وَجهك، ويهمه نادرة نهجك، أَو من يداخل غير أحبابك، أَو من ينافس أحدا ببابك.
(وَأما الْجند) فاصرف التَّقْوِيم مِنْهُم للمقاتلة والمكايدة المخاتلة، وَاسْتَوْفِ عَلَيْهِم شَرَائِط الْخدمَة، وخذهم بالثبات للصدمة، ووف مَا أوجبت لَهُم من الجراية وَالنعْمَة، وتعاهدهم عِنْد الْغناء بالعلف والطعمة، وَلَا تكرم مِنْهُم إِلَّا من أكْرمه غناؤه، وطاب فِي الذب عَن ملتك ثَنَاؤُهُ، وَدلّ عَلَيْهِم النبهاء من خيارهم، واجتهد فِي صرفهم عَن الافتنان بأهلهم وديارهم، وَلَا توطئهم الدعة مهادا، وَقَدَّمَهُمْ على حفظك وبعوثك مَتى أردْت جهادا، وَلَا تلن لَهُم فِي الإغماض عَن حسن طَاعَتك قيادا، وعودهم حسن الْمُوَاسَاة بِأَنْفسِهِم اعتيادا، وَلَا تسمح لأحد مِنْهُم فِي إغفال شَيْء من سلَاح استظهاره، أَو عدَّة اشتهاره، وَليكن مَا فضل عَن شبعهم وريهم مصروفا إِلَى سِلَاحهمْ، وزيهم، والتزيد فِي مراكبهم وغلمانهم، من غير اعْتِبَار لأثمانهم، وامنعهم من المستغلات والمتاجر، وَمَا يتكسب مِنْهُ غير المشاجر، وَليكن من الْغَزْو اكتسابهم، وعَلى الْمَغَانِم حسابهم، كالجوارح الَّتِي تفْسد باعتيادها، أَن تطعم من غير اصطيادها. وَاعْلَم أَنَّهَا لَا تبذل نفوسها من عَالم الْإِنْسَان، إِلَّا لمن يملك قلوبها بِالْإِحْسَانِ، وَفضل اللِّسَان، وَيملك حركاتها بالتقويم، ورتبها بالميزان القويم، وَمن تثق بإشفاقها على أَوْلَادهَا، وتشتري رضَا الله(2/321)
بصبرها على طَاعَته وجلادها. فَإِذا استشعرت لَهَا هَذِه الْخلال، تقدمتك إِلَى مَوَاقِف التّلف، مطيعة دواعي الكلف، واثقة مِنْك بِحسن الْخلف، واستبق إِلَى تمييزهم استباقا، وطبقهم طباقا، أَعْلَاهَا من تَأَمَّلت مِنْهُ فِي الْمُحَاربَة عَنْك إحظارا، وأبعدهم فِي مرضاتك مطارا، واضبطهم لما تَحت يدك من رجالك حزما ووقارا، واستهانة بالعظايم واحتقارا، وَأَحْسَنهمْ لمن تقلده أَمرك من الرّعية جوارا، إِذا أَجدت اخْتِيَارا، وأشدهم على مماطلة من مارسه من الْخَوَارِج عَلَيْك اصطبارا، وَمن بلَى فِي الذب عَنْك إحلاء وإمرارا، ولحقه الضّر فِي معارك الدفاع عَنْك مرَارًا. وَبعده من كَانَت محبته لَك أَكثر من نجدته، وموقع رَأْيه أصدق من موقع صعدته، وَبعده من حسن انقياده لأمرائك وإحماده لآرائك، وَمن جعل نَفسه من الْأَمر حَيْثُ جعلته، وَكَانَ صبره على مَا عراه أَكثر من اعتداده بِمَا فعله. [وَاحْذَرْ مِنْهُم من كَانَ عِنْد نَفسه أكبر من موقعه فِي الِانْتِفَاع، وَلم يستح من التزيد بأضعاف مَا بذله من الدفاع، وشكى البخس] فِيمَا تعذر عَلَيْهِ من فوائدك، وقاس بَين عوائد عَدوك وعوائدك، وتوعد بانتقاله عَنْك وارتحاله، وَأظْهر الْكَرَاهِيَة لحاله.
(وَأما الْعمَّال) فانهم يبينون عَن مذهبك، وحالهم فِي الْغَالِب شَدِيدَة الشّبَه بك، فعرفهم فِي أمانتك السَّعَادَة، وألزمهم فِي رعيتك الْعَادة، وأنزلهم من كرامتك بِحَسب مَنَازِلهمْ فِي والإتصاف بِالْعَدْلِ، وأحله من الحفاية،(2/322)
بِنِسْبَة مَرَاتِبهمْ من الْأَمَانَة والكفاية، وقفهم عِنْد تَقْلِيد الأرجاء مَوَاقِف الْخَوْف والرجاء، وَقرر فِي نُفُوسهم أَن أعظم مَا بِهِ إِلَيْك تقربُوا، وَفِيه تدربوا، وَفِي سَبيله أعجموا وأعربوا، إِقَامَة حق، ودحض بَاطِل، حَتَّى لَا يشكو غَرِيم مطل ماطل، وَهُوَ آثر لديك من كل ربَاب هاطل. وكفهم من الرزق الْمُوَافق عَن التصدي لدني الْمرَافِق. واصطنع مِنْهُم من تيسرت كلفته، وقويت للرعايا ألفته، وَمن زَاد على تأميله صبره، وأربى على خَبره خَبره، وَكَانَت رغبته فِي حسن الذّكر، تشف على غَيرهَا من بَنَات الْفِكر. واجتنب مِنْهُم من غلب عَلَيْهِ التخرق فِي الْإِنْفَاق، وَعدم الإشفاق، والتنافس فِي الِاكْتِسَاب، وَسَهل عَلَيْهِ سوء الْحساب، وَكَانَت ذريعته المصانعة بالنفاية، دون التَّقَصِّي والكفاية، وَمن كَانَ منشؤه خاملا، ولأعباء الدناءة حَامِلا، وابغ من يكون الِاعْتِذَار فِي أَعماله، أوضح من الِاعْتِذَار فِي أَقْوَاله، وَلَا يفتننك من قلدته اجتلاب الْحَظ المطمع، [والتنفق بالسعي المسمع] وَمُخَالفَة السّنَن المرعية [واتباعه رضاك بسخط الرّعية] ، فانه قد غشك من حَيْثُ بلك ورشك، وَجعل من يَمِينك فِي شمالك، حَاضر مَالك. وَلَا تضمن عَاملا مَال عمله، وَحل بَينه فِيهِ وَبَين أمله، فانك تميت رسومك بمحياه، وتخرجه من خدمتك فِيهِ إِلَّا أَن تملكه إِيَّاه. وَلَا تجمع لَهُ فِي الْأَعْمَال، فَيسْقط استظهارك بِبَلَد على بلد، والاحتجاج على وَالِد بِولد، واحرص على أَن تكون فِي الْولَايَة غَرِيبا، ومتنقله مِنْك قَرِيبا، ورهينة لَا يزَال مَعهَا مريبا،(2/323)
وَلَا تقبل مصالحته على شَيْء اختانه، وَاو برغيبة فتانه، فتتقبل المصانعة فِي أمانتك، وَتَكون مشاركا فِي خِيَانَتك، وَلَا [تطل مُدَّة] الْعَمَل، وتعاهد كشف الْأُمُور مِمَّن يرْعَى الهمل، ويبلغ الأمل.
(وَأما الْوَلَد) فاحسن آدابهم، وَاجعَل الْخَيْر دأبهم، وخف عَلَيْهِم من إشفاقك وحنانك، أَكثر من غلظة جنانك، واكتم، عَنْهُم ميلك، وأفض عَلَيْهِم جودك ونيلك، وَلَا تستغرق بالكلف بهم يَوْمك وَلَا ليلك، وأثبهم على حسن الْجَواب [وَسبق إِلَيْهِم] خوف الْجَزَاء على رَجَاء الثَّوَاب، وعلمهم الصَّبْر على الضرائر، والمهلة عِنْد استخفاف الجرائر، [وَخذ لَهُم] بِحسن السرائر، وحبب إِلَيْهِم مراس الْأُمُور الصعبة المراس، وحصن الاصطناع والاغتراس والاستكثار من أولى الْمَرَاتِب والعلوم، والسياسات والحلوم، وَالْمقَام الْمَعْلُوم، وَكره إِلَيْهِم مجالسة الملهين، ومصاحبة الساهين، وجاهد أهواءهم عَن عُقُولهمْ، وَاحْذَرْ الْكَذِب على مقولهم، ورشحهم إِذا أنست مِنْهُم رشدا أَو هَديا، وأرضعهم من المؤازرة والمشاورة ثديا، لتمرنهم على الاعتياد، وتحملهم على الازدياد، ورضهم رياضة الْجِيَاد، وَاحْذَرْ عَلَيْهِم الشَّهَوَات فَهِيَ داؤهم، وأعدؤك فِي الْحَقِيقَة وأعداؤهم. وتدارك الْخلق الذميمة كلما نجمت، [واقذعها إِذا هجمت] ،(2/324)
قبل أَن يظْهر تضعيفها، وَيُقَوِّي ضعيفها، فان أعجزتك قي صغرهم الْحِيَل، عظم الْميل.
(إِن الغصون إِذا قومتها اعتدلت ... وَلنْ تلين إِذا قومتها الْخشب)
وَإِذا قدرُوا على التَّدْبِير، وتشوفوا للمحل الْكَبِير، فَلَا توطنهم فِي مَكَانك [جهد إمكانك] ، وفرقهم [فِي بلدانك] ، تَفْرِيق عبدانك. واستعملهم فِي بعوث جهادك، والنيابة عَنْك فِي سَبِيل اجتهادك، فان حضرتك تشغلهم بالتحاسد، والتباري والتفاسد. وَانْظُر إِلَيْهِم بأعين الثِّقَات، فان عين الثِّقَة، تبصر مَالا تبصر عين الْمحبَّة والمقة.
(وَأما الخدم) فَإِنَّهُم بِمَنْزِلَة الْجَوَارِح الَّتِي تفرق بهَا وَتجمع، وتبصر وَتسمع، فرضهم بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة، وصنهم صون الجفانة، وخذهم بِحسن الانقياد، إِلَى مَا آثَرته، والتقليل مِمَّا استكثرته. وَاحْذَرْ مِنْهُم من قويت شهواته، وَضَاقَتْ عَن هَوَاهُ لهواته، فان الشَّهَوَات تنازعك فِي استرقاقه، وتشاركك فِي اسْتِحْقَاقه. وَخَيرهمْ من ستر ذَلِك عَلَيْك بلطف الْحِيلَة، وآداب للْفَسَاد مخيلة، وأشرب قُلُوبهم أَن الْحق فِي كل مَا حاولته واستنزلته، وَأَن الْبَاطِل فِي كل مَا جانبته واعتزلته، وَأَن من تصفح مِنْهُم أمورك فقد أذْنب، وباين الْأَدَب وتجنب. وَأعْطِ من أكددته، وأضقت مِنْهُم ملكه وشددته، رَوْحَة يشْتَغل فِيهَا(2/325)
بِمَا يُغْنِيه، على حسب صعوبة مَا يعانيه، تغبطهم فِيهَا بمسارحهم، وتجم كليلة جوارحهم. ولتكن عطاياك فيهم بالمقدار الَّذِي لَا يبطر أعلامهم، وَلَا يؤسف [الأصاغر فَيفْسد] أحلامهم، وَلَا ترم محسنهم بالغاية من إحسانك واترك لمزيدهم فضلَة من رفدك وَلِسَانك، وحذر عَلَيْهِم مخالفتك وَلَو فِي صلاحك بِحَدّ سِلَاحك، وامنعهم من التواثب والتشاجر، وَلَا تحمد لَهُم شيم التقاطع والتهاجر، واستخلص مِنْهُم لسرك من قلت فِي الإفشاء ذنُوبه، وَكَانَ أصبرهم على مَا ينوبه، ولودائعك من كَانَت رغبته فِي وَظِيفَة لسَانك، أَكثر من رغبته فِي إحسانك، وَضَبطه لما تقلده من وديعتك، أحب إِلَيْهِ من حسن صنيعك. وللسفارة عَنْك من حلا الصدْق فِي فَمه، وآثره وَلَو بإخطار دَمه، وَاسْتوْفى لَك وَعَلَيْك فهم مَا تحمله، وعني بِلَفْظِهِ حَتَّى لَا يهمله، [وَلمن تودعه أَعدَاء] دولتك، من كَانَ مَقْصُور الأمل، قَلِيل القَوْل صَادِق الْعَمَل، وَمن كَانَت قسوته زَائِدَة على رَحمته، وعظمه فِي مرضاتك آثر من شحمته، ورأيه فِي الحذر سديد، وتحرزه من الْحِيَل شَدِيد، ولخدمتك فِي ليلك ونهارك من لانت طباعه، وامتد فِي حسن السجية بَاعه، وآمن كَيده وغدره، وَسلم من الحقد صَدره، وَرَأى المطامع فَمَا طمع، واستثقل إِعَادَة مَا سمع، وَكَانَ بريا من الملال، والبشر عَلَيْهِ أغلب الْخلال. وَلَا تؤنسهم مِنْك بقبيح فعل وَلَا قَول، وَلَا تؤسهم من طول، وَمكن فِي نُفُوسهم أَن أقوى شفعائهم، وَأقرب إِلَى الْإِجَابَة من دُعَائِهِمْ، إِصَابَة الْغَرَض فِيمَا بِهِ وكلوا، وَعَلِيهِ شكلوا، فانك لَا تعدم بهم انتفاعا، وَلَا يعدمون لديك ارتفاعا.(2/326)
(وَأما الْحرم) فهم مغارس الْوَلَد، ورياحين الْخلد، وراحة الْقلب الَّذِي أجهدته الأفكار، وَالنَّفس الَّتِي تقسمها الإحماد إِلَى المساعي وَالْإِنْكَار، فاطلب مِنْهُنَّ من غلب عَلَيْهِنَّ من حسن الشيم، المترفعة عَن الْقيم، مَا لَا يسوءك فِي خلدك، أَن يكون فِي ولدك، وَاحْذَرْ أَن تجْعَل لفكر بشر دون بصر إلَيْهِنَّ سَبِيلا، وانصب دون ذَلِك عذَابا وبيلا، وارعهن من النِّسَاء الْعَجز من فاقت فِي الدّيانَة وَالْأَمَانَة سَبيله، وقويت غيرته ونبله، وخذهن بسلامة النيات، والشيم السنيات، وَحسن الاسترسال، والخلق السلسال. وحظر عَلَيْهِنَّ التغامز والتغاير، والتنافس والتخاير، وآس بَينهُنَّ فِي الْأَغْرَاض، والتصامم عَن الْأَعْرَاض، والمحاباة بِالْإِعْرَاضِ. وأقلل من مخالطتهن، فَهُوَ أبقى لهمتك، وأسبل لحرمتك، ولتكن عشرتك لَهُنَّ عِنْد الكلال والملال، وضيق الِاحْتِمَال، بِكَثْرَة الْأَعْمَال، وَعند الْغَضَب وَالنَّوْم، والفراغ من نصب الْيَوْم. وَاجعَل مَبِيتك بَينهُنَّ تنم بركاتك، وتستقر حركاتك، وأفصل من ولدت مِنْهُنَّ إِلَى مسكن يختبر فِيهِ استقلالها، وَيعْتَبر بالتفرد خلالها، وَلَا تطلق لحُرْمَة شَفَاعَة وَلَا تدبيرا، وَلَا تنط، بهَا من الْأَمر صَغِيرا وَلَا كَبِيرا، وَاحْذَرْ أَن يظْهر على خدمهن فِي خروجهن عَن الْقُصُور وبروزهن من أجمة الْأسد الهصور، زِيّ مفارع، ولاطيب للأنوف مسارع، وأخصص بذلك من طعن فِي السن، ويئس من الْإِنْس(2/327)
وَالْجِنّ، وَمن توفر النُّزُوع إِلَى الْخيرَات قبله، وَقصر عَن جمال الصُّورَة ووسم بالبله.
ثمَّ لما بلغ إِلَى هَذَا الْحَد، حمى وطيس استجفاره، وَختم حزبه باستغفاره، [ثمَّ صمت مَلِيًّا] واستعاد كلَاما أوليا، ثمَّ قَالَ: وَاعْلَم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، سدد الله سهمك لأغراض خِلَافَته، وعصمك من الزَّمَان وآفته، أَنَّك فِي مجْلِس الْفَصْل، ومباشرة الْفَرْع من ملكك وَالْأَصْل، فِي طَائِفَة من عز الله، تذب عَنْك حماتها، وتدافع عَن حوزتك كماتها، فاحذر أَن يعدل بك غضبك، عَن عدل تزرى مِنْهُ ببضاعة، أَو يهجم بك رضاك على إِضَاعَة، ولتكن قدرتك وَقفا على الاتصاف بِالْعَدْلِ والإنصاف، واحكم بِالسَّوِيَّةِ، واجنح بتدبيرك إِلَى حسن الروية، وخف أَن تقعد بك أناتك عَن حزم تعين، أَو تستفزك العجلة فِي أَمر لم يتَبَيَّن. وأطع الْحجَّة مَا تَوَجَّهت عَلَيْك، وَلَا تحفل بهَا إِذا كَانَت إِلَيْك، فانقيادك أليها أحسن من ظفرك، وَالْحق أجدى من نفرك، وَلَا تردن النَّصِيحَة فِي وَجه، وَلَا تقَابل عَلَيْهَا بنجه، فتمنها إِذا استدعيتها، وتحجب عَنْك إِذا استوعيتها، وَلَا تستدعها من غير أَهلهَا، فيشغبك أولو الْأَغْرَاض بجهلها. واحرص على أَن لَا يَنْقَضِي مجْلِس جلسته، أَو زمن اختلسته، إِلَّا وَقد أحرزت فَضِيلَة زَائِدَة، أَو وثقت مِنْهُ فِي معادك بفائدة، وَلَا يزهدنك فِي المَال كثرته، فتقل فِي نَفسك أثرته، وَقس الشَّاهِد بالغائب، وَاذْكُر وُقُوع مَا لَا يحْتَسب من النوائب، فَالْمَال المصون أمنع الْحُصُون. وَمن قل مَاله قصرت آماله وتهاون بِيَمِينِهِ شِمَاله، وَالْملك(2/328)
إِذا فقد خزينه، أنحى على أهل الْجدّة الَّتِي تزينه وَعَاد على رَعيته بالإجحاف، وعَلى جبايته بالإلحاف، وساء مُعْتَاد عيشه، وَصغر فِي عُيُون جَيْشه، ومنوا عَلَيْهِ بنصره، وأنفوا من الِاقْتِصَار على قصره. وَفِي المَال قُوَّة سَمَاوِيَّة، تصرف النَّاس لصَاحبه، وتربط آمال أهل السِّلَاح بِهِ. وَالْمَال نعْمَة الله تَعَالَى، فَلَا تَجْعَلهُ ذَرِيعَة إِلَى خِلَافه، فتجمع بالشهوات بَين إتلافك وإتلافه، واستأنس بِحسن جوارها، واصرف فِي حُقُوق الله بعض أطوارها، فان فضل المَال عَن الْأَجَل فأجل، وَلم يضر مَا تلف مِنْهُ بَين يَدي الله عز وَجل. وَمَا ينْفق فِي سَبِيل الشَّرِيعَة، وسد الذريعة، مأمول خَلفه، وَمَا سواهُ فمستيقن تلفه. واستخلص لحضور نواديك الغاصة، ومجالسك الْعَامَّة والخاصة، من يَلِيق بولوج عتبها، والعروج لرتبها. أما العامية فَمن عظم عِنْد النَّاس قدره، وانشرح بِالْعلمِ صَدره، أَو ظهر يسَاره، وَكَانَ لله إخباته وانكساره، وَمن كَانَ للفتيا منتصبا، وبتاج المشورة معتصبا. وَأما الخاصية فَمن رقت طباعه، وامتد فِيمَا يَلِيق بِتِلْكَ الْمجَالِس بَاعه، وَمن تبحر فِي سير الْحُكَمَاء، وأخلاق الكرماء، وَمن لَهُ فضل سَافر، وطبع للدنية منافر، ولديه من كل مَا تستتر بِهِ الْمُلُوك عَن الْعَوام حَظّ وافر. وصف ألبابهم بمحصول خيرك، وَسكن قُلُوبهم بيمن طيرك، وأغنهم مَا قدرت عَن غَيْرك ,
وَاعْلَم بِأَن مواقع الْعلمَاء من ملكك، مواقع المشاعل المتألقة، والمصابيح(2/329)
الْمُتَعَلّقَة، وعَلى قدر تعاهدها تبذل من الضياء، وتجلو بنورها صور الْأَشْيَاء، وفرعها لتحبير مَا يزين مدتك، وَيحسن من بعد البلى جدتك. وبعناية الْأَوَاخِر، ذكرت الْأَوَائِل، وَإِذا محيت المفاخر خربَتْ الدول. وَاعْلَم أَن بَقَاء الذّكر مَشْرُوط بعمارة الْبلدَانِ، وتخليد الْآثَار الْبَاقِيَة فِي القاصي مِنْهَا والدان. فاحرص على مَا يُوضح فِي الدَّهْر سبلك، ويحوز المزية لَك على من قبلك، وَإِن خير الْمُلُوك من ينْطق بِالْحجَّةِ، وَهُوَ قَادر على الْقَهْر، ويبذل الْإِنْصَاف فِي السِّرّ والجهر، مَعَ التَّمَكُّن من المَال وَالظّهْر. ويسار الرّعية جمال للْملك وَشرف، وفاقتهم من ذَلِك طرف، فغلب أينق الْحَالين بمحلك، وأولاهما بظعنك وحلك. وَاعْلَم أَن كَرَامَة الْجور دَائِرَة، وكرامة الْعدْل مكاثرة، وَالْغَلَبَة بِالْخَيرِ سيادة، وبالشر هوادة.
وَاعْلَم أَن حسن الْقيام بالشريعة، يحسم عَنْك نكاية الْخَوَارِج، ويسمو بك إِلَى المعارج، فَإِنَّهَا تقصد أَنْوَاع الخدع، وتوري بتغيير الْبدع، واطلق على عَدوك أَيدي الأقوياء من الْأَكفاء، وألسنة اللفيف من الضُّعَفَاء، واستشعر عِنْد نكثه شعار الْوَفَاء، ولتكن ثقتك بِاللَّه أَكثر من [ثقتك بِقُوَّة] تجدها، وكتيبة تنجدها، فان الْإِخْلَاص يمنحك قوى لَا تكتسب، ويهديك مَعَ الْأَوْقَات نصرا(2/330)
لَا يحْتَسب. وَالْتمس سلم من سالمك، بِنَفس مَا فِي يدك. وَفضل حَاصِل يَوْمك على منتظر غدك، فان أَبى وضحت محجتك، وَقَامَت عَلَيْهِ للنَّاس حجتك، فللنفوس على الباغين ميل، وَلها من جَانِبه نيل، واستمد كل يَوْم سيرة من يناويك، واجتهد أَن لَا يباريك فِي خير وَلَا يساويك، وأكذب بِالْخَيرِ مَا يشنعه من مساويك، وَلَا تقبل من الإطراء إِلَّا مَا كَانَ فِيك، فضل عَن إطالته، وجد يزري ببطالته وَلَا تلق المذنب بحميتك وسبك، وَذكر عِنْد حمية الْغَضَب ذنوبك إِلَى رَبك، وَلَا تنس أَن ذَنْب المذنب أجلسك مجْلِس الْفَصْل، وَجعل من قبضتك رياش النصل. وتشاغل فِي هدنة الْأَيَّام بالاستعداد، وَاعْلَم أَن التَّرَاخِي مُنْذر بالاشتداد. وَلَا تهمل عرض ديوانك، واختبار أعوانك، وتحصين معاقلك وقلاعك، وَعم إيالتك بِحسن اضطلاعك. وَلَا تشغل زمن الْهُدْنَة بلذاتك، فتجني فِي الشدَّة على ذاتك. لَا تطلق فِي دولتك أَلْسِنَة الكهانة والإرجاف، ومطاردة الآمال الْعِجَاف، فَإِنَّهُ يبْعَث سوء القَوْل، وَيفتح بَاب الغول، وحذر على المدرسين والمعلمين، وَالْعُلَمَاء والمتكلمين، حمل الأحدث على الشكوك الخالجة، والزلات الوالجة، فَإِنَّهُ يفْسد طباعهم، ويغري سباعهم، ويمد فِي مُخَالفَة الْملَّة باعهم. وسد سبل الشفاعات، فَإِنَّهَا تفْسد عَلَيْك حسن الِاخْتِيَار،(2/331)
ونفوس الْخِيَار. وابذل فِي الأسرى من حسن مَلكتك، مَا يُرْضِي من ملكك رقابها، وقلدك ثَوَابهَا وعقابها. وتلق بَدْء نهارك بِذكر الله فِي ترفعك وابتذالك، وَاخْتِمْ الْيَوْم بِمثل ذَلِك. وَاعْلَم أَنَّك مَعَ كَثْرَة حجابك، وكثافة حجابك، بِمَنْزِلَة الظَّاهِر للعيون، المطالب بالديون، لشدَّة الْبَحْث عَن أمورك، وتعرف السِّرّ الْخَفي بَين آمُرك ومأمورك، فاعمل فِي سرك مَا لَا تستقبح أَن يكون ظَاهرا، وَلَا تأنف أَن تكون بِهِ مجاهرا، واحكم بريك فِي الله ونحتك وخف من فَوْقك يخفك من تَحْتك.
وَاعْلَم أَن عَدوك من أتباعك من تناسيت حسن قرضه، أَو زَادَت مؤونته على نصِيبه مِنْك وفرضه، فاصمت للحجج، وتوق اللجج، واسترب بالأمل، وَلَا يحملنك انتظام الْأُمُور على الاستهانة بِالْعَمَلِ. وَلَا تحقرن صَغِير الْفساد، فَيَأْخُذ فِي الاستئساد. واحبس الْأَلْسِنَة عَن التحالي باغتيابك، والتشبث بأذيال ثِيَابك، فان سوء الطَّاعَة، ينْتَقل من الْأَعْين الباصرة، [إِلَى الألسن القاصرة] ثمَّ إِلَى الْأَيْدِي المتناصرة. وَلَا تثق بِنَفْسِك فِي قتال عَدو ناوأك، حَتَّى تظفر بعدو غضبك وهواك، وَليكن خوفك من سوء تدبيرك، أَكثر من عَدوك السَّاعِي فِي تتبيرك. وَإِذا استنزلت ناجما، أَو أمنت ثائرا هاجما، فَلَا تقلده الْبَلَد الَّذِي فِيهِ نجم، وهما عَارضه فِيهِ وانسجم، يعظم عَلَيْك الْقدح فِي اختيارك، والغض من إيثارك، وَاحْترز من كَيده فِي حوزك ومأمك، فانك أكبر همه، وَلَيْسَ بأكبر همك، وجمل المملكة بتامين الفلوات وتسهيل الأقوات، وتجويد مَا يتعامل بِهِ من(2/332)
الصّرْف فِي الْبياعَات وإجراء العوائد مَعَ الْأَيَّام والساعات، وَلَا تبخس عيار قيم البضاعات، ولتكن يدك عَن أَمْوَال النَّاس محجورة، وَفِي احترامها إِلَّا عَن الثَّلَاثَة مأجورة: مَال من عدا طوره وطور أَهله، وَتجَاوز فِي الملابس والزينة، وفضول الْمَدِينَة، يروم معارضتك بِحمْلِهِ، وَمن بَاطِن أعداك وَأمن اعتداك، وَمن أَسَاءَ جوَار رعيتك بإخساره، وبذل الإذاية فيهم بِيَمِينِهِ ويساره. وأضر مَا منيت بِهِ التعادي بَين عبدانك، أوفي بلد من بلدانك فسد فِيهِ الْبَاب، وآسأل عَن الْأَسْبَاب، وانقلهم بوساطة أولي الْأَلْبَاب، إِلَى حَالَة الأحباب، وَلَا تطوق الْأَعْلَام أطواق الْمنون، بهواجس الظنون فَهُوَ أَمر لَا يقف عِنْد حد، وَلَا يَنْتَهِي إِلَى عد، وَاجعَل ولدك فِي احتراسك، [وَصدق مراسك] ، حَتَّى لَا يطْمع فِي افتراسك.
ثمَّ لما رأى اللَّيْل قد كَاد ينتصف، وعموده يُرِيد أَن ينقصف، ومجال الْوَصَايَا أَكثر مِمَّا يصف، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، بَحر السياسة زاخر، وَعمر التَّمَتُّع بناديك الْعَزِيز مستأخر، فَإِن أَذِنت فِي فن من فنون الْأنس يجذب بالمقاد، إِلَى رَاحَة الرقاد، وَيعتق النَّفس بقدرة ذِي الْجلَال، من ملكة الكلال، فَقَالَ، أما وَالله قد استحسنا مَا سردت، فشأنك وَمَا أردْت. فاستدعى عودا فأصلحه حَتَّى أَحْمَده، وَأبْعد فِي اخْتِيَاره أمده. ثمَّ حرك فَمه، وَأطَال الْحسن ثمه، ثمَّ تغنى بِصَوْت يَسْتَدْعِي الْإِنْصَات، ويصدع الْحَصَاة، ويستفز الْحَلِيم عَن وقاره، ويستوقف الطير، ورزق بنيه فِي منقاره، وَقَالَ:(2/333)
(صَاح مَا أعطر الْقبُول بنمه ... أتراها أَطَالَت البث ثمه)
(هِيَ دَار الْهوى منى النَّفس فِيهَا ... أَبَد الدَّهْر والأماني جمه)
(إِن يكن مَا تأرج الجو مِنْهَا ... واستفاد الشذا وَإِلَّا فممه)
(من بطرفي بنظرة ولأنفي ... فِي رباها وَفِي ثراها بشمه)
(ذكر الْعَهْد فانتفضت كَأَنِّي ... طرقتني من الملائك لمه)
(وَطن قد نضيت فِيهِ شبَابًا ... لم تدنس مِنْهُ البرود مذمه)
(بنت عَنهُ وَالنَّفس من أجل من ... خلفته فِي جَلَاله مغتمه)
(كَانَ حلما فويح من أمل ... الدَّهْر وأعماه جَهله وأصمه)
(تَأمل الْعَيْش بعد أَن أخلق ... الْجِسْم وبنيانه عسير المرمه)
(وغدت وفرة الشبيبة بالشيب ... على رغم أنفها معتمه)
(فَلَقَد فَازَ مَالك جعل الله ... إِلَى الله قَصده ومأمه)
(من يبت من غرور دنيا بهم ... يلْدغ الْقلب أَكثر الله همه)
ثمَّ أحَال اللّحن إِلَى لون التنويم، فَأخذ كل فِي النعاس والتهويم، وَأطَال الجس فِي الثقيل، عاكفا عكوف الضاحي فِي المقيل، [فخاط عُيُون الْقَوْم بخيوط النّوم، وَعمر بهم المراقد، كَأَنَّمَا أدَار عَلَيْهِم الفراقد] ثمَّ انْصَرف، فَمَا علم بِهِ أحد وَلَا عرف. وَلما أَفَاق الرشيد جد فِي طلبه، فَلم يعلم بمنقلبه، فأسف للفراق، وَأمر بتخليد حكمه فِي بطُون الأوراق، فَهِيَ إِلَى الْيَوْم تروى وتنقل، وتجلى الْقُلُوب بهَا وتصقل. وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.(2/334)
وَمن ذَلِك كتاب الْإِشَارَة إِلَى أدب الوزارة فِي السياسة
أما بعد حمد الله الَّذِي جلّ ملكه أَن يوازره الْوَزير، وَعز أمره أَن يدبره المدير، أَو يُؤَيّدهُ الظهير، والاستعانة بِهِ على الوظايف الَّتِي يضْطَر إِلَيْهَا، ويعتمد عَلَيْهَا فَهُوَ الْوَلِيّ النصير. وَالصَّلَاة على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد، الَّذِي لَهُ الْقدر الرفيع وَالْفَخْر الْكَبِير. وَالرِّضَا عَن آله وعشيرته، فحبذا الْآل والعشير. فان من دَعَا إِلَى الله أَيهَا الْوَزير الصَّالح السعيد بعصمة يضفي عَلَيْك لباسها، وَعزة يصدق عَلَيْك قياسها، وَأَيَّام تروض لديك شامها، وَيدْفَع بيمن نقيبتك بأسها، فَإِنَّمَا دَعَا للدولة بتأييدها، وللملة بتمهيدها، وللمملكة بتجديدها، فقد ظهر من عنايته بك اختيارك، وَمن حسن أَثَره فِي نصرك وإيثارك، وَهُوَ الْكَفِيل لَك بالمزيد من آلائه، وموصول نعمائه، وَأَنِّي لما رَأَيْت برك دينا يجب عَليّ قَضَاؤُهُ، وَلَا يجمل بِي إلقاؤه، تخيرت لَك فِي الْهَدَايَا، مَا يمْلَأ الْيَد، ويصاحب الأمد، وينجب الْعقب وَالْولد، فَلم أجد أجدى من حَدِيث الْحِكْمَة الَّتِي من أوتيها، قدف أُوتِيَ خيرا كثيرا، وَمن أمل لرتبتها السامية، فقد أحل محلا كَبِيرا. والوصاة الَّتِي تنفعك، من حَيْثُ كنت وزيرا، وَالْمَوْعِظَة الَّتِي تفيدك تبنيها من الْغَفْلَة وتذكيرا، فاخترعت لَك وضعا غَرِيبا، وغرضا قَرِيبا، أَن لقِيت مَا جمح من أخلاقك، قَوْلك وألانه، وأنهج لَك الصَّوَاب وأبانه، جانحا إِلَى الِاخْتِصَار، عادلا إِلَى الْإِكْثَار، مَنْسُوبا إِلَى بعض الْحَيَوَان، على عَادَة الأول مِمَّن صنف فِي السياسة قبلي، أَو ذهب لما ذهبت إِلَيْهِ من فعلي [فَقلت وَبِاللَّهِ العون وَالْقُوَّة وَمِنْه يلْتَمس السَّعَادَة المرجوة] .
حكى من يُكَلف برعي الْآدَاب السوايم، ويعنى باستنزال الحكم الحوايم، ويقيد الْمعَانِي الساردة على أَلْسِنَة البهايم، أَن نمرا يكنى أَبَا فَرْوَة، وَيعرف(2/335)
بالمرقط، كَأَنَّهُ بالنجوم منقط، شثن الْكَفَّيْنِ، بعيد مَا بعد الْعَينَيْنِ، كَأَن ذؤابة ... . ذوابة كَوْكَب أوجد مِلَّة مركب، وَكَأن المجرة أورثته غديرها، والثريا نثرت عَلَيْهِ دنانيرها، عَظِيم الْوُثُوب والطفور، حَدِيد الناب والأطفور، جن نجد وغور، وكرة حور وكور، وجرم ثَوْر فِي مسلاح سنور، استوزره ملك الوحوش، وقلده تَدْبِير الْملك، وَعرض الجيوش، فَحل من ذَلِك الْأسد مَحل الرّوح من الْجَسَد، وَكَفاهُ مَا وَرَاء بَابه، ودافع الأعدا من جنابه، ووفر من جبايته، وأجرى رسوم عزه وإبايته، وأخلص الله عقيدة نصحه، وتبرأ من شين الْغِشّ وقبحه، حَتَّى عَمت الهيبة وخصت، وشرفته الْأَعْدَاء وغصت، وَعرفت الوحوش أقدارها، وألفت السياسة مدارها، وَأمنت السبل والمسالك، وَخَافَ الْمَمْلُوك سطوة الْمَالِك، وَحسنت الْأَخْبَار عَن سيرته، وَشهِدت بِالْعَدْلِ ألسن جيرته، لما أسن واستن، فَأنْكر من قوته مَا عرف، وقارب من مدى الْعُمر الطّرف، فَمَال مزاجه وانحرف، وكع عَن الملاذ وَانْصَرف، فَأصْبح مَتنه هزيلا، وجسمه ضئيلا [ونشاطه قَلِيلا، وَرَأى عبء الوزارة ثقيلا] إِن الْحق أقوم قيلا، دخل على الْأسد خلْوَة مشورته، وَصرح لَهُ عَن ضَرُورَته، وَأقَام لَهُ الْحق فِي صورته، وَقَالَ أَيهَا الْملك السعيد، عِشْت مَا بدا لَك، وحفظت ميزَان الطبايع عَلَيْك اعتدالك، ولازلت مرهوب السطا، بِعَين الخطا، فَإِنَّمَا فِي مهاد الدعة أَمن القطا، وَهن من عَبدك الْعظم، وَضعف الافتراس وساء الهضم، وَكَاد ينثر النّظم، وَبَان فِي آلَة خدمتك، الكلال، وَاسْتولى الْهم والاضمحلال وأربأ لملكك عَن تَقْصِير يجنيه ضعْفي، وَإِن عظم لفراق سدتك لهفي، فسوغنى التفرغ لمعادي، وَالنَّظَر فِي بعد طريقي وَقلة زادي، واستكف من يقوم بهمتك، ويبوء بعبء خدمتك، فَمَا على استحثاث الْأَجَل من قَرَار، وَمَا بعد العشية من عوار(2/336)
(من عَاشَ أخلقت الْأَيَّام جدته ... وخانه نقشاه السّمع وَالْبَصَر)
وَقد علم الله الَّذِي بِيَدِهِ النواصي، وَعلمه الْمُحِيط بالأداني والأقاصي، وستره قد شَمل الْمُطِيع والعاصي، أنني مَا خُنْت أَمَانَته بخون أمانتك، وَلَا آلَيْت جهدا فِي إغاثتك، وَلَا اقتحمت بِأَمْرك حدا من حُدُود ديانتك، وَلَا تَعَمّدت جلب ضرّ، وَلَا خلطت حُلْو النَّصِيحَة بمر، وَلَا استفسدت لَك قلب حر، وَلَا استأثرت لَك بِمَال، وَلَا كنت يَوْمًا لضدك بميال، وَلَا تلقيت مهمك بإهمال، وَلَا ضَاقَ لي عَن خلقك ذرع احْتِمَال، وَلَا أعملت فِي غير رضاك وطاعتك حَرَكَة يَمِين وَلَا شمال، فَقَالَ لَهُ الْأسد، أَيهَا الْوَزير الصَّالح حسن جزاؤك، كَمَا وضح للحق اعتزازك، وَلَحِقت بالعوالم الشَّرِيفَة مقوماتك المفضلة وأخلاقك. قلت صَوَابا واستوجبت منا وَمن المعبود ثَوابًا، وَلَو كَانَ شَيْء فِي وسع ملكنا جبره، لبذلنا لَك الْعَزِيز، وَهَان علينا أمره، لَكِن التَّحْلِيل على عَالم التَّرْكِيب محتوم، والمصير مَعْلُوم، والفراق وانى الألقاب والرسوم.
(أسمع فقد أسمعك الصَّوْت ... إِن لم تبادر فَهُوَ الْمَوْت)
(نل كلما شيت وعش نَاعِمًا ... آخر هَذَا كُله الْمَوْت)
وَقد أمرنَا لولدك، ونقلنا الوزارة من يدك، ورجونا أَن لَا نعدم حسن مقصدك من ثِقَة نَفسك، وسليل جسدك. وَكَانَ النمر جرد [قد اسْتكْمل] ٍ الْوُقُوف، واتصف بالانقطاع على الْحِكْمَة والعكوف، مُخْتَار [الْأَمَانَة والفراسة] صَادِقَة فِيهِ أَحْكَام النجابة، ومخايل الفراسة، كلف بِالنّظرِ والدراسة، كريم الطَّبْع رحيب الذرع طيب الأَصْل، سامي الْفَرْع، لَا تورده المعضلات، وَلَا تواقف(2/337)
فطنته المشكلات، وَلَا تجاذبه الشَّهَوَات، وَلَا تطرق كَمَاله الهفوات، حَان على الرّعية، دَفعته لشروط السياسة المرعية، قد أفرغ فِي قوالب الْكَمَال جوهره، وتطابق مخبره ومظهره، وتفتق عَن كَمَال العفاف، وَحسن الْأَوْصَاف زهره، فَاتخذ الْملك صنيعا تفض لَهُ الْأَطْرَاف، واستقدم الْأَشْرَاف، واستدعى قومه للْجِهَاد، وَطَوَائِف النساك والزهاد، واحتفل الْوَلِيمَة، وأفاض النعم العميمة، واستحضر النمر، وَقد تحلى بحلية متماسك، وبذل فَرْوَة الْوَزير بِعُرْوَة الناسك، فأعلن فِي الْمُجْتَمع بِرِضَاهُ عَن سيرته، واعترف بنصح جيبه وَفضل سَرِيرَته وأعلن بتسويغ أوبته، وَقرب القربان بَين يَدي تَوْبَته، وحفت بِهِ أَرْبَاب الدّيانَة ونساكها، وقومة الشَّرِيعَة الَّذين فِي أَيْديهم ملاكها، فَرَفَعُوهُ على رُءُوسهم وأكتادهم حَذْو معتادهم، وجهروا حوله بصحفهم المحفوظة، وأدعيتهم الملفوظة ونسكهم المجدودة المحظوظة، حَتَّى أَتَوا بِهِ هيكل الْعِبَادَة، وَمحل أصل النّسك والزهادة، وخدمة الْكَوَاكِب السَّادة، والمتشوقين إِلَى السَّعَادَة، والمنسلخين عَن كدرات سوء الْعَادة، وقصده وَلَده، يستفتح بدعاته الْعَمَل، ويستدلى بوصاياه الأمل. فَلَمَّا فرغ النمر من اسْتِقْبَال محرابه، وَقد تجرد من العلائق تجرد السَّيْف من قرَابه، جِيءَ الْوَلَد لَدَيْهِ، ثمَّ سجد بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ بعد مَا أطرق، وطرفه من الرقة اغرورق، أَيهَا الْمولى الَّذِي قرنت بِحَق الْبَارِي حُقُوقه، فَمَا فِي المنعمين من يفوقه، أوضحت لعِلَّة إيجادي مذهبا، وَكنت لنَفْسي الْجِزْيَة باتصال الْعقل الْكُلِّي سَببا، ثمَّ [تغلبت وكفيت] وَعند تقاصر الطباع وفيت، ثمَّ داويت من مرض الْجَهْل وشفيت وحملت على أفضل الْعَادة، وأظفرت الْيَد بِعُرْوَة السَّعَادَة. وَأَنا إِلَى وصاتك الْيَوْم فَقير، ورأيي فِي جنب رَأْيك حقير، ودعاؤك لي ولي ونصير، وللحظك فِي تصرفاتي القاصرة ناقد وبصير، فَأقبل عَلَيْهِ بِوَجْه بيضه الشيب والنسك، وأخلاق تضوع من أنفاسه الْمسك، وَتَبَسم تَبَسم الذَّهَب(2/338)
الإبريز خلصه السبك، وَقَالَ يَا وَلَدي الَّذِي رجوته لخلف شخصي، وتتميم نقصي، وَفضل الْحِكْمَة عَنى، وَستر الْجُزْء الأرضي مني، طالما ابتهلت إِلَى الله فِي سدادك، بعد تخير دُعَاء ولادك، واستدعيت حكماء الهياكل المقدسة لإرشادك، فَلَو اسْتغنى أحد عَن موعظة توقظ من نوم، أَو سداد رَأْي يعْصم من لوم، أَو استشعار مناصحة تجرثنا قوم، واستعراض تجربة تعلى من سوم، لَكُنْت بذلك خليقا، وَمن أسر الافتقار طليقا، لَكِن الْإِنْسَان لما نزيده ذُو فاقة، ومتصف بافتقار إِلَى غَيره وإضاقة، وَلَيْسَ لَهُ بالانفراد مَعَ كَونه مدنيا من طَاقَة، وَمَتى ظن بِنَفسِهِ غير ذَلِك فَهِيَ حَمَاقَة. وبحسب مَا يحاوله أَو يحاوره يكون افتقاره لمن يفاوضه أَو يشاوره. وَقد ندبت من الوزارة إِلَى منزلَة لَا تطمين بِمن نبذ طَاعَة الْحق وتقواه، وَرَضي عَن نَفسه وَاتبع هَوَاهُ، فان قهرت من الشهودة المردية عَدوك، وَبَلغت من مسكة الْهوى مرجوك، وألفت قرارك فِي ظلّ الْحِكْمَة وهدوك، تذلل لَك امتطاؤها وَتَهْنَأ لَك عطاؤها، وطاب فِيهَا خبرك، وَحسن عَلَيْهَا أثرك، وَالله يذرك، وَإِلَّا فلست بِأول من هوى، ورمد بعد مَا شوى، وَأَنا مُوصِيك وَالله يبعدك، من الخطل ويقصيك، وَيبين لَك قدر هَذِه الرُّتْبَة بَين الأقدار، ثمَّ جالت بعض شُرُوع الِاخْتِيَار ثمَّ خلص للوصاة بِحَسب الْإِمْكَان، فِي سِتَّة أَرْكَان، وأسل الْعَالم بفاقتي إِلَى سداد قَوْلك وفعلك، الْغنى عَن قدرتك وحولك، أَن يجمع لَك من مواهب توفيقه الَّتِي لَا تحصر بالعد وَلَا تنَال بالكد مَا يتكفل بِرِضَاهُ عَنْك، حَتَّى تحب مَا أحبه لَك، وَتكره ماكرهه مِنْك، وَأَن يخْتم مدتك المتناهية بِأَسْعَد مَا انْتَهَت إِلَيْهِ آمالك، وتطاول نَحوه سؤالك، فَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل.(2/339)
بَاب بَيَان قدر رُتْبَة الوزارة فِي الأقدار وَبَعض شُرُوط الِاخْتِيَار
اعْلَم يَا وَلَدي أَن هَذِه الرُّتْبَة لمن فهم وعقل، مُشْتَقَّة من الْوَزير، وَهُوَ الثّقل، لِأَنَّهَا تحمل من عبء الْملك وَثقله مَا تعجز الْجبَال عَن حمله، وَهِي الْآلَة الَّتِي بهَا يعْمل، وبحسب تباينها يتباين مِنْهَا الأنقص والأكمل، وَعَصَاهُ الَّتِي بهَا يهش، ويحتطب ويحش، ويلتقم ويمش، وَيجمع ويفش، ومخلبه الَّذِي بِهِ يزق الفرخ، ويحرس العش ومنجله الَّذِي يعرف بِهِ من يناصح وَمن يغش، ومرآته الَّتِي يرى بهَا محَاسِن وَجهه وعيوبه، وسَمعه الَّذِي يتَوَصَّل بحاسته لمعْرِفَة الْأَشْخَاص المحجوبة. وَإِذا فسد الْملك وَصلح الْوَزير، رُبمَا نَفَعت السياسة واستقام التَّدْبِير، وَصَلَاح الْأَمر بعكس هَذِه الْحَال مَحْسُوب من الْمحَال لِأَن الْوَاسِطَة الْقَرِيبَة، ونكتة السياسة الغريبة، وموقعه من الْملك موقع الْيَدَيْنِ من الْجَسَد، اللَّتَيْنِ فِي الْقَبْض والبسط عَلَيْهِمَا يعْتَمد وَقَالُوا الْملك طَبِيب والرعية مرضى، [والوزير تعرض عَلَيْهِ شكاياتهم عرضا] والنجاح مُرْتَبِط بسداد عقله، وَصِحَّة نَقله، فان اخْتَلَّ السفير بَطل التَّدْبِير. وَإِذا تقرر وجوب الْإِمَامَة ونصبها، وعقدها وعصبها، وَكَانَت ضرورتها إِلَى الوزارة هَذِه هِيَ، ومنزلتها هَذِه الصُّورَة، وَفِي الْوَاجِب شَرط، وَلَا يَسْتَقِيم لَهُ بغَيْرهَا ضبط، كَيفَ لَا يكون قدرهَا خطيرا، ومحلها أثيرا، وَقَول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الَّذِي اصطفاه برسالته وبكلامه، واختصه بخصيصتي الْكَرَامَة مَعَ كَونه مَعْصُوما بعصمة ربه، غَنِيا بدفاعه، متأنسا بِقُرْبِهِ، وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي، اشْدُد بِهِ أزري، وأشركه فِي أَمْرِي، دَلِيل على محلهَا من سد الْقَوَاعِد، وإجراء العوايد، وَإِقَامَة الشواهد،(2/340)
واستدرار الفوايد، ومدافعة المكايد، إِلَى غير ذَلِك من الْآثَار المجلوة، والمحاسن المتلوة، والإشعار بِأَن المنصب منصب الْأُخوة.
فصل: وَاعْلَم أَن الْأَوَّلين من حكماء يونان فِي سالف الزَّمَان، كَانُوا يعْرفُونَ وصل هَذِه ... ... ... ويجعلون تعظيمها من الشَّرَائِع وَالسّنَن، ويتحققون نجباءها فِي الْمَعَادِن الشَّرِيفَة، والبيوت العتيقة، والأحساب المنيفة، ويختبرون نصب الموالد فِي أَبنَاء أهل الترشيح، ويعنون فِيهَا بِالنّظرِ الصَّحِيح، فَمن قَامَت على صلوحه الشواهد، وَشهِدت بأهليته الموالد، عين فِي الأرزاق قسمه، وَأثبت عِنْد الثِّقَات اسْمه، ثمَّ يؤخذون بالتعليم والدراسة، ويتعاهدون بالآداب تعاهد الفراسة، ثمَّ يعرضون عِنْد الترعرع على أهل الفراسة، فَمَتَى تَأَكد القَوْل وَرجح، وَبَان فِي أحدهم الْفضل ووضح طرح ودرب ومرن وجرب، ثمَّ اسْتعْمل وَقرب.
فصل: وَكَانَ الوزرا يختارون من الْجَوَارِي للمباضعة، من ظهر مِنْهَا فضل التَّمْيِيز، وأخلصها الِاخْتِيَار خلوص الذَّهَب الإبريز، وَلَا يغشوهن فِي سكر مسْقط، وَلَا فَرح مفرط، وَلَا كسل مقْعد، وَلَا حزب مُفسد، وَلَا غضب مبرق موعد. وَإِذا هم بِطَلَب الْوَلَد، استفتى الكاهن فِي اخْتِيَار الْوَقْت الرامق، فَلَا يُطلق لَهُ ذَلِك إِلَّا فِي الْأَوْقَات المختارة، وَالنّصب الخليقة بِتِلْكَ الإنارة، وَبعده إصْلَاح الْقَمَر وَالشَّمْس، وَالْكَوَاكِب الْخمس، واستحضار الهيئات النابهة، والأشكال المتنافسة المتشابهة، وتقريب القرابين بَين يَدي الْآلهَة، ثمَّ يلقى الْجَارِيَة، وَكِلَاهُمَا يَقُول قولا مَنْقُولًا عَن الصُّحُف الموصوفة، والكتب المقدسة الْمَعْرُوفَة، مَعْنَاهُ يَا من قصرت الْأَلْبَاب عَن كنهه، وعنت الْوُجُوه لوجهه، قد(2/341)
اجْتَمَعنَا على مزج مواد لَا نَعْرِف مَا تحدثه مِنْهَا، وَلَا مَا تظهره عَنْهَا وتلقينا، وتلقينا توفيقك من سعينا بِمِقْدَار المجهود، وَأَنت ملاذ الْوُجُوه، ومفيض السُّجُود، وَلَيْسَ تضرعنا لَك بِالْمَسْأَلَة، وابتهالنا فِي رحمتك المستنزلة تَنْبِيها لأقدارك الْمُصِيبَة للسداد، الْجَارِيَة بمصالح الْعباد، إِنَّمَا هُوَ بِحَسب مَا نحرز بِهِ فضل الرَّغْبَة إِلَيْك، وَالسُّؤَال لما لديك، وَنحن بِحسن اختيارك أوفق منا بارائنا، وقضاؤك السَّابِق من وَرَائِنَا، فلك الْحَمد على قضائك، وَالشُّكْر على نعمائك
فصل: وَكَانَ الْوَزير فيهم، يشْتَرط فِيهِ أَن يكون قديم النِّعْمَة، بعيد الهمة، مكين الرأفة وَالرَّحْمَة، كريم الْعَيْب، نقي الجيب، مُسَدّد السهْم، ثاقب الْفَهم، واثبا عِنْد الفرصة، واصفا للقصة، مريحا فِي الفصة، موفور الْأَمَانَة، أصيل الدّيانَة، قاهر للهوى، مستشعرا للتقوى، مشمرا عَن الساعد الْأَقْوَى، جليل الْقدر، رحيب الصَّدْر، مَشْهُور الْعِفَّة، معتدل الكفة، حذرا من النَّقْد، صَحِيح العقد، رَاعيا للهمل، نشطا للْعَمَل. واصلا للذمم، شاكرا للنعم، خَبِيرا بسر الْأُمَم، ذَا حنكة بالدخل والخرج، عفيف اللِّسَان والفرج، غير مغتاب وَلَا غيابة، وَلَا ملق وَلَا هيابة، مجتزئا بالبلاغ، مشتغلا عِنْد الْفَرَاغ، مؤثرا للصدق، صادعا بِالْحَقِّ، حَافِظًا للأسرار، مؤثرا للأبرار، مباينا بطبعه لخلق الأشرار، وَقد فاق قدر هَذِه الرُّتْبَة بَين الأقران، وَأعْطى وزانها، وَالْحَمْد لله، حَقه عِنْد الِاعْتِبَار.
وَنحن نذْكر بعد أَرْكَان الوصاة، ونفرغ لذكر حكمهَا المحصاة، وخصولها المستقضاة.
الرُّكْن الأول: وَهُوَ العقد الَّذِي عَلَيْهِ الْمعول، فِيمَا يستشعر الْوَزير بَينه وَبَين نَفسه، ويجعله هجيراه فِي يَوْمه وأمسه. وَاعْلَم أَن المملكة البشرية، الخليقة بالافتقار، الْحُرِّيَّة، لما كَانَ راعيها مركبا من أضداد مُتَغَايِرَة، وأركان متفاسدة(2/342)
متضارة، ويجذبه كل مِنْهَا إِلَى طبعه أخذا برجاه، مدافعا بضبعه، لم يكمل حراسة مَا وكل إِلَيْهِ، وَلَا وفت بِضَم منتثرها آلَات حسه، فَاحْتَاجَ إِلَى وَزِير من جنسه، يَنُوب مهما غَابَ عَن شخصه، ويضطلع بتتميم نَقصه، ويتيقظ فِي سهره، ويجد عِنْد لهوه، فَيحْتَاج من اتّصف بِهَذِهِ الصّفة، إِلَى كَمَال فِي الْفضل، ورجاحة فِي الْمعرفَة، يعدل بهَا مَا عاصى الْملك من أُمُور ملكه ويوفي مَا عجز عَنهُ من نظم سلكه حَتَّى تبرز المملكة فِي أتم صورتهَا، وتبلغ الْكَمَال الْأَخير. بِمُقْتَضى ضرورتها، وتقوى الله عز وَجل أول مَا قَدمته، ثمَّ تذليل بَيْتك لمن خدمته، ومقابلة ثقته بك، بِالْوَفَاءِ الذى سددت إِن التزمته، وَحمل الْخَاصَّة والعامة على حكم الشَّرْع، فَإِن لم تبن على ذَلِك، هدمته، وَأفضل مَا وهب لَك فِيمَا قلدته من قلادة، وعودته من عَادَة وسيادة، شُمُول الْأَمْن، وَعُمُوم الرِّضَا. وَظُهُور الْأَمَانَة والصدق فِي كل غَرَض مُقْتَضى، وَحسن النِّيَّة، وطهارة الطوبة، ورعاية الْإِحْسَان، وإفاضة الرأفة فِي عَالم الْإِنْسَان، وَزِيَادَة الْكِفَايَة بِحَسب الْإِمْكَان، وَاعْلَم أَن من لَا يضْبط نَفسه، وَهِي وَاحِدَة [لَا يضْبط] أَمر الْكثير من النَّاس على تبَاين الْأَغْرَاض، وتعدد الْأَجْنَاس، فاربأ بِنَفْسِك عَمَّا تجره الشَّهَوَات من النَّقْص، وازجرها عَن كلف الْحِرْص، وألن يجانبك لمن ظهر كَمَاله، وَقصرت بِهِ عَنهُ حَاله، وَاعْلَم أَن بَقَاء النعم على كتدك مقصرون ببقائها من يدك، وجريان الْأُمُور على مذهبك، بِحَسب استقامتها بسببك، وَقل أَن يتهنأ فِي هَذَا الْعَالم عمل عَار من الْمَلَامَة أَو سَالم من التجاوز كل السَّلامَة فَلْيَكُن خطأك فِي الْإِحْسَان للْإنْسَان، لَا فِي الْإِسَاءَة بِالْفِعْلِ وَاللِّسَان، فقليل الْخَيْر رُبمَا تمازقت ثَمَرَته، وَأَتَتْ أكلهَا ضعفين شجرته. وَإِذا هَمَمْت بِزَوَال نعْمَة عَن جَان، فاذكر كم تنَال تِلْكَ النِّعْمَة من مَكَان، وفيهَا من لم يسْتَوْجب عقَابا،(2/343)
وَلَا كشف فِي شَرّ نقابا، وَقد قَالُوا، الْأَشْرَاف تعاقب بالبجران، وَلَا تعاقب بالحرمان وَرُبمَا قَالَت ... ... . . حراركن إِلَيْهَا وَلم تعلم، ثمَّ تأوه لفقد معروفها وتألم، فَاجْعَلْ هَذِه الذرائع مشفعا فِي بَقَائِهَا ودواعي لإجرائها، يتكفل لَك بارئك بإحراز السَّلامَة، وَرفع الْمَلَامَة، والمثوبة فِي الْقِيَامَة. وَاسْتعْمل التَّوَاضُع فِي هبوب رِيحك [وتجاف عَن الخسة والنجمة بتعريضك وتصريحكٍ] فَرُبمَا خشن جَوَاب لَا يغسل طبعه وَلَا يُوجد من يرقعه، وَلَا يُزِيلهُ عِقَاب قابله وَلَا يرفعهُ، سِيمَا فِيمَن اسْتحق الْمَوْت أَو يتقن الْفَوْت، واصبر على ذَوي الْفَاقَة [وَأهل الْإِضَافَة] ولتسل الْإِضَافَة بِجهْد الطَّاقَة، وَإِيَّاك والضجر، فَإِنَّهُ يكدر الصفو، وَيذْهب الْعَفو، ويبقي الفلتة الشنيعة، وَيفْسد الصنيعة. وَقد ركل أَبُو عباد الْوَزير رجلا بِرجلِهِ، فَرفع إِلَى الْخَلِيفَة من أَجله:
(قل للخليفة يَا ابْن عَم مُحَمَّد ... إشكل وزيرك أَنه ركال)
(إشكله عَن ركل الرِّجَال وَإِن ... ترد مَالا فَعِنْدَ وزيرك الْأَمْوَال)
وَتركهَا مثلا يذكر، وقلتة تنكر.
فصل: وَإِذا بَاشر عيوبا فتبع عيوبه دون فصوله وأبوابه دون فصوله، وَلَا تشتغل بفروعه المتشعبة عَن أُصُوله، ثمَّ اصمد بعد إِلَيْهَا، واعطف عَلَيْهَا، وَلَا تعن بتفضيله عَن جملَته، فيضيع سائره قبل أَنَاة الْوَقْت ومهلته، وَلَا ترفض عملا عَن وَقت يسرده وينصه، فَإِن لكل وَقت عملا يَخُصُّهُ، وَأَقل مَا يلْحق من ازدحام الْأَعْمَال، تطرق الْفساد إِلَيْهَا، والاحتلال عِنْد الاستحثاث إِلَيْهَا،(2/344)
والاستعجال وضيق المجال، وتهيب الْعَمَل مطيل الزَّمَان، منب عَن ضيق الْجنان، وَلَا تركن فِي الِاسْتِخْدَام إِلَى شَفَاعَة غير نفاعة، مَا لم تكن شَفَاعَة الْكِفَايَة وَالْأَمَانَة وَالرِّعَايَة، وَاعْلَم بِأَن من ظهر حسن صبره، على انتظام أمره، حسن صبره على شدائده فِي حوادث الدَّهْر ومكائده، فالصبر قدر مُشْتَرك فِيمَن أَخذ وَترك، وَالنَّفس لَا تنفك من معترك، وَاعْلَم أَن الرَّاحَة عِنْد الْحَاجة إِلَى الْحَرَكَة، تهدى التَّعَب الضَّرُورِيّ لمن أَخذه فِيهَا وَتَركه، وَلَا تغفلن شَيْئا تقلدته، بعد مَا حسبته من وظائفك وعددته، فيظن بك من الْخُرُوج عَن طبعك الَّذِي جبلت عَلَيْهِ، بِمِقْدَار مَا خرج إِلَيْهِ، وَلَا تحتجب عَن النَّاس، يفشو بغضك، ويضعف من السياسة فرصك، وتكتمك النَّصِيحَة سماؤك وأرضك، وَللَّه در القايل:
(كم من فَتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الْأَحْرَار فِي ذمَّته)
(قد كثر الْحَاجِب أعداءه ... وسلط الذَّم على نعْمَته)
وَلَا يعجبنك مَا يظنّ من مساويك، ولتكن معرفتك بِعَيْب نَفسك أوثق عنْدك من مدح أَبنَاء جنسك، وانقض عَن الْعَامَّة، وَمن يلابسها، وَامْتنع عَن التكبر بِمن يجانسها، فَفِي طباعها إهانة الملتبس بإشياعها، وتنقص من اتَّصل برعاعها. وَاعْلَم بِأَن إحسانك للْحرّ يحركه على المكافآت الْمُخْتَلفَة، وإحسانك إِلَى الوغد يحملهُ على معاودة الْمَسْأَلَة، وضع إحسانك وَلِسَانك حَيْثُ وضعهما الرَّأْي الصَّحِيح، وَالِاخْتِيَار الصَّرِيح. هَذِه أرشدك الله نقطة من يم، وقافة من جم، وحصاة من نثير، وَقَلِيل من كثير، والنبيل من قَاس الشَّيْء بنظيره، وَاسْتدلَّ على الْكثير بيسيره، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.
الرُّكْن الثَّانِي: فِيمَا يستشعره الْوَزير مَعَ الْملك، ليأمن عَادِية الْأَمر المرتبك. وَإِذا خدمت ملكا زَاد رَأْيك على رَأْيه، وَفضل سعيك فِي التَّدْبِير حسن سَعْيه، فإره الِاسْتِعَانَة بِمد يدك، واقصر من إشراف جيدك، واظهر التَّعَجُّب مِمَّا فضل عَلَيْك بِهِ، وسر من الحزم على مذْهبه، وَلَا تتبجح بتجاوز مَا لأهل طبقتك،(2/345)
وَإِذا أنفقت عِنْده الْكِفَايَة، فاقصد فِي نَفَقَتك، فَإِنَّهُ لَا يحسن مِنْهُ موقع قَوْلك أَو عَمَلك، وَيرى أَن تعزرك بِهِ أَكثر من تحملك، فيشرع فِي كسرك ويثيره إِلَى قسرك. وَإِذا تعَارض عنْدك الْعَجز فِي مروتك وديانتك وكفايتك وأمانتك، فبزه الْكِفَايَة عِنْده عَمَّا يُشِير، وَارْضَ بِالنَّقْصِ فِي الْمَرْوَة لَا فِي الدّين فَهُوَ عَلَيْهِ أسهل، وَفرق مَا بَين الْحَالين لَا يجمل، وَإِيَّاك أَن يأنس بك فِيهَا إخلالا، أَو يرى مِنْك فِيهَا إهمالا، وَاحْذَرْ الْإِضْرَار لَدَيْهِ بِالنَّاسِ فِي سَبِيل النَّصِيحَة، أَو التوفير عَلَيْهِ كَمَا توفر الْعَامَّة على أَنْفسهَا الشحيحة، وابتغ لَهُ قُلُوب الْخلق بمسامحتهم فِيمَا قصروا فِيهِ عَن يسير الْحق، فَإنَّك تسترخص لَهُ بذلك تملك الْأَحْرَار، وتحسين الْآثَار، واترك لشئونه الْخَاصَّة شئونك، وحرك من أَحْسَنت إِلَيْهِ على شكره دُونك، ليقف على أَن سعيك لَهُ أَكثر من سعيك لنَفسك، فِي يَوْمك وَأمْسك وَلَا حَظّ لَك فِيمَا لَا تمسك، وَإِيَّاك أَن تحيا بِمثل تحيته أَو تلقى بِمثل مَا يلقى بِهِ عِنْد رُؤْيَته، أَو ترفع بِالسَّلَامِ عَلَيْك الْأَصْوَات، أَو يسْبق النَّاس بابك قبل بَاب الْملك بالغدوات فكم جلب ذَلِك من الْآفَات، وَغير من الصِّفَات. وَإِذا دعَاك إِلَى لهوه أَو شرابه وخصك بمزيد اقترابه فَلْيَكُن الإعظام على الالتذاذ غَالِبا، والفكر للحذر مراقبا، وَاجعَل التَّحَرُّز مِنْهُ فِي أَوْقَات انبساطه إِلَيْك وَاجِبا، وَلَا تستهز من ذَلِك بِمَا لَيْسَ يبين، وَإِيَّاك أَن تنم بك اسرة وَجه، أَو نظرة عين، واجتنب لِبَاس ثَوْبه وركوب مركبه، واستخدام جَمِيع مَا يتزين بِهِ، فَمن خدم السُّلْطَان لنباهة الذّكر، ولباس الْعِزَّة، لم يضرّهُ تَقْصِير الرياش، وَلَا تعود البزة، وَمن صَحبه للذة والترف، كَانَ سريع المنصرف، مسلوب الشّرف [فصل] وَإِذا خصك بمشورته، وَطلب رَأْيك لضرورته، فَلَا تخاطبه مُخَاطبَة المرشد لمن استهداه، وأره حَاجَتك لما أبداه. وَإِذا اعْترف بخطإ يواقعه فِي بعض أنظاره، أَو أعلن(2/346)
يَوْمًا بِسوء اخْتِيَاره، فأجل فكرك فِي التمَاس عذره وتوجيه عاره، واحتل بفطنتك فِي رمه، وَاحْذَرْ أَن توافقه على ذمه، وذلل نيتك لكلامك. واصرف إِلَى ترك التجاوز جلّ اهتمامك، فَالْكَلَام إِذا طابق نِيَّة الْمُتَكَلّم حرك نِيَّة السَّامع، وَإِذا صدر عَن الْقلب، أَخذ من الْقلب بالمجامع. وَإِذا توجه إِلَيْك عَتبه لشُبْهَة فِي أَمرك عرضت أَو ظنة تعرضت، فَلَا تقبل رِضَاهُ عَنْك تمويها، مَا لم تقم حجتك فِيهَا، وَلَا تسام إِلَّا لَامة، وأره أَنَّك لَا تُؤثر الْحَيَاة دون بَرَاءَة الساحة حَتَّى ترْتَفع الظنة رَأْسا، وَلَا تخشى من تبعة الإحنة بَأْسا، وَيكون ذَلِك عِنْده شَاهدا بِفَضْلِك، وزايدا لَهُ فِي محلك، وَلنْ لَهُ إِذا غضب، وَاتَّقِ الكريهة دونه، إِن رهب، واصرف لحظك عَنهُ إِن أكل أَو شرب، وسد بَيْنك وَبَينه بَاب العتاب بالمشافهة أَو الْكتاب، وَلَا تخف من طَاعَة الْملك إِلَّا مَا وَافق من طَاعَة ربه، يضع الله تجلتك فِي ذَاته، وَاذْكُر قَول الْوَزير الْمُتَقَدّم، وَقد أمره الْملك الْمُسَلط بقتل رجل، وتلطف فَسبق لَهُ عَن ذَنبه بِمَا جر عَظِيم إِنْكَاره وقطيع عَتبه أَيهَا الْملك السعيد لَو كنت مالكي وَحدك، لأنفذت من غير مهلة أَمرك، وشرحت بالامتثال صدرك، وَلَكِنَّك تملك ظاهري وَحده، ولى من يملكهُ وَمَا بعده، وَإِذا انفذت عَهْدك، نكثت عَهده، وَإِذا خرجت من يدك، دخلت فِي يَده الَّتِي لَا تمنع، فَكيف أصنع وَله الْأَمر أجمع، وَأَنا لَك فِي طَاعَته من شِرَاك نعلك أطوع. فَبكى الْملك الْجَاهِل لصدق حجَّته وَحمل الرجلَيْن من لعفو على أوضح محجته. وَهَذَا الْقدر كَاف لأولي الْأَلْبَاب فِي هَذَا الْبَاب.
الرُّكْن الثَّالِث: فِيمَا يحذرهُ من تقدم الْملك عَلَيْهِ فِي الْأَمر الَّذِي أسْند إِلَيْهِ، وَجعل زمامه فِي يَدَيْهِ. وَاعْلَم أَن من [الْعَار] بارتياضك، وسداد أغراضك أَن يتقدمك الْملك بِخلق هِيَ أولى بك، وادخل فِي حِسَابك، من الصَّبْر على الملاهي،(2/347)
والانقياد للأوامر الدِّينِيَّة والنواهي، وهجر الدعة فِي الضّيق وَالسعَة، وَشدَّة الْيَقَظَة، وَالذكر الَّذِي يعْنى بِهِ الْحفظَة من ذكر إقطاع، أَو مِقْدَار ارْتِفَاع، أواسم مرتزق، أَو حصر عمل مفترق، أَو التفكير فِي مصلحَة المملكة، فَإِنَّهُ إِن رَاض ذَلِك دُونك وعلكه، ونهجه مُنْفَردا وسلكه، وتميز فِيهِ بالملكة. وسامحك فِي التَّقْصِير والباع الْقصير، وسره سبقه إياك، وتقدمه عَلَيْك فِيمَا ولاك، فَهُوَ مِمَّا يحط لَدَيْهِ أَمرك، ويوهن قدرك، وَإِن كَانَ غَرَّك وَيرى أَنه لَا موازرك فِيمَا نابه، وَلَا كَافِي فِيمَا عرا بَابه، وأمل منايه، واجتهد أَن يراك شَدِيد الْحِرْص، آنِفا من النَّقْص، وَلَا يحس مِنْك فِي وظيفتك بتقصير، وَلَا يشْعر مِنْك فِيهِ بِرَأْي قصير.
فصل: وَاحْذَرْ أَن تسول لَك قدرَة الْإِمْكَان ودالة السُّلْطَان، الزِّيَادَة فِي الاستكثار من الضّيَاع وَالْعَقار، والجواهر النفيسة والأحجار، وَغير ذَلِك من الاحتجان والاحتكار، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ جلالة الْمحل ونباهة الْمِقْدَار، فيتقسم فكرك وشغلك، ويضيع سعيك وفضلك، ويحصيه عَلَيْك من يضمر لَك الافتراس، وَلَا يمكنك من كَيده الاحتراس، مِمَّن حروم حَظه، أَو وكس مَعْنَاهُ أَو لَفظه، ومتطلع إِلَى أوفى من وزانه، متسام إِلَى مَا وَرَاء إِمْكَانه، أقصرت بِهِ السياسة عَن شانه، فأضرم الْحَسَد ناره، وأذكى إوراه، وَأعظم صغيرك وأثاره، ويتشوف إِلَى مناهضتك من كَانَ عَنْهَا مقصرا، ويجهر من كَانَ مستترا، ويستدعي الارتياب مَا جلبه الْحَظ إِلَيْك، والاستظهار بِهِ عَلَيْك، وطمع الْحَاسِد فِيمَا لديك، واحرز مَعَ الْملك السلغة الَّتِي تقيك، وتوسدك مهاد الفضلة وتنميك، وترفع كلك، وتشمل أهلك، حَتَّى يعلم أَنَّك بِقَلِيل مَا يجريه لَك الْعدْل لَدَيْهِ، أغْنى مِنْهُ بالكثير فِي يَدَيْهِ، واجتنب الانهماك فِي الاستكثار من الْوَلَد والحشم أولى الْعدَد، والأذيال الَّتِي ثبتَتْ فِي أقطار الْبَلَد، فَإِن الْحَاسِد يراهم بذخا ونعمه، وَإِنَّمَا هم(2/348)
مؤونة ونقمة، وداعية إِلَى اسْتِهْلَاك عتاد أَو تَدْبِير مُسْتَفَاد، وإثارة حساد لَهُم، ورد جاهك، وَعَلَيْك صَدره وَلَهُم نفع كدحك، وَعَلَيْك ضَرَره. والاقتصاد فِي أَمرك أدوم لسلامتك وَأَرْفَع لملامتك، واغض لطرف حاسدك، واصدق لفوائدك، وأروح لقلبك وأخلص فِيمَا بَيْنك وَبَين رَبك، وَفِيمَا عثرت عَلَيْهِ التجارب، ووضحت مِنْهُ الْمذَاهب، أَن المتقلل من الوزراء، طَوِيل عمره، ناجح أمره، مظفر بأعدائه وأضداده، قريب من الْحَال المرضية فِي معاده. ولتكن همتك مصروفة إِلَى اسْتِبْرَاء حَال المملكة واعتبارها، وَتَأمل أفكارها، وَمَا عَلَيْهِ كل جُزْء من أجزاءها، من سداد ثغورها ودفاع أعدائها، ونقصان ارتفاعها، واختلال أوضاعها، أَو تَدْبِير مصلحَة يبْقى لَك ذكرهَا وخبرها، وَيحسن بك أَثَرهَا. وخف مصَارِع الدَّالَّة، فَهِيَ أدوأ دائك، وأكبر أعدائك. وَاعْلَم أَن الاقتصاد مَعَ إِمْكَان التَّوسعَة، والتنزل مَعَ الرُّتْبَة المرتفعة، يُنبئ عَن قُوَّة رَأْيك، وَصِحَّة عزمك، واستقامة سعيك وَالرَّغْبَة فِي الترف، والميل إِلَى الشّرف، دَالَّة على غَلَبَة الْهوى على الشّرف، وَأجل مَا جملت بِهِ زَمَانك، وَرفعت شَأْنك، خدمَة الشَّرِيعَة، وإحياء رسومها، وقمع الْبدع، وَإِزَالَة شومها، يذع لَك الْحَمد ويتخلد لَك الْمجد. وتول ذَلِك مَتى أمكنك بِنَفْسِك، وَلَا تكله إِلَى غَيْرك من أَبنَاء جنسك، حَتَّى إِذا وفقت بِهِ على غميرة يجب تغييرها، وَيتَعَيَّن نكيرها فارفع إِلَى الْملك عينهَا، وقبح عِنْده شينها، ثمَّ حل بَينه وَبَينهَا، وَأظْهر للنَّاس أَن قلقه بهَا أهمك، أَكثر من قلقك، وخلقه لإنكارها مُتَقَدّمَة لخلقك، تهدي إِلَيْهِ بذلك مَا يزِيد فِي مكانتك ويغبط بأمانتك، وَيشْهد بمؤازرتك وإعانتك وحسبنا، الله وَنعم الْوَكِيل.
الرُّكْن الرَّابِع: فِي تصنيف أَخْلَاق الْمُلُوك، للسير بمقتضاها والسلوك. وَاعْلَم أَن للملوك أَخْلَاقًا، يفْطن الملاطف من خدامها إِلَى اسْتِعْمَالهَا، فيجعلها أسا(2/349)
للسياسة وأحكامها، وَهِي أَن الْملك لَا يَخْلُو أَن يكون سخيا وباذلا، أَو ممسكا باخلا، وقويا على تَدْبيره أَو ضَعِيفا، يلقى المقادة إِلَى وزيره أَو سيا ظَنّه أَو من الاسترسال فِيهِ أَو حسن الْبشر عِنْد الافتراض، أَو منقبضا عَن الْأَعْرَاض. وَإِذا تركبت هَذِه الْخلال تركيبا طبيعيا، وترتبت ترتيبا وضعيا، وتقابل امتزاجها، بلغ إِلَى سِتَّة عشر ازدواجها، وَتَأْتِي للحكيم من الوزراء علاجها، وَرُبمَا انحرفت هَذِه الْخلق أَو توسطت، وَرُبمَا أفرطت، وعَلى هَذَا التَّرْتِيب ارتبطت، وَإِن كَانَ سخيا آثر درور الشُّكْر على توفير قوافل المَال، وكاف يحسن الذّكر فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَإِن كَانَ بَخِيلًا، فبضد هَذِه الْحَال، وَإِن غلبت عَلَيْهِ قُوَّة التَّدْبِير، استدعاك إِلَى الْمُشَاركَة فِي سعيك، وأحرز بذلك عَلَيْك الْحجَّة فِي رعيك وَإِن غلب عَلَيْهِ الضعْف ركن إِلَى تدبيرك، وفوض إِلَيْك الْأَمر فِي قليلك وكثيرك، وخلاك ومالا يحمد من عواقب أمورك، وَإِن كَانَ حسن الظَّن تمكنت من إحكام تدبيرك لدولته، وَبَلغت مِنْهَا أقاصي مصْلحَته، وَإِن كَانَ سيء الظَّن، شغلك عَن الْإِخْلَاص بكلف الْخَلَاص، وبإحراز الْحجَّة عَلَيْهِ عَن التفرغ الْكثير مَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ الْبشر عَلَيْهِ غَالِبا، كَانَ لنشاطك جالبا، فَاجْعَلْ هَذِه الْأَخْلَاق أصولا ورعيك لَهَا موصلوا، وَصَاحبه على خلقه وعقله، وانقل مِنْهَا بالتلطف مَا قدرت على نَقله، واعط صُورَة من تخدمة مَا ينافس تأليفها، وَيرْفَع تكليفها، وانفق مَا ينْفق عِنْدهَا وجار أخلاقه، واجتنب ضدها، يحسن أثرك، ويعظم شَأْنك، وَينفذ لَك سلطانك.
الرُّكْن الْخَامِس: فِي سيرته مَعَ من يتطلع لهضبته، ويحسده على رتبته، وَاعْلَم أَنه لَا يَخْلُو من حل محلك من علو الْقدر، وَعزة الْأَمر، عَن قرين يعانده،(2/350)
لَا حَاسِد يكايده، أَو متطلع يمت إِلَى الْملك بقربى، أَو يمحل إثافه فِي اللطافة وأربى يتَوَهَّم أَن وسيلته تبلغه مَا يَتَطَاوَل إِلَيْهِ من منزلتك، وتلبسه لِبَاس تحلتك، أَو ذِي همة جامحة ولأعنان الشّرف طامحة، يرى أَن خطه منحوسا، وَأَن مثله لَا يكون مرءوسا، وَآخر ذَاك فِيهَا مفترا فِيمَا أثرت فِيهِ رضى من حكم يفضلك وَحسن الإبقا فِي المملكة يعدلك، وَاحْتمل المدافعة حسن موقعك، وجلالة محلك، فَظن تراخيك لإخلال فِي التَّدْبِير، وإساءة فِي التَّقْدِير، وَكلهمْ ينظر إِلَى الْملك من أَصْغَر جوانبه، وَيخْفى عَنهُ أَكثر مِمَّا يظْهر مذاهبه، ولطف الْمحل، والتقدم فِي الْعلم وَالْفضل، وان كَانَ يُغير من حل محلك، وناهض فضلك، لَيْسَ من الِاضْطِرَار أَن يكون لمنزلته أسبابا، وَلَا لطلبه أبوابا، وَالْحق أَن تجاهده الْجَمَاعَة، وتقمع مِنْهَا الطماعة بِالزِّيَادَةِ فِي فضائلك الذاتية، [والتحرز من مُلَابسَة الدنية] والمناصحة لمن خصك بالمزية وَلَا تكشف فِي المجادة وَجها، وَلَا تبد فيهم غيبَة وَلَا نجها، واكسر سُورَة حسدهم بإحسانك، وسوغهم الْمَعْرُوف من وَجهك وَلِسَانك واصطنع أضدادهم مِمَّن ضلع عَلَيْهِم وَمثل لديهم، تحرس مِنْهُم غيبك، وتدافع عيبك، وتجلو ريبك من غير أَن يحس مِنْك لهَذَا الْغَرَض بفاقة، وَلَا يشْعر بِإِضَافَة، فَإنَّك تنشر معايبهم المطوية، وترميهم من أشكالهم بالبلية، ثمَّ تتلقى بعد ذَلِك فوارطهم بِحسن الْإِقَالَة وتتغمد سقطاتهم بالجلالة، وتكر بكرم الْعَفو على سوآتهم السوالف، وتخليهم وَمَا بقلوبهم من الحسايف فَإِن تسلط الْجَاهِل [على نَفسه] قصر عَنهُ من عدل أَو أَخطَأ نيله من فضل، أعز على حرمانه من ظفر أعدائه، وَلَا تركن إِلَى من وترته، وَلَا إِلَى من حركت حسده وأثرته، وَخذ حاشيتك يتْرك التعالي، والتضامن لِذَوي الشّرف العالي والإقصار من المطامع وإدالتك فِي المسامع، ولتتخط الْعدْل فِي النَّاس إِلَى الْفضل، والبشر إِلَى الْبَذْل،(2/351)
وَالْقَوْل الصَّالح إِلَى الْفِعْل، واختر من تصطنعه لخدمتك، وتنصبه مظْهرا لنعمتك بِنِسْبَة مَا شَرط فِي الِاخْتِيَار فِي رتبتك، فَإِن إِحْسَان الصنيعة يرد عَنْك، سوء القالة، وقبح الإدالة، ويصون عرضك من الإذالة
الرُّكْن السَّادِس: فِيمَا تساس بِهِ الْخَاصَّة والبطانة، وذوو الدَّالَّة والمكانة، وَاعْلَم أَن من الْخَاصَّة مربض لشدائد الدولة ومهماتها، ومتسم من ألقاب الْغِنَا بأكرم سماتها، فَهُوَ يرى لنَفسِهِ الْيَد وَالْيَوْم والغد، وَآخر مُتَعَلق بِقرَابَة من الْملك وَحرمه، أَو وَكيد ميل وَذمَّة، ولبست حظوظهم من الْملك على حسب قُوَّة أسبابهم، وَوزن مَا فِي حسابهم فَإِن أَطَعْت فهم الْملك، ظلمت المملكة، حَقّهَا، وَإِن عدلت خَالَفت مُوَافقَة الْملك، وباينت طرقها، وَالصَّوَاب التَّمَسُّك بالترتيب على الْإِطْلَاق، وَوضع النَّاس من المملكة مَوضِع الِاسْتِحْقَاق، وَاسْتِعْمَال إرضاء الْملك فِي تَفْصِيل من أَثَره بِحسن الْعَطِيَّة، وباين بَين أَصْنَاف الشفوف، وأنواع المزية، وَاعْلَم أَن ميل الْأَعْلَام إِلَى رفْعَة الْمنزلَة. أعظم مِنْهَا إِلَى الصِّلَة، وراع أَمر الْجَمَاعَة فتمم مَا وَقع بالمستحق من التَّقْصِير، بكرم المواعيد وإلغاء المعاذير، وَأصْلح قُلُوبهم للْملك بِكُل مَا يتكفل بجبر الكسير، واجذبها إِلَى طَاعَته بِحسن أوصافك، وَصِحَّة رَأْيك فِي الْقَلِيل وَالْكثير، وانحله فضايلك من غير شوب بَاطِن وَلَا تكدير، تصف لَك سريرة صَدره، ويأتمنك على جَمِيع أمره، وَاحْذَرْ انصباب الْقَوْم عَلَيْك، وإخلالها بمراكزها من دَاره، وانصرافها إِلَيْك، والتحامها بك وتمسكها [دون الْملك] بأسبابك، اعْتِمَادًا على نصْرَة جنابك، وقيامك بأمرها وَحسن منابك، وخف وَضعهَا إياك من قلوبها وعيونها، وكافة شئونها لَا يُؤثر الْملك رِضَاهُ وَلَا يحمد مُقْتَضَاهُ، فَرُبمَا زرع لَك فِي قلبه سوء الطوية، وَأثبت لَك الحقد وخبث النِّيَّة، وخبأ لَك وَأَنت لَا تعلم أعظم البلية، ولتمكن النُّفُوس أَن رضاك بِرِضَاهُ مَعْقُود، وَأَنَّك لَا تعْمل إِلَّا مَا رَآهُ، وَلَا تُؤثر إِلَّا(2/352)
مَا ارْتَضَاهُ، وَأَن لَك مِنْهُ منزلَة محمودة، ودرجة معقودة، من زادك عَلَيْهَا ظلمك، وجلب ألمك، وَأَن فِي قبولك لَهَا وإيثارك، مَا يزري على فضل اختبارك، وعامل الْملك فِي وَلَده بِحِفْظ الْغَيْب، والسلامة من الريب، واحفظ لَهُ الرَّسْم واستبقه. وَاجعَل حَقهم دون حَقه. وَإِذا دَعَوْت لَهُم فاشرط السَّعَادَة بخدمته وطاعته. وَاجعَل رِضَاهُ من الْوَلَد رَأس بضاعته، وَاحْذَرْ من إهمال هَذَا الْعرض وإضاعته، وَإِيَّاك أَن تفضل ولدك وَلَده، وَلَا عدتك عدده، وَلَا تناقشه فِي شَيْء قَصده، وَلَا تظهر حاشيتك على حَاشِيَته، وَلَا تتشبه غاشيتك بغاشيته، وَلَا تنازعه تجلته، وَلَا تَفْخَر مَنْزِلَته، وَلَا تحل مَحَله من جَيْشه، وَلَا تغر عَلَيْهِ فِي نباهة بناية، وَفضل عيشه، وتفقد نَفسك، فَانْزِل عَن الرقى اخْتِيَارا قبل أَن ينزلك اضطرارا.
فصل: وَإِذا انصرفت إِلَيْك من إِحْدَى حرمه، رَغْبَة، أَو تأكدت فِي مُهِمّ قربه، أَو بدرت إِلَيْك شَفَاعَة أَو تَوَجَّهت فِي حَاجَة طَاعَة، فَلَا تسمع رسالتها، وَلَا تعْتَبر مقالتها، إِلَّا من لِسَان إِنْسَان مَوْصُوف عِنْد الْملك بِإِحْسَان، حَال من يقنه بمَكَان، وَاحْترز فِي محاورتها من فلتات اللِّسَان وهفواته، وراجع خطابها مُرَاجعَة الْأَخ إِلَى أكْرم إخواته، أَو الإبن الأبر أمهاته. وَلَا تصغ فِي مخاطبتها إِلَى خضوع كَلَام ورقة، تَحِيَّة وَسَلام، وانفر من ذَلِك نفرتك من السمُوم الوحية والمهالك الردية، واسدل دون الْوَلَد وَالْحرم جنَاح التقية، واكتم سره عَن أَبنَاء جنسك لَا بل عَن نَفسك وَاجعَل قَلْبك لَهُ قبرا، وأوسعه صِيَانة وصبرا فَإِن تزاحم عَلَيْك تزاحما تخَاف عَلَيْهِ معرة النسْيَان وإغفال ذكرهَا على الأحيان، فَاتخذ لَهَا رمزا يفردك بعلمها، وَلَا تبح لسواك شَيْئا من حكمهَا، وَلَا تغفل(2/353)
مَعَ الأحيان مَا جرى بِهِ رسمك من عرض كتاب وَارِد، أَو خبر وَافد، أَو بريد قَاصد واستأمره فِيمَا جرت بِهِ العوايد، وَإِن خصت لَدَيْهِ منزلتك، ولطفت مِنْهُ، محلتك، فَلَا تتْرك أَن يمر ذَلِك على سَمعه، معتنيا لرعيه، وأذقه حلاوة الاستبداد بأَمْره وَنَهْيه، واترك لَهُ منفذا [يحْتَج لَهُ بَابه] عِنْد مغيبك، كَمَا تحببه الْعدْل من نصيبك ولازم سدته مَعَ الأحيان، وَإِيَّاك أَن تَجْتَمِع مَعَه على فرَاغ، فَيبقى الْملك مضيعا بِمِقْدَار ذَلِك الزَّمَان، وَإِذا انصرفت إِلَى منزلتك، فاختل بعمالك وكتابك، وَذَوي الرَّأْي والنصيحة من أَصْحَابك، على إحكام حَال الْملك الَّذِي ناطها بك، فَإِذا أمسيت، فاشغل طايفة من ليلك بمدارسة شَيْء من حكم الدّين، وأخبار الْفُضَلَاء المهتدين، واجل صدا نَفسك بالبراهين، ومجالسة الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاخْتِمْ سعيك بِبَعْض صحف النَّبِيين، وأدعية الْمُرْسلين والمتألهين لتختم يَوْمك بِالطَّهَارَةِ والعفة، والحلم والرأفة واعتدال الكفة، وليهون عَلَيْك النصب والوصب، والعمر المغتصب، إِنَّك مهتد بِهَدي رَبك الَّذِي يرعاك وينجح مسعاك، ويثيبك على مَا إِلَيْهِ دعَاك.
قَالَ فَلَمَّا استوفى النمر مقاله، وأحرز الشبل سُؤَاله، وَقرر حَاله، انْصَرف متجها إِلَى خدمته، وَصرف النمر إِلَى الْعِبَادَة وَجه همته، ثمَّ لحق بعد ذَلِك بجوار ربه وَرَحمته، وَقيد الحاكي مَا أفادته هَذِه المحاورة، لتلفى رسما يَقْتَضِي وحلما بِهِ يَهْتَدِي إِذا ذهب الْأَثر وَعَفا. وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.(2/354)
وَمن ذَلِك مَا صدر عني
فِي مفاخرة بَين مالقة وسلا مَا نَصه:
سَأَلتنِي عرفك الله عوارف السعد الْمُقِيم، وحملني وَإِيَّاك على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، المفاضلة بَين مدينتي مالقة وسلا، صان الله من بهما من النسم، وحباهما من فَضله بأوفر الْقسم، بعد أَن رضيت بحكمي قَاضِيا، وبفضلي الخطة سَيْفا مَاضِيا، لاختصاصي بسكني البلدين، وتركي فيهمَا الْأَثر للعين على أَن التَّفْضِيل إِنَّمَا يَقع بَين مَا تشابه وتقارب، أَو تشاكل وتناسب وَإِلَّا فَمَتَى يَقع التَّفْضِيل بَين النَّاس والنسناس، وَالْملك والخناس، وقرد الْجبَال، وظبي الكناس
مالقة، أرفع قدرا، وَأشهر ذكرا، وَأجل شَأْنًا [واعز مَكَانا] وَأكْرم نَاسا، وَأبْعد التماسا، من أَن تفاخر أَو تطاول، أَو تعَارض أَو تصاول، أَو تراجع أَو تعادل، وَلَكِنِّي سأنتهى إِلَى غرضك، وَأبين ربع مغترضك، وأباين جوهرك وعرضك، فبقول الْأُمُور الَّتِي تتفاضل بهَا الْبلدَانِ، وتتفاخر مِنْهَا بِهِ الإخوان، وتعرفه حَتَّى الولائد والولدان، هِيَ المنعة والصنعة والبقعة والشنعة، والمساكن والحضارة، والعمارة والإثارة والنضارة
فإمَّا المنعة، فلمالقة حرسها الله فضل الِارْتفَاع، ومزية الِامْتِنَاع. أما مقبثها فاقتعدت الْجَبَل كرسيا، ورفعها الله مَكَانا عليا بعد، أَن ضوعفت أسوارها وأقوارها، وسما بسنام الْجَبَل الْمُبَارك منارها، وقرت أبراجها وصوعدت أدراجها، وحصنت أَبْوَابهَا، وَحسن جنابها، وَدَار ببلدها السُّور والجسور، وَالْخَنْدَق المحفور فقلهراتها مداين بذاتها، وأبوابها المغشاة بالصفايح شاهدة بمهارة بناتها، وهمم أمرائها وولاتها، كَأَنَّهَا لبست الصَّباح سربالا،(2/355)
أَو غاصت فِي نهر الفلق بهاء وجمالا، أمنت من جِهَة الْبَحْر التقية، وأدار بهَا من جِهَة الْبر الحفير والسلوقية لَا تَجِد الْعين بهَا عَورَة تتقى، وَلَا ثلمًا مِنْهُ يرتقي، إِلَى الربضين، اللَّذين كل وَاحِد مِنْهُمَا مَدِينَة حافلة، وعقلية فِي حلى المحاسن رافلة، وسلا، كَمَا علمت، سور حقير وثور. إِلَى التنجيد والتشييد فَقير، إطام خاملة وللروم آملة، وقصبتها بِالْبَلَدِ مُتَّصِلَة [وَمن دَعْوَى الحصانة منتقلة] سورها مُفْرد، لَا سلوقية نقية، وبابها تقصد لَا سَاتِر تحميه وَالْمَاء بهَا مَعْدُوم وَلَيْسَ لَهُ جب مَعْلُوم، وَلَا بير بالعذوبة مَوْسُوم، وَفِي عهد قريب استباحتها الرّوم فِي الْيَوْم الشامس، وَلم ترد يَد لامس، من غير منجنيق نصب، وَلَا تَاج ملك عَلَيْهِ عصب، قلَّة سلَاح وَعدم فلاح، وخمول سور، واختلال أُمُور. وَقد سَقَطت دَعْوَى المنعة، فَلْتَرْجِعْ إِلَى قيم الصَّنْعَة فَنَقُول: [مالقة حرسها الله، طراز الديباج الْمَذْهَب، ومعدن صنايع الْجلد الْمُنْتَخب، وَمذهب الفخار المجلوب مِنْهَا إِلَى الأقطار، ومقصر الْمَتَاع المشدود، ومضرب الدست الْمَضْرُوب، وصنعا صنايع الثِّيَاب، ومحج التُّجَّار إِلَى الإياب لإفعام الْعباب، بِشَهَادَة الْحس، وَالْجِنّ وَالْإِنْس، وَلَا يُنكر طُلُوع الشَّمْس، وَأي صناعَة فِي سلا، يقْصد إِلَيْهَا ويعول عَلَيْهَا، أَو يطرف بهَا قطر بعيد أَو يتجمل بهَا فِي عيد، ومنذ سَقَطت مزية الصَّنْعَة، فلنرجع إِلَى مزية الْبقْعَة فَنَقُول، خص الله مالقة بِمَا افترق فِي سواهَا وَنشر بهَا المحاسن الَّتِي طواها، إِذْ جمعت بَين دمث الرمال، وخصب الْجبَال، وقارة الفلاحة الْمَخْصُوصَة بالاعتدال، وَالْبَحْر الْقَدِيم الصداع الميسرة مراسيه للحط والإقلاع، وَالصَّيْد العميم الِانْتِفَاع، جبالها لوز وتين، وسهلها قُصُور وبساتين، وبحرها حيتان مرتزقة فِي كل حِين ومزارعها المغلة عِنْد استبداد السنين وَكفى بفحص قافره صادع بالبرهان الْمُبين، وواديها الْكَبِير عذب فرات، وادواح مثحرات، وميدان ارتكاض بَين بَحر ورياض(2/356)
وسلا، بلد الرِّجَال، ومراعي الْجمال بطيحة لَا تنجب السنابل، وَإِن عرفت الْمَطَر الوابل جرد الْخَارِج، وبحرها مكفوف بالقتب والمدارج، وواديها ملح المذاق، مستمد من الأجاج الزلاق، قَاطع بالرفاق من الْآفَاق، إِلَى بعد الْإِنْفَاق، وتوقع الإغراق، وشابلها مَقْصُور على فصل، وَكم الشَّوْكَة من شانصل، عديمة الْفَاكِهَة والمتنزهات النابهة، وَإِذ بَان مصل النفعة فلنلم بِذكر الشنعة، وَهُوَ مِمَّا يحْتَمل فِيهِ النزاع، وَلَا تُعْطى الْأَبْصَار وتطمس الأسماع، إِذْ مالقه دَار ملك فِي الرّوم، ومثوى المصاعب والقروم، تشهد بذلك كتب الْفَتْح الْمَعْلُوم، وَذَات ملك فِي الْإِسْلَام عديد الجيوش، خافق الْأَعْلَام، غَنِي بالشهرة عَن الْإِعْلَام سكنها مُلُوك الأدارسة الْكِرَام، والصناهجة الْأَعْلَام، ثمَّ بَنو نصر، أنصار الْإِسْلَام، وجيشها الْيَوْم مَشْهُور الْإِقْدَام، مُتَعَدد المين على مر الْأَيَّام وتجارها تعقد لِوَاء خافقا، وتقيم للْجِهَاد سوقا نافقا، وتركض الْخُيُول السانحة، وتعامل الله على الصَّفْقَة الرابحة، وكفاها أَنَّهَا أم للعدة من الثغور والحصون والمدن ذَات الْحمى المصون، وشجرة الْفُرُوع الْكَثِيرَة والغصون، وَمَا مِنْهَا إِلَّا معقل سَام، وبلد بِالْخَيْلِ وَالرجل مترام وغيد حام يحتوي بهَا ملك اذخ، ونسيق فِيهَا للسُّلْطَان فَخر باذخ، واين سلامن هَذِه المزية، والشنعة الْعلية، أَيْن الْجنُود والبنود والحصون تزور مِنْهَا الْوُفُود، وَإِن كَانَ بعض الْمُلُوك اتخذها دَارا واستطانها من أجل الأندلس قرارا، فَلَقَد تمّ وَمَا، أتم وَطَلَبه تمّ، ولنقل فِي الحضارة بِمُقْتَضى الشواهد المختارة، وَلَا كالحلي وَالطّيب، وَالْحلَل الديباجية والجلاليب، والبساتين ذَات المرأى العجيب، والقصور المبتناة بسفوح الْجبَال، والجنات الوارفة الظلال والبرك الناطقة بالعذب الزلَال، والملابس المختالة فِي أفنان الْجمال، والأعراس الدَّالَّة على سَعَة الْأَحْوَال، والشروات الْمقدرَة بالآلاف من الْأَمْوَال
وَأما سلا، فأحوال رقيقَة، وَثيَاب فِي غَالب الْأَمر خَلِيقَة، وذمم منحطة(2/357)
فقيرة، وقيسارية حقيرة، وزيت مجلوب، وحلى غير مَعْرُوف وَلَا مَنْسُوب، تملأ مَسْجِدهَا الْفَذ الْعدَد والأكسية، وتعدم فِيهَا أَو تقل الطيالس والأردية، وتندر البغال، وَتشهد بالسجية البربرية الْأَصْوَات واللغات والأقوال وَالْأَفْعَال، وَأما الْعِمَارَة فَأَيْنَ يذهب رايدها، وعلام يعول شَاهدهَا، وَمَا دَار عَلَيْهِ السُّور متراكم متراكب، منسحبة مبانيه كَمَا تفعل العناكب، فناديقه كَثِيرَة، ومساجده أثيرة، وأرباضه حافلة، وَفِي حلل الدوح رافلة، وسككه غاصة وأسواقه بالدكاكين متراصة، أقسم لربض من أرباضها، أعمر من مَدِينَة سلا، وَأبْعد عَن وجود الخلا، وأملي مهما ذكر الملا، بلد منخرق مُنْقَطع مفترق، ثلثه مَقْبرَة خَالِيَة وَثلثه خرب بالية، وَبَعضه أخصاص وأقفاص ومعاطن وقلاص، وأواري بقر تحلب، ومعاطن سايمة تجلب. وَأما الْإِمَارَة فمالقة الْقدح الْمُعَلَّى والتاج الْمحلى، وَهِي على كل حَال بِالْفَضْلِ أولى، حَيْثُ مناهل الْمُخْتَص، وَالْخَارِج الأفيح الفحص، وسلا لَا تَأْكُل إِلَّا من غزرة حالب، لَا من فلاحة كاسب
ومالقة مجتزية بِنَفسِهَا فِي الْغَالِب، محتبسة من شرقها وغربها بِطَلَب الطَّالِب وَأما النضارة، فَمن ادّعى أَنه لَيْسَ فِي الأَرْض مَدِينَة أخطر مِنْهَا جنابا، وَلَا أغزر مِنْهَا غروسا وأعنابا، وَلَا أرج أزهارا، وَلَا أَضْوَأ أَنهَارًا، لم تكذب دَعْوَاهُ وَلَا أزرى بِهِ هَوَاهُ، انما هِيَ كلهَا روض، وجابية وحوض، بساتين قد رقمتها الْأَنْهَار وترنمت بهَا الأطيار.
وسلا بلد عديم الظلال، أجرد التلال، إِذا ذهب زمن الرّبيع، وَالْخصب المريع، صَار هشيما، وأضحى مَاؤُهَا حميما، وانقلب الْفَصْل عذَابا أَلِيمًا. أما المساكن فحسبك مَا بمالقة من قُصُور بيض، وَملك طَوِيل عريض، جنَّة السَّيِّد، وَمَا أدريك بهَا من جنَّة دانية القطوف، سامية السقوف، ظَاهِرَة المزية والشفوف، إِلَى(2/358)
غَيرهَا مِمَّا يشذ عَن الْحصْر إِلَى هَذَا الْعَصْر، والجنات الَّتِي مَلَأت السهل والجبل، وتجاوزت الأمل، بِحَيْثُ لَا أَسد يمْنَع من الإضحار بالعشى والأسحار، وَلَا لص يسجن بِسَبَبِهِ فِي الديار. . وَأما سلا، وان كَانَ بهَا للْملك دور وقصور، وَلأَهل الْخدمَة بِنَا مَسْتُور، فَهُوَ قَلِيل، وَلَيْسَ لِلْجُمْهُورِ إِلَيْهِ سَبِيل. وَأما المساكن بمالقة بَين رَاض قيد الْحَيَاة، ومنتقل من جناتها إِلَى روضات الجنات، فأكبر بِهِ أَن يفاضل، أَو يُجَادِل فِيهِ أَو يناضل، وَلَا شَاهد، كالصلات الْبَاقِيَة المكتتبة والتواريخ المقررة الْمرتبَة، فاستشهد مغرب الْبَيَان وتاريخ ابْن حَيَّان، وتاريخ الزَّمَان، وَكتاب ابْن الفرضي وَابْن بشكوال وصلَة ابْن الزبير القَاضِي، وَمن اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الرِّجَال، وصلَة ابْن الْأَبَّار، وتاريخ ابْن عَسْكَر وَمَا فِيهِ من الْأَخْبَار، وبادر بالإماطة عَن وَجه الْإِحَاطَة، ترى الْأَعْلَام سامية، وأدواح الْفُضَلَاء نامية، وأفراد الرِّجَال، يضيق بهم رحب المجال، وسلا المسكينة لَا ترجو لعشرتها إِلَّا ابْن عشرتها، مُهْملَة الذّكر، والإشادة عاطلة من حلى تِلْكَ السِّيَادَة، وَإِن كَانَ بهَا أصل مجادة، وسالكي سَبِيل زِيَادَة، فكم بمالقة من ولي، وَذي مَكَان على، وَمن طنجالي وساحلي، وَهَذِه حجج لَا تدفع، ودلايل إنكارها لَا ينفع، فَمن شا فليوثر الْإِنْصَاف بالإنصاف، وَمن شا فليوثر الْخلاف وسجايا الأخلاف فَأَنا يعلم الله قد عدلت لما حكمت، وَدفعت لما ألمت، وَسكت عَن كثير، وجلب فضل أثير، إِذْ لم تخرج إِلَيْهِ ضَرُورَة الْفَخر، وَلَا دَاعِيَة الْقَهْر، وَلَو شيت لجليت من أَدِلَّة التَّفْضِيل، مَا لَا يدْفع فِي عقده، وَلَا سَبِيل نَقده، لَكِن الله أغْنى عَن ذَلِك، وَكفى بِهَذِهِ المسالك [بَيَانا للسالف] وفضلا بَين الْمَمْلُوك وَالْمَالِك، وَالله يَشْمَل الْجَمِيع بنعماه، ويتغمد الْحَيّ وَالْمَيِّت برحماه وَفضل الخطة أَن لمالقة المزية بجلالها وكمالها، وَحسن أشكالها [ووفور مَالهَا، وتهدل ظلالها،(2/359)
وشهرة رجالها وطرق صنايعها وأعمالها، ولسلا الْفضل لَكِن] على أَمْثَالهَا ونظايرها من بِلَاد الْمغرب وأشكالها إِذْ لَا يُنكر فضل اعتدالها، وأمنها من الْفِتَن وأهوالها عِنْد زِلْزَالهَا، ومدفن الْمُلُوك الْكِرَام بجبالها، ومالقة قطر من الأقطار، ذَوَات الأقدار والأخطار، وَتَحْصِيل الأوطار، وسلا مصب الأمطار، ومرعى القطار، وبادية بِكُل اعْتِبَار، وَهنا تلقى عَصا التسيار، ونفض من عنان الْإِكْثَار وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.(2/360)
فَمن ذَلِك مَا صدر عني مِمَّا ثَبت فِي
" كتاب التَّاج الْمحلي ومساجلة الْقدح المعلي "
فِي وصف أبي جَعْفَر بن الزيات
علم الْأَعْلَام، وخاتمة شُيُوخ الْإِسْلَام، تجرد لِلْعِبَادَةِ فِي ريعان شبابه، ولازم جناب الله وَأكْثر الْوُقُوف بِبَابِهِ، وَلم تزل الفتوحات القدسية، تعرض عَلَيْهِ أذواقها، والمحبة الربانية تطلع إِلَيْهِ أشواقها، وتدير لَدَيْهِ دهاقها، حَتَّى قلع لِبَاس البدنيات الدنيات، وَنزع نطاقها، وَبث أَسبَاب هَذِه الأكوان ذَوَات الألوان وأزمع فراقها، فَأصْبح فَردا تُشِير إِلَيْهِ الْأَبْصَار، وتنال ببركته الأوطار، وتجدي لرويته الأقطار، ودعى إِلَى السفارة فِي صَلَاح الْمُسلمين فَأجَاب، وسعى فِي إخماد الْفِتْنَة، فانجلى لَيْلهَا وانجاب، وأعمل فِي مرضاة الله لإقتاب، وخاض الْعباب، وَكَانَ ببلش بَلَده منتج رايد، ومعدن فرايد، وفجر الله ينابيع الْحِكْمَة على لِسَانه، وَجعل زِمَام الفصاحة طوع إحسانه، دون النّظم فِي شَتَّى الْفُنُون، وجلى أبكار المعارف، فوقد المطارف للعيون، وَكَانَ يقْعد بمسجدها الْجَامِع فيدرس ويحلق، وينعرب ويخلق، فَيَأْتِي من الْإِعْرَاب بالأغراب، وَيتَكَلَّم فِي التَّفْسِير بِغَيْر الْيَسِير، ويلمع من التَّعْلِيل لَا بِالْقَلِيلِ، وَيُشِير إِلَى فريقه برموز طَرِيقه، وَلما نَادَى بِهِ مُنَادِي فِرَاقه، وغيب الدَّهْر نور إشراقه، بَكت عَلَيْهِ هَذِه الربوع دَمًا، وَأصْبح وجودهَا عدما، وَقد أثبت من آدابه وشعره مَا يشْهد بسعة صَدره، وَيدل على قدره.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن القيجاطي
أَخطب من صعد المنابر وارتقاها، وأفصح من هذب الْعبارَة وَأَلْقَاهَا، واستجادها وانتقاها، نجم ببادية الشرق، وتألق فِي أفقها تألق الْبَرْق، وَلم(2/361)
تزل رتبته فِي ارْتِفَاع، وبدائعه نَار على بقاع حَتَّى استأثرت الحضرة بِهِ على مَا سواهَا، فأحرز فِيهَا الْغَايَة وحواها، وَنشر مطارف المعارف وَمَا طواها، فنفق للأدب سوقا، بسقت فروعها بسوقا، وقلد نحر الْعَصْر من عقوده درا منسوقا، ثمَّ تقدم خَطِيبًا بمسجدها الْجَامِع، فقرط بألفاظه الرائقة عاطلة المسامع، وأسال بمواعظه الْبَالِغَة دُرَر المدامع، وَهُوَ منجب الحلبة ومخرجها، وموقد الأذهان ومسرجها، خبا بوفاته للْعلم كوكبه الثاقب، ووريت بمواراته المفاخر والمناقب، وَله نظم تقطرت الْمجَالِس بجرياله وتعلقت المحاسن بأذياله، ونثر حسدت عُقُود الغانيات درره، وَغَارَتْ النُّجُوم الزهر لما اجتلت غرره،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن العَاصِي
سَابق حلبة للْعلم وَالدّين، والمستولي على قصب السَّبق فِي تِلْكَ الميادين، أَتَت طريف مِنْهُ بطرفة رائقة، وَأغْرب مِنْهُ هَذَا الْمغرب بروض تحسد الرياض حدايقه، ورد على الحضرة، فَقَامَتْ لَهُ على رجل، وأفعمت لَهُ من المبرة كل سجل، فاتخذها دَارا، وملأ هالاتها أبدارا، وانتظم لأوّل حُلُوله فِي حلبة الْكتاب والعهد قشيب، وُفُود الْوَقْت لم يرعه للمقت مشيب، وَالرّبع آهل، وَالدَّار فِي الرفد ناهل، فتميز بخصائصه الْحسنى، وتأهل للمحل الْأَسْنَى، وَفد للجملة بعد فقد صدرها، وأفول بدرها، وحلول شمسها فِي رمسها، فخلف استاذها ابْن الزبير خير خلف، وأصمت لِسَان من أنْشد فِيهِ " إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف " وَصعد الْمِنْبَر، فَجلت الخطوب خطبه، وهز مِنْهُ الْجذع، فتساقطت رطبه، فأبكى الْعُيُون الجامدة، وأثار العزايم الخامدة، وَأخذ بقلوب الدهماء فاستمالها وَبلغ مِنْهُم الْغَايَة الَّتِي أَرَادَ ونالها، وَحمل نَفسه باخرة على الْجُود، والإتيان بالحاضر الْمَوْجُود، فَكَانَ للْفُقَرَاء شمالا وللمعتقين مِثَالا وللعصر زينا وجمالا.(2/362)
وَمضى لسبيله رَحمَه الله، فقيدا أسَال الْغُرُوب، وهاج للأشجان الحروب، وَكَانَ لَهُ أدب أنيق الشارة، حسن الْإِشَارَة.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم بن جزي
مُجْتَهد عاكف، وَروض فنون جاده، من الْعلم كل واكف، أَقَامَ رسم مجده، وَرفع عمد بَيته فِي قبَّة الْعلم ونجده فَأصْبح صدر بَلَده، وأنجب خلفين كريمين من وَلَده، وَفرغ للْعلم من جَمِيع أَعماله، وتفيأ رياض دواوينه من عَن يَمِينه وشماله، وَاقْتصر على طلب كَمَاله مَعَ وفور ضيَاعه، ونمو مَاله، فدون الْكثير وصنف، وقرظ المسامع وشنف، وترقى إِلَى المكارم، وَهِي مَا هِيَ من جلالة للرتبة، وسمو الهضبة، ففرع سنامها، وَرفع أعلامها، وغصن شبابه ناضر، [وزمن فتايه حَاضر] فَوَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق وانعقد على فَضله الْإِجْمَاع والإصفاق، وَلم يزل يسْلك طَرِيق الْمُجْتَهدين، فدون فِي الْفِقْه الدَّوَاوِين، وسفر فِي علم اللِّسَان عَن وُجُوه الْإِحْسَان، ورحل فِي علم التَّفْسِير إِلَى كل طية، وركض فِي أغراضه كل مَطِيَّة، حَتَّى أنسى الزَّمَخْشَرِيّ وَابْن عَطِيَّة، وَله من الْأَدَب حَظّ وافر، وَمذهب عَن الْحسن سَافر.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي البركات البلفيقي
وَاحِد الفئة، وَصدر من صُدُور هَذِه المئة، وَرجل هَذِه الْحَقِيقَة وَابْن رجالها، وَعلم هَذِه الطَّرِيقَة وَفَارِس مجالها، وتحفة الدَّهْر الَّتِي يقل لَهَا الكفا، وَبَقِيَّة السّلف الَّتِي يُقَال عِنْدهَا على آثَار من ذهب العفا، مَا شِئْت من شرف زاحم الثريا بمناكبه، ومجد خَفَقت بنود الْعلم فَوق مواكبه، وَحسب توارثه كَابر عَن كَابر، وأصالة تأصلت أدواحها بَين بطُون المحاريب وَظُهُور المنابر، ونشأة سحبت من العفاف ذيلا، وغضت الطّرف حَتَّى عَن الطيف لَيْلًا، وَمَعْرِفَة تساجل لجتها.(2/363)
وَلَا تراجع حجتها، ونغمة فِي تِلَاوَة الْقُرْآن، يخر لَهَا النَّاس على الأذقان، وَلما أمعن فِي المعارف كل الإمعان، ومنهومان كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، لَا يشبعان، تشوف إِلَى الرحلة عَن بِلَاده، وزهد فِي طَرِيقه وتلاده، وَأخذ الحَدِيث عَن أَهله، وَذهب من الْعلم فِي خزنه وسهله، وَبلغ الْغَايَة، حَتَّى حط رَحْله ببجايه، وَبهَا علم الدّين وناصره، وَروض الْعلم الَّذِي أخصب جانيه وخاصره، ففاز بلقائه ونهل فِي سقايه، وَصرف فهمه الثاقب إِلَى إلقاية، واقتنى من كنوز رحْلَة مَالا يخَاف عَلَيْهِ النفاد، قدم على قراره مجده قدوم النسيم الْحِجَازِي من نجده، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الأحداق واشرأبت إِلَى طلوعه الْأَعْنَاق، وَلم تزل بدائعه تتقلدها الصُّدُور، ومحاسنه تغار بهَا الشموس والبدور، والسعادة توافيه، والخطط الشَّرْعِيَّة تنافس فِيهِ، وخطبته الْآن خطابة قطره، وَهُوَ كفؤها وَابْن أكفائها، ومحيى رسومها بعد عفائها، فَتلقى رايتها بِيَمِينِهِ، واستحقها بسلفه وَعلمه وَدينه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن خَمِيس
قريع بَيت صَلَاح وَعبادَة. ورضيع ثدي دين ومجادة، كَانَ بالخضراء بَلَده رَحمَه الله، صدر صدورها، وواسطة شذورها، وخطيب حفلها وَإِمَام فَرضهَا ونفلها، وباشر حصارها، وعانى على العصور إعصارها، وَله دُعَاء مستجاب وخواطر لَيْسَ بَينهَا وَبَين الْحق حجاب وبركة تظهر عَلَيْهِ سيماها، وديانته لَا تقرب الشُّبُهَات حماها وبلاغة لَا يشح ينبوعها، وَلَا تقفر من الْمعَانِي ربوعها، يَدْعُو الْفقر فيذعن عاصيها، وَينزل عصم الْمعَانِي من صياصيها، وَقضى رَحمَه الله فَتغير ذَلِك الْقطر لذهابه، وأظلم ذَلِك الْأُفق فول شهابة.
فِي وصف أبي زَكَرِيَّا ابْن السراج
حَامِل فنون جمة، وَصَاحب نفس بمعادها مهتمة، شمر فِي زمَان الشبيبة عَن(2/364)
سَاقه واجتنى ثَمَرَة الْعلم من بَين أوراقه، وَجمع الْكثير من مختلفاته على بعد شامه من عراقه، حَتَّى اِنْفَسَحَ فِي الْمعرفَة مجاله وَشهِدت لَهُ بالإجادة شُيُوخه وَرِجَاله، وَهُوَ الْآن خطيب معقل الْجَبَل حرسها الله على طَريقَة عَرَبِيَّة، وحاله من الله قريبَة، ملازم لظل جِدَاره، منقبض فِي كن دَاره ذُو همة يحسدها النَّجْم على بعد مَدَاره، ورفعة مِقْدَاره. لَقيته وَالْحَال سقيمة، والمحلة بِظَاهِر جبل الْفَتْح مُقِيمَة، والعدو فِي الْعدوان مستبصر، والردى محلق، وحزب الْهدى مقصر، فَرَأَيْت رجلا بَادِي السكينَة وَالْوَقار، نَاظرا للدنيا بِعَين الاحتقار زاهدا فِي المَال وَالْعَقار، صَاحب دمعة مجيبة، ومجالسة عَجِيبَة، فَكَانَ لقاؤه فَائِدَة الرحلة الْعَظِيمَة العنا، وموجبا لَهَا حسن الثنا، وَله قسم من البلاغة وافر، وقسام فِي اللِّسَان سَافر.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن أبي خَالِد
سَابق لَا تدْرك غَايَته، وَبَطل لَا تحجم رايته، وبليغ تزرى بالإفصاح كنايته،، طلع بذلك الْأُفق وَنجم، وصاب عَارض بَيَانه وانسجم، وعجم من عود البلاغة مَا عجم، فأطاعته القوافي والأسجاع، وَأَدَّاهُ إِلَى روض الإجادة الانتجاع، وَلم يزل يشحذ قريحته الوقادة ويستدعيها، وَيسمع الحكم ويعيها حَتَّى توفرت فِي البراعة أقسامه، وطبق مفاصل الْخطاب حسامه، مطرز المهارق ووشاها، ونضج أسرار البلاغة وأفشاها، وأنى من الرسائل بالأبى السَّائِل، إِلَى الدّين الَّذِي لَا تغمز قناته، والخلق الَّذِي يرضى الله حلمه وأناته، وَهَذَا الْخَطِيب وَابْن عَمه فَارِسًا رهان، ومقدمتا برهَان، وعلما بَيَان، ورضيعا لبان، لَكِن النثر أغلب على لِسَانه، والخطابة أعرق فِي نِسْبَة إحسانه.(2/365)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي سعيد بن لب
سَابق ركض ملئ عنانه، وشارق طلع فِي أفق أَوَانه، أورى لَهُ زند الذكا اقتراحا، وأجال فِي كل فن قداحا، فَجلى فِي ميدان الإجادة وبرز، وطوف الْمجَالِس وطرز، فَإِن نقل أوضح الْعبارَة وصقل، وَإِن نظر وَبحث، نشر رمم المعارف وَبعث، وَإِن بَين وَعلم، أقره المنازع وَسلم، إِلَى خلق أطيب من الراح، وأصفى من المَاء القراح، وَله فِي فَرِيضَة الْأَدَب سهم، وَفِي معاناة الْمعَانِي تَحْقِيق لَا يدْخلهُ وهم، وَتقدم للخطابة بِبَعْض أرباض الحضرة، فوفى الرُّتْبَة حَقّهَا، وسلك من الدّيانَة طوقها
فِي وصف أبي يزِيد خَالِد بن أبي خَالِد
إِمَام بادية، وصادع بِذكر الله فِي كل رَائِحَة وغادية. أنس بالوحدة والانقطاع، وتعلل بِقَلِيل الْمَتَاع، وانقبض وتقشف وَقبل ثغر الْحَقِيقَة وترشف وَأكْرم بِهِ من مَجْمُوع خصل، وضارب [فِي صرف الْقبُول] بنصل إِلَى أَخْلَاق بَيِّنَة الْحَلَاوَة، ونغمة طيبَة عِنْد التِّلَاوَة، وأدب عطر الجربال، موشى الطّور والأذيال
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الْيَتِيم
مَجْمُوع أدوات حسان من خطب ونغمة ولسان، أخلاقه روض تضوع نسماته، ونشره صبح تتألق قسماته وَلَا تخفى سماته، يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ويفوق سِهَام الفكاهة إِلَى مراميها، فَكلما صدرت فِي عصره قصيدة هازلة، أَو أَبْيَات منحطة عَن الإجادة نازلة، خس أبياتها وذيلها، وَصرف مَعَانِيهَا وسيلها، وَتركهَا سمر الندمان وأضحوكة الزَّمَان، وَهُوَ الْآن، خطيب الْمَسْجِد الْأَعْلَى(2/366)
من مالقة، متحل بوقار وسكينة، حَال من أَهلهَا بمكانة مكينة، لسُهُولَة جَانِبه، وإيضاح مقاصده فِي الْخَيْر ومذاهبه، واشتغل لأوّل مرّة بالتعليم والتكتيب، وَبلغ الْغَايَة فِي الْوَقار وَالتَّرْتِيب، والشباب لم ينصل خضابه وَلَا سلت للمشيب عصابه، وَنَفسه بالمحاسن كلفة صبة، وشأنه كُله هوى ومحبة.
فِي وصف أبي عبد الله الجزيري الْخياط
أديب على السّنَن سالك، وبليغ لزمام القَوْل مَالك، كَانَ رَحمَه الله خَطِيبًا بثغر وبره، تولى لله جبره، وَأعَاد إِلَى ملكة الْإِسْلَام أمره، على طَريقَة مثلى وسيرة فَضلهَا يُتْلَى. أَخذ فِي فنون، ومحاضر من الْأَدَب بعيون، وَكَانَ رصافي الانتحال والحرفة، وَكم بَين الراح المشوبة والصرفة. وَلم أظفر من نظمه على كثرته، وتألق أسرته، إِلَّا بِأَبْيَات نَسَبهَا إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه المعتنين بِنَقْل أدبه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله البدوي
خطيب طلق اللِّسَان، وأديب رحب الْإِحْسَان، تشرف بالرحلة الحجازية، وَلبس من حسن الحجازية، ثمَّ أسْرع بِبَلَدِهِ فحط القتادة والرحل، وَأَقْبل عَلَيْهِ إقبال الغمامة على الْمحل، فَعظم بِهِ الِاغْتِبَاط. وتوفر إِلَى تَقْدِيمه فِي الخطابة النشاط. وَلم تثن عَن الْغَرَض فِيهِ الدعابة والانبساط. وَهُوَ الْآن خطيب بهَا. يُحَرك الْجَامِع ويقرط المسامع. وَيُرْسل من الجفون المدافع. وَله فِي الْعَرَبيَّة حَظّ وافر. وَفِي الْآدَاب قسام سَافر.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن فركون
شيخ الْجَمَاعَة وقاضيها، ومنفذ الْأَحْكَام وممضيها، وشايم سيوفها المنتضاة ومنتضيها، كَانَ رَحمَه الله لجا لَا يساجل موجه، وفرندا لَا بتعاطي أوجه، تقدم بِذَاتِهِ وَنَفسه على أَبنَاء جنسه، وأربى فِي الْفضل يَوْمه على أمسه، فَهدر هدرة(2/367)
البازل، وَتقدم فِي استنباط الْأَحْكَام وَمَعْرِفَة النَّوَازِل، إِلَى وقار تود رضوى رجاحته، وَصدر تحسد الأَرْض العريضة ساحته، ونادرة يدعوها فَلَا تتَوَقَّف، وتلقى عصاها فتتلقف. وَكَانَ لَهُ فِي الْأَدَب مُشَاركَة، وَفِي قريضة النّظم حِصَّة مباركة
فِي وصف أبي جَعْفَر بن أبي حَبل
فذ تثنى عَلَيْهِ الخناجر، وَصدر لَا يحصر فضايله حاصر، وقاض يريش سِهَام الْأَحْكَام ويبريها، ويزيل بنظره الشُّبْهَة الَّتِي تعتريها، ويطبق مفاصل الْفَصْل بذهنه الزلق النصل فيبريها، تولى الأقطار فازدانت، وتقلد الْأَحْكَام فلاحت المعدلة وَبَانَتْ، وَظَهَرت الْحُقُوق الشَّرْعِيَّة لأَهْلهَا حَيْثُ كَانَت. وَأما الْأَدَب فَكَانَ رَحمَه الله سَابق حلبة زَمَانه ومجلسها، ومتناول رايته ومتوليها وَإِن كَانَ لغير فن من الْأَدَب مصروفا، وبالعلوم الشَّرْعِيَّة مَعْرُوفا.
فِي وصف أبي بكر بن شبرين
خَاتِمَة الْمُحْسِنِينَ، وقدوة الفصحاء اللسنين. قريع بَيت ترحم النُّجُوم بكاهله، وَورد من الْمجد أعذب مناهله، مَلأ الْعُيُون هَديا وسمتا، وسلك من الْوَقار طَريقَة لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا، فَمَا شيت من فضل ذَات وبراعة أدوات. إِن خطّ نزل ابْن مقلة عَن دَرَجَته وانحط، وَإِن نظم ونثر تبِعت البلغاء ذَلِك الْأَثر، وَإِن تكلم نصت الحفل لاستماعه، وَشرع لدرره النفيسة صدف اسماعه، وَفد على الأندلس، عِنْد كائنة سبتة، وَقد طوحت النَّوَى برحاله، وظعن عَن ربعه لتوالي أمحاله، وَكَانَ مصرف الدولة ببلادها، والمستولى على طارفها وتلادها، ومعرس الْآدَاب ومقيلها، وقاعش العثرات ومقيلها، أَبُو عبد الله بن الْحَكِيم قدس الله هداه وَسَقَى منتداه، فاهتز لقدومه اهتزاز الصارم، وتلقاه تلقى الأكارم، وأنهض إِلَى الْغَايَة آماله [وَألقى لَهُ قبل الوسادة مَاله] ونظمه فِي سمط الْكتاب، وأسلاه عَن أَعمال(2/368)
الأقتاد والأقتاب، وَلم يزل زمامه يتَأَكَّد فِي هَذِه الدول، ويربى لَهُ الْآتِيَة مِنْهَا على الأول، فتصرف فِي الْقَضَاء بجاتها، ونادته الْعِنَايَة هاك وهاتها، فجد وعهد حكامها الْعُدُول من سلفه وقضاتها، وَله الْأَدَب الَّذِي تحلت بقلايده اللبات والنحور، وَقصرت عَن جواهره النحور , وَسمر من ذَلِك تضاعيف هَذَا الْمَجْمُوع مَا يشْهد بسعة درعه، ويخبر بكرم عنصره، وَطيب نبعه.
فِي وصف أبي الْقَاسِم الْخضر بن أبي الْعَافِيَة
فَارس ميدان الْبَيَان، وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان، وحامل لِوَاء الْإِحْسَان لأهل هَذَا اللِّسَان، دخل فِي حلل البدايع فسحب أذيالها، وشعشع أكواس العجايب، فأدار جريالها، واقتحم على الفحول أغيالها، وطمح إِلَى الْغَايَة الْبَعِيدَة فنالها، وتذوكرت المخترعات فَقَالَ أنالها، عكف واجتهد، وبرز إِلَى مقارعة المشكلات ونهد، فَعلم وَحصل، وَبلغ الْغَايَة وتوصل، وَتَوَلَّى الْقَضَاء، واضطلع بِأَحْكَام الشَّرْع، وبرع فِي معرفَة الأَصْل وَالْفرع، وتميز فِي الْمسَائِل بطول الباع وسعة الذِّرَاع، فَأصْبح صَدرا فِي مصره، وغرة فِي صفحة صَدره.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن جَابر الْوَادي آشى
فَحل هادر، وبليغ على الْكَلَام قَادر، اهتز لَهُ الْعَصْر على رجاحة أطواده، وَظهر لَهُ الْفضل على كَثْرَة حساده، وَلما أجلى فِي منصة الإبداع بَنَات فكره، وجاس عقايل الْحَيّ الْحَلَال ببكره، طُولِبَ بِإِثْبَات تِلْكَ الْبُنُوَّة، وَقيل هَذَا الْجمل، وَهَذِه الكوة، فخاصم حَتَّى أظهر الْحق، وتمم فَاسْتحقَّ، وذيل ووطى، وَتجَاوز الْغَايَة الْبَعِيدَة وتخطى، وَلم تزل بدائعه فِي اشتهار، وروضات آدابه ذَوَات أزهار، وَتصرف فِي الْكِتَابَة فَكَانَ صدر ناديها، وقلادة هاديها، وَولى خطة الْقَضَاء فِي هَذِه الْمدَّة، وَقد ناهز اكتهاله وَبلغ أشده فحسنت سيرته،(2/369)
وأثنت عَلَيْهِ لكل عماله جيرته، وَله نفس إِلَى الْعلم مرتاحة، وخواطر تنْتج مِنْهُ كل ساحة، هام فِيهِ بِكُل مُسْتَحِيل وَجَائِز، وكلف حَتَّى بعلوم الْعَجَائِز. وشعره جزل الأسلوب، وعذب فِي الأفواه والقلوب.
فِي وصف أبي عبد الله بن غَالب الطريفي
طَوِيل القادمة والخافية، مُحكم لبِنَاء الْبَيْت وتأسيس القافية، صَاحب طبع معِين، وَآت من القصائد بحور عين. عكف على النّظم فِي جيله، عكوف الراهب على إنجيله، وَلم يزل يفوق إِلَى كل غَرَض سهامه، ويستسقى صيته وجهامه، ويهز ماضيه وكهامه، حَتَّى اشتهرت أبياته وحفظت بدايعه وروياته، وَتصرف فِي الْقَضَاء فاستقام أوده، وَانْطَلَقت يَده، وَكَانَ لَهُ وفادة على ملك هَذِه الدول فِي العصور الأول، نظم فِيهَا ومدح، وقدح من قريحته مَا قدح، وَتوفى بِبَلَدِهِ عَن سنّ عالية وزمانة مُتَوَالِيَة. وَلما شرع الْمُؤلف فِي تأليف هَذَا الْكتاب، بعث إِلَيْهِ بعض أهل بَلَده، مِمَّن عَنى بِحِفْظ الطروس. وإحيائها بعد الدُّرُوس بمهارق أكل الدَّهْر مِنْهَا مَا تجسم، وانتهبها الدَّهْر مَا شَاءَ وتقسم، فَأثْبت لَهُ مِنْهُ مَا ينظر فِي مَحَله إنْشَاء الله.
فِي وصف أبي الْقَاسِم الْمَعْرُوف بِابْن الجقالة
صدر فِي الْقُضَاة. وينبوع للخلال المرتضاة. وطابع لسيوف الْكَلم المنتضاة. نَشأ بِبَلَدِهِ رندة. حرسها الله. صدر سكانها. وفضيلة زمانها، وَعين أعيانها، وحامل لِوَاء بَيَانهَا. وَلم يزل يسْلك من الْفضل على السّنَن الْمَأْثُور. ويركض جِيَاد المنظوم والمنثور، فأغرب الغرب بآدابه، وَتعلق الْإِحْسَان بأهدابه. وَتَوَلَّى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فأجال قداحها، وَقرر مكروهها ومباحها، وَتَنَاول الْمسَائِل فأبان صباحها، حَتَّى [فاضت فِيهِ] السرائر، وعقدت على حبه الضمائر، وَطَابَتْ(2/370)
فِيهِ الخواطر، وتضوع من ثنائه الْمسك العاطر، وَأَقْعَدَهُ لهَذَا الْعَهْد الْكبر، وحوم عَلَيْهِ الْأَجَل المنتظر، فتعطلت لضَعْفه تِلْكَ السُّوق، وَعدم لعدم بَيَانه الدّرّ المنسوق.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحجَّاج المنتشافري
حَسَنَة الدَّهْر الْكثير الْعُيُوب، وتوبة الزَّمَان الجم الذُّنُوب، ماشيت من بشر يتألق، وأدب تتفطر لَهُ السمات وتتخلق، وَنَفس كَرِيمَة الشَّمَائِل والضرائب، وقريحة يقذف بحرها بِمَاء الغرائب، إِلَى خشيَة لله تَعَالَى تحول بَين الْقُلُوب وقرارها، ومراقبة تثنى النُّفُوس عَن اغترارها، ولسان يبوح بإشراقه، وجفن يسخو بدرر آماقه، وحرص على لقا أهل الدّيانَة وَالْأَدب، ويحث عَمَّن يمت إِلَى الْعلم وَالْعِبَادَة بِسَبَب، سبق بقطرة الحلبة، وَنزع من الْأَدَب الهضبة، وَرفع الرَّايَة، وَبلغ الْغَايَة، فطارت قصائده كل المطار، وتغنى بهَا رَاكب الْفلك وحادي القطار، وتقلد خطة الْقَضَاء بِبَلَدِهِ وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْأَحْكَام بَين أَهله وَولده، فوضحت الْمذَاهب بِفضل مذْهبه، وَحسن مقْصده، وَله شِيمَة فِي الْوَفَاء يعلم مِنْهَا الآس، ومؤانسة لَا تستطيعها الأكواس.
فِي وصف أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن عَطِيَّة
فرع بَيت أصيل، وَصدر معرفَة وَتَحْصِيل، نَشأ على العفاف، وتبلغ بالكفاف، وَعمل على شاكلة من لَهُ من الأسلاف، إِلَى نفس يلابسها الْحيَاء وَالْوَقار، وأدب تنم عَنهُ أخلاقه كَمَا تنم تَحت الزجاجة الْعقار، وَخط تهيم بمرقومه الْأَبْصَار، وبلاغة هدابها الأختصار، ومحاضرة تتحلى بهَا اللَّيَالِي الْقصار تقدم بقطره إِلَى الخطابة والإمامة، أطهر من مَاء الغمامة، وَأطيب من بنت الكمامة، ففرع على حَدَاثَة السن أعوادها، وَبلغ آمادها، وَأصْبح من الصُّدُور فؤادها، وَمن الْعُيُون سوادها، وَلَا يُنكر العذب فِي ينبوعه، والنور فِي مشرق طلوعه، وَقد أثبت من أدبه مَا يعرب عَن مذْهبه.(2/371)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الرعيني
قريع فضل ومجادة، وضارب فِي هَذَا الْأَدَب بِسَهْم إجادة، كَانَ أَبوهُ رَحمَه الله خطيب مالقة، وَصدر فضلائها، وواسطة علايها، وَنَشَأ هَذَا الْفَاضِل رَحمَه الله، سالكا فِي العفاف على مسلكه، ومنتقلا فِي دَرَجَات فلكه. تولى الْقَضَاء لأوّل أمره على حَدَاثَة سنه، وَجدّة عمره، ثمَّ دعى للكتابة، فتنقل للحضرة وتحول، وعزم على الْمقَام بهَا وعول، فأجال يراعته وَشهر براعته، وَلما غصه الاغتراب، وباين وَطنه كَمَا باين السَّيْف القراب، شاقه الْأَهْل والأتراب، وَالْمَاء وَالتُّرَاب، وحن إِلَى دوحة الَّذِي بِهِ تأود، وَكَبرت عَلَيْهِ الْخدمَة، وصعب على الْإِنْسَان مالم يعود، فَرغب فِي الِانْصِرَاف إِلَى بَلَده، وَاحْتِمَال أَهله وَولده، وَهُوَ الْيَوْم قَاضِي جهاتها الغربية، ومنفذ أَحْكَامهَا الشَّرْعِيَّة. وَله أدب وَخط وبحر من الْمعرفَة لَيْسَ لَهُ شط. وَقد أثبت من شعره مَا يشيد بِذكرِهِ.
فِي وصف أبي يزِيد خَالِد بن أبي خَالِد
فايز من الإبداع بِكُل مَطْلُوب، ومستهل أسماع وَقُلُوب، وفصيح بأدبه، وَفِي البداوة حسن غير مجلوب، قدح قريحته الوقادة، وراض صَعب الْكَلَام فَأعْطَاهُ المقادة، فتألق بذلك الْأُفق تألق الْبَرْق، وطلع بِتِلْكَ الْجِهَة الشرقية، وَلَا يُنكر النُّور على الشرق، فشرف فِي قومه، وَأصْبح فِيهِ أمسه منافسا ليومه، إِلَى بلاغة تتحلى بهَا صفحات المهارق، وعفاف حَتَّى عَن الخيال الطارق. ورحل فِي هَذَا الْعَهْد الْقَرِيب، وَقد أصبح يحسن ضرايبه عديم الضريب، فاقتحم فرضة، الْمجَاز، إِلَى مثابة الْحجاز، فَقضى وطره من تِلْكَ الْمشَاهد، وتبرك بلقاء من بهَا من عَالم أَو زاهد، وقفل وَقد دون رحلته سَفَره، وزهى بهَا زهو الجفن بفتحه، والخد بخضره، واجتاز بالبلاد الموحدية فدعته إِلَى خدمَة بَابهَا، وقلدته(2/372)
رياسة كتابها، وأينع روضه وأثمر، وَحل بهَا لتها فأضاء وأبدر، فَلم يكن الأكلا وَحَتَّى جذب الشوق برسنه، وطار بِهِ الوجد إِلَى وَطنه، فأسرع اللحاق، وأتى على النُّور المحاق، وعَلى ذَلِك فقد ولى للحين ببلدته قضاءها، وتقلد إِنْفَاذ الْأَحْكَام وأمضاها. رَحمَه الله.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن عُبَيْدَة
مَجْمُوع أدوات، وَفَارِس قلم ودوات، وَشَيخ تقع الْعين مِنْهُ على صُورَة طريفه، وهيئة ظريفه، وقريع بَيت نبيه، وأصالة لَيْسَ لَهَا من شَبيه. وَله خطّ حسن وبلاغة ولسن، تصرف فِي الْقَضَاء، فَمَا ذوى لسيرته الحميدة نور، وَلَا نسب لَهُ حيف وَلَا جور
فِي وصف أبي زَكَرِيَّا القباعي
شَاعِر إِذا نظم أَجَاد، وان استسقى طبعه حاد، إِلَى ديانَة سابغة الأذيال، وأخلاق مُعتقة الجريال، ومعال ألطف من طيف الخيال. وَلم أَقف من كَلَامه إِلَّا على قصيدة، معيدة فِي الْإِحْسَان بعيدَة، يُخَاطب بهَا الْوَزير أَبَا بكر بن الْحَكِيم. رحمهمَا الله.
فِي وصف أبي جَعْفَر السياسي
حسن الْأَغْرَاض، يقي الْجَوْهَر من مُخَالطَة الْأَعْرَاض، ذُو أدب غض كزهر الرياض، وَمَعَان كمن فِيهَا الإبداع كمون السحر فِي الجفون للمراض، وَتقدم للْقَضَاء فِي تِلْكَ الْجِهَات، فَأَقَامَ رسمه، وأنفذ حكمه، بنزاهة مأثورة وَصِحَّة مشكورة.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن عبد الْحق
مَجْمُوع فَضَائِل، وَكَمَال لم يدع مقَالا لقَائِل، إِن ذكرت المعارف، فَهِيَ من جلابه أَو تليت سوره السِّرّ، وَكَانَ ذكره أم كِتَابه. قعد بِبَلَدِهِ يدرس الْعلم، ويحيل(2/373)
قداحه، وَيُدبر أكواس الْبَيَان، ويشعشع راحه، فَأصْبح فِي دهره غرَّة، وبلبة عصره درة، إِلَى وقار تحسد الهضاب سكونه، وتهوى أَن تكونه، وإمتاع يحْسب كل سَائل، وَيُقِيم من المشكلات كل مائل، وأدب لَا تشح رهامه، وَلَا تتعدى الْغَرَض سهامه، صدر مفطمه فِي دوَل درسه، وإجناء ثَمَرَة الْعلم من غرسه، على جِهَة التَّعْلِيم والتدريب لمنتحلي الْبَيَان الْغَرِيب
فِي وصف الْحَكِيم المغربي أبي عُثْمَان بن ليون
مُجْتَهد مشمر منقبض متنمر، قصر على الْعلم أوقاته، وتبلغ بِالْقَلِيلِ فقاته، وَعَكَفَ على التَّقْيِيد والتدوين، واكتسب من الْأُمَّهَات كل ذخر ثمين وهلم جرا فقد اشْتهر بفوده صباح المشيب ونضا برده الزَّمن القشيب، وَمَا فتر عَن مُوَاصلَة اجْتِهَاده، وإيثار أرقه وسهاده. وَمَال إِلَى صناعَة الطِّبّ، فدون فِيهَا وشارك منتحليها، وَجعلهَا مَادَّة حَاله ومحط رحاله، وَله نظم حسن، وعارضة ولسن نظم بِهِ الْعُلُوم وَدون، وتقلب فِي شَتَّى المآخذ وتلونه، وبآخرة فَهُوَ رَوْضَة أنيقة، وخميلة وحديقة، وتقلب فِي شَتَّى المآخذ وتلون، وبآخرة فَهُوَ رَوْضَة أنيقة، وخميلة وحديقة، وضارب بِسَهْم فِي هدف كل طَرِيقه، وَقد أثبت من شعره يَسِيرا، جعلته للمحاسن إكسيرا.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْمكتب أبي عبد الله بن أبي الْقَاسِم المالقى
مجود مرتل، وعابد متبتل، مشتغل بِمَا يعنيه، مثابر على مَا يزلفه من صَالح الْعَمَل ويدنيه، عكف على الْكتاب الْعَزِيز وشمر فِيهِ عَن قدم التبريز، وارتضاه الْوَزير ابْن الْحَكِيم إِمَامًا لصلاته، وَاعْتَمدهُ بجوايزه الجزيلة وَصلَاته. وَلم يزل يرفع بضبعه، حَتَّى عطف الدَّهْر بربعه، فَضَاعَ ضيَاع مِصْبَاح الصَّباح، ولعبت بِهِ الْأَيَّام كَمَا لعبت بالهشيم أَيدي الرِّيَاح، وتقلبت بِهِ أَيدي الزَّمَان وأحوجت الثَّمَانُونَ سَمعه إِلَى ترجمان، وَله أدب محتكم القوى، منيع الهضاب والصوى.(2/374)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن الصايغ من أهل المرية
بَحر معرفَة لَا يفِيض، وَصَاحب فنون يَأْخُذ فِيهَا وَيفِيض، نَشأ بِبَلَدِهِ مشمرا عَن ساعد اجْتِهَاده، وسايرا فِي قنن الْعلم ووهاده، ومواصلا لأرقه وسهاده، حَتَّى أينع روضه، وفهق جوضه وأضاءت سَرْجه وتعطر أرجه. وَلما اسْتكْمل من المعارف مَا اسْتكْمل، وَبلغ مَا أمل أَخذ فِي إراحة ذَاته، وشام فوارق لذاته، ثمَّ سَار فِي البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حَتَّى قضى وطره، وسيم بطره وَركب الْفلك، وخاض اللجج الحلك، وَاسْتقر بِمصْر على النِّعْمَة العريضة، بعد قَضَاء الْفَرِيضَة، وَهُوَ الْآن بمدرستها الصالحية، عمرها الله بِذكر نبيه المكانة، مَعْرُوف فِي أهل الْعلم والديانة، وصدرت عَنهُ إِلَى هَذَا الْعَهْد قصيدة نبوية، تغنى بهَا الْحَادِي المطرب، وكلف بهَا المصعد والمصوب، تدل على انفساح طباعه وامتداد بَاعه.
فِي وصف أبي عبد الله بن الْحَاج البضيعة
مُسَدّد الْمَقَاصِد، آخِذا للمعاني بالمراصد، وَكَاتب شُرُوط لَا يساجل فِي مضمارها، صِحَة فُصُول، وتوقيع فروع على أصُول، وَكلما طلب بالنظم القريحة، وأعمل فكرته الصَّرِيحَة، أجابت ولبت، وتسنمت ريَاح بَيَانه وهبت، وحفظت الْعَامَّة من كَلَامه لقُرْبه من أفهامها، وانتصاب غَرَضه لسهامها،
فِي وصف أبي عبد الله بن عِصَام
منتم إِلَى حسب ومجد، وفارع من الْأَصَالَة كل نجد، وَإِن نوزع فِيهَا بخصام، كَفاهُ قَاضِي الْقُضَاة أَبُو أُميَّة بن عِصَام، وَخَلفه الَّذِي رَأس من بعده، وَاسْتوْفى بمرسية حِصَّة سعده حَتَّى أَتَاهُ الْأَجَل لوعده، وَكَانَ هَذَا الرجل عدلا من عدُول بَلَده، وذاهبا من الْفضل إِلَى أقْصَى أمده، لَوْلَا تهور كثر وأفرط، وطيش(2/375)
تخبط فِي شركه وتورط، وَله أدب ضَعِيف المبنى، خَال من الْمَعْنى كَانَ يسهل عَلَيْهِ، وينثال بَين يَدَيْهِ
فِي وصف أبي جَعْفَر بن غَالب
ماطر جاد بالوابل السجم، وشاعر افْتتح بَيته إِلَى النَّجْم، وبليغ قاد الْكَلَام برسنه، وَأَيْقَظَ طرف البلاغة من وسنه، وطبق مفاصل فصل الْخطاب بلسنه، كَانَ وَابْن عَمه، رحمهمَا الله فرسي سباق، ومديري كأس اصطباح للأدب واغتباق، غير انه كَانَ أَشد انقباضا، وَأكْثر ازورارا عَن الْخدمَة وإعراضا، وَابْن عَمه القَاضِي أصح طباعا، وأفسح باعا، وَقد انتجع واسترفد، وَأصْلح بتعريضه وأفسد، حَسْبَمَا تضمنه كتابي الْمُسَمّى " بطرفة الْعَصْر فِي أَخْبَار بني نصر " وَقد أثبت من شعر أبي جَعْفَر هَذَا، مَا يشْهد بإجادته، وبنظمه فِي فرسَان الْكَلَام وقادته.
فِي وصف أبي الْحسن الرقاص
سَابق لَا يشق غباره، ودوح فنون لَا يغب جناه، وَلَا تذبل أزهاره، تتبع الغوامض بثاقب فهمه، وأصمى كل مشكلة بسهمه، فساوى حلبته وتقدمها، وزاول المعارف وخدمها، فترشف مِنْهَا كل رِيقه، وَلم يقْتَصر على طَرِيقه، وتفيأ كل حديقة من مجَاز وَحَقِيقَة، وَكلما أستمرطته صاب، أَو رميت بِهِ غَرضا أصَاب، حَتَّى تضوع نسيمه، وتحدث بِخَبَرِهِ رايد الْعلم ومسيمه، إِلَى نفس بعيدَة الهمم، لَطِيفَة الشَّمَائِل والشيم، وَقد ثَبت من أدبه، الَّذِي خاطبني بِهِ كل عطر النفحة، مشرق الصفحة،
فِي وصف أبي عبد الله النجار
متفنن مشارك، وآخذ فِي الْأَدَب غير تَارِك، برع فِي الْوَثِيقَة وأحكامها، وَنزل(2/376)
فصولها على مقتضيات أَحْكَامهَا، إِلَى نفس جبلت على حسن الْأَخْلَاق، وشمائل أعذب من الضَّرْب فِي المذاق، وإيناس يسرى فِي الْأَرْوَاح سرا الراح، ومذاكرة أشهى من العذب القراح، وَهُوَ الْآن صدر فِي عدُول بَلَده، وسابق تقف الحلبة دون أمده
فِي وصف أبي عبد الله الوقشي الزبار
صَنِيع الْيَدَيْنِ، فايز من سِهَام الضَّرْب بالفريضة وَالدّين، إِذا زين الطروس، ونضر أصباغها، وَأحكم فِي قوالب السحر إفراغها، حسد قزَح تلوينها، وحقرت الرياض بساتينها، إِلَى خطّ يقف عِنْده الطّرف، وَلَا يتجاوزه الظّرْف، وأدب كالروض، راق مِنْهُ المجتلى، وتأرج الْعرف، وَنَفس أرق من نسيم الْفجْر، وأخلاق أعذب من الْوَصْل فِي عقب الهجر، وَقد أثبت من كَلَامه مَا يعذب موارده، وتروق شوارده
فِي وصف أبي جَعْفَر بن صَاحب الصَّلَاة
محسن لَا يُنَازع إحسانه، وبليغ لَا يساجل لِسَانه، وذكى. توقد نَار فهمه، ومجيد يُصِيب كل غَرَض بسهمه، فَمَا شِئْت من إِدْرَاك ناضية نصوله، وذكاء علت فروعه وَطَابَتْ أُصُوله، وظرف كالروض لما اعتدلت فصوله، وأدب سدت معاقده، فَلَا يطْمع فِيهِ ناقده، جالسته فِي بعض التوجهات إِلَى مالقة حرسها الله فَرَأَيْت روضا تعطر وتأرج، وَمر بِهِ نسيم دارين فتأرج. فَلَمَّا ظَفرت بجناه الطّيب، وَقَعَدت تَحت غمامه الصيب، تركت خَبره لعيانه، وخطبت نبذة من بَيَانه [فأنشدني مَا يذكر] .
فِي وصف أبي الْقَاسِم بن رضوَان
أديب أحسن ماشا، وَفتح قليب قلبه، فَمَلَأ الدَّلْو بل الرشا، وعانى على(2/377)
حداثته الشّعْر والإنشا، وَله فِي بَلَده بَيت معمور بِفضل وَأَمَانَة، ومجد وديانة، وَنَشَأ هَذَا الْفَاضِل على أتم العفاف والصون، فَمَا مَال إِلَى فَسَاد بعد الْكَوْن، وَقد ثَبت من كَلَامه، ونفثات أقلامه، كل مُحكم الْعُقُود، زار بابنة العنقود.
فِي وصف أبي بكر بن مقَاتل نَابِغَة مالقية، وَخَالف مِمَّن ترك الأدبا وَبَقِيَّة، ومغربي الوطن أخلاقه مشرقية. اشْتهر بالإجادة بَين أَصْحَابه، وتألق تألق البارق خلال سحابه، حَتَّى اشْتهر إحسانه، وَمضى عِنْد الضريبة لِسَانه، ثمَّ أزمع الرحيل إِلَى الْمشرق، مَعَ اخضرار الْعود، وَسَوَاد المفرق، وَسَهْم الْقدر لَا يخطى، وَمن استحثه الْأَجَل لَا يبطى، وَلما توسطت السَّفِينَة اللجج، وقارعت التبج، هال عَلَيْهَا الْبَحْر، فَسَقَاهَا كأس الْحمام، وأولدها قبل التَّمام، وَكَانَ رَحمَه الله فِيمَن اشْتَمَلت عَلَيْهِ أعوادها، وانضم على نوره سوادها من الطّلبَة والأدباء، وَأَبْنَاء السراة والحسباء، أصبح كل مِنْهُم مُطيعًا لداعى الردى وسميعا، وأحيوا فُرَادَى وماتوا جَمِيعًا، فملأوا الْقُلُوب حزنا، وَأرْسلت العبرات عَلَيْهِم مزنا. وَكَانَ الْبَحْر لما طمس سبل خلاصهم وسدها، وأمال هضبة سفينتهم وهدها، غَار على دررهم النفيسة فاستردها. والفقية أَبُو بكر مَعَ إكثاره، وانقياد نظامه ونثاره، لم أظفر من أدبه إِلَّا باليسير التافه بعد وداعه وانصرافه.
فِي وصف الْمُؤَذّن أبي الْحجَّاج بن مَرْزُوق
خير استبق إِلَى دَاعِي الْفَلاح استباقا، وانتمى إِلَى الْقَوْم الَّذين هم فِي الْآخِرَة أطول أعناقا، وَإِن كَانُوا فِي الدُّنْيَا أضيق أرزاقا. مردد أذكار ومسبح(2/378)
أسحار، وعامر مأذنة ومنار. كَانَ بِبَلَدِهِ رندة حرسها الله مُؤذنًا بجامعها. وموقتا بِأم صوامعها، ومعتبرا مِمَّن كَانَ بهَا من فضلاء السَّدَنَة، وَمِمَّنْ يَشْمَلهُ قَوْله " فَكَأَنَّمَا قرب بدنه " وَكَانَ لَهُ لِسَان مخيف، وَشعر سخيف، توشح بحليته، وَجعله وَسِيلَة كديته.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن بن الجياب
صدر الصُّدُور الجلة، وَعلم أَعْلَام هَذِه الْملَّة، وَشَيخ الْكِتَابَة وبانيها، وهاصر أفنان الْبَدَائِع وجانيها، اعتمدته الرياسة فنأى بهَا على حَبل ذراعه، واستعانت بِهِ السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه، فتفيأ للعناية ظلا ظليلا، وتعاقبته الدول فَلم تربه بديلا، من ندب على علوه متواضع، وَحبر لثدي المعارف راضع، لَا تمر مذاكرة فِي فن إِلَّا وَله فِيهِ التبريز، وَلَا تعرض جَوَاهِر الْكَلَام على محاكاة الأفهام، إِلَّا وَكَلَامه الإبريز، حَتَّى أصبح الدَّهْر رَاوِي إحسانه، وناطقا بِلِسَانِهِ، وَغرب ذكره وشرق، وَتجَاوز الْبَحْر الْأَخْضَر، والخليج الْأَزْرَق، إِلَى نفس هذبت الْآدَاب شمائلها، وجادت الرياضة خمائلها، ومراقبة لرَبه، وانتشاق لروح الله من مهبه، وَدين لَا يعجم عوده، وَلَا تخلف وَعوده، وَكلما ظَهرت علينا معشر بنيه من شارة تجلى بهَا الْعين أَو إِشَارَة كَمَا سبك اللجين، فَهِيَ إِلَيْهِ منسوبة، وَفِي حَسَنَاته محسوبة، إِنَّمَا هِيَ أنفس راضها بآدابه وأعلقها بأهدابه، وهذب طباعها كَالشَّمْسِ تلقى على النُّجُوم شعاعها، والصور الجميلة تتْرك فِي الْأَجْسَام الصقيلة انطباعها، وماذا عَسى أَن أَقُول فِي إِمَام الْأَئِمَّة، وَنور الدياجى المدلهمة، وَقد أثبت من عُيُون قصائده وأدبه الَّذِي علق الْإِحْسَان فِي مصائده، كل وثيق المبنى، كريم المجنى، جَامع بَين حصافة اللَّفْظ ولطافة الْمَعْنى.(2/379)
فِي وصف الْكَاتِب أبي عبد الله اللوشى
شَاعِر مفلق، وحسيب معرق، طبق مفاصل الْكَلَام بحسام لِسَانه، وقلد نجور الْمُلُوك مَا يرزى بجواهر السلوك من إحسانه، وَنَشَأ فِي حجر الدول النصرية، راضعا ثدي إنعامها، ومستظلا بسمائها، ومفضلا على مداحها، وحائزا الْمُعَلَّى من قداحها، ولسلفه بخدمتها الِاخْتِصَاص الْقَدِيم، والمزية والتقديم، والمتات الَّذِي كرم ذمامه، وَاسْتقر فِي يَد الرعى زمامه، ونطق بالشعر قبل أَن ينْطق بالشعر خَدّه، فَأتى مِنْهُ ببحر لَا يعرف الجزر مده، وَأما الطَّرِيقَة الهزلية، فَهُوَ فَارس مجالها، وَإِمَام رجالها، وَرب رويتها وارتحالها، وَله همة تبذ من يباريها، وأخلاق تفْتَقر إِلَى من يداريها، طُولِبَ فِيمَا فرط بالحضور مَعَ الْكتاب، وملازمة خدمَة الْبَاب، فَتنحّى على عَادَته، وتوعد بِإِسْقَاط مرتبته فَلم يرغب فِي إِعَادَته، بل كبر على الْخدمَة أَرْبعا وَسلم، وَلَا ارتمض لَهَا وَلَا تألم، وَعَكَفَ على إِقَامَة أوده بانتجاع غلَّة بِظَاهِر بَلَده، بَاشَرَهَا بِنَفسِهِ وَجعلهَا معنى رَاحَته وَمعنى حسه، واتخذها وقاية لما وَجهه إِلَى أَن يحل فِي رمسه، وَهُوَ من أهل الوفا وَحفظ الْعَهْد، والمشاركة فِي الرخَاء والجهد، والانقباض عَن هَذَا الْعرض والزهد، إِلَى حسب تطرزت الدفاتر بآثاره، وتضوع الحبر مسكا بأخبار أخباره، وَشعر بلغ فِي الإجادة الْغَايَة وَرفع للمحسنين الرَّايَة،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي بكر بن الْحَكِيم
ماجد أَقَامَ رسم الْمجد بعد عفائه، وَأَيْقَظَ طرفه بعد إغفائه، مَحَله مَحل ضيفان، ومنزع جفان، ومنهل وَارِد، ومظنة ضال من الْعلَا وشارد، مثواه لَا يَخْلُو عَن قرى جزيل، لقاصد ونزيل، إِلَى غير ذَلِك من التحلي بحلية الْآدَاب، والمبادرة(2/380)
إِلَى اكْتِسَاب المعلوات والانتداب. برز فِي حمل الحَدِيث وَرِوَايَته، واجتنى ثَمَرَة رحْلَة أَبِيه وَهُوَ فِي حجر دايته، وَدون الْآن الفهارس، وأحيى الْأَثر الدارس، وارتقى من الْبِدَايَة إِلَى الْمحل النبيه، وَاسْتحق رتبتها من مَحل أَبِيه، فأينع روضه وتأطر، وتأرج دوحه وتعطر. وَله شعر أنيق الْحِلْية، جَار فِي نمط الْعلية، وسيمر فِي أَثْنَائِهِ مَا يدل على قدره، وَيشْهد بسعة صَدره.
وَفِي وصف أبي جَعْفَر بن صَفْوَان المالقى
فَارس البلاغة الْمعلم، وَحجَّة الْأَدَب الَّتِي تسلم، والبطل الَّذِي لَا ترد شياة نَقده، وَلَا تحل مبرمات عقده، من جهبذ رَاض صعاب الْبَيَان وساسها، وميز أَنْوَاعهَا وأجناسها، وَأحكم ضروب الْعبارَة ونظم قياسها، إِلَى ذهن يَأْتِي الغوامض فتنبلج، ويقرع أَبْوَاب المعميات فيلج، وهمة يود فرقد السما وسهاها أَن تبلغ مُنْتَهَاهَا. أَخذ من الْفُنُون بِنَصِيب، وَرمى فِي أغراض التعاليم بِسَهْم مُصِيب، فركض فِي مجالها، ورحل إِلَى لِقَاء رجالها. ودعى لأوّل أمره للكتابة لما اشتهرت براعته، وأثمرت بالمعاني الغريبة يراعته، فَأجَاب وامتثل، وراش سِهَام بَيَانه ونثل، ثمَّ كرّ والدولة قد رجفت مِنْهَا الْقَوَاعِد، وأنجزت بإدالتها المواعد، فاصطنعته الدولة الإسماعيلية لجنابها، وقلدته سر كتابها، والهيجاء تَدور رحاها، والأمور لَا يتَبَيَّن منحاها، فَلَمَّا وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا، وخفضت الْأُمُور أزارها، آثر الرُّجُوع إِلَى وَطنه، وأجرى هَوَاهُ فِي ذَلِك فضل رسنه، وضلت الْخدمَة عَنهُ فَمَا نشدها، وَقصر نَفسه على مَا يُقيم أودها، وَلم يثن بعد الْكر عنانه، وَلَا أعمل فِي خدمَة ملك بنانه، وكل مَا صدر عَنهُ من نظم تروق أسرته، وتتشوق إِلَيْهِ تيجان الْملك وأسرته، فالتصوف مجاله، وَفِي غَرَضه رويته وارتجاله.(2/381)
وَفِي وصف أبي إِسْحَق بن زَكَرِيَّا
حَامِل لِوَاء الْخط، وَالْمُنْفَرد بِأَحْكَام الْمشق والقط، وَمن تفْتَقر إِلَى بنانه المخاطبات السلطانيات افتقار الْمَشْرُوط إِلَى الشَّرْط. شَدِيد التحفظ، مُقَدّر الْكَلَام حِين التَّلَفُّظ، عَظِيم البشاشة وَالْبر أَمِين على السِّرّ، إِلَى نفس مجبولة على الْخَيْر، وأخلاق حَسَنَة السِّيرَة، رفيعة السّير، وحياء كثف جلبابه، وسد فِي وَجه الدنية بَابه، وكلف بِالْعلمِ وأوضاعه، والتطلع على رقاعه، ويكفيه فضلا لَا تخبو آثاره، وَلَا يخفى مناره، مَا خلد من كَلَام شيخ الْجَمَاعَة، وَعلم الصِّنَاعَة، فقد أودعهُ بطُون الأوراق، وَجمعه بعد الِافْتِرَاق، وأطلع نوره بَادِي الْإِشْرَاق، وألبس الْأَيَّام بِهِ حللا أبهى من حلل صنعا الْعرَاق، وَالشعر وَإِن كَانَ قَلِيلا مَا يعْنى بإجادة صناعته، ومعاناة بضاعته، فحظه مِنْهُ لطيف الهبوب، حسن الأسلوب،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن الْحَاج
طلع شهابا ثاقبا، وَأصْبح بِشعرِهِ للشعرى مصاقبا، فنجم فبرع، وتمم الْمعَانِي واخترع، وكلف بالآداب، وَهُوَ غُلَام يافع، وَله من الْحسن لكل قلب شَافِع، فأترع كأسه، ونضد ريحانه وأسه، وَنبهَ للصبوح من بعد الذكرى باسه. وَلم يزل دوحه يتأرج، وعقايل بدايعه تتبرج، حَتَّى دعى للكتابة، وترشح لتِلْك المثابة، فطرز المهارق برقوم أقلامه، وشنف المسامع بدرر كَلَامه، وأزمع للرحيل، لما خَافَ على بضائعه الضّيَاع، فَركب الْفلك وَشرع الشراع، فحج وزار، وَشد للطَّواف الْإِزَار، ثمَّ هفا إِلَى الْمغرب وحوم، وقفل قفول النسيم على الرَّوْض بعد مَا تلوم، فاستقر تَحت ظلال الدولة الموحدية، فحط بهَا على نَار الْقرى وَحمد عِنْدهَا صباح السرى، ثمَّ لم يلبث أَن تنقل وَوجد الْجَحِيم فعافه وتنقل، وَهُوَ الْآن فِي جملَة كتاب الْمغرب، حساما فِي البلاغة دامي المضرب.(2/382)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم بن قُطْبَة
سَابق ركض مجلى، وشارق طلع فتجلى، وفاضل تخلق من الْخلال البارعة بِمَا تحلى، أَتَى من أدواته بالعجايب، وَأصْبح صَدرا فِي الْكتاب وَسَهْما فِي الكتايب، وَكَانَ أَبوهُ رَحمَه الله، بِهَذِهِ الْبِلَاد قطب أفلاكها، وواسطة أسلاكها ومؤتمن أملاكها، وَصدر رجالها، وَولى ربات حجالها، فَصدق يقينه ومحافظته على أَرْكَان دينه، قد نثل بنيه سَهْما سَهْما، وخبرهم براعة وفهما، وألقاه بَينهم مَاضِيا شهما، فدمر مِنْهُ نجيبا، وَدعَاهُ إِلَى الْجِهَاد، فألفى مِنْهُ سميعا مجيبا، فصحب السَّرَايَا الْمُغيرَة، وَحضر من المواقع الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة، وباشر الْحَرْب وبأسها، وَنَازع ذَلِك الشّرْب كأسها، وعَلى مصاحبة الْبعُوث وجوب السهول والوعوث فَمَا رفض البراعة للياتر، وَلَا ترك الدفاتر للزمان الفاتر. وَلم يزل يبهر بأدواته، وينتج البدايع بَين قلمه ودواته، فَإِن خطّ، فاخر ببراعة الْخط، إِلَى خلق سَلس المقادة، وَنَفس للمكارم منقادة، وأدب بديع الْمَقَاصِد، قَاعد للمعاني بالمراصد، واستأثرت بِهِ الْكِتَابَة الرفيعة السُّلْطَانِيَّة، فشعشع أكواسها وعاطاها، وَكَانَ من تِلْكَ القلادة الرفيعة وسطاها، وَله همة يحسدها فرقد الْأُفق وثرياه، وَكِتَابَة تنَازع الرَّوْض طيب رياه
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي بكر الْقرشِي
قريع مجد وَحسب، مُتَقَدم على تَأَخّر زَمَانه بِذَات ومنتسب، من دوحة الشّرف الَّذِي لَا يذوي نظيرها، ونبعة الدّيانَة الَّتِي لَا يغيض نميرها، إِذا ذكر الصالحون فحيها بعمر ووالده، وَأكْرم بطارفه وتالده، أصبح لمهبة الظّرْف ناسما، فَلَا تَلقاهُ إِلَّا ضَاحِكا باسما، إِلَى حلاوة الضرايب، والشمايل، وَالْأَدب المزري بأزهار الخمايل، فَمَا شيت من مداعبة تمتزج بالنفوس، ومحاورة تزري(2/383)
بالكوؤس، وأدب عذب مذاقه، واعترف بِهِ فرسَان الْكَلَام وحذاقه، وَمَعَان جَاءَت من السهولة بِمَا تَقْتَضِيه أخلاقه، وعفاف ضفت أذياله، وظرف صفت جرياله،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن جزى
فرع مجد سبق، وثاقب طلع فَجلى الغسق، وأديب فرع من الْأَدَب كل شَاهِق، وَحدث عَمَّا بَين عَاد وبنيه، وصدغاه فِي خدى غُلَام مراهق، فبذ أقرانه وأترابه، وأجال فِي ميدان الْفُنُون عرابه، فَأصْبح نادرة أَوَانه، وواسطة عقد أخوانه، فَهُوَ النبيه، الَّذِي قل لَهُ الشبيه، والوجيه الَّذِي قصر عَن لحاقه الْوَجِيه، إِذا ذكرت الغرائب قَالَ أَنا لَهَا، وَلَو تعلّقت الغوامض بِالثُّرَيَّا لنالها، إِلَى خلق أعذب من الضَّرْب وأشهى من بُلُوغ الأرب، ونبل لَا تطيش نباله عَن غَرَض، وذكا يكْشف كل مُشكل مهما عرض، وَله أدب تود الْعُقُول محَاسِن شذوره، وتقصر الصُّدُور عَن أعجازه وصدوره، وتتضاءل أهلة الْمعَانِي عِنْد طُلُوع بدوره.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي العلى بن سماك
كَاتب ماشق، وأديب لربح الْبَيَان ناشق، ذُو طبع سَائل، وكلف بالمسائل، فَلَا يفتر عَن تَقْيِيد وَنقل، وجلا للفوايد وصقل كتب مَعَ الحلبة فأحكم الْخط وأتقنه، وتلقى السجع وتلقنه، وَأنْشد الشّعْر فَأجرى بِغَيْر الخلا، وَجعل دلوه فِي الدلا، وَله بَيت معمور فِي الْقَدِيم بصدور قُضَاة، وسيوف للدّين منتضاة، وَلم يزل منتظما فِي السلك، ومرتسما فِي كِتَابَة الْملك إِلَى أَن عضه الدَّهْر بناب خطوبه، وقابله بعد البشاشة بقطوبه، فتأخرت فِي هَذِه الْأَيَّام جرايته، وَنَكَصت على الْعقب رايته، وَقد ثَبت من شعره مَا يشْهد بإجادته، وينظمه فِي فرسَان الْكَلَام وقادته.(2/384)
وَمن ذَلِك فِي وصف مؤلف هَذَا الْمَجْمُوع مُحَمَّد بن عبد الله بن الْخَطِيب وَفقه الله
إِن خلطت العذب بالأجاج، ونظمت مخيلتي بَين دُرَر هَذَا التَّاج، فَلم أبغ تعريفا وَلَا تَنْبِيها، وَلَا اعتمدت أَن أقرظ نَفسِي وأذكيها، وَلَكِنِّي بأوت بنفسي عَن مُفَارقَة أَبنَاء جنسي، فزاحمتهم فِي أَبْوَاب هَذِه الْآدَاب، وقنعت باجتماع الشمل بهم وَلَو فِي الْكتاب، وَلما رَأَيْت حللهم الموشية الطرز، وحلاهم الْوَاضِحَة الشيات وَالْغرر، نافستهم مُنَافَسَة الْأَكفاء فِي حلَّة تزين مَنْكِبي، وَرَايَة تتقدم موكبي، فجلبت فضلا حلاني بِهِ رَئِيس الصِّنَاعَة وَإِمَام الْجَمَاعَة فِي بعض المنشورات السُّلْطَانِيَّة، ألبسني بِهِ الشّرف ضاني الأردان، وَتَرَكَنِي معلم ذَلِك الميدان وَهُوَ أظهر لَهُ أثر اعْتِقَاده الْجَمِيل فِيهِ، وَفتح لَهُ أَبْوَاب الْقبُول والتنويه، تشرع إِلَى الْعِزّ الْوَجِيه، وَالْقدر النبيه، ورعى لَهُ وسائله الَّتِي كرمت مَعَانِيهَا، وعذبت مجانيها، وتأسست على قَوَاعِد البلاغة مبانيها، فَعرف مَاله من الْأَصَالَة، حَتَّى تميز فِي أعيانها، وبراعة الْآدَاب الَّتِي أحرز خصل سباقها، وتلقى بِالْيَمِينِ راية فرسانها، وَلما اختصه بالتقريب والإيثار، وَاعْتَمدهُ بولايات ملكه الْكِبَار، وقربه فِي بِسَاط ملكه، حفاية وعناية، وأطلع من آيَات السَّعَادَة لَهُ آيَة، وابتداه بالخطط الَّتِي هِيَ لغيره غَايَة، رأى أَن يَسْتَعْمِلهُ فِيمَا هُوَ لَدَيْهِ أهم موقعا وأعز موضعا، وَأَن يجمع لَهُ بَين الكتابتين إنْشَاء وديوانا. ويطلع لَهُ وُجُوه الرِّعَايَة غرا حسانا. فحسبي مَا خلد لي بذلك من مجد، وقلدني من فَخر أشهر من نَار على نجد، وَأما شعري ونثري فقد أثبت مِنْهُ، بعد سُؤال الإغضا، وَالنَّظَر بِعَين الرِّضَا، تعلق بِالذكر، واحتجت بحجاب الضَّمِير من بَنَات الْفِكر
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن خَاتِمَة
ناظم دُرَر الْأَلْفَاظ، ومقلد جَوَاهِر الْكَلَام نحور الروَاة ولبات الْحفاظ،(2/385)
ذُو الْأَدَب الَّتِي أضحت شوارده حلم النيام وَسمر الأيقاظ، وَكَمن فِي بَيَاض طرسه، وَسَوَاد نَفسه سحر اللحاظ، رفع بقطره راية هَذَا الشان على وفور حلبته، وَفرع قنة الْبَيَان على سمو هضبته، وَفَوق سَهْمه إِلَى نحر الْإِحْسَان، فأثبته فِي لبته، فَإِن أَطَالَ، ثار الْأَبْطَال، وكاثر المنسجم الهطال، وَإِن أوجز فَضَح وأعجز، فَمن نسيب تهيج بِهِ الأشواق، وتضيق عَن زفراته الأطواق، ودعابة تقلص ذيل الْوَقار، فتزرى بأكواس الْعقار. إِلَى انتماء للمعارف، وجنوح إِلَى ظلها الوارف، وَلم تزل فضائله بتك الْبَلدة تنفسح آمادها، حَتَّى تنافس فِيهِ قوادها، فاتخذوه كَاتب أسرارهم، وترجمان أخبارهم، وَقد ثَبت من مقطوعات شعره، ونفثات سحره، مَا يستفز السَّامع، ويقرط المسامع
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن بقى
مدير لأكواس الْبَيَان الْمُعْتق ولعوب بأطراف الْكَلَام المشقق انتحل لأوّل أمره الْهزْل من أصنافه فأبرز دُرَر مَعَانِيه من أصدافه وجنى ثَمَرَة الإبداع لحسين قطافه، ثمَّ تجَاوز إِلَى المعرب وتخطاه، فأدار كأسه وعاطاه، فَأصْبح لفنيه جَامعا، وَفِي فلكيه شهابا لامعا، وَله ذكا يطير شرره، وَإِدْرَاك تتبلج غرره، وذهن يكْشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض، وعَلى ذلاقة لِسَانه، وانفساح أمد إحسانه، فشديد الضنانة بِشعرِهِ، مغال لسعره، أجَاب أحد الأحباء مِمَّن خطب ادبه واستدعاه للمراجعة وندبه.
وَمن ذَلِك وصف أبي عَليّ حسن بن عبد السَّلَام
فَارس براعة بارعة، ورث بديهة مسارعة لاك الْكَلَام وعلكه، وَاسْتحق الْإِحْسَان وَملكه، وأدار على قطب الإجادة فلكه، وساعده الدَّهْر فتحدى طَرِيق السرو وسلكه، وَلم يزل الْمِقْدَار يساعده، وَالتَّدْبِير ينوء بِهِ ساعده حَتَّى تحلت بِالثُّرَيَّا حَاله(2/386)
وَعظم جاهه وَمَاله، وَلما تغلبت الْفِتْنَة بدولته، وعجمت عود صولته آثر الرحيل، وَفَارق ربعه الْمُحِيل، وَاسْتقر بِحَضْرَة تونس يروم الوجهة الحجازية وَقد تَبرأ من قَول الشَّاعِر: " وَمَا أَنا إِلَّا من غزيَّة " فَأَتَاهُ بهَا حمامة، وَانْقَضَت دون أمله أَيَّامه، وَله أدب غض الجنى، أنيق اللَّفْظ وَالْمعْنَى على قصر بَاعه، وَقلة انتجاعه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن بن الصّباغ
اللسن الْعَارِف، والناقد لجواهر الْمعَانِي كَمَا تفعل بالسكة الصيارف، والأديب الْمجِيد، الَّذِي تحلى بِهِ للعصر النَّحْر والجيد، إِن أجال جِيَاد براعته، فَضَح فرسَان المهارق، وأخجل من بَيَاض طرسه، وَسَوَاد نَفسه الطرر تَحت المهارق. وَإِن جلى أبكار أفكاره، وأثار طير الْبَيَان من أوكاره، سلب الرَّحِيق المعدم فضل ابتكاره، إِلَى نفس لَا يفارقها ظرف، وهمة لَا يرْتَد إِلَيْهَا طرف وإباية لَهُ لَا يفل لَهَا غرب وَلَا جرف، وَفِي هَذِه الْأَيَّام دَعَاهُ شيخ الْغُزَاة إِلَى كِتَابَة سره، وَقَامَ بِوَاجِب بره، وَله أدب غض وزهر على مجتنبه مرفض.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق الطّراز
رَوْضَة أدب وظرف، كَمَا شِئْت من حسن وَعرف، أشرقت ذكا ذكائه، وتضوعت آدابه تضوع الرَّوْض غب سمائه، إِلَى حلاوة الْخَلَائق والضرائب، والشيم الْحَسَنَة والمعاني الغرايب، ترتاح إِلَى مُجَالَسَته المحاضر، ويرقب من أفنان فكاهته الزهر الناضر، فَمَا شيت من توقيع رفيع، وتندير بالإصابة جدير، ولطافة الشَّمَائِل فِي كثير من الْفَضَائِل، وَله نفس تطمح إِلَى بُلُوغ الْمعَانِي، وفكر يَحْدُو حلل الْبَدَائِع فِي الطّراز العالي، وأدب كالروض باكرته السحائب، وحملت أرجه الصِّبَا والجنائب وَقد أثبت من شعره كل عطر النسيم، سَافر الْمحيا الوسيم،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن دَاوُد الْوَادي آشى
شيخ الْعمَّال المؤتمن على الجباية وَالْمَال، الْمُسْتَوْفى شُرُوط الْفضل على الْكَمَال،(2/387)
تواضع رَحمَه الله على الْعُلُوّ، وَلبس شعار السّكُون والهدو، وبذل المجاملة للصديق والمسالمة لِلْعَدو، ولازم مجَالِس الْملك بِحَيْثُ يضر وينفع، ويحط وَيرْفَع، فَمَا شَاب بالإساءة إحسانا، وَلَا أعمل فِي غير الْمُشَاركَة لِسَانا إِلَى غير ذَلِك من الْأَدَب الْعطر النسيم، السافر عَن الْمحيا الوسيم، واشتهر بِالْوَفَاءِ اشتهار دارين بطيبها وأياد بخطيبها، فَكَانَ حَامِل رايته، ومحرز غَايَته، وَمضى لسبيله فقيدا عَم فَقده وَخص، وهاض أَجْنِحَة الْحَاجَات وقص، وَله أدب يُصِيب شاكلة الرمى بنباله، ونظم تضحى الْمعَانِي قنايص حباله،
وَمن ذَلِك وصف أبي عبد الله بن حسان
كَاتب إنْشَاء وديوان، وَصدر حفل وإيوان، وَفَارِس يراعة، وَروض أدب وبراعة، يملى الرسائل فَلَا يجِف مدادها، وينظم القصائد لَا يعييه امتدادها، ويحبر الرّقاع ويوشيها، ويصور الْمعَانِي وينشيها، ويدبج برود البدايع ويطرز حواشيها إِلَى خطّ تهيم الْأَلْفَاظ بالتماح سطوره وتغار الرياض بممطوره، وأبوة ومجاده، وَبَيت أمطره الْفضل وجاده، وأنجبت مِنْهُ أبوة صَاحب الأشغال رَحمَه الله خلفا سد مسده، وَتجَاوز فِي السرو مَا حَده، وَلم تزل الأسماع تخْطب بدايعه، وأسواق الأشواق تغلى بضايعه، حَتَّى أصبح فَردا فِي أترابه، وفذا فِي أغرابه، وَله نفس عذرية الشمايل، ولسان هام بزهر الرياض وظل الخمايل، وطبع إِلَى شيم الرصافة وَالْحسن مايل
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن مصادف الرندي
من شُيُوخ الطَّرِيقَة العملية ومنتحلي الصِّنَاعَة الأدبية
كَانَ رَحمَه الله مَجْمُوع ظرف، ومسرح كل طرف، من خطّ بارع، وأدب إِلَى دواعي الْإِجَابَة مسارع، وَلما صَار أَمر رنده، كلأها الله، عِنْد اشتعال الْحَرْب،(2/388)
وتوالى الضَّرْب على ملك الْمغرب قَلّدهُ أَعمالهَا، وَجعل إِلَى نظره حالتها، ثمَّ تنقل إِلَى بعض الولايات ببر العدوة، وَبهَا قضى نحبه، وَفَارق صَحبه، بعد معاناة خطوب، ومباشرة صروف من الدَّهْر وضروب. وَله أدب طَابَ وتأرج، وَعطف على رسوم الإجادة وعرج، وَمَعَان تتجلى تجلى العذارى وتتبرج.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن جَعْفَر
شيخ توقيعة نادرة، وفكاهة وَارِدَة وصادرة، ونظم أنيق الديباجة، لطيف الزجاجة، عطر النفخة، [عذب المجاجة] وظرف لَا يذوي دوحه، وأدب تأرج روحه، وَقضى رَحمَه الله، وَقد تخلف عقبا نجيبا، والقى من ابْنه أَبى جَعْفَر مستمعا للفضل مجيبا، حَاز فِي الْإِحْسَان طلقه، وحاسن فلقه، وَقد ثَبت من شعره مَا يقر بوقور مادته واستقامة جادته،
وَمن ذَلِك فِي وصف ابْنه أبي جَعْفَر
كَاتب حِسَاب، ومنتسب لأدب أَي انتساب، إِن فكر وروى، أنهل الخواطر وروى، وَإِن ابتدر وارتجل، أولد الْبَدَائِع وَانْتَحَلَ، وَله منطق يحاول الصعاب فيلينها، ويتناول الغوامض فيبينها، ويجلو كل سَاحِرَة الْأَلْبَاب تروق جبينها ويوسع المحاضرة إمتاعا ويمد فِيهَا خطوا وساعا، قَالَ الْمُؤلف وَقد حظيت من بَيَانه بِهَذَا الْمَجْمُوع، وَلم أَقف مِنْهُ عِنْد خَبره المسموع، لكني اجتزأت مِنْهُ باليسير، وقنعت بِمَا حضر، واكتفيت برايقة الْأَثِير، وأقمت قَلِيله مقَام الْكثير،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن الْبَرْبَرِي المالقي
شَاعِر ينْفق من سَعَة، وينطق وسط المجمعة، ومطبوع لَا يتَكَلَّف، ومجيد إِذا نَهَضَ البلغاء لَا يتَخَلَّف، عانى النّظم وزمنه كمثله غُلَام، ودهره تَحِيَّة وَسَلام،(2/389)
ومدح وانتفع، وشفع شعره للملوك فشفع، وَلم يزل يتَصَرَّف فِي الْأَعْمَال، ويقابل بِالْإِحْسَانِ والإجمال، وَقد أثبت من شعره كل مُحكم العقد، شَدِيد الْوَطْأَة على النَّقْد.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم بن مقَاتل المالقي
من حسباء الطَّرِيقَة وصدورها، والمحاسن لترايبها العاطلة ونحورها. كَانَ رَحمَه الله هضبة وقار وسكينة، وَذَا مكانة فِي الْفضل مكينة. إِلَى صدر سلم ومجد صميم، وَخلق عَظِيم السهولة، وسمت خليق بسن الكهولة، ولسان مغرى بِالذكر، متقلب بَين الْحَمد وَالشُّكْر، وَإِلَى ذَلِك فَكَانَت لَهُ دعابة صائبة السهْم، ونادرة يتنافس فِيهَا أولو الْفَهم، ومجالسة طيبَة، وفكاهة غمامتها صيبة. وَاسْتعْمل فِي الولايات النفيسة، فحمدت سيرته، وَحسن أَثَره، وكرم خَبره وَخَبره، وأنجب عقبا جَارِيا على سنَنه، ومتخلفا من السرُور بأحسنه، وَكَانَ لَهُ أدب غض الجني، طيب اللَّفْظ وَالْمعْنَى، ومقطوعات حَسَنَة المقاطع، سافرة عَن الْحسن الساطع.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي زيد عبد الرَّحْمَن الينشتي
من شُيُوخ طَريقَة الْعَمَل، المتغلبين من أحوالها بَين الصحو والثمل، المتعلقين برسومها حِين اخْتَلَط المرعى بالهمل. وَهُوَ ناضم أرجاز، ومستعمل حَقِيقَة ومجاز نظم بهَا مُخْتَصر السِّيرَة فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة، ونظم جُزْءا فِي الرجز والفال، فبذ بِهِ تِلْكَ الطَّرِيقَة بعد الإغفال.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الْمَعْرُوف بالبغيل من أهل المرية
بَقِيَّة صَالِحَة، وغرة فِي الزَّمن البهيم وَاضِحَة، أرخ وَقيد وَأحكم بِنَا الْعبارَة وشيد، ورقم الرسائل الْبَدَائِع، وحقق بِبَلَدِهِ الْأَخْبَار وَكتب الوقائع. فمجالسته عَظِيمَة الإمتاع، ومحاضرته مقرطة الْأَذَان والأسماع. وَله شعر جزل، لَا ينتكب لمعانيه غزل، وَأَلْفَاظه صقيلة، وَمَعَان تتبرج تبرج العقيلة، وأغراض لَا تطيش(2/390)
نبلها، وَلَا تطمس لاحب سبلها. وَقد أثبت مِنْهَا مَا يشْهد بإجاد ته وَيدل على كرم مجادته.
وَفِي وصف أبي جَعْفَر بن جَعْفَر من مالقة
أديب مجيد، وَبَطل فِي الْحساب نجيد، تقدم فِي الطَّرِيقَة العملية، وبرز وطور طروسها وطرز، وَنقد وأبرز، وعانى النّظم فأجاده، واستقى غمام الْأَدَب فجاده، وسبك الْأَلْفَاظ وخلصها، واستطرد الْمعَانِي واقتنصها، وَمَرَّتْ بِهِ النادرة فاغتنم فرصها. وَله أخلاف رفيعة، وَنَفس لكل عُذْري شَقِيقَة، وَقد أثبت من شعره مَا وَقع بيَدي، وارتسم فِي خلدي.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عَليّ حسن ابْن الْخَطِيب أبي الْحسن القيجاطي
حسنى الْمَذْهَب، وهائم بِكُل عذار موشى وخد مَذْهَب، نَشأ بَين يَدي أَبِيه رَحمَه الله، وحلقة درسه مكنس أرام، ومثار صبَابَة وعزم، ومطلع الشموس الْأَهِلّة من أَبنَاء الجلة، فركض فِي الكلف ملْء عنانه وَمكن الجفون السود من سويداء جنانه وعذب عِنْده تعذيبه حَتَّى اشْتهر غزله ونسيبه، وَلما نضب عود تِلْكَ الشبيبة، وصوخ نبت تِلْكَ الرياض العجيبة، تعلق بِالْخدمَةِ العملية، فانتظم فِي أَهلهَا، وَسَار فِي حزنها وسهلها، وَظَهَرت عَلَيْهِ تبعات عبر لَهَا اللجة، وَقطع الْحجَّة. وَاسْتقر ببجاية، فارتفد وارتفق، وَعرض شعره، فعلى سعره ونفق، ثمَّ ارتحل على هَذَا الْعَهْد إِلَى أم تِلْكَ المملكة، والقايمة بحسنات تِلْكَ الْبِلَاد مقَام الفذلكة، فاستند إِلَى بَابهَا، وارتسم فِي سلك كتابها،
وَقد أثبت من شعره المطبوع أَيَّام مقَامه بِهَذِهِ الربوع.
وَفِي وصف أبي مُحَمَّد المرابع من أهل بلش
طَوِيل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنه بعقائل القوافي، شَاب فِي(2/391)
الْأَدَب وشب، ونشق ريح الْبَيَان لما هَب، فجاور رَقِيقه وجزله، وأجاد جده وَأحكم هزله، فَإِن مدح صدح، وَإِن وصف أنصف، وَإِن عصف قصف، وَإِن أنشأ وَدون، وتقلب فِي أفانين البلاغة وتفنن، أفسد مَا شَاءَ وَكَون، فَهُوَ شيخ الطَّرِيقَة الأدبية وفتاها، وخطيب محافلها كلما أَتَاهَا، لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من أغراضها غَرَض، وَلَا يضيع لَدَيْهِ مِنْهَا مفترض، وَلم تزل بروقه تتألق، ومعانيه بأذيال الْإِحْسَان تتَعَلَّق، حَتَّى برز فِي أبطال الْكَلَام وفرسانه، وذعرت الْقُلُوب لسطوة لِسَانه، وَأَلْقَتْ إِلَيْهِ الصِّنَاعَة زمامها، ووقفت عَلَيْهِ أَحْكَامهَا فشعشع قدامتها وَنبهَ ندامها، وَأرْسل رجومها. وَعبر الْبَحْر لهَذَا الْعَهْد منتجعا لشعرة ومنفقا فِي سود الكساد من سعده، فأبرق وأرعد، وحذر وتوعد، وَبلغ جهد إِمْكَانه فِي التَّعْرِيف بمكانه، فَمَا حرك وَلَا هز، وذل فِي طلب الرفد وَقد عز، وَمَا برح أَن رَجَعَ إِلَى وَطنه الَّذِي اعتاده رُجُوع الحَدِيث إِلَى قتاده، وَقد أثبت من نزعاته، وَبَعض مخترعاته، مَا يدل على سَعَة بَاعه، ونهضة ذراعه، وألمعت بِشَيْء من سَبَب رحلته واغترابه، وعود مرهفه إِلَى قرَابه.
وَفِي وصف أبي عبد الله المتأهل الْمَعْرُوف بعمامتي من أهل وَادي آش ناظم أَبْيَات، وموضح غرر وشيات، وَصَاحب توقيعات وإمارات ذَوَات إشارات، اشْتهر فِي بَلَده اشتهار الشيب فِي المفارق، وتألق بأفقه بألق البارق. وَكَانَ شَاعِرًا مكثارا، وجوادا لَا يخَاف عثارا. دخل على أَمِير بَلَده [المخلوع عَن ملكه بعد انتثار سلكه وَخُرُوج الحضرة عَن ملكه، واستقراره بوادي آش] مروع المَال متعللا بقصيات الآمال.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْمُؤلف رَحمَه الله
إِن طَال الْكَلَام، وجمحت الأقلام، كنت كَمَا قيل مادح نَفسه يُقْرِئك(2/392)
السَّلَام، وَإِن أحجمت فَمَا أسديت فِي الثَّنَاء وَلَا أفحمت أضعت الْحُقُوق، وقاربت العقوق. هَذَا وَلَو زجرت طير البلاغة من أوكاره، وحييته بعيون الْكَلَام وأبكاره لما قضيت حَقه بعد، وَلَا قلت إِلَّا بِالَّذِي علمت سعد، فقد كَانَ ذمر حزم، وَرجل رَجَاء وعزم، كَانَ بِبَلَدِهِ قطبه الَّذِي عَلَيْهِ الْمدَار، وزعيمه الَّذِي لَهُ الْإِيرَاد والإصدار، وَله إِلَى الْمقَام الْعلي النصري وَسَائِل قربى، ومتات أناف وأربى. لما حل الْملك الْإِسْمَاعِيلِيّ بذلك الْقطر، ولاح بأفقه لياح هِلَال الْفطر، نزع إِلَى فريقه، وَجعل تِلْكَ الإيالة قرى طَرِيقه، وَصَحب ركابه إِلَى قرارة ملكه، ومحط فلكه، فقر بِهِ وَأَدْنَاهُ، وشيد لَهُ الْعِزّ وبناه. وَلم تزل سماؤه تجوده، وروضه يروضه جوده. واصطنعه خَلفه من بعدة إِلَى أَن دَعَاهُ الْأَجَل لوعده، فَفَقَدته بكاينة طريف جبر الله عثارها، وَعجل ثارها، حدث خطيب الْجَامِع الْأَعْظَم، وَهُوَ مَا هُوَ من وفور الْعقل، وَصِحَّة النَّقْل، قَالَ، مَرَرْت بأبيك بعد مَا تمت الكسرة وخذلت تِلْكَ الأسرة وَقد كبا بأخيك الطّرف، وَعرض عَلَيْهِ الْحمام الصّرْف، وَالشَّيْخ لم تزل قدمه، وَلَا راعه عَدمه، وَلما يئس من الْخَلَاص وطلابه صرفني، وَقَالَ أَنا أولى بِهِ فَقضى سعيدا شَهِيدا، لم يستفزه الهول وَلم يثنه، وَلَا ارتضى عَار الْفِرَار عَن ابْنه، وَكَانَت لَهُ فِي الْأَدَب فَرِيضَة، وَفِي النادرة العذبة، منادح عريضة، مَعَ قلَّة انتحاله، واشتغاله بِحَالهِ،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي بكر البلوي من أهل ألمرية
محيى لرسوم المكارم، ذُو هزة للفضائل كهزة الصارم، كَانَ رَحمَه الله بِبَلَدِهِ فِي الْإِحْسَان منزلَة الْعين من جَسَد الْإِنْسَان، والنطق من اللِّسَان والبشاشة من الصُّور الحسان. إِن ضل السماح فبيته مَأْوَاه أَو أظل الضَّيْف فَهُوَ أَبُو مثواه.(2/393)
إِلَى نفس آخذة بأقاصي الْكَمَال، وشمائل ألطف من أنفاس الصِّبَا وَالشمَال، وأدب انْتهى إِلَى الْقُلُوب من الآمال، قدم على الحضرة بِأول الدولة لأَدَاء حق الطَّاعَة والانتظام فِي الْجَمَاعَة،
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن السراج
طَبِيب ماهر، وَروض علم تفتحت فِيهِ للفنون أزاهر، درج من الشظف إِلَى السعَة، وتحلى بحلية الْعلم فرفعه، فَبلغ الْغَايَة الَّتِي لطف محلهَا، وَفَاء عَلَيْهِ ظلها، وتقلبت عَلَيْهِ الْأَيَّام فاعتورته صروفها، وتنكر عِنْده معروفها لما ذكرته فِي كتاب " طرفَة الْعَصْر فِي اختبار دوَل بني نصر "، ثمَّ تداركت صَلَاح حَاله ومتعته بِطيب الْقَرار بعد ارتحاله، فاستقرت دَاره، واستقام على قطب الْعِنَايَة مَدَاره، وَكَانَ رَحمَه الله كثير الدعابة، وَمَا شانه ذَلِك وَلَا عابه، وَله نظم ينخرط فِي سلك الانطباع، وتخبر بطول الباع.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي زَكَرِيَّا يحيى بن هُذَيْل التجِيبِي درة بَين النَّاس مغفلة، وخزانة على كل فَائِدَة مقفلة، وهدية من الدَّهْر الضنين لِبَنِيهِ محتفلة، أبرع من رتب التعاليم وَعلمهَا، وركض فِي الألواح قلمها، وأتقن من صور الْهَيْئَة وَمثلهَا، وَأسسَ قَوَاعِد الْبَرَاهِين وأثلها، وَأعرف من زاول شكاية، وَدفع عَن جَسَد نكاية إِلَى غير ذَلِك من الْمُشَاركَة فِي الْعُلُوم، والوصول من الْمَجْهُول إِلَى الْمَعْلُوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة الَّتِي مَا خَالع الغدار فِيهَا بالملوم. فَمَا شيت من نفس عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف الْمجَالِس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر، وَله أدب ذهب فِي الإجادة كل مَذْهَب وارتدى بن البلاغة بِكُل رِدَاء مَذْهَب، وَمَعَان تراودها الخواطر فتصد وتحييها النُّفُوس فَلَا ترد، وَالْأَدب(2/394)
نقطة من حَوْضه، وزهرة من أزهار روضه، وسيمر فِي هَذَا الدِّيوَان مَا يبهر الْعُقُول ويحاسن بِرِوَايَة ورائق بهائه الفرند المصقول.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عَمْرو بن عباد من أهل رنده
صوفي مُحَقّق، ومريد عَن صبوح الْمحبَّة مرفق. كَانَ بِبَلَدِهِ رَحمَه الله عينا من أعيانها، وقريع بَيت من بيوتات إحسانها، شام للغرب بارقا، فَأصْبح لدنياه مفارقا، فنزح عَن بِلَاده، وَخرج عَن طريفه وتلاده، وشمر لمقارعة الْهوى وجلاده، وخاض بَحر تِلْكَ الْأَهْوَال حَتَّى صَار معدودا فِي أهل الاحوال، وَظَهَرت عَلَيْهِ سمات الحضرة، وسطعت لَهُ أنوار الْعِنَايَة الإلهية، وَلم يزل يعبر عَن وجده ويكنى بحاجره ونجده، حَتَّى حفظت أَقْوَاله، واشتهرت أَحْوَاله.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْوَلِيد بن هاني من أهل غرناطة
شَاعِر ينحت من طود، وماطر صاب من الْكَلَام بجود. عدل عَن اللَّفْظ الْقَرِيب إِلَى الحوشى الْغَرِيب، وَإِذا أجهد طبعه وَوصف حيه وربعه، وَكَيف ظعن الْقطَّان، وتغيرت الأوطان، قلت حجازيا فصيحا أَو تميميا شقّ للْبَيَان ريحًا أَو نجديا شكى بثا وتبريحا. نَشأ بِبَلَدِهِ غرناطة، مطلع نور حَسبه الباهر، وروضة بَيته الأنيق الأزاهر، فشاقى حلبة الطّلب، وفاز بالغلب، واجتهد وَعَكَفَ واستمطر وابل الْعلم لما وكف حَتَّى جلى من المشكلات كل حالك، وَاسْتظْهر موطأ مَالك. ثمَّ رمى السفار بعزمته، وخاض القفار بجرفه وحزمته، وَاسْتقر بعد اعتساف المجاهل، ومزاحمة المناهل، وخوض المرار، والبشام بحماة الشَّام، واتخذها دَارا، وارتضاها لفضله مدارا.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله النمري الكفيف من أهل مالقه
[ضَرِير زار نور بَصَره نور قلبه فاجتمعا، وكفيف سَارَتْ الْأَمْثَال بِذكرِهِ فَصدق مرأى مِنْهُ مستمعا] صَادِق اللهجة، سلك سَبِيل الْفضل، وانتهج نهجه،(2/395)
أذهن من راو المشكلات وافترعها، وصادم الغوامض فصرعها، وَله فِي علم اللِّسَان [قدم راسخة] وَفِي أَحْكَام الْمعَانِي آيَة ناسخة، وَكَانَ معرى عصره، ووارث علمه الَّذِي يعجز عَن حصره، وَله فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة ذوق، وَإِلَى تِلْكَ الْفُنُون شوق نسبته لسببه الألسن، واستقبح مِنْهُ مَا يحسن. ونظمه دون قدره، ومعانيه تكْثر عَن نفثات صَدره.
وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب الْحَاج الرّحال أبي إِسْحَق الساحلي رَحمَه الله
جَوَاب الْآفَاق، ومحالف الرفاق، ومنفق سعر الشّعْر كل النِّفَاق، رفع بِبَلَدِهِ راية للأدب لَا تحجم وَأصْبح نَسِيج وَحده فِيمَا يسدى ويلحم، فَإِن نسب، جزى كل قلب بِمَا كسب، وَإِن مدح وقدح، من أنوار فتنته مَا قدح، حرك الجامد، ونظم نظم الجمان المحامد. وَإِن أبن أَو رثا، غبر فِي وُجُوه السوابق وحثا، وَلما أنف الكساد سوقه، وضياع حُقُوقه، أَخذ بالعزم، وَأدْخل على تعلاته عَامل الْجَزْم، وَلم يزل يسْقط على الدول سُقُوط الْغَيْث، ويحتل كناس الظبي وَغَابَ اللَّيْث، ويركض النجائب، وَيتبع الْعَجَائِب، حَتَّى استضاف بِمصْر الْكِرَام، وَشَاهد البرابي والأهرام، وَرمى بعزمته الشَّام، فاحتل ثغورها المحوطة، وَدخل دمشق وتفيأ الغوطة، ثمَّ عاجلها بالفراق، وَتوجه إِلَى الْعرَاق، فَحَيَّا بِالسَّلَامِ، مَدِينَة السَّلَام، وَأورد بالرافدين رواحله، وَرَأى الْيمن وسواحله ثمَّ عدل إِلَى الْحَقِيقَة عَن الْمجَاز، وَتوجه إِلَى مثابة الْحجاز، فاستلم الرُّكْن وَالْحجر، وزار الترب الْكَرِيم لما صدر، وتعرف بِجَمِيعِ الْوُفُود بِملك السود، فغمره بإرفاده، واستصحبه إِلَى بِلَاده، وَاسْتقر بِأول أقاليم الأَرْض، وأقصى مَا يعمر من هَذَا الْعرض، فَحل بهَا مَحل الْخمر فِي القار، والنور فِي سَواد الْأَبْصَار، وتقيد(2/396)
بِالْإِحْسَانِ، وَإِن كَانَ غَرِيب الْوَجْه وَالْيَد وَاللِّسَان، وَقد أثبت من شعره مَا يشْهد بجلالة آدابه، وَتعلق الْإِحْسَان بأهدابه.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْقَائِد أبي جَعْفَر أَحْمد بن خير
قَائِد مليح الشيبة، ممتزج المباسطة بالهيبة، يجمع بَين الدعابة وَالْوَقار، وَيُدبر من الفكاهة كؤوسا تزري بكؤوس الْعقار، وَله أَصَالَة قَامَت على الْعلم أَرْكَانهَا، واشتهر بحمص أَعَادَهَا الله مَكَانهَا، ووسائل إِلَى السّلف الْكَرِيم عظم ذمامها، وَثبتت أَحْكَامهَا، وحظوة ظفر مِنْهَا بالأمل، وارتضع أخلافها بَين القيادة وَالْعَمَل، تنَاول خطة الْمَدِينَة فأجراها، وراش نبل الْأَحْكَام وبراها، وَبشر أبشار ألى الْفساد وفراها، وَفرق حَتَّى بَين الجفون وكراها , فكم عاشق انتجز للوصل ميعادا وارتقب للسعد إسعادا، وظفر بمثير غرامه، وموقد ضرامه فِي مجْلِس تجلت فِيهِ عروس الكاس، عَن فرش الْورْد والآس، وَعند سُجُود الإبريق، ومزج المدامة بالريق، وثب ابْن خير هَذَا وثوب اللَّيْث، وَسقط عَلَيْهِ سُقُوط الْغَيْث، فراع غزال ذَلِك الكناس، وَفرق بَين روح المدام وجسم الكاس، حَتَّى ذعرت الْقُلُوب لسطوته، وتشوفت الآذان إِلَى إحساس خطوته. كل ذَلِك بِعدْل ميزَان قَائِم، وجزالة، لَا يثنيها فِي الْحق لايم، وبسالة تشهد المواقع بمضايها، وتثنى عَلَيْهِ السيوف عِنْد انتضابها. واصطنعه هَذَا الْمقَام اليوسفي، أَعْلَاهُ الله، فارتضاه للأمانة الْعُظْمَى، وقلده حفظ أَبْوَاب معقله الأسمى، فاعطى الْقوس باريا، وقلد الخطة حساما واريا، وَهُوَ لطيف الْمحل لَدَيْهِ وحظى بَين يَدَيْهِ، يستظرف نادرته العذبة، ويبدي لَهُ الْقبُول والمحبة، وَله أدب عذب الْجَانِب سهل المذانب، لَا زَالَ ينفث بضربه ويستفز عِنْد نظمه عوائد طربه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن غفرون من الْجند
نير مَا طلع حَتَّى أفل، وَمَا جد فِي حلل الْفضل رفل، ألطف النَّاس فِي معاشرة(2/397)
الْأَكفاء، وَثَانِي السموأل ابْن عاديا فِي الْوَفَاء، إِلَى حلم لَا يضيق لَهُ صدر، وعهد لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ لحماه نكث وَلَا غدر، وَنَفس عَظِيمَة النفاسة، وأخلاق مولعة بِذكر الحماسة. توجه مَعَ الْحصَّة إِلَى حراسة ثغر بيرة، وَقد اشتعلت نيرانه، وكلف جِيرَانه، وَكَانَت من الْمُسلمين جَوْلَة فِي بعض المواقف، ميز الله بهَا الْخَالِص من الزائف وَلم يرض صاحبنا رَحمَه الله عَار الْفِرَار أَمَام الْكفَّار، وَلم يزل يقدم إقدام الغضنفر، وَيُقِيم هامته مقَام المغفر، فَقضى سعيدا مقداما، وَشرب للحمام كأسا كَانَت لَهَا السَّعَادَة مداما، وَلم أظفر من كَلَامه إِلَّا بنزر، وَلَا حصلت من مده إِلَّا على جزر
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الروية من أهل بلش
ناظم للفقر الشاردة، ومقتنص الْمعَانِي الصادرة والواردة، وَصَاحب قريحة ملتهبة الْوقُود، وبديهة منتظمة الْعُقُود، إِلَى بَيت ينتمي إِلَى مجد، وأصالة أطيب من عرار نجد. نَشأ بِبَلَدِهِ بلش قرارة ميلاده، مُقْتَصرا على انتجاع تلاده، صان بذلك وَجهه عَن إِرَاقَة مَائه وهتك حجاب حيائه. وَلم أظفر من شعره على استرساله، وتدفق سلساله إِلَّا بقوله يهنى السُّلْطَان بِأحد أَوْلَاده
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الْعَبدَرِي المالقي
أديب نَار ذكائه يتوقد، وعارف لَا يعْتَرض كَلَامه وَلَا ينْقد. وَأما الْهزْل فَهُوَ طَرِيقَته المثلى الَّتِي ركض فِي ميدانها وجلى، وطلع فِي أفقها وتجلى فَأصْبح علم أعلامها، وعابر أحلامها، فَإِن أَخذ بهَا فِي وصف الكاس، وَذكر الْورْد والآس، وألم بِالربيعِ وفصله، والحبيب وَوَصله، وَالرَّوْض وطيبه، والغمام وتقطيبه، شقّ الْجُيُوب طَربا، وعَلى النُّفُوس أربا وَضَربا. وَإِن أشْفق(2/398)
لاعتلال العشية فِي فرش الرّبيع الموشية، ثمَّ تعداها إِلَى وصف الصبوح، وأجهز على الزق الْمَجْرُوح، وَأَشَارَ إِلَى نغمات الْوَرق يرفلن فِي الْحلَل الزرق، وَقد اشتعلت فِي عنبر اللَّيْل نَار الْبَرْق، وطلعت بنود الصَّباح فِي شرفات الشرق سلب الْحَلِيم وقاره، وَذكر الخليع كأسه وعقاره، وحرك الأشواق بعد سكونها وأخرجها من وَكَونهَا، بِلِسَان يتزاحم على مورده الخيال، ويتدفق من حَافَّاته الْأَدَب السيال، وَبَيَان يُقيم أود الْمعَانِي، ويشيد مصانع اللَّفْظ محكمَة المباني، ويكسو حلل الْإِحْسَان جسوم المثالث والمثاني، إِلَى نادرة لمثلهَا يشار، ومحاضرة يجتني بهَا الشهد ويشار. وَقد اثْبتْ من شعره، وَإِن كَانَ لَا يتعاطاه إِلَّا قَلِيلا، وَلَا يُجَاوِزهُ إِلَّا تعليلا، أبياتا لَا تَخْلُو من مسحة جمال على صفحاتها، وَهبة طيب تنم فِي نفحاتها.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الشريف الْحسنى
ماشيت من قدرَة وأيد، لَيْسَ من عَمْرو وَلَا زيد، أكْرم من عمر البلاغة مجالا [وَلعب بأطراف الْكَلَام المشقق روية وارتجالا] ، وأطوع من دَعَا أَبْيَات الْمعَانِي فَجَاءَت عجالا [وأبدع من أدَار أكواس الْبَيَان الْمُعْتق] ، وَأجل من أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِر بقوله " وَخير الشّعْر أكْرمه رجَالًا " قدم على الحضرة هَذَا القَاضِي الشريف، وَقذف بدرته النفسية لَهَا الرِّيف، رَوْضَة أدب وظرف لما شيت من حسن وَعرف، يُدِير المحاضرة جريالا، ويسحب البديع الروايع أذيالا، ذَا نفس كَرِيمَة، وأخلاق كالروض غب انسكاب ديمه، وَقعد بمسجدها فدرس وَحلق، وسطع نوره فِي أفقها وتألق، واستأثرت بِهِ الْكِتَابَة السُّلْطَانِيَّة لأوّل وُرُوده، وسحبت(2/399)
عَلَيْهِ من الْإِحْسَان سوابغ بروده، وتوشح بخلاله المرتضاة إِلَى قَضَاء الْقُضَاة، وَهُوَ الْآن قاضى الْجَمَاعَة وإمامها، وقيم الشَّرِيعَة، الَّتِي فِي يَدَيْهِ زمامها، بلغت بِهِ تِلْكَ الْمُتَابَعَة العدلية آمالها، واستأنفت بعد الكبرة جمَالهَا، وَقَالَت هيت لَك، فَلم تَكُ تصلح إِلَّا لَهُ، وَلم يَك يصلح إِلَّا لَهَا، وَأَلْقَتْ لَهُ الخطابة قيادها، فأنسى قسها وأيادها، ووسم بعد الإغفال بسمة الاحتفال جمعهَا وأعيادها. وَأما شعره فيناسب الرضى نسيبه فخره ونسيبه.
وَمن ذَلِك فِي وصف الشريف أبي عبد الله ابْن الْحسن الحسني
كريم الانتماء، مستظل بأغصان الشَّجَرَة الشماء، الممتدة الأفياء، الَّذِي أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء، من رجل سليم الضَّمِير، وَنَفس أصفى من المَاء النمير، وشهامة تثنى عَلَيْهِ الرِّجَال إِذا ضَاقَ المجال، وتقوضت الْآجَال، وَله فِي الشّعْر طبع يشْهد بعروبية أُصُوله، ومضاء نصوله، وَقد أثبت من شعره مَا ينضح فِي البلاغة سَبيله وَيشْهد بِعِتْق الْجواد صهيلة.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم ابْن الرئيس أبي زَكَرِيَّا العزفي
فرع تأود من الرياسة فِي دوحة، وَتردد مَا بَين غدوه [فِي الْمجد] وروحه: نَشأ والرياسة العزفية تعله وتنهله، والدهر يسهل أمره الْأَقْصَى ويسهله، حَتَّى اتسقت أَسبَاب سعده وانتهت إِلَيْهِ رياسة سلفه من بعده، وَأَلْقَتْ إِلَيْهِ رِحَالهَا وحطته ومتعته بقربها بعد مَا شحطت وشطت، ثمَّ كلح لَهُ الدَّهْر بعد مَا تَبَسم، وَعَاد زعزعا نسيمه الَّذِي كَانَ تنسم، وعاق هلاله عَن تمه، مَا كَانَ من تغلب ابْن عَمه، وَاسْتقر بِهَذِهِ الْبِلَاد نازح الدَّار، بِحكم الأقدار، وَإِن كَانَ نبيه المكانة والمقدار، وَجَرت عَلَيْهِ جراية وَاسِعَة ورعاية متتابعة. وَله أدب الرَّوْض باكرته(2/400)
الغمايم، والزهر تفتحت عَنهُ الكمايم، رفع مِنْهُ راية خافقة، وَأقَام لَهُ سوقا نافقة، وعَلى تدفق أنهاره وَكَثْرَة نظمه واشتهاره، فَلم أظفر مِنْهُ إِلَّا باليسير التافه، بعد وداعه وانصرافه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله ابْن الشَّيْخ الْحَاجِب بتونس أبي الْحسن بن عَمْرو
غذى نعْمَة هامية، ورقي رُتْبَة سامية، تقلد أَبوهُ حجابة الْخلَافَة بتونس، وَهِي مَا هِيَ من سمو الْمَكَان، ورفعة الشان، فصرفت إِلَيْهِ الْوُجُوه، وَلم يبْق إِلَّا من يخافه أَو يرجوه. وَبلغ ابْنه هَذَا مُدَّة ذَلِك الشّرف الْغَايَة فِي الترف. ثمَّ قلب لَهُم الدَّهْر ظهر الْمِجَن، وَاشْتَدَّ بهم الْخمار عِنْد فرَاغ الْيَدَيْنِ، وبزتهم الْأَيَّام بزتها، واسترجعت عزتها، وَلحق صاحبنا هَذَا بالمشرق، بعد خطوب مبيرة، وَشدَّة فِي الْبَحْر كَبِيرَة، فامتزج بسكانه وقطانه، ونال من اللَّذَّات مَا لم ينله فِي أوطانه، واكتسب الشمايل الغر الْعَذَاب، فَكَانَ كَابْن الجهم، بعث إِلَى الرصافة ليرى فذاب، ثمَّ حوم إِلَى وَطنه تحويم الطَّائِر وألم بِهَذِهِ الْبِلَاد إِلْمَام [الخيال الزائر] ، فاغتنمت مِنْهُ صَفْقَة وده لحين وُرُوده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت مِنْهُ على درة تقتنى، وحديقه طيبَة الجني، فيا لله من سَاعَات بالأنس قَطعْنَاهَا، ولذات أطاعتنا وأطعناها، مَا كَانَت إِلَّا كأحلام نايم أَو إفاقة هايم، رحلن وَمَا أبقين إِلَّا الأسى والتعلل بعسى. والفقيه أَبُو عبد الله هَذَا ذُو فهم حَدِيد، وَقصد سديد، وَبَاعَ من الْأَدَب مديد. وَلَو تفرغ للتحصيل بِمُقْتَضى طبعه الْأَصِيل، لعلت قداحه، وَكَانَ بحرا لَا يساجل ضحضاحه.(2/401)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن الْحَاجِب بتونس أبي عبد الله بن العشاب
جواد لَا يتعاطى طلقه، وَلَا يماثل بِالْفَجْرِ فلقه. كَانَت لِأَبِيهِ رَحمَه الله من الدول التونسية منزلَة لَطِيفَة الْمحل، ومفاوضة فِي العقد والحل، وَلم تزل تسمو بِهِ قدم النجابة من الْعَمَل إِلَى الحجابة، وَنَشَأ ابْنه هَذَا مفدى بالأنفس والعيون، مقضى الدُّيُون، حَالا من الضماير مَحل الظنون. والدهر ذُو ألوان، وماذق حَرْب عوان، وَالْأَيَّام كرات تتلقف، وأحوال لَا تتَوَقَّف، فألوى بهم الدَّهْر وأنحى [وَله غمام جوه تعقب مَا أضحى] وشملهم الاعتقال، وتعاورتهم النوب الثقال. واستقرت باخرة بالمشرق ركابه، وحطت بِهِ أقتابه، فحج وَاعْتمر، واستوطن تِلْكَ الْمعَاهد وَعمر، وَعَكَفَ على كتاب الله، فجود الْحُرُوف، [وَقَرَأَ الْخلف الْمَعْرُوف] وَقيد وَأسْندَ، وتكرر إِلَى دور الحَدِيث وَتردد، وَقدم على هَذِه الْبِلَاد قدوم النسيم البليل على كبد العليل. وَلما اسْتَقر بهَا قراره، واشتمل بجفنها غراره، بادرت إِلَى موانسته، وثابرت على مُجَالَسَته، فاجتليت للسرور شخصا، وطالعت ديوَان الوفا مستقصى. وَعلمت معنى الْكَلَام تَأْوِيلا ونصا، فَحَيَّا الله زمن اقترابه، فَلَقَد جاد. وأجاد وَأفَاد. مَالا أَخَاف عَلَيْهِ النفاد. وَأما شعره فَلَيْسَ بحايد عَن الْإِحْسَان، وَلَا غفل عَن غرر الْبَيَان.
وَمن ذَلِك فِي وصف صَاحب الْقَلَم الْأَعْلَى بالمغرب أبي مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ
الْفَذ الَّذِي يعدل بالألوف، والبطل الْمعلم عِنْد مناجزة الصُّفُوف، والمتقدم بِذَاتِهِ تقدم الْأَسْمَاء على الْحُرُوف، نَشأ بسبتة حرسها الله، بَين علم يُقَيِّدهُ [ومجد يشيده] وطهارة يسحب مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وَأَبوهُ رَحمَه الله قطب مدارها، ومقام حَجهَا واعتمارها، فسلك الحزون من المعارف والسهول، وبذ(2/402)
على حَدَاثَة سنه الكهول، وَلما تحلى من الفوايد العلمية بِمَا تحلى، وبرز فِي ميدان المعارف وجلى، واشتهر اشتهار الصَّباح إِذا تجلى، تنافست بِهِ همم الْمُلُوك الأخاير، واستأثرت بِهِ الدول على عَادَتهَا فِي الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بسياستها ذراعه، وَأَخْدَم السيوف والذوابل يراعه. وَهُوَ الْآن عينهَا الَّذِي تبصر، ولسانها الَّذِي بِهِ تسهب وتختصر. وَقد تقدّمت لَهُ إِلَى هَذِه الْبِلَاد الْوِفَادَة، وجلت بِهِ لَدَيْهَا الإفادة، وَكتب عَن بعض مُلُوكهَا، وانتظم فِي سموطها الرفيعة وسلوكها. وَله فِي الْأَدَب الرَّايَة الخافقة، والعقود المتناسقة، فَمَا شيت من لفظ طَابَ عرفه، وَمعنى سحر الْأَلْبَاب ظرفه. وَقد أثبت من كَلَامه فِي هَذَا الْكتاب مَا تتمناه النحور بدل قلايدها، وتجعله الْحور تَمام على ولايدها.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْخَطِيب أبي عبد الله بن رشيد
بَحر معارف لَا يسبر غوره، وَروض فنون تضوع مسراه وأينع نوره، وفريد زَمَانه الَّذِي لَا يَأْتِي بِمثل دوره. نَشأ بِبَلَدِهِ سبتة حرسها الله أصون من الدّرّ فِي صدفه، وأطهر من المَاء الطّهُور فِي نطفه، لَا يسرح فِي غير المطالعة طرفا، وَلَا ينتشق لغير المعارف عرفا، حَتَّى سما مِقْدَاره. وكمل فِي وَطنه أبداره، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الْعُيُون، وطمح إِلَى الرحلة وَالزَّمَان برحاله غنى، وَبِكُل قطر روض جنى. وعالم سني، فَرَحل عَن بَلَده [رحيل الْغَمَام بعد مَا أمطر، وأقشع إقشاع الرّبيع بعد مَا أَزْهَر وَلم يزل] مطلع بِكُل ثنية. ويعشو إِلَى نَار كل فايدة سنية، وَكلما مر بفايدة فِي طَرِيقه، صرف إِلَيْهَا أَعِنَّة فريقه، حَتَّى عرس بالمثوى الْجَلِيل، واستظل بالجدار الَّذِي رفعت قَوَاعِده أكف الْخَلِيل، ونقع من مَاء زَمْزَم مُحْتَرم العليل، وسنح لَهُ بِالْيمن طيره، وأحسب رحلته بِالْحرم الْأمين، أَبُو الْيمن وَغَيره. ثمَّ صرف عنان أمله وسؤله، إِلَى زِيَارَة قبر النَّبِي وَرَسُوله،(2/403)
فصلى بَين روضته الطاهرة ومحرابه، وتمتع مَا شَاءَ من لثم جِدَاره وانتشاق ترابه. وَدخل الشَّام فِي مُنْصَرفه، مستكثرا من عُيُون الْعلم وطرفه، وآب إِلَى جده. وَقد دون رحلته الْعَظِيمَة الإمتاع. وأتى مِنْهَا بِقَيْد النواظر والأسماع، وسماها " بمليء العيبة فِيمَا قيد بطول الْغَيْبَة إِلَى مَكَّة وطيبة " اسْم وَافق مُسَمَّاهُ، وَسَهْم أصَاب مرماه، وَلحق بالأندلس، فتهللت لقدومه أسرتها، واحتفنت لقراه درتها، وَأخذ عَنهُ صدورها، واستمدت من شمسه بدورها، وفعم مجالسها العلمية طيبا، وَصعد مِنْبَر الحضرة خَطِيبًا، ولطف من مدير الدولة النصرية ذِي الوزارتين ابْن الْحَكِيم مَحَله، وَفَاء عَلَيْهِ ظله لمودة بَينهمَا عقدت، ورسائل قبل الرياسة نفدت، فَإِنَّهُ كَانَ رَفِيق طَرِيقه، ومساعده على تشريقه، فَانْتَفع بِهِ لَدَيْهِ الْكثير وأنجح الآمال مَحَله الْأَثِير. وَلما محقت النكبة نوره، وَقصرت على العفاء قصوره، ضَاقَ بالخطيب رَحمَه الله الوطن ونبا بعده الموطن، فارتحل إِلَى الْمغرب، وَلم يزل بِهِ رفيع المكانة، صَدرا فِي أولى الْعلم والديانة، حَتَّى انصرم أَجله، وَانْقطع من الْحَيَاة أمله، وَكَانَ لَهُ شعر يتكلفه، وَلَا يكَاد لعدم شعوره بِالْوَزْنِ يتألفه، وَمَعَ ذَلِك، فَأعْلم أهل زَمَانه بالبديع وألقابه، وَالْكَلَام على أبوابه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن هَانِيء السبتي
علم تُشِير إِلَيْهِ الأكف، وَيعْمل إِلَى لقايه الْحَافِر والخف، عمر الرّبع بِبَلَدِهِ سبتة، وَقد قوضت الرّحال، وَأقَام رسم الْعلم، وَقد حَالَتْ الْحَال، وجاد بالوابل السجم عِنْدَمَا عظم الإمحال وَرفع للعربية راية لَا تتأخر، ومرج مِنْهَا لجة تزخر، فاتسع مجَال درسه، وأثمرت أَرْوَاح غرسه [فركض فِي تِلْكَ الميادين] ومرح، وَدون وَشرح، وجلى المشكلات، وداوى المعضلات، إِلَى شمايل تملك الطّرف زمامها،(2/404)
ونادرة راشت الدعاية سهامها. وَلما أَخذ الْمُسلمُونَ فِي منازلة الْجَبَل وحصاره، وَأَصَابُوا الْكفْر مِنْهُ بجارحة أبصاره، ورموا بالثكل مِنْهُ نازح أمصاره، كَانَ فِيمَن انتدب وتطوع، وَسمع الندا فأهطع، فلازمه حَتَّى نفد لأَهله الْقُوت، وَبلغ من فَتحه الْأَجَل الموقوت، فَأَقَامَ الصَّلَاة بمحرابه، وحياه، وَقد غير طول محياه، طول اغترابه، وبادره الطاغية قبل أَن يسْتَقرّ نصل الْإِسْلَام فِي قرَابَة، أَجله فلبى وأسرع. وَلما هدر عَلَيْهِ الفنيق، وركعت إِلَى قبْلَة المجانيق، أُصِيب بِحجر دوم عَلَيْهِ كالجارح المحلق، وانقض عَلَيْهِ انقضاض البارق المتألق، فاقتنصه واختطفه، وَعمد إِلَى زهره فقطفه، فَمضى إِلَى الله طوع نِيَّته، وصحبته غرابة المنازع حَتَّى فِي منيته. وَكَانَ لَهُ أدب قَاعد عَن مداه، وقاصر فِي جنب الْعلم الَّذِي اشتمله وارتداه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي على الْحسن بن تذاررت
درة تحلى بهَا الدَّهْر العاطل، وعدة أنجزها للزمان الماطل، وغرة أطلعها الْعَصْر البهيم، وَفَائِدَة أنجبها الدَّهْر الْعَقِيم، ماشيت من خلق تدل على الْكَمَال مخايله، ومجد كرمت أواخره وأوايله، وأدب تحلت عذاراه وتبرجت عقايله. فَإِذا تنَاول الرّقاع ووشاها. وغشى الطروس من حلل بنانه وحلى بَيَانه بِمَا غشاها، ودت الخدود أَن تتمثل طرسا، والجفون السود أَن تكون لَهَا نفسا. ورد أَبوهُ رَحمَه الله على الْبِلَاد الأندلسية، فرحبت بمقدمه عَلَيْهَا، وجلت إِفَادَة وفادته إِلَيْهَا، وفاءت بهَا ظلال معارفه الَّتِي اغترس، ودرس فِيهَا علم الْأُصُول بعد مَا درس، وَتصرف فِي الْقَضَاء تصرف الْعَدَالَة والمضا. وَنَشَأ ابْنه هَذَا كريم النشأة والبداية، مكنوفا بِظِل الْعِنَايَة، وَتصرف فِي الْقَضَاء على حَدَاثَة سنه، وغضارة عودة، وَقرب الْعَهْد بتألق سعوده، ثمَّ حث ركاب ارتحاله، وبادر عزمه بِحل عقاله، فسعد(2/405)
سَعَادَة شَبيهَة الْقَمَر عِنْد انْتِقَاله، وَهُوَ الْآن بدولة ملك الْمغرب أيده الله، جملَة من جمل الْكَمَال، ومظنة للآمال، تغرى بثناية الألسن، ويروى من أَحَادِيثه مَا يَصح وَيحسن، وَورد على هَذِه الْبِلَاد وُرُود الْكرَى على مقلة الساهر، واحتلها احتلال النسيم بَين الأزاهر، وجمعني وإياه بعض الْأَسْفَار فِي غزوات الْكفَّار، فاجتنيت مِنْهُ الفرايد بَين فُرَادَى ومثنى، واجتليت مِنْهُ المحاسن حسا وَمعنى، وَقد أثبت من أدبه، مَا يستعير النسيم العاطل عرفه، ويحشد الرَّوْض حسنه وظرفه.
وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي الْحجَّاج الطرطوشي
روض أدب لَا تعرف الذوى أزهاره، ومجموع فضل لَا تخفى آثاره. كَانَ رَحمَه الله صَدرا من صُدُور زَمَانه، وَمِمَّنْ تربى ترايب المهارق بجمانه، وتتحلى لباتها بقلايد عقيانه، إِلَى ظرف يستهوى النُّفُوس ويستميلها، وفكاهة تهز أعطاف الْوَقار وتجيلها، ودعابة تركض أَفْرَاس الطّرف وتجيلها، وَمَعْرِفَة فسيحة المدى، اتَّشَحَ بفضلها، وارتدى، وغبر فِي وَجه من رَاح بميدانها أَو غَدا. وَكَانَ فِي فنون الْأَدَب، مُطلق الأعنة، وَفِي مغازيه ماضى الظبا والأسنة، فَإِن هزل، وَإِلَى تِلْكَ الطَّرِيقَة اعتزل، أبرم فِي الْغَزل مَا غزل، وبذل من دنان رَاحَته مَا بذل، وَإِن صرف إِلَى الْمغرب غرب لِسَانه، وأعاره لمحة من لمحات إحسانه، أطاعه عاصيه، واستجمعت لَدَيْهِ أقاصيه، وَفد على الحضرة الأندلسية، وَالدُّنْيَا شَابة، وريح الْقبُول هابة، فَكتب عَن سلطانها، واجتلى محَاسِن أوطانها، ومدح بعض أملاكها، وعشا إِلَى أنوار أفلاكها. ثمَّ كرّ إِلَى وَطنه وَعطف، وأسرع اللحاق بجوه كالبرق إِذا خطف، فورد من الْعِنَايَة الْحِيَاض الفاهقة والنطف، وَحل رياض الْكَرَامَة فَبَصر ماشا وقطف. وَتصرف فِي الْقَضَاء بذلك(2/406)
الرِّيف سالكا من الْأَدَب على سنَنه الظريف [ومنزعه الطريف] وَتُوفِّي على هَذَا الْعَهْد عَن سنّ عالية، وبرود من الْعُمر بالية، وَقد حلب أشطر الدَّهْر وأخلافه، وارتضع سلافه، حَتَّى أَمر عِنْده من الْعَيْش كل عذب الجنا، وبذل من الشطاط بالجنى، وَبلغ من الْمقَام بِهَذِهِ الدَّار جده. والبقاء لله وَحده.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي الْعَبَّاس بن شُعَيْب
مورد ترده الهيم فتروى، وتهوى إِلَيْهِ النُّفُوس فتجد عِنْده مَا تهوى، وَصدر لَا يخفى مَكَانَهُ، وَذخر أضاعه زَمَانه، حَاز من كل فن نَصِيبا، وَرمى إِلَى كل غَرَض سَهْما مصيبا، واستمطر كل عَارض وديمة، من الْعُلُوم الحديثة والقديمة، ففرع فِي فنونها وبهر، وحذق الطِّبّ مِنْهَا وَمهر، وَبلغ فِي صَنْعَة النَّبَات دَرَجَة الْإِثْبَات، وَرَضي بالإنتماء إِلَى الْعلم والانتساب عَن الِاكْتِسَاب، فَمَا أهمه الدَّهْر بألوانه، وَلَا ثناه عَن شانه، وعانى فِي حركته وانتقاله، مشقة اعتقاله، وخلص خلوص الحسام بعد صقاله، وَهُوَ الْآن من كتاب ملك الْمغرب، تطوى عَلَيْهِ الخناصر إِذا عدوا، ويدخر لَهُ قصب السَّبق إِذا أحضروا فِي المحاضرة واشتدوا، ورد على الحضرة فِي خدمَة لبَعض الْوُلَاة تولاها، ووجهة فرى لَهَا الفلى وفداها، فرأيته رُؤْيَة لم تنهض إِلَى المحاورة وَالْكَلَام، والمخاطبة بِمَا يجب لمثله من الْإِعْلَام، لخمود هَذَا الْبَاعِث عِنْدِي فِي الْعَهْد الْمُتَقَدّم، وَلم ألبث أَن عضضت يَد المتندم أسفا على مَا ضَاعَ من لِقَائِه، واجتلاء الفوايد من تلقائه، وَله شعر تهوى الشعرى أَن تتخذه شنفا، ونثر، تود النثرة لَو تتحلى بِهِ، وَإِن شمخت أنفًا. من ذَلِك مَا خَاطب بِهِ الشَّيْخ أَبَا جَعْفَر ابْن صَفْوَان، وَقد رمى الله بقاصية هَوَاهُ، واعتده فِي رحْلَة أنفس ذخر حواه.(2/407)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن عمرَان التّونسِيّ
كَاتب الْخلَافَة، ومشعشع الْأَدَب المزرى بالسلافة. كَانَ رَحمَه الله بَطل مجَال، وَرب روية وارتجال، قدم على هَذِه الْبِلَاد وَقد نبا وَطنه. وضاق بِبَعْض الْحَوَادِث عطنه، فَتلوم النسيم بَين الخمايل، وَحل فِيهَا مَحل الطّيب من الوشاح الجايل، ولبث مُدَّة إِقَامَته تَحت جراية وَاسِعَة، ومبرة يانعة، ثمَّ آثر قطره، فولى وَجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقلده رياسة الْكِتَابَة، فاستقامت حَاله، وحطت رحاله. حَدثنِي من عَنى بأخباره أَيَّام مقَامه بريه، واستقراره، أَنه لَقِي بِبَاب الملعب من أَبْوَابهَا ذَات لَيْلَة ظَبْيَة من ظباء الْأنس، وفتنة من فتن هَذَا الْجِنْس، فَخَطب وصالها، وَاتَّقَى بمهجته نصالها، حَتَّى هَمت بالانقياد. وانعطفت انعطاف الْغُصْن المياد، وَأبقى على نَفسه وَأمْسك، وأنف من خلع العذار بعد مَا تنسك.
وَفِي وصف أبي عبد الله بن عبد الْملك من أهل مراكش
وقور أفرط حَتَّى أثقل، وقريع مجد مَسّه الِاحْتِيَاج فتنقل، رَحل من بَلَده مراكش لما جف حَوْضه، وصوح روضه، وَاتخذ ريه دَارا، واختارها قرارا، وَجَرت عَلَيْهِ جراية تبلغ بهَا، وارتفد بِسَبَبِهَا، رعيا لِأَبِيهِ، واحتراما لبيته النبيه. وَقد كَانَ أَبوهُ رَحمَه الله قَاضِيا صَدرا فِي عصره، وبدرا فِي هَالة قطره، رحب المجال، نَسِيج وَحده معرفَة بطرق الحَدِيث وَأَسْمَاء الرِّجَال، متبحرا فِي عُلُوم الْآدَاب، منتدبا لإِقَامَة رسم المعارف كل الانتداب، وَابْنه هَذَا متمسك من الْآدَاب بأذيالها، معزى بإدارة جريالها، إِلَى سرو عميم، ووفاء يثنى كل صديق لَهُ وحميم، وَلما تقلدت هَذِه الْبِلَاد بتقييد أرزاق الأجناد بادرت إِلَى تَقْدِيم واجبه، وإيثار جَانِبه.(2/408)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق الحسناني من أهل تونس
شَاعِر لَا ينضب طبعه، وَلَا يقفر ربعه، قصد الْمُلُوك وانتجع، وهدل فِي أفنان أمداحها وسجع، وتجرأ على افتحام دسوتها، وولوح بيوتها، وَقدم على هَذِه الْبِلَاد. فأعجب الأدباء بإكثاره، وانقياد نظامه وشاره، وتنوفس فِي إيثاره. ثمَّ استرسل طوع لذاته، وسعى فِي جلب الْمَكْرُوه إِلَى ذَاته، ونمى إِلَيْهِ قيل وَقَالَ، ناله بِهِ اعتقال. ثمَّ تكَرر على هَذِه الْبِلَاد، وَقد تبدلت تِلْكَ الدولة وخمدت تِلْكَ الصولة، فَتلقى بإقبال، وهبت لَهُ ريح اهتبال، ثمَّ حركه الشوق إِلَى بَلَده، فَبلغ نَوَاه إِلَى أمده، وَقد أثبت من شعره مَا يدل على استرسال لِسَانه، واقتداره على الْكَلَام من جَمِيع جهاته.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله المكودي من أهل فاس
شَاعِر لَا يتعاطى ميدانه، ومرعى بَيَان رق غضاه وأينع سعدانه، يَدْعُو الْكَلَام فيهطع لداعيه، وَيسْعَى فِي اجتلاب الْمعَانِي فتنجح مساعيه، غير أَنه أفرط فِي الانهماك، وَهُوَ إِلَى بطن السَّمَكَة من أوج السماك. قدم على هَذِه الْبِلَاد مفلتا من رهق تلمسان حِين الْحصار، صفر الْيَمين واليسار من الْيَسَار، فل هوى أنحى على طريفه وتلاده، وَأخرجه من بِلَاده. وَلما جد بِهِ الْبَين وَحل هَذِه الحضرة بِحَال تقتحمها الْعين، وَالسيف بهزته لَا يحسن بزته، دعوناه إِلَى مجْلِس أَعَارَهُ الْبَدْر هَالة، وخلع عَلَيْهِ الأهيل غلالة، وَروض تفتح كمامه، وهما عَلَيْهِ غمامة، وكأس أنس تَدور فتتلقى نجومها البدور. وَلما ذهبت المؤانسة بخجله، وتذاكر هَوَاهُ وَيَوْم نَوَاه، حَتَّى خفنا حُلُول أَجله، جبلنا للمذاكرة زمامه، واستسقينا مِنْهَا أغمامه، فأمتع وأحسب، وَنظر وَنسب، وَتكلم فِي المسايل، وحاضر بِطرف الأبيات وعيون الرسايل، حَتَّى نشر الصَّباح رايته، وأطلع النَّهَار رايته.(2/409)
وَمن ذَلِك فِي وصف الأديبة أم الْحُسَيْن بنت أَحْمد الطنجالي [من بلد] لوشة ثَالِثَة حَمده وولاده، وفاضلة جمعت الْأَدَب والمجادة، وتقلدت المحاسن قبل القلادة، وأولدت أَبْكَارًا الأفكار قبل سنّ الْولادَة. نشأت فِي بَيت أَبِيهَا، لَا يدّخر عَنْهَا تدريجا وَلَا تَنْبِيها حَتَّى نبض إِدْرَاكهَا، وَظهر فِي المعارف حراكها، ودرسها الطِّبّ ففهمت أغراضه، وَعلمت أَسبَابه وأعراضه، وَلم يزل يتعهدها بالتعليم والتخريج، وينقلها بِحسن التدريج حَتَّى نظمت الْكَلم وداوت بالسبك المعنه الْأَلَم، وَلما قدم أَبوهَا من الْمغرب، وَتكلم بخبرها الْمغرب، توجه بعض الصُّدُور إِلَى اختبارها، ومطالعة أَخْبَارهَا، فاستنبل أغراضها واستحسنها، واستظرف لسنها، وسألها عَن الْخط، وَهُوَ أكسد بضَاعَة جلبت وأشح درة حلبت فَأَنْشَدته من نظمها مَا ثَبت فِي التَّاج.
انْتهى مَا تمّ اخْتِيَاره من كتاب التَّاج الْمحلى فِي مساجلة الْقدح الْمُعَلَّى(2/410)
وَمن ذَلِك مَا ثَبت فِي
" الأكليل الزَّاهِر فِيمَن فضل عِنْد نظم التَّاج من الْجَوَاهِر " فِي وصف الْخَطِيب أبي عبد الله الساحلي الحمالقى الولى، نفع الله بِهِ
عَابِد لَا يفتر عَن عِبَادَته، وَولى ظَهرت عَلَيْهِ أنوار سعادته. لم يدع وقتا من عمره إِلَّا عمره وَلَا دوحا من الذّكر إِلَّا جنى ثمره، فَضربت عَلَيْهِ الركايب أَرْبَاب السلوك، وَعظم فِي قُلُوب الْأُمَرَاء والملوك، وخطب للسفارة فِي صَلَاح ذَات الْبَين، واتصال أهل العدوتين. وَأما الخطابة فَكَانَ من فرسانها وَذَوي إحسانها، يعبر عَن الوقايع وَالْأَحْوَال. بمختلفات الْأَقْوَال فِي أسلوب جهير، ومقام شهير. وَله خلف متسم بِالْخَيرِ والعفاف، متصف من الدّيانَة بِأَحْسَن الْأَوْصَاف.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الشاطبي
الشَّيْخ القَاضِي أَبُو جَعْفَر رَحْمَة الله، شيخ طَالَتْ مصاحبته للنِّسَاء، ومصابحته للإصباح والإمساء، طالما نظر بَين قوى ومسكين، وَذبح بِغَيْر سكين. يقْضِي عمره فِي الْحُقُوق، ويهب بَين الرعود والبروق، قطع فِي ذَلِك زَمَانه، وبذ أقرانه، واكتسب مَالا، وَبلغ فِي الدَّهْر آمالا. ثمَّ أوبقته أشراك الْحمام، وكل شَيْء فَإلَى تَمام. وَله شعر تلوح عَلَيْهِ من الْحسن مسحة، وتنم عَنهُ للطرف نفحة.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْخَطِيب أبي على الْقرشِي
شهَاب فِي أفق الدّين متألق، وَسَهْم على فريسة النجَاة محلق، وعارف بأخلاق الرِّجَال متخلق، كثير الانقباض، [معرض عَن الْأَعْرَاض] كلف بِمَا للْقَوْم من الْمَقَاصِد والأغراض، ملازم كسر بَيته [على ذكر] يردده، ولباس أخلاص(2/411)
على الأحيان يجدده، وَسَهْم يحث إِلَى هدف تِلْكَ الْأَسْرَار يسدده، فَإِذا تردد إِلَى الْمَسْجِد الْأَعْظَم مَحل إِمَامَته ومسحب غمامته، انثال النَّاس على أَطْرَافه فِي قَصده وانصرافه، فتسعهم بشاشة لقايه، وتحييهم بركَة دعايه. وَمضى لسبيله صَدرا من صُدُور الصَّالِحين , وعلما من أَعْلَام عباد الله المفلحين. وَكَانَت جنَازَته مثلا فِي الاحتشاد لَهَا، والاحتفال، وعنوانا على الْعِنَايَة من ذِي الْجلَال.
وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي عَمْرو بن مَنْظُور
صَاحب نظر وَبحث، ومعاطاة الأكواس الْفُنُون وحث، لَا يزَال يفري أديمها وَيجمع حَدِيثهَا وقديمها، وَهُوَ أحد أَعْلَام هَذَا الْقطر، أولى المكانة الرفيعة والخطر، ولى قَضَاء ريه غير مَا مرّة فساس وسدد، وَأسسَ ومهد، وجدد من سنَن الْفُضَلَاء مَا جدد، إِلَى مجْلِس ممتع، وَمِنْهُم إِلَى الغوامض والعلوم مسرع، ودرس بِمَا يتشوف إِلَيْهِ طَالب الْعلم مُتَبَرّع، ودعابة تنْقَلب من خلال وقاره، وتغالب على مِقْدَاره، وشعره قَلِيل جدا، لم يضْربهُ هزلا وَلَا جدا، إِلَّا أنني رَأَيْت بِخَطِّهِ أبياتا من نظمه على ظهر فهرست الْوَزير أبي بكر بن الْحَكِيم.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْخَطِيب أبي الطَّاهِر بن صَفْوَان المالقى
علم من أَعْلَام هَذِه الْبقْعَة، ورخ من رخاخ هَذِه الرقعة، اقتفى أثر الصَّالِحين واقتصه، واقتدى من تولاه الله واختصه، فَلَو تمثل الْخَيْر لَكَانَ شخصه، ظَهرت عَلَيْهِ بَرَكَات مَكَّة وَالْمَدينَة، فَلبس شعار السكينَة، وتواضع على الرُّتْبَة المكينة، وَحصل من أسرار الْقَوْم على الدرة الثمينة، فَكَانَ يتَكَلَّم على مصنفاتهم، ويتصف بصفاتهم، فَيَأْتِي بالعجاب فِي فك الرموز وإيضاحها، ويتحف مِنْهَا الصَّدْر بانشراحها، حضرت مَعَه غير مَا مرّة، فراقني محضره، وبهر فِي تِلْكَ الْمعَانِي نظره. وَمن نظمه رَحمَه الله، وَكَانَ لَا ينتحل النّظم وَلَا يتعاطاه، وَلَا يحث فِيهِ خطاه.(2/412)
وَمن ذَلِك فِي وصف الشَّيْخ أبي عبد الله الطرطوشي
مَعْدُود فِي الصُّدُور، ومنظوم فِي الشذور، ومحسوب فِيمَن أطلعته آفَاق هَذِه الدّور، من النُّجُوم المشرقة والبدور، ينظر فِي مَعْقُول ومنقول، ويستظهر على المشكلات بفرند ذهن مصقول، إِلَى خطّ وظرف، وفكاهة كالروض فِي مرأى وَعرف، موقى من الْبر سناما، وَلَقي من الدولة النصرية إِكْرَاما، إِلَى أَن فسد مَا بَين مدبرها ابْن المحروق وَبَينه، ونحيت لَهُ عَنهُ هَنَات أوغرت صَدره، وأقدت عينه، فغربه بعد مَا قربه، وجفاه من بعد مَا اصطفاه، فجم فِي الاغتراب حِينه، وَاقْتضى فِي بعض الْبِلَاد الإفريقية دينه، وَكَانَ لَا ينتحل الشّعْر بضَاعَة، وَلَا يعول عَلَيْهِ صناعَة، وَرُبمَا رمى غَرَضه فَأصَاب، واستمطر لَهُ غمام معارفه فَأصَاب.
وَمن ذَلِك فِي وصف الفقية أبي عبد الله بن الْحَاج من أهل مالقة
شَاعِر اتخذ النّظم بضَاعَة، وَمَا ترك السَّعْي فِي مذاهبه سَاعَة، أجْرى فِي الملا لَا فِي الخلا، وَجعل دلوه فِي الدلا، وركض فِي حلبة النجباء والنجايب، وَرمى بَين الخواطر بِسَهْم صائب، فَخرج بهرجه ونفق، وارتفد بِسَبَبِهِ وارتفق. وَهُوَ الان قد سالمته السنون، وكأنما أَمن الْمنون، وَهُوَ رجل مكفوف الْأَذَى، حسن الْحَالة، إِلَّا إِذا هذى.
وَمن ذَلِك فِي وصف الشَّيْخ الْوَزير أبي عَليّ بن غفرون
شيخ خدم، فَأم لَهُ الدَّهْر فِيهَا على قدم، وَصَاحب تَعْرِيض ودهاء عريض. أَصله من حصن منتفريد حرسه الله، خدم الدولة النصرية عِنْد انتزاء أَهله، وَكَانَ مِمَّن اسْتَنْزَلَهُمْ من حزنه إِلَى سهله، وَحكم الْأَمر العلى فِي يافعه وكهله، فاكتسب حظوة أرضته، ووسيلة أرهقته وأمضته، حَتَّى عظم جاهه وَمَاله، وبسقت آماله. ثمَّ دالت الدول، وتنكرت أَيَّامه الأول، وتغلب من يجانسه، وشقي بِمن كَانَ ينافسه، فجف عوده، والتأثت سعوده، وَهلك والخمول بعله، والدهر يقوته(2/413)
من صبَابَة حرث كَانَ يستغله. وَكَانَ لَهُ شعر لم يثقفه النّظر، وَلَا وضحت مِنْهُ الْغرَر، كتب إِلَى السُّلْطَان أَمِير الْمُسلمين منفق سوق خدمته، ومتعهده بنعمته، يطْلب تَجْدِيد بعض عناياته.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْوَزير الْكَاتِب أبي عبد الله بن عِيسَى
من أَعْلَام هَذَا الْفَنّ، ومشعشعى رَاح هَذَا الدن. مَجْمُوع أدوات، وَفَارِس فَلم ودوات، ظريف المنزع، أنيق المرأى والمسمع. اقتنص الرياسة، فأدار فلك إمارتها، واتسم باسم كتَابَتهَا ووزارتها، ناهضا بالأعباء، راقيا فِي درج التَّقْرِيب والاجتباء، مصانع دهره فِي رَاح وراحة، آويا إِلَى فضل وسماحة، وخصب ساحة، فَكلما فرغ من شَأْن خدمته، وَانْصَرف عَن رب نعْمَته، عقد شربا، وأطفأ من الاهتمام بِغَيْر الْأَيَّام حَربًا، وَعَكَفَ على صَوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده. فَلَمَّا تقلبت بالرياسة الْحَال، وقوضت مِنْهَا الرّحال، اسْتَقر بالمغرب غَرِيبا، يقلب طرفا مستريبا، وتلحظه الدُّنْيَا تبعة عَلَيْهِ وتثريبا، وَإِن كَانَ لم يعْدم من أمرايها حظوة وتقريبا. وَمَا برح ينوح بشجنه، ويرتاح إِلَى عهود وَطنه.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي بكر بن العريف
بَقِيَّة الظّرْف من كتاب ديوَان الْحساب، إِلَى نفس صَافِيَة من الكدر، وَصدر طيب الْورْد والصدر، ودوحة عهد تندى أوراقها، ومشكاة فضل يسطع إشراقها. تمسك برضاع الكأس، يرى ذَلِك من حسن عَهده، وَقسم لحظاته بَين آس الرياض وورده. فَلَمَّا حوم حمامه للوقوع، وَكَاد يقوض رَحْله عَن الربوع، وَشعر بحبايل الْمنية تعتلقه، وسرعان خيل الْأَجَل ترهقه، أقلع عَن فنه، وَأمر بسفك دنه، ولجأ إِلَى الله بأوبته، وَغفر ان حوبته. فَكَانَ ذَلِك عنوان الرِّضَا،(2/414)
وعلامة عَفْو الله عَمَّا مضى، دخلت عَلَيْهِ فِي مَرضه، وأشرت بِاسْتِعْمَال الدَّوَاء الْمُسَمّى بلحية التيس عِنْد الْأَطِبَّاء، وَاسْتَعْملهُ فَوجدَ بعض خفَّة، فأنشدني فِي ذَلِك من نظمه مَا ثَبت فِي الْكتاب الْمَذْكُور.
وَمن ذَلِك فِي وصف للشَّيْخ أبي عبد الله المتأهل
كَيفَ الْحَاشِيَة، مَعْدُود فِي جنس السايمة والماشية، تليت على الْعمَّال بِهِ سُورَة الغاشية، تولى الأشغال السُّلْطَانِيَّة، فذعرت الجباة لولايته، وَقَامَت قيامتهم لطلوع آيَته، وقنطوا كل الْقنُوط، وَقَالُوا جَاءَت الدَّابَّة تكلمنا، وَهِي إِحْدَى الشُّرُوط من رجل هايم الجفوة، بعيد عَن المصانعة والرشوة، يتَجَنَّب النَّاس، وَيَقُول عِنْد المخاطبة الأساس، وعَلى مساحته ونجهه، وتجهم وَجهه، فَكَانَ خالطا إساءته بإحسانه، مشتغلا بِشَأْنِهِ، غاضا من عنان لِسَانه، عهدي بِهِ فِي الْأَعْمَال يقدر فِيهَا وَيُدبر، ويترجم، ويعبر، ويحيط، ويبثر. وَمَعَ ذَلِك يكبر، وَيحسن من الأزمة ويقبح، وَهُوَ مَعَ ذَلِك يستح وَلما شرع فِي الْبَحْث والتنقير، والمحاسبة على القطمير والنقير، أَتَاهُ قَاطع الْأَجَل يحث ركابه، بأقصى الْعجل. وصدرت عَنهُ أَبْيَات خضم فِيهَا وقضم، وَحصل تَحت الْقدر الْمُشْتَرك مَعَ من نظم.
وَفِي وصف الشَّيْخ أبي عبد الله بن ورد
كودن حلبة الْآدَاب، وسنور عبد الله بيع بقيراط لما شَاب. هام بوادي الشّعْر مَعَ من هام، واستمطر مِنْهُ الجهام، فجَاء بِأَبْيَات أوهن من بَيت العنكبوت نسجا، ومقاصد لَا تبين قصدا وَلَا نهجا. وَله بَيت معمور بقضاة أكَابِر، فرسَان أَقْلَام ومحابر، وعمال قادوا الدَّهْر بأزمة أزمتهم، وقرعوا الزهر بهمتهم، وتكاثرت عَلَيْهِ رَحمَه الله الإحن، وتعاورته المحن، وَتصرف آخر عمره فِي بعض الْأَعْمَال المخزنية، فتعلل بنزر الْقُوت إِلَى الْأَجَل الموقوت.(2/415)
وَمن ذَلِك فِي وصف الشَّيْخ أبي عبد الله الْعِرَاقِيّ الْوَادي آشي
مَعْدُود فِي وقته من أدبائه، ومحسوب فِي أَعْيَان بَلَده وحسبايه، كَانَ رَحمَه الله من أهل الْعَدَالَة وَالْخَيْر، سايرا على مَنْهَج الاسْتقَامَة، أحسن السّير، وَله أدب لَا يقصر عَن السداد، وَإِن لم يكن بطلا، فَمِمَّنْ يكثر السوَاد، وَقد أثبت لَهُ مَا عثرت عَلَيْهِ، مِمَّا ينْسب النَّاس إِلَيْهِ.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الجوال المالقي
معتر غير قَانِع، ومنتجع كل هشيم ويانع، نَشأ بِبَلَدِهِ مالقة، أبرع من أورد البراعة فِي نفس، وهز غصنها فِي رَوْضَة طرس، إِلَّا مَا كَانَ من سخافة عقله، وقعوده تَحت الْمثل أخبر تقله، لَا يرتبط إِلَى رُتْبَة، وَلَا ينتمي إِلَى عصبَة، وَلَا يتلبس بسمت، وَلَا يَسْتَقِيم من أمت، أَخْبرنِي من عني بِخَبَرِهِ، وَذكر عبره من صباه إِلَى كبره، أَنه رشح فِي بعض الدول، وَعرض لِاكْتِسَابِ الْخَيل والخول، وخلعت عَلَيْهِ كسْوَة فاخرة وشارة بزهر الرياش ساخرة، فانقاد طوع حرمانه، ونبذ صَفْقَة زَمَانه، وَحمله فرط النهم على أَن ابْتَاعَ فِي حجرها طَعَاما كثير الدسم، وَأَقْبل وأذياله مِنْهُ تقطر بِاللَّبنِ الأشطر، فطرد ونبذ، وَطرح بعد مَا حبذ، لَقيته بمالقة، وَقد تغلبت عَلَيْهِ زمانة عَيْنِيَّة، وَسقط فِي يَدَيْهِ، فانتابني بأمداحه وتعاورني بأجاجه وقراحه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن الوراد المالقي
أديب نَار فكره يتوقد، وأديب لَا يعْتَرض كَلَامه وَلَا ينْقد. أما الْهزْل فَهُوَ طَرِيقَته المثلى، ركض فِي ميدانها وجلى، وطلع فِي أفقها وتجلى، فَأصْبح علم أعلامها، وعابر أحلامها. إِن أَخذ بهَا فِي وصف الكاس، وَذكر الْورْد والآس، وألم بِالربيعِ وخصله، والحبيب وَوَصله، وَالرَّوْض وطيبه، والغمام وتقطيبه،(2/416)
شقّ الْجُيُوب طَربا [وعَلى النُّفُوس إربا وَضَربا، وَإِن أشْفق لاعتلال العشية، فِي فرش الرّبيع المواتية] ثمَّ تعداها إِلَى وصف الصبوح، وأجهز على الزق الْمَجْرُوح وَأَشَارَ إِلَى نغمات الْوَرق [يرفلن فِي الْحل الزرق] وَقد اشتعلت فِي غير اللَّيْل نَار الْبَرْق، وطلعت بنود الصَّباح فِي شرفات الشرق، سلب الْحَلِيم وقاره، وَذكر الخليع كأسه وعقاره، وحرك الأشواق بعد سكونها وأخرجها من وَكَونهَا بِلِسَان يتزاحم على مورد الخبال، ويتدفق من حَافَّاته الْأَدَب السيال، وَبَيَان يُقيم أود الْمعَانِي، ويشيد مصانع اللَّفْظ محكمَة المباني، ويكسو حلل الْإِحْسَان جسوم المثالث والمثاني، إِلَى نادرة لمثلهَا يشار، ومحاضرة يجنى بهَا الشهد ويثار، وَقد أثبت من شعره الْمغرب، وَإِن كَانَ لَا يتعاطاه إِلَّا قَلِيل وَلَا يجاوره إِلَّا تعليلا، أبياتا لَا تَخْلُو من مسحة جمال على صفحاتها، وَهبة طيب تنم فِي نفحاتها.
وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب أبي الْأصْبع عَزِيز بن مطرف
طريف السجية، كثير الأريحية، ارتحل من لورقة فتحهَا الله، وَاتخذ المرية دَارا، وَألف بهَا استقرارا إِلَى أَن دَعَاهُ بهَا داعيه، وَقَامَ فِيهَا ناعيه، رَحمَه الله، أنشدنا الْحَكِيم أَبُو عبد الله بن حُبَيْش من شعره، قَالَ أَخَذته عَن مغن ينشده، فَقلت بِهِ الثِّقَة.
وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب أبي عبد الله بن فَضِيلَة
شيخ أخلاقه لينَة، وَنَفسه كَمَا قيل فِي نفس الْمُؤمن هينة، ينظم الشّعْر عذبا مساقه، محكما اتساقه، على فاقة، وَحَال مَا لَهَا من إفاقة. أنْشد الْمقَام الْكَرِيم بِظَاهِر بَلَده قصيدة، اسْتغْرب مِنْهَا منزعها، واستعذب من مثله مشرعها.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الورشيدي
من أَئِمَّة أهل الزِّمَام، خليق برعى المتات والذمام، [ذُو خطّ كَمَا تفتح(2/417)
زهر الكمام] وأخلاق أعذب من مَاء الْغَمَام، كَانَ بِبَلَدِهِ رَحمَه الله بدار إشرافه محاسبا، ودرا فِي لجة الإغفال راسبا، صَحِيح الْعَمَل، يلبس الطروس من براعته أَسْنَى الْحلَل. وَله شعر لَا بَأْس بِهِ، وَلَا خَفَاء بِفضل مذْهبه.
وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي بكر بن مَنْظُور
عَظِيم الهشة، حسن اللقا، أعزب فِي حسن المداراة من العنقا، اسْتمرّ عمره بتسديد الحكم، وصبر على حجج الصم والبكم، وأفرط فِي هشته وهزته، وتنزل عَن نخوة الْقَضَاء وعزته. وَله سلف فِي الْقَضَاء عالي المراقب، مُزَاحم النَّجْم الثاقب، وَقد أثبت من شعره مَا تيَسّر إثْبَاته، وَنجم بروض هَذَا الْمَجْمُوع نَبَاته.
وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي جَعْفَر بن برطال
قَاض توارث كل جلالة، لَا عَن كَلَالَة، وَجمع فِي الْعلم والحسب، بَين الْمَوْرُوث والمكتسب. أشرف بجيد معم فِي الْعَشِيرَة مخول، وَأَلْقَتْ إِلَيْهِ مقاليدها من مَنْقُول ومتأول، إِلَى نزاهة لَا تعزها الْبَيْضَاء وَلَا الصَّفْرَاء، وحلم لَا تستهويه السّعَايَة، وَلَا يستفزه الإغواء، ووقار يستخف الْجبَال الراسية، وَنظر يكْشف الظُّلم الغاشية. تولى قَضَاء الحضرة، فأنفذ الْأَحْكَام وأمضاها، وسام سيوف الجزالة وامتضاها. وَلبس أَثوَاب النزاهة والانقباض، فَمَا نضاها. وسلك الطَّرِيق الَّتِي اخْتَارَهَا السّلف وارتضاها، وَاجْتمعت الْأَهْوَاء المفترقة عَلَيْهِ، وَصرف الثنا أَعِنَّة الألسن إِلَيْهِ، ثمَّ كرّ إِلَى بَلَده وَاسْتقر خَطِيبًا بقرارة أَهله وَولده.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْفَقِيه أبي عَامر بن عبد الْعَظِيم
منتم إِلَى معرفَة، متصف من الذكاء بِأَحْسَن صفة، أَقرَأ بِبَلَدِهِ علم اللِّسَان، وَمَا حاد عَن الْإِحْسَان، وعانى الشّعْر فنظم قوافيه، وَمَا تكلّف فِيهِ، وعَلى غزارة(2/418)
مادته، ووضوح جادته، فشعره قَلِيل البشاشة، ذَاهِب الحشاشة، وَذُو الْإِكْثَار، كثير العثار. وَله سلف يَخُوض فِي الْحَقَائِق، وينتحل بعض الْكَلَام الرَّائِق.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عُثْمَان الغلق
منتم بدين وعفة، آو إِلَى نفس بِالْعرضِ الْأَدْنَى مستخفة، مِمَّن ينْزع إِلَى سلوك ورياضة، وَيفِيض فِي طَرِيق الْقَوْم بعض إفَاضَة.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عُثْمَان بن أبي عُثْمَان
مِمَّن يتشوف إِلَى المعارف والمقالات، ويرتاح إِلَى الْحَقَائِق والمحالات، ويشتمل على نفس رقيقَة، ويسير من تَعْلِيم الْقُرْآن على خير طَريقَة، ويعاني من الشّعْر مَا يشْهد بنبله، ويستظرف من مثله.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْمقري أبي الْقَاسِم الجزالي
مشمر فِي الطّلب عَن سَاق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية جاد فِي إحصاء خلَافهَا، ومعاطاة سلافها. وَرُبمَا شرست فِي المذاكرة أخلاقه، إِذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بِالْحجَّةِ واعتلاقه، ورحل إِلَى الْمغرب فاستجدى بالشعر سُلْطَانه، ثمَّ رَاجع أوطانه.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْفَقِيه الصُّوفِي أبي جَعْفَر العاشق
منتم إِلَى زهد، باذل فِي التمَاس الْخَيْر كل جهد. نظمه لَا يَخْلُو من حلاوة، ومعانيه فِي طَرِيقه عَلَيْهَا بعض طلاوة.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الساحلي
كَاتب سجلات لَا يساجل فِي صِحَة فصولها، وتوقيع فروعها على أُصُولهَا، وَكلما طلب بالنظم القريحة، وأعمل الفكرة الصَّرِيحَة، مَعَ إقلاله، وَعدم استعجاله، أجابت ولبت، وتنسمت رياحها وهبت.(2/419)
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم عبد الله بن الطبيخ
عدل، وَمِمَّنْ لَهُ وقار وَفضل، متسم بخيرية، مُشْتَمل بِصِفَات مرعية، يلم بالنظم فِي الطَّرِيقَة الصُّوفِيَّة.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن قيس
مِمَّن يرْكض مركب الطيش، ويأوى بعد الْجهد إِلَى شظف الْعَيْش، منقبض عَن الْخلق، سالك من التمعش بالتعليم أفضل الطّرق، لَا يعْدم مَعَ ذَلِك حملا عَلَيْهِ، وتسببا فِي مواجدته إِلَيْهِ، قصدني وَقد نبابة الوطن، وضاق مِنْهُ للتغرب العطن، يطْلب مني شَفَاعَة إِلَى بعض الْقُضَاة مِمَّن كَانَ يَطْلُبهُ، وَيقبل فِيهِ شَهَادَة من يثلبه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن السكاك الغرناطي
متسور على بيُوت القريض، فِي الطَّوِيل من الْكَلَام والعريض، جَامع مِنْهَا بَين الصَّحِيح وَالْمَرِيض، مِمَّن أطاعه براعة الْخط، وسلمت لقضب أقلامه رماح الْخط. عانى كِتَابَة الشُّرُوط لأوّل أمره وَلَحِقتهُ محنة من محن دهره. وَهُوَ الْآن يشْهد من الْأُمُور المخزنية فِي بعض الألقاب، ويلازم دَار الْحساب.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْوَزير أبي جَعْفَر بن المراني
صَاحب طبع يحثه، وشجو لَا يزَال يبثه، وناطق متوقد، وفكر لزوايا الظنون متوقد. خدم فِي كبار الْأَعْمَال، وقاد أزمة الْأَمْوَال، وترقى فِي الْبسَاط السلطاني. رتبا رفيعة المنال، ولسلفه فِي الخدم الْعلية الاشتهار، والبراعة الْوَاضِحَة كَمَا وضح النَّهَار، والظرف الَّذِي تحسده الأزهار، وشعره وَاضح السهولة، جَار على المآخذ المقبولة.(2/420)
وَمن ذَلِك فِي وصف الْحَاج أبي عبد الله الشَّديد
شَاعِر مجيد حرك الْكَلَام، وَلَا يقصر عَن دَرَجَات الْأَعْلَام. رَحل إِلَى الْحجاز لأوّل أمره، وَجدّة عمره، فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه، وعميت أنباؤه. وعَلى هَذَا الْعَهْد وَقعت على قصيدة بِخَطِّهِ غرضها نبيل. ومرعاها غير وبيل، تدل على نفس وَنَفس، وإضاءة قبس.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن الرعيني
يَخُوض فِي الْأَدَب، ويتمسك مِنْهُ بِبَعْض السَّبَب، وَعذر مثله وَاضح الْمَذْهَب وَهُوَ رجل صَالح، وَمذهب فِي الْفضل وَاضح.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْفَقِيه الْخَيْر أبي عبد الله السكان الأندرشي
لبق ذكي، طبعه غير بكي، سكن الْبَادِيَة إِمَامًا، وَأقَام بهَا أعواما، وَله فِي ذَلِك مقامة جلت عَن الظّرْف مقَاما، واستوفت من الذكاء أقساما.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْعدْل أبي عبد الله الْقطَّان
مِمَّن نبغ ونجب، وَحقّ لَهُ الْفَصْل بِذَاتِهِ وَوَجَب. تحلى بوقار، وشعشع للأدب كأس عقار، إِلَّا أَنه اخترم فِي اقتبال، وَأُصِيب للأجل بتبال.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْوَزير أبي عبد الله بن شلبطور
مَجْمُوع شعر وَخط، وذكا عَن دَرَجَة الظرفاء غير منحط. إِلَى مجادة أثيلة الْبَيْت، شهيرة الْحَيّ وَالْمَيِّت، نَشأ فِي حجر الشّرف وَالنعْمَة، محفوفا بالمالية الجمة، فَلَمَّا عقل عَن ذَاته، وترعرع بَين لداته، ركض خُيُول لذاته، فَلم يدع مِنْهَا ربعا إِلَّا أقفره، وَلَا عقارا إِلَّا عقره، حَتَّى حط بساحلها، وَاسْتولى بسفر الأنفاق على جَمِيع مراحلها، إِلَّا أَنه خلص بِنَفس طيبَة، وسراوة سماؤها صيبة، وتمتع مَا شَاءَ من زير ويم، وَأنس لَا يعْطى القياد لَهُم، وَفِي عَفْو الله سَعَة، وليسر مَعَ التَّوَكُّل عَلَيْهِ ضعة.(2/421)
وَمن ذَلِك فِي وصف الْعدْل أبي عبد الله بن مُشْتَمل البلياني
مِمَّن يعد ويحسب، ويمنى إِلَى الْفضل وينسب. أدواته بارعة، وخصاله فارعة، من خطّ طريف وأدب وتأليف.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْمُؤلف
سلمَان انتسابي، وبالمعارف الأدبية اكتسابي، وَإِلَى الْعُلُوم مُنْذُ نشأت ارتياحي، وَفِي حلبة أَرْبَاب النّظر مغداى ومرامي، على نِهَايَة من ترف النشأة وَعز البدأة، إِلَى أَن اشْتَمَلت على الدولة النصرية اشتمالا، ونظمتني بَين بذورها الكوامل هلالا، فسموت فِي رتب اعتنائها حَالا فحالا، وتأثلت ماشيت جاها ومالا، وَجعلت مُشَاركَة الْخلق ثمالا، فَأَنا الْيَوْم وَالْحَمْد لله، ثمَّ لَهَا، عُطَارِد فلكها، وزبرقان حلكها، وَدَلِيل مسلكها، أقوم بَين يَدي سريرها. والوفود قعُود، وأجلو الْغَيْم عَن شمسها، والجو بروق ورعود، وأبادر نداءها إِن كَانَت هيعة. وَأمْسك مِنْهَا الْيَمين إِن هَمت بتجديد بيعَة. فَمن اختال فِي حلل هَذَا التشريف، غنى عَن التَّعْرِيف. وَأما شعري فِي امتداحها فَمثل سَائِر، وطائر فِي الْآفَاق مَيْمُون الطَّائِر. وَأما كتابتي عَنْهَا فأبهى من وُجُوه البشاير. وَأحلى من الشهد فِي يَد الساير نَسْتَغْفِر الله فَهَذَا مقَام من نأي عَن جنسه، وَرَضي عَن نَفسه، كم دون ذَلِك من تَقْصِير، يَبْدُو لعين ناقد وبصير. ستر الله عيوبنا، وبلغنا من كَمَال السَّعَادَة الأدبية مطلوبنا، بمنه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن سَلمَة الْكَاتِب
فَارس خِصَال حميدة، وراشق إِلَى هدف الْإِصَابَة بسهام سديدة، فَإِن جلا فِي المهارق أحسانه، وأعمل فِي الرّقاع بنانه، حسد عُطَارِد طرفه، وحدق المُشْتَرِي إِلَى تِلْكَ البضاعة طرفه. دعى إِلَى الْكِتَابَة فاقتعد مطاها، وأدار كؤؤسها وعطاها. وَلم يزل. يجيل جياده فِي كل ميدان، ويبدي براعته مَا لَيْسَ لسواه بِمثلِهِ يدان،(2/422)
حَتَّى تأود دوحه، وتعطر روحه. ثمَّ رمد بعد مَا سوى، وأحدث عقبه مَا نوى، وجنح إِلَى خطة الْأَشْرَاف، فجمل وَمَا أجمل، وأغفل الحزم وَمَا تَأمل، وَأحل سنَن الْأَشْرَاف فِيمَا أهمل. والجاه ضيق عطنه، إِلَى فِرَاق وَطنه، وينتحل شعرًا يسطع أرجه، ويسمو منعرجه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الشريشي
طَالب نبيل، لَا بلتبس من مذاهبه سَبِيل، أَبوهُ وراق هَذِه الأقطار، الَّذِي طَار اشتهاره كل المطار، فقلما تَجِد بَلَدا مَذْكُورا، بل بَيْتا معمورا إِلَّا وَبِه من خطه شَيْء مَعْرُوف، إِن لم تلف مِنْهُ صنوف أَو أُلُوف. وَنَشَأ ابْنه هَذَا طَالبا ذكيا، وفطنا لوذعيا، وفاضلا سريا.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله اللؤلؤة
فَاضل منقبض، مضطلع بِحَبل الرِّوَايَة منتهض. رجل إِلَى الْحجاز الشريف، وَهُوَ اللؤلؤة لفظا وَمعنى، وَتحمل فِي الْعِنَايَة بالرواية وتعنى، وكلف بهَا كلف قيس بلبنى، حَتَّى هصر مِنْهَا كل عذب المجنى، وَظَهَرت عَلَيْهِ بركَة مقصدها الْأَسْنَى. وآب إِلَى بِلَاده، وَهُوَ خلق جَدِيد، وظل عفافه عريض مديد، فاجتلب من الْفَوَائِد المشرقية والطرف المأثورة عَمَّن لَقِي من الْبَقِيَّة، مَا أوجب لَهُ نيل المزية، ونبل الرحلة الحجازية. وَلم يلبث أَن هلك بحصن قمارش بلد أَهله وخبت أنوار فَضله.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن خَاتِمَة
حسن السمة ظريفها، مَقْبُول النزاعة طريفها. لبيته فِي خدام الجباية شهرة ذائعة، ونباهة شائعة، فهم فرسَان الأزمة، وقوام تِلْكَ الْأُمُور المهمة، حاد عَن طريقهم، وَمَال عَن مرافقة فريقهم، وجنح إِلَى الْعَدَالَة، وأنف من الإدالة، فتحلى بالخيرية وتوشح، وترقي بِسَبَبِهَا وترشح. وَله أدب نبيل، وسمت وضح مِنْهُ فِي النزاهة سَبِيل.(2/423)
وَفِي وصف أبي يحيى بن دَاوُد
متحل من الحياد والعفاف، بِأَحْسَن الْحلِيّ والأوصاف، مستظل من فضل سلفه بِروح داني القطاف. أَبوهُ رَحمَه الله شيخ الْعمَّال الَّذِي لَا يدافع عَن منقبة جليلة، وَلَا يزاحم فِي بَاب مأثرة جميلَة. وَجَاء وَلَده هَذَا، جَارِيا على عقبه، سالكا على السَّبِيل الْأَلْيَق بِهِ، لَوْلَا أَن الْحمام اخترمه سَرِيعا وأذبل مِنْهُ غصنا مريعا.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن أبي الْبَقَاء
هشوش مَقْبُول، متخلق حمول، ووعده بالمشاركة مفعول، تعرض بِالْبَابِ العلى واقتحم، وَتقدم فَمَا أحجم، وَأنْشد قصيدة أحكم إيرادها، بِصَوْت شج، ونغمة لِبَاس حسنها غير رشا وَلَا منبهج، فَوَقع عَلَيْهِ الْقبُول، وتسنى لَهُ من النِّعْمَة المأمول، واتصل لَهُ ذَلِك فصلحت حَاله، ونجحت آماله، وعَلى كَونه لَو كَانَ شَاعِرًا لَكَانَ من شَوَاهِد بَيت الْخَفِيف، أَو مثلا لَكَانَ حجَّة الأهوج على الحصيف، فَهُوَ من أهل الذكاء مَعْدُود، وَله فِي السرادة والمشاركة مَذْهَب مَحْمُود.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الطشكري
كهام الْحَد، ملغى عَن الْمعد، جهد أَن يلْحق فقصر بَاعه، وَنبت طباعه، وَلَا يَخْلُو مَعَ ذَلِك من نبل وانقباض، وذكاء فِي بعض الْأَغْرَاض.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن مشرف
مِمَّن يمت بِحَسب، وَيرجع إِلَى نظم وأدب، وينتحل على ضعف الأدوات شعرًا رائقا، وبالطلبة الغر لائقا.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر أَحْمد بن رضوَان بن عبد الْعَظِيم
شَاعِر مطبع، وعامر حمى من الْأَدَب وَربع، حجَّة من حجج الغرائز فِي الْعَالم الْجَائِز، يتدفق تدفق الْفُرَات، ويتتبع الْمعَانِي كَأَنَّمَا يطْلبهَا بالتراث، فَيَأْتِي بِكُل(2/424)
عَجِيبَة، وينتج الْبَدَائِع بَين طبع فَحل وفكرة نجيبة، ويتلقى دَاعِي الْبَيَان بِنَفس سميعة مجيبة، من غير اقتناء لأدواته، وَلَا اعتنا بِذَاتِهِ، إِلَّا أَنه يلابس أَرْبَاب الطّلب، فَرُبمَا حصل مِمَّا يُريدهُ على الأرب.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن هاني
جملَة حسب ووقار، وبراعة تمد إِلَيْهَا المهارق أكف افتقار. نظمته الدولة اليوسفية فِي سمط كتابها، وأظلته بِظِل جنابها، وَطلب لهَذَا الْعَهْد نَفسه بالأدب، وَتمسك مِنْهُ بِالسَّبَبِ، فصدر عَنهُ من ذَلِك مَا يستطرف على الْبِدَايَة، وَيدل أَن استتب على فصل الْهِدَايَة.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي عَمْرو بن زَكَرِيَّا
يتوسل فِي الْكِتَابَة بجدين، ويكافح مِنْهَا بحدين، ويستند من الْجِهَتَيْنِ اللوشية والمرابطية إِلَى مجدين. وَأما أَبوهُ رَحمَه الله، فحظه زين الزين، بطرفة النَّفس وقرة الْعين، فَإِن نجب ونهض، فَهُوَ عرق نبض، وَإِن جنح إِلَى قُصُور، فَغير مَعْذُور.
وَمن ذَلِك فِي وصف الْحَاج أبي الْعَبَّاس القراق
لِسَان بالشعر يَهْتِف، وَيَد بالكدية تنتف، لَا يُبَالِي ألبس من القَوْل جَدِيدا أَو رثا، أَو كَانَ سمينا من الشّعْر أَو غثا، أَو نظم بسيطا أَو مجتثا. إِنَّمَا همته فِي قافية حَاضِرَة، وخواطر مِنْهُ خاطرة، وسما نوال ماطرة. وَمَعَ ذَلِك فخفيف الْجَانِب، سهل المذانب، يَخُوض من فروع الْفِقْه لجة، ويوضح مِنْهَا حجَّة. مدح بِهَذِهِ الْأَبْوَاب وكد، وَتعرض وتصدى، وَكتب عَن الْأُمَرَاء فَمَا حاد عَن السّنَن الْحسن وَلَا تعدى.(2/425)
وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي الْحسن الملياني صَاحب الْعَلامَة بالمغرب:
الْكَاتِب الفاتك، والصارم الباتك. إِلَى اضْطِرَاب ووقار، واستضام للعظايم واحتقار، وغنى فِي افتقار، وتجهم تَحْتَهُ أنس الْعقار، اتَّخذهُ ملك الْمغرب صَاحب علامته، وَتوجه بتاج كرامته. وَكَانَ يُطَالب جملَة من أَشْيَاخ مراكش بثار عَمه [ويطوقهم دَمه بِزَعْمِهِ، وَيقصر عَن الِانْتِصَار مِنْهُم بَنَات عَمه إِذْ سعوا بِهِ] حَتَّى اعتقل، ثمَّ جدوا فِي أمره حَتَّى قتل، فترصد كتابا إِلَى مراكش يتَضَمَّن أمرا جزما ويشمل من أُمُور الْملك عزما، جعل فِيهِ الْأَمر بِضَرْب رقابهم، وَسبي أسبابهم. وَلما أكدت على حامله فِي الْعجل، وضايقه تَقْدِير الْأَجَل، تأنى حَتَّى علم أَنه قد وصل، وغرضه قد حصل. وفر إِلَى تلمسان، وَهِي بِحَال حصارها، واتصل بأنصارها حَالا بَين أنوفها وأبصارها، وتعجب من فراره، وَسُوء اغتراره. ثمَّ اتَّصَلت الْأَخْبَار بِتمَام الْحِيلَة، واستيلاء الْقَتْل على أَعْلَام تِلْكَ الْقَبِيلَة، فَتَركهَا شنيعة على الْأَيَّام، وعارا فِي الأقاليم على حَملَة الأقلام، وَأقَام بتلمسان إِلَى أَن حل مخنق حصرها، وأزيل هميان الضيقة عَن خصرها، فلحق بالأندلس وَلم يعْدم برا ورعيا مستمرا حَتَّى أَتَاهُ حمامه، وانصرمت أَيَّامه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن سعد
مَقْدُور عَلَيْهِ، محفوف بِالْحَاجةِ من خَلفه وَمن بَين يَدَيْهِ من رجل يَهْتِف باضطلاع الْعُلُوم، ويهذر بالشعر هذر المحموم. ثقل حَتَّى خف، وكثف حَتَّى شف. إِلَّا أَنه لَا ينقبض من بسط، وَلَا يلقى جعد المزاج إِلَّا بِخلق سبط، وَلم يكن خلوا من فَائِدَة يلقيها، وطرفة ينتقيها. وأفادته الرحلة الحجازية لِقَاء أَعْلَام، ومصابيح إظلام، كَانَ يطرز بمحاسنهم الْمجَالِس، ويفضح بأنوارهم النَّهَار الشامس وَله سلف صَالح، وأدب ضعفه وَاضح.(2/426)
وَله فِي وصف أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحق
قدم على الأندلس عَرَبِيّ المرمى، بادسى المنتمى، يتعاطى الْأَدَب والتدوين، ويسترفد الْأُمَرَاء والسلاطين، وقصدني لأريش جنَاح أمله، وأكون ذَرِيعَة إِلَى نجح عمله، وَرفع لي كتابا فِي السياسة لَا يَخْلُو من نبل، وسلوك طرق للإتقان وسبل.
وَمن ذَلِك فِي وصف الشريف أبي عبد الله العمراني
كريم الانتما، مستظل بأغصان الشَّجَرَة الشما، من رجل سليم الضَّمِير، ذُو بَاطِن أصفى من المَاء النمير. لَهُ فِي الشّعْر طبع يشْهد بعروبية أُصُوله، ومضاء نصوله. وَقد أثبت من شعره مَا يَتَّضِح فِي البلاغة سَبيله وَيشْهد بِعِتْق الْجواد صهيله.
وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن جَابر الكفيف
مَحْسُوب فِي طلبتها الجلة، ومعدود فِيمَن طلع بأفقها من الْأَهِلّة. رَحل إِلَى الْمشرق، وَقد أُصِيب ببصره، واستهان فِي جنب الاستفادة بِمَشَقَّة سَفَره. وشعره كثير.
وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب أبي إِسْحَق بن الْحَاج
من أدباء المؤدبين، ونبلاء المتسرعين، إِلَى النّظم المنتدبين. لَو أدْركهُ الْحَافِظ فِي أَوَانه، لَكَانَ طرفه من طرف ديوانه. غَرِيب فِي أَحْكَامه، معتن بمده وقصره، ورومه وأشمامه، جهير النغمة عِنْد رد سَلَامه، محسن الظَّن بِمَا يصدر عَنهُ من كَلَامه، وشعره من النمط الَّذِي يُونُس فِي الأسمار وَيجْرِي من الفكاهة على مضمار.(2/427)
وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب ابْن حزب الله
رَاقِم واشي، رَقِيق الجوانب والحواشي، تزهى بِخَطِّهِ المهارق والطروس وتتجلى فِي حلى إبداعه كَمَا تجلت الْعَرُوس، إِلَى خلق كثير التجمل، وَنَفس، عَظِيمَة التَّحَمُّل، وود سهل الْجَانِب، عذب المشارب. لما قضيت الوقيعة الْعُظْمَى بِظَاهِر طريف، أقَال الله عثارها، وَعجل ثارها قذف بِهِ موج ذَلِك الْبَحْر، وأفلت إفلات الْهدى المقرب للنحر، وَرمى بِهِ إِلَى رندة الْفِرَار، وَقد عرى من أثوابه كَمَا عرى العرار. فتعرف للحين بأديبها المفلق وبارقها المتألق أبي الْحجَّاج المنتشافرى، فِرَاقه يشر لِقَائِه، ونهل على الظمإ فِي سِقَايَة، وَكَانَت بَينهمَا مخاطبات أنشدنيها بعد إيابه، وَأَخْبرنِي أَنه نسي بهَا مَا كَانَ من ذهَاب زَاده، وسلب ثِيَابه.
وَمن ذَلِك فِي وصف أحد الْفُضَلَاء
فلَان وَإِن كَانَ أَشد النَّاس عناية بعمامة تلوى، وطيلسان يسوى، وتاج وإكليل، وزى جميل، وَكم ينَال الأَرْض كزلومة فيل. فَجَاهد فِي عدم الجناحوره، وجانبه مَعَ الْعِزّ شَوْكَة، وناورته على البأو عصبَة فجة. لَو دخل كورة النَّحْل، أَو سكن قَرْيَة النَّمْل، مستأمرا من أميرها بتقريب، أَو حَاصِلا من ريسها على حَظّ رغيب، لتلون لِأَخِيهِ، وشمخ بأنف التيه، على فصيلته الَّتِي تؤويه، سكرا من شراب لمع السراب، وأهنا بزور الْحَظ المنزور. فَإِذا أدال(2/428)
الصحو من الشملة، أَو عدم قبُول النملة، أَو طوق الدِّيوَان، تمنع بأنسه الأخوان، فَمَا أولاه باستكتاب الْقَابِل من أَمر ريح الْجنُوب بالهبوب، وَمن أذن للغمام الهتان، وَمن ينظرنا بِعَيْنِه الزَّرْقَاء يَعْنِي نوار الْكَتَّان:
(رفقا بك سَيِّدي رفقا ... فالظن إِن تبرا وَإِن تشفا)
(أما مزاجك فَهُوَ معتدل ... لَكِن أَظن خيالك استسقا)
وَمَعَ ذَلِك فمحاضرته بَحر لَا تحصر أَجنَاس لآليه، وزهر لَا يمل منتسقه ومجتلبه، إِلَى طلعة لَا تقتحم وَلَا تزدري، وأبهة مَا كَانَ حَدِيثهَا يعتري:
(وَمن ذَا الَّذِي ترْضى سجاياه كلهَا ... كفى الْمَرْء فضلا أَن تعد معايبه)(2/429)
كتب الزواجر والعظات
فَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة ابْن مَرْزُوق
سَيِّدي الَّذِي يَده الْبَيْضَاء لم تذْهب بشهرتها الْمُكَافَأَة. وَلم تخْتَلف فِي مدحها الْأَفْعَال، وَلَا تغايرت فِي حمدها الصِّفَات، وَلَا تزَال تعترف بهَا الْعِظَام الرفات، أطلقك الله من أسر الْكَوْن، كَمَا اطلقك من أسر بعضه، وزهدك فِي سمائه العاتية وأرضه، وحقر الْحَظ فِي عين بصيرتك بِمَا يحملك على رفضه، اتَّصل بِي الْخَبَر السار من تَركك لشأنك، وأجنا الله إياك ثَمَرَة إحسانك وانجياب ظلام الشدَّة الحالك، عَن أفق جلالك، فكبرت ارتياحا لانتشاق رضَا الله الطّيب الأرج، واستعبرت لتضاؤل الشدَّة بَين يَدي الْفرج، لَا بسوى ذَلِك من رضَا مَخْلُوق يُؤمر فيأتمر، ويدعوه الْقَضَاء فيبتدر، إِنَّمَا هُوَ فَيْء، وظل لَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء، ونسله جلّ تَعَالَى أَن يَجْعَلهَا آخر عَهْدك بالدنيا وبنيها، وَأول معارج نَفسك الَّتِي تَقربهَا من الْحق وتدنيها، وكأنني وَالله أحس بثقل هَذِه الدعْوَة على سَمعك، ومضادتها وَلَا حول وَلَا قُوَّة بِاللَّه لطبعك، وَأَنا أنافرك إِلَى الْعقل الَّذِي هُوَ قسطاس الله فِي عَالم الْإِنْسَان، والآلة لبث الْعدْل وَالْإِحْسَان، وَالْملك الَّذِي يبين عَنهُ ترجمان اللِّسَان، فَأَقُول لَيْت شعري مَا الَّذِي غبطك سَيِّدي بالدنيا، وَإِن بلغ من زبرجها الرُّتْبَة الْعليا، وأفرض الْمِثَال بِجلَال إقبالها، وَوصل حبالها، وخشوع جبالها، وضراعة سبالها، المتوقع الْمَكْرُوه صباح مسَاء، وارتقاب الْحِوَالَة الَّتِي تديل من النعم البأسا، وَلُزُوم المنافسة الَّتِي تعادي الْأَشْرَاف والرؤسا. لترتب الْعدْل حَتَّى على التَّقْصِير فِي الْكتب، وضغينه جَار الْجنب، وولوع الصّديق بإحصاء الذَّنب، ألنسبة وقايع الدولة إِلَيْك، وَأَنت مِنْهَا عرى إِلَّا بشهدانك للمضمار الَّتِي تنتجها(2/430)
غيرَة الْفروج والأحقاد الَّتِي تضطبنها ركبة السُّرُوج، وسرحة المروج، ونجوم السما ذَات البروج. ألتقليدك التَّقْصِير فِيمَا ضَاقَتْ عَنهُ طاقتك، وَصحت إِلَيْهِ فاقتك، من حَاجَة لَا يقتضى قَضَاهَا الْوُجُود، وَلَا يكفيها الرُّكُوع للْملك وَالسُّجُود. إلقطع الزَّمَان بَين سُلْطَان يعبد، وأفكار للغيوب تكبد، وعجاجة سر تلبد، وأقبوحة تخلد، وتؤيد، والوزير يصانع ويداري، وَذُو حجَّة صَحِيحَة يُجَادِل فِي مرضاة السُّلْطَان ويماري، وعورة لَا توارى. ألمباكرة، كل عايب حَاسِد، وعدو مستأسد، وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وَحَال فَاسد. أللوفود تتزاحم بسدتك. مكلفة لَك غير مَا فِي طوقك، فَإِن لم يَقع الْإِسْعَاف، قلبت عَلَيْك السَّمَاء من فَوْقك. أللجلساء ببايك لَا يقطعون زمن رجوعك وإيابك إِلَّا بقبيح اغتيابك. فالتصرفات تمقت، والقواطع النجومية توقت، والألاقي تثب، والسعايات تمت، والمساجد يشتكي فِيهَا البث، يَعْتَقِدُونَ أَن السُّلْطَان فِي يدك بِمَنْزِلَة الْحمار المدبور، واليتيم الْمَحْجُور، والأمير الْمَأْمُور، لَيْسَ لَهُ شَهْوَة وَلَا غضب، وَلَا أمل فِي الْملك وَلَا أرب، وَلَا موجدة لأحد كامنة، وللسر ضامنة، وَلَيْسَ فِي نَفسه عَن رَأْي يقره، وَلَا بِإِزَاءِ مَا لَا يقبله قدرَة، وظفره إِنَّمَا هُوَ جارحة لصيدك، وعان فِي قيدك، وإله لتصرف كيدك. وَإنَّك عِلّة حيفه. ومسلط سَيْفه. اللسرار يسملون عُيُون النَّاس بِاسْمِك، ثمَّ يمزقون بالغيبة مرق جسمك، قد تخلتم الْوُجُوه أَخبث مَا فِيهِ، واختارهم السفية فالسفية. إِذْ الْخَيْر يستره الله عَن الدول ويخفيه، ويمتعه بالغليل ويكفيه، فهم يمتاحون بك، ويولونك الْمَلَامَة، ويفتحون عَلَيْك أَبْوَاب القَوْل، ويسدون طرق السَّلامَة، وَلَيْسَ لَك فِي أثنا هَذِه إِلَّا مَا يعوزك مَعَ ارتفاعه، وَلَا يفوتك مَعَ انقشاعه، وَذَهَاب صواعه، من غذاً يشْبع، وثوب يقنع، وفراش(2/431)
ينيم، وقديم يقْعد وتقيم. وَمَا الْفَائِدَة فِي فرش تحتهَا جمر الغضا، وَمَال من وَرَائه سوء القضا، وجاه يحلق عَلَيْهِ سيف منتضا. وَإِذا بلغت النَّفس إِلَى الالتذاذ بِمَا لَا تملك، واللجاج حول الْمسْقط الَّذِي تعلم أَنَّهَا فِيهِ تهْلك، فَكيف تنْسب إِلَى نبل، أَو تسير من السَّعَادَة فِي سبل. وَإِن وجدت فِي الْقعُود بِمَجْلِس التَّحِيَّة بعض الأريحية، فليت شعري أَي شَيْء زَادهَا، أومعنى أفادها. إِلَّا مباكرة وَجه الْحَاسِد، وذى الْقلب الْفَاسِد، ومواجهة الْعَدو المستأسد، أَو شَعرت بِبَعْض الأبناس فِي الرّكُوب بَين النَّاس، هَل التذت إِلَّا بحلم كَاذِب، أَو جذبها غير الْغرُور مجاذب. إِنَّمَا راكبك من يحدق إِلَى الْحِلْية وَالْبزَّة، ويستظل مُدَّة الْعِزَّة، ويرتاب إِذا تحدثت بخبرك، وَيتبع بِالنَّقْدِ والتجسس مواقع نظرك، ويمنعك من مسايرة أنيسك. ويحتال على فرَاغ كيسك، ويضمر الشَّرّ لَك ولرئيسك. وَأي رَاحَة لمن لَا يُبَاشر قَصده، ويسير مَتى شا وَحده. وَلَو صَحَّ فِي هَذَا الْحَال لله حَظّ، وهبه زهيدا، أَو عين للرشد عملا حميدا، لساغ الصاب، وَخفت الأوصاب، وَسَهل الْمُصَاب، لَكِن الْوَقْت أشغل، والفكر أوغل، والزمن قد عمرته الحصص الوهمية، واستنفذت مِنْهُ الكمية. أما ليله ففكر أَو نوم. وعتب، بَحر الضراس وَأما يَوْمه فتدبير وقبيل ودبير، وَأُمُور يعيى بهَا ثبير وَلَفظ لَا يدْخل فِيهِ حَكِيم كَبِير، وبلاء مبير، وَأَنا بِمثل ذَلِك خَبِير، وَوَاللَّه يَا سَيِّدي، وَمن فلق الْحبّ، وَأخرج الْأَب، وذرا مَا مَشى وَمَا دب، وَهدى وأكب، وسمى نَفسه الرب، لَو تعلق المَال الَّذِي يجرى هَذَا الكدح، ويورى سقيطه هَذَا الْقدح، بأذيال الْكَوَاكِب وزاحمت الْبَدْر بدره بالمناكب، لما وَرثهُ عقب، وَلَا خلص مِنْهُ معتقب، وَلَا فَازَ بِهِ سَافر وَلَا منتقب، وَالشَّاهِد الدول، والمشايم الأول، فَأَيْنَ الرباع المقتناة،(2/432)
وَأَيْنَ الديار المبتناة، وَأَيْنَ الحوائط المغترسات، وَأَيْنَ الذَّخَائِر المختلسات، وَأَيْنَ الودائع المؤملة، والأمانات المحملة، تاذن الله بتثبيرها، وأدنا نَار التبار من دنانيرها، فقلما تلقى أَعْقَابهم إِلَّا عرى الظُّهُور، مترفقين بجرايات الشُّهُور، متعللين بالهبا المنثور، يطردون من الْأَبْوَاب، الَّتِى حجب عِنْدهَا آباؤهم، وَعرف مِنْهَا إباؤهم وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم، لم تسامحهم الْأَيَّام إِلَّا فِي أرث مُحَرر، أَو حَلَال مُقَرر، وَرُبمَا محقه الْحَرَام، وَتعذر مِنْهُ المرام. هَذِه أعزّك الله حَال قبُولهَا المرغوب فِيهِ، وَمَالهَا مَعَ الترفيه، وعَلى فرض أَن يسْتَوْفى الْعُمر فِي الْعِزّ مستوفيه. وَأما هَذِه من عَدو يتحكم وينتقم، وحوت بغى يبتلع ويلتقم، وطبق يحجب الْهوى، ويطيل فِي الترب الثوى، وثعبان قيد يعَض السَّاق، وشؤبوب عَذَاب يمزق الإبشار الرقَاق، وغيلة يهديها الواقب الْغَاسِق، ويجرعها الْعَدو الْفَاسِق، فصرف السُّوق، وسلعته الْمُعْتَادَة الطروق، مَعَ الافول والشروق، فَهَل فِي شئ من هَذَا مغتبط لنَفس حرَّة، أَو مَا يُسَاوِي جرعة مَاء مرّة. واحسرتا للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، وَيَا لَهَا مُصِيبَة جلت. ولسيدي أَن يَقُول، حكمت عَليّ باسنثقال الموعظة واستجفانها، ومراودة الدُّنْيَا بَين خلانها وأكفأنها، وتناسى عدم وفائها، فَأَقُول الطّيب بالعلل أدرى، والشفيق بِسوء الظَّن مغرى. وَكَيف وَأَنا أَقف على السحاءة بِخَط يَد سَيِّدي من مطارح الاعتقال، ومثاقب النوب الثقال، وخلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد، ونوش الأسنة الْحداد، وَحَيْثُ يجمل بِمثلِهِ أَن لَا يصرف فِي غير الخضوع لله بنانا، وَلَا يثنى لمخلوق عنانا، وأتعرف أَنَّهَا قد مَلَأت الجو والدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولى الشمات، وحفظة المذمات، وَأَعْوَان النوب الملمات، زِيَادَة(2/433)
فِي الشقا، وقصدا بريا من الِاخْتِيَار والانتقا، مُشْتَمِلَة من التجاوز على أغرب من العنقا، وَمن النِّفَاق على أشهر من البلقا، فَهَذَا يُوصف بِالْإِمَامَةِ، وَهَذَا ينْسب فِي الْجُود إِلَى كَعْب بن مامة، وَهَذَا يَجْعَل من أهل الْكَرَامَة، وَهَذَا يُكَلف الدعا وَلَيْسَ من أَهله، وَهَذَا يطْلب مِنْهُ لِقَاء الصَّالِحين وَلَيْسوا من شكله، إِلَى مَا أحفظنى وَالله من الْبَحْث عَن السمُوم، وَكتب النُّجُوم، والمذموم من الْمَعْلُوم، هلا كَانَ من ينظر فِي ذَلِك قد قوطع بتاتا، وأعتقد أَن الله قد جعل من الْخَيْر وَالشَّر ميقاتا، وَإِنَّا لَا نملك موتا وَلَا نشورا وَلَا حياتا، وَأَن اللَّوْح قد حصر الْأَشْيَاء، محوا وإثباتا، فَكيف نرجو لما منع الله منالا، أَو نستطيع مِمَّا قدر الله إفلاتا، أفيدونا مَا يرجح العقيدة المتقررة فتحول إِلَيْهِ، وبينوا لنا الْحق نعول عَلَيْهِ. الله الله يَا سَيِّدي فِي النَّفس المرشحة، وللذات المحلاة بالفضائل الموشحة، وَالسَّلَف الشهير الْخَيْر، والعمر المشرف على المرحلة بعد حث السّير، ودع الدُّنْيَا لأَهْلهَا فَمَا أوكس حظوظهم، وأخس لحوظهم، وَأَقل مَتَاعهمْ، وَأعجل إسراعهم، وَأكْثر عناءهم، وأقصر إناءهم:
(مَا تمّ إِلَّا مَا رَأَيْت وَرُبمَا تغنى السَّلامَة ... وَالنَّاس إِمَّا جَائِر أَو حائر يشكو ظلامه)
(وَإِذا أردْت الْعِزّ لَا ترزأ بني الدُّنْيَا قلامه ... وَالله مَا احتقب الْحَرِيص سوى الذُّنُوب أَو الْمَلَامَة)
(هَل ثمَّ شكّ فِي الْمعَاد الْحق أَو يَوْم الْقِيَامَة ... قُولُوا لنا مَا عنْدكُمْ أهل الخطابة والإمامة)
فَإِن رميت بأحجارى، وأوجرت المر من أشجارى، فوَاللَّه مَا تلبست مِنْهَا الْيَوْم بشئ قديم وَلَا حَدِيث، وَلَا استأثرت بِطيب فضلا عَن خَبِيث، وَمَا أَنا إِلَّا عَابِر سَبِيل، وَهَاجَر مرعى وبيل، ومرتقب وَعدا قدر فِيهِ الإنجاز، وعاكف على حَقِيقَة لَا تعرف الْمجَاز، وَقد فَرَرْت من الدُّنْيَا كَمَا يفر من الْأسد، وحاولت(2/434)
قطع المداخلة حَتَّى بَين روحي والجسد، وَغسل الله قلبِي وَله الْحَمد من الطمع والحسد، فَلم أبق عَادَة إِلَّا قطعتها، وَلَا جنَّة للصبر إِلَّا ادرعتها، أما اللبَاس فالصوف، وَأما الزّهْد فِيمَا بأيدى النَّاس فمعروف، وَأما المَال العبيط فعلى الصَّدَقَة مضروف، وَوَاللَّه لَو علمت أَن حَالي هَذِه تتصل، وعراها لَا تنفصل، وترتيبي هَذَا يَدُوم، وَلَا يجيرنى الْوَعْد المحتوم وَالْوَقْت الْمَعْلُوم، لمت أسفا، وحسبي الله وكفا. وَمَعَ هَذَا يَا سَيِّدي، فالموعظة تتلقى من لِسَان الْوُجُود، وَالْحكمَة ضَالَّة الْمُؤمن ببذل المجهود. ويأخذها من غير اعْتِبَار بمحلها المذموم وَلَا الْمَحْمُود، وَلَقَد أعملت نَظَرِي فِيمَا يكافى عَنى بعض يدك، أَو ينتهى فِي الْفضل إِلَى أمدك. فَلم أر لَك الدُّنْيَا كفأ لَو كنت صَاحب دنيا، وَوجدت بذل النَّفس قَلِيلا من غير شَرط وَلَا تنيا. فَلَمَّا ألهمنى الله جلّ جَلَاله إِلَى مخاطبتك بِهَذِهِ النَّصِيحَة المفرغة فِي قوالب الجفا، لمن لَا يثبت عين الصَّفَا، وَلَا يشيم بارقة الوفا، وَلَا يعرف قاذورة الدُّنْيَا معرفَة مثلى من المتدنسين بهَا المنهمكين، وَينظر فِي عوارها الفادح بِعَين الْيَقِين، وَيعلم أَنَّهَا المومسة، الَّتِي حسنها زور، وعاشقها معزور، وسرورها شرور، تبين لى أَنِّي قد كافيت صنيعتك الْمُتَقَدّمَة، وَخرجت عَن عهدتك الملتزمة، وأمحضت لَك النصح الَّذِي يعز بعز الله ذاتك، ويطيب حياتك، وَيحيى مواتك، ويريح جوارحك من الوصب، وقلبك من النصب، ويحقر الدُّنْيَا وَأَهْلهَا فِي عَيْنك إِذا اعْتبرت، ويلاشى عظائمها لديك إِذا اختبرت، كل من تقع عَلَيْهِ عَيْنك حقير قَلِيل، وفقير ذليل، لَا يفضلك بشئ إِلَّا باقتفاء رشد أَو ترك غي. أثوابه النبيهة يجردها الْغَاسِل، وعروته يفصلها الْفَاصِل، وَمَاله الْحَاضِر الْحَاصِل، يعبث فِيهِ الحسام الناصل، وَالله يعين للخلف إِلَّا مَا تعين للسلف، وَلَا يصير الْمَجْمُوع إِلَّا للتلف. وَلَا صَحَّ من الهياط والمياط والصياح والعياط، وَجمع القيراط(2/435)
إِلَى القيراط، والاسطنان بالوزعة، والأشراط، والخبط والخباط، والاستكثار والاغتباط، والغلو والاشتطاط، وبنا الصرح وَعمل الساياط، وَرفع الْعِمَاد وإدارة الْفسْطَاط، إِلَّا ألم يذهب الْقُوَّة، وينسى الآمال المرجوة، ثمَّ نفس يصعد وسكرات تَتَرَدَّد، وحسرات لفراق الدُّنْيَا تتجدد، ولسان يثقل، وَعين تبصر الْفِرَاق الْحق وتمقل، قل هُوَ نبأ عَظِيم أَنْتُم عَنهُ معرضون. ثمَّ الْقَبْر وَمَا بعده، وَالله منجز وعده: فالإضراب الإضراب وَالتُّرَاب التُّرَاب. وَإِن اعتذر سَيِّدي بقلة الْجلد، وَكَثْرَة الْوَلَد، فَهُوَ ابْن مَرْزُوق لَا ابْن رزاق، وَبِيَدِهِ من التَّسَبُّب مَا يتكفل بإمساك أرماق. أبن النّسخ الَّذِي يتبلغ الْإِنْسَان بأجرته فِي كن حجرته، لايل السُّؤَال الَّذِي لَا عَار عِنْد الْحَاجة بمعرة السُّؤَال وَالله أقوم طَرِيقا، وألزم فريقا من يَد تمتد إِلَى حرَام، لَا يقوم بمرام، وَلَا يُؤمن من ضرام، أجريت فِيهِ الْحَال، وقلبت الْأَدْيَان والملل، وَضربت الإبشار ونحرت العشار، وَلم يصل مِنْهُ على يَد وَاسِطَة السوء المعشار، ثمَّ طلب عِنْد الشدَّة ففضح وَبَان شومه ووضح، اللَّهُمَّ طهر منا أَيْدِينَا وقلوبنا، وبلغنا من الِانْصِرَاف إِلَيْك مطلوبنا، وعرفنا بِمن لَا يعرف غَيْرك، ولايسترفد إِلَّا خيرك، يَا ألله، وحقيق على الْفُضَلَاء إِن جنح سَيِّدي مِنْهَا إِلَى إِشَارَة، وأعمل فِي اجتلابها إضباره، أَو لبس مِنْهَا شارة، أَو تشوف لخدمة إِمَارَة، أَن لَا يحسنوا ظنونهم بعْدهَا بِابْن نَاس، وَلَا يغتروا بسمة وَلَا خلق وَلَا لِبَاس، فَمَا بدا عَمَّا بدا تُفْضِي الْعُمر فِي سجن وَقيد، وَعَمْرو وَزيد، وضر وَكيد، وطراد صيد، وَسعد وَسَعِيد، وَعبد وَعبيد. فَمَتَى تظهر الْأَبْكَار، ويقر الْقَرار، وتلازم الْأَذْكَار، وتشام الْأَنْوَار، وتتجلى الْأَسْرَار، ثمَّ يَقع الشُّهُود الَّذِي يذهب مَعَه الْأَخْبَار، ثمَّ يحِق الْوُصُول الَّذِي إِلَيْهِ من كل مَا سواهُ الْفِرَار، وَعَلِيهِ الْمدَار، وَهُوَ الْحق الَّذِي مَا سواهُ فَبَاطِل، والفيض الرحماني الَّذِي ربابه لَا بُد هاطل، مَا شابت مخاطبتي هَذِه شايبة تريب. وَلَقَد محضت لَك مَا يمحضه الحبيب للحبيب، فَتحمل الَّذِي حملت عَلَيْهِ الْغيرَة، وَلَا تظن بِي غَيره، وَإِن لم يكن(2/436)
قدري مكاشفة سيادتك بِهَذَا البث، فِي الأسلوب الغث، فَالْحق أقدم، وبناؤه لَا يهدم، وشأني مَعْرُوف فِي مُوَاجهَة الْجَبَابِرَة على حِين يَدي إِلَى رفدهم ممدودة، وَنَفْسِي من النُّفُوس المتهافتة عَلَيْهِم مَعْدُودَة، وشبابي فَاحم، وعَلى الشَّهَوَات مُزَاحم، فَكيف الْيَوْم مَعَ الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف الْعَيْب، إِنَّمَا أَنا الْيَوْم على من عرفني كل ثقيل، وَسيف الْعدْل فِي كفي صقيل. أعذل أَرْبَاب الْهوى وَلَيْسَت النُّفُوس فِي الْقبُول سوا، وَلَا لكل مرض دوا، وَقد شفيت صَدْرِي، وَإِن جهلت قدري، فَاحْمِلْنِي، حملك الله على الجادة الْوَاضِحَة، وسحب عَلَيْك ستر الْأُبُوَّة الصَّالِحَة. وَالسَّلَام.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي هَذَا الْغَرَض بِمَا نَصه:
الْحَمد لله الْوَلِيّ الحميد، المبدي المعيد، الْبعيد فِي قربه من العَبْد، الْقَرِيب فِي بعده، فَهُوَ أقرب من حَبل الوريد، محيى ربوع قُلُوب العارفين بتحيات حَيَاة التَّوْحِيد، ومغنى نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إِلَى الْغَرَض الزهيد، ومخلص خواطر الْمُحَقِّقين من سجون حجون التَّقْيِيد، إِلَى فسح التَّجْرِيد، نحمده، وَله الْحَمد المنتظمة درره فِي سلوك الدَّوَام، وسموط التَّأْبِيد، حمد من نزه أَحْكَام وحدانيته وأعلام فردانيته عَن مرابط التَّقْلِيد فِي مخابط الطَّبْع البليد، ونشكره شكر من افْتتح بشكره أَبْوَاب الْمَزِيد، ونشهد أَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، شَهَادَة تَتَخَطَّى بهَا معالم الْخلق إِلَى حَضْرَة الْحق على كيد التفريد، ونشهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله قلادة الْجُود الْمجِيد، وهلال الْعِيد، وفذلكة الْحساب، وَبَيت القصيد، الْمَخْصُوص بمنشور الإدلال، وإقطاع الْكَمَال، مَا بَين مقَام المُرَاد، ومقام المريد، الَّذِي جعله السَّبَب الأوصل فِي تجاة النَّاجِي وسعادة السعيد، وخاطب الْخَلَائق على لِسَانه الصَّادِق، بحجتي الْوَعْد والوعيد، وَكَانَ مِمَّا أوحى بِهِ إِلَيْهِ، وَأنزل الْملك بِهِ(2/437)
عَلَيْهِ من الذّكر الحميد ليَأْخُذ بِالْحجرِ والأطواق من الْعَذَاب الشَّديد. وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان، ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه، وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد، إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد، مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد، وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد، وتفخ فِي الصُّور ذَلِك يَوْم الْوَعيد، وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سَابق وشهيد، لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا، فكشفنا عَنْك غطاءك فبصرك الْيَوْم حَدِيد، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله صَلَاة تقوم بِبَعْض حَقه الأكيد، وتسرى إِلَى تربته الزكية من ظُهُور المواجد الْخفية على الْبَرِيد.
(قعدت لتذكير وَلَو كنت منصفا ... لذكرت نَفسِي فَهِيَ أحْوج للذِّكْرَى)
(إِذا لم يكن منى لنَفْسي واعظ ... فياليت شعري كَيفَ يفعل فِي أُخْرَى)
آه، آه، أَي [وعظ بعد] وعظ الله يَا أحبابنا يسمع، وفيماذا وَقد تبين الرشد من الغي يطْمع، يَا من يُعْطي وَيمْنَع إِن لم تتمّ الصنيعة فَمَاذَا أصنع، أجمعنا بقلوبنا، يَا من يعرف الْقُلُوب وَيجمع، ولين حديدها بِنَار خشيتك فقد استعاذ نبيك من قلب لَا يخشع، وَمن عين لَا تَدْمَع. اعلموا يَرْحَمكُمْ الله أَن الْحِكْمَة ضَالَّة الْمُؤمن، يَأْخُذهَا من الْأَقْوَال وَالْأَحْوَال، وَمن الجماد وَالْحَيَوَان، وَالسّنة الملوان، فَإِن الْحق نور لَا يضرّهُ أَن يصدر من الخامل، وَلَا يقْتَصر بمحموله اقْتِصَار الْحَامِل، وأنكم تَدْرُونَ أَنكُمْ فِي أطوار سفر لَا يسْتَقرّ لَهَا دون الْغَايَة رَحْله، وَلَا تتأتى مَعهَا إِقَامَة وَلَا مهلة، من الأصلاب إِلَى الْأَرْحَام إِلَى الْوُجُود، إِلَى الْقُبُور، [إِلَى النشورا] إِلَى إِحْدَى دَاري الْبَقَاء أَفِي الله شكّ، فَلَو أبصرتم مُسَافِرًا فِي الْبَريَّة يَبْنِي ويعرش، ويمهد ويفرش، ألم تَكُونُوا تضحكون من جَهله، وتعجبون من(2/438)
ركاكة عقله. وَوَاللَّه مَا أَوْلَادكُم وشواغلكم عَن الله الَّتِي فِيهَا اجتهادكم الْأَبْنَاء سفر فِي قبر، وأعراس فِي ليله، نضر كأنكم بهَا مطرحة، تعثر فِيهَا الْمَوَاشِي وتنبو الْعُيُون عَن حقيرها للتلاشي، إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة، وَالله عِنْده أجر عَظِيم، مَا بعد المقيل إِلَّا الرحيل، وَمَا بعد الرحيل إِلَّا الْمنزل الْكَرِيم أَو الْمنزل الوبيل، وَإِنَّكُمْ تستقبلون أهوالا، سَكَرَات الْمَوْت، بواكر حِسَابهَا، وعتب أَبْوَابهَا، فَلَو كشف الغطا مِنْهَا عَن ذرة لذهبت الْعُقُول، وطاشت الأحلام، وَمَا كل حَقِيقَة يشرحها الْكَلَام: يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق، فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور. أَفلا أعددتم لهَذِهِ الورطة حِيلَة، أَو أظهرتم للاهتمام بهَا مخيلة. أتعويلا على عَفوه مَعَ المقاطعة، وَهُوَ الْقَائِل إِن عَذَابي لشديد. أأمنا من مكره مَعَ الْمُنَابذَة، وَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون، أطعما فِي رَحمته مَعَ الْمُخَالفَة، وَهُوَ يَقُول، فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ، أَو مشاقة ومعاندة، وَمن يُشَاقق الله، فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب. أشكا فِيهِ، فتعالوا نعد الْحساب، ونقرر العقد، ونتصف بدعوة الْإِسْلَام أَو غَيرهَا من الْيَوْم، فتفقد مَا عقد الْعَاقِد عِنْد التساهل بالوعيد، والعامي يدهن الْأصْبع الوحيد، والعارف يضمر بهَا مبدأ العصب، هَكَذَا هَكَذَا يكون التعامي، هَكَذَا هَكَذَا يكون الْغرُور يَا حسرة على الْعباد مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزءون، وَمَا عدا عَمَّا بدا، ورسولكم الْحَرِيص عَلَيْكُم، الرءوف الرَّحِيم، يَقُول لكم، الْكيس من دَان نَفسه، وَعمل لما بعد الْمَوْت والأحمق، من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْأَمَانِي، فعلام بعد هَذَا الْمعول، وماذا يتَأَوَّل، اتَّقوا الله فِي نفوسكم وانصحوها، واغتنموا فرص الْحَيَاة وارتجوها، إِن تَقول نفس يَا حسرتي على مَا فرطت فِي جنب الله، وَإِن كنت لمن الساخرين،(2/439)
وتنادى أُخْرَى، يَا ليتنا نرد فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل، وَتقول أُخْرَى رب ارجعوه، وتستغيث أُخْرَى هَل إِلَى مرد من سَبِيل، فرحم الله من نظر لنَفسِهِ، قبل غرُوب شمسه، وَقدم لغده من أمسه، وَعلم أَن الْحَيَاة تجر إِلَى الْمَوْت، والغفلة تقود إِلَى الْفَوْت، وَالصِّحَّة مركب الْأَلَم، والشبيبة سفينة تقطع إِلَى سَاحل الْهَرم.
وَإِن شَاءَ قَالَ بعد الْخطْبَة
إخْوَانِي مَا هَذَا التواني، والكلف بالوجود الفاني، عَن الدَّائِم الثَّانِي، والدهر يقطع بالأماني، وهادم اللَّذَّات قد شرع فِي نقض المباني إِلَّا مُعْتَبر فِي معالم هَذِه الْمعَانِي [الْأَمر تحل عَن مَقَابِر هَذِه الْمعَانِي] :
(أَلا أذن تصغي إِلَى سميعة ... أحدثها بِالصّدقِ مَا صنع الْمَوْت)
(مددت لكم صوتي بأواه حسرة ... على مَا بدا مِنْكُم فَلم يسمع الصَّوْت)
(هُوَ الْغَرِيب الْآتِي على كل دمنة ... فتولوا سرَاعًا قبل أَن يَقع الْفَوْت)
يَا كلفا بِمَا لَا يَدُوم، يَا مفتونا بغرور الْمَوْجُود الْمَعْدُوم، يَا صريع جِدَار الْأَجَل المهدوم، يَا مشتغلا ببنيات الطَّرِيق، قد ظهر المناخ، وَقرب الْقدوم، يَا غريقا فِي بحار الأمل مَا عساك تقوم، يَا مُعَلل الطَّعَام وَالشرَاب، ولمع السراب لابد أَن يهجر المشروب، وَيتْرك المطعوم، دخل سَارِق الْأَجَل بَيت عمرك، فسلب النشاط، وَأَنت تنظر، وطوى الْبسَاط وَأَنت تكذب. واقتلع جَوَاهِر الْجَوَارِح، وَقد وَقع بك البهت، وَلم يبْق إِلَّا أَن يَجْعَل الوسادة على أَنْفك وَيفْعل:
(لَو خفف الوجد عَنى دَعَوْت طَالب ثارى ... كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا كَيفَ التَّرَاخِي)
والفوت مَعَ الأنفاس يرتقب وينتظر، كَيفَ الْأمان، وهادم اللَّذَّات لَا يبْقى وَلَا يذر، كَيفَ الركون إِلَى الطمع الفاضح، وَقد صَحَّ الْخَبَر من فكر فِي كرب الْخمار،(2/440)
تنغصت عِنْده لَذَّة النَّبِيذ من أحس بلغط الحرس فَوق جِدَاره لم يصغ بسمعه إِلَى نَغمَة الْعود، من تَيَقّن نذل الغزلة هان عِنْده عز الْولَايَة.
(مَا قَامَ خيرك يَا زمَان بشره ... أولى لنا مَا قل مِنْك وَمَا كفا)
أوحى الله إِلَى مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، أَن ضع يدك على متن ثَوْر، فبقدر مَا حازته من شعره تعيش سِنِين، فَقَالَ يَا رب وَبعد ذَلِك، قَالَ تَمُوت، وَقَالَ يَا رب فَالْآن.
(رأى الْأَمر يُفْضِي إِلَى آخر ... فصير آخِره أَولا)
إِذا شَعرت نَفسك آلي بالميل إِلَى شَيْء مَا عرض عَلَيْهَا غُصَّة فِرَاقه ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة. وَيحيى من حيى عَن بَيِّنَة، فالمفروح بِهِ، هُوَ المحزون عَلَيْهِ، أَيْن الأحباب مروا، فيالت شعري أَيْن استقروا، واستكانوا لله واضطروا، واستغاثوا بأوليائهم فَفرُّوا، وليتهم إِذْ لم ينفعوا مَا ضروا، فالمنازل من بعدهمْ خَالِيَة خاوية، والفروس ذابلة ذاوية، وَالْعِظَام من بعد التَّفَاضُل متشابهة مُتَسَاوِيَة، والمساكن تندب فِي أطلالها الذناب العادية:
(صحت بِالربعِ فَلم يَسْتَجِيبُوا ... لَيْت شعري أَيْن يمْضِي الْغَرِيب)
(وبجنب الدَّار قبر جَدِيد ... مِنْهُ يستسقى الْمَكَان الجديب)
(غاص قلبِي فِيهِ عِنْد التماحي ... قلت هَذَا الْقَبْر فِيهِ الحبيب)
(لَا تسل عَن رجعتي كَيفَ كَانَت ... إِن يَوْم الْبَين يَوْم عصيب)
(باقتراب الْمَوْت عللت نَفسِي ... بعد الغي وكل آتٍ قريب)
أَيْن المعمر الخالد، أَيْن الْوَلَد أَيْن الْوَالِد، أَيْن الطارف أَيْن التالد، أَيْن المجادل أَيْن المجالد، هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا، وُجُوه(2/441)
علاها الثرى، وصحائف تقض وأعمال على الله تعرض، تحث الزهاد والعباد والعارفون والأوتاد، والأنبياء الَّذين هدى لَهُم الْعباد، عَن سَبَب الشَّقَاء الَّذِي لَا سَعَادَة بعده، فَلم يَجدوا إِلَّا الْبعد عَن الله، وَسَببه حب الدُّنْيَا، لن تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة:
(هجرت حبايبي من أجل ليلى ... فَمَالِي بعد ليلى من حبيب)
(وماذا أرتجي من حب ليلى ... سيجزي بالقطيعة عَن قريب)
وَقَالُوا مَا أورد النَّفس الْمَوَارِد، وَفتح لَهَا بَاب الحتف إِلَّا الأمل، كلما قومتها مثاقف الْحُدُود فسح لَهَا أَرْكَان الرُّخص، كلما عقدت صَوْم الْعَزِيمَة، أهداها طرف الْغرُور فِي أطباق، حَتَّى إِذا وَلَكِن، وَرُبمَا، فأفرط الْقلب فِي تقليبها حَتَّى أبطر:
(مَا أوبق الْأَنْفس إِلَّا الأمل ... وَهُوَ غرر مَا عَلَيْهِ عمل)
(يفْرض مِنْهُ الشَّخْص وهما مَاله ... حَال وَلَا مَاض وَلَا مُسْتَقْبل)
(مَا فَوق وَجه الأَرْض نفس حَيَّة ... إِلَّا قد انقض عَلَيْهَا الْأَجَل)
(لَو أَنهم من غَيرهَا قد كونُوا ... لامتلاء السهل بهم والجبل)
(مَا تمّ إِلَّا لقم قد هيئت للْمَوْت وَهُوَ الْآكِل المستعجل ... )
(والوعد حق والورى فِي غَفلَة ... قد خدعوا بعاجل وضلل)
(أَيْن الَّذين شيدوا واغترسوا ... ومهدوا وافترشوا وظلل)
(أَيْن ذَوُو الراحات راحت حرَّة ... إِذْ جَنبُوا إِلَى الثرى وانتقل)
(لم تدفع الأحباب عَنْهُم غير أَن ... بكوا على فراقهم وأعول)
(الله فِي نَفسك أولى من لَهُ ... ذخرت نصحا وعتابا يقبل)
(لَا تتركها فِي عمى وحيرة ... عَن هول مَا بَين يَديهَا تغفل)
(حقر لَهَا الفاني وحاول زهدها فِيهِ وشوقها لما يسْتَقْبل ... )(2/442)
(وَقد الى الله بهَا مضطرة ... حَتَّى ترى السّير عَلَيْهَا يسهل)
(هُوَ الفنا والبقاء بعده ... وَالله عَن حكمته لَا يسْأَل)
(يَا قُرَّة الْعين وَيَا حسرتها ... يَوْم يُوفى النَّاس مَا قد عمل)
يَا طرداء الْمُخَالفَة إِنَّكُم مدركون، فاستبقوا بَاب التَّوْبَة، فَإِن رب تِلْكَ الدَّار يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ، فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا هدَاكُمْ، يَا طفيلية الهمة دسوا أَنفسكُم فِي زمر التائبين. وَقد دعوا إِلَى دَعْوَة الحبيب فَإِن لم يكن أكل، فَلَا أقل من طيب الْوَلِيمَة. قَالَ بعض العارفين، إِذا عقد التائبون الصُّلْح مَعَ الله انتشرت رعايا الطَّاعَة فِي عمالة الْأَعْمَال، وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا، وَوضع الْكتاب، مَعَاني هَذَا الْمجْلس وَالْحَمْد لله نسيم سحر، إِذا انتشفه مخمور الْغَفْلَة أَفَاق بسعوط هَذَا الْوَعْظ يتفض إِن شَاءَ الله زكمة البطالة. أَن الَّذِي أنزل الدَّاء، أنزل الدَّوَاء، إكسير هَذَا العتاب، يغلب بحكمة جَابر الْقُلُوب المنكسرة. عَمَّن كَانَ لَهُ قلب، إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ، والموتى يَبْعَثهُم الله. أَلا هِيَ دلها من حيرة يضل فِيهَا إِلَّا أَن هديت الدَّلِيل، وأجلها من غمره، وَكَيف أَلا بإعانتك السَّبِيل. نفوس صَدْرِي على مر الْأَيَّام، مِنْهَا الصَّقِيل، وبنا بجنوبها باعانتك السَّبِيل. نفوس صدى على مر الْأَيَّام، مِنْهَا الصَّقِيل ونبا بجنوبها عَن الْحق المقيل، وأذان أبهظها القَوْل الثقيل، وعثرات لَا يقبلهَا إِلَّا أَنْت يَا مقيل، حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل.
وَمن ذَلِك
إخْوَانِي، صمت الْأَذَان والنداء جهير، وَكذب العيان والمشار إِلَيْهِ شهير، أَيْن الْملك، وَأَيْنَ الظهير، أَيْن الْخَاصَّة وَأَيْنَ الجماهير، أَيْن الْقَبِيل وَأَيْنَ العشير، أَيْن كسْرَى وَأَيْنَ أزدشير، صدق الله الناعي، وَكذب البشير وَعز المستشار واتهم المشير، وسبل عَن الْكل فَأَشَارَ إِلَى التُّرَاب المشير:(2/443)
(خُذ من حياتك للمات الآت ... وبدار مَا دَامَ الزَّمَان موَات)
(لَا تغترر فَهُوَ التُّرَاب بقيعة ... قد خودع الْمَاضِي بِهِ والآتي)
(يَا من يؤمل واعظا ومذكرا ... يَوْمًا لينقذه من الغفلات)
(هلا اعْتبرت ويالها من عِبْرَة ... بمدافن الْآبَاء والأمات)
(قف بِالبَقِيعِ وناد فِي عرصاته ... فلكم بِهِ من جيرة ولدات)
(درجوا وَلست بِخَالِد من بعدهمْ ... متميز عَنْهُم بِوَصْف حَيَاة)
(وَالله مَا استهللت حَيا صَارِخًا ... إِلَّا وَأَنت تعد فِي الْأَمْوَات)
(لَا فَوت عَن دَرك الْحمام لَهَا رب ... وَالنَّاس صرعى معرك الْآفَات)
(كَيفَ الْحَيَاة لدارج متكلف ... سنة الْكرَى بمدافن الْحَيَّات)
(أسفا علينا معشر الْأَمْوَات لَا ... ننفك عَن شغل بهاك وهات)
(ويغرنا لمع السراب فتغتدي ... فِي غَفلَة عَن هَادِم اللَّذَّات)
(وَالله مَا نصح امْرأ من غشه ... وَالْحق لَيْسَ بخافت للمشكات)
يَا من غَدا وَرَاح، وَألف المراح، يَا من شرب الراح، ممزوجة بالعذب القراح، وَقعد لقيان صروف الزَّمَان، مقْعد الاقتراح، كَأَنَّك وَالله باخْتلَاف الرِّيَاح، وَسَمَاع الصياح، وهجوم غَارة الاجتياح، فأديل الخفوت من الارتياح، ونسيت أصوات الفنا برنات النياح، وعوضت غرر النوب بالقباح، من غرر الْوُجُوه الصَّباح، وتناولت الجسوم الناعمة أَيدي الاطراح، وتنوسيت العهود الْوَثِيقَة بكر المسا عَلَيْهَا والصباح، وأصبحت كماة النطاح من تَحت البطاح، وَحَملَة المهندة والرماح، ذليلة بعد الجماح:
(وَلَو كَانَ هول الْمَوْت لَا شَيْء بعده ... لهان عَلَيْهَا الْأَمر واحتقر الهول)(2/444)
( [وَلكنه حشر وَنشر وجنة ونار ... وَمَا لَا يسْتَقلّ بِهِ القَوْل] )
يَا مشتغلا بداره ورم جِدَاره، عَن إسراعه إِلَى النجَاة وَبِدَارِهِ، يَا من صَاح بإنذاره شيب عذاره، يَا من صرف عَن اعتذاره باقذايه وأقتراره، يَا من قطعه بعد مزاره، وَثقل أوزاره. يَا مُتَعَلقا ينْتَظر هموم حزاره، يَا مختلسا للأمانة يرتقب مفتش مَا تَحت إزَاره، يَا من أمعن فِي خمر الْهوى، خف من إسكاره، يَا من خَالف مولى رقّه، توق من إِنْكَاره، يَا كلفا بعارية ترد يَا مفتونا بِأَنْفَاسِ تعد، يَا معولا على الْإِقَامَة والرحال تشد، كأنني بك وَقد أوثق الشد، وألصق بالوسادة الخد، وَالرجل تقبض وَالْأُخْرَى تمد، وَاللِّسَان يَقُول يَا ليتنا نرد:
(إِنَّا إِلَى الله وَإِنَّا لَهُ ... مَا أشغل الْإِنْسَان عَن شَأْنه)
(يرتاح للأثواب يزهى بهَا ... وَالْخَيْط مغزول لأكفانه)
(ويخزن الْفلس لوراثه ... مستنفدا مبلغ إِمْكَانه)
(قوض عَن الفاني رحال أَمْرِي ... مد إِلَيْهِ كف عرفانه)
(مَا تمّ إِلَّا موقف رَاهن ... قد وكل الْعدْل بميزاته)
(مفرط يشقى بتفريطه ... ومحسن يَجْزِي بإحسانه)
يَا هَذَا خَفِي عَلَيْك فرض اعتقادك، فَالْتبسَ الشَّحْم بالورم. جهلت قيم الْمَعَادِن فَبِعْت الشّبَه بِالذَّهَب، فسد حسن ذوقك، فتفكهت بحنظله، أَيْن حرصك من أَجلك، أَيْن قَوْلك من عَمَلك، يدركك الحيا من الطِّفْل، فتتحامى حمى الْفَاحِشَة فِي الْبَيْت بِسَبَبِهِ ثمَّ تواقعها بِعَين خَالق الْعين، ومقدر الكيف والأين تالله مَا فعل فعلك بمعبوده من قطع بِوُجُودِهِ {" مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة ... الْآيَة "} ، تعود عَلَيْك مساعي الْجَوَارِح الَّتِي سخرها لَك بالقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة، فتبخل مِنْهَا فِي سَبيله بفلس، وَأحد الْأَمريْنِ لَازم، إِمَّا التَّكْذِيب(2/445)
وَإِمَّا الحماقة. وجمعك بَين الْحَالَتَيْنِ عَجِيب، يرزقك السنين العديدة من غير حق وَجب لَك، وتسيء الظَّن بِهِ يَوْم توجب الْحق، وتعتذر بالغفلة، فَمَا بالك التَّمَادِي. تعترف بالذنب فَمَا الْحجَّة مَعَ الْإِصْرَار، والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه. وَالَّذِي خبث لَا يخرج إلاكدارا، يَا مدعى النسْيَان مَاذَا فعلت من بعد التفكير، يَا معتذرا بالغفلة أَيْن نصْرَة التَّنْبِيه، يَا من قطع بالرحيل أَيْن الزَّاد. يَا ذُبَابَة الْحِرْص الى كم تلحج فِي ورطة الشهد، يَا نايما ملْء عَيْنَيْهِ، جِدَار الْأَجَل يُرِيد أَن ينْقض، يَا ثمل الاغترار قرب خماد النَّدَم. تدعى الحذق بالصنايع، وتجهل هَذَا الْقدر. تبذل النصح لغيرك، وتغش نَفسك هَذَا الْغِشّ. اندمل جرح توبتك على عظم، قَامَ بِنَا عزيمتك على رمل نَبتَت خضراه، دعوتك على دمنه. عقدت كفك من الْحق على قَبْضَة مَا {" فَمن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا ... . " الاية "} إِذا غام جو الْمجْلس، وابتدا رش غمام الدُّمُوع، قَالَت النَّفس الأمارة حوالينا وَلَا علينا، فوالت ريَاح الْغَفْلَة وسحاب الصَّيف جفاف كلما شدّ طِفْل الْعَزِيمَة كَفه على درة التَّوْبَة صانعته طير الشَّهْوَة على ذَلِك بعصفور. إِذا ضيق الْخَوْف فسحة الْمهل، سرق الأمل حُدُود الْجَار. قَالَ بعض الْفُضَلَاء، كَانُوا إِذا فقدوا مطلوبهم تأملوا قُلُوبهم، وَلَو صدق الْوَاعِظ الْأَثر، اللَّهُمَّ لَا أَكثر، طَبِيب يداوي النَّاس وَهُوَ عليل والتفطن قَلِيل، فَهَل إِلَى الْخَلَاص سَبِيل. اللَّهُمَّ انْظُر بِعَين رحمتك الَّتِي وسعت الْأَشْيَاء، وشملت الْأَمْوَات والأحياء، يَا دَلِيل الحائرين. دلنا يَا عَزِيز، ارْحَمْ ذلنا يَا ولي من لَا ولي لَهُ كن لنا إِن أَعرَضت عَنَّا فَمن لنا نَحن المذنبون، وَأَنت غفار الذُّنُوب، فَقلب قُلُوبنَا يَا مُقَلِّب الْقُلُوب، واستر عيوبنا يَا ستار الْعُيُوب يَا أمل الطَّالِب وَغَايَة الْمَطْلُوب، أَنْت حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل.(2/446)
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي هَذَا الْغَرَض مِمَّا خاطبت بِهِ أحد الْفُضَلَاء
الْحَمد لله على نعْمَة الْإِسْلَام، وبنور النُّبُوَّة تجلو عَنَّا غياهب الظلام، ونسعى إِلَى دَار السَّلَام، حفظك الله يَا أَبَا سعيد، وأرشد سعيك وتدارك بالمرمة وهيك، قبل أَن يسمع الْمَوْت نعيك، وقفت على براءتك الطَّوِيلَة الذيل. المطفقة فِي الْكَيْل، مُشْتَمِلَة على تهويل، ومرعى وبيل، وعتاب طَوِيل، وتبجج بِأَلْفَاظ وأقاويل، لم ينجع فيا طب ابْن مقدم، وَلَا علاج ابْن عبد الْجَلِيل. مَا ثمَّ إِلَّا عوايد يشتكي من لُزُومهَا ودخز قلومها، وَبعد يتَضَرَّر من طول مداه، وَوهم يقلق من اشتباك لحْمَته بسداه، مَعَ الِاعْتِرَاف مِنْهُ بالعثور من الشَّيْخ الْوَاصِل، على الْكَنْز الْحَاصِل [ومصاحبة من يطبق بالحسام الناصل شوا كل المفاصل] إِن كَانَ الْفَتْح حَاصِلا فَمَا معنى الشكوى. أَو لم يحصل، فحتى مَتى الْبلوى، وَهَذَا الدّين الَّذِي يلوي، وغريمه مَعَ اللدد يهوى، والهوى مَعَ انصرام الْعُمر فِي هَذَا المهوى. أَيْن الثمرات يَا شجر الْحور، أَيْن الراهبي يَا جاعلي البصلة فِي أست الثور. ثناؤكم على النَّاس تَقْلِيد، وشأنكم فِي الاختبار شَأْن البليد، وعقولكم يترفع عَنْهَا عقل الْوَلِيد. ثمَّ إِن هَذِه العوايد، الَّتِي تشكى ويضحك لَهَا ثمَّ يبكي، ويتلذذ بذكرها حِين تحكى، لم تضايق الْإِيمَان، وَلَا رفعت وَالْحَمْد لله الْأمان. إِنَّمَا هِيَ بزعمكم حب دنيا لَا يُعَارض الْوَعْد، وَلَا يسابق العقد، والعوايد تعالج مَعَ بَقَائِهَا وَعمْرَان نافقاتها، بأدوية شَرْعِيَّة تنير عبوسها: وَتذهب بوسها، وتملس أديمها، وتونس عديمها، صَعب عَلَيْكُم اسْتِعْمَالهَا، وَسَهل لديكم إهمالها. ورمتم الغايات بالترهات، والحقائق بِالشُّبُهَاتِ، وَدَعوى الدَّرَجَات، مَعَ المداجاة، والشريعة لم تذْهب، والمدارس لم تخرب، والكتب لم تحرق، وسيرة النَّبِي وَالسَّلَف الصَّالح لم تختلس وَلم تسرق. أينكم من الْوَسَائِل الشَّرْعِيَّة، والذمم المرعية. أَيْن الصَّدقَات، إِذا حدقت إِلَى الأكف الحدقات، أَيْن زلف اللَّيْل، أَيْن الزَّكَاة(2/447)
المتوعد ممسكها بِالْوَيْلِ، أَيْن الْجِهَاد وارتباط الْخَيل، أَيْن الْحَج وركبانه، تتدافع تدافع السَّيْل، أَيْن تِلَاوَة الْقُرْآن الَّذِي تطمئِن بِهِ الْقُلُوب، أَيْن الْخلق الَّذِي لَا يَصح دونهَا الْمَطْلُوب، أَيْن الْحَظ المغلوب، أَيْن الصَّبْر والسكون، وانتظار الْفرج مِمَّن يَقُول للشَّيْء كن فَيكون، أَيْن قيدها وتوكل، أَظُنهُ أشكل، أَيْن الأنفة من الاشتهار، أَيْن الْأنس بالخلوة بَيَاض النَّهَار، عدل عَن ذَلِك كُله إِلَى الْبُخْل على الْمَسَاكِين، والسلاطة على أهل الدكاكين، وهجر الممورد الْمعِين، والتعويل على الْوُصُول إِلَى الله من خرجَة ابْن سبعين. والحرمان تتضاعف مكاسبه، والمقصد الْخَبيث يمده الشَّيْطَان بِمَا يُنَاسِبه، مقَام التَّوْبَة لم يحصل، وَسُوء الْولَايَة تفصل، وعقود العقد الصَّحِيح لم تبرم، والمحرمات بعد لم تحرم، والمواجد لم يخْطب الْمحل الأكرم، الْقَوَاعِد بعد مضاعة، وَمَعْرِفَة الله قد حفلت براعة، الْخلق لم تهذب، والنفوس فِي التمَاس الْكَمَال تعذب، ثَمَرَات الْعَمَل لم تحصد، وغاياتها فِي الحوانيت تقصد، كَانَ جُمْهُور الْمُسلمين همج مهمل، كَأَن الْأَنْبِيَاء لم تبين مَا يعْمل، كَانَ الشَّرِيعَة لَيْسَ لأوضاعها سوق، وَلَا لنخلها بسوق، كَأَن الشَّافِعِي أَو مَالك لَيْسَ بسالك، وَإِن مَا دون أشياخكم هَالك، هَذَا لَو كَانَ لكم أَشْيَاخ، أَو لمسير جيرتكم مناخ. إِنَّمَا هِيَ أَعْلَام للشهرة تنصب، وتيجان للخطوب تعصب النسي يذكر، وَالذكر ينسى، وَظُهُور الْوَلَد وَالْمَسَاكِين تعرى، والخليلي يكسى، وابدأ بِمن تعول يُوسع رسمه طمسا، والاعتدال يحكم فِيهِ الْجِدَال، بِاللَّه خلوا عَنْكُم الِاصْطِلَاح الْخَالِي، وَهَذَا التَّنْوِين الغالي مَعَ حرمَان المخالي، والقنوع بالقراغ مَعَ حرونة المراغ، والغليان الَّذِي يبغضكم إِلَى الله وَإِلَى خلقه، وهم الشُّهَدَاء فِي رقة مَعَ الْغَفْلَة عَمَّا أوضح لكم المشرع من حَقه، وتخطى الظَّاهِر الْمَضْمُون إِلَى الْمُشكل المظنون، فَلَو كَانَ سيركم مُسْتَقِيمًا، لم يكن الْقيَاس(2/448)
عقيما، عُمْيَان قد هجرت الكحال، وأملت فِي رد أبصارها الْمحَال. مَا الَّذِي رابكم، أنس الله اغترابكم، من سيرة السّلف الَّذين تجروا وكسبوا وانتموا لغنى الأكف وانتسبوا، وتصدقوا ووهبوا، وَجَاهدُوا وحجوا وَمَا انحرفوا وَلَا لجوا، وبسيرة أَعْمَالهم احْتَجُّوا، وَسعوا والتمسوا، وأكلوا الطّيب ولبسوا، وجوارحهم بميزان الشَّرِيعَة، أرْسلُوا وحبسوا، وَشهد لَهُم بالخلاص عقدهم الَّذِي حفظوا ودرسوا، لم يزمعوا لغير الضَّرُورَة طَلَاقا، وَأَشْفَقُوا من فِرَاق أَهْليهمْ إشفاقا، وَلَا حلوا لحسن الْعَهْد نطاقا، وَلَا قتلوا أَوْلَادهم إملاقا، وَلم يضرهم مَعَ الاسْتقَامَة معاشهم، وَلَا قطع بهم عَن الله أثاثهم وَلَا رياشهم، بل إِلَى فِئَة الْحق انحياشهم، وَأَنْتُم على الْحَقِيقَة، وَمن لكم بذلك أوباشهم، فَإِن قُلْتُمْ وَسعوا مَا ضَاقَ عَنهُ احتمالنا، وَلم تستطعه أَعمالنَا، فَهَلا تفطنتم وتنبهتم، وتكلفتم هديهم وتشبهتم. أتظنون أَنهم غَابَ عَنْهُم مَا أدركتم، أَو عجزوا عَمَّا إِلَيْهِ تحركتم، وهب أَن ثمَّ مقامات عالية، ولمقدمات أصل الشَّرِيعَة بزعمكم بالية، هلا استربتم إِذْ لم تدركوها، وَإِن لم تحصلوا مِنْهَا إِلَّا على أَن تحكوها، فرجعتم إِلَى الأَصْل الْمُجَرّد. وَالطَّرِيق الْمُقَرّر، فَمن ضل وَجب عَلَيْهِ أَن يعرس حَتَّى يصبح، ويبدو المهيع ويتضح، فاقتحام المفاز بِلَا دَلِيل شَأْن غير النَّبِيل، وبالانقطاع كَفِيل، وَيَا ليتكم بَلغْتُمْ دَرَجَة البله الْمَشْهُود بتوفيقهم، وَصِحَّة طريقهم، وَمن أجهده الْحزن أمْهل، وَمن تحير وَجب عَلَيْهِ أَن يسْأَل، وَيتْرك اللجاج أجمل، وَلم ير فِي الْأَمر حَتَّى يتَأَوَّل، وَمن لم يستيقن فَلَا يستعجل، وَالطَّرِيق الَّذِي احتقرتم، وَالله أهمل، وأحجكم بالشيخ عبد الْجَلِيل الَّذِي ظلمتموه، وبكشف الغيوب اتهمتموه، وبالولاية حددتموه ورسمتموه، وَهُوَ يقوم على السَّلب بيعا وشرا، واعتمارا وكرا، وَيصْلح من كرمه الَّذِي لم يعه، فَإِن قُلْتُمْ ذَلِك شيخ هِدَايَة، فقد كَانَ ذَا بداية، ومفتقرا مثلكُمْ إِلَى داية، فَلم تلح عَلَيْهِ من شَيْء مِمَّا أَنْتُم عَلَيْهِ آيَة، وَلم يُطلق زوجه مجَّانا،(2/449)
وَلَا تطارح فِي مصلى الجنايز عُريَانا، وَلَا خطت مِنْهُ فِي مجَال النَّجَاسَات، رجل وَلَا دب إِلَى وَادي الجمد، كانه عجل. فعلى م عولتم فِيمَا تأولتم. الْقَدِيم مُخَالف للسمت، والْحَدِيث مُتَّهم بالعوج والأمت أَعلَى أهل السبت، وَمن حكم عَلَيْهِ بالكبت. نَسْتَغْفِر الله ذَا الْجلَال، ونستهديه من الضلال، ونبدأ إِلَيْهِ من نفوس عجل لَهَا الْعَذَاب، وغرها الأمل الْكذَّاب، وَأَظْمَأت وحولها الْمَوَارِد الْعَذَاب. فَترك الشَّرَاب، وَاتبع السراب. وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه [الْعلي الْعَظِيم] . وَأما مَا يخص حالك يَا أَبَا سعيد، والقريب الْبعيد، فمورد الْمَوَدَّة لم ينضب معينه. وَلَا الْتبس بِالشَّكِّ يقينه، وَمن أعَان مُسْتَقِيمًا فَالله يُعينهُ، وَمَا يتَّصل بكم من جفَاء فَهُوَ علم الله، تَأْدِيب وتهذيب وغيرة يجدهَا ولي حبيب، وَالله شَهِيد رَقِيب، وَلَو كَانَ بودي، لم تكن يدك مغلولة [وَلَا نيتك مسلولة، وَلَا عقيدتك معلولة وَلَا نَفسك على الشُّح مجبولة] وَلَا ولدك عَارِيا ذليلا، وَلَا الْخَيْر ببيتك المليء بالحبوب المختزنة قَلِيلا، وَلَا همتك عَن الْجِهَاد فِي سَبِيل الله كاسدة، وَلَا خبايث المصطلحات عَن حدبك ناسلة، وَلَا استعذبت على شيخك بِمَا رزأه من مَالك وذممك سَمَاعا من فمك، فَأَصْبَحت فِي أفقها، والرفض من شيمك، فتفطن لما نزل بك، وسل الله صلَة بسببك، وَاعْلَم أَنِّي بذلت لَك النَّصِيحَة مُنْذُ زمَان برسالة " الْغيرَة على أهل الْحيرَة "، وَقد علمت بمآل أَمرك وَضرب زيدك وعمرك، فَإِن قبلت مَا جبلت، وَلَو سَمِعت مَا كنت فِي الْمحَال طمعت، ولكنت معتدل التصريف مجانبا للتحريف، منفقا فِي سَبِيل الله التليد الغالي والطريف، جَارِيا من الْإِحْسَان لنَفسك وولدك على السّنَن الشريف. هَذَا جَوَاب سحاءتك المسجعة، ورسالتك القليلة الطَّحْن الْكَثِيرَة الجعجعة. وَقد أعدتنا وَالْحَمْد لله،(2/450)
تِلْكَ الغزارة، وَإِن النَّفس لأمارة، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم. [وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا] .
انْتهى هَذَا الْكتاب الْمُسَمّى " بريحانة الْكتاب، ونجعة المنتاب " على يَد ناسخها لنَفسِهِ تمّ لمن شَاءَ من وَلَده من بعده، عبيد الله الْمقر بِذَنبِهِ، الراجي عَفْو ربه، أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن عبد الله البقني الْأنْصَارِيّ غفر الله ذنُوبه، وَستر عيوبه، بتاريخ أواسط شَوَّال عَام ثَمَانِيَة وَثَمَانِينَ وثمان مائَة، وَالْحَمْد لله، وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى.
تمّ نسخه بِحَمْد الله فِي صباح يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَجَب سنة 1399 هـ الْمُوَافق 23 يونيه سنة 1979 م.(2/451)